رحم وان ابن أخى أخبرنى أن الله تعالى سلط عليها الارضة لم تدع ما كتبتم الا باسمك اللهم والله أعلم قال أبو طالب فان كان الحديث كما يقول فأفيقوا أى وفى رواية نزعتم أى رجعتم عن سوء رأيكم أى وان لم ترجعوا فوالله لا نسلمه حتى نموت من عند اخرنا وان كان الذى يقول باطلا دفعنا اليكم صاحبنا فقتلتم أو استحييتم فقالوا قد رضينا بالذى تقول أى وفى رواية أنصفتنا ففتحوا الصحيفة فوجدوا الامر كما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فلما رأت قريش صدق ما جاء به أبو طالب قالوا أى قال أكثرهم هذا سحر ابن أخيك وزادهم ذلك بغيا وعدوانا وبعضهم ندم وقال هذا بغى منا على اخواننا وظلم لهم
أى وقد جاء أن أبا طالب قال لهم أى بعد أن وجدوا الامر كما أخبر به صلى الله عليه وسلم يامعشر قريش علام نحصر ونحبس وقد بان الامر وتبين أنكم أولى بالظلم والقطيعة والاساءة ودخلوا بين أستار الكعبة وقالوا اللهم انصرنا على من ظلمنا وقطع أرحامنا واستحل ما يحرم عليه منا ثم انصرفوا الى الشعب وعند ذلك مشى طائفة منهم وهم خمسة فى نقض الصحيفة أى ما تضمنته وهم هشام بن عمرو بن الحارث وزهير بن أمية ابن عمته صلى الله عليه وسلم عاتكة بنت عبدالمطلب وقد أسلم بعد ذلك كالذى قبله كما تقدم والمطعم بن عدى مات كافرا كماتقدم وأبو البحترى بن هشام قتل ببدر كافرا كما تقدم وزمعة بن الاسود قتل ببدر كافرا
واختلف فى كاتب الصحيفة فعند ابن سعد أنه بغيض بن عامر فشلت يده ولم يعرف له اسلام وعند ابن اسحاق أن الكاتب لها هشام بن عمرو المتقدم ذكره
قال وقيل ان الكاتب لها منصور بن عكرمة أى فشلت يده فيما يزعمون كذا فى النور نقلا عن سيرة ابن هشام وقيل النضر بن الحارث فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت بعض أصابعه وهو ممن قتل على كفره عند منصرفه صلى الله عليه وسلم من بدر وقيل الكاتب لها طلحة بن أبى طلحة العبدرى قال ابن كثير رحمه الله والمشهور أنه منصور
ويجمع بين هذه الاقوال باحتمال أن يكون كتب بها نسخ أى فكل كتب نسخة أنتهى أى وينبغى أن يكون الذى شلت يده هو كاتب الصحيفة التى علقت فى الكعبة ولعلها هى التى كتبت أولا والى أكل الارضة الصحيفة والى عد الخمسة الذين سعوا فى نقض الصحيفة أشار صاحب الهمزية بقوله
____________________
(2/36)
** فديت خمسة الصحيفة بالخمسة اذ كان للكرام فداء ** ** فتية بيتوا على فعل خير ** حمد الصبح أمره والمساء ** ** بالامر أتاه بعد هشام ** زمعة انه الفتى الاتاء ** ** وزهير والمطعم بن عدى ** وأبو البحترى من حيث شاءوا ** ** نقضوا مبرم الصحيفة اذ شد ** دت عليه من العدا الانداء ** ** أذكرتنا بأكلها أكل منسا ** ة سليمان الارضة الخرساء ** ** وبها أخبر النبى وكم أخرج خبا له الغيوب خباء **
أى فديت خمسة الصحيفة أى الناقضين لها بالخمسة المستهزئين السابق ذكرهم فتية ثبتوا وتراودوا واشتوروا بالحجون ليلا على فعل خير وهو نقض الصحيفة حمد الصباح والمساء منهم ذلك الفعل بالامر عظيم وهو نقض الصحيفة أتاه بعد هشام زمعة بن الاسود وانه الكريم فى قومه الاتاء أى المبالغ فى ايتاء الخير وأتاه زهير وأتاه المطعم بن عدى وأتاه أبو البحترى من المكان الذى قصدوه فنقضوا مبرم الصحيفة أى الامر الذى أبرمته أذكرتنا الارضة الخرساء بأكلها تلك الصحيفة منساة أى عصى سليمان وبأكلها للصحيفة أخبر النبى صلى الله عليه وسلم ومرات كثيرة أخرج صلى الله عليه وسلم شيئا مخبأ الغيوب له ساترة والمراد أن كل واحد من هؤلاء الخمسة الذين نقضوا الصحيفة فدى بأولئك الخمسة المستهزئين من الاذى الذى أصابهم المتقدم ذكره فلا ينافى أن بعض هؤلاء الذين نقضوا الصحيفة مات كافرا
قال جاء أن هشام بن عمرو بن الحارث رضى الله تعالى عنه فانه أسلم بعد ذلك كما تقدم مشى الى زهير بن أمية بن عاتكة بنت عبدالمطلب رضى الله تعالى عنه فانه أسلم بعد ذلك أيضا كما تقدم فقال له يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وأخوالك قد علمت لا يبايعون ولا يبتاعون فقال ويلك يا هشام فماذا أصنع انما أنا رجل واحد والله لو كان معى رجل اخر لقمت لانقضها يعنى الصحيفة قال وجدت رجلا قال من هو قال أنا فقال زهير ابغنا رجلا ثالثا فذهب الى المطعم بن عدى فقال له يا مطعم أرضيت أن يهلك بطنان من بنى عبد مناف يعنى بنى هشام وبنى المطلب وأنت شاهد على ذلك فقال له ويحك ماذا أصنع انما أنا رجل واحد قال وجدت ثانيا قال من هو قلت أنا قال ابغنا رجلا ثالثا قال قد فعلت قال
____________________
(2/37)
من هو قلت زهير بن أمية قال ابغنا رابعا فذهبت الى أبى البحترى بن هشام فقلت له نحوا مما قلت للمطعم فقال وهل معين على هذا الامر قلت نعم قال من هو قلت زهير بن أمية والمطعم بن عدى وأنا معك قال ابغنا خامسا فذهبت الى زمعة بن الاسود فكلمته فقال وهل من أحد يعين على ذلك فسميت له القوم
ثم ان هؤلاء اجتمعوا ليلا عند الحجون وأجمعوا أمرهم وتعاهدوا على القيام فى نقض الصحيفة حتى ينقضوها وقال زهير أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم فلما أصبحوا غدوا الى أنديتهم وغدا زهير وعليه حلة فطاف بالبيت ثم أقبل على الناس فقال يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم أى والمطلب هلكى لا يباعون ولا يبتاع منهم والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة فقال أبو جهل كذبت والله لا تشق قال زمعة بن الاسود أنت والله أكذب ما رضينا كتابتها حين كتبت قال أبو البحترى صدق زمعة قال المطعم صدقتما وكذب من قال غير ذلك نبرأ الى الله تعالى منها ومما كتب فيها وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك فقال أبو جهل هذا أمر قضى بالليل فقام المطعم بن عدى الى الصحيفة فشقها انتهى
أى وهذا يدل للرواية الدالة على أن الارضة لحست اسم الله تعالى وأثبتت ما فيها من العهود والمواثيق والا فبعد امحاء ذلك منها لا معنى لشقها
وفى كلام بعضهم يحتمل أن أبا طالب انما أخبرهم بعد سعيهم فى نقضها قال ابن حجر الهيتمى ويبعده أن الاخبار بذلك حينئذ ليس له كبيرجدوى وقام هؤلاء الخمسة ومعهم جماعة ولبسوا السلاح ثم خرجوا الى بنى هاشم وبنى المطلب فأمروهم بالخروج الى مساكنهم ففعلوا = باب ذكر خبر وفد نجران
ثم قدم عليه صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وفد نجران وهم قوم من النصارى ونجران بلدة بين مكة واليمن على نحو من سبع مراحل من مكة كانت منزلا للنصارى وكانوا نحوا من عشرين رجلا حين بلغهم خبره ممن هاجر من المسلمين الى الحبشة فوجدوه صلى الله عليه وسلم في المسجد فجلسوا اليه سالوه وكلموه ورجال من قريش فى أنديتهم
____________________
(2/38)
حول الكعبة ينظرون اليهم فلما فرغوا من مسألة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أرادوا دعاهم رسول اله صلى الله عليه وسلم الى الله تعالى وتلا عليهم القران فلما سمعوه فاضت أعينهم من الدمع ثم استجابوا له وامنوا به وعرفوا منه ما هو موصوف به في كتابهم فلماقاموا عنه اعترضهم أبو جهل فى نفر من قريش فقالوا لهم خيبكم الله من ركب بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون أى تنظرون الاخبار لهم لتاتوهم بخبر الرجل فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم فصدقتموه بما قال لا نعلم ركبا أحمق أى أقل عقلا منكم فقالوا لهم سلام عليكم لا نجاهلكم لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه ويقال نزل فيهم قوله تعالى { الذين آتيناهم الكتاب } الى قوله { لا نبتغي الجاهلين } ونزل قوله تعالى { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق }
وذكر فى الوفاء وفود ضماد الازدى عليه صلى الله عليه وسلم فقال عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن ضمادا قدم مكة وكان من أزد شنوءة وكان يرقى من الريح أى ولعل المراد به اللمة من الجن فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون ان محمدا مجنون فقال لو أنى رأيت هذا الرجل لعل الله أن يشفيه على يدى قال فأتيته فقلت يا محمد انى أرقى من الريح فان الله يشفى على يده من شاء فهل لك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الحمد لله نحمده ونستعينه من يهدى الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادى له وأشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله فقال ضماد أعد على كلماتك هؤلاء فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فقال لقد سمعت قول الكهنة وقول السحرة وقول الشعراء فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء هات يدك أبايعك على الاسلام فبايعه وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى قومك قال وعلى قومي
____________________
(2/39)
= باب ذكر وفاة أبي طالب وزوجته صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله الله تعالى عنها
لتعلم أنهما ماتا في عام واحد أي بعد خروج بني هاشم والمطلب من الشعب بثمانية وعشرين يوما وإلى موتهما في عام واحد أشار صاحب الهمزية بقوله ** وقضى عمه أبو طالب والد ** دهر فيه السراء والضراء ** ** ثم ماتت خديجة ذلك العا ** م ونالت من أحمد المناء **
وذلك قبل الهجرة إلى المدينة بثلاث سنين وبعد مضى عشر سنين من بعثته صلى الله عليه وسلم أي من مجيء جبريل عليه السلام بالوحي وهو يرد قول ابن اسحاق ومن تبعه أن خديجة رضي الله تعالى عنها عنها ماتت بعد الاسراء
وأفاد كلام صاحب الهمزية أن موت خديجة كان بعد موت أبي طالب وقيل كانت وفات خديجة رضى الله عنها قبل أبى طالب بخمس وثلاثين ليلة وقيل بعده بثلاثة أيام ويؤيد ما في الهمزية قول الحافظ عماد الدين بن كثير المشهور أنه مات قبل خديجة رضي الله تعالى عنها أي بثلاثة أيام ودفنت بالحجون ونزل صلى الله عليه وسلم في حفرتها ولها من العمر خمس وستون سنة ولم تكن الصلاة على الجنازة شرعت
وذكر الفكهاني المالكي في شرح الرسالة أن صلاة الجنازة من خصائص هذه الأمة لكن ذكر ما يخالفه في الشرح المذكور حيث قال وروى أن آدم عليه الصلاة والسلام لما توفي أتى بحنوط وكفن من الجنة ونزلت الملائكة فغسلته وكفنته في وتر من الثياب وحنطوه وتقدم ملك منهم فصلى عليه وصلت الملائكة خلفه ثم أقبروه وألحدوه ونصبوا اللبن عليه وابنه شيث عليه الصلاة والسلام الذي هو وصيه معهم فلما فرغوا قالوا له هكذا فاصنع بولدك وإخوتك فإنهم سنتكم هذا كلامه أي ويبعد أنه لم يفعل ذلك بعد القول المذكور له ويحتمل أن المراد بالصلاة مجرد الدعاء لا هذه الصلاة المعروفة المشتملة على التكبير لكن يبعده مافي العرائس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن آدم لما مات قال ولده شيث لجبريل صل عليه فقال له جبريل بل أنت تقدم فصل على أبيك فصلى عليه وكبر ثلاثين تكبيرة وقد أخرج الحاكم نحوه مرفوعا وقال صحيح الإسناد
____________________
(2/40)
ومنه تعلم أن الغسل والتكفين والصلاة والدفن واللحد من الشرائع القديمة بناء على أن المراد بالصلاة الصلاة المشتملة على التكبير لا مجرد الدعاء
وحينئذ لا يحسن القول بأن صلاة الجنازة من خصائص هذه الأمة إلا أن يقال لا يلزم من كونها من الشرائع القديمة أن تكون معروفة لقريش إذ لو كانت كذلك لفعلوا ذلك وسيأتي عنهم أنهم لم يفعلوا ذلك
وأيضا لو كانت معروفة لهم لصلى صلى الله عليه وسلم على خديجة ومن مات قبلها من المسلمين كالسكران ابن عم سودة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهما الذي هو زوجها وسيأتي أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم الى المدينة وجد البراء بن معرور قد مات فذهب هو وأصحابه فصلى على قبره وأنها أول صلاة صليت على الميت في الإسلام ومعرور معناه في الأصل مقصود
لا يقال يجوز أن يكون المراد بتلك الصلاة مجرد الدعاء لأنا نقول قد جاء أنه كبر في صلاته أربعا وقد روى هذه الصلاة تسعة من الصحابة ذكرهم السهيلي وسيأتي عن الإمتاع لم أجد في شيء من السير متى فرضت صلاة الجنازة ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم على أسعد بن زرارة وقد مات في السنة الأولى ولا على عثمان بن مظعون وقد مات في السنة الثانية
وفي كلام بعضهم صلاة الجنازة فرضت في السنة الأولى من الهجرة وأول من صلى عليه صلى الله عليه وسلم أسعد بن زرارة فليتأمل
وفي كلام بعضهم كانوا في الجاهلية يغسلون موتاهم وكانوا يكفنونهم ويصلون عليهم وهو أن يقوم ولى الميت بعد أن يوضع على سريره ويذكر محاسنه كلها ويثنى عليه ثم يقول عليك رحمة الله ثم يدفن أي وكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى ذلك العام عام الحزن ولزم بيته وأقل الخروج وكانت مدة إقامتها معه صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة على الصحيح
ويذكر أنه صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة رضي الله تعالى عنها وهي مريضة فقال لها يا خديجة أتكرهين ما أرى منك وقد يجعل الله في الكره خيرا أشعرت أن الله قد أعلمني أنه سيزوجني وفي رواية أما علمت أن الله قد زوجني معك في الجنة مريم ابنة عمران وكلثم أخت موسى وهي التي علمت ابن عمها قارون الكيمياء وآسية امرأة فرعون فقالت آ لله أعلمك بهذا يا رسول الله وفي رواية آ لله فعل ذلك
____________________
(2/41)
يا رسول الله قال نعم قالت بالرفاء والبنين زاد في رواية أنه صلى الله عليه وسلم أطعم خديجة من عنب الجنة وقولها بالرفاء والبنين هو دعاء كان يدعى به فى الجاهلية عند التزويج والمراد منه الموافقة والملايمة مأخوذ من قولهم رفأت الثوب ضممت بعضه إلى بعض ولعل هذا كان قبل ورود النهى عن ذلك
هذا وفي الإمتاع أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء إلى مجلس المهاجرين الأولين في الروضة فقال رفئوني فقالوا ماذا يا أمير المؤمنين قال تزوجت أم كلثوم بنت على هذا كلامه ولعل النهى لم يبلغ هؤلاء الصحابة حيث لم ينكروا قوله كما لم يبلغ سيدنا عمر رضي الله تعالى عنهم
وفي الشهر الذي ماتت فيه خديجة رضي الله تعالى عنها وهو شهر رمضان بعد موتها بأيام تزوج سودة بنت زمعة وكانت قبله عند السكران ابن عمها وهاجر بها إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية ثم رجع بها إلى مكة فمات عنها فلما انقضت عدتها تزوجها صلى الله عليه وسلم وأصدقها أربعمائة درهم
وقد كانت رأت فى نومها أن النبي صلى الله عليه وسسلم وطىء عنقها فأخبرت زوجها فقال إن صدقت رؤياك أموت أنا ويتزوجك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رأت فى ليلة أخرى أن قمرا انقض عليها من السماء وهي مضطجعة فأخبرت زوجها فقال لا ألبث حتى أموت فمات من يومه ذلك
وعقد صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله عنها وهي بنت ست أو سبع سنين في شوال فعن خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن مظعون قالت قلت لما ماتت خديجة يا رسول الله ألا تتزوج قال من قلت إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا قال فمن البكر قلت أحق خلق الله بك بنت أبى بكر رضى الله عنهما قال ومن الثيب قلت سودة بنت زمعة قد آمنت بك واتبعتك على ما تقول قال فاذهبي فاذكريهما علي قالت فدخلت على سودة بنت زمعة فقلت لها ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة قالت وما ذاك قالت أرسلنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطبك عليه قالت وددت ادخلي على أبى فاذكرى ذلك له وكان شيخا كبيرا فدخلت عليه وحيته بتحية الجاهلية فقال من هذه قلت خولة بنت حكيم قال فما شأنك قلت أرسلنى محمد بن عبد الله أخطب عليه سودة قال كفء كريم
____________________
(2/42)
قال ما تقول صاحبتك قالت تحب ذلك قال ادعيها الى فدعوتها قال أى بنية إن هذه تزعم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب قد أرسل يخطبك وهو كفء كريم أتحبين أن أزوجك منه قالت نعم قال ادعيه لى فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجه إياها ولما قدم أخوها عبد بن زمعة وقد بلغه ذلك صار يحثى على رأسه التراب ولما أسلم قال لقد كدنى السفه يوم أحثى على رأسى التراب إذ تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة يعنى أخته وذهبت خولة إلى أم رومان أم عائشة فقالت لها ماذا أدخل الله عليكم من البركة والخير قد أرسلنى رسول الله صلى الله عليه وسلم اخطب عليه عائشة قالت انتظرى ابا بكر حتى ياتى فجاء ابو بكر فقلت له يا ابابكرماذاادخل عليكم من الخيروالبركة قال وما ذاك قلت قد ارسلنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطب عليه عائشة قال وهل تصلح أى تحل له إنما هي بنت أخيه فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال ارجعى إليه فقولي له أنا أخوك وأنت أخي في الإسلام وابنتك تصلح لى أي تحل فرجعت فذكرت ذلك له قالت أم رومان رضي الله عنها إن مطعم بن عدى قد كان ذكرها على ابنه جبير ووعده والله ما وعد وعدا قط فأخلفه تعنى أبا بكر فدخل أبو بكر على مطعم وعنده امرأته أم ابنه المذكور فكلمت أبا بكر بما أوجب ذهاب ما كان فى نفسه من عدته لمطعم فإن المطعم لما قال له أبو بكر ما تقول في أمر هذه الجارية أقبل المطعم على امرأته وقال لها ماذا تقولين يا هذه فأقبلت على أبى بكر وقالت له لعلنا إن أنكحنا هذا الفتى إليكم تصيبه وتدخله في دينك الذى أنت عليه فأقبل أبوبكر على المطعم وقال له ماذا تقول أنت فقال إنها لتقول ما تسمع فقام أبو بكر وليس في نفسه من الوعد شيء فرجع فقال لخولة ادعى لى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعته فزوجه إياها وعائشة حينئذ بنت ست سنين وقيل سبع سنين وهو الأقرب
فعلم أن العقد على سودة تقدم على العقد على عائشة لأن العقد على سودة كان في رمضان الشهر الذي ماتت فيه خديجة رضي الله تعالى عنها وعلى عائشة كان فى شوال ومعلوم أن الدخول بسودة كان بمكة وعلى عائشة كان بالمدينة
ثم رأيت بعضهم ذكر أن خولة ذهبت إلى طلب عائشة وأن النبي صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/43)
عقد عليها قبل ذهابها لسودة وعقده عليها ولا تخفى المخالفة إلا أن يراد بالعقد على سودة الدخول بها وفيه أنه لا يحسن ذلك مع قوله قبل ذهابها لسودة
ولما اشتكى أبو طالب أى مرض وبلغ قريشا ثقله أى اشتداد المرض به قال بعضهم لبعض إن حمزة وعمر قد أسلما وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها فانطلقوا بنا إلى أبى طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه وليعطه منا فإنا والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا أى يسلبونه ومنه قولهم من عز بز أى من غلب أخذ السلب ووهو الثياب التي هي البز وفي لفظ إنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون منا شيء أي قتل محمد كما فى بعض الروايات فتعيرنا العرب ويقولون تركوه حتى إذا مات عمه تناولوه فمشى إليه أشرافهم منهم عتبة وشيبة ابنا ربيعه وأبو جهل وأمية بن خلف وأبو سفيان رضى الله تعالى عنه فإنه أسلم ليلة الفتح كما سيأتى وأرسلوا رجلا يدعى المطلب فاستأذن لهم على ابى طالب فقال هؤلاء شيخة قومك وسرواتهم يستأذنون عليك قال أدخلهم فدخلوا عليه فقالوا يا أبا طالب أنت منا حيث قد علمت وفى لفظ قالوا يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا وقد حضرك ما ترى وتخوفنا عليك وقد علمت الذى بيننا وبين ابن أخيك فادعه وخذ له منا وخذ لنا منه لينكف عنا وننكف عنه وليدعنا وديننا وندعه ودينه فبعث إليه صلى الله عليه وسلم أبو طالب فجاءه ولما دخل صلى الله عليه وسلم على أبي طالب وكان بين أبي طالب وبين القوم فرجة تسع الجالس فخشى أبو جهل أن يجلس النبي صلى اله عليه وسلم في تلك الفرجة فيكون أرقى منه فوثب أبو جهل فجلس فيها فلم يجد النبي صلى الله عليه وسلم مجلسا قرب أبى طالب فجلس عند الباب انتهى
وفى الوفاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم خلوا بينى وبين عمى فقالوا ما نحن بفاعلين وما أنت بأحق به منا إن كانت لك قرابة فإن لنا قرابة مثل قرابتك فقال أبو طالب لرسول الله عليه وسلم يا ابن أخى هؤلاء أشراف قومك وفى لفظ هؤلاء شيخة قومك وسرواتهم وقد اجتمعوا لك ليعطوك وليأخذوا منك وفي لفظ سألوك النصف وفى لفظ أعط سادات قومك ما سألوك فقد أنصفوك أن تكف عن شتم آلهتهم ويدعوك وإلهك فقال رسول الله عليه وسلم أرأيتكم
____________________
(2/44)
إن أعطيتكم ما سألتم هل تعطونى كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم أى تطيع وتخضع فقال أبو جهل نعم وآتيك عشر كلمات وفى لفظ لنعطيكها وعشرا معها فما هى قال تقولون لا إله إلا الله وتقلعون عما تعبدون من دونه فصفقوا بأيديهم ثم قالوا يا محمد أتريد أن تجعل الآلهة إلها واحدا إن أمرك لعجب فأنزل الله تعالى ص والقرآن ذى الذكر إلى آخر الآيات وفى لفظ قالوا أيسع لحاجاتنا جميعا إله واحد وفى لفظ قالوا سلنا غير هذه الكلمة وفى لفظ أن أبا طالب قال يا ابن أخى هل من كلمة غيرها فإن قومك قد كرهوها قال يا عم ما أنا بالذى يقول غيرها ثم قال صلى الله عليه وسلم لو جئتمونى بالشمس حتى تضعوها فى يدى ما سألتكم غيرها ثم قال بعضهم لبعض والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه ثم تفرقوا وفى لفظ قالوا عند قيامهم والله لنشتمك وإلهك الذى يأمرك بهذا أى وفى لفظ لتكفن عن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك الذى أمرك بهذا
قال فى الينبوع وهذه العبارة أحسن من الأولى لأنهم كانوا يعرفون أنه يعبد الله وما كانوا ليسبوا الله عالمين لكنهم ما كانوا يعرفون أن الله أمره بذلك وذكره أن ذلك سبب نزول قوله تعالى { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم }
هذا وفى النهر أن سبب نزول هذه الآية أن كفار قريش قالوا لأبى طالب إما أن تنهى محمداعن سب آلهتنا والنقص منها وإما أن نسب إلهه ونهجوه قال فيه وحكم هذه الآية باق فى هذه الأمة فإذا كان الكافر فى منعة وخيف أن يسب الإسلام أو الرسول فلا يحل للمسلم ذم دين الكافر ولا يتعرض لما يؤدى إلى ذلك لأن الطاعة إذا كانت تؤدى إلى مفسدة خرجت عن أن تكون طاعة فيجب النهى عنها كما ينهى عن المعصية هذا كلامه
وعند ذلك قال أبو طالب لرسول الله عليه وسلم والله يا ابن أخى ما رأيتك سألتهم شحطا أى بالحاء والطاء المهملتين أمرا بعيدا فلما قال ذلك طمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه فجعل يقول أى عم فأنت فقلها أستحل بها الشفاعة يوم القيامة أى لو ارتكبت ذنبا بعد قولها وإلا فالاسلام يجب ما قبله فلما رأى حرص رسول الله عليه وسلم قال له والله يا ابن أخى لولا مخافة السبة أى العار عليك
____________________
(2/45)
وعلى بنى أبيك من بعدى وأن تظن قريش أنى إنما قلتها جزعا أى بالجيم والزاى خوفا من الموت وهذا هو المشهور وقيل بالخاء المعجمة والراء أى ضعفا لقلتها وفى رواية لأقررت بها عينك لما أرى من شدة وجدك لكنى أموت على ملة الأشياخ عبد المطلب وهاشم وعبد مناف فأنزل الله تعالى إنك لا تهدى من أحببت الآية
أى وعن مقاتل أن أبا طالب قال عند موته يا معشر بنى هاشم أطيعوا محمدا وصدقوه تفلحوا وترشدوا فقال له النبى صلى الله عليه وسلم ياعم تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك قال فما تريد يا ابن أخى قال أريد أن تقول لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله تعالى فقال يا ابن أخي قد علمت أنك صادق لكنى أكره أن يقال الحديث قال فى الهدى وكان من حكمة أحكم الحاكمين بقاؤه على دين قومه لما فى ذلك من المصالح التي تبدو لمن تأملها أى وكذا أقرباؤه وبنو عمه تأخر إسلاتم من أسلم منهم ولو أسلم أبو طالب وبادر أقرباؤه وبنو عمه تأخر إسلام من أسلم منهم ولو أسلم أبو طالب وبادر وبنو عمه إلى الإيمان به لقيل قوم أرادوا الفخر برجل منهم وتعصبوا له فلما بادر إليه الأباعد وقاتلوا على حبه من كان منهم حتى إن الشخص منهم يقتل أباه وأخاه علم أن ذلك إنما هو عن بصيرة صادقة ويقين ثابت
وذكر أنه لما تقارب من أبى طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه فاصغى إليه بأذنه فقال يا ابن أخى والله لقد قال أخى الكلمة التى أمرته بقولها فقال رسول الله عليه وسلم لم أسمع وفيه أنه لم يثبت ن العباس ذكر ذلك بعد الإسلام وأيضا نزول الآية حيث ثبت أن نزولها فى حق أبى طالب يرد ذلك
ويرده أيضا ما فى الصحيحين عن العباس رضى الله تعالى عنه أنه قال قلت يا رسول الله إن أبا طالب كان يحيطك وينصرك فهل ينفعه ذلك قال نعم وجدته أى كشف لى عن حاله وما يصير إليه يوم القيامة فوجدته فى غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح أى وفى لفظ آخر قال نعم هو أى يوم القيامة فى ضحضاح من النار لولا أنا لكان فى الدرك الأسفل من النار ولو كانت الشهادة المذكورة عند العباس ما سأل هذا السؤال ولأداها بعد الإسلام إذ لو أداها لقبلت
وقد يقال إنما سأل هذا السؤال ولم يعد الشهادة بعد الإسلام لأنه لما قال له صلى الله عليه وسلم أولا لم أسمع فهم أنه حيث لم يسمعها صلى الله عليه وسلم لم يعتد بها سأل هذا السؤال وفهم أن إعادة الشهادة بعد إسلامه لا تفيد شيئا
____________________
(2/46)
ويرده أيضا ما جاء فى رواية أنه صلى الله عليه وسلم لما كرر على أبى طالب أن يقول كلمة الشهادة وهو يأبى إلى أن قال هو على دين عبد المطلب قال صلى الله عليه وسلم أما والله لأستغفرن لك مالم أنه عن ذلك أى عن الاستغفار لك فأنزل الله عز وجل ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم أى وتقدم أن سبب نزول هذه الآية طلب استغفاره لأمه عند زيارة قبرها أن يقال لا مانع من تكرر سبب نزولها لجواز أنه صلى الله عليه وسلم جوز الفرق بين أمه وعمه لأن أمه لم تدع للإسلام بخلاف عمه وفى منع استغفاره لأمه ما تقدم ولا يشكل على ذلك قوله يوم أحد اللهم اغفر لقومى لأن ذلك أى غفران الذنوب مشروط بالتوبة أى الإسلام فكأنه صلى الله عليه وسلم دعا لهم بالتوبة التى هى الإسلام ويؤيده رواية اللهم اهد قومى أى للإسلام قال وأيضا جاء فى صحيح ابن حيان عن على رضى الله تعالى عنه قال لما مات أبو طالب أتيت رسول الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إن عمك الشيخ الضال قد مات قال اذهب فواره قال على رضى الله تعالى عنه فلما واريته جئت إليه فقال لى اغتسل
أقول لأنه غسله وبه وبقوله صلى الله عليه وسلم من غسل ميتا فليغتسل استدل أئمتنا على أن من غسل ميتا مسلما أو كافرا استحب له أن يغتسل
وروى البيهقى خبر أن عليا رضى الله تعالى عنه غسله بأمر النبى صلى الله عليه وسلم له بذلك لكن ضعفه وفى رواية عن على رضى الله تعالى عنه لما أخبرت النبى صلى اله عليه وسلم بموت أبى طالب بكى وقال اذهب فاغسله وكفنه وواره غفر الله له ورحمه
وأما ما روى عنه أنه صلى الله عليه وسلم عارض جنازة عمه أبى طالب فقال وصلتك رحم وجزيت خيرا يا عم فقال الذهبى إنه خبر منكر والله أعلم
وجاء أيضا أنه ذكر عنده عمه أبو طالب فقال إنه ستنفعه شفاعتى وفى رواية لعله تنفعه شفاعتى يوم القيامة فيجعل فى ضحضاح من النار أى مقدار ما يغطى بطن قدميه وفى روايه فى ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلى منها دماغه وفى لفظ عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم القيامة شفعت لأبى وأمى وعمى أبى طالب وأخ لى كان فى الجاهلية يعنى أخاه من حليمة كما فى رواية تأتى
____________________
(2/47)
أقول يجوز أن يكون ذكر شفاعته لأبويه كان قبل إحيائهما وإيمانهما به كما قدمناه جوابا عن نهيه عن الإستغفار لهما والله أعلم
وفى لفظ آخر شفعت فى أبى وعمى أبى طالب وأخى من الرضاعة يعنى من حليمة ليكوونوا من بعد البعث هباء
ومما يستأنس به لإيمان أبيه ما جاء أنه صلى لله عليه وسلم قال لابنته فاطمة رضى الله تعالى عنها وقد عزت قوما من الأنصار فى ميتهم لعلك بلغت معهم الكدى بالدال المهملة أو الكرا بالراء يعنى القبور فقالت لا فقالت لو كنت بلغت معهم الكدى ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك يعنى عبد المطلب ولم يقل جدك يعنى أباه الذى هو عبد الله وتقدم القول بأن حليمة وأولادها أسلموا
وعليه فيجوز أن يكون هذا منه صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم أخوه من الرضاعة كما تقدم مثل ذلك فى أبيه وأمه وفى رواة الحديث الأول من هو منكر الحديث وفى الثانى من هو ضعيف وقال فيه ابن الجوازى إنه موضوع بلا شك أى وهذا أى قبول شفاعته صلى الله عليه وسلم فى عمه أبى طالب عد من خصائصه صلى الله عليه وسلم فلا يشكل بقوله تعالى فما تنفعهم شفاعة الشافعين أو لا تنفعهم شفاعة الشافعين فى الإخراج من النار بالكلية أى وفى هذا الثانى أنه لا يناسب أن شفاعته لهم أن يكونوا من بعد البعث هباء أى فى صيرورتهم هباء إلا أن يقال إنه لم يستجب له فى ذلك
قال وجاء أيضا عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن رسول الله عليه وسلم قال إن أهون أهل النار أى وهم الكفار عذابا أبو طالب وهو ينتعل بنعلين يغلى منهما دماغه أى وفى رواية كما يغلى الماء فى المرجل أى القدر من النحاس حتى يسيل دماغه على قدميه وفى رواية كما يغلى المرجل بالقمقم قيل والقمقم بكسر القافين البسر الأخضر يطبخ فى المرجل استعجالا لنضجه يفعل ذلك أهل الحاجة
وذكر السهيلى الحكمة فى اختصاص قدميه بالعذاب وزعم بعض غلاة الرافضة أن أبا طالب أسلم واستدل له بأخبار واهية ردها الحافظ ابن حجر فى الإصابة
أى وقد قال وقفت على جزء جمعه بعض أهل الرفض أكثر من الأحاديث الواهية الدالة على إسلام أبى طالب ولم يثبت من ذلك شيء
وروى أبو طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال حدثني محمد أن الله أمره بصلة
____________________
(2/48)
الأرحام وأن يعبد الله وحده ولا يعبد معه غيره وقال سمعت ابن أخى الأمين يقول اشكر ترزق ولا تكفر تعذب انتهى
وفى المواهب عن شرح التنقيح للقرافى أن أبا طالب ممن آمن بظاهره وباطنه وكفر بعدم الإذعان للفروع لأنه كان يقول إنى لا أعلم ما يقوله ابن أخى لحق ولولا أنى أخاف أن يعيرنى نساء قريش لأتبعته فهذا تصريح باللسان واعتقاد بالجنان غير أنه لم يذعن للأحكام هذا كلامه وفيه أن الإيمان باللسان الإتيان بلا إله إلا الله ولم يوجد ذلك منه كما علمت وتقدم أن الإيمان النافع عند الله الذى يصير به الشخص مستحقا لدخول الجنة ناجيا من الخلود فى النار التصديق بالقلب بما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم وإن لم يقر بالشهادتين مع التمكين من ذلك ويمتنع وأبو طالب طلب منه ذلك وامتنع
وقد روى الطبرانى عن أم سلمة أن الحارث بن هشام أى أخا أبى جهل بن هشام أتى النبى صلى الله عليه وسلم يوم حجة الوداع فقال إنك تحث عل صلة الرحم والإحسان إلى الجار وإيواء اليتيم وإطعام الضيف وإطعام المسكين وكل هذا مما يفعله هشام يعنى والده فما ظنك به يا رسول الله فقال رسول الله صى الله عليه وسلم كل قبر لا يشهد صاحبه أن لا إله إلا الله فهو جذوة من النار وقد وجدت عمى أبا طالب فى طمطام من النار فأخرجه الله لمكانه منى وإحسانه إلى فجعله فى ضحضاح من النار
وذكر أن أبا طالب لما حضرته الوفاة جمع إليه وجهاء قريش فأوصاهم وكان من وصيته أن قال يا معشر قريش أنتم صفوة الله من خلقه وقلب العرب فيكم المطاع وفيكم المقدم الشجاع والواسع الباع لم تتركوا للعرب فى المآثر نصيبا إلا أحرزتموه ولا شرفا إلا أدركتموه فلكم بذلك على الناس الفضيلة ولهم به إليكم الوسيلة أوصيكم بتعظيم هذه البنية أى الكعبة فإن فيها مرضاة للرب وقواما للمعاش صلوا أرحامكم ولاتقطعوها فإن فى صلة الرحم منسأ أى فسحة في الأجل وزيادة فى العدد واتركوا البغى والعقوق ففيهما هلكت القرون قبلكم أجيبوا الداعى وأعطوا السائل فإن فيهما شرف الحياة والممات وعليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة فإن فيهما محبة فى الخاص ومكرمة فى العام وإنى أوصيكم بمحمد خيرا فإنه الأمين فى قريش أى وهو الصديق فى العرب وهو الجامع لكل ما أوصيكم به وقد جاء بأمر قبله الجنان
____________________
(2/49)
وأنكره اللسان مخافة الشنآن أى البغض وهو لغة فى الشنآن وايم الله كأنى أنظر إلى صعاليك العرب وأهل البر فى الأطراف والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته وصدقوا كلمته وعظموا أمره فخاض بهم غمرات الموت فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا ودورها خرابا وضعفاؤها أربابا وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه وأبعدهم منه أحظاهم عنده قد محضته العرب ودادها وأعطته قيادها دونكم يا معشر قريش كونوا له ولاة ولحزبه حماة والله لا يسلك أحد منكم سبيله إلا رشد ولا يأخذ حد بهديه إلا سعد
وفى لفظ آخر أنه لما حضرته الوفاة دعا بنى عبد المطلب فقال لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد وما اتبعتم أمره فأطيعوه ترشدوا
ولما مات أبو طالب نالت قريش من النبى صلى الله عليه وسلم من الأذى مالم تكن تطمع فيه فى حياة أبى طالب حتى إن بعض سفهاء قريش نثنر على رأس النبى صلى الله عليه وسلم التراب فدخل صلى الله عليه وسلم بيته والتراب على رأسه فقامت إليه بعض بناته وجعلت تزيله عن رأسه وتبكى ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها لا تبكى لا تبكى يا بنية فإن الله تعالى مانع أباك وكان صلى الله عليه وسلم يقول مانالت قريش منى شيئا أكرهه أى أشد الكراهة حتى مات أبو طالب وتقدم وسيأتى بعض ما أوذوى به
قال ولما رأى قريشا تهجموا قال يا عم ما أسرع ما وجدت فقدك ولما بلغ أبا لهب ذلك قام أبو لهب بنصرته أياما وقال له يا محمد امض لما أردت وما كنت صانعا إذا كان أبو طالب حيا فاصنعه لا واللات والعزى لا يوصل إليك حتى أموت
واتفق أن ابن العطيلة أى وهو أحد المستهزئين المتقدم ذكرهم سب النبى صلى الله عليه وسلم فأقبل عليه ابو لهب ونال منه فولى وهو يصيح يا معشر قريش صبا أبو عتبة يعنى أبا لهب فأقبلت قريش على أبى لهب وقالوا له أفارقت دين عبد المطلب فقال ما فارقت وفى لفظ قالوا له أصبوت قال ما فارقت دين عبد المطلب ولكن أمنع ابن أخى أن يضام حتى يمضى لما يريد قالوا قد أحسنت وأجملت ووصلت الرحم فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك أياما لا يتعرض له أحد من قريش وهابوا أبا لهب إلى أن جاء أبو جهل وعقبة بن أبى معيط إلى أبى لهب فقالا له أخبرك
____________________
(2/50)
ابن أخيك أين مدخل أبيك أى المحل الذى يكون فيه يزعم أنه فى النار فقال له أبو لهب يا محمدأيدخل عبد المطلب النار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم ومن مات على مثل ما مات عليه عبد المطلب دخل النار فقال أبو لهب لا برحت لك عدوا وأنت تزعم أن عبد المطلب فى النار فاشتد عليه هو وسائر قريش انتهى
وفى لفظ قال له يا محمد أين مدخل عبد المطلب قال مع قومه فخرج أبو لهب إلى أبى جهل وعقبة فقال قد سألته فقال مع قومه فقالا يزعم أنه فى النار فقال يا محمد أيدخل عبد المطلب النار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم الحديث ولا يخفى أن عبد المطلب من أهل الفترة وتقدم الكلام عليهم والله أعلم = باب ذكر خروج النبى صلى الله عليه وسلم الى الطائف
سميت بذلك لأن رجلا من حضرموت نزلها فقال لأهلها ألا أبنى لكم حائطا يطيف ببلدكم فبناه فسمى الطائف وقيل غير ذلك
لما مات أبو طالب ونالت قريش من النبى صلى الله عليه وسلم مالم تكن نالته منه فى حياته كما تقدم خرج إلى الطائف اى وهو مكروب مشوش الخاطر مما لقى من قريش وقرابته وعترته خصوصا من أبى لهب وزوجته أم جميل حمالة الحطب من الهجو والسب والتكذيب
وعن على رضى الله تعالى عنه أنه قال بعد موت أبى طالب لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذته قريش تتجاذبه وهم يقولون له صلى الله عليه وسلم أنت الذى جعلت الآلهة إلها واحدا قال فوالله مادنا منا أحد إلا أبو بكر فصار يضرب هذا ويدفع هذا وهو يقول أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله
وخروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف كان فى شوال سنة عشر من النبوة وحده وقيل معه مولاه زيد بن حارثة يلتمس من ثقيف الإسلام رجاء أن يسلموا وأن يناصروه
____________________
(2/51)
على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه قال فى الإمتاع لأنهم كانوا أخواله قال بعضهم ومن ثم أى من أجل أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى الطائف عند ضيق صدره وتعب خاطره جعل الله الطائف مستأنسا على من ضاق صدره من أهل مكة كذا قال
وفى كلام غيره ولا جرم جعل الله الطائف مستأنسا لأهل الإسلام ممن بمكة إلى يوم القيامة فهى راحة الأمة ومتنفس كل ذى ضيق وغمة سنة الله فى الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا فليتأمل
فلما انتهى صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عمد إلى سادات ثقيف وأشرافهم وكانوا إخوة ثلاثة أحدهم عبد يا ليل أى واسمه كنانة لم يعرف له إسلام وأخوه مسعود أى وهو عبد كلال بضم الكاف وتخفيف اللام لم يعرف له إسلام أيضا وحبيب قال الذهبى فى صحبته نظر أى وهم أولاد عمرو بن عمير بن عوف الثقفى وجلس صلى الله عليه وسلم إليهم وكلمهم فيما جاءهم به أى من نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه فقال أحدهم هو يمرط ثياب الكعبة أى ينتفها ويقطعها أى وقيل يسرقها إن كان الله أرسلك وقال له آخر ما وجد الله أحدا يرسله غيرك وقال له الثالث والله لا أكلمك أبدا ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغى لى أن أكلمك فقام صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد أيس من خير ثقيف وقال لهم اكتموا على وكره صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه ذلك فيشتد أمرهم عليه وقالوا له أخرج من بلدنا والحق بمنجاتك من الأرض وأغروا به أى سلطوا عليه سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وقعدوا له صفين على طريقه فلما مر صلى الله عليه وسلم بين الصفين جعل لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا أرضخوهما أى دقوهما بالحجارة تى أدموا رجليه صلى الله عليه وسلم
وفى لفظ حتى اختضبت نعلاه بالدماء وكان صلى الله عليه وسلم إذا أزلقته الحجارة أى وجد ألمها قعد إلى الأرض فيأخذون بعضديه فيقيمونه فإذا مشى رجموه وهم يضحكون كل ذلك وزيد بن حارثة أى بناء على أنه كان معه صلى الله عليه وسلم يقيه بنفسه حتى لقد شج رأسه شجاجا فلما خلص منهم رجلاه يسيلان دما
____________________
(2/52)
عمد إلى حائط من حوائطهم أى بستان من بساتينهم فاستظل فى حبلة أى بفتح الباء الموحدة وتسكينها غير معروف شجرة كرم وقيل لها حبلة لأنها تحمل بالعنب وقد فسر نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة ببيع العنب قبل أن يطيب قال السهيلي وهو غريب لم يذهب إليه أحد فى تأويل الحديث فجاء إلى ذلك المحل وهو مكروب موجع أى وقد جاء النهى عن أن يقال لشجر العنب الكرم فى قوله صلى الله عليه وسلم لا يقولن أحدكم الكرم فإن الكرم قلب المؤمن ولكن قولوا حدائق العنب قال وسبب النهى عن تسميتها كرما لأن الخمر تتخذ من ثمرتها وهو يحمل على الكرم فاشتقوا لها اسما من الكرم
وفى لفظ ثم إن هؤلاء الثلاثة أى عبد ياليل وإخوته أغروا عليه سفهاءهم وعبيدهم فصاروا يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وألجئوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابنى ربيعة فلما دخل الحائط رجعوا عنه
قال وذكر أنه صلى الله عليه وسلم دعا بدعاء منه اللهم إنى أشكو إليك ضعف قوتى وقلة حيلتى وهوانى على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربى إلى من تكلنى إن لم يكن بك غضب على فلا أبالى أهوإذا فى الحائط أى البستان عتبة وشيبة ابنا ربيعة أى وقد رأيا ما لقى من سفهاء أهل الطائف فلما رآهما كره مكانهما لما يعلم من عداوتهما لله ولرسوله فلما رأياه وما لقى تحركت له رحمهما فدعوا غلاما لهما نصرانيا يقال له عداس معدود فى الصحابة مات قبل الخروج إلى بدر فقالا خذ قطفا من هذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه أي وهذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه أي وهذا لا ينافى كون زيد بن حارثة كان معه كما لا يخفى ففعل عداس ثم أقبل به حتى وضعه بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال له كل فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده الشريفة قال بسم الله ثم أكل أى لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا وضع يده فى الطعام قال بسم الله ويأمر الآكل بالتسمية وأمر من نسى التسمية أوله أن يقول بسم الله أوله وآخره فنظر عداس فى وجهه وقال والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم من أى البلاد أنت وما دينك يا عداس قال نصرانى وأنا من أهل نينوى بكسر النون الأولى وفتح الثانية وقيل بضمها قرية على شاطىء دجلة فى أرض الموصل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/53)
من أهل قرية أى وفى رواية من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى اسم ابيه أى كما فى حديث ابن عباس رضى الله عنهما وفى تاريخ حماة أنه اسم أمه قال ولم يشتهر باسم أمه غير عيسى ويونس عليهما الصلاة والسلام
أى وفى مزيل الخفاء فان قيل قد ورد فى الصحيح لا تفضلونى على يونس بن متى ونسبه إلى أبيه وهو يقتضى أن متى أبوه لا أمه
أجيب بأن متى مدرج فى الحديث من كلام الصحابى لبيان يونس بما اشتهر به لا من كلام النبى صلى الله عليه وسلم
ولما كان ذلك موهما أن الصحابى سمع هذه النسبة من النبى صلى الله عليه وسلم دفع الصحابى ذلك بقوله ونسبه إلى أبيه لا إلى أمه هذا كلامه
وعند ذلك قال عداس له صلى الله عليه وسلم وما يدريك ما يونس بن متى فإنى والله لقد خرجت منها يعنى نينوى وما فيها عشرة يعرفون ما متى فمن أين عرفت ابن متى وأنت أمى وفى أمة أمية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك أخى كان نبيا وأنا نبى أمى وفى رواية أنا رسول الله والله أخبرنى خبره وما وقع له مع قومه أى حيث وعدهم العذاب بعد أربعين ليلة لما دعاهم فأبوا أن يجيبوا وخرج عنهم وكانت عادة الأنبياء إذا واعدت قومها العذاب خرجت عنهم فلما فقدوه قذف الله تعالى فى قلوبهم التوبة أى الإيمان بما دعاهم إليه يونس
وقيل كما فى الكشاف إنه قال لهم يونس أنا أؤجلكم أربعين ليلة فقالوا إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك فلما مضت خمس وثلاثون ليلة أطبقت السماء غيما أسود يدخن دخانا شديدا ثم يهبط حتى يغشى ودينتهم فعند ذلك لبسوا المسموح وأخرجوا المواشى وفرقوا بين النساء وأولادها وبين كل بهيمة وولدها فلما أقبل عليهم العذاب جأروا إلى الله تعالى وبكى الناس والولدان ورغت الإبل وفصلانها وخارت البقر وعجاجيلها وثغت الغنم وسخالها وقالوا يا حي حيث لا حي ويا حي يحيى الموتى ويا حى لا إله إلا أنت
وعن الفضيل أنهم قالوا اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم منها وأجل فافعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله
____________________
(2/54)
وفى الكشاف أنهم عجوا أربعين ليلة وعلم الله تعالى منهم الصدق فتاب عليهم وصرف عنهم العذاب بعد أن صار بينه وبينهم قدر ميل فمر رجل على يونس فقال له ما فعل قوم يونس فحدثه بما صنعوا فقال لا أرجع إلى قوم قد كذبتهم قيل وكان فى شرعهم أن من كذب قتل فانطلق مغاضبا لقومه وظن أن لن نقضى عليه بما قضى به عليه أى من الغم وضيق الصدر قال تعالى { وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه } أى لن نضيق عليه وكانت التوبة عليهم يوم عاشوراء وكان يوم الجمعة
أى وفى كلام بعضهم كشف العذاب عن قوم يونس يوم عاشوراء وأخرج فيه يونس من بطن الحوت وهو يؤيد القول بأنه نبذ من يومه وهو قول الشعبى التقمه ضحوة ونبذه عشية أى بعد العصر وقاربت الشمس الغروب وذكر أن الحوت لم يأكل ولم يشرب مدة بقاء يونس فى بطنه لئلا يضيق عليه
وقال السدى مكث أربعين يوما وقال جعفر الصادق سبعة أيام وقال قتادة ثلاثة أيام وذلك بعد أن نزل السفينة فلم تسر فقال لهم إن معكم عبدا آبقا من ربه وإنها لا تسير ححتى تلقوه فى البحر وأشار إلى نفسه فقالوا لا نلقيك يا نبى الله أبدا قال فاقترعوا فخرجت القرعة عليه ثلاث مراتفألقوه فالتقمه الحوت وقيل قائل ذلك بعض الملاحين وحين خرجت القرعة عليه ثلاثا ألقى نفسه فى البحر وهذا السياق يدل على أن رسالته كانت قبل أن يلتقمه الحوت وقيل إنما أرسل بعد نبذ الحوت له وفيه كيف يدعوهم ويعدهم العذاب وهو غير مرسل لهم
وعن وهب بن منبه وقد سئل عن يونس فقال كان عبدا صالحا وكان فى خلقه ضيق فلما حملت عليه أثقال النبوة تفسخ تحتها فألقاها عنه وخرج هاربا أى فقد تقدم أن للنبوة أثقالا لا يستطيع حملها إلا أولو العزم من الرسل وهم نوح وهود وإبراهيم ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم
أما نوح فلقوله يا قوم إن كان كبر عليكم مقامى وتذكيرى بآيات الله الآية وأما هود فلقوله إنى أشهد الله واشهدوا أنى برىء مما تشركون من دونه الآية وأما ابراهيم فلقوله هو والذين آمنوا معه إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله الآية وأما محمد صلى الله عليه وسلم فلقول الله تعالى له فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل فصبر صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/55)
فعند ذلك أكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه أى فقال أحدهما أى عتبة وشيبة للآخر أما غلامك فقد أفسده عليك فلما جاءهما عداس قال له أحدهما ويلك مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه قال يا سيدي ما فى الأرض شيء خير من هذا لقد أعلمنى بأمر لا يعلمه إلا نبى قال ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك
أقول وفى رواية قال له وما شأنك سجدت لمحمد وقبلت قدميه ولم نرك فعلته بأحدنا قال هذا رجل صالح أخبرنى بشيء عرفته من شأن رسول بعثه الله إلينا يدعى يونس بن متى فضحكنا به وقالا لا يفتننك عن نصرانيتك فإنه رجل خداع ودينك خير من دينه وقد تقدم فى بعض الروايات أن خديجة رضى الله تعالى عنها قبل أن تذهب بالنبى صلى الله عليه وسلم لورقة بن نوفل ذهبت به الى عداس وكان نصرانيا من أهل نينوى قرية سيدنا يونس عليه الصلاة والسلام وتقدم أنه غير هذا خلافا لمن اشتبه عليه به
وفى كلام الشيخ محيى الدين بن العربى قد اجتمعت بجماعة من قوم يونس سنة خمس وثمانين وخمسمائة بالأندلس حيث كنت فيه وقست أثر رجل واحد منهم فى الأرض فرأيت طول قدمه ثلاثة أشبار وثلثى شبر والله أعلم
وفى الصحيح عن عائشة رضى الله تعالى عنها إنها قالت للنبى صلى الله عليه وسلم هل أتى عليك يوم أشد من أحد قال لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت يوم العقبة إذ عرضت نفسى على ابن عبد ياليل بن كلال أى والمناسب لما سبق إسقاط لفظ ابن الأولى والإتيان بواو العطف موضع ابن الثانية أى فيقال عبد ياليل وكلال أى وعبد كلال ويكون خصهما بالذكر دون أخيهما حبيب لأنهما كانا أشرف وأعظم منه أو لأنهما كانا المحبين له صلى الله عليه وسلم بالقبيح دون حبيب إلا إن ثبت أن آباء هؤلاء الثلاثة شخصا يقال له عبد ياليل وعبد كلال وحينئذ يكون المراد هؤلاء الثلاثة لأن ابن مفرد مضاف ثم رأيته فى النور ذكر ما يفيد أن لفظ ابن ثابت فى الصحيح
والذى فى كلام ابن اسحاق وأبى عبيد وغيرهما إسقاطه ثم رأيت الشمس الشامى
____________________
(2/56)
قال الذى ذكره أهل المغازى أن الذى كلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد ياليل نفسه لا ابنه
وعند أهل السير أن عبد كلال أخوه لا أبوه أى أبو أبيه كما لا يخفى فلم يجبنى إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهى فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب أى ويقال له قرن المنازل وهو ميقات أهل نجد الحجاز أو اليمن بينه وبين مكة يوم وليلة وفى لفظ وهو موضع على ليلة من مكة وراء قرن بسكون الراء ووهم الجوهرى فى تحريكها وفى قوله إن أويسا القرنى منسوب إليه وإنما هو منسوب إلى قرن قبيلة من مراد كما ثبت فى مسلم فرفعت رأسى فإذا أنا بالسحابة قد أظلتنى فنطرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فنادى فقال قد سمع قول قومك لك أى أهل ثقيف كما هو المتبادر وماردوا عليك به وقد بعثت إليك بملك الجبال فتأمره بما شئت فيهم فناداه صلى الله عليه وسلم ملك الجبال وسلم عليه وقال له إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت أى وهما جبلان يضافان تارة إلى مكة وتارة إلى منى فمن الأول قوله وهما قبيس وقعيقعان وقيل الجبل الأحمر الذى يقابل أبا قبيس المشرف على قعيقعان ومن الثانية الجبلان اللذان تحث العقبة بمنى فوق المسجد
وفيه أن ثقيفا ليسوا بينهما بل الجبلان خارجان عنهم فكيف يطبقهما عليهم وفى لفظ إن شئت خسفت بهم الأرض أو دمدمت عليهم الجبال أى التى بتلك الناحية
ثم رأيت الحافظ ابن حجر قال المراد بقوم عائشة فى قوله لقد لقيت من قومك قريش أى لا أهل الطائف الذين هم ثقيف لأنهم كانوا هم السبب الحامل على ذهابه صلى الله عليه وسلم لثقيف ولأن ثقيفا ليسوا قوم عائشة رضى الله تعالى عنها وعليه فلا إشكال ويوافقه قول الهدى فأرسل ربه تبارك وتعالى إليه صلى الله عليه وسلم ملك الجبال يستأمره أن يطبق على أهل مكة الأخشبين وهما جبلاها التى هى بينهما
وعبارة الهدى فى محل آخر وفى طريقه صلى الله عليه وسلم أرسل الله تعالى إليه ملك الجبال فأمره بطاعته صلى الله عليه وسلم وأن يطبق على قومه أخشبى مكة وهما جبلاها إن أراد هذا كلامه
ولا يخفى أن هذا خلاف السياق إذ قوله وكان أشد مالقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسى إلى آخره وقول جبريل قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك به ظاهر فى أن
____________________
(2/57)
المراد بهم ثقيف لا قريش ويوافق هذا الظاهر قول ابن الشحنة فى شرح منظومة ده بعد أن ساق دعاءه صلى الله عليه وسلم المتقدم بعضه فأرسل الله عز وجل جبريل ومعه ملك الجبال فقال إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين وحينئذ يكون المراد إطباقهما عليهم بعد نقلهما من محلها إلى محل ثقيف الذى هو الطائف لأن القدرة صالحة وعند قول ملك الجبال له ما ذكر قال النبى صلى الله عليه وسلم بل أرجو أن يخرج الله تعالى وفي رواية أستأني بهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله تعالى لا يشرك به شيئا وعند ذلك قال له ملك الجبال أنت كما سماك ربك رؤوف رحيم قال الحافظ ابن حجر ولم أقف على اسم ملك الجبال وإلى حلمه وإغضائه صلى الله عليه وسلم أشار صاحب الهمزية بقوله ** جهلت قومه عليه فأغضى ** وأخو الحلم دأبه الإغضاء ** ** وسع العالمين علما وحلما ** فهو بحر لم تعيه الأعباء **
أى جهلت قومه صلى اله عليه وسلم عليه فآذوه أذية لا تطاق فأغضى عنهم حلما وأخو الحلم أى وصاحب عدم الانتقام شأنه التغافل فإن علمه وسع لوم العالمين ووسع حلمه حلمهم فهو واسع العلم والحلم لم تعيه الأعباء أي لم تتعبه الأثقال لكن تقييده بقومه السياق يدل على أن المراد به ثقيف وقد علمت ما فيه فليتأمل
وعند منصرفه صلى الله عليه وسلم المذكور من الطائف نزل نخلة وهى محلة بين مكة والطائف فمر به نفر سبعة وقيل تسعة من جن نصيبين أى وهى مدينة بالشام وقيل باليمن أثنى عليها صلى الله عليه وسلم بقوله رفعت إلى نصيبين حتى رأيتها فدعوت الله تعالى أن يعذب نهرها وينضر شجرها ويكثر مطرها وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل أى وسطه يصلى وفى رواية يصلى صلاة الفجر وفى رواية هبطوا على النبى صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة فلعله كان يقرأ فى الصلاة والمراد بصلاة الفجر الركعتان اللتان كان يصليهما قبل طلوع الشمس ولعله صلاهما عقب الفجر وذلك ملحق بالليل وفى قوله جوف الليل تجوز من الراوى أو صلى صلاتين صلاة في جوف الليل وصلاة بعد الفجر وقرأ فيهما أو جمع بين القراءة والصلاة وأن الجن استمعوا للقراءتين وإطلاق صلاة الفجر على الركعتين المذكورتين سائغ وبهذا
____________________
(2/58)
يندفع قول بعضهم صلاة الفجر لم تكن وجبت وكان صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة الجن وفيه أى فى الصحيحين أن سورة الجن إنما نزلت بعد استماعهم
وقد يقال سيأتى ما يعلم منه أنه ليس المراد بالاستماع الاستماع المذكور هنا بل استماع سابق على ذلك وهو المذكور في رواية ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الآتية ورواية صلاة الفجر هنا ذكرها الكشاف كالفخر وإلا فالروايات التى وقفت عليها فيها الاقتصار على صلاة الليل وصلاة الفجر كانت فى ابتداء البعث فى بطن نخلة عند ذهابه وأصحابه إلى سوق عكاظ كما سيأتى عن ابن عباس رضى الله عنهما فآمنوا به وكانوا يهودا لقولهم إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى ولم يقواوا من بعد عيسى إلا أن يكون ذلك بناء على أن شريعة عيسى مقررة لشريعة موسى لا ناسخة لها ولا يخفى أنهم غلبوا ما نزل من الكتاب على مالم ينزل لأنهم لم يسمعوا جميع الكتاب ولا كان كله منزلا قال وأنكر ابن عباس رضى الله تعالى عنهما اجتماع النبى صلى الله عليه وسلم بالجن أى بأحد منهم
ففى الصحيحين عنه قال ما قرأ رسول الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم انطلق رسول الله عليه وسلم فى طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ أى وكان بين الطائف ونخلة كان لثقيف وقيس عيلان كما تقدم وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب ففزعت الشياطين إلى قومهم فقالوا مالكم قالوا قد حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب قالوا وما ذاك إلا من شيء قد حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فمن النفر جماعة أخذوا نحو تهامة فإذا هم بالنبى صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء فرجعوا إلى قومهم فقالوا يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم قل أوحى إلى أى قل أخبرت بالوحى من الله تعالى أنه استمع لقراءتى نفر من الجن أى جن نصيبين
أقول تقدم أن إطلاق الفجر على الركعتين اللتين كان يصليهما قبل طلوع الشمس سائغ فإن ذلك باعتبار الزمان لا لكونهما إحدى الخمس المفترضة ليلة الإسراء وقوله بأصحابه يجوز أن تكون الباء بمعنى مع ويجوز أن يكون صلى بهم إماما لأن الجماعة فى ذلك جائزة
____________________
(2/59)
ولا يخفى أن هذه القصة التى تضمنتها رواية ابن عباس غير قصة انصرافه صلى الله عليه وسلم من الطائف يدل لذلك قوله انطلق فى طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظظ لأنه فى تلك القصة التي هى قصة الطائف كان وحده أو معه مولاه زيد بن حارثة على ماتقدم وكان مجيئه صلى الله عليه وسلم من الطائف قاصدا مكة وفى هذه كان ذهابه من مكة قاصدا سوق عكاظ وأنه قرأ فى تلك أى مجيئه من الطائف سورة الجن وفى هذه قرأ غيرها ثم نزلت تلك السورة وأن هذه القصة تضمنتها رواية ابن عباس سابقة على تلك لأن قصة ابن عباس كانت فى ابتداء الوحى لأن الحيلولة بين الجن وبين خبر السماء بالشهب كانت فى ذلك الوقت وتلك كانت بعد ذلك بسنين عديدة
وسياق كل من القصتين يدل على أنه لم يجتمع الجن به صلى الله عليه وسلم ولا قرأ عليهم وإنما استمعوا قراءته من غير أن يشعر بهم وقد صرح به ابن عباس رضى الله تعالى عنهما فى هذه وصرح به الحافظ الدمياطى فى تلك حيث قال فى سيرته فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطائف راجعا إلى مكة ونزل نخلة قام يصلى من الليل فصرف إليه نفر من الجن سبعة من أهل نصيبين فاستمعوا له صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ سورة الجن ولم يشعر بهم رسول الله عليه وسلم حتى نزل عليه وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن هذا كلامه ونزول ما ذكر كان بعد انصرافهم
فقد قال ابن إسحاق فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين قد آمنوا به وأجابوا إلى ماسمعوا فقص الله تعالى خبرهم على النبى صلى الله عليه وسلم وبهذا يعلم مافى سفر السعادة
ولما وصل صلى الله عليه وسلم فى رجوعه إلى نخلة جاءه الجن وعرضوا إسلامهم عليه وكذا يعلم مافى المواهب من قوله ولما انصرف صلى الله عليه وسلم عن أهل الطائف ونزل نخلة صرف إليه سبعة من جن نصيبين إلى أن قال وفي الصحيح أن الذي آذنه صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة الجن شجرة وأنهم سألوه الزاد فقال كل عظم إلى آخره لأن سؤالهم له صلى الله عليه وسلم الزاد فرع اجتماعهم وقد ذكر هو أنهم لم يؤذنه صلى الله عليه وسلم إلا شجرة هناك وعلى جواز أن الشجرة آذنته بهم قبل انصرافهم أى أعلمته بوجودهم وأن ذلك كان سببا لاجتماعهم به صلى الله عليه وسلم وأن دعوى
____________________
(2/60)
ذلك لا ينافى أنه صلى الله عليه وسلم لم يشعر باجتماعهم للقرآن إلا مما نزل عليه من القرآن فسسؤالهم له صلى الله عليه وسلم الزاد كان فى قصة اأخرى غير هاتين القصتين كانت بمكة سيأتى الكلام عليها
ثم رأيت عن ابن جرير أنه تبين من الأحاديث أن الجن سمعوا قراءة النبى صلى الله عليه وسلم بنخلة وأسلموا فأرسلهم صلى الله عليه وسلم إلى قومهم منذرين إذ لا جائز أن يكون ذلك فى أول البعث لمخالفته لما تقدم عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما وحينئذ يؤيد الاحتمال الثانى الذى ذكرناه من أنه يجوز أنهم اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم بعد أن آذنته بهم الشجرة وقوله فأرسلهم إلى قومهم منذرين لم أقف فى شىء من الروايات على ما هو صريح فى ذلك أى أن إرساله لهم كان من نخلة عند رجوعه من الطائف ولعل قائله فهم ذلك من قوله تعالى ولوا إلى قومهم منذرين
وغاية ما رأيت أن ابن جرير والطبرانى رويا عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن الجن الذين اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم ببطن نخلة كانوا تسعة نفر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلا إلى قومهم وهذا ليس صريحا فى أنه صلى الله عليه وسلم كان عند رجوعه من الطائف
لا يقال يعنى ذلك إنكار ابن عباس رضى الله تعالى عنهما اجتماعه صلى الله عليه وسلم بالجن المرة الأولى التى كانت عند البعث لاحتمال أنه صلى الله عليه وسلم كان فى بطن نخلة فى مرة أخرى ثالثة
ثم رأيت فى النور ما يخالف ما تقدم عن ابن عباس من قوله إنه لم يجتمع صلى الله عليه وسلم بهم بالجن حين خروجه إلى سوق عكاظ حيث قال الذى فى الصحيح وغيره أنه اجتمع بهم وهو خارج من مكة إلى سوق عكاظ ومعه أصحابه فليتأمل
قال وذكر أنه صلى الله عليه وسلم أقام بنخله أياما بعد أن أقام بالطائف عشرة أيام وشهرا لا يدع أحدا من أشرافهم أي زيادة على عبد ياليل وأخويه إلا جاء إليه وكلمه لم يجبه أحد فلما أراد الدخول إلى مكة قال له زيد بن حارثة كيف تدخل عليهم يعنى قريشا وهم قد أخرجوك أى كانوا سببا لخروجك وخرجت تستنصر فلم تنصر فقال يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه فسار صلى الله عليه وسلم إلى حراء ثم بعث إلى الأخنس بن شريق أى رضى الله تعالى
____________________
(2/61)
عنه فإنه أسلم بعد ذلك ليجيره أى ليدخل صلى الله عليه وسلم مكة فى جواره فقال أنا حليف والحليف لا يجير أى فى قاعدة العرب وطريقتهم واصطلاحهم فبعث صلى الله عليه وسلم إلى سهيل بن عمرو رضى الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك أيضا فقال إن بنى عامر لا تجير على بنى كعب وفيه أنه هـلو كان كذلك لما سألهما صلى الله عليه وسلم وكونه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف هذا الإصطلاح بعيد إلا أن يقال جوز صلى الله عليه وسلم مخالفة هذه الطريقة فبعث صلى الله عليه وسلم إلى المطعم بن عدى أى وقد مات كافرا قبل بدر بنحو سبعة أشهر يقول له إنى داخل مكة فى جوارك فأجابه إلى ذلك وقال له قل له فليأت فرجع إليه صلى الله عليه وسلم فأخبره فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ثم تسلح المطعم بن عدى وأهل بيته وخرجوا حتى أتوا المسجد فقام المطعم بن عدى على راحلته فنادى يا معشر قريش إنى قد أجرت محمدا فلا يؤذه أحد منكم ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ادخل فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وطاف بالبيت وصلى عنده ثم انصرف إلى منزله أى والمطعم بن عدى وولده مطيفون به صلى الله عليه وسلم قال وذكر أنه صلى الله عليه وسلم بات عنده تلك الليلة فلما أصبح خرج مطعم وقد لبس سلاحه هو وبنوه وكانوا ستة أو سبعة وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم طف واحتبوا بحمائل سيوفهم في المطاف مدة طوافه صلى الله عليه وسلم وأقبل أبو سفيان على المطعم فقال أمجير أم تابع فقال بل مجيز فقال إذن لا تخفر أى لا تزال خفارتك أى جوارك قد أجرنا من أجرت فجلس معه حتى قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم طوافه اه
أى ولا بدع فى دخوله صلى الله عليه وسلم فى أمان كافر لأن حكمة الحكيم القادر قد تخفى وهذا السياق يدل على أن قريشا كانوا أزمعوا على عدم دخوله صلى الله عليه وسلم مكة بسبب ذهابه إلى الطائف ودعائه لأهله أى ولهذا المعروف الذى فعله المطعم قال صلى الله عليه وسلم فى أسارى بدر لو كان المطعم بن عدى حيا ثم كلمنى فى هؤلاء النتنى لتركتهم له
ورأيت فى أسد الغابة أن جبيرا ولد المطعم رضى الله تعالى عنه فإنه أسلم بين الحديبية والفتح وقيل يوم الفتح جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم وهو كافر فسأله
____________________
(2/62)
فى أسارى بدر فقال لو كان الشيخ أبوك حيا فأتانا فيهم لشفعناه فيهم كما سيأتى أى لأنه فعل معه صلى الله عليه وسلم هذا الجميل وكان من جملة من سعى فى نقض الصحيفة كما تقدم
قال وعن كعب الأحبار رضى الله تعالى عنه لما انصرف النفر السبعة من أهل نصيبين من بطن نخلة جاءوا قومهم منذرين ثم جاءوا مع قومهم وافدين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وهم ثلثمائة فانتهوا إلى الحجون فجاء واحد من أولئك النفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن قومنا قد حضروا بالحجون يلقونك فوعده رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة من الليل بالحجون اه
وعن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه قال أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنى أمرت أن أقرأ على إخوانكم من الجن فليقم معى رجل منكم ولا يقم رجل فى قلبه مثقال حبة خردل من كبر فقمت معه أى بعد أن كرر ذلك ثلاثا ولم يجبه أحد منهم ولعلهم فهموا أن من الكبر ماليس منه وهو محبة الترفع فى نحو الملبس الذى لا يكاد يخلو منه أحد
وقد بين صلى الله عليه وسلم الكبر فى الحديث ببطر الحق وغمص الناس أى استصغارهم وعدم رؤيتهم شيئا بعد أن قالوا له يا رسول الله إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا قال إن الله جميل يحب الجمال الكبر من بطر الحق وغمط الناس بالطاء المهملة كما فى رواية أبى داود وجاء لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر ولا يدخل النار أحد فى قلبه مثقال حبة خردل من إيمان قال الخطابى المراد بالكبر هنا أى فى هذه الرواية كبر الكفر لأنه قابله بالإيمان قال ابن مسعود وذهب صلى الله عليه وسلم فى بعض نواحى مكة أى بأعلاها بالحجون فلما برز خط لى خطا أى برجله وقال لا تخرج فإنك إن خرجت لم ترنى ولم أرك إلى يوم القيامة وفى رواية لا تحدثن شيئا حتى آتيك لا يروعنك أى لا يخوفنك ويفزعنك ولا يهولنك أى لا يعظم عليك شىء تراه ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا رجال سود كأنهم رجال الزط وهم طائفة من السودان الواحد منهم زطى وكانوا كما قال الله تعالى كادوا يكونون عليه أى لازدحامهم لبدا أى كاللبد فى ركوب بعضهم بعضا حرصا على سماع القرآن منه صلى الله عليه وسلم فأردت أن أقوم فأذب
____________________
(2/63)
عنه فذكرت عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فمكثت ثم إنهم تفرقوا عنه صلى الله عليه وسلم فسمعتهم يقولون يا رسول الله إن شفتنا أى أرضنا التى نذهب إليها بعيدة ونحن منطلقون فزودونا أى لأنفسنا ودوابنا ولعله كان نفد زادهم وزاد دوابهم فقال كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع فى يد أحدكم أوفر ما كان لحما رواه مسلم
وفى رواية إلا وجد عليه لحمه الذى كان عليه يوم أكل وكل بعر علف دوابكم وعن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه أنهم لما سألوه صلى الله عليه وسلم الزاد قال لهم لكم كل عظم عراق ولكم كل روثة خضرة والعراق بضم العين وفتح الراء جمع عرق بفتح العين وسكون الراء العظم الذى أخذ عنه اللحم وقيل الذى أخذ عنه معظم اللحم قلت يا رسول الله وما يغنى ذلك عنهم أى عن أنفسهم وعن دوابهم بدليل قوله فقال إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت وفى رواية وجدوه أى الروث والبعر شعيرا فهذه الرواية تدل على أن الروثة مطعوم دوابهم ويوافقه ما جاء أن الشعير يعود خضرا لدوابهم ويحتاج للجمع بين كون الروث كالبعر يعود حبا يوم أكل وبين كونه يعود شعيرا وبين كونه يعود خضرا
هذا وفى رواية لأبى نعيم أن الروث يعود لهم تمرا وهى تدل على أن الروث من مطعومهم ويحتاج إلى الجمع وجمع ابن حجر الهيتمى بأن الروث يكون تارة علفا لدوابهم وتارة يكون طعاما لهم أنفسهم أى وفى لفظ سألونى المتاع فمتعتهم كل عظم حائل وكل روثة وبعرة والحائل البالى بمرور الزمن لأنه لم يخرج بذلك عن كونه مطعوما كما يخرج بذلك عن كونه مطعوما لهم لهم لو حرق وصار فحما ولعل الغرض من ذكر الحائل الإشارة إلى أن زادهم العظم ولو كان حائلا لا أنه لم يمنعهم إلا الحائل وقوله إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل يدل على أن المراد عظم المذكاة وبدليل ذكر اسم الله تعالى عليه فلا يأكلون مالم يذكر اسم الله تعالى عليه من عظم أى وكذا من طعام الإنس سرقة كما جاء فى بعض الأخبار هذا ولكن فى رواية أبى داود كل عظم لم يذكر اسم الله تعالى عليه قال السهيلى وأكثر الأحاديث تدل على معنى رواية أبى داود
وقال بعض العلماء رواية ذكر اسم الله عليه فى الجن المؤمنين ورواية لم يذكر اسم الله تعالى عليه فى حق الشياطين منهم وهذا قول صحيح يعضده الأحاديث هذا
____________________
(2/64)
كلامه أى التى من تلك الأحاديث أن إبليس قال يا رب لليس أحد من خلقك إلا وقد جعلت له رزقا ومعيشة فما رزقى قال كل مالم يذكر عليه اسمى ومعلوم أن إبليس أبو الجن وأن مالم يذكر اسم الله عليه يشمل عظم الميتة
ومقابلة الشياطين بالمؤمنين تدل على أن المراد بهم فسقتهم لا الكفار منهم لأن فى كون الكفا رمن الجن اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين وأن كلا الفريقين سأله الزاد وأنه خاطب كلا بما يليق به فيه بعد لا سيما مع ما تقدم عن ابن مسعود ومايأتى من قوله إخوانكم من الجن ومن ثم قال بعضهم إن السائلين له صلى الله عليه وسلم الزاد كانوا مسلمين فليتأمل
ولما ذكر صلى الله عليه وسلم لهم العظم والروث قالوا يا رسول الله إن الناس يقذرونهما علينا فنهى النبى صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بالعظم أو بروثه بقوله فلا يستنقين أحدكم إذا خرج من الخلاء بعظم ولا بعرة ولا روثة لأنه زاد إخوانكم من الجن
وفى رواية قالوا له صلى الله عليه وسلم انه أمتك عن الاستنجاء بهما فإن الله تعالى قد جعل لنا فيهما رزقا فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاستنجاء بالعظم والبعر أى وحرمه نحو البول أو التغوط عليهما تعلم من ذلك بالأولى ومنه يعلم أن مرادهم بالتقذير التنجيس لا ما يشمل التقذير بالطاهر كالبصاق والمخاط
وعن جابر بن عبد الله رضى الله تعالى عنهما قال بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أمشى إذ جاءت حية فقامت إلى جنبه صلى الله عليه وسلم وأدنت فاها من أذنه وكأنها تناجيه فقال النبى صلى الله عليه وسلم نعم فانصرفت قال جابر فسألته فأخبرنى أنه رجل من الجن وأنه قال له مر أمتك لا يستنجوا بالروث ولا بالرمة أى العظم لأن الله تعالى جعل لنا فى ذلك رزقا ولعل هذا الرجل من الجن لم يبلغه أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك ولا يخفى أن سؤال الزاد يقتضى أن ذلك لم يكن زادهم وزاد دوابهم قبل ذلك وحينئذ يسأل ماكان زادهم قبل ذلك وقد يقال هو كل مالم يذكر اسم الله عليه من طعام الآدميين وحينئذ يكون ماتقدم فى خبر إبليس المراد يمالم يذكر اسم اله عليه غير العظم فليتأمل والنهى عن الاستنجاء يدل على أن ذلك لا يختص بحالة السفر بل هو زادهم بعد ذلك دائما وأبدا
____________________
(2/65)
وقصة جابر هذه سيأتي فى غزوة تبوك نظيرها وهو أن حية عظيمة الخلق عارضتهم فى الطريق فانحاز الناس عنها فأقبلت حتى وقفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته طويلا والناس ينظرون إليها ثم التوت حتى اعتزلت الطريق فقامت قائمة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتدرون من هذا قالوا الله ورسوله أعلم قال هذا أحد الرهط الثمانية من الجن الذين وفدوا إلى يستمعون القرآن قال فى المواهب وفى هذا رد على من زعم أن الجن لا تأكل ولا تشرب أى وإنما يتغذون بالشم
أقول ذكرت فى كتابى عقد المرجان فيما يتعلق بالجان أن فى أكل الجن ثلاثة أقوال قيل يأكلون بالمضغ والبلع ويشربون بالازدراد والثانى لا يأكلون ولا يشربون بل يتغذون بالشم والثالث أنهم صنفان صنف يأكل ويشرب وصنف لا يأكل ولا يشرب وإنما يتغذون بالشم وهو خلاصتهم والله أعلم
قال ابن مسعود فلماولوا قلت من هؤلاء قال هؤلاء جن نصيبين وفى رواية فتوارى عنى حتى لم أره فلما سطع الفجر أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لى أراك قائما فقلت ماقعدت فقال ماعليك لو فعلت أى قعدت قلت خشيت أن أخرج منه فقال أما إنك لو خرجت لم ترنى ولم أرك إلى يوم القيامة أى وفى رواية لم آمن عليك أن يخطفك بعضهم وفيه أن الخروج لا ينشأ عن القعود حتى يخشى منه الخروج وفى رواية قال لي أنمت فقلت لا والله يا رسول الله ولقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس أى لما تراكموا عليك وسمعت منهم لغطا شديدا حتى خفت عليك إل أن سمعتك تقرعهم بعصاك وتقول اجلسوا وسأله عن سبب اللغط الشديد الذى كان منهم فقال إن الجن تداعت فى قتيل قتل بينهم فتحاكموا إلى فحكمت بينهم بالحق
وفى رواية عن سعيد بن جبير أنه أى ابن مسعود قال له أولئك جن نصيبين وكانوا اثنى عشر ألفا والسورة التى قرأها عليهم اقرأ باسم ربك أى ولا ينافى ذلك ما جاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه افتتح القرآن لأن المراد بالقرآن القراءة زاد ابن مسعود على ما فى بعض الروايات ثم شبك أصابعه فى أصابعى وقال إنى وعدت أن تؤمن بى الجن والإنس أما الإنس فقد آمنت وأما الجن فقد رأيت
أقول وفى هذا أن ابن مسعود لم يخرج من الدائرة التى اختطها له صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/66)
وفى السيرة الهشامية ما يقتضى أنه خرج منها حيث قال عن ابن مسعود فجئتهم فرأيت الرجال ينحدرون عليه صلى الله عليه وسلم من الجبال فازدحمواعليه إلى آخره فليتأمل
فعلم أن هذه القصة بعد كل من قصة ابن عباس وقصة رجوعه صلى الله عليه وسلم من الطائف فإن قصة ابن عباس رضى الله تعالى عنهما كانت فى أول البعث وقصة رجوعه صلى الله عليه وسلم من الطائف بعدها بمدة مديدة كما علمت وهذه القصة كانت بعدهما بمكة والله أعلم ثم قال صلى الله عليه وسلم لابن مسعود هل معك وضوء أى ماء نتوضأ به قلت لا فقال ما هذه الإداوة أى وهى إناء من جلد قلت فيها نبيذ قال ثمرة طيبة وماء طهور صب على فصببت عليه فتوضأ وأقام الصلاة وصلى
أقول وهو محمول عند أئمتنا معاشر الشافعية على أن الماء لم يتغير بالتمر تغيرا كثيرا يسلب اسم الماء ومن ثم قال ماء طهور وقول ابن مسعود رضى الله تعالى عنه فيها نبيذ أى منبوذ الذى هو التمر وسماه نبيذا باعتبار الأول على حد قوله تعالى إنى أرانى اعصر خمرا وهذا بناء على فرض صحة الحديث وإلا فقد قال بعضهم حديث النبيذ ضعيف باتفاق المحدثين
وفى كلام الشيخ محيى الدين بن العربى رضى الله تعالى عنه الذى أقول به منع التطهر بالنبيذ لعدم صحة الخبر المروى فيه ولو أن الحديث صح لم يكن نصا فى الوضوء به فإنه صلى الله عليه وسلم قال ثمرة طيبة وماء طهور أى قليل الامتزاج والتغير عن وصف الماء وذلك لأن الله تعالى ما شرع الطهارة عند فقد الماء إلا بالتيمم بالتراب خاصة
قال ومن شرف الإنسان أن الله تعالى جعل له التطهر بالتراب وقد خلقه الله من تراب فأمره بالتطهر أيضا به تشريفا له وعند أحمد ومسلم والترمذى عن علقمة قلت لابن مسعود هل صحب النبى صلى الله عليه وسلم ليلة الجن منكم أحد فقال ما صحبه منا أحد ولكنا فقدناه ذات ليلة فقلنا استطير أو اغتيل وطلبناه فلم نجده فبتنا بشر ليلة فلما أصبحنا إذ هو جاء من قبل الحجون وفى لفظ من قبل حراء فقلنا يا رسول الله إنا فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة فقال إنه أتانى داعى الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم وهذه القصة
____________________
(2/67)
يجوز أت تكون هى المنقولة عن كعب الأحبار المتقدم ذكرها وهى سابقة على القصة التى كان فيها ابن مسعود ويجوز أن تكون غيرها وهى المرادة بقول عكرمة إنهم كانوا اثنى عشر ألفا جاءوا من جزيرة الموصل لأن المتقدم فى تلك عن كعب الأحبار رضى الله تعالى عنه أنهم كانوا ثلثمائة من جن نصيبين
وحينئذ يحتمل أن تكون هذه القصة سابقة على القصة التى كان بها ابن مسعود ويحتمل أن تكون متأخرة عنها وعلى ذلك يكون اجتماع الجن به صلى الله عليه وسلم فى مكة ثلاث مرات مرة كان فيها معه ابن مسعود ومرتين لم يكن معه ابن مسعود فيهما
قال فى الأصل ويكفى فى أمر الجن ما فى سورة الرحمن وسورة قل أوحى إلى وسورة الأحقاف
أقول فعلم أن الجن سمعوا قراءته صلى الله عليه وسلم ولم يجتمعوا به ولا شعر بهم فى المرة الأولى وهو ذاهب من مكة إلى سوق عكاظ فى ابتداء البعث المتقدمة عن ابن عباس على ما تقدم ولا فى المرة الثانية عند منصرفه من الطائف بنخلة على ما قدمنا فيه وعلم أن الروايات متفقة على استماعهم لقراءته صلى الله عليه وسلم فى المرتين وبه يعلم ما فى المواهب عن الحافظ ابن كثير أن كون الجن اجتمعوا له صلى الله عليه وسلم فى نخلة عند منصرفه من الطائف فيه نظر وإنما استماعهم له كان فى ابتداء البعث كما يدل عليه حديث ابن عباس أى من أن ذلك كان عند ذهابه إلى سوق عكاظ وعلم أنهم اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم وآمنوا به فى مكة مرتين أو ثلاثة بعد ذلك والله أعلم
وقد أخرج البيهقى فى شعب الإيمان عن قتادة أنه قال لما أهبط إبليس قال أى رب قد لعنته فما علمه قال السحر قال فما قراءته قال الشعر قال فما كتابته قال الوشم قال فما طعامه قال كل ميتة وما لم يذكر اسم الله عليه أى من طعام الإنس يأخذه سرقة قال فما شرابه قال كل مسكر قال فأين مسكنه قال الحمام قال فأين محله قال فى الأسواق قال فما صوته قال المزمار قال فما مصايده قال النساء فالحمام محل أكثر إقامته والسوق محل تردده فى بعض الأوقات والظاهر أن مثل إبليس فيما ذكر كل من لم يؤمن من الجن
____________________
(2/68)
= باب ذكر خبر الطفيل بن عمرو الدوسى وإسلامه رضى الله تعالى عنه
كان الطفيل بن عمرو الدوسى شريفا فى قومه شاعرا نبيلا قدم مكة فمشى إليه رجال من قريش فقالوا يا أبا الطفيل كنوه بذلك تعظيما ل فلم يقولوا يا طفيل إنك قدمت بلادنا وهذا الرجل بين أظهرنا قد أعضل أمره بنا اى اشتد وفرق جماعتنا وشتت أمرنا وإنما قوله كالسحر يفرق به بين المرء وأخيه وبين الرجل وزوجته وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما دخل علينا فلا تكلمه ولا تسمع منه قال الطفيل فو الله ما زالوا بى حتى أجمعت أى قصدت وعزمت على أن لا أسمع منه شيئا ولا أكلمه أى حتى حشوت فى أذنى حين غدوت إلى المسجد كرسفا وهو بضم الكاف وسكون الراء ثم سين مهملة مضمومة ثم فاء أى قطنا فرقا أى خوفا من أن يبلغنى شىء من قوله فغدوت إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلى عند الكعبة فقمت قريبا منه فأبى الله إلا أن أسمع بعض قوله أى فسمعت كلاما حسنا فقلت فى نفسى أنا ما يخفى على الحسن من القبيح فما يمنعنى من أن أسمع من هذا الرجل ما يقول فإن كان الذى يأتى به حسنا قبلت وإن كان قبيحا تركت فمكثت حتى انصرف إلى بيته فقلت يا محمد إن قومك قالوا لى كذا وكذا حتى سددت أذنى بكرسف حتى لا أسمع قولك فاعرض على أمرك فعرض عليه الإسلام وتلا عليه القرآن أى قرأ عليه قل هو الله أحد إلى آخرها و قل أعوذ برب الفلق إلى آخرها وقل أعوذ برب الناس إلى آخرها
وفيه أنه سيأتى أن نزول قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس كان بالمدينة عند ما سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يقال يجوز أن يكون ذلك مما تكرر نزوله فقال والله ماسمعت قط قولا أحسن من هذا ولا أمرا أعدل منه فأسلمت فقلت يا نبى الله إنى امرؤ مطاع فى قومى وأنا راجع إليهم فأدعوهم إلى الإسلام فادع الله أن يكون لى عونا عليهم قال اللهم اجعل له آيه فخرجت حتى إذا كنت بثنية تطلعنى على الحاضر أى وهم النازلون المقيمون على الماء لا يرحلون عنه وكان ذلك فى ليلة مظلمة وقع نور بين عينى مثل المصباح فقلت اللهم فى غير وجهى فإنى أخشى أن
____________________
(2/69)
يظنوا أنه مثله فتحول فى رأس سوطى فجعل الحاضر يتراءون ذلك كالقنديل المعلق أى ومن ثم عرف بذى النور وإلى ذلك أشار الإمام السبكى فى تائيته بقوله ** وفى جبهة الدوسى ثم بسوطه ** جعلت ضياء مثل شمس منيرة **
قال فأتانى أبى فقلت له إليك عنى يا أبت فلست منى ولست منك فقال لم يا بنى قلت قد أسلمت وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم فقال أى بنى دينى دينك فأسلم أى بعد أن قال له اغتسل وطهر ثيابك ففعل ثم جاء فعرض عليه الإسلام ثم أتتنى صاحبتى فذكرت لها مثل ذلك أى قلت لها إليك عنى فلست منك ولست منى قد أسلمت وتابعت دين محمد صلى الله عليه وسلم قالت فدينى دينك فأسلمت ثم دعوت دوسا إلى الإسلام فأبطأوا على ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله قد غلبنى دوس وفى رواية قد غلبنى على دوس الزنا فادع الله عليهم فقال الهم اهد دوسا قال زاد فى رواية وأت بهم فقال الطفيل فرجعت فلم أزل بأرض قومى أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجر النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق اه فأسلموا قال فقدمت بمن أسلم من قومى عليه صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر سبعين أو ثمانين بيتا من دوس أى ومنهم أبو هريرة فأسهم لنا مع المسلمين أى مع عدم حضورهم القتال اه
أقول قال فى النور وفى الصحيح ما ينفى هذا وأنه لم يعط أحدا لم يشهد القتال إلا أهل السفينة الجائين من أرض الحبشة جعفرا ومن معه أى ومنهم الأشعريون أبو موسى الأشعرى وقومه فقد تقدم أنهم هاجروا من اليمن إلى الحبشة ثم جاءوا إلى المدينة
وفيه أنه سيأتى أنه صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه أن يشركوهم معهم فى الغنيمة ففعلوا وسيأتى أنه إنما أعطى أهل السفينة أى والدوسيين على ما علمت من الحصنين اللذين فتحا صلحا فقد أعطاهما مما أفاء الله عليه لا من الغنيمة وسؤال أصحابه فى إعطائهم من المشهورة العامة المأمور بها فى قوله تعالى وشاورهم فى الأمر لا لاستنزالهم عن شىء من حقهم والله أعلم
____________________
(2/70)
= باب ذكر الإسراء والمعراج وفرض الصلوات الخمس
أعلم أنه لا خلاف فى الإسراء به صلى الله عليه وسلم إذ هو نص القرآن عل سبيل الإجمال وجاءت بتفصيله وشرح أعاجيبه أحاديث كثيرة عن جماعة من الصحابة من الرجال والنساء نحو ثلاثين أي ومن ثم ذهب الحاتمي الصوفي إلى أن الإسراء وقع له صلى الله عليه وسلم ثلاثين مرة فجعل كل حديث إسراء واتفق العلماء على أن لإسراء كان بعد البعثة اه أى الاسراء الذى كان فى اليقظة بجسده صلى الله عليه وسلم فلا ينافى حديث البخارى عن أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه أن الإسراء كان قبل أن يوحى إليه صلى الله عليه وسلم لأن ذلك كان فى نومه بروحه فكان هذا الإسراء توطئه له وتيسيرا عليه كما كان بدء نبوته صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة
وفى كلام الشيخ عبد الوهاب الشعرانى أن إسراءاته صلى الله عليه وسلم كانت أربعا وثلاثين واحد بجسمه صلى الله عليه وسلم والباقى بروحه وتلك الليلة أى التى كانت بجسمه صلى الله عليه وسلم كانت ليلة سبع عشرة وقيل سبع وعشرين خلت من شهر ربيع الأول وقيل ليلة تسع وعشرين خلت من رمضان أي وقيل سبع وعشرين خلت من ربيع الآخر الآخر وقيل من رجب واختار هذا الأخير الحافظ عبد الغنى المقدسى وعليه عمل الناس وقيل فى شوال وقيل فى ذى الحجة
وفى كلام الشيخ عبد الوهاب ما يفيد أن إسرءاته صلى الله عليه وسلم كلها كانت فى تلك الليلة التى وقع فيها هذا الخلاف فليتأمل وذلك قبل الهجرة قيل بسنة وبه جزم ابن حزم وادعى فيه الإجماع وقيل بسنتين وقيل يثلاث سنين وكل من الإسراء والمعراج كان بعد خروجه صلى الله عليه وسلم للطائف كما دل عليه السياق وعن ابن إسحاق أن ذلك كان قبل خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف وفيه نظر ظاهر
واختلف فى اليوم الذى يسفر عن ليلتهما قيل الجمعه وقيل السبت وقال ابن دحية يكون يوم الاثنين إن شاء الله تعالى ليوافق المولد والمبعث والهجرة والوفاة أى لأنه صلى الله عليه وسلم ولد يوم الاثنين وبعث يوم الإثنين وخرج من مكة يوم الاثنين ودخل المدينة يوم الاثنين ومات يوم الإثنين فليتأمل
____________________
(2/71)
عن أم هانىء بنت أبى طالب رضى الله تعالى عنها أى واسمها على الأشهر فاختة وسأتى فى فتح مكة أنها أسلمت يوم الفتح وهرب زوجها هبيرة إلى نجران ومات بها على كفره قالت دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلس أى فى لظلام بعيد الفجر وأنا على فراشى فقال أشعرت أى علمت أنى نمت الليلة فى المسجد الحرام أي عند البيت أو فى الحجر وهو المراد بالحطيم الذى وقع فى بعض الروايات وفى رواية فرج سقف بيتى
قال الحافظ ابن حجر يحتمل أن يكون السر فى ذلك أى فى انفراج السقف التمهيد لما يقع من شق صدره صلى الله عليه وسلم فكأن الملك أراه بانفراج السقف والتئامه فى الحال كيفية ما سيصنع به لطفا به وتثبيتا له صلى الله عليه وسلم أي زيادة تمهيد وتثبيت له وإلا فشق صدره صلى الله عليه وسلم تقدم له غير مرة وفى رواية أنه صلى الله عليه وسلم نام فى بيت أم هانىء قالت فقدته من الليل فامتنع منى النوم مخافة أن يكون عرض له بعض قريش
أى وحكى ابن سعد أن النبى صلى الله عليه وسلم فقد تلك الليلة فتفرقت بنو عبد المطلب يلتمسونه ووصل العباس إلى ذى طوى وجعل يصرخ يا محمد فأجابه لبيك لبيك فقال يا بن أخى عنيت قومك فأين كنت قال ذهبت إلى بيت المقدس قال من ليلتك قال نعم قال هل أصابك إلا خير قال ما أصابنى إلا خير ولعله صلى الله عليه وسلم نزل عن البراق فى ذلك المحل
وعن أم هانىء رضى الله تعالى عنها قالت ما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو فى بيتى نائم عندى تلك الليلة فصلى العشاء الآخرة ثم نام ونمنا فلما كان قبل الفجر أهبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أقامنا من نومنا ومن ثم جاء في رواية نبهنا فلما صلى الصبح وصلينا معه قال يا أم هانيء لقد صليت معك العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه ثم صليت صلاة الغداة معكم الآن كما ترين الحديث
والمراد أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاته التى كان يصليها وهى الركعتان فى الوقتين المذكورين وإلا فصلاة العشاء وصلاة الصبح التى هى صلاة الغداة لم يكونا فرضا وفى قولها وصلينا معه نظر لما تقدم ويأتى أنها لم تسلم إلا يوم الفتح ثم رأيت فى مزيل
____________________
(2/72)
الخفاء وأما قولها يعنى أم هانىء وصلينا فأرادت به وهيأنا له ما يحتاج إليه فى الصلاة كذا أجاب
وأقرب منه أنها تكلمت على لسان غيرها أو أنها لم تظهر إسلامها إلا يوم الفتح فليتأمل فقال صلى الله عليه وسلم إن جبريل أتانى وفى رواية أسرى به من شعب أبى طالب قال الحافظ ابن حجر والجمع بين هذه الروايات أنه صلى الله عليه وسلم نام فى بيت أم هانىء وبيتها عند شعب أبى طالب ففرج عن سقف بيته الذى هو بيت أم هانىء لأنه صلى الله عليه وسلم كان نائما به فنزل الملك وأخرجه إلى المسجدوكان به أثر النعاس أى فاضطجع فيه عند الحجر فيصح قوله صلى الله عليه وسلم نمت الليلة فى المسجد الحرام إلى آخره
وفى رواية أنه صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وميكائيل ومعهما ملك آخر أى وهو مضطجع فى المسجد فى الحجر بين عمه حمزه وابن عمه جعفر رضى الله تعالى عنهما فقال أحدهم خذوا سيد القوم الأوسط بين الرجلين فاحتملوه حتى جاءوا به زمزم فاستقلوه على ظهره فتولاه منهم جبريل فشق من ثغرة نحره وهو الموضع المنخفض بين الترقوتين إلى أسفل بطنه أى وفى رواية إلى مراق بطنه وفى رواية إلى شعرته أى أشار إلى ذلك فانشق فلم يكن الشق فى المرات كلها بآلة ولم يسل منه دم ولم يجد لذلك ألما كما تقدم التصريح به فى بعض الروايات لأنه من خرق العادات وظهور المعجزات ثم قال جبريل لميكائيل ائتنى بطشت من ماء زمزم كيما أطهر قلبه وأشرح صدره فاستخرج قلبه أى فشقه فغسله ثلاث مرات ونزع ما كان فيه من أذى وهذا الأذى يحتمل أن يكون من بقايا تلك العلقة السوداء التى نزعت منه صلى الله عليه وسلم وهو مسترضع فى بنى سعد بناء على تجزئتها كما تقدم فى المرة الثانية وهو ابن عشر سنين والثالث عند البعث فلا يخالف أن العلقة السوداء نزعت منه صلى الله عليه وسلم فى المرة الأولى وهو مسترضع فى بنى سعد ويستحيل تكرار إخراجها وإلقائها والذى ينبغى أن يكون نزع الملك العلقة إنما هو فى المرة الأولى والواقع فى غيرها إنما هو إخراج الأذى وأنه غير تلك العلقة وأن المراد به مايكون في الجبليات البشرية وتكرر إخراج ذلك الأذى استئصاله ومبالغة فيه وذكر العلقة في المرة الأولى وقول الملك هذا حظ الشيطان وهم من بعض الرواة
____________________
(2/73)
واختلف إليه ميكائيل بثلاث طسات من ماء زمزم ثم أتى بطست من ذهب ممتلىء حكمة وإيمانا أى نفس الحكمة والإيمان لأن المعانى قد تمثل بالأجسام أو فيه ما هو سبب لحصول ذلك والمراد كما لهما فلا ينافى ما تقدم فى قصة الرضاع أنه ملىء حكمة وإيمانا ووضعت فيه السكينة ثم أطبقه ثم ختم بين كتفيه بخاتم النبوة وتقدم فى قصة الرضاع أن فى رواية أن الختم كان فى قلبه وفى أخرى أنه كان فى صدره وفى أخرى أنه كان بين كتفيه وتقدم الكلام على ذلك وأنكر القاضى عياض شق صدره صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء وقال إنما كان وهو صلى الله عليه وسلم صبى فى بنى سعد وهو يتضمن إنكار شقه عند البعثة أيضا أي والتي قبلها وعمره صلى الله عليه وسلم عشر سنين ورده الحافظ ابن حجر بأن الروايات تواردت بشق صدره صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة وعند البعثة أى زيادة على الواقع له صلى الله عليه وسلم فى بنى سعد وأبدى لكل من الثلاثة حكمة وتقدم أنه شق صدره صلى الله عليه وسلم وهو ابن عشر سنين وأنه صلى الله عليه وسلم شق صدره وهو ابن عشرين سنة وتقدم ما فيه
أقول ويمكن أن يكون إنكار القاضى عياض لشق صدره صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج على الوجه الذى جاء فى بعض الروايات أنه أخرج من قلبه علقة سوداء وقال الملك هذا حظ الشيطان منك لأن هذا إنما كان وهو صلى الله عليه وسلم مسترضع فى بنى سعد ويستحيل تكرر إلقاء تلك العلقة وحمل ذلك على بعض بقايا تلك العلقة السوداء كما قدمناه ينافى قول الملك هذا حظ الشيطان منك إلا أن يقال المراد أنه من حظ الشيطان أى بعض حظ الشيطان أى بعض حظ الشيطان فليتأمل ذلك والأولى ماقدمناه فى ذلك ثم لا يخفى أنه ورد غسل صدرى وفى رواية قلبى
وقد يقال الغسل وقع لهما معا كما وقع الشق لهما معا فأخبر صلى الله عليه وسلم بإحداهما مرة وبالأخرى أخرى أى وتقدم فى مبحث الرضاع فى رواية شق بطنه صلى الله عليه وسلم ثم قلبه وفى أخرى شق صدره ثم قلبه وفى اخرى الاقتصار على شق صدره وفى أخرى الاقتصار على شق قلبه وتقدم أن المراد بالبطن الصدر وليس المراد بإحدهما القلب
وفى كلام غير واحد ما يقتضى أن المراد بالصدر القلب ومن ثم قيل هل شق صدره وغسله مخصوص به صلى الله عليه وسلم أو وقع لغيره من الأنبياء
____________________
(2/74)
وأجيب بأنه جاء فى قصة تابوت بنى اسرائيل الذى أنزله الله تعالى على آدم حين أهبطه إلى الأرض فيه صور الأنبياء من أولاده وفيه بيوت بعدد الرسل وآخر البيوت بيت محمد صلى الله عليه وسلم وهو من ياقوتة حمراء ثلاثة أذرع فى ذراعين وقيل كان من نوع من الخشب تتخذ منه الأمشاط مموها بالذهب فكان عند آدم إلى أن مات ثم عند شيث ثم توارثه أولاد آدم إلى أن وصل إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام ثم كان عند اسماعيل ثم عند ابنه قيدار فنازعه ولد اسحاق ثم أمر من السماء أن يدفعه الى ابن عمه يعقوب إسرائيل الله فحمله إلى أن أوصله له ثم وصل إلى موسى عليه الصلاة والسلام فوضع فيه التوراة وعصاه وعمامة هارون ورضاض الألواح التى تكسرت لما ألقاها وأنه كان فيه الطشت طشت من ذهب الجنة الذى غسل فيه قلوب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وذلك مقتض لعدم الخصوصية وكان هذا التابوت إذا اختلفوا فى شىء سمعوا منه ما يفصل بينهم وما قدموه أمامهم فى حرب إلا نصروا وكان كل من تقدم عليه من الجيش لا بد أن يقتل أو ينهزم الجيش
وفى الخصائص للسيوطى ومما اختص به صلى الله عليه وسلم عن جميع الأنبياء ولم يؤتها نبى قبله شق صدره فى أحد القولين وهو الأصح وجمع بعضهم بحمل الخصوصية على تكرر شق الصدر لأن تكرر شق صدره الشريف ثبت فى الأحاديث وشق صدر غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما أخذ من قصة التابوت وليس فيها تعرض للتكرار ولو جمع بأن شق الصدر مشترك وشق القلب وإخراج العلقة السوداء مختص به صلى الله عليه وسلم ويكون المراد بالقلب في قصة التابوت الصدر وبالصدر فى كلام الخصائص القلب لم يكن بعيدا إذ ليس فى قصة التابوت مايدل على أن تلك العلقة السوداء أخرجت من غير قلب نبينا صلى الله عليه وسلم ولم أقف على أثر يدل على ذلك وغسل قلب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليس من لازمة الشق بل يجوز أن يكون غسله من خارج وقد أحلنا على هذا الجمع فى بحث الرضاع وبهذا يرد ما قدمناه من قول الشمس الشامى الراجح المشاركة ولم أر لعدم المشاركة ما يعتمد عليه بعض الفحص الشديد فليتأمل
ثم رأيته ذكر أنه جمع جزءا سماه نور البدر فيما جاء فى شق الصدر ولم أقف عليه والله أعلم
____________________
(2/75)
قال فأتانى جبريل عليه الصلاة والسلام فذهب بى إلى باب المسجد أى وعن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بينا أنا نائم فى الحجر جاءنى جبريل عليه الصلاة والسلام فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا فعدت لمضجعي فجاني الثانية فهمزنى بقدمه فجلست فلم أر شيئا فعدت لمضجعي فجاءني الثالثة فهمزني بقدمه فجلست فلم أر شيئا فأخذ بعضدى فقمت معه فخرج بى ألى باب المسجد
وفيه أنه إذا لم يجد شيئا من أخذ بعضديه إلا أن يقال ثم رآه عند أخذه بعضديه فإذا دابة أبيض أى ومن ثم قيل له البراق بضم الموحدة لشدة بريقه وقيل قيل له ذلك لسرعته أى فهو كالبرق وقيل لأنه كان ذا لونين أبيض وأسود أى يقال شاة برقاء إذا كان خلال صوفها الأبيض طاقات سوداء أى وهى العفراء ومن ثم جاء فى الحديث أبرقوا فإن دم عفراء عند الله أذكى من دم سوداوين أى ضحوا بالبلقاء وهى العفراء لكن فى الصحاح الأعفر الأبيض وليس بالشديد البياض وشاة عفراء يعلو بياضها حمرة ولغلبة بياض شعره على سواده أو حمرته قيل أبيض ولعل سواد شعره لم يكن حالكا بل كان قريبا من الحمرة فوصف بأنه أحمر وهذا لا يتم إلا لو كان البراق كذلك أي شعره أبيض داخله طاقات سود أو حمر ولعله كان كذلك ويدل له قول بعضهم إنه ذو لونين أى بياض وسواد والسواد كما علمت إذا صفا شبه بالأحمر وهذه الرواية طوى فيها ذكر أنه كان بين حمزة وجعفر وأنه جاءه جبريل وميكائيل وملك آخر وأنهم احتملوه إلى زمزم وشق جبريل صدره إلى آخر ما تقدم وذلك البراق فوق الحمار ودون البغل مضطرب الأذنين أى طويلهما أى وكان مسرجا ملجما كما فى بعض الروايات فركبته فكان يضع حافره مد بصره أى حيث ينتهى بصره
وفى رواية ينتهى خفها حيث ينتهى طرفها إذا أخذ فى هبوط طالت يداه وقصرت رجلاه وإذا أخذ فى صعود طالت رجلاه وقصرت يداه أى وقد ذكره هذا الوصف فى فرس فرعون موسى فقد قيل كان لفرعون أربع عجائب فذكر منها أن لحيته كانت خضراء ثمانية أشبار وقامته سبعة أشبار فكانت لحيته أطول منه بشبر وكان لهه فرس وقيل برذون إذا صعد الجبل قصرت يداه وطالت رجلاه وإذا انحدر يكون على ضد ذلك وفى رواية أن البزاق خطوه مد البصر قال ابن المنير فعلى هذا يكون قطع من الأرض إلى السماء فى خطوة واحدة لأن بصر الذى فى الأرض يقع على السماء فبلغ أعلى السموات فى سبع خطوات انتهى أى لأن بصر من يكون فى سماء الدنيا يقع
____________________
(2/76)
على السماء فوقها وهكذا وهذا بناء على أنه عرج به صلى الله عليه وسلم على المعراج راكب البراق وسيأتى ما فيه
قال صلى الله عليه وسلم فلما دنوت منه اشمأز أى نفر وفى رواية فاستصعب ومنع ظهره أن يركب فقال جبريل اسكن فما ركبك أحد أكرم على الله من محمد وفى رواية فى فخذيها أى تلك الدابة التى هى البراق جناحان تحفز بهما أى تدفع بهما رجليها ففى اللغة الحفز الحث والإعجال فلما دنوت لأركبها شمست أى نفرت ومنعت ظهرها وفى رواية شمس وفى رواية صرت أذنيها أى جمعتهما وذلك شأن الدابة إذا نفرت فوضع جبريل يده على معرفتها ثم قال ألا تستحين يا براق مما تصنعين والله ما ركب عليك أحد وفى رواية عبد الله قبل محمد صلى الله عليه وسلم أكرم على الله منه فاستحيت حتى ارفضت عرقا أى كثر عرقها وسال ثم قرت حتى ركبها أى وفى رواية فقال جبريل مه يا براق فوالله ماركبك مثله من الأنبياء أى لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانت تركبها قبله صلى الله عليه وسلم
ففى البيهقى وكانت الأنبياء تركبها قبلى وعند النسائى وكانت تسخر للأنبياء قبلى وبعد عليها العهد من ركوبهم لأنها لم تكن ركبت فى الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام كما ذكره ابن بطال وهو يقتضى أنه لم يركبه أحد ممن كان بين عيسى ومحمد من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وجاء التصريح بذلك فى بعض الروايات أى والمتبادر منها أنها التى بينه وبين عيسى عليهما الصلاة والسلام فيكون عيسى ممن ركبها دون من بعده من الأنبياء عليهما الصلاة والسلام على تقدير ثبوت وجود أنبياء عليهم الصلاة والسلام بعد عيسى وتقدم عن النهر أنه كان بينهما ألف نبى
وقوله لأن الأنبياء ظاهرة يدل على أن جميع الأنبياء أى عيسى ومن قبله ركبوه قال الإمام النووى القول باشتراك جميع الأنبياء فى ركبوها يحتاج إلى نقل صحيح هذا كلامه
ومما يدل على أن الأنبياء كانت تركبه قبله صلى الله عليه وسلم ما تقدم وظاهر ما سيأتى فى بعض الروايات فربطه بالحلقة التى توثق بها الأنبياء وإنما قلنا ظاهر لأنه لم يذكر الموثق بفتح المثلثة إذ يحتمل أن الأنبياء كانت تربط غير البراق من دوابهم بها ثم رأيت فى رواية البيهقى فأوثقت دابتى يعنى البراق التى كانت الأنبياء تربطها فيه
____________________
(2/77)
ومن ثم قال الشيخ عبد الوهاب الشعرانى رحمه الله مامن رسول إلا وقد أسرى به راكبا على ذلك البراق هذا كلامه وقد تقدم أن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه حمل هو وهاجر وولدهما يعنى إسماعيل على البراق إلى مكة
وفى تاريخ الأزرقى وكان إبراهيم يحج كل سنة على البراق فعن سعيد بن المسيب وغيره أن البراق هو دابة إبراهيم عليه الصلاة والسلام التى كان يزور عليها البيت الحرام وعلى تسليم أنه لم يركب البراق أحد قبله صلى الله عليه وسلم كما يقول ابن دحية ووافقه الإمام النووى فقول جبريل عليه الصلاة والسلام ما ركبك ونحوه لا ينافيه لأن السالبة تصدق بنفى الموضوع ومن ثم قال فى الخصائص الصغرى وخص صلى الله عليه وسلم بركوب البراق فى أحد القولين أى وقيل إن الذى خص به هو ركوبه مسرجا ملجما
وفى المنتقى أن البراق وإن كان يركبه الأنبياء إلا أنه لم يكن يضع حافره عند منتهى طرفه إلا عند ركوب النبى صلى الله عليه وسلم وجاء فى غريب التفسير أن البراق لما شمس قال له جبريل لعلك يا محمد مسيت الصفر اليوم وهو صنم كان بعضه من ذهب وبعضه من نحاس كسره صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فقال له صلى الله عليه وسلم ما مسيته إلا أنى مررت به وقلت تبا لمن يعبدك من دون الله فقال جبريل وما شمس إلا لذلك أى لمجرد مرورك عليه وهذا حديث موضوع كما نقل عن الإمام أحمد
وقال الحافظ ابن حجر إنه من الأخبار الواهية وقال مغلطاى لا ينبغى أن يذكر ولا يعزى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويقال فرس شموس أى صعبة ولا يقال شموسة وذكر لاستصعاب البراق غير ذلك من الحكم لانطيل بذكره
قال وعن الثعلبى بسند ضعيف فى صفة البراق عن ابن عباس له خد كخد الإنسان وعرف كعرف الفرس وقوائم كالإبل وأظلاف وذنب كالبقر أى وحينئذ يكون إطلاق الخف على ذلك فى الرواية السابقة ينتهى خفها حيث ينتهى طرفها مجازا لأن مع كونها لها قوائم كقوائم الإبل لا خف لها بل ظلف وهو الحافر
وفى كلام بعضهم فى صفة البراق وجهه كوجه الإنسان وجسده كجسد الفرس وقوائمه كقوائم الثور وذنبه كذنب الغزال لا ذكر ولا أنثى اه ومن وصف بوصف المذكر تارة وبوصف المؤنث أخرى فهى حقيقة ثالثة ويكون خارجا من
____________________
(2/78)
قوله تعالى ومن كل شىء خلقنا زوجين كما خرجت من ذلك الملائكة فإنهم ليسوا ذكورا ولا إناثا
وذكر بعضهم أن أذنيها كأذنى الفيل وعنقها كعنق البعير وصدرها كصدر الفيل كأنه من ياقوت أحمر لها جناحان كجناح النسر فيهما من كل لون قوائمها كقوائم الفرس وذنبها كذنب البعير ويحتاج إلى الجمع بين هذه الروايات على تقدير الصحة
قال صلى الله عليه وسلم ثم سرت وجبريل عليه الصلاة والسلام لا يفارقنى أى وفى رواية أنه ركب معه البراق وفى الشفاء مازايلا ظهر البراق حتى رجعا وفى رواية ركبت البراق خلف جبريل أى وفى صحيح ابن حبان وحمله جبريل على البراق رديفا له
قال وفى الشرف كان الآخذ بركابه جبريل وبزمام البراق ميكائيل وفى رواية جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره اه
أقول لا منافاة لجواز أن يكون جبريل تارة ركب مردفا له صلى الله عليه وسلم وتارة أخذ بركابه من جهة اليمين وميكائيل تارة أخذ بالزمام وتارة لم يأخذه وكان جهة يساره أو كان آخذ بالزمام من جهة اليسار ولا يخالف هذا الجمع قول الشفاء مازايلا ظهر البراق لإمكان حمله على غالب المسافة هذا وفى حياة الحيوان الظاهر عندى أن جبريل لم يركب مع النبى صلى الله عليه وسلم البراق ليلة الإسراء لأنه المخصوص بشرف الإسراء هذا كلامه فليتأمل والله أعلم
قال صلى الله عليه وسلم ثم انتهيت إلى بيت المقدس فأوثقته بالحلقة التى بالباب أى باب المسجد التى كانت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام توثق أى تربط بهاأى تربطه بها على ما تقدم عن رواية البيهقى وفى رواية أن جبريل خرق بأصبعه الحجر أى الذى هو الصخرة وفى كلام بعضهم فأدخل جبريل يده في الصخرة فخرقها وشد به البراق
أقول لا منافاة لجواز أن يكون المراد وسع الخرق بأصبعه أو فتحه لعروض انسداده وأن هذا الخرق هو المراد بالحلقة التى فى الباب لأن الصخرة بالباب وقيل لهذا الخرق حلقة لاستدارته
وفى الإمتاع وعادت صخرة بيت المقدس كهيئة العجين فربط دابته فيها والناس يلتمسون ذلك الموضع إلى اليوم هذا كلامه
____________________
(2/79)
وجمع بعضهم بأنه صلى الله عليه وسلم ربطه بالحلقة خارج باب المسجد الذى هو مكان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تأدبا فأخذه جبريل فربطه فى زاوية المسجد فى الحجر الذى هو الصخرة التى خرقها بأصبعه وجعله داخلا عن باب المسجد فكأنه يقول له إنك لست ممن يكون مركوبه على الباب بل يكون داخلا
وفى حديث أبى سفيان قبل إسلامه لقيصر أنه قال لقيصر يحط من قدره صلى الله عليه وسلم ألا أخبرك أيها الملك عنه خبرا تعلم منه أنه يكذب قال وما هو قال إنه يزعم أنه خرج من أرضنا أرض الحرم فجاء مسجدكم هذا ورجع إلينا فى ليلة واحدة فقال بطريق أنا أعرف تلك الليلة فقال له قيصر ما علمك بها قال إنى كنت لا أبيت ليلة حتى أغلق أبواب المسجد فلما كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كها غير باب واحد أى وهو الباب الفلانى غلبنى فاستعنت عليه بعمالى ومن يحضرنى فلم نقدر فقالو إن البناء نزل عليه فاتركوه إلى غد حتى يأتى بعض النجارين فيصلحه فتركته مفتوحا فلما أصبحت غدوت فإذا الحجر الذى من زاوية الباب مثقوب أى زيادة على ماكان عليه على ماتقدم وإذا فيه أثر مربط الدابة أى التى هى البراق أى ولم أجد بالباب مايمنعه من الإغلاق فعلمت أنه إنما امتنع لأجل ما كنت أجده فى العلم القديم أن نبيا يصعد من بيت المقدس إلى السماء وعند ذلك قلت لأصحابى ماحبس هذا الباب الليلة إلا هذا الأمر وسيأتى ذلك عند الكلام على كتابه صلى الله عليه لقيصر ولا يخفى أن المراد بالصخرة الحجر الذي بالباب لا الصخرة المعروفة كما هو المتبادر من بعض الروايات وهي فأتى جبريل الصخرة التى فى بيت المقدس فوضع أصبعه فيها فخرقها فشد بها البراق لأن الذى فى بابه يقال إنها فيه ولا يخفى أن عدم انغلاق الباب إنما كان آية وإلا فجبريل عليه الصلاة والسلام لا يمنعه باب مغلق ولا غيره
وفى رواية عن شداد بن أوس أنه قال ثم انطلق بى أى جبريل حتى دخلنا المدينة يعنى مدينة بيت المقدس من بابها اليمانى فأتى قبلة المسجد فربط فيها دابته
قد يقال لا يخالفه لأنه يجوز أن يكون ذلك الباب كان بجانب قبلة المسجد ولعل هذا الباب هو اليمانى الذى فيه صورة الشمس والقمر ففى رواية ودخل المسجد من باب فيه تمثال الشمس والقمر أى مثالهما فيه والله أعلم
وأنكر حذيفة رضى الله تعالى عنه رواية ربط البراق وقال لم يفر منه وقد سخره له
____________________
(2/80)
عالم الغيب والشهادة ورد عليه بأن الأخذ بالحزم لا ينافى صحة التوكل فعن وهب ابن منبه رضى الله عنه الإيمان بالقدر لا يمنع الحازم من توقى المهالك قال وهب وجدته فى سبعين من كتب الله عزوجل القديمة اى ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم اعقلها وتوكل وقد كان صلى الله عليه وسلم يتزود فى أسفاره ويعد السلاح فى حروبه حتى لقد ظاهر بين درعين فى غزوة أحد قال وفى رواية فلما استوى النبى صلى الله عليه وسلم فى صخرة المسجد قال جبريل يا محمد هل سألت ربك أن يريك الحور العين قال نعم قال جبريل فانطلق إلى أولئك النسوة فسلم عليهن فرددن عليه السلام فقال من أنتن قلن خيرات حسان قوم أبرار نقلوا فلم يدرنوا وأقاموا فلم يظنعوا وخلدوا فلم يموتوا اه
أقول فى كلام بعضهم أنه لم يختلف أحد أنه صلى الله عليه وسلم عرج به من عند القبة التى يقال لها قبة المعراج من عند يمين الصخرة وقد جاء صخرة بيت المقدس من صخور الجنة وفى لفظ سيدة الصخور صخرة بيت المقدس وجاء صخرة بيت المقدس على نخلة والنخلة على نهر من أنهار الجنة وتحت النخلة آسية امرأة فرعون ومريم ابنة عمران ينظمان سموط أهل الجنة إلى يوم القيامة قال الذهبى إسناده مظلم وهو كذب ظاهر
قال الإمام أبو بكر بن العربى فى شرحه لموطا مالك صخرة بيت المقدس من عجائب الله تعالى فإنها صخرة قائمة شعثاء فى وسط المسجد الأقصى قد انقطعت من كل جهة لا يمسكها إلا الذى يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه فى أعلاها من جهة الجنوب قدم النبى صلى الله عليه وسلم حين ركب البراق وقد مالت من تلك الجهة لهيبته صلى الله عليه وسلم وفى الجهة الأخرى أصابع الملائكة التى أمسكتها لما مالت ومن تحتها المغارة التى انفصلت من كل جهة أى فهى معلقة بين السماء والأرض وامتنعت لهيبتها من أن أدخل تحتها لأنى كنت أخاف أن تسقط على بالذنوب ثم بعد مدة دخلتها فرايت العجب العجاب تمشى فى جوانبها من كل جهة فتراها منفصلة عن الأرض لا يتصل بها من الأرض شىء ولا بعض شىء وبعض الجهات أشد انفصالا من بعض وهذا الذى ذكره ابن العربى أن قدمه صلى الله عليه وسلم أثر فى صخرة بيت المقدس حين ركب البراق وأن الملائكة أمسكتها لما مالت قال به الحافظ ناصر الدين الدمشقى حيث قال فى معراجه المسجع ثم توجها نحو صخرة بيت المقدس وعماها فصعد من جهة الشرق
____________________
(2/81)
أعلاها فاضطربت تحت قدم نبينا صلى الله عليه وسلم ولانت فأمسكتها الملائكمة لما تحركت ومالت
وقول ابن العربى حين ركب البراق يقتضى أنه عرج به على البراق وسيأتى الكلام فيه وتقدم أن الجلال السيوطى سئل عن غوص قدمه صلى الله عليه وسلم فى الحجر هل له أصل فى كتب الحديث فأجاب بأنه لم يقف فى ذلك على أصل ولا رأى من خرجه فى شىء من كتب الحديث وتقدم مافيه
وفى العرائس قال أبى بن كعب ما من ماء عذب إلا وينبع من تحت الصخرة ببيت المقدس ثم يتفرق فى الأرض والله سبحانه وتعالى أعلم
قال صلى الله عليه وسلم فنشر لى بضم النون وكسر الشين المعجمة أى أحيي لى بعد الموت رهط من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأن نشر الميت إحياؤه والرهط مادون العشرة من الرجال فيهم إبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام أى وحكمة تخصيص هؤلاء بالذكر لا تخفى فصليت بهم وكلمتهم أى فالمراد نشروا عند دخوله صلى الله عليه وسلم المسجد وصلى بهم ركعتين ووصفهم بالنشور واضح فى غير عيسى عليه الصلاة والسلام لأنه لم يمت ووصف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالإحياء بعد الموت سيأتى فى قصة بدر فى الكلام على أصحاب القليب ما يعلم منه أن المراد بإحياء الأنبياء بعد الموت شدة تعلق أرواحهم بأجسادهم حتى انهم فى البرزخ بسبب ذلك أحياء كحياتهم فى الدنيا وقد ذكرنا هناك الكلام على صلاتهم فى البرزخ وحجهم وغير ذلك وفى رواية ثم صلى صلى الله عليه وسلم هو وجبريل كل واحد ركعتين فلم يلبثا إلا يسيرا حتى اجتمع ناس كثير أى مع أولئك الرهط فلا مخالفة بين الروايتين فعرف النبيين من بين قائم وراكع وساجد ثم أذن مؤذن وأقيمت الصلاة
أقول ذكر ابن حبيب أن آية واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا الآية نزلت ببيت المقدس ليلة الإسراء ويجوز أن يكون قوله واقيمت الصلاة من عطف التفسير فالمراد بالأذان الإقامة وليس المراد بالإقامة الألفاظ المعروفة الآن لما سيذكر فى الكلام على مشروعية الأذان والإقامة بالمدينة وعلى أنه من عطف المغاير ويدل له مافى بعض الروايات فلما استوينا فى المسجد أذن مؤذن ثم أقام الصلاة فليس من لازم ذلك أن يكون كل من التأذين والإقامة باللفظين المعروفين الآن لأنهما كما علمت لم يشرعا إلا فى المدينة أى فى السنة الأولى من الهجرة وقيل فى الثانية كما سيأتى
____________________
(2/82)
وحديث لما أسرى بالنبى صلى الله عليه وسلم إلى السماء أوحى الله تعالى إليه بالأذان فنزل به فعلمه بلالا قال الحافظ ابن رجب موضوع وحديث علم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان ليلة أسرى به فى إسناده متهم وفى الخصائص الكبرى أنه صلى الله عليه وسلم علم الإقامة ليلة الإسراء فقد جاء لما أراد الله عزوجل أن يعلم رسوله الأذان أى الإقامة عرج به إلى أن انتهى إلى الحجاب الذى يلى الرحمن أى عرشه خرج ملك من الحجاب فقال الله أكبر الله أكبر فقيل من وراء الحجاب صدق عبدى أنا أكبر أما أكبر ثم قال الملك أشهد أن لا إله إلا الله فقيل من وراء الحجاب صدق عبدى لا إله إلا أنا فقال الملك أشهد أن محمدا رسول الله فقيل من وراء احجاب صدق عبدى أنا أرسلت محمدا فقال الملك حى على الصلاة حى على الفلاح قد قامت الصاة قد قامت الصلاة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله فأخذ الملك بيد محمد صلى الله عليه وسلم فقدمه يؤم بأهل السموات قال فى الشفاء والحجاب إنما هو فى حق المخلوق لا فى حق الخالق فهم المحجوبون قال فإن صح القول بان محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فيحتمل أنه فى غير هذا الموطن بعد رفعالحجاب عن بصره حتى رآه
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم سأل جبريل عن ذلك فقال جبريل إن هذا الملك ما رأيته قبل ساعتي هذه وفي لفظ والذي بعثك بالحق إني لأقرب الخلق مكانا وإن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت قبل ساعتى هذه وفيه أن هذا يقتضى أن جبريل عليه السلام كان معه صلى الله عليه وسلم فى هذا المكان وسيأتى أنه تخلف عنه عند سدرة المنتهى فليتأمل والله أعلم
ولما أقيمت الصلاة ببيت المقدس قاموا صفوفا ينتظرون من يؤمهم فأخذ جبريل بيده صلى الله عليه وسلم فقدمه فصلى بهم ركعتين
أى وأما حديث لما أسرى بى أذن جبريل فظنت الملائكة أنه يصلى بهم فقدمنى فصليت بالملائكة قال الذهبى منكر بل موضوع والغرض من تلك الصلاة الإعلام بعلو مقامه صلى الله عليه وسلم وأنه المقدم لا سيما فى الإمامة
وفى رواية ثم أقيمت الصلاة فتدافعوا أى دفعوا حتى قدموا محمد صلى الله عليه وسلم أى ولا مخالفة لأنه يجوز أن يكون جبريل قدمه صلى الله عليه وسلم بعد دفعهم وتقديمهم له صلى الله عليه وسلم وفى رواية فأذن جبريل أى أقام الصلاة ونزلت
____________________
(2/83)
الملائكة من السماء وحشر الله له المرسلين أى جميعهم وقد نزلت الملائكة وحشر له الأنبياء أى جميعهم بدليل مافى بعض الروايات بعث له آدم فمن دونه فهو تعميم بعد تخصيص بناء على أن الرسول أخص من النبى لا بمعناه وهذا هو المراد بقوله الخصائص الصغرى ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم إحياء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وصلاته إماما بهم وبالملائكة لأن الأنبياء أحياء
وفيه إذا كان الأنبياء أحياء فما معنى إحيائهم له ليصلى بهم وقد علمت معنى إحيائهم فلما انصرف صلى الله عليه وسلم قال جبريل يا محمد أتدرى من صلى خلفك قال لا قال كل نبى بعثه الله تعالى أى والنبى غير الرسول بعثه الله تعالى إلى نفسه
أقول ولا يخاللف ما سبق من أنه عرف النبيين منه بين قائم وراكع وساجد لجواز أن يكون المراد عرف معظمهم أو أنه عرفهم بعد هذا القول
وذكر القرطبى فى تفسيره عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس جمع الله له الأنبياء آدم فمن دونه وكانوا سبعة صفوف ثلاثة صفوف من الأنبياء المرسلين وأربعة من سائر الأنبياء وكان خلف ظهره إبراهيم الخليل وعن يمينه إسمعيل وعن يساره إسحاق صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين والله أعلم وفى رواية ثم دخل أى مسجد بيت فصلى مع الملائكة فلما قضيت الصلاة قالوا يا جبريل من هذا الذى معك قال هذا محمد رسول االع صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين قالوا وقد أرسل إليه أي للمعراج بناء على أنه كان في ليلة الإسراء قال نعم قالوا حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة وهذه الرواية قد يقال لا تخالف ماسبق من أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالملائكة مع الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين لأنه يجوز أن يكون إنما أفردهم بالذكر لسؤالهم
وفيه أن سؤالهم يدل على أن نزولهم من السماء لبيت المقدس لم يكن لأجل الصلاة معه صلى الله عليه وسلم
قال القاضى عياض والأظهر أن صلاته صلى الله عليه وسلم بهم يعنى بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فى بيت المقدس كانت قبل العروج أى كما يدل على
____________________
(2/84)
ذلك سياق القصة وقال الحافظ ابن كثير صلى بهم فى بيت المقدس قبل العروج وبعده فإن فى الحديث مايدل على ذلك ولا مانع منه
قال ومن الناس من يزعم أنه إنما أمهم فى السماء أى لا فى بيت المقدس أى وهذا الزاعم هو حذيفة فإنه أنكر صلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام فى بيت المقدس قال بعضهم والذى تظافرت به الروايات صلاته صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ببيت المقدس
والظاهر أنه بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم إليه أى فلم يصل فى بيت المقدس إلا مرة واحدة وإنها بعد نزوله صلى الله عليه وسلم لأنه لما مر بهم فى منازلهم جعل يسأل جبريل عنهم واحدا واحدا وهو يخبره بهم أى ولو كان صلى بهم أولا لعرفهم بل تقدم أنه صلى الله عليه وسلم عرف النبيين مابين قائم وراكع وساجد وما بالعهد من قدم وهذا هو اللائق لأنه صلى الله عليه وسلم أولا كان مطلوبا إلى الجناب العلوى أى بناء على أن المعراج كان فى ليلة الإسراء وحيث كان مطلوبا لذلك اللائق أن لا يشتغل بشىء عنه فلما فرغ من ذلك اجتمع هو صلى الله عليه وسلم وإخوته من النبيين ثم أظهر شرفه عليهم فقدمه فى الإمامة هذا كلامه
أقول بحث أن صلاته صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس ولم تكن إلا بعد رجوعه صلى الله عليه وسلم من العروج والاستدلال على ذلك بسؤاله صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء عليهم الصلاة واللام واحدا واحدا فى السماء وأن ذلك هو اللائق فيه نظر ظاهر لأنه لا بحث مع وجود النقل بخلافه ومجرد الاستحسان العقلى لا يرد النقل فقد تقدم عن الحافظ ابن كثير أنه ثبت فى الحديث مايدل على أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم ببيت المقدس قبل العروج وبعده وكونه سأل عن الأنبياء فى السماء لا ينافى صلاته بهم أولا وأنه عرفهم بناء على تسليم أن معرفته لهم كانت عند صلاته بهم أولا وأنه عرفهم كلهم لا معظمهم على ما قدمناه لأنه يجوز أن يكونوا فى السماء على صور لم يكونوا عليها ببيت المقدس لأن البرزخ عالم مثال كما تقدم
وبهذا يعلم مافى قول بعضهم رؤيته صلى الله عليه وسلم للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم فى السماء محمولة على رؤية أرواحهم إلا عيسى وإدريس عليهما الصلاة والسلام ورؤيته صلى الله عليه وسلم لهم فى بيت المقدس يحتمل أن المراد أرواحهم ويحتمل
____________________
(2/85)
أجسادهم ويدل للثانى وبعث له أدم فمن دونه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وفى رواية فنشر لى الأنبياء من سمى الله ومن لم يسم فصليت بهم صلى الله عليه وسلم وعليهم والاشتغال عن الجناب العلوى المدعو له بما فيه تأنيس وهو اجتماعه صلى الله عليه وسلم بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وصلاته بهم مناسب لائق بالحال والله أعلم
واختلف فى هذه الصلاة فقيل العشاء أى الركعتان اللتان كان صلى الله عليه وسلم يصليهما بالعشاء بناء على أنه صلى ذلك قبل العروج
وفيه أنه صلى تينك الركعتين اللتين كان يصليهما بالغداة أى وهذا يدل على أن الفجر طلع وهو صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس بعد العروج وتقدم وسيأتى أنه صلى الغداة بمكة وعليه تكون معادة بمكة
قال والذى يظهر والله أعلم أنها كانت من النفل المطلق انتهى أى ولا يضر وقوع الجماعة فيها وبقولنا أى الركعتان إلى آخره يسقط ماقيل القول بأنها العشاء أو الصبح ليس بشيء لأن أول صلاة صلاها من الخمس مطلقا الظهر ومن حمل الأولية على مكة أى ويكون صلى الصبح ببيت المقدس فعليه الدليل أى دليل يدل على أن تلك الصلاة إحدى الصلوات الخمس
وفى زين القصص كان زمن ذهابه صلى الله عليه وسلم ومجيئه ثلاث ساعات وقيل أربع ساعات أى بقيت من تلك الليلة لكن فى كلام السبكى أن ذلك كان فى قدر لحظة حيث قال فى تائيته وعدت وكل الأمر فى قدر لحظة أى ولا بدع لأن الله تعالى قد يطيل الزمن القصير كما يطوى الطويل لمن يشاء وقد فسح الله فى الزمن القصير لبعض أولياء أمته ما يستغرق الأزمنة الكثيرة وفى ذلك حكايات شهيرة
قال صلى الله عليه وسلم وأتيت بإنائين أحمر وأبيض فشربت الأبيض فقال لى جبريل شربت اللبن وتركت الخمر لو شربت الخمر لارتدت أمتك أى غوت واتهمكت فى الشرب بدليل الرواية الأخرى وهى رواية البخارى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به بإيليا بقدحين من خمر ولبن فنظر إليهما فاخذ اللبن فقال جبريل الحمد لله الذى هداك للفطرة اى الإستقامة لو أخذت الخمرة غوت
____________________
(2/86)
أمتك ولم يتبعك منهم إلا القليل أى يكونوا على ما أنت عليه من ترك ذلك فالمراد بالارتداد الرجوع عما هو الصواب وإتيانه بذلك وهو فى المسجد ببيت المقدس وسيأتى ما يدل على أنه أتى له صلى الله عليه وسلم بذلك أيضا بعد خروجه صلى الله عليه وسلم منه قبل العروج
قال صلى الله عليه وسلم واستويت على ظهر البراق فما كان بأسرع من أن أشرفت على مكة ومعى جبريل فصليت به الغداة ثم قال صلى الله عليه وسلم لأم هانىء بعد أن أخبرها بذلك أنا أريد ان أخرج إلى قريش فأخبرهم بما رأيت قالت أم هانىء فعلقت بردائه صلى الله عليه وسلم وقلت أنشدك الله أى بفتح الهمزة أسألك بالله ابن عم أى يا ابن عم أن تحدث أى لا تحدث بهذا قريشا فيكذبك من صدقك وفى رواية إنى أذكرك الله عز وجل أنك تأتى قوما يكذبونك وينكرون مقالتك فأخاف أن يسطوا بك فضرب بيده الشريفة على ردائه فانتزعه من يدى فارتفع على بطنه صلى الله عليه وسلم فنظرت إلى عكنه أى طبقات بطنه من السمن فوق ردائه صلى الله عليه وسلم وكأنه طى القراطيس أى الورق وإذا نور ساطع عند فؤاده كاد يخطف بفتح الطاء وربما كسرت بصرى فخررت ساجدة فلما رفعت رأسى إذ هو قد خرج فقلت لجاريتى نبعة أى وكانت حبشية معدودة فى الصحابة رضى الله عنها اتبعيه وانظرى ماذا يقول فلما رجعت أخبرتنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى نفر من قريش فى الحطيم هو مابين باب الكعبة والحجر الأسود وفى كلام بعضهم بين الركن والمقام سمى بذلك لأن الناس يحطم بعضهما بعضا فيه من الازدحام لأنه من مواطن إجابة الدعاء قيل ومن حلف فيه آثما عجلت عقوبته وربما أطلق كما تقدم على الحجر بكسر الحاء وأولئك النفر الذين انتهى صلى الله عليه وسلم إليهم فيهم المطعم بن عدى وأبو جهل بن هشام والوليد ابن المغيرة فقال صلى الله عليه وسلم إنى صليت الليلة العشاء أى أوقعت صلاة فى ذلك الوقت فى هذا المسمجد وصليت به الغداة أى أوقعت صلاة فى ذلك الوقت وإلا فصلاة العشاء لم تكن فرضت وكذا صلاة الغداة التى هى الصبح لم تكن فرضت كما تقدم وأتيت فيما بين ذلك بيت المقدس
أى لا يقال كان المناسب لذلك أن يقول وأتيت فى لحظة أو ساعات وعلى ما تقدم فيما بين ذلك ببيت المقدس ولم يوسع لهم الزمن لأنا نقول وسع لهم الزمن لأن الطباع لا تنفر منه نفرتها من تلك فليتأمل
____________________
(2/87)
قال وجاء أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل المسجد قطع وعرف أن الناس تكذبه أى وما أحب أن يكتم ما هو دليل على قدرة الله تعالى وما هو دليل على علو مقامه صلى الله عليه وسلم الباعث على اتباعه فقعد صلى الله عليه وسلم حزينا فمر به عدو الله أبو جهل فجاء حتى جلس إليه صلى الله عليه وسلم فقال كالمستهزىء هل كان من شيء قال نعم أسرى بى الليلة قال إلى أين قال إلى بيت المقدس قال ثم أصبحت بين ظهرانينا قال نعم قال فلم ير أنه يكذبه مخافة أن يجحده الحديث إن دعا قومه إليه قال أرأيت إن دعوت قومك أتحدثهم ما حدثتنى قال نعم قال يا معشر بنى كعب بن لؤى فانقضت إليه المجالس وجاءوا حتى جلسوا إليهما فقال حدث قومك بما حدثتنى به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنى أسرى بى الليلة قالوا إلى أين قال إلى بيت المقدس الحديث انتهى فنشر لى رهط من الأنبياء منهم إبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام وصليت بهم وكلمتهم فقال أبو جهل كالمستهزىء صفهم لى فقال صلى الله عليه وسلم أما عيسى عليه الصلاة والسلام ففوق الربعة ودون الطويل أى لا طويل ولا قصير عريض الصدر ظاهر الدم أى لونه أحمر وفى رواية يعلوه حمرة كأنما يتحادر من لحيته الجمان وفى رواية كأنه خرج من ديماس أى من حمام وأصله الكن الذى يخرج منه الإنسان وهو عرقان وأصله الظلمة يقال ليل دامس والحمام لفظ عربى وأول واضع له الجن وضعته لسيدنا سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام وقيل الواضع له بقراط وقيل شخص سابق على بقراط استفاده من رجل كان به تعقيد العصب فوقع في ماء حار في جب فسكن فصار يستعمله حتى برىء
وجاء من طرق عديدة كلها ضعيفة لكن يقوى بعضها بعضا إن سليمان عليه الصلاة والسلام لما دخله ووجد حره وغمه قال أواه من عذاب الله لان دخول الحمام يذكر النار لأن الحمام أشبه شىء بجهنم لان النار أسفله والسواد والظلمة أعلاه وقد قيل خير الحمام ماقدم بناؤه واتسع فناؤه وعذب ماؤه قال بعضهم ويصير قديما بعد سبع سنين قال بعضهم ولم يعرف الحمام فى بلاد الحجاز قبل البعثة وإنما عرفه الصحابة بعد موته صلى الله عليه وسلم بعد أن فتحوا بلا د العجم
وفيه أن فى البخارى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتدرون بيتا يقال له الحمام قالوا يا رسول الله إنه يذهب بالدرن وينفع المريض
____________________
(2/88)
قال فاستتروا وفى رواية أنه لما قال صلى الله عليه وسلم اتقوا بيتا يقال له الحمام فقالوا يا رسول الله إنه يذهب بالدرن وينفع المريض الوسخ ويذكر النار قال إن كنتم لا بد فاعلين فمن دخله فليستتر وهو صريح فى أن الصحابة رضى الله تعالى عنهم عرفوه فى زمنه صلى الله عليه وسلم إلا أن يقال جاز أن يكونوا عرفوه من غيرهم بهذا الوصف لهم والمنفى فى كلام هذا البعض معرفتهم له بالدخول فيه ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم بيتا يقال له الحمام وقوله صلى الله عليه وسلم ستفتح عليكم أرض العجم وستجدون فيها بيوتا يقال لها الحمامات
وأما ما جاء عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم دخل حمام الجحفة فلا يرد لأنه على تقدير صحته فالمراد به أنه محل للاغتسال فيه لا بالهيئة المخصوصة وكذا لا يرد مافى معجم الطبرانى الكبير عن أبى رافع أنه قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بموضع فقال نعم موضع الحمام هذا فبنى فيه حمام لجواز أن يكون بنى ذلك بعد موته صلى الله عليه وسلم فهو من أعلام نبوته قال بعضهم ولعله قال ذلك لقبح الموضع أى فقول بعضهم ويكفى ذلك فى فضيلة الحمام ليس فى محله
وفيه أن هذا البعض لم يعول فى الفضيلة على هذا فقط بل عليه وعلى ما رواه البخارى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما الذى فيه لأنه يذهب بالدرن وينفع المريض
ولايرد أيضا مافى مسند أحمد عن أم الدرداء رضى الله تعالى عنها أنها خرجت من الحمام فلقيها رسول اله صلى الله عليه وسلم فقال لها من أين يا أم الدرداء قالت من الحمام لأن فى سنده ضعيفا ومتروكا ولأنه يجوز أن يكون المراد به أنه محل الاغتسال لا أنه المبنى على الهيئة المخصوصة كما تقدم وبه يجاب أيضا عما فى مسند الفردوس إن صح عن ابن عمر رضى اله تعالى عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لأبى بكر وعمر رضى الله تعالى عنهما وقد خرجا من الحمام طاب حمامكما
قال ابن القم ولم يدخل المصطفى صلى الله عليه وسلم حماما قط ولعله ما رآه بعينيه هذا كلامه وعن فرقد السنجى أنه ما دخل الحمام نبى قط ويشكل عليه ماتقدم عن سليمان عليه الصلاة والسلام
واعترض بعضهم قول ابن القيم لعله صلى الله عليه وسلم مارأى الحمام بعينه بأنه صلى الله عليه وسلم دخل الشام وبها حمامات كثيرة فيبعد أنه ما رأها نعم لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم دخل شيئا منها
____________________
(2/89)
وفيه أنه قد يقال هو صلى الله عليه وسلم لم يدخل بلاد الشام إلا بصرى وجاز أن لا يكون بها حمام حين دخوله صلى الله عليه وسلم إليها
وفى الطبرانى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما مرفوعا شر البيوت الحمام تعلو فيه الأصوات وتكشف فيه العورات فمن دخله لا يدخله إلا مستترا ورجاله رجال الصحيح إلا شخص منهم فيه مقال وما أحسن قول الإمام الغزالى ورد نعم البيت الحمام يطهر البدن ويذهب الدرن ويذكر النار وبئس البيت الحمام يبدى العورة ويذهب الحياء فهذا تعرض لأنفه وذلك تعرض لفائدته ولا بأس بطلب الفائدة مع التحرز عن الآفة
والحاصل أن الحمام تعتريه الأحكام الخمسة فيكون واجبا وحراما ومندوبا ومكروها ومباحا والاصل فيه عندنا معاشر الشافعية الإباحة للرجال مع ستر العورة مكروه للنساء مع ستر العورة حيث لا عذر وهو محمل ما جاء من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من نسائكم فلا يدخل الحمامات ومع عدم ستر العورة حرام وهو محمل ما جاء الحمام حرام على نساء أمتى
وأول من اتخذ الحمام فى القاهرة العزيز ابن المعز العبيدى أحد الفواطم قال بعضهم ليس فى شأن الحمام ما يعول عليه إلا قول المصطفى صلى الله عليه وسلم فى صفة عيسى عليه الصلاة والسلام كأنما خرج من ديماس
وقال غيره أصح حديث فى هذا الباب حديث اتقوا بيتا يقال له الحمام فمن دخله فليستتر وقال ابن عمر فى وصف عيسى عليه الصلاة والسلام إنما هو آدم وحلف بالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل فى عيسى إنه أحمر وإنما قال آدم وإنما اشتبه على الراوى وأجاب الإمام النووى بأن الراوى لم يرد حقيقة الحمرة بل ما قاربها أى والحمرة المقاربة لها أى للأدمة يقال لها أدمة أى كما يقال لها حمرة فلا منافاة قال صلى الله عليه وسلم جاعد الشعر أى فى شعره تثن وتكسر
أقول ينبغى حمل جعد الذى جاء فى بعض الروايات وإذا هو بعيسى جعد على هذا ثم رأيت النووى قال قال العلماء المراد بالجعد هنا جعوده الجسم وهو اجتماعه واكتنازه وليس المراد جعودة الشعر فليتأمل والله أعلم تعلوه صهبة أى يعلو شعره
____________________
(2/90)
شقرة كأنه عروة بن مسعود الثقفى أى رضى الله تعالى عنه فإنه بعد انصرافه صلى الله عليه وسلم من الطائف لحق به قبل أن يدخل المدينة وأسلم ثم جاء إلى قومه ثقيف يدعوهم إلى الإسلام فقتلوه وقال صلى الله عليه وسلم فى حقه إن مثله فى قومه كصاحب يس كما سيأتى ذلك
وأما موسى عليه الصلاة والسلام فضخم آدم أى أسمر ومن ثم كان خروج يده بيضاء مخالفا لونها لسائر لون جسده آية طويل كأنه من رجال شنوءة طائفة من اليمن أى ينسبون إلى شنوءة وهو عبد الله بن كعب من أولاد الأزد لقب بذلك لشنآن كان بينه وبين اهله وقيل لأنه كان فيه شنوءة وهو التباعد من الأدناس وفى رواية كأنه من رجال أزدعمان هو أبو حى من اليمن وعمان هذه بضم العين المهملة وتخفيف الميم بلدة باليمن سميت بذلك لأنه نزلها عمان بن سنان من ولد إبراهيم عليه الصلاة والسلام زأما عمان بفتح العين وتشديد الميم فيلدة بالشام سميت بذلك لأن عمان بن لوط كان سكنها وكما يقال أزدعمان يقال أزد شنوءة ورجال الأزدمعروفون بالطول
قال صلى الله عليه وسلم كثير الشعر غائر العينين متراكم الأسنان مقلص الشفتين خارج اللثة أى وهو اللحم الذى حول الأسنان عابس وأما إبراهيم عليه الصلاة والسلام فوالله إنه لأشبه الناس بى خلقا وخلقا وفى رواية لم أر رجلا أشبه بصاحبكم ولا صاحبكم أشبه به منه يعنى نفسه صلى الله عليه وسلم فضجوا وأعظموا ذلك وصار بعضهم يصفق وبعضهم يضع يده على رأسه تعجبا فقال المطعم بن عدى إن أمرك قبل اليوم كان أمما أى يسيرا غير قولك اليوم وأنا أشهد أنك كاذب نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس مصعدا شهرا ومنحدرا شهرا أتزعم أنك أتيته فى ليلة واحدة واللات والعزى لا أصدقك وما كان هذا الذى تقول قط وقال أبو بكر رضى الله تعالى عنه يا مطعم بئس ماقلت لابن أخيك جبهته أى استقبلته بالمكروه وكذبته أنا أشهد أنه صادق وفى رواية حين حدثهم بذلك ارتد ناس كانوا أسلموا أى وحينئذ فقول المواهب فصدقه الصديق وكل من آمن بالله فيه نظر إلا أن يراد من ثبت على الإسلام
وفى رواية سعى رجال من المشركين إلى أبى بكر رضى الله تعالى عنه فقالوا هل لك إلى صاحبك يزعم أنه أسرى به الليلة إلى بيت المقدس قال أوقد قال ذلك
____________________
(2/91)
قالوا نعم قال لئن قال ذلك لقد صدق قالوا تصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح قال نعم إنى لاصدقه فيما هو أبعد من ذلك أصدقه فى خبر السماء فى غدوته أى وهى ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس وروحة أى وهى اسم للوقت من الزوال إلى الليل أى وهذا تفسير لهما بحسب الأصل وإلا فالمراد أنه ليخبرنى أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض فى ساعة واحدة من ليل أو نهار فأصدقه فهذا أى مجىء الخبر له من السماء بواسطة الملك أبعد مما تعجبون منه أى وحينئذ يجوز أن يكون قول أبى بكر للمطعم ما تقدم كان بعد هذا القول أى قاله بعد أن اجتمع به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقود بلغته مقالته فلا مخالفة بين الروايتين وإلى إسرائه صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وتحديثه قريشا بذلك أشار صاحب الهمزية بقوله ** حظى المسجد الحرام بممشا ** هـولم ينس حظه إيلياء ** ** ثم وافى يحدث الناس شكرا ** إذ أتته من ربه النعماء **
أى جميع المسجد الحرام حصل له الحظ الأوفر بممشاه صلى الله عليه وسلم فيه ففضل سائر البقاع ولم ينس حظه من ممشاه صلى الله عليه وسلم بيت المقدس بل شرفه الله تعالى بمشيه فيه أيضا ففضل على ما عدا المسجدين أى مسجد مكة ومسجد المدينة ثم وافى صلى الله عليه وسلم مكة يحدث الناس لأجل قيامه بالشكر لله تعالى أو حال كونه شاكرا له تعالى وقت أو لأجل أن أتته من ربه النعماء فى تلك الليلة
ثم قال المطعم يا محمد صف لنا بيت المقدس أراد بذلك إظهار كذبه وقيل القائل له ذلك أبو بكر قال له صفه لى فإنى قد جئته أراد بذلك إظهار صدقه صلى الله عليه وسلم لقوله فقال دخلته ليلا وخرجت منه ليلا فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فصوره فى جناحه أى جاء بصورته ومثاله فى جناحه فجعل صلى الله عليه وسلم يقول باب منه كذا فى موضع كذا وباب منه كذا فى موضع كذا وأبو بكر رضى الله تعالى عنه يقول صدقت أشهد انك رسول الله حتى أتى على أوصافه أى ومعلوم أن من ذهب بيت المقدس من قريش يصدق على ذلك أيضا
وفى رواية لما كذبتنى قريش أى وسألتنى عن اشياء تتعلق ببيت المقدس لم أثبتها أى قالوا له كم للمسجد من باب فكربت كربا شديدا لم أكرب مثله قط قمت فى الحجر
____________________
(2/92)
فجلى الله عزوجل لى بيت المقدس أى وجلى بتشديد اللام وربما خففت كشفه لى أى بوجود صورته ومثاله فى جناح جبريل
وفى رواية فجىء بالمسجد أى بصورته وأنا أنظر إليه حتى وضع أى بوضع محله الذى هو جناح جبريل فلا مخالفة بين الروايات وهذا من باب التمثيل ومنه رؤية الجنة والنار فى عرض الحائط لا من باب طى المسافة وزوى الأرض ورفع الحجب المانعة من الاستطراق الذى ادعى الجلال السيوطى أنه أحسن ما يحمل عليه حديث رفع بيت المقدس حتى رآه النبى صلى الله عليه وسلم بمكة حال وصفه إياه لقريش صبيحة الإسراء إذ ذلك لا يجامع مجىء صورته فى جناح جبريل وإنما قلنا إن ذلك من باب التمثيل لأن من المعلوم أن أهل بيت المقدس لم يفقدوه تلك الساعة من بلدهم فرفعه إنما هو برفع محله الذى هو جناح جبريل
ثم رأيت ابن حجر الهيتمى قال الأظهر أنه رفع بنفسه كما جىء بعرش بلقيس إلى سليمان عليه الصلاة والسلام فى اسرع من طرفة عين ولك أن تتوقف فيه فان عرش بلقيس فقد بخلاف بيت المقدس وكان ذلك التجلى عند دار عقيل وتقدم أنها عند الصفا وأنها استمرت فى يد أولاد عقيل إلى أن آلت إلى يوسف أخى الحجاج وأن زبيدة أو الخيزران جعلتها مسجدا لما حجت كما تقدم وتقدم مافيه قال صلى الله عليه وسلم فطفقت أى جعلت أخبرهم عن آياته أى علاماته وأنا أنظر إليه أى وذلك قبل أن تحول الأبنية بين الحجرتلك الدار أى لقوله صلى الله عليه وسلم فقمت فى الحجر وهم يصدقونه صلى الله عليه وسلم على ذلك
ومن ثم قيل إن حكمة تخصيص الإسراء إلى المسجد الأقصى أن قريشا تعرفه فيسألونه عنه فيخبرهم بما يعرفونه مع علمهم أنه صلى الله عليه وسلم لم يدخل بيت المقدس قط فتقوم الحجة عليهم وكذلك وقع
وأما قول المواهب ولهذا لم يسألوه صلى الله عليه وسلم عما رأى أى فى السماء لأنهم لا عهد لهم بذلك يقتضى سياقه أنه أخبرهم بالمعراج عند إخباره لهم بالإسراء وسيأتى ما يخالفه على أنه سيأتى أنه قيل إن المعراج كان بعد الإسراء فى ليلة أخرى وقيل فى حكمة ذلك أيضا أن باب السماء الذى يقال له مصعد الملائكة يقابل بيت المقدس فيحصل العروج مستويا من غير تعويج
____________________
(2/93)
قال الحافظ ابن حجر وفيه نظر لورود أن فى كل سماء بيتا معمورا وأن الذى فى السماء الدنيا حيال الكعبة فكان المناسب أن يصعد من مكة ليصل إلى البيت المعمور من غير تعويج هذا كلامه ويقال عليه وإن سلم ذلك لكن لم يكن الباب فى تلك الجهة فإن ثبت أن فى السماء بابا يقابل الكعبة اتجه سؤاله
قالت نبعة جارية أم هانىء فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يومئذ يا أبا بكر إن الله تعالى قد سماك الصديق أى ومن ثم كان على رضى الله تعالى عنه يحلف بالله تعالى إن الله تعالى أنزل اسم أبى بكر من السماء الصديق
وأما ما رواه إسحاق بن بشر بسنده إلى أبى ليلى الغفارى قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول سيكون بعدى فتنة فإذا كان ذلك فالزموا على بن أبى طالب فإنه أول من يرانى وأول من يصافحنى يوم القيامة وهو الصديق الأكبر وهو فاروق هذه الأمة يفرق بين الحق والباطل وهو يعسوب المؤمنين والمال يعسوب المنافقين قال فى الاستيعاب إسحاق بن بشر لا يحتج بنقله إذا انفرد لضعفه ونكارة أحاديثه هذا كلامه وفى مسند البزار بسند ضعيف أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلى بن أبى طالب أنت الصديق الأكبروأنت الفاروق الذى يفرق بين الحق والباطل
وفى رواية أن كفار قريش لما أخبرهم صلى الله عليه وسلم بالإسراء إلى بيت المقدس ووصفه لهم قالوا له ما آية ذلك يا محمد أى ما العلامة الدالة على هذا الذى أخبرت به فإنا لم نسمع بمثل هذا قط أى هل رأيت فى مسراك وطريقك ما نستدل بوجوده على صدقك أى لأن وصفك لبيت المقدس يحتمل أن تكون حفظته عمن ذهب إليه قال صلى الله عليه وسلم آية ذلك أنى مررت بعير بنى فلان بوادى كذا فأنفرهم أى أنفر عيرهم حس الدابة يعنى البراق فند لهم بعير أى شرد فدللتهم عليه وأنا متوجه إلى الشام ثم أقبلت حتى إذا كنت بمحل كذا مررت بعير بنى فلان فوجدت القوم نياما ولهم إناء فيه ماء قد غطوا عليه بشيء فكشفت غطاءه وشربت مافيه ثم غطيت عليه كما كان أى وفى كلام بعضهم فعثرت الدابة يعنى البراق فقلب بحافره القدح الذى فيه الماء الذى كان يتوضأ به صاحبه فى القافلة وشرب الماء الذى للغير جائز لأنه كان عند العرب كاللبن مما يباح لكل مجتاز من أبناء السبيل على أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن له أن يأخذ ما يحتاج إليه من مالكه المحتاج إليه ويجب على مالكه حينئذ بذله وأما الجواب عن ذلك
____________________
(2/94)
بأنه مال حربى غير صحيح لأن هذا كان قبل مشروعية الجهاد ومع عدم مشروعيته لا يحل مال أهل الحرب كما لا يحل قتالهم لأن الواجب حينئذ مسالمتهم ولاتتم إلا بترك التعرض لأموالهم كنفوسهم قاله ابن حجر فى شرح الهمزية لكن فى قطعة التفسير للجلال المحلى فى تفسير قوله تعالى فرددناه إلى أمه كى تقر عينها أن أمه أرضعته بأجرة وساغ لها أخذها لأنها مال حربى أى من مال فرعون إلا أن يقال ذاك أى أخذ مال الكافر كان جائزا فى شريعتهم قال صلى الله عليه وسلم وآية ذلك أى علامته المصدقة لما أخبر به صلى الله عليه وسلم أن عيرهم الآن تصوب من الثنية يقدمها جمل أورق وهو ما بياضه إلى سواد وهو أطيب الإبل لحما عند العرب وأخسها عملا عندهم أي ليس بمحمود عندهم في عمله وسيره عليه غرارتان إحداهما سوداء والأخرى برقاء أى فيها بياض وسواد كما تقدم فابتدر القوم الثنية فأول مالقيهم الجمل الأورق عليه الغرارتان فسألوهم عن الإناء وعن نفار العير وعن ند البعير وعن الشخص الذى دلهم عليه فصدقوا قوله
أقول قد علم أن العير التى نفرت وند منها البعير ودلهم عليه مر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى الشام والعير التى كان بها الإناء الذى شربه صلى الله عليه وسلم مر عليها وهو راجع إلى مكة وهى التى صوبت من الثنية وحينئنذ لا يحسن سؤال أهلها عما وقع لأهل تلك العير تصديقهم له صلى الله عليه وسلم فيما أخبر إلا أن يقال يجوز أن تكون هذه العير التى مر عليها صلى الله عليه وسلم فى العود اجتمعت فى عودها بتلك العير الذاهبة إلى الشام وأخبروهم بما ذكر والله تعالى أعلم
وفى رواية قالوا يا مطعم دعنا نسأله عما هو أغنى لنا عن بيت المقدس أى فقولهم ذلك كان بعد أن أخبرهم بيت المقدس يا محمد أخبرنا عن عيرنا أى عيراتنا الذاهبة والآتية هل لقيت منها شيئا فقال نعم أتيت على عير بنى فلان بالروحاء أى وهو محل قريب من المدينة أى بينه وبين المدينة ليلتان قد أضلوا ناقة لهم فانطلقوا فى طلبها فانتهيت إلى رحالهم ليس بها منهم أحد وإذا قدح ماء فشربت منه فاسألوهم عن ذلك فقالوا هذه واللات والعزى آية أى علامة
أقول وهذه العير هو التى مر صلى الله عليه وسلم عليها فى العود وهى قادمة إلى مكة وفى هذه الرواية زيادة أنهم أضلوا ناقة وتقدم فى تلك الرواية أنه صلى الله عليه
____________________
(2/95)
وسلم وجدهم نياما وفى هذه الرواية إنه ليس بها منهم أحد وقد يقال لا مخالفة بين الروايتين لأنه يجوز أن يكون الراوى أسقط منها هذه الزيادة وهى إضلال الناقة وأن قوله صلى الله عليه وسلم ليس بها منهم أحد أى مستيقظ بل بعضهم ذهب فى طلب تلك الناقة وبعضهم كان نائما لكن فى هذه الرواية انه صلى الله عليه وسلم مر عليها وهى بالروحاء وهو لا يناسب قوله فى تلك إنها الآن تصوب من الثنية لأن كونها تأتى من الروحاء إلى مكة فى ليلة واحدة من أبعد البعيد إلا أن يقال إن الروحاء مشتركة بين المحل المعروف المتقدم ذكره ومحل آخر قريب من مكة والله أعلم
ثم قال صلى الله عليه وسلم فانتهيت إلى عير بنى فلان فنفرت منها أى من الدابة التى هى البراق الإبل أى التى هى العير وبرك منها جمل أحمر عليه جوالق مخطط ببياض لا أدرى أكسر البعير أم لا وهذه الرواية يحتمل أنها ثالثة ويمكن أن تكون هى الأولى أسقط من تلك قوله فى هذه وبرك منها جمل إلى آخره كما أسقط من هذه قوله فى تلك فند لهم بعير
وفى رواية ثم انتهيت إلى عير بنى فلان بمكان كذا وكذا فيها جمل عليه غرارتان غرارة سوداء وغرارة بيضاء فلما حاذت العير نفرت وصرع ذلك البعير وانكسر أى وأضلوا بعير لهم قد جمعه فلان أى بدلالتى لهم عليه فسلمت عليهم فقال بعضهم هذا صوت محمد فاسألوهم عن ذلك فعلم أن هذه الرواية والتى قبلها هى الأولى غاية الأمر أن زيد فى هذه قوله فسلمت عليهم فقالوا هذه واللات والعزى آية قال صلى الله عليه وسلم ثم انتهيت إلى عير بنى فلان بالأبواء أى وهو كما تقدم غير مرة أنه محل بين مكة والمدينة يقدمها جمل أورق أى بياضه إلى سواد كما تقدم هاهى تطلع عليكم من الثنية فانطلقوا لينظروا فوجدوا الأمر كما قال صلى الله عليه وسلم فقالوا صدق الوليد فيما قال أى فى قوله إنه ساحر وأنزل الله تعالى وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس وهذا يدل على أن المراد رؤيا الإسراء وأنها رؤيا العين وأنه يقال في مصدرها رؤيا كما يقال رؤية بالتاء خلافا لمن أنكر ذلك إذ لو كان رؤيا الإسراء مناما لما أنكر عليه فى ذلك أى وقيل نزلت وقد رأى النبى صلى الله عليه وسلم ولد الحكم بن أبى العاص أبى مروان وهم بنو أمية على منبره كأنهم القردة وقد ورد رأيت بنى مروان يتعاورون منبرى وفى لفظ ينزلون على منبرى نزو القردة زاد وفى رواية فما استجمع
____________________
(2/96)
صلى الله عليه وسلم ضاحكا حتى مات وأنزل الله تعالى فى ذلك وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس وفى رواية فنزل إنا أعطيناك الكوثر وفى رواية فنزل إنا أنزلناه فى ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر قال بعضهم أى خير من ألف شهر يملكها بنو أمية فإن مدة ملك بنى أمية كانت أثنتين وثمانين سنة وهى ألف أشهر وكان جميع من ولى الخلافة منهم أربعة عشر ر جلا أولهم معاوية وآخرهم مروان بن محمد
وقد قيل لبعضهم ما سبب زوال ملك بنى أمية مع كثرة العدد والعدد والأموال والموالى فقال أبعدوا أصدقائهم ثقة بهم وقربوا أعداءهم جهلا منهم فصار الصديق بالإبعاد عدوا ولم يصر العدو صديقا بالتقريب له وحديث رأيت بنى مروان إلى آخره قال الترمذى هو حديث غريب وقال غيره منكر قال صلى الله عليه وسلم ورأيت بنى العباس يتعاورون منبرى فسرنى ذلك وقيل إن هذه الآية أى آية وما جعلنا الرؤيا التى أريناك إلا فتنة للناس إنما نزلت فى رؤيا الحديبية حيث راى النبى صلى الله عليه وسلم أنه وأصحابه يدخلون المسجد محلقين رؤوسهم ومقصرين ولم يوجد ذلك بل صدهم المشركون وقال بعض الصحابة له صلى الله عليه وسلم ألم تقل إنك تدخل مكة آمنا قال بلى أفقلت لكم من عامى هذا قالوا لا قال فهو كما قال جبريل عليه الصلاة والسلام كما سيأتى ذلك فى قصة الحديبية
وقيل إنما نزلت هذه الآية فى رؤيا وقعة بدر حيث أراه جبريل مصارع القوم ببدر فأرى النبى صلى الله عليه وسلم الناس مصارعهم فتسامعت بذلك قريش فخروا منه أى ولا مانع من تعدد نزول هذه الآية لهذه الأمور فقد يتعدد نزول الآية لتعدد أسبابها
قال ابن حجر الهيتمى إن اتحاد النزول لا ينافى تعدد أسبابه أى وذلك ذا تقدمت الأسباب ويروى أنه عين لهم اليوم الذى تقدم فيه العير أى قالوا له متى تجىء قال لهم يأتوكم يوم كذا وكذا يقدمهم جمل أورق عليه مسح آدم وغرارتان فلما كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينتظرون ذلك وقد ولى النهار ولم تجىء حتى كادت الشمس أن تغرب أى دنت للغروب فدعا الله تعالى فحبس الشمس عن الغروب حتى قدم العير أى كما وصف صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/97)
أقول يجوز أن يكون هذا بالنسبة لبعض العيرات التى مر عليها فلا يخالف ما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم قال فى بعض العيرات إنها الآن تصوب من الثنية وإلى حبس الشمس عن المغيب أشار الإمام السبكى فى تائيته بقوله ** وشمس الضحى وقت مغيبها ** فما غربت بل وافقتك بوقفة **
وجاء فى بعض الروايات أنها حبست له صلى الله عليه وسلم عن الطلوع ففى رواية أن بعضهم قال له أخبرنا عن عيرنا قال مررت بها بالتنعيم قالوا فما عدتها وأحمالها وعدة من فيها وقال تطلع عند طلوع الشمس فحبس الله تعالى الشمس عن الطلوع حتى قدمت العير
فلما خرجوا لينظروا فإذا قائل يقول هذه الشمس قد طلعت وقال آخر وهذه العير قد أقبلت فيها فلان وفلان كما أخبر محمد صلى الله عليه وسلم وعلى تقدير صحة هذه الروايات يجاب عنها بمئل ما تقدم والله أعلم وحبس الشمس وقوفها عن السير أى عن الحركة بالكلية وقيل بطء حركتها وقيل ردها إلى ورائها قالوا ولم تحبس له صلى الله عليه وسلم إلا ذلك اليوم وما قيل إنها حبست له صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن الغروب أيضا حتى صلى العصر معارض بأنه صلى الله عليه وسلم صلى العصر بعد غروب الشمس وقال شغلونا عن الصلاة الوسطى كما سيأتى ثم رأيت فى كلام بعضهم ما يؤخذ منه الجواب وهو أن وقعة الخندق كانت أياما فحبست الشمس فى بعض تلك الأيام إلى الإحمرار والاصفرار وصلى حينئذ وفى بعضها لم تحبس بل صلى بعد الغروب قال ذلك البعض ويؤيده أن راوى التأخير إلى الغروب غير راوى التأخير إلى الحمرة والصفرة
وجاء فى رواية ضعيفة أن الشمس حبست عن الغروب لداود عليه الصلاة السلام وذكرى البغوى أنها حبست كذلك لسليمان عليه الصلاة والسلام
أى فعن على بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه أن الله أمر الملائكة الموكلين بالشمس حتى ردوها على سليمان حتى صلى العصر فى وقتها وهذا رد لها لا حبس لها عن غروبها الذى الكلام فيه والذى فى كلام بعضهم إنما ضرب سيدنا سليمان سوق خيله واعناقها حيث عرضها عليه عن صلاة العصر حتى كادت الشمس أن تغرب ولم يتصدق بها مبادرة
____________________
(2/98)
لتعظيم أمر الله تعالى بالصلاة فى وقتها لأن التصديق يحتاج إلى صرف زمن في دفعها وأخذها وحبست كذلك ليوشع ابن أخت موسى عليه الصلاة والسلام وهو ابن نون بن يوسف الصديق عليه الصلاة والسلام أى وهو الذى قام بالأمر بعد موسى لأن موسى عليه الصلاة والسلام لما وعده الله تعالى أن يورثه وقومه بنى إسرائيل الأرض المقدسة التى هى أرض الشام وكان سكنها الكنعانيون الجبارون وأمر بمقاتلة أولئك الجبارين وهم العماليق سار بمن معه وهم ستمائة ألف مقاتل حتى نزل قريبا من مدينتهم أريحا فبعث إليهم اثنى عشر رجلا من كل سبط واحدا ليأتوه بخبر القوم فدخلوا المدينة فرأوا أمرا هائلا من عظم أجسادهم فقد ذكر بعضهم أنه رأى فى فجاج أى نقرة عين رجل منهم ضبعة رابضة أى جالسة هى وأولادها حولها والفجاج فى الأصل الطريق الواسع واستظل سبعون رجلا من قوم موسى فى قحف رجل منهم أى فى عظم أم رأسه وفى العرائس وكان لا يحمل عنقود عنبهم الا خمسة أنفس منهم ويدخل فى قشرة الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس أو أربعة وإن رجلا من العماليق أخذ الاثنى عشر ووضعهم فى كمه مع فاكهة كانت فيه وجاء بهم إلى ملكهم فسألهم فقالوا نحن عيون موسى فقال ارجعوا وأخبروه وفى العرائس أنه عوج بن عنق إحدى بنات آدم عليه السلام من صلبه ويقال إنها أول بغى فى الأرض
وفى العرائس أنه لما لقيهم كان على رأسه حزمة حطب وأخذ الاثنى عشر فى حجره وانطلق بهم لامرأته وقال انظرى إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا وطرحهم بين يديها وقال لها ألا أطحنهم برجلى فقالت امرأته لا ولكن خل عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا ففعل ذلك فلما رجعوا أخبروا موسى عليه الصلاة والسلام فقال اكتموا خوفا من بنى إسرائيل أن يفشلوا ويرتدوا عن موسى فلم يفعلوا وأخبر كل واحد سبطه بشدة ما رآه من أمرهم الهائل ففشلوا وجنبوا عن القتال إلا رجلان لم يخبرا سبطيهما وهما يوشع بن نون من سبط يوسف وكالب بن يوقنا من سبط بنيامين وقالوا لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون فدعا عليهم وقال رب إنى لا املك إلا نفسى وأخى أى فإنه لم يبق معه موافق يثق به غير أخيه هرون وكالب ويوشع وهما المذكوران بقوله تعالى قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون لأن الله منجز وعده وإنا قد
____________________
(2/99)
خبرناهم فوجدنا أجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة فلا تخشوهم { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } وحينئذ يكون مراد موسى بقوله وأخى من واخاه ووافقه لا خصوص هرون ثم دعا بقوله فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين اى باعد بيننا وبينهم فضرب عليه التيه فتاهوا أى تحيروا فى ستة فراسخ من الأرض يمشون النهار كله ثم يمسون حيث أصبحوا ويصبحون حيث أمسوا وأنزل الله تعالى عليهم المن والسلوى لأنهم شغلوا عن المعاش وأبقيت عليهم ثيابهم لا تخلق ولا تتسخ وتطول مع الصغير إذا طال وظلل عليهم الغمام من الشمس ولما رأى موسى عليهم الصلاة والسلام ما بهم من التعب ندم على دعائه عليهم
وفى حياة الحيوان لما عبد بنو إسرائيل العجل أربعين يوما عوقبوا بالتيه أربعين سنة لكل يوم سنة فأوحى الله تعالى له فلا تأس أى لا تحزن على القوم الفاسقين أى الذين فسقوا أى خرجوا عن أمرك
قال في أنس الجليل وفى زمن الاسلام منزل حكام الشرطة فإنها الآن قرية من قرى بيت المقدس ثم مات وهرون بالتيه مات هرون أولا ثم موسى بعد سنتين وفى ذلك رد على من قال إن قبر هرون أخى موسى بأحدكما سيأتى وفيه رد أيضا على من يقول موسى مات قبل هرون وأنه دفنه وقيل إن هرون رأى سريرا فى بعض الكهوف فقام عليه فمات وإن بنى إسرائيل قالوا قتل موسى هرون حسدا له على محبة بنى إسرائيل له فقال لهم موسى ويحكم كان أخى ووزيرى أفترنى أقتله فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا فنزل السرير الذى قام عليه فمات حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه وعلى الأول أن موسى انطلق ببنى إسرائيل إلى قبره ودعا الله أن ينجيه فأحياه الله تعالى وأخبرهم أنه مات ولم يقتله موسى وعند ذلك قام بالأمر يوشع بن نون المذكور أى فإن موسى لما احتضر أخبرهم بأن يوشع بعده نبى وإن الله أمره بقتال الجبارين فسار بهم يوشع وقاتل الجبارين وكان يوم الجمعة ولما كاد أن يفتحها كادت الشمس أن تغرب فقال للشمس أيتها الشمس إنك مأمورة وأنا مأمور بحرمتى عليك إلا ركدت أى مكثت ساعة من النهار
وفى رواية قال اللهم احبسها على فحبسها الله تعالى حتى افتتح المدينة أى قال
____________________
(2/100)
ذلك خوفا من دخول السبت المحرم عليهم فيه المقاتلة وقد عبر الإمام السبكى عن حبسها ليوشع نردها فى قوله ** وردت عليك الشمس بعد مغيبها كما أنها قدما ليوشع ردت **
ولولا قوله بعد مغيبها لما أشكل وأمكن أن يراد بالرد وقوفها وعدم غروبها ومن ثم ذكر ابن كثير فى تاريخه أن فى حديث رواه الإمام أحمد وهو على شرط البخارى إن الشمس لم تحبس لبشر إلا ليوشع عليه السلام ليالى سار إلى بيت المقدس وفيه دلالة على أن الذى فتح بيت المقدس هو يوشع بن نون لا موسى وأن حبس الشمس كان في فتح بيت المقدس لا في فتح أريحا هذا كلامه وهو خلاف السياق
وفى العرائس أن موسى عليه الصلاة والسلام لم يمت فى التيه بل سار ببنى إسرائيل إلى أريحا وعلى مقدمته يوشع فدخل يوشع وقتل الجبارين ثم دخلها موسى عليه الصلاة والسلام ببنى إسرائيل فأقام فيها ما شاء الله ثم قبض ولا يعلم موضع قبره من الخلق أحد قال وهذا أولى الأقاويل بالصدق وأقربها إلى الحق وذكر بعد ذلك أن موسى لما حضرته الوفاة قال يا رب أدننى من الأرض المقدسة برمية حجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أنى عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر
قال ابن كثير قوله صلى الله عليه وسلم لم تحبس لبشر يدل على أن هذا من خصائص يوشع عليه الصلاة والسلام فيدل على ضعف الحديث الذى رويناه أن الشمس رجعت أى بعد مغيبها فى خيبركما سنذكره هنا حتى صلى علي بن أبى طالب العصر بعد ما فاتته بسبب نوم النبى صلى الله عليه وسلم على ركبته وهو حديث منكر ليس فى شئ من الصحاح ولا الحسان وهو مما تتوفر الدواعى على نقله وتفردت بنقله امرأة من أهل البيت مجهولة لا يعرف حالها هذا كلامه وسيأتى قريبا ما فيه على أن قوله صلى الله عليه وسلم لم تحبس لبشر أى غيره صلى الله عليه وسلم وقد علمت أن الحبس لها يكون منعا لها عن مغيبها والرد لها يكون بعد مغيبها فليتأمل
وفى كلام سبط ابن الجوزى إن قيل حبسها ورجوعها مشكل لأنها لو تخلفت أو ردت لاختلت الأفلاك ولفسد النظام قلنا حبسها وردها من باب المعجزات ولا مجال للقياس فى خرق العادات
وذكر أنه وقع لبعض الوعاظ ببغداد إذ قعد يعظ بعد العصر صم أخذ فى ذكر فضائل
____________________
(2/101)
آل البيت فجاءت سحابة غطت الشمس فظن وظن الناس الحاضرون عنده أن الشمس غابت فأرادوا الانصراف فأشار إليهم أن لا يتحركوا ثم أدار وجهه إلى ناحية الغرب وقال ** لا تغربى يا شمس حتى ينتهى مدحى لآل المصطفى ولنجله ** ** إن كان للمولى وقوفك فليكن هذا الوقوف لولده ولنسله **
فطلعت الشمس فلا يحصى ما رمى عليه من الحلى والثياب هذا كلامه
ولما افتتحوا المدينة التى هى أريحا أصابوا بها أموالا عظيمة وكانوا أى الأمم السابقة إذا أصابوا الغنائم قربوها فتجئ النار تأكلها أى إذا لم يكن فيها غلول كما تقدم فمجئ النار وأكلها دليل على قبولها ولم تحل إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم كما سيأتى فلما أصابوا تلك الغنائم قربوها فلم تجئ إليها النار فقالوا له يا نبى الله ما لها لا تأكل قرباننا قال فيكم الغلول فدعا رأس كل سبط وصافحه فلصق كف واحد منهم فى كف يوشع عليه السلام فقال الغلول فى سبطك فقال كيف أعلم ذلك قال تصافح واحدا بعد واحد فلصقت كفه بكف واحد منهم فسئل فقال نعم رأيت رأس بقرة من ذهب عيناها من ياقوت وأسنانها من لؤلؤ فأعجبتنى فغللتها فجاء بها ووضعها فى الغنيمة فجاءت النار فأكلتها
وذكر البغوى أن الشمس حبست عن الطلوع لموسى عليه الصلاة والسلام كما حبست كذلك لنبينا صلى الله عليه وسلم كما تقدم وكذا القمر حبس لموسى عليه الصلاة والسلام عن الطلوع له فعن عروة بن الزبير رضى الله تعالى عنه قال إن الله تعالى حين أمر موسى عليه الصلاة والسلام بالمسير ببنى إسرائيل إلى بيت المقدس أمره أن يحمل معه عظام يوسف عليه الصلاة والسلام وأن لا يخلفها بأرض مصر وأن يسير بها حتى يضعها بالأرض المقدسة أى وفاء بما أوصى به يوسف عليه الصلاة والسلام
فقد ذكر أن يوسف عليه الصلاة والسلام لما أدركته الوفاة أوصى أن يحمل إلى مقابر آبائه فمنع أهل مصر أولياءه من ذلك فسأل موسى عليه الصلاة والسلام عمن يعرف موضع قبر يوسف فما وجد أحدا يعرفه إلا عجوزا من بنى إسرائيل فقالت له يا نبى الله أنا أعرف مكانه وأدلك عليه إن أنت أخرجتنى معك ولم تخلفنى بأرض مصر قال أفعل وفى لفظ إنها قالت أكون معك فى الجنة فكأنه ثقل عليه ذلك فقيل له أعطها طلبتها فأعطاها
____________________
(2/102)
وقد كان موسى عليه الصلاة والسلام وعدبنى إسرائيل أن يسير بهم إذا طلع القمر فدعا ربه أن يؤخر طلوعه حتى يفرغ من أمر يوسف عليه الصلاة والسلام ففعل فخرجت به العجوز حتى أرته أيلة فى ناحية من النيل وفى لفظ فى مستنقعة ماء أى وتلك المستنقعة فى ناحية من النيل فقالت لهم أنضبوا عنها الماء أى ارفعوه عنها ففعلوا قالت احفروا فحفروا وأخرجوه وفى لفظ أنها انتهت به إلى عمود على شاطئ النيل أى فى ناحية منه فلا يخالفه ما سبق فى أصله سكة من حديد فيها سلسلة أى ويجوز أن يكون حفرهم الواقع فى تلك الرواية كان على إظهار تلك السكة فلا مخالفة ووجدوه فى صندوق من حديد وسط النيل فى الماء فاستخرجه موسى عليه الصلاة والسلام وهو فى صندوق من مرمر أى داخل ذلك الصندوق الذى من الحديد فاحتمله
وفى أنس الجليل أن موسى عليه الصلاة والسلام جاءه شيخ له ثلثمائة سنة فقال له يا نبى الله ما يعرف قبر يوسف إلا والدتى فقال له موسى قم معى إلى والدتك فقام الرجل ودخل منزله وأتى بقفة فيها والدته فقال لها موسى ألك علم بقبر يوسف فقالت نعم ولا أدلك على قبره إلا إن دعوت الله تعالى أن يرد على شبابى إلى سبع عشرة سنة ويزيد فى عمرى مثل ما مضى فدعا موسى لها وقال لها كم عمرك قالت له تسعمائة سنة فعاشت ألفا وثمانمائة سنة فأرته قبر يوسف وكان فى وسط نيل مصر ليمر النيل عليه فيصل إلى جميع مصر فيكونون شركاء فى بركته
وأما عود الشمس بعد غروبها فقد وقع له صلى الله عليه وسلم فى خيبر فعن أسماء بنت عميس أنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه ورأسه فى حجر على ولم يسر عن النبى صلى الله عليه وسلم حتى غربت الشمس وعلى لم يصل العصر أى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أصليت العصر فقال لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم إنه كان فى طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس
قالت أسماء فرأيتها طلعت بعد ما غربت
قال بعضهم لا ينبغى لمن سبيله العلم أن يتخلف عن حفظ هذا الحديث لأنه من أجل أعلام النبوة وهو حديث متصل وقد ذكر فى الإمتاع أنه جاء عن أسماء من خمسة طرق وذكرها وبه يرد ما تقدم عن ابن كثير بأنه تفردت بنقله امرأة من أهل البيت مجهولة لا يعرف حالها وبه يرد على ابن الجوزى حيث قال فيه إنه حديث موضوع بلا شك
____________________
(2/103)
لكن فى الامتاع ذكر فى خامس الطرق أن عليا اشتغل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قسمة الغنائم يوم خيبر حتى غابت الشمس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا على صليت العصر قال لا يا رسول الله فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس فى المسجد فتكلم بكلمتين أو ثلاثة كأنها من كلام الحبش فارتجعت الشمس كهيئتها فى العصر فقام على فتوضأوصلى العصر ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما تكلم به قبل ذلك فرجعت إلى مغربها فسمعت لها صريرا كالمنشار فى الخشب وذلك مخالف لسائر الطرق إلا أن هذه الطريق فيها حذف والأصل اشتغل مع النبى صلى الله عليه وسلم فى قسمة غنائم خيبر ثم وضع رأسه فى حجر على فما استيقظ حتى غابت الشمس فلا مخالفة
قال وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قبل وصوله إلى بيت المقدس ساروا حتى بلغوا أرضا ذات نخل فقال له جبريل انزل فصل هنا ففعل ثم ركب فقال أتدرى أين صليت قال لا قال صليت بطيبة وإليها المهاجرة وسيأتى ما فيه فى الكلام على الهجرة فانطلق البراق يهوى يضع حافره حيث أدرك طرفه حتى إذا بلغ أرضا فقال له جبريل انزل فصل ههنا ففعل ثم ركب فقال له جبريل أتدرى أين صليت قال لا قال صليت بمدين أى وهى قرية تلقاء غزة عند شجرة موسى سميت باسم مدين بن إباهيم لما نزلها ثم ركب فانطلق البراق يهوى به ثم قال انزل فصل ففعل ثم ركب فقال له أتدرى أين صليت قال لا قال صليت ببيت لحم أى وهى قرية تلقاء بيت المقدس حيث ولد عيسى عليه الصلاة والسلام أى وفى الهدى وقيل إنه نزل ببيت لحم وصلى فيه ولا يصح عنه ذلك البتة وبينا هو يسير على البراق إذ رأى عفريتا من الجن يطلبه بشعلة من نار كلما التفت رآه فقال له جبريل ألا أعلمك كلمات تقولهن إذا قلتهن طفئت شعلته وخر لفيه فقال صلى الله عليه وسلم بلى فقال جبريل قل أعوذ بوجه الله الكريم وبكلمات الله التامات التى لا يجاوزهن بر ولا فاجر ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها ومن شر ماذرأ فى الأرض ومن شر ما يخرج منها ومن فتن الليل والنهار ومن طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن أي فقال ذلك فانكب لفيه وطفئت شعلته ورأى حال المجاهدين في سبيل الله أى كشف له عن حالهم فى دار الجزاء بضرب مثاله فرأى قوما يزرعون فى يوم أى فى وقت ويحصدونه فى يوم
____________________
(2/104)
أى فى ذلك الوقت كما يرشد إليه الحال كلما حصدوا عاد كما كان فقال يا جبريل ما هذا قال هؤلاء المجاهدون فى سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف وما انفقوا من خير فهو يخلفه هذا الثانى هو المناسب لحالهم دون الأول فالأولى الاقتصار عليه إلا أن يدعى أنه صلى الله عليه وسلم شاهد الحصاد والعود العدد المذكور الذى هو سبعمائة مرة على أن المضاعفة المذكورة لا تختص بالمجاهدين فقد جاء كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا أن يقال المراد تكرر الجزاء العدد المذكور للمجاهدين أمر مؤكد لا يكاد يتخلف وفى غيرهم بخلافه
ووجد صلى الله عليه وسلم ريح ماشطة بنت فرعون ووجد داعى اليهود وداعى النصارى فأما الأول فقد رأى عن يمينه داعيا يقول يا محمد انظرنى أسالك فلم يجبه فقال ما هذا يا جبريل فقال داعى اليهود أما إنك لو أجبته لتهودت أمتك أى لتمسكوا بالتوراة والمراد غالب الأمة وأما الثانى فقد رأى عن يساره داعيا يقول يا محمد انظرنى أسألك فلم يجبه فقال ما هذا يا جبريل قال هذا داعى النصارى أما إنك لو أجبته لتنصرت أمتك أى لتمسكت بالإنجيل وحكمة كون داعى اليهود على اليمين وداعى النصارى على اليسار لاتخفى
ورأى صلى الله عليه وسلم حال الدنيا أى كشف له عن حالتها بضرب مثال فرأى امرأة حاسرة عن ذراعيها كأن ذلك شأن المقتص لغيره وعليها من كل زينة خلقها الله تعالى أى ومعلوم أن النوع الواحد من الزينة يجذب القلوب إليه فكيف بوجود سائر أنواع الزينة فقالت يا محمد انظرنى أسألك فلم يلتفت إليها فقال من هذه يا جبريل قال تلك الدنيا أما إنك لو أجبتها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة ورأى عجوزا على جانب الطريق فقالت يا محمد انظرنى أسالك فلم يلتفت إليها فقال من هذه يا جبريل فقال إنه لم يبق من عمر الدنيا إلا ما بقى من عمر تلك العجوز أى فزينتها لا ينبغى الالتفات إليها لأنها على عجوز شوهاء لم يبق من عمرها إلا القليل ولينظر لم لم يقل تلك الدنيا ولم يبق من عمرها إلى آخره
وفى كلام بعضهم الدنيا قد يقال لها شابة وعجوز بمعنى يتعلق بذاتها وبمعنى يتعلق بغيرها الأول وهو حقيقة أنها من أول وجود هذا النوع الإنسانى إلى أيام إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه سبعة بعدها تسمى الدنيا شابة وفيما بعد ذلك إلى بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم كهلة ومن بعد ذلك إلى يوم القيامة تسمى عجوزا
____________________
(2/105)
واعترض بأن الأئمة صرحوا بأن الشباب ومقابله إنما يكون فى الحيوان ويجاب بأن الغرض من ذلك التمثيل
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يقبل الأمانة مع عجزه عن حفظها بضرب مثال فأتى على رجل قد جمع حزمة حطب عظيمة لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها فقال ما هذا يا جبريل قال هذا الرجل من أمتك تكون عنده أمانات الناس لا يقدر على أدائها ويريد أن يتحمل عليها
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يترك الصلاة المفروضة فى دار الجزاء فأتى على قوم ترضح رءوسهم كلما رضخت عادت كما كانت ولا يفتر عنهم من ذلك شئ فقال يا جبريل ما هؤلاء قال هؤلاء الذين تتثاقل رءوسهم عن الصلاة المكتوبة أى المفروضة عليهم
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يترك الزكاة الواجبة عليه ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع وعلى أدبارهم يسرحون كما تسرح الإبل والغنم ويأكلون الضريع وهو اليابس من الشوك والزقوم ثمر شجر مر له زفرة قيل إنه لايعرف بشجر الدنيا وإنما هو لشجرة من النار وهى المذكورة فى قوله تعالى { إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم } أى منبتها فى أصل الجحيم وتقدم الكلام عليها عند الكلام على المستهزئين ويأكلون رضف جهنم أى حجاراتها المحماة لآن الرضف بالضاد المعجمة الحجارة المحماة التى يكوى بها فقال من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم المفروضة عليهم
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال الزناة بضرب مثال ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج فى قدور ولحم نئ أيضا فى قدور خبيث فجعلوا يأكلون من ذلك النئ الخبيث ويدعون النضيج الطيب فقال ما هذا يا جبريل قال هذا الرجل من أمتك تكون عنده المرأة الحلال الطيب فيأتى امرأة خبيثة فيبيت عندها حتى يصبح والمرأة تقوم من عنده زوجها حلالا طيبا فتأتى رجلا خبيثا فتبيت عنده حتى تصبح
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يقطع الطريق بضرب مثال ثم أتى على خشبة لا يمر بها ثوب ولا شئ إلا خرقته فقال ما هذه يا جبريل قال هذا مثل أقوام من أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونه وتلا ولا تقعدوا بكل صراط توعدون
____________________
(2/106)
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يأكل الربا أى حالته التي يكون عليها فى دار الجزاء فرأى رجلا يسبح فى نهر من دم يلقم الحجارة فقال له من هذا قال آكل الربا وقد شبهه الله تعالى فى القرآن بقوله { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } أى إذا بعث الناس يوم القيامة خرجوا مسرعين من قبورهم إلا أكلة الربا فإنهم لا يقومون من قبورهم إلا مثل قيام الذى يصرعه الشيطان فكلما قاموا سقطوا على وجوههم وجنوبهم وظهورهم كما أن المصروع حاله ذلك أى فهذه حالته فى الذهاب إلى المحشر زيادة على حالته المتقدمة التى تكون فى دارالجزاء
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يعظ ولا يتعظ ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت لا يفتر عنهم من ذلك شيء فقال من هؤلاء يا جبريل فقال هؤلاء خطباء الفتنة خطباء أمتك يقولون مالا يفعلون
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال المغتابين للناس فمر على قوم لهم أظفار من نجاس يخدشون وجوههم وصدورهم فقال من هؤلاء يا جبريل فقال هؤلاء الذين يأكلون لحوم لحوم الناس ويقعون فى أعراضهم وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من يتكلم بالفحش بضرب مثال فأتى على حجر صغير يخرج منه ثور عظيم فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث يخرج فلا يستطيع فقال ما هذا الرجل يا جبريل فقال هذا الرجل من أمتك يتكلم الكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من أحوال الجنة فأتى على واد فوجد ريحا طيبة باردة وريح المسك وسمع صوتا فقال يا جبريل ما هذا قال هذا صوت الجنة تقول يا رب ائتنى بما وعدتنى أى لأنه يجوز أن يكون محل الجنة من السماء السابعة مقابلا لذلك الوادى
وكشف له صلى الله عليه وسلم عن حال من أحوال النار فأتى على واد فسمع صوتا منكرا ووجد ريحا خبيثة فقال ما هذا يا جبريل قال هذا صوت جهنم تقول يا رب ائتنى بما وعدتنى أى وليست جهنم بذلك الوادى كما سيأتى أن الوادى التى هى به هو الذى ببيت المقدس ولعل هذا الوادى مقابل لذلك الوادى وينبغى أن لا يكون هذا هو المراد بما فى الخصائص الصغرى للسيوطى
____________________
(2/107)
وخص صلى الله عليه وسلم باطلاعه على الجنة والنار بل المراد بذلك رؤية ذلك فى المعراج وعند وصوله صلى الله عليه وسلم إلى الوادى الذى ببيت المقدس بالنسبة للنار ورأى صلى الله عليه وسلم الدجال شبيها بعبد العزى بن قطن أى وهو ممن هلك فى الجاهلية أى قبل البعثة
ومر صلى الله عليه وسلم على شخص متنحيا على الطريق يقول هلم يا محمد قال جبريل سر يا محمد قال من هذا قال هذا عدو الله إبليس أراد أن تميل إليه اه
وفى رواية لما وصلت بيت المقدس وصلت فيه ركعتين أى إماما بالأنبياء والملائكة أخذنى العطش أشد ما أخذنى فأتيت بإناءين فى إحداهما لبن وفى الأخرى عسل فهدانى الله تعالى فأخذت اللبن فشربت وبين يدى شيخ متكئ على منبر له فقال أى مخاطبا لجبريل أخذ صاحبك الفطرة إنه لمهدى فلما خرجت منه جائنى جبريل عليه الصلاة والسلام بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل اخترت الفطرة أى الاستقامة التى سببها الإسلام ومنه كل مولود يولد على الفطرة أى على الإسلام
وفى رواية أخرى فأتى بآنية ثلاثة مغطاة أفواهها فأتى بإناء منها فيه ماء فشرب منه قليلا وفى رواية أنه لم يشرب منه شيئا وأنه قيل له لو شربت الماء أى جميعه أو بعضه لغرقت أمتك أى وفى رواية أنه سمع قائلا يقول إن أخذ الماء غرق وغرقت أمته ثم رفع إليه إناء آخر فيه لبن فشرب منه حتى روى
أى وفى روايه سمع قائلا يقول إن أخذ اللبن هدى وهديت أمته ثم رفع إليه إناء فيه خمر فقيل له اشرب فقال لا أريده فقد رويت فقال له جبريل إنها ستحرم على أمتك أى بعد إباحتها لهم
وفى رواية أنه قيل له لو شربت الخمر لغويت أمتك ولم تتبعك أى لايكون على طريقتك منهم إلا قليل أى وفى رواية أنه سمع قائلا يقول إن أخذ الخمر غوى وغويت أمته
أقوم وهذه الرواية محتملة لأن تكون وهو فى بيت المقدس ولأن تكون وهو خارج عنه ومن هذا كله تعلم أنه تكرر عليه عرض اللبن والخمر داخل بيت المقدس
____________________
(2/108)
وخارجه ولا مانع من تكرر عرض آنيتى الخمر واللبن قبل خروجه من بيت المقدس وبعد خروجه منه قبل العروج
ولا تعارض بين الإخبار بأن إحداهما كان فيه عسل مع اللبن وبين الإخبار بأن إحداهما كان فيه خمر مع اللبن ولا بين الإخبار بإناءين والإخبار بأوانى ثلاثة لأنه يجوز أن يكون بعض الرواة اقتصر على إناءين ولا بين كون الإناء الثالث كان فيه عسل أو ماء لأنه يجوز أن يكون إحدى الأوانى الثلاثة كان فيها عسل ثم جعل فيها الماء بدل العسل أو مزج العسل به وغلب الماء على العسل أو تكون الأوانى أربعة وبعض الرواة اقتصر
وقد قال ابن كثير مجموع الأوانى أربعة فيها أربعة أشياء من الأنهار الأربعة التى تخرج من أصل سدرة المنتهى ولكن لم يسقط اللبن وفى رواية بخلاف غيره فإنه تارة ذكر معه الخمر فقط وتارة ذكر معه العسل فقط وتارة ذكر معه الماء والخمر
وعلى الاحتمال الأول يسأل عن سر عدم ذكر جبريل عليه الصلاة والسلام حكمة عدم الشرب من العسل والله أعلم
قال ومر على موسى عليه الصلاة والسلام وهو يصلى فى قبره عند الكثيب الأحمر وهو يقول برفع صوته أكرمته فضلته اه
وفى رواية سمعت صوتا وتذمرا هو بالذال المعجمة الحدة فسلم عليه فرد عليه السلام فقال يا جبريل من هذا قال هذا موسى بن عمران قال ومن يعاتب قال يعاتب ربه فيك قال أو يرفع صوته على ربه والعتاب مخاطبة فيها إدلال وهذا يدل على أن الصوت الذى سمعه كان مشتملا على عتاب وتذمر مع رفعه وفى رواية على من كان تذمره أى حدته قال على ربه قلت أعلى ربه قال جبريل إن الله عز وجل قد عرف له حدته وهذا كما علمت كان كالذى بعده قبل وصوله إلى مسجد بيت المقدس والله أعلم
وجاء وليلة أسرى بى مر بى جبريل على قبر أبى إبراهيم فقال انزل فصل ركعتين قال ومر على شجرة تحتها شيخ وعياله فقال ومن هذا فقال هذا أبوك إبراهيم عليه الصلاة والسلام فسلم عليه فرد عليه السلام فقال من هذا الذى معك يا جبريل فقال هذا ابنك أحمد قال مرحبا بالنبى العربى الأمى ودعا له بالبركة أى فموسى
____________________
(2/109)
عرفه فلم يسأل عنه وإبراهيم لم يعرفه فسأل عنه لكن فى السيرة الهاشمية أن موسى سأل عنه أيضا فقال من هذا يا جبريل فقال هذا أحمد فقال مرحبا بالنبى العربى الذى نصح أمته ودعا له بالبركة وقال اسأل لأمتك اليسير والظاهر أن قبر إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان تحت تلك الشجرة أو قريبا منها فلا مخالفة بين الروايتين
وسار صلى الله عليه وسلم حتى أتى الوادى الذى فى بيت المقدس فإذا جهنم تنكشف عن مثل الزرابى أى وهى النمارق أى الوسائد فقيل يا رسول الله كيف وجدتها قال مثل الحممة أى الفحمة اه
قال صلى الله عليه وسلم ثم عرج بنا إلى السماء أى من الصخرة كما تقدم أى على المعراج بكسر الميم وفتحها الذى تعرج أرواح بنى آدم فيه وهو كما فى بعض الروايات سلم له مرقاة من فضة ومرقاة من ذهب أى عشر مراقى وهو المراد بقول بعضهم وكانت المعاريج ليلة الإسراء عشرة سبع إلى السماوات والثامن إلى سدرة المنتهى والتاسع إلى المستوى والعاشر إلى العرش والرفرف أى فأطلق على كل مرقاة معراجا وهذا المعراج لم ير الخلائق أحسن منه أما رأيت الميت حين يشق بصره طامحا إلى السماء أى بعد خروج روحه فإن ذلك عجبه بالمعراج الذى نصب لروحه لتعرج عليه وذلك شامل للمؤمن والكافر إلا أن المؤمن يفتح لروحه إلى السماء دون الكافر فترد بعد عروجها تحسيرا وندامة وتبكيتا له وذلك المعراج أتى به من جنة الفردوس وإنه منضد بالؤلؤ أى جعل فيه اللؤلؤ بعضه على بعض عن يمينه ملائكة وعن يساره ملائكة فصعد هو وجبريل عليهما الصلاة والسلام قال الحافظ ابن كثير ولم يكن صعوده على البراق كما توهمه بعض الناس أي ومنهم صاحب الهمزية كما يأتي عنه حتى انتهى إلى باب من أبواب سماء الدنيا أى ويقال له باب الحفظة عليه ملك يقال له إسمعيل أى وهذا يسكن الهواء لم يصعد إلى السماء قط ولم يهبط إلى الأرض قط إلا مع ملك الموت لما نزل لقبض روحه الشريفة وتحت يده اثنا عشر ألف ملك
أى وفى رواية أن تحت يده سبعين ألف ملك تحت يد كل ملك سبعون ألف ملك فاستفتح جبريل فقيل من أنت وفى رواية فضرب بابا من أبوبها فناداه أهل سماء الدنيا أى حفظتها من هذا قال جبريل فقيل ومن معك أى فإنهم رأوهما ولم يعرفوهما ولعل جبريل لم يكن على الصورة التى يعرفونه بها قال محمد وفى رواية قال معك
____________________
(2/110)
أحد يجوز أن يكون هذا القائل لم يرهما ويكون الرائى له معظم الحفظة قال نعم معى محمد قيل وقد بعث إليه أى للإسراء والعروج أى لأنه كان عندهم علم بأنه سيعرج به إلى السموات بعد الإسراء به إلى بيت المقدس وإلا فبعثه صلى الله عليه وسلم ورسالته إلى الخلق يبعد أن تخفى على أولئك الملائكة إلى هذه المدة وأيضا لو كان هذا مرادهم لقالوا أو قد بعث ولم يقولوا إليه
فإن قيل قد جاء فى حديث أنس إن ملائكة سماء الدنيا قالت لجبريل أو قد بعث قلنا تقدم أن حديث أنس كان قبل أن يوحى إليه وأنه كان مناما لا يقظة قال السهيلى ولم نجد فى رواية من الروايات أن الملائكة قالوا وقد بعث إلا فى هذا الحديث
وفى رواية بدل بعث إليه أرسل إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا قال صلى الله عليه وسلم فإذا أنا بآدم فرحب بى ودعا لى بخير
واختلف فى لفظ آدم فقيل أعجمى ومن ثم منع الصرف وقيل عربى لأنه مشتق من الأدمة التى هى السمرة والمراد بها هنا لون بين البياض والحمرة حتى لا ينافى كونه أحسن الناس أو هو مشتق من أديم الأرض أى وجهها لأنه مخلوق منه وعلى أنه عربى يكون منع صرفه للعلمية ووزن الفعل
وفي رواية تعرض عليه أرواح بنيه فيسر بمؤمنها أي عند رؤيته ويعبس بوجهه عند رؤية كافرها
قال وفى رواية فإذا فيها آدم كيوم خلقه الله تعالى على صورته أى على غاية من الحسن والجمال فإذا هو تعرض عليه أرواح ذريته المؤمنين فيقول روح طيبة ونفس طيبة خرجت من جسد طيب اجعلوها فى عليين وتعرض عليه أرواح ذريته الكفار فيقول روح خبيثة ونفس خبيثة خرجت من جسد خبيث اجعلوها فى سجين
أقول وهذا وإن اقتضى كون أرواح العصاة من المؤمنين فى عليين كأرواح الطائفين منهم لكن لا يقتضى تساويهما فى الدرجة كما لا يخفى
وفى رواية تعرض عليه أعمال ذريته وهو إما على حذف المضاف أى صحف أعمالهم التى وقعت منهم وهى التى فى صحف الحفظة أو التى ستقع منهم وهى ما فى صحف الملائكة غير الحفظة أو تعرض عليه نفس أعمال تجسمت لما سيأتى أن المعانى تجسم ففى كل من الروايتين اقتصار والله أعلم
____________________
(2/111)
وفى رواية سندها ضعف كما قاله الحافظ ابن حجر وعن يمينه أسودة وباب يخرج منه ريح طيبة وعن شماله أسودة وباب يخرج منه ريح خبيثة فإذا نظر عن يمينه أى إلى تلك الأسودة ضحك واستبشر وإذا نظر عن شماله أى إلى تلك الأسودة حزن وبكى فسلم عليه صلى الله عليه وسلم فقال مرحبا بالابن الصالح والنبى الصالح فقال النبى صلى الله عليه وسلم من هذا فقال هذا أبوك آدم أى وزاد فى الجواب قوله وهذه الأسودة نسم أى أرواح بنيه فأهل اليمين أهل الجنة وأهل الشمال أهل النار فإذا نظر عن يمينه ضحك واستبشر وإذا نظر عن شماله حزن وبكى وزاد فى الجواب أيضا قوله وهذا الباب الذى عن يمينه باب الجنة إذا نظر من سيدخله من ذريته ضحك واستبشر والباب الذي عن شماله باب جهنم إذا نظر من سيدخله من ذريته حزن وبكى اه أى إذا نظر إلى أرواح من سيدخلهما وفيه أن الجنة فوق السماء السابعة والنار فى الأرض السابعة وهى محيطة بالدنيا فكيف يكون بابهما فى السماء الدنيا وأن أرواح الكفار لا تفتح لها أبواب السماء كما تقدم
وأجيب عن الثانى بأن عرضها أى أرواح ذريته الكفار عليه نظرة إليها وهى دون السماء لأنها شفافة أو من ذلك الباب أى وكونها عن يساره الذى أخبر به صلى الله عليه وسلم أى فى جهة يساره
ويجاب عن الأول بأن الباب الذى على يمينه يجوز أن يكون محاذيا لموضع الجنة من السماء السابعة ولهذا قيل له باب الجنة وكذا يقال فى باب جهنم لأن الإضافة تأتى لأدنى ملابسة وبما أجبنا به عن كون أرواح ذريته الكفار عن جهة يساره يعلم أنه لا حاجة فى الجواب عن ذلك إلى قول الحافظ ابن حجر ويحتمل أن يقال إن النسم المرئية هى الأرواح التى لم تدخل الأجساد بعد أى الآن ومستقرها عن يمين آدم وشماله وقد أعلم بما سيصيرون إليه بناء على أن الأرواح مخلوقة قبل أجسادها على أنه لا يناسب قوله روح طيبة ونفس طيبة خرجت من جسد طيب إلى آخره
ولا حاجة لما نقل عن القرطبى فى الجواب عن ذلك من أن الكفار التى لا يفتح لها أبواب السماء المشركون دون الكفار من أهل الكتاب فيجوز أن تكون تلك الأسودة أرواح كفار أهل الكتاب إذ هو يقتضى أن المراد بأرواح بنيه فى الرويتين السابقتين الأرواح التى خرجت من أجسادها
____________________
(2/112)
قال صلى الله عليه وسلم ورأيت رجالا لهم مشافر كمشافرالإبل أى كشفاه الإبل أى وفى أيديهم قطع من نار كالأفهار أى الحجارة التى كل واحد منها ملء الكف يقذفونها فى أفواههم تخرج من أدبارهم قلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء أكلة أموال اليتامى ظلما وهؤلاء لم تتقدم رؤيته صلى الله عليه وسلم لهم فى الارض أى ولعل المراد بالرجال الأشخاص أو خصوا بذلك لأنهم أولياء الأيتام غالبا قال صلى الله عليه وسلم ثم رأيت رجالا لهم بطون لم أر مثلها قط وفى رواية أمثال البيوت زاد فى رواية فيها حيات ترى من خارج البطون بسبيل أى طريق آل فرعون يمرون عليهم كالإبل المهيومة حين يعرضون على النار ولا يقدرون على أن يتحولوا من مكانهم ذلك أى فتطؤهم آل فرعون الموصوفون بما ذكر المقتضى لشدة وطئهم لهم والمهيومة التى أصابها الهيام وهو داء ياخذ الإبل فتهيم فى الأرض ولا ترعى وفى كلام السهيلى الإبل المهيومة العطاش والهيام شدة العطش أى وفى رواية كلما نهض أحدهم خر أى سقط قال قلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء أكلة الربا وتقدمت رؤيته صلى الله عليه وسلم لهم فى الأرض لا بهذا الوصف بل إن الواحد منهم يسبح فى نهر من دم يلقم الحجارة أى ولا مانع من اجتماع الوصفين لهم أى فيخرجون من ذلك النهر ويلقون فى طريق من ذكر وهكذا عذابهم دائما
قال صلى الله عليه وسلم ثم رأيت رجالا بين أيديهم لحم سمين طيب إلى جنبه لحم خبيث منتن يأكلون من الغث أى الخبيث المنتن ويتركون السمين الطيب قال قلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء الذين يتركون ما أحل الله لهم من النساء ويذهبون إلى ما حرم الله عليهم منهن أى وتقدمت رؤيته صلى الله عليه وسلم لهم أي الرجال والنساء في الأرض بنحو هذا الوصف
وفي رواية رأى أخونة عليها لحم طيب ليس عليها أحد وأخرى عليها لحم منتن عليها ناس يأكلون قال جبريل من هؤلاء قال هؤلاء الذين يتركون الحلال ويأكلون الحرام أي من الأموال أعم مما قبله أي وهؤلاء لم تتقدم رؤيته صلى الله عليه وسلم لهم فى الأرض
قال صلى الله عليه وسلم ثم رأيت نساء متعلقات بثديهن فقلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء اللاتى أدخلن على الرجال ما ليس من أولادهم أى بسبب زناهن أى
____________________
(2/113)
وهؤلاء لم يتقدم رؤيته صلى الله عليه وسلم لهن فى الأرض والذى تقدم رؤيته لهن الزانيات لا بهذا القيد وهو إدخالهن على أزواجهن ما ليس من أولادهم على أنه يجوز أن يكون المراد مطلق الزانيات لأن الزنا سبب فى حصول ما ذكر غالبا ولا مانع من اجتماع الوصفين لهن
قال ثم مضى هنيهة فإذا هو بأقوام يقطع اللحم من جنوبهم فيلقمونه فيقال له أى لكل واحد منهم كل كما كنت تأكل لحم أخيك قال يا جبريل من هؤلاء قال هؤلاء الهمازون من أمتك اللمازون أى المغتابون للناس النمامون لهم اه أى وتقدمت رؤيته صلى الله عليه وسلم للمغتابين فى الأرض بغير هذا الوصف أى وروى أنه صلى الله عليه وسلم رأى فى هذه السماء النيل والفرات يطردان أن يجريان وعنصرهما أى أصلهما وهو يخالف ما يأتى أنه صلى الله عليه وسلم رأى في أصل سدرة المنتهى أربعة أنهار نهران باطنان ونهران ظاهران وأن الظاهرين النيل والفرات
وأجيب بأنه يجوز أن يكون منبعهما من تحت سدرة المنتهى ومقرهما وهو المراد بعنصرهما الذى هو أصلهما فى السماء الدنيا أى بعد مرورهما فى الجنة ومن سماء الدنيا ينزلان إلى الأرض فقد جاء فى تفسير قوله تعالى { وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض } أنهما النيل الفرات أنزلا من الجنة من أسفل درجة منها على جناح جبريل عليه الصلاة والسلام فأودعهما بطون الجبال ثم إن الله سبحانه وتعالى سير فعهما ويذهب بهما عند رفع القرآن وذهاب الإيمان وذلك قوله تعالى وإنا على ذهاب به لقادرون وذكره السهيلى وفى زيادة الجامع الصغير أن النيل ليخرج من الجنة ولو التمستم فيه حين يسبح لوجدتم فيه من ورقها
قال صلى الله عليه وسلم ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل عليه الصلاة والسلام فقيل من أنت قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل قد بعث إليه قال نعم قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بابنى الخالة عيسى ابن مريم ويحيى ابن زكريا صلوات الله وسلامه على نبينا وعليهما أى شبيه أحدهما بصاحبه ثيابهما وشعرهما ومعهما نفر من قومهما فرحبا بى ودعوا لى بخير وفى بعض الروايات التى حكم عليها بالشذوذ أنهما فى السماء الثالثة وقد ذكرها الجلال السيوطى فى أوائل الجامع الصغير وذكر بعضهم أنها رواية الشيخين عن أنس والشذوذ لا ينافى الصحة المطلقة
____________________
(2/114)
فقد قال سيخ الإسلام فى شرح ألفية العراقى عند قوله من غير ما شذوذ خرج الشاذ وهو ما خالف فيه الراوى من هو أرجح منه ولا يرد عليه الشاذ الصحيح عند بعضهم لأن التعريف للصحيح المجمع على صحته لا مطلقا هذا كلامه
وفى كلام السخاوى نقلا عن شيخه ابن حجر أن من تأمل الصحيحين وجد فيهما أمثلة من ذلك أى من الصحيح الموصوف بالشذوذ
أقول وكونهما ابنى الخالة أى أن أم كل خالة الآخر هو المشهور وعليه قال ابن السكيت يقال ابنا خالة ولا يقال ابنا عمة ويقال ابنا عم ولا يقال ابنا خال لكن فى عيون المعارف للقضاعى أن يحيى إنما هو ابن خالة مريم أم عيسى لا ابن خالة عيسى لأن أم يحيى أخت أم مريم لا أخت مريم
وكذا فى كلام ابن إسحاق أن عمران وزكريا كلاهما من ذرية سليمان عليهم الصلاة والسلام وأنهما تزوجا أختين فزوجة زكريا ولدت يحيى قبل عيسى بستة أشهر ثم ولدت مريم عيسى وزوجة عمران ولدت مريم فأم يحيى أخت أم مريم فعيسى ابن بنت خالة يحيى وحينئذ يكون قوله صلى الله عليه وسلم فإذا أنا بابنى الخالة على التجوز وكذا قول عيسى ليحيى يا ابن الخالة كما فى تفسير التسترى على التجوز
ففيه حكى عن يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام أنهما خرجا يمشيان فصدم يحيى امرأة فقال له عيسى يا ابن الخالة لقد أخطأت اليوم خطيئة ما أرى الله عز وجل يغفرها لك قال وما هى قال صدمت امرأة قال والله ما شعرت بها قال عيسى سبحان الله بدنك معى فأين قلبك قال معلق بالعرش ولو أن قلبى اطمأن إلى جبريل صلوات الله وسلامه عليه طرفة عين لظننت أنى ما عرفت الله عز وجل ووجه التجوز أنه أطلق على بنت الأخت لفظ الأخت وقال بعضهم وهو كثير شائع فى كلامهم
ثم رأيت المولى أبا السعود ذكر ما يجمع به بين القولين وهو أنه قيل إن أم يحيى أخت أم مريم من الأم وأخت مريم من الأب فليتأمل تصويره بناء على تحريم نكاح المحارم لأن أم مريم حينئذ بنت موطوءة أبيها لأنها ربيبته إلا أن يكون فى شريعتهم جواز ذلك
ثم رأيت بعضهم ذكر ذلك حيث قال لا يبعد أن عمران تزوج أولا أم حنة فولدت
____________________
(2/115)
أشياع أى التى هى أم يحيى ثم تزوج حنة بعد ذلك التى هى ربيبته بنت موطوءته فجاء منها بمريم بناء على جواز ذلك فى شريعتهم
وفيه أنه تقدم أن نوحا عليه الصلاة والسلام بعث بتحريم نكاح المحارم إلا أن يقال المراد محارم النسب دون المصاهرة ولم يسم أحد يحيى بعد يحيى هذا إلا يحيى بن خلاد الأنصارى جيء به للنبى صلى الله عليه وسلم يوم ولد فحنكه بتمرة وقال لأسمينه باسم لم يسم به بعد يحيى بن زكريا فسماه يحيى
ومما يدل على شرف سيدنا يحيى بن زكريا ما فى الكشاف عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما كنا فى المسجد نتذاكر فضل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم فذكرنا نوحا بطول عبادته وإبراهيم بخلته وموسى بتكليم الله تعالى إياه وعيسى برفعته إلى السماء وقلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منهم بعث إلى الناس كافة وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهو خاتم الأنبياء أى فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فيم أنتم فذكرنا له فقال لا ينبغى لأحد أن يكون خيرا من يحيى بن زكريا فذكر أنه لم يعمل سيئة قط ولا هم بها أى ففى الحديث مامن أحد إلا ويلقى الله عز وجل وقد هم بمعصية عملها إلا يحيى بن زكريا فإنه لم يهم بها ولم يعملها فليتأمل ما فى ذلك
وقد ذكر أن والد زكريا لامه على كثرة العبادة والبكاء فقال له أنت أمرتنى بذلك يا أبت ألست أنت القائل إن بين الجنة والنار عقبة لا يجوزها إلا البكاءون من خشية الله عز وجل فقال بلى فجد واجتهد
وقد جاء فى الحديث أن يحيى هو الذى يذبح الموت يوم القيامة يضجعه ويذبحه بشعرة تكون فى يده والناس ينظرون إليه أى فإن الموت يكون فى صورة كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار ويقال لأهلهما أتعرفون هذا فيقولون نعم هذا الموت أى يلقى الله عز وجل معرفته فى قلوبهم وتجسم المعانى جاء به الحديث الصحيح
على أنه جاء فى تفسير قوله تعالى خلق الموت والحياة أن الموت فى صورة كبش لايمر على أحد إلا مات وخلق الحياة فى صورة فرس لا يمر على شيء إلا حيى وهو بدل على أن الموت جسم وأن الميت يشاهد حلول الموت به
وقيل الذى يذبح الموت جبريل عليه الصلاة والسلام وقيل إن فى هذه السماء الثانية إدريس وهو قول شاذ وقيل يوسف جاءت به رواية ذكرها الجلال السيوطى فى أوائل
____________________
(2/116)
والجامع الصغير وذكر فيها أن ابنى الخالة فى السماء الثالثة كما تقدم وتقدم أن بعضهم ذكر أنها رواية الشيخين عن أنس
قال أبو حيان وعيسى لفظ أعجمى والظاهر أن مثله يحيى هذا كلامه وفى كلام غيره أن يحيى عربى ومنع صرفه العلمية ووزن الفعل
وقيل فى عيسى إنه عربى مشتق من العيس وهو بياض يخالطه صفرة وعلى أنه أعجمى قيل عبرانى وقيل سريانى
ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل فقيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بيوسف صلى الله عليه وسلم أى ومعه نفر من قومه وإذا هو أعطى شطر الحسن أى وفى رواية صورته صورة القمر ليلة البدر والمراد بشطر الحسن نصف الحسن الذى أعطيه الناس
وفى الحديث أعطى يوسف وأمه ثلث حسن الدنيا وأعطى الناس الثلثين ويحتاج للجمع بينها وبين ما جاء فى رواية قسم الله ليوسف من الحسن والجمال ثلثى حسن الخلق وقسم بين سائر الخلق الثلث وعن وهب بن منبه الحسن عشرة أجزاء تسعة منها ليوسف وواحد منها بين الناس
وفى كلام بعضهم كان فضل يوسف فى الحسن على الناس كفضل القمر ليلة البدر على نجوم السماء وكان إذا سار فى أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران كما يتلألأ نور الشمس وضوء القمر على الجدران والمراد بالناس غير نبينا صلى الله عليه وسلم لأن حسن نبينا صلى الله عليه وسلم لم يشارك فى شئ منه كما أشار إليه صاحب البردة بقوله فجوهر الحسن فيه غير منقسم خلافا لابن المنير حيث ادعى أن يوسف أعطى شطر الحسن الذى أوتيه نبينا صلى الله عليه وسلم وتبعه على ذلك شارح تائية الإمام السبكى
وعبارته فإذا هو أى يوسف عليه الصلاة والسلام أعطى شطر الحسن الذى أعطيه كله صلى الله عليه وسلم
هذا وقد قيل إن يوسف ورث الحسن من إسحاق الذى هو جده وإسحاق ورث الحسن من سارة التى هى أمه وسارة أعطيت سدس الحسن ورثت ذلك من حواء
____________________
(2/117)
أى وفى رواية وصف يوسف وإنه أحسن ما خلق الله تعالى قد فضل الناس بالحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب أى كفضل القمر ليلة البدر على بقية الكواكب الليلية والمراد بخلق الله تعالى وبالناس غير نبينا صلى الله عليه وسلم لما علمت أنه أعطى شطر الحسن الذى لغير نبينا صلى الله عليه وسلم ولأن المتكلم لا يدخل فى عموم خطابه على ما فيه
وقد جاء إن يوسف أعطى نصف حسن آدم وفى رواية ثلث حسن آدم وقد جاء كان يوسف يشبه آدم يوم خلقه ربه
وفى الخصائص الصغرى للسيوطى وخص بأنه صلى الله عليه وسلم أوتى كل الحسن ولم يعط يوسف إلا شطره فلينظر الجمع بين هذه الروايات على تقدير صحتها
وقد حاء ما بعث الله نبيا إلا حسن الوجه وحسن الصوت وكان نبيكم أحسنهم وجها أحسنهم صوتا
قال فرحب بى ودعا لى بخير وفى بعض الروايات إن فى هذه السماء الثالثة ابنى الخالة يحيى وعيسى كما مر ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل قيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحب بى ودعا لى بخير وفى رواية قال مرحبا بالأخ الصالح
وفي رواية قتادة مرحبا بالابن الصالح قال بعضهم وهو القياس لأنه جده الأعلى لأنه من ولد شيث بينه وبين شيث أربعة آباء أرسل بعد موت آدم بمائتي سنة وهو أول من أعطى الرسالة من ولد آدم وهو يقتضي أن شيئا لم يكن رسولا ونوح من ولده بينه وبينه ابنان فإدريس في عمود نسبه صلى الله عليه وسلم وحينئذ قوله بالأخ الصالح فى تلك الرواية محمول على التواضع منه خلافا لمن تمسك بذلك
على أن إدريس ليس جدا لنوح ولا هو من آباء النبى صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل ورفعناه مكانا عليا أى حال حياته لأنه رفع إلى السماء قيل من مصر بعد أن خرج منها وجار الأرض كلها وعاد إليها ودعا الخلائق إلى الله تعالى باثنتين وسبعين لغة خاطب كل قوم بلغتهم وعلمهم العلوم
____________________
(2/118)
وهو أول من استخرج علم النجوم أى علم الحوادث التى تكون فى الأرض باقتران الكواكب
قال الشيخ محيى الدين بن العربى وهو علم صحيح لا يخطيء فى نفسه وإنما الناظر فى ذلك هو الذى يخطيء لعدم استيفاء النظر ودعوى إدريس عليه السلام الخلائق يدل على أنه كان رسولا وفى كلام الشيخ محيى الدين لم يجئ نص فى القرأن برسالة إدريس بل قيل فيه صديقا نبيا
وأول شخص افتتحت به الرسالة نوح عليه الصلاة والسلام ومن كانوا قبله إنما كانوا أنبياء كل واحد على شريعة من ربه فمن شاء دخل معه فى شرعه ومن شاء لم يدخل فمن دخل ثم رجع كان كافرا
ومما يؤثر عنه عليه الصلاة والسلام حب الدنيا والآخرة لايجتمعان فى قلب أبدا الناس اثنان طالب لايجد وواجد لا يكتفى من ذكر عار الفضيحة هان عليه لذتها خير الإخوان من نسى ذنبك ومعروفه عندك وقد قبضت روحه فى هذه السماء الرابعة فصلت عليه الملائكة ومدفنه بها تصلى عليه الملائكة كلما هبطت وحينئذ لا يقال من كان فى السماء الخامسة والسادسة والسابعة أرفع منه على أنه قيل لما مات أحياه الله تعالى وأدخله الجنة وهو فيها الآن أي غالب أحواله في الجنة فلا ينافي وجوده في السماء المذكورة فى تلك الليلة لأنها الجنة أرفع من السموات لأنها فوق السماء السابعة ولا ما جاء فى الحديث أنه فى السماء حى كعيسى عليهما الصلاة والسلام وفى بعض الروايات أن فى هذه السماء الرابعة هرون
ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل قيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بهرون أى ونصف لحيته بيضاء ونصف لحيته سوداء تكاد تضرب إلى سرته من طولها وحوله قوم من بنى إسرائيل وهو يقص عليهم فرحب بى ودعالى بخير أى وفى رواية فقال يا جبريل من هذا قال هذا الرجل المحبب فى قومه هرون بن عمران أى لأنه كان ألين لهم من موسى عليه الصلاة والسلام لإن موسى عليه الصلاة والسلام كان فيه بعض الشدة عليهم ومن ثم كان له منهم بعض الإيذاء
ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل قيل من هذا قال جبريل قيل
____________________
(2/119)
ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بموسى صلى الله عليه وسلم فرحب بى ودعا لى بخير أى وفى رواية جعل يمر بالنبى والنبيين معهم القوم والنبى والنبيين ليس معهم أحد ثم مر بسواد عظيم فقال من هذا قيل موسى وقومه المناسب هذا قوم موسى كما لا يخفى لكن ارفع رأسك فإذا هو بسواد عظيم قد سد الأفق من ذا الجانب ومن ذا الجانب فقيل هؤلاء أمتك هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب أى منهم بدليل ما جاء فى رواية قيل لى هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب وهم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون فقال عكاشة بن محصن أنا منهم قال نعم ثم قال رجل آخر أنا منهم قال صلى الله عليه وسلم سبقك بها عكاشة لأن هذا الرجل كان منافقا فلم يقل له صلى الله عليه وسلم لست منهم لأنك منافقا بل أجابه بما فيه ستر عليه والقول بأن ذلك الرجل هو سعد بن عبادة مردود وهذا تمثيل أى مثل له صلى الله عليه وسلم أمته أى وأمة موسى أيضا إذ يبعد وجودها حقيقة فى السماء السادسة وهذا السياق يدل على أن الذى مر بهم من النبى والنبيين فى السماء السادسة فلما خلصا أى جاوزا ما ذكر من النبى والنبيين والسواد العظيم فإذا موسى بن عمران رجل آدم طوال كأنه من رجال شنوءة كثير الشعر أى مع صلابته لو كان عليه قمصان لنفذ الشعر منهما أى وكان إذا غضب يخرج شعر من رأسه من قلنسوته وربما اشعتلت قلنيونه نارا لشدة غضبه
وفى كلام بعضهم كان إذا غضب خرج شعره من مدرعته كسل النخل ولشدة غضبه لما فر الحجر بثوبه صار يضربه حتى ضربه ست ضربات أو سبعا مع أنه لا إدراك له ووجه بأنه لما فر صار كالدابة والدابة إذا جمحت بصاحبها يؤدبها بالضرب فسلم عليه النبى صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام ثم قال مرحبا بالأخ الصالح والنبى الصالح ثم دعا له ولأمته بخير وقال يزعم الناس أنى أكرم على الله من هذا بل هذا أكرم على الله منى فلما جاوزه بكن فقيل له ما يبكيك فقال أبكى لأن غلاما بعث بعدى يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل الجنة من أمتى أى وبل من سائر الأمم
فقد ذكر الجلال السيوطى فى الخصائص الصغرى أن مما اختص به صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/120)
فى أمته فى الآخرة أن أهل الجنة أى من الأمم مائة وعشرون صفا هذه الأمة منها ثمانون وسائر الأمم أربعون
وجاء فى المرفوع كل أمة بعضها فى الجنة وبعضها فى النار إلا هذه الأمة فإنها كلها فى الجنة
وفى العرائس عن أبى هريرة رضى الله عنه لما كلم الله عز وجل موسى كان بعد ذلك سيمع دبيب النملة السوداء فى الليلة الظلماء على الصفا من مسيرة عشرة فراسخ
وفى الحديث ليس أحد يدخل الجنة إلا جرد مرد إلا موسى بن عمران فإن لحيته إلى سرته ثم عرج بنا إلى السماء السابعة واسمها عريبا واسم الأرض السابعة جريبا
روى الخطيب بإسناد صحيح أن وهب بن منبه قال من قرأ البقرة وأل عمران يوم الجمعة كان له ثواب يملأ ما بين عريبا وجريبا فاستفتح جبريل قيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال نعم قد بعث إليه ففتح لنا فإذا بإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه أى رجل أشمط وفى لفظ كهل ولا ينافى ذلك ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم فى وصفه إنه أشبه بصاحبكم يعنى نفسه صلى الله عليه وسلم خلقا وخلقا جالس عند باب الجنة أى فى جهتها كما تقدم وإلا فالجنة فوق السماء السابعة على كرسى مسندا ظهره إلى البيت المعمور أى وهو من عقيق ويقال له الضراح بضم الضاد المعجمة وتخفيف الراء وفى آخره حاء مهملة من ضرح إذا بعد ومنه الضريح
أى وفى كلام الحافظ ابن حجر يقال له الضراح والضريح وجاء إنه مسجد بحذاء الكعبة لو خر لخر عليها أى فهو فى تلك السماء فى محل يحاذى الكعبة أى وقيل فى السماء الرابعة وبه جزم فى القاموس وقيل فى السادسة وقيل فى الأولى وتقدم أن فى كل سماء بيتا معمورا وأن كل بيت منها بحيال الكعبة وإذا هو يدخله كل يوم ألف ملك لا يعودون إليه
أقول عن بعضهم أن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك وفى رواية سبعون وجيها مع كل وجيه سبعون ألف ملك والوجيه الرئيس ولعله صلى الله عليه وسلم علم ذلك بإعلام جبريل وإلا فرؤيته صلى الله عليه وسلم له تلك الليلة لا تقتضى ذلك
____________________
(2/121)
ثم رأيت الشيخ عبدالوهاب الشعرانى أشار إلى ذلك حيث قال وسما له البيت المعمور فنظر إليه وركع فيه ركعتين وعرفه أي جبريل أنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك من الباب الواحد ويخرجون من الباب الآخر فالدخول من باب مطالع الكواكب والخروج من باب مغاربها والظاهر أن دخول هؤلاء الملائكة خاص بالذى فى السماء السابعة
وقال السهيلى وقد ثبت فى الصحيح أن أطفال المؤمنين والكافرين فى كفالة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل حين رأهم مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء أولاد المؤمنين الذين يموتون صغارا قال له وأولاد الكافرين قال له وأولاد الكافرين خرجه البخارى فى الحديث الطويل فى كتاب الجنائز وخرجه فى موضع آخر فقال فيه أولاد الناس
وقد روى فى أطفال الكافرين أيضا أنهم خدم أهل الجنة هذا كلامه وجاء فى حديث مرفوع لكن سنده ضعيف إن فى السماء الرابعة نهرا يقال له الحيوان يدخله جبريل كل يوم أى سحرا كما فى بعض الروايات فينغمس ثم يخرج فينتقض فيخرج منه سبعون ألف قطرة يخلق الله تعالى من كل قطرة ملكا وفى لفظ يخلق الله عز وجل من كل قطرة كذا وكذا ألف ملك يؤمرون أن يأتوا البيت المعمور يصلون فيه فهم الذين يصلون في البيت المعمور ثم لا يعودون إليه أبدا يولى عليهم أحدهم يؤمر أن يقف بهم فى السماء موقفا يسبحون الله عز وجل إلى أن تقوم الساعة وذكر الشيخ عبد الوهاب الشعرانى أن جبريل أخبره بذلك فى تلك الليلة والله أعلم وفى رواية وإذا أنا بأمتى شطرين شطرا عليهم ثياب بيض كأنها القراطيس وشطرا عليهم ثياب رمدة فدخلت البيت المعمور ودخل معى الذين عليهم الثياب البيض وحجب الآخرون الذين عليهم الثياب الرمدة فصليت أنا ومن معى فى البيت المعمور أى والظاهر أنه ليس المراد بالشطر النصف حتى يكون العصاة من أمته بقدر الطائعين منهم وإن الصلاة محتملة للدعاء ولذات الركوع والسجود ويناسبه ما تقدم من قوله ركعتين وأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال له يا نبى الله إنك لاق ربك الليلة وإن أمتك آخر الأمم وأضعفها فإن استطعت أن تكون حاجتك فى أمتك فافعل
وفى السيرة الشامية أن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال له صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/122)
ذلك فى الأرض قبل وصول بيت المقدس وقال له هنا مر أمتك فليكثروا من غراس الجنة فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة فقال له وما غراس الجنة فقال لا حول ولا قوة إلا بالله وفى رواية أخرى أقرئ أمتك منى السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر
وقد يقال لا مخالفة بين الروايتين لأنه يجوز أن يكون غراس الجنة مجموع ما ذكر وأن بعض الرواة اقتصر
قال صلى الله عليه وسلم واستقبلتنى جارية لعساء وقد أعجبتنى فقلت لها يا جارية أنت لمن قالت لزيد بن حارثة أى ولعل تلك الجارية خرجت من الجنة فيكون استقبالها له صلى الله عليه وسلم بعد مجاوزة السماء السابعة لكن فى رواية فرأيت فيها أى فى الجنة جارية الحديث
وقد يقال يجوز أن يكون رأها مرتين خارج الجنة وداخلها فيكون سؤالها فى المرة الأولى واللعس لون الشفة إذا كانت تضرب إلى السواد قليلا وذلك مستملح قاله فى الصحاح
وفى رواية فلما انتهى إلى السماء السابعة رأى فوقه رعدا وبرقا وصواعق أى وهذه الرواية ظاهرة فى أنه صلى الله عليه وسلم رأى ذلك فى السماء السابعة محتملة لأن يكون رآه قبل دخوله فيها وحينئذ يكون قوله ثم أتى بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل على الاحتمالين المذكورين
وعند عرض تلك الأوانى عليه صلى الله عليه وسلم أخذ اللبن فقال جبريل أصبت الفطرة أى بأخذك اللبن الذى هو الفطرة أصاب الله عز وجل بك أمتك على الفطرة أى أوجدهم على الفطرة ببركتك وفى رواية هذه الفطرة التى أنت عليها وأمتك أي وتقدم أن المراد بها الإسلام
وورد أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام فى السماء السادسة وموسى فى السماء السابعة وهذه الرواية فى البخارى عن أنس وتقدم أن ذلك كان فى الإسراء بروحه صلى الله عليه وسلم لا بجسده وفيه أن رؤيا الأنبياء حق
فالأولى الجمع بين الروايات بالانتقال وأن بعض الأنبياء نزل من محله إلى ما تحته لملاقاته صلى الله عليه وسلم عند صعوده وبعضهم خرج عن محله وصعد إلى
____________________
(2/123)
ما فوقه لملاقاته صلى الله عليه وسلم عند هبوطه فأخبر صلى الله عليه وسلم عنه تارة بأنه فى سماء كذا وتارة بأنه في سماء كذا والحافظ ابن حجر لايرى الجمع بل يحكم على ما خالف أصح الروايات بأنه لا يعمل به قال والجمع إنما هو مجرد استرواح لا ينبغى المصير إليه هذا كلامه
وعندى فيه نظر ظاهر والجمع أولى من إثبات المعارضة لاسيما بين الأصح والصحيح وإن كان الصحيح شاذا لأنا لا نقدم الأصح أو الصحيح على غيره إلا حيث تعذر الجمع فليتأمل
وعلى المشهور من الروايات الذى صدرنا به أبدى بعضهم لاختصاص هؤلاء الأنبياء بملاقاته صلى الله عليه وسلم واختصاص كل واحد منهم بالسماء الذى لقيه فيها حكمة يطول ذكرها
قال صلى الله عليه وسلم ثم ذهب بى أى جبريل إلى سدرة المنتهى وإذا أوراقها كآذان الفيلة وفى رواية مثل آذان الفيول وفى رواية الورقة منها تظل الخلق وفى رواية تكاد الورقة تغطى هذه الأمة وفى رواية لو أن الورقة الواحدة ظهرت لغطت هذه الدنيا وحينئذ يكون المراد بكونها كآذان الفيلة فى الشكل وهو الاستدارة لا فى السعة وإذا ثمرها كالقلال وفى رواية كقلال هجر قرية بقرب المدينة والواحدة من قلالها تسع قربتين ونصفا من قرب الحجاز والقربة تسع من الماء مائة رطل بغدادى فلما غشيها من أمر الله عز وجل ما غشيها تغيرت أى صار لها حالة من الحسن غير تلك الحالة التى كانت عليها فما أحد من خلق الله عز وجل يستطيع أن ينعتها من حسنها أى لأن رؤية الحسن تدهش الرائى وهذا السياق يدل على أن سدرة المنتهى فوق السماء السابعة أى وهو قول الأكثر وفى بعض الروايات أن أغصانها تحت الكرسى وعن وهب أن العرش والكرسى فوق السماء السابعة قال ويسأل هل ثمرة سدرة المنتهى كالثمار المأكولة فى أنه يزول ويعقبه غيره هذا الزائل يؤكل أو يسقط أى فلا يؤكل انتهى
قال صلى الله عليه وسلم ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ أى بالمعجمة قباب اللؤلؤ وفى لفظ حبائل اللؤلؤ المعقود والقلائد وإذا ترابها المسك ورمانها كالدلاء وطيرها كالبخت فدخوله صلى الله عليه وسلم للجنة كان قبل عروجه للسحابة
____________________
(2/124)
وفى الحديث ما فى الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهى فى الجنة حتى الحنظل والذى نفس محمد بيده لا يقطف رجل ثمرة من الجنة فتصل إلى فيه حتى يبدل الله مكانها خيرا منها وهذا القسم يرشد إلى أن ثمرة الجنة كلها حلوة تؤكل وأنها تكون على صورة ثمرة الدنيا المرة
وفى كلام الشيخ محيى الدين بن العربى فاكهة الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة أى تؤكل من غير قطع أى يؤكل منها فالأكل موجود والعين باقية فى غصن الشجرة وليس المراد أن الفاكهة غير مقطوعة فى شتاء ولا صيف أو يخلق مكان قطعها أخرى على الفور كما فهمه بعضهم فعين ما يأكل العبد هو عين ما يشهد وأطال فى ذلك وكأنه لم يقف على هذا الحديث أو لم يثبت عنده فليتأمل
قال ويخرج من أصل تلك الشجرة أربعة أنهار نهران باطنان أى يبطنان ويغيبان فى الجنة بعد خروجهما من أصل تلك الشجرة ونهران ظاهران أى يستمران ظاهرين بعد خروجهما من أصل تلك الشجرة فيجاوزان الجنة فقال ما هذه أى الأنهار يا جبريل قال أما الباطنان ففى الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات انتهى
أقول قول جبريل أما الباطنان ففى الجنة لا يحسن أن يكون جوابا عن هذا السؤال أى الذى هو سؤال عن بيان الحقيقة ويحصل بذكر اسمها فكان المناسب بحسب الظاهر أن يقول وأما الباطنان فنهر كذا ونهر كذا وهذا السياق يدل على أن النيل والفرات يمران فى الجنة ويجاوزانها وأن ما عداهما كسيحان وجيحان بناء على أنهما ينبعان من أصل شجرة المنتهى يغيبان فيها ولا يجاوزانها والنيل نهر مصر والفرات نهر الكوفة ويحتمل أن النهرين اللذين هما ما عدا النيل والفرات بناء على أنهما سيحان وجيحان يبطنان فى الجنة ولا يظهران إلا بعد خروجهما منها لوجودهما فى الخارج بخلاف النيل والفرات فإنهما يستمران ظاهرين فيها إلى أن يخرجا منها
وقد جاء فى حديث ما من يوم إلا وينزل ماء من الجنة فى الفرات قال بعضهم ومصداقه أن الفرات مد فى بعض السنين فوجد فيه رمان كل واحدة مثل البعير فيقال إنه رمان الجنة وهذا الحديث ذكره ابن الجوزى فى الأحاديث الواهية وفى حديث موقوف على ابن عباس إذا حان خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله تعالى جبريل فرفع من الأرض هذه الأنهار والقرآن والعلم والحجر والمقام وتابوت موسى بما فيه إلى السماء
____________________
(2/125)
هذا وفى بعض الروايات ما يدل على أن سيحان وجيحان لا ينبعان من أصل شجرة المنتهى فليسا هما المراد بالباطنين
وعن مقاتل الباطنان السلسبيل والكوثر أى ومعنى كونهما باطنين أنهما لم يخرجا من الجنة أصلا ومعنى كون النيل والفرات ظاهرين أنهما يخرجان منها
وفى السيرة الشامية لم يثبت فى سيحان وجيحان أنهما ينبعان من أصل شجرة المنتهى فيمتاز النيل والفرات عليهما بذلك وأما الباطنان المذكوران أى فى الحديث فهما غير سيحان وجيحان قال القرطبى ولعل ترك ذكرهما أى سيحان وجيحان فى حديث الإسراء كونهما ليسا أصلا برأسهما وإنما يحتمل أن يتفرعا عن النيل والفرات هذا كلامه ولعل المراد أنهما يتفرعان عنهما بعد خروجهما من الجنة فهما لم يخرجا من أصل السدرة ولا يبطنان فى الجنة أصلا
قال وإذا فيها فى تلك الشجرة عين أى فى أصلها أيضا يقال لها السلسبيل فينشق منها نهران أحدهما الكوثر والآخر يقال له نهر الرحمة فاغتسلت منه فغفر لى ما تقدم من ذنبى وما تأخر انتهى أى فهما يخرجان من أصل سدرة المنتهى لكن لا من المحل الذى يخرج منه النيل والفرات وحينئذ يحسن القول بأنه يخرج من أصل تلك الشجرة أربعة أنهار نهران ظاهران ونهران باطنان وفى جعل الكوثر قسما من السلسبيل يخالفه جعله قسيما كما تقدم عن مقاتل فالباطنان الكوثر ونهر الرحمة فالأنهار التى تخرج من أصل سدرة المنتهى أربعة بناء على أن سيحان وجيحان لا يخرجان منها أو ستة بناء على أنهما يخرجان منها
وعلى الأول لا ينافى قول القرطبى ما فى الجنة نهر إلا ويخرج من أصل سدرة المنتهى لأن المراد إما خروجه بنفسه أو أصله الذى يتفرع منه بناء على ما تقدم من أن سيحان وجيحان يتفرعان عن النيل والفرات
ولا ينافى ما عند مسلم يخرج من أصلها يعنى سدرة المنتهى أربعة أنهار من الجنة وهى النيل والفرات وسيحان وجيحان ولا ما عند الطبرانى سدرة المنتهى يخرج من أصلها أربعة أنهار من ماء غير آسن ومن لبن لم يتغير طعمه ومن خمر لذة للشاربين ومن عسل مصفى وعن كعب الأحبار إن نهر العسل نهر النيل أى ويدل لذلك قول بعضهم لولا دخول بحر النيل فى البحر الملح الذى يقال له البحر الأخضر قبل أن يصل
____________________
(2/126)
إلى بحيرة الزنج ويختلط بملوحته لما قدر أحد على شربه لشدة حلاوته ونهر اللبن نهر جيحان ونهر الخمر نهر الفرات ونهر الماء نهر سيحان لأن غاية ذلك سكوتهما عن النهرين الآخرين وهما الكوثر ونهر الرحمة ومعنى كونها تخرج من أصل سدرة المنتهى من الجنة أنه يحتمل أن تكون سدرة المنتهى مغروسة فى الجنة والأنهار تخرج من أصلها فصح أنها من الجنة هكذا ذكره العارف ابن أبى جمرة ولم أقف على ما يدل على ثبوت هذا الاحتمال أى أن سدرة المنتهى مغروسة فى الجنة ولا حاجة لهذا الاحتمال فى تصحيح هذه الرواية لأن المعنى أن تلك الأنهار تخرج من أصل تلك الشجرة ثم تكون خارجة من الجنة ثم لايخفى أن فى كلام القاضى عياض أن سيحان يقال فيه سيحون وجيحان يقال فيه جيحون
ويخالفه قول صاحب النهاية اتفقوا كلهم على أن جيحون غير جيحان وسيحون غير سيحان ومن ثم أنكر الإمام النووى على القاضى عياض حيث قال الثانى أى من وجوه الإنكار على القاضى قوله سيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون فجعل الأسماء مترادفة وليس كذلك فسيحان وجيحان غير سيحون وجيحون هذا كلامه
وذكر صاحب النهاية أن جيحون نهر وراء خراسان عند بلخ وسكت عن بيان سيحون فليتأمل
قال والذى غشى الشجرة فراش من ذهب والفراش هو الحيوان الذى يلقى نفسه فى السراج ليحترق وملائكته على كل ورقة ملك يسبح الله تعالى وملائكه أى آخرون يغشونها كأنهم الغربان يأوون إليها متشوقين إليها متبركين بها زائرين كما يزور الناس الكعبة انتهى
ورأى صلى الله عليه وسلم جبريل عند تلك السدرة على الصورة التى خلقه الله عز وجل عليها له ستمائة جناح كل جناح منها قد سد الأفق يتناثر من أجنحته تهاويل الدر والياقوت مما لا يعلمه إلا الله عز وجل وغشيت تلك السدرة سحابة فتأخر جبريل عليه الصلاة والسلام ثم عرج به صلى الله عليه وسلم أى فى تلك السحابة حتى ظهر لمستوى سمع فيه صرير الأقلام وفى رواية صريف أى صوت حركتها حال الكتابة أى ما تكتبه الملائكة من الأقضية وهذا السياق يدل على أن جبريل لم يتعد سدرة المنتهى ويدل
____________________
(2/127)
على ما تقدم من أن سدرة المنتهى فوق السماء السابعة إلى آخر ما تقدم وهو الموافق لقول بعضهم إنها على يمين العرش
وفى رواية ثم انطلق بى أى جبريل إلى ظهر السماء السابعة حتى انتهى إلى نهر عليه خيام الياقوت واللؤلؤ والزبرجد وعليه طير أخضر نعم الطير رأيت قال جبريل هذا الكوثر الذى أعطاك الله فإذا فيه آنية الذهب والفضة يجرى على رضاض من الياقوت والزمرد بالذال المعجمة كما تقدم وماؤه أشد بياضا من اللبن فأخذت من آنيته واغترفت من ذلك فشربت فإذا هو أحلى من العسل وأشد رائحة من المسك
أقول قد تقدم أن هذا النهر من العين التى تخرج من سدرة المنتهى التى يقال لها السلسبيل أى فهو يخرج من تلك الشجرة ويمر على ما ذكر ثم يدخل الجنة ويستقر بها فلا ينافى كون الكوثر نهرا فى الجنة وأن السلسبيل عين فى الجنة لأن السلسبيل على ما تقدم أصل الكوثر والله أعلم
وفى رواية إنها أى سدرة المنتهى فى السماء السادسة وإليها ينتهى ما يعرج من الأرض فيفيض منها وإليها ينتهى ما يهبط من فوقها فيفيض منها وعندها تقف الحفظة وغيرهم فلا يتعدونها ومن ثم سميت سدرة المنتهى
وعن تفسير ابن سلام عن بعض السلف قال إنما سميت سدرة المنتهى لأن روح المؤمن ينتهى بها إليها فتصلى عليها هناك الملائكة المقربون وجمع وجمع الحافظ ابن حجر بين كون سدرة المنتهة فى السادسة وكونها فى السابعة بأن أصلها فى السادسة وأغصانها فى السابعة أى فوق السابعة أى جاوزت السابعة فلا ينافى القول بأنها فوق السابعة على ما تقدم وهذا الحمل المقتضى لكون أصلها فى السادسة لا يناسب كون الأنهار تخرج من أصلها إلى آخر ما تقدم
ويروى أن جبريل لما وصل إلى مقامه وهو سدرة المنتهى فوق السماء السابعة قال له صلى الله عليه وسلم ها أنت وربك هذا مقامى لا أتعداه فزج بى فى النور أى لما غشيته تلك السحابة ويعبر عن تلك السحابة بالرفوف قال الشيخ عبدالوهاب الشعرانى وهو نظير المحفة عندنا
وفى تاريخ الشيخ العينى شارح البخارى عن مقاتل بن حيان قال انطلق بى جبريل حتى انتهى إلى الحجاب الأكبر عند سدرة المنتهى قال جبريل تقدم يا محمد قال
____________________
(2/128)
فتقدمت حتى انتهيت إلى سرير من ذهب عليه فراش من حرير الجنة فنادى جبريل من خلفى يل محمد إن الله يثنى عليك فاسمع وأطع ولا يهولنك كلامه فبدأت بالثناء على الله عز وجل الحديث أى وفى ذلك النور المستوى الذى يسمع فيه صريف الأقلام ثم العرش والرفوف والرؤية وسماع الخطاب
وفى رواية أنه لما وقف جبريل قال له صلى الله عليه وسلم فى مثل هذا المقام يترك الخليل خليله قال إن تجاوزت احترقت بالنار فقال النبى صلى الله عليه وسلم يا جبريل هل لك من حاجة إلى ربك قال يا محمد سل الله عز وجل لى أن أبسط جناحى على الصراط لأمتك حتى يجوزوا عليه قال ثم زج بى فى النور فخرق بى إلى سبعين الف حجاب ليس فيها حجاب يشبه حجابا غلظ كل حجاب خمسمائة عام وانقطع عنى حس كل ملك فلحقنى عند ذلك استيحاش فعند ذلك نادى مناد بلغة أبى بكر رضى الله تعالى عنه قف إن ربك يصلى فبينما أنا أتفكر فى ذلك أى فى وجود أبى بكر فى هذا المحل وفى صلاة ربى فأقول هل سبقنى ابو بكر وكيف يصلى ربى وهو غنى عن أن يصلى كما يدل على ذلك ما يأتى فإذا النداء من العلى الأعلى ادن يا خير البرية ادن يا أحمد ادن يا محمد فأدنانى ربى حتى كنت كما قال عز وجل { ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى }
وفى الخصائص الصغرى وخص بالإسراء وما تضمنه اختراق السموات السبع والعلو إلى قاب قوسين ووطئه مكانا ما وطئه نبى مرسل ولا ملك مقرب وهذه الرواية ككلام الخصائص تدل على أن فاعل دنا وتدلى واحد وكان هو صلى الله عليه وسلم وحينئذ يكون معنى تدلى زاد فى القرب وجعل بعض العلماء من جملة ما خالف شريك فيه المشهور من الروايات أنه جعل فاعل دنا فتدلى الحق سبحانه وتعالى أى دنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان من محمد صلى الله عليه وسلم قاب قوسين أو أدنى ثم رأيت الحافظ ابن حجر ذكر عن البيهقى أنه روى بسند حسن ما يوافق ما ذكر شريك ومعلوم أم معنى الدنو والتدلى الواقعين من الله سبحانه وتعالى كمعنى النزول منه فى ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الأخير وهو أى ذلك عند أهل الحقائق من مقام التنزل بمعنى أنه تعالى يتلطف بعباده ويتنزل فى خطابه لهم فيطلق على نفسه ما يطلقونه على أنفسهم فهو فى حقهم حقيقة وفى حقه تعالى مجاز
____________________
(2/129)
ورأيت بعضهم ذكر أن فاعل دنا جبريل وفاعل تدلى محمد صلى الله عليه وسلم أى سجد لربه سبحانه وتعالى شكرا على ما أعطى من الزلفى
ورأيت بعضا آخر ذكر أن فاعل تدلى الرفرف وفاعل دنا محمد صلى الله عليه وسلم أى تدلى الرفرف لمحمد صلى الله عليه وسلم حتى جلس عليه ثم دنا محمد صلى الله عليه وسلم من ربه سبحانه وتعالى أى قرب قرب منزلة وتشريف لا قرب مكان تعالى الله عز وجل عن ذلك
قال صلى الله عليه وسلم وسألنى ربى فلم أستطع أن أجيبه عز وجل فوضع يده عز وجل بين كتفى بلا تكييف ولا تحديد أى يد قدرته تعالى لأنه سبحانه منزه عن الجارحة فوجدت بردها فأورثنى علم الأولين والآخرين وعلمنى علوما شتى فعلم أخذ على كتمانه إذ علم أنه لا يقدر على حمله غيرى وعلم خيرنى فيه وعلم أمرنى بتبليغه إلى العام والخاص من أمتى وهى الإنس والجن أى وكذلك الملائكة على ما تقدم
أقول هذا التفصيل يدل على أن العلوم الشتى هى هذه العلوم الثلاثة إلا أن يقال كل علم من هذه الثلاثة يشتمل على أنواع من العلوم والله أعلم
قال صلى الله عليه وسلم ثم قلت اللهم إنه لما لحقنى استيحاش سمعت مناديا ينادى بلغة تشبه لغة أبى بكر فقال لى قف فإن ربك يصلى فعجبت من هاتين هل سبقنى أبو بكر إلى هذا المقام وإن ربى لغنى أن يصلى فقال تعالى أنا الغنى عن أن أصلى لأحد وإنما أقول سبحانى سبحانى سبقت رحمتى غضبى اقرأ يا محمد { هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما } فصلاتى رحمة لك ولأمتك وأما أمر صاحبك يا محمد فإن أخاك موسى كان أنسه بالعصا فلما أردنا كلامه قلنا وما تلك بيمينك يا موسى قال هى عصاى وشغل بذكر العصا عن عظيم الهيبة وكذلك أنت يا محمد لما كان أنسك بصاحبك أبى بكر خلقنا ملكا على صورته ينادى بلغته ليزول عنك الاستيحاش لما يلحقك من عظم الهيبة
أقول لعل المراد خلقنا صورة على صورة صوته لأنه ليس فى الرواية أنه رأى ذلك الملك على صورة أبى بكر وإنما سمع صوته والله أعلم
ثم قال الله عز وجل يا محمد وأين حاجة جبريل فقلت اللهم إنك أعلم فقال يا محمد قد أجبته فيما سأل ولكن فيمن أحبك وصحبك
____________________
(2/130)
أقول لعل المراد بمن صحبك من كان تابعا لك فى دينك عاملا بسنتك أى وهو مراد جبريل بأمته صلى الله عليه وسلم فى قوله أن أبسط جناحى لأمتك على الصراط والله أعلم
وفى رواية إنه صلى الله عليه وسلم لما رأى الحق سبحانه وتعالى خر ساجدا قال صلى الله عليه وسلم فأوحى الله عز وجل إلى ما أوحى
وقد ذكر الثعلبى والقشعرى فى تفسير قوله تعالى { فأوحى إلى عبده ما أوحى } أن من جملة ما أوحى إليه إن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها يا محمد وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك قال القشيرى وأوحى إليه خصصتك بحوض الكوثر فكل أهل الجنة أضيافك بالماء ولهم الخمر واللبن والعسل ففرض على خمسين صلاة فى كل يوم وليلة
أقول تقدم أن من جملة ما أوحى إليه فى هذا الموطن من القرآن خواتيم سورة البقرة وبعض سورة الضحى وبعض ألم نشرح وقد تقدم ذلك عند الكلام على أنواع الوحى وقدمنا أنه يضم لذلك هو الذى يصلى عليكم وملائكته الآية على ما تقدم
هذا وفى حديث رواته ثقات لما وصلت إلى السماء السابعة قال لى جبريل عليه السلام رويدا أى قف قليلا فإن ربك يصلى قلت أهو يصلى وفى لفظ كيف يصلى وفى لفظ أخر قلت يا جبريل أيصلى ربك قال نعم قلت وما يقول قال يقول سبوح قدوس رب الملائكة والروح سبقت رحمتى غضبى ولا مانع من تكرر وقوع ذلك له صلى الله عليه وسلم من جبريل ومن غيره فى السماء السابعة وفيما فوقها لكن يبعد تعجبه صلى الله عليه وسلم من كونه عز وجل يصلى فى المرة الثانية وما بعدها
وورد أن بنى إسرائيل سألوا موسى هل يصلى ربك فبكى موسى عليه الصلاة والسلام لذلك فقال الله تعالى يا موسى ما قالوا لك فقال قالوا الذى سمعت قال أخبرهم أنى أصلى وأن صلاتى تطفئ غضبى والله أعلم
قال صلى الله عليه وسلم فنزلت إلى موسى أى وفى رواية ثم انجلت تلك السحابة أى عند وصوله إلى سدرة المنتى الذى هو المحل الذى وقف فيه جبريل فأخذ بيده جبريل فانصرف سريعا فأتى على إبراهيم فلم يقل شيئا ثم أتى على موسى وهذا
____________________
(2/131)
يدل على ما هو المشهور فى الروايات أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان فى السابعة وموسى كان فى السادسة لا على غير المشهور أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان فى السادسة وموسى كان فى السابعة كما تقدم
ولما أتى إلى موسى عليه الصلاة والسلام قال له ما فرض ربك عليك أى وفى لفظ بم أمرت قال خمسين صلاة قال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك فإنى بلوت بنى إسرائيل وخبرتهم أى وفى البخارى إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم وإنى والله قد جربت الناس قبلك وعالجت بنى إسرائيل أشد المعالجة أى فإنه فرض عليهم صلاتان فما قاموا بهما أى ركعتان بالغداة وركعتان بالعشى وقيل فرض ركعتان عند الزوال أى فما قاموا بذلك
وفى تفسير البيضاوى أن الذى فرض على بنى إسرائيل خمسون صلاة فى اليوم والليلة وسيأتى ذكر ذلك فى بعض الروايات
ويرده قولهم إن سبب طلب التخفيف أنه استكثر الخمس التى هى المرة الأخيرة فهو إنما يناسب ما تقدم
ثم رأيت القاضى البيضاوى قال فى تفسير قوله تعالى { ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا } أن من ذلك الإصر الذى كلفت به بنو إسرائيل خمسون صلاة فى اليوم والليلة وكتب عليه الجلال السيوطى فى الحاشية أن كون بنى إسرائيل كلفوا بخمسين صلاة فى اليوم والليلة باطل وبسط الكلام على ذلك
ثم قال موسى فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك أى وإنما كانت أمته مأمورة بما أمر به ومفروض عليها ما فرض عليه لأن الفرض عليه صلى الله عليه وسلم فرض على أمته والأمر له صلى الله عليه وسلم أمر لها لأن الأصل أن ما ثبت فيه حق كل نبى ثبت فى حق أمته إلا أن يقوم الدليل على الخصوصية
قال فرجعت إلى ربى أى انتهى إلى الشجرة فغشيته السحابة وخر ساجدا فقلت يا رب خفيف عن أمتى فحط عنى خمسا فرجعت إلى موسى فقلت حط عنى خمسا قال إن أمتك لا تطيق ذلك فارجع إلى ربك واسأله التخفيف قال فلم أزل أرجع بين ربى تبارك وتعالى وبين موسى صلى الله عليه وسلم حتى قال الله تعالى يا محمد إنهن خمس صلوات فى كل يوم وليلة لكل صلاة عشر فذلك خمسون صلاة ومن هم
____________________
(2/132)
بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشرا ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له سيئة واحدة قال صلى الله عليه وسلم فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته فقال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فقلت قد رجعت إلى ربى حتى استحييت منه أى وفي رواية أنه وضع عنه عشر صلوات عشر صلوات إلى أن أمر بخمس صلوات وجاء في الحديث أكثروا من الصلاة على موسى فما رأيت أحدا من الأنبياء أحوط على أمتى منه
أقول فى الوفاء أن رواية وضعت خمس صلوات من أفراد مسلم ورواية وضع عنه عشر صلوات أصح لأنه قد أتفق البخارى ومسلم عليها والرواية التى فيها حط خمسا خمسا غلط من الرواة هذا كلامه فليتأمل
والمتبادر من قوله إلى أن مر بخمس صلوات أنه رفع التعلق بجمع الخمسين وأثبت تعلقا جديدا بخمس ليست من الخمسين فالمنسوخ جميع الخمسين
ويحتمل أنه رفع التعلق بجملة الخمسين مع إثبات التعلق بخمسة منها التى هى بعضها فيكون المنسوخ ما عدا الخمس من الخمسين قيل وفى هذا وقوع النسخ قبل البلاغ وقد اتفق أهل السنة والمعتزلة على منعه
ورد بأن هذا وقع بعد البلاغ بالنسبة للنبى صلى الله عليه وسلم لأنه كلف بذلك ثم نسخ فقد قال شيخ الإسلام زكريا الأنصارى رحمه الله تعالى وما قيل إن الخمس فى ليلة الإسراء ناسخة للخمسين إنما هو فى حقه صلى الله عليه وسلم لبلوغه له لافى حق الأمة أى لعدم بلوغه لهم هذا كلامه وإذا نسخ فى حقه صلى الله عليه وسلم نسخ فى حق أمته كما هو الأصل إلا أن تثبت الخصوصية بدليل صحيح وهذا يرد ما فى الخصائص الصغرى للسيوطى رحمه الله تعالى من أن وجوب الخمسين لم ينسخ فى حقه صلى الله عليه وسلم وإنما نسخ فى حق الأمة ولعل مستنده فى ذلك رواية فرض الله على أمتى ليلة الإسراء خمسين صلاة فلم أزل أراجعه وأسأله التخفيف حتى جعلها خمسا فى كل يوم وليلة أى على الأمة كما هو المتبادر وقول موسى عليه الصلاة والسلام له صلى الله عليه وسلم إن أمتك لا تطيق ذلك وربما يوافق ذلك قول الإمام السبكى فى تائيته
____________________
(2/133)
** وقد كان رب العالمين مطالبا بخمسين فرضا كل يوم وليلة ** ** فأبقيت أجر الكل ما اختل ذرة وخففت الخمسون عنا بخمسة **
وفيه النسخ قبل التمكن من الفعل وهو يرد قول المعتزلة القائلين بأنه لا يجوز النسخ قبل التمكن من الفعل ودخول وقته
والظاهر من الخمسين التى فرضت أولا أن كل صلاة من الخمس تكرر عشر مرات فما زاد على الخمس مساولها
ويحتمل أن تكون صلوات أخر مغايرة لتلك الخمس ولم أقف على بيان تلك الصلوات
وعلى أن الخمسين لم تنسخ فى حقه صلى الله عليه وسلم لم أقف على ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم صلاها ولا على كيفية صلاته صلى الله عليه وسلم صلاها ولا على كيفية صلاته صلى الله عيله وسلم لها وإلى عروجه صلى الله عليه وسلم ورجوعه أشار صاحب الهمزية بقوله ** وطوى الأرض سائرا والسموات العلا فوقها له إسراء ** ** فصف الليلة التى كان للمختا ر فيها على البراق استواء ** ** وترقى به إلى قاب قوسين وتلك السيادة القعساء ** ** رتب تسقط الأمانى حسرى دونها ما وراءهن وراء ** ** وتلقى من ربه كلمات كل علم فى شمسهن هباء ** ** زاخرات البحار يغرق فى قط رتها العالمون والحكماء **
أى وطوى الأرض حالة كونه صلى الله عليه وسلم سائرا عليها إلى المدينة عند الهجرة كما طويت له صلى الله عليه وسلم قبل ذلك السموات العلا لما كان له صلى الله عليه وسلم فوقها إسراء أى ليلة الإسراء إلى أن جاوزها جميعها فى أسرع وقت فصف تلك الليلة التى كان للمختار فيها على البراق استواء واستقرار وصعد به ذلك البراق إلى مقدار قاب قوسين وتلك الرتبة التى وصل إليها صلى الله عليه وسلم هى السعادة الثابتة التى لا يعتريها نقص ولا زوال وهذه رتب تسقط دونها الأمانى حسرى ذات إعياء وتعب ما قدامهن قدام أى ليس بعدها من رتبة ينالها أحد غيره صلى الله عليه وسلم وتلقى من ربه كلمات ما عداها بالنسبة إليها كالهباء وهو ما يرى فى ضوء الشمس وبث سبحانه
____________________
(2/134)
وتعالى إليه علوما لا يدرك العلماء الحكماء شذرة منها وكونه صلى الله عليه وسلم صعد السموات على البراق يوافقه ما فى حياة الحيوان
إن قيل لم عرج بالنبى صلى الله عليه وسلم إلى السماء على البراق ولم ينزل عند منصرفه عليه فالجواب أنه عرج به إلى دار الكرامة ولم ينزل به عليه إظهارا لقدرة الله تعالى هذا كلامه فليتأمل
وتقدم عن الحافظ ابن كثير إنكار صعوده صلى الله عليه وسلم على البراق وقد جاء كان موسى أشد على حين مررت عليه وخيرهم إلى حين رجعت ونعم الصاحب كان لكم أى فإنه صلى الله عليه وسلم كما تقدم لما جاوزه عند الصعود بكى فنودى ما يبكيك قال رب هذا غلام أى لأنه صلى الله عليه وسلم كان حديث السن بالنسبة لموسى صلى الله عليه وسلم هذا هو المناسب للمقام بعثته بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل من أمتى وفى رواية تزعم بنو إسرائيل أى وهو يعقوب بن إسحاق عليهما الصلاة والسلام ومعنى إسرائيل عبدالله وقيل صفوة الله وفى لفظ تزعم الناس أنه أكرم على الله منى ولو كان هذا وحده هان ولكن معه أمته وهم أفضل الأمم عند الله تعالى أى انضم إلى شرفه شرف أمته على سائر الأمم
أقول والغرض من هذا وما تقدم عنه عند مروره صلى الله عليه وسلم على قبره عليه الصلاة والسلام عند الكثيب الأحمر إظهار فضيلة نبينا صلى الله عليه وسلم وفضيلة أمته بأنه أفضل الأنبياء وأمته بأنها أفضل الأمم وفى رواية عن ابن عمر كانت الصلاة خمسين والغسل من الجنابة سبع مرات وغسل الثوب من البول سبع مرات ولم يزل صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعلت الصلاة خمسا وغسل الجنابة مرة وغسل الثوب من البول مرة
قال وعن أنس رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ليلة أسرى بى مكتوبا على باب الجنة الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر فقلت لجبريل ما بال القرض أفضل من الصدقة قال لأن السائل يسأل وعنده والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة انتهى هذا والراجح عند أئمتنا أن درهم الصدقة أفضل من درهم القرض
وبيان كون درهم القرض بثمانية عشر درهما أن درهم القرض بدرهمين من دراهم
____________________
(2/135)
الصدقة كما جاء فى بعض الرويات ودرهم الصدقة بعشرة تصير الجملة عشرين ودرهم القرض يرجع للمقرض بدله وهو بدرهمين من عشرين يتخلف ثمانية عشر
وعرضت عليه صلى الله عليه وسلم النار فإذا فيها غضب الله تعالى أى نقمته لو طرحت فيها الحجارة والحديد لأكلتهما وفى هذه الرواية زيادة على ما تقدم وهى فإذا قوم يأكلون الجيف فقال صلى الله عليه وسلم من هؤلاء يا جبريل فقال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس أى وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم رأى هؤلاء فى الأرض وأن لهم أظفارا من حديد يخمشون بها وجوههم وصدورهم ورآهم فى السماء الدنيا وأنهم يقطعون اللحم من جنوبهم فيلقمونه ولينظر ولينظر ما الحكمة في تكرير رؤية هؤلاء دون غيرهم من بقية أهل الكبائر الذين رآهم الأرض وفى السماء الدنيا ولعل الحكمة فى ذلك المبالغة فى الزجر عن الغيبة لكثرة وقوعها
ورأى فيها رجلا أحمر أزرق فقال من هذا يا جبريل فقال هذا عاقر الناقة أى لعل دخول الجنة وعرض النار عليه صلى الله عليه وسلم كان قبل أن تغشاه السحابة ويزج به فى النور ولا مانع من أن تعرض عليه النار وهو فوق السماء السابعة وهى فى الأرض السابعة
أقول ونقل القرطبى فى تفسيره عن الثعلبى عن أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ليلة أسرى بى إلى السماء تحت العرش سبعين مدينة كل مدينة مثل دنياكم هذه سبعين مرة مملوآت من الملائكة يسبحون الله عز وجل ويقدسونه ويقولون فى تسبيحهم اللهم اغفر لمن شهد الجمعة أى صلاتها اللهم اغفر لمن اغتسل يوم الجمعة أي لصلاتها وهذا يفيج أن هذه التسمية أي تسمية ذلك اليوم بيوم الجمعة معروفة عند الملائكة وعنده صلى الله عليه وسلم وهو يوافق ما قيل إن المسمى لها بذلك كعب بن لؤي كما تقدم ويخالف ما سيأتي من أن تسمية ذلك اليوم بيوم الجمعة هداية من الله عز وجل للمسلمين بالمدينة وأنه لما أرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلوها فى ذلك اليوم لم يسمه بيوم الجمعة بل اقتصر على قوله اليوم الذى يليه اليوم الذى تجهر فيه اليهود بالزبور لسبتهم أى فى أكثر الروايات وإلا فقد رأيت السهيلى ذكر حدثنا عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه سمى ذلك اليوم بيوم الجمعة ونصه كتب صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير أما بعد فانظر اليوم
____________________
(2/136)
الذى يليه اليوم الذى تجهرفيه اليهود بالزبور لسبتهم فاجمعو نساءكم وأبناءكم فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة فتقربوا إلى الله تعالى فيه بركعتين فعلى أكثر الروايات يجوز أن يكون إخباره صلى الله عليه وسلم بذلك هنا أى قصة المعراج كان بعد التسمية وصلاة الجمعة وعبر بهذه العبارة لكونها عرفت لهم فيكون الذى سمعه من الملائكة يوم العروبة مثلا والله أعلم
قال ورأى صلى الله عليه وسلم مالكا خازن النار فإذا هو رجل عابس يعرف الغضب فى وجهه فبدأ النبى صلى الله عليه وسلم أى بالسلام ثم أغلقت دونه انتهى
وفى الأصل وفى حديث أبى هريرة رضى الله تعالى عنه وقد رأيتنى أى يخبر أنه صلى الله عليه وسلم رأى نفسه فى جماعة من الأنبياء فحانت الصلاة أى حضرت إرادة الصلاة فأممتهم أى صليت بهم إماما قال قائل يا محمد هذا مالك خازن النار فسلم عليه فبدأنى بالسلام قال وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل مالى لم آت لأهل سماء إلا رحبوا بى وضحكوا إلا غير واحد سلمت عليه فرد على السلام ورحب بى ودعا لى ولم يضحك إلى قال ذلك مالك خازن النار لم يضحك منذ خلق ولو ضحك لأحد لضحك إليك انتهى
أقول وهذا السياق يدل على أن ضحك من لقيه من الأنبياء والملائكة فى السموات له صلى الله عليه وسلم سقط من جميع روايات المعراج إذ لم يذكر فى شيء منها على ما علمت ويدل على أن مالكا خازن النار وجده فى السماء السابعة وأنه مرة بدأ النبى صلى الله عليه وسلم بالسلام ومرة بدأه النبى صلى الله عليه وسلم بالسلام والمناسب أن يكون فى المرة الأولى هو الذى بدأ النبى صلى الله عليه وسلم وهو عند الباب ثم رأيت الطيبى صرح بذلك حيث قال إنما بدأ خازن النار بالسلام عليه ليزيل ما استشعره من الخوف منه لما ذكر من أنه رأى رجلا عابسا يعرف الغضب فى وجهه فلا ينافيه ما ذكره السهيلى من أنه صلى الله عليه وسلم لم يره على الصورة التى يراه عليها المعذبون فى الآخرة ولو رآه عليها لم يستطع أن ينظر إليه
وقوله صلى الله عليه وسلم لم آت أهل سماء إلى آخره قد يعارضه ما جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل مالى لم أر ميكائيل ضاحكا قال ما ضحك منذ خلقت النار وفيه أن هذا يفيد أن ميكائيل كان موجودا قبل خلق النار وإيجادها وهذا لا ينافى أن
____________________
(2/137)
ميكائيل ضحك بعد ذلك فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم تبسم فى الصلاة فسئل عن ذلك فقال رأيت ميكائيل راجعا من طلب القوم أى يوم بدر وعلى جناحه الغبار فضحك إلى فتبسمت إليه
ولعل هذا كان بعد ما أخرجه أحمد فى مسنده عن أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لجبريل إنى لم أر ميكائيل ضاحكا قط قال ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار ومما يدل على أن جبريل عليه الصلاة والسلام خلق قبل النار أيضا ما فى مسند أحمد عن أنس بن مالك قال قال صلى الله عليه وسلم لجبريل لم تأتنى إلا رأيتك صارا بين عينيك قال إنى لم أضحك منذ خلقت النار وهذا مع ما تقدم من رؤية الجنة والنار يرد على الجهمية وبعض المعتزلة كعبد الجبار وأبى هاشم حيث زعموا أن الله تعالى لم يخلق الجنة والنار وأنهما ليستا موجودتين الآن وإنما يخلقهما سبحانه وتعالى يوم الجزاء مستدلين بأنه لا يحسن من الحكيم أن يخلق الجنة دار النعمة والنار دار النقمة قبل خلق أهلهما وبأنهما لو كانا مخلوقتين فى السماء والأرض والأرض لفنيا بفنائهما
وأجيب عن الأول بأنه يحسن من الحكيم خلقهما قبل يوم الجزاء لأن الإنسان إذا علم ثوابا مخلوقا اجتهد فى العبادة لتحصيل ذلك الثواب وأذا علم عقابا مخلوقا اجتهد فى اجتناب المعاصى لئلا يصيبه ذلك الثواب وأذا علم عقابا مخلوقا اجتهد فى اجتناب المعاصى لئلا يصيبه ذلك العقاب فليتأمل
وأجيب عن الثانى بأن الله استثناهما من قوله تعالى { فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء }
وفيه أن هذه صعقة الموت ولا يتصف بالموت غير ذى الروح ولأن الجنة كما قيل ليست فى السماء السابعة بل فوقها والنار ليست فى الأرض السابعة بل تحتها وحينئذ يكون القول بأن الجنة فى السماء السابعة والنار فى الأرض السابعة فيه تجوز والله أعلم
قال واختلف فى رؤيته صلى الله عليه وسلم لربه تبارك وتعالى تلك الليلة فأكثر العلماء على وقوع ذلك أى أنه صلى الله عليه وسلم رآه عز وجل بعين رأسه واستدل له بحديث رأيت ربى فى أحسن صورة ورد بأن هذا الحديث مضطرب الإسناد والمتن
وقد قال بعض العارفين شاهد الحق سبحانه وتعالى القلوب فلم ير قلبا أشوق إليه
____________________
(2/138)
من قلب محمد صلى الله عليه وسلم فأكرمه بالمعراج تعجيلا للرؤية والمكالمة وأنكرتها عائشة رضى الله تعالى عنها وقالت من زعم أن محمد رأى ربه أى بعين رأسه فقد أعظم الفرية على الله عز وجل أى أتى بأعظم الافتراء والكذب على الله عز وجل ووافقها على ذلك من الصحابة ابن مسعود وأبو هريرة رضى الله تعالى عنهما وجمع من العلماء
ونقل عن الدارمى الحافظ أنه نقل إجماع الصحابة على ذلك ونظر فيه وذهب إلى الرؤية أى المذكورة أكثر الصحابة وكثير من المحدثين والمتكلمين بل حكى بعض الحفاظ على وقوع الرؤية له بعين رأسه الإجماع وإلى ذلك يشير صاحب الأصل بقوله ** ورآه وما رآه سواه رؤية العين يقظة لا المرائى **
واحتجت عائشة رضى الله عنها على منع الرؤية بقوله تعالى { لا تدركه الأبصار } قال وروى أن مسروقا قال لها ألم يقل الله عز وجل ولقد رآه نزلة أخرى أى مرة أخرى أي بناء على أن الضمير المستتر له صلى الله عليه وسلم والبارز له سبحانه وتعالى فقالت أنا أول هذه الأمة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك فقال إنما رأيت جبريل منهبطا أي فالضمير البارز إنما هو لجبريل وفي رواية قال لها ذاك جبريل لم أره فى صورته التى خلق عليها إلا مرتين أى مرة فى الأرض ومرة فى السماء فى هذه الليلة كما تقدم وعلى ظاهر الآية أى من جعل الضمير المستتر له صلى الله عليه وسلم والبارز له سبحانه وتعالى وقطع النظر عن هذه الرواية التى جاءت عن عائشة رضى الله تعالى عنها يلزم أن يكون صلى الله عليه وسلم رأى الحق سبحانه وتعالى ليلة المعراج مرتين مرة فى قاب قوسين ومرة عند سدرة المنتهى ولا مانع من ذلك ولعل ذلك هو المعنى بقول الخصائص الصغرى وخص صلى الله عليه وسلم برؤيته للبارى عز وجل مرتين وفيها وجمع له بين الكلام والرؤية وكلمه عند سدرة المنتهى وكلم موسى بالجبل
قال بعضهم يجوز أنه صلى الله عليه وسلم خاطب عائشة رضى اللع تعالى عنها بما ذكر أى بقوله إنما رأيت جبريل إلى آخره على قدر عقلها أى فى ذلك الوقت انتهى وأيد قولها بما روى عن أبى ذر رضى الله تعالى عنه قلت يا رسول الله هل رأيت ربك قال رأيت نورا أى حجبنى ومنعنى عن رؤيته عز وجل ومن ثم جاء فى رواية نور أنى أراه أى كيف أراه مع وجود النور لأن النور إذا غشى البصر حجبه عن رؤية
____________________
(2/139)
ما وراء أى وليس المراد أنه سبحانه وتعالى هو النور المرئى له خلافا لمن فهم ذلك وأيده بما روى نورانى أى لأن هذه الرواية كما قيل تصحيف ومن ثم قال القاضى عياض لم أرها فى أصل من الأصول ومحال أن تكون ذاته تعالى نورا لأن النور من جملة الأعراض أى لأنه كيفية تدركها الباصرة أولا وبواسطة تلك الكيفية تدرك سائر المبصرات كالكيفية الفائضة من النيرين على الأجرام الكثيفة المحاذية لهما والله تعالى يتعالى عن ذلك أى فحجابه تعالى النور كما رواه مسلم أى ومن ثم قيل فى قوله تعالى { الله نور السماوات والأرض } أى ذو نور أو هو على المبالغة أى وجاء رأيته فى صورة شاب أمرد عليه حلة خضراء دونه ستر من لؤلؤ وجاء رأيت ربى فى أحسن صورة قال الكمال بن الهمام إن كان المراد به رؤية اليقظة فهو حجاب الصورة
قال وقيل رآه بفؤاده مرتين لابعينى رأسه فعن بعض الصحابة قلنا يا رسول الله هل رأيت ربك قال لم أره بعينى رأيته بفؤادى مرتين ثم تلا ثم دنا فتدلى الآية وهذا السياق يدل على أن فاعل دنا فتدلى الحق سبحانه وتعالى والمراد بالفؤاد القلب أى خلقت الرؤية فى القلب أو خلق الله لفؤاده بصرا رأى به انتهى
أقول وكون الفؤاد له بصر واضح لقوله تعالى { ما زاغ البصر وما طغى } وأجيب عما احتجت به عائشة رضى الله عنها من قوله تعالى { لا تدركه الأبصار } بأنه لا يلزم من الرؤية الإدراك أي الذي هو الإحاطة فالنور إنما منع الإحاطة به لا من أصل الرؤية وقد قال بعضهم للإمام أحمد بأى معنى تدفع قول عائشة رضى الله تعالى عنها من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله تعالى الفرية فقال يدفع بقول النبى صلى الله عليه وسلم رأيت ربى وقول النبى صلى الله عليه وسلم أكبر من قولها
هذا وقد قال أبو العباس بن تيمية الإمام أحمد إنما يعنى رؤية المنام فإنه لما سئل عن ذلك قال نعم رآه فإن رؤيا الأنبياء حق ولم يقل إنه رآه بعين رأسه يقظة ومن حكى عنه ذلك فقد وهم وهذه نصوصه موجودة ليس فيها ذلك
أقول وفيه أنه يبعد أن يكون الإمام أحمد يفهم عن عائشة رضى الله تعالى عنها أنها تنكر رؤيا المنام حتى يرد عليها وقد ضعف حديث أبى ذر المتقدم وهو قلت يا رسول الله رأيت ربك فقال نور أنى أراه وهو من جملة الأحاديث التى فى مسلم التى نظر فيها والله أعلم
____________________
(2/140)
قال أبو العباس بن تيمية وأهل السنة متفقون على أن الله عز وجل لا يراه أحد بعينه فى الدنيا لا نبى ولا غير نبى ولم يقع النزاع إلا فى نبينا صلى الله عليه وسلم خاصة مع أن أحاديث المعراج المعروفة ليس فى شئ منها أنه رآه وإنما روى ذلك باسناد موضوع باتفاق أهل الحديث
وفى صحيح مسلم وغيره عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت وقد سأله موسى الرؤية فمنعها
وقد نقل القرطبى عن جماعة من المحققين القول بالوقف فى هذه المسألة لأنه لا دليل قاطع وغاية ما استدل به الفريقان ظواهر متعارضة قابلة للتأويل وهو من المعتقدات التى يكتفى فيها بخبر الآحاد الصحيح وهى فلا بد فيها من الدليل القطعي هذا كلامه
ونازع فيه السبكى بأنه ليس من المعتقدات التي يشترط فيها الدليل القطعي وهي التي تكلف فاعتقادها كالحشر والنشر بل من المعتقدات التى لم نكلف باعتقادها كما نحن فيه وفى الخصائص الصغرى وخص صلى الله عليه وسلم برؤيته من آيات ربه الكبرى وحفظه حتى ما زاغ البصر وما طغى وبرؤيته للبارى مرتين
وفى كلام ابن دحية خص صلى الله عليه وسلم بألف خصلة منها الرؤية والدنو والقرب قال بعضهم قد صحت الأحاديث عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما فى إثبات الرؤية وحينئذ يجب المصير إلى إثباتها ولا يجترئ أحد أن يظن فى ابن عباس أن يتكلم فى هذه المسألة بالظن والاجتهاد
قال الإمام النووى والراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعين رأسه أى وأما رؤيته عز وجل يوم القيامة فى الموقف فعامة لكل أحد من الخلق الإنس والجن من الرجال والنساء المؤمن والكافر والملائكة جبريل وغيره
وأما رؤيته عز وجل فقيل لا تراه الملائكة وقيل يراه منهم جبريل خاصة مرة واحدة قال بعضهم وقياس عدم رؤية الملائكة عدم رؤية الجن ورد ذلك واختلف في رؤية النساء من هذه الأمة له تعالى فى الجنة فقيل لا يرينه لأنهن
____________________
(2/141)
مقصورات أى محبوسات فى الخيام وقيل يرينه فى أيام الأعياد دون أيام الجمع بخلاف الرجال فإنهم يرونه فى كل يوم جمعة
فقد جاء أنه تعالى يتجلى فى مثل عيد الفطر ويوم النحر لأهل الجنة تجليا عاما ومن أهل الجنة مؤمن الجن على الراجح
وجاء إن كل يوم كان للمسلمين عيدا فى الدنيا فإنه عيد لهم فى الجنة يجتمعون فيه على زيارة ربهم ويتجلى لهم فيه ويدعى يوم الجمعة فى الجنة بيوم المزيد قال بعضهم هذا لعموم أهل الجنة وأما خواصهم فكل يوم لهم عيد يرون ربهم فيه بكرة وعيشا
وأما رؤية الله عز وجل فى النوم ففى الخصائص الصغرى ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه يجوز له رؤية الله وعز وجل فى المنام ولا يجوز ذلك لغيره صلى الله عليه وسلم فى أحد القولين وهو اختيارى وعليه أبو منصور الماتريدى وفى كلام الإمام النووى قال القاضى عياض اتفق العلماء على صفة لا تليق بجلاله من صفات الأجساد لأن ذلك المرئى غير ذات الله تعالى والله أعلم
ثم لا يخفى أن أكثر العلماء على أن الإسراء إلى بيت المقدس ثم المعراج إلى السماء كانا فى ليلة واحدة أى وقيل كان الإسراء وحده فى ليلة ثم كان هو والمعراج فى ليلة أخرى
قال وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل إلى سماء الدنيا نظر إلى أسفل منه فإذا هو برهج ودخان وأصوات فقال ما هذا يا جبريل قال هذه الشياطين يحومون على أعين بنى آدم لا يتفكرون أى وذلك مانع لهم من التفكر فى ملكوت السموات والأرض أى لعدم نظرهم للعلامات الموصلة لذلك لولا ذلك لرأوا العجائب أى أدركوها
ثم ركب صلى الله عليه وسلم البراق منصرفا أى بناء على أنه لم يعرج على البراق فمر بعير لقريش إلى آخر ما تقدم انتهى
أقول ذكر بعضهم أن مما نزل عليه صلى الله عليه وسلم بين السماء والأرض أى عند نزوله من السماء قوله تعالى { وما منا إلا له مقام معلوم } الآيات الثلاث وقوله تعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا الآية والآيتان من آخر سورة البقرة وتقدم أنهما نزلتا بقاب قوسين والله أعلم
____________________
(2/142)
واستدل على أن كلا من الإسراء والمعراج كان يقظة بجسده صلى الله عليه وسلم وروحه بقوله تعالى { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } لأن العبد حقيقة هو الروح والجسد قال تعالى { أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى } وقال وأنه لما قام عبد الله يدعوه ولو كان الإسراء مناما لقال بروح عبده ولأن الدواب التى منها البراق لا تحمل الأرواح وإنما تحمل الأجساد
واستدل على أنه الرؤية كانت بعين بصره صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى { ما زاغ البصر وما طغى } لأن وصف البصر بعدم الإزاغة يقتضى أن ذلك يقظة ولو كانت الرؤية قلبية لقال ما زاغ قلبه
أقول فيه أن لقائل أن يقول يجوز أن يكون المراد بالبصر بصر قلبه لما تقدم أن الله تعالى خلق لقلبه بصرا والله أعلم
وقيل كان الإسراء بجسده والمعراج بروحه الشريفة أى بذاتها عرج بها حقيقة من غير إماتة للجسد وكان حالها فى ذلك أرقى منه كحالها بعد مفارقتها لجسدها بموته فى صعودها فى السموات حتى بين يدى الله تعالى وهذا أمر فوق ما يراه النائم وغيره صلى الله عليه وسلم لا تنال ذات روحه الصعود إلا بعد الموت لجسدها قيل ومن ثم لم يشنع كفار قريش إلا أمر الإسراء دون المعراج
أقول الظاهر أن إخباره صلى الله عليه وسلم بالمعراج لم يكن عند إخباره بالإسراء بل تأخر عن إخباره بالإسراء بناء على أنهما كان فى ليلة واحدة وإلا فقد ذكر بعضهم أن المعراج لم يكن ليلة الإسراء الذى أخبر به كفار قريش قال إذ لو كان أى فى تلك الليلة لأخبر به حين أخبرهم بالأسراء أى ولم يخبر به حينئذ إذ لو أخبر به حينئذ لنقل ولذكره سبحانه وتعالى مع الإسراء لأن المعراج أبلغ فى المدح والكرامة وخرق العادة من الإسراء إلى المسجد الأقصى
وأجيب عنه بأنه على تسليم أنه كان فى ليلة الإسراء الذى أخبر به قريشا هو صلى الله عليه وسلم استدرجهم إلى الإيمان بذكر الإسراء أولا فلما ظهرت لهم أمارات صدقه على تلك الآية الخارقة التى هى الإسراء أخبرهم بما هو أعظم منها وهو المعراج بعد ذلك أى وحيث أخبرهم بذلك لم ينكروه لذلك أى لثبوت صدقه صلى الله عليه وسلم فيما ادعاه من الإسراء وتقدم عن المواهب أنهم لم يسألوه عن علامات تدل على صدقه صلى الله
____________________
(2/143)
عليه وسلم فى ذلك لعدم علمهم ومعرفتهم بشئ فى السماء والحق سبحانه وتعالى أرشده إلى ذلك أى إلى أن يخبرهم بالإسراء أولا ثم بالمعراج ثانيا حيث لم ينزل قصة المعراج فى سورة الإسراء بل أنزل ذلك فى سورة النجم
ومما يؤيد أنهما كانا فى ليلة واحدة قول الإمام البخارى فى صحيحه باب كيف فرضت الصلاة ليلة الإسراء لأن من المعلوم أن فرض الصلاة أى الصلوات الخمس إنما هو فى المعراج
وأما إفراده كلا من الإسراء والمعراج بترجمة فلا يخالف ذلك لأنه إنما أفرد كلا منهما بترجمة لأن كلا منهما يشتمل على قصة منفردة وإن كانا وقعا معا
وقد خالف الحافظ الدمياطى فى سيرته فذكر أن المعراج كان فى رمضان والإسراء كان فى ربيع الأول والله أعلم
وقيل الإسراء وقع له صلى الله عليه وسلم أى بعد البعثة مرتين مناما أولا ويقظة ثانيا أى فكانت مرة المنام توطئة وتبشيرا لوقوعه يقظة وبذلك يجمع بين الاختلاف الواقع فى الأحاديث أى فبعض الرواة خلط الواقع له صلى الله عليه وسلم منامنا بالواقع له صلى الله عليه وسلم يقظة
وعلى هذا لا يشكل قول شريك فلما استيقظت لكنه قال إن مرة المنام كانت قبل البعثة ففى رواية وذلك قبل أن يوحى إلى وقد أنكر الخطابى عليه ذلك وعده من جملة أو هامه الواقعة فى حديث الإسراء والمعراج ورد على الخطابى الحافظ ابن حجر فى ذلك بما ينبغى الوقوف عليه
وقيل كان المعراج يقظة ولم يكن ليلا ولم ويكن من بيت المقدس بل كان من مكة وكان نهارا فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم كان يسأل ربه عز وجل أن يريه الجنة والنار فلما كان نائما ظهرا أتاه جبريل وميكائيل فقالا انطلق إلى ما سألت الله تعالى فانطلقا بى إلى ما بين المقام وزمزم فأتى بالمعراج فإذا هو أحسن شئ منظرا فعرجا بى إلى السموات سماء سماء الحديث ولا يخفى أن سياق هذا الحديث يدل على أن ذلك كان مناما فلا يحسن أن يكون دليلا على قوله يقظة
وقد جاء عن أبى ذر رضى الله تعالى عنه أنه قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/144)
قال فرج سقف بيتى وأنا بمكة فنزل جبريل ففرج صدرى ثم غسله بماء زمزم ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا فأفرغهما فى صدرى ثم أخذ بيدى فعرج إلى السماء الحديث وقد يدعى أن فى رواية أبى ذر اختصارا وليس فيها أن ذلك كان مناما أو يقظة
أى وأما ما ادعاه بعضهم أن المعراج تكرر يقظة فغريب إذ كيف يتكرر يقظة سؤال أهل كل باب من أبواب السماء هل بعث إليه وكيف يتكرر سؤاله صلى الله عليه وسلم عن كل نبى وكيف يتكرر فرض الصلوات الخمس والمراجعة وأما مناما فلا بعد فى بكرر ذلك توطئة لوقوعه يقظة أى وهذا منشأ اختلاف الروايات أدخل بعض الرواة ما وقع فى المنام ما وقع فى اليقضة خلافا لمن زعمه ومن ثم قال الحافظ ابن كثير من جعل كل رواية خالفت الأخرى مرة واحدة بروحه وجسده يقظة والباقى بروحه رؤيا رآها أى ومن ذلك ما وقع له صلى الله عليه وسلم فى المدينة بعد الهجرة وهو محمل قول عائشة رضى الله تعالى عنها ما فقدت جسده الشريف
وفى صبيحة ليلة المعراج حين زالت الشمس من اليوم الذى يلى الليل التى فرضت فيها الصلوات الخمس كان نزول جبريل عليه الصلاة والسلام وإمامته بالنبى صلى الله عليه وسلم ليعلمه أوقات الصلوات أى وكيفيتها أى لأنه لا يلزم من علمه صلى الله عليه وسلم بكيفية صلاة الركعتين وصلاة قيام الليل علم كيفية الصلوات الخمس وإن قلنا بأن الرباعية منها فرضت ركعتين فأمر صلى الله عليه وسلم فصيح بأصحابه الصلاة جامعة فاجتمعوا فصلى به صلى الله عليه وسلم جبريل وصلى النبى صلى الله عليه وسلم بالناس فسميت تلك الصلاة الظهر لأنها أول صلاة ظهرت ولأنها فعلت عند قيام الظهيرة اى شدة الحر أو عند نهاية ارتفاع الشمس وهذا الحديث ظاهر بأن صلاته صلى الله عليه وسلم بالناس كانت بعد صلاته مع جبريل محتمل لأن يكون صلى الله عليه وسلم صلى بصلاة جبريل والناس صلوا بصلاته صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/145)
ففى بعض الروايات لما نودى بالصلاة جامعة فزعوا لذلك واجتمعوا فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر أربع ركعات لا يقرأ فيهنى علانية ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدى الناس وجبريل بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتدى الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم ويقتدى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبريل ثم يصلى كذلك فى العصر ولما غابت الشمس صلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب ثلاث ركعات يقرأ فى الركعتين علانية وركعة لا يقرأ فيها علانية ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدى الناس وجبريل بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتدى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبريل
وفى كلام الإمام النووى قوله إن جبريل نزل فصلى إمام رسول الله صلى الله عليه وسلم هو بكسر الهمزة ويوضحه قوله فى الحديث نزل جبريل فأمنى واستدل بذلك بعضهم على جواز الاقتداء بمن هو مقتد بغيره لا كما يقوله أئمتنا من منع ذلك
وأجيب عنه من جانب أئمتنا بأن معنى كونه صلى الله عليه وسلم مقتديا بجبريل أنه متابع له فى الأفعال من غير نية اقتداء ولا إيقاف فعله على فعل جبريل فلا يشكل على أئمنتا نعم هذا حينئذ يشكل على أئمتنا القائلين بأنه لا بد من علم كيفية الصلاة قبل الدخول فيها ولا يكفى علمها بالمشاهدة
وقد يجاب بأنه يجوز أن يكون جبريل عليه الصلاة والسلام علمه صلى الله عليه وسلم كيفيتها بالقول ثم أتبع القول الفعل وهو صلى الله عليه وسلم علم أصحابه كذلك وبما تقرر يسقط الإستدلال بذلك على جواز الفرض خلف النفل لأن تلك الصلاة لم تكن واجبة على جبريل لأن الملائكة ليسوا مكلفين بذلك
وأجيب بأنها كانت واجبة على جبريل لأنه مأمور بتعليمها له صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا وكان ذلك عند البيت أي الكعبة مستقبلا بيت المقدس أى صخرته واستقباله صلى الله عليه وسلم لبيت المقدس قيل كان باجتهاد منه وقيل كان بأمر من الله تعالى له قيل بقرآن وقيل بغيره أى وعلى أنه بقرآن يكون مما نسخت تلاوته وقد قال أئمتنا ونسخ قيام الليل بالصلوات الخمس إلى بيت المقدس كما تقدم وكان صلى الله عليه وسلم إذا استقبل بيت المقدس يجعل الكعبة بينه وبينه فيصلى بين الركن اليمانى وركن الحجر الأسود أى كما صلى به جبريل الركعتين أول البعث كما تقدم
____________________
(2/146)
وحينئذ لا يخالف هذا قول بعضهم لم يزل صلى الله عليه وسلم يستقبل الكعبة حتى خرج منها أى من مكة أى لم يستدبرها فلما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة استقبل بيت المقدس أى تمحض استقباله واستدبر الكعبة وظاهر إطلاقهم أن هذا أى استقباله بيت المقدس وجعل الكعبة بينه وبينه كان شأنه صلى الله عليه وسلم غالبا وإن صلى خارج المسجد بمكة ونواحيها
والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك أدبا لا وجوبا وإلا فقد جاء أن صلاة جبريل به صلى الله عليه وسلم كانت عند باب الكعبة كما رواه إمامنا الشافعى رضى الله تعالى عنه فى الأم
وروى الطحاوى عند باب البيت مرتين أى وذلك فى المحل المنخفض الذى تسميه العامة المعجنة كما تقدم وصلاته صلى الله عليه وسلم عند باب الكعبة فى المحل المذكور لبيت المقدس لا يكون مستقبلا للكعبة بل تكون على يساره لأنه لا يتصور أن يستقبل بيت المقدس ويكون مستقبلا للكعبة أيضا إلا إذا صلى بين اليمانيين كما تقدم
وأيضا ذكر بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم كان يسجد نحو بيت المقدس ويجعل الكعبة وراء ظهره وهو بمكة أى فى بعض الأوقات حتى لا يخالف ما سبق أنه صلى الله عليه وسلم كان يستقبلها لبيت المقدس
ولا ينافى ذلك ما فى زبدة الأعمال أقام صلى الله عليه وسلم بعد نزول جبريل ثلاث عشرة سنة وكان يصلى إلى بيت المقدس مدة إقامته بمكة يجعلها أى الكعبة بين يديه ولا يستدبرها لإمكان حمل مدة إقامته على غالبها
ومما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم مع الصحابة كانوا يصلون إلى بيت المقدس وهم بمكة ما سيأتى عن البراء بن معرور أنه لما عدل عن استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة قبل أن يهاجر صلى الله عليه وسلم وسأله عن ذلك قال له قد كنت على قبلة لو صبرت عليها
وأم به صلى الله عليه وسلم جبريل مرتين مرة أول الوقت ومرة آخر الوقت لكن الوقت الاختيارى بالنسبة للعصر والعشاء والصبح لا الآخر الحقيقى ليعلمه الوقت
أى ولما جاءه صلى الله عليه وسلم جبريل أمر مصيح بأصحابه الصلاة جامعة كما تقدم أى لأن الإقامة المعروفة للصلوات الخمس لم تشرع إلا بالمدينة على ما تقدم وسيأتى
____________________
(2/147)
قال فقد جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم وصلى به فى أول يوم الظهر حين زالت الشمس كما تقدم أى عقب زوالها وصلى به العصر حين ظل كل شئ مثله أى زيادة على ظل الاستواء أو على الظل الحاصل عقب الزوال وصلى به المغرب حين أفطر الصائم أى دخل وقت فطره وهو غروب الشمس وصلى به العشاء حين غاب الشفق وصلى به أى فى غد ذلك وهو اليوم الثانى الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم أى حين دخل وقت حرمة ذلك وهو الفجر
أى فإن قيل صلاة جبريل به صلى الله عليه وسلم حينئذ لم يكن الصوم الذى هو رمضان فرض
أجيب بأنه على تسليم أنه لم يفرض عليه صوم قبل رمضان وهو صوم عاشوراء وثلاث أيام من كل شهر على ما سيأتى جاز أن يكون إخباره صلى الله عليه وسلم بهذه العبارة كل بعد فرض رمضان
وصلى به الظهر حين كان ظل الشئ مثله وصلى به العصر حين كان ظل الشئ مثليه وصلى به المغرب حين افطر الصائم وصلى به العشاء ثلث الليل الأول وصلى به الفجر أى فى اليوم الثالث فأسفر ثم التفت وقال يا محمد هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك والوقت ما بين هذين الوقتين اه
وأما رواية صلى بى الظهر إلى أن قال وصلى بى الفجر فلما كان الغد صلى بى الظهر المقتضى ذلك لأن يكون الفجر ليس من اليوم الثاني بل من تتمة ما قبله
ففيه دليل على أن اليوم من طلوع الشمس كما يقول الفلكيون أى ولا يخفى أن قوله والوقت ما بين هذين الوقتين محمول عند إمامنا الشافعى رضى الله عنه على الوقت الاختيارى بالنسبة للعصر والعشاء والفجر وإلا فوقت العصر لايخرج إلا بغروب الشمس ووقت العشاء لا يخرج إلا بطلوع الفجر ووقت الصبح لا يخرج إلا بطلوع الشمس خلافا للإصطخرى حيث ذهب إلى خروج وقت العصر بمصير ظل الشئ مثليه والعشاء بثلث الليل والصبح بالإسفار متمسكا بظاهر الحديث والبداءة بالظهر هو ما عليه أكثر الروايات وروى أن البداءة كانت بالصبح عند طلوع الفجر وعلى الأول إنما لم تقع البداءة بالصبح مع أنها أول صلاة تحضر بعد ليلة الإسراء لأن الإتيان بها يتوقف على
____________________
(2/148)
بيان علم كيفيتها المعلق عليه الوجوب كأنه قيل أوجبت عليه حيثما تبين كيفيته فى وقته والصبح لم تتبين كيفيتها فى وقتها فلم تجب فلا يقال هذا من تأخير البيان عن وقت الحاجة
وأجاب الإمام النووى بأنه حصل التصريح بأن أول وجوب الخمس من الظهر كانه قيل أوجبت ما عدا صلاة الصبح يوم هذه الليلة فعدم وجوبها ليس لعدم علم كيفيتها فهى غير واجبة وإن فرض علم كيفيتها
وفيه أنه يلزم حينئذ أن الخمس صلوات فى اليوم والليلة لم توجد إلا فيما عدا ذلك اليوم وليلته قال أبو بكر بن العربى ظاهر قوله هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك أن هذه الصلوات فى هذه الأوقات كانت مشروعة لكل واحد من الأنبياء قبلك وليس كذلك وإنما معناه أن وقتك هذا المحدود الطرفين مثل وقت الأنبياء قبلك فإنه كان محدود الطرفين وإلا فلم تكن هذه الصلوات الخمس على هذه المواقيت إلا لهذه الأمة خاصة وإن كان غيرهم قد شاركهم فى بعضها أى فقد جاء عن عائشة رضى الله عنها أن آدم لما تيب عليه كان ذلك عند الفجر فصلى ركعتين فصارت الصبح وفدى إسحاق عند الظهر أة يعلى القول بأنه الذبيح فصلى أربع ركعات فصارت الظهر وبعث عزير فقيل له كم لبثت قال لبثت يوما فلما رأى الشمس قريبة من الغروب قال أو بعض يوم فصلى أربع ركعات فصارت العصر وغفر لداود عند المغرب أى الغروب فقام يصلى أربع ركعات فجهد أى تعب فجلس فى الثالثة أى سلم منها فصارت المغرب ثلاثا وأول من صلى العشاء الآخرة نبينا صلى الله عليه وسلم فصلاتها من خصائصه
وفى شرح مسند إمامنا الشافعى رضى الله تعالى عنه للإمام الرافعى رحمه الله تعالى كانت الصبح صلاة آدم والظهر صلاة داود أى فقد اشترك داودوإسحاق فى صلاة الظهر والعصر صلاة سليمان فقد اشترك سليمان وعزير فى صلاة العصر صلاة يعقوب أى فقد اشترك يعقوب وداود فى صلاة المغرب والعشاء صلاة يونس وأورد فى ذلك خبرا وعليه فليست صلاة العشاء من خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم والأصل أن ما ثبت فى حق أمته إلا أن يقوم الدليل على الخصوصية فليست من خصائص هذه الأمة
وذكر بعضهم أن المغرب كانت صلاة عيسى أى وكانت أربعا ركعتين عن نفسه وركعتين عن أمه أى فقد اشترك عيسى ويعقوب وداود فى صلاة المغرب
____________________
(2/149)
وفي كلام بعضهم أول من صلى الفجر آدم والظهر إبراهيم أي وعليه فقد اشترك إبراهيم وإسحاق وداود في صلاة الظهر وأول من صلى العصر و يونس أي وعليه فقد اشترك سليمان وعزيز ويونس في صلاة العصر أول من صلى المغرب عيسى وأول من صلى العتمة التي هي العشاء موسى أي وعليه فقد اشترك موسى ويونس ونبينا صلى الله عليه وسلم في صلاة العشاء
وفي الخصائص الكبرى خص صلى الله عليه وسلم بأنه أول من صلى العشاء ولم يصلها نبي قبله ومن لازمه انه لم يصلها أحد من الأمم وقد جاء التصريح به في بعض الروايات أنكم فضلتم بها أي العشاء على سائر آلام وعليه فهي من خصائصنا ومن خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم وقد تقدم عند بناء الكعبة أن جبريل صلى بإبراهيم صلى الله على نبينا وعليه وسلم الصلوات الخمس فليتأمل
قال قيل فرضت الصلوات في المعراج ركعتين ركعتين أي حتى المغرب ثم زيدت في صلاة الحضر فأكملت أربعا في الظهر أي في غير يوم الجمعة وأربعا في العصر والعشاء وثلاثا في المغرب وأقرت صلاة السفر على ركعتين أي حتى في المغرب
فعن عائشة رضي الله تعالى عنها فرضت صلاة الحضر والسفر ركعتين أي في الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء فلما أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أي بعد شهر وقيل وعشرة أيام من الهجرة زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان وتركت صلاة الفجر أي لم يزد عليها شيء لطول القراءة أي فإنها يطلب فيها زيادة القراءة على الظهر والعصر المطلوب فيهما قراءة طوال المفصل وصلاة المغرب أي تركت صلاة المغرب فلم يزد فيها ركعتان بل ركعة فصارت ثلاثة لأنها وتر النهار أي كما في الحديث فتعود عليه بركة الوترية أن الله وتر يحب الوتر والمراد أنها وتر عقب صلاة النهار وتركت صلاة السفر فلم يزد فيها شيء أي في غير المغرب هذا هو المفهوم من كلام عائشة رضي الله تعالى عنها وهو يفيد أن صلاة السفر استمرت على ركعتين أي في غير المغرب أي وحينئذ يلزم أن يكون القصر في الظهر والعصر والعشاء عزيمة لأرخصة ولا يحسن ذلك مع قوله تعالى { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة }
وفي كلام الحافظ ابن حجر المراد بقول عائشة فأقرت صلاة السفر باعتبار ما آل إليه الأمر من التخفيف أي لأنه لما استقر فرض الرباعية خفف منها أي في السفر
____________________
(2/150)
لأنه استقر أمرها بعد قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة بشهر أو بأربعين يوما ثم نزلت آية القصر فى ربيع الأول من السنة الثانية إلا أنها استمرت منذ فرضت فلا يلزم من ذلك أن القصر عزيمة
وقيل فرضت أى الصلوات الخمس فى المعراج أربعا إلا المغرب ففرضت ثلاثا وإلا الصبح ففرضت ركعتين أى وإلا صلاة الجمعة ففرضت ركعتين ثم قصرت لأربع فى السفر أى وهو المناسب لقوله تعالى { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } ومن ثم قال بعضهم إن هذا هو الذى يقتضيه ظاهر القرآن وكلام جمهور العلماء
ويمكن أن يكون المراد من كلام عائشة رضى الله تعالى عنها أنها فرضت ركعتين بتشهد ثم ركعتين بتشهد وسلام
وفيه أن هذا لا يأتى فى الصبح والمغرب وقال بعضهم ويبعد هذا الحمل ما روى عنها كان النبى صلى الله عليه وسلم يصلى أى الصلوات الخمس التى فرضت بالمعراج بمكة ركعتين ركعتين فلما قدم المدينة أى وأقام شهرا أو وعشرة أيام فرضت الصلاة أربعا أو ثلاثا وتركت الركعتان تماما أى تامة للمسافر
وعن يعلى بن أمية قال قلت لعمربن الخطاب { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم } وقد أمن الناس قال عمر عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته أى فصار سبب القصر مجرد السفر لا الخوف
وهذا قد يخالف ما فى الإتقان سأل قوم من بنى النجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله إنا نضرب فى الأرض فكيف نصلى فأنزل الله عز وجل { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } ثم انقطع الوحى فلما كان بعد ذلك غزا النبى صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر فقال المشركون لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم فقال قائل منهم إن لهم أخرى مثلها فى أثرها فأنزل الله عز وجل بين الصلاتين { إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا } إلى قوله { عذابا مهينا } فنزلت صلاة الخوف فتبين بهذا الحديث أن قوله { إن خفتم } شرط فيما بعده وهو صلاة الخوف إلا في صلاة القصر قال ابن جرير هذا تأويل فى الآية حسن لو لم يكن فى الآية إذا قال ابن الغرس يصح مع إذا على جعل الواو زائدة
____________________
(2/151)
قلت ويكون من اعتراض الشرط على الشرط وأحسن منه أن يجعل إذا زائدة بناء على قول من يجيز زيادتها هذا كلامه فليتأمل
وقيل فرضت أى الرباعية أربعا فى الحضر وركعتين فى السفر فعن عمررضى الله تعالى عنه صلاة السفر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان وصلاة الغد ركعتان غير قصر أى تامة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم أى وفيه بالنسبة لصلاة السفر ما تقدم
وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما فرضت فى الحضر أربعا وفى السفر ركعتين وفى الخوف ركعة أى وفيه فى صلاة السفر ما تقدم وقوله فى الخوف ركعة أى يصليها مع الإمام وينفرد بالأخرى وذلك فى صلاة عسفان حيث يحرم بالجميع ويسجد معه صف أول ويحرس الصف الثانى فإذا قاموا سجد من حرس ولحقه وسجد معه فى الركعة الثانية وحرس الآخرون فقد صلى كل صف مع الإمام ركعة فلا يقال إن فى كلام ابن عباس ما يفيد أن صلاة الفجر تقصر وفرض التشهد والصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم متأخر عن فرض الصلاة
فعن ابن مسعود كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد السلام على الله قبل عباده السلام على جبريل السلام على ميكائيل السلام على فلان أى من الملائكة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام وقال له بعض الصحابة كيف نصلى عليك إذا نحن صلينا عليك فى صلاتنا فقال قولوا اللهم صل على محمد إلى آخره ولم أقف على الوقت الذى فرض فيه التشهد والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم فيه ولا على أن قولهم السلام على الله إلى إخره هل كان واجبا أو مندوبا
قال بعضهم والحكمة فى جعل الصلوات فى اليوم والليلة خمسا أن الحواس لما كانت خمسة والمعاصى تقع بواسطتها كانت كذلك لتكون ما حية لما يقع فى اليوم والليلة من المعاصى أى بسبب تلك الحواس وقد أشار إلى ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله أرأيتم لو كان بباب أحدكم نهر يغتسل منه فى اليوم والليلة خمس مرا ت أكان ذلك يبقى من درنه شيئا قالوا لا قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا
قيل وجعلت مثنى وثلاث ورباع ليوافق أجنحة الملائكة كأنها جعلت أجنحة للشخص يطير بها إلى الله تعالى
____________________
(2/152)
وسئل ابن عباس رضى الله تعالى عنهما هل تجد الصلوات الخمس فى كتاب الله تعالى فقال نعم وتلا قوله تعالى { فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون } أراد بحين تمسون المغرب والعشاء وبحين تصبحون الفجر وبعشيا العصر وبحين تظهرون الظهر
وإطلاق التسبيح بمعنى الصلاة جاء فى قوله تعالى { فلولا أنه كان من المسبحين } قال القرطبى أى من المصلين وفى الكشاف عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما كل تسبيح فى القرآن فهو صلاة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب = باب عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل
من العرب ان يحموه ويناصروه على ما جاء به من الحق
أى لأنه صلى الله عليه وسلم أخفى رسالته ثلاث سنين ثم أعلن بها فى الرابعة على ما تقدم ودعا إلى الإسلام عشر سنين يوافى الموسم كل عام يتبع الحجاج فى منازلهم أى بمنى والموقف يسأل عن القبائل قبيلة قبيلة ويسأل عن منازلهم ويأتى إليهم في أسواق المواسم وهى عكاظ ومجنة وذو المجاز فقد تقدم أن العرب كانت إذا حجت تقيم بعكاظ شهر شوال ثم تجئ إلى سوق مجنة تقيم فيه عشرين يوما ثم تجئ سوق ذى المجاز فتقيم به إلى أيام الحج يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه
فعن جابر بن عبدالله رضى الله تعالى عنه قال كان النبى صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس فى الموقف ويقول ألا رجل يعرض على قومه فإن قريشا قد منعونى أن أبلغ كلام ربى وعن بعضهم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يهاجر إلى المدينة يطوف على الناس فى منازلهم أى بمنى يقول يا أيها الناس إن الله يأمركم أن تتركوا دين آبائكم فسألت من هذا الرجل فقيل أبو لهب يعنى عمه
وفى رواية عن أبى طارق رضى الله تعالى عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوق ذى المجاز يعرض نفسه على قبائل العرب يقول يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله
____________________
(2/153)
تفلحوا وخلفه له غديرتان أى ذؤابتان يرجمه بالحجارة حتى أدمى كعبه يقول يا أيها الناس لا تسمعوا منه فإنه كذاب فسألت عنه فقيل إنه غلام عبد المطلب فقلت ومن الرجل الذى يرجمه فقيل هو عمه عبد العزى يعنى أبا لهب
أى وفى السيرة الهشامية عن بعضهم قال إنى لغلام شاب مع أبى بمنى ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف فى منازل القبائل من العر ب فيقول يا بنى فلان إنى رسول الله إليكم يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد وأن تؤمنوا بى وتصدقونى وتمنعونى حتى أبين عن الله عز وجل ما بعثنى به قال وخلفه رجل أحول وضئ له غديرتان عليه حلة عذنية فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله قال ذلك الرجل يابنى فلان إن هذا الرجل إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم إلى ما جاء به من البدعة والضلالة فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه فقلت لأبى من هذا الرجل الذى يتبعه يرد عليه ما يقول قال هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب
وذكر ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم عرض نفسه على كندة وكلب أى إلى بطن منهم يقال لهم بنو عبد الله فقال لهم إن الله قد أحسن اسم أبيكم أى عبد الله أى فقد قال صلى الله عليه وسلم أحب الأسماء إلى الله عز وجل عبد الله وعبد الرحمن ثم عرض عليهم فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم وعرض على بنى حنيفة وبنى عامر بن صعصعة أى فقال له رجل منهم أرأيت إن نحن بإيعناك على أمرك ثم أظفرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك فقال الأمر إلى الله يضعه حيث شاء قال فقال له أنقاتل العرب دونك وفى رواية أنهدف نحورنا للعرب دونك أى نجعل نحورنا هدفا لنبلهم فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا لا حاجة لنا بأمرك وأبوا عليه فلما رجعت بنو عامر إلى منازلهم وكان فيهم شيخ أدركه السن حتى لا تقدر أن يوافى معهم الموسم فلما قدموا عليه سألهم عما كان فى موسمهم فقالوا جاءنا فتى من قريش أحد بنى عبد المطلب يزعم أنه بني يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا فوضع الشيخ يده على رأسه ثم قال يا بنى عامر هل لها من تلاف أى تدارك هل لها من مطلب والذى نفس فلان بيده ما يقولها أى ما يدعى البنوة كاذبا أحد من بنى إسمعيل قط وإنها لحق وإن رأيكم غاب عنكم
____________________
(2/154)
وذكر الواقدى أنه صلى الله عليه وسلم أتى بنى عبس أى وبنى سليم وغسان وبنى محارب أى وفزارة وبنى نضر ومرة وعذرة والحضارمة فيردون عليه صلى الله عليه وسلم أقبح الرد ويقولون أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك ولم يكن أحد من العرب أقبح ردا عليه من بنى حنيفة أى وهم أهل اليمامة قوم مسيلمة الكذاب وقيل لهم بنو حنيفة لأن أمهم قيل لها ذلك لحنف كان فى رجلها وثقيف أى ومن ثم جاء شر قبائل العرب بنو حنيفة وثقيف
أى ودفع صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر رضى الله تعالى عنه إلى مجلس من مجالس العرب فتقدم أبو بكر فسلم وقال ممن القوم قالوا من ربيعة قال وأى ربيعة من هامتها أو من لهازمها قالوا بل الهامة العظمى قال من أيها قالوا من ذهل الأكبر قال منكم حامى الذمار ومانع الجار فلان قالوا لا قال منكم قاتل الملوك وسالبها فلان قالوا لا قال منكم صاحب العمامة الفردة فلان قالوا لا قال فلستم من ذهل الأكبر أنتم ذهل الأصغر فقال إليه شاب حين بقل وجهه أى طلع شعر وجهه فقال له إن على سائلنا أن نسأله يا هذا إنك قد سألتنا فأخبرناك فممن الرجل فقال أبو بكر رضى الله تعالى عنه أنا من قريش فقال الفتى بخ بخ أهل الشرف والرياسة فمن أى قريش أنت قال من ولد تيم بن مرة فقال الفتى أمكنت أمنكم قصى الذى كان يدعى مجمعا قال لا قال فمنكم هاشم الذى هشم الثريد لقومه قال لا قال فمنكم شبية الحمد عبد المطلب مطعم طير السماء الذى كأن وجهه القمر يضئ فى الليلة الظلماء قال لا واجتذب أبو بكر رضى الله تعالى عنه زمام ناقته ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له على رضى الله تعالى عنه لقد وقعت من الأعرابى على باقعة أى داهية أى ذى دهاء وهو فى الأصل اسم لطائر حذر يطير يمنة ويسرة قال أجل أبا حسن مامن طامة إلا فوقها طامة والبلاء موكل بالمنطق أى واستفهام الفتى توبيخى لا حقيقى لأن من المعلوم أن من ذكر ليسوا من تيم لأن أبا بكر كما تقدم إنما يجتمع مع النبى صلى الله عليه وسلم فى مرة ومرة جد لقصى فكأنه يقول له إن قبيلتكم لم تشمل على هؤلاء الأشراف أى كما أن قبيلتنا لم تشتمل على أولئك الأشراف
وعن عبد الله بن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم لقى جماعة من
____________________
(2/155)
شيبان بن ثعلبة وكان معه أبو بكر وعلى رضى الله تعالى عنهما وأن أبا بكر سألهم ممن القوم فقالوا من شيبان بن ثعلبة فالتفت أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بأبى أنت وأمى هؤلاء غرر أى سادات فى قومهم وفيهم مفروق بن عمرو وهانئ بالهمز ابن قبيصة بفتح القاف ومثنى بن حارثة والنعمان بن شريك وكان مفروق بن عمرو قد غلبهم جمالا ولسانا له غديرتان أى ذؤابتان من شعر وكان أدنى القوم أى أقرب مجلسا من أبى بكر رضى الله تعالى عنه فقال له أبو بكر كيف العدد فيكم قال مفروق إنا لنزيد على الألف ولن تغلب الألف من قلة والذى قاله صلى الله عليه وسلم لن تغلب اثنا عشر ألفا من قلة قاله لما أراد أن يغزو هوزان وكان جيشه العدد المذكور كما سيأتى فقال أبو بكر رضى الله تعالى عنه كيف المنعة فيكم قال مفروق علينا الجهد أى بفتح الجيم وضمها أى الطاقة ولكل قوم جد بفتح الجيم أى حظ وسعادة أى علينا أن نجهد وليس علينا أن يكون لنا الظفر لأنه من عند الله يؤتيه من يشاء فقال أبو بكر رضى الله تعالى عنه فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم فقال الفرق إنا لأشد ما يكون غضبا حين نلقى وإنا لأشد ما يكون لقاء حين نغضب وأنا لنؤثر الجياد أى من الخيل على الأولاد والسلاح على اللقاح أى ذوات اللبن من الإبل المهملة أى ينصرنا مرة ويديل علينا مرة أى ينصر علينا أخرى لعلك أخو قريش فقال أبو بكر رضى الله تعالى عنه أو قد بلغكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها هوذا فقال مفروق بلغنا أنه يذكر ذلك فإلام تدعو يا أخا قريش فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنى رسول الله وإلى أن تؤوونى وتنصرونى فإن قريشا قد تظاهرت أى تعاونت على أمر الله وكذبت رسوله واستغنت بالباطل عن الحق والله هو الغنى الحميد قال مفروق وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون } قال مفروق ما هذا من كلام أهل الأرض ولو كان من كلامهم عرفناه ثم قال وإلام
____________________
(2/156)
تدعو أيضا يا أخا قريش فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون }
وهذه الآيه ذكر العز بن عبد السلام أنها اشتملت على جميع الأحكام الشرعية وبين ذلك فى سائر الأبواب الفقهية وضمن ذلك كتابا سماه الشجرة فقال مفروق دعوت والله إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ولقد أفك قوم أى صرفوا عن الحق كذبوك وظاهروا أى عاونوا عليك وكان مفروق أراد أن يشركه أى يشاركه فى الكلام هانئ بن قبيصة فقال هذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا فقال هانئ قد سمعنا مقالتك يا أخا قريش وإنى أرى أن تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك بمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر لزلة فى الرأى وقلة نظر فى العاقبة وإنما تكون الزلة مع العجلة ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقدا ولكن نرجع وترجع وننظر وتنظر وكأنه أحب أن يشركه فى الكلام المثنى بن حارثه فقال هذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا فقال المثنى قد سمعنا مقالتك يا أخا قريش والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة فى تركنا ديننا واتباعنا دينك بمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر وإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلى مياه العرب دون ما يلى أنهار كسرى فعلنا فإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثا وأن لا نؤوى محدثا وإنى أرى هذا الأمر الذى تدعونا إليه أنت هو مما تكرهه الملوك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسأتم فى الرد إذ أفصحتم بالصدق وإن دين الله عز وجل لن ينصره إلا من أحاط به من جميع جوانبه أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا ختى يورثكم الله أرضهم وأموالهم ويغرسكم نساءهم تسبحون الله وتقدسونه فقال النعمان بن شريك اللهم لك ذا فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا وبشر المؤمنين } ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم أى وهؤلاء لم أقف على إسلام أحد منهم إلا أن فى الصحابة شخصا يقال له المثنى بن حارثة الشيبانى وكان فارس قومه وسيدهم والمطاع فيهم ولعله هو هذا لقول هانئ بن قبيصة فيه إنه صاحب حربنا
ورأيت بعضهم ذكر أن النعمان بن شريك له وفادة فيكون من الصحابة أى وفى
____________________
(2/157)
أسد الغابة أن مفروق بن عمرو من الصحابة ونقل عن أبى نعيم أنه قال لا أعرف لمفروق إسلاما
ولما قدمت بكر بن وائل مكة للحج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكرائتهم فاعرضنى عليهم فأتاهم فعرض عليهم فقال لهم كيف العدد فيكم قالوا كثيرا مثل الثرى قال فكيف المنعة قالوا لا منعة جاورنا فارس فنحن لا نمنع منهم ولا نجير عليهم قال فتجعلون لله عليكم إن هو أبقاكم حتى تنزلوا منازلهم وتستنكحوا نساءهم وتستعبدوا أبناءهم أن تسبحوا الله ثلاثا وثلاثين وتحمدوه ثلاثا وثلاثين وتكبروه ثلاثا وثلاثين قالوا ومن أنت قال أنا رسول الله ثم مر بهم أبو لهب فقالوا له هل تعرف هذا الرجل قال نعم فأخبروه بما دعاهم إليه وأنه زعم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم لا ترفعوا بقوله رأسا فإنه مجنون يهذى من أم رأسه فقالوا لقد رأينا ذلك حيث ذكر من أمر فارس ما ذكر
وفى رواية أنه لما سألهم قالوا له حتى يجئ شيخنا حارثة فلما جاء قال إن بيننا وبينك من الفرس حربا فإذا فرغنا عما بيننا وبينهم عدنا فنظرنا فيما تقول فلما التقوا مع الفرس قال شيخهم ما اسم الرجل الذى دعاكم إليه قالوا محمد قال فهو شعاركم فنصروا على الفرس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بى نصروا أى نصروا بذكرهم اسمى
ولا زال صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل فى كل موسم ويقول لا أكره أحدا على شئ من رضى الذى أدعوه إليه فذلك ومن كره لم أكرهه إنما أريد منعى من القتل حتى أبلغ رسالات ربى فلم يقبله أحد من تلك القبائل ويقولون قوم الرجل أعلم به ترون أن رجلا يصلحنا وقد أفسد قومه
وعن ابن إسحاق لما أراد الله تعالى إظهار دينه وإعزاز نبيه صلى الله عليه وسلم وإنجاز موعده له خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الموسم
وفى سيرة مغلطاى ومستدرك الحاكم أن ذلك كان فى شهر رجب يعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع فى كل موسم فبينا هو عند العقبة التى تضاف إليها الجمرة فيقال جمرة العقبة أى وهى عند يسار الطريق لقاصد منى مكة وبها الآن مسجد يقال له مسجد البيعة إذ لقى بها رهطا من الخزرج أى لأن الأوس والخزرج كانوا يحجون
____________________
(2/158)
فيمن يحج من العرب أى والأوس فى الأصل أى اللغة العطية ويقال للذئب ويقال لرجل اللهو واللعب والخزرج فى الأصل الريح الباردة قيل هى الجنوب خاصة وكانوا ستة نفر وقيل ثمانية أراد الله تعالى بهم خيرا وقد عد الستة فى الأصل وبين الناس اختلاف فى ذكرهم فقال لهم من أنتم قالوا نفر من الخزرج فقال أمن موالى يهود أى من حلفاء يهود المدينة قريظة والنضير لأنهم تحالفوا معهم على التناصر والتعاضد على من سواهم وأن يأمن بعضهم من بعض وهذا كان فى أول أمرهم قبل أن تقوى شوكتهم على يهود قالوا نعم قال أفلا تجلسون أكلمكم قالوا بلى فجلسوا معه صلى الله عليه وسلم وفى لفظ وجدهم يحلقون رءوسهم فجلس إليهم فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام أى ورأوا أمارات الصدق عليه صلى الله عليه وسلم لائحة فقال بعضهم لبعض تعلمون والله أنه للنبى الذى يوعدكم به يهود فلا تسبقنكم إليه لأن يهود كانوا إذا وقع بينهم وبينهم شئ من الشر قالوا لهم سيبعث نبى قد أظل أى قرب زمانه نتبعه نقتلكم معه قتلة عاد وإرم أى كما تقدم فى أخبار الأحبار والمراد نستأصلكم بالقتل فلما دعاهم إلى الإسلام أجابوه وصدقوه وأسلموا وقالوا له إنا تركنا قومنا يعنون الأوس والخزرج بينهم من العداوة والشر مابينهم أى فإن الأوس والخزرج كانا أخوين لأب وأم فوقعت بينهما العداوة وتطاولت بينهما الحروب فمكثوا على المحاربة والمقاتلة أكثر من مائة سنة أى مائة وعشرين كما فى الكشاف فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك
أقول وفى رواية قالوا يا رسول الله إنما كانت بعاث أى بضم الموحدة ثم عين مهملة مخففة وفى آخره ثاء مثلثة وقيل بفتح الموحدة وبدل المهملة معجمة قيل وذكر المعجمة تصحيف فعن ابن دريد صحف الخليل بن أحمد يوم بغاث بالغين المعجمة وإنما هو بالمهملة وفى القاموس بالمهملة والمعجمة عام أول يوم من أيامنا اقتتلنا به ونحن كذلك لا يكون لنا عليك اجتماع حتى نرجع إلى غابرنا لعل الله أن يصلح ذات بيننا وندعوهم إلى ما دعوتنا فعسى الله أن يجمعهم عليك فإن اجتمعت كلمتهم عليك واتبعوك فلا أحد أعز منك وبعاث مكان قريب من المدينة على ليلتين منها عند بنى قريطة ويقال إنه حصن للأوس كان به القتال قبل قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة بخمس سنين بين الأوس
____________________
(2/159)
والخزرج وسيد الأوس ورئيسهم حينئذ حضير والد أسيد وبه قتل مع من قتل من قومه وكان النصر فيهم أولا للخروج ثم صار للأوس
وسبب القتل أنه كان من قاعدنهم أن الأصيل لا يقتل بالحليف فقتل رجل من الأوس أى وهو سويد بن الصامت رجلا حليفا للخزرج أى وهو ذياد والد المحذر بن ذياد وذياد بالذال المعجمة مكسورة ومفتوحة وتخفيف المثناة تحت والمحذر بالذال المعجمة مشددة مفتوحة فأرادوا أن يقتلوا سويدا فيه فأبى عليه الأوس وذلك لأن سويدا هذا كان تسميه قومه الكامل لشرفه ونسبه وشعره وجلده كان ابن خالة عبد المطلب لأن أمه أخت سلمى أم عبد المطلب وكان قدم مكة حاجا أو معتمرا فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به لأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يسمع بقادم قدم مكة من العرب له اسم وشرف إلا تصدى له ودعاه إلى الله تعالى فدعا سويدا إلى الله عز وجل وإلى الإسلام فقال له سويد لعل الذى معك مثل الذى معى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وما الذى معك قال حكمة لقمان فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اعرضها على فعرضها عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذا الكلام حسن والذى معى أفضلا من هذا قرآن أنزله الله على هو هدى ونور فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه وقال إن هذا القول حسن ثم انصرف وقدم المدينة فلم يلبث أن قتله الخزرج
وفى كلام بعضهم أنه آمن بالله ورسوله وسافر حتى دخل المدينة إلى قومه فشعروا بإيمانه فقتلته الخزرج بغتة وقيل القاتل له المحذر ولد ذياد الذى قتله سويد لأن سويدا كان قد شرب الخمر وجلس يبول وهو ممتلئ سكرا فضربه إنسان من الخزرج فخرج حتى أتى المحذر بن ذياد فقال هل لك فى الغنيمة الباردة قال ما هى قال سويد أعزل لأسلاح معه فخرج المحذر بالسيف مصلتا فلما أبصر سويدا قال له قد أمكن الله منك قال ما تريد منى قال قتلك فقتله فكان ذلك سبب الحرب بين الأوس والخزرج ببعاث فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسلم الحارث بن سويد والمحذر بن ذياد وشهدا بدرا فجعل الحارث بن سويد يطلب محذرا يقتله بأبيه فلم يقدر عليه حتى كان وقعة أحد قدر عليه فقتله غيلة كما سيأتى
وممن قتل فى هذه الحرب التى يقال لها بعاث شخص يقال له إياس بن معاذ قدم
____________________
(2/160)
مكة هو وشخص يقال له أبو الحيسر أنس بن رافع مع جماعة من قومهم يلتمسون الحلف من قريش على قومهم الخزرج فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس إليهم وقال لهم هل لكم فى خير مما جئتم له قالوا وما ذاك قال أنا رسول الله بعثنى للعباد وأدعوهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وأنزل على الكتاب ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن فقال إياس بن معاذ وكان صغيرا أى قوم والله خير مما جئنا إليه فأخذ أبو الحيسر حفنة من تراب فضرب بها وجه إياس وانتهره وقال له دعنا منك لقد جئنا لغير هذا فسكت إياس وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فلما دنا موت إياس صار يحمد الله ويسبحه ويهلله ويكبره حتى مات والله أعلم ثم انصرف أولئك الرهط من الخزرج راجعين إلى بلادهم
قال وفى رواية أنهم لما آمنو به صلى الله عليه وسلم وصدقوه قالوا له إنا نشير عليك أن تمكث على رسلك أى على حالك باسم الله حتى نرجع إلى قومنا فنذكر لهم شأنك وندعوهم إلى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم لعل الله يصلح ذا ت بينهم ونواعدك الموسم من العام المقبل فرضى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى أى فلم يقع لهؤلاء الستة أو الثمانية مبايعة ويسمى هذا ابتداء الإسلام للأنصار وربما سماه بعضهم العقبة الأولى فلما كان العام المقبل قدم من الأوس والخزرج اثنا عشر رجلا أى عشرة من الخزرج واثنان من الأوس وقيل كانوا أحد عشر رجلا منهم خمسة من الستة أو الثمانية الذين اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم عند العقبة أولا فاجتمع بهم صلى الله عليه وسلم عند العقبة أيضا فبايعهم أى عاهدهم صلى الله عليه وسلم أى وسميت المعاهدة مبايعة تشبيها بالمعاوضة المالية وتلا عليهم آية النساء أى الآية التى نزلت بعد ذلك فى شأن النساء يوم الفتح لما فرغ من مبايعة الرجال وأراد مبايعة النساء
فعن عبادة بن الصامت بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة النساء أى كبيعة النساء أى كمبايعة للنساء التى كانت يوم فتح مكة وهى على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزنى ولا نقتل أولادنا أى لأن قتل الأولاد كان سائغا فيهم وهو وأد البنات قيل والبنين خوف الإملاق
____________________
(2/161)
وفى النهر كان جمهور العرب لا يئدون بناتهم وكان بعض ربيعة ومضر يئدونهن وهو دفنهن أحياء فبعضهم يئد خوف العيلة والافتقار وبعضهم خوف السبى قال ولا نأتى بهتان أى الكذب الذى يبهت صاحبه سامعه نفتريه بين أيدينا وأرجلنا أى فى الحال والاستقبال قيل وغير ذلك ولا نعصيه فى معروف أى ما عرف من الشارع حسنه نهيا وأمرا
قال الحافظ ابن حجر المبايعة المذكورة فى حديث عبادة بن الصامت على الصفة المذكورة لم تقع ليلة العقبة وإنما نص بيعة العقبة ما ذكر ابن إسحاق وغيره عن أهل المغازى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لمن حضر من الأنصار أبايعكم على أن تمنعونى ما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم فبايعوه على ذلك وعلى أن يرحل إليهم هو صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثم ذكر جملة من الأحاديث وقال هذه أدلة صريحة فى أن هذه البيعة بعد نزول الآية بعد فتح مكة
أقول ليس فى كلام عبادة أن هذه البيعة بيعة العقبة إذ لم يقل بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة وإن كان السياق يقتضيه وحينئذ فلا يحسن أن يكون كلام عبادة شاهدا لمن قال وتلا عليهم آية النساء فلا يحسن التفريع المتقدم بل هو دليل على أن هذه المبايعة متأخرة عن يوم الفتح كما قال الحافظ والله أعلم
زاد بعضهم والسمع والطاعة فى اليسر والعسر والمنشط والمكره وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقول الحق حيث كنا لا نخاف فى الله لومة لائم ثم قال ومن وفى بالتخفيف والتشديد أى ثبت على العهد فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به فى الدنيا فهو أى العقاب طهرة له أو قال كفارة له
واستشكل بأن أبا هريرة روى أنه صلى الله عليه وسلم لا أدرى الحدود كفارة لأهلها أولا وإسلام أبى هريرة تأخر عن بيعة العقبة بسبع سنين كما سيأتى فإنه كان عام خيبر سنة سبع
ويجاب بأن هذه البيعة التى ذكرها عبادة ليست بيعة العقبة بل بيعة غيرها وقعت بعد فتح مكة كما علمت
وحينئذ يكون ما رواه أبو هريرة رضى الله تعالى عنه كان قبل أن يعلم صلى الله عليه وسلم ذلك ثم علمه أى أن الحدود كفارة قال صلى الله عليه وسلم ومن أصاب من
____________________
(2/162)
ذلك شيئا فستره الله عليه فأمره إلى عز وجل إن شاء غفر له وإن شاء عذبه أى وكون الحدود كفارة وطهرة مخصوص بغير الشرك فقتل المريد لا يكون كفارة وطهرة له لأن الله لا يغفر أن يشرك به
وفى رواية فإن رضيتم فلكم الجنة وإن غشيتم من ذلك شيئا فأصبتم بحد فى الدينا فهو كفارة لكم فى الدنيا وإن سترتم عليه فأمركم إلى الله وإن شاء عذب وإن شاء غفر أى وفى هذا رد على من قال بوجوب التعذيب لمن مات بلا توبة وعلى من قال بكفر مرتكب الكبيرة
فلما انصرفوا راجعين إلى بلادهم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم ابن أم مكتوم واسمها عاتكة واسمه عمرو وقيل عبدالله وهو ابن خال خديجة بنت خويلد أم المؤمنين رضى الله تعالى عنها
قال الشعبى غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة غزوة ما فيها غزوة إلا واستخلف ابن ام مكتوم على المدينة وكان يصلى بهم وليس له رواية ومصعب ابن عمير وضى الله تعالى عنهما يعلمان من أسلم منهم القرآن ويعلمانهم أى من أراد أن يسلم الإسلام ويفقهانهم فى الدين ويدعوان من لم يسلم منهم إلى الإسلام وهذا ما فى أكثر الروايات وهو يفيد أنه صلى الله عليه وسلم بعث بهما معا ويدل له ما روى عن البراء بن عازب رضى الله تعالى عنه أول من قدم علينا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم فجعلا يقرئان الناس القرآن أى وفى رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليهم مصعبا حين كتبوا إليه يبعث إليهم
وفى رواية ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن عفراء ورافع بن مالك رضى الله تعالى عنهما أن ابعث إلينا رجلا من قبلك يفقهنا ويدعو الناس بكتاب الله وفى رواية كتبوا إليه صلى الله عليه وسلم بذلك فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وكان يقال له المقرى وهو أول من تسمى بهذا الاسم وهذا يدل على أن مصعبا لم يكن معهم
أقول وقد يقال لا منافاة لأنه يجوز أن يكون كتبوا وأرسلوا إليه صلى الله عليه وسلم بذلك عند خروجهم من مكة وقبل أن ينصرفوا منها راجعين إلى المدينة والاقتصار على مصعب لا ينافى ما تقدم من ذكر ابن أم مكتوم معه
____________________
(2/163)
ثم رأيت ما يبعد الجمع الأول وهو عن ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بعثه يعنى مصعب بن عمير بعدهم وإنما كتبوا إليه إن الإسلام قد فشا فينا فابعث إلينا رجلا من أصحابك يقرئنا القرآن ويفقهنا فى الإسلام ويعلمنا بسنته وشرائعه ويؤمنا فى صلاتنا فبعث مصعب بن عمير وما يبعد الجمع الثانى وهو ما نقل عن الواقدى أن ابن أم مكتوم قدم المدينة بعد بدر بيسير وفى كلام ابن قتيبة وقدم ابن أم مكتوم المدينة مهاجرا بعد بدر بسنتين
وقد يقال لا منافاة لأنه يجوز أن يكون كل من مصعب بن عمير وابن أم مكتوم رجعا إلى مكة بعد محبيئهما مع القوم وأن مكاتبتهم بأن الإسلام فشا فينا إلى آخره كانت وهم بالمدينة فجاء إليهم مصعب وتخلف ابن أم مكتوم فليتأمل ذلك والله تعالى أعلم وهذه المبايعة يقال لها العقبة الأولى لوجود تلك المبايعة عندها
ولما قدم مصعب المدينة نزل على أبى أمامة أسعد بن زرارة رضى الله تعالى عنه دون بقية رفقته وكان سالم مولى أبى حذيفة رضى الله تعالى عنه يؤم المهاجرين بقباء قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مصعب يؤم القوم أى الأوس والخزرج لأن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض وجمع بهم أول جمعة جمعت فى الإسلام قبل قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة وقبل نزول سورة الجمعة الآمرة بها فإنها مدنية
وقال الشيخ أبو حامد فرضت الجمعة بمكة ولم يتمكن من فعلها قال الحافظ ابن حجر وهو غريب أى وعلى صحته فهو ما تقدم حكمه على تلاوته
وعند ابن إسحاق أن أول من جمع بهم أبو أمامة أسعد بن زرارة وكانوا أربعين رجلا أى فعن كعب بن مالك قال أول من جمع بنا فى المدينة أسعد بن زرارة قبل مقدم النبى صلى الله عليه وسلم فى نقيع الخضمان والنقيع بالنون قيل أو بالباء الموحدة لكن قال الخطابى إنه خطأ والخضمان جمع خضمة وهى الماشية التى تخضم أى تأكل بفمها كله مما فى ذلك المحل من الكلأ وهو اسم لقرية من قرى المدينة قال وكنا أربعين رجلا أى ولا مخالفة لأن مصعب بن عمير كان عند أبى أمامة أسعد بن زرارة كما علمت فكان هو المعاون على الجمع وكان الخطيب والمصلى مصعب بن عمير فنسب الجمع لكل منهما أى ويكون ما فى الرواية الآتية من أن أسعد بن زرارة هو الذى صلى بهم على التجوز أى جمعهم على الصلاة ويؤيده ما تقدم من أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض وأيضا المأمور بالتجميع مصعب بن عمير كما سياتى
____________________
(2/164)
قال السهيلى وتسميتهم أى الأنصار إياها بهذا الاسم أى تسميتهم اليوم بيوم الجمعة لاجتماعهم فيه هداية من الله تعالى لهم وإلا فكانت تسمى فى الجاهلية العروبة أى يسمى ذلك اليوم بيوم العروبة أى الرحمة وقال عليه الصلاة والسلام فى حق ذلك اليوم إنه اليوم الذى فرض عليهم أى على اليهود والنصارى أى طلب منهم تعظيمه والتفرغ للعبادة فيه كما فرض علينا أضلته اليهود والنصارى وهداكم الله تعالى له أى إن كلا من اليهود والنصارى أمر بذلك اليوم يعظمون فيه الحق سبحانه وتعالى يتفرغون فيه لعبادته واختار اليهود من قبل أنفسهم بدله السبت لأنهم يزعمون أنه اليوم السابع الذى استراح فيه الحق سبحانه وتعالى من خلق السموات والأرض وما فيهن من المخلوقات أى بناء على أن أول الأسبوع الأحد وأنه مبدأ الخلق قال بعضهم وهو الراجح
وفى كلام بعضهم أول الأسبوع الأحد لغة وأوله السبت عرفا أى فى عرف الفقهاء فى الإيمان ونحوها ويؤيد الأول أن السبت مأخوذ من السبات وهى الراحة قال تعالى { وجعلنا نومكم سباتا } أى راحة ظنا منهم أنه أولى بالتعظيم لهذه الفضيلة
واختارت النصارى من قبل أنفسهم بدل يوم الجمعة يوم الأحد أى بناء على أنه أول يوم ابتدأ الله فيه بإيجاد المخلوقات ظنا منهم أنه أولى بالتعظيم لهذه الفضيلة وحينئذ يكون معنى قوله أضلوه تركوه مع علمهم به ويؤيد ذلك ما جاء إن الله تعالى فرض على اليهود الجمعة فأبوا وقالوا ياموسى اجعل لنا يوم السبت فجعل عليهم وهدى الله تعالى المسلمين ليوم الجمعة أى وهداية المسلمين له تدل على أنهم لم يعلموا عينه وإنما اجتهدوا فيه فصادفوه
وفى سفر السعادة كان من عوائده الكريمة صلى الله عليه وسلم أن يعظم يوم الجمعة غاية التعظيم ويخصه بأنواع التشريف والتكريم
وجاء إن أهل الجنة يتباشرون في الجنة بيوم الجمعة كما تتباشر به أهل الدينا فى الدينا واسمه عندهم يوم المزيد كما تقدم لأن الله تعالى يتجلى عليهم فى ذلك اليوم ويعطيهم كل ما يتمنونه ويقول لهم لكم ما تمنيتم ولدينا مزيد فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم من الخير
وقد جاء فى المرفوع يوم الجمعة سيد الأيام وأعظمها عند الله تعالى فهو فى الأيام كشهر رمضان فى الشهور وساعة الإجابة فيه كليلة القدر فى رمضان
____________________
(2/165)
والذى فى البخارى ثم هذا أى يوم الجمعة يومهم الذى فرض عليهم أى على اليهود والنصارى فاختلفوا فيه فهدانا الله تعالى له فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد وقوله فاختلفوا فيه يدل على انهم لم يعلموا عينه ويوافقه ما نقل عن بعض أهل العلم أن اليهود أمروا بيوم من الأسبوع يعظمون الله تعالى فيه ويتفرغون لعبادته فاختاروا من قبل أنفسهم السبت فأكرموه فى شرعهم وكذلك النصارى أمروا على لسان عيسى بيوم الأسبوع فاختاروا من قبل أنفسهم الأحد فالتزموه شرعا لهم وهو يخالف ما سبق فليتأمل
قال بعضهم والراجح أن أول الأسبوع السبت لأنه أول يوم ابتدئ فيه بايجاد المخلوقات فقد جاء فى الصحيح إن الله خلق التربة يوم السبت والجبال يوم الأحد والشجر يوم الأثنين والمكروه يوم الثلاثاء والنور يوم الأربعاء كذا فى مسلم وعليه يشكل تسمية اليوم الذى يليه الأحد وأجيب بأنه من تسمية اليهود وتبعهم غيرهم
وقد ذكر السهيلى أن تسمية هذه الأيام طارئة ولو كان الله سبحانه وتعالى سماها فى القرآن بهذه الأسماء المشتقة من العدد لقلنا هى تسمية صادقة لكن لم يذكر منها إلا الجمعة والسبت وإنهما ليسا مشتقين من العدد هذا كلامه
ورد بأنه جاء إن الله تعالى خلق يوما فسماه الأحد ثم خلق ثانيا فسماه الاثنين ثم خلق ثالثا فسماه الثلاثاء ثم خلق رابعا فسماه الأربعاء ثم خلق خامسا فسماه الخميس
وأجاب ابن حجر الهيتمى بأن هذه أى التسمية المذكورة لم تثبت وأن العرب تسمى خامس الورد أربعاء هذا كلامه فيكون أول الأسبوع السبت
ثم رأيت السهيلى قال لم يسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأحد والاثنين إلى سائرها إلا حاكيا للغة قومه لا مبتدئا تسميتها ولعل قومه أن يكونوا أخذوا معانى هذه الأسماء من أهل الكتاب المجاورين لهم فألقوا عليها هذه الأسماء اتباعا لهم هذا كلامه فليتأمل
وفى السبعينات للهمدانى أكرم الله موسى عليه الصلاة والسلام بالسبت وعيسى بالأحد وداود بالاثنين وسليمان بالثلاثاء ويعقوب بالأربعاء وآدم بالخميس ومحمدا صلى الله عليه وسلم بالجمعة وهذا يدل على أن اليهود لم يختاروا يوم السبت والنصارى يوم الأحد من عند أنفسهم فليتأمل الجمع
____________________
(2/166)
وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن يوم السبت قال يوم مكر وخديعة أى وقع فيه المكر والخديعة أى لأنه اليوم الذى اجتمعت فيه قريش فى دار الندوة للاستشارة فى أمره صلى الله عليه وسلم وسئل عن يوم الأحد فقال يوم غرس وعمارة لأن الله تعالى ابتدأ فيه خلق الدنيا وعمارتها وفى رواية لأن الجنة بنيت فيه وغرست وسئل عن يوم الاثنين فقال يوم سفر وتجارة لأن فيه سافر شعيب فربح فى تجارته وسئل عن يوم الثلاثاء فقال يوم دم لأن فيه حاضت حواء وقتل ابن آدم أخاه
وذكر الهمدانى فى السبعيات أيضا أنه قتل فيه سبعة جرجيس وزكريا ويحيى ولده عليهم الصلاة والسلام وسحرة فرعون وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون وبقرة بنى إسرائيل وهابيل بن آدم وبين قصة كل واحد
أى ومن ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحجامة يوم الثلاثاء أشد النهى وقال فيه ساعة لا يرقأ فيها الدم وفيه نزل إبليس إلى الأرض وفيه خلفت جهنم وفيه سلط الله ملك الموت على أرواح بنى آدم وفيه ابتلى أيوب وفى بعض الروايات أن اليوم الذى ابتلى الله فيه أيوب يوم الأربعاء
وسئل عن يوم الأربعاء قال يوم نحس لأن فيه أغرق فرعون وقومه وأهلك فيه عاد وثمود وقوم صالح أى ومن ثم كان يسمى فى الجاهلية دبار والدبار الملهى لكن الذى فى الحديث الموقوف على ابن عباس الذى لا يقال من قبل الرأى آخر أربعاء فى الشهر يوم نحس مستمر وجاء يوم الأربعاء لا أخذ ولا عطاء
وذكر الزمخشرى أن بعضهم قال لأخيه اخرج معى في حاجة فقال هذا الأربعاء قال فيه ولد يونس قال لاجرم قد بانت له بركته أى حيث ابتلعه الحوت قال وفيه ولد يوسف قال فما أحسن ما فعل به إخوته طال حبسه وغربته قال وفيه نصر المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب قال أجل ولكن بعد أن زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر
وورد فى بعض الآثار النهى عن قص الأظفار يوم الأربعاء وأنه يورث البرص
وعن ابن الحاج صاحب المدخل أنه هم بقص أظفاره يوم الأربعاء فتذكر ذلك فترك ثم رأى أن قص الأظفار سنة حاضرة ولم يصح عنده النهى فقصها فلحقه البرص فرأى النبى صلى الله عليه وسلم فى النوم فقال له ألم تسمع نهى عن ذلك فقال
____________________
(2/167)
يا رسول الله لم يصح ذلك عندى فقال يكفيك أن تسمع ثم مسح صلى الله عليه وسلم بيده على بدنه فزال البرص جميعا قال ابن الحاج فجددت مع الله توبة أنى لا أخالف ما سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبدا
وجاء فى حديث أخرجه ابن ماجه عن ابن عمر مرفوعا وخرجه الحاكم من طريقين آخرين لا يبدو جذام ولا مرض إلا يوم الأربعاء وكره بعضهم عيادة المريض يوم الأربعاء
وفى منهاج الحليمى وشعب الإيمان للبيهقى إن الدعاء مستجاب يوم الأربعاء بعد الزوال قبل وقت العصر لأنه صلى الله عليه وسلم استجيب له الدعاء على الأحزاب فى ذلك اليوم فى ذلك الوقت وكان جابر يتحرى ذلك بالدعاء فى مهماته وذكر أنه ما بدئ بشئ يوم الأربعاء إلا وتم فينبغى البداءة بنحو التدريس فيه
وسئل عن يوم الخميس فقال يوم قضاء الحوائج لأن فيه دخل إبراهيم الخليل على ملك مصر فقضى حاجته وأعطاه هاجر ومن ثم زاد فى رواية والدخول على السلطان وسئل عن يوم الجمعة فقال يوم نكاح نكح فيه آدم حواء ويوسف زليخا وموسى بنت شعيب وسليمان بلقيس أى ونكح فيه صلى الله عليه وسلم خديجة وعائشة
وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أذن النبى صلى الله عليه وسلم لهم قبل الهجرة أى قبل أن يهاجر صلى الله عليه وسلم فى إقامة الجمعة أى فلم يفعلوها باجتهاد بل بإذنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى مصعب بن عمير رضى الله تعالى عنه أما بعد فانظر اليوم الذى تجهر فيه اليهود بالزبور لسبتهم أى اليوم الذى يليه يوم السبب فاجمعوا نساءكم وأبناءكم فإذا مال النهار عن شطره فتقربوا إلى الله بركعتين فجمع مصعب بن عمير عند الزوال أى صلى الجمعة حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أى استمر على ذلك حتى قدم النبى صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم عين لهم ذلك اليوم وهو خلاف قوله السابق فهداكم الله له الظاهر فى أن هدايتهم له باجتهاد منهم
ويدل له ما روى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما باسناد صحيح أن الأنصار قالوا إن لليهود يوما يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى مثل ذلك فهلم فلنجعل يوما نجتمع فيه فنذكر الله ونصلى ونشكره فجعلوه يوم العروبة أى لأنه اليوم الذى وقع
____________________
(2/168)
فيه خلق آدم الذى هو مبدأ هذا الجنس وجعل فيه فناء الخلق وانقضاءهم إذ فيه تقوم الساعة ففيه المبدء والمعاد إذ هو المروى عن ابن عباس يقتضى أن الأنصار اختاروه باجتهاد منهم إلا أن يقال لا مخالفة لأنه يجوز أن يكون هذا العزم على ذلك حصل منهم أولا ثم أرسلوا له صلى الله عليه وسلم يستأذنونه فى ذلك فأذن لهم فيه فقد جاء الوحى موافقة لما اختاروه
وفيه أنه لو كان كذلك لقال صلى الله عليه وسلم لمصعب بن عمير افعلوا ذلك ولم يقل له انظروا إلى اليوم إلى آخره إلا أن يقال يجوز أنهم لما استأذنوه صلى الله عليه وسلم فى الاجتماع لم يعينوا له اليوم فبينه صلى الله عليه وسلم لهم وتقدم عن الشيخ أبى حامد أن الجمعة أمر بها صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وتركها لعدم التمكن من فعلها تقدم عن الحافظ ابن حجر أنه غريب ويؤيده أنه لو كان أمر بها صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وتركها لعدم التمكن من فعلها لأمر بها مصعب بن عمير عند إرساله للمدينة ولم يأمره بها إلا بعد ذلك إلا أن يقال إنما لم يأمره بها حينئذ لأنه يجوز أن يكون إنما أمر بها بعد ذهاب مصعب إلى المدينة أو أنه إنما ألم يأمره بذلك لأن لإقامتها شروطا منها العدد وهو عند إمامنا الشافعى رضى الله تعالى عنه أربعون بشروط ولم يكن ذلك موجودا عند إرساله صلى الله عليه وسلم ومن ثم لما علم صلى الله عليه وسلم وجود العدد المذكور أرسل له يأمره بذلك فى قوله أما بعد فانظر اليوم الخ
ثم لا يخفى أن ظاهر سياق الروايات يدل على أن الذى هداهم الله إليه إنما هو إيقاع العبادة فى هذا اليوم لا تسميته بيوم الجمعة كما تقدم عن السهيلى على أن تسميتهم له بذلك لم أقف عليها فى رواية
على أن السهيلى ذكر عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم سماها يوم الجمعة لما أرسل لمصعب بن عمير أن يفعلها كما تقدم فى الإسراء وذكر أيضا أ كعب بن لؤى أول من سمى يوم العروبة الجمعة
وقد يقال لا مخالفة لأنه يجوز أن تكون الأنصار ومن معهم من المهاجرين لم يبلغهم ما ذكر عن كعب بن لؤى إن ثبت أنهم سموها بهذا الاسم اجتهادا منهم
وعن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبب تسمية هذا اليوم بيوم الجمعة فقال لأن فيها جمعت طينة أبيك آدم وقدمنا أنه لا مخالفة بين ما هنا وما تقدم فى الإسراء والله أعلم
____________________
(2/169)
وأسلم سعد بن معاذ وابن عمه أسيد بن حضير رضى الله تعالى عنهما على يد بن مصعب ابن عمير وكان إسلام أسيد قبل سعد فى يومه
فعن ابن إسحاق أن أسعد بن زرارة رضى الله تعالى عنه خرج بمصعب بن عمير إلى حائط أى بستان من حوائط بنى ظفر فجلسا فيه واجتمع إليهما رجال ممن أسلم وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير يؤمئذ سيدا قومهما أى بنى عبد الأشهل وكلاهما مشرك على دين قومه فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير لا أبالك انطلق بنا إلى هذين الرجلين يعنى أسعد بن زرارة ومصعب بن عمير اللذين أتيا دارينا تثنية دار وهى المحلة والمراد قبيلتنا وعشيرتنا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما وانههما أى وفى لفظ قال له ائت أسعد بن زرارة فازجره عنا فليكف عنا ما نكره فإنه بلغنى أنه قد جاء بهذا الرجل الغريب يسفه سفهاءنا وضعفاءنا فإنه لولا أسعد بن زرارة منى حيث علمت لكفيتك ذلك هو ابن خالتى ولا أجد عليه مقدما فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إليهما فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب بن عمير هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه ثم قال مصعب إن يجلس هذا كلمته قال فوقف عليهما متشمتا قال ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة وفى لفظ قال يا أسعد ما لنا ولك تأتينا بهذا الرجل الغريب تسفه به سفهاءنا وضعفاءنا
وفى رواية علام أتيتنا فى دورنا بهذا الرجل الوحيد الغريب الطريد يسفه ضعفاءنا بالباطل ويدعوهم إليه فقال له مصعب أو تجلس بفتح الواو استفهاما فتسمع بالنصب فى جواب الاستفهام فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته كف عنك ما تكره أى منعنا عنك ما تكره قال أنصفت ثم ركز حربته وجلس إليها فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن فقال ما أحسن هذا وأجمله بالنصب على التعجب كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا فى هذا الدين قالا له تغتسل وتتطهر وتغسل ثوبك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلى فقام واغتسل وطهر ثوبه وشهد بشهادة الحق ثم قام فركع ركعتين أى وهما صلاة التوبة
فقد روى أصحاب السنن وقال الترمذى حديث حسن أنه صلى الله عليه وسلم قال ما من عبد يذنب دنبا فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلى ركعتين ثم يستغفر الله عزوجل إلا غفر له ثم قال لهما إن ورائى رجلا أن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه
____________________
(2/170)
وسأرسله إليكما الآن وهو سعد بن معاذ رضى الله تعالى عنه ثم أخذ حربته فانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس فى ناديهم فلما نظر إليه سعد مقبلا قال أحلف بالله لقد جاءكم أسيدين بن حضير بغير الوجه الذى ذهب به من عندكم فلما وقف على النادى قال له سعد ما فعلت قال كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسا وقد نهيتهما فقالا نفعل ما أحببت وقد حدثت أن بنى حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك أى ينقضوا عهدك فقام سعد مغضبا مبادرا فأخذ الحربة من يده وقال والله ما أراك أغنيت شيئا ثم خرج إليهما ولما أقبل سعد قال أسعد لمصعب لقد جاءك والله سيد من وراءه من قومه إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان فلما رآهما سعد مطمئنين عرف سعد أن أسيدا إنما أراد منه أن يسمع منهما فوقف عليهما متشمتا ثم قال لأسعد بن زرارة يا أبا أمامة والله لولا ما بينى وبينك من القرابة ما رمت منى هذا هذا يغشانا فى دارنا بما نكره فقال له مصعب أو تقعد تسمع فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهت عزلنا عنك ما تكره فقال سعد أنصفت ثم ركز الحربة وجلس فعرض عليه الإسلام وعرض عليه القرآن فقال لهما كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم فى هذا الدين فقال تغتسل وتتطهر وتطهر ثوبك ثم تشهد شهادة الحق ثم تركع ركعتين فقام سعد فاغتسل وطهر ثوبه ثم شهد شهادة الحق ثم ركع ركعتين ثم أخذ حربته فأقبل عامدا إلى نادى قومه ومعه أى مع ذلك النادى أسيد بن حضير فلما رآه قومه مقبلا قالوا نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذى ذهب به من عندكم فلما وقف عليهم قال يا بنى عبد الأشهل كيف تعلمون أمرى فيكم قالوا سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا وأبركنا نقيبة أى نفسا وأمرا قال فإن كلام رجالكم ونسائكم على حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله قال فوالله ما أمسى فى دارى أى قبيلة بنى عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما ومسلمة فأسلموا فى يوم واحد كلهم وكان ذلك بعد العقبة الأولى وقبل العقبة الثانية إلا ما كان من الأصيرم وهو عمرو بن ثابت من بنى عبد الأشهل فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد فأسلم واستشهد ولم يسجد لله سجدة وأخبره صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة
أى وفى كلام ابن الجوزى أول دار أى قبيلة أسلمت من دور الأنصار دار بنى عبد الأشهل ثم رجع مصعب إلى دار أسعد بن زرارة رضى الله تعالى عنه فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا فيها رجال ونساء مسلمون إلا ما كان
____________________
(2/171)
من سكان عوالى المدينة أى قراها من جهة نجد قال وفى كلام بعضهم إلا جماعة من الأوس بن حارثة وذلك أنه كان فيهم أبو قيس وهو صيفى بن الأسلت وكان شاعرا لهم يسمعون منه ويطيعونه لأنه كان قوالا بالحق معظما وقد ترهب فى الجاهلية ولبس المسوح واغتسل من الجنابة ودخل بيتا له فاتخذه مسجدا وقال اعبد إله إبراهيم لا يدخل فيه حائض ولا جنب فوقف بهم عن الإسلام فلم يزل على ذلك حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومضى بدر واحد والخندق فاسلم وحسن إسلامه وهو شيخ كبير اه أى سبب تأخر إسلامه ما ذكره بعضهم أنه لما أراد الإسلام عند قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة لقيه أبى ابن سلول وكلمه بما أغضبه ونفره عن الإسلام وقال أبو قيس لا أتبعه إلا آخر الناس فلما احتضر أرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قل لا إله إلا بالله أشفع لك بها فقالها وهم ابنه أن ينكح امرأة أبيه أى على ما هو عادة الجاهلية أى وكان ذلك فى المدينة حتى فى أول الإسلام أن أكبر أولاد الرجل يخلفه على زوجته بعد موته فنزل التحريم أى قوله تعالى { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } وتقدم الكلام على سبب نزول هذه الآية مستوفى
ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة مع من خرج من المسلمين من الأنصار إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة أى وأخبر النبى صلى الله عليه وسلم بمن أسلم فسر بذلك
وعن كعب بن مالك قال خرجنا فى حجاج قومنا من المشركين ومعنا البراء بن معرور سيدنا وكبيرنا والبراء بالمد لغة آخر ليلة من الشهر سمى بذلك لأنه ولد فيها ومعرور معناه لغة مقصود فلما خرجنا من المدينة قال البراء لنا إنى قد رأيت رأيا ما أدرى أتوافقونى عليه أم لا قال قلنا وما ذاك قال رأيت أن لا أدع هذه البنية أى بفتح الموحدة وكسر النون وتشديد المثناة تحت المفتوحة ثم تاء التأنيث على وزن فعيلة يعنى الكعبة منى بظهر وأن أصلى إليها قال قلنا والله ما بلغنا أن نبينا صلى الله عليه وسلم يصلى إلا إلى الشام يعنون بيت المقدس أى صخرته وما نريد أن نخالفه قال فقال إنى أصلى إليها قال فقلنا له لكنا لا نفعل قال فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام يعنى بيت المقدس أى واستدبرنا الكعبة وصلى إلى الكعبة أى مستديرا للشام حتى قدمنا مكة وقد كنا عبنا عليه ذلك وأبى إلاقامة على ذلك فلما قدمنا مكة
____________________
(2/172)
قال لي يا ابن أخي انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسأله عما صنعت في سفري هذا فإنه والله لقد وقع في نفسي منه شيء لما رأيت من خلافكم إياي فيه قال فخرجنا نسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا لا نعرفه لأنا لم نره قبل ذلكن فلقينا رجلا من أهل مكة فسألناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تعرفانه قلنا لا قال فهل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه قلنا نعم وكنا نعرف العباس كان لا يزال يقدم علينا تاجرا قال فإذا دخلتما المسجد فإذا هو الرجل الجالس مع العباس فدخلنا المسجد فإذا العباس جالس ورسول الله صلى الله عليه وسلم معه فسلمنا حين جلسنا إليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل قال نعم هذا البراء بن معرور سيد قومه وهذا كعب ابن مالك قال كعب فوالله ما أنسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الشاعر قال نعم فقال له البراء بن معرور يا رسول الله إني خرجت في سفري هذا وقد هداني الله بالإسلام فرأيت أن لا أجعل هذه البنية منى بظهر يعني الكعبة فصليت إليها وخالفني أصحابي في ذلك حتى وقع في نفسي من ذلك شيء فماذا ترى يا رسول الله قال قد كنت على قبلة لو صبرت عليها فرجع البراء إلى قبلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بيت المقدس أي ولم يأمره بإعادة ما صلاه مع أنه كان مسلما وبين له أنه كان الواجب عليه استقبال بيت المقدس لأنه كان متأولا فليتأمل
وفي هذا تصريح بأنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا بمكة قبل الهجرة وبعدها يصلون إلى بيت المقدس قبل أن تحول القبلة وقد تقدم الوعد بذلك
قال كعب ثم خرجنا إلى الحج وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة أي إلى أن يوافوه في الشعب الأيمن إذا انحدروا من منى أسفل العقبة حيث المسجد اليوم أي الذي يقال له مسجد البيعة كما تقدم وأمرهم أن لا ينبهوا نائما ولا ينتظروا غائبا وذلك في ليلة اليوم الذي هو يوم النفر الأول قال فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لها وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا وكان من جملة المشركين أبو جابر عبد الله بن عمرو بن حرام بفتح الحاء والراء المهملتين سيد من ساداتنا فكلمناه وقلنا له يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا ثم دعوناه
____________________
(2/173)
إلى الإسلام فأسلم وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد معنا العقبة فمكثنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أي بعد هدءة يتسلل الرجل والرجلان تسلل القطا مستخفين حتى إذا اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن ثلاث وسبعون رجلا وامرأتان نسيبة بالتصغير وهي أم عمارة من بني النجار أي وكانت تشهد الحرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم هي وزوجها وابناها حبيب وعبد الله رضي الله تعالى عنهم وحبيب هذا اكتنفه مسيلمة الكذاب وصار يعذبه يقول له أتشهد أن محمدا رسول الله فيقول نعم ثم يقول وتشهد أني رسول الله فيقول لا فيقطع عضوا من أعضائه وهكذا حتى فنيت أعضاؤه ومات وسيأتي ما وقع لها رضي الله تعالى عنها في حرب مسيلمة وأم منيع أي وهذه الرواية لا تخالف رواية الحاكم حمسة وسبعون نفسا نعم تحالف قول ابن مسعود وهم سبعون رجلا يزيدون رجلا أو رجلين وامرأتان أي منهم أحد عشر رجلا من الأوس قال فلا زلنا ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم حتى جاءنا أي وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبقهم وانتظرهم
أقول وقد يقال لا مخالفة لأنه يجوز أن يكون سبقهم وانتظرهم فلما لم يجيئوا ذهب ثم جاءهم بعد مجيئهم والله أعلم ومعه عمه العباس بن عبد المطلب أي ليس معه غيره وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له
أقول وهذا لا يخالف ما جاء أنه كان معه أيضا أبو بكر وعلى لأن العباس أوقف عليا على فم الشعب عينا له وأوقف أبا بكر على فم الطريق الآخر عينا فلم يكن معه عندهم إلا العباس والله أعلم فلما جلسوا كان العباس أول من تكلم فقال يا معشر الخزرج أي قال ذلك لأن العرب كانت تطلق الخزرج على ما يشمل الأوس وكانت تغلب الخزرج على الأوس فيقولون الخزرجين إن محمدا منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فهو في عز من قومه ومنعة في بلده وقد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن تدعونه فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده فقال البراء بن معرور أنا
____________________
(2/174)
والله لو كان في أنفسنا غير ما ننطق به لقلناه ولكنا نريد الوفاء والصدق وبذل مهج أنفسنا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أي والبراء بن معرور هو اول من أوصى بثلث ماله
وفي رواية أن العباس قال قد أبي محمد الناس كلهم غيركم فإن كنتم أهل قوة وجلد وبصر بالحرب واستقلال بعداوة العرب قاطبة ترميكم عن قوس واحدة فأروا رايكم وائتمروا بينكم ولا تفرقوا إلا عن ملأ منكم واجتماع فإن أحسن الحديث أصدقه
أقول قول العباس قد أبى محمد الناس كلهم غيركم ربما يفيد أن الناس غير الأنصار وافقوه على مناصرته فأباهم ولا يساعد عليه ما تقدم ولولا التأكيد بلفظ كلهم لأمكن أن يراد بالناس قبيلة شيبان بن ثعلبة فإنهم كما تقدم قالوا له ننصرك بما يلي مياه العرب دون ما يلي مياه كسرى فأبى ذلك ويحتمل أن المراد بالناس الذين أباهم أهله وعشيرته والله أعلم
وعندما تكلم العباس بما ذكر قالوا له قد سمعنا مقالتك فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت وفي رواية خذ لنفسك ما شئت واشترط لربك ما شئت فقال النبي صلى الله عليه وسلم أشترط لربي عز وجل أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأبناءكم ونساءكم فقال ابن رواحة فإذا فعلنا فما لنا فقال صلى الله عليه وسلم لكم الجنة قالوا ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل
وفي رواية فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله عز وجل ورغب في الإسلام ثم قال أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم أي وفي رواية أنهم قالوا له يا رسول الله نبايعك قال تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل والنفقة في العسر واليسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة فاخذ البراء بن معرور بيده صلى الله عليه وسلم ثم قال نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع به أزرنا أي نساءنا وأنفسنا لأن العرب تكنى بالإزار عن المرأة وعن النفس فنحن والله أهل الحرب وأهل الحلقة أي السلاح ورثناها كابرا عن كابر وبينا البراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو الهيثم بن التيهان بتشديد المثناة تحت وتخفيفها نقبله على مصيبة المال وقتل
____________________
(2/175)
الأشراف فقال العباس اخفوا جرسكم أي صوتكم فإن علينا عيونا ثم قال أبو الهيثم يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال يعني اليهود حبالا أي عهودا وإنا قاطعوها فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال بل الدم الدم والهدم الهدم بفتح الدال وسكونها إهدار دم القتيل أي دمي دمكم أي تطلبون بدمي وأطلب بدمكم فدمي ودمكم واحد وفي لفظ بدل الدم اللدم وهو بالتحريك الحرم من القرابات أي حرمكم خرمكم تقول العرب اللدم اللدم إذا أرادت تأكيد المحالفة هدمي وخدمكم واحد أي وإذا أهدرتم الدم أهدرته وذمتي ذمتكم ورحلتي مع رحلتكم أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم أي وعند ذلك قال لهم العباس رضي الله تعالى عنه عليكم بما ذكرتم ذمة الله مع ذمتكم وعهد الله مع عهدكم في هذا الشهر الحرام والبلد الحرام يد الله فوق أيديكم لتجدن في نصرته ولتشدن من أزره قالوا جميعا نعم قال العباس اللهم إنك سامع شاهد وإن ابن أخي قد استرعاهم ذمته واستحفظهم نفسه اللهم كن لابن أخي عليهم شهيدا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجوا إلي منكم اثنى عشر نقيبا فلا يحدث أحد في نفسه أن يؤخذ غيره فإنما يختار لي جبريل أي لأنه عليه الصلاة والسلام حضر البيعة فلما تخيرهم أي وهم سعد بن عبادة وأسعد بن زرارة وسعد بن الربيع وسعد بن أبي خيثمة والمنذر بن عمرو وعبد الله بن رواحة والبراء بن معرور وأبو الهيثم بن التيهان وأسيد بن حضير وعبد الله بن عمرو بن حرام وعبادة بن الصامت ورافع بن مالك كل واحد على قبيلة رضي الله تعالى عنهم أجمعين وقال صلى الله عليه وسلم لأولئك النقباء أنتم كفلاء على غيركم ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم وأنا كفيل على قومي يعني المهاجرين
وقيل إن الذي تولى الكلام من الأنصار وشد العقدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أسعد بن زرارة أي وهو من اصغرهم فإنه أخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم وقال رويدا يا أهل يثرب إنا لن نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن إخراجه اليوم مفارقة لجميع العرب وقتل خياركم وإن تعطكم السيوف
____________________
(2/176)
فإما أنتم قوم تصبرون عليها إذا مستكم بقتل خياركم ومفارقة العرب كافة أي جميعا فخذوه وأجركم على الله تعالى وإما أنتم تحافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو عذر لكم عند الله عز وجل فقالوا يا أسعد أمط عنا يدك فوالله لا نذر أي نترك هذه البيعة ولا نستقيلها أي لا نطلب الإقالة منها
وقيل إن الذي تكلم مع الأنصار وشد العقدة العباس بن عبادة بن نضلة قال يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس أي على من حاربه منهم وإلا فهو صلى الله عليه وسلم لم يؤذن له في البداءة بالمحاربة إلا بعد أن هاجر إلى المدينة بمدة كما سيأتي وكان قبل ذلك مأمورا بالدعاء إلى الله تعالى والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل ثم ذكر ما تقدم عن أسعد بن زرارة أي ثم توافقوا على ذلك وقالوا يا رسول الله ما لنا بذلك إن نحن قضينا قال رضوان الله والجنة قالوا رضينا ابسط يدك فبسط يده صلى الله عليه وسلم فبايعوه أي وأول من بايعه صلى الله عليه وسلم البراء بن معرور وقيل أسعد بن زرارة وقيل أبو الهيثم بن التيهان ثم بايعه السبعون كلهم أي وبايعه المرأتان المذكورتان من غير مصافحة لأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يصافح الناس إنما كان يأخذ عليهن فإذا أحرزن قال اذهبن فقد بايعتكن كما سيأتي فكانت هذه البيعة على حرب الأسود والأحمر أي العرب والعجم فهؤلاء الثلاثة لم يتقدم عليهم أحد غيرهم وحينئذ تكون الأولية فيهم حقيقية وإضافية
أي ويقال إن أبا الهيثم قال أبايعك يا رسول الله على ما بايع عليه الاثنا عشر نقيبا من بني إسرائيل موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام وأن عبد الله بن رواحة قال أبايعك يا رسول الله على ما بايع عليه الاثنا عشر من الحواريين عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام وقال أسعد بن زرارة أبايع الله عز وجل يا رسول الله فأبايعك على أن أتم عهدي بوفائي واصدق قولي بفعلي في نصرك وقال النعمان بن حارثة أبايع الله عز وجل يا رسول الله وأبايعك على الإقدام في أمر الله عز وجل لا أرأف فيه القريب ولا البعيد أي لا أعامل فيه بالرأفة والرحمة وقال عبادة بن الصامت ابايعك يا رسول الله على أن لا تأخذني في الله لومة لائم وقال سعد بن الربيع أبايع الله وأبايعك يا رسول الله على أن
____________________
(2/177)
لا أعصى لكما أمرا ولا أكذبكما حديثا فلما انتهت البيعة وهذه البيعة يقال لها العقبة الثانية ولما وقعت صرخ الشيطان من رأس العقبة بأشد صوت وأبعده يا أهل الجباجب أي بجيمين الأولى مفتوحة والثانية مكسورة وبعد كل جيم باء موحدة وهي منازل منى وفي الهدى يا أهل الأخاشب هل لكم في مذمم والصباة معه يعني بمذمم النبي صلى الله عليه وسلم لأن قريشا كانت تقول بدل محمد صلى الله عليه وسلم مذمم ويعني بالصباة أصحابه الذين بايعوه لأنهم كانوا يقولون لمن أسلم صابيء لأن الصابىء من خرج من دين إلى دين وقد جاء ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم يسبون مذمما وأنا محمد فإنهم قد أجمعوا أي عزموا على حربكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا إزب العقبة أسمع أي عدو الله أما والله لا أفزعن وإزب بكسر الهمزة وإسكان الزاي ثم بالباء الموحدة الخفيفة وقيل بفتح الهمزة وفتح الزاي وتشديد الموحدة أي شيطان سمي بهذا الاسم المركب من المضاف والمضاف إليه عامرها والإزب في الأصل القصير ومن ثم رأى عبد الله بن الزبير رجلا طوله شبران على برذعة رحله فقال له ما أنت قال إزب قال وما إزب قال رجل من الجن فضربه على رأسه بعود سوطه فهرب
وعند ذلك قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ارفضوا وفي لفظ انفضوا إلى رحالكم
أقول وفي رواية لما بايع الأنصار بالعقبة صاح الشيطان من راس الجبل يا معشر قريش هذه بنو الاوس والخزرج تحالف على قتالكم ففزعوا أي الأنصار عند ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يروعكم هذا الصوت فإنما هو عدو الله إبليس وليس يسمعه أحد مما تخافون ولا مانع من اجتماع صراخ إزب العقبة وصراخ إبليس الذي هو أبو الجن ويجوز أن يكون المراد بعدو الله إبليس إزب العقبة لأنه من الأبالسة وإنه أتى باللفظين معا وقد حضر البيعة جبريل كما تقدم
فعن حارثة بن النعمان رضي الله تعالى عنه لما فرغوا من المبايعة قلت يا نبي الله لقد رأيت رجلا عليه ثياب بيض انكرته قائما على يمينك قال وقد رأيته قلت نعم قال ذاك جبريل والله أعلم
____________________
(2/178)
ثم إن الحديث نما سمع المشركون من قريش بذلك أي وفي كتاب الشريعة أن الشيطان لما نادى بما ذكر شبه صوته بصوت منبه بن الحجاج فنال عمرو بن العاص ما نال أبو جهل قال عمرو ذهبت أنا وهو إلى عتبة بن ربيعة فأخبره بصوت منبه بن الحجاج فلم يرعه ما راعنا وقال هل أتاكم فأخبركم بهذا منبه قلنا لا فقال لعله إبليس الكذاب الحديث وفيه طول وأمور مستغربة
ولا ينافي سماع عمرو وأبي جهل صوت إبليس قوله صلى الله عليه وسلم ليس يسمعه أحد مما تخافون لأن سماعهم لم يحصل منه خوف لهم وعند فشو الخبر جاء أجلتهم وأشرافهم حتى دخلوا شعب الأنصار فقالوا يا معشر الأوس والخزرج وفي رواية يا معشر الخزرج أي بالتغليب بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا هذا لتخرجوه من بين أظهرنا وتبايعوه على حربنا والله ما من حي أبغض إلينا أن نشب الحرب بيننا وبينه منكم فصار مشركو الأوس والخزرج يحلفون لهم ما كان من هذا شيء وما علمناه أي حتى إن أبي ابن سلول جعل يقول هذا باطل وما كان هذا وما كان قومي ليفتاتوا علي بمثل هذا لو كنت بيثرب ما صنع هذا قومي حتى يؤامروني وصدقوا لأنهم لم يعلموه كما علم مما تقدم كما علم مما تقدم أي ونفر الناس من مني وبحثت قريش عن خبر الأنصار فوجدوه حقا فلما تحققوا الخبر اقتفوا آثارهم فلم يدركوا إلا سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو فاما سعد فأمسك وعذب في الله وأما المنذر فأفلت ثم أنقذ الله سعدا من أيدي المشركين قال نقل عنه أنه قال لما ظفروا بي ربطوا يدي في عنقي فلا زالوا يلطموني على وجهي ويحذبوني بجمتي أي وكان ذا شعر كثير حتى أدخلوني مكة فأومأ إلي رجل أي وهو أبو البختري بن هشام مات كافرا وقال ويحك ما بينك وبين أحد من قريش جوار ولا عهد قال بلى قد كنت أجير لجبير بن مطعم تجارة وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي وللحارث بن حرب بن أمية أي وهو أخو أبي سفيان والأول أسلم بعد الحديبية والثاني لا يعلم له إسلام فقال ويحك فاهتف باسم الرجلين ففعلت فخرج ذلك الرجل إليهما فوجدهما في المسجد فقال لهما إن رجلا من الخزرج يضرب بالأبطح يهتف باسمكما فقالا من هو قال يقول إنه سعد بن عبادة فجاءا فخلصاني من أيديهم أه
وعن سعد بينا أنا مع القوم أضرب إذ طلع علي رجل أبيض وضيء شعشاع أي طويل زائد الحسن حلو من الرجال فقلت في نفسي إن يكن عند أحد من القوم خير
____________________
(2/179)
فعند هذا فلما دنا مني رفع يديه ولكمني لكمة شديدة فقلت في نفسي والله ما عندهم بعد هذا خير أي وهذا الرجل سهيل بن عمرو رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك
فلما قدم الأنصار المدينة أظهروا الإسلام أي إظهارا كليا وتجاهروا وإلا فقد تقدم أن الإسلام فشافيهم قبل قدومهم لهذه البيعة وكان عمرو بن الجموح وهو من سادات بني سلمة بكسر اللام وأشرافهم ولم يكن أسلم وكان ممن أسلم ولده معاذ بن عمرو وكان لعمرو في داره صنم أي من خشب يقال له المناة لأن الدماء كانت تمني أي تصب عنده تقربا إليه وكان يعظمه فكان فتيان قومه ممن أسلم كمعاذ بن جبل وولده عمرو بن معاذ ومعاذ بن عمرو يدلجون بالليل على ذلك الصنم فيطرحونه أي ولعله بعد إخراجه من داره في بعض الحفر التي فيها خرء الناس منكسا فإذا أصبح عمرو قال ويحكم من عدا على إلهنا هذه الليلة ثم يعود يلتمسه حتى إذا وجده غسله فإذا أمسى عدوا عليه وفعلوا به مثل ذلك إلى أن غسله وطيبه وحماه بسيف علقه في عنقه ثم قال له ما أعلم من يصنع بك فإن كان فيك خير فامتنع فهذا السيف معك فلما أمسى عدوا عليه وأخذوا السيف من عنقه ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه به بحبل ثم القوه في بئر من آباء بني سلمة فيها خرء الناس فلما أصبح عمرو عدا إليه فلم يجده ثم تطلبه إلى أن وجده في تلك البئر فلما رآه كذلك رجع إلى عقله وكلمه من أسلم من قومه فأسلم وحسن إسلأمه وأنشد أبياتا منها ** والله لو كنت إلها لم تكن ** ** أنت وكلب وسط بئر في قرن **
وأمر صلى الله عليه وسلم من كان معه من المسلمين بالهجرة إلى المدينة أي لأن قريشا لما علمت أنه صلى الله عليه وسلم آوى أي استند إلى قوم أهل حرب وتحمل ضيقوا على أصحابه ونالوا منهم ما لم يكونوا ينالونه من الشتم والأذى وجعل البلاء يشتد عليهم وصاروا ما بين مفتون في دينه وبين معذب في أيديهم وبين هارب في البلاد شكوا إليه صلى الله عليه وسلم واستأذنوه في الهجرة أي فمكث أياما لا يأذن لهم ثم قال لهم أريت دار هجرتكم أريت سبخة ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان ولو كانت السراة أرض نخل وسباخ لقلت هى هى والسراة بفتح السين أعظم جبال بلاد العرب ثم خرج إليهم مسرورا فقال قد أخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب فأذن لهم وقال من اراد أن يخرج فليخرج إليها فخرجوا إليها أرسالا أي متتابعين يخفون ذلك أي وفي
____________________
(2/180)
رواية أريت في المنام أنى هاجرت من مكة إلى أرض بها نخل فذهب وهلى أي وهمي إلى أنها اليمامة أو هجر فإذا هي المدينة يثرب
وفي الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله أوحى إلي أي هؤلاء الثلاثة نزلت هي دار هجرتك المدينة أو البحرين أو قنسرين قال الترمذي هذا حديث غريب وزاد الحاكم فاختار المدينة
أقول فيه أن هذا السياق المتقدم يدل على أن استئذانهم في الهجرة عبارة عن خروجهم من مكة لا لخصوص المدينة وأن عدم إذنه صلى الله عليه وسلم لهم في الهجرة لعدم تعيين المحل الذي يهاجرون إليه له صلى الله عليه وسلم وكل ذلك لا يناسب ما تقدم في حديث المعراج من قول جبريل له صليت بطيبه وإليها المهاجرة
وقد يجاب بانه يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم أنسى قول جبريل المذكور حينئذ ثم تذكره بعد ذلك في قوله قد أخبرت بدار هجرتكم إلى آخره
وفيه أن هذا لا يحسن بعد مبايعته صلى الله عليه وسلم للأوس والخزرج على مناصرته ومحاربة عدوه مع علمه بأن وطنه المدينة وكونهم يباعيونه على مناصرته مع كونه ساكنا في البحرين أو قنسرين في غاية البعد
على أنه سيأتي في غزوة بدر أنه صلى الله عليه وسلم خشى أن الأنصار لا ترى مناصرته إلا في المدينة أي فإن في بعض الروايات وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم بيثرب والله أعلم
وقبل الهجرة آخى صلى الله عليه وسلم بين المسلمين أي المهاجرين على الحق والمواساة فآخى بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وآخى بين حمزة وزيد بن حارثة وبين عثمان وعبد الرحمن بن عوف وبين الزبير وابن مسعود وبين عبادة بن الحارث وبلال وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وفاص وبين أبي عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة وبين سعيد بن زيد وطلحة بن عبيد الله وبين علي ونفسه صلى الله عليه وسلم وقال أما ترضى أن أكون أخاك قال بلى يا رسول الله رضيت الله تعالى عنه قال فأنت أخي في الدنيا والآخرة قال وأنكر العباس بن تيمية المؤاخاة بين المهاجرين سيما مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله تعالى عنه قال لأن المؤاخاة بين
____________________
(2/181)
المهاجرين والأنصار إنما جعلت ليرتفق بعضهم ببعض ولتألف قلوب بعضهم ببعض فلا معنى لمؤاخاة مهاجري لمهاجري
قال الحافظ ابن حجر هذا رد للنص بالقياس وبعض المهاجرين كان أقوى من بعض بالمال والعشيرة فآخى بين الأعلى والأدنى ليرتفق وليستعين الأدنى والأعلى وليستعين الأعلى بالادنى ولهذا تظهر مؤاخاته صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم لعلي رضي الله تعالى عنه كان هو الذي يقوم بأمره قبل البعثة
وفي الصحيح في عمرة القضاء أن زيد بن حارثة قال إن بنت حمزة بنت أخي أي بسبب المؤاخاة اه وكان أول من هاجر منهم إليها أي لامعهم أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي هو أخوه من الرضاع وابن عمته وهو أول من يدعى للحساب اليسير كما تقدم فإنه لما قدم من الحبشة لمكة آذاه اهلها وأراد الرجوع إلى الحبشة فلما بلغه إسلام من أسلم من الانصار أي الاثني عشر الذين بايعوا البيعة الأولى خرج إليهم وقدم المدينة بكرة النهار ولما عزم على الرحيل رحل بعيره وحمل عليه أم سلمة وابنها سلمة في حجرها وخرج يقود البعير رآه رجال من قوم أم سلمة فقاموا إليه وقالوا يا أبا سلمة قد غلبتنا على نفسك فصاحبتنا هذه علام نتركك تسير بها في البلاد ثم نزعوا خطام البعير منه فجاء رجال من قوم أبي سلمة وقالوا إن ابننا معها إذا نزعتموها من صاحبنا ننزع ولدنا منها ثم تجاذبوه حتى خلعوا يده وأخذه قوم أبيه ففرق بينها وبين زوجها وولدها فكانت تخرج كل غداة بالأبطح فتبكي حتى المساء مدة سنة فمر بها رجل من بني عمها فرأى ما بها فرحمها وقال لقومها أما ترحمون هذه المسكينة فرقتم بينها وبين ولدها وزوجها فقالوا لها الحقي بزوجك فلما بلغ ذلك قوم أبي سلمة ردوا عليها ولدها فارتحلت بعيرا وجعلت ولدها في حجرها وخرجت تريد المدينة وما معها أحد من خلق الله تعالى حتى إذا كانت بالتنعيم لقيها عثمان بن طلحة أي الحجبي صاحب مفتاح الكعبة وكان عثمان بن طلحة يومئذ مشركا ثم أسلم رضي الله تعالى عنه في هدنة الحديبية وهاجر مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص كما سيأتي فتبعها إلى المدينة حتى إذا وافى على قباء قال لها هذا زوجك هنا ثم انصرف وهي أول ظغينة دخلت من المهاجرين المدينة رضي الله تعالى عنها وكانت أم سلمة تقول ما رأيت صاحبا أكرم من عثمان بن طلحة قال وقال ابن إسحاق وابن سعد ثم كان أول من قدمها بعد أبي سلمة عامر بن
____________________
(2/182)
ربيعة ومعه امرأته ليلى بنت أبي حثمة بالحاء المهملة المفوحة وسكون الثاء المثلثة وهي أول ظعينة قدمت المدينة اه
أقول فأم سلمة أول ظعينة قدمت المدينة لا مع زوجها وليلى أول ظعينة قدمت المدينة مع زوجها فلا منافاة
وفي كلام ابن الجوزي أول من هاجر إلى المدينة من النساء أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط والله أعلم
قال بينت أي أم سلمة ما تقدم عنها في حق عثمان بن طلحة بقولها فإنه لما رآني قال إلى أين قلت إلى زوجي قال أو ما معك أحد قلت لا ما معي إلا الله وابني هذا فقال والله لا أتركك ثم أخذ بخطام البعير وسار معي فكان إذا وصلنا المنزل أناخ بي ثم استأخر فإذا نزلت جاء وأخذ بعيري فحط عنه ثم قيده في الشجرة ثم أتى إلى شجرة فاضطجع تحتها فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فرحله وقدمه ثم استأخر عني وقال اركبي فإذا ركبت أخذ بخطأمه فقادني اه
أي وقد قال فقهاؤنا من الصغائر مسافرة المرأة بغير زوج ولا محرم ولا امرأة ثقة في غير الهجرة وفرض الحج والعمرة أما في ذلك فيجوز حيث أمنت الطريق
وقلنا لا معهم لا ينافى أن أول من قدم المدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير لأن قدومه كان معهم على ما تقدم أو يقال أبو سلمة أول من قدم المدينة بوازع طبعه وأما مصعب فكان بإرسال منه صلى الله عليه وسلم ثم رأيت في السيرة الهشامية أول من هاجر إلى المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليهن وسلم من بني مخزوم أبو سلمة وعليه فلا إشكال ثم جاء عمار وبلال وسعد
وفي رواية ثم قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إرسالا بعد العقبة الثانية فنزلوا على الأنصار في دورهم فأووهم وواسوهم ثم قدم المدينة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وعياش بن أبي ربيعة في عشرين راكبا وكان هشام بن العاص واعد عمر بن الخطاب أن يهاجر معه وقال تجدني أو أجدك عند محل كذا فتفطن بهشام قومه فحبسوه عن الهجرة
وعن علي رضي الله تعالى عنه الله قال ما علمت أحدا من المهاجرين هاجر إلا مختفيا
____________________
(2/183)
إلا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فإنه لما هم بالهجرة تقلد بسيفه وتنكب قوسه وانتضى في يديه أسهما واختصر عنزته أي وهي الحربة الصغيرة علقها عند خاصرته ومضى قبل الكعبة والملأ من قريش بفنائها فطاف بالبيت سبعا ثم أتى المقام فصلى ركعتين ثم وقف على الحلق واحدة واحدة فقال شاهت الوجوه لا يرغم الله إلا هذه المعاطس أي الأنوف من أراد أن تثكله أمه أي تفقده او يوتم ولده أو ترمل زوجته فليلقنى وراء هذا الوادي قال علي رضي الله تعالى عنه فما تبعه أحد ثم مضى لوجهه ثم إن أبا جهل وأخاه شقيقه الحارث بن هشام رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك يوم الفتح قدما المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة لم يهاجر فكلما عباس بن أبي ربيعة وكان أخاهما لأمهما وابن عمهما كان أصغر ولد أمه وأخبراه أن أمه قد نذرت أن لا تغسل رأسها وفي لفظ ولا يمس رأسها مشط ولا تستظل من شمس حتى تراه أي وفي لفظ أن لا تاكل ولا تشرب ولا تدخل مسكنا حتى يرجع إليها وقالا له وأنت أحب ولد أمك إليها وأنت في دين منه بر الوالدين فارجع إلى مكة فاعبد ربك كما تعبده بالمدينة فرقت نفسه وصدقهما أي واخذ عليهما المواثيق أن لا يغشياه بسوء وقال له عمر إن يريدا إلا فتنتك عن دينك فاحذرهما والله لو آذى أمك القمل امتشطت ولو اشتد عليها حر مكة لاستظلت فقال عياش أبر امي ولي مال هناك آخذه فقال عمر خذ نصف مالي ولا تذهب معهما فأبى إلا ذلك فقال له عمر فحيث صممت فخذ ناقتي هذه فإنها نجيبة ذلول فالزم ظهرها فإن رابك منهما ريب فانج عليها فأبى ذلك وخرج راجعا معهما إلى مكة فلما خرجا من المدينة كتفاه بتخفيف التاء أي شدا يديه إلى خلف بالكتاف في الطريق أي وفي السيرة الهشامية أنه أخذ الناقة وخرج عليها معهما حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل يا أخي والله لقد استغلظت بعيري هذا أفلا تعقبني على ناقتك هذه قال بلى قال فاناخ وأناخ ليتحول عليها فلما استووا بالأرض عدوا عليه وأوثقاء رباطا ودخلا به مكة نهارا موثقا وقالا يا أهل مكة هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفهائنا وفي لفظ بسفيهنا فجلس بمكة مع هشام بن العاص فإنه كما تقدم منه وحبس عن الهجرة وجعل كل في قيد
وفي لفظ أنهما لما ذكرا له أن أمه حلفت أن لا يظلها سقف بيت حتى تراه وأعطياه موثقا أن لا يمنعاه وان يخليا سبيله بعد أن تراه أمه فانطلق معهما حتى إذا خرجا من
____________________
(2/184)
المدينة عمدا إليه فشداه وثاقا وجلداه نحوا من مائة جلدة وكان أعانهما عليه رجل من بني كنانة أي يقال له الحارث بن يزيد القرشي وفي كلام ابن عبد البر أنه كان ممن يعذبه بمكة مع أبي جهل
وفي الينبوع جلده كل واحد منهما مائة جلدة وأنه لما جيء به إلى مكة ألقي في الشمس وحلفت أمه أنه لا يحل عنه حتى يرجع عن دينه ففتن قيل وكان ذلك سبب نزول قوله تعالى { ووصينا الإنسان بوالديه } الآية
وفيه أنه نقدم أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص إلا أن يقال يجوز أن يكون مما تكرر نزوله فتكون نزلت فيهما وحلف عياش ليقتلن ذلك الرجل إن قدر عليه قيل ولم يزل عياش محبوسا حتى فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فخرج عياش فلقي ذلك الرجل الكناني وكان قد أسلم وعياش لا يعلم بإسلأمه فقتله وأعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فأنزل الله تعالى { وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ } فقرأها النبي صلى الله عليه وسلم وقال لعياش قم فحرر أي أعتق رقبة وما ذكر من أن عياشا استمر محبوسا إلى الفتح يخالف قول بعضهم مكث صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة كما سيأتي أربعين صباحا يقنت في صلاة الصبح بعد الركوع أي من الركعة الاخيرة وكان يقول في قنوته اللهم أنج الوليد بن الوليد وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص والمستضعفين من المؤمنين بمكة الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فإن هذا يدل على أن هشام ابن العاص وعياش بن أبي ربيعة لم يفتتنا ولم يرجعا عن الإسلام وفي السيرة الهشامية ما يفيد أنهما فتنا الأول صريحا والثاني ظاهرا
وفي السيرة الهشامية التصريح بافتتانهما وفيه نظر لما ذكر ولأنهما لو كان فتنا لأطلقا من الحبس والقيد وإدامة ذلك إلا أن يقال فعل بهما ذلك بعدم الوثوق برجوعهما عن الإسلام ومما يدل على أن رجوعهما عن الإسلام إن صح إنما كان ظاهرا فقط دعاؤه صلى الله عليه وسلم لهما
أي وسيأتي أن الوليد كان سببا لتخليص عياش بن أبي ربيعة وهشام بن أبي العاص بعد أن تخلص من الحبس وهاجر إلى المدينة فإن الوليد كان أسر ببدر ثم افتداه أخوه خالد وهشام ابنا الوليد بن المغيرة وذهبا به إلى مكة فأسلم وأراد الهجرة فحبساه بمكة وقيل له هلا أسلمت قبل أن تفدي قال كرهت أن يظن في أني جزعت من الأسر ثم نجا وتوصل
____________________
(2/185)
إلى المدينة ورجع إلى مكة مستخفيا وخلص عياشا وهشاما وجاء بهما إلى المدينة فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وشكر صنيعه وبه يعلم ضعف ما تقدم من أن عياشا لم يزل محبوسا إلى يوم الفتح
وممن هاجر قبل النبي صلى الله عليه وسلم سالم مولى أبي حذيفة بن عبتة بن ربيعة أي لأنه لما أعتقته زوجة أبي حذيفة وكانت أنصارية تبناه أبو حذيقة وكان يؤم المهاجرين بالمدينة فيهم عمر بن الخطاب لأنه كان أكثرهم أخذا للقرآن فكان عمر بن الخطاب يثني عليه كثيرا حتى قال لما أوصى عند قتله لو كان سالم مولى أبي خذيفة حيا ما جعلتها شورى قال ابن عبد البر معناه أنه كان يأخذ برأيه فيمن يوليه الخلافة أي فإنه قتل في يوم اليمامة وأرسل عمر بميراثه لمعتقته فأبت ان تقبله فجعله في بيت المال
ولما أراد صهيب الهجرة إلى المدينة أي بعد أن هاجر إليها صلى الله عليه وسلم خلافا لما يوهمه كلام الأصل والشامي قال له كفار قريش أتيتنا صعلوكا فقيرا فكثر مالك عندنا ثم تريد أن تخرج بمالك لا والله لا يكون ذلك فقال لهم صهيب أرايتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي قالوا نعم قال فإني جعلته لكم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ربح صهيب
أقول وذكر أن صهيبا تواعد معه صلى الله عليه وسلم أن يكون معه في الهجرة فلما أراد صلى الله عليه وسلم الخروج للغار أرسل إليه أبا بكر مرتين أو ثلاثا فوجده يصلي فكره أن يقطع عليه صلاته كما سيأتي وحينئذ يكون قول صهيب المذكور بعد هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كما تقدم وهو ما في الخصائص الكبرى عن صهيب لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وخرج معه أبو بكر وقد كنت هممت بالخروج معه فصدني قتيان من قريش أي بعد أن أردت الخروج بعده وقالوا له جئتنا فقيرا حقيرا صعلوكا فكثر مالك عندنا وتريد أن تخرج بمالك ونفسك لا يكون ذلك أبدا قال فقلت لهم أنا أعطيكم أواقي من الذهب وفي لفظ ثلث مالي وفي لفظ مالي وتخلون سبيلي ففعلوا فقلت احفروا تحت أسكفة الباب فإن تحتها الأواقي وخرحت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء قبل أن يتحول منها فلما رآني قال يا أبا يحيى ربح البيع ثلاثا فقلت يا رسول الله إنه ما سبقني إليك أحد وما أخبرك إلا جبريل عليه الصلاة والسلام
____________________
(2/186)
أي وأخراج أبو نعيم في الحلية عن سعيد بن المسيب قال أقبل صهيب مهاجرا نحو النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخذ سيفه وكنانته وقوسه فاتبعه نفر من قريش فنزل عن راحلته وانتثل ما في كنانته ثم قال يا معشر قريش قد علمتم أني من أرحاكم رجلا وأيم الله لا تصلون إلى حتى أرمي بكل سهم في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء ثم افعلوا ما شئتم وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وخليتم سبيلي فقالوا نعم فقال لهم ما تقدم وفي رواية أنهم قالوا له دلنا على مالك ونخلي عنك وعاهدوه على ذلك ففعل
وذكر بعض المفسرين أن المشركين أخذوه وعذبوه فقال لهم إني شيخ كبير لا يضركم أمنكم كنت أم من غيركم فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني وتتركوا لي راحلة ونفقة ففعلوا ونزل قوله تعالى ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله قال فلما قدمت وجدت النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر جالسين فلما رآني أبو بكر قام إلي فبشرني بالآية التي نزلت في أي وفي رواية فتلقاني أبو بكر وعمر ورجال فقال لي أبو بكر ربح بيعك أبا يحيى فقلت وبيعك هلا تخبرني ماذاك فقال أنزل الله فيك كذا وقرأ علي الآية
وفي تفسير سهل بن عبد الله التستري أن صهيبا كان من المشتاقين لم يكن له قرار كان لا ينام لا باللييل ولا بالنهار
وقد حكى أن امرأة اشترته فرأته كذلك فقالت لا ارضى حتى تنام بالليل لأنك تضعف فلا يتهيأ لك الاشتغال بأعمالي فبكى وقال إن صهيبا إذا ذكر النار طار نومه وإذا ذكر الجنة جاء شوقه وإذا ذكر الله طال شوقه أي وليتأمل هذا مع ما في تاريخ ابن كثير أن الروم أغارت على بلاد صهيب وكانت على دجلة وقيل على الفرات فأسرته وهو صغير ثم اشتراه منهم بنو كلب فحملوه إلى مكة فابتاعه عبد الله بن جدعان فأعتقه واقام بمكة حينا فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم وكان إسلامه وإسلام عمار بن ياسر في يوم واحد وقد يقال يجوز أن تكون تلك المرأة التي اشترته كانت من بني كلب
وعن صهيب رضي الله تعالى عنه صحبت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه وأنه قال له عمر رضي الله تعالى عنه يا صهيب اكتنيت وليس لك ولد فقال كناني
____________________
(2/187)
رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي يحيى فهو من جملة من كناه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ولد له وكان في لسانه عجمة شديدة وكان فيه دعابة رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل قثاء ورطبا وهو أرمد إحدى عينيه فقال له تأكل رطبا وأنت أرمد فقال إنما آكل من ناحية عيني الصحيحة فضحك صلى الله عليه وسلم
وفي المعجم الكبير للطبراني عن صهيب قال قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يديه تمر وخبز فقال ادن فكل فأخذت آكل من التمر فقال لي أتأكل التمر وعينك رمدة فقلت يا رسول الله أمصه من الناحية الأخرى فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ولا مانع من التعدد ولما أذن صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الهجرة وهاجروا مكث صلى الله عليه وسلم بعد أصحابه ينتظر أن يؤذن له في الهجرة ولم يتخلف معه إلا على بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وابو بكر أي وصهيب كما علمت ومن كان محبوسا أو مريضا أو عاجزا عن الخروج وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه كثيرا ما يستاذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فيقول له لا تعجل لعل الله أن يجعل لك صاحبا فيطمع أبو بكر أن يكون هو وفي رواية تجهز أبو بكر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي فقال له أبو بكر هل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي قال نعم فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه وعلف راحلتين عنده الخبط أي وفي لفظ ورق السمر بفتح المهملة وضم الميم قال الزهري وهو الخبط قال ابن فارس والخبط ما يخبط بالعصا فيسقط من روق الشجر وكان مدة علفها أربعة أشهر وكان اشتراهما بثمانمائة درهم
أقول ظاهر هذا السياق أن علفه للراحلتين كان بعد قول المصطفى صلى الله عليه وسلم له ما ذكر ومعلوم أن ذلك بعد مبايعة الأنصار له صلى الله عليه وسلم والمدة بين مبايعة الأنصار له صلى الله عليه وسلم والهجرة كانت ثلاثة أشهر أو قريبا منها لأنها كانت في ذي الحجة ومهاجرته صلى الله عليه وسلم كانت في ربيع الأول
وفي السيرة الشامية ما يصرح بأن علفه للراحلتين كان بعد قول المصطفى صلى الله عليه وسلم له ما ذكر ففيها أنه صلى الله عليه وسلم لما قال لأبي بكر وقد استأذنه في الهجرة لأتعجل لعل الله يجعل لك صاحبا طمع بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يعني نفسه فابتاع راحلتين فحبسها في داره يعلفهما إعدادا لذلك وسيأتي عن الحافظ ابن حجر
____________________
(2/188)
أن بين ابتداء هجرة الصحابة وبين هجرته صلى الله عليه وسلم شهرين ونصف شهر على التحرير والله أعلم
فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صار له شيعة أي أنصار وأصحاب من غيرهم ورأوا خروج أصحابه إليهم وأنهم أصابوا منعة لأن الانصار قوم أهل حلقة أي سلاح وبأس حذروا أي خافوا أن يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يجمع على حربهم فاجتمعوا في دار الندوة يتاشورون فيما يصنعون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت محل مشورتهم لا يقطعون أمرا الا فيها أي وهي أول دار بنيت بمكة كانت منزل قصي بن كلاب كما تقدم ثم صارت لولده عبد الدار ثم ابتاعها معاوية لما حج وهو خليفة من أولاد عبد الدار
وتقدم أن معاوية إنما اشتراها من حكيم بن حزام ويدل لذلك ما جاء عن مصعب ابن عبد الله قال جاء الإسلام ودار الندوة بيد حكيم بن حزام فباعها من معاوية بن أبي سفيان بمائة ألف درهم فقال له عبد الله بن الزبير بعت مكرمة قريش فقال له حكيم ذهبت المكارم إلا التقوى يا ابن أخي إلى آخر ما تقدم وكانت دار الندوة جهة الحجر عند المقام الحنفي الآن وكان لها باب للمسجد وكان لا يدخلها عند المشورة من ولد قصي إلا ابن أربعين سنة
وفي كلام بعضهم ساد أبو جهل وما طر شاربه ودخل دار الندوة وما استدارت لحيته وقد أدخلت في المسجد قيل لها دار الندوة لاجتماع الندى وهو الجماعة فيها وكان ذلك اليوم يسمى يوم الرحمة لأنه اجتمع فيه أشراف بني عبد شمس وبني نوفل وبني عبد الدار وبني أسد وبني مخزوم وبني سهم وبني جمح وغيرهم مما لا يعد من قريش ولم يتخلف من أهل الرأي والحجا أحد ثم إن إبليس جاء إليهم في صورة شيخ نجدي عليه طيلسان من خز وقيل من صوف أي وإنما فعل ذلك ليقبل منه ما يشير به لأن أهل الطيالسة في العادة من أهل الوقار والمعرفة ووقف ذلك الشيخ على الباب فقالوا له من الشيخ قال شيخ من أهل نجد سمع بالذي اجتمعتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحا قالوا أجل أي نعم فادخل فدخل معهم أي وإنما قال لهم من أهل نجد لأن قريشا قالوا لا يدخلن معكم في المشاورة أحد من أهل تهامة لأن هواهم كان مع محمد صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/189)
قيل لما سمعهم يقولون لا يدخل معكم اليوم إلا من هو معكم قال لهم لما سألوه وقالوا له من أنت قال شيخ من نجد وأنا ابن أختكم فقالوا ابن أخت القوم منهم
قيل إن إبليس لما دخل عليهم أنكروه وقالوا له من أنت وما أدخللك علينا في خلوتنا هذه بغير إذننا فقال إني رجل من أهل نجد رأيتكم حسنة وجوهكم طيبة ريحكم فأحببت أن أجلس إليكم وأسمع كلامكم فإن كرهتم ذلك خرجت عنكم فقال بعضهم لبعض هذا نجدي ولا عين عليكم منه وفي لفظ هذا من أهل نجد لا من مكة فلا يضركم حضوره معكم وعند المشورة قال بعضهم لبعض إن هذا الرجل يعني النبي صلى الله عليه وسلم قد كان من أمره ما قد رأيتم وإنا والله لا نأمنه الوثوب علينا بمن قد ابتعه من غيرنا فأجمعوا فيه رأيا فتشاوروا فقال قائل أي وهو أبو البختري بن هشام احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما اصاب أشباهه من الشعراء حتى يصيبه ما أصابهم من هذا الموت فقال الشيخ النجدي لا والله ما هذا لكم براي والله لو حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه فلا تشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم ثم يكاثروكم حتى يبلغوكم على أمركم ما هذا براي فأنظروا رايا غيره فتشاوروا فقال قائل منهم أي وهو الأسود بن ربيعة بن عمير نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا فإذا خرج عنا فوالله ما نبالي أين يذهب فقال الشيخ النجدي والله ما هذا براي ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي الله به والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل بفتح أوله وضم الحاء المهملة أي ينزل ويجوز أن يكون بكسرها أي يسقط على حي من العرب فيغلب بذلك عليهم من قوله وحديثه حتى يبايعوه ثم يسير به إليكم حتى يطأكم به فيأخذوا أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد دبروا فيه رايا غير هذا فقال أبو جهل بن هشام والله إني لي فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد قالوا وما هو يا أبا الحكم قال الرأي أن تأخذوا من كل قبيلة شابا جلدا أي قويا حسيبا في قومه نسيبا وسطا ثم يعطى كل فتى منهم سيفا صارما ثم يغدون إليه فيضربونه ضربة رجل واحد فيقتلونه فنستريح منه فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا قلم تقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا فيرضوا منا بالعقل أي الدية فعقلنا لهم فقال النجدي القول ما قال هذا الرجل هذا هو الرأي ولا ارى غيره فتفرق القوم على ذلك فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/190)
فقال لا تبت هذه الليلة في فراشك الذي كنت تبيت عليه أي وأخبره بمكرهم وأنزل الله عز وجل عليه { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك } الآية فلما كان عتمة من الليل أي الثلث الأول من الليل اجتمعوا على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرصدونه حتى ينام فيثبتوا عليه أي وكانوا مائة
أقول في الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي خاتم عن عبيد بن عمير لما ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه قال له أبو طالب هل تدري ما ائتمروا بك قال يريدون أن يحبسوني أو يقتلوني أو يخرجوني قال من حدثك بهذا قال ربي قال نعم الرب وربك فاستوص به خيرا قال أنا أستوصى به بل هو يستوصي بي هذا كلامه ولم يتعقبه بأن هذا كان بعد موت أبي طالب قال وكان ائتمارهم يوم السبت
فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يوم السبت فقال مكر وخديعة قالوا ولم يا رسول الله قال إن قريشا أرادوا أن يمكروا فيه بي أي أرادوا فيه المكر فأنزل الله تعالى { وإذ يمكر بك الذين كفروا }
وفي سيرة الحافظ الدمياطي فاجتمع أولئك القوم من قريش يتطلعون من صير الباب أي شقه ويرصدونه يريدون بياته أي يوقعون به الأمر ليلا ويأتمرون أيهم يحمل على المضطجع وفيه أن ائتمارهم في ذلك لا يناسب ما اجتمع رأيهم عليه من أنهم يجتمعون على قتله ليتفرق دمه في القبائل
ثم رأيت بعضهم قال وأحدقوا ببابه صلى الله عليه وسلم وعليهم السلاح يرصدون طلوع الفجر ليقتلوه ظاهرا فيذهب دمه لمشاهدة بني هاشم قاتله من جميع القبائل فلا يتم لهم أخذ ثأره وهو المناسب لما ذكر والله اعلم
فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم أي علم ما يكون منهم قال لعلي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه نم على فراشي واتشح بردائي هذا الحضرمي وقد كان يشهد فيه العيدين وقد كان طوله أربعة أذرع وعرضه ذراعان وشبر وهل كان أخضر أو أحمر يدل للثاني قول جابر كان يلبس رداء أحمر في العيدين والجمعة ثم رأيت في بعض الروايات أنه كان أخضر فلينظر الجمع
وفي سيرة الدمياطي وارتد بردائي هذا الأحمر والحضرمي منسوب إلى حضرموت
____________________
(2/191)
التي هي البلدة أو القبيلة باليمن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسجى بذلك البرد عند نومه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم
أقول وأما ما روى أن الله تعالى أوحى إلى جبريل ومكائيل إني قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة فاختار كلاهما الحياة فأوحى الله إليهما ألا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيت بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم فبات على فراشه ليفديه بنفسه ويؤثره بالحياة اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه فنزلا فكان جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه فقال جبريل بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب باهى الله بك الملائكة وأنزل الله عز وجل ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله قال فيه الإمام ابن تيمية إنه كذب باتفاق أهل العلم بالحديث والسير
وأيضا قد حصلت له الطمأنينة بقول الصادق له لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم فلم يكن فيه فداء بالنفس ولا إيثار بالحياة والآية المذكورة في سورة البقرة وهي مدنية باتفاق وقد قيل إنها نزلت في صهيب رضي الله تعالى عنه لما هاجر أي كما تقدم لكنه في الإمتاع لم يذكر أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلي ما ذكر وعليه فيكون فداؤه للنبي صلى الله عليه وسلم بنفسه واضحا ولا مانع من تكرر نزول الآية في حق علي وفي حق المصطفى صلى الله عليه وسلم وفي حق صهيب بمعنى اشترى أي اشترى نفسه بماله ونزول هذه الآية بمكة لا يخرج سورة البقرة عن كونها مدنية لأن الحكم يكون للغالب
وفي السبعيات أنه صلى الله عليه وسلم نظر إلى أصحابه وقال أيكم يبيت على فراشي وأنا أضمن له الجنة فقال علي أنا ابيت وأجعل نفسي فداءك هذا كلامه ولعله لا يصح
ثم رايت في الإمتاع ما يدل لعدم الصحة وهو قال ابن إسحاق ولم يعلم فيما بلغني بخروجه صلى الله عليه وسلم حين خرج إلا علي وأبو بكر الصديق فليتأمل والله تعالى أعلم
وكان في القوم الحكم بن أبي أبي العاص وعقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث وأمية
____________________
(2/192)
ابن وزمعة بن الأسود وأبو لهب وأبو جهل فقال وهم على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم ثم بعثتم بعد موتكم فجعلت لكم جنان كجنان الأردن أي بضم الهمزة وتشديد النون وهو محل بأرض الشام يقرب بيت المقدس وإن لم تفعلوا كان فيكم ذبح ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم نار تحترقون فيها وسمعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج عليهم وهو يقول نعم أنا أقو ذلك وأخذ حفنة من تراب وتلا قوله تعالى { يس والقرآن الحكيم } إلى قوله { فأغشيناهم فهم لا يبصرون } فأخذ الله تعالى على أبصارهم عنه فلم يروه
وفي مسند الحارث بن أبي أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر في فضل يس أنها إن قرأها خائف أمن أو جائع شبع أو عار كسى أو عاطش سقى أو سقيم شفى وعند خروجه صلى الله عليه وسلم جعل ينثر التراب على رءوسهم فلم يبق رجل إلا وضع على رأسه ترابا ثم انصرف إلى حيث أراد فأتاهم آت فقال ما تنتظرون ههنا قالوا محمدا فقال قد خيبكم الله والله خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلا إلا وضع على رأسه ترابا وانطلق لحاجته أفما ترون ما بكم قال فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب قال في النور وهذا يعارضه حديث مارية خادم النبي صلى الله عليه وسلم تكنى أم الرباب أنها طأطأت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد حائطا ليلة فر من المشركين وينبغي أن يوفق بينهما إن صحا وإلا فالعبرة بالصحيح منهما هذا كلامه
أقول التوفيق حاصل وهو أنه يجوز أنه يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يحب أن يخرج عليهم من الباب فتسور الحائط التي نزل منها عليهم والله أعلم أي وكان ذهابه صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم في تلك الليلة إلي بيت أبي بكر رضي الله تعالى عنه فكان فيه إلى الليل أي إلى الليلة المقبلة ثم خرج هو وأبو بكر رضي الله عنه ثم مضيا إلى جبل ثور كذا في سيرة الدمياطي ثم أي بعد إخبارهم بخروجه صلى الله عليه وسلم ووضعه التراب على رءوسهم جعلوا يطلعون فيرون عليا نائما على الفراش مسجى ببرد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون والله إن هذا محمد نائما عليه برده فلم يزالوا كذلك أي يريدون أن يوقعوا به بالفعل والله مانع لهم من ذلك حتى أصبحوا واتضح النهار
____________________
(2/193)
فقام علي رضي الله تعالى عنه عن الفراش فقالوا والله لقد صدقنا الذي كان حدثنا أي ولما قام علي رضي الله تعالى عنه سألوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا علم لي به وفي رواية فلما أصبحوا صاروا إليه يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأوا عليا رضي الله تعالى عنه رد الله تعالى مكرهم فقالوا أين صاحبك قال لا أدري فأنزل الله تعالى قوله { أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون } وأنزل الله عز وإذ يمكر بك الذي كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين كذا في الأصل تبعا لابن إسحاق ولا يخفى أن الآية الثانية موفية بما ذكروه من المشاورة
قال والمانع من اقتحام الجدار عليه في الدار مع قصر الجدار وقد جاءوا لقتله أنهم هموا بذلك فصاحت امرأة من الدار فقال بعضهم لبعض إنها لسبة في العرب أن يتحدث عنا أنا تسورنا الحيطان على بنات العم وهتكنا ستر حرمتنا انتهى
أقول لا يخفى أن هذا لا يناسب ما قدمناه عن بعضهم أنهم إنما أرادوا قتله صلى الله عليه وسلم عند طلوع الفجر ليظهر لبني هاشم قاتلوه فلا يثبوا عليه لئلا يتسور الجدار إلا أن يقال إرادة ذلك منهم كانت عند طلوع الفجر ووجود الأسباب المانعة لهم من الوثوب عليه لا ينافى أن المانع لهم عن الوثوب عليه الذي جاءوا بصدده وهم مائة رجل من صناديد قريش إنما هي حماية الله تعالى الموجبة لخذلانهم وإظهار عجزهم وفي ذلك تصديق لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال لعلي لا يخلص إليك شيء تكرهه منهم على ما تقدم والمراد بقول بعضهم كان المشركون يرمونه بأبصارهم لا بنحو حجارة أو نبل كما لا يخفى
فإن قيل هلا نام صلى الله عليه وسلم على فراشه قلنا لو فعل ذلك لفات إذلالهم بوضع التراب على رءوسهم وإظهار حماية الله تعالى له بخروجه عليهم ولم يبصره أحد منهم وفي رواية أنهم تسوروا عليه صلى الله عليه وسلم ودخلوا شاهرين سيوفهم فثار في وجوههم فعرفوه فقالوا هو أنت أين صاحبك فقال لا أدري وهذا مخالف لما تقدم فلينظر الجمع بناء على صحة هذا
وفي لفظ أمروه بالخروج فضربوه وأدخلوه المسجد وحبس به ساعة ثم خلوا عنه والله أعلم
____________________
(2/194)
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن له في الهجرة إلى المدينة أي وأنزل الله تعالى عليه { وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا } قال زيد بن اسلم جعل الله عز وجل مدخل صدق المدينة ومخرج صدق مكة وسلطانا نصيرا الأنصار
ويعارضه ما جاء أن عند رجوعه صلى الله عليه وسلم من تبوك إلى المدينة قال له جبريل سل ربك فإن لكل نبي مسالة فقال ما تأمرني أن أسأله قال قل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا فأنزل الله تعالى عليه ذلك في رجعته م نتبوك بعد من ختمت السورة أي إلا أن يدعى تكرار النزول وعند الإذن له صلى الله عليه وسلم في الهجرة قال لجبريل من يهاجر معي قال جبريل أبو بكر الصديق
أي ومن الغريب قول بعضهم ومن ذلك اليوم سماه الله تعالى صديقا فقد تقدم أن تسميته بذلك كان عند تصديقه له صلى الله عليه وسلم عند إخباره بالإسراء وعن صفة بيت المقدس
ومن الغريب أيضا ما في السبعيات أن النبي صلى الله عليه وسلم تشاور مع أصحابه فقال أيكم يوافق معي ويرافقني فقد أمرني الله تعالى بالخروج من مكة إلى المدينة فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه أنا يا رسول الله
ويرده ما في السير أنه صلى الله عليه وسلم أتى أبا بكر ذات يوم ظهرا فناداه فقال أخرج من عندك فقال يا رسول الله إنما هما ابنتاي يعني عائشة وأسماء رضي الله تعالى عنهما قال شعرت أي علمت أنه قد أذن لي في الهجرة فقال يا رسول الله الصحبة أي أسألك الصحبة فقال أي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحبة أي لك الصحبة عندي فانطلقا أي ليلا كما تقدم عن سيرة الدمياطي لكن تقدم عنها أنه دخل بيت أبي بكر في ليلة خروجه من على فراشه وأنه مكث ببيت ابي بكر إلى الليلة القابلة التي كان فيها خروجه صلى الله عليه وسلم إلى جبل ثور فيحتاج إلى الجمع
وقد يقال إن مجيئه صلى الله عليه وسلم ظهرا كان قبل تلك الليلة ومع خروجهما خرجا مستخفين حتى أتيا الغار وهو بجبل ثور فتواريا فيه
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال عند خروجه من
____________________
(2/195)
مكة أي متوجها إلى المدينة والله إني لأخرج منك وإني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلى الله وأكرمها على الله ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت
أي وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم وقف أي على راحتله بالحزورة ونظر إلى البيت وقال والله إنك لأحب أرض الله إلى الله ولولا أن أهلك أخرجوني منك قهرا ما خرجت
وفي لفظ أنه صلى الله عليه وسلم وقف في وسط المسجد والتفت إلى البيت فقال إني لأعلم ما وضع الله بيتا أحب إلى الله منك وما في الأرض بلد أحب إليه منك وما خرجت منك رغبة ولكن الذين كفروا أخرجوني
أي وهذا السياق يدل على أن وقوفه صلى الله عليه وسلم على الحزورة أو في وسط المسجد يقتضي أنه جاء بعد خروجه من الغار إلى ما ذكر ثم ذهب إلى المدينة وفي رواية وقف صلى الله عليه وسلم على الحجون وقال والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولو لم أخرح منك ما خرجت وفي لفظ ولو تركت فيك لما خرجت منك ولا مانع من تكرر ذلك ثم رأيت في كلام بعضهم أن وقوفه صلى الله عليه وسلم على الحجون كان في عام الفتح وفي لفظ آخر قال لمكة ما أطيبك من بلدة وأحبك إلي ولولا أن قومي أخرجوني ما سكنت غيرك
أي وفي جمال القراء للسخاوي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما توجه مهاجرا إلى المدينة وقف ونظر إلى مكة وبكى فأنزل الله عز وجل عليه { وكأين من قرية هي أشد قوة } الآية
وأما ما روى الحاكم عن أبي هريرة مرفوعا اللهم إنك أخرجتني من أحب البقاع إلي فأسكني في أحب البقاع إليك فقال الذهبي إنه موضوع وقال ابن عبد البر لا يختلف أهل العلم أنه منكر موضوع
أقول والذي رأيته عن المستدرك للحاكم اللهم إنك تعلم أنهم أخرجوني من أحب البلاد إلي فأسكني أحب البلاد إليك والمعنى واحد وإليه ما روى عن الزهري اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إلي فاسكني أحب البلاد إليك استند من قال بتفضيل المدينة على مكة قال لأن الله تعالى أجاب دعاءه فأسكنه المدينة قيل وعليه جمهور العلماء ومنهم الإمام مالك رضي الله تعالى عنه وإلى الأحاديث الأول استند من
____________________
(2/196)
قال بتفضيل مكة على المدينة وهم الجمهور ومنهم إمامنا الشافعى رضى الله تعالى عنه واستندوا فى ذلك إلى أنه صلى الله عليه وسلم قال فى حجة الوداع أى بلد تعلمونه أعظم حرمة قالوا لا نعلم إلا بلدنا هذه يعنون مكة وهذا إجماع من الصحابة أقرهم عليه صلى الله عليه وسلم أنها أى مكة أفضل من سائر البلاد لأن ما كان أعظم حرمة فهو أفضل وقد قال صلى الله عليه وسلم المقام بمكة سعادة والخروج منها شقاوة وقال صلى الله عليه وسلم من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت عنه جهنم مسيرة مائة عام
قال ابن عبد البر وإنى لأعجب ممن ترك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قوله والله إنى لأعلم أنك خير أرض وأحبها إلى الله ولولا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت وهذا حديث صحيح ويميل إلى تأويل لا يجامع ما تأوله عليه أى ولأن الحسنه فيها بمائة ألف حسنة فعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال من حج ماشيا كتبت له بكل خطوه سبعمائة حسنة من حسنات الحرم قيل وما حسنات الحرم قال الحسنة فيه بمائة ألف حسنة
والكلام فى غير ماضم أعضاءه الشريفة صلى الله عليه وسلم من أرض المدينة وإلا فذاك أفضل بقاع الأرض بالإجماع بل حتى من العرش والكرسى
على أن صاحب عوارف المعارف ذكر أن الطوفان موج تلك التربة المكرمة عن محل الكعبة حتى أرساها بالمدينة فهى من جملة أرض مكة وحينئذ لا يحسن الاستنادفى تفضيل المدينة على مكة بقول أبى بكر رضى الله تعالى عنه إنهم لما اختلفوا فى أى محل يدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبضه الله إلا فى أحب البقاع إليه ليدفن فيه كما سيأتى والله أعلم
وعن عائشة رضى الله تعالى عنها أنها قالت بينا نحن جلوس يوما فى بيت أبى بكر الصديق فى نحر الظهيرة أى وسطها وهو وقت الزوال قال قائل لأبى بكر أى وهذا القائل هى أسماء بنت أبى بكر وفى كلام بعض الحفاظ يحتمل أن يفسر بعامر بن فهيرة أى مولى أبى بكر قالت أسماء قلت يا أبت هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا أى متطيلسا فى ساعة لم يكن يأتينا فيها أى فعن عائشة رضى الله تعالى عنها لم يمر علينا يوم أى قبل الهجرة إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفى النهار بكرة وعشيا
____________________
(2/197)
وفى لفظ كان لا يخطئ أن يأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت أبى بكر أحد طرفى النهار إما بكرة وإما عشيا أى ويحتاج إلى الجمع بين هاتين الروايتين على تقدير صحة الثانية وإلا فالأولى فى البخارى وتفسير التقنع بالتطيلس ذكره الحافظ ابن حجر حيث قال قوله متقنعا أى متطيلسا وهو أصل فى لبس الطيلسان هذا كلامه
واعترضه ابن القيم حيث قال لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه لبس الطيلسان ولا أحد من أصحابه وحينئذ لا يكون القناع هنا هو الطيلسان بل التقنع تغطية الرأس وأكثر الوجه بالردء من غير أن يجعل منه شئ تحت رقبته الذى يقال له التحنيك وحمل قول ابن القيم المذكورعلى الطيلسان المقور التى تلبسها اليهود قال بعضهم وهذا الطيلسان المقور هو المعروف بالطرحة وقد اتخذت خلفاء بنى العباس الطرحة السوداء على العمامة عند الخطبة واستمر ذلك شعارا للخلفاء
فالحاصل أن ما يغطى به الرأس مع اكثر الوجه إن كان معه تحنيك أى إدارة على العنق قيل له طيلسان وربما قيل له رداء مجازا وإن لم يكن معه تحنيك قيل له رداء أو قناع وربما قيل له مجازا طيلسان وهو ما كان شعارا فى القديم لقاضى القضاة الشافعى خاصة قال بعضهم بل صار شعارا للعلماء ومن ثم صار لبسه يتوقف على الإجازة من المشايخ كالإفتاء والتدريس وكان الشيخ يكتب فى إجازته وقد أذنت له فى لبس الطيلسان لأنه شهادة بالأهلية وما يجعل على الأكتاف دون الرأس يقال له رداء فقط وربما قيل له طيلسان أيضا مجازا وصح عن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه وله حكم المرفوع التقنع من أخلاق الأنبياء وقد ذكر بعضهم أن الطيلسان الخلوة الصغرى وفى حديث لا يتقنع إلا من استكمل الحكمة فى قوله وفعله وكان ذلك من عادة فرسان العرب فى المواسم والجموع كالأسواق
وأول من لبس الطيلسان بالمدينة جبير بن مطعم رضى الله تعالى عنه وعن الكفاية لابن الرفعة أن ترك الطيلسان للفقيه مخل بالمروءة أى وهو بحسب ما كان فى زمنه رحمه الله وفى الترمذى لم تكن عادته صلى الله عليه وسلم التقنع إنما كان يفعله لحر أو برد وتعقب بأن فى حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم كان يكئر التقنع وفى طبقات ابن سعد مرسلا أنه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هذا ثوب لا يؤدى شكره أى لأن فيه غض البصر ومن ثم قيل إنه الخلوة الصغرى كما تقدم
____________________
(2/198)
ولما قيل لأبى بكر رضى الله تعالى عنه ذلك أى هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعا قال أبو بكر فدا له أبى وأمى والله ما جاء به فى هذه الساعة إلا أمر قال فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له فدخل أى وتنحى أبو بكر عن سريره وجلس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبى صلى الله عليه وسلم لأبى بكر رضى الله تعالى عنه أخرج من عندك قال أبو بكر إنما هى أهلك أى لأنه صلى الله عليه وسلم كان عقد على عائشة رضى الله تعالى عنها كما تقدم فأمها من جملة أهله وأختها كذلك وقيل هو على حد قول الشخص لآخر أهلى أهلك وفى رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج من عندك فقال أبو بكر رضى الله تعالى عنه لا عين عليك إنما هما ابنتاى أى وسكت عن أمهما سترا قال فإنه قد أذن لى فى الخروج فقال أبو بكر الصحبة يا رسول الله بأبى أنت وأمى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم أى فبكى أبو بكر سرورا قالت عائشة رضى الله تعالى عنها فرأيت أبا بكر يبكى وما كنت أحسب أن أحدا يبكى من الفرح حتى رأيت أبا بكر ولله در القائل ** ورد الكتاب من الحبيب بأنه ** ** سيزورنى فاستعبرت أجقانى ** ** غلب السرور على حتى إننى ** ** من فرط ما قد سرنى أبكانى ** ** يا عين صار الدمع عندك عادة ** ** تبكين من فرح ومن أحزان **
أى ومنه أقر الله عينه لمن يدعى له وهو قرة عين لمن يفرح به وأسخن عينه لمن يدعى عليه وهو سخنة العين لما يحزن به لأن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة
وقد روى أن نبيا من الأنبياء اجتاز بحجر يخرج منه الماء فسأل ربه عن ذلك فأنطق الله تعالى الحجر فقال منذ سمعت أن لله تعالى نارا وقودها الناس والحجارة وأنا أبكى هذا الدمع خوفا من تلك النار فاشفع لى عند ربك فشفع له فشفع فيه وبشره بذلك ثم مر به بعد مدة فإذا الماء يخرج منه فقال ألم أبشرك أن الله أنجاك من النار فما هذا فقال يا نبى الله ذاك بكاء الخوف والخشية وهذا بكاء الفرح والسرور ومن ثم لما قال صلى الله عليه وسلم لأبى بن كعب إن الله أمرنى أن أقرأ عليك سورة كذا أى لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب بكى من الفرح وقال أو ذكرت هناك أى ذكرنى الله عز وجل وفى لفظ وسمانى قال نعم
____________________
(2/199)
وفى سفر السعادة قال العلماء البكاء على عشرة أنواع بكاء فرح وبكاء حزن لما فات وبكاء رحمة وبكاء خوف لما يحصل وبكاء كذب كبكاء النائحة فإنها تبكى بشجو غيرها وبكاء موافقة بأن يرى جماعة يبكون فيبكى مع عدم علمه بالسبب وبكاء المحبة والشوق وبكاء الجزع من حصول ألم لا يحتمله وبكاء الخور والضعف وبكاء النفاق وهو أن تدمع العين والقلب قاس والبكى بالقصر دمع العين من غير صوت والممدود ما كان معه صوت وأما التباكى فهو تكلف البكاء وهو نوعان محمود ومذموم فالأول ما يكون لاستجلاب رقة القلب وهو المراد بقول سيدنا عمر رضى الله تعالى عنه لما رأى المصطفى صلى الله عليه وسلم وأبا بكر يبكيان فى شأن أسارى بدر أخبرنى ما يبكيك يا رسول الله فإن وجدت بكاء بكيت وإلا تباكت ومن ثم لم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم ذلك والثانى ما يكون لأجل الرياء والسمعة
قال أبو بكر فخذ بأبى أنت وأمى يا رسول الله إحدى راحلتى هاتين فإنى أعددتهما للخروج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل بالثمن أى لتكون هجرته صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى بنفسه وماله أى وإلا فقد أنفق أبو بكر رضى الله تعالى عنه أكثر ماله عليه صلى الله عليه وسلم أى فعن عائشة رضى الله تعالى عنها أنفق أبو بكر على النبى صلى الله عليه وسلم أربعين ألف درهم وفى لفظ دينار ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم ليس من أحد أمن على فى أهل ومال من أبى بكر وفى رواية ما أحد أمن على فى صحبته وذات يده من أبى بكر وما نفعنى مال أبى بكر فبكى أبو بكر وقال هل أنا ومالى إلا لك يا رسول الله وفى رواية ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه ما خلا أبا بكر فإن له عندنا يدا الله يكافئه بها يوم القيامة
أقول ولا ينافى كونه صلى الله عليه وسلم أخذ إحدى ناقتى أبى بكر بالثمن ما رواه أبان بن أبى عياش أحد التابعين عن أنس رضى الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر رضى الله تعالى عنه ما أطيب مالك منه بلال مؤذنى وناقتى التى هاجرت عليها وزوجتنى ابنتك وواسيتنى بمالك كأنى أنظر إليك على باب الجنة تشفع لأمتى لأن أبان بن أبى عياش معدود من الضعفاء
وقد قال شعبه لأن أشرب من بول حمار حتى أروى أحب إلى من أن أقول حديثاعن أبان بن أبى عياش وقال فيه مرة أخرى لأن يزنى الرجل من أن يروى عن
____________________
(2/200)
أبان وقد طلب من شعبة أن يكف عن أبان هذا فقال الأمر دين وهذا يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بين ابن حبان عذر أبان بأنه كان يروى عن أنس وأبان مجالس الحسن البصرى فكان يسمع كلامه فإذا حدث ربما جعل كلام الحسن عن أنس مرفوعا وهو لا يعلم وعلى تقدير صحة ما قاله لا منافاة أيضا لأنها كانت من مال أبى بكر قبل أن يأخذها صلى الله عليه وسلم بثمنها
على أن فى الترمذى ما يوافق ما رواه أبان ففيه عن على رضى الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى رحم الله أبا بكر زوجنى ابنته وحملنى إلى دار الهجرة وصحبنى فى الغار وأعتق بلالا من ماله
قال وهذا حديث غريب والله أعلم
وكان الثمن عن تلك الناقة التى هى القصواء وقد عاشت بعده صلى الله عليه وسلم وماتت فى خلافة أبى بكر رضى الله تعالى عنه أو الجدعاء أربعمائة درهم أى لما علمت أن الناقتين اشتراهما أبو بكر بثمانمائة درهم
وأما ناقته صلى الله عليه وسلم العضباء فقد جاء أن بنته فاطمة رضى الله تعالى عنها تحشر عليها
قالت عائشة رضى الله تعالى عنها فجهزناهما أحب الجهاز أى أسرعه والجهاز بكسر الجيم أفصح من فتحها ما يحتاج إليه فى السفر ووضعنا لهما سفرة فى جراب أى زادا فى جراب لأن السفرة فى الأصل الزاد الذى يصنع للمسافر ثم استعمل فى وعاء الزاد وكان فى السفرة شاة مطبوخة فقطعت أسماء بنت أبى بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب أى وأبقت الأخرى نطاقا لها وهو يوافق ما فى صحيح مسلم عن أسماء رضى الله تعالى عنها أنها قالت للحجاج بلغنى أنك تقول أى لولدها عبدالله بن الزبير تعيره بابن ذات النطاقين أما أنا والله ذات النطاقين أما أحدخما فكنت أرفع به طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعام أبى بكر الصديق رضى الله تعالى عنه وأما الآخر فنطاق المرأة أى الذى لا تستغنى عنه أى عند اشتغالها لأن النطاق ما تشد به المرأة وسطها لئلا تعثر فى ذيلها على ثوب يلقى على أسلفه وقيل النطاق إزار فيه تكة ومن ثم جاءت ذا ت النطاق أى وكلاهما صحيح لكن فى لفظ قطعت نطاقها قطعتين فأوكت بقطعة منه فم الجراب وشدت فم القرية بالباقى أى فلم يبق لها شئ منه
____________________
(2/201)
ويوافقه ما فى البخارى عن أسماء لم نجد لسفرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أى لمحلها الذى هو الجراب ولا لسقائه الذى هو القربة ما نربطهما به فقلت لأبى بكر لا والله ما أجد شيئا أربط به إلا نطاقى قال فشقيه اثنين واربطى بواحد السقاء الذى هو القربة وبواحد السفرة ففعلت فلذلك سميت ذا ت النطاقين أى سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها أبدلك الله بنطاقك هذا نطاقين فى الجنة
وفيه أن الرواية الأولى التى عن عائشة والرواية الثانية التى عن أسماء رواها مسلم لم يذكر السقاء وفى رواية البخارى ذكر السقاء وإسقاط الجراب لكن ذكر بعد الجراب السفرة
وقد يقال المراد بربط محلها الذى هو الجراب كما أشار إليه قال بعضهم وما تقدم عن مسلم ينبغى أن يكون أقرب إلى الضغط لأن أسماء قالت فى آخر عمرها مخبرة عن نفسها أى ولم تربط إلا الجراب بأحد شقى النطاق وأبقت لها الآخر
وقد يقال الحصر ليس فى محله لمنافاته لرواية البخارى وحينئذ يجمع بأنه بجوازها لما شقت النطاق نصفين قطعت أحدهما قطعتين فشدت بإحداهما الجراب والأخرى السقاء فهى ذا ت النطاقين الذى أبقته والذى فعلت به ماذكر
وفى السيرة الهشامية أن أسماء بنت أبى بكر جاءت إليهما لما نزلا من الغار بسفرتهما ونسيت أن تجعل لها عصاما فدهشت لغلق السفرة فإذا ليس لها عصام فشقت نطاقها فجعلته عصاما فعلقتها به وانتطقت الآخر أى وهذا يدل على أن المراد بقول عائشة فجهزناهما أحب الجهاز أى عند خروجهما من الغار لا عند ذهابهما إلى الغار كما قد يتبادر من السياق ثم على المتبادر جرى ابن الجوزى حيث قال أسماء بنت أبى بكر أسلمت بمكة قديما وبايعت وشقت نطاقها ليلة خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار فجعلت واحدا لسفرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والآخر عصاما لقربته فسميت ذا تالنطاقين هذا كلامه
وقد قال لا مانع من تعدد ذلك وكون النطاق ماتشد به المرأة وسطها لئلا تعثر فى ذيلها يخالفه قول بعضهم النطاق هو ثوب تلبسه المرأة ثم تشد وسطها بحبل ثم ترسل الأعلى على الأسفل وهذا يوافق القيل المتقدم ولعل له إطلاقين ويوافق الثانى ما قيل أول من فعله هاجر أم إسمعيل اتخذته لتخفى أثر مشيتها على سارة ولعله عند خروجها
____________________
(2/202)
لما أمره الله عز وجل بإخراجها مع إبراهيم فيذهب بها إلى مكة قبل أن تركت مع إبراهيم على البراق
ثم استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بنى الديل وهو عبدالله بن أريقط ويقال ابن أرقط أو أرقد اسم أمه فأريقط مصغرها ليدلهما على الطريق للمدينة وكان على دين قريش أى ثم أسلم بعد ذلك وقيل لم يعرف له إسلام
وفى الروض ما وجدنا من طريق صحيح أنه أسلم بعد ذلك فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه على جبل ثور بعد ثلاث ليال وقيل للجبل ذلك لأنه على صورة الثور الذى يحرث عليه وسياق النسائى يدل على أن استئجار عبد الله المذكور كان قبل التجهيز
قالت عائشة رضى الله تعالى عنها ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار فى جبل ثور أى ليلا كما تقدم
وعن ابن سعد لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيته إلى بيت أبى بكر رضى الله تعالى عنه فكان فيه إلى الليل ثم خرج هو وأبو بكر فمضيا إلى غار ثور فدخلاه أى وكان خروجهما من خوخة فى ظهر بيت أبى بكر فعن عائشة بنت قدامه رضى الله تعالى عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لقد خرجت من الخوحة متنكرا فكان أول من لقينى أبو جهل لعنه الله فأعمى الله بصره عنى وعن أبى بكر حتى مضينا
وفى كلام سبط ابن الجوزى وعن وهب بن منبه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج إلى الغار من بيت أبى بكر فخرج من خوخة فى ظهر الدار والأصح إنما كان خروجه من بيت نفسه
وجعل أبو بكر رضى الله تعالى عنه يمشى مرة أمام النبى صلى الله عليه وسلم ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن شماله فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك وأذكر الطلب فأكون خلفك ومرة عن يمينك ومرة عن يسارك لا آمن عليك
أقول فى الدر المنثور فمشى صلى الله عليه وسلم ليلته على اطراف أصابعه لئلا يظهر أثر رجليه على الأرض حتى حفيت رجلاه فلما رآهما أبو بكر قد حفيتا حمله على كاهله وجعل يشتد به حتى أتى على فم الغار فأنزله وفى لفظ لم يصب رسول الله صلى الله عليه
____________________
(2/203)
وسلم الغار حتى قطرت قدماه دما وفى كلام السهيلى عن أبى بكر رضى الله تعالى عنه أنه قال نظرت إلى قدمى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الغار وقد تقطرتا دما
قال بعضهم وبشبه أن يكون ذلك من خشونة الجبل وإلا فبعد المكان لا يحتمل ذلك أو لعلهم ضلوا طريق الغار حتى بعدت المسافة ويدل عليه قوله فمشى ليلته رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى لفظ فانتهينا إلى الغار مع الصبح ولا يحتمل ذلك مشى ليلته إلا بتقدير ذلك أو أنه صلى الله عليه وسلم كما قيل ذهب إلى جبل حنين فناداه اهبط عنى فإنى اخاف أن تقتل على ظهرى فأعذب فناداه جبل ثور إلى يا رسول الله وساق فى الأصل رواية تقتضى أنه ذهب إلى غار ثور راكبا ناقته الجدعاء ث 4 م رأيته فى النور أشار إلى أن ركوبه صلى الله عليه وسلم الجدعاء إنما كان بعد خروجه من الغار لا أنه ركبها من منزل أبى بكر إلى الغار كما هو ظاهر الرواية
وفى الخصائص الكبرى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما لما تشاور المشركون فى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطلع الله نبيه على ذلك فخرج تلك الليلة حتى أتى الغار فلما أصبحوا اقتفوا أثره صلى الله عليه وسلم فلما بلغوا الجبل الحديث أى وهو مخالف لما تقدم من أن خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الغار كان فى الليلة الثانية لا فى ليلة حروجه على قريش
وقد يقال لا منافاة لأن قوله حتى لحق بالغار غاية لمطلق الخروج من بيته لافى خصوص تلك الليلة أى خرج من بيته واستمر على خروجه حتى لحق بالغار وذلك فى الليلة الثانية لكن تقدم أنه صلى الله عليه وسلم جاء إلى بيت أبى بكر متقنعا فى وقت الظهيرة فليتأمل
وأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا بخروجه إلى الهجرة وأمره أن يتخلف بعده حتى يؤدى عنه الودائع التى كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس لأنه لم يكن بمكة أحد عنده شئ يخشى عليه إلا وضعه عنده صلى الله عليه وسلم لما يعلمون من أمانته أى ولعل إعلام على بذلك كان عند توجهه صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبى بكر لأنه لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم اجتمع بعلى رضى الله تعالى عنه بعد ذلك إلا فى المدينة لكن سيأتى عن الدر ما تقتضى أنه اجتمع به عند خروجه من الغار
وفى الفصول المهمة أنه صلى الله عليه وسلم وصى عليا رضى الله تعالى عنه بحفظ
____________________
(2/204)
ذمته وأداء أمانته ظاهرا على أعين الناس وأمره أن يبتاع رواحل للفواطم فاطمة بنت النبى صلى الله عليه وسلم وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب ولمن هاجر معه من بنى هاشم ومن ضعفاء المؤمنين وشراء على رضى الله عنه الرواحل مخالف لما يأتى فى الأصل أنه صلى الله عليه وسلم أرسل إلى على حلة وأرسل يقول تشقها خمرا بين الفواطم وهى فاطمة ابنة حمزة وفاطمة بنت عتبة وفاطمة أم على وفاطمة بنته صلى الله عليه وسلم وإرساله لتلك الحلة كان بعد وصوله إلى المدينة فليتأمل
قال فى الفصول المهمة وقال له أى لعلى إذا أبرمت ما أمرتك به كن على أهبة الهجرة إلى الله ورسوله وبقدوم كتابى عليك وإذا جاء أبو بكر توجهه خلفى نحو بئر أم ميمون وكان ذلك فى فحمة العشاء والرصد من قريش قد أحاطوا بالدار ينتظرون أن تنتصف الليلة وتنام الناس ودخل أبو بكر على على وهو يظنه أى وأبو بكر يظن عليا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له على إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج نحو بئر أم ميمون وهو يقول لك أدركنى فلحقه أبو بكر ومضيا جميعا يتسايران حتى أتياجبل ثور فدخلا الغار فليتأمل الجمع بينه وبين ما تقدم
ولما انتهيا إلى فم الغار قال أبو بكر للنبى صلى الله عليه وسلم والذى بعثك بالحق لا تدخل حتى أدخله قبلك فإن كان فيه شئ نزل بى قبلك فدخل رضى الله تعالى عنه فجعل يلتمس بيده كلما رأى جحرا قال بثوبه فشقه ثم ألقمه الجحر حتى فعل ذلك بجميع ثوبه فبقى جحر وكان فيه حية فوضع عقبه عليه ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إن الحية التى فى الجحر لما أحست بعقب سيدنا أبى بكر جعلت تلسعه وصارت دموعه تتحدر قال ابن كثير وفى هذا السياق غرابة ونكارة أى وقد كان صلى الله عليه وسلم وضع رأسه فى حجر أبى بكر رضى الله تعالى عنه ونام فسقطت دموع أبى بكر رضى الله تعالى عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مالك يا أبا بكر قال لدغت بالدال المهملة والغين المعجمة فداك أبى وأمى فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم على محل اللدغة فذهب ما يجده قال بعضهم وقاه فبورك فى عقبه
قال بعضهم والسر فى اتخاذ رافضة العجم اللباد المقصص على رءوسهم تعظيما للحية التى لدغت أبا بكر فى الغار أى لأنهم يزعمون أن ذلك على صورة تلك الحية
ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبى بكر أين ثوبك فأخبره
____________________
(2/205)
الخبر زاد فى رواية وأنه رأى على أبى بكر أثر الورم فسأل عنه فقال من لدغة الحية فقال صلى الله عليه وسلم الله صلى الله عليه وسلم هلا أخبرتنى قال كرهت أن أوقظك فمسحه النبى صلى الله عليه وسلم فذهب ما به من الورم والألم
أى ويحتاج إلى الجمع بين هاتين الروايتين على تقدير صحتهما وحين أخبره أبو بكر بذلك رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وقال اللهم اجعل أبا بكر معى فى درجتى فى الجنة فأوحى الله تعالى إليه قد استجاب الله لك
وروى أنه لما صار يسد كل جحر وجده أصاب يده ما أدماها فصار يمسح الدم عن أصبعه وهو يقول ** هل أنت إلا أصبع دمت ** ** وفى سبيل الله ما لقيت **
وسيأتى أن هذا البيت من كلام ابن رواحة وقيل من كلامه صلى الله عليه وسلم وأنه يجوز أن يكون ابن رواحة ضم ذلك البيت لأبياته
ومما قد يؤيد أن ذلك من كلامه صلى الله عليه وسلم ما ذكره سبط ابن الجوزى أن أبا بكر لما لحقه صلى الله عليه وسلم فى اثناء الطريق ظنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكفار فأسرع فى المشى فانقطع قبال نعله ففلق إبهامه حجر فسال الدم فرفغ أبو بكر صوته ليعرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفه
ومما يصرح بذلك ما رأيت عن جندب البجلى قال كنت مع النبى صلى الله عليه وسلم فى غار كذا فدميت أصبعه فذكر البيت المذكور وأراد بالغار غارا من الغيران لا هذا الغار كما توهم
وجاء فى الصحيحين عن جندب بن عبدالله بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أصابه حجر فدميت أصبعه فقال ** هل انت إلا إصبع دميت ** البيت
أى ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكرالغار أمر الله تعالى شجرة أى وهى التى يقال لها العشار وقيل أم غيلان فنبتت فى وجه الغار فسترته بفروعها
أى ويقال إنه صلى الله عليه وسلم دعا تلك الشجرة وكانت أمام الغار فأقبلت حتى وقفت على باب الغار وأنها كانت مثل قامة الإنسان وبعث الله العنكبوت فنسجت ما بين فروعها أى نسجا مترا كما بعضه على بعض أى كنسج أربع سنين كما قال بعضهم
____________________
(2/206)
وقد نسج العنكبوت أيضا على عبدالله بن أنيس رضى الله تعالى عنه لما قتل سفيان بن خالد وقطع رأسه وأخذها ودخل فى غار فى الجبل وكن فيه حتى انقطع عنه الطلب كما سيأتى ونسج على نبى الله داود لما طلبه طالوت ونسج أيضا على عورة سيدنا زيد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب رضى الله تعالى عنهم وهو أخو الإمام محمد الباقر وعم الإمام جعفر الصادق وهو الذى ينسب إليه الزيدية كان إماما مجتهدا وكان ممن أخذ عن واصل بن عطاء الآخذ عن الحسن البصرى
ولما أثبت ابن عطاء المنزلة بين المنزلتين أمره الحسن البصرى باعتزال مجلسه فقيل له معتزلى وصار يقال لأصحابه معتزلة
ولا يلزم من كون شيخ سيدنا زيد معتزليا أن يسلك زيد مسلكه وصلب سيدنا زيد عربانا وأقام مصلوبا أربع سنين وقيل خمس سنين فلم ترعورته وقيل إن بطنه الشريف ارتخى على عورته فغطاها ولا مانع من وجود الأمرين وكان عند صلبه وجهوه إلى غير القبلة فدارت خشبته التى صلب عليه إلى أن صار وجهه إلى القبلة أى وقد وقع لخبيب نحو ذلك كما سيأتى ثم أحرقوا خشبة زيد وجسده وذرى رماده فى الرياح على شاطئ الفرات فإنه خرج على هشام بن عبد الملك وقد سمت نفسه للخلافة فحاربه يوسف بن عمر الثقفى أمير العراقين من قبل هشام بن عبد الملك فانهزم أصحاب زيد عنه بعد أن خذله وانصرف عنه أكثرهم
فقد بايعه ناس كثير من أهل الكوفة وطلبوا منه أن يتبرأ من الشيخين أبى بكر وعمر لينصروه فقال كلا بل أتولاهما فقالوا إذن نرفضك فقال اذهبوا فأنتم الرافضة فسموا بذلك من حينئذ رافضة وجاءت إليه طائفة وقالوا نحن نتولاهما من ونبرأ منهما وقاتلوا معه فسموا الزيدية
أقول والعجب ممن يتمذهب بمذهب سيدنا زيد ويتبرأ من الشيخين ويكرههما ويكره من يذكرهما بخير بل ربما سبهما
وعند مقاتلته أصابته جراحات وأصابه سهم فى جهته وحال الليل بين الفريقين فطلبوا حجاما من بعض القرى لينزع له النصل فاستخرجه فمات من ساعته فذفنوه من ساعته وأخفوا قبره وأجروا عليه الماء واستكتموا الحجام ذلك فلما أصبح
____________________
(2/207)
الحجام مشى إلى يوسف بن عمر منتصحا وأخبره ودله على موضع قبره فاستخرجه وبعث برأسه إلى هشام فكتب إليه هشام أن اصلبه عريانا فصلبه كذلك
ويقال إن هشام بن عبد الملك قال يوما لزيد بلغنى أنك تريد الخلافة ولا تصلح لك لأنك ابن أمة فقال قد كان إسماعيل ابن أمة وإسحاق ابن حرة فأخرج الله من صلب إسماعيل خير ولد آدم فقال له هشام قم قال إذن لا ترانى إلا حيث تكره ومن شعره ** لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم ** ** وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا **
قيل ورأس زيد دفنت بمصر القديمة بمسجد يقال له مشهد زين العابدين بن الحسين وكذلك وقع في طبقات الشيخ الشعرانى نفعنا الله به وببركاته وليس كذلك بل هو محل زيد بن زين العابدين كما ذكره المقريزى فى الخطط ويقال له زيد الأزياد
وذكر فى حياة الحيوان أن ما ينسجه العنكبوت يخرج من خارج جلدها لا من جوفها وعن على رضى الله تعالى عنه طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإن تركه فى البيوت يورث الفقر
وأمر الله تعالى حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغاز أى ويروى أنهما باضتا أى وفرختا قال لأبى بكر ضع قدمك موضع قدمى فإن الرمل لاينم وتقدم ما فى ذلك أى لأن المشركين لما فقدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شق عليهم ذلك وخافوا ذلك وطلبوه بمكة أعلاها وأسفلها وبعثوا القافة أى الذين يقصون الأثر فى كل وجه يقفون أثره فوجدوا الذى ذهب إلى جبل ثور أثره وقال ما تقدم
وأقبل فتيان قريش من كل بطن بعصيهم وسيوفهم أى ولما أقبلوا أشفق صلى الله عليه وسلم على صهيب وخاف عليه وقال واصهيباه ولا صهيب لى أى لأنه تواعد معهما أن يكون ثالثهما فلما أراد صلى الله عليه وسلم الخروج للغار أرسل له أبو بكر مرتين أو ثلاثا فوجده يصلى فقال يا رسول الله وجدت صهيبا يصلى فكرهت أن أقطع عليه صلاته فقال أصبت وتقدمت الحوالة على هذا
فلما كان فتيان قريش على أربعين ذراعا من الغار تعجل بعضهم ينظر فى الغار فلم ير إلا حمامتين وحشيتين أى مع العنكبوت فقال ليس فيه أحد فسمع النبى صلى الله عليه وسلم ما قال فعرف أن الله عز وجل قد درأ عنه أى دفع عنه
____________________
(2/208)
وفى رواية فلما انتهوا إلى فم الغار قال قائل منهم ادخلوا الغار فقال أمية بن خلف وما أربكم أى حاجتكم إلى الغار أن عليه لعنكبوتا كان قبل ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم أى ولو دخل الغار لانفتح ذلك العنكبوت وتكسر البيض وهذا يدل على أن البيض لم يكن فرخ أى ويحتمل أن بعض البيض فرخ وبعضه لم يفرخ ثم جاء قبالة فم الغار فبال فقال أبو بكر يا رسول الله إنه يرانا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر لو كان يرانا ما فعل هذا وفى بعض الروايات لو رآنا ما تكشف عن فرجه أى ما استقبلنا بفرجه وبوله وقال أبو جهل أما والله إنى لأحسب قريبا يرانا ولكن بعض سحره قد أخذ على أبصارنا فانصرفوا
وذكر ابن كثير أن بعض أهل السير ذكر أن أبا بكر رضى الله تعالى عنه لما قال للنبى صلى الله عليه وسلم لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه قال له النبى صلى الله عليه وسلم لو جاءونا من ها هنا لذهبنا من ها هنا فنظر الصديق إلى الغار قد انفرج من الجانب الآخر وإذا البحر قد اتصل به وسفينة مشدودة إلى جانبه قال ابن كثير وهذا ليس بمنكر من حيث القدرة العظيمة ولكن لم يرد ذلك بإسناد قوى ولا ضعيف ولسنا نثبت شيئا من تلقاء أنفسنا ونهى النبى صلى الله عليه وسلم يومئذ عن قتل العنكبوت وقال إنها جند من جند الله انتهى
وعن أبى بكر الصديق رضى الله تعالى عنه أنه قال لا أزال أحب العنكبوت منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبها ويقول جزى الله العنكبوت عنا خير فإنها نسجت على وعليك يا أبا بكر إلا أن البيوت تطهر من نسجها أى ينبغى ذلك لما تقدم أن وجود نسجها فى البيوت يورث الفقر
وفى الجامع الصغير جزى الله العنكبوت عنا خيرا فإنها نسجت على الغار
أقول فيه أن فى الحديث العنكبوت شيطان فاقتلوه وفى لفظ العنكبوت شيطان مسخه الله فاقتلوه فإن صح وثبت تأخره فهو ناسخ له وإن كان متقدما على ما هنا وصح ما هنا فهو منسوخ به والله أعلم وبارك صلى الله عليه وسلم على الحمامتين وفرض جزاء الحمام وانحدرتا فى الحرم فأفرختا كل شئ فى الحرم من الحمام أى ولأجل ذلك ذهب الغزالى من أئمتنا إلى صحة الوقف على حمام مكة دون غيره من الطيور وهو الراجح
____________________
(2/209)
ونظر فى الإمتاع فى كون حمام الحرم من نسل ذلك الزوج فإنه روى فى قصة نوح عليه الصلاة والسلام أنه بعث الحمامة من السفينة لتأتيه نخبر الأرض فوقعت بوادى الحرم فإذا الماء قد نضب من موضع الكعبة وكانت طينتها حمراء فاختضبت رجلاها ثم جاءته فمسح عنقها وطوقها طوقا ووهب لها الحمرة فى رجليها وأسكنها الحرم ودعا لها بالبركة
وفى شعر الحادث بن مضاض الذى أوله ** كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ** ** أنيس ولم يسمر بمكة سامر ** ** ويبك لبيت يؤذى حمامه ** ** يظل به أمنا وفيه العصافر **
ففى هذا أن الحمام قد كان فى الحرم من عهد جرهم أى ونوح وذكر بعضهم أن حمام مكة أظله صلى الله عليه وسلم يوم فتحها فدعا له بالبركة
ويروى أن أبا بكر رضى الله تعالى عنه لما رأى قريشا أقبلت نحو الغار خصوصا ومعهم القافة بكى أى ويقال لما سمع القائف يقول لقريش والله ما جاز مطلوبكم من هذا الغار حزن وبكى وقال والله ما على نفسى أبكى ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحزن إن الله معنا وأنزل الله تعالى سكينته على أبى بكر رضى الله تعالى عنه أى وأنزل عليه أمنته التى تسكن عندها القلوب قيل قال له لا تحزن ولم يقل له لا تخف لأن حزنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا النهى تأنيس وتبشير له كما فى قوله تعالى له صلى الله عليه وسلم { ولا يحزنك قولهم } وبه يرد ما زعمته الرافضة أن ذلك غضبا من أبى بكر وذماله لأن حزنه رضى الله تعالى عنه إن كان طاعة فالنبى صلى الله عليه وسلم لا ينهى عن الطاعة فلم يبق إلا أنه معصية
وفى رواية عن أبى بكر رضى الله تعالى عنه قلت للنبى صلى الله عليه وسلم ونحن فى الغار لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه أى لأنهما علوا على رؤوسهما
فعن أبى بكر قال نظرت إلى أقدام المشركين ونحن فى الغار وهم على رءوسنا فقلت يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه فقال يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما
قال بعضهم كان معهما وثالثهما باللفظ والمعنى أما باللفظ فكان يقال يا رسول الله ويقال لأبى بكر يا خليفة رسول الله وأما بالمعنى فكان مصاحبا لهما بالنصر والهداية
____________________
(2/210)
والإرشاد والضمير فى أيده بجنود لم تروها راجع للنبى صلى الله عليه وسلم وتلك الجنود ملائكة أنزلهم الله تعالى عليه فى الغار يبشرونه صلى الله عليه وسلم بالنصر على أعدائه
وروى أ ن أبا بكر رضى الله تعالى عنه عطش فى الغار فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اذهب إلى صدر الغار فاشرب فانطلق أبو بكر رضى الله تعالى عنه إلى صدر الغار فوجد ماء أحلى من العسل وأبيض من اللبن وأزكى رائحة من المسك فشرب منه فقال له رسول الله صلى إن الله أمر الملك الموكل بأنهار الجنة أن يخرق نهرا من جنة الفردوس إلى صدر الغار لتشرب قال أبو بكر يا رسول الله ولى عند الله هذه المنزلة فقال النبى صلى الله عليه وسلم نعم وأفضل والذى بعثنى بالحق نبيا لا يدخل الجنة مبغضك ولو كان عمله عمل سبعين نبيا
أى وذكر بعضهم قال كنت جالسا عند أبى بكر رضى الله تعالى عنه فقال من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة فليقم فقام رجل رجل فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدتى بثلاث حثيات من تمر فقال أرسلوا إلى على فجاء فقال يا أبا الحسن إن هذا يزعم كذا وكذا فاحث له فحثى له فقال أبو بكر عدوها فعدوها فوجدوها كل حثية ستين تمرة لا تزيد ولا تنقص فقال أبو بكر صدق الله ورسوله قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة فى الغار كفى وكف على فى العدد سواء ذكر الذهبى أنه موضوع ولعل قول الصديق صدق الله ورسوله علة لاختياره عليا على نفسه فى أن يحثو لا أن ذلك علة لكون كل حثية جاءت ستين حبة
ولما أيست قريش منهما أرسلو لأهل السواحل إن من أسر أو قتل أحدهما كان له مائة ناقة أى ويقال إن أبا جهل أمر مناديا ينادى فى أعلى مكة وأسفلها من جاء بمحمد أو دل عليه فله مائة بعير وإلى قصة الغار أشار صاحب الهمزية بقوله ** أخرجوه منها وآواه غار ** ** وحمته حمامة ورقاء ** ** وكفته بنسجها عنكبوت ** ** ما كفته الحمامة الحصداء ** ** واختفى منهم على قرب مرآ ** ** ومن شدة الظهور الخفاء **
أى كانوا سببا لإخراجه من تلك الأرض التى هى مولده صلى الله عليه وسلم ومرباه ووطنه ووطن آبائه بسبب مبالغتهم فى إيدائه وإيذاء أصحابه خصوصا ضعفاءهم وآواه
____________________
(2/211)
غار وحمته منهم حمامة فى لونها بياض وسواد وكفته أعداءه عنكبوت بنسجها الذى كفته إياهم الحمامة الكثيرة الريش فتلك الحمامة كانت ورقاء حصداء واستتر منهم مع قرب محل رؤيته
وحكمة خفائه واستتاره منهم مع ظهوره لهم لو نظر أحدهم إلى ما تحت قدميه شدة ظهوره عليهم بالغلبة والمعونة الإلهية ومكثا فى الغار ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبى بكر وهو غلام يعرف ما يقال يأتيهما حين يختلط الظلام ويدلج من عندهما بفجر فيصبح مع قريش كبائت فى بيته فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه ويخبرهما به
وكان عامر بن فهيرة مولى أبى بكر رضى الله تعالى عنهما كان مملوكا للطفيل فأسلم وهو مملوك وكان ممن يعذب فى الله عز وجل فاشتراه أبو بكر من الطفيل وأعتقه كما تقدم فكان يروح عليهما بمنحة غنم أى قطعة من غنم أبى بكر فكان يرعاها حيث تذهب ساعة من العشاء ويغدو بها عليهما ثم يغلس أى إذا خرج من عندهما عبد الله تبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم حتى يقفو أثر قدميه يفعل ذلك فى كل ليلة من تلك الليالى الثلاث أى وذلك بارشاد من أبى بكر رضى الله تعالى عنه
ففى السيرة الهشامية وأمر أبو بكر ابنه عبدالله رضى الله تعالى عنهما أن يستمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون فى ذلك اليوم من الخبر وأمر عامر بن فهيرة أن يرعى عنمه نهارا ثم يريحها عليهما إذا أمسى فى الغار وكانت أسماء بنت أبى بكر رضى الله تعالى عنها تأتيهما إذا أمست بما يصلحهما من الطعام
أقول وفى الدر عن عائشة رضى الله تعالى عنهما ما كان أحد يعلم مكان ذلك الغار إلا عبد الله بن أبى بكر وأسماء بنت أبى بكر فإنهما كانا يختلفان إليهما وعامر بن فهيرة فإنه كان إذا سرح غنمه مر بهما فحلب لهما
وفى الفصول المهمة وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام بلياليها فى الغار وقريش لا يدرون أين هو وأسماء بنت أبى بكر رضى الله تعالى عنها تأتيهما ليلا بطعامهما وشرابهما فلما كان بعد الثلاث أمرها صلى الله عليه وسلم أن تأتى عليا وتخبره بموضعهما وتقول له يستأجر لهما دليلا ويأتى معه بثلاث من الإبل بعد مضى ساعة من الليلة الآتية أى وهى الرابعة فجاءت أسماء إلى على كرم الله وجهه فأخبرته بذلك فاستأجر لهما رجلا يقال له الأريقط بن عبد الله الليثى وأرسل معه بثلاث من الإبل فجاء بهن إلى أسفل
____________________
(2/212)
الجبل ليلا فلما سمع النبى صلى الله عليه وسلم رغاء الإبل نزل من الغار هو وأبو بكر فعرفاه أى والذى فى البخارى فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث فارتحلا وتقدم أن المستأجر لهما للدليل النبى صلى الله عليه وسلم وأبو بكر
وقد يجمع بأن المراد باستئجار على رضى الله تعالى عنه إعطاؤه الأجرة وكونه استأجر لهما ثلاث رواحل وأتى بها معه فيه نظر ظاهر وركب النبى صلى الله عليه وسلم وركب أبو بكر وركب الدليل
وفى الدر المنثور فمكث هو صلى الله عليه وسلم وأبو بكر فى الغار ثلاثة أيام يختلف إليهما بالطعام عامر بن فهيرة وعلى يجهزهما فاشترى ثلاثة أباعر واستأجر لهم دليلا فلما كان فى بعض الليل من الليلة الثالثة أتاهم على بالإبل والدليل فليتأمل ذلك مع ما قبله
وفى حديث مرسل مكثت مع صاحبى فى الغار بضعة عشر يوما ما لنا طعام إلا ثمر البرير أى الأراك وتقدم فى باب رعيه الغنم أن ثم الأراك النضيج يقال له الكباث بكاف فباء موحدة مفتوحتين فتاء مثلثة
قال ابن عبد البر وهذا أى القول بأنهما مكثا فى الغار بضعة عشر يوما غير صحيح عند أهل العلم بالحديث قال الحافظ ابن حجر والمراد كما قال الحاكم أنهما مكثا مختفيين من المشركين فى الغار وفى الطريق بضعة عشر يوما وذكر فى الغار أى الاقتصار عليه من بعض الرواة والله أعلم
قال وعن أسماء بنت أبى بكر رضى الله تعالى عنهما أن أبا بكر أرسل ابنه عبد الله فحمل ماله وكان خمسة آلاف درهم أو أربعة آلاف وكان حين أسلم أربعين ألف درهم وفى لفظ أربعين ألف دينار أى ويؤيد ذلك ما جاء عن أنس رضى الله تعالى عنه أنفق أبو بكر على النبى صلى الله عليه وسلم أربعين ألف دينار فحمل إليه ذلك فى الغار قالت أسماء فدخل علينا جدى أبو قحافة رضى الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك وكان قد ذهب بصره فقال والله إنى لأراه يعنى أبا بكر قد فجعكم بماله مع نفسه فقال كلا يا أبت إنه ترك لنا خيرا كثيرا قالت فأخذت أحجارا فوضعتها فى كوة أى طاقة فى البيت كان أبى يضع ماله فيها ثم وضعت عليها ثوبا ثم أخذت بيده فقلت ضع يدك على هذا المال قالت فوضع يده عليه فقال لا بأس إن كان ترك لكم هذا
____________________
(2/213)
فى هذا بلاغ لكم ولا والله ما ترك لنا شيئا ولكن أردت أن أسكن قلب الشيخ اه
أى ولما بلغ ضمرة بن جندب خروجه صلى الله عليه وسلم وكان مريضا فقال لا عذر لى فى مقامى بمكة فأمر أهله فخرجوا به فلما وصل إلى التنعيم مات به فأنزل الله تعالى { ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما } وقيل نزلت فى خالد بن حرام بن خويلد بن أسد أسلم قديما وهاجر إلى الحبشة فى المرة الثانية فمات من نهش حية قبل أن يصل وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لحسان رضى الله تعالى عنه هل قلت فى أبى بكر شيئا قال نعم قال قل وأنا أسمع فقال ** وثانى اثنين فى الغار المنيف وقد ** ** طاف العدو به إذ صاعدوا الجبلا ** ** وكان حب رسول الله قد علموا ** ** من البرية لم يعدل به رجلا **
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه أى وفى لفظ فتبسم ثم قال صدقت يا حسان هو كما قلت إنه أحب البرية إليه أى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعدل به غيره
أقول فى ينبوع الحياة والذى أعرف فى هذين البيتين أنهما من أبيات رثى بهما حسان أبا بكر رضى الله تعالى عنهما هذا كلامه
وقد يقال لا مانع أن يكون أدخلهما حسان فى مرثيته لأبى بكر بعد ذلك والله أعلم وعن أبى بكر رضى الله تعالى عنه قال لجماعة أيكم يقرأسورة التوبة قال رجل أنا أقرأ فلما بلغ { إذ يقول لصاحبه لا تحزن } بكى وقال أنا والله صاحبه
وعن أبى الدرداء رضى الله تعالى عنه قال رآنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمشى أمام أبى بكر فقال يا أبا الدرداء أتمشى أمام من هو أفضل منك فى الدنيا والآخرة فوالذى نفس محمد بيده ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبى بكر وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أتانى جبريل فقال إن الله تعالى يأمرك أن تستشير أبا بكر وعن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حب أبى بكر واجب على أمتى
____________________
(2/214)
= باب الهجرة إلى المدينة
لا يخفى أنه لما كان صبيحة الليلة الثالثة من دخولهما الغار على ما تقدم جاءهما الدليل الذى هو الرجل الدؤلى براحلتيهما فركبا وانطلق بهما وانطلق معهما عامربن فهيرة أى رديفا لأبى بكر يخدمهما أى وفى البخارى أن أبا بكر كان رديفا له صلى الله عليه وسلم أى ولامخالفة لما سيأتى
ويروى أنه صلى الله عليه وسلم لما خرج من الغار وركب أخذ أبو بكر بغرزه أى يركابه والغرز بغين معجمة مفتوحة وراء ساكنة وزاى ركاب الإبل خاصة فقال صلى الله عليه وسلم ألا أبشرك قال بلى فداك أبى وأمى قال إن الله عز وجل يتجلى للخلائق يوم القيامة عامة ويتجلى لك خاصة قال الخطيب هذا الحديث لا أصل له قال السيوطى رأيت له متابعات ودعا صلى الله عليه وسلم بدعاء منه اللهم اصحبنى فى سفرى واخلفنى فى أهلى
وأخذ بهم الدليل على طريق السواحل وصار أبو بكر إذا سأله سائل عن النبى صلى الله عليه وسلم من هذا الذى معك أى وفى رواية من هذا الذى بين يديك وفى رواية من هذا الغلام بين يديك أى بناء على أنه كان رديفا له صلى الله عليه وسلم يقول هذا الرجل يهدينى الطريق يعنى طريق الخير أى لأنه صلى الله عليه وسلم قال لأبى بكر أله الناس أى أشغل الناس عنى أى تكفل عنى بالجواب لمن سأل عنى فإنه لا ينبغى لنبى أن يكذب أى ولو صورة كالتورية فكان أبو بكر يقول لمن سأله عن النبى صلى الله عليه وسلم ما ذكر وإنما لم يسأل أبو بكر عن نفسه لأن أبا بكر كان معروفا لهم لأنه كان يكثر المرور عليهم فى التجارة للشام أى معروفا لغالبهم فلا ينافى ما جاء فى بعض الروايات أنه كان إذا سئل من أنت يقول ياغى أى طالب حاجة فعلم أن الأنبياء لا ينبغى لهم الكذب ولو صورة ومن ذلك التورية لكن سيأتى فى غزوة بدر وقوع التورية منه صلى الله عليه وسلم
وفى رواية ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وراء أبى بكر ناقته وفى التمهيد لأبن عبد البر أنه لما أتى براحلة أبى بكر سأل أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركب ويردفه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أنت اركب وأردفك أنا فإن
____________________
(2/215)
الرجل أحق بصدر دابته فكان إذا قيل له من هذا وراءك قال هذا يهدينى السبيل
أقول لا مخالفة بين هذا وما تقدم لأنه يجوز أن يكون ركب صلى الله عليه وسلم تارة خلف أبى بكر على ناقة أبى بكر وتارة ركب صلى الله عليه وسلم على ناقة نفسه أمامه وأن ركوبه لها كان فى أثناء الطريق ويكون صلى الله عليه وسلم إما أركب راحلته عامر بن فهيرة أو ترك ركوبها لأجل إراحتها والهداية كما تكون من المتقدم تكون من المتأخر وإن كان الأول هو الغالب والله أعلم وإلى توجهه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أشار صاحب الهمزية بقوله ** ونحا المصطفى المدينة واشتا ** ** قت إليه من مكة الأنحاء **
أى وقصد صلى الله عليه وسلم واشتاقت إليه الجهات والنواحى من مكة وقد جاء أنه لما خرج صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة مهاجرا وبلغ الجحفة اشتاق إلى مكة فأنزل الله تعالى عليه { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } أى إلى مكة
وأهل الرجعة يقولون إلى الدينا أى من يقول بأن النبى صلى الله عليه وسلم يرجع إلى الدنيا كما يرجع عيسى وقد أظهرها عبد الله بن سبأ كان يهوديا وأمه يهودية سوداء ومن ثم كان يقال له ابن السوداء أظهر الإسلام فى خلافة عمر رضى الله تعالى عنه وقيل فى خلافة عثمان رضى الله عنه وكان قصده بإظهار الإسلام بوار الإسلام فكان يقول العجب ممن يزعم أن عيسى يرجع إلى الدينا ويكذب برجعة محمد صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } فمحمد أحق بالرجعة من عيسى عليهما الصلاة والسلام وتقدم ذلك فى أثناء الكلام على بدء الوحى وسيأتى ذلك عند بناء المسجد وكانت قريش كما تقدم أرسلت لأهل السواحل أن من قتل أو أسر أبا بكر أو محمدا كان له مائة ناقة أى فمن قتلهما أو أسرهما كان له مائتان
فعن سراقة جاءنا رسل كفار قريش يجعلون فيهما إن قتلا أو أسرا ديتين فبينا أنا جالس فى مجلس من مجالس قومى بنى مدلج أى بقديد وهو محل قريب من رابغ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس فقال يا سراقة إنى رأيت أسودة أى أشخاصا بالسواحل أراه محمدا وأصحابه قال سراقة فعرفت أنهم هم فقلت إنهم ليسوا بهم ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا أى بمعرفتنا يطلبون ضالة لهم أى وفى
____________________
(2/216)
لفظ قال رأيت ركبة بالتحريك جمع راكب ثلاثا مروا على آنفا أى قريبا إنى لأراهم محمدا وأصحابه قال سراقة فأومأت إليه أن اسكت ثم قلت إنما هم بنو فلان يتبعون ضالة لهم ثم لبثت فى المجلس ساعة ثم قمت إلى منزلى فأمرت جاريتى أن تخرج فرسى خفية إلى بطن الوادى وتحبسها على وأخذت رمحى وخرجت به من ظهر البيت فخططت بزجه فى الأرض والزج الحديدة التى تكون فى أسفل الرمح وخفضت عاليه أى أمسكت بأعلاه وجعلت أسفله فى الأرض لئلا براه أحد وإنما فعل ذلك كله ليفوز بالجعل المتقدم ذكره ولا يشركه فيه أحد من قومه بخروجه معه لقتلهما أو أسرهما زاد فى رواية ثم انطلقت فلبست لامتى وجعلت أجر الرمح مخافة أن يشركنى أهل الماء يعنى قومه قال حتى أتيت فرسى أى وكان يقال لها العود والفرس لغة تقع على الذكر والأنثى قال فى النور والمراد هنا الأنثى لقوله فركبتها ولقوله فرقعتها أى بالغت فى إجرائها حتى دنوت منهم
وفى لفظ فرفعتها تقرب بى وحينئذ يكون المراد أسرعت بالسير بها لأن التقريب دون العدو وفوق العادة فعثرت بى فرسى أى فوقعت لمنخريها كما فى حديث أسماء بنت أبى بكر رضى الله تعالى عنهما
زاد فى رواية ثم قامت تحمحم فخررت عنها فقمت فأهويت بيدى على كنانتى فاستخرجت الأزلام أى وهى عيدان السهام التى لا ريش لها ولم تركب فيها النصال واستقسمت بها أضرهم أم لا فخرج الذى أكره وهو عدم إضرارهم أى لأنه مكتوب عليها أفعل لا تفعل ويقال للأول الآمر ويقال للثانى الناهى فركبت فرسى وعصيت الأزلام تقرب بى حتى سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الألتفات ساخت أى غابت يدا فرسى فى الأرض حتى بلغتا الركبتين أى وكانت الأرض جلدة فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة إذ لأثر يديها عثان أى غبار ساطع فى السماء مثل الدخان أى مع كون الأرض جلدة فاستقسمت بالأزلام فخرج الذى أكره فناديتهم بالأمان أى وقلت أنظرونى لا أوذيكم ولا يأتيكم منى شئ تكرهونه
أى وفى رواية ناديت القوم وقلت أنا سراقة بن مالك أنظرونى أكلمكم أنا لكم نافع غير ضار وإنى لا أدرى لعل الحى فزعوا لركوبى أى أن بلغهم ذلك وأنا راجع
____________________
(2/217)
رادهم عنكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر قل له ماذا تبتغى فوقفوا فأخبرتهم بما تريد الناس منهم
وفى رواية قال يا محمد ادع الله أن يطلق فرسى وأرجع عنك وأرد من ورائى وفى رواية قال ياهذان ادعوا لى الله ربكما ولكما أن لا أعود ففعل أى دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق الفرس وحينئذ يكون زجره لها ونهوضها بعد الدعاء فلا مخالفة قال فركبت فرسى أى بعد نهوضها حتى جئتهم فقلت إن قومك جعلوا فيك الدية أى مائة من الإبل لمن قتلك أو أسرك وهذا هو المراد بقوله فى الرواية السابقة فأخبرتهم بما يريد الناس منهم وكأنه رأى أن ذلك كاف فى لحوقه بهم عن ذكر أبى بكر قال سراقة وعرضت عليهما الزاد والمتاع فلم يفبلا وقالا اخف عنا أى وفى رواية عرضت عليهما الزاد والحملان أى ولعل الحملان هو المراد بالمتاع أى لأنه جاء أنه قال لهما خذا هذا السهم من كنانتى وغنمى وإبلى بمحل كذا وكذا فخذا منهما ما شئتما فقالا اكفنا نفسك فقال كفيتماها
أقول وفى رواية قال له صلى الله عليه وسلم يا سراقة إذا لم ترغب فى دين الإسلام فإنى لا أرغب فى إبلك ومواشيك وفى رواية عن أبى بكر رضى الله عنه قال لما أدركنا سراقة قلت يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا { لا تحزن إن الله معنا } أى وقد تقدم أنه قال ذلك له فى الغار فلما كان بيننا وبينه قيد أى مقدار رمح أو ثلاثة قلت يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا وبكيت قال لم تبكى قلت أما والله ما على نفسى أبكى ولكن أبكى عليك فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اللهم اكفناه بما شئت فساخت به فرسه فى الأرض إلى بطنها وكانت الأرض صلبة أى ولا يخالف ما سبق أنها بلغت الركبتين لجواز أن يكون ذلك فى أول أمرها ثم صارت إلى بطنها وذلك كله فى المرة الأولى فلا يخالف ما فى الإمتاع لما قرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ساخت يدا فرسه فى الأرض إلى بطنها فقال ادع لى يا محمد أن يخلصنى الله تعالى ولك على أن أرد عنك الطلب فدعا فخلص فعاد فتبعهم فساخت قوائم فرسه فى الأرض أشد من الأولى فقال يا محمد قد علمت أن هذا من دعائك على الحديث إذ هو يدل على أنها فى المرة الأولى وصلت إلى بطنها وفى الثانية وصلت إلى ما هو زائد على ذلك وقد يدل له ما يأتى عن الهمزية ولعل المراد أنه دخل جزء من بطنها فى الأرض
____________________
(2/218)
فى المرة الثانية وفى لفظ فقال يا محمد قد علمت أن هذا عملك فادع الله ينجينى مما أنا فيه فو الله لأعمين على من ورائى من الطلب فدعا له فانطلق راجعا
وفى السبعيات للهمدانى أن سراقة لما دنا منه صلى الله عليه وسلم صاح وقال يا محمد من يمنعك منى اليوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يمنعنى الجبار الواحد القهار ونزل جبريل عليه السلام وقال يا محمد إن الله عز وجل يقول جعلت الأرض مطيعة لك فأمرها بما شئت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أرض خذيه فأخذت الأرض أرجل جواده إلى الركب فساق سراقة فرسه فلم يتحرك فقال يا محمد الأمان وعزة العزى لو أنجيتنى لأكونن لك لا عليك فقال يا أرض أطلقيه فأطلقت جواده
وروى فى بعض التفاسير أن سراقة عاهد سبع مرات ثم ينكث العهد وكلما ينكث العهد تغوص قوائم فرسه فى الأرض وهذا أى الاقتصار على غوص قوائم فرسه فى الأرض لا ينافى الزيادة فلا يخالف ما سبق وفى السابعة تاب توبة صدق
وفى الفصول المهمة لما اتصل خبر مسيره صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وذلك فى اليوم الثانى من خروجه صلى الله عليه وسلم من الغار جمع الناس أبو جهل وقال بلغنى أن محمدا قد مضى نحو يثرب على طريق الساحل ومعه رجلان آخران فأيكم يأتينى بخبره فوثب سراقة فقال أنا لمحمد يا أبا الحكم ثم إنه ركب راحلته واستجنب فرسه وأخذ معه عبدا له أسود كان ذلك العبد من الشجعان المشهورين فسارا أى فى أثر النبى صلى الله عليه وسلم سيرا عنيفا حتى لحقا به فقال أبو بكر يا رسول الله قد دهينا هذا سراقة قد أقبل فى طلبنا ومعه غلامه الأسود المشهور فلما أبصرهم سراقة نزل عن راحلته وركب فرسه وتناول رمحه وأقبل نحوهم فلماقرب منهم قال النبى صلى الله عليه وسلم اللهم اكفنا أمرسراقة بما شئت وكيف شئت وأنى شئت فغابت قوائم فرسه فى الأرض حتى لم يقدر الفرس أن يتحرك فلما نظر سراقة إلى ذلك هاله ورمى نفسه عن الفرس إلى الأرض ورمى رمحه وقال يا محمد أنت أنت وأصحابك أى أنت كما أنت أى آمن وأصحابك فادع ربك يطلق لى جوادى ولك عهد وميثاق أن أرجع عنك فرفع النبى صلى الله عليه وسلم يديه إلى السماء وقال اللهم إن كان صادقا فيما يقول فأطلق له جواده فال قأطلق الله تعال له قوائم فرسه حتى وثب على الأرض سليما أى ولعل هذا فى المرة الثانية أو المرة الأخيرة من السبع على ما تقدم وتقدم أن الاقتصار على القوائم لا ينافى
____________________
(2/219)
الزيادة عليها فلا يخالف ما سبق فى هذه الرواية ورجع سراقة إلى مكة فاجتمع الناس عليه فأنكر أنه رأى محمدا فلا زال به أبو جهل حتى اعترف وأخبرهم بالقصة وفى ذلك يقول سراقة مخاطبا لأبى جهل ** أبا حكم والله لو كنت شاهدا ** ** لأمر جوادى إذ تسوخ قوائمه ** ** علمت ولم تشكك بأن محمدا ** ** رسول ببرهان فمن ذا يقاومه **
وسياق هذه الرواية يدل على أنه خرج خلف النبى صلى الله عليه وسلم من مكة ويدل لذلك ما ذكر أنه كان أحد القاصين لأثره صلى الله عليه وسلم فى الجبل لكنه مخالف لما تقدم أنه خرج خلفه صلى الله عليه وسلم من قديد من مجلس قومه وأخفى خروج فرسه وخروجه عن قومه
وقد يقال لا مخالفة لأنه يجوز أن يكون لما خرج من مكة سلك طريقا غير الطريق الذى سلكها النبى صلى الله عليه وسلم فلم يجده وسبقه على قديد فجلس فى مجلس قومه فلما أخبر بمرورهم فعل ما تقدم ثم وجد عبده الأسود فى مروره وكان معه راحلته فركبها واستجنب فرسه وصحب عبده
ولا مانع أن يخرج من مكة بعد خروجهم من الغار ويسبقهم على قديد ولا ينافى ذلك قوله فأتانا رسل كفار قريش لأنه يجوز أن يكون ذلك هو الحامل لسراقة على الذهاب إلى مكة لعله يجده بطريقه ولا ينافى ذلك كونه كان أحد القصاصين لأثره صلى الله عليه وسلم لأنه يجوز أن يكون عاد إلى قديد قبل أن يجعل الجعل وفى كلام بعضهم أنه أرسل بهذين البيتين إلى أبى جهل ولا منافاة لجواز أن يكون أرسل بهما قبل أن يشافهه بهما
وفى رواية أنه لما لحق بهم قال صلى الله عليه وسلم اللهم اصرعه فصرع عن فرسه فقال يا نبى الله مرنى بما شئت قال تقف مكانك لا تتركن أحدا يلحق بنا
ثم لا يخفى أن صرعه عن فرسه يحتمل أن يكون لما ساخت ويحتمل أنه صرع عنها قبل ذلك وهو ظاهر سياق الرواية الأولى وهى فعثرت بى فرسى فخررت عنها وحينئذ يكون عثورها بدعائه صلى الله عليه وسلم والله أعلم
قال سراقة فسألته أن يكتب لى كتاب أمن لأنه وقع فى نفسى حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/220)
وفى السبعيات قال سراقة يا محمد إنى لأعلم أنه سيظهر أمرك فى العالم وتملك رقاب الناس فعاهدنى أنى إذا أتيتك يوم ملكك فأكرمني فأمر عامر بن فهيرة أى وقيل أبا بكر فكتب لى فى رقعة من أدم أى وقيل فى قطعة من عظم وقيل فى خرقة
أقول وحينئذ يمكن أن يكون كتب عامر بن فهيرة أولا فطلب سراقة أن يكون أبو بكر هو الذى يكتب فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابة ذلك فأحدهما كتب فى الرقعة من الأدم والآخر كتب فى العظم أو الخرقة أو المراد بالخرقة الرقعة من الأدم فلا مخالفة
ولما اراد الانصراف قال له كيف بك ياسراقة إذا تسورت بسوارى كسرى قال كسرى بن هرمز قال نعم وسيأتى أن سراقة أسلم بالجعرانة ولما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بها قال له مرحبا بك
وعن سراقة لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين والطائف خرجت ومعى الكتاب لألقاه فلقيته بالجعرانة فدخلت فى كتيبة من خيل الأنصار فجعلوا يقرعوننى بالرماح ويقولون إليك ماذا تريد قال فدنوت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته فرفعت يدى بالكتاب ثم قلت يا رسول الله هذا كتابى وأنا سراقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم وفاء وبشر أدنه فدنوت منه وأسلمت
ولما جئ لعمر رضى الله تعالى عنه فى زمن خلافته بسوارى كسرى وتاجه ومنطقته أى وبساطه وكان ستين ذراعا فى ستين ذراعا منظوما باللؤلؤ والجواهر الملونة على ألوان زهر الربيع كان يبسط له فى إيوانه ويشرب عليه إذا عدمت الزهور وجئ له بمال كثير من مال كسرى وبنات كسرى وكن ثلاثا وعليهن الحلى والحلل والجواهر ما يقصر اللسان عن وصفه وعند ذلك دعا سراقة وقال ارفع يديك وألبسه السوارين وقال له قل الحمد لله الذى سلبهما كسرى بن هرمز الذى كان يقول أنا رب الناس وألبسهما سراقة بن مالك أى ورفع عمر بها صوته وصب المال الذى جئ به من أموال كسرى فى صحن المسجد وفرقه على المسلمين ثم قطع البساط وفرقه بين المسلمين فأصاب عليا رضى الله تعالى عنه منه قطعة باعها بخمسين ألف دينار ثم جئ ببنات الملك الثلاث فوقفن بين يديه وأمر المنادى أن ينادى عليهن وأن يزيل نقابهن عن
____________________
(2/221)
وجوههن ليزيد المسلمون فى ثمنهن فامتنعن من كشف نقابهن ووكزن المنادى فى صدره فغضب عمر رضى الله تعالى عنه وأراد أن يعلوهن بالدرة وهن يبكين فقال له على رضى الله تعالى عنه مهلا يا أمير المؤمنين فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ارحموا عزيز قوم ذل وغنى قوم افتقر فسكن غضبه فقال له على إن بنات الملوك لا يعاملن معاملة غيرهن من بنات السوقة فقال له عمركيف الطريق إلى العمل معهن فقال يقومن ومهما بلغ ثمنهن يقوم به من يختارهن فقومن وأخذهن على رضى الله تعالى عنه فدفع واحدة لعبد الله بن عمر فجاء منها بولده سالم وأخرى لمحمد بن أبى بكر فجاء منها بولده القاسم والثالثة لولده الحسين فجاء منها بولده على الملقب بزين العابدين وهؤلاء الثلاثة فاقوا أهل المدينة علما وورعا وكان أهل المدينة قبل ذلك يرغبون عن التسرى فلما نشأ هؤلاء الثلاثة فيهم رغبوا فيه
ومن غريب الانفاق ما حكاه بعضهم قال كنت أجالس سعيد بن المسيب واعجب سعيد بى يوما فقال لى من أخوالك فقلت أمى فتاة فكأنى نقصت من عينه فأنا عنده إذ دخل عليه سالم بن عبد الله بن عمر فلما خرج من عنده قلت له ياعم من هذا قال سبحان الله أتجهل مثل هذا من قومك هذا سالم بن عبد الله بن عمر قلت فمن أمه قال فتاه ثم دخل القاسم بن محمد فجلس عنده ثم نهض فلما خرج قلت يا عم من هذا قال ما أعجب أمرك أتجهل مثل هذا هذا القاسم بن محمد بن أبى بكر قلت فمن أمه قال فتاه ثم دخل عليه على بن حسين فجلس ثم نهض فلما خرج قلت له من هذا قال عجبت منك أتجهل مثل هذا هذا على زين العابدين بن الحسين قلت فمن أمه قال فتاة قلت يا عمى رأيتنى نقصت من عينك لما علمت أن أمى فتاة فما لى فى هؤلاءأسوة فقال أجل وعظمت فى عينه جدا
ولما رجع سراقة صار يرد عنهم الطلب لا يلقى أحدا إلا رده يقول سيرت أى اختبرت الطريق فلم أر أحدا وفى لفظ قال لقريش أى لجماعة منهم قصدوه صلى الله عليه وسلم كأنهم أخبروا بمكان مسيره ذلك قد عرفتم بصرى بالطريق وقد سرت فلم أر شيئا فرجعوا أى فإن كفار قريش لما سمعوا من الهاتف أى ومن غيره بأنه صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم نزل فى خيمة أم معبد كما سيأتى أرسلوا سرية فى طلبه يقول قائلهم اطلبوه قبل أن يستعين عليكم بكلبان العرب فيحتمل أن هؤلاء هم الذين ردهم سراقة
____________________
(2/222)
فكان سراقة أول النهار جاهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخر النهار مسلحة أى سلاحا له
وفى رواية قال سراقة خرجت وأنا أحب الناس فى تحصيلهما ورجعت وأنا أحب الناس فى أن لا يعلم بهما أحد ويحتمل أنه بعد أن ردهم سراقة ذهبوا إلى أم معبد
ففى تتمة الخبر أن تلك السرية جاءت إلى أم معبد فسألوها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشفقت أى خافت عليه منهم فتعاجمت عليهم أى أظهرت عدم علمها بذلك فقالت إنكم تسألونى عن أمر ما سمعت به قبل عامى هذا ثم قالت لئن لم تنصرفوا عنى لأصرخن فى قومى عليكم وكانت فى عز من قومها فانصرفوا ولم يعلموا أين توجه أى من أى طريق توجه أى ولعلها قالت لهم ذلك لما رأت منهم التثقيل عليها وهذا السياق يدل على أن قصة أم معبد وإلى قصة سراقة أشار صاحب الأصل بقوله ** غرت سراقة أطماع فساخ به ** ** جواده فانثنى للصلح مطلبا ** وإليها أشار أيضا صاحب الهمزية بقوله ** واقتفى أثره سراقة فاستهوته ** ** فى الأرض صافن جرداء ** ** ثم ناداه بعد ما سمت الخسف ** ** وقد ينجد الغريق النداء **
أى وتبع أثره سراقة فهوت أى سقطت به صافن وهى الفرس التى تقوم على ثلاث قوائم وتقيم الرابعة على طرف الحافر وهو وصف محمود فى الخيل جرداءقصيرة الشعر وذلك وصف محمود فى الخيل أيضا بعد أن قاربت أن يخسف بها كلها وقد يخلص الدعاء الغريق كما وقع ليونس صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه
قال وعن أبى بكر الصديق رضى الله تعالى عنه أنه قال سرنا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق فلا يرى فيه أحد رفعت لنا صخرة طويلة لها ظل فنزلنا عندها فأتيت الصخرة فسويت بيدى مكانا ينام فيه رسول الله عليه وسلم في ظلها ثم بسطت له فروة معي ثم قلت يا رسول الله نم وأنا أتجسس وأتعرف من تخافه فنام صلى الله عليه وسلم وإذا براع يقبل نغنمه إلى الصخرة يريد منها الذى أردناه أى وهو الظل فلقيته فقلت له لمن أنت يا غلام فقال لرجل من أهل مكة فسماه فعرفته أى وقال الحافظ ابن حجر لم أقف على اسم هذا الراعى ولا على اسم صاحب الغنم قال
____________________
(2/223)
أبو بكر رضى الله تعالى عنه فقلت هل فى غنمك من لبن قال نعم قلت أفتحلب لى قال نعم فأخذ شاة فحلب لى فى قعب معه وفى رواية فى إداوة معى على فيها خرقة فأتيت النبى صلى الله عليه وسلم وكرهت أن أوقظه من نومه فوقفت حتى استيقظ فصببت على اللبن من الماء حتى برد أسفله فقلت يا رسول الله اشرب من هذا اللبن فشرب لأنه جرت العادة بإباحة مثل ذلك لابن السبيل إذا احتاج إلى ذلك فكان كل راع مأذونا له فى ذلك أى كما تقدم فلا ينافى ما جاء لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه أو أن هذا الحديث محمول على فعل ذلك اختلاسا من غيرمعرفة الراعى
وأما قول بعضهم إنما استجاز شربه لأنه مال حربى ففيه نظر لأن الغنائم أى أموال الحربيين لم تكن أبيحت له حينئذ ثم قال يعنى النبى صلى الله عليه وسلم ألم يأن للرحيل قلت بلى فارتحلنا بعد ما زالت الشمس انتهى
أى وفى رواية أن أبا بكر قال قد آن الرحيل يا رسول الله أى دخل وقته قال الحافظ ابن حجر يجمع بينهما بأن يكون النبى صلى الله عليه وسلم بدأ فسأل فقال له أبو بكر بلى ثم أعاد عليه بقوله قد آن الرحيل واجتازوا فى طريقهم بأم معبد أى واسمها عاتكة وكان منزلها بقديد أى وهو محل سراقه كما تقدم ولعلها كانت بطرفه الأخير الذى يلى المدينة ومنزل سراقة بطرفه الذى يلى مكة وكانت مسافته متسعة فليتأمل
وكانت أم معبد امرأة برزة جلدة تختبى بفناء بيتها وتطعم وتسقى وهى لا تعرفهم أى وسألوها لحما وتمرا أى وفى رواية أو لبنا يشترونه فقالت والله لو كانت عندنا شئ ما أعوزناكم أى للشراء وفى رواية ما أعوزناكم القرى لأنهم كانوا مسنتين أى مجدبين فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أم معبد هل عندك من لبن قالت لا والله فرأى شاة خلفها الجهد عن الغنم أى لم تطق اللحاق بها لما بها من الهزال قال هل بها من لبن قالت هى أجهد من ذلك قال أتأذنين فى حلابها قالت والله ما ضربها من فحل قط فشأنك أى أصلح شأنك بها إن رأيت منها حلبا فاحلبها فدعا بها فمسح ظهرها بيده أى وفى رواية فبعث النبى صلى الله عليه وسلم معبدا وكان صغيرا فقال ادع هذه الشاة ثم قال يا غلام هات فرقا فمسح ظهرها وفى رواية فمسح بيده ضرعها وظهرها وسمى الله تعالى أى وقال اللهم بارك لنا شاتنا فدرت واجترت وتفاحجت أى فتحت ما بين رجليها للحلب ثم دعا بإناء يربض الرهط أى يروبهم
____________________
(2/224)
بحيث يغلب عليهم الرى فيربضون وينامون والرهط من الثلاثة للعشرة وقيل من التسعة إلى الأربعين فحلب فيها ثجا أى بقوة لكثرة اللبن ومن ثم قال حتى علاه البهاء وفى رواية حتى علته الثمالة بضم المثلثة أى الرغوة وفى رواية فسقاها فشربت حتى رويت وسقى أصحابه حتى رووا عللا بعد نهل أى مرة ثانية بعد الأولى ثم شرب صلى الله عليه وسلم فكان آخرهم شربا وقال ساقى القوم آخرهم شربا ثم حلب فيه وغادره أى تركه عندها وارتحل وإلى ذلك أشار الإمام السبكى بقوله فى تائيته ** مسحت على شاة لدى أم معبد ** ** بجهد فألفتها أدر حلوبة ** وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله فى وصف راحته الشريفة ** درت الشاة حين مرت عليها ** ** فلها ثروة بها ونماء **
أى أرسلت لبنها حين مرت راحته الشريفة على تلك الشاة فلتلك الشاة بسبب تلك الراحة كثرة لبن وزيادة
وعن أم معبد أن هذه الشاة بقيت إلى خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه إلى سنة ثمانى عشرة وقيل سبع عشرة من الهجرة ويقال لتلك السنة عام الرمادة أى وكانت تلك السنة أجدبت الأرض إجدابا شديدا حتى جعلت الوحوش تأوى إلى الإنس ويذبح الرجل الشاة فيعافها أى لخبث لحمها وكانت الريح إذا هبت ألقت ترابا كالرماد فسمى ذلك العام عام الرمادة وعند ذلك آلى عمر رضى الله تعالى عنه أن لا يذوق لبنا ولا سمنا ولا لحما حتى تحيا الناس أى تجئ عليهم الحيا وهو المطر وقال كيف لا يعنينى شأن الرعية إذ لم يمسنى مامسهم وهذا السياق يدل على أن الذى حلبه صلى الله عليه وسلم عند أم معبد شاة واحدة
وفى تاريخ العينى شارح البخارى قال يونس عن أبن إسحاق أنه دعا ببعض غنمها فمسح ضرعها بيده ودعا الله وحلب فى العس حتى أرغى وقال اشربى يا أم معبد فقالت أشرب أشرب فأنت أحق به فرده عليها فشربت ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك فسقى دليله ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك فسقى عامر بن فهيرة وطلبت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغوا أم معبد فسألوا عنه صلى الله عليه وسلم ووصفوه لها فقالت ما أدرى ما تقولون قد ضافنى حالب الحائل فقالوا ذلك الذى نريده
____________________
(2/225)
وعند قول عمر رضى الله تعالى عنه ذلك قال كعب لعمر يا أمير المؤمنين إن بنى إسرائيل كانوا إذا أصابهم مثل هذا استسقوا بعصبة الأنبياء فقال عمر هذا عم النبى صلى الله عليه وسلم وصنو أبيه وسيد بنى هاشم يعنى العباس فمشى إليه عمر وشكا إليه ما فيه الناس فصعد عمر المنبر ومعه العباس وقال اللهم إنا قد توجهنا إليك بعم نبينا وصنو أبيه صلى الله عليه وسلم فاسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ثم قال عمر للعباس يا أبا الفضل قم وادع فقام وحمد الله وأثنى عليه ودعا بدعاء منه اللهم شفعنا فى أنفسنا وأهلينا اللهم إنا نشكو إليك جوع كل جائع اللهم إنا لا نرجو إلا إياك ولا ندعو غيرك ولا نرغب إلا إليك فسقوا قبل أن يصلوا إلى منازلهم وخاضوا فى الماء وأخصبت الأرض وعاش الناس فقال عمر هذا والله هو الوسيلة إلى الله تعالى فصار الناس يتمسحون بالعباس ويقولون هنيئا لك سقينا فى الحرمين
وذكر السهيلى أن جماعة كانت مقبلة إلى المدينة فى ذلك اليوم فسمعوا صائحا يصيح فى السحاب أتاك الغوث أبا حفص أتاك الغوث أبا حفص
هذا وذكر العلامة ابن حجر الهيتمى فى الصواعق عن تاريخ دمشق أن الناس كرروا الاستسقاء عام الرمادة سنة سبع عشرة من الهجرة فلم يسقوا فقال عمر رضى الله تعالى عنه لأستسقين غدا بمن يسقينى الله به فلما أصبح غدا للعباس رضى الله تعالى عنه فدق عليه الباب فقال من قال عمر قال ما حاجتك قال اخرج حتى نستسقى الله بك قال اقعد فأرسل إلى بنى هاشم أن تطهروا والبسوا من صالح ثيابكم فأتوه وأخرج طيبا وطيبهم ثم خرج وعلى أمامه بين يديه والحسن عن يمينه والحسين عن يساره وبنو هاشم خلف ظهره وقال يا عمرلا تخلط بنا غيرنا ثم أتى المصلى فوقف فحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال اللهم إنك خلقتنا ولم تؤامرنا وعلمت ما نحن عاملون قبل أن تخلقنا فلم يمنعك علمك فينا عن رزقنا اللهم فكما تفضلت علينا فى أوله فتقضل علينا فى آخره قال جابر فما برحنا حتى سحت السماء علينا سحا فما وصلنا إلى منازلنا إلا خوضا فقال العباس أنا ابن المسقى ابن المسقى ابن المسقى ابن المسقى ابن المسقى خمس مرات أشار إلى أن أباه عبد المطلب استسقى خمس مرا ت فسقى هذا كلامه فلينظر الجمع
قال ابن شهاب كان أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم يعرفون للعباس فضله
____________________
(2/226)
ويقدمونه ويشاورونه ويأخذون برأيه أى وكان لايمرعمر وعثمان وهما راكبان إلا ترجلا حتى يجوز العباس وربما مشيا معه إلى بيته إجلالا له أى لأنه صلى الله عليه وسلم قال احفظونى فى العباس فإنه عمى وصنو أبى وفى رواية فإنه بقيه آبائى
قالت أم معبد فى وصف تلك الشاة وكنا نحلبها صبوحا وغبوقا أى بكرة وعشية وما فى الأرض قليل ولا كثير أى مما يتعاطى الدواب أكله ولما جاء زوجها أبو معبد قال السهيلى لا يعرف اسمه وقيل اسمه أكثم بالثاء المثلثة كما تقدم وقيل خنيس وقيل عبد الله جاء عند المساء يسوق اعنزا عجافا ورأى اللبن الذى حلبه صلى الله عليه وسلم عجب وقال يا أم معبد ما هذا اللبن ولا حلوب فى البيت أى والشاة عازب أى لم يطرقها فحل لكن رأيته فى النور فسر العازب بالبعيدة المرعى التى لا تأوى إلى المنزل فى الليل وفى الصحاح العازب الكلأ البعيد الذى لم يؤكل ولم يوطأ
قالت مر بنا رجل مبارك قال صفيه قالت رأيت رجلا ظاهر الوضاءة متبلج الوجه أى مشرقه فى أشفاره أى أجفان عينيه أى شعرها النابت بها وطف أى طول وفى عينيه دعج بشدة السواد وفيه أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن بياض عينيه شديد البياض بل كان أشكل العين والشكلة خمرة فى بياض العين وهو دليل الشهامة وهى من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم فى الكتب القديمة كما تقدم وفى صوته صحل أى بحة بضم الموحدة أى ليس حاد الصوت غصن بين الغصنين لا تشنؤه من طول أى لا تبغضه لفرط طوله ولا تقتحمه من قصر أى تحتقره من قصره لم تعبه ثجلة أى عظم البطن وكبرها ولم تزر به صعلة أى صغر الرأس كأن عنقه إبريق فضة أى والإبريق السيف الشديد البريق إذا نطق فعليه البهاء وإذا صمت فعليه الوقار له كلام كخرزات النظم أزين أصحابه منظرا وأحسنهم وجها أصحابه يحفون به إذا أمر ابتدروا أمره وإذا نهى انتهوا عند نهيه
قال وفى لفظ أنها قالت رأيت رجلا ظاهر الوضاءة أبلج الوجه أى مشرقه حسن الخلق لم تعبه ثجلة ولم تزره صعلة وسيما قسيما أى حسنا فى عينيه دعج وفى أشفاره وطف وفى صوته صحل أو قالت صهل أحور أكحل أى فى أجفان عينيه سواد خلقة وفى عنقه سطع أى نور وفى لحيته كثافة أى لا طويلة ولادقيقة
____________________
(2/227)
أزج أى رقيق طرف الحاجب أقرن أى مقرون الحاجبين شديد سواد الشعر إن صمت فعليه الوقار وإن تكلم سما به أى ارتفع على جلسائه وعلاه البهاء أجمل الناس وأبهاهم من بعيد وأحسنهم من قريب حلو المنطق فصل لا نزر ولا هذر كأن منطقه خززا ت نظمن يتحدرن ربعة لا تشنؤه أى تبغضه من طول أى من فرط طوله ولا تقتحمه عين من نظر أى لا تتجاوزه إلى غيره اختيارا له غصنا بين عصنين فهو أنضر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدرا له رفقاء يحفون به إن قال أنصتوا لقوله وإن أمر ابتدروا إلى أمره محفود مخدوم محشود له حشد وجماعة لا عابس ولا مفند أى يكثر اللوم اه قال هذه والله صفة صاحب قريش ولو رأيته لا تبعته ولأجتهدن أن أفعل
أى وفى الإمتاع ويقال إنها أى أم معبد ذبحت لهم شاة وطبختها فأكلوا منها ووضعت لهم فى سفرتهم منها ما وسعته تلك السفرة وبقى عندها أكثر لحمها
وفى الخصائص الكبرى أنه صلى الله عليه وسلم بايعها أى أسلمت قبل أن يرتحلوا عنها وفى كلام ابن الجوزى أن أم معبد هاجرت واسلمت وكذا زوجها هاجر وأسلم
اقول فى شرح السنة للبغوى وهاجرت هى وزوجها وأسلم أخوها حبيش بن الأصفر واستشهد يوم الفتح وكان أهلها يؤرخون بيوم نزول الرجل المبارك ويقال بأن زوجها خرج فى أثرهم فأدركهم وبايعه صلى الله عليه وسلم ورجع
وفى الأجوبة المسكتة لابن عون قيل لأم معبد ما بال صفتك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه به من سائر صفات من وصفه أى من الرجال فقالت أما علمتم أن نظر المرأة من الرجل أشفى من نظر الرجل إلى الرجل
وفى ربيع الأبرار للزمخشرى عن هند بنت الجون أنه صلى الله عليه وسلم لما كان بخيمة خالتها أم معبد قام من رقدته فدعا بماء فغسل يديه ثم تمضمض ومج ذلك فى عوسجة إلى جانب الخيمة فأصبحت وهى أعظم دوحة أى شجرة ذات فروع كثيرة وجاءت بثمر كأعظم ما يكون فى لون الورس ورائحة العنبر وطعم الشهد ما أكل منها جائع إلا شبع ولا ظمآن إلا روى ولا سقيم إلا برئ ولا أكل من ورقها بعير إلا در فكنا نسميها المباركة فأصبحنا فى يوم من الأيام وقد سقط ثمرها واصفر
____________________
(2/228)
ورقها ففزعنا لذلك فما راعنا إلا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والعجب كيف لم يشتهر أمر هذه الشجرة كما اشتهر أمر الشاة
وعن أم معبد أنها قالت مر على خيمتى غلام سهيل بن عمرو ومعه قربتان فقلت ما هذا قال إن النبى صلى الله عليه وسلم كتب إلى مولاى يستهديه ماء زمزم فأنا أعجل السيركى لا تنشف القرب أى فإنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى سهيل بن عمرو إن جاءك كتابى ليلا فلا تصبحن أو نهارا فلا تمسين حتى تبعث إلى من ماء زمزم فجاء بقربتين فملأهما من ماء زمزم وبعث بهما على بعير مولاه أزهر ولا زال كفار قريش بمكة لا يعلمون أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حتى سمعوا هاتفا يذكرهما ويذكر أم معبد فى أبيات منها ** جزى الله رب الناس خير جزائه ** ** فيقين قالا خيمتى أم معبد ** ** هما نزلا بالبر ثم ترحلا ** ** فأفلح من أمسى رفيق محمد **
فعلموا توجهه ليثرب أى وفى طريق اليمن محل يقال له الدهيم وبئر أم معبد قال بعضهم وليست بأم معبد التى نزل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة ويجوز أن يكون الخبر الذى وصل إليهم فى اليوم الثانى من خروجه من الغار هو قول هذا الهاتف أو عقبه من شخص رآهم وإلى قول الهاتف أشار صاحب الهمزية بقوله ** وتغنت بمدحه الجن حتى ** ** أطرب الإنس منه ذاك الغناء **
أى وأظهرت الجن أوصافه صلى الله عليه وسلم الحميدة فى صورة الغناء الذى تتولع به النفس حتى أطرب ذلك الغناء الإنس حيث سمعوه وأما قول بعضهم إنهم علموا ذلك من هاتف هتف بقوله ** إن يسلم السعدان يصبح محمد من الأمر لا يخشى خلاف المخالف **
فقالوا السعود سعد بن بكر وسعد بن زيد مناة وسعد هديم فلما كانت القابلة سمعوا ذلك الهاتف يقول ** فياسعد سعد الأوس كن أنت مانعا ** ** ويا سعد الخزرجين الغطارف **
فقالوا سعد الأوس سعد بن معاذ وسعد الخزرجين سعد بن عبادة ففيه نظر لأن السعدين المذكورين كانا أسلما قبل ذلك فلا يحسن قوله إن يسلم السعدان
أقول يجوز أن يكون أن هنا بمعنى إذ أى صيرورته صلى الله عليه وسلم آمنا لا يخشى
____________________
(2/229)
خلاف المخالف إسلام السعدين أو المراد دوامهما على الإسلام على أنه ذكر فى الأصل أن إنشاد هذين البيتين وسماع أهل مكة له كان قبل إسلام سعد بن معاذ
وذكر بعضهم أن السعود من الأنصار سبعة أربعة من الأوس سعد بن معاذ وسعد بن خيثمة وسعد بن عبيد وسعد بن زيد وثلاثة من الخزرج سعد بن عبادة وسعد بن الربيع وسعد بن عثمان أبو عبيدة والله أعلم
قال وتقديم قصة سراقة على قصة أم معبد هو ما فى الأصل وقد التزم فيه ترتيب الوقائع وقضية الترتيب ذكر قصة أم معبد قبل قصة سراقة لأنه الصحيح الذى صرح به جماعة اه
أقول ومما يدل لذلك ما تقدم من أن كفار قريش لم يعلموا أين توجه صلى الله عليه وسلم حتى سمعوا الهاتف يذكر أم معبد
وعن أسماء بنت أبى بكر رضى الله تعالى عنهما قالت لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل وقفوا على الباب فخرجت إليهم فقالوا أين أبوك قلت والله لا أدرى فرفع أبو جهل يده فلطم خدى لطمة خرم منها قرطى أى وفى لفظ طرح منها قرطى والقرط ما يعلق فى شحمة الأذن قالت ثم انصرفوا فمضى ثلاث ليال ولم ندر أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل من الجن من أسفل مكة يغنى بأبيات وإن الناس ليتبعونه يسمعون صوته حتى خرج بأعلى مكة يقول جزى الله رب الناس الأبيات كذا فى الأصل
وفيه أن قولها لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهر فى خروجه للغار وقولها فمضى ثلاث لا ندرى أين توجه يقتضى أن المراد خروجه من الغار وتقدم أنهم علموا بخروجه إلى المدينة فى اليوم الثانى من خروجه من الغار وتقدم أنهم لم يعلموا بذلك إلا من الهاتف فليتأمل
وقد تبع الأصل فى ذلك شيخه الحافظ الدمياطى حيث قدم خبر سراقة على قصة أم معبد إلا أن يقال الدمياطى لم يلتزم الترتيب فلا تحسن تبعيته وهنا قصة أخرى فيها زيادة ونقص قيل هى قصة أم معبد وقيل غيرها وهى أنه اجتاز صلى الله عليه وسلم بغنم فقال لراعيها لمن هذه فقال لرجل من أسلم فالتفت صلى الله عليه وسلم لأبى بكر وقال سلمت إن شاء الله تعالى ثم قال للراعى ما اسمك قال مسعود فالتفت إلى أبى بكر رضى الله تعالى عنه فقال سعدت إن شاء الله تعالى
____________________
(2/230)
وفى الإمتاع ولقى بريدة بن الحصيب الأسلمى رضى الله تعالى عنه فى ركب من قومه فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا أى والحصيب بضم الحاء المهملة وفتح الصاد
وفى الشرف أن بريدة لما بلغه ما جعلته قريش لمن يأخذ النبى صلى الله عليه وسلم طمع فى ذلك فخرج هو فى سبعين من أهل بيته وفى لفظ كانوا نحو ثمانين بيتا وجينئذ يراد ببيته قومه فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال له من أنت قال بريدة ابن الحصيب فالتفت النبى صلى الله عليه وسلم وقال يا أبا بكر برد أمرنا وصلح قال ممن أنت قال من أسلم من بنى سهم قال النبى صلى الله عليه وسلم سلمنا وخرج سهمك يا أبا بكر أى لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتفاءل ولا يتطير كما تقدم ثم قال بريدة للنبى صلى الله عليه وسلم من أنت قال أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب رسول الله فقال بريدة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فأسلم بريدة وكل من كان معه أى وصلوا خلفه صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة ثم قال بريدة يا رسول الله لا تدخل المدينة إلا ومعك لواء فحل بريدة عمامته ثم شدها فى رمح ثم مشى بين يديه أى وقال له كما فى الوفاء تنزل علام يا نبى الله فقال النبى صلى الله عليه وسلم إن ناقتى هذه مأمورة فقال بريدة الحمد لله الذى أسلمت بنو سهم يعنى قومه طائعين غير مكرهين
ولما سمع المسلمون بالمدينة بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة كانوا يغدون كل غداة إلى الحرة ينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة
أقول ولعل خروجهم كان فى ثلاثة أيام وهى المدة الزائدة على المسافة المعتادة بين مكة والمدينة التى كان بها فى الغار والله أعلم
فاتقلبوا يوما بعد أن طال انتظارهم أى وأحرقتهم الشمس وإذا رجل من اليهود صعد على أطم أى محل مرتفع من آطامهم أى من محالهم المرتفعة لأمر ينظر إليه فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين أى لأنهم لقوا الزبير فى ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابا بيضا كما فى البخارى
وقيل إن الذى كساهما طلحة بن عبيد الله قال فى النور ولعلهما لقياه معا أو متعاقبين فكسواه وأبا بكر ما ذكر وهذا الجمع أولى من ترجيح الحافظ الدمياطى لهذا القيل
____________________
(2/231)
ومن ثم ذكر الحافظ ابن حجر أن هذا القيل هو الذى فى السير ومال الدمياطى إلى ترجيحه على عادته فى ترجيح ما فى السير على ما فى الصحيح لكنه ذكر أن ذلك كان شأنه فى ابتداء أمره فلما تضلع من الأحاديث الصحيحة كان يرى الرجوع عن كثير مما وافق عليه أهل السير وخالف الأحاديث الصحيحة
فلما رآهم ذلك اليهودى يزول بهم السراب أى يرفعهم ويظهرهم أى والسراب ما يرى كالماء فى وسط النهار فى زمن الحر فلم يملك اليهودى أن قال بأعلى صوته يا معشر العرب هذا جدكم أى حظكم الذى تنتظرون أى وفى رواية فلما دنوا من المدينة بعثوا رجلا من أهل البادية إلى أبى أمامة وأصحابه من الأنصار أى ولا مانع من وجود الأمرين فثار المسلمون إلى السلاح فبلغوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرة أى وفى لفظ فوافوه وهو مع أبى بكر فى ظل نخلة ولعل تلك النخلة كانت بظهر الحرة فلا مخالفة ثم قالوا لهما ادخلا آمنين مطاعين فعدل بهم ذات اليمين حتى نزل بقباء فى دار بنى عمرو بن عوف وذلك فى يوم الأثنين لاثنتى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول على كلثوم بن الهدم أى لأنه كان شيخ بنى عمرو بن عوف أى وهم بطن من الأوس قيل وكان يومئذ مشركا ثم أسلم وتوفى قبل بدر بيسير وقيل أسلم قبل وصوله صلى الله عليه وسلم المدينة أى وعند نزوله صلى الله عليه وسلم نادى كلثوم بغلام له يا نجيح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنجحت يا أبا بكر وكان يجلس للناس ويتحدث مع أصحابه فى بيت سعد بن خيثمة أى لأنه كان عزبا لا أهل له هناك أى وكان منزله يسمى منزل العزاب والعزب من الرجال من لا زوجة له ولا يقال أعزب وقيل هى لغة رديئة
أقول وبذلك يجمع بين قول من قال نزل على كلثوم وقول من قال نزل على سعد ابن خيثمة ثم رايت الحافظ الدمياطى أشار إلى ذلك والله أعلم
ونزل على بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه لما قدم المدينة على كلثوم أيضا بقباء بعد ان تأخر بمكة بعده صلى الله عليه وسلم ثلاث ليال يؤدى الودائع التى كانت عند النبى صلى الله عليه وسلم لأمره له صلى الله عليه وسلم يذلك كما تقدم
فلما توجه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قام على رضى الله تعالى عنه بالأبطح ينادى
____________________
(2/232)
من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وديعة فليأت إليه أمانته فلما نفد ذلك ورد عليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشخوص إليه فابتاع ركائب وقدم ومعه الفواطم ومعه أم أيمن وولدها أيمن وجماعة من ضعفاء المؤمنين
أقول سيأتى ما يخالف ذلك وهو أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل فى دار أبى أيوب بعث زيد بن حارثه وأبا رافع إلى مكة وأعطاهما خمسمائة درهم وبعيرين يقدمان عليه بفاطمة وأم كلثوم بنته وسودة زوجته وأم أيمن وولدها أسامة إلاأن يقال يجوز أن يكون الكتاب الذى فيه استدعاء سيدنا على رضى الله تعالى عنه للهجرة كان مع زيد وأبى رافع رضى الله تعالى عنهما وأنهما صحباه ولا ينافى ذلك ما تقدم من أنه صلى الله عليه وسلم تأخر بعد على رضى الله تعالى عنه بمكة ثلاث ليال يؤدى الودائع لأن تلك الليالى الثلاث كانت مدة تأدية الودائع ومكث بعدها إلى أن جاءه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحينئذ يكون قدم على صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد نزوله بقباء على كلثوم فلا مخالفة لكن فى السيرة الهشامية فنزل أى على معه أى مع النبى صلى الله عليه وسلم على كلثوم وهو لا يتأتى إلا على القول بأنه صلى الله عليه وسلم مكث فى قباء بضع عشرة ليلة كما سيأتى وحينئذ يخالف ما سبق من مجيئه مع زيد وأبى رافع لما علمت أنه صلى الله عليه وسلم إنما أرسلهما بعد أن تحول من قباء إلى المدينة
وفى الإمتاع لما قدم على من مكة كان يسير الليل ويكمن النهار حتى تقطرت قدماه فاعتنقه النبى صلى الله عليه وسلم وبكى رحمة لما بقدميه من الورم وتفل فى يديه وأمرهما على قدميه فلم يشكهما بعد ذلك ولا مانع من وقوع ذلك من على مع وجود ما يركبه لأنه يجوز أن يكون هاجر ماشيا رغبة فى عظيم الأجر
وفى السيرة الهشامية أن إقامة على بقباء كانت ليلة أو ليلتين وأنه رأى امرأة مسلمة لا زوج لها يأتيها إنسان من جوف الليل يضرب عليها بابها فتخرج إليه فيعطيها شيئا معه فتأخذه قال على فسألتها فقالت هذا سهل بن حنيف قد عرف أنى امرأة لا أحد لى فإذا أمسى غدا على أوثان قومه فكسرها ثم جاءنى بها فقال احتطبى بهذا أى اجعليه للنار فكان على يعرف ذلك لسهل بن حنيف والله أعلم
قال ونزل أبو بكر على حبيب بن أبى إساف وقيل على خارجة بن زيد بالسنح بضم السين المهملة فنون ساكنة فجاء مهملة
____________________
(2/233)
وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما ولد نبيكم يوم الأثنين وحملت به أمه يوم الاثنين وخرج من مكة أى من الغار يوم الاثنين ودخل المدينة يوم الاثنين
قال الحاكم تواترت الأخبار أن خروجه صلى الله عليه وسلم كان يوم الاثنين ودخوله المدينة كان يوم الاثنين زاد بعضهم وفتح مكة كان يوم الاثنين ووضع الركن كان يوم الاثنين
ومن الغريب ما حكاه بعضهم عن الربيع المالكى وكان بمصر كان يوم الاثنين خاصة إذا نام فيه تنام عيناه ولا ينام قلبه وقيل خرج من مكة أى إلى الغار يوم الخميس وعليه يكون مكث صلى الله عليه وسلم فى الغار تلك الليلة التى هى ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد وعليه يكون خروجه من الغار صبيحة ليلة الأحد
ففى البخارى أتاهما أى الدليل براحلتهما صبح ثلاث وتقدم أن خروجهما إلى الغار كان ليلا من بيت أبى بكر وقول أبى بكر سرنا ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة يقتضى أنهما خرجا من الغار ليلا بل أول الليل لأن مع التأكد يبعد أن يكون المراد بقية ليلتنا وتقدم عن البخارى أتاهما براحلتيهما صبح ثلاث وحمل ذلك على ماقارب الصبح من الليل بعيد فلتيأمل هذا المحل وقيل دخلها أى المدينة ليلا كما فى رواية لمسلم أى وقال الحافظ ابن حجر ويجمع بأن القدوم كان آخر الليل فدخلها نهارا
أقول لعل مراد الحافظ أن الوصول كان ليلا إلى قرب المدينة فأقاموا بذلك المحل إلى أن أسفر النهار وساروا فما وصلوا إلا وقت الظهيرة فلا يخالف ما تقدم وقيل دخلها يوم الجمعة وذكر الحافظ ابن حجر أنه شاذ والله أعلم
وسرى السرور إلى القلوب بحلوله صلى الله عليه وسلم فى المدينة فعن البراء رضى الله تعالى عنه قال ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشئ فرحهم برسول الله صلى الله عليه وسلم
وعن أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه قال لما كان اليوم الذى دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شئ وصعدت ذوات الخدور على الأجاجير أى الأسطحة عند قدومه صلى الله عليه وسلم يعلن بقولهن طلع البدر علينا الخ
وعن عائشة رضى الله تعالى عنها لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جعل النساء والصبيان والولائد يقلن ** طلع البدر علينا ** من ثنيات الوداع **
____________________
(2/234)
** وجب الشكر علينا ** ما دعا لله داعى ** ** أيها المبعوث فينا ** جئت بالأمر المطاع **
قال واستشكل بأن ثنيات الوداع ليست من جهة القادم من مكة بل هى من جهة الشام فقد قال ابن القيم فى الهدى فى غزوة تبوك ثنيات الوداع من جهة الشام لا يطؤها القادم من مكة ونقل الحافظ ابن حجر عنه عكس ذلك وليس فى محله وأجيب بأنه صلى الله عليه وسلم جاء من جهتها فى دخوله للمدينة عند خروجه من قباء اه
أى وفى كلام بعضهم ما كان أحد يدخل المدينة إلا منها فإن لم يعبر منها مات قبل أن يخرج لوبائها كما زعمت اليهود فإذا وقف عليها قيل قد ودع فسميت به وقيل قيل لها ثنية الوداع لأن المودع يمشى مع المسافر من المدينة إليها وهو اسم قديم جاهلى وقيل إسلامى سمى ذلك المحل لذلك وقيل لأن الصحابة رضى الله تعالى عنهم ودعوا فيها النساء اللاتى استمتعوا بهن فى خيبرعند رجوعهن من خيبر أو وقع توديع من خرج إلى غزوة تبوك فيها أو لكونه صلى الله عليه وسلم ودع بعض المسافرين عندها وهذا يدل على أن هذا الشعر قيل له عند دخوله المدينة لا عند دخوله قباء وسياق بعضهم يقتضيه وسياق بعض آخر يقتضى أنه كان عند دخوله قباء ومن هذا تعلم أن المدينة تطلق ويراد بها ما يشمل قباء ومنه قولنا وسرى السرور إلى القلوب بحلوله صلى الله عليه وسلم فى المدينة فعن البراء إلى آخره وهى المرادة بدخوله المدينة يوم الاثنين على ما تقدم وتطلق ويراد بها ما قابل قباء وحينئذ تكون هذه المرادة بقول أنس لما كان اليوم الذى دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة إلى آخره ولعل منه ما فى بعض الروايات المتقدمة دخل المدينة يوم الجمعة الذى حكم الحافظ ابن حجر بشذوذه كما تقدم
ولما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم قام أبو بكر للناس أى وأبو بكر شيخ أى شيبه ظاهر والنبى صلى الله عليه وسلم شاب أى شعر لحيته أسود مع كونه أسن من أبى بكر كما تقدم وقد قال أنس لم يكن فى الذين هاجروا أشمط غير أبى بكر فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يجئ أبا بكر فيعرفه بالنبى صلى الله عليه وسلم حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه فعرفه الناس أى عرفه من جاء منهم بعد ذلك أى لأن عدم تأثير الشمس فيه لتظليل الغمامة كان قبل البعثة إرهاصا كما تقدم
____________________
(2/235)
ومما يدل على أن خروجه من قباء كان يوم الجمعة قول بعضهم ولبث رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بنى عمرو بن عوف أى فى قباء بقية يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس وخرج يوم الجمعة وقيل لبث بضع عشرة ليلة وهو المنقول عن البخارى
وعن ابن عقبة أقام صلى الله عليه وسلم ثنتين وعشرين ليلة وفى الهدى أقام أربعة عشر يوما وهو ما فى صحيح مسلم فليتأمل وأسس فى قباء المسجد الذى أسس على التقوى أى الذى نزلت فيه الآية وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فى الهدى ولا ينافى هذا قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن المسجد الذى أسس على التقوى فقال مسجدكم هذا وأشار لمسجد المدينة أى وفى رواية فأخذ حصاة فضرب بها الأرض وقال مسجدكم هذا يعنى مسجد المدينة لأن كلا منهما مؤسس على التقوى هذا كلامه ويوافقه ما نقل عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه كان يرى كل مسجد بنى بالمدينة الشاملة لقباء أسس على التقوى أى لكن الذى نزلت فيه الآية مسجد قباء وكان خروجه صلى الله عليه وسلم من قباء يوم الجمعة حين ارتفع النهار قال قيل وكان محل مسجد قباء مربد أى محلا يجفف فيه التمر لكلثوم بن الهدم وهو أول مسجد بنى فى الإسلام لعموم المسلمين فلا ينافى أنه بنى قبله غيره من المساجد لكن لخصوص الذى بناه كالمسجد الذى بناه الصديق بفناء داره بمكة كما تقدم انتهى
أى وفى كلام ابن الجوزى أول من بنى مسجدا فى الإسلام عمار بن ياسر
وفى السيرة الهشامية عن الحكم بن عيينة لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل قباء قال عمار بن ياسر ما لرسول الله صلى الله عليه وسلم بد من أن يجعل له مكانا يستظل به إذا استيقظ ويصلى فيه فجمع حجارة فبنى مسجد قباء أى فانه لما جمع الحجارة أسسه صلى الله عليه وسلم واستتم بنيانه عمار فعمار أول من بنى مسجدا لعموم المسلمين
قال وعن جابر لبثنا بالمدينة قبل أن يقدم النبى صلى الله عليه وسلم بسنتين نعمر المساجد ونقيم الصلاة انتهى
ونعمر يحتمل أن يكون بالتخفيف فيكون عطف نقيم الصلاة من عطف التفسير ويحتمل أن يكون بالتشديد فيكون بناء المساجد تعدد فى المدينة قبل قدومه صلى الله عليه وسلم
وفيه أن الحافظ ابن حجر قال كان بين ابتداء هجرة الصحابة وبين هجرته صلى الله
____________________
(2/236)
عليه وسلم شهران ونصف شهر على التحرير كما تقدم أى ورواية جابر تدل على أنه كان بين اجتماع الاثنى عشر من الأنصار به صلى الله عليه وسلم ومجيئهم إلى المدينة وبين قدومه صلى الله عليه وسلم للمدينة سنتان
وقد يقال ليس مراد جابر أن ابتداء المدة من قدوم الاثنى عشر عليه بل مراده أن ابتداءها من قدوم الستة عليه الذين منهم جابر والمدة تزيد على السنتين فليتأمل وهو أى مسجد قباء أول مسجد صلى فيه صلى الله عليه وسلم بأصحابه جماعة ظاهرين أى آمنين
وقيل إن هذا المسجد بناه المهاجرون والأنصار يصلون فيه فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وورد قباء صلى فيه ولم يحدث فيه شيئا
ويخالفه ما تقدم عن السيرة الهشامية وما فى الطبرانى بسند رجاله ثقات عن الشموس بفتح الشين المعجمة بنت النعمان رضى الله تعالى عنها قالت نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم ونزل وأسس المسجد مسجد قباء فرأيته يأخذ الحجر أو الصخرة حتى يصهره الحجر أى يتبعه فيأتى الرجل من أصحابه فيقول يا رسول الله بأبى أنت وأمى تعطينى أكفك فيقول لآخذ مثله حتى أسسه
أى وجاء أنه صلى الله عليه وسلم لما أراد بناءه قال يا أهل قباء ائتونى بأحجار من الحرة فجمعت عنده أحجار كثيرة فخط القبلة وأخذ حجرا فوضعه ثم قال يا أبا بكر خذ بحجر فضعه إلى جنب حجرى ثم قال يا عمر خذ حجرا فضعه إلى جنب حجر أبى بكر ثم قال يا عثمان خذ حجرا فضعه إلى جنب حجر عمر قال بعضهم كأنه صلى الله عليه وسلم أشار إلى ترتيب الخلافة وسيجئ فى بناء مسجد المدينة نحوه ويحتاج للجمع بين هذه الروايات
وبعد تحوله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان يأتيه يوم السبت ماشيا وراكبا وقال من توضأ وأسبغ الوضوء ثم جاء مسجد قباء فصلى فيه كان له أجر عمرة وروى أى الترمذى والحاكم وصححاه عن أسيد بن حضير عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال صلاة فى مسجد قباء كعمرة وفى رواية من صلى فى مسجد قباء يوم الاثنين والخميس انقلب بأجر عمرة وكان عمر رضى الله تعالى عنه يأتيه يوم الاثنين ويوم الخميس وقال لو كان بطرف من الأطراف وفى رواية فى افق من الآفاق لضربت إليه أكباد الإبل
أى وصح الحاكم عن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما قال كان رسول الله صلى الله
____________________
(2/237)
عليه وسلم يكثر الاختلاف إلى قباء ماشيا وراكبا وعن أبى سعيد الخدرى رضى الله تعالى عنه عن أبيه قال خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين إلى قباء وعن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم كان يأتى مسجد قباء فيصلى فيه ركعتين وعنه قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء فقام يصلى فجاءته الأنصار تسلم عليه فقلت لبلال كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم قال يشير إليهم بيده وهو يصلى أى يجعل باطنها إلى أسفل وظهرها إلى فوق
وقد وقعت له صلى الله عليه وسلم الإشارة فى الصلاة برد السلام لما قدمت عليه ابنته رضى الله تعالى عنها من الحبشة وهو يصلى فسلمت فأومأ إليها برأسه
وفى الهدى وأما حديث من أشار فى الصلاة إشارة تفهم عنه فليعد صلاته فحديث باطل وفى كلام بعضهم قد ثبت فى الأحاديث الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم عليه أحد وهو فى الصلاة أشار بأصبعه المباركة جواب السلام وليس لهذه الأحاديث معارض إلا حديث مجهول وهو من أشار فى صلاته إشارة مفهمة فليعد صلاته وهذا الحديث لا يصلح للمعارضة ولما نزل قوله تعالى { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألهم عن ذلك فقال ما هذا الطهور الذى أثنى الله عليكم به فقالوا يا رسول الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه فقال هو هذا وفى لفظ أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مسجد قباء أى وفى الكشاف ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء فإذا الأنصار جلوس فقال أمؤمنون أنتم فسكت القوم ثم أعادها فقال عمر يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا منهم فقال عليه الصلاة والسلام أتؤمنون بالقضاء قالوا نعم قال وتصبرون على البلاء قالوا نعم قال أتشكرون على الرخاء قالوا نعم قال عليه الصلاة والسلام مؤمنون ورب الكعبة فجلس وقال يامعشر الأنصار إن الله عز وجل قد أثنى عليكم فما الذى تتبعون عند الوضوء وعند الغائط أى المعبر عنه بالطهور فقالوا يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء فتلا النبى صلى الله عليه وسلم { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } هذا كلامه وفى رواية فقال إن الله قد أحسن إليكم الثناء فى الطهور فما هذا الطهور الذى تتطهرون به قالوا يا رسول الله ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون
____________________
(2/238)
أدبارهم من الغائط فغسلناها كما غسلوا وفى لفظ كنا نستنجى بالماء فى الجاهلية فلما جاء الإسلام لم ندعه قال فلا تدعوه وفى لفظ قالوا نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنانة فقال هل مع ذلك غيره قالوا لا غير إن أحدنا إذا خرج إلى الغائط أحب أن يستنجى بالماء وفى رواية نستنجي من البول والغائط زاد في رواية ولا ننام الليل كله على الجنابة قال هو ذاك فعليكموه أي الزموه
اي وفي مسند البزار عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم لما سألهم قالوا إنا نتبع الحجارة الماء قال بعضهم في إسناده ضعف وبهذا وما تقدم من ذكر الحجارة يرد على الإمام النووي حيث قال هكذا أي ذكر الحجر مع الماء في خبر الانصار بقباء رواه الفقهاء في كتبهم وليس له أصل في كتب الحديث بل المذكور فيها أنهم قالوا كنا نستنجي بالماء وليس فيها مع الحجر أي ويكون السكوت عن ذكر الحجر لكونه كان معلوما فعله
وفي الخصائص الصغرى أن مما اختص به صلى الله عليه وسلم في شرعه وأمته الإستنجاء بالجامد وبالجمع فيه بين الماء والحجر
ومن اهل قباء عويمر بن ساعدة قال في حقه صلى الله عليه وسلم نعم العبد من عباد الله والرجل من أهل الجنة عويمر بن ساعدة أي لأنه كان أول من استنجى بالماء كما قيل أي ومن ثم جاء تخصيصه بالسؤال فقد روى البيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عويمر بن ساعدة فقال ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم به فقال يا نبي الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط الحديث وهذا السياق ربما يقتضي أن الإستنجاء بالماء لم يكن معروفا في غير اهل قباء نزول هذه الآية
وفي كلام بعضهم أول من استنجى بالماء إبراهيم الخليل وكره بعض الصحابة الإستنجاء بالماء وهو حذيفة ولعله لكونه في الإستنجاء بالماء عدول عن الرخصة
ونقل عن ابن عمر انه كان لا يستنجي بالماء ولعله لما ذكرنا وكذا ما نقل عن ابن الزبير ما كنا نفعله وعن الإمام أحمد أنه لم يصح حديث في الإستنجاء بالماء وبالغ مغلطاي في رده وعن سيدنا مالك إنكار النبي صلى الله عليه وسلم استنجى بالماء ولعل المراد إنكار صحة ذلك عنه صلى الله عليه وسلم فليتأمل
وذكر الأحجار في الخبر يؤيد ظاهره ما ذكره إمامنا في الأم أن سنة الجمع بين الحجر
____________________
(2/239)
والماء تتوقف على كون الاستنجاء بالحجر كافيا لو اقتصر عليه بقوله والاستنجاء بالحجر كاف ولو أتى به أى بالاستنجاء الكافى رجل ثم غسل بالماء كان أحب إلى وإنما قلنا ظاهره لإمكان رجوع الضمير للاستنجاء لا بقيد كونه كافيا
والذى عليه متأخرو أصحابنا أن سنة الجمع يكتفى فيها بازالة العين ولو بحجر واحد وقد يقال هذا محبوب وما ذكره الإمام أحب
ولا يخفى أن حديث الأنصار يقتضى اختصاص سن الجمع بين الحجر والماء بالغائط وبه قال القفال فى كتابه محاسن الشريعة والمفهوم من نص الأم أن مثل الغائط البول ثم بعد إقامته صلى الله عليه وسلم المذكورة بقباء ركب راحلته الجدعاء وقيل القصواء وقيل العضباء أى قاصدا المدينة والجدعاء بالدال المهملة المقطوعة الأنف أو مقطوعة الأذن كلها والقصواء المقطوع طرف أذنها والغضباء المشقوقة الأذن قال بعضهم وهذه ألقاب ولم يكن بها أى بتلك النوق شئ من ذلك وسيأتى عن الأصل أن هذه ألقاب لناقة واحدة
ولما ركب صلى الله عليه وسلم وخرج من قباء وسار سار الناس معه ما بين ماش وراكب أى ولا زال أحدهم ينازع صاحبه زمام الناقة شحا أى حرصا على كرامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيما له حتى دخل المدينة قال وصار الخدم والصبيان يقولون الله أكبر جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء محمد صلى الله عليه وسلم ولعبت الحبشة بحرابها فرحا برسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قالت بنو عمرو بن عوف له صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أخرجت ملالا لنا أم تريد دارا خيرا من دارنا قال إنى أمرت بقرية تأكل القرى أى تغلبها وتقهرها والمراد أهلها أى أن أهلها تفتح القرى فيأكلون أموال أهل تلك القرى ويسبون ذراريهم فخلوا سبيلها يعنى ناقته صلى الله عليه وسلم أى ومن أسماء تلك القرية المدينة
وروى الشيخان أمرت بقرية تأكل القرى يثرب وهى المدينة فالمدينة علم بالغلبة على تلك القرية كالنجم للثريا إذا أطلق فهى المرادة وإن أريد غيرها قيد والنسبة إليها مدنى ولغيرها من المدن مدينى للفرق بينهما ويثرب اسم محل فيها سميت كلها به ولعل ذلك المحل سمى بذلك لأنه نزل به يثرب من نسل نوح وفى الحديث المدينة تنفى الناس أى شرارهم كما ينفى الكير خبث الحديد
____________________
(2/240)
ففى بعض الروايات لا تقوم الساعة حتى تنفى المدينة شرارها قيل وكان ذلك فى حياته صلى الله عليه وسلم وقيل يكون ذلك فى زمن الدجال فقد جاء أن الدجال يرجف بأهلها فلا يبقى منافق ولا كافر إلا خرج إليه وفى رواية ينزل الدجال السبخة فترجف المدينة ثلاث رجفات يخرج الله منها كل منافق وكافر وبهذا استدل من قال كون المدينة تنفى الخبث ليس عاما فى الأزمنة ولا فى الأشخاص لأن المنافقين كانوا بها وخرج منها جماعة من خيار الصحابة منهم على وطلحة والزبير وأبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود
وفى كلام ابن الجوزى أن عبد الله بن مسعود مات بالمدينة وقد قال صلى الله عليه وسلم أى أرض مات بها رجل من أصحابى كان قائدهم ونورهم يوم القيامة وفى رواية فهو شفيع لأهل تلك الأرض
وأما قوله صلى الله عليه وسلم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون أى خيرلهم من بلاد الرخاء بدليل صدر الحديث يأتى على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه هلم إلى الرخاء هلم إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون والذى نفسى بيده لا يخرج أحد منها رغبة عنها إلا أخلف الله من هو خير منه أى من خرج منها رغبة عنها إلى غيرها من بلاد الرخاء والسعة فلا دليل فى ذلك على أنها أفضل من مكة
ومن أسمائها أكالة البلدان ومن أسمائها البارة بتشديد الراء وتسمى الفاضحة لأن من أضمر فيها شيئا أظهر الله ما أضمره وافتضح به أى فالمراد أضمر شيئا من السوء وقد قال صلى الله عليه وسلم من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله تعالى هى طابة كشامة هى طابة هى طابة قال ذلك ثلاثا وفى رواية فليستغفر الله فليستغفر الله فليستغفر الله هى طيبة كهيبة هى طيبة هي طيبة هى طائب ككاتب
قيل وإنما سميت طيبة لطيب رائحة من مكث بها وتزايد روائح الطيب بها ولا يدخلها طاعون ولا دجال ولا يكون بها مجذوم أى لأن ترابها يشفى من الجذام وتسميتها يثرب فى القرآن إنما هو حكاية لقول المنافقين أى بعد نهيهم عن ذلك وقوله صلى الله عليه وسلم لا أراها إلا يثرب أي ونحو ذذلك من كل ما وقع في كلامه صلى الله عليه وسلم من تسميتها بذلك كان قبل النهى عن ذلك انتهى
أى وجاء إن الإيمان ليأزر إلى المدينة كما تأزر الحية إلى جحرها ويأزر بكسر الزاى أى ينضم ويجتمع بعضه إلى بعض وفى رواية إن الإسلام بدا غريبا وسيعود غريبا كما
____________________
(2/241)
بدا يأزر كما تأزر الحية إلى جحرها وإنما كرهت تسميتها بيثرب لأن يثرب مأخوذ من التثريب وهو المؤاخذة بالذنب ومنه قوله تعالى { لا تثريب عليكم اليوم } أو من الثرب بالتحريك وهو الفساد
وعن القاسم بن محمد قال بلغنى أن للمدينة فى التوراة أربعين اسما وقيل أحد عشر من جملتها سكينة أى ومن جملتها الجابرة أى التى تجبر والعذراء والمرحومة وفى كلام بعضهم لها نحو مائة اسم منها دار الأخيار ودار الأبرار ودار الإيمان ودار السنة ودار السلامة ودار الفتح قال الإمام النووى لا يعرف فى البلاد أكثر اسما منها ومن مكة
ومما يدل على أن خروجه صلى الله عليه وسلم من قباء متوجها إلى المدينة كان يوم الجمعة قول بعضهم وعند مسيره صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أدركته صلاة الجمعة فى بنى سالم ابن عوف فصلاها فى المسجد الذى فى بطن الوادى بمن معه من المسلمين وهم مائة وصلاها بعد ذلك فى المدينة وكانوا به صلى الله عليه وسلم أربعين
فعن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم جمع بالمدينة وكانوا أربعين رجلا أى ولم يحفظ أنه صلاها مع النقص عن هذا العدد ومن حينئذ صلى الجمعة فى ذلك المسجد سمى هذا المسجد بمسجد الجمعة وهو على يمين السالك نحو قباء فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة أى وخطب لها وهى أول خطبة خطبها فى الإسلام أى ومن خطبته تلك فمن استطاع أن يقى وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل ومن لم يجد فبكلمة طيبة فإنها تجزى الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورحمة الله وبركاته وفى رواية والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ونقل القرطبى هذه الخطبة فى تفسيره وأوردها جميعها فى المواهب وليس فيها هذا اللفظ
أقول هذا واضح إن كان أقام فى قباء والإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس كما تقدم وأما على أنه صلى الله عليه وسلم أقام بضع عشرة ليلة أو أكثر من ذلك كما تقدم فيبعد أنه لم يصل الجمعة فى قباء فى تلك المدة ثم رأيت فى كلام بعضهم أنه كان يصلى الجمعة في مسجد قباء فى إقامته هناك
أى ويبعد أنه صلاها من غير خطبة وفى الجامع الصغير إن الله كتب عليكم الجمعة
____________________
(2/242)
فى مقامى هذا فى ساعتى هذه فى مشهدى هذا فى عامى هذا إلى يوم القيامة من تركها من غير عذر مع إمام عادل أو إمام جائر فلا جمع له شمله ولا بورك له فى أمره ألا ولا صلاة له ولا حج له ألا ولا بركة له ولا صدقة له فإن كان قال ذلك فى هذه الخطبة التى خطبها فى مسجد الجمعة كما هو المتبادر اقتضى ذلك أنها لم تكن واجبة قبل ذلك وهو مخالف قول فقهائنا أنها وجبت بمكة ولم تقم بها لعدم قدرتهم على إظهارها بمكة لأن إظهارها أقوى من إظهار جماعة الصلوات الخمس
وفى الإتقان مما تأخر حكمة عن نزوله آية الجمعة فإنها مدنية والجمعة فرضت بمكة وقول ابن الغرس إن إقامة الجمعة لم تكن بمكة قط يرده ما أخرجه ابن ماجه عن عبد الرحمن ابن كعب بن مالك قال كنت قائد أبى حين ذهب بصره فكنت إذا خرجت به إلى الجمعة فسمع النداء يستغفرلأبى أمامة أسعد بن زرارة فقلت يا أبتاه أرأيت صلاتك على أسعد بن زرارة كلما سمعت النداء بالجمعة لم هذا قال أى بنى كان أول من صلى بنا الجمعة قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة هذا كلامه وليتأمل ما وجه الرد من هذا
وجاء صلاة الجمعة بالمدينة كألف صلاة فيما سواها وصيام شهر رمضان فى المدينة كصيام ألف شهر فيما سواها كذا فى الوفاء عن نافع عن ابن عمر وأول قرية صليت فيها الجمعة بعد المدينة قرية عبد القيس بالبحرين وهل كانت الخطبة قبل الصلاة أو بعدها
فى الدر أنه صلى الله عليه وسلم كان وهو بالمدينة يخطب الجمعة بعد أن يصلى مثل العيدين فبينما هو يخطب يوم الجمعة قائما إذ قدمت عير دحية الكلبى وكان إذا قدم يخرج أهله للقائه بالطبل واللهو ويخرج الناس للشراء من طعام تلك العير والتفرج عليها وقيل للتفرج على وجه دحية فقد قيل كان إذا قدم دحية المدينة لم تبق معصر إلا خرجت لتنظر إليه لفرط جماله ولا مانع أن يكون ذلك لاجتماع الأمرين فانفض الناس ولم يبق معه صلى الله عليه وسلم إلا نحو اثنى عشر رجلا والجلال المحلى فى قطعة التفسير أسقط لفظ نحو أى وانفضاض ما عدا هؤلاء يحتمل أن يكون بعد ذلك فى حال الخطبة قبل تمام الأركان ويحتمل أن يكون بعد ذلك
وعلى الأول يجوز أن يكون رجع ممن انفض ما يكمل به العدد أربعين قبل طول
____________________
(2/243)
الفصل وقد أعاد صلى الله عليه وسلم مالم يسمعوه من أركان الخطبة عند انفضاضهم فلا يخالف ما ذهب إليه إمامنا الشافعى رضى الله تعالى عنه من وجوب سماع أربعين لأركان الخطبة
قال مقاتل بلغنى أنهم فعلوا ذلك أى الانفضاض عند الخطبة ثلاث مرات فأنزل الله تعالى { وإذا رأوا تجارة أو لهوا } الآية ثم صار صلى الله عليه وسلم يخطب قبل أن يصلى أى ليحافظ الناس على عدم الإنفضاض لأجل الصلاة وعليه انعقد الإجماع فلا نظر لمخالفة الحسن البصرى وحينئذ يكون قول بعض فقهائنا استدلالا على وجوب تأخر صلاة الجمعة عن الخطبتين يثبت صلاته صلى الله عليه وسلم بعد خطبتين أى استقر ثبوت ذلك
وعن الزهرى بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا خطب أى فى غير الخطبة المتقدمة كل ما هو آت قريب لا بعد لما هو آت لا يعجل الله لعجلة أحد ولا يخف لأمر من الناس يريد الناس أمرا ويريد الله أمرا فما شاء الله كان لا ما شاء الناس وما شاء الله كان ولو كرة الناس لا مبعد لما قرب الله ولا مقرب لما بعد الله ولا يكون شئ إلا بإذن الله والله أعلم
ثم ركب صلى الله عليه وسلم راحلته بعد الجمعة متوجها للمدينة أى وقد أرخى زمامها ولم يحركها وهى تنظر يمينا وشمالا فسأله بنو سالم منهم عتبان بكسر العين المهملة ابن مالك ونوفل بن عبد الله بن مالك وعبادة بن الصامت فقالوا يا رسول الله أقم عندنا فى العدد والعزة والمنعة وفى لفظ والثروة وفى لفظ أنزل فينا فإن فينا العدد والعدة والحلقة أى السلاح ونحن أصحاب الحدائق والدرك يا رسول الله كان الرجل من العرب يدخل هذه البحيرة خائفا فيلجأ إلينا فقال لهم خيرا وقال خلوا سبيلها يعنى ناقته دعوها فإنها مأمورة أى وفى رواية إنها مأمورة خلوا سبيلها وهو يتبسم ويقول بارك الله عليكم فانطلقت حتى وردت دار بنى بياضة أى محلتهم أى والمراد القبيلة فسأله بنو بياضة أى ومنهم زياد بن لبيد وفروة بن عمرو بمثل ما تقدم وأجابهم بأنها مأمورة خلوا سبيلها فانطلقت حتى وردت دار بنى ساعدة أى ومنهم سعد ابن عبادة والمنذر بن عمرو وأبو دجانة فسأله بنو ساعدة بمثل ذلك وأجابهم بخلوا سبيلها فأنها مأمورة فانطلقت حتى مرت بدار عدى بن النجار وهم أخواله صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/244)
أى أخوال جده عبد المطلب كما تقدم أى بأوائل دورهم فسأله بنو عدى بن النجار أى أولئك الطائفة منهم بمثل ما تقدم أى وفى رواية أنهم قالوا له نحن أخوالك هلم إلى العدة والمنعة والعزة مع القرابة لا تجاوزنا إلى غيرنا يا رسول الله أى زاد فى رواية لا تجاوزنا ليس أحد من قومنا أولى بك منا لقرابتنا وأجابهم بأنها مأمورة فانطلقت حتى بركت فى محل من محلات بنى النجار وذلك فى محل المسجد أى محل بابه أو فى محل المنبر الآن وذلك عند دار بنى مالك بن النجار وعند باب أبى أيوب الأنصارى أى واسمه خالد بن زيد النجارى الأنصارى الخزرجى شهد العقبة وسائر المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مع على بن أبى طالب من خاصته شهد معه الجمل وصفين والنهروان غزا أيام معاوية أرض الشام مع يزيد بن معاوية سنة خمسين وقيل إحدى وخمسين فتوفى عند مدينة قسطنطينية فدفن هناك وأمر يزيد بالخيل فجعلت تقبل وتدبر على قبره حتى خفى أثر القبر خوفا أن تنبشه الكفار فكان المشركون إذا أمحلوا كشفوا عن قبره فيمطروا فلم ينزل عنها صلى الله عليه وسلم ثم وثبت وسارت غير بعيد ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع لها زمامها ثم التفتت خلفها ورجعت إلى مبركها فبركت فيه وتجلجلت أى بالجيم تضعضت ووضعت جرانها أى باطن عنقها من المذبح إلى المنحر وأزرمت أى صوتت من غير أن تفتح فاها فنزل عنها صلى الله عليه وسلم وقال { رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين } أى قال ذلك أربع مرات وأخذه صلى الله عليه وسلم الذى كان يأخذه عند الوحى أى وسرى عنه وقال هذا إن شاء الله يكون المنزل أى وأمر أن يحط رحله وفى لفظ أن أبا أيوب قال له ائذن لى أن أنقل رحلك فأذن له واحتمل أبو أيوب رحله فوضعه فى بيته أى وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام راحلته فكانت عنده أى وذكر بعضهم أن أبا أيوب لما نقل رحله أناخ الناقة فى منزله وقد يقال لا مخالفة لجواز أن يكون أسعد أخذ بزمامها بعد ذلك فكانت عنده
أى وعن أبى أيوب رضى الله تعالى عنه لما قدم النبى صلى الله عليه وسلم المدينة اقترعت الأنصار أيهم يأويه فقرعتهم الحديث وقد يقال مراده بالأنصار أهل تلك المحلة التى بركت فيها الناقة
وذكر السهيلى أنها لما ألقت جرانها فى دار بنى النجار أى فى محل من محلاتها جعل
____________________
(2/245)
رجل من بنى سلمة وهو جبار بن صخر أى وكان من صالحى المسلمين ينخسها رجاء أن تقوم فينزل فى دار بنى سلمة فلم تفعل
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال خير دور الأنصار بنو النجار ثم بنو عبد الأشهل ثم بنو الحارث ثم بنو ساعدة وفى كل دور الأنصار خير
ولما بلغ ذلك سعد بن عبادة وجد فى نفسه وقال خلفنا فكنا آخر الأربع أسرجوا إلى حمارى آت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه ابن أخته سهل فقال أتذهب لترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم أو ليس حسبك أن تكون رابع أربع فرجع وقال الله ورسوله أعلم وأمر بحماره فحل عنه وفى رواية قال له اجلس ألا ترضى أن سماك رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الأربع الدور التى سمى فمن ترك فلم يسم أكثر ممن سمى فانتهى سعد بن عبادة عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجت جويريات من بنى النجار بالدفوف يقلن ** نحن جوار من بنى النجار ** يا حبذا محمد من جار **
فخرج إليهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أتحببننى وفى رواية أتحبونى قلن نعم يا رسول الله فقال الله يعلم أن قلبى يحبكن وفى رواية والله أحبكم وفى رواية وأنا والله أحبكم وأنا والله أحبكم وأنا والله أحبكم قال ذلك ثلاثا وهذا دليل لسماع الغناء على الدف من المرأة لغير العرس ويدل لذلك أيضا ما جاء عن ابن عباس مرفوعا أن أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم جلسوا سماطين وجاءت جارية يقال لها سيرين معها مزهر تختلف به بين القوم وهى تغنيهم وتقول ** هل على وبحكم ** إن لهوت من حرج **
فتبسم النبى صلى الله عليه وسلم وقال لا حرج إن شاء الله تعالى
وما روى عن عائشة رضى الله تعالى عنها دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندى جاريتان من جوارى الأنصار يغنيان وفى رواية يضربان بدفين فاضطجع صلى الله عليه وسلم على الفراش وحول وجهه ودخل أبو بكر رضى الله تعالى عنه فانتهرنى فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال دعها وفى رواية قال أبو بكر بمزمور وفى رواية بمزمار وفى لفظ بمزمارة الشيطان فى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك مرتين وانتهرنى وكان صلى الله عليه وسلم متغشبا بثوبه
____________________
(2/246)
فكشف النبى صلى الله عليه وسلم عن وجهه الشريف فقال دعها يا أبا بكر فإنها أيام عيد أى لأن تلك كانت أيام منى
وقيل كان يوم عيد الفطر وقيل الأضحى ولا مانع من تعدد الواقعة
أقول فى البخارى عن الربيع بنت معوذ أنه صلى الله عليه وسلم دخل عليها غداة بنى عليها وعندها جويريات يضربن بالدف يندبن من قتل من آبائهن يوم بدر حتى قالت جارية وفينا نبى يعلم ما فى غد فقال لها النبى صلى الله عليه وسلم لا تقولى هكذا وقولى ما كنت تقولين
وفى حديث أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم خرج فى بعض مغازيه فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت يا رسول الله إنى كنت نذرت إن ردك الله سالما أن أضرب بين يديك بالدف فقال لها إن كنت نذرت فاضربى فجعلت تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب ثم دخل عمر فألقت الدف تحتها وقعدت عليه فقال النبى صلى الله عليه وسلم إن الشيطان ليفرق منك يا عمر إنى كنت جالسا وهى تضرب ودخل أبو بكر وهى تضرب فلما دخلت أنت ألقت الدف أى وإذا كان الشيطان يخاف منك فما بالك بامرأة ضعيفة العقل
ولا ينافى هذا أى سماعه الغناء من المرأة مع الضرب على الدف ما تقدم فى باب ما حفظ به صلى الله تعالى عليه وسلم فى صغره من أمر الجاهلية لأن الدف ثم كان معه مزمار بخلافه هنا وتسمية أبى بكر رضى الله تعالى عنه الدف مزمارا لأنه كان يعتقد حرمة ذلك فشبهه بالمزمار المحرم سماعه
قال بعضهم واعلم أن السماع فى طريق القوم معروف وفى الجواذب إلى المحبة معدود وموصوف وقال بعض آخر إنه من أكبر مصايد النفوس أى والرجوع بها إلى الله تعالى وقد شوهد تأثير السماع فى الحيوانات غير الناطقة بل فى الأشجار ومن لم يحركه السماع فهو فاسد المزاج غليظ الطبع
وعن أبى بشر أن النبى صلى الله عليه وسلم وأبا بكر مرا بالحبشة وهم يلعبون ويرقصون ويقولون ** يا أيها الضيف المعرج طارقا ** لولا مررت بآل عبد الدار ** ** لولا مررت بهم تريد قراهم ** منعوك من جهد ومن إقتار **
____________________
(2/247)
أى ولم ينكر عليهم وبه استدل أئمتنا على جواز الرقص حيث خلا عن التكسر فقد صحت الأخبار وتواترت الآثار بإنشاد الأشعار بين يديه صلى الله عليه وسلم بالأصوات الطيبة مع الدف وبغيره وبذلك استدل أئمتنا على جواز الضرب بالدف ولو فيه جلاجل لما هو سبب لإظهار السرور وعلى جواز إنشاد الشعر واستماعه حيث خلا عن هجو لغير نحو فاسق متجاهر بفسقه وخلا عن تشبب بمعين من امرأة أو غلام والخلاف إنما هو فى سماع الملاهى كالأوتار والمزامير وخوف الفتنة من سماع صوت المرأة أو الأمرد الجميل
ونقل عن الجنيد أنه قال الناس فى السماع أى سماع الآلات على ثلاثة أضرب العوام وهو حرام عليهم لبقاء نفوسهم والزهاد وهو مباح لهم لحصول مجاهداتهم والعارفون وهو مستحب لهم لحياة قلوبهم وذكر نحوه أبو طالب المكى وصححه السهروردى فى عوارف المعارف
وفى كلام بعضهم جبلت النفوس حتى غير العاقلة على الإصغاء إلى ما يحسن من سماع الصوت الحسن فقد كانت الطيور تقف على رأس داود عليه الصلاة والسلام لسماع صوته لكن يشكل على ذلك ما أخرجه ابن أبى شيبة عن صفوان بن أمية وهو من المؤلفة قال كنا عند النبى صلى الله عليه وسلم إذ جاء عمر بن قرة فقال يا رسول الله إن الله كتب على الشقوة فلا أنال الرزق إلا من دفى بكفى فأذن لى فى الغناء من غير فاحشة فقال النبى صلى الله عليه وسلم لا إذن لك ولا كرامة ولا نعمة كذبت أى عدو الله أى يا عدو الله والله لقد رزقك الله طيبا فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله أما إنك لو قلت بعد كهذه المقالة لضربتك ضربا وجيعا إلا أن يقال هذا النهى إن صح محمول على من يتخذ ضرب الدف حرفة وهو مكروه تنزيها وقوله صلى الله عليه وسلم اخترت ما حرم الله عليك إلى آخره للمبالغة فى التنفير عن ذلك
ونزل صلى الله عليه وسلم على أبى أيوب وقال المرء مع رحله أى بعد أن قال أى بيوت أهلنا يعنى أهل تلك المحلة من بنى النجار أقرب فقال أبو أيوب دارى هذه وقد حططنا رحلك فيها فذهبت تلك الكلمة أى التى هى المرء مع رحله مثلا وقال اذهب فهيئ لنا مقيلا فذهب فهيأ ذلك ثم جاء فقال يا نبى الله قد هيأت مقيلا فقم على
____________________
(2/248)
بركة الله تعالى ونزل معه صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة رضى الله تعالى عنه
أقول وفى رواية فتنازع القوم أيهم ينزل عليه أى كل يحرص على أن تكون داره له منزلا أى مقاما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل الليلة على بنى النجار أخوال عبد المطلب لأكرمهم بذلك فلما أصبح غدا حيث أمر وحينئذ يكون قوله صلى الله عليه وسلم أنزل الليلة أى غد تلك الليلة ولا يخالف هذا ما قبله من قول بنى النجار هلم إلينا وقوله لهم إنها مأمورة لجواز أن يكون أمر بالنزول عليهم
وأعلم أن خصوص البقعة والمحلة من محلات بنى النجار التى ينزل بها من دارهم ما تبرك به الناقة وفيه أنه يبعد مع ذلك أى مع قوله المذكور أى أنه ينزل على بنى النجار سؤال غير بنى النجار فى النزول عنده إلا أن يقال لعل السائلين له صلى الله عليه وسلم فى ذلك لم يبلغهم قوله المذكور أو جوزوا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم بدا له فى ذلك رأى وقد أشار إلى نزوله صلى الله عليه وسلم على بنى النجار الامام السبكى فى تائيته بقوله ** نزلت على قوم بأيمن طائر ** لأنك ميمون السنا والنقيبة ** ** فيالبنى النجار من شرف به ** يجرون أذيال المعالى الشريفة **
وهذا السياق يدل على أن تنازع القوم وقوله لهم المذكور كان فى آخر ليلة وهو فى قباء وهو يرد قول بعضهم يشبه أن يكون ذلك فى أول قدومه صلى الله عليه وسلم من مكة قبل نزوله قباء لا فى قدومه باطن المدينة فالمراد بأهل المدينة أهل قباء
ويرد قول سبط ابن الجوزى لعله نزل على بنى النجار ليلة انتهى أى تلك الليلة ثم ارتحل إلى بنى عمرو بن عوف أى فى قباء هذا وفى رواية عن أنس بن مالك رضى الله عنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نزل فى علو المدينة فى حى يقال لهم بنو عمرو بن عوف فأقام فيهم أربع عشرة ليلة ثم أرسل إلى ملأ من بنى النجار فجاءوا متقلدين سيوفهم قال أنس فكأنى أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته وأبو بكر رديفه وملأ من بنى النجار حوله حتى أناخ بفناء أبى أيوب وهذه الرواية وقع فيها اختصار كبير
ويقال إنه صلى الله عليه وسلم عرج على عبد الله بن أبى ابن سلول وكان جالسا محتبيا وأراد النزول عليه فقال له اذهب إلى الذين دعوك وانزل عليهم فقال له سعد
____________________
(2/249)
ابن عبادة يا رسول الله لا تجد فى نفسك من قوله فقد قدمت علينا والخزرج تريد أن تملكه وقد وقع له فى بعض الأيام أنه صلى الله عليه وسلم قيل له يا رسول الله لو أتيت عبد الله بن أبى ابن سلول أى متألفا له ليكون ذلك سببا لإسلام من تخلف من قومه وليزول ما عنده من النفاق فانطلق النبى صلى الله عليه وسلم وركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون معه فلما أتاه النبى صلى الله عليه وسلم قال له إليك عنى والله لقد آذانى نتن حمارك فقال رجل من الأنصار والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك فغضب لعبد الله رجل من قومه فشتمه فغضب لكل واحد منهما أصحابه فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدى والنعال فنزل { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } كذا فى البخارى
وفيه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على بن أبى ابن سلول وهو فى جماعة فقال ابن أبى لقد عثا ابن أبى كبشة فى هذه البلاد فسمعها ابنه عبد الله رضى الله تعالى عنه فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيه برأسه فقال له صلى الله عليه وسلم لا ولكن بر أباك وكان ابن أبى جميل الصورة ممتلئ الجسم فصيح اللسان وهو المعنى بقوله تعالى { وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم } الآية ولكونه متبوعا جئ فيه بصيغة الجمع
وعن الزهرى أخبرنى عروة بن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب حمارا على إكاف وأردف أسامة وراءه يعود سعد بن عبادة فى بنى الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبى ابن سلول وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبى ابن سلول فاذا فى المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود وفى المسلمين عبد الله بن رواحة فثار غبار من مشى الحمار فخمر ابن أبى أنفه بردائه ثم قال لا تغبروا علينا فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم ثم نزل ودعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن فقال ابن أبى أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذينا به فى مجالسنا إرجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه فقال عبد الله بن رواحة بلى يا رسول الله فاغشنا فإنا نحب ذلك واستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتبادرون فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم دابته حتى دخل على سعد بن عبادة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا سعد ألم تسمع
____________________
(2/250)
ما قال أبو حباب يعنى ابن أبى قال كذا وكذا فقال سعد بن عبادة يا رسول الله اعف عنه واصفح فوالله الذى أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذى أنزل عليك وقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة فلما رد بالحق الذى أعطاك الله شرق فذلك الذى فعل به ما رأيت فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم
ومكث صلى الله عليه وسلم ببيت أبى أيوب إلى أن بنى المسجد وبعض مساكنه وقد مكث فى بناء ذلك من شهر ربيع الأول إلى شهر صفر من السنة القابلة أى وذلك اثنا عشر شهرا وقيل مكث ببيت أبى أيوب سبعة أشهر
قال ولما تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم من بنى عمرو بن عوف إلى المدينة تحول المهاجرون أى غالبهم أخذا مما يأتى فتنافس فيهم الأنصار أن ينزلوا عليهم حتى اقترعوا فيهم بالسهمان فما نزل أحد من المهاجرين على أحد من الأنصار إلا بقرعة بينهم فكان المهاجرون فى دور الأنصار وأموالهم اه
وكان من جملة محل مسجده صلى الله عليه وسلم مسجد لأبى أمامة أسعد بن زرارة رضى الله تعالى عنه وكان أبو أمامة يجمع فيه بمن يليه بناه فى بعض مربد للتمر لسهل وسهيل أى يجفف فيه التمر ويرادف المربد الجرين والمسطح والبيدر وهو ما يبسط فيه الزرع أو التمر للتجفيف
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى فى ذلك المسجد قال فعن أم زيد بن ثابت أنها قالت رأيت أسعد بن زرارة قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يصلى بالناس الصلوات الخمس ويجمع بهم فى مسجد بناه فى مربد سهل وسهيل قالت فكأنى أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم وصلى بهم فى ذلك المسجد وبناه أى مع إدخال بقية ذلك المربد فهو مسجده
وحينئذ لا يخالف ذلك قول الحافظ بن الدمياطى عن الزهرى قال بركت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موضع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ يصلى فيه رجال من المسلمين قبل قدومه صلى الله عليه وسلم وكان مربدا لسهل وسهيل وكان جدارا مجدرا ليس عليه سقف وقبلته إلى بيت المقدس وكان أسعد بن زرارة بناه وكان يصلى بأصحابه ويجمع بهم فيه الجمعة قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم أى ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صار يصلى فيه
____________________
(2/251)
وفى الإمتاع كان أسعد بن زرارة بنى فيه جدارا تجاه بيت المقدس كان يصلى إليه بمن أسلم قبل قدوم مصعب بن عمير ثم صلى بهم إليه مصعب هذا كلامه وتعلم ما فيه لما قدمناه فى قدوم مصعب المدينة لكن فى البخارى أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلى فى مرابض الغنم قبل أن يبنى المسجد أى ولعله اتفق له ذلك فى بعض الأوقات لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلى حيث أدركته الصلاة
ثم إنه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك سأل أسعد بن زرارة أن يبيعه تلك البقعة التى كان من جملتها ذلك المسجد ليجعلها مسجدا فإنها كانت فى يده ليتيمين فى حجره وهما سهل وسهيل وقيل كانا فى حجر معاذ بن عفراء قال فى الأصل وهو الأشهر
وفى المواهب أن الأول هو المرجح واليتيمان المذكوران من بنى مالك بن النجار وقيل كانا فى حجر أبى أيوب الأنصارى قال بعضهم والظاهر أن الكل أى من اسعد ومعاذ وأبى أيوب كانوا يتكلمون لليتيمين لأنهم بنو عم فنسبا إلى حجر كل
وقد عرض أبو أيوب عليه صلى الله عليه وسلم أن يأخذ تلك الأرض ويغرم لليتيمين فيمتها فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وابتاعها بعشرة دنانير أداها من مال أبى بكر أى وفى رواية فدعا الغلامين فساومهما بالمربد فقالا نهبه لك يا رسول الله فأبى أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما بعشرة دنانير وأمر أبا بكر أن يعطيهما ذلك أى وحينئذ يكون وصفهما باليتم باعبتار ما كان
وفى رواية أرسل صلى الله عليه وسلم إلى ملأ من بنى النجار ولعلهم من تقدم وهو أسعد ومعاذ وأبو أيوب ومعهم سهل وسهيل فجاءوه صلى الله عليه وسلم فقال لهم ثامنونى بحائطكم هذا أى خذوا منى ثمنه قالوا لا يا رسول الله والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله فأبى أن يأخذه إلا بالثمن
قال وجاء أن أسعد بن زرارة عوض اليتيمين من تلك الأرض نخلا أى له فى بنى بياضة وقيل أرضا هما فيها أبو أيوب وقيل معاذ بن عفراء
وطريق الجمع بين ذلك أنه يحتمل أن كلا من أسعد وأبى أيوب ومعاذ بن عفراء دفع للغلامين شيئا أى زيادة على العشرة دنانير فنسب ذلك لكل منهم
وجاء أنه كان فى تلك الأرض قبور جاهلية فأمر بها صلى الله عليه وسلم فنبشت وأمر بالعظام فألقيت اه أى وفى رواية وأمر بالعظام أن تغيب أى وفى رواية كان
____________________
(2/252)
فى موضع المسجد نخل وخرب أى حفر ومقابر للمشركين فأمر صلى الله عليه وسلم بالقبور فنبشت وبالخرب فسويت وبالنخل فقطعت
أى وفى سيرة الحافظ الدمياطى فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنخل الذى فى الحديقة أى وهى تلك الأرض التى كانت مربدا أى وسمى حديقة لوجود النخل به وأمر بالغرقد الذى فيه أن يقطع أى والغرقد شجر معروف وبقبع الغرقد مقبرة أهل المدينة وشجر الغرقد يقال له شجر اليهود فإنه لا يدل على اليهودى إذا توارى به عند نزول عيسى عليه الصلاة والسلام وقتله للدجال ولجنده من اليهود فإذا توارى اليهودى بشجرة نادته يا روح ههنا يهودى فيأتى حتى يقف عليه فإما أن يسلم وإما أن يقتل إلا شجر الغرقد فإنه لا يدل على اليهودى إذا توارى به فقيل له شجر اليهود لذلك
قال وكان فى المربد ماء مستبجر فسيروه حتى ذهب والمستبجر الذى ينشع ويظهر من الأرض
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر باتخاذ اللبن فاتخذ وبنى به المسجد وجاء أنه صلى الله عليه وسلم عند الشروع فى البناء وضع لبنة ثم دعا أبا بكر فوضع لبنة أى بجانب لبنته صلى الله عليه وسلم ثم دعا عمر فوضع لبنة بجانب لبنة أبى بكر ثم جاء عثمان فوضع لبنة بجانب لبنة عمر
أى وقد أخرج ابن حبان لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ووضع فى البناء حجرا وقال لأبى بكر ضع حجرك إلى جنب حجرى ثم قال لعمر ضع حجرك إلى جنب حجر أبى بكر ثم قال لعثمان ضع حجرك إلى جنب حجر عمر ثم قال هؤلاء الخلفاء بعدى قال أبو زرعة إسناده لا بأس به فقد أخرجه الحاكم فى المستدرك وصححه وفى رواية هؤلاء ولاة الأمر بعدى قال ابن كثير وهذا الحديث بهذا الإسناد غريب جدا
قال بعضهم وقوله صلى الله عليه وسلم لعثمان ما ذكر أى ضع حجرك إلى جنب حجر عمر يرد على من زعم أن هذا منه صلى الله عليه وسلم إشارة إلى قبورهم أى إذ لو كان إشارة إلى ذلك لدفن عثمان بجانب عمر كما دفن عمر بجانب أبى بكر بل هو إشارة إلى ترتيب الخلافة أى لأنه لا يستفاد من قوله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الخلفاء بعدى إلا ذلك
____________________
(2/253)
ومن ثم جاء فى رواية فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال أمر الحلافة من بعدى
وتصحيح الحاكم لما ذكر يظهر التوقف فى قول بعضهم إن هذا لم يجئ فى الصحيح إلا أن يريد صحيح الشيخين
وأما قوله قال البخارى فى تاريخه إن ابن حبان لم يتابع على الحديث المذكور لأن عمر وعثمان وعليا قالوا لم يستخلف النبى صلى الله عليه وسلم فقد يقال عليه معناه لم ينص على استخلاف أحد بعينه عند موته وذلك لا ينافى الإشارة إلى وقوع الخلافة لهؤلاء بعده ولا ينافى قوله هؤلاء الخلفاء بعدى لجواز أن يراد الخلافة فى العلم ثم رأيت ابن حجر الهيتمى أشار إلى ذلك حيث قال قلت هذا أى وضع تلك الأحجار وقوله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الخلفاء بعدى مع احتماله للخلافة فى العلم والإشارة متقدم على وقت الاستخلاف عادة وهو قرب الموت فلم يكن نصا سالما من المعارض هذا كلامه ثم قال للناس ضعوا أى الحجارة فوضعوا ورفع بالحجارة أى قريب من ثلاثة أذرع وبنى باللبن وجعل عضادتيه أى جانبيه بالحجارة وسقفه بالجريد وجعلت عمدء وفى رواية سواريه من جذوع النخل وطول جداره قامة أى كان ارتفاعه قدر قامة
قال وعن شهر بن حوشب قال لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبنى المسجد قال ابنوا لى عريشا كعريش موسى ثمامات وخشبات وظلة كظلة موسى والأمر أعجل من ذلك قيل وماظلة موسى قال كان إذا قام أصاب رأسه السقف انتهى
أى فالمراد اجعلوا سقفه يكون بحيث إذا قمت أصاب رأسى السقف أو رفعت يدى أصابت السقف
والجمع بين هاتين الروايتين يدل على أن المراد ما هو قريب من ذلك بحيث لا يكون كثير الارتفاع فلا ينافى ما يأتى من أمره بجعل ارتفاعه سبعة أذرع فليتأمل
وفى سيرة الحافظ الدمياطى فقيل له ألا تسقف فقال عريش كعريش موسى خشبات وثمام أى وقيل للحسن ما عريش موسى قال إذا رفع يده بلغ العريش يعنى السقف
وفى رواية لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بناء المسجد قال قيل لى أى قال له جبريل عريش كعريش أخيك موسى سبعة أذرع طولا فى السماء وكان
____________________
(2/254)
سبعة أذرع بحيث يصيب رأسه ولا نزخرفه ثم الأمر أعجل من ذلك أى وفيه أن هذا يقتضى أن موسى كان طوله سبعة أذرع وهو يخالف ما اشتهر أن قامة موسى كانت أربعين ذراعا وعصاه كذلك ووثبته كذلك وقد جاء ما أمرت بتشييد المساجد أى ولعل قوله ذلك كان لما جمع الأنصار مالا وجاءوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله ابن هذا المسجد وزينه إلى متى تصلى تحت هذا الجريد
وجاء لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس فى المساجد وجاء من أشراط الساعة أن يتباهى الناس فى المساجد أى تزخرفها كما تزخرف اليهود والنصارى كنائسهم وبيعهم ولم يكن على السقف كبيرطين إذ كان المطر يكف اى ينزل منه ماء المطر المخالط للطين عليهم بحيث يمتلئ أى المسجد طينا فقالوا يا رسول الله لو أمرت فطين أى جعل عليه طين كثير بحيث لا ينزل عليه المطر فقال لا عريش كعريش موسى فلم يزل كذلك حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند بنائه عمل فيه المسلمون المهاجرون والأنصار وعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ليرغب المسلمين فى العمل فيه
قال فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم صار ينقل اللبن أى فى ثيابه وفى رواية فى ردائه حتى اغبر صدره الشريف وصار يقول ** هذا الحمال لا حمال خيبر ** هذا أبر ربنا وأطهر **
أى هذا المحمول من اللبن أبر وأطهر ياربنا مما يحمل من خيبر من نحو التمر والزبيب فالحمال بالحاء المهملة بمعنى المحمول ووقع فى رواية بالجيم جمع جمل قال بعضهم وله وجه والأول أظهر ولا يحسن هذا الوجه إلا إذا كانت جمال خيبر أنفس من جمال غيرها وصار يقول ** اللهم إن الأجر أجر الآخره ** فارحم الأنصار والمهاجره **
قال البلاذرى وهذا القول لامرأة من الأنصار وتمامه ** وعافهم من حر نار ساعره ** فإنها لكافر وكافره **
والذى فى البخارى فاغفر للأنصار والمهاجره ولعله صلى الله عليه وسلم هو الذى أخرجه عن الوزن كما هو عادته فى إنشاد الشعر كما سيأتى وفى لفظ فأصلح وفى لفظ فأكرم وفى رواية اللهم لا خير إلا خير الآخره فارحم المهاجرين والأناصره وفى رواية فانصر الأنصار والمهاجره وعن الزهرى أنه كان يقول اللهم لا خير إلا خير
____________________
(2/255)
الآخرة فارحم المهاجرين والأنصار لأنه كان لا يقيم الشعر أى لا يأتى به موزونا ولو متمثلا وفيه أنه مع قوله اللهم إن الأجر إلى آخره لا يكون شعرا موزونا إلا إن حذف أل من اللهم وقال لاهم وكسر همزة فأرحم وحينئذ تكون المرأة من الأنصار إنما نطقت بذلك أى قالت لاهم إلى آخره وهو صلى عليه وسلم هو الذى غيره
ونقل عن الزهرى أنه صلى الله عليه وسلم لم يقل بيتا موزونا متمثلا به إلا قوله هذا الحمال البيت ولم أقف على قائله وسيأتى عن الزهرى أنه من إنشائه صلى الله عليه وسلم وسيأتى ما فيه
وفى كلام بعضهم قال ابن شهاب يعنى الزهرى لم يبلغنا فى الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعرتام أى موزون إلا هذه الأبيات قال ابن عائذ أى التى كان يرتجز بهن وهو ينقل اللبن لبناء المسجد أى وفيه هذا مخالف لما تقدم عن الزهرى أنه صلى الله عليه وسلم لم يقل بيتا موزونا إلا قوله هذا الحمال فلا يحسن أن يفسر كلامه بذلك على أنه تمثل ببيت شعر تام موزون غير ذلك فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم جعل يدور بين قتلى بدر ويقول ** نفلق هاما من رجال أعزة ** علينا وهم كانوا أعق وألأما **
وفى المواهب وقد قيل إن الممتنع عليه صلى الله عليه وسلم إنشاء الشعر لا إنشاده أى ولذلك جاء ما أبالى ما أوتيت إن أنا قلت الشعر من قبل نفسى وفى الكشاف وقد صح أن الأنبياء معصومون من الشعر ولا دليل على منع إنشاده أى الشعر موزونا مثمثلا
أقول نقل الحافظ الدمياطى عن الزهرى أنه كان يقول إنه صلى الله عليه وسلم لم يقل شيئا من الشعر إلا ما قد قيل قبله إلا قوله ** هذا الحمال لا حمال خيبر ** هذا أبر ربنا وأطهر **
أى فإنه من قوله وهو يخالف ما تقدم عنه ولعله سقط من عبارة الزهرى المذكورة شئ والأصل أنه لم يقل شيئا من الشعر إلا ما قد قيل قبله ولم يقل ما قبله تاما أى موزونا إلا قوله هذا الحمال إلى آخره فلا يخالف ما تقدم عنه وكونه كان لا يقيم الشعر أى لا يأتى به موزونا ولو متمثلا هو المنقول عن عائشة رضى الله تعالى عنها فقد قيل لها هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتى بشئ من الشعر فقالت كان
____________________
(2/256)
أبغض الحديث إليه الشعر غير أنه كان يتمثل ويجعل أوله آخره وآخره أوله أى غالبا كان يقول ويأتيك من لم تزود بالأخبار ويقول كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا أى وذلك قول سحيم بمهملة مصغرا عبد بنى الحساس شاعر مشهور مخضرم كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا ولما غير رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له الصديق رضى الله تعالى عنه إنما قال الشاعر كذا فأعاده صلى الله عليه وسلم كالأول فقال الصديق أشهد أنك رسول الله { وما علمناه الشعر } ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قول سحيم ** الحمد لله حمدا لا انقطاع له ** فليس إحسانه عنا بمقطوع **
قال أحسن وصدق وقول الصديق أشهد أنك رسول الله { وما علمناه الشعر } يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لا يجرى الشعر على لسانه موزونا وقد قيل له صلى الله عليه وسلم من أشعر الناس قال الذى يقول ** ألم تريانى كلما جئت طارقا ** وجدت بها وإن لم تطيب طيبا **
الأصل وجدت بها طيبا وإن لم تطيب
وكان أبو بكر رضى الله تعالى عنه يقول له بأبى أنت وأمى يا رسول الله ما أنت بشاعر ولا راوية والمراد بكون الشعر أبغض إليه الإتيان به وإلا فقد كان يسمع الشعر كما تقدم ويستنشده فقد ذكر بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم كان يستنشد الخنساء أخت صخر لأمه ويعجبه شعرها فكانت تنشده وهو يقول هيه يا خناس ويومئ بيده
وقد قال بعضهم أجمع أهل العلم أنه لم تكن امرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها ومن شعرها فى أخيها المذكور ** أعينى جودا ولاتجمدا ** ألا تبكيان لصخر الندى ** ** طويل النجاد عظيم الرماد ** وساد عشيرته أمردا ** وللجلال السيوطى كتاب سماه نزهة الجلساء فى أشعار الخنساء وقولنا فى قول عائشة إنه كان يتمثل بالشعر ويجعل أوله آخره أى غالبا حتى لا ينافى ما جاء عنها كان يتمثل بشعر ابن رواحة ** ويأتيك بالأخبار من لم تزود **
وقولها ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينشد شعرا إلا بيتا واحدا
____________________
(2/257)
** تفاءل لما تهوى بكن فلقلما ** يقال لشئ كان إلا تخلفا **
وفى الخصائص الكبرى قال المزنى ولم يبلغنى أنه صلى الله عليه وسلم أنشد بيتا تاما على رويه بل إما الصدر كقول لبيد ألاكل شئ ما خلا الله باطل أو العجز كقول طرفة ويأتيك بالأخبار من لم تزود أى وفيه ما تقدم عن عائشة وكقوله وقد أنشده أعشى بنى مازن أبياتا فى ذم النساء آخر تلك الأبيات وهن من شر غالب لمن غلب فجعل صلى الله عليه وسلم يقول وهن شر غالب لمن غلب فإن أنشد بيتا كاملا غيره أى غالبا لما تقدم كبيت العباس بن مرداس أى فإنه صلى الله عليه وسلم قال يوما للعباس بن مرداس أرأيت قولك وفى لفظ أنت القائل ** أصبح نهبى ونهب العبيد ** بين الأقرع وعيينة **
فقيل له إنما هو بين عيينة والأقرع فقال عليه الصلاة والسلام إنما هو الأقرع وعيينة فقال أبو بكر رضى الله تعالى عنه بأبى أنت وأمى يا رسول الله وفى لفظ أشهد أنك رسول الله ما أنت بشاعر ولا راويه ولا ينبغى لك إنما قال بين عيينة والأقرع أى أنه لا ينبغى لك أن تكون شاعرا كما قال الله ولا ينبغى لك أن تكون راويا للشعر أى بأن تاتى به على وجهه أى لا يكون شأنك ذلك مباعدة عن الشعر وكون شأنه ذلك لا ينافى وجوده منه على وجهه فى بعض الأحيان فليتأمل
وعن بعضهم ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت شعر قط أى موزونا وقد يقال لا يخالف هذا ما تقدم عن المواهب لأنه يجوز أن يكون هذا المنقول عن عائشة
وعن المزنى وعن بعضهم كان أغلب أحواله كما قدمناه فى المنقول عن عائشة ثم رأيته فى الامتاع أشار إلى ذلك بقوله وربما أنشد صلى الله عليه وسلم البيت المستقيم فى النادر وقول المواهب لا دليل على منع إنشاده متمثلا أي دائما وأبدا ويدل لذلك قول الزهري إنه لم يقل بيتا موزونا متمثلا به إلا قوله هذا الحمال إلى آخره وفيه ما علمت ولا يخفى أن الشعر عر ف بأنه كلام عربى موزون عن قصد قال البدر الدمياطى وقولنا عن قصد يخرج ما كان وزنه اتفاقيا كآيات شريفة اتفق جريان الوزن فيها أى من بحور الشعر الستة عشر وقد ذكرها الجلال السيوطى فى نظمه للتلخيص وذلك كما فى قوله تعالى { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } وكقوله تعالى { وجفان كالجواب وقدور راسيات }
____________________
(2/258)
وقوله تعالى { نصر من الله وفتح قريب } وككلمات شريفة نبوية جاء الوزن فيها اتفاقيا غير مقصود كما فى قول النبى صلى الله عليه وسلم ** هل انت إلا أصبع دميت ** وفى سبيل الله مالقيت **
أى بناء على تسليم أنه من قوله صلى الله عليه وسلم وإلا فقد قيل إنه من قول عبد الله ابن رواحة أى فإن ذلك مذكور فى أبيات قالها فى غزوة مؤتة وقد صدمت أصبعه فدميت وذكر بدل فى سبيل الله فى كتاب الله ولا مانع أن يكون ابن رواحة أدخل ذلك البيت فى تلك الأبيات التى صنعها كما تقدم
وفى كلام ابن دحية ولا يمر على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضروب الرجز إلا ضربان منهوك ومشطور فالمنهوك أنا النبى لا كذب والمشطور هل أنت إلا أصبع دميت وقيل البيت الواحد لا يكون شعرا على أنه قيل إن الرجز ليس من الشعر عند الأخفش خلافا للخليل أى فإن الأخفش احتج على أن الرجز ليس بشعر رادا على الخليل ومن تبعه القائلين بأنه من الشعر حيث قال لأحتجن عليهم بحجة إن بم يقروا بها كفروا لو كان شعرا ما جرى على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله تعالى يقول { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } هذا كلامه قال فى النور والصحيح أنه شعر أى موافقة للخليل وقد علمت أن ما جرى منه على لسانه صلى الله عليه وسلم ليس شعرا لعدم قصده فليتأمل
وقد نقل الماوردى من أئمتنا أنه كما يحرم عليه قول الشعر أى إنشاؤه يحرم عليه روايته أى دون إنشاده متمثلا
وفرق بعضهم بين الإنشاد والرواية بأن الرواية يقول قال فلان كذا وأما إنشاده متمثلا فلا يقول ذلك هذا كلامه
وفيه أنه قال لما قيل له من أشعر الناس قال الذى يقول إلى آخره وقال للعباس ابن مرداس أنت القائل إلى آخره قال ذلك البعض وكان الفرق بين الرواية والإنشاد أن فى قوله قال فلان فيه رفعة للقائل بسبب قوله وهذا متضمن لرفع شأن الشعر والمطلوب منه الإعراض عن الشعر من حيث كونه شعرا
وفيه أن الصديق قال له عند كل من الرواية والإنشاد لست براوية كما تقدم وعن الخليل كان الشعر أحب إليه صلى الله عليه وسلم من كثير من الكلام
____________________
(2/259)
أى وقد يقال لا يخالف هذا ما تقدم عن عائشة رضى الله تعالى عنها كان أبغض الحديث إليه صلى الله عليه وسلم الشعر لأن المراد بالشعر الذى يحبه ما كان مشتملا على حكمة أو وصف جميل من مكارم الأخلاق والذى يبغضه ما كان مشتملا على ما فيه هجنة أو هجو ونحو ذلك
ومن ثم قيل الشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح وفى الجامع الصغير الشعر بمنزلة الكلام فحسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام الشعر الحسن أحد الحمالين يكسوه الله المرء المسلم
وقد قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما إذا خفى عليكم شئ من غريب القرآن فالتمسوه فى الشعر فإن الشعر ديوان العرب وفى كلام سيدنا عمر رضى الله تعالى عنه نعم الأبيات من الشعر يقدمها الرجل فى صدر حاجته يستعطف بها قلب الكريم ويستميل بها لؤم اللئيم
والحاصل أن الحق الحقيق بالاعتماد وبه تجتمع الأقوال أن المحرم عليه صلى الله عليه وسلم إنما هو إنشاد الشعر أى الاتيان بالكلام الموزون عن قصد وزنه وهذا هو المعنى بقوله تعالى { وما علمناه الشعر }
فإن فرض وقوع كلام موزون منه صلى الله عليه وسلم لا يكون ذلك شعرا اصطلاحا لعدم قصد وزنه فليس من الممنوع منه
والغالب عليه صلى الله عليه وسلم أنه إذا أنشد بيتا من الشعر متمثلا أو مسندا لقائله لا يأتى به موزونا وربما أتى به موزونا
وادعى بعض الأدباء أنه صلى الله عليه وسلم كان يحسن الشعر أى يأتى به موزونا قصدا ولكنه كان كان لا يتعاطاه أى لا يقصد الإتيان به موزونا قال وهذا أتم وأكمل مما لو قلنا بأنه كان لايحسنه وفيه أن فى ذلك تكذيبا للقرآن
وفى التهذيب للبغوى من أئمتنا قيل كان صلى الله عليه وسلم يحسن الشعر ولا يقوله والأصح أنه كان لا يحسنه ولكن كان يميز بين جيد الشعر ورديئه ولعل المراد بين الموزون منه وغير الموزون ثم رأيته فى ينبوع الحياة قال كان بعض الزنادقة المتظاهرين بالإسلام حفظا لنفسه وماله يعرض فى كلامه بأن النبى صلى الله عليه وسلم كان يحسن الشعر يقصد بذلك تكذيب كتاب الله تعالى فى قوله تعالى { وما علمناه الشعر وما ينبغي له }
____________________
(2/260)
قال بعضهم والحكمة في تنزيه القرآن الموزون مع أن الموزون من الكلام رتبته فوق رتبة غيره أن القرآن منبع الحق ومجمع الصدق وقصارى أمر الشاعر التخيل بتصور الباطل في صورة الحق والأفراط في الإطراء والمبالغة في الذم والإيذاء دون إظهار الحق والباطل وإثبات الصدق ولهذا نزه الله تعالى نبيه عنه ولأجل شهر الشعر بالكذب سمى أصحاب البرهان القياسات المؤدية في أكثر الأمر إلى البطلان والكذب شعرية
قد جاء التنفير عن إنشاد الشعر في المسجد قال صلى الله عليه وسلم من رأيتموه ينشد شعرا في المسجد فقولوا فض الله فاك ثلاث مرات والأخذ بعمومه فيه من العسر مالا يخفى
وفي العرائس عن بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال من قال آدم قد قال الشعر فقد كذب على الله ورسوله ورمى آدم بالإثم وإن محمد والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كلهم في النهى عن الشعر سواء
وفي كلام الشيخ محي الدين بن العربي في قوله تعالى { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } أعلم ان الشعر محل الأجمال واللغز والتورية أى ما رمزنا لمحمد صلى الله عليه وسلم شيئا ولا ألغزنا ولاخاطبناه بشئ ونحن نريد شئيا آخر ولا أجملنا له الخطاب بحيث لم يفهمه وأطال في ذلك وهل ويشكل على ذلك الحروف المقطة أوئل السور ولعله رضي الله بعلمه والله تعالى عنه لايرى أن ذلك من المتشابه أو أن المتشابه ليس مما استأثر الله بعلمه والله اعلم
ولما رأته صلى الله عليه وسلم الصحابة ينقل اللبن بنفسه دأبوا فى ذلك أى فى نقل اللبن أى وهو المراد بالصخر فى قول بعضهم وجعل أصحابه ينقلون الصخر أو المراد الصخر الذى يبنى به الجدار وجانبا الباب كما تقدم حتى قال قائلهم ** لئن قعدنا والنبى يعمل ** لذاك منا العمل المضلل **
وجعل يحمل كل رجل لبنة لبنة وعمار بن ياسر يحمل لبنتين لبنتين فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفض التراب عن رأس عمار ويقول يا عمار ألا تحمل كما يحمل أصحابك قال إنى أريد الأجر من الله تعالى وفى رواية كان يحمل لبنة عن نفسه ولبنة عنه صلى الله عليه وسلم فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهره وقال يا ابن سمية للناس أجر ولك أجران وآخر زادك أى من الدنيا شربة من لبن وجاء فى حق
____________________
(2/261)
عمار بن سمية ما عرض عليه أمران قط إلا اختار رضى الله عنه الأرشد منهما إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق وتقتلك الفئة الباغية تدعوهم إلى الجنة وتدعوك إلى النار وعمار يقول أعوذ بالله وفى رواية بالرحمن من الفتن أى وهذا السياق يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يستمر ينقل اللبن بل نقل ذلك فى بعض الأوقات
وفى مسلم وعن أبى سعيد الخدرى رضى الله تعالى عنه قال أخبرنى من هو خيرمنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر لعمار حين شغل بحفر الخندق فجعل يمسح رأس عمار ويقول ابن سمية تقتلك فئة باغية وفى رواية تغيين من أبهمه أبو سعيد وهو أبو قتادة وزاد فى رواية أن النبى صلى الله عليه وسلم لما حفر الخندق وكان الناس يحملون لبنة لبنة أى من الحجارة التى تقطع وعمار ناقه من وجع كان به فجعل يحمل لبنتين قال لعمار بؤسا لك يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية
ثم رأيت بعضهم قال يشبه أن يكون ذكر الخندق وهما أوقالها عند بناء المسجد وقالها يوم الخندق هذا كلامه أى ويكون عمار بن ياسر فى الخندق قد صار يحمل الحجرين وكان فى بناء المسجد يحمل اللبنتين وكان عثمان بن مظعون رضى الله تعالى عنه رجلا متنظفا أى مترفها فكان إذا حمل اللبنة يجافى بها عن ثوبه لئلا يصيبه التراب فإن أصابه شئ من التراب نفضه فنظر إليه على بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه وأنشد يقول أى مباسطة مع عثمان بن مظعون لاطعنا فيه ** لا يستوى من يعمر المساجدا ** يدأب فيها قائما وقاعدا ** ** ومن يرى عن التراب حائدا **
أى وكان عثمان هذا من جملة من حرم الخمر على نفسه فى الجاهلية وقال لا أشرب شرابا يذهب عقلى ويضحك بى من هو أدنى منى
وذكر ابن إسحق قال سألت غير واحد من أهل العلم بالشعر عن هذا الرجز هل تمثل به على أو أنشأه فكل يقول لا أدرى فسمع ذلك الرجز عمار بن ياسر فصار يرتجز بذلك وهو لا يدرى من يعنى بذلك فمر يرتجز بذلك على عثمان فظن عثمان أن عمارا يقصد التعريض به فقال له عثمان يا ابن سمية ما أعرفنى بمن تعرض به لتكفن أو لأعترضن بهذه الحديدة لحديدة كانت معه وجهك وفى لفظ والله إنى أرانى سأعرض هذه العصا بأنفك لعصا كانت فى يده فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب وقال إن عمار بن ياسر جلدة ما بين عينى ووضع يده الشريفة بين عينيه الشريفتين
____________________
(2/262)
فقال الناس لعمار قد غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم أى ونخاف أن ينزل فينا قرآن فقال أنا أرضيه فقال يا رسول الله مالى ولأصحابك قال مالك ولهم قال يريدون قتلى فيحملون لبنة لبنة ويحملون على لبنتين لبنتين أى وفى لفظ يحملون على اللبنتين والثلاث أى ولعله حمل ثلاث لبنات فى بعض الأوقات فأخذ بيده وطاف به المسجد وجعل يمسح ذفرته من التراب والذفرة بالذال المعجمة الشعر الذى حهه القفا ويقول يا ابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك تقتلك الفئة الباغية ويقول ويح عمار تقتلة الفئة الباغية يدعوهم ألى الجنة أى إلى سببها وهو اتباع الإمام الحق لأنه كان يدعو إلى اتباع على وطاعته وهو الإمام الواجب الطاعة إذ ذاك ويدعونه إلى النار أى إلى سببها وهو عدم اتباع على وطاعته واتباع معاوية وطاعته
وفيه ان تلك الفئة التى كان فيها قاتله كان فيها جمع من الصحابة وهو معذورون بالتأويل الذى ظهر لهم إلا أن يقال يدعونه إلى النار باعتبار اعتقاده وإطلاق البغى عليهم حينئذ باعتبار ذلك قال بعضهم وفئة معاوية وإن كانت باغية لكنه بغى لا فسق فيه لأنه إنما صدر عن تأويل يعذر به أصحابة انتهى أى وما زاده بعضهم فى الحديث لا انالهم الله شفاعتى يوم القيامة قال ابن كثير من روى هذا فقد افترى فى هذه الزيادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يقلها إذ لم تنقل عمن يقبل وقال الإمام أبو العباس ابن تيمية وهذا كذب مزيد فى الحديث لم يروه أحد من أهل العلم بإسناد معروف وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم عمار جلدة ما بين عيني لا يعرف له إسناد والذى فى الصحيح تقتل عمارا الفئة الباغية وعن أبى العالية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قاتل عمار فى النار ومن العجب أن أبا العالية هذا هو القاتل لعمار يوم صفين فكان أبو العالية مع معاوية وكان عمار مع على أى ويقول إن عمار ا لما برز للقتال قال اللهم لو أعلم رضاك عنى أن أوقد نارا فأرمى نفسى فيها لفعلت أو أغرق نفسى لفعلت وإنى لا أريد قتال هؤلاء إلا لوجهك الكريم وأنا أرجو أن لا تخيبنى وجعلت يده ترتعش على الحربة أى لأن عمره يومئذ كان ثلاثا وسبعين سنة أى وقد كان جئ له بلبن فضحك فقيل له ما يضحكك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول آخر شراب تشربه حين تموت لبن وفى رواية آخر زادك من الدنيا مشيج من اللبن ثم نادى اليوم زخرفت الجنان وزينت الحور الحسان اليوم نلقى الأحبة محمدا وحزبه
____________________
(2/263)
ولما قتل عمار دخل عمرو بن العاص على معاوية فزعا وقال قتل عمار فقال معاوية قتل عمار فماذا قال عمرو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول تقتل عمارا الفئة الباغية فقال له معاوية دحضت أى زلفت فى بولك أنحن قتلناه إنما قتله من أخرجه وفى رواية قال له اسكت فو الله ما تزال تدحض أى تزلق فى بولك إنما قتله على واصحابه جاءوا به حتى ألقوا بيننا
وذكر أن عليا رضى الله تعالى عنه لما احتج على معاوية رضى الله تعالى عنه بهذا الحديث ولم يسع معاوية إنكاره قال إنما قتله من أخرجه من داره يعنى بذلك عليا فقال على رضى الله تعالى عنه فرسول الله صلى الله عليه وسلم إذن قتل حمزة حين أخرجه
ولما قتل عمار جرد خزيمة بن ثابت رضى الله تعالى عنه سيفه وقاتل مع على وكان قبل ذلك اعتزل عن الفريقين وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول تقتل عمارا الفئة الباغية فقاتل معاوية حتى قتل وكان ذو الكلاع رضى الله تعالى عنه مع معاوية وقال له يوما ولعمرو بن العاص كيف نقاتل عليا وعمار بن ياسر فقالا له إن عمارا يعود إلينا ويقتل معنا فقتل ذو الكلاع قبل قتل عمار
ولما قتل عمار قال معاوية لو كان ذو الكلاع حيا لمال بنصف الناس إلى على أى لأن ذا الكلاع كان ذووه أربعة آلاف أهل بيت وقيل عشرة آلاف
وكان عبد الله بن بديل بن ورقاء رضى الله تعالى عنه مع على رضى الله تعالى عنه فلما قتل عمار أخذ سيفين ولبس درعين ولم يزل يضرب بسيفه حتى انتهى إلى معاوية فأزاله عن موقفه وأزال أصحابه الذين كانوا معه عن موقفهم ثم قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبى صلى الله عليه وسلم ثم قال ألا إن معاوية ادعى ماليس له ونازع الأمر أهله ومن ليس قبله وجادل بالباطل ليدخض به الحق وصال عليكم بالأعراب والأحزاب وزين لهم الضلالة وزرع فى قلوبهم حب الفتنة ولبس عليهم الأمر وأنتم والله على الحق على نور من ربكم وبرهان مبين فقاتلوا الطغاة الجناة قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين قاتلوا الفئة الباغية الذين نازعوا الأمر أهله قوموا رحمكم الله
ولما قتل عمار ندم ابن عمر رضى الله تعالى عنهما على عدم نصرة على والمقاتلة معه وقال عند موته ما أسفى على شئ ما أسفى على ترك قتال الباغية قال بعضهم شهدنا
____________________
(2/264)
صفين مع على بن أبى طالب فى ثمانمائة من أهل بيعة الرضوان وقتل منهم ثلاثة وستون منهم عمار بن ياسر وكان خزيمة بن ثابت الذى جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين كان مع على يوم صفين كافا سلاحه حتى قتل عمار جرد سيفه وقاتل حتى قتل لأنه كان يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عمار تقتله الفئة الباغية
وفى الحديث من عادى عمارا عاداه الله ومن أبغض عمارا أبغضه الله عمار يزول مع الحق حيث يزول عمار خلط الإيمان بلحمه ودمه عمار ما عرض عليه أمران إلا اختار الأرشد منهما
وجاء أن عمارا دخل على النبى صلى الله عليه وسلم فقال مرحبا بالطيب المطيب إن عمار بن ياسر حشى ما بين أخمص قدميه إلى شحمة أذنه إيمانا وفى رواية إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه
وتخاصم عمار مع خالد بن الوليد فى سرية كان فيها خالد أميرا فلما جاءا إليه صلى الله عليه وسلم استبا عنده فقال خالد يا رسول الله أيسرك أن هذا العبد الأجدع يشتمنى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا خالد لا تسب عمارا فإن من سب عمارا فقد سب الله ومن أبغض عمارا أبغضه الله ومن لعن عمارا لعنه الله ثم إن عمارا قام مغضبا فقام خالد فتبعه حتى أخذ بثوبه واعتذر إليه فرضى عنه
وعن سعد بن أبى وقاص رضى الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الحق مع عمار مالم يغلب عليه دلهة الكبر وهذا الحديث من أعلام النبوة فإن عمارا وقع بينه وبين عثمان بن عفان بعض الشحناء وأشيع عنه أنه يريد أن يخلع عثمان فاستدعاه سعد بن أبى وقاص وكان مريضا فقال له ويحك يا أبا اليقطان كنت فينا من أهل الخير فما الذى بلغنى عنك من السعى فى الفساد بين المسلمين والتألب على أمير المؤمنين أمعك عقلك أم لا فغضب عمار ونزع عمامته وقال خلعت عثمان كما خلعت عمامتى هذه فقال سعد إنا لله وإنا إليه راجعون ويحك حين كبر سنك ورق عظمك ونفد عمرك خلعت ربقة الإسلام من عنقك وخرجت من الدين عريانا كما ولدتك أمك فقام عمار مغضبا موليا وهو يقول أعوذ بربى من فتنة سعد وعند ذلك روى سعد الحديث وقال قد دله وخرف عمار وأظهر عمار القوم على ذلك
____________________
(2/265)
قال وجعلت قبلة المسجد إلى بيت المقدس وجعل له ثلاثة أبواب باب فى مؤخره والباب الذى كان يقال له باب عاتكة وكان يقال له باب الرحمة والباب الذى يقال له الآن باب جبريل انتهى أى وهو الباب الذى كان يدخل منه صلى الله عليه وسلم ويقال له باب عثمان لأنه كان يلى دار عثمان وهو الذى يخرج منه الآن إلى البقيع
أقول وجعل قبلته إلى بيت المقدس كان قبل أن تحول القبلة ولما حولت قبلته إلى الكعبة وهذا محمل قوله صلى الله عليه وسلم ما وضعت قبلة مسجدى هذا حتى رفعت لى الكعبة فوضعتها أتيممها أو أؤمها أى اقصدها وفى رواية ما وضعت قبلة مسجدى هذا حتى فرج لى ما بينى وبين الكعبة والله أعلم
أى وفى كلام بعضهم ومن الفوائد الحسنة ما ذكره مغلطاى أن موضع المسجد كان ابتاعه تبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه بألف سنة وإنه لم يزل على ملكه أى متعلقا به من ذلك العهد على ما دل عليه كتاب تبع
أقول سيأتى أن تبعا بنى للنبى صلى الله عليه وسلم دارا بالمدينة إذا قدمها ينزل فى تلك الدار وأنه يقال إنها دار أبى أيوب
وقد يجمع بأنه يجوز أن يكون ذلك المربد ودار أبى أيوب مجموعهما تلك الدار وأن تلك الدار قسمت فكان دار أبى أيوب بعضها وذلك المربد بعضها الآخر وأن الأيدى تداولت سكنى تلك الدار إلى أن صارت سكنا لأبى أيوب وهذا هو المراد بقول المواهب تداولت الدار الملاك إلى أن صارت لأبى أيوب
لكن قد يقال لو كانت الدار مذكورة فى الكتاب لذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الكتاب كما سيأتى وصل إليه فى مكة فى أول البعثة ونزوله دار أبى أيوب وأخذه المربد على الكيفية المذكورة يبعد ذلك أى أنه ذكر له أمر تلك الدار والله أعلم
قال ومكث صلى الله عليه وسلم يصلى فى المسجد بعد تمامه إلى بيت المقدس خمسة أشهر ولما حولت القبلة سد صلى الله عليه وسلم الباب الذى كان فى مؤخر المسجد
وفى كلام بعضهم لما حولت القبلة لم يبق من الأبواب التى كان يدخل منها صلى الله عليه وسلم إلا الباب الذى يقال له باب جبريل عليه السلام أى فإنه بقى فى محله وأما باب الرحمة الذى كان يقال له أيضا باب عاتكة فأخر عن محله
وسبب وضع الحصا فى المسجد أن المطر جاء ذات ليلة فأصبحت الأرض مبتلة
____________________
(2/266)
فجعل الرجل يأتى بالحصا فى ثوبه فيبسطه تحته ليصلى عليه فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال ما أحسن هذا وفى رواية ما أحسن هذا البساط
وقد يعارض هذا ما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يحصب المسجد فمات قبل ذلك فحصبه عمر رضى الله تعالى عنه
أقول قد يقال لا معارضة لأنه يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم لما أعجبه ذلك من فعل بعض الصحابة أمره أن يحصب جميع المسجد لأن الواقع تحصيب بعضه لكن يشكل على ذلك قول بعضهم من البدع فرش المساجد إلا أن يراد بالحصر ونحوها لأنه لم يكن زمنه صلى الله عليه وسلم ولا أمر به ثم رأيت بعضهم ذكر ذلك حيث قال أول من فرش الحصر فى المساجد عمر بن الخطاب وكانت قبل ذلك مفروشة بالحصباء أى فى زمنه صلى الله عليه وسلم كما تقدم
وفى الإحياء أكثر معروفات هذه الأعصار منكرات فى عصر الصحابة رضى الله تعالى عنهم إذ من عزيز المعروف فى زماننا فرش المساجد بالبسط الرقيقة فيها وقد كان يعد فرش البوارى فى المسجد بدعة كانوا لا يرون أن يكون بينهم وبين الأرض حائل هذا كلام الإحياء أى والحصباء لا تعد حائلا وسيأتى أن المسجد بنى بعد فتح خيبر وهى التى عناها خارجة رضى الله تعالى عنه بقوله لما كثر الناس قالوا يا رسول الله لو زيد فيه ففعل ولعلها هى التى أدخل فيها الأرض التى اشتراها عثمان رضى الله تعالى عنه من بعض الأنصار بعشرة آلاف درهم ثم جاء عثمان إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أتشترى منى البقعة التى اشتريتها من الأنصار اى التى كانت مجاورة للمسجد فاشتراها منه ببيت فى الجنة
أى وفى رواية أن عثمان رضى الله تعالى عنه لما حصر أى الحصرة الثانية وأشرف على الناس من فوق سطح داره وقد اشتد به العطش قال أههنا على قالوا لا قال أههنا طلحة قالوا لا قال أنشدكم بالله الذى لا إله إلا هو أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من يبتاع مربد بنى فلان أى لمربد كان مجاورا للمسجد غفر الله له فاتبعته بعشرين ألفا أو بخمسة وعشرين ألفا شك عثمان وتقدم أنه اشتراها بعشرة آلاف درهم فليتأمل فأتيت النبى صلى الله عليه وسلم فقلت قد ابتعته فقال اجعله مسجدنا وأجره لك قالوا اللهم نعم قد كان ذلك وفى لفظ أنشدكم بالله
____________________
(2/267)
وبالإسلام هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يشتري بقعة ابن فلان لبقعة كانت إلى جانب المسجد فقال صلى الله عليه وسلم من يشتريها ويوسعها فى المسجد له مثلها وفى لفظ بخير له منها فى الجنة فاشتريتها ووسعتها فى المسجد فأنتم الآن تمنعوني أن أصلى فيها ركعتين أى وزاد فيه عثمان رضى الله تعالى عنه بعد ذلك زيادة كبيرة وبنى جداره بالحجارة المنقوشة وجعل عمده من حجارة منقوشة وسقفه بالساج كما فى البخارى وعدد عثمان رضى الله تعالى عنه أشياء منها أنه قال أنشدكم بالله وبالإسلام هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة ولم يكن يشرب منها أحد إلا بالثمن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يشترى بئر رومة يجعل دلوه فيها مع دلاء المسلمين فى لفظ ليكون دلوه فيها كدلاء المسلمين بخير له منها فى الجنة وفى لفظ له بها مشرب فى الجنة فاشتريتها من صلب مالى فجعلتها للغنى والفقير وابن السبيل قالوا اللهم نعم قال فأنتم اليوم تمنعونى أن أشرب منها بل وتمنعونى الماء ألا أحد يسقينا فإنى أفطر على الماء الملح وفى رواية هل فيكم من يبلغ عليا عطشنا فأبلغوه فلما بلغ ذلك عليا أرسل إليه بثلاث قرب مملوءة ماء فما كادت تصل إليه وجرح بسببها عدة من موالى بنى هاشم وبنى أمية أى وكانت هذه البئر ركية ليهودى يقال له رومة يقال إنه أسلم وكان يبيع المسلمين ماءها كانت بالعقيق وتفل فيها صلى الله عليه وسلم فعذب ماؤها ولما قال رسول الله صلى اللع عيه وسلم من يشتري بئر رومة فيجعلها للمسلمين يضرب بدلوه فى دلائهم وله بها مشرب فى الجنة فساومه فيها عثمان فأبى أن يبيعها كلها فاشترى نصفها باثنى عشر ألف درهم وجعل ذلك للمسلمين وجعل له يوما ولليهودى يوما فإذا كان يوم عثمان استقى المسلمون ما يكفيهم يومين فلما رأى اليهودى ذلك قال لعثمان أفسدت على ركيتى فاشترى النصف الآخر بثمانية آلاف وقيل جملة ما اشتراها به خمسة وثلاثون ألف درهم وقول عثمان جعلتها للغنى والفقير وابن السبيل دليل على أن قوله دلوى فيها كدلاء المسلمين على أنه لم يشترط ذلك بل قصد به التعميم فى الموقوف عليه ولا دليل فيه على جواز أن للواقف أن يشترط له الانتفاع بما وقفه كما زعمه بعضهم
وكان حصار عثمان رضى الله تعالى عنه شهرين وعشرين يوما وفى كلام سبط ابن الجوزى كان الحصار الأول عشرين يوما والثانى أربعين يوما وفى يوم من تلك
____________________
(2/268)
الأيام قال وددت لو أن رجلا صادقا أخبر عن أمرى هذا أى من أين أوتيت فقام رجل من الأنصار فقال أنا أخبرك يا أمير المؤمنين إنك تطأطأت لهم فركبوك وما جرأهم على ظلمك إلا إفراط حلمك فقال له صدقت اجلس
وأول من دخل عليه الدار محمد بن أبى بكر تسور عليه هو وجماعة من الحائط من دار عمرو بن حزم فأخذ بلحيته فقال له دعها يا ابن أخى فوالله لقد كان أبوك يكرمها فاستحى وخرج وفى رواية لما أخذ بلحيته هزها وقال له ما أغنى عنك معاوية وما أغنى عنك ابن أبى سرح فقال له يا ابن أخى أرسل لحيتى فو الله إنك لتجر لحية كانت تعز على أبيك وما كان أبوك يرضى مجلسك هذا منى فتركه وخرج ويقال إنه قال له ما أريد بك أشد من قبضى على لحيتك فقال عثمان أستنصر بالله عليك وأستعين به ثم طعن جبينه بمشقص كان فى يده ثم ضربه بعض هؤلاء بالسيف فأتته نائلة زوج عثمان فقطع أصابع يدها الخمس
وعن ابن الماجشون عن مالك أن عثمان بعد قتله ألقى على المزبلة ثلاثة أيام وقيل أغلق عليه بابه بعد قتله ثلاثة أيام لا يستطيع أحد أن يدفنه فلما كان الليل أتاه اثنا عشر رجلا منهم حويطب بن عبد العزى وحكيم بن حزام وعبد الله بن الزبير وقيل صلى عليه أربعة وإن ابن الزبير لم يشهد قتل عثمان فاحتملوه فلما اجتازوا به للمقبرة منعوهم وقالوا والله لا يدفن فى مقابر المسلمين فدفنوه بمحل كان الناس يتوقون أن يدفنوا موتاهم به فكان يمر به ويقول سيدفن هنا رجل صالح فيتأسى به الناس فى دفن موتاهم به وكان ذلك المحل بستانا فاشتراه عثمان وزاده فى البقيع فكان هو أول من قبر فيه وحملوه على باب وإن رأسه ليقرع الباب لإسراعهم به من شدة الخوف ولما دفنوه عفوا قبره خوفا عليه أن ينبش وأما غلاماه اللذان قتلا معه فجروهما برجليهما وألقوهما على التلال فأكلتهما الكلاب
وسبب هذه الفتنة أنهم نقموا عليه أمورا
منها عزله لأكابر الصحابة ممن ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم من أوصى عمر رضى الله تعالى عنه بأن يبقى على ولايته وهو أبو موسى الأشعرى رضى الله تعالى عنه من البصرة فإن عمر رضى الله تعالى عنه أوصى بأن يبقى على ولايته فعزله عثمان وولى ابن خاله عبد الله بن عامر محله وعزل عمرو بن العاص عن مصر وولاها ابن أبى سرح
____________________
(2/269)
وعزل المغيرة بن شعبة عن الكوفة وعزل ابن مسعود رضى الله تعالى عنه عنها أيضا وأشخصه إلى المدينة وعزل سعد بن أبى وقاص رضى الله تعالى عنه عن الكوفة وولى أخاه لأمه الوليد بن عقبة بن أبى معيط الذى سماه الله تعالى فاسقا بقوله تعالى { أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا } وصار الناس يقولون بئس ما فعل عثمان عزل اللين الهين الورع المستجاب الدعوة وولى أخاه الخائن الفاسق المدمن للخمر ولعل مستندهم فى ذلك ما رواه الحاكم فى صحيحه من ولى رجلا على عصابة وهو يجد فى تلك العصابة من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين
ومنها أنه أدخل عمه الحكم بن أبى العاص والد مروان المدينة وكان يقال له طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعنه وقد كان صلى الله عليه وسلم طرده إلى الطائف ومكث به مدة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدة أبى بكر بعد أن سأله عثمان فى إدخاله المدينة فأبى فقال له عثمان عمى فقال عمك إلى النار هيهات هيهات أن أغير شيئا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لا رددته أبدا فلما توفى أبو بكر وولى عمر كلمه عثمان فى ذلك فقال له ويحك يا عثمان تتكلم فى لعين رسول الله صلى الله عليه وسلم وطريده وعدو الله وعدو رسوله فلما ولى عثمان رده إلى المدينة فاشتد ذلك على المهاجرين والأنصار فأنكر ذلك عليه أعيان الصحابة فكان ذلك من أكبر الأسباب على القيام عليه واعتذر عثمان عن ذلك بأن النبى صلى الله عليه وسلم كان وعده برده وهو فى مرض موته قال فشهدت عند أبى بكر فقال إنك شاهد واحد ولاتقبل شهادة الواحد ثم قال لى عمر كذلك فلما صار الأمر إلى قضيت بعلمى اى وأما عزله لأبى موسى فإن جند عمله شكوا شحه فعزله خوف الفتنة
ومنها أنه جاء إلى عثمان أهل مصر يشكون ممن ولاه عليهم وهو ابن أبى سرح وقالوا كيف توليه على المسلمين وقد أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح دمه وتعزل عمرو بن العاص عنا
ورد هذا بأن عزله لعمرو إنما كان لكثرة شكايتهم منه وابن أبى سرح أسلم بعد الفتخ وحسن حاله ووجدوه لسياسة الأمر أقوى من عمرو بن العاص وعزله للمغيرة بأنه أنهى إليه فيه أنه ارتشى فرأى المصلحة فى عزله فلما عادوا إلى مصر قتل ابن أبى سرح رجلا منهم فعادوا إلى عثمان وكلموا أكابر الصحابة كعلى وطلحة بن عبيد الله فقالوا
____________________
(2/270)
اعزله عنهم فإنهم يسالونك رجلا مكانه فقال لهم عثمان يختارون رجلا أوليه عليهم فاختاروا محمد بن أبى بكر فكتب إليه عهده وولاه فخرج وخرج معه جماعة من المهاجرين والأنصار وجماعة من التابعين لينظروا بين أهل مصر وبين ابن أبى سرح فلما كان محمد بن أبى بكر ومن معه على مسيرة ثلاثة مراحل من المدينة فإذا هم بغلام أسود على بعير فقالوا له ما قضيتك فقال لهم أنا غلام أمير المؤمنين أرسلنى إلى عامل مصر فقال له واحد منهم هذا عامل مصر يعنى محمد بن أبى بكر فقال ما هذا أريد فلما أخبر ذلك الرجل محمد بن أبى بكر استدعاه فقال له بحضور من معه من المهاجرين والأنصار أنت غلام من فصار تارة يقول غلام أمير المؤمنين وتارة يقول غلام مروان فعرفه رجل من القوم وقال هذا غلام عثمان فقال له محمد إلى من أرسلت قال إلى عامل مصر برسالة قال معك كتاب قال لا ففتشوه فإذا معه كتاب من عثمان إلى ابن أبى سرح فى قصبة من رصاص فى جوف الإداوة فى الماء ففتح الكتاب فحضره جميع من معه فإذا فيه إذا أتاك محمد وفلان وفلان فاحتل فى قتلهم وفى رواية انظر فلانا وفلانا إذا قدموا عليك فاضرب أعناقهم وعاقب فلانا بكذا وفلانا بكذا منهم نفر من الصحابة ونفر من التابعين
وفى رواية اذبح محمد بن أبى بكر واحش جلده تبنا وكن على عملك حتى يأتيك كتابى فلما قرءوا الكتاب فزعوا ورجعوا إلى المدينة وقرئ الكتاب على جميع من بالمدينة من الصحابة والتابعين فما منهم أحد إلا واغتم لذلك فدخل عليه على مع جماعة من أهل بدر ومعه الكتاب والغلام فقالوا له هذا الغلام غلامك قال نعم قالوا والبعير بعيرك قال نعم قالوا فأنت كتبت هذا الكتاب فقال لا وحلف بالله ما كتبت هذا الكتاب ولا أمرت به ولا علم لى به فقال له على والخاتم خاتمك قال نعم قال فكيف يخرج غلامك ببعيرك وبكتابك عليه ختمك وأنت لا تعلم به فحلف بالله ما أمرت بهذا الكتاب ولا وجهت هذا الغلام إلى مصر فعرفوا أنه خط مروان لا عثمان لأن عثمان لا يحلف باطلا وفى رواية الخط خط كاتبى والخاتم خاتمى وفى رواية انطلق الغلام بغير أمرى وأخذ الجمل بغير علمى قالوا فما نقش خاتمك قال نقش عليه مروان فسألوه أن يدفع لهم مروان وكان مروان عنده فى الدار فأبى فخرجوا من عنده غضابا وقالوا لا يبرأ عثمان إلا أن يدفع إلينا مروان حتى نبحث ونعرف
____________________
(2/271)
حال الكتاب فإن كان عثمان أمر به عزلناه وإن كان مروان كتبه على لسان عثمان نظرنا ما يكون فى أمر مروان فأبى عثمان أن يخرج إليهم مروان خوفا عليه من القتل فحوصر عثمان بسبب ذلك ومنعوه الماء ووقع ما تقدم
وذكر ابن الجوزى أنه لما دخل المصريون على عثمان رضى الله عنه والمصحف فى حجره يقرأ فيه فمدوا إليه أيديهم فمد يده فضربت فسال الدم وقيل وقعت قطرة على { فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم } فقال أما إنها أول يد خطت المفصل هذا كلامه أى وهذا من أعلام النبوة فقد أخرج الحاكم عن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يا عثمان تقتل وأنت تقرأ سورة البقرة فتقع قطرة من دمك على { فسيكفيكهم الله } قال الذهبى إنه حديث موضوع أى قوله فيه وأنت تقرأ إلى آخره
وروى أنه لما حوصر قال والله ما زنيت فى جاهلية ولا إسلام ولا تمنيت أن لى بدينى بدلا منذ هدانى الله ولا قتلت نفسا فبم تقتلوننى وقال { ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد } يا قوم لا تقتلونى إنكم أن قتلتمونى كنتم هكذا وشبك بين أصابعه وقال معددا لنعم الله تعالى عليه ما وضعت يدى على فرجى منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما مرت بى جمعة منذ أسلمت إلا وأنا أعتق فيها رقبة إلا أن لا يكون عندى شئ فأعتقها بعد ذلك قال بعضهم وجملة من أعتقه عثمان ألفان وأربعمائة رقبة تقريبا
وذكر أنه رأى فى الليلة التى قتل فى يومها المصطفى صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر فى المنام وقالوا له اصبر فإنك تفطر عندنا الليلة القابلة فلما أصبح دعا بالمصحف فنشره بين يديه ولبس السراويل ولم يكن لبسها قبل ذلك فى الجاهلية ولا فى الإسلام خوفا أن يطلع على عورته عند قتله
وكان من جملة ما انتقم به على عثمان رضى الله تعالى عنه أنه أعطى ابن عمه مروان بن الحكم مائة ألف وخمسين أوقية واعطى الحارث عشر ما يباع فى السوق أى سوق المدينة وأنه جاء إليه ابو موسى بكيلة ذهب وفضة فقسمها بين نسائه وبناته وأنه انفق أكثر بيت المال فى عمارة ضياعه ودوره وأنه حمى لنفسه دون إبل الصدقة وانه حبس عبدالله بن مسعود وهجره وحبس عطاء وابى بن كعب ونفى أبا ذر إلى الربدة
____________________
(2/272)
وأشخص عبادة بن الصامت من الشام لما شكاه معاوية وضرب عمار بن ياسر وكعب بن عبدة ضربه عشرين سوطا ونفاه إلى بعض الجبال وقال لعبد الرحمن بن عوف إنك منافق وإنه أقطع اكثر أراضى بيت المال وأن لا يشترى أحد قبل وكيله وأن لا تسير سفينة فى البحر إلا فى تجارته وأنه احرق الصحف التى فيها القرآن وأنه أتم الصلاة بمنى ولم يقصرها لما حج بالناس وأنه ترك قتل عبيد الله وقد قتل الهرمزان وقد أجاب عن ذلك كله فى الصواعق فراجعه
وما رواه الزبير بن بكار عن أنس من أنه صلى الله عليه وسلم لم يعمل اللبن ولم يبن به المسجد إلا بعد أربع سنين من الهجرة رأيت ما يرده فى تاريخ للمدينة ونصه ما روى عن أنس واه أو مؤول والمعروف خلافه والله أعلم
وعن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لو بنى مسجدى هذا إلى صنعاء كان مسجدى قال بعضهم إن صح هذا كان من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم أى لأنه وسع بعد ذلك أى وسعه المهدى وذلك فى سنة ستين ومائة ثم زاد فيه المأمون فى سنة اثنتين ومائتين
وبه يرد القوم بأن المضاعفة خاصة بالموجود حين الإشارة أى لكن المحافظة على الصلاة فيما كان فى عهده صلى الله عليه وسلم أولى
قال وبنى حجرتين لعائشة وسودة أى بناهما مجاورتين للمسجد وملاصقتين له على طرز بناء المسجد من لبن وجعل سقفهما من جذوع النخل والجريد أى وقدم رجل من أهل اليمامة عند الشروع فى بناء المسجد يقال له طلق من بنى حنيفة فعنه رضى الله تعالى عنه قال قدمت على النبى صلى الله عليه وسلم وهو يبنى مسجده والمسلمون يعملون معه فيه وكنت صاحب علاج الطين فأخذت المسحاة وخلطت بها الطين فقال لى يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم رحم الله امرأ أحسن صنعته وقال لى الزم أنت هذا الشغل فإنى أراك تحسنه وفى لفظ إن هذا الحنفى لصاحب طين وفى لفظ قربوا اليمانى من الطين فإنه أحسنكم له مسكا وأشدكم منكبا وفى لفظ دعوا الحنفى والطين فإنه من أصنعكم للطين وأرسل وهو فى بيت أبى أيوب زيد بن حارثة وأبا رافع مكة وأعطاهما خمسمائة درهم وبعيرين ليأتيا بأهله أى والخمسمائة أخذها من أبى بكر ليشتريا بها ما يحتاجان إليه فاشترى بها زيد ثلاثة أبعرة وأرسل معهما أبو بكر رضى الله تعالى
____________________
(2/273)
عنه عبد الله بن الأريقط دليلا أى ببعرين أو ثلاثة فقدما بفاطمة وأم كلثوم بنتيه صلى الله عليه وسلم وسودة زوجته وأم أيمن حاضنته صلى الله عليه وسلم زوج زيد بن حارثة وابنها أسامة بن زيد فأسامة أخو أيمن لأمه وكان أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه وابن حاضنته
عن عائشة رضى الله تعالى عنها أن أسامة عثر يوما فى أسكفة الباب فشج وجهه فقال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم أميطى عنه قالت عائشة فكأنى تقذرته أى لأنه كان أسود أفطس فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمصه يعنى الدم ثم يمجه
وأما بنته صلى الله عليه وسلم زينب التى هى أكبر بناته فكانت مع زوحها ابن خالتها أبى العاص بن الربيع فمنعها من الهجرة وسيأتى أنها هاجرت بعد ذلك قبله وتركته على شركة وبعد أن اسر فى بدر وأطلق وأمره صلى الله عليه وسلم بأن يخلى سبيلها ففعل ثم لما أسلم ردها إليه
وأما بنته رقية فتقدم أنها هاجرت مع زوجها عثمان بن عفان وخرج مع فاطمة ومن ذكر معها عبد الله بن أبى بكر ومعه عيال أبى بكر فيهم زوجته أم رومان وعائشة وأختها أسماء زوج الزبير أى وهى حامل بابنها عبد الله بن الزبير وعن عائشة رضى الله تعالى عنها أنها كانت هى وأمها على بعير فى محفة فنفر البعير قالت فصارت أمى تقول وابنتاه واعروساه فمسك البعير وسلم الله وفى رواية عن عائشة رضى الله تعالى عنها لما صارت أمى تقول واعروساه وابنتاه سمعت قائلا يقول أرسلى خطامه فأرسلت خطامه فوقف بإذن الله وسلمنا الله وأم رومان ولدت لأبى بكر عائشة وعبد الرحمن رضى الله تعالى عنهم وكانت قبل أبى بكر تحت عبد الله بن الحارث فولدت له الطفيل قال صلى الله عليه وسلم فى حقها من يسره أن ينظر إلى امرأة من الحور العين فلينظر إلى أم رومان وتوفيت فى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ماتت سنة ست من الهجرة ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قبرها وقال اللهم إنه لم يخف عليك ما لاقت أم رومان فيك وفى رسولك صلى الله عليه وسلم
وعورض القول بموتها فى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بما فى البخارى عن مسروق قال سألت أم رومان وهى أم عائشة رضى الله تعالى عنهما ومسروق ولد بعد
____________________
(2/274)
موت النبى صلى الله عليه وسلم بلا خلاف وما فى البخارى حديث صحيح مقدم على ما ذكره أهل السير من موتها فى حياته صلى الله عليه وسلم
وفى البخارى عن أسماء فنزلت بقباء فولدته بها يعنى ولدها عبدالله بن الزبير ثم أتيت النبى صلى الله عليه وسلم فوضعته فى حجرة ثم دعا بتمرة فمضغها ثم تفل فى فيه فكان أول شئ دخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم حنكه بتمرة أى بتلك التمرة ففى المواهب وحنكه بها ثم دعا له وبرك عليه وهو أول مولود ولد فى الإسلام أى للمهاجرين
وفيه أن أسماء إنما قدمت المدينة أى إلى قباء بعد تحوله صلى الله عليه وسلم من قباء ويدل له قول بعضهم قدم آل أبى بكر من مكة وهو صلى الله عليه وسلم يبنى مسجده وأنزلهم أبو بكر فى السنح إلا أن يقال يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم جاء إلى قباء بعد ذلك فقد قال بعضهم وهذا السياق يدل على أن عبدالله بن الزبير ولد فى السنة الأولى لافى الثانية كما قاله الواحدى وتبعه غيره فقال ولد بعد عشرين شهرا من الهجرة ففرح به المسلمون فرحا شديدا لأن اليهود كانوا يقولون قد سحرناهم فلا يولد لهم مولود وهذا ربما يؤيد القول الثانى إلا أن يقال يجوز أن يكون عبدالله مكث فى بطنها المدة المذكورة
فقد ذكر أن مالكا رضى الله تعالى عنه مكث فى بطن أمه سنتين وكذا الضحاك ابن مزاحم التابعى مكث فى بطن أمه سنتين وفى المحاضرات للجلال السيوطى أن مالكا مكث فى بطن أمه ثلاث سنين وأخبر سيدنا مالك أن جارة له ولدت ثلاثة أولاد فى اثنتى عشرة سنة بحمل أربع سنين وحينئذ يجوز أن تكون سيدتنا أسماء جاءت إلى قباء فولدت سيدنا عبدالله وصادف مجيئه صلى الله عليه وسلم إلى قباء فى ذلك اليوم وقد سماه صلى الله عليه وسلم عبد الله وكناه أبا بكر بكنية جده الصديق رضى الله تعالى عنه
وروى أنه جاء النبى صلى الله عليه وسلم وهو ابن سبع أو ثمان ليبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أمره والده الزبير بذلك فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعه وكون آل أبى بكر نزلوا عند مجيئهم المدينة فى السنح لا ينافى كون أسماء نزلت بقباء وولدت بها لأنه يجوز أن يكون نزول أسماء فى السنح بعد نزولها فى قباء قصدا لراحتها لكونها كانت حاملا حتى وضعت والسياق المتقدم يدل على ذلك وكون عبدالله بن الزبير
____________________
(2/275)
أول مولود ولد فى الإسلام للهاجرين بالمدينة كذلك عبدالله بن جعفر بن أبى طالب أول مولود ولد للمهاجرين بالحبشة ويقال له عبدالله الجواد
واتفق أن النجاشى ولد له مولود يوم ولد عبدالله هذا فأرسل إلى جعفر يقول له كيف سميت ابنك فقال سميته عبدالله فسمى النجاشى ابنه عبدالله وأرضعته أسماء بنت عميس مع ابنها عبدالله المذكور فكانا يتراسلان بتلك الأخوة من الرضاع
وأول مولود ولد للأنصار بعد الهجرة مسلمة بن مخلد وقيل النعمان بن بشير وذكر أن أم أسماء قدمت المدينة وهى مشركة على أسماء بهدية فحجبتها أسماء وردت عليها هديتها فسألت عائشة رضى الله تعالى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأمر أسماء أن تؤوى أمها وتقبل هديتها
قيل وفى ذلك وفى إرسال عبدالرحمن بن أبى بكر وهو بمكة على دينه قبل أن يسلم إلى أبيه يسأله النفقة فأبى أبوه أن ينفق عليه أنزل الله الإذن فى الإنفاق على الكفار
وقال أبو أيوب الأنصارى لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بيتى نزل فى أسفل البيت وأنا وأم أيوب فى العلو فقلت يا رسول الله بأبت أنت وأمى إنى أكره وأعظم أن أكون فى العلو وتكون تحتى فاظهر أنت وكن فى العلو وننزل نحن فنكون فى السفل فقال صلى الله عليه وسلم يا أبا أيوب أرفق بنا أى السفل أرفق بنا وبمن يغشانا أي وفى لفظ إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون فى سفل البيت قال أبو أيوب فانكسر حب ليا فيه ماء والحب بضم الحاء المهملة الجرة الكبيرة فقمت أنا وأم أيوب بقطيقة لنا ما لنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفا أن يقطر منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم شئ فيؤذيه ولم أزل أتضرع للنبى صلى الله عليه وسلم حتى تحول في العلو أي وفي رواية عن أبي أيوب قال نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة فكنت فى العلو فلما خلوت إلى أم أيوب فقلت لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بالعلو منا ينتثر التراب عليه من وطء أقدامنا وتنزل عليه الملائكة وينزل عليه الوحى وفى رواية ينزل عليه القرآن ويأتيه جبريل فما بت تلك الليلة أنا ولا أم أيوب فلما أصبحت قلت يا رسول الله ما بت الليلة أنا ولا أم أيوب قال لم يأبا أيوب قلت كنت أحق العلو منا ينزل عليك الملائكة وينزل عليك الوحى والذى بعثك بالحق لا أعلو سقيفة أنت تحتها أبدا أى وعن أفلح مولى أبى أيوب أن
____________________
(2/276)
رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل أسفل وأبو أيوب فى العلو انتبه أبو أيوب ذات ليلة فقال نمشى فوق رسول الله صلى الله عليه وسلم فباتا فى جانب فلما أصبح الحديث
وعند نزوله صلى الله عليه وسلم فى بيت أبى أيوب صارت تأتى إليه جفنة سعد بن عبادة وجفنة أسعد به زرارة كل ليلة أي وكانت جفنة سعد بن عبادة بعد ذلك تدور معه صلى الله عليه وسلم فى بيوت أزواجه فقد جاء كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم من سعد بن عبادة جفنة من ثريد أى عليه لحم أو خبز فى لبن أو فى سمن أو فى عسل أو بخل وزيت فى كل يوم تدور معه أينما دار مع نسائه وصار وهو فى بيت أبى أيوب يأتى إليه الطعام من غيرهما أى فقد جاء وما كان من ليلة إى وعلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلاثة والأربعة يحملون الطعام يتناوبون حتى تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم من منزل أبى أيوب أى وفى لفظ وجعل بنو النجار يتناوبون فى حمل الطعام إليه صلى الله عليه وسلم مقامه فى منزل أبى أيوب رضى الله تعالى عنه وهو تسعة أشهر وأول طعام جئ به إليه صلى الله عليه وسلم فى دار أبى أيوب قصعة أم زيد بن ثابت
فعن زيد بن ثابت أول هدية دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بيت أبى أيوب قصعة أرسلتنى بها أمى إليه فيها ثريد خبز بر بسمن ولبن فوضعتها بين يديه وقلت يا رسول الله أرسلت بهذه القصعة أمى فقال له بارك الله فيها أى وفى رواية بارك الله فيك ودعا أصحابه فأكلوا قال زيد فلم أرم الباب أى أرده حتى جاءت قصعة سعد ابن عبادة ثريد وعراق لحم أى بفتح العين عظم عليه لحم فإن أخذ عنه اللحم قيل له عراق بضم العين وقد جاء كان أحب الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الثريد ويقال له الثفل بالمثلثة والفاء
ولما بنى المسجد جعل فى المسجد محلا مظللا يأوى إليه المساكين يسمى الصفة وكان أهله يسمون أهل الصفة وكان صلى الله عليه وسلم فى وقت العشاء يفرقهم على أصحابه ويتعشى معه منهم طائفة
وظاهر السياق أن ذلك أى المحل فعل فى زمن بناء المسجد وآوى إليه المساكين من حينئذ لكن روى البيهقى عن عثمان بن اليمان قال لما كثر المهاجرون بالمدينة ولم يكن لهم زاد ولا مأوى أنزلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وسماهم أصحاب الصفة وكان يجالسهم ويأنس بهم أى وكان إذا صلى الله عليه وسلم أتاهم فوقف عليهم فقال لو تعلموا مالكم عند الله لأحببتم أن تزدادوا فقرا وحاجة
____________________
(2/277)
أقول ذكر أن المسجد كان إذا جاءت العتمة يوقد فيه بسعف النخل فلما قدم تميم الدارى المدينة صحب معه قناديل وحبالا وزيتا وعلق تلك القناديل بسوارى المسجد وأوقدت فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نورت مسجدنا نور الله عليك أما والله لو كان لى ابنة لأنكحتكها
هذا وفى كلام بعضهم أول من جعل فى المسجد المصابيح عمر بن الخطاب رضر الله تعالى عنه ويوافقه قول بعضهم والمستحب من بدع الأفعال تعليق القناديل فيها أى المساجد وأول من فعل ذلك عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه فإنه لما جمع الناس على أبى بن كعب فى صلاة التروايح علق القناديل فلما رآها على تزهر قال نورت مساجدنا نور الله قبرك يا ابن الخطاب ولعل المراد تعليق ذلك بكثرة فلا يخالف ما تقدم عن تميم الدارى
ثم رأيت فى أسد الغابة عن سراج غلام تميم الدارى قال قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن خمسة غلمان لتميم الدارى فأمرنى يعنى سيده فأسرجت المسجد بقنديل فيه زيت وكانوا لا يسرجون فيه إلا بسعف النخل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسرج مسجدنا فقال تميم غلامى هذا فقال ما اسمه فقال فتح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل اسمه سراج فسمانى رسول الله صلى الله عليه وسلم سراجا
وعن بعضهم قال أمرنى المأمون أن أكتب بالاستكثار من المصابيح فى المساجد فلم أدر ما أكتب لأنه شئ لم أسبق إليه فأريت فى المنام أكتب فإن فيها أنسا للمجتهدين ونفيا لبيوت الله عن وحشة الظلم فانتبهت وكتبت بذلك قال بعضهم لكن زيادة الوقود كالواقع ليلة النصف من شعبان ويقال لها ليلة الوقود ينبغى أن يكون ذلك كتزويق المساجد ونقشها وقد كرهه بعضهم والله أعلم
قال وذكر ابن إسحاق فى كتاب المبدأ وقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن تبع بن حسان الحميرى وهو تبع الأول أى الذى ملك الأرض كلها شرقها وغربها وتبع بلغة اليمن الملك المتبوع ويقال له الرئيس لأنه رأس الناس بما أوسعهم من العطاء وقسم فيهم من الغنائم وكان أول من غنم
ولما عمد إلى البيت يريد تخريبه رمى بداء تمخض منه رأسه قيحا وصديدا وأنتن
____________________
(2/278)
حتى لا يستطيع أحد أن يدنو منه قيد رمح كما تقدم وتقدم أنه بعد ذلك كسا الكعبة وبعد ذلك اجتاز بيثرب وكان فى ركابه مائة ألف وثلاثون ألفا من الفرسان ومائة ألف وثلاثة عشر ألفا من الرجالة فأخبر أن أربعمائة رجل من أتباعه من الحكماء والعلماء تبايعوا أن لا يخرجوا منها فسألهم عن الحكمة فى ذلك فقالوا إن شرف البيت إنما هو برجل يخرج يقال له محمد هذه دار إقامته ولا يخرج منها فبنى فيها لكل واحد منهم دارا واشترى له جارية واعتقها وزوجها منه وأعطاهم عطاء جزيلا وكتب كتابا وختمه ودفعه إلى عالم عظيم منهم وأمره أن يدفع ذلك الكتاب لمحمد صلى الله عليه وسلم إن أدركه وفى ذلك الكتاب أنه آمن به وعلى دينه وبنى دارا له صلى الله عليه وسلم ينزلها إذا قدم تلك البلد ويقال إنها دار أبى أيوب أى كما تقدم وأنه من ولد ذلك العالم الذى دفع إليه الكتاب أى فهو صلى الله عليه وسلم لم ينزل إلا داره أى على ما تقدم
ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم أى دعا إلى الإسلام أرسلوا إليه ذلك الكتاب مع شخص يسمى أبا ليلى فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له أنت أبو ليلى الذى معك كتاب تبع الأول فقال له أبو ليلى من أنت قال أنا محمد هات الكتاب فلما قرأه أى قرئ عليه وذكر بعضهم أن مضمون الكتاب أما بعد يا محمد فإنى آمنت بك وبربك ورب كل شئ وبكل ما جاءك من ربك من شرائع الإسلام والإيمان وإنى قلت ذلك فإن أدركتك فيها ونعمت وإن لم أدركك فاشفع لى يوم القيامة ولا تنسنى فإنى من أصل الأولين وبايعتك قبل مجيئك وقبل أن يرسلك الله وأنا على ملتك وملة إبراهيم وختم الكتاب وتلا أى قرأ عليه لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله فقد قرأ هذا قبل نزوله وكتب عنوان الكتاب إلى محمد بن عبد الله خاتم النبين والمرسلين ورسول رب العالمين من اتبع لأول حمير أمانة الله فى يد من وقع هذا الكتاب فى يده إلى أن يدفعه إلى صاحبه ودفعه إلى رأس العلماء المذكورين ثم وصل الكتاب المذكور إلى النبى صلى الله عليه وسلم على يد بعض ولد العالم المذكور حين هاجر وهو بين مكة والمدينة وسياق الرواية الأولى يدل على أن ذلك كان فى أول البعثة وبعد قراءة الكتاب عليه صلى الله عليه وسلم قال مرحبا بتبع الأخ الصالح ثلاث مرات وكان بين تبع هذا أى بين قوله إنه آمن به
____________________
(2/279)
وعلى دينه وبين مولد النبى صلى الله عليه وسلم ألف سنة سواء أى وتقدم أنه ابتاع المحل الذى بناه دارا له قبل مبعثه بألف سنة فليتأمل ويقال إن الأوس والخزرج من أولاد أولئك العلماء والحكماء اه
أقول قد علمت أن نزوله صلى الله عليه وسلم دار أبى أيوب على الوجه المتقدم وأخذه المربد على الكيفية المتقدمة مع وصول الكتاب إليه أول البعثة أو بين مكة والمدينة وهو مهاجر إلى المدينة يبعد هذا
وفيه أيضا أن الذى فى التنوير لابن دحية أن هذا تبع الأوسط وأنه الذى كسا البيت بعد ما أراد غزوة وبعد ما غزا المدينة وأراد خرابها انصرف عنها لما أخبر أنها مهاجر نبى اسمه محمد
أى فقد ذكر بعضهم أن تبعا أراد تخريب المدينة واستئصال اليهود فقال له رجل منهم بلغ من العمر مائتين وخمسين سنة الملك أجل من أن يستخفه غضب وأمره أعظم أن يضيق عنا حلمه أو نحرم صفحه مع أن هذه البلدة مهاجر نبى يبعث بدين إبراهيم فكتب كتابا وذكر فيه شعرا فكانوا يتوارثون ذلك الكتاب إلى أن هاجر النبى صلى الله عليه وسلم فأدوه إليه ويقال إن الكتاب كان عند أبى أيوب الأنصارى وكان ذلك قبل مبعثه بسبعمائة عام
وفى التنوير أيضا أن ابن أبى الدنيا ذكر أنه حفر قبر بصنعاء قبل الإسلام فوجد فيه امرأتان لم يبليا وعند رءوسهما لوح من فضة مكتوب فيه بالذهب هذا قبر فلانة وفلانة اينتى تبع ماتتا وهما يشهدان أن لا إله إلا الله ولا يشركان به وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما وجاء لاتسبوا تبعا فإنه كان مؤمنا وفى رواية لاتسبوا تبعا الحميرى فإنه أول من كسا الكعبة قال السهيلى وكذا تبع الأول كان مؤمنا بالنبى صلى الله عليه وسلم وقال شعرا ينبئ فيه بمبعثه صلى الله عليه وسلم والله أعلم
وكانت المدينة فى الجاهلية معروفة بالوباء أى الحمى وكان إذا أشرف على واديها أحد ونهق نهيق الحمار لا يضره الوباء وفى لفظ كان إذا دخلها غريب فى الجاهلية يقال له إن أردت السلامة من الوباء فانهق نهيق الحمار فإذا فعل ذلك سلم
وفى حياة الحيوان كانوا فى الجاهلية إذا خافوا وباء بلد عشروا كتعشير الحمار أى نهقوا عشرة أصوات فى طلق واحد قبل أن يدخلوها وكانوا يزعمون أن ذلك يمنعهم من الوباء
____________________
(2/280)
ولما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اهلها من أخبث الناس كيلا فأنزل الله تعالى { ويل للمطففين } الآية فأحسنوا الكيل بعد ذلك
ولما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة وأصحابه أصابت أصحابه بالحمى وفى لفظ استوخم المهاجرون هواء المدينة ولم يوافق أمزجتهم فمرض كثير منهم وضعفوا حتى كانوا يصلون من قعود فرآهم صلى الله عليه وسلم فقال اعلموا أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم فتجشموا المشقة وصلوا قياما
قالت عائشة رضى الله تعالى عنها قدمنا المدينة وهى أوبأ أرض الله ولما حصلت لها الحمى قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم مالى أراك هكذا قالت بأبى أنت وأمى هذه الحمى وسبتها فقال لا تسبيها فإنها مأمورة ولكن إن شئت علمتك كلمات إذا قلتهني أذهبها الله تعالى عنك قالت فعلمنى قال قولى اللهم ارحم جلدى الرقيق وعظمى الدقيق من شدة الحريق يا أم ملدم إن كنت آمنت بالله العظيم فلا تصدعى الرأس ولا تنتنى الفم ولا تأكلى اللحم ولا تشربى الدم وتحولى عنى إلى من اتخذ مع الله إلها آخر فقالتها فذهبت عنها
وعن على رضى الله تعالى عنه لما قدمنا المدينة أصبنا من ثمارها فأصابنا بها وعك أى حمى ومن جملة من أصابته الحمى سيدنا أبو بكر رضى الله تعالى عنه ومولياه عامر بن فهيرة وبلال أى وكان أبو بكر إذا أخذته الحمى أنشد ** كل امرئ مصبح فى أهله ** والموت أدنى من شراك نعله **
أى وهذا من شعر حنظلة بن يسار بناء على الصحيح أن الرجز يقال له شعر كما تقدم وليس من شعر أبى بكر
فعن عائشة رضى الله تعالى عنها أن أبا بكر لم يقل شعر فى الإسلام أي ولا في الجاهلية كما في رواية عنها والله ما قال أبو بكر بيت شعر في الجاهلية ولا فى الاسلام أى لم ينشئه حتى مات أى وهذا ربما ينافى ما فى الينبوع ليس عمل الشعر رذيلة قد كان الصديق وعمر وعلى رضوان الله تعالى عليهم يقولون الشعر وعلى كرم الله وجهه أشعر من أبى بكر وعمر وما تقدم عن عائشة معارض بظاهر ما روى عن أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه قال كان أبو بكر الصديق رضى الله تعالى عنه أذا رأى النبى صلى الله عليه وسلم يقول
____________________
(2/281)
** أمين مصطفى بالخير يدعو ** كضوء البدر زايله الظلام **
إلا أن يحمل قولها على أنها لما تسمع ذلك منه بناء على أن ذلك من إنشاء الصديق وكان بلال إذا أقلعت عنه الجمى يرفع عقيرته أى صوته يقول متشوقا إلى مكة ** الا ليت شعرى هل أبيتن ليلة ** بواد وحولى إذخر وجليل ** ** وهل أردن يوما مياه مجنة ** وهل يبدون لى شامة وطفيل **
اللهم العن شيبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء وأراد بلال بالوادى وادى مكة وإلا ذخر نبت معروف وجليل بالجيم نبت ضعيف وشامة وطفيل جبلان بقرب مكة أى وفى رواية وهل يبدون لى عامر وطفيل وعامر أيضا جبل من جبال مكة
وفى شرح البخارى للخطابى كنت أحسب شامة وطفيلا جبلين حتى مررت بهما فإذا هما عينان من ماء هذا كلامه
وقد يقال يجوز أن تكون العينان بقرب الجبلين المذكورين فأطلق اسم كل منهما على الآخرين ولعل هذا اللعن من بلال كان قبل النهى عن لعن المعين لأنه لا يجوز لعن الشخص المعين على الراجح إلا إن علم موته على الكفر كأبى جهل وأبى لهب دون الكافر الحى لأنه يحتمل أن يختم له بالحسنى فيموت على الإسلام لأن اللعن هو الطرد عن رحمة الله تعالى المستلزم لليأس منها وأما اللعن على الوصف كآكل الربا فجائز أو أن ذلك محمول فى ذلك على الإهانة الطرد عن مواطن الكرامة لا على الطرد عن رحمة الله تعالى الذى هو حقيقة اللعن وكان كل من أبى بكر وعامر وبلال فى بيت واحد قالت عائشة رضى الله تعالى عنها فاستأدنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى عيادتهم فدخلت عليهم وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب فإذا بهم مالا يعلمه إلا الله تعالى من شدة الوعك فسلمت عليهم أى وقالت لأبيها يا أبت كيف أصبحت فأنشدها الشعر المتقدم قالت فقلت إنا لله إن أبى ليهذى قالت فقلت لعامر بن فهيرة كيف تجدك فقال ** إنى وجدت الموت قبل ذوقه إن الجبان خنقه من فرقه **
قالت فقلت هذا والله لا يدرى ما يقول قالت ثم قلت لبلال كيف أصبحت فإذا هولا لا يعقل وفى رواية فأنشدها البيتين قالت وذكرت حالهم للنبى صلى الله عليه وسلم وقلت إنهم يهذون ولا يعقلون من شدة الحمى
____________________
(2/282)
أى وهذا السياق يخالف ما فى السيرة الهاشمية أن الصديق رضى الله تعالى عنه لما قدم المدينة أخذته الحمى هو وعامر بن فهيرة وبلال إلا أن يقال لا مخالفة لأنه يجوز أنها أخذتهم أولا وأقلعت عنهم ثم عادت عليهم بعد دخوله صلى الله عليه وسلم بعائشة أو أن عائشة استأذنته فى ذلك وذكرت له حالهم قبل دخوله بها لأنها كانت معقودا عليها ولعل الصديق كان فى غير بيت أم عائشة
والذى فى تاريخ الأزرقى عن عائشة رضى الله تعالى عنها قالت لما قدم المهاجرون المدينة شكوا بها فعاد النبى صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضى الله تعالى عنه فقال كيف تجدك فأنشده ما تقدم ثم دخل على بلال فقال كيف تجدك يا بلال فأنشده ما تقدم ثم دخل على عامر بن فهيرة فقال كيف تجدك يا عامر فأنشده ما تقدم ولا مانع من التعدد فليتأمل
وحين ذكرت عائشة رضى الله تعالى عنها له ذلك نظر إلى السماء أى لأنها قبلة الدعاء وقال اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد وفى رواية وأشد وبارك لنا فى مدها وصاعها وصححها لنا ثم انقل وباءها إلى مهيعة أى الجحفة كما فى رواية وهى قرية من رابع محل إحرام من يجئ من جهة مصر حاجا وكان سكانها إذ ذاك يهود ودعاؤه صلى الله عليه وسلم أن يحبب إليهم المدينة إنما هو لما جلبت عليه النفوس من حب الوطن والحنين إليه ومن ثم جاء فى حديث أن عائشة رضى الله تعالى عنها سألت رجلا بحضور رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة من مكة فقالت له كيف تركت مكة فذكر من أوصافها الحسنة ما غرغرت منه عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لا تشوقنا يا فلان وفى رواية دع القلوب تقر
اقول ودعاؤه صلى الله عليه وسلم بنقل الحمى كان فى أخر الأمر وأما عند قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة فخير بين الطاعون والحمى أى بقائها فأمسك الحمى بالمدينة وأرسل الطاعون إلى الشام كما جاء فى بعض الأحاديث أتانى جبريل بالحمى والطاعون فأمسكت الحمى بالمدينة وأرسلت الطاعون إلى الشام وقولنا أى بقائها رد لما قد يتوهم من الحديث أن الحمى لم تكن بالمدينة قبل قدومه صلى الله عليه وسلم إليها وإنما اختار الحمى على الطاعون لأنه كان حينئذ فى قلة من أصحابه فاختار بقاء الحمى لقلة الموت بها غالبا بخلاف الطاعون ثم لما احتاج للجهاد وأذن له فى القتال ووجد الحمى تضعف أجساد
____________________
(2/283)
الذين يقاتلون دعا بنقل الحمى من المدينة ألى الجحفة فعادت المدينة أصح بلاد الله تعالى بعد أن كانت بخلاف ذلك كذا قيل فليتأمل
فإنه يقتضى أن الحمى لما نقلت إلى الجحفة لم يبق منها بقية بالمدينة وهو الموافق لما يأتى عن الخصائص وحين نقلت الحمى إلى الجحفة صارت الجحفة لا يدخلها أحد إلا حم بل قيل أذا مر بها الطائر حم
واستشكل حينئذ جعلها ميقاتا للإحرام وقد علم من قواعد الشرع أنه صلى الله عليه وسلم لا يأمر بما فيه ضرر
وأجيب بأن الحمى انتقلت إليها مدة مقام اليهود بها ثم زالت بزوالهم من الحجاز أو قبله حين التوقيت بها كذا قيل فليتأمل
وعنه صلى الله عليه وسلم قال رأيت أى فى النوم امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى نزلت مهيعة فأولتها أن وباء المدينة نقل إلى مهيعة
وفى الخصائص الصغرى للسيوطى وصرف الحمى عنها يعنى المدينة أول ما قدمها ونقلها إلى الجحفة ثم لما أتاه جبريل بالحمى والطاعون أمسك الحمى بالمدينة وأرسل الطاعون إلى الشام ولما عادت الحمى إلى المدينة باختياره صلى الله عليه وسلم إياها لم تستطع أن تأتى أحدا من أهلها حتى جاءت ووقفت ببابه واستأذنته فيمن يبعثها إليه فأرسلها إلى الأنصار
فقد جاء إن الحمى جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت أنا أم ملدم وفى رواية أنا الحمى أبرى اللحم وأشرب الدم قال لا مرحبا بك ولا أهلا
وفيه أنه تقدم أنه صلى الله عليه وسلم الله نهى عائشة عن سبها فقالت له أمضى إلى أحب قومك أو أحب أصحابك إليك فقال اذهبى للأنصار فذهبت إليهم فصرعتهم فقالوا له ادع لنا بالشفاء فقال إن شئتم دعوت الله عز وجل يكشفها عنكم وإن شئتم تركتموها فأسقطت ذنوبكم وفى رواية كانت لكم طهورا فقالوا بلى دعها يا رسول الله ولعل هذا كان لطائفة من الأنصار فلا ينافى ما جاء أن الأنصار لما شكوا له الحمى وقد مكثت عليهم ستة أيام بلياليها دعا لهم بالشفاء وصار صلى الله عليه وسلم يدخل دارا دارا وبيتا بيتا يدعو لهم بالعافية وهذا الذى فى الخصائص يدل على أن الحمى لما ذهبت إلى الجحفة لم يبق منها بقية بالمدينة وأنها بعد ذلك عادت إلى المدينة باختيار منه صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/284)
والذى نقله هو عن الحافظ ابن حجر أن الحمى كانت تصيب من أقام بالمدينة من أهلها وغيرهم فارتفعت بالدعاء عن أهلها إلا النادر ومن لا يألف هواها
وقد جاء وإن حمى ليلة كفارة سنة ومن حم يوما كانت له براءة من النار وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه
والذى رواه الإمام أحمد وابن حبان فى صحيحه عن جابر استأذنت الحمى على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من هذه قالت أم ملدم فأمر بها إلى أهل قباء فلقوا مالا يعلمه إلا الله تعالى فشكوا إليه صلى الله عليه وسلم فقال إن شئتم دعوت الله تعالى ليكشفها وإن شئتم تكون لكم طهورا قالوا أو يفعل قال نعم قالوا فدعها والله أعلم
ثم دعا صلى الله عليه وسلم بقوله اللهم اجعل بالمدينة ضعفى ما جعلت بمكة من البركة وفى رواية واجعل مع البركة بركتين وجاء أنهم شكوا له صلى الله عليه وسلم سرعة فناء طعامهم فقال لهم قوتوا طعامكم يبارك لكم فيه قيل معناه تصغير الأرغفة ودعا لغنم كانت ترعى بالمدينة فقال اللهم اجعل نصف أكراشها مثل ملئها فى غيرها من البلاد أى ولعل الدعاء بذلك ليس خاصا بتلك الأغنام الموجودة فى زمنه صلى الله عليه وسلم
ويدل لذلك ما ذكره السيوطى فى الخصائص الصغرى مما اختصت به المدينة أن غبارها يطفئ الجذام ونصف أكراش الغنم فيها مثل ملئها فى غيرها من البلاد والكرش كالمعدة للإنسان
وكما صينت المدينة عن الطاعون بإرساله إلى الشام صينت عن الدجال روى الشيخان عن أبة هريرة رضى الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنقاب المدينة أى على أبوابها ملائكة لايدخلها الطاعون ولا الدجال وفى رواية لها أى المدينة سبعة أبواب على كل باب ملك
فإن قيل كيف مدحت المدينة بعدم دخول الطاعون وكيف أرسله صلى الله عليه وسلم إلى الشام مع أنه شهادة
وأجيب بأنه إنما أرسله إلى الشام لما تقدم وصينت عنه بعد انتقاء ما تقدم لأن سببه طعن كفار الجن وشياطينهم فمنع من المدينة احتراما لها ولم يتفق دخول الطاعون
____________________
(2/285)
بها فى زمن من الأزمنة بخلاف مكة فإنه وجد بها فى بعض السنين وهى سنة تسع وأربعين وسبعمائة
ويقال إنه وقع فى سنة تسع وثلاثين بعد الألف لما هدم السيل الكعبة أى الجانب الذى جهة الحجر قال بعضهم فمن حين انهدم وجد الطاعون بمكة واستمر إلى أن أقاموا الأخشاب موضع المنهدم وجعلوا عليها الستر فعند ذلك ارتفع الطاعون كذا أخبر بعض الثقات من أهل مكة
وكونه لم يتفق دخول الطاعون فى المدينة فى زمن من الأزمنة يخالفه قول بعضهم وفى السنة السادسة من الهجرة وقع طاعون فى المدينة أفنى الخلق وهو أول طاعون وقع فى الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وقع فلا بأرض تخرجوا منها وإن سمعتم به فى أرض فلا تقربوها
ويروى أنه لما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة رفع يديه وهو على المنبر وقال اللهم انقل عنها الوباء ثلاثا أى وفيه أن هذا قد يخالف ما سبق من أن هذا كان فى آخره الأمر لاعند قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة إلا أن يحمل على أن قدومه صلى الله عليه وسلم كان من سفر لا للهجرة
وفى الحديث سيأتى على الناس زمان يلتمسون فيه الرخاء فيحملون بأهليهم إلى الرخاء المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون لا يلبث فيها أحد فيصبر للأوائها وشدتها حتى يموت إلا كنت له يوم القيامة شهيدا وشفيعا
وفي مسلم لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتي إلا وكنت له شفيعا يوم القيامة أو شهيدا أي شفيعا للعاصي وشهيدا للطائع وللأواء بالمد الجوع
وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت فإنى أشفع لمن يموت بها لا يريد أحد أهل المدينة بسوء إلا أذابه الله تعالى ذوب الملح فى الماء وفى رواية أذابه الله فى النار ذوب الرصاص أو ذوب الملح فى الماء لا تقوم الساعة حتى تنفى المدينة شرارها كما ينفى الكير خبث الحديد أى وفى رواية فى مسلم تنفى الخبث كما تنفى النار خبث الفضة وتقدم أن هذا ليس عاما فى الأزمنة ولا فى الأشخاص وفى رواية مكة والمدينة ينفيان الذنوب كما ينفى الكير خبث الحديد من أخاف أهل المدينة ظلما أخافه الله عز وجل وعليه لعنة الله والملائكة والناس لايقبل الله
____________________
(2/286)
منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا أى وبهذا الحديث تمسك من جوز اللعن على يزيد لما تقدم عنه فى إباحة المدينة فى وقعة الحرة
ورد بأنه لا دلالة فيه على جواز لعن يزيد باسمه إنما هو والكلام فيه وإنما يدل على جواز لعنه بالوصف وهو من أخاف أهل المدينة وليس الكلام فيه والفرق بين المقامين واضح كما علمت
وجاء أهل المدينة جيرانى وحقيق على أمتى حفظ جيرانى ما اجتنبوا الكبائر من حفظهم كنت له شهيدا وشفيعا يوم القيامة ومن لم يحفظهم سقى من طينة الخبال أى وهى عصارة أهل النار وفى لفظ من أخاف هذا الحى من الأنصار فقد أخاف ما بين هذين ووضع يده على جنبيه وقيل لها طيبة لطيب العيش بها ولأن للعصر أى الطيب بها رائحة لا توجد فيه فى غيرها
ومن خصائصها أن ترابها شفاء من الجذام كما تقدم زاد بعضهم ومن البرص بل من كل داء وعجوتها شفاء من السم
اى وفى الحديث تخرب المدينة قبل يوم القيامة بأربعين سنة وإن خرابها يكون من الجوع وإن خراب اليمن يكون من الجراد أى وقد دعا صلى الله عليه وسلم على الجراد فقال اللهم أهلك الجراد واقتل كباره وأهلك صغاره واقطع دابره وخذ بأفواهها عن مواشينا وارزقنا إنك سميع الدعاء وفى مسلم عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه كان صلى الله عليه وسلم يؤتى بأول التمر فيقول اللهم بارك لنا فى مدينتنا وفى ثمارها وفى مدنا وفى صاعنا بركة مع بركة ثم يعطيه أصغر من يحضره من الولدان اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك دعاك لمكة وإنى عبدك ونبيك أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه
ثم بنى صلى الله عليه وسلم بقية الحجر التسع عند الحاجة إليها أى وهذا هو الموافق لما سبق أن بعضها بنى مع المسجد وهى حجرة سودة وحجرة عائشة رضى الله تعالى عنهما كما تقدم
وفى كلام أئمتنا أن بيوته صلى الله عليه وسلم كانت مختلفة وأكثرها كان بعيدا عن المسجد وكلام الأصل يقتضى أنها بنيت كلها فى السنة الأولى من الهجرة حيث قال وفيها أى السنة الأولى بنى مسجده صلى الله عليه وسلم ومساكنه أى وخط صلى الله
____________________
(2/287)
عليه وسلم للمهاجرين فى كل أرض ليست لأحد وفيما وهبته له الأنصار من خططها وأقام قوم منهم ممن لم يمكنه البناء بقباء عند من نزلوا عليه بها
قال عبدالله بن زيد الهذلى رأيت بيوت أزواج النبى صلى الله عليه وسلم حين هدمها عمر بن عبدالعزيز بأمر الوليد بن عبد الملك أى بعد موت أزواجه صلى الله عليه وسلم قال بعضهم حضرت كتاب الوليد بن عبد الملك يقرأ بادخالها في المسجد فما رأيت أكثر باكيا من ذلك اليوم أى وكانت تسعة أربعة مبنية باللبن أى وسقفها من جريد النخل مطين بالطين ولها حجر من جريد أى غير بيت أم سلمة فإنها جعلت حجرتها بناء
وكان صلى الله عليه وسلم فى غزوة دومة الجندل فلما قدم دخل عليه أول نسائه فقال لها ما هذا البنيان قالت أردت أن أكف أبصار الناس فقال صلى الله عليه وسلم وإن شر ما ذهب فيه مال المرء المسلم البنيان وعن على رضى الله تعالى عنه إن لله بقاعا تسمى المنتقمات فإذا اكتسب الرجل المال من حرام سلط الله عليه الماء والطين ثم لا يمتعه به أى وكانت تلك الحجر التى من الجريد مغشاة من خارج بمسوح الشعر وخمسة أبيات من جريد مطينة لا حجر بها على أبوابها ستور من مسوح الشعر أى وهى التى يقال لها البلانس ذرع الستر فوجد ثلاثة أذرع فى ذراع
هذا وفى كلام السهيلى كانت مساكنه صلى الله عليه وسلم مبنة من جريد عليه طين وبعضها من حجارة موضوعة وسقوفها كلها من جريد وكانت حجرته عليه الصلاة والسلام أكسية من شعر مربوطة بخشب من عرعر هذا كلامه
قال بعضهم وليتها تركت ولم تهدم حتى يقصر الناس عن البناء ويريدون ما رضى الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ومفاتيح خزائن الأرض بيده أى فإن ذلك مما يزهد الناس فى التكاثر والتفاخر فى البنيان
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم خرج إلى بعض طرق المدينة فرأى فيه مشرعة فقال ما هذه قالوا هذه لرجل من الأنصار فجاء ذلك الرجل فسلم على النبى صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه فعل ذلك مرارا فأعلم بالقصة فهدمها الرجل
وعن الحسن البصرى قال كنت وأنا مراهق أدخل بيوت أزواج النبى صلى الله عليه وسلم فى خلافة عثمان فأتناول سقفها بيدى أى لأن الحسن البصرى ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب يقينا وكان ابنا لمولاة لأم سلمة زوج النبى صلى الله عليه وسلم اسمها
____________________
(2/288)
خيرة وكانت أم سلمة تخرجه للصحابة يباركون عليه وأخرجته إلى عمر رضى الله تعالى عنه فدعاله بقوله اللهم فقهه فى الدين وحببه إلى الناس وكان والده من جملة السبى الذى سباه خالد فى خلافة الصديق من الفرس
وروى عن على بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه لأن عمره كان قبل أن يخرج على من المدينة إلى الكوفة وذلك بعد قتل عثمان أربع عشرة سنة قيل له يا أبا سعيد إنك تقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنك لم تدركه فقال لذلك السائل كل شئ سمعتنى أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو عن على ابن أبى طالب رضى الله تعالى عنه غير أنى فى زمان لا أستطيع أن أذكر عليا أى خوفا من الحجاج
وقد أخرج له عن على جماعة من الحافظ كالترمذى والنسائى والحاكم والدار قطنى وأبو نعيم ما بين حسن وصحيح وبه يرد قول من أنكر أنه لم يسمع من على لأن المثبت مقدم على النافى أو هو محمول على أنه لم يسمع من على بعد خروج على من المدينة
قال بعضهم كان الحسن البصرى أجمل أهل البصرة وفى كلام ابن كثير كان الحسن البصرى شكلا ضخما طوالا هذا كلامه وكان إذا أقبل كأنه أقبل من دفن حميمة وإذا جلس فكأنه أسير أمر يضرب عنقه وإذا ذكرت النار فكأنها لم تخلق إلا له
وعن الواقدى كان لحارثة بن النعمان منازل قرب المسجد وحوله فكلما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلا تحول له حارثة عن منزل حتى صارت منازله كلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم أى وهذا يخالف ما تقدم عن الأصل من أن مساكنه ينيت فى السنة الأولى
ومات عثمان بن مظعون وهو أخوه صلى الله عليه وسلم من الرضاعة وأمر صلى الله عليه وسلم أن يرش قبره بالماء ووضع حجرا عند رأس القبر أى بعد أن أمر رجلا أن يأتيه بحجر فأخذ الرجل حجرا ضعف عن حمله فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/289)
فحسر عن ذراعيه ثم حمله ووضعه فى المحل المذكور وقال أتعلم به قبر أخى وأدفن إليه من مات من أهلى أى ومن ثم دفن ولده إبراهيم عند رجليه
وعن عائشة رضى الله تعالى عنها أنه صلى الله عليه وسلم قبل عثمان بن مظعون وهو ميت قالت ورأيت دموع رسول الله صلى الله عليه وسلم على خدى عثمان بن مظعون
أى وفى الاستيعاب أنه مات بعد شهوده بدرا فلما غسل وكفن قبله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عينيه ولا معارضة بينه وبين خبر عائشة رضى الله تعالى عنها السابق كما لا يخفى وجعل النساء يبكين فجعل عمر يسكتهن فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مهلا يا عمر ثم قال إياكن ونعيق الشيطان ومهما كان من العين فمن الله ومن الرحمة وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان وقالت امرأته وهى خولة بنت حكيم وقيل أم العلاء الأنصارية وكان نزل عليها وقيل أم خارجة بن زيد طبت هنيئا لك الجنة أبا السائب فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرة غضب وقال وما يدريك فقالت يا رسول الله مارسك وصاحبك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أدرى ما يفعل بى فأشفق الناس على عثمان
وعن عائشة رضى الله تعالى عنها أن خولة بنت حكيم دخلت عليها وهى متشوشة الخاطر فقالت لها عائشة مابالك قالت زوجى تعنى عثمان بن مظعون يقوم الليل ويصوم النهار فدخل النبى صلى الله عليه وسلم على عائشة فذكرت له ذلك فلقى عثمان فقال له يا عثمان إن الرهبانية لم تكتب علينا أمالك بى أسوة والله إن أخشاكم لله وحدوده لأنا أى وسماه السلف الصالح فقال عند دفن ولده إبراهيم الحق بسلفنا الصالح وقال عند دفن بنته زينب الحقى بسلفنا الخير عثمان بن مظعون
ومات أسعد بن زرارة رضى الله تعالى عنه ووجد أى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدا شديدا عليه وكان نقيبا لبنى النجارفلم يجعل لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نقيبا بعده أى بعد أن قالوا له اجعل لنا رجلا مكانه يقيم من أمرنا ما كان يقيم وقال لهم أنتم أخوالى وأنا نقيبكم وكره أن يخص بذلك بعضهم دون بعض فكانت من مفاخرهم
أى ووهم ابن منده وأبو نعيم فى قولهما إن أبا أمامة كان نقيبا لبنى ساعدة لأنه صلى الله عليه وسلم كان يجعل نقيب كل قبيلة منهم ومن ثم كان نقيب بنى ساعدة سعد بن عبادة
____________________
(2/290)
أى وقد قيل إن قبل قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة مات البراء بن معرور فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ذهب هو وأصحابه فصلى على قبره وقال اللهم اغفر له وارحمه وارض عه وقد فعلت وهي أول صلاة صليت على الميت فى الإسلام بناء على أن المراد بالصلاة حقيقتها وإلا جاز أن يراد بالصلاة الدعاء ويوافق ذلك قول الإمتاع لم أجد فى شئ من كتب السير متى فرضت صلاة الجنازة
ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم صلى على عثمان بن مظعون وقد مات في السنة الثانية وكذلك أسعد بن زرارة مات في السنة الأولى ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم صلى عليه الصلاة الحقيقة وقد تقدم ذلك وتقدم ما فيه
وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود أى بنى قينقاع وبنى قريظة وبنى النضير أى صالحهم على ترك الحرب والأذى أى أن لا يحاربهم ولا يؤذيهم وأن لا يعينوا عليه أحدا وأنه إن دهمه بها عدو ينصروه وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم
وقد ذكر فى الأصل صورة الكتاب وآخى صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار فى دار أنس بن مالك وهى دار أبى طلحة زوج أم أنس أى واسمه زيد ابن سهل وقد ركب البحر غازيا فمات فلم يجدوا جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فدفنوه بها ولم يتغير
وعن أنس رضى الله تعالى عنه أن أبا طلحة لم يكن يكثر من الصوم فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب الغزو فلما مات صلى الله عليه وسلم سرد الصوم وكانت المؤاخاة بعد بناء المسجد وقيل والمسجد يبنى على المواساة والحق وأن يتوارثوا بعد الموت دون ذوى الأرحام وفى لفظ دون القرابة فقال تأخوا فى الله أخوين أخوين
اقول ذكر ابن الجوزى عن زيد بن أبى أوفى قال دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مسجد المدينة فجعل يقول أين فلان أين فلان فلم يزل يتفقدهم ويبعث إليهم حتى اجتمعوا عنده فقال إنى محدثكم بحديث فاحفظوه وعوه وحدثوا به من بعدكم إن الله تعالى اصطفى من خلقه خلقا ثم تلا هذه الآية { الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس } وإنى أصطفى منكم من أحب أن أصطفيه وأوخى بينكم كما آخى الله تعالى بين ملائكتة قم يا أبا بكر فقام فجثا بين يديه صلى الله عليه وسلم فقال
____________________
(2/291)
إن لك عندى يدا الله يجزيك بها ولو كنت متخذا خليلا لا تخذتك خليلا فأنت منى بمنزلة قميصى من جسدى وحرك قميصه بيده ثم قال ادن يا عمر فدنا فقال قد كنت شديد البأس علينا يا أبا حفص فدعوت الله أن يعز بك الدين أو بأبى جهل ففعل الله ذلك بك وكنت أحبهما إلى الله فأنت معى فى الجنة ثالث ثلاثة من هذه الأمة وآخى بينه وبين أبى بكر هذا كلام ابن الجوزى وهو يقتضى أنه صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة آخى بين المهاجرين والأنصار أيضا كما آخى بينهم قبل الهجرة وهذا لا يتم إلا لو آخى بين غير أبى بكر وعمر من المهاجرين ويكون ابن أبى أوفى اقتصر
والمعروف المشهور أن المؤاخاة إنما وقعت مرتين مرة بين المهاجرين قبل الهجرة ومرة بين المهاجرين والأنصار بعد الهجرة والله اعلم ويدل لذلك قول بعضهم كانوا إذ ذلك خمسين من المهاجرين وخمسين من الأنصار أى وقيل كانوا تسعين فأخذ بيد على بن ابى طالب وقال هذا أخى فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أخوين وآخى بين أبى بكر وخارجة بن زيد وكان صهر لأبى بكر كانت ابنته تحت أبى بكر وبين عمر وعتبان بن مالك وبين أبى رويم الخثعمى وبين بلال وبين أسيد ابن حضير وبين زيد بن حارثة وكان أسيد ممن كناه النبى صلى الله عليه وسلم كناه أبا عبس وكان من أحسن الناس صوتا بالقرآن وكان أحد العقلاء أهل الرأى وكان الصديق رضى الله تعالى عنه يكرمه ولا يقدم عليه أحدا وآخى بين أبى عبيدة وبين سعد ابن معاذ وأخى بين عبدالرحمن بن عوف وبين سعد بن الربيع وعند ذلك قال سعد لعبدالرحمن يا عبد الرحمن إنى من أكثر الأنصار مالا فأنا مقاسمك وعندى امرأتان فأنا مطلق إحداهما فإذا انقضت عدتها فتزوجها فقال له بارك الله لك فى أهلك ومالك
وفى الأصل عن ابن اسحق آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار فقال تآخوا فى الله أخوين أخوين
وفى كلام بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم آخى بين حمزة وبين زيد بن حارثة وإليه أوصى حمزة يوم أحد فليتأمل فإنهما مهاجران ثم أخذ بيد على بن أبى طالب وقال هذا أخى فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أخوين وفيه أن هذا ليس من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وقد تقدم فى المؤاخاة بين المهاجرين قبل الهجرة مؤاخاته له صلى الله عليه وسلم وفى رواية لما آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه جاء على
____________________
(2/292)
تدمع عيناه فقال يا رسول الله آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بينى وبين أحد فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت أخى فى الدنيا والآخرة قال الترمذى هذا حديث حسن غريب وآخى بين جعفر بن أبى طالب وهو غائب بالحبشة وبين معاذ بن جبل أي أرصد معاذ لأخوة جعفر إذا قدم من الحبشة وبه يرد ما قيل جعفر بن أبي طالب إنما قدم فى فتح خيبر سنة سبع فكيف يؤاخى بينه وبين معاذ بن جبل أول مقدمه عليه الصلاة والسلام وآخى بين أبى ذر الغفارى والمنذر بن عمرو وبين حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر وبين مصعب بن عمير وأبى أيوب
وفى الاستيعاب أنه آخى بين سلمان وأبى الدرداء وجاء سلمان لأبى الدرداء زائرا فرأى أم الدرداء مبتذلة فقال ما شأنك قالت إن أخاك ليس له حاجة فى شئ من الدنيا فقال له سلمان إن لربك عليك حقا ولأهلك عليك حقا ولجسدك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه فسأل أبو الدرداء النبي صلى الله عليه وسلم عما قال سلمان فقال له مثل ما قال سلمان ولعل هذه المؤاخاة بين سلمان وأبى الدرداء كانت قبل عتق سلمان لأنه تأخر عتقه عن أحد لأن أول مشاهده الخندق كما تقدم وروى الإمام أحمد عن أنس أنه آخى بين أبى عبيدة وبين أبى طلحة وقد تقدم أنه آخى بينه وبين سعد بن معاذ وقال المهاجرون يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة فى قليل ولا أحسن بذلا فى كثير كفونا المؤنة وأشركونا فى المهنة اى الخدمة حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله قال لا ما أثنيتم عليهم ودعوتهم لهم أى فإن ثناءكم عليهم ودعاءكم لهم حصل منكم به نوع مكافأة
قال بعضهم والمؤاخاة من خصائصه صلى الله عليه وسلم ولم يكن ذلك لنبى قبله ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من لى بعياش بن أبى ربيعة وهشام بن العاص أي المحبوسين عند قريش المانعين لهما من الهجرة فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة اى بعد أن خرج إلى المدينة من حبس أهله له بمكة كما تقدم أنا لك يا رسول الله بهما فخرج إلى مكة فقدمها مستخفيا فلقى امرأة تحمل طعاما فقال لها أين تريدين يا أمة الله قالت أريد هذين المحبوسين تعنيهما فتبعها حتى عرف موضعهما وكان بيتا لا سقف له فلما أمسى تسور عليهما ثم اخذ مروة أى حجرا فوضعها تحت قيدهما
____________________
(2/293)
ثم ضربهما بسيفه فقطعهما فان يقال لسيفه ذو المروة ثم جعلهما على بعيره وساق بهما فعثر فدميت اصبعه فأنشد أي متمثلا هل أنت إلا اصبع دميت ** وفي سبيل الله ما لقيت **
ثم قدم بهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدم ان ذلك يرد القول بان عياشا استمر محبوسا حتى فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وقد دعا صلى الله عليه وسلم في قنوت الصلاة بقوله اللهم أنج الوليد بن الوليد أي وذلك ان يتخلص من حبسه بمكة أي فإن الوليد اسر يوم بدر أسره عبد الله بن جحش فقدم في فدائه اخواه خالد وكان اخاه لأبيه أي ومن ثم لما أبى الله أن يأخذ في فداء الوليد إلا أربعة آلاف درهم وصار خالد يأبى ذلك قال له هشام إنه ليس بابن امك والله لو أبى فيه إلا كذا وكذا لفعلت
ويقال إنه صلى الله عليه وسلم فضفاضة قال لعبد الله بن جحش ولا تقبل في فدائه إلاشلمة ابيه وهي درع فضافة مقومة بمائة دينار فجاءا بها وسلماها إلى عبد الله فلما افتدى وقدم إلى مكة اسلم فقيل له هلا أسلمت قبل ان تفتدى فقال كرهت أن يظنوا بي أني جزعت من الاسار فلما أسلم حبسه اهل مكة ثم أفلت ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد عمرة القضاء وكتب إلى أخيه خالد فوقع الاسلام في قلب خالد وكان خالد من جملة من خرج من مكة الى اخيه خالد فوقع الإسلام في قلب خالد وكان خالد من جملة من خرج من مكة فارا لئلا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه كراهة الإسلام وأهله فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد عنه وقال لو اتانا خالد لاكرمناه وما مثله يجهل الاسلام فكتب له اخوه الوليد بذلك وفي مدة حبس الوليد كان صلى الله عليه وسلم في كل ليلة اذا صلى العشاء الآخرة قنت في الركعة الأخيرة يقول اللهم انج هشام بن العاص اللهم انج سلمة بن هشام اللم انج عياش بن ابي ربيعة اللهم انج هشام بن العاص اللهم انج المستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلهم عليهم سنين مثل سني يوسف فأكلوا العلهز ثم لو يزل يدعو المستضعفين حتى نجاهم الله أي بعد ان نجى عياشا وهشاما والوليد
أقول هذه الراية تدل على انه كان يدعو بما ذكر في الركعة الأخيرة من العشاء الآخرة وفي البخاري ان ذلك كان في الركعة الأخيرة من الصبح
وقد يقال لا مخالفة لانه صلى الله عليه وسلم تارة يدعو في الركعة الاخيرة
____________________
(2/294)
من صلاة العشاء الآخرة وتارة في الركعة الاخيرة من الصبح أو كان يدعو بذلك فيهما وكل روى بحسب ما رأى والله اعلم
ثم لا زال المهاجرون الانصار يتوارثون بذلك الاخاء دون القرابات إلى أن نزل قوله تعالى في وقعة بدر { وأولو الأرحام } أي القرابات { بعضهم أولى ببعض } أي في الإرث { في كتاب الله } أي اللوح المحفوظ فنسخت ذلك أي لأنه كان الغرض من المؤاخاة ذهاب وحشة الغربة ومفارقة الأهل والعشيرة وشد أزر بعضهم ببعض فلما عز الإسلام واجتمع الشمل وذهبت الوحشة بطل التوارث ورجع كل إنسان إلى نسبه وذوي رحمه أي ومن ثم قيل لزيد بن حارثة زيد بن حارثة أي بعد أن كان يقال له زيد بن محمد وكانت المؤاخاة بعد الهجرة بخسمة أشهر وقيل غير ذلك
أقول تقدم ان سبب امتناع أن يقال زيد بن محمد نزول قوله تعالى { ادعوهم لآبائهم } أي ومن ثم قيل للمقداد بن عمرو وكان له المقدد بن الأسود لأن الأسود كان تبناه في الجاهلية ومن لم يعرف أبوه رد اليه مواليه ومن ثم قيل لسالم مولى أبي حذيفة ابن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بعد أن كان يقال له سالم بن أبي حذيفة فكا ابو حذيفة يرى أنه ابنه ومن ثم انكحه ابنة اخيه فاطمة بنت الوليد بن عتبة
وجاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو امرأة أبي حذيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إنا كنا نرى سالما ولدا وكان يدخل على وقد بلغ ما يبلغ الرجال وإنه يدخل علي وأظن في نفس ابي حذيفة من ذلك شيئا فماذا ترى فيه فقال ارضعيه تحرمي
وعن اسلم زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت لعائشة ما ترى هذه إلا رخصة رخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم لسالم وكان سالم رضي الله تعالى عنه يؤم المهاجرين الأولين في مسجد قباء فيهم أبو بكر وعمر
وفي ينبوع الحياة كانت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار توجب التوارث بينهم ثم نسخ ذلك قبل العمل به وأما قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كانوا يتوارثون بذلك حتى نزلت { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض } فمعناه أنهم التزموا هذا الحكم ودانوا به
ومن المشكل حينئذ ما نقل أن الحتات بضم الحاء وفتح المثناة فوق مخففة كان
____________________
(2/295)
صلى الله عليه وسلم آخى بينه وبين معاوية ولما مات الحتات عند معاوية في خلافته ورثه بالاخوة مع وجود أولاده ثم رأيت الحافظ ابن حجر في الإصابة ذكر ذلك ونظر فيه والله اعلم & باب بدء الأذان ومشروعيته
أي والإقامة ومشروعيتها وكل منهما من خصائص هذه الأمة كما أن من خصائصها الركوع والجماعة وافتتاح الصلاة بالتكبير فإن صلاة الامم السابقة كانت لا ركوع فيها ولا جماعة وكانت الأنبياء كأممهم يستفتحون الصلاة بالتوحيد والتسبيح والتهليل أي وكان دأبه صلى الله عليه وسلم في إحرامه لفظة الله أكبر ولم ينقل عنه سواها أي كالنية
ولا يشكل على الركوع قوله تعالى لمريم { واسجدي واركعي مع الراكعين } لأن المراد به في ذلك الخضوع أو الصلاة لا الركوع المعهود كما قل لكن في البغوي قيل إنما قد السجود على الركوع لأنه كان كذلك في شريعتهم وقيل بل كان الركوع قبل السجود في الشرائع كلها وليست الواو للترتيب بل للجمع هذا كلامه فليتأمل وكان وجود ذلك أي الآذان والإقامة في السنة الأولى وقيل في الثانية
ذكر أن الناس إنما كانوا يجتمعون للصلاة لتحين مواقيتها أي لدخول أوقاتها من غير دعوة أي وقد قال ابن المنذر هو صلى الله عليه وسلم كان يصلي بغير أذان منذ فرضت الصلاة بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة وإلى أن وقع التشاور
قال ووردت أحاديث تدل على أن الآذان شرع بمكة قبل الهجرة من تلك الأحاديث ما في الطبراني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم أوحى الله تعالى اليه الأذان فنزل به وعلمه بلالا قال الحافظ ابن رجب هو حديث موضوع
ومنها ما رواه ابن دمويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا لما اسرى بي أذن جبريل فظنت الملائكة أنه أي جبريل يصلي بهم فقدمني فصليت قال فيه الذهبي حديث منكر بل موضوع هذا كلامه على أنه يدل على أن المراد بالأذان الإقامة كما تقدم أنها المرادة بالأذان انتهى
____________________
(2/296)
أقول ومن أغرب ما وقع في بدء الآذان ما رواه ابو نعيم في الحلية بسند فيه مجاهيل إن جبريل نادى بالأذان لآدم حين اهبط من الجنة وقد سئل الحافظ السيوطي هل ورد أن بلالا أو غيره أذن بمكة قبل الهجرة فأجاب بقوله ورد ذلك بأسانيد ضعيفة لا يعتمد عليها والمشهور الذي صححه اكثر العلماء ودلت عليه الأحاديث الصحيحة أن الأذان انما شرع بعد الهجرة وأنه لم يؤذن قبلها لا بلال ولا غيره وذكر في الدر في قوله تعالى { ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا } أنها نزلت بمكة في شأن المؤذنين والآذان إنما شرع في المدينة فهي مما تأخر حكمه عن نزوله هذا كلامه
وفي كلام الحافظ ابن حجر ما يوافقه حيث ذكر أن الحق أنه لا يصح شيء من الأحاديث الدالة على أن الآذان شرع بمكة قبل الهجرة وذكر ما تقدم عن ابن المنذر من أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي من غير أذن منذ فرضت الصلاة بمكة إلى أن هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وإلى أن وقع التشاور في ذلك أي فقد ائتمر صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه كيف يجمع الناس فقيل له انصب راية عند حضور الصلاة فإذا رآها الناس آذن أي أعلم بعضهم بعضا فلم يعجبه ذلك فذكر له بوق يهود أي ويقال له الشبور بفتح الشين المعجمة ثم موحدة مشددة مضمومة ثم واو ساكنة ثم راء ويقال له القبع بضم القاف وإسكان الموحدة وقيل بفتحها وقيل بإسكان النون وبالعين المهملة
قال السهيلي وهو أولى بالصواب وقيل بالمثناة فوق وقيل بالمثلثة وهو القرآن الذي يدعون به لصلاتهم أي يجتمعون لها عند سماع صوته فكرهه صلى الله عليه وسلم وقال هو من أمر اليهود فذكر له الناقوس الذي يدعون به النصارى لصلاتهم فقال هو من أمرالنصارى أي فقالوا لو رفعنا نارا أي فإذا رآها الناس اقبلوا إلى الصلاة فقال ذلك للمجوس وقيل كما في حديث الشيخين عن ابن عمر أن عمر رضي الله عنهما قال أولا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة أي بحضروها أي ففعلوا ذلك وكان المنادي هو بلال رضي الله تعالى عنه
قال الحافظ ابن حجر وكان اللفظ الذي ينادي به بلال أي قبل رؤيا عبد الله الصلاة جامعة كما رواه ابن سعد وسعيد بن منصور عن سعيد بن المسيب مرسلا
وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لقد هممت أن أبث رجالا ينادون الناس بحين
____________________
(2/297)
الصلاة أي في حينها أي وقتها وقد هممت أن آمر رجالا تقوم على الآطام ينادون المسلمين بحين الصلاة أي ولعل هذا كان معه صلى الله عليه وسلم قبل وقوع ما تقدم عن بلال ثم أمر بلال بما تقدم
وقيل أئتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم هو واصحابه بالناقوس أي اتفقوا عليه فنحت ليضرب به المسلمون أي وهو خشية طويلة يضرب عليها بخشبة صغيرة فنام عبد الله بن زيد فأرى الأذان أي والإقامة في منامه
فعنه رضي الله عنه قال لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس فطاف بي وأنا نائم رجل وفي لفظ إني لبين نائم ويقظان طاف بي رجل والمراد أنه نام نوما خفيفا قريبا من اليقظة فروحه كالمتوسطة بين النوم واليقظة
قال الحافظ السيوطي اظهرمن هذا أن يحمل على الحالة التي تعترى أرباب الاحوال ويشاهدون فيها ما يشاهدون ويسمعون ما يسمعون والصحابة رضي الله تعالى عنهم اجمعين هم رءوس أرباب الأحوال أي وهذه الحالة هي التي عناها الشيخ عبد الله الدلاصي بقوله كنت بالمسجد الحرام في صلاة الصبح فلما أحرم الإمام واحرمت اخذتني اخذه فرايت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إماما وخلفه العشرة فصليت معهم فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الاولى سورة المدثر وفي الثانية { عم يتساءلون } ثم سلم الإمام فعقلت تسليمه فسلمت
أي ويدل لذلك قول عبد الله بن زيد كما جاء في رواية ولولا أن يقول الناس أي يستبعد الناس ذلك لقلت إني كنت يقظان غير نائم وذلك الرجل عليه ثوبان أخضران يحمل ناقوسا في يده فقلت يا عبد الله اتبيع الناقوس قال وما تصنع به فقلت ندعو به إلى الصلاة قال أفلا أدلك على ما هو على ما هو خير لك من ذلك فقلت بلى أي وفي رواية فقلت اتبيع الناقوس فقال ماذا تريد به فقلت اريد أن اتباعه لكي أضرب به للصلاة اتبيع الناقاوس فقال قال فأنا احدثك بخير لك من ذلك فقلت بل قال تقول الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله اكبر أشهد أن لا إل إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد ان محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله اكبر الله اكبر لا إله إلا الله قال عبد الله ثم استأخر عني أي ذلك لرجل غير بعيد ثم قال وتقول
____________________
(2/298)
إذا قمت إلى الصلاة الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على الفلاح قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة الله اكبر الله أكبر لا إله إلا الله أي ففي هذه الرواية إفراد الفاظ الإقامة إلا لفظها ولفظ التكبير اولا وآخرا وفي رواية رأى رجلا عليه ثياب خضر وهو قائم على سقف المسجد وفي رواية على جذم حائط بكسر الجيم وسكون المعجمة أي اصل الحائط ولا مخالفة لما سيعلم فأذن ثم قعد قعدة ثم قال فقال مثلها أي مثل الكلمات أي كلمات الآذان إلا أنه يقول قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة أي زيادة على تلك الكلمات التي هي الأذان ففي هذه الرواية تثنية ألفاظ الإقامة والإتيان بالتكبير في أولها اربعا كالآذان أي وهذا أي كونه على سقف المسجد وكونه على جذم حائط لا مخالفة بينهما لانه يجوز أن يكون لما قال له تقول الله اكبر إلى آخر الأذان والإقامة كان قائما على سقف المسجد قريبا من جذم الحائط فنسب قيامه إلى كل منهما ويكون قوله ثم استأخر عني غير بعيد أي سكت غير طويل قال عبد الله فلما اصبحت اتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت أي وفي رواية أنه أتاه ليلا واخبره وهي المذكورة في سيرة الحافظ الدمياطي
ولا منافاة لانه يجوز أن يكون قوله عبد الله فلما اصبحت أي قاربت الصباح فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها لرؤيا حق إن شاء الله تعالى فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندى وفي رواية أمد صوتا منك أي أعلى وارفع وقيل أحسن واعذب ولا مانع من إرادة ما أمرك به عبد الله بن زيد فافعله فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به أي فبلال أول مؤذنيه صلى الله عليه وسلم أي وقيل أول مؤذنيه عبد الله ابن زيد ذكره الإمام والغزالي وأنكره ابن الصلاح أي حيث قال أجد هذا بعد البحث عنه هذا كلامه
وقد يقال لا منافاة لان عبد الله اول من نطق بالأذان وبلال أول من أعلن به وحينئذ يكون أول مشروعيته كان في اذان الصبح فلما سمع بذلك أي بأذان بلال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وهو في بيته خرج يجر رداءه وفي رواية إزاره أي عجلا أي وقد أعلم بالقصة لقوله والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل
____________________
(2/299)
ما رأى عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه وفي رواية مثل ما يقول أي بلال رضي الله تعالى عنه فقال صلى الله عليه وسلم فلله الحمد قال الترمذي عبد الله ابن زيد بن عبد ربه لا نعرف له عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا يصح إلا هذا الحديث الواحد في الأذان
وقيل رأى رأى مثل ما رأى عبد الله ابو بكر رضي الله تعالى عنه وقيل سبعة من الأنصار وقيل أربعة عشر
قال ابن الصلاح لم أجد هذا بعد إمعان النظر وتبعه النووي فقال هذا ليس بثابت ولا معروف وإنما الثابت خروج عمر يجر رداءه وقيل رآه صلى الله عليه وسلم ليلة الأسراء اسمع ملكا يؤذن أي فقد جاء في حديث بعض رواته متروك
بل قيل إنه من وضعه أنه لما أراد الله عز وجل أن يعلم رسوله الاذان جاء جبريل عليه الصلاة والسلام بدابة يقال لها البراق فركبها حتى أتى الحجاب الذي يلي الرحمن فبينما هو كذلك خرج من الحجاب ملك فقال الله أكبر فقيل من وراء الحجاب صدق عبدي أنا أكبر أنا أكبر وذكر بقية الأذان
فرؤيا عبد الله دلت على أن هذا الذي رآه في السماء يكون سنة في الأرض عند الصلوات الخمس التي فرضت عليه تلك الليلة أي فلذلك قال إنها لرؤيا حق إن شاء الله
وفيه أن الذي تقدم عن الخصائص أن المراد بها الأذان الذي أتى به الملك الإقامة لا حقيقة الأذان أي ويدل لذلك أن الملك قال فيه قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة فقال الله صدق عبدي أنا أقمت فريضتها ثم قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم تقدم فأم أهل السماء فيهم ادم ونوح
قال بعضهم والأذان ثبت بحديث عبد الله بن زيد باجماع الامة لا يعرف بينهم خلاف في ذلك إلا ما روي عن محمد بن الحنفية وعن أبي العلاء قال قلت لمحمد ابن الحنفية إنا لنتحدث أن بدء هذا الآذان كان من رؤيا رآها رجل من الانصار في منامه قال ففزع لذلك محمدا بن الحنفية فزعا شديدا وقال عمدتم إلى ما هو الأصل في شرائع الإسلام ومعالم دينكم فزعمتم أنه إنما كان من رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه تحتمل الصدق والكذب وقد تكون اضغاث احلام قال فقلت له هذا الحديث قد
____________________
(2/300)
استفاض في الناس قال هذا والله هو الباطل ثم قال وانما أخبرني أبي أن جبريل عليه الصلاة والسلام أذن في بيت المقدس ليلة الإسراء وأقام ثم أعاد جبريل الأذان لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء فسمعه عبد الله بن زيد وعمر بن الخطاب
وفي رواية عنه أنه لما انتهى إلى مكان من السماء وقف به وبعث الله ملكا فقيل له علمه الأذان فقال الملك الله أكبر فقال الله صدق عبدي أنا الله أكبر إلى أن قال قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة وفيه ما علمت أن هذا الإقامة لا الأذان وقد رد عليه بأنه لو ثبت بقول جبريل لما احتاج صلى الله عليه وسلم إلى المشورة والمعراج كان بمكة قبل الهجرة
والأولى أن يتمسك ابن الحنفية بما يأتي عن بعض الروايات من قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله قد سبقك بذلك الوحي وكونه أتى بالبراق إلى الحجاب هو بناء على أن العروج كان على البراق وتقدم ما فيه ويحتمل أن يكون هذا عروجا آخر غير ذلك وحينئذ لا يخالف هذا ما تقدم أنه لما أسرى به أذن جبريل وتقدم ما فيه ولا ما جاء عن علي رضي الله تعالى عنه مؤذن أهل السماء جبريل لجواز حمل ذلك على الغالب وحينئذ لا يخالف أيضا ما جاء أسرافيل مؤذن أهل السماء وامامهم ميكائيل عند البيت المعمور وفي لفظ يؤم بالملائكة في البيت المعمور ولعل كون ميكائيل إمام أهل السماء لا يخالف ما جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها إمام أهل السماء جبريل لما علم وجاء إن مؤذن أهل السماء يؤذن لاثنتى عشرة ساعة من النهار ولاثنتى عشرة ساعة من الليل
أقول وفي النور لو رآه أي الأذان ليلة الإسراء لم يحتج إلا إلى ما يجمع به المسلمين إلى الصلاة ويرد بأنه لم يكن يعلم قبل هذه الرؤيا أن ما رآه في السماء يكون سنة للصلوات الخمس التي فرضت عليه تلك الليلة فبتلك الرؤيا علم أن ذلك سنة في الأرض كما تقدم
وعبارة بعضهم ولا يشكل على أذان جبريل ببيت المقدس أن الأذان إنما كان بعد الهجرة لأنه لا مانع من وقوعه ليلة الإسراء قبل مشروعيته للصلوات الخمس وهذا كله على تسليم أن المرئى له الأذان حقيقة لا الإقامة وقد علمت ما فيه
ثم رأيت بعضهم قال وأما قول القرطبي لا يلزم من كونه سمعه ليلة الإسراء أن يكون مشروعا في حقه ففيه نظر لقوله في أوله لما أراد الله تعالى أن يعلم رسوله الأذان أي لأن المتبادر تعليمه الأذان الذي يأتي به في الأرض للصلوات
____________________
(2/301)
وقد يقال على تسليم ذلك قد علمت أن المراد بالأذان الذي سمعه ليلة الإسراء الإقامة وقد قال الحافظ ابن حجر الحق أنه لم يصح شيء من هذه الأحاديث الواردة بأنه سمعه ليلة الإسراء ومن ثم قال ابن كثير في بعض الأحاديث الواردة بأنه سمع هذا الأذان في السماء ليلة المعراج هذا الحديث ليس كما زعم البيهقي أنه صحيح بل هو منكر تفرد به زياد بن المنذر أبو الجارود الذي تنسب إليه الفرقة الجارودية وهو من المتهمين وبهذا يعلم ما في الخصائص الصغرى خص صلى الله عليه وسلم بذكر اسمه في الأذان في عهد آدم وفي الملكوت الأعلى والله أعلم
أي وروى بسند واه إن أول من أذن بالصلاة جبريل عليه الصلاة والسلام في سماء الدنيا فسمعه عمر وبلال رضي الله تعالى عنهما فسبق عمر بلالا فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم ثم جاء بلال فقال له سبقك بها عمر وهذا لادلاله فيه لأنه يجوز أن يكون ذلك بعد رؤيا عبد الله
وذكر أن عمر رضي الله تعالى عنه رآه من عشرين يوما وكتمه ولما أخبر صلى الله عليه وسلم بذلك قال له ما منعك أن تخبرني قال سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت منه
أقول في هذا الكلام ما لا يخفى فليتأمل إنما قال له إنها رؤيا حق لأنه يجوز أن يكون جاءه صلى الله عليه وسلم الوحي بذلك قبل أن يجئ إليه عبد الله بن زيد به ومن ثم قال له حين أخبره بذلك على مافي بعض الروايات قد سبقك بذلك الوحي فالأذان إنما ثبت بالوحي لا بمجرد رؤيا عبد الله
قال بعضهم في قوله وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا الآية كان اليهود إذا نودي إلى الصلاة وقام المسلمون إليها يقولون قاموا لا قاموا صلوا لاصلوا على طريق الاستهزاء والسخرية
وفيها دليل على مشروعية الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده هذا كلامه ورده أبو حيان بان هذه جملة شرطية دلت على سبق المشروعية لا على إنشائها هذا كلامه أي وذلك على تسليم أن يكون المدعو به للصلاة خصوص اللفظ الذي وجد في المنام وصار بلال يؤذن بذلك للصلوات الخمس وينادي في الناس لغير الصلوات الخمس لأمر يحدث يطلب له حضور الناس كالكسوف والخسوف والاستسقاء الصلاة جامعة
____________________
(2/302)
قيل وكان بلال إذا أذن قال أشهد أن لا إله إلا الله حي على الصلاة فقال له عمر على أثرها أشهد أن محمدا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال قل كما قال عمر وهذا روي عن ابن عمر في حديث فيه راو ضعيف ولولا التعبير بكان لأمكن حمل ذلك على أن بلالا أتى بذلك ناسيا في ذلك الوقت لما لقنه عبد الله بن زيد ثم رأيت ابن حجر الهيتمي قال والحديث الصحيح الثابت في أول مشروعية الأذان يرد هذا كله هذا كلامه
قيل وزاد بلال في أذان الصبح بعد الحيعلات الصلاة خير من النوم مرتين فأقرها صلى الله عليه وسلم أي لأن بلالا كان يدعو النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة فيقول له الصلاة فدعاه ذات غداة إلى الفجر فقيل له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نائم فصرخ بأعلى صوته الصلاة خير من النوم مرتين أي اليقظة الحاصلة للصلاة خير من الراحة الحاصلة بالنوم
أقول وهذا يقال له التثويب وذكر فقهاؤنا أنه صح أنه صلى الله عليه وسلم لقن ذلك لأبي محذورة أي قال له فإن كانت صلاة الصبح قلت الصلاة خير من النوم ولا مناقاة لأن تعليم أبي محذور للأذان كان عند منصرفه صلى الله عليه وسلم من حنين على ما سيأتي وكذا ما ورد من أنه صلى الله عليه وسلم قال إن ذلك من السنة لأنه يجوز أن يكون ذلك صدر منه بعد أن أقر بلالا عليه نعم ذكر أنه لم ينقل أن ابن أم مكتوم كان يقوله أي لقول بلال له في الإذان الأول وهو يدل لمن قال إنه إذا قيل في الأذان الأول لا يقال في الثاني لأن أذانه اللصبح كان متأخرا عن أذان بلالا في أكثر الأحوال وهو محمل ما جاء في كثير من الأحاديث إن بلالا يؤذن بليل فكلوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم ومن غير الأكثر محمل ما جاء إن ابن أم مكتوم ينادي بليل وكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال ابن أم مكتوم أعمى فإذا أذن ابن أم مكتوم فكلوا وإذا أذن بلال فأمسكوا ولا تأكلوا والراجح أنه يقوله فيهما لكن ربما يخالف ذلك ما في الموطأ أن المؤذن جاء عمر يؤذنه لصلاة الصبح فوجده نائما فقال الصلاة خير من النوم فأمره عمر رضي الله عنه أن يجعلها في نداء الصبح وفي الترمذي أن بلالا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تثويب في شيء من الصلاة أي من أذان الصلاة إلا في صلاة الفجر أي يقول الصلاة خير من النوم
____________________
(2/303)
وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سمع الأذان في مسجد فأراد أن يصلي فيه فسمع المؤذن يثوب في غير الصبح فقال لرفيق له اخرج بنا من عند هذا المبتدع فإن هذه بدعة أي سمع المؤذن يقول بين الأذان والإقامة على باب المسجد الصلاة الصلاة وهذا هو المراد بالتثويب الذي سمعه ابن عمر كما قاله بعضهم
وفي كلام بعضهم من المحدثات أن المؤذن يجئ بين الأذان والإقامة إلى باب المسجد فيقول حي على الصلاة قيل وأول من أحدثه مؤذن معاوية رضي الله تعالى عنه فكان يأتيه بعد الأذان وقبل الإقامة يقول حي على الصلاة حي على الصلاة وحي على الفلاح حي على الفلاح يرحمك الله
أما قول المؤذن بين الأذان والإقامة الصلاة الصلاة فليس بدعة لأن بلالا كان يقول ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وأما قوله حي على الصلاة فهذا لم يعهد في عصره صلى الله عليه وسلم
ثم رأيت في درر المباحث في أحكام البدع والحوادث اختلف الفقهاء في جواز دعاء الأمير إلى الصلاة بعد الأذان وقبل الإقامة بأن يأتي المؤذن باب الأمير فيقول حي على الصلاة حي على الفلاح أيها الأمير وفسر به التثويب فاحتج من قال بجواره أي بسنيته أن بلالا كان إذا أذن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ثم يقول حي على الصلاة حي على الفلاح الصلاة يرحمك الله أي كما كان يفعل مؤذن معاوية رضي الله تعالى عنه فليس من المحدثات
وفي الحديث المشهور أنه في مرضه صلى الله عليه وسلم أتاه بلال فقال السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته الصلاة يرحمك الله فقال صلى الله عليه وسلم له مر أبا بكر فليصل بالناس واحتج من قال بالمنع بأن عمر رضي الله تعالى عنه لما قدم مكة أتاه أبو محذورة فقال الصلاة يا أمير المؤمنين حي على الصلاة حي على الفلاح فقال ويحك أمجنون أنت أما كان في دعائك الذي دعوته ما يكفيك حتى تأتينا ولو كان هذا سنة لم ينكر عليه أي وكون عمر رضي الله تعالى عنه لم يبلغه فعل بلال من البعيد
وعن ابي يوسف لا أرى بأسا أن يقول المؤذن السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته حي على الصلاة حي على الفلاح الصلاة يرحمك الله لاشتغال الأمراء بمصالح المسلمين أي ولهذا كان مؤذن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه يفعله
____________________
(2/304)
وذكر بعضهم أن في دولة بني بويه كانت الرافضة تقول بعد الحيعلتين حي على خير العمل فلما كانت دولة السلجوقية منعوا المؤذنين من ذلك وأمروا أن يقولوا في أذان الصبح بدل ذلك الصلاة خير من النوم مرتين وذلك في سنة ثمان وأربعين وأربعمائة
ونقل عن ابن عمرو عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أنهما كانا يقولان في أذانيهما بعد حي على الفلاح حي على خير العمل
وورد الترجيح في خبر أذان أبي محذورة أيضا وهو أن يخفض صوته بالشهادتين قبل رفعه بهما ففي مسلم عن أبي محذورة أنه قال قلت يا رسول الله علمني سنة الأذان قال فمسح مقدم رأسي وقال تقول أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله تخفض بها وتك ثم ترفع صوتك بالشهادة أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله وكان أبو محذورة يشفع الإقامة كالأذان أي يكرر ألفاظها فيقول الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله لقنه صلى الله عليه وسلم ذلك وهي الرواية الثانية التي تقدمت عن عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه
وذكر الإمام أبو العباس بن تيمية رحمه الله أن النقل ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أبا محذورة الأذان فيه الترجيع والإقامة مثناة كالأذان وأن بلالا كان يشفع الإذان ويوتر الإقامة أي ولا يرجع الإذان
ففي الصحيحين أمر بلال أن يشفع الأذان أي ومن شفع الأذان التكبير أوله أربعا ولم يصح عنه صلى الله عليه وسلم الإقتصار فيه على مرتين وإن كان هو عمل أهل المدينة كما سيأتي نعم يرد على شفع الأذان التهليل آخره فإنه مفرد فالأولى أن يقال يشفع معظم الأذان ويوتر الإقامة إلا الإقامة أي لفظها أي وهي قد قامت الصلاة فإنه يكررها مرتين يقول قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة ولم يصح عنه صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/305)
إفرادها البتة أي وإن كان هو عمل أهل المدينة كما سيأتي وصح عنه تكرير لفظ التكبير مرتين أولا وآخرا وحينئذ يكون المراد بإفراد الإقامة إفراد معظمها فكان يقول في الإقامة الله أاكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على الفلاح قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله ولم يكن في أذانه ترجيع أي وهو الإتيان بالشهادتين مرتين سرا ثم يأتي بهما جهرا أي كما تقدم قال فنقل إفراد الإقامة صحيح بلا ريب وتثنيتها صحيح بلا ريب
أي وكل روى عن عبد الله بن زيد كما علمت قال أي ابن تيمية وأحمد وغيره أخذوا بأذان بلال وإقامته أي فلم يستحبوا الترجيع في الأذان واستحبوا إفراد الإقامة إلا لفظها
والشافعي رضي الله عنه تعالى عنه أخذ بأذان أبي محذرة وإقامة بلال فاستحب الترجيع في الأذن والإفراد إلا لفظها وأبو حنيفة رحمه الله وأخذ بأذان بلال وإقامة أبى محذورة أي فلم يستحب الترجيع واستحب تثنية ألفاظ الإقامة
قال في الهدى وأخذ مالك بما عليه عمل أهل المدينة من الإقتصار في التكبير على مرتين في الأذان وعلى كلمة الإقامة مرة واحدة أي ولعل هذا بحسب ما كان في المدينة والإ ففي أبى داود ولم يزل ولد أبي محذورة وهم الذين يلون الأذان بمكة يفردون الإقامة أي معظم ألفاظها ويحكونه عن جدهم غير أن التثنية عنه أكثر فيحتمل أن إتيان أبى محذورة بالإقامة فرادى واستمراره وولده بعده على ذلك كان بأمر منه صلى الله عليه وسلم له بذلك بعد أمره أولا له بتثنيتها أي فيكون آخر أمره الإفراد وقد قيل لأحمد رضي الله تعالى عنه وقد كان يأخذ بأذان بلال أي كما تقدم أليس أذان أبى محدورة بعد أذان بلال أي لأن النبي صلى الله عليه وسلم علمه له عند منصرفه من حنين على ما سيأتي وهو الذي رواه إمامنا الشافعي رضي الله عنه عن أبي محذورة أنه قال خرجت في نفر وكنا ببعض طريق حنين فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين فلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الطريق فأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/306)
بالصلاة فسمعنا صوت المؤذن ونحن متنكبون أي عن الطريق فصرنا نحكيه ونستهزئ به فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إلينا إلى أن وقفنا بين يديه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع فأشار القوم كلهم إلى فحبسني أي أبقاني عنده وأرسلهم وقال قم فأذن فقمت ولا شيء أكره إلى من النبي صلى الله عليه وسلم ولا مما يأمرني به فقمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقى على التأذين هو بنفسه صلى الله عليه وسلم الحديث ثم دعاني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شيء من فضة ثم وضع يده على ناصيتي ومر بها على وجهي ثم بين يدي ثم على كبدي حتى بلغت يده سرتي ثم قال بارك الله فيك وبارك عليك فقلت يارسول الله مرني بالتأذين بمكة فقال صلى الله عليه وسلم قد أمرتك به وذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهته وعاد ذلك كله محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقدمت على عتاب بن أسيد رضي الله تعالى عنه عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكة فأذنت بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقيل علمه صلى الله عليه وسلم ذلك يوم فتح مكة لما أذن بلال رضي الله تعالى عنه للظهر على ظهر الكعبة وصار فتية من قريش يستهزئون ببلال ويحكون صوته وكان من جملتهم أبو محذورة فأعجبه صلى الله عليه وسلم صوته فدعاه وعلمه الأذان وأمره أن يؤذن لأهل مكة فليتأمل الجمع وإنما يؤخذ بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أي بالمتأخر عنه لأن المتأخر ينسخ المتقدم فقال أليس لما عاد إلى المدينة أقر بلالا على أذانه
قال أبو داود وتثنية الإذان وإفراد الإقامة مذهب أكثر علماء الأمصار وجرى به العمل في الحرمين والحجاز وبلاد الشام واليمن وديار مصر ونواحي المغرب أي إلا مصر في المساجد التي تغلب صلاة الأروام بها فإن الإقامة تثنى كالأذان فيها
وقد ذكر أن أبا يوسف رحمه الله ناظر إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه في المدينة بين يدي مالك رضي الله تعالى عنه والرشيد فأمر الشافعي بأحضار أولاد بلال وأولاد سائر مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهم كيف تلقيتم االإذان والإقامة عن
____________________
(2/307)
آبائكم فقالوا الأذان مثنى مثنى والإقامة فرادى هكذا تلقيناه من آبائنا وآباؤنا عن أسلافنا إلى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء أنه صلى الله عليه وسلم سمع بلالا يقيم الصلاة فلما قال قد قامت الصلاة قال صلى الله عليه وسلم أقامها الله وأدامها وفي البخاري من قال حين يسمع النداء أي الأذان اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته وجبت له شفاعتي يوم القيامة
قال بعضهم كان المؤذنون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنين بلالا وابن ام مكتوم فلما كان زمن عثمان رضي الله تعالى عنه جعلهم أربعا وزاد الناس بعده
ولما مات صلى الله عليه وسلم ترك بلال الإذان ولحق بالشام فمكث زمانا فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له يا بلال جفوتنا وخرجت من جوارنا فاقصد إلى زيارتنا وفي لفظ أنه قال له ما هذه الجفوة يا بلال ما آن لك أن تزورنا فانتبه بلال رضي الله تعالى عنه فقصد المدينة فلما انتهى إلى المدينة تلقاه الناس أي وأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وجعل يبكي عنده ويتمرغ عليه وأقبل على الحسن والحسين يقبلهما ويضمهما وألحوا عليه أن يؤذن فلما صعد ليؤذن اجتمع أهل المدينة رجالهم ونساؤهم وخرجت العذارى من خدورهن ليستمتعوا أذانه رضي الله تعالى عنه فلما قال الله أكبر ارتجت المدينة وصاحوا وبكوا فلما قال أشهد أن لا إله إلا الله ضجوا جميعا فلما قال أشهد أن محمدا رسول الله لم يبق ذو روح إلا بكى وصاح وكان ذلك اليوم كيوم موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف إلى الشام وكان يرجع إلى المدينة في كل سنة مرة فينادي بالأذان إلى أن مات رضي الله تعالى عنه
أقول في كلام بعضهم كان سعد القرظ رضي الله تعالى عنه مؤذنه صلى الله عليه وسلم بقباء فلما لحق بلال بالشام أيام عمر رضي الله تعالى عنه أمر سعد القرظ أن يؤذن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أي فإن بلالا لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال ياخليفة رسول الله إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أفضل أعمال المؤمن الجهاد في سبيل الله وقد أردت أن أرابط في سبيل الله حتى أموت فقال له أبو بكر رضي الله تعالى عنه أنشدك الله يا بلال وحرمتي وحقي عليك أن لا تفارقني فأقام بلال حتى توفي أبو بكر رضي الله تعالى عنه
____________________
(2/308)
وهو يؤذن ثم جاء إلى عمر فقال له كما قال لأبي بكر ورد عليه رضي الله عنه كما رد عليه أبو بكر فأبى وخرج إلى الشام مجاهدا
وفي أنس الجليل لما فتح أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه بيت المقدس حضرت الصلاة فقال يا بلال أذن لنا يرحمك الله قال بلال يا أمير المؤمنين والله ما أردت أن أؤذن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد ولكن سأطيعك إذ أمرتني في هذه الصلاة وحدها فلما أذن بلال وسمعت الصحابة رضي الله تعالى عنهم صوته ذكروا النبي صلى الله عليه وسلم فبكوا بكاء شديدا ولم يكن من الصحابة يومئذ أطول بكاء من أبى عبيدة ومعاذ بن جبل حتى قال لهما عمر رضي الله تعالى عنه حسبكما رحمكما الله تعالى فلم يؤذن بلال بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة لما أمره عمر بالأذان هذا ما في أنس الجليل أي فالمراد بالمرة هذه المرة التي كانت ببيت المقدس
وفيه أن هذا يخالف ما تقدم مما ظاهره أنه استمر يؤذن مدة خلافة أبى بكر رضي الله تعالى عنه وما تقدم من إلحاح الحسن والحسين عليه في أن يؤذن عند مجيئه للمدينة
إلا أن يقال المراد لم يؤذن خارج المدينة فلا يخالف ما سبق من أذانه بعد إلحاح الحسن والحسين ولعل ما سبق كان بعد فتح بيت المقدس بل وبعد موت الخلفاء الأربعة
ثم رأيت الزين العراقي قال لم يؤذن بلال بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم لأحد من الخلفاء إلا أن عمر لما قدم الشام حين فتحها أذن بلال هذا كلامه فليتأمل مع ما سبق
وفي الكتاب المذكور روي عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه أن رجلا قال يا رسول الله أي الخلق أول دخولا الجنة قال الأنبياء قال ثم من قال الشهداء قال ثم من قال مؤذنو بيت المقدس قال ثم من قال مؤذنو بيت الحرام قال ثم من قال مؤذنو مسجدي قال ثم من قال سائر المؤذنين
ثم رأيت في نسخة من شرح المنهاج للدميري عن جابر تقديم مؤذني المسجد الحرام على مؤذني بيت المقدس ورأيت في بعض الروايات ما يوافقه وهي أول من يدخل الجنة بعدى أبو بكر ثم الفقراء ثم مؤذنو المسجد الحرام ثم مؤذنو بيت المقدس ثم مؤذنو مسجدي ثم سائرهم على قدر أعمالهم
وفي البدور السافرة عن جابر رضي الله تعالى عنه أن رجلا قال يا رسول الله أي
____________________
(2/309)
الخلق أول دخولا الجنة يوم القيامة قال الأنبياء قال ثم من قال الشهداء قال ثم من قال مؤذنو الكعبة قال ثم من قال مؤذنو بيت المقدس قال ثم من قال مؤذنو مسجدي هذا قال ثم من قال سائر المؤذنين على قدر أعمالهم
وفيها عن جابر أيضا أول من يكسى من حلل الجنة إبراهيم ثم محمد صلى الله عليه وسلم ثم النبيون والرسل ثم يكسى المؤذنون وجاء إن الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا يا رسول الله لقد تركتنا نتنافس في الأذان بعدك فقال أما إنه يكون قوم بعدكم كفلتهم مؤذنوهم قيل وهذه الزيادة منكرة وقال الدار قطنى ليست محفوظة
وجاء إذا أخذ المؤذن في أذانه وضع الرب جل وعز يده فوق رأسه ولا يزال كذلك حتى يفرغ من أذانه وأنه ليغفر له مد صوته فإذا فرغ قال الرب صدقت عبدي وشهدت شهادة الحق فأبشر والله أعلم
قال وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال كان رجل من اليهود أي من التجار وعن السدى من النصارى بالمدينة سمع المؤذن يقول أشهد أن محمدا رسول الله قال أخزى الله الكاذب وفي رواية أحرق الله الكاذب فدخلت خادمه بنار وهو نائم وأهله نيام فسقطت شرارة فأحرقت البيت واحترق هو وأهله انتهى
أي وفي بعض الأسفار حضر وقت الصلاة أي صلاة الصبح فطلبوا بلالا يؤذن فلم يوجد أي لتأخره في السير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن زياد بن الحارث الصدائي أي بأمره صلى الله عليه وسلم فقال له أذن يا أخا صداء وصداء حي من اليمن
وعنه رضي الله تعالى عنه سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمرني على قومي فقال لا خير في الإمرة لرجل مؤمن فقلت حسبي ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم مسيرا فسرت معه فانقطع عنه أصحابه وأضاء الفجر فقال لي أذن يا أخا صداء فأذنت ثم لما حضرت الصلاة و فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا إنما يقيم من أذن واختلف هل أذن صلى الله عليه وسلم بنفسه فقيل نعم أذن مرة واستدل على ذلك بأنه جاء في بعض الأحاديث أي وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم أذن في السفر وصلى وهم على رواحلهم فتقدم على راحلته صلى الله عليه وسلم فصلى بهم يومي إيماء يجعل السجود أخفض من الركوع وقيل ما أذن وإنما أمر بلالا بالأذان كما في بعض طرق ذلك الحديث
____________________
(2/310)
ففي الهدى وصلى بهم الفرض على الرواحل لأجل المطر والطين وقد روي أحمد والترمذي أنه صلى الله عليه وسلم انتهى إلى مضيق هو وأصحابه والسماء من فوقهم والمسيل من أسفل منهم فحضرت الصلاة فأمر المؤذن فأذن وأقام ثم تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم الحديث والمفصل يقضي على المجمل
وفي رواية أذن اختصارا أي أمر بالأذان أي وهذا المجمل الذي تشير إليه هو فأذن صلى الله عليه وسلم على راحلته وأقام أي ويروي أن بلالا كان يبدل الشين في أشهد سينا فقال صلى الله عليه وسلم سين بلال عند الله شين قال ابن كثير لا أصل لرواية سين بلال شين في الجنة ولا يلزم من كون هذه الرواية لا أصل لها أن تكون تلك الرواية كذلك
وكان بلال وابن أم مكتوم يتناوبان في أذاني الصبح فكان أحدهما يؤذن بعد مضى نصف الليل الأول والليل باق والثاني يؤذن بعد طلوع الفجر وروى الشيخان إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم أي وفي مسلم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنعن أحدا منكم أذان بلال أو قال نداء بلال من سحوره فإنه يؤذن وقال ينادي ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم إنما يؤذن بليل بعد نصفه الأول فيرجع القائم المتهجد إلى راحلته لينام غفوة ليصبح نشيطا ويستيقظ النائم ليتأهب للصبح
قال في الهدى وانقلب على بعض الرواة فقال إن ابن أم مكتوم ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي بلال أي وقد علمت أنه لا قلب وأنهما كانا يناديان فكان بلال تارة يؤذن بليل وابن ام مكتوم عند الفجر الثاني وتارة يكون ابن مكتوم بالعكس فوقع كل من الأحاديث باعتبار ما هو موجود عند النطق ولم يكن بين أذانهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا أي أن ينزل المؤذن الأول من أذانه ويرقى المؤذن الثاني كما ذكر فمن كان يؤذن أولا يتربص بعد أذانه لنحو الدعاء ثم يرقب الفجر فإذا قارب طلوعه نزل فأخبر صاحبه فيرقى ويؤذن مع الفجر أو عقبه من غير فاصل وهذا هو المراد مما قيل إن ابن أم مكتوم كان لا يؤذن حتى يقال له أصبحت أصبحت
وعن ابن عمر كان ابن مكتوم يتوخى الفجر فلا يخطئه وفي أبى داود عن ابن عمر أن بلالا أذن قبل طلوع الفجر فأمره صلى الله عليه وسلم أن يرجع فينادي ألا إن
____________________
(2/311)
العبد نام فرجع فنادى ألا إن العبد نام إلا إن العبد نام أي غفل عن الوقت أو رجع لينام لبقاء الليل ولعل هذا كان قبل أن يتخذ ابن أم مكتوم مؤذنا ثانيا أو كان أذان بلال في هذه المرة بعد أذان ابن أم مكتوم على ما تقدم فلا مخالفة
والثابت في الجمعة أذان واحد كان يفعل بين يديه صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر وجلس عليه كذا قال فقهاؤنا مستدلين على ذلك بحديث البخاري عن السائب بن يزيد قال كان التاذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام على المنبر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وليس فيه أن ذلك الأذان كان بين يديه ولما كثر المسلمون أمر عثمان رضي الله تعالى عنه أي وقيل عمر وقيل معاوية بأن يؤذن قبله على المنارة
وعبارة بعضهم وفي السنة الرابعة والعشرين زاد عثمان النداء على الزوراء يوم الجمعة ليسمع الناس فيأتوا إلى المسجد وأول من أحدثه بمكة الحجاج والتذكير قبل الأذان الأول الذي هو التسبيح أحدث بعد السبعمائة في زمن الناصر محمد بن قلاوون
وأول ما أحدثت الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم أي على الكيفية المعهودة الآن بعد تمام الأذان على المنارة أي في غير المغرب في زمن السلطان المنصور حاجي بن الأشرف شعبان بن حسن بن محمد بن قلاوون بأمر المحتسب نجم الدين الطنبدي في أواخر القرن الثامن واستمر ذلك إلى الآن لكن في غير أذان الصبح الثاني وغير أذان الجمعة أول الوقت أما أذان الصبح الثاني وأذان الجمعة المذكور فتقدم الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم على الأذان فيهما وكان أحدث ذلك في زمان صلاح الدين بن أيوب ولعل الحكمة في ذلك أما في الأول فلاستيقاظ النائم وأما في الثاني فلأجل حصول التكبير المطلوب في الجمعة
ولا يخفى أن من السنة مطلق الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم بعد فراغ الأذان ففي مسلم إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي وقيس بذلك الإقامة فالأذان والإقامة من المواطن التي يستحب فيها الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى { ورفعنا لك ذكرك } فقد قيل في معناه لا أذكر إلا وتذكر معي لكن بعد فراغهما لا عند الابتداء بهما كما يقع لبعض الأروام أن يقول المقيم للصلاة عند ابتداء الإقامة اللهم صل على سيدنا محمد الله أكبر الله أكبر فإن ذلك بدعة
____________________
(2/312)
ومن البدع التطريب في الأذان والتلحين فيه وفي كلام إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه ويكون الأذان مرسلا بغير تمطيط ولا تغن قيل التمطيط التفريط في المد والتغني أن يرفع صوته حتى يجاوز المقدار
ومن البدع رفع المؤذنين أصواتها بتبليغ التكبير لمن بعد عن الإمام من المقتدين قال بعضهم ولا بأس به لما فيه من النفع أي حيث لم يبلغهم صوت الإمام بخلاف ما إذا بلغهم
ففي كلام بعضهم التبليغ بدعة منكرة باتفاق الأئمة الأربعة حيث بلغ المأمومين صوت الإمام ومعنى منكرة أنها مكروهة
وأول ما أحدث التسبيح بالأسحار في زمن موسى عليه الصلاة والسلام حين كان بالتيه واستمر إلى أن بني داود عليه الصلاة والسلام بيت المقدس فرتب فيه جماعة يقومون به على الآلات إلى ثلت الليل الأخير ثم بعد ثلث الليل الأخير يقومون به على الآلات عند الفجر
وأول حدوثه في ملتنا كان بمصر أمر به أميرها من قبل معاوية مسلمة بن مخلد الصحابي رضي الله تعالى عنهما فإنه لما اعتكف بجامع عمرو سمع أصوات النواقيس عالية فشكا ذلك إلى شرحبيل بن عامر عريف المؤذنين بجامع عمرو ففعل ذلك من نصف الليل إلى قريب الفجر ومسلمة هذا تولى مصر من معاوية بعد عتبة بن أبي سفيان أخي معاوية رضي الله تعالى عنهما وعتبة تولاها حين مات أميرها عمرو بن العاص وهذا مما يدل على أن عمرو بن العاص مدفون بمصر وكان عتبة خطيبا فصيحا
قال الأصمعي الخطباء من بني أمية عتبة بن أبي سفيان وعبد الملك بن مروان خطب عتبة يوما أهل مصر فقال يا أهل مصر خف على ألسنتكم مدح الحق ولا تأتونه وذم الباطل وأنتم تفعلونه كالحمار يحمل أسفارا يثقله حملها ولا ينفعه علمها وإني لا أداوي داءكم إلا بالسيف ولا أبلغ السيف ما كفاني السوط ولا أبلغ السوط ما صلحتم على الدرة فالزموا ما ألزمكم الله لنا تستوجبوا ما فرض الله لكم علينا وهذا يوم ليس فيه عتاب ولا بعده عتاب
ومما يؤثر عنه ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم وقال لبنيه يوما تلقوا النعم بحسن مجاورتها والتمسوا المزيد منها بالشكر عليها
____________________
(2/313)
ومسلمة أول من جعل بنيان المنابر التي هي محل التأذين في المساجد فلما ولى أحمد بن طولون رتب جماعة يكبرون ويسبحون ويحمدون فلما ولى صلاح الدين يوسف ابن أيوب وحمل الناس على اعتقاد مذهب الأشعري والخروج عما كان يعتقد الفواطم أمر المؤذنين أن يعلنوا وقت التسبيح بذكر العقيدة المرشدة وقد وقفت عليها فإذا هي ثلاث ورقات ولم أقف على اسم مؤلفها فواظبوا على ذكرها في كل ليلة
قيل في سبب نزول قوله تعالى { قل كل من عند الله } أن اليهود قالوا في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ دخل المدينة نقصت ثمارها وغلت أسعارها فرد الله تعالى عليهم بقوله { قل كل من عند الله } أي يبسط الأرزاق ويقبضها وعند ظهور الإسلام وقوته في المدينة قامت نفوس أحبار اليهود ونصبوا العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل قوله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم { قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر } وقال في موضع آخر { إن تمسسكم حسنة تسؤهم }
وعن صفية أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها بنت حيي قالت كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمى أبى ياسر وكانا من أكبر اليهود وأعظمهم فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة غدوا إليه ثم جاءا من العشي فسمعت عمي يقول لأبي أهو هو قال نعم والله قال أتعرفه وتثبته قال نعم قال فما في نفسك منه قال عداوته والله ما بقيت قال وفي رواية أنها قالت إن عمى أبا ياسر حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ذهب إليه وسمع منه صلى الله عليه وسلم وحادثه ثم رجع إلى قومه فقال يا قوم أطيعوني فإن الله قد جاءكم بالذي كنتم تنتظرونه فاتبعوه ولا تخالفوه ثم انطلق إبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع منه ثم رجع إلى قومه فقال لهم أتيت من عند رجل والله لا أزال له عدوا فقال له أخوه أبو ياسر يا ابن أم أطعني في هذا الأمر واعصني فيما شئت بعد لا تهلك فقال والله لا نطيعك 1 هـأي ثم وافق أخاه حييا فكانا أشد اليهود عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم جاهدين في رد الناس عن الإسلام بما استطاعا فأنزل الله تعالى فيهما وفيمن كان موافقا لهما في ذلك { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق }
وحيي بن أخطب هذا قيل هو الذي قال لما نزل تعالى { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا }
____________________
(2/314)
يستقرضنا ربنا وإنما يستقرض الفقير الغني فأنزل الله تعالى { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء }
أي وقيل في سبب نزولها إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه دخل بيت المدارس فقال لفنحاص اتق الله وأسلم فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله فقال والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر وإنه إلينا لفقير فغضب أبو بكر وضرب وجه فنحاص ضربا شديدا وقال والله لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك فشكاه فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له أبو بكر ما كان منه فأنكر قوله ذلك فنزلت الآية
وقيل في سبب نزولها أيضا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل أبا بكر رضي الله تعالى عنه إلى فنحاص بن عازوراء بكتاب وكان انفرد بالعلم والسيادة على يهود بني قينقاع بعد إسلام عبد الله بن سلام يأمرهم في ذلك الكتاب بالإسلام وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضا حسنا فلما قرأ فنحاص الكتاب قال أقد احتاج ربكم سنمده وفي رواية قال يا أبا بكر تزعم أن ربنا يستقرضنا أموالنا وما يستقرض إلا الفقير من الغني فإن كان حقا ما تقول فإن الله جل وعلا أذن لفقير ونحن أغنياء فضرب أبو بكر وجه فنحاص ضربا شديدا وقال لقد هممت أن أضربه بالسيف وما منعني أن أضربه بالسيف إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دفع إلى الكتاب قال لي لا تفتت على بشيء حتى ترجع إلى فجاء فنحاص إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشكا أبا بكر رضي الله تعالى عنه فقال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر ما حملك على ما صنعت قال يا رسول الله إنه قال قولا عظيما زعم أن الله عز وجل فقير وأنهم أغنياء فغضبت لله تعالى وقال فنحاص والله ما قلت هذا فنزلت الآية تصديقا لأبي بكر رضي الله تعالى عنه
وقد قال بعض اليهود لبعض العلماء إنما قلنا إن الله فقير ونحن أغنياء لأنه استقرض أموالنا فقال له إن كان استقرضها لنفسه فهو فقير وإن كان استقرضها لفقرائكم ثم يكافئ عليها فهو الغني الحميد
ومن شدة عداوتهم أي اليهود أن لبيد بن الأعصم اليهودي سحر النبي صلى الله عليه وسلم في مشط أي له صلى الله عليه وسلم وقيل في أسنان من مشطه صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/315)
ومشاطة وهي ما يخرج من الشعر إذا مشط أي من شعر رأسه صلى الله عليه وسلم أعطاها لهم غلام يهودي كان يخدمه صلى الله عليه وسلم وجعل مثالا من شمع وقيل من عجين كمثال رسول الله صلى الله عليه وسلم وغرز فيه إبرا وجعل معه وترا عقد فيه إحدى عشرة عقدة
وفي لفظ أن الإبر كانت في العقد ودفن ذلك تحت راعونة في بئرذي أروان وقد مسخ الله تعالى ماءها حتى صار كنقاعة الحناء فكان يخيل إليه صلى الله عليه وسلم أنه يفعل الفعل وهو لا يفعله أي ومكث في ذلك سنة وقيل ستة أشهر وقيل أربعين يوما
قال بعضهم ويمكن أن تكون السنة أو الستة أشهر من ابتداء تغير مزاجه الشريف وأن مدة اشتداده كانت في الأربعين وقيل اشتد عليه ثلاثة أيام وقد يقال هي أشد الأربعين فلا منافاة وعند ذلك نزل جبريل عليه الصلاة والسلام وقال له إن رجلا من اليهود سحرك وعقد لك عقدا ودفنها بمحل كذا فأرسل صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله تعالى عنه فاستخرجها فجاء بها فجعل كلما حل عقدة وجد صلى الله عليه وسلم بذلك خفة حتى قام كأنما نشط من عقال وفي رواية أن اليهودي دفن ذلك بقبر فأنزل الله تعالى سورة الفلق وسورة الناس وهما إحدى عشرة آية سورة الفلق خمس آيات وسورة الناس ست آيات كلما قرأ آية انحلت عقدة حتى انحلت العقد كلها وفي لفظ فإذا وتر فيه إحدى عشرة عقدة مغروزة بالإبر فلم يقدروا على حل تلك العقد فنزلت المعوذتان فكلما قرأ جبريل آية انحلت عقدة ووجد صلى الله عليه وسلم بعض الخفة حتى قام عند انحلال العقدة الأخيرة كأنما نشط من عقال وجعل جبريل يقول بسم الله أرقيك والله يشفيك من كل داء يؤذيك أي ولعله كان يقول ذلك عند حل كل عقدة بعد قراءة الآية أي وكان ذلك بين الحديبية وخيبر
وذكر بعضهم أنه بعد خيبر جاءت رؤساء يهود الذين بقوا في المدينة ممن يظهر الإسلام إلى لبيد بن الأعصم وكان أعلمهم بالسحر فقالوا له يا أبا الأعصم قد سحرنا محمدا سحره منا الرجال فلم يصنع شيئا أي ولم يؤثر سحرهم وأنت ترى أمره فينا خلافة في ديننا ومن قتل وأجلى ونجعل لك على سحره ثلاثة دنانير ففعل ذلك ثم إنه صلى الله عليه وسلم قال جاءني رجلان أي وهما جبريل وميكائيل كما في بعض طرق الحديث
____________________
(2/316)
فقعد أحدهما عند رأسي والآخر تحت رجلي فقال أحدهما ما وجع الرجل فقال الآخر مطبوب أي مسحور فقال من طبه قال لبيد بن الأعصم قال فيم قال في مشط ومشاطة وفي لفظ ومشاقة أي وهي المشاطة وقيل هي مشاقة الكتان وجف بالجيم والفاء وقيل بالباء الموحدة طلعة ذكر أي غشاء طلع الذكر الذي يقال له كوز الطلع قال فأين هو قال في بئر ذي ذروان على وزن مروان وفي لفظ بئرذي أروان وفي لفظ بئر ذروان وعليه اقتصر في الإمتاع تحت صخرة في الماء قال فما دواء ذلك قال تنزح البئر ثم تقلب الصخرة فتوجد الكدية فيها تمثال فيه إحدى عشرة عقدة فتحرق فإنه يبرأ بإذن الله تعالى ثم أحضر صلى الله عليه وسلم لبيدا فاعترف فعفا عنه لما اعتذر له بأن الحامل له على ذلك حب الدنانير وقيل له يا رسول الله لو قتلته فقال صلى الله عليه وسلم قد عافاني الله ماوراءه من عذاب الله تعالى أشد
ويحتاج إلى الجمع بين كون جبريل قال له سحرك إلى آخره وكون جاءه رجلان قعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه فقال أحدهما للآخر ما وجع الرجل إلى آخره قيل وهذا أي عدم قتل الساحر ربما يعارض القول بأن الساحر يتحتم قتله فيه أنه عندنا لا يتحتم قتله ولا يقتل إلا إذا قتل بسحره واعترف بأن سحره يقتل غالبا
ولبيد هذا قيل إنه أول من قال ينفي صفات الباري وقال بها الجهم بن صفوان وأظهرها فقيل لاتباعه في ذلك الجهمية
فعند ذلك بعث صلى الله عليه وسلم عليا وعمار بن ياسر إلى تلك البئر فاستخرجا ذلك وقيل الذي استخرج السحر بأمر رسول الله صلى الله عيه وسلم قيس بن محصن
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه صلى الله عيله وسلم توجه إلى البئر مع جماعة من أصحابه فإذا ماؤها كأنه خضب بالحناء فاستخرجا أي النبي صلى الله عليه وسلم وجماعته منها ذلك
ويحتاج إلى الجمع بين كونه صلى الله عليه وسلم أرسل لاستخراج السحر عليا كرم الله وجهه وكونه بعث لاستخراجه عليا وعمار بن ياسر وكونه أمر قيس بن محصن باستخراجه وكونه صلى الله عليه وسلم ذهب هو وجماعته لاستخراجه فإذا وتر به فيه إحدى عشرة عقدة أي وإذا فيها إبر مغروزة ونزلت المعوذتان فجعل رسول الله
____________________
(2/317)
صلى الله عليه وسلم كلما قرأ آية انحلت عقدة حتى انحلت العقد فذهب عنه صلى الله عليه وسلم وسلم ما كان يجد
أي ولا ينافي ما تقدم أن القارىء لذلك جبريل عليه الصلاة والسلام لجواز أن يكون كلاهما صار يقرأ الآية أو أنه صلى الله عليه وسلم صار يقرأ بعد قراءة جبريل
وفي الإمتاع عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت له أفلا استخرجته قال لا أما أنا فقد عافاني الله وكرهت أن أثير على الناس شرا ومراد عائشة بقولها أفلا استخرجته السحر أي هلا استخرجت السحر من الجف والمشاطة حتى تنظر إليه فقال أكره أن أثير على الناس شرا
قال ابن بطال أي كره أن يخرجه فيتعلم منه بعض الناس فذلك هو الشر الذي كرهه صلى الله عليه وسلم وذكر السهيلي أنه يجوز أن يكون الشر غير هذا وهو أنه لو أظهر للناس لربما قتله طائفة من المسلمين ويغضب آخرون من عشيرته فيثور شر
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت له صلى الله عليه وسلم هلا تنشرت أي استعملت النشرة قال بعضهم وفيه دليل على عدم كراهة استعمال النشرة حيث لم ينكر عليها قولها وكرهها جمع واستندوا الحديث في أبي داود مرفوعا النشرة من عمل الشيطان وحمل ذلك على النشرة التي تصحبها العزائم المشتملة على الأسماء التي لا تفهم فأمر بها فطمت أي تلك البئر وحفروا بئرا أخرى فأعانهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرها حيث طموا الأخرى التي سحر فيها هذا كلامه فليتأمل مع ما قبله
وقيل إنما سحره بنات أعصم أخوات لبيد ودخلت إحداهن على عائشة فسمعت عائشة تذكر ما أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم من بصره ثم خرجت إلى أخواتها فأخبرتهن بذلك فقالت إحداهن إن يكن نبيا فسيخبر وإن يكن غير ذلك فسوف يذهله هذا السحر حتى يذهب عقله فدله الله تعالى عليه
وقد يجمع بين كون الساحر له صلى الله عليه وسلم لبيدا وكون الساحر له أخوات لبيد بأن الساحر له أخوات لبيد ونسب السحر إلى لبيد لأنه جاء أنه الذي ذهب به فأدخله تحت راعونة البئر أي أو في القبر كما تقدم ولا منافاة لجواز أن يكون وضعه في القبر مدة ثم أخرجه منه ووضعه تحت تلك الراعونة أي وهي حجر يوضع على رأس البئر يقول
____________________
(2/318)
عليه المستقى وقد يكون في أسفل البئر يجلس عليه الذي ينظف البئر أي والثاني هو المراد بدليل ما سبق
وفي النهر لأبي حيان ونص القرآن والحديث أن السحر تخييل أي لا يقلب الأعيان ولا شك في وجوده في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وأما في زماننا الآن فكل ما وقفنا عليه من كتبه فهو كذب وافتراء لا يترتب عليه شيء فلا يصح منه شيء ألبتة
وطعنت المعتزلة وطوائف من أهل البدع في كونه صلى الله عليه وسلم سحر وقالوا لا يجوز على الأنبياء أن يسحروا ولو جاز أن يسحروا لجاز أن يجنوا وقد عصموا من الناس
ورد بأن الحديث الدال على ذلك صحيح والعصمة إنما وجبت لهم في عقولهم وأديانهم وأما أبدانهم فيبتلون فيها والسحر إنما أثر في بعض جوارجه صلى الله عليه وسلم من بصره لكن تقدم أنه صلى الله عليه وسلم صار يخيل له أنه يفعل الشيء ولا يفعله وهذا متعلق بالعقل
ثم رأيت أبا بكر بن العربي قال لم يقل كل الرواة إنه اختلط عليه صلى الله عليه وسلم أمر وإنما هذا اللفظ زيد في الحديث لا أصل له
قال ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين تلعنا واستجرارا إلى القول وإبطال معجزات الأنبياء عليه الصلاة والسلام والقدح فيها وأنه لا فرق بين معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبين فعل السحرة وأن جميعه من نوع واحد هذا كلامه
وممن كان حريصا على رد الناس عن الإسلام أيضا شاس بن قيس كان شديد الطعن على المسلمين شديد الحسد لهم مر يوما على الأنصار الأوس والخزرج وهم مجتمعون يتحدثون فغاظه ما رأى من ألفتهم بعد ما كان بينهم من العداوة فقال قد اجتمع بنو قيلة والله مالنا معهم إذا اجتمعوا من قرار فأمر فتى شابا من يهود فقال اعمد إليهم فاجلس معهم ثم اذكر يوم بعاث أي يوم الحرب الذي كان بينهم وما كان فيه وأنشدهم ما كانوا يتقاولون به من الأشعار ففعل فتكلم القوم عند ذلك أي قال أحد الحيين قد قال شاعرنا كذا وقال الآخر قد قال شاعرنا كذا وتنازعوا وتواعدوا على المقاتلة أي قالوا تعالوا نرد الحرب جذعا كما كانت فنادى هؤلاء
____________________
(2/319)
ياللأوس ونادى هؤلاء ياللخزرج ثم خرجوا إليهم وقد أخذوا السلاح واصطفوا للقتال فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين حتى جاءهم فقال يا معشر المسلمين الله الله أي اتقوا الله أبدعوى الجاهليه أي وهي يا للخزرج ياللأوس وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله إلى الإسلام وألفكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر وألف به بينكم فعرف القوم أنها نزغة من الشيطا وكيد من عدوهم فبكوا وعانق الرجال من الأوس الرجال من الخزرج ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى في شاس بن قيس { يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا } الآية
وقد جاء في ذم هذه الكلمة التي هي دعوى الجاهلية وهي يالفلان قوله صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم الرجل يتعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا أي قولوا له اغضص على ذكر أبيك ولا تكنوا عنه بالهن فلا تقولوا على هن أبيك بل قولوا على ذكر أبيك تنكيلا له وزجرا عما أتى به أي وقد كان أنزل الله تعالى فيهم { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب } الآية وقد قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بين الصفين رافعا بها صوته فألقوا السلاح وفعلوا ما تقدم
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن يهود كانوا يستفتحون أي يستنصرون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه أي يقولون سيبعث نبي صفته كذا وكذا نقتلكم معه قتل عاد وإرم كما تقدم عند مبايعة العقبة فقال لهم معاذ ابن جبل وبشر بن البراء يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك وكفر وتخبرونا أنه مبعوث وتصفونه لنا بصفته فقال سلام أي بالتشديد ابن مشكم من عظماء يهود بني النضير ما جاءنا بشيء نعرفه ما هو الذي كنا نذكره لكم فأنزل الله تعالى في ذلك قوله تعالى { ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين }
وقيل في سبب نزول قوله تعالى { ما أنزل الله على بشر من شيء } أنه صلى الله عليه وسلم قال لمالك بن الصيف وكان رئيسا على اليهود أنشدك بالذي أنزل التواراة على موسى
____________________
(2/320)
هل تجد فيها أن الله يبعض الحبر السمين فأنت الحبر السمين قد سمنت من مالك الذي تطعمك اليهود فضحك القوم فغضب والتفت إلى عمر رضي الله تعالى عنه فقال ما أنزل الله على بشر من شيء فقالت له اليهود ما هذا الذي بلغنا عنك فقال إنه أغضبني فنزعوه من الرياسة وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف أي لأن في قوله المذكور طعنا في التوراة
وقيل إن يهود المدينة من بني قريظة وبني النضير وغيرهم كانوا إذا قاتلوا من بينهم من مشركي العرب من أسد وغطفان وجهينة وعذرة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم يقولون اللهم إنا نستنصرك بحق النبي الأمي الذي وعدت أنك وعدت باعثه في آخره الزمان إلا نصرتنا عليهم وفي لفظ قالوا اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته وصفته في التوراة فينصرون ولفظ يقولون اللهم ابعث النبي الذي نجده في التوراة يعذبهم ويقتلهم وفي لفظ أن يهود خيبر كانت تقاتل غطفان فكلما التقوا هزمت يهود فدعت يوما اللهم إنا نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فيهزمون غطفان وصار اليهود يسألونه صلى الله عليه وسلم عنأشياء ليلبسوا الحق بالباطل أي ومن جملة ما سألوه صلى الله عليه وسلم عن الروح فعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث المدينة يتوكأ على عسيب أي جريدة من جريد النخل إذ مر بنفر من اليهود فقال بعضهم لبعض لا تسألوه لئلا يسمعكم ما تكرهون وفي رواية لئلا يستقبلكم بشيء تكرهونه أي يجيبكم بما هو دليل عندكم على أنه النبي الأمي وأنتم تنكرون نبوته فقاموا إليه فقالوا يا محمد وفي رواية يا أبا القاسم ما الروح وفي رواية أخبرنا عن الروح فسكت قال ابن مسعود فظننت أنه صلى الله عليه وسلم يوحى إليه فقال { ويسألونك عن الروح } أي التي يكون بها الحيوان حيا { قل الروح من أمر ربي } فقالوا هكذا نجد في كتابنا أي التوراة وقد تقدم الكلام على ذلك عند الكلام على فترة الوحي
قال صاحب الإفصاح إنه إنما سأل اليهود عن الروح تعجيزا وتغليطا لأن الروح تطلق بالإشتراك على الروح للإنسان وعلى القرآن وعلى عيسى وعلى جبريل وعلى ملك آخر وعلى صنف من الملائكة فقصد اليهود أنه بأي شيء أجابهم به قالوا
____________________
(2/321)
ليس هو فجاءهم الجواب مجملا فكان هذا الجواب لرد كيدهم لأن كل واحد مما ذكر أمر من مأمورات الحق تعالى ولما أنزل الله تعالى في حق اليهود { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } قالوا أوتينا علما كثيرا أوتينا التوراة ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا فأنزل الله تعالى { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا } وفي الكشاف أنهم قالوا نحن مخصوصون بهذا الخطاب أم أنت معنا فيه فقال صلى الله عليه وسلم نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلا فقالوا ما أعجب شأنك ساعة تقول { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا } وساعة تقول هذا فنزلت { ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله } هذا كلامه وسألوه صلى الله عليه وسلم متى الساعة إن كنت نبيا فأنزل الله تعالى { يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي } الآية
أي وجاء يهوديان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن قوله تعالى { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } فقال صلى الله عليه وسلم لهما لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسرقوا ولا تسحروا ولا تمشوا ببرئ إلى سلطان ولاتأكلوا الربا ولا تقذفوا محصنة وعليكم يا يهود خاصة أن لا تعتدوا في السبت فقبلا يديه ورجليه صلى الله عليه وسلم وقالا نشهد أنك نبي قال ما يمنعكما أن تسلما فقالا نخاف إن أسلمنا أن تقتلنا يهود
أي وسألوه صلى الله عليه وسلم عن خلق السموات أي في اي زمن والأرض وما بينهما أي مدة ما بينهما فقال لهم خلق الأرض في يوم الأحد والإثنين وخلق الجبال وما فيها يوم الثلاثاء اي ولذلك يقول الناس إنه يوم ثقيل وخلق البحر والماء والمدائن والعمران والخراب يوم الأربعاء وخلق السموات يوم الخميس وخلق الشمس والقمر والنجوم والملائكة يوم الجمعة قالوا ثم ماذا يا محمد قال ثم استوى على العرش قالوا قد أصبت لو تممت ثم استراح أي لو قلت هذا اللفظ لأنهم يقولون إنه استراح جل وعز يوم السبت ومن ثم يسمونه يوم الراحة فأنزل الله تعالى { ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب } أي تعب { فاصبر على ما يقولون }
وفي رواية خلق الله الأرض يوم الأحد والإثنين وخلق الجبال يوم الثلاثاء
____________________
(2/322)
وخلق الأنهار والأشجار يوم الأربعاء وخلق الطير والوحش والسباع والهوام والآفة يوم الخميس وخلق الإنسان يوم الجمعة وفرغ من الخلق يوم السبت
وهذا يشكل على ما تقدم أن مبدأ الخلق يوم السبت حتى يكون آخر الأسبوع يوم الجمعة وهو الراجح على ما تقدم وقد قيل في سبب نزول قوله تعالى { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم } إلى قوله { إن الدين عند الله الإسلام } أن حبرين من أراضي الشام لم يعلما ببعثته صلى الله عليه وسلم فقدما المدينة فقال أحدهما للآخر ما أشبه هذه بمدينة النبي الخارج في آخر الزمان فأخبرا بمهاجرة النبي صلى الله عليه وسلم ووجوده في تلك المدينة فلما رأياه قالا له أنت محمد قال نعم قالا نسألك مسألة إن أخبرتنا بها آمنا فقال صلى الله عليه وسلم اسألاني فقالا أخبرنا عن أعظم الشهادة في كتاب الله تعالى فنزلت هذه الآية فتلاها صلى الله عليه وسلم عليهما فآمنا
قال وعن قتادة رضي الله تعالى عنه أن رهطا من اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد هذا الذي خلق الجن والإنس من خلقه وفي لفظ خلق الله الملائكة من نور الحجاب وآدم من حمأ مسنون وإبليس من لهب النار والسماء من دخان والأرض من زبد الماء فأخبرنا عن ربك من أي شيء خلق فغضب صلى الله عليه وسلم حتى انتقع لونه فجاء جبريل عليه الصلاة والسلام وقال له خفض عليك فأنزل الله تعالى عليه ( { قل هو الله أحد } السورة أي متوحد في صفات الجلال والكمال منزه عن الجسمية وأجب الوجود لذاته أي اقتضت ذاته ووجوده مستغن عن غيره وكل ما عداه محتاج إليه 1 هـ
أقول ونزول جبريل بذلك ربما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم توقف ولم يدر ما يقول كما وقع له لما سأله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه وقال له صف ربك كما سيأتي
ثم رأيت عن الشيخين وغيرهما أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ذكر في سبب نزول هذه السورة غير ما ذكر ولعله ما سيأتي في قصة إسلام عبد الله بن سلام ولا مانع من تكرر النزول لأسباب مختلفة
____________________
(2/323)
ثم رأيته في الإتقان ذكر أن سورة الإخلاص تكرر نزولها فنزلت جوابا للمشركين بمكة وجوابا لأهل الكتاب بالمدينة وقال قبل ذلك إنها إنما نزلت بالمدينة
وفي دعوة تكرر نزولها يقال حيث سئل أولا ونزلت جوابا كيف يتوقف ثانيا عند السؤال الثاني حتى يحتاج إلى نزولها مع بعد نسيان ذلك له صلى الله عليه وسلم
ثم رأيت عن البرهان قد ينزل الشيء مرتين تعظيما لشأنه وتذكيرا عند حدوث سببه خوف نسيانه وهو كما ترى لا يدفع التوقف وكان من أعلم أحبار يهود عبد الله بن سلام بالتخفيف وكان قبل أن يسلم اسمه الحصين فلما أسلم سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله وكان من ولد يوسف الصديق أي وقد أثنى الله تعالى عليه في قوله تعالى { وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم } وكان من يهود بني قينقاع كما تقدم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسمع كلامه أي في أول يوم دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم دار أبي أيوب أي ولعل الذي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم هو قوله يا أيها الناس أفشوا السلام وصلوا الأرحام وأطعموا الطعام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام
فعنه رضي الله تعالى عنه قال لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنجفل إليه الناس أي بالجيم أسرعوا فكنت ممن أتى إليه أي وهذا يدل على أنه جاءه في قباء وسيأتي قال فلما رأيت وجهه صلى الله عليه وسلم عرفت أنه وجه غير كذاب أي لأن صورته وهيئته وسمته صلى الله عليه وسلم تدل العقلاء على صدفة وأنه لا يقول الكذب قال عبدالله فسمعته صلى الله عليه وسلم يقول أيها الناس إلى آخره
أي ولا مانع أن يكون ذلك تكرر منه صلى الله عليه وسلم وعند ذلك قال أشهد أنك رسول الله حقا وأنك جئت بحق ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا وكتمت إسلامي من اليهود ثم جئته صلى الله عليه وسلم أي في بيت أبي أيوب وقلت له لقد علمت اليهود أني سيدهم وابن سيدهم وأعلمهم وابن أعلمهم فأخبئني يا رسول الله قبل أن يدخلوا عليك فادعهم فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني أسلمت فإنهم قوم بهت أي بضم الباء والهاء يواجهون الإنسان بالباطل وأعظم قوم عضيهة أي كذبا وإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا في ماليس في وخذ عليهم ميثاقا أني إن اتبعتك اتبعتك بكتابك أن يؤمنوا بك وبكتابك الذي أنزل عليك فأرسل رسول الله
____________________
(2/324)
صلى الله عليه وسلم إليهم فدخلوا عليه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معشر يهود ويلكم اتقوا الله فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقا وأني جئتكم بحق أسلموا قالوا ما نعلم فأعاد ذلك عليهم ثلاثا وهم يجيبونه كذلك قال فأي رجل فيكم ابن سلام قالوا ذاك سيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا وفي رواية خيرنا وابن خيرنا بالخاء المعجمة والياء المثناة تحت أفعل تفضيل وقيل بالمهملة والباء الموحدة أي أعلمنا بكتاب الله سيدنا وعالمنا وأفضلنا قال أفرايتم إن شهد أني رسول الله وآمن بالكتاب الذي أنزل علي تؤمنوا بي قالوا نعم فدعاه فقال يا ابن سلام اخرج عليهم فخرج عليهم فقال يا عبدالله بن سلام أما تعلم أني رسول الله تجدني عندكم مكتوبا في التوراة والإنجيل أخذ الله ميثاقكم أن تؤمنوا بي وأن تتبعوني من أدركني منكم قال ابن سلام بلى يا معشر يهود ويلكم اتقوا الله والله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله حقا وأنه جاء بالحق قال زاد في رواية تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة اسمه وصفته قالوا كذبت انت اشرنا وابن اشرنا وهذه لغة رديئة والفصحى شرنا وابن شرنا بغير همزة وهي رواية البخارى قال ابن سلام رضى الله تعالى عنه هذا الذي كنت اخاف يا رسول الله الم اخبرك انهم قوم بهت اهل غدر وكذب وفجور انتهى فاخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واظهرت إسلامي وانزل الله تعالى { قل أرأيتم إن كان من عند الله } يعني الكتاب او الرسوال { وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل } يعني عبدالله بن سلام على مثله يعنى اليهود { فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين }
اقول هذا السياق الا يناسب ما حكاه في الخصائص الكبرى عن تاريخ الشام لابن عساكر ان ابن سلام اجتمع بالني صلى الله عليه وسلم بمكة قبل ان يهاجر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم انت ابن سلام عالم اهل يثرب قال نعم قا ل ناشدتك بالذى انزل التوارة على موسى هل تجد صفتي في كتاب الله يعنى التوراة قال انسب ربك يا محمد فارتج النبي صلى الله عليه وسلم أي توقف ولم يدر ما يقول فقال له جبريل { قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد } فقال ابن سلام اشهد انك رسول الله وان الله مظهرك ومظهر دينك على الاديان واني لاجد صفتك في كتاب الله تعالى { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا } انت عبدي
____________________
(2/325)
ورسولى الى آخر ما تقدم عن التوراه فانه يدل على ان ابن سلام اسلم بمكة وكتم اسلامه ولو كان كذلك لما قال فلما رايت وجهه الشريف عرفت انه غير وجه كذاب ولما قال وكنت عرفت صفته واسمه ولما ساله عن الامور الاتية ولما احتاج إلى الاسلام ثانيا إلا ان يقال على تسليم صحة ما قاله ابن عساكر جاز ان يكون قال ذلك وفعل ما ذكر اقامة للحجة على اليهود
وقد وقع لابن سلام هذا انه لقى عليا بالربذة وقد خرج بعد قتل عثمان وبعد ان بويع بالخلافة متوجها إلى البصرة لما بلغه ان عائشة وطلحة والزبير ومن معهم خرجوا إلى البصرة في طلب دم عثمان وكان ذلك سببا لوقعة الجمل فاخذ بعنان فرس علي وقال يا امير المؤمنين لا تخرج منها يعني المدينة فوالله لئن خرجت منها لايعود اليها سلطان المسلمين ابدا فسبه بعض الناس وقال له ما لك ولهذا يا ابن اليهودية فقال علي دعوه فنعم الرجل من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
وعن ابى هريرة رضى الله تعالى عنه قال لقد لقيت عبدالله بن سلام فقلت له اخبرني عن ساعة الاجابة يوم الجمعة فقال في آخر ساعة في يوم الجمعة قلت وكيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلى وتلك الساعة لا صلاة فيها فقال ابن سلام الم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم من جلس مجلسا ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصلي
وفيه ان في الصحيحين ان في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها مسلم وهو قائم يصلي فسال الله عز وجل شيئا الا اعطاه اياه ثم رايت عن سنن ابن ماجه ان جواب ابن سلام تلقاه عن النبي صلى الله عليه وسلم
ونص السنن المذكورة عن عبدالله بن سلام رضى الله تعالى عنه قال قلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم جالس إنا لنجد في كتابنا يعنى التوراة في الجمعة ساعة يوافقها عبدا مؤمن يسال الله عز وجل فيها شيئا الا قضى حاجته قال عبد الله ابن سلام فاشار الى رسول الله صلى الله عليه وسلم او بعض ساعة فقلت صدقت يا رسول الله او بعض ساعة قلت أي ساعة هي قال ى خر ساة من ساعات النهار قلت انها ليست ساعة صلاة قال بلى ان العبد المؤمن اذا صلى ثم جلس لا يحبسه الا الصلاة فهو في الصلاة أي ولعل لفظ قائم في رواية الصحيحين يراد به
____________________
(2/326)
مريد القيام الى الصلاة أي صلاة العصر وقد قيل ان تلك الساعة رفعت بعد موته صلى الله عليه وسلم وقيل هي باقية وهو الصحيح وعليه فقيل لا زمن لها معين وقيل هي في زمن معين وعليه ففي تعيينها احد عشر وقولا قيل اربعون قولا
وقد وقع لميمون بن يامين وكان راس اليهود مثل ما وقع لابن سلام مع اليهود فانه جاء الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ابعث اليهم واجعلني حكما فانهم يرجعون الي فادخله داخلا وارسل اليهم فجاءوه صلى الله عليه فقال لهم اختاروا رجلا حكما يكون بيني وبينكم قالوا قد رضينا ميمون بن يامين فقال اخرج اليهم فقال اشهد انه لرسول الله فابوا ان يصدقوه والله اعلم
وقد اشار الى انكارهم نبوته صلى الله عليه وسلم مع معرفتهم لها صاحب الهمزية بقوله ** عرفوه وانكروه فظلما ** كتمته الشهادة الشهداء ** ** او نور الاله تطفئه الاف ** واه وهو الذي به يستضاء ** ** كيف يهدي الاله منهم قلوبا ** ** حشوها من حبيبه البغضاء ** أي عرفوه انه النبي المنتظر وانكروه بظواهرهم ولاجل ظلمهم كتمت الشهادة به العارفون به او نور الاله الذي هو النبوة تذهبه الالسن لا يكون ذلك وكيف يكون ذلك وهو الذي يستضاء به في الظاهر والباطن كيف يوصل الاله قلوبا للحق وملؤها البغضاء لحبيبه صلى الله عليه وسلم
اقول وقيل في سبب نزول سورة { قل هو الله أحد } ان وفد نجران لما نطقوا بالتثليث قال لهم المسلمون من خلقكم قالوا الله قالوا لهم فلم عبدتم غيره وجعلتم معه الهين فقالوا بل هو اله واحد لكنه حل في جسد المسيح اذ كان في بطن امه فقالوا لهم هل كان المسيح ياكل الطعام قالوا كان ياكل الطعام فانزل الله تعالى { قل هو الله أحد الله الصمد } تكذيبا لهم في انه ثالث ثلاثة والصمد هو الذي لا جوف له فهو غير محتاج الى الطعام
وقيل سبب نزولها ان قريشا هم الذين قالوا له انسب لنا ربك يا محمد وتقدم ما فيه والله اعلم
وقد جاء عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما في تفسير قوله تعالى { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم }
____________________
(2/327)
قال الله تعالى للاحبار من اليهود { وأوفوا بعهدي } الذي اخذته في اعناقكم للنبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءكم بتصديقه واتباعه { أوف بعهدكم } انجز لكم ما وعدتم عليه بوضع ما كان عليكم من الاصر والاغلال { ولا تكونوا أول كافر به } وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم { وتكتموا الحق وأنتم تعلمون } أي لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وبما جاء به وانتم تجدونه عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بايديكم
قا ل بعضهم ولم يسلم من رؤساء علماء اليهود الا عبدالله بن سلام وضم اليه السهيلي عبدالله بن صوريا قال الحافظ ابن حجر لم اقف لعبد الله بن صوريا على اسلام من طريق صحيح وانما نسب لتفسير النقاش أي ويضم لعبدالله بن سلام ميمون المتقدم ذكره
وروى في سبب اسلام عبدالله بن سلام أي اظهار اسلامه على ما تقدم انه لما بلغه مقدم النبي صلى الله عليه وسلم اتاه في قباء فعنه رضى الله تعالى عنه جاء رجل حتى اخبر بقدومه صلى الله عليه وسلم وانا في راس نخله اعمل فيها وعمتي تحتي جالسة فلما سمعت بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرت فقالت لي عمتي لو كنت سمعت بموسى بن عمران ما زدت فقلت لها أي عمة فوالله هو اخو موسى بن عمران وعلى دينه بعث بما بعث به قالت يا ابن اخي اهو النبي الذي كنا نخبر انه يبعث مع بعث الساعة وفي لفظ مع نفس الساعة فقلت لها نعم
أي وقد جاء عن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذل والصغار على من خالف امري وجاء انه صلى الله عليه وسلم قال بعثت انا والساعة كهاتين وقال باصبعيه هكذا يعني السبابه والوسطى أي جمع بينهما وفي رواية بعثت في نفس الساعة سبقتها كما سبقت هذه هذه وفي رواية سبقتها بما سبقت هذه هذه واشار باصبعيه الوسطى والسبابة قال الطبري الوسطى تزيد على السبابة بنصف سبع أصبع كما أن نصف يوم من سبعة ايام نصف سبع أي وقد تقدم عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما الدنيا سبعة ايام كل يوم الف سنة وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في اخر يوم منها وتقدم في حديث اخرجه ابو داود لن يعجز الله ان يؤخر هذه الامة نصف يوم يعني خمسمائة سنة
____________________
(2/328)
قال بعضهم فان قيل ما وجه الجمع بين هذا وبين قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الساعة ما المسئول عنها باعلم من السائل لدلالة الرواية الاولى على علمه بها
اجيب بان القران نطق بان علمها عند الله لا يعلمها الا هو ومعنى قوله بعثت انا والساعة كهاتين انه ليس بيني وبينها نبي آخر ياتي بشريعة لولا يتراخى الى ان تندرس شريعتي فهو صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم اول اشراطها لانه نبي اخر الزمان وهذا لا يقتضي ان يكون عالما بخصوص وقتها قال ابن سلام وكنت عرقت صفته واسمه أي في التوراة زاد في روايه فكنت مسرا لذلك ساكتا عليه حتى قدم المدينة فجئته صلى الله عليه وسلم فقلت يا محمد اني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن الا نبي ما اول اشراط الساعة وما اول طعام ياكله اهل الجنة وما بال الولد ينزع الى ابيه او الى امه فقال النبي صلى الله عليه وسلم أخبرني بهن جبريل انفا فقال ابن سلام ذلك يعني جبريل عدو اليهود من الملائكة
وقيل قائل ذلك عبدالله بن صوريا ولا مانع من ان يكون قال ذلك كل منهما أي وعن ابن صوريا انه قال له صلى الله عليه وسلم من ينزل عليك بالوحي قال جبريل قال ذلك عدونا لو كان غيره وفي لفظ لو كان ميكائيل لامنا بك لان جبريل ينزل بالخسف والحرب والهلاك وميكائيل ينزل بالخصب والسلم
وسبب العداوة انهم زعموا انه امر ان يجعل النبوة فيهم أي يجعل النبي المنتظر في بني اسرائيل الذين هم اولاد اسحاق فجعلها في غيرهم أي في ولد اسماعيل
وقيل سبب عداوتهم لجبريل انه انزل على نبيهم ان بيت المقدس سيخربه بختنصر فبعثوا من يقتله من اعظم بني اسرائيل قوة فاراد قتله فمنعه عنه جبريل وقال ان كان ربكم امره باهلاككم فانه لا يسلطكم عليه فصدقه ورجع عنه
أي فان بني اسرائيل لما اعتدوا وقتلوا شعياء جاء بختنصر ملك فارس وحاصر بيت المقدس وفتحها عنوة واحرق التوراة وخرب بيت المقدس
وقيل في سبب العداوة كونه يطلع النبي صلى الله عليه وسلم على سرهم ولا مانع من ان يكون كل ذلك سببا للعداوة
ثم قال صلى الله عليه وسلم اما اشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق الى المغرب
____________________
(2/329)
واما اول طعام ياكله اهل الجنة فزيادة كبد الحوت أي وهي القطعة المنفردة المعلقة بالكبد قال بعضهم وهي في الطعم في غاية اللذة ويقال انها اهنأ طعام وامرؤه
وروى ان الثور ينطح الحوت بقرنه فيموت فتاكل منه اهل الجنة ثم يحيا فينحر الثور بذنبه فتاكله اهل الجنة ثم يحيا قال واما الولد فاذا سبق ماء الرجل ماء المراة نزع الولد إليه واذا سبق ماء المراة ماء الرجل نزع الولد إليها أي لكن في فتح البارى عن عائشة رضى الله تعالى عنها اذا علا ماء الرجل ماء المراه اشبه اعمامه واذا علا ماء المراه ماء الرجل اشبه اخواله والمراد بالعلو السبق
وعن ثوبان اذ علا مني الرجل مني المراه جاء الولد ذكرا وان علا مني المراه مني الرجل جاء انثى العلو فيه على بابه هذا كلامه أي واذا استوى الماآن جاء خنثى وفي رواية قالوا له صلى الله عليه وسلم أين تكون الناس يوم تبدل الارض غير الارض والسموات ومن اول الناس اجازة وما تحفتهم أي الناس حين يدخلون الجنة وما غذاؤهم على اثره وما شرابهم عليه فاجابهم عليه الصلاة والسلام بانهم يكونون في ظلمة دون الجسر ولعل المراد بالجسر الصراط لكن في رواية مسلم اين الناس يومئذ قال على الصراط ثم رايت عن البيهقي ان قوله على الصراط مجاز لكونهم بمجاورته
ونقل القرطبي على صاحب الافصاح ان الارض والسماء يتبدلان مرتين
المرة الاولى تتبدل صفتهما فقط وذلك قبل نفخة الصعق فتتناثر كواكبها وتخسف الشمس والقمر وتتناثر السماء كالمهل وتنكشط الارض وتسير الجبال
والمرة الثانية تتبدل ذاتهما وذلك اذا وقفوا في المحشر فتتبدل الارض بارض من فضة لم يقع عليها معصية وهي الساهرة أي والسماء تكون من ذهب كما جاء عن علي رضى الله تعالى عنه
وفي الصحيحين عن ابي سعيد الخدري تكون الارض يوم القيامة خبزة واحدة يكفاها الخباز كما يكفا احدكم خبزته في السفر نزلا لاهل الجنة فياكل المؤمن من تحت رجليه ويشرب من الحوض
قال الحافظ ابن حجر ويستفاد منه ان المؤمنين لا يعذبون بالجوع في طول زمان الموقف بل يقلب الله بقدرته طبع الارض خبزا حتى ياكلون منها من تحت اقدامهم ما شاء الله من غير علاج ولا كلفة
____________________
(2/330)
قال ويؤيد ان هذا مراد الحديث ما جاء تبدل الارض بيضاء مثل الخبزة ياكل منها اهل الاسلام حتى يفرغوا من الحساب هذا كلامه فليتامل مع ما قبله من ان الارض تبدل بارض من فضة وان هذا يدل على ان تلك الارض التي تكون خبزة تكون في موقف الحساب وما جاء عن علي رضى الله تعالى عنه يدل على انها تكون بعد مجاوزتهم الصراط واول الناس اجازة فقراء المهاجرين وتحفة اهل الجنة حين يدخلونها زيادة كبد النون أي الحوت وغذاؤهم ينحر لهم ثور الجنة التي ياكل من اطرافها وشرابهم من عين تسمى سلسبيلا وسالوه صلى الله عليه وسلم فقالوا اخبرنا عن علامة النبي فقال عليه الصلاة والسلام تنام عيناه ولا ينام قلبه وسالوه أي طعام حرم اسرائيل على نفسه قبل ان تنزل التوراة قال انشدكم بالله الذي انزل التوراة على موسى هل تعلمون ان اسرائيل يعقوب مرض مرضا شديدا وطال سقمه فنذر لله لئن شفاه الله تعالى من سقمه ليحرمن احب الشراب إليه واحب الطعام اليه فكان احب الطعام اليه لحمان الابل واحب الشراب اليه البانها قالوا اللهم نعم أي حرمهما ردعا لنفسه ومنعا لها عن شهواتها وقيل لانه كان به عرق النسا وكان اذا طعم ذلك هاج به
وذكر ان سبب نزول قوله تعالى { كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه } قول اليهود له صلى الله عليه وسلم كيف تقول انك على ملة ابراهيم وانت تاكل لحوم الابل وتشرب البانها وكان ذلك محرما على نوح وابراهيم حتى انتهى الينا أي علمه في التوراه فنحن اولى الناس بابراهيم منك ومن غيرك فانزل الله تعالى الاية تكذيبا لهم أي بان هذا انما حرمه يعقوب على نفسه ومن ثم جاء فيها { فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين }
وكانت اليهود اذا حاضت المراه منهم اخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها أي وفي كلام الواحدى قال المفسرون كانت العرب في الجاهلية اذا حاضت المراه لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يساكنوها في بيت كفعل المجوس هذا كلامه فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك أي قال له بعض الاعراب يا رسول الله البرد شديد والثياب قليلة فان آثرناهن بالثياب هلك سائر اهل البيت وان استاثرنا بهاهلك الحيض فانزل الله تعالى { ويسألونك عن المحيض قل هو أذى } الاية فقال لهم رسول الله
____________________
(2/331)
صلى الله عليه وسلم اصنعوا كل شىء الا النكاح أي الوطء وما في معناه وهو مباشرة ما بين السرة والركبة أي فان الاية لم تنص الا على عدم قربانهن بالوطء في الحيض
ومن ثم جاء في رواية انما امرتم ان تعتزلوا مجامعتهن اذا حضن ولم يأمركم باخراجهن من البيوت فبلغ ذلك اليهود فقالو ا ما يريد هذا الرجل ان يدع من امرنا شيئا الا خالفنا فيه فجاء اسيد بن حضير وعباد بن بشر الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالا ان اليهود قالت كذا فهلا نجامعهن أي نوافقهن فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أي وعند ذلك قال بعض الصحابة فظننا انه قد وجد أي غضب عليهما فلما خرجا استقبلتهما هدية من لبن الى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فارسل في اثرهما فسقاهما فعرفنا انه لم يجد عليهما
وذكر المفسرون ان في منع الوطء للحائض اقتصادا من افراط اليهود وتفريط النصارى فانهم لا يمتنعون من وطء الحيص أي وذكر ان ابن سلام وغيره ممن اسلم من يهود استمروا على تعظيم السبت وكراهة اكل لحم الابل وشرب البانها فانكر ذلك عليهم المسلمون فقالوا ان التوراة كتاب الله فنعمل به ايضا فانزل الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة } أي وفي رواية قالوا له ما هذا السواد الذي في القمر فاجابهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك بانهما كانا شمسين أي شمس في الليل وشمس في النهار قال الله تعالى { فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة } فالسواد الذي يرى هو المحو أي اثره قال بعضهم في قوله تعالى { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار } ان الليل ذكر والنهار انثى فالليل كادم والنهار كحواء
وقد ذكر ان الليل من الجنة والنهار من النار ومن ثم كان الانس بالليل اكثر وجاء انه صلى الله عليه وسلم قال لرجل من علماء اليهود اتشهد اني رسول الله قال لا قال اتقرا التوراة قال نعم قال والانجيل قال نعم فناشده هل تجدني في التوراة والانجيل قال نجد مثلك ومثل مخرجك ومثل هيئتك فلما خرجت خفنا ان تكون انت فنظرنا فاذا انت لست هو قال ولم ذاك قال معه من امته سبعون الفا ليس عليهم حساب ولا عذاب وانما معك نفر يسير قال والذي نفسي بيده لانا هو وانهم لاكثر من سبعين الفا وسبعين الفا وقد ساله صلى الله عليه وسلم اليهود عن الرعد أي
____________________
(2/332)
والبرق فقال صوت ملك موكل بالسحاب يسوقه أي بمخراق من نار في يده يزجر به السحاب الى حيث امره الله تعالى
عن علي بن ابي طالب رضى الله تعالى عنه قال البرق مخاريق من نار بايدي ملائكة يزجرون به السحاب والمخراق المنديل يلف ليضرب به أي وحينئذ فالمراد بالملك الجنس وفي رواية ان الله ينشىء السحاب فينطق احسن النطق ويضحك احسن الضحك ومنطقها الرعد وضحكها البرق
وفي بعض الاثار لله ملائكة يقال لهم الحيات فاذا حركوا اجنحتهم فهو البرق أي وتحريكهم لاجنحتهم يكون غالبا عند الرعد لان الغالب وجود البرق عند الرعد
وعن بعضهم قال بلغني ان البرق ملك له اربعة وجوه وجه انسان ووجه ثور وجه نسر ووجه اسد فاذا مصع بذنبه أي حركه فذلك البرق أي وتحريكه غالبا يكون عند وجود الرعد
وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما البرق ملك يتراءى أي يظهر ويغيب وفي رواية الرعد ملك يزجر السحاب والبرق طرف ملك أي ينظر به عند وجود الرعد غالبا وفي رواية ان ملكا موكل بالسحاب في يده مخراق فاذا رفع برقت واذا زجر رعدت واذا ضربه صعقت
وعن مجاهد الرعد ملك والبرق اجنحته يسوق بها السحاب فيكون المسموع صوته او صوت سوقه فليتامل الجمع بين هذه الروايات
وذهب الفلاسفة الى ان الرعد صوت اصطكاك اجرام السحاب والبرق ما ينقدح من اصطكاكها فقد زعموا ان عند اصطكاك اجرام السحاب بعضها ببعض تخرج نار لطيفة حديدة لا تمر بشىء الا اتت عليه الا انها مع حدتها سريعة الخمود
وقيل في سبب نزول قوله تعالى { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } ان اليهود انكروا النسخ فقالوا الا ترون الى محمد يامر اصحابه بامر ثم ينهاهم عنه ويامرهم بخلافه ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا فنزلت
وسالوه صلى الله عليه وسلم مم يخلق الولد فقال يخلق من نطفة الرجل ومن نطفة المراه اما نطفة الرجل فنطفة غليظة أي بيضاء منها العظم والعصب واما نطفة المراه فنطفة رقيقة أي صفراء منها اللحم والدم فقالوا هكذا كان يقول من قبلك أي
____________________
(2/333)
من الانبياء وتقدم في ترجمة سطيح ايراد عيسى عليه الصلاة والسلام على ذلك أي وقالوا اغاظه له صلى الله عليه وسلم ما نرى لهذا الرجل همة الا النساء والنكاح ولو كان نبيا كما زعم لشغله امر النبوة عن النساء فانزل الله تعالى { ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية }
فقد جاء انه كان لسليمان عليه الصلاة والسلام مائة امرأه وتسعمائة سرية وسالوه صلى الله عليه وسلم عن رجل زنى بامراه بعد احصانه أي كان شريفا من خيبر زنى بشريفة وهما محصنان فكرهوا رجمهما لشرفهما فبعثوا رهطا منهم الى بني قريظة ليسألوا رسول لله صلى الله عليه وسلم أي قالوا لهم ان هذا الرجل الذي بيثرب ليس في كتابه الرجم ولكنه الضرب فسالوه فاجابهم بالرجم فلم يفعلوا ذلك فقال لجمع من علمائهم انشدكم بالله الذي انزل التوراة على موسى اما تجدون في التوراة على من زنى بعد احصان الرجم فانكروا ذلك فقال عبدالله بن سلام كذبتم فان فيها اية الرجم فاتوا بالتوراة فوضع واحد منهم يده على تلك الاية فقال له ابن سلام ارفع يدك عنها فرفعها فاذا اية الرجم
اقول هذا كان في السسنة الرابعة وهو يخالف ما في بعض الروايات ان بعض احبار يهود أي وهم كعب بن الاشرف وسعيد بن عمرو ومالك بن الصيف وكنانه بن ابي الحقيق اجتمعوا في بيت المدراس حين قدم رسول لله صلى الله عليه وسلم المدينة وقد زنى رجل من يهود بعد احصانه بامراه محصنة من اليهود وقالوا ان افتانا بالجلد اخذنا به واحتججنا بفتواه عند الله وقلنا فتيا نبي من انبيائك وان افتانا بالرجم خالفناه لانا خالفنا التوراة فلا علينا من مخالفته
وفي رواية الصحيحين عن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما ان اليهود جاءوا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له ان امراه منهم ورجلا زنيا أي بعد احصان فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تجدون في التوراة في شان الرجم قالوا نفضحهما أي بان نسود وجوههما ثم يحملان على حمارين وجوههما من قبل ادبار الحمار وفي لفظ يحملان على الحمار وتقابل اقفيتهما ويطاف بهما ويجلدان أي بحبل من ليف مطلي بقار فقال عبدالله بن سلام كذبتم ان فيها اية الرجم فاتوا بالتوراة فنشروها فوضع احدهم يده على اية الرجم فقرا ما قبلها وما بعدها فقال له عبدالله بن
____________________
(2/334)
سلام ارفع يدك فرفع يده فإذا فيها اية الرجم فقالوا صدقت يا محمد فيها اية الرجم
قد جاء ان موسى عليه الصلاة والسلام خطب بني اسرائيل فقال يا بني اسرائيل من سرق قطعنا يده ومن افترى جلدناه ثمانين جلدة ومن زنى وليست له امراه جلدناه مائة جلدة ومن زنى له امراه رجمناه حتى يموت والله اعلم
قال ولما جاءوا اليه صلى الله عليه وسلم قالوا يا ابا القاسم ما ترى في رجل وامراه زنيا أي بعد احصان فقال لهم ما تجدون في التوراة فقالوا دعنا من التوراة فقل لنا ما عندك فافتاهم بالرجم فانكروه فلم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اتى بيت مدراسهم فقام على الباب فقال يا معشر يهود اخرجوا الى اعلمكم فاخرجوا اليه عبدالله بن صوريا وابا ياسر بن اخطب ووهب بن يهود فقالوا هؤلاء علماؤنا فقال انشدكم بالله الذي انزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى بعد احصان قالوا يحم أي يعير ويجتنب فقال عبدالله بن سلام كذبتم فان فيها اية الرجم أي وفي رواية لما سالهم واجابوه الا شابا منهم فانه سكت فالح عليه صلى الله عليه وسلم في النشدة فقال اللهم اذ نشدتنا فانا نجد في التوراة الرجم ولكن راينا انه ان زنى الشريف جلدناه والوضيع رجمناه كان من الحيف فاتفقنا على ما نقيمه على الشريف والوضيع وهو ما علمت فعند ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انا احكم بما في التوراة ولعل هذا الشاب ابن صوريا ففي الكشاف انه لما امرهم عليه الصلاة والسلام بالرجم بأبوا ان ياخذوا به فقال له جبريل عليه السلام اجعل بينك وبينهم أين صوريا حكما أي ووصفه له جبريل فقال صلى الله عليه وسلم هل تعرفون شابا امرد ابيض اعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا قالوا نعم وهو اعلم يهودي على وجه الارض بما انزل الله على موسى في التورا ورضوا به حكما فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم انشدك الله الذي لا اله الا هو الذي انزل التوراة على موسى وفلق البحر ورفع فوقكم الطور وانجاكم واغرق فرعون وظلل عليكم الغمام انزل عليكم المن والسلوى والذي انزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه هل تجدون فيه الرجم على من احصن قال نعم فوثب عليه سفلة اليهود فقال خفت ان كذبته ان ينزل علينا العذاب وفي رواية قال نعم والذي ذكرتني به لولا خشيت ان تحرقني التوراة ان كذبتك ما اعترفت لك ولكن كيف
____________________
(2/335)
هي في كتابك يا محمد قال اذا شهد اربعة رهط عدول انه قد ادخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليه الرجم فقال ابن صوريا والذي انزل التوراة على موسى هكذا انزل الله في التوراة على موسى فليتامل الجمع بين هذه الروايات على تقدير صحتها ثم ساله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اشياء يعرفها من اعلامه فقال اشهد ان لا اله الا الله وانك رسول الله النبي الامي وهذا مما يدل على اسلامه وتقدم انكار صحته عن الحافظ ابن حجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ائتوا بالشهود فجاءوا باربعة فشهدوا انهم راوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة فامر بهما فرجما عند باب مسجده صلى الله عليه وسلم قال ابن عمر فرايت الرجل يحني على المراه يقيها الحجارة فكان ذلك سببا لنزول قوله تعالى { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور } ولنزول قوله تعالى { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } وفي اية اخرى { فأولئك هم الفاسقون } وفي اخرى { فأولئك هم الكافرون }
وعن عمرو بن ميمون قال رايت الرجم في الجاهلية في غير بني آدم كنت في اليمن في غنم لاهلي فجاء قرد ومعه قردة فتوسد يدها ونام فجاء قرد اصغر منه فغمزها فسلت يدها من تحت راس القرد برفق وذهبت معه ثم جاءت فاستيقظ القرد فزعا فشمها فصاح فاجتمعت القردة فجعل يصيح ويومي اليها بيده فذهبت القردة يمنة ويسرة فجاءوا بذلك القرد فحفروا لهما حفرة فرجموهما وفي لفظ رايت في الجاهلية قردة زنت فرجموها يعني القردة ورجمتها معهم
قال في الاستيعاب وهذا عند جماعة من اهل العلم منكر لاضافة الزنا الى غير المكلف واقامة الحدود في البهائم ولو صح هذا لكانوا من الجن لان العبادات في الانس والجن دون غيرهما هذا كلامه فليتامل والله اعلم
وقد ذكر غير واحد ان احبار يهود غيروا صفته صلى الله عليه وسلم التي في التوراة خوفا على انقطاع نفقتهم فانهم كانت على عوامهم لقيامهم بالتوراة فخافوا ان تؤمن عوامهم فتنقطع عنهم النفقة أي وكانوا يقولون لمن اسلم لا تنفقوا مالكم على هؤلاء يعني المهاجرين فانا نخشى عليكم الفقر فانزل الله تعالى { الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله } أي من صفة النبي صلى الله عليه وسلم التي يجدونها في كتابهم فقد كان فيه اكحل عين ربعة جعد الشعر حسن الوجه فمحوه وقالوا
____________________
(2/336)
تجده طويلا ازرق العين سبط الشعر واخرجوا ذلك الى اتباعهم وقالوا هذا نعت النبي الذي يخرج اخرالزمان وعند ذلك انزل الله تعالى { إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب } الآية
وكان اليهود اذا كلموا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا راعنا سمعك واسمع غير مسمع ويضحكون فيما بينهم أي لان ذلك بما قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما بلسان اليهود السب القبيح فلما سمع المسلمون منهم ذلك ظنوا ان ذلك شيء كان اهل الكتاب يعظمون به انبياءهم فصاروا يقولون ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ففطن سعد بن معاذ لليهود يوما وهم يضحكون فقال لهم يا اعداء الله لئن سمعنا من رجل منكم هذا بعد هذا المجلس لاضربن عنقه فانزل الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا }
وفي رواية ان اليهود لما سمعوا الصحابة رضي الله تعالى عنهم تقول له صلى الله عليه وسلم اذا القى عليهم شيئا يا رسول الله راعنا أي انتظرنا وتان علينا حتى نفهم وكانت هذه الكلمة عبرانية تتسابب بها اليهود فلما سمعوا المسلمين يقولون له صلى الله عليه وسلم راعنا خاطبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم براعنا يعنون بها تلك السبة ومن ثم لما سمع سعد بن معاذ ذلك من اليهود قال لهم يا اعداء الله عليكم لعنة الله والذي نفسي بيده ان سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لاضربن عنقه فقالوا الستم تقولونها فنزلت وجاءه صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود باطفالهم فقالوا له يا محمد هل على اولادنا هؤلاء من ذنب قال لا فقالوا والذي يحلف به ما نحن الا كهيئتهم ما من ذنب نعمله بالليل الا كفر عنا بالنهار وما من ذنب نعمله بالنهار الا كفر عنا بالليل فانزل الله تعالى { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم } ) الاية
وجاء ان احبار يهود منهم ابن صوريا أي قبل ان يسلم على ما تقدم وشاس بن قيس وكعب بن اسيد اجتمعوا وقالوا نبعث الى محمد لعلنا نفتنه في دينه فجاءوا اليه صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد قد عرفت انا احبار يهود واشرافهم وان اتبعناك اتبعك كل اليهود وبيننا وبين قوم خصومة فنحاكمهم اليك فتقضي لنا عليهم فنؤمن بك فابى ذلك عليهم فنزل قوله تعالى { وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم } الاية
ومن اليهود من دخل في الاسلام تقيه من القتل لما قهرهم الاسلام بظهوره واجتماع قومهم عليه فكان هواهم مع يهود في السر أي وهم المنافقون
____________________
(2/337)
وقد ذكر بعضهم ان المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلثمائة منهم الجلاس بجيم مضمومة فلام مخففة فالف فسين مهملة ابن سويد بن الصامت قال يوما ان كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمير فسمعها عمير بن سعد رضى الله تعالى عنه وهو ابن زوجة جلاس أي فان الجلاس كان زوجا لام عمير وكان عمير يتيما في حجره ولا مال له وكان يكفله ويحسن اليه فجاء الجلاس ليلة فاستلقى على فراشه فقال لئن كان ما يقوله محمد حقا فلنحن شر من الحمير فقال له عمير يا جلاس انك لاحب الناس واحسنهم عندي يدا ولقد قلت مقالة لئن رفعتها عليك لافضحنك ولئن صمت عليها أي سكت عنها ليهلكن على ديني ولاحداهما ايسر على من الاخرى فمشى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له مقالة جلاس فارسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الى جلاس فحلف بالله لقد كذب على عمير وما قلت ما قال عمير فقال عمير بلى والله لقد قلته فتب الى الله ولولا ان ينزل القران فيجعلني معك ما قلته
وجاء انه صلى الله عليه وسلم الله استحلف الجلاس عند المنبر فحلف انه ما قال واستحلف الراوي عنه فحلف لقد قال وقال اللهم انزل على نبيك تكذيب الكاذب وتصديق الصادق فقال النبي صلى الله عليه وسلم امين فنزل قوله تعالى { يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم } الى قوله { فإن يتوبوا يك خيرا لهم } فاعترف الجلاس وتاب وقبل منه صلى الله عليه وسلم توبته وحسنت توبته ولم ينزع عن خير كان يصنعه مع عمير فكان ذلك مما عرف به حسن توبته فقال صلى الله عليه وسلم لعمير وقيت اذنك
ومنهم نبتل بنون مفتوحة فموحدة ساكنة فمثناة فوقية مفتوحة فلاح ابن الحارث قال النبي صلى الله عليه وسلم من احب ان ينظر الى الشيطان فلينظر الى نبتل بن الحارث كان يجلس اليه صلى الله عليه وسلم ثم ينقل حديثه للمنافقين وهو الذي قال لهم انما محمد اذن من حدثه بشيء صدقه فانزل الله تعالى فيه { ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن } الاية
وجاء جبريل الى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له يجلس اليك رجل معك صفته كذا نقال أي للحديث الذي تحدث به كبده اغلظ من كبد الحمار ينقل حديثك الى المنافقين فاحذره
____________________
(2/338)
ومنهم عبدالله بن ابي ابن سلول وهو راس المنافقين ولاشتهاره بالنفاق لم يعد في الصحابة وكان من اعظم اشرا ف اهل المدينة وكانوا قبل مجيئه صلى الله عليه وسلم قد نظموا له الخرز ليتوجوه ثم يملكوه عليهم أي كما تقدم لان الانصار من ال قحطان ولم يتوج من العرب الا قحطان ولم يبق من الخرز الا خرزه واحدة كانت عن شمعون اليهودي فلما جاءهم الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم انصرف عنه قومه الى الاسلام فضغن أي اضمر العداوة لانه راى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سلبه ملكا عظيما فلما راى قومه قد ابوا الاسلام دخل فيه كارها مصرا على النفاق أي وكان له اماء يكرههن على الزنا لياخذ اجورهن فانزل الله تعالى { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء } الاية
وقد قيل في سبب نزول قوله تعالى { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا } أي عبدالله بن ابي واصحابه خرجوا ذات يوم فاستقبلهم قوم من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم ابو بكر وعمر وعلي رضى الله تعالى عنهم فقال عبدالله بن ابي انظروا كيف ارد هؤلاء السفهاء عنكم فاخذ بيد ابي بكر فقال مرحبا بالصديق سيد بني تيم وشيخ الاسلام وثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم اخذ بيد عمر فقال مرحبا بسيد بني عدى الفاروق القوى في دين الله الباذل نفسه وماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم اخذ بيد علي فقال مرحبا بابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه سيد بني هاشم ما خلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم افترقوا فقال له علي اتق الله يا عبد الله ولا تنافق فان المنافقين شر خليقة الله تعالى فقال له عبدالله مهلا يا ابا الحسن الى تقول هذا والله ان ايماننا كايمانكم وتصديقنا كتصديقكم فقال لاصحابه كيف رأيتموني فعلت فأثنوا عليه خيرا فنزلت
وقد وقد قال صلى الله عليه وسلم مثل المنافق مثل الشاة العابرة بين الغنمين أي المترددة بينهما تعبر الى هذه مرة والى هذه مرة
وفي السنة الاولى من الهجرة اعرس صلى الله عليه وسلم بعائشة رضى الله تعالى عنها كذا في الأصل وفي المواهب ان ذلك كان في السنة الثانية من الهجرة في شوال على راس ثمانية عشر شهرا وقيل بعد سبعة اشهر وقيل بعد ثمانية اشهر من مقدمه صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/339)
قالت عائشة رضى الله تعالى عنها تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم بنى بي في شوال فاى نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت احظى عنده مني أي فما توهمه بعض الناس من التشاؤم بذلك لكونه بين العيدين فتحصل المفارقة بين الزوجين لا عبرة به ولا التفات اليه
وعن عائشة رضى الله تعالى عنها جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بيتنا واجتمع اليه رجال ونساء من الانصار فجاءتني امي واني لفي ارجوحة بين عذقين أي نخلتين فانزلتني من الارجوحة ولي جميمة أي شعر لاني وعكت أي مرضت لما قدمنا المدينة أي اصابتها الحمى
فعن البراء رضى الله تعالى عنه قال دخلت مع ابي بكر الصديق على اهله فاذا عائشة ابنته مضطجعة قد اصابتها الحمى فرايت اباها يقبل خدها ويقول كيف انت يا بنية قالت عائشة رضى الله تعالى عنها فتمزق شعرى ففرقتها ومسحت وجهي بشيء من ماء ثم اقبلت تقودني حتى وقفت بي عند الباب واني لانهج حتى سكن نفسي ثم دخلت بي فاذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على سرير في بيتنا وعنده رجال ونساء من الانصار فاجلستني في حجره ثم قالت هؤلاء اهلك بارك الله لك فيهم وبارك لهم فيك فوثب الرجال والنساء فخرجوا وبنى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتنا أي فقد بنى بها نهارا
وفي الصحاح العامة تقول بنى باهله وهو خطا وانما يقال بنى على اهله قال الحافظ ابن حجر ولا يغنى عن الخطا كثرة استعمال الفصحاء له أي كاستعمال عائشة له هنا وفي الاستيعاب واقره عن عائشة رضى الله تعالى عنها ان ابا بكر رضى الله تعالى عنه قال يا رسول الله ما يمنعك ان تبنى باهلك قال الصداق فاعطاه ابو بكر اثنتي عشرة اوقية ونشا فبعث بها الينا وبنى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي هذا الذي انا فيه وهو الذي توفى به ودفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه ان سياق ما تقدم وما ياتي يدل على انه انما دخل بها في بيت ابيها بالسنح
ثم رايت بعضهم صرح بذلك فقال كان دخوله بها عليه الصلاة والسلام بالسنح نهارا وهذا خلاف ما يعتاده الناس اليوم هذا كلامه وفي رواية عنها اتتني امي واني لفى ارجوحة مع صواحب لي فصرخت بي فاتيتها ما ادرى ما تريد مني فاخذت بيدي
____________________
(2/340)
حتى وقفت بي على باب الدار وانا انهج حتى سكن بعض نفسي ثم اخذت شيئا من ماء فمسحت به وجهي وراسي ثم ادخلتني الدار فاذا نسوة من الأنصار في البيت فقلن على الخير والبركة وعلى خير طائر فاسلمتني اليهن وأصلحهن من شأني فلم يرعني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى فأسلمتني إليه وأنا يومئذ بنت تسع سنين قال بعضهم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة ولعبتها معها
اي وعنها رضى الله تعالى عنها انها كانت تلعب بالبنات أي اللعب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت تاتيها جويريات يلعبن معها بذلك وربما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسيرهن اليها أي يطلبهن لها ليلعبن معها قالت وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك او حنين فهبت ريح فكشفت ناحية من ستر على صفة في البيت عن بنات لي فقال ما هذا يا عائشة قلت بناتي وراى بينهن فرسا لها جناحان من رقاع قال وما هذا الذي ارى وسطهن قلت فرس قال وما هذا الذي عليه قلت جناحان قال جناحان قلت اما سمعت ان لسليمان خيلا لها اجنحة فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وفيه هلا امرها بتغيير ذلك
واجيب بان هذا مستثنى من عدم جواز تصوير ذى الروح وقولها اما سمعت ان لسليمان خيلا لها اجنحة واقراره صلى الله عليه وسلم لها على ذلك يدل على صحته
ثم رايت بعضهم اورد انه كان لسليمان خيل لها اجنحة وقد ذكرت ذلك عند الكلام على اسمعيل صلوات الله وسلامه عليه في اوائل هذه السيرة
وعنها رضى الله تعالى عنها ايضا انها قالت وما نحرت على جزور ولا ذبحت على شاة أي عند بنائه بها صلى الله عليه وسلم حتى ارسل الينا سعد بن عبادة بجفنته التي كان يرسلها وارسل بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أي وفي كلام بعضهم وروى انه صلى الله عليه وسلم ما اولم على عائشة رضى الله تعالى عنها بشيء غير ان قدحا من لبن اهدى من بيت سعد بن عبادة فشرب النبي صلى الله عليه وسلم بعضه وشربت عائشة رضى الله تعالى عنها باقيه
اقول يجوز ان يكون سعد رضى الله تعالى عنه ارسل بالقدح من اللبن وبالجفنه وان بعض الرواه اقتصر على احدهما
ثم لا يخفى انه يجوز ان تكون الرواية الاولى واقعة بعد هذه الرواية الثانية وانها
____________________
(2/341)
ذهبت الى الارجوحة ثانيا بعد ان اصلح النساء من شانها وفعلت بها امها ما ذكر وانه وقع الاقتصار في الرواية الاولى والله سبحانه وتعالى اعلم & باب ذكر مغازيه صلى الله عليه وسلم
ذكر ان مغازيه أي وهي التي غزا فيها بنفسه كانت سبعا و عشرين أي وهي غزوة بواط ثم غزوة العشيرة ثم غزوة سفوان ثم غزوة بدر الكبرى ثم غزوة بني سليم ثم غزوة بني قينقاع ثم غزوة السويق ثم غزوة قريرة الكدر ثم غزوة غظفان وهي غزوة ذي امر ثم غزوة نجران بالحجاز ثم غزوة احد ثم غزوة حمراء الاسد ثم غزوة بني النضير ثم غزوة ذات الرقاع وهي غزوة محارب وبني تغلبه ثم غزوة بدر الاخرة وهي غزوة بدر الموعد ثم غزوة دومة الجندل ثم غزوة بني المصطلق ويقال لها المريسيع ثم غزوة الخندق ثم غزوة بني قريظة ثم غزوة بني لحيان ثم غزوة الحديبية ثم غزوة ذى قرد ويقال لها قرد بضمتين وهو في اللغة الصوف الردىء ثم غزوة حنين ثم غزوة وادى القرى ثم غزوة عمرة القضاء ثم غزوة فتح مكة ثم غزوة حنين والطائف ثم غزوة تبوك
والتي وقع فيها القتال من تلك الغزوات أي وقع القتال فيها من ا صحابه وهو المراد يقول بعضهم كالاصل التي قاتل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع وهي غزوة بدر الكبرى واحد والمريسيع اعني بني المصطلق والخندق وقريظة وخيبر وفتح مكة وحنين والطائف أي وبعضهم اسقط فتح مكة قال النووي رحمه الله ولعل مذهبه انها فتحت صلحا كما قال امامنا الشافعي وموافقوه أي فيصح بيع دورها واجارتها واستدل لذلك بانها لو كانت فتحت عنوة لقسمها بين الغانمين وسياتي الجمع بأن اسفلها فتح عنوة أي لوقوع القتال فيه من خالد بن الوليد مع المشركين واعلاها فتح صلحا لعدم وجود القتال فيه
وفي الهدى من تامل الاحاديث الصحيحة وجدها كلها دالة على قول الجمهور انها فتحت عنوة أي لوقوع القتال بها
وما يدل على ذلك انه صلى الله عليه وسلم لم يصالح اهلها عليها والا لم يحتج الى
____________________
(2/342)
قوله من دخل دار ابي سفيان فهو امن الى الخ وانما لم يقسمها لانها دار المناسك فكل مسلم له فيها حق
اقول هذا واضح في غير دورها وسياتي الجواب عن ذلك وبما قررناه يعلم ان قول المواهب قاتل صلى الله عليه وسلم في تسع بنفسه فيه نظر ظاهر لانه صلى الله عليه وسلم لم يقاتل بنفسه في شيء من تلك الغزوات الا في احد كما سياتي وكانه اغتر في ذلك بقول بعضهم المتقدم قاتل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد علمت المراد منه والله اعلم
ولا يخفى انه صلى الله عليه وسلم مكث بضع عشرة سنة ينذر بالدعوة بغير قتال صابرا على شدة اذية العرب بمكة واليهود بالمدينة له صلى الله عليه وسلم ولاصحابه لامر الله تعالى له بذلك أي بالانذار والصبر على الاذى والكف بقوله { فأعرض عنهم } وبقوله { واصبر } ووعده بالفتح أي فكان ياتيه اصحابه بمكة ما بين مضروب ومشجوج فيقول صلى الله عليه وسلم لهم اصبروا فاني لم اؤمر بالقتال لانهم كانوا بمكة شرذمة قليلة ثم لما استقر امره صلى الله عليه وسلم أي بعد الهجرة وكثرت اتباعه وشانه ان يقدموا محبته على محبة ابائهم وابنائهم وازواجهم واصر المشركون على الكفر والتكذيب اذن الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أي ولأصحابه في القتال أي وذلك في صفر من السنة الثانية من الهجرة لكن لمن قاتلهم وابتداهم به بقوله { فإن قاتلوكم فاقتلوهم } قال بعضهم ولم يوجبه بقوله تعالى { أذن للذين يقاتلون } أي للمؤمنين ان يقاتلوا { بأنهم ظلموا } أي بسبب انهم ظلموا { وإن الله على نصرهم لقدير } أي فكان ذلك القتال عوضا من العذاب الذي عوملت به الأمم السالفة لما كذبت رسلهم
وذكر في سبب نزول قوله تعالى { ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم } الاية ان جماعة منهم عبدالرحمن بن عوف والمقداد بن الاسود وقدامة بن مظعون وسعد بن ابى وقاص وكانوا يلقون من المشركين اذى كثيرا بمكة فقالوا يا رسول الله كنا في عز ونحن مشركون فلما امنا صرنا اذلة فاذن لنا في قتال هؤلاء فيقول لهم كفوا ايديكم عنهم فاني لم اومر بقتالهم فلما هاجر صلى الله عليه وسلم الى المدينة وامر بالقتال للمشركين كرهه بعضهم وشق عليه ذلك فانزل الله تعالى الاية
لا يقال يدل لما تقدم من انه قاتل صلى الله عليه وسلم بنفسه في تلك الغزوات ما جاء
____________________
(2/343)
عن بعض الصحابة كنا ا ذا لقينا كتيبة او جئنا اول من يضرب النبي صلى الله عليه وسلم لاني اقول لا يبعد ان يكون المراد بالضرب السير في الارض أي اول من يسير الى تلقاء العدو ويؤيده ما جاء عن علي رضى الله تعالى عنه لما كان يوم بدر اتقينا المشركين برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان اشد الناس باسا وما كان احد اقرب الى المشركين منه صلى الله تعالى عليه وسلم
وفي رواية كنا اذا حمى الباس والتقى القوم بالقوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم أي كان وقاية لنا من العدو
وقد نقل اجماع المسلمين على انه لم يرو احد قط انه صلى الله عليه وسلم انهزم بنفسه في موطن من المواطن بل ثبتت الاحاديث الصحيحة باقدامه صلى الله عليه وسلم وثباته في جميع المواطن
لا يقال سياتي في غزوة بدر عن السيرة الهشامية غير معزو لاحد انه قاتل بنفسه قتالا شديدا وكذلك ابو بكر رضى الله عنه وكانا في العريش يجاهدان بالدعاء فقاتلا بابدانهما جمعا بين المقامين وايضا سياتي في خيبر ما قجد يدل على انه صلى الله عليه وسلم قاتل بنفسه
لانا نقول سياتي مافي ذلك مما يدل على انه صلى الله عليه وسلم لم يباشر القتال الا في احد كما سياتي ولم تقاتل معه الملائكة الا في بدر والا في حنين قيل واحد وسياتي مافي ذلك ولم يرم صلى الله عليه وسلم بالحصباء في وجوه العدو في شىء من الغزوات الا في هذه الثلاثة على خلاف في الثلاثة أي ولم يجرح أي لم يصبه جراحة في غزوة من الغزوات الا في احد ولم ينصب المنجنيق في غزوة من الغزوات الا في غزوة الطائف وفيه انه نصبه عى بعض حصون خيبر وسيأتي الجمع بينهما ولم يتحصن بالخندق في غزوة الا في غزوة الاحزاب
ثم لا يخفى ان الاية المذكورة أي التي هي { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير } قال بعضهم هي اول اية نزلت في شان القتال ولما نزلت اخبر صلى الله عليه وسلم بقوله امرت ان اقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله أي وفي لفظ حتى يشهدوا ان لا اله الا الله واني محمد رسول الله فاذا قالوها عصموا مني
____________________
(2/344)
دماءهم واموالهم الا بحقها وحسابهم على الله تعالى قيل وما حقها قال زنا بعد احصان وكفر بعد اسلام او قتل نفس
اقول وظاهر هذا الساق يقتضي ان لاية فيها الامر له صلى الله عليه وسلم بالقتال المذكور وقد يتوقف في ذلك ولعله امر بذلك بغير الاية المذكورة لان الاية انما هي ظاهرة في الاباحة المباح ليس مامورا به وحينئذ يكون قوله في الاية الاخرى وهي { فإن قاتلوكم فاقتلوهم } للاباحة لان صيغة افعل تاتي لها وان كان الاصل فيها الوجوب
وعلى ان قوله صلى الله تعالى عليه وسلم امرت وان امره كان بغير هذه الاية يحمل على ان المراد الندب لان الامر مشترك بين الوجوب والندب فلا ينافى ما تقدم من انه لم يكن وجب عليهم القتال حينئذ والله اعلم
ثم لما رمتهم العرب قاطبة عن قوس وتعرضوا لقتالهم من كل جانب كانوا لا يبيتون الا في السلاح ولا يصبحون الا فيه ويقولون ترى نعيش حتى نبيت مطمئنين لا نخاف الا الله عز وجل انزل الله عز وجل { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا } ثم اذن في القتال أي ابيح الابتداء به حتى لمن لم يقاتل أي لكن في غير الاشهر الحرم أي التي هي رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم أي بقوله { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } الاية ثم امر به وجوبا أي بعد فتح مكة في السنة الثانية مطلقا أي من غير تقييد بشرط ولا زمان بقوله { وقاتلوا المشركين كافة } أي جميعا في أي زمن
فعلم ان القتال كان قبل الهجرة وبعدها الى صفر من السنة الثانية محرما أي لانه كان في ذلك مامورا بالتبليغ وكان انذار بلا قتال لا نه نهى عنه في نيف وسبعين اية ثم صار ماذونا له فيه أي ابيح قتال من قاتل ثم ابيح قتال من لم يبدا به في غير الاشهر الحرم ثم امر به مطلقا أي لمن قاتل ومن لم يقاتل في كل زمن أي في الاشهر الحرم وغيرها
وظاهر كلام الامام الاسنوى ان القتال في الحالة الثانية كان مامورا به لا مباحا كالحالة الاولى وعبارته لما بعث صلى الله عليه وسلم امر بالتبليغ والانذار بلا قتال فقال واعرض عنهم وقال واصبر ثم ا ذن له بعد الهجرة في القتال ان ابتدءوا به فقال { فإن قاتلوكم فاقتلوهم } ثم أمر بذلك ابتداء ولكن في غير الأشهر الحرم فقال { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين }
____________________
(2/345)
ثم امر به مطلقا فقال وقاتلوا المشركين كافة هذا كلامه
ولا يخفى ان الاستوى ممن يرى ان امر للوجوب وهو يقتضي ان يكون الامر به في الحالة الثانية للوجوب والراجح ما علمت ان امر مشترك بين الوجوب والندب وانه في الحالة الثانية مباح لا مامور به
ثم استقر امر الكفار معه صلى الله عليه وسلم بعد نزول براءة على ثلاثة اقسام القسم الاول محاربون له صلى الله عليه وسلم وهؤلاء المحاربون اذا كانوا ببلادهم يجب قتالهم على الكفاية في كل عام مرة أي يكفي ذلك في اسقاط الحرج كاحياء الكعبة وستدل لذلك بقوله تعالى { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } أي فهلا نفر وقيل كان فرض عين لقصة الثلاثة الذين تخلفوا عن الجهاد في غزوة تبوك ويحتاج الى الجواب عن ذلك
وقيل كان فرض كفاية في حق الانصار وفرض عين في حق المهاجرين والقسم الثاني اهل عهدوهم المؤمنون من غير عقد الجزية أي صالحهم ووادعهم على ان لا يحاربوه ولا يظاهروا عليه عدوهم وهم على كفرهم امنون على دمائهم واموالهم
والقسم الثالث اهل ذمة أي وهم من عقدت لهم الجزية وهناك قسم اخر وهو من دخل في الاسلام تقيه من القتل وهم المنافقون كما تقدم وامر صلى الله عليه وسلم ان يقبل منهم علانيتهم ويكل سرائرهم الى الله تعالى فكان معرضا عنهم الا فيما يتعلق بشعائر الاسلام الظاهرة كالصلاة فلا يخالف ما رواه الشيخان لقد هممت ان امر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا فيصلي بالناس ثم انطلق معي برجال معهم حزم من حطب الى قوم لا يشهدون الصلاة فاحرق عليهم بيوتهم بالنار فقد ذكر ائمتنا ان ذلك ورد في قوم منافقين يتخلفون عن الجماعة ولا يصلون أي اصلا بدليل السياق أي لان صدر الحديث اثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر أي جماعتهما ولو يعلمون ما فيهما لاتوهما ولو حبوا ولقد هممت الخ
وفي الخصائص الصغرى وكان الجهاد في عهده صلى الله عليه وسلم فرض عين في احد الوجهين عندنا وكان اذا غزا بنفسه صلى الله عليه وسلم يجب على كل احد الخروج معه لقوله تعالى { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله } ومن ثم وقع لمن تخلف عنه في غزوة تبوك ما وقع
____________________
(2/346)
واما بعده صلى الله عليه وسلم فللكفار حالان مذكوران في كتب الفقه وعند الاذن له صلى الله عليه وسلم في القتال خرج لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر صفر من السنة الثانية من الهجرة اي مكث بالمدينة باقي الشهر الذي قدم فيه وهو شهر ربيع الاول وباقي ذلك العام كله الى صفر من السنة الثانية من الهجرة
فخرج صلى الله عليه وسلم غازيا حتى بلغ ودان بفتح الواو وتشديد الدال المهملة اخره نون وهي قرية كبيرة بينه وبين الابواء ستة اميال او ثمانية والابواء بالمد قرية كبيرة بين مكة والمدينة كما تقدم سميت بذلك لتبوىء السيول بها وقيل لما كان فيها من الوباء فيكون على القلب والا لقيل الاوباء وحينئد لا تخالف بين تسمية ابن الخفاف لها بغزوة ودان وبين تسمية البخارى لها بغزوة الابواء لتقارب المكانين اي وفي الامتاع ودان جبل بين مكة والمدينة
واقول قد يقال لا منافاة لانه يجوز ان تكون تلك القرية كانت عند الجبل المذكور فسميت باسمه والله اعلم
وكان خروجه صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين ليس فيهم انصارى يعترض عيرا لقريش ولبنى ضمرة أي وخرج صلى الله عليه وسلم لبني ضمرة فكان خروجه للشيئين كما يفهم من الاصل
ويوافقه قول بعضهم وخرج صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلا من اصحابه يريد قريشا وبني ضمرة والمفهوم من سيرة الشامى ان خروجه صلى الله عليه وسلم الله انما كان لاعتراضه العير وانه اتفق له موادعة بني ضمرة ويوافقه قول الحافظ الدمياطي خرج يعترض عيرا لقريش فلم يلق كيدا وفي هذه الغزوة وادع بني ضمرة هذا كلامه أي صالح سيدهم حينئذ وهو مجدي بن عمر
وعبارة بعضهم فلما بلغ الابواء لقى سيد بني ضمرة مجدي بن عمر الضمري فصالحه ثم رجع الى المدينة والمصالحة على ان لا يغزوهم ولا يغزوه ولا يكثروا عليه صلى الله عليه وسلم جمعا و لا يعينوا عليه عدوا قال وكتب بينه وبينهم كتابا نسخته بسم الله الرحمن الرحيم هذا الكتاب من محمد رسول الله لبني ضمرة بانهم امنون على اموالهم وانفسهم وان لهم النصرة على من رامهم أي قصدهم الا ان يحاربوا في دين الله مابل بحرصوفة أي ما بقي فيه ما يبل الصوفة وان النبي صلى الله عليه وسلم اذا دعاهم لنصره اجابوه عليهم بذلك ذمة الله وذمة رسوله أي أمانهما انتهى
____________________
(2/347)
وكان لواؤه صلى الله عليه وسلم ابيض وكان مع عمه حمزة واستعمل على المدينة سعد بن عبادة وانصرف الى المدينة راجعا فهي اول غزواته صلى الله عليه وسلم أي وكانت غيبته خمس عشرة ليلة والله اعلم عزوة بواط
ثم ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الاول أي وقيل الاخر أي من السنة المذكورة يريد عيرا لقريش فيها امية بن خلف ومائة رجل من قريش والفان وخمسمائة بعير خرج في مائتين من اصحابه أي من ا المهاجرين خاصة وحمل اللواء وكان ابيض سعد بن ابي وقاص واللواء هو العلم الذي يحمل في الحرب يعرف به موضع امير الجيش وقد يحمله امير الجيش وقد يجعل في مقدم الجيش
واول من عقد الالوية ابراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم بلغه ان قوما غاروا على لوط عليه السلام فعقد لواء وسار اليهم بعبيده ومواليه قال بعضهم صرح جماعة من اهل اللغة بترادف اللواء والراية أي فيطلق على كل اسم الاخر
وعن ابن اسحاق وابن سعد ان اسم الراية انما حدث بعد خيبر واستعمل صلى الله عليه وسلم على المدينة سعد بن معاذ وقيل السائب بن مظعون أي اخا عثمان بن مظعون وقيل السائب بن عثمان حتى بلغ بواط بضم الموحدة وفتحها وتخفيف الواو والطاء المهملة أي وهو جبل الينبع أي ومن ثم قيل لها غزوة بواط
قال بعضهم ومن هذا الجبل تقلع أحجار المسان وهذا الجبل لجهينة من ناحية رضوى وهو أحد الأجبل التي بنى منها أساس الكعبة
وفيه انه لم يذكر رضوى في تلك الاجبل الخمس التي كان منها اساس الكعبة المتقدم ذكرها على المشهور
وقد جاء في الحديث رضوى رضى الله تعالى عنه وتزعم الكيسانية وهم اصحاب كيسان مولى على رضى الله تعالى عنه ان محمد بن الحنفية مقيم برضى حي يرزق وهو الامام المنتظر عندهم
اي وفي كلام بعضهم ان المنتظر هو محمد القاسم بن الحسن العسكري الذي تزعم الشيعة انه المنتظر وهو صاحب السرداب يزعمون انه دخل السرداب في دار ابيه وامه
____________________
(2/348)
تنظر اليه فلم يخرج اليها وكان عمره تسع سنين وانه يعمر الى اخر الزمان كعيسى وسيظهر فيملا الدنيا عدلا كما ملئت جورا واختفاؤه الان خوفا فا من ا عدائه قال وهو زعم باطل لا اصل له ثم رجع صلى الله عليه وسلم الى المدينة ولم يلق كيدا أي حربا واصل الكيد الاحتيال والاجتهاد ومن ثم يسمى الحرب كيدا والله اعلم غزوة العشيرة
اي وبها بدا البخاري المغازي ويدل له ما جاء عن زيد بن اسلم وقد قيل له ما اول غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ذات العشيرة واجيب عنه بان المراد ما اول غزوة غزاها وانت معه
ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر جمادى الاولى و في سيرة الدمياطي الاخرة من تلك السنة
اي وفي الامتاع في جمادى الاخرة ويقال جمادى الاولى يريد عيرا لقريش متوجهة للشام يقال ان قريشا جمعت جميع اموالها في تلك العير لم يبق بمكة لا قرشى ولا قرشية له مثقال فصاعدا الا بعث به في تلك العير الا حويطب بن عبد العزى يقال ان في تلك العير خمسين الف دينار أي والف بعير وكان فيها ابو سفيان أي قائدها وكان معه سبعة وعشرون قيل تسعة وثلاثون رجلا منهم مخرمة بن نوفل وعمرو بن العاص وهي العير التي خرج اليها حين رجعت من الشام وكان سببا لوقعة بدر الكبرى كما سياتي خرج في خمسين ومائة ويقال في مائتين من المهاجرين خاصة حتى بلغ العشيرة بالمعجمة والتصغير اخره هاء أي ولم يختلف فيه اهل المغازى كما قال الحافظ ابن حجر وفي البخارى اخرها همزة وفيه ايضا العسيرة بالسين المهملة اخره هاء أي بالتصغير واما التي بغير تصغير فهي غزوة تبوك كما سياتي والتي بالتصغير فقال ايضا لموضع ببطن الينبع أي وهو منزل الحاج المصري وهي لبني مدلج واستخلف على المدينة ابا سلمة بن عبد الاسد وحمل اللواء وكان ابيض عمه حمزة بن عبد المطلب خرجوا على ثلاثين بعيرا يعتقبونها فوجدوا العير قد مضت قبل ذلك بايام ورجع ولم يلق حربا ووادع صلى الله عليه وسلم فيها بني مدلج قال في الاصل وحلفاءهم من بني ضمرة
وذكر في المواهب هنا صورة الكتاب الذي كتبه صلى الله عليه وسلم لبني ضمرة في
____________________
(2/349)
غزوة ودان الذي قدمناه ثم فليتامل ذلك وكنى صلى الله عليه وسلم فيها عليا بابي تراب حين وجده نائما هو وعمار بن ياسر وقد علق به ال التراب فايقظه عليه الصلاة والسلام برجله وقال له قم ابا تراب لما يرى عليه من التراب أي الذي سفته عليه الريح ولما قام قال له صلى الله عليه وسلم الا اخبرك باشقى الناس اجمعين عاقر الناقة والذي يضر بك على هذا ووضع يده على قرن راسه فيخضب هذه ووضع يده على لحيته وفي رواية اشقى الاولين عاقر ناقة صالح واشقى الاخرين قاتلك وفي رواية انه صلى الله عليه وسلم قال يوما لعلي كرم الله وجهه من اشقى من الاولين فقال علي الذي عقر الناقة يا رسول الله قال فمن اشقى الاخرين قال علي لا علم لي يا رسول الله قال الذي يضربك على هذه واشار الى يافوخه وكان كما اخبر صلى الله عليه وسلم فهو من اعلام نبوته
فانه لما كان شهر رمضان سنة اربعين صار يفطر ليلة عند الحسن وليلة عند الحسين وليلة عند عبدالله بن جعفر لا يزيد في اكله على ثلاث لقم ويقول احب ان القى الله وانا خميص فلما كانت الليلة التي ضرب صبيحتها اكثر الخروج والنظر الى السماء وجعل يقول والله انها الليلة التي و عدت فلما كان وقت السحر واذن المؤذن بالصلاة خرج الى المسجد فاقبل الاوز الذي في داره يصحن في وجهه فمنعهن بعض نساء اهل بيته فقال دعوهن فأنهن نوائح فلما دخل المسجد اقبل ينادي الصلاة الصلاة فشد عليه عبدالرحمن بن ملحم المرادى لعنه الله من طائفة الخوارج فض فضربه الضربة التي اخبر بها صلى الله عليه وسلم وعند ذلك شد عليه الناس من كل جانب فطرح عليه رجل قطيقة ثم طنبوه واخذ السيف منه وقالوا له يا امير المؤمنين خل بيننا وبين مراد يعنون قبيلة الرجل الذي ضربه فقال لا ولكن احبسوا الرجل فان انا مت فاقتلوه وان اعش فالجروح قصاص فحبس
فلما مات رضى الله تعالى عنه غسله الحسن والحسين و عبدالله بن جعفر ومحمد بن الحنفية يصب الماء وكفن في ثلاثة اثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة وصلى عليه الحسن وكبر عليه سبعا ودفن ليلا قيل بدار الامارة بالكوفة وقيل بغير ذلك واخفى قبره لئلا تنبشه الخوارج وقيل حملوه على بعير ليدفنوه مع رسول الله صلى الله عليه
____________________
(2/350)
وسلم فبينا هم في مسيرهم ليلا اذ ند البعير الذي عليه فلم يدر اين ذهب ومن الناس من يزعم انه انتقل الى السماء وانه الان في السحاب
ولما اصيب كرم الله وجهه دعا الحسن والحسين رضى الله تعالى عنهما فقال لهما اوصيكما بتقوى الله ولا تبغيا الدنيا ولا تبكيا على شي زوى منها عنكما وقولا الحق فلا تاخذكما في الله لومة لائم ثم نظر الى ولده محمد ابن الحنفية فقال هل حفظت ما اوصيت به اخويك فقال نعم فقال اوصيك بمثله واوصيك بتوقير اخويك لعظم حقهما عليك ولا ترين امرا دونهما ثم قال اوصيكما به فإنه اخوكما وابن ابيكما وقد علمتما ان اباكما كان يحبه ثم لم ينطق إلا بلا اله الا الله الى ان قبض فلما قبض اخرج الحسن رضى الله تعالى عنه ابن ملجم من الحبس وقتله
أقول ذكر بعضهم عن المبرد قال ابن ملجم لعلي كرم الله تعالى وجهه اني اشتريت سيفي هذا بألف وسمته بألف وسألت الله تعالى ان يقتل به شر خلقه فقال علي قد اجاب الله دعوتك يا حسن اذا انامت فاقتله بسيفه ففعل به الحسن ذلك ثم احرقت جثته وقد ذكر انه قطعت اطرافه وجعل في قوصرة واحرقوه بالنار
وقد ذكر ان عليا قال يوما وهو مشير لابن ملجم هذا والله قاتلي فقيل له الا نقتله فقال من يقتلني وتبع الاصل في كون تكنية على بابي تراب في هذه الغزوة شيخه الدمياطى
واعترضه في الهدى بانه صلى الله عليه وسلم انما كناه بذلك بعد نكاحه فاطمة رضى الله تعالى عنها فانه صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوما وقال اين ابن عمك قالت خرج مغاضبا فجاء الى المسجد فوجده مضطجعا فيه وقد لصق به التراب فجعل ينفضه عنه ويقول اجلس ابا تراب وقيل انما كناه ابا تراب لانه كان اذا غضب على فاطمه في شىء لم يكلمها ولم يقل لها شيئا تكرهه الا انه ياخذ ترابا فيضعه على راسه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا رأى التراب على رأسه عرف انه عاتب على فاطمه
قال في النور يجوز ان يكون صلى الله عليه وسلم خاطبه بهذه الكنية مرتين اي ويكون س سبب الكنية علوق التراب به وكونه يضعه على راسه والله اعلم
____________________
(2/351)
غزوة سفوان ويقال لها غزوة بدر الاولى
وحين قدم صلى الله عليه وسلم من غزوة العشيرة لم يقم بالمدينة الا ليالى لم تبلغ العشرة حتى غزا وخرج خلف كرز بن جابر الفهرى وقد اغار قبل ان يسلم على سرح المدينة اي النعم والمواشي التي تسرح للمرعى بالغداة خرج في طلبه حتى بلغ واديا يقال له سفوان بالمهملة والفاء ساكنة وقيل مفتوحة من ناحية بدر اي ولذا قيل لها غزوة بدر الاولى وفاته صلى الله عليه وسلم كرز ولم يدركه وكان قد استعمل على المدينة زيد بن حارثة وحمل اللواء وكان ابيض على بن ابي طالب رضى الله تعالى عنه وقد تبعت الاصل في تقديم غزوة العشيرة على غزوة سفوان لما تقدم وهو عكس ما في سيرة الشامى الموافق لسيرة الدمياطى ولما في الامتاع والله اعلم & باب تحويل القبلة
وحولت القبلة في شهر رجب من السنة المذكورة التي هي الثانية في نصفه وقيل في نصف شعبان قال بعضهم وعليه الجمهور الاعظم وقيل كان في جمادى الاخرة اي فقد قيل انه صلى الله عليه وسلم صلى في المدينة الى بيت المقدس ستة عشر شهرا وقيل سبعة عشر شهرا وقيل أربعة عشر شهرا وقيل غير ذلك وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم صلى في مسجده بعد تمامه الى بيت المقدس خمسة اشهر
والاكثرون على أن تحويلها كان في صلاة الظهر وقيل العصر اي ففي الصحيحين عن البراء ان اول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم اي للكعبة صلاة العصر
وقد يقال لا منافاة لجواز ان يكون المراد اول صلاة صلاها كلها للكعبة صلاة العصر لان الظهر صلى نصفها الاول لبيت المقدس ونصفها الثاني للكعبة ثم رايت الحافظ ابن حجر فعل كذلك حيث قال التحقيق ان اول صلاة صلاها بالمسجد النبوى صلاة العصر او ان التحويل في العصر كان في محل اخر للانصار اي وهم بنو حارثة
وقيل حولت في صلاة الصبح وهو محمول على ان ذلك كان في قباء لان الخبر لم يبلغهم
____________________
(2/352)
الا حينئذ كما سياتي وانما حولت لانه صلى الله عليه وسلم كان يعجبه ان تكون قبلته الكعبة سيما لما بلغه ان اليهود قالوا يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا اي وفي لفظ قالوا للمسلمين لو لم نكن على هدى ما صليتم لقبلتنا فاقتديتم بنا فيها
وفي لفظ كان يحب ان يستقبل الكعبة محبة لموافقة ابراهيم واسمعيل عليهما الصلاة والسلام وكراهة لموافقة اليهود ولقول كفار قريش للمسلمين لم تقولون نحن على ملة ابراهيم وانتم تتركون قبلته وتصلون الى قبلة اليهود اي ولانه لما هاجر صار اذا استقبل صخرة بيت المقدس يستدبر الكعبة فشق ذلك عليه صلى الله عليه وسلم فقال لجبريل وددت ان الله سبحانه وتعالى صرفنى عن قبلة اليهود فقال جبريل انما انا عبد لا املك لك شيئا الا ما امرت به فادع الله تعالى فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الله تعالى يكثر اذا صلى الى بيت المقدس من النظر الى السماء ينتظر امر الله تعالى اي لان السماء قبلة الدعاء وفي رواية ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل وددت انك سالت الله تعالى ان يصرفني الى الكعبة فقال جبريل لست استطيع ان ابتدىء الله جل وعز بالمسالة ولكن ان سالني اخبرته وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم زائر ام بشر بن البراء بن معرور في بني سلمة فصنعت له طعاما وحانت صلاة الظهر فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم باصحابه في مسجد هناك فلما صلى ركعتين نزل جبريل فاشار اليه ان صل الى الكعبة واستقبل الميزاب فاستدار رسول الله صلى الله عليه وسلم الى الكعبة اي فاستدار النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء اي فقد تحول من مقدم المسجد الى مؤخره لان من استقبل الكعبة في المدينة يلزم ان يستدبر بيت المقدس اي كما ان من يستقبل بيت المقدس يستدبر الكعبة وهو صلى الله عليه وسلم لو دار كما هو مكانه لم يكن خلفه مكان يسع الصفوف قيل وكان ذلك وهم راكعون وفيه أن هذا يستدعى عملا كثيرا في الصلاة وهو مفسد لها عندنا اذا توالى
وقد يقال لا مانع لجواز أن يكون ذلك قبل تحريم العمل الكثير في الصلاة أو أن هذا العمل لم يكن على التوالي
أقول وبدخوله اي على ام بشر صلى الله عليه وسلم وعلى الربيع بنت معوذ ابن عفراء وعلى ام حرام بنت ملحان وعلى اختها ام سليم والخلوة بكل منهن فقد كانت
____________________
(2/353)
ام حرام بنت ملحان تفلى راسه الشريفه وينام عندها استدل ان من خصائصه صلى الله عليه وسلم جواز النظر الى الاجنبية والخلوة بها لامنه الفتنة كماا سياتي والله اعلم
وسمى ذلك المسجد مسجد القبلتين وقيل كانت تلك الصلاة التي هي صلاة الظهر التي وقع التحول فيها في مسجده صلى الله عليه وسلم فخرج عباد بن بشر وكان صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومر على قوم من الانصار يصلون العصر وهم راكعون فقال اشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البيت يعني الكعبة ثم بلغ اهل قباء ذلك وهم في صلاة الصبح في اليوم الثاني اي وهم ركوع وقد ركعوا ركعة فنادى مناد الا ان القبلة قد حولت الى الكعبة فتحولوا اليها
اي وفي البخاري بينا الناس بقباء في صلاة الصبح اذ جاءهم ات فقال ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد انزل عليه الليلة قران وقد امر ان يستقبل الكعبة فاستقبلوها فاستداروا الى الكعبة وفي مسلم بدل صلاة الصبح الغداة قال الحافظ ابن حجر وهو احد اسمائها
وقد نقل بعضهم كراهة تسميتها بذلك ولم ينقل انهم امروا بقضاء العصر والمغرب والعشاء ولا اعادة الركعة التي صلوها من الصبح وهو دليل على ان الناسخ لا يلزم حكمه الا بعد العلم به وان تقدم نزوله وعلى انه يجوز ترك الامر المقطوع به وهو استقبال بيت المقدس الى امر مظنون وهو خبر الواحد
واجيب عن هذا الثاني بان الخبر المذكور احتفت به قرائن افادت القطع عندهم بصدق المخبر فلم يتركوا الامر المعلوم الا لامر معلوم ايضا على انه يجوز نسخ المتواتر بالاحاد لان محل النسخ الحكم ودلالة المتواتر عليه ظنية كما تقرر في محله ويقال ان المبلغ لهم عباد ابن بشر ايضا فيكون عباد اتى بني حارثة اولا في صلاة العصر ثم توجه الى اهل قباء فاعلمهم بذلك في وقت الصبح والقران الذي نزل قوله تعالى { قد نرى تقلب وجهك في السماء } الايات أي والى هذا يشير بعضهم بقوله ** كم للنبي المصطفى من اية ** ** غراء حار الفكر في معناها ** ** لما راى البارى تقلب وجهه ** ** ولاه ايمن قبلة يرضاها **
وعن عمارة بن اوس الانصارى قال صلينا احدى صلاتي العشى أي وهما الظهر والعصر فقام الرجل على باب المسجد ونحن في الصلاة فنادى ان الصلاة قد وجهت
____________________
(2/354)
نحو الكعبة فتحول امامنا نحو الكعبة وقوله تعالى { قد نرى تقلب وجهك في السماء } أي متطلعا نحو الوحى ومتشوقا للامر باستقبال الكعبة { فلنولينك } أي نحولنك { قبلة ترضاها } أي تحبها { فول وجهك شطر المسجد الحرام } اي نحوه والمراد بالمسجد الحرام الكعبة { وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق } أي الرجوع الى الكعبة { من ربهم } أي لما في كتبهم من نعته صلى الله عليه وسلم بأنه يتحول الى الكعبة
اقول ولعل هذه القصة التي رواها عمارة هي التي رويت عن رافع بن خديج قال اتانا ات ونحن نصلي في بني عبد الاشهل فقال ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد امر ان يتوجه الى الكعبة فدار امامنا الى الكعبة ودرنا معه والله اعلم
واجتمع قوم من كبار اليهود وجاءوا اليه صلى الله عليه وسلم وقالوا له يا محمد ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها وانت تزعم انك على ملة ابراهيم ودينه أي وما كنت عليه قبلة ابراهيم وهذا بناء على دعواهم ان بيت المقدس كان قبلة الانبياء عليهم الصلاة والسلام كما سياتي عنهم وسياتي ما فيه ثم قالوا ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك وانما يريدون بذلك فتنته ليعلم الناس انه صلى الله عليه وسلم في حيرة من امره أي واختبارا لما يجدونه في نعته صلى الله عليه وسلم من انه يرجع عن استقبال بيت المقدس الى استقبال الكعبة وانه لا يرجع عن تلك القبلة وفي رواية انهم قالوا للمسلمين ما صرفكم عن قبلة موسى ويعقوب وقبلة الانبياء أي ويوافقه قول الزهرى لم يبعث الله منذ هبط آدم عليه الصلاة والسلام الى الارض نبيا الا جعل قبلته صخرة بيت المقدس ويوافق هذا ظاهر قول الامام السبكى رحمه الله تعالى في تائيته ** وصليت نحو القبلتين تفردا ** وكل نبي ماله غير قبلة **
قال شارحها يشير الى ان كل نبي كانت قبلته بيت المقدس وهو صلى الله عليه وسلم قد شاركهم فيها أي واختص بالكعبة
ومن ثم جاء في التوراة في وصفه صلى الله عليه وسلم صاحب القبلتين وفيه ان قبلة الانبياء صلوات الله وسلامه عليهم انما هي الكعبة فعن ابي العالية كانت الكعبة قبلة الانبياء وكان موسى يصلي الى صخرة بيت المقدس وهي بينه وبين الكعبة ومثل هذا لا يقال الا عن توقيف أي ويقال بمثل هذا فيما تقدم عن اليهود وعن الزهري على
____________________
(2/355)
تسليم صحته ان صخرة بيت المقدس كانت قبلة لجميع الانبياء انهم كانوا يصلون اليها ويجعلونها بينهم وبين الكعبة فلا مخالفة
لا يقال هذا ليس اولى من العكس أي ان استقبال الانبياء للكعبة انما كانوا يجعلونها بينهم وبين صخرة بيت المقدس لانا نقول قد ذكر في الاصل في تفسير قوله تعالى { ليكتمون الحق وهم يعلمون الحق من ربك } أي يكتمون ما علموا من ان الكعبة هي قبلة الانبياء أي المقصودة بالاستقبال لا انهم يستقبلونها لاجل صخرة بيت المقدس
وذكر عن بعضهم ان اليهود لم تجد كون الصخرة قبلة في التوراة وانما كان تابوت السكينة على الصخرة فلما غضب الله على بني اسرائيل رفعه فصلوا الى الصخرة بمشاورة منهم أي وادعوا انها قبلة الانبياء وما تقدم عن الزهرى تقدم الجواب عنه ثم قالوا والله ان انتم الا قوم تفتنون فانزل الله تعالى { سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب } أي الجهات كلها فليامر بالتوجه الى أي جهة شاء لا اعتراض عليه { يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } أي فكان اول ما نسخ امر القبلة
فعن ابن عباس اول ما نسخ من القران فيما يذكر لنا والله اعلم شان القبلة فاستقبل صلى الله عليه وسلم بيت المقدس أي بمكة والمدينة ثم صرفه الله تعالى الى الكعبة
أي واما قوله تعالى { فأينما تولوا فثم وجه الله } فمحمول على النفل في السفر اذا صلى حيث توجه
وما قيل ان سبب نزولها ما ذكره بعض الصحابة قال كنا في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر اين القبلة فصلى كل منا على حياله فلما اصبحنا ذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت ففيه نظر لضعف الحديث او هو محمول على ما اذا صلوا باجتهاد
أي ولما توجه صلى الله عليه وسلم الى الكعبة قال المشركون من اهل مكة توجه محمد بقبلته اليكم وعلم انكم كنتم اهدى منه ويوشك أي يقرب ان يدخل في دينكم ومن ثم ارتد جماعة وقالوا مرة هاهنا ومرة هاهنا
ولما حولت القبلة الى الكعبة اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد قباء فقدم جدار المسجد موضعه الان وقالت الصحابة له يا رسول الله لقد ذهب منا قوم قبل التحول فهل يقبل منا ومنهم فانزل الله تعالى قوله { وما كان الله ليضيع إيمانكم } أي
____________________
(2/356)
صلاتكم الى بيت المقدس وذكر في الاصل ان الصحابة قالوا مات قبل ان تحول قبل البيت رجال وقتلوا أي وهم عشرون ثمانية عشر من اهل مكة واثنان من الانصار وهما البراء بن معرور واسعد بن زرارة فلم ندر ما نقول فيهم فانزل الله تعالى { وما كان الله ليضيع إيمانكم } الاية ولفظة القتل وقعت في البخارى
وانكرها الحافظ ابن حجر فقال ذكر القتل لم اره الا في رواية زهير وباقي الروايات انما فيها ذكر الموت فقط ولم اجد في شىء من الاخبار ان احدا من المسلمين قتل قبل تحويل القبلة لكن لا يلزم من عدم الذكر عدم الوقوع فان كانت هذه اللفظة محفوظة فتحمل على ان بعض المسلمين ممن لم يشتهر قتل في تلك المدة في غير الجهاد
ثم قال وذكر لي بعض الفضلاء انه يجوز ان يراد من قتل بمكة من المستضعفين كابوي عمار فقلت يحتاج الى ثبوت ان قتلهما كان بعد الاسراء هذا كلام الحافظ وفيه ان الركعتين اللتين كان يصليهما هو والمسلمون بالغداة وبالعشى قبل فرض الصلوات الخمس كانتا لبيت المقدس فقد تقدم انه كان يصلي هو واصحابه الى الكعبة ووجوههم الى بيت المقدس فكانوا يصلون بين الركنين اليماني والذي عليه الحجر الاسود لاجل استقبال بيت المقدس وتقدم انه صلى الله عليه وسلم لم يلتزم ذلك بل كان في بعض الاوقات يصلى الى الكعبة في أي جهة اراد
ثم لما قدم المدينة صار يستقبل بيت المقدس ويستدبر الكعبة الى وقت التحويل ومن ثم قال في الاصل ولما كان صلى الله عليه وسلم يتحرى القبلتين جميعا أي يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس لم يتبين توجهه الى بيت المقدس للناس حتى خرج من مكه أي فانه استدبر الكعبة واستقبل بيت المقدس
فقول ابن عباس لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم الى المدينة واليهود يستقبلون بيت المقدس امره الله تعالى ان يستقبل بيت لامقدس معناه امره الله تعالى ان يستمر على استقبال بيت المقدس وهذا هو المراد بقوله الذي نقله بعضهم عنه وهو انه صلى الله عليه وسلم واصحابه كانوا يصلون بمكة الى الكعبة فلما هاجروا امره الله تعالى ان يصلي نحو صخرة بيت المقدس أي يستمر على ذلك ويستدبر الكعبة ثم امره الله باستقبال الكعبة واستدبار بيت المقدس فلم يقع النسخ مرتين كما قد يفهم من ظاهر السياق ومن
____________________
(2/357)
قول ابن جرير رسول الله صلى الله عليه وسلم اول ما صلى الى الكعبة ثم صرف الى بيت المقدس وهو بمكة فصلى صلاة ثلاث حجج ثم هاجر فصلى اليه ثم وجهه الله تعالى إلى الكعبة هذا كلامه ومن ثم قال الحافظ ابن حجر هذا ضعيف ويلزم منه دعوى النسخ مرتين قيل وكان امره بمداومة استقبال بيت المقدس ليتالف اهل الكتاب لانه كان ابتداء الأمر يحب ان يتألف اهل الكتاب فيما لم ينه عنه فلا يخالف ماسبق من انه كان يحب ان يستقبل الكعبة كراهة لموافقة اليهود في استقبال بيت المقدس ولا يخالف هذا قول بعضهم كان صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة يحب موافقة اهل الكتاب فيما لم ينه عنه وبعد الفتح يحب مخالفتهم لجواز ان يكون ذلك اغلب احواله وقد يؤخذ من ان استدامة استقباله لبيت المقدس كان لتالف اهل الكتاب جواب عما يقال اذا كانت الكعبة قبلة الانبياء كلهم فلم وفق الى استقبال بيت المقدس هو بمكة بناء على ان صلاته لبيت المقدس وهو بمكة كانت باجتهاد
وحاصل الجواب انه امر بذلك او وفق اليه لانه سيصير الى قوم قبلتهم بيت المقدس ففيه تاليف لهم وقد يوافقه مافي الاصل عن محمد بن كعب القرظى قال ما خالف نبي نبيا قط في قبلة الا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل بيت المقدس أي فهو مخالف لغيره من الانبياء في ذلك وهذا موافق لما تقدم عن ابي العالية كانت الكعبة قبلة الانبياء أي ثم في السنة المذكورة التي هي الثانية فرض صوم رمضان وفرضت زكاة الفطر وطلبت الاضحية أي استحبابا
وعن ابي سعيد الخدري رضى الله تعالى عنه فرض شهر رمضان بعد ما صرفت القبلة إلى الكعبة بشهر في شعبان أي على ما تقدم وكان صلى الله عليه وسلم يصوم هو واصحابه قبل فرض رمضان ثلاثة ايام من كل شهر أي وهي الايام البيض وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر قيل وجوبا
فعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفطر الايام البيض في حضر ولا سفر وكان يحث على صيامها
وقيل كان الواجب عليه صلى الله عليه وسلم قبل فرض رمضان صوم عاشوراء ثم نسخ ذلك بوجوب رمضان
وعاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم ففي البخارى ثم عن ابن عمر رضى
____________________
(2/358)
الله عنهما صام النبي صلى الله عليه وسلم عاشوراء فلما فرض رمضان ترك صوم عاشوراء هذا والمشهور من مذهبنا معاشر الشافعية انه لم يجب على هذه الامة صوم قبل رمضان
وحديث ابن عباس رضى الله تعالى عنهما لا دلالة فيه على الوجوب لجواز ان يكون شانه صلى الله عليه وسلم صيام تلك الايام على الوجه المذكور حتى بعد فرض رمضان وحديث البخارى ايضا لا دلالة فيه لجواز ان يكون تركه لصوم يوم عاشوراء في بعض الاحايين بعد فرض رمضان خشية اعتقاد وجوب صومه كرمضان
ويجاب بمثل ذلك عما في الترمذى عن عائشة رضى الله تعالى عنها قالت كان عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه موافقة لهم اي ولم يامر احدا من اصحابه بصيامه فلما قدم المدينة صامه وامر بصيامه فلما فرض رمضان كان رمضان هو الفريضة وترك عاشوراء فمن شاء صامه ومن شاء تركه أي ترك صلى الله عليه وسلم صومه خوفا من توهم انه فرض كرمضان وقولها رضى الله تعالى عنها فلما قدم المدينة صامه وامر بصيامه أي لانه صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة أي في ايام قدومه للمدينة وذلك في شهر ربيع الاول وجد اليهود تصومه وتعظمه فسالهم عن ذلك فقالوا يوم عظيم انجى الله فيه موسى وقومه واغرق فرعون وقومه فصامه موسى شكرا فنحن نصومه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن احق بموسى منكم فصامه وامر بصيامه كما جاء ذلك عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما
وفي كلام الحافظ ناصر الدين عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة يوم عاشوراء فاذا اليهود صيام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذا قالوا هذا يوم اغرق الله تعالى فيه فرعون وانجى فيه موسى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم انا اولى بموسى فامر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصومه هذا حديث صحيح اخرجه البخارى ومسلم
والمدينة يحتمل ان المراد بها قباء ويحتمل ان المراد بها باطنها قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما فلما فرض رمضان قال صلى الله عليه وسلم أي لاصحابه من شاء صامه ومن شاء تركه أي قال ذلك لهم خشية اعتقادهم وجوب صومه كوجوب صوم رمضان
وفي كونه صلى الله عليه وسلم وجدهم صائمين لذلك اليوم اشكال لان يوم عاشوراء
____________________
(2/359)
هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم كما تقدم او هو اليوم التاسع منه كما يقول ابن عباس رضى الله تعالى عنهما فكيف يكون في ربيع الاول
واجيب بان السنة عند اليهود شمسية لا قمرية فيوم عاشوراء الذي كان عاشر المحرم واتفق فيه غرق فرعون لا يتقيد بكونه عاشر المحرم بل اتفق في ذلك الزمن أي زمن قدومه صلى الله عليه وسلم وجود ذلك اليوم بدليل سؤاله صلى الله عليه وسلم اذ لو كان ذلك اليوم يوم عاشوراء ما سال
ومما يدل على ذلك ما في المعجم الكبير للطبراني عن خارجه بن زيد قال ليس يوم عاشوراء اليوم الذي تقوله الناس انما كان يوم تستر في الكعبة وتلعب فيه الحبشة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يدور في السنة وكان الناس ياتون فلانا اليهودي فيسالونه فلما مات اليهود اتو زيد بن ثابت فسالوه فصام صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم وامر بصيامه حتى انه ارسل في ذلك اليوم اسلم بن حارثة إلى قومه وهم اسلم وقال مر قومك بصيام عاشوراء فقال ارايت ان وجدتهم قد طعموا قال فليتموا أي يمسكوا تعظيما لذلك اليوم
وفي دلائل النبوة للبيهقي عن بعض الصحابيات قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظم يوم عاشوراء ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو يوم عاشوراء بالرضعاء فيتفل في افواههم ويقول للامهات لا ترضعنهم الى الليل
والظاهر ان المراد بيوم عاشوراء هذا اليوم الذي هو عاشر المحرم الهلالى لا الشمسي وكذا يقال في قوله وقيل سمى الخ فليتامل
وقيل سمى يوم عاشوراء لان عشرة من الانبياء اكرمهم الله تعالى فيه بعشر كرامات تاب الله فيه على آدم واستوت فيه سفينة نوح على الجودى أي فصامه نوح ومن معه حتى الوحش شكرا لله ورفع الله فيه ادريس ونصر الله فيه موسى ونجى فيه ابراهيم من النار وفيه اخرج يوسف من السجن أي وفيه ولد وردفيه على والده يعقوب واخرج فيه يونس من بطن الحوت أي وتاب الله على اهل مدينته وتاب الله فيه على داود وعوفى فيه ايوب
وفي كلام الحافظ ابن ناصر الدين عن ابي هريرة رضى الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله عز وجل افترض على بني اسرائيل صوم يوم في السنة وهو
____________________
(2/360)
يوم عاشوراء وهو اليوم العاشر من المحرم فصوموه ووسعوا على اهاليكم فيه فانه من وسع على اهله من ماله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته فصوموه وهو اليوم الذي تاب الله فيه على آدم وذكر ما تقدم وزاد عليه وانه اليوم الذي انزل الله فيه التوراة على موسى وفيه فدى الله اسمعيل من الذبح وهو اليوم الذي رد الله فيه على يعقوب بصره وهو اليوم الذي رد الله فيه على سليمان ملكه وهو اليوم الذي غفر الله فيه لمحمد صلى الله عليه وسلم ذنبه ما تقدم وما تاخر واول يوم خلق من الدنيا يوم عاشوراء واول مطر نزل من السماء يوم عاشوراء واول رحمة نزلت من السماء يوم عاشوراء فمن صام يوم عاشوراء فكانما صام الدهر كله وهو صوم الانبياء الحديث بطوله ثم قال هذا حديث حسن ورجاله ثقات
وذكر الحافظ المذكور عن بعضهم قال كنت افت للنمل خبزا في كل يوم فلما كان يوم عاشوراء لم تاكل وتقدم ان الصرد اول طير صام عاشوراء
وفي كلام بعضهم ما قيل في يوم عاشوراء كانت توبة آدم الى اخر ما تقدم من الاحاديث الموضوعة وفي كلام بعض اخر ما يفعل فيه من اظهار الزينة بالخصاب والاكتحال ولبس الجديد وطبخ الحبوب والاطعمة والإغتسال والتطيب من وضع الكذابين
والحاصل ان الرافضة اتخذوا ذلك ماتما يندبون وينوحون ويحزنون فيه والجهال اتخذوا ذلك موسما وكلاهما مخطىء مخالف للسنة واما التوسعة فيه على العيال فحديثها وان لم يكن صحيحا فهو حسن خلافا لقول ابن تيمية ان التوسعة على العيال لم يرد فيها شىء عنه صلى الله عليه وسلم وكان صلى الله عليه وسلم يصوم عاشوراء كما تصومه اليهود أي ويوم عاشوراء مختلف لانه عند اليهود من السنة الشمسية وعند اهل الاسلام من السنة الهلالية
وفي مسلم عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما ان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صام يوم عاشورا وامر بصيامه قال له بعض الصحابة يا رسول الله انه يوم تعظمه اليهود فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا كان العام المقبل صمنا اليوم التاسع قبله أي مخالفة لليهود فلم يات العام المقبل حتى توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/361)
2 وفي هذا الحديث اشكال فان سياقه يدل على انه صلى الله عليه وسلم ما صام يوم عاشوراء ولا امر بصيامه الا في السنة التي توفى فيها وهو مخالف لما سبق
ويجاب عن هذا الاشكال بان المراد بقوله حين صام أي حين واظب على صومه اتفق ان قول بعض الصحابة ذلك كان في السنة التي توفى فيها وهو صلى الله عليه وسلم كان شانه موافقة اهل الكتاب قبل فتح مكة ومخالفتهم بعده كما تقدم وبعض متاخرى فقهائنا ظن ان قوله صلى الله عليه وسلم اذا كان العام المقبل ان شاء الله تعالى صمنا اليوم التاسع من تتمة حديث ولما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود تصومه فصامه وامر بصيامه فاستشكل
واجاب بان المراد لما قدم من سفرة سافرها من المدينة بعدالهجرة أي وكان قدومه من تلك السفرة في السنة التي توفى فيها وقد علمت انهم حديثان قد علمت معنى الحديث الذي تتمته اذا كان العام المقبل وفي كون اغراق فرعون ونجاة موسى كان يوم قدومه صلى الله عليه وسلم يلزم عليه ان ذلك اليوم انتقل من ذلك الشهر الى اليوم العاشر من المحرم الذي هو الشهر الهلالي من السنة الثانية واستمر كذلك كما هو ظاهر سياق الاحاديث ان الذي واظب على صيامه انما هو ذلك اليوم كونه وافق اليهود على صوم ذلك اليوم ثم خالفهم في السنة الثانية وما بعدها من ابعد البعيد
ثم رايت ابا الريحان البيروتي نازع في ذلك في كتابة الاثار الباقية عن القرون الخالية حيث قال رواية ان الله اغرق فرعون ونجى موسى وقومه يوم قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة الامتحان يشهد عليها بالبطلان وبين ذلك بما يطول وحينئذ يكون من جملة ما يحكم عليها بالبطلان اقرارهم على ذلك وكونه صلى الله عليه وسلم صامه وامر بصيامه وفرض الله عز وجل عليه صلى الله عليه وسلم وعلى امته صيام شهر رمضان او الاطعام عن كل يوم مسكينا بقوله تعالى { وعلى الذين يطيقونه } من الاصحاء المقيمين { فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا } أي زاد على اطعام المسكين { فهو خير له وأن تصوموا خير لكم } أي من الفطر والاطعام فكان من شاء صام ومن شاء اطعم عن كل يوم مدا
ثم ان الله تعالى نسخ هذا التخيير بايجاب صوم رمضان عينا بقوله { فمن شهد منكم الشهر } أي علمه { فليصمه } الا في حق من لا يستطيع صومه لكبر او لمرض لا يرجى زواله فيجزيه الاطعام ورخص فيه للمريض أي اذا كان بحيث تحصل له مشقة تبيح التيمم
____________________
(2/362)
وللمسافر أي الذي يباح له قصر الصلاة وان لم يحصل له مشقة بالكلية مع وجوب القضاء اذا زال المرض والسفر بقوله تعالى { ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } أي فافطر فعليه صيام عدة ما افطر من ايام اخر وكانوا ياكلون ويشربون وياتون النساء مالم يناموا بعد الغروب او يدخل وقت العشاء الاخرة فاذا ناموا او دخل وقت العشاء الاخرة امتنع عليهم ذلك الى اللية القابلة ثم نسخ الله ذلك واحل الاكل والشرب واتيان النساء الى طلوع الفجر ولو بعد النوم ودخول وقت العشاء بقوله تعالى { أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم } ثم قال تعالى { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود } ولما فهم بعض الصحابة ان المراد الخيط حقيقة حتى صار يجعل عند وسادته حبلا ابيض وحبلا اسود انزل الله تعالى من الفجر اشارة الى ان المراد بياض النهار وسواد الليل
وذكر في التفسير في سبب نزول هذه الاية ان عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه واقع اهله بعد ما صلى العشاء فلما اغتسل اخذ يبكي ويلوم نفسه فاتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله اعتذر الى الله واليك من نفسي هذه الخاطئة اني رجعت الى اهلي فوجدت رائحة طيبة فسولت لي نفسي فجامعت اهلي فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما كنت جديرا بذلك يا عمر فقام رجال فاعترفوا بمثله فنزلت وذكر له صلى الله عليه وسلم ان بعض اصحابه سقط مغشيا عليه بسبب الصوم فساله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فاخبر انه اهل حرث وانه جاء لينظر ما تعمله له زوجته ليتعشى به فغلبته عينه فنام فلم يستيقظ الا بعد الغروب فلم يتناول شيئا فانزل الله تعالى { وكلوا واشربوا } الاية وقوله تعالى { كما كتب على الذين من قبلكم } جاء في بعض الروايات ان المراد بهم اهل الكتاب أي اليهود والنصارى وجاء في بعضها ان المراد بهم النصارى خاصة وجاء في بعض الروايات ان المراد بهم جميع الامم السابقة فقد جاء ما من امة الا وجب عليها صوم رمضان الا انهم اخطئوه ولم يهتدوا له وهذه الرواية تدل على انه لم يصمه احد من الامم السابقة فصومه من خصوصيات هذه الامة
وفي الانساب لابن قتيبة اول من صام رمضان نوح عليه الصلاة والسلام هذا كلامه وفي بعض الروايات ما يفيد ان النصارى صامته واتفق انه وقع في بعض السنين في شدة الحر فاقتضى رايهم تاخيره بين الصيف والشتاء وان يزيدوا في مقابلة تاخيره
____________________
(2/363)
عشرين يوما وعلى هذا فصومه ليس من خصائص هذه الامة وقيل التشبيه انما هو في مطلق الصوم لافي خصوص صوم رمضان لانه كان الواجب على جميع ما تقدم من الامم صوم ثلاثة ايام من كل شهر صام ذلك نوح فمن دونه حتى صامه النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم وتقدم ان تلك الايام التي صامها صلى الله عليه وسلم كانت البيض التي هي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر وتقدم انه قيل ان صوم ذلك كان واجبا عليه صلى الله عليه وسلم وعلى امته
وقيل كان الواجب عليه وعلى اصحابه قبل صوم رمضان عاشوراء وتقدم رده وكان فرض زكاة الفطر قبل العيد بيومين وكان صلى الله عليه وسلم يخطب قبل العيد بيومين يعلم الناس زكاة الفطر فيامر باخراج تلك الزكاة قبل الخروج إلى صلاة العيد أي بعد ان شرعت لان مشروعيتها تاخرت عن مشروعية صلاة عيد الاضحى وكان فرض زكاة الفطر قبل فرض زكاة الاموال وكان فرض زكاة الاموال في تلك السنة التي هي الثانية ولم اقف على خصوص الشهر الذي وجبت فيه قال بعضهم ولعل هذا محمل قول بعض المتاخرين المطلعين على الفقه والحديث لم يتحرر لي وقت فرض الزكاة أي زكاة المال ولعله عنى ببعض المتاخرين الامام سراج الدين البلقيني رحمه الله لان الامام سراج الدين البلقيني سئل هل علمت السنة التي فرضت فيها زكاة المال فاجاب بقوله لم يتعرض الحفاظ ولا اصحاب السير للسنة التي فرض فيها زكاة المال ووقع لي حديثان ظهر منهما تقريب ذلك ولم اسبق اليه ثم قال فقد ظهر ان زكاة المال بعد زكاة الفطر وقيل قدوم ضمام بن ثعلبة وقدومه كان في السنة الخامسة هذا كلامه
وقيل فرضت زكاة الفطر قبل الهجرة وعليه يحمل ظاهر مافي سفر السعادة كان صلى الله عليه وسلم يرسل مناديا ينادي في الاسواق والمحلات والازقة من مكة ألا ان صدقة الفطر واجبه على كل مسلم ومسلمة الحديث
ورد بانه لم يفرض قبل الهجرة بعد الايمان الا الصلوات الخمس وكل الفروض فرضت بعد الهجرة وفيه انه فرض قيام الليل كما تقدم وصلاة الركعتين بالغداة والركعتين بالعشى على ما تقدم الا ان يقال المراد الفروض الموجودة الان المستمر فرضها وما تقدم عن سفر السعادة يجوز ان يكون صلى الله عليه وسلم يرسل المنادي الذي ينادي في مكة بوجود زكاة الفطر وهو بالمدينة بعد وجوبها بالمدينة وامر صلى الله عليه وسلم ان
____________________
(2/364)
تخرج زكاة الفطر عن الصغير والكبير والحر والعبد والذكر والانثى صاع من تمر او صاع من شعير او صاع من زبيب او صاع من بر فكان يصلى العيدين قبل الخطبة بلا اذان ولا اقامه أي بل يقال الصلاة جامعة لكن في سفر السعادة وكان صلى الله عليه وسلم اذا بلغ المصلى شرع في الصلاة من وقته بلا اذان ولا اقامه ولا الصلاة جامعة والسنة ان لا يكون شىء من هذا كله هذا كلامه وكانت تحمل العنزة بين يديه فاذا وصل المصلى نصبت تجاهه وهي عصا قدر نصف الرمح في اسفلها زج من حديد وكانت تلك العنزة للزبير بن العوام قدم بها من ارض الحبشة فاخذها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يصلى اليها أي اخذها منه بعد وقعة بدر وقد قتل بها الزبير عبيدة بفتح العين المهملة وبضمها ابن سعيد بن العاص الذي كان يقال له ابو ذات الكرش قال الزبير لقيته لا يرى منه الا عيناه فقال لي انا ابو ذات الكرش فحملت عليه بالعنزة فطعنته في عينه فمات واردت اخراجها فوضعت رجلي عليه ثم تمطيت فكان الجهد ان نزعتها وقد انثنى طرفها ولما قبض صلى الله عليه وسلم اخذها الزبير ثم طلبها أبو بكر رضي الله تعالى عنه فأعطاه إياها فلما قبض أبو بكر رضي الله تعالى عنه أخذها الزبير ثم سألها عمر رضى الله تعالى عنه فاعطاه اياها فلما قبض عمر اخذها ثم طلبها عثمان فاعطاه اياها فلما قتل دفعت الى على ثم اخذها عبدالله بن الزبير فكانت عنده حتى قتل
وكان صلى الله عليه وسلم اذا رجع من صلاة عيد الفطر وخطبته يقسم زكاة الفطر بين المساكين ولعل المراد الزكاة المتعلقة به لانه تقدم انه صلى الله عليه وسلم كان يامر الناس باخراجها قبل الصلاة الا ان يقال المراد باخراجها جمعها له صلى الله عليه وسلم ليفرقها
واذا فرغ صلى الله عليه وسلم من صلاة الاضحى وخطبته يؤتى له بكبشين وهو قائم في مصلاه فيذبح احدهما بيده ويقول هذا عن امتي جميعا من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ
وعند الحاكم عن ابي سعيد الخدري رضى الله تعالى عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح كبشا اقرن بالمصلى أي بعد ان قال بسم الله والله اكبر وقال اللهم هذا عني وعمن لم يضح من امتي
استدل بذلك على ان من خصائصه صلى الله عليه وسلم ان يضحى عن غيره بغير
____________________
(2/365)
اذنه ويذبح الاخر ويقول هذا عن محمد وال محمد فياكل هو واهله منهما ويطعم المساكين ولم يترك الاضحيه قط وهل كانت الانبياء من بعد ابراهيم تضحي هم وأممهم او هم خاصة وكان في مسجده صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة قبل ان يوضع له المنبر يخطب ويسند ظهره الى اسطوانة من جذوع النخل او من الدوم وهو شجر المقل
وعبارة بعضهم كان يخطب الناس وهو مستند الى جذع عند مصلاه في الحائط القبلي فلما كثر الناس أي وقالوا له صلى الله عليه وسلم لو اتخذت شيئا تقوم عليه اذا خطبت يراك الناس وتسمعهم خطبتك فقال ابنوا لي منبرا فلما بنى له المنبر عتبتين اى ومحل الجلوس فكان ثلاث درجات وقام عليه في يوم جمعة أي وخطب وفي لفظ لما عدل إلى المنبر ليخطب عليه وجاوز ذلك الجذع سمع لتلك الاسطوانة حنين كحنين الوالة بصوت هائل سمعه اهل المسجد حتى ارتج اى اضطرب المسجد وكثر بكاء الناس لذلك ولا زالت تحن حتى تصدعت وانشقت اى وفي رواية سمع له صوت كصوت العشار اى النوق التي اتى لحملها عشرة اشهر وقيل التي اخذ ولدها وفي بعض الروايات كحنين الناقة الحاوج وهي التي انتزع ولدها منها وفي رواية جأر بفتح الجيم وبعدها همزة مفتوحة اى صوت او بالحاء المعجمة بلا همزة وهو بمعناه كخوار الثور فنزل صلى الله عليه وسلم فالتزمها وحضنها أي فجعلت تئن انين الصبي الذي يسكت فيسكت
أي وفي كلام بعضهم وذكر الاسفراينى ان النبي صلى الله عليه وسلم دعاه الى نفسه فجاءه يخرق الارض فالتزمه فعاد الى مكانه وفى رواية ووضع يده عليها وقال لها اسكني واسكتي فسكتت وفي رواية ان هذا اى الجذع يبكي لما فقد من الذكر والذي نفسي بيده لو لم التزمه لم يزل هكذا أي يحن الى يوم القيامة زاد في رواية حزنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله لما فقد من الذكر هو واضح على الرواية الاولى واما على الثانية فالمراد لما يفقده من الذكر والى حنين الجذع اشار الامام السبكى رحمه الله تعالى في تائيته بقوله ** وحن اليك الجذع حين تركته ** حنين الثكالى عند فقد الاحبة **
وعن بعضهم قال قال لي الامام الشافعي رضى الله تعالى عنه ما اعطى الله نبيا ما اعطى محمدا صلى الله عليه وسلم فقلت اعطى عيسى احياء الموتى فقال اعطى
____________________
(2/366)
محمدا صلى الله عليه وسلم حنين الجذع فهذا اكبر من ذاك وفي رواية لا تلوموه أي الجذع على حنينه فان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفارق شيئا الا وجد عليه أي حزن وفي رواية انه قال له ان شئت اردك الى الحائط أي البستان الذي كنت فيه تنبت لك عروقك ويكمل خلقك ويجدد لك خوص وثمرة وان شئت اغرسك في الجنة فيأكل اولياء الله من ثمرك ثم اصغى له صلى الله عليه وسلم يسمع ما يقول فقال بصوت سمعه من يليه بل تغرسني في الجنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فعلت قد فعلت وفي رواية لما اصغى اليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الله سئل فقال اختار ان اغرسه في الجنة أي وفي رواية اختار دار البقاء على دار الفناء ولا يخالف ما قبله لانه يجوز ان يكون السائل من غير من سمع جوابه وامر به فدفن تحت المنبر وقيل جعل في السقف واخذ عنده ابى رضى الله عنه بعد ان هدم المسجد وازيل سقفه فكان عنده الى ان اكلته الارضة وعاد رفاتا أي متكسرا من شدة اليبس
اقول في سيرة الحافظ الدمياطى قالوا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يخطب الى جذع في المسجد قائما فقال ان القيام شق علي فقال له تميم الدارى الا اعمل لك منبرا كما رأيت يصنع بالشام أي تصنعه النصارى في كنائسهم لاساقفتهم تسمى المرقاة يصعدون اليها عند تذكيرهم فتشاور رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المسلمين في ذلك فراوا ان يتخذوه فقال العباس بن عبد المطلب رضى الله عنهما ان لي غلاما يقال له كلاب اعلم الناس أي بالنجارة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مره ن يعمله فارسله الى اثلة بالغابة فقطعها ثم عمل منها درجتين ومقعدا ثم جاء به فوضعه في موضعه اليوم فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام عليه أي وقال ان اتخذ منبرا فقد اتخده ابى ابراهيم أي ولعله صلى الله عليه وسلم عنى به المقام الذي كان يقوم عليه عند بناء البيت وهو الحجر الا ان ثبت ان ابراهيم كان له منبر يحدث عليه الناس
وعن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند المنبر يقول ياخذ الجبار بسمواته وارضه بيده ثم يقول انا الجبار انا الجبار اين الجبارون اين المتكبرون ويميل يعني النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه وشماله حتى نظرت الى المنبر يتحرك حتى اني اقول اساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم وفي
____________________
(2/367)
رواية عنه فقال المنبر هكذا وهكذا فجاء وذهب ثلاث مرات وفي رواية عن عائشة رضى الله تعالى عنها فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم منبره حتى قلن ليحزن وقال منبري هذا على ترعه بضم المثناة فوق واسكان الراء وبالعين المهملة من ترع الجنة أي افواه جداول الجنة وقوائم منبري رواتب أي ثوابت في الجنة وقال صلى الله عليه وسلم منبري على حوضي وقال ان حوضي كما بين عدن الى عمان اشد بياضا من اللبن واحلى من العسل واطيب رائحة من المسك اباريقه عدد نجوم السما من شرب منه شربة لم يظما بعدها ابدا واكثر الناس ورودا عليه يوم القيامة فقراء المهاجرين قلنا من هم يا رسول الله قال الشعثة رؤسهم الدنسة ثيابهم الذين لا ينكحون المنعمات ولا تفتح لهم السدد أي الابواب الذين يعطون الذي عليهم ولا ياخذون الذي لهم وقال صلى الله عليه وسلم مابين قبري ومنبري وفي رواية يدل قبري بيتي وفي لفظ حجرتي والمراد قبره الشريف فانه في حجرته وحجرته هي بيته صلى الله عليه وسلم روضة من رياض الجنة أي يكون بعينه في الجنة بقعة من بقاعها أي ينقلها الله تعالى فتكون في الجنة بعينها
وقيل ان الصلاة والدعاء فيها يستحق بذلك من الثواب ما يكون موجبا لدخول الجنة كما قيل بذلك في قوله صلى الله عليه وسلم الجنة تحت ظلال السيوف مع ان تلك السيوف كانت بارض الكفر وقيل انها لبركتها اضيفت الى الجنة كما قيل في الضان انها من دواب الجنة
وقال ابن حزم ليس على ما يظنه اهل الجهل من ان تلك الروضة قطعة مقتطعة من الجنة وقال صلى الله عليه وسلم من حلف على منبري كاذبا ولو على سواك اراك فيتبوأ مقعده من النار وفي رواية الا وجبت له النار
اقول وجاء انه صلى الله عليه وسلم كان على المنبر يعتمد على عصا من شوحط وفي الهدى لم يعتمد صلى الله عليه وسلم في خطبته على سيف ابدا وقبل ان يتخذ له المنبر كان يعتمد على قوس او عصا أي وقيل كان يعتمد على قوس ان خطب في الحرب على عصا ان خطب في غيره
واختلف فيها يعني تلك العصا هل هي العنزة لتي كان يصلي اليها او غيرها وما يظنه بعض الناس من انه كان يعتمد على سيف وان ذلك اشارة الى ان الدين قام
____________________
(2/368)
بالسيف فمن فرط جهله هذا كلامه وفيه ان بعض فقهائنا ذكر ان اعتماده في خطبته كان على سيف روى ولم يثبت
وذكر فقهاؤنا تلك الحكمة حيث قالوا وحكمة اعتماده على العصا او القوس او السيف الاشارة إلى ان هذا الدين قام بالسلاح وقول صاحب الهدى وكان قبل ان يتخذ المنبر يعتمد على قوس او عصا يقتضى ان بعد اتخاذ المنبر لم يعتمد على شىء من ذلك أي وصرح به صاحب القاموس في سفر السعادة حيث قال لم يكن ياخذ السيف والحربة بيده بل كان يعتمد على القوس او العصا وذا قبل اتخاذ المنبر واما بعد اتخاذ المنبر فلم يحفظ انه اعتمد على العصا ولا على القوس ولا على غير ذلك هذا كلامه فيكون الاعتماد على ذلك فوق المنبر بدعة وهو خلاف ما عليه ائمتنا من انه يسن ان يشغل يمناه بحرف المنبر ويسراه بما يعتمد عليه من نحو العصا لكن قالوا كعادة من يريد الضرب بالسيف والرمي بالقوس وهو لا ياتي في العصا ولا ياتي في السيف اذا كان في غمده
ووجود المرقى الذى يقرأ الاية والخبر المشهور بدعة لانه حدث بعد الصدر الاول ولم اقف على اول زمان فعل فيه ذلك لكن ذكر بعضهم انه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع امر من يستنصت له الناس عند ارادة خطبته وعليه ان كان استنصتهم بالحديث فذكر المرقى للخبر ليس من البدعة الا ان يقال هو بالنسبة لخطبة الجمعة بدعة لانه صلى الله عليه وسلم كان يذكر الحديث على المنبر فالسنة ان يذكره الخطيب كذلك
ففي سفر السعادة وكان صلى الله عليه وسلم في اثناء الخطبة يامر الناس بالانصات ويقول ان الرجل اذا قال لصاحبه انصت فقد لغا ومن لغا فلا جمعة له وكان صلى الله عليه وسلم يقول من تكلم يوم الجمعة والامام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل اسفارا والذي يقول انصت ليس له جمعة
وقول الحافظ الدمياطي كان صلى الله عليه وسلم يخطب على جذع قائما وانه قال ان القيام شق على يقتضى ان حنين الجذع كان عند قيامه على ذلك المنبر من الخشب وانه لم يتخذ قبل ذلك المنبر من الطين الذي قدمناه وفيه نظر وكذا في قوله وقال له تميم الدارى الى اخره لان تميما الدارى انما اسلم في السنة التاسعة وهذا المنبر الذي من الخشب انما فعل في السابعة او الثامنة وعلى هذا اقتصر الاصل حيث قال في الحوادث
____________________
(2/369)
وفيها أي السنة الثامنة اتخاذ المنبر والخطبة عليه وحنين الجذع وهو اول منبر عمل في الاسلام وهو في ذلك موافق لما قدمه هو أي الاصل من اتخاذ المنبر له من الطين قبل ذلك وانه كان عنده حنين الجذع
وعلى كون المنبر عمل في الثامنة لا يشكل كون العباس رضى الله تعالى عنه امر غلامه بعمله لان العباس رضى الله عنه قدم المدينة في السنة الثامنة لكن في بعض الروايات انه صلى الله عليه وسلم دعا رجلا فقال اتصنع لي المنبر قال نعم قال ما اسمك قال فلان قال لست بصاحبه ثم دعا اخر فقال له مثل ذلك ثم دعا الثالث فقال له ما اسمك قال ابراهيم قال خذ في صنعته فصنعه وفي رواية عمله رجل رومى اسمه باقوم غلام سعيد بن العاص أي ولعله هو الذي تقدم ذكره عند بناء قريش للكعبة
وفي رواية انه صلى الله عليه وسلم ارسل الى امراه فقال لها مرى غلامك يعمل لي اعوادا اكلم الناس عليها فعمل له صلى الله عليه وسلم درجات من طرفاء الغابة ويجوز ان يكون غلام العباس رضى الله تعالى عنه انتقل الى ملك تلك المرأه وانه كان غلاما لسعيد بن العاص وانه اشترك في عمله مع ابراهيم المتقدم ذكره فنسب لكل منهما
فعلم من كلام الاصل في غير الحوادث انه كان صلى الله عليه وسلم يخطب اولا على الجذع ثم على المنبر من الطين وان حنين الجذع كان عند قيامه صلى الله عليه وسلم على ذلك المنبر من الطين وهو مخالف لكلامه في الحوادث ان حنين الجذع كان عند اتخاذه صلى الله عليه وسلم المنبر من الخشب ويكون ذكر حنين الجذع عند القيام عليه من تصرف بعض الرواة لان حنين الجذع لم يتكرر حتى يقال جاز ان يكون كان عند قيامه صلى الله عليه وسلم على المنبر من الطين ثم عند قيامه على المنبر من الخشب
ثم رأيته في النور رجع كلام الاصل في غير الحوادث الى كلام الاصل في الحوادث من انه صلى الله عليه وسلم لم يكن له منبر من طين حيث قال قوله أي الاصل فبنوا له منبرا وهذا الكلام فيه تجوز يعنى اتخذوا له منبرا وذلك لان المنبر كان من طرفاء الغابة وهو شجر معروف هذا كلامه وليته عكس لان هذا منه يقتضى حينئذ ان يكون صلى الله عليه وسلم استمر من حين خطب في المسجد الى السنة الثامنة يخطب الى الجذع لان المنبر من الخشب اتخذ في السنة الثامنة كما تقدم عن الاصل
____________________
(2/370)
ويشكل عليه قول عائشة رضى الله تعالى عنها في قصة الافك فثار الحيان الاوس والخزرج حتى كادوا ان يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر لان قصة الافك كانت في سنة خمس
ثم رايت في كتاب الشريعة للاجرى عن انس بن مالك رضى الله تعالى عنه كان صلى الله عليه وسلم يخطب مسندا ظهره الى خشبة فلما كثر الناس قال ابنوا لي منبرا فبنوا له عتبتين أي غير المستراح فلما قام على المنبر يخطب حنت الخشبة الحديث
وعن سهل بن سعد رضى الله تعالى عنه لما كثر الناس وصار يجىء القوم ولا يكادون يسمعون رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخطبة قال الناس يا رسول الله قد كثر الناس وكثير منهم لا يكاد يسمع كلامك فلو انك اتخذت شيئا تخطب عليه مرتفعا من الارض ويسمع الناس كلامك فارسل صلى الله عليه وسلم الى غلام نجار لامرأة من الانصار فاتخذ له مرقاتين من طرفاء الغابة فلما قام حنت الخشبة التي كان يخطب اليها هذا كلامه وهو موافق لما تقدم عن الاصل في الحوادث
والذي ينبغي الجمع بين الروايتين لان ما علم من ان اتخاذ المنبر من طرفاء الغابة كان بعد اتخاذه من الطين لانه اقوى في الارتفاع من منبر الطين وكون حنين الجذع عند اتخاذ المنبر من الطرفاء من تصرف بعض الرواة لان حنينه انما كان عند اتخاذ المنبر من الطين ولم يتكرر حنينه كما تقدم
ولما ولى معاوية الخلافة كسا ذلك المنبر قبطية ثم كتب الى عاملة بالمدينة وهو مروان ابن الحكم ان يرفع ذلك المنبر عن الارض فدعا بالنجارين وفعل ست درج ورفع ذلك المنبر عليها فصارت تسع درجات وهذا يدل على ان قوله فاتخذ له مرقاتين أي غير المستراح ومن ثم تقدم فعمل له درجات
وقيل امره بحمله الى الشام فلما ارادوا قلعة اظلمت المدينة وكسفت الشمس حتى بدت النجوم وثارت ريح شديدة فخرج مروان الى الناس فخطبهم وقال يا اهل المدينة انكم تزعمون ان امير المؤمينن بعث الى ان ابعث اليه بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وامير المؤمنين اعلم بالله من ان يغير منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم انما امرني ان اكرمه وارفعه ففعل ما تقدم
وقيل ان معاوية لما حج اراد ان ينقل المنبر الى الشام فحصل ما تقدم من كسوف
____________________
(2/371)
الشمس الخ فاعتذر معاوية للناس وقال اردت ان انظر الى ما تحته وخشيت عليه من الارضة وكساه يومئذ قبطية
ولا مانع من تعدد الواقعة وان واقعة معاوية سابقة على واقعة مروان لقوله لانظر ما تحته والا فمروان رفعه عن الارض
ثم ان هذا المنبر احرق بسبب الحريق الواقع في المسجد اول مرة فارسل صاحب اليمن منبرا فوضع موضعه مكث عشر سنين
وفي الامتاع ثم تهافت المنبر النبوى على طول الزمان فعمل بعض خلفاء بني العباس منبرا واتخذ من اعواد المنبر النبوى امشاطا يتبرك بها فاحترق هذا المنبر المجدد في حريق المسجد فبعث المظفر ملك اليمن منبر هذا كلامه ثم ارسل الملك الظاهر بيبرس من مصر منبرا فرفع منبر صاحب اليمن ووضع منبر الملك الظاهر فمكث مائة سنة واثنتين وثلاثين سنة فبدأفيه اكل الارضة فارسل الظاهر برقوق منبرا فرفع منبر الملك الظاهر بيبرس ووضع منبر الملك الظاهر برقوق ومكث ثلاثا أو اربعا وعشرين سنة
ثم ان السلطان المؤيد شيخ لما بنى مدرسته بالقاهرة التي يقال لها المؤيدية عمل اهل الشام له منبرا وارسلوا به اليه ليجعله في مدرسته فوجد اهل مصر قد صنعوا لها منبرا فسير المؤيد منبر اهل الشام إلى المدينة فمكث سبعا وستين سنة ثم احرق في الحريق الواقع في المسجد ثاني مرة ثم جعل موضعه منبر مبنى بالاجر مطلى بالنورة فمكث احدى وعشرين سنة ثم جعل موضعة المنبر الرخام الموجود الان
قيل واعجب منبر في الدنيا منبر جامع قرطبة قاعدة بلاد الاندلس بالمغرب ذكر ان خشبه من ساج وابنوس وعود قاقلى احكم عمله ونقشه في سبع سنين وكان يعمل فيه سبع صناع لكل صانع في كل يوم نصف مثقال ذهب فكان جملة ما صرف على اجرته عشرة الاف مثقال وخمسين مثقالا وبالجامع المذكور مصحف فيه اربع ورقات من مصحف عثمان بن عفان رضى الله تعالى عنه بخط يده وفيه نقط من دمه وفي هذا المسجد ثلاثة اعمدة حمر مكتوب على احدها اسم محمد صلى الله عليه وسلم وعلى الثاني صفة عيسى وموسى عليهما الصلاة والسلام واهل الكهف وعلى الثالث صورة غراب نوح الجميع خلقة ربانية ولا بدع
____________________
(2/372)
فقد ذكر بعضهم رايت بحمام القاهرة رخامة عليها مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم مفسرا يقرؤه كل احد خلقه
وعن سهل قال رايت رسول الله صلى الله عليه وسلم اول يوم جلس على المنبر أي من الخشب كبر فكبر الناس خلفه ثم ركع وهو على المنبر ثم رجع فنزل القهقرى ثم سجد في اصل المنبر ثم عاد حتى اذا فرغ من الصلاة يصنع فيها كما يصنع في الركعة الاولى فلما فرغ اقبل على الناس وقال ايها الناس انما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي وقوله لتأتموا بي أي تقتدوا بي في مثل هذا الفعل من الاحرام والركوع على المحل المرتفع ثم النزول عنه والسجود تحته ثم الصعود اليه وهكذا الى ان تتم الصلا وهذا عند أئمتنا مخصوص جوازه بما اذا لم يلزم عليه استدبار القبلة او توالى حركات ثلاث وقوله ولتعلموا صلاتي هو واضح لو كان ذلك اول صلاة الا ان يقال المراد ولتعلموا جواز صلاتي هذه
وفي كلام فقهائنا انه صلى الله عليه وسلم كان ينزل من المنبر ويسجد للتلاوة اسفل المنبر واخر الأمرين ترك ذلك فعلم ان منبره صلى الله عليه وسلم كان ثلاث درجات بالمستراح وحينئذ يشكل ان صح ما روى ان ابا بكرنزل درجة عن موقفه صلى الله عليه وسلم وعمر نزل درجة اخرى وعثمان درجة اخرى ومن ثم قال في النور وهذا يدل على انه كان اكثر من ثلاث درجات أي اربعة غير المستراح والا يلزم ان يكون عمر وعثمان كانا يخطبان على الارض
قال ويمكن تأويله هذا كلامه ولينظر ما تأويله فانه يلزم على كونه درجتين غير المستراح ان يكون الصديق كان يخطب على الدرجة الثانية وعمر يخطب على الارض وان عثمان فعل كفعل عمر وحينئذ لا يحسن قولهم وعثمان نزل درجة اخرى اذ لا درجة بعد الدرجة الثانية ينزل عنها وحينئذ يشكل مافي الامتاع وهو كان منبره صلى الله عليه وسلم درجتين ومجلسا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس على المجلس ويضع رجليه اذا قعد على الدرجة الثانية فلما ولى ابو بكر رضى الله تعالى عنه قام على الدرجة الثانية ووضع رجليه على الدرجة السفلى فلما ولى عمر رضى الله تعالى عنه قام على الدرجة السفلى ووضع رجليه على الارض اذا قعد فلما ولى عثمان رضى الله تعالى عنه فعل كذلك أي كفعل عمر ست سنين من خلافته ثم علا الى موضع وقوفه صلى الله عليه وسلم هذا كلامه
____________________
(2/373)
وكان ينبغي ان يقول بدل قوله فلما ولى ابو بكر قام على الدرجة الثانية جلس على الدرجة الثانية وكذا قوله فلما ولى عمر قام على الدرجة السفلى جلس على الدرجة السفلى أي فقد خطب على الارض وكذا عثمان
وذكر فقهاؤنا أن منبره صلى الله عليه وسلم كان ثلاث درج غير الدرجة التي تسمى المستراح وتسمى بالمقعد والمجلس فكان صلى الله عليه وسلم يقف على الثالثة أي بالنسبة للسفلى وإذا جلس يجلس على المستراح ويجعل رجليه محل وقوفه إذا قام للخطبة وكذا الخلفاء الثلاثة كل يجعل رجليه محل وقوفه
ويذكر أن المتوكل قال يوما لجلسائه وفيهم عبادة أتدرون ما الذي نقم على عثمان نقم عليه أشياء منها أنه قام أبو بكر رضي الله تعالى عنه دون مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرقاة ثم قام عمر رضي الله تعالى عنه عنه دونه بمرقاة فصعد عثمان رضي الله تعالى عنه ذروة المنبر فقال له عبادة ما أحد أعظم منه عليك يا أمير المؤمنين من عثمان قال وكيف ذاك قال لأنه صعد ذروة المنبر وإنه لو كان كلما قام خليفة نزل عمن تقدمه كنت أنت تخطبنا في بئر عميق فضحك المتوكل ومن حوله وكون عثمان صعد ذروة المنبر إنما هو في آخر الأمر كما علمت
وفي كلام بعضهم أول من اتخذ المنبر خمس عشرة درجة معاوية رضي الله تعالى عنه وأنه أول من اتخذ الخصيان في الإسلام وأول من قيدت بين يديه الجنائب وعثمان أول من كسا المنبر قبطية
وعن الواقدي أن امرأة سرقت كسوة عثمان للمنبر فأتى بها إليه فقال لها عثمان هل سرقت قولي لا فاعترفت فقطعها ثم كساه معاوية كما تقدم ثم كساه عبد الله ابن الزبير فسرقتها امرأة فقطعها كما قطع عثمان ثم كساه الخلفاء من بعده & باب غزوة بدر الكبرى
ويقال لها بدر العظمى ويقال لها بدر القتال ويقال بدر الفرقان أي لأن الله تعالى فرق فيها بين الحق والباطل
ثم إن العير التي خرج صلى الله عليه وسلم في طلبها حتى بلغ العشيرة ووجدها سبقته بأيام لم يزل مترقبا قفولها أي رجوعها من الشأم فلما سمع بقفولها من الشأم ندب المسلمين
____________________
(2/374)
أي دعاهم وقال هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا اليها لعل الله أن ينفلكموها فانتدب ناس أي أجابوا وثقل آخرون أي لم يجيبوا لظنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلق حربا ولم يحتفل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أي لم يهتم بها بل قال من كان ظهره أي ما يركبه حاضرا فليركب معنا ولم ينتظر من كان ظهره غائبا عنه
ولما خرج صلى الله عليه وسلم إلى بدر قالت له أم ورقة بنت نوفل يا رسول الله ائذن لي في الغزو معك أمرض مرضاكم لعل الله يرزقني الشهادة فقال لها قرى في بيتك فإن الله يرزقك الشهادة وكانت قد قرأت القرآن فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها ويسميها الشهيدة فكان الناس يقولون لها الشهيدة فلما كان زمن خلافة سيدنا عمر عدا عليها غلام وجارية كان دبرتهما فغمياها بقطيفة إلى أن ماتت فجيء بهما إلى سيدنا عمر فأمر بصلبهما فكانا أول مصلوب بالمدينة وقال صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول انطلقوا بنا نزور الشهيدة
فكان أبو سفيان حين دنا بالعير من أرض الحجاز يتجسس الأخبار أي يبحث عنها ويسأل من لقي من الركبان تخوفا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استنفر أصحابه للعير أي ويقال إنه لقي رجلا فأخبره أنه صلى الله عليه وسلم قد كان عرض لغيره في بدايته وأنه تركه مقيما ينتظر رجوع العير فخاف خوفا شديدا فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري أي استأجره بعشرين مثقالا ولا يعرف له إسلام والذي من الصحابة ضمضم بن عمر الخزاعي ليأتي مكة أي وأن يجدع بعيره وأن يحول رحله ويشق قميصه من قبله ومن دبره إذا دخل مكة ويستنقر قريشا ويخبرهم أن محمدا قد عرض لعيرهم هو وأصحابه فخرج ضمضم سريعا إلى مكة وقبل أن يقدم بثلاث ليال رأت عاتكة بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم اختلف في إسلامه رؤيا أفزعتها فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له يا أخي والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفظعتني أي اشتدت على وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة فاكتم عني ما أحدثك
قال وفي رواية أنها قالت له لن أحدثك حنى تعاهدني أن لا تذكرها فإنهم إن
____________________
(2/375)
سمعوها تعني كفار قريش آذونا واسمعونا ما لا نحب فعاهدها العباس اه فقال لها ما رأيت قالت رأيت راكبا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح أي وهو ما بين المحصب ومكة ثم صرخ بأعلى صوته ألا فانفروا يا آل غدر أي يا أصحاب الغدر وعدم الوفاء إلى مصارعكم في ثلاث أي بعد ثلاثة أيام
وفي كلام السهيلي يا آل غدر بضم الغين والدال جمع غدور أي إن تخلفتم فأنتم غدر لقومكم قالت فأرى الناس اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فبينما هم حوله مثل به بعيره أي انتصب به على ظهر الكعبة ثم صرخ بمثلها ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ بمثلها ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوى حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت أي تكسرت فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار إلا دخلها منه فلقة فقال لها العباس والله إن هذه لرؤيا وأنت فاكتميها ولا تذكريها لأحد ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة أي وكان صديقا له فذكرها له أي واستكتمه فذكرها الوليد لأبيه عتبة فتحدث بها ففشا الحديث قال العباس فغدوت لأطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام في رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة فلما رآني أبو جهل قال يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم فقال أبو جهل لعنه الله يا بني عبد المطلب متى حدثت فيكم هذه النبية قال قلت وما ذاك قال ذاك الرؤيا التي رأت عاتكة فقلت وما رأت قال يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن تستنبأ رجالكم حتى تستنبأ نساؤكم
وفي رواية ما رضيتم يا بني هاشم بكذب الرجال حتى جئتمونا بكذب النساء اه قال أبو جهل قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال انفروا في ثلاث فسنتربص بكم هذه الثلاث فإن يك حقا ما تقول فسيكون وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء نكتب عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت في العرب قال العباس فوالله ما كان مني إليه كبير إلا أني جحدت ذلك وأنكرت أن تكون رأت شيئا وفي رواية أن العباس قال لأبي جهل هل أنت منته يا مصفر استه أي يا مابون أو يا جبان أو الذي يغير لون البرص الذي بمقعدته الزعفران فإن الكذب فيك وفي أهل بيتك فقال من حضرهما ما كنت يا أبا الفضل جهولا ولا خرقا ولقي العباس رضي الله تعالى عنه من أخته عاتكة أذى شديدا حين أفشى من حديثها قال العباس فلم أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب
____________________
(2/376)
إلا أتتني أقررتم أي قائلة أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم ثم قد تناول النساء وأنت تسمع ثم لم يكن عندك غيرة لشيء مما سمعت
ثم قلت لهن وايم الله لأتعرضن له وإن عاد قاتلته وغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا مغضب أرى أني قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه فدخلت المسجد فرأيته فوالله إني لأمشي نحوه أتعرضه ليعود إلى بعض ما قال فأوقع به إذ هو قد خرج نحو باب المسجد يشتد أي يعدو فقلت في نفسي ماله لعنه الله أكل هذا فرق أي خوف مني فإذا هو يسمع ما لم أسمع سمع صوت ضمضم بن عمرو الغفاري وهو يصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره قد جدع بعيره أي قطع أنفسه وأذناه وحول رحله وشق قميصه وهو يقول يا معشر قريش اللطمة اللطيمة أي أدركوا اللطيمة وهي العير التي تحمل الطيب والبز أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها وفي لفظ إن أصابها محمد لم تفلحوا أبدا الغوث الغوث قال العباس فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر فتجهز الناس سراعا أي وفزعوا أشد الفزع وأشفقوا أي خافوا من رؤيا عاتكة
ويروى أنه قالوا أيظن محمد واصحابه ان تكون كعير ابن الحضرمي والله ليعلمن غير ذلك فكانوا بين رجلين إما خارج وإما باعث مكانه رجلا أي وأعان قويهم ضعيفهم وقام أشراف قريش يحضون الناس على الخروج وقال سهيل بن عمرو يا آل غالب أتاركون أنتم محمدا والصباة من أهل يثرب يأخذون أموالكم من أراد مالا فهذا مالي ومن أراد قوتا فهذا قوتي ولم يتخلف من أشراف قريش إلا أبو لهب أي خوفا من رؤيا عاتكة فإنه كان يقول رؤيا عاتكة كأخذ بيد أي صادقة لا تتخلف وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة أي استأجره بأربعة آلاف درهم كانت له عليه دينا أفلس بها أي قال له أخرج وديني لك أي ويقال إن ذلك الدين كان ربا ومن ثم جاء في لفظ وكان لاطه بأربعة آلاف درهم قال أبو عبيد وسمى الربا لياطا لأنه ملصق بالبيع وليس ببيع
وفي كلام البلاذري أنه قامر أبا لهب على أن يطيعه فيما أراد فقمره أبو لهب فأسلمه إلى ضيق أي ضيق عليه بالطلب ثم قامره فقمره أبو لهب أيضا فأرسله مكانه إلى بدر
____________________
(2/377)
وهشام هذا قتله عمر بن الخطاب في هذه الغزوة حتى إن أمية بن خلف أراد القعود وكان شيخا جسيما ثقيلا فجاء إليه وهو جالس مع قومه عقبة بن أبي معيط بمجمرة فيها مجمر أي بخور يحملها حتى وضعها بين يديه ثم قال يا أبا علي استجمر فإنما أنت من النساء فقال له قبحك الله وقبح ما جئت به أي وكان عقبة كما في فتح الباري سفيها وكان أبو جهل سلط عقبة على ذلك وفي لفظ أتاه أبو جهل فقال له يا ابا صفوان إنك متى يراك الناس قد تخلفت وأنت سيد أهل الوادي وفي لفظ وأنت من أشراف الوادي تخلفوا معك فسر يوما أو يومين أي ولا مانع من وجود ذلك كله فتجهز مع الناس
أي وسبب تخلفه أن سعد بن معاذ قدم مكة معتمرا فنزل عليه لأن أمية كان ينزل على سعد بالمدينة إذا ذهب إلى الشام في تجارته فقال سعد لأمية أنظر لي ساعة خلوة لعلي أن أطوف بالبيت فقال أمية لسعد انتظر حتى إذا انتصف النهار وغفلت الناس انطلقت فطفت وفي لفظ فخرج أمية به قريبا من نصف النهار فبينما سعد يطوف إذ أتاه أبو جهل فقال من هذا الذي يطوف فقال له سعد أنا سعد بن معاذ فقال له أبو جهل أتطوف بالكعبة آمنا وقد آويتم محمدا واصحابه وفي لفظ آويتم الصباة وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينونهم أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالما فتلاحيا أي تخاصم وسعد يرفع صوته بقوله أما والله لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه طريقك على المدينة فصار أمية يقول لسعد لا ترفع صوتك على أبي الحكم فإنه سيد أهل الوادي وجعل يسكت سعدا فقال سعد لأمية إليك عني فإني سمعت محمدا صلى الله عليه وسلم يزعم أنه قاتلك قال إياي قال نعم قال بمكة قال لا أدري قال والله ما كذب محمد فكاد يحدث أي يبول في ثيابه فزعا فرجع إلى امرأته فقال ما تعلمين ما قال أخي اليثربي يعني سعد بن معاذ قالت وما ذاك قال زعم أنه سمع محمدا يزعم أنه قاتلي قالت فوالله ما يكذب محمد قال فلما جاء الصريخ واراد الخروج قالت له امرأته أما علمت ما قال لك أخوك اليثربي قال فإني إذن لا أخرج فلما صمم على عدم الخروج بل أقسم بالله لا يخرج من مكة قيل له ما تقدم فخرج ناويا أن يرجع عنهم
أي ومعنى كونه صلى الله عليه وسلم قاتله أنه كان سببا في قتله وإلا فهو صلى الله عليه
____________________
(2/378)
وسلم لم يباشر إلا قتل أخيه وهو أبي بن خلف في أحد كما سيأتي ومن ثم جاء في رواية قال لأمية إن أصحابه يعني النبي صلى الله عليه وسلم يقتلونك
ويحتمل أن سعد بن معاذ رضي الله عنه سمعه صلى الله عليه وسلم يقول أنا اقتل أبي ابن خلف ففهم رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم يريد أمية لا أبيا
أي وفي الإمتاع أن أمية بن خلف وعتبة وشيبة ابني ربيعة وزمعة بن الأسود وحكيم ابن حزام استقسموا بالأزلام فخرج لهم القدح الناهي أي المكتوب عليه لا تفعل فأجمعوا على المقام فجاءهم أبو جهل لعنه الله وأزعجهم وأعانه على ذلك عقبة ابن أبي معيط والنضر بن الحارث
ويقال إن عداسا قال لسيده عتبة وشيبة ابني ربيعة بأبي وأمي أنتما والله ما تساقان إلا لمصارعكما فأراد عدم الخروج فلم يزل بهما أبو جهل حتى خرجا عازمين على العود عن الجيش
ولما فرغوا من جهازهم أي وكان ذلك في ثلاثة أيام وقيل في يومين وأجمعوا السير أي عزموا عليه وكانوا خمسين وتسعمائة وقيل كانوا ألفا وقادوا مائة فرس أي عليها مائة درع سوى دروع المشاة قال ابن إسحاق وخرجوا على الصعب والذلول أي لشدة إسراعهم والصعب الذي لا ينقاد والذلول الذي ينقاد معهم القيان أي بفتح القاف وتخفيف المثناة تحت وفي آخره نون جمع قينة وهي الأمة مطلقا وقيل المغنية والمراد هنا الثاني لقوله في الإمتاع ومعهم القينات يضربن بالدفوف يغنين أي بهجاء المسلمين
وسيأتي في أحد خروج جماعة من نساء قريش معهن الدفوف وعند خروجهم ذكروا ما بينهم وبين كنانة من الحرب أي والدماء وقالوا نخشى أن يأتونا من خلفنا أي لأن قريشا كان قتلت شخصا من كنانة وأن شخصا من قريش كان شابا وضيئا له ذؤابة وعليه حلة خرج في طلب ضالة له فمر ببني كنانة وفيهم سيدهم وهو عامر بن الخلوج فرآه فأعجبه فقال له من أنت يا غلام فذكر أنه من قريش فلما ولى الغلام قال عامر لقومه أمالكم في قريش من آدم قالوا بلى فأغراهم به فقتلوه ثم قال بنو كنانة لقريش رجل برجل فقالت قريش نعم رجل برجل ثم إن أخا المقتول ظفر بعامر بمر الظهران فعلاه بالسيف حتى قتله ثم خاط بطنه بسيفه ثم جاء وعلقه بأستار الكعبة من الليل
____________________
(2/379)
فلما أصبحت قريش رأوا سيف عامر عرفوه وعرفوا قاتله أي وكاد ذلك يثنيهم أي يصرفهم عن الخروج فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك المدلجي وكان من أشراف بني كنانة وقال لهم أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه فخرجوا سراعا وخرج معهم إبليس بعدهم أن بني كنانة وراءهم قد اقبلوا لنصرهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم
ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عسكره ببئر أبي عتبة أي وأمر أصحابه أن يستقوا منها وشرب من مائها
وفي الإمتاع عسكر ببيوت السقيا وهي عين بينها وبين المدينة يومان كان يستقى له صلى الله عليه وسلم الماء منها وقد جاء أن عبده صلى الله عليه وسلم رباحا كان يستقي له من بئر غرس مرة ومن بيوت السقيا مرة وقال صلى الله عليه وسلم بئر غرس من عيون الجنة ومن ثم غسل منها صلى الله عليه وسلم كما سيأتي وغرس اسم عبد كان يقوم عليها وقيل غير ذلك
وأمر صلى الله عليه وسلم حين فصل من بيوت السقيا أن تعد المسلمون فوقف لهم عند بئر ابي عتبة فعدوا وهي على ميل من المدينة فعرض اصحابه ورد من استصغر أي وكان ممن رده أسامة بن زيد ورافع بن خديج والبراء بن عازب وأسيد بن ظهير وزيد بن أرقم وزيد بن ثابت رضي الله عنهم ورد عمير بن أبي وقاص فبكى فأجازه وقتل وعمره ستة عشر عاما وحينئذ يتوقف في رده لأن الخمسة عشر بلوغ بالسن على ما عليه أئمتنا
وخرج صلى الله عليه وسلم في خمسة وثلثمائة رجل من المهاجرين أربعة وستون وباقيهم من الأنصار وقيل كان المهاجرون نيفا وثمانين وكانت الأنصار نيفا وأربعين ومائتين
وذكر الإمام الدواني أنه سمع من مشايخ الحديث أن الدعاء عند ذكرهم يعني أصحاب بدر مستجاب وقد جرب ذلك وخلف عثمان على ابنته صلى الله عليه وسلم رقية وكانت مريضة أ ي وقيل لأنه كان مريضا بالجدري أي ولا مانع من وجود الأمرين وقد قال صلى الله عليه وسلم إن لك لأجر رجل وسهمه أي وكان أبو أمامة بن ثعلبة الأنصاري
____________________
(2/380)
أجمع الخروج إلى بدر وكانت أمه مريضة فأمره صلى الله عليه وسلم بالمقام على أمه فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر وقد توفيت فصلى على قبرها
واستعمل صلى الله عليه وسلم أبا لبابة رضي الله عنه واليا على المدينة ة ورده من المحل المذكور أي من بئر أبي عتبة كذا في الأصل وقيل رده من الروحاء وهو المشهور وهي قرية على ليلتين من المدينة كما تقدم
واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بالناس في المدينة وخلف عاصم بن عدي على أهل قباء وأهل العالية أي لشيء بلغه عن أهل مسجد الضرار لينظر في ذلك وكسر بالروحاء خوات بن جبير أي وفي كلام ابن عبد البر وقال موسى بن عقبة خرج خوات بن جبير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما بلغ الصفراء أصاب ساقه حجر ودميت رجله واعتلت فرجع وضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه وأهل الأخبار يقولون إنه شهد بدرا
وله في الجاهلية قصة مشهورة مع ذات النحيين التي تضرب العرب بها المثل فتقول أشغل من ذات النحيين وهي خولة يروي أنه صلى الله عليه وسلم سأله عنها وتبسم فقال يا رسول الله قد رزقني الله خيرا منها وأعوذ بالله من الحور بعد الكور وروى أنه صلى الله عليه وسلم قال له ما فعل بعيرك الشارد يعرض بهذه القصة فقال قيده الإسلام يا رسول الله وقيل لم يعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا القول لتلك القضية وإنما هو لقضية أخرى هي أن خواتا مر بنسوة في الجاهلية أعجبه حسنهن فسألهن أن يفتلن له قيدا لبعيره وزعم أنه شارد وجلس إليهن بهذه العلة فمر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتحدث إليهن فأعرض عنه وعنهن فلما أسلم سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك البعير وهو يتبسم وكسر أيضا الحارث بن الصمة
وبعث له صلى الله عليه وسلم طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد رضي الله عنهم يتحسسان خبر العير والتحسس للأخبار بالحاء المهملة أن يفحص الشخص عن الأخبار بنفسه وبالجيم أي يفحص عنها بغيره وجاء تحسسوا ولا تجسسوا ولم يحضرا لهذا القتال بل رجعا بخبر العير إلى المدينة على ظن أنه صلى الله عليه وسلم بالمدينة فلما علما أنه ببدر خرجا إليه فلقياه منصرفا من بدر واسهم لكل وصار كل من أسهم له يقول وأجري
____________________
(2/381)
يا رسول الله فيقول وأجرك ودفع صلى الله عليه وسلم اللواء وكان أبيض إلى مصعب ابن عمير وكان أمامه صلى الله عليه وسلم رايتان سوداوتان إحداهما مع علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أي ويقال لها العقاب وكانت من مرط لعائشة
وفي كلام بعضهم كان أبو سفيان بن حرب من أشراف قريش وكانت إليه راية الرؤساء المعروفة بالعقاب وكان لا يحملها في الحرب إلا هو أو رئيس مثله وسيأتي أنه حملها في هذه الغزوة الأب الخامس لإمامنا الشافعي وهو السائب بن يزيد والأخرى مع بعض الأنصار وابن قتيبة اقتصر على الأولى وذكر بعضهم أن بعض الأنصار هذا قيل هو سعد بن معاذ وقيل الحباب بن المنذر وهذا يرد ما تقدم في غزوة بواط عن ابن إسحاق وما سيأتي في غزوة بني قينقاع عن ابن سعد أن الرايات لم تكن وجدت وإنما حدثت يوم خبير
ومما يؤيد الرد ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم اعطى عليا كرم الله وجهه الراية يوم بدر وهو ابن عشرين سنة وفي الهدى أن لواء المهاجرين كان مع مصعب بن عمير ولواء الخزرج مع الحباب بن المنذر ولواء الأوس مع سعد بن معاذ ولم يذكر الرايتين
وفي الإمتاع أنه صلى الله عليه وسلم عقد الألوية وهي ثلاثة لواء يحمله مصعب ابن عمير ورايتان سوداوتان إحداهما مع علي والأخرى مع رجل من الأنصار وفيه إطلاق اللواء على الراية وقد تقدم أن جماعة من أهل اللغة صرحوا بترادف اللواء والراية
وكان صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة على غير لواء معقود وقال في الأصل والمعروف أن سعد بن معاذ كان على حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش أي كما سيأتي قال أي جوابا عما تقدم عن الأصل العريش كان ببدر أي وهذا كان عند خروجهم وفي الطريق فلا منافاة أي لأنه يجوز أن يكون في بدر دفع الراية لغيره بإذنه صلى الله عليه وسلم ليكون معه في العريش ولبس صلى الله عليه وسلم درعه ذات الفضول وتقلد صلى الله عليه وسلم سيفه العضب
وحين فصل صلى الله عليه وسلم من بيوت السقيا قال اللهم إنهم حفاة فاحملهم وعراة فاكسهم وجياع فأشبعهم وعالة فأغنهم من فضلك فما رجع أحد منهم يريد
____________________
(2/382)
أن يركب إلا وجد ظهرا للرجل البعير والبعيران واكتسى من كان عاريا وأصابوا طعاما من أزوادهم وأصابوا فداء الأسارى فاغتنى به كل عائل
وكان حبيب بن يساف ذا بأس ونجدة ولم يكن اسلم ولكنه خرج نجدة لقومه من الخزرج طالبا للغنيمة ففرح المسلمون بخروجه معهم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصحبنا إلا من كان على ديننا أي وفي رواية ارجع فإنا لا نستعين بمشرك أي وسيأتي في أحداثه صلى الله عليه وسلم قال لا ننتصر بأهل الشرك على أهل الشرك لما رد حلفاء عبد الله بن أبي ابن سلول من يهود وتكررت من حبيب المراجعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الثالثة قال له تؤمن بالله ورسوله قال نعم فأسلم وقاتل قتالا شديد
وفي الإمتاع وقدم حبيب بن يساف بالروحاء مسلما ولا مخالفة لجواز أن يكون أسلم قبل الروحاء
ولما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يوما أو يومين ثم نادى مناديه يا معشر العصاة إني مفطر فأفطروا
وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان قال لهم قبل ذلك أفطروا فلم يفطروا انتهى وسيأتي في فتح مكة أنه صلى الله عليه وسلم بالفطر فلم يفعل جماعة منهم ذلك فقال أولئك العصاة وكانت إبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أي التي معهم يومئذ سبعين بعيرا فاعتقبوها كل ثلاثة يعتقبون بعيرا أي إلا ما كان من حمزة وزيد بن حارثة وأبي كبشة وأنيسة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هؤلاء الأربعة كانوا يعتقبون بعيرا
أي وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالأجراس أن تقطع من أعناق الإبل يوم بدر
وفي الإمتاع فكانوا يتعاقبون الإبل الاثنين والثلاثة والأربعة هذا كلامه فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه ومرثد يعتقبون بعيرا وفي لفظ كان أبو لبابة وعلي والنبي صلى الله عليه وسلم يعتقبون بعيرا أي وذلك قبل أن يرد أبا لبابة للمدينة من الروحاء وبعد أن رده قام مقامه مرثد وقيل زيد بن حارثة وقيل زيد كان مع حمزة أي كما تقدم
____________________
(2/383)
ويجوز انه كان مع حمزة تارة ومع النبي صلى الله عليه وسلم اخرى فكان اذا كانت عقبة النبي صلى الله عليه وسلم قالا له أي رفيقاه اركب حتى نمشى معك فيقول ما انتما باقوى مني على المشي وما انا باغنى عن الاجر منكما
وكان ابو بكر وعمر وعبدالرحمن بن عوف رضى الله عنهم يعتقبون بعيرا أي ورفاعة وخلاد ابنا رافع وعبيد بن يزيد الانصارى يعتقبون بعيرا حتى اذا كانوا بالروحاء برك بعيرهم عيا فمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله برك علينا بكرنا فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فتمضمض والقاه في اناء أي وفي الامتاع فتمضمض وتوضا في اناء ثم قال افتح فاه فصب منه في فيه ثم صب باقي ذلك عليه ثم قال اركبا ومضى فلحقاه وانه لينفر بهم أي وامر صلى الله عليه وسلم باحصاء من معه وهو محتمل لان يكون امر بذلك ثانيا بعد الروحاء بعد ان رد ابا لبابة وبعد عدهم في بئر ابي عتبة فاذا هم ثلثمائة وثلاثة عشر ففرح بذلك وقال عدة اصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر وهذا قول عامة السلف كما قاله ابن جرير رحمه الله ومن زاد على ذلك عد منهم من رده صلى الله عليه وسلم من الروحاء ومن اسهم له ولم يحضر ومن نقص عن ذلك وعدهم ثلثمائة وخمس رجال أو ست رجال أو سبعة رجال فالجواب عنه لا يخفى
وكان في الجيش خمسة افراس فرسان له صلى الله عليه وسلم وفرس لمرثد ويقال له السيل وفرس للمقداد بن الاسود نسب اليه لانه تبناه في الجاهلية كما تقدم ويقال لها سبحة وفرس للزبير ويقال له اليعسوب وقيل لم يكن في الجيش الا فرسان فرس المقداد وفرس الزبير
وعن علي رضى الله تعالى عنه ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد اقول يجوز ان يكون المراد لم يقاتل يوم بدر فارسا الا المقداد وغيره ممن له فرس قاتل راجلا ويؤيده ما يأتي انه صلى الله عليه وسلم لما قسم الغنيمة لم يميز احدا عن احد الراجل مع الراجل والفارس مع الفارس لكن قد يخالفه قول الزمخشري في خصائص العشرة كان الزبير رضى الله عنه صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر وليس على الميمنة يومئذ فارس غيره هذا كلامه الا ان يقال كون الزبير فارسا على الميمنة
____________________
(2/384)
لا يخالف كون المقداد فارسا في محل اخر مع الجماعة الذين فيهم سيدنا علي كرم الله وجهه فقول سيدنا علي لم يكن فينا أي في الجماعة الملازمين لنا تأمل والله اعلم
وفي اثناء الطريق بعرق الظبية لقوا رجلا من الاعراب فسالوه عن الناس فلم يجدوا عنده خبرا فقال له الناس سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال افيكم رسول الله قالوا نعم فسلم عليه ثم قال ان كنت رسول الله فاخبرني بما في بطن ناقتي هذه فقال له سلامه بن سلامة بن وقش لا تسل رسول الله صلى الله عليه وسلم اقبل علي انا اخبرك عن ذلك نزوت عليها ففي بطنها منك سخلة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم افحست على الرجل ثم اعرض عن سلامة فلما نزلوا بواد يقال له ذفران بكسر الفاء أي وهو واد قريب من الصفراء اتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم اصحابه واخبرهم الخبر أي قال لهم ان القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول أي مسرعين فما تقولون العير احب اليكم من النفير فقالوا بلى أي قالت ذلك طائفة منهم العير احب الينا من لقاء العدو وفي رواية هلا ذكرت لنا القتال حتى نتأهب له انا خرجنا للعير وفي رواية يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو فعند ذلك تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد روى ذلك عن ابي ايوب رضى الله عنه في سبب نزول قوله تعالى { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون } وعند ذلك قام ابو بكر فقال واحسن ثم قام عمر فقال واحسن ثم قام المقداد فقال يا رسول الله امض لما امرك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل أي لموسى { فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون } اذهب انت وربك فقاتلا انا معكم مقاتلون ما دامت منا عين تطرف فوالله الذي بعثك بالحق نبيا لو سرت بنا الى برك الغماد وهي مدينة بالحبشة لجالدنا أي ضربنا بالسيوف معك من دونه حتى نبلغه وفي لفظ نقاتل عن يمينك وعن يسارك ومن بين يديك ومن خلفك قال ابن مسعود فرايت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرق لذلك وسر بذلك
وفي الكشاف فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ثم دعا له بخير
هذا وفي العرائس روى ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لاصحابه يوم الحديبية
____________________
(2/385)
حين صد عن البيت اني ذاهب بالهدى فتأخر عند البيت واستشار اصحابه في ذلك فقال المقداد بن الاسود اما والله لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى فاذهب انت وربك فقاتلا انا ههنا قاعدون ولكنا نقول انا معكم مقاتلون والله لنقاتلن عن يمينك وشمالك ومن بين يديك ولو خضت بحرا لخضناه معك ولو علوت جبلا لعلوناه معك ولو ذهبت بنا برك الغماد لتابعناك فلما سمع اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك تابعوه فاشرق عند ذلك وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم والتعدد ممكن لكنه بعيد ثم قال اشيروا علي فقال عمر يا رسول الله انها قريش وعزها والله ما ذلت منذ عزت ولا امنت منذ كفرت والله لتقاتلنك فتاهب لذلك اهبته واعدد لذلك عدته أي ثم استشارهم ثالثا فقال اشيروا على ايها الناس ففهمت الانصار انه يعنيهم وذلك لانهم عدد الناس أي اكثرهم عددا ومن ثم قيل وانما كرر رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستشارة أي في ذلك المجلس ليعرف حال الانصار فانه تخوف ان لا تكون الانصار ترى عليها نصرته الا ممن دهمه أي جاءه على حين غفلة بالمدينة من عدوه وان ليس عليهم ان يسير بهم الى عدو من بلادهم عملا بظاهر قولهم له صلى الله عليه وسلم حين بايعوه عند العقبة يا رسول الله اناء براء من ذمامك حتى تصل الى دارنا فاذا وصلت اليها فانت في ذمتنا نمنعك بما نمنع به ابناءنا ونساءنا ومن ثم قال له سعد بن معاذ سيد الاوس وقيل سعد ابن عبادة سيد الخزرج وانما حكى بصيفة التمريض لانه قد اختلف في عده في البدريين والصحيح انه لم يشهد بدرا فانه كان تهيأ للخروج فنهش بالمهملة أي لدغته الحيه قبل ان يخرج فاقام أي وضرب له بسهم فقال لعلك تريدنا معاشر الانصار يا رسول الله فقا أجل قال قد امنا بك وصدقناك وشهدنا ان ما جئت به هو الحق واعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة زاد في رواية ولعلك يا رسول الله تخشى ان تكون الانصار ترى عليها ان لا ينصروك الا في ديارهم واني اقول عن الانصار واجيب عنهم فاظعن حيث شئت وصل حبل من شئت واقطع حبل من شئت وفي لفظ وصل حبال من شئت واقطع حبال من شئت وسالم من شئت وعاد من شئت وخذ من اموالنا ما شئت وما اخذت منا اكان احب الينا مما تركت وما امرت فيه من امر فامرنا تبع لامرك فامض يا رسول الله لما اردت فنحن معك والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره ان تلقى بنا عدونا
____________________
(2/386)
وانا لصبر في الحرب صدق اللقاء لعل الله يريك منا ما تقر به عينك وفي لفظ بعض ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله تعالى فنحن عن يمينك وشمالك وبين يديك ومن خلفك فسر النبي صلى الله عليه وسلم لذلك أي واشرق وجهه بقول سعد ونشطه ذلك ثم قال صلى الله عليه وسلم سيروا وابشروا فان الله تعالى قد وعدني احدى الطائفتين أي وهما عير قريش ومن خرج من مكة من قريش يريد حماية ذلك العير فوالله لكأني الان انظر الى مصارع القوم أي فقد اعلمه الله تعالى بعد وعده بذلك بالظفر بالطائفة الثانية واراه مصارعهم فعلم القوم انهم ملاقون القتال وان العير لا تحصل لهم
ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذفران حتى نزل قريبا من بدر فركب صلى الله عليه وسلم هو وابو بكر رضى الله عنه أي وقيل بدل ابي بكر قتادة بن النعمان وقيل معاذ بن جبل حتى وقفا على شيخ من العرب أي يقال له سفيان قال في النور لا اعلم له اسلاما فساله صلى الله عليه وسلم عن قريش وعن محمد واصحابه وما بلغه عنهم فقا الشيخ لا اخبركما حتى تخبراني من انتما فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا اخبرتنا اخبرناك فقال الشيخ ذاك بذاك قال نعم قال فانه قد بلغني ان محمدا واصحابه خرجوا يوم كذا وكذا فان كان صدق الذي اخبرني به فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي نزل به رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه وبلغني ان قريشا خرجوا يوم كذا وكذا فان كان الذي اخبرني به صدق فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي نزلت به قريش فلما فرغ من خبره قال من انتما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن من ماء أي من ماء دافق وهو المنى ثم انصرفا عنه فقال الشيخ من ماء من ماء العراق فهم ان المراد بالماء حقيقته
أي لكن في الامتاع فقال النبي صلى الله عليه وسلم نحن من ماء واشار بيده الى العراق فقال من ماء العراق أي واضيف الماء إلى العراق لكثرته به وفيه ان هذا من التورية وقد تقدم في اوائل الهجرة انه لا ينبغي لنبي ان يكذب ولو صورة ومنه التورية
لكن في كلام القاضي البيضاوى وما روى انه عليه الصلاة والسلام قال لابراهيم عليه الصلاة والسلام ثلاث كذبات تسمية للمعاريض كذبا لما شابهت صورتها صورته ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى اصحابه ودعا لهم فقال اللهم انهم حفاة فاحملهم
____________________
(2/387)
اللهم انهم عراة فاكسهم اللهم انهم جياع فاشبعهم ففتح الله لهم يوم بدر فانقلبوا حين انقلبوا وما منهم رجل الا وقد رجع بجمل او جملين واكتسوا وشبعوا اخرجه ابو داود عن عمرو ابن العاص رضى الله تعالى عنه أي شبعوا واكتسوا بما اصابوه من كسوة وأزواد قريش
وفي الامتاع ان دعاءه صلى الله عليه وسلم المذكور كان عند مفارقته محل معسكره بالمدينة وهو بيوت السقيا كما تقدم وتقدم فيه زيادة وعالة فأغنهم فأصابوا الاسرى فاغتنى بهم كل عائل ولا مانع ان يكون دعاؤه صلى الله عليه وسلم بذلك تكرر
فلما امسى صلى الله عليه وسلم بعث علي بن ابي طالب والزبير بن العوام وسعد بن ابي وقاص في نفر من اصحابه رضى الله تعالى عنهم إلى بدر يلتمسون الخبر فاصابوا راوية لقريش معها غلام لبني الحجاج وغلام لبني العاص فأتوا بهما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي فقالوا لمن أنتما وظنوا انهما لابي سفيان فقالا نحن سقاة لقريش بعثونا نسقيهم من الماء فضربوهما فلما أوجعوهما ضربا قالا نحن لابي سفيان فتركوهما فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته قال إذا صدقاكم ضربتوهما واذا كذبا كم تركتموهما صدقا والله انهما لقريش اخبراني عن قريش قالا هم وراء هذا الكثيب أي التل من الرمل الذي يرى بالعدوة القصوى أي جانب الوادي المرتفع فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم كم القوم قالا كثير أي وفي لفظ هم والله كثير عددهم شديد بأسهم قال ما عدتهم قالا لا ندري أي وجهد النبي صلى الله عليه وسلم ان يخبراه كم هم فأبيا قال صلى الله عليه وسلم كم تنحرون أي من الجزر كل يوم قالا يوما تسعا ويوما عشرا فقال صلى الله عليه وسلم القوم ما بين التسعمائة والالف أي لكل جزور مائة ثم قال لهما فمن فيهم من اشراف قريش قالا عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وابو البحتري بن هشام وحكيم بن حزام ونوفل بن خويلد والحارث بن عامر بن نوفل وطعيمة بن عدي بن نوفل والنضر بن الحارث وزمعة بن الاسود وابو جهل بن هشام وامية بن خلف ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وسهيل بن عمرو العامري أي رضى الله تعالى عنه فانه اسلم بعد ذلك يوم الفتح وهو من اشراف قريش وخطبائهم وسيأتي انه ممن اسر في هذه الغزاة وعمرو بن عبدود فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال هذه مكة قد ألقت اليكم افلاذ أي قطع كبدها أي اشرافها وعظماءها وذكر ان مسيرهم واقامتهم كانت عشر
____________________
(2/388)
ليال حتى بلغوا الجحفة أي وهي قرية بقرب رابغ كما تقدم نزلوا بها عشاء أي وفي الامتاع انهم ردوا القيان من الجحفة
اقول هذا والذي في مسلم وابي داود عن انس رضي الله تعالى عنه فاذا هم بروايا قريش فيها رجل اسود لبني الحجاج فجاءوا به فكانوا يسالونه عن ابي سفيان فيقول مالي بأبي سفيان علم فاذا قال ذلك ضربوه واذا قال هذا ابو سفيان تركوه الحديث
أي وفي الامتاع واخذ تلك الليلة يسار غلام عبيدة بن سعيد بن العاص واسلم علام منبه بن الحجاج وابو رافع غلام اميه بن خلف فاتى بهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي الحديث
وقد يقال لا منافاة لان بعض الرواة ذكر الثلاثة وبعضهم اقتصر على اثنين وبعضهم اقتصر على واحد والله اعلم
وكان مع قريش رجل من بني المطلب بن عبد مناف يقال له جهم بن الصلت رضي الله تعالى عنه فانه اسلم في عام خيبر واعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر ثلاثين وسقا وقيل اسلم بعد الفتح فوضع راسه فأغفى ثم قام فزعا فقال لاصحابه هل رأيتم الفارس الذي وقف على فقالوا لا قال قد وقف على فارس فقال قتل ابو جهل وعتبة وشيبة وزمعة وابو البحتري وامية بن خلف وفلان وفلان وعد رجالا من اشراف قريش ممن قتل يوم بدر أي وقال اسر سهيل بن عمرو وفلان وفلان وعد رجالا ممن اسر قال ثم رايت ذلك الفارس ضرب في لبه بعيره ثم ارسله في العسكر فما من خباء من أخيه العسكر إلا أصابه من دمه فقال له أصحابه إنه لعب بك الشيطان ولما شاعت هذه الرؤيا في العسكر وبلغت ابا جهل قال قد جئتم بكذب بني عبد المطلب مع كذب بني هاشم سيرون غدا من يقتل وفي لفظ قال ابو جهل هذا نبي آخر من بني المطلب سيعلم غدا من المقتول نحن أو محمد وأصحابه وأول من نحر لهم حين خرجوا من مكة ابو جهل بن هشام عشر جزائر أي بم الظهران وكانت جزور منها بعد ان نحرت بها حياة فجالت في العسكر فما بقي خباء من اخبية العسكر الا اصابه من دمها كذا في الامتاع
ومن هذا المحل رجع بنو عدي أي تفاؤلا بذلك ثم نحر لهم سفيان بن امية بعسفان تسع جزائر ونحر لهم سهيل بن عمرو بقديد عشر جزائر وساروا من قديد فضلوا بهائم
____________________
(2/389)
ثم اصبحوا بالجحفة فنحر لهم عتبة بن ربيعة عشر جزائر فلما اصبحوا بالابواء نحر لهم مقيس بن عمرو الجمحى تسع جزائر أي ويقال ان الذي نحر لهم بالابواء نبيه ومنبه ابنا الحجاج عشرا ونحر لهم العباس بن عبد المطلب عشر جزائر ونحر لهم الحارث بن عامر ابن نوفل تسعا ونحر لهم ابو البحترى على ماء بدر عشر جزائر ونحر لهم مقيس الجمحى على ماء بدر تسعا أي ثم شغلهم الحرب فأكلوا من ازوادهم ثم مضى رجلان من الصحابة أي قبل وصوله صلى الله عليه وسلم الى بدر وكذا قبل وصول قريش الى بدر كما يدل عليه الكلام الاتي خلاف ما يدل عليه هذا السياق الى ما ء بدر فنزلا قريبا منه عند تل هناك ثم اخذا شنا لهما يستقيان فيه وشخص على الماء واذا جاريتان يتلازمان أي يتخاصمان تمسك احداهما الاخرى على الماء والملزومة تقول لصاحبتها انما يأتي العير غدا او بعد غد فاعمل لهم واقضيك الذي لك فقال ذلك الرجل الذي على الماء صدقت ثم خلص بينهما وسمع ذلك الرجلان فجلسا على بعيرهما ثم انطلقا حتى اتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخبراه بما سمعا ثم ان ابا سفيان تقدم العير حذرا حتى ورد الماء فلقى ذلك الرجل فقال له هل احسست احدا قال ما رايت احدا انكره الا اني قد رايت راكبين قد اناخا الى هذا التل ثم استقيا في شن لهما ثم انطلقا
فأتى ابو سفيان مناخهما فاخذ من ابعار بعيرهما ففتته فاذا فيه النوى فقال والله علائف يثرب فرجع الى اصحابه سريعا فصوب عيره عن الطريق وترك بدرا بيسار وانطلق حتى اسرع فلما علم انه قد احرز عيره ارسل الى قريش أي وقد كان بلغه مجيئهم ليحرزوا العير وكانوا حينئذ بالجحفة انكم انما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم واموالكم وقد نجاها الله تعالى فارجعوا فقال ابو جهل والله لا نرجع حتى نحضر بدرا فنقيم عليه ثلاثة ايام فلا بد ان ننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان أي تضرب بالمعازف أي الملاهي وقيل الدفوف وقيل ل الطنابير وقيل نوع منها يتخذه اهل اليمن وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا ابدا بعدها وسيأتى في غزاة بدر الموعد ان موسم بدر يكون عند هلال ذى القعدة في كل عام يمكث ثمانية ايام ويبعد ارادة ذلك لابي جهل أي اقامتهم ببدر بقية رمضان وتمام شوال
قال ولما ارسل ابو سفيان يقول لقريش ما تقدم أي ورد عليه ابو جهل بما ذكر
____________________
(2/390)
قال هذا بغي والبغي منقصة وشؤم وعند ذلك رجع منهم بنو زهرة وكانوا نحو المائة انتهى أي وقيل ثلثمائة وقائدهم كان الأخنس بن شريق
وفي كلام ابن الاثير فلم يقتل منهم أي من بني زهرة أحدا ببدر وفي كلام غيره ولم يشهد بدرا احد من بني زهرة الا رجلان قتلا كافرين فان الاخنس قال لبني زهرة يا بني زهرة قد نجى الله اموالكم وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل انما نفرتم لتمنعوه وماله واجعلوا بي حميتها وارجعوا فانه لا حاجة لكم بان تخرجوا في غير منفعة لاما يقول هذا يعني ابا جهل وقال لابي جهل أي وقد خلا به اترى محمدا يكذب فقال ما كذب قط كنا نسميه الامين لكن اذا كانت في بني عبد المطلب السقاية والرفادة والمشورة ثم تكون فيهم النبوة فاي شيء يكون لنا فانخنس الاخنس ورجع ببني زهرة أي واسمه ابي وانما لقب بالاخنس من حين رجع ببني زهرة فقيل خنس بهم فسمى الاخنس كان حليفا لبني زهرة مقدما فيهم رضى الله تعالى عنه فانه اسلم يوم الفتح واعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المؤلفة قلوبهم
ورأيت عن السهيلي انه قتل يوم بدر كافرا وتبعه على ذلك التلمساني في حاشية الشفاء واستدل له بقول القاضي البيضاوي ان قوله تعالى { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا } الاية نزلت في الاخنس بن شريق وفي الاصابة انه كان من المؤلفة ومات في خلافة عمر
وعن السدى ان الاخنس جاء الى النبي صلى الله عليه وسلم فاظهر اسلامه وقال الله يعلم اني لصادق ثم هرب بعد ذلك فمر بقوم مسلمين فحرق زرعهم فنزلت { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا } الى قوله { وبئس المهاد }
قال ابن عطيه ما ثبت قط ان الاخنس اسلم قلت قد اثبته في الصحابة جماعة ولا مانع ان يكون اسلم ثم ارتد ثم رجع إلى الاسلام هذا كلام الاصابة
وفي كلام ابن قتيبة ولم يسلم الاخنس وفي كلام بعضهم ثلاثة ابن وابوه وجده شهدوا بدرا الاخنس وابنه يزيد وابنه معن فليتأمل ذلك
قال واراد بنو هاشم الرجوع فاشتد عليهم ابو جهل وقال لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع انتهى
ثم لم يزالوا سائرين حتى نزلوا بالعدوة القصوى قريبا من الماء ونزل رسول الله
____________________
(2/391)
صلى الله عليه وسلم والمسلمون بعيدا من الماء بينهم وبين الماء رحلة فظمىء المسلمون وأصابهم ضيق شديد واجنب غالبهم والقى الشيطان في قلوبهم الغيظ فوسوس إليهم تزعمون انكم اولياء الله تعالى وانكم على الحق وفيكم رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء وانتم عطاش وتصلون مجنبين أي وما ينتظر اعداؤكم الا ان يقطع العطش رقابكم ويذهب قواكم فيحكموا فيكم كيف شاؤوا
وفي الكشاف فاذا قطع العطش اعناقكم مشوا اليكم فقتلوا من احبوا وساقوا بقيتكم الى مكة فحزنوا حزنا شديدا وأشفقوا وكان الوادي دهسا بالسين المهملة أي لينا كثير التراب تسيخ فيه الاقدام فبعث الله السماء أي المطر فأطفأت الغبار ولبدت الارض أي شدتها للنبي صلى الله عليه وسلم ولاصحابه أي وطهرهم به واذهب عنه رجز الشيطان أي وسوسته وشربوا منه وملئوا الاسقية وسقوا الركائب واغتسلوا من الجنابة أي وطابت نفوسهم فذلك قوله تعالى { وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } أي من الاحداث { ويذهب عنكم رجز الشيطان } أي وسوسته { وليربط على قلوبكم } أي يشدها ويقويها { ويثبت به الأقدام } أي بتلبيد الارض حتى لا تسوخ في الرمل واصاب قريشا منها مالم يقدروا على ان يرتحلوا منه أي ويصلوا الى الماء أي فكان المطر نعمة وقوة للمؤمنين وبلاء ونقمة للمشركين
وعن علي رضى الله تعالى عنه اصابنا من الليل طس من مطر فانطلقنا تحت الشجر والحجف نستظل تحتها من المطر وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ربه
وعن علي رضى الله تعالى عنه ما كان فينا أي تلك الليلة قائم الا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تحت شجرة ويكثر في سجوده أي يقول يا حي ياقيوم يكرر ذلك حتى اصبح أي لا ن المسلمين اصابهم تلك الليلة نعاس شديد يلقى الشخص على جنبه
أي وعن قتادة كان النعاس امنة من الله وكان النعاس نعاسين نعاس يوم بدر ونعاس يوم احد لان النعاس هنا كان ليلا قبل القتال وفي احد كان وقت القتال وكون النعاس امنة وقت القتال أو وقت التأهب له وهو وقت المصافة واضح لاقبله
هذا وذكر الشمس الشامى انه لما نزلت الملائكة والناس بعد على مصافهم لم يحملوا على عدوهم وبشرهم صلى الله عليه وسلم بنزول الملائكة حصل لهم الطمأنينة والسكينة وقد حصل لهم النعاس الذي هو دليل على الطمأنينة وربما يقتضي انه حصل لهم النعاس
____________________
(2/392)
عند المصافة والا فقد يقال ان قوله وقد حصل لهم النعاس جملة حالية أي والحال انه حصل لهم قبل ذلك في تلك الليلة لا في وقت المصافة
ولا يبعد ذلك قوله بعد ذلك ولهذا قال ابن مسعود رضى الله تعالى عنه النعاس في المصاف من الايمان والنعاس في الصلاة من النفاق أي لانه في الاول يدل على ثبات الجنان وفي الثاني يدل على عدم الاهتمام بامر الصلاة
فلما ان طلع الفجر نادى صلى الله عليه وسلم الصلاة عباد الله فجاء الناس من تحت الشجر الحجف فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرض على القتال أي في خطبة خطبها افقال بعد ان حمد الله واثنى عليه اما بعد فاني احثكم على ما حثكم الله عليه الى ان قال وان الصبر في مواطن الباس مما يفرج الله تعالى به الهم وينجى به من الغم الحديث
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبادرهم أي يسابق قريشا الى الماء فسبقهم عليه حتى جاء ادنى ماء من بدر أي اقرب ماء الى بدر من بقية مياهها فنزل به صلى الله عليه وسلم فقال له الحباب بن المنذر يا رسول الله ارأيت هذا المنزل امنزل انزلكه الله تعالى ليس لنا ان نتقدمه ولا نتأخر عنه ام هو الراي والحرب والمكيدة قال بل هو الرأي والحرب والمكيدة قال يا رسول الله ان هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى تاتي ادنى ماء من القوم أي اذا نزل القوم يعني قريشا كان ذلك الماء اقرب المياه أي محله اقرب المياه إليهم قال الحباب فاني اعرف غزارة مائه وكثرته بحيث لا ينزح فننزله ثم نغور ما عداه من القلب أي وهي الابار غير المبنية ثم نبني عليه حوضا فتملآه ماء فنشرب ولا يشربون لان القلب كلها حينئذ تصير خلف ذلك القليب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد اشرت بالرأي ونزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال الرأي ما اشار اليه الحباب فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس فسار حتى اتى ادنى ماء من القوم أي من المحل الذي ينزل به القوم فنزل عليه ثم امر بالقلب فغورت بسكون الواو
وقال السهيلي لما كانت القلب عينا جعلها كعين الانسان ويقال في عين الانسان غرتها فغارت ولا يقال غورتها أي بالتشديد وبنى صلى الله عليه وسلم حوضا على القليب
____________________
(2/393)
الذى نزل به فملاه ماء ثم قذفوا فيه الانية ومن يومئذ قيل للحباب ذو الرأي وظاهر كلام بعضهم انه كان معروفا بذلك قبل هذه الغزاة
وفيه ان ذلك القليب اذا كان خلف ظهورهم وسائر القلب خلفه ما المعنى في تغويرها لانها اذا لم تغورهم يشربون ولا يشرب القوم الا ان يقال المعنى لئلا ياتوا اليها من خلفهم فالغرض قطع اطماعهم من الماء فليتأمل واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم بل هو الرأي على جواز الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم في الحرب نظرا لصورة السبب أو مطلقا لان صورة السبب لا تخصص وجواز الاجتهاد له مطلقا هو الراجح
ومما استدل به على وقوع الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم في الاحكام قوله الا الاذخر عقب ما قيل له الا الاذخر قال السبكى وليس قاطعا لاحتمال ان يكون اوحى إليه في تلك اللحظة
هذا وفي كلام بعضهم انهم نزلوا على ذلك القليب نصف الليل فصنعوا الحوض وملئوه وقذفوا فيه الانية بعد ان استقوا منه وسيأتى ما يؤيده
وقال سعد بن معاذ يا نبي الله الا نبني عريشا أي وهو شيء كالخيمة من جريد يستظل به تكون فيه ونعد عندك ركائبك ثم نلقى عدونا فان اعزنا الله تعالى واظهرنا على عدونا كان ذلك ما احببنا وان كانت الاخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا فقد تخلف عنك اقوام يا نبي الله ما نحن باشد لك حبا منهم ولا اطوع لك منهم لهم رغبة في الجهاد ونية ولو ظنو انك تلقى حربا ما تخلفوا عنك انما ظنوا انها العير يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك فاثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير أي وقال او يقضى الله خيرا من ذلك يا سعد أي وهو نصرهم وظهورهم على عدوهم ثم بنى أي ذلك العريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي فوق تل مشرف على المعركة كان فيه
أي وعن علي رضي الله تعالى عنه انه قال لجمع من الصحابه اخبروني عن اشجع الناس قالوا انت قال اشجع الناس ابو بكر لما كان يوم بدر جعلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشا فقلنا من مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أي من يكون معه لئلا يهوى اليه احد من المشركين فوالله مادنا منا احد الا ابو بكر شاهرا بالسيف على راس رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يهوى اليه احد الا اهوى اليه أي
____________________
(2/394)
ولذلك حكم علي انه اشجع الناس وبه يرد قول الشيعة والرافضة ان الخلافة لا يستحقها الا علي لانه اشجع الناس أي وهذا كان قبل ان يلتحم القتال والا فبعد التحامه كان علي على باب العريش الذي به صلى الله عليه وسلم وابو بكر وسعد بن معاذ قائمان على باب العريش في نفر من الانصار كما سيأتي
ومما استدل على ان ابا بكر اشجع من علي ان عليا اخبره النبي صلى الله عليه وسلم انه لا يقتله الا ابن ملجم فكان اذا دخل الحرب ولاقى الخصم علم انه لا قدرة له على قتله فهو معه كالنائم على فراشه واما ابو بكر فلم يخبر بقاتله فكان اذا دخل الحرب لا يدري هل يقتل اولا ومن هذه حاله يقاسي من التعب مالا يقاسيه غيره
ومم يدل على ذلك ما وقع له في قتال اهل الردة وتصميمه العزم على مقاتلة مانعي الزكاة مع تثبيط سيدنا عمر له عن ذلك
فلما كان الصباح اقبلت قريش من الكثيب هذا يؤيد القول بانه صلى الله عليه وسلم سار باصحابه ليلا يبادرهم الى الماء لان ذلك بعد طلوع الفجر وصلاة الصبح كما تقدم لان الظاهر من قول الراوي اقبلت أي عليهم هم ماكثون
ويؤيده ايضا ما في مسلم عن انس رضى الله تعالى عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال ليلة بدر أي بعد ان وصل الى محل الوقعة هذا مصرع فلان ان شاء الله غدا ووضع يده على الارض وهذا مصرع فلان ههنا وهذا مصرع فلان ههنا قال انس ما ماط احدهم عن موضع يده صلى الله عليه وسلم أي ما تنحى فليتأمل الجمع
ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا وقد اقبلت بالدروع الساترة والجموع الوافرة والاسلحة الشاكية أي التامة قال اللهم هذه قريش قد اقبلت بخيلائها أي كبرها وعجبها وفخرها تجادلك أي تعايك وتخالف امرك وتكذب رسولك فنصرك أي انجز نصرك الذي وعدتني أي وفي لفظ اللهم انك انزلت على الكتاب وامرتني بالثبات ووعدتني احدى الطائفتين أي وقد فاتت احداهما وهي العير وانك لا تخلف الميعاد اللهم احبهم أي اهلكهم الغداة وفي رواية اللهم لا تفلتن ابا جهل فرعون هذه الامة اللهم لا تفلتن زمعة بن الاسود اللهم واسحق عين ابي زمعة واعم بصر ابي زمعة اللهم لا تفلتن سهيلا الحديث
ولما اطمأنت قريش ارسلوا عمير بن وهب الجمحى أي رضى الله تعالى عنه
____________________
(2/395)
فانه اسلم بعد ذلك وحسن اسلامه وشهد احدا معه صلى الله عليه وسلم فقالوا احزر لنا اصحاب محمد أي انظر لنا عدتهم فاستجال بفرسه حول عسكر النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع اليهم فقال ثلثمائة رجل يزيدون قليلا او ينقصون قليلا ولكن امهلوني حتى انظر للقوم كمينا او مددا فذهب في الوادى حتى ابعد فلم ير شيئا ثم رجع إليهم وقال ما رأيت شيئا ولكني قد رايت يا معشر قريش البلايا أي وهي في الاصل النوق تبرك على قبر صاحبها فلا تعلف لا تسقى حتى تموت تحمل المنايا أي الموت أي نواضح يثرب تحمل الموت الناقع أي البالغ
زاد بعضهم الا ترونهم خرسا لا يتكلمون يتلمظون تلمظ الافاعى لا يريدون ان ينقلبوا الى اهلهم زرق العيون كأنهم الحصا تحت الحجف يعنى الانصار قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ الا سيوفهم والله ما نرى ان نقتل منهم رجلا حتى يقتل رجل منكم فاذا اصابوا منكم اعدادهم فما خير العيش بعد ذلك فروا رأيكم فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس فاتى عتبة بن ربيعة فقال يا ابا الوليد انك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها هل لك الى ان لا تزال تذكر فيها بخير الى اخر الدهر قال وما ذاك يا حكيم قال ترجع بالناس فقام عتبة خطيبا فقال يا معشر قريش انكم والله ما تصنعون بان تلقوا محمدا وأصحابه شيئا والله لئن اصبتموه لا يزال رجل ينظر في وجه رجل يكره النظر اليه قتل ابن عمه وابن خاله ورجلا من عشيرته فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب فان اصابوه فذاك الذي اردتم وان كان غير ذلك اكفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون أي يا قوم اعصبوها اليوم براسي أي اجعلوا عارها متعلقا بي وقولوا جبن عتبة وانتم تعلمون اني لست بأجبنكم
أي وفي لفظ اخر ان حكيم بن حزام قال لعتبة بن ربيعة تجير بين الناس وتحمل دم حليفك عمرو بن الحضرمى أي الذي قتله واقد بن عبدالله في سرية عبدالله ابن جحش الى نخلة وهو اول قتيل قتله المسلمون وتحمل ما اصاب محمد من تلك العير أي الذي غنمه عبدالله بن جحش كما سيأتى في السرايا فانهم لا يطلبون من محمد الا ذلك فقال عتبة نعم قد فعلت أي هو حليفى فعلى عقله وما اصيب من المال ونعم ما قلت ونعم مادعوت اليه وركب عتبة جملا له وصار يجيله في صفوف قريش
____________________
(2/396)
يقول يا قوم اطيعوني فانكم لا تطلبون غير دم ابن الحضرمي وما اخذ من العير وقد تحملت ذلك
زاد بعضهم انه قال يا معشر قريش انشدكم الله في هذه الوجوه التي تضىء ضياء المصابيح يعنى قريشا ان تجعلوها اندادا لهذه الوجوه التي كأنها عيون الحيات يعنى الانصار وهذا كما ترى وما يأتى ايضا يضعف قول من قال انه صلى الله عليه وسلم عقل ابن الحضرمى أي اعطى ديته
وقد كان صلى الله عليه وسلم لما رأى قريشا اقبلت من الكثيب وعتبة على جمل احمر قال ان يكن في احد من القوم خير فعند صاحب الجمل الاحمر
أي وفي رواية ان يكن احد يامر بخير فعسى ان يكون صاحب الجمل الاحمر ان يطيعوه يرشدوا ولما راى رسول الله صلى الله عليه وسلم راكب الجمل الاحمر يجيله في صفوف قريش قال يا علي ناد حمزه وكان اقربهم إلى المشركين فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم من صاحب الجمل الاحمر وماذا يقول لهم فقال هو عتبة بن ربيعة ينهى عن القتال وحينئذ يكون قوله صلى الله عليه وسلم ان يكن في احد من القوم خير الخ من اعلام نبوته صلى الله عليه وسلم
ثم قال عتبة لحكيم بن حزام انطلق لابن الحنظلية يعنى ابا جهل قال حكيم فانطلقت حتى جئت ابا جهل فوجدته قد سل درعا له من جرابها أي اخرجها منه فقلت له يا ابا الحكم ان عتبة ارسلني اليك بكذا وكذا للذي قال فقال انتفخ والله سحره أي رئته كلمه تقال للجبان
وفي لفظ انه قال لعتبة وقد جاء الله اليه انت تقول هذا والله لو غيرك يقول هذا لاعضضته أي قلت له اغضض على بظر امك ان قد ملأت رئتك جوفك رعبا كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد وقال لحكيم ما بعتبة ما قال ولكنه قد راى ان محمدا واصحابه اكلة جزور أي في قلة بحيث يكفيهم الجزور وفيهم ابنه أي وهو ابو حذيفة رضى الله تعالى عنه فانه كان ممن اسلم قديما فقد تخوفكم عليه
أي وفي رواية انه قال يا معشر قريش انما يشير عليكم عتبة بهذا لان ابنه مع محمد ومحمد ابن عمه فهو كره ان تقتلوا ابنه وابن عمه فغضب عتبة وسب ابا جهل وقال سيعلم اينا افسد لقومه
____________________
(2/397)
أي ومن غريب الاتفاق ان ام ابان بنت عتبة بن ربيعة المذكور كان لها اربعة اخوة وعمان كل منهم حضر بدرا اثنان من اخوتها مسلمان واثنان مشركان وواحد من عميها مسلم ولاخر كافر فالاخوان المسلمان ابو حذيفة ومصعب بن عمير ولعله كان اخاها لامها والكافران الوليد بن عتبة وابو عزيز العم المسلم معمر بن الحارث ولعله كان اخا لعتبة لأمه والعم الكافر شيبة بن ربيعة وكان من حكمة الله تعالى ان الله جعل المسلمين قبل ان يلتحم القتال في اعين المشركين قليلا استدراجا لهم ليقدموا ولما التحم القتال جعلهم الله في اعين المشركين كثيرا ليحصل لهم الرعب والوهن وجعل الله المشركين عند التحام القتال في اعين المسلمين قليلا ليقوى جأشهم على مقاتلتهم
ومن ثم جاء عن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه انه قال لقد قللوا في اعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل اتراهم سبعين قال اراهم مائة وانزل الله تعالى { وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم } ومن ثم قال الله تعالى { قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم } أي يرى اولئك الكفار المؤمنين مثليهم راى العين
أي وقد ذكر ان قباث بن اشيم رضى الله تعالى عنه فانه اسلم بعد ذلك قال في نفسه يوم بدر لو خرجت نساء قريش باكمتها لردت محمدا واصحابه وعنه انه قال لما كان بعد الخندق قدمت المدينة سالت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا هو ذاك في محل المسجد مع ملأ من اصحابه فاتيته وانا لا اعرفه من بينهم فسلمت عليه فقال صلى الله عليه وسلم يا قباث انت القائل يوم بدر لو خرجت نساء قريش بأكمتها ردت محمدا واصحابه فقال قباث والذى بعثك بالحق ما تحدث به لساني ولا ترفرفت به شفتاى ولا سمعه مني احد وما هو الا شىء هجس في قلبي وحينئذ يكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم له انت القائل أي في نفسك اشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له واشهد ان محمدا عبده ورسوله وان ما جئت به الحق
ولما بلغ عتبة ما قاله ابو جهل قال سيعلم مصفر استه من انتفخ سحره انا ام هو وقد تقدم معنى مصفر استه
وذكر السهيلى هنا ان هذه الكمة لم يخترعها عتبة ولا هو ابو عذرتها فقد قيلت لبعض الملوك وكان مترفها لا يغزو في الحروب يريدون صفرة الخلوق والطيب وسادة
____________________
(2/398)
العرب لا تستعمل الخلوق والطيب الا في الدعة وتعيبه في الحرب اشد العيب واظن ان ابا جهل لما علم بسلامة العير استعمل الطيب والخلوق فلذلك قال له عتبة هذه الكلمة وانما اراد مصفر بدنه ولكنه قصد المبالغة في الذم فخص منه بالذكر ما يسوؤه ان يذكر هذا كلامه
وذكر ان النبي صلى الله عليه وسلم بعث عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه اليهم يقول ارجعوا فانه ان يل هذا الامر منى غيركم احب الي من ان تلوه مني فقال حكيم ابن حزام قد عرض نصفا فاقبلوه فوالله لا تنصرون عليه بعد ما عرض من النصف فقال ابو جهل والله لا نرجع بعد ان مكننا الله منهم ثم ان ابا جهل بعث الى عامر ابن الحضرمي أي اخو المقتول الذي هو عمرو وقال هذا حليفك يعني عتبة يريد ان يرجع بالناس وفي لفظ يخذل الناس عن القتال وقد تحمل دية اخيك من ماله يزعم انك قابلها الا تستحي ان تقبل الدية من مال عتبة وقد رايت ثأرك بعينك فقم فاذكر مقتل اخيك وكان عامر كأخيه المقتول من حلفاء عتبة وسياتي ذلك فقام عامر بن الحضرمى فاكتشف أي كشف استه أي وحثا عليه التراب ثم صرخ واعمراه واعمراه فثارت النفوس أي وعامر هذا لا يعرف له اسلام
أي وفي الاستيعاب عامر بن الحضرمى قبل يوم بدر كافرا واما اخوهما العلاء فمن فضلاء الصحابة رضى الله تعالى عنهم أي وقد كان يقال انه مجاب الدعوة وانه خاض البحر هو وسريته التي كان اميرا عليها وذلك في زمن خلافة عمر رضى الله تعالى عنه ويقال يبس حتى رىء الغبار من حوافر الخيل بكلمات قالها ودعا بها وهى يا علي يا حكيم يا علي يا عظيم انا عبيدك وفي سبيلك نقاتل عدوك اللهم فاجعل لنا اليهم سبيلا
وقد وقع نظير ذلك أي دخول البحر لأبي مسلم الخولاني التابعي فانه لما غزا الروم مع جيشه مروا بنهر عظيم بينهم وبين العدو فقال ابو مسلم اللهم اجزت بني اسرائيل البحر وانا عبادك وفي سبيلك فأجزنا هذا النهر اليوم ثم قال اعبروا بسم الله فعبروا فلم يبلغ الماء بطون الخيل
وكذا وقع نظير ذلك لابي عبيد الثقفي التابعى امير الجيوش في ايام سيدنا عمر رضى الله تعالى عنه فان دجلة حالت بينه وبين العدو فتلا قوله تعالى { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا }
____________________
(2/399)
ثم سمى الله تعالى واقتحم بفرسه الماء واقتحم الجيش وراءه ولما نظر اليهم الاعاجم صاروا يقولون ديوانا ديوانا أي مجانين ثم ولوا مدبرين فقتلهم المسلمون وغنموا اموالهم وله اخ يقال له ميمون وهو الذي حفر البئر التي بأعلى مكة التي يقال لها بئر ميمون ولم اقف على اسلامه
واما اختهم التي هي الصعبة وهي ام طلحة بن عبيد الله فصحابية رضى الله تعالى عنها كانت اولا تحت ابي سفيان بن حرب فطلقها فخلف عليها عبيدالله فولدت له طلحة الذي قال في حقه صلى الله عليه وسلم من اراد ان ينظر الى شهيد يمشى على وجه الارض فلينظر الى طلحة بن عبيدالله
ثم ان الاسود بن عبد الاسد المخزومي وهو اخو ابي سلمة عبدالله بن عبد الاسد وكان رجلا شرسا سيء الخلق شديد العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء انه اول من يعطى كتابه بشماله كما ان اخاه ابا سلمة اول من يعطى كتابه بيمينه كما تقدم قال اعاهد الله لاشربن من حوضهم او لاهدمنه او لاموتن دونه فلما خرج خرج اليه حمزة بن عبد المطلب فلما التقيا ضربه حمزة فأطل قدمه بنصف ساقه أي اسرع قطعها فطارت وهو دون الحوض فوقع على ظهره تشخب رجله دما ثم حبا الى الحوض حتى اقتحم فيه أي وشرب منه وهدمه برجله الصحيحه يريد ان تبر يمينه فاتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض واقبل نفر من قريش حتى وردوا ذلك الحوض منهم حكيم بن حزام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوهم فما شرب منه رجل يومئذ الا قتل كافرا الا ما كان من حكيم بن حزام فانه لم يقتل ثم اسلم بعد ذلك وحسن اسلامه فكان اذا اجتهد في يمينه قال لا والذي نجاني يوم بدر
وعلى ان هذا الحوض كان وراء ظهره صلى الله عليه وسلم يكون مجىء هؤلاء للحوض من خلفه صلى الله عليه وسلم فليتأمل
ثم ان عتبة بن ربيعة التمس بيضة أي خودة ليدخلها في رأسه فما وجد في الجيش بيضة تسع راسه لعظمها فاعتجر على راسه ببردله أي تعمم به ولم يجعل تحت لحيته من العمامة شيئا وخرج بين اخيه شيبة وابنه الوليد حتى فصل من الصف ودعا للمبارزة فخرج اليه فتية من الانصار ثلاثة اخوة اشقاء هم معوذ ومعاذ وعوف بنو عفراء وقيل بدل عوف عبدالله بن رواحة فقالوا من انتم قالوا رهط من الانصار
____________________
(2/400)
قالوا ما لنا بكم من حاجة وفي رواية اكفاء كرام انما نريد قومنا أي وفي لفظ ولكن اخرجوا الينا من بني عمنا أي وفي لفظ انه صلى الله عليه وسلم امرهم بالرجوع فرجعوا الى مصافهم وقال لهم خيرا لانه كره ان تكون الشوكة لغير بني عمه وقومه في اول قتال وعند ذلك نادى مناديهم يا محمد اخرج الينا اكفاءنا من قومنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم قم يا عبيدة بن الحارث وقم يا حمزة وقم يا علي وفي لفظ قوموا يا بني هاشم فقاتلوا بحقكم الذي بعث به نبيكم اذ جاءوا ببطلانهم ليطفئوا نور الله قم يا عبيدة بن الحرث قم يا حمزة قم يا علي فلما قاموا ودنوا قالوا لهم من انتم أي لانهم كانوا ملبسين لا يعرفون من السلاح قال عبيدة عبيدة وقال حمزة حمزة وقال علي علي قالوا نعم اكفاء كرام فبارز عبيدة بن الحارث وكان اسن القوم كان اسن من النبي صلى الله عليه وسلم بعشر سنين عتبة بن ربيعة وبارز حمزة شيبة وبارز على الوليد فأما حمزة فلم يمهل ان قتل شيبة واما علي فلم يمهل ان قتل الوليد واختلف عبيدة وعتبة بينهما بضربتين كلاهما اثبت صاحبه وكر حمزة وعلي باسيافهما على عتبة فذفناه بالمهملة والمعجمة واحتملا صاحبهما فجراه الى اصحابه أي واضجعوه الى جانب موقفه صلى الله عليه وسلم فافرشه رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمه الشريفه فوضع خده عليها وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اشهد انك شهيد أي بعد ان قال له عبيدة الست شهيدا يا رسول الله فتوفى في الصفراء ودفن بها عند مرجع المسلمين الى المدينة
وقيل برز حمزة لعتبة وعبيدة لشيبة وعلي للوليد واختلف عبيدة وشيبة بينهما بضربتين كلاهما اثبت صاحبه وقعت الضربة في ركبة عبيدة فاطاحت رجله وصار مخ ساقه يسيل ثم مال حمزة وعلي على شيبة فذففا عليه
أي ويقال ان شيبة لما صرع من ضربة عبيدة قام فقام إليه حمزة فاختلفا ضربتين فلم يصنع سيفهما شيئا فاعتنق كل واحد منهما صاحبه فاهوى عبيدة وهو صريع فضرب شيبة فقطع ساقه فذفف عليه حمزة
وقيل بارز علي شيبة وبارز عبيدة الوليد فقد روى الطبراني باسناد حسن عن علي انه قال اعنت انا وحمزة عبيدة بن الحارث على الوليد فلم يعب النبي صلى الله عليه وسلم علينا ذلك
____________________
(2/401)
وقال الحافظ ابن حجر وهذا اصح الروايات ولكن المشهور ان عليا كرم الله وجهه انما بارز الوليد وهذا هو اللائق بالمقام لان عتبة وشيبة كانا شيخين كعبيدة وحمزة بخلاف علي والوليد فكانا شابين وقتل حمزة طعيمة بن عدي اخا المطعم بن عدي وتقدم ان المطعم مات قبل هذه الغزاة بستة اشهر كافرا
قيل وهذه المبارزة اول مبارزة وقعت في الاسلام
وفي الصحيحين عن ابي ذر انه كان يقسم قسما ان هذه الاية { هذان خصمان اختصموا في ربهم } نزلت في حمزة وصاحبه وعتبة وصاحبه يوم بدر
وفي البخارى عن علي رضى الله تعالى عنه انه اول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة
وقيل اول من يقف بين يدي الله تعالى للخصومة علي ومعاوية ثم تزاحم الناس ودنا بعضهم من بعض وقد كان عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوف اصحابه بقدح في يده أي بسهم لا نصل له ولا ريش فمر بسواد بتخفيف الواو لا بتشديدها كما زعمه ابن هشام بن غزية بفتح الغين المعجمة وكسر الزاي وتشديد الياء أي حليف بني النجار وهو خارج من الصف فطعنه صلى الله عليه وسلم في بطنه بالقدح وقال استو يا سواد فقال يا رسول الله اوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني أي مكني من القود أي القصاص من نفسك فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال استقد أي خذ القود أي القصاص فاعتنقه فقبل بطنه الشريف فقال ما حملك على هذا يا سواد فقال يا رسول الله حضر ما ترى فاردت ان يكون اخر العهدبك ان يمس جلدي جلدك فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير
وفيه ان هذا لا قود فيه ولا قصاص عندنا فليتأمل وسواد هذا جعله صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر عاملا على خيبر كما سيأتي
أي وفي حديث حسن عن عبدالرحمن بن عوف قال صفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر فبدرت منا بادرة امام الصف فنظر اليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال معي معي
اقول وقع له صلى الله عليه وسلم بعض الانصار أي وهو سواد بن عمرو مثل هذا الذي وقع له مع سواد بن غزية
____________________
(2/402)
ففي ابي داود ان رجلا من الانصار كان فيه مزاح فبينما هو يحدث القوم يضحكهم اذ طعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في خاصرته بعود كان في يده وفي لفظ بعرجون وفي اخر بعصا فقال اصبرني يا رسول الله أي اقدني ومكني من نفسك لاقتص منك فقال اصبر أي اقتص قال ان عليك قميصا وليس على قميص فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه فاحتضنه وجعل يقبل كشحه
أي ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم انه ما التصق ببدنه مسلم وتمسه النار كذا في الخصائص الصغرى وفيها في محل اخر ولا تاكل النار شيئا مس جسده وكذلك الانبياء صلوات الله وسلامه عليهم
ثم لما عدل الصفوف قال لهم ان دنا القوم منكم فانصحوهم أي ادفعوهم عنكم بالنبل واستبقوا نبلكم أي لا ترموهم على بعد فان الرمى مع البعد غالبا يخطىء فيضيع النبل بلا فائدة أي وقال لهم لا تسلوا السيوف حتى يغشوكم وخطبهم خطبة حثهم فيها على الجهاد وعلى المصابرة فيه منها وان الصبر في مواطن البأس مما يفرج الله عز وجل به الهم وينجى به من الغم وهذا السياق يدل على تكرر هذه الخطبة أي وقوعها قبل مجيئهم الى محل القتال وبعد مجيئهم اليه ولا مانع منه
ثم رجع صلى الله عليه وسلم الى العريش فدخله ومعه ابو بكر ليس معه فيه غيره وسعد بن معاذ قائم على باب العريش متوشح بسيفه مع نفر من الانصار يخافون على رسول الله صلى الله عليه وسلم كرة العدو أي والجنائب مهيأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ان احتاج اليها ركبها ولما اصطف الناس للقتال رمى قطبه بن عامر حجرا بين الصفين وقال لا افر الا ان فر هذا الحجر وكان اول من خرج من المسلمين مهجع بكسر الميم واسكان الهاء فجيم مفتوحة فعين مهملة مولى عمر بن الخطاب فقتله عامر ابن الحضرمى بسهم ارسله اليه ونقل بعض المشايخ انه اول من يدعى من شهداء هذه الامة وانه صلى الله عليه وسلم قال يومئذ مهجع سيد الشهداء أي من هذه الامة فلا ينافى ما جاء ان سيد الشهداء يوم القيامة يحيى بن زكريا وقائدهم الى الجنة وذابح الموت يوم القيامة يضجعه ويذبحه بشفرة في يده والناس ينظرون إليه لكن جاء سيد الشهداء هابيل الا ان تجعل الاولية اضافية فيراد اول اولاد آدم لصلبه
قيل وكون مهجع اول قتيل من المسلمين لا ينافى كون اول قتيل من المسلمين عمير بن
____________________
(2/403)
الحمام لان ذاك اول قتيل من المهاجرين وعمير اول قتيل من الانصار ولا ينافى ذلك ان اول قتيل من الانصار حارثة بن قيس أي قتل بسهم لم يدر راميه
ففى البخارى عن حميد قال سمعت انسا يقول اصيب حارثة يوم بدر وهو غلام قتل بارسال سهم اليه أي فانه اصابه سهم غرب أي لا يعرف راميه وهو يشرب من الحوض
وفي كلام ابن اسحاق اول من قتل من المسلمين مهجع مولى عمر بن الخطاب ومن بعده حارثة بن سراقة وقد جاءت ام حارثة وهي عمة انس بن مالك الى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله حدثني عن حارثة فان يكن في الجنة لم ابك عليه ولكن احزن وان يكن في النار بكيت ما عشت في دار الدنيا وفي رواية ان يكن في الجنة صبرت وان يكن غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء فقال يا ام حارثة انها ليست بجنة ولكنها جنات وحارثة في الفردوس الاعلى فرجعت وهي تضحك وتقول بخ بخ لك يا حارثة وهذا قد يخالف قول ابن القيم كالزمخشري ان الجنة التي هي دار الثواب واحدة بالذات كثيرة بالاسماء والصفات وهذا الاسم الذي هو الجنة يجمعها من اسمائها جنة عدن والفردوس والمأوى ودار السلام ودار الخلد ودار المقامة ودار النعيم ومقعد صدق وغير ذلك مما يزيد على عشرين اسما
أي وعن الواقدى انه بلغ امه واخته وهما بالمدينة مقتله فقالت امه والله لا ابكى عليه حتى يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأساله فان كان في الجنة لم ابك عليه وفي رواية اصبر واحتسب وان كان ابني في النار بكيته
وفي رواية ترى ما اصنع فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من بدر جاءت امه فقالت يا رسول الله قد عرفت موقع حارثة من قلبي فأردت ان ابكي عليه ثم قلت لا افعل حتى اسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فان كان في الجنة لم ابك عليه وان كان في النار بكيته فقال النبي صلى الله عليه وسلم هبلت وفي رواية ويحك أو هبلت اجنة واحدة انها جنان كثيرة والذي نفسي بيده انه لفي الفردوس لاعلى ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإناء من ماء فغمس يده فيه ومضمض فاه ثم ناوله ام حارثة فشربت ثم ناولت ابنتها فشربت ثم امرهما ينضحان في جيوبهما ففعلتا فرجعتا من عند النبي صلى الله عليه وسلم وما بالمدينة امرأتان اقر عينا منهما ولا اسر
____________________
(2/404)
وقد كان حارثة سال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يدعو له بالشهادة فقد جاء انه صلى الله عليه وسلم قال لحارثة يوما وقد استقبله كيف اصبحت يا حارثة قال اصبحت مؤمنا بالله حقا قال انظر ما تقول فان لكل قول حقيقة قال يا رسول الله عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلى وأظمأت نهاري فكأني بعرش ربى بارزا وكاني انظر الى اهل الجنة يتزاورون فيها وكاني انظر الى اهل النار يتعاوون فيها قال ابصرت فالزم عبد أي انت عبد بذر الله الايمان في قلبه قال فقلت ادع الله لي بالشهادة فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وقال ابو جهل واصحابه حين قتل عتبة وشيبة والوليد تصبرا لنا لعزى ولا عزى لكم ونادى منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم الله مولانا ولا مولى لكم قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار
اقول سياتي وقوع مثل ما قال ابو جهل واصحابه من ابي سفيان وانه اجيب بمثل هذا الجواب في يوم وأحد والله اعلم
وصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من النصر أي وهذا العريش هو المراد بالقبة في قول البخاري عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو في قبة يوم بدر اللهم انشدك عهدك الحديث ويقول اللهم ان تهلك هذه العصابة اليوم فلا تعبد أي وفي مسلم انه صلى الله عليه وسلم قال اللهم انك ان تشأ لا تعبد في الارض قال ذلك في هذا اليوم وفي يوم احد
قال العلماء فيه التسليم لقدر الله تعالى والرد على غلاة القدرية الذين يزعمون ان الشر غير مراد لله ولا مقدور له
وذكر الامام النوي ان كونه قال ما ذكر يوم بدر هو المشهور وفي كتب التفسير والمغازي انه يوم احد ولا معارضة بينهما فقاله في اليومين هذا كلامه
أي يجوز ان يكون قال ذلك في يوم بدر وفي يوم احد وفي رواية اللهم ان ظهروا على هذه العصابة ظهر الشرك ولا يقوم لك دين أي لانه صلى الله عليه وسلم علم انه اخر النبيين فاذا هلك هو ومن معه لا يبقى من يتعبد بهذه الشريعة وفي لفظ اخر اللهم لا تودع مني ولا تخذلني انشدك ما وعدتني لانه كان وعده النصر وفي رواية ما زال يدعو ربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبه فاخذ ابو بكر رداءه وألقاه على منكبه ثم التزمه من ورائه وقال يا نبي الله كفاك تناشدك ربك فانه سينجز
____________________
(2/405)
لك ما وعدك أي وفي رواية والله لينصرنك الله وليبيضن وجهك أي وفي لفظ قد الححت على ربك وكون وعد الله لا يتخلف لا ينافى الالحاح في الدعاء لان الله يحب الملحين في الدعاء وانما قال ابو بكر ما ذكر لانه شق عليه تعب النبي صلى الله عليه وسلم في الحاحه بالدعاء لانه رضى الله تعالى عنه رقيق القلب شديد الاشفاق على رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقيل لان الصديق كان في تلك الساعة في مقام الرجاء والنبي صلى الله عليه وسلم كان في مقام الخوف لان الله يفعل ما يشاء وكلا المقامين سواء في الفضل ذكره السهيلي
وحين راى المسلمون القتال قد نشب عجوا بالدعاء الى الله تعالى فانزل الله تعالى عند ذلك { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين } أي متتابعين وقيل ردفا لكم ومددا لكم وقيل وراء كل ملك ملك اخر
ويوافق ذلك ما جاء عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما امد الله نبيه يوم بدر بالف من الملائكة فكان جبريل في خمسمائة وميكائيل في خمسمائة فأمده الله تعالى بالملائكة الف مع جبريل والف مع ميكائيل وجاء امده الله بثلاثة الاف الف مع جبريل والف مع ميكائيل والف مع اسرافيل وهذا رواه البيهقي في الدلائل عن على باسناد فيه ضعف
وقيل وعدهم الله تعالى ان يمدهم بالف ثم زيدوا في الوعد بالفين ثم زيدوا في الوعد بالفين ايضا
وقيل امدهم الله تعالى بثلاثة الاف من الملائكة ثم اكملهم بخمسة الاف قال الله تعالى { إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين } أي الف مع جبريل والف مع ميكائيل والف مع اسرافيل { بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين } فان ذلك كان يوم بدر على ما عليه الاكثر وقيل يوم احد كان الامداد فيه بذلك أي بثلاثة الاف ثم وقع الوعد بإكمالهم خمسة الاف معلقا على شرط وهو التقوى والصبر عن حوز الغنائم فلم يصبروا ففات الامداد بما زاد على الثلاثة الاف
وهذا الثاني هو الذي في النهر لابي حيان كان المدد يوم بدر بالف من الملائكة ويوم احد بثلاثة الاف ثم بخمسة لو صبروا عن اخذ العنائم فلم يصبروا فلم تنزل هذا
____________________
(2/406)
كلامه وهو واضح لان عدم صبرهم عن اخذ الغنائم وعدم امتثال امره انما كان في احد لا في بدر
وروى البيهقى عن حكيم بن حزام رضى الله عنه ان يوم بدر وقع نمل من السماء قد سد الافق فاذا الوادي يسيل نملا أي نازلا من السماء فوقع في نفسي ان هذا شىء ايد به صلى الله عليه وسلم وهي الملائكة
أي وروى بسند حسن عن جبير بن مطعم قال رأيت قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون مثل البجاد الاسود مبثوث حتى امتلآ الوادى فلم اشك انها الملائكة فلم يكن الا هزيمة القوم والبجاد كساء مخطط من اكسية الاعراب وسيأتي وقوع مثل ذلك في حنين
قال وانما كانت الملائكة شركاء لهم في بعض الفعل ليكون الفعل منسوبا للنبي صلى الله عليه وسلم ولاصحابه والا فجبريل قادر على ان يدفع الكفار بريشة من جناحه كما فعل بمدائن قوم لوط واهلك قوم صالح وثمود بصيحة واحدة وليهابهم العدو بعد ذلك حيث يعلمون ان الملائكة تقاتل معهم
وبهذا يرد ما قيل لم تقاتل الملائكة يوم بدر وانما كانوا يكثرون السواد والا فملك واحد كاف في اهلاك اهل الدنيا كلهم
وجاء لولا ان الله تعالى حال بيننا وبين الملائكة التي نزلت يوم بدر لمات اهل الارض خوفا من شدة صعقاتهم وارتفاع اصواتهم
وجاء في حديث مرسل ما رؤ ى الشيطان ا حقر ولا ادحر ولا اصغر من يوم عرفة الا ما رىء يوم بدر أي وكذا سائر مواسم المغفرة والعتق من النار كأيام رمضان سيما ليلة القدر
وجاء ان ابليس جاء في صورة سراقة بن مالك المدلجي الكناني في جند من الشياطين أي مشركي الجن في صور رجال من بني مدلج من بني كنانة معه رايته وقال للمشركين لا غالب لكم اليوم من الناس واني جار لكم اه أي كما قال لهم ذ لك عند ابتداء خروجهم وقد خافوا من بني كنانة قوم سراقة وقد تقدم انه كان وحده ولا منافاة لجواز ان يكون جنده لحقوا به بعد قال فلما رأى جبريل والملائكة وفي رواية اقبل جبريل الى ابليس فلما راه وكانت يده في يد رجل من المشركين أي وهو الحارث بن هشام اخو ابي جهل
____________________
(2/407)
انتزع يده من يد الرجل ثم نكص على عقبه وتبعه جنده فقال له الرجل يا سراقة اتزعم انك لنا جار فقال اني برىء منكم اني ارى ما لا ترون اني اخاف الله والله شديد العقاب وتشبث به الحارث بن هشام رضى الله تعالى عنه فانه اسلم بعد ذلك وقال له والله لا ارى الا خفافيش يثرب فضربه ابليس في صدره فسقط وعند ذلك قال ابو جهل يا معشر الناس لا يهمنكم خذلان سراقة فانه كان على ميعاد من محمد ولا يهمنكم قتل عتبة وشيبة أي والوليد فانهم قد عجلوا واللات والعزى لا نرجع حتى نقرن محمدا واصحابه بالجبال وصار يقول لا تقتلوهم خذوهم باليد
وذكر السهيلي انه يروى ان من بقى من قريش وهرب الى مكة وجد سراقة بمكة فقالوا له يا سراقة خرقت الصف واوقعت فينا الهزيمة فقال والله ما علمت بشىء من امركم وما شهدت وما علمت فما صدقوه حتى اسلموا وسمعوا ما انزل الله فعلموا انه ابليس هذا كلامه
قال قتادة صدق ابليس في قوله اني ارى مالا ترون وكذب في قوله اني اخاف الله والله ما به مخافة من الله
قال في ينبوع الحياة ولا يعجبني هذا فان ابليس عارف بالله ومن عرف الله خافه أي وان لم يكن ابليس خافه حق الخوف
قيل وانما خاف ان يكون هذا اليوم هو اليوم الموعود الذي قال فيه سبحانه وتعالى { يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين }
ورايت عن سيدي على الخواص انه لا يلزم من قول ابليس ذلك ان يكون معتقدا له بالباطن كما هو شان المنافقين
ورايت عن وهب ان اليوم المعلوم الذي انظر فيه ابليس هو يوم بدر قتلته الملائكة في ذلك اليوم والمشهور انه منظر الى يوم القيامة ويدل لذلك ما روى ان ابليس لما ضرب الحارث في صدره لم يزل ذاهبا حتى سقط في البحر ورفع يديه وقال يا رب موعدك الذي وعدتني اللهم اني اسألك نظرتك إياي وخاف ان يخلص اليه القتل
هذا وفي زوائد الجامع الصغير عن مسلم ان سيدنا عيسى عليه السلام يقتل ابليس بيده بعد نزوله وفراغه من صلاته ويرى المسلمين دمه في حربته
وفي كلام بعضهم ولعل المراد بيوم القيامة الذي انظر اليه ابليس ليس نفخة البعث
____________________
(2/408)
بل نفخة الصعق التي بها يكون موت من لم يمت من اهل السموات واهل الارض قيل الا حملة العرش وجبريل وميكائيل واسرافيل وملك الموت وهؤلاء ممن استثنى الله تعالى في قوله { ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله } ثم يموت جبريل وميكائيل ثم حملة العرش ثم اسرافيل ثم ملك الموت فهو اخر من يموت
وفي كلام بعضهم الصعق اعم من الموت أي فالمراد ما يشمل الغشى وذهاب الشعور أي فمن مات قبل ذلك وصار حيا في البرزخ كالأنبياء والشهداء لا يموت وانما يحصل له غشى وذهاب شعور ويكون المستثنى من القسم الاول من تقدم ذكره من الملائكة ومن القسم الثاني موسى صلوات الله وسلامه عليه فانه جوزى بذلك أي بعدم الغشى وذهاب الشعور بما حصل له من ذلك بسبب صعقة الطور
وفيه انه صلى الله عليه وسلم لم يجزم بذلك بل تردد في ذلك حيث قال فاكون اول من رفع راسه أي افاق من الغشى فاذ انا بموسى اخذ بقائمة من قوائم العرش فلا ادرى ارفع راسه أي افاق من الغشى قبلي او كان ممن استثنى الله فلم يصعق وفي رواية فاذا موسى متعلق بقائمة العرش فلا ادرى اكان فيمن صعق فأفاق قبلي ام كان ممن استثنى الله ولعل بعض الرواه ضم هذا الخبر لخبر الشيخين انا اول من تنشق عنه الارض يوم القيامة فاذا موسى الخ وفيه نظر لان المراد بيوم القيامة عند نفخة البعث ونفخة الصعق سابقة عليها كما علمت
ويلزم على هذا التردد مع كون الخبرين خبرا واحدا اشكال جزمه صلى الله عليه وسلم بانه اول من تنشق عنه الارض
واجاب شيخ الاسلام بما يفيد انهما خبران لاخبر واحد حيث قال التردد كان قبل ان يعلم انه اول من تنشق عنه الارض أي فهما حديثان لا حديث واحد
فان قيل قوله صلى الله عليه وسلم لا تخيروني على موسى فان الناس يصعقون يوم القيامة فأصعق معهم فأكون اول من يفيق فاذا موسى الحديث يقتضى انه صلى الله عليه وسلم ليس افضل من موسى
قلنا هو كقوله صلى الله عليه وسلم من قال انا خير من يونس بن متى فقد كذب وذلك منه صلى الله عليه وسلم تواضع او كان قبل ان يعلم انه افضل الخلق اجمعين وقيل الوقت المعلوم خروج الدابة واذا خرجت قتلته بوطئها
____________________
(2/409)
0 وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما ان ابليس اذا مرت عليه الدهور وحصل له الهرم عاد ابن ثلاثين سنة وهذه النفخة التي هي نفخة الصعق مسبوقة بنفخة الفزع التي تفزع بها اهل السموات والأرض فتكون الارض كالسفينة في البحر تضر بها الامواج وتسير الجبال كسير السحاب وتنشق السماء وتكسف الشمس ويخسف القمر وهي المعنية بقوله تعالى { يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة } وبقوله تعالى { إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها } الاية وقال تعالى { ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله } قيل وهم الشهداء
فقد جاء ان الاموات يومئذ لا يعلمون بشىء من ذلك قلنا يا رسول الله فمن استثنى الله تعالى في قوله { إلا من شاء الله } قال اولئك الشهداء وانما يصل الفزع الى الاحياء وهم احياء عند ربهم يرزقون وقاهم الله فزع ذلك اليوم وامنهم منه
واقتصاره صلى الله عليه وسلم على ذكر الشهداء وسكوته عن الانبياء لما هو معلوم من الاصل ان مقام الانبياء ارقى من مقام الشهداء وان كان قد يوجد في المفضول مالا يوجد في الفاضل ومن ثم قيل الرزق خاص بالشهداء ومن ثم اختصوا بحرمة الصلاة عليهم
ويقال انه كان مع المسلمين يوم بدر من مؤمني الجن سبعون أي لكن لم يثبت انهم قاتلوا فكانوا مجرد مدد
ثم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم خفق خفقة أي مالت راسه من النعاس ثم انتبه فقال ابشر يا ابا بكر اتاك نصر الله هذا جبريل اخذ بعنا فرسه وفي لفظ اخذ براس فرسه يقوده على ثناياه النقع أي الغبار وهو يقول اتاك نصر الله اذ دعوته أي وفي رواية ان جبريل عليه الصلاة والسلام اتى النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما فرغ من بدر على فرس حمراء معقودة الناصية قد خضب الغبار ثنيته عليه درعه وقال يا محمد ان الله بعثنى إليك وامرني ان لا افارقك حتى ترضى ارضيت
أي ولا مانع من تعدد رؤيته صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه الصلاة والسلام وان هذه بعد تلك وان المرة الاولى مساقها يقتضى انها كانت مناما وان الغبار في المرة الثانية كان اكثر منه في المرة الاولى بحيث علا على ثناياه
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العريش الى الناس فحرضهم وقال والذي
____________________
(2/410)
نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر الا ادخله الله الجنة فقال عمير بن الحمام بضم الحاء المهملة وتخفيف الميم وبيده تمرات يأكلهن بخ بخ كلمة تقال لتعظيم الامر والتعجب منه ما بيني وبين ان ادخل الجنة الا ان يقتلني هؤلاء ثم قذف التمرات من يده واخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل أي وفى رواية انه صلى الله عليه وسلم قال قوموا الى جنة عرضها السموات والارض اعدت للمتقين فقال عمير ابن الحمام بخ بخ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تبخبخ أي م تتعجب فقال رجاء ان اكون من اهلها أي وفي رواية ما يحملك على قولك بخ بخ قال لا والله يا رسول الله الا رجاء ان اكون من اهلها فاخذ تمرات فجعل بلوكهن ثم قال والله ان بقيت حتى الوكهن وفي لفظ ان حييت حتى اكل تمراتي هذه انها لحياة طويلة فنبذهن وقاتل أي وهو يقول ** ركضنا الى الله بغير زاد ** الا التقى وعمل المعاد ** ** والصبر في الله على الجهاد وكل زاد عرضه النفاد ** ** غير التقى والبر والرشاد ** ولا زال يقاتل حتى قتل رضى الله تعالى عنه وسيأتى في غزاة احد مثل هذا لبعض الصحابة ابهمه جابر رضى الله تعالى عنه في القاء التمرات من يده ومقاتلته حتى قتل فعن جابر رضي الله تعالى عنه قال قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يوم احد أرأيت إن قتلت فأين أنا قال في الجنة قال فألقى تمرات في يده ثم قاتل حتى قتل اخرجه البخارى ومسلم والنسائي وسيأتي ما في ذلك
وقال عوف بن الحارث بن عفراء يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده أي ما يرضيه غاية الرضا قال غمسه يده في العدو حاسرا أي لا درع له ولا مغفر فنزع درعا كانت عليه فقذفها ثم اخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل رضى الله تعالى عنه فالضحك في حق الله كناية عن غاية رضاه
وقد جاء انه صلى الله عليه وسلم قال في طلحة بن الغمر اللهم الق طلحة يضحك اليك وتضحك اليه أي القه لقاء كلقاء المتحابين المظهرين لما في انفسهما من غاية الرضا والمحبة فهي كلمة وجيزة تتضمن الرضا مع المحبة واظهار البشر فهى من جوامع كلمه التي اوتيها صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/411)
وقاتل في ذلك اليوم معبد بن وهب زوج هريرة بنت زمعة اخت سودة بنت زمعة ام المؤمنين رضى الله تعالى عنها بسيفين ثم اخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حفنة من الحصباء بالمد امره بذلك جبريل عليه الصلاة والسلام كما جاء في بعض الروايات أي قال خذ قبضة من تراب وارمهم بها فتناولها صلى الله عليه وسلم
وفي رواية انه قال لعلي كرم الله وجهه ناولني فاستقبل بها قريشا ثم قال شاهت الوجوه أي قبحت الوجوه أي وزاد بعضهم اللهم ارعب قلوبهم وزلزل اقدامهم ثم نفخهم أي ضربهم بها فلم يبق من المشركين رجل الا ملأت عينه وفي رواية وانفه وفمه لا يدري اين يتوجه يعالج التراب لينزعه من عينيه أي فانهزموا وردفهم المسلمون يقتلون ويأسرون
هذا والمحفوظ المشهور أن تلك إنما كان في حنين لكن يوافق الأول ما نقله بعضهم أن قوله تعالى { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } نزل يوم بدر هكذا قال عروة وعكرمة ومجاهد وقتادة قال هذا البعض وقد فعل عليه الصلاة والسلام مثل ذلك في غزوة أحد هذا كلامه
وفي رواية انه صلى الله عليه وسلم اخذ ثلاث حصيات فرمى بحصاة في ميمنة القوم وحصاة في ميسرة القوم وحصاة بين ايديهم فقال شاهت الوجوه فانهزم القوم وهذه الحصيات الثلاث قال جابر بن عبدالله رضى الله تعالى عنهما وقعن من السماء يوم بدر كأنهن وقعن في طست فأخذهن رسول اله صلى الله عليه وسلم فرمى بهن في وجوه المشركين أي يمنة ويسرة وبين ايديهم وحين رمى صلى الله عليه وسلم بذلك قال لاصحابه شدوا فكانت الهزيمة وانزل الله تعالى { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى }
وقد يقال لا مانع من اجتماع الامرين وكل منهما مراد من الاية قال وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بنفسه قتالا شديدا وكذلك ابو بكر رضى الله تعالى عنه كما كانا في العريش يجاهدان بالدعاء قاتلا بأبدانهما جمعا بين المقامين انتهى
اقول كذا نقل بعضهم عن الاموى ويتأمل ذلك فاني لم اقف عليه في كلام احد غيره وكان قائل ذلك فهم مباشرته صلى الله عليه وسلم للقتال مما تقدم عن على رضى الله تعالى عنه لما كان يوم بدر اتقينا المشركين برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان اشد الناس بأسا ولا دلالة في ذلك والله اعلم
____________________
(2/412)
نعم ذكر ابن سعد انه لما انهزم المشركون رؤى رسول الله صلى الله عليه وسلم في اثرهم مصلتا السيف يتلو هذه الاية { سيهزم الجمع ويولون الدبر } وهذه الاية ذكر في الاتقان انها مما تأخر حكمه عن نزوله فانها نزلت بمكة وكان ذلك يوم بدر
فعن عمر رضى الله تعالى عنه قلت أي جمع فلما كان يوم بدر وانهزمت قريش نظرت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم في اثارهم مصلتا السيف يقول { سيهزم الجمع ويولون الدبر } فكانت ليوم بدر اخرجه الطبراني في الاوسط ولو قاتل صلى الله عليه وسلم لجرح او قتل من قاتله ولو وقع ذلك لنقل لانه مما تتوفر الدواعي على نقله
وسيأتي في احد عن النور انه صلى الله عليه وسلم لم يقتل بيده الشريفة قط احد الا ابي بن خلف لا قبله ولا بعده والى رميه بالحصا أشار صاحب الهمزية بقوله ** ورمى بالحصا فاقصد جيشا ** ما العصا عنده ما الالقاء ** ي ورمى صلى الله عليه وسلم بالحصا جيشا فأصابهم كلهم بها أي شىء القاء عصا موسى عليه الصلاة والسلام على حبال سحرة فرعون وعصيهم عند ذلك الحصى المرمى به لا يقاربه ذلك الالقاء ولا يدانيه لان ذاك وجد له نظير وهو القاء السحرة الحبال والعصى والرمى بالحصا لم يوجد له نظير
أي وقال صلى الله عليه وسلم حينئذ من قتل قتيلا فله سلبه ومن اسر اسيرا فهو له كما في الامتاع فلما وضع القوم ايديهم يأسرون نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم الى سعد فوجد في وجهه الكراهية لما يصنع القوم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم قال اجل والله يا رسول الله كانت اول وقعة اوقعها الله بأهل الشرك فكان الاثخان في القتل أي الاكثار منه والمبالغة فيه احب الى من استبقاء الرجال
وذكر بعضهم ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لاصحابه انكم قد عرفتم ان رجالا من بني هاشم وغيرهم قد اخرجوا اكراها لا حاجة لهم بقتالنا فمن لقى منكم احدا من بني هاشم فلا يقتله أي بل يأسره وذكر ابا البحتري بن هشام أي فقال من لقى ابا البحتري فلا يقتله أي لانه كان ممن قام في نقض الصحيفة ونص على العباس بن عبدالمطلب فقال ابو حذيفة رضى الله تعالى عنه ايقتل اباؤنا وابناؤنا واخواننا و عشيرتنا ويترك العباس أي لانه تقدم ان اباه عتبة وعمه شيبة واخاه الوليد اول من قتل من الكفار
____________________
(2/413)
مبارزة وعشيرته وهي بنو عبد شمس قدقتل منها جماعة لئن لقيته يعنى العباس لألجمنه السيف هو بالمهملة والمعجمة فبلغت أي تلك المقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر يا أبا حفص ايضرب وجه عم رسول الله السيف فقال عمر والله انه لاول يوم كناني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بابي حفص يا رسول الله دعني اضرب عنقه يعني ابا حذيفة بالسيف فوالله لقد نافق فكان ابو حذيفة يقول ما انا بآمن من تلك الكلمة التي قلتها يومئذ ولا ازال منها خائفا الا ان تكفرها عني الشهادة فقتل يوم اليمامة شهيدا في جملة من قتل فيها من الصحابة هم اربعمائة وخمسون وقيل ستمائة رضى الله تعالى عنهم
ولقى المجذر رضى الله تعالى عنه ابا البحترى فقال له ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن قتلك فقال وزميلي أي ورفيقي وكان معه زميل له خرج معه من مكة أي يقال له جنادة بن مليحة فقال له المجذر لا والله ما نحن بتاركي زميلك ما امرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الا بك وحدك قال لا والله اذا لاموتن انا وهو جميعا لا تتحدث عني نساء مكة اني تركت زميلي أي يقتل حرصا على الحياة فقتله المجذر أي بعد ان قاتله ثم اتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال والذي بعثك بالحق لقد جهدت عليه ان يستأسر فآتيك به فابى الا ان يقاتلني فقتلته
اقول لعل المجذر فهم ان ما عدا من نهى عن قتله يقتل وان استأسر حتى قال ما نحن بتاركى زميلك أي ولا بد من قتله وان استاسر فكان ذلك حاملا لأبي البحترى على ان لا يستأسر ويترك زميله فيقتل خوف السبه والله اعلم
أي وكان من جملة من خرج مع المشركين يوم بدر عبدالرحمن بن ابي بكر رضى الله تعالى عنهما وكان اسمه قبل الاسلام عبد الكعبة وقيل عبد العزى فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالرحمن وكان من اشجع قريش واشدهم رماية وكان اسن ولد ابيه وكان صالحا وفيه دعابة فلما اسلم قال لابيه لقد اهدفت لي أي ارتفعت لي يوم بدر مرارا فصدفت عنك أي اعرضت عنك فقال ابو بكر لو هدفت لي لم اصدف أي اعرض عنك فالمراد بكونه اهدف له ارتفع وهو لا يشعر بذلك فلا ينافى ماقيل ان عبدالرحمن ابن ابي بكر يوم بدر دعا الى البراز فقام اليه ابوه ابو بكر ليبارزه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم متعنا بنفسك يا ابا بكر اما علمت انك عندى بمنزلة سمعى وبصرى
____________________
(2/414)
5 أي وفي بعض السير ان الصديق قال لولده عبدالرحمن يوم بدر وهو مع المشركين لم يسلم أين مالي يا خبيث فقال له عبدالرحمن كلاما معناه لم يبق الا عدة الحرب التي هي السلاح وفرس سريعة الجرى وجنان يقاتل عليه شيوخ الضلال أي وهذا يدل على ان الصديق رضى الله تعالى عنه ترك مالا عند اهله لما هاجر وهو قد يخالف ماتقدم عن ابنته اسماء من قولها ان ابا بكر ارسل ابنه عبدالله فحمل ماله وكان خمسة الاف درهم الى الغار فدخل علينا جدي ابو قحافة الحديث ولعل ماله الذي عناه الصديق ما كان من نحو امتعة وبعض مواشي لا النقد فلا مخالفة
ويروى عن ابن مسعود ان الصديق رضى الله تعالى عنه دعا ابنه يعنى عبدالرحمن يوم احد الى البزار فقال له النبي صلى الله عليه وسلم متعنا بنفسك اما علمت انك مني بمنزلة سمعي وبصري فانزل الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } ولا مانع من التعدد حتى في نزول الاية لكن يبعد نزولها في احد ايضا كون ابي بكر يدعو للمبارزة بعد نزولها اولا في بدر
ثم رأيت ابن ظفر قال في الينبوع انه لم يثبت ان ابا بكر دعا ابنه للمبارزة وانما هو شىء ذكر في كتب التفسير فانزل الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } فالاية مدنية لا مكية وبه يرد ما ذكر ان سببها ان ابا بكر سمع والده ابا قحافة يذكر النبي صلى الله عليه وسلم بشر فلطمه لطمة سقط منها فأخبر ابو بكر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له لا تعد لمثلها فقال والله لو حضرني السيف لقتلته به
وفي كلام الزمخشري ان عبدالرحمن اسلم في هدنة الحديبية وهاجر الى المدينة ومات سنة ثلاث وخمسين بمحل بينه وبين مكة ستة اميال وحمل على اعناق الرجال الى مكة وقدمت اخته عائشة رضى الله تعالى عنها من المدينة فأتت قبره فصلت عليه
أي وفي هذا اليوم الذي هو يوم بدر قتل ابو عبيدة بن الجراح اباه وكان مشركا فان اباه قصده ليقتله فولى عنه ابو عبيدة لينكف عنه فلم ينكف عنه فرجع عليه وقتله وانزل الله تعالى { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم } الاية
وعن عبدالرحمن بن عوف رضى الله تعالى عنه لقد لقيت اميه بن خلف وكان
____________________
(2/415)
صديقا لي في الجاهلية ومعه أي مع امية ابنه علي أي اخذ بيده وكان علي ممن اسلم والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل ان يهاجر رففتنهم اقاربهم عن الاسلام ورجعوا عنه وماتوا على كفرهم وانزل الله تعالى فيهم { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم } الاية أي وهم الحرث بن ربيعة وابو قيس بن الفاكه وابو قيس بن الوليد والعاص ابن منبه وعلي بن اميه المذكور
وفي السيرة الهشامية وذلك انهم كانوا اسلموا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم الى المدينة حبستهم اباؤهم وعشيرتهم بمكة وفتنوهم فافتتنوا أي رجعوا عن الاسلام ثم ساروا مع قومهم الى بدر فأصيبوا جميعا وسياقه كما ترى يقتضى انهم لم يرجعوا الى الكفر الا بعد الهجرة وسياق ما قبله ربما يقتضى انهم رجعوا الى الكفر قبل ان يهاجر صلى الله عليه وسلم
قال عبدالرحمن بن عوف وكان معي ادراع استلبتها أي فانا احملها فلما رآني اميه ناداني باسمي الاول يا عبد عمرو فلم اجبه لانه كان قال لي لما سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالرحمن اترغب عن اسم سماك به ابوك فقلت نعم قال الرحمن لا اعرفه ولكني اسميك بعبد الاله كما تقدم فلما ناداني بعبدالاله قلت نعم
أي وظاهر السياق يقتضى انه عرف انه المراد بذلك وانه ترك اجابته قصدا حيث جعله عبدا للصنم ويحتمل وهو الاقرب أنه لم يجبه لعدم معرفته انه المراد بذلك الاسم لكونه هجر بالمرة فلما ناداه اميه بما ذكر عرفه وعرف انه المراد بذلك لما ذكر وعند ذلك قال له اميه هل لك في فأنا خير لك من هذه الادراع التي معك قلت نعم فطرحت الادراع من يدي واخذت بيده وبيد ابنه علي وهو يقول ما رأيت كاليوم قط ثم قال لي يا عبدالاله من الرجل منكم المعلم بريشة نعامة في صدره أي كانت في درعه بحيال صدره قلت ذاك حمزة بن عبد المطلب قال ذاك الذي فعل بنا الافاعيل وقيل قائل ذلك ابنه ثم خرجت امشي بهما فو الله اني لاقودهما اذ رآه بلال معي وكان هو الذي يعذب بلالا بمكة على ان يترك الاسلام أي كما تقدم فقال بلال راس الكفر اميه بن خلف لا نجوت ان نجا فقلت أي بلال أفبأسيرى أي تفعل ذلك بهما قال لا نجوت ان نجا وكررت وكر ذلك ثم صرخ بأعلى صوته يا أنصار الله راس الكفر اميه بن خلف لا نجوت ان نجا وكرر ذلك فأحاطوا بنا
____________________
(2/416)
فأصلت رجل السيف أي سله من غمده وذلك الرجل هو بلال فضرب رجل ابنه فوقع وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط فضربوهما بأسيافهم فهبروهما
اقول الذي في البخاري عن عبدالرحمن بن عوف ان بلالا لما استصرخ الانصار قال خشيت ان يلحقونا فخلفت لهم ابنه لاشغلهم به فقتلوه ثم اتونا حتى لحقوا بنا وكان امية رجلا ثقيلا أي كما تقدم فقلت ابرك فألقيت نفسي عليه لامنعه فتخللوه بالسيوف من تحتي حتى قتلوه فأصاب احدهم رجلي بسيفه أي ظهر قدمه
وفي كلام ابن عبد البر قال ابن هشام قتل امية بن خلف معاذ بن عفراء وخارجه ابن زيد وحبيب بن اساف اشتركوا فيه
قال ابن اسحاق وابنه على قتله عمار بن ياسر وحبيب بن اساف هذا شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوج بنت خارجة بد ان توفى عنها ابو بكر الصديق رضى الله تعالى عنه وهو جد حبيب شيخ مالك رضى الله تعالى عنه والله اعلم
وكان عبدالرحمن بن عوف يقول يرحم الله بلالا ذهبت ادراعى وفجعني بأسيرى أي وفي رواية لما كان يوم بدر خصل لي درعان ولقيني امية فقال خذني وابني فأنا خير لك من الدرعين فالقيت الدرعين فاخذتهما فلما قتلا صار يقول يرحم الله بلالا فلا درعي ولا اسيرى أي لانه صلى الله عليه وسلم جعل في هذه الغزاة ان كل من اسر اسيرا فهو له كما تقدم وسياتي أي فله فداؤه وهو يخالف ما عليه ائمتنا ان مال فداء الاسرى ورقابهم اذا استرقوا كسائر اموال الغنيمة الا ان يقال ذاك كان في صدر الاسلام ترغيبا في الجهاد ثم استقر الامر على ما قاله فقهاؤنا أي وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من له علم بنوفل ابن خويلد فقال علي كرم الله وجهه انا قتلته فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الحمد لله الذي اجاب دعوتي فيه أي فانه لما التقى الصفان نادى نوفل بصوت رفيع يا معاشر قريش اليوم يوم الرفعة والعلاء فقال صلى الله عليه وسلم اللهم اكفني نوفل بن خويلد وفي كلام بعضهم ما يفيد ان قتل علي كرم الله وجهه له كان بعد ان اسره جبار بن صخر فقد جاء ان جبارا بينما هو يسوقه اذ رأى عليا فقال يا اخا الانصار من هذا واللات والعزى انه ليريدني فقال هذا علي بن ابي طالب فعمد له علي كرم الله وجهه فقتله ثم امر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي جهل ان يلتمس في القتلى وقال ان خفى عليكم أي بان قطع
____________________
(2/417)
رأسه وازيل عن جثته انظروا الى اثر جرح في ركبته فاني ازدحمت يوما انا وهو على مائدة لعبد الله بن جدعان ونحن غلامان وكنت اسن منه أي اكبر منه بيسير فدفعته فوقع على ركبتيه فجحش أي خدش على أحديهما جحشا لم يزل اثره به
أي ولعل هذا هو محمل قول بعضهم انه صلى الله عليه وسلم صارع ابا جهل فانه لم يصح انه صارعه ولعل هذا الاثر هو الذي عناه ابن مسعود رضى الله تعالى عنه بقوله لما قتلت ابا جهل لعنه الله وقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم قتلت ابا جهل فقال لي عقيل وهو اسير عند النبي صلى الله عليه وسلم كذبت ما قتلته فقلت له بل انت الكذاب الآثم يا عدو الله قد والله قتلته قال فما علامته قلت ان بفخذه حلقة كحلقة الجمل المحلق قال صدقت وكان ابو جهل قد استفتح أي طلب الحكم على نفسه لانه لما دنا القوم بعضهم من بعض قال اللهم اقطعنا للرحم اتيانا بما لا نعرف فأحنه أي اهلكه العداة أي زاد بعضهم اللهم من كان احب اليك وارضى عندك وفي لفظ اللهم اولانا بالحق فانصره اليوم فانزل الله تعالى { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح }
اقول كون ابي جهل طلب الحكم على نفسه واضح لو سكت عن قوله واتيانا بما لا نعرف اذ هو نص فيه صلى الله عليه وسلم
وفي تفسير سهل ان ابا جهل قال يوم بدر اللهم انصر افضل الدينين عندك وارضاهما لك أي وفي رواية اللهم انصر خير الدينين اللهم ديننا القديم ودين محمد الحادث فنزل { إن تستفتحوا } يعنى تستنصروا { فقد جاءكم الفتح }
وفي اسباب النزول للواحدى ان المشركين حين ارادوا الخروج من مكة اخذوا بأستار الكعبة وقالوا اللهم انصر اعلى الجندين واهدى الفئتين واكرم الحزبين وافضل الدينين فانزل الله تعالى الاية
وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم انه كان يستفتح بصعاليك المهاجرين والله اعلم
قال معاذ بن عمرو بن الجموح رأيت ابا جهل وقد احاطوا به وهم يقولون ابو الحكم لا يخلص اليه فلما سمعتها عمدت نحوه وحملت عليه فضربته ضربة اطنت قدمه بنصف ساقه أي اسرعت قطعه فو الله ما شبهتها حين طاحت الا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى والمرضخة بالخاء المعجمة وبالمهملة وقيل الرضخ بالمعجمة كسر الرطب وبالمهملة كسر اليابس وضربني ابنه أي عكرمه رضى الله تعالى عنه فانه اسلم بعد ذلك على عاتقي فطرح يدي فتعلقت بجلدة من جسمي واجهضني القتال أي
____________________
(2/418)
شغلني عنه فلقد قاتلت عامة يومي واني لاستحسها خلفي فلما آذتني وضعت عليها قدمى ثم تمطيت عليها حتى طرحتها في رواية انه جاء بها الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبصق عليها أي ولصقها فلصقت والى ذلك يشير الامام السبكى في تائيته لكن قال ابن عفراء ولا منافاة لجواز ان يكون معاذ بن عمرو بن الجموح بن عفراء وسيأتي ما يدل على ذلك بقوله ** وبانت بهاكف بن عفرا فاشتكى ** اليك فعادت بعد احسن عودة **
الا ان قوله بها يرجع لغزاة احد وقد علمت ان ذلك انما هو ببدر واحتمال تكرر ذلك في احد وفي بدر لشخص واحد بعيد الا ان يثبت النقل بذلك ثم مر بابي جهل وهو عقير معوذ بضم الميم وتشديد الواو مفتوحة ومكسورة ابن عفراء فضربه حتى اثبته وتركه وبه رمق أي وما جاء في بعض الروايات ضربه حتى برد بفتح الموحدة والراء والدال المهملة أي مات لا ينافيه لانه يجو ان يكون المراد صار في حالة من مات بان صار الى حركة المذبوح ومن ثم جاء في بعض الروايات حتى برك بالكاف بدل الدال أي سقط الى الارض أي الى جنبه والا فقطع قدمه مع نصف ساقه لا يفضى غالبا ان يسقط الى جنبه ومعوذ هذا لا زال يقاتل حتى قتل قال عبدالله بن مسعود رضى الله عنه ورايت ابا جهل بآخر رمق فعرفته فوضعت رجلي على عنقه ثم قلت له هل اخزاك الله يا عدو الله قال وبم اخزاني اعار على رجل قتلتموه أي ليس بعار على رجل قتلتموه وفي رواية اعمدمن رجل قتلتموه أي انا سيد رجل قتلتموه لان عميد القوم سيدهم أي فلا عار على في قتلكم اياي
وجاء انه قال لو غير أكار قتلني والاكار الزراع يعني الانصار لانهم كانو اصحاب زرع أي لو كان الذي قتلني غير فلاح لكان احب الي واعظم لشاني لم يكن على في ذلك نقص لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبا اخبرني لمن الدبرة أي النصرة والظفر اليوم زاد في رواية لنا او علينا قلت لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الصحاح في دبر بالباء الموحدة والدبرة الهزيمة في القتال
ومما يدل للاول ما تقدم من قول ابي جهل اخبرني على من كانت الدبر لنا او علينا وفي مغازي ابن عقبة التي قال فيها مالك رضى الله تعالى عنه مغازي موسى بن عقبة اصح المغازي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على القتلى والتمس ابا جهل فلم يجده حتى عرف ذلك في وجهه ثم قال اللهم لا تعجزني فرعون هذه الامة فسعى له الرجال حتى
____________________
(2/419)
وجده ابن مسعود الحديث وفي الصحيحين عن انس رضى الله تعالى عنه لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ينظر لنا ما صنع ابو جهل فانطلق ابن مسعود رضى الله تعالى عنه فوجده قد ضربه ابن عفراء حتى برد ولمسلم برك أي وهو المراد من الاول كما تقدم فاخذ بلحيته فقال انت ابو جهل الحديث واخذه بلحيته لا ينافى وضع رجله على رقبته لجواز ان يكون جمع بينهما قال ابن مسعود ثم احتزرت راسه
وفي رواية رويت عن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه قال لما ضربته بسيفى لم يغن شيئا فبصق في وجهى وقال خذ سيفي فاحتز به راسي من عرشي ليكون انهى للرقبة والعرش عرق في اصل الرقبة ففعلت كذلك ثم جئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله هذا رأس عدو الله ابي جهل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله الذي لا اله غيره أي ورددها ثلاثا وروى الطبراني آلله قتلت ابا جهل بنصب الجلالة وهو بهذا اللفظ عندنا كناية يمين ومثل النصب الرفع والجر قال قلت نعم والله الذي لا اله غيره ثم القيت راسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله تعالى أي ويقال انه صلى الله عليه وسلم سجد خمس سجدات شكرا ويقال انه قال الله اكبر الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الاحزاب حده وكون ابي جهل بصق في وجه ابن مسعود رضى الله تعالى عنه وقال له خذ سيفي الخ ينافى كونه وصل الى حركة المذبوح الا ان يقال يجوز ان يكون في اول الامر كان كذلك ثم تراجعت اليه روحه حتى قدر على ماذكر فليتأمل مع ما ياتي
قيل وبهذا أي بحمل راس ابي جهل الى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد على الزهى ي قوله لم يحمل الى النبي صلى الله عليه وسلم راس قط ولا يوم بدر وحمل راس لأبي بكر رضى الله عنه فانكره ويجاب بان البيهقي رحمه الله قال ما روى من حمل راس ابي جهل قد تكلم في ثبوته وبتقدير صحته فهو من محل الى محل لا من بلد الى بلد أي من بلد الكفر إلى دار الاسلام أي الذي انكره ابو بكر رضى الله عنه فانه انكر نقل الراس من بلد الكفر الى بلد الاسلام
وقد جوزه من ائمتنا الماوردى والغزالي اذا كان في ذلك مكايدة للكفار وفي النور تحصلنا على جماعة حملت رؤوسهم اليه صلى الله عليه وسلم ابو جهل وسفيان بن خالد وكعب بن الاشرف ومرحب اليهودي والاسود العنسى على ما روى و عصماء بنت
____________________
(2/420)
مروان ورفاعة بن قيس أو قيس بن رفاعة أي ورأس عتبة بن أبي وقاص الذي كسر رباعيته صلى الله عليه وسلم وشق شفته السفلى يوم أحد كما سيأتي
وفي وضع ابن مسعود رضي الله تعالى عنه رجله على عنق أبي جهل وقطع رأسه تصديق لتعبيره للرؤيا التي رآها لأبي جهل وقال له إن صدقت رؤياي لأطأن رقبتك ولأذبحنك ذبح الشاة
وفي رواية أن ابن مسعود رضي الله عنه وجده مقنعا في الحديد وهو منكب لا يتحرك فرفع سابغة البيضة أي الخودة عن قفاه لأن سابغة البيضة ما يغطى بها العنق ومن ثم يقال بيضة لها سابغ فضربه فوقع رأسه بين يديه
وعن ابن مسعود كما في المعجم الكبير للطبراني انتهيت إلى أبي جهل وهو صريع وعليه بيضة ومعه سيف جيد ومعي سيف ردىء فجعلت ألقف رأسه وأذكر نقفا كان ينقف رأسي بمكة فأخذت سيفه فرفع رأسه فقال على من كانت الدبرة ألست برويعينا بمكة فقتله ثم سلبه فلما نظر إليه إذ هو ليس به جراح وإنما هي أحدار أي أورام في عنقه ويديه وكتفيه كهيئة آثار السياط أي آثار سود كسمة النار أي ليس به جراح من جراح الآدميين داخل بدنه فلا ينافي ما تقدم من قطع ابن الجموح لرجله
ويجوز أن يكون ضرب ابن عفراء له حتى أثبته لم ينشأ عنه جراحة داخل بدنه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره به فقال ذاك ضرب الملائكة أي فإن الملائكة عليهم السلام كانت لا تعلم كيف قتل الآدميين فعلمهم الله تعالى ذلك بقوله تعالى { فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان } أي مفصل فكانوا يعرفون قتلى الملائكة من قتلاهم بآثار سود كسمه النار ولا ينافي ذلك وصفه بالخضرة في بعض الروايات لأن الأخضر لشدة خضرته ربما قيل فيه أسود وتلك الآثار في الأعناق والبنان الظاهر أن ذلك يكون موجودا حتى بعد مفارقة الرأس أو اليد ليستدل به على أن مفارقة الرأس أو اليد من فعل الملائكة وينبغي أن يكون هذا أي ضربهم فوق الأعناق والبنان أكثر أحوالهم فلا ينافي وجود أثر ضربهم في الكتفين كما تقدم وفي الوجه والأنف
فعن بعض الصحابة رضي الله عنهم كنا ننظر إلى المشرك أمامنا مستلقيا فننظر إليه فإذا هو قد حطم أنفه وشق في وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك الموضع وفسر بعضهم الأعناق بالرءوس وهو غير مناسب لما ذكر هنا
وروى عن سهل بن حنيف عن أبيه رضي الله عنه قال لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدنا
____________________
(2/421)
ليشير بسيفه إلى المشرك أي يرفعه عليه فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف ويمكن الجمع بين هذا وما قبله بأن ضرب الملائكة في الأعناق تارة يفصلها وتارة لا وفي الحالتين يرى أثر ذلك أسود في العنق ليستدل به على أنه من فعل الملائكة كما تقدم
وفي رواية عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال انتهيت إلى أبي جهل يوم بدر وقد قطعت رجله وهو صريع وهو يذب الناس عنه بسيف له فقلت الحمد لله الذي أخزاك يا عدو الله قال هل هو إلا رجل قتله قومه قال فجعلت أتناوله بسيف لي غير طائل فأصبت يده فبدر أي سقط سيفه فأخذته فضربته حتى قتلته ثم خرجت حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم كأنما أقل من الأرض أي أحمل من شدة الفرح فأخبرته فقال الله الذي لا إله إلا هو وفي لفظ تقدم لا إله غيره ردده ثلاثا وفي رواية عن ابن مسعود فاستحلفني صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ثم قال الحمد لله الذي أعز الإسلام وأهله ثلاث مرات وخر ساجدا أي خمس سجدات شكرا كما تقدم
وفي رواية صلى ركعتين قال ابن مسعود رضي الله عنه ثم إنه صلى الله عليه وسلم خرج يمشي معي حتى قام عليه فقال الحمد لله الذي أخزاك يا عدو الله هذا كان فرعون هذه الأمة زاد في لفظ ورأس قاعدة الكفر ونفلني سيفه أي وكان قصيرا عريضا فيه قبائع فضة وحلق فضة ومع قصره كان أقصر من سيف ابن مسعود فلا منافاة
أقول يجوز أن يكون المضي إليه بعد إلقاء الرأس بين يديه صلى الله عليه وسلم استعظاما لقتله أي وأن ابن مسعود في هذه الرواية سكت عن قطع رأسه والمجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا مخالفة وقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم يوما وقد أخذ بمجامع ثوبه أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى أي وعيد على وعيد فقال ما تستطيع أنت ولا ربك بي شيئا وإني لأعز من مشى بين جبليها فأنزل الله تعالى { فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطى } وقيل نزلت كالتي قبلها في عدي بين ربيعة لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر القيامة فأخبره به فقال لو عاينت هذا اليوم لم أصدقك أو يجمع الله هذه العظام فأنزل الله تعالى { أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه } الآيات والله أعلم
وعن قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن لكل أمة فرعونا وإن فرعون هذه الأمة أبو جهل قتله الله شر قتله بكسر القاف الهيئة قتلته الملائكة وفي لفظ قتله ابن عفراء وقتلته الملائكة وقد ذففه أي أجهز عليه ابن مسعود
____________________
(2/422)
وابن عفراء هذا يجوز أن يكون هو معاذ بن عمرو بن الجموح ويجوز أن يكون أخاه معاذ بن الحارث وكونه قتله لأنه أزال منعته كما تقدم
وفي مسلم عن عبدالرحمن بن عوف أنه قال إني لواقف يوم بدر في الصف نظرت عن يميني وعن شمالي فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما فغمزني أحدهما فقال يا عم هل تعرف أبا جهل بن هشام قلت نعم وما حاجتك به قال بلغني أنه كان يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لو رأيته لم يفارق سوادي سواده أي شخص شخصه حتى يموت الأعجل منا أي الأقرب أجلا فغمزني الآخر فقال مثلها فعجبت لذلك أي لحرص كل منهما على ذلك وإخفائه عن صاحبه ليكون المختص به فلم أنشب أي ألبث أن نظرت إلى أبي جهل يزول في الناس أي بالزاي يتحول من محل إلى محل آخر فقلت لهما ألا تريان هذا صاحبكما الذي تسألان عنه فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه أي أشرفا به على القتل فصيراه إلى حركة مذبوح ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه فقال أيكما قتله فقال كل واحد منهما أنا قتلته قال هل مسحتما سيفيكما قال لا فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في السيفين فقال كلاكما قتله وقضى بسلبه أي ما عدا سيفه لهما فلا ينافي ما سبق من إعطائه لابن مسعود رضي الله عنه وهما معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء بن الحارث فهما أي معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن الحرث ابنا عفراء غاية الأمر أن الأول اشتهر بأبيه عمرو بن الجموح والثاني اشتهر بأمه التي هي عفراء
وقول الحافظ ابن حجر إن معاذ بن عمرو بن الجموح ليس اسم أمه عفراء يجوز أن يكون مستنده في ذلك مقابلة ابن الجموح بابن عفراء في كلامهم المقتضى ذلك لأن يكون ابن الجموح ليس ابن عفراء
ولا يشكل على ذلك ما في النور نقلا عن الإمام النووي أن عمرو بن الجموح وابني عفراء أي معاذ ومعوذ اشتركوا في قتل أبي جهل لأن معاذا الثاني ابن الحرث فكل من عمرو بن الجموح والحرث تزوج عفراء وكل سمى ولده منها بمعاذ ويدل لذلك ما يأتي عن الإمتاع أنه صلى الله عليه وسلم قال رحم الله ابني عفراء اشتركا في قتل فرعون هذه الأمة ولما قيل له يا رسول الله من قتله معهما قال الملائكة ولم يقل عمرو بن الجموح لكن رأيت بعضهم ذكر أن عفراء شهد لها بدرا سبع بنين ثلاثة من الحارث بن رفاعة
____________________
(2/423)
وهم معوذ ومعاذ وعامر وأربعة من بكر بن عبد ياليل وهم خالد وأساس وعاقل وعامر واستشهد منهم ببدر معاذ ومعوذ وعاقل هذا كلامه وذكر عامر في الأول تقدم بدله ذكر عوف وهو واضح فقد تقدم أن عوف بن الحارث بن عفراء قال يا رسول الله ما يضحك الرب الخ ولم يذكر هذا البعض أن من أولادها معاذ بن عمرو بن الجموح وهو يؤيد ما تقدم عن الحافظ وعن الإمام النووي فعليك بالتأمل وقيل قضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح
أقول أي لكونه هو الذي أزال منعته فاستحق سلبه ولا ينافي ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لهما كلاكما قتله لجواز أن يكون أتى بذلك ملاطفة للثاني وترغيبا له في الجهاد لأن له مشاركة ما في قتله لأنه زاد في إثخانه إلى أن صيره إلى آخر رمق
ويرده كونه صلى الله عليه وسلم أشركهما في سلبه ومن ثم قال فقهاؤنا يعطي السلب لمن أثخن دون من قتل أي بعد ذلك فقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلب أبي جهل لمثخنيه ابني عفراء دون قاتله ابن مسعود لكن هذا القيل قال به بعض آخر من فقهائنا وهو الموافق لما في البخاري في كتاب فرض الخمس معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء قتلا أبا جهل ثم تنازعا فيه وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى السيفين فرأى فيهما أثر الدم فقال كلاكما قتله وقضى بسلبه لمعاذ بن الجموح قال الأصحاب لأنه أثخنه والآخر جرحه بعده وقوله كلاكما قتله تطييب لقلب الآخر هذا كلامه فليتأمل فإن الذي أظنه أن كونه رأى أثر الدم في سيفيهما خلط من الراوي لأن ذلك كان في قتل بن الأشرف ويؤيد الخلط ما تقدم عن ابن مسعود أنه لم ير فيه أثر جراح داخل بدنه
وفي الإمتاع أنه صلى الله عليه وسلم قال يرحم الله ابني عفراء فإنهما قد اشتركا في قتل فرعون هذه الأمة ورأس أئمة الكفر فقيل يا رسول الله من قتله معهما قال الملائكة وذففه ابن مسعود وهذا السؤال يقتضي أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم إنهما قد اشتركا في قتل فرعون هذه الأمة أن غيرهما شاركهما في ذلك فليتأمل
وفي شرح الروض وهو من أجل كتبنا أن عبدالله بن رواحة وابني عفراء تقاتلا مع أبي جهل مبارزة وأنه صلى الله عليه وسلم علم ذلك واقره وجعلوا ذلك دليلا على إباحة مبارزة القوي لكافر لم يطلب المبارزة
____________________
(2/424)
أي وأما ما تقدم من أمره صلى الله عليه وسلم لحمزة وعلي وعبيدة بن الحارث بمبارزة عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة فذاك لكافر طلب المبارزة فقد تقدم أن عتبة خرج بين أخيه شيبة وولده الوليد حتى فصل من الصف ودعا للمبارزة وأنه خرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة إخوة أشقاء وهم معاذ ومعوذ وعوف بنو عفراء وقيل بدل عوف عبدالله بن رواحة فلم يرضوا بمبارزتهم فعند ذلك أمر صلى الله عليه وسلم من ذكر بمبارزتهم وعندي أن ما ذكره في شرح الروض من مبارزة عبدالله بن رواحة وابني عفراء لأبي جهل ذكر أبي جهل اشتباه وإنما هو لهؤلاء الثلاثة ولم تقع منهم مقاتلة وكيف يبارز ثلاثة واحدا فليتأمل
وجاء في الحديث إن الله قتل فرعون هذه الأمة أبا جهل فالحمد لله الذي صدق وعده ونصر دينه والله أعلم
وكان على الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرسلوها إلى ظهورهم أي إلا جبريل فإنه كان عليه عمامة صفراء أي وقيل حمراء
قال بعضهم وكان بعضهم بعمائم خضر وبعضهم بعمائم صفر وبعضهم بعمائم حمر أي وبعضهم بعمائم بيض وبعضهم بعمائم سود فلا منافاة
وذكر أن عمامة جبريل عليه السلام يوم أغرق فرعون كانت سوداء قال وفي رواية سيماهم عمائم سود وعند ابن مسعود رضي الله عنه كان سيما الملائكة يوم بدر عمائم قد أرخوها بين أكتافهم خضر وصفر وحمر اه أي وبيض وسود
وفي كلام بعضهم نزلت الملائكة يوم بدر بعمائم صفر ورواية بيض وسود ضعيفة
وفي كلام ابن إسحاق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرخوها على ظهورهم إلا جبريل فإنه كان عليه عمامة صفراء من نور أي وكانوا يوم أحد بعمائم حمر ويوم حنين كذلك
في الجامع الصغير كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم سود ويوم أحد عمائم حمر وما ذكر لا ينافي ما قيل سيماهم ببدر عمائم صفر قد أرخوها بين أكتافهم وما جاء كان على الزبير رضي الله عنه ببدر عمامة صفراء معتجرا بها فقال صلى الله عليه وسلم نزلت الملائكة علي بسيما أبي عبدالله يعني الزبير رضي الله عنه لجواز أن يكون أكثرهم كان بعمائم صفر
____________________
(2/425)
وقد ذكر أن الزبير رضي الله عنه قاتل يوم بدر قتالا شديدا حتى كان الرجل يدخل يده في الجراح في ظهره وعاتقه
وقد سئل الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى عن قوله تعالى { يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين } ما السمة التي كانت عليهم فأجاب بأن ابن أبي حاتم ذكر في تفسيره بأسانيد عن علي كرم الله وجهه أنها الصوف الأبيض في نواصي خيولهم وأذنابها
وعن مكحول وغيره أنها العمائم وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها كانت عمائم بيض قد أرسلوها إلى ظهورهم وفي سنده رجل ضعيف وعنه أيضا عمائم سود وفي سنده متروك ثم قال ورواية البيض والسود ضعيفة هذا كلامه أي وعلى تقدير صحتها يجاب بما قدمنا وكان شعار الأنصار أي علامتهم التي يتعارفون بها في ذلك إذا جاء الليل أو وقع اختلاط أحد أحد أي وشعار المهاجرين يومئذ يا بني عبدالرحمن
أي وعن زيد بن علي قال كان شعار النبي صلى الله عليه وسلم أي المهاجرين أو هو حتى لا يشتبه بغيره يا منصور أمت ويقال أحد أحد وشعار الخزرج يا بني عبدالله وشعار الأوس يا بني عبيدالله
وعن ابن سعد يقال كان شعار الجميع يومئذ يا منصور أمت
أي وقد يقال لا منافاة بين هذه الرواية وما قبلها من الروايات لأن المراد بالجميع المجموع لكن يحتاج إلى الجمع بين تلك الروايات السابقة على تقدير صحتها وكانت خيل الملائكة بلقا
وعن علي رضي الله تعالى عنه قال كان سيما الملائكة أي سيما خيلهم يوم بدر الصوف الأبيض أي وفي لفظ بالعهن الأحمر في نواصي الخيل وأذنابها
أي ولا منافاة لجواز أن يكون بعضهم كذا وبعضهم كذا وعند ذلك قال صلى الله عليه وسلم سوموا خيلكم فإن الملائكة قد سومت فهو أول يوم وضع فيه الصوف أي في نواصي الخيل وأذنابها ولم أقف على لون الصوف الذي وضع في ذلك
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال حدثني رجل من بني غفار قال أقبلت أنا وابن عم لي حتى صعدنا في جبل يشرف بنا على بدر ونحن مشركان ننتظر الوقعة على من تكون الدبرة أي الغلبة فننهب مع من ينهب فبينا نحن في الجبل إذ دنت منا سحابة فسمعنا فيها حمحمة الخيل فسمعت قائلا يقول اقدم حيزوم فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه
____________________
(2/426)
أي غشاؤه فمات مكانه وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت واقدم بضم الدال من التقدم كلمة يزجر بها الخيل وحيزوم بالميم وربما قيل بالنون اسم فرس جبريل ولعلها هي الحياة وأحدهما اسم لها والآخر لقب وقيل لها الحياة لأنها ما مسها شيء إلا صار حيا وهي التي قبض من أثرها أي من تراب حافرها السامري نسبة إلى سامر قرية أو طائفة ما ألقاه في العجل الذي صاغه من حلي القبط فكان له خوار أي صوت فكان إذا خرا سجدوا وإذا سكت رفعوا قال في النهر الظاهر أنه قامت به الحياة
وقيل لما صنعه السامري أجوف تحيل لتصويته بأن جعل في تجويفه أنابيب على شكل مخصوص وجعله في مهب الرياح فتدخل في تلك الأنابيب فيظهر له صوت يشبه الخوار وفي كلام بعضهم فرس جبريل التي هي حيزوم كان صهيله التسبيح والتقديس وإذا نزل عليها جبريل عليه السلام علمت الملائكة أن نزوله للرحمة وإذا نزل منشور الأجنحة علمت أن نزوله للعذاب أي وحينئذ فنزول جبريل عليه السلام عليها يوم بدر كان لرحمة المسلمين وإن كان عذابا على الكافرين ويكون نزوله لا عليها بل منشور الأجنحة إذا كان لمحض العذاب
ويحتمل أن يكون حيزوم غير فرس الحياة وإليه ذهب السهيلي رحمه الله فقال والحياة أيضا فرس لجبريل عليه السلام
قال الحافظ ابن حجر ومن الأخبار الواهية أن الموت كبش لا يجد ريحه شيء إلا مات والحياة فرس بلقاء أثنى أي خطوتها كما في العرائس مد البصر وهي التي كان جبريل عليه السلام والأنبياء عليهم السلام يركبونها أي كلهم كما في العرائس لا تمر بشيء ولا يجد ريحها شيء إلا حيى
هذا وفي أثر مرسل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل من القائل يوم بدر من الملائكة اقدم حيزوم فقال جبريل عليه السلام يا محمد ما كل أهل السماء أعرف
قال ابن كثير وهذا الأثر يرد قول من زعم أن حيزوم اسم فرس جبريل عليه السلام أي وفيه أنه لا يبعد أن يقول أحد من الملائكة لفرس جبريل اقدم حيزوم ولا يعرف ذلك القائل وكأن الحافظ ابن كثير رحمه الله فهم من قوله صلى الله عليه وسلم من القائل الخ أن ذلك الفرس لذلك القائل نعم إن كان هذا الأثر وقع بعد الرواية التي تلي هذه وهي جاءت سحابة الخ أو أن ذلك الأثر سقط منه لفظة لفرسه والأصل من
____________________
(2/427)
القائل يوم بدر من الملائكة لفرسه اتجه ما فهمه ابن كثير رحمه الله فليتأمل قال وفي رواية جاءت سحابة فسمعنا أصوات الرجال والسلاح وسمعنا رجلا يقول لفرسه اقدم حيزوم فنزلوا على ميمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جاءت سحابة أخرى نزل منها رجال كانوا على ميسرته فإذا هم على الضعف من قريش فمات ابن عمي وأما أنا فتماسكت وأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم وأسلمت ومن ثم ذكر في الصحابة
وفي النور هذا الرجل مذكور في الصحابة وليس في الحديث أي الرواية الأولى ما يدل على إسلامه إلا أن تحديثه لابن عباس رضي الله تعالى عنهما بهذه المعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم يشعر بإسلامه هذا كلامه
وفيه أن قوله ونحن مشركان يدل على أنه كان مسلما عند تحديثه لابن عباس رضي الله تعالى عنهما
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الغمام الذي ظلل بني إسرائيل في التيه هو الذي يأتي الله تعالى فيه يوم القيامة وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر
أي وعن علي رضي الله تعالى عنه هبت ريح شديدة ما رأيت مثلها قط ثم جاءت أخرى كذلك ثم جاءت أخرى كذلك ثم جاءت أخرى كذلك فكانت الأولى جبريل نزل في ألف من الملائكة أي لعلها أمامه أخذا من قوله وكانت الثانية ميكائيل نزل في ألف من الملائكة عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الثالثة إسرافيل نزل في ألف من الملائكة عن ميسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي ذلك سكوت عن الرابعة أي زاد في الإمتاع وكان إسرافيل وسط الصف لا يقاتل كما يقاتل غيره من الملائكة
وظاهر هذا أن كلا من جبريل وميكائيل قاتل وتقدم أنهم في هذه الغزاة التي هي غزاة بدر قيل لم يمدوا إلا بألف من الملائكة ورواية ألفين ضعيفة جاءت عن علي رضي الله تعالى عنه فتكون هذه الرواية التي جاءت عن علي أيضا كذلك ولا نظر لما تقدم عن بعضهم أن إمدادهم يوم بدر بثلاثة آلاف أولا وأنهم وعدوا أن يمدوا بخمسة آلاف إن ثبتوا وصبروا وهو ما عليه الأكثر لما علمت أن ذلك إنما كان في أحد وسيأتي ذلك مع زيادة قال بعضهم ولم تقاتل الملائكة إلا في يوم بدر أي وفي غيره يكونون مددا من غير مقاتلة وسيأتي أنهم قاتلوا يوم أحد ويوم حنين
____________________
(2/428)
ففي مسلم عن سعد بن أبي وقاص أنه رأى عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض ما رأيتهما قبل ولا بعد يعني جبريل وميكائيل عليهما السلام يقاتلان كأشد القتال
قال الإمام النووي رحمه الله فيه أن قتال الملائكة لم يختص بيوم بدر وهذا هو الصواب خلافا لمن زعم اختصاصه فإن هذا صريح في الرد عليه
أقول يمكن الجمع بأن المختص ببدر قتال الملائكة عنه وعن أصحابه وفي غيره كان عنه صلى الله عليه وسلم خاصة فلا منافاة ثم رأيتني ذكرت هذا الجمع في غزوة أحد عن البيهقي وتعقبته بما جاء أن الملائكة قاتلت في ذلك اليوم عن عبدالرحمن بن عوف وعلى تسليم ورود ذلك فيه أنهم لو قاتلوا يوم أحد لظهر أثر قتلهم كما ظهر في يوم بدر
وقد يقال مرادهم بالمقاتلة يوم أحد المدافعة من غير أن يوقعوا فعلا وفي يوم بدر المراد بالمقاتلة إيقاع الفعل والله أعلم
وانكسر سيف عكاشة بتشديد الكاف أكثر من تخفيفها ابن محصن وهو يقاتل به فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم جذلا من حطب أي أصلا من أصول الحطب وقال له قاتل بهذا يا عكاشة فلما أخذه من رسول الله صلى الله عليه وسلم هزه فعاد في يده سيفا طويل القامة شديد المتن أبيض الحديد فقاتل به رضي الله عنه حتى فتح الله تعالى على المسلمين وكان ذلك السيف يسمى العون
ثم لم يزل عند عكاشة وشهد به المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم يزل متوارثا عند آل عكاشة وعكاشة مأخوذ من عكش على القوم إذا حمل عليهم والعكاشة العنكبوت وسيأتي مثل ذلك في أحد لعبدالله بن جحش
وانكسر سيف سلمة بن أسلم رضي الله عنه فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قضيبا كان في يده أي عرجونا من عراجين النخل وقال اضرب به فإذا هو سيف جيد فلم يزل عنده
قال وعن خبيب بن عبدالرحمن قال ضرب خبيب جدي يوم بدر فمال شقه فتفل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأمه ورده فانطبق
وعن رفاعة بن مالك رضي الله عنه قال لما كان يوم بدر رميت بسهم ففقئت عيني فبصق عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا لي فما آذاني منها شيء اه
____________________
(2/429)
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتلى من المشركين أن ينقلوا من مصارعهم التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وجودها فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرينا مصارع أهل بدر يقول هذا مصرع عتبة بن ربيعة وهذا مصرع شيبة بن ربيعة وهذا مصرع أمية بن خلف وهذا مصرع أبي جهل بن هشام وهذا مصرع فلان غدا إن شاء الله تعالى أي ويضع صلى الله عليه وسلم يده الشريفة على الأرض فما تنحى أحدهم عن موضع يده كما تقدم عن أنس وتقدم عنه أن ذلك كان ليلة بدر بعد أن وصل إلى محل الواقعة إذ لا يتصور وضع يده على الأرض إلا إذا كان بمحل الوقعة
وبه يعلم ما ذكره بعضهم أن إخباره صلى الله عليه وسلم بمصارع القوم تكرر منه مرتين قبل الوقعة بيوم أو أكثر ويوم الوقعة هذا كلامه إلا أن يقال قوله يوم الوقعة هو بناء على أنه صلى الله عليه وسلم وصل بدرا في النهار والقول بأن ذلك كان ليلا بناء على أنه وصل بدرا ليلا ومعلوم أنه إنما وضع يده في محل الوقعة
ثم أمر صلى الله عليه وسلم أن يطرحوا فطرحوا في القليب إلا ما كان من أمية بن خلف فإنه انتفخ في درعه فملأه فذهبوا ليحركوه فتزايل أي تقطعت أوصاله فأقروه وألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة
وهذا دليل على أن الحربي لا يجب دفنه وبه قال أئمتنا بل قالوا يجوز إغراء الكلاب على جيفته
وفي سنن الدارقطني كان من سنته صلى الله عليه وسلم في مغازيه إذا مر بجيفة إنسان أمر بدفنه لا يسأل عنه مؤمنا كان أو كافرا أي ولكثرة جيف الكفار كره صلى الله عليه وسلم أن يشق على أصحابه أن يأمرهم بدفنهم فكان جرهم إلى القليب أيسر وكان الحافر لهذا القليب رجل من بني النجار فكان فألا مقدما لهم ذكره السهيلي
ولما ألقى عتبة والد أبي حذيفة رضي الله عنه في القليب تغير وجه أبي حذيفة ففطن بفتح الطاء له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له لعلك دخلك من شأن أبيك شيء فقال لا والله ولكني كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا فكنت أرجو أن يهديه الله للإسلام فلما رأيت ما مات عليه أحزنني ذلك فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير وقال له خيرا
____________________
(2/430)
أقول وذكر فقهاؤنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أبا حذيفة عن قتل أبيه في هذه الغزاة وقد أراد ذلك والله أعلم
ثم جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف على شفير القليب أي قيل بعد ثلاثة أيام من إلقائهم في القليب وذلك ليلا أي وفي الصحيحين عن أنس رضي الله تعالى عنه كان صلى الله عليه وسلم إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال فلما كان اليوم الثالث أمر صلى الله عليه وسلم براحلته فشد عليها رحلها ثم مشى واتبعه أصحابه حتى قام على شفة الركى أي وهو القليب وجعل يقول يا فلان ابن فلان ويا فلان ابن فلان هل وجدتم ما وعد الله ورسوله حقا فإني وجدت ما وعدني الله حقا
وجاء في بعض الطرق نداؤهم بأسمائهم فقال يا عتبة بن ربيعة ويا شيبة بن ربيعة ويا أمية بن خلف ويا أبا جهل بن هشام وهذا يقتضي أنه في تلك الرواية نطق بلفظ يا فلان ابن فلان ولا يخفى بعده فليتأمل
واعترض بأن أمية بن خلف لم يكن من أهل القليب لما علمته وأجيب بأنه كان قريبا من القليب بئس عشيرة النبي كنتم كذبتموني وصدقني الناس وأخرجتموني وآواني الناس وقاتلتموني ونصرني الناس فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها وفي رواية أجسادا قد أجيفوا وفي لفظ قد جيفوا فقال صلى الله عليه وسلم ما أنتم بأسمع وفي رواية لأسمع لما أقول منهم وفي رواية لقد سمعوا ما قلت غير أنهم لا يستطيعون أن يردوا شيئا
وعن قتادة رضي الله عنه أحياهم الله تعالى حتى سمعوا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم توبيخا لهم وتصغيرا ونقمة وحسرة
أقول والمراد بإحيائهم شدة تعلق أرواحهم بأجسادهم حتى صاروا كالأحياء في الدنيا للغرض المذكور لأن الروح بعد مفارقة جسدها يصير لها تعلق به أو بما يبقى منه ولو عجب الذنب فإنه لا يفني وإن اضمحل الجسم بأكل التراب أو بأكل السباع أو الطير أو النار وبواسطة ذلك التعلق يعرف الميت من يزوره ويأنس به ويرد سلامه إذا سلم عليه كما ثبت في الأحاديث والغالب أن هذا التعلق لا يصير الميت به حيا كحياته في الدنيا بل يصير كالمتوسط بين الحي والميت الذي لا تعلق لروحه بجسده وقد يقوى حتى يصير كالحي في الدنيا ولعله مع ذلك لا يكون فيه القدرة على الأفعال الإختيارية فلا يخالف ما حكى
____________________
(2/431)
عن السعد اتفقوا على أنه تعالى لم يخلق في الميت القدرة والأفعال الإختيارية هذا كلامه والكلام في غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والشهداء رضي الله عنهم أي شهداء المعركة أما هما فتعلق أرواحهم بأجسادهم تصير به أجسادهم حية كحياتها في الدنيا ويكون لهم القدرة والأفعال الإختيارية
فقد روى البيهقي رحمه الله في الجزء الذي ألفه في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في قبورهم عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون وجاء إن علمي بعد موتي كعلمي في الحياة
وروى أبو يعلى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه لينزلن عيسى بن مريم عليه السلام ثم إن قام على قبري وقال يا محمد لأجبته ومن ثم قال الإمام السبكي حياة الأنبياء والشهداء كحياتهم في الدنيا ويشهد له صلاة موسى عليه السلام في قبره فإن الصلاة تستدعي جسدا حيا وكذا الصفات المذكورة في الأنبياء ليلة الإسراء كلها صفات الأجسام
ولا يلزم من كونها حياة حقيقية أن تكون الأبدان معها كما كانت في الدنيا من الإحتياج إلى الطعام والشراب وأما الإدراكات كالعلم والسمع فلا شك أن ذلك ثابت لهم ولسائر الموتى هذا كلامه وسائر الموتى شامل للكفار أي وأكل الشهداء وشربهم في البرزخ لا عن احتياج بل لمجرد الإكرام وكون الشهداء اختصوا بذلك دون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا مانع منه لأن المفضول قد يخص بما لا يوجد في الفاضل ألا ترى أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام شرعت الصلاة عليهم وجوبا وحرمت على الشهداء وبهذا يرد قول بعضهم في الإستدلال على حياة الأنبياء بقوله تعالى { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } والأنبياء أولى بذلك لأنهم أجل وأعظم وما من نبي إلا وقد جمع بين النبوة ووصف الشهادة فيدخلون في عموم لفظ الآية ولأنه صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته لم أزل أحد ألم الطعام الذي أكلته بخيبر فهذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم فثبت كونه صلى الله عليه وسلم حيا في قبره بنص القرآن إما من عرف اللفظ أو من مفهوم الموافقة
ووجه رده أن الأولوية قد تمنع بل أصل القياس لما علمت أنه قد يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وإن جمعوا بين النبوة والشهادة
____________________
(2/432)
إلا أن المراد في الآية شهداء المعركة لا مطلق الشهادة إذ شهادة المعركة لم تحصل لأحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
ثم لا يخفى أن الذي ثبت حياة الأنبياء وصلاتهم في قبورهم وحجهم وأما صومهم وأكلهم وشربهم في ذلك فلم أقف على ما يدل على ذلك في شيء من الأحاديث والآثار وقياسهم في ذلك على الشهداء علمت أنه قد يمنع لما أنه قد يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل
والذي يدل على أنهم يحجون ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة فمررنا بواد فقال أي واد هذا فقالوا وادي الأزرق فقال صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إلى موسى عليه الصلاة والسلام واضعا أصبعيه في أذنيه له جؤار إلى الله تعالى بالتلبية مارا بهذا الوادي ثم سرنا حتى أتينا على ثنية فقال صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إلى يونس عليه الصلاة والسلام على ناقة حمراء عليه جبة صوف مارا بهذا الوادي ملبيا وقد جاء في موسى عليه السلام أنه كان على بعير وفي رواية على ثور ولا منافاة لجواز أن يكون تكرر حجه أو ركب البعير مرة والثور أخرى ولا يخفى أن رزق الشهداء يصدق على الجماع لأنه مما يلتذذ به كالأكل والشرب
ثم رأيت سيدي أبا المواهب الشاذلي رحمه الله ونفعنا ببركاته قال في كتابه المسمى بعنوان أهل السر المصون في كشف عورات أهل المجون وأخبر سبحانه عن الشهداء أنهم أحياء عند ربهم يرزقون وحمله أهل العلم على الحقيقة وأنهم يأكلون ويشربون وينكحون حقيقة وقائل غير هذا أي أن الأكل والشرب عبارة عن لذة تحصل لهم كاللذة الناشئة عن الأكل والشرب والنكاح صرف هذه الآية عن ظاهرها من غير ضرورة تلجىء إلى ذلك ثم قاس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على الشهداء في ذلك لما تقدم من أنهم أجل وأعظم وما من نبي إلا وقد جمع بين النبوة والشهادة وقد علمت جواب من منع القياس
ثم رأيت عن إفتاء شيخنا الشمس الرملي الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم والشهداء رضي الله عنهم يأكلون في قبورهم ويشربون ويصلون ويصومون ويحجون ووقع الخلاف هل ينكحون فقيل نعم وقيل لا وأنهم يثابون على صلاتهم وصومهم
____________________
(2/433)
وحجهم ولا تكليف عليهم في ذلك لانقطاع التكليف بالموت بل من قبيل التكرمة ووقع الدرجات هذا كلامه ولعل مستنده في إثبات ما عدا الصلاة والحج للأنبياء قياسهم على الشهداء وقد علمت ما فيه وإثبات الخلاف الذي ذكره شيخنا في نكاح الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا أدري هل هو خلاف أهل عصره أو من تقدمهم
على أن إثبات النكاح للأنبياء عليهم الصلاة والسلام ربما يبعده ما ذكروه في حكمة قوله صلى الله عليه وسلم حبب إلي من دنياكم النساء والطيب حيث لم يقل من دنياي ولا من الدنيا فإنه أشار بهذه الإضافة إلى أن النساء والطيب من دنيا الناس لأنهم يقصدونهما للإستلذاذ وحظوظ النفس وهو عليه الصلاة والسلام منزه عن ذلك
وإنما حبب إليه النساء لينقلن عنه محاسنه ومعجزاته الباطنة والأحكام السرية التي لا يطلع عليها غالبا غيرهن وغير ذلك من الفوائد الدينية
وحبب إليه الطيب لملاقاته للملائكة لأنهم يحبونه ويكرهون الريح الخبيث لأن حقيقة الإكرام أن يحصل له في البرزخ ما كان يلتذ به في الدنيا ليكون حاله فيه كحاله في الدنيا
وفيه أن الحكمة المذكورة لا تناسب قوله صلى الله عليه وسلم فضلت على الناس بأربع وعد منها كثرة الجماع وهم كغيرهم في هذا التعلق متفاوتون بحسب مقاماتهم وإنه يعبر عن قوة هذا التعلق بعود الحياة ومنه ما ذكر عن قتادة وتعود الروح ومنه قول بعضهم أرواح الأنبياء والشهداء بعد خروجها من أجسادها تعود إلى تلك الأجسام في القبر وأذن لهم في الخروج من قبورهم والتصرف في الملكوت العلوي والسفلي
ومن ثم قال ابن العربي رحمه الله تعالى رؤية المصطفى عليه الصلاة والسلام بصفته العلوية إدراك له على الحقيقة وعلى غير صفته العلوية إدراك للمثال ويعبر عنه بردها
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم ما من أحد يسلم علي إلا رد الله تعالى علي روحي حتى أرد عليه السلام أي إلا قوى تعلق روحي وذلك إكراما لهذا المسلم حيث لا يرد عليه سلامه إلا وقد قوى تعلق روحه الشريفة بجسده الشريف والروح بناء على أنها غير عرض مع كونها في مقاماتها لها تعلق بجسدها وبما يبقى منه كما تقدم كالشمس في السماء الرابعة ولها تعلق بالأرض وربما عبر عن ضعف هذا التعلق بصعودها وطلوعها وبناء على أنها عرض تزول ويعود مثلها وقد أوضحت ذلك في النفحة العلوية في الأجوبة
____________________
(2/434)
الحلبية عن الأسئلة القروية وهي أسئلة سئلت عنها من بعض أهل القرى المصرية وذكرت أن هذا أولى مما أطال به الجلال السيوطي من الأجوبة مع ما فيها مما لا يخفى ورأيت في حديث عن عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن لله ملكا أعطاه سمع العباد كلهم وإنه ما من أحد يصلي علي صلاة إلا بلغنيها وإني سألت ربي عز وجل أن لا يصلي علي أحد صلاة إلا صلى الله عليه بها عشرة أمثالها وذكر الحافظ الذهبي أن راوي هذا الحديث تفرد به متنا وإسنادا والله أعلم
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها أنكرت قوله صلى الله عليه وسلم لقد سمعوا ما قلت وقالت إنما قال لقد علموا أن الذي كنت أقول حق وقالت إنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أي بقوله في حق أهل القليب ما أنتم بأسمع منهم أنهم الآن ليعلمون أن الذي أقول لهم هو الحق أي لا أنهم يسمعون ما أقول بحاسة سمعهم التي كانت موجودة في الدنيا ثم قرأت أي محتجة على ذلك قوله تعالى { إنك لا تسمع الموتى } الآية وبقوله { وما أنت بمسمع من في القبور }
ويجاب بأنه لا مانع من إبقاء السمع هنا على حقيقته لأنه إذا قوى تعلق أرواح هؤلاء الكفار بأجسادهم بحيث صاروا أحياء كحياتهم في الدنيا للغرض المذكور لا مانع من سماعهم بحاسة سمعهم لبقاء محل تلك الحاسة منهم كما أن الجسد بذلك التعلق يقوى على الجلوس للسؤال في القبر والسماع المنفي في الآيتين بمعنى السماع النافع وقد أشار إلى ذلك الجلال السيوطي رحمه الله بقوله نظما ** سماع موتى كلام الخلق قاطبة ** جاءت عندنا الآثار في الكتب ** ** وآية النفي معناها سماع هدى ** لا يقبلون ولا يصغون للأدب **
لأنه تعالى شبه الكفار الأحياء بالأموات في القبور في أنهم لا ينتفعون بالدعاء إلى الإسلام النافع
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله بن رواحة رضي الله عنه بشيرا لأهل العالية أي وهي محل قريب من المدينة على عدة أميال وزيد بن حارثة بشيرا لأهل السافلة بها راكبا ناقته القصوى وقيل العضباء بما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم والمسلمين فجعل عبدالله بن رواحة ينادي في أهل العالية يا معشر الأنصار أبشروا
____________________
(2/435)
بسلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل المشركين وأسرهم ونادى زيد بن حارثة في أهل السافلة بمثل ذلك أي ويقولان قتل فلان وفلان أي وأسر فلان وفلان من أشراف قريش وصار عدو الله كعب بن الأشرف يكذبهما ويقول إن كان محمد قتل هؤلاء القوم فبطن الأرض خير من ظهرها قال أسامة بن زيد رضي الله عنهما فأتانا الخبر حين سوينا التراب على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ولما عزى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الحمد لله دفن البنات من المكرمات وفي رواية من المكرمات دفن البنات ويعجبني قول الباخرزي رحمه الله تعالى ** القبر أخفى سترة للبنات ** ودفنها يروى من المكرمات ** ** أما رأيت الله عز اسمه ** قد وضع النعش بجنب البنات **
وجاء عثمان رضي الله عنه من رقية هذه بولد يقال له عبدالله فاكتنى به وكان قبل ذلك يكنى أبا عمرو وتزوج بعدها أختها أم كلثوم بوحي
فقد روى أنه صلى الله عليه وسلم رأى عثمان بن عفان مهموما بعد موت رقية رضي الله عنها فقال له ما لي أراك لهفانا مهموما فقال له يا رسول الله وهل دخل على أحد ما دخل علي انقطع الصهر بيني وبينك فبينا هو يحاوره إذ قال صلى الله عليه وسلم هذا جبريل عليه السلام يأمرني عن الله عز وجل أن أزوجك أختها أم كلثوم على مثل صداقها وعلى مثل عشرتها فزوجه إياها ولما تزوجها دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا بنية أين أبو عمرو قالت خرج لبعض حاجاته قال كيف رأيت بعلك قالت يا أبت خير بعل وأفضله فقال يا بنية كيف لا يكون كذلك وهو أشبه الناس بجدك إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه وأبيك محمد وجاء عثمان من أشبه أصحابي بي خلقا وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي جبريل عليه السلام إن أردت أن تنظر من أهل الأرض شبيه يوسف الصديق فانظر إلى عثمان بن عفان ولتزوجه ببنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له ذو النورين ولم يجمع أحد منذ آدم إلى اليوم بين بنتي نبي غيره رضي الله عنه ومن ثم لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا عنه قال ذاك امرؤ يدعى في الملأ الأعلى ذا النورين
ولما ماتت أم كلثوم تحته وذلك سنة تسع قال صلى الله عليه وسلم زوجوا عثمان لو كان لي ثالثة لزوجته إياها وما زوجته إلا بوحي من الله وجاء أنه صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/436)
قال له لو أن لي أربعين بنتا زوجتك واحدة بعد واحدة حتى لا يبقى منهن واحدة وأم عثمان بنت عمته صلى الله عليه وسلم أروى بنت عبدالمطلب توأمة عبدالله أبي النبي صلى الله عليه وسلم
قال وقال رجل من المنافقين لأبي لبابة رضي الله عنه قد تفرق أصحابكم تفرقا لا يجتمعون بعده أبدا قد قتل محمد وغالب أصحابه وهذه ناقته عليها زيد بن حارثة لا يدرى ما يقول من الرعب قال أسامة فجئت حتى خلوت بأبي لبابة وسألته عما أسره له الرجل فأخبرني بما أخبره به فقلت أحق ما تقول قال أي والله حق ما أقول يا بني فقويت نفسي ورجعت إلى ذلك المنافق فقلت أنت المرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم لنقدمنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم فيضرب عنقك فقال إنما هو شيء سمعته من الناس يقولونه انتهى أي وهذا كان قبل أن يجتمع أسامة بأبيه زيد بن حارثة
ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا إلى المدينة فلما خرج من مضيق الصفراء قسم النفل أي الغنيمة وكانت مائة وخمسين من الإبل وعشرة أفراس ومتاعا وسلاحا وأنطاعا وثيابا وأدما كثيرا حمله المشركون للتجارة ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل قتيلا فله سلبه ومن أسر أسيرا فهو له أي كما تقدم ولعله تكرر ذلك منه صلى الله عليه وسلم مرتين مرة للتحريض على القتال ومرة عند القسمة فالمقسوم ما بقي بعد إخراج السلب وإخراج الأسرى قسم على المسلمين بالسوية بعد الإختلاف فيه فادعى من قاتل العدو صده أنهم أحق به وادعى من جمعه أنهم أحق به وادعى من كان يحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش أن غيرهم ليس بأحق به منهم أي لأن سسعد بن معاذ رضي الله عنه قام على باب العريش الذي به صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه في نفر من الأنصار وفي رواية عبادة بن الصامت أن جماعة خرجت في أثر العدو عند انهزامه وجماعة أكبوا على جمع الغنيمة فجمعوها وجماعة عند انهزام العدو أحدقوا به صلى الله عليه وسلم في العريش خوفا أن يصيب العدو منه غرة ولعل هؤلاء كانوا زيادة عمن كان مع سعد بن معاذ على باب العريش فادعى من أكب على جمعها أنهم أحق بها وادعى من عداهم أن أولئك ليسوا بأحق بها منهم
أي وكون جماعة أحدثوا به صلى الله عليه وسلم بعد انهزام العدو قد يقال لا ينافي
____________________
(2/437)
ذلك ما تقدم عن ابن سعد أنه لما انهزم المشركون دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثرهم بالسيف مصلتا يتلو هذه الآية { سيهزم الجمع ويولون الدبر } لجواز أن يكون صلى الله عليه وسلم خرج في أثرهم برهة من الزمان ثم عاد إلى العريش فأحدق به هؤلاء مع من تقدم فأنزل الله تعالى سورة الأنفال { يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول }
فالنفل قد يطلق على الغنيمة كما هنا كما أشرنا إليه وسماها الله تعالى أنفالا لأنها زيادة في أموال المسلمين وكذا الفيء المذكور في سورة الحشر التي نزلت في غزوة بني النضير يطلق على الغنيمة وسمى فيئا لأن الله تعالى أفاءه على المؤمنين أي رده عليهم من الكفار فإن الأصل أن الله تعالى إنما خلق الأموال إعانة على عبادته لأنه إنما خلق الخلق لعبادته فقد رد إليهم ما يستحقونه كما يعاد ويرد على الرجل ما غصب من ميراثه وإن لم يقبضه قبل ذلك ومنه قول بعضهم كان أهل الفيء بمعزل عن أهل الصدقة وأهل الصدقة بمعزل عن أهل الفيء كان يعطى من الصدقة اليتيم والمسكين والضعيف فإذا احتلم اليتيم نقل إلى الفيء أي إلى الغنيمة وأخرج من الصدقة فنزعه الله من أيديهم فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أي يضعه حيث شاء فدلت الآية على أن الغنيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ليس لأحد من المقاتلة شيء منها ثم نسخت هذه الآية بقوله تعالى { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } والأربعة أخماس الباقية للمقاتلة أي فكان ذلك الخمس يخمس خمسة أخماس واحد له صلى الله عليه وسلم يفعل فيه ما أحب والأربعة من ذلك الخمس لمن ذكر في الآية والأربعة الأخماس الباقية تكون للمقاتلة
وسيأتي في سرية عبدالله بن جحش لنخلة أنه صلى الله عليه وسلم خمس العير الذي جاء به عبدالله كذلك فجعل خمس ذلك لله وأربعة أخماسه للجيش وقيل عبدالله هو الذي خمسها كذلك وأقره صلى الله عليه وسلم على ذلك وهي أول غنيمة في الإسلام وأول غنيمة خمست فكان تخميسها قبل نزول الآية لما علمت أن نزول تلك الآية كان بعد بدر فهي من الآيات التي تأخرت تلاوتها عن حكمها قال بعضهم وكان ابتداء تحليل الغنائم لهذه الأمة في وقعة بدر كما ثبت في الصحيحين وذلك في قوله تعالى { فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا } فأحل الغنيمة لهم
____________________
(2/438)
أقول وفيه أن هذا قد يعين القول بأنه صلى الله عليه وسلم وقف غنائم نخلة حتى رجع من بدر ويضعف ما سبق من أنه صلى الله عليه وسلم خمسها أو أن عبدالله هو الذي خمسها قبل بدر وأقره صلى الله عليه وسلم على ذلك وقد علمت أن ما أصابه من بدر قسمه بين المسلمين سواء أي لم يتميز فيه أحد عن أحد الراجل مع الراجل والفارس مع الفارس سواء وفيه تفضيل الفارس على الراجل في ذلك اليوم وسيأتي التصريح بذلك وهذا يؤيد القول بأن الجيش كان فيه خمسة أفراس أو فرسان دون القول بأنه لم يكن فيه إلا فرس واحد على ما تقدم حتى هو صلى الله عليه وسلم كان سهمه كسهم واحد منهم أي كفارس منهم بناء على ما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان له فرسان إلا ما اصطفاه وهو سيفه ذو الفقار كما سيأتي وحينئذ يكون قول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يا رسول الله أتعطي فارس القوم الذي يغيظهم مثل ما تعطي الضعيف أراد بالفارس فيه القوي
ففي مسند الإمام أحمد قال سعد بن أبي وقاص قلت يا رسول الله الرجل يكون حاجته للقوم يكون سهمه وسهم غيره سواء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثكلتك أمك وهل تنصرون إلا بضعفائكم وما في مسند الإمام أحمد يدل على أن مراد سعد بالفارس القوي لمقابلته في هذه الرواية بالضعيف فلا ينافي أنه أعطى الفارس لفرسه سهمين وله سهم كالراجل
وقد أسهم لمن لم يحضر كمن أمره صلى الله عليه وسلم بالتخلف لعذر منعه من الحضور كعثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه فإنه صلى الله عليه وسلم خلفه لأجل مرض زوجته رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم أو لما كان به رضي الله تعالى عنه من الجدري على ما تقدم ولهذا عد من البدريين وأبي لبابة لأنه صلى الله عليه وسلم خلفه على أهل المدينة وعاصم بن عدي فإنه خلفه على أهل قباء والعالية ولمن أرسله لكشف أمر العدو يتجسس خبره فلم يجيء إلا وقد انقضى القتال وهما طلحة بن عبيدالله وسعيد بن زيد كما تقدم والحارث بن حاطب أمره بما مر في بني عمرو بن عوف وخوات ابن جبير والحارث بن الصمة لأن كلا منهما كسر بالروحاء كما تقدم
وبهذا يظهر التوقف في قول الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى وضرب لعثمان رضي الله تعالى عنه يوم بدر بسهم ولم يضرب لأحد غاب غيره رواه أبو داود
____________________
(2/439)
عن ابن عمر قال الخطابي هذا خاص بعثمان لأنه كان يمرض ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا كلامه
وأسهم صلى الله عليه وسلم لأربعة عشر رجلا قتلوا ببدر ولعلهم ماتوا بعد انقضاء الحرب فلا يشكل على ما قاله فقهاؤنا أن من مات قبل انقضاء الحرب لاحق له
وتنفل صلى الله عليه وسلم زيادة على سهمه سيفه ذا الفقار أي وكان لمنبه بن الحجاج أي وقيل لابنه العاص قتل أيضا يوم بدر وقيل كان لعمه نبيه وفي كلام أبي العباس بن تيمية أنه كان لأبي جهل أي ويمكن أن يكون ذلك السيف كان في الأصل لأبي جهل ثم أعطاه لمنبه بن الحجاج أو لغيره ممن ذكر لا يقال أو بالعكس لأن سيف أبي جهل أخذه ابن مسعود كما تقدم فلا مخالفة
وتنفل أيضا صلى الله عليه وسلم جمل أبي جهل وكان مهريا ولم يزل يغزو عليه حتى ساقه في هدى الحديبية كما سيأتي وهذا الذي كان يأخذه زيادة على سهمه أي قبل قسمة الغنيمة إذا كان صلى الله عليه وسلم مع الجيش يقال له الصفي والصفية عبدا أو أمة أو دابة أو سيفا أو درعا لكن في الإمتاع عن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صفى من المغنم حضر أو غاب قال بعضهم وهو محسوب من سهمه صلى الله عليه وسلم وقيل يكون زائدا عليه إلا أن يقال ذاك الذي وقع فيه الخلاف كان بعد نزوله آية التخميس وهذا كان قبل ذلك فلا يخالف ما سبق أن ما أخذه قبل القسمة كان زائدا على سهمه المساوي لسهام القوم أي وكان في الجاهلية يقال للذي يأخذه الرئيس إذا غزا بالجيش المرباع وهو ربع الغنيمة ولم يسمع مرباع إلا في الربع دون غيره من الخمس وما بعده والصفايا أشياء كان يصطفيها الرئيس لنفسه من خيار ما يغنم والنشيطة ما أصابه الجيش في طريقه قبل أن يصل إلى مقصده وكان للرئيس النقيعة أيضا وهو بعير ينحره قبل القسمة فيطعمه الناس كذا في شرح الحماسة للتبريزي
قال وقد سقط في الإسلام النقيعة والنشيطة وأمر صلى الله عليه وسلم عليا كرم الله وجهه فقتل النضر بن الحارث بالصفراء
أي وفي الإمتاع أنه صلى الله عليه وسلم نظر إلى النضر وهو أسير فقال النضر للأسير الذي بجانه محمد والله قاتلي فإنه نظر إلي بعينين فيهما الموت فقال له والله
____________________
(2/440)
ما هذا منك إلا رعب وقال النضر لمصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه يا مصعب أنت أقرب من هذا إلي رحما فكلم صاحبك أن يجعلني كرجل من أصحابي يعني المأسورين هو والله قاتلي فقال مصعب إنك كنت تقول في كتاب الله كذا وكذا وتقول في نبيه صلى الله عليه وسلم كذا وكذا وكنت تعذب أصحابه
وفي أسباب النزول للسيوطي وأقره وكان المقداد رضي الله تعالى عنه أسر النضر فلما أمر صلى الله عليه وسلم بقتله قال المقداد يا رسول الله أسيري فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول وقد رثته أخته وقيل بنته رضي الله تعالى عنها فإنها أسلمت بعد ذلك يوم الفتح فقالت من أبيات ** أمحمد يا خير ضنء كريمة **
والذي رأيته في الحماسة ** أمحمد ولأنت ضنء نجيبة ** في قومها والفحل فحل معرق **
أي له عرق في الكرم والضنء الولد ** ما كان ضرك لو مننت وربما ** من الفتى وهو المغيظ المحنق **
وحين سمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى حتى أخضل أي بل لحيته وقال لو بلغني هذا الشعر قبل قتله لمننت عليه أي لقبول شفاعتها عندي بهذا الشعر وليس معناه الندم لانه صلى الله عليه وسلم لا يفعل إلا حقا
أي وكان للنضر هذا أخ يقال له النضير بالتصغير وكان أسن المهاجرين وقيل كان من مسلمة الفتح وربما يدل له أنه صلى الله عليه وسلم أمر له بمائة بعير من غنائم حنين فجاءه شخص يبشره بذلك فقال لا آخذها فإني أحسب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعطني ذلك إلا تألفا على الإسلام وما أريد أن أرتشي على الإسلام فقيل له إنها عطية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلها وأعطى المبشر منها عشرة أبعرة
ثم قتل صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط بعرق الظبية بضم الظاء المعجمة وهي شجرة يستظل بها قال وحين قدم للقتل من للصبية يا محمد قال النار
وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن عقبة لما قدم للقتل نادى يا معشر قريش مالي أقتل من بينكم صبرا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم بكفرك وافترائك على رسول الله صلى الله عليه وسلم أي وفي لفظ ببزاقك في وجهي أي فإن عقبة كان يكثر مجالسته صلى الله عليه وسلم واتخذ ضيافة فدعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/441)
فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين ففعل وكان أبي بن خلف صديقه فعاتبه وقال صبأت يا عقبة قال لا ولكن أبى أن يأكل من طعامي وهو في بيتي فاستحييت منه فشهدت له الشهادة وليست في نفسي فقال وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمدا فلم تطأ قفاه وتبزق في وجهه وتلطم عينه فوجده صلى الله عليه وسلم ساجدا في دار الندوة ففعل به ذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ألقاك خارج مكة إلا علوت رأسك بالسيف كذا في الكشاف وفي لفظ آخر بكفرك وفجورك وعتوك على الله ورسوله وأنزل الله فيه { ويوم يعض الظالم على يديه } الآية
وذكر ابن قتيبة أنه صلى الله عليه وسلم لما أمر بقتل عقبة أي وقد قال يا معشر قريش مالي أقتل من بينكم أي وأنا واحد منكم قال له يا محمد ناشدتك الله والرحم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم هل أنت إلا يهودي من أهل صفورية وفي رواية قال له إنما أنت يهودي من أهل صفورية أي فليس هو من قريش أي لا رحم بيني وبينك أي لأن أمية جد أبيه خرج إلى الشام لما نافر عمه هاشم كما تقدم فأقام بصفورية ووقع على أمة يهودية ولها زوج يهودي من أهل صفورية فولدت له أبا عمرو الذي هو والد أبى معيط على فراش اليهودي فاستلحقه بحكم الجاهلية ثم قدم به مكة وكناه بأبي عمرو وسماه ذكوان مع أن الولد للفراش وقيل كان عبدا لأمية فتبناه فلما مات أمية خلفه على زوجته
ويدل لهذا الثاني ما ذكره بعض المؤرخين أن معاوية رضي الله تعالى عنه سأل رجلا من علماء النسب وفد عليه كم عمرك قال أربعون ومائتا سنة قال كيف رأيت الزمان فقال سنيات بلاء وسنيات رخاء يهلك والد ويخلف مولود فلولا الهالك لامتلأت الدنيا ولولا المولود لم يبق أحد فقال له هل رأيت عبدالمطلب قال نعم أدركته شيخا وسيما منسما جسيما يحف به عشرة من بنيه كأنهم النجوم فقال له هل رأيت أمية بن عبد شمس يعني جده قال نعم رأيته أخفش أزرق ذميما يقوده عبده ذكوان فقال ويحك كف فقد جاء غير ما ذكرت ذاك ابنه فقال أنتم تقولون ذلك
والقاتل لعقبة عاصم بن ثابت وقيل علي رضي الله تعالى عنهما أي وقيل صلب على الشجرة
____________________
(2/442)
أقول قال محمد بن حبيب الهاشمي هو أول مصلوب في الإسلام ورده ابن ابن الجوري بأن أول من صلب في الإسلام خبيب بن عدي
وقد يقال لا مخالفة لأن المراد بالثاني أول مصلوب من المسلمين وبالأول أول مصلوب من الكفار
وذكر أن أول من استعمل الصلب فرعون ولعل المراد به فرعون موسى بن عمران لا فرعون إبراهيم الخليل وهو أول الفراعنة ولا فرعون يوسف بن يعقوب وهو ثاني الفراعنة وفي قول إن فرعون يوسف هذا هو فرعون موسى بمعنى أنه بقي إلى زمن موسى عليه السلام وكان هلاكه على يده
وفي كلام ابن قتيبة عن سعيد بن جبير ضم طعيمة بن عدي إلى عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث أي لأنه ممن قتل معهما صبرا وفيه نظر فقد تقدم أن القاتل له حمزة رضي الله عنه في الحرب وسيأتي في أحد أن قتل حمزة كان بسبب قتله لطعيمة المذكور
ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدم المدينة قبل الأسارى بيوم أي وروى عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال لما قدمت إلى المدينة وكنت جائعا استقبلتني امرأة يهودية على رأسها جفنة فيها جدي مشوي فقالت الحمد لله يا محمد الذي سلمك الله كنت نذرت لله إن قدمت المدينة سالما لأذبحن هذا الجدي ولأشوينه ولأحملنه إليك لتأكل منه فأنطق الله الجدي فقال يا محمد لا تأكلني فإني مسموم أي بخلاف ما وقع له صلى الله عليه وسلم في خيبر فإنه لم يخبره الذراع بذلك إلا بعد أكله منه كما سيأتي وسيأتي أنه سأل المرأة عن سبب ذلك وهنا لم يسألها ولما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة أي قاربها خرج المسلمون للقائه وتهنئته بما فتح الله عليه فتلاقوا معه بالروحاء أي وقال لهم سلمة بن سلامة بن وقش ما الذي تهنونا به فوالله إن لقينا أي ما لقينا إلا عجائز صلعا كالبدن المعقولة فنحرناها فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أولئك الملأ من قريش أي الأشراف والرؤساء وتلقته الولائد عند دخوله المدينة والولائد جمع وليدة وهي الصبية والأمة وتلك الولائد يقلن ** طلع البدر علينا ** من ثنيات الوداع ** ** وجب الشكر علينا ** ما دعا لله داع **
وتلقاه أسيد بن الحصير فقال الحمد لله الذي أظفرك وأقر عينك
____________________
(2/443)
ولما أقبلوا من بدر فقدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقفوا فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه علي فقالوا يا رسول الله فقدناك فقال إن أبا الحسن وجد مغصا في بطنه فتخلفت عليه ثم لما قدمت الأسارى فرقهم بين الصحابة وقال استوصوا بهم خيرا
وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش ابن عبد عمرو رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك فقال قتل عتبة وشيبة وأبو الحكم وأمية وفلان وفلان من أشراف قريش أي وأسر فلان وفلان فقال صفوان بن أمية وكان يقال له سيد البطحاء وكان من أفصح قريش لسانا وكان جالسا في الحجر والله إن يعقل أي ما يعقل هذا سلوه عني فسألوه أي قالوا ما فعل صفوان فقال هو ذاك الجالس في الحجر وقد رأيت أباه وأخاه حين قتلا
وعن عكرمة مولى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت غلاما للعباس بن عبدالمطلب أي ثم وهبه العباس له صلى الله عليه وسلم وسيأتي الكلام عليه في السرايا وكان العباس رضي الله تعالى عنه أسلم وأسلمت زوجته أي أم الفضل قيل إنها أول امرأة أسلمت بعد خديجة كما تقدم وهي أم أولاده وهم عبدالله وعبيدالله وعبدالرحمن والفضل وقثم ومعبد وأم حبيب
قيل رآها صلى الله عليه وسلم وهي تدب بين يديه فقال إن بلغت وأنا حي تزوجتها فقبض صلى الله عليه وسلم قبل أن تبلغ قال ابن الجوزي فليس في الصحابيات من كنيتها أم الفضل إلا زوج العباس قال أبو رافع وأسلمت أنا وكنا نكتم الإسلام أي لأن العباس كان يكره خلاف قومه لأنه كان ذا مال كثير وأكثره متفرق فيهم أي وسيأتي الجواب عن كونه أسر وأخذ منه الفداء مع كونه مسلما وسيأتي أنه لم يظهر إسلامه إلا يوم الفتح
فلما جاء الخبر عن مصاب قريش ببدر سرنا ذلك فوالله إني لجالس إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر حتى جلس عندنا فبينا هو جالس إذ قدم أبو سفيان بن الحارث وكان مع قريش في بدر فقال له أبو لهب هلم إلى عندك الخبر فقال والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاءوا ويأسروننا كيف شاءوا وايم الله ما لمت
____________________
(2/444)
الناس لقينا رجال بيض على خيل بلق بين السماء والأرض والله ما يقوم لها شيء قال أبو رافع فقلت والله تلك الملائكة فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة وثاورته أي واثبته أي قام كل للآخر فاحتملني وضرب بي الأرض ثم برك علي يضربني فقامت أم الفضل إلى عمود وضربته به ضربة في رأسه أثرت شجة منكرة وقالت استضعفته أن غاب سيده تعني العباس فقام موليا ذليلا فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رمى بالعدسة أي ما عاش صحيحا قبل أن يرمي بالعدسة إلا سبع ليال أي وهي بثرة تشبه العدسة من جنس الطاعون فقتلته فلم يحفروا له حفيرة ولكن أسندوه إلى الحائط وقذفوا عليه الحجارة خلف الحائط حتى واروه أي لأن العدسة قرحة كانت العرب تتشاءم بها ويرون أنها تعدى أشد العدوى فلما أصابت أبا لهب تباعد عنه بنوه وبقي بعد موته ثلاثة أيام لا تقرب جنازته ولا يحاول دفنه حتى أنتن فلما خافوا السبة أي سب الناس لهم في تركه فعلوا به ما ذكر
وفي رواية حفروا له ثم دفعوه بعود في حفيرته وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت إذا مرت بموضعه ذلك غطت وجهها
أقول قال في النور وهذا القبر الذي يرجم خارج باب شبيكة أي الآن ليس بقبر أبي لهب وإنما هو قبر رجلين لطخا الكعبة بالعذرة وذلك في دولة بني العباس فإن الناس أصبحوا وجدوا الكعبة ملطخة بالعذرة فرصدوا للفاعل فمسكوهما بعد أيام فصلبا في ذلك الموضع فصارا يرجمان إلى الآن والله أعلم
فلما ظهر الخبر ناحت قريش على قتلاهم أي شهرا وجز النساء شعورهن وكن يأتين بفرس الرجل أو راحلته وتستر بالستور وينحن حولها ويخرجن إلى الأزقة ثم أشير عليهم أن لا تفعلوا فيبلغ محمد وأصحابه فيشمتوا بكم ولا نبكي قتلانا حتى نأخذ بثأرهم وتواصوا على ذلك وكان الأسود بن زمعة بن المطلب أصيب له في بدر ثلاثة ولداه وولده ولده وكان يحب أن يبكي عليهم وكان قد ذهب بصره أي بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم لانه كما تقدم كان من المستهزئين بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا رآهم يقول قد جاءكم ملوك الأرض ومن يغلب على ملك كسرى وقيصر ويكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يشق عليه فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمى وتقدم ذلك وتقدم سبب عماه
____________________
(2/445)
وفي كلام بعضهم كان صلى الله عليه وسلم دعا على الأسود هذا بأن يعمي الله تعالى بصره ويثكل ولده فاستجاب الله تعالى له سبق العمى إلى بصره أولا ثم أصيب يوم بدر بمن نعاه من ولده أي وهو زمعة وهو أحد الثلاثة الذين كان يقال لكل واحد منهم زاد الراكب كما تقدم وأخوه عقيل والحارث فإنهما قتلا كافرين ببدر فتمت إجابة الله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا به قد سمع صوت باكية بالليل فقال لغلامه أنظر هل أحل النحب أي البكاء هل بكت قريش على قتلاهم لعلي أبكي فإن جوفي قد احترق فلما رجع الغلام قال إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته فأنشد من أبيات ** أتبكي أن يضل لها بعير ** ويمنعها من النوم السهود ** ** فلا تبكي على بكر ولكن ** على بدر تقاصرت الجدود **
والسهود بضم السين المهملة عدم النوم والبكر الفتى من الإبل والجودود بضم الجيم جمع جد بفتحها وهو الحظ والسعد وبعد هذين البيتين بيت آخر وهو ** ألا قد ساد بعدهمو رجال ** ولولا يوم بدر لم يسودوا **
يعرض بأبي سفيان فإنه رأس قريش قال وقد جاء في بعض الروايات اختلاف الصحابة فيما يفعل بالأسرى لما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ترون في هؤلاء الأسرى إن الله قد مكنكم منهم أي وقد يخالف هذا ما سبق من قوله إن من أسر أسيرا فهو له
وقد يقال لا مخالفة لأن معنى كونه له أنه مخير فيه بين قتله وأخذ فدائه ولعله لا يخالف ما تقدم أنه صلى الله عليه وسلم لما أراد قتل النضر قال المقداد رضي الله تعالى عنه وكان أسره يا رسول الله أسيري فقال له إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول وفي رواية استشار صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعليا أي وفي رواية أبا بكر وعمر وعبدالله بن جحش فيما هو الأصلح من الأمرين القتل وأخذ الفداء فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه يا رسول الله أهلك وقومك وفي رواية هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان قد أعطاك الله الظفر ونصرك عليهم أرى أن تستبقيهم وتأخذ الفداء منهم فيكون ما أخذنا منهم قوة لنا على الكفار وعسى الله أن يهديهم بك فيكونون لنا عضدا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تقول يا ابن الخطاب قال يا رسول الله قد كذبوك وأخرجوك وقاتلوك ما أرى ما رأى أبو بكر ولكن أرى أن تمكنني من فلان قريب
____________________
(2/446)
وفي لفظ نسيب لعمر فأضرب عنقه وتمكن عليا من أخيه عقيل فيضرب عنقه وتمكن حمزة من فلان أخيه أي العباس رضي الله تعالى عنه فيضرب عنقه حتى يعلم أنه ليست في قولبنا مودة للمشركين ما أرى أن تكون لك أسرى فاضرب أعناقهم هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم أي وقال ابن رواحة رضي الله تعالى عنه أنظروا واديا كثير الحطب فأضرمه عليهم نارا فقال العباس رضي الله تعالى عنه وهو يسمع ثكلتك رحمك فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت أي ولم يرد عليهم فقال بعض الناس يأخذ بقول أبي بكر وقال بعض الناس يأخذ بقول ابن رواحة ولم يقال قائل يأخذ بقول عمر ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن الله ليلين قلوب أقوام فيه حتى تكون ألين من اللين وإن الله ليشدن قلوب أقوام فيه حتى تكون أشد من الحجارة مثلك يا أبا بكر في الملائكة مثل ميكائيل ينزل بالرحمة لعله لا ينزل إلا بالرحمة فلا ينافي أن جبريل ينزل بالرحمة في بعض الأحايين كما تقدم قريبا ومن ثم جاء في الحديث أرأف أمتي بأمتي أبو بكر ومثلك في الأنبياء مثل إبراهيم حيث يقول { فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم } ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى بن مريم إذ قال { إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم }
قيل إنه قوله { فإنك أنت العزيز الحكيم } من مشكلات الفواصل إذ كان مقتضى الظاهر فإنك أنت الغفور الرحيم
ورد بأن العزيز الذي لا يغلبه أحد ولا يغفر لمن استحق العذاب إلا من ليس فوقه أحد يرد عليه حكمه والحكيم هو الذي يضع الشيء محله
ومثلك يا عمر في الملائكة مثل جبريل نزل بالشدة والبأس والنقمة على أعداء الله تعالى أي أغلب أحواله ذلك فلا ينافي أنه ينزل بالرحمة في بعض الأوقات كما تقدم ومثلك في الأنبياء مثل نوح عليه الصلاة والسلام إذ قال { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا } ومثلك في الأنبياء مثل موسى عليه الصلاة والسلام إذ قال { ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم }
قال الجلال السيوطي رحمه الله تعالى في الخصائص الصغرى ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم من أصحابه من يشبه بجبريل وبإبراهيم وبنوح وبموسى وبعيسى وبيوسف وبلقمان الحكيم وبصاحب يس هذا كلامه
وقد علمت أن أبا بكر رضي الله عنه شبه بميكائيل ولم يذكر ميكائيل ولينظر من
____________________
(2/447)
شبه من أصحابه بيوسف ثم رأيتني ذكرت فيما تقدم قريبا أنه عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه ولينظر من شبه من أصحابه بلقمان الحكيم وبصاحب يس
ثم قال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر ولو توافقتما ما خالفتكما فلا يفلتن منهم أحد إلا بفداء أو ضرب عنق
وقد وقع له صلى الله عليه وسلم أنه قال مثل ذلك لهما وقد اختلفا في تولية شخصين أراد صلى الله عليه وسلم تولية أحدهما على بني تميم فقال أبو بكر يا رسول الله استعمل فلانا وقال عمر يا رسول الله استعمل فلانا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إنكما لو اجتمعتما لأخذت برأيكما ولكنكما اختلفتما علي أحيانا فأنزل الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } الآية واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم مثلك يا أبا بكر الخ على جواز ضرب المثل من القرآن وهو جائز في غير المزح ولغو الحديث وإلا كره ونسبة الإختلاف في أسارى بدر لأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما لا تخالف ما سبق من نسبته إلى الصحابة رضي الله تعالى عنهم لأنه يجوز أن يكونا هما المرادين بالصحابة وعدم ذكر علي رضي الله تعالى عنه مع إدخاله في الإستشارة وكذا عبدالله بن جحش على ما تقدم لأنه يجوز أن يكون وافق أحدهما أي فقد ذكر ابن رواحة مع عدم إدخاله في الإستشارة
وفي كلام الإمام أحمد رحمه الله استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس في الأسارى يوم بدر فقال إن الله قد مكنكم منهم قال فقام عمر رضي الله تعالى عنه فقال يا رسول الله إضرب أعناقهم فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم ثم عاد فقال يا أيها الناس إن الله قد مكنكم منهم وإنما هم إخوانكم بالأمس فقام عمر رضي الله تعالى عنه فقال يا رسول الله اضرب أعناقهم فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم ثم عاد فقال للناس مثل ذلك فقام أبو بكر رضي الله تعالى عنه فقال يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء قال فذهب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيه من الغم فعفا عنهم وقبل الفداء فلما كان الغد غدا عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال يا رسول الله ما يبكيكما وفي لفظ ماذا يبكيك أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإلا تباكيت لبكائكما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كاد لمسنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم لو نزل عذاب ما أفلت منه إلا ابن الخطاب
____________________
(2/448)
وفي مسلم والترمذي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أبكي للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء أي للعذاب الذي كاد أن يقع على أصحابك لأجل أخذهم الفداء أي إرادة أخذه لقد عرض علي عقابهم أدنى أي أقرب من هذه الشجرة لشجرة قريبة منه صلى الله عليه وسلم وأنزل الله تعالى { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم } الآيات
أقول قال بعضهم في هذه الآيات دليل على أنه يجوز الإجتهاد للأنبياء لأن العتاب الذي في الآيات لا يكون فيما صدر عن وحي ولا يكون فيما كان صوابا وإذا أخطئوا لا يتركون عليه بل ينبهون على الصواب
وأجاب ابن السبكي رحمه الله بأن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم أي ما كان هذا لنبي غيرك ولا يخفى عليك ما فيه
وفي كلام بعضهم ما يقتضي أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام غير نبينا صلى الله عليه وسلم يجوز أن يقروا على الخطأ لأن من بعد من يخطىء منهم يبين خطأه بخلاف نبينا صلى الله عليه وسلم لا نبي بعده يبين خطأه فلا يقر على الخطأ وفيه أن بعد نبينا عليه الصلاة والسلام عيسى عليه الصلاة والسلام وأنه يوحي إليه
ونظر بعضهم في وقوع الخطأ من الأنبياء واستمرارهم عليه بأنه غير لائق بمنصب النبوة لأن وجود من يستدرك الخطأ لا يدفع مقتضيه
وفيه جواز وقوع الخطأ والعمل به قبل مجيء الإستدراك وتقدم جواز الإجتهاد له مطلقا لا في خصوص الحرب واستثناء عمر ربما يفيد أن جميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم وافقوا أبا بكر على أخذ الفداء وخالفوا عمر مع أنه تقدم قريبا أن سعد بن معاذ كره ذلك قبل عمر فقد تقدم أن المسلمين لما وضعوا أيديهم يأسرون رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ فوجد في وجهه الكراهية لما يصنع القوم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم قال أجل والله يا رسول الله كانت أول وقعة أوقعها الله تعالى بأهل الشرك فكان الإثخان في القتل أحب إلي من
____________________
(2/449)
استبقاء الرجال ومن ثم قال لو نزل عذاب لم يفلت منه إلا ابن الخطاب وسعد بن معاذ كما سيأتي وفيه أن ابن رواحة كرهه بل أشار بإحراقهم بالنار
وفي الأصل أن جبريل عليه الصلاة والسلام نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر فقال إن شئتم أخذتم منهم الفداء ويستشهد منكم سبعون بعد ذلك فنادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه فجاءوا أو من جاء منهم أي وهم المعظم فقال إن هذا جبريل يخبركم بين أن تقدموهم فتقتلوهم وبين أن تفادوهم ويستشهد قابلا منكم بعدتهم فقالوا بل نفاديهم فنتقوى به عليهم ويدخل قابلا منا الجنة سبعون وفي لفظ ويستشهد منا عدتهم فليس في ذلك ما نكره وهو كما ترى يدل على أن الصحابة وافقوا أبا بكر رضي الله عنهم على أخذ الفداء ولعل هذا الإخبار بالتخيير كان بعد الإستشارة التي تكلم فيها أبو بكر وعمر وأن بكاءه صلى الله عليه وسلم كان بعد هذه الإستشارة الثانية وقوله صاحب الهدى بكاؤه صلى الله عليه وسلم وبكاء الصديق رحمة وخشية أن العذاب يعم ولا يصيب من أراد ذلك خاصة يفيد أن الذي أشار بأخذ الفداء طائفة من الصحابة لا كلهم
أقول وفيه أن هذا يشكل عليه قوله لو نزل عذاب ما أفلت منه إلا ابن الخطاب أو إلا ابن الخطاب وسعد بن معاذ فإن فيه تصريحا بأن العذاب لو وقع لا يعم وأنه لا يصيب إلا من أشار بالفداء وفيه أن من أشار بالفداء غاية الأمر أنهم اختاروا غير الأصلح من الأمرين واختيار غير الأصلح لا يقتضي العذاب على أن حل أخذ الفداء علم من واقعة عبدالله بن جحش التي قتل فيها ابن الحضرمي فإنه أسر فيها عثمان بن المغيرة والحكم بن كيسان ولم ينكره الله تعالى وذلك قبل بدر بأزيد من عام إلا أن يقال أراد الله تعالى تعظيم أمر بدر لكثرة الأسارى فيها مع شدة تصلبهم في مقاتلته صلى الله عليه وسلم وفي المواهب كلام في الآية المذكورة يتأمل فيه
ورأيت فيها عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لولا أني لا أعذب من عصاني حتى أقدم إليه الحجة لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم
وعن الأعمش سبق منه أنه لا يعذب أحدا شهد بدرا ومن ثم جاء كما يأتي أن رجلا قال يا رسول الله إن ابن عمي نافق أي ائذن لي أن أضرب عنقه فقال له إنه شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم والله أعلم ولا ينافي
____________________
(2/450)
قتل سبعين منهم في قابل أي في أحد كون بعض الأسارى في بدر مات في الأسر ولم يؤخذ فداؤه وهو ومالك بن عبيد الله أخو طلحة بن عبيد الله وكون بعضهم أطلق من غير أخذ فداء لأن المنكر عدم قتل اولئك السبعين الذين أسروا
قال بعضهم اتفق أهل العلم بالسير على أن المخاطبين بقوله تعالى { أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها } هم أهل أحد أي قد أصبتم يوم بدر مثلي من استشهد منكم يوم أحد سبعين قتيلا وسبعين أسيرا والله أعلم
وتواصت قريش على أن لا يعجلوا في طلب فداء الأسرى لئلا يتخالى محمد وأصحابه في الفداء فلم يلتفت لذلك المطلب بن أبي وداعة السهمي بل خرج من الليل خفية وقدم المدينة فأخذ أباه بأربعة آلاف درهم وقد كان صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه رضي الله تعالى عنهم لما رأى أبا وداعة أسيرا إن له بمكة ابنا كيسا تاجر ذا مال وكأنكم به قد جاء في طلب فداء أبيه أي فكان أول أسير فدى واسم أبي وداعة الحارث وذكر في الصحابة قال الزبير بن بكار زعموا أنه كان شريكا للنبي صلى الله عليه وسلم بمكة
أي والمشهور أن شريكه صلى الله عليه وسلم إنما هو السائب بن أبي السائب الذي قال في حقه وقد أسلم يوم الفتح وقد جعل الناس يثنون عليه أنا أعلمكم به هذا شريكي نعم الشريك كان لا يداري ولا يماري وفي رواية أنه لما قال صلى الله عليه وسلم أنا أعلمكم به قال صدقت بأبي أنت وأمي كنت شريكك فنعم الشريك لا تداري ولا تماري وعند ذلك بعثت قريش في فداء الأسارى وكان الفداء فيهم على قدر أموالهم وكان من أربعة آلاف إلى ثلاثة آلاف درهم إلى ألفين إلى ألف ومن لم يكن معه فداء أي وهو يحسن الكتابة دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة يعلمهم الكتابة فإذا تعلموا كان ذلك فداءه
وجاء جبير بن مطعم وهو كافر أي إلى المدينة يسأل النبي صلى الله عليه وسلم في اسارى بدر فقال له صلى الله عليه وسلم لو كان شيخك أو الشيخ أبوك حيا فأتانا فيهم لشفعناه وفي رواية لو كان مطعم حيا وكلمني في هؤلاء النفر وفي رواية في هؤلاء النتنى لتركتهم له لان المطعم كان أجار النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم من الطائف وكان ممن سعى في نقض الصحيفة كما تقدم ذلك
وكان من جملة الأسارى عمرو بن أبي سفيان بن حرب أخو معاوية أي أسره علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه فقيل لأبي سفيان أفد عمرا ابنك قال أيجمع علي دمي
____________________
(2/451)
ومالي قتلوا حنظلة يعني ابنه وهو شقيق أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأفدى عمرا دعوه في أيديهم يمسكونه ما بدرا لهم فبينما أبو سفيان إذ وجد سعد بن النعمان أخا بني عمرو بن عوف أي قد وفد من المدينة معتمرا فعدا عليه أبو سفيان فحبسه بابنه عمرو فمضى بنو عمرو بن عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه خبر سعد بن النعمان وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي سفيان فيفكون به صاحبهم ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثوا به إلى أبي سفيان فخلى سبيل سعد أي ولم يذكر عمرو هذا فيمن أسلم من الأسارى والظاهر أنه مات على شركه
وكان في الاسارى زوج بنت النبي صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله عنها وهو أبو العاص بن الربيع بكسر الموحدة وتشديد الياء مفتوحة قال في الأصل ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم أي بناء على ما تقوله العامة ان ختن الرجل زوج ابنته والمعروف لغة أن ختن الرجل أقارب زوجته مثل أبيها وأخيها ومع ذلك لا ينبغي أن يقال في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم ختن أبي العاص ولا ختن علي لإيهامه النقص
وفي حفظي أن عند المالكية من قال عنه صلى الله عليه وسلم يتيم أبي طالب وختن حيدرة كان مرتد وفي عبارة أو بدل الواو ورواية أو مبينة للمراد من رواية الواو وأن ما أفهمته من اعتبار الجمعية ليس مرادا وحيدرة اسم علي رضي الله تعالى عنه وأبو العاص اسلم بعد ذلك كما سيأتي وهو ابن خالتها هالة بنت خويلد أخت خديجة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأبو ولدها علي الذي أردفه صلى الله عليه وسلم خلفه يوم فتح مكة ومات مراهقا وأبو بنتها أمامة التي كان يحملها صلى الله عليه وسلم في الصلاة أي وكان يحبها حبا شديدا
فعن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهديت له هدية فيها قلادة من جذع فقال لأدفعنها إلى أحب أهلي إلى فقالت النساء ذهبت بها ابنة أبي قحافة فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامة بنت زينب فعلقها في عنقها وتزوجها علي بعد موت خالتها فاطمة رضي الله تعالى عنها بوصية من فاطمة زوجها له الزبير بن العوام وكان أبوها أوصى بها إلى الزبير ومات عنها فتزوجها المغيرة بن نوفل ابن الحارث بن عبد المطلب فماتت عنده وكان تزويجها للمغيرة بوصية من علي رضي الله وتعالى عنه فإنه لما حضرته الوفاة قال لها إني لا آمن أن يخطبك معاوية وفي لفظ هذا
____________________
(2/452)
الطاغية بعد موتي فإن كان لك في الرحال حاجة فقد رضيت لك المغيرة بن نوفل عشيرا فلما إنقضت عدتها أرسل معاوية إلى مروان أن يخطبها عليه ويبذل لها مائة ألف دينار فلما خطبها أرسلت إلى المغيرة بن نوفل إن هذا الرجل أرسل يخطبني فإن كان لك حاجة في فأقبل فجاء وخطبها من الحسن بن علي أي فزوجها منه
أي ولا يخالف ما تقدم أن المزوج لها الزبير بن العوام لأنه يجوز أن يكون الحسن كان هو السبب في تزويج الزبير لها فبعثت زينب رضي الله تعالى عنها في فداء زوجها أبي العاص قلادة لها كانت أمها خديجة رضي الله تعالى عنها أدخلتها بها عليه حين بنى بها أي والجائي بها أخوه عمرو بن الربيع ولا يعلم لعمرو هذا إسلام فلما رأى تلك القلادة رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة وقال للصحابة إن رايتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها قلادتها فافعلوا قالوا نعم يا رسول الله فأطلقوه وردوا عليها القلادة وشرط عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخلي سبيل زينب أي أن تهاجر إلى المدينة
أي وقد كان كفار قريش مشوا إليه أن يطلق زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما طلق ولدا أبي لهب بنتي النبي صلى الله عليه وسلم قبل الدخول بهما رقية وأم كلثوم كما تقدم وقالوا له نزوجك أي أمرأة من قريش شئت فأبى ذلك وقال والله لا أفارق صاحبتي وما أحب أن لي بها امرأة من قريش فشكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك واثنى عليه بذلك خيرا فلما وصل ابو العاص مكة أمرها باللحوق بأبيها فخرجت
وقد كان صلى الله عليه وسلم أرسل زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار قال لهما تكونان بمحل كذا لمحل قريب من مكة حتى تمر بكما زينب فتصحباها حتى تأتيا بها أي وذكر أن حماها كنانة بن الربيع خا زوجها قدم لها بعيرا فركبته واتخذ قوسه وكنانته ثم خرج بها نهارا يقودها في هودج لها وكانت حاملا فتحدث بذلك رجال من قريش فخرجوا في طلبها حتى أدركوها بذي طوى فكان أول من سبق إليها هبار ابن الأسود رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك ونخس البعير بالرمح فوقعت والقت حملها
وفي رواية أنه سبق إليها هبار ورجل آخر يقال له نافع وقيل خالد بن عبد قيس
____________________
(2/453)
ثم ان كنانة برك ونثر كنانته واخذ قوسه وقال والله لا يدنو مني رجل الا وضعت فيه سهما فجاء اليه أبو سفيان في رجال من قريش وقال له كف عنا نبلك حتي نكلمك فكف ثم قال له انك لم تصب في فعلك فانك خرجت بالمراة جهارا على رءوس الاشهاد وقد عرفت مصيبتنا التي كانت وما دخل علينا من محمد فيظن الناس اذا خرجت زينب علانية على رءوس الناس من بين أظهرنا أن ذلك من ذل أصابنا وأن ذلك منا من ضعف ووهن ولعمري مالنا بحبسها عن أبيها من حاجة ولكن أرجع بها حتى اذا هدات الاصوات وتحدث الناس أن قد رددناها فسر بها سرا فألحقها بأبيها ففعل وأقامت ليالى ثم خرج بها ليلا حتى أسلمها الى زيدابن حارثة وصاحبه
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لزيد بن حارثة ألاتنطلق فتجيئ بزينب قال بلى يا رسول لله قال فخذ خاتمي فأعطها فانطلق زيد فلم يزل يتلطف حتى لقي راعيا فقال لمن ترعى قال لابي العاص قال فلمن هذه الغنم قال لزينب بنت محمد فتكلم معه ثم قال له هل ان أعطيتك شيئا تعطهااياه ولا تذكره لأحد قال نعم فأعطاه الخاتم فانطلق الراعي الى زينب وأدخل غنمه وأعطاها الخاتم فعرفته فقالت من أعطاك هذا قال رجل قالت فأين تركته قال بمكان كذا وكذا فسكتت حتى اذا كان الليل خرجت اليه فلما جاءته قال لها زيد اركبي بين يدي على بعيري قالت لا ولكن اركب انت بين يدي فركب وركبت خلفه حتى أتت المدينة وذلك بعد شهرين من بدر وكان صلى الله عليه وسلم يقول زينب أفضل بناتي أصيبت بي اي بسببي ز
ومن العجب أن هذه العبارة ساقها الامام سراج الدين البلقيني في فتاويه في حق فاطمه رضي الله تعالى عنها حيث قال وقد روي البزار في مسنده من طريق عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة هي خير بناتي لانها أصيبت في هذا كلامه ولينظر ما الذي أصيبت فاطمة بسببه صلى الله عليه وسلم وقد يقال اصابتها بسبب موته صلى الله عليه وسلم في حياتها ز
ثم رايت الحافظ ابن حجر أجاب بذلك حيث قال لأنها رزئت بأبيها فكان في صحيفتها اى فهو من أعلام نبوته او ان قوله في زينب ما ذكر كان قبل ما وهب الله لفاطمة من الكمالات
____________________
(2/454)
وقد سئل الإمام البلقيني رحمه الله تعالى هل بقية بناته صلى الله عليه وسلم أي بعد فاطمة سواء في الفضل أو يفضل بعضهم على بعض ولم يجب عن ذلك ولا مخالفة بين خروج زينب إلى زيد وخروج حميها بها إلى زيد وبهذا أي بتأخر هجرة زينب يظهر التوقف في قول ابن اسحاق أما بناته صلى الله عليه وسلم فكلهن أدرن الإسلام واسلمن وهاجرنا معه إلا ان يقال المراد اشتركن معه في الهجرة وتقدم ما في قوله وأسلمن وكون الجائي في فداء أبي العاص أخوه عمرو يخالف ما جاء أن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله تعالى عنها أرسلت في فداء أبي العاص وأخيه عمرو بن الربيع بمال وبعثت فيه بقلادة الحديث ولعلها تصحيف وأن الأصل بعثت في فداء أبي العاص أخاه عمرو بن الربيع ويدل لذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال في هذه الرواية إن رايتم أن تردوا لها أسيرها فأطلقوه ولم يقل أسيريها وكان في الأسارى سهيل بن عمرو العامري
وتقدم أنه كان من أشراف قريش وخطبائها فقد سئل سعد بن المسيب عن خطباء قريش في الجاهلية فقال الأسود بن المطلب وسهيل بن عمرو وسئل عن خطبائهم في الإسلام فقال معاوية بن أبي سفيان وابنه يعني يزيد وسعيد بن العاص وابنه يعني عمرو بن سعيد وعبد الله بن الزبير
ولعل هذا لا يخالف ما تقدم من قول الأصمعي الخطباء من بني مروان عتبة ابن ابي سفيان أخو معاوية وعبد الملك بن مروان ومما يؤثر عن عتبة ازدحام الكلام في السمع مضلة للفهم كما تقدم وقال عمر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم دعني أنزع ثنيتي سهيل بن عمرو ويدلع أي بالدال والعين المهملتين يخرج لسانه أي لأنه كان أعلم والأعلم إذا نزعت ثنيتاه لم يستطع الكلام فلا يقم عليك خطيبا في موطن أبدا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا امثل بي فيمثل الله تعالى بي إن كنت نبيا وعسى أن يقوم مقاما لا تذمه فكان كذلك فإنه لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أكثر أهل مكة الرجوع عن الإسلام حتى خافهم أمير مكة عتاب بن أسيد رضي الله عنه وتوارى فقام سهيل بن عمرو رضي الله عنه خطيبا فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ايها الناس من كان يعبد محمد فإن محمد قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ألم تعلموا ان الله تعالى قال { إنك ميت وإنهم ميتون } وقال { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } الآيات وتلى آيات
____________________
(2/455)
آخر ثم قال والله إني أعلم أن هذا سيمتد امتداد الشمس في طلوعها وغروبها فلا يغرنكم هذا من أنفسكم يعني ابا سفيان فإنه ليعلم من هذا الأمر ما أعلم لكنه قد ختم على صدره حسد بني هاشم وتوكلوا على ربكم فإن دين الله قائم وكلمته تامة إن الله ناصر من نصره ومقو دينه وقد جمعكم الله على خيركم يعني أبا بكر رضي الله تعالى عنه وقال إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة فمن رأيناه ارتد ضربنا عنقه فتراجع الناس وكفوا عما هموا به
وعند ذلك ظهر عتاب بن أسيد رضي الله عنه وقدم مكرز بن حفص في فداء سهيل فلما ذكر قدرا أرضاهم به قالوا له هات فقال اجعلوا رجلي مكان رجله وخلوا سبيله حتى يبعث إليكم بفدائه فخلوا سبيل سهيل وحبسوا مكرز وكان في الأسارى الوليد أخو خالد بن الوليد افتكه أخواه هشام وخالد فلما افتدى أسلم فعاتبوه في ذلك فقال كرهت أن يظن بي أني جزعت من الأسر ولما أسلم وأراد الهجرة حبسه أخواه وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو له في القنوت كما تقدم ثم أفلت ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء كما سيأتي أي وكان في الأسارى السائب وهو الأب الخامس لإمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه وكان صاحب راية بني هاشم في ذلك اليوم أي التي يقال لها في الحرب العقاب ويقال لها راية الرؤساء ولا يحملها في الحرب إلا رئيس القوم وكانت لأبي سفيان أوة لرئيس مثله ولغيبة أبي سفيان في العير حملها السائب لشرفه وفدى نفسه
وأما أبوه الرابع الذي هو شافع الذي ينسب إليه أمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه الذي هو ولد السائب لقي النبي صلى الله عليه وسلم وهو مترعرع فأسلم وكان في الأسارى وهب بن عمير رضي الله تعالى عنه فإن أسلم بعد ذلك واسره رفاعة بن رافع وكان أبوه عمير شيطانا من شياطين قريش وكان ممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه بمكة رضي الله تعالى نه فإنه أسلم بعد ذلك فجلس يوما مع صفوان بن أمية رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك وكان جلوسه معه في الحجر فتذاكرا أصحاب القليب ومصابهم فقال صفوان ما في العيش والله خير بعدهم فقال عمير والله صدقت أما والله لولا دين على ليس له عندي قضاء وعيال أخشى عليهم الضيع بعد كنت آتي محمد حتى أقتله فإنني فيهم علة ابن أسير في ايديهم فاغتنمها صفوان وقال له على دينك أنا أقضيه
____________________
(2/456)
عنك وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا قال عمير فاكتم عني شأني وشأنك قال افعل ثم ان عميرا أخذ سيفه وشحذه بالمعجمة أي سنه وسمه أي جعل فيه السم ثم أنطلق حتى قدم المدينه فبينا عمر بن الخطاب رضي الله تعال عنه في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر اذ نظر الى عمير حين أناخ راحلته على باب المسجد متوشحا السيف فقال هذا الكلب عدو الله عمير ما جاء الابشر فدخل عمر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا نبي الله هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحا سيفه قال صلى الله عليه وسلم فأدخله علي فأقبل عمر رضي الله عنه حتى أخذ بحمالة سيفه في عنقه والحمالة بكسر الحاء المهملة العلاقة فمسكه بها وقال لرجال ممن كانو معه من الانصار أدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلسوا عنده فان هذا الخبيث غير مأمون ثم دخل به على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر رضي الله عنه اخذ بحمالة سيفه في عنقه قال أرسله يا عمر ادن يا عمير فدنا ثم قال عمير أنعمو صباحا وكانت تحية أهل الجاهلية بينهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير بالسلام تحية أهل الجنه ما جاء بك يا عمير قال جئت لهذا الاسير الذي في أيديكم يعني ولده وهبا فأحسنوا فيه قال فما بال السيف قال قبحها الله من سيوف وهل أغنت عنا شيئا قال صلى الله عليه وسلم أصدقني مالذي جئت له قال ما جئت الا لذلك قال صلى الله عليه وسلم بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر فذكرتما أصحاب القليب من قريش ثم قلت لولا دين على وعيالي لخرجت حتى أقتل محمدا فتحمل لك صفوان بدينك وعيالك على ان تقتلني له والله حائل بينك وبين ذلك قال عمير أشهد أنك رسول الله قد كنا يا رسول الله نكذبك بما تأتي به من خبر السماء وما ينزل عليك من الوحي وهذا امر لم يحضر الا أنا وصفوان فوالله اني لا اعلم ما أتاك به الا الله تعالى فالحمد لله الذى هدانا للاسلام وساقني هذا المساق ثم شهد شهادة الحق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقهوا أخاكم في دينه وأقرئوه القرأن وأطلقوا أسيره ففعلوا ذلك ثم قال يا رسول الله اني كنت جاهدا على اطفاء نور الله شديد الأذى لمن كان على دين الله فأنا أحب أن تأذن لي فأقدم مكه فأدعوهم الى الله وإلى الإسلام لعل الله يهديهم وإلا أذيتهم
____________________
(2/457)
في دينهم كما كنت أوذي أصحابك في دينهم فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فلحق بمكة وأسلم ولده وهب رضي الله عنه
وكان صفوان حين خرج عمير يقول أبشروا بوقعة تأتيكم الآن تنسيكم وقعة بدر وكان صفوان يسأل عن الركبان حتى قدم راكب فأخبره عن إسلامه فحلف أن لا يكلمه أبدا وأن لا ينفعه بنفع أبدا
أي ولما قدم عمير لم يبدا بصفوان بل بدا ببيته واظهر الإسلام ودعا إليه فبلغ ذلك صفوان فقال قد عرفت حيث لم يبدأ بي قبل منزله أنه قد نكس وصبأ ولا أكلمه ابدا ولا انفعه ولا عياله بنافعة
ثم إن عميرا وقف على صفوان وناداه أنت سيد من سادتنا رايت الذي كنا عليه من عبادة الحجر والذبح له أهذا دين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد عبده ورسوله فلم يجبه صفوان بكلمة وعند فتح مكة هو الذي استأمنه صلى الله عليه وسلم لصفوان كما سيأتي
وكان في الأسارى أبو عزيز بن عمير أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه قال أبو عزيز مر بي أخي مصعب فقال للذي أسرني شد يدك به فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك فقلت له يا أخي هذه وصايتك بي فبعثت أمه في فدائه أربعة آلاف درهم ففدته بها
وكان في الأسارى العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم اي وقد شدوا وثاقه فأن فلم يأخذه صلى الله عليه وسلم نوم فقيل ما سهرك يا رسول الله قال لأنين العباس فقام رجل وأرخى وثاقه وفعل ذلك بالأسارى كلهم والذي أسره أبو اليسر كعب بن عمرو وكان ذميما أي بالمهملة صغير الجثة والعباس جسيما طويلا فقيل للعباس رضي الله تعالى عنه لو أخذته بكفك لوسعته كفك فقال ما هو إن لقيته فظهر في عيني كالخدمة أي وهو جبل من جبال مكة أي وأبو اليسر هذا هو الذي انتزع راية المشركين وكانت بيد أبي عزيز بن عمير قال وفي رواية أن البني صلى الله عليه وسلم سأل كعب وقال له كيف أسرت العباس قال يا رسول الله لقد أعانني عليه ملك كريم أي وفي رواية أن العباس رضي الله تعالى عنه لما قيل له ما تقدم قال والله إن هذا ما اسرني لقد أسرني رجل أبلج من أحسن الناس وجها على فرس أبلق فما أراه في القوم فقال الذي جاء به والله أنا الذي أسرته يا رسول الله فقال اسكت فقد أيدك الله بملك كريم
____________________
(2/458)
وفي الكشاف أن العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أخذ أسيرا ببدر لم يجدوا له قميصا وكان رجلا طوالا فكساه عبد الله بن أبي ابن سلول قميصه وجعل صلى الله عليه وسلم فداء العباس أربعمائة أوقية وفي رواية مائة أوقية وفي رواية أربعين أوقية من ذهب وفي رواية جعل على العباس أيضا فداء عقيل ابن أخيه ثمانين أوقية أي وجعل عليه فداء ابن أخيه نوفل بن الحارث
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال له افد نفسك يا عباس وابني أخيك عقيل ابن أبي طالب ونوفل بن الحارث ابني عبد المطلب وحليفك عتبة بن عمرو ففدى نفسه بمائة أوقية وكل واحد بأربعين أوقية وسيأتي ما يدل على أنه إنما فدى نفسه وابن أخيه عقيل فقط وقال للنبي صلى الله عليه وسلم تركتني فقير قريش ما بقيت وفي لفظ تركتني أسأل الناس في كفى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأين المال الذي دفعته لأم الفضل يعني زوجته وقلت لها إن أصبت فهذا لبني الفضل وعبد الله وقثم وفي كلام ابن قتيبة فللفضل كذا ولعبد الله كذا وقثم كذا فقال والله إني لأعلم أنك رسول الله إن هذا شيئ ما علمه إلا انا وأم الفضل زاد في رواية وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله
وفي رواية أن العباس قال للنبي صلى الله عليه وسلم لقد تركتني فقير قريش ما بقيت فقال له كيف تكون فقير قريش وقد استودعت بنادق الذهب أم الفضل وقلت لها إن قتلت فقد تركتك غنية ما بقيت
وفي رواية أين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل فقال أشهد أن الذي تقوله قد كان وما اطلع عليه إلا الله وتقدم عن أبي رافع مولى العباس أن العباس رضي الله تعالى عنه وزوجته أم الفضل كانا مسلمين بل تقدم أنها أول امرأة أسلمت بعد خديجة رضي الله تعالى عنها وكانا يكتمان إسلامهما وأن أبا رافع كان كذلك
ومما يؤيد إسلام العباس رضي الله تعالى نه أنه جاء في بعض الروايات أن العباس رضي الله تعالى عنه قال علام يأخذ ما الفداء وكنا مسلمين أي وفي رواية كنت مسلما ولكن القوم استكرهوني فقال له النبي صلى الله عليه وسلم الله أعلم بما تقول إن يك حق فإن الله يجزيك ولكن ظاهر أمرك أنك كنت علينا وقد أنزل الله تعالى { يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا } أي إيمانا { يؤتكم خيرا مما أخذ منكم }
____________________
(2/459)
أي من الفداء الآيات فعند ذلك أي عند نزول الآيات قال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم لوددت أنك كنت أخذت مني أضعافا فقد آتاني الله خير منها مائة عبد وفي لفظ أربعين عبدا كل عبد في يده مال يضرب به أي يتجرفيه وإني لأرجو من الله المغفرة أي وهذا القول من العباس رضي الله تعالى عنه يدل على تأخر نزول هذه الآيات
وجاء أن العباس رضي الله تعالى عنه خرج لبدر ومعه عشرون أوقية من ذهب ليطعم بها المشركين فأخذت منه في الحرب فكلم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحسب العشرين أوقية من فداءه فأبى وقال أما شيء خرجت تستعين به علينا فلا نتركه لك وجاء في بعض الروايات أن العباس رضي الله تعالى عنه لما أسر تواعدت طائفة من الأنصار على قتله فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لعمر لم أنم الليلة من أجل عمي العباس زعمت الأنصار أنهم قاتلوه فأتى عمر الأنصار فقال لهم أرسلوا العباس فقالوا والله لا نرسله فقال لهم عمر فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي فقالوا إن كان رضي فخذه فأخذه عمر فلما صار في يده قال له يا عباس أسلم فوالله لأن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب
أي وفي اسباب النزول للواحدي لما أسر العباس يوم بدر أقبل المسلمون عليه يعيرونه بكفره بالله وقطيعة الرحم وأغلظ علي له من القول فقال العباس ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا قال له علي ألكم محاسن قال نعم إنا لنعمر المسجد الحرام ونحيي الكعبة ونسقي الحاج ونفك العانى فأنزل الله تعالى { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله } الآية
وجاء انه قال للمسلمين لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج فأنزل الله تعالى { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله } الآية
وذكر بعضهم أن العباس رضي الله تعالى عنه كان رئيسا في قريش وإليه عمارة المسجد الحرام فكان لا يدع أحدا يتشبب فيه ولا يقول فيه هجرا والتشبيب ترقيق الشعر بذكر النساء والهجر الكلام الفاحش فكانت قريش اجتمعت وتعاقدت على تسليم ذلك للعباس وكانوا عونا له على ذلك
____________________
(2/460)
ومن ثم قيل في العباس هذاوالله هو الشرف يطعم الجائع ويؤدب السفيه فإن طعامه كان لفقراء بني هاشم وقيل وسوطه معد لسفهائهم وإذا كان ذلك لسفهاء بني هاشم فلسفهاء غيرهم بطريق الاولى
والظاهر أن ذلك لا يختص بسكونهم في المسجد كما قد يدل عليه الروايه الاولى ولاينافي هذا أي قول عمر له أسلم إلى أخره ما تقدم عن مولاه أبي رافع من أن العباس كان مسلما ومن قوله للنبي صلى الله عليه وسلم إنه كان مسلما ومن إتيانه بالشهادتين عنده صلى الله عليه وسلم لأن ذاك لم يظهره علانية بل أظهره له صلى الله عليه وسلم فقط ولم يعلم به عمر ولا غيره ولم يظهر النبي صلى الله عليه وسلم إسلام العباس رفقا به لما تقدم أن العباس كان له ديون متفرقة في قريش وكان يخشى إن أظهر إسلامه ضاعت عندهم
ومن ثم لما قهرهم الإسلام يوم فتح مكة أظهر إسلامه أي فلم يظهر إسلامه إلا يوم الفتح وكان كثيرا ما يطلب الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكتب له مقامك بمكة خير لك
أي وفي رواية استأذن العباس رضي الله تعالى عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة فكتب إليه يا عم أقم مكانك الذي أنت فيه فإن الله عز وجل يختم بك الهجرة كما ختم بي النبوة فكان كذلك
وفي رواية أنه قال لابن عمه نوفل بن الحارث بن عبد المطلب أفد نفسك يا نوفل ما لي شيء أفدي به نفسي قال أفد نفسك من مالك الذي يجدة وفي لفظ بارماحك التي بجدة فقال أشهد أنك رسول الله والله ما أحد يعلم أن لي بجدة أرماحا غير الله أي وفدى نفسه ولم يفده العباس
ويدل لذلك ما رواه البخاري عن انس أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بمال من البحرين أي من خراجهما فقال انثروه في المسجد فكان أكثر مال أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم أي كان مائة ألف وكان أول خراج حمل إليه صلى الله عليه وسلم وكان ياتي في كل سنة وحينئذ لا يعارض هذا قوله صلى الله عليه وسلم لجابر لو قد جاء مال البحرين أعطيتك فلم يقدم مال البحرين حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن المراد أنه لم يقدم
____________________
(2/461)
في تلك السنة ولما نثر ذلك المال في المسجد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة ولم يلتفت إليه فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه فكان لا يرى احدا إلا اعطاه فجاءه العباس فقال يا رسول الله أعطني إني فاديت نفسي وفاديت عقيلا أي ولم يقل نوفلا ولا حليفه عتبة بن عمرو فقال خذ فحثى في ثوبه ثم ذهب يقله فلم يستطع فقال مر بعضهم يرفعه إلي قال لا قال فارفعه أنت على قال لا فنثر منه ولا زال يفعل كذلك حتى بقى ما يقدر على رفعه على كاهله أى بين كتفيه ثم إنطلق وهو يقول إنما أخذت ما وعد الله فقد أنعلى قتال المسلمين أنجز فما زال صلى الله عليه وسلم يتبعه بصره عجبا من حرصه حتى خفى
ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفر من الاسارى بغير فداء منهم أبو عزه عمرو الجمحي الشاعر كان يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بشعره فقال يا رسول الله إني فقير وذو عيال وحاجه قد عرفتها فا منن علي فمن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أى وفي رواية قال له إن لي خمس بنات ليس لهن شيء فتصدق بي عليهن ففعل وأعتقه وأخذ عليه أن لا يظاهر عليه أحدا أي ولما وصل إلى مكة قال سحرت محمدا
ولما كان يوم أحد خرج مع المشركين يحرض على قتال المسلمين بشعره فأسر وقتل صبرا وحملت رأسه إلى المدينة كما سيأتي
أي فعلم أن أسرى بدر منهم من فدى ومنهم من خلى سبيله من غير فداء وهو أبو العاص أبوعزة ووهب بن عمير ومنهم من مات ومنهم من قتل وهو النضر ابن الحارث وعقبة بن أبي معيط كما تقدم
ولما بلغ النجاشي نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر فرح فرحا شديدا فعن جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أن النجاشي أرسل إليه وإلى أصحابه الذين معه بالحبشة ذات يوم فدخلوا عليه فوجدوه جالسا على التراب لابسا أثوابا خلقة فقالوا له ما هذا أيها الملك فقال لهم إني أبشركم بما يسركم إنه قد جاءني من نحو أرضكم عين لي فأخبرني أن الله عز وجل قد نصر نبيه وأهلك عدوه فلانا وفلانا وعدد جمعا التقوا بمحل يقال له بدر كثير الأراك كنت أرعى فيه غنما لسيدي من بني ضمرة فقال له جعفر ما لك جالس على التراب عليك هذه الأخلاق قال إنا نجد فيما أنزل الله على عيسى أن حقا على عباد الله أن يحدثوا لله عز وجل تواضعا عندما أحدث لهم نعمة
____________________
(2/462)
وفي رواية كان عيسى صلوات الله وسلامه عليه إذا حدث له من الله نعمة ازداد تواضعا فلما أحدث الله تعالى نصرة نبيه صلى الله عليه وسلم أحدثت هذا التواضع
وفي رواية إنا نجد في الإنجيل أن الله سبحانه وتعالى إذا أحدث بعبده نعمة وجب على العبد أن يحدث لله تواضعا وإن الله قد أحدث إلينا وإليكم نعمة عظيمة الحديث
قال ولما أوقع الله تعالى بالمشركين يوم بدر واستاصل وجوههم قالوا إن ثأرنا بأرض الحبشة فلنرسل إلى ملكها ليدفع إلينا من عنده من أتباع محمد فنقتلهم بمن قتل منا فأرسلوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة رضي الله تعالى عنهما فإنهما أسلما بعد ذلك إلى النجاشي ليدفع إليهما من عنده من المسلمين فأرسلوا معهما هدايا وتحفا للنجاشي فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى النجاشي عمرو بن أمية الضمرى بكتاب يوصيه فيه على المسلمين انتهى وفي الأصل هنا ما يوافقه
وفيه أن عمرو بن امية الضمر لم يكن أسلم بعد أي لأنه كما في الأصل شهد بدر وأحدا مع المشركين وأول مشهد شهده مع المسلمين بئر معونة واسر في ذلك وجزت ناصيته واعتق وكان ذلك في سنة أربع كما سيأتي قال فلما وصل عمرو وعبد الله إلى النجاشي ردهما خائبين
أي فعن عمرو بن العاص قال دخلت على النجاشي فسجدت له فقال مرحبا بصديقى أهديت لي من بلادك شيئا فقلت نعم أيها الملك أهديت لك أدما كثيرا ثم قربته إليه فأعجبه وفرق منه اشياء بين بطارقته وأمر بسائره فأدخل في موضع وامر ان يكتب ويتحفظ به قال عمرو فلما رأيت طيب نفسه قلت أيها الملك إني رأيت رجلا خرج من عندك يعني عمرو بن أمية الضمرى وهو رسول عدو لنا وترنا وقتل أشرافنا وخيارنا فأعطنيه فأقتله فغضب ثم رفع يده فضرب بها أنفى ضربة ظننت أنه قد كسره فجعلت أتقي الدم بثيابي وفي رواية ثم رفع يده فضرب بها أنف نفسه ظننت أنه قد كسر وقد يجمع بوقوع الأمرين منه وعند ذلك قال عمرو فأصابني من الذل ما لو إنشقت لي الأرض لدخلت فيها فرقا منه ثم قلت أيها الملك لو ظننت أنك تكره ما قلت ما سألتكه فقال يا عمرو تسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى والذي كان يأتي عيسى ابن مريم لتقتله قلت وتشهد أنت ايها الملك أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال نعم أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/463)
عليه وسلم أشهد بذلك عند الله يا عمرو فاطعني واتبعه فوالله إنه لعلى الحق قلت له افتبايعنى له على الإسلام قال نعم فمد يده فبايعته على الإسلام ثم خرجت إلى اصحابي وقد كساني فلما رأوا كسوة الملك سروا بذلك وقالوا هل من صاحبك قضاء لحاجتك يعنون قتل عمرو بن أمية الضمرى فقلت لهم كرهت أن أكلمه أول مرة وقلت أعود إليه قالوا الراي ما رايت وفارقتهم وهذا يدل على أنه كان معه ومع عبد الله جماعة آخرون من قريش ويحتمل أنه عنى بأصحابه عبد الله بن ربيعة ويؤيد الأول ما يأتي فاليتأمل
وكاني أعمد إلى حاجة فعمدت إلى موضع السفن فوجدت سفينة قد شحنت فركبت معهم ودفعوها من ساعتهم حتى إنتهوا إلى الشعبية وهو محل معروف كان مورد لجدة أي كان ترسى به السفن قبل وجود جدة كما تقدم فخرجت من السفينة فابتعت بعيرا وتوجهت إلى المدينة حتى إذا كنت بالهداة اسم محل إذا رجلان وهما خالد ابن الوليد وعثمان بن أبي طلحة فرحبا بي وإذا هما يريدان الذي اريد فتوجهنا إلى المدينة
فقد علمت ما في ارسال عمرو بن أمية الضمرى إلى النجاشي عقب وقعة بدر من أنه كان في ذلك الوقت كافرا لأنه شهد مع الكفار أحدا
ومن ثم قال في الأصل هنا فلما كان شهر ربيع الأول وقيل المحرم سنة سبع أي وقيل سنة ست حكاه ابن عبد البر عن الواقدي من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام وبعث به عمرو بن أمية الضمرى فلما قرئ عليه الكتاب أسلم وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزوجه أم حبيبة ففعل وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه من بقي عنده من أصحابه ويحملهم ففعل وقد تقدم القول عند ذكر الهجرة إلى أرض الحبشة أن توجه عمرو بكتابى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المحرم سنة سبع يدعوه في أحدهما إلى الإسلام والثاني في تزويجه عليه الصلاة والسلام أم حبيبة وقيل ارسال عمرو كان في شهر ربيع الأول منها وسيأتي ذكر كتابي النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي مع عمرو عند ذكر كتبه إلى الملوك هذا كله كلام الأصل فليتأمل ما فيه
____________________
(2/464)
ثم رأيت صاحب النور قال قد رأيت غير واحد صرح بأن النجاشي أسلم في السنة السابعة يعنون من الهجرة وهذا يعكر على تصديقه وإسلامه عند إرسال عمرو بن العاص وعبد الله بن ربيعة أي عقب بدر حيث قال أنا أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخر ما تقدم هذا كلامه
أي فكيف يكون إرسال عمرو بن أمية إلى النجاشي ليسلم وقد يجاب بأن المراد إظهار إسلامه اي بعث له عمرو بن أمية لأجل ان يظهر إسلامه ويعلن به بين قومه اي لأنه كان يخفي إسلامه عن قومه ولما بلغ قومه أنه اعترف بأن عيسى صلوات الله وسلامه عليه عبد الله ووافق جعفر بن أبي طالب على ذلك سخطوا وقالوا له أنت فارقت ديننا وأظهروا له المخاصمة فأرسل النجاشي إلى جعفر بن أبي طالب وأصحابه فهيأ لهم سفنا وقال اركبوا فيها وكونوا كما أنتم فإن هربت فاذهبوا حيث شئتم وإن ظفرت فأقيموا ثم عمد إلى كتاب فكتب وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ويشهد أن عيسى عبده ورسوله وروحه وكلمته القاها إلى مريم ثم جعله في ثيابه عند منكبه الأيمن وخرج إلى الحبشة وقد صفوا له فقال يا معشر الحبشة ألست أرفق الناس بكم قالوابلى قال فكيف رأيتم سيرتي فيكم قالوا خير سيرة قال فما لكم قالوا فارقت ديننا وزعمت أن عيسى عبد قال فماذا تقولون أنتم في عيسى قالوا نقول هو ابن الله فقال لهم النجاشي ووضع يده على صدره على قبائه وقال هو يشهد أن عيسى ابن مريم ولم يزد على هذا وإنما يعني ما كتب فرضوا منه ذلك
ويذكر أن عليا رضي الله عنه وجد ابن النجاشي عند تاجر بمكة فاشتراه منه وأعتقه مكافأة لما صنع أبوه مع المسلمين وكان يقال له نيزرمولى علي كرم الله وجهه
ويقال أن الحبشة لما بلغهم خبره أرسلوا وفدا منهم إليه ليملكوه ويتوجوه ولم يختلفوا عليه فأبى وقال ما كنت لأطلب الملك بعد أن من الله علي بالإسلام
على أن ابن الجوزي رحمه الله ذكر أن ذهاب عمرو بن العاص إلى النجاشي كان عند منصرفه مع قريش في غزوة الأحزاب أي لا عقب بدر
فعن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق جمعت رجالا من قريش كانوا يرون مكاني ويسمعون مني فقلت لهم تعلمون والله أني لأرى أمر محمد يعلو لأمور علوا منكرا وإني قد رأيت رايا فما ترون فيه قالوا
____________________
(2/465)
وما رأيت قال أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا أن نكون تحت يدي محمدا وإن ظهر قومنا فنحن ممن قد عرفوا فلن يأتينا منهم إلا خير فقالوا إن هذا هو الرأي فقلت اجمعوا ما يهدي له وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم فجمعنا أدما كثيرا ثم خرجنا إليه فوالله إنا لعنده إذ جاءه عمرو بن أمية الضمرى بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن جعفر وأصحابه الحديث
وهذا لا يمنع أن يكون عمرو بن العاص وفد على النجاشي هو وعبد الله بن ربيعة عقب بدر فيكون وصول عمرو بن العاص على النجاشي كان ثلاث مرات مرة مع عمارة عقب مهاجرة من هاجر إلى الحبشة ومرة مع عبد الله بن ربيعة عقب بدر وهذه المرة الثالثة التي كانت عقب الأحزاب وإن إرسال عمرو بن أمية وإسلام عمرو بن العاص على يد النجاشي كان في هذه المرة الثالثة
وحينئذ لا يشكل ارسال عمرو بن أمية للنجاشي لأنه كان مسلما حينئذ فيكون ذكر مجىء عمرو بن أمية إلى النجاشي في المرة الثانية التي كانت عقب بدر اشتباه من بعض الرواة وكذا ذكر إسلام عمرو بن العاص على يد النجاشي في المرة الثانية من تخليط بعض الرواة
ثم رأيته في الامتاع قال وقد رويت قصة الهجرة إلى الحبشة وإسلام النجاشي من طرق عديدة مطولة ومختصرة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل عمرو بن أمية الضمرى في أموره لأنه كان من رجال النجدة أي ومعلوم أنه كان لا يرسله إلا بعد إسلامه وإسلامه قد علمت أنه كان سنة أربع وفي الأصل أنه صلى الله عليه وسلم أرسله إلى مكة بهدية لأبي سفيان بن حرب
أي ولعل المراد بذلك ما حكاه بعض الصحابة قال دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أراد أن يبعثني بمال إلى أبي سفيان يقسمه في قريش بمكة بعد الفتح وقال لي التمس صاحبا قال فجاءني عمرو بن أمية فقال بلغني أنك تريد الخروج إلى مكة وتلتمس صاحبا قلت أجل قال فأنا لك صاحب قال فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت وجدت صاحبا فقال من قلت عمرو بن أمية الضمرى فقال إذا هبط بلاد قومه فاحذروه فإنه قد قال القائل أخوك البكري ولا تأمنه
____________________
(2/466)
وقد أسلم عبد الله ولده قبل ابيه عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما روى أنه صلى الله عليه وسلم قال فيهما وفي أم عبد الله نعم البيت عبد الله وأبو عبد الله وأم عبد الله وكان صلى الله عليه وسلم يفضل عبد الله على أبيه لانه كان من عباد الصحابة وزهادهم وفضلائهم وعلمائهم ومن أكثرهم رواية
وذكر ابن مرزوق رحمه الله أن ابن عمرو رضي الله تعالى عنهما مر ببدر فإذا رجل يعذب ويئن فناداه يا عبد الله قال فالتفت إليه فقال اسقني فأردت أن أفعل فقال الأسود الموكل بتعذيبه لا تفعل يا عبد الله فإن هذا من المشركين الذين قتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه الطبراني في الأوسط زاد السيوطي في الخصائص فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته قال أوقد رأيته قلت نعم قال ذاك عدو الله أبو جهل وذاك عذابه إلى يوم القيامة
وأخرج ابن ابي الدنيا والبيهقي عن الشعبي أن رجلا قال لنبي صلى الله عليه وسلم إني مررت ببدر فرايت رجلا يخرج من الأرض فيضربه رجل بمقمعة حديد وفي لفظ بعمود حديد حتى يغيب في الأرض ثم يخرج فيفعل به مثل ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك أبو جهل يعذب إلى يوم القيامة
ومما جاء في فضل من شهد بدرا أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما تعدون أهل بدر فيكم قال من أفضل المسلمين أو كلمة نحوها قال جبريل عليه السلام وكذلك من شهد بدرا من الملائكة وفي رواية إن للملائكة الذين شهدوا بدرا في السماء لفضلا على من تخلف منهم وجاء بعض الصحابة رضي الله تعالى عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن ابن عمي نافق أي وقد كان من أهل بدر أتأذن لي ان أضرب عنقه فقال صلى الله عليه وسلم إنه شهد بدرا وعسى أن يكفر عنه وفي رواية وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدرا وقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم
قال وفي الطبراني بسند جيد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اطلع الله على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم أو قال فقد وجبت لكم الجنة أي غفرت لكم ما مضى وما سيقع من الذنوب أي وهو يفيد أن ما يقع مهم من الكبائر لا يحتاجون إلى التوبة عنه لأنه إذا وقع يقع مغفورا
____________________
(2/467)
وعبر فيه بالماضي مبالغة في تحققه وهذا كما لا يخفى بالنسبة للآخرة لا بالنسبة لأحكام الدنيا ومن ثم لما شرب قدامة بن مظعون الخمرة في أيام عمر جلده وكان بدريا
أي وقد يقال هذا يقتضي وجوب التوبة في الدنيا فإذا لم تقع لا يؤاخذ بذلك في الآخرة لأن وجوب التوبة من أحكام الدنيا
لا يقال إذا سلم أن الذنب إذا وقع منهم يقع مغفورا لا معنى لوجوب التوبة وإنما حد عمر رضي الله تعالى عنه قدامة زجرا عن شرب الخمر لأنا نقول بل لوجوب التوبة في الدنيا معنى وإن كان الذنب إذا وقع يقع مغفورا لأن المراد بذلك عدم المؤاخذة في الآخرة وذلك لا ينافي وجوب التوبة عنه في الدنيا لأنه لا تلازم بين وجوب التوبة في الدنيا وبين غفران الذنب في الآخرة
هذا وفي الخصائص الصغرى نقلا عن شرح جمع الجوامع أن الصحابة كلهم لا يفسقون بارتكاب ما يفسق به غيرهم وقدامة هذا كان متزوجا أخت عمر رضي الله تعالى عنه وكان عمر متزوجا بأخت قدامة وهي أم حفصة رضي الله تعالى عنها فكان خالا لحفصة ولأخيها عبد الله وكان عاملا لعمر في بعض النواحي أي البحرين فقدم الجارود سعد بن عبد القيس على عمر من البحرين وكان قدامة واليا عليها فأخبر عمر أن قدامة سكر قال وإني رايت حدا من حدود الله حق على ان أرفعه إليك فقال له عمر من يشهد معك قال أبو هريرة فشهد أبو هريرة رضي الله عنه أنه رآه سكران أي قال لم أره يشرب ولكني رأيته سكران يقيء فأحضر قدامة فقال له الجارود أقم عليه الحد فقال له عمر رضي الله عنه أخصم أنت أم شاهد فصمت ثم عاوده فقال له عمر رضي الله عنه لتمسكن أو لأسوءنك فقال ليس في الحق وفي لفظ أما والله ما ذلك بالحق أن يشرب ابن عمك وتسوءني فأرسل عمر رضي الله عنه إلى زوجة قدامة أي بعد أن قال له ابو هريرة رضي الله عنه إن كنت تشك في شهادتنا فأرسل إلى ابنه الوليد يعني زوجته فجاءت فشهدت على زوجتها بأنه سكر فقال عمر لقدامة أريد أن أحدك فقال ليس لك ذلك لقول الله عز وجل { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } فقال له عمر أخطأت التأويل فإن بقية الآية { إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات } فإنك إن اتقيت اجتنبت ما حرم الله تعالى عليك ثم أمر به فحد فغاضبه قدامة ثم حجا جميعا ففي يوم استيقظ عمر رضي الله تعالى عنه من نومه
____________________
(2/468)
فزعا فقال عجلوا بقدامة أتاني آت فقال صالح قدامة فإنه أخوك فاصطلحا
أي وقد احتح بهذه الآية ايضا جمع من الصاحبة شربوا الخمر وهم أبو جندل وضرار بن الخطاب وأبو الأزور فأراد أبو عبيدة رضي الله عنه وهو وال في الشام أن يحدهم فقال أبو جندل ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما أتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات فكتب أبو عبيدة إلى عمر بذلك وقال خصمني أبو جندل بهذه الآية فكتب عمر لأبي عبيدة إن الذي زين لأبي جندل الخطيئة زين له الخصومة فاحددهم فلما أراد أبو عبيدة أن يحدهم قال أبو الأزور في لأبي عبيدة دعنا نلقى العدو غدا فإن قتلنا فذاك وإن رجعنا إليكم فحدونا فلقوا العدو فاستشهد أبو الأزور وحد الآخران
وفي حواشي البخاري للحافظ الدمياطي أن نعيمان كان ممن شهد بدرا وسائر المشاهد وأتى في شربه الخمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحده أربعا أو خمسا أي من المرات فقال رجل من القوم اللهم العنه ما أكثر ما يشرب وأكثر ما يحد فقال عليه الصلاة والسلام لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله ولعل هذا التعليل لا ينظر لمفهومه
وعند الإمام أحمد رحمه الله عن حفصة رضي الله تعالى عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إني لأرجو أن لا يدخل النار احد إن شاء الله تعالى ش شهد بدرا والحديبية ولعل الواو بمعنى أو ويدل لذلك ما في بعض الروايات عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة
ولا ينافي ما في مسلم والترمذي عن جابر أن عبدا لحاطب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو حاطبا إليه فقال يا رسول الله ليدخلن حاطب النار فقال كذبت لا يدخلها فإنه شهد بدرا والحديبية لأنه يجوز أن يكون ذلك لكونه أي الجمع بين بدر والحديبية هو الواقع لحاطب
وفي الطبراني عن رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر والذي نفسي بيده لو ان مولودا ولد في فقه أربعين سنة من أهل الدين يعمل بطاعة الله تعالى كلها ويجتنب معاصي الله كلها إلى أن يرد إلى أرذل العمر أو يرد إلى أن لا يعلم بعد علم شيئا لم يبلغ أحدكم هذه الليلة
____________________
(2/469)
وكان صلى الله عليه وسلم يكرم أهل بدر ويقدمهم على غيرهم ومن ثم جاء جماعة من أهل بدر للنبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في صفة ضيقه ومعه جماعة من أصحابه فوقفوا بعد أن سلموا ليفسح لهم القوم فلم يفعلوا فشق قيامهم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لمن لم يكن من أهل بدر من الجالسين قم يا فلان قم يا فلان بعدد الواقفين فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الكراهة في وجه من أقامه فقال رحم الله رجلايفسح لأخيه فنزل قوله تعال { يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا } الأية فجعلوا يقومون لهم بعد ذلك أى ولعل المراد يجلسونهم مكانهم
وفي الخصائص الصغرى وخص أهل بدر من أصحابه صلى الله عليه وسلم بأن يزادوا في الجنازه على أربع تكبيرات تمييزا لهم لفضلهم
وقد ذكر أن عمر بن عبد العزيز بن مروان كان يختلف إلى عبيد الله بن عبد الله ليسمع منه فبلغ عبيد الله أن عمر ينتقص عليا رضي الله تعال عنه فأتاه عمر فأعرض عبيد الله عنه وقام ليصلى فجلس عمر ينتظره فلما سلم أقبل عليه وقال له متى بلغك أن الله سخط على أهل بدر بعد أن رضي عنهم ففهمها عمر وقال معذر إلى الله وإليك والله لا أعود فما سمع بعد ذلك يذكر عليا كرم الله وجهه إلا بخير غزوة بني سليم
ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينه من بدر لم يقم إلا سبع ليال حتى غزا بنفسه يريد بني سليم واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري أو ابن أم مكتوم
أي وفي رواية أبي داود أن استخلاف ابن أم مكتوم إنما كان على الصلاة بالمدينة دون القضايا والاحكام فإن الضريرا لا يجوز له ان يحكم بين الناس لانه لا يدرك الاشخاص ولا يثبت الاعيان ولا يدري لمن يحكم ولا على من يحكم أى فأمر القضايا والاحكام يجوز أن يكون فرضه صلى الله عليه وسلم لسباع فلا مخالفة فلما بلغ ماء من مياههم يقال له الكدر أى وقيل لهذا الماء الكدر لان به طيرا في ألوانها كدرة فأقام صلى الله عليه وسلم على ذلك ثلاث ليال ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حربا أي وكان لواؤه صلى الله عليه وسلم أبيض حمله علي بن أبي طالب كرم الله وجهه
____________________
(2/470)
وكان في تلك السنة تزويج علي بفاطمة رضي الله عنهما أي عقد عليها في رمضان وقيل في رجب ودخل بها في ذي الحجة وقيل بعد أن تزوجها بنى بها بعد سبعة أشهر ونصف أي فيكون عقد عليها في أول جمادى الأولى وكان عمرها خمس عشرة سنة وكان سن علي يومئذ إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر أي وأولم عليها بكبش من عند سعد وآصع من ذرة من عند جماعة من الأنصار ولما خطبها علي قال صلى الله عليه وسلم إن عليا يخطبك فسكتت أي وفي رواية قال لها أي بنيه إن ابن عمك عليا قد خطبك فماذا تقولين فبكت ثم قالت كأنك يا أبت إنما ادخرتني لفقير قريش فقال صلى الله عليه وسلم والذي بعثني بالحق ما تكلمت في هذا حتى اذن لي الله فيه من السماء فقالت فاطمة رضي الله عنها رضيت بما رضي الله ورسوله
وقد كان خطبها ابو بكر ثم عمر فسكت صلى الله عليه وسلم وفي رواية قال لكل انتظر بها القضاء فجاءا اي أبو بكر وعمر رضي الله عنهما إلى علي كرم الله وجهه يأمرانه أن يخطبها قال علي فنبهاني لأمر كنت عنه غافلا فجئته صلى الله عليه وسلم فقلت تزوجني فاطمة قال وعندك شيء قلت فرسي وبدني أي درعي قال أما فرسك فلا بد لك منها وأما بدنك فبعها فبعتها بأربعمائة وثمانين درهما فجئته صلى الله عليه وسلم بها فوضعها في حجره فقبض منها قبضة فقال أي بلال ابتع لنا بها طيبا
وفي رواية لما خطبها قال له صلى الله عليه وسلم ما تصدقها وفي لفظ هل عندك شيء تستحلها به قال ليس عندي شيء قال فاين درعك الحطمية التي أعطيتك يوم كذا وكذا قال عندي فباعها من عثمان بن عفان بأربعمائة مائة وثمانين درهما ثم أن عثمان رضي الله عنه رد الدرع إلى علي كرم الله وجهه فجاء علي بالدرع والدراهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا لعثمان بدعوات
وفي فتاوي الجلال السيوطي أنه سئل هل لصحة ما قيل إن عثمان بن عفان رأى درع علي رضي الله عنها يباع بأربع مائة درهم ليلة عرسه على فاطمة رضي الله عنها فقال عثمان هذا درع علي فارس الإسلام لا يباع أبدا فدفع لغلام على أربعمائة درهم وأقسم أن لا يخبره بذلك ورد الدرع معه فلما أصبح عثمان وجد في داره أربع مائة كيس في كل كيس أربع مائة درهم مكتوب على كل درهم هذا ضرب الرحمن لعثمان بن عفان فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال هنيئا لك يا عثمان
____________________
(2/471)
وفيها أيضا أن عليا خرج ليبيع إزار فاطمة ليأكل بثمنه فباعه بستة دراهم فسأله سائل فاعطاه إياه فجاء جبريل في صورة أعرابي ومعه ناقة فقال يا أبا الحسن اشتر هذه الناقة قال ما معي ثمنها قال إلى اجل فاشتراها بمائة ثم عرض له ميكائيل في صورة رجل في طريقه فقال أتبيع هذه الناقة قال نعم بكم اشتريتها قال بمائة قال آخذها بمائة ولك من الربح ستون فباعها له فعرض له جبريل فقال بعت الناقة قال نعم قا ل ادفع إلي ديني فدفع له مائة ورجع بستين فقالت له فاطمة من أين لك هذا قال ضاربت مع الله بستة فأعطاني ستين ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ذلك فقال البائع جبريل والمشتري ميكائيل والناقة لفاطمة تركبها يوم القيامة له أصل أم لا
فأجاب عن ذلك كله بأنه لم يصح وهي تصدق بان ذلك لم يرد فهو من الكذب الموضوع ولما اراد صلى الله عليه وسلم أن يعقد خطب خطبة منها الحمد لله المحمود بنعمته المعبود بقدرته الذي خلق الخلق بقدرته وميزهم بحكمته ثم إن الله عز وجل جعل المصاهرة نسبا وصهر وكان ربك قديرا ثم أن الله أمرني أن أزوج فاطمة من علي على أربع مائة مثقال فضة أرضيت يا علي قال رضيت بعد أن خطب علي كرم الله وجهه ايضا خطبة منها الحمد لله شكرا لأنعمه وأياديه وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة تبلغه وترضيه اي وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال يا علي اخطب لنفسك فقال علي الحمد لله الذي لا يموت وهذا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجني ابنته فاطمة على صداق مبلغه أربع مائة درهم فاسمعوا ما يقول واشهدوا قالوا ما تقول يا رسول الله قال أشهدكم أني قد زوجته كذا رواه ابن عساكر قال الحافظ ابن كثير وهذا خبر منكر وقد ورد في هذا الفصل أحاديث كثيرة منكرة وموضوعة أضربنا عنها
ولما تم العقد دعا صلى الله عليه وسلم ب ط بطبق بسر فوضع بين يديه ثم قال للحاضرين انتبهوا وقول علي كرم الله وجهه نبهاني لأمر كنت عنه غافلا لا ينافي ما روي عن اسماء بنت عميس أنها قالت قيل لعلى ألا تتزوج بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما لي صفراء ولا بيضاء ولست بمأبور بالباء الموحدة يعني غير الصحيح الدين ولا المتهم في الإسلام أي لا اخشى الفاحشة إذا لم أتزوج وليلة بنى بها قال صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/472)
لعلي لا تحدث شيئا حتى تلقانى فجاءت بها أم أيمن حتى قعدت في جانب البيت وعلي في جانب أخر وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لفاطمه ائتيني بماء فقامت تعثر في ثوبها وفي لفظ في مرطها من الحياء فأتته بقعب فيه ماء فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومج فيه ثم قال لها تقدمي فتقدمت فنضح بين ثدييها وعلى رأسها وقال اللهم إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ثم قال ائتوني بماء فقال علي كرم الله وجهه فعلمت الذي يريد فقمت وملأت القعب فأتيته به فأخذه فمج فيه وصنع بي كما صنع بفاطمة ودعا لي بما دعا لها به ثم قال اللهم بارك فيهما وبارك عليهما وبارك لهما في شملهما أى الجماع وتلا قل هو الله احد والمعوذتين ثم قال أدخل بأهلك باسم الله والبركه وكان فراشها إهاب كبش أى جلده وكان لهما قطيفة إذا جعلاها بالطول انكشفت ظهورهما وإذا جعلاها بالعرض إنكشفت رؤوسهما
ثم مكث صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام لا يدخل على فاطمة وفي اليوم الرابع دخل عليهما في غداة باردة وهما في تلك القطيفة فقال لهما كما أنتما وجلس عند رأسهما ثم أدخل قدميه وساقيه بينهما فأخذ على كرم الله وجهه إحداهما فوضعها على صدره وبطنه ليدفئها وأخذت فاطمة رضي الله عنها الأخرى فوضعتها كذلك
وقالت له في بعض الأيام يا رسول الله ما لنا فراش إلا جلد كبش ننام عليه بالليل ونعلف عليه نا ضحنا بالنهار فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم يا بنية اصبري فإن موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام أقام مع إمرأته عشر سنين ليس لهم إلا عباءة قطوانية أى وهي نسبة إلى قطوان موضع بالكوفة أى ولعل العباءة التي كانت تجب من ذلك الموضع كانت صفيقة وعن علي رضي الله تعالى عنه لم يكن لي خادم غيرها
وعنه رضي الله تعالى عنه لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإني لأربط الحجر على بطني من الجوع وإن صدقتي اليوم لتبلغ أربعين ألف دينار ولعل المراد في السنة
قال الإمام أحمد بن حنبل ما ورد لأحد من الصحابة ما ورد لعلي رضي الله تعالى عنه أى من ثنائه صلى الله عليه وسلم
وسبب ذلك أنه كثرت أعداؤه والطاعون عليه من الخوارج وغيرهم فاضطر لذلك الصحابة أن يظهر كل منهم من فضله ما حفظه ردا على الخوارج وغيرهم
____________________
(2/473)
وعن إبن عباس رضي الله تعالى عنهما ما نزل في أحد من الصحابة من كتاب الله ما نزل في علي نزل في على ثلاثمائة آية
وعن ابن عباس رضي الله عنهما كل ما تكلمت به في التفسيرفإنما أخذته عن علي كرم الله وجهه
ومن كلماته البديعة الوجيزة لا يخافن أحد إلا ذنبه ولا يرجون إلا ربه ولا يستحي من لايعلم أن يتعلم ولا من يعلم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول الله اعلم ما أبردها على الكبد إذا سئلت عما لا أعلم أن اقول الله أعلم
ومن ذلك العالم من عمل بما علم ووافق علمه عمله وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم تخالف سريرتهم علانيتهم ويخالف علمهم عملهم يجلسون حلقا فيبا هي بعضهم بعضا حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه أولئك لا تصعد أعمالهم من مجالسهم تلك إلى الله
وقال صلى الله عليه وسلم لعلي يهلك فيك رجلان محب مطر وكذاب مفتر مكره لك يأتي بالكذب المفترى وقال له يا علي ستفترق أمتي فيك كما افترقت في عيسى ابن مريم وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال إن بني هشام بن المغيرة استأذنوني في أن ينكحوا بنتهم علي بن أبي طالب فلا آذن ثم لا آذن إلا أن يريد ابن ابي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم فإنما هي بضعة مني يريبني ما ارابها ويؤذيني ما آذاها غزوة بني قينقاع
بضم النون وقيل بكسرها أي وقيل بفتحها فهي مثلثة النون والضم أشهر قوم من اليهود وكانوا أشجع يهود وكانوا صاغة وكانوا حلفاء عبادة بن الصامت رضي الله عنه وعبدالله بن ابي ابن سلول فلما كانت وقعة بدر أظهروا البغي والحسد ونبذوا العهد أى لأنه صلى الله عليه وسلم كان عاهدهم وعاهد بني قريظة وبني النضير أن لا يحاربوه وأن لا يظاهروا عليه عدوه
وقيل على ان لا يكونوا معه ولا عليه وقيل على أن ينصروه صلى الله عليه وسلم على من
____________________
(2/474)
دهمه من عدوه أى كما تقدم فهم أول من غدر من يهود فإنه مع ما هم عليه من العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت إ مرأة من العرب بجلب لها أى وهو ما يجلب ليباع من إبل وغنم وغيرها فباعته بسوق بني قينقاع وجلست إلى صائغ منهم أى وفي الامتاع أن المرأة كانت زوجة لبعض الانصار أى ومعلوم أن الانصار كانوا بالمدينة أى وقد يقال لا مخالفة لجواز ان تكون زوجة بعض الانصار من الأعراب وأنها جاءت بجلب لها فجعلوا أى جماعة منهم يراودونها عن كشف وجهها فأبت فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها قال وفي رواية خله بشوكة وهي لا تشعر فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا منها فصاحت فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله وشدت اليهود على المسلم فقتلوه فاستصرخ اهل المسلم المسلمين على اليهود فغضب المسلمون أى وتقدم وقوع مثل ذلك وأنه كان سببا لوقوع حرب الفجار الأول
ولما غضب المسلمون على بني قينقاع أى وقال لهم صلى الله عليه وسلم ما على هذا أقررناهم تبرأ عبادة بن الصامت رضي الله عنه من حلفهم أى قال يا رسول الله أتولى الله ورسوله والمؤمنين وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وتشبث به عبدالله بن أبي أبن سلول أى لم يتبرأمن حلفهم كما تبرأمنه عبادة الصامت أى وفيه نزلت { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض } إلى قوله تعالى { فإن حزب الله هم الغالبون } فجمعهم صلى الله عليه وسلم وقال لهم يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما أنزل بقريش من النقمة اى ببدر واسلموا فإنكم قد عرفتم أني مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله تعالى إليكم قالوا يا محمد إنك ترى أنا قومك أى تظننا أنا قومك قومك ولا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت لهم فرصة إنا والله لو حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس وفي لفظ لتعلمن أنك لم تقاتل مثلنا أى لأنهم كانوا أشجع اليهود وأكثرهم أموالا وأشدهم بغيا فأنزل الله تعالى { قل للذين كفروا ستغلبون } الأية أى وأنزل الله { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء } الآية فتحصنوا في حصونهم فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولواؤه وكان ابيض بيد عمه حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه قال ابن سعد ولم تكن الرايات يومئذ يومئذ
وقد قدمنا أن هذا يرده ما تقدم في ضمن غزاة بدر من أنه كان أمامه رايتان سوداوان إحداهما مع علي ويقال لها العقاب ولعلها سميت بذلك في مقابلة الراية التي كانت في الجاهلية
____________________
(2/475)
تسمى بهذا الاسم ويقال لها راية الرؤساء لأنه كان لا يحملها في الحرب إلا رئيس وكانت في زمنه صلى الله عليه وسلم مختصة لأبي سفيان رضي الله عنه لا يحملها في الحرب إلا هو أو رئيس مثله إذا غاب كما في يوم بدر والأخرى مع بعض الأنصار وسيأتي في خيبر أن العقاب كان قطعة من برد لعائشة رضي الله عنها
واستخلف صلى الله عليه وسلم على المدينة أبا لبابة وحاصرهم خمس عشرة ليلة اشد الحصار لأن خروجه صلى الله عليه وسلم كان في نصف شوال واستمر إلى هلال ذي القعدة الحرام فقذف الله في قلوبهم الرعب وكانوا أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخلي سبيلهم وأن يجلو من المدينة اي يخرجوا منها وأن لهم نساءهم والذرية وله صلى الله عليه وسلم الأموال أي ومنها الحلقة التي هي السلاح والظاهر من كلامهم أنه لم يكن لهم نخيل ولا أرض تزرع وخمست أموالهم أي مع كونها فيئاله صلى الله عليه وسلم ولأنها لم تحصل بقتال ولا جلوا عنها قبل التقاء الصفين فكان له صلى الله عليه وسلم الخمس ولأصحابه الأربعة الأخماس
أقول ولا يخفى أن من جملة اموالهم دورهم ولم أقف على نقل صريح دال على ما فعل بها وعلم أنه صلى الله عليه وسلم جعل هذاالفيء كالغنيمة ومذهبنا معاشر الشافعية أن الفيء المقابل للغنيمة كالواقع في هذه الغزوة وغزوة بني النضير الآتية كان في زمنه صلى الله عليه وسلم يقسم خمسة اقسام له صلى الله عليه وسلم أربعة منها والقسم الخامس يقسم خمسة أقسام له صلى الله عليه وسلم منها قسم فيكون له أربعة اخماس وخمس الخمس والأربعة الأخماس الباقية من الخمس منها واحد لذوي القربى وآخر لليتامى وآخر للمساكين وآخر لابن السبيل فجميع ما مال الفيء مقسوم على خمسة وعشرين سهما منها أحد وعشرون سهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم واربعة اسهم لأربعة اصناف هم ذو القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ولعل إمامنا الشافعي رضي الله عنه راى أن ذلك كان اكثر أحواله صلى الله عليه وسلم وإلا فهو هنا وفي بني النضير كما سيأتي لم يفعل ذلك بل خمسه هنا ثم استقل به أي لم يعط الجيش منه وقد جعل صلى الله عليه وسلم ذوي القربى بين بني هاشم أي وبنات هاشم وبني أي وبنات المطلب دون بني أخويهما عبد شمس ونوفل مع أن الأربعة أولاد عبد مناف كما تقدم
ولما فعل ذلك جاء إليه صلى الله عليه وسلم جبير بن مطعم من بني نوفل وعثمان بن عفان
____________________
(2/476)
من بني عبد شمس فقالا يا رسول الله هؤلاء إخواننا من بني هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله منهم أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا وفي لفظ ومنعتنا وإنما قرابتنا وقرابتهم واحدة وفي رواية أن بني هاشم شرفوا بمكانك منهم وبنوا المطلب ونحن ندلي إليك بنسب واحد ودرجة واحدة فبما فضلتهم علينا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد هكذا وشبك بين أصابعه زاد في رواية أنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا في إسلام أي لأن الصحيفة إنما كتبت على يد بني هاشم والمطلب لأنهم هم الذين قاموا دونه صلى الله عليه وسلم ودخلوا الشعب وبعده صلى الله عليه وسلم صار الفيء أربعة أخماس للمرتزقة المرصدة للجهاد وخمس الخمس الخامس لمصالح المسلمين والخمس الثاني منه لذوي القربى والخمس الثالث منه لليتامى والخمس الرابع منه للمساكين والخمس الباقي منه لابن السبيل
ثم لا يخفى أنه صلى الله عليه وسلم إذا كان مع الجيش وغنم شيء بقتال أو إيجاف خيل أو جلا عنه أهله بعد التقاء الصفين كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن يختار من ذلك قبل قسمته ويقال لهذا الذي يختاره الصفي والصفية كما تقدم
أقول وتقدم عن الإمتاع عن محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما خلافه وتقدم هل صفيه صلى الله عليه وسلم كان محسوبا عليه من سهمه أولا قيل نعم وقيل كان خارجا عنه وتقدم الجواب عن ذلك في غزاة بدر أن هذا الخلاف لا ينافي الجزم ثم بأنه كان زائدا على سهمه صلى الله عليه وسلم لان ذلك قبل نزول آية تخميس الغنيمة فكان سهمه صلى الله عليه وسلم كسهم واحد من الجيش فصفيه يكون زائدا على ذلك
وأما سهمه صلى الله عليه وسلم بعد نزول آية التخميس للغنيمة فهو خمس الغنيمة فيجري فيما يأخذه قبل القسمة الخلاف هل يكون زائدا على ذلك الخمس أو يكون محسوبا منه فلا مخالفة بين إجراء الخلاف والجزم والله أعلم
وقيل لما نزلت بنو قينقاع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتفوا فكتفوا فاراد قتلهم فكلمه فيهم عبد الله بن أبي ابن سلول وألح عليه أي فقال يا محمد أحسن في موالي فأعرض عنه صلى الله عليه وسلم فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلفه أي وتلك الدرع هي ذات الفضول فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/477)
ويحك أرسلني وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه سمرة لشدة غضبه ثم قال ويحك أرسلني فقال والله لا ارسلك حتى تحسن في موالي فإنهم عترتي وأنا امرؤ أخشى الدوائر فقال صلى الله عليه وسلم خلوهم لعنهم الله ولعنه معهم وتركهم من القتل أي وقال له خذهم لا بارك الله لك فيهم وأمر صلى الله عليه وسلم أن يجلوا من المدينة اي ووكل بإجلائهم عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه وأمهلهم ثلاثة ايام فجلو منها بعد ثلاث أي بعد أن سالوا عبادة بن الصامت أن يمهلهم فوق الثلاث فقال لا ولا ساعة واحدة وتولى إخراجهم وذهبوا إلى اذرعات بلدة بالشام أي ولم يدر الحول عليهم حتى هلكوا أجمعون بدعوته صلى الله عليه وسلم في قوله لابن أبي لا بارك الله لك فيهم
ويذكر أن ابن أبي قبل خروجهم جاء إلى منزله صلى الله عليه وسلم يسأله في إقرارهم فحجب عنه فأراد الدخول فدفعه بعض الصحابة فصدم وجهه الحائط فشجه فانصرف مغضبا فقال بنو قينقاع لا نمكث في بلد يفعل فيه بابي الحباب هذا ولا ننتصر له وتأهبوا للجلاء قال وقيل الذي تولى إخراجهم محمد بن مسلمة رضي الله عنه أي ولا مانع أن يكونا أي عبادة بن الصامت ومحمد بن مسلمة اشتركا في إخراجهم
ووجد صلى الله عليه وسلم في منازلهم سلاحا كثيرا أي لأنهم كما تقدم أكثر يهود اموالا واشدهم بأسا واخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلاحهم ثلاث قسى قوسا يدعى الكتوم أي لا يسمع له صوت إذا رمي به وهو الذي رمى به صلى الله عليه وسلم يوم أحد حتى تشظى بالظاء المشالة كما سيأتي ما فيه وقوسا يدعى الروحاء وقوسا يدعى البيضاء واخذ درعين درعا يقال له السغدية أي بسين مهملة وغين معجمة ويقال إنها درع داوود التي لبسها صلى الله عليه وسلم حين قتل جالوت والأخرى يقال لها فضة وثلاث أرماح وثلاثة اسياف سيف يقال له قلعى وسيف يقال له بتار والآخر لم يسم إنتهى أي وسماه بعضهم بالحيف ووهب صلى الله عليه وسلم درعا لمحمد بن مسلمة ودرعا لسعد بن معاذ رضي الله عنهما والله تعالى اعلم
____________________
(2/478)
غزوة السويق
لما أصاب قريشا في بدر ما أصابهم نذر أبو سفيان أن لا يمس رأسه ماء من جنابة أى لا يأتي النساء ولعل هذه العبارة وهي لا يمس رأسه من جنابة وقعت من بعض الصحابة مراده بها ما ذكر من انه لا ياتي النساء ويؤيده ما جاء في بعض الروايات لا يمس النساء والطيب حتى يغزو محمدا او أن ذلك قاله أبو سفيان بناء على أنهم كانوا يغتسلون من الجنابة
ومن ثم ذكر الدميري أن الحكمة في عدم بيان الغسل في آية الوضوء كون الغسل من الجنابة كان معلوما قبل الاسلام بقية من دين إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام فهو من الشرائع القديمة
وفي كلام بعضهم كانوا في الجاهلية يغتسلون من الجنابة ويغسلون موتاهم ويكفنونهم ويصلون عليهم وهو أن يقوم وليه بعد أن يوضع على سريره ويذكر محاسنه ويثني عليه ثم يقول عليك رحمة الله ثم يدفن
وما ذكره الدميري تبع فيه السهيلي حيث قال إن الغسل من الجنابة كان معمولا به في الجاهلية بقية من دين إبراهيم وإسماعيل كما بقي فيهم الحج والنكاح فكان الحدث الاكبر معروفا عندهم ولذلك قال تعال { وإن كنتم جنبا فاطهروا } فلم يحتاجوا إلى تفسيره وأما الحدث الاصغر فلما لم يكن معروفا عندهم قبل الاسلام لم يقل وإن كنتم محدثين فتوضئوا بل قال فاغسلوا الآية الاية
فخرج ابو سفيان في مائتي راكب من قريش ليبر بيمينه حتى نزل بمحل بينه وبين المدينة نحو بريد ثم اتى لبني النضير أى وهم حي من يهود خيبر ينسبون إلى هارون أخي موسى بن عمران عليهما الصلاة والسلام تحت الليل فأتى حيي بن أخطب أى وهومن رؤساء بني النضير وهو أبو صفية أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها فضرب عليه بابه فأبى أن يفتح له لأنه خافه فانصرف عنه وجاء إلى سلام بن مشكم سيد بني النضير أى وصاحب كنزهم أى المال الذى كانوا يجمعونه ويدخرونه لنوائبهم وما يعرض لهم أى وكان حليا يعيرونه لأهل مكة فاستأذن عليه فأذن له واجتمع به ثم خرج إلى أصحابه فبعث رجالا من قريش فأتوا ناحية من المدينة فحرقوا فخلا منها ووجدوا رجلا
____________________
(2/479)
من الانصار قال في الامتاع وهذا الانصاري هو معبد بن عمرو وحليفا لهم فقتلوهماثم انصرفوا راجعين فعلم بهم الناس فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى طلبهم فى مائتين من المهاجرين والانصار أى واستعمل صلى الله عليه وسلم على المدينة بشير ابن عبد المنذر وكان خروجه لخمس خلون من ذى الحجه
وجعل أبو سفيان وأصحابه يخففون للهرب أى لاجله فجعلوايلقون جرب السويق أى وهو قمح وشعير يقلى ثم يطحن ليسف تارة بماء وتارة بسمن وتارة بعسل وسمن وهو عامه أزوادهم فيأخذه المسلمون ولم يلحقو بهم وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا إلى المدينة وكانت غيبته خمسة أيام غزوة قرقرة الكدر
ويقال قرقرة الكدر ويقال قراقر فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعا من بنى سليم وغطفان بقرقرة الكدر اى لعله بلغه أنهم يريدون الإغارة على المدينة بعد أن غزاهم صلى الله عليه وسلم كما تقدم وقرقرة الكدر ارض ملساء فيها طيور في ألوانها كدرة عرف بهاذلك الموضع كما تقدم ان الماء الذي بأرضهم الذى بلغه صلى الله عليه وسلم ولم يجد به أحدامنهم يسمى الكدر لوجود ذلك الطير به فسار إليهم في مائتين من أصحابه وحمل لواء علي بن أبي طالب واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم وتقدم فى تلك أنه استخلف على المدينة سباع بن عرفطة أو ابن أم مكتوم وتقدم ما فيه فلما سار إليه أى إلى ذلك الموضع لم يجد به أحدا وأرسل نفر من أصحابه إلى أعلى الوادي واستقبلهم فى بطن الوادي فوجد خمسمائة بعير مع رعاة منهم غلام يقال له يسار فحازوها وانحدروابها إلى المدينة فلما كانوا بمحل على ثلاثة أميال من المدينة خمسها صلى الله عليه وسلم فأخرج خمسة وقسم الاربعة الأخماس على أصحابه فخص كل رجل منهم بعيران ووقع يسار في سهمه صلى الله عليه وسلم فأعتقه صلى الله عليه وسلم لأنه رآه يصلى أى وقد أسلم وتعلم الصلاة من المسلمين بعد أسره أى وفى كون هذا غنيمة حيث قسمه كذلك وقفة
وكانت مدة غيبته صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة فعلم أنه صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/480)
غزا بني سليم وأنه وصل الى ماء من مياههم يقال له الكدر لوجود ذلك الطير به وأنه استعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري أو ابن أم مكتوم وهنا وقع الجزم بالثاني وأن الأولى لم يذكر أنه وجد فيها شيئا من النعم
وظاهر هذا يدل على التعدد وجرى عليه الأصل أي وحينئذ تكون تلك الطيور توجد في ذلك الماء وفي تلك الأرض فعلى هذا يكون صلى الله عليه وسلم غزا بني سليم مرتين مرة وصل فيها لذلك الماء ولم يجد شيئا من النعم ومرة وصل فيها لتلك الأرض ووجد بها تلك النعم ولم أقف على أن محل ذلك الماء سابق على تلك الأرض أو أن تلك الأرض سابقة على محل ذلك الماء
وفي السيرة الشامية أن غزوة بني سليم هي غزوة قرقرة الكدر فعليه يكون إنما غزا بني سليم مرة واحدة أي وحينئذ يكون الماء الذي كان به ذلك الطير كان في تلك الأرض الملساء أو قريبا منها فليتأمل والحافظ الدمياطي جعل غزوة بني سليم هي غزوة بحران الآتية وسنذكرها غزوة ذي أمر
بتشديد الراء اسم ماء أي وسماها الحاكم غزوة أنمار ويقال أنها غزوة غطفان
بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلا يقال له دعثور بضم الدال وإسكان العين المهملتين ثم مثلثة مضمومة ابن الحارث أي الغطفاني من بني محارب جمع جمعا من ثعلبة ومحارب بذى أمر أي وهو موضع من ديار غطفان أي ولعل به ذلك الماء المسمى بما ذكر كما تقدم يريدون أن يصيبوا من أطراف المدينة فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أربعمائة وخمسين رجلا لاثنتين عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول واستخلف على المدينة عثمان بن عفان وأصاب أصحابه رجلا منهم أي يقال له جبار وقيل حباب بكسر الحاء المهملة وبالباء الموحدة من بني ثعلبة فأدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره من خبرهم أي وقال له لن يلاقوك ولو سمعوا بمسيرك إليهم هربوا في رءوس الجبال وأنا سائر معك فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم للإسلام فأسلم وضمه صلى الله عليه وسلم إلى بلال أي وأخذ به ذلك الرجل طريقا وهبط به عليهم فسمعوا بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم فهربوا في رءوس الجبال أي فبلغوا ماء
____________________
(2/481)
يقال له ذو أمر فعسكر به صلى الله عليه وسلم وأصابهم مطر أي كثير بل ثياب رسول الله صلى الله عليه وسلم وثياب أصحابه فنزع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبيه ونشرهما على شجرة ليجفا واضطجع أي بمرأى من المشركين واشتغل المسلمون في شئونهم فبعث المشركون دعثورا الذي هو سيد القوم وأشجعهم المجمع لهم أي فقالوا له قد انفرد محمد فعليك به أي وفي لفظ أنه لما رآه قال قتلني الله ان لم أقتل محمدا فجاء دعثور ومعه سيفه حتى قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال من يمنعك مني اليوم وفي رواية الآن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله ودفع جبريل في صدره فوقع السيف من يده أي بعد وقوعه على ظهره فأخذ السيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له من يمنعك مني قال لا أحد أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وفي رواية وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ثم أتى قومه أي بعد أن أعطاه صلى الله عليه وسلم سيفه فجعل يدعوهم الى الاسلام وأخبرهم أنه رأى رجلا طويلا دفع في صدره فوقع على ظهره فقال علمت أنه ملك فأسلمت ونزلت هذه الآية ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم ) الآية ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم يلق حربا وكانت مدة غيبته إحدى عشرة ليلة غزوة بحران
بفتح الموحدة وتضم وسكون الحاء المهملة وعبر عنها الحافظ الدمياطي بغزوة بني سليم كما تقدم
لما بلغه صلى الله عليه وسلم أن ببحران موضع بالحجاز معروف بينه وبين المدينة ثمانية برد جمعا كثيرا من بني سليم خرج في ثلثمائة من أصحابه لست خلون من جمادى الأولى واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم أي ولم يظهر وجها للسير وأحث السير حتى بلغ بحران فوجدهم قد تفرقوا في مياههم أي وكان صلى الله عليه وسلم قبل أن يصل الى ذلك بليلة لقي رجلا من بني سليم فأخبره أن القوم تفرقوا فحبسه مع رجل وسار إلى أن وجدهم كذلك فأطلق الرجل وأقام بذلك المحل أياما ثم رجع ولم يلق حربا وكانت غيبته عشر ليال
____________________
(2/482)
وعلى مقتضى هذا السياق تبعا للأصل يكون غزا بني سليم ثلاث مرات مرة عقب بدر وهذه الغزوة وغزوة ذي أمر كانتا في السنة الثالثة من الهجرة
وفي تلك السنة التي هي الثالثة عقد عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه على أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موت أختها رقية وتقدم وقت موتها
وعقد صلى الله عليه وسلم على حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما وذلك في شعبان لما انقضت عدة وفاة زوجها خنيس بن حذيفة من شهداء بدر بعد أن عرضها عمر على أبي بكر فلم يجبه لشيء وعرضها على عثمان فلم يجبه لشيء فقال عمر يا رسول الله قد عرضت حفصة على عثمان فأعرض عني فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله قد زوج عثمان خيرا من ابنتك وزوج ابنتك خيرا من عثمان فتزوج عثمان أم كلثوم وتزوج صلى الله عليه وسلم حفصة
وتزوج أيضا صلى الله عليه وسلم زينب بنت خزيمة في رمضان وتزوج زينب بنت جحش بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب في تلك السنة
وقيل تزوجها في السنة الرابعة وصححها في الأصل وقيل في الخامسة وكان اسمها برة بفتح الموحدة واسم أمها برة بضمها فغير صلى الله عليه وسلم اسمها وسماها زينب وقال لها صلى الله عليه وسلم لو كان أبوك مسلما لسميناه باسم رجل منا ولكن قد سميته جحشا أي والجحش في اللغة السيد
وقد كان صلى الله عليه وسلم جاء إليها ليخطبها لمولاه زيد بن حارثة فقالت لست بناكحته قال بل فانكحيه قالت يا رسول الله أؤامر أي أشاور نفسي فإني خير منه حسبا فأنزل الله تعالى ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) الآية فقالت عند ذلك رضيت
وفي رواية أنها وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فزوجها من زيد فسخطت هي وأخوها وقالا إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجها عبده فنزلت الآية
أي وعن مقاتل أن زيد بن حارثة لما أراد أن يتزوج زينب جاء الى النبي صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله أخطب على قال له من قال زينب بنت جحش فقال له لا أراها تفعل إنها أكرم من ذلك نسبا فقال يا رسول الله إذا كلمتها أنت وقلت زيد أكرم الناس على فعلت قال إنها امرأة لسناء أي فصيحة والمراد لسانها
____________________
(2/483)
طويل فذهب زيد إلى علي رضي الله تعالى عنه فحمله على أن يكلم له النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق معه علي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه فقال إني فاعل ذلك ومرسلك يا علي إلى أهلها لتكلمهم ففعل ثم عاد فأخبره بكراهتها وكراهة أخيها لذلك فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم يقول قد رضيته لكم وأقضي أن تنكحوه فانكحوه وساق إليهم عشرة دنانير وستين درهما ودرعا وخمارا وملحفة وإزارا وخمسين مدا من الطعام وعشرة أمداد من التمر أعطاه ذلك كله رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بعد ذلك جاء صلى الله عليه وسلم بيت زيد يطلبه فلم يجده فتقدمت إليه زينب فأعرض عنها فقالت له ليس هو هنا يا رسول الله فادخل فأبى أن يدخل وأعجبت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي لأن الريح رفعت الستر فنظر إليها من غير قصد فوقعت في نفسه صلى الله عليه وسلم فرجع وهو يقول سبحان مصرف القلوب وفي رواية مقلب القلوب وسمعته زينب يقول ذلك فلما جاء زيد أخبرته الخبر فجاء إليه صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله لعل زينب أعجبتك فأفارقها لك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك عليك زوجك فما استطاع زيد إليها سبيلا بعد ذلك اليوم أي فلم يستطع أن يغشاها من حين رآها صلى الله عليه وسلم إلى أن طلقها
فعنها رضي الله تعالى عنها لما وقعت في قلب النبي صلى الله عليه وسلم لم يستطعني زيد وما امتنعت منه وصرف الله تعالى قلبه عني وجاءه يوما وقال له يا رسول الله إن زينب اشتد على لسانها وأنا أريد أن أطلقها فقال له اتق الله وامسك عليك زوجك فقال استطالت على فقال له إذن طلقها فطلقها فلما انقضت عدتها ارسل زيدا لها فقال له اذهب فاذكرها علي فانطلق قال فلما رأيتها عظمت في صدري فقلت يا زينب أبشري أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك قالت ما انا بصانعه شيئا حتى أؤامر ربي أى أستخيره فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس يتحدث مع عائشة إذ نزل عليه الوحي بأن الله زوجه زينب فسرى عنه وهو يبتسم وهو يقول من يذهب الى زينب فيبشرها أن الله زوجنيها من السماء وجاء إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن قالت دخل علي وأنا مكشوفة الشعر فقلت يا رسول الله بلا خطبة ولا إشهاد قال الله المزوج وجبريل الشاهد أي وأنزل الله تعالى وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك الآية فهذه
____________________
(2/484)
الآية نزلت في زيد رضي الله عنه وقد قالها صلى الله عليه وسلم في حق ولده أسامه فقد جاء أحب أهلي إلى من أنعم الله وأنعمت عليه أسامه بن زيد وعلي بن أبي طالب فنعمة الله على زيد وعلى ولده أسامه الاسلام ونعمة النبي صلى الله عليه وسلم عليهما العتق لأن عتق أبيه عتق له تأمل
وإنما توجه هذا العتب أي لأن الله تعالى كان أعلم نبيه أن زينب ستكون من أزواجه صلى الله عليه وسلم فلما شكا إليه زيد قال له أمسك عليك زوجك واتق الله وأخفى منه في نفسه ما الله مبديه ومظهره وهو ما أعلمه الله به من أنك ستزوجها فالذي أخفاه ما كان الله أعلمه به ( وتخشى الناس ) أي اليهود والمنافقين أن يقولوا تزوج امرأة ابنه ( والله أحق أن تخشاه ) في إمضاء ما أحبه ورضيه لك وأعطاك إياه
وقد جعل الله تعالى طلاق زيد لها وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم إياها لإزالة حرمة التبني قال تعالى { لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم } وأولم صلى الله عليه وسلم عليها بما لم يولم به على نسائه وذبح شاه وأطعم فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم
ففي البخاري فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يخرج ثم يرجع وهم قعود يتحدثون وفي البخاري أيضا فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق الى حجرة عائشة فقال السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته فقالت وعليك السلام ورحمة الله وبركاته كيف وجدت أهلك بارك الله لك ثم دخل حجر نسائه كلهن يقول كما قال لعائشة ويقلن له كما قالت عائشة ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم فوجد القوم في البيت يتحدثون قال أنس رضي الله تعالى عنه وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء فخرج فطلبها الى حجرة عائشة فأخبر أن القوم خرجوا فرجع حتى وضع رجله في أسكفة البيت داخله وأخرى خارجه أرخى الستر بيني وبينه فنزلت آية الحجاب قال في الكشاف وهي أدب أدب الله تعالى به الثقلاء
وفي مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت خرجت سودة بعد ما ضرب علينا الحجاب تقضي حاجتها أي بالمناصع محل كان أزواجه صلى الله عليه وسلم يخرجن إليه بالليل للتبرز وكانت امرأة جسيمة فرآها عمر بن الخطاب فقال يا سودة والله ما تخفين علينا فانظري علينا كيف تخرجين فانكفأت راجعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/485)
في بيتي ليتعشى وفي يده عرق فدخلت فقالت يا رسول الله اني خرجت فقال لي عمر كذا وكذا قالت فأوحى الله تعالى اليه ثم رفع عنه ان العرق في يده ما وضعه فقال انه قد أذن لكن ان تخرجن لحاجتكن وكان قول عمر لسودة ما ذكر حرصا على أن ينزل الحجاب قالت عائشة رضي الله تعالى عنها فأنزل الله الحجاب وفيه أنه تقدم عنها ان قول عمر لسودة كان بعد أن ضرب
وقد يقال المراد بالحجاب هنا عدم خروجهن للبراز فلا ترى أشخاصهن والحجاب المتقدم عدم رؤية شئ من أبدانهن فلا مخالفة فليتأمل
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت دخلت على زينب بنت جحش وعندى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبلت عليه فقالت له ما كل واحد منا عندك إلا على خلاء أي على ما أردت ثم أقبلت علي تسبني فردعها النبي صلى الله عليه وسلم فلم تنته فقال لي سبيها فسببتها وكنت أطول لسانا منها حتى جف ريقها في فمها ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل سرورا أي وفي يوم غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على زينب لقولها في صفية بنت حيي تلك اليهودية فهجرها لذلك ذا الحجة والمحرم وبعض صفر ثم أتاها بعد وعاد الى ما كان عليه معها
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم تستأذن والنبي صلى الله عليه وسلم معي فأذن لها فدخلت عليه فقالت يا رسول الله ان أزواجك أرسلنني إليك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة أي أن تعدل بينهن وبينها فقال النبي صلى الله عليه وسلم أي بنية ألست تحبين ما أحب فقالت بلى قال فأحبي هذه يعنيني فقامت فاطمة فخرجت فجآءت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فحدثتهن بما قالت وبما قال لها فقلن لها ما أغنيت عنا من شئ فارجعي الى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت والله لا أكلمه فيها أبدا فأرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش فاستأذنت عليه وهو في بيت عائشة فأذن لها فدخلت فقالت يا رسول الله أرسلني أزواجك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة ثم وقعت أي زينب بي تسمعني ما أكره فطفقت أنظر الى النبي صلى الله عليه وسلم حتى يأذن لي فيها فلم أزل حتى عرفت أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يكره
____________________
(2/486)
أن أنتصر فوقعت بها أسمعها ما تكره فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال لها إنها ابنة أبي بكر أي محل الفصاحة والشهامة
وسبب ذلك اي طلبهن ان يعدل بينهن وبين عائشة ان الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة يبتغون بذلك مرضات رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة أحد وكانت في شوال سنة ثلاث باتفاق الجمهور وشذ من قال سنة أربع وأحد جبل من جبال المدينة قيل سمي بذلك لتوحده وانفراده عن غيره من الجبال التي هناك وهذا الجبل يقصد لزيارة سيدنا حمزه ومن فيه من الشهداء وهو على نحو ميلين وقيل على ثلاث أميال من المدينة يقال أن فيه قبر هارون أخي موسى عليهما الصلاة والسلام وفيه قبض فواراه موسى فيه وكانا قدما حاجين أو معتمرين
وعن ابن دحية ان هذا باطل بيقين وأن نص التوراة انه دفن بجبل من جبال بعض مدن الشام
وقد يقال لا مخالفة لأنه يقال المدينة شامية وقيل دفن بالتيه هو وأخوه موسى عليهما الصلاة والسلام كما تقدم
قال صلى الله عليه وسلم ان أحدا هذا جبل يحبنا ونحبه اذا مررتم به فكلوا من شجرة ولو من عضاهه اي وهي كل شجرة عظيمة لها شوك والقصد الحث على عدم اهمال الأكل من شجره تبركا به
وقال صلى الله عليه وسلم أحد ركن من أركان الجنة أي جانب عظيم من جوانبها وفي رواية على باب من أبواب الجنة ولا يخالف ما قبله فإنه جاز أن يكون ركنا بجانب الباب وفي رواية جبل من جبال الجنة ولا مانع ان تكون المحبة من الجبل على حقيقتها وضع الحب فيه كما وضع التسبيح في الجبال المسبحة مع داود عليه السلام وكما وضعت الخشية في الحجارة التي قال الله فيها { وإن منها لما يهبط من خشية الله }
وقيل هو على حذف مضاف اي يحبنا أهله وهم الأنصار أو لأن اسمه مشتق من الأحدية وأخذ من هذا أنه أفضل الجبال وقيل أفضلها عرفة وقيل أبو قبيس وقيل الذي كلم الله عليه موسى وقيل قاف
____________________
(2/487)
ولما أصاب قريشا يوم بدر ما أصابها مشى عبدالله بن أبي ربيعه وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية رضي الله تعالى عنهم فإنهم أسلموا بعد ذلك ورجال آخر من أشراف قريش إلى أبي سفيان رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك أيضا وإلى من كان له تجارة في تلك العير أي التي كان سببها وقعة بدر وكانت تلك العير موقوفة في دار الندوة لم تعط لأربابها فقالوا إن محمدا قد وتركم أي قتل رجالكم ولم تدركوا دمائهم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأرا عمن أصاب منا أي وقالوا نحن طيبو النفوس أن تجهزوا بربح هذه العير جيشا الى محمد فقال أبو سفيان وأنا أول من أجاب إلى ذلك وبنو عبد مناف معي فجعلوا لذلك ربح المال فسلم لأهل العير رؤوس أموالهم وكانت خمسين ألف دينار وأخرجوا أرباحها وكان الربح لكل دينار دينارا أي فكان الذي أخرج خمسين ألف دينار وقيل أخرجوا خمسة وعشرين ألف دينار وأنزل الله تعالى في تلك { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون }
وتجهزت قريش ومن والاهم من قبائل كنانة وتهامة وقال صفوان بن أمية لأبي عزة يا أبا عزة إنك رجل شاعر فأعنا بلسانك ولك علي ان رجعت أن أغنيك وإن أصبت أجعل بناتك مع بناتي يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر فقال ان محمدا قد من علي أي وأخذ على أن لا أظاهر عليه أحدا حين أطلقني وأنا أسير في أسارى بدر فلا أريد أن ظاهر عليه قال بلى فأعنا بلسانك
فخرج أبو عزة ومسافع يستنقران الناس بأشعارهما فأما مسافع فلا يعلم له إسلام لكن في كلام ابن عبد البر مسافع بن عياض بن صخر القرشي التيمي له صحبة وكان شاعرا لم يرو شيئا ولا أدري هل هو هذا أو غيره وأما أبو عزة فظفر به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الوقعة بحمراء الأسد أي المكان المعروف الآتي بيانه قريبا وتقدم استطراد ثم أمر صلى الله عليه وسلم عاصم بن ثابت فضرب عنقه وحملت رأسه الى المدينة كما سيأتي وتقدم استطرادا
ودعا جبير بن مطعم بن عدي رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك غلاما له حبشيا يقال له وحشي رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك وكان يقذف بحربة له قذف الحبشة قلما يخطئ بها فقال له اخرج مع الناس فإن أنت قتلت حمزة عم محمد بن طعيمة
____________________
(2/488)
ابن عدي فأنت عتيق أي لأن حمزة هو القاتل له وقيل وحشي كان غلاما لطعيمة وإن ابنة سيده طعيمة قالت له إن قتلت محمدا أو حمزة أو عليا في أبي فأبى لا أدري في القوم كفؤا له غيرهم فأنت عتيق وخرج معهم النساء بالدفوف
وفي كلام سبط بن الجوزي وساروا بالقيان والدفوف والمعازف والخمور والبغايا هذا كلامه وخرج من نساء قريش خمس عشرة امرأة أي مع أزواجهن ومنهن هند زوج أبي سفيان رضي الله تعالى عنها فإنها أسلمت بعد ذلك اي وأم حكيم بنت طارق مع زوجها عكرمة رضي الله تعالى عنهما فإنهما أسلما بعد ذلك وسلافة مع زوجها طلحة ابن أبي طلحة وأم مصعب بن عمير يبكين قتلى بدر وينحن عليهم يحرضنهم على القتال وعدم الهزيمة والفرار وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أرسل به إليه عمه العباس اي بعد أن راودوه على الخروج معهم فاعتذر بما لحقه من القوم يوم بدر ولم يساعدهم بشئ وذلك في كتاب جاء اليه صلى الله عليه وسلم وهو بقباء أرسله العباس مع رجل استأجره من بني غفار وشرط عليه أن يأتي المدينة في ثلاثة أيام بلياليها ففعل كذلك فلما جاءه الكتاب فك ختمه ودفعه لأبي فقرأه عليه أبي بن كعب واستكتم أبيا ونزل صلى الله عليه وسلم على سعد بن الربيع فأخبره بكتاب العباس أي فقال والله أني لأرجو أن يكون خيرا فاستكتمه إياه فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده قالت له امرأته ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها لا أم لك وأنت وذاك فقالت قد سمعت ما قال وأخبرته بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسترجع وأخذ بيدها ولحقه صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرها وقال يا رسول الله اني خفت أن يفشو الخبر فترى أني أنا المفشي له وقد استكتمتني إياه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خل عنها
وسارت قريش وهم ثلاثة آلاف رجل وقال بعض الحفاظ جمع أبو سفيان قريبا من ثلاثة آلاف من قريش والحلفاء والأحابيش وخرج معه أبو عامر الراهب في سبعين فارسا من الأوس قال في الأصل والأحابيش الذين حالفوا قريشا وهم بنو المصطلق وبنو الهون ابن خزيمة اجتمعوا عند حبشي وهو جبل بأسفل مكة وتحالفوا على أنهم مع قريش يدا واحدة على غيرهم ما سجى ليل ووضح نهار وما رسا حبشي مكانه فسموا أحابيش باسم الجبل وقيل سموا بذلك لتحبشهم أي تجمعهم وفيهم مائتا فارس أي وثلاثة
____________________
(2/489)
آلاف بعير وسبعمائة دارع حتى نزلوا مقابل المدينة بذي الحليفة أي وهو ميقات أهل المدينة الذي يحرمون منه أي وأرجفت اليهود والمنافقون فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عينين له أي جاسوسين فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبرهم
ويقال أن عمرو بن سالم الخزاعي مع نفر من خزاعة فارقوا قريشا من ذي طوى وجاءوا الى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه خبرهم وانصرفوا ولما وصلوا أي كفار قريش ومن معهم للأبواء أرادوا نبش قبر أمه صلى الله عليه وسلم والمشير عليهم بذلك هند بنت عتبة زوج أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما فقالت لو بحثتم قبر أم محمد فإن أسر منكم أحدا فديتم كل إنسان بأرب من آرابها أي جزء من أجزائها فقال بعض قريش لا يفتح هذا الباب وإلا نبش بنو بكر موتانا عند مجيئهم وحرست المدينة وبات سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وسعد بن عبادة وعليهم السلاح في المسجد بباب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبحوا
ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا قال رأيت البارحة في منامي خيرا رأيت بقرا تذبح ورأيت في ذبابة سيفي أي وهو ذو الفقار ( ثلما ) بإسكان اللام وفي لفظ وكأن ظبة سيفي انكسرت وفي لفظ ورأيت سيفي ذي الفقار انفصم من عند ظبته فكرهته وهما مصيبتان ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة وفي رواية ورأيت أني في درع حصينة أي وأني مردف كبشا قال صلى الله عليه وسلم بعد أن قيل له ما أولتها قال فأما البقر فناس من اصحابي يقتلون وفي لفظ أولت البقر بقرا يكون فينا وأما الثلم الذي رأيت في سيفي فهو رجل من أهل بيتي أي وفي رواية من عترتي يقتل وفي رواية رأيت أن سيفي ذا الفقار فل فأولته فلا فيكم أي وفلول السيف كسور في حده وقد حصل في حد سيفه كسور وحصل انفصام ظبته وذهابها فكان ذلك علامة على وجود الأمرين وأما الدرع الحصينة فالمدينة أي وأما الكبش فإني اقتل كبش القوم أي حاميهم وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه إن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن هم دخلوا علينا قاتلنا فيها أي فأنا أعلم بها منهم وكانوا قد شبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحية فهي كالحصن وكان ذلك رأي أكابر المهاجرين والأنصار قال ووافق على ذلك عبدالله ابن أبي سلول أي فان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل يستشيره ولم يستشره قبل
____________________
(2/490)
ذلك قال يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج فوالله ما خرجنا منها الى عدو لنا قط إلا أصاب منا ولا دخلها إلا أصبنا منه فدعهم يا رسول الله فإن أقاموا أقاموا بشر مجلس وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم الصبيان بالحجارة من ورائهم وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا
وهذا هو الظاهر خلافا لما ذكره بعضهم من أنه صلى الله عليه وسلم دعا عبدالله بن أبي ابن سلول ولم يدعه قط قبلها فاستشاره فقال يا رسول الله اخرج بنا الى هذه الأكالب إذ لا يناسب ذلك ما يأتي عنه من رجوعه وقوله خالفني الخ وإنما قال ذلك رجل من المسلمين ممن أكرمه الله بالشهادة يوم أحد وقال رجال أي غالبهم أحداث أحبوا لقاء العدو وغالبهم ممن أسف على ما فاته من مشهد بدر أخرج بنا الى أعدائنا لا يرونا أنا جبنا عنهم وضعفنا أي فيكون ذلك جرءاة منهم علينا والله لا نطيع العرب في أن تدخل علينا منازلنا
وفي لفظ أن الأنصار قالوا يا رسول الله ما غلبنا عدو لنا أتانا في دارنا أي في ناحية من نواحيها فكيف وأنت فينا ووافقهم على ذلك حمزة بن عبدالمطلب وقال للنبي صلى الله عليه وسلم والذي أنزل عليك الكتاب لا أطعم طعاما حتى آجالدهم بسيفي خارج المدينة كل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم كاره للخروج فلم يزالوا برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وافق على ذلك فصلى الجمعة بالناس ثم وعظهم وأمرهم بالجد والاجتهاد وأخبرهم أن لهم النصرة ما صبروا وأمرهم بالتهيؤ لعدوهم ففرح الناس بذلك ثم صلى بالناس العصر وقد حشدوا أي اجتمعوا وقد حضر أهل العوالي ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فعمماه وألبساه وصف الناس ينتظرون خروجه صلى الله عليه وسلم فقال لهم سعد بن معاذ وأسيد بن حضير استكرهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج فردوا الأمر إليه أي فما أمركم به وما رأيتم له فيه هوى ورأيا فأطيعوه فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لبس لأمته وظاهر بين درعين أي لبس درعا فوق درع وهما ذات الفضول وفضة التي أصابها من بني قينقاع كما تقدم وذات الفضول هذه هي التي أرسلها إليه صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة رضي الله عنه حين سار الى بدر وهي التي مات صلى الله عليه وسلم عنها وهي مرهونه عند اليهودي وافتكها أبو بكر رضي الله عنه وأظهر الدرع وحزم
____________________
(2/491)
وسطها بمنطقة من أدم من حمائل سيفه صلى الله عليه وسلم وأنكر الامام أبو العباس ابن تيمية أنه صلى الله عليه وسلم تمنطق حيث قال لم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم شد وسطه بمنطقة وقد يقال مراد ابن تيمية المنطقة المعروفة وليس هذا منها وفيه رد على بعضهم في قوله كان له صلى الله عليه وسلم منطقة من أدم فيها ثلاث حلق من فضة والطرف من فضة
وقد يقال لا يلزم من كونه له منطقة أن يكون تمنطق بها فليتأمل
وتقلد صلى الله عليه وسلم السيف وألقى الترس في ظهره أي وفي رواية فركب صلى الله عليه وسلم فرسه السكب وتقلد القوس وأخذ قناته بيده أي ولا مانع أن يكون جمع بين ذلك فقالوا له ما كان لنا أن نخالفك ولا نستكرهك على الخروج فاصنع ما شئت وفي رواية فان شئت فاقعد أي وقال قد دعوتكم الى القعود فأبيتم وما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه أي وفي رواية حتى يقاتل
وأخذ منه أنه يحرم على النبي نزع لأمته اذا لبسها حتى يلحق العدو ويقاتل وبه قال أئمتنا أي وقيل إنه مكروه واستبعد وقوله صلى الله عليه وسلم وما ينبغي لنبي يقتضى أن سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مثله في ذلك أي لأن نزع ذلك يشعر بالجبن وذلك ممتنع على الأنبياء صلى الله وسلم عليهم قاله في النور
وما اختص به من المحرمات فهو مكروه له لأن المحرم في المنهيات كالواجب في المأمورات
وعقد صلى الله عليه وسلم ثلاثة ألوية لواء للأوس وكان بيد أسيد بن حضير ولواء للمهاجرين وكان بيد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وقيل بيد مصعب بن عمير أي لأنه كما قيل لما سئل عمن يحمل لواء المشركين فقيل طلحة بن أبي طلحة أي من بني عبد الدار فأخذه صلى الله عليه وسلم من علي ودفعه لمصعب بن عمير أي لأن مصعب بن عمير من بني عبد الدار وهم أصحاب اللواء في الجاهلية كما تقدم وسيأتي ولواء للخزرج كان بيد الحباب بن المنذر وقيل بيد سعد بن عبادة
وخرج في ألف وقيل تسعمائة ولعله تصحيف عن سبعمائة لما سيأتي أن عبدالله
____________________
(2/492)
ابن أبي ابن سلول رجع معه ثلاثمائة فبقي سبعمائة من أصحابه صلى الله عليه وسلم منهم مائة دارع وخرج السعدان أمامه صلى الله عليه وسلم يعدوان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة دارعين واستعمل على المدينة ابن ام مكتوم أي وسار الى أن وصل رأس الثنية أي وعندها وجد كتيبة كبيرة فقال ما هذا قالوا هؤلاء حلفاء عبدالله بن أبي ابن سلول من يهود فقال أسلموا فقيل لا فقال إنا لا ننتصر بأهل الكفر على أهل الشرك فردهم أي وهؤلاء اليهود غير حلفائه من بني قينقاع فلا يقال هذا انما يأتي على أن اجلاء بني قينقاع كان بعد أحد لأنهم هم حلفاؤه من يهود كما تقدم لأنا نمنع انحصار حلفائه من يهود في بني قينقاع
وسار صلى الله عليه وسلم وعسكر بالشيخين وهما أطمان أي جبلان وعند ذلك عرض قومه فرد جمعا أي شبابا لم يرهم بلغوا خمس عشرة سنة بل أربع عشرة سنة كذا نقل عن امامنا الشافعي رضي الله عنه ونقل عنه بعضهم أنه قال لم يرهم بلغوا أربع عشرة سنة منهم عبدالله بن عمر وزيد بن ثابت وأسامة بن زيد وزيد بن أرقم والبراء بن عازب وأسيد بن ظهير وعرابة بن أوس خلافا لمن أنكر صحبته وعرابة هذا هو القائل فيه الشماخ ** رأيت عرابة الأوسي يسمو ** الى الخيرات منقطع القرين ** ** إذا ما راية رفعت لمجد ** تلقاها عرابة باليمين **
وأوس والده هو القائل في يوم الأحزاب إن بيوتنا عورة كما سيأتي وأبو سعيد الخدري وسعد بن خيثمة رضي الله تعالى عنهم أي وزيد بن حارثة الأنصاري كان أبوه حارثة من المنافقين من أصحاب مسجد الضرار ورافع بن خديج وسمرة بن جندب
ثم أجاز صلى الله عليه وسلم رافع بن خديج لما قيل له إنه رام وأصيب في ذلك اليوم بسهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أشهد له يوم القيامة ومات في زمن عبدالملك بن مروان لما نقض عليه ذلك الجرح وعندما أجازه قال سمرة بن جندب لزوج أمه أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم رافع بن خديج وردني وأنا أصرعه فأعلم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تصارعا فصرع سمرة بن جندب رافعا فأجازه
وممن رده صلى الله عليه وسلم يوم أحد لصغر سنه سعد بن حبته عرف بأمه حبته
____________________
(2/493)
فلما كان يوم الخندق رآه صلى الله عليه وسلم يقاتل قتالا شديدا فدعاه ومسح على راسه ودعا له بالبركة في ولده ونسله فكان عما لأربعين وخالا لأربعين وأبا لعشرين ومن ولده أبو يوسف صاحب أبي حنيفة رضي الله عنهم وتقدم في بدر أنه صلى الله عليه وسلم رد زيد بن ثابت وزيد ابن أرقم واسيد بن ظهير فما فرغ العرض إلا وقد غابت الشمس فأذن بلال بالمغرب فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم باصحابه ثم أذن بالعشاء فصلى بهم وبات واستعمل على الحرس تلك الليلة محمد بن مسلمة في خمسين رجلا يطوفون بالعسكر ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم أي وذكوان بن عبد قيس يحرسه لم يفارقه لما قال صلى الله عليه وسلم من يحفظنا الليلة حتى كان السحر
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لقد رأيت أي في النوم الملائكة تغسل حمزة رضي الله تعالى عنه وأدلج رسول الله صلى الله عليه وسلم في السحر فحانت صلاة الصبح بالشوط حائط بين المدينة وأحد ومن ذلك المكان رجع عبد الله ابن أبي ابن سلول ومن معه من أهل النفاق وهم ثلثمائة رجل وهو يقول عصاني واطاع الولدان ومن لا أرى له سيعلم ما ندري علام نقتل أنفسنا ارجعوا ايها الناس فرجعوا فتبعهم عبد الله ابن عمرو ابن حرام وهو والد جابر رضي الله تعالى عنهما وكان في الخزرج كعبد الله ابن أبي يقول يا قوم أذكركم الله أن تخذلوا بضم الذال المعجمة قومكم ونبيكم أي تتركوا نصرتهم وإعانتهم عندما حضر من عدوهم قالوا لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم ولكن لا نرى أنه يكون قتالا وابو إلا الانصراف فقال لهم أبعدكم الله أي اهلككم الله أعداء الله فسيغني الله تعالى عنكم نبيه وفيه أن قوله المذكور يخالف قوله علام نقتل أنفسنا إلا ان يقال على فرض أنه يقع قتالا علام نقتل أنفسنا
فلما رجع عبد الله بن أبي ابن سلول بمن معه قالت طائفة نقتلهم وقالت طائفة أخرى لا نقتلهم وهما ان يقتتلا والطائفتان هما بنو حارثة من الأوس وبنو سلمة من الخزرج فأنزل الله تعالى { فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم } أي ردهم إلى كفرهم بما كسبوا
وفي كلام سبط ابن الجوزي ولما رأى بنو سلمة وبنو حارثة عبد الله ابن أبي قد خذل هموا بالانصراف وكانوا جناحين من العسكر ثم عصمهما الله وأنزل قوله تعالى { إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا } الآية فبقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع مائة رجل
____________________
(2/494)
ومن هذا يعلم ما في المواهب من قوله ويقال إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالانصراف لكفرهم بمكان يقال له الشوط لأن الذين ردهم صلى الله عليه وسلم لكفرهم حلفاء عبد الله ابن أبي بن سلول من يهوجد وكان رجوعهم قبل الشوط والذين رجع بهم عبد الله كانوا منافقين ورجوعه بهم كان من الشوط ولم يكن مع المسلمين يومئذ إلا فرسان فرس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفرس لأبي بردة وقيل لم يكن معهم فرس أي وهذا القيل نقله في ( فتح الباري ) عن موسى ابن عقبة واقره وقالت الأنصار أي لما رجع ابن أبي يا رسول الله ألا نستعين بحلفائنا من يهود اي يهود المدينة ولعلهم عنوا بهم بني قريظة لأن بني قريظة من حلفاء سعد بن معاذ وهو سيد الاوس
وقال بعضهم كان في الأنصار كأبي بكر في المهاجرين فقال صلى الله عليه وسلم لا حاجة لنا فيهم
أقول وحينئذ يكون المراد قالت طائفة من الأنصار وهم الأوس ولم يكونوا سمعوا قوله صلى الله عليه وسلم إنا لا نستنصر بأهل الشرك على أهل الشرك والله أعلم
وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه من يخرج بنا على القوم من كثيب أي من طريق قريب لا يمر بنا عليهم فقال أبو خيثمة أنا يا رسول الله فنفذ به من حرة بني حارثة وبين أموالهم حتى دخل في حائط للمربع بن قيظي الحارثي وكان رجلا منافقا ضريرا فقام يحثي التراب أي في وجوههم ويقول إن كنت رسول الله فإني لا أحل لك أن تدخل حائطي وفي يده حفنة من تراب وقال والله لو أعلم أني لا اصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك فابتدر إليه سعد ابن زيد فضربه بالقوس في راسه فشجه وأراد القوم قتله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقتلوه فهذا الأعمى أعمى القلب وأعمى البصر أي وغضب له ناس من بني حارثة كانوا على مثل رأيه أي منافقين لم يرجعوا مع من رجع مع عبد الله ابن أبي فهم بهم أسيد ابن حضير حتى أومأ أي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بترك ذلك ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من أحد فجعل ظهره وعسكره إلى احد قال واستقبل المدينة وصف المسلمين في جبل أحد أي بعد أن بات به تلك الليلة وحانت الصلاة صلاة الصبح والمسلمون يرون المشركين فأذن بلال وأقام وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم باصحابه صفوفا وخطب خطبة حثهم فيها على الجهاد
____________________
(2/495)
ومن جملة ما ذكر فيها من كان يؤمن بالله واليوم لاآخر فعليه الجمعة إلا صبيا أو امرأة أو مريضا أو عبد مملوكا وفي رواية إلا امرأة أو مسافر أو عبد أو مريض بالرفع وعليها فالمستثنى محذوف أي إلا اربعة وما ذكر بدل منها قال ومن استغنى عنها استغنى الله عنه والله غني حميد ما اعلم من عمل يقربكم إلى الله تعالى إلا وقد أمرتكم به ولا أعلم من عمل يقربكم من النار إلا وقد نهيتكم عنه وإنه قد نفث أي أوحى والقى في روعى بضم الراء أي قلبي الروح الأمين أي الذي هو جبريل إنه لن تموت نفس حتى تستوفي أقصى رزقها لا ينقص منه شيء وإن أبطأ عنها فاتقوا الله ربكم وأجملوا أي أحسنوا في طلب الرزق لا يحملنكم استبطاؤه أن تطلبوه بمعصية الله والمؤمن من المؤمن كالرأس من الجسد إذا اشتكى تداعى إليه سائر جسده والسلام عليكم إنتهى
أي ولما أقبل خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك ومعه عكرمة ابن أبي جهل رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك كما تقدم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام وقال له استقبل خالد بن الوليد فكن بإزائه وأمر بخيل أخرى فكانوا من جانب آخر ولعل المراد وأمر جماعة بأن يكونوا بإزاء خيل أخرى للمشركين لأنه تقدم أنه لم يكن معهم إلافرس أو إلا فرسان
أي وما وقع في الهدى أن الفرسان من المسلمين يوم أحد كانوا خمسين رجلا سبق قلم وقال لا تبرحوا حتى أوذنكم وقال لا يقاتلن أحد حتى آمره بالقتال وكان الرماة خمسين رجلا وأمر عليهم عبد الله بن جبير وقال انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا وأثبت مكانك إن كانت لنا أو علينا
أي وفي رواية إن رأيتمونا تتخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم وإن رايتمونا ظهرنا على القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم زاد في رواية وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا قال وفي رواية أنه قال أي للرماة الزموا مكانكم لا تبرحوا منه فإذا رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل في عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم وإن رايتمونا نقتل فلا تغيثونا ولا تدفعوا عنا وارشقوهم بالنبل فإن الخيل لا تقدم على النبل إنا لن نزال غالبين ما مكثتم مكانكم اللهم إني أشهدك عليهم إنتهى
وأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفا أي وكان مكتوبا في إحدى صفحتيه
____________________
(2/496)
** في الجبن عار وفي الإقبال ** مكرمة والمرء بالجبن لا ينجو من القذر ** وقال من يأخذ هذا السيف بحقه ام إليه رجال فأمسكهم عنه من جملتهم علي رضي الله تعالى عنه قام ليأخذه فقال اجلس عمر رضي الله تعالى عنه فأعرض عنه والزبير رضي الله تعالى عنه أي وطلبه ثلاث مرات كل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنه حتى قام إليه أبو دجانة وقال ما حقه يا رسول الله قال فضرب به في وده العدو حتى ينحني قال أنا أهخذه في حقه فدفعه إليه فكاان رجل شجاعا يحتال عند الحرب أي يمشي مشية المتكبر وحين رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبختر بين الصفين قال إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن أي لأن فيها دليل على عدم الاكتراث بالعدو
وعند اصطفاف القوم ناد أبو فيان بن حرب يا معشر الأوس والخزرج خلو بيننا وبين بني عمنا وننصرفغ عنكم فشتموه أقبح شتم ولعنوه اشد اللعن قال وخرج رجل من المشركين على بعير له فدعى للبراز فأحجم عنه الناس حتى دعا ثلاث فقام إليه الزبير ووثب حتى استوى معه على البعير ثم عانقه فاقتتلا فوقالبعير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ييلي حضي الأرض مقتول فوقع المشرك فوقع عليه الزبير فذبحه فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل نبي حواري وإن حواري الظزبير وقال صلى الله عليه وسلم لو لم يبرز إليه الزبير لبرزت إليه لما رأى من احجام الناس عنه انتهى
وخرج رجل من المشركين بين الصفين أي وهو طلحة بن أبي طلحة وأبو طلحة والده اسمه عبد الله بن عثمان بن عبد الدار وكان بيده لواء المشركين لأن بني عبد الدار كانوا أصحاب لواء المشركين لأن اللواء كان لوالدهم عبدالدار كما تقدم وطلب طلحة المبارزة مرارا فلم يخرج إليه أحد فقال يا اصحاب محمد زعمتم أن قتلاكم إلى الجنة وأن قتلانا إلى النار وفي رواية قال يا اصحاب محمد إنكم تزعمون أن الله تعالى يعجلنا بسيوفكم إلى النار ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة فهل أحد منكم يعجلني بسيفه إلى النارأو اعجله بسيفي إلى الجنة كذبتم واللات والعزى لو تعلمون ذلك حقا لخرج إلي بعضكم فخرج إليه علي بن أبي طالب فاختلفا ضربتين فقتله علي رضي الله تعالى عنه
أي وفي رواية فالتقيا بين الصفين فبدره علي فصرعه أي قطع رجله ووقع على
____________________
(2/497)
الأرض وبدت عورته فقال يابن عمي أنشدك الله والرحم فرجع عنه ولم يجهز عليه فقال له بعض أصحابه أفلا أجهزت عليه فقال إنه استقبلني بعورته فعطفني عليه الرحم وعرفت أن الله قد قتله
وفي رواية قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منعك أن تجهز عليه فقال ناشدني الله والرحم فقال اقتله فقتله
أي ووقع لسيدنا علي كرم الله وجهه مثل ذلك في يوم صفين مرتين الأولى حمل على بسر بن أرطاة فلما رأى أنه مقتول كشف عن عورته فانصرف عنه والثانية حمل على عمرو بن العاص فلما راى أنه مقتول كشف عن عورته فانصرف عنه علي كرم الله وجهه
فأخذ لواء المشركين أخو طلحة وهو عثمان بن أبي طلحة وعثمان هذا هو ابو شيبة الذي ينسب إليه الشيبيون فيقال بني شيبة فحمل عليه حمزة فقطع يده وكتفه حتى انتهى إلى مؤتزره فرجع حمزة وهو يقول أنا ابن ساقي الحجيج يعني عبدالمطلب فأخذه أخو عثمان وأخو طلحة وهو ابو سعيد بن أبي طلحة فرماه سعد بن أبي وقاص فأصاب حنجرته فقتله فحمله مسافع بن طلحة بن ابي طلحة الذي قتله علي رضي الله تعالى عنه فرماه عاصم ابن ثابت بن أبي الأفلح فقتله ثم حمله أخو مسافع وهو الحرث بن طلحة فرماه عاصم فقتله أي فكانت أمهما هي سلافة معهما وكل واحد منهما بعد أن رماه عاصم يأتي أمه يضع رأسه في حجرها فتقول له يا بني من أصابك فيقول سمعت رجلا حين رماني يقول خذها وأنا ابن أبي الأفلح فنذرت إن أمكنها الله من رأس عاصم أن تشرب فيه الخمر وجعلت لمن جاء برأسه مائة من الأبل
وسيأتي مقتل عاصم في سرية الرجيع فحمله أخو مسافع وأخو الحرث وهو كلاب بن طلحة فقتله الزبير أي وقيل قزمان فحمله أخوهم وهو الجلاس بن طلحة فقتله طلحة بن عبيد الله فكل من مسافع والحرث وكلاب والجلاس الأربعة أولاد طلحة بن أبي طلحة كل قتل كأبيهم طلحة وعميهم وهما عثمان وأبو سعيد
وعند ذلك حمله أرطاة بن شرحبيل فقتله علي بن أبي طالب وقيل حمزة فحمله شريح بن قارظ فقتل أي ولم يعرف قاتله ثم حمله أبو زيد بن عمرو بن عبد مناف
____________________
(2/498)
ابن هاشم بن عبد الدارفقتله قزمان فحمله ولد لشرحبيل بن هاشم فقتله قزمان أيضا ثم حمله صواب غلامهم أي وكان حبشيا فقاتل حتى قطعت يده ثم برك عليه فأخذه لصدره وعنقه حتى قتل عليه أي قتله قزمان وقيل القاتل له سعد بن أبي وقاص وقيل علي
وقد كان أبو سفيان قال لأصحاب اللواء أي لواء المشركين من بني د عبدالدار يحرضهم على القتال يا بني عبد الدار إنكم تركتم لواءنا يوم بدرفأصابنا ما قد رايتم وإنما تؤتى الناس من قبل راياتهم إذا زالت زالوا فإما أن تكفونا لواءنا وإما أن تخلو بيننا وبينه فنكفيكموه فهموا به وتواعدوه وقالوا نحن نسلم إليك لواءنا ستعلم غدا إذا التقينا كيف نضع وذلك الذي اراد ابو سفيان
قال ابن قتيبة ويقال إن هذه الآية نزلت في بني عبدالدار { إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون }
ولما صرع صاحب لواء المشركين أي الذي هو طلحة بن أبي طلحة استبشر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أي لأنه كبش الكتيبة أي الجيش أي حاميهم الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم في رؤياه المتقدمة أنه مردفا كبشا وقال أولت ذلك إني أقتل كبش الكتيبة فهذا كبش الكتيبة
وند وجود ما ذكر من قتل أصحاب اللواء صاروا كتائب متفرقة فجاس المسلمون فيهم ضربا حتى أجهضوهم أي ازالوهم عن أثقالهم وكان شعارالمسلمين يومئذ أمت أمت وشعارالكفار يا للعزى وهي شجرة كانوا يعبدونها يا لهبل وهو صنم كان داخل الكعبة منصوبا على بئر هناك وسيأتي في فتح مكة أنه كان خارجها بجانب الباب
وقد يقال لا منافاة لأنه يجوز أن يكون في أول الامر كان داخل الكعبة ثم اخرج منها وجعل في بجانبها
أي وخرج عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك فقال من يبارز فنهض إليه أبو بكر شاهر سيفه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم شم سيفك وارجع إلى مكانك ومتعنا بنفسك وتقدم طلب عبد الرحمن المبارزة أيضا في يوم بدر وتقدم عن ابن مسعود أن الصديق دعا ابنه يعني عبد الرحمن يوم أحد إلى البراز
____________________
(2/499)
وهو يخالف ما هنا إلا أن يقال إنه هنا يجوز وقوع كل من الأمرين أي طلب المبارزة من الصديق لولده عبد الرحمن وطلب المبارزة من عبد الرحمن لوالده الصديق
وقد وقع للصديق رضي الله تعالى عنه أن العرب لما ارتدت بعد موته صلى الله عليه وسلم خرج مع الجيش شاهرا سيفه فأخذ علي رضي الله تعالى عنه بزمام راحلته وقال له إلى أين يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقول لك كما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد شم سيفك ولا تفجعنا بنفسك وارجع إلى المدينة فوالله لئن فجعنا بك لا يكون للإسلام نظام أبدا فرجع وأمضى الجيش
وفي أول الأمر حملت خيل المشركين على المسلمين ثلاث مرات كل ذلك تنضح بالنبل فترجع مفلولة أي بالفاء متفرقة وحمل المسلمون على المشركين فنهكوهم أي أضعفوهم قتلا فلما التقى الناس وحميت الحرب قامت هند في النسوة اللاتي معها وأخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال ويقلن ** ويها بني عبد الدار ** ويها حماة الأدبار ** ضربا بكل بتار **
وويها كلمة إغراء وتحريض كما تقول دونك يا فلان والأدبار الأعقاب أي الذين يحمون أعقاب الناس والبتار السيف القاطع ويقلن ** نحن بنات طارق ** نمشي على النمارق ** مشي القطا النوازق ** والمسك في المفارق ** والدر في المخانق ** إن تقبلوا نعانق ** ونفرش النمارق ** أو تدبروا نفارق ** فراق غير وامق **
والطارق النجم قال تعالى { والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب } قيل هو زحل أي نحن بنات من بلغ العلو وارتفاع القدر كالنجم واعترض بأنها لو أرادت النجم لقالت نحن بنات الطارق
ثم رأيت أن هذا الرجز لهند بنت طارق وحينئذ فليس المراد بطارق النجم وإنما هو الرجل المعروف كأنها قالت نحن بنات طارق المعروف بالعلو والشرف
وعن بعضهم قال جلست بمكة وراء الضحاك فسؤل عن قول هند يوم أحد
____________________
(2/500)
نحن بنات طارق ما طارق فقلت هو النجم فقال لي كيف ذلك فقلت له قال الله تعالى { والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق } والنمارق الوسائد الصغار
والمراد نفرش ما تجعل عليه الوسائد مع جعلها عليه والوامق المحب أي فراق غير محب لأن غيرالمحب لا يرجع إذا غضب بخلاف المحب ومن ثم قيل غضب المحب في الظاهر مهابة سيف وفي الباطن كسحابة صيف
وقال وكان صلى الله عليه وسلم إذا سمع ذلك أي تحريض هند بما ذكر يقول اللهم بك أحول بالحاء المهملة أي أمنع وبك اصول وفيك أقاتل حسبي الله ونعم الوكيل انتهى
أي وفي رواية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقي العدو قال اللهم بك أصاول وبك أحاول أي اطالب
وقاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس فعن الزبير قال وجدت أي غضبت في نفسي حين سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف أي الذي قال فيه من يأخذه بحقه ثلاث مرات وأنا ابن عمته فمنعنيه وأعطاه أبا دجانة فقلت والله لأنظرن ما يصنع فاتبعته فأخذ عصابة حمراء أي أخرجها من ساق خفه وكان مكتوبا على أحد طرفيها نصر من الله وفتح قريب وفي طرفها الآخر الجبانة في الحرب عار ومن فر لم ينج من النار فعصب بها رأسه فقالت الأنصار أخرج أبو دجانة عصابة الموت أي لأنهم كانوا يقولون ذلك إذا تعصب بها فجعل لا يلقى أحداإلا قتله أي وكان إذا كل ذلك السيف يشحذه أي يحده بالحجارة ولم يزل يضرب به العدو حتى انحنى وصار كأنه منجل وكان رجل من المشركين لا يدع لنا جريحا إلا ذنف عليه أي اسرع قتله فدعوت الله أن يجمع بينه وبين أبي دجانة فالتقيا فاختلفا ضربتين فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاها بدرقته فعضت الدرقة على سيفه وضربه أبو دجانة فقتله ثم رايته حمل بالسيف على رأس هند أي بنت عتبة زوج أبي سفيان وقيل غيرها ثم رد السيف عنها
قال أبو دجانة رأيت إنسانا يحمس الناس أي بالسين المهملة حمسا شديدا أي يشجعهم وبالشين المعجمة يوقد الحرب ويثيرها فعمدت إليه فلما حملت عليه بالسيف ولول أي دعا بالويل أي قال يا ويلاه فعلمت أنه امرأة فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به أمرأة
____________________
(2/501)
وقاتل حمزة بن عبد المطلب قتالا شديدا ومر به سباع بن عبد العزى فقال له حمزة هلم أي اقبل يا ابن مقطعة البظور لأن أمه أم أنمار مولاة شريق والد الأخنس كانت ختانة بمكة
أي وفي البخاري يا سباع يا ابن أم أنمار مقطعة البظور اتحاد الله ورسوله أي تحاربهما تعاندهما
وفيه أنهم لما اصطفوا للقتال خرج سباع فقال هل من مبارز فخرج إليه حمزة فشد عليه فلما التقيا ضربه حمزة فقتله وفي رواية فكان كأمس الذاهب أي وكان تمام واحد وثلاثين قتلهم حمزة
وفيه أنه سيأتي عن الأصل وقتل من كفار قريش يوم أحد ثلاثة وعشرين رجلا وأكب حمزة عليه ليأخذ درعه قال وحشي غلام جبير بن مطعم إني لأنظر إلى حمزة يهد الناس بسيفه يهد بالدال المهملة يهدم وبالذال المعجمة يقطع أي وقد عثر حمزة فانكشف الدرع عن بطنه فهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت في ثنته بالمثلثة وهو موضع تحت السرة وفوق العانة وفي لفظ فندرته حتى خرجت من بين رجليه فأقبل نحوى فغلب فوقع فأمهلته حتى إذا مات جئته فاخذت حربتي ثم تنحيت إلى العسكر ولم يكن لي في شيء حاجة غيره
أي وفي لفظ آخر كان حمزة يقاتل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسيفين وهو يقول أنا أسد الله فبينا هو كذلك إذ عثر عثرة وقع منها على ظهره فانكشفت الدرع عن بطنه فطعنه وحشي الحبشي بحربته
ثم لما قتل أصحاب لواء المشركين واحدا بعد واحد ولم يقدر أحد يدنو منه انهزم المشركون وولوا لا يلوون على شيء ونساؤهم يدعون بالويل بعد فرحهم وضربهم بالدفوف وألقين الدفوف وقصدن الجبل كاشفات سيقانهن يرفعن ثيابهن وتبع المسلمون المشركين يضعون فيهم السلاح وينتهبون الغنائم ففارقت الرماة محلهم الذي أمرهم صلى الله عليه وسلم أن لا يفارقوه ونهاهم أميرهم عبد الله بن جبير فقالوا له انهزم المشركون فما مقامنا ههنا وانطلقوا ينتهبون وثبت عبد الله بن جبير مكانه وثبت معه دون العشرة وقال لا أجاوز أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل من الرماة وقلة من به منهم فكر بالخيل ومعه عكرمة بن أبي جهل رضي الله تعالى عنهما
____________________
(2/502)
فإنهما أسلما بعد ذلك فحملوا على من بقي من الرماة فقتلوهم مع أميرهم عبد الله بن جبير أي ومثلوا به ومن كثرة طعنه بالرماح خرجت حشوته وأحاطوا بالمسلمين فبينما المسلمون قد شغلوا بالنهب والأسر إذ دخلت خيول المشركين تنادي فرسانها بشعارها يا للعزى يا لهبل ووضعوا السيوف في المسلمين وهم آمنون وتفرقت المسلمون في كل وجه وتركوا ما انتهبوا وخلوا من أسروا وانتفضت صفوف المسلمين واختلط المسلمون وصار يضرب بعضهم بعضا من غير شعار أي من غير أن يأتوا بما كانوا ينادون به في الحرب يتعارفون به في ظلمة الليل وعند الاختلاط وهو أمت أمت مما اصابهم من الدهش والحيرة ولم يزل لواء المشركين ملقى حتى أخذته عمرة بنت علقمة ورفعته لهم فلاثوا أي بالمثلثة استداروا به واجتمعوا عنده ونادى ابن قمئة بفتح القاف وكسر الميم وبعدها همزة إن محمدا قد قتل وقيل المنادي بذلك ابليس أي متمثلا بصورة جعال أو جعيل ابن سراقة وكان رجلا صالحا ممن أسلم قديما وكان من أهل الصفة قيل وهو الذي غير النبي صلى الله عليه وسلم اسمه يوم الخندق وسماه عمرا كما سيأتي وسيأتي ما فيه
ثم إن الناس وثبوا على جعال ليقتلوه فتبرأ من ذلك القول وشهد له خوات بن جبير وأبو بردة بأن جعالا كان عندهما وبجنبهما حين صرخ ذلك الصارخ وقيل المنادي بذلك ازب العقبة قال ذلك ثلاث مرات أي لأنه لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صرخ الشيطان به قال هذا ازب العقبة بكسر الهمزة وسكون الزاي والازب القصير كما تقدم
وقد ذكر أن عبد الله بن الزبير رأى رجل طوله شبران على رحله فقال ما أنت قال ازب قال ما ازب قال رجل من الجن فضربه على رأسه بعود السوط حتى هرب أي ويجوز أن يكون ذلك صدر من الثلاثة وهم ابن قمئة وإبليس وإزب العقبة فرجعت الهزيمة على المسلمين أي وقال قائل يا عباد الله أخراكم أي احترزوا من جهة أخراكم فعطف المسلمون على أخراهم يقتل بعضهم بعضا وهم لا يشعرون وانهزمت طائفة منهم إلى جهة المدينة ولم يدخلوها وقال رجال من المسلمين حيث قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ارجعوا إلى قومكم يؤمنوكم وقال آخرون إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل أفلا تقاتلون على دين نبيكم وعلى ما كان عليه نبيكم حتى تلقوا الله شهداء
اي وفي الامتاع أن ثابت بن الدحداح قال يا معشر الأنصار إن كان محمد قد قتل فإن
____________________
(2/503)
الله حي لا يموت قاتلوا على دينكم فإن الله مظفركم وناصركم فنهض إليه نفر من الأنصار فحمل بهم على كتيبة فيها خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب فحمل عليه خالدبن الوليد بالرمح فقتله وقتل من كان معه من الأنصار رضي الله تعالى عنهم
وكان من جملة من انهزم عثمان بن عفان والوليد بن عقبة و خارجة بن زيد ورفاعة ابن معلى فاقاموا ثلاثة ايام ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهبتم فيها عريضة وأنزل الله تعالى { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم } قال وقال جماعة ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي ليأخذ لنا أمانا من أبي سفيان يا قوم إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم وانهزمت طائفة منهم حتى دخلت المدينة فلقيتهم أم أيمن رضي الله تعالى عنها فجعلت تحثو التراب في وجوههم وتقول لبعضهم هاك المغزل فاغزل به وهلم سيفك آه أي اعطني سيفك أي فالمنهزمون في ذلك اليوم طائفتان طائفة لم تدخل المدينة وأخرى دخلتها وفيه أن أم أيمن كانت في الجيش تسقي الجرحى
أي فقد جاء أن حباب بن العرقة رمى بسهم فأصاب أم أيمن وكانت تسقي الجرحى فوقعت وتكشفت فإغرق عدو الله في الضحك فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفع إلى سعد سهما لا نصل له وقال ارم به فوقع السهم في نحر حباب فوقع مستلقيا حتى بدت عورته فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال استقاد لها سعد أجاب الله دعوته أي وفي رواية اللهم استجب لسعد إذا دعاك فكان مجاب الدعوة وقد يقال لا منافاة بين كون أم أيمن كانت في الجيش وبين كونها كانت في المدينة لجواز أن تكون رجعت ذلك الوقت من الجيش إلى المدينة
وقال رجال أي من المنافقين لما قيل قد قتل محمد الذين بقوا ولم يذهبوا مع عبد الله ابن أبي ابن سلول لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا أي وقال بعضهم لو كان نبيا ما قتل فارجعوا إلى دينكم الأول وفي النهر أن فرقة قالوا نلقى إليهم بأيدينا فإنهم قومنا وبنو عمنا وهذا يدل على أن هذه الفرقة ليست من الأنصار بل من المهاجرين
____________________
(2/504)
قال وعن الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه قال لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حين اشتد علينا الخوف وأرسل علينا النوم فما منا أحد إلا وذقنه في صدره فوالله إني لأسمع كالحلم قول معتب بن قشير أي ويقال ابن بشير وكان ممن شهد العقبة لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا فحفظتها فأنزل الله تعالى في ذلك قوله { ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا } الآية
وعن كعب بن عمرو الأنصاري رضي الله تعالى عنه قال لقد رأيتني يومئذ في أربعة عشر من قومي إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصابنا النعاس أمنة منه أي لأنه لا ينعس إلا من يأمن ما منهم أحد إلا غط غطيطا حتى إن الحجف اي الدرق تتناطح ولقد رأيت سيف بشر بن البراء بن معرور سقط من يده وما يشعر وإن المشركين لتحثنا آه وتقدم في بدر أنه حصل لهم النعاس ليلة القتال لافيه على ما تقدم وتقدم أن النعاس في الصف من الإيمان وفي الصلاة من الشيطان
وثبت صلى الله عليه وسلم لما تفرقت عنه أصحابه وصاريقول إلي يا فلان إلي يا فلان أنا رسول الله فما يعرج إليه أحد والنبل يأتي إليه من كل ناحية والله يصرفه عنه
أي وفي الامتاع أنه صلى الله عليه وسلم قال ( أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب أنا ابن العواتك ) فليتأمل فإن المحفوظ أنه إنما قال ذلك في حنين وإن كان لا مانع من التعدد
وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة أي من أصحابه منهم أبو طلحة فإنه استمر بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم يحوز عنه بحجفته وكان رجلا راميا شديد الرمي فنثركنانته بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أي وصاريقول نفسي لنفسك الفداء ووجهي لوجهك الوقاء فلم يزل يرمي بها وكان الرجل يمر بالجعبة بضم الجيم من النبل فيقول صلى الله عليه وسلم انثرها لأبي طلحة أي وكسر ذلك اليوم قوسين أو ثلاثة وصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرف أي ينظر إلى القوم وفي لفظ ليرى مواضع النبل فيقول له أبو طلحة يا نبي الله بأبي أنت وأمي لأتشرف يصبك سهم من سهام القوم نحري دون نحرك انتهى أي ويتطاول ابو طلحة بصدره يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/505)
واستدل بذلك على ان من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه يجب على كل مؤمن أن يؤثر حياته صلى الله عليه وسلم على حياته قال فلا خلاف أن هذا لا يجب لغيره وهذا المذكور عن أبي طلحة من قوله نحري دون نحرك نقله ابن المنير عن سعد بن أبي وقاص فقال ولهذا قال سعد يوم أحد نحري دون نحرك ولا زال صلى الله عليه وسلم يرمي عن قوسه أي المسماة بالكتوم لعدم تصويتها إذا رمى عنها حتى صارت شظايا أي ذهب منها قطع
وفي رواية رمى عن قوسه حتى اندقت سيتها والسية ما انعطف من طرفي القوس اللذين هما محل الوتر قال وما زال صلى الله عليه وسلم يرمي عن قوسه حتى تقطع وتره وبقيت في يده منه قطعة تكون شبرا في سية القوس فأخذ القوس عكاشة بن محصن ليوتره له فقال يا رسول الله لا يبلغ الوتر فقال مده يبلغ قال عكاشة فوالذي بعثه بالحق لمددته حتى بلغ وطويت منه لفتين أو ثلاثا على سية القوس ورمى صلى الله عليه وسلم بالحجارة وكان أقرب الناس إلى القوم آه
اي وانكر الإمام ابو العباس بن تيمية كونه صلى الله عليه وسلم رمى عن قوسه حتى صارت شظايا أي لانه يبعد وجود رميه صلى الله عليه وسلم من غير اصابة ولو أصاب أحدا لذكر لأنه مما تتوفر الدواعي على نقله وقاتل جماعة من اصحابه منهم سعد بن أبي وقاص فإنه كان من الرماة المذكورين رمى بقوسه قال سعد لقد رأيته يعني النبي صلى الله عليه وسلم يناولني النبل ويقول ( ارم فداك أبي وأمي ) حتى إنه ليناولني السهم ما له نصل فيقول ارمي به وقد تقدم أنه رمى بسهم من تلك السهام التي لا نصل لها لمن رمى أم ايمن
قال وفي رواية عن سعد قال ( أجلسني رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامه فجعلت أرمي وأقول اللهم سهمك فارم به عدوك ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول اللهم استجب لسعد اللهم سدد رميته وأجب دعوته حتى إذا فرغت من كنانتي نثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في كنانته ) آه أي فكان سعد مجاب الدعوة كما تقدم
ولما سعى أهل الكوفة به إلى سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه أرسل جماعة للكوفة يسألون عن حاله من أهل الكوفة فصاروا كلما سألوا عنه أحدا قال خيرا واثنى عليه
____________________
(2/506)
معروفا حتى سألوا رجلا يقال له أبو سعدة ذمه وقال لا يقسم بالسوية ولا يعدل في القضية فلما بلغ سعدا ذلك قال اللهم إن كان كاذبا فأطل عمره وأدم فقره وأعمي بصره وعرضه للفتن فعمي وافتقر وكبر سنه وصار يتعرض للإماء في سكك الكوفة فإذا قيل له كيف أنت يا أبا سعدة يقول شيخ كبير فقير مفتون أصابتني دعوة سعد
قيل لسعد لم تستجاب دعوتك من دون الصحابة فقال ما رفعت إلي فمي لقمة إلا وأناأعلم من اين جاءت ومن اين خرجت أي لأنه جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ( تليت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية { يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا } فقام سعد بن أبي وقاص فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة فقال والذي نفس محمد بيده إن العبد ليعقد اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوما )
وقد جاء في الحديث من كان مأكله حراما ومشربه حراما وملبسه حراما فأنى يستجاب له فليتأمل هذا الجواب
وقد يقال مراد سعد بقوله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة أي ممن يأكل الحلال الطيب ويميز عند الأكل بين الحرام وبين غيره حتى أكون مستجاب الدعوة
ولعل المراد بالأكل ما يشمل الشرب ولعل السكوت عن اللبس لأنه نادر بالنسبة للأكل وجوابه صلى الله عليه وسلم بقوله والذي نفس محمد بيده تقرير لما فهمه سعد رضي الله تعالى عنه أن من يأكل غير الحلال لا يكون مستجاب الدعوة تأمل
والحق أن سبب استجابة دعوة سعد دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك ولعله إنما لم يجب بذلك لمن سأله بقوله لم تستجاب دعوتك من بين الصحابة لأنه يجوز أن يكون دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك تأخر عن هذا فليتأمل وفي الشرف ان سعدا رضي الله تعالى عنه رمى يوم أحد ألف سهم ما منها سهم إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له ارم فداك أبي وأمي ففداه في ذلك اليوم ألف مرة وعن علي كرم الله وجهه ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فداك أبي وأمي إلا لسعد رضي الله تعالى عنه وفي رواية فما جمع صلى الله عليه وسلم أبويه لأحد إلا لسعد رضي الله تعالى عنه
____________________
(2/507)
قال في النور الرواية الأولى اصح لأنه أخبر فيها أنه لم يسمع أي لأنه حينئذ لا يخالف ما جاء عن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع لأبيه الزبير رضي الله تعالى عنه بين أبويه أي قال له فداك أبي وأمي كسعد أي وفي ذلك في يوم الخندق حيث أتاه بخبر بني قريظة وكذا الرواية الثانية لا تخالف لأنها محمولة على سماعه
وعلى الأخذ بظاهرها وعدم حملها على ذلك يجاب بما قال في النور ظهر لي أن عليا كرم الله وجهه إنما أراد تفدية خاصة وهي ألف مرة أو في خصوص أحد
وكان صلى الله عليه وسلم يفتخر بسعده فيقول هذا سعد خالي فليرني امرؤ خاله لأن سعدا رضي الله تعالى عنه كان من بني زهرة وكانت أم النبي صلى الله عليه وسلم منهم كما تقدم أي وكان رضي الله تعالى عنه إذا غاب يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم مالي لا ارى الصبيح المليح الفصيح
ولما كف بصره رضي الله تعالى عنه قيل له لو دعوت الله سبحانه أن يرد عليك بصرك فقال قضاء الله أحب إلي من بصري ولما حضرت الوفاة سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه دعا دع بخلق جبة من صوف فقال كفنوني فيها فإني كنت لقيت فيها المشركين يوم بدر وإنما كنت أخبؤها لهذا وممن كان مشهورا بالرماية سهيل بن حنيف رضي الله تعالى عنه وكان ممن ثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم الذي هو يوم احد قال بعضهم وكان بايعه صلى الله عليه وسلم يومئذ على الموت فثبت معه صلى الله عليه وسلم حتى انكشف الناس عنه وجعل ينضح بالنبل يومئذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال صلى الله عليه وسلم نبلوا سهيلا أي أعطوه النبل
وجاء أن خاله صلى الله عليه وسلم وهوالأسود بن وهب بن عبد مناف بن زهرة استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا خالي ادخل فدخل فبسط له صلى الله عليه وسلم رداءه وقال اجلس عليه إن الخال والد يا خال من أسدى إليه معروف فلم يشكر فليذكر فإنه إذا ذكر فقد شكر وقال له ألا أنبئك بشيء عسى الله أن ينفعك به قال بلى قال إن أربى الربى استطالة المرء في عرض أخيه بغير حق
____________________
(2/508)
وعن أم عمارة المازنية رضي الله تعالى عنها أي وهي نسيبة بالتصغير على المشهور زوج زيد بن عاصم رضي الله تعالى عنه قالت خرجت يوم أحد لأنظر ما يصنع الناس ومعي سقاة فيه ما أسقي به الجرحى فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه والربح للمسلمين فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف وأرمي عن القوس حتى حصلت الجراحة إلي ورؤى على عاتقها جرح أجوف له غور فقيل لها من أصابك بهذا قالت ابن قمئة لما ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يقول دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير فضربني هذه الضربة وضربته ضربات ولكن عدو الله كان عليه درعان
قال وفي كلام بعضهم خرجت نسيبة يوم أحد وزوجها زيد ابن عاصم وابناهما خبيب وعبد الله رضي الله تعالى عنهم وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمكم الله أهل البيت وفي رواية بارك الله فيكم أهل بيت قالت له أم عمارة رضي الله تعالى عنها ادع الله أن نرافقك في الجنة فقال اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة أي وعند ذلك قالت رضي الله تعالى عنها ما أبالي ما اصابني من أمر الدنيا
وقال صلى الله عليه وسلم في حقها ما التفت يمينا ولا شمالا يوم أحد إلا ورايتها تقاتل دوني آه أي وقد جرحت رضي الله تعالى عنها إثني عشر جرحا بين طعنة برمح أو ضربة بسيف وعبد الله ابنها رضي الله تعالى عنهما هو القاتل لمسيلمة الكذاب لعنه الله
فعنها رضي الله تعالى عنها قالت يوم اليمامة تقطعت يدي وأنا أريد قتل مسيلمة وما كان لي ناهية أي مانعة حتى رأيت الخبيث مقتولا وإذا ابني عبد الله بن زيد يمسح سيفه بثيابه فقلت أقتلته فقال نعم فسجدت لله شكرا
ولاينافيه ما اشتهر أن قاتله وحشي فعن وحشي رضي الله تعالى عنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أي بعد أن قدم عليه في وفد ثقيف واسلم كما سيأتي يا وحشي اخرج فقاتل في سبيل الله كما كنت تقاتل لتصد عن سبيل الله فلما كان خروج المسلمين لقات لقتال مسيلمة الكذاب صاحب اليمامة لما ولى الصديق رضي الله تعالى عنه الخلافة وارتدت العرب خرجت معهم فأخذت حربتي فلما رايته تهيأت له وتهيأ له رجل من الأنصار من الناحية الأخرى كلانا يريده وهززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها فوقعت فيه وشد
____________________
(2/509)
عليه الأنصاري فضربه بالسيف فربك أعلم اينا قتله له قال بعضهم والأنصاري هو عبد الله ابن زيد أي كما تقدم وقيل غيره
أي وفي كلام بعضهم اشترك في قتل مسيلمة الكذاب لعنه الله أبو دجانة وعبد الله بن زيد ووحشي رضي الله تعالى عنهم وفي تاريخ ابن كثير رحمه الله الاقتصار على وحشي وأبي دجانة
وقد يقال لا مخالفة لأن كلا من الرواة روى بحسب ما رأى وذكر ابن كثير أن ما يروي عن أبي دجانة رضي الله تعالى عنه من ذكر الحرز المنسوب إليه اسناده ضعيف لا يلتفت إليه
وقد نقل عن وحشي رضي الله تعالى عنه أنه قال قتلت بحربتي هذه خير الناس وشر الناس وكان عمر مسيلمة حين قتل مائة وخمسون سنة
وذكر أن أبا دجانة رضي الله تعالى عنه تترس دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار يقع النبل على ظهره وهو منحن حتى كثر فيه النبل
وقاتل دونه صلى الله عليه وسلم زيادة بن عمارة حتى أثبتته الجراحه أي اصابت مقاتله فقال صلى الله عليه وسلم ادنوه مني فوسده قدمه الشريف فمات رضي الله عنه وخده على قدمه الشريف صلى الله عليه وسلم
وقاتل مصعب بن عمير رضي الله عنه دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتله ابن قمئه لعنه الله وهو يظنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع الى قريش فقال قتلت محمدا
وقيل القاتل لمصعب رضي الله عنه أبي بن خلف لعنه الله فإنه أقبل نحو النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول أين محمدا لا نجوت إن نجا فاستقبل مصعب بن عمير رضي الله عنه فقتل مصعبا فاعترضه رجال من المسلمين فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخلوا طريقه أي فأقبل وهو يقول يا كذاب أين تفر وتناول النبي صلى الله عليه وسلم الحربة من بعض أصحابه أي وهو الحارث بن الصمة أو الزبير بن العوام على ما سيأتي فخدشه بها في عنقه خدشا غير كبير احتقن الدم أي لم يخرج بسبب ذلك الخدش فقال قتلني والله محمد فقالوا ذهب والله فؤادك أي وفي لفظ ذهب والله عقلك إنك لتأخذ السهام من أضلاعك فترمي بها فما هذا والله ما بك من بأس ما أخدعك إنما
____________________
(2/510)
هو خدش ولو كان هذا الذي بك بعين أحدنا ما ضره فقال واللات والعزى لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز أي السوق المعروف من جملة أسواق الجاهلية كان عند عرفه كما تقدم وفي لفظ لو كان بربيعه ومضر أي وفي لفظ بأهل الأرض لماتوا أجمعون إنه قد كان قال لي بمكة أنا أقتلك فوالله لو بصق علي لقتلني أي فضلا عن هذه الضربة لأنه كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم في مكة يا محمد إن عندي العود يعني فرسا له أعلفه في كل يوم فرقا ( بفتح الراء ) هو مكيال معروف يسع اثني عشر مدا من ذرة أقتلك عليها فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا اقتلك إن شاء الله فحقق الله تعالى قول نبيه صلى الله عليه وسلم
هذا وعن سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن أبي بن خلف قال حين افتدى أي من الأسر في ببدر والله إن عندي لفرسا أعلفها كل يوم فرقا من ذرة أقتل عليها محمدا فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بل أنا أقتله إن شاء الله
أقول يمكن الجمع بأنه تكرر ذلك من أبي لعنه الله ومن النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم وفي رواية أبصر صلى الله عليه وسلم ترقوته بالفتح لا بالضم من فرجة من سابقة الدرع وهي ما يغطى به العنق من الدرع كما تقدم فطعنه طعنة أي كسر فيها ضلعا بكسر الضاد وفتح اللام وتسكينها من أضلاعه أي وهو المناسب لما في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم طعنه طعنة وقع فيها مرارا من على فرسه وجعل يخور كما يخور الثور إذا ذبح وإنه صلى الله عليه وسلم لما أخذ الحربة من الحارث بن الصمه وقيل من الزبير بن العوام رضي الله عنه إنتفض بها انتفاضة شديدة ثم استقبله فطعنه في عنقة
أقول ولا مخالفة بين كون الطعنه في عنقه وكونها في ترقوته لأن الترقوة في أصل العنق
ولا مخالفة أيضا بين كون الحاصل من الطعنة خدشا مع اعتنائه صلى الله عليه وسلم بالطعنة وناهيك بعزمه صلى الله عليه وسلم لأن كون الخدش في الظاهر أي بحسب ما يظهر للرئي والشدة في الباطن أقوى في النكاية ودليل وجود الشدة في الباطن وقوعه مرارا وكونه خار كالثور الذي يذبح وكون الطعن في العنق يفضي إلى كسر الضلع من خوارق العادات لكن رأيت في رواية أنه ضربه تحت إبطه فكسر ضلعا من أضلاعه
وقد يقال يجوز أن تكون الحربه نفذت من المكان المذكور قال في النور ولم يقتل
____________________
(2/511)
بيده الشريفه صلى الله عليه وسلم قط أحدا إلا أبي بن خلف لا قبل ولا بعد ثم مات عدو الله وهم قافلون به إلى مكة أي بسرف بفتح السين المهملة وكسر الراء وهو المناسب لوصفه لأنه مسرف وقيل ببطن رابغ
فعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال انى لأ سير ببطن رابغ بعد هدوء من الليل إذا نار تأجج لى لهبها وإذا رجل يخرج منها فى سلسلة يجتذب بها يصيح العطش ونادانى ياعبد الله فلا أدرى أعرف اسمى أو كما يقول الرجل لمن يجهل اسمه ياعبد الله فالتفت إليه فقال اسقنى فأردت أن أفعل وإذارجل وهو الموكل بعذابه يقول لاتسقه هذا قتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا أبي بن خلف لعنه الله رواه البيهقي
ويدل لهذا ما جاء في الحديث كل من قتله نبي أو قتل بأمر نبي في زمنه يعذب من حين قتل إلى نفخ الصعقة وجاء أشد الناس عذابا من قتله نبي أي وفي رواية اشتد غضب الله على رجل قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم فسحقا لأصحاب السعير وفي رواية اشتد غضب الله عز وجل على رجل قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم أكملهم لطفا ورفقا وسعة بعباد الله
وفي شرح التقريب احترز بقوله في سبيل الله عمن يقتله حدا أو قصاصا لأن من يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله كان قاصدا قتله صلى الله عليه وسلم وقد إتفق ذلك لأبي بن خلف لعنه الله وقد تقدم أن ابن مرزوق رحمه الله ذكر أن ابن عمر مر ببدر فإذا رجل يعذب ويئن فناداه يا عبدالله فالتفت إليه فقال اسقني فأردت أن أفعل فقال الأسود الموكل بتعذيبه لا تفعل يا عبدالله فإن هذا من المشركين الذين قتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أى أصحابه رواه الطبراني في الأوسط ولابعد في تعدد الواقعة
ثم رأيت في الخصائص الكبرى ما يقتضى التعدد فإنه ذكر فيها ان ابن عمر رضي الله عنهما ذكر ذلك أى مرور ببدر للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه صلى الله عليه وسلم قال له ذلك أبو جهل وذلك عذابه إلى يوم القيامة وقد ذكرت ذلك في الكلام على غزوة بدر
ووقع صلى الله عليه وسلم في حفرة من الحفر التي حفرت للمسلمين أى التى حفرها أبو عامر الفاسق والد حنظلة غسيل الملا ئكة رضى الله عنه واسم أبي عامر عبد عمرو مات كافرا بأرض الروم فر إليها لما فتحت مكة ليقعوا فيها وهم لا يعلمون فأغمى
____________________
(2/512)
عليه صلى الله عليه وسلم وجحشت أى خدشت ركبتاه فأخذ علي كرم الله وجهه بيده ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما
وكان سبب وقوعه صلى الله عليه وسلم أن ابن قمئة لعنه الله علاه صلى الله عليه وسلم بالسيف فلم يؤثر فيه السيف إلا أن ثقل السيف أثر في عاتقه الشريف فشكا صلى الله عليه وسلم منه شهرا أو أكثر وقذف صلى الله عليه وسلم بالحجارة حتى وقع لشقه ورماه صلى الله عليه وسلم عتبة بن أبي وقاص أ أخو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بحجر فكسر رباعيته اليمنى السفلى وشق شفته السفلى أى ودعا عليه صلى الله عليه وسلم بقوله اللهم لا يحول عليه الحول حتى يموت كافرا وقد استجاب الله تعالى ذلك وقتله في ذلك اليوم حاطب بن ابي بلتعة رضي الله عنه
قال حاطب لما رأيت ما فعل عتبة برسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أين توجه عتبة فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى حيث توجه فمضيت حتى ظفرت به فضربته بالسيف فطرحت راسه فنزلت وأخذت فرسه وسيفه وجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي رضي الله عنك رضي الله عنك مرتين أى ولا يخالف هذا قول بعضهم فمات بعد قليل لكن يخالف القول بانه مات بعد ان أسلم بعد الفتح وانه اثبت ولم يولد لعتبة ولد أو ولد ولد إلا هو اهتم اى ساقط مقدم اسنانه اى التي هي الرباعيات أبخر يعرف ذلك في عقبه وكسرت البيضة اى الخوذة على رأسه صلى الله عليه وسلم وشج وجهه الشريف شجه عبدالله بن شهاب الزهري رضي الله عنه فإنه أسلم بعد ذلك وهو جد الإمام الزهري رحمه الله ويجوز أن يكون من قبل أمه أى ويقال له عبدالله الأصغر اى ولعل هذا حصل منه اقبل او بعد قوله دلوني على محمد فلا نجوت إن نجا ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف إلى جنبه ما معه أحد ثم جاوزه فعاتبه في ذلك صفوان فقال والله ما رأيته أحلف بالله إنه منا ممنوع
وجد الأمام الزهرى من قبل ابيه يقال له عبدالله بن شهاب ويقال له عبدالله الأكبر رضي الله عنه كان من مهاجري الحبشة توفي بمكة قبل الهجرة وأشار صاحب الهمزية رحمه الله إلي أن هذه الشجة لم تشنه صلى الله عليه وسلم بل زادته جمالا بقوله ** مظهر شجة الجبين على البر ** ءكما أظهر الهلال البراء ** ستر الحسن منه بالحسن فاعجب ** لجمال له الجمال وقاء ** فهو كالزهرلاح من سجف الأك ** مام والعود شق عنه اللحاء **
____________________
(2/513)
أي مظهر وجهه الشريف اثر جرح جبينه اى جبهته مع برئها ظهورا كظهور الهلال ليلة استهلاله ستر ذلك الوجه الحسن الأصلي بالحسن العارض بسبب ذلك الجرح فاعجب لجمال أصلي له الجمال العارض وقاية وساتر فهو أى ما ظهر بذلك الجرح كالزهر إذا ظهر من ستره وكالعودالذي يتطيب به إذا أزيل عنه قشره وقال حسان رضي الله عنه في وصف جبينه الشريف صلى الله عليه وسلم
** متى بيد في الداجي البهيم جبينه ** يلح مثل مصباح الدجى المتوقد ** وجرحت وجناته صلى الله عليه وسلم بسبب دخول حلقتين من المغفر في وجنتيه بضربة من ابن قمئة لعنه الله وقال له لما ضربه خذها وأنا ابن قمئة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أقمأك الله عز وجل اي أصغرك وأذلك وقد استجاب الله فيه دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم فإنه بعد الوقعة خرج إلى غنمه فوافاها على ذروة الجبل اى أعلى الجبل فأخذ يعترضها فشد عليه كبشها فنطحه نطحة أرداه من شاهق الجبل فتقطع وفي رواية فسلط الله عليه تيس جبل فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة
أقول ويمكن الجمع بانه لما نطحه ذلك الكبش ووقع من شاهق الجبل إلى أسفل سلط الله عليه عند ذلك تيس الجبل فنطحه حتى قطعه قطعا زيادة في نكاله وخزيه ووباله لعنه الله عليه والله اعلم
ولما جرح وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم صار الدم يسيل على وجه الشريف وجعل صلى الله عليه وسلم يمسح الدم وفي لفظ ينشف دمه وهو يقول كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم أى وفي رواية اشتد غضب الله علي قوم أدموا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فانزل الله تعال { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون } أى وفي رواية صار صلى الله عليه وسلم يقول اللهم العن فلانا وفلانا أي اللهم العن أبا سفيان اللهم العن الحارث بن هشام اللهم العن سهيل بن عمرو اللهم العن صفوان بن أمية فأنزل الله تعالى الآية
فإن قيل كيف هذا مع قوله تعالى { والله يعصمك من الناس } أجيب بان هذه الأية نزلت بعد احد
وعلى تسليم أنها نزلت قبله فالمراد عصمته من القتل قال الشيخ محي الدين ابن العربي رحمه الله لا يخفى أن أجر كل نبي في التبليغ يكون على قدر ما ناله من المشقة
____________________
(2/514)
الحاصلة له من المخالفين له وعلى قدر ما يقاسيه منهم وله أجر الهداية لمن أطاعه ولا احد أكثر أجرا من نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لم يتفق لنبي من الأنبياء ما اتفق له صلى الله عليه وسلم في كثير من طائعي أمة أجابته ولا في كثير عصاة أمة دعوته الخارجين عن الأجابة
وامتص مالك بن سنان الخدري وهو والدابي سعيد الخدري رضي الله عنهما دم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ازدرده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مس د دمي دمه لم تصبه النار
وفي رواية انه صلى الله عليه وسلم قال من أراد أن ينظر إلى رجل من اهل الجنة فلينظر إلى هذا وأشار إليه فاستشهد في هذه الغزاة وفي لفظ من سره ان ينظر إلى من لا تمسه النار فلينظر إلي مالك بن سنان رضي الله عنه ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم أمر هذا الذي امتص دمه بغسل فمه ولأأنه غسل فمه من ذلك كما لم ينقل انه أمر حاضنته أم أيمن بركة الحبشية رضي الله عنها بغسل فمها ولا هي غسلته من ذلك لما شربت بوله صلى الله عليه وسلم
فعنها رضي الله عنهما انها قالت قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل إلى فخارة أى تحت سريره فبال فيها فقمت وانا عطشى فشربت ما في الفخارة وأنا لا أشعر فلما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم قال يا أم أيمن قومي إلى تلك الفخارة فأهريقي ما فيها فقالت والله لقد شربت ما فيها فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال لا يجفر بالجيم والفاء بطنك بعده أبدا وفي لفظ لا تلج النار بطنك وفي أخرى لا تشتكي بطنك اي ويجوز انه صلى الله عليه وسلم قال هذه الألفاظ الثلاثة وكل روى بحسب ما سمع منها فتكون هذه الأمور الثلاثة تحصل لأم أيمن رضي الله عنها وفي رواية بدل فخارة إناء من عيدان بالفتح الطوال من النخل فإن صحا حملا على التعدد لأم أيمن رضي الله عنها ولا مانع منه
وقد شرب بوله صلى الله عليه وسلم ايضا أمراة يقال لها بركة بنت ثعلبة بن عمرو كانت تخدم ام حبيبة رضي الله عنها جاءت معها من الحبشة أى ومن ثم قيل لها بركة الحبشية
وفي كلام ابن الجوزي بركة بنت يسار مولاة ابي سفيان الحبشية خادمة أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم هذا كلامه
____________________
(2/515)
ولا مخالفة لأنه يجوز أن يكون يسار لقبه ثعلبة وكانت معها في الحبشة ثم قدمت معها مكة كانت تكنى بأم يوسف فقال صلى الله عليه وسلم حين علم أنها شربت ذلك صحة يا أم يوسف فما مرضت قط حتى كان مرضها الذي ماتت فيه
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لها لقد احتظرت من النار بحظار وشرب دمه صلى الله عليه وسلم أيضا أبو طيبة الحجام وعلي كرم الله وجهه وكذا عبدالله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما
فعن عبدالله بن الزبير قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحتجم فلما فرغ قال يا عبدالله اذهب بهذا الدم فأهرقه حتى لا يراك أحد قال فشربته فلما رجعت قال يا عبدالله ما صنعت قلت جعلته في أخفى مكان علمت أنه يخفى على الناس قال لعلك شربته قلت نعم قال ويل للناس منك وويل لك من الناس وكان بسبب ذلك على غاية من الشجاعة
ولما وفد أخوه شقيقه عروة بن الزبير أحد الفقهاء السبعة من المدينة على عبدالملك بن مروان قال له يوما ما أريد أن تعطيني سيف أخي عبدالله فقال له عبدالملك هو بين السيوف ولا أميزه فقال له عروة إذا حضرت السيوف ميزته أنا فأمر عبد الملك بإحضارها فلما أحضرت أخذ منها سيفا مفلل الحد وقال هذا سيف أخي فقال له عبد الملك كنت تعرفه قبل الآن قال لا فقال كيف عرفته قال بقول النابغة الذبياني ** ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ** بهن فلول من قراع الكتائب **
وأخذ من ذلك بعض أئمتنا طهارة فضلاته صلى الله عليه وسلم حيث لم يأمره بغسل فمه ولم يغسل هو فمه وأن شربه جائز حيث أقر على شربه
وما أورده في الإستيعاب أن رجلا من الصحابة اسمه سالم حجمه صلى الله عليه وسلم ثم ازدرد دمه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أما علمت أن الدم كله حرام أي شربه غير صحيح فقد قال بعضهم هو حديث لا يعرف له إسناد فلا يعارض ما قبله على أنه يمكن أن يكون ذلك سابقا على إقراره على ذلك والله أعلم
ونزع أبو عبيدة عامر بن عبدالله الجراج رضي الله تعالى عنه إحدى الحلقتين من وجنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسقطت ثنية أبي عبيدة ثم نزع الأخرى فسقطت ثنيته الأخرى
____________________
(2/516)
وقيل الذي نزعهما عقبة بن وهب بن كلدة وقيل طلحة بن عبيد الله ولعل الثلاثة عالجوا إخراجها وكان أشدهم لذلك ابو عبيدة رضي الله عنه
قال بعضهم ولما سقط مقدم أسنان أبي عبيدة صار أهتم ولم يرقط اهتم أحسن من أبي عبيدة لأن ذلك الهتم حسن فاه
وكان أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة وقول القائل قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك قال عرفت عينيه تزهران اي تضيئان وتتوقدان من تحت المغفر وهو ما يجعل علي الراس من الزرد فناديت بأعلى صوتي يا معشر المسلمين ابشرو هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إلي أن أنصت
وعن بعض الصحابة قال لما صرخ الشيطان قتل محمد لم يشك في أنه حق وما زلنا كذلك حتي طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين السعديين فعرفناه بتكفيه إذا مشي ففرحنا حتى كأنه لم يصبنا ما أصابنا فلما عرف المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهضوا به ونهزظ معهم نحو الشعب فيهم أبو بكر وعمر وعلي وطلحة والزبير والحارث ابن الصمة رضي الله تعالى عنهم
وفي خصائص العشرة للزمخشري وثبت يعني الزبير رضي الله تعالى عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وبايعه على الموت هذا كلامه فليتأمل
وقول بعض الرافضة انهزم الناس كلهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ممنوع وقوله وتعجبت الملائكة من شأن علي وقول جبريل عليه السلام وهو يعرج إلى السماء لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي قوله وقتل علي كرم الله وجهه أكثر المشركين في هذه الغزوة فكان الفتح فيها على يديه وقال أصابتني يوم أحد ست عشرة ضربة سقطت إلى الأرض في اربع منهن فجاءني رجل حسن الوجه حسن اللحية طيب الريح وأخذ بضبعي فأقامني ثم قال أقبل عليهم فقاتل في طاعة الله وطاعة رسول الله فإنهما عنك راضيان
ولما أخربت النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا علي أما تعرف الرجل فقلت لا ولكن شبهته بدحية الكلبي فقال صلى الله عليه وسلم يا علي أقر الله عينك فإنه جبريل عليه السلام جميعه رده الإمام أبو العباس بن تيمية بأنه كذب باتفاق الناس وبين ذلك بما يطول
____________________
(2/517)
قال وأقبل عثمان بن عبد الله بن المغيرة على فرس أبلق وعليه لامة كاملة قاصدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوجه للشعب وهو يقول لا نجوت إن نجا فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فعثر بعثمان فرسه في بعض تلك الحفر ومشى إليه الحارث بن الصمة رضي الله تعالى عنه فاصطدما ساعة بسيفهما ثم ضربه الحارث على رجله فبرك ودفف عليه وأخذ درعه ومغفرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي أحانه أي أهلكه
وأقبل عبيد الله بن جابر العامري يعدو فضرب الحارث على عاتقه فجرحه فاحتمله أصحابه ووثب أبو دجانة رضي الله تعالى عنه إلى عبيد الله فذبحه بالسيف ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى
ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فم الشعب خرج علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حتى ملأ درقته ماء وغسل به صلى الله عليه وسلم عن وجهه الشريف الدم وهو يقول اشتد غضب الله علي من أدمي وجه نبيه أي والسياق يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك ايضا بعد قوله كيف يفلح قوما خضبوا وجه نبيهم ونزول تلك الآية فإن ذلك كان قبل غسل وجهه الشريف
ثم قال اراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلو الصخرة التي في الشعب فلما ذهب ينهض لم يستطع أي لأنه صلى الله عليه وسلم ضعف من كثرة ما خرج من دم رأسه الشريف وجهه مع كونه صلى الله عليه وسلم عليه درعان فجلس تحته طلحة بن عبيد الله فنهض به حتى استوى عليها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب طلحة أي فعل شيئا ستوجب به الجنة حين صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع انتهى
أي وقيل أن طلحة ى رضي الله تعالى عنه كان في مشيه اختلاف لعرج كان به فلما حمل النبي صلى الله عليه وسلم تكلف استقامة المشي لئلا يشق عليه صلى الله عليه وسلم فذهب عرجه ولم يعد إليه
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم انطلق حتى أتى اصحاب الصخرة أي الجماعة الذين من الصحابة الذين علوا الصخرة أي التي في الشعب فلما رأوه وضع رجل سهما في قوسه واراد أن يرميه فقال صلى الله عليه وسلم أنا رسول الله ففرحوا بذلك وفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وجد في أصحابه من يمنع أي ولعل هذا الذي أراد رميه صلى الله عليه وسلم لم يعرفه ولا من معه من الصحابة لارتفاع الصخرة
____________________
(2/518)
قال وعطش صلى الله عليه وسلم عطشا شديدا أي ولم يشرب من الماء الذي جاء به علي كرم الله وجهه في درقته أنه صلى الله عليه وسلم وجدله ريحا فعافه أي كرهه فخرج محمد بن مسلم رضي الله تعالى عنه يطلب له ماء فلم يجد فذهب إلى مياه فأتى منها بماء عذب فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له بخير
وفي بعض الروايات أن نساء المدينة خرجن وفيهن فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم فلما لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتنقته وجعلت تغسل جراحاته وعلى كرم الله وجهه يسكب الماء فتزايد الدم فلما رأت ذلك أخذت شيئا من حصير أي معمول من البردى فأحرقته بالنار حتى فصار رمادا فأخذت ذلك الرماد وكمدته حتى لصق بالجرح فاستمسك الدم انتهى أي لأن البرد له فعل قوي في حبس الدم لأن فيه تجفيفا قويا
وفي حديث غريب أنه صلى الله عليه وسلم داوى جرحه بعظم بال أي محرق
وقد يقال يجوز أن يكون الراوي ظن ذلك البردى المحرق عظما محرقا بناء على صحة تلك الرواية وعن وضع هذا الرماد الحار عبر بعضهم بأنه صلى الله عليه وسلم اكتوى في وجهه وجعله معارضا للحديث الصحيح في وصف السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة من غير حساب بأنهم لا يكتوون
وعارضه أيضا بأنه صلى الله عليه وسلم كوى سعد بن معاذ مرتين ليرقأ اي ينقطع الدم من جرحه وكوى أسعد بن زرارة رضي الله تعالى عنه لمرض الذبحة
ففي كلام بعضهم كان موت أسعد بن زرارة رضي الله تعالى عنه بمرض يقال له الذبحة فكواه النبي صلى الله عليه وسلم وقال بئس الميتة لليهود يقولون أفلا دفع عن صاحبه وما أملك له ولا لنفسي شيئا
وأجيب بأن هذا الحديث محمول على من اكتوى خوفا من حدوث الداء أو لأنهم كانوا يعظمون أمره ويرون أنه يقطع الداء وإذا لم يكوى العضو عطب وبطل وهو محمل قوله صلى الله عليه وسلم لم يتوكل من اكتوى أو على من يفعل مع قيام غيره من الأدوية مقامه
ومحمل ما في الخصائص الكبرى أن الملائكة كانت تصافح عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه وتسلم عليه من جانب بيته ثلاثين سنة حتى اكتوى اي لبواسير كانت به فكان يصبر
____________________
(2/519)
على ألمها فلما ترك الكي عادت الملائكة إلى سلامها عليه لأن ذلك قادح في التوكل
وما في البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الشفاء في ثلاثة شربة عسل شرطة محجم وكية نار وأنا أنهى أمتي عن الكي وفي رواية وما أحب أن أكتوي اي النهي للتنزيه لا للتحريم وإلا لم يفعله عمران مع علمه بالنهي
قال في الهدى وأراد صلى الله عليه وسلم بقوله وأنا أنهى إلى آخره أي أنه لا يؤتى بالكي إلا إذا لم ينجع الدواء فلا يأتي به أولا ومن ثم آخره
قيل والفصد داخل في شرطة المحجم والحجامة في البلاد الحارة أنفع من الفصد هذا كلامه
وبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب مع اولئك النفر من أصحابه إذا علت طائفة من قريش الجبل معهم خالد بن الوليد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم إنهم لا ينبغي لهم أن يعلونا اللهم لا قوة لنا إلا بك فقاتلهم عمر بن الخطاب وجماعة من المهاجرين حتى أهبطوا من ا لجبل أي ونزل قوله تعالى { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون } في لا تضعفوا عن الحرب ولا تحزنوا على ما فاتكم من الظفر بالكفار
وللعل هذا كان قبل أن يعلو صلى الله عليه وسلم الصخرة كما تقدم أو لعل الجبل كان اعلى من تلك الصخرة
قال وفي بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم قال لسعد ارددهم قال كيف أردهم وحدي فقال له ارددهم قال سعد رضي الله تعالى عنه فأخذت سهما من كنانتي فرميت به رجلا منهم فقتلته ثم أخذت سهما فإذا هو سهمي الذي رميت به آخر فقتلته ثم أخذت سهما آخر فإذا هو سهمي الذي رميت به فرميت به آخر فقتلته ثم أخذت سهما فإذا هو سهمي الذي رميت به فرميت به آخر فقتلته فهبطوا من مكانهم فقلت هذا سهم مبارك فكان عندي في كنانتي لا يفارق كنانتي وكان بعده عند بنيه انتهى
أي وحينئذ يحتاج إلى الجمع بين هذا أي كون سعد ردهم وحده بهذا السهم وما قبله الدال على أن الراد لهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وجماعة من المهاجرين
روى عنه أنه قال لقد رأيتني أرمي بالسهم يوم أحد فيرده على رجل أبيض حسن
____________________
(2/520)
الوجه لا اعرفه حتى كان بعد أي حتى بعد انقضاء الحرب لم أعرفه فظننت أنه ملك أي وفي رواية عنه أنه قال رميت بسهم فرده علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسهمي أعرفه حتى واليت بين ثمانية أو تسعة كل ذلك يرده علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت هذا سهم دم أي يصيب فجعلته في كنانتي لا يفارقني
أقول ولا منافاة بين هذا وبين قوله ثم أخذت سهما لان قوله المذكور لا ينافي أن يكون أخذه بمناولته صلى الله عليه وسلم لا من كنانته كما قد يتبادر ولا بين قوله فيرده علي رجل أبيض حسن الوجه لا أعرفه لأنه يجوز أن يكون ذلك الرجل كان يرد السهام التي كان يرمى بها حتى لا تفنى سهامه إلا هذا السهم فإنه لم يرده له بل يناوله له رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرده عليه ولا منافاة بين قوله حتى وليت بين ثمانية أو تسعة وبين إخباره بقوله ثم أخذت سهما إلى أن عدد خمس مرات لأنه يجوز أن تكون تلك الخمسة قتل فيها وفيما زاد لم يقتل بل جرح فليتأمل والله أعلم
وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهر ذلك اليوم وهو جالس من الجراحة التي أصابته وصلى المسلمون خلفه قعودا أي ولعل ذلك كان بعد انصراف عدوهم وإنما صلى المسلمون خلفه صلى الله عليه وسلم قعودا موافقة له صلى الله عليه وسلم وقد نسخ ذلك
أو أن من صلى قاعدا إنما هو لما اصابهم من الجراح وكانوا هم الأغلب فقيل صلى المسلمون خلفه قعودا فقد جاء أنه وجد بطلحة رضي الله تعالى عنه نيف وسبعون جراحه من طعنة وضربة ورمية وقطعت أصبعه وفي رواية أنامله وعند ذلك قال حسن فقال له صلى الله عليه وسلم لو قلت بسم الله لرفعتك الملائكة عليهم السلام والناس ينظرون إليك حتى تلج بك في جو السماء زاد في لفظ ولرايت بناءك الذي بنى الله لك في الجنة وأنت في الدنيا
وفي البخاري عن قيس ابن أبي حازم قال رأيت يد طلحة بن عبيد الله شلاء وقي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أي من سهم وقيل من حربة ونزف به الدم حتى غشي عليه ونضح أبو بكر رضي الله تعالى عنه الماء في وجهه حتى افاق فقال ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له أبو بكر هو بخير وهو أرسلني إليك فقال الحمد لله كل مصيبة بعده جلل أي قليلة
____________________
(2/521)
وكان يقال لطلحة رضي الله تعالى عنه الفياض سماه بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة العشيرة كما تقدم وسماه طلحة الجود في أحد لأنه أنفق في أحد سبعمائة ألف درهم وسماه في أحد ايضا طلحة الخير
وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه أصيب فوه فهتم وجرح عشرين جراحة قال وفي رواية عشرين جراحة فأكثر وجرح في رجله فكان يعرج منها
وأصاب كعب ابن مالك رضي الله تعالى عنه سبعة عشر جراحه وفي رواية عشرون جراحه قال عاصم ابن عمر ابن قتادة كان عندنا رجل غريب لا ندري ممن هو أي يظهر الإسلام يقال له قزمان وكان ذا بأس وقوة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر يقول إنه لمن أهل النار فلما كان يوم أحد قاتل قزمان قتالا شديدا أي فكان أول من رمى من المسلمين بسهم وكان يرمي النبال كأنها الرمال ثم فعل بالسيف الأفاعيل فكان يكت كتيت الجمل وقتل ثمانية أو تسعة من المشركين ولما أخبر صلى الله عليه وسلم بذلك قال إنه من أهل النار فأعظم الناس ذلك وأثبتته الجراحه فاحتمل إلى دار بني ظفر لأنه كان حليفا لهم فجعل رجال من المسلمين يقولون والله لقد ابتليت اليوم يا قزمان فأبشر فيقول بماذا ابشر فوالله ما قاتلت إلا على أحساب قومي أي على شرفهم ومفاخرهم أي مناصرة لهم ولولا ذلك ما قاتلت أي فلم يقاتل لإعلاء كلمة الله ورسوله وقهر اعدائهما
أي وفي رواية أن قتادة رضي الله تعالى عنه قال له هنيئا لك الشهادة يا أبا الغيداق فقال إني والله ما قاتلت يا أبا عمرو على دين ما قاتلت إلا على الحفاظ أن تسير إلينا قريش حتى تطأ أرضنا فلما اشتدت عليه الجراحه أخذ سهما من كنانته فقتل به نفسه أي قطع به عروقا في باطن الذراع يقال لها الزواهق أي وفي رواية فجعل ذباب سيفه في صدره أي بين ثدييه كما في رواية ثم تحامل عليه حتى قتل نفسه قال في النور وهو الصحيح ولا مانع أن يكون فعل كلا من الامرين أي وعند ذلك جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال أشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وما ذاك قال الرجل الذي ذكرت آنفا أنه من أصحاب النار فعل كذا وكذا
وقد جاء سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من يقاتل
____________________
(2/522)
لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله فنص عليه وحينئذ قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة
ففيه اشارة إلى أن باطن الامر قد يكون بخلاف ظاهره وقال صلى الله عليه وسلم إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر أي وقد أشار إلى هذا الإمام السبكي رحمه الله تعالى في تائيته بقوله ** وقلت لشخص يدعي الدين إنه ** بنار فالقى نفسه للمنية **
هذا وفي كلام ابن الجوزي عن ابي هريرة رضي الله تعالى عنه قال شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فقال لرجل ممن يدعي الإسلام هذا من أهل النار فلما حضرنا القتال قاتل الرجل قتالا شديدا فأصابته جراحة فقيل يا رسول الله الرجل الذي قلت إنه من أهل النار فإنه قاتل اليوم قتالا شديدا وقد مات فقال النبي صلى الله عليه وسلم كما قال إلى النار ثم قيل إنه لم يمت ولكن به جراحة شديدة فلما كان من الليل لم يصبر على الجراحة فقتل نفسه فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله فأمر بلالا فنادى في الناس إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلم وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر وهذا الرجل اسمه قزمان من المنافقين هذا كلامه فليتأمل فإن تعدد الشخص بهذا الاسم فيه بعد ولعل ذكر خيبر بدل أحد اشتباه من الراوي وقوله صلى الله عليه وسلم إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر عام فيدخل فيه كل من الملك والعالم الذي جعل تسليكه وتعليمه مصيدة للدنيا وأكل الحرام فإن الله يحيي بهما قلوبا ويهدي بهما إلى سواء السبيل مع أنهما فاجران
وقتل الأصيرم أصيرم بني عبد الأشهل قال بعضهم كان الأصيرم يأبى الإسلام على قومه بني عبد الأشهل فلما كان يوم خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد جاء إلى المدينة فسأل عن قومه فقيل له بأحد فبدا له في الإسلام أي رغب فيه فأسلم ثم أخذ سيفه ورمحه ولأمته وركب فرسه فغدا بالغين المعجمة حتى دخل في عرض الناس أي بضم العين المهملة وبالضاء المعجمة جانبهم وناحيتهم فقاتل حتى أثبتته الجراحة أصابت مقاتله فبينما رجال من بني عبد الاشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة إذا هم به فقالوا والله إن هذا الأصيرم فسألوه ما جاء بك مناصرة لقومك أم رغبة في الإسلام
____________________
(2/523)
فقال بل رغبة في الإسلام آمنت بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم ثم جئت وقاتلت حتى اصابني ما أصابني ثم لم يلبث أن مات في ايديهم فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنه لمن أهل الجنة وكان أبو هريرة يقول حدثني عن رجل دخل الجنة ولم يصل يعني الأصيرم ويصدق على هذا قوله عليه الصلاة والسلام وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار الحديث
أي وممن يدخل الجنة ولم يصل الأسود الراعي لبعض يهود خيبر الذي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله أعرض علي الإسلام فعرضه عليه فأسلم ثم تقدم ليقاتل فأصابه حجر فقتله وما صلى صلاة قط كما سيأتي في غزاة خيبر
وقتل حنظلة بن أبي عامر الفاسق رضي الله تعالى عنه وأبو عامر هذا هو الذي كان يسمى في الجاهلية الراهب فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق كما تقدم وكان هو وعبد الله بن أبي بن سلول من رؤوس أهل المدينة وعظمائها المتوجين للرياسة على أهلها
وكان أبو عامر من الاوس ويقال له ابن صيفي وكان عبد الله من الخزرج فعبد الله بن أبي أظهر الإسلام وأما ابو عامر فأصر على الكفر إلى ان مات طريدا وحيدا إجابة لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث دعا عليه بذلك وإلى ذلك أشار الإمام السبكي رحمه الله في تائيته بقوله ** ومات ابن صيفي على الصفة التي ** ذكرت وحيدا بعد طرد وغربة **
وقد كان أبو عامر هذا خرج من المدينة مباعدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه خمسون غلاما وقيل خمسة عشر من قومه من الأوس فلحق بمكة وكان يعد قريشا أنه لو لقي قومه أي الأوس لم يختلف عليه منهم رجلان فلما جاء مع قريش نادى يا معشر الأوس أنا أبو عامر وقالوا له لا انعم الله بك عينا يا فاسق أي وفي لفظ قالوا له لا مرحبا بك ولا أهلا يا فاسق ولا مانع من صدور الأمرين منهم فلما سمع ردهم عليه قال لعنه الله لقد أصاب قومي بعدي شر ثم قاتل قتالا شديدا وهو الذي حفر الحفائر ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون التي وقع في إحداها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم أي وكان هو أول من اثار الحرب وضرب بأسهم في وجوه المسلمين واستأذن ولده حنظلة رضي الله تعالى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله فنهاه عن قتله
____________________
(2/524)
وسبب قتل حنظلة رضي الله تعالى عنه أن حنظلة ضرب فرس أبي سفيان فوقع على الأرض فصاح وعلاه حنظلة رضي الله تعالى عنه يريد ذبحه فرآه شداد بن الأوس كذا في الأصل قيل وصوابه شداد بن الاسود فحمل عليه فقتله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن صاحبكم يعني حنظلة لتغسله الملائكة أي وفي رواية رأيت الملائكة تغسل حنظلة بين السماء والأرض بماء المزن في صحاف الفضة فسئلت صاحبته أي زوجته وهي جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين أخت ولده عبد الله رضي الله تعالى عنهما فقالت خرج جنبا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك غسلته الملائكة فأنه دخل عليها عروسا تلك الليلة التي صبيحتها أحد وقد كان استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك أي في الدخول بها فلما صلى الصبح غدا يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلزمته فكان معها فأجنب منها ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى العدو فعجل عن الغسل إجابة للداعي
وفي رواية أنما قالت خرج وهو جنب حين سمع الهاتفه أي الصياح بالخروج للعدو وفي لفظ الهائعة وفي لفظ الهيعة من الهياع وهو الصياح الذي فيه فزع وقد جاء في الحديث خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه فلما سمع هيعة طار إليها
وفي رواية وقد كان غسل أحد شقيه فخرج ولم يغسل الشق الآخر وقد رأت هي تلك الليلة أن السماء قد فرجت فدخل فيها ثم أطبقت وجاءأنها أشهدت أربعة من قومها عليه بالدخول بها خشية أن يكون في ذلك نزاع قالت لأني رايت السماء فرجت فدخل فيها ثم أطبقت فقلت هذه الشهادة وعلقت منه بعبد الله بن حنظلة رضي الله تعالى عنه في تلك الليلة وعبد الله هذا هو الذي ولاه أهل المدينة عليهم لما خلعوا يزيد بن معاوية وكان ذلك سببا لوقعة الحرة ولم تمثل قريش بحنظلة رضي الله تعالى عنه لكون والده معهم الذي هو أبو عامرالراهب لعنه الله
وفي الإمتاع وجعل أبو قتادة الأنصاري يريد التمثيل من قريش لما رأى من المثلة بالمسلمين فقال له صلى الله عليه وسلم يا أنا قتادة إن قريشا أهل أمانة من بغاهم العواثر أكبه الله تعالى إلى فيه وعسى إن طالت بك مدة أن تحقر عملك مع أعمالهم وفعالك مع فعالهم لولا أن تبطر قريش لأخبرتها بما لها عند الله فقال أبو قتادة والله يا رسول الله ما غضبت إلالله ورسوله فقال صدقت بئس القوم كانوا لنبيهم قال وجاء
____________________
(2/525)
أنه صلى الله عليه وسلم هم أن يدعو عليهم فنزلت الآية المذكورة أي { ليس لك من الأمر شيء } فكف عن الدعاء عليهم أي وفيه أنها نزلت بعد قوله اللهم العن فلانا وفلانا إلى آخرما تقدم عن بعض الروايات إلا أن يقال أراد صلى الله عليه وسلم المداومة على الدعاء عليهم وعن أبي سعيد الساعدي قال ذهبنا إلى حنظلة رضي الله تعالى عنه فإذا رأسه يقطر ماء انتهى
أي فعلم أنه لا منافاة بين كونه صلى الله عليه وسلم دعا عليهم وبين كونه هم بالدعاء عليهم لأنه يجوز أن يكون المراد هم بتكرير الدعاء عليهم وفي البخاري ومسلم والنسائي عن جاء رضي الله تعالى عنه قال قال رجل يوم أحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن قتلت فاين انا قال في الجنة فألقى تمرات كن في يده فقاتل حتى قتل قال في طرح التثريب قال الخطيب كانت هذه القصة يوم بدر لا يوم أحد فأشار إلى تضعيف رواية الصحيحين التي فيها يوم أحد ولا توجيه لذلك بل التضعيف تفسير هذه بهذه أي جعلهما قصة واحدة وكل منهما صحيحة وهما قصتان لشخصين هذا كلامه وقد تقدم في غزاة بدر الحوالة على هذا فليتأمل أي وأقبل رجل من المشركين مقنعا بالحديد يقول أنا ابن عويف فتلقاه رشيد الأنصاري الفارسي فضربه على عاتقه فقطع الدرع وقال خذها وأنا الغلام الفارسي ورسول الله صلى الله عليه وسلم يرى ذلك ويسمعه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هلا قلت خذها وأنا الغلام الأنصاري فعرض لرشيد أخو ذلك المقتول بعد وكأنه كلب وهو يقول أنا ابن عويف فضربه رشيد على رأسه وعليه المغفر ففلق رأسه وقال خذها وأنا الغلام الأنصاري فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أحسنت ] يا أبا عبد الله وكان يومئذ لا ولد له
وقتل عمرو بن الجموح رضي الله تعالى عنه وكان أعرج شديد العرج وكان له بنون أربعة مثل الاسد يشهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد فلما كان يوم أحد ارادوا حبسه وقالوا له قد عذرك الله فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن بني يريدون أن يحبسوني عن الخروج معك فوالله إني أريد أن أطأ بعرجتي هذه الجنة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أما أنت فقد أعذرك الله فلا جهاد عليك وقال لبنيه ما عليكم أن لا تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة فأخذ سلاحه وخرج واقبل على القبلة وقال اللهم ارزقني الشهادة ولا تردني خائبا إلى أهلي فقتل فقال رسول الله صلى الله
____________________
(2/526)
عليه وسلم والذي نفسي بيده إن منكم من لو أقسم على الله لأبره منهم عمرو بن الجموح ولقد رأيته يطأ في الجنة بعرجته أي كشف له عن حاله يوم القيامة اي وفي رواية أنه قال يا رسول الله أرأيت إن قاتلت في سبيل الله حتى أقتل أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنة فمر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال كأني أنظر إليك تمشي برجلك هذه صحيحة في الجنة
أقول لكن يمكن الجمع بانه في أول دخوله الجنة يطؤها برجله غير صحيحة ثم تصير صحيحة وعمرو بن الجموح رضي الله تعالى عنه كان في الجاهلية على أصنامهم اي سادنا لها وكان في الاسلام يولم عنه صلى الله عليه وسلم إذا تزوج
وقد وقع منه صلى الله عليه وسلم مثل ذلك لأنس بن النضر عم أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لما كسرت اخته الربيع ثنية جارية من الأنصار فطلب أهلها القصاص وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكسر ثنية الربيع قال أخوها أنس المذكور والله لا تكسر ثنية الربيع وصار كلما يقول صلى الله عليه وسلم كتاب الله القصاص يقول والله لا تكسر ثنية الربيع فرضي القوم بالأرش فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من عباد الله من لو أقسم على الله لابره وقال صلى الله عليه وسلم ذلك في حق البراء بن مالك أخي أنس بن مالك رضي الله عنهما فعن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال رب أشعث أغبر لا يؤبه به لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك ومصداق ذلك ما وقع له رضي الله تعالى عنه في مقاتلة الفرس فإن الفرس غلبوا المسلمين فقالوا له يا براء أقسم على ربك فقال أقسم عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم وألحقتني بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم فحمل رضي الله تعالى عنه وحمل المسلمون معه فقتل عظيم الفرس وانهزم الفرس ثم قتل البراء رضي الله تعالى عنه
ومما وقع أنه كان مع أخيه أنس رضي الله تعالى عنه عند بعض حصون العدو بالعراق وكانوا يلقون كلاليب معلقة في سلاسل محماة يخطفون بها الانسان فكان من جملة من خطف أنس رضي الله تعالى عنه فأقبل البراء رضي الله تعالى عنه وصعد محلا عاليا وأمسك السلسلة بيده ولا زال حتى قطع السلسلة ثم نظر الى يده فإذا عظمها يلوح ليس عليه لحم ونجى الله أنسا رضي الله تعالى عنه بذلك وقال صلى الله عليه وسلم ما تقدم في حق أويس القرني رضي الله تعالى عنه
____________________
(2/527)
فعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن خير التابعين رجل يقال له أويس بن عامر القرني فمن لقيه منكم فمروه أن يستغفر لكم وفي رواية خطابا لعمر رضي الله عنه يأتي عليك أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن كان به برص فبرىء منه إلا موضع درهم له أم هو بها بار لو أقسم على الله لأبره فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل والله أعلم
وقتل أيضا أحد بني عمرو بن الجموح وهوخلاد رضي الله تعالى عنه وقتل أخو زوجته هند بنت حزام وهو عبد الله والد جابر رضى الله عنه فحملتهم هند على بعير لها تريد أن تدفنهم في المدينة فلقيتها عائشة رضي الله عنها وقد خرجت فى نسوة يستروحن الخبر فقالت لها عائشة رضي الله عنها جاء خبر الجيش فقالت اما رسول الله صلى الله عليه وسلم فصالح وكل مصيبة بعده جلل واتخذ الله من المؤمنين شهداء ثم قالت لها من هؤلاء قالت أخي عبدالله وابني خلاد وزوجي عمرو بن الجموح رضي الله عنهم فبرك بهم البعير وصار كلما توجه إلي المدينة يبرك وإن وجه إلي أرض أحد نزع فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته فقال إن الجمل مأمور فقبرهم بأحد وقال صلى الله عليه وسلم لهند يا هند ما زالت الملائكة مظلة على أخيك من لدن قتل إلى الساعة ينظرون اين يدفن ولعل هذا كان قبل ان ينادى برد القتلى إلى مضاجعهم قال جابر رضي الله عنه كان ابي أول قتيل للمسلمين قتله ابو الأعور السلمي
وفي الصحيح أن عائشة رضي الله عنها وام سليم كانا يسقيان الناس يفرغان من القرب في أفواه القوم
أى ولا مخالفة لأنه يجوز أن يكون ذلك شان عائشة بعد وصولها لاحد اى وقد كان صلى الله عليه وسلم خلف اليمان والد حذيفة وثابت بن وقس في الاطام مع النساء والصبيان لأنهما كانا شيخين كبيرين فقال احدهما لصاحبه لا أبالك ما ننتظر فوالله إن بقي لواحد منا في عمره إلا ظمء حمار أفلا ناخذ أسيافنا ثم نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الله يرزقنا الشهادة فاخذ أسيافهم ثم خرجا حتى دخلا فى الناس من جهة المشركين ولم يعلم المسلمون بهما فأما ثابت فقتله المشركون وأما المان فاختلف عليه أسياف المسلمين فقتلوه ولم يعرفوه
وذكر السهيلي أن في تفسير ابن عباس رضي الله عنهما أن الذي قتله خطا هو عتبة
____________________
(2/528)
ابن مسعود أخو عبدالله بن مسعود رضي الله عنه وعتبة هو اول من سمي المصحف مصحفا وعند ذلك قال حذيفة أبي فقالوا ما عرفناه فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يديه فتصدق حذيفة رضي الله تعالى عنه بديته على المسلمين فزاده ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا واسم اليمان حسيل وقيل له اليمان لأنه نسب إلى جده اليمان بن الحارث وقيل إنما قيل له اليمان لانه أصاب دما في قومه فهرب إلى المدينة فحالف بني الأشهل فسماه قومه اليمان لمحالفته اليمانية ية أى وهم أهل المدينة
ومما يؤثر عن حذيفة رضي الله عنه أنه قيل له من ميت الاحياء قال الذي لا ينكر المنكر بيديه ولا بلسانه ولا بقلبه
وفي الكشاف وعن حذيفة رضي الله عنه أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل أبيه وهو في صف المشركين اي قبل ان يسلم فقال صلى الله عليه وسلم له دعه يليه غيرك هذا كلامه ولم أقف على أي غزاة كان ذلك فيها وسياق ما قبله يدل على أنه كان من الأنصار كان حليفا لبني عبد الأشهل ولم يحفظ أن أحدا من الأنصار قاتله صلى الله عليه وسلم قبل الاسلام فليتأمل
ثم إن هندا زوج أبي سفيان والنسوة اللاتي خرجن معها صرن يمثلن بقتلى المسلمين يجدعن أي يقطعن من آذانهم وأنوفهم واتخذن من ذلك قلائد وبقرت أي سقت هند بطن سيدنا حمزة رضي الله عنه أخرجت كبده فلاكتها أي مضغتها فلم تستطع أن تسيغها اي تبتلعها فلفظتها اي القتها من فيها أي لآنها كانت نذرت إن قدرت على حمزة رضي الله عنه لتأكلن من كبده ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها أخرجت كبد حمزة قال هل أكلت منه شيئا قالوا لا قال إن الله قد حرم على النار أن تذوق من لحم حمزة شيئا أبدا أي ولو أكلت منه أي استقر في جوفها لم تمسها النار
وفي رواية لو أدخل بطنها لم تمسها النار لأن حمزة أكرم على الله من ان يدخل شيء من جسده النار
أي ورايت في بعض السير أنها شوت منه ثم أكلت
وقد يقال لا منافاة لجواز حمل الأكل على مجرد المضغ من غير إساغة قال وفي رواية أن وحشيا هو الذي بقر بطن حمزة رضي الله تعالى عنه وأخرج كبده وجاء بها إلى هند أي وقال لها ماذا لي إن قتلت قاتل أبيك قالت سلبى فقال هذه كبد حمزة فأعطته
____________________
(2/529)
ثيابها وحليها ووعدته إذا وصلت إلى مكة تدفع له عشرة دنانير وجاء بها إلى مصرع حمزة رضي الله تعالى عنه فجدعت أنفه وأذنيه أي وفي لفظ فقطعت مذاكيره جدعت أنفه وقطعت أذنيه ثم جعلت ذلك كالسوار في يديها وقلائد في عنقها واستمرت كذلك حتى قدمت مكة
وفي النهر لأبي حيان أن وحشيا جعل له على قتل حمزة أن يعتق فلم يوف له بذلك فندم على ما صنع
ثم أن هندا علت على صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها وأنشدت أبياتا ثم إن زوجها أبا سفيان أشرف على الجبل كذا في البخارى أنه اشرف وفي رواية كان بأسفل الجبل
وقد يقال لا مخالفة لجواز وقوع الامرين معا ثم صرخ بأعلى صوته أنعمت فعال إن الحرب سجال أي ومعنى سجال مرة لنا ومرة علينا يوم أحد بيوم بدر وأنعمت بكسر التاء خطابا لنفسه أو للأزلام لأنه استقسم بها عند خروجه إلى أحد فخرج الذي يحب وهو افعل والفاء من فعال مفتوحة وليست من أبنية الكلمة وهي أمر أي ارتفع عن لومها أي النفس أو الأزلام يقال عال عني أي ارتفع عني ودعني أي وزاد في لفظ يوم لنا ويوم علينا ويوم نساء ويوم نسر حنظلة بحنظلة وفلان بفلان
أي وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال الحرب سجال وقد قال تعالى { إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس } وقد نزل ذلك في قصة أحد باتفاق
ثم قال أبو سفيان إنكم ستجدون في القوم وفي رواية في قتلاكم مثله لم آمر بها ولم تسرني وفي رواية والله ما رضيت وما سخطت وما امرت وما نهيت وفي لفظ ما أمرت ولا نهيت ولا احببت ولا كرهت ولا ساءني ولا سرني أي وفي لفظ إما أنكم ستجدون في قتلاكم مثلا ولم تكن عن رأي سراتنا ثم أدركته حمية الجاهلية فقال إماأنه إن كان كذلك لم نكرهه ومر الحليس سيد الأحابيش بأبي سفيان وهو يضرب بزج الرمح في شدق حمزة رضي الله تعالى عنه ويقول ذقه عقق أي ذق طعم مخالفتك لنا وتركك الذي كنت عليه يا عاق قومه جعل إسلامه عقوقا فقال الحليس يا بني كنانة هذا سيد
____________________
(2/530)
قريش يفعل بابن عمه ما ترون فقال أبو سفيان اكتمها عني فإنها زلة وقال أبو سفيان اعل هبل أي أظهر دينك أو ازدد علو فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قم يا عمرفأجبه فقل الله أعلى وأجل لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار فقال أبو سفيان إنكم تزعمون ذلك لقد خبنا إذن وخسرنا وهبل هذا تقدم انه صنم وتقدم الكلام عليه
ورايت في كلام الشيخ محيي الدين بن العربي رحمه الله تعالى إنه الحجر الذي يطؤه الناس في العتبة السفلى من باب بني شيبة وبلط الملوك فوقه البلاط ثم قال ابو سفيان إن لنا العزى ولا عزى لكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله مولانا ولا مولى لكم ثم قال ابو سفيان لعمر أي بعد ان قال له هلم يا عمر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ائته انظر ما شأنه فجاءه فقال له أبو سفيان أشدك الله يا عمر اقتلنا محمد قال عمر رضي الله تعالى عنه لا وإنه ليسمع كلامك الآن قال انت أصدق عندي من ابن قمئة وابر أي لأنه لما قتل مصعب بن عمير ظنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال قتلت محمد كما تقدم
وفي رواية ان أبا سفيان نادى أفي القوم محمد أفي القوم محمد ثم قال ذلك ثلاثا فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه ثم قال افي القوم ابن أبي قحافة قالها ثلاثا ثم قال أفي القوم عمر قالها ثلاثا وفي رواية أين ابن أبي كبشة أين ابن أبي قحافة اين ابن الخطاب ثم أقبل على اصحابه فقال أما هؤلاء فقد قتلوا وقد كفيتموهم إذ لو كانوا أحياء لأجابوا فما ملك عمر رضي الله تعالى عنه نفسه أن قال كذبت والله يا عدو الله إن الذي عددت لاحياء كلهم وقد بقي لك ما يسوؤك ثم نادى ابو سفيان إن موعدكم بدر العام المقبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه قل نعم بيننا وبينكم موعد
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وقيل سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه فقال اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون فإن كانوا قد جنبوا الخيل أي وجعلوها منقادة بجانبهم وامتطوا لأبل أي ركبوا مطاها أي ظهورها لأن المطا الظهرفإنهم يريدون مكة وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة والذي نفسي بيده إن أرادوها لأسيرن إليهم فيها
____________________
(2/531)
ثم لأناجزهم قال علي كرم الله وجهه أو سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه فخرجت في آثارهم أنظر ماذا يصنعون فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل وتوجهوا إلى مكة أي بعد ان تشاوروا في نهت المدينة فأشار عليهم صفوان بن أمية أن لا تفعلوا اي وقال لهم فإنكم لا تدرون ما يفشاكم وفزع الناس لقتلاهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل من رجل ينظر إلى ما فعل سعد بن الربيع أفي الأحياء هو ام في الأموات اي زاد في رواية فإني رايت الأسنة قد أشرعت إليه فقال رجل من الأنصار أي وهو أبي بن كعب وقيل محمد بن مسلمة وقيل زيد بن حارثة وقيل غير ذلك ويجوز أن يكون أرسلهم كلهم قال انا أنظر لك يا رسول الله أي وفي رواية قال للمرسل إن رايت سعد بن الربيع فاقره مني السلام وقل له يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تجدك فنظر فوجد جريحا به رمق أي بقية روح فقال له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أنظر أفي الأحياء أنت أم في الأموات فقال أنا في الأموات قد طعنت اثنتي عشرة طعنة واني قد أنفذت مقاتلي فأبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عني السلام وقل له إن سعد بن الربيع يقول لك جزاك الله عنا خيرا ما جزي نبيا عن أمته وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم إن سعدبن الربيع يقول لكم لأعذر لكم عند الله أن يخلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف وفي رواية شفر يطرف أي يتحرك قال ثم لم أبرح حتى مات فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبره أي وفي رواية أنه رأى الذي أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم يدور بين القتلى فقال له ما شأنك قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لآتيه بخبرك فاذهب إليه الحديث
وفي رواية ان محمد بن مسلمة رضي الله تعالى عنه نادى في القتلى يا سعد بن الربيع مرة بعد أخرى فلم يجبه حتى قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني أنظر ما صنعت فأجابه بصوت ضعيف الحديث اي وفي رواية اقرأ على قومي مني السلام وقل لهم يقول لكم سعد بن الربيع الله الله وما عاهدتم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة فوالله ما لكم عند الله عذر الحديث وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمه الله نصح لله ولرسوله حيا وميتا وخلف بنتين فأعطاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم من ميراثه الثلثين فكان ذلك بيان المراد من الآية وهي قوله تعالى { فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك }
____________________
(2/532)
وفي ذلك نزلت أي اثنتان فما فوقهما أي وحينئذ إذن لا يحتاج إلى قياس البنتين على الأختين بجامع أن للواحدة منهما النصف
ودخلت بنت له على أبي بكر رضي الله تعالى عنه فألقى لها رداءه لتجلس عليه فدخل عمر رضي الله تعالى عنه فسأله عنها فقال هذه ابنة من هو خير مني ومنك قال ومن هو يا خليفة رسول الله قال رجل تبوأ مقعده من الجنة وبقيت أنا وأنت هذه ابنة سعد ابن الربيع رضي الله تعالى عنه
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتمس عمه حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه فقال له رجل رايته بتلك الصخرات وهو يقول أنا أسد الله واسد رسوله اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء النفر أبو سفيان وأصحابه واعتذر إليك مما صنع هؤلاء بانهزامهم وهذا الدعاء نقل عن انس بن النضر عم انس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم فإنه غاب عن بدر فشق عليه ذلك فلما كان يوم أحد ورأى انهزام المسلمين أي وكان قد قال للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله إني غبت عن أول قتال وقع قاتلت فيه المشركين والله لأن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما اصنع فقال اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني أصحابه وأبرأ إليك مما فعل هؤلاء يعني المشركين ولما سمع قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما تصنعون بالحياة بعده موتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استقبل القوم أي وقال لسعد بن معاذ هذه الجنة ورب الكعبة أجد ريحها دون أحد وقاتل رضي الله تعالى عنه حتى قتل أي ووجدوا فيه بضعا وثمانين جراحة ما بين ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم ولما قتل مثل به المشركون فما عرفته أخته الربيع إلا ببنانه
قال ابن أخيه أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه لما نزل قوله تعالى { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } الآية قلنا ان هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه من المؤمنين رضي الله تعالى عنه
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو حمزة فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه ومثل به فجدع أنفه وأذناه أي وقطعت مذاكيره فنظر صلى الله عليه وسلم إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه أي وقال لن أصاب بمثلك ما وقفت موقفا إغيظ لي من هذا وقال رحمة الله عليك فإنك كنت ما علمتك مفعولا للخيرات وصولا
____________________
(2/533)
للرحم أما والله لأمثلن بسبعين وفي رواية بثلاثين رجل منهم مكانك وفي رواية لأن ظفرني الله تعالى بقريش في موطن من المواطن لأمثلن بسبعين منهم مكانك ولما رأى المسلمون جذع رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمه قالوا لأن أظفرنا الله بهم يوما من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إن الله تعالى أنزل في ذلك { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله } الآية فعفا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصبر ونهى عن المثلة وكفر عن يمينه وكان نزول هذه الآيات بعد أن مثل صلى الله عليه وسلم بالعرنيين وستأتي قصتهم في السرايا
واعترضه ابن كثير رحمه الله بأن هذه الآيات مكية وقصة أحد في المدينة بعد الهجرة بثلاث سنوات فكيف يلتئم هذا مع هذا هذا كلامه
وقد يقال يجوز أن يكون ذلك مما تكرر نزوله فليتأمل وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ما راينا رسول الله صلى الله عليه وسلم باكيا أشد من بكائه على حمزة رضي الله تعالى عنه وضعه في القبلة ثم وقف على جنازته وانتحب حتى نشق أي شهق حتى بلغ به الغشى يقول يا عم رسول الله واسد الله واسد رسول الله يا حمزة يا فاعل الخيرات يا حمزة يا كاشف الكربات يا حمزة يا ذاب أي بالذال المعجمة يا مانع عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أي قال ذلك لا مع البكاء فلا يقال هذا من الندب المحرم وهو تعديد محاسن الميت لأن ذلك مخصوص بما إذا قارنه البكاء وليس من نعى الجاهلية المكروه وهو النداء بذكر محاسن الميت على ان النداء بذلك محل كراهته إذا كان على وجه التفاخر والتعاظم ولم يكن وصفا لنحو صالح للحث على سلوك طريقته
وقال صلى الله عليه وسلم جاءني جبريل عليه السلام وأخبرني بأن حمزة مكتوب في أهل السموات السبع حمزة بن عبد المطلب أسد الله واسد رسوله وأمر صلى الله عليه وسلم الزبير رضي الله تعالى عنه أن يرجع أمه صفية أخت حمزة رضي الله تعالى عنها عن رؤيته فقال لها يا أمه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن ترجعي فدفعت في صدره قالت لم وقد بلغني أنه مثل بأخي وذلك في الله فما أرضاني بما كان في الله من ذلك أي أنا أشد رضا بذلك من غيري لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله تعالى فجاء الزبير
____________________
(2/534)
رضي الله تعالى عنه فأخبره صلى الله عليه وسلم بذلك فقال خلي سبيلها فجاءت واسترجعت واستغفرت له
وفي رواية إن صفية لقيت عليا والزبير رضي الله تعالى عنهما فقالت لهما ما فعل حمزة فارياها أنهمالا يدريان أي رحمة بها فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني اخاف على عقلها فوضع صلى الله عليه وسلم يده الشريفة على صدرها ودعا لها فاسترجعت وبكت أي لما راته أي وفي رواية لما منعها علي والزبير رضي الله تعالى عنهما قالت لا ارجع حتى أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأته قالت يا رسول الله أين ابن أمي حمزة قال صلى الله عليه وسلم هو في الناس قالت لا ارجع حتى أنظر إليه فجعل الزبير رضي الله تعالى عنه يحبسها فقال صلى الله عليه وسلم دعها فلما رأته بكت وصارت كلما بكت بكى صلى الله عليه وسلم ثم امر به فسجى ببردة وفي رواية قال الأكفن فقام رجل من الانصار فرمى بثوبه عليه ثم قام آخر فرمى بثوبه عليه فقال صلى الله عليه وسلم يا جابر هذا الثوب لابيك وهذا لعمي وهذا يدل على أن والد جابر رضي الله تعالى عنهما استمر لم يقبر إلى ذلك الوقت وهو خلاف ظاهر سياق ما تقدم
وفي رواية وجاءت صفية معها بثوبين لحمزة فكان أحدهما لحمزة والآخر لرجل من الأنصار ولعله والد جابر رضي الله تعالى عنهما ولعله لما جاءت صفية بالثوبين جعل صلى الله عليه وسلم أحدهما لحمزة والآخر لوالد جاء وترك ثوبي الرجلين
وفي رواية كفن حمزة رضي الله تعالى عنه بنمرة كانوا إذا مدوها على رأسه انكشفت رجلاه وإن مدوها عرى على رجليه انكشفت رأسه فمدوها على رأسه وجعلوا على رجليه الإذخر وفي لفك لفظ الحرمل أي ويحتاج إلى الجمع بين هاتين الروايتين على تقدير صحتهما والمشهور حديث النمرة
وقد يقال إنما اختار صلى الله عليه وسلم النمرة على الثوب لأنه كان بها دم الشهادة أو أراد صلى الله عليه وسلم أن يكون لأحد على حمزة رضي الله تعالى عنه منة ويؤيد الأول ما يأتي ولم يكفنوا إلا في ثيابهم التي قتلوا فيها فليتأمل فإن السياق يقتضي أن ذلك إنما هو عن احتياج وسيأتي ما يصرح به وسيأتي ما يعارضه فليتامل
وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه قال قتل مصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه يوم أحد وكفن في وبرة إن غطى بها رأسه بدت رجلاه وإن غطى بها رجلاه بدا رأسه
____________________
(2/535)
وفي رواية قتل مصعب بن عمير فلم يترك إلا نمرة إذا غطينا بها رجليه خرج رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم غطوا بها رأسه واجعلوا على رجليه الإذخر
وكان مصعب بن عمير هذا قبل الإسلام فتى مكة شبابا وجمالا ولباسا وعطرا ولما أسلم رضي الله تعالى عنه تشعث
وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه أنه كان صائما وقد جيء له بطعامه فقال قتل مصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه وهو خير مني فلم يوجدله ما يكفن فيه إلا بردة إن غطى رأسه بدت رجلاه وإن غطيت رجلاه بدا رأسه وقد بسط لنا من الدنيا ما بسط وأعطينا من الدنيا ما أعطينا وخشيت أن أكون عجلت لنا طيباتنا في حياتنا لدنيا ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام
وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال قلت الثياب وكثرت القتلى فكان الرجل والرجلان والثلاثة في الثوب الواحد ثم يدفنون في قبر واحد
وقال صلى الله عليه وسلم في حق حمزة رضي الله تعالى عنه لولا أن تجزع صفية ونساؤنا أي يتطاول جزعهن ويدوم وفي رواية لولا تجد صفية في نفسها أي يطول ذلك وتكون سنة من بعد لتركنا حمزة ولم ندفنه حتى يحشر من بطون الطير والسباع وفي رواية حتى تأكله العافية ويحشر في بطونها ليشتد غضب الله على من فعل به ذلك ثم صلى عليه فكبر أربع تكبيرات ثم أتى بالقتلى يوضعون الى جنب حمزة أي واحدا بعد واحد فيصلى على كل واحد منهم مع حمزة ثم يرفع ويؤتى بأخر فيصلى عليهم وعليه معهم حتى صلى عليه ثنتين وسبعين صلاة وفي رواية ثنتين وتسعين صلاة وهذا غريب وسبعين ضعيف
والرواية الأولى تقتضي أن جملة من قتل بأحد أثنان وسبعون والرواية الثانية تقتضي أنهم كانوا اثنين وتسعين
وقوله واحدا بعد واحد قد يخالف ما تقدم عن أنس رضي الله تعالى عنه من جعل الرجلين أو الثلاثة في كفن واحد فليتأمل
وجاء أنه كان يصلي على عشرة عشرة أي يؤتى بتسعة وحمزة عاشرهم فيصلى عليهم ثم ترفع التسعة وحمزة مكانه ويؤتى بتسعة أخرى فيوضعون الى جنب حمزة فيصلى عليهم حتى فعل ذلك سبع مرات وحينئذ يكون جملة من قتل ثلاثة
____________________
(2/536)
وستين وسيأتي الكلام على عدتهم وقيل كبر عليهم كبر تسعا وسبعا وخمسا أي بعد أن كبر على حمزه وحده أربعا فلا ينافي ما تقدم ولم أقف علي عدد المرات التي كبر فيها ما ذكر
وجاء ان قتلى احد لم يغسلهم ولم يصل عليهم ولم يكفنهم إلا في ثيابهم التي قتلوا فيها أى غير الجلود أخذا مما يأتي أي ولا يضر تتميم ستر بعضهم إلا بالإذخر وحينئذ إذ لا يكون تكفين حمزة بنمرته ومصعب ببردته وتتميم تكفينهما بالإذخر عن إحتياج كما تقدم عن عبد الرحمن بن عوف وعن أنس رضي الله عنهما أى وقال مغلطاى صلى على حمزه والشهداءمن غير غسل وهذا أي دفنهم من غير غسل إجماع إلا ما شذ به بعض التابعين وفيه نظر ظاهر
وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لقد رايت الملائكة تغسل حمزة وتقدم أن هذا السياق يقتضى أن هذه رؤيا نوم وحينئذ يظهر التوقف فيما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قتل حمزة جنبا فقال ما ذكر ولعل الراوي عن ابن عباس ذكر حمزة بدل حنظلة غلطا أما الصلاة عليهم فقال إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه جاءت الأخبار كأنها عيان من وجوه متواترة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على قتلى أحد
وما روي انه صلى عليهم وكبر على حمزة سبعين تكبيرة لم يصح وقد كان ينبغي لمن عارض بذلك أي بما روي هذه الأحاديث الصحيحة أن يستحي على نفسه أي فإن من رواة ذلك الحديث الدالة على أنه صلى عليهم سعيد بن ميسرة عن أنس رضي الله تعالى عنه وقد قال فيه البخاري أنه يروي المناكير وقال ابن حبان يروي الموضوعات ومن جملة رواة أي رواية ذلك الحديث مقسم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقد قال فيه البخاري منكر الحديث ومن ثم ذكر ابن كثير أن الذي في البخاري أمر صلى الله عليه وسلم بدفن شهداء احد بدمائهم ولم يصل عليهم ولم يغسلوا وهو أثبت من صلاته عليهم
وأما حديث عتبة بن عامر أي الذي رواه الشيخان وأبو داود والنسائي هو ان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين صلاته على الميت أي ادعى لهم كدعائه للميت كالمودع للأحياء والأموات أي حين علم قرب أجله أي فذلك
____________________
(2/537)
كان توديعا لهم بذلك قال قال السهيلي رحمه الله لم يرد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى على شهيد في شيء من مغازيه إلا في هذه الرواية في أحد وكذلك لم يصل أحد من الأئمة بعده صلى الله عليه وسلم آه
وفي النور أنه صلى الله عليه وسلم صلى على أعرابي في غزوة أخرى وفي البخاري عن جابر رضي الله تعالى عنه إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في قتلى أحد دفنهم بدمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم بكسر اللام وفي رواية ولم يصل عليهم بفتح اللام
لا يقال خبر جابر لا يحتج به لأنه نفي وشهادة النفي مردودة مع ما عارضها من خبر الإثبات لأنا نقول شهادة النفي إنما ترد إذا لم يحط بها علم الشاهد ولم تكن بحضوره وإلا فتقبل بالاتفاق وهذه قضية معينة أحاط بها جابر وغيره علما
واستدل أئمتنا علي أن الشهيد لا يغسل ولو كان جنبا بقصة حنظلة رضي الله عنه لأن تغسيل الملائكة لا يكتفى به في إسقاط الحرج عن المكلفين من الإنس لعدم تكليفهم بخلاف تغسيل الجن فإنهم مكلفون ودفنوا بثيابهم ونزع عنهم الحديد والجلود
أى وأسلم وحشى رضي الله عنه بعد ذلك فإنه في يوم فتح مكة فر إلي الطائف ثم وفد مع أهل الطائف لما اوفدوا ليسلموا وقد قيل له بعد ان قاضت ضاقت عليه ويحك والله إنه لا يقتل أحد من الناس دخل دينه قال وحشي فلم يرعه صلى الله عليه وسلم إلا إني قائم على رأسه أشهد شهادة الحق وفقال لي أنت وحشي وسألني كيف قتلت حمزة فأخبرته ثم قال ويحك غيب عني وجهك فلا أراك وفي رواية لا ترني وجهك وفي رواية تفل في وجهي ثلاث تفلات وقيل تفل في الأرض وهو جد مغضب أي وحينئذ لحق بالشام وكان وحشي لا يزال يحد في الخمر في زمن عمر رضي الله تعالى عنه حتى خلع من الديوان قال عمر رضي الله تعالى عنه قد علمت أنه لم يكن الله ليدع قاتل حمزة رضي الله تعالى عنه أي لم يكن ليتركه من الابتلاء وهذا أي تكرر حده في شرب الخمر وإخراجه من ديوان المجاهدين من اقبح أنواع الابتلاء عافانا الله من ذلك وروى الدار قطني في صحيحه عن سعيد بن المسيب رحمه الله أنه كان يقول عجبت لقاتل حمزة كيف ينجو أي من الابتلاء حتى بلغني إنه مات غريقا في الخمر أي وذلك مع ما تقدم ابتلاء فظيع له رضي الله تعالى عنه
وممن مثل به عبد الله بن جحش بدعوة دعاها على نفسه فقال أي قبل أحد بيوم
____________________
(2/538)
اللهم ارزقني غدا رجلا شديدا بأسه فيقتلني ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني فإذا ليقتك قلت يا عبد الله فيما جدع أنفك واذنك فاقول فيك وفي رسولك فيقول الله صدقت قال وليس هذا من تمنى الموت المنهى عنه انتهى أي لأن المنهى عنه أن يكون ذلك لضر نزل به فليتأمل
وجاء أن عبد الله بن جحش انقطع سيفه يوم أحد فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرجون نخلة فصار في يده سيفا كان يسمى العرجون ودفن هو وخاله حمزة رضي الله تعالى عنهما في قبر واحد أي وإنما كان حمزة خاله لأن أم عبد الله أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان القاتل له أبو الحكم بن الأخنس ابن شريق وأبو الحكم هذا قتل كافرا يوم أحد وقال صلى الله عليه وسلم ادفنوا عبد الله بن عمرو أي وهو والد جابر رضي الله تعالى عنها وعمرو بن الجموح وهو زوج عمة جابر رضي الله تعالى عنهم في قبر واحد لما بينهما من الصفاء وعبد الله بن عمرو هذا قد أصابه جرح في وجهه ومات ويده على جرحه فأميطت يده عن وجهه فانبعث الدم فردت يده إلى مكانها فسكن ويقال أن السيل حفر قبر عبد الله بن عمرو والد جابر رضي الله تعالى عنهما عمرو بن الجموح فوجد لم يتغيرا كأنهما مات بالأمس وأنه أزيلت يد عمرو عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت وكان ذلك بعد الواقعة لست وأربعين سنة وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أنه قال استصرخنا إلى قتلانا بأحد وذلك حين أجرى معاوية رضي الله تعالى عنه العين في وسط مقبرة شهداء أحد وأمر الناس بنقل موتاهم فأخرجناهم رطابا تنثني أطرافهم وذلك على رأس أربعين سنة ولعله وما قبله لا يخالف قول السهيلي وذلك بعد ثلاثين سنة وأصابت المسحاة قدم حمزة رضي الله تعالى عنه فأنبعت دما وذكر أنه فاح من قبورهم مثل ريح المسك وفي لفظ نحو خمسين سنة مع أن أرض المدينة سبخة يتغير الميت في قبره من ليلته أي لأن الارض لا تأكل لحوم شهداء المعركة كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام زاد بعضهم قارئ القرآن والعالم ومحتسب الأذان ويدل للأخير ما في الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما المؤذن المحتسب كالمتشحط في دمه لا يدود في قبره أي كشهيد المعركة لا يأكله الدود في القبرر وقد نظم هؤلاء الشيخ التتائي المالكي رحمه الله تعالى فقال
____________________
(2/539)
** لا تأكل الأرض جسما للنبي ولا لعالم وشهيدا قتل معترك ** ولا لقارئ قرآن ومحتسب آذانه لإله مجرى الفلك **
ودفن خارجة بن زيد وسعد بن الربيع رضي الله تعالى عنهما في قبر واحد لأنه كان أبن عمه ولده خارجة وهو زيد بن خارجة الذي تكلم بعد الموت
ذكر أن خارجة أخذته الرماح فجرح بضعة عشر جرحا فمر به صفوان بن أمية بن خلف فعرفه فأجهز عليه وقال الآن شفيت نفسي حين قتلت الأماثل من أصحاب محمد قتلت خارجة بن زيد وقتلت أوس بن أرقم وقتلت أبا نوفل ودفن النعمان ابن مالك وعبد بني الحسحاس في قبر واحد وربما دفنوا ثلاثة في قبر وصار صلى الله عليه وسلم يقول احفروا وأوسعوا واعمقوا وكان صلى الله عليه وسلم يقول انظروا أكثر هؤلاء جمعا أي حفظا للقرآن فقدموه في القبر أي في اللحد
واحتمل ناس من المدينة قتلاهم إلى المدينة فردهم صلى الله عليه وسلم ليدفنوا حيث قتلوا وبه استدل ائمتنا رحمهم الله على حرمة نقل الميت قبل دفنه من محل موته إلى محل أبعد من مقبرة موته محل
وفيه أنهم قالوا إلا أن يكون بقرب مكة أو المدينة أو بيت المقدس نص على ذلك إمامنا الشافعي رحمه الله
وقد يجاب بأن هذا مخصوص لغير الشهيد أما هو فالأفضل دفنه بمحل موته ولو بقرب ما ذكر كما بحث ذلك بعض المتأخرين من ائمتنا ويشهد له ما هنا
ولا يشكل دفن اثنين أو ثلاثة في لحد على قول فقهائنا بحرمة جمع اثنين في لحد ولو الوالد وولده لأن محل ذلك حيث لا ضرورة ككثرة الموتى مشقة الحفر لكل واحد كما هنا
ثم رأيت في بعض السير وقد ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين والثلاثة في القبر الواحد وإنما أرخص لهم في ذلك لما بالمسلمين من الجراح التي يشق معها أن يحفروا لكل واحد واحد
وفي رواية فحملوهم إلى المدينة فدفنوهم في نواحيها فجاء منادي صلى الله عليه وسلم ردوا القتلى إلى مضاجعهم فأدرك المنادي واحدا لم يكن دفن فردا ومن دفن أبقوه
ولما أشرف صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد قال إنا شهيد على هؤلاء وما من
____________________
(2/540)
جرح بجرح في الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه اللون لون الدم والريح ريح المسك وفي رواية أنه ليس مكلوم يكلم في الله تعالى إلا وهو يأتي يوم القيامة لونه أي لون الكلم أي الجرح لون الدم وريحه ريح مسك اي في رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في اجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مشروبهم ومأكلهم وحسن مقيلهم قالوا يا ليت أخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا أي يمتنعوا عن الحرب فقال الله عز وجل إنا ابلغهم عنكم فأنزل الله عز وجل على رسول صلى الله عليه وسلم هذه الآية { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء } الآية
وقد بينت في النفخة العلوية إن الأرواح في البرزخ متفاوتة في مستقرها أعظم تفاوت فلا تعارض بين الأدلة الدالة على تلك الأقوال المختلفة وحينئذ تكون أرواح الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع كونها في الملأ الأعلى متفاوتة فيه وأرواح المؤمنين غير الشهداء أو غير الاطفال منها ما هو سماوي ومنها ما هو أرضي وأرواح الاطفال في حواصل عصافير الجنة عند جبال المسك وأرواح الشهداء منهم من تكون روحه على باب الجنة ومنهم من تكون داخلها وحينئذ إما أن تكون في جوف طير أخضر أوطير أبيض ومنهم من تكون روحه على صورة الطير
وفي كلام القرطبي رحمه الله قال علماؤنا أرواح الشهداء طبقات مختلفة ومنازل متباينة يجمعها أنهم يرزقون أي وتقدم الكلام على رزقهم
أي ومن جملة من قتل من الصحابة يوم أحد أبو جابر أي كما تقدم فقال صلى الله عليه وسلم لجابر رضي الله تعالى عنه يا جابر إلا أخبرك ما كلم الله تعالى أحدا قط لعل المراد من هؤلاء الشهداء كما يرشد إليه السياق إلا من وراء حجاب إنه كلم أباك كفاحا فقال سلني أعطك فقال أسألك أن أرد إلي الدنيا فأقتل فيك ثانية فقال الرب عز وجل إنه سبق مني إنهم لا يرجعون إلى الدنيا قال أي رب فأبلغ من ورائي فانزل الله تعالى { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا } الآية أي ولا مانع من تعدد النزول للآية فلا يخالف ما تقدم قريبا
____________________
(2/541)
أي وعن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال لما قتل أبي جعلت أبكي وأكشف الثوب عن وجهه فجعل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينهوني و النبي صلى الله عليه وسلم لم ينهني وقال النبي صلى الله عليه وسلم تبكيه أو لا تبكيه ما زالت الملائكة عليهم السلام مظلة له بأجنحتها حتى رفع اي وسياتي أن جابرا رضي الله تعالى عنه لم يحضر القتال
وعن بشير بن عفراء رضي الله تعالى عنهما قال أصيب أبي يوم أحد فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقال أما ترضى أن تكون عائشة أمك وأكون أنا أباك ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار قد اصيب زوجها وأخوها وأبوها وفي رواية وابنها يوم أحد فلما نعوا لها قالت ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ما فعل به قالوا خيرا يا أم فلان هو بحمد الله كما تحبين قالت أرونيه حتى أنظر إليه فلما رأته صلى الله عليه وسلم قالت كل مصيبة بعدك جلل تريد صغيرة والجلل كما يقال للشيء الصغير يقال للشيء الكبير فهو من الأضداد وفي لفظ أنها مرت بأخيها وأبيها وزوجها وابنها صرعى وصارت كلما سألت عن واحد وقالت من هذا قيل لها هذا أخوك وابنك وزوجك وأبوك فلم تكترث بذلك بل صارت تقول ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون أمامك حتى جاءته أخذت بناحية ثوبه ثم جعلت تقول بأبي أنت وامي يا رسول الله لا أبالي إذ سلمت من عطب
وأصيبت يوم أحد عين قتادة بن النعمان حتى وقعت على وجنته أي فأرادوا قطعها فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا فدعاه فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده أي أخذها بيده الشريفة وردها إلى موضعها أي براحته الشريفة وقال اللهم إكسه جمالا فكانت أحسن عينيه وأحدهما نظرا وكانت لا ترمد إذا رمدت الأخرى
أي وجاءعن قتادة رضي الله تعالى عنه أنه قال كنت يوم أحد أتقي السهام بوجهي عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان آخرها سهما ندرت منه حدقتي فأخذتها أي رفعتها بيدي أي وقلت يا رسول الله إن لي امرأة أحبها واخشى أن تراني تقذرني أي وقال له صلى الله عليه وسلم إن شئت صبرت ولك الجنة وإن شئت رددتها ودعوت لله تعالى لك فقال يا رسول الله إن الجنة لجزاء جزيل وعطاء جليل وإني مغرم بحب النساء وأخاف أن يقلن أعور فلا يردنني ولكن تردها وتسأل الله تعالى لي الجنة فردها ودعا لي بالجنة
____________________
(2/542)
وجاء عن قتادة رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم لما رآها في كفي أي مرفوعة دمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال اللهم قتادة كما وقي وجه نبيك بوجهه فاجعلها أحسن عينيه واحدهما نظرا أي بعد أن ردها إلى موضعها براحته الشريفة كما تقدم وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله في وصف راحته الشريفة ** وأعادت على قتادة عينا ** فهي حتى مماته النجلاء **
أي وأعادت تلك الراحة الشريفة على قتادة بن النعمان رضي الله تعالى عنه عينا له ذهبت فهي إلى مماته الواسعة أي الكثيرة النظر
قال الشيخ ابن حجرالهيتمي ويجمع بين رواية العين الواحدة ورواية الثنتين أي فقد جاء في حديث غريب أصيبت عيناي فسقطتا على وجنتي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعادهما وبصق فيهما وعادتا تبرقان بأن أحد الرواة ظن أن الساقطة واحدة وبعضهم أن الساقط ثنتان فأخبر كل بحسب علمه
ومن قواعدهم أن زيادة الثقة مقبولة وبها تترجح رواية احدى الثنتين هذا كلامه فليتأمل وكون ذلك كان يوم احد هو المشهور وقيل يوم الخندق
وقد حكى ابو عمر بن عبد البر أن رجلا من ولد قتادة قدم على عمر بن عبدالعزيز رضي الله تعالى عنه فقال له من الرجل فقال
** أنا ابن الذي سالت على الخد عينه ** فردت بكف المصطفى أحسن الرد ** فعادت كما كانت لأول أمرها ** فيا حسن ما عين ويا حسن ما رد **
فقال عمر بن عبد العزيز ** تلك المكارم لا قعبان من لبن ** شيبا بماء فعادا بعد أبوالا **
فوصله عمر وأحسن جائزته
ورمى كلثوم بن الحصين بسهم في نحره فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبصق عليه فبرأ وحضرت الملائكة عليهم السلام يوم أحد ولم تقاتل
قال ويؤيده قول مجاهد رحمه الله لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر لكن جاء عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال رايت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه كأشد القتال وما رأناهما قبل ولا بعد اي وهما جبريل وميكائيل عليهما السلام ولا منافاة فقد قال البيهقي
____________________
(2/543)
رحمه الله لم يقاتلوا يوم أحد عن القوم أي فلا ينافي أنهم قاتلوا عنه صلى الله عليه وسلم خاصة آه
أقول ويجوز أن يكون المراد بمقاتلتهما دفعهما عنه صلى الله عليه وسلم وفيه أنه جاء عن الحارث بن الصمة رضي الله تعالى عنه قال سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الشعب عن عبدالرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه فقلت رأيته في جنب الجبل فقال الملائكة تقاتل معه قال الحارث فرجعت إلى عبد الرحمن فإذا بين يديه سبعة صرعى فقلت ظفرت يمينك أكل هؤلاء قتلت قال أما هذا وهذا فإنا قتلهما وأما هؤلاء فقتلهم من لم أره فقال صدق الله ورسوله أي ومقاتلة الملائكة عن خصوص عبد الرحم بن عوف رضي الله تعالى عنه لا ينافي مقاتلتهم يوم بدر عن عموم القوم
وفي الامتاع كان قد نزل قبل أن يخرج صلى الله عليه وسلم إلى أحد قوله تعالى { ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين } فلم يصبروا وانكشفوا فلم يمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بملك واحد يوم أحد بل فليتأمل والله أعلم
ولما قتل مصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه وسقط اللواء أخذه ملك في صورة مصعب أي فأنه لما قطعت يده اليمنى أخذ اللواء بيده اليسرى أي وهو يقول { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } الآية فلما قطعت جثى على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره وهويقول { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } الآية ولم تكن هذه الآية قد نزلت بل قالها لما سمع قول القائل قتل محمد وأنما نزلت أي بعد قوله في ذلك اليوم كما في الدر فهو من القرآن الذي نزل على لسان بعض الصحابة لما قتل أي وهذا لا ينافي ما تقدم من أنه قاتل دونه صلى الله عليه وسلم فقتله ابن قمئة لعنه الله وهو يظنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قتله أبي بن خلف لعنه الله لأنه يجوز أن يكون قتله وهو على هذه الكيفية المذكورة
ثم رأيت في بعض الروايات أن ابن قمئة فعل به هذه الكيفية أي ثم قتله وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للملك الذي على صورة مصعب تقدم يا مصعب فالتفت إليه الملك فقال لست بمصعب فعرف صلى الله عليه وسلم أنه ملك أيد به
____________________
(2/544)
وفي رواية أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول أقدم مصعب قال يا رسول الله ألم يقتل مصعب قال بلى ولكن ملك قام مقامه وتسمى بأسمه أي فلا ينافي ذلك قول الملك له صلى الله عليه وسلم لما قال له تقدم يا مصعب لست بمصعب لأن مراده لست بمصعب الذي هو صاحبكم
ورايت في رواية أنه لما سقط اللواء أخذه أبو الروم أخو مصعب ولم يزل في يده حتى دخل المدينة فليتأمل ووجود هذا الملك يخالف ما تقدم عن الامتاع من أنه صلى الله عليه وسلم لم يمد بملك واحد
ولما أراد صلى الله عليه وسلم أن يتوجه إلى المدينة ركب فرسه وخرج المسلمون حوله عامتهم جرحى أي ومعه أربع عشرة امرأة فلما كانوا بأصل أحد قال صلى الله عليه وسلم اصطفوا حتى أثنى علي ربي عز وجل فاصطف الرجال خلفه صفوفا وخلفهم النساء فقال اللهم لك الحمد كله اللهم لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت ولا هادي لمن أضللت ولا مضل لمن هديت ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت ولا مقرب لما أبعدت ولا مبعد لما قربت الحديث
ثم توجه صلى الله عليه وسلم من للمدينة فلقيته ممنة بنت جحش بنت عمته صلى الله عليه وسلم أخت زينب بنت فخش أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها فقال لها صلى الله عليه وسلم احتسبي قالت من يا رسول الله قال خالك حمزة قالت إنا لله وإنا إليه راجعون غفر الله له هنيئا له الشهادة ثم قال لها احتسبي قالت من يا رسول الله قال أخاك عبد الله بن جحش قالت إنا لله وإنا إليه راجعون غفر الله له هنيئا له الشهادة بما قال لها احتسبي قالت من يا رسول الله قال زوجك مصعب بن عمير قالت وا حزناه وصاحت وولولت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن زوج المرأة لبمكان ما هو لأحد لما رأى من تثبتها على اخيها وخالها وصياحها على زوجها ثم قال لها لم قلت هذا قالت تذكرت يتم بنيه فراعني فدعا لها صلى الله عليه وسلم ولولدها أن يحسن الله تعالى عليهم الخلف فتزوجت طلحة بن عبيد الله فكان أوصل الناس لولدها وولدت له محمد بن طلحة
قال وجاءت أم سعد بن معاذ تعدو نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على فرسه وسعد بن معاذ آخذ بلجامها فقال له سعد يا رسول الله أمي فقال صلى الله
____________________
(2/545)
عليه وسلم مرحبا بها فوقف لها فدنت حتى تأملت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بابنها عمرو بن معاذ فقالت أما إذا رأيتك سالما فقد اشتويت المصيبة أي استقليتها ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل من قتل بأحد اي بعد أن قال لأم سعد يا أم سعد ابشري وبشري أهلهم أن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعا وقد شفعوا في أهلهم جميعا قالت رضينا يا رسول الله ومن يبكي عليهم بعد هذا ثم قالت يا رسول الله ادع لمن خلفوا فقال اللهم أذهب حزن قلوبهم واجبر مصيبتهم وأحسن الخلف على من خلفوا
وسمع صلى الله عليه وسلم نساء الانصار يبكين على أزواجهن أي وأبنائهن وإخوانهن فقال حمزة لا بواكي له أي وبكى صلى الله عليه وسلم ولعله رضي الله تعالى عنه لم يكن له بالمدينة لا زوجة ولا بنت فأمر سعد بن معاذ نساءه ونساء قومه أن يذهبن إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكين حمزة بين المغرب والعشاء أي وكذلك أسسيد بن حضير أمر نساؤه ونساء قومه أن يذهبن إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكين حموزة
أي ولما جاء صلى الله عليه وسلم بيته حمله السعدان وانزلاه عن فرسه ثم اتكأ عليهما حتى دخل بيته ثم أذن بلال لصلاة المغرب فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على مثل تلك الحال يتوكأ على السعدين فصلى و صلى الله عليه وسلم فلما رجع من المسجد من صلاة المغرب سمع البكاءفقال ما هذا فقل نساء الأنصار يبكين حمزة فقال رضي الله تعالى عنكن وعن أولادكن وأمر أن ترد النساء إلى منازلهن
وفي رواية خرج عليهن أي بعد ثلث الليل لصلاة العشاء فإن بلالا أذن بالعشاء حين غاب الشفق فلم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما ذهب ثلث الليل نادى بلال الصلاة يا رسول الله فقام من نومه وخرج وهن على باب المسجد يبكين حمزة رضي الله تعالى عنه ولا يخالف ما سبق لأن بيت عائشة رضي الله تعالى عنها كان ملاصقا للمسجد فقال لهن ارجعن رحمكن الله لقد واسيتن معي رحم الله الأنصار فإن المواساة فيهم كما علمت قديمة
أي ولا منافاة لانه يجوز أن يكون الأمر عند رجوعه من صلاة المغرب كان لطائفة وبعد ثلث الليل كان لطائفة أخرى وصارت الواحدة من نساء الانصار بعد لا تبكي على ميتها إلابدأت بالبكاء على حمزة رضي الله تعالى عنه ثم بكت على ميتها ولعل المراد بالبكاء النوح وباتت وجوه الاوس والخزرج تلك الليلة على بابه صلى الله عليه وسلم بالمسجد يحرسونه خوفا من قريش أن تعود إلى المدينة
____________________
(2/546)
وجاء أنه صلى الله عليه وسلم نهى نساء الأنصار عن النوح وقال له الأنصار يا رسول الله بلغنا أنك نهيت عن النوح وإنما هو شيئ نندب به موتانا ونجد فيه بعض الراحة فأئذن لنا فيه فقال صلى الله عليه وسلم إن فعلن فلا يخمشن ولا يلطمن ولا يحلقن شعرا ولا يشقفن جيبا
جاء أنه في يوم أحد دفع علي كرم الله وجهه سيفه لفاطمة رضي الله تعالى عنها وقال لها اغسليه غيرذميم فقال صلى الله عليه وسلم إن تكن أحسنت فقد أحسن فلان وفلان وعدد جماعة أي منهم سهل بن حنيف وأبو دجانة
وما روي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم في يوم أحد دفع سيفه ذا الفقار لابنته فاطمة رضي الله تعالى عنها وقال اغسلي عنه دمه لقد صدقني اليوم وناولها علي كرم الله وجهه سيفه وقال وهذا فاغسلي عنه دمه فوالله لقد صدقني اليوم فقال صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله وجهه لئن صدقت القتال لقد صدق معك سهيل بن حنيف وابو دجانة
وعن ابن عقبة لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم سيف علي كرم الله وجهه مختضبا دما قال إن تكن أحسنت القتال فقد أحسن عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح والحارث بن الصمة وسهل بن حنيف وكونه صلى الله عليه وسلم دفع سيفه لابنته فاطمة رضي الله تعالى عنها رده الإمام أبو العباس بن تيمية بأنه صلى الله عليه وسلم لم يقاتل في ذلك اليوم بسيف لكن في النور أن هذا الحديث لم يتعقبه الذهبي قال ففيه رد علي ابن تيمية هذا كلامه فليتأمل
والأكثر على أن الذين قتلوا يوم أحد من المسلمين سبعون أربعة من المهاجرين وهم حمزة ومصعب وعبد الله بن جحش وشماس بن عثمان وقيل ثمانون أربعة وسبعونن من الأنصار وستة من المهاجرين قال الحافظ بن حجر لعل الخامس سعد مولى حاطب بن أبي بلتعة والسادس ثقيف بن عمرو حليف بن عبد شمس وعدهم في الأصل ستة وتسعين وهذا لا يناسب ما تقدم في بدر من قوله صلى الله عليه وسلم إن شئتم أخذتم منهم الفداء ويستشهد منكم سبعون سبعون بعد ذلك وقتل من المشركين ثلاثة وعشرون وقيل اثنان وعشرون
أقول انظر هذا مع ما تقدم من أن حمزة وحده قتل واحدا وثلاثين ورايت في الطبقات
____________________
(2/547)
لمولانا الشيخ عبد الوهاب الشعراني نفعنا الله ببركاته أن أويسا القرني كان مشغولا بخدمة والدته فلذلك لم يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم
وقد روي أنه اجتمع به مرات وحضر معه وقعة أحد وقال والله ما كسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم حتى كسرت رباعيتي ولا شج وجهه الشريف حتى شج وجهي ولا وطيء ظهره حتى وطئ ظهري قال هكذا رأيت هذا الكلام في بعض المؤلفات والله أعلم بالحال هذا كلامه ولم اقف على أنه عليه الصلاة والسلام وطئ ظهره في غزو أحد فإن مجموع ما دلت عليه الاخبار أنه صلى الله عليه وسلم شج وجهه وكسرت رباعيته وجرحت وجنتاه وشفته السفلى من باطنها ووهي منكبه وجحشت ركبته
ثم رأيت بعض المؤرخين ذكر أن سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه سمع بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم يقول وهو يبكى بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد بلغ من فضلك عند ربك أن جعل طاعتك وطاعته فقد قال تعالى { من يطع الرسول فقد أطاع الله } بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد بلغ من فضيلتك عند ربك أن أخبرك بالعفو عنك قبل أن يخبرك بذنبك فقال عفا الله عنك لم أذنت لهم إلى أن قال فلقد وطئ ظهرك وأدمى وجهك وكسرت رباعيتك فأبيت ان تقول إلا خيرا فقلت اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون
ومما يدل على ان أويسا لم يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم خير التابعين رجل يقال له أويس القرني وما أخرجه البيهقي عن عمر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سيكون في التابعين رجل من قرن يقال له أويس بن عامر وفي رواية أن عمر قال لأويس استغفر لي فقال كيف أستغفر لك وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عمر رضي الله تعالى عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن خير التابعين رجل يقال له أويس والمراد من خيرالتابعين كما في بعض الروايات فلا ينافي ما نقل عن أحمد بن حنبل وغيره أن أفضل التابعين سعيد بن مسيب
ومما يدل على أن أويسا لم يكن موجودا في زمنه صلى الله عليه وسلم ما جاء في الجامع الصغير سيكون بعدي في أمتي رجل يقال له أويس القرني وأن شفاعته في أمتي مثل ربيعة ومضر
____________________
(2/548)
وفي أسد الغابة أن أويسا أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره وسكن الكوفة وهو من كبار تابعي الكوفة وكان يسخر به
ووفد رجل ممن كان يسخر به مع جماعة من أهل الكوفة على عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال عمر هل ههنا أحد من القرنيين فجاء ذلك الرجل فقال له عمر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال إن رجلا يأتيكم من اليمن يقال له أويس القرني وقد كان به بياض فدعا الله تعالى فأذهب عنه إلا قدر الدينار أو الدرهم فمن لقيه منكم فمروه أن يستغفر لكم فأقبل ذلك الرجل لما قدم الكوفة إلى أويس قبل أن يأتي أهله فقال له أويس ما هذا بعادتك قال سمعت عمر رضي الله تعالى عنه يقول كذا وكذا فاستغفر لي قال لا أفعل حتى تجعل لي عليك أن لا تسخر بي ولا تذكر قول عمر لأحد فالتزم له ذلك فاستغفر له وقتل أويس يوم صفين مع علي كرم الله وجهه
ولما وصل صلى الله عليه وسلم المدينة أظهر المنافقون واليهود الشماتة والسرور وصاروا يظهرون أقبح القول أي ومنه ما محمد إلا طالب ملك ما أصيب بمثل هذا نبي قط أصيب في بدنه واصيب في أصحابه ويقولون لو كان من قتل منكم عندنا ما قتل
واستأذنه صلى الله عليه وسلم عمر في قتل هؤلاء المنافقين فقال أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله قال بلى ولكن تعوذا من السيف فقد بان أمرهم وأبدى الله تعالى أضغانهم فقال صلى الله عليه وسلم نهيت عن قتل من أظهر ذلك وصار ابن أبي لعنه الله يوبخ ابنه عبد الله رضي الله تعالى عنه وقد أثبته الجراحة فقال له ابنه الذي صنع الله لرسوله والمسلمين خير
قال وكانت عادة بن عبد الله بن أبي ابن سلول إذا جلس صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر قام فقال أيها الناس هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهركم أكرمكم الله تعالى به وأعزكم فانصروه وعزروه واسمعوا له وأطيعوا ثم يجلس فبعد أحد أراد أن يفعل كذلك فلما قام أخذ المسلمون بثوبه من نواحيه وقالوا له اجلس عدو الله والله لست لذلك اهل بأهل وقد صنعت ما صنعت فخرج وهو يتخطى رقاب الناس كأني إنما قلت هجرا وقال له بعض الانصار ارجع يتسغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال والله ما أبتغي أن يستغفر لي وأنزل الله تعالى قصة أحد
____________________
(2/549)
في آل عمران وهي قوله تعالى { وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال } الآية
غزوة حمراء الأسد
لما كان صبيحة قدومه صلى الله عليه وسلم من أحد أذن مؤذنه صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا خلف قريش وأن لا يخرج إلا من حضر أحد وذلك ارهابا للعدو وليبلغهم أنه صلى الله عليه وسلم خرج في طلبهم ليظنوا به صلى الله عليه وسلم قوة وأن الذي أصابهم لم يوهنهم أي يضعفهم عن عدوهم
قال وقيل لأنه صلى الله عليه وسلم بلغه أن أبا سفيان يريدأن يرجع بقريش إلى المدينة ليستأصلوا من بقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدبلغه أن المشركين قالوا له لا محمد قتلتم ولا الكواعب أردفتم بئس ما صنعتة ارجعوا
أي وفي لفظ أنهم لما بلغوا بعض الطريق قدموا فقالوا بئس ما صنعتم إنكم قتلتموهم حتى إذا لم يبقى إلا الشريد تركتموهم ارجعوا فاستأصلوهم قبل أن يجدوا قوة وشوكة فقذف الله في قلوبهم الرعب
ويذكر أن عبد الله بن عوف جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة قدومه صلى الله عليه وسلم من أحد وأخبره أنه أقبل من أهله حتى إذا كان بمحل كذا إذا قريش قد نزلوا به فسمع أبا سفيان وأصحابه يقولون ما صنعتم شيئا قد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم فارجعوا نستأصل من بقي وصفوان بن أمية يأبى ذلك عليهم ويقول يا قوم لا تفعلوا فإني أخاف أن يجمع عليكم من تخلف عن الخروج فارجعوا والدولة لكم فإني لا آمن إن رجعتم أن تكون الدولة عليكم فقال صلى الله عليه وسلم أرشدهم صفوان وما كان يرشد فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وذكر لهما الخبر أي مااخبر به عبد الله بن عوف فقالا يا رسول الله اطلب العدو لا يقتحمون على الذرية فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاة الصبح ندب الناس وأمر بلالا أن ينادي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم بطلب عدوكم ولا يخرج إلا من حضر القتال بالأمس انتهى
وعند تهيئه صلى الله عليه وسلم للخروج جاء جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما فقال
____________________
(2/550)
يا رسول الله إنما تخلف عن أحد لأن أبي خلفني على أخوات لى سبع أى وقيل وهو الصحيح إنهن تسع وقال يا بني إنه لا ينبغي لى ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن ولست بالذي اوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الله يرزقني الشهادة فتخلف على أخواتك فاستخلفت عليهن واستأثر علي بالشهادة فأئذن لي يا رسول الله معك فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يخرج معه أحد لم يشهد القتال بالأمس غيري واستأذنه رجال لم يحضروا القتال أي منهم عبدالله بن ابي قال له أنا راكب معك فأبى ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلوائه وهو معقود لم يحل فدفعه لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه ويقال لابي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسه أى المسمى بالسكب ولم يكن مع اصحابه فرس سواه وعليه الدرع والمغفر وما يرى ألا عيناه وخرج الناس معه اى جميع من كان معه صلى الله عليه وسلم في أحد
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت في قوله تعالى { الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح } الأية قالت لعروة بن الزبير يا بن أختي كان أبوك الزبير رضي الله تعالى عنه وأبو بكر لما أصاب نبي الله ما أصاب يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف ان يرجعوا فقال من يرجع في اثرهم فانتدب منهم سبعون رجلا قال ابن كثيرا وهذا السياق غريب جدا فإن المشهور عند أصحاب المغازي أن الذين خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد كل من شهد أحد وكانوا سبعمائة كما تقدم قتل منهم سبعون وبقي الباقي هذا كلامه فليتأمل مع ما تقدم
قال والظاهر أنه لا تخالف لأن معنى قولها يعني عائشة أنهم سبقوا غيرهم ثم تلاحق بهم الباقون وخرجوا وبهم الجراحات ولم يعرجوا على دواء جراحاتهم أي لم يلتفتوا لذلك والمراد دواء غيرتكميد جراحهم بالنار وهو أن تسخن خرقة وتوضع على العضو الوجع ويتابع ذلك مرة بعد أخرى ليسكن الوجع فلا يخالف أنهم فعلوا ذلك أي أوقدوا النيران يكمدون بها جراحاتهم تلك الليلة
فمنهم من كان به تسع جراحات وهو أسيد بن حضير رضي الله تعالى عنه وعقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه ومنهم من كان به عشر جراحات وهو خراش بن الصمة رضي الله تعالى عنه
____________________
(2/551)
ومنهم من كان به بضع عشرة جراحة وهو كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه ومنهم من كان به بضع وسبعون جراحة وهو طلحة بن عبيد الله وقطعت أصبعه قيل السبابة وقيل البنصر فشلت بقية اصابع يده وهي اليسرى وفي رواية أنامله كما تقدم ومنهم من كان به عشرون جراحة وهو عبد الرحمن بن عوف كما تقدم أي وجرح من بني سلمة أربعون جريحا فقال صلى الله عليه وسلم لما رآهم اللهم ارحم بني سلمة
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مجروح وفي وجهه أثر الحلقتين ومشجوج في وجهه مسكورة رباعيتة وشفته السفلى قد جرحت من باطنها أي وفي المنتقى وشفته العليا قد كلمت من باطنها متوهن منكبه الأيمن لضربة ابن قمئة لعنه الله وركبتاه مجروحتان من وقعته في الحفيرة وتلقاه صلى الله عليه وسلم طلحة بن عبيد الله رضي الله تعالى عنه فقال له يا طلحة أين سلاحك فقال قريب فذهب وأتى بسلاحه وبصدره تسع جراحات من تلك الجراحات التي به وهي كما تقدم بضع وسبعون جراحة يقول طلحة وأنا أهم بجراح رسول الله صلى الله عليه وسلم مني بجراحي ثم أقبل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا طلحة أين ترى القوم فقلت بالسفالة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الذي ظننت إما أنهم يا طلحة لن ينالوا منا مثلها حتى يفتح الله مكة علينا وقال صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يا بن الخطاب إن قريشا لن ينالوا منا مثل هذا حتى نستلم الركن آه
وكان دليله صلى الله عليه وسلم في السير ثابت بن الضحاك وليس هو أخا جبير وقيل أخوه ولا زالوا سائرين حتى عسكروا بحمراء الأسد أي وهو محل بينه وبين المدينة ثمانية أميال أي وقيل عشرة اميال
وعن رجل من الأنصار قال شهدت أحد أنا وأخي فرجعنا جريحين فلما أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو فقال لي أخي أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي لفظ إن تركنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لفسق والله ما لنا من دابة نركبها فخرجنا وكنت أيسر جراحا منه فكنت إذ غلب حملته عقبة ويمشي عقبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون من حمراء الأسد أي وذلك عند العشاء وهم يوقدون النيران فجاءتهما الحرس وكان على حرسه تلك الليلة عبادة بن بشر مع طائفة فلما أتى بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما ما حبسكما فأخبراه بغلبتهما فدعا لهما
____________________
(2/552)
بخير وقال لهما إي طالت بكما مدة كانت لكما مراكب من خيل وبغال وإبل وذلك ليس بخير لكم إي وهذان الرجلان عبد الله ورافع ابنا سهيل بن رافع والذي ضعف عن المشي رافع والحامل له عبد الله
واقام المسلمون بذلك المحل ثلاث ليال وكانوا يوقدون في كل ليلة من تلك الليالي خمسمائة نار حتى ترى من المكان البعيد وذهب صوت معسكرهم ونيرانهم في كل وجه فكبت الله تعالى عدوهم قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وكان عامة زادنا التمر
وحمل سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه ثلاثين بعيرا حتى وافت حمراء الأسد وساق جزرا لتنحر فنحروا في يوم اثنين وفي يوم ثلاثة ولقي كفار قرشي معبدا الخزاعي وكان يومئذ مشركا بالروحاء وكان راي خروجه صلى الله عليه وسلم خ خلف قريش فأخبرهم بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم لطلبهم وقد كانوا ارادوا الرجوع إلى المدينة فكسرهم خروجه فتمادوا إلى مكة قال لما كان صلى الله عليه وسلم بحمراء الاسد لقيه معبد الخزاعي وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم تحبه صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد والله لقد عز علينا ما اصابك في نفسك وما أصابك في اصحابك ولوددنا أن الله تعالى أعلى كعبك وأن المصيبة كانت لغيرك ثم مضى معبد حتى كان بالروحاء فلما رأى أبو سفيان معبدا قال هذا معبد وعنده الخبر ما وراءك يا معبد فقال تركت محمد وأصحابه قد خرجوا لطلبكم في جمع لم أر مثله قط يتحرقون عليكم تحرقا قد اجتمع معه من كان تخلف عنه بالأمس من الاويس والخزرج وتعاهدوا على ان لا يرجعوا حتى يلقوكم فيثأروا أي يأخذوا ثأرهم منكم وغضبوا لقولهم غضبا شديدا وندموا على ما فعلوا فيهم من الحنق شيء لم أر مثله قط قال ويلك ما تقول قال والله ما آرى أن ترحل حتى ترى نواصي الخيل فقال والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم قال فإني أنهاك عن ذلك فانصرفوا سراعا آه
أي وعند انصرافهم أرسل أبو سفيان مع نفر يريدون المدينة أن يخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأنهم أجمعوا على الرجعة فلما بلغوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال صلى الله عليه وسلم حسبنا الله نعم الوكيل فأنزل الله تعالى { الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح } الآية وقال صلى الله عليه وسلم والذي
____________________
(2/553)
نفسي بيده لقد سومت لهم الحجارة ولو رجعوا لكانوا كأمس الذاهب أي وأرسل معبد الخزاعي رجلا يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بانصراف أبي سفيان ومن معه خائفين فانصرف إلى المدينة وظفر صلى الله عليه وسلم في حمراء الأسد بأبي عزة الشاعر الذي من عليه وقد اسر ببدر من غير فداء لأجل بناته وأخذ عليه عهدا أن لايقاتله ولا يكثر عليه جمعا ولا يظاهر عليه أحدا كما تقدم فنقض العهد وخرج مع قريش لأحد وصار يستنفر الناس ويحرضهم على قتاله صلى الله عليه وسلم بأشعاره كما تقدم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يفلت فأسر ثم قيل أن المشركين لما نزلوا بحمراء الاسد تركوه نائما فاستمر حتى ارتفع النهار وكان الذي اخذه عاصم بن ثابت وما أسر أحد من المشركين غيره في تلك الوقعة وقيل أسره عمير بن عبد الله
وفي النور لا استحضر أحدا في الصحابة اسمه عمير بن عبد الله فلما في به إليه صلى الله عليه وسلم قال يا محمد أقلني وامنن علي ودعني لبناتي وأعطيك عهدا أن لا أعود لمثل ما فعلت فقال صلى الله عليه وسلم لا والله لا تمسح عارضيك بمكة وفي لفظ تمسح لحيتك تجلس بالحجر تقول خدعت محمدا وفي لفظ سحرت محمدا مرتين اضرب عنقه يا زيد وفي لفظ يا عاصم بن ثابت وفي لفظ يا زبير وقال صلى الله عليه وسلم لا يلدع بالدال المهملة والغين المعجمة وفي لفظ لا يلسع المؤمن من جحر مرتين فضرب عنقه
وذكر أن رأسه حمل إلى المدينة مشهورا على رمح قال بعضهم وهو أول رأس حمل في الإسلام أي ولا ينافيه ما قيل إن أول رأس حمل في الإسلام رأس كعب بن الأشرف كما سيأتي في السرايا لأمكان أن يراد أن رأس ابي عزة أول رأس حمل إلى المدينة على رمح ولعل هذا لا ينافي ما حكاه بعضهم أن عمرو بن الجموح كان رابع الأربعة الذين دخلوا على سيدنا عثمان الدار وكان مع علي كرم الله وجهه في مشاهده فلما ولى معاوية رضي الله تعالى عنه خر هاربا إلى العراق فنهشته حية فدخل غارا ومات فأخبر بذلك زياد والي العراق فأرسل من حز رأسه وارسل به إلى معاوية فكان أول رأس نقل في الإسلام من بلد إلى بلد
قال بعضهم في معنى هذا المثل أي لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين أي إنه ينبغي للمرء أن يستعمل الحزم وهذا المثل لم يسمع من غيره صلى الله عليه وسلم ومورده أن شخصا
____________________
(2/554)
جرد سيفه وقصد النبي صلى الله عليه وسلم فضربه ليقتله فأخطأت الضربة فقال كنت مازحا يا محمد فعفا عنه ثم عاد لمثل ذلك مرة أخرى وقال مثل ذلك فأمر صلى الله عليه وسلم بقتله وقال لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين
وأمر صلى الله عليه وسلم في ذلك المحل بقتل معاوية بن المغيرة بن أبي العاص وهو جد عبد الملك بن مروان لأمه وقد كان لجا إلى ابن عمه عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه أي فإنه لما رجع الكفار من أحد ذهب على وجهه ثم أتى باب عثمان فدقه فقالت ام كلثوم بنت النبي صلى الله عليه وسلم زوج عثمان من أنت قال ابن عم عثمان فقالت ليس هو ههنا فقال أرسلي إليه فله عندي ثمن بعير كنت اشتريته منه فجاء عثمان فلما نظر إليه قال أهلكتني وأهلكت نفسك فقال يابن عم لم يكن أحد أمس بي رحما منك فأجرني فأدخله عثمان رضي الله تعالى عنه منزله وصيره في ناحية ثم خرج عثمان ليأخذ له أمانا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن معاوية بالمدينة فاطلبوه فدخلوا منزل عثمان فأشارت إليهم أم كلثوم رضي الله تعالى عنها بأنه في ذلك المكان فاخرجوه وأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بقتله فقال عثمان رضي الله تعالى عنه والذي بعثك بالحق ما جئت إلا لأخذ له أمانا فهبه لي فوهبه وأجله ثلاثا وأقسم صلى الله عليه وسلم إن وجده بعدها قتله
وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد فأقام معاوية ثلاث يستعلم أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأتي بها قريش فلما كان في اليوم الرابع عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فخرج معاوية هاربا فأدركه زيد بن حارثة وعمار بن ياسر رضي الله تعالى عنهما فرمياه حتى قتلاه وقد كان صلى الله عليه وسلم بعثهما إليه وقال لهما إنكما ستجدانه بموضع كذا وكذا أي بموضع بينه وبين المدينة ثمانية أميال فوجداه به فقتلاه وقيل تبعه علي كرم الله وجهه فقتله وكان صلى الله عليه وسلم بعث ثلاثة نفر من أسلم طليعة في آثار القوم فلحق اثنان منهم للقوم بحمراء الاسد فقتلوهما فوجدهما النبي صلى الله عليه وسلم قتيلين بحمراء الاسد فدفنهما في قبر واحد ولا يأتي هنا الجواب المتقدم في قتلى أحد
وجاءه صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام بعد رجوعه إلى المدينة بأن الحارث بن سويد في قباء فانهض إليه واقتص منه بمن قتله من المسلمين غدرا يوم أحد وهو المجذر
____________________
(2/555)
وتقدم أنه في بالذال المعجمة مشددة مفتوحة ابن ذياد وتقدم أنه بكسر الذال المعجمة وفتحها وتخفيف المثناة تحت لأن سويدا كان قد قتل ذياد أبا المجذر في الجاهلية فظفر المجذر بسويد والد الحارث فقتله في أبيه وذلك قبل الإسلام وكان ذلك سببا لوقعة بغاث فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسلم الحارث بن سويد واسلم المجذر بن ذياد وشهدا بدرا فجعل الحارث يطلب مجذرا يقتله بأبيه فلم يقدر عليه كما تقدم فلما كان يوم أحد وجال المسلمون تلك الجولة أتاه الحارث من خلفه فضرب عنقه قيل وقتل ايضا قيس بن زيد فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء في وقت لم يكن يأتيهم فيه وهو شدة الحر في يوم حار فخرج إليه الأنصار من أهل قباء رضي الله تعالى عنهم ومنهم الحارث بن سويد وعليه ثوب مورس وفي لفظ في ملحفة مورسة وفي لفظ في ثوبين مضرجين وفي لفظ ممرضين فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عويمر ابن ساعدة بضرب عنقه أي فقال له قدم الحارث بن سويد إلى باب المسجد واضرب عنقه وقيل أمر عثمان بن عفان بذلك فقدم ليضرب عنقه فقال الحارث لما يا رسول الله فقال بقتلك المجذر بن ذياد وقيس بن زيد فما راجعه الحارث بكلمة فضرب عنقه قال وفي رواية أن الحارث قال والله قتلته أي المجذر وما كان قتلي إياه رجوعا عن الإسلام ولا ارتيابا فيه ولكن حمية من الشيطان وإني أتوب إلى الله ورسوله مما عملت وأخرج ديته وأصوم شهرين متتابعين وأعتق رقبة فلم يقبل منه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك انتهى ولم يذكر قتل قيس بن زيد لعله اكتفى بذلك في قتله الحارث ويعلم استحقاقه القتل بقتل قيس بن زيد بطريق أولى
أي وكان في هذه السنة الثالثة مولد الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما وسماه حربا فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن أي لأنه صلى الله عليه وسلم لما جاء قال أروني ابني ما سميتموه قال علي حربا يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم هو حسن وحنكة صلى الله عليه وسلم بتمر
وكان في هذه السنة تحريم الخمر وقيل كان تحريمها في السنة الرابعة محاصر ببني النضير وقيل كان تحريمها بين الحديبية وخيبر وقيل كان بخيبر قال صلى الله عليه وسلم الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة وفي رواية الكرمة والنخلة وفي رواية الكرم والنخل كذا في مسلم ولعل ذكر الكرم كان قبل النهي
____________________
(2/556)
عنه وإلاففي مسلم لا يقولن أحدكم للعنب الكرم فإن الكرم الرجل المسلم وفي رواية فإن الكرم قلب المؤمن أو قيل ذلك بيانا للجواز وإشارة إلى أن النهي للتنزيه
وقد حرمت الخمر ثلاث مرات
الأولى في قوله تعالى { يسألونك عن الخمر والميسر } أي القمار { قل فيهما إثم كبير } فإنه صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون القمار فسألوه عن ذلك فنزلت الآية الثانية أن بعض الصحابة صلى بأصحابه صلاة المغرب وهو سكران فخلط في القراءة فأنزل الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون } ثم أنزل الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون } فكف الناس عن شربها
وقد جاء أن حمزة رضي الله تعالى عنه لما شربها قال للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه هل أنتم إلاعبيد لأبي أي ففي البخاري أن حمزة رضي الله تعالى عنه لما شرب الخمر خرج فوجد ناقتين لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه فعلاهما بالسيف وبقر خواصرهما ثم أخذ من أكبادهما وجب سناميهما قال علي كرم الله وجهه فنظرت إلى منظر أفظعني فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم وعنده زيد بن حارثة فأخبرته الخبرفخرج صلى الله عليه وسلم ومعه زيد فانطلقت معه فدخل على حمزة فتغيظ عليه فرفع حمزة رضي الله عنه بصره وقال هل أنتم إلا عبيد لابي فرجع النبي صلى الله عليه وسلم يقهقر حتى خرج وذلك قبل تحريم الخمر ولكون السكر كان مباحا لم يرتب على قول حمزة مقتضاه مع أن من قال لنبي أنت عبدي أو عبد أبي كفر
واعترض القول بأنها في السنة الرابعة بأن أنس بن مالك كان ساقيا لها فلما سمع المنادي بتحريمها أراقها
وفي البخاري عن أنس رضي الله تعالى عنه وإني لقائم أسقي أبا طلحة وفلانا وفلانا أي ابا ايوب وأبا دجانة ومعاذ بن جبل وسهيل بن بيضاء وأبي بن كعب وأبا عبيدة ابن الجراح رضي الله تعالى عنهم إذ جاء رجل وقال هل بلغكم الخبر قالوا وما ذاك قال حرمت الخمر قالوا أهرق هذه القلال ياأنس فأهريقت وفي لفظ قال أنس رضي الله تعالى عنه فقمت إلى مهراس فضربتها بأسفله حتى تكسرت
وفي مسلم عن أبي طارق رضي الله تعالى عنه أنه قال يا رسول الله إنما أصنعه اي الخمر
____________________
(2/557)
للدواء فقال إنه ليس بدواء ولكنه داء وإراقة الخمر حينئذ إذ مع أنها كانت مباحة فهي محترمة تغليظ وتوكيد للتحريم وفطم للنفوس لأن إراقتها لم تكن بأمر منه صلى الله عليه وسلم
وسئل الحافظ السيوطي رحمه الله عن حكمة رجوعه صلى الله عليه وسلم القهقرى فاجاب بأنه لعله ككان من خوف الوثوب عليه ارشادا لمن يخاف الوثوب أو كان مقصود صلى الله عليه وسلم مداومته لحظة أو أن الروي أراد بالقهقرى مطلق الروع إلى المنزل لا بالظهر
وأنس رضي الله تعالى عنه لم يكن خادما للنبي صلى الله عليه وسلم حينئذ أي في السنة الرابعة بل بعدها وحينئذ يكون القول بأن كونه في الثالثة أشكل
واشكل من هذا ما حكاه ابن هشام في قصة الأعشى بن قيس أنه خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الأسلام فلما كان بمكة اعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره فأخبره أنه جاءيريد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم فقال له يا أبا بصير إنه يحرم الزنا فقال الأعشى والله إن ذلك لأمرمالي فيه من أرب فقال إنه يحرم الخمرفقال الأعشى اما هذه إن في النفس منها لغلالات ولكني منصرف فأتروي منها عامي هذا ثم آته فأسلم فانصرف فمات في عامه ذلك ولم يعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم هذا كلامه لما علمت أن الخمر لم تحرم بمكة وإنما حرمت بالمدينة في السنة الثالثة أو الرابعة وأجاب بعضهم أن الأعشى أراد المدينة فاجتاز بمكة فرض له بعض كفار قريش
واعترض بانه قيل إن القائل له ذلك أبو جهل لعنه الله وكان في دار عتبة بن ربيعة وأبو جهل قتل ببدر في السنة الثانية
وأجيب بانه على تسليم صحة ذلك بأنه يجوز أن يكون أبو جهل لعنه الله قصد صد الاعشى عن الإسلام بطريق التقول والافتراء لأنه كان يعرف ميل الأعشى إلى الخمر وعدم صبره على تركها فاختلق هذا القول من عنده ليمنعه بذلك عن الإسلام
أقول لما حرمت الخمر قال بعض القوم قتل قوم وهي في بطونهم أي لان جماعة شربوها صبح يوم أحد قتلوا من يومهم شهداء فأنزل الله تعالى { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } وكون أنس رضي الله تعالى عنه لم يكن خادما للنبي صلى
____________________
(2/558)
الله عليه وسلم إلا بعد السنة الرابعة يخالف ما سبق أن عند قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة جاءت به أمه ليخدمه صلى الله عليه وسلم
وفي البخاري عن أنس رضي الله تعالى عنه قال قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ليس له خادم ثم أخذ أبو طلحة بيدي فانطلق بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن أنسا غلام كيس فليخدمك فخدمته صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر وتقدم الجمع بين كون الآتي به أبا طلحة والآتي به أمه
وفي البخاري ايضا عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي طلحة التمس لي غلاما من غلمانكم يخدمني حين أخرج إلى خيبر فخرج بي أبو طلحة مردفي وأنا غلام راهقت الحلم فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل
وقد يقال لا منافاة لأنه يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم لم يأمر أنسا بالخروج معه إلى خيبر لظنه أن أمه لا تسمح له بذلك فلما قال لأبي طلحة ما ذكر جاء إليه بأنس رضي الله تعالى عنه والله أعلم غزوة بني النضير
وهم قوم من اليهود بالمدينة وفي كلام بعضهم بنو النضير هؤلاء حي من يهود خيبر أي وقريتهم كان يقال لها زهرة
كانت تلك الغزاة في ربيع الأول أي من السنة الرابعة وقيل كانت قبل وقعة أحد قال وبه قال البخاري قال ابن كثير والصواب إيرادها بعد أحد كما ذكر ذلك ابن اسحاق وغيره من أئمة المغازي انتهى
أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالتهيؤ لحرب بني النضير والسير إليهم
واختلف في سبب ذلك فمن جملة ما قيل أنه ذهب إليهم ليسألهم كيف الدية فيهم أي لأنه كان بينهم وبين بني عامر قبيلة الرجلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري عند رجوعه من بئر معونة غيلة حلف وعقد
وقيل ذهب إليهم ليستعين بهم في دية الرجلين المذكورين أي وكان صلى الله عليه وسلم أخذ العهد على اليهود أن يعاونوه في الديات
وقيل لأخذ دية الرجلين منهم لأن بني النضير كانوا حلفاء لقوم الرجلين المذكورين
____________________
(2/559)
وهم بنوا عامر كذا في الأصل فليتأمل فإن فيه أخذ الدية من حلفاء المقتول وسار إليهم صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه أي دون لعشرة فيهم أبو بكر وعمر وعلي رضي الله تعالى عنهم فقالوا له نعم يا أبا القاسم حتى ترجع وتطعم بحاجتك وكان صلى الله عليه وسلم جالسا الى جنب جدار من بيوتهم فخلا بعضهم ببعض وقالوا إنكم لن تجدوا الرجل على مثل هذه الحالة فمن رجل يعلو هذا البيت فيلقي عليه صخرة فيريحنا منه فقال أحد ساداتهم انا لذلك أي وهو عمرو بن جحاش وقال لهم سلام بن مشكم لا تفعلوا والله ليخبرن بما هممهتم به أنه لنقض للعهد الذي بيننا وبينه فلما اصعد ذلك الرجل ليلقي الصخرة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما اراد القوم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم أي مظهرا أنه يقضي حاجته وترك أصحابه في مجالسهم ورجع مسرعا إلى المدينة ولم يعلم من كان معه من الحصابة أصحابه فقاموا في طلبه صلى الله عليه وسلم لما استبطئوه فلقوا رجلا مقبلا من المدينة فسألوه فقالوا رايته داخل المدينة فأقبل أصحابه حتى انتهوا إليه فاخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أرادت بنوالنضير وقد اشار إلى ذلك الإمام السبكي في تائيته نقوله ** وجاءك وحي بالذي أضمرت بنو الن ** نضير وقد هموا بالقاء صخرة **
أي وفي رواية لما رأوا قلة أصحابه صلى الله عليه وسلم قالوا نقتله ونأخذ أصحابه أسارى إلى مكة فنبيعهم من قريش أي ولا مانع من وجود الأمرين
وقيل السبب في خروجه صلى الله عليه وسلم إليهم أنهم أرسلوا إليه أن أخرج إلينا في ثلاثين من أصحابك وليخرج منا ثلاثون حبرا فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا بك فلما غدا عليهم في ثلاثين من أصحابه قال بعضهم لبعض كيف تخلصون إليه ومعه ثلاثون كل يحب أن يموت قبله فأرسلوا إليه أن أخرج في ثلاثة من أصحابك ويلقاك ثلاثة من علمائنا فإن آمنوا بك اتبعناك ففعل واشتملت اليهود الثلاثة على الخناجر فأرسلت امرأة من بني النضير لأخ لها مسلم تعلمه بذلك فأعلم أخوها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فرجع ولا مانع من وجود ذلك مع ما تقدم لكن في السيرة الهاشمية أن خبر ذلك بلغه قبل وصوله إليهم فرجع فبينما بنو النضير على ذلك أي على إرادة القاء الحجر والتهيؤ لإلقائه إذ جاء من اليهود من المدينة فقال لهم ما تريدون فذكروا له الأمر فقال لهم أين محمد قالوا هذا محمد فقال لهم والله لقد تركت محمدا
____________________
(2/560)
داخل المدينة فأسقط في ايديهم وقالوا قد أخبر بأمرنا فأرسل إليهم محمد بن مسلمة رضي الله تعالى عنه أن أخرجوا من بلدي يعني المدينة لأن قريتهم من أعمالها فلا تساكنوني بها فقد هممتم بما هممتم به من الغدر أي وأخبرهم بما هموا به من ظهور عمرو بن جحاش على ظهرالبيت ليطرح الصخرة فسكتوا ولم يوقولا حرثا قال ويقولوا لكم قد أجلتكم عشرا فمن رؤي بعد ذلك ضربت عنقه واقتصاره صلى الله عليه وسلم على ذلك لاينافي ما تقدم من إرادة قتله أيضا قيل وأنزل الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم } ولاينافي ذلك ما تقدم من نزولها في حق دعثور في غزوة ذي أمر لجواز تكرارالنزول فأرسلوا في إحضار الأبل فأرسل إليهم المنافقون أن لا تخرجوا من دياركم ونحن معكم إن قوتلتم فلكم علينا النصر وإن أخرجتم لن نتخلف عنكم خصوصا عبد الله بن أبي بن سلول لعنه الله فإنه أرسل لهم لا تخرجوا من دياركم وأقيموا في حصونكم فإن معي الفين من قومي وغيرهم من العرب يدخلون حصونكم ويموتون عن آخرهم قبل أن يوصل إليكم وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان فطمع بنو النضيرفيما قال ابن أبي فأرسلوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنا لا نخرج من ديارنا فاصنع ما بدا لك فأظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير وكبر المسلمين لتكبيره وقال حاربت يهود قال والمتولى أمر ذلك سيد بني النضير حيي بن أخطب والد صفية أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وقد نهاه أحد سادات بني النضير وهو سلام بن مشكم وقال له منتك نفسك والله يا حيي الباطل فإن قول ابن أبي ليس بشيء وإنما يريد أن يورطك في الهلكة حتى تحارب محمدا فيجلس في بيته ويتركك الا ترى أنه أرسل إلى كعب بن أسد القرظي سيد بني قريظة أن تمدكم بنو قريظة فقال له لا ينقض رجل واحد منا العهد فأيس من بني قريظة وأيضا قد وعد حلفاءه من بني قينقاع مثل ما وعدك حتى حاربوا ونقضوا العهد وحصروا أنفسهم في صياصيهم أي حصونهم وانتظروا ابن أبي فجلس في بيته وسارإليهم محمد حتى نزلوا على حكمة فإذا كان ابن أبي لا ينصر حلفاءه ومن كان يمنعه من الناس ونحن لم نزل نضربه بسيوفنا مع الأوس في حروبهم أي فإنه إذا كان بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج وخرجت بنو النضير وقريظة مع الأوس فكيف يقبل قوله فقال حيي نأبي إلا عداوة محمد وإلا قتاله قال سلام فهو والله جلاؤنا من
____________________
(2/561)
أرضنا وذهاب أموالنا وشرفنا وسبي ذرارينا مع قتل مقاتلينا فأبى حيي إلامحاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت له بنو النضير أمرنا لأمرك تبع لن نخالفك فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكراه فتهيأ الناس لحربهم فلما اجتمع الناس خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم وحمل رايته علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وسار بالناس حتى نزل وصلى بهم العصر بفنائهم وقد تحصنوا وقاموا على حصنهم يرمون بالنبل والحجارة
أي وفي كلام بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه رضي الله تعالى عنهم بالمسير إلى بني النضير فسار بهم إليهم فوجدهم ينحن ينوحون على كعب بن الأشرف أي الآتي قتله في السرايا قالوا يا محمد داعية إثر داعية وباكية إثر باكية ذرنا نبكي شجونا ثم أئتمر أمرك فقال صلى الله عليه وسلم لهم اخرجوا من المدينة قالوا الموت أهون من ذلك ثم تبادروا بالحرب هذا كلامه
قال ولما جاء وقت العشاء رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته في عشرة من أصحابه عليه الدرع وهو على فرس واستعمل على العسكر علي بن أبي طالب ويقال ابا بكر وبات المسلمون يحاصرونهم ويكبرون حتى أصبحوا ثم اذن بلال بالفجر فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه الذين كانوا معه فصلى بالناس وأمر بلالا فضرب القبة وهي قبة من خشب عليها مسوح فدخل صلى الله عليه وسلم فيها وكان رجل من يهود يقال له غزول وكان أحسن راميا يبلغ نبله مالا يبلغه نبل غيره فوصل نبله تلك القبة فأمر بها فحولت وفي ليلة من الليالي فقد علي رضي الله تعالى عنه قرب العشاء فقال الناس يا رسول الله ما نرى عليا فقال دعوه أي اتركوه فإنه في بعض شأنكم فعن قليل جاء برأس الرجل الذي يقال له غزول الذي وصل نبله قبتة صلى الله عليه وسلم كمن له علي حين خرج يطلب غزوة من المسلمين ومعه جماعة فشد عليه فقتله وفر من كان معه فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع علي أبا دجانة وسهل بن حنيف في عشرة فأدركوا أولالئك الجماعة الذين كانوا مع غزول وفروا من علي فقتلوهم انتهى
وذكر بعضهم إن اولئك الجماعة كانوا عشرة وإنهم أتوا برؤوسهم فطرحت في بعض الآبار وفي هذا رد على بعض الرافضة حيث وادعى إن عليا هو القاتل لاولئك العشرة وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخل أي وبحرقها بعد أن حاصرهم ست ليال
____________________
(2/562)
وقيل خمسة عشر يوما أي وقيل عشرين ليلة وقيل ثلاثا وعشرون ليلة وقيل خمسا وعشرين ليلة وكان سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه في تلك المدة يحمل التمر للمسلمين أي يجاء به من عنده قال واستعمل رسول الله على قطع النخل أبا ليلى المازني وعبد الله بن سلام وكان أبو ليلى يقطع العجوة وعبد الله يقطع اللين ويقال له اللون وهو ما عدا العجوة والبرني من أنواع التمر بالمدينة ومن أنواع تمر المدينة الصيحاني
وجاء عن علي كرم الله تعالى وجهه قال خرجت مع رسول الله فصاحت نخلة بأخري هذا النبي المصطفى وعلي المرتضى فقال صلى الله عليه وسلم يا علي إنما سمي نخل المدينة إي هذا النوع صيحانيا لأنه صاح بفضلي وهو حديث مطعون فيه قيل أنه كذب والبرن بالفارسية حمل مبارك أو جيد
وفي شرح مسلم للنووي انها مائة وعشرون نوعا أي وفي تاريخ المدينة الكبير للسيد السمهودي إن أنواع التمر بالمدينة التي أمكن جمعها بلغت مائة وبضعا وثلاثين نوعا ويوافقه قول بعضهم اختبرناها فوجدناها أكثر مما ذكره النووي قال ولعل ما زاد علي ما ذكره حدث بعد ذلك
أي وأما أنواع التمر بغير المدينة كالمغرب فلا تكاد تنحصر فقد نقل إن عالم فاس محمد بن غازي أرسل إلى عالم سلجمامسة إبراهيم بن هلال يساله عن حصر أنواع التمر بتلك البلده فأرسل إليه حملا أو حملين من كل نوع تمر تمرة واحدة وكتب إليه هذا ما تعلق به علم الفقير وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها
ثم رأيت في نشق الأزهار إن بهذه البلدة رطبا يسمى البتوني وهو أخضراللون وأحلى من عسل النحل ونواة في غاية الصغر وكانت العجوة خير أموال بني النضير أي لأنهم كانوا يقات يقتاتونها
وفي الحديث العجوة من الجنة وثمرها يغذي أحسن غذاء اي وتقدم أن آدم نزل بالعجوة من الجنة
وفي البخاري من تصبح كل يوم على سبع تمرات عجوة لم يصبه في ذلك اليوم سم ولا سحر أي قد جاء وقال في عجوة العالية شفاء وإنها ترياق أول البكرة من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره في ذلك اليوم سم ولا سحر
____________________
(2/563)
أي وفي كلام بعضهم العجوة ضرب من التمر أكبر من الصيحاني تضرب إلى السواد وهو مما غرسه النبي صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة بالمدينة أي وقد علمت إنها في نخل بني النضير
وفي العرائس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هبط آدم من الجنة بثلاثة اشياء بالآسة وهي سيدة ريحان الدنيا والسنبلة وهي سيدة طعام الدنيا والعجوة وهي سيدة ثمارالدنيا
وروي عن ابن عباس وعائشة وابي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال إن العجوة من غرس الجنة وفيها شفاء وإنها ترياق أول البكرة وعليكم بالتمرالبرني فكلوه فإنه يسبح في شجرة ويستغفر لآكله هذا كلام العرائس وفي حديث وفد عند ابن القيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم ذلك وذكر البرني أنه من خيرتمركم وأنه دواء وليس بداء وجاء بيت لا تمر فيه جياع أهله قال ذلك مرتين
ولما قطعت العجوة شق النساء الجيوب وضربن الخدود ودعون بالويل أي وذلك البعض الذي حرق كان بمحل يعرف بالبويرة أه أي والبويرة تصغير بورة وهي هنا الحفرة ويقال لها البولة باللام بدل الراء وعند ذلك نادوه أي يا محمد وفي رواية يا ابا القاسم قد كنت تنهي عن الفساد وتعيبه على من صنعه فما بال قطع النخل وتحريقها أي وفي رواية ما هذا الفساد وفي لفظ قالوا يا محمد زعمت أنك تريد الصلاح أفمن الصلاح قطع النخل وهل وجدت فيما زعمت أنه انزل عليك بالفساد في الارض وقالوا للمؤمنين إنكم تكرهون الفساد وأنتم تفسدون وحينئذ وقع في نفوس بعض المسلمين من ذلك شيء فأنزل الله تعالى { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين } أي في قولهم إن ذلك من الفساد
قال بعضهم جميع ما قطعوا وحرقوا ست نخلات ولا زال عبدالله بن أبي بن سلوم يبعث بني النضير أن اثبتوا وتمنعوا فإنكم إن قوتلتم قاتلنا معكم وإن اخرجتم خرجنا معكم أي ومعه على ذلك جمع من قومه فانتظروا ذلك فخذلهم ولم يحصل لهم منه شيء أي وجعل سلام بن مشكم وكنانة بن صوريا يقولان لحيي أين نصر بن أبي الذي زعمت فيقول حيي ما اصنع هي ملحمة كتبت علينا ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/564)
حصارهم وقذف الله في قلوبهم الرعب فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم على ان لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة اي آلة الحرب ففعل فاحتملوا النساء والصبيان وحملوه من أموالهم غيرالحلقة مااستقلت به الأبل وكانت ستمائة بعير كان الرجل يهدم بيته عما استحسن من خشبة كبابه وكنجاف به أي اسكفته فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به
أي وفي لفظ صاروا ينقضون العمد والسقوف وينزعون الخشب حتى على الاوتاد وينقضون الجدران حتى لا يسكنها المسلمون حسدا وبغضا
وفي رواية جعل المسلمون يهدمون ما يليهم من حصنهم ويهدم الآخرون ما يليهم قال وفي رواية أنهم خرجوا مظهرين التجلد خرجت النساء على الهوادج وعليهن الديباج والحرير وقطف الخز الأخضر والأحمر وحلي الذهب والفضة وخلفهم القيان بالدفوف والمزامير ومنهم سلمى أم وهب
وقال ابن اسحاق أم عمرو صاحبة عروة بن الورد الذي قيل فيه من قال أن حاتما أسمح العرب فقدظلمة عروة بن الورد أغار عروة على قومها فسباها ثم اتخذها حليلة له فجاءت منه بأولاد
ثم ان بعض بني النضير اشتراها من عروة بعد أن سقاه الخمر ثم لما افاق ندم ثم اتقق هو ومن اشتراها على أن تكون عند من تختاره فخيرها فاختارت من اشتراها
وقيل إن قومها جاءوا إليه بفدائها فخيرها وكان لا يظن أن تختارعليه أحدا فاختارت قومها فندم
وعند مفارقتها له قالت له والله ما أعلم امراة من العرب أرخت سترا على بعل مثلك أغض طرفا ولا اندى كفا ولا اغنى غناء وإنك لرفيع العماد كثيرالرماد خفيف على ظهور الخيل ثقيل على متون الأعداء وأحنى على الأهل والجار وما كنت لأوثر عليك أهلي لولا إني كنت أسمع بنات عمك يقلن قالت أم عروة وفعلت أم عروة فأجد من ذلك الموت والله لا يجامع وهي وجه أحد من أهلك فاستوص ببنيك خيرا ثم تزوجت في بني النضير وشقوا سوق المدينة وصف لهم الناس فجعلوا يمرون قطارا في أثر قطار وإن سلام بن ابي الحقيق رافع جلد جمل أي أو ثور أو حمار مملوء
____________________
(2/565)
حليا وينادي بأعلى صوته هذا أعددناه لرفع الأرض وخفضها وإن كنا تركنا نخلا ففي خيبرأنخل وحزن المنافقون لخروجهم أشد الحزن انتهى
وهذا الحلى كانوا يعيرونه مللعرب من أهل مكة وغيرهم وكان يكون عند آل أبي الحقيق وسياتي في غزوة خيبر أنه صلى الله عليه وسلم عبر عن هذا الحلي بالآنية والكنز وأنه كان سبب القتل ولدي أبي الحقيق لما كتماه عنه صلى الله عليه وسلم
فمنهم من سار إلى خيبر أي ومن جملة هؤلاء أكابرهم حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق وكنانة بن أبي الربيع بن أبي الحقيق فلما نزلوا خيبر دان لهم أهلها
ومنهم من سار إلى الشام أي إلى أذرعات وكان فيهم جماعة من أبناء الأنصار لأن المراة من الأنصار كان إذا لم يعش لها ولد تجعل على نفسها إن عاش لها ولد تهوده فلما أجليت بنو النضير قال آباء أولئك لا ندع أبناءنا وأنزل الله تعالى { لا إكراه في الدين } وهي مخصوصة بهؤلاء الذين تهودوا قبل الإسلام وإلا فأكراه الكفار الحربيين على الإسلام سائغ ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان وهما يامين بن عمير وأبو سعد بن وهب قال أحدهما لصاحبه والله إنك لتعلم أنه رسول الله فما ننتظر أن نسلم فنامن على دمائنا وأموالنا فنزلا من الليل واسلما فأحرزا أموالهما أي وجعل يامين لرجل من قيس جعلا أي وهو عشرة دنانير وقيل خمسة اوثق من تمر على قتل عمرو بن جحاش الذي أراد أن يلقي الحجر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله عيلة أي بعد أن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليامين ألم تر ما لقيت من ابن عمك وما هم به من شأني فسر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ونزل في أمر بني النضير صورة الحشر ولذلك كان يسميها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما صورة بني النضير كما في البخاري
وفي كلام السبكي رحمه الله لم يختلف ان سورة الحشر نزلت في بني النضير وقد اشار لقصتهم صاحب الهمزية بقوله ** خدعوا بالمنافقين وهل ين ** فق إلاعلى السفيه الشقاء ** ونهيتم وما انتهت عنه قوم ** فأبيد الأمار والنهاء ** أسلموهم لأول الحشر لأمير ** عادهم صادق ولا الإيلاء ** سكن الرعب والخراب قلوبا وبيوتا ** منهم نعاهاالجلاء **
____________________
(2/566)
أي وخدعهم قول المنافقين أنهم يكونون معهم وينصرونهم على النبي صل صلى الله عليه وسلم وما يروج الشقاء إلا على السفيه والمراد بالمنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول ومن كان معه على النفاق لأنه كما تقدم لا زال يرسل لهم أن اثبتوا وتمنعوا فإنكم إن قوتلتم قاتلن معكم وإن خرجتم خرجنا معكم ونهاهم عن موافقته سلام بن مشكم فلم ينتهوا وأسلمهم اولئك المنافقون لأول الحشر وهو أي الحشر جلاؤهم وخروجهم من ديارهم فميعادهم لهم بأن ينصرونهم على النبي صلى الله عليه وسلم غير صادق وكذا حلفهم لهم على ذلك غيرصادق أيضا
ذكر موسى بن عقبة أنهم كانوا من سبط لم يصبهم جلاء قبلها لذلك قال لأول الحشر والحشر الجلاء
وقيل المراد بالمحشر أرض المحر فإنهم قالوا إلى اين نخرج يا محمد قال إلى الحشر يعني أرض المحشر والحشر الثاني هو حشر النار التي تخرج من قعر عدن فتحشر الناس إلى الموقف
وقيل الحشر الثاني لهم كان على يد سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه أجلاهم من خيبر إلى تيمياء وأريحاء وسيأتي ذكره وسكن الرعب وهو خشية انتقامه صلى الله عليه وسلم منهم قلوبهم وسكن الخراب بيوتهم وقد أخبر تلك البيوت بموت أهلها خروجهم وجلاؤهم من أرضهم وأنزل الله تعالى { ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب } وهم بنو النضير { لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم } أي في خذلانكم { أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم } مثلهم { كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين } ووجد صلى الله عليه وسلم من الحلقة أي آلة السلاح خمسين درعا وخمسين بيضة وثلثمائة وأربعين سيفا ولم يخمس ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أي كما خمس أموال بني قينقاع قال وقد قال له عمر رضي الله تعالى عنه يا رسول الله ألا تخمس ما أصبت أي كما فعلت في بني قينقاع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول لا اجعل شيئا جعله الله لي دون المؤمنين بقوله تعالى { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } الآية كهيأة ما وقع فيه السهمان أي فكان أموال بني النضير وعقارهم فيئا لرسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/567)
فاصة وتقدم التنبيه على ذلك في غزوة بني قينقاع وفسرت القرى بالصفراء ووادي القرى أي ثلث ذلك كما في الإمتاع وينبع وفسرت القرى ببني النضير وخيبر أي بثلاث حصون منها وهي الكتيبة والوطيح وسلالم كما في الإمتاع وفدك أي نصفها كما في الإمتاع ذكره الرافعي في شرح مسند إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه
أقول قال بعضهم وهذا أول فيء حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويرده ماتقدم في غزوة بني قينقاع إلا ان يقال المراد أول فيء اختص به صلى الله عليه وسلم ولم يقسمه قسمة الغنيمة على ما تقدم
ثم دعا الأنصار الاوس والخزرج فحمد الله وأثنى عليه بما هو اهله ثم ذكر الأنصار وما صنعوا بالمهاجرين من إنزالهم في منازله وإيثارهم على أنفسهم بأموالهم ثم قال لهم إن أخوانكم المهاجرين ليس لهم اموال فإن شئتم قسمت هذه الأموال أي التي افاء الله علي وخصني بها مع اموالكم بينكم جميعا وإن شئتم أمسكتم أموالكم وقسمت هذه فيهم خاصة فقالوا بل اقسم هذه فيهم وأقسم لهم من أموالنا ما شئت
وفي رواية إن أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء الله على من بني النضير وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في منازلكم وأموالكم أي الأرض والنخل لانه لما قدم المهاجرون من مكة إلى المدينة قدموا وليس بأيديهم شييء وكان الانصار أهل الأرض والعقار أي النخل فآثروهم بمتاع من اشجارهم فمنهم من قبلها منيحة محضة ويكفونه العمل ومنهم من قبلها بشرط ان يعمل في الشجر والأرض وله نصف الثمار ولم تطب نفسه أن يقبلها محضة لحظة لشرف نفوسهم وكراهتهم أن يكونوا كلا وإن احببتم أعطيتهم أي وخرجوا من دوركم أي وأموالكم فتكلم سعد بن عبادة وسعد بن معاذ فقالا يا رسول الله بل تقسم بين المهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا بل نحب أن تقسم ديارنا واموالنا على المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم وعشائرهم وخرجوا حبا لله ولرسوله ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها ونادت الأنصار رضينا وسلمنا يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار زاد في رواية وأبناء أبناء الانصار وقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه جزاكم الله يا معشر الأنصار خيرا أي وأنزل الله تعالى فيهم { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } أي ولو كان بهم فاقة وحاجة إلى ما يؤثرون به فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________________
(2/568)
ذلك بين المهاجرين أي وفي كلام بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم لم يعم المهاجرين ولم يعط أحدا من الأنصار إلا رجلين كانا محتاجين أي وهما سهل بن حنيف وابو دجانة رضي الله تعالى عنهما وبعضهم ضم إليهما ثالثا وهو الحارث بن الصمة ونظر فيه بعضهم بأنه قتل في بئر معونة
وأعطى صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ سيف ابن أبي الحقيق أحد سادات بني النضير وكان سيفا له ذكر عندهم وكان صلى الله عليه وسلم يزرع أرضهم التي تحت النخل فيدخر من ذلك قوت أهله سنة وما فضل يجعله في الكراع أي الخيل والسلاح عدة في سبيل الله تعالى
أقول فيه تصريح بأنه لم يقسم الأرض ويحتمل ان المراد بقوله كان يزرع أرضهم التي تحت النخل أي بعض أرضهم ويدل له ما يأتي ولم اقف على كيفية زرعه صلى الله عليه وسلم للأرض من مزارعة أو غيرها
وفي الخصائص الكبرى عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان نخل بني النضير رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة اعطاه الله إياه وخصه بها فاعطى أكثرها المهاجرين وقسمها بينهم وقسم منها لرجلين من الأنصار
وهذا السياق يدل على ان مراده بنخل بني النضير أموالهم كما تقدم في الروايات خصوص النخل
ثم رايت في عبارة بعضهم وأكثر الروايات على أن اموال بني النضير أي من مواشيهم كالخيل ومزارعهم وعقارهم حق لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة له خصه الله تعالى بها لم يخمسها ولم يسهم منها لاحد وأعطى منها مااراد ووهب العقار للناس وأعطى ابا بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف وصهيبا وأبا سلمة بن عبد الأسد ضياعا معروفة من ضياع بني النضير
ولعل المراد بالضياع الاراضي ويدل لي لذلك ما في البخاري اقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير ارضا من اراضي بني النضير كما ان ذلك هو المراد بقول الإمتاع وكانت بنو النضير من صفايا رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلها حبسا لنوائبه وكان صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله منها وكانت صدقاته منها
وقد يقال لا منافاة لانه يجوز أن يكون أعطى بعض أراض وابقى بعضها يزرع
____________________
(2/569)
له صلى الله عليه وسلم ولما أعطى المهاجرين امرهم برد ما كان للأنصار للاستفنائهم عنهم ولأنهم لم يكونواملكوهم ذلك وإنما كانوا دفعوا لهم تلك النخيل لينتفعوا بثمرها وظنت أم أيمن أن ذلك ملك لها فامتنعت من رده أي لأن أم أنس كانت أعطته صلى الله عليه وسلم نخلات فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم ايمن ولم ينكر عليها ذلك تطييبا لقلبها لكونها حاضنته وصار يعطيها وهي تمتنع من رده إلى ان أعطاها عشرة امثاله أو قريبا من ذلك
وذكر هذا في بني النضير يخالف ما في مسلم أن ذلك كان عند فتح خيبر حيث ذكر أنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قتال أهل خيبر وانصرف إلى المندينة رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارها وذكر قصة أم أيمن فليتأمل والله أعلم غزوة ذات الرقاع
أي وتسمى غزوة الأعاجيب أي لما وقع فيها من الأمور العجيبة وغزوة محارب وغزوة بني ثعلبة وغزوة بني أنمار
عن ابن ا سحاق رحمه الله ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بني النضير شهر ربيع الاول وقال غيره شهري ربيع وبعض جمادي ثم غزا نجدا يريد بني محارب وبني ثعلبة حين بلغه صلى الله عليه 2 وسلم انهم جمعوا الجموع أي من غطفان لمحاربته فخرج صلى الله عليه وسلم في أربعمائة من أصحابه رضي الله عنهم اي وقيل سبعمائة وقيل ثمانمائة
أي واحتج البخاري رحمه الله علي أن هذه الغزاة كانت بعد خيبر بما رواه عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه مما يدل على أن أبا موسى شهد غزاة ذات الرقاع وهو خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة نفر بيننا بعير فنقبت أقدامنا وسقطت أظفاري فكنا نلف على أرجلنا الخرق فسميت غزاة ذات الرقاع
وإذ ثبت أن ابو موسى شهد غزاة ذات الرقاع وثبت أنه لم يجئ إليه صلى الله عليه وسلم من الحبشة إلا بخيبر لزم أن تكون غزوة ذات الرقاع بعد خيبر إلا أن يدعى تعدد غزوة ذات الرقاع مرتين وإنها كانت قبل خيبر وبعدها والتي وجدت فيها صلاة
____________________
(2/570)
الخوف هي الثانية أي والسبب في تسميتها ذات الرقاع ما تقدم عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه وحيث كانت بعد خيبر يلزم أن تكون بعد الخندق لقول الحافظ ابن حجر رحمه الله صلاة الخوف في غزوة الخندق لم تكن شرعت اي أها لو كانت شرت لصلاها صلى الله عليه وسلم ولم يؤخرالصلاة كما سيأتي وسيأتي الجواب عن ذلك
وقد ذكرها الشمس الشامي رحمه الله تعالى بعد خيبر والأصل لم يذكر ما تقدم عن البخاري بل رواه بالمعنى فقال روينا في صحيح البخاري للحديث أبي موسى رضي الله تعالى عنه أنهم نقبت أقدامهم فلفوا عليها الخرق فسميت غزوة ذات الرقاع قال وجعله أي البخاري حديث أبي موسى هذا حجة على أن غزوة ذا ت الرقاع متاخرة عن خيبر أبا موسى إنما تقدم في خيبر لا دلالة فيه على ذلك أي لأنه يجوز أن يكون قول ابي موسى رضي الله تعالى عنه إنهم نقبت اقدامهم يعني الصحابة فيكون هذا مما رواه أبو موسى عمن شاهد الوقعة من الصحابة وفيه أن هذا لا يأتي مع قول البخاري عن أبي موسى فنقبت قدماي وسقطت أظفاري إذ هو صريح في أن أبا موسى رضي الله تعالى عنه حضرها والأصل تبع في تقديمها على خيبر شيخه الديمياطي وتابعه أيضا في رواية ما تقدم ما تقدم عن البخاري بالمعنى ونظر الديمياطي في رواية أبي موسى أي التي في البخاري التي رواها عنه بالمعنى بأنها مخالفة لما عليه أهل المغازي من تقديمها على خيبر
قال الحافظ بن حجر وإدعى الدمياطي غلط الحديث الصحيح وأن جميع أهل السير على خلافه والاعتماد على مافي الصحيح أي من تاخأيرها أولى لأن أصحاب المغازي مختلفون في زمانها قال والبخاري مع روايتة عن ابي موسى الصريحة في تاخر غزوة ذات الرقاع عن غزوة خيبر قدم غزوة ذات الرقاع على خيبر قال ولا أدري هل تعمد ذلك تسليم لأصحاب المغازي أنها كانت قبل خيبراو ان ذلك من الرواة عنه او إشارة إلى احتمال أن تكون ذات الرقاع اسما لغزوتين مختلفتين أي واحدة قبل خيبر والثانية بعدها كما قدمناه أي وقدمنا أن سبب التسمية في الثانية ما ذكر عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه وأما في الأولى فأحد الاسباب الآتية
قال في الامتاع وقد قال بعض من أرخ إن غزوة ذات الرقاع أكثر من مرة فواحدة كانت قبل الخندق وأخرى بعدها أي وبعد خيبر
ولما غزا صلى الله عليه وسلم استخلف على المدينة أبا ذر الغفاري وقيل عثمان بن
____________________
(2/571)
عفان رضي الله تعالى عنه قال ابن عبدالبر وعليه الأكثر أي وقد نظر في الأولى بأن أبا ذر رضي الله تعالى عنه لما اسلم بمكة رجع إلى بلاد قومه فلم يجيء حتى مضت بدرا وأحد والخندق
أقول وهذا النظر بناء على أنها كانت قبل الخندق وأما على انها كانت بعد لخندق وبعد خيبر فلا يتأتى هذا النظر واللهأعلم
وسار صلى الله عليه وسلم حتى بلغ نجد فلم يجدبها أحد ووجد نسوة فأخذهن وفيهن جارية وضيئة ثم لقي جمعا فتقارب الجمعان ولم يكن بينهما حرب
وقد خاف بعضهم بعضا أي خاف المسلمون أن تغير المشركون عليهم وهم غارون أي غافلون حتى صلى رسول الله صلى اللع عليه عليه وسلم بالناس صلاة الخوف وكانت أول صلاة للخوف صلاها
قال وفي رواية حانت صلاة الظهر فصلاها صلى الله عليه وسلم باصحابه فهم بهم المشركون فقال قائلهم دعوهم فإن لهم صلاة بعد هذه هي أحب إليهم من أبنائهم أي وهي صلاة العصر فنزل جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخبره فصلى صلاة العصر صلاة الخوف آه
أقول سيأتي هذا كله بعينه في غزوة الحديبية التي هي صلاة الخوف بعسفان ولا مانع من تعدد ذلك ويحتمل أنه من الاشتباه على بعض الرواة والله أعلم
وكان العدو في غير جهة القبلة ففرقهم فرقتين فرقة وقفت في وجه العدو وفرقة صلى بها ركعة ثم عند قيامه للثانية فارقته وأتمت بقية صلاتها ثم جاءت ووقفت في وجه العدو وجاءت تلك الغرقة التي كانت في وجه العدو واقتدت به في ثانيته فصلى بها ركعة ثم قامت وهو في جلوس التشهد وأتمت بقية صلاتها ولحقته في جلوس التشهد وسلم بها وهذه الكيفية في ذات الرقاع رواها الشيخان ونزل بها القرآن وهو قوله تعالى { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } الآية
اي وفي كلام بعضهم فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف صلى بطائفة ركعتين وبالأخرى أخريين وسيأتي ان هذه صلاته صلى الله عليه وسلم ببطن نخل
____________________
(2/572)
وفي الخصائص الصغرى وخص صلى الله عليه وسلم بصلاة الخوف فلم تشرع لأحد من الأمم من قبلنا وبصلاة شدة الخوف عند التحام القتال
أي وفي هذه الغزوة نزل صلى الله عليه وسلم ليلا وكانت تلك اليلة ذات ريح وكان نزوله صلى الله عليه وسلم في شعب استقبله فقال من رجل يكلؤنا أي يحفظنا هذه الليلة فقام عباد بن بشر رضي الله تعالى عنه وعمار بن يا سر رضي الله تعالى عنهما فقالا نحن يا رسول الله نكلؤكم فجلسا على فم الشعب فقال عباد بن بشر لعمار بن ياسر أنا أكفيك أول الليل وتكفيني أخره فنام عمار رضي الله تعالى عنه وقام عباد رضي الله تعالى عنه يصلي وكان زوج بعض النسوة التي أصابهن رسول الله صلى الله عليه وسلم غائبا فلما جاء أخبر الخبر فتبع الجيش وحلف لا ينثني حتى يصيب محمدا أويهريق في أصحاب محمد دما فلما رأى سواد عباد قال هذا ربيئة القوم ففوق سهما فوضعه فيه فانتزعه عباد فرماه باخر فوضعه فيه فانتزعه فرماه بأخر فانتزعه فلما غلبه الدم قال لعمار اجلس فقد اثبت فلما راى ذلك الرجل عمار أجلس علم أنه قد نذر به فهرب فقال عمار اي أخي ما منعك أن توقظني له في أول سهم رمى به فقال كنت أقرأ في سورة أي في سورة الكهف فكرهت ان أقطعها
وفي لفظ جعل صلى الله عليه وسلم شخصين من اصحابه يقال هما عباد بن بشر من الانصار وعمار بن ياسر من المهاجرين في مقابلة العدو فرمى أحدهما بسهم فأصابه ونزفه الدم وهو يصلي ولم يقطع صلاته بل ركع وسجد ومضى في صلاته ثم رماه بثان وثالث وهو يصيبه ولم يقطع صلاته أى وهو عباد بن بشر كما تقدم وقد قال عباد اعتذارا اعن إيقاظ صاحبه لولا اني خشيت ان أضيع ثغرا أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انصرفت ولو أتى على نفسي
أقول وبهذه الواقعة استدل أئمتنا على أن النجاسة الحادثة من غير السبيلين لا تنقض الوضوء لأنه صلى الله عليه وسلم علم ذلك ولم ينكره
وأما كونه صلى مع الدم فلعل ما أصاب ثوبه وبدنه منه قليل ولاينافي ذلك ما تقدم في الرواية قبل هذه فلما غلبه الدم إذ يجوز مع كونه كثيرا انه لم يصب ثوبه ولا بدنه إلا القليل منه والله أعلم
ويقال إن رجلا من القوم اي وهو غورث بالغين المعجمة مكبرا على الأشهر
____________________
(2/573)
وقيل غويرث بالتصغير والمهملة ابن الحارث قال لهم ألا أقتل لكم محمدا قالوا بلى وكيف تقتله قال أفتك به أى أجيء إليه على غفلة فجاء إليه صلى الله عليه وسلم وسيفه في حجره فقال يا محمد أرني أنظر إلى سيفك هذا فأخذه من حجره فاستله ثم جعل يهزه ويهم فيكبته الله أي يخزيه ثم قال يا محمد ما تخافني قال لا بل يمنعني الله تعالى منك ثم دفع السيف إليه صلى الله عليه وسلم فأخذه صلى الله عليه وسلم وقال من يمنعك مني فقال كن خير أخذ قال تشهدا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله قال أعاهدك علي اني لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك قال فخلي رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيله فجاء إلى قومه فقال جئتكم من عند خير الناس واسلم هذا بعد وكانت له صحبة
وفي رواية جاء إليه صلى الله عليه وسلم وهو جالس وسيفه في حجره فقال يا محمد انظر إلى سيفك هذا قال نعم فأخذه فاستله ثم جعل يهزه ثم قال يا محمد أما تخافني وما أخاف منك قال وفي يدي السيف قال لا يمنعني الله تعالى منك ثم غمد سيفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرده عليه فقال
وهذه واقعة غير واقعة دعثور المتقدمة في غزوة ذي أمر فهما واقعتان احداهما مع دعثور والثاني ة مع غورث فقول أصله والظاهر أن الخبرين واحد فيه نظر ظاهر فليتأمل
قال وفي رواية لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا إلى المدينة ادركته القائلة يوما بواد كثير العضاة أي الأشجار العظيمة التي لها شوك وتفرق الناس في العضاة أي الاشجار يستظلون بالشجر ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت ظل شجرة أي ظليله قال جابر رضي الله تعالى عنه تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم فعلق صلى الله عليه وسلم سيفه فيها فنمنا نومة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا فجئنا إليه فوجدنا عنده أعرابيا جالسا فقال إن هذا قد اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده مصلتا أي مسلولا فقال لي من يمنعك مني قلت الله قال ذلك ثلاث مرات ولم يعاقبه صلى الله عليه وسلم
وهذه الرواية مع ما قبلها يقتضي سياقهما أنهما واقعتان لا واقعة واحدة ويبعد أن يكون ذلك الأعرابي هو غورث صاحب الواقعة الأولى فيكون تعدد منه هذا الفعل
____________________
(2/574)
مرتين أي وأنزل الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم } ** وتقدم أن سبب نزولها إرادة ألقاء الحجر عليه من بعض أهل بني النضير لعنهم الله وتقدم أنه لا مانع من تعدد النزول لتعدد الأسباب
وفي الشفاء قيل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاف قريشا فلما نزلت هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم } الآية استلقى ثم قال من شاء فليخذلني
اي وفيه أن هذا لا يحسن إلا عند نزول آية { والله يعصمك من الناس } إلا أن يقال هو صلى الله عليه وسلم علم من ذلك أن الله مانع له ممن يريده بسوء وإن كان يجوز أن يمنعه من شخص دون آخر فليتأمل
وإنما لم يعاقب صلى الله عليه وسلم ذلك الأعرابي حرصا على استئلاف قلوب الكفار ليدخلوا في الإسلام
وكانت مدة غيبته صلى الله عليه وسلم خمسة عشرة ليلة وبعث صلى الله عليه وسلم جعال بن سراقة إلى المدينة مبشرا بسلامته وسلامة المسلمين أي وكان رضي الله تعالى عنه من أهل الصفة وهو الذي يتمثل به أبليس لعنه الله يوم أحد حين نادى إن محمدا قد قتل كما تقدم
وأبطأ جمل جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه فنخسه صلى الله عليه وسلم وفي لفظ انه حجنه بمحجنه فانطلق متقدما بين يدي الركب وفي رواية فلقد رأيتني أكفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حياء منه لا يسبقه أي وهو ينازعني خطامه مع أني كنت أرجو أن يستاق معنا ثم قال له صلى الله عليه وسلم أتبيعنيه فابتاعه منه أي بأوقية وقيل بأربع اواق وقيل بخمس أواق وقيل بخمسة دنانير وقيل بأربعة دنانير بعد ان أعطعاه فيه أولا درهما ممازحا له فقال له جابر رضي الله تعالى عنه تبيعني يا رسول الله وفي رواية لا زال صلى الله عليه وسلم يزيده درهما درهما فيقول جابر أخذته بكذا والله يغفر لك يا رسول الله قال بعضهم كأنه صلى الله عليه وسلم أراد بأعطائه درهما درهما أن يكثر استغفاره له وقال له لك ظهره إلى المدينة وفي رواية وشرط لي ظهره إلى المدينة أي واستغفر لجابر رضي الله تعالى عنه في تلك الليلة خمسا اوعشرين مرة وقيل سبعين مرة فلما وصل صلى الله عليه وسلم المدينة أعطاه الثمن ووهب له الجمل
____________________
(2/575)
أي وقيل إن هذه القصة أي ابطاء جمل جابر رضي الله تعالى عنه إنما اكان في رجوعه صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة وقيل كانت في رجوعه من غزوة تبوك
أي والذي في البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فكمنت على جمل ثقال إنما هو في آخر القوم فمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال من هذا فقلت جابر بن عبد الله قال فمالك قلت إني على جمل ثقال قال أمعك قضيب قلت نعم قال أعطنيه فضربه فزجره فكان من ذلك المكان من أول القوم قال بعنيه قل بل هو لك يا رسول الله قال بل بعنيه فقد أخذته بأربعة دنانير ولك ظهره غلى المدينة لفما قدمت المدينة قاليابلال اقضه وزده فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطا قال جابر رضي الله عنه أعطاني الجمل وسهمي مع القوم
وفي لفظ عن جابر قال دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فدخلت إليه فلفت الجمل في ناحية البلاط فقلت يا رسول الله هذا جملك فخرج صلى الله عليه وسلم فجعل يطوف بالجمل قال الثمن والجمل لك وفي لفظ إنما باعه له بوقية اي ذهب وأنه استثنى حملانه إلى أهله فلما قدم المدينة وانقره الثمن وانصرف أرسل على اثره وقال له ما كنت لآخذ جملك فخذ جملك
وعن جابر رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم اشتراه بطريق تبوك بأربع أواق وفي لفظ بعشرين دينار فليتأمل الجمع بين هذه هذه الروايات على تقدير صحتها فإن التعدد بعددها بعيد
قيل سميت ذات الرقاع باسم شجرة كانت في ذلك المحل يقال لها ذات الرقاع أو لأنهم رقعوا راياتهم او لأنهم لفوا على أقدامهم الخرق لما حصل لهم الحفاء كما تقدم أو لأن الصلاة رقعت فيها او لأن الجبل الذي نزلوا به كانت أرضه ذات ألوان تشبه الرقاع فيه بقع حمر وسود وبيض واستغربه الحافظ ابن حجر
قال الإمام النووي رحمه الله ويحتمل أنها سميت بالمجموع قال وفي هذه الغزوة جاءته صلى الله عليه وسلم امرأة بدوية باني لها فقالت يا رسول الله هذا ابني قد غلبني عليه الشيطان ففتح فاه فبزق فيه وقال اخسأ عدو الله أنا رسول الله ثم قال صلى الله عليه وسلم شأنك بابنك لن يعود إليه شيئ مما كان يصيبه أي فكان كذلك
____________________
(2/576)
وفيها أيضا جاء رجل بفرخ طائر فأقبل أحد أبويه حتى طرح نفسه بين يدي الذي أخذ فرخه فعجب الناس من ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتعجبون من هذا الطائر أخذتم فرخه فطرح نفسه رحمة لفرخه ولله لربكم أرحم بكم من هذا الطائر بفرخه
وفيها ايضا جيء له صلى الله عليه وسلم بثلاث بيضات من بيض النعام فقال لجابر دونك يا جابر قال جابر فاعمل هذه البيضات رضي الله تعالى عنه فعملتهن ثم جئت بهن في قصعة فجعلنا نطلب خبزا فلم نجد فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه يأكلون من ذلك البيض من بغير خبز حتى انتهى كل إلى حاجته أي إلى الشبع والبيض في القصعة كما هو
وفيها ايضا جاء جمل يرفل أي حتى وقف عنده صلى الله عليه وسلم وأرغى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتدرون ماقال هذا الجمل هذا جمل يستعيذ بي على سيده يزعم أنه كان يحرث عليه منذ سنين وانه أراد أن ينحره اذهب يا جابر إلى صاحبه فأت به قال جابر رضي الله تعالى عنه فقلت لاأعرفه قال أنه سيدلك عليه قال جابر فخرج بين يدي حتى وقف على صاحبه فجئته به فكلمه صلى الله عليه وسلم في شان الجمل آه
وعن عبدالله بن جعفر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائط رجل من الأنصار فإذا جمل فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حين وذرفت عيناه فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح عليه فسكن ثم قال من رب هذا الجمل فجاء فتى من الانصار فقال هذا لي يا رسول الله فقال ألا تتقي الله عز وجل في هذ البهيمة التي ملكك الله فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه
وفي رواية كنا جلوسا مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعير أقبل حتى وقف على هامة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرغا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ايها البعيراسكن فان تك صادقا فلك صدقك وأن تك كاذبا فعليك كذبك إن الله تعالى قد امن عائدنا ولن يخيب لأئذنا فقلنا يا رسول الله ما يقول هذا البعير قال يريد أهله نحره وأكل لحمه فهرب منهم واستغاث بنبيكم فبينما نحن كذلك إذ أقبل أصحابه يتقعادون فلما ظر إليهم البعير عاد إلى هامة الرسول صلى الله عليه وسلم فلاذ بها فقالوا يا رسول الله
____________________
(2/577)