وقدم الخبر بأن الأمير سودن بن عبد الرحمن لما نزل على صفد تلقاه الأمير مقبل نائبها، ونزل معه على جسر يعقوب. خرج تنبك البجاسي من دمشق بعدما تقدم ذكره من محاربة الأمراء حتى نزل على الجسر في يوم الجمعة حادي عشره، وقد قطع سودن بن عبد الرحمن الجسر فباتوا يتحارسون، وأصبحوا يوم السبت ثاني عشره يترامون نهارهم كله حتى حجز الليل بينهم، فباتوا ليلة الأحد على تعبيتهم. وأصبح تنبك يوم الأحد ثالث عشره راحلاً إلى جهة الصبيبة، في انتظار ابن بشارة أن يأتيه تقوية له، فكتب سودن بذلك إلى السلطان، وركب بمن معه على جرائد الخيل، وترك الأثقال في مواضعها مع نائب القدس. وساق حتى دخل دمشق في يوم الأربعاء سادس عشره، فتمكن من القلعة. فللحال أدركهم تنبك، وقد بلغه مسيرهم، فلقوه عند باب الجابية، وقاتلوه، فثبت لهم مع كثرتهم، وقاتلهم أشد قتال، والرمي ينزل عليه من القلعة، فتقنطر عن فرسه لضربة أصابت كتفه، حتى خلته فتكاثروا عليه، وجروه إلى القلع ومعه نحو عشرين من أصحابه. وكتب بذلك للسلطان، فقدم الكتاب الأول من جسر يعقوب في يوم الأحد عشرينه، فاضطرب الناس، ووقع الشروع في السفر، وأحضرت خيول كثيرة من مرابطها بالربيع، فقدم الخبر الثاني بأخذ تنبك البجاسي بدمشق، فدقت البشائر، وكتب بقتل تنبك، وحمل رأسه إلي مصر، وتتبع من كان معه. وبطلت حركة السفر.
وفيه ابتدئ بهدم المأذنة التي أنشأها الملك المؤيد شيخ على باب الجامع الأزهر، من أجل أنها مالت حتى قرب سقوطها.
وفي رابع عشرينه: خلع على الشيخ سراج الدين عمر بن علي بن فارس الخلاطي المعروف بقارئ الهداية. واستقر في مشيخة خانقاه شيخو، عوضاً عن شرف الدين يعقوب بن التباني.
وفي سابع عشرينه: نودي على جانبك الصوفي، ووعد من أحضره بألف دينار، وإن كان جندياً بإمرة عشرة وهدد من أخفاه وظهر عنده، بإحراق الحارة التي هو ساكن بها، وحلف المنادي على كل واحدة مما ذكر يميناً عن السلطان.
شهر ربيع الأول، أوله الخميس: فيه خلع على ولي الدين محمد السفلي الشافعي، واستقر في إفتاء دار العدل، لا عن أحد وفي ثانيه: نودي بالخروج إلى حرب مكة، فاستشنع ذلك. وكان قد بطل أمر التجويده إلى مكة، شغلاً بخبر تنبك البجاسي. فلما تفرغ قلب السلطان اشتغل بأمر مكة.
وفي رابعه: أنفق في المجردين مبلغ أربعين ديناراً، لكل واحد.
وفي حادي عشره: قدم رأس تنبك البجاسي وعلق على باب النصر.
وفي يوم الخميس خامس عشره: رسم بفتح كنيسة قمامة بالقدس، ففتحت.
وفي سابع عشره: ركب السلطان حتى عبر من باب زويلة وشاهد عمارته ومضى من باب النصر إلى القلعة، وهو بثياب جلوسه، من غير شارة الملك.
وفي ثامن عشره: خرجت التجريدة إلى مكة، صحبة الشريف علي بن عنان.
وفي يوم الثلاثاء عشرينه: خلع على شمس الدين محمد بن عبد الدايم البرماوي، واستقر في تدريس الفقه للشافعية بالجامع المؤيدي، وكان بيد قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن حجر. وفي سابع عشرينه: خلع على الأمير أزبك رأس نوبة، واستقر دواداراً كبيراً، عوضاً عن. الأمير سودن من عبد الرحمن نائب الشام، وكانت شاغرة هذه المدة. وخلع على الأمير تغري بردي المحمودي واستقر رأس نوبة، عوضاً عن الأمير أزبك.
شهر ربيع الآخر، أوله الجمعة: في ثانيه: خلع على قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن حجر، وأعيد إلى تدريس الجامع المؤيدي. وخلع على البرماوي واستقر نائباً عن حفيد قاضي القضاة ولي الدين أبي زرعة بن العراقي فيما باسمه من وظائف جده، حتى يتأهل لمباشرتها.
وفي تاسعه: خلع على قاضي القضاة شمس الدين محمد الهروي، واستقر في كتابة السر، عوضاً عن الجمال يوسف بن الصفي. ونزل في موكب جليل ومعه عدة من الأمراء والأعيان.
وفي هذا الشهر: تحرك سعر الغلال، وأبيع القمح بمائتي درهم الأردب، بعد مائة وأربعين. وقل وجوده.
وفي سابع عشره: ختن السلطان ولده الأمير ناصر الدين محمد، وعمل لختانه مهما حضره الأمراء، ثم خلع عليهم، وأركبهم خيولاً بقماش ذهب، وما منهم إلا من نقط عند الختان بمبلغ ذهب، فجمع النقوط وصرف للمزين منه مائة دينار، وحمل البقية إلى الخزانة.(3/280)
وفي هذه الأيام: عثر بعض الناس بجماعة قد خزنوا من رمم بني أدم شيئاً كثيراً، فحملوا إلى الوالي، فما زال بهم حتى أقروا أنهم ينبشون الأموات من قبورهم، ثم يغلون الميت في الماء بنار شديدة، حتى ينهري لحمه، ويجمعون ما يعلو الماء من الدهن، ثم يبيعونه للفرنج بخمسة وعشرين دينار القنطار، فحبسوا، ونسي خبرهم بعد ما شاهد الناس رمم الموتى عندهم والأواني التي بها الدهن، وحملت إلى السلطان حتى رآها وشق بها القاهرة.
وفي خامس عشرينه: حضر السلطان نفقة جامكية المماليك، وقطع عدة ممن له إقطاع بالحلقة.
شهر جمادى الأول، أوله السبت: في ثالثه: خلع على زين الدين عبد الرحيم الحموي الواعظ، واستقر خطيباً بالجامع الأشرفي.
وفي رابعه: نودي من نزل عن وظيفة تصوف بخانكاة أو غير تصوف ضرب بالمقارع. وسبب ذلك أن جماعة ممن له تصوف بخانكاة سعيد السعداء، وخانكاة بيبرس والظاهرية المستجدة بين القصرين، وبخانكاة شيخو، وبالجامع المؤيدي، أخذوا في النزول عما باسمهم من التصوف بمال حتى يتشفعوا بمن له جاه، ويستقروا في عمارة السلطان من جملة صوفيتها، كما فعل جماعة عند ما أنشأ الملك المؤيد شيخ الجامع بجوار باب زويلة، وجعل فيه صوفية، فوشى بذلك للسلطان، فمنع من ذلك ليستقر في جامعه من ليس له وظيفة من فقراء أهل العلم.
وفي يوم الجمعة سابعه: أقيمت الخطبة بالجامع الأشرفي، و لم يكمل منه سوى الإيوان القبلي.
وفي خامس عشره: قدم قاضي القضاة نجم الدين عمر بن حجي من دمشقي، وقد طب الحضور.
وفي ثامن عشره: خلع على الأمير ناصر الدين محمد بن العطار الحموي الذي كان نائب الإسكندرية، واستقر ناظر القدس والخليل عليه السلام، عوضاً عن الأمير حسام الدين حسن نائب القدس.
وفي هذا الشهر: صودر أعيان دمشق، وهي ثالث مصادرة.
وفي تاسع عشرينه: قبض على الأمير ناصر الدين محمد بن أبي والي أستادار، وعلى ناظر الديوان المفرد كريم الدين عبد الكريم بن سعد الدين بركة المعروف بابن كاتب حكم، وعوقاً بالقلعة.
شهر جمادى الآخرة، أوله الأحد: في ثانيه: خلع على الأمير صلاح الدين محمد بن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، وأعيد أستاداراً عوضاً عن ابن أبي والي، وأضيف إليه كشف الوجه البحري، فنزل في موكب جليل، ومعه أكثر الأمراء الأكابر، وعامة الأعيان.
وفيه قدم الخبر بوصول الشريف علي بن عنان إلى ينبع بمن معه من المماليك المجردين. وتوجه الأمير قرقماس معه إلى مكة، فدخلوها يوم الخميس سادس جمادى الأولى، بغير حرب. وأن الشريف حسن بن عجلان سار إلى حلي بنى يعقوب من بلاد اليمن. وأن الوباء. بمكة ابتدأ من نصف ذي الحجة، واستمر إلى آخر شهر ربيع الآخر، فمات بها نحو ثلاثة آلاف نفس. وأنه كان يموت في اليوم خمسون إنساناً عدة أيام، وأن الوباء تناقص من أوائل جمادى الأولى. وأنه جاء في ثالث جمادى الأولى سيل عظيم، حتى صار المسجد الحرام بحراً، ووصل الماء إلى قريب من الحجر الأسود، وصار في المسجد أوساخ، وخرق كثيرة، جاء بها السيل، وأن الخطبة أعيدت بمكة لصاحب اليمن في سابع جمادى الأولى، بعد ما ترك اسمه والدعاء له من أيام الموسم.
وفي يوم الأربعاء رابعه: جمع القضاة وأهل العلم، وقد رسم بأخذ زكوات أموال الناس للسلطان، فاتفقوا على أنه ليس له أخذها في هذا الزمان، فإن النقود من الذهب والفضة، والناس مأمونون فيها على إخراج زكاتها. وأما العروض من القماش ونحوه مما هو بأيدي التجار، فإن المكوس أخذت منهم في الأصل على أنها زكاة، ثم تضاعفت المكوس المأخوذة منهم، حتى جرى فيها ما جرى. وأما البهائم من الإبل والغنم، فإن أرض مصر لا ترعى فيها سائماً، وإنما هي تعلف بالمال، فلا زكاة فيها. وأما الخضروات والزروع، فإن الفلاحين في حال من المغارم معروفة. وانفضوا على ذلك، فبطل ما كانوا يعملون.
وفي ثاني عشره: خلع على الوزير الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ، وأضيف إليه نظر الديوان المفرد، رفيقاً للأمير صلاح الدين أستادار، عوضاً عن كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب جكم واستقر ابن كاتب جكم على ما بيده من أستادار ابن السلطان.
وفي تاسع عشره: توجه قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن الكشك عائداً إلى دمشق على قضاء الحنفية بها، بعد ما أخذ منه نحو عشرة آلاف دينار.(3/281)
وفيه قدم الشريف شهاب الدين أحمد بن علاء الدين علي بن برهان الدين إبراهيم، نقيب الأشراف بدمشق، وقد طلب الحضور.
وفيه اتفقت نادرة، وهي أن زوجة السلطان لما ماتت، عمل لها ختم عند قبرها في الجامع الأشرفي، ونزل ابنها الأمير ناصر الدين محمد من القلعة لحضور الختم، وقد ركب في خدمته الملك الصالح محمد بن ططر، فشق القاهرة من باب زويلة وهو في خدمة ابن السلطان، بعد ما كان في الأمس سلطاناً. وصار جالساً بجانبه في ذلك الجامع، وقائماً في خدمته إذا قام، فكان في ذلك موعظة لمن اتعظ.
وفي يوم السبت المبارك حادي عشرينه: خلع على قاضي القضاة نجم الدين عمر ابن حجي، واستقر كاتب السر، عوضاً عن شمس الدين محمد الهروي. ونزل على فرس بسرج ذهب وكنبوش زركش، في موكب جليل إلى الغاية، فكان يوماً مشهوداً. وقد ظهر نقص الهروي وعجزه، فإنه باشر بتعاظم زائد، مع طمع شديد وجهل. مما وسد إليه، حيث كان لا يحسن قراءة القصص ولا الكتب الواردة فتولى قراءة ذلك بدر الدين محمد بن مزهر نائب كاتب السر وصار يحضر الخدمة، ويقف على قدميه، وابن مزهر هو الذي يتولى القراءة على السلطان.
وفي رابع عشرينه: ابتدئ بهدم ربع الحلزون تجاه قبو الخرنفش. وكان وقفاً على فكاك الأسرى ببلاد الفرنج، وعلى الحرمين. وقد خلق من قدم السنين، فعوض بدله مسمط تجاه مصبغة الأزرق، وصار من حملة الأملاك السلطانية.
وفي سلخه: خلع على الشريف شهاب الدين أحمد نقيب الأشراف بدمشق، واستقر قاضي القضاة بدمشق، عوضاً عن القاضي نجم الدين عمر بن حجي كاتب السر، على مال كبير. شهر رجب، أوله الاثنين: في رابعه: خلع على شخص قدم من بلاد الروم عن قرب، يقال له علاء الدين علي، واستقر في مشيخة التصوف، وتدريس الفقه، على مذهب الحنفية بالجامع الأشرفي.
وقدم الخير بأخذ الفرنج مركبين قريباً من دمياط، فيها بضائع كثيرة، وعدة أناس، يزيدون على مائة رجل، فكتب بإيقاع الحوطة على أموال التجار التي ببلاد الشام والإسكندرية ودمياط، والختم عليها، وتعويقهم عن السفر إلى بلادهم.
وفي عشرينه: توجه قاضي القضاة شمس الدين محمد الديري - شيخ المؤيدية لزيارة القدس.
وفي يوم الأحد حادي عشرينه: نزل السلطان إلى الجامع الذي أنشأه، وجلس به قليلا. ثم ركب عائداً إلى القلعة.
وفيه قدم الشيخ شمس الدين محمد بن محمد بن الجزري الدمشقي ، وقد غاب عن مصر والشام نحوا من ثلاثين سنة، فإنه فر من ضائقة نزلت به إلى مدينة برصا، فأكرمه أبو يزيد بن عثمان ونوه به، حتى حاربه تيمورلنك وأسره، فتحول ابن الجزري من بلاد الروم إلى سمرقند في خدمة تيمور، وأقام ببلادهم حتى قدم في هذه الأيام.
وفي رابع عشرينه: نودي على النيل، وقد جاءت القاعدة ستة أذرع وعشرين إصبعاً.
شهر شعبان، أوله الأربعاء: فيه تتبعت البغايا وألزمن بالزواج، وأن لا يزاد في مهورهن على أربعمائة درهم من الفلوس، تعجل منها مائتان وتؤجل مائتان. ونودي بذلك، فلم يتم منه شيء.
وفيه ابتدئ بقراءة صحيح البخاري بين يدي السلطان، وحضرة القضاة، ومشايخ العلم، والهروي، وابن الجزري، وكاتب السر نجم الدين بن حجي، ونائبه بدر الدين محمد بن مزهر، وزين الدين عبد الباسط ناظر الجيش، والفقهاء الذين رتبهم المؤيد. فاستجد في هذه السنة حضور كاتب السر ونائبه وحضور ناظر الجيش. وكانت العادة من أيام الأشرف شعبان بن حسين أن يبدأ بقراءة البخاري أول يوم من شهر رمضان، ويحضر قاضي القضاة الشافعي، والشيخ سراج الدين عمر البلقيني، وطائفة قليلة العدد لسماع الحديث فقط. ويختم في سابع عشرينه، ويخلع على قاضي القضاة، ويركب بغلة رائعة بزناري تخرج له من الاصطبل السلطاني ولم يزل الأمر على هذا حتى لسلطن المؤيد شيخ، فابتدأ القراءة من أول شهر شعبان إلى سابع عشرين شهر رمضان. وطلب قضاة القضاة الأربع ومشايخ العلم، وقرر عدة من الطلبة يحضرون أيضاً، فكانت تقع بينهم بحوث يسيء بعضهم على بعض فيها إساءات منكرة، فجرى السلطان الأشرف برسباي على هذا، واستجد كما ذكرنا حضور المباشرين، وكثر الجمع. وصار المجلس جميعه صياحاً ومخاصمات، يسخر منها الأمراء وأتباعهم.
وفي هذا الشهر: كثر الوباء بدمياط، فمات عدد كثير.
شهر رمضان، أوله الخميس:(3/282)
وفي رابعه: أخرج الأمير أرغون شاه أستادار والأمير ناصر الدين محمد بن أبي وافي، من القاهرة إلى دمشق، بطالين.
وفي تاسعه: سار غائبان من ساحل بولاق خارج القاهرة، وقد قدما منذ أيام، أحدهما من الإسكندرية، والآخر من دمياط، وأشحنا بالمقاتلة والأسلحة. وأنزل فيهما ثمانون مملوكاً، وأمروا أن يشيروا في بحر الملح من جهة طرابلس، ويأخذوا من سواحل الشام عدة أغربة، عسى أن يجدوا من يتجرم في البحر من الفرنج.
وفي يوم الجمعة سادس عشره: نودي على النيل بزيادة إصبعين لتتمة خمسة عشر ذراعاً وأربعة عشر لإصبعاً ثن نقص من آخر النهار نحو أربعة أصابع فأصبح الناس في قلق، وطلبوا القمح ليشتروه، فأمسك من عنده شيء منه يده عن البيع، وضن به فاشتد طلبه، إلا أن الله فرج، وزاد في آخر يوم الأحد. ونودي عليه يوم الاثنين تاسع عشره برد ما نقص، وزيادة إصبع. واستمرت الزيادة حتى كان الوفاء في يوم الأربعاء المبارك حادي عشرينه، وهو ثالث عشر من مسرى، ففتح الخليج على العادة.
وفي هذا الشهر: سار مقاتل في بحر القلزم إلى مكة المشرفة.
شهر شوال، أوله السبت: في رابعه: ابتدئ بحفر صهريج بوسط الجامع الأزهر، فوجدت فيه أثار فسقية قديمة، فلما أزيلت، وجد - بعد ما حفر - عدة أموات.
وفيه قدم الخير بأن أبا فارس عبد العزيز بن أبي العباس أحمد - صاحب تونس وبلاد إفريقية - جهز ابنه المعتمد أبا عبد الله محمداً، من بجاية في عسكر إلى مدينة تلمسان، فحارب ملكها أبا عبد الله عبد الواحد بن أبي محمد عبد الله بن أبي حمو موسى حروباً كثيرة، حتى ملكها في جمادى الآخرة، وخطب لنفسه ولأبيه، فزالت دولة بني عبد الواد من تلمسان بعد ما ملكت مائة وثمانين سنة.
وانتهت زيادة النيل إلى سبعة عشر ذراعاً واثني عشر إصبعاً. ووقفت الزيادة خامسه، ونقص إلى يوم الأحد تاسعه، زاد إلى يوم الأربعاء ثاني عشره، فبلغ سبعة عشر إصبعاً من ثمانية عشر إصبعاً من ثمانية عشر ذراعاً. ونقص في يوم الخميس ثالث عشره وكان قد تأخر فتح سد بحر أبي المنجا عن عادته، هو وغيره مما يفتح في يوم النوروز، لتأخر وفاء النيل. فلما فتحت نقص الماء، وقلق الناس من ذلك، وطلبوا القمح ليشتروه فزاد سعر الأردب عشرة دراهم.
وفي خامس عشره: ابتدئ بهدم الربع المعروف بوقف الشهباني، تجاه الجامع الأشرفي، برأس الخراطين. وقد استبدل به لتشعث بنائه، وخوف سقوطه.
وفي عشرينه: خرج محمل الحاج إلى جهة بركة الحجاج، صحبة الأمير قرا سنقر كاشف الجيزة. ورحل الركب الأول في ثاني عشرينه، وتبعه المحمل ببقية الحجاج في ثالث عشرينه.
وفي يوم السبت تاسع عشرينه: حضر الأمراء الخدمة السلطانية على العادة، ونزلوا إلى دورهم، فاستدعى السلطان جماعة منهم لطعام عمله، منهم الأمير الكبير بيبغا المظفري فلما صار بالقلعة قبض عليه وقيد، وأنزل في النيل، حتى سجن بالإسكندرية. وقد كانت الإشاعة منذ أيام، بتنكر ما بينه وبين السلطان وأنه صار له حزب.
وفي هذا الشهر: كان أوان جذاذ النخل، فلم يثمر كبير شيء وأمحل النخل أيضاً ببلاد الصعيد، حتى عز وجود التمر هناك. وتلف الموز في هذه السنة بدمياط، وقل وجوده بأسواق القاهرة، أو فقد.
شهر ذي القعدة، أوله الاثنين: في رابعه: خلع الأمير قجق أمير سلاح. واستقر أميراً كبيراً، عوضاً عن بيبغا المظفري. وخلع على الأمير إينال النوروزي أمير مجلس، واستقر أمير سلاح عوضاً عن قجق. وأنعم بإقطاع بيبغا المظفري - ومتحصله في السنة مبلغ ستين ألف دينار - على تغري برمش نائب القلعة وعلى أينال الجكمي وهو بطال بالقدس، وكتب بإحضاره. وتغري برمش هذا من جملة تركمان بهسني، اسمه حسين، خدم بحلب في الأيام الظاهرية برقوق، بباب نائبها الأمير تغري برمش. وتنقل في الخدم حتى صار في الأيام المؤيدية شيخ دوادار الأمير جقمق الدوادار. فلما تسلطن الملك الأشرف برسباي اختص به، وجعله من جملة الأمراء.(3/283)
وفي يوم الاثنين ثامنه: خلع على شمس الدين محمد الهروي، واستقر قاضي القضاة، عوضاً عن الشيخ الحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر، فغير زيه. وهذه المرة الرابعة في تغيير زيه، فإنه كان أولاً يتزيا بزي العجم، فيلبس عمامة عوجاء بعذبة عن يساره. فلما ولي قضاء القضاة لبس الجبة، وجعل العمامة كبيرة، وأرخى العذبة من بين كتفيه. فلما ولي كتابة السر تزيا بزي الكتاب، وترك زي القضاة، فضيق كمه، وجعل عمامته صغيرة مدورة، ذات أضلاع، وترك العذبة، وصار على عنقه طوق، ولبس الذهب الحرير، ولم يخش الله، ولا استخفى من الناس. فلما أعيد إلى القضاء ثانياً خلع زي الكتاب، وتزيا - بزي القضاة وكان ضخماً، بطيناً، ألحي، فأشبه في حالاته هذه الصفاعتة من المخايلين، الذين يضحكون أهل المجانة والهزو، وماذا بمصر من المضحكات!!.
وفي يوم الاثنين: قدم الأمير أينال الجكمي من القدس، فخلع عليه واستقر أمير مجلس، عوضاً عن أينال النوروزي. وهذا الجكمي من جملة مماليك الأمير جكم، وانتقل إلى الأمير سودن بقجة. ثم صار إلى الأمير شيخ المحمودي. فلما تسلطن، عمله من جملة المماليك الخاصكية. ثم غضب عليه ونفاه، ثم أعاده من النفي لبراءته مما رمى به، فرقاه ططر حتى صار من الأمراء المقدمين. ثم قبض عليه، ونفي حتى أعاده السلطان في يوم تاريخه إلى الإمرة.
وفي يوم السبت عشرينه: وصل الغرابان بالأسرى والغنيمة. وذلك أنهما لما مرا بدمياط، تبعهما قوم من المطوعة في سلورة، حتى مروا بطرابلس سار معهم غربان إلي الماغوصة، فأضافهم متملكها، فلم يتعرضوا لبلاده، ومضوا عنه إلى بلاد يقال لها اللمسون من جزيرة قبرس، وقد استعد أهلها وأبعدوا عيالهم، وخرجوا في سبعين فارساً وثلاثمائة راجل، فقاتلهم المسلمون، وهزموهم وقتلوا منهم فارساً واحداً وعدة رجال، وحرقوا ثلاثة أغربة، وغرقوا ثلاثة أغربة، وعاثوا فيما وجدوه من ظروف العسل والسمن وغير ذلك. وأسروا ثلاثة وعشرين رجلاً، وغنموا جوخاً كثيراً، رفع للسلطان منه مائة وثلاث قطع، طرحت على التجار ولم يعط المجاهدون منها شيئاً.
وفي تاسع عشرينه: نودي بخروج أهل الريف من القاهرة ومصر إلى بلادهم فلم عمل بذلك.
وفي هذا الشهر: هبط ماء النيل، وشرق أكثر النواحي بالصعيد والوجه البحري. ومع ذلك فالأسعار رخيصة، القمح بمائة وثمانين درهماً الأردب، والشعير بخمسة وثمانين الأردب، والفول بثمانين درهماً الأردب.
وفيه كثرت الفتن، وتعددت بالوجه القبلي والبحري.
وفيه فتحت كنيسة قمامة بالقدس، وكان قد تأخر فتحها بعد ما رسم به.
شهر ذي الحجة، أوله الثلاثاء: في يوم النحر رمى بعض المماليك من أعلا الطباق بالحجارة، والسلطان يذبح الأضاحي، والمماليك تنهب لحومها، بخلاف العادة، فأصيب بعض الأمراء بحجر. ودخل السلطان داخل الدور، وكثر الكلام. وسبب ذلك أنه لم يفرق الأضاحي في المماليك، وأعطى كل واحد منهم ديناراً، فلم يرضهم هذا، و لم يكن منهم سوى ما ذكر. وسكن أمرهم.
وفي ثالث عشره: قبض على الأمير كمشبغا الفيسي، أحد أمراء الناصر فرج.
وفي ثامن عشره: خلع على سعد الدين سعد ابن قاضي القضاة شمس الدين محمد الديري، واستقر في مشيخة الجامع المؤيدي، بعد موت أبيه بالقدس.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
شرف الدين يعقوب بن الجلال رسولا بن أحمد بن يوسف التباني الحنفي في يوم الأربعاء سادس عشر صفر. وكان يعرف الفقه والعربية، وله همة ومكارم ووصلة كبيرة بالأمراء واختص بالمؤيد شيخ اختصاصاً كبيراً. وأفتى ودرس وولي نظر الكسوة، ووكالة بيت المال، ومشيخة خانكاة شيخو.
وقتل بدمشق الأمير تنبك البجاسي في أول ربيع الأول، وهو أحد المماليك الذين مروا من الناصر فرج، ولحق بشيخ المحمودي، فرقاه في سلطته، وولي نيابة حماة وحلب ودمشق، وشكرت سيرته، لتنزهه عن قاذورات المعاصي، كالخمر والزنا، مع إظهار العدل وفعل الخير.(3/284)
ومات الوزير الصاحب تاج الدين عبد الرازق بن شمس الدين عبد الله ابن كاتب المناخ، في يوم الجمعة حادي عشرين جمادى الأول، وهو متعطل، وابنه كريم الدين عبد الكريم يلي الوزارة. وباشر جده أو جد أبيه النصرانية، وترقى في الخدم بالكتابة، وأثرى منها، حتى ولي الوزارة. وكان سيوسا، لينا، ضابطا، همه بطنه وفرجه. واستجد مكس الفاكهة بعد إبطاله، فما تهني به، وصرف عن الوزارة، فكان كما يقال حتى وصلها غيري، وحملت عارها.
ومات الأمير سودن الأشقر - بدمشق في جمادى الأولى، وهو أحد المماليك الذين أنشأهم الناصر فرج. وكان عيباً كله. لشدة بخله، وكثرة فسقه وظلمه.
وتوفي بمكة قاضيها محب الدين أحمد ابن قاضيها جمال الدين محمد بن عبد الله بن ظهيرة الشافعي، في ثامن عشر ربيع الآخر. وكان مشكوراً في عمله وسيرته، له معرفة جيدة بالفقه والفرائض والحساب، ومشاركة في غير ذلك.
وتوفي خطيب مكة جمال الدين أبو الفضل ابن قاضي مكة محب الدين أحمد بن قاضي مكة أبي الفضل محمد النوبري الشافعي، في ربيع الأول.
وتوفي إمام مقام المالكية بمكة شهاب الدين أحمد بن علي النوبري. في ربيع الآخر. وماتت خوند زوجة السلطان، وأم ابنه الأمير ناصر الدين محمد، في خامس عشر جمادى الآخرة. ودفنت بالقبة من الجامع الأشرفي. وكان لها تحكم وتصرف في الأمور ومات الملك الناصر أحمد بن الأشرف إسماعيل بن الأفضل عباس بن المجاهد علي بن المؤيد داود بن المظفر يحيى بن المنصور عمر بن علي بن محمد بن رسول متملك زبيد وعدن وتعز وجبلة وحرض والمهجم، والمحالب، والمنصورة، والدملوة، والجوه، والشحر، وقوارير، من بلاد اليمن، في سادس جمادى الآخرة، بصاعقة سقطت على حصنة قوارير خارج مدينة زبيد، فارتاع، وأقام أيام لما به. وأقيم من بعده في مملكة اليمن ابنه المنصور عبد الله، وكان من شرار ملوك الأرض، فسقاً وظلماً وطمعاً.
ومات ملك المغرب صاحب فاس السلطان المنتصر أبو عبد الله محمد بن أبي سالم إبراهيم بن أبي إسحق المريني، في شهر رجب. وأقيم بعده ابن أخيه أبو زيد عبد الرحمن.
وتوفي الشيخ الملك أبو عبد الله المعروف بالعطار، في ثامن عشرين المحرم، بمدينة النحريرية، وهو آخر من بقي من أصحاب الشيخ يوسف العجمي.
وتوفي قاضي القضاة شمس الدين محمد بن عبد الله بن سعد العبسي، القدسي، الديري، الحنفي، بالقدس. وقد توجه إليه زائراً في يوم عرفه. ومولده سنة أربع وأربعين وسبعمائة تخميناً. وله معرفة بالفقه والأصول والتفسير والعربية، وفيه شهامة وقوة. نشأ بالقدس، وولي قضاء الحنفية بديار مصر، فاشتد فيه، وأجرى أموره على السداد بحسب الوقت. ثم نقل من القضاء إلى مشيخة الجامع المؤيدي، رحمه الله.
وتوفي زاهد الوقت أبي بكر بن عمر بن محمد الطريني الفقيه المالكي، في يوم النحر، بمدينة المحلة. وكان قد ترك أكل اللحم مدة أعوام؛ تورعاً لما حدث من نهب البلاد وغارتها، وقنع بما يقيم به أوده من أرض يزرعها، فكان يقتصر في قوته وملبسه على ما لا يطيقه سواه. ولو قبل من الناس ما يحبوه به لكنز قناطير مقنطرة من الذهب والفضة، لكنه أعرض عن زينة الحياة الدنيا ولذاتها، حتى لعله مات من قلة الغذاء، مع ما اشتمل عليه مع ذلك من آثار جميلة، وأيادي مشكورة، وعلم وعمل مرضي، رفع الله درجاته في عليين.
ومات صاحب حصن كيفا الملك العادل فخر الدين أبو المفاخر سليمان بن الكامل شهاب الدين غازي بن العادل مجير الدين محمد بن الكامل سيف الدين أبي بكر بن شادي.
وقتل محمد بن الموحد تقي الدين عبد الله بن المعظم غياث الدين تورانشاه بن السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن محمد الكامل بن أبي بكر العادل بن نجم الدين أيوب بن شادي، وأقيم بعده ابنه الأشرف أحمد.
سنة ثمان وعشرين وثمانمائة
أهلت و خليفة الوقت المعتضد بالله أبو الفتح داو بن المتوكل على الله أبي عبد الله محمد وليس له من الخلافة إلا مجرد الاسم بلا زيادة. وسلطان مصر والشام والحجاز الملك الأشرف برسباي الدقماقي. والأمير الكبير الأتابك قجق. والدوادار الكبير أزبك - وهو اسم - معناه الأمير جانبك، فهر صاحب الأمر والنهي في الدوادارية، بل في سائر أمور الدولة وأمير سلاح أينال النوروزي. وأمير مجلس أينال الجكمي. وأمير أخور جقمق.(3/285)
ورأس نوبة تغري بردي المحمودي. وحاجب الحجاب جرباش قاشق. وأستادار صلاح الدين محمد بن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله. وناظر الخاص الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله. والوزير الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن الوزير تاج الدين عبد الرزاق ابن كاتب المناخ. وكاتب السر نجم الدين عمر بن حجي الدمشقي.
ناظر الجيش زين الدين عبد الباسط بن خليل. وليس لأحد في الدولة تصرف غير، والأمير جانبك الدوادار. وقاضي القضاة الشافعي شمس الدين محمد الهروي. وقاضي الحنفي زين الدين عبد الرحمن التفهني. وقاضي القضاة المالكي شمس الدين محمد البساطي وقاضي الحنبلي علاء الدين علي بن مغلي. ونائب الشام سودن من عبد الرحمن. ونائب حلب شار قطلوا. ونائب حماة جلبان أمير أخور. ونائب طرابلس قصروه ونائب صفد مقبل الدوادار. ونائب الإسكندرية أقبغا التمرازي. وبمكة الشريف علي بن عنان والأمير قرقماس. وأسواق القاهرة ومصر ودمشق في كساد. وظلم ولاة الأمر من الكشاف والولاة فاش. ونواب القضاة قد شنعت قالة العامة فيهم من تهافتهم. وأرض مصر أكثرها بغير زراعة، لقصور مد النيل في أوانه، وقلة العناية يعمل الجسور، فإن كشافها، إنما دأبهم إذا خرجوا لعملها أن يجمعوا مال النواحي لأنفسهم وأعوانهم. والطرقات .بمصر والشام مخوفة من كثرة عبث العربان والعشير. والناس على اختلاف طبقاتهم قد غلب عليهم الفقر. واستولى عليهم الشح والطمع، فلا تكاد تجد إلا شاكياَ مهتماً لدنياه وأصبح الدين غريباً لا ناصر له. وسعر القمح بمائتي درهم الأردب.
والشعير بمائة وعشرة. والفول بنحو ذلك. ولحم الضأن السليخ كل رطل بسبعة دراهم ونصف ولحم البقر كل رطل بخمسة دراهم. والفلوس كل رطل بتسعة دراهم، وهي النقد الذي ينسب إليه ثمن ما يباع، وقيمة ما يعمل. والفضة كل درهم وزنا بعشرين درهماً من الفلوس والذهب الإفرنجي، المشخص بمائتي وخمسة وعشرين درهماً.
شهر المحرم، أوله الخميس: في ثانيه: قدم مبشرو الحاج وأخبروا بسلامتهم، ورخاء الأسعار. بمكة، وأنه لم يقدم من العراق حاج.
وفي رابع عشرينه: قدم الركب الأول. ثم قدم من الغد المحمل ببقية الحاج، ومعهم الشريف رميثة بن محمد بن عجلان في الحديد، وقد قبض عليه الأمير قرقماس. بمكة.
وفي هذه الأيام: رسم بتجهيز عسكر يتوجه إلى مكة، ونودي بذلك في القاهرة.
وفي تاسع عشرينه: نزل السلطان إلى جامعه، وكشف عمائره، ودخل الجامع الأزهر لرؤية الصهريج وزار به الشيخ خليفة والشيخ سعيد، وهما من المغاربة، لهما بالجامع الأزهر عدة سنين، وشهرًا بالخير. ثم خرج من الجامع إلى دار رجل يعرف بالشيخ محمد بن سلطان، فزاره، وعاد إلى القلعة.
وفي هذا الشهر: وقع الشروع في عمل مراكب حربية لغزو بلاد الفرنج.
وفيه صرف صدر الدين أحمد بن المحجمي عن نظر الجوالي، وأضيف نظرها إلى القاضي زين الدين عبد الباسط ناظر الجيوش. وكانت الجوالي قد كثر المرتب عليها للناس من أهل العلم وغيرهم، حتى لم تف بمالهم.
شهر صفر، أوله السبت: في حادي عشرينه: ركب السلطان في طائفة يسيرة بثياب جلوسه، كما قد صارت عادته. وكشف الطريدة الحربية التي تعمل بساحل بولاق وسار وقد تلاحق به بعض أهل الدولة حتى مر على جزيرة الفيل إلى التاج. ونزل بالمنظرة التي أنشأها المؤيد شيخ فوق الخمس وجوه. ثم سار في أرض الخندق إلى خليج الزعفران، وتوجه إلى القلعة.
وفي يوم الاثنين رابع عشرينه: خلع على الشيخ محب الدين أحمد بن الشيخ جلال الدين نصر الله بن أحمد بن محمد بن عمر التستري البغدادي الحنبلي. واستقر قاضي القضاة الحنابلة بعد موت علاء الدين علي بن مغلي. ومحب الدين هذا قدم من بغداد بعد سنة ثمانين وسبعمائة، فسمع الحديث، وقرأ بنفسه على مشايخ الوقت، ولازم الاشتغال حتى برع في الفقه وغيره. وقدم أبوه من بغداد باستدعائه، فنزله الظاهر برقوق في تدريس الحنابلة. بمدرسته بين القصرين. ثم نزل ابنه محب الدين هذا يدرس الحديث فيها ثم انتقل إلى تدريس الفقه بعد أبيه، وكتب على الفتوى وناب في الحكم عن ابن مغلي. وصار ممن يحضر من الفقهاء مجلس المؤيد في كل أسبوع.(3/286)
وفي ليلة الأربعاء سادس عشرينه: غرقت امرأة لها ولزوجها شهرة، لقالة سيئة عنها. وفيه صرف صدر الدين أحمد بن العجمي عن نظرة الكسوة، وأضيفت أيضاً إلى القاضي زين الدين عبد الباسط، فعنى بها، حتى لم ندرك كسوة عملت للكعبة مثلها.
شهر ربيع الأول، أوله الاثنين: في ليلة الجمعة خامسه: عمل المولد السلطاني، كما هي العادة في عمله كل سنة.
وفي سابعه: سار الأمير أرم بغا - أحد أمراء العشرات - تجريدة إلى مكة، ومعه. مائة مملوك وتوجه سعد الدين إبراهيم بن المرة - أحد الكتاب - لأخذ مكوس المراكب الواصلة من الهند إلى جدة. وجرت العادة من القديم أن مراكب تجار الهند ترد إلى عدن ولم يعرف قط أنها تعدت بندر عدن. فلما كان سنة خمس وعشرين، خرج من مدينة كاليكوت ناخذاه اسمه إبراهيم. فلما مر على باب المندب جور إلى جدة بطراده ،حنقًا من صاحب اليمن؛ لسوء معاملته للتجار، فاستولى الشريف حسن بن عجلان ما معه من البضائع، وطرحها على التجار بمكة. فقدم إبراهيم المذكور في سنة ست وعشرين على المندب، ولم يعبر عدن، وتعدى جدة وأرسى بمدينة سواكن ثم بجزيرة دهلك فعامله صاحباها أسوأ معاملة. فعاد في سنة سبع وعشرين وجور عن عدن، ومر بجدة يريد ينبع. وكان بمكة الأمير قرقمامن، فمازال يتلطف لإبراهيم حتى أرسى على جده. بمركبين، فجامله أحسن مجاملة، حتى قويت رغبته، ومضى شاكراً ثانياً. وعاد في سنة ثمان وعشرين، ومعه أربعة عشر مركباً موسوقة بضائع. وقد بلغ السلطان خبره، فأحب أخذ مكوسها لنفسه، وبعث ابن المرة لذلك، فصارت جدة من حينئذ بندرًا عظيماً إلى الغاية وبطل بندر عدن إلا قليلا. ولم تكن جدة مرسي إلا من سنة ست وعشرين من الهجرة، فإن عثمان رضي الله عنه اعتمر فيها، فكلمه مواليه أن يحول الساحل إلى جدة، وكان في الشعيبة في الجاهلية فحوله إلى جدة، ومن كان وراء قديد يحملون من الجار والأبواء، وكان ما يحمل إلى هذه المواضع قوت أهل الحرمين وعيشهم.
وفي تاسعه: عدي السلطان النيل في الحراقه، ونزل بناحية وسيم، وعاد إلى القلعة في سادس عشره.
وفي هذا الشهر: كمل الصهريج الذي عمله السلطان بصحن الجامع الأزهر، وبنيت بأعلاه مصطبة، فوقها قبة برسم تسبيل الماء، وغرس بصحن الجامع أربع شجرات نارنج فلم تفلح، وهلكت من الذباب.
وفيه أيضاً كملت الزيادة التي تولى عمارتها الأمير تاج الدين الشويكي. بميضات الجامع الأزهر، فعظم النفع بها.
شهر ربيع الآخر، أوله الثلاثاء: في سابع عشره: قدم الأمير سودن من عبد الرحمن نائب الشمام فخلع عليه وجاءته تقادم الأمراء، وتوجه إلى نيابته في سادس عشرينه.
وفي هذا الشهر: الشهر ابتدئ بعمل طريدتين حربيتين، لتتمة أربع طرائد، وأنشئت بساحل بولاق فيما انحسر ماء النيل عنه تجاه جامع الخطيري، وأخذت لها أخشاب كثيرة من قصور سرياقوس التي كان ينزل بها السلاطين أيام السرحة بسرياقوس.
وفيه أيضًا كمل بناء الحوانيت والربع فوقها، والتربيعة التي زيدت في الوراقين. وفتح لها باب كبير من آخر سوق المهامزيين. وقام بعمارة ذلك الأمير جانبك، فجاء من أحسن العمائر. وكمل أيضًا بناء الحوانيت وعلوها تجاه باب المدرسة الصالحية بجوار الصاغة وهي من العمائر السلطانية.
وفيه وقع الهدم في قصر الأمير صرغتمش المجاور لبير الوطاويط بالصليبة، خارج القاهرة وفيه كملت عمارة برج حربي بالقرب من الطينة على بحر الملح، فجاء مربع الشكل، مساحة كل ربع منه ثلاثون ذراعًا، وشحن بالأسلحة، وأقيم فيه خمسة وعشرون مقاتلاً فيهم عشرة فرسان. وأنزل حوله جماعة من عرب الطينة " فانتفع الناس به. وذلك أن الفرنج كانت تقبل في مراكبها إلى بر الطينة، وتتخطف الناس من هناك في مرورهم من قطيا إلى جهة العريش. وتولى عمارة هذا البرج الأمير زين الدين عبد القادر ابن الأمير فخر الدين عبد الغنى بن أبي الفرج. وأخذ الآجر الذي بناه به من خراب مدينة الفرما وأحرق حجارة الجير مما أخذه من الفرما، فسبحان محيل الأحوال.
شهر جمادى الأولى، أوله الخميس:(3/287)
في عاشره: خلع على الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، واستقر أستاداراً، !عوضاً عن ولده الأمير صلاح الدين محمد وخلع في ثاني عشره على كريم الدين عبد الكريم بن سعد الدين بركة المعروف بابن كاتب حكم، واستقر في نظر الخاص، عوضاً عن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله. وخلع على أمين الدين إبراهيم بن مجد الدين عبد الغني بن الهيصم واستقر في نظر الدولة، عوضًا عن ابن كاتب جكم.
وفي هذه الأيام: كثرت الإشاعات بحركة الفرنج، فخرج عدة من الأمراء والمماليك لحراسة الثغور.
وفيه كان بدمياط حريق شنيع، ابتدأ يوم الجمعة تاسعه، ذهبت فيه بيوت عديدة، وهلكت جماعة من الناس.
وفيه قدمت طائفة من الفرنج إلى صور من معاملة صفد، فحاربهم المسلمون، وقتلوا كثيراً منهم، واستشهد من المسلمين نحو الخمسين رجلاً.
وفي ثالث عشره: خلع على زين الدين عبد القادر بن أبي الفرج، واستقر شاد الخاص، وأستادار الأمير ناصر الدين محمد ابن السلطان.
وفي هذا الشهر: أصيبت عامة فواكه بلاد الشام بأسرها - من دمشق إلى حلب - في ليلة واحدة. من شدة البرد، وكانت الشمس حينئذ في برج الحمل، فتلفت الأعناب ونحوها.
شهر جمادى الآخرة، أوله الخميس: في عاشره: قبض على نجم الدين عمر بن حجي، كاتب السر، وسلم إلى الأمير جانبك الدوادار، فسجنه في برج بالقلعة، وأحيط بداره، وسبب ذلك أنه التزم عن ولايته كتابة السر، حتى وليها بعشرة آلاف دينار، ثم تسلم ما كان جارياً في إقطاع الدين داود بن الكويز باشر معه نيابة كتابة السر، وقام بأمر ديوان الإنشاء، لبعد ابن الكويز عن ذلك. فتمشت به الأحوال. ولم يزل قائماً بأمور كنابة السر، لعجز من وليها في هذه المدد، من الجمال يوسف بن الصفي ومن الهروي وغيره، حتى ولي كتابة السر، فكان أنسب الموجودين.
وفيه خلع على تاج الدين عبد الوهاب المعروف بالخطير، واستقر في نظر الاصطبل. وهذا الخطير - من سنين قريبة - أسلم، وكان يباشر بديوان السلطان وهو أمير، فرقاه في سلطنته إلى هنا.
وفيه كتب بالإفراج عن نجم الدين عمر بن حجي وإطلاقه من الحديد، وإقامته بدمشق، على أن يحمل مبلغاً ذكر له.
وفي ثامن عشرينه: قبض على السيد الشريف مقبل أمير ينبع، وسجن.
وفي هذا الشهر: عرض السلطان المماليك الذين عينهم لغزو الفرنج في البحر. وتقدم إلى كل من الأمراء الألوف بتجهيز عشرة مماليك من مماليكه.
وفيه خرج الأمير قرقماس من مكة بمن معه في طلب الشريف حسن بن عجلان حتى بلغ حلي من أطراف اليمن، فلم يقابله ابن عجلان مع قوته وكثرة من معه، بل تركه وتوجه نحو نجد تنزهاً عن الشر، وكراهة الفتنة، فعاد قرقماس وقدم مكة في العشرين منه.
شهر رجب، أوله السبت: في ثالثه: خلع على قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن حجر وأعيد إلى قضاء القضاة عوضاً عن محمد الهروي، لسوء سيرته، وقبح سريرته، وفساد طويته، وبعده عن كل خير، واشتماله على جملة الشر.
وفي رابعه: حمل الشريف مقبل أمير ينبع والشريف رميثة بن محمد بن عجلان في الحديد إلى الإسكندرية، وسجنا بها.
وفي هذه الأيام: ارتفع سعر الفول من تسعين درهماً الأردب إلى مائة وخمسين. وارتفعت أسعار الغلال بدمشق.
وفيها وقع الاجتهاد في عمل الأغربة. ولم تحسن سيرة من ولي عملها فإنه أخذ الأخشاب ظلماً، وقطع من أشجار الجميز والحور بغير رضاء أربابها، وسخر الناس في عملها، فأشبه هذا الغزو، من صلى لغير القبلة بغير وضوء عمداً.
وفيها توقفت أحوال الديوان المفرد، وتأخرت نفقة المماليك.
وفي عاشره: أدير محمل الحاج على العادة، وعرضت كسوة الكعبة على السلطان. وقد اجتهد القاضي زين الدين عبد الباسط في تأنقها، حتى جاءت في غاية من الحسن، بحيث لم يعمل فيما أدركناه مثلها.
وفي هذا الشهر: كان قطاف عسل النحل، فلم يوجد منه كبير شيء، فارتفع سعره، بلغ سعر الفول مائتي درهم الأردب.
وفيه اعتبر متحصل الديوان المفرد ومصروفه، فعجز في كل سنة مائة ألف وعشرين ألف دينار، يجبيها أستادار من النواحي بعد ما عليها من المستقر والحادث، ويتنوع في مظالم العباد، ويبالغ في العسف، حتى يسدها. ويأخذ المباشرون وأعوانه نحواً منها. فلذلك خرب إقليم مصر وآلت أحوال الناس إلى التلاشي.(3/288)
وفي ثالث عشره: أنفق في الغزاة، وهم ستمائة رجل، مبلغ عشرين ديناراً لكل واحد، وجهز الأمراء ثلاثمائة رجل. ونودي من أراد الجهاد فليحضر لأخذ النفقة.
وفي عشرينه: سارت الخيول في البر إلى طرابلس. وعدتها ثلاثمائة فرس، لتحمل الغزاة من طرابلس في البحر.
وفي هذا الشهر: خرج مركب من اللاذقية، قد شحن بمجاديف، حتى يحضرها إلى مصر برسم الأغربة التي أنشئت صحبة الريس فاضل. فلما حاذت جزيرة أرواد خرج طائفة من الفرنج يريدون أخذها، فقاتلهم المسلمون حتى قتلوا عن آخرهم وعدتهم خمسون رجلاً. وأفلت منهم رحل واحد. وأخذ الفرنج المجاديف وغيرها، وحرقوا المركب. وفاضل هذا من أهل مدينة أياس، فقدم إلى السلطان في السنة الخالية، وحسن له غزو الفرنج، ووعده بغنيمة أموال عظيمة، حتى كان من غزوة اللمسون ما كان، فأخذ في التعبئة لغزوهم ثانياً، أيده الله تعالى بنصره عليهم.
وفي شنع الوباء بدمياط وفارسكور، وكان ابتداؤه عندهم من جمادى الأولى.
وفي حادي عشره: توجه الهروي عائداً إلى القدس على وظيفة التدريس بالصالحية.
وفي يوم الجمعة ثاني عشره: ركب السلطان بعد صلاة الجمعة بثياب جلوسه كما هي عادته، حتى شاهد الأغربة بساحل بولاق، وعاد.
وفي ثالث عشرينه: ركب الأمير ناصر الدين محمد ابن السلطان والأمير جانبك، حتى شاهد توجه الأغربة. وقد أقام في دار القاضي زين الدين عبد الباسط المطلة على النيل، فانحدر في النيل أربعة أغربة بكل غراب أمير، ومقدم الجميع الأمير جرباش حاجب الحجاب، فكان يوماً مشهوداً، حشر فيه الناس من كل جهة لمشاهدة ذلك. ثم انحدر في يوم الاثنين غراب واحد، وانحدر في يوم الثلاثاء غرابان، وفي يوم الخميس سادس عشرينه غراب.
وفي هذا الشهر: قطع السلطان جرايات المباشرين من القمح، وهي خمسة آلاف أردب، فتوفرت للسلطان.
شهر شعبان، أوله الاثنين: في ثالثه: أنحدر غراب ثامن. وفيه جاء قاع النيل خمسة أذرع وعشر أصابع، ونودي علمه من الغد خمسة أصابع. وهي ابتداء النداء على النيل.
وفي يوم السبت سادسه: حدث عند شروق الشمس زلزلة قدر ما يقرأ الإنسان سورة الإخلاص، ثم زلزلت ثانياً مثل ذلك، ثم زلزلت مرة ثالثة، فلو لا أن الله لطف بسكونها، لسقطت الدور، فإن الأرض مادت، وتحركت المباني وغيرها حركة مرعبة، بحيث شاهدت حائطا خرج عن مكانه ثم عاد. وأخبرني من لا أتهم أنه كان وقت الزلزلة راكباً فرسه فخرع عن السرج حتى كاد يسقط.
وفي غده: نودي - عن أمر السلطان - بصوم الناس ثلاثة أيام من أجل الزلزلة، فما أنابوا ولا سعوا.
وفي ثامنه: نودي بأن لا يباع السكر إلا للسلطان ولا يشترى إلا منه، فعاد الأمر كما كان.
وفي ليلة الخميس ثامن عشره: وقع الحريق بثلاثة أماكن فما طفئ إلا بعد جهد.
وفي هذا الشهر: بلغ الفول ديناراً لكل أردب، بعد ما كان كل ثلاثة أرادب ونصف بدينار. وتجاوز القمح المائتين بعد مائة وخمسين. وقل وجود الغلال، وطلبها الناس، فشحت أنفس أربابها وخزنتها، هذا مع توالي زيادة النيل.
وفي هذا الشهر: اتفقت حادثتان غريبتان إحداهما أن رجلاً مر في سفره ببلاد الغربية على أتان له، وتحته خرح فيه قماش، فخرج عليه بعض قطاع الطريق وألف إلى الأرض ليذبحه، فقال له: بالله اسقني شربة ماء قبل أن تذبحني فألقى الله تعالى في قلبه عليه رحمة، لما يريده به. وفتح خرج الرجل وتناول منه إناء وعبر في الماء حتى يغترف في الإناء منه، فاختطفه تمساح، وذهب في الماء فكسره، وأكله، والرجل يراه وهو مكتوف، وأتانه واقف مع فرس قاطع الطريق، قائمان قريباً منه. فأقام كذلك حتى مر به أناس عن بعد، فصاح بهم إلى أن أتوه، فأعلمهم بما جرى له، وما كان من هلاك عدوه، فحلوا أكتافه وأتوا به وبالفرس والأتان، والخرج، إلى الوالي، فقص عليه قصته فأخذ الفرس وخلاه لسبيله. فمضى بأتانه وخرجه، فكان في هذا موعظة لمن اتعظ وكفي بالله نصيراً.(3/289)
والثانية: أن متولي الحرب بتلك النواحي وسط سبعة رجالة من قطاع الطريق وعلقهم على ممر المسافرين، كما هي عادتهم في ذلك. وأكد على الخفراء أرباب الدرك في حراستهم طول الليل، خوفاً من مجيء أهاليهم وأخذهم إياهم، وحلف بأيمانه لئن فقد أحد منهم ليوسطن الجميع فباتوا يحرسونهم حتى كاد الليل يذهب، أخذهم النوم ثم أنتبهوا في السحر، فإذا بعدة الموسطين قد نقصت واحد. فمن شدة خوفهم أن يطلع النهار ويبلغ الوالي أن الموسطين قد أخذ منهم واحد فيوسطهم بدله، مروا في الدرس المسلوك ليأخذوا من انفرد من المسافرين، يوسطوه ويعلقوه بدل الذي نقص من العدة فإذا هم برجل على حمار وتحته قفتين، فأخذوه، ووسطوه، وعلقوه مع الموسطين. فلما طلع النهار جاءهم مقدم الوالي لكشف حال الموسطين، فإذا عدتهم قد زادت واحداً فأنكر على الخفراء وأحضرهم إلى الوالي، وأعلمه الخير، فلم يجدوا بداً من الصدق وأخبروه أنهم ناموا آخر الليل، وانتبهوا سحراً فرأوا العدة قد نقصوا واحداً فما شكوا في أنه أخذه أهله، فأخذوا رجلاً على حمار من المارة ووسطوه وعلقوه مكان الذي نقص. وحلفوا أيماناً عديدة أنهم ما رأوهم إلا ناقصين واحداً. فأمر بفتح القفتين اللتين كانتا على حمار المقتول، فإذا في كل قفة نصف امرأة قد نقشت، فعلم الوالي ومن حضره أنه كان قد قتل هذه المرأة وسرى بها سحراً حتى يواريها، فقتله الله بها. وكان في هذه تذكرة لمن وعي أن الجزاء واقع.
وفي آخر هذا الشهر: أفرج عن الأمير طرباي من سجن الإسكندرية، ونقل إلى القدس ليقيم به غير مضيق عليه، وأنعم عليه بألف دينار.
شهر رمضان، أوله الثلاثاء: أهل هذا الشهر وقد انحل سعر الغلال، وكثرت في العراص والساحل من غير سبب يظهر في ارتفاعها أولا، ثم في انحطاطها، إن الله على كل شيء قدير، وبالناس لرءوف رحيم.
وفي يوم الثلاثاء ثامنه: قبض على الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله أستادار، وعلى ولده الأمير صلاح الدين محمد، وعوقا بالقلعة.
وفي يوم الخميس عاشره: خلع على الأمير زين الدين عبد القادر ابن الأمير فخر الدين عبد الغني بن أبي الفرج. واستقر أستادارا عوضاً عن الصاحب بدر الدين حسن ابن نصر الله.
وفي ثاني عشره: أفرج عن الصاحب بدر الدين، ونزل إلى داره، وقد ألزم بحمل نفقة الشهر وعليقه، وذلك نحو ثلاثين ألف دينار. وترك ابنه الأمير صلاح الدين بالقلعة رهينة على المال، فأخذ في بيع أملاكه وخيوله وثيابه وأثاثه.
وفي رابع عشره: خلع على جمال الدين يوسف بن الصفي الكركي، واستقر في كتابة السر بدمشق، عوضاً عن بدر الدين حسن.
وفي يوم الثلاثاء ثاني عشرينه - الموافق له رابع عشر مسرى - : أوفي النيل ستة عشر ذراعاً. ونزل الأمير ناصر الدين محمد ابن السلطان ففتح الخليج على العادة بعد تخليق المقياس، وركب في خدمته الصالح بن ططر.
وفي يوم الأربعاء - صبيحة الوفاء - : نودي على النيل بزيادة عشر أصباع. ونودي في يوم الخميس بزيادة عشر أصابع. وهذا من نوادر زيادات النيل.
وفي هدا الشهر: عز وجود اللحم بالأسواق.
شهر شوال، أوله الأربعاء:(3/290)
في تاسعه: ورد الخبر من طرابلس بنصرة المسلمين على الفرنج، فدقت البشائر بالقلعة، وجمع القضاة والأعيان بالجامع الأشرفي، وقرئ عليهم الكتاب ونودي بزينة القاهرة ومصر فزينتا. ثم قرئ الكتاب من الغد بجامع عمرو بن العاص. وكتبت البشائر إلى الإسكندرية والبحيرة والوجه القبلي. وبينما الناس مستبشرين بنصر الله على أعدائه إذ قدم الخبر في يوم الاثنين ثالث عشره بوصول الغزاة إلى الطينة، فكثر القلق. وكان من خيرهم أنهم لما توجهوا من ساحل بولاق، مروا على دمياط إلى طرابلس، وتوجهوا منها في بضع وأربعين مركباً إلى جزيرة الماغوصة، فخيموا في برها الغربي، وقد خاف متملكها، وبعث بطاعته للسلطان، فبلغهم تهيؤ صاحب قبرس للقائهم، واستعداداً لمحاربتهم، فباتوا بمخيمهم على الماغوصة ليلة الأحد العشرين من شهر رمضان. وشنو من الغد - يوم الأحد - الغارات على ما في غربي قبرس من الضياع، وعادوا بغنائم كثيرة، بعد ما قتلوا وأسروا وحرقوا. ثم أقلعوا ليلة الأربعاء يريدون الملاحة، وتركوا في البر أربعمائة من الرجال، يسيرون بحذائهم، فقتلوا وأسروا وحرقوا. ثم ركبوا البحر وقد وافاهم صباحا الفرنج في عشرة أغربة وقرقورة، فلم يثبتوا وانهزموا من غير حرب. فأرسى المسلمون بساحل الملاحة. وللحال كرت أغربة الفرنج راجعة إليهم، فقاتلهم المسلمون قتالاً شديداً، وهزموهم. وباءوا ليلة الجمعة خامس عشرينه، فأقبل بكرة يوه الجمعة خامس عشرينه عسكر قبرس، وعليهم أخو الملك، فقاتله نصف العسكر الإسلامي أشد قتال وهزموه بعد ما كادوا أن يؤخذوا، وقتلوا من الفرنج مقتلة كبيرة وأخرجوا الخيول من المركب إلى البر في ليلة السبت وساروا بكرة يوم السبت يقتلون ويأسرون ويحرقون القرى، حتى ضاقت مراكبهم عن حمل الأسرى، وامتلأت أيديها بالغنائم، فكتب الأمير جرباش الكريمي - حاجب الحجاب ومقدم العساكر المجاهدة - إلى الأمير قصروه نائب طرابلس بذلك، صحبة قاصد، بعثة من الغزاة ليأتيه بخبرهم فكتب الأمير قصروه كتاباً إلى السلطان وفي طيه كتاب حرباش إليه، فقرئ كما تقدم ذكره. ثم إن العسكر خاف من متملك قبرس، فإنه قد جمع واستعد، فرأى جرباش أن يعود بهم، فسار حتى أرسى على الطينة قريباً من قطيا، ومن دمياط.
وفي ثالث عشره: أفرج عن الأمير بيبغا المظفري، ونقل من سجن الإسكندرية إلى دمياط، وجهز إليه فرس ليركبه هناك.
وفي رابع عشره: نودي بالقاهرة من أراد الجهاد فعليه بالنفقة، فكثر قلق الناس.
وفي يوم الأربعاء خامس عشره: كان نوروز القبط بمصر، وماء النيل على ثمانية عشر ذراعاً وثمانية إصبعا. وهذا مما يستعظم قدره في هذا الوقت.
وفي خامس عشرينه: قدم الغزاة بألف وستين أسيراً، فباتوا بساحل بولاق، وصعدوا بكرة يوم الأحد سادس عشرينه إلى القلعة، وبين أيديهم الأسرى والغنائم وهب على مائة وسبعين حمالاً، وأربعين بغلاً وعشرة جمال ما بين خرج، وصناديق، وحديد، وآلات حربية، وأواني، فعرض الجميع على السلطان، فكان يوماً مشهوداً لم يعهد مثله في الدولة التركية والجركسية، فرسم ببيع الأسرى وتقويم الأصناف، فابتدئ في البيع من يوم الاثنين سابع عشرينه بحضرة الأمير جقمق العلاي أمير أخور. وتوفي البيع عن السلطان الأمير أينال الششماني، فاشتراهم الناس على اختلاف طبقاتهم. ورسم أن لا يفرق بين الأولاد وآبائهم، ولا بين قريب وقريبه، فكانوا يشترونهم جميعاً. وأنفق السلطان في طائفة من الغزاة ثلاثة دنانير ونصف لكل واحد، وفي طائفة سبعة دنانير لكل واحد.
وفي هذا الشهر: تعذر وجود اللحم بالأسواق أياماً، وإن وجد فإنه قليل جداً، وغلت أسعار أكثر الأقوات إلا القمح.
وفيه أنشأ زين الدين عبد الباسط، بناحية بركة الحاج بستاناً وساقية ماء، وعمر فسقية كبيرة تملأ بالماء ليردها الحجاج، فعظم الانتفاع بها.
شهر ذي القعدة، أوله الجمعة: ويوافقه عيد الصليب. كان ماء النيل على عشرين ذراعاً، تنقص إصبعاً واحداً، وقل ما عهد مثل هذا.(3/291)
وفي يوم الاثنين رابعه: اتفق بالقاهرة حادثة شنعاء لم ندرك مثلها، وهي أن رجلاً من العشير بيبروت من سواحل الشام - يقال له شعث بن أبي بكر بن الحمراء - قدم ليسعى في بعض تعلقاته، فخرج سحر هذا اليوم من داره على فرسه، ومعه غلامه، وقد سايره رجل من أهل بلاده، وأخذ يحادثه حتى وصلا بين القصرين عند شروق الشمس، فأخرج الرجل خنجراً وضرب به ابن الحمراء ضربة وأتبعها بأخرى فسقط عن فرسه. وساق الرجل فرسه فلم يتبعه أحد. وبقي ابن الحمراء طريحاً عدة ساعات، ثم دفن. وبلغ الخبر السلطان، فطلب القاتل فلم يقدر عليه. وكان سبب هذا أن ابن الحمراء قتل والد هذا الرجل من سنين عديدة، وابنه هذا صبي، فتحول إلى القاهرة، وربي بها، وصار من جملة الأجناد بخدمة الأمراء. فلما قدم ابن الحمراء في هذه الأيام القاهرة، تردد إليه هذا الرجل من أجل أنه من أهل بلاده، فأنس به وغفل عما كان منه، إلى أن جاءه الرجل في هذا اليوم على عادته، وركب معه، فوجد الفرصة قد أمكنته من عدوه، ففعل ما فعل، وأخذ بثأره.
وفي هذا الشهر: انتهت زيادة النيل إلى عشرين ذراعاً سواء.
وفيه ارتفع سعر القمح حتى تجاوز الأردب مائتي درهم من الفلوس.
وفيه هدم السلطان خرائب الططر بقلعة الجبل، وكانت خطاً كبيراً يشتمل عل مساكن عديدة، فسوى بها جميعها الأرض.
وفي يوم الأربعاء سادس عشرينه: نودي على الفلوس أن يتعامل الناس بها من حساب اثني عشر درهماً الرطل. وكانت قد قلت وعز وجودها لشح الناس بإخراجها، فربح من كان عنده منها شيء، وخسر من له مطالبات، فإنه صار درهمه نصفاً.
شهر ذي الحجة، أوله السبت.
في سابعه: اتفقت حادثة شنعاء، وهي أن الخبز قل وجوده في الأسواق، فعنده خرج بدر الدين محمود العينتابي - محتسب القاهرة - من داره سائراً إلى القلعة صاحت عليه العامة، واستغاثوا بالأمراء، وشكوا إليهم المحتسب، فعرج عن الشارع وطلع إلى القلعة وهو خائف من رجم العامة له، وشكاهم إلى السلطان. وكان يختص به، ويقرأ له في الليل تواريخ الملوك، ويترجمها له بالتركية. فحنق السلطان وبعث طائفة من الأمراء إلى باب زويلة، فأخذوا على المارة أفواه السكك ليقبضوا على الناس. فرجى بعض العبيد أحد الأمراء بحجر أصابه، فقبض عليه، وضرب. وقبض على جماعة كبيرة من الناس، وأحضروا بين يدي السلطان، فرسم بتوسيطهم ثم أسلمهم إلى الوالي فضربهم وقطع آنافهم وآذانهم، وسجنهم ليلة السبت. ثم عرضوا من الغد على السلطان فأفرج عنهم - وعدتهم اثنان وعشرون رجلاً من المستورين - ما بين شريف وتاجر، فتنكرت القلوب من أجل ذلك، وانطلقت الألسنة بالدعاء وغيره.
وفي هذه الأيام: ارتفع سعر اللحم، وعدم أياماً من الأسواق. وارتفع سعر القمح أيضاً، وعز وجوده، مع كثرته بالشون والمخازن، وعلو النيل وثباته.
وفي حادي عشرينه: خلع على شهاب الدين أحمد بن صلاح الدين بن محمد المعروف بابن المحمرة، واستقر في مشيخة الخانكاة الصلاحية سعيد السعداء، بعد وفاة شمس الدين محمد بن أحمد البيري، المعروف بأخي جمال الدين الأستادار. وابن المحي هذا كان أبوه سمساراً في الغلال بساحل بولاق، وعمه طحاناً، وولد هو بظاهر القاهرة، وقرأ القرآن وقرأ عدة كتب ما بين فقه ونحو وغيره، واشتغل على شيوخ العصر حتى برع في الفقه على مذهب الشافعي. وشارك في فنون، وجلس في حوانيت الشهود زماناً، واستنابه في الحسبة بالقاهرة بوساطة الأمير يلبغا السالمي، وكان من أصحابه. ثم ناب في الحكم بالقاهرة عن قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن بن البلقيني مدة سنين. وأثرى في قضائه، وكثر ماله. ثم صرف عن الحكم، ودرس الفقه بخانكاة شيخو بمال وزنه في التدريس، ثم ولي الخانكاة.(3/292)
وفيه قدم كتاب الأمير تغري بردي المحمودي من مكة وقد توجه حاجباً يتضمن أنه بعث، لما نزل من عقبة أيلة، قاصداً إلى الشريف حسن بن عجلان، يرغبه في الطاعة ويحذره عاقبة المخالفة، فقدم ابنه الشريف بركات بن حسن، وقد نزل بطن مر، في ثامن عشرين ذي القعدة، فسر بقدومه ودخل به معه مكة أول ذي الحجة، وحلف له بين الحجر الأسود والملتزم، أن أباه لا يناله مكروه من قبله ولا من قبل السلطان، فعاد إلى أبيه، وقدم به مكة يوم الاثنين ثالث ذي الحجة، وأنه حلف له ثانياً، وألبسه التشريف السلطاني، وقرره في إمارة مكة على عادته، وأنه عزم على حضوره إلى السلطان صحبة الركب، واستخلاف ولده بركات على مكة.
وفي خامس عشرينه: ورد إلى ساحل بولاق اثنا عشر غراب من أغربة الغزاة.
وفي ثامن عشرينه: قدم مبشرو الحاج وأخبروا بسلامة الحجاج، وأن الوقفة بعرفة كانت يوم الاثنين، وكانت بالقاهرة يوم الأحد.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
قاضي القضاة علاء الدين أبو الحسن علي بن بدر الدين أبو الثناء محمود بن أبي الجود أبي بكر بن مغلي الحموي الحنبلي، في يوم الخميس العشرين منالمحرم، وقد قارب السبعين سنة، وكانت آباؤه من سلمية، يعانون التجارة وولد هو بحماة، ونشأ بها، وعانى طلب العلم، وقدم القاهرة شاباً سنة إحدى وتسعين في زي التجار، واشتهر بكثرة الحفظ لجودة حافظته، وما زال يدأب حتى صار من أئمة الفقه والحديث والنحو، ويشارك في فنون كثيرة، وكان يحفظ في كل مذهب من المذاهب الثلاثة كتاباً، ويحفظ من مذهبه كثيراً إلى الغاية، وولي قضاء الحنابلة بحماة بعد سنة ثمانمائة، ثم ولاه المؤيد. شيخ قضاء القضاة الحنابلة بالديار المصرية، فباشره حتى مات. وكان له ثراء وسعة، ولم يخلف بعده مثله.
وقتل الأمير تغري بردي خنقاً بقلعة حلب في ربيع الأول، فمستراح منه، لا دين ولا عقل ولا مروءة، ما هو إلا الظلم والفسق.
ومات زين الدين شعبان بن محمد بن داود الآثاري في سابع عشر جمادى الآخرة، وقد ولي حسبة مصر في أيام الظاهر برقوق بمال عجز عنه، ففر إلى اليمن بعد عزله، وصار له بها حظ، لأنه كان يكتب خطاً جيداً وينظم الشعر، ثم قدم مكة بعد سنين، وقدم القاهرة، وتوجه إلى الشام، ثم عاد وهو مريض، فمات يوم قدومه، وورثه أخوه. وتوفي بدر الدين محمد بن عمر بن أبي بكر الدماميني المالكي، الأديب، الشاعر بمدينة كربركا من بلاد الهند، في شعبان، عن نحو سبعين سنة، وكان قد نشأ بالإسكندرية، وفاق في الأدب، وقال الشعر الجيد، وبرع في العربية، وعانى دولبة عمل الثياب الحرير، فاحتج، وألجأته الضرورة إلى فراره من أرض مصر، فصار له في بلاد الهند ثراء، فلم يتهن به، ومات.
وتوفي الأمير ناصر الدين محمد بن أحمد بن عمر بن يوسف بن عبد الله بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن أبي بكر التنوخي الشهير بابن العطار الحموي ناظر القدس، في ثالث عشر شوال، ببلد الخليل عليه السلام، ومولده في سنة أربع وسبعين وسبعمائة. وكان أبوه من أعيان أهل حماة، يباشر أستادار الأمراء، واختص بالظاهر برقوق أيام سجنه بالكرك، وقد كان بها، وخرج معه منها، فمات قبل عود الملك إليه، فاستدنى الظاهر برقوق ابنه ناصر الدين هذا، وأنعم عليه بإمرة في حماة، ثم ولي حجوبية حماة. ونوه به ناصر الدين محمد بن البارزي، لما ولي كتابة السر، لقرابته به، وولاه نيابة الإسكندرية ، فلما مات - وهو المؤيد - صرف عنها ثم ولاه السلطان نظر القدس والخليل، وكان من خير من صحبت ديانة وملازمة لتلاوة القرآن، ومعرفة وخبرة ومشاركة، في فنون من العلم.
ومات الفقيه نور الدين علي بن أحمد بن سلامة السليمي المكي، بها، في أخريات شوال، وقد أناف على الثمانين، وكان فقيهاً شافعياً فاضلاً في فنون، قدم القاهرة وسمع معنا الحديث وتردد إلى سنن بالقاهرة ومكة.(3/293)
وتوفي شمس الدين محمد بن أحمد بن أحمد بن جعفر بن قاسم البيري الحلبي، أخو الأمير جمال الدين يوسف الأستادار، في يوم الجمعة المبارك رابع عشر ذي الحجة، عن نحو الثمانين سنة، وكان يلي قضاء البيرة، ثم قدم القاهرة وولي قضاء القضاة بحلب مدة ثم عزل وعاد إلى القاهرة، ودرس بالمدرسة الناصرية المجاورة لقبة الإمام الشافعي بعد الجلال محمد أبي البقاء، ووفي مشيخة الخانكاه الركنية بيبرس بعد الشريف بدر الدين حسن النسابة، كل ذلك بجاه أخيه. فلما قتل أخوه نكب وصرف، ثم أفرج عنه وولي في أيام المؤيد شيخ الخانكاه الصلاحية سعيد السعداء حتى مات وكان فيه سكون، ويذكر عنه تدين.
وقتل الأمير طوغان - أمير أخور في أيام المؤيد شيخ - ذبحا بقلعة المرقب، في ذي الحجة، وكان من جملة التراكمين، يخدم سايس خيل بعض أجنادها، فترقى حتى صار أمير أخور كبير للملك المؤيد، وله به اختصاص، ثم نكب بعده حتى قتل، وهو كما قيل: لم أبك منه على دنيا ولا في دين.
ومات الأمير سيف الدين أبو بكر حاجب طرابلس بها، وقد تكرر ذكره في أيام الأمير جكم، وكان مشكوراً.
سنة تسع وعشرين وثمانمائة
أهلت وخليفة الزمان المعتضد بالله أبو الفتح داود بن المتوكل على الله أبو عبد الله محمد، وسلطان الإسلام الملك الأشرف أبو العز برسباي الدقماقي، وأتابك العساكر الأمير الكبير قجق، وأمير مجلس الأمير أينال الجكمي، وأمير سلاح الأمير أينال النوروزي، وأمير أخور الأمير جقمق، والدوادار الأمير أزبك، ورأس نوبة تغري بردي المحمودي، وحاجب الحجاب الأمير جرباش قاشق، وأستادار الأمير زين الدين عبد القادر ابن الأمير الوزير فخر الدين عبد الغني ابن الوزير تاج الدين عبد الرزاق بن أبي الفرج، والوزير كريم الدين عبد الكريم ابن الوزير الصاحب تاج الدين عبد الرزاق بن شمس الدين عبد الله بن كاتب المناخ، وناظر الخاص كريم الدين عبد الكريم بن سعد الدين بركة بن كاتب جكم، وكاتب السر بدر الدين محمد بن محمد بن أحمد بن مزهر، وناظر الجيش زين الدين عبد الباسط بن خليل، وقاضي القضاة الشافعي الحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر، وقاضي القضاة الحنفي زين الدين عبد الرحمن التفهني، وقاضي القضاة المالكي شمس الدين محمد بن عبد البساطي، وقاضي القضاة الحنبلي محب الدين أحمد بن نصر الله البغدادي، ونائب الشام الأمير سودن من عبد الرحمن، ونائب شارقطوا، ونائب حماة الأمير جلبان أمير أخور، ونائب طرابلس الأمير قصروه، ونائب صفد الأمير مقبل الداوادار، ونائب الإسكندرية الأمير أقبغا التمرازي، وأمير مكة الشريف حسن بن عجلان، وأمير المدينة النبوية عجلان بن نعير.
وأسعار المبيعات بالقاهرة مع عامة الأقوات قليلة، سيما اللحم واللبن والجبن، لم نعهد مثل قلتهم في هذا الوقت، وقد انحل سعر الغلال، وأبيع الأرز بألف درهم الأردب. والدينار الأفرنتي. بمائتين وخمسة وعشرين درهماً من الفلوس، والفلوس باثني عشر درهماً الرطل، وأحوال الناس بديار مصر وبلاد الشام واقفة، لقلة مكاسبهم، وقد شمل إقليم مصر - مدينتها وأريافها - الخراب، لا سيما الوجه القبلي، فمن شدة فقر أهله وفاقتهم وسوء أحوالهم لا يتبايعون إلا بالغلال، لعدم الذهب والفضة، بعد ما كان ما كانوا فيه من الغنى والسعة في غاية.
شهر الله المحرم، أوله الاثنين: في ليلة الخامس عشر: خسف جرم القمر بأجمعه، ومكث جميع جرمه منخسفا نحو ثماني عشر درجة.
وفي يوم الاثنين: هذا خلع على الأمير أينال الششماني، واستقر في حسبة القاهرة، عوضاً عن بدر الدين محمود العينتابي.
وفي تاسع عشره: قدم الشريف رميثة بن محمد بن عجلان، وقد أفرج عنه من سجنه بالإسكندرية.
وفي عشرينه: منع قضاة القضاة الأربع من الإكثار من نواب الحكم بالقاهرة ومصر، وأن لا يزيد الشافعي على عشرة نواب، ولا يزيد الحنفي على ثمانية، ولا المالك على ستة ولا الحنبلي على أربعة، فعمل بذلك مدة أيام، وعادوا لما نهوا من الاستكثار منهم، ولو كان ذلك من الخير لنقص.(3/294)
وفي ثالث عشرينه: قدم الركب الأول من الحجاج، وتتابع قدومهم حتى قدم الأمير تغري بردي المحمودي رأس نوبة بالمحمل، وتبعه ساقة الحاج وهم في ضر وبؤس شديد، من غلاء الأسعار، وقدم معه أيضاً الأمير قرقماس المقيم هذه المدة بمكة، وقدم الشريف حسن بن عجلان، فأكرم، ثم خلع عليه سابع عشرينه، واستقر في إمارة مكة على عادته، وألزم بثلاثين ألف دينار، فبعث قاصده إلى مكة حتى يحصرها، وأقام هو بالقاهرة رهينة، و لم يقع في الدولة الإسلامية مثل هذا.
وفي هذا الشهر: كثر موت الجاموس، ولذلك قلت الألبان والأجبان.
وفيه تجددت على الحجاج مظلمة لم تعهد من قبل، وذلك أنه منع التجار أيام الموسم أن يتوجهوا من مكة إلى بلاد الشام. مما ابتاعوه من أصناف تجارات الهند، وألزموا أن يسيروا مع الركب إلى مصر حتى يؤخذ منهم مكوس ما معهم، فلما نزل الحجاج بركة الحاج وخرج مباشرو الحاج وأعوانهم، واشتدوا على جميع القادمين من التجار والحجاج، واستقصوا تفتيش محايرهم وأحمالهم، وأخرجوا سائر ما معهم من الهدية وأخذوا مكسها، حتى أخذوا من المرأة الفقيرة مكس النطع الصغير عشرة دراهم فلوساً، وأما التجار فإنه كان أخرج إليهم في السنة الخالية بعض مسالمة الأقباط من القاهرة - كما تقدم ذكره - فوصل إلى مكة، ومضى إلى جدة بأعوانه، فضبط ما وصل في المراكب من بلاد الهند وهرمز من أصناف المتجر، وأخذ منها العشور، فقدم في المراكب الهندية إلى جدة في هذه السنة زيادة على أربعين مركباً تحمل أصناف البضائع، وذلك أن التجار وجدوا راحة بجدة، بخلاف ما كانوا يجدون بعدن، فتركوا بندر عدن واستجدوا بندر جدة عوضه، فاستمر بندر جدة عظيماً، وتلاشى أمر عدن من أجل هذا، وضعف حال متملك اليمن، وصار نظر جدة وظيفة سلطانية يخلع على متوليها، ويتوجه في كل سنة إلى مكة في أوان ورود مراكب الهند إلى جدة، ويأخذ ما على التجار ويحضر إلى القاهرة به، وبلغ ما حمل إلى الخزانة من ذلك زيادة على سبعين ألف دينار، سوى ما لم يحمل، فجاء للناس ما لا عهد لهم بمثله، فإن العادة لم تزل من قديم الدهر في الجاهلية والإسلام أن الملوك تحمل الأموال الجزيلة إلى مكة لتفرق في أشرافها ومجاوريها، فانعكست الحقائق، وصار المال يحمل من مكة، ويلزم أشرافها بحمله، ومع ذلك فمنع التجار أن يسيروا في الأرض يبتغون من فضل الله، وكلفوا أن يأتوا إلى القاهرة حتى تؤخذ منهم المكوس على أموالهم، وأني لأذكر أن الملك المؤيد شيخاً نظره مرة في أيام قدوم الحاج فرأى من أعلى قلعة الجبل خياماً مضروبة بالريدانية خارج القاهرة، فسأل عنها، فقيل عنها، فقيل له إن العادة أن ينصب ناظر الخاص عند قدوم الحاج خياماً هناك ليجلس فيها مباشرو الخاص وأعوانه، حتى يأخذوا مكس ما معهم من البضائع، فقال: والله إنه لقبيح أن يعامل الحاج عند قدومه بهذا، واستدعى بعض أعيان الخاصكية، وأمره أن يركب ويسوق حتى يأتي تلك الخيام ويهدمها على رءوس من فيها، ويضربهم حتى يحملوها وينصرفوا، ففعل ذلك، و لم يتعرض أحد في تلك السنة للحجاج، وكان ناظر الخاص إذ ذاك الصاحب بدر الدين حسن نصر الله، ولعمري لقد سمعت عجائز أهلنا وأنا صغير يقلن انه ليأتي على الناس زمان يترحمون فيه على فرعون فبرغمي إن مضين وخلفت حتى أدركت وقوع ما أنذرنا به قبل، ولله عاقبة الأمور.
شهر صفر، أوله الأربعاء: في نصفه: جع السلطان الأمراء والقضاة وكثيراً من التجار، وتحدث في إبطال المعاملة بالذهب المشخص الذي يقال له الأفرنتي، وهومن ضروب الفرنج، وعليه شعار كفرهم الذي لا تجيزه الشريعة المحمدية. وهذا الأفرنتي كما تقدم ذكره قد غلب في زمننا من حدود سنة ثمانمائة على أكثر مدائن الدنيا، من القاهرة ومصر وجميع أرص الشام، وعامة بلاد الروم والحجاز واليمن، حتى صدر النقد الرابح، فصوب من حضر رأي السلطان في إبطاله، وان يعاد سبكه بدار الضرب، ثم يضرب على السكة الإسلامية، فطلب من الغد صياغ دار الضرب، وشرع في سبك ما عنده من الدنانير الإفريقية.(3/295)
وفي هذا الشهر: عز وجود الخبز في الأسواق أحياناً، مع كثرة الغلال وقلة طالبيها. وفقد اللحم أيضاً عدة أيام من قلة جلب الأغنام، وسبب ذلك أن الوزير يحتاج في كل يوم إلى اثني عشر ألف رطل من اللحم برسم المماليك السلطانية، ومطبخ السلطان وحريمه، فحجر على باعة اللحم أن يزيدوا في سعره حتى لا يزداد عليه ما يقوم به في ثمن اللحم، واقتني أغناماً كثيرة، وصار يشتريها بما يريد، فلا تصل أثمانها إلى بائعها إلا وقد بخسوا فيها، كما هي عادتهم في بخس الناس أشياءهم، فنفر تجار الغنم وجلابتها من الحضور بها إلى أسواقها، خوفاً من الخسارة، وكانت أراضي مصر في السنة الخالية محلاً من قلة ماء النيل في أوانه، وسرعة هبوطه، حتى شرقت الأراضي إلا قليلاً، فقلت المراعي، ثم ارتفع سعر الفول والشعير، فشحت الأنفس بعلف البهائم والأنعام، خصوصاً الفلاحون، فإن أحوالهم ساءت فهزلت من أجل هذا بهيمة الأنعام من الغنم والبقر والجاموس، وتعذر من نصف شهر رمضان الماضي وجود لحم الضأن، وارتفع سعره من سبعة دراهم للرطل إلى عشرة دراهم ونصف، وقلت الألبان والأجبان والسمن، وبلغت أثماناً لم نعهد مثله في زمن الربيع، واتفق مع هذا كله الموت الذريع في الجاموس، حتى فني معظمه، ووقع الفناء أيضاً في الأبقار وماتت أيضاً الأغنام وحمير وخيل عير كثيرة العدد.
وفي سادس عشرينه: نودي بإبطال المعاملة بالدنانير الأفرنتية، وأن يتعامل الناس بالدنانير الأشرفية، وزنة الدينار منه زنة الدينار الأفرنتي، وألزم الناس بحمل ما عندهم من الأفرنتية إلى دار الضرب، حتى تسبك وتعمل دنانير أشرفية وخلع على شرف الدين أبي الطب محمد بن تاج الدين عبد الوهاب بن نصر الله، واستقر في نظر دار الضرب، وقد كان باشر نظر وقف الأشراف، ونظر كسوة الكعبة أحسن مباشرة، بعفة وأمانة ونهضة.
وفي نصف هذا الشهر: ارتفع سعر القمح وتجاوز الأردب ثلاثمائة درهم وقل وجود الدقيق في الطواحين، ووجود الخبز بالأسواق، وشنع الأمر في تاسع عشرينه، وازدحم الناس بالأفران في طلب الخبز، وتكالبوا على ابتياع القمح، فشحت نفوس الخزان به وأبيع القدح الفول بأربعة دراهم ولهذا أسباب: أحدها أن البدر محمود العنتابي كان أيام حسبته يلين للباعة، حتى كأنه لا حجر عليهم فيما يفعلوه، ولا ما يبيعوا بضائعهم به من الأثمان، فلما ولي الششماني أرهب الباعة وردعهم بالضرب المبرح، فكادوه، وترك عدة منهم ما كان يعانيه من البيع، واتفق في هذه الأيام هلك كثير من الجاموس والبقر، بحيث أن رجلاً كان عنده مائة وخمسون جاموسة فهلكت بأجمعها، ولم يبق منها سوى أربع جاموسات، وما ندري ما يتفق لها، فقلت الألبان والأجبان والسمن. ثم هبت في نصف هذا الشهر رياح مريسية، وتوالت أياماً تزيد على عشرة، لم تستطع المراكب السفر في النيل، فانكشف الساحل من الغلة، وجاء الخبر بغلاء الأسعار في بلاد غزة والرملة ونابلس والساحل ودمشق وحوران وحماة، حتى تجاوز سعر الأردب المصري عندهم ألف درهم فلوساً، إذا عمل حسابه. وقدم الخبر بغلاء بلاد الصعيد وأنها بأسرها لا يكاد يوجد بها قمح ولا خبز بر، ومع هذه الرزايا كلها شح الأعيان وطمعهم، فإن بعض أمراء الألوف لما بلغ القمح مائتين وخمسين درهماً الأردب قال: لا أبيع قمحي إلا بثلاثمائة درهم الأردب. ومنع السلطان أن يباع من حواصله قمح لقلة ما عنده، فظن الناس الظنون، وجاعت أنفسهم، وقوى الحرص، وتزايد الشح، فأمسك خزان القمح ما عندهم منه ضناً به وأملوا أن يبيعوا البر بالدر. هذا، ومتولي الحسبة بعيد عن معرفتها، فآل الأمر إلى ما قيل: تجمعت البلوى علي وتحد فرد.
وفيه انحط سعر اللحم من عشرة دراهم ونصف الرطل إلى ثمانية ونصف، وهو هزيل لقلة علف البهائم.
شهر ربيع الأول، أوله الجمعة:(3/296)
أهل هذا الشهر والأردب القمح بثلاثمائة، سوى كلفه، وهى مبلغ عشرين درهماً، والدقيق كل بطة زنة خمسين رطلاً بمائة وعشرين درهماً، وهما قليل، وقد خسر الناس في تفاوت سعر الدينار الأفرنتي والدينار الأشرفي جملة مال، فإن الأفرنتي كان يصرف بمائتين وخمسة وعشرين درهماً، وفي علم السلطان أنه إنما يصرف بمائتين وعشرين، ومشي الناس أيضاً فيما بينهم نقصه زنة قمحة، فلما نودي أن لا يتعامل أحد بالأفرنتي وضرب السلطان الدنانير الأشرفية وأنفقها في جوامك المماليك بالديوان المفرد، كثرت في أيدي الناس، فصار من عنده شيء من الأفرنتية يحتاج أن يتعوض بدله من الصيارفة دنانير أشرفية فيخسر في كل دينار أفرنتي سبعة دراهم ونصف، إن كان نقصه قمحة، وما زاد على القمحة فبحسابه، فتلفت أموال الناس بسبب ذلك، وربحت الصيارفة أرباحاً كثيرة، بحيث أخبرني من لا أتهم أنه خسر في دنانير أفرنتية خمسة آلاف درهم.
وفي يوم السبت ثانيه: تيسر وجود الخبز في الأسواق.
وفيه ابتدأ السلطان بعمل خبز يفرق في الفقراء كل يوم.
وفي رابع عشره: نودي أن يقطع كل أحد ما تحت حانوته من الأرض، ويرمي بالكيمان، وان تصلح الطرقات في سائر أزقة القاهرة ومصر وظواهرهما، وفي جميع الحارات والخطط، وهدد من لم يفعل ذلك، فشرع كل أحد - من جليل وحقير - في طلب الفعلة وقطع الأراضي، وطلب الحمارة لنقل الأتربة ورميها، فجاءتهم كلف ومغارم مع ما هم فيه من غلاء الأسعار والخسارة في الذهب، فلطف الله وبطل ذلك بعد يومين، وقد خسر فيه من خسر جملة.
وفيه قدم الأمير قصروه نائب طرابلس.(3/297)
وفي هذا الشهر: ظهر رجلان أبديا صنائع بديعة أحدهما من مسلمة الفرنج الذين يتزيوا بزي الأجناد فإنه نصب حبلاً أعلى مأذنة المدرسة الناصرية حسن بسوق الخيل تحت قلعة الجبل، ومده حتى ربطه بأعلى الأشرفية من قلعة الجبل، ومسافة ذلك رمية سهم أو أزيد، في ارتفاع ما ينيف على مائة ذراع في السماء، ثم إنه برز من رأس المأذنة، ومشى على هذا الحبل، حتى وصل إلى الأشرفية، وهو يبدي في مشيه أنواعاً من اللعب، وقد جلس السلطان لرؤيته، وحشر الناس من أقطار المدينة، فعد فعله من النوادر التي لو لم تشاهد لما صدقت، ثم خلع عليه السلطان، وبعثه إلى الأمراء، فما منهم إلا أنعم عليه فانتدب بعد ذلك بقليل شاب من أهل البلد لمحاكاة المذكور في فعله، ونصب حبلاً عنده في داره، ومشى عليه فلما علم من نفسه القدرة على ذلك صعد إلى رأس نخلة، ومد منها حبلاً إلى نخلة أخرى ومشى عليه، فأقدم عند ذلك وأظهر نفسه، ونصب حبلاً من رأس مأذنة المدرسة الظاهرية برقوق إلى رأس مأذنة المدرسة المنصورية بين القصرين بالقاهرة، وأرخي من وسط هذا الحبل الممتد حبلاً، وواعد الناس حتى ينظروا ما يفعله، مما لم يقدر ذلك الرجل على فعله، فجاءوا من كل جهة، وخرج من رأس المأذنة المدرسة الظاهرية، ومشى قائما على قدميه، وقامته منتصبة، حتى وصل رأس مأذنة المدرسة المنصورية، ومسافة ما بينهما نحو المائة ذراع في ارتفاع أكثر من ذلك، ثم إنه نام على الحبل، وتمدد، ثم قام ومشى حتى وقف على الحبل الذي أرخاه في وسط الحبل الذي هو قائم عليه، ونزل فيه إلى آخره، ثم صعد فيه، وهو يبدي في أثناء ذلك فنوناً تذهل رؤيتها، لو لا ضرورة الحس لما صدقت، وتلاشى بما فعله فعل ذلك الرجل، ثم إنه نصب حبلاً من مأذنة حسن إلى الأشرفية بالقلعة، كما نصب الرجل الأول، وجلس السلطان لمشاهدته، وأقبل الناس في يوم الجمعة تاسع عشرينه، وقد هبت رياح كادت تقتلع الأشجار، وتلقي الدور، فخرج هذا الشاب وتلك الرياح في شدة هبوبها، فمشى على قدميه حتى وصل إلى حبل قد أرخاه في الوسط، وأدلى رأسه، ونزل فيه منكوساً، رأسه أسفل ورجلاه أعلاه، إلى آخره، ثم صعد على الحبل الممتد، ومشى قائماً عليه حتى وصل إلى قبة المدرسة، فنزل من الحبل وصعد القبة وهو يجري في صعوده جرياً قوياً فوق شكل كرسي من رصاص أملس، حتى وقف بأعلاها، والرياح عماله في طول ذلك، بحيث لا يثبت لها طير السماء، ولا يقدر على المرور لشدة هبوبها، وهذا الشاب يروح ويجيء شاقاً لها، وماراً فيها، كأنما خلق من الريح، فكان شيئاً عجباً، لا سيما و لم يتقدم له إدمان في ذلك، ولا دربه فيه معلم، وإنما تاقت إليه نفسه، فامتحنها فإذا هي متأتية له فيما أراد، فبرز وأبدى ما يعجز عنه سواه.
ومن نصف هذا الشهر: انحل سعر الشعير، حتى أبيع الأردب بدينار أشرفي، وانحل سعر الفول، حتى أبيع الأردب بثلاثمائة درهم بعد ما بلغ أربعمائة، ووجد القمح وكثر، ولله الحمد.
وفيه قدم الأمير أرنبغا المتوجه في البحر إلى مكة، وكان معه هدية لصاحب اليمن فمضى بها في البحر من جدة ومعه شخص يقال له ألطنبغا فرنجي - ولي دمياط مراراً - ومعهما من المماليك السلطانية خمسون نفراً، وقد حسن للسلطان شخص أخا اليمن بهذه العدة، فتأخر فرنجي في مركب على ساحل حلي بني يعقوب بالمماليك، وتوجه أرنبغا ومعه منهم خمسة نفر بالهدية والكتاب، وهو يتضمن طلب مال للإعانة على جهاد الفرنج، فأخذ متملك اليمن في تجهيز الهدية، فأتاه الخبر بأن فرنجي نهب بعض الضياع، وقتل أربعة رجال فأنكر صاحب اليمن أمرهم، وتنبه لهم وقال لأرنبغا: ما هذا خبر خير، فإن العادة أن يقدم في الرسالة واحد فقدمتم في خمسين رجلاً، ويحضر إلي منكم إلا أنت في خمسة نفر، وتأخر باقيكم، وقتلوا من رجالي أربعة وطرده عنه من غير أن يجهز هدية ولا وصله بشيء، فنجا ومن معه بأنفسهم وعادوا جميعاً إلى مكة، وقدم أرنبغا مخفاً.
شهر ربيع الآخر، أول السبت: فيه توجه الأمير قصروه عائداً إلى طرابلس على نيابته بها.
وفي ثامنه: خلع على الأمير يشبك الساقي الأعرج، واستقر أمير سلاح بعد موت أينال النوروزي.(3/298)
وفي يوم الثلاثاء حادي عشره: نصب تاجر عجمي حبلاً فيما بين مأذنتي مدرسة حسن ليفعل كما فعل من تقدم ذكرهما، وخرج من أعلى أحديهما ومشى على الحبل عدة خطوات ثم عاد من حيث ابتدأ، ومشى ثانياً على قدميه إلى آخره، وأبدى عجائب، منها أنه جلس على الحبل وأرخى رجليه، وتناول وهو كذلك قوساً كانت على كتفه، وأخرج من كنانته سهمين رمى بهما واحد بعد آخر، ثم قام ودخل وهو قائم على الحبل في طارة كانت معه، وخرج منها، وكرر دخوله فيها وخروجه منها مراراً، فتارة يدخل رجليه قبل إدخاله يديه، وتارة يدخل يديه قبل رجليه، ثم ينزل من الحبل الممدود في حبل قد أرخاه، وهو حال نزوله يتقلب بطناً لظهر وظهراً لبطن، حتى نزل إلى أسفله ورأسه منكوسة نحو الأرض، وقامته ممتدة، بحيث صارت قدماه توازي السماء، ورمى وهو منكوس بالقوس ثلاثة سهام واحداً بعد واحد، ثم صعد من أسفل الحبل المرخاة حتى قام على قدميه فوق الحبل الممدود، ثم ألقى نفسه وهو قائم إلى جهة الأرض، فإذا هو قد تعلق بإبهامي قدميه، وصار رأسه منكوساً، ثم انقلب وهو منكوس، فصار رأسه على الحبل الممدود ورجلاه إلى السماء، ثم انقلب فصارت قدماه على الحبل وهو قائم فوقه، ثم رفع إحدى رجليه ووقف فوق الحبل على رجل واحدة، وهو يرفع تلك الرجل، حتى ألصقها بفمه، ثم أرخاها ووقف عليها، ورفع الرجل الأخرى التي كان قائماً عليها حتى ألصقها بفمه، ثم أرخاها ووقف على قدميه منتصب القامة، وخر ساجداً على الحبل حتى صار فمه عليه يشير أنه يقبل الأرض بن يدي السلطان، وهو مستقبله، فأنست أفعاله من تقدمه.
وفي خامس عشرينه: استقر كمال الدين محمد بن همام الدين محمد السيواسي الحنفي في مشيخة التصوف وتدريس الجامع الأشرفي، عوضاً عن علاء الدين علي الرومي، وقد عزم على عودته إلى بلاده. و لم يكن بالمشكور في علمه ولا عقله.
وفي يوم الخميس سابع عشرينه: خلع على بدر الدين محمود العينتابي، واستقر قاضي القضاة الحنفية، عوضاً عن زين الدين عبد الرحمن التفهني. وخلع على التفهني، واستقر في مشيخة خانكاه شيخو بعد وفاة سراج الدين عمر قارئ الهداية.
وفي يوم الجمعة: أركب السلطان كثيراً من مماليكه، ونزلوا في عدة من الأمراء إلى القاهرة متقلدي سيوفهم، حتى طرقوا الجودرية - إحدى الحارات - وأحاطوا بها من جميع جهاتها، وفتشوا دورها، وقد وشى للسلطان بأن جانبك الصوفي في دار بها، فلم يعثروا عليه، وقبض على فخر الدين بن المرزوق وضرب بالمقارع ونفي، لتعلق بينه وبين جانبك الصوفي من جهة المصاهرة، ونودي من الغد بأن لا يسكن أحد بالجودرية، فأخليت عدة دور بها، واستمرت زماناً خالية، فكانت حادثة شنعة.
وفي سلخه: قدم المماليك الذين كانوا مجردين بمكة.
وفي هدا الشهر: ارتفع سعر الغلال بعد انحطاطها، وبلغ الأردب القمح ببلاد الصعيد أربعة دنانير.
وفيه تحارب الفرنج القطرانيون والبنادقة في ميناء الإسكندرية، فغلب القطرانيون، وأخذوا مركب البنادقة بما فيه، بعد ما قتل بينهم جماعة، ثم أسروا طائفة من المسلمين كانوا بالميناء، ومضوا في البحر.
شهر جمادى الأولى، أوله الاثنين: في سابع عشرينه: قدم رسول صاحب اسطنبول - وهي القسطنطنية - بهدية وشفع في أهل قبرس أن لا يغزوا.
وفي هذا الشهر: ارتفع سعر القمح حتى بلغ دينارين الأردب، ثم انحط في آخره إلى دينار، وانحطت البطة الدقيق من مائة وخمسين درهما إلى ثمانين درهماً، لكثرة وجود القمح.
وفيه تبرع قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن حجر. مما له من المعلوم المقرر على القضاء، في أنظار الأوقاف ونحوها، لمدة سنة، فجبيت للسلطان، وباشر بغير معلوم.
شهر جمادى الآخرة أوله الأربعاء: في ثالث عشره: قدم من عسكر الشام عدة، ومن طوائف العشير جماعة ليسيروا للجهاد، فأنزلوا بالميدان الكبير.
وفيه خلع على عز الدين عبد العزيز بن علي بن العز البغدادي الحنبلي، الذي ولي قضاء الحنابلة بدمشق في الأيام المؤيدية، واستقر قاضي قضاة الحنابلة عوضاً عن محب الدين أحمد بن نصر الله البغدادي بعد عزله، وقد شنعت فيه القالة لسوء سيرة أخيه وابنه.
وفي ثالث عشرينه: جلس السلطان لعرض المجاهدين بالحوش من القلعة وأنفق فيهم فكان يوماً جميلاً.
شهر رجب أوله الخميس:(3/299)
فيه أدير محمل بالقاهرة ومصر على العادة في كل سنة، وعجل عن وقته لتوجه المجاهدين للغزو.
وفيه خلع على عبد العظيم بن صدقة كاتب إبراهيم البرددار، واستقر في نظر الديوان المفرد، وكان قد شعر عن الوزير كريم الدين ابن كاتب المناخ من حين ولي الأمير زين الدين عبد القادر أستادار، وعبد العظيم من مسلمة النصارى الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون.
وفي يوم الجمعة ثانيه: سار أربعة أمراء إلى الجهاد، وهم تغري بردي المحمودي رأس نوبة، وقد جعل مقدم عسكر البر، والأمير أينال الجكمي أمير مجلس وجعل مقدم عسكر البحر، والأمير تغري برمش، والأمير مراد خجا وتبعهم المجاهدين، وتوجهوا في النيل أرسالا، حتى كان أخرهم سفراً في يوم السبت حادي عشره.
وفي يوم الخميس عشره: نودي بمنع الناس من المعاملة بالدنانير الأفرنتية، وأن تقص ويحضر بها مقصوصة إلى دار الضرب حتى تسبك، وهدد من خالف ذلك، وكان العامة بعد النداء الأول قد تعاملوا بها كما هي عادتهم في المخالفة، لقلة ثبات الولاة على ما يرسم به.
وفي ثامن عشرينه: قدم الخبر بأن الغزاة مروا في سيرهم إلى رشيد، وأقلعوا من هناك يوم السبت رابع عشرينه وساروا إلى أن كان يوم الاثنين سادس عشرينه، انكسر منهم أربعة مراكب غرق فيها نحو العشرة أنفس فانزعج السلطان لذلك، وهم بإبطال الغزاة، ثم بعث في يوم الجمعة آخره الأمير جرباش قاشق حاجب الحجاب، لكشف خبرهم، والعمل في مسيرهم أو عودهم، بما يقتضيه رأيه، فقوي عنده إمضاء العزم على المسير، فساروا على بركة الله.
شهر شعبان، أوله الجمعة: في خامسه: قدم الخبر بأن طائفة من الغزاة لما ساروا من رشيد إلى الإسكندرية وجدوا في البحر أربع قطع بها الفرنج، وهي قاصدة نحو الثغر، فكتبوا لمن في رشيد من بقيتهم بسرعة لحاقهم، وتراموا هم والفرنج يومهم، وباتوا يتحارسون، واقتتلوا من الغد، فما هو إلا أن قدمت بقية الغزاة من رشيد، ولي الفرنج الأدبار بعد ما استشهد من المسلمين عشرة.
وفي رابع عشره: جاء قاع النيل أربعة أذرع وسبعة أصابع، وابتدئ بالنداء بزيادة النيل في يوم الجمعة خامس عشره خمسة أصابع.
وفي يوم الأربعاء عشرينه: أقلع الغزاة من ميناء الإسكندرية طالبين قبرس، أيدهم الله على أعدائه بنصره.
شهر رمضان، أوله الأحد: في سابعه: قدم الخبر بوصول الغزاة في أخريات شعبان إلى قلعة اللمسون، وأن صاحب جزيرة قبرس قد استعد، وأقام بمدينة الأفقسية، وعزم على اللقاء.
وفي يوم الخميس ثاني عشره: أنعم بإقطاع الأمير الكبير قجق على الأمير يشبك الساقي الأعرج أمير سلاح وأنعم بتقديمه قرقماس وإقطاعه على الأمير بردبك أمير أخور، وأنعم بطبلخاناه بردبك على الأمير يشبك أخي السلطان، ولم يتآمر قبلها، فصار من أمراء الطبلخاناه.
وفي رابع عشره: خلع على الأمير يشبك الساقي واستقر أميرا كبيراً أتابك العساكر، عوضاً عن الأمير قجق بعد موته.
وفي يوم الخميس تاسع عشره - الموافق له أول يوم من مسرى - : كان النيل على ثلاث عشر ذراعاً وأربعة أصابع، وهذا المقدار مما يندر وقوعه في أول مسرى لكثرته.(3/300)
وفي يوم الاثنين ثالث عشرينه: قدم الخبر في النيل بأخذ جزيرة قبرس وأسر ملكها. وكان من خبر ذلك أن الغزاة نازلوا قلعة اللمسون، حتى أخذوها عنوة في يوم الأربعاء سابع عشرين شعبان، وهدموها وقتلوا كثيراً من الفرنج، وغنموا. ثم ساروا بعد إقامتهم عليها ستة أيام، في يوم الأحد أول شهر رمضان وقد صاروا فرقتين، فرقة في البر وفرقة في البحر، حتى كانوا فيما بين اللمسون والملاحة، إذا هم بجينوس بن جاك متملك قبرس قد أقبل في جموعه، فكانت بينه وبين المسلمين حرب شديدة، انجلت عن وقوعه في الأسر بأمر من عند الله يتعجب منه لكثرة من معه وقوتهم، وقلة من لقيه، ووقع في الأسر عدة من فرسانه، فأكثر المسلمون من القتل والأسر، وانهزم بقية الفرنج، ووجد معهم طائفة من التركمان، قد أمدهم بهم علي بك بن قرمان فقتل كثير منهم، واجتمع عساكر البر والبحر من المسلمين في الملاحة، في يوم الاثنين ثانيه، وقد تسلم ملك قبرس الأمير تغري بردي المحمودي، وكثرت الغنائم بأيدي الغزاة، ثم ساروا من الملاحة يوم الخميس خامسه يريدون الأفقسية، مدينة الجزيرة، ودار مملكتها فأتاهم الخبر في مسيرهم أن أربعة عشر مركباً للفرنج قد أتت لقتالهم، منها سبعة أغربة، وسبعة مربعة القلاع، فأقبلوا نحوها وغنموا منها مركباً مربعاً، وقتلوا عدة كثيرة من الفرنج، حتى لقد أخبرني من لا أتهم من الغزاة أنه عد في الموضع الذي كان فيه ألفاً وخمسمائة قتيل، وانهزم بقيتهم، وتوجه الغزاة إلى الأفقسية وهم يقتلون، ويأسرون، ويغنمون، حتى دخلوها، فأخذوا قصر الملك، ونهبوا جانباً من المدينة، وعادوا إلى الملاحة بعد إقامتهم بالأفقسية يومين وليلة. فأراحوا بالملاحة سبعة أيام، وهم يقيمون شعائر الإسلام، ثم ركبوا البحر عائدين بالأسرى والغنيمة، في يوم الخميس ثاني عشره وقد بعث أهل الماغوصة يطلبون الأمان.
ولما قدم هذا الخبر دقت البشائر بقلعة الجبل، ونودي بزينة القاهرة ومصر فزينتا، وقرئ الكتاب الوارد على الناس بالجامع الأشرفي، وندب جماعة من المماليك، فساروا في النيل لحفظ مراكب الغزاة، والمسير بها من دمياط، وقد قدمت بالغزاة وما معهم، حتى يوقفوها بميناء الإسكندرية.
وفي يوم الثلاثاء رابع عشرينه: قدم الشريف بركات بن حسن بن عجلان من مكة، وقد استدعى بعد موت أبيه فخلع عليه، واستقر في إمرة مكة، على أن يقوم بما تأخر على أبيه وهو مبلغ خمسة وعشرين ألف دينار، فإنه كان قد حمل قبل موته من الثلاثين الألف التي التزم بها مبلغ خمسة آلاف دينار، وألزم بركات أيضاً بحمل عشرة آلاف دينار في كل سنة، وأن لا يتعرض لما يؤخذ بجدة من عشور بضائع التجار الواصلة من الهند وغيره.
شهر شوال، أوله الاثنين: فيه ابتدأ عبور الغزاة، فقدم عدة منهم في البر وفي النيل.
وفي يوم الخميس رابعه - الموافق له اليوم الخامس عشر من مسرى - : كان وفاء النيل ستة عشر ذراعاً، ففتح الخليج على العادة.(3/301)
وفي يوم الأحد سابعه: قدم الأمير تغري بردي المحمودي والأمير أينال الجكمي - مقدماً الغزاة المجاهدين - بمن معهما من العسكر، وصحبتهم جينوس بن جاك متملك قبرس، وعاد ومن أسروه وسبوه من الفرنج، وما غنموه. وجميعهم في مراكبهم التي غزوا قبرس فيها، فمروا على ساحل بولاق حتى نزلوا بالميدان الكبير، فكان يوماً مشهوداً لم ندرك مثله. وأصبحوا يوم الاثنين ثامنه سائرين بملك قبرس والأسرى والغنائم، وقد اجتمع لرؤيتهم من الرجال والنساء خلائق لا يحصى عددها إلا الله الذي خلقها، فمروا من الميدان على ظهر أرض اللوق، حتى خرجوا من المقدس، وعبروا من باب القنطرة إلى بين القصرين، وشقوا قصبة القاهرة إلى باب زويلة، ومضوا إلى صليبة جامع ابن طولون، وأقبلوا من سويقة منعم إلى الرميلة، تحت القلعة، وطلعوا إليها من باب المدرج وكانوا في مسيرهم هذا الذي لا يبعد أن يقارب البريد قد قدموا الفرسان من الغزاة المجاهدين في سبيل الله أمام الجميع، ومن وراء الفرسان طوائف الرجالة - من عشران البلاد الشامية وزعر القاهرة ومطوعة البلاد - ومن وراء الرجالة الغنائم محمولة على رءوس الرجال، وظهور الجمال والبغال والحمير، وفيها تاج الملك وأعلامه ورايته منكسة، وخيله تقاد ومن وراء الغنائم الأسرى من الرجال والسبي من النساء والصبيان، وهم زيادة على ألف إنسان، ومن وراء الأسرى جينوس بن جاك الملك، وقد أركب بعلاً، وقيد بقيد من حديد، وأركب معه اثنان من خاصته، وركب الأميران تغري بردي وأينال الجكمي عن يمين جينوس بن جاك وشماله، حتى وصلا به باب القلعة، أنزلاه عن البغل، فكشف رأسه، وخر على وجهه إلى الأرض، فقبلها ثم انتصب قائماً ودخل يرسف في قيوده، حتى مثل بين يدي السلطان قائماً، وقد جلس السلطان بالمقعد، وفي خدمته أهل الدولة من الأمراء والمماليك والمباشرين، وحضر الشريف بركات بن عجلان أمير مكة، ورسل ابن عثمان ملك الروم، ورسل صاحب تونس، ورسل أمراء التركمان، ورسل عذراء أمير الغرب، ومماليك نواب البلاد الشامية، فعرضت الغنائم ثم الأسرى، ثم جيء بجينوس في قيوده مكشوف الرأس، فخر على وجهه يعفره في التراب، ويقبل الأرض، ثم قام وقد خارت قواه، فلم يتمالك نفسه لهول ما عاينه، وسقط مغشياً عليه، ثم أفاق من غشوته، فأمر به إلى منزل قد أعد له بالحوش من القلعة، فكان يوماً عظيماً لم ندرك مثله، أعز الله تعالى فيه دينه.
وفيه نودي بهدم الزينة، فهدمت، وخلع على الأمراء الأربعة القادمين من الغزاة، وأركبوا خيولا بقماش ذهب.
وفي تاسعه: جمع التجار لشراء ما حضر من الغنيمة، وهي ثياب وقماش وأثاث وأواني.
وأما جينوس فإنه لما استقر في منزله أتته قصاد السلطان لطلب المال، فأظهر جلداً، وقال: ما لي إلا روحي، وهي بيدكم، فغضب السلطان من جوابه وبعث إليه من الغد يهدده أن لم يفد نفسه منه بالمال، مثبت على التجلد، وقال: ألا لعنة الله على واحد من النصارى. فأمر السلطان بإحضاره، فأخرج إلى الحوش، وقد جعلت الأسرى فيه، فما هو إلا أن شاهدوا جينوس ملكهم قد أخرج أسيراً ذليلاً، صرخوا بأجمعهم صرخة مهولة، وحثوا بأكفهم التراب على رءوسهم، والسلطان قد جلس بالمقعد، وأوقف جينوس حيث أوقف أمس من تحت المقعد، وقد وقف معه جماعة من قناصلة الفرنج، فالتزموا عنه بفدائه بالمال من غير تعيين شيء، وأعيد إلى منزله، ودخل إليه قصاد الملك لتقرير المال.
فلما كان يوم الأربعاء، عاشره: رسم له ببدلتين من قماشه، ورتب له عشرون رطل لحم وستة أطيار دجاج في كل يوم، وفسح له في الإجتماع بمن يختاره، وطال الكلام فيما يفدي به نفسه، وطلب منه خمسمائة ألف دينار، فتقرر الصلح على مائتي ألف دينار، يقوم منها مائة ألف دينار، فإذا عاد إلى ملكه بعث بمائة ألف دينار ويقوم في كل سنة بعشرين ألف دينار، واشترط على السلطان أن يكف عنه الطائفة البندقية وطائفة الكيتلان.
وفي حادي عشره: سار الشريف بركات بن حسن بن عجلان عائداً إلى مكة أميراً.
وفي خامس عشره: خلع على الأمير أينال الجكمي أمير مجلس، واستقر أمير سلاح عوضاً عن الأمير يشبك، وكانت شاغرة في هذه الأيام، وخلع على الأمير جرباش قاشق حاجب الحجاب، واستقر أمير مجلس، وخلع على الأمير قرقماس - الذي كان بمكة - واستقر حاجب الحجاب.(3/302)
وفي يوم الثلاثاء سادس عشره: قدم أمير الملأ عذراء بن علي بن نعير بن حيار بن مهنا، فأنزل بالميدان الكبير على عادة جده نعير، وأجريت له الرواتب، وعذراء هذا أقامه الظاهر ططر بعد موت الملك المؤيد شيخ، عوضاً عن حديثة بن مانع من آل فضل. وحديثة استقر بعد حسين بن نعير بن حيار بن مهنا، وحسين استقر بعد قتل أخيه العجل ابن نعير. والأمير الملأ عدة سنين لم يقدم إلى مصر.
وفي ثامن عشره: خلع على الشريف خشرم بن دوغان بن جعفر الحسيني واستقر في إمرة المدينة النبوية عوضاً عن الشريف عجلان بن نعير بن منصور بن جماز بن شيحة، على أن يقوم بخمسة آلاف دينار.
وفي عشرينه: خرج محمل الحاج على العادة إلى ظاهر القاهرة.
وفي خامس عشرينه: توجه الأمير عذراء عائداً إلى بلاده على إمرة العرب، بعد ما خلع عليه. وفيه كان نوروز القبط بمصر، وماء النيل قد بلغ ثمانية عشر ذراعاً وإصبعاً واحداً.
وفي هذه الأيام: تعطلت أسواق القماش من البيع عدة أيام لاشتغال التجار بشراء الغنائم.
وفيها قل وجود اللحم بالأسواق لقلة الأغنام.
شهر ذي القعدة، أوله الأربعاء: في نصفه: قدم نجم الدين عمر بن حجي من دمشق بسعيه في ذلك، وكان منذ أخرج بعد عزله من كتابة السر مقيماً بدمشق.
وفي ثامن عشرينه - وهو رابع بابه - : انتهت زيادة النيل إلى عشرين ذراعاً وخمسة أصابع، وثبت.
وفي هذا الشهر: انحط سعر الغلال.
وفيه كثر تتبع القضاة والفقهاء فيما تحت أيديهم من الأوقاف، وانطلقت الألسن بقالة السوء فيهم. وفيه وقع بالمدينة النبوية حادث شنيع، وهو أن خشرم بن درغان قدم المدينة وقد رحل عنها عجلان لما بلغه أنه عزل، فلم يلبث غير ليلة حتى صبحه عجلان في جمع من العربان، وحصره ثلاثة أيام، ثم دخل عربه المدينة ونهبوا دورها، وشعثوها وخربوا مواضع من سورها، وأخذوا ما كان للحجاج الشاميين من ودائع، وقبضوا على خشرم، ثم خلوه لسبيله، واستهانوا بحرمة المسجد، وارتكبوا عظائم.
شهر ذي الحجة، أوله الخميس: وفي ثاني عشرينه: قدم الأمير شارقطلوا نائب حلب، خلع عليه وأتته تقادم الأمراء. وفي هذه المدة انحط ماء النيل قليلاً بحيث دخل شهر هتور في سادس عشرينه والماء في تسعة عشر ذراعاً. وهذا ثبات جيد نفعه، إن شاء الله.
وفيه قدم قاضي دمشق الشريف شهاب الدين أحمد بن علي بن إبراهيم الحسيني، وقدم مبشروا الحاج وأخبروا بسلامتهم.
وفي هذه الأيام: رسم السلطان بمنع الأمراء والأعيان من الحمايات، ومحيت رنوكهم عن الطواحين والحوانيت والمعاصر، حتى يتمكن مباشرو السلطان من رمي البضائع، فرميت، وهي ما بين سكر وأرز وغير ذلك، فشمل الضرر كثيراً من الناس، لما في ذلك من الخسارة في أثمانها، والمغرم للأعوان.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
الشيخ المعتقد خليفة بن المغربي، في حادي عشرين المحرم، من غير تقدم مرض، بل عبر إلى الحمام فأتاه أجله هناك، وكان قد انقطع بالجامع الأزهر نيفاً وأربعين سنة، وصار للناس فيه اعتقاد، وترك مالاً وأثاثاً له قدر.
ومات الأمير سيف الدين أينال النوروزي أمير سلاح، في أول شهر ربيع الآخر، قد أناف على الثلاثين سنة، فوجد له من الذهب خمسون ألف دينار، وكان ظالماً فاسقاً، لا يوصف بشيء من الخير.
ومات تاج الدين محمد بن أحمد بن علي - المعروف بابن المكلله وبابن جماعة - في ثامن شهر ربيع الآخر، وقد ولي حسبة القاهرة فلم ينجب وخمل حتى مات.
وتوفي الشيخ سراج الدين عمر بن علي بن فارس المعروف بقارئ الهداية. وقد انتهت إليه رئاسة الحنفية، لمعرفته بالأصول والعربية، ومشاركته في فنون عديدة، بعد ما تصدى للإفتاء والتدريس عدة سنين، وصار له ثراء وسعة، من كثرة وظائفه. وآخر ما ولي مشيخة خانكاه شيخو، وكان مقتصداً في ملبسه، يتعاطى شراء حوائجه من الأسواق بنفسه، مع جميل سيرته. ولم يخلف بعده مثله في إتقان فقه الحنفية واستحضاره.(3/303)
وتوفي الشريف حسن بن عجلان بن رميثة بن أبي نمي محمد بن أبي سعد حسن بن علي بن قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن حسين بن سليمان بن علي بن عبد الله بن محمد بن موسى بن عبد الله بن الحسن المثنى بن محمد الحسن السبط ابن أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، في يوم الخميس سادس عشر جمادى الآخرة بالقاهرة، ودفن خارجها، وقد أناف على الستين. ومولده ومرباته، وولي إمارتها في أوائل سنة ثمان وتسعين وسبعمائة، فحسنت سيرته، ثم كلفه السلاطين حمل المال إليهم فجار. وولي سلطة الحجاز كله في شهر ربيع الأول سنه إحدى عشرة وثمانمائة، واستناب عنه بالمدينة الشريفة وخطب له على منبرها، وعارك خطوب الدهر حتى مضى لسبيله. والله يعفو عنه بمنه.
وتوفي قاضي القضاة جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن خالد بن نعيم بن مقدم بن محمد بن حسن بن غانم بن محمد بن علي الطائي البساطي المالكي، في يوم الاثنين عشرين جمادى الآخرة، عن ثمان وثمانين سنة، وهو مصروف، وكان فقيهاً مشاركاً في فنون، وفيه سياسة ودربة بالقضاء.
وتوفي شمس الدين محمد بن جمال الدين عبد الله بن محمد - المعروف بابن كاتب السمسرة، وبالعمري - ، عن نحو سبعين سنة، في يوم الأربعاء العشرين من شعبان. وقد كتب في الإنشاء عدة سنين، ووقع في الدست، وناب عن كاتب السر، وكان فاضلاً ماهراً في صناعته.
ومات الأمير الكبير الأتابك سيف الدين قجق الشعباني أحد المماليك الظاهرية برقوق، في تاسع شهر رمضان، وكان لا معنى له في دين ولا دنيا.
ومات شهاب الدين أحمد بن محمد بن مكنون الشافعي، قاضي دمياط، ليلة الأحد ثاني عشرين شهر رمضان، عن ستين سنة. وقد قدم إلى القاهرة. وكان فاضلاً يعرف الفقه، ويشارك في غيره.
ومات شمس الدين محمد بن عطاء الله بن محمد بن محمود بن أحمد بن فضل الله بن محمد الرازي الهروي الشافعي بالقدس، في ثامن عشر ذي الحجة. ومولده بهراة سبع وستين وسبعمائة. وقد ولي قضاء القضاة، وكتابة السر، فلم ينجب. وكان يقرئ مذهب الشافعي، ومذهب أبي حنيفة، ويعرف العربية، وعلم المعاني والبيان، ويذاكر بالأدب والتاريخ، ويستحضر كثيراً من الأحاديث، والناس فيه بين عال ومقصر، وأرجو أن يكون الصواب ما ذكرته.
سنة ثلاثين وثمانمائة
أهلت وسلطان الإسلام ببلاد مصر والشام والحجاز الملك الأشرف برسباي الدقماقي، والأمير الكبير أتابك العساكر سيف الدين يشبك الساقي الأعرج، ورأس نوبة النوب الأمير تغري بردي المحمودي، وأمير سلاح الأمير أينال الجكمي، وأمير مجلس الأمير جرباش الكريمي، وأمير أخور الأمير جقمق، والدوادار الكبير الأمير أزبك، وحاجب الحجاب الأمير قرقماس، وأستادار الأمير زين الدين عبد القادر بن الأمير فخر الدين عبد الغني بن الأمير الوزير تاج الدين عبد الرزاق بن أبي الفرج، والوزير الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن الصاحب تاج الدين عبد الرزاق بن عبد الله، المعروف بابن كاتب المناخ، وناظر الخاص كريم الدين عبد الكريم بن سعد الدين بركة المعروف بابن كاتب جكم، وكاتب السر بدر الدين محمد بن بدر الدين محمد بن أحمد بن مزهر، وناظر الجيش زين الدين عبد الباسط بن خليل، وقاضي القضاة الشافعي الحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر، وقاضي القضاة الحنفي بدر الدين محمود العنتابي، وقاضي القضاة المالكي شمس الدين محمد البساطي، وقاضي القضاة الحنبلي عز الدين عبد العزيز البغدادي، ونائب الشام الأمير سودن من عبد الرحمن، ونائب حلب شارقطلوا، ونائب حماة الأمير جلبان أمير أخور، ونائب طرابلس الأمير قصروه، ونائب صفد الأمير مقبل الدوادار، وأمير مكة الشريف بركات بن حسن بن عجلان، وأمير المدينة النبوية الشريف خشرم بن دوغان بن جعفر، ونائب الإسكندرية الأمير أقبغا التمرازي.(3/304)
والأسعار مختلفة فالقمح من مائة وخمسين درهماً الأردب إلى ما دونها، والشجر بمائة درهم الأردب وما دونها، والفول بمائة وخمسين درهماً الأردب، وقد كثر وجوده بعد ما كان قليلاً، والحمص بخمسمائة درهم الأردب، واللحم متعذر الوجود في الأحيان، فإن الوزير يمنع من الزيادة في سعره من أجل ما يحتاج إليه من راتب السلطان ومماليكه، وإذا حضر معاملوا اللحم أسواق الغنم، أخذوا الأغنام كيفما شاءوا، وأحالوا أربابها بالثمن على جهات، فيغبنوا فيما يصل إليهم من أثمان أغنامهم، فقل جلب الأغنام لأجل ذلك، والأسواق كاسدة، والجور فاش، وقد كل الناس الفاقة، وعمت الشكاية، ولا يزداد الناس إلا إعراضاً عن الله، فلا جرم أن حل بهم ما حل، ولا قوة إلا بالله.
شهر المحرم، أوله السبت: فيه سار الأمير شارقطلوا بحلب.
وفي سادسه: أخرج الأمير أزدمر شاية أحد الأمراء الألوف إلى حلب، على إمرة، وكان من أقبح الناس سيرة، يرمي بعظائم.
وفي يوم السبت ثامنه: خلع على نجم الدين عمر بن حجي، وأعيد إلى قضاء دمشق عوضاً عن الشريف شهاب الدين أحمد، بعد ما حمل عيناً وأهدى أصنافاً بنحو عشرة آلاف دينار، فلم يفد وعزل.
وفي هذا الشهر: منع الأمراء ونحوهم من حماية أحد على مباشري السلطان، ورميت البضائع على جماعات، فكثرت خسائرهم فيها مع الغرامة.
وفيه أبيع بالإسكندرية فلفل للديوان على تجار الفرنج، ثم رسم بزيادة ثمنه عليهم، وقد سافروا به، فكلف قناصلتهم القيام عنهم بذلك.
وفيه قدم التجار الذين تبضعوا بمكة ليسافروا ببضائعهم إلى الشام، فمنعوا من ذلك، ألزموا بمجيئهم إلى مصر، حتى يؤخذ منهم مكسها للخاص، وحتى يباع بالشام متجر الديوان، فأصابتهم بذلك بلايا عديدة.
وفيه اشتدت مطالبة أهل الخراج بما عليهم من الخراج والمغارم.
وفيه حصل العنت على الذمة في إلزامهم بأشياء حرجة، فلم يتم ذلك لاختلاف الآراء.
وفي سابع عشره: سافر قاضي القضاة نجم الدين عمر بن حجي، بعد ما خلع عليه خلعة السفر.
وفي ثاني عشرينه: قدم بوادر الحاج.
وفيه سار أزدمر شاية إلى حيث نفي. وقدم الركب الأول من الغد، ثم قدم المحمل في رابع عشرينه ببقية الحاج.
وفي يوم الجمعة ثامن عشرينه: توجه الشريف شهاب الدين أحمد عائداً إلى دمشق بغير وظيفة، على أن يقوم بخمسة آلاف دينار، سوى ما حمل أولاً وآخراً، وهو مبلغ سبعة وعشرين ألف دينار، وجملة ما حمله غريمه نجم الدين عمر بن حجي في تلك المدد ستون ألف دينار، وهذا الشيء لم نعهد مثله، وإن هذا لمحض الفساد، ولا قوة إلا بالله.
وفي هذا الشهر: حدثت زلزلة بجزيرة درحت المجاورة الرمز من البحرين فخسف ببعض إصطبل السلطان، وبدار القاضي، وانفرج جبل بالقرب منهم، فروي فيما انفرج منه فيران في قدر الكلاب، وورد الخبر بذلك إلى دمشق في كتاب من يوثق به.
شهر صفر، أوله الأحد: في سادسه: خلع على شمس الدين محمد بن عبد الدايم بن موسى البرماوي الشافعي واستقر في تدريس الصلاحية بالقدس، عوضاً عن شمس الدين محمد الهروي، وكان شاغراً منذ وفاته. وهذا البرماوي كان أبوه يتعيش بتعليم الصبيان القراءة، ونشأ ابنه هذا في طلب العلم، فبرع في الفقه والأصول والنحو وغير ذلك، وتعلق بصحبة الجلال محمد ابن قاضي القضاة بدر الدين محمد بن أبي البقاء، وحاول أن يكون من نواب القضاة في أيام الجلال عبد الرحمن البلقيني، فأذن له في الحكم، ثم عزله، وطالت مدته في الخمول صغيراً وشاباً وكهلا، فتحول إلى دمشق، فنوه به نجم الدين عمر بن حجي واستنابه واختص به، فحسنت حاله وتحول في النعم إلى أن قدم مع ابن حجي، وولي كتابة السر، رفع من مقداره، ورتب له ما يقوم به فارتفع بين الناس قدره، حتى استقر في الصلاحية.
وفي سابعه: نودي بمنع الناس من المعاملة بالدراهم البندقية، وهي فضة عليها شخوص من ضروب الفرنج، تعامل الناس بها من سنة ثمان عشرة وثمانمائة وبالعدد وبالوزن، ورسم بحمل ما في أيدي الناس منها إلى دار الضرب لتسبك دراهم أشرفية عليها صكة الإسلام، فجرى الناس على عادتهم في الإصرار والاستهانة بمراسيم الحكام، وتعاملوا بها، إلا قليلاً منهم.(3/305)
وفي ثامنه: قدم الأمير سودن من عبد الرحمن نائب الشام، فخلع عليه، وقدم للسلطان مبلغ خمسة عشر ألف دينار أفرنتية، وقماشاً وفرواً بثلاثة آلاف دينار، وتوجه عائداً إلى محل كفالته على عادته، في ثالث عشرينه.
وفيه قدم الطواشي افتخار الدين ياقوت - مقدم المماليك - من مكة بمبلغ ثلاثة عشر ألف دينار، مما ألزم به الشريف بركات بن حسن بن عجلان، وكان قد تأخر بعد الحج بمكة حتى استخرج ذلك منه.
وفي هذه الأيام: عز وجود اللحم بالأسواق، وفقد أياماً، وقل وجود اللبن والجبن، وغلا سعر الحطب حتى أبيع بمثلي ثمنه منذ شهر. هذا والوقت شتاء والبهائم مرتبطة على الربيع، وعادة مصر في زمن ربيعها أن يكثر وجود اللبن والجبن، ويرخص ثمنها. غير أن سيرة ولاة الأمور، وقلة معرفتهم بما ولوه، وفساد الرعية اقتضى ذلك.
وفي يوم الاثنين سلخه: جاء جراد سد الأفق لكثرته، وانتشر إلى ناحية طرا، وقد أضر ببعض الزروع، فأرسل الله عليه ريحاً مريسية ألقته في النيل ومزقته حتى هلك عن آخره، ولله الحمد.
شهر ربيع الأول، أوله الثلاثاء: أهل والأمراض من النزلات والسعال والجدري فاشية في الناس، بحيث لا يخلو بيت من عدة مرضى، إلا أنها سليمة العاقبة في الغالب، يزول بعد أسبوع. هذا والوقت شتاء. وقدم الخبر بكثرة الوباء ببلاد صفد.
وفي ليلة الجمعة رابعه: كان المولد النبوي بالقصر عند السلطان، وحضر الأمراء والقضاة ومشايخ العلم ومباشروا العلم والدولة على العادة، فكان الذي عمل في السماط عشرة كباش، ذبحت ثم طبخ لحمها، ومد بعد سماط الطعام سماط الحلوى.
وفي يوم السبت سادس عشرينه: أفرج عن جينوس بن جاك متملك قبرس من سجنه بقلعة الجبل، وخلع عليه، وأركب فرساً بقماش ذهب، ونزل إلى القاهرة في موكب، فأقام في دار أعدت له، وصار يمر في الشوارع ويزور كنائس النصارى ومعابدهم، ويمض في أحواله بغير حجر عليه، وقد أجرى له راتب يقوم به وبمن معه.
وفي ها الشهر: كثرت الرياح العاصفة، فقدم الخبر بغرق ثلاثة عشر مركباً في بحر الملح، قد ملئت ببضائع، من ناحية صيدا وبيروت، وأقبلت نحو دمياط.
وفيه ألقى البحر دابة بشاطئ دمياط، أخبرني من لا أتهم، أنها ذرعت بحضوره فكان طولها خمسة وخمسين ذراعاً، وعرضها سبعة أذرع.
شهر ربيع الآخر، أوله الخميس: فيه قدم الخبر بتشتت أهل المدينة النبوية، وانتزاحهم عنها، لشدة الخوف وضياع أحوال المسجد النبوي، وقلة الاهتمام بإقامة شعائر الله فيه، منذ كانت كائنة المدينة، فرسم الأمير بكتمر السعدي أحد أمراء العشرات إلى المدينة فأخذ في تجهيز حاله.
وقدم الخبر بتجمع التركمان وإفسادهم في المملكة الحلبية، فرسم في يوم الاثنين عشرينه بتجريد ثمانية أمراء مقدمي ألوف، وعدة من أمراء الطبلخاناه والعشرات، فأخذوا في أهبة السفر، ثم بطل ذلك.(3/306)
وقدم الخبر بأن صاحب أغرناطة ومالقة والمرية ورندة ووادي آش وجبل الفتح من الأندلس، وهو أبو عبد الله محمد الملقب بالأيسر ابن السلطان أبي الحجاج يوسف ابن السلطان أبي عبد الله محمد بن يوسف بن محمد بن يوسف ابن لشيخ السلطان أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن نصر الأنصاري الخزرجي الأرجوني الشهير بابن الأحمر، خرج من غرناطة - دار ملكه - يريد النزهة في فحص غرناطة - يعني مرج غرناطة - في نحو مائتي فارس في مستهل ربيع الآخر هذا وكان ابن عمه محمد بن السلطان أبي الحجاج يوسف محبوساً في الحمراء، وهي قلعة أغرناطة، فخرج الجواري السود إلى الحراس الموكلين به، وقالوا لهم: تخلو عن الدار حتى تأتي أم مولاي تزوره وتتفقد أحواله. فظنوا أن الأمر كذلك، فخلوا عن الدار، فخرج في الحال شابان من أولاد صنايع أبي المحبوس، وأطلقوه من قيده وأظهروه من الحبس، وأغلقوا أبواب الحمراء، وذلك كله ليلاً، وضربوا الطبول والأبواق على عادتهم، فبادر الناس إليهم ليلاً، وسألوا عن الخبر، فقيل لهم من الحمراء: قد ملكنا السلطان أبا عبد الله محمد ابن السلطان، فأقبل أهل المدينة وأهل الأرباض فبايعوه محبة فيه وفي أبيه، وكرهاً في الأيسر، فما طلع النهار حتى استوسق له الأمر، وبلغ الخبر إلى الأيسر فلم يثبت وتوجه نحو رندة وقد فر عنه من كان معه من جنده، حتى لم يبق معه منهم إلا نحو الأربعين. وخرجت الخيل من غرناطة في طلبه، فمنعه أهل رندة، وأبوا أن يسلموه، وكتبوا إلى المنتصب بغرناطة في ذلك فآل الأمر إلى أن ركب سفينه وسار في البحر، وليس معه سوى أربعة نفر. وقدم تونس مترامياً على متملكها أبي فارس عبد العزيز الحفصي، وبلغ ألفنش متملك قشتلة ما تقدم ذكره، فجمع جنوده من الفرنج، وسار يريد أغرناطة في جع موفور، فبرز إليه القائم المذكور بغرناطة، وحاربه، فنصره الله على الفرنج، وقتل منهم خلقاً كثيراً، وغنم ما يجل وصفه.
شهر جمادى الأولى، أوله الجمعة: في سابعه: خلع على الأمير جرباش قاشق أمير مجلس، واستقر نائب طرابلس، عوضاً عن الأمير قصروه، ونقل قصروه إلى نيابة حلب، عوضاً عن الأمير شارقطلوا. وكتب بحضور شارقطلوا. وقدم رسول صاحب رودس يسأل الأمان، وأن يعفي من تجهيز العسكر إليه، وأنه يقوم بما يطلب منه، فأركب فرساً، وفي صدره صليب من ذهب وطلع القلعة، وقبل الأرض بين يدي السلطان، وأدى رسالة، ثم نزل إلى القاهرة.
وفي يوم الاثنين ثامن عشره: عملت الخدمة بدار العدل من قلعة الجبل، وجيء برسل رودس، فقدموا هدية قومت بستمائة دينار، وقرئ كتابهم.
وفي يوم الثلاثاء تاسع عشره: قدم ميخائيل بطركا لليعاقبة، عوضاً عن غبريال. وكان ميخائيل هذا أحد الرهبان بدير شعران من طرا.
شهر جمادى الآخرة، أوله الأحد: في خامسه: خلع على ملك قبرس خلعة السفر.
وفي تاسعه: قدم جمال الدين يوسف بن الصفي الكركي كاتب السر بدمشق معزولاً.
وفي عاشره: قبض على الأمير تغري بردي المحمودي رأس نوبة، وأخرج مقيداً إلى الإسكندرية ليسجن بها، فاتفق أمر عريب، وهو أن رجلاً من مباشريه لما بلغه القبض عليه خرج إلى القلعة، فوافي نزول أستاذه مقيداً، فجعل يصيح ويبكى وهو ماش معه حتى وصل إلى ساحل النيل، وأحضر أستاذه في الحراقة، أشتد صراخه حتى سقط ميتاً.(3/307)
وفي خامس عشره: خلع على الأمير أركماس الظاهري، واستقر رأس نوبة، عوضاً عن تغري بردي المحمودي، وأنعم عليه بإقطاعه، وأنعم بإقطاع أركماس وتقدمته على قاني باي البهلوان. وأنعم بطبلخاناه البهلوان على سودن ميق، وهذا المحمودي من جملة المماليك الناصرية فرج بن برقوق، ربي عنده صغيراً، ثم خدم بعد قتل الناصر عند الأمير نوروز الحافظي بدمشق، فلما قتل نوروز سجنه المؤيد شيخ بقلعة المرقب، فما زال مسجوناً بها حتى تنكر المؤيد على الأمير برسباي الدقماقي نائب طرابلس وسب بالمرقب مع المحمودي وأينال الششماني، فرأى تغري بردي المحمودي في ليلة من الليالي مناماً يدل على أن برسباي يتسلطن، فأعلمه به، معاهده على أن يقدمه إذا تسلطن، و يعترضه بمكروه، فلما كان من سلطة الأشرف برسباي ما كان، وتقدمته للمحمودي ما ذكر فيما مضى، وتمادى الحال إلى أن بات على عادته بالقصر، فقال لبعض من يثق به من المماليك ما تقدم من منامه وهو بالمرقب، وأنه وقع كما رأى وأنه أيضاً رأى مناماً يدل على أنه يتسلطن ولا بد. فوشى ذلك المملوك به إلى السلطان، فحرك منه كوامن، منها أن المحمودي غره منامه وتحدث بما كان يجب كتمانه حتى أشيع عنه وصار يقول: أنا لما حجبت أحضرت ابن عجلان، ولما مضيت إلى قبرس أسرت ملكها، أين كان الأشرف حتى يقال هذا لسعده؟ والله ما كان هذا إلا بسعدي. وينقل كل ذلك إلى السلطان ومع هذا يبدو منه في حال لعبه بالكرة مع السلطان دالة، وقديماً قيل الملك ملول.
وفي سادس عشره: سار ملك قبرس ورسل رودس في النيل إلى الإسكندرية ليمضوا منها إلى بلادهم، فكان هذا من الفرج بعد الشدة.
شهر رجب، أوله الاثنين.
فيه قدم الخبر بموت المنصور عبد الله بن أحمد الناصر صاحب اليمن، وتملك أخيه الأشرف إسماعيل بن أحمد الناصر.
وفيه استقر القسيس أبو الفرج بطركاً للنصارى اليعاقبة، عوضاً عن ميخائيل بعد صرفه لطعن النصارى فيه، وكان يعلم أولاد النصارى بالمقيس، فرغبوا في ولايتا وتسمى لما ولي يوحنا.
وفي ثامنه: قدم الأمير شارقطلوا من حلب فخلع عليه واستقر أمير مجلس عوضاً عن جرباش قاشق المنتقل لنيابة طرابلس، وقد كانت شاغرة هذه المدة.
وفي حادي عشره: أدير محمل الحاج، وحملت كسوة الكعبة على العادة، حتى شاهدها السلطان.
وفي تاسع عشره: توجه زين الدين عبد الباسط ناظر الجيش وزعيم الدولة على الهجن إلى بلاد الشام لعمارة سور حلب، وغير ذلك من المهمات السلطانية، بعد ما قدم خيوله وأثقاله بين يديه، قبل ذلك بأيام.
وفي هذه الأيام: انحط سعر الغلال عند دخول الغلال الجديدة حتى أبيع الأردب القمح من مائة وعشرة دراهم فلوساً إلى ثمانين درهماً، والشعير كل ثلاثة أرادب ونصف بدينار، وأبيع الرطل من لحم الضأن السليخ بستة دراهم فلوساً، ولحم البقر بأربعة دراهم، والرغيف الخبز بنصف درهم فلوساً، فيشتري بالدرهم الفضة أربعون رغيفاً، ولم نعهد مثل ذلك فلله الحمد.
وفي هذا الشهر: هدمت إحدى المآذن الثلاثة اللاتي أنشأهن المؤيد شيخ بجامعه، وهي الصغرى التي تشرف على صحن الجامع، لميلها وخوف سقوطها، ثم جددت.
وفيه كثر عبث الفرنج في البحر، وأخذوا مراكب مشحونة بضائع للمسلمين، يقال عدتها ثماني مراكب، أخرها مركبان قدمتا من بلاد العلايا حتى قاربتا ميناء الإسكندرية أخذتا، ولا قوة إلا بالله.
شهر شعبان، أوله الأربعاء: فيه ابتدئ بقراءة الحديث النبوي بالقصر السلطاني من القلعة، على العادة التي استجدت، ورسم أن لا يحضر أحد من القضاة المعزولين، وأن لا يكون من الحاضرين بحث في حال القراء، وقد كان يقع بينهم في بحوثهم ما لا يليق.
وفيه رسم بعزل نواب قضاة القضاة، وأن يقتصر الشافعي من نوابه على عشرة، والحنفي والمالكي كل منهما على ثمانية، والحنبلي على ثلاثة، فهموا بذلك أو كادوا. ثم عادوا لما نهوا عنه، كما هي عادتهم.
وفي رابع عشره: أخذ قاع النيل بالمقياس، فكان خمسة أذرع، وخمسة عشر إصبعاً.
وفي يوم السبت خامس عشرينه - وسابع عشرين بؤونة - : ابتدئ بالنداء في الناس بزيادة النيل ثلاثة أصابع.(3/308)
وفيه أيضاً اتفق حادث فظيع، وهو أن بعض المماليك السلطانية الجراكسة انكشف رأسه بين يدي السلطان، فإذا هو أقرع، فسخر منه من هنالك من الجراكسة، فسأل السلطان أن يجعله كبير القرعان، ويوليه عليهم، فأجابه إلى ذلك، ورسم أن يكتب له به مرسوم سلطاني، وخلع عليه، فنزل وشق القاهرة بالخلعة في يوم الاثنين سابع عشرينه، وصار يأمر كل أحد بكشف رأسه حتى ينظر إن كان أقرع الرأس أو لا، وجعل على ذلك فرائض من المال؛ فعلى اليهودي مبلغ عينه، وعلى النصراني مبلغ، وعلى المسلم مبلغ، بحسب حاله ورتبته، ولم يتحاش من فعل ذلك مع أحد، حتى لقد فرض على الأمير الأقرع عشرة دنانير، وتجاوز حتى جعل الأصلع والأجلح في حكم الأقرع ليجبيه مالاً فكان هذا من شنائع القبائح، وقبائح الشنائع، فلما فحش أمره نودي بالقاهرة يا معشر القرعان لكم الأمان فكانت هذه مما يندر من الحوادث.
وفي هذا الشهر: كثر رخاء الأسعار حتى أبيع كل أربعة أردب شعير بدينار، وفي الريف كل خمسة أرادب بدينار، وأبيع الفول كل ثلاثة أرادب بأقل من دينار، وأبيع القمح كل أردبين بأقل من دينار، وأقبلت الفواكه إقبالاً زائداً على المعهود في هذه الأزمنة، وكثرت الخضروات، ولله الحمد. ونسأل الله حسن العاقبة. فإنك مع هذه النعم الكبيرة لا تكاد تجد إلا شاكياً لقلة المكاسب، وتوقف الأحوال، وفشو الظلم، والإعراض عن العمل بطاعة الله، سبحانه وتعالى سيما من يقيم الحدود.
شهر رمضان، أوله الخميس: فيه فتح الجامع الذي أنشأه الأمير جانبك الدوادار قريباً من صليبة جامع ابن طولون، وأقيمت به الجمعة ثانية، وجاء من أبهج العمارات وأحسنها.
وفي سابع عشره: قدم زين الدين عبد الباسط ناظر الجيش، بعد ما انتهى في سفره إلى مدينة حلب، ورتب عمارة سورها، فعمل به بين يديه في يوم واحد ألف ومائتا حجر، وبعد صيته، وانتشر ذكره، وعظم قدره، وفخم أمره، في هذه السفرة، بحيث لم ندرك في هذه الدولة المتأخرة صاحب قلم بلغ مبلغه. فلما نزل ظاهر القاهرة خرج الأمير جانبك الدوادار وطائفة من الأمراء وسائر مباشري الدولة، وعامة الأعيان إلى لقائه، فصعد القلعة، وخلع عليه، ونزل إلى داره في موكب جليل، وقد زينت له الأسواق، وأشعلت له الشموع وجلس الناس لمشاهدته، فسبحان المعطي ما شاء من شاء.
وفي حادي عشرينه: قبض على عبد العظيم ناظر الديوان المفرد، وأسلم إلى الأمير زين الدين عبد القادر أستادار على مال يحمله، ثم أفرج عنه بعد أيام.
وفي ثالث عشرينه: طلع عظيم الدولة زين الدين عبد الباسط بهدية إلى السلطان، وفيها مائتا فرس وحلي ما بين زركش ولؤلؤ برسم النساء، وثياب صوف، وفرو سمور، وغيره مما قيمته نحو العشرين ألف دينار، وعم المباشرين والأمراء بأنواع الهدايا.
وفي يوم الاثنين سادس عشرينه - وسابع عشرين أبيب - : نودي على النيل بزياداً إصبع واحد لتتمة عشر أذرع وتسعة عشر إصبعاً، فنقص من الغد أربعة أصابع إلا أن الله تدارك العباد بلطفه، ورد النقص، وزاد، فنودي يوم الخميس تاسع عشرينه بزيادة سبعة أصابع ولله الحمد.
شهر شوال، أوله السبت: في أثناء هذا الشهر قدم الخبر بأن مراد بن محمد كرشجي بن بايزيد بن عثمان، صاحب برصا من بلاد الروم، جمع لمحاربة الأنكرس - من طوائف الروم المتنصرة - وواقعهم، عدة من عسكره، وهزموا وأن مدينة بلنسية التي تغلب عليها الفرنج - مما غلبوا عليه من بلاد الأندلس - خسف بها وبما حولها نحو ثلاثمائة ميل، فهلك بها من النصارى خلائق كثيرة، وأن مدينة برشلونة زلزلت زلزالاً شديداً، ونزلت بها صاعقة، فهلك بها أمم كثيرة، وخرج ملكها فيمن بقي فارين إلى ظاهرها، موقع بهم وباء كبير.
وفي يوم الخميس عشرينه: خرج محمل الحاج إلى الريدانية، ظاهر القاهرة، ورفع منها ليلاً إلى بركة الحاج على العادة، فتتابع خروج الحجاج.(3/309)
وفي يوم الجمعة حادي عشرينه - الموافق له ثاني مسرى - : كان وفاء النيل ستة عشر ذراعاً، فركب الأمير ناصر الدين محمد ابن السلطان حتى خلق عمود بين يديه، ثم فتح الخليج على العادة، و لم تزين الحراريق في هذه السنة، ولا كان للناس من الاجتماعات بمدينه مصر والروضة على شاطئ النيل ما جرت به عادتهم في ليالي الوفاء، وذلك أن النيل توقفت زيادته من أوائل مسرى، وأقام أياماً عديدة لا ينادي عليه في كل يوم سوى إصبع أو إصبعين، وأجرى الله العادة في الغالب من السنين أن تكون زيادة النيل المبارك منذ يدخل شهر مسرى في كل يوم عدة أصابع، فيقال: في أبيب يدب الماء في دبيب، وفي مسرى تكون الدفوع الكبرى. فجاء الأمر في نيل هذه السنة بخلاف ذلك، حتى ظن الناس الظنون، وتوقف خزان الغلال عن بيعها، وأخذ غالب الناس في شراء الغلال خوفاً من ألا يطلع النيل، فمنع السلطان من تزيين الحراريق، ومن اجتماع الناس بشاطئ النيل لانتظار الوفاء، فانكف عن منكرات قبيحة، كانت تكون هناك ولله الحمد، فإنه تعالى أغاث عباده وأجرى النيل بعد ما كادوا يقنطوا.
وفي هذا الشهر - والذي قبله - : كثر عبث المماليك الجلب الذين استجدهم السلطان، وتعدى فسادهم إلى الحرم. وهذا أمر له ما بعده.
وفي سادس عشرينه: نودي على النيل بزيادة إصبع واحد، لتتمة ستة عشر ذراعاً وخمسة عشر إصبعاً، فما أصبح يوم الخميس إلا وقد نقص.
شهر ذي القعدة، أوله الأحد: وكان النيل قد توقف عن الزيادة من يوم الخميس، والناس على ترقب مكروه، وإن لم يتدارك الله بلطفه فإنه نقص ثلاثة أصابع، وجمع السلطان القضاة والمشايخ عنده، وقرئت سورة الأنعام أربعين مرة في ليلة الأحد.
هذا ودعوا الله أن يجري النيل، ثم ركب السلطان من يوم الثلاثاء ثالثه إلى الجرف الذي يقال له الرصد ووقف بفرسه ساعة، وهو يدعو، ثم عاد إلى القلعة. فلما كان يوم الخميس خامسه، نودي بزيادة إصبع بعد رد الثلاثة الأصابع اللاتي نقصت، فسر الناس ذلك، لأن الغلال ارتفع سعرها، وشره كل أحد في طلبها، وشحت أنفس خزانها ببيعها.
وفي عاشره: قدم الخبر بأن قاضي دمشق - نجم الدين عمر بن حجي - وجد مدبوحاً في بستانه بالنيرب خارج دمشق، ولم يعرف قاتله.
وفي رابع عشره: خلع على الأمير قاني باي البهلوان - أحد مقدمي الألوف - واستقر في نيابة ملطية، عوضاً عن الأمير أزدمر شاية وعين معه عدة من المماليك، وأن يتوفر له إقطاعه بديار مصر، عوناً له على قتال التركمان، وأن يستقر أزدمر شاية أميراً بحلب. وقانباي هذا أحد المماليك الناصرية فرج، وخدم بعد قتل الناصر عند أمراء دمشق، ثم اتصل بخدمة الأمير ططر فلما تسلطن بدمشق أنعم على قاني باي هذا بإمرة طبلخاناه بمصر، وقدم معه، ثم نقل إلى إمرة مائة حتى ولي نيابة ملطية.
وفي هذا اليوم: أخذ النيل في النقصان، بعد ما انتهت زيادته إلى سبعة عشر ذراعاً، وستة أصابع، ويوافق هذا اليوم ثامن توت، وهذا هبوط في غير أوانه، فما لم يقع اللطف الإلهي بعباد الله، وإلا عظم الخطب.
وفي العشر الأخير: من هذا الشهر تكالب الناس على شراء القمح ونحوه من الغلال، وارتفع الأردب إلى مائتي درهم، والشعير والفول إلى مائة وخمسين، وتعذر وجود ذلك لشح الأنفس ببيع الغلال، مع كثرتها بالقاهرة والأرياف، فرسم السلطان للأمير أينال الششماني المحتسب أن لا يمكن أحداً من الناس بيع القمح بأزيد من مائة وخمسين درهماً الأردب، وأن لا يشتري أحد أكثر من عشرة أرادب، وسبب ذلك أن الناس ترقبوا الغلاء، فأخذ أرباب الأموال في الاستكثار من شراء الغلال ظناً منهم أن يبيعوها إذا طلبها المحتاجون بأغلى الأثمان، حتى أن بعض من لم يكن شيئاً مذكور اشترى في هذه الأيام ألف أردب من القمح، وكم أمثال هذا، فالله يحسن العاقبة.
وفي سابع عشرينه: كمل نقص النيل مما زاده ستة عشر إصبعاً، ثم أغاث الله عباداً بعد ما كادوا أن يقنطوا. ونودي في يوم السبت ثامن عشرينه بزيادة إصبعين من النقص. واستمرت الزيادة في يوم الأحد والاثنين، فسكن قلق الناس قليلاً.(3/310)
وفي يوم الجمعة: هذا قدم الأمير صارم الدين إبراهيم بن رمضان أحد أمراء: التركمان، ونائب طرسوس وأذنة، ونائب الملك، وقد عزل وفر إلى ابن قرمان ليحميه، فأسلمه إلى قصاد السلطان خوفاً من معرة العسكر، فقيد وحمل من بلاد قرمان حتى قدم به كذلك، فسجن.
وفي يوم الاثنين سلخه: خلع على بهاء الدين محمد بن نجم الدين عمر بن حجي. واستقر في قضاء القضاة بدمشق، عوضاً عن أبيه، وهو شاب صغير لم يستتر عذاريه بالشعر، لكن قام بمال كبير، فلم يلتفت مع ذلك لحداثة سنه، ولا لكونه ما قرأ ولا درى، وقديماً قيل:
تعد ذنوبه والذنب جم ... ولكن الغني رب غفور
شهر ذي الحجة.
أهل بيوم الثلاثاء، ووافقه من شهور القبط خامس عشرين توت.
وفيه انتهت زيادة ماء النيل إلى سبعة عشر ذراعاً وإصبعين، بعد تراجع نقصه. وهبط شيئاً بعد شيء، فكثر شراقي الأراضي بالوجه القبلي والوجه البحري لقصور زيادة النيل وسرعة هبوطه.
وفي سابع عشره: خلع أياس أحد المماليك، واستقر نائب السلطة بالعلايا، ورسم أن يجهز معه طائفة من العسكر ليسيروا في البحر، وسبب ذلك أن صاحب العلايا الأمير قرمان بن صوجي بن شمس الدين ألجأته الضرورة إلى أن قدم منذ شهر بأهله مترامياً على السلطان في أخذه بلاد العلايا منه، وأن يقيم بخدمة السلطان حتى تدخل في الحوزة السلطانية.
وفيه جهز تشريف إلى الأمير صارم الدين إبراهيم بن قرمان وقد ورد كتابه يرغب فيه أن يدخل في الطاعة السلطانية وينتمي إلى أبوابها، والتزم بإقامة الخطة للسلطان ببلاد الروم وضرب الصكة باسمه، ويستمر في نيابة السلطة ببلاد قرمان، فأجيب إلى ذلك، وكتب له التقليد، وجهز معه التشريف.
وفيه جهز أماج - أحد الدوادارية - إلى الأمير ناصر الدين محمد بن خليل بن دلغار نائب أبلستين، ليجهز عدد أغنام التركمان، على ما جرت به العوايد القديمة، وإلا داست العساكر بلاده.
وفي هذا الشهر: اتضع سعر الغلال، وقل طالبها، وكثر كسادها، مع كثرة الشراقي في أراضي مصر لقصور زيادة النيل، وسرعة هبوطه، وعدم العناية بعمل الجسور فكان هذا من جميل صنع الله تعالى وخفي لطفه، إن الله بالناس لرءوف رحيم.
وفي تاسع عشره: رسم بعرض المماليك على السلطان بآلة الحرب، فأخذوا في الاستعداد لذلك، وطلب الأسلحة بعد كسادها مدة وبوار أربابها وصناعها، فنفقت سوقها وربحت تجارتهم، واشتغل بعملها صناعهم.
وفيه ركب السلطان بثياب جلوسه، وشق القاهرة من باب زويلة، وخرج من باب النصر عائداً إلى القلعة، ونظر في ممره وقف الشهابي بخط باب الزهومة ليؤخذ له، وهو من جملة الأوقاف التي ينصرف فيها القاضي الشافعي ويصرفها على ما يراه من وجوه البر، إلا أنه تشعث واحتاج إلى العمارة، فإنه قدم عهده مع كثرة مساكنه، وضاق الحال عن إصلاحه، فوجدوا ارتفاعه في الشهر عن الفندق الذي يعرف بخان الحجر وعلوه وما جاوره من الحوانيت وعلوها في الشهر ثلاثة آلاف درهم فلوساً، عنها نحو أربعة عشر ديناراً أشرفية، فقومت أنقاضه كلها بألفي دينار، وصارت للسلطان بالطريقة التي صار يعمل بها، ولم يقبض المبلغ المذكور للمتولي، بل وعد أنه إذا عمر هذا الوقف للسلطان جعل منه في كل شهر ثلاثة آلاف درهم لجهة الأوقاف الجكمية فمشى الحال على ذلك.(3/311)
وفي سابع عشرينه: قدم مبشرو الحاج وأخبروا بسلامة الحجاج ورخاء الأسعار بمكة، وأنه قرئ مرسوم السلطان بمكة بمنع الباعة من بسط البضائع أيام المواسم في المسجد الحرام، ومن ضرب الناس الخيام بالمسجد على مصاطبه وأمامها، ومن تحويل المنبر من مكانه إلى جانب الكعبة، لأنه عند جره على عجلاته يزعج الكعبة إذا أسند إليها، فأمر أن يترك مكانه مسامتا لمقام إبراهيم عليه السلام، ويخطب الخطيب عليه هناك، وأن تسد أبواب المسجد بعد انقضاء الموسم إلا أربعة أبواب، من كل جهة باب واحد، وأن تسد الأبواب الشارعة من البيوت إلى سطح المسجد، فامتثل ذلك، وأشبه هذا قول عبد الله بن عمر رضي الله عنه وقد سأله رجل عن دم البراغيث فقال: عجباً لكم يا أهل العراق، تقتلون الحسين بن علي وتسألون عن دم البراغيث؟. وذلك أن مكة استقرت دار مكس حتى أنه يوم عرفة قام المشاعلي والناس بذلك الموقف العظيم يسألون الله مغفرة ذنوبهم، فنادى معاشر الناس كافة من اشترى بضاعة وسافر بها إلى غير القاهرة حل دمه وماله للسلطان، فأخر التجار القادمون من الأقطار حتى ساروا مع الركب المصري على ما جرت به هذه العادة المستجدة منذ سنين، لتؤخذ منهم مكوس بضائعهم، ثم إذا ساروا من القاهرة إلى بلادهم من البصرة والكوفة والعراق أخذ منهم المكس ببلاد الشام وغيرها. وهذا لينكر وتلك الأمور يعتني بإنكارها ويسعى أهل البلاد في إزالتها، فيا نفس جدي إن دهرك هازل. ولقد كان السبب في كتابة هذا المرسوم أن رجلاً من العجم يظهر للناس النسك، ولأمراء الدولة فيه اعتقاد، أمرهم بذلك، فأتمروا. وقد أذكرني هذا ما كتب به أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، لما ولي الخلافة: أما بعد فإنكم بلغتم، بالإقتداء والإتباع، فلا تلفتنكم الدنيا عن أمركم، فإن أمر هذه الأمة صائر إلى الابتداع بعد اجتماع ثلاث فيكم، تكامل النعم، وبلوغ أولادكم من السبايا، وقراءة الأعاجم والأعراب القرآن. فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الكفر في العجمة، فإذا استعجم عليهم أمر تكلفوا وابتدعوا " . ولم يعرف قط أن أبواب المسجد الحرام أغلقت إلا في هذه الحادثة، فإنها أقامت مدة أشهر مغلقة ضج الناس وفتحوا جميع أبواب المسجد على عادتها، واستمر المنع في بقية ما رسم بمنعه إلا جر المنبر، فإنه أيضاً جر على عادته إلى جانب الكعبة في يوم الجمعة.
وقدم من الهند إلى مكة رسولان أحدهما من صاحب كلبرجه واسمه محمود، واسم رسوله شمس الدين الغالي بغا، وصحبته هدية لأمير مكة، وهدية السلطان، ومبلغ ستة آلاف دينار ليشتري به داراً عن الصفا، وتعمر مدرسة، والرسول الآخر من صاحب بنكالة بهدية للسلطان وهدية للخليفة.
ووصل من العراق أحمد وعلي ولدا الشريف حسن بن عجلان. وكان لهما مدة بها، وصحبتهما مال جزيل، فنهب جميعه في الركب العقيلي قريب مكة، ونهبت أموال كثيرة، منها لتاجر واحد مائة جمل محملة بضائع ما بين شاشات وأرز وبهار، وغير ذلك.
وفي رابع عشرينه: قبض بالمدينة النبوية على أميرها الشريف خشرم بن دوغان بن جعفر بن هبة الله بن جماز بن منصور بن جماز بن شيحة، فإنه لم يقم بالمبلغ الذي وعد به، وقرر عوضه الشريف مانع بن علي بن عطية بن منصور بن جماز بن شيحة بن هاشم بن قاسم بن مهنا بن حسين بن مهنا بن داود بن قاسم بن عبد الله بن طاهر بن يحيى بن الحسين بن جعفر بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
الأمير قشتمر الذي تولى نيابة الإسكندرية، ثم أخرج إلى حلب، فقتل في وقعة التركمان في المحرم، ومستراح منه.
وتوفي بدر الدين محمد بن محمد بن محمد القرقشندي الشافعي، أمين الحكم، في يوم الاثنين رابع عشرين المحرم. ومولده أول المحرم سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، وكان فقيهاً فاضلا ناب في الحكم بالقاهرة سنين، وبرع في الحساب والفرائض، وعمي قبل موته.(3/312)
وتوفي زاهد الوقت الشيخ أحمد بن إبراهيم بن محمد اليمني، المعروف بابن عرب، في ليلة الأربعاء ثاني ربيع الأول، وحمل من الغد حتى صلى عليه تحت القلعة بمصلى المرمني. ونزل السلطان للصلاة عليه، فتقدم قاضي القضاة بدر الدين محمود العنتابي الحنفي فصلى عليه بمن حضر، وكان الجمع موفوراً، ثم أعيد إلى خانكاه شيخو بالصليبة خارج القاهرة، فدفن بها. وهناك كان سكنه، ووجد له مبلغ ألفين وسبعمائة درهم فلوساً. ومن خبره أن أباه كان من أهل اليمن، وسكن مدينة برصا من بلاد الروم، وتزوج بها، فولد أحمد هذا، ونشأ ببرصا، ثم قدم القاهرة شاباً، ونزل خانكاه شيخو، وقرأ على إمام الخمس بها، خير الدين سليمان بن عبد الله فقيراً مملقاً، يتصدق عليه بما عساه يقيم رمقه، ويسد من خلته، وينسخ بالأجرة، ثم نزل بعد مدة في جملة صوفيتها بمبلغ ثلاثين درهماً الشهر فقط، فتعفف عند ذلك عن أخذ ما كان يتصدق به عليه، وانقطع عن مجالسة الناس في بيت بالخانكاه، وترك مخالطتهم وأعرض عن كل أحد، واقتصر على ملبس خشن حقير إلى الغاية، وتقنع بيسير القوت، وصار لا ينزل من بيته إلا ليلاً ليشتري قوته، ثم يطلع إليه، فإذا حاباه أحد من الباعة فيما يشتريه من قوته تركه، وما حاباه به. فلما عرف بذلك تبرك الباعة به، ووقفوا عند ما يشير لهم به، ثم صار لا ينزل من بيته إلا كل ثلاث ليال مرة، بعد عشاء الآخرة، فيشتري قوته، ويعود إلى منزله، ولا يقبل من أحد شيئاً، بحيث أن رجلاً دس في قفته قليل موز وهو لا يشعر فلما رآه عند طلوعه إلى منزله لم يزل يفحص عنه حتى عرفه، فألقى إليه موزه ولم يزرأ منه شيء، وكان يغتسل بالماء البارد شتاء وصيفاً في كل يوم جمعة، ويمضي إلى صلاة الجمعة من أول النهار، ويظل يصلي حتى تقام الصلاة، فيكون قيامه في تركعه هذا بنحو ربع القرآن، من غير أن تسمع له قراءة، إلا أنه يطل قيامه، حتى يجوز أنه يقرأ في كل ركعة بحزبين. ومع محبة الناس له وكثرة تعظيمهم له، صانه الله من إقبالهم إليه، فكان يمر إلى الجمعة، ولا يرى نهاراً إلا إذا راح إلى الجمعة، ولا يرى ليلاً إلا كل ثلاث ليالي إذا نزل لشراء ما يتقوت به، ولا يجسر أحد أن يدنو منه، فإن دنا منه أحد وكلمه لا يجيبه، أقام على ذلك نحو الثلاثين سنة، وفي أثناء ذلك ترك النسخ بالأجرة، واقتصر على الثلاثين درهماً فلوساً في كل شهر، وأفضل منها ما وجد بعد موته، وكان يرى في الليل، وقد قام على قدميه، وقرأ ربع القرآن، وكان يعرف القراءات، ورؤى مرة بسطح الخانكاه، وقد مد يده وفيها فتات الخبز، والطيور تأكل مما في يده، وكان إذا احتاج إلى خياطة خيشة ليلبسها، أو إعانة أحد عند عجزه في آخر عمره عن حمل الجرة الماء التي يتوضأ منها، أعطاه من الفلوس شيئاً ويقول: هذا أجرتك. وكانت تمر به الأعوام الكثيرة لا يتلفظ بكلمة، سوى قراءة القرآن، وذكر الله. وفي كل شهر خادم الخانكاه يحمل إليه الثلاثين درهم، فلا يأخذها إلا عدداً لا وزناً، فإن. المعاملة بالفلوس وزناً حدثت بعد انقطاعه، وبالجملة فلا نعلم أحداً على قدمه في هذا الزمان.
وتوفي شهاب الدين أحمد بن موسى بن نصير المتبولي المالكي، موقع الحكم في يوم الأربعاء ثاني شهر ربيع الأول عن خمس وثمانين سنة. وقد حدث عن محمد بن أزبك، وعمر بن أميلة، وزغلس، وست العرب وجماعة، وناب في الحكم بالقاهرة. وتوفي شهاب الدين أحمد بن يوسف بن محمد الزعيفريني الدمشقي، الشاعر في يوم الأربعاء ثاني شهر ربيع الأول. وكان يقول الشعر ويكتب خطاً حسناً، ويزعم علم الحرف، ويستخرج من القرآن الكريم ما يريد معرفته من الأخبار بالمغيبات، وخدع بذلك طائفة من المماليك في أيام الفتن لأوائل دولة الناصر فرج، فتحرك له حظ راج به مديدة؛ ثم ركدت ريحه، وامتحن في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة، فإنه عثر على أبيات بخطه قد نظمها للأمير جمال الدين يوسف الأستادار يوهمه أنها ملحمة فيها أنه سيملك مصر ويملك بعده ابنه، فقطع الناصر لسانه، وعقدتين من أصابعه ورفق به عند القطع، فلم يمنعه ذلك من النطق، ولزم داره، وأظهر الخرس مدة أيام الناصر، ثم تكلم بعد ذلك، وأخذ في الظهور أيام المؤيد شيخ، فلم يبرح بهرجه، فانقطع حتى مات كمداً.(3/313)
وهلك بطرك النصارى اليعاقبة غبريال، في يوم الأربعاء ثاني شهر ربيع الأول. وكان أولاً من جملة الكتاب، ثم ترقى حتى ولي البطركية. وكانت أيامه شر أيام مرت بالنصارى. ولقي هو شدائد، وأهين مراراً، وصار يمشي في الطرقات على قدميه، وإذا دخل إلى مجلس السلطان أو الأمراء يقف، وقلت ذات يده، وخرج إلى القرى مراراً يستجدي النصارى، فلم يظفر منهم بطائل، لما نزل بهم من القلة والفاقة، وكانت للبطاركة عوائد على الحطي ملك الحبشة، يحمل إليهم منه الأموال العظيمة، فانقطعت في أيام غبريال هذا، لاحتقارهم له وقلة اكتراثهم به، وطعنهم فيه، بأنه كان كاتباً، وذمته مشغولة بمظالم العباد. وبالجملة فما أدركنا بطركاً أخمل منه حركة، ولا أقل منه بركة.
ومات الأمير الطواشي كافور الصرغتمشي، شبل الدولة، زمام الدار، وقد قارب الثمانين سنة، في يوم الأحد خامس عشرين شهر ربيع الآخر، وكان من عتقاء الأمير منكلي بغا الشمسي، وخدم دهراً عند زوجته خوند الأشرفية، أخت الأشرف شعبان ابن حسين مدة، ثم خدم في بيت السلطان، فولاه الناصر فرج زمام الدار، وعزل منها بعد موت المؤيد شيخ، ثم أعيد، وكان قليل الشر. أنشأ بحارة الديلم جامعاً، وأنشأ بالصحراء خانكاه، وله عدة مواضع أنشأها بالقاهرة، ما بين رباع غيرها. وخلف مالاً مثيراً. وضرب عنق نصراني في يوم الاثنين سادس عشرين شهر ربيع الآخر، على أنه ساحر، وقد حكم بعض نواب الحكم المالكية بقتله، واتهم أنه قتله لغرض، ولله العلم.
وتوفي الشيخ بدر الدين محمد بن إبراهيم بن محمد البشتكي في يوم الاثنين ثالث عشرين جمادى الآخرة. وجد في حوض الحمام ميتاً، ومولده في أحد الربيعين، من سنة ثمان وأربعين وسبعمائة. وكان أحد أفراد الزمان في كثرة الكتابة، ينسخ في اليوم خمس كراريس، فإذا تعب اضطجع على جنبه، وكتب كما يكتب وهو جالس. فكتب ما لا يدخل تحت حصر، ومن النسخ كانت معيشته، مع نزاهة النفس، وحدة المزاج، والإقتداء بالسنة، والتمذهب لابن حزم الظاهري، وكان يقول الشعر، ويذاكر بما شئت من أنواع العلوم، فالله يرحمه. ولقد أوحشنا فقده، و لم يخلف مثله بعده.
ومات نجم الدين عمر بن حجي بن موسى بن أحمد بن سعد السعدي الحسباني الدمشقي الشافعي، قاضي القضاة بدمشق، وكاتب السر بديار مصر، في ليلة الأحد مستهل ذي القعدة، عن ثلاث وستين سنة، وقد نقب عليه بستانه بالنيرب خارج دمشق، ودخل عليه وهو نائم عدة رجال فقتلوه، وخرجوا من غير أن يأخذوا له شيئاً فلم يرع زوجته إلا به وهو يضطرب. وكان أبوه من فقهاء دمشق، ونشأ بها، وولي قضاءها بعد الخراب في واقعة تمرلك. وعزل وأعيد مراراً، ثم ولي كتابة السر فلم ينجح، وخرج منها بأسوأ حال، ثم أعيد إلى قضاء دمشق، فمات وهو قاض. وكان يسير غير سيرة القضاة، ويرمي بعظائم، ولم يوصف بدين قط.
ومات بعدن من بلاد اليمن التاجر شهاب الدين بركوت بن عبد الله المكيني، مولى الحاج سعيد مولى المكين، في سادس ذي الحجة. وقد سكن القاهرة سنين.
وتوفي تقي الدين محمد بن الزكي عبد الواحد بن العماد محمد ابن قاضي القضاة علم الدين أحمد الأخناي المالكي، أحد نواب الحكم بالقاهرة عن المالكية، وهو بمكة في ثالث ذي الحجة، عن ثلاث وستين سنة. وكان بالنسبة إلى سواه مشكوراً.
ومات متملك اليمن الملك المنصور عبد الله بن الناصر أحمد بن الأشرف إسماعيل بن الأفضل عباس بن المجاهد علي بن المؤيد داود بن المظفر يحيى بن المنصور عمر بن علي بن رسول في جمادى الأولى، وأقيم من بعده أخوه الأشرف إسماعيل، ثم خلع بعده وأقيم بدله الملك الظاهر هزبر الدين يحيى بن الأشرس إسماعيل في ثالث شهر رجب.
سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة(3/314)
أهلت وخليفة الزمان المعتضد بالله أبو الفتح داود بن المتوكل على الله أبي عبد الله محمد العباسي، وسلطان الإسلام بمصر والشام والحجاز الملك الأشرف أبو العز برسباي الدقماقي الظاهري الجركسي، ثامن الملوك الجركسة، والأمير الكير الأتابك يشبك الأعرج الساقي، وأمير أخور الأمير جقمق العلاي وأمير سلاح أينال الجكمي. وأمير مجلس الأمير شارقطلوا، ورأس نوبة الأمير أركماس الظاهري، والدوادار الأمير أزبك، وحاجب الحجاب الأمير قرقماس وأستادار الأمير زين الدين عبد القادر ابن الأمير فخر الدين عبد الغني ابن الأمير الوزير تاج الدين عبد الرزاق بن أبي الفرج، والوزير الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن الوزير تاج الدين عبد الرزاق بن محمد، المعروف بكاتب المناخ، وناظر الخاص كريم الدين عبد الكريم بن بركة، المعروف بابن كاتب جكم، وكاتب السر بدر الدين محمد بن محمد بن أحمد بن مزهر الدمشقي. وناظر الجيش القاضي زين الدين عبد الباسط، وقاضي القضاة الشافعي الحافظ شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر، وقاضي القضاة الحنفي بدر الدين محمود العنتابي، قاضي القضاة المالكي شمس الدين محمد البساطي، وقاضي القضاة الحنبلي عز الدين عبد العزيز البغدادي، ومحتسب القاهرة ومصر الأمير أينال الششماني، ووالي القاهرة التاج الشويكي، ونائب الشام سودن من عبد الرحمن، ونائب حلب الأمير قصروه، ونائب طرابلس الأمير جرباش قاشق، ونائب حماة الأمير جلبان، ونائب صفد الأمير مقبل الزيني، ومتولي مكة - شرفها الله تعالى - الشريف بركات بن حسن بن عجلان الحسني، ومتولي المدينة النبوية الشريف مانع بن علي بن عطية بن منصور بن جماز الحسيني، ومتولي ينبع الشريف عقيل بن وبير بن مختار بن مقبل بن راجح بن إدريس الحسني، ونائب الإسكندرية الأمير أقبغا التمرازي.
وأسعار الغلال رخيصة، أما القمح فمن مائة وسبعين درهماً فلوساً الأردب إلى ما دونها، وأما الشعير فمن مائة وثلاثين درهماً الأردب إلى ما دونها، وأما الفول فبنحو ذلك.
والناس بالنواحي في شغل بزراعة الأراضي، وقد كثر الشراقي في أعمال القاهرة ومصر، لقصور مد النيل، وسرعة هبوطه، على ما تقدم ذكره في السنة الحالية. والعسكر في الاهتمام للعرض على السلطان، والناس قد غلب عليهم في عامة أرض مصر القلة والفاقة، وعدم المبالاة بأمور الدين، والشغل بطلب المعيشة، لقلة المكاسب.
شهر الله المحرم، أوله الأربعاء: في يوم الجمعة ثالثه: قدم الحمل من قبرس، ومبلغه خمسون ألف في ينار، فرسم بضربها دنانير أشرفية، فضربت بقلعة الجبل، حيث يشاهد السلطان الحال في ضربها.
وفي يوم السبت حادي عشره: ركب السلطان من القلعة إلى دار الأمير جانبك الدوادار. يعوده وقد مرض.
وفي يوم الأربعاء ثالث عشرينه: قدم الركب الأول من الحج، وقدم من الغد يوم الخميس ثالث عشرينه المحمل ببقية الحاج، ومعهم الشريف خشرم أمير المدينة الشريفة في الحديد، وقدم الأمير بكتمر السعدي من المدينة النبوية، وقدم الحمل من عشور التجار الواردين من الهند إلى جدة وهو أصناف، ما بين بهار، وشاشات، يكون قيمة ذلك نحو الخمسين ألف دينار.
وفي يوم الأحد سادس عشرينه: ابتدئ في هدم خان الحجر وقف الشهابي الششماني وقد أخذه السلطان وألزم سكانه بالنقلة منه. وكانوا أمة كبيرة، قد مرت بهم وبآبائهم فيه عدة سنين، فنزل بهم مكاره كبير، لتعذر وجود مساكن يسكنون بها.
وفي هذا الشهر: كانت فتنة بين آل مهنا عرب الشام، قتل فيها الأمير عذراء بن علي بن نعير، واستقر أخوه مدلج عوضه في إمرة آل فضل.
شهر صفر، أوله الجمعة: فيه رسم أن لا يزرع أحد من الناس قصب السكر، وأن يبقى صنفاً مفرداً للسلطان يزرعه في مزارعه بجميع الإقليم، ويعصره عسلاً وقنداً وسكراً، ويبيعه من غير أن يشاركه في ذلك أحد، ثم بطل هذا المرسوم ولم يعمل به، وكثر في هذا الشهر - والذي قبله - أكل الدود للزراعات؛ من البرسيم الأخضر والقمح ونحو ذلك، وسببه شدة الحر في فصل الخريف، وعدم المطر، ومع هذا فأسعار الغلال منحطة، فالقمح بمائة وأربعين درهماً الأردب، والشعير والفول بتسعين درهماً الأردب.(3/315)
وفي يوم الثلاثاء ثاني عشره: خلع على محب الدين أحمد بن نصر الله، وأعيد إلى قضاء القضاة الحنابلة، عوضاً عن عز الدين عبد العزيز البغدادي، وقد عزل لتنكر كاتب السر عليه وسعايته به.
وفي يوم الاثنين ثامن عشره. خلع على سعد الدين إبراهيم بن المرة، واستقر في نظر الديوان المفرد، عوضاً عن عبد العظيم. واستقر عبد العظيم كاشف الجسور بالبهنساوية.
وفي يوم الثلاثاء المبارك تاسع عشره: ركب السلطان من قلعة الجبل بثياب جلوسه، وشق من باب زويلة شارع القاهرة، حتى خرج من باب النصر إلى خليج الزعفران، فرأى البستان الذي أنشأه هناك، وعاد على تربته التي أنشأها بجوار تربة الظاهر برقوق وصعد إلى القلعة.
شهر ربيع الأول، أوله يوم السبت: ففي ليلة الجمعة: كان المولد النبوي الذي يعمله السلطان، ويحضره بقلعة الجبل، على عادته في كل سنة.
وفي ثالث عشره: أنعم بطبلخاناه الأمير بكتمر السعدي، على الأمير قجقار جقطاي، أحد أمراء العشرات.
وفي تاسع عشره: قدم قاضي القضاة الحنفي بدمشق، شهاب الدين أحمد بن محمود ابن الكشك، وقد ألزم بحمل عشرة آلاف دينار.
وفي عشرينه: قدم قاضي القضاة الشافعي، ونقيب الأشراف بدمشق، شهاب الدين أحمد بن علي بن إبراهيم بن عدنان الحسيني. وقد ألزم أيضاً بحمل مال كبير.
وفيه ركب السلطان وشق القاهرة بثياب جلوسه، على عادته.
وفي أخريات هذا الشهر: تحركت أسعار الغلال، وسببه خسة الزرع بالجيزية والوجه البحري لعدم المطر، وتوالى هبوب الرياح المريسية زيادة على ثلاثين يوماً، فلم تسر فيها المراكب.
شهر ربيع الآخر، أوله الاثنين: أهل والناس على تخوف من سوء حال الزرع، وانكشاف ساحل النيل من الغلال، وقلة وجود القمح مع هذا عدة أيام، وقدمت الأخبار بكثرة أمراض أهل الشام، وكثرة موت الخيول بدمشق وحماة.
وفي ثالث عشرينه: خلع على القاضي شهاب الدين أحمد بن الكشك خلعة الاستمرار في قضاء الحنفية بدمشق وقد حمل مبلغ ألفي دينار بعناية بعض الأمراء به، وكان قد ألزم بمال كثير.
وفي هذه الأيام: تتبعت أماكن الفساد، وأريقت منها الخمور الكثيرة، وشدد في المنع من عصير الزبيب، ومنع الفرنج من بيع الخمر المجلوب من بلادهم.
وفي سادس عشرينه: توجه الشهاب بن الكشك إلى محل ولايته.
وفي هذه الأيام: تشكى التجار الشاميون من حملهم البضائع التي يشترونها من جدة إلى القاهرة، فوقع الاتفاق على أن يؤخذ منهم بمكة عن كل حمل قل ثمنه أو كثر ثلاثة دنانير ونصف، ويعفوا من حمل ما يتبضعونه من جدة إلى مصر، فإذا حملوا ذلك إلى دمشق أخذ منهم مكسها هناك، على ما جرت به العادة.
شهر جمادى الأولى، أوله الثلاثاء: في خامسه: غضب السلطان على الطواشي فيروز الساقي، وضربه وأخرجه إلى المدينة النبوية.
وفي سادسه: هدمت الحوانيت المعروفة بالصيارف وبالسيوفيين، فيما بين الصاغة ودرب السلسلة. وكانت في أوقاف المدارس الصالحية، فأخذت باسم ولد الأمير جانبك الدوادار، لتعمر له مما ورثه من أبيه.
وفي ثاني عشرينه: برز من القاهرة طائفة من العمار، ونزلوا بركة الحجاج، وساروا منها يريدون مكة في رابع عشرينه.
وفي سادس عشرينه: توجه السيد الشريف شهاب الدين أحمد بن عدنان إلى دمشق، بعد ما حمل ثلاثة آلاف دينار، وألزم بحمل خمسة آلاف دينار من دمشق، سوى ما أهدي إلى أرباب الدولة، وهو بمال جم.
وفي هذا الشهر: انحلت أسعار الغلال وكسدت.(3/316)
وفيه كانت الفتنة الكبيرة. بمدينة تعز من بلاد اليمن. وذلك أن الملك الأشرف إسماعيل ابن الملك الأفضل عباس بن المجاهد علي بن المؤيد داود بن المظفر يوسف بن المنصور عمر بن علي بن رسول لما مات قام من بعده ابنه الملك الناصر أحمد بن الأشرف إسماعيل، وقام بعد الملك الناصر أحمد ابنه الملك المنصور عبد الله بن أحمد، في جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين وثمانمائة، ومات في جمادى الأولى سنة ثلاثين، فأقيم بعده أخوه الملك الأشرف إسماعيل بن أحمد الناصر بن الملك الأشرف إسماعيل بن عباس فتغيرت عليه نيات الجند كافة من أجل وزيره شرف الدين إسماعيل بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عمر العلوي، نسبة إلى علي بن بولان العكي، فإنه أخر صرف جوامكهم ومرتباتهم، واشتد عليهم، وعنف بهم، فنفرت منه القلوب، وكثرت حساده، لاستبداده على السلطان، وانفراده بالتصرف دونه. وكان يليه في الرتبة الأمير شمس الدين علي بن الحسام، ثم القاضي نور الدين علي المحالبي مشد الاستيفاء، فلما اشتد الأمر على العسكر وكثرت إهانة الوزير لهم، وإطراحه جانبهم، ضاقت عليهم الأحوال حتى كادوا أن يموتوا جوعًا، فاتفق تجهيز خزانة من عدن، وبرز الأمر بتوجه طائفة من العبيد والأتراك لنقلها، فسألوا أن ينفق فيهم أربعة دراهم لكل منهم، يرتفق بها، فامتنع الوزير ابن العلوي من ذلك، وقال: ليمضوا غصبًا إن كان لهم غرض في الخدمة، وحين وصول الخزانة يكون خير، وإلا ففسح الله لهم، فما للدهر بهم حاجة ،والسلطان غني عنهم. فهيج هذا القول حفائظهم، وتحالف العبيد والترك على الفتك بالوزير، وإثارة فتنة، فبلغ الخبر السلطان، فأعلم الوزير، فقال: ما يسوءوا شيئاً، بل نشق كل عشرة في موضع، وهم أعجز من ذلك.
فلما كان يوم الخميس تاسع جمادى الآخرة هذا: قبيل المغرب، هجم جماعة من العبيد والترك دار العدل بتعز، وافترقوا أربع فرق، فرقة دخلت من باب الدار وفرقة دخلت من باب السر، وفرقة وقفت تحت الدار، وفرقة أخذت بجانب آخر فخرج إليهم الأمير سنقر أمير جندار، فهبروه بالسيوف حتى هلك، وقتلوا معه علي المحالبي مشد المشدين، وعدة رجال، ثم طلعوا إلى الأشرف - وقد اختفى بين نسائه وتزيا بزيهن - فأخذوه ومضوا إلى الوزير ابن العلوي فقال لهم: ما لكم في قتلى فائدة؟ أنا أنفق على العسكر نفقة شهرين فمضوا إلى الأمير شمس الدين علي بن الحسام بن لاجين، فقبضوا عليه، وقد اختفى، وسجنوا الأشرف وأمه وحظيته في طبقة المماليك، ووكلوا به وسجنوا ابن العلوي الوزير وابن الحسام قريباً من الأشرف، ووكلوا بهما، وقد قيدوا الجميع، وصار كبير هذه الفتنة برقوق من جماعة الترك، فصعد هو في جماعة ليخرج الظاهر يحيى بن الأشرف إسماعيل بن عباس من ثعبات فامتنع أمير البلد من الفتح ليلاً، وبعث الظاهر إلى برقوق بأن يتمهل إلى الصبح، فنزل برقوق ونادى في البلد بالأمان والاطمئنان والبيع والشراء، والأخذ والعطاء، وأن السلطان هو الملك الظاهر يحيى بن الأشرف. هذا وقد نهب العسكر عند دخولهم دار العدل جميع ما في دار السلطان، وأفحشوا في نهبهم، فسلبوا الحريم ما عليهن، وانتهكوا ما حرم الله، و لم يدعوا في الدار ما قيمته الدرهم الواحد، وأخذوا حتى الحصر، وامتلأت الدار وقت الهجمة بالعبيد والترك والعامة.(3/317)
فلما أصبح يوم الجمعة عاشره: اجتمع بدار العدل الترك والعبيد، وطلبوا بني زياد وبني السنبلي والخدم، وسائر أمراء الدولة والأعيان، فلما تكامل جمعهم، ووقع بينهم الكلام فيمن يقيموه، قال بنو زياد: ما تم غير يحيى، فاطلعوا له هذه الساعة. فقام الأمير زين الدين جياش الكاملي والأمير برقوق، وطلعا إلى ثعبات في جماعة من الخدام والأجناد، فإذا الأبواب مغلقة، وصاحوا بصاحب البلد حتى فتح لهم، ودخلوا إلى القصر، فسلموا على الظاهر يحيى بالسلطنة وسألوه، أن ينزل معهم إلى دار العدل، فقال: حتى يصل العسكر أجمع. ففكوا القيد من رجليه، وطلبوا العسكر بأسرهم، فطلعوا بأجمعهم، وأطلعوا معهم بعشرة جنائب من الاصطبل السلطاني في عدة بغال فتقدم الترك والعبيد وقالوا للظاهر: لا نبايعك حتى تحلف لنا أنه لا يحدث علينا منك سوء بسبب هذه الفعلة، ولا ما سبق قبلها،. فحلف لهم ولجميع العسكر، وهم يعددون عليه الأيمان، ويتوثقون منه، وذلك بحضرة قاضي القضاة موفق الدين علي بن الناشري، ثم حلفوا له على ما يحب ويختار، فلما انقضى الحلف، وتكامل العسكر، ركب ونزل إلى دار العدل في أهبة السلطنة، فدخلها بعد صلاة الجمعة، فكان يوماً مشهوداً. وعندما استقر بالدار أمر بإرسال ابن أخيه الأشرف إسماعيل إلى ثعبات، فطلعوا به، وقيدوه بالقيد الذي كان الظاهر يحيى مقيداً به، وسجنوه بالدار التي كان مسجوناً بها، ثم حمل بعد أيام إلى الدملوه، ومعه أمه وجاريته، وأنعم السلطان الملك الظاهر يحيى على أخيه الملك الأفضل عباس. بما كان له، وخلع عليه، وجعله نائب السلطة كما كان في أول دولة الناصر، وخمدت الفتنة.
وكان الذي حرك هذا الأمر بنو زياد، فقام أحمد بن محمد بن زياد الكاملي بأعباء هذه الفتنة، لحنقه على الوزير ابن العلوي، فإنه كان قد مالأ على قتل أخيه جياش، وخذل عن الأخذ بثأره وصار يمتهن بني زياد، ثم ألزم الوزير ابن العلوي وابن الحسام بحمل المال، وعصرا على كعابهما وأصداغهما، وربطا من تحت إبطهما، وعلقا منكسين، وضربا بالشيب والعصا، وهما يوردان المال، فأخذ من ابن العلوي - ما بين نقد وعروض - ثمانون ألف دينار، ومن ابن الحسام مبلغ ثلاثين ألف دينار، واستقر برقوق أمير جندار، واستقر الأمير بدر الدين محمد الشمسي أتابك العسكر، واستقر ابنه العفيف أمير أخور، ثم استقر الأمير بدر الدين المذكور أستادارا، وشرع في النفقة على العسكر، وظهر من السلطان نبل وكرم وشهامة ومهابة، بحيث خافه العسكر، بأجمعهم فإن له قوة وشجاعة، حتى أن قوسه يعجز من عندهم من الترك عن جره، مدحه الفقيه يحيى بن رويك بقصيدة، أولها:
بدولة ملكنا يحيى اليماني ... بلغنا ما نريد من الأماني
سيحيى بابن إسماعيل يحيى ... أناس أدركتهم موتتان
فكتب بخطه على الحاشية الموتتان هي دولة المنصور والأشرف،. وكانت عدة هذه القصيدة أحد وأربعين بيتا، فقال: ثمنوها. وأجاز عليها بألف دينار أحضرت له في المجلس وبهذه الكائنة اختل ملك بني رسول.
شهر جمادى الآخرة، أوله الخميس: في خامسه: أنعم علي الأمير شارقطلوا، وخلع عليه، فاستقر أميراً كبيراً أتابك العساكر، عوضاً عن يشبك الساقي، بحكم وفاته.(3/318)
في سادسه: أحضرت هدية ملك كلبرجة من الهند، وهي أربعة سيوف، وستة عشر جمالاً، عليها شاشات وأزر، وقد أهدى إلى غير واحد من أعيان الدولة، وسأل أن تمكن رسله من بناء رباط بالقدس، وكان من خبر الهند أن بلاد الهند قسمان، قسم بيد أهل الكفر وهم الأكثر، وقسم بأيدي المسلمين. وكان ملك الهند صاحب مدينة دله، وهي قاعدة الملك. وكان ملكها فيروز شاه بن نصرة شاه من عظماء ملوك الإسلام، فلما مات، ملك دله بعده مملوكه ملو وعليه قدم الأمير تيمور لنك بعد سنة ثمانمائة، وأوقع بالهند وقيعة شنعاء، وخرب مدينة دله، وعاد إلى بلاده، فأتى بلاد الشام بعد ذلك. وكان ملو قد فر منه، فعاد مسير تيمور لنك إلى دله، ومضى منها إلى ملطان فخرج عليه خضر خان بن سليمان، وحاربه فقتل في الحرب. وكان قد ملك دله دولة يار، فنازله خضر خان وحصره مدة، ففر منه، وملك خضر خان دله حتى مات، فقام من بعده ابنه مبارك شاه بن خضر خان هذا، وقد انقسمت بعد أخذ تيمور مدينة دله مملكة الهند، وصار بها عدة ملوك، أجلهم ملك بنجالة، وملك كلبرجة، وملك بزرات. فأما بنجالة فقام بها رجل من أهل سجستان يقال له شمس الدين، فلما مات قام من بعده ابنه اسكندر شاه ثم ابنه غياث الدين أعظم شاه بن اسكندر شاه بن شمس الدين، ومات سنة خمس عشرة وثمانمائة فملك بعده ابنه سيف الدين حمزة، فثار عليه مملوكه شهاب الدين وقتله، فلم يتهن بعد أستاذه، وأخذه الكافر فندو، وملك بنجالة وما معها، فثار عليه ولده - وقد أسلم - وقتله، وملك بنجالة، وتسمى. بمحمد، وتكنى بأبي المظفر، وتلقب بجلال الدين، ثم جدد ما دثر أيام أبيه فندو من المساجد، وأقام معالم الإسلام.
فأما كلبرجة فإن محمد شاه صاحب مدينة دله، بعث إليها حسن بهمن، فأخذها له، وأقام نائبها عن محمد شاه حتى مات، فقام ابنه أحمد بن حسن بهمن، ثم قام بعد أحمد ابنه فيروز شاه بن أحمد بن حسن بهمن ثم قام بعده أخوه شهاب الدين أحمد أبو المغازي بن أحمد بن حسن بهمن، وهو الذي بعث الهدية المذكورة.
وأما بزرات وكنباية فإن ظفر خان كان ساقيًا عند الملك فيروز شاه بن نصرة شاه صاحب دله، فولاه كنباية على ألف ألف تنكة حمراء عنها من الذهب ثلاثة آلاف ألف مثقال وخمسمائة ألف مثقال. وكان ظفر هذا كافراً، وله أخ اسمه لاكه. وفي ولايته خرب تيمور دله، فقام عليه ابنه تتر خان وسجنه، وصانع تيمور فأقره، فلما سار تيمور عن الهند، خرج لاكه على ابن أخيه تتر خان وقتله، وأعاد أخاه ظفر خان إلى ملكه، فوثب أحمد خان بن تتر خان بن ظفر خان على جده، وقتله، وأحرق عم أبيه لاكه، وذلك بعد سنة عشر وثمانمائة. وقد أسلم وتلقب بالسلطان. وما عدا هذه المماليك الثلاثة، فإنها دونها كديوه ومهايم وتانه ونحو ذلك مما هو بأيدي المسلمين.
وفي ثامن جمادى: المذكور خلع على الأمير الكبير شارقطلوا، واستقر في نظر المارستان المنصوري بالقاهرة، ونزل إليه على العادة.
وفي عاشره: كتب بحضور الأمير صرماش قاشق نائب طرابلس، ليستقر أمير مجلس، وكتب إلى الأمير طرباي المقيم بالقدس بطالاً أن يستقر في نيابة طرابلس، وجهز إليه خيل ليركبها، ورسم لمن في خدمة الأمراء من مماليكه أن يتوجهوا إليه.
وفي تاسع عشرينه: قدمت رسل ملك الروم بمدينة برصا، مراد بك بن كرشجي محمد بن بايزيد، بكتاب وهدية فاحتفل السلطان لقدومهم، وأركب العسكر إلى لقائهم. ومن خبر ملوك الروم أن خوندكار بايزيد بن مراد بن عثمان ترك أربعة أولاد: سلمان وهو أكبرهم، ومحمداً، وعيسى، وموسى، فقام بالأمر سلمان، وأقام ببر قسطنطنية في مدينة أدرنة وكالي بولي، وقام أخوه عيسى. بمدينة برصا، وتحاربا، فقتل عيسى، واستبد سلمان. مملكة أبيه، فثار عليه أخوه موسى وحاربه، فقتل سلمان، وملك بعده موسى ببر أدرنة، وقام ببرصا أخوه محمد كرشجي وقاتله، فقتل موسى، واستبد بالمملكة حتى مات فأقيم من بعده ابنه مراد بك بن محمد كرشجي.
وفي هذا الشهر: اتضع سعر الغلال بديار مصر وكسدت، فأبيع الأردب القمح بمائة وأربعين فلوساً إلى ما دون ذلك، والشعير بتسعين درهماً الأردب.(3/319)
وفيه أخذ السلطان خان مسرور والرباع التي تعلوه، وذلك أنه قومت أنقاضه باثني عشر ألف ديناراً، رصد منها تحت يد مباشري السلطان تسعة آلاف دينار لعمارة الربع، فصار النصف والربع للسلطان، وأقبض قاضي القضاة عن ثمن أنقاض الربع ثلاثة آلاف دينار، على أنه إذا كملت يكون ريعه جارياً تحت نظر الحكم العزيز الشافعي، يصرف ريعه فيما كان يصرف فيه ريع الأصل.
شهر رجب، أوله السبت: فيه عملت الخدمة بالإيوان من دار العدل من القلعة، وأحضرت رسل مراد بن عثمان ملك الروم بيرصا. وكان موكباً جليلاً أركب فيه الأمراء ومماليك السلطان، وأجناد الحلقة.
وفيه ابتدئ بهدم خان مسرور.
وفي سابعه: خلع علي القاضي كمال الدين محمد ابن القاضي ناصر الدين محمد بن البارزي، واستقر في كتابة السر بدمشق عوضاً عن بدر الدين حسين بحكم وفاته. وكان القاضي كمال الدين منذ من عزل نظر الجيش بعد كتابة السر ملازماً لداره على أجمل حالة وأمثل طريقة، من الصيانة والديانة والوقار والسكينة، وتردد الأكابر والأعيان إلى بابه، وكثرت مداراته، وبسط يده بالإحسان.
وفي عاشره: خلع علي عز الدين عبد السلام بن داود بن عثمان العجلوني القدسي أحد خلفاء الحكم الشافعية، واستقر في تدريس الصلاحية بالقدس، عوضاً عن شمس الدين محمد بن عبد الدايم البرماوي. وعز الدين هذا قدم القاهرة بعد كائنة تيمور، فبلونا منه فضيلة ومعرفة بالحديث وغيره، وصحب كاتب السر فتح الله، وناب في الحكم فاشتهر، ثم نوه به ناصر الدين محمد بن البارزي كاتب السر، وصار يزاحم الأكابر في المحافل، ويناطح الفحول بقوة بحثه وشهامته وغزارة علمه، ونعم الرجل هو. وفي حادي عشره: أدير محمل الحاج على العادة في كل سنة.
وفي تاسع عشره: كتب باستقرار السيد الشريف شهاب الدين أحمد بن عدنان في نظر الجيش بدمشق، عوضاً عن بدر الدين حسين، وحملت إليه الخلعة والتوقيع على يد نجاب.
وفي ثاني عشرينه: سار القاضي كمال الدين محمد بن البارزي إلى محل ولايته. ولقد استوحشنا لغيبته، فالله يمن علينا بجميل عودته.
وفي ثالث عشرينه: قدم الأمير جرباش قاشق من طرابلس، واستقر أمير مجلس.
وفي سابع عشرينه: استدعى السلطان من في سجن القضاة، وأفرج عن عدة من ا لمديونين.
وفي هذا الشهر: تحرك سعر الغلال فأبيع الشعير كل أردب بمائة وخمسة وعشرين بعد تسعين وأبيع الفول بمائة وستين، وأبيع القمح بمائة وستين، وأبيع القمح بمائة وستين بعد مائة وأربعين. هذا مع دخول الغلات الجديدة، إلا أن الفأر كثر عبثه في الغلال، ووقعت صقعة في عاشر طوبة من أشهر القبط ببلاد الصعيد، تلف بها أكثر الفول وهو أخضر، وكانت الشراقي كثيرة، فلم يزرع ما شرق من الأراضي وأكلت الدودة مواضع مزروعة و لم يزل الغلاء يترقب في هذه السنة منذ هبط النيل سريعاً، إلا أن الله تعالى أرخى الأسعار لطفاً منه بعباده " إن الله بالناس لرءوف رحيم " " الحج، الآية 65 " وقدمت الأخبار بأن أراضي حوران بالشام لم تزرع لعدم المطر، وأن الغلاء قد اشتد بالحجاز لعدم الغيث به. وفيه فشت أمراض حادة في الناس ببلاد الصعيد، وكثر الموتان، لاسيما بمدينة هو، وبوتيج، ومنشية أخميم وما حولها.
شهر شعبان، أوله الأحد: أهل وأسعار الغلال أخذة في الارتفاع، ولم يكد يوجد عند قطاف عسل النحل منه شيء. وهلك النحل من قلة المراعي، وعز وجود الفول لقلة ما تحصل منه عند الدراس، وقل الحمص أيضاً، وخس الكنان.
وفي سادس عشره: توجهت تجريدة عدتها خمسون مملوكاً إلى ينبع.
وكثر الوباء في هذا الشهر بصعيد مصر، فمات بشر كثير.
شهر رمضان، أوله الاثنين: في ثانيه - الموافق لسابع عشرين بؤونة - : نودي على النيل ثلاثة أصابع بعد ما أخذ القاع فكان ثلاثة أذرع وعشر أصابع.
وفيه عزل سعد الدين إبراهيم بن المرة من نظر الديوان المفرد، وولي عوضه زين الدين يحيى، قريب الأمير فخر الدين بن أبي الفرج.
وفي عشرينه: أخرج قانصوه - أحد أمراء الطبلخاناه - لنيابة طرسوس، وأضيف إقطاعه إلى الديوان المفرد. وقانصوه هذا أحد مماليك الأمير نوروز الحافظي، وصار إلى المؤيد شيخ بعد قتل نوروز، فرقاه حتى صار أمير طبلخاناه، وهو أحد الفرسان المشهورين، وكبير الطائفة النوروزية.(3/320)
وفي هذا الشهر: بلغ القمح إلى مائتين وستين درهماً الأردب، وأناف الأردب من الشجر والفول على المائتين، وبلغت البطة الدقيق - وهي خمسون رطلا - ثمانين درهماً.
وفيه قدم إلى الإسكندرية مركبان من مراكب طائفة الفرنج القطلان لأخذ المدينة، فإذا الناس على يقظة وأهبة لهم، فإن متملك قبرس كان قد بعث يحذر منهم، فردهم الله خائبين. وفيه قدم الحمل من قبرس.
شهر شوال، أوله الأربعاء: في حادي عشره: ركب السلطان من قلعة الجبل، فشق القاهرة، ونظر إلى عمارته، ونزل إلى المارستان المنصوري، فعاد المرضي، وعاد إلى القلعة.
وفي ثاني عشره - الموافق لأول مسرى - : نودي على النيل بزيادة أربعة وعشرين إصبعاً، لتتمة اثني عشر ذراعاً وعشر أصابع، وهذا مما يستكثر من زيادة النيل.
وفي هذه الأيام: هدمت الحوانيت التي تجاه شبابيك المدرسة الصالحية التي بجوار قبة الملك الصالح. وكانت في وقف الجو كندار، وكان هدمها في رابعه.
وفي سادسه: توجه سعد الدين إبراهيم بن المرة إلى جدة لأخذ مكوس التجار الواردين من الهند، وقد أعيد إلى ولايته.
وفي حادي عشره: سارت تجريدة خمسون مملوكاً، عليها الأمير أرنبغا - أحد أمراء العشرات - وسببها أن الخبر ورد من مكة بأن بني عجلان أخوة الشريف بركات بن عجلان متولي مكة طلبوا من شاهين المتوجه إلى جدة أن يأخذوا مما يتحصل ما كانت عادتهم أخذه في أيام أبيهم الشريف حسن بن عجلان، فمنعهم من ذلك، فهددوه بالقتل، وأن كثيراً من القواد قد قام معهم، فأخرج التجريدة تقوية لابن المرة على حفظ المال.
وفي عشرينه: خرج محمل الحاج على العادة، إلا أنه أناخ ببركة الحجاج، و لم ينزل بالريدانية خارج القاهرة، وخرج معه أمير الحاج الأمير قرا سنقر الذي كان كاشف الجيزة، وقد خرج أمير الركب الأول الأمير أينال الششماني المحتسب - أحد رءوس النوب - واستناب عنه في الحسبة دواداره.
وفي خامس عشرينه - الموافق له رابع عشر مسرى - : كان وفاء النيل ستة عشر ذراعاً، وركب المقام الناصري محمد بن السلطان، ومعه الأتابك شارقطلوا وغيره من الأمراء، حتى خلق المقياس، وفتح الخليج على العادة.
وفي ثامن عشرينه: أمسك الأمير قطش أحد أمراء الألوف، والأمير جرباش قاشق أمير مجلس، وحمل قطش في الحديد إلى الإسكندرية، فسجن بها وأخرج الأمير جرباش قاشق الكريمي بغير قيد إلى دمياط.
وفيه خلع على الأمير أينال الجلالي الأجرود، واستقر في نيابة غزة، عوضاً عن الأمير تمراز الدقماقي، وأنعم بطبلخاناته على الأمير تمراز الدوادار، وكتب بإحضار الأمير بيبغا المظفري من القدس، وقد نقل إليها من دمياط من نحو شهر.
وفي هذا الشهر: انحل سعر الغلال، وقل طالبها، وعز وجود اللحم بالأسواق، أحياناً.
شهر ذي القعدة الحرام، أوله الجمعة: أهل وأسعار الغلال رخيصة، فأخذت في الارتفاع، وعز وجود التبن، فبلغ الحمل مائتي درهم، وعز وجود اللحم أيضاً، وفقد من الأسواق، وصارت المماليك تخرج إلى الضواحي في طلب التبن لخيولها، فتأخذ بالعسف على عادتها، فامتنع الناس من جلبه من الأرياف، ولم يقدر عليه أحد بعد ذلك، فندب السلطان طائفة من غلمانه للخروج إلى الأرياف بالجمال السلطانيه، وشراء التبن من النواحي، وأن يكون بمائة درهم الحمل، وتوقف الجمال المحملة التبن تحت القلعة، ويباع الحمل منه بمائة وأربعين درهماً، ومنع المماليك من الخروج إلى الضواحي في طلب التبن، وأن لا يشتري أحد التبن إلا من تحت القلعة، فتمشي الحال في وجوده.
وفي هذه الأيام: تعدى سعر القمح ثلاثمائة درهم الأردب، والفول مائتين وستين، والشعير مائتين وثلاثين، وفقدت الغلال من الغراس مع كثرتها، وتوفر زيادة النيل، فإنه بلغ إلى يوم النوروز - وهو يوم الأحد سابع عشره - ثمانية عشر ذراعاً وأربعة عشر إصبعاً. وهذا مما يستكثر من زيادة النيل، إلا أن الأمراء والأعيان شرهوا في الفوائد، وشاركوا من دونهم في إدخار الغلال وغيرها من البضائع، رجاء الفائدة، فعز وجود الغلال، وارتفع سعرها وفقد الخبز من الأسواق أحياناً، وصارت ولاة الأمور مع ذلك بعيدة عن معرفة طرق المصالح، فإن غاية مقاصدهم إنما هي أخذ المال على كل وجه أمكن أخذه، فلهذا اختلت الأحوال، وضاعت المصالح.(3/321)
وفي حادي عشرينه: قدم الأمير بيبغا المظفري من القدس، وأنعم عليه بإمرة جرباش قاشق وإقطاعه.
شهر ذي الحجة الحرام أوله السبت: أهل والغلال عزيزة الوجود، مع كثرتها في الشون والمخازن، وإمساك أربابها أيديهم عن بيعها لأملهم فيها غاية الربح، فبلغ القمح أربعمائة درهم الأردب، والبطة الدقيق مائة وثلاثين درهماً، والشعير ثلاثمائة درهم الأردب، والفول بنحو ذلك، وأبيع الفدان البرسيم بألف درهم، ففرج الله عن عباده، وانحل السعر، حتى أبيع القمح بثلاثمائة وخمسين درهماً الأردب وما دونها، وكسدت الغلال حتى لا يجد من يطلبها.
وفي ليلة الخميس سادسه: قبض على الأمير أزبك الدوادار، وأخرج من ليلته إلى القدس بطالا، وقبض على عدة من الخاصكيته، وسبب ذلك أنه في أخريات ذي القعدة الحرام بلغ السلطان أن جماعة من خاصكيته ومماليكه يريدون الفتك به وقتله ليلا، فقبض على عدة منهم في أيام متفرقة، ونفي جماعة منهم إلى الشام وقوص، وعاقب طائفة منهم، فكثرت القالة، واشتد الإرجاف، وأخذ السلطان في الاستعداد والحذر، وسقط عليه مراراً سهام من طباق المماليك، سلمه الله تعالى منها. وبلغه أن المماليك كانت تجتمع بأزبك.
وفي ثامنه: خلع على الأمير أركماس الظاهري رأس نوبة. واستقر دواداراً كبيراً عوضاً عن أزبك، وخلع على الأمير تمراز القادم من غزة، واستقر رأس نوبة عوضاً عن أركماس، وأنعم على الأمير يشبك المشد، وأنعم بطبلخاناه يشبك على أقبغا الخازندار، واستقر الطواشي صفي الدين جوهر السيفي قنقباي اللالا خازنداراً عوضاً عن أقبغا، فبلغ الاختصاص بالسلطان مبلغاً كبيراً.
وفي ثاني عاشره - الموفق ثالث عشر توت - : نودي على النيل بزيادة إصبع لتتمة زيادته عشرين ذراعاً سواء، وابتدأ نقصه من الغد.
وفي سابع عشره: خلع على الأمير تاج الدين الشويكي والي القاهرة، واستقر مهمنداراً عوضاً عن حرز - مضافاً بما بيده من الولاية وشد الدواوين والحجوبية - وهو من مجالسي السلطان في مجالسه الخاصة.
وفي سابع عشرينه: قدم مبشرو الحاج وأخبروا بسلامة الأمن والرخاء، وأنه قدم محمل من العراق معه أربعمائة جمل تحمل الحاج، جهزه حسين بن علي ابن السلطان أحمد بن أويس من الحلة، وكان قد استولى على ششتر وصاهر العرب، فقوي بهم، وناهض شاه محمد بن قرا يوسف صاحب بغداد.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
شمس الدين محمد بن يعقوب النحاس الدمشقي، في يوم الجمعة ثالث المحرم، وهو من عامة دمشق، تشفع بي لما قدمت دمشق في سنة عشر وثمانمائة، أن يلي حسبة الصالحية، ثم قدم القاهرة في سنة اثني عشرة، وولي حسبة القاهرة ثم وزارة دمشق، فلم تحمد سيرته، ولا شكرت طريقته.
ومات أمير الملأ عذراء بن علي بن نعير بن حيار بن مهنا، مقتولا، في المحرم.
ومات الأمير بكتمر السعدي، في يوم الخميس ثالث عشر شهر ربيع الأول، وكان قد رباه الأمير سعد الدين إبراهيم بن غراب صغيراً في حجور نسائه، فنشأ على أجمل طريقة من الديانة وطلب العلم، وترقى بعد أستاذه حتى صار من أمراء الطبلخاناه، ولم يخلف في أبناء جنسه مثله، ديناً وعلماً وشجاعة ومعرفة.
ومات الشيخ سعيد المغربي في يوم الأربعاء تاسع عشر شهر ربيع الأول. وكان مجاوراً بالجامع الأزهر عدة سنين، وللناس فيه اعتقاد، ويؤثرون عنه كرامات، وترك مالا يبلغ الألفي دينار ذهباً، ما بين ذهب وفضة وفلوس، وقد علت سنه وطال مرضه.
ومات الأمير سيف الدين جانبك الدوادار، في يوم الخميس سابع عشرين شهر ربيع الأول وكان قد رباه السلطان صغيراً، وتقلب معه في تقلباته. فلما تسلطن رقاه حتى صار أجل الأمراء وعذقت به أمور الدولة كلها فاعتبط قبل بلوغ الثلاثين - وكان فطناً ذكياً شهماً - وتولى السلطان تمريضه، ونزل إليه وحضر وفاته، ودفنه وله جامع بهج الذي في الشارع خارج باب زويلة بالقرب من اليانسية.
ومات الأمير أزدمر شايه في سادس شهر ربيع الآخر بحلب، وهو أحد المماليك الظاهرية الذين خرجوا من القاهرة في أيام الفتن، والتحق بالأمير شيخ، وتقلبت به الأحوال معه، فرقاه لما تسلطن حتى صار من أمراء الألوف، ثم خرج في الأيام الأشرفية من القاهرة، و لم يشكر في دينه، ولا في أمر دنياه، بل كان من الظلم والشح والإعراض عن الله بمكان.(3/322)
ومات الأمير كمشبغا الجمالي في يوم الجمعة رابع جمادى الأولى. وهو أحد المماليك الظاهرية، ومن جملة أمراء الطبلخاناه، وشهرته جميلة.
ومات الأمير الكبير الأتابك سيف الدين يشبك الساقي الأعرج، في يوم السبت ثالث جمادى الآخرة. وهو أحد المماليك الظاهرية الذين خرجوا في أيام الفتن وممن له في تلك الفتن ذكر، وكان أولا من أتباع نوروز الحافظي في قيامه بالشام، ثم صار مع الأمير شيخ، فلم يقبل عليه، ونفاه إلى مكة، ثم حمله منها إلى القدس، فأحضره الأمير ططر بعد موت المؤيد شيخ، وانعم عليه بإمرة، فرقاه السلطان إلى أن صار الأتابك، وهو الذي أثار الفتنة بمكة حنقا على الشريف حسن بن عجلان، حتى وقع بها ما وقع. وكان يقرأ القرآن ويشدو شيئاً من الفقه، ويؤثر عنه ديانه وعفة، إلا عن المال فإن له في الشح والطمع أخبار سيئة.
ومات نجم الدين حسين بن عبد الله السامري الأصل كاتب السر وناظر الجيش، بدمشق يوم الأربعاء رابع عشر جمادى الآخرة وكان من سمرة دمشق، يعاني كتابة الديونة، وخدم عند الأمير بكتمر شلق، وقدم إلينا القاهرة معه في الأيام الناصرية، وهو بزي المسلمين، فلما كانت الأيام الأشرفية جمع له بين كتابة السر ونظر الجيش بدمشق، ولم يجتمعا لأحد قبله، وطالت أيامه وكثر ماله حتى أتاه حمامه، ولم يشهر بفضل ولا دين.
ومات شمس الدين محمد بن عبد الدايم بن موسى البرماوي، مدرس الصلاحية بالقدس، في يوم الخميس ثاني عشرين جمادى الآخرة، وقد أناف على الستين بل قارب السبعين. كان أبوه يؤدب الأطفال، فنشأ ابنه هذا وطلب العلم حتى برع في الفقه على مذهب الشافعي، وفي الأصول والحديث والنحو، وناب في الحكم بالقاهرة قليلا، ثم خرج إلى دمشق لضيق حاله، فأكرمه قاضي القضاة نجم الدين عمر بن حجي، ورفع من مقداره، ثم نوه به لما ولي كتابة السر بديار مصر. وولي الصلاحية بالقدس، حتى مات بها، وله مصنفات مفيدة.
ومات بدر الدين حسن بن أحمد بن محمد البرديني أحد خلفاء الحكم الشافعي في يوم الاثنين خامس عشرين شهر رجب، وقد أناف على الثمانين. وكانت فيه عصبية ومحبة لقضاء حوائج الناس. ولم يوصف بعلم ولا دين، صحبناه سنين، ومستراح منه.
ومات الأمير قجقار جقطاي، في يوم الاثنين هذا. وهو أحد أمراء الطبلخاناه الذين أنشأهم المؤيد شيخ، وسار في إقطاعه سيرة جميلة، حتى أنه عمر الخراب، ورفق بالفلاحين، فزرع في أيامه ما كان بوراً.
ومات الأمير جانبك ابن الأمير حسين ابن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، في يوم الخميس سادس عشرين شعبان، عن نحو ثمانين سنة، وكان من جملة أمراء. الطبلخاناه في أيام أخيه الأشرف شعبان بن حسين، وأقام بقلعة الجبل سنين بطالا، حتر أنزل السلطان الأسياد بني قلاوون إلى القاهرة، فنزل فيمن نزل، ومات وهو قعدد بني قلاوون.
ومات شمس الدين محمد بن أحمد بن علي العسقلاني الشامي الحنبلي، في يوم السبت ثامن عشرين شعبان. ومولده سنة أربع وأربعين وسبعمائة. حدث عن العرضي وغيره بالسماع، وناب في الحكم بالقاهرة سنين. وكان مفيداً.
ومات الأمير سيف الدين إبراهيم - ويقال له حرز - في يوم الخميس ثامن عشرين ذي القعدة، وقد قدم مع الأمير شيخ من الشام، فولاه ولاية القاهرة، ثم عمله مهمندار فمات وهو يباشر المهمندارية.
سنة اثنتين وثلاثين وثمانمائة
شهر الله المحرم، أوله الاثنين: ففي ليلة الاثنين خامس عشره: حدث مع غروب الشمس برق متوال، تبعه رعد شديد، ثم مطر غزير، واستمر معظم الليل، فلم يدرك بمصر مثله برقاً ورعداً، ولا عهدنا مثل غزارة هذا المطر في أثناء فصل الخريف. وقدم الخبر بأنها أمطرت وقت العشاء من ليلة الاثنين ثامنه بناحية بني عدي من البهنساوية برداً في قدر بيضة الدجاجة وما دونها كبيضة الحمامة، فهلك به من الدجاج والغنم والبقر شيء كثير، فهلك لرجل ستون رأساً من الضأن، وهلك لآخر خمسون رأساً من المعز، و لم يتجاوز هذا البرد بني عدي، وكان مع البرد والمطر راعد مرعب من شدته، وبرق متوال ورياح عاصفة.
وفي هذا الشهر: تتبع الأمير قرقماس حاجب الحجاب مواضع الفساد، فأراق من الخمور وحرق من الحشيشة المغيرة للعقل شيئاً كثيراً، وهدم مواضع، ومنع من الاجتماع في مواضع الفساد.(3/323)
وفي ثاني عشرينه: قدم ركب الحاج الأول صحبة الأمير أينال الششماني، وقدم من الغد محمل الحاج ببقيتهم.
وحدث في هذا الشهر: ثلاث مظالم، إحداها: أنه كان قد تقرر في العام الماضي مع الفاضي كريم الدين عبد الكريم بن بركة ناظر الخاص أن تعفي تجار الشام ومشهد علي والكوفة والبصرة، الذين يتبضعون من متاجر الهند، من القدوم من مكة إلى القاهرة بضاعتهم، وأن يقوموا عن كل جمل بثلاثة دنانير ونصف، فانتقض ذلك في الموسم بمكة، وألزم سائر التجار أن يحضروا من مكة ببضائعهم صحبة الركب، وتتبعوا، بحيث لم يقدر أحد منهم أن يتأخر بمكة ولا يتوجه إلى الشام، بل حضروا بأجمعهم، وأقيمت عليهم الأعوان في طول الطريق بتفقدهم وبعد أجمالهم، حتى قدموا صحبة الحاج فحل بهم من البلاء ما لا يوصف.
ثانيها: أنه منع بالإسكندرية أن ينصب قبان لوزن بضاعة أحد من التجار، فامتنع الكافة من بيع النهار على الفرنج، وألزم الفرنج بشراء فلفل السلطان المحضر من جدة بمائة وعشرين ديناراً الحمل، وكانت قيمته مع التجار ثمانين ديناراً، فأخذ الفرنج منه ما وصلت قدرة مباشري السلطان أن يبيعوه عليهم، وامتنعوا من أخذ بقيته، ورجعوا بكثير مما حملوه من بضائعهم إلى بلادهم، فشمل التجار وغيرهم من ذلك ضرر كبير.
ثالثها: أنه بلغ السلطان أن التجار الواردة إلى القاهرة من الموصل وحماة ودمشق تربح فيما تجلبه من الثياب المنسوجة من القطن مالاً كثيراً فألزم السماسره أن لا تبيع لأحد من هذا الصنف شيئاً، بل يكون بأجمعه متجراً للسلطان، فأخذ تاجر ومعه ثمانون ثوباً، وأخذ آخر ومعه عشرة ثياب، وقومت، بأقل من ثمنها في بلادها، وكتب إلى بلاد الشام بأن لا تمكن التجار من حمل شيء من ذلك إلى القاهرة، فصادف قدوم قفل من الموصل إلى مدينة حماة بثياب موصلية، فرسم عليهم حتى رحلوا من حماة. مما معهم وعبروا إلى البرية عائدين إلى بلادهم. واحتج عليهم بأنهم ردوهم لأن طول الثياب نقص عن ثلاثين ذراعاً كل ثوب، وأنه لا يمكن أحد منهم أن يبيع ثوباً حتى يكون ثلاثين ذراعاً في عرض ذراع ونصف، وأن لا يكون فيها ثوب يغلو ثمنه، فحل بالناس بلاء لا يمكن حكايته، وخربت الموصل بعد ذلك، وبطل عمل الثياب بها، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. وقدم مع ذلك الحمل من جزيرة قبرس وفيه ثياب صوف، فحملت إلى دمشق، وهي ثمانمائة ثوب، مطرح الثوب بثمانية عشر ديناراً، ويحتاج إلى دينار آخر كلفه، فأبيع أحسنها باثني عشر ديناراً، فخسر كل ثوب سبعة دنانير، وطرح بها أيضاً السكر المعمول بالأغوار على الناس، فلم يكد يسلم أحد من الأخذ منه، ولله عاقبة الأمور.
شهر صفر، أوله الثلاثاء: فيه جبيت أثمان البضائع بالعسف.
وفي حادي عشرينه: كتب على يد نجاب بحضور الطواشي فيروز الساقي من المدينة النبوية.
وفي رابع عشرينه: خرجت تجريدة لأخذ خيول أهل الغربية والبحيرة.
شهر ربيع الأول، أوله الخميس: فيه ترك طائفة كبيرة من مماليك السلطان الجلب الذين يسكنون الطباق بقلعة الجبل إلى بيت الأمير زين الدين عبد القادر بن أبي الفرج أستادار، وتسوروا الجدران حتى دخلوه فنهبوا ما فيه، وكان غائباً عنه، وعبثوا في طريقهم بالناس، فأخذوا ما قدروا على أخذه، ثم مضوا إلى بيت ناظر الديوان المفرد، ثم إلى بيت الوزير، فأدركهم مقدم المماليك والزمام، وتلطفا بهم، حتى انصرفوا عن بيت الوزير وسبب ذلك تأخر جوامكهم بالديوان المفرد لشهرين، فلما شكوا ذلك إلى السلطان قال لهم امضوا إلى المباشرين. فنزلوا وكان يوماً شنعاً.
وفي خامسه: نودي بمنع الناس من المعاملة بالدراهم البندقية والدراهم اللنكية، فامتنعوا وتصدى جماعة لأخذها بأقل من قيمتها، لعلمهم بأن الدولة لا يمضي لها أمر ولا تثبت على حال، فخسر طوائف من الناس جملة، وربح آخرون.
وفي حادي عشره: قبض على الأمير زين الدين عبد القادر أستادار، وضرب، ثم خلع عليه من الغد، واستقر على عادته.
شهر ربيع الآخر، أوله الجمعة:(3/324)
أهل وقد ارتفع سعر القمح من أربعمائة درهم الأردب إلى أربعمائة وخمسين والشعير من مائة وثمانين درهماً الأردب إلى ثلاثمائة. والفول بنحو ذلك، وأبيعت البطة من الدقيق بمائة وأربعين درهماً، هذا والبهائم مرتبطة على البرسيم الأخضر. ومن العادة انحطاط أسعار الغلال في مثل هذا الوقت، غير أن الاحتكار على الغلال متزايد، والطمع في غلاء أثمانها كثير.
وفي ثامنه: نودي أن تكون الفلوس بثمانية عشر درهماً الرطل، وقد كان الناس تضرروا من قلة وجود الفلوس، فإن التجار أكثرت من حملها إلى بلاد الهند وغيرها لرخصها بالنسبة إلى سعر النحاس الأحمر الذي لم يضرب.
وفي يوم السبت سادس عشره: وكب السلطان بثياب جلوسه ونزل من قلعة الجبل إلى بيت القاضي زين الدين عبد الباسط ناظر الجيش، فأقام عنده قليلا، وعاد إلى القلعة، فحمل إليه عبد الباسط من الغد ألفي دينار، وخيلاً وبغالاً.
وفي هذا الشهر: تكرر ركوب السلطان مراراً.
وفيه ارتفع القمح إلى خمسمائة درهم الأردب، وأبيع الأرز بألف درهم الأردب، بعد خمسمائة.
وفي سادس عشرينه: تقدم أمر قاضي القضاة شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي ابن حجر إلى الشهود الجالسين بالحوانيت للتكسب بتحمل الشهادات بين الناس أن لا يكتبوا صداق امرأة إلا بأحد النقدين، الدراهم الفضة أو الدنانير الذهب. وأدركناهم يكتبون الصداقات من الذهب والفضة التي هي الدراهم النقرة. فلما راجت الفلوس رسم قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن البلقيني - رحمه الله تعالى - في سنة ست وثمانمائة أن لا تكتب صداقات النساء، وأجاير الدور، وسجلات الأراضي، وعهد الرقيق من العبيد والإماء، ومساطير الديون، إلا من الفلوس الجدد معاملة القاهرة، فاستمر ذلك إلى الآن.
وفي هذا الشهر: أعيد الحجر على السكر، ورسم أن لا يشتريه أحد ولا يبيعه إلا السلطان، ثم بطل ذلك.
وفيه عثر على بعض تجار العجم المنتمين إلى الإسلام وقد توجه من عند الحطي ملك الحبشة إلى الفرنج يحثهم على القيام معه لإزالة دين الإسلام وأهله، وإقامة الملة العيسوية، فإنه قد عزم على أن يسير من بلاد الحبشة في البر بعساكره، فتلاقوه بجموعكم في البحر إلى سواحل بلاد المسلمين، فسلك هذا التاجر الفاجر في مسيره من الحبشة البرية حتى صار من وراء الواحات إلى وراء المغرب، وركب منها البحر إلى بلاد الفرنج، ودعاهم للثورة مع الحطي على إزالة ملة الإسلام وأهلها، واستعمل بتلك البلاد عدة ثياب مذهبة باسم الحطي، ورقمها بالصلبان، فإنه شعارهم، وقدم من بلاد الفرنج في البحر إلى الإسكندرية ومعه الثياب المذكورة وراهبان من رهبان الحبشة، فنم عليه بعض عبيده، فأحيط بمركبه، وحمل هو والراهبان وجميع ما معه إلى السلطان.
وفي هذا الشهر: كشف عن أمر الديوان المفرد واعتبر متحصله في السنة ومصروفه، فإذا هو يعجز مبلغ ستين ألف دينار عن جميع ما يرد إليه من خراج النواحي، والحمامات، والمستأجرات، ورماية البضائع، وغرامات البلاد، فعين له مبلغ ثلاثين ألف دينار برسم المتجر السلطاني وأول ما بدأ به من ذلك تحكير صنف السكر، فلا يدولب زراعة القصب واعتصاره وعمل القند سكر ثم بيع السكر إلا السلطان، وأن توزع الثلاثين ألف الأخرى على الكشاف والولاة، ثم أهمل و لم يتم، ولله الحمد.
وفي هذا الشهر: ألزم دلالو الخيل أن لا يبيعوا فرساً لمتعمم ولا لجندي من أولاد الناس، ثم بطل ذلك.
وفي سادس عشرينه: قدم الطواشي فيروز الساقي من المدينة النبوية باستدعاء، فأعيد على ما كان عليه من الخدمة.
وفي هذه الأيام: انحل سعر الغلال وانحط القمح عن خمسمائة درهم الأردب، وفرقت الحمال على الأمراء برسم التجريدة إلى بلاد الشام وحلب.
وفي يوم السبت سلخه: كثر الإرجاف بأخذ خيول الناس من مرابطها على البرسيم بالنواحي، فسارع كل أحد إلى أخذ خيله، وقودها من الربيع إلى الاصطبلات فمنهم من نجا بها ومنهم من عوجل، فأخذت خيله وسلمت إلى أمير أخور، وسبب ذلك أن الخيول شنع هلاكها، فنفق للسلطان ومماليكه نحو الألفي فرس، ثم وقف جماعة للسلطان فأفرج لهم عن خيولهم فأخذوها.(3/325)
وفي هذا الشهر: هدم علو بيت الأمير منجك بخط رأس سويقة منعم، قريباً من مدرسة السلطان حسن، وأبيعت أنقاضه لرجل بألفي دينار، فباعها هو في الناس، وكان من جملة أوقاف صهريج منجك، وسبب هدمه أن الأمراء كانت تسكنه، ولا تعطي له أجره، فإذا تهدم فيه موضع ألزموا مباشري الوقف بعمارته، ورأى الناس أن هذا فأل رديء فإنه قيل وقع الخراب في بيوت الأمراء.
شهر جمادى الأولى، أوله الأحد: في ثامنه: برز ركب يريد المسير إلى مكة المشرفة، صحبة سعد الدين إبراهيم بن المرة ناظر جدة، فيه جماعة كبيرة.
وفي رابع عشرينه: استدعى قضاة القضاة للنظر في أمر نور الدين علي بن الخواجا، التاجر التوريزي المتوجه برسالة الحطي ملك الحبشة إلى الفرنج، فاجتمعوا بين يدي السلطان، وندب قاضي القضاة شمس الدين محمد البساطي المالكي للكشف عن أمره، وإمضاء حكم الله فيه فنقله من سجن السلطان إلى سجنه، فقامت عليه بينة بما أوجب عنده إراقة دمه، فشهر في يوم الأربعاء خامس عشرينه على جمل بمصر وبولاق، ونودي عليه هذا جزاء من يجلب السلاح إلى بلاد العدو ويلعب بالدينين. ثم أقعد تحت شباك المدرسة الصالحية بين القصرين، وضربت عنقه. وكان يوماً مشهوداً، نعوذ بالله من سوء العاقبة.
وفي هذا الشهر: سار الأمير زين الدين عبد القادر بن أبي الفرج أستادار، إلى النواحي، ففرض على كل بلد مالاً سماه الضيافة، ليستعين بذلك على عجز الديوان المفرد لنفقة المماليك السلطانية فجبي مالاً كثيراً، فإنه كان يأخذ من البلد مائة دينار، ويأخذ من أخرى دون ذلك، على حسب ما يراه، فاختل حال الفلاحين خللاً يظهر أثره فيما بعد، والله المستعان.
شهر جمادى الآخرة، أوله الاثنين: فيه استدعى شيخ الشيوخ شهاب الدين أحمد بن الصلاح - المعروف بابن المحمرة - شيخ الخانكاه الصلاحية سعيد السعداء إلى مجلس السلطان، وعرض عليه قضاء القضاة بدمشق فقبله، فخلع عليه عوضاً عن بهاء الدين محمد بن نجم الدين عمر بن حجي. وكان السلطان قد استدعى قاضي القضاة علم الدين صالح ابن شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني وسأله بذلك فلم يقبل، وكان منذ صرف عن القضاء ملازماً لداره، وهو مقبل على الميعاد في كل يوم جمعة بمدرسة أبيه، وعلى التدريس والإفتاء.
وفي يوم الثلاثاء ثانيه: خلع على جمال الدين يوسف بن الصفي الكركي، واستقر في نظر الجيش بدمشق، عوضاً عن السيد الشريف شهاب الدين أحمد بن عدنان. وكان الجمال منذ عزل عن كتابة السر مقيماً بالقاهرة.
وفيه كتب بانتقال شهاب الدين أحمد بن الكشك من قضاء الحنفية بدمشق إلى قضاء طرابلس، عوضاً عن شمس الدين محمد الصفدي، ثم بطل ذلك، واستقر الصفدي عوضاً عن ابن الكشك في قضاء الحنفية بدمشق.
وفي ثامن عشره: توجه قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن المحمرة، والقاضي جمال الدين يوسف بن الصفي إلى محل ولايتهما بدمشق، وعين أحد الخاصكية مسفراً معهما، وأن يحضر الصفدي من طرابلس إلى قضاء دمشق، على أن يأخذ من الثلاثة ألف وثلاثمائة دينار ذهباً، يخص ابن المحمرة منها ثلاثمائة دينار، وتبقى الألف نصفين على ابن الصفي والصفدي، ولم تجر العادة بأن يخرج مسفر مع متعمم.
وفي هذا الشهر: نزل القمح إلى مائتين وثمانين درهماً الأردب، بعد خمسمائة. وأبيع بمائة وثلاثين درهماً الأردب بعد أن كان بثلاثمائة، وأبيعت البطة من الدقيق بتسعين درهماً بعد ما بلغت مائة وخمسين درهماً.
وفيه تتبع والي القاهرة العبيد السود، وقبض على عدة منهم، لكثرة فسادهم، ونفاهم من القاهرة وفيه رسم بأخذ الشعير من النواحي لعجز الديوان عن عليق خيول المماليك السلطانية، فأخذ من شعير الناس ما قدر عليه.
شهر رجب، أوله الأربعاء: أهل والقمح من مائتين وأربعين درهماً الأردب إلى ما دونها، والشجر بمائة وثلاثين درهماً الأردب إلى ما دونها، والذهب عزيز الوجود، وقد بلع الدينار الأشرفي إلى مائتين وخمسين درهماً، ورخص اللحم حتى أبيع لحم الضأن بستة الرطل ولحم البقر بأربعة دراهم الرطل.(3/326)
وفي ثامنه: خلع على جلال الدين أحمد بن بدر الدين محمد بن مزهر بكتابة السر، عوضاً عن أبيه. وله من العمر نحو خمس عشرة سنة، وخلع على شرف الدين أبي بكر ابن سليمان الأشقر الحلبي، واستقر نائب كاتب السر، وألزم ابن مزهر بحمل تسعين ألف دينار من تركة أبيه، فشرع في بيع موجوده وهو أصناف كثيرة ما بين بضائع للمتجر، وكتب علمية، وثياب بدنه وخيول وجمال ورقيق، وحمل ما ألزم به.
وفي تاسعه: أدير محمل الحج، فكان فيه من نهب المماليك السلطانية لمآكل الباعة، والتعرض للنساء والشباب في ليالي الزينة شناعات، اقتضت تجمع السودان وقتالهم المماليك عدة مرار، فقتل بينهم رجلان.
وفي هذه الأيام: قدم عدة تجار من الموصل، فأخذ منهم ما معهم من الثياب الموصلية، وقومت بما لم يرضيهم، ورسم أن يكون صنف البعلبكي والعاتكي والموصلي للسلطان، لا يشتريه ممن يجلبه إلى القاهرة ويبيعه في الناس إلا هو.
وفيه حكر بيع الحطب من بلاد الصعيد، وجعل من أصناف المتجر السلطاني، وحكر بيع غلات النواحي بأسرها، وجعلت أيضاً من جملة المتجر السلطاني ثم بطل ذلك كله، ولله الحمد.
وفيه طرحت بضائع من المتجر السلطاني على الناس، ولم يعف أحد من التجار عن أخذها فارتفعت الغلة من مائتين وعشرين درهماً الأردب، إلى ثلاثمائة.
وفي ثامنه: أيضاً خلع على شمس الدين محمد بن يوسف بن صالح الحلاوي الدمشقي، واستقر في وكالة بيت المال، عوضاً عن نور الدين علي الصفدي وكان قد وليها في الأيام الناصريه فرج، مع نظر الكسوة.
وفي ثالث عشرينه: قدم الأمير سودن من عبد الرحمن نائب الشام، وصحبته القاضي كمال الدين محمد بن البارزي كاتب السر بدمشق، فحمل النائب تقدمته في ثالث عشرينه، وفيها مبلغ خمسة عشر ألف دينار، وخيل وثياب حرير، وفرو سمور، وغيره، فأخذ السلطان الذهب، وأعاد ما عداه إعانة له على تقادمه للأمراء. وقدم الكمال ثياب حرير وفرو سمور بنحو خمسمائة دينار.
شهر شعبان المكرم، أوله الخميس: في يوم الجمعة ثانيه: نزل من مماليك السلطان سكان الطباق بالقلعة جماعة إلى بيت الوزير كريم الدين ابن كاتب المناخ، ونهبوه لتأخر لحمهم المرتب لهم كل يوم.
وفيه توجه نائب الشام ومن معه إلى دمشق على حالهم، بعد ما ألزم النائب بحمل خمسين ألف دينار، حمل منها خمسة وعشرين، ووعد أن يرسل من دمشق خمسة وعشرين.
وفي ثالثه: خلع على نظام الدين عمر بن إبراهيم بن محمد بن مفلح واستقر في قضاء الحنابلة بدمشق. وكان قد قدم القاهرة، وعمل بالجامع الأزهر عدة مواعيد، دلت على حفظه وتفننه.
وفي سادسه: ثارت فتنة بين طائفة من مماليك السلطان الجلب وبين طائفة من مماليك الأمير الكبير شارقطلوا، فباتوا على تخوف وأصبح الجلب تحت القلعة في جمع كبير، وقد امتنع الأمير الكبير منهم بداره - وهي تجاه باب السلسلة - فماج الناس، وخشوا من النهب، فكانت حركة مزعجة بالقاهرة، من تكالب الناس على شراء الخبز والدقيق، وانتشار أهل الفساد في الشوارع للنهب، ثم سكن الحال، وأقام الجلب يومهم لا يقدرون على الأمير الكبير، لعجزهم وقلة دريتهم بالحرب، وعدم السلاح، فطلب السلطان ثلاثة من مماليك الأمير الكبير وضربهم وسجنهم من أجل أنهم أصل هذه الفتنة، فخمد الشر، ولله الحمد.
وفي خامسه: ورد إلى ميناء الإسكندرية خمسة أغربة للفرنج، وباتوا وقد استعد لهم المسلمون ثم واقعوهم من الغد، وقد أدركهم الأمير زين الدين ابن أبي الفرج أستادار في سابعه. وكان بتروجة ومعه جمع كبير من العرب، فلما اشتد الأمر على الفرنج، انهزموا وردوا من حيث أتوا، في يوم الأحد حادي عشره، ولم يقتل سوى فارس واحد من جماعة ابن أبي الفرج.
وفي ثاني عشره: أنفق السلطان في ثلاثمائة وتسعين من المماليك، كل واحد خمسين ديناراً، وفي أربعة من أمراء الألوف - وهم أركماس الدوادار، وقرقماس حاحب الحجاب، وتغري بردي، ويشبك المشد - كل واحد ألفي دينار، وأنفق في عدة من أمراء الطبلخاناه والعشرات، فبلغت النفقة نحو الثلاثين ألف ديناراً، ورسم بسفرهم إلى الشام، فتوجهوا في سادس عشرينه.
وفيه سقط موضع مبني على كتاب أطفال، فمات منهم اثني عشر طفلاً، وأصيب تسعة يخاف عليهم.
وفي هذا الشهر: كثر الوباء بغزة والرملة، من أرض فلسطين.
شهر رمضان، أوله الجمعة:(3/327)
فيه ابتدئ بهدم حوانيت الصيارف، وسوق الكتب، وحوانيت النقليين والأمشاطيين، فيما بين الصاغة والمدرسة الصالحية، وهي جارية في وقف المارستان المنصوري، لتجدد عمارتها.
وفي رابع عشره: خلع على الصاحب تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم، وأعيد نظر الديوان المفرد، وكان شاغراً.
وفيه حملت نفقة المماليك السلطانية إلى القلعة لتنفق فيهم على العادة، فامتنعوا من قبضها، وطلبوا زيادة ستمائة درهم لكل واحد.
وفي يوم الاثنين ثامن عشره - الموافق لسادس عشرين بؤونة - : أخذ قاع النيل وكان خمسة عشر ذراعاً وسبعة أصابع، ونودي عليه من الغد بزيادة خمسة أصابع. وفيه زيد في جوامك عدة من شرار المماليك، فسكن شرهم، وأخذوا جميعاً النفقة.
وفي حادي عشرينه: استعفي ابن الهيصم من نظر الديوان المفرد، فأعفي، ولزم على عادته.
وفي هذه الأيام: اشتد فساد المماليك الجلب، وكثر عيثهم وعبثهم بالناس، وأخذهم ما قدروا عليه من مال وحريم، فتجمع السودان وقاتلوهم، فقتل بينهم عدة، وصاروا جمعين، لكل جمع عصبة. شهر شوال، أوله الأحد: أهل والأسعار قد ارتفعت، فالقمح من مائتين وخمسين درهماً الأردب إلى ما دونها والشعير من مائة وثلاثين إلى ما دونها وسببه هيف الزرع في كثير من النواحي عند توالي رياح حارة فقل وقوع الغلة عند الدراس.
وفي هذه الأيام: اشتد بلاء من الممالك، وعظم الضرر بهم، حتى أن السلطان منع الناس من عمل الأعراس والولائم، وتهدد من عمل ذلك، خوفاً من المماليك أن تهجم على النساء وهن مجتمعات، وتبين قصور اليد عن ردعهم، ولا قوة إلا بالله.
وفي عاشره: نودي بمنع الناس من أخذ الدراهم البندقية والقرمانية واللكنية، فعاد الضرر في خسارة قوم وربح آخرين، ونودي أيضاً أن تكون الدنانير بمائتين وثلاثين وكانت العامة قد رفعت سعره إلى مائتين وستين، بحجة أن الذهب قليل الوجود بأيدي الناس، وأن الدراهم الأشرفية كثر فيها البندقية واللكنية والقرمانية، وكل ذلك من إعراض ولاة الأمور عن عمل المصالح، لبعدهم عن معرفتها، مع طلبهم المال بكل وجه يذم ويستقبح.
وفي تاسع عشره: برز محمل الحاج على العادة، فرحل الركب الأول من بركة الحجاج في ثاني عشرينه، ورحل المحمل ببقية الحاج في ثالث عشرينه، صحبة الأمير قرا سنقر. وانتهت زيادة النيل في هذا اليوم - ويوافقه أول مسرى - إلى عشرة أذرع وخمسة عشر إصبعاً. وهذا مقدار كبير، ولله الحمد.
وفي هذا الشهر: خربت مدينة الرها، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
شهر ذي القعدة، أوله الثلاثاء: في رابعه - الموافق لثاني عشر مسرى - : نودي بزيادة سبعة أصابع لتتمة خمسة عشر ذراعاً وتسعة عشر إصبعاً، و لم يناد عليه من الغد، وتوقفت الزيادة إلى تاسعه. وذلك أنه نقص أربعة أصابع، لتقطع عدة جسور من فساد عملها، فغرق عدة جرون، تلف فيها ما شاء الله من الغلال، فتكالب الناس على شراء الغلة، خوفاً من الشراقي، فنزل السلطان في يوم الثلاثاء ثامنه إلى رباط الآثار النبوية، ودعا الله تعالى، فأغاث الله عباده، ووفى النيل ستة عشر ذراعاً، ونودي عليه بالوفاء يوم الأربعاء تاسعه - الموافق له سابع عشر مسرى - فنزل المقام الناصري محمد بن السلطان لتخليق المقياس وفتح الخليج على العادة.
وفيه قدم الخبر بأخذ مدينة الرها. وذلك أن العسكر سار من القاهرة لأخذ قلعة خرت برت، وقد مات متوليها، ونازلها عسكر قرا يلك صاحب آمد، فلما وصلوا إلى مدينة حلب، ورد إليهم الخبر بأخذ قرا يلك قلعة خرت برت وتحصينها، وتسليمها لولده، فتوجه العسكر وقد انضم إليه الأمير سودن من عبد الرحمن نائب الشام، وجميع نواب المماليك الشامية، ومضوا بأجمعهم إلى الرها، فأتاهم بالبيرة كتاب أهل الرها بطلب الأمان، وقد رغبوا في الطاعة، فأمنوهم، وكتبوا لهم به كتاباً، وساروا من البيرة، وبين أيديهم مائتا فارس من عرب الطاعة كشافة، فوصلت الكشافة إلى الرها في تاسع عشر شوال، فإذا الأمير هابيل قد وصل إليها من قبل أبيه الأمير عثمان بن طور علي، المعروف بقرا يلك صاحب آمد، وحصنها، وجمع فيها عامة أهل الضياع بمواشيهم وعيالهم وأموالهم، فناولوها وهم يرمونهم بالنشاب من فوق الأسوار ثم برز إليهم الأمير هابيل في عسكر نحو ثلاثمائة فارس، وقاتلهم، وقتل منهم جماعة، وعلق رءوسهم على(3/328)
قلعة الرها، فأدركهم العسكر، ونزلوا على ظاهر الرها في يوم الجمعة عشرينه، وقد ركب الرجال السور. ورموا بالحجارة، فتراجع العسكر المصري والشامي عنهم، ثم ركبوا بأجمعهم بعد نصف النهار وأرسلوا إلى أهل قلعة الرها بتأمينهم، وإن لم تكفوا عن القتال وإلا أخربنا المدينة. فجعلوا الجواب رميهم بالنشاب، فزحف العسكر وأخذوا المدينة في لحظة، وامتنع الأكابر وأهل القوة بالقلعة. فانتشر العسكر وأتباعهم في المدينة ينهبون ما وجدوا، ويأسرون من ظفروا به، فما تركوا قبيحاً حتى أتوه ولا أمراً مستشنعاً إلا فعلوه. وكان فعلهم هذا كفعل أصحاب تيمور لما أخذوا بلاد الشام. وأصبحوا يوم السبت محاصرين القلعة، وبعثوا إلى ما فيها بالأمان فلم يقبلوا، ورموا بالنشاب والحجارة، حتى لم يقدر أحد على أن يدنو منها. وباتوا ليلة الأحد في أعمال النقوب على القلعة، وقاتلوا من الغد يوم الأحد حتى اشتد الضحى، فلم يثبت من بالقلعة، وصاحوا الأمان،. فكفوا عن قتالهم حتى أتت رسلهم الأمير نائب الشام، وقدم مقدم العساكر، فحلف لهم - هو والأمير قصروه نائب حلب - على أنهم لا يؤذوهم ولا يقتلون أحد منهم فركنوا إلى أيمانهم. ونزل الأمير هابيل بن قرا يلك ومعه تسعة من أعيان دولته عند دخول وقت الظهر من يوم الأحد المذكور، فتسلمه الأمير أركماس الدوادار، وتقدم نواب المماليك إلى القلعة ليتسلموها فوجدوا المماليك السلطانية قد وقفوا على باب القلعة ليدخلوا إليها، فمنعوهم فأفحشوا في الرد على النواب، وهموا بمقاتلتهم،، وهجموا القلعة، فلم تطق النواب منعهم، ورجعوا إلى مخيماتهم فمد المماليك أيديهم ومن تبعهم من التركمان والعربان والغلمان، ونهبوا جميع ما كان بها، وأسروا النساء والصبيان، وألقوا فيها النار، فأحرقوها بعد ما أخلوها من كل صامت وناطق، وبعد ما أسرفوا في قتل من كان بها وبالمدينة حتى تجاوزوا الحد، وخربوا المدينة وألقوا النار فيها فاحترقت. ولقد أخبرني من لا أتهمه أنه شاهد المماليك، وقد أخذوا النساء، وفجروا بهن فكانت الواحدة منهن إذا قامت من تحت واحد منهم، مضت - إن كان لها ولد - هي وولدها، إلى موضع كان به تبن لتختفي فيه. قال فاجتمع بذلك الموضع نحو الثمانين امرأة، ومعهن أو مع غالبهن أولادهن، وقد زنوا بهن جميعاً، ثم أضرموا النار عليهن، فاشتعل التبن فاحترقن جميعاً. وأخبرني الثقة أنه كان يدوس في المدينة القتلى لكثرتهم بها، وأنه كاد الماء الذي لهم أن يمتلئ بجيف القتلى. ثم رحلوا من الغد يوم الاثنين ثالث عشرينه، وأيديهم قد امتلأت بالنهوب والسبي، فتقطعت منهم عدة نساء من التعب، فمتن عطشاً، وبيعت منهن بحلب وغيرها عدة. وكانت هذه الكائنة من مصائب الدهر.
وكنا نستطيب إذا مرضنا ... فجاء الداء من قبل الطبيب
فأما بالعهد من قدم، لقد عهدنا ملك مصر إذا بلغه أحد من ملوك الأقطار أنه قد فعل ما لا يجوز أو فعل ذلك رعيته، بعث منكر عليه ويهدده، فصرنا نحن نأتي من الحرام بأشنعه، ومن القبيح بأفظعه وإلى الله المشتكى.
وفي يوم الثلاثاء ثاني عشر ذي القعدة: نودي على النيل بزيادة إصبع، لتتمة سبعة عشر ذراعاً وأربعة عشر إصبعاً، و لم يناد عليه من الغد.
وفيه كتب باستدعاء السيد الشريف قاضي القضاة بدمشق، وكاتب السر بها، وناظر الجيش، ونقيب الأشراف شهاب الدين أحمد بن علي بن إبراهيم بن عدنان الحسيني، ليستقر في كتابة السر، وتوجه لإحضاره من دمشق أحد الخاصكية.
وهى يوم الجمعة خامس عشره: نودي على النيل بزيادة إصبعين، بعد رد ما نقصه، لتتمة ستة عشر إصبعاً من الذراع الثامنة عشر، وكان قد انقطع بعض جسور النواحي لفساد عملها، فقل وجود الغلال، وارتفع الأردب من مائتين وسبعين إلى ثلاثمائة، واستمرت زيادة النيل إلى يوم الثلاثاء تاسع عشرينه، وقد بلغ ثمانية عشر ذراعاً إلا إصبعين، ونقص من يومه خمسة أصابع، لتقطع الجسور، فتكالب الناس على شراء الغلة، وشحت الأنفس ببيعها، حتى قل وجودها وارتفع ثمنها.
شهر ذي الحجة، أوله الخميس: أهل هذا الشهر والنيل متوقف عن الزيادة، وقد نقص، فمن الله تعالى، ونودي في يوم السبت ثالثه برد النقص وزيادة تتمة ثمانية عشر ذراعاً.(3/329)
وفي ليلة الخميس ثامنه: قدم السيد الشريف شهاب الدين أحمد من دمشق وقد خرج الأعيان إلى لقائه، وهو موعوك فلزم الفراش.
وفي ثاني عشره - الموافق لخامس عشر توت - : نودي بزيادة إصبعين لتتمة ثمانية عشر ذراعاً وعشرين إصبعاً ثم نقص من الغد لقطع الصليبيات.
وفي يوم الخميس نصفه: خلع على الشريف شهاب الدين أحمد بن عدنان، واستقر في كتابة السر عوضاً عن الجلال محمد بن مزهر، وعملت للطرحة الخضراء برقمات ذهب، فكان موكباً جليلاً إلى الغاية، ركب بين يديه الأمراء والوزراء وقضاة القضاة الأربع، والأعيان، فابتهج الناس به، وسروا بقدومه.
وفي يوم الجمعة سادس عشره: نودي على النيل برد النقص وزيادة إصبع.
وفيه خلع على الجلال محمد بن مزهر، واستقر في توقيع المقام الناصري محمد ابن السلطان، كما كان في أيام أبيه.
وفي رابع عشرينه: قدم الأمير هابيل بن الأمير قرا يلك ومن معه في الحديد فشهروا، بالقاهرة إلى القلعة، وسجنوا بها. وفيه قدم مبشرو الحاج.
وفيه نودي على النيل بزيادة إصبع لتتمة تسعة عشر ذراعا وستة عشر إصبعاً ووافق ذلك ثامن عشرين توت، ثم لم يناد عليه، فكانت هذه زيادة ماء النيل في هذه السنة. وفي هذا الشهر: كانت حرب بنواحي المدينة النبوية بين بني حسين، قتل فيها غير واحد من أعيانهم.
وفيه كان خراب مدينة توريز. وسبب ذلك أن متملكها اسكندر بن قرا يوسف قرا محمد بين بيرم خجا، زحف على مدينة السلطانية، وقتل متوليها من جهة ملك المشرق شاه رخ بن تيمور كركان في عدة من أعيانها، ونهب وأفسد، فسار إليه جموع كبيرة فخرج اسكندر من توريز، وجمع لحربه، ولقيه وقد نزل خارج توريز، فانتدب لمحاربته الأمير قرا يلك صاحب آمد، وقد لحق بشاه رخ، وأمده بعسكر كبير، وقاتله خارج توريز في يوم الجمعة سابع عشره، قتالاً شديداً، قتل فيه كثير من الفئتين، وانهزم اسكندر وهم في إثره يطلبونه ثلاثة أيام، ففاتهم هذا. وقد نهبت جقطاي عامة تلك البلاد، وقتلوا وسبوا وأسروا وفعلوا ما يشنع ذكره. ثم إن شاه رخ ألزم أهل توريز بمال كبير احتاجهم فيه أموالهم، حتى لم يدع بها ما تمتد إليه العين، ثم جلاهم بأجمعهم إلى سمرقند، فما ترك إلا ضعيفاً عاجزاً لا خير فيه، ورحل بعد مدة يريد بلاده، وقد اشتد الغلاء معه، فأعقب رحيله عن توريز جراد عظيم، لم يترك بها ولا بجميع أعماله خضرا وانتشرت الأكراد بتلك النواحي تعبث وتفسد، ففقدت الأقوات، حتى أبيع اللحم الرطل بعده دنانير. وصار فيما بين توريز وبغداد مسافة عشرين يوماً وأزيد خراباً يباباً وأما اسكندر فإنه جال في بلاد الأكراد، وقد رقعت بها الثلوج مدة، ثم صار إلى قلعة سلماس فحصره بها الأكراد فنجا وتشتت في البلاد.
ومات في هذه السنة من الأعيان
العبد الصالح شمس الدين محمد بن إبراهيم بن أحمد الصوفي، بعد ما عمي سنين، في ليلة الثلاثاء ثالث عشر المحرم. ومولده في سنة تسع وأربعين وسبعمائة. وهو أحد من صحبته من أهل العبادة والنسك. ورأس مدة. واتصل بالظاهر برقوق وولي نظر المارستان المنصوري. وجال في الأقطار، فدخل بغداد والحجاز واليمن والهند، رحمه الله.
ومات شمس الدين محمد بن سعيد المعروف بسويدان أحد أئمة السلطان، في يوم الاثنين سابع صفر. كان أبوه عبداً أسوداً يسكن القرافة. وحفظ هو القرآنمع الأجواق، فأعجب الظاهر برقوق صوته، فجعله أحد أئمته، واستمر، فولاه الناصر فرج حسبة القاهرة. ثم عزل فعاد كما كان يقرأ في الأجواق عند الناس، ويأخذ الأجرة على ذلك، وصار رئيس جوقة حتى مات على ذلك. وكان أسود اللون.
ومات ناصر الدين محمد بن عبد الوهاب بن محمد البارنباي الشافعي، في ليلة الأحد حادي عشر شهر ربيع الأول، وقد أناف على الستين. وقد برع في الفقه وأصوله وفي العربية، والحساب، ودرس وخطب عدة سنين بدمياط، والقاهرة.(3/330)
ومات الشيخ محمد بن عبد الله بن حسن بن المواز، في يوم الأحد حادي عشر ربيع الأول. وقد قدم إلى زيارتي على عادته. وطلع إلى سلماً كنت في بيت بأعلاه، فما هو إلا أن خلع إحدى نعليه، خر على وجهه، ثم رفع رأسه، ونزل إلى الأرض، وأنا أستدنيه إلى، وأعتبه على انقطاعه أياماً عني، فزحف قدر ذراعين وسقط إلى الأرض، فإذا هو قد مات، رحمه الله. فلقد كان لي به أنس وله في اعتقاد كبير، وبلوت منه تألهاً وديانة وعبادة مرضية، فرأيته سحر يوم الجمعة العشرين من صفر سنة ثلاث وثلاثين، وقد اضطجعت بعد الوتر، وكأنه قدم علي على عادته لزيارتي فقمت فرحاً به وأنا أذكر أنه ميت. وقلت كالمباسط له: كيف دار البلاء فهش. فقلت له: أسلمت من عذاب القبر قال: نعم. قلت وأنت الآن لا تعذب ولا يشوش عليك؟، قال: نعم. قلت فلقيت الله. فأيقظني صوت رجل قريب مني قبل أن يخبرني، رحمه الله تعالى.
ومات الشيخ شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عبد الله الشطنوفي الشافعي، في ليلة الاثنين سادس عشرين شهر ربيع الأول، وقد قارب الثمانين، وبرع في الفقه والفرائض والعربية وغير ذلك. ودرس سنين عديدة، فانتفع به جماعة.
ومات بدر الدين محمد بن محمد بن أحمد بن مزهر الدمشقي، في ليلة الأحد سابع عشرينه جمادى الآخرة، عن نحو خمسين سنة. ولد سنة ست وثمانين وسبعمائة. وهو من بيت رياسة. ولي أبوه كتابة الإنشاء بدمشق. واشتهرت رياسته ومكارمه، وباشر هو كتابة الإنشاء بدمشق، واتصل، بنائبها الأمير شيخ المحمودي، فلما قدم بعد قتل الناصر فرج إلى القاهرة، كان ممن قدم معه، وولاه نظر الاصطبل. ثم ناب عن القاضي كمال الدين محمد بن البارزي في كتابة السر، وقام بأعباء الديوان في أيام العلم داود بن الكويز ومن بعده، واستقل بكتابة السر، فاستبد بتدبير المملكة وكثر ماله، رحمه الله. ومات نور الدين علي السفطي، وكيل بيت المال المعمور في ليلة الثلاثاء سلخ شهر جمادى الآخرة، وكان مشكور السيرة.
ومات السيد الشريف عجلان بن نعير بن منصور بن جماز بن منصور بن جماز بن شيحة بن هاشم بن قاسم بن مهنا بن حسين بن مهنا بن داود بن قاسم بن عبيد الله بن طاهر بن يحيى بن الحسين بن جعفر بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبو طالب، رضي الله عنه، مقتولا في ذي الحجة. وقد ولي إمرة المدينة النبوية مراراً، وقبض عليه في موسم سنة إحدى وعشرين وثمانمائة، وحمل في الحديد إلى القاهرة، فسجن ببرج في قلعة الجبل، ثم أفرج عنه وكان في الإفراج عنه ذكرى من كان له قلب. وهم أن عز الدين عبد العزيز بن علي بن العز البغدادي الحنبلي قاضي القضاة ببغداد ثم بدمشق رأى في منامه كأنه بمسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإذا بالقبر قد فتح، وخرج منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلس على شفيره، وعليه أكفانه، وأشار بيده الكريمة إلى عبد العزيز هذا فقام إليه حتى دنا منه، فقال له: قل للمؤيد يفرج عن عجلان، فانتبه وصعد إلى قلعة الجبل. وكان من جملة جلساء السلطان الملك المؤيد شيخ المحمودي، وجلس على عادته بمجلسه وحلف له بالأيمان الحرجة أنه ما رأى عجلان قط ولا بينه معرفة. ثم قص عليه رؤياه فسكت ثم خرج بنفسه بعد انقضاء المجلس إلى مرماة النشاب التي قد استجدها بطرف الدركاه، واستدعى بعجلان من سجنه بالبرج، وأفرج عنه، وأحسن إليه. وقد حدثني قاضي القضاة عز الدين بهذه الرؤيا غير مرة، وعنه كتبتها وعندي مثل هذا الخبر في حق بني حسين عدة أخبار صحيحة، فإياك والوقيعة في أحد منهم فليست بدعة المبتدع منهم، أو تفريط المفرط منهم في شيء من العبادات، أو ارتكابه محرماً من المحرمات، بمخرجه من بنوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالولد ولد على حال، عق أو فجر.
ومات الشريف خشرم بن دوغان بن جعفر بن هبة بن جماز بن منصور بن جماز بن شيحة، الحسين مقتولاً في ذي الحجة أيضاً، في الحرب.(3/331)
ومات الواعظ المذكر بالله شهاب الدين أبو العباس أحمد بن عمر بن عبد الله المعروف بالشاب التائب بدمشق، في يوم الجمعة ثامن عشر رجب عن نحو سبعين سنة ، ومولده ومنشأه بالقاهرة. وكان من جملة طلبة العلم الشافعية، ثم صحب في أثناء عمره رجلاً من الفقراء يعرف بأبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله بن عمر ابن الزياب أحد أصحاب الشيخ يحيى الصنافيري، فمال إلى طريقة التصوف، ورحل إلى اليمن. ثم قدم وعمل الميعاد، ونظم الشعر على طريق القوم، وبنى زواية خارج القاهرة، فحصل له قبول من العامة. وسمعت ميعاده بالجامع الأزهر، وقد تكلم في تفسير آية من كتاب تعالى فأكثر من النقل الجيد بعبارة حسنة، وطريقة مليحة. وحج مراراً، ثم رحل إلى دمشق وبنى بها زاوية وعمل الميعاد، فأقبل عليه الناس، وزاد اعتقادهم فيه بمصر والشام، حتى توفي. ونعم الرجل كان.
ومات بالنحريرية الأديب المعتقد نور الدين علي بن عبد الله الشهير بابن عامرية، في يوم الخميس سادس عشر شهر ربيع الآخر، وأكثر شعره - رحمه الله - في المدائح النبوية.
سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة
أهلت هذه السنة بيوم الجمعة، الموافق له ثاني بابة: والشمس في نصف برج الميزان، والوقت فصل الخريف.
شهر المحرم: في يوم السبت ثانيه: خلع على الأمير زين الدين عبد القادر أستادار خلعة الإستمرار، ثم خلع عليه ثانياً في يوم الاثنين رابعه، وخلع على الأمير أقبغا الجمالي كاشف الوجه القبلي خلعة الاستمرار، وقد أرجف باستقراره أستادارا وألزم بحمل عشرين ألف دينار.
وفي تاسعه: خلع على الصاحب كريم الدين الوزير، واستقر في نظر الديوان المفرد، مضافاً إلى الوزارة، ليتقوى به الأمير زين الدين أستادار.
وفي ليلة الجمعة تاسعه أو عاشره: أمطرت مدينة حمص مطراً وابلاً، ونزل معه ضفادع خضر حتى امتلأت بها أزقة المدينة وأسطحة الدور.
وفي العشر الثاني من هذا الشهر: حملت نفقة المماليك السلطانية من حاصل الأستادار إلى قلعة الجبل، لتنفق في المماليك على العادة في كل شهر، فامتنعوا من قبضها وطلبوا أن يزاد كل واحد على ماله مبلغ ثلاثمائة درهم في كل شهر وكانوا قد فعلوا ذلك في نفقة ذي الحجة، حتى زيد كل منهم أربعمائة درهم في كل شهر فبلغت الزيادتان في الشهر نحو الخمسة آلاف دينار. وكان قبل رضائهم بذلك قد استطار شرهم، وتعدوا في العتو طورهم حتى خافهم أعيان أهل الدولة، ووزعوا ما في دورهم خوف وقوع الفتنة.
وفي حادي عشرينه: قدم ركب من الحاج تقدم أولا، ثم قدم الركب الأول من الغد، وقدم المحمل ببقية الحاج في ثالث عشرينه.
وفي رابع عشرينه: قدم رسول ملك المشرق - شاه رخ بن تيمور - بكتابه يطلب فيه شرح البخاري للحافظ قاضي القضاة شهاب الدين، أحمد بن حجر، وتاريخي السلوك للدول الملوك ويعرض فيه بأنه يريد أن يكسو الكعبة ويجري العين بمكة.
وفي ثامن عشره: بعث صاحب تونس وإفريقية وتلمسان - أبو فارس عبد العزيز - أسطولاً فيه مائتا فرس، وخمسة عشر ألف مقاتل من العسكرية والمطوعة، لأخذ جزيرة صقلية، فنازلوا مدينة مارز حتى أخذوها عنوة، ومضوا إلى مدينة مالطة. وحصروها حتى لم يبق إلا أخذها فانهزم من جملتهم أحد الأمراء من العلوج، فانهزم المسلمون لهزيمته، فركب الفرنج أقفيتهم، فاستشهد منهم في الهزيمة خمسون رجلاً من الأعيان، ثم إنهم ثبتوا وقبضوا على العلج الذي كادهم بهزيمته، وبعثوا به إلى أبي فارس، فأمدهم بجيوش كثيرة.
شهر صفر، أوله الأحد: في رابع عشره: خلع على السيد الشريف شهاب الدين كاتب السر ونزل إلى الجامع المؤيدي، وقد استقر ناظره على العادة، فقرئ به تقليده بكتابة السر، تولى قراءته منشأة القاضي شرف الدين أبو بكر الأشقر نائب كاتب السر. وقد حضر قضاة القضاة الثلاث، ولم يحضر الحنفي، وحضر الأمير أركماس الدوادار، وكثر من الأعيان، فكان من المجامع الحفلة الحشمة.
وفي هذه الأيام: ارتفع سعر الذهب حتى بلغ الدينار الأفرنتي مائتين وستين درهماً، وارتفع أيضاً سعر الغلال.
وقدم الخبر بغلاء الأسعار بمدينة حلب ودمشق، وأن بدمشق وحمص طاعون فاش في الناس.(3/332)
وفي يوم الخميس سادس عشرينه: خلع على قاضي القضاة علم الدين صالح ابن شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني، وأعيد إلى قضاء القضاة عوضاً عن الحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر، وخلع على قاضي القضاة زين الدين عبد الرحمن التفهني، وأعيد إلى قضاء القضاة الحنفية، عوضاً عن بدر الدين محمود العيني، ورسم باستقراره صدر الدين أحمد بن محمود العجمي في ميشخة خانكاه الأمير شيخو، عوضاً عن قاضي القضاة زين الدين التفهني، ورسم أن لا يزيد الشافعي على عشرة نواب، والحنفي على ثمانية، والمالكي على ستة، والحنبلي على أربعة فكان حسناً أن تم.
شهر ربيع الأول، أوله الاثنين: فيه خلع على صدر الدين أحمد بن العجمي، واستقر في ميشخة الشيخونية.
وفي يوم الثلاثاء سلخه: خلع على سعد الدين إبراهيم بن كريم الدين عبد الكريم ابن سعد الدين بركة كاتب جكم، واستقر في نظر الخاص، عوضاً عن أبيه بعد وفاته، وألزم بحمل ستين ألف دينار، فشرع في حملها.
وفي هذا الشهر: انحل سعر الغلال، وسبب ذلك أن المحتسب أينال الششماني منع كل من ورد بغلة إلى ساحلي مصر وبولاق من بيعها، وتشدد في ذلك، فامتنعوا وأخذوا في بيع الغلال السلطانية، على أن كل أردب من القمح بثلاثمائة وستين درهماً، فتوفرت الغلال في مدة بيعه، ثم أذن لهم في بيعها، وقد تكفي الطحانون بغلال السلطان، فانحل السعر ولله الحمد، وربما صحت الأجسام بعد العلل.
شهر ربيع الآخر، أوله الأربعاء: في رابعه: خلع على قاضي القضاة بدر الدين محمود العيني الحنفي، واستقر في الحسبة بالقاهرة ومصر، عوضاً عن الأمير أينال الششماني، مضافاً لما معه من نظر الأحباس.
وفي تاسعه: خلع على الأمير شهاب الدين أحمد الدوادار، واستقر في نيابة الإسكندرية، عوضاً عن الأمير أقبغا التمرازي، ورسم بإحضاره.
وفي ثالث عشره: خلع على الصاحب تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم، وأعيد إلى نظر الديوان المفرد، عوضاً عن الوزير الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ وفي خامس عشرينه: خلع على الأمير علاء الدين أقبغا الجمالي الكاشف، واستقر أستاداراً، عوضاً عن الأمير زين الدين عبد القادر بن أبي الفرج، على أن يحمل مائة ألف دينار بعد تكفية الديوان، فلم ينهض بها.
وفي هذا الشهر: انحل سعر الغلال، فأبيع القمح بمائتين وخمسين درهماً الأردب، والشعير بمائة وعشرة دراهم الأردب.
وفيه فشى الطاعون في الوجه البحري، سيما في التحريرية ودمنهور، فمات خلق كثير جداً بحيث أحصي من مات من أهل المحلة زيادة على خمسة آلاف إنسان. ومن ناحية صا زيادة على ستمائة إنسان وكان قد وقع بغزة والقدس وصفد ودمشق في شعبان في السنة الماضية طاعون، واستمر إلى هذا الشهر. وعد هذا من النوادر، فإن الوقت شتاء، وما عهد فيما أدركناه وقوع الطاعون إلا في فصل الربيع. ويعلل الأطباء ذلك بسيلان الأخلاط في الربيع، وجمودها في الشتاء ولكن الله يفعل ما يريد. وقدم الخبر بشناعة الطاعون بمدينة برصا من بلاد الروم، وأنه زاد عدد من يموت بها في كل يوم على ألفي وخمسمائة إنسان. وأما القاهرة فإنه جرى على ألسنة غالب الناس منذ أول العام أنه يقع في الناس عظيم، حتى لقد سمعت الأطفال تتحدث بهذا في الطرقات. فلما أهل شهر ربيع الآخر هذا: كانت عدة من ورد الديوان فيه من الأموات اثني عشر إنساناً، وأخذ يتزايد في كل يوم حتى بلغت عدة من ورد الديوان بالقاهرة في يوم الأربعاء سلخه ثمانية وأربعين إنساناً. وجملة من أحصاه ديوان القاهرة في الشهر كله أربعمائة وسبعة وسبعون إنساناً. وبلغ ديوان المواريث بمدينة مصر دون ذلك. هذا سوى من مات بالمارستان، ومن جهز من ديوان الطرحاء على الطرقات من الفقراء، وهم كثير.
شهر جمادى الأولى، أوله الخميس: فيه برز سعد الدين إبراهيم بن المرة ناظر جدة إلى خارج القاهرة، وقد توجه معه كثير من الناس يريدون العمرة والحج. وفيه بلغت عدة من ورد الديوان بالقاهرة مائة، على أنهم لا يرفعون في أوراقهم إلى الوزير وغيره إلا بعض من يرد، لا كلهم.
وفيه نودي في الناس بصيام ثلاثة أيام، وأن يتوبوا إلى الله تعالى من معاصيهم. ويخرجوا من المظالم، ثم يخرجوا في يوم الأحد رابعه إلى الصحراء. هذا والحكام والولاة على ما هم عليه.(3/333)
لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم
وفي يوم الأحد رابعه: خرج قاضي القضاة علم الدين صالح في جمع موفور إلى الصحراء خارج باب النصر، وجلس بجانب تربة الظاهر برقوق فوعظ الناس على عادته في عمل الميعاد، فكثر ضجيج الرجال والنساء وكثر بكاؤهم في دعائهم وتضرعهم ثم انفضوا قبيل الظهر، فتزايدت عدة الأموات عما كانت.
وفي ثامنه: ورد كتاب اسكندر بن قرا يوسف، بأن شاه رخ عاد إلى بلاده وأنه هو رجع إلى توريز، وقصده أن يمشي بعد انقضاء الشتاء لمحاربة قرا يلك صاحب آمد.
وقدم كتاب مراد بن عثمان صاحب برصا بأنه هادن الفرنح ثلاث سنين. وقدم كتاب قرا يلك يسأل العفو عن ولده هابيل وإطلاقه.
وفي حادي عشرينه: قبض على الأمير زين الدين عبد القادر بن أبي الفرج وكثير من إلزامه، وسلموا إلى الأمير أقبغا أستادار، ثم أفرج عنه في رابع عشرينه على مال يحمله.
وفي سادس عشرينه: حضر تجار الإسكندرية وقد طلبوا منها، فأوقفوا بين يدي السلطان، وألزموا جميعهم أن لا يبع أحد منهم شيئاً من أصناف البضائع التي تجلب من الهند، كالفلفل ونحوه، لأحد من التجار الفرنج، وهددوا على ذلك. وسبب هذا أن السلطان أقام طائفة تشتري له البضائع وتبيعها، فإذا أخذت بجدة المكوس من التجار التي ترد من الهند، حملت فلفلاً وغيره في بحر القلزم من جدة إلى الطور، ثم حملت من الطور إلى مصر، ثم نقلت في النيل إلى الإسكندرية، وألزم الفرنج بشراء الحمل من الفلفل بمائة وثلاثين ديناراً. هذا وسعره بالقاهرة خمسون ديناراً. فبلغ السلطان أن بعض التجار سأل الفرنج بالإسكندرية أن يبتاعوا منه الحمل بأربعة وستين ديناراً، فأبوا أن يأخذوه إلا بتسعة وخمسين، فأحب السلطان عند ذلك الزيادة في الفوائد، وأن يأخذ ما عند التجار من الفلفل بسعر ما دفع لهم فيه الفرنج، ليبيعه هو على الفرنج. مما تقدم ذكره، فمنعهم من يبيعهم على الفرنج ليبور عندهم، فيأخذه حينئذ منهم بما يريد.
وفيه أيضاً طلب الأمير أقبغا الأستادار الباعة بالقاهرة ومصر ليطرح عليهم السكر فأغلقوا الحوانيت، وفروا منه فأعيا الناس شراء الأدوية للمرضى ولم يكادوا أن يجدوا ما يعللوهم به.
وفي هذا الشهر: شنع الموتان الوحي السريع بالطاعون، والنزلات التي تنحدر من الدماغ إلى الصدر، فيموت الإنسان في أقل من ساعة، بغير تقدم مرض. وكان أكثر في الأطفال والشباب، ثم في العبيد والإماء، وأقله في النساء والرجال. وتجاوز في مدينة مصر الفسطاط المائتين في كل يوم، سوى من لم يرد الديوان. وتجاوز في القاهرة الثلاثمائة سوى من لم يرد الديوان. وضبط من صلى عليه في مصليات الجنائز فبلغت عدتهم تزيد على ما أوردوه في ديوان المواريث زيادة كثيرة. وبلغت عدة من مات بالنحريرية - خاصة - إلى هذا الوقت تسعة آلاف، سوى من لم يعرف، وهم كثر جداً. وبلغت عدة الأموات بالإسكندرية في كل يوم نحو المائة. وشمل الوباء عامة البحيرة الغربية والقليوبية.
وفي العشر الأخر من هذا الشهر: وجد بالنيل والبرك التي بين القاهرة ومصر كثير من السمك والتماسيح، قد طفت على وجه الماء ميتة، واصطيدت بنية كبيرة، فإذا هي كإنما صبغت بدم من شدة حمرتها. ووجد في البرية ما بين السويس والقاهرة عدة كثيرة من الظباء والدياب موتى. وقدم الخبر بوقوع الوباء ببلاد الفرنج.
وفي يوم الخميس سلخه: ضبطت عدة الأموات التي صلي عليها، فبلغت ألفين ومائة، ولم يورد في أوراق الديوان سوى أربعمائة ونيف.(3/334)
وفيه مات ببولاق سبعون لم يورد منهم سوى اثني عشر. وشنع الموتان حتى أن ثمانية عشر من صيادي السمك كانوا في موضع فمات منهم في يوم واحد أربعة عشر، ومضى الأربعة ليجهزوهم إلى القبور، فمات منهم وهم مشاة ثلاثة فقام الواحد بشأن السبعة عشر، حتى وصل بهم إلى المقبرة مات أيضاً. وركب أربعون رجلاً في مركب، وساروا من مدينة مصر نحو بلاد الصعيد، فماتوا بأجمعهم قبل وصولهم الميمون. ومرت امرأة من مصر تريد القاهرة وهي راكبة على حمار مكاري، فماتت وهي راكبة، وصارت ملقاة بالطريق يومها كله، حتى بدأ تغير ريحها، فدفنت، ولم يعرف لها أهل. وكان الإنسان إذا مات تغير ريحه سريعاً، مع شدة برد الزمان. وشنع الموت بخانكاه سريا قوس، حتى بلغت العدة في كل يوم نحو المائتين، وكثر أيضاً بالمنوفية والقليوبية، حتى كاد يموت في الكفر الواحد في كل يوم ستمائة إنسان.
شهر جمادى الآخرة، أوله الجمعة: فيه تزايدت عدة الأموات عما كانت فأحصي في يوم الاثنين رابعه من أخرج من أبواب القاهرة، فبلغت عدتهم ألفاً ومائتي ميت، سوى من خرج عن القاهرة من أهل الحكورة والحسينية وبولاق والصليبة ومدينة مصر والقرافتين والصحراء، وهم أكثر من ذلك. ولم يورد بديوان المواريث بالقاهرة سوى ثلاثمائة وتسعين وذلك أن أناساً عملوا توابيت للسبيل فصار أكثر الناس يحملون موتاهم عليها، ولا يردون الديوان أسماءهم.
وفي هذه الأيام: ارتفعت أسعار الثياب التي تكفن بها الأموات، وارتفع سعر ما تحتاج إليه المرضى كالسكر وبذر الرجلة والكمثرى، على أن القليل من المرضى هو الذي يعالج بالأدوية، بل معظمهم يموت موتاً وحيا سريعاً في ساعة وأقل منها وعظم الوباء في المماليك السلطانية - سكان الطباق بالقلعة - الذين كثر فسادهم وشرهم، وعظم عتوهم وضرهم، بحيث كان يصبح منهم أربعمائة وخمسون مرضى فيموت في اليوم زيادة على الخمسين مملوكاً، وشنع الموت. بمدينة فوه ومدينة بليبس، ووقع ببلاد الصعيد الأدنى. وانقطع الوباء من البحيرة والنحريرية، وكثر بمدينة المحلة.(3/335)
وفي يوم الخميس سابعه: أحصي من صلى عليه من الأموات في المصليات المشهورة خاصة، فكانوا نحو الألف ومائتي ميت، وصلى بغير هذه المصليات على ما شاء الله. ولم يورد في ديوان القاهرة سوى ثلاثمائة وخمسين، وفي ديوان مصر دون الثلاثين. وصلى بها على مائة. وضبط في يوم السبت تاسعه من صلى عليه بالقاهرة، فكانوا ألفاً ومائتين وثلاثاً وستين، لم يرد الديوان سوى ما دون الأربعمائة، فكان عدد من صلى عليه بمصلى باب النصر في هذا اليوم أربعمائة وخمسين ومات بعض الأمراء الألوف، فلم يقدر له على تابوت، حتى أخذ له تابوت من السبيل. ومات ولد لبعض الوزراء فلم يقدر الأعوان - مع كثرتهم وشدتهم - على تابوت له، حتى أخذ له تابوت من المارستان. وبلغ عدد من صلى عليه بمصلى باب النصر في يوم الأحد عاشره خمسمائة وخمسة، وهي من جملة أربع عشرة مصلى. وبلغت عدة من صلى عليه في يوم الاثنين حادي عشره في المصليات المشهورة بالقاهرة وظواهرها ألفين ومائتين وستة أربعين. وانطوى عن الذي ضبط الكثير، ممن لم يصل عليه فيها، وبلغت عدة من صلى عليه فيها، وبلغت عدة من صلى عليه بمصلى باب النصر خاصة في يوم واحد زيادة على ثمانمائة ميت، ومثل ذلك في مصلى المؤمني تحت القلعة، وكان يصلي على أربعين ميتاً معاً، فما تنقضي الصلاة على الأربعين جميعاً، حتى يؤتي بعدة أموات وبلغت عدة من خرج من أبواب القاهرة من الأموات اثنا عشر ألفاً وثلاثمائة ميت. واتفق في هذا الوباء غرائب منها أنه كان بالقرافة الكبرى والقرافة الصغرى من السودان نحو ثلاثة آلاف، ما بين رجل وامرأة، صغير وكبير، ففنوا بالطاعون، حتى لم يبق منهم إلا قليل. ففروا إلى أعلى الجبل، وباتوا ليلتهم سهارى لا يأخذهم نوم لشدة ما نزل بهم من فقد أهليهم وظلوا يومهم من الغد بالجبل، فلما كانت الليلة الثانية مات منهم ثلاثون إنساناً، وأصبحوا، فإلى أن يأخذوا في دفنهم مات منهم ثمانية عشر. واتفق أن إقطاعاً بالحلقة انتقل في أيام قليلة إلى تسعة نفر، وكل منهم يموت، ومن كثرة الشغل بالمرضى والأموات، تعطلت أسواق البز ونحوه من البيع والشراء، وتزايد ازدحام الناس في طلب الأكفان والنعوش، فحملت الأموات على الألواح والأقفاص وعلى الأيدي وعجز الناس عن دفن أمواتهم، فصاروا يبيتون بها في المقابر، والحفارون طول ليلتهم يحفرون، وعملوا حفائر كثيرة، تلقى في الحفرة منها العدة الكثيرة من الأموات وأكلت الكلاب كثيراً من أطراف الأموات، وصار الناس ليلهم كله يسعون في طلب الغسال والحمالين والأكفان، وترى نعوش الأموات في الشوارع كأنها قطارات الجمال، لكثرتها والمرور بها متواصلة بعضها في إثر بعض، فكان هذا من الأهوال التي أدركناها.
وفي يوم الجمعة خامس عشره: جمع السيد الشريف شهاب الدين أحمد بن عدنان كاتب السر بأمر السلطان أربعين شريفاً، اسم كل شريف منهم محمد، وفرق فيهم من ماله هو خمسة آلاف درهم، وأجلسهم بالجامع الأزهر، فقرءوا ما تيسر من القرآن الكريم بعد صلاة الجمعة ثم قاموا - هم والناس - على أرجلهم، فدعوا الله تعالى، وقد غص الناس بالجامع الأزهر فلم يزالوا يدعون الله حتى دخل وقت العصر، فصعد الأربعون شريفاً إلى أعلى الجامع وأذنوا جميعاً، ثم نزلوا فصلوا مع الناس صلاة العصر، وانفضوا، وكان هذا مما أشار به بعض العجم، وأنه عمل هذا ببلاد المشرق في وباء حدث عندهم فارتفع عقيب ذلك، فلما أصبح الناس يوم السبت أخذ الوباء يتناقص في كل يوم حتى انقطع وفشا ببلاد الصعيد، وببوادي العرب، وبمدينة حماة، ومدينة حمص. ووجد في بعض بساتين القاهرة سبعة دياب قد ماتوا بالطاعون. ومات عند رجل أربع دجاجات، وجد في كل واحدة منهن كبة في ناحية من بدنها. وكان عند رجل نسناسة فأصابها الطاعون برأسها وأقامت ثلاثة أيام إذا وضع لها الماء والأكل لا تتناول الغداء وتشرب مرة واحدة في اليوم، ثم هلكت بعد ثلاث.
وفي ليلة الجمعة التاسع والعشرين: منه خرج بعد غروب الشمس بقليل كوكب في هيئة الكرة، بقدر جرم القمر في ليلة البدر، فمر بين المشرق والقبلة إلى جهة المغرب، وتفرق منه شرر كثير من ورائه.
شهر رجب، أوله الأحد:(3/336)
أهل هذا الشهر والوباء قد تناقص بالقاهرة، إلا أنه منذ نقلت الشمس إلى برج الحمل في ثامن عشر جمادى الآخرة، ودخل فصل الربيع، فشا الموت في أعيان الناس وكبرائهم ومن له شهرة، بعد ما كان في الأطفال والخدم، وقد بلغت أثمان الأدوية وما تحتاح إليه المرضى أضعاف ثمنها. وذلك أن الأمراض طالت مدتها، بعد ما كان الموت وحيا فلا تخلو دار من ميت أو مريض. وشنع في هذا الوباء ما لم يعهد مثله إلا في النادر، وهو خلو دور كثيرة جداً من جميع من كان بها، حتى أن الأموال المخلفة عن عدة من الأموات أخذها من لا يستحقها. وشنع أيضاً الموت والأمراض في المماليك السلطانية، بحيث ورد كتاب من طرابلس فلم يجد الشريف عماد الدين أبو بكر بن علي بن إبراهيم ابن عدنان من يتناوله حتى يفتحه السلطان. وكان السيد أبو بكر إذ ذاك يباشر بعد موت أخيه السيد شهاب الدين، وقد عين كتابة السر، فأخبرني - رحمه الله - أنه خرج من بين يدي السلطان حتى وجد واحداً من المماليك خارج القصر، فدخل به حتى أخذ الكتاب من القادم به وفتحه ثم قرأه هو على السلطان.
وفي يوم الاثنين تاسعه: خلع على الطواشي زين الدين خشقدم، واستقر مقدم المماليك بعد موت الأمير فخر الدين ياقوت. وخشقدم هذا رومي الجنس، رباه الأمير يشبك وأعتقه، واشتهر في الأيام المؤيدية شيخ، وترقى حتى عمل نائب المقدم، وعرف بالمهابة والحرمة الوافرة.
وفي سادس عشره: قدم الأمير تغري بردي المحمودي من سجنه بدمياط، فرسم أن يتوجه من قليوب إلى دمشق، ليكون أتابك العساكر بها، فتوجه إليها.
وفي ثالث عشرينه: خلع على بدر الدين حسن بن القدسي، واستقر في مشيخة الشيخونية بعد موت صدر الدين أحمد بن محمود العجمي.
وفي هذه الأيام: انحل سعر الغلال وقد دخلت سعر الغلة الجديدة، فأبيع الشعير بتسعين درهماً الأردب، والقمح بمائتين وما دونها، وكثر الإرجاف بحركة قرا يلك على البلاد الفراتية وأن شاه رخ بن تيمور شتا على قرا باغ، فأخذ السلطان في تجهيز العسكر للسفر.
شهر شعبان، أوله الأربعاء: في ثالثه: منع نواب القضاة من الحكم، ورسم أن يقتصر الشافعي على أربعة نواب، والحنفي على ثلاثة، والمالكي والحنبلي كل منهما على نائبين، فما أحسن هذا إن تم.
وفي يوم الاثنين ثامنه: أدير محمل الحاج على العادة، و لم نعهده أدير قط في شعبان، وإنما يدار دائماً في نحو نصف من شهر رجب، غير أن الضرورة بموت المماليك الرماحة اقتضت تأخير ذلك، حتى أن معلمي اللعب بالرماح أخذوا في تعليم من بقي من المماليك ما عرفوا منه كيف يمسك الرمح، فكان الجمع فيه دون العادة.
وفي ثالث عشرينه: خلع على جمال الدين يوسف بن أحمد التزمنتي - المعروف بابن المجير - أحد فضلاء الشافعية، واستقر في مشيخة الخانكاه الصلاحية سعيد السعداء. وكان قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن المحمرة قد استنابه فيها. واستقر أيضاً بدر الدين محمد بن عبد العزيز - المعروف بابن الأمانة - أحد خلفاء الحكم الشافعي في تدريس الشافعية بالشيخونية، وكان ابن المحمرة قد استنابه عنه، فاستقل كل منهما بالوظيفة عوضاً عن مستنيبه بحكم إقامته على قضاء دمشق. وخلع أيضاً على أمين الدين يحيى بن محمد الأقصراي، واستقر في مشيخة الأشرفية المستجدة، وتدريس الحنفية بها، عوضاً عن كمال الدين محمد بن الهمام لرغبته عنها، تعففاً وزهادة.
وفي هذا الشهر: انحطت الأسعار فأبيع القمح. بمائة وخمسين درهما الأردب فما دونها، والشعير بتسعين فما دونها، والفول بسبعين درهماً فما دونها. وبلغ الدينار الأشرفي إلى مائتين وثمانين درهماً، والأفرنتي إلى مائتين وستين.
وفيه كثر الإستعداد لسفر السلطان.
شهر رمضان، أوله الأربعاء: في تاسعه: قرر السلطان في جامعه المستجد بجوار قيسارية العنبر من القاهرة دروساً ثلاثة، فجعل مدرس الشافعية شمس الدين محمد بن علي بن محمد بن يعقوب القاياتي. وقرر عنده عشرين طالباً، وجعل مدرس المالكية عبادة بن علي بن صالح الزرزاري، مولده سنة ثمان وسبعين وسبعمائة وعنده عشرة من الطلبة وجعل مدرس الحنابلة زين الدين عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله المعروف بابن الزركشي، ومعه عشرة من الطلبة. ومولد عبد الرحمن الزركشي في تاسع عشر شهر رجب سنة ثمان وخمسين وسبعمائة.(3/337)
وسمع علي بن إبراهيم البناني صحيح مسلم وفي يوم السبت ثامن عشره: قدم كاتب السر بحلب، شهاب الدين أحمد بن صالح ابن السفاح، باستدعاء ليستقر في كتابة السر بديار مصر، ويستقر عوضه في كتابة السر بحلب ابنه زين الدين عمر، على أن يحمل عشرة آلاف دينار. وكانت كتابة السر قد شغرت بعد موت السيد الشريف شهاب الدين، فباشر أخوه عماد الدين أبو بكر أياماً قلائل، ومات فباشر شرف الدين أبو بكر الأشقر نيابة حتى يلي أحد، وسعى فيها جماعة، فاختار السلطان ابن السفاح، وبعث في طلبه وخلع عليه في عشرينه.
وفي ثالث عشرينه: قدم رجل أدعى أنه شريف - اسمه هاشم - بكتاب شاه رخ ابن تيمور، ومعه هدية هي عدة قطع فيروزج، و لم يختم الكتاب، ولا كتب فيه بسملة بل ابتدأه بقوله تعالى: " ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل " إلى آخر السورة وخاطب السلطان فيه بالأمير برسباي، وأبرق وأرعد.
وفي تاسع عشرينه: ابتدئ بالنداء على النيل، وقد بلغت القاعدة ستة أذرع وثلاثة أصابع شهر شوال، أوله الخميس: أهل هذا الشهر وعامة المبيعات من الغلال واللحوم والفواكه رخيصة جدا.
وفي يوم الثلاثاء عشرينه: برز محمل الحاج وكسوة الكعبة إلى الريدانية خارج القاهرة فرحل الركب الأول في ثاني عشرينه، ورحل المحمل من بركة الحاج في ثالث عشرينه وفي يوم الخميس ثاني عشرينه: نودي على النيل بزيادة إصبع واحد لتتمة خمسة وعشرين إصبعاً من الذراع التاسعة، ولم يناد عليه من الغد، فتوقفت الزيادة، ثم نودي عليه من يوم الأحد.
وفي يوم السبت رابع عشرينه: قدم المماليك السلطانية من التجريدة إلى الرها وخلع علي سليمان بن عذراء بن علي بن نعير بن حيار بن مهنا، واستقر أمير الملأ عوضاً عن مدلج بن نعير، وعمره نحو خمس عشرة سنة.
شهر ذي القعدة، أوله السبت: في ثانيه: قدم رسول شاه رخ أيضاً بكتابه.
وفي ثالثه: خلع على الوزير الصاحب كريم الدين ابن كاتب المناخ، واستقر أستاداراً عوضاً عن الأمير علاء الدين أقبغا الجمالي مضافاً إلى الوزارة.
وفي سادس عشره: قبض على أقبغا الجمالي، وعوقب على المال.
وفي يوم الثلاثاء ثامن عشره - وخامس عشر مسرى - : كان وفاء النيل ستة عشر ذراعاً، فركب السلطان حتى خلق المقياس، وفتح الخليج. و لم يركب لذلك منذ تسلطن إلا هذه السنة.
وفي رابع عشرينه: خلع على أقبغا الجمالي وأخرج لكشف الجسور.
وفي سادس عشرينه: نودي على النيل بزيادة ثلاثة أصابع لتتمة سبعة عشر ذراعاً، وتسعة أصابع. وفيه نقص النيل لتقطع الجسور، من فساد عمالها، فتوقفت الزيادة.
وفي ليلة السبت خامس عشره: ظهر للحجاج - وهم سائرون من جهة البحر الملح - كوكب يرتفع ويعظم، ثم يفرع منه شرر كبار، ثم اجتمع. فلما أصبحوا اشتد عليهم الحر فهلك من المشاة ثم من الركبان عالم كثير، وتلف من حمالهم وحميرهم عدد عظيم، وهلك أيضاً في بعض أودية ينبع جميع ما كان فيه من الإبل والغنم، كل ذلك من شدة الحر والعطش.
شهر ذي الحجة، أوله الاثنين: فيه نودي على النيل برد النقص وزيادة ثلاثة أصابع، لتتمة سبعة عشر ذراعاً ونصف.
وفي يوم الثلاثاء ثامنه: نزل السلطان من قلعة الجبل إلى بيت ابن البارزي المطل على النيل، وقدم بين يديه في النيل غرابان حربية، فلعبا كما لو حاربا الفرنج، ثم ركب سريعاً، وعاد إلى القلعة.
وفي عاشره: توجه عظيم الدولة القاضي زين الدين عبد الباسط ناظر الجيوش ومدبر الدولة في جماعته لزيارة القدس.
وفي عشرينه - الموافق لثاني عشر توت - : نودي على النيل بزيادة إصبع واحد، لتتمة تسعة عشر ذراعاً وعشر أصابع ولم يناد عليه من الغد، ونقص عشر أصابع لتقطع الجسور.
وفي سابع عشرينه: قدم مبشرو الحاج، وأخبروا بهلاك من هلك من العطش.
وفي تاسع عشرينه: قدم القاضي. زين الدين عبد الباسط من القدس.
وفي سلخه: نودي على النيل برد النقص وزيادة إصبعين.
وفي هذا الشهر: توجه الأمير قصروه نائب حلب والأمراء المجردون من مصر بمن معهم لمحاربة قرقماس بن حسين بن نعير، فلقوا جمائعه تجاه قلعة جعبر وقد أخلى الجليل، فأخذ العسكر في نهب البيوت، فخر عليهم العرب فقتلوا كثيراً منهم، وفيهم أتابك حلب، وسلبوهم، فعادوا إلى حلب بأسوأ حال.(3/338)
فكانت هذه السنة ذات مكاره عديدة من أوبئة شنعة، وحروب وفتن، فكان بأرض مصر - بحريها وقبليها - وبالقاهرة ومصر وظواهرهما، وباء مات فيه - على أقل ما قيل - مائة ألف إنسان والمجازف يقول المائة ألف من القاهرة فقط، سوى من مات بالوجه القبلي والوجه البحري، وهم مثل ذلك، وغرق ببحر القلزم في شهر ذي القعدة مركب فيه حجاج وتجار يزيد عددهم على ثمانمائة إنسان، لم ينج منهم سوى ثلاث رجال، وهلك باقيهم، وهلك في ذي القعدة أيضاً بطريق مكة - فيما بين الأزلم وينبع - بالحر والعطش ثلاثة آلاف ويقول المكثر خمسة آلاف، وغرق بالنيل في مدة يسيرة اثنتا عشرة سفينة، تلف من البضائع والغلال ما قيمته مال عظيم. وكان بغزة والرملة والقدس وصفد ودمشق وحمص وحماة وحلب وأعمالها وباء، هلك فيه خلائق لا يحصى عددها إلا الله تعالى. وكان ببلاد المشرق بلاء عظيم، وهو أن شاه رخ بن تيمور ملك المشرق، قدم إلى توريز في عسكر يقول المجازف عدتهم سبعمائة ألف. فأقام على خوي نحو شهرين، وقد فر منه اسكندر بن قرا يوسف، فقدم عليه الأمير عثمان بن طر علي - المعروف بقرا يلك التركماني - صاحب آمد في ألف فارس، فبعثه على عسكر لمحاربة اسكندر، وسار في إثره، وقد جمع اسكندر جمعاً يقول المجازف إنهم سبعون ألفاً، فاقتتل الفريقان خارج توريز، فقتل بينهما آلاف من الناس، وانهزم اسكندر وهم في أثره يقتلون ويأسرون وينهبون فأقام اسكندر ببلاد الكرج، ثم نزل بقلعة سلماس، وحصرته العساكر مدة، فنجا منهم، وجمع نحو الأربعة آلاف، فبعث إليه شاه رخ عسكراً أوقعوا به وقتلوا من معه، فنجا بنفسه جريجاً.
وفي مدة هذه الحروب ثار أصبهان بن قرا يوسف، ونزل على الموصل ونهب تلك الأعمال، وقتل وأفسد فساداً كبيراً، وكانت بعراقي العرب والعجم نهوب وغارات ومقاتل، بحيث أن شاه محمد بن قرا يوسف - متملك بغداد - من عجزه لا يتجاسر على أن يتجاوز سور بغداد، وخلا أحد جانبي بغداد من السكان، وزال عن بغداد اسم التمدن، ورحل عنها حتى الحياك، وجف أكثر النخل من أعمالها، ومع هذا كله، فوضع شاه رخ على أهل توريز مال الأمان، حتى ذهبت في جبايته نعمهم، ثم جلاهم بأجمعهم إلى بلاده، وكثر الإرجاف بقدومه إلى الشام، فأوقع الله في عسكره الغلاء والوباء حتى عاد إلى جهة بلاده، وعاد قرا يلك إلى ماردين فنهبها، ونهب ملطية وما حولها إلى عينتاب وحرقها.(3/339)
وكان ببلاد السراي والدشت وصحاري في هذه السنة والتي قبلها قحط شديد، ووباء عظيم جداً، هلك فيه عالم كبير، بحيث لم يبق منهم ولا من أنعامهم إلا أقل من القليل. وكان ببلاد الحبشة بلاء لا يمكن وصفه، وذلك أنا أدركنا ملكها داود بن سيف أرعد بن قسطنطين - ويقال له الحطي - ملك أمحرة، وهو وهم نصاري يعقوبية. فلما مات في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة، قام من بعده ابنه تدرس بن داود، فلم تطل مدته، ومات. فملك بعده أخوه أبرم، ويقال له إسحاق بن داود بن سيف أرعد، وفخم أمره، وذلك أن بعض مماليك الأمير بزلار نائب الشام ترقى في الخدم، وعرف بألطنبغا مغرق، حتى باشر ولاية قوص من بلاد الصعيد، ثم فر إلى الحبشة واتصل بالحطي هذا، وعلم أتباعه لعب الرمح، ورمي النشاب وغير ذلك من أدوات الحروب، ثم لحق بالحطي أيضاً بعض المماليك الجراكسة - وكان زرد كاشا - فعل له زرد خاناه ملوكية، وتوجه إليه مع ذلك رجل من كتاب مصر الأقباط النصارى - يقال له فخر الدولة - فرتب له مملكته، وجبى الأموال وجند له الجنود، حتى كثر ترفه، بحيث أخبرني من شاهده وقد ركب في موكب جليل وفي يده صليب من ياقوت أحمر، وقد قبض عليه ووضع يده على فخذه، فصار يبين ويظهر لهذا الصليب الياقوت طرفان كبيران من قبضته، فشرهت نفسه إلى أخذ ممالك الإسلام لكثرة ما وصف له هؤلاء من محاسنها، فبعث بالتوريزي التاجر ليدعو الفرنج للقيام معه، وأوقع في بمن مملكته من المسلمين، فقتل منهم وأسر وسبي عالماً عظيماً. وكان ممن أسر منصوراً ومحمداً، ولدى سعد الدين محمد بن أحمد علي بن ولصمع الجبرتي - ملك المسلمين بالحبشة، فعاجله الله بنقمته، وهلك في شهر ذي القعدة، فأقيم بعده ابنه اندراس بن إسحاق، فهلك لأربعة أشهر، فأقيم بعده عمه حزبناي بن داود بن سيف أرعد، فهلك في شهر رمضان سنة أربع وثلاثين، فأقيم بعده ابن أخيه سلمون بن إسحاق بن داود بن سيف أرعد، فكانت على أمحرة أربعة ملوك في أقل من سنة.(3/340)
وفي هذه المدة: ثار جمال الدين ابن الملك سعد الدين محمد بن أحمد بن علي بن ولصمع الجبرتي. وذلك أن سعد الدين محمد لما قام بأمر المسلمين أكثر من محاربة النصارى، واتسعت مملكته، وحارب الحطي غير مرة حتى استشهد بعد سنة عشر وثمانمائة، فتمزق أصحابه، وذهب ملكه، ولحق أولاده بزبيد، فأكرمهم ملك اليمن، ثم عادوا إلى الحبشة بعد سنين، فقام بالأمير صبر الدين علي بن سعد الدين مدة ثماني سنين ومات، فقام من بعده أخوه منصور بن سعد الدين بأمر المسلمين في بلاد الحبشة، وحارب الحطي مراراً آخرها في سنة ثمان وعشرين وثمانمائة، وقد سار إليه في عدد جم، وأوقع بالنصارى واقعة شنعاء، قتل فيها وأسر وسبي عالماً كبيراً، بحيث كان عدد من أسر عشرة آلاف، ورجع مظفراً منصوراً، فسار عليه الحطي في آلاف كثيرة وواقعه، فقتل من أمحرة أتباع الحلي خلق كبير، ولم يقتل من المسلمين سوى دون العشرين رجلاً، إلا أنه وقع في قبضة الحطي إسحاق بن داود بن سيف أرعد منصور بن سعد الدين، وأخوه محمد، وانهزم المسلمون، فقيدهما ورجع إلى مقر ملكه، وقد كاد يطير فرحاً، فلما قرب من مدينة الملك، أركب الملك المنصور كهيئته في مملكته، وسار في العساكر به حتى دخل المدينة، فأنزله وأخاه محمداً بدار وأجري لهم ما يليق بهما، ووكل بهما الحرس، فقام بأمر المسلمين بعد منصور أخوه جمال الدين بن سعد الدين، فلما مات الحطي إسحاق بن داود جمع جمال الدين المسلمين وأغار على بلاد أمحرة، فدوخ تلك البلاد، وقتل وأسر وسبي عالماً عظيماً، واستسلم منهم أمماً كثيرة، فأقر كل من أسلم ببلاده، وولى عليهم من قبله، فاتسع نطاق مملكته، وقويت عساكره، وكثرت أموالهم، وبعث بالسبي إلى الآفاق، فكثر الرقيق من العبيد والإماء ببلاد اليمن والهند وهرمز والحجاز ومصر والشام والروم، وظهر من ثبات جمال الدين وشجاعته وصرامته ومهابته وعدله ما يتعجب منه، بحيث أن بعض أولاده الصغار لعب مع صبيان من الحبشة، فضرب منهم صبياً كسر يده، فكتموا ذلك عنه مدة ثم بلغه الخبر، فجمع أعيان الدولة ولامهم على كتمان خبر ولده عنه، ثم أمر بولده فجيء به محمولاً على الكتف لصغره حتى يقتص به، فقام إليه الأعيان بأجمعهم يشفعون فيه ويلتزمون بإحضار أولياء الغريم، فلم يقبل شفاعتهم فيه، فأحضروا أبا الصبي وأهله، فأسقطوا حقهم، وتضرعوا إليه جهدهم في العفو عن ولده، فلم يجبهم، وأخذ ابنه بيده، ومد يده على حجر، وضرب عضده بحديده، فكسره، والأعيان قيام يبكون لبكاء الصغير، وهو يقول له: تألم كما آلمت هذا الصغير. ثم سار به الخدم وهو يصيح من الألم إلى أمه، حتى تمرضه فكان يوماً مهولاً، ولم يجسر بعد ذلك أحد في مملكته أن يظلم أحداً. وله من هذا النمط عدة أخبار، مع العفة والنسك والإستبداد بجميع أموره، وأمور مملكته، ووفور الحرمة، وقمع أهل الفساد، وإزالة المنكرات، فالله يؤيده بعونه.
وأما بلاد المغرب، فإن متملك فاس أبا زيد عبد الرحمن حفيد السلطان أبي سالم إبراهيم، ثار عليه السعيد أبو عبد الله محمد المعروف بالجبلي ابن أبي عامر عبد الله بن أبي سعيد عثمان بن أبي العباس أحمد بن أبي سالم إبراهيم بن أبي الحسن، في أوائل سنة ثمان وعشرين، وملك فاس، وقتله، وخرج إلى الشاوية فقتلوه، وأقيم ولده أبو عبد الله محمد، فقام الوزير صالح وبايع الناصر أبي علي بن أبي سعيد عثمان، فقدم أبو عمرو بن السعيد محمد بن عبد العزيز بن أبي الحسن من إفريقية، وملك فاس، ثم فر، فأعيد الناصر أبو علي، فعالجه أخوه أبو محمد عبد الحق بن أبي سعيد وملك فاس بعد قتال في آخر، شهر رجب، سنة ثلاث وثلاثين.
ومات في هذه السنة من الأعيان
ولى الدين محمد بن الدمياطي في ليلة الثلاثاء ثاني شهر ربيع الأول، وقد تجاوز الثمانين، ولى وكالة بيت المال ونظر الكسوة في الأيام الناصرية، ثم تعطل حتى مات، وكان قليل الشر. ومات شرف الدين أبو الطيب بن تاج الدين عبد الوهاب بن نصر الله في ليلة الأربعاء سابع عشر شهر ربيع الأول، ومولده في ليلة السبت خامس عشرين شهر ذي القعدة، سنة سبع وتسعين وسبعمائة. وكتب في الإنشاء، وولي نظر وقف الأشراف ونظر الكسوة، ودار الضرب، فشكرت سيرته.(3/341)
ومات كريم الدين عبد الكريم بن سعد الدين بركة، المعروف بابن كاتب جكم، ناظر الخاص، في ليلة الجمعة العشرين من شهر ربيع الأول. خدم أبوه بكتابة الديونة حتى باشر ديوان الأمير جكم، وترقى ابنه كريم الدين في الخدم الديوانية، وباشر استيفاء البولة ثم نظر الدولة ثم نظر الخاص. وكان مشكوراً، فيه خير وبر، وله صدقات كثرة. ومات الأمير أزبك الدوادار بالقدس، في يوم الثلاثاء سادس عشر شهر ربيع الأول، وهو أحد مماليك الظاهر برقوق. وكان غير مشهور بارتكاب الفواحش.
ومات الأمير كمشبغا القيسي بدمشق في رابع عشر شهر ربيع الآخر، وهو أحد الأمراء الناصرية فرج. وكان بها أمير أخور، ثم انحطت رتبته في الأيام المؤيدية، وأخرج إلى الشام ولم يشهر بشيء من غير. ومات الملك المظفر أحمد بن المؤيد شيخ المحمودي بثغر الإسكندرية، في ليلة الخميس آخر شهر جمادى الأولى، هو وأخوه إبراهيم، وحملا إلى القاهرة، بعدما دفنا بالثغر، في يوم الاثنين نصف شعبان، ودفنا بجوار أبيهما في القبة من الجامع المؤيدي، ولم يبق للمؤيد بعدهما ولد ذكر.
ومات الشريف علي بن عنان بن مغامس بن رميثة بن أبي نمي محمد بن حسن بن علي بن قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن حسن بن سليمان ابن علي بن عبد الله بن محمد بن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أمير مكة، وهو بالقاهرة، مطعوناً، في يوم الأحد ثالث جمادى الآخرة. وكان قد توجه بعد عزله إلى بلاد المغرب، فأكرمه أبو فارس عبد العزيز صاحب تونس، ثم عاد فطالت عطلته وإقامته بالقاهرة. وكان جميل المحاضرة، له معرفة بالأدب.
ومات الأمير بيبغا المظفري، في ليلة الأربعاء سادس جمادى الآخرة. وهو أحد المماليك الظاهرية، وترقي في الخدم حتى صار من أمراء الألوف في الأيام الناصرية فرج، ونكب وسجن مراراً، وعمل أتابك العساكر، وكان تركي الجنس، قوي النفس، لم يبك منه على دين ولا دنيا.
ومات الأمير برد بك أحد الألوف، في يوم الأحد، عاشر جمادى الآخرة.
ومات الأمير صارم الدين إبراهيم ابن الأمير الوزير ناصر الدين محمد بن الحسام الصقري، في ليلة الثلاثاء ثامن عشر جمادى الآخرة. وكان يتزيا بزي الأجناد، ويكتب الخط المنسوب، ويحب الأدب وأهل الفضائل، وباشر الحسبة في الأيام المؤيدية شيخ. ومات الأمير ناصر الدين محمد بن السلطان الملك الناصر فرج بن الظاهر برقوق بالإسكندرية في يوم الاثنين حادي عشره؛ وله من العمر إحدى وعشرون سنة، وأمه أم ولد، اسمها عاقولة.
ومات الأمير زين الدين قاسم ابن الأمير الكبير كمشبغا الحموي، أحد الحجاب، في ليلة الثلاثاء تاسع عشره.
ومات الشيخ يحيى سيف الدين يوسف بن محمد بن عيسى السيرامي، الحنفي، شيخ الظاهرية المستجدة، بين القصرين. وكان من أعيان الفقهاء الحنفية، وفضلائهم، أفتى ودرس عدة سنين.
ومات الخليفة أمير المؤمنين المستعين بالله أبو الفضل العباس بن المتوكل على الله أبي عبد الله محمد بن المعتضد بالله أبي الفتح أبي بكر بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان ابن الحاكم أبي العباس أحمد بن أبي علي الحسن بن أبي بكر العباسي بالإسكندرية، في يوم الأربعاء العشرين من جمادى الآخرة، و لم يبلغ الأربعين وترك ولداً ذكراً اسمه يحيى. وكان خيراً ديناً هيناً ليناً، حشماً، وقوراً، إلا أن الأيام لم تسعده، والأقدار، لم تساعده.
مات الأمير ناصر الدين محمد بن السلطان الملك الأشرف برسباي، في يوم الثلاثاء سادس عشرينه. وقد ترشح للسلطنة بعد أبيه، فدفن على أمه بالأشرفية المستجدة بالقاهرة.
مات الأمير الطواشي مرجان الهندي الخازندار، في سادس عشرين جمادى الآخرة، بلغ في أيام السلطان الملك المؤيد شيخ مبلغاً كبيراً من التمكن في الدولة، ثم انحط بعد موته.
ومات الأمير زين الدين عبد القادر أستادار ابن الأمير الوزير أستادار فخر الدين عبد الغني بن الأمير الوزير أستادار عبد الرزاق بن أبي الفرج، في يوم الأربعاء سابع عشرينه، ودفن على أبيه بمدرسته، وكان ساكناً ليناً محباً لأهل الخير.
ومات السلطان الملك الصالح محمد بن الظاهر ططر، في ليلة الخميس ثامن عشرينه، وانقرض بموته عقب ططر.(3/342)
ومات السيد الشريف شهاب الدين أحمد بن علاء الدين علي بن برهان الدين إبراهيم بن عدنان بن جعفر بن محمد بن عدنان الحسيني كاتب السر، في ليلة الخميس ثامن عشرين جمادى الآخرة. ومولده في سابع شوال سنة أربع وسبعين وسبعمائة بدمشق. ونشأ بها، وولي كتابة السر، وقضاء القضاة الشافعية، ونظر الجيش بها، ثم طلب وولي كتابة السر بديار مصر، فسار فيها أجمل سيرة، رحمه الله.
ومات تقي الدين يحيى بن العلامة شمس الدين محمد الكرماني الشافعي، في يوم الخميس ثامن عشرين جمادى الآخرة، وكان فاضلاً في عدة فنون، قدم من بغداد قبل سنة ثمانمائة، وأشهر شرح أبيه على البخاري، وصحب الأمير شيخ المحمودي، وسافر معه إلى طرابلس لما ولي نيابتها، وتقلب معه في أطوار تلك الفتن، وقدم معه القاهرة، فلما تسلطن، عمله ناظر المارستان المنصوري. وكان ثقيل السمع.
ومات الشريف سرداح بن مقبل بن نخبار بن مقبل بن محمد بن راجح بن إدريس بن حسن بن أبي عزيزة قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن حسن بن سليمان بن علي بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في آخر جمادى الآخرة، وولي أبوه مقبل ابن نخبار إمرة ينبع مدة، ثم وثب عليه ابن أخيه عقيل بن وبير بن نخيار وحاربه بأهل الدولة في سنة خمس وعشرين وثمانمائة، ثم قبض عليه وحمل إلى سجن الإسكندرية، فمات به، وكحل ابنه سرداح هذا حتى تفقأت حدقتاه وسالتا، وورم دماغه، نتن.
فتوجه بعد مدة من عماه إلى المدينة النبوية، ووقف عند قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم وشكا ما به، وبات تلك الليلة، وأصبح وعيناه أحسن ما كانتا. وذلك أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمسح عينيه بيده المقدسة، فانتبه وهو يبصر، واشتهر ذلك عند أهل المدينة، ثم قدم القاهرة، فشق ذلك على السلطان وأغضبه، واستدعى الذين تولوا كحله، وسمل عينيه، وضربهما. فأقاما عنده من أخبره. بمشاهدة الميل وقد أحمي في النار ثم كحل به فسألت حدقتاه بحضورهم، وكذلك أخبر أهل المدينة أنهم رأوه ذاهب الحدقتين، وأنه أصبح عندهم وهو يبصر، وقص عليهم رؤياه، فترك حاله حتى مات بالطاعون، فضم - أعزك الله - هذه إلى قضية عجلان بن نعير وأخواتها، وتنبه بها لإكرام الله تعالى لآل بيت نبيه صلى الله عليه وسلم عساك تقوم لهم ببعض ما يجب من حقوقهم، إن وفقك الله لذلك.
ومات الطبيب الفاضل جمال الدين يوسف بن البرهان إبراهيم بن عبد الله بن داود ابن أبي الفضل بن أبي المني بن أبي البيان الدواداري الإسرائيلي في أول شهر رجب، وقد أناف على التسعين.
ومات الأمير الطواشي فخر الدين ياقوت مقدم المماليك، في يوم الاثنين ثاني شهر رجب. وكان حبشي الجنس، وشهرته جميلة.
ومات الأمير سيف الدين يشبك أخو السلطان، في رابع رجب، وهو أحد الأمراء الألوف وماتت خوند هاجر ابنة الأمير منكلي بغا الشمسي، في رابع رجب، وأمها خوند فاطمة بنت الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون وتزوجها الظاهر برقوق بكراً، وحظيت عنده حتى مات. وهي آخر نسائه موتاً، و لم تعقب.
ومات الشيخ نصر الله بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل العجمي، في ليلة الجمعة سادس رجب. وكان قدم القاهرة بعد الثمانمائة على قدم التجريد، فصحب الأمراء حتى كثر ماله، وعين لكتابة السر، وكان يكتب الخط المنسوب، ويتكلم في علم التصوف على طريقة ابن العربي، وله مشاركة في فنون وعدة مصنفات.
ومات فخر الدين ماجد، ويدعى عبد الله بن السديد، أبي الفضائل بن سناء الملك المعروف بابن المزوق في ليلة الخميس ثاني عشر رجب. وولي كتابة السر ونظر الجيش في الأيام الناصرية، ثم ولي نظر الإصطبل، وتعطل بعد ذلك مدة.
ومات الشريف عماد الدين أبو بكر بن إبراهيم بن عدنان الحسيني في ليلة الجمعة ثالث عشر رجب، و لم يبلغ الأربعين. وكان قد قدم على أخيه السيد شهاب الدين أحمد، فوقع الوباء ومات أخوه، فباشر بعده، وتعين لكتابة السر، فقافصته المنايا، وعاجله ريب المنون، ومات رحمه الله.
ومات الشيخ زين الدين أبو بكر بن عمر بن عرفات بن عوض القمني، في ليلة الجمعة ثالث رجب، عن نحو الثمانين، وقد صار من أعيان الفقهاء الشافعية وفضلائهم، مع الديانة والنسك، رحمه الله.(3/343)
ومات أبو مسلم هابيل بن الأمير عثمان بن طر علي - المعروف بقرا يلك التركماني - في يوم الجمعة ثالث عشر رجب، وهو مسجون.
ومات صدر الدين أحمد بن جمال الدين محمود بن محمد بن عبد الله القيصري - المعروف بابن العجمي - في يوم السبت رابع عشر رجب. وقد ولي الحسبة بالقاهرة مراراً، وولي نظر الجيش بدمشق، وكان من فضلاء الحنفية، وله معرفة جيدة بالنحو.
ومات جلال الدين محمد بن بدر الدين محمد بن محمد بن مزهر، في ليلة الاثنين سادس عشرين رجب، عن نحو عشرين سنة. وولي كتابة السر بعد أبيه، فكان حظه منها الاسم.
ومات زين الدين محمد بن شمس الدين محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الملك الدميري، في يوم الأربعاء ثالث شعبان. وولي حسبة القاهرة ونظر البيمارستان المنصوري. وكان من الفقهاء المالكية، وله معرفة بالعربية.
ومات الأمير مدلج بن علي بن نعير بن حيار بن مهنا، أمير آل فضل، مقتولاً، في ثاني عشر شوال، بظاهر حلب.
ومات شيخ الرفاعية الشيخ نور الدين علي في العشرين من جمادى الآخرة عن خمس وستين سنة.
ومات شمس الدين محمد بن المعلمة السكندري، في سابع شعبان. وولي حسبة القاهرة.
سنة أربع وثلاثين وثمانمائة
أهل شهر الله المحرم بيوم الأربعاء: والأسعار رخيصة؛ القمح كل أردبين - وشيء - بدينار، والشعير والفول كل أربعة أرادب بدينار هرجة.
وفي يوم الخميس عاشره - وثاني بابة - : انتهت زيادة النيل إلى تسعه عشر ذراعاً وعشرين إصبعاً، ونقص من الغد.
وفي ثامن عشره: قدم الأمراء المجردون، وهم قرقماش حاجب الحجاب، وأركماس الدوادار، وبقية الأمراء.
وفي ثالث عشرينه: قدم ركب الحاج الأول، وقدم المحمل ببقية الحاج في رابع عشرينه، وقد هلك كثير منهم - ومن جمالهم وحميرهم - عطشاً فيما بين أكره وينبع، وهم متوجهون إلى مكة.
وفي سابع عشرينه: برز الأمراء المجردون إلى ظاهر القاهرة، وهم الأمير الكبير شارقطلوا، والأمير أينال الجكمي، والأمير تمراز الدقماقي، والأمير أقبغا التمرازي، والأمير مراد خجا، في عدة من أمراء الطبلخاناه والعشرات، ومن المماليك السلطانية خمسمائة مملوك، وسبب تجردهم أن قرا يلك نزل في أول هذا الشهر على معاملة ملطية فنهبها وحرقها، وحصر ملطية، فخرج إليه الأمير سودن من عبد الرحمن نائب الشام بالعساكر الشامية، وأردف بالعسكر المذكور.
شهر صفر، أوله الجمعة: فيه رسم بعود الأمراء والمماليك المجردين فرجعوا من خانكاه سريا قوس، واستعيدت منهم النفقات التي أنفقت فيهم، فاحتاجوا إلى رد الأمتعة والأزواد على من ابتاعوها منهم، واحتاجوا إلى استعادة ما أنفقوه على غلمانهم، وقد تصرف الغلمان فيما أخذوه، فاشتروا منه احتياجهم، ودفعوا منه إلى أهاليهم، فنزل من أجل هذا بالناس ضرر كبير. وفي هذا الشهر: نزل الفول إلى خمسين درهماً الأردب، والشعير إلى ستين درهماً الأردب، والقمح إلى مائة وثلاثين درهماً الأردب. هذا والذهب. بمائتين وثمانين درهماً الدينار. وفي يوم الاثنين حادي عشره ركب السلطان من قلعة الجبل في موكب جليل ملوكي، احتفل له، ولبس قماش الركوب كما كان يلبس الظاهر برقوق، وهو قباء أخضر. بمقلب أحمر، وعلى رأسه كلفتاه، وجر الجنائب، وصاحت الجاويشية وهو سائر، وحوله الطبردارية، حتى عبر من باب زويلة، فشق القاهرة وخرج من باب الشعرية يريد الصيد، فبات ليلة الثلاثاء وعاد يوم الثلاثاء آخر النهار. و لم يركب منذ تسلطن للصيد سوى هذه الركبة.(3/344)
وكانت الدراهم الأشرفية التي يتعامل الناس بها في القاهرة ومصر، ويصرف كل درهم منها بعشرين من الفلوس - زنتها رطل وأوقية وثلث أوقية - قد كثر فيها أنواع من الدراهم، وهي البندقية ضرب الفرنج، والقرمانية ضرب بني قرمان أصحاب الروم، واللنكية ضرب بلاد العجم، والقبرسية ضرب قبرس، والمؤيدية التي ضربت في الأيام المؤيدية شيخ، والدراهم الزغل وهي عمل الزغلية فترد عند النقد لكثرة ما فيها من الغش، فنودي في يوم الأحد رابع عشرينه أن لا يتعامل بشيء من الدراهم سوى الأشرفية. وكان قد نودي. بمثل ذلك فيما تقدم، وعمل به الناس مدة، ثم ترخصت الباعة في التعامل بها كلها، لما جمعوه منها في أيام النهي عنها، حتى مشت في أيدي الناس، وتعاملوا بها، فلما نودي بالمنع منها عاد الأمر كما كان، فخسر أناس عدة خسارات، وأخذت الباعة وغيرها في جمعها لتتربص بها مدة، ثم تخرجها شيئاً فشيئاً، لعلمهم أن الدولة لا تثبت على حال، وأن أوامرها لا تمضي.
في خامس عشرينه: ركب السلطان للصيد، ورمي الجوارح، وعاد من الغد. وتكرر ركوبه لذلك مراراً.
وفي هذا الشهر: توقف التجار في أخذ الذهب، من كثرة الإشاعة بأنه ينادي عليه، فنودي في يوم السبت سلخه أن يكون سعر الدينار الأشرفي. بمائتين وخمسة وثلاثين، والمشخص بمائتين وثلاثين، وهدد من زاد على ذلك بأن يسنبك في يده، فعاد الضرر في الخسارة على كثير من الناس، لانحطاط سعر الدينار خمسين درهماً.
شهر ربيع الأول، أوله السبت: في رابعه: جمع الصيارفة والتجار، وأشهد عليهم أن لا يتعاملوا بالدراهم القرمانية، ولا الدراهم اللنكية، ولا القبرسية، وأن هذه الثلاثة أنواع تباع بالصاغة على حساب وزن كل درهم منه بستة عشر درهماً من الفلوس، حتى يدخل بها إلى دار الضرب، وتعمل دراهم أشرفية خالصة من الغش، ونودي بذلك وأن تكون المعاملة بالدراهم الأشرفية والدراهم المؤيدية، والدراهم البندقية، فإن هذه الثلاثة فضة خالصة ليس فيها نحاس بخلاف الدراهم التي منع من المعاملة بها، فإن عشرتها إذا سبكت تجيء ستة، لما فيها من النحاس. واستقر الذهب الأشرفي. بمائتين وثمانين، والأفرنتي. بمائتين وسبعين، وأخذت الدنانير الأفرنتية في القلة، لكثرة ما يسبك منها في دار الضرب، وتعمل دنانير أشرفية، فإنها بوزن الأفرنتية، وسعرها عشرة دراهم على الأفرنتي.
في تاسعه: ركب السلطان للصيد، وعاد من الغد.
شهر ربيع الآخر، أوله الأحد: أهل هذا الشهر والسلطان والأمراء في الاهتمام بحركة السفر لمحاربة قرا يلك والأسعار رخيصة جداً.
وفي سادسه: برز الأمير شاهين الطويل - أحد الأمراء العشرات - ليسير إلى طريق الحجاز، ومعه كثير من البناة والحجارين والآلات والأزواد والأمتعة، لإصلاح المياه التي فيما بين القاهرة ومكة، وحفر آبار في المواضع المعطشة، فساروا في نحو المائة بعير.
وفي سابعه: نودي بأن الفضة على ما رسم به، وأن لا يتعامل بالقرمانية ولا اللنكية، وأن الدينار الأشرفي بمائتين وثلاثين، والأفرنتي بمائتين وخمسة وعشرين. وحذر من خالف ذلك، فتزايدت المضرة لكثرة التناقض، وعدم الثبات على الأمر، واستخفاف العامة براعيها، وقلة الاهتمام بما يرسم به.
شهر جمادى الأولى، أوله الثلاثاء: في سابعه: برز سعد الدين إبراهيم بن المرة ناظر جدة يريد التوجه إلى مكة فسار معه ركب فيه جماعة ممن يريد الحج والعمره، تبلغ عدة جمالهم نحو الألف وخمسمائة جمل، ثم رفعوا من بركة الحاج في ثاني عشره، فلما وصلوا إلى الوجه - وكنت فيهم بأهلي - وجدنا فيما بين الوجه وأكره عدة موتى، ما بين رجال ونساء، ممن هلك في عطشة الحاج، فدفن منهم نحو الألف، وترك ما شاء الله.
وفي رابع عشرينه: خلع على قاضي القضاة شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن حجر، وأعيد إلى قضاء القضاة بديار مصر، عوضاً عن قاضي القضاة علم الدين صالح ابن البلقيني.
شهر جمادى الآخرة، أوله الأربعاء:(3/345)
في تاسع عشره: عارض ركب المعتمرين رفقة ابن المرة عرب زبيد، فانحنا في غير وقت النزول، وكادت الفتنة أن تثور، حتى صولحوا على مائة دينار، قام بها ابن المرة من ماله، ولم يكلف أحد وزن شيء، فلما نزلنا رابغ أهلينا بالعمرة، ونحن على تخوف وسرنا، فبينما نحن فيما بين الجرينات وقديد أغار علينا، ونحن سائرون ضحى، الشريف زهير بن سليمان بن زيان بن منصور بن جماز بن شيحة الحسيني، في نحو مائة فارس وعدة كثيرة من المشاة، وقاتلنا فقاتله القوم صدراً من النهار، والجمال مناخة بأحمالها، فقتل منا رجلان، ومن العرب نحو العشرة، وجرح كثير، ثم وقع الصلح معه على ألف ومائة دينار أفرنتية، وعلى ثياب جوخ وصوف وعبي بنحو أربعمائة دينار، فكف الناس عن القتال بعد ما تعين الظفر لزهير، وبتنا بأنكد ليلة من شدة الخوف، والمال يجبى من كل أحد بحسب حاله، فمنهم من جبي منه مائة دينار، ومنهم من أخذ منه دينار واحد، وحمل ذلك من الغد، وسرنا فقدمنا مكة ولله الحمد في يوم الثلاثاء ثامن عشرينه، فكانت مدة سيرنا من القاهرة إلى مكة - شرفها الله تعالى - ستة وأربعين يوماً.
وفي هذا الشهر: استقر جانبك الناصري الإسكندرية، بعد موت الأمير شهاب الدين أحمد الدوادار، وأصله من مماليك الأمير يلبغا الناصري، ثم عمل في الأيام المؤيدية رأس نوبة المقام الناصري إبراهيم ابن السلطان، وصار من جملة الأمراء وولي كشف الجسور بالغربية.
وفيه أندر المنجمون بكسوف الشمس، فنودي بالقاهرة أن يصوم الناس ويفعلوا الخير، فلم يظهر الكسوف، ووقع الإنكار على من أنذر به، ثم قدم الخبر بحدوث كسوف الشمس بجزيرة الأندلس، حتى استولى على جرم الشمس كله، إلا مقدار الثمن منه، وذلك بعد نصف النهار من ثامن عشرينه.
شهر رجب، أوله السبت: في سابع عشره: أدير محمل الحاج على العادة.
شهر شعبان، أوله الاثنين:(3/346)
في حادي عشره: كانت زلزلة عظيمة شديدة، بعد صلاة الظهر، بجزيرة الأندلس، وبمرج أغرناطة، سقطت بها أبنية كثيرة على سكانها فهلكوا، وخسف بثلاث بلاد كبيرة في مرج أغرناطة - وهي بلد همدان وبلد أوطورة وبلد دارما - فابتلعت الأرض هذه البلاد بأناسها وبقرها وغنمها وسائر ما فيها، حتى صار من يمر من حولها يقول كان هنا بلد كذا وبلد كذا، وانخسف في كثير من البلاد عدة مواضع، وسقط نصف قلعة أغرناطة، وتهدم كثير من الجامع الأعظم، وسقط أعلى منارته، ورؤى حائط الجامع يرتفع ثم يرجع، ومقدار ارتفاعه نحو عشرة أذرع، ارتفع كذلك مرتين، وخاف رجل عند حدوث الزلزلة، فأخذ ابنه وأراد أن يخرج من باب داره، فالتصق جانبا الباب، وانفرج الحائط فخرج من ذلك الفرج هو وابنه وامرأته، فعاد الحائط كما كان، وتراجع جانبا الباب إلى حالهما قبل الزلزلة، وأقامت الأرض بعد ذلك نحو خمسة وأربعين يوماً تهتز، حتى خرج الناس إلى الصحراء ونزلوا في الخيم خوفاً من المدينة أن تسقط مبانيها عليهم، وكان هذا كله بعد وصول السلطان المخلوع أبي عبد الله محمد الأيسر من تونس إلى الأندلس، وحصره قلعة أغرناطة سبعة أشهر، وقتله الأجناد والرجال حتى فنيت العدد والأموال، فبلغ ذلك ملك قشتالة الفنشي فجمع عساكره من الفرنج، وركب البحر إلى قرطبة يريد أخذ أغرناطة من المسلمين، فاشتد البلاء عليهم لقلة المال بأغرناطة، وفناء عسكرها في الفتنة، وموت من هلك في الزلزلة، وهم زيادة على ستة آلاف إنسان، ونزل الفرنج عليهم، فلقوهم في يوم الجمعة عاشر رمضان من هذه السنة، وقاتلوهم يومهم ومن الغد، قتل من المسلمين نحو الخمسة عشر ألف، وألجأهم العدو إلى دخول المدينة، وعسكر بإزائها على بريد منها، وهم نحو خمسمائة وثمانين ألف، وقد اشتد الطمع في أخذها، فبات المسلمون ليلة الأحد في بكاء وتضرع إلى الله، ففتح عليهم الله تعالى، وألهمهم رشدهم، وذلك أن الشيخ أبا زكريا يحيى بن عمر ابن يحيى بن عمر بن عثمان بن عبد الحق - شيخ الغزاة - خرج من مدينة أغرناطة في جمع ألفين من الأجناد، وعشرين ألفاً من المطوعة، وسار نصف الليل على جبل الفخار. حتى أبعد عن معسكر الفرنج إلى جهة بلادهم، ورفع إمارة في الجبال يعلم بها السلطان بأغرناطة، فلما رأى تلك العلامات من الغد خرج يوم الأحد، بجميع من بقي عنده إلى الفرنج، فثاروا لحربهم، فولى السلطان بمن معه من المسلمين، كأنهم قد انهزموا، والفرنج، تتبعهم، حتى قاربوا المدينة، ثم رفعوا الأعلام الإسلامية، فلما رآها الشيخ أبو زكريا نزل بمن معه إلى معسكر الفرنج، وألقي فيه النار، ووضع السيف فيمن هنالك، فقتل وأسر وسبى، فلم يدع الفرنج إلا والصريخ قد جاءهم، والنار ترتفع من معسكرهم، فتركوا أهل أغرناظة ورجعوا إلى معسكرهم، فركب السلطان بمن معه أقفيتهم، يقتلون ويأسرون، فبلغت عدة من قتل من الفرنج ستة وثلاثون ألفاً، ولحق باقيهم ببلادهم، بعد ما كادوا أن يملكوا أغرناطة.
وبلغت عدة من أسر المسلمون من الفرنج نحو اثني عشر ألفاً، ويقول المكثر إنه قتل ومات وأسر من الفرنج في هذه الكائنة زيادة على ستين ألفاً. وكان سبب هذه الحادثة أنه وقع بين ملك القطلان صاحب برجلونة، وبين ملك قشتالة صاحب أشبيلية وقرطبة، فجمع القشتيلي، وسار لحرب القطلاني، حتى تلاقى الجمعان، فمشى الأكابر بين الملكين في الصلح، فاعتذر القشتيلي بأنه أنفق في حركته مالاً كثيراً، فأشير عليه بأخذ ما أنفقه من المسلمين، بأن يغزوهم فإنهم قد ضعفوا، وما زالوا حتى تقرر الصلح، ونزل على أغرناطة، وكان ما تقدم ذكره.
وفي شهر رمضان: هذا ابتدأت في إسماع كتاب إمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأحوال والحفدة والمتاع صلى الله عليه وسلم من أول يوم فيه بقراءة - المحدث الفاضل تقي الدين محمد بن محمد بن فهد الهاشمي، بالمسجد الحرام تجاه الميزاب، وكان جمعاً موفوراً. شهر شوال، أوله الثلاثاء: في يوم الأربعاء تاسعه - الموافق لسادس عشرين بؤونة - : أخذ قاع النيل، فجاء ستة أذرع وثلاثة أصابع، ونودي عليه من الغد بزيادة ثلاثة أصابع، واستمرت الزيادة.(3/347)
وفي حادي عشرينه: خرج محمل الحاج إلى الريدانية خارج القاهرة، صحبة الأمير قرا سنقر، ورفع منها إلى بركة الحجاج، وحج القاضي زين الدين عبد الباسط ناظر الجيش، عظيم الدولة ومدبرها، وحجت خوند جلبان زوجة السلطان أم ولده، في تجمل كبير بحسب الوقت.
وفي هذا الشهر: اتفقت حادثة غريبة، وهو أنه اجتمع بأجران كوم النجار بالغربية، من الفيران، عدد لا يحصيه إلا الله تعالى، واقتتلوا من العصر إلى قريب عشاء الآخرة، فوجد من الغد نحو خمسة آلاف فار ميت، فجمعوا، وأحرقوا، وأفسد الفار مقاتي البطيخ ونحوه، وأكلوا الغلال وهي في سنبلها، وأكلوا أكثر ما في جرون نواحي الغربية، بحيث أن بعض النواحي لم ترد بذارها وكان يجتمع في المواضع الواحد أكثر من ثلاثمائة فأر.
شهر ذي القعدة، أوله الخميس: في يوم الاثنين ثاني عشره - الموافق له تاسع عشرين أبيب - : كان وفاء النيل ستة عشر ذراعاً. وركب الأمير قرقماس حاجب الحجاب حتى خلق المقياس وفتح الخليج على العادة.
وفيه زاد النيل اثني عشر إصبعاً من الذراع السابعة عشر، وفي هذا نادرتان من نوادر النيل، إحداهما الوفاء قبل مسرى، وقد أدركنا ذلك وقع مرتين. والثانية زيادة هذا القدر في يوم الوفاء ولم يدرك مثل ذلك، واستمرت زيادة النيل والنداء عليه في كل يوم.
وفي هذا الشهر: استجد بعيون القصب من طريق الحجاز بئر حفرت بإشارة القاضي زين الدين عبد الباسط، فعظم النفع بها. وذلك أنني أدركت عيون القصب، وتخرج من بين الجبلين ماء يسيح على الأرض، فينبت فيه القصب الفارسي وغيره شيء كثير، ويرتفع في الماء حتى يتجاوز قامة الرجل في عرض كبير، فإذا نزل الحاج عيون القصب أقاموا يومهم على هذا الماء يغتسلون منه ويردون ثم انقطع هذا الماء، وجفت تلك الأعشاب فصار الحاج إذا نزل هناك، احتفروا حفائر يخرج منها ماء رديء إذا بات ليلة واحدة في القرب نتن فأغاث الله العباد بهذه البئر، وخرج ماؤها عذباً. وكان قبل ذلك بنحو شهرين قد حفر الأمير شاهين الطويل بئرين بموضع يقال له زعم وقبقاب وذلك أن الحاج كان إذا ورد الوجه، تارة يجد فيه الماء، وتارة لا يجده. فلما هلك الناس من العطش في السنة الماضية، بعث السلطان بشاهين هذا كما تقدم ذكره، فحفر البئرين بناحية زعم، حتى لا يحتاج الحاج إلى ورود الوجه، فيروي الحاج منهما، وعم الانتفاع بهما، وبطل سلوك الحاج على طريق الوجه من هذه السنة.
شهر ذي الحجة، أوله السبت: في ثاني عشرينه: خلع على تاج الدين عبد الوهاب بن الخطير، واستقر في نظر الديوان المفرد، عوضاً عن الصاحب تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم بعد موته. وابن الخطير هذا من نصارى القبط، وله بيتوته مشهورة. كان اسمه جرجس، وتلقب بالشيخ التاج، وترقى في الخدم الديوانية، وباشر ديوان الأمير برسباي في الأيام المؤيدية شيخ، فألزمه بالإسلام، فأسلم وتسمى تاج الدين عبد الوهاب، وخدم بديوان الخاص وبالديوان المفرد، فلما تسلطن الأشرف برسباي، رقاه، وولاه نظر الاصطبل، عوضاً عن بدر الدين محمد بن مزهر لما ولاه كتابة السر، وأضاف إليه عدة رتب، منها أستادار المقام الناصري ابن السلطان، فشكرت سيرته من عفته وأمانته ورفقه بالفلاحين، ولين جانبه، وحسن سياسته، مع كثرة بره وإحسانه، بحيث لا يوجد في أبناء جنسه من يدانيه فكيف يساويه. وإن أراد الله عمارة البلاد جعل إليه تدبير أمرها.
وفي يوم السبت سلخه: قدم مبشرو الحاج، وقد مات كبيرهم الأمير فارس بينبع، وكان مجرداً. بمكة على طائفة من المماليك، وهو أحد أمراء العشرات.
ومات في هذه السنة من الأعيان
مجد الدين إسماعيل بن أبي الحسن بن علي بن عبد الله البرماوي الشافعي، في يوم الأحد خامس عشر ربيع الآخر. ومولده في حدود الخمسين وسبعمائة. مهر في الفقه والعربية، وعدة فنون، وتصدى للأشغال سنين كثيرة، وخطب بجامع عمرو بن العاص بمصر.
ومات الأمير شهاب الدين أحمد الدوادار بن الأقطع نائب الإسكندرية، في يوم الأحد تاسع عشر جمادى الآخرة كان أبوه من الأوشاقية في الاصطبل السلطاني. وترقى أحمد هذا في الخدم حتى اتصل بالأمير برسباي، وعمل دواداره، فرقاه في سلطته، وعمله من جملة الأمراء، ثم ولاه نيابة الإسكندرية.(3/348)
ومات برهان الدين إبراهيم بن علي بن إسماعيل بن الظريف أمين الحكم، في يوم السبت خامس عشر شوال، عن نحو ستين سنة.
ومات سراج الدين عمر بن منصور البهادري في يوم السبت ثاني عشر شوال وقد برع في الفقه والنحو، وناب في الحكم عن القضاة الحنفية، وانفرد بالتقدم في علم الطب، فلم يخلف بعده مثله.
ومات الصاحب تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم، في يوم الخميس العشرين من ذي الحجة. وقد ولي أستادار وولي الوزارة، ونكب غير مرة.
سنة خمس وثلاثين وثمانمائة
شهر الله المحرم، أوله الأحد: في عاشره - الموافق لعشرين مسرى - : انتهت زيادة النيل إلى عشرين ذراعاً واثني عشر إصبعاً، ثم نقص خمسة عشر إصبعاً، وزاد ونقص إلى حادي عشرينه، وهو أول بابه. ثم لم يناد عليه لاستمرار النقص.
وفي ثاني عشرة: قدم الأمير طرباي نائب طرابلس، فأكرمه السلطان وأعاده إلى محل كفالته، فسار بعد خمسة أيام.
وفي ثالث عشرينه: قدم القاضي زين الدين عبد الباسط، وصحبته خوند جلبان، وبقية الركب الأول، وقدم بعدهم من الغد محمل الحاج صحبة الأمير قرا سنقر، وقدمت معهم، وقد عسف الأمير الناس في المسير، مع ما أصابهم من العطش في توجههم.
شهر صفر، أوله الثلاثاء: في خامسه: انتشر بآفاق السماء جراد كثير، كفى الله شره.
وفي نصفه: خلع على الأمير أقبغا الجمالي، وأعيد إلى كشف الوجه القبلي، عوضاً عن مراد خجا، وقد ساءت سيرته، ومبالغته في ظلم الناس.
وقدم الخبر بأن الخراب شمل البلاد من توريز إلى بغداد، مسيرة خمسة وعشرين يوماً بالأثقال، وأن الجراد وقع بتلك البلاد حتى لم يدع بها خضراً، مع شدة الوباء وانتهاب الأكراد ما بقي، وأن الغلاء شنع عندهم حتى أبيع المن من لحم الضأن - وهو رطلان بالمصري - بدينار ذهب، وأبيع لحم الكلب كل من بستة دراهم، وقد كثر الوباء ببغداد والجزيرة وديار بكر، ومع ذلك فقد عظم البلاء بأصبهان بن قرا يوسف بناحية الحلة والمشهد.
شهر ربيع الآخر، أوله الجمعة: في سابع عشره: نزل عدة من المماليك السلطانية - سكان الطباق - من قلعة الجبل، إلى دار الوزير كريم الدين بن كاتب المناخ أستادار، يريدون الفتك به، وكان علم من الليل، فتغيب واستعد، فلم يظفروا به ولا بداره، وعادوا، وقد أفسدوا فيما حوله فسأل الإعفاء من الأستادارية، فأعفى واستدعى الوزير صاحب بدر الدين حسن بن نصر الله في يوم السبت ثالث عشرينه، وخلع عليه، وأعيد إلى الأستادارية. فكان في ذلك موعظة، وهي أن المماليك كانت جراياتهم ولحومهم وجوامكهم وعليقهم مصروفة، ولا يخطر ببال أحد عزل ابن كاتب المناخ لثباته وسداد أمور الديوان في مباشرته، وانقطاع ابن نصر الله في بيته منذ نكب عدة سنين، فألقى الله في نفس ابن كاتب المناخ الخوف من المماليك، حتى طالب الإعفاء، وألهم الله السلطان ذكر ابن نصر الله، فبعث إليه بالقاضي زين الدين عبد الباسط، والوزير كريم الدين، وسعد الدين ناظر الخاص في يوم الأربعاء يسلمون عليه من قبل السلطان، ويعلموه بأنه عينه أستاداراً، فاعتذر بقلة ماله، وتغير أحواله، وهم يرددون سؤاله في القبول، ويشيرون عليه بذلك، ويحذرونه من المخالفة، فاستمهلهم حتى يستخير الله، فتركوه وانصرفوا، فأشار عليه من يثق به أن يقبل فأجاب، وأرسلوا إليه، فوافقهم على رأيهم.
وفي سابع عشرينه: نودي بأن لا يسافر أحد صحبة ابن المرة إلى مكة، فشق ذلك على الناس لتجهز كثير منهم للسفر.
شهر جمادى الأولى، أوله السبت: في ثامنه: خلع على سعد الدين إبراهيم بن المرة خلعة السفر إلى جدة وحذر من أخذ أحد معه، خوفاً عليهم من العرب.
وفي ليلة الجمعة رابع عشره: خسف جرم القمر جميعه مدة ثلاث ساعات من أول الليل.
وفي سادس عشره: ابتدئ بهدم قصر بيسري بين القصرين، وكان قد أخذ رخامه وعمل في داير الأشرفية المستجدة.
وفي خامس عشرينه: ركب السلطان من القلعة، وعبر القاهرة من باب زويلة، ونزل في بيت عظيم الدولة القاضي زين الدين عبد الباسط، ثم ركب منه بعد ساعة إلى بيت سعد الدين إبراهيم ناظر الخاص، فجلس عنده قليلاً، وعاد إلى القلعة، وأكثر في هذا الشهر - بل في هذه السنة - من الركوب وعبور القاهرة، وإلى الصيد والنزهة، بخلاف ما كان عليه أولاً.(3/349)
وفي سادس عشرينه: حمل القاضي زين الدين عبد الباسط، والقاضي سعد الدين ناظر الخاص إلى السلطان تقادم جليلة.
وفي هذه الأيام: قدم بيرم التركماني الصوفي صاحب هيت فاراً من أصبهان بن قرا يوسف، وقد قتل السلطان حسين، وملك الحلة، فخرج بيرم من هيت في ستمائة من أصحابه، فيهم ثلاثمائة فارس، فلقيته غزية عرب تلك البلاد، فأخذوا من كان معه، وكان جمعاً غفيراً ما بين تجار وغيرهم ونجا في طائفة معه، فأكرمه السلطان، وأنزله وأجرى له راتباً يليق به، ثم أقطعه بناحية الفيوم إقطاعاً معتبراً.
شهر جمادى الآخرة، أوله الاثنين: في ثانيه: عزل الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، ورسم لأقبغا الجمالي كاشف الوجه القبلي أن يتحدث في وظيفة الأستادارية، ثم خلع عليه من الغد، ولزم ابن نصر الله داره. وسبب ذلك لما بلغ أقبغا عزل ابن كاتب المناخ من الأستادارية سأل في الحضور، فأجيب، وقدم، فسعى في الأستادارية على أن يحمل عشرة آلاف دينار، إن سافر السلطان إلى الشام حمل معه نفقة شهرين، وهي مبلغ أربعين ألف دينار، فأجيب، وأبقى الكشف أيضاً معه، وأضيف إليه كشف الوجه البحري.
وفي عاشره: برز سعد الدين بن المرة يريد السفر إلى جدة، ثم رحل في ثاني عشره، ولم يمكن أحداً من السفر معه، فلم يتمكن إلا إلزامه وحاشيته.
وفي سابع عشرينه: خلع على بدر الدين محمود العينتابي، وأعيد إلى قضاء القضاة الحنفية، عوضاً عن زين الدين عبد الرحمن التفهني، وقد طالت مدة مرضه، فباشر القضاء والحسبة ونظر الأحباس جميعاً.
شهر رجب، أوله الثلاثاء: فيه خلع على الأمير صلاح الدين أستادار ابن الأمير الوزير الصاحب بدر الدين حسن ابن نصر الله، واستقر محتسب القاهرة، عوضاً عن قاضي القضاة بدر الدين محمود العنتابي. وكان الأمير صلاح الدين - منذ نكب هو ووالده - ملازماً لداره، وعمل مع الحسبة حاجباً.
وفي ثالثه: أدير محمل الحاج على العادة، إلا أنه عجل به في أول الشهر لأجل حركة السلطان إلى سفر الشام، فإنه تجهز لذلك هو وأمراؤه.
وفي عشرينه: قدم الأمير سودن من عبد الرحمن نائب الشام باستدعاء، وقدم معه قاضي كمال الدين محمد بن البارزي كاتب السر بدمشق، فباتا في تربة الظاهر برقوق خارج القاهرة، وصعدا من الغد إلى قلعة الجبل، وقبلا الأرض، فلما انقضت الخدمة نزل النائب إلى بيته ولم يخلع عليه، فعلم أنه معزول، وخلع عليه من الغد واستقر أميراً كبيراً عوضاً عن الأمير شارقطلوا، وخلع على شارقطلوا واستقر عوضه في نيابة الشام، ورسم بإبطال الحركة إلى السفر، فبطلت.
شهر شعبان، أوله الأربعاء: فيه خلع على الأمير شارقطلوا نائب الشام خلعة السفر، وتوجه إلى مخيمه خارج القاهرة، وخلع على القاضي كمال الدين بن البارزي خلعة السفر، ثم خلع عليه من الغد يوم الجمعة ثالثه، واستقر قاضي القضاة الشافعية بدمشق، عوضاً عن شهاب الدين أحمد بن المحمرة، مضافاً لما بيده من كتابة السر، ولم يعهد مثل ذلك في الجمع بين القضاء وكتابة السر، إلا أنه أخبرني - أدام الله رفعته - أن والده المرحوم ناصر الدين محمد بن البارزي جمع بين قضاء حماة وكتابة السر بها.
شهر رمضان، أوله الخميس: في يوم الثلاثاء ثالث عشره: خلع على الأمير أقبغا الجمالي أستادار، وسبب ذلك أنه سافر إلى بلاد الصعيد، فعاث في البلاد عيث الذئب في زريبة غنم، فصادر أهلها وعاقبهم أشنع عقوبة، حتى أخذ أموالهم، وتعتع ما بقي من الإقليم، فشنعت القالة فيه، فوعد لما قدم أن يحمل عشرين ألف دينار، فحاققه القاضي تاج الدين عبد الوهاب بن الخطير ناظر الديوان المفرد على ما أخذ من أموال النواحي، حتى تسابا بين يدي السلطان، فرسم بمحاسبته، فحقق في جهته خمسة عشر ألف دينار، فخلع عليه تقوية له، ونزل على أنه يحمل ما وجب عليه.
وفي هذه الأيام: أوقعت الحوطة على فلفل التجار بالقاهرة ومصر والإسكندرية، ليشتري للسلطان من حساب خمسين ديناراً الحمل، وكان قد أبيع عليهم فلفل السلطان في أول هذه السنة بسبعين ديناراً الحمل، ورسم بأن يكون الفلفل مختصاً بمتجر السلطان، لا يشتريه من تجار الهند الواردين إلى جدة غيره، ولا يبيعه لتجار الفرنج القادمين إلى ثغر الإسكندرية سواه، فنزل بالتجار من ذلك بلاء كبير.(3/350)
وفي سادس عشرينه: خلع على دولات خجا، واستقر في ولاية القاهرة، عوضاً عن التاج الشويكي وأخيه عمر. ودولات هذا أحد المماليك الظاهرية، وولي كشف الوجه القبلي فتعدى الحدود في العقوبات، وصار ينفخ بالكير في دبر الرجل حتى تنذر عينيه وتنفلق دماغه إلى غير ذلك من سيء العذاب، ثم ولي كشف الوجه البحري، وكان التاج قد ترفع عن مباشرة الولاية، وأقام فيها أخاه عمر، فشره في المال، حتى كان كلما أتاه أحد بسارق أخذ منه مالاً وخلى عنه، فأمن السراق في أيامه على أنفسهم، وصاروا له رعية يجبى منهم ما أحب، فلما ولي دولات خجا بدأ بالإفراج عن أرباب الجرائم من سجنهم، وحلف لهم أنه متى ظفر بأحد منهم وقد سرق ليوسطنه، رهب إرهاباً زائداً، وركب في الليل، وطاف، وأمضى وعيده في السراق، فما وقع له سارق إلا وسطه، فذعر الناس منه.
وفيه خلع على عمر أخي التاج، واستقر من جملة الحجاب، ليرتفق بمطالع العباد على بلوغ أغراضه ونيل شهواته.
وأكثر دولات خجا من الركوب ليلاً ونهاراً بفرسانه ورجالته، وألزم الباعة بكنس الشوارع، ثم رشها بالماء، وعاقب على ذلك، ومنع النساء من الخروج إلى الترب في أيام الجمع.
وفي هذا الشهر: أجريت العين حتى دخلت إلى مكة، بعد ما ملأت البرك داخل باب المعلاه، ومرت على سوق الليل إلى الصفا وانتهت إلى باب إبراهيم، وساحت من هناك فعم النفع بها، وكثر الخير، لشدة احتياج الناس بمكة، إلى الماء، وقلته أحياناً، وغلاء سعره وتولى ذلك سراج الدين عمر بن شمس الدين محمد بن المزلق الدمشقي، أحد التجار وأنفق فيه من ماله جملة وافرة.
شهر شوال، أوله السبت: في ثالثه: قدم النجاب من دمشق بجواب الأمير شارقطلوا نائب الشام يعتذر عن حضور قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن الكشك. وكان قد كتب بحضوره ليستقر في كتابة السر، عوضاً عن شهاب الدين أحمد بن السفاح بعد موته، ويحمل عشرة آلاف دينار، فامتنع من ذلك واحتج بضعف بصره وآلام تعتريه، فاستدعى السلطان عند ذلك الوزير الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ، ورسم له بكتابة السر.
فلما أصبح يوم الثلاثاء رابعه: خلع عليه خلعة الوزارة، واستقر في كتابة السر مضافاً إلى الوزارة، ولم يقع مثل ذلك في الدولة التركية أنهما اجتمعا لواحد، فنزل في موكب جليل إلى الغاية، وباشر مع بعده عن صناعة الإنشاء وقلة دربته بقراءة القصص والمطالعات الواردة من الأعمال، غير أن الكفاءة غير معتبرة في زماننا، بحيث أن بعض السوقة ممن نعرفه ولي كتابة السر بحماة على مال قام به، وهو لا يحسن القراءة ولا الكتابة، فكان إذا ورد عليه كتاب وهو بين يدي النائب لا يقرأه مع شدة الحاجة إلى قراءته، ليعلم ما تضمنه، ثم يمضي إلى داره حتى يقرأه له رجل أعده عنده لذلك، ثم يعود إلى النائب فيعلموه بمضمون الكتاب، وتداعى بالقاهرة خصمان عند كبير من قضاتها، فقضي على المدعي عليه، فقال له ما معناه أنه حكم بغير الحق، فأمر بإخراجهما حتى ينظر في مسألتهما، ثم طلع بعض كتب مذهبه، فوجد الأمر على ما ادعاه الرجل من خطأ القاضي، فردهما، وقال: وجدنا في الكتاب الفلاني الأمر كما قلت، ولم يبال بما تبين من جهله، ولهذا نظائر لو عددنا ما بلغنا منها، لقام من ذلك سفر كبير مع الحجاب وإعجاب، وفرط الرقاعة، وإلى الله المشتكى.
وفي الخميس ثالث عشره: ابتدأ السلطان بالجلوس في الإيوان بدار العدل من القلعة. وكان قد ترك من بعد الظاهر برقوق الجلوس به في يوم الاثنين والخميس، إلا في النادر القليل، سيما في الأيام المؤيدية شيخ، فتشعث ونسبت عوائده ورسومه، إلى أن اقتضى رأى السلطان أن يجدد عهده، فأزيل شعثه وتتبعت رسومه. ثم جلس فيه، وعزم على ملازمته في يومي الخدمة، ثم ترك ذلك.
وفيه قدم ركب الحجاج المغاربة، وقدم ركب الحاج التكرور أيضاً، وفيهم بعض ملوكهم، فعوملوا جميعاً بأسوأ معاملة من التشدد في أخذ المكوس مما جلبوه من الخيل والرقيق والثياب، وكلفوا مع ذلك حمل مال، فشنعت القالة.
وفي عشرينه: خرج محمل الحاج إلى بركة الحجاج.
وفي حادي عشرينه: أخذ قاع النيل،، فكان ستة أذرع، وعشرين إصبعاً.(3/351)
وفي هذه الأيام: رسم بشراء الغلال للسلطان، فإنها رخيصة، وربما توقفت زيادة النيل، فغلت الغلال، فيكون السلطان أحق بفوائدها، فخرجت المراسيم إلى أعمال مصر بشراء غلال الناس، وألزم سماسرة الغلة بساحل مصر وساحل بولاق أن لا يبيعوا لأحد شيئاً من الغلال، حتى يتكفي السلطان، فكثر من أجل هذا تطلع الناس إلى شراء الغلة، ما كان عدة أشهر وهي كاسدة، وسعر القمح من مائة وثلاثين درهماً الأردب إلى ما دونها، والفول والشعير من ثمانين درهماً الأردب إلى ما دونها، وسائر أسعار المبيعات رخيصة جداً، فالله يحسن العاقبة.
وفي ثاني عشرينه: ابتدئ بالنداء على النيل، فنودي بزيادة أربعة أصابع، وقدم الخبر من مكة المشرفة بأن عدة زنوك قدمت من الصين إلى سواحل الهند، وأرسى منها اثنان بساحل عدن، فلم تنفق بها بضائعهم من الصيني والحرير والمسك وغير ذلك لاختلال حال اليمن، فكتب كبير هذين الزنكين إلى الشريف بركات بن حسن بن عجلان أمير مكة وإلى سعد الدين إبراهيم بن المرة ناظر جدة، يستأذن في قدومهم إلى جدة، فاستأذنا السلطان في ذلك، ورغباه في كثرة ما يتحصل في قدومهم من المال، فكتب بقدومهم إلى جدة وإكرامهم.
شهر ذي القعدة، أوله الاثنين: فيه استدعى قضاة القضاة الأربع، بجميع نوابهم في الحكم بالقاهرة ومصر إلى القلعة، لتعرض نوابهم على السلطان، وقد ساءت القالة فيهم، فدخل القضاة الأربع إلى مجلس السلطان، وعوق نوابهم عن العبور معهم، فانفض المجلس على أن يقتصر الشافعي على خمسة عشر نائباً، والحنفي على عشرة نواب، والمالكي على سبعة، والحنبلي على خمسة، وقد تقدم مثل هذا كثير ولا يتم.
وفي سابعه: خلع على الأمير تاج الدين الشويكي، وأعيد إلى ولاية القاهرة عوضاً عن دولات خجا.
وفي ثامن عشرينه: ورد الخبر بموت جينوس بن جاك صاحب قبرس.
وفيه خلع على عز الدين عبد العزيز بن علي بن العز البغدادي، واستقر في قضاء القضاة الحنابلة بدمشق، عوضاً عن نظام الدين عمر بن مفلح، وخلع عليه من بيت الوزير كاتب السر كريم الدين، ولم يعهد قضاة القضاة يخلع عليهم إلا من عند السلطان، غير أن الوزير أعاد لكنابة السر بعض ما كان من رسومها لوفور حرمته واستبداده، وكان مع ذلك القضاة والفقهاء قد انحط جانبهم، واتضع قدرهم.
شهر ذي الحجة، أوله الثلاثاء: فيه نودي بوفاء النيل ستة عشر ذراعاً وثلاثة أصابع، ووافق ذلك خامس مسرى. وهذا مما يندر وقوعه، فركب الأمير جقمق أمير أخور لفتح الخليج على العادة.
وفي خامس عشرينه: سارت سرية عدتها ستون مملوكاً مع بعض أمراء العشرات إلى قبرس، ومعهم خلعة لجوان بن جينوس باستقراره في مملكة قبرس، عوضاً عن أبيه، نيابة عن السلطان، ومطالبته بما تأخر على أبيه، وهو أربعة وعشرون ألف دينار، وما التزم به في كل سنة، وهو خمسة آلاف دينار.
وفي سادس عشرينه: قدم مبشرو الحاج.
وفي هذا الشهر: كثر تقطع الجسور بالنواحي، فغرقت بلاد عديدة، ودخل الماء إلى كثير من البلاد قبل أوانه، فغرقت الجرون وهي ملآنة بالغلال، وتلف من المقاتي والسمسم والنيلة ما يبلغ قيمته آلاف دنانير، وشرقت عدة بلاد، وكل ذلك من فساد عمل الجسور وأخذ الأموال في النواحي عوضاً عن رجال العمل وأبقارها.
وفيه فرقت عدة بلاد من بلاد الديوان المفرد على جماعة ليعمروها، فإنها خربت من سوء ولاية الأستادارية وعسفهم، وكثرة المغارم، فسلم إلى القاضي زين الدين عبد الباسط وإلى الوزير كريم الدين، وإلى سعد الدين ناظر الخاص، وإلى التاج بن الخطير، كل منهم بلد من البلاد، وسلم إلى آخرين دون هؤلاء عدة بلاد.
وفيه رسم أن يعلق على كل حانوت من حوانيت الباعة بالأسواق قنديل يضيء الليل، فعمل ذلك.
وفيه كثرت زيادة ماء النيل، فانسلخ ذو الحجة بيوم الأربعاء رابع أيام النسىء، والماء على ثمانية عشر ذراعاً وعشرين إصبعاً.
وهذه السنة: تحول الخراج فيها من أجل أنه لم يقع فيها نوروز، فحولت سنة ست إلى سنة سبع وثلاثين.(3/352)
وفيها نزل الطاغية النشو بن دون فرنادو بن أندريك بن جوان قتيل الفرس بن فدريك بن أندريك ملك الفرنج القطلان، وصاحب برشلونة، على جزيرة صقلية، في شهر رمضان، وسار ومعه صاحب صقلية في نحو مائتي قطعة بحرية حتى أرسى على جربة في سابع عشر ذي الحجة وملكها. وكان ملك المغرب أبو فارس عبد العزيز غائباً عن تونس في جهات تلمسان، فلما بلغه ترك معظم عسكره وسار على الصحراء حتى دنا من جربة، وكانت بينه وبين الفرنج وقعة كاد يؤخذ فيها، وقتل من الفريقين جماعات كثيرة. وهذا الطاغية النشو مات جده أندريك، وملك بعده ابنه جوبان بن أندريك بن جوبان. خرج فرناندو بن أرندريك من بلد أشبيلية يريد محاربة القطلان أهل برشلونة - وقد مات ملكهم مرتين، فغلبهم، وملك برشلونة وأعمالها، حتى مات، فملك بعده ابنه النشو هذا.
وفيه قدم أحد ملوك التكرور للحج، فسار إلى الطور ليركب البحر إلى مكة، فمات بالطور ودفن بجامعه. وكان خيراً كثير التلاوة للقرآن، فيه بر وإحسان.
ومات في هذه السنة من الأعيان
السلطان حسين بن علاء الدولة بن القان غياث الدين أحمد بن أويس. وكان قد أقيم بعد أحمد بن أويس في السلطة ببغداد شاه ولد بن شاه زاده بن أويس، ثم قتل بعد ستة أشهر بتدبير زوجته تندو ابنة السلطان حسين بن أويس، وقامت بالتدبير، ثم خرجت من بغداد بعد سنة فراراً من شاه محمد بن قرا يوسف، ونزلت ششتر في عدة من العسكر، وملك شاه محمد بغداد، فأقيم مع تندو في السلطنة السلطان محمود بن شاه ولد؛ فدبرت عليه وقتلته بعد خمس سنين، وانفردت بمملكة ششتر، وملكت البصرة، بعد حرب شديدة، ثم ماتت بعد انفرادها بثلاث سنين، فأقيم ابنها أويس بن شاه ولد، وقتله أصبهان بن قرا يوسف في الحرب بعد سبع سنين، وأقيم بعده بششتر أخوه شاه محمد بن شاه ولد، فمات بعد ست سنين وقام من بعده حسين بن علاء الدولة وملك البصرة، وواسط، وعامة العراق ما عدا بغداد، فإنها بيد شاه محمد بن قرا يوسف. ولم يزل محارباً لأصبهان بن قرا يوسف حتى نزل عليه أصبهان وحصره بالحلة مدة سبعة أشهر، حتى أخذه وقتله في ثالث صفر من هذه السنة، فانقرضت بمهلكه دولة الأتراك بني أويس من العراق، وصار عراقا العرب والعجم بيد اسكندر وشاه محمد وأصبهان - أولاد قرا يوسف - وقد خرب على بأيديهم.
ومات شرف الدين عيسى بن محمد بن عيسى الأقفهسي الشافعي، أحد نواب الحكم، في ليلة الجمعة سادس عشرين جمادى الآخرة، ومولده في سنة خمسين وسبعمائة. وبرع في الفقه، وناب في الحكم عن العماد أحمد الكركي، ومن بعده من سنة اثنين وتسعين، وكان كثير الاستحضار للفروع.
ومات شهاب الدين أحمد بن صلاح الدين صالح بن أحمد بن عمر المعروف بابن السفاح الحلبي، في ليلة الأربعاء رابع عشر شهر رمضان، عن ثلاث وستين سنة، وباشر هو وأخوه وأبوه كتابة السر بحلب، ولهم بها رياسة وتمكن وأموال، ثم باشر كتابة السر بديار مصر، فلم يسعد ولم ينجب، وكان فيه هوج وطيش.
ومات الصاحب علم الدين يحيى أبو كم الأسلمي، في ليلة الخميس ثاني عشرين رمضان، وقد أناف على السبعين، فباشر نظر الأسواق، وتنقل حتى ولي الوزارة في الأيام الناصرية فرج، وكان يريد الانتفاء من النصرانية، فحج وجاور بمكة، وأكثر من زيارة الصالحين، والله أعلم. بما كانوا عاملين.
ومات قاضي القضاة زين الدين عبد الرحمن بن علي بن عبد الرحمن التفهني الحنفي، بعد مرض طويل، في ليلة الأحد ثامن شوال، وقد أناف على السبعين. ومولده سنة أربع وستين سبعمائة تخميناً. وقد برع في الفقه والأصول والعربية وولي قضاء القضاة فحسنت سيرته، ولم يترك في الحنفية مثله، ويقال إن بعض جواريه سمعته وقد أوصى بخمسة آلاف درهم لمائة فقير يذكرون الله، قدام جنازته، وسبعة آلاف درهم لكفنه وجهازه ودفنه وقراءة ختمات.
ومات جينوس بن جاك يبروس بن أنطون بن جينوس ملك قبرس، وملك بعده ابنه في حدود سنة ثمانمائة، وقدم إلى القاهرة مأسوراً، ثم أعيد إلى مملكته، وصار نائباً عن السلطان يحمل إليه المال كل سنة.
وقتل نصراني في سابع شوال، ضربت رقبته تحت شباك المدرسة الصالحية، بسبب وقوعه في حق نبي الله داود بعد ما سجن مدة، وعرض عليه الإسلام، فامتنع.
سنة ست وثلاثين وثمانمائة(3/353)
أهلت هذه السنة والخليفة المعتضد بالله أبو الفتح داود بن المتوكل، وسلطان مصر والشام والحجاز وقبرس الملك الأشرف أبو الفرج برسباي، والأمير الكبير الأتابك سودن من عبد الرحمن، وأمير سلاح أينال الجكمي، وأمير مجلس أقبغا التمرازي، ورأس نوبة الأمير تمراز القرمشي، وأمير أخور جقمق، والدوادار الأمير أركماس الظاهري، والوزير كاتب السر كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ، وناظر الجيش عظيم الدولة ومدبرها القاضي زين الدين عبد الباسط وناظر الخاص سعد الدين إبراهيم ابن كاتب الجكمي، وقاضي القضاة الشافعي الحافظ شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن حجر، وقاضي القضاة الحنفي ناظر الأحباس بدر الدين محمود العينتابي، وقاضي القضاة المالكي شمس الدين محمد البساطي، وقاضي القضاة الحنبلي محب الدين أحمد بن نصر الله البغدادي، والمحتسب الأمير الحاجب صلاح الدين محمد بن نصر الله، والوالي التاج الشويكي، ونائب الشام الأمير شار قطلوا، ونائب حلب الأمير قصروه، ونائب طرابلس الأمير طرباي، ونائب حماة الأمير جلبان، ونائب صفد الأمير مقبل الزيني، ونائب غزة الأمير أينال الأجرود، ومتولي مكة - شرفها الله تعالى - الشريف بركات بن حسن بن عجلان، ومتولي مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الشريف مانع بن علي بن عطية، ومتولي ينبع الشريف عقيل بن وبير بن نخبار، وملك المغرب أبو فارس عبد العزيز بن أبي العباس الحفصي، وملك المشرق شاه رخ بن تيمورلنك، ومتملك بغداد شاه محمد بن قرا يوسف، وملك الروم مراد بن محمد كرشجي بن عثمان، وملك اليمن الظاهر يحيى بن الأشرف إسماعيل بن العباس بن رسول.
ونيل مصر متزايد، والأسعار رخيصة، القمح من مائة وثلاثين درهماً الأردب إلى ما دون ذلك والشعير والفول من ثمانين درهماً الأردب إلى ما دونها. والدينار الأشرفي بمائتين وستين درهماً من الفلوس التي كل رطل منها بثمانية عشر درهماً، ومصر الدرهم الأشرفي بعشرين درهماً من الفلوس، والدينار الأفرنتي بمائتين وخمسين درهماً من الفلوس، والأسواق كاسدة.
شهر الله المحرم، أوله الخميس: في يوم الجمعة ثانيه: كان نوروز القبط بأرض مصر، وهو أول توت.
وقد صار ماء النيل على ثمانية عشر ذراعاً، وثلاثة وعشرين إصبعاً. واتفق من الغرائب أن يوم الخميس أول السنة وافقه أول يوم من تشرين وهو رأس سنة اليهود، فاتفق أول سنة اليهود مع أول سنة المسلمين، ويوم الجمعة وافقه أول توت - وهو أول سنة النصارى القبط - فتوالت أوائل سنين الملل الثلاث في يومين متوالين واتفق ذلك أن طائفة اليهود الربانيين يعملون رءوس سنينهم وشهورهم بالحساب، وطائفة القرائين يعملون رءوس سنينهم وشهورهم برؤية الأهلة.
كما هو عند أهل الإسلام، فيقع بين طائفتي اليهود في رءوس السنين والشهور اختلاف كبير، فاتفق في هذه السنة مطابقة حساب الربانيين والقرائين للرؤيا، فعمل الطائفتان جميعاً رأس سنتهم يوم الخميس. وهذا من النوادر التي لا تقع إلا في الأعوام المتطاولة.
يوم الأحد ثامن عشره: وافقه سابع عشر توت، وهو يوم عيد الصليب عند أقباط مصر. ونودي فيه على النيل بزيادة إصبع لتتمة عشرين ذراعاً، تنقص إصبعاً واحداً. وهذا أيضاً مما يندر من كثرة ماء النيل.
وفي ثالث عشرينه: قدم الركب الأول من الحجاج، وقدم المحمل من الغد ببقية الحاج.
وفي سادس عشرينه: ضرب السلطان الأمير أقبغا الجمالي أستادار، وأنزله على حمار إلى ييت الأمير التاج والي القاهرة ليعاقبه على استخراج المال. وخلع من الغد يوم الثلاثاء سابع عشرينه على الوزير كريم الدين ابن كاتب المناخ، وأعاده إلى الأستادارية. ورفعت يده من مباشرة كتابة السر، فاستقل بالوزارة والأستادارية، ورسم لشرف الدين الأشقر نائب كاتب السر بمباشرة كتابة السر، حتى يستقر أحد، وعين جماعة لكتابة السر، فوقع الاختيار منهم على قاضي القضاة كاتب السر بدمشق كمال الدين محمد بن البارزي.
وفي ثامن عشرينه - الموافق لسابع عشرين توت - : نودي على النيل بزيادة إصبع لتتمة عشرين ذراعاً وخمسة أصابع.(3/354)
وفي هذا الشهر: طرق الفرنج ميناء طرابلس الشام، في يوم السبت عاشره، وأخذوا مركباً فيه عدد كثير من المسلمين، وبضائع لها قيمة جليلة. وبينا هم في ذلك إذ قدمت مركب من دمياط فأخذوها أيضاً بما فيها وساروا، فلما ورد الخبر بذلك كتب بإيقاع الحوطة على أموال الفرنج الجنوية والقطلان دون البنادقة، فأحيط بأموالهم التي بالشام والإسكندرية.
وفيه أقلع الطاغية صاحب برشلونة عن جزيرة جربة في عاشره، ومضى إلى جزيرة صقلية. بمن معه من جمائع القطلان، وأهل صقلية.
شهر صفر، أوله السبت: في ثانيه: توجه القاصد لاستدعاء القاضي كمال الدين محمد بن البارزي ليستقر في كتابة السر، وأن يستقر عوضه في قضاء القضاة بدمشق بهاء الدين محمد بن حجي. وأن يستقر عوضه في كتابة السر بدمشق قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن الكشك الحنفي، ويستقر ولده شمس الدين محمد بن الكشك في قضاء القضاة الحنفية، ويستقر جمال الدين يوسف بن الصفي في نظر الجيش بدمشق عوضاً عن بهاء الدين محمد بن حجي؛ كل ذلك بمال.
وفي سابعه: قدمت الرسل المتوجهة إلى قبرس. وكان من خبرهم أنهم ركبوا البحر من دمياط في شينين، فوصلوا إلى الملاحة يوم السبت عاشر المحرم، وسار أعيانهم في البر يريدون مدينة الأفقسية دار مملكة قبرس، فتلقاهم وزير الملك جوان بن جينوس بن جاك في وجوه أهل دولته، وأنزلهم خارج المدينة، وعبروا المدينة من الغد يوم الاثنين ثاني عشره، ودخلوا على الملك جوان. في قصره، فإذاهو قائم على قدميه، فسلموا عليه وأوصلوه كتاب السلطان وهو قائم وبلغوه الرسالة، فأذعن وأجاب بالسمع والطاعة وقال: أنا مملوك السلطان، ونائب عنه، وقد كنت على عزم أن أرسل التقدمة. فطلبوا منه أن يحلف، فأجابهم إلى ذلك، واستدعى القسيس، وحلف على الوفاء والاستمرار على الطاعة، والقيام بما يجب عليه من ذلك، فأفيض عليه التشريف السلطاني المجهز له.
وخرجت الرسل من عنده، فداروا بالمدينة وهو ينادي بين أيديهم باستمرار الملك جوان في نيابة السلطنة، وأن للناس الأمان والاطمئنان، وأمروا بطاعته وطاعة السلطان، ثم أنزلت الرسل في بيت قد أعد لهم، وأجرى لهم ما يليق بهم من المأكل، وحمل إليهم سبعمائة ثوب صوف قيمتها عشرة آلاف دينار مما تأخر على أبيه أظهر خصم أربعة آلاف دينار ووعد بحمل العشرة آلاف دينار بعد سنة، وبعث إليهم أيضاً بأربعين ثوباً صوفاً برسم الهدية للسلطان الملك، المالك الأشرف أبو النصر برسباي الدقماقي، وأرسل لكل من الرسل شيئاً يليق به على قدره.
وساروا بعد عشرة أيام من قدومهم إلى اللمسون، وركبوا البحر ستة أيام حتى أرسوا على دمياط، وعبروا في النيل إلى القاهرة فقبل السلطان ما حملوه إليه وقرئ كتابه، فإذا هو يتضمن السمع والطاعة، وأنه نائب السلطنة فيما تحت يده، ونحو هذا.
وفي ثامنه: خلع على حسن باك بن سالم الذكري أحد أمراء التركمان، وابن أخت قرا يلك، واستقر في نيابة البحيرة، ورسم أن يكون ملك الأمراء، عوضاً عن أمير علي، وأنعم عليه بمائة قرقل، ومائة قوس، ومائة تركاش، وثلاثين فرساً.
وفي سادس عشرينه: ضربت رقبة رجل ارتد عن الإسلام. وكان من خبره أنه كان نصرانياً، فوجده بعض الناس عند زوجته، فاتقي من القتل بأن أظهر الإسلام، ومضى لسبيله، فلم يقم سوى أشهر وجاء يوم جمعة إلى بعض القضاة وذكر له أنه كان نصرانياً وأسلم، ثم أنه رغب أنه يعود إلى النصرانية.
وقصد أن يطهر بالسيف، وتكلم بما لا يليق من القدح في دين الإسلام وتعظيم دين النصرانية وصرح بما يعتقد من إلاهية المسيح وأمه، فتلطف به القاضي ومن عنده، وهو يلح ويعاند ويفحش في القول، فأمر به فسجن، وعرض عليه الإسلام مراراً في عدة أيام وهو متماد في غيه، فلما أعياهم أمره، وملت الأسماع من فحش كلامه، وجهره بالسوء، ضربت رقبته ثم أحرقت جثته.
وفي سابع عشرينه: كتب باستقرار تاج الدين عبد الوهاب بن أفتكين - أحد موقعي الدست بدمشق - في كتابة السر بها، لامتناع قاضي القضاة شهاب الدين أحمد ابن الكشك من ولايتها. وكتب أيضاً باستقرار محيي الدين يحيى بن حسن بن عبد الواسع الحياني المغربي في قضاء المالكية بدمشق، عوضاً عن شهاب الدين أحمد بن محمد بن محمد الأموي بعد موته.
شهر ربيع الأول، أوله يوم الاثنين:(3/355)
فيه قدم رسول ملك القطلان من الفرنج بكتابه، وقد نزل على جزيرة صقلية، في ثاني رمضان، بما ينيف على مائتي قطعة بحرية، فتضمن كتابه الإنكار على الدولة ما تعتمده من التجارة في البضائع، وأن رعية الفرنج لا يشترون من السلطان ولا من أهل دولته بضاعة، فرد رسوله رداً غير جميل.
وفي رابعه: فتحت القيسارية المستجدة بخط باب الزهومة من القاهرة، وسكنها الكتبيون؛ وكان سوق الكتب المقابل للصاغة قد هدم وما حوله في سنة ثلاث وثلاثين، وبني قيسارية يعلوها ربع، وبدائرها حوانيت، حيث كانت الصيارف تجاه الصاغة، وحيث كانت النقليون وسوق الكتب والأمشاطيين تجاه شبابيك المدرسة الصالحية، بالقاهرة والصليبة، وسكن في القيسارية التي عملت بجوار الكتبيين أرباب الأقفاص الذين كانوا بالقفيصات تحت شبابيك القبة المنصورية وشبابيك المدرسة المنصورية، وصارت هذه القيسارية سوقاً يضاهي الصاغة، وأسكن في مقاعد القفيصات ودككها قوم من الخريزاتية - بياعي الخرز - وطائفة من أرباب المعايش. فلما كملت القيسارية المستجدة بباب الزهومة، تجاه درب السلسلة، تحول إليها الكتبيون، وجاءت من أحسن ما بني بالقاهرة.
وفي ثامن عشره: سرح السلطان إلى جهة أطفيح، برسم الصيد، وقدم من الغد آخر النهار، وسرح قبل هذا إلى جهة شيبين، وإلى بركة الحجاج أربع سرحات.
وفي تاسع عشره: قدم القاضي كمال الدين محمد بن البارزي من دمشق، ومثل يدي السلطان، وقد خرج الناس إلى لقائه، ثم نزل في داره وخلع عليه من الغد يوم السبت عشرينه، واستقر في كتابه السر ونزل في موكب جليل، فسر الناس به سروراً كثيراً لحسن سيرته وكفايته وجميل طويته وكرمه، وكثرة حيائه، يؤيده.
شهر جمادى الأولى، أوله الخميس: فيه قدم الأمير مقبل الزيني نائب صفد، وكان السلطان قد ركب إلى خارج القاهرة، فركب في الخدمة إلى القلعة، ثم نزل في دار أعدت له.
وفي خامسه: خلع على ابن ... واستقر في كشف الوجه القبلي، عوضاً عن طوغان العثماني، على مبلغ اثني عشر ألف دينار يحملها من البلاد.
وفي ثامنه: خلع على الأمير أسنبغا الطياري، أحد أمراء العشرات، واستقر في نظر جدة، عوضاً عن سعد الدين إبراهيم بن المرة، وأذن لابن المرة أن يتوجه معه.
وفي حادي عشره: نودي للناس بالإذن في السفر صحبة الطياري إلى مكة، فسروا بذلك سروراً زائداً، وتجهزوا للسفر.
وفيه توجه الأمير مقبل نائب صفد إلى محل كفالته على عادته، بعد ما قدم مالاً وغيره بنحو اثني عشر ألف دينار.
وفي ليلة الثلاثاء ثالث عشره: بالرؤية ورابع عشره بالحساب، خسف جميع جرم القمر في الساعة الحادية عشر، وأقام في الخسوف ثلاث ساعات ونصف ساعة.
وفي سابع عشرينه: توجه الوزير الأمير أستادار كريم الدين ابن كاتب المناخ إلى الوجه البحري، لتحصيل ما يقدر عليه من الجمال والخيل والغنم والمال، لأجل سفر السلطان إلى الشام.
وفي تاسع عشرينه: ورد كتاب شاه رخ بن تيمور ملك المشرق على يد بعض التجار، يتضمن أنه يريد كسوة الكعبة. ولم يخاطب السلطان إلا بالأمير برسباي وقد تكررت مكاتبته بسبب كسوة الكعبة مراراً عديدة، ولم يظهر لذلك أثر.
شهر جمادى الآخرة، أوله يوم الجمعة: في خامسه: أنفق السلطان في المماليك المجردين إلى مكة صحبة الأمير أسنبغا الطياري، وهم خمسون مملوكاً، كل واحد مبلغ ثلاثين ديناراً.
وفي ثامن عشره: برز الطياري بمن معه.
وفيه خلع على سعد الدين بن المرة ليكون رفيقاً للطياري.
وفيه ابتدئ بصر نفقة السفر إلى الشام.
وفي حادي عشره: أنفق في الأمراء نفقة السفر، فحمل إلى الأمير الكبير الأتابل سودن من عبد الرحمن فضة عن ثلاثة آلاف دينار، وإلى كل من الأمراء الألوف - وهم عشرة - ألفا دينار، وإلى كل من أمراء الطبلخاناه خمسمائة دينار، كل ذلك فضة.
وفي ثالث عشرينه: استقل الطياري بالمسير من بركة الحجاج في ركب يزيد على ألف ومائة جمل.
وفي سلخه: ابتدئ بنفقة المماليك السلطانية، وهم ألفاً وسبعمائة، لكل منهم صرة فيها ألف درهم أشرفي، وخمسون درهماً أشرفية، عنها من الفلوس اثنان وعشرون ألف درهم؛ وهي مصارفة مائة دينار، من حساب كل دينار بمائتين وعشرين درهماً فلوس والدينار يومئذ يصرف بمائتين وثمانين. وكذلك نفقات الأمراء التي تقدم ذكرها، إنما حملت إليهم دراهم على هذا الحساب.(3/356)
وفي هذا الشهر: نزل بأهل الوجه البحري من نزول الأستادار على بلاء عظيم.
شهر رجب أوله، الأحد: في ثالثه: قدم الوزير أستادار من الوجه البحري، وقد احتاج أهله بأخذ خيولهم وأغنامهم وأموالهم، هو وأتباعه، فما عفوا ولا كفوا.
وفي يوم الخميس ثاني عشره: أدير محمل الحاج، ولم يعمل ما جرت العادة به من التجمل، بل أوقف تحت القلعة، وأعيد، و لم يتوجه إلى مصر، وهذا شيء لم يعهد مثله.
وفي رابع عشره: نصبت خيام السفر خارج القاهرة، بطرق الريدانية، تجاه مسجد تير.
وفي سادس عشره: خرج أمراء الجاليش - وهم الأمير الكبير سودن من عبد الرحمن، وأمير سلاح أينال الجكمي، وحاجب الحجاب قرقماس، وقانباي الحمزاوي وسودن ميق - ونزلوا بالمخيمات، ورسم بإخراج البطالين من الأمراء والمماليك، فتوجه الأمير ألطنبغا المرقبي - صاحب الحجاب في الأيام المؤيدية - والأمير أيتمش الخضري أستادار إلى القدس. وكان كل منهما عدة سنين ملازماً لداره، ومنع من بقي من الأسياد أولاد الملوك من ذرية الناصر محمد بن قلاوون من سكن القلعة وطوعها، وأخرجوا من دورهم بها، وكانوا لما منعوا من سنين، سكن أكثرهم بالقاهرة وظواهرها، فذلوا بعد عزهم، وتبذلوا بعد تحجبهم، وبقي من أعيانهم طائفة مقيمة بالقلعة، وتنزل بالقاهرة لحاجاتها، ثم تعود إلى دورها، فأخرجوا بأجمعهم في هذه الأيام، ومنعوا من القلعة، فتفرقوا شذر مذر، كما فعل أبوهم الناصر محمد بن قلاوون بأولاد الملوك بني أيوب، وكذلك فعل الله ببني أيوب كما فعل أبوهم الكامل محمد بن العادل أبو بكر بن أيوب بأولاد الخلفاء الفاطميين، " ولا يظلم ربك أحداً " " الكهف، 49 " .
وفي سابع عشره: أعيد دولات خجا إلى ولاية القاهرة، عوضاً عن التاج، لسفره في الخدمة السلطانية مهمندار وأستادار الصحبه، وجليساً. وخلع على شهاب الدين أحمد ابن محمد بن علي - ويعرف بابن النسخة شاهد القيمة - واستقر في حسبة مصر، عوضاً عن شمس الدين أحمد بن العطار.
وقدم كتاب متملك تونس - وعامة بلاد المغرب - أبي فارس عبد العزيز، يتضمن واقعته مع ملك الفرنج القطلان، على جزيرة جربة.
وفي يوم الخميس تاسع عشره - الموافق له أول فصل الربيع - : وانتقال الشمس إلى برج الحمل - ركب السلطان، وعبى أطلابه، وتوجه في أثناء الساعة الثالثة من النهار، فسار في ركب جليل إلى الغاية، وقد تجمع الناس لرؤيته، حتى نزل بمخيمه، وصحبته الأمير جقمق العلاي أمير أخور، والأمير أركماس الظاهري الدوادار، والأمير تمراز القرمشي رأس نوبة، والأمير جانم ابن أخي السلطان، والأمير يشبك المشد، والأمير جانبك الحمزاوي، هؤلاء أمراء الألوف، ومن الطبلخاناه الأمير تمرباي الدوادار الثاني، والأمير قراخجا الشعباني، والأمير قرا سنقر من عبد الرحمن، واستقر في نيابة الغيبة بباب السلسلة من القلعة الأمير تغري برمش التركماني أحد الألوف، واستقر بالقلعة المقام الجمالي ولد السلطان أحد الألوف، والأمير خشقدم الزمام أحد الطبلخاناه، والأمير تاني بك والي القلعة، في عدة من المماليك. واستقر خارج القلعة الأمير أقبغا التمرازي أمير مجلس، وقد رسم بحضوره من عمل الجسور بعد فراغها. ورسم للأمير أينال الششماني أحد الطبلخاناه أن يكون أمير الحاج في الموسم، ورسم بإقامة الأمير الإسماعيلي أحد الطبلخاناه وحاجب الميسرة، وإقامة الأمير الوزير كريم الدين أستادار.
وفي يوم الجمعة عشرينه: سار السلطان من الريدانية ومعه من ذكرنا من الأمراء والمماليك، ومعه الخليفة وقضاة القضاة الأربع، وسافر في الصحبة ناظر الدولة أمين الدين إبراهيم بن مجد الدين عبد الغني بن الهيصم، ونديم السلطان ولي الدين محمد بن قاسم الشيشيني.
شهر شعبان، أوله الاثنين: فيه وصل السلطان إلى غزة، ورحل منها في رابعه، وقدم النجاب بذلك في ثامنة، فنودي بالقاهرة في الناس بالأمان، ورفع الظلم، ومنع الرمايات على الباعة.
وفي يوم الاثنين خامس عشره: وصل السلطان إلى دمشق، وسار عنها يريد حلب في يوم السبت عشرينه، وقدم النجاب بذلك في سادس عشرينه، فدقت البشائر بقلعة الجبل، ونودي في القاهرة وظواهرها بذلك.
شهر رمضان، أوله الثلاثاء: وفي خامسه: وصل السلطان إلى حلب، فنزل بظاهرها في المخيمات، ورحل يريد مدينة آمد في حادي عشرينه.(3/357)
وفيه قدم الخبر بذلك إلى قلعة الجبل، فدقت البشائر، ونودي بإعلام الناس، فنزل السلطان إلى البيرة في سادس عشرينه، وكتب منها إلى القاهرة على يد نجاب.
شهر شوال، أوله الخميس: في تاسعه: قدم النجاب برحيل السلطان من البيرة، بعد تعدية الفرات في سادس عشرين رمضان.
وفي يوم الاثنين تاسع عشره: خرج محمل الحاج صحبة الأمير أينال الششماني إلى الريدانية خارج القاهرة، ورفع منها إلى بركة الحجاج، ثم استقل بالمسير من البركة في ثالث عشرينه، والحاج ركب واحد لقلتهم، و لم نعهد الحاج فيما سلف بهذه القلة.
وفي هذا الشهر: تعدد وقوع الحريق في أماكن، فظهرت نار في الجرون بناحية شيبين القصر، وأحرقت غلات كثيرة، وكان وقت الدراس، واجترت فارة فتيلة سراج في خن مركب قد أوسق بثياب وسيرج وغير ذلك، ووقف بساحل مدينة مصر ليسير إلى الصعيد، فأحرقت النار جميع ما كان في الركب، وسرت إليها فاحترقت بأجمعها، وهي في الماء حتى صارت فحماً، ووقعت النار في دور متعددة بالقاهرة ومصر.
وفي يوم الأربعاء ثامن عشرينه. كسف من جرم الشمس نحو الثلثين في برج السرطان، بعد العصر بزيادة على ساعة، فما غربت حتى بدأ الكسوف ينجلي، وفي مدة الكسوف اعتمت الآفاق، وظهر بعض الكواكب.
شهر ذي القعدة، أوله السبت: فيه أخذ قاع النيل، فجاء ستة أذرع وثلاثة أصابع، ونودي من الغد بزيادة خمسة أصابع، واستمر النداء بزيادة ماء النيل.
وفي ليلة الجمعة رابع عشره: خسف أكثر جرم القمر، فطلع من الأفق الشرقي منخسفاً، وانجلى الخسوف وقت العشاء. وهذا من النوادر، وقوع الخسوف القمري بعد كسوف الشمس بخمسة عشر يوماً.
وفي خامس عشره: قدم ساع على قدميه من حلب بكتاب السلطان من آمد بأنه نزل عليها وقد خرج عنها عثمان بن ططر علي المعروف بقرا يلك، وأشحنها بالمقاتلة، فحصرها العسكر.
وفي حادي عشرينه: قدم نجاب بكتاب السلطان من آمد مؤرخ بعشرين شوال، بأن قرا يلك عزم تعدية الفرات يريد حلب، فأدركته العساكر السلطانية، وقد نزل بعض أصحابه الفرات، فقاتلوهم، وقتلوا منهم، وغرق منهم جماعة، وأسر جماعة، ضربت أعناقهم.
وفي رابع عشرينه: دقت البشائر بقلعة الجبل، ونودي بأن اسكندر بن قرا يوسف قدم بعساكره نجدة للسلطان، ثم تبين كذب هذا الخبر.
وفي هذا الشهر: تحركت أسعار الغلال فأبيع القمح بمائة وثلاثين درهماً الأردب بعد مائة، وأبيع الأردب الشعير والفول من ثمانين إلى بضع وتسعين بعد ما كان بستين. وسبب ذلك أن طائفة من الناس قد اعتادت منذ سنين أن ترجف في أيام زيادة النيل بأنه لا يبلغ الوفاء، يريدون بذلك غلاء الأسعار، فتكف أرباب الغلال أيديها عن البيع، ويأخذ آخرون في شراء الغلال وخزنها، ليتربص بها دوائر الغلاء، فيتحرق السعر من أجل ذلك، فإذا بلغ النيل القدر المحتاج إليه في ري الأراضي، وزرع الناس، أيس طلاب الغلاء فباعوا ما قد اختزلوه منها، فينحل السعر، ويتضع.
وفي ثامن عشرينه: عزل نائب الغيبة دولات خجا عن ولاية القاهرة، وأقام عوضه دواداره - أعني دولات حجا - وهو مجهول لا يعرف ونكرة لا يتعرف، ومع ذلك فأحوال الناس بالقاهرة جميلة لحسن سيرة نائب الغيبة، وتثبته وإظهار العدل، مع كثرة الأمن ورخاء أسعار عامة المبيعات كلها.
شهر ذي الحجة، أوله الأحد: في سادسه: قدم الأمير كمشبغا الأحمدي أحد الطبلخاناه بكتاب السلطان من الرها، مؤرخ بثامن عشر ذي القعدة، يتضمن أنه رجل عن آمد بعد ما أقام على حصارها خمسة وثلاثين يوماً، حتى طلب قرا يلك الصلح، فصولح، ورحل العسكر في ثالث عشر ذي القعدة، فدقت البشائر، ونودي بذلك في الناس، وقدم الخبر بقدوم السلطان إلى حلب في خامس عشرين ذي القعدة، ورحيله منها في خامس ذي الحجة، وقدومه دمشق في تاسع عشره.
وفي ثامن عشرينه: نودي على النيل بزيادة إصبع واحد، لتتمة خمسة عشر ذراعاً، وثمانية عشر إصبعاً. وأصبح الناس يوم الأحد عشرينه - وهو ثالث عشرين مسرى - وقد نقص ستة أصابع، فازدحم الناس على شراء القمح، وقد بلغ إلى مائة وأربعين درهماً الأردب، فتعدى مائة وخمسين.
وفيه خرج الأمير الوزير كريم الدين أستادار إلى لقاء السلطان.(3/358)
وفي ثامن عشرينه: برز السلطان من دمشق يريد القاهرة. وكان من خبره أنه سار من حلب في حادي عشرين رمضان، ونزل البيرة في خامس عشرينه، وقد ترك الأثقال والقضاة ونحوهم بحلب، فعدى الفرات بالمقاتلة في يومين، ودخل الرها في سلخه، وسار من الغد، فنزل على آمد في ثامن شوال، ومعه من المماليك السلطانية والأمراء ومماليكهم ونواب البلاد الشامية بأتباعهم، ومن انضم إليهم من التركمان، ومن عرب كلاب، ما يقارب عددهم عشرة آلاف، والمجازف يقول ما لا يعلم، فأناخ عليها، وقد خرج قرا يلك منها إلى أرقنين وترك بآمد ولده، فترامى الفريقان بالنشاب، ثم زحف السلطان بمن معه في يوم السبت عاشره من بكرة النهار إلى ضحاه وعاد فلم يقع زحف بعد ذلك، وقتل في هذا الزحف مراد بك بن قرا يلك بسهم، وفتل حمزة الخازندار نائب آمد وجماعة، وجرح من أهل آمد ومن العسكر كثير، وقبض على جماعة من أهل آمد، فقتل بعضهم وترك بعضهم في الحديد، ونزل محمود بن قرا يلك في عسكر على جبل مشرف على العسكر، وصار يقتل من خرج من الغلمان ونحوهم لأخذ القمح ونحوه، ومنع الميرة عن العسكر. فقدم في يوم الاثنين ثاني عشره صاحب أكل - واسمه دولات شاه - فخلع عليه، وأنزل في العسكر، ثم قدم الملك الأشرف أحمد بن سليمان ابن غازي بن محمد بن أبي بكر بن عبد الله، صاحب حصن كيفا، باستدعاء، حتى قارب العسكر، فخرج عليه عدة من العسكر قرا يلك، فقتلوه وقتلوا معه قاصد السلطان المتوجه إليه، فاشتد ذلك على السلطان وبعث في إحضار قاتليه جماعه من العربان والتركمان، فأحضروا من جماعة قرا يلك عشرين رجلاً، ثم توجهوا ثانية فأحضروا ثلاثين رجلاً وسطوا تجاه قلعة بآمد ثم توجهوا ثالثاً فأحضروا واحداً وعشرين رجلاً، منهم قرا محمد أحد أمراء قرا يلك، ومنهم صاحب ماردين فوسط قرا محمد ومعه عشرون رجلاً. فاتفق أن واحداً منهم انفلت من وثاقه، فمر يعدو والعسكر تنظره، فما أحد رماه بسهم، ولا قام في طلبه حتى نجا، وطلع القلعة. وفي أثناء ذلك سار الأمير شار قطلوا نائب الشام، ومعه عدة من التركمان والعرب وغيرهم لقتال قرا يلك، فكانت بينهم وقعة، قتل وجرح فيها من التركمان والعرب وأصحاب قرا يلك جماعة، وتأخر شار قطلوا عن لقائه، فبعث قرا يلك بقرا أحمد بن عمه، وبكاتب سره بكتبه يترامى على نواب الشام في الصلح، فما زالوا بالسلطان حتى أجاب إلى ذلك، وبعث إليه شرف الدين أبا بكر الأشقر نائب كاتب السر، حتى عقد الصلح معه، وحلفه على الطاعة، وجهز إليه كاملية حرير مخمل بفرو سمور، وقباء حرير بوجهين وعليه طراز عرض ذراع ونصف وربع، وثلاثون قطعة قماش سكندري، وسيف بسقط ذهب، وفرس بقماش ذهب، وخلع على قصاده. فقدم قاصداً اسكندر بن قرا يوسف صاحب توريز وعراق العجم بأنه قادم إلى الخدمة السلطانية، فأجيب بالشكر، وأنه قد وقع الصلح مع قرا يلك.
وكان الذي وقع الصلح عليه أن قرا يلك لا يتعرض إلى شيء من أطراف المملكة من الرحبة، وإلى دوركي، وأن يسهل طرق الحجاج والتجار ونحوهم من المسافرين، ولا يتعرض لحصن كيفا ولا لرعيتها وحكامها، ولا لدولات شاه حاكم أكل وقلاعه، وأن يضرب السكة، ويقيم الخطبة للسلطان بديار بكر، وأن يمتثل ما يرد عليه من مراسيم السلطان.
ثم قدم الملك شرف الدين يحيى بن الأشرف صاحب كيفا - وقد استقر في سلطنة الحصن أخوه الملك الصالح صلاح الدين خليل بن الملك الأشرف - بتقدمة أخيه، فخلع عليه، وجهز للصالح خلعة وسيف.(3/359)
ثم رحل السلطان ومن معه عن آمد، بعد الإقامة عليها خمسة وثلاثين يوماً، في ثالث عشر ذي القعدة، وقد غلت عندهم الأسعار، فبلغ الأردب الشعير نحو دينارين ونصف، وأنه كان يعطي فيه اثنان وسبعون درهماً مؤيدية، عن كل مؤيدي سبعة دراهم ونصف من الفلوس، نقد القاهرة، ويصرف دينار بثلاثين مؤيدياً فضة، وبلغ القمح كل أربعة أقداح بدرهمين فضة، وبلغ القدح الواحد من الملح خمسة عشر درهماً فضة، وبلغ الرطل من الزيت ومن السرج بثلاثين درهماً فضة، ونهب من ضواحي آمد غلال لا تحصى، منها زيادة على مائتي ألف أردب بمقتضى المحاسبة، سوى ما انتهبه العسكر، وخرب ما هنالك من الضياع، وأخذت أخشابها، وقطعت أشجارها، ونهب ما فيها، وفعل بأهلها ما لا يمكن وصفه، فلما وصل السلطان من آمد إلى الرها أقر الأمير أينال الأجرود نائب غزة بالرها، وقواه بنحو خمسة آلاف دينار وشعير وبشماط وأرز وزيت وصابون وسلاح كثير، وولي عوضه نيابة غزة الأمير جانبك الحمزاوي، وقدمه إليها، ثم رحل، فقدم حلب في خامس عشرينه، وسار منها في خامس ذي الحجة، ودخل دمشق في تاسع عشره. وكانت سفرة مشقة زائدة الضرر، عديمة النفع، أنفق السلطان فيها من المال الناض خمسمائة ألف دينار، وتلف له من سلاح والخيل والجمال وغير ذلك. وأنفق الأمراء والعساكر بمصر والشام، وتلف لهم من الآلات والدواب والقماش ما تبلغ قيمته مئات قناطير من ذهب، وتلف لأهل آمد وذهب مال عظيم جداً وقتل خلق كثير، ونفق من دواب العسكر زياده على عشرة آلاف، ما بين جمل وفرس، و لم يبلغ أحد غرضاً من الأغراض، ولا سكنت فتنه. وإني لأخشى أن يكون الأمر في هذه الكائنة كما قيل:
لا تحقرن سبيبا ... كم جر شراً سبيب
و لله عاقبة الأمور.
وفيها تحيل أصبهان بن قرا يوسف على أخذ بغداد من أخيه محمد شاه، بأن بعث أربعين رجلاً قد حلقوا لحاهم، كأنهم قلندرية، ثم دخلوا بغداد شيئاً بعد شيء، وقد واعدهم على وقت، فلما وافاهم ليلاً إذا هم قد ركبوا السور، ورفعوا من أصحاب أصبهان جماعة، ثم قتلوا الموكلين بالباب، ودخل بمن معه، ففر شاه محمد بحاشيته في الماء، واستولى أصبهان على بغداد، وسلب من بها جميع ما بأيديهم، بحيث لم يبق بها من الأسواق سوى حانوتين فقط، ولحق شاه محمد بالموصل.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
نور الدين علي جلال الدين محمد الطنبدي التاجر، في ليلة الجمعة رابع عشر صفر، عن سبعين سنة، وترك مالاً جما.
ومات الشهاب أحمد بن غلام الله بن أحمد بن محمد الكومريشي في سادس عشرين صفر، وقد أناف على الخمسين. وكان يجيد حل التقويم من الزيج ويشدو شيئاً من أحكام النجوم، ولم يخلف بعده مثله.
ومات قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن محمد بن الأموي المالكي بدمشق، في يوم الثلاثاء حادي عشر صفر. وقد ولي قضاء القضاة المالكية بديار مصر في الأيام المؤيدية شيخ، ولم يشهر بعلم ولا دين.
ومات الأمير علاء الدين منكلي بغا الصلاحي، أحد الحجاب، في ليلة الخميس عشر ربيع الأول، بعد مرض امتد سنين. وهو من جملة المماليك الظاهرية برقوق، وأحد دواداريته. وولي حسبة القاهرة في الأيام المؤيدية، وعزل عنها وصار من جملة الحجاب. وكان يدري طرفاً من الفقه، ويكتب الخط الجيد وأرسل إلى تيمور لنك رسولاً في الأيام الناصرية فرج.
وماتت قنقباي خوند أم المنصور عبد العزيز بن برقوق، في سلخ جمادى الآخرة، عن مال كثير، وكانت تركية الجنس. وهي آخر من بقي من أمهات أولاد الظاهر برقوق. وكانت شهرتها جميلة.
ومات الأمير تغري بردي المحمودي أتابك العساكر بدمشق، مقتولاً على آمد في شوال.
ومات الأمير سودن ميق أحد الألوف، مقتولاً على أمد أيضاً.
ومات الأمير جانبك الحمزاوي. وقد ولي نيابة غزة، وتوجه إليها فأتته المنية في طريقه. ومستراح منه ومن أمثاله.
ومات الأمير تنبك المصارع أحد أمراء العشرات مقتولاً على آمد.
ومات تاج الدين عبد الوهاب بن أفتكين كاتب سر دمشق في ذي القعدة، وولي عوضه نجم الدين يحيى بن المدني، ناظر الجيش بحلب.(3/360)
ومات الملك الأشرف أحمد بن العادل سليمان بن المجاهد غازي بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن الأوحد عبد الله بن المعظم توران شاه بن السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن نجم الدين أيوب بن شادي، صاحب حصن كيفا. وقد سار من بلده يريد لقاء السلطان على آمد، فاغتيل في ذي القعدة. وكان قد أقيم في سلطنة الحصن بعد أبيه في سنة سبع وعشرين. وكان فاضلاً بارعاً أديباً، له ديوان شعر. وكان جواداً محباً في العلماء. وولي بعده ابنه الكامل أبو المكارم خليل.
سنة سبع وثلاثين وثمانمائة
أهلت هذه السنة وخليفة الوقت المعتضد بالله داود. وسلطان الإسلام بمصر والشام، والحجاز وقبرس الملك الأشرف برسباي. والأمير الكبير سودن من عبد الرحمن. وأمير سلاح أينال الجكمي. وأمير مجلس أقبغا التمرازي. ورأس نوبة الأمير تمراز القرمشي، وأمير أخور جقمق. والدوادار أركماس الظاهري. وحاجب الحجاب قرقماس. والوزير وأستادار كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ. وكاتب السر كمال الدين محمد بن ناصر الدين محمد بن البارزي. وناظر الجيش القاضي زين الدين عبد الباسط، وهو عظيم الدولة وصاحب تدبيرها. وناظر الخاص سعد الدين إبراهيم ابن كاتب حكم. وقضاة القضاة على حالهم. ونواب السلطنة وملوك الأطراف كما تقدم في السنة الخالية.
والنيل قد تأخر وفاءه، والناس لذلك في قلق وتخوف، وقد كثر تكالبهم على شراء الغلة، وبلغ القمح إلى مائة وأربعين درهماً الأردب. على أن الذهب بمائتين وخمسة وثمانين درهماً الدينار.
شهر الله المحرم، أوله الثلاثاء: فيه نودي على النيل برد ما نقص، وزيادة ثلاثة أصابع، فعظم سرور الناس بذلك، وباتوا على ترجي الوفاء، فنودي من الغد - يوم الأربعاء ثانيه، وسادس عشرين مسرى - بوفاء النيل ستة عشر ذراعاً، وزيادة إصبعين من سبعة عشر ذراعاً، فكاد معظم الناس يطير فرحاً. وغيظ من عنده غلال يتربص بها الغلاء، ففتح الخليج على العادة.
وفي ثالثه: قدم مبشرو الحاج.
وفي ثاني عشره: ورد الخبر بمسير السلطان من دمشق، بمن معه في أوله فنودي بالزينة، فزين الناس الحوانيت. ووافق هذا اليوم أول توت، وهو نوروز أهل القبط بمصر. وماء النيل على سبعة عشر ذراعاً وثمانية أصابع.
وفيه قدمت أثقال كثير من العسكر.
وفي رابع عشره: قدم الأمير أيتمش الخضري من القدس، وتتابع مجيء الأثقال من أمتعة العسكر وجمالهم، واستعد الناس للملاقاة.
وفيه خرج المقام الجمالى يوسف ابن السلطان، لملاقاة أبيه.
وفيه أمطرت السماء، و لم نعهد قبله مطراً في فصل الصيف، فأشفق أهل المعرفة على النيل أن ينقص، فإن العادة جرت بأن المطر إذا نزل في أيام الزيادة هبط ماء النيل، فكان كذلك، ونقص في يوم الجمعة ثامن عشره، وقد بلغت زيادته سبعة عشر ذراعاً، وثمانية عشر إصبعاً. وكان نقصه في هذا اليوم ستة وعشرين إصبعاً، فشرق من أجل هذا كثير من أراضي مصر، لفساد الجسور، وإهمال حفر الترع.
وفي يوم الأحد عشرينه: قدم السلطان بمن معه من سفره، ومر من باب النصر في القاهرة، وقد زينت لقدومه، فنزل بمدرسته، وصلى بها ركعتين، ثم ركب وخرج من باب زويلة إلى القلعة. وخلع على أرباب الدولة، فكان يوماً مشهوداً.
وفيه خلع على الأمير تاج الدين الشويكي، وأعيد إلى ولاية القاهرة على عادته، مع ما بيده من شد الدواوين وغيره.
وفي ثاني عشرينه: قدم سوابق الحاج. ونزل المحمل ببركة الحاج في غده، وقد مات من الحاج بطريق المدينة من شدة الحر عدة كثيرة.
شهر صفر: أهل بيوم الخميس، وقلق الناس متزايد، فإن النيل تراجع نقصه، حتى صار على سبعة عشر ذراعاً. ثم نقص تسعة أصابع، فشره الناس في ابتياع الغلال، وشح أربابها بها. فبلغ الأردب القمح مائة وثمانين درهماً، والشعير مائة وأربعين. وفقد الخبز من الأسواق عدة ليالي وفيه ألزم السلطان الوزير الصاحب كريم الدين أستادار بحمل ما توفر من العليق بالديوان المفرد في مدة السفر، وهو خمسون ألف أردب، وما توفر من العليق بديوان الوزارة، وهو عشرون ألف أردب، وبعث إلى النواحي من يتسلمها منه.
وفي ثاني عشرينه: عزل داود التركماني من كشف الوجه القبلي، وسلم إلى الأمير أقبغا الجمالي أستادار - كان - وقد أنعم عليه بإمرة طبلخاناه، عوضاً عن تنبك المصارع.(3/361)
وفي هذا الشهر: ظهر في جهة المغرب بالعشايا كوكب الذؤابة وطوله ف الرمحين، ورأسه في قدر نجم مضيء، ثم برق، حتى تبقى ذنبه كشعب برقة الشعر وذنبه مما يلي المشرق.
وفيه أيضاً توالت بروق ورعود وأمطار غزيرة متوالية بالوجه البحري، وفي بلاد غزة والقدس.
وفيه أيضاً أخذ الفرنج قريباً من طرابلس الغرب تسع مراكب، تحمل رجالاً وبضائع بآلاف دنانير، وتصرفوا في ذلك بما أحبوا.
شهر ربيع الأول، أوله الجمعة: في ليلة الجمعة ثامنه: عمل السلطان المولد النبوي على العادة. وفي هذه الأيام انحل سعر الغلال لقلة طالبها. وكان ظن الناس خلاف ذلك.
وفيها طلب السلطان بعض الكتاب، فهرب منه فرسم بهدم داره، فهدمت حتى سوى بها الأرض.
وفيها أمر بإحراق معصرة بعض المماليك، فأحرقت بالنار حتى ذهبت كلها.
وفي ثاني عشره: ركب السلطان في موكب ملوكي، وسار من قلعة الجبل، فعبر من باب زويلة، وخرج من باب القنطرة يريد الرماية بالجوارح لصيد الكراكي ثم عاد في آخر رابع عشره.
وفي خامس عشره: نصب المدفع الذي أعد لحصار آمد، وهو مكحلة من نحاس زنتها مائة وعشرون قنطاراً مصرياً. وكان نصبها فيما بين باب القرافة وباب الدرفيل، فرمت إلى جهة الجبل بعدة أحجار، منها ما زنته خمسمائة وسبعون رطلاً. وقد جلس السلطان بأعلا سور القلعة لمشاهدة ذلك، واجتمع الناس. واستمر الرمي بها عدة أيام.
وفي تاسع عشره: رسم أن يخرج الأمير الكبير سودن بن عبد الرحمن إلى القدس بطالاً، فاستعفى من سفره وسأل أن يقيم بداره بطالا، فأجيب إلى ذلك، ولزم داره، وأنعم بإقطاعه زيادة في الديوان المفرد. و لم يقرر أحد عوضه في الإمرة .
وفي هذا الشهر: ثارت رياح عاصفة بمدينة دمياط، فتقصفت نخيل كثيرة، وتلف كثير من قصب السكر المزروع، وهدمت عدة دور، وخرج الناس إلى ظاهر البلد لهول ما هم فيه. وسقطت صاعقة فأحرقت شيئاً كثيراً ونزل مطر مغرق. ولم يكن بالقاهرة شيء من هذا.
وفي سادس عشرينه: خلع على شمس الدين محمد بن شهاب الدين أحمد بن محمود ابن الكشك، واستقر في قضاء الحنفية بدمشق، عوضاً عن أبيه بعد وفاته، بمال وعد به. وفيه خلع على عبد العظيم بن صدقة الأسلمي، وأعيد إلى نظر ديوان المفرد، عوضاً عن تاج الدين الخطير. وكان قد ترك ذلك تنزهاً عنه من قبل سفر السلطان إلى الشام، ولم يباشر أحد عوضه.
شهر ربيع الآخر، أوله السبت: فيه خلع على دولات شاه المعزول من ولاية القاهرة، واستقر في ولاية المنوفية والقليوبية وفي ثالثه سرح السلطان للصيد وعاد في خامسه.
وفي عاشره: خلع السلطان على الأمير أينال الششماني، واستقر في نيابة مدينة صفد عوضاً عن الأمير مقبل بعد وفاته. واستقر خليل بن شاهين في نظر الإسكندرية، عوضاً عن فخر الدين بن الصغر. وخليل هذا أبوه من مماليك الأمير شيخ الصفوي، وسكن القدس، وبه ولد له خليل هذا ونشأ.
ثم قدم القاهرة من قريب، واستقر حاجب الإسكندرية. ثم عزل، فسعى في النظر بمال، حتى وليه مع الحجوبية.
وفي حادي عشره: خلع على الأمير أقبغا الجمالي، واستقر كاشف الوجه البحري، عوضاً عن حسن باك بن سقل سيز التركماني، وأضيف له كشف الجسور أيضاً.
وفي ثالث عشره: ركب السلطان بعد الخدمة، ومعه ناظر الجيش، وكاتب السر، والتاج الشويكي. ونزل إلى المارستان المنصوري للنظر في أحواله ليلى التحدث فيه بنفسه، فإنه لم يول نظره أحداً بعد الأمير سودن بن عبد الرحمن.
وأقام الطواشي صفي الدين جوهر الخازندار لما عساه يحدث من الأمور، فاستمر على ذلك.
شهر جمادى الأولى: أوله الاثنين.
في سادسه: خلع على نظام الدين بن مفلح وأعيد إلى قضاء الحنابلة بدمشق. عوضاً عن عز الدين عبد العزيز البغدادي.
وفي ثامن عشرينه: استقر حسين الكردي في كشف الوجه البحري عوضاً عن أقبغا الجمالي، بعد قتله في خامس عشرينه، في حرب كانت بينه وبين عرب البحيرة. وقتل معه جماعة من مماليكه ومن العربان وخلع على الوزير أستادار كريم الدين جبه بفرو سمور؛ ليتوجه إلى البحيرة - ومعه حسين الكردي - لعمل مصالحها، واسترجاع ما نهبه أهلها من متاع أقبغا الجمالي. وكتب إليهم بالعفو عنهم، وأن أقبغا تعدى عليهم في تحريق بيوتهم، وأخذ أولادهم، ونحو ذلك مما يطمئنهم، عسى أن يؤخذوا بغير فتنة ولا حرب.(3/362)
وفي ليلة الجمعة سادس عشرينه: وقع بمكة المشرفة مطر غزير، سالت منه الأودية، وحصل منه أمر مهول على مكة، بحيث صار الماء في المسجد الحرام مرتفعاً أربعة أذرع. فلما أصبح الناس يوم الجمعة ورأوا المسجد الحرام بحر ماء، أزالوا عتبة باب إبراهيم، حتى خرج الماء من المسفلة، وبقي بالمسجد طين في سائر أرضه قدر نصف ذراع في ارتفاعه فانتدب عدة من التجار لإزالته.
وتهدم في الليلة المذكورة دور كثيرة، يقول المكثر زيادة على ألف دار. ومات تحت الردم اثنا عشر إنساناً، وغرق ثمانية أنفس. ودلف سقف الكعبة، فابتلت الكسوة التي بداخلها، وامتلأت القناديل التي بها ماء. وحدث عقيب ذلك السيل بمكة وأوديتها، وبأطرق من اليمن.
شهر جمادى الآخرة: أوله الثلاثاء.
فيه أحصي ما بالإسكندرية من القزازين، وهم الحياك، فبلغت ثمانمائة نول، بعد ما بلغت عدتها في أيام محمود أستادار - أعوام بضع وتسعين وسبعمائة - أربعة عشر ألف نول ونيف، شتت أهلها ظلم ولاة الأمور وسوء سيرتهم.
وفي ثالثه: سار الوزير إلى البحيرة.
وفي ثاني عشره: رسم بإعادة أبي السعادات جلال الدين محمد بن أبي البركات ابن أبي السعود بن زهيرة إلى قضاء الشافعية بمكة، عوضاً عن جمال الدين محمد بن علي بن الشيبي بعد موته.
وفي سابع عشره: رجم مماليك الطباق بالقلعة المباشرين عند خروجهم من الخدمة السلطانية؛ لتأخر جوامكهم بالديوان المفرد عن وقت إنفاقها.
وفي يوم السبت سادس عشرينه: أصبح السلطان ملازماً للفراش من آلام حدثت في باطنه من ليلة الخميس، وهو يتجلد لها إلى عصر يوم الجمعة، فاشتد به الألم، وطلب رئيس الأطباء، فحقنه في الليل مراراً. وأصبح لما به، فلم يدخل إليه أحد من المباشرين. وبعث بمال فرقه في الفقراء. وما زال محجوباً عن كل أحد، وعنده نديماه ولي الدين محمد بن قاسم، والتاج الشويكي فقط.
ثم دخل في يوم الثلاثاء تاسع عشرينه الأمراء لعيادته وقد تزايد ألمه. ثم خرجوا سريعاً، فأبل تلك الليلة من مرضه.
شهر رجب الفرد، أوله الخميس: فيه عملت الخدمة السلطانية بالبيسرية، وقد زال عن السلطان ما كان به من الألم. وشهد الجمعة من الغد بالجامع على العادة. وخلع على الأطباء في يوم السبت ثالثه. ثم ركب في يوم الخميس ثامنه، وشق القاهرة من باب زويلة، ومضى إلى خليج الزعفران بالريدانية، وعاد إلى القلعة.
وفي ثاني عشره: أدير محمل الحاج على العادة.
وفي خامس عشره: نودي في القاهرة بسفر الناس إلى مكة صحبة الأمير أرنبغا وقد عين أن يسافر بطائفة من المماليك، فأخذ طائفة من الناس في التأهب للسفر.
وفي سابع عشرينه: قدم الأمير بربغا التنمي الحاجب بسيف الأمير شار قطلوا نائب الشام، وقد مات بعد ما مرض خمسة وأربعين يوماً، في تاسع عشره .
وفيه قدم الوزير من البحيرة، وقد مهد أمورها على ما يجب.
وفي تاسع عشرينه: كتب بانتقال الأمير قصروه من نيابة حلب إلى نيابة دمشق، عوضاً عن شارقطلوا، وأن يتوجه له بالتشريف وتقليد النيابة الأمير خجا سودن، نوبة من أمراء الطبلخاناه. وخلع على الأمير قرقماس الشعباني حاجب الحجاب واستقر في نيابة حلب، عوضاً عن الأمير قصروه، وأن يتوجه متسفره الأمير شادي بك رأس نوبة من الطبلخاناه. وخلع على الأمير يشبك المشد الظاهري ططر، واستقر حاجب الحجاب عوضاً عن قرقماس. وأنعم بإقطاع قرقماس على الأمير أقبغا التمرازي أمير مجلس، وبإقطاع أقبغا على الأمير يشبك المذكور. وخلع على الأمير أينال الجمكي أمير سلاح، واستقر أميراً كبيراً أتابك العساكر، وكانت شاغرة منذ لزم سودن بن عبد الرحمن داره.
وخلع على الأمير جقمق أمير أخور، واستقر أمير سلاح، عوضاً عن الأمير أينال الجمكي. وخلع على الأمير تغري برمش، واستقر أمير أخور عوضاً عن جقمق. وأخرج سودن بن عبد الرحمن إلى دمياط. وسار الأمير بربغا التنمي؛ ليبشر الأمير قصروه بنيابة الشام.
شهر شعبان، أوله الجمعة:(3/363)
فْيه نودي ألا يتعامل الناس بالدراهم القرمانيِة ونحوها بما يجلب من البلاد، وأن تكون المعاملة بالدراهم الأشرفية فقط، وأن يكون الذهب والفلوس على ما هما عليه. وذلك أنه كان قد عزم السلطان على تجديد ذهب ودراهم وفلوس، وإبطال المعاملة. مما بأيدي الناس من ذلك، فكثر اختلاف أهل الدولة عليه بحسب أغراضهم. ولم يعزم على أمر، فأقر النقود على حالها، وجمع الصيارفة، وضرب عدة منهم وشهرهم من أجل الدراهم القرمانية وإخراجها في المعاملة، وقد نهوا عن ذلك مراراً فلم ينتهوا.
وفي سابعه: خلع على الأمير الكبير أينال الجكمي، واستقر في نظر المارستان المنصوري على عادة من تقدمه.
وفى تاسعه: رزت المماليك المتوجهة إلى مكة صحبة الأمير أرنبغا، ورافقهم عدة كبيرة من الرجال والنساء يريدون الحج والعمرة.
وفي هذا الشهر: - والذي قبله - فرض السلطان على جميع بلاد الشرقية والغربية والمنوفية والبحيرة وسائر الوجه البحري خيولاً تؤخذ من أهل النواحي.
وكان يؤخذ من كل قرية خمسة آلاف درهم فلوساً عن ثمن فرس، ويؤخذ من بعض النواح عشرة آلاف عن ثمن فرسين. ويحتاج أهل الناحية مع ذلك إلى مغرم لمن يتولى أخذ ذلك منهم. وأحصي كُتاب ديوان الجيش قرى أرض مصر كلها - قبليها وبحريها - فكانت ألفين ومائة وسبعين قرية. وقد ذكر المسَّبحي أنها عشرة آلاف قرية فانظر تفاوت ما بين الزمنين.
وفي رابع عشره: برز الأمير قرقماس نائب حلب، في تجمل حسن بالنسبة إلى الوقت؛ ليسير إلى محل كفالته. وخلع عليه خلعة السفر ططري بفرو سمور ومن فوقه قباء نخ بفرو قاقم.
وفي تاسع عشره: ختن السلطان ولده، المقام الجمالي يوسف، وأمه أم ولد اسمها جلبان، جركسية وختن معه نحو الأربعين صبياً، بعد ما كساهم. وقدم له المباشرون ذهباً وحلاوات، فعمل مهما للرجال وللنساء، أكلوا فيه وشربوا.
وكتبتُ عند ذلك كتاباً سميته الأخبار عن الأعذار، وما جاء فيه من الأخبار والآثار، وما لأئمة الإسلام فيه من الأحكام، وما فعله الخلفاء والملوك. وفيه من المآثر الجسام، والأمور العظام، لم أُسبق بمثله فيما علمت.
وفي يوم السبت ثالث عشرينه: فُقد الوزير كريم الدين ابن كاتب المناخ، فخلع على أمين الدين إبراهيم بن مجد الدين عبد الغني بن الهيصم ناظر الدولة، واستقر في الوزارة.
وفي يوم الأربعاء سابع عشرينه: ظهر الوزير كريم الدين، وصعد إلى القلعة، فخلع عليه قباء من أقبية السلطان. ونزل على أنه أستادار. ثم خلع عليه من الغد، فكان موكبه جليلاً إلى الغاية. وقد ألزم السلطان في غيبة الوزير عظيم الدولة، القاضي زين الدين عبد الباسط ناظر الجيش بإقامة دواداره جانبك أستادار، فلم يرض بذلك خوف العاقبة، وأخذ يسعى في دفع ذلك عنه حتى أعفي، فعين سعد الدين إبراهيم بن كاتب حكم ناظر الخاص أستادار، فما زال يسعى في الإعفاء، حتى ظهر الوزير كريم الدين، فتنفس خناق الجميع. وفيه قدم الحمل من قبرس على العادة في البحر في كل سنة.
وفي هذا الشهر: اشتد الوباء بمكة وأوديتها، حتى بلغ بمكْة في اليوم عدة من يموت خمسين، ما بين رجل وامرأة.
شهر رمضان، أوله السبت: في ثامنه: ورد الخبر من دمياط بأخذ الكيتلان من الفرنج خمس مراكب من ساحل بيروت، فيها بضائع كثيرة ورجال عديدة. وبعث ملكهم إلى والي دمياط كتاباً ليوصله إلى السلطان، يتضمن جفاء ومخاشنة في المخاطبة؛ بسبب إلزام الفرنج أن يشتروا الفلفل المعد للمتجر السلطاني، فغضب السلطان لما قرئ عليه، ومزقه.
وفي هذه الأيام: قطع عدة مرتبات للناس على الديوان المفرد، وعلى الاصطبل السلطاني، وعلى ديوان الوزارة. وذلك ما بين نقد ف كل شهر، ولحم في كل يوم، وقمح في كل سنة. واغتنم لذلك كثير من الناس وكانت العادة أن تكثر الصدقات والهبات في شهر رمضان، فاقتضى الحال قطع الأرزاق لضيق حال الدولة.
وفيها عينت تجريدة في النيل لتركب بحر الملح من دمياط، وتجول فيما هنالك، عسى تنكف عادية الفرنج ويقل عبثهم وفسادهم.
وفي ثاني عشرينه: دخل الأمير قرقماس إلى حلب. فما كاد أن يستقر بها حتى ورد الخير بوقعة كانت بين الأمير أينال الأجرود نائب الرها وبين أصحاب قرا يلك، انهزم فيها. فأخذ في أهبة السفر إلى الرها.
وفي هذا الشهر: تناقص الوباء بمكة.
شهر شوال، أوله الاثنين:(3/364)
وأتفق في الهلال ما لم يذكر مثله، وهو أن أرباب تقويم الكواكب، اقتضى حسابهم أن هلال شهر رمضان في ليلة السبت يكون مع جرم الشمس، فلا يمكن رؤيته. فلما غربت الشمس تراءى السلطان بمماليكه من فوق القلعة الهلال، وتراءاه الناس من أعلى الموادن والأسطحة بالقاهرة ومصر وما بينهما وما خرج عنهما، وهم ميون ألوف، فلم ير أحد منهم الهلال، فانفضوا وقد أظلم الليل.
وإذا برجل ممن يتكسب في حوانيت الشهود بتحمل الشهادة جاء إلى قاضي القضاة الشافعي، وشهد بأنه رأى الهلال، فأمر أن يرفع للسلطان. فلما مثل بين يديه ثبت وصمم على رؤيته الهلال. وكان حنبلياً، وهو من أقارب نديم السلطان ولي الدين بن قاسم، فبالغ في الثناء عليه عند السلطان، فأمر بإثبات الهلال، فأثبت بعض نواب قاضي القضاة الحنبلي بشاهدة هذا الشاهد أول رمضان، ونودي في الليل بصوم الناس من الغد بأنه من رمضان. فاصبح الناس صائمين، وألسنتهم تلهج بالوقيعة في القضاة والشهود، وتمادوا على ذلك، فتوالت الكتب من جميع أرض مصر، قبليها وبحريها، ومن البلاد الشامية وغيرها. بأنهم تراءوا الهلال ليلة السبت، فلم يروه، وأنهم صاموا يوم الأحد. فلما كان ليلة الاثنين التي يزعم الناس أنها أول ليلة من شوال، تراءى الناس الهلال من القلعة، وبالقاهرة ومصر وما بينهما وحولهما، فلم يزوره، فجاء بعض نواب القضاة، وزعم أنه رآه، وأنه شهد عنده برؤيته من أَثبت بشهادته أن هلال شوال غدا يوم الاثنين، فكانت حادثة لم ندرك قبلها مثلها، وهي أن الهلال بعد الكمال عدة ثلاثين يوماً لا يراه الجم الغفير الذي لا يحصى عددهم إلا خالقهم، مع توفر دواعيهم على أن يروه، وقد خلت السماء من الغيم. وجرت العادة باًن يتساوى الناس في رؤيته، وأوجب ذلك تزايد الوقيعة في القضاء بل وفي سائر الفقهاء، حتى لقد أنشدني بعضهم لمحمود الوراق:
كنا نَفِر من الولاة ... الجائرين إلى القضاة
فالآن نحن نفر من ... جور القضاة إلى الولاة
وفي ثامنه: سارت التجريدة في النيل، وهي مائتا مملوك من المماليك السلطانية، ومائة من مماليك الأمراء. وعليهم ثلاثة أمراء من أمراء العشرات، بعد ما أنفق في كل مملوك ألف وخمسمائة درهم فلوساً، عنها خمسة دنانير وكسر. وفيه برز الأمير قرقماس نائب حلب إلى الرها.
وفي يوم الأربعاء ثالثه: وسط الأمير علم الدين حذيفة بن الأمير نور الدين علي بن نصير الدين، شيخ لواته، خارج القاهرة.
وفي ثامن عشره: قدم الخبر بوقعة أينال الأجرود المذكورة، وهي أن بعض من معه من أمراء حلب صادف بين بساتين الرها طائفة من التركمان، وهو يسير خيله، فقاتلهم وهزمهم. فلما بلغ ذلك أينال خرج من مدينة الرها نجدة له، فخرجت عليه ثلاث كمائن، فكانت بينه وبينهم وقعة، قتل فيها من الفريقين عدة. ولحق أينال بالمدينة، فوقع العزم على سفر السلطان. وكتب إلى بلاد الشام بتعبئة الإقامات من الشعير ونحوه.
وفي عشرينه: خرج محمل الحاج صحبة الأمير قرا سنقر إلى بركة الحاج، وصحبته كسوة الكعبة علىْ العادة. وقد قدم من بلاد المغرب، ومن التكرور، ومن الإسكندرية وأعمال مصر حاج كثير، فتلاحقوا بالمحمل شيئاً بعد شيء.
ثم استقل الركب الأول بالمسير من البركة في ثاني عشرينه. ورحل الأمير قرا سنقر بالمحمل وبقية الحاج في ثالث عشرينه.
وكتب إلى البلاد الشامية بخروج نواب المماليك للحاق بالأمير قرقماس نائب حلب. ثم أبطل ذلك: وكتب بمنعهم من المسير، حتى يصح لهم نزول قرا يلك على الرها بجمائعه وبيوته. فإذا صح لهم ذلك ساروا لقتاله.
وفيه أيضاً كتب باستقرار خليل بن شاهين ناظر الإسكندرية وحاجبها في نيابة الثغر، مع النظر والحجوبية. وكان قد بعث بثلاثة آلاف دينار، ووعد بحمل مثلها، وسأل في ذلك فأجيب إليه.(3/365)
ولم ندرك مثل ذلك، وهو أن يكون النائب حاجباً، فإن موضع الحاجب الوقوف بين يدي النائب والتصرف بأمره، هي الأيام كلها قد صرن عجائب حتى ليس فيها عجائب وقدم قلصد من بغداد كان قد توجه لكشف الأخبار، فأخبر أن أصبهان بن قرا يوسف لما أخذ بغداد من أخيه شاه محمد بن قرا يوسف أساء السيرة، بحيث أنه أخرج جميع من ببغداد من الناس بعيالاتهم وأخذ كل مالهم من جليل وحقير، فتشتتوا بنسائهم وأولادهم في نواحي الدنيا، وصارت بغداد وليس بها سوى ألف رجل من جند أصبهان، لا غير. وليس بها إلا ثلاثة أفران تخبز الخبز فقط، ولم يبق بها سكان ولا أسواق. وأنه أخرب الموصل حتى صارت يبابا، فإنه سلب نعم أهلها وأمر بهم فأخرجوا وتمزقوا في البلاد. واستولت عليها العربان، فصارت الموصل منازل العرب بعد التمدن الذي بلغ الغاية في الترف. وأنه أخذ أموال أهل المشهد، وأزال نعمهم، فتشتتوا بعيالهم. وصار من أهل هذه البلاد إلى الشام ومصر خلائق لا تعد ولا تحصى.
وفيه قدم جنيد - أحد أمراء أخورية - وقد توجه إلى أبي فارس عبد العزيز ملك المغرب، وعلى يده كتاب السلطان بمنع التجار من حمل الثياب المغربية المحشاة بالحرير من ملابس النساء، وأن يلزمهم بقود الخيول بدل ذلك. فوجده متوجها من بجاية إلى فاس، فأكرمه ونادى بذلك في عمله، وأجاب عن الكتاب. وبعث بهدية، هي ثلاثون فرساً، منها خمسة مسرجة ملجمة، ونحو مائتين وخمسين بعيراً وقدم صحبة جنيد ركب في نحو ألف بعير يريدون الحج.
وفي يوم الاثنين تاسع عشرينه: كسفت الشمس في آخر الساعة الرابعة، فتغير لونها تغيراً يسيراً، ولم يشعر بها أكثر الناس ولا اجتمعوا للصلاة بالجوامع على العادة؛ لقلة الشعور بذلك. ثم انجلى الكسوف سريعاً. وكان بعض من يزعم علم النجوم لقلة درايته وكثرة جرأته قد أرجف قبل ذلك بأيام، وشنع بأمر الكسوف، وما يدل عليه، حتى اشتهر إرجافه وتشنيعه، وداخل بعض الناس الوهم. فلما لم يكن من أمر الكسوف كبير شيء، طلب السلطان طائفة ممن يتحل هذا الفن من أهل التقويم، وأنكر عليهم وهددهم.
وفي هذه الأيام: قطعت أيضاً عدة مرتبات للناس من ديوان السلطان، ما بين عليق لخيولهم، ومبلغ دراهم في كل شهر.
وفيها ارتفع سعر الغلال قليلاً، فكان القمح من مائة وخمسين درهماً الأردب إلى ما دونها، فبلغ مائة وسبعين مع كثرته لزكاة الغلال وقت الدراس، ورخاء بلاد الشام والحجاز.
وفيها ظفر المجردون في البحر على بيروت بغراب للبنادقة، فيه صناديق مرجان ونقد وغير ذلك. وظفروا بمركب آخر للجنويين على طرابلس فيه بضائع، فأًحرقوه بما فيه، وأسروا سوى من غرق بضعاً وعشرين رجلاً.
وقتل من المماليك المجردين سبعة، فلم يحمد هذا من فعلهم، وذلك أن البنادقة والجنوية مسالمون المسلمين.
شهر ذي القعدة، أوله الأربعاء: فيه توجه الأمير جقمق أمير سلاح إلى مكة حاجاً، وسار معه كثير ممن قدم من المغاربة وغيرهم.
وفي ثالث عشره: ابتدئ بالنداء على النيل بزيادته، وقد أخذت القاعدة فكانت خمسة أذرع واثنين وعشرين إصبعاً، والنداء بزيادة ثلاثة أصابع.
شهر ذي الحجة: أهل بيوم الخميس، وسعر القمح قد ارتفع إلى مائتي درهم، والفول إلى مائتي درهم أيضاً. والشعير إلى مائة وسبعين لتكالب الناس على شرائه، مع استمرار زيادة النيل من غير توقف. لكنها عوائد سوء قد ألفوها منذ هذه الحوادث والمحن، أن يكثر إرجاف المرجفين بتوقف النيل، رغبة في بيع الغلال بأغلى الأثمان، فيأخذ كل أحد في شرائها، ويمسك أربابها ما بأيديهم منها، لا سيما أهل الدولة، يرتفع لذلك سعرها.
وفي يوم الأحد ثامن عشره: نودي بزيادة ماء النيل اثني عشر إصبعاً، لتتمة ثلاثة عشر ذراعاً، واثنتين وعشرين إصبعاً. ووافق هذا اليوم أول مسرى. وهذا القدر مما يستكثر من الزيادة في هذا الوقت، ويؤذن بعلو النيل وكثرة زيادته إن شاء الله تعالى.
وفي يوم السبت رابع عشرينه - وسابع مسرى - : نودي بزيادة عشر أصابع لتتمة ستة عشرة ذراعاً، وهي التي يقال لها أذرع الوفاء، وزيادة أربعة أصابع من سبعة عشر ذراعاً ويعد هذا من الأنيال الكبار، وفيه نادرتان، إحداهما زيادة عشر أصابع في يوم الوفاء، وقل ما يقع ذلك والنادرة الثانية وفاء النيل في هذا العام مرتين، إحداهما في ثاني المحرم كما تقدم، والأخرى هذا.(3/366)
اليوم من ذي الحجة: ولا أذكر أني أدركت مثل ذلك. ونادرة ثالثة أدركنا مثلها مراراً، وهي الوفاء في سابع مسرى، بل أدركنا وفاه قبل ذلك من أيام مسرى، إلا أن ذلك قل ما وجد في الأنيال القديمة.
وفيه ركب المقام الجمالي يوسف ابن السلطان حتى خلق عمود المقياس بين يديه، ثم فتح الخليج على العادة، فكان يوماً مشهوداً.
وفي غده نودي على النيل بزيادة ثمانية أصابع لتتمة ستة عشر ذراعاً ونصف ذراع. ثم نودي من الغد بزيادة خمسة عشر إصبعاً لتتمة سبعة عشر ذراعا وثلاثة أصابع، وهذه الزيادة بعد الوفاء من النوادر أيضاً. فالله يحسن العاقبة.
وفي سادس عشرينه: قدم مبشرو الحاج، وأخروا بسلامتهم. وهذا أيضاً مما يندر وقوعه.
وفي هذه السنة: أخذ أفرنج ثماني عشرة مركباً من سواحل الشام، فيها من البضائع ما يجل وصفه، وقتلوا عدة ممن كان بها من المسلمين، وأسروا باقيهم.
وفيها طلق رجل من بني مهدي بأرض البلقاء امرأته وهي حامل، فنكحها رجل غيره، ثم فارقها، فنكحها رجل ثالث، فولدت عنده ضفدعاً في قدر الطفل، فأخذوه ودفنوه خوف العار.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
أحمد بن محمود بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن أبي العز قاضي القضاة، شهاب الدين أحمد بن قاضي القضاة محيي الدين المعروف بابن الكشك الحنفي، بدمشق في ليلة الخميس، سابع شهر ربيع الأول، وقد ولي قضاء القضاة الحنفية بدمشق مراراً. وجمع بينها وبين نظر الجيش. وكثر ماله، وصار عين دمشق، وعين لكتابة السر بديار مصر، فامتنع.
ومات الأمير مقبل نائب صفد بها، في يوم الجمعة تاسع عشرين ربيع الأول، وكان مشهوراً بالشجاعة. وهو أحد المماليك المؤيدية شيخ.
ومات قاضي مكة جمال الدين محمد بن علي أبي بكر الشيبي الشافعي بها، في ليلة الجمعة ثامن عشرين ربيع الأول، عن نحو سبعين سنة. وكان خيراً، ساكناً، سمحاً، مشكور السيرة، متواضعاً، ليناً؛ رحمه الله.
ومات الأمير أقبغا الجمالي الأستادار مقتولاً بالبحيرة، في حادي عشرين شهر ربيع الآخر، ومستراح منه.
ومات الشيخ أبو الحسن علي بن حسين بن عروة بن زكنون الحنبلي، الزاهد الورع، في ثاني عشر جمادى الآخرة، خارج دمشق، وقد أناف على الستين. وشرح مسند الإمام أحمد وكان في غاية الزهد والورع، منقطع القرين.
ومات الأمير شار قطلوا نائب الشام بها، في ليلة الاثنين تاسع عشر شهر رجب. وهو أحد المماليك الظاهرية. ومستراح منه.
ومات الشريف رميثة بن محمد بن عجلان مقتولاً خارج مكة، في خامس شهر رجب. وقد ولي إمارة مكة قبل ذلك ثم عزل. و لم يكن مشكوراً.
ومات تقي أبو بكر بن علي بن حجة - بكسر الحاء - الحموي، الأديب، الشاعر، في خامس عشرين شعبان، بحماة. ومولده سنة سبع وستين وسبعمائة. وقدم إلى القاهرة في الأيام المؤيدية، وصار من أعيانها.
ثم عاد بعد ذلك إلى حماة. وكان فيه زهو وإعجاب، وعلمه الأدب، فنظم كثيراً، وصنف شرحاً على بديعية نظمها بديع في بابه.
ومات ملك المغرب أبو فارس عبد العزيز بن أبي العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر ابن يحيى بن إبراهيم بن يحيى بن عبد الواحد بن عمر بن ونودين الهنتاتي الحفصي، عن ست وسبعين سنة، منها مدة ملكه إحدى وأربعين سنة وأربعة أشهر وأيام. في رابع عشر ذي الحجة، بعد ما خطب له بتلمسان وفاس وكان خير ملوك زمانه صيانة، وديانة، وجوداً، وأفضالا، وعزماً، وحزماً، وحسن سياسة، وجميل طريقة. وقام من بعده حفيده المنتصر أبو عبد الله محمد ابن الأمير أبي عبد الله محمد ابن السلطان أبي فارس.(3/367)
ومات ملك بغداد شاه محمد بن قرا يوسف بن قرا محمد، في ذي الحجة، مقتولاً على حصن من بلاد شاه رخ بن تيمور، ويقال شنكان، فأقيم بدله أمير زاه علي ابن أخي قرا يوسف وكان شر ملوك زمانه لفسقه وجوره وعتوه، إبطاله شرائع الإسلام، فإنه ربي بمدينة إربد، وصحب نصاراها، فلقن منهم عقائد سوء. فلما أقامه أبوه في بغداد بعد قتل أحمد بن أويس أظهر فيها سيرة جميلة، وعفة عن القاذورات المحرمة مدة سنين. وكان الغالب على دولته نصراني يعرف بعبد المسيح، فأظهر بعد ذلك تعظيم المسيح وفضله على من عداه، وصرح باعتقاده النصرانية: وأخرج عساكره من بغداد. وبقي في طائفة، فكثر في الأعمال قطاع الطريق حتى فسدت السابلة، وجلت الناس عن بغداد، وانقطع ركب الحاج منها، إلى أن غلبه أخوه أصبهان، وأخرجه من بغداد، فقتل، وأراح ا لله الناس منه. والله يلحق به من بقي من أخوته، فإنهم شر عصابة، سلطت على الناس بذنوبهم.
ومات سلطان بنجالة من بلاد الهند، جلال الدين أبو المظفر محمد بن فندو ويعرف بكاس. كان كاس كافراً، فثار على شهاب الدين مملوك سيف الدين حمزة ابن غياث الدين أعظم شاه بن اسكندر شاه بن شمس الدين، وملك منه بنجالة وأعمالها، وأسره. فثار عليه ابنه وقد أسلم، وتسمى محمداً، وتكنى بأبي المظفر، وتلقب جلال الدين، وجدد مأثر جليلة، منها عمارة ما أخربه أبوه من المساجد، وإقامة شعائر الإسلام. وبعث بمال إلى مكة وهدية للسلطان بمصر في سنة اثنتين وثلاثين، على يد شميل ومرغوب وعلى يدهما كتابه بأن يفوض إليه الخليفة سلطة الهند، فجهز له التقليد عن الخليفة مع تشريف، فبعث عند وصول ذلك إليه هدية ثانية، في سنة أربع وثلاثين، فجهزت إليه هدية أخرى، فوصلت إليه. ومات في شهر ربيع الآخر من هذه السنة وأقيم بعده ابنه المظفر أحمد شاه، وعمره أربع عشرة سنة.
سنة ثمان وثلاثين وثمانمائة
شهر اللّه الحرام، أوله السبت: في ثالثه: قدمت التجريدة المجهزة في البحر، بغير طائل.
وفي رابعه: قدم قاصد الأمير عثمان قرا يُلك بكتابه، وتسعة أكاديش تقدمة للسلطان، وبعث بدراهم، عليها سكة السلطان.
وفي حادي عشره: قبض على الأمير بردبك الإسماعيلي، أحد أمراء الطبلخاناه وحاجب ثاني، وأخرج إلى دمياط. وأنعم بإقطاعه على الأمير تغري بردي البكلمشي، المعروف بالمؤذي، أحد رءوس النوب. واستقر الأمير جانبك الذي عزل من نيابة الإسكندرية حاجبا، عوض الإسماعيلي.
وفي خامس عشره: قدم الأمير جقمق من الحج، بمن معه، على الرواحل.
وفيه شرع سودن المحمدي - المجهز لعمارة الحرمين - في هدم سقف الكعبة.
وفي ثاني عشرينه: - الموافق لآخر أيام النسئ نودي على النيل بزيادة إصبعين، لتتمة تسعة عشر ذراعاً ونصف ذراع.
وفيه خلع على الأمير دولات خجا وأعيد إلى ولاية القاهرة، عوضًا عن التاج الشويكي وكان أخوه عمر يتحدث عنه في الولاية، وقد ترفع عنها بمنادمته السلطان.
وفي ثالث عشرينه: قدم الركب الأول من الحاج. ووافق هذا اليوم نوروز القبط. ونودي فيه بزيادة إصبعين لتتمة تسعة عشر ذراعاً وأربعة عشر إصبعاً. وهذه زيادة كبيرة يندر أن يكون يوم النوروز والنيل على ذلك.
وفي رابع عشرينه: قدم المحمل ببقية الحاج، وقد هلك جماعة من المشماة، وتلفت جمال كثيرة.
وفي يوم الخميس سابع عشرينه: عملت الخدمة السلطانية وأقيم الموكب بالإيوان المسمى دار العدل من قلعة الجبل، بعد ما هُجر مدة. وأحضر رسول شاه رخ بن تيمور ملك المشرق، وهو من أشراف شراز - يقال له السيد تاج الدين علي، فدفع ما على يده من الكتاب، وقدم الهدية، تتضمن كتابه وصول هدية السلطان المجهزة إليه. وأنه نذر أن يكسو الكعبة البيت الحرام، وطلب أن يبعث إليه من يتسلمها، ويعلقها من داخل البيت. واشتملت الهدية على ثمانين ثوب حرير أطلس، وألف قطعة فيروز ليست بذاك، تبلغ فيمة الجميع ثلاثة آلاف دينار. ولم يكلف الرسول أن يقبل الأرض رعاية لشرفه. ووجد تاريخ الكتاب في ذي الحجة سنة ست وثلاثين. وكان قدومه من هراة إلى هرمز، ومن هرمز إلى مكة. ثم قدم صحبة ركب الحاج، فأنزل وأجري له ما يليق به.(3/368)
وفي ثامن عشرينه: وصل من القدس مائة وعشرة رجال من الفرنج الجرجان، وقد قدموا لزيارة قمامة على عادتهم، فاتهموا أن فيهم عدة من أولاد ملوك الكيتلان الذين كثر عيثهم وفسادهم في البحر، فأحضروا ليكشف عن حالهم، وهم بأسوأ حال فسجنوا مهانين. ثم أفرج عنهم بعد أيام، وقد مات منهم عدة.
شهر صفر، أوله الاثنين: في سادسه: رُسم باستقرار سراج الدين عمر بن موسى بن حسن الحمصي - قاضي طرابلس - في قضاء القضاة الشافعية بدمشق، عوضاً عن بهاء الدين محمد بن نجم الدين بن عمر بن حجي. وقد وَعد بأربعة آلاف دينار يقوم بها. واستقر عوضه في قضاء طرابلس صدر الدين محمد بن شهاب الدين أحمد بن محمد النويري، بمبلغ ألف وثلاثمائة دينار. وأُعيد القاضي شمس الدين محمد بن علي بن محمد الصفدي إلى قضاء القضاة الحنفية بدمشق، على أن يقوم بألفي دينار. وعزل شمس الدين محمد بن شهاب الدين أحمد بن نجم الدين محمود بن الكشك.
وفي سادسه: عُقد بين يدي السلطان مجلس جمع فيه قضاة القضاة الأربع بسبب نذر شاه رخ أن يكسو الكعبة، فأجاب قاضي القضاة بدر الدين العيني بأن نذره لا ينعقد، فانفضوا على ذلك.
وفيه خلع على نكار الخاصكي، واستقر شاه جدة. وخُلع معه على علم الدين عبا الرزاق الملكي، واستقر عوضاً عن سعد الدين بن المرة. وساروا بعد أيام إلى مكة - شرفها الله تعالى - في البحر.
وفى تاسعه - الموافق لسابع عشر توت: وهو يوم عيد الصليب عند قبط مصر - نودي بزيادة إصبع لتتمة عشرين ذراعاً وعشر أصابع.
وفي ثالث عشره: كتب إلى مكة - شرفها الله تعالى - بأن يتحدث الأمير سودن المحمدي المجرد هناك في نظر الحرم. وكتب أيضاً بألا يؤخذ من التجار الواردين إلى جدة من الهنود سوى العُشر فقط، وأن يؤخذ من التجار الشاميين والمصريين إذا وردوا جدة ببضائع اليمن عشران. وأنَّ من قدم إلى جدة من التجار اليمنيين ببضاعة تؤخذ بضاعته بأًجمعها للسلطان من غير ثمن يدفع له عنها.
وسبب ذلك أن تجار الهند في هذه السنين صاروا عند ما يعيرون من باب المندب يجوزون عن بندر عدن حتى يرسوا بساحل جدة كما تقدم، فأقفرت عدن من التجار، واتضع حال مَلِك اليمن لقلة متحصله. وصارت جدة هي بندر التجار، ويحصل لسلطان مصر من عشور التجار مال كبير. وصار نظر جدة وظيفة سلطانية، فإنه يؤخذ من التجار الواردين من الهند عشور بضائعهم. ويؤخذ مع العشور رسوم تقررت للناظر والشاد، وشهود القبان، والصيرفي، ونحو ذلك من الأعوان وغيرهم. وصار يحمل من قبل سلطان مصر مرجان ونحاس ويخر ذلك مما يحمل من الأصناف إلى بلاد الهند، فيطرح على التجار. وتشبه به في ذلك غير واحد من أهل الدولة. فضاق التجار بذلك ذرعاً، ونزل جماعة منهم في السنة الماضية إلى عدن، فتنكر السلطان بمصر عليهم؛ لما فاته من أخذ عشورهم، وجعل عقوبتهم أن من اشترى بضاعة من عدن وجاء بها إلى جدة، إن كان من الشاميين أو المصريين، أن يضاعف عليه العشر بعُشرَيْن، وإن كان من أهل اليمن أن تؤخذ بضاعته بأسرها. فمن لطف الله تعالى بعباده أنه لم يعمل بشيء من هذا الحادث، لكن قرئت هذه المراسيم تجاه الحجر الأسود، فراجع الشريف بركات ابن عجلان أمير مكة في أمرها للسلطان، حتى عفا عن التجار وأبطل ما رسم به.
وكانت العادة التي أدركناها أن الحرم يلي نظره فاضي مكة الشافعي، فبذل بعض التجار العجم المجاورين بمكة - وهو داود الكيلاني - مالا للسلطان حتى ولاه نظر الحرم، وعزل عنه أبا السعادات جلال الدين محمد بن ظهيرة قاضي مكة في السنة الماضية. فلما قدم مكة وقُرئ توقيعه تجاه الحجر الأسود على العادة، أنكره الشريف بركات، وراجع السلطان في كتابه إليه بأن الففراء وغيرهم من أهل الحرم لم يرضوا بولاية داود، وأنه منعه من التحدث، وأقام سودن المحمدي المجهز لعمارة الحرم يتحدث في النظر حتى يرد ما يعتمد عليه، فكتب لسودن المحمدي في التحدث في نظر الحرم، فباشر ذلك.(3/369)
وفي يوم الخميس ثالث عشره: ثارت مماليك السلطان سكان الطباق بقلعة الجبل، وطلبوا القبض على المباشرين بسبب تأخر جوامكهم في الديوان المفرد، ففر المباشرون منهم، ونزلوا من القلعة إلى بيوتهم بالقاهرة، فنزل جمع كبير من المماليك إلى القاهرة، ومضوا إلى بيت القاضي زين الدين عبد الباسط ناظر الجيش، وهو يومئذ عظيم الدولة، وصاحب حلِّها وعقدها، فنهبوا ما قدروا عليه. وقصدوا بعده بيت الوزير أمين الدين إبراهيم بن الهيصم، وبيت الأمير كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ أستادار، فنهبوهما. ولم يقدروا على أحد من الثلاثة؛ لفرارهم منهم، فكان يوماً شنيعاً.
وفي يوم الثلاثاء غده: غُلقت أسواق القاهرة وماج الناس في الشوارع والأزقة، وفر الأعيان من دورهم لإشاعة كاذبة بأن المماليك قد نزلوا من القلعة للنهب. وكان ذلك من أشنع ما جرى، إلا أن الحال سكن بعد ساعة؛ لظهور كذب الإشاعة، وأن المماليك لم تتحرك.
وفي سابع عشره: ركب القاضي زين الدين عبد الباسط إلى القلعة بعد ما نزل له الأمراء في أمسه بأن يتوجه إلى الإسكندرية، فما زال حتى انصلح حاله. وركب بقية المباشرين إلى القلعة للخدمة السلطانية على العادة، فتقرر الأمر على أن يقوم عبد الباسط للوزير من ماله بخمسمائة ألف درهم مصرية، عنها نحو ألفي دينار أشرفية، تقوية له، وأن السلطان يساعد أستادار بعليق المماليك لشهر، ونزلوا وقد أمنوا واطمأنوا.
وفي يوم الأربعاء: هذا نودي على النيل بزيادة إصبع لتتمة عشرين ذراعاً وأحد عشر إصبعاً. وكان قد نقص بعد عيد الصليب عند ما فتحت جسور عديدة لري النواحي، فرد النقص في هذه المدة، وزاد إصبعاً، وقد طبق الماء جميع أراضي مصر، قبليها وبحريها، وشمل الري حتى الروابي؛ ولله الحمد.
وفي يوم الخميس - ثامن عشره: - نودي بزيادة إصبع لتتمة عشرين ذراعاً ونصف.
وفي يوم الجمعة - تاسع عشره: - عين شمس الدين بن سعد الدين بن قطارة لنظر الدولة، وألزم بتكفية يومه. ورُسم بطلب الأمير أرغون شاه الوزير - كان - من دمشق، وهو أستادار بها؛ ليستقر في الوزارة، عوضاً عن أمين الدين إبراهيم بن الهيصم، بعد ما تنكر السلطان على أستادار كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ من أجل أنه عرض عليه الوزارة فلم يقبلها، فرسم بعقوبته، وضمنه ناظر الخاص سعد الدين إبراهيم ابن كاتب حكم.
وفيه بدأ النقص في ماء النيل، وهو سابع عشرين توت.
وفي يوم السبت عشرينه: خلع على أستادار كريم الدين على عادته. وخلع على الوزير أَمين الدين واستقر بعد الوزارة في نظر الدولة، كما كان قبل الوزارة.
وألزم بتكفية الدولة إلى حين قدوم الأمير أرغون شاه، فاختفى في ليلة الاثنين.
وفي يوم الاثنين ثاني عشرينه: قبض على الأمير كريم الدين أستادار، وألزم سعد الدين ناظر الخاص بولاية الوزارة، فلم يوافق على ذلك.
وفيه سار الشريف تاج الدين علي - رسول شاه رخ - وصحبته الأمير أقطوة المؤيدي المهمندار. وأُجيب شاه رخ عن طلبه كسوة الكعبة باًن العادة قد جرت ألا يكسوها إلا ملوك مصر، والعادة قد اعتبرت في الشرع في مواضع وجُهزت إليه هدية.
وفي خامس عشرينه: تغير السلطان علي سعد الدين ناظر الخاص لامتناعه من ولاية الوزارة، وأمر به فضرب - وقد بطح على الأرض - ضرباً مبرحاً. ثم نزل إلى داره.
وفي هذا الشهر: ارتفع سعر اللحم، وقلَّ وجوده في الأسواق. وارتفع سعر الأجبان وعدة أصناف من المأكولات، مع رخاء سعر الغلال.
وفيه طرح من شون السلطان عشرة آلاف أردب من الفول على أصحاب البساتين والمعاصر وغيرها من الدواليب، بسعر مائة وخمسة وسبعين درهماً من الفلوس كل أردب. ورسم ألا يحمي أحد ممن له جاه، فلم يعمل بذلك. ونجا من الطرح من له جاه، وابتلي به من عداهم. فنزل بالناس منه خسارات متعددة، لا من زيادة السعر، بل من كثرة الكُلف.(3/370)
وفي يوم الخميس خامس عشرينه: ضُرب الوزير الصاحب أستادار كريم الدين ابن كاتب المناخ بالمقارع، وقد عري من ثيابه زيادة على مائة شيب. ثم ضُرب على أكتافه بالعصي ضرباً مبرحاً، وعصرت رجلاه بالمعاصر. وكان له - منذ قُبض عليه وهو مسجون ومقيد - عدةُ مرسمون عليه في موضع بالقلعة ثم أنزل في يوم الجمعة غد من القلعة، وأركب بغلاً، ومضى به إلى الأعوان الموكلون به، إلى بيت الأمير التاج وإلى القاهرة؛ ليورد ما ألزم به وقد حوسب، فوقف عليه خمسة وخمسون ألف دينار ذهباً، صولح عنها بعشرين ألف دينار، فشرع في بيع موجوده وإيراد المال.
شهر ربيع الأول، أوله الثلاثاء: فيه خُلع على سعد الدين إبراهيم ناظر الخاص جبة. واستقر على عادته.
وخلع على أخيه جمال الدين يوسف، واستقر في الوزارة. وكانت منذ تغيب أمين الدين إبراهيم بن الهيصم، وسعد الدين ناظر الخاص يباشرها، ويسدد أمورها من غير لبس تشريف، فغرم فيها جملة مال لعجز جهاتها عن مصارفها: وخلع أيضاً على ابن قطارة، واستقر في نظر الدولة.
وفي ليلة الجمعة رابعه: عمل المولد النبوي بين يدي السلطان بقلعة الجبل على العادة. وضبط الوزير أمور الدولة ونفذ أحوالها بقوة. وقطع عدة مرتبات من لحم ودراهم. ولم يفرج لأحد من أرباب الجهات عن شيء له عليه مقرر فهابه الناس وطلبت الغلال للبذر، فارتفع السعر قليلاً. وطرحت من الغلال على الناس ما بلغت جملته بما تقدم ذكره ثمانية عشر ألف أردب فولاً وثمانية آلاف أردب قمحاً، فنزل بالناس في هذا الشهر شدائد.
وفي يوم الثلاثاء ثامن عشرينه: أفرج عن الصاحب كريم الدين من ترسيم التاج فسار إلى داره، بعد ما حمل نحو عشرين ألف دينار، وضمنه فيما بقي جماعة من الأعيان وفي هذا الشهر: انتهت عمارة سقف الكعبة - شرفها الله تعالى - على يد سودن المحمدي، وشرع في هدم المنارة التي على باب اليمني من المسجد الحرام، فهدمت وبنيت بناء عالياً.
شهر ربيع الآخر، أوله الخميس: في ثالثه - قبيل الظهر بقليل - : حدثت زلزلة بالقاهرة اهتزت لها الدور هزة، فلو قد طالت قليلاً لأخربت ما زلزلت.
وفي رابعه: قدم الأمير أرغون شاه المطلوب للوزارة من دمشق فأخذت تقدمته وفي خامسه: ركب السلطان من قلعة الجبل باكراً، وشق القاهرة، فمضى للصيد ورجع من آخر نهار يوم الأربعاء. وتكرر ركوبه لذلك مرتين أخريين، يبيت في كل مرة ثم يعود.
وفي هذا الشهر: كثرت الأمطار ببلاد غزة وعامة بلاد الشام، فانتفعوا بها.
وفيه ارتفع بالقاهرة سعر اللحم والخبز والجبن واللبن والعسل وعدة من الأقوات حتى بلغ بعضها مثلي ثمنه، مع رخاء سعر القمح والشجر، وغلاء الأرز أيضاً.
وفيه احترقت مركب بساحل الطور، تلف فيها بضائع كثيرة. وفيه منع التجار بالإسكندرية من بيع البهار على الفرنج، فأضرهم ذلك.
شهر جمادى الأولى، أوله الجمعة: في ثانيه: ركب السلطان إلى الصيد، وشق القاهرة وعاد آخر يوم الثلاثاء خامسه، وهذه رابع ركبة له للصيد.
وفي سابعه: سافر الأمير غرس الدين خليل بن شاهين نائب الإسكندرية وناظرها بعد ما حمل خمسة آلاف دينار ذهباً، سوى قماش وغيره بألف دينار. وكان قد قدم من الثغر في الشهر الماضي.
وفي هذه الأيام وقع الشروع في حركة سفر السلطان إلى الشام.
وفي خامس عشره: خلع على دولات خجا والي القاهرة، واستقر في ولاية منفلوط وكاشف القبض. وشغرت ولاية القاهرة إلى يوم الأحد سابع عشره، فخلع على علاء الدين علي بن ناصر الدين محمد بن الطلاوي، وأعيد إلى ولاية القاهرة على أن يحمل ألفاً ومائتي دينار وكان له منذ عزل من الولاية بضع عشرة سنة يتسخط في أذيال الخمول.
وفي هذه الأيام: حمل إلى مكة - شرفها الله تعالى - من الرخام ما ذرعه ستون ذراعاً لحرمة الحجر وشاذروان البيت. وحمل من الجبس خمسون حملا؛ لبياض أروقة المسجد الحرام، ومن الحديد عشرة قناطير لعمل مسامير، وأربعون قطعة خشب لشد أروقة المسجد الحرام.(3/371)
وفي سلخه: برز الأمير تمراز رأس نوبة النوب، وصحبته عدة مائتي مملوك، وخجا سودن رأس نوبة من أمراء الطبلخاناه، وأمير أخر من أمراء العشرات؛ ليتوجهوا إلى الوجه القبلي، وذلك أن الأمير تغري برمش - أمير أخور - خرج إلى سرحة الوجه القبلي لأخذ تقادم العربان وغيرهم، فلقيه علي بن غريب على ناحية دهروط، وهو يومئذ يلي أمر هوارة البحرية؛ ليحضر تقدمته على العادة.
وحضر ملك الأمراء بالوجه القبلي - وهو محمد الصغير - وجاءت طائفة من محارب وطائفة من فزارة ليقدموا تقادمهم، فاقتضى الحال إرسال ملك الأمراء وعلي ابن غريب معهم لأخذ التقادم منهم، فغدروا بهم، وثاروا عليهم، فقاتلهم ملك الأمراء، وعاد مهزوماً، وقد جرح، وقتل عدة من جماعته. ثم إن السلطان عين لكشف الوجه القبلي الصاحب كريم الدين ابن كاتب المناخ.
وفي هذا الشهر: قبض الأمير قرقماس نائب حلب على الأمير فياض ابن الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر بمرعش. وأقام بدله عليها حمزة باك بن علي باك بن دلغادر. هذا وأبوه ناصر الدين محمد بن دلغادر علي أبلستين وقيصرية الروم وهما بيده. وسبب ذلك أنه كان في نيابة مرعش الأمير حمزة بك بن الأمير علي بك بن دلغادر، فوثب عليه فياض المذكور، وولي مرعش بغير مرسوم.
شهر جمادى الآخرة، أوله السبت: فيه خلع على الأمير الوزير الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ، واستقر كاشف الوجه القبلي. ورسم أن يستقر محمد الصغير المعزول عن الكشف دواداره، وأمير على الذي كان كاشفاً بالوجه القبلي والوجه البحري رأس نوبته. ونزل من القلعة إلى داره في موكب جليل.
وفي سادسه: خلع على الصاحب أمين الدين إبراهيم بن الهيصم، واستقر شريكاً لعبد العظيم بن صدقة في نظر الديوان المفرد.
وقدم الخبر بأن الأمير عثمان قرا يلك صاحب آمد وماردين نزل على ظاهر الرها، وأخذ في جمع جمائعه، وأن ابنه نهب معاملة دوركي ومعاملة ملطية.
وفي يوم الأحد سادس عشره: قبض السلطان على سعد الدين ناظر الخاص، وأخيه الوزير جمال الدين يوسف، وأوقع الحوطة على دارهما، ثم أفرج عنهما من الغد. وخلع على ناظر الخاص باستمراره على عادته. وعزل أخوه عن الوزارة، وألزما بحمل ثلاثين ألف دينار فنزلا وشرعا في بيع موجودهما وإيراد المال المذكور وفيه ألزم تاج الدين عبد الرهاب بن الشمس نصر الله الخطير بن الوجيه توما ناظر الاصطبل بولاية الوزارة، وخلع عليه من الغد يوم الثلاثاء ثامن عشره.
وفيه قدم سيف الأمير أركماس الجلباني أحد مقدمي الألوف بدمشق، وقد مات.
وفيه خلع على الأمير التاج الشويكي، واستقر مهمنداراً عوضاً عن الأمير أقطوة المتوجه رسولاً إلى شاه رخ.
وفي يوم الأربعاء تاسع عشره: رسم بإقطاع أركماس الجلباني لتِمْراز المؤيدي. وأنعم بطبلخاناه تمراز على الأمير سنقر العزي نائب حمص، واستقر عوضه طغرق أحد أمراء دمشق.
وفي العشرين منه: خلع على شمس الدين أبي الحسن ابن الوزير تاج الدين الخطير، واستقر في نظر الاصطبل عوضاً عن أبيه.
وفي يوم الأحد ثالث عشرينه: توجه الأمير الكبير أينال الجكمي والأمير جقمق أمير سلاح، والأمير يشبك حاجب الحجاب والأمير قانباي الحمزاوب، في عدة من الأمراء إلى العرب بالوجه البحري، وذلك أن لبيد عرب برقة قدم منهم طائفة بهدية، وسألوا أن ينزلوا البحيرة، فلم يجابوا إلى ذلك وخلع عليهم، فعارضهم أهل البحيرة في طريقهم، وأخذوا منهم خلعهم. وكان السلطان يلهج كثيراً بإخراج تجريدة إلى البحيرة، فبلغهم ذلك فأخذوا حذرهم.
واتفق مع ذلك أن شتاء هذه السنة لم يقع فيه مطر ألبتة، لا بأرض مصر ولا بأرض الشام، فدفة دافة من لبيد إلى البحيرة لمحل بلادهم، وصالحوا أهل البحيرة، وساروا إلى محارب وغيرها من العرب بالوجه القبلي لرعي الكثير من الأراضي البور. وكان قد كتب إلى الكاشف بألا يمكنهم من المراعي حتى يأخذ منهم مالاً، فأنفوا من ذلك؛ لأنه حادث لم يعهد قبل ذلك، وأظهروا الخلاف، فخرجت إليهم هذه التجريدة.(3/372)
وفي هذا الشهر: رسم أن يكشف عن شروط واقفي المدارس والخوانك، ويعمل بها. وندب لذلك قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن حجر الشافعي، فبدأ أولا بمدرسة الأمير صرغتمش بخط الصليبة وقرأ كتاب وقفها. وقد حضر معه رفقاؤه الثلاث قضاة القضاة، فأجل في الأمر، فلم يعجب السلطان ذلك، وأراد عزل جماعة من أرباب وظائفها، فروجع في ذلك حتى أقرهم على ما هم عليه. وأبطل الكشف عما رسم به، فسر الناس بهذا لأنهم كانوا يتوقعون تغييرات كثيرة.
وفيه اشتد قلق الناس لقلة البرد في فصل الشتاء، وعدم المطر، وهبوب رياح حارة في أوقات عديدة، خوفاً على الزرع. ولله الأمر.
شهر رجب، أوله الاثنين: في ثامنه: أدير محمل الحاج بمصر والقاهرة، وكانت العادة ألا يدار إلا بعد النصف من رجب، فأدير في هذه الدولة قبله غير مرة.
وفي ثامن عشره: خلع على الأمير تمرباي الدوادار الثاني، واستقر أمَير الحاج، وخلع على الأمير صلاح الدين محمد بن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله محتسب القاهرة، ليكون أمير الركب الأول.
وفي حادي عشرينه: ورد الخبر بأن العرب - من محارب - لما علموا نزول الأمير أينال الجكمي على الفيوم، ساروا إلى جهة الواحات. ثم بدا لهم فنزلوا بالأشمونين فركب الأمير كريم الدين الكاشف، والأمير تغري برمش أمير أخور، والأمير تمراز رأس نوبة النوب، وقاتلوهم وهزموهم، وظفروا منهم بستمائة جمل، غير ما نهب لهم وإن ذلك كان في يوم الثلاثاء سادس عشره.
وفي حادي عشرينه: قدم الأمير فياض ابن الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر تحت الحوطة، فسجن بقلعة الجبل.
وفي هذا الشهر: بعث الملك شهاب الدين أحمد بدلاي بن سعد الدين سلطان المسلمين بالحبشة، أَخاه خير الدين لقتال أمحرة الكفرة، ففتح عدة بلاد من بلاد الحطي ملك الحبشة، وقتل أميرين من أمرائه، وحرق البلاد، وغنم مالاً عظيماً، وأكثر من القيل في أمحرة النصارى، وخرب لهم ست كنائس.
هذا وقد شنع بعامة بلاد الحبشة الوباء العظيم، فمات فيه من المسلمين ومن النصارى عالم لا يحصى، حتى لقد بالغ القائل بأنه لم يبق ببلاد الحبشة أحد.
وهلك في هذا الوباء الحطي ملك الحبشة الكافر، وأقيم بدله صبي صغير.
شهر شعبان، أوله الأربعاء: وفي سادسه: قدم بقية المماليك والأمراء المجردين إلى العرب بالوجه القبلي.
وفى سادس عشره: خلع على الأمير قانباي الحمزاوي أحد الأمراء الألوف. واستقر في نيابة حماه عوضاً عن الأمير جلبان. ونقل جلبان إلى نيابة طرابلس عوضاً عن الأمير طراباي بعد موته. وأنعم بإقطاع قانباي وإمرته على الأمير خجا سودن أحد أمراء الطبلخاناه. ووفرت امرأة خجا سودن وأُضيف إقطاعه إلى الدولة للوزير؛ تقوية للوزير تاج الدين.(3/373)
وفي يوم الجمعة سابع عشره: نودي بمنع الناس من المعاملة بالفلوس، وألا يتعامل الناس إلا بالفلوس التي ضربها السلطان. وكان من خبر ذلك أن الفلوس الجدد لما ضُربْ في سنة تسع وخمسين وسبعمائة عمل زنة كل فلس منها مثقال، على أن الدرهم الفضة المعاملة يعد فيه منها أربعة وعشرون فلساً، فكانت زنة القفة الفلوس مائة وثمانية عشر رطلاً، عنها خمسمائة درهم من الفضة الظاهرية، معاملة مصر والشام. والمثقال الذهب الهرجة المضروب بسكة الإسلام يصرف بعشرين درهماً من هذه الدراهم، ويزيد تارة ثمن درهم على العشرين درهماً، وتارة ربع درهم عليها. ثم تزايد صرف الدينار في آخر الأيام الظاهرية برقوق، حتى بلغ نحو خمسة وعشرين درهماً. وكان النقد الرائج بديار مصر وأرض الشام الفضة المذكورة، ويعمل ثلثها نحاس، وثلثاها فضة. ثم يلي الفضة المذكورة في المعاملة الذهب المختوم الإسلامي، ولا يعرف دينار غيره. وكانت الفلوس أولاً إنما هي برسم شراء المحقرات، التي لا تبلغ قيمتها درهم. فلما كانت الأيام الظاهرية برقوق، وقام بتدبير الأموال الأمير جمال الدين محمود بن علي بن أصفر عينه أستادار، أكثر من ضرب الفلوس الجدد المذكورة، حتى صارت هي النقد الرائج بديار مصر، وقلت الدراهم. فلما كانت الأيام الناصرية فرج بن برقوق، تفاحش في دولته أمر نقود مصر، وكادت الدراهم الفضة المعاملة التي تقدم ذكرها أن تعدم، وصارت تباع كما تباع البضائع، فبلغت كل مائة درهم منها إلى ثلاثمائة وستين درهماً من الفلوس، التي يعد عن كل درهم منها أربعة وعشرون فلساً. وزاد سعر الذهب، وراج منه الدينار الأفرنتي، وهو ضرب الفرنج، حتى عدمت الدنانير الذهب الهرجه المختومة بسكة الإسلام، وبلغ الدينار الأفرنتي المذكور مائتين وستين درهماً من الفلوس المذكورة وفسدت مع ذلك هذه الفلوس، فعملت كل قنطار مصري - وهو مائة رطل مصرية - بستمائة درهم وصارت معاملة الناس بها في ديار مصر كلها بالوزن لا بالعدد، فيحسب في كل رطل منها ستة دراهم، وصارت قيم الأعمال وثمن المبيعات كلها - جليلها وحقيرها - وأجرة البيوت والبساتين، وسجلات الأراضي كلها، ومهور النساء، وسائر إنعامات السلطان، إنما هي بالفلوس، وصار النقدان - اللذان هما الذهب والفضة - ينسبان إلى هذه الفلوس، فيقال كل دينار بكذا أو كذا من الفلوس، وكل درهم من الفضة إن وجد - ولا يكاد يوجد - بكذا من الفلوس، فلم يبق للناس بديار مصر نقد سوى الفلوس. ثم بعد الفلوس، الذهب الأفرنتي أو الذهب السالمي أو الذهب الناصري، وهو بأنواعه إنما ينسب إلى الفلوس. وصار الذهب مع ذلك أصنافاً، الهرجة وهو قليل جداً، والأفرنتي وهو من الذهب النقد الرائج، والسالمي وهي دنانير ضربها الأمير يلبغا السالمي أستادار زنتها مثقال كل دينار، والناصري وهي دنانير ضربها الملك الناصر فرج بن برقوق.
فلما كانت الأيام المؤيدية شيخ ضرب دراهم عرفت بالمؤيدية، تعامل الناس بها عدداً مدة أيامه، وحسن موقعها من الناس، فصارت النقود بمصر الفلوس، والذهب بأنواعه والفضة المؤيدية. والنقد الرائج منها إنما هو الفلوس، وإليها تنسب قيم الأعمال وثمن المبيعات، كما تقدم.
فلما كانت الأيام الأشرفية برسباي رد الدراهم إلى الوزن، وأبطل المعاملة بها بالعدد، فإنه كثر قص المفسدين منها فتعنت الناس في أخذها. واستمرت المعاملة بالدراهم وزْناً. وضرب أَيضاً دراهم أشرفية، يصرف كل درهم وزناً بعشرين درهماً من الفلوس. ثم تزايد سعر الفلوس حتى بلغ كل قنطار منها ألفاً وثمانمائة، فتعمل الناس بها من حساب كل رطل بثمانية عشر درهمًا فلوسا. وما زالت تقل لكثرة ما يحمل التجار منها إلى بلاد الهند وغيرها، وما يضرب منها بالقاهرة أواني كالقدور التي يطبخ فيها ونحوها من آلات النحاس. وصار على من يتولى ضرب الفلوس أواني ضْماناً مقرراً لديوان الخاص، في كل شهر خمسة عشر ألف درهم. ثم زاد مبلغ الضمان عن ذلك، فاقتضى رأي السلطان بعد اختلاف واضطراب كثير في مدة أيام أن يضرب فلوساً، يعد في كل درهم من دراهم الدينار ثمانية فلوس، على أن الدينار الأشرفي بمائتين وخمسة وثمانين درهماً، والدينار الأفرنتي بمائتين وثمانين. فتكون هذه الفلوس(3/374)
الأشرفية كل رطل منها بسبعة وعشرين درهماً. ويؤخذ في كل دينار أشرفي ألفان ومائتا فلس وثمانون فلساً. فلما ضربت الفلوس على هذا الحكم، نودي أن يتعامل الناس بها، وألا يتعاملوا. بما في أيديهم من الفلوس القديمة، بل يحملوها إلى دار الضرب على حساب كل رطل بثمانية عشر. وما أحسن هذا لو استَمر.
شهر رمضان، أوله الخميس: في خامسه: خلع على محمد الصغير، وأعيد إلى كشف الوجه القبلي، عوضاً عن الصاحب كريم الدين.
وفيه توجه الأمير قانباي إلى محل كفالته من نيابة حماة، بعد ما اقترض نحو خمسة آلاف دينار بفوائد حتى تجهز بها لقلة ذات يده. وهذا من نوادر ما يحكى عن أمراء مصر.
وفي خامس عشره: قدم الصاحب كريم الدين من الوجه القبلي، فنزل داره.
وفي هذه الأيام - وموافقتها من شهور القبط برمودة: - وقع بالقاهرة ومصر مطر كثير غزير، دلفت منه سقوف البيوت، وسال جبل المقطم سيلاً عظيما، أقام منه الماء بالصحراء عدة أيام. وهذا أيضاً في هذا الوقت مما يندر وقوعه بأرض مصر.
وفي هذا الشهر: الأمير قرقماس نائب حلب منها بالعسكر، ونزل العمق، وجمع تركمان الطاعة؛ وسبب ذلك أن الأمير صارم الدين إبراهيم بن قرمان قصد أخذ مدينة قيصرية من الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر نائب أبلستين في الأيام المؤيدية شيخْ. وكان ابن دلغادر قد تغلب عليها، وانتزعها من بني قرمان، وولي عليها ابنه سليمان، فترامى ابن قرمان على السلطان في هذه الأيام أن يِملكه - بإعانته بعسكر حلب - بمدينة قيصرية، ووعد بمال، وهو عشرة آلاف دينار في كل سنة، وثلاثون بختيا، وثلاثون فرساً، سوى خدمة أركان الدولة. فكتب السلطان إلى نائب حلب أن يخرج إلى العمق ويجمع العساكر لأخذ قيصرية. وبعث بذلك الأمير خش كلدي مقدم البريدية، فخرج في ثاني عشر رمضان هذا، ونزل العمق، وجمع تركمان الطاعة، وكتب إلى ابن قرمان بأن يسير بعسكره إلى قيصرية.
وفي هذا الشهر: أيضاً ورد الخبر بأن أصبهان بن قرا يوسف حاكم بغداد توجه لأخذ الموصل، فبعث زينال الحاكم بها إلى الأمير عثمان قرا يلوك صاحب آمد بمفاتيح الموصل، وحثه على المسير إليها، فبعث نائبه محمود بن قرا يلوك، ومعه بشلمش أحد أمرائه في مائتي فارس، فلما قدموا على زينال، جعلهم في الموصل كالمسجونين، مدةَ، فجهز محمود إلى أبيه قرا يلوك يعلمه بحاله، فأمده بأخيه محمد بيك بن قرا يلوك على ألف فارس، فنزل على الموصل مدة ولم يتمكن من رؤية أخيه محمود، فسار قرا يلوك بنفسه من مشتاه برأس عين، ونزل على نصيبين، فبلغه توجه اسكندر بن قرا يوسف إليه، وقد فر من شاه رخ ملك المشرق، وكان الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر لما بلغه خروج العساكر من حلب لأخذ قيصرية منه بعث بامرأته الحاجة خديجة خاتون بتقدمة للسلطان، ومعها مفاتيح قيصرية، وأن يكون زوجها المذكور نائب السلطنة بها، وأن يفرج عن ولدها فياض المسجون بقلعة الجبل. وكتب على يدها بذلك كتاباً، ووعد بمال، فقدمت حلب في سابع عشرينه.
شهر شوال، أوله يوم السبت: في رابعه: قدم كتاب الخان شاه رخ ملك المشرق، يتضمن أنه عازم على زياد القدس الشريف وأرعد فيه وأبرق، وأنكر أخذ المكوس من التجار بجدة.
في رابع عشره: خلع على علاء الدين علي بن التلواني أحد أجناد الحلقة، واستقر في نيابة دمياط، عوضاً عن سودن المغربي أحد المماليك الظاهرية برقوق.
وفي خامس عشره: خلع على الأمير تاج الدين الشويكي أحد ندماء السلطان وجلسائه، وأعيد إلى ولاية القاهرة عوضاً عن ابن الطبلاوي، بحكم عزله. فأقام أخاه الأمير عمر يتحدث في الولاية عنه.
وفي ثامن عشره: خرج محمل الحاج صحبة الأمير تمرباي الدوادار، فنزل بركه الحاج. ورحل في ثاني عشرينه الركب الأول صحبة الأمير صلاح الدين محمد بن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله وفيهم خوند فاطمة بنت الملك الظاهر ططر زوجة السلطان. وقد أذن لوالده الصاحب بدر الدين أن يتحدث في الحسبة، حتى يقدم من الحج. ورحل الأمير تمرباي بالمحمل وبقية الحاج في يوم الأحد ثالث عشرينه.
وفي هذا الشهر: زاد ماء النيل نحو أربعة أذرع قبيل أوان الزيادة، فأغرق كثيرًا من مقاتي البطيخ. واستمرت الزيادة إلى ثالث بؤونة، وهذا مما يستغرب وقوعه، فتلف للناس مال عظيم بسبب ذلك.(3/375)
وفي هذا الشهر: قدمت خديجة خاتون امرأة الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر إلى القاهرة، فأنزلت، وأقيم لها بما يليق بها. وقبلت هديتها لما صعدت قلعة الجبل. وأفرج لها عن ولدها فياض، وخلع عليه وولي نيابة مرعش وكان الأمير إبراهيم بن قرمان قد بلغه توجه خديجة خاتون إلى القاهرة، فبعث يسأل أن تكون قيصرية له. فقدم قاصده إلى حلب في ثامن عشرين شهر شوال هذا، ووعد بالمال المذكور وقد رحل الأمير قرقماس نائب حلب في رابع عشرينه من مرج دابق يريد عينتاب، بعد ما أقام بالعمق خمساً وثلاثين ليلة.
وفي هذا الشهر: ظهر الأمير جانبك الصوفي، بعد ما أقام منذ خرج من سجن الإسكندرية في شهر شعبان سنة ست وعشرين لا يوقف له على خبر، حتى قدم في يوم الثلاثاء حادي عشر شوال هذا إلى مدينة حلب تركماني يقال له محمد، قد قبض عليه الأمير قرقماس نائب حلب بالعمق، ومعه كتاب جانبك الصوفي في سابعه، فسجن بقلعة حلب، وجهز الكتاب إلى السلطان.
شهر ذي القعدة، أوله يوم الاثنين: فيه نزل الأمير قرقماس نائب حلب بمن معه عينتاب، وقد جمع التركمان على كينوك، فأتاه الخبر بأن حمزة بن دلغادر خرج عن الطاعة، وتوجه إلى ابن عمه سليمان ابن ناصر الدين محمد بن دلغادر، بعد ما بعث إليه، وحلفه له. وأن دوادار الأمير جانبك الصوفي ومحمد بن كندغدي بن رمضان التركماني وصلا إلى الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر بأبلستين، وحلفاه أنه إذا قدم عليه جانبك الصوفي لا يسلمه، ولا يخذله، وأن جانبك كان عند أسفنديار، فسار من عنده يريد سليمان بن دلغادر، فخرج إليه، وتلقاه هو وأمراؤه التركمان، وكان السلطان قد جهز خديجة خاتون - كما تقدم ذكره - فسارت بابنها فياض في أوائل هذا الشهر. وقد جمع الأمير صارم الدين إبراهيم بن قرمان، ونزل على قيصرية، فوافقه أهلها، وسلموها له. ففر سليمان بن ناصر الدين محمد بن دلغادر، فبلغه ظهور جانبك الصوفي، وأنه اجتمع عليه الأمير أسلماس بن كبك، ومحمد بن قطبكي، وهما من أمراء التركمان، ونزلوا على ملطية. فقدم على أبيه بأبلستين، و لم يبلغهما خبر الإفراج عن ولده فياض، وخروجه مع أمه خديجة من القاهرة، فأراد أن يتخذ يدًا عند السلطان؛ ليفرج عن ابنه فياض، وينعم له بقيصرية، فجهز في ذلك ابنه سليمان، بعد عوده منهزماً من قيصرية، بكتابه.
وقدم الخبر بأن اسكندر بن قرا يوسف مشى على قرا يلوك وغزا على مدينة أرزن الروم وأخذها. فعاد قرا يلوك إلى آمد، وخرج منها بعد ليلة إلى أرقنين خوفاً من اسكندر. وأن كتاب الأمير جانبك الصوفي ورد على الأمير بلبان نائب درنده، فقبض على قاصده، وسجنه، وحمل كتابه إلى السلطان.
وفى سابع عشرينه: عاد الأمير قرقماس نائب حلب إليها، بعد غيبته عنها بالعمق ومرج دابق وعينتاب خمسة وسبعين يوماً، وقد فات أخذ قيصرية؛ لاستيلاء إبراهيم بن قرمان عليها. وكان القصد أخذها واستنابة أحد أمراء السلطان بها، ولظهور جانبك لصوفي، وانتمائه إلى ابن دلغادر، ووصلت خديجة خاتون وابنها فياض إلى زوجها ناصر الدين محمد بن دلغادر فبلغ مراده، وترك مداة السلطان، وأشغل فكر الدولة؛ لأنه قد جاء من خروج جانبك ما هو أدهى وأمر.
وفي يوم الثلاثاء ثالث عشرينه - وهو سابع عشرين بؤونة: - ابتدأ بالنداء على النيل، فزاد إصبعين، وجاءت القاعدة أحد عشر ذراعاً وعشر أصابع، وهذا مما يندر وقوعه، ولم ندرك مثله.
وفي سادس عشرينه: لم يناد على النيل إلى سلخه، ونقص ستة عشر إصبعا.
شهر ذي الحجة، أوله الأربعاء: في سادسه: نودي بزيادة إصبع من النقص، واستمرت الزيادة في كل يوم.
وفي تاسعه: أضيف إلى زين الدين عمر بن شهاب الدين أحمد بن صلاح الدين محمد بن السفاح كاتب السر بحلب نظر الجيش بها، عوضاً عن جمال الدين يوسف بن أبي أصيبعة، بمال وعد به.
وفي سابع عشره: خرج على مبشري الحاج طائفة من عنزة، فأخذت جميع ما معهم، وقتلوا منهم مملوكاً، وتركوهم حفاة عراة، بادية عوراتهم، فمشوا إلى أن لقوا أرباب الأدراك من جهينة بأرض السماوة فآووهم، وذبحوا لهم الأغنام، وأضافوهم، وكسوهم من ملابسهم، وحملوهم إلى القاهرة، وقد قلق الناس بهذا لتأخرهم عن عادة قدومهم عدة أيام.(3/376)
وحج في هذه السنة الملك الناصر حسن بن أبي بكر بن حسن بن بدر الدين متملك ديوة - التي تسميها العامة دينة، وهي جزائر في البحر تجاور سيلان.
وفيها وقع وباء عظيم ببلاد كرمان. وأبتدأَ في مدينة هراة من بلاد خراسان، في شهر ربيع الأول، وشنع، فمات فيه عالم عظيم، يقول المكثر ثمانمائة ألف.
وخرج شاه رخ منها في ثاني عشر شهر ربيع الأول هذا، وقد جمع عسكراً عظيماً يريد قتال اسكندر بن قرا يوسف. وتأهب ومن معه لمدة أربع سنين، وسبب ذلك أن اسكندر نزل على شماخي من مملكة شروان، وقاتل ملكها خليل بن إبراهيم شيخ الدربندية مدة. فلما كان في بعض الأيام توجه اسكندر من معسكره للصيد، فهجم خليل في غيبته على المعسكر، وقتل وأسر ابن اسكندر وابنَه وزوجتَه، وبعث بالابن إلى شاه رخ، فأكرمه وتركه يركب معه أياماً. ثم حمله إلى سمرقند وأوقف خليل بنت اسكندر وزرجته في الخرابات للزنا بهما. فلما رجع اسكندر من متصيده ألح في القتال، حتى أخذ شماخي وخربها، حتى جعلها دكاً، ونهب أموال أهلها، وأفحش في قتلهم، وسبيهم، وفد فر خليل وبعث يستنجد بشاه رخ، ويترامى على الخاتون امرأته، فما زالت به حتى خرج لقتاله. وكان اسكندر في سماحي بابنة خليل وامرأته، فأوقفهما تزنا بهما، وألزمهما أن يزني بكل واحدة، خمسون رجلاً في كل يوم؛ نكاية في خليل.
وفيها كانت بينِ إفرنج حروب سببها أن ألفن الذي يقال له ألفنه صاحب مملكة أرغون، وهو الذي غزا مدينة أغرناطة من الأندلس وأخذ من المسلمين الخميرة وغيرها، وكان وصياً على ولد أخيه بقتالة، فلما هلك قام من بعده ابنه بترو بن ألفنه صاحب برشلونة وبلنسية، وغير ذلك من مملكة أرغون، حتى هلكت ملكة نابل فاستضاف الجنويون مملكة نابل إلى مملكتهم، فشق ذلك على بترو بن ألفنت، وسار إليهم في أربعين قطعة في البحر، ونزل على قلعة كايات، وحصرها إلى أن أخذها عنوة وخرجها بعد أن صلب ثلاثة من رؤسائها على السور وأسر جميع من فيها، وتوجه إلى جزيرة غيطلة، وهي من أجل مملكة نابل، وأقام عليها مدة، فبعث الجنويون إلى المنتصر أبي عبد اللهّ محمد صاحب تونس ومملكة إفريقية رجلاً من أخواله، أمه جنوية، يستنجدونه على بترو، فأمدهم بمال، وجهز لهم اثني عشر مركبة حربية. فلما قدمت عليهم مع رسولهم نجدة صاحب تونس، ساروا في خمسة وأربعين مركبا - منها ثمانية عشر كباراً وخمسة عشر غرابا - وقد اشتد الأمر على أهل غيطلة وكثرت محاربتهم لبترو، فلقوه وحاربوه، فانتخب ألفاً من عسكره، ونزل في مركب عظيم ليخالفهم إلى بلادهم. ففطنوا به، فأدركوه، وحاربوه حتى غلبوه وأسروه وأخويه، ومن معه في آخر يوم من ذي الحجةَ. وعادوا بهم إلى بلادهم، وسجنوه وأخويه وردوا إلى المنتّصر مراكبه الخمسة عشر.
وفيها قوي عرب إفريقية وحصروا مدينة تونس. وذلك أن المنتصر أبا عبد الله محمد ابن الأمير أبي عبد الله محمد ابن السلطان أبي فارس عبد العزبز، لما قام في سلطنة أفريقية بعد موت جده عبد العزيز بن أبي العباس أحمد في سفره بنواحي تلمسان، قدم إلى مدينة تونس دار ملكه في يوم عاشوراء، وأقام بها أياماً، ثم خرج إلى عمرة، ونزل بالدار التي بناها جده أبو فارس، وضيق على العرب ومنعهم من الدخول إلى بلاد إفريقية. وكان مريضاً، فاشتد به المرض، وفر من عنده الأمير زكريا ابن محمد ابن السلطان أبي العباس وأمه ابنة السلطان أبي فارس عبد العزيز بن أَبي العباس، ونزل عند العرب المخالفين على المنتصر.
فسار عند ذلك المنتصر من عمرة عائدا إلى تونس، وقد تزايد مرضه، فتبعه زكريا ومعه العرب حتى نزلوا على مدينة تونس، وحصروها عدة أيام، فخرج عثمان أخو المنتصر من قسنطينة، وقدم تونس فسر به المنتصر هذا، والفقيه أبو القاسم البرزلي مفتي البلد وخطيبها يجول في الناس بالمدينة، ويحرضهم على قتال العرب، ويخرجهم فيقاتلون العرب، ويرجعون مدة أيام، إلى أن حمل العرب عليهم حملة منكرة، هزموهم، وقتَل من الفريقين عدد كبير. كل ذلك والمنتصر ملقى على فراشه لا يقدر أن ينهض للحرب، من شدة المرض.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
الحطي ملك الحبشة(3/377)
ومات ملك كربرجة - من بلاد الهند - وهو السلطان شهاب الدين أبو المغازي أحمد شاه بن أحمد بن حسن شاه بن بهمن، في شهر رجب، بعد ما أقام في المملكة أربع عشرة سنة. وقام من بعده ابنه ظفر شاه، واسمه أحمد. وكان من خير ملوك زمانه. وقد ذكرت ترجمته في كتاب درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة.
ومات الأمير سيف الدين طراباي نائب طرابلس، بكرة نهار السبت، رابع شهر رجب، من غير وعك ولا تقدم مرض، بل صلى الجمعة، وصلى الصبح، فمات في مصلاه فجأة. وهو أحد المماليك الظاهرية برقوق وممن نبغ بعد موته، واشتهر ذكره. ثم خرج عن طاعة الناصر فرج فيمن خرج، وتنقل في أطوار من المحن، اٍ لي أن صار من أعظم الأمراء بديار مصر. ثم سجن عدة سنين بالإسكندرية في الأيام الأشرفية، ثم أفرج عنه وعمل في نيابة طرابلس، وكان عفيفاً عن القاذورات، متديناً.
وقتل الشريف زهير بن سليمان بن زيان بن منصور بن جماز بن شيحة الحسيني في محاربة أمير المدينة النبوية مانع بن علي بن عطية بن منصور بن جماز بن شيحة في شهر رجب. وقتل معه عدة من بني حسين، منهم ولد عزيز بن هيازع بن هبة بن جماز بن منصور بن جماز بن شيحة، وكان زهير هذا فاتكاً، يسير في بلاد نجد، وبلاد العراق، وأرضالحجاز، في جمع كبير فيه نحو ثلاثمائة فرس، وعدة رماة بالسهام، فيأخذ القفول، وخرج في سنة أربع وثلاثين وثمانمائة على ركب عُمَّار، توجهوا إلى مكة من القاهرة، وكنت فيهم، ونحن محرمون بعد رحيلنا من رابغ، فحاربنا، وقتل منا عدة رجال، ثم صالحناه بمال تجابيناه له، حتى رحل عنا.
ومات أمير زاه إبراهيم بن القان معين الدين شاه رخ سلطان ابن الأمير تيمور كوركان، متولي شيراز، في شهر رمضان. وكان قد جهز جيشاً إلى البصرة في شعبان، فملكوها له. ثم وقع بينهم وبين أهل البصرة خلاف، واقتتلوا ليلة عيد الفطر، فهزم أهل البصرة أصحاب إبراهيم، وقتلوا منهم عدة. فورد عليهم خبر موته، فسروا به. وكان من أجلّ الملوك، وله فضيلة، ويكتب الخط الذي لا أحسن منه في خطوط أهل زماننا.
ومات صاحب مملكة كرمان، بأي سنقر بن شاه رخ بن تيمور لنك، في العشر الأول من ذي الحجة، وكان ولي عهد، وعنده جرأة وشجاعة وإقدام، فعظم مصابه على أبيه.
سنة تسع وثلاثين وثمانمائة
شهر اللّه المحرم، أوله يوم الخميس: في خْامسه - الموافق ثامن مسرة: - كان وفاء النيل ستة عشر ذراعاً، وأربعة أصابع، فركب المقام الجمالي يوسف ابن السلطان حتى خلق المقياس، وفتح الخليج على العادة.
وقدم الخبر بأن شاه رخ، لما خرج من مدينة هراة - كرسي مُلكه - في ثاني عشر شهر ربيع الأول من السنة الماضية نزل على مدينة قزوين في شهر رجب منها. ورسم لأمير الأمراء فيروز شاه أن يتوجه إلى بغداد. ونادى في معاملة قزوين إلى السلطانية تبريز وسائر ممالك العراقيين، بعمارة ما خُرب، وزراعة ما تعطل من الأراضي، وغراسة البساتين. وأن من زرع أرضاً لا يؤخذْ منه خراجها مدة خمس سنين، ومن عجز عن العمارة دفع إليه ما يقوي به على ذلك. وأن أصبهان بن قرا يوسف حاكم بغداد كتب بدخوله في طاعة شاه رخ، فكفَّ عن تجهيز العسكر إليه، وسار حتى نزل على تبريز في عساكر كثيرة جداً؛ لقتال اسكندر بن قرا يوسف، وأن جانبك الصوفي بكماخ عند ابن قرا يلوك، وقد أمده قرا يلوك بخيل ومال. وجهز شاه رخ ابنه أحمد جوكي إلى نحو ديار بكر على عسكر في ذي الحجة من السنة الحالية، ونزل هو على قرا باغ، وبعث إلى بلاده بحمل الميرة إليه، فأتته من كل جهة. وأخذ في عمارة مدينة تبريز في محرم هذا. ونادى في مملكة أذربيجان بالعدل. وتقدم إلى جميع عساكره بألا يؤخذ لأحد قمح فما فوقها إلا بثمنه، ومن خالف ذلك قتل.
شهر صفر، أوله السبت:(3/378)
فيه كانت وقعة بين اسكندر بن قرا يوسف وعثمان قرا يلوك، لقتال اسكندر، وقد فر منه. فجمع عثمان فلقي اسكندر فاقتتلا، فخرج كمين لاسكندر على عثمان، فانهزم وقصد أرزن الروم، والخيل في طلبه. فلما خاف أن يؤخذ باليد رمى نفسه في خندق المدينة فغرق ثم أخرجه أولاده، ودفن في مسجد هناك. فقدم اسكندر وهو يسأل عن عثمان، فدلّه بعضهم على قبره، فأخرجه بعد ثلاثة أيام من دفنه وقطع رأسه، وحمله إلى السلطان بمصر، ومعه خمسة رءوس منها رءوس بعض أولاده. وكان شاه رخ قد بعث بولده أحمد جوكي والأمير بابا حاجي على عسكر في أثر إسكندر؛ نجدة لقرا يلوك، فقدما بعد هزيمته وقتله، فلقي اسكندر مقدمة هذا العسكر على ميافارقين وقاتلهم، وقتل منهم. ثم انهزم إلى جهة بلاد الروم، وكتب بخبره إلى السلطان. فملك أحمد جوكي بن شاه رخ أرزن، ونزلها، وفرض على أهلها مالا عظيماً، وتزوج بابنة عثمان قرا يلوك، وأخذ منها نحو ألف حمل دقيق وشجر ونحو ذلك، وعاد إلى أبيه شاه رخ، وقد نزل على قرا باغ ليشتي هناك، كما كان أبوه يشتي بها.
وأما اسكندر بن قرا يوسف فإنه نزل على آقشهر، فقام متوليها بخدمته، وبعث في السر يُعرّف أحمد جوكي به، فلم يشعر إلا وقد طرقه العسكر بغتة، ففر في جماعة، وغنم جوكي ما كان معه، وعاد فمضى اسكندر يريد القدوم على ملك الروم مراد بن محمد كرشجي بن عثمان، حتى نزل توقات، فكتب حاكمها أركُج إلى مراد، يعلمه بقدوم اسكندر. فجهز له عشرة آلاف دينار، وعدة من الخيل والمماليك والجواري والثياب. هذا وقد عاث اسكندر - هو ومن معه - في معاملة توقات، ونهبوا وخربوا، فجرت بينه وبين أركج بسبب ذلك مقاولات، آلت إلى أن كتب إلى مراد يعرفه بما حلَّ ببلاده من النهب والتخريب، فشق عليه ذلك، وجهز من رد الهدية، وبعث بعسكر، وكتب إلى ابن قرمان وغيره بإخراج اسكندر وقتاله، ففر منهم إلى جهة البلاد الفراتية.
وفي هذا الشهر: بعث القان شاه رخ إلى مراد بن عثمان ملك الروم، وإلى صارم الدين إبراهيم بن قرمان، وإلى قرا يلوك وأولاده، وإلى الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر بخلع.
شهر ربيع الأول أوله يوم الأحد: الموافق لسابع عشر توت، ابتدأ نقص ماء النيل، وذلك قبل انقضاء أيام الزيادة، ثم رد في ثالثه، واستمرت الزيادة إلى يوم الخميس خامسه، وهو أول بابه، وقد بلغت الزيادة إلى عشرين ذراعاً وعشرين إصبعاً، فثبت أياماً ثم انحط بخير. ولله الحمد.
وفي يوم الاثنين ثانيه: خلع على شرف الدين أبي بكر الأشقر نائب كاتب السر، واستقر كاتب السر بحلب، عوضاً عن عمر بن أحمد بن السفاح، بعد ما امتنع من ذلك أشد الامتناع، وهُدد بالقتل. وسبب ذلك أن ابن السفاح كتب مراراً بالحط على الأمير قرقماس نائب حلب وأنه يريد الخروج عن الطاعة ويخامر على السلطان، وآخر ما ورد كتابه في ذلك في نصف صفر، وتوجه النجاب بذلك، وقد حصل القلق خوفاً من عدم حضوره؛ لامتناعه، فلم يكن بأسرع من مجيء نجاب نائب حلب في خامس عشرينه، يستأذن في القدوم، وقد بلغه شيء مما رمى به من المخامرة. فغضب السلطان على ابن السفاح، ورسم بعزله، واستقرار شرف الدين المذكور عوضه؛ لأنه علم أنه لو كان قرقماس مخامراً لما استأذن في الحضور، وسر بذلك، وكتب بحضوره. وكان هو عندما ورد عليه المثال الأول خرج على الفور من حلب، فقدم خارج القاهرة في سادس ربيع الأول هذا.
وفيه ورد الخبر بقتل قرا يلوك، كما تقدم.
وفي ثامنه: خلع على الأمير جقمق أمير سلاح، واستقر أميراً كبيراً أتابك العساكر. عوضاً عن الأمير أينال الجكمي. واستقر الأمير أينال المذكور في نيابة حلب، عوضاً عن الأمير قرقماس. واستقر قرقماس أمير سلاح، عوضاً عن جقمق هذا.
وفيه قدم الأمير طوغان حاجب غزة، وقد عين أن يستقر في نظر القدس الخليل، فقام الأمير تغري برمش أمير أخور في الاعتناء بمتوليها، فأعيد طوغان إلى غزة على حجوبيته.
وفي عاشره: خُلع على معين الدين عبد اللطف ابن القاضي شرف الدين أبي بكر ابن العجمي المعروف بالأشقر كاتب السر بحلب، واستقر في وظائف أبيه.
وفي ثالث عشره - الموافق لثامن بابة: - ابتدأ نقص ماء النيل، وقد انتهت زيادته كما تقدم إلى عشرين ذراعاً وعشرين إصبعاً. وقد بلغ الله به المنافع على عوائد لطفه بخلقه.(3/379)
وفيه برز الأمير أينال الجمكي نائب حلب ليتوجه إلى محل كفالته، وصحبته القاضي شرف الدين كاتب السر بحلب.
وفي سابع عشره: خلع على الأمير الكبير جقمق بنظر المارستان المنصوري، على العادة في ذلك.
وفي رابع عشرينه: خلع على الأمير عمر، واستقر في ولاية القاهرة بعد موت أخيه التاج.
وفي هذا الشهر: كثر الوباء بمدينة بروسا - التي يقال لها برصا - من مملكة الروم، واستمر بها وبأعمالها نحو أربعة أشهر.
وفي هذا الشهر: قُبض على جانبك الصوفي، وكان من خبره أنه ظهر بمدينة توقات في أوائل شوال من السنة الماضية، فقام متوليها أركج باشا بمعاونته، حتى كتب إلى الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر نائب أبلستين، وإلى أَسْلَماس بن كُبَك، ومحمد ابن قُطبكي، وعثمان قرا يلوك، ونحوهم من أمراء التركمان، فانضم إليه جماعة. وخرج من توقات، فأتاه الأمير قَرْمش الأعور وابن أَسْلَماس وابن قُطبكي، ومضوا إلى الأمير محمد بن عثمان قرا يلك صاحب قلعة جمُركَسَك فقواهم. وشنوا منها الغارات على قلعة دوركي، وضايقوا أهلها ونهبوا ضواحيها.
فاتفق ورود كتاب القان شاه رخ ملك المشرف على قرا يلك، يأمره بالمسير بأولاده وعسكره لقتال إسكندر بن قرا يوسف سريعاً عاجلاً، فكتب إلى ولده محمد بالقدوم عليه لذلك، فترك محمد جانبك ومن معه على دوركي، وعاد إلى أبيه. فسار جانبك بابن أَسْلَماس وابن قُطبكي حتى نزلوا على ملطية وحصروها، فكادهم سليمان بن ناصر الدين محمد بن دلغادر وكتب إلى جانبك بأنه معه فكتب إليه أن يقدم عليه، وبعث بكتابه فرمش الأعور، فأكرمه وسار معه في مائة وخمسين فارساً. فتلقاه جانبك وعانقه، ثم عادا، وحصرا ملطية، فأظهر سليمان من المناصحة ما أوجب ركون جانبك إليه، فأخذ في الحيلة على جانبك، وخرج هو وإياه في عدة من أصحابه ليسيرا إلى مكان يتنزهوا به. ورتبا قَرْمِش وبقية العسكر على الحصار، فلما نزل سليمان وجانبك للنزهة، وثب به أصحاب سليمان، وقيدوه، وسرى به سليمان على أكديش ليلته ومن الغد، حتى وافى به بيوته على أبلستين، وكتب يعلم السلطان بذلك. وكان القبض على جانبك في سابع عشر شهر ربيع الأول هذا.
شهر ربيع الآخر، أوله يوم الاثنين: فيه قدم جمال الدين يوسف بن الصفي الكركي ناظر الجيش بدمشق مطلوباً، وهو مريض بضربان المفاصل، ومعه تقدمة حليلة، فقبلت تقدمته، وأمر بالإقامة في منزله حتى يبرأ.
وفيه ورد إلى السلطان كتاب شاه رخ إلى جانبك الصوفي وقد قبض على حامله وحبس بحلب، فتضمن الكتاب تحريضه على أخذ البلاد الشامية، وأنه سيقدم عليه أحمد جوكي وبابا حاجي، نجدة له. فكتب إلى نواب الشام بالتأهب والاستعداد، لنجدة نائب حلب، إذا أستدعاهم.
وفي ثالثه: ورد الخبر بالقبض على جانبك الصوفي، كما تقدم.
وفي يوم السبت سادسه: خلع على ولي الدين أبي اليمن محمد بن تقي الدين قاسم ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد بن عبد القادر الشيشيني ثم المحلي، مضحك السلطان ونديمه وجليسه، واستقر في نظر الحرم الشريف بمكة، عوضاً عن سودن المحمدي، وفي مشيخة الخدام الطواشية بالمسجد النبوي، عوضاً عن الطواشي بشير التنمي. ولم نعهد مشيخة المسجد النبوي يليها دائماً - منذ عهد السلطان صلاح الدين في يوسف بن أيوب - إلا الخدام الطواشية. فكانت ولاية ابن قاسم هذا حدثاً من الأحداث، وبلية تساق إلى أهل الحرمين.
وفي حادى عشره: قدم سيف الأمير قصروه نائب الشام بعد موته، على يد أمير علي بن أينال باي، أحد الحجاب بدمشق.
وفي ثاني عشره: قدم الأمير ناصر الدين محمد بن قَصْروه، وقَراجا دواداره، فقرر عليهما مالا يحملاه من تركة قَصْروه، وهو من النقد مائة ألف دينار، وغلال، وبضائع، وخيل، وغير ذلك ما قيمته نحو مائة ألف دينار، وعاد إلى دمشق.
وفي ثالث عشره: نودي بعرض أجناد الحلقة، ليستعدوا للسفر إلى الشام، ولا يُعفي أحد منهم.
وفيه جمع قضاة القضاة بين يدي السلطان وسئلوا في أخذ أموال الناس للنفقة على العساكر المتوجهة لقتال شاه رخ، فكثر الكلام، وانفضوا. هذا، وقد تزايد اضطراب الناس وقلقهم.(3/380)
وفي يوم الإثنين خامس عشره: ابتدئ بعرض أجناد الحلقة، فجمع المشايخ والأطفال وعدة عميان في الحوش من قلعة الجبل، وعرضوا على السلطان، فقال لهم: أنا ما أعمل كما عمل الملك المؤيد من أخذ المال منكم، ولكن اخرجوا جميعكم، فمن قدر منكم على فرس، ركب فرساً، ومن قدر على حمار ركب حماراً. فنزلوا على ذلك إلى بيت الأمير أركماس الدوادار، فكان يوماً شنعاً.
وفي هذا اليوم ورد كتاب أصبهان بن قرا يوسف حاكم بغداد، على يد قاصده حسن بيك، يشتمل على التودد، وأنه هو وأخوه اسكندر يقاتلون شاه رخ وتاريخه قبل قدوم أحمد جوكي وبابا حاجي بعساكر شاه رخ، وقبل موت.
وفي سادس عشره: أصيب القاضي زين الدين عبد الباسط ناظر الجيش بضربة فرس على ركبته اليمنى، وهو سائر مع السلطان إلى الرماية عند جامع المارديني خارج باب زويلة، فتجلد حتى وصل ناحية كوم أشفين من البلاد الفليوبية. ثم عجز فألقى نفسه عن الفرس، فأركب في محفة إلى داره، ولزم الفراش ثلاثة عشر يوماً.
وفي سابع عشره: قدم قصاد اسكندر بن قرا يوسف صحبة الأمير شاهين الأيد كاري، برأس الأمير عثمان قرا يلوك، ورأسي ولديه، وثلاثة رءوس أخره وكان السلطان قد توجه للرماية بالجوارح على الكراكي، فقدم من الغد يوم الخميس ثامن عشره، فطيف بالرءوس الستة على رماح، وقد زينت القاهرة لذلك فرحاً بقتل قرا يلوك. ثم علقت على باب زويلة ثلاثة أيام، ودفنت. ولقد أخبرني من له معرفة بأحوال قرا يلوك أنه كان في ظنه أنه يملك - مصر. وذلك أن شخصاً منجماً قال له إنك تدخل القاهرة، فدخل ولكن برأسه وهي على رمح يطاف بها، وينادي عليها، " نكالا من الله والله عزيز حكيم " " المائدة، 38 " .
وفي يوم السبت عشرينه: خلع على الأمير تغري برمش أمير أخور، واستقر في نيابة حلب، عوضاً عن الأمير أينال الجكمي. وكتب بانتقال الجكمي إلى نيابة الشام، عوضاً عن قصروه بحكم وفاته، وجهز له التشريف والتقليد.
وفيه حضر فصاد اسكندر بن قرا يوسف بين يدي السلطان بكتابه، فقرئ، وأجيب بالشكر والثناء. وحمل إليه مال وغيره بنحو عشرة آلاف دينار. ووعد بمسير السلطان إلى تلك البلاد.
وفيه عرض السلطان الاصطبل بنفسه.
وفي حادي عشرينه: سار الأمير تغري برمش إلى محل كفالته بحلب.
هذا وقد ارتفعت الأسعار بالقاهرة، فبلغ الأردب القمح ثلاثمائة وستين، والبطة الدقيق مائة وعشرة، والخبز نصف رطل بدرهم، والأردب من الشعير أو الفول مائتي درهم وعشرة دراهم، ولحم الضأن ثمانية دراهم، ولحم البقر خمسة دراهم ونصف، وكل ذلك من الفلوس، وبلغ الزيت الطيب - وهو زيت الزيتون - أربعة عشر درهماً الرطل. وبلغ الشيرج اثني عشر درهماً الرطل. وقد حكر الفلفل، فلا يباع إلا للسلطان فقط، ولا يشترى إلا منه خاصة.
وفي رابع عشرينه: ركب السلطان للرماية، فضج العامة واستغاثوا من قلة وجود الخبز في الأسواق، مع كثرة وجود القمح بالشون، فلم يلتفت إليهم.
وفي ثامن عشرينه: ركب القاضي زين الدين عبد الباسط إلى القلعة، وقد عوفي مما كان به.
وفي تاسع عشرينه: توجه شادي بك، أحد رءوس النوب، بمال وخيل وغير ذلك إلى الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر نائب أبلستين، وإلى والده الأمير سليمان، وكتب لهما بأن يسلما شادي بك جانبك الصوفي، ليحمله إلى قلعة حلب.
وفي هذا الشهر: قدمت طائفة من أعيان التجار بدمشق إلى القاهرة، وقد طُلبوا، فإنه بلغ السلطان أنهم حملوا مما اشتروه من جدة من البهار عدة أجمال إلى دمشق.
وقد تقدم مرسوم السلطان من سنين بأن من اشترى بهاراً من جدة لا بد أن يحمله إلى القاهرة، سواء كان المشتري شاميُاً أو عراقياً أو عجمياً أو رومياً. وأنكر على المذكورين حملهم بضائعهم من الححاز إلى دمشق. وختم على حواصلهم بالقاهرة وغيرها. ثم أفرج لهم عنها بعد ما صالحوا ناظر الخاص بمال قاموا به.
شهر جمادى الأولى، أوله يوم الثلاثاء: فيه قدم الحمل من جزيرة قبرس على العادة.
وفي ثالثه: خلع على الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ، واستقر في نظر جدة. وخلع على الأمير يَلْخُجا أحد رءوس النوب من أمراء الطبلخاناه، واستقر شاد جَدّة. ونودي بسفر الناس إلى مكة صحبتهما، فسروا بذلك، وتأهبوا له.(3/381)
وفي خامسه: خلع على الجمال يوسف بن الصفي واستقر في كتابة السر بدمشق، عوضاً عن يحيى بن المدني، ورسم لقاضي القضاة بهاء الدين محمد بن حجي بنظر الجيش بدمشق، عوضاً عن الجمال المذكور، وجهز له التشريف والتوقيع في يوم الإثنين سابعه.
وفيه رسم باستقرار السيد الشريف بدر الدين محمد بن علي بن أحمد الجعفري في قضاء القضاة الحنفية بدمشق، عوضاً عن الشريف ركن الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد المعروف بالدخان، وكان قد شغر قضاء الحنفية بدمشق من حين توفي الدخان في سابع عشر المحرم مدة ثلاثة أشهر وخمسة وعشرين يوماً، وكانت ولايته بغير مال.
وفي خامس عشره: خلع على الطواشي جوهر اللالا واستقر زمام الدار عوضاً عن الأمير زين الدين خُشْقَدم بعد موته، وكانت شاغرة منذ مات.
وفي تاسع عشرينه: استعفى الوزير الصاحب تاج الدين الخطير على عادته، وقوي بمال إعانة له.
وفي هذه الأيام: رسم بإخراج الفرنج المقيمين بالإسكندرية ودمياط وسواحل الشام، فأخرجوا بأجمعهم.
شهر جمادى الآخرة، أوله يوم الأربعاء: في ثالثه: عرض أرباب السجون ليفرج عنهم، من كثرة شكواهم بالجوع.
ثم أعيدوا إلى سجونهم لما يترتب على إطلاقهم من المفاسد، ورسم لأرباب الديون أن يقوموا. بمؤونة مسجونهم، حتى تنقضي أيام الغلاء، هذا إن كان الدين مبلغاً كبيراً فإن كان الدين يسيراً أُلزم رب الدين بتقسيطه عن المدين أو الإفراج عن الديون، فاتفق أن رجلا ادعى عند بعض نواب القاضي الحنفي على رجل بدين، واقتضْى الحال أن يُسجن، فكتب القاضي المدعي عنده، على ورقة اعتقال المدين، يعتقل بشرط أن يفرض له رب الدين ما يكفيه من المؤًونة.
ثم في ثالث عشره: عرض السلطان جميع من في السجون، وأفرج عنهم بأسرهم حتى أرباب الجرائم من السراق وقطاع الطريق ورسم ألا يسجن القضاة والولاة أحداً وأن من قبض عليه من السراق يقتل ولا تقطع يده، فغلقت السجون، و لم يبق بها مسجون. ثم نقض ذلك بعد قليل، وسجن من استحق السجن.
وفي هذه الأيام: اشتد البرد بالقاهرة وضواحيها، حتى جمدت برك الماء ومقطعات النيل ونحوها، وأُبيع الجليد في الأسواق مدة أيام، ولم نعهد هذا، ولا سمعنا به.
وفي ثامنه. كان آخر عرض أجناد الحلقة.
وفي حادي عشره: قدم الأمير غرس الدين خليل بن شاهين نائب الإسكندرية بهدية، فخلع عليه من الغد يوم الإثنينْ ثاني عشره. ونزل من القلعة، فأدركه من خلع عنه الخلعة، وأعادها إلى ناظر الخاص، وذلك أنه بلغ السلطان عنه أنه أفرج للتجار عدة أحمال فلفل، حتى باعوها للفرنج بمال أخذه منهم، وكان قد تقدم مرسوم السلطان بمنع التجار من بيع الفلفل، وأن الفرنج لا تشتريه إلا من الديوان السلطاني.
وفي تاسع عشره: خلع على رجل أَسود من المغاربة - يقال له سرور - لم يزل يدخل فيما لا يعنيه، ويناله سبب ذلك المكروه، فاستقر في قضاء الإسكندرية ونظرها على أن يكفي أجناد الثغر معاليمهم، ويقوم للمرتبين بمرتباتهم، ويقوم بالكسوة السلطانية، ويقوم بعد ذلك كله بمائة وثلاثين ديناراً في كل يوم. وكتب عليه بذلك تقرير قرره على نفسه. ونزل بالقلعة، فلم يقم سوى أياماً، وطلع في يوم الثلاثاء حادي عشرينه، واستعفى من وظيفة النظر، فضرب. ورسم بنفيه، فأخرج في الترسيم من القاهرة في ثالث عشرينه.
وفي يوم السبت ثامن عشره: برز الصاحب كريم الدين والأمير يلخجا بمن معهم من المعتمرين إلى ظاهر القاهرة، ثم ساروا في تاسع عشره إلى مكة.
وفيه فتحت السجون، وسجن بها.
وفي عشرينه: خلع على أقباي البشْتكَي أحد الدوادارية، واستقر في نيابة الإسكندرية، عوضاً عن خليل وجهزت خلعة إلى جمال الدين عبد الله بن الدمامينى، باستقراره على عادته في قضاء الإسكندرية. وخلع على شرف الدين بن مفضَّل، واستقر في نظر الإسكندرية، عوضاً عن خليل المذكور.
وفي ثامن عشرينه: وصل الأمير أَقْطَوة المتوجه في الرسالة إلى شاه رخ. وقدم من الغد شيخ صفا رسول شاه رخ بكتابه فأنزل، وأجرى له ما يليق به.
وفيه ورد الخبر بأن جانبك الصوفي قد أفرج عنه ناصر الدين محمد بن دُلغادر نائب أبلستين، وصار في جمع، بعد ما أخذ من شاد بك ما على يده من المال وغيره، فكثر القلق بسبب ذلك.(3/382)
وفي هذا الشهر: قدمت رسل أصبهان بن قرا يوسف حاكم بغداد إلى القان معين الدين شاه رخ، وهو على قرا باغ، بدخوله في الطاعة، وأنه من جلة الخدم. فأقامت رسله ثلاثين يوماً لا تصل إلى القان. ثم أجابه ينكر عليه خراب بلاده، ويأمره بعمارتها، وأنه إن لم يعمرها وإلا، وأهمله سنة. وكان أصبهان قد بعث بهدية، فلم يعوضه عنها شيئاً، وإنما جهز له خلعة وتقليداً، وخلع على رسله.
شهر رجب، أوله الجمعة: في ثانيه: أحضر صفا رسول شاه رخ ومن معه، وقرئ كتابه، فإذا هو يتضمن أن يخطب وتضرب السكة باسمه، وأخرج صفا خلعة بنيابة مصر ومعها تاج ليلبس السلطان ذلك. وخاطب السلطان بكلام لم يسمع معه صبر، فضرب صفا ضرباً مبرحاً، وألقي في بركة ماء. وكان يوماً شديد البرد ثم أنزلوا، ورسم بنفيهم، فساروا في البحر إلى مكة، فوصلوها، وأقاموا بها بقية السنة، وحجوا.
وفي رابعه: كتب إلى مراد بن عثمان - متملك بلاد الروم - بأن يكون مع السلطان على حرب شاه رخ. وكتب إلى بلاد الشام بتجهيزهم الإقامات للسفر.
وفي سابعه: خُلع على شيخ الشيوخ محب الدين ابن قاضي العسكر شرف الدين عثمان الأشقر بن سليمان بن رسول بن الأمير يوسف بن خليل بن نوح الكراني التركماني الحنفي، واستقر في كتابة السر، عوضاً عن القاضي كمال الدين محمد بن ناصر الدين محمد بن البارزي. وخلع على ولده شهاب الدين أحمد، واستقر شيخ الشيوخ، وخلع على الأمير غرس الدين خليل بن شاهين، الذي ولي نيابة الإسكندرية، واستقر في نظر دار الضرب، وكان بيد ابن قاسم المتوجه إلى الحجاز، وقد أقام فيه أخاه، واستقر أيضاً أمير الحاج.
وفي حادي عشره: قدم الأمير شاد بك المتوجه لأخذ جانبك الصوفي من عند الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر، وقد أخذ ما على يده من المال وغيره، و لم يمكن من جانبك الصوفي، فشق على السلطان ذلك، وعزم على السفر، وجمع الأمراء، وحلفهم على طاعته. وعين سبعة أمراء للسفر، وألفاً من المماليك السلطانية، وألفاً من أجناد الحلقة، فأخذوا في أهبة السفر.
وفي ثاني عشره: رسم بأن القضاة لا تحبس من عليه من دين إلا بالمقشرة حيث تحبس أرباب الجرائم. وألا يحبس إلا من عليه من الذين مبلغ ثلاثمائة درهم فصاعداً، لا أقل من ذلك. ثم انتقض هذا بعد قليل، كما هي عادة الدولة في تناقض ما ترسم به.
وفي ليلة الأربعاء ثالث عشره: بعث الشريف زين الدين أبو زهر بركات بن حسن بن عجلان أمير مكة، بعثاً لمحاربة بشر، من بطون حرب، إحدى قبائل مدحج: ومنازلهم حول عسفان نزلوها من نحو ستة عشر وثمانمائة، وقد أخرجهم بنو لام من أعمال المدينة النبوية، فكثر عبثهم وأخذهم السابلة من المارة إلى مكة بالميرة. وجعل على هذا البعث أخاه الشريف علي بن حسن بن عجلان، ومعه من بني حسن الشريف ميلب بن علي بن مبارك بن رميثة، وغيره. والوزير شكر في عدة من الناس. وسار معهم الأمير أرنبغا أمير الخمسين المركزين بمكة من المماليك السلطانية، وصحبته منهم عشرون مملوكاً، فنزلوا عسفان يوم الخميس رابع عشره، وقطعوا الثنية التي تعرف اليوم بمدرج علي، حتى أتوا القوم، وقد أنذروا بهم، فتنحوا عن الأرض، وتركوا بها إبلاً مع خمسة رجال. فأول ما بدأوا به أن قتلوا الرجال الخمسة، وامرأة حاملاً كانت معهم، وما فى بطنها أيضاً، واستاقوا الإبل حتى كانوا في نحو النصف من الثنية المذكورة، وركب القوم عليهم الجبلان يرمونهم بالحراب والحجارة، فانهزم الأمير أرنبغا في عدة من المماليك، وقد قتل منهم ثمانية، ومن أهل مكة وغيرهم زيادة على أربعين رجلاً، وجرح كثير ممن بقي. وغنم القوم منهم اثنين وثلاثين فرساً، وعشرين درعاً، ومن السيوف والرماح والتجافيف ونحو ذلك من الأسلحة. ومن الأسلاب والأمتعة ما قيل أنه بلغ قيمته خمسة آلاف دينار، وأكثر. فلما طلعت شمس يوم الجمعة النصف منه دخل أرنبغا - بمن بقي معه من المماليك - مكة، وهم يقولون قتل جميع من خرج من العسكر. فقامت عند ذلك صرخة بمكة من جميع نواحيها، لم نر مثلها شناعة. وأقبل المنهزمون إلى مكة شيئاً بعد شيء في عدة أيام. وحمل الشريف ميلب في يوم السبت ميّتاً. ومات بعده بأيام شريف آخر من جراحة شوهت وجهه، بحيث ألقته كله من أعلا جبهته إلى أسفل ذقنه.(3/383)
وفي هذا الشهر: طرح على التجار بالقاهرة ودمشق ألف حمل فلفل بماشة ألف دينار، حساباً عن كل حمل مائة دينار، نزل بهم منها بلاء لا يوصف.
وفي يوم الإثنين خامس عشرينه: أدير محمل الحاج. ورسم أنه إذا وصل إلى الجامع الجديد خارج مدينة مصر، يرجع به والقضاة أمامه، إلى الخانكاه الشيخونية بالصليبة خارج القاهرة فقط، ويمضي الفقراء معه إلى تحت قلعة الجبل، ثم منها إلى الجامع الحاكمي، وأبطلت الرماحة من الركوب مع المحمل في هذه السنة.
وفي هذا الشهر: كملت عمارة القان شاه رخ لمدينة تبريز. وقد تقدم لأهل البلاد بزراعة أراضيها، فتراجع الناس إليها. وولي شاه رخ على تبريز شاه جهان بن قرا يوسف، عوضاً عن اسكندر.
شهر شعبان، أوله يوم الأحد: في أوله: قدم ركب العمار إلى مكة - شرفها الله تعالى - وفيهم ولي الدين محمد ابن قاسم، مضحك السلطان، والصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن كاتب المناخ والأمير يَلْخجا ومعه عدة مماليك، بدل من بمكة من المماليك الذين صحبة أَرَنبغا وبلغ ركبهم نحو ستمائة جمل.
وفي ثالثه: أنفق السلطان في الأمراء المجردين من القاهرة إلى الشام ومن معهم سبعة عشر ألف دينار.
وفي يوم الخميس خامسه: قدم الشريف بركات إلى مكة، فقرئ بحضوره في الحجر الأسود توقيع ابن قاسم باستقراره في نظر الحرم الشريف وعمارته، وتوقيع باستقرار الصاحب كريم الدين في نظر جدة، وأن إليه أمر قضائها وحسبتها. وتوقيع باستقرار الأمير يَلْخُجا في شد جدة.
وفي سابعه: رسم بفتح سجن الرحبة بالقاهرة، فصار يسجن فيه وفي المقشرة فقط.
وفي ليلة الأربعاء حادي عشره: توجه الصاحب كريم الدين من مكة إلى جدة ومعه الأمير يلخجا. ومضى الشريف بركات لمحاربة حرب. ثم خرج الأمير أرنبغا بمن بقي من المماليك المركزين معه من مكة يريد القاهرة، وقد تأخر منهم - سوى من قتل أربعة؛ لعجزهم من شدة جراحاتهم عن الحركة. فنزل جدة، ثم مضي منها على الساحل، خوفاً من العرب.
وفي سابع عشرينه: سار الأمراء المجردون إلى الشام، بمن معهم. وقد كانوا برزوا خارج القاهرة في خامس عشرينه. وهم الأمير جقمق الأتابك، والأمير أركماس الدوادار الكبير، والأمير يَشْبك حاجب الحجاب، والأمير تنبك نائب القلعة، والأمير قراجا، والأمير تغري بردي المؤذي، والأمير خُجا سودن.
وكان قد وقع بعدن - من بلاد اليمن وباء استمر أربعة أشهر، آخرها شعبان. هذا بعد ما طبق بلاد الحبشة بأسرها، وامتد إلى بربرة.
وقد شنع ببلاد الزنج. ثم كان بعدن فمات بها - أعني عدن - عالم عظيم قدم علينا منها بمكة كتاب موثوق به يخبر أنه مات بعدن في هذه الأربعة أشهر - خاصة ممن عرف اسمه - سبعة آلاف وثمانمائة. وفي كتاب آخر أنه مات بها ثلاثة أرباع الناس، ولم يبق إلا نحو من الناس. وفي كتاب آخر أنه خلا بعدن نحو ثلاثمائة دار مات من كان بها، وأن الوباء ارتفع منها آخر شهر شعبان، وأنه انتقل من عدن إلى نحو صعدة.
وفي سابع عشرينه: ورد كتاب اسكندر بن قرا يوسف يستأذن في القدوم، فوعد بخير.
شهر رمضان، أوله يوم الثلاثاء: فيه تسلم الشريف أميّان بن مانع بن علي بن عطية بن منصور بن جماز بن شيِحة الحسيني ٍ امرأة المدينة النبوية عوضاً عن أبيه بعد قتله. وقد قدم تشريف ولايته، وتوقيع استقراره.
وفي رابعه: خلع على رسول اسكندر بن قرا يوسف، وأعيد إليه بجوابه.
وفي سابعه: خلع على الأمير غرس الدين خليل بن شاهين، واستقر في الوزارة، عوضاً عن تاج الدين بن الخطير؛ وسبب ذلك أن ممالك الطباق بالقلعة رجموا في رابعه الوزير تاج الدين حتى كاد أن يهلك، فسأل أن يعفي من المباشرة، فرسم بطلب كريم الدين ابن كاتب المناخ من جدة ليلة الوزارة، فتهيأت لغرس الدين هذا.
وفيه جهز لطوغان حاجب غزة خلعة بنيابة القدس، ونظر الخليل، وكشف الرملة ونابلس، عوضْاً عن حسن التركماني، وعمل حسن حاجباً بحلب عوضْاً عن الأمير قنصوه. وأنعم على قنصوه بتقدمة ألف بدمشق عوضاً عن جانبك المؤيدي، بحكم وفاته.
وفي رابع عشرينه: قدم الأمير أسلماس بن كبك التركماني مفارقاً جانبك الصوفي، فأكرم وأنعم عليه.
وفي هذا الشهر: وقع الوباء بمدينة تعز من بلاد اليمن، وعم أعمالها.
شهر شوال، أوله يوم الخميس: فيه خلع على الأمير أَسلَماس فيمن خلع عليه، ورسم بتجهيزه.(3/384)
وفي ثامنه: عزل الوزير غرس الدين خليل عن الوزارة، وألزم الصاحب أمين الصاحب إبراهيم بن الهيصم ناظر الدولة لسد أمور الدولة، ومراجعة القاضي زين الدين عبد الباسط في جميع أحوال الدولة، فتمشت الأحوال، وتوجه النجاب في تاسعه بطلب الصاحب كريم الدين ابن كاتب المناخ ليلة الوزارة بعد فراغه من أمر جدة.
وفي سابع عشرينه: رسم بطلب الأمير أينال الأجرود نائب الرها. واستقر الأمير شاد بك الذي توجه لأخذ الأمير جانبك الصوفي من ابن دلغادر عوضه.
وعزل الأمير أينال الششماني من نيابة صفد، وإقامته بطالاً بالقدس. وأن يستقر عوضه في نيابة صفد الأمير تمراز المؤيدي.
وفي هذا الشهر: شنع الوباء بمدينة تعز من بلاد اليمن، فورد علينا منها كتاب مكة بأنه صلى في يوم واحد بجامع تعز على مائة وخمسين جنازة. وفي كتاب آخر أنه مات بها في ثلاثة أيام ألفان، وخلت عدة قرى من سكانها. فشمل الوباء جميع بلاد الحبشة، كافرها ومسلمها، وسائر بلاد الزنج، ومقدشوه إلى بربرا وعدن وتعز وصعدة والجبال.
وفي هذا الشهر: رحل القان شاه رخ عن مملكة أذربيجان، بعدما زوج نساء إسكندر بن قرا يوسف لشاه جهان الذي استنابه على تبريز في شهر رمضان شهر ذي القعدة، أوله يوم الجمعة.
في ثاني عشره: رسم باستقرار شمس الدين محمد بن علي بن عمر الصفدي في قضاء الحنفية بدمشق، عوضاً عن بدر الدين الجعفري، بمال وعد به.
وفي رابع عشره: منع الناس بالقاهرة من ضرب أواني الفضة وآلاتها، وأن يحمل ذلك إلى دار الضرب ليضرب دراهم.
وفي تاسع عشرينه: قبض بمكة على رسل ملك بنجاله من بلاد الهند، وسبب ذلك أن السلطان جهز في سنة خمس وثلاثين هدية من القاهرة إلى السلطان جلال الدين أبي المظفر محمد بن فندوا صحبة بعض الطواشية، فوصل بها إلى بنجالة، وقدمها إلى السلطان جلال الدين فقبلها، وعوض عنها بهدية قيمتها عندهم اثنا عشر ألف تنكة حمراء، ومات في أثناء ذلك، وقام من بعده ابنه المظفر أحمد، فأمضى هدية أبيه، وزادها من عنده هدية أخرى، فيها ألفا شاش، وعدة ثياب بيرم، وخدام طواشيه، وطرف. وجهز الجميع، وبعث معهم عدة من خدامه الطواشية، وعلى أيديهم خمسة آلاف شاش ليبيعوها ويشتروا له بها أمتعة. فركبوا في البحر، فحيرهم الريح وألقاهم إلى بعض جزائر ذيبة، بها الطواشي المجهز من مصر. وبلغ صاحب ذيبة أنه عتيق غير السلطان، فأخذ ما تركه، ولم يتعرض لشيء من الهدية فاتفق مع ذلك قتل ملك بنجالة أحمد الذي جهز الهدية الثانية، وقام آخر بعده. فلما اعتدل الريح، ساروا عن ذيبة إلى أن قاربوا جدة، غرق مركبهم بما فيه عن آخره. فنهض الصاحب كريم الدين من مكة، وقد بلغه الخبر، حتى نزل جدة، وندب الناس، فأخرج من تحت الماء الشاشات والثياب البيرم، بعد مكثها في الماء ستة أيام. وتلفت المراطبينات التي بها الزنجبيل المربا والكابلي المربا، ونحو ذلك. فسلم الشاشات والبيارم إلى القصَّارين حتى أعادوا جدتها. وكتب إلى السلطان بذلك. فكتب بالقبض على طواشية ملك بنجالة، وأخذ الخمسة آلاف شاش منهم، ومنعهم من المجيء إلى القاهرة. وأن من ورد ببضاعة إلى جدة من ذيبة أخذت للديوان بأسرها، فندب أبو السعادات ابن ظهيرة قاضي مكة الشافعي، معه أبو البقاء بن الضياء قاضي الحنفية لإيقاع الحوطة على الشاشات. ورسم على الطواشية، حتى أخذت منهم بأسرها، بعضها صنفاً، وثمن ما باعوه منها، وضمت إلى مال الديوان.
وفي هذا الشهر: نزل القان شاه رخ على سلطانية، وعزم على أنه لا يرحل عنها إلى هراة دار ملكه، حتى يبلغ غرضه من اسكندر بن قرا يوسف.
شهر ذي الحجة، أوله يوم السبت: في يوم الخميس سادسه وسابع عشرين بؤونة: نودي على النيل بزيادة خمسة أصابع. وقد جاءت القاعدة ستة أذرع وثمانية عشر إصبعاً، واستمرت الزيادة. ولله الحمد.
وفي سابع عشرينه: وصل الأمير حمزه بك بن علي بك بن دلغادر، فأنزل. ثم وقف بين يدي السلطان في تاسع عشرينه، فقبض عليه، وسجن في البرج بالقلعة.(3/385)
وفي هذه السنة: غزت العساكر السلطانية الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر غير مرة، فسار الأمير تغري برمش نائب حلب، ومعه الأمير قانباي الحمزاوى نائب حماة بعساكر حلب وحماة، في أول شهر رمضان إلى عينتاب، وقد نزل جانبك الصوفي على مرعش فتوجهوا إليه من الدربند، ونزلوا بَزرْجُق، وأقاموا يومين، وقد عدوا نهر جيحان، وقطعوا الجسر من ورائهم، وقصدوا الأمير ناصر الدين محمد بن خليل بن قراجا بن دلغادر من جهة دربند كينوك، فلم يقدروا أن يسلكوه من كثرة الثلوج التي ردمته، فْمضوا إلى دربند أَترنيت من عمل بهنسي، وقد ردمته الثلوج أيضاً، فقدم نائب حلب بين يديه عدة رجال ممن معه، ومن أهل البلاد المجاورة للدربند لفتح الطريق، ودروس الثلج بأرجلهم، حتى يحمل مسير العسكر ثم ركب في يوم الاثنين ثامن شهر رمضان، وعبر الدربند المذكور بمن معه، وسار يومه. ثم نزل تحت جبل بزقاق وقدَّم أربعين فارس كشافة، فظفروا في خان زليِّ بدمرداش مملوك ناصر الدين محمد بن دلغادر، وقد بعثه في ثلاثة لكشف خبر العساكر، ففر الثلاثة، وقبض على دمرداش وأتوا به، فأخبر أن القوه على أبلستين. فركب نائب حلب بمن معه في الحال، وجد في سيره حتى طرق أبلستين يوم الثلاثاء تاسعه، وقد رحل ابن دلغادر بمن معه عند عودة رفقة دمرداش إليه بخبر قبض كشافة العساكر عليه، فسار في أثره يومه، وقد عبر بمن معه نهر جيحان فلم يدركهم ثم عاد نائب حلب وجماعته ونزل ظاهر أبلستين، وأمر بأهلها، فرحلوا إلى جهة درنده وأضرم النار في البلد حتى احترقت بأجمعها، بعد ما أباحها للعسكر فنهبوها وسائر معاملاتها، فحازوا من الخيول والبغال والأبقار والجواميس والأغنام والحمير والأقمشة والأمتعة ما لا نهاية له، بحيث أنه لم يبق أحد من العسكر إلا وأخذ من ذلك ما قدر عليه. وعاد نائب حلب بمن معه، والغنائم تساق بين يديه على طريق بهسني، ثم عم عينتاب، فلم يبق بأبلستين ولا معاملتها قدح واحد من الغلال. وحرقت ونهبت - هي وبلادها - فبقيت قاعاً صفصفاً. وعبر بالعسكر إلى حلب بعد غيبتهم عنها خمسين يوماً، ثم إن ابن دلغادر جمع جمائعه ورحل ببيوته إلى أولخان، بالقرب من كينوك وكانت الأمراء المجردة من مصر نازلة بحلب، فجهز الأمير تغري برمش نائب حلب الأمير حسام الدين حسن خجا حاحب الحجاب بحلب، ومعه مائة وخمسون فارساً، إلى عينتاب تقوية للأمير خجا سودن، وقد نزل بها.
فلما كان يوم الاثنين رابع عشرين ذي الحجة: وصل الصوفي ومعه الأمير قرمش الأعور وكمشبغا أمير عشرة - من أمراء حلب - وقد خامر منها، وصار من جلة جانبك الصوفي، وأولاد ناصر الدين محمد بن دلغادر - سوى سليمان - يريدون لقاء الأمير خجا سودن، فنزلوا على مرج دلوك، ثم ساروا منه إلى عينتاب، فقابلهم الأمير خجا سودن في آخر النهار وباتوا ليلتهم، وأصبحوا يوم الثلاثاء خامس عشرينه. فقدم الأمير حسن خجا حاجب حلب في جمع كبير من تركمان الطاعة، فتقدم إليهم جانبك الصوفي بمن معه، وهم نحو الألفي فارس، فقاتلهم عسكر السلطان المذكور، وقد انقسموا فرقة عليها الأمير خُجا سودن حاجب حلب، وفرقة عليها الأمير تمرباي الدوادار بحلب، وتركمان الطاعة، كل فرقة في جهة فكانت بينهم وقعة انجلت عن أخذ الأمير قُرمش الأعور، وكمشبغا أمير عشرة، وثمانية عشر فارساً، فانهزم جانبك الصوفي ومن معه، وتبعهم العسكر إلى انجاصوا. ثم عادوا، وحمل المأخوذون إلى حلب، فسجنوا بقلعتها في الحديد، وكتب بذلك إلى السلطان.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
عبد الرحمن بن علي بن محمد، الشريف ركن الدين، عرف بالدخان قاضي القضاة الحنفية بدمشق، ليلة الأحد سابع عشر المحرم، وقد أناف على ستين سنة، وكان فقيهاً حنفياً، ماهراً في معرفة فروع مذهبه، وله مشاركة في غير ذلك، ولد بدمشق، ونشأ بها، ثم مات في الحكم عن قضاتها، ودرس. وهو ممن ولي القضاء بغير رشوة، فشكرت فيه سيرته. ومات قاضياً. وهو من بني أبي الحسن الحسينيين.(3/386)
ومات ملك تونس وبلاد إفريقية من الغرب، السلطان المنتصر أبو عبد الله محمد بن أبي عبد الله محمد بن أبي فارس، في يوم الخميس حادي عشرين صفر بتونس. ولم يتهن في ملكه لطول مرضه وكثرة الفتن، وسفكت في أيامه - مع قصرها - دماء خلق كثير. وقام بمملكة تونس من بعده أخوه شقيقه عثمان، فقتل عدة من أقاربه وغيرهم. وكان من خبر المنتصر أنه ثقل في مرضه، حتى أقعد، وصار إذا سار يركب في عمَّاريّه على بغل. وتردد كثيراً إلى قصر بخارج تونس للتنزه به، إلى أن خرج يوماً ومعه أخوه أبو عمرو عثمان صاحب قسنطينه. وقد قدم عليه وولاه الحكم بين الناس. ومعه أيضاً القائد محمد الهلالي، وقد رفع منه حتى صار هو وأبو عمرو عثمان المذكور - مرجع أمور الدولة إليهما، وحجباه عن كل أحد. فلما صارا معه إلى القصر المذكور تركاه به، وقد أغلقا عليه، يوهما أنه نائم. ودخلا المدينة، وعبرا إلى القصبة واستولى أبو عمرو على تخت الملك، ودعا الناس إلى بيعته، والهلالي قائم بين يديه. فلما ثبتت دولته، قبض على الهلالي، وسجنه، وغيبه عن كل أحد. ثم التفت إلى أقاربه، فقتل عم أبيه الأمير الفقيه الحسين بن السلطان أبي العباس. وقتل معه ابنيه وقد فر بهما إلى العرب، فنزل عندهم، فاشتراه منهم بمال جم. وقتل ابني عم أبيه الأمير زكريا بلد العناب ابن أبي العباس.
وقتل ابني الأمير أبي العباس أحمد صاحب بجاية، فنفرت عنه قلوب الناس. وخرج عليه الأمير أبو الحسن بن السلطان بن أبي فارس عبد العزيز، متولي بجاية.
ومات الأمير تاج الدين التاج بن سيفا القازاني، ثم الشويكي الدمشقي في ليلة الجمعة حادي عشرين شهر ربيع الأول، بالقاهرة. وكان أبوه قد قدم دمشق من بلاد حلب، وصار من جملة أجنادها، وممن قام مع الأمير منطاش، فأخرج عنه الملك الظاهر برقوق إقطاعه، وولد له التاج بناحية الشريكة التي تسميها العامة الشويكة، خارج دمشق، ونشأ بدمشق في حال خمول، وطريقة غير مرضية، إلى أن اتصل بالأمير شيخ وهو يلي نيابة الشام، فعاشره على ما كان مشهوراً به من أتباع الشهوات، وتقلب معه في أطوار تلك الفتن. وولاه وزارة حلب، لما ولي نيابتها، فلما قدم القاهرة بعد قتل الناصر فرج بن برقوق، قدم معه من جملة أخصائه وندمائه، فولاه في سلطنته ولاية القاهرة مدة أيامه، فسار فيها سيرة ما عف فيها عن حرام، ولا كف عن إثم، وأحدث من أخذ الأموال ما لم يعهد قبله، ثم تمكن في الأيام الأشرفية وارتفعت درجته، وصار جليساً نديماً للسلطان، وأضيفت له عدة وظائف، حتى مات من غير نكبة. ولقد كان عاراً على جميع بني أدم، لما اشتمل عليه من المخازي التي جمعت سائر القبائح، وأرست بشاعتها على جميع الفضائح.
ومات الأمير قَصرَوه نائب الشام بدمشق، ليلة الأربعاء ثالث شهر ربيع الآخر، وهو على نيابتها، وترك من النقد والخيول والسلاح والثياب والوبر وأنواع البضائع والمغلات ما يبلغ نحو ستمائة ألف دينار، وكان من أقبح الناس سيرة وأجمعهم لمال من حرام. ومات الأمير عثمان قَرَا يلوك بن الحاج قُطْلوبَك بن طُرْ على التركماني، صاحب مدينة آمد ومدينة ماردين، في خامس صفر، وقد انهزم من اسكندر ابن قرا يوسف، وألقى نفسه في خندق أرزن الروم فغرق، وقد بلغ نحو المائة سنة، وكان من المفسدين في الأرضْ. وهو وأبوه من جملة أمراء التركمان، أتباع الدولة الأرْتَقية أصحاب ماردين. وله أخبار كثيرة، وسير قبيحة. وقد ذكرته في كتاب درر العقود الفريده في تراجم الأعيان المفيدة.
ومات الأمير الطواشي خُشْقَدم زمام الدار، في يوم الخميس عاشر جمادى الأولى بالقاهرة، وترك مالاً جماً، منه نقداً ستون ألف دينار ذهباً، إلى غير ذلك من الفضة والقماش والغلال والعقار، ما يتجاوز المائتي ألف دينار. وكان شحيحاً بذيء اللسان، فاحشاً.
ومات الشريف مانع بن علي بن عطية بن منصور بن جماز بن شيحة الحسيني، أمير المدينة النبوية. وقد خرج يتصيد خارج المدينة، فوثب عليه حيدر بن دوغان بن جعفر ابن هبة بن جماز بن منصور بن شيحة، قتله بدم أخيه خَشْرم بن دوغان أمير المدينة، في عاشر جمادى الآخرة. وكان مشكور السيرة.(3/387)
ومات بدر الدين محمد بن أحمد بن عبد العزيز، عرف بابن الأمانة، أحد نواب القضاة بالقاهرة، في ليلة الثلاثاء ثالث عشر شعبان، ومولده في سنة اثنتين وستين وسبعمائة تخميناً. وكان فقيهاً شافعياً بارعاً في الفقه والأصول والعربية، وغير ذلك، ذكياً متقناً لما يعرف، عارفاً بالقضاء، كثير الاستحضار. ناب في الحكم وأفنى عدة سنين. رحمه الله.
ومات الشريف كبش بن جماز من بني حسين. وكان قد مالأ حيدر بن دوغان على قتل أمير المدينة مانع بن علي، ومضى يريد القاهرة ليلة إمرة بالمدينة حتى لم يبق بينه وبين القاهرة إلا نحو يوم واحد، صدفه جماعة من بني حسين، لهم عليه دم، فقتلوه في أخريات جمادى الآخرة.
وماتت خوند جلبَان الجركسية، زوجة السلطان، وأم ولده المقام الجمالي يوسف، في يوم الجمعة ثاني شوال. ودفنت بتربة السلطان التي أنشأها بالصحراء خارج باب المحروق. وكانت قد تصدت لقضاء الحوائج، فقصدها أرباب الدولة لذلك وكثر مالها، فأبيعت تركتها بمال كبير.
ومات السلطان أبو العباس أحمد بن أبي حمو موسى بن يوسف بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمر أسن بن زيان بن ثابت بن محمد بن زكداز بن بيدوكس بن طاع الله بن علي بن القاسم. وهو عبد الواد متملك مدينة تلمسان والمغرب الأوسط، في يوم شوال. وكان السلطان أبو فارس عبد العزيز بن أبي العباس أحمد الحفضي صاحب تونس وبلاد إفريقية - رحمه الله - وقد سار إلى تلمسان مرة ثالثة، وبها محمد بن أبي تاشفين عبد الرحمن بن أبي حمو المعروف بابن الزكاغية ففر منه، فما زال حتى ظفر به، وقتله، وأقام على تلمسان عوضه أحمد هذا في أول شهر رجب سنة أربع وثلاثين وثمانمائة، وهو أصغر أولاد أبي حمو، فلم يزل على تلمسان حتى مات بها، وولي بعده أخوه أبو يحيى بن أبي حمو.
ومات أحمد جُوكي بن القان معين الدين شاه رخ سلطان بن الأمير تيمور كوركان، بعد قتل قرا يلوك وعوده من أرزن الروم، في شعبان، بمرض عدة أيام، فاشتد حزن أبيه عليه، وعظم مصابه، فإنه فقد ثلاثة أولاد في أقل من سنة.
ومات ملك بنجالة من بلاد الهند، السلطان الملك المظفر شهاب الدين أحمد شاه بن السلطان جلال الدين أبي المظفر أحمد شاه بن فندو كاس، في شهر ربيع الآخر، ثار عليه مملوك أبيه كالوا الملقب مصباح خان، ثم وزير خان. وقتله واستولى على بنجاله. ومات الشيخ الملك زين الدين أبو بكر بن محمد بن علي الخافي ثم الهروي، في يوم الخميس ثالث شهر رمضان، بهراة في الوباء الحادث بها.
نادرة قلَّ ما وقع مثلها، وهي أن ثماني عشر دولة من دول العالم بأقطار الأرض زالت في مدة بضعة عشر شهراً، وأكثر أرباب هذه الدول الزائلة مات، وهم الحطي ملك أمحرة، وسلطان الحبشة.
ومات ملك كلبرجه من بلاد الهند السلطان شهاب الدين أبو المغازي أَحمد شاه بن أحمد بن حسين شاه بن بَهْمن. كلاهما مات في شهر رجب سنة ثمان وثلانين وثمانمائة. ومات الأمير سيف الدين طرباي نائب طرابلس، في رجب هذا.
ومات الشريف زهير بن سليمان بن زيان بن منصور بن جماز بن شيحة الحسيني، في رجب أيضاً.
ومات أمير زاده إبراهيم سلطان بن القان الأعظم معين الدين شاه رخ ابن الأمير الكبير تيمور لنك. صاحب شيراز، في شهر رمضان.
ومات ملك دله مدينة الهند، وهو الملك بن مبارك خان بن خضر خان.
ومات صاحب مملكة كرمان، باي سنقر سلطان بن القان شاه رخ.
ومات ملك تونس وبلاد إفريقية، المنتصر أبو عبد الله محمد بن الأمير أبي عبد الله محمد بن السلطان أبي فارس عبد العزيز، في حادي عشرين صفر سنة تسع وثلاثين.
ومات الأمير قصروه نائب الشام، في ليلة الثالث من شهر ربيع الآخر، وهو أعظم مملكة من كثير من ملوك الأطراف.
ومات الأمير عثمان قرايلوك بن الحاج قطلوبك بن طر على صاحب مدينة آمد ومدينة ماردين وأرزن الروم وغير ذلك، في صفر.
وقتل أمير المدينة النبوية الشريف مانع بن على بن عطة بن منصور بن جماز بن شيحة الحسينى، في جمادى الآخرة، و لم تطل مدته بعد قتل ابن عمه زهير بن سليمان، وكان ينازعه في الإمرة.
ومات متملك مدينة تلمسان وصاحب المغرب الأوسط أحمد بن أبى حمو العبد وادى، في شوال ومات أحمد جوكى سلطان بن القان شاه رخ.(3/388)
ومات قطب الدين فيروز شاه بن محمد شاه بن تَهَم ْ تَم ْ بن جردُن شاه بن طُغْلق بن طِبْق شاه، ملك هرمز والبحرين والحسا والقطف .
وفر إسكندر بن قرايوسف عن مملكته بتبريز وتشتت في الآفاق.
وأسر بترو بن ألفنت صاحب برشلونة وبلنسية وغير ذلك من مملكة أرغون ، وزالت دولته.
سنة أربعين وثمانمائة
أهلت وخليفة الوقت والزمان أمير المؤمنين المعتضد بالله أبو الفتح داود بن المتوكل على اللّه أبى عبد اللّه محمد، وسلطان الإسلام بديار مصر وبلاد الشام وأراضى الحجاز مكة والمدينة وينبع وجزيرة قبرس، السلطان الملك الأشرف سيف الدين أبو النصر برسباى الدقماقى. والأمير الكبير أتابك العساكر جقمق السيفى رأس الميمنة. والمقام الجمالى يوسف ولد السلطان رأس الميسرة. وأمير سلاح الأمير قرقْماس الشعبانى. وأمير مجلس أقبغا التمرازى. والدوادار الأمير أَرْكُماس الظاهرى. ورأس نوبة النوب الأمير تمراز القَرْمِشى .
وحاجب الحجاب الأمير يشبَك. وأمير آخور جاثم أخو السلطان. وبقية المقدمين الأمير تغرى بردى البكلمشى المؤذْى، وخُجا سودن، وقراقُجا الحسنى، وأينال الأجرود نائب الرها، والأمير تنبك، فهم ثلاثة عشر، بعدما كانوا أربعة وعشرين مقدما.
ونواب السلطنة بالممالك الأمير أينال الجمكى نائب الشام. والأمير تغرى برمش الجقمقى نائب حلب والأمير قانباى الحمزاوى نائب حماة. والأمير جلبَان المؤيدى نائب طرابلس، والأمير تمراز المؤيدى نائب صفد، والأمير يونسْ نائب غزة والأمير عمر شاه نائب الكرك، والأمير أقباى البْشبَكى نائب الإسكندرية. والأمير أَسَنْدمر الأسعردى نائب الوجه القبلى، والأمير حسن بيك الدكرى التركمانى نائب الوجه البحرى، و لم يعد في الدول الماضية أن يستقر أحد من النواب تركمانيا، إلا فيما بعد عن بلاد حلب، فاستجد في هذه الدولة الأشرفية ولاية عدة من التركمان ولايات ونيابات وإمريات . بمصر والشام.
وأمير مكة المشرفة الشريف زين الدين أبو زهير بركات بن حسن بن عجلان الحسنى. وبالمدينة النبوية الشريفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام الشريف، وميان ابن مانع بن على بن عطة بن منصور بن جاز بن شيحة الحسينى، وبالينبع الشريف عقيل بن وبير بن نخبار بن مقبل بن محمد بن راجح بن إدريس بن حسن بن أبى عزيز قتاده الحسنى. وهؤلاء الأشراف الثلاثة نواب عن السلطان.
وفي بقية ممالك الدنيا القان معين الدين شاه رخ سلطان ابن الأمير تيمور كوركان صاحب ممالك ما وراء النهر، وخراسان وخوارزم وجرجان وعراق العجم، ومازندران، وقندهار، ودله من بلاد الهند، وكرمان ، وجميع بلاد العجم إلى حدود أذربيجان، التي منها مدينة تبريز، ومتملك تبريز إسكندر بن قرايوسف بن قرا محمد، وهو مشرد عنها خوفا من القان شاه رخ.(3/389)
وحاكم بغداد أخو أصبهان بن قرايوسف، وقد خرجت بغداد ولم يبق بها جمعة ولا جماعة، ولا أذان، ولا أسواق. وجف معظم نخلها، وإنقطع أكثر أنهارها، بحيث لا يطلق عليها اسم مدينة بعدما كانت سوق العلم. وعلى حصن كيفا الملك الكامل خليل بن الأشرف أحمد بن العادل سليمان بن المجاهد غازى بن الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن الموحد عبد اللّه ابن السلطان الملك المعظم توران شاه ابن السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيوب بن شادى وعلى بلاد قرمان من بلاد الروم إبراهيم بن قرمان. وملك الإسلام ببلاد الروم خوندكار مراد بن محمد بن كُرْشجى بن بايزيد يلدَريم بن مراد بن أُرخان بن أرِدن على ابن عثمان بن سليمان بن عثمان، صاحب برصا وكالى بولى. وبجانب من بلاد الروم أسفنديار بن أبى يزيد، وعلى ممالك إفريقية من بلاد المغرب أبو عمرو عثمانين أبى عبد اللّه محمد بن أبى فارس عبد العزيز الحفصى صاحب تونس وبجاية وسائر إفريقية. وعلى مدينْة تلمسادْ والمغرب الأوسط أبو يحيى بن أبى حمو، وبمملكة فاس ثلاثة ملوك أجلهم صاحب مدينة فاس، وهو أبو محمد عبد الحق بن عثمان بن أحمد بن إبراهيم ابن السلطان أبى الحسن المرينى، وليس له أمر ولا نهى ولا تصرف في درهم، فما فوقه. والقائم بالأمر دونه أبو زكريا يحيى بن أبى جميل زيان الوِطَاسى وبعد صاحب فاس صاحب مكناسة الزيتون على نحو نصف يوم من فاس. والآخر بأصِيلا على نحو خمسة أيام من فاس، وهما أيضا تحت الحجر، ممن تغلب عليهما. وقد ضْعفت مملكة بنى مرين هذه، ويزعم أهل الحدثان أن الشاوية تملكها، وقد ظهرت إمارات صدق ذلك. وبالأندلس أبو عبد اللّه محمد بن الأيسر ابن الأمير نصر ابن السلطان أبى عبد اللّه بن نصر المعروف بابن الأحمر، صاحب أغرناطة. وببلاد اليمن الملك الظاهر يحيى بن الأشرف إسماعيل صاحب تعز وزبيد وعدن. وعلى صنعاء وصعدة الإمام على بن صلاح الدين محمد بن على الزينى. وبممالك الهند الإسلامية عدة ملوك. ومماليك الفرنج بها أيضًا نحو سبعة عشر ملكا، يطول علينا إيرادهم. وببلاد الحبشة الحطى الكافر، ويحاربه ملك المسلمين شهاب الدين أحمد بدلاى ابن سعد الدين أبى البركات محمد بن أحمد بن على بن صبر الدين محمد بن ولخوى بن منصور بن عمر بن ولَسْمَع الجبرتى.
وأرباب المناصب بالقاهرة الأمير جانبك أستادار. والقاضي محب الدين محمد بن الأشقر كاتب السر. وناظر الجيش عظيم الدولة زين الدين عبد الباسط، ولا يبرم أمر ولا يحل ولا يولى أحد ولا يعزل إلا بمشورته. وناظر الخاص سعد الدين إبراهيم بن كاتب حكم. وقاضى القضاة الشافعي الحافظ شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن على ابن حجر، وإليه المرجع في عامة الأمور الشرعية لسعة علمه وكثرة إطلاعه، لاسيما علم الحديث ومعرفة السنن والآثار فإنه أعرف الناس بها فيما نعلم. وقاضى القضاة الحنفي بدر الدين محمود العيني. وقاضى القضاة المالكي شمس الدين محمد البساطي. وقاضي القضاة الحنبلي محب الدين أحمد بن نصر اللّه البغدادى. والمحتسب الأمير صلاح الدين محمد ابن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر اللة. ووالى القاهرة عمر الشويكى.
شهر الله المحرم، وأوله يوم الاثنين: في عاشره: وصل العسكر المجرد إلى مدينة حلب ونزلها.
وفي رابع عشرينه: قدم المحمل الحاج مع الأمير طوخ مازى أحد أمراء الطبلخاناه، وأحد رؤوس النوب، وكنتُ صحبة الحاج، فساءت سيرته في الحاج، وفي ذات نفسه.
وفي ثامن عشرينه: جمعت أجناد الحلقة الماًخوذ منهم المال كما تقدم ذكره فى بيت الأمير تَمِرْباى الدوادار، وأعيد لهم ما كان أُخذ منهم من المال، من أجل أن التجريدة بطلت. وللّه الحمد.
وفيه قبض على الصاحب تاج الدين عبد الوهاب بن الخطير أستادار المقام الجمالى يوسف ولد السلطان، ثم أُفرج عنه. وخُلع من الغد على الصاحب جمال الدين يوسف ابن كريم الدين بن عبد الكريم بن سعد الدين بركة، المعروف والده بابن كاتب جكم. واستقر عوضه في الأستادارية.(3/390)
وفى يوم الأحد تاسع عشرينه الموافق لتاسع عشر مسرى: نودى على النيل بزيادة عشر أصابع فوفى ستة عشر ذراعا وأربعة أصابع، وركب المقام الجمالى يوسف ولد السلطان حتى خُلق المقياس وفتح الخليج بينيديه على العادة. وقدم الخبر.بمسير العسكر المجرد من حلب فى عشرينه إلى جهة الأبلستين.
وأنه في حادى عشرينه: طرق ميناء بوقير خارج مدينة الإسكندرية ثلاثه أغربة من الفرنج الكيتلان وأخذوا مركبين للمسلمين، فخرج إليهم أقباى اليشبكى الدوادار نائب الثغر، ورماهم حتى أخذ منهم أحد المركبنِ، وأحرق الفرنج المركب الآخر، وساروا.
وأن في ثاني عشرينه : غد هذه الوقعة طرق ميناء الإسكندرية مركب آخر للكيتلان، وكان بها مركب للجنوية، فتَحاربا، وأعان المسلمون الجنوية حتى إنهزم الكيتلان.
وفي هذا الشهر: خرج من مدينة بجاية بإفريقية أبو الحسن على ابن السلطان أبى فارس عبد العزيز، حتى نزل على قسنطينة، وحصرها.
شهرصفر، أوله يوم الثلاثاء : في رابعه: قدم قاصد نائب حلب برأس الأمير قَرْمش الأعور. وكان من خبره أنه من جملة المماليك الظاهرية برقوق، وترقى فى الخدم حتى صار من الأمراء وأُخرج إلى الشام. فلما خامر الأمير تَنْبَك البجاسى على السلطان كان معه، ثم هرب بعد قتله فلم يعرف خبره، إلى أن ظهر الأمير جانبك الصوفى، إنضم عليه. فلما قدم العسكر المجرد إلى حلب، ومن جملته الأمير خجا سودن نزل. ممن معه على عنتاب، فطرقه قَرْمش المذكور، وهو في مقدمة جانبك الصوفى فكانت بينهما وقعهْ أُخذ فيها قَرْمش وكمُشبغا من أمراء حلب المخامر إلى جانبك الصوفى فى جماعة، فقطعت رأس قرمش وكمشبغا وجهزتا إلى السلطان، ووسط الجماعة، فشهرت الرأسان بالقاهرة ، ثم أُلقيتا فى سراب مملوء بالأقذار والغدرة .
وفي خامسه: استقر خُشكَلْدى أحد الخاصكية فى نيابة صهيون، عوضا عن الأمير غرس الدين خليل الهذْبانى بحكم وفاته. ثم عزل بعد يومين بأخى المنوفى.
وفي ثامن عشرينه: قدم الصاحب كريم الدين بن كاتب المناخ من جدة وصحبته الأمير يلخجا والمماليك المركزة بمكة.
وفي هذا الشهر: سار أبو عمرو عثمان بن أبى عبد اللّه محمد ابن السلطان أبى فارس عبد العزيز من مدينة تونس يريد قسنطينه لقتال عمه أبى الحسن على.
شهر ربيع الأول، أوله يوم الخميس: فيه عاد العسكر المجرد إلى أبلستين بعدما وصلوا إلى مدينة سيواس، فى طلب جانبك الصوفى وابن دلغادر، حتى بلغهم لحاقهما. بمن معهما ببلاد الروم، والإنتماء إلى ابن عثمان صاحب برصا، فنهبوا ما قدروا عليه، وعادوا.
وفيه رسم بعزل الأمير تمراز المؤيدى عن نيابة صفد، واستقراره فى نيابة غزة، عوضا عن الأمير يونس الأعور، واستقرار يونس فى نيابة صفد، وتوجه بذلك دولت بيه أحد رؤوس النوب .
وفيه قدم الصاحب كريم الدين ابن كاتب المناخ تقدمة قدومه من حدة، فخلع عليه فى يوم السبت ثالثه، ونزل إلى داره، فسأل فى يوم الأحد رابعه القاضى زين الدين عبد الباسط ناظر الجيش والسلطان فى إستقرار الصاحب كريم الدين المذكور فى الوزارة على عادته. وكان السؤال على لسان الأمير صفى الدين جوهر الخازندار، فأجيب باًن " هذا الأمر متعلق بك، فإن شئت إستمريت على مباشرتك للوزارة، وإن شئت تعين من تريد " . فتكلم من الغد يوم الإثنين مع السلطان مشافهة في ذلك، فتوقف السلطان خشيهْ ألا يسد لقصور يده. فمازال بالسلطان حتى أجاب إلى ولايته، ونزل إلى داره، فاستدعى الصاحب كريم الدين وقرر معه ما يعمل. وأسعفه باًن عين له جهات يسد منها كلفة شهرين. وأنعم له بألفى رأس من الغنم، وأذن له أن يوزع على مباشرى الدولة كلفة شهرين آخرين.(3/391)
فلما كان الغد يوم الثلاثاء سادسه: خلع على الصاحب كريم الدين، واستقر في الوزارهْ على عادته، ونزل إلى داره فى موكب جليل. وسر الناس به، فصَّرف الأمور، ونفذ الأحوال. وخلع معه على الصاحب أمين الدين إبراهيم بن الهيصم ناظر الدولة خلعة استمرار، فنزل في خدمته، وجلس بين يديه كما كان أولا، وكانت الوزارة منذ عزل الأمير غرس الدين خليل عنها في شوال سنة تسع وثلاثين لم يستقر فيها أحد، وإنما كان القاضى زين الدين عبد الباسط ينفذ أمور الوزارة، وقررها على ترتيب عمله، وهو أنه أحال مصروف كل جهة من جهات المصروف على متحصل جهة من جهات المتحصل ، فإن لم تف تلك الجهة. مما أحيل به عليها قام بالعوز من ماله. وندب للمباشرة عنه الصاحب أمين الدين بن الهيصم، وهو يلى نظر الدولة، فتمشت أحوال الدولة فى هذه المدة على هذا.
وفي ليلة الاثنين خامسه: فقد سليمان بن أَرْخُن بك بن محمد كُرشجى بن عثمان، وأخته شاه زاده، وجاعته، وكانوا يسكنون بقلعة الجبل، وتمشى سليمان هذا فى خدمة المقام الجمالى ولد السلطان. ومن خبره أن مراد بن كُرشحى صاحب برصا ويخرها من بلاد الروم، قبض على أخيه أَرْخُن بك، وكحله، وسجنه مدة، فكان يقوم بخدمته وهو فى السجن مملوك من مماليكه يقال له طوغان. فأدخل إليه جارية إلى السجن، وهى متنكرة، فاشتملت من أَرْخن على هذا الولد وغيره. ومملوكه هذا يخفى أمرهم حتى مات أرخُن فى سجنه. ففر المملوك بهذين الولدين، وهما سليمان وأخته شاه زاده وأمهما إلى مدينة حلب، وأقاموا بها حتى قدم السلطان حلب فى سنة ست وثلاثين، وقف بهما إليه، فاًكرمهم وأنزلهم بقلعة حلب، ثم سيرهم إلى القاهرة وأسكنهم فى الدار التى كانت قلعة الصاحب من قلعة الجبل، وكساهم، ورتب لهم فى كل شهر إثنين وعشرين ألف درهم من معاملة القاهرة، و لم يحجر عليهم فى النزول إلى القاهرة. وأضاف هذا الصبى سليمان بن أرخُن إلى خدمة ولده المقام الجمالى، فكان يركب معه إذا ركب، ويظل بين يديه، ويبيت إذا شاء عنده إلى أن فقدوا.
وفي ليلة الإثنين: المذكور قُتل جاسوس معه كتب من جانبك الصوفى .
وفي اليلة الجمعة عاشره: عُمل المولد النبوى بين يدى السلطان، على العادة فى كل سنة.
وفي يوم الجمعة: المذكور عدا رجل من الهنود على رجلين، فقتلهما بعد صلاة الجمعة تجاه شبابيك المدرسة الصالحية بين القصرين،. بمشهد من ذلك الجمع الكثير. فأخذ وقطعت يده، ثم قُتل، فكانت حادثة شنعة.
وفي يوم السبت حادى عشرة: توجه الأمير قُرْقماس أمير سلاح، والأمير جانم أمير أخور، في جماعة إلى الوجه البحرى، من أجل أن أولاد بكار بن رحاب وعمهم عيسى من أهل البحيرة إنضم إليهم الطائفة التي يقال لها محارب، وأفسدوا.
وفي ثالث عشرة: وصل الأروام الهاربون، وعدتهم خمسة وستون شخصا، منهم ثمانيهْ من مماليك السلطان، فوسطوا الثمانية تحت المقعد السلطانى بالإصطبل من القلعة بين يدى السلطان. ووسط طوغان لالا سليمان بن أرخن، ورجل آحْر لتتمة عشرة. وقطعت أيدى سبعة وأربعين رجلا وضرب رجل بالمقارع. فكانت حادثة شنعة. وكان من خبرهم أن طوغان المذكور قصد أن يفر. بموسى إلى بلاد الروم. ونزل فى غراب قدم فى البحر، ومعه جماعة، منهم المماليك الثمانية، وعدة من الأروام. ورافقهم فى المركب جماعة من الناس ليسوا مما هم فيه في شىء، إنما هم ما بين تاجر وصاحب معيشة ومسافر لغرض من الأغراض. وانحدروا فى النيل ليلا يريدون عبور البحر، فأدركهم الطلب من السلطان، وقد قاربوا رشيد. وكانت بينهم محاربة في المراكب على ظهر النيل، قتل فيها عدة. وتخلصوا حتى عبروا بغرابهم من النيل إلى بحر الملح، فخرجت عليهم ريح ردتهم حتى نزلوا على وحلة، فلم يقدروا أن يحركوا غرابهم من شدة الوحل، فأدركهم الطلب، وهم كذلك، فقاتلوا ليدافعوا عن أنفسهم، وقد جاءهم نائب الإسكندرية في جمع موفور. فمازالوا يقاتلون حتى غلبوا وأخذوا، فسيقوا في الحديد إلى أن نزل من البلاء ما نزل. وسجن سليمان بن أرخن مدة ثم أفرج عنه، ونودى في الشوارع بخروج الهنود من القاهرة، فلم يخرج أحد.(3/392)
وفي يوم الجمعة سادس عشرة: رحل العسكر من أبلستين، بعد أن أقاموا بها عشرة أيام، وهم ينهبون أعمالها، ويخربون ويحرقرن، فمازالوا سائرين حتى نزلوا تجاه مدينة سيواس، وقد رحل العدو المطلوب إلى جبل آق طاغ، ومعناه الجبل الأبيض، ثم مضوا منه إلى أنكورية.
وفي يوم الإثنين تاسع عشرة: نودى ألا يلبس أحد زمط أحمر ، ثم نودى من الغد لا يحمل أحد سلاحًا.
وفي رابع عشرينه: خلع على سعد الدين إبراهيم بن المرة، وإستقر فى نظر جدة على عادته من قبل .
وفي سابع عشرينه: خلع على الأمير جانبك الناصرى رأس نوبة الأمير إبراهيم ابن المؤيد، وحاجب ميسرة. وإستقر أمير المجردين إلى مكة ويتحدث مع إبن المرة في أمر جدة، وتعين معه مائة وعشرة مماليك، السبتوى ثلاثين مملوكًا في خدمته. وأنعم عليه بألف دينار أشرفية وقطارى جمال، وخمس عشرة ألف فردة نشاب، وأربعة أفراس.
وفي يوم الثلاثاء ثامن عشرينه: أعيد يونس خازندار نائب حلب الوارد بعود العسكر المجرد إلى أبلستين. وجهز على يده لنائب حلب فرس بقماش ذهب، وقباء فوقانى، وخمسة آلاف دينار أشرفية. وأنعم على الأمير الكبير جقمق الأتابك بألف دينار. وعلى كل من أمراء الألوف المجردين وعدتهم ستة أمراء خمسمائة دينار. وعلى أمراء حلب المقدمين الذين خرجوا في التجريدة بألف وخمسمائة دينار، وعدتهم ثلاثة أمراء، وعلى أمير من طبلخاناه حلب. بمائتى دينار. وعلى سبعة من أمراء العشرين بحلب لكل أمير منهم. بمائة وخمسة وعشرين دينارا، جملتها ثمانمائة وخمسة وسبعين دينارا وأنعم على ستة عشر من أمراء العربان بحلب بألف وستمائة دينار. وأنعم على خمسة عشر من أمراء الجهات لكل أمير خمسين دينارا. وأنعم على أمراء التركمان ونواب القلاع ممن كان فى التجريدة بخمسة ألاف دينار. وبلغت جملة هذه الإنعامات تسعة عشر ألف دينار ومائة دينار وخمسة وسبعين ديناراً، سوى ثلاثين قرطية ، وثلاثين ثوب صوف، وعشرة أقبية سنجاب، كل قباء خمس شقات . وفْيه نودى في الناس بالإذن في السفر إلى مكة، صحبة المجردين.
شهر ربيع الآخر، أوله الجمعة: في سادس عشرة: ركب السلطان من قلعة الجبل، وشق القاهرة، وخرج من باب القنطرة للصيد. وهذه أول ركبة ركبها فى هذه السنة للصيد. وفيه جمع الأمير جوهر الخازندار الجزارين، وأشهد عليهم ألا يشتروا اللحم إلا من أغنام السلطان التي تذبح. وصار يذبح لهم من الأغنام ما يبيعوا لحمه للناس، و لم يسمع بمثل ذلك.
وفي غده: عاد السلطان من الصيد، وخرج ثانيا فى حادى عشرينه.
شهر جمادى الأولى، أوله السبت: فيه قدمت رسل مراد بن محمد كرشجى بن بايزيد بن عثمان ملك الروم، بهدية.
وفي سادسه: برز الأمير جانبك وإبن المرة إلى ظاهر القاهرة، وتلاحق بهما جماعة، إلى أن إستقلوا بالمسير إلى مكة في عاشرة.
وفى ثالث عشرة : خلع على دمرداش ، وأعيد إلى نيابة الوجه البحرى، عوضًا عن حسن بيك التركمانى.
وفي سابع عشرة : قدم الأمراء المجردون لقتال جانبك الصوفى، وناصر الدين محمد إبن دلغادر. وهم الأمير الكبير جقمق العلاى، والأمير أركماس الظاهرى الدوادار، وأمير يشبك الظاهرى ططر حاجب الحجاب ، والأمير قراخجا الحسنى، والأمير تنبك السيفى، والأمير تغرى بردى البكلمشى المعروف بالمؤذى، ومثلوا بين يدى السلطان، وقبلوا الأرض، فخلع على الأمير الكبير متمر ، ومن فوقه قباء فوقانى. وخلع على كل من بقية الأمراء المذكورين فوقانى بطرز ذهب. وأركبوا جميعهم خيولا سلطانية بقماش ذهب. وتأخر من الأمراء الأمير خجا سودن لبطئه في المسير.
وفيه أيضا قدم الأمير قرقماس الشعبانى أمير سلاح، والأمير جانم أمير أخور، والأمير قراجا شاد الشرابخاناه، والأمير تمرباى الدوادار الثانى من تجريدة البحيرة، وصحبتهم الأمير حسن بك بن سالم الدكرى التركمانى، وقد عزل ومحمد بن بكار إبن رحاب، وقد دخل فى الطاعة.
وفي هذا الشهر: كثر ركوب السلطان للصيد.
وفيه رفعت يد قاضى القضاة بدر الدين محمود العينى الحنفى عن وقت الطرحاء من الأموات، وفوض إلى الأمير صفى الدين جوهر الخازندار، ورسم له أن يسترفع حساب الوقف فْيما مضى، ثم نقصْ ذلك، وإستمر بيد قاضى القضاة على العادة.(3/393)
وفي سابع عشرينه: نودى بأن من كانت له ظلامة فعليه بالوقوف إلى السلطان. ورسم أن تجتمع قضاة القضاة الأربع. بمجلس السلطان للحكم في يومي الثلاثاء والسبت. ثم إنتقض ذلك، ولم يعمل به. وجلس السلطان للحكم في يوم السبت تاسع عشرينه. وحضروا عنده. ثم بطل وإستمر على عادته من غير حضور القضاة.
شهر جمادى الآخرة، أوله يوم الإثنين: في ثالثه : ركب الأمير تمرباى الدوادار النيل إلى الإسكندرية، حتى يبيع الفلفل المحمول من جدة على الفرنج الواردين الثغر ببضائعهم، بعدما عين لذلك القاضى زين الدين عبد الباسط، ثم أعفى منه.
وفي ثامنه: قدم الأمير خجا سودن أحد المجردين، فخلع عليه.
وفي ثاني عشرة: ورد كتاب الأمير إبراهيم بن قرمان، يتضمن أن ناصر الدين محمد ابن دلغادر وجانبك الصوفى نزلا بعد توجه العسكر قريبا من أنكوريه.
وجهز الأمير سليمان بن ناصر الدين محمد بن دلغادر إلى مراد بن عثمان، فلقيه على مدينة كالى بولى، وترامى عليه. وكان ابن قرمان المذكور قد قاتل حاكم مدينة أماية فقتله، فغضب ابن عثمان وتحركت كوا من العداوة التى بين القرمانية والعثمانية، وعزم على المسير إلى أخذ ابن قرمان. وبرز من كالى بولى يريد مدينة برصا فلما قدم عليه سليمان بن دلغادر جهز معه عسكراً، وأنعم عليه بالمال والسلاح، وندب معه حاكم مدينة توقاته لمحاصرة مدينة قيصرية، وأخذها من ابن قرمان. وجهز أيضا الأمير عيسى أخا إبراهيم بن قرقمان على عسكر آخر، وبعثه إلى بلاد قرمان ليسير هو من وراء العسكرين، فأهم السلطان هذا الخبر، وجهز إلى كل من عنتاب وملطية وكختا وكركر المال والسلاح، وكتب إلى تركمان الطاعة.بمعاونة إبراهيم بن قرقمان على عدوه .
وفي هذا الشهر: رسم أن يشترى من الغلال ثلاثون ألف أردب ليخزن، فأخذ الناس في شراء الغلة من القمح والشعير والفول، خوفا من غلاء السعر.
وفي ثامن عشرة: قدم الأمير تمرباى الدوادار من الإسكندرية، بعدما باع بها ألف حمل من الفلفل، بحساب مائة دينار الحمل، وقيمته دون ذلك بكثير، بلغ ممن ذلك مائة ألف دينار.
وفي تاسع عشرة: قدم القاضى شرف الدين أبو بكر الأشقر المعروف بابن العجمى، كاتب سر حلب، وقدم من الغد السلطان تقدمة جليلة، ما بين ثياب حرير ووبر وخيل وبغال.
وفي عشرينيه: رسم للأًمير يشبك حاجب الحجاب والأمير أينال الأجرود الوارد من الرها بالتوجه لحفر خليج الإسكندرية. وتوجه القاضى زين الدين عبد الباسط ليرتب الأحوال في ذلك، ثم يعود. فتوجه في رابع عشرينه وسار الوزير الصاحب كريم الدين ابن كاتب المناخ أيضا للنظر في أمر الحفير.
وفي هذا الشهر: اتفقت نادرة لم نر ولا سمعنا بمثلها، وهى إستقرار الأمير صفى الدين جوهر الخازندار فى قضاء دمياط، وكانت العادة أن يفوض قاضى القضاة الشافعى قضاء دمياط لمن يقع اختياره عليه من الفقهاء، فلما إتصل ولى الدين محمد بن قاسم المحلاوى بالسلطان، شره في المال، وأخذ قضاء عدة بلاد، منها دمياط. وقرر على من أقامه فى قضاء البلاد التى وليها مالا يحمله على سبيل الفريضة في كل شهر أو كل سنة، كما هى ضرائب المكوس، سوى ما يتبع ذلك من هدايا الريف. وكان الجاه عريضا، فما عفت نوابه ولا كفت، فلما ذهب إلى الحجاز، نزل عن قضاء دمياط للقاضى جلال الدين عمر والقاضى كمال الدين محمد بن البارزى كاتب السر. بمبلغ خمسين ألف درهم مصرية. فجرى على عادة ابن قاسم في ذلك إلى أن عين السلطان القاضى كمال الدين لقضاء دمشق، سأله الأمير صفى الدين جوهر الخازندار أن ينزل له عن قضاء دمياط، فلم يجد بدًا من إجابته، ونزل له عن ذلك. فأمضى قاضى القضاة النزول رغمًا، وصار أحد نواب الحكم العزيز بدمياط، فإستناب عنه على العادة في هذا، وإستمر. وصار يكتب في مكاتبته إلى نائبه بدمياط " الداعى جوهر الحنفى " ، كما كان قاضى القضاة يكتب. وحمد أهل البلد سيرته بالنسبة لمن كان قد ابتدأ ذلك.
ولم يعهد فى مثل ذلك نزول ، ولا ما يشبهه فلله الأمر.
شهر رجب ، أهل بيوم الثلاثاء: وفيه خلع على القاضى كمال الدين محمد ابن القاضى ناصر الدين محمد بن البارزى. وأعيد إلى قضاء القضاة بدمشق، عوضا عن سراج الدين عمر الحمصى بغير مال يحمله، ولا سعى منه. وإنما كثرت القالة السيئة في الحمصى، فعين السلطان عوضه القاضى كمال الدين ثم ولاه.(3/394)
وفي ثالثه: أدير محمل الحاج بالقاهرة ومصر، ولم نعهد فيما تقدم أنه أدير قبل النصف من شهر رحب إلا فى هذه الدولة الأشرفية، فإنه أدير غير مرة قبل النصف منه. ونْزل بالناس في ليلة إدارته من المماليك السلطانية بلاء كثير من صفع أقفية المارة في الشارع، ومن حرق لحاهم بالنار، وخطف عمائمهم، إلى غير ذلك مما لا نستجيز ذكره.
وفيه خلع على الأمير الوزير غرس الدين خليل، وإستقر أمير الركب.
وفي يوم السبت خامسه: توجه القاضي زين الدين عبد الباسط لكشف قناطر اللاهون من عمل الفيوم، وقد خربت.
وفي سادسه: قدم الأمير يشبك الحاجب، والصاحب كريم الدين، والأمير أينال الأجرود، وقد قاسوا خليج الإسكندرية، فإذا عرضه عاشرة قصبات فى طول ثلاث وعشرين ألف قصبة، منها ستة آلاف وأربعمائة قصبة تحتاج إلى أن تحفر، وبقيتها تحتاج إلى الإصلاح.
وفي سابعه: توجه جكم خازندار المقام الجمالى، وخاله إلى طرابلس، بإنتقال الأمير الكبير بها. وهو تمربغا المحمودى إلى الحجوبية الكبرى بها. وإنتقال الأمير آق قجا العلاى من الحجوبية إلى الإمرة الكبرى. وأن يقوم تمربغا بأربعة آلاف دينار وللمسفر المذكور بألف دينار. ورسم لجكم المذكور أن يكون مسفر قاضى القضاة كمال الدين ابن البارزى، فبعد جهد حتى أخذ منه في يومه ثلاثمائة دينار. ولم تجر العادة بمثل ذلك.
وفي عاشرة : خلع على الأمير أينال العلاى الأجرود، وإستقر في نْيابة صفد، عوضا عن الأمير يونس، ورسم ليونس أن يقيم بالقدس بطالا وخلع على الأمير طوخ بن بازق الجكمى رأس نوبة ليخرج مسفر الأمير أينال إلى صفد .
وفي رابع عشرة: أنعم بإقطاع الأمير أينال الأجرود وإمرته على الأمير قراجا شاد الشرابخاناه. وإستقر أينال الخازندار أحد الأمراء الطبلخاناه شادا، عوضا عن قراجا، وإستقر على باى الأشرفى الساقى الخاصكى خازندارا، عوضا عن أينال. وخلع على الأمير أقبغت التمرازى ليلى حفر خليج الإسكندرية .
وفي تاسع عشرة: خلع على حسن بيك بن سالم الدكرى التركمانى، وأعيد إلى كشف البحيرة، عوضا عن دمرداش.
وفي سابع عشرينه: ركب الأمير جانبك أستادار إلى ناحية شبرا الخيام من ضواحى القاهرة، وهدم كنيسة النصارى بها، ونهبت حواصلها، وأحرقت عظام رمم كانت بها، يزعمون أنها رمم شهداء منهم.
وفي هذا الشهر: جبى ما فرض على نواحى الغربية والمنوفية والبحيرة، برسم حفر خليج الإسكندرية، وهو عن عبرة كل ألف دينار نصف راجل، يؤخذ عنه مبلغ ألفين وخمسمائة درهم من معاملة القاهرة. وندب للحفر ثلاثمائة رجل، تصرف أجورهم من هذا المتحصل، وعمل بالميدان تحت القلعة بين يدى السلطان من الجراريف والمقلقلات مائتي قطعة، وعشر قطع. وعين من البقر ستمائهْ وعشرين رأسًا. وجهز ذلك لحفر الخليج المذكور.
شهر شعبان، أهل بيوم الخميس: في ثانيه: توجه قاضى القضاة كمال الدين محمد بن البارزى إلى محل ولايته بدمشق.
وفي ثالثه: خلع على القاضى معين الدين عبد اللطف، أحد موقعى الدست، وشيخ خانكاة قوصون. وإستقر في كتابة السر بحلب، عوضًا عن والده القاضى شرف الدين أبى بكر الأشقر المعروف بإبن العجمى الحلبى، وخلع على القاضى شرف الدين المذكور ليكون نائب كاتب السر على ما كان عليه قبل إنتقاله إلى كتابة السر بحلب. وأنعم على الأمير ناصر الدين محمد بن إبراهيم بن منجك بتقدمة أرغون شاه وإقطاعه بدمشق. وأضيف إلى الأمير طوغان العثمانى نائب القدس أستادارية الشام، والتحدث في الأغوار، عوضًا عن أرغون شاه.
وفي يوم الأربعاء رابع عشرة: نودى بإحتماع الجماعة التى قطعت أيديهم عندما أخذوا من الغراب ، ليفرق فيهم السلطان مالًا. فلما إجتمعوا جىء بهم ليأخذوا صدقات السلطان حتى صاروا بقلعة الجبل، قبض عليهم، وساقهم أعوان الظلمة بأسوأ حال. وأنزلوا في مركب ليسيروا إلى بلاد الروم، وقد جعل كل إثنين منهم في قرمة خشب، فكان هذا من شنيع الحوادث ولو شاء ربك ما فعلوه.
شهر رمضان، أهل بيوم الجمعة:(3/395)
في عاشرة: عقد السلطان المشور. وقد ورد الخبر بأن ناصر الدين محمد بن دلغادر ونزيله جانبك الصوفى زْحفا. بمن معهما على بلاد قرمان، فقوى العزم على السفر إلى بلاد الشام، وأخذ الأمراء في أهبة السفر، ثم إنتقض ذلك فى ثامن عشرة. وكتب بمسير نواب الشام إلى نحو بلاد قرمان نجدة لإبراهيم بن قرمان، فإن القوم أخذوا مدينة أقشهر، ونازلوا قلاعًا أخر.
وفي هذا الشهر: كثر عبثالمماليك السلطانية بالناس في الليل.
شهر شوال أوله الأحد: في خامسه: خلع على قاضى القضاة علم الدين صالح ابن شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقينى، وأعيد إلى قضاة القضاة، عوضًا عن الحافظ شهاب أحمد بن حجر .
وفي سادسه: خلع على القاضى نور الدين عمر بن مفلح ناظر المارستان، وإستقر وكيل بيت المال، عوضًا عن شمس الدين محمد بن يوسف بن صالح الحلاوى بعد موته.
وفي تاسع عشرة : خرج محمل الحاج صحبة الأمير غرس الدين خليل. ورحل من بركة الحاج في ثالث عشرينه، بعدما رحل الركب الأول في أمسه صحبة الأمير ناصر الدين محمد ولد الأمير أركماس.
وفي هذا الشهر: نزلت صاعمّة بجدة بندر مكة فأتلفت شيئا كثيرا، وهلك نحو المائة نفس.
وفيه كانت بجدة أيضًا وقعة بين القواد والأمير جانبك، قتل فيها وجرح عدة. ثم قدم الشريف بركات بن حسن بن عجلان، فساس الأمر حتى سكنت الفتنة.
شهرذى القعدة، أوله الثلاثاء: فيه قدم سيف الأمير تمرباى الدوادار بحلب، وسيف الأمير أقباى نائب الإسكندرية، وقد ماتا. فتقررت ولاية زين الدين عبد الرحمن ابن كاتب السر علم الدين داود بن الكويز أحد دوادارية السلطان نيابة الإسكندرية، وخلع عليه في ثانيه .
وفي عشرينه: قدم نائب حلب إليها، وكان قد سار عندما ورد الخبر. بمشى مراد بن عثمان ملك الروم على بلاد ابن قرمان، فلما تقرر الصلح بينه وبين إبراهيم بن قرمان عاد نائب حلب من مرعش. وقدم الخبر بأن أصبهان بن قرايوسف متملك بغداد جمع لحرب حمزة بن قرايلك حاكم ماردين، فجمع له حمزة وحاربه، فهزم أصفهان، بعدما قتل عدة من أمرائه وجنده، وأن من بقى معه أرادوا قتله، فإمتنع منهم بقلعة فولاد.
شهر ذى الحجة، أوله الخميس: في حادى عشرة الموافق له سابع عشرين بوؤنة: نودى على النيل بزيادة ثلاثة أصابع وإستقر الماء القديم على خمسة أذرع وإثنين وعشرين أصبعا وتسميها الناس اليوم القاعدة. وإستمرت زيادة النيل ، ولله الحمد.(3/396)
وفي يوم الخميس ثاني عشرينه: خلع على الأمير صلاح الدين محمد ابن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر اللّه، وإستقر كاتب السر عوضًا عن شيخ الشيوخ محب الدين محمد بن شرف الدين الأشقر، مضافًا لما بيده من حسبة القاهرة ونظر دار الضرب ونظر الأوقاف ومنادمة السلطان، فنزل في موكب حليل، وقد لبس العمامة المدورة، والفرجية، هيئة أرباب الأقلام، فسر الناس به، وكان من خبره أنه نشاً من صغره بزى الأجناد، وبرع في الحساب، وكتب الخط المنسوب، وصار أحد الحجاب في الأيام الناصرية فرج بن برقوق. وتقلب مع والده في مباشرة نظر الجيش، ونظر الخاص، والوزارة . وشكرت مباشرته لذلك،. مما طبع عليه من لين الجانب، وطيب الكلام، وبشاشة الوجه، وحسن السياسة، فصار في الأيام المؤيدية شيخ من جلة الأمراء، وولى أستادارية السلطان فى الأيام الظاهرية ططر، وملك الأمراء. ثم عزل عن ذلك، وأعيد إليه في الأيام الأشرفية برسباى، وكان ما كان من مصادرته ومصادرة والده الصاحب بدر الدين، على مال كبير، أخذ منهما حتى ذهب مالهما، إلا أنه لم يمسهما بحمد الله سوء، ولا أهينا، فلزما دارهما عدة سنين. ثم شَبه لهما الإقبال، فولى الحسبة، ومازال يترقى حتى عينه السلطان لمنادمته بعد ابن قاسم بن المحلاوى، وصار يبيت عنده، وشكرت خصاله، و لم يسلك من الطمع وأخذ الأموال من الناس ما سلكه غيره، بل عف وكف، وأفضل وزاد في الأفضال، إلى أن سعى بعض الناس في كتابة السر بمال كبير جدًا، وأرجف بولايته، فاقتضى رأى السلطان ولاية الأمير صلاح الدين، وعرض عليه ذلك ليلا، وهو مقيم عنده على عادته، فاستعفى من ذلك، فلم يعفه، وصمم عليه، ورسم بتجهيز التشريف له، ثم أصبح فخلع عليه، وأقره على ما بيده. وإستمر به في منادمته، والمبيت عنده، فضبط أمره، وصار يكتب المهمات السلطانية بخطه بين يدى السلطان، لما هو عليه من قوة الكتابة وجودتها، ومعرفة المصطلح، والدربة بمعاشرة الملوك، وتدبير الدول، ومقالبة الأحوال. فتميز بذلك عمن تقدمه من كتاب السر، بعد ابن فضل الله، فإنهم منذ عهد فتح اللّه صارت المهمات السلطانية إنما يتولى كتابتها الموقعونْ بإملاء كاتب السر، حتى باشر هو، فاستبد بالكتابة، وحجب كل أحد عن الاطلاع على أحوال المملكة بحسن سياسته، وتمام معرفته..
وفي ثامن عشرينه: قدم مبشرو الحاج.
وفي هذه السنة: شنع الموات بصعدة وصنعاء من بلاد اليمن، بحيث ورد إلى مكة كتاب موثوق به أنه مات بصعدة وصنعاء وأعمالهما زيادة على ثمانين ألف إنسان. وفيها أيضا وقع الوباء بنواحى ديار بكر وآمد، وملك الديار، فمات منها بشر كثير. وفيها كانت حروب ببلاد الروم وديار بكر وما يليها وللّه عاقبة الأمور.
ومات فيها ممن له ذكر
زين الدين عبد الرحمن بن محمد بن سليمان بن عبد اللّه المعروف بابن الخراط المروزى الأصل، ثم الحموى، الأديب، الشاعر، أحد موقعى السلطان، في ليلة الإثنين أول المحرم، عن نحو ستين سنة، بالقاهرة، ودفن من الغد. ومات الشيخ شهاب الدين أحمد بن أبى بكر بن إسماعيل بن سليم بن قايماز بن عثمان بن عمر الكنانى. شهاب الدين البوصيرى الشافعى، أحد مشايخ الحديث، في ليلة الأحد ثامن عشرين المحرم.
ومات الأمير قرمش الأعور أحد المماليك الظاهرية برقوق، ترقى في الخدم حتى صار أحد الأمراء، وأخرج بعد قتل الناصر فرج بن برقوق إلى الشام. فلما خرج الأمير تنبك البجاسى على السلطان ثار معه، حتى قتل تنبك ففر وتشتت مدة، حتى ظهر الأمير جانبك الصوفى إنضم إليه، فقوى به وسار في جماعة يريد عنتاب، وبها من أمراء السلطان الأمير خجا سودن، فقاتله بمن معه وأخذه، وأخذ معه من أمراء حلب المخامرين كمشبغا في طائفة ممن معهم. وحمل هو وكمشبغا إلى حلب، فقتلا بها. وحملت رؤوسهما إلى قلعة الجبل، فألقتا في قناة ، بعد إشهارهما. وكان قتلهما في المحرم.
ومات بدمشق قاضى القضاة شمس الدين محمد ابن قاضى القضاة شهاب الدين أحمد ابن محمود، المعروف بابن الكشك، الحنفى، بدمشق، في يوم الثلاثاء ثالث عشر شهر ربيع الأول، عن نحو ثلاثين سنة، وهو معزول.(3/397)
ومات قاضى القضاة شهاب الدين أحمد بن محمد بن صلاح، المعروف بابن المحمرة ، الشافعى، بالقدس، في ليلة السبت سادس عشر شهر ربيع الآخر. ومولده في صفر سنة تسع وستين وسبعمائة، خارج القاهرة. وقد ناب في الحكم بالقاهرة، وولى مشيخة خانكاة سعيد السعداء، وقضاء القضاة بدمشق، ثم مشيخة الصلاحية بالقدس حتى مات بها.
ومات الأمير بردى بك الإسماعيلى أحد العشرات، في سابع عشر جمادى الأولى، بقلعة الجبل، وهو مسجون. ومات مقتولًا الأمير حمزة بك بن على بك بن دلغادر، في ليلة الخميس سابع عشرين جمادى الأولى، بقلعة الجبل، وهو مسجون.
ومات الأمير أرغون شاه بدمشق، في حادى عشرين رجب. وكان قد ولى الوزارة والأستادارية بديار مصر، ثم أخرج إلى الشام على إمرة، وباشر بها للسلطان. وكان ظلوما غشوما. وهو من مماليك الأمير نوروز الحافظي.
ومات شمس الدين محمد بن يوسف بن صالح الحلاوى الدمشقى، وكيل بيت المال، في ليلة الجمعة سادس شوال. ومولده في سنة خمس وستين وسبعمائة بدمشق.
ومات أمير الملأ قرقماس بن عذرا بن نعير بن حيار بن مهنا.
وماتت المرأة الفاضلة أم عبد اللّه عائشة، بنت قاضى القضاة بدمشق علاء الدين أبى الحسن على بن محمد بن على بن عبد اللّه بن أبى الفتح العسقلانى الحنبلى، في يوم الأربعاء سادس عشرين ذى القعدة. ومولدها سنة إحدى وستين وسبعمائة، حدثت عن غير واحد، فسمع عليها جماعة. وهى من بيت علم ورياسة. وذكرت منهم في هذا الكتاب وغيره أباها وأخاه جمال الدين عبد اللّه، وزْوجها قاضى القضاة برهان الدين إبراهيم بن نصر اللة الحنبلى ، وولدها عز الدين أحمد ابن قاضى القضاة برهان الدين.
ومات صاحب صنعاء اليمن الإمام المنصور نجاح الدين أبو الحسن على ابن الإمام صلاح الدين أبى عبد اللّه محمد بن على بن محمد بن على بن منصور بن حجاج بن يوسف، من ولد يحيى بن الناصر أحمد بن الهادى يحيى بن القاسم الرسى بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب رضى اللّه عنهم، في سابع صفر، بعدما أقام في الإمامة بعد أبيه ستا وأربعين سنة وثلاثة أشهر، وأضاف إلى صنعاء وصعدة عدة من حصون الإسماعيلية أخذها منهم، بعد حروب وحصار، فقام من بعده إبنه الإمام الناصر صلاح الدين محمد بعهده إليه وبيعة الجماعة له. فمات بعد ثمانية وعشرين يومًا في خامس عشرين شهر ربيع الأول، فأجمع الزيدية بعده على رجل منهم يقال له صلاح بن على بن محمد بن أبى القاسم وبايعوه، ولقبوه بالمهدى. وهو من بنى عم الإمام المنصور. وقام بأمره أبن سنقر على أن يكون الحكم له، فعارضه الإمام، وصار يحكم بما يؤدى إليه إجتهاده، ولا يلتفت إلى ابن سنقر، فثار عليه بعد ستة أشهر رجل يقال له محمد بن إبراهيم الساودى. وأعانه قاسم ابن سنقر، وقبضا عليه وسجناه في قصر صنعاء. ووكل به محمد بن أسد الأسدى. وقام قاسم بالأمر. فدبرت زوجة الإمام المهدى في خلاصه، ودفعت إلى الأسدى الموكل به ثلاثة آلاف أوقية، فأفرج عنه، وخرج به من القصر. وسار إلى معقل يسمى ظفار، وفيه زوجة المهدى. ومضى الأسدى إلى معقل يسمى دمر، وهو من أعظم معاقل الإسماعيلية التى إنتزعها الإمام المنصور على بن صلاح. وأقام المهدى مع زوجته بظفار. ثم جمع الناس، ويسار إلى صنعاء، فوقع بينه وبين ابن سنقر وقعة، إنكسر فيها الإمام، وتحصن بقلعة يقال لها تلى، فلما بلغ ذلك زوجته، ملكت صعدة ، وأطاعها من بها من الناس، فاضطرب أمر قاسم. وكان الناس مخالفين عليه، فأقام ولدًا صغيرًا وهو ابن بنت الإمام المنصور على، وأبوه من الأشراف الرسية، فازداد الناس نفورا عنه وإنكارا عليه. وإستدعوا الإمام المهدى إلى صعدة، فقدمها وبايعه الأشراف بيعة ثانية، حتى تم أمره. وبعث إلى أهل الحصون يدعوهم إلى طاعته، فأجابوه، وإنفرد قاسم بصنعاء وحدها على كره من أهلها، وبغض له.
سنة إحدى وأربع وثمانمائة
شهر المحرم، أوله يوم السبت:(3/398)
في ليلة الأحد تاسعه: بلغ القاضى زين عبد الباسط، والوزير كريم الدين، وسعد الدين ناظر الخاص، أن المماليك السلطانية على عزم نهب دورهم، فوزعوا ما عندهم، واختفوا. ثم صعدوا إلى الخدمة السلطانية على تخوف، وعادوا إلى دورهم، والإرجاف مستمر إلى يوم الأحد سادس عشرة، فنزل عدة من المماليك، فاقتحموا دار عبد الباسط ودار الأمير جانبك أستادار ودار الوزير، ونهبوا ما وجدوا فيها .
وفي ثانى عشرينه: قدم الركب الأول من الحجاج. وقدم من الغد المحمل ببقية الحاج.
وقدم الخبر بأن نائب دوركى توجه في خامس عشرة في عدة من نواب تلك الجهات وغيرهم، وعدتهم نحو الألفى فارس، حتى طرقوا بيوت الأمير ناصر الدين محمد ابن دلغادره وقد نزل هو والأمير جانبك الصوفى على نحو يومين من مرعش، فنهبوا ما هنالك، وحرقوا. ففر ابن دلغادر وجانبك الصوفى في نفر قليل. وذلك أن جموعهما كانت مع الأمير سليمان بن ناصر الدين بن دلغادر على حصار قيصرية الروم .
شهر صفر، أوله يوم الأحد: فيه توجه الأمير أينال الجكمى نائب الشام من دمشق يريد حلب. وقد سارت نواب الشام حتى يوافوا قيصرية، مددًا لإبن قرمان على سليمان بن دلغادر.
وفي رابعة الموافق له رابع عشرى مسرى: كان وفاء النيل ستة عشر ذراعا، فركب المقام الجمالى يوسف ابن السلطان حتى خلق عمود المقياس بين يديه، ثم فتح خليج القاهرة على العادة، وعاد إلى القلعة.
وفي سابعه: قدمت تقدمة الأمير أينال الجكمى نائب الشام، وهى ذهب عشرة آلاف دينار، وخيول مائتا فرس، منها ثلاثة أرؤس بسروج ذهب وكنابيش ذهب، وسمور عشرة أبدان، ووشق عشرة أبدان، وقاقم عشرة أبدان، وسنجاب مائة بدن، وثياب بعلبكى خمسمائة ثوب، وأقواس حلقة مائة قوس، وجمال بخاتى ثلاث قطر، وجمال عراب ثلاثمائة جمل، وصوف مربع مائة ثوب، ذات ألوان.
وفي يوم الإثنين سادس عشرة: خلع على جلال الدين أبى السعادات محمد بن ظهيرة قاضى مكة خلعة الإستمرار. وكان قد قدم من مكة صحبة الحاج بطلب. وأرجف بعزله، فقام بأمره القاضى صلاح الدين محمد بن نصر اللّه كاتب السر، حتى رضى عنه السلطان، وأقره على قضاء مكة، على مال قام به للسلطان، وهو نحو خمسمائة دينار، فكان ذلك من المنكرات التى لم ندرك مثلها قبل هذه الدولة.
وفي يوم الخميس سادس عشرينه: كان نوروز القبط. بمصر، وهو أول توت رأس سنتهم، مْنودى على النيل بزيادة أصبعين لتتمة تسعة عشر ذراعًا وأصبع من عشرين ذراعا. وهذا في زيادة النيل مما يندر وقوعه، و للّه الحمد.
وفي هذا الشهر: والذى قبله كثر الوباء بحلب وأعمالها، حتى تجاوزت عدة الأموات. بمدينة حلب في اليوم مائة.
شهر ربيع الأول، أوله يوم الثلاثاء: فيه إستقر القاضى بدر الدين محمد ابن قاضى القضاة شيخ الإسلام شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن حجر في نظر الجامع الطولونى ونظر المدرسة بين القصرين، نيابة عن قاضى القضاة علم الدين صالح بن البلقينى، بسؤال القاضى زين الدين عبد الباسط له في ذلك، فأذن له حتى إستنابه عنه .
وفي خامسه: خلع الأمير غرس الدين خليل الذى ولى الوزارة بعد نْيابة الإسكندرية، وإستقر في نيابة الكرك وسار بطلبه وأثقاله من ساعته . وفيه توجه قاضى مكة الجلال أبو السعادات يريد مكة.
وفي يوم السبت ثاني عشرة: وهو يوم عيد الصليب عند قبط مصر نودى على النيل بزيادة أصبعين لتتمة عشرين ذراعًا وثمانية أصابع. هذا وقد فتحت السدود الصليبية في يوم الجمعة أمسه. وكان هذا أيضًا من نوادر زيادات النيل. ومازال يزيد حتى إنتهت زيادته في سادس عشرة، الموافق له حادى عشرين بابه، إلى عشرين ذراعًا وثلاثة عشر أصبعًا.
وفي يوم السبت تاسع عشرة : خلع على الصاحب جمال الدين يوسف بن كريم الدين عبد الكريم بن بركة المعروف بإبن كاتب حكم وإستقر في نظر الخاص، بعد موت أخيه سعد الدين إبراهيم .
وفي سادس عشرينه وهو أول بابة: بلغ ماء النيل عشرين ذراعًا وخمسة عشر أصبعًا شهر ربيع الآخر، أوله يوم الأربعاء:(3/399)
في هذا الشهر: ثبت ماء النيل إلى نحو النصف من شهر بابة فكمل رى الأراضى والحمد للّه. ثم إنحط ، فضرع الناس في الزرع. وفيه كملت عمارة الجامع الذى أنشأه السلطان بناحية خانكاة سرياقوس على الدرب المسلوك، وذرعه خمسون ذراعًا في خمسين ذراعًا. ورتب فيه إماما للصلوات الخمس، وخطيبًا وقراء يتناوبون القراءة في مصاحف .
وفي هذا الشهر: والذى قبله فْشا الموت في الناس. بمدينة حماة وأعمالها، حتى تجاوز عدة من يموت في كل يوم مائة وخمسين إنسانًا. وقدم الخبر بأن عدن من بلاد اليمن إحترقت بأًجمعها، وأحرقت دار الملك بزبيد مع جانب من المدينة، وأن الملك الظاهر يحيى ملك اليمن كانت بينه وبين المعازبة من عرب اليمن وقعة، وقتل فيها عدة من عسكره، ونجا بنفسه إلى تعز. وأن العرب اليمانية إنتقضت عليه من باب عدن إلى الشحر، وأنه قبض على كبير دولته الأمير سيف الدين برقوق وسلبه ماله وسجنه، ثم أفرج عنه. وفيه أيضًا كانت بين المسلمين وبين ملك البرتغال وقعة على مدينة طنجة من أعمال المغرب.
شهر جمادى الأولى، أوله يوم الخميس: في ثالثه: ركب السلطان من قلعة الجبل، وشق القاهرة من باب زويلة، وخرج من باب القنطرة، فمضى إلى القليوبية لصيد الكراكى وهذه أول ركبة ركبها في هذه السنة للصيد .
وفيه قدم الأمير تمراز المؤيدى نائب غزة.
وفي خامسه: قدم السلطان من الصيد، وعبر من باب القنطرة، وشق القاهرة حتى خرج من باب زويلة إلى القلعة، ولم يقع له صيد ألبتة.
وفي سادسه: قبض على الأمير تمراز نائب غزة، وحمل مقيدًا إلى الإسكندرية فسجن بها. وإستدعى الأمير جرباش قاشق من دمياط، وهو مسجون بها ليلى نيابة غزة، فلم يتم له ذلك. ورجع إلى دمياط.
وفي ثامنه: ركب السلطان ليصطاد من بركة الحجاج ومضى إلى جامعه بخانكاة سرياقوس، وعاد من يومه. ثم ركب في ليلة السبت عاشرة يريد أطفيح. فاصطاد، وعاد في يوم الإثنين ثانى عشرة.
وفي سابع عشرة: خلع على الأمير آقبردى القجماسى ، وإستقر في نيابة غزة. وفيه قدم مملوك نائب حلب برأس الأمير جانبك الصوفى ويده، فطيف بالرأس على رمح شارع القاهرة، ثم ألقيت في قناة، وكان من خبره أنه لما كبسه نائب دوركى في شهر اللّه المحرم كما تقدم ذكره فر هو وابن دلغادر، فمضى ابن دلغادر على وجهه يريد بلاد الروم، وقصد الأمير جانبك الصوفى أولاد قرايلك ونزل على محمد ومحمود ابنى قرايلك، وأقام عندهم، فأخذ الأمير تغرى برمش نائب حلب في إستمالة محمد ومحمود حتى مالا إليه، وواعداه أن يقبضا على جانبك على أن يحمل إليهما خمسة آلاف دينار، فنقل ذلك لجانبك، فبادر، وخرج ومعه بضعة وعشرون فارسًا لينجو بنفسه، فأدركوه، وقاتلوه، فأصابه سهم، سقط منه عن فرسه، فأخذوه وسجنوه عندهم. وذلك في يوم الجمعة خامس عشرين شهر ربيع الآخر. فمات من الغد، فقطع رأسه، وحمل إلى السلطان، فكاد يطير فرحًا، وظن أنه قد أمن، فأجرى اللّه على الألسنة أنه قد إنقضت أيامه، وزالت دولته. فكان كذلك كما سيأتى هذا. وقد قابل نعمة اللّه تعالى عليه في كفاية عدوه بأن تزايد عتوه وكثر ظلمه، وساءت سيرته، فأخذه اللّه أخذًا وبيلا، وعاجله بنقمته ولم يهنيه.
وفي تاسع عشرة: ركب السلطان إلى الصيد بالقليوبية، وعاد من الغد. وفيه ورد كتاب الحطى ملك الحبشة، وهو الناصر يعقوب بن داود ابن سيف أرعد، ومعه هدية، ما بين ذهب وزباد وغير ذلك، فتضمن كتابه السلام والتودد، والوصية بالنصارى وكنائسهم.
وفي هذا الشهر: شنع الوباء بحماة، حتى تجاوزت عدة الأموات عندهم في كل يوم ثلاثمائة إنسان، و لم يعهدوا مثل ذلك في هذه الأزمنة.
شهر جمادى الآخرة، أوله الجمعة: فيه رسم بنقل جمال الدين يوسف بن الصفى الكركى كاتب السر بدمشق إلى نظر الجيش بها، عوضًا عن بهاء الدين محمد بن نجم الدين عمر بن حجى، على أن يحمل أربعة آلاف دينار. وأن يستقر بن حجى في كتابة السر، عوضًا عن ابن الصفى، على أن يحمل ألف دينار.
وفي ثانيه: توجه السلطان إلى الصيد في بركة الحجاج. وقدم الخبر بوقوع الوباء في مدينة طرابلس الشام.(3/400)
وفي هذا الشهر: كثر ركوب السلطان إلى الصيد. وفيه وقع الوباء بدمشق، وفْشا الموت بالطاعون الوحى. وقدم الخبر بأن إسكندر بن قرايوسف نزل قريبا من مدينة تبريز فبرز إليه أخوه جهان شاه، المقيم بها من قبل القان معين الدين شاه رخ بن تيمور لنك ملك المشرق، فكانت بينهما وقعة إنهزم فيها إسكندر إلى قلعة يلنجا من عمل تبريز، فنازله جهان شاه، وحصره بها. وأن الأمير حمزة بن قرايلك متملك ماردين وأرزنكان أخرج أخاه ناصر الدين على باك من مدينة آمد، وملكها منه. فقلق السلطان من ذلك. وعزم على أن يسافر بنفسه إلى بلاد الشام، وكتب بتجهيز الإقامات بالشام ثم أبطل ذلك.
شهر رجب، أوله الأحد: في خامسه: أدير محمل الحاج. وقد تقدم أنه إنما كادْ يدار بعد النصف من شهر رجب، وأنه أدير في هذه الدولة قبل النصف، فجرت في ليلة الإثنين ويوم الإثنين خامسه شنائع. وذلك أن مماليك السلطان سكان الطباق بالقلعة نشأوا على مقت السلطان لرعيته، مع ما عندهم من بغض الناس، فنزل كثير منهم في أول الليل، وأخذوا في نهب الناس، وخطف النساء والصبيان للفساد. وإجتمع عدد كثير من العبيد السود، وقاتلوا المماليك فقتل من العبيد خمسة نفر، وجرح عدة من المماليك، وخطف من العمائم وأخذ من الأمتعة شىء كثير، فكان ذلك من أقبح ما سمعنا به. وفْيه قْدم ولد محمود بن قرايلك بسيفْ الأمير جانبك الصوفْي، الذى قتل.
وفي يوم السبت سابعه: رسم بخروج تجريدة إلى بلاد الشام، وعين من الأمراء المقدمين ثمانية، وهم الأمير قرقماس الشعبانى أمير سلاح، والأمير أقبغا التمرازى أمير مجلس، والأمير أركماس الظاهرى الدوادار، والأمير تمراز الدقماقى رأس نْوبة النوب، والأمير يشبك حاجب الحجاب، والأمير جانم أمير أخور، والأمير خجا سودنْ، والأمير قراجا الأشرفي.
وفي تاسعه: نودى بألا يحمل أحد من العبيد السلاح، ولا سيفًا ولا عصى، ولا يمشي بعد المغرب. وأن المماليك لا تتعرض لأحد من العبيد. وذلك أنه لما وقع بين المماليك والعبيد في ليلة المحمل ما وقع، أخذ المماليك في تتبع العبيد، فقتلوا منهم جماعة، ففر كثير منهم من القاهرة، وإختفى كثير منهم. فلما نودى بذلك سكن ذلك الشر، وأمن الناس على عبيدهم، بعد خوف شديد. وفيه رسم. بمنع المماليك من النزول من طباقهم بالقلعة إلى القاهرة، وذلك أنهم صاروا ينزلون طوائف طوائف إلى المواضع التى يجتمع بها العامة للنزهة، ويتفننوا في العبث والفساد، من أخذ عمائهم الرجال وإغتصاب النساء والصبيان، وتناول معايش الباعة، وغير ذلك، فلم يتم منعهم، ونزلوا على عادتهم السيئة.
وفي عاشرة: حمل إلى الأمراء الثمانية نفقة السفر، وهى لكل أمير ألفا دينار أشرفية .
وفي يوم الأربعاء ثامن عشرة: ركب السلطان إلى خليج الزعفران من الريدانية خارج القاهرة وعاد من يومه. فأصبح موعك البدن، ساقط الشهوة للغذاء، ولزم الفراش .
وفي هذا الشهر: وقع الوباء ببلاد الصعيد من أرض مصر وكثر بدمشق، وشنع بحلب وأعمالها، فأظهر أهلها التوبة، وأغلقوا حانات الخمارين، ومنعوا البغايا الواقفات للبغاء، والشباب المرصدين لعمل الفاحشة، بضرائب تحمل لنائب حلب وغيره من أرباب الدولة فتناقص الموت وخف الوباء، حتى كاد يرتفع. ففرح أهل حلب بذلك، وجعلوا شكر هذه النعمة أن فتحوا الخمارات، وأوقفوا البغايا والأحداث للفساد بالضرائب المقررة عليهم، فأصبحوا وقد مات من الناس ثمانمائة إنسان. وإستمر الوباء الشنيع، والموت الذريع فيهم، رجب، وشعبان، وما بعده.
شهر شعبان أَوله، يوم الإثنين: أهل هذا الشهر والسلطان مريض، وقد أخرج مالا فرق في جماعة من الناس على سبيل البر والصدقة، فمازال إلى يوم الثلاثاء تاسعه، فخلع فيه على الأطباء لعافية السلطان. وركب من الغد، فزار القرافة، وفرق مالاً في الفقراء، وعاد والمرض بين في وجهه .
وفي هذا اليوم: أعنى يوم الأربعاء عاشره حدثت ريح شديدة في معاملة طرابلس واللاذقية وحماة وحلب وحمص وأعمالها، وإستمرت عدة أيام، فألقت من الأشجار ما لا يدخل تحت حصر.(3/401)
وفي يوم السبت ثالث عشرة : برز سعد الدين إبراهيم بن المرة إلى ظاهر القاهرة ليسير إلى الطور ويركب البحر إلى حدة، وكان قدم من مكة، وصادره السلطان على مال حمله، ثم خلع عليه، وإستقر في نظرالخاص بجدة على عادته. وخلع معه على التاجر بدر الدين حسين بن شمس الدين محمد بن المزلق الدمشقى، ليكون عوضًا عن الأمير المجرد إلى جدة.
وفيه ركب السلطان إلى خارج القاهرة، وعبر من باب النصر، ثم نزل بالجامع الحاكمى، وقد ذكر له أن بهذا الجامع دعامة قد ملئت ذهبًا، فشره لذلك، وطمع في أخذه. فقيل له. " إنك تحتاج إلى هدم جميع هذه الدعائم حتى تظفر بها، ثم لابد لك من إعادة عمارتها " . فعلم عجزه عن ذلك، وخرج، فركب عائدا إلى القلعة .
وفيه قدم الخبر بأن الرباء شنع بدمشق، وأنه مات من الغرباء الذين قدموا من بغداد وتبريز والحلة والمشهد وتلك الديار فرارا من الجور والظلم الذى هنالك وسكنوا حلب وحماة ودمشق عالم عظيم، لا يحصرهم العاد لكثرتهم.
وفي سابع عشرة: خلع على الأمير أركماس الجاموس أمير شكار ، وأعيد إلى كشف الوجه القبلى، وإستقر ملك الأمراء ليحكم من الجيزة إلى أسوان.
وفيه أيضا حدثت بالقاهرة زلزلة عند أذان العصر، إهتز بى البيت مرتين، إلا أنها كانت خفيفة جدًا و للّه الحمد.
وفي يوم الجمعة تاسع عشرة: هبت بدمشق ريح شديدة في غاية من القوة. وإستمرت يوم الجمعة ويوم السبت، فاقتلعت من شجر الجوز الكبار ما لا يمكن حصره لكثرته. وألقت أعالى دور عديدة، وألقت بعض المنارة الشرقية بالجامع الأموى، فكان أمرًا مهولا، وعمت هذه الريح بلاد صفد والغور، وأتلفت شيئا كثيرا.
وفي عشرينه: إستقل ابن المزلق وابن المرة بالمسير إلى الطور ليركبوا البحر من هناك إلى جدة. وبعث السلطان على يد ابن المزلق خمسة آلاف دينار، بسبب عمارة عين عرفة.
وفي يوم الخميس: خرج الأمير قرقماس أمير سلاح مقدم العسكر المجرد إلى الشام، وصحبته الأمراء، من غير أن يرافقهم في سفرهم أحد من الممالك السلطانية، لسوء سيرتهم. فنزلوا بالريدانية خارج القاهرة، إلى أن إستقلوا بالمسير في يوم السبت سابع عشرينه. وكتب لنائب الشام الأمير أينال الجكمى، أن يتوجه. ممن معه صحبة الأمراء إلى حلب، ويستدعوا حمزة باك ابن قرايلك صاحب ماردين وأرزن كان، فإن قدم إليهم خلع عليه بنيابة السلطة فيما يليه، وإلا مشوا بأجمعهم عليه وقاتلوه وأخذوه .
وقدم الخبر بأنْ محمد بن قرايلك توجه إلى أخيه حمزة بالك باستدعائه، وقد حقد عليه قتله جانبك الصوفي، فإنه لما بلغه نزول جانبك على أخويه محمد ومحمود، كتب إلى أخيه محمد بأًن يبعث به إليه ليرهب به السلطان، فمال محمد إلى ما وعده به نائب حلب من المال، وقتل جانبك، فمازال حمزة يعد أخاه ويمنيه، حتى سار إليه، وفي ظنه أنه يوليه بعض بلاده، فما هو إلا أن صار في قبضته، قتله وظهر عاجل عقوبة الله له على بغْيه .
وفي هذا الشهر: وقع في كثير من الأبقار داء طرحت منه الحوامل عجولاً وفيها الطاعون، وهلك كثير من العجاجيل بالطاعون أيضاً.
شهر رمضان، أوله يوم الثلاثاء: وفيه كانت عدة الأموات التى رفعت بها أوراق مباشرى ديوان المواريث بالقاهرة ثمانية عشر إنساناً، وتزايدت عدتهم في كل يوم حتى فشا في الناس الموت بالطاعون في القاهرة ومصر، لاسيما في الأطفال والإماء والعبيد، فإنهم أكثر من يموت موتاً وحيًا سريعًا. هذا وقد عم الوباء بالطاعون بلاد حلب ، وحماة ، وطرابلس ، وحمص ، ودمشق، وصفد ، والغور ، والرملة وغزة ، وما بين ذلك، حتى شنعت الأخبار بكثرة من يموت، وسرعة موتهم. وشناعة الموتان أيضًا ببلاد الواحات من أرض مصر، ووقوعه قليلا بصعيد مصر .(3/402)
وفي يوم الأربعاء ثالث عشرينه: ختمت قراءة صحيح البخارى بين يدى السلطان بقلعة الجبل ، وقد حضر قضاة القضاة الأربع، وعدة من مشايخ العلم وجماعة من الطلبة، كما جرت العادة من الأيام المؤيدية شيخ. وهو منكر في صورة معروف، ومعصية في زى طاعة. وذلك أنه يتصدى للقراءة من لا عهد له بمارسة العلم، لكنه يصحح ما يقرأه، فيكثر مع ذلك لحنه وتصحيفه وخطاه وتحريفه. هذا، ومن حضر لا ينصتون لماعه، بل دائما دأبهم أن يأخذوا في البحث عن مسأله يطول صياحهم فيها، حتى يمْضى بهم الحال إلى الإساءات التى تؤول أشد العداوات. وربما كفر بعضهم بعضًا، وصاروا ضحكة لمن عساه يحضرهم من الأمراء والمماليك. وإتفق في يوم هذا الختم أن السلطان لما كثر الوباء قلق من مداخلة الوهم له، فسأل من حضر من القضاة والفقهاء عن الذنوب التى إذا إرتكبها الناس عاقبهم اللّه بالطاعون، فقال له بعض الجماعة: إن الزنا إذا فشا في الناس ظهر فيهم الطاعون، وأن النساء يتزين ويمشين في الطرقات ليلًا ونهارًا في الأسواق. فأشار آخر أن المصلحة منع النساء من المشى في الأسواق. ونازعه آخر فقال لا يمنع إلا المتبرجات، وأما العجائز ومن ليس لها من يقوم بأمرها لا تمنع من تعاطى حاجتها. وجروا في ذلك على عادتهم في معارضة بعضهم بعضاً، فمال السلطان إلى منعهن من الخروج إلى الطرقات مطلقًا، ظناً منه أن بمنعهن يرتفع الوباء. وأمر بإجتماعهم عنده من الغد، فاجتمعوا في يوم الخميس، وإتفقوا على ما مال إليه السلطان. فْنودى بالقاهرة ومصر وظْواهرهما. بمنع جميع النساء بأسرهن من الخروج من بيوتهن، وألا تمر إمرأة في شارع ولا سوق ألبتة، وتهدد من خرجت من بيتها بالقتل، فامتنع عامة النساء، فتياتهن وعجائزهن وإمائهن من الخروج إلى الطرقات. وأخذ والى القاهرة وبعض الحجاب في تتبع الطرقات، وضرب من وجدوا من النساء، وأكدوا من الغد يوم الجمعة في منعهن، وتشددوا في الردع والتهديد، فلم تر إمرأة في شىء من الطرقات. فنزل بعدة من الأرامل وربات الصنائع، ومن لا قيم لها يقوم بشأنها، ومن تطوف على الأبواب تسأل الناس، ضيق وضرر شديد. ومع ذلك فتعطل بيع كثير من البضائع والثياب والعطر، فإزداد الناس وقوف حال، وكساد معايش، وتعطل أسواق، وقلة مكاسب.
وفي يوم السبت سادس عشرينه: أمر السلطان بإخراج أهل السجون من أرباب الجرائم، ومن عليه دين، فاًخرجوا بأجمعهم، وأطلقوا بأسرهم. ورسم بغلق السجون كلها، وألا يسجن أحد، فأغلقت السجون بالقاهرة ومصر. وأنتشرت السراق والمفسدون في البلد. وإمتنع من له مال على أخر أن يطالبه به .
وفي سابع عشرينه: عزم السلطان على ولاية الحسبة لرجل ناهض، فذكر له جماعة، فلم يرضهم. ثم قال: عندى واحد ليس بمسلم، ولا يخاف اللّه وأمر فأحضر إليه الأمير دولت خجا، فخلع عليه وإستقر به محتسب القاهرة، عوضًا عن المقر الصلاحى محمد ابن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر اللّه، رغبة من السلطان في جبروته، وقسوته، وشدة عقوبته وقلة رحمته وفيه نودى بخروج الإماء لشراء حوائج مواليهن من الأسواق، وألا تنتقب واحدة منهن، بل يكن سافرات عن وجوههن، وأن تخرج العجائز لقضاء أشغالهن، وأن تخرج النساء إلى الحمامات، ولا يقمن بها إلى الليل، فكان في ذلك نوع من أنواع الفرج. وفيه قدم الأمراء المجردون إلى البحيرة بغير طائل، وقد أتلفوا كثيرًا من زروع النواحي. وفيه إبتدأ إنتشار الجراد الكثير بالقاهرة وضواحيها، وإستمر عدة أيام. وفيه أقيم بعض سفلة العامة الأشرار في التحدث على مواريث اليهود والنصارى، وخلع عليه، وكانت العادة أن بطرك النصارى ورئيس اليهود يتولى كل منهما أمر مواريث طائفته، فتوصل هذا السفلة إلى السلطان، والتزم له أن يحصل من هذه الطائفتين مالًا كبيراً، فجرى السلطان على عادته في الشره في جمع المال، وولاه. وفيه كشف عن بيوت اليهود والنصارى، وأحضروا ما فيها من جرار الخمر لتراق.
وفي هذا الشهر: هدم للنصارى دير المغطس عند الملاحات، قريب من بحيرة البرلس وكانت نصارى الإقليم قبليا وبحريا تحج إلى هذا الدير كما يحجون إلى كنيسة القيامة بالقدس، وذلك في عيده من شهر بشنس، ويسمونه عيد الظهور، وقد بسطت الكلام على هذا عند ذكر الكنائس والديارات من كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار .(3/403)
وفي هذا الشهر: شنع الموت بالطاعون في بلد عانة من بلاد العراق، بحيث لم يبق بها أحد. وإستولى أمير الملا عاذر بن نعير على موجودهم جميعه. وشنع الموت أيضاً في أهل الرحبة، حتى عجزوا عن مواراة الأموات، وألقوا منهم عددًا كثيراً في الفرات. وشنع الموت أيضًا في أزواق التركمان، وبيوت العربان بنواحي بلاد الفرات، حتى صار الفريق من العرب، أو الزوق من التركمان، ليس به إنسان. ودوابهم مهملة، لا راعى لها. وأحصى من مات بمدينة غزة في هذا الشهر، فبلغوا إثني عشر ألفًا ونيف، ووردت الأخبار بخلو عدة مدن ببلاد المشرق لموت أهلها، وبكثرة الوباء ببلاد الفرنج.
شهر شوال، أهل بيوم الخميس: وقد كل الناس بالقاهرة ومصر من القبض والأنكاد ما لا يوصف، وذلك من تزايد عدة الأموات في كل يوم، فكانت عدة من رفع ذكره من ديوان المواريث في هذا اليوم وهو يوم العيد من القاهرة مائة إنسان، ومن مصر إثنان وعشرون. هذا، وقد تعطل بيع كثير من البضائع وأمتعة النساء لإمتناعهن من المشي في الطرقات وإستوحش نساء الأمراء المجردين وأولادهم لغيبتهم عنهم، وقلق الناس من عسف متولى الحسبة، وشدة بطشه، ومن كثرة ما داخل الناس من الوهم خوفًا على أولادهم وخدمهم من الموت الوحى السريع بالطاعون، ومن نزول أنواع المكاره بالذمة من اليهود والنصارى، بحيث أنى لم أدرك في طول عمرى عيدًا كان أنكد على الناس من هذا العيد .
وفي ليلة هذا العيد: إشتد برد الشتاء في بلاد الشام، فأصبح الناس من صفد إلى دمشق وحماة وحلب وديار بكر، إلى أرزن كان، وقد صقعت أشجارهم، بحيث لم يبق عليها ورقة خضراء إلا إسودت، ما عدا شجر الصفصاف، والجوز فتلفت الباقلاء المزروعة، والشعير والبيقياء والهليون وعامة الخضروات، فزادهم ذلك بلاء على بلائهم بكثرة الموتان الفاشى في الناس وهبت مع ذلك بصفد ريح باردة، هلك بعدها من الناس والدواب ما شاء اللّه. وتلفت بها الزروع والأشجار. وإتفق أيضًا في ليلة عيد الفطر أن هجم على مدينة فاس من بلاد المغرب الأقصى، سيل عظيم جداً، فأخذ خلائق وهدم عدة مساكن، فكان أمرًا مهولاً وحادثًا شنيعًا. وفي رابعه: قدم الأمراء المجردون إلى حلب. وفيه خلع السلطان على الأمور أسنبغا الطيارى، وإستقر حاجب ميسرة، عوضاً عن جانبك الناصرى المتوفى بمكة، فأراق الخمور من دور النصارى وغيرهم.
وفي يوم الثلاثاء سادسه: خلع على الإمام الحافظ شهاب الدين أبى الفضل أسد ابن على بن حجر، وأعيد إلى قضاء الشافعية بديار مصر، عوضاً عن قاضى القضاة علم الدين صاع البلقينى. وألزم أن يقوم لعلم الدين صالح بما حمله إلى الخزانة. هذا، وقد أظهر السلطان أنه لا يولى أحدًا من القضاة بمال، فإنه داخله وهم عظيم من كثرة تزايد الموت الوحى السريع في الناس، وموت كثر من المماليك السلطانية سكان الطباق من القلعة، وموت الكثير من خدام السلطان الطواشية، ومن جواريه وحظاياه وأولاده، فحمل إلى البلقينى من مال شهاب الدين بن حجر، لا من مال السلطان.
وفيه ركب السلطان من القلعة، وأقام يومه بخليج الزعفران خارج القاهرة. وعاد من آخره بعد أن فرق مالاً في الفقراء، فتكاثروا على متولى تفرقة ذلك، حتى سقط عن فرسه، فغضب السلطان من ذلك، وطلب سلطان الحرافيش، وشيخ الطوائف، وألزمهما بمنع الجعيدية أجمعين من السؤال في الطرقات، وإلزامهم بالتكسب، وأن من شحذ منهم يقبض الوالى عليه، وأخرج ليعمل في الحفير. فإمتنعوا من الشحاذة، وخلت الطرقات منهم، و لم يبق من السؤال إلا العميان والزمناء وأرباب العاهات، و لم نسمع بمثل ذلك. فعم الضيق كل أحد، وإنطلقت الألسنة بالدعاء على السلطان، وتمنى زواله، فأصبح في يوم الأربعاء سابعه مريضًا قد إنتكس، ولزم الفراش.
وفي هذه الأيام: إشتد البلاء بأهل الذمة من اليهود والنصارى ، وألزمهم الذى ولى أمر مواريثهم أن يعملوا له حساب من مات منهم من أول هذه الدولة الأشرفية، وإلى يوم ولايته. وأخرق بهم وأهانهم. وألزمهم أيضًا أن يوقفوه على مستنداتهم في الأملاك التى بأيديهم، فكثرت الشناعة عليه، وساءت القالة في الدولة.(3/404)
وإتفق مع ذلك كله حوادث مؤلمة منها أن امرأة مات ولدها بالطاعون، ولم يكن لها سواه فلما غسل وكفن وأخرج به ليوضع في التابوت ليدفن في الصحراء أرادت أمه أن تخرج وراء جنازته، فمنعت من ذلك لأن السلطان رسم ألا تخرج امرأة من منزلها. فشق عليها منعها من تشنيع جنازة ولدها، وألقت نفسها من أعلى الدار إلى الأرض، فماتت. وخرجت امرأة أخرى من دارها لأمر مهم طرأ لها، فصدفها دولت خجا متولى الحسبة، فصاح بأعوانه بأن يأتوه بها ليضربها، فما هو إلا أن قبضوا عليها، إذ ذهب عقلها وسقطت مغشيًا عليها من شدة الخوف، فشفع فيها بعض من حضر ألا يعاقبها، فتركها، وانصرف عنها. فحملت إلى دارها وقد إختلت وفسد عقلها فمرضت مع ذلك مدهْ.
وفي يوم الجمعة تاسعه: إتفقت حادثه لم ندرك مثلها، وهو أن الخطيب بالجامع الأزهر رقي المنبر فخطب، وأسمع الناس الخطبة وأنا فيهم حتى أتمها على العادة. وجلس للإستراحة بين الخطبتين، فلم يقم حتى طال جلوسه. ثم قام وجلس سريعًا، وإستند إلى جانب المنبر ساعة قدر ما يقرأ القارىء ربع حزب من القرآن، والناس في إنتظار قيامه، وإذا برجل من الحاضرين يقول: مات الخطيب. فإرتج الجامع وضج الناس، وضربوا أيديهم بعضها على بعض أسفًا وحزلًا، وأخذنى البكاء وقد إختلت الصفوف، وقام كثير من الناس يريدون المنبر، فقام الخطب على قدميه، ونزل عن المنبر، فدخل المحراب وصلى من غير أن يجهر بالقراءة، وأوجز في صلاته حتى أتم الركعتين، وقدمت عدة جنائز فلم أدر من صلى بنا عليها. وإذا بالناس في حركة وإضطراب، وعدة منهم يجهرون بأن الجمعة ما صحت. وتقدم رجل فأقام وصلى الظهر أربعًا، وجماعة يأتمون به. فما هو إلا أن قضي هؤلاء صلاتهم إذا بجماعة أخر قد وثبوا وأمروا فأذن المؤذنين على سدة المؤذنين بين يدى المنبر، ورقي رجل المنبر، فخطب خطبتين، ونزل ليصلى فمنعوه من التقدم إلى المحراب، وأتوا بإمام الخمس، فقدموه حتى صلى بالناس جمعة ثانية. فلما إنقضت صلاته بالناس ثار آخرون وصاحوا بأن هذه الجمعة الثانية لم تصح، وأقاموا الصلاة، وصلى بهم رجل صلاة الظهر أربع ركعات، وكان في هذا اليوم بالجامع الأزهر إقامة خطبتين وصلاة الجمعة مرتين، وصلاة الظهر مرتين، وإنصرف الناس، وكل طائفة تخطىء الأخرى، وتطير كثير منهم على السلطان بزواله من أجل إقامة خطتين في موضع واحد هذا، وقد كان الناس عندما قيل: مات الخطيب، قد ملكهم الوهم، فأرعد بعضهم، وبكى جماعة منهم، ودهش آخرون. وهبت عند ذلك ريح باردة، فظنوا أنهم جميعًا ميتون حتى أنه لو قدر اللّه موت الخطيب على المنبر لهلك جماعة من الوهم. وللّه عاقبة الأمور.
وفي هذه الأيام: تزايد بالسلطان مرضه. ومنذ إبتدأ به المرض، وهو أخذ في التزايد، إلا أنه يتجلد، ويظهر أنه عوفي. ويخلع على الأطباء، ويركب وسحنته متغيرة، ولونه مصفراً، إلى أن عجز عن القيام من ليلة الأربعاء سابعه. هذا، وقد شنع الموت بالدور السلطانية في أولاد السلطان الذكور والإناث، وفي حظاياه وجواريه، وجوارى نسائه، وفي الخدام الطواشية، وفي المماليك السلطانية سكان الطباق بالقلعة. وشنع الموت أيضاً في الناس بالقاهرة ومصر وما بينهما، وفي سكان قلعة الجبل، سوى من ذكرنا، وفي بلاد الواحات والفيوم، وبعض بلاد الصعيد، وبعض الحوف بالشرقية .
وفي يوم الإثنين تاسع عشرة: خرج محمل الحاج مع الأمير أقبغا الناصرى أحد الطبلخاناه ونزل بركة الحجاج على العادة، فمات عدة ممن خرج بالطاعون، منهم ابن أمير الحاج وأبيه، في هذا اليوم ومن الغد بعده .
وفي هذا الشهر: ثار عشير بلاد الشام قيسها ونميها وتحاربوا في سادسه، فقتل من الفريقين جماعات يقول المكثر زيادة على ألف، ويقول المقل دون ذلك، فنزل بأهل الشام الخوف الشديد، مع ما بهم من البلاء العظيم بكثرة الموتان عندهم، حتى لا يكاد يوجد بها إلا حزين على ميت. ومع ما أصابهم من تلاف فواكههم عن آخرها.
وفي يوم الأربعاء حادى عشرينه: رفعت أوراق ديوان المواريث بعدة من مات في هذا اليوم بالقاهرة، فكانوا ثلاثمائة وأربعًا وأربعين ميتًا. وضبطت عدة من صلى من الأموات في المصليات، فبلغوا ما ينيف على ألف ميت.
وفي يوم الخميس ثاني عشرينه:. خلع على الأطباء لعافية السلطان.
وفي ثالث عشرينه: إستقل الحاج من البركة بالمسير.(3/405)
وفي يوم السبت رابع عشرينه: وسط السلطان طبيبيه اللذين خلع عليهما بالأمس، وهما العفيف وزين خضر، وذلك أنه حرص على الحياة، وصار يستعجل في طلب العافية، فلما لم تحصل له العافية ساءت أخلاقه، وتوهم أن الأطباء مقصرون في مداواته، وأنهم أخطأوا التدبير في علاجه، فطلب عمر بن سيفا والى القاهرة، فلما مثل بين يديه، وهو جالس وبين يديه جماعة من خواصه، منهم صلاح الدين محمد بن نصر اللّه كاتب السر، والأمير صفى الدين جوهر الخازندار في خرف، وفيهم العفيف وخضر أمره أن يأخذ العفيف ويوسطه بالقلعة. فأقامه ليمضي فيه ما أمر به، وإذا الخضر فأمره أن يوسط خضر أيضًا، فأخذ الآخر وهو يصيح. فقام أهل المجلس يقبلون الأرض، ومنهم من يقبل رجل السلطان، ويضرعون إليه في العفو، فلم يقبل، وبعث واحدًا بعد أخر يستعجل الوالى في توسيطهما وهو يتباطاً، رجاء أن يقع العفو عنهما. فلما طال الأمر بعث السلطان من أشد أعوانه من يحضر توسيطهما فخرج وأغلظ للوالى في القول. فقدم لعفيف فاستسلم، وثبت حتى وسط قطعتين بالسيف. وقدم خضر، فجزع جزعا شديداً، ودافع عن نفسه، وصاح، فتكاثروا عليه فوسطوه توسيطًا شنيعا، لتلويه وإضطرابه. ثم حملاً إلى أهليهما بالقاهرة. فساء الناس ذلك، ونفرت قلوبهم من السلطان، وكثرت قالتهم، فكانت حادثة لم ندرك مثلها. ومن حينئذ تزايد البلاء بالسلطان إلى يوم الخميس تاسع عشرينه، فاستدعى السلطان الأمير الكبير جقمق العلاى الأتابك ومن تأخر من الأمراء المقدميِن، وقال لهم: " انظروا في أمركم " ، وخوفهم مما جرى بعد المؤيد شيخ من الإختلاف وإ تلاف أمرائه، فطال الكلام، وإنفضوا عنه، على غير شىء عقدوه، ولا أمرًا أبرموه.
شهر ذى القعدة، أهل بيوم السبت: والناس في أنواع من البلاء الذى لم نعهد مثله مجتمعًا، وهو أن السلطان تزايدت أمراضه، وأرجف بموته غير مرة، وشنع الموت في مماليكه سكان الطباق، حتى لقد مات منهم في هذا الوباء نحو آلاف. ومات من الخدام الخصيان مائة وستون طواشي، ومات من الجوارى بدار السلطان زياده على مائة وستين جارية، سوى سبع عشرة حظية وسبعة عشر ولدًا، ذكورا وإناثًا.
وشمل عامة دور القاهرة ومصر وما بينهما الموت أو المرض، وكذلك جميع بلاد الشام من الفرات إلى غزة، حتى أن قفلًا توجه من القاهرة يريد دمشق، فما نزل بالعريش حتى مات ممن كان سائرًا فيه زيادة على سبعين إنسانًا، منهم عدة من معارفنا. ومع هذا كساد المبيعات وتعطل الأسواق، إلا من بيع الأكفان وما لابد للموتى منه، كالقطن ونحوه، إلا أنه منذ أهل هذا الشهر أخذت عدة الأموات تتناقص في كل يوم.
وفي أوله: وصل العسكر المجرد إلى مدينة أبلستين.(3/406)
وفي يوم الثلاثاء رابعه: عهد السلطان إلى ولده المقام الجمالى يوسف، وذلك أنه لما تزايد به المرض، حدث عظيم الدولة القاضى زين الدين عبد الباسط الأمير صفى الدين جوهر الخازندار في أمر المقام الجمالى، وأشار له أن يفاوض السلطان في وقت خلوته به، أن يعهد إليه بالسلطة من بعد وفاته، ويحسن له ذلك، فإتفق أن السلطان أمر الأمير جوهر أن يحرر له جملة ما يتحصل من أوقافه على أولاده، فلما أوقفه على ذلك، وجد السبيل إلى الكلام، فأعلمه. بما أشار به القاضى زين الدين عبد الباسط من العهد إلى المقام الجمالى، فأعجبه ذلك، وأمر بإستدعائه ه فلما مثل بين يديه، سأله عما ذكر له جوهر عنه، فأخذ يحسن ذلك، ويقول: " في هذا إجتماع الكلمة، وسد باب الفتن، وعمارة بيت السلطان، ومصلحة العباد، وعمارة البلاد " ونحو ذلك من القول. فأجاب السلطان إلى ذلك، ورسم له باستدعاء الخليفة والقضاة والأمراء والمماليك وأهل الدولهْ، وحضورهم في غد، فمضى عنه القاضى زين الدين ونزل إلى داره بالقاهرة، وبعث إلى المذكورين أن يحضروا غدًا بين يدى السلطان بكرة النهار، وتقدم إلى القاضى شرف الدين أبى بكر الأشقر نائب كاتب السر بكتابة عهد المقام الجمالى، وذلك أن القاضى صلاح الدين محمد بن نصر اللّه كاتب السر من حين وسط العفيف وخضر تغير مزاجه، وإشتد جزعه إلى أن حم في ليلة الجمعة، ونزل من القلعة، ولزم الفراش ومرضه يتزايد، وقد ظهر به الطاعون في مواضع من بدنه، فبادر القاضى شرف الدين، وكتب العهد ليلاً. وأصبح الجماعة في يوم الثلاثاء رابعه وهم بالقلعة، فأخرج السلطان إلى موضع يشرف على الحوش، وقد وقف به الأمير خشقدم الطواشى مقدم المماليك، ومعه جميع من بقى من المماليك السلطانية سكان الطباق بالقلعة، وجميع من هو أسفل القلعة، من المشتروات والمستخدمين. وجلس الخليفة أمير المؤمنين المعتضد باللّه أبو الفتح داود، وقضاة القضاة الأربع على مراتبهم، والأمير الكبير جقمق العلاى أتابك العساكر، ومن تأخر من أمراء الألوف والمباشرون، ماعدا كاتب السر فإنه شديد المرض. ثم قام القاضى زين الدين عبد الباسط وفتح باب الكلام في عهد السلطان من بعد وفاته لإبنه المقام الجمالى بالسلطنة وقد حضر أيضًا مع أبيه، فاستحسن الخليفة ذلك وأشار به. فتقدم القاضى شرف الدين الأشقر بالعهد إلى بين يدى السلطان، فأشهد السلطان على نفسه بأنه عهد إلى ولده الملك العزيز جمال الدين أبى المحاسن يوسف من بعد وفاته بالسلطة فأمضى الخليفة العهد، وشهد بذلك القضاة. ثم إن السلطان التفت إلى مقدم المماليك وكلمه بالتركية والمماليك تسمعه كلاما طويلا ليبلغه عنه إلى المماليك، حاصله أنه إشتراهم ورباهم، وأنهم أفسدوا فسادًا كبيرًا، عدد فيه ذنويهم، وأنه تغير من ذلك عليهم ومازال يدعو اللّه عليهم حتى هلك منهم من هلك في طاعون سنة ثلاث وثلاثين، ثم إنه إشترى بعدهم طوائف ورباهم، فشرعوا أيضًا في الفساد، كما فعل أولئك الهالكون بدعائه: وأنه قد وقع فيكم الطاعون فمات منكم من مات، وقد عفوت عنكم، وأنا ذاهب إلى اللّه وتارك ولدى هذا وهو وديعتي عندكم، وقد إستخلفته عليكم، فإدعوا له وأطيعوه، ولا تختلفوا، فيدخل بينكم غيركم فتهلكوا . وأوصاهم ألا يغيروا على أحد من الأمراء وأن يبقوا الأمراء المجردين على أمرياتهم، ولا يغيروا نواب الممالك. فإشتد عند ذلك بكاؤهم، وبكى الحاضرون أيضاً ثم أقسم السلطان وأعيد إلى فراشه، وقد كتب الخليفة بإمضاء عهد السلطان، وشهد عليه فيه القضاة بذلك، ثم كتب القاضى شرف الدين الأشقر إشهادًا على السلطان بأنه جعل الأمير الكبير جقمق العلاى قائما بتدبير أمور الملك العزيز، وأخذ فيه خط الخليفة بالإمضاء، وشهادة القضاة عليه بذلك، فألصقه بالعهد، وإنفضوا جميعهم.
وفي هذا اليوم: أنفق في المماليك السلطانية كل واحد مبلغ ثلاثين دينارا، فكانت جملتها مائة وعشرون ألف دينار. وفيه خلع على تغرى بردى أحد أتباع التاج الشويكى وإستقر في ولاية القاهرة، عوضًا عن عمر بن سيفا أخى التاج، فإنه مرض بالطاعون من آخر نهار الجمعة.(3/407)
وفي يوم الجمعة سادسه: إستدعى الصاحب بدر الدين حسن بن نصر اللّه إلى القلعة. فلما مثل بين يدى مولانا السلطان أمر به، فخلع عليه، وإستقر به في كتابة السر، عوضًا عن ولده صلاح الدين محمد، وقد توفي. فنزل في موكب جليل على فرس رائع بقماش ذهب، أخرج له من الاصطبل السلطانى . وخلع معه أيضاً على نور الدين على بن السويفي، وإستقر في حسبة القاهرة، عوضًا عن دولت خجا، وقد مات في أول الشهر وفي هذا الشهر: أتلف الجراد بضواحى القاهرة كثيرًا من المقاتى، كالخيار والبطيخ والقثاء والقرع. ووقع الطاعون في الغنم والدواب. ووجد في النيل سمك كثير طاف قد مات من الطاعون. وأما الطاعون فإنه كما تقدم إبتدأ بالقاهرة من أول شهر رمضان، وكثر في شوال حتى تجاوز عدة من يصلى عليه في مصلى باب النصر كل يوم أربعمائة ميت، سوى بقية المصليات وعدتها بضع عشرة مصلى. ومع ذلك فلم تبلغ عدة من يرفع في أوراق ديوان المواريث قط أربعمائة. وسببه أن الناس أعدوا توابيت للسبيل، ومعظم من يموت إنما هم الأطفال والإماء والعبيد، فلا يحتاج أهلهم إلى إطلاقهم من الديوان .
ومن أعجب ما وقع في هذه الأيام أن رجلاً نادى على قباء في عدة أسواق، فلم يجد من يشتريه لكساد الأسواق. وكان سوق الرقيق قد أغلق وتعطل بيع الرقيق فيه لكثرة من يموت منهم، فإحتاج رجل إلى بيع عبد له، فأخذه بيده وصار ينادى عليه في شارع القاهرة: من يشترى هذا العبد فلم يجبه أحد، مع كثرة الناس بالشارع، وإنما تركوا شراءه خوفًا من سرعة موته بالطاعون.
وفي حادى عشرة: رحل الأمراء المجردون من أبلستين، ومعهم نواب الشام وعساكرها من غزة إلى الفرات، وجميع تركمان الطاعة، وتوجهوا في جمع كبير يريدون مدينة آقشهر، حتى نزلوا عليها وحصروها.
ومن يوم السبت خامس عشرة: إشتد مرض السلطان، ثم حجب عن الناس، فلم يدخل إليه أحد من الأمراء والمباشرين عدة أيام، سوى الأمير أينال شاد الشربخاناه، والأمير على بيه، والأمير صفى الدين جوهر الخازندار، والأمير جوهر الزمام. فإذا صعد القاضى زين الدين عبد الباسط والمباشرون إلى القلعة، أعلمهم هؤلاء بحال السلطان. هذا، والإرجاف يقوى، والأمراء والمماليك السلطانية في حركة، وقد صاروا فرقًا مختلفة الآراء. والناس على تخوف من وقوع الحرب، وقد وزعوا في دورهم، وأخفى أهل الدولة أولادهم ونساءهم خوفًا من النهب، وأهل النواحى بالصعيد والوجه البحرى قد نجم النفاق فيهم، وخيفت السبل، شامًا ومصراً. وقد تناقصت عدة الأموات بالقاهرة ومصر منذ أهل هذا الشهر، كما تقدم.
وفي أخريات هذا الشهر: هجم على المسجد على الحرام بمكة سيل عظيم، ملأ الحرم من غير تقدم مطر بمكة.
شهر ذى الحجة، أهل بيوم الإثنين:. والناس بديار مصر من قلة الخدم في عناء وجهد، فإنه مات بالقاهرة ومصر وما بينهما في مدة شهر رمضان وشوال وذى القعدة زيادة على مائة ألف إنسان، معظمهم الأطفال، وأكثر الأطفال البنات، ويلي الأطفال في كثرة من مات الرقيق، وأكثر من مات من الرقيق الإماء، بحيث كادت الدور أن تخلو من الأطفال والإماء والعبيد. وكذلك جميع بلاد الشام بأسرها.(3/408)
وأما السلطان فحدث له مع سقوط شهوة الغدْاء مدة أشهر، ومع إنحطاط قواه، ما ليخوليا فكثر هذيانه وتخليطه، ولولا أن اللّه تعالى أضعف قوته لما كان يؤمن مع ذلك من إفساد شىء كثير بيده، إلا أنه في أكثر الأوقات غائب، فإذا أفاق هذى وخلط. وصِار العسكر في الجملة قسمين: قسم يقال عنهم أنهم قرانصة، وهم الظاهرية والناصرية والمؤيدية، وكلمتهم متفقة على طاعة الملك العزيز، وأن يكون الأمير الكبير جقمق العلاى نظام الملك، كما قرره السلطان، وأنهم لا يصعدون إلى القلعة خوفًا على أنفسهم من المماليك الأشرفية. والقسم الآخر المماليك الأشرفية سكان الطباق بالقلعة ورأيهم أن يكون الملك العزيز مستبدًا بالأمر وحده، وأعيانهم الأمير أينال شاد الشرابخاناه، والأمير يخضى باى أمير أخور ثاني، والأمير على بيه الخازندار، والأمير مغلباى الجقمقى أستادار الصحبة، والأمير قرقماس قريب السلطان. وهذه الطائفة الأشرفية مختلفة بعضها على بعض. فلما إشتهر أمر هذين الطائفتين وشنعت القالة عنهما، قام عظيم الدولة القاضي زين الدين عبد الباسط في لم هذا الشعث، وإخماد نار الفتنة ليصلح بين الفريقين. ووافقه على ذلك الأمير أينال الشاد، فإستدعى سكان الطباق من الممالك إلى جامع القلعة، وأرسل إلى القضاة .
فلما تكامل الجمع مازال بهم حتى أذعنوا إلى الحلف، فتوفى تحليفهم القاضي شرف الدين الأشقر نائب كاتب السر، على الإقامة على طاعة الملك العزيز، والإتفاق مع الأمير الكبير جقمق، وألا يتعرض أحد منهم لشر ولا فتنة، ولا يتعرضوا لأحد من الأمراء المقيمين بديار مصر، ولا إلى الأمراء المجردين ولا إلى كفلاء ممالك الشام في نفس ولا مال ولا رزق. فلما حلف الأمير أينال والأمير على بيه، والأمير تمرباى الدوادار، وعامة المماليك، حلف القاضي زين الدين عبد الباسط أن يكون مع الفريقين، ولا يباطن طائفة على الأخرى، ثم قام الجميع، وقصد القاضي زين الدين دار الأمير الكير جقمق، ومعه عدة من أعيان الأشرفية، حتى حلفه، وحلف بعده من بقى بديار مصر من الأمراء. ثم نزل بعد ذلك الأمير أينال ثم الأمير على بيه إلى الأمير الكبير جقمق، وقبل كل منهما يده، فإبتهج بهما، وبالغ في إكرامهما. وسكنت تلك الثائرة. وللّه الحمد.
وفي يوم الأربعاء عاشره : وهو يوم عيد النحر خرج الملك العزيز، فصلى صلاة العيد بجامع القلعة، وقد صعد إلى خدمته بالجامع الأمير الكبير جقمق، ومن عداه من الأمراء. ثم مشوا في الخدمة بعد الصلاة، حتى جلس على باب الستارة. وخلع على الأمير الكبير، وعلى من جرت عادته بالخلع في يوم عيد النحر. ونزلوا إلى دورهم. فقام الملك العزيز، ودخل، وذبح، ونحر الضحايا بالحوش هذا، وقد توالت على السلطان نوب الصرع مرارًا، وتخلت قواه، حتى صار كما قيل.
ولم يبق إلا نفس خافت ومقلة إنسانها باهتيرثى له الشامت مما به ياويح من يرثى له الشامت.
حتى مات عصر يوم السبت ثالث عشره. تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنته .
السلطان الملك العزيز جمال الدين
أبو المحاسن يوسف ابن الأشرف برسباى .(3/409)
أقيم في الملك بعد أبيه، وذلك أن السلطان برسباى لما مات بادر القاضي زين الدين عبد الباسط، والأمير أينال الشاد، والأمير على بيه، والأمير تمرباى الدوادار، وقد اجتمعوا بالقلعة، وبعثوا في الحال القاضي شرف الدين الأشقر في إستدعاء الخليفة، وبعث القاضي زين الدين بعض غلمانه في طلب القضاة، فأتوا جميعًا. ودخل الأمير جوهر الزمام، فأخرج بالملك العزيز إلى باب الستارة، وأجلس هناك، وطلب الأمير الكبير جقمق وبقية الأمراء، ونزل الممالك من الطباق. فلما تكامل جمعهم، وحضر الوزير وكاتب السر، وناظر الخاص، فوض الخليفة السلطة للملك العزيز، وأفاض عليه التشريف الخليفتى، وقلده السيف وقد بقي لغروب الشمس نحو ساعة. وعمر السلطان يومئذ أربع عشرة سنة وسبعة أشهر، فقام من باب الستارة، وركب فرسه، ورفعت القبة والطير على رأسه، وقد حملها الأمير الكبير وسار، والكل مشاة في ركابه، حتى عبر إلى القصر، فجلس على تخت الملك وسرير السلطنة، وقبل الأمراء وغيرهم الأرض له. وقرأ العهد بالسلطنة الصاحب بدر الدين حسن بن نصر اللّه كاتب السر، فخلع على الخليفة، وعلى الأمير الكبير، وعلى كاتب السر. وخرجوا من القصر، وقد غسل السلطان الملك الأشرف برسباى وكفن، وأخرج بالجنازة من الدور إلى باب القلة فوضعت هنالك. وتقدم قاضي القضاة شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن حجر الشافعى فصلى بالناس عليها قبيل الغروب ، وشيع الأمراء والمماليك وغيرهم الجنازة حتى دفنت بالتربة التى أنشأها رحمه اللّه خارج باب المحروق بالصحراء، تحت القبة. وقد إجتمع من الناس ما لا يحصيهم إلا خالقهم، سبحانه. والناس بالقاهرة في بيعهم وشرائهم بالأسواق في أمن ودعة وسكون. ونودى في القاهرة بالأمان والإطمئنان والبيع والشراء، وأن يترحموا على الملك الأشرف، والدعاء للسلطان الملك العزيز جمال الدين، أبى المحاسن. وأن النفقة في يوم الإثنين مائة دينار، لكل واحد من المماليك، فإزداد الناس طمأنينة. ولم يكن شىء مما كان يتوقع من الشر، والحمد للة.
وفي يوم الأحد رابع عشره: إجتمع أهل الدولة للصبحة عند قبر السلطان. وقد بات القراء يتناوبون القراءة، عند قبره ليلتهم، فختموا القرآن الكريم، ودعوا، ثم إنفض الجمع. وأقام القراء للقراءة عند القبر سبعة أيام. وفيه عملت الخدمة السلطانية بالقصر، وحضر الأمير الكبير وسائر أهل الدولة على العادة، فزاد السلطان الخليفة جزيرة الصابونى زيادة على ما بيده.
وفيه كتبت البشائر إلى البلاد الشامية وأعمال مصر، بسلطة الملك العزيز.
وفى يوم الإثنين خامس عشره: جلس السلطان بالحوش من القلعة، وعنده الأمراء والمباشرون، وابتدئ في النفقة على المماليك، فأنفق فيهم مائة دينار لكل واحد. وفيه توجه الأمير أينال الأحمدى المعروف بالفقيه بالبشارة إلى البلاد الشامية، وعلى يده مع الكتب للنواب، الكتب للأمراء المجردين.
وفي سادس عشره: أنفق فيمن بقى من المماليك. وفيه قدم مراد بك رسول الأمير حمزه بن قرايلك صاحب ماردين وأرزن كان، وصحبته شمس الدين القطماوى، ومعهما هدية، وكتاب يتضمن دخوله في طاعة السلطان، وأنه أقام الخطة وضرب السكة بإسم السلطان الملك الأشرف، وجهز الدنانير والدراهم بالسكة السلطانية. وعلى يد شمس الدين القطماوى كتب الأمراء المجردين. وكان سبب ذلك أن الأمراء لما قدمت حلب، كاتبوا حمزة المذكور يدعوه إلى طاعة السلطان وقدومه إليهم، فأجاب بالسمع والطاعة، وأقام الخطة، وضرب السكة بإسم السلطان، وجهز هديته وما ضربه من المال، فلم يتفق قدوم ذلك إلا بعد موت السلطان، فأكرم الرسولان وأنزلا ثم أعيدا بالجواب، ومعهما هدية وتشريف للأمير حمزة.
وفيه خلع على الأمير طوخ مازى، وإستقر في نيابة غزة، وكانت شاغرة منذ مات نائبها.(3/410)
وفي يوم السبت عشرينه: وقع بين حكم الخاصكى خال السلطان وبين الأمير أينال مفاوضة، آلت إلى شر وسبب ذلك أن الكلام والتحدث فى أمور المملكة صار بين ثلاثة الأمير الكبير نظام الملك جقمق، والقاضي زين الدين عبد الباسط، والأمير أينال. ولزم السلطان السكوت، فلا يتكلم فأنكر جكم على أينال أمره ونهيه فيما يتعلق بأمر الدولة، وكونه أقام بالقلعة وصار يبيت بها، فغضب منه أينال، ونزل من القلعة إلى داره، فكان هذا ابتداء وقرع الخلف الذى آل إلى ما سيأتى ذكره، إن شاء اللّه تعالى.
وفيه تجمع كثير من المماليك تحت القلعة، وأرادوا أن يفتكوا بالقاضي زين الدين عبد الباسط فلما نزل من القلعة أحاطوا به، وجرت بينهم وبينه مقاولات، أغلظوا فيها عليه، ولم يقدروا على غير ذلك، وخلص منهم إلى بيته.
وفي هذا الشهر: والذى قبله فشا الموت بالطاعون في الإسكندرية، ودمياط، وفوه، ودمنهور، وما حول تلك الأعمال، فمات بها عالم كبير. وتجاوزت عدة من يموت بالإسكندرية في كل يوم مائة إنسان.
وفي يوم السبت سابع عشرينه: إبتدىء بالنداء على النيل، فزاد خمسة أصابع.
وجاءت القاعدة خمسة أذرع وثلاثة وعشرين أصبعًا، وإستمرت الزيادة في كل يوم. و للة الحمده. وفيه أنعم بإقطاع السلطان على الأمير نظام الملك جقمق، بعدما سئل السلطان في ذلك فأبى، ثم غلب عليه حتى أخرجه له. وأنعم بإقطاع الأمير جقمق على الأمير تمراز القرمشىي أس نوبه أحد المجردين. وأنعم بإقطاع الأمير تمرار على الأمير تمرباى الدوادار، وأنعم بإقطاع الأمير تمرباى على الأمير على بيه. وأنعم بإقطاع الأمير طوخ مازى نائب غزة على الأمير يخشى بيه أمير أخور ثاني، وأنعم بإقطاع يخشى بيه على يل خجا الساقي رأس نوبة، وأنعم بإقطاع يل خجا وإمرته وهى إمرة عشرة على قانبيه الجركسى، وخلع على الأمير أينال، وإستقر دوادارًا عوضاً عن الأمير تمرباى.
وفي يوم الأحد ثامن عشرينه : خلع على على بيه، وإستقر شاد الشرابخاناه، عوضاً عن الأمير أينال الدوادار.
وفي يوم الإثنين تاسع عشرينه: خلع على سيف الدين دمرداش أحد المماليك الأشرفية وإستقر في ولاية القاهرة، عوضاً عن تغرى بردى التاجى. وفيه تجمع كثير من المماليك تحت القلعة، وأحاطوا بالأمير الكبير نظام الملك عند نزوله من الخدمة السلطانية بالقلعة إلى جهة بيته، ليوقعوا به، فتخلص منهم من غير سوء، هذا والقاضى زين الدين عبد الباسط من المماليك في عناء شديد.(3/411)
وقدم الخبر بأن العسكر المجرد لما قصد مدينة آقشهر تلقاهم سلطان أحمد بن قليج أرسلان صاحب تلى صار وقد رغب في الطاعة السلطانية وسار معهم حتى نازلوا مدينة أقشهر في أول ذى الحجة، فهرب متملكها حسن الأيتاقى في ليلة الثلاثاء ثانيه إلى قلعة برداش، فملك العسكر المدينة وقلعتها، وقبضوا على عدة من أعيانها، وبعثوا بسلطان أحمد بن قليج أرسلان على عسكر، فملك قلعتي فارس وتمشلى، فأقروه على نيابة السلطة بهما. وساروا لمحاصرة حسن بقلعة برداش ففر منها إلى قلعة بزطلش، فنزل من العسكر عليها حتى أخذها في ثامن عشره الأمير قرقماس أمير سلاح، بعد أن قاتل أهلها بضعة عشر يوماً. ثم هدمها حتى سوى بها الأرض، وقد فر منها حسن أيتافى. ثم سار الأمير قرقماس. ممن معه مع بقية العساكر يريدون أرزنكان، فقدم عليهم الأمير مرزا إبن الأمير يعقوب ابن الأمير قرايلك رسولاً من أبيه يعقوب صاحب أرزنكان وكماخ وقد خرج عن أرزنكان ونزل كماخ، وقدم مع مرزا زوجة أبيه وعدة من القضاة والأعيان بأرزنكان، يسألون العفو عن الأمير يعقوب وإعفائه من قدومه إليهم وأن يجهز لنيابة السلطنة بأرزنكان الأمير جهان كير ابن الأمير ناصر الدين على باك بن قرايلوك، فأجيبوا إلى ذلك كله، وخلع على الأمير مرزا، ودفع إليه خلعة لأبيه الأمير يعقوب، وفرس بقماش ذهب. وأعيد وصحبته الأمير جهان كير، وقد خلع عليه بنيابة أرزنكان. وساروا وقد جهز إلى أرزنكان بالأمير سودون النوروزى دوادار نائب حلب، ومعه نائب دوركى ونائب بهنسنى، فتسلموا أرزنكان بلا مانع، وأقاموا بها. ثم توجه القاضي معين الدين عبد اللطف ابن القاضي شمسْ الدين الأشقر كاتب السر بحلب، حتى حلف أهل أرزنكان بالإقامة على طاعة السلطان، ثم سارت العساكر من أقشنهر في ثاني عشرينه حتى نزلت على أرزنكان، وعسكروا هناك، فخرج إليهم أهلها، وباعوا عليهم ما أرادوا منهم، وفتحت أبواب المدينة، والعساكر يدخل منها المدينة من أراد ذلك، من غير ضرر ولا نهب، وإستمروا على ذلك إلى آخر الشهر.
وقدم الخبر بأن ملك البرتغال صاحب مدينة شلب من الأندلس سار يريد مدينة طنجة، فنزل على سبتة في المحرم، ومضى منهما وهى بيده في البر والبحر، ومعه فيما يقال ثمانية عشر ألف رام، وستة آلاف فارس، حتى نزل على طنجة فحصرها مدة شهر إلى أن أتته جموع المسلمين من فاس ومكناسة وأصيلاً في شهر ربيع الآخر، فكانت بينهم وبين البرتغال من النصارى حروب عظيمة، نصر اللّه فيها المسلمين، وقتل نحو الثلثين من النصارى. والتجأ باقيهم إلى محلتهم فضايقهم المسلمون حتى طلبوا الأمان على أن يسلموا المسلمين مدينة سبتة، ويفرجوا عن سبعمائة أسير من المسلمين، ويدفعوا ما بأيديهم من آلات الحرب للمسلمين فأمنوهم، وبعثوا برهائنهم على ذلك، فصار المسلمون يأخذون النصارى ويوصلونهم إلى أسطولهم بالبحر. فحسد أحمد اللحيانى القائم بتدبير مكناسة الأزرق وهو أبو زكريا حى بن زيان بن عمر الوطاسى القائم بتدبير مدينة فاس وقتل عدة من النصارى، ورحل، فحنق النصارى، من ذلك، وحطموا على المسلمين حطمة قتل فيها جماعة، وخلصوا إلى أصطولهم وبقى ابن ملكهم في يد المسلمين، فلما وصلوا إلى بلادهم، لم يرض أكابرهم بتسليم سبتة للمسلمين، وبعثوا في فداء ابن الملك بمال، فلم يقع بينهم وبين الرسول إتفاف، وسجنوه مع ابن الملك المرتهن عند صالح بن صالح بن حمو، بطنجة فيقول المكثر أن الذى قتل من النصارى في هذه الواقعة خمسة وعشرون ألفًا، وغنم المسلمون منهم أموالاً كثيرة. وللّه الحمده
ومات في هذه السنة
بالطاعون وفي الحرب عالم عظيم جدًا من أهل الأرض، فممن له ذكر وشهرة: سعد الدين إبراهيم بن كريم الدين عبد الكريم بن سعد الدين بركة ، المعروف بإبن كاتب جكم ناظر الخاص ابن ناظر الخاص، في يوم الخميس سابع عشر شهر ربيع الأول، عن نحو ثلاثين سنة. وكان من المترفين، المنهمكين في اللذات المنغمسين في الشهوات، ونزل السلطان فصلى عليه تحت القلعة، ودفن عند أبيه بالقرافة.(3/412)
ومات الأمير تمراز المؤيدى خنقا بالإسكندرية، في ثالث عشرين جمادى الآخرة، وهو أحد المماليك المريدية شيخ، رباه صغيرًا إلى أن تغير عليه، وضربه، ونفاه إلى طرابلس، فتنقل بعد موت المريد إلى أن ركب مع الأمير قانباى، فقبض عليه، وسجن بقلعة الروم مدة. ثم أفرج عنه، وأنعم عليه بإمرة عشرة بحلب، ثم نقل بعد مدة على إمرة بدمشق ثم ولى نيابة صفد، ونقل منها لنيابة غزة، ثم قبض عليه لما قدم على السلطان وسجن بالإسكندرية وبها قتل، ولم يكن مشكورا.
ومات الأمير جانبك الصوفي في يوم الجمعة خامس عشر شهر ربيع الآخر، وهو أحد المماليك الظاهرية برقوق. ترقى في الخدم، وصار من أمراء الألوف، وتنقلت به الأحوال حتى قبض عليه الأشرف برسباى، وسجنه، ففر من سجنه بالإسكندرية، وأعيا السلطان تطلبه، وإمتحن جماعة بسببه، إلى أن ظهر عند ابن دلغادر، وحاول ما لم يقدر عليه، فهلك دون بلوغ مراده. وحمل رأسه إلى السلطان، كما مر ذكره مشروحًا. وكان ظالمًا، عاتيًا، جبارًا، لم يعرف بدين ولا كرم.
ومات شمس الدبن محمد بن الخضر بن داود بن يعقوب، المصرى شهرة، الحلبى الشافعى في يوم الأحد النصف من شهر رجب، وكان خيرًا دينًا كثير التلاوة للقرآن، فاضلاً، حسن المحاضرة وتصرف في الكتابة بديوان الإنشاء مدة. ثم توجه إلى القدس بعدما أقام بالقاهرة سنين، فمات هناك. رحمه اللة . ومات بمكة شرفها اللّه الأمير جانبك الحاجب، المجرد على المماليك إلى مكة، في حادى عشر شعبان. ومستراح منه.
ومات بدمشق الشيخ علاء الدين محمد بن محمد بن محمد البخارى الحنفى في خامس شهر رمضان. وكان ورعًا بارعًا في علوم، من عربية ومعان وبيان وغير ذلك، وله في الدولة مكانة. سكن بلاد الهند، وعظم عند ملكها، ثم قدم القاهرة، وتصدر لإفادة العلم فقرأ عليه جماعة، وعظم قدره. ثم سكن دمشق حتى مات بها.
ومات بالقاهرة الشيخ علاء الدين على بن موسى بن إبراهين الرومى الحنفى في يوم الأحد عشرين شهر رمضان، وكان قدم من بلاد الروم، وولى تدريس المدرسة الأشرفية برسباى، ومشيخة التصوف بها مدة، ثم عزل عنها، وكان فاضلًا في عدة علوم، مع طيش وخفة، وجرأة بلسانه على ما لا يليق، وفحش في مخاطبته عند البحث معه. عفا اللّه عنه.
ومات الأمير آق بردى نائب غزة، فأراح اللّه بموته من جوره وطمعه.
ومات ناصر الدين محمد بن بدر الدين حسن بن سعد الدين محمد الفاقوسى موقع الدست، في ليلة الإثنين تاسع عشر شوال، عن بضع وسبعين سنة. وكان حشمًا، رئيساً، له مروءة وفيه أفضال وبر وصدقات. رحمه اللّه.
ومات الأمير دولات خجا، أحد المماليك الظاهرية. ولى ولاية القاهرة ثم حسبتها. وكان عسوفًا جبارًا كثير الشر، يصفه من يعرفه بأنه ليس بمسلم، وأنه لا يخاف اللّه، وكان موته يوم السبت أول ذى القعدة، وقد شاخ .
ومات الأمير القاضي صلاح الدين محمد ابن الصاحب الأمير الوزير بدر الدين حسن بن نصر اللّه في ليلة الأربعاء خامس ذى القعدة، وقد أناف على الخمسين، وكان جميل الصورة عاقلاً، رزينًا، يكتب الخط المنسوب، ويعرف الحساب معرفة جيدة. ولى الحجوبية من صغره مدة، ثم باشر أستادارية السلطان مرتين، وولى حسبة القاهرة ثم صار جليس السلطان وسميره. وولاه مع مجالسته كتابة السر مسئولًا بها فباشرها مع الحسبة، ونظر دار الضرب، ونظر الأوقاف، وغير ذلك حتى مات. رحمه اللة. فلقد أحزننا فقده. ومولده في رمضان سنة إحدى وتسعين وسبعمائة.(3/413)
ومات شهاب الدين أحمد ابن الأمير علاء الدين على ابن الأمير سيف الدين قرطاى، المعروف بابن بنت الأمير بكتمر الساقى سبى جده قرطاى من بلاد الروم، وجىء به إلى الديار المصرية فترقى في الخدم، حتى صار من جملة الأمراء. وولى ابنه على بن قرطاى نقابة الجيش وتزوج بإبنة الأمير ناصر الدين عمد ابن الأمير بكتمر الساقى، فولد له منها أحمد في يوم الأحد ثالث عشرين شعبان سنة ست وثمانين وسبعمائة. ونشأ في عز وترف وحشمة ورياسة وسعة دنيا. فمال إلى الفضائل، وكتب على شيخنا علاء الدين عصفور، فبرع في الكتابة وفنونها، حتى فاق في كتابة المنسوب أبناء عصره. ونظم الشعر المليح، وأتقن صنائع عديدة. ونظر في عدة علوم حتى مات، في ليلة الإثنين عاشر ذى القعدة. وكان مجموعًا حسنًا، ذا فضائل جمة، ووجه جميل، وشكل مليح، وخلق رضي، ونفس سمحة، وذكاء، وحسن تصور، وثراء واسع، وحشمة وافرة. رحمه اللّه، فلقد كان لى به أنس، ومنه نفع. كتب إلى وقد قدمت من الحجاز من شعره:
أيا مولاى دم أبدًا بخير ... وعزمًا جرت شمس النهار
لرؤيتك السنية مت شوقًا ... وقد دنت الديار، من الديار
ومات الأمير سليمن بن أورخان بك بن محمد كرشجى بن عثمان. ملك جدة محمد كرشجى بلاد الروم، وقبض عمه مراد بن محمد كرشجى ملك الروم على أبيه أورخن بك، وسجنه حتى مات، وقد ولد سليمان ففر به مملوك أبيه، حتى قدم على السلطان الأشرف برسباى فأكرمه ورباه. ثم فر به مملوك أبيه، يريد بلاد الروم، فقبض عليه برسباى وسجنه، ثم أفرج عنه، وتزوج السلطان بأخته شاه زاده .
ومات إسكندر بن قرايوسف ملك تبريز، بعدما تشتت مدة، ثم إنهزمٍ الى قلعة يلنجا، فذبحه إبنه شاه قوماط، في شهر ذى القعدة. وكان شجاعًا مقدامًا جريئًا، أهوج، لا يرجع إلى دين ولا عقل، بل خرب البلاد، وأكثر في الأرض الفساد.
ومات نور الدين على بن مفلح، وكيل بيت المال وناظر المارستان، في يوم الجمعة ثاني عشر ذى الحجه. كان أبوه عبدًا أسود للطواشى كافور الهندى، فأعتقه، وقرأ إبنه على القرآن، وخدم عدة من أهل الدولة، حتى تقرر يقرىء الممليك في الطباق السلطانية بالقلعة. وأكثر من مداخلتهم، إلى أن تردد إلى القاضي زين الدين عبد الباسط، فإرتفع به قدره، وولى الوكالة ونظر المارستان. وعد من رؤساء الناس، وكانت له مروة، وفيه عصبية، وتقعير في كلامه من غير إعراب ولا علم، إنما هو الحظ لا غيره.
ومات السلطان الملك الأشرف برسباى الدقماقى الظاهرى في يوم السبت ثالث عاشر ذى الحجة، وقد أناف على الستين. كان أبوه من أوضع أهل بلاده قدرًا، وأشدهم فقرًا، فأسلم إبنه هذا لحداد، فكان ينفخ عنده بالكير ثم مات، فتزوجت إمرأته برجل، فباع برسباى هذا وهو صغير من رحل يهودى إسمه صادق. فخدمه مدة، وتلقن أخلاقه، وتطبع بطباعه، حتى جلبه إلى ديار مصر، فإبتاعه الأمير دقماق. ثم بعث به في جملة تقدمه لما إستقر في نيابة ملطية. فأنزله السلطان الملك الظاهر برقوق في جملة مماليك الطباق. ثم أخرج له قبل موته خيلًا، وأنزله من الطباق، وقد أعتقه. فلما كانت الأيام الناصرية فرج، خرج فيمن خرج إلى الشام، وإنتمى إلى الأمير نوروز، ثم إلى الأمير شيخ، فلما قدم الأمير شيخ بعد قتل الناصر إلى مصر، كان فيمن قدم معه، فرقاه، وصار من جملة أمراء الألوف، وعمل كشف التراب. ثم ولاه نيابة طرابلس، وعزله، وسجنه بقلعة المرقب. ثم أنعم عليه بإمرة في دمشق. فلما مات المؤيد شيخ، قبض عليه الأمير جقمق نائب الشام، وسجنه. ثم أفرج عنه الأمير ططر لما توجه بإبن المؤيد إلى الشام. ثم أنعم عليه بإمرة ألف، وعمله دوادار السلطان، لما تسلطن، وقدم به إلى القاهرة، فلما مات الظاهر ططر قام بأمر ولده، ثم خلعه وتسلطن، فدانت له البلاد وأهلها، وخدمته السعود حتى مات. وكانت أيامه هدوء وسكون، إلا أنه كان له في الشح والبخل والطمع، مع الجبن والجور وسوء الظن ومقت الرعية وكثرة التلون وسرعة التقلب في الأمور وقلة الثبات، أخبار لم نسمع بمثلها، وشمل بلاد مصر والشام في أيامه الخراب، وقلة الأموال بها. وإفتقر الناس وساءت سير الحكام والولاة، مع بلوغه آماله ونيله أغراضه، وقه أعدائه وقتلهم بيد غيره لتعلموا أن اللّه على كل شىء قدير.(3/414)
ومات الأمير سودون بن عبد الرحمن وهو مسجون بثغر دمياط، في يوم السبت العشرين من ذى الحجة. وهو من جملة المماليك الظاهرية برقوق. ترقي في الخدم حتى صار نائب الشام، ثم عزل، وسجن حتى مات، وكان مصرًا على ما لا تبيحه الشريعة من شهواته الخسيسة، وأحدث في دمشق أيام نيابته بها عدة أماكن لبيع الخمر ووقوف البغايا والأحداث، وضمنها. بمال في كل شهر، فإستمرت من بعده. وإقتدى به في ذلك غير واحد، فعملوا في دمشق خمارات مضمنة بأموال، من غير أن ينكر عليه أحد ذلك، ليقضى اللّه أمرًا كان مفعولا.
سنة إثنتين وأربعين وثمانمائة
أهلت هذه السنة ومعظم عساكر مصر والشام في التجريدة، وبقيتهم بالقاهرة وظواهرها في إختلاف.
شهر اللّه المحرم، أوله الثلاثاء فيه رجل العسكر المجرد عن مدينة أرزنكان، عائدًا إلى حلب.
وفي رابعه: توجه الأمير تغرى بردى المؤذى على عدة من المماليك السلطانية إلى البحيرة، بسبب قرب لبيد عرب برقة من البلاد. وفيه خلع على جكم الخاصكى خال السلطان، وإستقر خازندارً، عوضًا عن على بيه.
وفي يوم الإثنين سابعه: قدم مبشرو الحاج.
وفي ثامنه: خلع على شهاب الدين أحمد بن شمس الدين محمد المعروف بإبن النسخة شاهد القيمة. وإستقر في وكالة بيت المال، وكانت شاغرة منذ وفاة نور الدين على بن مفلح. وخلع على نظام الدين بن مفلح الدمشقى الواعظ، وأعيد إلى قضاء الحنابلة بدمشق، عوضًا عن عز الدين عبد العزيز البغدادى.
وفي يوم الإثنين ثالث عشره: إستدعى الشيخ سعد الدين سعد ابن قاضي القضاة شمس الدين محمد الديرى المقدسى شيخ الجامع المؤيدى ،. وخلع عليه. وقد فوض إليه قضاء الحنفية بديار مصر، عوضًا عن بدر الدين محمود العينى، بعدما سئل بذلك مرارًا وهو يمتنع، ثم أجاب، وشرط على الأمراء أنه لا يقبل رسالة أحد منهم، وأن لا يتجوه عليه في شىء.
وفيه أنعم على سبعة من المماليك بأمريات عشرة، وهم قانبك الساقى، وقانم التتاجر، وجانم الدوادار، وجانبك الساقى، وجكم المجنون، وجكم خال السلطان، وجرباش رأس نوبة الجمدارية.
وفي خامس عشره: أعيد مراد بك قاصد الأمير حمزة بن قرايلك صاحب ماردين وآمد، والقاضي شمس الدين القطماوى موقع الدست بحلب. وجهز صحبتهما مبارك شاه البريدى، وعلى يده جواب كتاب الأمير حمزه، بشكره والثناء عليه، وتشريف له بنيابة السلطنة، وفرس بقماش ذهب، وهدية ما بين ثياب سكندرى وغيره، وسلاح، ونسخة يمين ليحلف بها على طاعة السلطان ومناصحته. وأجيب الأمراء المجردون أيضًا عن كتبهم، وأن يسارعوا بالحضور.
وفي يوم السبت تاسع عشره: خلع على أزبك خجا المؤيدى رأس نوبة، وعين لتقليد الأمير الجكمى نائب الشام، وإستقراره على عادته. وخلع على قانصوه الخاصكى، وعين لتقليد الأمير تغرى برمش نائب حلب، وإستقراره على عادته. وعين لتقليد الأمير جلبان نائب طرابلس الأمير أينال الخاصكى، وعين دولات باى الخاصكى لتقليد الأمير قانياى الحمزاوى نائب حماة، ولتقليد على بن طغرق بن دلغادر التركمانى نائب حمص. وعين يشبك الخاصكى لتقليد الأمير أيناْل الأجرود نائب صفد. وخلع عليهم. هذا، والنواب المذكورين في التجريدة. وكتب إليهم جميعًا بسرعة قدومهم.
وفيه حل بالقاضى زين الدين عبد الباسط حالة غير مرضية من بعض المماليك في وقت الخدمة السلطانية، بعدما نزل به من المماليك في هذه الأيام أنواع من المكاره، ما بين تهديد وإساءة، إحتاج من أجل ذلك إلى بذل الأموال لهم ليكفوا من شرهم عنه.
وفي يوم الإثنين عشرينه: قدم المماليك المجردون في السنة الماضية إلى مكة، وقد مات أميرهم بها. وكثر شرهم بمكة، وإفسادهم، وإستخفافهم بحرمة الكعبة.(3/415)
وفي ثاني عشرينه: قدم الركب الأول من الحجاج، وقدم المحمل في يوم الخميس ثالث عشرينه ببقية الحجاج، بعدما نزل بالحاج بلاء عظيم، وهو أن ركب الغزاويين، ومن إنضم إليهم من أهل الرملة، ومن أهل القدس، وبلاد الساحل، وأهل ينبع، لما " نزلوا في عودهم من مكة بوادى عنتر قريب من أزلم خرج عليهم من عرب بلى نحو أربعين فارسًا، ومائة وعشرين راجلًا، يطلبون منهم مالاً، فأما الينابعة فإنهم جبوا لهم مبلغًا من الذهب دفعوه إليهم، فكفوا عنهم، وتركوهم، فلحقوا الركب، وأما الغزاويون فإستعد مقدمهم ورمى العرب بالنشاب، وقتل منهم ثلاثة، فحملوا عليه حملة منكرة،، أخذوه فيها، ومالوا على الركب يقتلون ويأسرون وينهبون، فما عفوا ولا كفوا، فيقول المكثر إنهم أخذوا ثلاثة آلاف جمل بأحمالها، وعليها من المال ما بين ذهب وفضة وبضائع وأزودة الحاج ما لا يقدر قدره كثرة. وخلص من تفلت من الركب، وهم عراة حفاة، يريدون اللحاق بالمحمل، فمات منهم عدة، ولحق بالمحمل عدة، وتأخر بالبرية منهم عدة. قدم منهم إلى القاهرة من تأخرت منيته فيما بعد من البر والبحر، بأسوأ حال، وفقد الناس من الرجال والنساء والصبيان والبنات عددًا كبيرًا، فكانت هذه الحادثة من شنائع ما أدركناه. و لم يمتعض لها أحد لإهمال أهل الدولة الأمور، وإعراضهم عن عمل المصالح. ولا قوة إلا باللّه.
ولى يوم السبت خامس عشرينه: خلع على الطواشى شاهين الساقي، وإستقر في مشيخة الخدام بالمسجد النبوي، عوضًا عن ولى الدين محمد بن قاسم المحلى، مضحك السلطان.
وفى يوم الثلاثاء ثامن عشرنيه: قدم مماليك نواب الشام، وعلى أيديهم المطالعات، تتضمن أنهم ملكوا مدينة أرزكنان على ما تقدم ذكره، ومن العجب أن مدينة أقشهر وقلاعها، ومدينة أرزنكان، أخذت للسلطان الملك الأشرف برسباى، وباعه وهو ميت، وسطوته ومهابته في قلوب أهل تلك البلاد، مع بعدها عنه، وأوامره نافذة في تلك الرعايا، ولو علموا أنه قد مات لما أمكن العسكر السلطانية فعل شىء من ذلك ولكن الله يفعل ما يريد، وإذا أراد اللّه بقوم سوءًا فلا مرد له.
وفي هذا الشهر: بعد رحيل العساكر السلطانية عن أرزنكان سار الأمير حمزة ابن قرايلك من ماردين لأخذ أرزنكان. وقد تنكر على أخيه يعقوب من أجل أنه سالم العساكر السلطانية، حتى دخلوا المدينة، فخرج إليه جهان كير إبن أخيه، وأقام جعفر إبن أخيه يعقوب بمدينة أرزنكان، فعندما التقى الجمعان خامر أكثر من مع حمزة، وصاروا إلى جهان كر، فإنهزم بعد وقعة كانت بينهما، وقد جرح.
شهر صفر، أوله الخميس: فيه تجمع عدة من الممالك على القاضي زين الدين عبد الباسط عند نزوله من القلعة. وهموا به، فولى يريد القلعة وهم في طلبه، حتى إمتَنع منهم بدخوله القلعة، وقد حماه جماعة، فأقام يومه وبات بها، وهو يطلب الإعفاء من نظر الجيش والأستادارية . فلما أصبح يوم الجمعة طلع الأمير الكبير نظام الملك جقمق، وجميع أهل الدولة، وخرج السلطان إلى الحوش، فإستدعى بالقاضي عبد الباسط. وجرت بينه وبين الأمير الكبير مخاطبات في إستمراره على محادته، وهو يطلب الإعفاء من المباشرة، إلى أن خلع عليه، وعلى مملوكه الأمير جانبك أستادار. ونزلا من القلعة على فرسين أخرجا لهما من الاصطبل، بقماش ذهب، وقد ركب معه إلى داره عظماء الدولة.
وفي يوم الأحد رابعه: وردت مطالعة الأمير أينال الجمكى نائب الشام، بقدومه حلب، هو والعساكر المجردة، في العشرين من المحرم، إلا الأمير تغرى برمش نائب حلب، فإنه لما بلغه وفاة السلطان الملك الأشرف عزم أن يكبس الأمراء المصريين، فبلغهم ذلك، فإستعدوا له حتى دخلوا حلب، فبلغهم أنه كتب إلى نائب الغيبة ألا يمكنهم من المدينة، هذا وقد جمع عليه عدة من طوائف التركمان وأن الأمير أينال نائب الشام أخذ في تخذيلهم عنه، وأرسل إليه يعتبه على إنفراده عنهم، فاعتذر بتخوفه من الأمراء المصريين .
وفي يوم السبت عاشره: رسم أن يقتصر في حضور الخدمة السلطانية على أربعة أيام في الأسبوع، وأن تكون الخدمة بالقصر فقط. ويتوفر حضور أهل الدولة إلى القلعة في يوم الأحد ويوم الأربعاء ويوم الجمعة، وهى الأيام التي عمل فيها الخدمة بالحوش. ثم إنتقض ذلك بعد قليل .(3/416)
وفي يوم الإثنين ثاني عشره: قدم مملوك الأمير تغرى برمش نائب حلب بكتابه، يتضمن رحيل الأمراء ونائب الشام جميعًا عن حلب إلى جهة دمشق في سادس عشرين المحرم، وأنه قدم بعدهم إلى حلب في ثامن عشرينه.
وفي ثاني عشره: تجمع المماليك الأشرفية بالقلعة يريدون قتل خشداشيهم الأمير أينال الدوادار، ففر منهم بحماية بعضهم له، ونزل إلى داره، فوقفوا خارج القصر وسألوا الأمير الكبير جقمق أن يكون هو المستبد بالحكم، وأن تكف يد أينال وغيره عن الحكم والتصرف، فوعدهم ذلك، فإنفضوا، ووقف من الغد يوم الثلاثاء جماعة منهم تحت القلعة بغير سلاح، فكانت بينهم وبين جماعة الأمير أينال وقعة بالدبابيس. ثم عادوا بكرة يوم الأربعاء إلى مواقفهم تحت القلعة، وقد صار العسكر قسمين: إحداهما مع الأمير الكبير نظام الملك جقمق، ويقال لهم القرانصة، وهم الأمراء، والمماليك الظاهرية برقوق والناصرية فرج بن برقوق، والمؤيدية، والنوروزية، والجكمية، ومعهم طائفة من الأشرفية قد فارقوا إخوتهم وصاروا مع هؤلاء. وكل من الأمير الكبير وممن معه يظهر أنه في طاعة السلطان، وإنما يريد أن تنزل طائفة من الأشرفية سموهم إلى عند الأمير الكبير جقمق، فإنهم هم الذين يثيرون الفتنة. والقسم الآخر المماليك الأشرفية وهم بالقلعة مع السلطان، وعندهم الخليفة، وبأيديهم في القلعة خزائن الأموال وحواصل السلاح الكثير، إلا أنهم أغمار جهال، لم يجربوا الأمور، ولا أدربتهم الأيام، فلا ينقاد صغيرهم لكبيرهم. والقرانصة وإن كانوا أقل مالًا ورحالاً، إلا أنهم أقعد من الأشرفية بأعمال الحرب، وأعرف بتصاريف الأمور، وقد إجتمعوا على الأمير الكبير جقمق، وإنقادوا له، وأجمعوا على الحرب معه. فلما أصبحوا يوم الخميس، لم يصعد الأمير الكبير جقمق إلى القلعة، وتحول من داره المطلة على بركة الفيل، ونزل في بيت قوصون تجاه باب السلسلة، وجمع عليه من وافقه من القرانصة، ومن الزعر وأوغاد العامة. وقد وعدهم بالنفقة فيهم. فإستعد الأشرفية في القلعة، وباتوا على ذلك. وظلوا نهار الجمعة سادس عشره على تعبئتهم إلى بعد صلاة العصر. ثم زحف أتباع الأمير جقمق على القلعة، وقد لبسوا أسلحتهم، وهم فيما يظهر دون أهل القلعة في العَدد والعِدد، فرماهم الأشرفية بالنشاب حتى أبعدوهم، فمالوا نحو باب القرافة، وهدموا جانبًا من سور الميدان وعبروه. فنزل طائفة من الأشرفية وقاتلوهم حتى أخرجوهم منه. فحال بينهم الليل، وباتوا على حذر، وقد طرق الأشرفية الزردخاناه بالقلعة، وأخذوا من السلاح شيئًا كثيرَا، ونصبوا مكاحل النفط على سور القلعة، وغدوا على حربهم يوم السبت، فهلك ببنهم من العامة بالنشاب والأسهم الخطائية جماعة. هذا، والقضاة وغيرهم تردد بينهم في إخماد الفتنة بإرسال أربعة نفر إلى الأمير الكبير منهم جكم خال السلطان إلى أن أذعنوا لذلك بعد إمتناع كثير، فنزل حكم ومعه الثلاثة المطلوبون بعد عصر يوم السبت، ظنًا من الأشرفية أنه لا يصيب جكم وأصحابه سوء، سوى أنهم يمنعون من سكنى القلعة فقط. فما هو إلا أن عبروا إلى الأمير جقمق، أحيط بهم، وسجنوا، ثم رحل بهم وبمن معه من بيت قوصون عائدًا إلى دار سكنه على بركة الفيل، فكان هذا أول وهن وقع في الأشرفية .(3/417)
وأصبحوا يوم الأحد ثامن عشره: والرسل تتردد من الأمير جقمق إلى الأشرفية بالقلعة، في طلب جماعة أخرى حتى نزل إليه منهم الأمير على بيه الخازندار، والأمير يخشباى أمير أخور، وهما من عظماء الأشرفية وأعيانهم. فللحال طلب الأمير جقمق الأمير خشقدم مقدم المماليك، وألزمه بإنزال جميع الأشرفية من الطباق بالقلعة، فاستسلموا بأجمعهم، ونزلوا طبقة أبعد طبقهَ، وقد حضر القضاة وأهل الدولة، فحلفوا للأمير الكبير جقمق، وحكم قاضى القضاة سعد الدين سعد الديرى الحنفي بسفك دم من خالف منهم هذا اليمين. وزعم أن في مذهبه نقلاً بذلك. فكان هذا الحكم أيضًا مما لم نعهد مثله. ثم أمر جميع المماليك الأشرفية بإخلاء طباقهم من القلعة إلا المماليك الكتابية فقط فما منهم إلا من بادر وحول ما كان له بطقته من القلعة من أثاث وغيره، حتى خلت منهم، فكان هذا من أعجب ما سمعنا به في الخذلان، فإن عددهم يبلغ ألف وخمسمائة وعندهم خزائن الأموال الجمة العدد، وحواصل الأسلحة العظيمة القدر في الكثرة والقيمة، وهم بالقلعة دار الملك وسرير السلطنة، ومعهم السلطان، ولهم من الأمتاع والأموال والنعم ما لا يقدر قدره، إلا أنهم أغمار جهال، متفرقون في إجتماعهم " تحَسْبَهُمْ جمَيْعًا وَقلُوبُهم َشتى، ذلِكَ بِأنهُمْ قومُ لا يَعْقلون " .
ومن حينئًذ تبين إدبار أمر الأشرفية ، وزوال عزهم، وإقبال جد الأمير جقمق، وتجديد سعادته.
وسبب هذه الكائنة أن جكم خال السلطان إتفق هو وعدة من الأشرفية على، أن يقبضوا على الأمير جقمق ومن معه من الأمراء، وعلى أَخدْ عبد الباسط وناظر الخاص، فلم يوافقهم الأمير أينال، ومنعهم من ذلك مرارًا. فلما علم جكم بمخالفة أينال له أخذ يدبر مع أصحابه في قتل أينال، فعندما أرادوا الإيقاع به، أعلمه بعض أصحابه بذلك، ففر منهم، وقد حماه منهم بعضهم كما تقدم ذكره، وإلتجأ إلى الأمير جقمق، وقص عليه الخبر. ومازال يوضحه للأمير حتى تبين له صحة مقالته، فأختص به، وبإين من حينئذ أينال الأشرفية، وصار في جملة الأمير جقمق، هو وجماعته، فكان هذا أول زوال دولة العزيز، وصار أينال يبكى في خلواته ويقول: " ما كان جزاء الملك الأشرف منى أنه إشترانى ورباني وعلمني القرآن، وخولني في نعمه، أن أخرب بيته بيدي ولقد بلغني من جهة صحيحة أن الأشرف برسباى نظر إلى أينال هذا في مرض موته ثم قال لمن حضره عنده وأينال قائم على قدميه " هذا مخرب بيتي . وقد قيل قديمَاً: " إتق شر من أحسنت إليه " .
وفي يوم الأحد هذا: قدم الأمير تغرى بردى المؤذى، ومن معه من التجريدة إلى البجرة، بعدما عاثوا وأفسدوا كما هي عادتهم. وفيه قدم الخبر بأن العسكر المجرد قدم إلى دمشق في خامسه.
وفي يوم الثلاثاء عشرينه: أفرج عن جكم خال السلطان، ومن سجن معه، وخلع عليه بشفاعة السلطان فيهم.
وفي يوم الخميس ثاني عشرينه: صعد الأمير الكبير جقمق، وسائر الأمراء والمباشرون، إلى الخدمة السلطانية. ومنع المماليك الأشرفية من العبور إلى القصر في وقت الخدمة، وذلك أن الأمير الكبير لما ظهر عليهم، وأنزلهم من الطاق التي بالقلعة، كان مما حلفهم عليه ألا يدخل إلى القصر في الخدمة منهم أحد إلا من له نوبة، في يوم نوبتة لا غير.
وفيه خلع على الأمير الكبير جقمق تشريف جليل، ونزل من القصر بعد إنقضاء الخدمة إلى الحراقة بباب السلسلة، وسكنها على أنه على أمور الدولة وتدبير المملكة، وتخرج الإقطاعات على ما يريد ويختار، ويولى ويعزل، ومعنى هذا أن السلطان لا يبقى له أمر ولا نهى، ويقتصر من السلطنة على مجرد الإسم فقط. فشق ذلك على الأشرفية، وركب عدة منهم، ووقفوا تحت القلعة بالرميلة، وأكثروا من الكلام في الإنكار، لما كان من سكنى الأمير الكبير بباب السلسلة. ثم إنفضوا فأخذ الأمير الكبير يحصن الإصطبل، ويستعد بالسلاح والرحال، ونزل الخدمة السلطانية بالقلعة. فمال الناس بأجعهم من الأمراء والقضاة والمباشرين إلى جهته، وترددوا إلى مجلسه، وتلاشى أمر السلطان، وأخذ في الإنحلال.
وفي يوم الثلاثاء سابع عشرينه وسادس عشرى مسرى: كان وفاء النيل ستة عشر ذراعًا وفتح فيه الخليج على العادة، وقد نزل لذلك الأمير أسنبغا الطيارى الحاجب. وكان الناس لما أبطأً عليهم الوفاء أخذوا في شراء الغلال، فإرتفع سعرها قليلاً.
شهر ربيع الأول، أوله السبت:(3/418)
في يوم الأربعاء خامسه: قدم الأمراء المجردون ما عدا الأمير سودون خجا فصعد منهم ستة أمراء إلى الحراقة بباب السلسلة، وتأخر منهم الأمير يشبك حاجب الحجاب، فإنه قدم ليلًا في محفة، ونزل داره، وهو موعوك البدن. وكان قد كتب إليهم الأمير الكبير نظام الملك جقمق. مما قصده الأشرفية من القبض على الأمراء، وحذرهم منهم، فدخلوا مستعدين بأطلابهم، ولم تجر بذلك عادة، وكان الأمير نظام الملك قد ألزم السلطان أن يقعد للأمراء القادمين في شباك القصر المطل على الإصطبل، فلم يجد بدًا من جلوسه، لأنه سلب جميع تعلقات السلطة، حتى لم يبق له سوى مجرد الاسم، وبطل عمل الخدمة السلطانية بالقصر، وصارت عند الأمير نظام الملك. فلما قدم الأمراء من التجويدة بأطلابهم وطبولهم تدق حربيًا، صعدوا من باب السلسلة، حتى نزلوا عن خيولهم على درج الحراقة، وأطلابهم واقفة . فقام الأمير نظام الملك يسعى مهرولاً إليهم، وهو في جمع كبير جدًا من الأمراء والمماليك، حتى سلم عليهم، وهم وقوف على أرجلهم، وسار بهم يريد الإصطبل السلطاني. وقد جلس السلطان في شباك القصر، فوقفوا على بعد من موضعه، وأومأوا برءوسهم كأنهم يقبلون الأرض، ففي الحال أحضرت التشاريف، فألبسوها وأمأوا ثانيا برؤوسهم، عوضًا عن تقبيل الأرض. وقدمت إليهم الخيول التي أخرجت من الإصطبل بالقماش الذهب، فأومأوا برؤوسهم مرة ثالثة، وولوا راجعين، بلا زيادة على ذلك. وقد رجع معهم الأمير نظام الملك، حتى صعدوا معه إلى الحراقة، فسلموا عليه خدمة له، ثم ركبوا الخيول السلطانية بتشاريفهم، ومضوا نحو دورهم. فإزداد الأمير نظام الملك بهذا المحفل عزًا إلى عزه، وكثرت مهابته، وتضاعفت في القلوب مكانته وحرمته. وتلاشى أمر السلطان، وظهر إنحلال أمره.
وفي يوم الخميس سادسه: إجتمع الأمراء والمباشرون وأرباب الوظائف بالحراقة، في خدمة الأمير الكبير نظام الملك. وقد تعين من الجماعة الأمير قرقماس أمير سلاح بجرأته وإقتحامه على الرياسة بالتهور. وشارك الأمير نظام الملك في مجلسه، وجلس من عداه على مراتبهم يمينًا وشمالاً .
ونزل الطلب بمجىء جماعة من الأشرفية، فأحضروا سريعًا فأشار قرقماس إلى جماعة قد أعدهم أن إقبضوا على هؤلاء، فقبض على الأمير جانم أمير أخور أحد من قدم أمس من التجريدة، وعلى الأمير الطواشى خشقدم مقدم المماليك، وعلى الطواشى فيروز الزينى نائب المقدم، وعلى الأمير على بيه شاد الشرابخاناه، وعلى الأمير جكم الخازندار خال السلطان، وعلى أخيه أبى يزيد، وعلى الأمير يخشى بك أمير أخور، وعلى الأمير دمرداش والى القاهرة، وعلى تانى بك الجقمقى نائب القلعة، وعلى جرباش أمير عشرة، وعلى خش كلدى رأس نوبة، وعلى أزبك البواب، وبيبرس الساقي، وتم الساقي، ويشبك الفقيه، وبيرم خجا أمير مشوى، وجانبك قلقسيرز وأرغون شاه الساقي، وتنبك الفيسى، وأوثقوهم، جميعهم بالحديد، وأمر الأمير تمرباى الدوادار أن يتوجه لنيابة الإسكندرية، فلم يجد بدًا من الموافقة فخلع عليه عوضًا عن الأمير زين الدين عبد الرحمن إبن القاضي علم الدين داود بن الكويز. وطلب بعض أتباعه وهو قراجا العمرى الخاصكى الناصري وخلع عليه بولاية القاهرة، عوضًا عن دمرداش. وندب من الأمراء الأمير تنبك السيفى أحد أمراء الألوف، ومعه الأمير أقطوه من العشرات في عدة من المماليك، فصعدوا إلى القلعة لحفظها، فكان يومًا مهولاً، أظهر فيه الأمير قرقماس من الخفة والتسرع إلى الشر، وكثرة الحماقة والرعونة، ما أبان به كمائن ما كان في نفسه من محبة الوثوب على الأمير، ومنع اللّه لنظام الملك، فإنه أخذ أعاديه بيد غيره، فجنى قرقماس ثمرات ذلك.
وفي يوم الجمعة سابعه: توجه الأمير تمرباى سائراً إلى الإسكندرية.
وفي يوم السبت ثامنه: أخرج بمن ذكرنا من الممسوكين في الحديد إلى الإسكندرية، وقد إجتمع لرؤيتهم من الناس عالم كبير، فمن باك رحمة لهم، ومن شامت بهم، ومن معتبر بتقلب الدهر، وتصاريف الأمور، ومن ساه لاه. وفيه أنفق على الأمراء القادمين من التجريدة مال كبير.
وفي يوم الأحد تاسعه: أحضر الطواشى عبد اللطيف العثماني وهو ممن كان مسخوطًا عليه في الأيام الأشرفية برسباى، وأمر أن يصعد به إلى بين يدي السلطان ليخلع عليه، ويستقر مقدم المماليك، عوضًا عن خشقدم فخلع عليه.(3/419)
وفي يوم الإثنين عاشره: ركب السلطان من الحوش بالقلعة، وركب معه القاضي زين الدين عظيم الدولة عبد الباسط ناظر الجيمق، ونزلا إلى الميدان، وجميع المباشرين والأمير أينال الدوادار مشاة وراءهما، فركب الأمير نظام الملك جقمق، وفي خدمته الأمراء، من الحراقة بباب السلسلة، خلا الأمير قرقماس أمير سلاح، والأمير أركماس الدوادار، ودخلوا إلى السلطان بالميدان فعندما رآهم القاضي عبد الباسط ترجل عن فرسه إلى الأرض، ونزل الأمراء أيضًا عن خيولهم. وقد وقف السلطان على فرسه، فقبلوا الأرض ووقفوا، فتقدم الأمير نظام الملك، فقبل رجل السلطان في الركاب، وحادثه. ثم خلع بين يدي السلطان على الأمير يشبك حاجب الحجاب، فإنه كان يوم قدوم الأمراء ملازمًا الفراش في داره لوعك به . وإنصرف الجميع عائدين في خدمة الأمير نظام الملك. وكان سبب تأخر الأمير قرقماس عن هذه الخدمة أنه بلغه ما غير خاطره . وذلك أنه كان في نفسه أن يتسلطن، فلما فهم هذا عنه، تقرب إليه عدة من الذين يوهمون جهلة الناس أنهم أولياء اللّه، ولهم إطلاع على علم الغيب وصاروا يعدوه بأنه لابد له من السلطة، وتخبره جماعة أخرى بمنامات تدل له على ذلك، ويزعم له آخرون بأنهم إطلعوا على ذلك من علم الرمل ومن علم النجوم، فتقرر ذلك في ذهنه، و لم يقدر على إظهار ذلك، حتى بلغه وهو مسافر في التجريدة موت الأشرف برسباى، فرأى أن دولته قد طلعت، فأخذ يترفع على من معه من الأمراء ترفعًا زائدًا. هذا مع ما يعرفونه من تكبره وإفراط جبروته، وشدة بطشه، فزادهم ذلك نفورًا منه، وداروه، حتى قدموا ظاهر القاهرة، وهو وهم على تخوف من الأشرفية، لما بلغهم عنهم من أنهم على عزم الإيقاع بهم. فأذْ قرقماس يطلق القول، ويبدى شيئًا مما في نفسه، وفعل ما لم يسبقه أمير لفعله من قلة الأدب في دخوله مطلبًا، وعدم مثوله بين يدي السلطان بالقلعة. بل وقف في الإصطبل على بعد، كما تقدم، كل ذلك لرعونته وفرط رقاعته، ثم كان من فحشه وجرأته في القبض على الأمراء ما كان، وأخذ مع ذلك يجلس في داره ويأتيه من المماليك ما شاء اللّه، حتى تملأ داره بهم. والأخبار تنقل إلى الأمير نظام الملك، ويقال ذلك لقرقماس. فتأخر عن الركوب في هذا اليوم. فلما خرج الأمير نظام الملك من بين يدي السلطان، أرسل الأمير تمراز رأس نوبة النوب والأمير قراجا، والقاضي زين الدين عبد الباسط إلى الأمير قرقماس، فأبدى لهم ما عنده من تغير خاطره، لما نقل عنه، فمازالوا به حتى ركب معهم، وطلع للأمير نظام الملك بالحراقة، فدخلا في جماعة من ثقاتهما خلوة وتعاتبًا وتحالفًا، ثم خرجا فأركبه الأمير نظام الملك فرسًا بقماش ذهب. ونزل إلى داره، وفي خدمته الأمير تمراز، وقراجا. فأركب كل منهما من داره فرسًا بقماش ذهب، وأخذ من حينئذ يسلك طريقًا تضاد ما كان عليه من طلب الأمر لنفسه، وألح على الأمير نظام الملك في جلوسه على تخت الملك، ليحقق قول الحكيم الجاهل " لا يقع إلا طرفًا " . بينما قرقماس لزهوه وإعجابه بنفسه يريد أن يتسلطن، إذ خدعه من خدعه، فمشت عليه خدعه، حتى أفرط به الإنخداع، وصار يريد أن من خدعه يتسلطن، ويصير هو من أتباعه تمضى فيه أوامره، بعد أن كانا كحليف يتصاولان، فيخشى قرنه صولته ليقضي اللّه أمرًا كان مفعولا.
وفي هذا اليوم: كتب عن السلطان وعن الأمير نظام الملك وعن الأمير قرقماس، بإستدعاء المقر الكمالى محمد بن البارزى قاضي القضاة بدمشق ليستقر في كتابة السر، وجهز القاصد لإحضاره.
وفي يوم الخميس رابع عشره: عملت الخدمة السلطانية بالقصر بين يدي السلطان، وحضرها الأمير نظام الملك جقمق، والأمير قرقماس، وعامة الأمراء والمباشرين وكانت الخدمة السلطانية قد تركت من مدة، وأطرح جانب السلطان، فتنبه له ذلك في هذا اليوم المبارك.
وفي يوم الجمعة خامس عشره: صلى الأمير قرقماس في المقصورة مع السلطان صلاة الجمعة، ومضى و لم يكلم واحد منهما الآخر، وتأخر نظام الملك عن حضور الجمعة مع السلطان .
وفي يوم السبت سادس عشره: عملت الخدمة بالقصر على العادة.
وفي يوم الإثنين: عملت الخدمة أيضًا، و لم يحضرها الأمير نظام الملك .(3/420)
هذا والأمير قرقماس وسائر الأمراء وأرباب الوظائف تحضر عند الأمير نظام الملك الخدمة بالحراقة، وتأكل على سماطه، إلى أن خلع العزيز في يوم الأربعاء تاسع عشره، فكانت مدته أربعة وتسعين يومًا، ومن الإتفاق الغريب أن عدة حروف عزيز بالجمل أربعة وتسعين.
السلطان الملك الظاهر أبو سعيد جقمق
العلائى الجركسى الظاهري : هذا الملك سبى صغيرًا من بلاد الجركس، وجلب إلى القاهرة، وربي في بيت الأمير أينال اليوسفي، وإنتقل إلى الملك الظاهر برقوق من على ولد الأمير أينال، فتنقل في الخدم إلى أن صار بعد الأشرف برسباى نظام الملك، كما تقدم ذكره.
فلما كان يوم الأربعاء تاسع عشر ربيع الأول: هذا، إستدعى الخليفة والأمراء والقضاة وجميع أرباب الدولة إلى الحراقة بالاصطبل، وأثبت عدم أهلية الملك العزيز يوسف لأنه لا يحسن التصرف، فخلعه الخليفة، وفوض السلطة للأمير نظام الملك جقمق في أخر الساعة الثانية، وتلقب بالملك الظاهر أبى سعيد، وأفيضت عليه الخلع الخليفتية، وقلد بالسيف. وركب من الحراقة، والجميع مشاة في خدمته، وقد دقت البشائر حتى صعد إلى القصر. وجلس على تخت الملك فقبل الأمراء الأرض وإنصرفوا. ونودى في القاهرة وظواهرها بالدعاء للملك الظاهر، وأن النفقة مائة دينار لكل مملوك.
وسجن العزيز في بعض دور القلعة، ونزل عنده دادته سر النديم الحبشية، وعدة من جواريه، ما بين سرارى وخدم، وطواشيه صندل الهندي. ومكنت مرضعته من الترداد إليه والمبيت عنده. وأجرى له من اللحم والدجاج والأوز في كل يوم ما يليق به، سوى عشرة آلاف درهم في كل شهر من وقف أبيه. ورسم على بابه جماعة من المماليك. ثم بعد أيام رفع الترسيم عن بابه.
وكان القائم في هذا الأمر قرقماس، فإنه لما قدم ترفع ترفعًا زائدًا إعجابًا بنفسه، وتكبرًا على غيره، وشرع يتصرف في أمور الدولة بعجلة. وجلس للحكم بين الناس في داره. وقام في القبض على أعيان الأشرفية قيامًا تبين فيه حمقه وطيشه. ثم إنقطع في داره وأظهر أنه بلغه عن نظام الملك أنه يريد مسكه، إلى أن خدعوه وساروا به إلى نظام الملك، فخادعه أشد المخادعة، حتى انفعل لما عنده من الخفة والحدة، وإستحال عما كان عليه من التعاظم والكبر إلى التواضع المفرط، إما مكرًا أو سرعة إستحالة. وأخذ يحث نظام الملك على أن يتسلطن وهو يأبى عليه في عدة مرار إلى أن حنق قرقماس وقام من مجلس نظام الملك مغضبًا، فتلافاه حتى جلس، وهو يلح في التأكيد عليه في السلطة، إلى أن أذعن، فبادر قرقماس وركب إليه سحر يوم الأربعاء، وألزمه بطلب الخليفة والقضاء والأمراء، ولم عندهم علم من ذلك. فلما إجتمعوا قام قرقماس بأعباء هذا الأمر وحده، حتى خلع العزيز وتسلطن نظام الملك، فكأنما سعى في هلاك نفسه.
وفي هذا اليوم:. قبض على الطواشى جرهر الزمام اللالا وهو مريض وسجن بالبرج من القلعة. وإستقر زمام الدار عوضه الطواشى فيروز الساقي وكان الأشرف قد سخط عليه وأمره بلزوم داره، فأقام يترقب الموت إلى أن مات الأشرف، فاستدعى الآن، وخلع عليه، وتولى سجن العزيز وخلع أيضًا على سودون الجكمى أخي الأمير أينال نائب الشام، ليتوجه بالبشارة إلى نواب الشام، وخلع على دمرداش العلاى ليتوجه بالقبض على الأمير خجا سودون المؤيدى أحد المجردين وحمله إلى القدس بطالاً.
وفي يوم الخميس عشرينه: خلع على الأمير قرقماس، وإستقر أميرًا كبيرًا أتابك العساكر، وأنعم عليه بإقطاع السلطان وهو نظام الملك، وزيد عليه بإمرة طبلخاناه بدمشق. وخلع على الأمير أقبغا التمرازى وإستقر أمير سلاح عوضًا عن الأتابك قرقماس. وخلع على الأمير تمراز، وإستقر أمير أخور، عوضاً عن الأمير جانم. وخلع على الأمير يشبك الحاجب، وإستقر أمير مجلس، عوضًا عن أقبغا التمرازى. وخلع على الأمير تغرى بردى المؤذى، وإستقر حاجب الحجاب، عوضًا عن الأمير يشبك، وخلع على الأمير أركماس، وإستقر على عادته دوادارا وخلع على الأمير تنبك نائب القلعة فوقانى، وخلع على الأمير قراجا أيضًا فوقانى، وخلع على الأمير قراقجا الحسنى وإستمْر رأس نوبة النوب، عوضًا عن الأمير تمراز أمير أخور .(3/421)
وفي يوم السبت ثاني عشرينه: خلع على الأمير تنم المؤيدى الخازندار، وإستقر في حسبة القاهرة، عوضًا عن نور الدين على السويفى الإمام. وخلع على الأمير قانباى الجركسى رأس نوبة، وإستقر شاد الشرابخاناه، عوضًا عن على بيه. وخلع على قانبك الساقي، وإستقر خازندارًا، عوضًا عن جكم خال العزيز.
وفي هذا اليوم: نودي على النيل بزيادة إصبع واحد، لتتمة ثمانية عشر ذراعًا وعشرين أصبعًا وهو سادس عشر توت، فأصبح يوم الأحد ثالث عشرينه، وسابع عشر توت ويقال له عند أهل مصر عيد الصليب وقد نقص ماء النيل، وإستقر في النقص، فلم يتم ري النواحي، وشرق كثير من الأراضي.
وكان قد إتفق في يوم الأربعاء تاسع عشره عندما تسلطن الملك الظاهر جقمق هبوب ريح شديدة عاصفة حارة أثارت غباراً ملأ آفاق السماء، حتى كادت الشمس تخفى عن الأبصار، أو إختفت، وتمادت هذه الريح يوم الخميس، وسكنت يوم الجمعة، وإشتد الحر طول النهار، وأقبل الليل وقد طبق السحاب الآفاق، وأمطرت يسيرًا غير مرة، حتى أصبح يوم السبت. فتطير الناس من ذلك، وزعم من عنده أثارة من علم أن هبوب هذه الرياح يؤذن بحدوث فتن، وأن المطر في هذا الوقت يخاف منه نقص النيل، فكان كذلك، ونقص النيل في يومه ويخاف عاقبة هذا النقص. إلا أن يشاء اللّه.
وفي يوم الإثنين رابع عشرينه: إبتدئ بالنفقة السلطانية، لكل واحد من المماليك مائهْ دينار وفي يوم الثلاثاء خامس عشرينه: قدم الأمير جرباش قاشق من دمياط، وقد أفرج السلطان عنه، وأنعم عليه بإمرة مائة تقدمة ألف، بعدما أقام عدة سنين مسجونًا .
وفي يوم الخميس سابع عشرينه: عمل السلطان المولد النبوي بالقلعة على عادة من تقدمه من الملوك الجركسية، فكان وقتا حسنًا، وأعطة جليلة بالنسبة إلى الوقت. وانفض الجمع بعد صلاة المغرب.
وفي يوم الجمعة ثامن عشرينه: كسف من الشمس قريب من ثلثي جرمها، بعد نصف النهار، فاصفرت الأرض وما عليها، حتى انجلت، ولم تجتمع الناس ولا صلوا صلاة الكسوف. وزعم أهل علم الحدثان أن ذلك يدل على خروج أهل الشام وأهل صعيد مصر عن طاعة السلطان.
وفي يوم السبت تاسع عشرينه: تجمع تحت القلعة نحو الآلف فارس من مماليك الأمراء يريدون إثارة الفتنة، من أجل أنه أنقق في المماليك السلطانية ولم ينفق فيهم، ولم تجر العادة بالنفقة في مماليك الأمراء، فأنفق فيهم لكل نفر، شهر ربيع الآخر، أوله الأحد.
في يوم الثلاثاء ثالثه: خلع على شيخ الشيوخ القاضي محب الدين محب بن الأشقر وإستقر في نظر المارستان، عوضًا عن نور الدين على بن مفلح، وكانت شاغرة منذ مات.
وفيه قبض على الصاحب تاج الدين الخطير ناظر الاصطبل، وعلى ولده وأخذت خيولهما، وألزما بحمل عشرين ألف دينار لتغير خاطر السلطان عليه من حين كان أمير أخور .(3/422)
وفيه ثارت عدة من المماليك القرانصة الذين قاموا مع السلطان قبل ذلك على الأشرفيه كما تقدم، وطلبوا الآن من السلطان الزيادة في جوامكهم ومرتب لحمهم ووقفوا تحت القلعة وأصبحوا يوم الأربعاء وقد كثر جمعهم، حتى نزل الأمراء من خلسه السلطان، فصاروا يجتمعون على واحد واحد منهم، ويذكرون له ما يريدون إلى أن نزل الأمير الكبير الأتابك قرقماس فأحاطوا به وحدثوه، فوعدهم أن يتحدث لهم مع السلطان، فأبوا أن يمكنوه من العود إلى القلعة، وأرادوه أن يوافقهم على محاربة السلطان وساروا معه بأجمعهم إلى داره، وتلاحق بهم جماعة فلم يزالوا به حتى وافقهم بعد جهد منهم وإمتناع منه، ولبسوا سلاحهم ولبس هو الآخر أيضًا، وأتاه كثير من الأشرفية وساروا به حتى وقف بالرميلة تجاه باب السلسلة، وهم في إجتماعهم مختلفة آراؤهم، فمنهم من يقول: " اللّه ينصر الملك العزيز " . فإذا سمع ذلك قرقماس منهم قال: " اللّه ينصر الحق " وآخرون سواهم يقولون اللّه ينصر السلطان " . وفي عزم الأشرفية إذا أخذوا السلطان بقرقماس قتلوا قرقماس في الحال، وأقاموا العزيز. وفي ظن قرقماس أن تكون السلطة له. وإتفق أنه لما خرج من داره، وسمعهم ينوهون بالدعاء للعزيز، كشف رأسه وقال: " اللّه ينصر الحق " . فتطير من له خبرة وتجارب بزوال أمره، لكشفه رأسه في الشارع خارج باب زويلة، بمرأى من العامة، ثم لما وقف بالرميلة سقطت ذرفته عن كتفه إلى الأرض، وأظلمت الدنيا في عينيه، فتأكدت الطيرة عليه بسقوط عزه وعماه عن الرشد، فكان كذلك. وعندما وقف تجاه باب السلسلة من القلعة سار بعض أتباعه ونادى في القاهرة على لسانه بمجيء الممالك إلى الأمير قرقماس، وأنه ينفق فيهم مائتي دينار لكل واحد، وبمجيء الزعر إليه وأنه يعطى كل واحد منهم عشرين دينارًا. فعظم جمعه، بحيث توهم كثير من الناس أن الأمر له.
وكان السلطان عند ذلك في نفر قليل، فبادر بنزوله من القصر إلى المقعد الذي بجانب باب السلسلة، ومعه المال، وبعث بجماعة للقتال، فوقعت الحرب بين الفريقين مراراً، والجراح فاشية فيهم، وقد قتل جماعة وتعين الغلب لقرقماس ومن معه، إلا أن عدة من الأمراء فروا عنه، وصعدوا من باب السلسلة إلى السلطان، فسر بهم، ثم أقبل أيضاً من جهة الصليبة عدة أمراء، ووقفوا تجاه قرقماس، في هيئة أنهم جاءوا ليقاتلوا معه ثم ساقوا خيولهم بمن معهم. ودخلوا باب السلسلة، وصاروا مع السلطان، فإزداد بهم قوة، هذا وقد دقت الكوسات السلطانية حربيًا بالطبلخاناه من القلعة، وقامت ثلاثة مشاعلية على سور القلعة تنادى من كان في طاعة السلطان فليحضر وله من النفقة كذا وكذا. ونثر مع ذلك السلطان من المقعد على العامة ذهبًا كثيرًا. وصار يقف على قدميه ويحرض أصحابه على القتال، فأقبلت الفرسان نحوه شيئًا بعد شىء داخلة في طاعته، وتركت قرقماس. والحرب مع هذا كله قائمة بين الفريقين ضرباً بالسيوف، وطعنًا بالرماح إلا أن الرمي من القلعة على قرقماس ومن معه بالنشاب كثير جداً، مع رمى العامة لهم بالحجارة في المقاليع لبغضها في قرقماس وفي الأشرفية، فتناقص جمعهم، وتزايد جمع السلطان إلى قبيل العصر، فتوجه بعض الأشرفية وأخذوا في إحراق باب مدرسة السلطان حسن ليتمكنوا من الرمي على القلعة من أعلاها. فلم يثبت قرقماس، وفر وقد جرح، فثبتت الأشرفيهَ وقاتلت ساعة، حتى غلبت بالكثرة عليها، فإنهزمت بعدما قتل من الفرسان والرجالة، جماعة، وجرح الكثير. فمن جرح من السلطانية الأمير تغرى بردى المؤذى حاجب الحجاب من طعنة برمح في شدقه، والأمير أسنبغا الطيارى الحاجب في آخرين فكانت هذه الوقعة من الحروب القوية بحسب الوقت، إلا أن قرقماس جرى فيها على عادته في العجلة والتهور، ففاته الحزم، وأخطأه التدبير من وجوه عديدة، ليقضى اللّه أمراً كان مفعولا " وَإذَا أرَادَ الله بقْوم سُوءًا فَلاَ مَرد لَهُ " .ًَ وعندما إنهزم القوم ندب السلطان لأمير أقبغا التمرازى أمير سلاح في جماعة لطلب المنهزمين، فتوجه نحو سرياقوس خشية أن يمضوا إلى الشام، فكانوا أعجز من ذلك، ولم يجد أحداً فعاد .(3/423)
وفي يوم الخميس خامسه: جلس السلطان على تخت الملك بالقصر، وعملت الخدمة على العادة، فهنأه الناس بالظفر والنصر على أعدائه. وقد وقف على باب القلة من القلعة عدة لمنع من بقي من الأشرفيهَ من الدخول إلى الخدمة، فكان المملوك منهم إذا جاء منع من الدخول، فإن لم يمتنع ضرب على رأسه حتى يرجع من حيث أتى. ورسم بقطع مرتبهم من اللحم في كل يوم، ثم أعيد بعد ذلك .
وفيه إجتمع القضاة بجامع القلعة، وحكم قاضي القضاة شمس الدين محمد البساطى المالكي بهدم سلالم مأذنتى مدرسة السلطان حسن، وهدم سلالم سطحها وألزم الناظر في مجلس الحكم بهدم ذلك فمضى وهدمه، فكان هذا الحكم أيضًا من الأحكام التي لم نعهد من القضاة مثله .
وفيه خلع على علاء الدين على بن ناصر الدين محمد بن الطبلاوى، وأعيد إلى ولاية القاهرة، وكان قد بلغ الغاية من الفقر والفاقة والضعة.
وفي يوم الجمعة سادسه: قبض على الأمير قرقماس، وذلك أنه لما فر أوى إلى موضع بقية نهاره وليلة الخميس. ثم أصبح فبعث عشاء إلى القاضي زين الدين عبد الباسط يعلمه بمكانه وأنه يأخذ له الأمان، ففعل ذلك، وتوجه ومعه المقام الناصري محمد ولد السلطان فلما رأهما قرقماس، قام وإنحط يقبل قدمي ابن السلطان ويد عبد الباسط، فوضعا في عنقه منديل الأمان الذي قدما به من السلطان، وأركبوه فرسًا ومروا به، وقد اجتمع الخلائق لرؤيته فمنهم من يسبه ومنهم من يدعو عليه، حتى صعد القلعهْ، فعندما عاين السلطان خر على وجهه يقبل الأرض، ثم قام ومشى قليلاً، وخر يقبل الأرض، وقام فمشى ثم خر ثالث مرة يقبل الأرض، وقد قرب من السلطان. فوعده بخير، وأمر به فأدخل إلى مكان وقيد بالحديد وهو يشكو من الجوع، فأتى بطعام. هذا وقد لهجت العامة في الأسواق تقول " الفقر والإفلاس، ولا ذلتك يا قرقماس " .
وفيه قبض على جماعة من المماليك الأشرفية، وأخذت خيولهم وبغالهم، وسجنوا بالبرج من القلعة .
وفي يوم السبت سابعه: أخرج بقرقماس في الحديد، ومضوا به إلى ساحل النيل، وأركب في الحراقة حتى سجن بالإسكندرية. وسمع في مروره من القلعة إلى النيل من العامة مكروهًا كثيرًا، وحل به في هذه المحنة نكال شديد، وخزى زائد فإنه كان من الكبر والزهو والإعجاب وفرط الرقاعة على جانب كبير مع العسف والجبروت وشدة البطش، بحيث كان إذا عاقب يضرب الألف ضربة وأزيد، فعوقب من جنس فعله. وصار مع ذلك مثلا، فلقد أقامت العامة مدة، تجهر في الأسواق بقولها لمن تدعو عليه " لك ذله قرقماس " .
وفيه خلع على الأمير أقبغا التمرازى، وإستقر كبيرًا أتابك العساكر، عوضًا عن قرقماس. وأنعم عليه بإقطاع إحدى التقدمتين اللتين كانتا مع قرقماس.
وخلع على الأمير يشبك، وإستقر أمير سلاح، عوضًا عن الأتابك أقبغا التمرازى. وخلع على الأمير جرباش قاشق، وإستقر أمير مجلس، عوضًا عن الأمير يشبك.
وفي يوم الإثنين تاسعه: إجتمع الأمراء والقضاة والمباشرون وسائر أهل الدولة للخدمهْ في القصر على العادة، وقد جلس السلطان على التخت والخليفة والقضاة والأمراء على مراتبهم، وتقدم الصاحب بدر الدين حسن بن نصر اللّه كاتب السر فقرأ عهد أمير المؤمنين المعتضد باللّه للسلطان، وهو من إنشاء القاضي شرف الدين أبى بكر الأشقر نائب كاتب السر.
ثم خلع على الخليفة وقضاة القضاة الأربع، وكاتب السر ونائبه، بعدما جرى بين قاضي القضاة شهاب الدين أحمد ابن شيخ الإسلام بن حجر الشافعي، وبين قاضي القضاة سعد الدين سعد الديري الحنفي كلام اقتضى عزل ابن حجر نفسه من القضاة، فأعاده السلطان إلى وظيفة القضاة، وجدد له ولاية ثانية عنه. وأضاف إليه ما خرج عنه في الأيام الأشرفية من نظر الأوقاف ونظر وقف قراقوش، ونظر وقف بيبغا التركماني، ونظر وقف المدرسة الطيبرسية بجوار الجامع الأزهر، وأكد عليه في أنه لا يقبل رسالة متوجه، ولا يؤجر وقفًا لدى جاه، فما أحسن ذلك لو تم ودام .
وفيه جهز توقيع برهان الدين إبراهيم بن لباعوني بقضاء دمشق عوضًا عن المقر الكمالى محمد بن البارزى كاتب السر، وحمل له التشريف أيضًا بسفارة القاضي عبد الباسط.
وفي يوم السبت رابع عشره: أنعم على الأمير أينال بإقطاع إحدى تقدمتى قرقماس. وأنعم(3/424)
بإقطاع أينال على الأمير أسنبغا الطيارى، وأنعم على الأمير ألطنبغا المرقبى بإقطاع قراجا، وإستقر من أمراء الألوف وكان قد حمل بعد موت المؤيد شيخ عدة سنين. وأنعم على الأمير قراجا بإقطاع الأتابك أقبغا التمرازى .
وفي يوم الثلاثاء سابع عشره: خلع على المقر الكمالى محمد بن البارزى، وإستقر في كتابة السر، وقد قدم من الشام. وهذه ولايته الثالثة بديار مصر.
وعزل الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، خلع عليه جبة بفرو سمور، فنزل المقر الكمالى على فرس سلطاني بقماش ذهب في موكب جليل إلى الغاية، وركب معه الأمير أركماس الدوادار، والصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، وعامة أهل الدولة .
وفيه خلع على الأمير أسنبغا الطيارى، وإستقر دوادارًا ثانيًا، عوضًا عن الأمير أينال. وخلع على الأمير يلبغا البهائي أمير منزل أحد أمراء العشرات، وإستقر حاجبًا ثانيًا عوضًا عن أسنبغا الطيارى، وأنعم عليه بإمرته.
وفي يوم الخميس تاسع عشره: خلع على الأمير أينال، وإستقر أمير الحاج. وأنعم عليه بعشرة آلاف دينار. وفيه جهز المقر الكمالى كاتب السر تقدمة سنية للسلطان، ما بين خيل وثياب حرير وثياب صوف وفرو، وغير ذلك، مما قيمته زيادة على ألف وخمسمائة دينار .
وفي هذا الشهر: شنع إفساد الدود للزروع، فإن الماء نزل سريعًا عن الأراضي قبل أوان نزوله، وإشتد الحر مع ذلك في هذه الأيام.
وفي يوم الأربعاء خامس عشرينه: نفى عدة من المماليك الأشرفية إلى الواحات، فخرجت عيالاتهم وأصحابهم يصرخون، فكان شيئًا نكرًا. وفيه نفى أيضًا عز الدين عبد العزيز البغدادي قاضي الحنابلة بدمشق وقد قدم منها بعد عزله بإبن مفلح، وإجتمع بالسلطان، فما وفق في الخطاب فغضب منه ونفاه.
وفي هذا الشهر: هدم جانب من المعلقة إحدى معابد النصارى بمدينة مصر وقد حضر القضاة مع أمين من قبل السلطان. وفيه إدعى على بطرك اليعاقبة عند قضاة القضاة بين يدي السلطان. مما وضع عليه يده من أموال من مات من النصارى ولا وارث له، فأجاب بأن عنده مستندًا بأخذ ذلك، مْخرج في الترسيم على البيان، ثم إنحل أمره في ذلك. وفيه فشت الأمراض في الناس بالحميات إلا أنها في الأكثر سليمة تقلع في السابع.
وفي آخر هذا الشهر: أفرج عن الخطير، على مال يحمله بعد أن عوقب، وأخذت خيوله وجواريه.
شهر جمادى الأولى، أوله الثلاثاء: في خامسه. رسم بنقل الأمير خشقدم الطواشي ونائبه من سجن الإسكندرية إلى دمياط على حمل خمسة عشر ألف دينار. وقدم كتاب الأمير تغرى برمش نائب حلب بأنه مقيم على الطاعة، وأنه لبس التشريف المجهز إليه، وقبل الأرض على العادة فلم يوثق بذلك منه، وأخذ في العمل في إمساكه والقبض عليه بملطفات كتب إلى أمراء حلب في الباطل خفية لكثرة الإشاعات بسلوكه طريق من هو خارج عن الطاعة، فإنه أكثر من إستخدام المماليك وإستمال عدة طوائف من التركمان، إلى غير ذلك.
وفي يوم الإثنين سابعه: خلع على ولى الدين محمد السفطى مفتى دار العدل وأحد خواص السلطان وإستقر في وكالة بيت المال، عوضًا عن ابن النسخة شاهد القيمة.
وفي ثامنه: خلع على الشريف صخرة بن مقبل بن نحبار، وإستقر في إمرة ينبع، عوضًا عن الشريف عقيل بن وبير بن نخبار .
وفي هذا الشهر: والذي قبله زالت نعم جماعة كثيرة من الأشرفية ما بين أمير ومملوك وكاتب وغير ذلك، فمنهم من قتل ومنهم من سجن، ومنهم من نهب، ومنهم من صودر، وآخرون يترقبون ما يحل بهم.
وفي يوم الخميس عاشره: خلع على زين الدين يحيى قريب ابن أبى الفرج، وإستقر في نظر الاصطبل على مال وعد به، وخلع على محمد الصغير معلم النشاب، أحد معارف السلطان، وإستقر في ولاية دمياط، عوضًا عن ناصر الدين محمد ابن الأمير فخر الدين بن أبى الفرج، وكان من قريب قد وليها فعزل بعد أيام .
وفي يوم السبت ثاني عشره: قبض على عمر آخى التاج والى القاهرة ورسم بنفيه إلى قوص. ثم أمر أن يلزم بيته على مال قرر عليه يقوم به.(3/425)
وفي يوم الثلاثاء خامس عشره: ضرب الشيخ حسن العجمي بالمقارع ضربًا مبرحًا، وشهر بالقاهرة، ثم سجن، وهذا الرجل قدم القاهرة، ودار في الأسواق يستجدى ويكدى، فيتصدق الناس عليه. ثم تعرف بالأشرف برسباى، وإختص به إختصاصًا زائدًا، بحيث يدخل خلواته متى شاء بغير إذن، ويقف فوق الأمراء، فتمكن من السلطان وعظم قدره. وبذل له الأكابر الأموال خشية منه. ثم بنى له السلطان قبة كبيرة بالصحراء، ووقف عليها وقفًا له متحصل كثير، فثقل على أهل الدولة لكثرة أخذه المال منهم، ولسوء أثره فيهم عند السلطان إلى أن زالت الدولة الأشرفية، وبدا لهم سيئات ما كسبوا. قبض على حسن هذا، وضربه السلطان، وسجنه، ثم ادعى عليه عند قاضي القضاة المالكي بما يوجب إراقة دمه، فلم يثبت ما ادعى به عليه فضرب هذا الضرب الثاني، ثم نفى بعد سجنه إلى قوص، وأخذ ما وجد له وفي هذه الأيام رسم بإستقرار تقي الدين أبى بكر بن أحمد بن محمد عرف بإبن قاضي شهبة في قضاء دمشق، وذلك أن البرهان إبراهيم ابن الباعونى لما توجه إليه التوقيع والتشريف بإستقراره في قضاء القضاة بدمشق، عوضًا عن المقر الكمال محمد بن البارزى كاتب السر، إمتنع من القبول، فأتاه الأمير أينال الجكمى نائب الشام إلى بيته، وسأله أن يقبل، فلم يجبه، وصمم على الإمتناع، فبعث النائب بذلك.
فرسم لإبن قاضي شهبة بالقضاء وجهز له التشريف والتوقيع، ورسم بإستقرار أبى اليمن أمين الدين محمد بن جمال الدين أبى الخير محمد ابن الفقيه على النويرى خطيب الحرم في قضاء مكة وخطابتها، عوضًا عن أبى السعادات محمد بن أبى البركات محمد بن أبى السعود ابن ظهيرة، وجهز له التشريف والتوقيع.
وفي يوم الأحد سابع عشرينه: أنفق في خمسائة من المماليك الأشرفية، كل واحد عشرة دنانير، ليخرجوا تجريدة لقتال هوارة، ببلاد الصعيد.
شهر جمادى الآخرة، أوله الخميس: فيه برز الأمير سودون المحمدي، ومن معه: وذلك أن السلطان عزم على غزو بلى، لما تقدم منهم من نهب الحجاب فندب سودون المحمدي لذلك، وعين معه مائة من المماليك الأشرفية، أنفق فيهم ثمانية آلاف دينار، سوى الخيل والجمال، حسابًا لكل مملوك ثمانون دينارًا، وأنعم على سودون المحمدي بثلاثة آلاف دينار، وولاه نظر الحرم بمكة، عوضًا عن ولى الدين محمد بن قاسم، ورسم بمسير عرب الكرك، وعرب ينبع معه. وخلع على تاج الدين محمد بن حتى السمسار، وإستقر في نظر جدة، عوضًا عن سعد الدين إبراهيبم بن المرة.
وفي يوم الجمعه ثانية : أخرجت خطابة الجامع الطولونى ومشيخة الميعاد عن أبى اليسر محمد بن زين الدين أبى هريرة عبد الرحمن بن النقاش، وخطب عوضه برهان " الدين إبراهيم بن ميلق، لشىء في نفس السلطان من أبيه.
وفي يوم الإثنين. خامسه: إستقل سودون المحمدي بالمسرر نحو الحجاز بمن معه، وسار بعده أمير أحمد بن على بن أينال في عدة من المماليك وغيرهم لإصلاح مناهل طريق الحجاج، وتوجهت المماليك الأشرفية إلى الصعيد لقتال هوارة، وخلع على الأمير أقبغا التركمانى وإستقر في نيابة الكرك، عوضًا عن الوزير الأمير غرس الدين خليل، ونقل خليل إلى صفد، وإستقر بها أميرًا كبيرًا.
وفي سابع عشره: ورد الخبر بأن جيهان شاه بن قرا يوسف ملك قلعة النجا من عمل توريز، وكانت ليد ابن أخيه إسكندر، فعوضه عنها قلعة أوفيك وأنه طلب أيضًا أرزن الروم من صاحبها، وأن حوكي ابن القان معين الدين شاه رخ بن تيمورلنك شتي على قراباغ، وأن القان شاه رخ أرسل ثلاث خلع وشطفه إلى مراد بك بن عثمان ملك الروم، فخرج الوزراء إلى لقاء القادم بها، وأخروا إظهار الشطفة، ودخلوا بالرسل في مجلس خاص، فلبس مراد الخلع، ودار بين الرسل وبينه حديث في مصاهرة القان، بأن تكون بنات كل منهما لأولاد الآخر.
شهر رجب، أوله الخميس: فيه أنفق المماليك نفقة الكسوة، وكانت عادتهم في أيام الأشرف برسباى أن يدفع لكل واحد منهم خمسائة درهم من الفلوس التي هي نقد مصر الآن، فوقفوا في يوم الإثنين الماضي، وطلبوا أن ينفق فيهم عن ثمن الكسوة عشرة دنانير لكل واحد، فمازالوا بهم حتى أنفق فيهم ألف درهم لكل مملوك، وألف وخمسائة لكل خاصكى.
وفيه رسم أن يكون نواب قاضي القضاة الشافعي خمسة عشر ونواب الحنفي عشرة، ونواب كل من المالكي والحنبلي أربعة، ثم ازدادت عدتهم بعد ذلك.(3/426)
وفي يوم الأحد رابعه: إبتدىء بقراءة صحيح البخاري بين يدي السلطان بالقصر من القلعة، وزادت عدة من حضر ومنعوا من البحث، فإنه كان يقضي إلى خصام ومعاداة، فإنكفوا عنه، وللّه الحمد.
وفي يوم الخميس ثامنه: جمع القضاة والأمراء والمباشرون بالقصر وقت الخدمة وأقيم بعض نواب القاضي الشافعي وكيلاً، فادعى على نقيب الحكم، وقد أقيم وكيلاً عن الأمير قرقماس الشعبانى دعوى حسبة بين يدي قاضي شمس الدين محمد البساطى، المالكي، بأن الأمير قرقماس خرج عن طاعة السلطان، وحارب اللّه ورسوله، فقتل بسببه عدة أناس، وأن في بقائه في السجن مفسدة وإثارة فتن، وأن في قتله مصلحة، فشهد بذلك جماعة من الأمراء، وحكم البساطى بموجب ذلك، فقيل له ما موجبه، فقال: " القتل " ، فندب بعض الممالك لقتله، وجهز إلى الإسكندرية، فقتله في يوم الإثنين ثاني عشره قتلة شنعاء، وهو أنه أخرج في قيده من السجن إلى مجلس الأمير تمرباى نائب الإسكندرية، وقد جمع الناس، فأوقف على حكم البساطى بقتله، وقيل له " لك دافع أو مطعن فيما شهد به عليك " ، فأجاب بعدم الدافع والمطعن، فأقيم قيامًا عنيفًا وأخرج إلى ظاهر المدينة، وأقعد عريانًا، وتقدم المشاعلى، فضربه بالسيف، فأخطأ عنقه، ووقعت الضربة على الكتف، ثم ضربه ثانيًا فقدَّت تحت كتفه، حتى ظهر داخل صدره، ثم ضربه مرة ثالثة، فأصابت العنق، ولم تقطعه، فحزه غير مرة حتى إنفصل الرأس عن البدن، ونزل في موضعه حتى واراه بعض أتباعه، فكان في ذلك عبرة، و لم نعهد مثل ذلك، لا من حيث هذه الدعوى وهذا الحكم الذي زعموا أنه من الأحكام الشرعية، ولا من حيث أن أميرًا من عظماء الدولة ترشح للسلطة يقتل هذه القتلة الشنيعة ثم لا يحسن قتله، " وَإذا أرَادَ الله بِقَومٍ سُوءًا فَلا مَرد لَهُ " .
وفي يوم الإثنين تاسع عشره: خلع على يلبغا البهائي أحد الحجاب، وإستقر في نيابة الإسكندرية، عوضًا عن الأمير تمرباى. وفيه ورد الخبر بأن الأمير سودون المحمى توجه هو والشريف صخرة أمير ينبع، وأمير بنى عقبة، في طلب بلى، حتى لقوهم بالقرب من أكره، فيما يلي الشرق عن يسار درب الحاج عند جبل الورد، في يوم السبت ثالث شهر رجب وحاربهم. بمن معه، وقتل منهم جماعة، وجرح كثيرًا، فإنهزموا، وقتل ممن معه جماعة وأنه مضى بجماعة يريد ينبع.
وفي يوم السبت رابع عشرينه: قدم الأمير على باك بن قرايلك، وكان ببلاد الروم، فوصل منها إلى أرزنكان، وبها ولده جهان شاه، وأخوه يعقوب بن قرايلك، فثار به أخوه يعقوب، وأخرجه هو وإبنه جهان كير، فقدما حلب. وأقام إبنه جهان شاه في حصن منصور قريبا من بهسنى ومعه جماعة ألاق من قبائل التركمان، ثم تحول حتى نزل بمن معه الساجور قريبًا من حلب وقدم هو راغبًا في طاعة السلطان، فخلع عليه، وأنزل، وأجرى عليه ما يليق به.
وفي سلخه: أقيم الملك الأشرف إسماعيل بن الظاهر عبد اللّه بن الأشرف إسماعيل ملكًا بزبيد وتعز وعدن من بلاد اليمن، بعد موت أبيه، وله من العمر نحو العشرين سنة.
شهر شعبان، أوله السبت:(3/427)
في يوم الأربعاء خامسه: هدمت دار الشيخ زين الدين أبى هريرة عبد الرحمن ابن الشيخ شمس الدين أبى إمامة محمد بن النقاش، من زيادة الجامع الطولونى، وكان من خبر ذلك أن أبا هريرة بن النقاش أخذ خطابة الجامع الطولونى ومشيخة الميعاد من ابن السبكى مغالبة فأحب أن يكون سكنه بحذاء الجامع، فاستأجر قطعة أرض من زيادة الجامع وبنى بها دارًا بعد سنة ثمانين وسبعمائة، ثم فتح منها باب في جدار الجامع، وصار يعبر منه إلى الجامع في أوقات الصلوات وغيرها، ثم خرق في جدار الجامع طاقات تشرف على الجامع في مجلس عمله، وحفر في هذه الدار صهريجا، وعمل بها إصطبلا لدوابه، فثار عليه جماعة، فإنه كان كثير الأعداء، وأنكروا عليه ذلك، فأخذ خطوط أهل العلم بجواز ما عمله، وكانت له ولأخصامه بسبب هذه الدار وقائع كثيرة ومنازعات طويلة، عقد له ولهم فيها مجالس عديدة في كل دولة، وهو يستظهر عليهم فيها، وكان رحمه اللّه جلداً، صبورًا، لا يصد ولا يرد، فمرت به من أجلها خطوب وكروب، حتى مات. وقد جعل هذه الدار وقفًا على أولاده فجرى لهم بعده بسببها شرور كثرة ومخاصمات طويلة، والحكام لا تقدم على هدمها، لما بأيدي أولاد ابن النقاش من فتاوى شيوخ العلم، وأحكام القضاة الذين كانوا لا يدرهنون في الفتوى ولا في الحكم، إلى أن أظهر السلطان الوقيعة في أبى هريرة بن النقاش وولديه، وأخرج عن أبى اليسر الخطابة ومشيخة الميعاد كما تقدم ذكره.
وعزم على هدم هذه الدار، فندب القضاة غير مرة للنظر في أمرها، فلم يتجه لهم هدمها إلى أن أقدم البساطى على الحكم بذلك، فجمع هو وبقية القضاة بين يدي السلطان، وقام ولى الدين محمد السفطى وكيل بيت المال، وأدعى على أولاد أبى هريرة عند قاضي القضاة شمس الدين محمد البساطى بأن مدة إجارة الأرض الحاملة لبناء هذه الدار قد إنقضت، وسإل رفع البناء عنها، فحكم البساطى على أولاد أبى هريرة برفع البناء الموقوف، ونزل حتى حضر هدمهم لها في يوم الخميس غده. فكان هذا مع ما تقدم مما لم نسمع بمثله، غير أن في ذلك عبرة لأولى النهى، وذلك أن شمس الدين أبا أمامة محمد بن النقاش قام على قطب الدين محمد بن الهرماس حتى هدم السلطان الملك الناصر حسن داره من أجل أنه بناها في زيادة جامع الحاكم، فعوقب بعد نحو ثمانين سنة، بأن هدمت دار ولده أبى هريرة من أجل أنها بنيت في زيادة جامع ابن طولون، ولقد سمعت أمي أسماء إبنة محمد بن عبد الرحمن ابن الصايغ الحنفيوكان ابن الصايغ من الأفراد في أمور الدين والدنيا يقول عن اللّه تعالى أنه قال: يا داود أنا الرب الودود، أعاقب الأبناء بما تفعله الجدود، فلقد عوقب في هذه الحادثة أبو أمامة أبو اليسر، أبناء أبى هريرة بما فعله جدهما أبو أمامة شمس الدين " وَلا يَظْلِم ربكَ أَحَدَا " .
وفي يوم السبت ثامنه: جمع الحافظ قاضي القضاة شهاب الدين شيخ الإسلام أبو الفضل أحمد بن حجر، أعيان الدولة، وفيهم المقام الناصري محمد ولد السلطان وغيره من الأمراء، وكاتب السر، وناظر الجيش، والوزير وناظر الجيش، والقضاة وشيوخ العلم في عامة طلبة العلم وغيرهم، فاجتمعوا بأعلا الخمس الوجوه من أرض التاج خارج القاهرة .
وكان الوقت شتاء والأرض مخضرة بأنواع الزراعات، والخيول على مرابط ربيعها، وقدم لهم من أنواع الحلاوات وألوان الأطعمة الفاخرة ما يجل وصفه ويكثر مقداره، وقد أكمل تصنيف كتاب فتح الباري بشرح صحيح البخار في عشرين مجلدة، ثم قرىء من آخره مجلس خفيف، وقام بعده ختمه الشعراء، فقرأ عدة منهم قصائد في مدحه، هذا وقد اجتمع بهذه المنظرة وحولها من أسفلها عالم كبير من الرحال وغيرهم، ونصبت هناك سوق، وضربت خيام عديدة، فكان من الأيام المذكورة التي لم نعهد في معناه مثله، أنفق فيه مال جزيل على ما تقدم من المال، وما أجيز به الشعراء في هذا اليوم.
وفي يوم آخر بعده: إجتمعوا فيه بخانكاة بيبرس من القاهرة، قام فيه شعراء أخر بمدائحهم، فأجيزوا بجوائز سنية عديدة، وفرق أيضًا مال جم في جماعة كثيرة، كتبوا هذا الشرح، والحافظ المشار إليه يمليه عليهم بهذه الخانكاة، حتى أكملوا نسخه في أعوام، فكان هذا من المآثر السنية، والفضائل الجليلة التي زادت في رفعته.
وفي تاسع عشره: ورد الخبر بأن العسكر المجرد ببلاد الصعيد حارب هوارة عدة مرار، وأنهم محتاجون إلى نجدة.(3/428)
وفي هذا الشهر: وقع الوباء بالوجه البحري من أرض مصر، وقدم الخبر أن الوباء وقع في فصل الصيف ببلاد إفريقية كلها.
شهر رمضان، أوله الأحد: في ثانيه: توجه الأمير يشبك أمير سلاح على عسكر، نجدة لقتال هوارة، بعدما أنفق فيهم وفيه.
وفي يوم الثلاثاء عاشره: خلع على من قدم من مشايخ بلى الذين أخذوا الحجاج، وقد سألوا العفو، والتزموا بحفظ الحاج. وفيه قدم الطواشي خشقدم ونائبه فيروز الركني الرومي من دمياط، فأمر بالتوجه إلى المدينة صحبة ركب الحاج، والإقامة بها.
وفي حادي عشره: قدم كتاب الأمير قانبيه الحمزاوى نائب حماة، يتضمن ورود الأمير بردبك العجمى حاجب حلب، وصحبته من أمراء حلب أميران إلى حماة، وذلك أن الأمير تغرى برمش نائب حلب، أراد من الأمير حطط نائب القلعة أن يمكنه منها، فلم يوافقه، ورمى عليه من القلعة، فركب وركب عليه الأمراء واقتتلوا، فإنهزم الأمير بردبك بمن معه في ليلة الجمعة ثامن عشرين شعبان. ودخلوا حماة، في أخر يوم السبت سلخه، فكتب بإستقرار بردبك المذكور في نيابة حماة، عوضًا عن الأمير قانباى الحمزاوى، وأن ينتقل قانباى إلى نيابة طرابلس، عوضًا عن الأمير جلبان المؤيدى، وأن ينتقل جلبان إلى نيابة حلب، عوضًا عن تغرى برمش، لخروجه عن الطاعة، وتوجه الأمير على باى رأس نوبة لنقل الأمير جلبان من طرابلس إلى حلب ومعه تقليده وتشريفه، وتوجه لتقليد قانباى نيابة طرابلس الأمير جانبك المحمودى رأس نوبة، وكلاهما من أمراء العشرات.
وفي يوم الإثنين سادس عشره: ورد الخبر من الأمير طوخ مازى نائب غزة بأن الأمير ناصر الدين محمد بن منجك لما وصل من عند السلطان بما على يده إلى جسر يعقوب، بعث ملك الأمراء الأمير أينال الجكمى نائب الشام ساعيًا بإستعجاله، وأردفه بأخر، حتى قدم يوم السبت سابع شهر رمضان، فخرج إلى لقائه، ولبس التشريف المجهز على يده، وركب الفرس المحضر معه، وقبل الأرض على العادة، ودخل في الموكب جليل حتى نزل دار السعادة، فإطمأن الناس، بعدما كانت الإشاعة قوية بمخامرته .
فلما كان يوم الإثنين تاسعه: ركب ملك الأمراء في الموكب على العادة، ودخل دار السعادة وجميع الأمراء وسائر المباشرين بين يديه، فما هو إلا أن إستقر في مجلسه، وإذا به قد قبض على الأمير برسباى حاجب الحجاب، وأغلق الباب، وقبض على الأمراء والمباشرين بأجمعهم، وأن جلبان وجانبك المتوجهين لتقليد نائب حلب ونائب طرابلس وصلا إلى غزة، وأقاما بها، فاضطرب السلطان لهذا الخبر وكثر قلقه، وجمع الأمراء، فأشاروا بسفره .
وفي يوم الأربعاء ثامن عشره: ورد الخبر بأن الأمير قطج أتابك حلب قدم إلى حماة، فارًا من تغرى برمش، وأن تغرى برمش أخذ عنتاب وقلعتها، وأن عدة من قبض عليه أينال الجكمى بدمشق تسعة عشر أميرًا، وقبض أيضًا على جمال الدين يوسف بن الصفى الكركى ناظر الجيش، وعلى بهاء الدين محمد بن حجى كاتب السر، وأن جانبك وجلبان توجها من غزة إلى نحو صفد .
وفي يوم الخميس عشرينه: ورد كتاب الأمير تغرى برمش، مورخ بثاني شهر رمضان، يتضمن أنه في يوم الثالث والعشرين من شهر شعبان لبس الأمير حطط نائب قلعة حلب ومن معه بالقلعة السلاح، وقاموا على سور القلعة، ونصبوا المكاحل وغيرها، وأمروا من تحت القلعة من أرباب المعايش وسكان الحوانيت بالنقلة من هناك وأنه لما رأى ذلك بعث يسأل حطط عن سبب هذا، فلم يجبه. إلى أن كان ليلة التاسع والعشرين منه، ركب الأمير قطج الأتابك والأمير بردبك الحاجب في عدة من الأمراء لابسين السلاح، ووقفوا تحت القلعة، فبعث إليهم جماعة من عسكره، فكانت بين الفريقين وقعة إنهزم فيها قطج، وأنه باق على طاعة السلطان .(3/429)
وأنه بعث يسأل نائب القلعة عن سبب هذه الحركة، فأجاب بأن الأمير بردبك الحاجب ورد عليه مرسوم السلطان " بالركوب عليك وأخذك ، وجهز أيضًا محضرًا ثابتًا على قضاة حلب بمعنى ما ذكر وأنه باق على طاعة السلطان، ولم يتعرض إلى القلعة، فلم يعول على ذلك لما تقرر من خروجه عن الطاعة، وورد أيضًا الخبر من الأمير فارس نائب قلعة دمشق بأن الأمير أينال الجكمى أجهر النداء بدمشق وأعمالها بالأمان والإطمئنان والدعاء للسلطان الملك العزيز يوسف بن برسباى، وأن تقي الدين أبا بكر ابن قاضي شهبة قاضي القضاة دعا للعزيز على منبر جامع بنى أمية في يوم الجمعة، وأن الخطة بقلعة دمشق للسلطان الملك الظاهر جقمق.
وفي يوم السبت حادي عشرينه: خلع على القاضي بدر الدين محمد ابن شيخنا قاضي القضاة ناصر الدين أحمد التنسى أحد خلفاء الحكم، وإستقر في قضاء القضاة المالكية، عوضًا عن شمس الدين محمد البساطى، وقد مات .
وفي يوم الأحد ثاني عشرينه: نودي بعرض المماليك على السلطان.
وفيه عرضت الخاصكية على السلطان، فعين منهم للسفر إلى الشام ثلاثمائة وعشرين خاصكيًا.
وفي يوم الإثنين ثالث عشرينه: خلع على الأمير الكبير الأتابك أقبغا التمرازى، وإستقر في نيابة الشام، عوضًا عن أينال الجكمى لخروجه عن الطاعة .
وفيه قدم الخبر من الإسكندرية بأن طائفة القطلان عمروا إثني عشر غرابًا لتسير في البحر نحو سواحل الشام وسواحل الروم، وأن مراد بن عثمان ملك الروم عمر مائة غراب، وأن متملك انكرس من الفرنج مات.
وفي يوم الثلاثاء رابع عشرينه: عرض السلطان المماليك، وعين منهم للسفر إلى الشام ثلاثمائة وثلاثين مملوكًا لتتمة ستمائة وخمسة وخمسين.
وفي يوم الأربعاء خامس عشرينه. عين للسفر من الأمراء الألوف قراقجا الحسنى رأس نوبة النوب، وتمر باى الظاهري ططر، ومن الطبلخاناه طوخ التمرازى رأس نوبة ثاني، ومن أمراء العشرات عشرة، وهم أقطوه الموسوى ، وتنم بن عبد الرازق المحتسب بالقاهرة ورأس نوبة، ثم أعفى بعد ذلك من السفر، ويشبك بن أزوباى رأس نوبة وبايزير بن صفر خجا رأس نوبة، وأقبردى الأشرفى أمير أخور ثالث، وطوغان السيفى ألان، وسودون قرقاش الأينالى رأس نوبة، وسودون النوروزى السلاح دار رأس نوبة، وجانبك السيفى نوروز رأس نوبة، وخشكلدى الناصرى وفيه كتب بإستقرار الأمير موسى بن محمد بن حديثة في إمرة الملا، عوضًا عن الغادر ابن عذراء بن نعير وجهز له تشريف.
وقدم الخبر من الأمير طوغان نائب القدس بأن أينال الجكمى أطلق الأمراء الذين قبض عليهم وحلفهم للعزيز، فعلم أهل المعرفة أن أمر أينال هذا لا يتم لتضييعه الحزم في ركونه، وطمأنينته إلى الأمراء بعد أن أوحش ما بينه وبينهم بالقبض عليهم. وقد قيل:
إذا وترت أمرًا فإحذر عداوته ... من يزرع الشوك لا يحصد به عنبًا
إن العدو وإن أبدى مسالمة ... إذا رأى منك يومًا فرصة وثبًا
وكان كذلك.
وفيه ورد الخبر بخروج الأمير أينال الأجرود ناب صفد منها، وأنه نزل بالرملة في سابع عشره، بعدما دعاه أينال الجكمى إلى موافقته، وأعلمه أنه ما قام في هذا الأمر حتى وافقه نواب الممالك وأركان الدولة بمصر، فلم يدخل في طاعته، وخشي أن يكبس بصفد فأنزل حريمه بقلعة صفد، ونزل بالرملة مع من بها من نائب القدس وغيره.
وفي يوم الخميس سابع عشرينه: أنفق في العسكر المجرد إلى الشام، وعدتهم ما بين خاصكى ومملوك ستمائة وإثنان وخمسون فارسًا. كل واحد ثمانون دينارًا .
وقدم الخبر من مكة بأن الوباء شنع بمدينة صنعاء وصعدة من بلاد اليمن، حتى خلت من كبير وحاكم، لإنقطاع الأئمة الزيدية منها بالفناء فبعث الملك الظاهر يحيى بن الأشرف إسماعيل صاحب زبيد وتعز وعدن بعض أمرائه، فأخذ له صعدة بغير ممانع، وإستولى على ما فيهما من أموال من مات.
وقدم الخبر بأن الأمير جلبان المستقر في نيابة حلب وصل إلى الرملة، في يوم الإثنين(3/430)
ثالث عشرينه، وسبب ذلك أن تغرى برمش إستدعى جماعة كثيرة من التركمان إلى حلب فأتوه، وعمل مكحلة عظيمة من نحاس ليرمى بها على القلعة، وإستمال من أهل القلعة جماعة. بمال كيبر بذله لهم ليمكنوه منها، وشرع في حصار القلعة، وأخذ ينقب مواضع من أسفلها، والقتال بينه وبين من فيها مستمر، إلى أن فطن الأمير حطط الدقماقى نائب القلعة بمن وافق تغرى برمش من القلية فقبض عليهم، ورمى ببعضهم عليه في المنجنيق، وقتل جماعة منهم، وعلق رؤوسهم على القلعة، ففات تغرى برمش قصده، وجد في النقب والحصار، حتى كاد يشرف على أخذ القلعة أو أشرف فاتفق أنه نادى في المدينة بالأمان، فكأنما ألقي في آذان الناس بالنهب، فثارت العامة عند ذلك بأسلحتها، وأحاطت بدار السعادة حيث سكن تغرى برمش، فلم يثبت، وخرج فارًا يريد أن يخرج من المدينة حتى وقف خارج السور في نحو الأربعين فارسًا، وقد نهبت العامة جميع ما كان بدار السعادة من المال والسلاح وغير ذلك، وإمتدت أيديهم إلى أتباع تغرى برمش يقتلونهم أفحش قتل، وينهبون ما تصل أيديهم إليه، وذلك في يوم الثلاثاء عاشر رمضان بعدما حوصرت القلعة ثلاثة عشر يومًا، وتلاحق عدة من أصحاب تغرى برمش به، فسار يريد طرابلس، وإنضم إليه الأمير طرعلى بن صقل سيز التركمانى، فلما قارب مدينة طرابلس لم يثبت الأمير جلبان، وخرج منها نحو الرملة، وقد جد في سيره حتى دخلها في سادس يوم، فدخل تغرى برمش طرابلس في عشرينه، وأخذ من أهلها مالاً كبيرًا، وأما جلبان فإنه إنضم إلى من بالرملة من الأمير أينال الأجرود نائب صفد والأمير طوغان نائب القدس، والأمير طوخ مازى نائب غزة، وكتبوا يستدعون السلطان للمسير بنفسه بعد تجهيز العساكر بين يديه سريعًا.
وكان الذي قدم بهذا الخبر صرغتمش دوادار الأمير جلبان، فخلع عليه في يوم الأحد تاسع عشرينه، وإستقر دوادارًا بحلب، عوضًا عن الأمير سودون النوروزى.
وفيه قدم الأمير جانبك المحمودى رأس نوبة المتوجه لتقليد قانباى الحمزاوى نيابة طرابلس، بعد أن وصل إلى الرملة، ولم يتمكن من الوصول إلى حماة، فأثارعند قدومه شرورًا لها ما بعدها، فإنه زعم أنه ظفر بكتب جماعة من الأمراء وغيرهم إلى الثائرين ببلاد الشام، أوقف عليها السلطان.(3/431)
وفي يوم الإثنين سلخه: عملت الخدمهَ بالقصر على العادة، ونزل الناس إلى دورهم، فبلغ السلطان أن الملك العزيز فقد من داره بالقلعة، فاشتد قلقه وتزايد إضطرابه، وإستدعى الأمراء والمباشرين، وأعلمهم بذلك، فماج الناس، وكثرت أقاويلهم وترقبوا وقوع فتنة كبيرة، وكان سبب ذلك أن العزيز لما خلع أنزل في بعض دور القلعة من داخل باب الستارة حيث سكنى الحريم السلطانى، وأقرت عنده دادته التي ربته من صغره، ومعها عدة جوارى للعزيز، ما بين سرارى له وخدم، ومكنت مرضعته من التردد إليه، والإقامة عنده ما أَحبت، وكان القائم بأمره في قبض ما رتب له على السلطان من لحم ودجاج وأوز وحلوى في كل يوم، وما فرض له من أوقاف أبيه في كل شهر، طواشي من عتقاء أمه خوند جلبان هندي، لم يبلغ العشرين سنة، اسمه صندل، فيه يقظة وكيس، فإحتوى على جميع أحواله لإنفراده بخدمته، وكان يشاع غير مرة الإرجاف بكحل العزيز وبنقله إلى الإسكندرية وهو يخبر العزيز بذلك، فيرتاع له إلى أن إشتهر أن بعض القضاة أفتى بأن في قتل العزيز حقن الدماء وصيانة الأموال، فلم يطق صندل صبرًا على كتمان ذلك، وأكثر من إلقائه إلى العزيز وترويعه، وتحسين الفرار، إلى أن إنفعل له وكان للعزيز طباخ أيام أبيه فداخله صندل في إخراج العزيز فوافقه على أنه ينهض بإخراجه، وشرعت جوارى العزيز في نقب موضع من الدار بمساعدة الطباخ من خارج، حتى تهيأ هذا، وصندل يحدث جماعة من الأشرفية في القيام معه إذا خرج، وذلك أقصى مرادهم وغاية أملهم، فاتعدوا لذلك، حتى كان وقت الإفطار في ليلة الإثنين، والناس في شغل بأكلهم وقف الطباخ من خارج النقب، فخرج العزيز عريانا مكشوف الرأس، فألبسه الطباخ من خلقانه ثوبًا مملوءًا بالدهن، وسواد القدور وجعل على رأسه قدرًا، وحمله على يده وعاء فيه طعام، بعد أن غير محاسن وجهه وبياض يديه ورجليه بسواد القدور، وخرج وهو معه، كأنه من جملة صبيان المطبخ، فلم يفطن أحد له، حتى خرج من باب القلعة، وقد خرج الأمراء من الفطر من عند السلطان، فضرب الطباخ العزيز ضربة منكرة وصادى به، ليرد بذلك الوهم، فمشى بين الأمراء على تلك الهيئة إلى أن نزل من باب القلعة، فإذا صندل وطوغان الزردكاش، وأزدمر في آخرين من المماليك غير كثير، فقبلوا يده، ومضوا به إلى دار بعضهم.
وكان في ظن العزيز ودادته وجواريه أنه إذا نزل من القلعة يجد مماليكه ومماليك أبيه مستعدين له، فإما يحارب بهم وإما يتوجه إلى الشام، فلما لم ير منهم ما كان يؤمل أراد أن يعود إلى موضعه، وليته عاد، فلم يمكنوه، وقام طوغان في منعه من التوجه إلى الشام، وإلتزم أنه يمضي إلى بلاد الصعيد، ويأتى بمن هناك من المماليك الأشرفية، في التجريدة لقتال هوارة، وهم سبعمائة فارس، ومضي من ليلته، فكان من أمره ما سيأتى ذكره إن شاء الله تعالى.
وإختفى العزيز هو وطواشيه صندل الهندي ومملوكه أزدمر وطباخه وصار ينتقل من موضع إلى موضع، والقوم في طلبه، فمرت به في مدة إختفائه أهوال وشدائد، حتى قبض عليه كما سنراه إن شاء الله تعالى .
شهر شوال، أوله الثلاثاء: في ليلة الثلاثاء: كانت بالقلعة حركات مزعجة، خرج فيها السلطان من الدور إلى القصر وإجتمع معه من ثقاته غير واحد، ومرج أيضًا أمر من كان تحت القلعة، فصلى السلطان صلاة العيد بالقصر وهو على تخوف، وقد وقف جماعة بالسلاح مصليتا على رأسه، حتى قضى صلاته، ثم صعد قاضي القضاة شيخ الإسلام شهاب الدين أحمد بن حجر بعدما صلى إمامًا على كرسى، فخطب وأوجز في خطبته، كما أسرع في صلاته، فما هو إلا أن فوغ من الخطبة إذ جاء الخبر بأن الأمير أينال قد تسحب ليلا، فعظم الخطب وجل الأمر، وكان سبب ذلك أن الطائفة المؤيدية لم يكن لها في أيام الأشرف برسباى كبير حظ منه، فلما مات خافت المؤيدية من الأشرفية، وإنضموا إذ ذاك على الأمير نظام الملك جقمق، وقاموا بأمره، حتى كان من أمره ما تقدم ذكره، وأخرج الأشرفية إلى السجن بالإسكندرية، وإلى الحجاز، وإلى الصعيد، فأهينوا بعد عزمهم، وإتضع جانبهم بعد رفعتهم، وصار المؤيدية هي المشار إيها، وإليهم الحل والعقد، فجدوا في الإغراء بالعزيز، كي يستريحوا من الأشرفية، فإنهم غير آمنين من ثورتهم وإقامة العزيز.(3/432)
فلما قام الأمير أينال الجكمى بدمشق، ودعا للعزيز، وحلف أمراء دمشق على طاعته وكان الأمير تغرى برمش أيضاًَ ممن يميل إلى العزيز شق ذلك على المؤيدية، وعلموا أنهم مقتولون شر قتلة، إن كانت للعزيز دولة، فأخذوا في التحريض على قتله، حتى إشتهر أنه إذا فرغ شهر رمضان أمضى فيه ما أرادوه، ففر العزيز لما خامر قلبه من الخوف الشديد، وخاف الأمير أينال أن يتهم به، وإجتمع عنده في ليلة العيد عدة من الأشرفية، فلم ينهض بشيء لخوره وضعفه، وتركهم وخرج من جانب داره على بغل في ظلام الليل، ثم نزل عن البغل، ومضى على قدميه، فلم يعلم خبره، فلما بلغ السلطان تسحبه، أمر فنودي بالقاهرة ألا يتخلف أحد من المماليك عن الخدمة، وهدد من تخلف بالقتل، وقبض على جماعة من المماليك الأشرفية، ثم نودي أيضًا بإصلاح الناس الدروب وغلقهم أبواب دورهم، وألا يخرج أحد إلى الشوارع بعد عشاء الآخرة، وغلقت أبواب القاهرة قبل عادة إغلاقها من الليل، فكانت ليلة هذا العيد ويومه من الأوقات النكدة، حتى كأنه ليس بعيد.
وفي يوم الخميس ثالثه : خلع على الأمير تنبك بن تنبك، وإستقر أمير الحاج، عوضًا عن أينال، وخلع على قراجا البواب، وإستقر في ولاية القاهرة، عوضًا عن علاء الدين على بن محمد بن الطبلاوى، فباشر الولاية بعسف، وخلع على الأمير ممجق وإستقر في نيابة القلعة .
وفيه قبض على عدة من الأشرفية. وفيه دقت البشائر عند ورود كتاب الأمير حطط نائب قلعة حلب بكسرة تغرى برمش، وخروجه من حلب، كما تقدم ذكره.
وفي يوم الجمعة: رابعه سار عسكر من القاهرة تزيد عدته على سبعين فارلسًا، يريدون المحلة الغربية، لمسك الأمير قراجا الأشرفي.
وفي يوم السبت خامسه: أخذت خيول الأمير أركماس الظاهري الدوادار، وعزل من الدوادارية الكبرى، وأخذ إقطاعه، وأخرج من داره، وأخذت خيول الأمير قراجا، وإقطاعه، وشون غلاله.
وفيه قبض العسكر المتوجه على الأمير قراجا، وحمل في الحديد إلى الإسكندرية، فسجن بها.
وفي يوم الإثنين سابعه: نودي بأن من وجد أحدًا من غرماء السلطان وطلع به فله خمسمائة دينار وإقطاع، ومن غمز عليه أنه أخفى أحدًا منهم حل ماله ودمه، هذا والمؤيدية قد تجردت للفحص عن العزيز وعن أينال، وعن المماليك الأشرفية في جميع الأماكن، وقبض على الغلمان، حتى دلوهم على أماكن بعضهم.
وصاروا يكبسون الدور، والترب، وديارات النصارى، والبساتين، وضواحي القاهرة ومصر، ويرون بالليل في الأزقة متنكرين إلى غير ذلك من أنواع الفحص والتفتيش، فإنهم صاروا هم الدولة في هذه الأيام الظاهرية، وللّه در القائل:
وإذا سخر الإله أناسًا ... لسعيد فإنهم سعداء
وفي يوم الثلاثاء ثامنه: أنعم بإقطاع الأمير قراجا على المقام الناصري محمد ابن السلطان وبإقطاع الأمير أركماس الدوادار على الأمير أسنبغا الطيارى، وبإقطاع الأمير أينال على الأمير جرباش قاشق من عبد الكريم أمير مجلس، وأنعم بإقطاع جرباش هذا على الأمير شادي بك الظاهري ططر، وبإقطاع شادي بك على الأمير جرباش كرت المحمدي ، وبإقطاع أسنبغا الطيارى على الأمير دولات باى الساقي المؤدي ، وهو جمرة من جمراتهم.
وفي يوم الأربعاء تاسعه: دقت البشائر لورود الخبر من نائب غزة بقدوم الأمير برسباى الحاجب بدمشق، والأمير أينال الششمانى إلى الرملة، مفارقين لأينال الجكمى. ثم ظهر كذب هذا الخبر. هذا والأشرفية يقبض عليهم وتساق خيولهم وبغالهم إلى الإصطبل السلطاني، ويكتب إلى الأعمال بأخذ الطرقات عليهم برًا وبحرًا.(3/433)
وفي يوم الخميس عاشره: برز الأمير أقبغا التمرازى نائب الشام بمن معه إلى الريدانية خارج القاهرة. وفيه خلع على الأمير تمراز أمير أخور، وإستقر أمير سلاح، عوضًا عن الأمير يشبك المجرد إلى بلاد الصعيد، وأنزل من الاصطبل، وسكن بالحراقة مكانه المقام الناصري محمد ابن السلطان، وكتب للأمير يشبك بإستقراره أميرًا كبيرًا أتابك العساكر، عوضًا عن الأمير أقبغا التمرازى نائب الشام، وخلع على الأمير قراقجا الحسنى رأس نوبة النوب، وإستقر أمير أخور، عوضًا عن الأمير تمراز، وخلع على الأمير تمرباى نائب الإسكندرية كان وإستقر رأس نوبة النوب، عوضًا عن قراقجا الحسنى، وخلع على الأمير تغرى بردى المؤذى حاجب الحجاب، وإستقر دوادارًا كبيرًا، عوضًا عن أركماس الظاهري، فباشر الدوادارية بتجبر وترفع زائد، وخلع على الأمير دولات باى المؤيدي الساقي أحد أمراء الطبلخاناه، وأمير أخور ثاني، وإستقر دوادارًا ثانيًا، عوضًا عن أسنبغا الطياري، وخلع على الأمير جرباش كرت رأس نوبة وإستقر أمير أخور ثاني، عوضًا عن دولات باى. وفيه قدم الأمير يونس المؤيدي من دمشق، فارًا من أينال الجكمى، فأكرم وأنعم عليه.
وفي يوم السبت ثاني عشره: إستقل الأمير أقبغا التمرازى، نائب الشام بالمسير من الريدانية.
وفيه نفى نور الدين على بن أحمد السويفى إمام الأشرف برسباى إلى دمياط. وفيه دقت البشائر، لورود خبر سار.
وفي يوم الأحد ثالث عشره: كان مسير العساكر المخيمة بالرملة، إلى جهة دمشق. وفي يوم الإثنين رابع عشره: إستقل الأمير قراقجا الحسنى أمير أخور ومقدم العسكر بالمسير من الريدانية بمن معه من الأمراء والمماليك، وعدتهم ستمائة وخمسون فارسًا .
وفيه ورد الخبر بأن أينال الجكمى برز مخيمه إلى ظاهر مدينة دمشق فلما كان يوم الخميس ثالث شوال هذا، عزم على الخروج من المدينة إلى المخيم ليسير نحو القاهرة، فركب عليه من أمراء دمشق الأمير برسباى الحاجب، والأمير قانباى البهلوان الأتابك في عدة أمراء، وقاتلوه خارج المدينة، فقاتلهم وهزمهم، فوقفوا لحربه ثانيًا، فهزمهم بعد وقعة أخرى، فإمتنعوا بالقلعة، وقد جرح منهم جماعة فأخذ خيولهم وأموالهم، ونزل بالميدان وأبطل الحركة للسفر، وسبب هذه الحركة أنه كتبت ملطفات سلطانية إلى أمراء دمشق، وجهزت إلى الأمير خشكلدى نائب قلعة صفد، فبعث بها على يد نصراني إلى بهاء الدين محمد بن نجم الدين عمر بن حجى كاتب السر، ففرقها في الأمراء وإستمالهم حتى وافقوا على الركوب على أينال الجكمى وأخذه، ثم إختفي من ليلته، فركبوا هم من الغد، وكان من أمرهم ما ذكر.
ولما ورد هذا الخبر تفرس من له بصر بالأمور، وإطلاع على أحوال الوجود، بأن أمر أينال الجكمى لا يتم، فإنه أخطأ الرأي أولاً في القبض على الأمراء لظنه بهم السوء، ثم إطلاقهم والركوب إليهم، حتى إذا أمكنتهم الفرصة وثبوا عليه ليقتلوه، فكانت له عليهم، وأنى يفلح ملك لا توافقه أعوانه. هيهات ثم هيهات، لا يكون ذلك أبدًا.
وفيه ورد الخبر بأن الأمير يشبك المستقر أتابك العساكر إنتهى بمن معه من الأمراء والمماليك في طلب هوارة إلى مدينة إسنا فلم يقع بهم، وأنه رجع بالعسكر إلى مدينة هو فقدم عليه عدة من المشايخ الصلحاء ومعهم طائفة من مشايخ هوارة، راغبين في الطاعة، وحلفوا على ذلك، وأنه قدم على العسكر في يوم الأحد سادسه طوغان الزردكاش أحد الدوادارية، ودعا العسكر إلى طاعة الملك العزيز، والقيام بنصرته، فإنه أخرجه من حيث كان محبوسًا، ونزل من القلعة، وإجتمع عليه جماعة من مماليكه، فلم يوافقوا على ذلك، وحلفوا أنهم مقيمون على طاعة السلطان. فدقت البشائر لذلك، وخلع على الواصل بهذا الخبر، وأجيب بحمل طوغان في الحديد، وكان قد وصل الخبر قبل ذلك بتوجه طوغان هذا إلى بلاد الصعيد، وكتب بحمله.
وفيه كتب توقيع بإسثقرار أبى السعادات بن ظهيرة في خطابة الحرم، عوضًا عن أبى اليمن ابن النويري قاضي مكة، وجهز إليه، ثم بطل ذلك، وكتب بإستقرار أبى اليمن في الخطابة مع وظيفة القضاء.(3/434)
وفي يوم الثلاثاء سادس عشره: ورد الخبر من الأمير يشبك بأنه نازل على مدينة أسيوط وأن يونس الخاصكى ورد عليه بمرسوم شريف يتضمن القبض على طوغان قاصد العزيز، وأن المماليك لم يمكنوه من ذلك، فكثر القلق لورود هذا الخبر، وخشي الناس وقوع الفتنة، ظنًا بالأشرفية أنهم رجال وإذا هم أشبه بربات الحجال .
وفيه قدم قود الشريف بركان بن حسن بن عجلان أمير مكة شرفها اللّه وهو خمسة أفراس وطواشيان، وجاريتان، ومائتا شاش، وقطعتا ياقوت أحمر زنتهما خمسة عشر قيراطَا، وقطعة ماس زنتها تسعة عشر قيراطًا ونصف. وفيه قدم الشريف عقيل بن وبير بن نخبار أمير ينبع المعزول بصحرة يسعى في الإمرة، فوعد بخير. وفيه قبض على الأمير أركماس الظاهري المعزول عن الدوادارية الكبرى، وأخرج منفيًا إلى دمياط.
وفي هذا الشهر: وقع في الناس بالقاهرة الموت بالطاعون، وبلغت عدة من رفع اسمه من ديوان المواريث بالقاهرة في هذا اليوم أحد وعشرون إنسانًا.
وفي يوم الخميس سابع عشره: خلع على الأمير تنبك بن تنبك أحد الأمراء الألوف، وإستقر حاجب الحجاب، عوضًا عن الأمير تغرى بردى المؤذى المنتقل إلى الدوادارية الكبرى.
وفي هذه الأيام: كبست عدة أماكن في طلب العزيز، وقبض على جماعة من الأشرفية، لكثرة الإرجاف بخروج من في بلاد الصعيد من المماليك عن الطاعة، وأنهم عادوا يريدون القاهرة، فمنعت المراكب من التعدية في النيل بكثير من الناس، وكثر الفحص والتفتيش، حتى كبست البساتين والترب، وغلقت بعض أبواب القاهرة نهارًا، وأخذ أهل الدولة من الأمراء ومن بالقلعة في الاستعداد للحرب هذا مع ما في الوجه البحري من الوباء الشنيع في سرعة الموتان الوحي السريع، وكثرة عدة الأموات لا سيما في الأطفال والعبيد والإماء، بحيث مات من قرية واحدة مائتا صغير من أولاد أهلها، وحل بالتجار في الإسكندرية ضيق شديد وبلاء عظيم، بسبب رمى الفلفل السلطاني عليهم. ونزل بأهل القاهرة ومصر خوف شديد بسبب إختفاء الأشرفية وتطلبهم، فإذا طرقت جهة من الجهات حل بأهلها من أنواع البلاء ما لا يوصف من النهب والهدم والعقوبة والغرامة، سواء وجد المطلوب أو لم يوجد، فما بقى أحد إلا وخامر قلبه الخوف خشية أن يرميه عدو له أو حاسد لنعمته أنه أخفى أَحدًا من الأشرفية، فلا تتروى المؤيدية في أمره، ولا تتمهل، بل تطرقه بغتة وتنزل به فجأة، وقد تبعها من غوغاء العامة عدد كالجراد المنتشر، وتهجم داره ودور من حوله، فيكون شيئًا مهولاً، وكثيرًا ما فعلوا ذلك فلم يجدوا أحدًا، وكان من البلاء ما كان، حتى أنه هجم بعض المدارس، ونهبت، وكسر أبواب بيوتها، ونبش قبر كان بها، فلم يوجد بها أحد، ومع ذلك كله فالغلال ترمى على الناس من الديوان، فلا يقدر على ذي الجاه، ويهلك الضعيف من كثرة الغرامة .
وفي يوم السبت تاسع عشره: برز المحمل إلى الريدانية خارج القاهرة صحبة الأمير تنبك المستقر حاجب الحجاب في عدة من المماليك السلطانية، ثم تبعه الحجاج شيئًا بعد شيء .
وفيه ورد الخبر بالقبض على طوغان الزردكاش وحمله في الحديد، فقدم في آخر النهار، وكان من خبره أن الأشرفية من حين كانت وقعة قرقماس لم يزالوا في إدبار، وتقدمت المؤيدية عليهم كما تقدم ذكره فأخذوا في التدبير لأنفسهم بغير معرفة ولا حظ يسعدهم، فأخرجوا العزيز من موضعه، وأضاعوه، ثم قاموا مع الأمير أينال ليثوروا ليلاً، فلما فطن بهم لعدم تحفظهم وقلة دربتهم، تسللوا من دار أينال وقد كاد يدركهم الطلب من السلطان، فلما وصل طوغان من عند العزيز لم يحسن التصرف فيما إنتدب له، فإنه إشتهر في مسيره، ثم لما وصل إلى من قصدهم، أعلم المماليك بأن العزيز خرج من سجنه ونزل من القلعة، فإجتمع عليه القوم وأنه محاصر للقلعة فأدركوه، فهيج هذا القول منه حفائظهم وحرك كوامنهم، هذا وقد ضيع نفسه بشهرته في مدة توجهه من عند العزيز إلي أن وصل إلى المماليك.(3/435)
وقد بلغ السلطان خبره ومروره بالبلاد التي نزل بها في سفره، فكتب بالقبض عليه، فلم يدركه الطلب حتى وصل وروج على أصحابه بما لا حقيقة له، فبادر الأمير يشبك بمطالعة السلطان بخبر طوغان ثم ترادفت كتب السلطان وأخبار المسافرين بما تبين به كذب طوغان، وأن العزيز مخفي والمواضع تكبس عليه، فإنحل ما عقده طوغان في أنفس المماليك، وأثبت ما كان قد أوثقه بأيديهم، هذا وقد توجهوا من أسيوط يريدون القاهرة ليدركوا العزيز بزعمهم، فمازال الأمير يشبك يستميلهم ويخوفهم حتى أسلموه طوغان بعد إباء وإمتناع، أفضى به وبهم أن جمع عليه الكاشف بالوجه القلبي وعدد كثيرة من عربان الطاعة وهم بمحاربتهم، فلم تكن لهم طاقة. بمحاربته ، وتبين لهم فساد ما بنوا عليه أمرهم، فأذعنوا عند ذلك، وقادوه برمته حتى حمل في الحديد، ورجعوا مع الأمير يشبك إلى ناحية جرجا، فبطل ما كانوا يعلمون، واللّه لا يصلح عمل المفسدين.
وعندما وصل طوغان تولى عقوبته المؤيدية، فما عفوا ولا كفوا، بل أنزلوا به أنواع العذاب المتلف، ما بين ضرب وعصر وغير ذلك، حتى أشفى على الموت، وعوقب معه ثلاثة نفر، فأجتمع من إقرارهم أن إبراهيم الطباخ لما أخرج العزيز بعد المغرب نزل من موضع بالمصنع تحت القلعة، وقد إجتمع عليه عدة من المماليك ليسرروا به إلى الشام، ثم إنصرفوا عن هذا الرأي وتوجه طوغان ليأتي بالمماليك من الصعيد.
وفي يوم الثلاثاء ثاني عشرينه: أخرج بطوغان محمولاً لعجزه عن الحركة من شدة العقوبة، حتى وسط عند باب السلسلة. ومن العجب أَن طوغان هذا، مات الأشرف وهو من جملة الزردكاشية، فإستحال على خشداشيته وصار من جملة الأمير أينال، وانتمى معه إلي السلطان، وهو إذا ذاك أمير، وإختص به فعمله من جملة الدوادارية، ثم إستحال على السلطان، وأخرج العزيز، فكانت منيته على يده. هذا، والبلاء يشتد على الناس بسبب العزيز، فقبض على جماعة وسجن جماعة، وعوقب كثير من الناس.
وفي هذا اليوم: إستقل الركب الأول بالمسير من بركة الحجاج بعدما فتش الحجاج. ثم إستقل المحمل بالمسير مع أمير الحجاج ببقية الحجاج في يوم الأربعاء ثالث عشرينه.
وفيه قبض على سر النديم الحبشية دادة العزيز، بعدما كبس عليها عدة بيوت، وعوقب جماعة، ثم قبض على الطواشي صندل الهندي، فتحقق منهما أن العزيز وأينال لم يخرجا من البلد، وأن الذي أشيع بين الناس من توجههما إلى الشام كذب، وأن العزيز لم يجتمع مع أينال، وأنه كان هو، وصندل هذا، وطباخه إبراهيم، ومملوكه أزدمر بغير زيادة على هؤلاء ينتقل وهم معه من موضع إلى موضع وأن صندل فارقه من أربعة أيام، وقد طرده أزدمر المذكور فدفع إليه العزيز خمسين دينارًا، فانصرف عنهم، وصار يتردد إلى بيوت معارفه في زي امرأة، فلم يؤوه أحد حتى دخل على بعض معارفه في الليل فأوته حتى أصبح، فدل زوجها عليه حتى أمسك وعوقب، ثم سجن.
وطلبت خوند مغل إبتة البارزي دادة العزيز، فسلمت لها من غير عقوبة، فأقامت عندها، وقبض على مرضعة العزيز، وعلى زوجها، وبعض أقارب زوجها، وعلى جماعات من الرجال، والنساء ممن كان من جواري الأشرف أو من معارفهن، وممن آتهم بأنه معرفة لإبراهيم الطباخ، وتعدىالحال إلى امرأة مسكينة تزعم أن لها تابعا من الجن يخبرها مما يكون، فتتكسب بذلك من النسوان ومن في معناهن من ضعفة الرجال، ما تقيم به بعض أودها: وذلك أنه وشي بها إلى أحد المؤيدية أن بعض الطواشية كان يتردد إليها فتخبره أن العزيز يعود إلى ملكه، فقبض على هذه المسكينة، وعلى عدة من يلوذ بها، وعوقبت، وكان الطواشي الذي قيل عنه أنه يأتي إليها فتخبره بعود ملك العزيز إليه، قد توجه للحج مع الركب، فكتب بضربه وحمله إلى القاهرة، فضرب ثم شهر في الركب، وكان قد كتب لإعفائه من الضرب والعود إلى القاهرة، فلم يدركه القاصد الثاني حتى ضرب وشهر، فتوجه بعد ذلك إلى الحج.
وفي يوم الخميس رابع عشرينه: وسط مملوك أخر من الأشرفية، عند باب السلسلة. وفيه عزل الأمير فيروز الجركسي زمام الدار، من أجل أنه فرط في الحرص على العزيز حتى كان من أمره ما كان. وعين عوضه الأمير صفي الدين جوهر الخازندار.(3/436)
وفي ليلة الجمعة ويوم الجمعة خامس عشرينه: كبست المؤيدية على مواضع متعددة بالقاهرة ومصر وظواهرهما، وكبست دور الصاحب أمين الدين بن الهيصم ودور جيرانه في طلب العزيز، فلم يوجد، وهرب الصاحب ثم ظهر وخلع عليه بعد ذلك، وقد شمل الخوف كثيراً من الناس، وكادت الأسواق أن تتعطل لكثرة الإرجاف بأن بيوت الناس كافة تكبس، ويعاقبوا حتى يظهر العزيز.
وفيه قدم من الصعيد بضعة عشر رأسا، علقت على باب النصر، وذلك أن الأمير يشبك لما قبض على طوغان، وبعث به كما تقدم ذكره، رجع بمن معه من المماليك والأمراء لمحاربة هوارة فلقيهم على ناحية بوتيج في حادي عشرينه، وقاتلهم وهزمهم، بعدما قتل منهم مائه وستين رجلاً، وأخذ لهم مائة فرس، فجهز من رؤوس أعيانهم ستة عشر رأسا، هذا وقد خربت بلاد الصعيد، ورعيت زروعها، مع ما في أراضيها من الشراقي، وأكل الفأر الكثير جدًا معظم الزرع وهدم العرب الدواليب.
وفي يوم السبت سادس عشرينه: خلع على الأمير صفي الدين جوهر الخازندار، وإستقر زمام الآدر السلطانية، عوضًا عن الطواشي فيروز مضافاً للخازندارية.
وفي ليلة الأحد سابع عشرينه: قبض على الملك العزيز، وذلك أنه ضاقت عليه الأماكن لكثرة ما يكبس عليه، وهو يتنقل من موضع إلى موضع آخر ومعه أزدمر شاد شواب خاناته، وصندل طواشيه، وإبراهيم طباخه، فطرد أزدمر صندل الطواشي، ومازال به حتى فارقهم من أربع ليال، ثم طرد الطباخ وإنفرد هو والعزيز فيقال إن العزيز بعث إلى خاله أخي أمه، وإسمه بيبرس ليختفي عنده، فواعده على أنه يأتيه. وخاف عاقبة أمره، فأعلم جار له من المؤيدية يقال له يلبيه رأس نوبة، بأمر مجيء العزيز، وأنه يقبح به أن يكون مسكه على يديه، ولكن " إفعل أنت ذلك " .
فترصده يلبيه حتى مر به ومعه أزدمر بعد عشاء الآخره، في خط زقاق حلب وهما في هيئة مغربيين. فوثب يلبيه بأزدمر ليقبض عليه، فإمتنع منه، فضربه أدمى وجهه، وأعانه عليه أعوانه حتى أوثقوه وأخذوا العزيز وعليه جبة صوف، وقادوه وأزدمر إلى باب السلسلة وصعدوا بهما إلى السلطان، والعزيز حاف، وقد أخذ رجل بأطواقه، يسحبه وجماعة محيطة به. فأوقف بين يدي السلطان ساعة، وهو يؤنبه ثم سجن في موضع، حتى أصبح، وطلع الأمراء وغيرهم إلى الخدمة، فأعلموا بخبر العزيز ثم أدخله السلطان إلى قاعة العواميد، وأسلمه لزوجته خوند مغل بنت البارزي، وأمرها أن تجعله في المخدع المعد لمبيت السلطان، ولا تبرح على بابه، وأن تتولى أمر أكله وشربه وحاجاته بنفسها، فأقام على ذلك حتى نقل من المخدع، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى .
وأما أزدمر فإنه سجن بالبرج من القلعة، حيث كان صندل وغيره من الأشرفية، ولم يوقف للطباخ على خبر، ويقال إن العزيز دفع إليه مبلغ ستمائة دينار، ودفع لصندل خمسين دينارًا.
ووجد مع العزيز ثمانمائة دينار دفع السلطان منها إلى يلبيه خمسمائة دينار، ولمملوكه الذي عاونه في القبض على أزدمر مائة دينار، وفرق باقي ذلك، ونزع عن العزيز ما كان عليه من الثياب المغربية، وألبس من ثياب السلطنة ما يليق به، ووعد يلبيه بإمرة طلبخاناه.
وعندما صعد العزيز إلى القلعة دقت البشائر ليلاً ومن الغد، وركب الأعيان لتهيئة السلطان، فإنه وأتباعه من أهل الدولة كانوا في قلق زائد وخوف شديد لما داخلهم من عود دولة العزيز بخروج نائبي دمشق وحلب عن طاعة السلطان، وقيام الأشرفية ببلاد الصعيد، وكلهم جميعًا في طاعة العزيز، واللّه يؤيد بنصره من يشاء.
وفي يوم الأحد: هذا، توجه جانم المؤيدي إلى البلاد الشامية وعلى يده عدة مثالات سلطانية بالبشارة بالقبض على العزيز.
وفي يوم الثلاثاء تاسع عشرينه: أحضر بالأمير أينال البوبكري الأشرفي وذلك أنه مازال مختفيًا حتى ظهر العزيز، فغرته الخدع التي خودع بها، من الثناء عليه وبسط عذره في إختفائه، ودخل عشاء على الأمير جرباش قاشق أمير مجلس، وإستجار به، فأجاره، وقد ظن أن السلطان يقبل شفاعته، ثم صعد به من الغد، وقد بعث يعلم السلطان به، فعندما وقع في قبضة السلطان، أمر به فقيد وسجن حتى يحمل إلى الإسكندرية، والأمير جرباش يكرر تقبيل يد السلطان ورحله في أن يشفعه فيه، فلم يفعل، وأخرج في يومه إلى الإسكندرية فسجن بها.(3/437)
وفي هذا الشهر: قدم ركب التكرور برقيق كثير وتبر، فسار أكثرهم إلى الحج، بعدما باعوا الرقيق، فهلك أكثره عند من إشتراهم. وفيه ظهر في السماء كوكب له ذنب نحو الذراعين، وكان يرى عشاء بحذاء كواكب برج السرطان، فأقام أيامًا.
شهر ذي القعدة، أوله الأربعاء: في ثانيه: خلع على بهاء الدين محمد بن نجم الدين عمر بن حجى كاتب السر بدمشق، وإستقر في قضاء القضاة الشافعية بدمشق، عوضًا عن تقي الدين أبى بكر بن قاضي شهبة، مع ما بيده من كتابة السر، وذلك أن الأمير أينال الجكمى لما ثار بدمشق على ابن حجى، وأخذ منه مالاً، فكتب إلى ابن حجى حتى فرق الملطفات السلطانية في الأمراء فكان من ركوبهم على النائب ما كان، وفر ابن حجى وقدم القاهرة، فجوزي على ما كان منه بإضافة القضاء إليه بسفارة حميه المقر الكمالي محمد بن البارزي كاتب السر، وعناية عظيم الدولة زين الدين عبد الباسط به.
وفي يوم الأربعاء ثامنه: دقت البشائر عند ورود كتاب الأمير ألابغا حاجب غزة، يتضمن قتال عساكر السلطان الأمير أينال الجكمى، في يوم الأربعاء مستهله، بالقرب من الخزانة، وإنهزامه.
وفي ليلة الأربعاء: المذكور نقل العزيز من حبسه بالمخدع من قاعة العواميد إلى سجن ضيق في الحوش تحت الدهيشة، بعد أن سدت طاقاته، ووكل به من يحفظه، ومنع من جميع خدمه.
وفي يوم الأربعاء: هذا أخذ ما كان للعزيز بالقاهرة من الحواصل التي تشتمل على سروج وثياب وحلي وفرش وأواني وغير ذلك، مما حمل على نيف وسبعين حمالاً، ولها قيمة تزيد على خمسين ألف دينار سوى خمسة آلاف دينار وجدت له لتتمة ستين ألف دينار، وسوى جواهر لها قيمة عظيمة، وسوى حلي للنساء يجل وصفه وقيمته، مما كان للأمه.
وفي يوم الخميس تاسعه: دقت البشائر لورود الخبر بمسك الأمير أينال الجكمى، وإنبثت قصاد السلطان في أهل الدولة يبشرونهم بذلك، ويأخذون ممن يأتوه مالاً على هذه البشرى، فمنهم من يعطي البشير أربعين ديناراً، أو أقل من ذلك أو أكثر، وفعلوا مثل ذلك في الليلة التي قبض على العزيز فيها، فكسبوا مالاً جزيلاً.(3/438)
وفي يوم الجمعة عاشره: وردت مطالعة الأمير أقبغا التمرازي نائب الشام، ومطالعات الأمراء بذكر واقعة أينال الجكمى. وملخصها أن العساكر المتوجهة من القاهرة، والمتجمعة بالرملة، نزلوا في يوم الأربعاء مستهله بمنزلة الخربة، وقد قدموا بين أيديهم جماعة لكشف الأخبار فجاءت الكشافة وأخبرت بقرب أينال الجكمى منهم، فركبوا وقد عبوا جموعهم ستة أطلاب، وهم الأمير أقبغا التمرازي نائب الشام والأمير جلبان نائب حلب ، والأمير أينال الأجرود نائب صفد، والأمير طوخ مازي نائب غزة، والأمير طوغان نائب القدس، والأمير غرس الدين خليل المستقر في نيابة ملطية، وساروا بمن معهم من العربان والعشران جاليشاً، حتى وصلوا إلى مضيق قرن الحرة، وإذا بجاليش أينال الجكمى، وهو الأمير قانصوه النوروزي، ومعه نائب بعلبك، وكاشف حوران، ومحمد الأسود بن القان، وشيخ العشير، وفرعلي الدكري أمير التركمان، وخليل بن طور على بن سقل سيز التركماني، وكثير من العربان، والجمع نحو ألف فارس، فكانت بين الفريقين وقعة كبيرة إنهزمت فيها الأطلاب الستة، وإذا بالأمير أينال الجكمى قد أقبل، فركب أقفية القوم حتى أوصلهم إلى السنجق السلطاني، وتحته الأمير قراقجا الحسنى أمير أخور، والأمير تمرباى رأس نوبة النوب، وبقية الأمراء المصريين والمماليك السلطانية فثبتوا له وقاتلوه، وهو يقاتلهم مقدار ساعة، فهزموه بعد أن قتل جماعة من الفريقين، يقول المكثر زيادة على خمسمائة رجل، منهم الأمير صرغتمش المستقر دوادار حلب وجرح خلق كثير، وقبض على محمد بن الأمير قانصوه، وعلى الأمير تنم العلاى، والأمير خاير بك القوامي، والأمير يبرم صوفي، في جماعة، وقد حال بينهم الليل، فلما أصبحوا يوم الخميس، ورد الخبر عليهم من دمشق بالقبض على أينالً الجكمى من قرية حرستا وقد إختفى بها في مزرعة، ومعه نفر يسير، وذلك أن رجلاً فطن به، فدل عليه نائب القلعة، فبعث في طلبه جماعة طرقوه، فدافع عن نفسه، حتى طعن في جنبه ودمي في وجهه، فأخذ وجيء به على فرسه، وقد وقف من العي، فلم يصل إلى القلعة إلا بعد العصر، والناس في جموع كثيرة لرؤيته، فسجن مقيدًا في القلعه، ودخل الأمير أقبغا التمرازي نائب الشام إلى دمشق أوائل نهار الجمعة ثالثه في العساكر، وهم بسلاحهم، فنزل دار السعادة بغير ممانع.
وفى هذا اليوم: قتل بدمشق محمد المعروف ببلبان شيخ كرك نوح، وولده محمد الخرباني، وكان من خبره أنه قدم بجموعه نصرة لعساكر السلطان، فلم يصل حتى إنقضت الوقعة، فدخل في خدمة النائب حتى عبر دار السعادة، وتفرق الأمراء وغيرهم في منازلهم، فتوجه بلبان فيمن توجه حتى كان عند المصلى، والعامة قد ملأت الطرقات، فصاح به وبمن معه من العشير جماعة من أراذل عامة دمشق قائلين " أبا بكر، أبا بكر " يكررون ذلك مرارًا، يريدون نكاية بلبان وجماعته، فإنهم يرمون بأنهم رفضة.
فلما كثر ذلك من العامة أخذ بعض العشير يضرب واحداً منهم، فوثبوا به، وألقوه عن فرسه ليقتلوه، فإجتمع أصحابه ليخلصوه من العامة، وقاتلوهم، فبادروا وذبحوا ذلك البائس وتناولوا الحجارة يرمون بها بلبان وقومه، ووضعوا أيديهم فقتلوا بلبان وإبنه وجماعته، وهم خمسمائة أو يزيدون، بغير سبب ولا أمر سلطان ولا حاكم، فلم ينتطح في قتلهم عنزان، ولا تحرك لهم إثنان، فكان ذلك من الحوادث الشنعة، وما أراه إلا أمرًا له ما بعده، ولله عاقبة الأمور.(3/439)
وفي هذه الأيام: رسم بعقوبة الأمير جكم خال العزيز في سجنه بالإسكندرية حتى يعترف. بمتحصل العزيز في أيام أبيه من إقطاعه ومن حماياته ومستأجراته، ومن الهدايا والتقادم التي كانت تأتيه، فأجابهم عن ذلك، ورسم بعقوبة الأمير يخشي بك بالسجن أيضًا، وذلك أنه لما كان في التجريدة ببلاد الصعيد أيام الأشرف، ضبط عليه أنه سب بعض من يدعي أنه شريفًا، فلما مات الأشرف، وأنزل بالأشرفية من القلعة كما تقدم أرادوا أن يدعوا على يخشي بك عند القاضي المالكي بأنه سب أبا الشريف ليريق دمه، فبادر حتى حكم قاضي شافعي بحقن دمه، فإطمأن لذلك فلم يتركوه بعد سجنه، وأرادوا قتله، فأوصلوا القضية بالمالكي، وسمع البينة عليه، فلم يمض قتله ثناء على أن هذه الدعوى هي التي حكم فيها بحقن دمه، ونازعه في ذلك قوم، وزعموا أن الدعوى التي حكم فيها بحقن دمه يخر هذه، وكثر الإختلاف في ذلك، وعقد فيه مجالس والغرض قتله، والحكم الشرعي بذلك، فلم يتجه، وتمادى الحال في ذلك عدة أشهر، ثم تحركوا لقتله، وإستمالوا بعض من تمشيخ وتمصلح من المالكية، حتى أفتي بقتله، وأريد من القاضي العمل بفتياه، فلم يتجاسر على الحكم بالقتل، وجرت أمور آخرها أن قيل يفوض الحكم لهذا المفتي حتى يحكم كما أفتي بقتله، فبكي لما قيل له ذلك، ولم يقدم عليه، فلما وقع اليأس من قتله بيد قضاة الشرع، رسم بعقوبته حتى يعترف بماله من الأموال، فعوقب أشد عقوبة، بحيث لم يبق إلا إرهاق نفسه.
وفي يوم الأحد ثاني عشره: كتب بقتل أينال الجكمى بسجنه من قلعة دمشق بعد تقريره على أمواله وذخائره، وبقتل جماعه ممن قبض عليه في الوقعة.
وفي ثالث عشره: خلع على الأمير سودون المغربي، وأعيد إلى ولاية دمياط عوضًا عن محمد الصغير. وفيه ورد الخبر بأن الفأر مكثر بأراضي الزراعات، وأن في ناحية البهنسى كانت للفيران حرب شهدها الناس، وقد إجتمع من الفيران عدد عظيم، إقتتلوا قتالاً كبيرًا، ثم تفرقوا، فوجدوا في معتركهم من الفيران شيء كثير ما بين مقتول ومجروح ومقطوع بعض الأعضاء وأنه بلغهم أن ذلك كان بين الفيران في موضع آخر. وعندي أن هذا منذر بحادث ينتظر.
وفي يوم الأحد تاسع عشره: وصل محمد بن الأمير قنصوه، فعفي عنه بشفاعات وقعت فيه.
وقدم الخبر بأن العساكر توجهت من دمشق في حادي عشره إلى حلب، بعد أن عاد الأمير طوغان نائب القدس إليها، وتأخر الأمير أقبغا التَمرازي نائب الشام بدمشق، وأن المتوجه إلى حلب الأمير جلبان نائب حلب، والأمير أينال نائب صفد، والأمير طوخ نائب غزة، والأمير قراقجا الحسنى، والأمير تمرباي، والمماليك السلطانية، وأنه قبض بدمشق على الأمير طرعلي الدكري، وشنق بها، وأن تغري برمش نزل على حلب وصحبته الأمير طرعلي بن سقل سيز، والأمير على بار بن أينال بجمائعهما من التركمان، والأمير غادر بن نعير بعربه من آل مهنا، والأمير فرج وأخيه إبراهيم ولدي صوجي، والأمير محمود بن الدكري بجمائعهم من التركمان وعدة الجميع نحو ثلاثة آلاف فارس، في يوم الإثنين حادي عشرين شوال، وأن تغرى برمش خيم بالجوهري وبعث عدة كبيرة إلى خارج باب المقام، فخرج إليهم الأمير برد بك نائب حماة، ومعه جماعة من أمراء حلب، ومن تركمان الطاعة، ومن العامة، فكانت بينهم وقعة قتل فيها وجرح جماعة من الفريقين، وعاد كل منهما إلى موضعه، ثم إلتقي الجمعان في يوم الجمعة خامس عشرينه على باب النيرب وإقتتلوا يومًا وليلة قتالاً شديدًا، قتل فيه عدة من الناس، وجرح نائب حماة وطائفة من أمراء حلب وجمع كبير من العامة، ورجع كل فريق إلى موضعه، فرحل تغرى برمش في يوم الأحد سابع عشرينه من موضعه، ونزل بالميدان، والحرب مستمرة، والعامة تبذل جهدها في قتاله إلى أن كان يوم الخميس ثاني ذي القعدة أحضر تغرى برمش آلات الحرب في مكاحل النفط ، والجنويات والسلالم إلى خارج باب الفرج ونصب صيوانه تجاه السور، وزحف زحفًا قويًا.(3/440)
وأهل حلب يدًا واحدة على محاربته طول ذلك النهار مع ليلة الجمعة بطولها، والناس يتضرعون ويدعون اللّه تعالى، فرحل تغرى برمش في يوم الجمعة، وعاد إلى الميدان بعدما كانت القضاة وشيوخ العلم والصلاح وقوفًا بالمصاحف والربعات على رؤوسهم، وهم ينادون من فوق الأسوار " الغزاة معاشر الناس في العدو، فإنه من قتل منكم كان في الجنة، ومن قتل من العدو صار إلى النار " في كلام كثير يحرضون به العامة على القتال، ويقوون عزائمهم على الثبات، إلى أن رحل تغرى برمش بمن معه من الميدان إلى الجهة الشمالية، في يوم الأحد خامسه، بعدما رعت مواشيهم زروع الناس وبساتينهم وكرومهم وقطعوا ونهبوا القرى التي حول المدينة، وخربوا غالب العمارات التي هي خارج السور وقطعوا القناة التي تعبر المدينة من ثلاثة أماكن وكان أشد الناس قتالاً أهل بانقوسا والحوارنة، فحرق العدو أسواق بانقوسا وبيوتها، وفتحوا جباب الغلال وغيرها، ونهبوها، فداخل الناس من الخوف والرعب ما لا يوصف وطلب الأعيان بحرمهم وأموالهم إلى القلعة، وقطع تغرى برمش أيدي جماعة كثيرة من عامة حلب، وبالغ في الإضرار بالناس، فكانت هذه النوبة من شنائع الحوادث، وللّه عاقبة الأمور.
وفي يوم الخمس ثالث عشرينه: خلع على علاء الدين علي بن يوسف المعروف بالناسخ قاضي المالكية بحلب، وإستقر في قضاء المالكية بدمشق عوضًا عن محيى الدين يحيى بن حسن بن محمد الحيحاني المغربي بعد موته، وإستقر شرف الدين يعقوب بن يوسف على المكناسي المغربي أحد نواب الحكم بالقاهرة في قضاء المالكية بحلب عوضًا عن علاء الدين الناسخ.
وفي يوم الخميس المبارك خامس عشرينه: دقت البشائر لورود الخبر بأن العساكر لما سارت من دمشق في حادي عشره كما تقدم ذكره لقيهم تغرى برمش قريبًا من حماة في جموعه التي كانت معه على حلب، فلقوه في يوم الجمعة سابع عشره وقاتلوه، وكانت بينهم وقعة كبيرة، قتل فيها وجرح خلق كثير فإنهزم بمن معه، وحازت العساكر منهم غنائم لا تحصى، منها مائتي ألف رأس من الغنم، سوى ما تمزق، وهو قريب من ذلك.
وفي يوم الإثنين سابع عشرينه: قدم النجاب برأس الأمير أينال الجكمى، فشهرت على رمح، ثم علقت على باب زويلة، وكان قتله في ليلة الإثنين ثاني عشرينه، بعدما قرر على أمواله، ونودي عليه هذا جزاء من حارب اللّه ورسوله، وقتل معه بقلعة دمشق الأمير تنم العلاي.
وفي هذه الأيام: بعث السلطان إلى قاضي القضاة علم الدين صالح ابن شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني بألف دينار ذهبًا، فإنه كان قدم له كتبًا وغيرها قبل ذلك. وفيها حكم بقتل الأمير يخشي بك، وقد تَقدم أنه أدعي عليه أنه سب شريفاً، ولعن والديه، فالتجأ إلى قاضي القضاة الشافعي، فحكم بعض نوابه بحقن دمه، وسكن الحال مدة أشهر، ثم تحركوا عليه بعد سجنه، وراودوا القاضي المالكي على قتله، فإحتج بحكم الشافعي بحقن دمه، فعورض بأن المطلوب الآن من الدعوى عليه غير المحكوم فيه بحقن الدم، فصمم على أنهما قضية واحدة، ووافقه غير واحد من المالكية على ذلك، فسكنت الثائرة مدة، ثم تحركوا لإراقة دمه، وأفتي بقتله بعض المالكية، ممن يظهر للناس نسكًا على وظيفة وعد بولايتها، وأرادوا قاضي القضاة المالكي أن يحكم بمقتضى الفتوى فإمتنع، فعرضت على غير واحد من نواب المالكي، فلم يقدم أحد على الحكم، وكان منهم واحد لم يوله القاضي نيابة الحكم، وأقام مدة بطالاً، فأذن له السلطان في الحكم فأقدم على ما أحجم عنه غيره، وحكم بقتل يخشي بك.
وفي يوم الخميس سلخه: خلع على ناصر الدين محمد ابن الأمير الوزير تاج الدين عبد الرزاق بن أبى الفرج، وإستقر نقيب الجيش، عوضاً عن ناصر الدين محمد ابن أمير طبر.
شهر ذي الحجة الحرام، أوله الجمعة: فيه دقت البشائر بقلعة الجبل لورود خبر من غزة بأن التركمان الصوجية قبضوا على تغرى برمش، وعلى طرعلي بن سقل سيز.(3/441)
وفي يوم الأحد ثالثه: وردت مطالعة الأمير جلبان نائب حلب، وقرينها مطالعات بقية النواب، وأمراء العساكر، تتضمن أن تغرى برمش لما إنهزم على حماة مضي نحو الجبل الأقرع، وقد فارقه الغادر بن نعير، فقبض عليه أحمد وقاسم ولدي صوجي، وقبضا معه على دواداره كمشبغا، وعلى خازنداره يونس، وعلى الأمير طرعلي بن سقل سيز، والأمير صارم الدين إبراهيم بن الهذباني نائب قلعة صهيون ، وكتبوا بذلك إلى نائب حلب، فورد الخبر على العسكر وهم على خان طومان في يوم الإثنين من ذي القعدة، فجهز الأمير جلبان عند ذلك الأمير برد بك العجمي نائب حماة، والأمير أينال الأجرود نائب صفد، والأمير طوخ مازي نائب غزة، والأمير قطج أتابك حلب، والأمير سودون النوروزي حاجب الحجاب بحلب، بإخطار المذكورين ورحل بمن بقي معه يريد حلب، فدخلها في يوم الثلاثاء حادي عشرينه وتسلم نائب حماة ومن معه من النواب تغرى برمش ومن قبض عليه معه، وأتوا بهم، فسمر طرعلي بن سقل سيز تسمير سلامة، وسمر الهذباني ورفيقه تسمير العطب وساروا بهم، وتغرى برمش راكب في الحديد، حتى دخلوا مدينة حلب، وهو ينادي عليهم في يوم الخميس ثالث عشرينه، وقد إجتمع من الناس عدد لا ينحصر، حتى أوقفهم تحت القلعة ، ثم وسط الهذباني ورفيقه، وتسلم نائب القلعة تغرى برمش وطرعلي بن سقل سيز، وتسلم كمشبغا ويونس الأمير قراقجا الحسني، فدقت البشائر بقلعة الجبل لورود هذا الخبر، وكتب بقتل تغرى برمش وطرعلي.
وفي يوم الأربعاء: جهز رجلان من موقعي الحكم بالقاهرة، وعلى يدَهما الحكم بقتل يخشي بك. ودفع لهما ثلاثون دينارًا، فمضيا إلى الإسكندرية، وأوصلا الحكم بقاضيها، فاستدعي يخشي بك من السجن، وضربت عنقه بعد صلاة الجمعة ثامنه، في جمع عظيم وافر لرؤيته، وحسابه وحسابهم على الله، الذي يوفي كل عامل عمله.
وفي يوم الأحد سابع عشره: إبتدأ قاضي القضاة علم الدين صالح في عمل الميعاد بين يدي السلطان. وفيه قتل تغرى برمش بقلعة حلب بعدما عوقب على أمواله، فظفر منها بخمسين ألف دينار عينًا، وقتل معه طرعلي بن سقل سيز.
وفي يوم الأربعاء عشرينه: قبض على سودون المغربي متولي دمياط، وحمل مقيدًا حتى سجن بالإسكندرية. ورسم أن يعطي المسفر به مائة ألف درهم.
وفي يوم الإثنين رابع عشرينه: خلع على ناصر الدين محمد بن شهاب الدين أحمد ابن سلام، وإستقر في ولاية دمياط، عوضًا عن سودون المغربي.
وفي يوم الخميس ثامن عشرينه: قبض على عظيم الدولة زين الدين عبد الباسط ناظر الجيش، وعلى ولده أبى بكر، وعلى زوجته شكربيه، وعلى دواداره أرغرن، وعلى مباشره شرف الدين موسى بن البرهان، في عدة من ألزامه. وقبض معه على الأمير جانبك أستادار، وأحيط بدورهما.
وأخذت خيولهما فكانت زيادة على سبعين فرساً، وأخذت بغالهما وجمالهما، وكتب بإيقاع الحوطة على ماله بالشام والإسكندرية والحجاز، من مال والبضائع، فكان بسبب ذلك إنزعاج في الناس بالقاهرة.
وفي يوم السبت سلخه: خلع على شيخ الشيوخ محب الدين محمد بن الأشقر وإستقر في نظر الجيش، عوضًا عن عبد الباسط، وخلع على الأمير ناصر الدين محمد بن أبى الفرج نقيب الجيش، وإستقر أستادازا، عوضًا عن جانبك الزيني عبد الباسط .
وفيه قدم رأس تغرى برمش، فطيف به على رمح، ثم علق بباب زويلة فتوالى على السلطان في مدة أيام يسيرة الظفر بالملك العزيز، وبالمماليك الأشرفية الذين قاموا مع العزيز بالصعيد، وبأينال الجكمى نائب الشام، وبتغرى برمش نائب حلب، وهذا من النوادر الغريبة، وللّه عاقبة الأمور. فكانت هذه السنة ذات حوادث عظيمة، زالت فيها نعم خلائق بمصر والشام، فذلوا بعد عزهم، وأهينوا بعد تعاظمهم، جزاء بما كسبت أيديهم " ومَا ربك بظَلامَ لِلْعَبِيد " .
ووقع في هذه السنة بعدن وغيرها من بلاد اليمن وباء هلك فيه خلق كثير. وفيها جمع الإمام صلاح بن محمد الناس بصعدة ليحارب قاسم بن سنقر المتولي على صنعاء، فخافه ابن سنقر، وكتب إلى الظاهر عبد اللّه صاحب زبيد وتعز، يستنجده ليملكه صنعاء فبعث إليه عسكرا وصل إلى ذمار على مرحلتين من صنعاء، فبلغهم أن الظاهر أشرف على الموت فعادوا، فإذا هو قد مات، وصلاح هذا يعرف بالهدوي نسبة إلى الهادي من أئمتهم .
ومات في هذه السنة من الأعيان(3/442)
محدث الشام شمس الدين أبو عبد اللّه محمد بن أبى بكر بن عبد اللّه بن محمد بن أحمد بن مجاهد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن علي، المعروف بإبن ناصر الدين القيسي الدمشقي الشافعي، في ثامن عشرين شهر ربيع الآخر بدمشق، ومولده في المحرم سنة سبع وسبعين وسبعمائة ، سمع على شيخنا أبو بكر بن المحب وغيره، وطلب الحديث، فصار حافظ بلاد الشام غير منازع، وصنف عدة مصنفات، و لم يخلف في الشام بعده مثله.
ومات الطواشي صفي الدين جوهر الحبشي الزمام. وأصله من خدام الأمير بهادر المشرف، قدم به من مكة صغيرًا، وأعطاه لأخته زوجة الأمير جلبان الحاجب، فربى عندها، وأعتقته، ثم خدم الأمير برسباي الدقماقي، في أيام المؤيد شيخ وخرج معه لما ولي نيابة طرابلس، وخدمه لما سجن بقلعة المرقب.
وصار يكاتب الطواشي جوهر، وهو إذ ذاك في خدمة علم الدين داودَ بن الكويز ناظر الجيش، فيقضي له حوائجه إلى أن خلص برسباى، وعاد إلى القاهرة، صحبة الظاهر ططر، ثم تسلطن وتلقب بالملك الأشرف، فجعل جوهر هذا لالا ولده، فعرف بجوهر اللالا مدة، وإشتهر ذكره لتمكنه من السلطان، ورعي حق أخيه جوهر، فتحدث له مع السلطان حتى عمله خازندارًا وتعاضدًا وتعاونًا، ثم ولاه السلطان زمام الدار، فصار من جملة الأمراء الألوف حتى مات، فعظم في أيام ولده الملك العزيز، وصار هو المشار إليه إلي أن خلع، وقام في السلطنة الأمير الكبير جقمق، وتلقب بالملك الظاهر، قبض عليه وسجنه، ثم صادره على مال كبير، وهو مريض، حتى مات في يوم الأربعاء ثالث عشرين جمادي الأولي عن ستين سنة أو نحوها، وكان متدينا، يحب أهل الخير، ويحسن إليهم ويعتقدهم .
ومات الأمير قرقماس الشعباني، وأصله من مماليك الظاهر برقوق، إشتراه صغرًا وأعطاه لولده الأمير فرج، فلما تسلطن بعد أبيه، وتلفب بالملك الناصر، رقاه في خدمته، ثم خدم بعده المؤيد شيخ، وصار دوادارا، ثم أمير مائة في أيام الأشرف، وعظم في إيامه، وولاه حاجب الحاجب ، ثم ولاه نيابة حلب مدة، وأقدمه منها إلى ديار مصر، وعمله أمير سلاح، وأخرجه إلى التجريدة، وعمله مقدم العسكر، فسار وأخذ أرزنكان وغيرها فمات الأشرف وهو في التجريدة، فقدم بعد موته، وبالغ في خلع الملك العزيز يوسف بن الأشرف، برسباي، فلما خلع وتسلطن الملك الظاهر جقمق، ركب عليه وقاتله، فلم يثبت وفر، فقبض عليه، وسجن بالإسكندرية، ثم ضربت عنقه بها في يوم الإثنين ثاني شهر جمادي الآخرة، وقد بلغ الخمسين أو تجاوزها وكان يوصف بعفة عن القاذورات المحرمة، وبمعرفة، وخبرة، وفروسية، وشجاعة، إلا أنه أفسد أمره بزهوه وتعاظمه، وفرط رقاعته، وشدة إعجابه بنفسه، وإحتقار الناس، والمبالغة في العقوبة، وقلة الرحمة، لا جرم أن اللّه تعالى عامله في محنته من جنس أعماله " وَلا يَظْلِمُ ربكَ أَحَدَاً " ومات شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان البساطي المالكي. قدم من الريف وطلب العلم، وعرف بعلوم العجم في المنطق ونحوه. وعاش دهراً في بؤس وقلة، بحيث أخبرني أنه ينام على قش القصب، ثم تحرك له الحظ فولاه الأمير جمال الدين يوسف أستادار تدريس المالكية بمدرسته ، ثم ولى مشيخة التربة الناصرية فرج بالصحراء ، وإستنابه ابن عمه الجمال يوسف البساطي في الحكم مدة ثم عزله، فلما مات الجمال عبد اللّه الأقفهسي قاضي المالكية، ولي المؤيد شيخ البساطي صاحب الترجمة قضاء القضاة المالكية بديار مصر، رغبة في أنه فقير متعفف، فباشر ذك نحو عشرين سنة، حتى مات ليلة الجمعة ثالث عشر شهر رمضان. ومولده في محرم سنة ستين وسبعمائة، ولم يخلف بعده في المالكية مثله، فيما نعلم.
ومات علم الدين أحمد بن تاج الدين محمد بن علم الدين عمد بن كمال الدين محمد ابن قاضي القضاة علم الدين محمد بن أبى بكر بن عيسى بن بدران الأخناي المالكي، أحد نواب الحكم بالقاهرة في يوم الأربعاء خامس عشرين شهر رمضان. وكان فقيهًا حشمًا من بيت علم ورياسة ومات الشريف أحمد بن حسن بن عجلان، وقد فارق أخاه أمير مكة شرفها اللّه بركات بن حسن، وسار إلى اليمن، فمات بزبيد .(3/443)
ومات محيى الدين يحيى بن حسن بن محمد الحيحاني المغربي المالكي، قاضي المالكية بدمشق، في يوم الأربعاء حادي عشر ذي القعدة، وكان عفيفًا في أحكامه مهابًا. ومات أبو عبد اللّه ابن الفقيه على بن أحمد بن عبد العزيز بن القسم العقيلي النويري المكي المالكي، قاضي المالكية بمكة شرفها اللّه تعالى في سابع عشر ذي القعدة بمكة، ومولده سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة بمكة، وهو من بيت علم ورياسة، وكان عفيفًا في قضائه، حشماً، جميل الهيئة، له مروءة وباشر حسبة مكة مدة .
ومات محمد ويعرف ببلبان شيخ كرك نوح قتله عامة دمشق وولده في يوم الجمعة ثالث ذي القعدة، وقتلوا معه من قومه جماعة كبيرة بغيًا وعدوانًا، وكان يتهم بأنه رافضي، ولذلك قتلوه، وكان صاحب همة عالية ومروءة غزيرة، وأفضال وكرم من حال واسعة ومال جم.
ومات الأمير أينال الجكمى، وأصله من مماليك الأمير جكم، وإنتقل بعده إلى الأمير شيخ المحمدي ، وهو صغير، فربي عنده ورقاه في خدمته لما تسلطن وعمله شاد الشرابخاناه، ثم صار بعد المؤيد شيخ من أمراء الألوف، وولاه الأشرف برسباي نيابة الشام، فمات وهو على نيابتها ، فلما خلع العزيز من برسباي، خرج عن طاعة السلطان الملك الظاهر جقمق ودعا بدمشق للملك العزيز، فبعث إليه السلطان العساكر فحاربته وهزمته، ثم قبض عليه وقتل بقلعة دمشق، في ليلة الاثنين ثاني ذي القعدة، وكان مشهوراً بالشجاعة، مشكور السيرة ، إلا أنه لم يسعده جده.
ومات الأمير يخشي بك، أصله من المماليك المؤيدية، وصار من الأشرفية فرقاه الأشرف برسباى حتى صار من أمراء الطبلخاناه وعمله أمير أخور ثانيًا، فلما مات الأشرف قبض عليه، وسجن بالإسكندرية، ثم ضرب عنقه في يوم الجمعة ثامن ذي الحجة، بحكم بعض نواب قاضي المالكية بقتله من أجل أنه سب والدي بعض الأشراف، وكان جبار ظالمًا شريرًا.
ومات الأمير تغرى برمش، وهو من أهل مدينة بهسني، واسمه حسين لم يمسه رق قط، وإنما قدم القاهرة وهو صبي، فحافظ بالأجرة في الخط المعروف بالمصنع تحت قلعة الجبل، عند بعض الخياطين في حانوت، وتسمى تغرى برمش، ثم خدم تبعًا عند قراسنقر من المماليك الظاهرية برقوق مدة طويلة، وخدم بعده بعض الأمراء وصار معه إلى حلب، ثم خدم جقمق، فلما صار دوادار المزيد شيخ، عمله دواداره إلى أن خرج لنيابة الشام، خرج معه، فلما مات المؤيد وقبض جقمق على الأمير برسباي الدقماقي وسجنه يريد قتله، قام تغرى برمش هذا في مدافعة جقمق عنه، ومنعه من قتله، حتى كان من سلطنة الأمير ططر ما كان، وقدم من دمشق وقد عمل الأمير برسباي دوادار السلطان، رعى لتغرى برمش حق مدافعة جقمق عن قتله، وقربه، فلما تسلطن رقاه وجعله من جملة أمراء مصر، ثم ولاه أمير أخور كبيراً، ومكنه من التصرف، وإعتمد عليه، ثم ولاه نيابة حلب، فمات الأشرف برسباي وتغرى برمش عليها، وخرج مع العساكر في التجريدة إلى أرزنكان، فإختلف مع الأمراء، وقدم حلب، فلما خلع العزيز بن برسباي خرج عن طاعة السلطان الملك الظاهر جقمق، فلم ينجح وقاتله أهل حلب وأخرجوه، ثم قاتلته عساكر السلطان وهزمته، ثم قبض عليه، وقتل بحلب في يوم الأحد سابع عشر ذي الحجة، بعد عقوبات شديدة، وقد أخرب في حروبه هذه حلب وما حولها، وأكثر من الفساد، وقتل العباد، وقتل معه الأمير طرعلي بن سقل سيز من أمراء التركمان.
ومات بالقاهرة الأمير حسام الدين حسن، في يوم الأحد ثالث عشرين ذي الحجة، وقد قدم من القدس وولى في الأيام الناصرية فرج وما بعدها عدة نيابات بغزة والقدس و غيرهما.
ومات ملك اليمن الملك الظاهر هزبر الدين عبد اللّه بن الأشرف إسماعيل بن على ابن داود بن يوسف بن عمر بن على بن رسول، يوم الخميس سلخ شهر رجب وله في الملك نحو إثنتي عشر سنة، وضعفت مملكة اليمن في أيامه لقلة مجابي أموالها، وإستيلاء العربان على أعمالها، وأقيم بعده ابنه الأشرف إسماعيل، وله من العمر نحو العشرين سنة، فأكثر من سفك الدماء، وأخذ الأموال، وغير ذلك من أنواع الفساد، فقتل برقوق القائم بدولتهم في عدة من الأتراك .(3/444)
ومات باليمن الرئيس شرف الدين موسى بن نور الدين على بن جميع الصنعاني الأصل، العدني المولد والمنشأ، وقد جاوز الخمسين، وكان قد إستقر في منصب أخيه وجيه الدين عبد الرحمن، وختم به بيت ابن جميع. وكان حاذقًا عارفًا بالأمور، كثير الإستحضار للنوادر، حسن المعاشرة، بعيد الغور.
ومات بعدن أيضًا قاضيها الفقيه الفاضل الشافعي جمال الدين محمد بن سعيد بن كبن الطبري الأصل، العدني، في سابع شهر رمضان، وقد جاوز الستين. وكان فاضلاً في الفقه وغره حسن التأني، لين الجانب.
ومات بزبيد الفقيه الشافعي المفتي موفق الدين على بن محمد بن فخر، في شوال، ومولده سنة ثمان وخمسين وسبعمائة، وقد إنتهت إليه رياسة العلم والفتوى بزبيد.
ومات بزبيد الفقيه الحنفي الفاضل جمال الدين محمد بن على المعروف بالمطيب، في عشر رمضان. وهو في عشر السبعين. وقد إنتهت إليه رياسة الحنيفية بزبيد.
سنة ثلاثين وأربعين وثمانمائة
شهر الله المحرم الحرام، أوله يوم الأحد: فيه أفرج عن زوجة القاضي زين الدين عبد الباسط، وعن أرغون دواداره.
وفيه حمل عبد الباسط الخزانة السلطانية ثلاثين ألف دينار ذهبًا، وأحيط له بخمسين ألف أردب من الغلة، وبمائة هجين فيها ما تبلغ قيمة الواحد منها آلاف، وبهار قيمته خمسون ألف دينار، وبعدة كثيرة من الجمال.
وفي ثانيه: خلع على ولى الدين محمد السفلي مفتي دار العدل، وأحد خواص السلطان، وإستقر في نظر الكسوة المحمولة إلى الكعبة المشرفة، عوضًا عن زين الدين عبد الباسط، مضافًا لما بيده من وكالة بيت المال، فإن شرط الواقف أن يكون وكيل بيت المال ناظر الكسوة.
وخلع على فتح الدين محمد بن أبى بكر بن أيوب المحرقي ، وإستقر في نظر الجوالي، عوضًا عن عبد الباسط. وكانت بيده قديمًا فأعيدت إليه.
وفي ثالثه: قدم مبشرو الحاج، وأخبروا بسلامة الحجاج، ورخاء الأسعار.
وفي خامسه: أفرج عن أبى بكر بن عبد الباسط، وعن شرف الدين موسى بن البرهان إبراهيم الكازروني مباشر ديوان عبد الباسط على مال يقوم به. هذا وعبد الباسط يورد المال شيئًا بعد شيء، والسلطان مصمم على أنه لا يقنع منه بأقل من ألف ألف دينار، ويتهدد بعقوبته، ويعدد له ذنوبًا يحقدها عليه.
وفي يوم الأحد ثامنه: أبتدأ بالنداء على النيل، وقد بلغت القاعدة وهي الماء القديم في القياس أربعة أذرع وعشرة أصابع، وأنه زاد ثلاثة أصابع.
وفي تاسعه: نقل الأمير جانبك الزيني أستادار من سجنه بقلعة الجبل إلى بيت الأمير تغرى بردى المؤذى الدوادار ليحاسبه عما في جهته للديوان المفرد، وألزم بحمل عشرة آلاف دينار، فلم يتأخر في القلعة سوى زين الدين عبد الباسط بمفرده في مقعد بالحوش من القلعة، وقد رسم عليه عدة من المماليك السلطانية، وأتباع تبيع أصناف أمواله وعقاره، وتورد أثمانها ذهبًا إلى الخزانة السلطانية.
وفي جمادي عشره: أفرج عن الأمير جانبك الزيني، ونزل من بيت الأمير تغري بردى الدوادار إلى بيته، وقد شطب عليه بمبلغ ألف ألف درهم وثلاثمائة ألف درهم، وجبت عليه لديوان، أكثرها تحامل عليه، فإنها بواق في جهات متسحبين وغير ذلك، مما لو أنصف لم تلزمه، وذلك سوى العشرة آلاف دينار التي ألم بها .
وفي رابع عشره: قدم القاضي معين الدين عبد اللطيف ابن القاضي شرف الدين أبى بكر كاتب السر بحلب، وحمل التقديمة في خامس عشره، ما بين ثياب حرير، وفرو سمور وثياب صوف، وثياب بعلبكي وخيل، وبغال، قومت بألف وخمسمائة دينار. وفيه رسم بنقل سودن المغربي من سجن الإسكندرية إلى القدس ليقيم به بطالاً، ورسم بسجن الخواجا شمس الدين محمد بن المزلق كبير تجار الشام في قلعة دمشق، حتى يحمل ثلاثين ألف دينار للخزانة السلطانية، وعشرة آلاف دينار للديوان الخاص، فقدم ولده وصالح عن ذلك بخمسة آلاف دينار للخزانة وألف دينار للخاص، وخلع عليه.
وفي ثاني عشرينة: قدم الركب الأول من الحاج ثم قدم محمل الحاج ببقية الحجاج في غده، وأخبروا برخاء الأسعار في بلاد الحجاز وأمنها من الفتن. وأن وميان أمير المدينة النبوية عزل بسليمان بن عزير، وأن جماعة من الحجاج لما قدموا المدينة الشريفة مضوا لزيارة البقيع فخرج عليهم عدة من العربان وقاتلوهم، فقتل ثلاثة نفر من المماليك المجردين .(3/445)
وفي هذه الأيام: كثرت القالة بإختلاف أمراء الدولة والمماليك السلطانية، فنودي في يوم الخميس سادس عشرينه بألا يخرج أحد في الليل وأن يصلح الناس دروب الحارات ونحوها.
وفي سلخه: قدم الأمير يشبك من بلاد الصعيد بمن معه من الأمراء والمماليك المجردين، فخلع عليه، وإستقر أميرًا كبيرًا أتابك العساكر، وخلع على من قدم معه من الأمراء.
وفي هذا الشهر: وقع الصلح بين الفنش ملك أشبيلية وقرطبة وغيرهما من ممالك الفرنج، وبين محمد بن الأحمر ملك المسلمين بغرناطة من بلاد الأندلس، بعدما إمتدت الفتنة بين الفريقين عدة سنين، وللّه الحمد.
شهر صفر، أوله يوم الإثنين: فيه قدم الأمير قانبيه البهلوان أتابك العساكر بدمشق، فأكرم وخلع عليه لنيابة صفد، عوضًا عن الأمير أينال الأجرود المستقر في جملة أمراء الألوف بديار مصر، ورسم بإستقرار الأمير أينال الششمانى أحد أمراء الألوف بدمشق في الأتابكية بها، عوضًا عن الأمير قانبيه البهلوان.
وفي يوم الخميس رابعه: طبق السحاب أفاق السماء بالقاهرة وما حولها، ثم أمطرت مطرًا غزيرًا كثيرًا، فكان هذا مما يستغرب، فإن الزمان صيف، والشمس في برج الأسد، والنيل ينادي عليه، وقد بلغ نحو عشرة أذرع، ونحن في شهر أبيب أحد شهور القبط " وَلكِن الله يفعل مَا يُرِيد " .
وفي سادسه: قدم الأمراء المجردين إلى الشام بمن معهم من المماليك السلطانية فخلع على الأمير قراقجا الحسنى أمير أخربر، ونزل بباب السلسلة من القلعة، وعلى الأمير تمرباي رأس نوبة النوب .
وفي حادي عشره: نقل زين الدين عبد الباسط من المقعد بالحوش من القلعة إلى برج بها، وكانت حاله في مدة سجنه بالمقعد على أجمل ما عهد ممن نكب، فإنه أنزل بهذا المقعد وهو أحد المواضع المعدة لجلوس السلطان ورتب له في كل يوم سماط من أول النهار، وسماط في أخره يحمل إليه من المطبخ السلطاني، مع الحلوى والفاكهة، ولم يمنع أحد من التردد إليه، فكان أمراء الدولة ومباشروها وأعيان الناس وجميع أتباعه وألزامه لا يزالون يتناوبون مجلسه، ويكونون بين يديه، كما هي عادتهم في أيام دولته، بحيث لم يفقد مما كان عليه سوى الحركة والركوب، وهو مطلوب بألف ألف دينار، والسلطان مصمم على ذلك.
وقد توسط بينه وبين السلطان المقر الكمالى محمد بن البارزي كاتب السر، وراجع السلطان في أمره مرارًا وعبد الباسط يورد من أثمان ما يباع له من ثيابه وأثاثه وحلي نسائه وأمتعتهم ومن عقاراته، حتى وقف طلب السلطان بعد اللتيا والتي على أربعمائة ألف دينار، وأبى أن يضع عنه منها شيئًا، إلى أن كان يوم الخميس هذا، تحدث كاتب السر مع السلطان في الحططة من الأربعمائة ألف دينار، وأعانه عدة من أعيان الدولة في التلطف بالسلطان، وسؤاله في ذلك، فغضب، وأمر أن يخرج إلى البرج على حالة ردية، وأشار لبعض خواصه بالمضي لما رسم به، فأخرج في الحال من المقعد، لكن على حالة غير ردية، ومضوا به ماشيًا حتى سجنوه بالبرج، ورسم له أن يدفع إلى المرسمين عليه بالمقعد وهم ثمانية من خاصكية السلطان مبلغ ألفي دينار ومائتي دينار، فدفعها إليهم، وإذا بوالي القاهرة قد دخل عليه بالبرج، وأمره أن يخلع جميع ما عليه من الثياب، فإنه نقل للسلطان أن معه الاسم الأعظم، ولذلك كلما هم بعقوبته صرفه اللّه عن ذلك. فخلع جميع ما كان عليه من الثياب والعمامة، ومضى بها الوالي، وبما في أصابع يديه من الخواتيم، فواجد في عمامته قطعة أديم، ذكر لما سئل أنها من نعل النبي صلى الله عليه وسلم ، ووجدت فيها أوراق بها أدعية ونحوها.
وفي يوم السبت ثالث عشره: وهو أَول مسرى نودي على النيل بزيادة خمسين إصبعًا، لتتمة أربعة عشره ذراعًا وإصبعين، وهذا المقدار مما يستكثر مثله في أول مسرى، ولله الحمده(3/446)
وفي هذا الشهر: إرتفع سعر الغلال، فإرتفع سعر القمح من مائة وأربعين درهمًا الأردب إلى مائة وتسعين، والشعير من ثمانين درهمًا الأردب إلى مائة وخمسين، وبلغ القول نحو مائتي درهم الأردب، وشره الناس في خزن الغلال، ظنًا منهم أن أسعارها تعلو من أجل أن أكثر أراضي الزرع كانت شراقي، ومع ذلك فتولد من الفأر شيء عظيم أفسد في الزروع فسادًا كبيرًا، ووقعت ببلاد الصعيد فتن كبيرة، رعى فيها من الزروع ما شاء اللّه، فلذلك نقص متحصل غلال النواحي حتى أرجف المشنعون بوقوع الغلاء، ولهجوا بذكره، فأغاث اللّه العباد والبلاد، وأجرى النيل سريعًا غزيرًا، فضعفت قلوب خزان الغلال، وإطمأنت قلوب الكفاية، فإنكفوا عن كثرة الطلب لها " إن الله بالناسِ لرؤوف رَحِيْم " .
وفي هذا اليوم: قدم الأمير أينال الأجرود من صفد، والأمير طوغان نائب القدس، والأمير طوخ أتابك العسكر بغزة، وقد صار من جملة مقدمي الألوف بدمشق على تقدمة مغلبية الجقمقي، فخلع عليهم وأركبوا خيولاً بقماش ذهب، ونزلوا إلى دورهم. وفي هذه الأيام: ندب السلطان من جرف جميع الأتربة التي كانت بالرميلة تحت القلعة، ونقلها إلى الكيمان، وجرف الأتربة التي كانت بالصوة تحت القلعة إلى قريب مدرسة الأمير أيتمش بطرف التبانة.
وفي رابع عشره: رسم بإحضار من في سجن الإسكندرية، وهم جانم أمير أخور، وأينال البوبكرى ، وعلى باى الدوادار، وحكم، وبيبرس خالي العزيز وتنم ويشبك الدواداران، وتنبك القيسي، ويشبك الخاصكيان، وبيرم خجا أمير مشوي، وأزبك خجا رأس نوبة، وأن يترك الأمير قراجًا بالسجن، فسار الأمير أسنبغا الطيارى لذلك. وفيه توجه الأمير قانبيه البهلوان إلى محل كفالته بصفد بعد ما أنعم عليه بمال جزيل .
وفي يوم الخميس ثامن عشره: الموافق له سادس مسرى: نودي على النيل بزيادة عشر أصابع، فوفاه اللّه تعالى ستة عشر ذراعًا وإصبعين من سبعة عشره ذراعًا، وهذا أيضًا من النوادر في وقت الوفاء، فركب الأمير الكبير يشبك الأتابك حتى خلق المقياس بين يديه، ثم فتح الخليج على العادة.
وفي ثاني عشرينه: قدم الأمير أسنبغا الطيارى بمن معه من المسجونين بالإسكندرية إلى بلبيس، وكلهم في الحديد، وعدتهم أربعة عشر، فأفرج منهم عن بيرم خجا أمير مشوى، ونفي إلى طرابلس، وأخرج من البرج بقلعة الجبل رجلان أضيفا مع الثلاثة عشر، فصاروا خمسة عشر، فرسم أن يتوجه منهم سبعة نفر إلى قلعة صفد ليسجنوا بها، وهم: أينال، وعلى بيه، وتنبك القيسي، وأزبك حجا، وجرباش، وحزمان، وقانبيه اليوسفي، ومتسفرهم الأمير سمام ، وأن يتوجه ثلاثة منهم إلى قلعة الصبيبة ليسجنوا بها، وهم جانم أمير أخور، وبيبرس خال العزيز، ويشبك بشقشي ومتسفرهم، هم ومن يمضي إلى المرقب، وهم خمسة نفر: أزبك البواب، وجكم خال العزيز، وتنم الساقي، ويشبك الفقيه، وجانبك قلقسيز، والأمير أينال أخو قشتمر، فساروا في حالة سيئة " ولا يظلم ربك أحدًا " .
وفي سابع عشرينه: قدم الأمير طوخ مازى نائب غزة فخلع عليه، وأنزل في بيته.
وفي تاسع عشرينه: نقل زين الدين عبد الباسط من البرج إلى موضع يشرف على باب القلعة، ووعد بخير بعد ما كان يوعد بالعقوبة.
وفي سلخه وهو ثامن عشر مسرى: نودي بزيادة ثلاثة أصابع لتتمة عشرة ذراعًا وإصبعين من عشرين، وهذا مقدار يندر وقوع مثله في ثامن عشر مسرى ولله الحمد.
شهر ربيع الأول ، أوله يوم الأربعاء: في سادسه: خلع على الأمير طوخ مازى، وتوجه عائدًا إلى محل كفالته بغزة. وقد أنعم عليه، وأكرم.
وفي عاشره: نودي بتجهيز الناس للسفر إلى مكة شرفها اللّه في شهر رجب، فسر النار بذلك وأخذوا في أسباب السفر. وفيه توجه الكاشف عمد الصغير ومعه جماعة لأخذ سواكن بعد ما أنفق فيهم.(3/447)
وفي ليلة السبت حادي عشره: أخرج بالعزيز يوسف من محبسه بالقلعة، وأركب فرساً، وقد وكل به جماعة، حتى أنزل في الحراقة، ومضوا به إلى الإسكندرية، ومعه جانبك القرماني أحد أمراء العشرات ليودعه بالبرج، محتفظًا به، ورسم أن يصرف له من مال أوقاف الأشرف ألف دينار، وحمل مع العزيز ثلاث جوارى لخدمته، وجهز من أوقافه بما لابد منه بحسب الحال، ورتب له في كل يوم ألف درهم من أوقافه، وخرج عدة من جوارى أبيه يبكين، وعدن بعد إنحداره في النيل، فجمعن من رفاقهن وصواحباتهن كثيرًا، وعملن عزاء في تربة الأشرف برسباي ، وتربة جلبان أم العزيز.
وفي جمادى عشره: خلع على شمس الدين أبى المنصور نصر الله كاتب اللالا، وإستقر في نظر الإصطبل، عوضًا عن زين الدين يحيى قريب بن أبى الفرج .
وفي يوم الأحد ثاني عشره: عمل المولد النبوي بين يدي السلطان بالحوش من القلعة.
وفي سابع عشره وهو خامس أيام النسيء: نودي بزيادة إصبع واحد تكملة عشرين ذراعًا، وهذا المقدار من زيادة النيل قبل النوروز مما يندر وقوعه، وربنا المحمود على جزيل نعمائه.
وفي هذه الأيام أخرج بجماعة من الأشرفية منفيين.
وفي ثامن عشره: أخرج عز الدين محمد بن قاضي القضاة جمال الدين يوسف البساطي المالكي أحد نواب القضاة المالكية، وناصر الدين محمد الشنشي أحد نواب القضاة الحنفية في الترسيم إلى بلاد الصعيد منفيين. ثم أعيد البساطي بشفاعة وقعت فيه، ومضي الشنشي وإبنه إلى قوص، ونفى أيضًا أربعة من المماليك الأشرفية.
وفي تاسع عشره: سارت تجريدة في النيل، تريد ثغر رشيد، وقد ورد الخبر بأن أربع شواني للفرنج قاربت رشيد، وأخذت أبقاراً أو غيرها، فأخرج لذلك الأمير شادي بك الظاهري ططر، والأمير أسنبغا الطيارى، وهما من أمراء الألوف، وحمل لكل منهما خمسمائة دينار، فما هو إلا أن إنحدرت سفنهم إحترق مركب الطيارى من مدفع نفط رموا به، فعاد عليهم، وأحرق كثيرًا مما معهم، وأصاب بعضهم، فألقي الطيارى بنفسه في النيل حتى نجا، ثم ركب في السفينة وساروا.
وفي عشرينه: صعد الخليفة المعتضد أبو الفتح داود إلى السلطان، ومعه الأمير بيبرس ابن بقر، وقد إستجار به، فقبل السلطان شفاعته، وأمنه، ونزل مع الخليفة، ولم يتعرض له بعد ذلك وفي العشر الثالث من هذا الشهر: إتفق حادث شنيع، وهو أن طباخًا خارج باب الفتوح من القاهرة يطبخ كروش البقر ويبيعها مدة سنين في كل يوم، فباع على عادته في بعض أيام هذا العشر، فما دخل الليل إلا وعدة كثيرة ممن إشترى منه وأكل قد مرضوا، وتتابع الموت فيهم، بحيث أنه مات في يومين سبعة نفر، وبقي نحو الأربعين مرضى، لم ينضبط لي ما جرى لهم، ثم بلغني أنه مات منهم جماعة.
وفي سادس عشرينه: رسم بتوجه القاضي زين الدين عبد الباسط إلى الحجاز بأهله وأولاده، فأخذ يتجهز للسفر. وفيه وردت مطالعة الأمير أقبغا التمرازي نائب الشام، يشكو فيها من بهاء الدين محمد بن حجي قاضي القضاة وكاتب السر بدمشق، فرسم بعزله وإخراجه من دمشق إلى القدس، ثم رسم له بتدريس الصلاحية بالقدس ونظرها، عوضًا عن عز الدين القدسي، وتوجه الأمير يلبغا الجركسى رأس نوبة وأحد خواص السلطان لذلك، وأن يكشف عن شكوى نائب الشام من أرباب الوظائف بدمشق . وفيه ورد الخبر بأن الأمير أقبغا التركماني الناصري نائب الكرك، لما قدم عليه من الأبواب السلطانية جائرًا من بني عقبة ابن منجد أمير بني عقبة، وعليه الخلعة السلطانية، ونزعها عنه وقتله.
وفي سابع عشرينه: رسم بسفر خمسين من المماليك السلطانية صحبة زين الدين عبد الباسط، وأقيم عليهم منهم رأس باش.
وفي تاسع عشرينه: جهز إلى الأمير أركماس الظاهري الدوادار كان فرس وبغل بقماش من الإصطبل السلطاني، وأذن له أن يركب من دمياط، ويسير حيث شاء من أقطار البلد، فقط.
شهر ريبع الآخر، أوله يوم الجمعة:(3/448)
فيه خلع على شهاب الدين أحمد العجلوني موقع الأمير أركماس الدوادار كان وإستقر في كتابة السر بدمشق، عوضًا عن بهاء الدين محمد بن حجى، ورسم بإستمرار عز الدين عبد السلام القدسي على عادته في تدريس الصلاحية بالقدس ونظرها، وأن يحضر إبن حجى إلى القاهرة، ورسم بنقل صلاح الدين خليل بن محمد ابن محمد بن محمود بن سابق من كتابة السر بحماة إلى نظر الجيش بحلب، عوضًا عن سراج الدين عمر بن شهاب الدين أحمد بن السفاح.
وفي ثانيه: خلع على ابن السفاح المذكور، وإستقر في نظر الجيش بدمشق، عوضًا عن جمال الدين يوسف بن الصفي الكركي، وكان قد قدم القاهرة.
وفيه وهو رابع عشر مسرى:. بلغ النيل عشرين ذراعًا وعشرة أصابع.
وفيه ادعي رجل على بعض نواب القاضي الشافعي أنه سجن غريمًا له على دين ثبت له عليه، فأثبت الغريم إعساره على آخر من نواب القاضي، فأخرجه من السجن، كأنكر السلطان إخراج الغريم من السجن بغير إعذار رب الدين وأمر بالقاضي الذي أخرجه من السجن أن يسجن حتى يدفع لرب الدين دينه وهو ثمانية آلاف درهم فسجن بالبرج من قلعة الجبل، حتى دفع ذلك إليه من ماله، وهذا من نوادر الأحكام.
وفيه رسم بعزل نواب القضاة الأربع بأجمعهم. وألا يستنيب الشافعي سوى أربعة فقط، وكل من الثلاثة لا يستنيب إلا إثنين لا غير.
وفي سابعه: أنفق في المماليك المجردين إلى مكة صحبة زين الدين عبد الباسط وهم خمسون فارسًا مبلغ خمسين دينارًا لكل واحد، سوى الخيل والجمال.
وفيه خلع على شمس الدين محمد بن إسماعيل بن محمد الونائي وإستقر في قضاء الشافعية بدمشق، عوضًا عن ابن حجى، وأنعم عليه السلطان بخيل وجمال، ورسم بتجهيزه. والونائي هذا مولده في شعبان سنة ثمان وثمانين وسبعمائة بقرية ونا من عمل الفيوم، وقدم القاهرة، وإشتغل بها من سنة سبع وثمانمائة، فبرع في الفقه والعربية، وتكسب بتحمل الشهادة مدة، ثم إشتهر وتصدى للأشغال، فقرأ عليه جماعة، وصحب عدة من أعيان الدولة الأشرفية برسباى، منهم الأمير جقمق فلما تسلطن جقمق لزم الترداد إلى مجلسه حتى ولاه مسئولاً بالولاية، ونعم الرجل هو علمًا ودينًا.
وفي عاشره: استدعى السلطان بأولاد القاضي زين الدين عبد الباسط الثلاثة، وخلع عليهم كوامل حرير بفرو سمور وقاقم، ونزلوا إلى دورهم مكرمين.
وفي حادي عشره: ورد الخبر من دمياط بأن العامة قتلوا رجلا نصرانيًا إسمه جرجس إبن ضو الطرابلسي بعد ما أظهر الإسلام ثم نهبوا كنائس النصارى.
وفي ثاني عشره: استدعى السلطان بزين الدين عبد الباسط من محبسه " ، فدخل في جماعة من أعيان الدولة إلى السلطان، فبالغ في إكرامه، وخلع عليه وعلى عتيقه الأمير جانبك، ونزل من القلعة وفي خدمته أعيان الدولة، وقد إجتمع خلائق لرؤيته فرحًا به، حتى نزل بمخيمه قريبًا من قبة النصر ليتوجه إلى الحجاز بأولاده ونسائه وأتباعه، بعد ما حمل إلى الخزانة السلطانية مائتي ألف دينار وخمسين ألف دينار ذهبًا، سوى ما أخذ له من الخيول والجمال وغير ذلك وسوى تحفًا جليلة قدمها، فحماه الله في محنته فلم يسمع فيها ما يكره، بل كان في هذه المدة يتردد إليه أمراء الدولة ومباشروها، وهو من العز والكرامة على حاله في أيام دولته، ولا أعلم أحدا رأى من الإجلال والإحترام في أيام نكبته ما رآه، ورأى ذلك بما كان يجريه اللّه على يديه من الصدقات، سرًا وجهرًا.
وفي ثالث عشره: عزل أبو المنصور من نظر الإصطبل، بعد ما حمل مما التزم به نحو سبعمائه دينار، وإستقر عوضه تاج الدين محمد بن نور الدين على بن القلاقسي الفوي، على مال إلتزم به.(3/449)
وفي سحر يوم الجمعة خامس عشره: رحل زين الدين عبد الباسط من منزلته بقبة النصر، حتى أناخ ببركة الحجاج، ورافقه في سفره جماعات من الرجال والنساء، فصار في ركب من الحجاج، وكان يتردد إليه في منزلته هذه عامة الأمراء، والمقام الناصري محمد ولد السلطان، وجميع مباشري الدولة، من الوزير، وكاتب السر، وناظر الجيش، وناظر الخاص، ومعظم أعيان القاهرة من القضاة، ومشايخ العلم، والتجار، وغيرهم من سائر طبقات الناس، فأقام ببركة الحجاج وهم يترددون إليه، ويحملون له المبالغ الكثيرة من الذهب والثياب والخيول والأغنام وغير ذلك، حتى إستقل بالمسير في ليلة الإثنين ثامن عشره، فما زادته هذه المحنة إلا رفعة وعزًا، وذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء، واللّه ذو الفضل العظيم.
وفي خامس عشرينه: عزل ناصر الدين محمد بن أحمد بن سلام عن ولاية دمياط، ولعزله خبر يذكر، وهو أن جماعة من المطوعة بدمياط ركبوا البحر يريدون جهاد الفرنج، فمضوا من دمياط حتى أرسوا بميناء بيروت، وهم في ثلاثة مراكب، فإجتمع عليهم عدة من الغزاة، وساروا غير بعيد، وإذا بطائفة كبيرة من الفرنج في أربعة مراكب قد أقبلوا فإحتربوا معهم حربًا شديدة، حتى إستشهدوا بأجمعهم، إلا طائفة من البحارة فإنهم ألقوا أنفسهم في البحر، وأخذ الفرنج مراكب المسلمين بما فيها وأقلعوا، فما هو إلا أن وصل الخبر بذلك إلى دمياط وإذا بالعزاء والمأتم قد أقيمت على من فقد من الغزاه حيث عم ذلك أهل البلد بأسرهم، إلا رجلا من نصارى دمياط يقال له جرجس بن ضو، فإنه في وقت عزاء الناس عمل فرحًا، وجمع على طعامه عدة أناس، وأظهر الشماتة والمسرة بما أصاب المسلمين، وكان قبل يتهمه الناس بدمياط أنه يكاتب الفرنج ويدلهم على عورات المسلمين، ويحضهم على محاربتهم، فلما عمل هذا المجتمع، لم تصبر العامة على ذلك، وثاروا به وأخرجوه، وادعوا عليه عند القاضي بقوادح، قامت عليه بها بينات أوجبت قتله، فلما أيقن بالهلاك أظهر الإسلام، وتلفظ بالشهادتين، فقام ابن سلام على العامة، وتخلصه من بين أيديهم على مال فيما زعموا أنه وعده به، فتعصبت العامة، وقتلت النصراني الأسلمي، وأحرقوه بالنار، ونهبوا كنائس النصارى، فحنق ابن سلام، وكتب إلى السلطان وإلى ناظر الخاص، وهو يشنع الأمر، ويذكر أن حرمة السلطان قد إنكسرت، وضاع مال السلطان، وتعطل إستخراجه، فاشتد غضب ناظر الخاص، وأغرى السلطان بأهل دمياط، حتى غضب عليهم، وبعث ثلاثين مملوكًا صحبة بعض الأمراء ليقبضوا على التجار بدمياط، وعلى أعيانها، فدخلوا دمياط وقد طار الخبر إليها، فرحل جمهور أهلها، وتركوا دورهم وضعفة أهاليهم.
هذا، وكتب ابن سلام تتواتر مرة بعد أخرى لإغراء السلطان بأهل دمياط، وقد طار الخبر إليها، والسلطان يشتد غضبه على العامة، ويهم أن يفتك بهم، فأخذ جماعة من أعيان الدولة في تسكين غضبه، وبالغوا في تقبيل يديه، وسألوه. العفو عنهم، حتى تمهل عن قتلهم، ورسم بعزل ابن سلام، وقد إتضح أمره.
وفي خامس عشرينه: قدم أحد حجاب دمشق بسيف الأمير أقبعْا التمرازي نائب الشام، وقد مات فجأة، في سادس عشره، فرسم لنائب حلب الأمير جلبان بإستقراره في نيابة الشام، وأن ينتقل نائب طرابلس الأمير قانباى الحمزاوي إلى نيابة حلب، وينتقل الأمير برسباى الناصري حاجب الحجاب إلي بدمشق إلى نيابة طرابلس، ويستقر عوضه في الحجوبية الكبرى بدمشق الأمير سودون النوروزي حاجب حلب، وينتقل حاجب حماة الأمير سودون المؤيدي إلى الحجوبية الكبرى بحلب، وأن يستقر الأمير جمال الدين يوسف بن قلندور نائب خرت برت في نيابة ملطية، عوضًا عن الوزير الأمير غرس الدين خليل، ويستقر خليل المذكور أحد أمراء الألوف بدمشق، عوضًا عن الأمير ألطبغا الشريفي ، ويستقر الشريفي المذكور أميراً كبيرًا بحلب، عوضًا عن الأمير قطج وأن يحضر الأمير قطج إلى القاهرة، وجهزت تقاليدهم ومناشيرهم في سابع عشرينه، ورسم للأمير دولات باى المريدي الدوادار أن يكون متسفر الأمير جلبان نائب الشام، وأن يكون الأمير أرنبغا اليونسي رأس نوبة متسفر الأمير قانباى الحمزاوي نائب حلب، وأن يكون الأمير سودون المحمدي المعروف بأتمكجي رأس نوبة متسفر الأمير برسباى نائب طرابلس ، وخلع عليهم في تاسع عشرينه خلع السفر، فسافروا.(3/450)
وثبتت زيادة النيل إلى يوم الثلاثاء سابع عشرينه الموافق له ثامن بابة على أصابع من عشرين ذراعًا، وقد إنقضت أيام الزيادة وشمل الري أراضي الزراعات بالنواحي، ولم نعهد منذ سنين أن زيادة النيل ثبتت إلى هذا التاريخ من شهور القبط على هذا المقدار، إلا أن أسعار الغلال إرتفعت عما كانت عليه، لا سيما الفول، فإنه تجاوز المائتي درهم الأردب، بعد ثمانين، وقل وجود اللحم الضأن من قلة مراعي بلاد الصعيد، ولما وقع بها من الفتن.
وفي يوم الخميس ويوم الجمعة سلخه: طبق الأفق بالقاهرة جراد منتشر، فأضرب ببعض الزروع، وهلك سريعًا. وفيه أعيد محمد الصغير إلى ولاية دمياط، عوضًا عن ابن سلام.
شهر جمادي الأولى، أوله يوم السبت: فيه نودي من أراد السفر في رجب إلى الحجاز فليتجهز على المسير في نصفه، فسر الناس، وجدوا في أمر سفرهم.
وفي عاشره: برز الأمير شهاب الدين أحمد بن الأمير أينال أحد خواص السلطان، ليتوجه وصحبته أربعين مملوكًا لقتال بلى من عرب الحجاز.
وفي خامس عشره: إستقر الأمير مازي أحد الأمراء الألوف بدمشق في نيابة الكرك، عوضًا عن أقبغا التركماني، وقد قبض عليه وسجن بقلعة الكرك . وفيه إستقر محمد الصغر والى قوص في كشف الوجه القبلي، عوضًا عن أركماس الجاموس، وجهز له التشريف.
وفي عشرينه: خلع على الأمير أسنبغا الطياري، وإستقر في نيابة الإسكندرية، عوضًا عن يلبغا البهائي بعد وفاته، وأقر إقطاعه بيده.
ومضي في هذا الشهر عدة أيام من هتور أحد شهور القبط: والنيل ثابت على تسعة عشر ذراعًا، وهذا من النوادر.
وفي خامس عشرينه: رسم بالإفراج عن الأمير قراجا الأشرفي برسباى، وحضروه ليستقر أميرًا كبيرًا بحلب.
شهر جمادي الآخرة، أوله يوم الأحد: في خامسه: إتفقت بالقاهرة حادثة شنيعة، وهي أن بعض التجار تردد إليه قباني لوزن بضائعه مرارًا وسافر معه إلى الحجاز، فعرف بكثرة ملازمته له كثيرًا من ماله، وداخله الطمع، بحيث عزم على أنه يقتله ويأخذ ماله. ثم جاء إليه في الليل ومعه سكين ماضية قد أعدها لقتله، وأخفاها بين ثيابه، وقال. قد وقع بيني وبين زوجتي مخاصمة، وجئت لأبيت عندكم " . فأقام يحادث عبيده طائفة من الليل، وكان قد ورد إلى التاجر رجل مغربي من أصحابه وبات عنده، فلما ناموا، وهو يراقبهم حتى جن الليل، دخل على التاجر وذبحه، فإنتبه من نومه، وقد مضت السكين على حلقه، ولم تفري وديجيه، ودافعه عن نفسه، ومر لينجو وهو يصيح، فخرج البائس وذبح المغربي وهو نائم فقتله، ومال على عبد صغير فذبحه أيضًا، فثار به، وهذا البائس يضربه بالسكين مرارًا حتى مات، هذا وقد قام التاجر ودماؤه تشخب حتى صعد سطح الدار، وصاح بالجيران يغيثوه، فخرج إليه منهم طائفة، وإذا هم بهذا البائس قد خرج من بيت التاجر لينجو بنفسه، فقبضوا عليه، وأخذوا منه السكين، فقال إن عبد التاجر قام وذبح أستاذه وأراد ذبحي فدافعته عني وقتلته ، فرابهم أمره لكثرة ما رأوه عليه من دماء، ودخلوا به إلى بيت التاجر، فرأوا المغربي والعبد مذبوحين، والتاجر قد قطع خده وبعض رقبته، وكانوا قد بعثوا في طلب والى القاهرة، فأدركهم سريعًا، ورأى ما هنالك، وأعلمه التاجر بما جرى عليه من القباني، فتسلمه وأوثقه بالحديد، وطلع به بكرة إلى السلطان، فبعث على أنه إنما قتل العبد دفعًا عن نفسه، وأن العبد هو الذي قتل المغربي، وفعل بالتاجر ما فعل " وأني صرخت في العبد لما إنحط علي، فأخطأت يده حلقي، وقام عني، فثرت به عند ذلك ، فأمر السلطان أن ينظر القضاة في أمره، فحكم بعضهم نواب الحنفية بقتله، لأنه إعترف أنه قتل عبد التاجر ومذهبهم أن الحر يقتل بالعبد.
فسمره عند ذلك الوالي، وشهره على جمل، ثم وسطه، وقد إجتمع لرؤيته عالم لا يحصيهم إلا الذي خلقهم، فأكدت هذه الحادثة قول الأول أو إذا كان الغدر في الناس طباعًا فالثقة بكل أحد عجز، وكان هذا القباني شابًا عمره نحو العشرين سنة، وهو نحيف الجسم، وهو وأبوه وأمه وزوجته معروفون، فتكشف عن جرأة عظيمة، وتهور زائد، نعوذ باللّه من سوء عاقبة القضاء.
وفي هذا اليوم: قدم رسول القان معين شاه رخ ملك المشرق.
وفي ثانيه: قدم الأمير قراجا فخلع عليه، وإستقر أميرًا كبيرًا بحلب وسار إليها في ثاني عشره(3/451)
وفيه أحضر رسول القان وقت الخدمة السلطانية بالقصر، فقدم كتابه، فإذا فيه أنه بلغه موت الأشرف وجلوس السلطان على تخت الملك، فأراد أن يتحقق علم ذلك فأكرم وأنزل، ورسم بكتابة جوابه.
وفي هذا الشهر والذي قبله: إرتفعت أسعار كثير من المأكولات، وقل وجود الأجبان والألبان والسمن واللحم، وعاشت الدودة في الزروع فأكلتها، وأعيد البذر مرة، وفي بعض النواحي أكلت الدودة ما زرع ثانيًا، فزرع ثالث مرة، وغلا أيضًا سعر التبن والفول والشعير، ثم إنحل في هذا الشهر سعر الغلال.
وفي هذا الشهر: كان بين أصبهان بن قرا يوسف التركماني متملك بغداد وبين عليان أمير عرب العراق قتال إنهزم فيه أصبهان أقبح هزيمة، ولحق ببغداد وقد خرجت بأجمها، ولم يبق بها من أهلها إلا من لا يؤبه له، وهم قليل جدًا. وتعطلت منها الأسواق جلة، وحف معظم نخلها وإنقطعت مياه أنهارها، وصارت دون أقل القرى، بعد أَن أربت في العمارة على جميع مدائن الدنيا، حقا على اللّه ما رفع شيئًا من هذه الدنيا إلا وضعه.
شهر رجب، وأوله يوم الثلاثاء: فيه خرج ثقل الأمير قانبك المحمدي أمير الرجبية ومقدم المجردين إلى مكة، وأناخ ببركة الحجاج، وتلاحق به المسافرين طائفة بعد طائفة، ثم إستقلوا بالمسير من البركة في خامسه وفي يوم الإثنين رابع عشره: أدير محمل الحاج بالقاهرة ومصر على العادة في كل سنة، وزاد السلطان في عدة الصبيان الذين يلعبون بالرمح عما كانوا عليه في الأيام الأشرفية، وأنفق في الفرسان الذين ركبوا في هذا اليوم قدام المحمل مالاً، ولم تجر بذلك عادة، وكان الحال في هذا اليوم، وفي ليلته الماضية جميلاً، ولم يقع فيه شيء من الشناعات التي كانت تقع في الأيام الأشرفية، من فساد المماليك، وللّه الحمد. وفيه إستقر في نيابة غزة الأمير طوخ المؤيدي أحد أمراء الألوف بدمشق.
وفي عشرينه: قدم الأمير دولات باى الدوادار من دمشق، وقد كثرت أمواله مما حصل له في هذه السفرة، فإستقر على ما هو عليه من الدوادارية.
وفي حادي عشرينه: قدم ابن أينال من التجريدة إلى عرب بلى بالحجاز، ومعه أحد عشر رجلاً، سمورًا على الجمال، ثم طيف بهم القاهرة، ووسطوا، وكان من خبر ابن أينال معهم أنه لما سار من القاهرة لقيه الشريف عقيل المعزول عن إمرة ينبع، وقد كتب له بمساعدة المجردين على قتال بلى، فبعث أخاه ليأتي بأكابرهم إليه، وكتب يرغبهم في طاعة السلطان، فلم يطمئنوا إليه، فسار هو وابن أينال بمن معهم من المماليك والعرب، حتى طرقوا بلى، وقبضوا منهم على الجماعة المذكورين، وفر باقيهم، فنهبوا من بيوت بلى ما قدروا عليه، وخرجوا من أوديتهم، ومضي من المماليك ثلاثون فارسًا إلى المدينة النبوية، بدلاً من المماليك المجردة إليها صحبة الأمير خشقدم المقدم، وقدم من المماليك المتوجهة صحبة الأمير سودون المحمدي إلى مكة خمسون فارسًا، وعادوا إلى القاهرة.
وفي هذا الشهر والذي قبله: قل وجود اللحم بأسواق القاهرة، وإرتفع سعر أكثر المأكولات، وتوالى هبوب الرياح المريسية أيامًا كثيرة، خيف على الزرع منها أن يجف ليبسها، وعدم وقوع المطر، هذا مع إتلاف الدودة كثيرًا مما زرع. وفيه أيضًا غرق في البحر ما بين طرابلس الشام من دمياط بضعة عشر مركبًا موسرقة دبسًا وزبيبًا وغير ذلك، فإرتفع سعر الدبس من سبعة دراهم الرطل إلى عشرة، وغرق أيضًا فيما بين جدة والسويس عدة مراكب، هلك فيها خلق من الحجاج، وتلف بها من الدقيق وغيره شيء كثير، وللّه الأمر من قبل ومن بعد.
شهر شعبان، أوله يوم الأربعاء: في يوم الجمعة عاشره: تعذر وجود الخبز بأسواق القاهرة ومصر، وتمادى على ذلك من الغد وبعده.
وفي حادي عشره: خلع على بهاء الدين محمد بن نجم الدين عمر بن حجى، وكان قدم إلى القاهرة وإستقر في نظر الجيش بدمشق، عوضًا عن سراج الدين عمر بن أحمد ابن السفاح الحلبي، ورسم لإبن السفاح بنظر الجيش بحلب على ما كان عليه في الأيام الأشرفية، عوضًا عن صلاح الدين بن سابق. وفيه خلع أيضًا على جمال الدين يوسف بن أحمد الباعوني وإستقر في قضاء طرابلس، وكان ولي منذ أيام رجل من أهل دمشق يعرف بابن الزهري وتوجه من القاهرة، فعزل بابن الباعوني قبل وصوله إلى طرابلس، وكلاهما تكلف مالاً، ولا قوة إلا باللّه.(3/452)
وقدم الخبر بان دوكات ميلان يعني صاحب ميلان وهي طائفة من الفرنج، تجاوز مملكة البندقية، ولم يزالوا يحاربونهم، ولدوكات هذا مملكة متسعة، وله سطوة، ويوصف بعقل ومعرفة، وكان قد ملك جنوه مدة، ثم إنتزعت منه في سنة أربعين وثمانمائة، فلما كان في هذه الأيام كتب إلى البابا برومية يسائه ويرغب إليه في أن يجتمع به في محفل يجتمع فيه القسيسون والرهبان وأعيان الروم والفرنج، ليتفقوا جميعًا على أمر ديني يعقدوه، فأجابه إلى ذلك، فساروا جميعًا حتى توافوا على فرارة وهى في طرف مملكة دوكات ميلان يجوار مملكة فرنتين، وكان ذلك جمعًا عظيمًا بحيث ضاق بهم الفضاء، فساروا بأجمعهم ونزلوا أرض مدينة فرنتين، وذلك في فصل الصيف وفصل الخريف، ثم إفترقوا، وعاد كل منهم إلى وطنه، فبينما الدوك سائر إذ طرقه البنادقة على حين غفلة، فكانت بينهما وقعة عظيمة، قتل فيها ما شاء اللّه، وإنهزم دوكات أقبح هزيمة، وقد فني معظم عسكره ونهبت أمواله، وللّه الحمد، فإنه يقال إن إجتماعه بالبابا كان بسبب محاربته للمسلمين، وأن يفوض إليه التصرف والحكم، فكفي اللّه أمره.
وفي ثالث عشره: خلع على القاضي علاء الدين على بن محمد بن سعد المعروف بابن خطب الناصرية، وأعيد إلى قضاء حلب، وكان قدم القاهرة وعزل ابن الجزري.
وفي يوم الجمعة: إستقر وجود الخبز بحوانيت الأسواق بعد ما كان تعذر وجوده خمسة عشر يومًا بعامة أسواق القاهرة ومصر والجيزة، وتكالب الناس على طلبَ الدقيق من الطواحين، وكثر إزدحامهم على أبوابها، وقل وجود الغلال، وإرتفع سعرها، حتى بلغ سعر القمح ثلاثمائة درهم الأردب. وتجاوزت البطة من الدقيق مائة درهم، وقل مع ذلك وجود الشعير والفول والتبن، فقلق أرباب الدواب، وعزت المأكولات، لاسيما الألبان، فإنا لم نعهد فيما أدركناه من الغلوات أن اللبن قل كما قل في هذه السنة، وللّه عاقبة الأمور.
شهر رمضان، أهل بيوم الجمعة: والقمح بثلاثمائة وثلاثين درهمًا الأردب، والبطة من الدقيق بمائة عشرة دراهم، والخيول مرتبطة على البراسيم، وقد بلغ الفدان البرسيم زيادة على ألفي درهم، وقل وجود اللحم من الضأن بالأسواق عدة أيام في هذا الشهر، ولم يكد يوجد السمن ولا عسل النحل، هذا مع علو النيل وطول مكثه، ومع ذلك فلم تنجب عدة أنواع من الزروع، كاللفت، والفجل، والكزبرة، ونحو ذلك.
وفي حادي عشره: رسم بعزل معين الدين عبد اللطف بن شرف الدين أبى بكر الأشقر من كتابة السر بحلب، وأضيفت لإبن السفاح مع نظر الجيش، على مبلغ ستة آلاف دينار يقوم بحملها.(3/453)
وفي ثامن عشره: رسم لوالى القاهرة أن يستخدم مائة ماش يسعون في ركابه، وبين يديه إذا ركب، ونودي بألا يخرج أحد من المماليك السلطانية بالليل، وكانت الإشاعة بين الناس قد قويت بإختلاف أهل الدولة. وقدم الخبر بأن الأمير جلبان نائب الشام ركب في الموكب يوم السبت تاسعه على العاده، فوقفت العامة له تستغيث من غلاء اللحم، فإنه بلغ الرطل سبعة دراهم بعد ثلاثة دراهم، فلم يلتفت لهم، بل أمر مماليكه بضربهم، وكان جمع العامة كثيرًا فما هو إلا أن ضرب بعضهم إذا هم قد رجموا النائب ومن معه رجمًا متتابعًا، فإنهزم منهم من باب الجابية وقد ركبوا قفاه، وأقفية أصحابه، حتى عبروا من باب النصر إلى دار السعادة، وأغلق أبوابها، فتسوروا الحيطان، وعبثوا بطلخاناته يدقوها، وجمعوا الأحطاب وألقوها ليضرموا النار فيها، فأدركه الأمراء والقضاة، وكتبوا محضراً بصورة الحال، وبعثوا به إلى السلطان، وتلطفوا بالعامة حتى تفرقوا، فورد المحضر في يوم الجمعة ثاني عشرينه، فإشتد غضب السلطان على عامة دمشق، وجمع في يوم الأحد رابع عشرينه أمراء الدولة، واستدعي بالقضاة الأربع فحضر قاضي القضاة سعد الدين سعد الديري الحنفي، وقاضي القضاة بدر الدين محمد التنسي المالكي، وتأخر حضور قاضي القضاة شيخ الإسلام شهاب الدين أبى الفضل أحمد بن حجر الشافعي، وقاضي القضاة محب الدين أحمد الحنبلي، حتى حنق السلطان، وأمر فقرىء المحضر الوارد من دمشق، وأخذ يعدد لعامة دمشق ذنوبًا، منها قيامهم مع أينال الجكمى مدة عصيانه، ونهبهم بيوت الأمراء، وقتلهم جلبان شيخ كرك نوح، وصمم على وضع السيف فيهم، وإستلحامهم عن آخرهم، فكثرت مراجعة الأمراء في طلب العفو عنهم، والتأني بهم، إلى أن تقررت الحال على أن يجهز للنائب تشريف وفرس بقماش ذهب، وتقوى يده، وأن يكتب بالإنكار على العامة وتهديدهم، وبينما هم في ذلك إذ إستوذن على القاضيين أحمد بن حجر ومحب الدين البغدادي، فلم يؤذن لهما، وأظهر السلطان الغضب لبطئهما، وإنفض الجمع.
وفيه رسم بعزل الونائى، وإستقرار ابن قاضي شهبة في قضاء دمشق عوضه، ورسم بحضور الأمير أينال الششماني والأمير ألطنبغا الشريفي، وجهزت المراسيم بذلك، وأن يقرأ كتاب العامة في يوم الجمعة بجامع بنى أمية.
وفي هذا الشهر: ختمت قراءة صحيح البخاري بالقصر من قلعة الجبل بحضرة السلطان، وخلع على قضاة القضاة الأربع، ومشايخ العلم الحاضرين، وفرقت صرر الدراهم في جميع من حضر، وزادت عدتهم في هذه السنة عن عدة الحاضرين عن السنين الماضية زيادة كبيره وفي ثامن عشرينه: خلع على الأمير علاء الدين على بن محمد بن الطبلاوي والي القاهرة كان وإستقر نقيب الجيش، بعد موت ناصر الدين محمد أمير طبر. وفيه ورد كتاب الأمير ناصر الدين محمد بن منجك من دمشق، يخبر بورود كتاب القاضي زين الدين عبد الباسط إليه من مكة يشكو من ثقل الإقامة عليه بمكة، وأنها لم توافقه ولا أهله، وأنه يرغب في النقلة من مكة إلى القدس، فمازال القاضي كمال الدين محمد بن البارزي يتلطف بالسلطان حتى سمح بذلك، فكتب لابن منجك بأنه إذا توجه للحج في الموسم ينقله بأهله وولده ومملوكه الأمير جانبك إلى القدس، على أنه يكون في ضمانه، وكتب إلى الشريف بركات أمير مكة بذلك، وجهزت الكتب إلى ابن منجك.
وفي هذا الشهر والذي قبله: وقع بالطائف ووج ولية وعامة بلاد الحجاز، وباء عظيم، هلك من ثقيف وغيرهم من العرب عالم لا يحصيهم إلا خالقهم، بحيث صارت أنعامهم هملًا، وأخذها من ظفر بها. وإمتد الوباء إلى نخلة على يوم من مكة.
شهر شوال، أوله السبت: في هذا الشهر: انحل سعر الغلة، وكثر وجودها، وأبيع القمح من مائتي درهم إلى مائتين وخمسين درهمًا الأردب.
في هذا الشهر: إنحلت أسعار الغلال، ودخلت الغلة الجديدة، ثم بعد أيام تحرك سعر الغلال وإرتفع ثم اتضع.(3/454)
وفي يوم الخميس رأبعه: عقد السلطان على الخاتون بنت الأمير ناصر الدين محمد بيك بن دلغادر، بعد أن حمل لها المهر ألف دينار وشقق حرير وغير ذلك، وكانت تحت الأمير جانجك الصوفي، وأتت منه بإبنة لها من العمر نحو الثلاث سنين. وفيه خلع على الشيخ على بن العجمي أحد خواص السلطان كاملية بفرو سمور، وإستقر في حسبة مصر، فسار فيها سيرة حسنة، بعفة ونهضة. وفيه نودي بعرض أجناد الحلقة، فإبتدىء بعرضهم على السلطان في يوم السبت سادسه، فإمتحنهم في رمي النشاب، وأكد عليهم في تعليمه، ولم يبد لهم منه إلا الجميل، ثم فوض عرضهم إلى الأمير تغرى بردى الدودار.
وإتفق في هذا الشهر حادث شنيع، وهو أن السلطان يريد أن تكون تصرفاته على مقتضى أهل العلم، وهو يعلم أن القان معين الدين شاه رخ ملك المشرق كان يبعث بالإنكار على الأشرف برسباى لأخذه بجدة ساحل مكة من التجار الواردين إليها من الهند والصين، وهو من عشور أموالهم. وأن ذلك من المكس المحرم أخذه، فنمق بعض الفقهاء سؤالا يتضمن أن التجار المذكورين كانوا يردون إلى عدن من بلاد اليمن فيظلمون بأخذ أكثر أموالهم، وأنهم رغبوا في القدوم إلى جدة ليحتموا بالسلطان، وسألوا أن يدفعوا عشر أموالهم، فهل يجوز ذلك منهم فإن السلطان يحتاج إلى صرف مال كبير في عسكر يبعثه إلى مكة، فكتب قضاة القضاة الأربع بجواز أخذه وصرفه في المصالح، وتمحلوا لذلك ما قووا به فتواهم.
فإنطلقت الألسنة بالرقيعة في القضاة، وأنهم إعتادوا إتباع أهواء الملوك، خوفًا على مناصبهم أن يعزلوا منها، وأن هذه الفتوى بهذه الحادثة من جنس ما تقدم من الفتاوي في قرقماس يخشي بك وإيمان المماليك وأي فرق بين ما يؤخذ بقطيًا من التجار الواردين من بلاد الشام والعراق، وما يؤخذ بالإسكندرية من التجار، وما يؤخذ بالقاهرة ومصر ودمشق وسائر بلاد الشام من الناس عند بيعهم العبيد والإماء والخيل والبغال والحمير والجمال وغير ذلك، وبين ما يؤخذ من أموال التجار الواردين إلى جدة فإن كل أحد يعلم أن ذلك كله مكس لا يحل تناوله ولا الأكل منه، وأن الآكل منه فاسق، لا تقبل شهادته لسقوط عدالته، ولكن الهوى يعمي ويصم، وما كفتهم وما أغنتهم هذه الحالة حتى بعثوا بالفتاوي، فقرئت بالمسجد الحرام على رؤوس الأشهاد، ليقضى اللّه أمرا كان مفعولا.
وفي يوم الخميس عاشره: كتب بإستقرار برهان الدين إبراهيم بن الباعوني في خطابة الجامع الأموي بدمشق، عوضًا عن ابن قاضي شهبة.
وفي سادس عشره: قدمت رسل ملك الروم خوند كار مراد بن محمد كرشجي بن بايزيد بن عثمان.
وفي ثامن عشره: قدم الأمير أينال الششماني، والأمير ألطنبغا الشريفي من دمشق. وفيه خلع على ناصر الدين محمد بيك بن دلغادر خلعة السفر، وسافر يوم الإثنين ثاني عشرينه، بعد أن بلغت النفقة عليه ثلاثين ألف دينار. وفيه حضرت رسل مراد بن عثمان وقت الخدمة بالقصر، وقدموا هديته، وهى عشرة مماليك، وثياب حرير، وفرو سمور، وغير ذلك مما تبلغ قيمته نحو خمسة آلاف دينار، وتضمن كتبه السلام، وتهنئة السلطان بجلوسه على تخت الملك، وإن تأخر إرساله بالتهنئة لإشتغاله بمحاربة بني الأصفر حتى ظفره اللّه بهم. وفيه رسم بفك قيد الأمير أينال و نفله من سجنه بصفد إلى موضع أوسع منه، وأن يتوجه إليه من جواريه من تخدمه.
شهر ذي الحجة الحرام، أوله يوم الثلاثاء: فيه خلع على نور الدين على بن أقبرس، أحد نواب الشافعية، وإستقر في نظر الأوقاف، عوضًا عن تقي الدين بن تاج الدين عبد الوهاب بن نصر اللّه، وهذا الرجل نشأ بالقاهرة في سوق العنبرانيين وطلب العلم، وناب في الحكم عن الحافظ قاضي القضاة شهاب الدين أبى الفضل أحمد بن حجر، وصحب السلطان منذ سنين، وصار ممن يتردد إلى مجلسه أيام سلطته، فداخل الناس منه وهم كبير، ولم يبد منه إلا خيرًا.(3/455)
وفي يوم الأربعاء سادس عشره: نودي بمنع المعاملة بالدراهم الأشرفية، وأن تكون المعاملة بالدراهم الظاهرية الجدد، وهدف من خالف ذلك، فإضطرب الناس لتوقف أحوال في المبيعات، فنودي آخر النهار بأن الفضه الأشرفية تدفع إلى الصيارف بسعرها، وهو كل درهم بعشرين درهمًا من الفلوس، وأن تكون المعاملة بالظاهرية الجدد، وهي دراهم ضربت بإسم السلطان، على أن يكون وزن كل درهم فضة بأربعة وعشرين درهمًا من الفلوس، وجعلت عددًا لا وزنًا، فمنها ما هو نصفي درهم عن إثنا عشر درهمًا ومنها ما هو ربع درهم فيصرف بستة دراهم، على أن كل دينار من الدنانير الأشرفية التي هي الآن النقد الرائج بمائتين وخمسة وثمانين درهمًا من الفلوس وكانت الصيارف قد جمعت، ودفع إليها من الدراهم الظاهرية المذكورة جملة ليفرقوها في الناس ، فجلسوا لذلك، وصاروا يأخذون الأشرفية على محادتها بعشرين درهمًا، كل درهم وزنًا، ويعوضون عنها من الظاهرية الجدد كل درهم بأربعة وعشرين، لكنها بالعدد لا بالوزن.
ثم يدخلون بالأشرفية إلى دار الضرب ويعيدونها ظاهرية، هذا والناس مع ذلك يتعاملون في بيعهم وشرائهم وقيم أعمالهم بالأشرفية على عادتهم وزنا، فصار للناس بالقاهرة ستة نقود، ثلاثة من الذهب، وإثنان من الفضة، وواحد من الفلوس، فأما الذهب فإنه هرجة، وهو قليل جدًا، وأفرنتي من ضرب الفرنج، وقد قل عما كان عليه منذ أخذ الأشرف برسباى في ضرب الأشرفية وسبك الأفرنتية وإعادتها أشرفية، والنقد الثالث من الذهب الدنانير الأشرفية وهي النقد الرائج، وقد كثرت بأيدي الناس لاسيما منذ أنفق السلطان ذخائر الأشرف في المماليك وغيرهم.
وأما الفضة فإن الدراهم الأشرفية دائرة في أيدي الناس على ما هي عليه وزنًا لعشرين درهما كل درهم، والدراهم الظاهرية الجدد يتعامل بها عددًا بحساب كل درهم بأربعة وعشرين درهمًا، وأما الفلوس الأشرفية والظاهرية، فإنها عددًا لا وزنًا، يعد في كل درهم ثمانية فلوس، فيصرف الدرهم الأشرفي بمائة وستين فلسًا، ويصرف الدرهم الظاهري الجديد بمائة وإثنين وتسعين فلسًا، وإذا، إعتبرت بالوزن كان كل رطل منها بستة وثلاثين درهمًا من الفلوس، ولا أعلم أنه وقع في تعدد النقود المتعامل بها مثل ذلك، وإنما كان الناس قديمًا وحديثًا نقدهم الرائج الذي تنسب إليه أثمان المبيعات وقيم الأعمال الذهب الهرجة المضروب بالسكة الإسلامية، ومع هذا الذهب الدراهم والفلوس، ثم كثرت الدراهم الكاملية أو الظاهرية بمصر والشام والحجاز في الدولة التركية، حتى صارت هي النقد الرائج، وإليها ينسب سعر الدينار الرجة وأثمان المبيعات كلها وقيم الأعمال بأسرها، والفلوس مع ذلك إنما هي لشراء المحقرات من المبيعات .
فلما أكثر الأمير محمود الأستادار في الأيام الظاهرية برقوق من ضرب الفلوس، صارت الفلوس هي النقد الرائج دون الذهب والفضة ، ونسب إليها سعر الدينار الذهب والدرهم الفضة، وجميع أثمان المبيعات بأسرها، وعامة قيم الأعمال إلى أن ضرب المؤيد شيخ الدراهم، صار للناس ثلاثة نقود: وهي الذهب والفضة والفلوس.
وكان الذهب أربعة أقسام. هرجة وهو قليل جدًا، وسالمي وهو قليل لا يوجد منه إلا في النادر، وأفرنتي وهو كثير جدًا قد طبق الأرض وكثر بعامة بلاد الله، والدينار الناصري وهو أقل من الأفرنتي، والنقد الثاني الدراهم المؤيدية وتعامل الناس بها عددًا لا وزنًا، والنقد الثالث الفلوس، ويتعامل بها وزنًا كل رطل بستة دراهم، وربما زاد الرطل عن الستة دراهم، وهذه الفلوس هي النقد الرائج المنسوب إليه أثمان المبيعات وقيم الأعمال، وأراد المؤيد شيخ أن يجعل قيم الأعمال وأثمان المبيعات منسوبة إلى الدراهم المؤيدية، فعمل ذلك مدة يسيره، ثم عادت الفلوس هي المنسوب إليها قيم الأعمال وثمن المبيعات فلما كانت الأيام الأشرفية برسباى، وضرب الدراهم الأشرفية عملها وزنًا كل درهم بعشرين درهمًا من الفلوس، فبطلت الدراهم المؤيدية.
وضرب أيضا الدنانير الأشرفية، وجد في إبطال الدنانير الأفرنتية، حتى قلت، وجدد أيضًا ضرب الفلوس الأشرفية عددًا، ومات والنقود على هذا، فمازالت كذلك حتى جدد السلطان الآن هذه الدراهم الظاهرية الجدد، وقد تقدم في هذا الكتاب تفصيل هذه الجملة في أوقاتها.(3/456)
وفي ثاني عشرينه: خلع على غرس الدين خليل بن أحمد بن على السخاوي أحد خواص السلطان وإستقر في نظر القدس والخليل عوضًا عن الأمير طوغان نائب القدس، وهذا الرجل قدمت به وبأخيه أمهما إلى القدس صبيان، فنشأ بها، ثم قدم القاهرة وإستوطنها مدة وعانى المتجر وتعرف بالأمير جقمق وصحبه سنين، وتحدث في إقطاعه وما يليه من نظر الأوقاف، فعرض بالنهضة، وشهر بالخير والديانة، فلما تسلطن الأمير جقمق لازم حضور مجلسه حتى ولاه نظر القدس والخليل.
وفي هذا اليوم: توجه الأمير علاء الدين على بن أينال أحد خواص السلطان إلى ملك الروم مراد بن عثمان بهدية جليلة. وفيه قدم مبشرو الحاج، وأخبروا بسلامة الحجاج، وأن كراء الجمال بلغ الغاية لكثرة من بمكة من المجاورين، بحيث بلغ كراء الجمل أربعين دينارًا. وأن الشريف بركات بن حسن بن عجلان أعفى من تقبيل خف جمل المحمل، فشكر هذا من فعل السلطان، وأن الفتاوي الذي تقدم ذكرها بسبب أخذ العشور من التجار بجدة قرئت بالمسجد الحرام على رؤوس الأشهاد، وقرىء المرسوم السلطاني أيضًا بألا يؤخذ من التجار الواردين في البحر إلى جدة سوى العشر فقط، ويؤخذ صنفا لا مالاً من كل عشرة واحد، وأن يبطل ما كان يؤخذ سوى العشر من رسوم المباشرين ونحوهم، فكان هذا من جميل ما فعل، ورسم أيضًا بأن تمنع الباعة من المصريين الذين سكنوا مكة وجلسوا بالحوانيت في المسعى وحكروا المعايش ، وتلقوا الجلب من ذلك، وأن يخرجوا من مكة، فشكر ذلك أيضًا، فإن هؤلاء الباغين كثر ضررهم، وإستقووا بحماية المماليك لهم، فغلوا الأسعار وأحدثوا بمكة ما لم يعهد بها، وعجز الحكام عن منعهم لتقوية المماليك المجردين لهم بما يأخذونه منهم من المال.
وفي تاسع عشرينه: أفرج عن ابن أبي الفرج أستادار، وخلع عليه.
وفي هذا العام: جرت حروب بأفريقية من بلاد المغرب، وذلك أنه لما مات أبو فارس عبد العزيز، وقام من بعده حفيده المنتصر أبو عبد اللّه محمد بن أبى عبد الله ولى عمه أبا الحسن على بن أبي فارس بجاية وأعمالها، فلما مات المنتصر، وقام من بعده أخوه أبو عمرو عثمان بن أبي عبد الله، إمتنع عمه أبو الحسن من مبايعته، ورأى أنه أحق منه، ووافقه فقيه بجاية منصور بن على بن عثمان وله عصبة وقوة فإستبد بأمر بجاية وأعمالها، فسار أبو عمرو من تونس في جمع كبير لقتاله، فالتقيا قريبًا من تبسة وتحاربا، فإنهزم أبو الحسن إلى بجاية، ورجع أبو عمرو إلى تونس، ثم خرج أبو الحسن من بجاية، وضم إليه عبد الله بن صخر من شيوخ إفريقية، ونزل بقسطنطينة وحصرها وقاتل أهلها مدة، فسار إليه أبو عمرو من تونس في جمع كبير، فلما قرب منه سار أبو الحسن عائدًا إلى جهة بجاية، فتبعه أبو عمرو حتى لقيه وقاتله، فإنهزم منه بعد ما قتل أبو الحسن عدة من أصحابه، وعاد كل منهما إلى بلده، فلما كان في هذه السنة أعمل أبو عمرو الحيلة في قتل عبد الله بن صخر حتى قتله، وحملت رأسه إليه بتونس، ففت ذلك في عضد أبي الحسن، ثم جهز أبو عمرو العساكر من تونس في إثر ذلك، فنازلت بجاية عدة أيام، حتى خرج الفقيه منصور بن على إلى قائد العسكر، وعقد معه الصلح ودخل به إلى بجاية، وعبر الجامع وقد أجتمع به الأعيان.
وجاء أبو الحسن ووافق على الصلح وأن تكون الخطبة لأبي عمرو، ويكون هو ببجاية في طاعته، وترجع العساكر عن بجاية إلى تونس، فلما تم عقد الصلح أقيمت الخطة باسم أبي عمرو، وعادت العساكر تريد تونس فبلغهم أن أبا عمرو خرج من تونس نحوهم لقتال أبي الحسن، فأقاموا حتى وافاهم، ووقف على ما كان من أمر الصلح، فرضي به، وأخذ في العود إلى جهة تونس، فورد عليه الخبر بأن أبا الحسن خاف على نفسه من أهل بجاية، فخرج ليلاً حتى نزل جبل عجيسة فأقر عساكره حيث ورد عليه الخبر، وسار جريدة في ثقاته، ودخل مدينة بجاية، فسر أهلها بقدومه، وزينوا البلد، فرتب أحوالها وإستخلف بها أصحابه، وعاد إلى معسكره، واستدعي شيوخ عجيسة فأتاه طائفة منهم فأرادهم على تسليم أبى الحسن إليه، وبذل لهم المال، فأبوا أن يسلموه، فتركهم وعاد إلى توذس فكثر جمع إلى الحسن بالجبل، وأقام به مدة، ثم خاف من عجيسة أن تغدر به، ولم يأمنهم على نفسه، فسار ونزل جبل عياض قريبًا من الصحراء، وللّه عاقبة الأمور.(3/457)
وفي هذا الشهر: قدم عسكر من مدينة طرابلس، فنازلوا قلعة الكهف ومدينتها وبها إسماعيل بن العجمي أمير الإسماعيلية مدة أيام، حتى أخذوها، وهدموا القلعة حتى سووا بها الأرض، وأنعم على إسماعيل المذكور بإمرة في طرابلس، فزالت قلعة الكهف، وكانت أحد الحصون الإسماعلية المنيعة وذلك بسعاية ناصر الدين محمد، وحجي، وفرج، أولاد عز الدين الداعي.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
الأمير أقبغا التمرازى نائب الشام وهو من مماليك الأمير تمراز أحد مماليك الظاهر برقوق، تّرقى بعد موت أستاذه حتى صار من الأمراء، وولى نيابة الإسكندرية مدة، ثم عاد إلى القاهرة، حتى ولي نيابة الشام فلم تطل مدته بها حتى مات في يوم السبت سادس عشر شهر ربيع الآخر من غير تقدم مرض، بل ركب ولعب بالكرة في الميدان، ثم لعب بالرمح، وإذا به مال عن سرحه، فتلقوه ووضعوه في بيت، ثم حملوه وهو غائب إلى دار السعادة فمات في أخر النهار، وكان مشهورًا بالفروسية، معروفًا بالديانة، وقيام الليل، والعقل، والتؤدة.
ومات الأمير يلبغا البهائي نائب الإسكندرية، في يوم الخميس ثالث عشر جمادي الأولي.
ومات الأمير طوخ مازي نائب غزة، وأحد المماليك الناصرية فرج، في ليلة السبت خامس شهر رجب، ومستراح منه، فقد كان من شرار خلق اللّه، فسقًا، وظلمًا، وطمعًا ومات الأمير قطج الناصري في يوم الإثنين ثامن عشر شهر رمضان، وهو أحد المماليك الناصرية فرج، ترقي في الخدم حتى صار من الأمراء مقدمي الألوف ثم أخرج إلى الشام فتنقل في إمريات بحلب ودمشق، ثم قدم القاهرة ووعد بإمرة، فلم تطل إقامته حتى مات، وترك مالاً جزيلاً، وكان من الشح المفرط والطمع الزائد في غاية يستحي من ذكرها. ومات الأمير ناصر الدين محمد أمير طبر ونقيب الجيش، ليلة الخميس ثامن عشرين رمضان، وكان مشكوراً.
ومات قاضي حلب علاء الدين على بن محمد بن سعد بن محمد بن على بن عثمان المعروف بإبن خطيب الناصرية الحلبي الشافعي، في ليلة الثلاثاء تاسع ذي القعدة بحلب، ومولده سنة أربع وسبعين وسبعمائة، وكان بارعًا في الفقه والأصول والعربية، مشاركًا في الحديث والتاريخ، وغير ذلك مع الرياسة، وشهرة الذكر، وكثرة المال. قدم القاهرة غير مرة، وبلونا منه علمًا جمًا وإستحضارًا كثيرًا، مع الإتقان وحسن المحاضرة، ولم يخلف بعده بحلب مثله، وكتب تاريخًا لحلب، ذيل به على تاريخ ابن العديم.
ومات جمال الدين محمد بن أحمد بن عمد بن محمود بن إبراهيم بن أحمد بن روزبة الكازروني الأصل، المدني المولد والمنشأ والوفاة، الشافعي، في يوم الأربعاء عاشر ذي القعدة، بالمدينة النبوية، ودفن بالبقيع، مولده في ليلة الجمعة سابع عشر ذي القعدة، سنة سبع وخمسين وسبعمائة بالمدينة. برع في الفقيه وغيره ، وولي قضاء المدينة مدة يسيرة، ثم عزل، ولم يعد إلى ولايتها وقدم القاهرة مرارًا، وصحبني سنين، رحمه اللّه.
ومات مجد الدين ماجد بن النحال كاتب المماليك، في ليلة السبت سادس ذي الحجة، وكان من نصارى مصر، وتخرج في الحساب على الأسعد البحلاق، وخدم بديوان الأمير نوروز الحافظي بدمشق، ثم بديوان الأمير جقمق الدوادار في أيام المؤيد شيخ، وأظهر الإسلام، ثم ولي كتابة المماليك، ولا دين ولا دنيا. ومات نائب الكرك الأمير أقبغا التركماني، وهو في السجن بالكرك. ومات سودون المغربي متولي دمياط بالقاهرة بطالاً، وقد أعيد من النفي في ذي الحجة، وكان عفيفًا عن الفواحش.
سنة أربع في أربعين وثمانمائة(3/458)
أهلت هذه السنة، والخليفة المعتضد باللّه أبو الفتح داود بن المتوكل ، وسلطان الإسلام الملك الظاهر سيف الدين أبو سعيد جقمق، والأمير الكبير يشبك الظاهري ططر، وأمير سلاح الأمير تمراز القرمشي، وأمير مجلس الأمير حرباش الكريمي قاشق، والمقام الناصري محمد ابن السلطان أحد مقدمي الألوف، والدوادار الكبير الأمير تغرى بردى البكلمشي ويعرف بالمؤذى، وأمير أخور كبير الأمير قراجًا الحسني الناصري، وحاجب الحجاب الأمير تنبك بن تنبك ، ورأس نوبة الأمير تمرباى الظاهري ططر، وبقية الأمراء المقدمين الأمير أينال العلاي الأجرود، والأمير شادي بك الظاهري ططر، والأمير ألطنبغا المرقبي، والأمير أسنبغا الطياري وهو نائب الإسكندرية، ونائب الشام الأمير جلبان المؤيدي، ونائب حلب الأمير قانباى الحمزاوي ونائب طرابلس الأمير برسباي والناصري، ونائب حماة الأمير برد بك العجمي، ونائب صفد الأمير قانبيه البهلولان، ونائب غزة الأمير طوخ المؤيد، ونائب القدس الأمير طوغان السيفي ألطبغا العثماني، ونائب الكرك الأمير مازي، ونائب الوجه القبلي من ديار مصر الأمير محمد الصغير ونائب البحيرة الأمير قشتمر المؤيدي، وكاتب السر القاضي كمال الدين محمد بن البارزي، وناظر الجيش شيخ الشيوخ محب الدين محمد بن الأشقر، والوزير الصاحب كريم الدين ابن كاتب المناخ، وناظر الخاص الصاحب جمال الدين يوسف ابن كاتب حكم، وأستادار الأمير ناصر الدين محمد بن أبي الفرج، وقضاة القضاة على حالهم، والمحتسب الأمير تنم المؤيدي، والوالي الأمير قراجا البواب، والأسعار رخية بحمد الله.
شهر الله المحرم الحرام، أهل بيوم الخميس: ففي يوم الخميس ثامنه: خلع على طوغان السيفي علان ويقال له رقز، أحد أمراء العشرات، ومن جملة أمراء أخورية، وإستقر أستادار السلطان عوضًا عن ابن أبي الفرج، وقبض على ابن أبي الفرج، وعوق بالقلعة إلى يوم الأحد حادي عشره، تسلمه الصاحب الوزير كريم الدين ابن كاتب المناخ، ونزل به إلى بيته.
وفي يوم الإثنين ثاني عشره: خلع على سراج الدين عمر الحمصي وأعيد إلى قضاء القضاة بدمشق، عوضًا عن ابن قاضي شهبة. وكان قد قدم إلى القاهرة، وعني به بعض أهل الدولة، حتى أعيد إلى وظيفة القضاء، وسار من القاهرة إلى محل ولايته بدمشق في عشرينه.
وفي يوم الثلاثاء عشرينه: نودي على النيل بزيادة ثلاثة أصابع، وجاءت القاعدة وهي الماء القديم ست أذرع وأربع أصابع.
وفي يوم الأربعاء حادي عشرينه : قدم الأمير جرباش الكريمي قاشق من الحج، ومعه إبنته زوجة السلطان في ركب من الحجاج، وحكيت عنه أمورًا، منها أنه رسم على قاضي المدينة النبوية ليحضر لخوند إبنته خمسين صاعًا من تمر، فبعد لأي أخذ منه ثلاثين صاع تمر وأشياء من هذا، مع المال الجم والشيخوخة. ثم قدم من الغد ركب ثان، وقدم محل الحاج بركب ثالث في يوم الجمعة ثالث عشرينه، تتمة أربع ركوب، وقد مات جماعة كثيرة في الطريق من حر بسموم محرق، وهلك معظم الجمال، بحيث مشي من لم يعتد بالمشي، ورمي الناس أمتعهم لعجزهم عن حملها، مع عسف أرماء الركب، فكانت رجعتهم مشقة لما نزل بهم من أنواع البلاء.
وفي يوم السبت رابع عشرينه: خلع على زين الدين يحيى الأشقر قريب بن أبى الفرج، وإستقر في نظر الديوان المفرد رفيقًا للأمير طوغان قز، عوضًا عن عبد العظيم بن صدقة وقد قبض عليه ونقل ابن أبي الفرج من تسليم الوزير، وسلم هو وعبد العظيم للأمير طوغان قز الأستادار، فعاقب ابن أبي الفرج، وأفحش في عقوبته من غير تجمل ولا إحتشام.
وفي يوم الإثنين سادس عشرينه: قبض على بهاء الدين أبي البركات الهيتمي، أحد نواب قاضي القضاة الشافعي، وسجن في البرج بالقلعة، بغير موجب يقتضي ذلك ثم أفرج عنه .
وفي يوم الجمعة سلخه: أمر شيخ الإسلام قاضي القضاة شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن حجو الشافعي أن يلزم بيته، واستدعي برهان الدين إبراهيم بن شهاب الدين أحمد بن إبراهيم بن الشيخ شهاب الدين أحمد بن ميلق أحد نواب القاضي الشافعي حتى خطب بجامع القلعة، وصلى السلطان صلاة الجمعة.(3/459)
ونقل ابن أبي الفرج من بيت الأمير طوغان قز أستادار إلى تسليم الصاحب برهان الدين إبراهيم ابن كاتب جكم ناظر الخاص، بعدما حمل عشرة آلاف دينار وتأخر عليه أربعة آلاف دينار، مما ألزم به، وأسلم عبد العظيم إلى الوزير الصاحب كريم الدين ابن كاتب المناخ، ليحمل ألفي دينار.
وفي هذه الأيام: وقع الإهتمام بتجهيز تجريدة في البحر لغزو الفرنج. وفيها قدم القاضي زين الدين عبد الباسط بأهله وعتيقه الأمير جانبك أستادار من مكة إلى بيت المقدس، ليقيم به حسب ما رسم له به، فنزل بمدرسته التي أنشأها على مسجد بيت المقدس، فسكن جأشه، لأنه كان كثير القلق وهو بمكة.
شهر صفر، أوله يوم السبت: في يوم الإثنين ثالثه: خلع على الحافظ قاضي القضاة شهاب الدين أبي الفضل أحمد ابن على بن حجر الشافعي وإستمر على عادته ، بعد أن عين شمس الدين محمد الونائي لولاية قضاء القضاة، فقام المقام الناصري محمد ابن السلطان في إستقرار الحافظ شهاب الدين حتى إستقر، وللّه الحمد، فو الله ما يبلغ أحدهم في العلم مده ولا نصيفه، وكان سبب هذه الحادثة أن رجلاً أسند وصيته بعد موته لإمرأتيه، وأقام عليهما ناظرًا سماه في وصيته. ومات الموصي، فأقام القاضي رجلاً يتحدث مع الناظر، فإختلفا وترافعا إلى السلطان فأنكر السلطان إقامة الرجل المتحدث مع الناظر، وسجن أبا البركات الهيتمي من أجل أنه أثبت أهلية المذكور، وأذن له في التحدث مع الناظر في تركة الموصي. وأمر بالرجل المتحدث مع الناظر، فعمل في الحديد، وسجن أيضًا فكثرت الشناعة على ابن حجر بلا موجب، إلى أن فوض السلطان أمر تركة الموصي إلى من يثق به من أمرائه، فجمع الناظر على التركة والرجل الذي أقامه القاضي يتحدث معه وحسابهما، فلم يجد في جهة المتحدث مع الناظر شيئًا من التركة، وظهر أن تلك الشناعات كلها كذب. فلما تبين للسلطان حقيقة الأمر سكنت حدة غضبه، وأفرج عن الهيتمي وعن الرجل المتحدث مع الناظر، وأقر قاضي القضاة على عادته.
وفي يوم الأربعاء ثاني عشره: قدمت تقدمة القاضي زين الدين عبد الباسط من القدس، على يد دوادره أرغون أحد مماليكه، وهي فرسان، وعشرون جملاً، وشاشات، وأزر وصيني، وثياب حرير، وتخت يماني، وغير ذلك مما تبلغ قيمة الجميع نحو الألفي دينار، فقبل السلطان ذلك، وقرئ عليه كتابه، فشكره، وخلع على أرغون. وفيه أفرج عن ابن أبي الفرج، فلزم داره.
وفي يوم الإثنين خامس عشرينه وهو أول مسرى: نودي على النيل بزيادة ثلاثين إصبعًا، لتتمة أربع عشرة ذراعًا وإصبعين، وهذا القدر من الزيادة ومبلغ الأذرع مما يستكثر في أول مسرى ولله الحمد.
وفيه خلع على الأمير عيسى بن يوسف بن عمر الهواري أمير هوارة بالصعيد، وقد رضي السلطان عن بني عمر بن عبد العزيز أمراء هوارة ورسم بإحضار أخيه الأمير إسماعيل من سجنه بمدينة الكرك، ليستقر على عادته في إمرة هوارة، على أن يحمل سبعين ألف دينار، يعجل منها أربعين ألف دينار.
وفي يوم الأربعاء سادس عشرينه: رضي السلطان على الأمير أيتمش الخضري، وخلع عليه بشفاعة بعض الأمراء.
وفي يوم الخميس سابع عشرينه ورابع مسرى: نودي بوفاء النيل ست عشرة ذراعًا وإصبعين، من سبع عشره، فركب المقام الناصري محمد إلى المقياس حتى خلق العامود بين يديه على العادة، ثم فتح الخليج، وكان وفاء النيل في رابع مسرى من النوادر التي يجب الحمد للّه عليها.
شهر ربيع الأول، أوله يوم الأحد: وفي هذا الشهر والذي قبله: كثرت الفواكه والبطيخ، بزيادة في الطيب والخصب ورخص السعر، وللّه الحمد.
وفي يوم الإثنين تاسعه: إنحدر من ساحل بولاق ظاهر القاهرة خمسة عشر غرابًا لغزو الفرنج، بأحسن هيئة، وأكمل عدة، وأتم زاد، وفيها من الأجناد والمطوعة جماعة. فعلى الأجناد وعدتهم مائتان تغرى برمش الزردكاش من أمراء العشرات، ويونس المحمدي أمير أخور من العشرات أيضًا، وسبب هذه التجريدة كثرة عبث المتجرمة من الفرنج، وأخذها مراكب التجار بما فيها، فأنشأ السلطان هذه الأغربة وشحنها بما تحتاج إليه من العدد والأسلحة والمقاتلة، وسيرها، عسى اللّه أن يظفرهم، فانضم إليهم طوائف من أوغاد العامة، وأراذل المفسدين، ومن الزعر المجرمين، حتى بلغوا ألفًا أو يزيدون. و لم ينفق في المماليك مال.(3/460)
وفي يوم الأربعاء حادي عشرينه: ضربت رقبة رجل من سقاط العجم وسفلتهم، وقد ثبت عليه بشهادة جماعة فوادح وعظائم أوجبت إراقة دمه شرعًا، وكان من جملة أشياع الأمير قرقماس المقتول، وتكلم في السلطان وفي الأنبياء وغيرهم تعجل به العقوبة " ومن ورائه عذاب غليظ " .
وفي يوم الخميس ثماني عشره: خلع على الأمير إسماعيل بن يوسف بن عمر بن عبد العزيز الهواري، وإستقر في إمرة هوارة على عادته، وكان قد عزل بيوسف بن محمد بن إسماعيل بن مازن، وسجن وأشيع أنه يقتل، وخرجت العساكر إلى بلاد الصعيد لقتال هوارة، ثم نفي إلى الكرك ، وسجن بها، فلم تطع هوارة ابن مازن، وجرت مفاسد ببلاد الصعيد آلت إلى فرار ابن مازن وعوده خائبًا إلى السلطان، فقام عدة من الأمراء في عود بني عمر، حتى أجابهم السلطان بعد ما إختلت أحوال البلاد خللاً فاحشًا، وللّه عاقبة الأمور.
وفي هذه الأيام: رسم بتتبع من في القاهرة وظواهرها من العجم الذين يطوفون بالأسواق وفي الطرقات، يستجدون الناس تارة، ويظهرون الصلاح تارة، فقبض على عدة منهم، فضرب قوم نفي جماعة، وضرر هذه الطائفة كثير جدًا فإن كثيرًا منهم ينتحلون مذهب الإلحاد، ويصرحون بتعطل الصانع تعالى ، وينكرون شرائع الأنبياء، ويجهرون بإباحة المحرمات، فاللّه يبيدهم، ويعجل بعقوبة من ينصرهم.
وفي يوم الأحد سادس عشره: عمل المولد النبوي بقلعة الجبل بين يدي السلطان على العادة في مثل ذلك.
وفي خامس عشرينه: جهزت كاملية حرير بفرو سمور للقاضي زين الدين عبد الباسط ، على يد مملوكه أرغون، وكتب بشكره على تقدمته. وفيه تأخر المقر الكمالي محمد بن البارزي عن الركوب إلى الخدمة السلطانية، تبرمًا بثقل مقالبة الخدمة السلطانية، وطلبًا للإعفاء من المباشرة، فأتاه عظماء الدولة يتلافوا خاطره، وهو مصمم على ترك المباشرة، فما زالوا به حتى ركب من الغد يوم الأربعاء سادس عشرينه إلى الخدمة، فخلع عليه، ونزل في موكب جليل إلى داره، وأعيان الدولة وأماثلها بين يديه، فباشر الأمور، ونفذ أحوال الناس على عادته.
وفي يوم الأحد سلخه وهو آخر أيام النسيء : نودي على النيل بزيادة إصبع لتتمة عشرين ذراعًا إلا إصبعًا واحدًا، وهذا القدر من الزيادة في مثل هذا الوقت من الشهور القبطة كثير جدًا، وهو مما يندر وقوعه، وللّه الحمد. وفيه كتب بإستقرار صلاح الدين خليل بن محمد بن محمد بن محمد بن سابق الحموي في كتابة السر بدمشق، عوضًا عن شهاب الدين أحمد بن زين الدين عبد الرحمن العجلوني .
شهر ربيع الآخر، أوله يوم الثلاثاء: فيه وقع الشروع في الاهتمام بملاقاة رسل القان معين الدين شاه رخ بن تيمور كركان ملك المشرق.
وفي يوم الإثنين سابعه: خلع على قاضي القضاة بدر الدين محمود العيني الحنفي وأعيد إلى حسبة القاهرة، وكان منذ عزل عن قضاء القضاة الحنفية متوافرًا على مباشرة نظر الأحباس.
وفي يوم الثلاثاء ثامنه: وردت تقدمة ثانية من زين الدين عبد الباسط من القدس، وهي ثمانية أفراس، ومائة درهم مينًا فضة.
وفي يوم الخميس رابع عشرينه وخامس عشرين توت : إنتهت زيادة النيل إلى أحد وعشرين إصبعًا من أحد وعشرين ذراعًا، فشمل الري الأراضي وعم به النفع، وللّه الحمد.
وفي يوم السبت سادس عشرينه : قدم رسل شاه رخ إلى القاهرة، وقد زينت الشوارع لقدومهم، وخرج المقام الناصري ولد السلطان وعدة أمراء إلى لقائهم. وأجتمع الناس لرؤيتهم، فكان يومًا مشهودًا، لم نعهد مثله لقدوم الرسل في الدول المتقدمة، ثم أنزلوا في دار أعدت لهم، ثم توجهوا من دارهم بخط بين القصرين إلى القلعة في يوم الإثنين ثامن عشرينه، والمدينة مزينة بأحسن زينة، والشموع وغيرها تشعل، وقد اجتمع عالم عظيم لرؤيتهم، وأوقفت العساكر من تحت القلعة إلى باب القصر في وقت الخدمة، فلما مثل الرسل بين يدي السلطان بالقصر، قرئ كتاب القان، فإذا هو يتضمن السلام والتهنئة بجلوس السلطان على تخت الملك وسرير السلطنة، ثم(3/461)
قدمت الهدية، وهى مائة فص فيروزج، وإحدى وثمانون قطعة من الحرير، وعدة ثياب، وفرو، ومسك، وثلاثون بختيًا من الجمال، وغير ذلك ، مما تبلغ قيمته خمسة آلاف دينار، ثم قدمت هدية جوكى بن القان وكتابه وأعيد الرسل إلى منزلهم، وأجري لهم من المأكل والحلوى والفاكهة والمال ما عمهم، ثم قلعت الزينة في يوم الثلاثاء سلخه، وكان الناس قد تفننوا في أمور بديعة، أبدوها من أعمالهم في الزينة، ونصبوا قلاع وفي ظنهم أنها تتمادى أيام، فانقضى أمرها بخير.
شهر جمادى الأولى، أهل بيوم الأربعاء: وماء النيل أخذ في النقص، والناس قد شرعوا في زراعة الأراضي.
وفي يوم الإثنين سادسه: نودي بمنع النساء من الخروج إلى الشوارع والأسواق إلا العجائز والجواري، فإمتنعن، ثم نودي لهن بالخروج إلى الأسواق والشوارع من غير تبرج بزينة.
وفي يوم الخميس تاسعه: خلع علي شمس الدين أبي المنصور كاتب اللالا، وأعيد إلى نظر الاصطبل، عوضًا عن ابن القلانسي.
وفي يوم الجمعة عاشره: ورد الخبر بنصرة الغزاة المجردين على الفرنج.
وفي يوم الأحد ثاني عشره: جمع السلطان الرسل الواردين من القان بين يديه على وليمة عملها لهم، ثم خلع عليهم، ونزلوا في تجمل زائد.
وفي يوم الإثنين عشرينه: خلع على القاضي بدر الدين أبى المحاسن محمد بن ناصر الدين محمد بن الشيخ شرف الدين عبد المنعم البغدادي ، أحد نواب الحنابلة، وإستقر قاضي القضاة الحنابلة، عوضًا عن محب الدين أحمد بن نصر اللّه بعد موته .
وفي يوم الثلاثاء حادي عشرينه : قدم الغزاة في البحر، وكان من خبرهم أنهم إنحدروا في النيل من ساحل بولاق إلى دمياط، ثم ركبوا بحر الملح من دمياط وساروا في جزيرة قبرس فقام لهم متملكها بزوادتهم، ومروا إلي العلايا فأمدهم صاحبها بطائفة في غرابين. ومضوا إلي رودس، وقد إستعد أهلها لقتالهم، فكانت بينهم محاربة طول يومهم، لم يكن فيها نصفه. وقتل من المسلمين إثنا عشر من المماليك، وجرح كثير، وقتل وجرح من الفرنج كثير فلما خلص المسلمون بعد جهد، مروا بقرية من قرى رودس، فقتلوا وأسروا ونهبوا ما فيها، وقدموا دمياط، ثم ركبوا النيل الى القاهرة، وأسفر وجه الأمراء أنهم لم يكن لهم طاقة بأهل رودس.
وفي ليلة الخميس ثالث عشرينه: سقطت قنطرة باب البحر خارج القاهرة، وهلك طائفة ممن كان عليها.
وفي يوم السبت خامس عشرينه: ورد جواب السيد الشريف بركات بن حسن بن عجلان أمير مكة المشرفة، الذي جهز إليه بحضوره، يتضمن أنه تجهز للقدوم، ودخل المسجد الحرام ليطوف طواف الوداع، فتعلق به التجار، وجماعة المجاورين، وأهل مكة، يسألونه ويرغبون إليه في أن يقيم ولا يسافر، فإنه حتى سافر لا يأمنون على أنفسهم، وأنه بعرض ذلك على الآراء الشريفة فإن إقتضت أن يحضر حضر، وإن إقتضت أن يقيم أقام، وورد قرين مطالعته مطالعة الأمير سودون المحمدي المقيم بمكة، يشير بأن المصلحة في إقامة الشريف وعدم سفره، فبعد اللتيا واللتي أذن له في الإقامة، وأعفي من الحضور، على أن يحمل عشرة آلاف دينار، وجهز له تشريف.
وقي يوم الثلاثاء ثامن عشرينه: خلع على خواجا كلال رسول القان شاه رخ خلعة السفر، وقد إعتني بها عناية لم تتقدم مثلها لرسول، وهي حرير مخمل بوجهين، وطراز زركش فيه خمس مائة مثقال من الذهب، وأركب فرسًا بسرج ذهب وكنفوش ذهب فيها ألف دينار ذهبًا، وجهزت صحبته هدية، ما بين ثياب حرير سكندري، وسرج وكنفوش ذهب وسيوف مغلفة بذهب وغير ذلك مما تبلغ قميته سبعة آلاف دينار، سوى الهدية المذكورة.(3/462)
وفي هذا الشهر: ادعي على يهودي متزوج أنه زنى ليهودية، فعني به بعض خواص السلطان حتى حكم له بعض نواب القضاء الحنفية برفع الرجم عنه. ونفذ حكمه من عداه من القضاة الذين مذهبهم رجمه، فكان هذا من شنيع ما حكم به زمنًا. وهو وإن كان مذهب الحنفية أن الكتابي المتزوج لا يرجم، فإنه لم يحكم به قاض فيما أدركناه، لكن حكم بعض نواب القضاة الحنفية في الأيام الأشرفية برسباى بشنعاء ، وقد ضرب العفيف النصراني بحضرة السلطان حتى أظهر الإسلام. وكان له أولاد بالغون، فكره إسلامهم، وخاف أن يكرهوا عليه، فرغب إلى من حكم له ببقائهم على النصرانية، وأن لا يدخلوا في دين الإسلام، فجاء من حكمه بطامة لم يعص الله بأقبح منها، وعدت مع ذلك أنها حكم شرعي، فيا للّه، ما أخوفني من سوء عاقبة هذه الأحكام، ولله در القائل:
إذا جار الأمير وصاحباه ... وقاض الحكم داهن في القضاء
فويل ثم ويل ثم ويل ... لقاضي الأرض من قاضي السماء
شهر جمادي الآخرة، أهل بيوم الجمعة: وأهل النواحي مشغولون بزراعة الأراضي.
وفي يوم السبت ثانيه: ضرب شهاب الدين أحمد بن إسماعيل بن عثمان الكوراني الشافعي، ورسم بنفيه. وكان من خبره أنه قدم إلى القاهرة قبيل سنة أربعين وثمانمائة وهو في فاقة، فاستدناه المقر الكمالي محمد بن البارزي كاتب السر، ووالي إحسانه عليه، فتعرف بالناس، وتردد إلى الأمراء، وإختص بالقاضي زين الدين عبد الباسط، وصارت له وظائف ومرتبات، وتردد إلى السلطان، وعرف بالفضيلة، فصار له أعداء، وإتفق أن كانت بينه وبين شخص من الحنفية تعصب بسببها على الكوراني جماعة، وكأنه طاش في رياسته، ونقم السلطان وغيره عليه أشياء، ساعدهم فيها سوء المقدور عليه، حتى أهين في مجلس السلطان بحضرة القضاة، وأخرجت وظائف لغيره، ونفي إلى دمشق ثم أخرج منها، وقد عزم على الحج إلى جهة حلب، فلم يشعروا به إلا وقد وصل إلى الطور، فرسم عليه، وأخرج من الطور إلى الشام، ورسم أن يعدى به من الفرات، وكثر ذامه لسوء حظه، ولا قوة إلا باللّه .
وفي ثالثه: إستقلت رسل شاه رخ بالمسير إلى بلادهم، بجواب كتابه، والهدية المذكورة.
وفيه نودي من كانت له مظلمة فعليه بالوقوف للسلطان في يومي الثلاثاء والسبت.
وفي يوم الإثنين رابعه: خلع على الأمير تمرباى رأس نوبة النوب، وإستقر أمير الحاج.
وفي يوم الثلاثاء خامسه: إبتدأ السلطان بالجلوس للحكم بين الناس.
وفي يوم الخميس سابعه: خلع على الشريف بدر الدين حسين بن أبي بكر الفراء الحسيني وإستقر نقيب الأشراف ، عوضًا عن الشريف حسن بن علي بن أحمد بن علي بن حسين الحسني المعروف بإبن قاضي العسكر الأرموي.
وفي يوم الخميس رابع عشره: قدم الأمير سيف الدين جلبان المؤيدي نائب الشام، فركب السلطان من القلعة إلى لقائه، ومنذ تسلطن لم ينزل من القلعة إلا هذا اليوم، فلقيه بمطعم الطور طرف الريدانية خارج القاهرة ، وعاد والنائب في خدمته ، حتى أنزل في بيت أعد له.
وفي يوم السبت سادس عشره: أحضر نائب الشام تقدمته، وهي ثمانون فرسًا بغير سروج، وثلاثون بختيًا، وعدة بغال، وقماش ما بين ثياب حرير وثياب بعلبكي وثياب صوف مربع، وفرو ما بين وشق وسمور وقاقم وسنجاب ، وغير ذلك مما قيمة الجميع نحو عشرة آلاف دينار، وجلبان هذا من جملة مماليك الأمير تنبك أمير أخور الظاهري برقوق، رباه صغيرًا، ثم صار من بعد موته في خدمة الأمير جركس المصارع، وإنتقل من بعده إلى خدمة الأمير شيخ المحمودي، وتقلب معه في أطوار تلك الفتن حتى تسلطن شيخ وتلقب بالملك المؤيد، فأنعم عليه بإمرة، ثم عمله أمير آخور، وولى نيابة حماة في الأيام الأشرفية برسباى عدة سنين، كثر فيها شكاته، ثم نقل بعد موت الأشرف إلى نيابة حلب، ثم إلى نيابة الشام.(3/463)
وفي ليلة الإثنين ثامن عشره: قدم قاضي القضاة الحنفية بدمشق ، شمس الدين محمد ابن علي بن عمر الصفدي في الترسيم، فسلم إلى المقر الكمالي محمد بن البارزي كاتب السر، وقد رسم للذي أحضره من دمشق أن يأخذ تسفيره ألف دينار، توزعها وناظر الجيش وكاتب السر بدمشق، وسبب ذلك أن رجلاً بغداديًا من فقهاء الحنفية يذكر أنه من ولد الإمام أبي حنيفة رحمه اللّه قدم من دمشق، وتردد إلى مجلس السلطان، فكانت محنة أحمد الكوراني بسببه كما هو مذكور في ترجمته من كتاب " درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة ثم أفرغ سمه ثانيًا في شمس الدين الصفدي ، ووشي به إلى السلطان أنه سئل عن الحكمة في كثرة جماع النبي صلى الله عليه وسلم نساءه ، فقال: " ليحصنهن من الزنا " وأن هذا كفر يوجب إراقه دمه، وشنع، وأبدى وأعاد " وأعانه عليه قوم آخرون " فرسم بإحضاره، وفي الذهن أنه يقتل.
وفي هذه الأيام: مرت سحابة، فأصبح كثير من المزروعات وقد صقع وأسود، كالخيار والفول والجزر، فلم ينتفع به، وأفسدت الدودة كثيرًا من البرسيم المزورع بالوجه البحري، فأعيد بذره.
وفيه أيضًا غلا سعر اللبن والجبن واللحم، وقل وجود ذلك بالأسواق.
وفي يوم الإثنين خامس عشرينه: خلع علي تقي الدين عبد الرحمن بن تاج الدين عبد الوهاب بن نصر اللّه، أحد موقعي الدست، وناظر دار الضرب، وإستقر في نظر جده، عوضًا عن تاج الدين بن حتى السمسار، وخلع على شاهين أحد المماليك وإستقر شاد جده، وخلع على الأمير جلبان نائب الشام خلعة السفر، وتوجه من الغد يوم الثلاثاء سادس عشرينه إلى محل كفالته.
وفيه أنعم بإقطاع الأمير ممجق بعد موته على تغرى برمش بن جركس. ثم خلع في يوم الإثنين ثالثه، وإستقر نائب القلعة، عوضًا عن ممجق وتغرى برمش من محاسن هذه الدولة، لمعرفته الحديث ورجاله المعرفة الجيدة إلى غير ذلك من الفضائل.
شهر رجب أوله يوم السبت: في يوم الإثنين ثالثه: ركب السلطان بثياب جلوسه، ومضي من القلعة، فمر من صليبة جامع ابن طولون إلى الميدان الكبير بخط موردة الحبس وقد خرب فكشف ما يحتاج إليه من العمارة، ورسم بمرمته، وعاد سريعًا وهذه ثاني ركبة ركبها في سلطته .
وفي يوم الإثنين عاشره: أنعم بإقطاع الأمير ألطنبغا المرقبي بعد موته على الأمير طوخ الجمكي رأس نوبة ثانيًا، وأنعم بإقطاع الأمير طوخ على الأمير قانبيه الجركسي شاد الشراب خاناه، وأنعم بإقطاع قانبيه على ثلاثه نفر: الأمير تغري برمش وإستقر نائب القلة عوضًا عن الأمير ممجق، وعلى الأمير يوسف بن محمد بن الأمير إسماعيل بن مازن وإستقر شيخ لهانة بالبهنساوية، وعلى تغرى بردي دوادار قراسنقر وهو كاشف الجيزة.
وفي هذه الأيام: أيضًا برزت التجريدة المتوجهة إلى المدينة النبوية، حتى أناخت بالريدانية خارج القاهرة، وعدتها خمسون مملوكًا، عليهم الأمير جانبك المعروف بنائب بعلبك، أحد أمراء العشرات ، وإستقلت بالمسير في يوم الجمعة رابع عشره وتوجه صحبتهم ناظر جدة وشادها، وعدة ممن يريد الحج والعمرة، وتوجه أيضًا أحد خاصكيه السلطان لإحضار ولي الدين محمد بن قاسم مضحك السلطان الملك الأشرف برسباى وكان قد رسم بإحضاره غير مرة آخرها أن كتب للأمير سودون المحمدي بتجهيزه من مكة في البحر إلى القاهرة، فأخرجه من مكة وأركبه البحر من جدة ، فنزل ينبع، ومضي إلى المدينة النبوية. ثم عاد إلى ينبع، وإعتذر عن الحضور، فلم يقبل عذره، وجهز له الخاصكي، ورسم به أن يأخذه تسفيره من ابن قاسم ألف دينار.(3/464)
وفي يوم الأحد سادس عشره : عقد مجلس بن يدي السلطان ، حضرة قضاة القضاة الأربع، وجيء بشمس الدين محمد الصفدي قاضي الحنفية بدمشق من منزله بجوار كاتب السر، فأوقف، وأدعي عليه غريمه حميد الدين بن أبي حنيفة عند قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن حجر بأنه قال: أنا أتخير في الحكم، فتارة أحكم بقول أبي حنيفة، وتارة بمذهب الشافعي أو مالك " فأجاب: " بأني إنما قلت أتخير من قول أبي حنيفة وأصحابه أبي يوسف ومحمد وزفر، وأحكم. بما أختاره من ذلك " ، فأجاب القضاة الأربع بأنه لا شيء عليه في ذلك، ودفعوا خصمه بحجاج وجدال طويل، وهو يأبى إلا أن يعزر، حتى قال الشافعي للسلطان: وأي تعزير حمله من دمشق إلى مصر، وغرمه للمسفر ما غرم، ثم ها هو قائم على رجليه يدعي عليه فإنفضوا على ذلك، وجلس بين يدي السلطان وقبل يده، وإنصرف منصورًا بعناية القاضي الشافعي وكاتب السر به، وإلا فما كان ظن المتعصبين مع حميد الدين إلا أنه ينكل بالصفدي، ويحكم بفسقه، وتخرج وظائفه، إلى غير ذلك، وكان قد كتب إلى دمشق بالكشف عما نسب إليه من قوله في أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحصنهن من الزنا فكتب جماعة من قضاتها وأعيان فقهائها بأنهم فحصوا عن ذلك فلم يجدوا له أصلاً، وأبدوا مخاصمة وقعت بينهما، فلما سكن غضب السلطان عند قراءة ذلك عليه، علم حميد الدين وعصبته أنه قد نجا غريمهم من القتل برغمهم، فعدلوا إلى ما يوجب بزعمهم النكال به فكان ما كان، ورد الله حاسده بغيظه، لم ينل بسعيه عرضًا.
وفي يوم الإثنين سابع عشره: عزل سراج الدين عمر الحمصي عن قضاء القضاة بدمشق وقد وشي به شخص إلى السلطان من خواصه أنه أخذ على حكمه في قضية ذكرها مبلغًا من المال، وكان السلطان لما ولي الحمصي لم يكلفه لمال، وشرط عليه أن لا يرتشي في أحكامه. وعين السلطان شمس الدين محمد بن الونائى لقضاء دمشق.
وفيه خلع على الأمير يوسف بن محمد بن إسماعيل بن مازن، وإستقر أمير هوارة البحرية، عوضًا عن علي بن غريب، وذلك أنه كانت في هذه الأيام فتن بين فزارة ومحارب، وبين هوارة البحرية بناحية البهنساوية، فقبض الكاشف على ابن غريب، فولي السلطان عوضه ابن مازن، وعين معه تجريدة.
وفي يوم الخميس عشرينه : خلع علي شمس الدين محمد بن علي بن عمر الصفدي، وإستقر على عادته في قضاء الحنفية بدمشق.
وفي يوم الإثنين رابع عشرينه: ورد كتاب الغالب باللّه عبد اللّه بن محمد بن الأمير أبي الجيوش نصر بن أمير المسلمين أبى عبد اللّه بن أمير المسلمين أبي الحجاج بن أبي الوليد إسماعيل بن نصر، متملك أغرناطة من الأندلس، يتضمن ما فيه المسلمون بغرناطة من الشدة مع النصارى أهل قرطبة وأشبيلية، ويسأل النجدة.
شهر شعبان، وأوله يوم الإثنين: فيه ركب السلطان إلى الرصد المطل على بركة الجيش، خارج مدينة مصر الفسطاط، ومعه الأمراء ومباشرو الدولة، وعمل لهم مدة، فأكلوا وعادوا في أثناء نهارهم. وفيه توجه الأمير سيف الدين طوغا قز السيفي أستادار إلى ناحيتي الشرقية والغربية، لأخذ ضيافات أهلها التي أحدثوها على أهل النواحي، فيحل بالناس من ذلك بلاء لا يوصف. وفيه أضيف نظر دار الضرب إلى نظر الخاص كما هي العادة القديمة، عوضًا عن جوهر الخازندار والزمام بعد موته.
وفي يوم الأربعاء ثالثه: سارت التجريدة مع ابن مازن إلى بلاد البهنساوية، وعدتها ثلاثمائة مملوك وعليهم بايزيد، أحد أمراء العشرات.
وفي يوم السبت سادسه: خلع على الطواشي زين الدين هلال شاد الحوش ونائب الزمام، وهو أحد خواص خدام السلطان الملك الظاهر برقوق، ربي في داره بين حرمه، وإستقر زمام الدار، عوضًا عن جوهر السيفي قناق باى بعد موته .
وفي يوم الأحد سابعه: خلع على الأمير زين الدين عبد الرحمن ابن القاضي علم الدين داود بن زين الدين عبد الرحمن بن الكويز، وإستقر أستادار الذخيرة عوضًا عن الجوهر المذكور وخلع على الطواشي جوهر التمرازي الحبشي ، وإستقر خازندارا عوضًا عن جوهر السيفي المتوفي وفي تاسعه: هبت ريح شرقية بطرابلس الشام وأعمالها، وإشتدت، فهدمت الدور والموادن وصعقت أقصاب السكر بإجمعها.(3/465)
وفي هذه الأيام: إشتد البرد بالقاهرة، حتى جمدت المياه بعدة مواضع، وأبيع الجليد بالأسواق في يوم الخميس حادي عشره، وجمدت بركة من مستنقع ماء النيل في بعض الضواحي بحيث صارت قطعة واحده ، ومشي فوقها الأوز، وأصبحت زروع كثيرة من الفول وقد إسودت وحفت، فحملت وأوقدت في الأفران، وإسود ورق كثير من شجر الجميز وغيره.
وفي يوم الأربعاء سابع عشره: ولي شمس الدين محمد الونائي قضاء القضاة بدمشق، عوضًا عن الحمصي، ولم يخلع عليه، وحملت له الخلعة ليلبسها إذا قدم دمشق بسؤاله ذلك، وأمهل بالسفر إلى أثناء شوال، وأضيف إليه عدة وظائف، منهما خطابة الجامع الأموي، عوضًا عن البرهان إبراهيم بن الباعوني ، ونظر الأسوار، ونظر الأسرى، وأخرج له من الاصطبل السلطاني بغلة بقماش كامل وزناري، وهذا شيء قد بطل منذ سنين، فجدده عناية من السلطان يه.
وفي يوم السبت عشرينه: ركب السلطان من القلعة ونزل بخليج الزعفران، كعادة المؤيد شيخ والأشرف برسباى، ومدت للأمراء أسمطة جليله بحسب الوقت، وحمل جماعة من المباشرين أنواعًا من الحلوى والفواكه وغيرها، ثم ركب بعد صلاة الظهر، ودخل من باب القصر، فشق شارع القاهرة، وخرج من باب زويلة إلى القلعة، وهذه أول مرة شق فيها القاهرة بعد سلطنته، وكان هذا وهو بثياب جلوسه، ولم يكن هذا في القديم، وأول من ترخص فيه الناصر فرج، فإنه ركب بثياب جلوسه، ثم إقتدي به في ذلك الملك المؤيد شيخ، ومن بعده، وعد هذا مما ضيع من قوانين المملكة، وبطل من رسومها .
وفي هذا الشهر: هم السلطان بإخراج الرزق الأحباسية عمن هي بيده. ثم إستقر الحال على أن جبي من الرزق الأحباسية التي بأراضي الجيزة التي ببلاد الملك من ضواحي القاهرة ، عن كل فدان مائة درهم من الفلوس، فجبيت، وأنعم بما يجبي من الجيزة على الوزير إعانة له، وما يجبي من الضواحي يصرف في عمل الجسور. وفيه أيضًا رسم بفك قيد الأمير جانم أَمير أخور الأشرفي، بفك وبقي في سجنه بالمرقب بغير قيد.
وفي ثامن عشره: قبض بمكة على أمين الدين محمد بن قاسم، فألزمه المتسفر لإحضاره ألف دينار، فأورد له منها، ونزلا في البحر يريدان القاهرة.
شهر رمضان، أوله يوم الثلاثاء: فيه ورد الخبر بأنه قبض على الأمير قانصوه بدمشق ، فرسم بسجنه في القلعة.
وفي يوم الخميس عاشره: خلع علي شمس الدين محمد بن عامر أحد نواب الحكم المالكية، وإستقر في قضاء الإسكندرية، عوضًا عن جمال الدين عبد اللّه الدماميني.
وفي يوم السبت ثاني عشره: خلع على القاضي معين الدين عبد اللطف بن شرف الدين أبي بكر الأشقر، وإستقر في نيابة كتابة السر وغيرها من وظائف أبيه بعد موته .
وفي هذه الأيام: ألزم القاضي زين الدين عبد الباسط بحمل خمسة آلاف دينار. وذلك أنه وجد في تركة جوهر الخازندار الزمام أنه حمل إلى عبد الباسط في أيام مصادرته خمسة آلاف دينار، فتوجه القاصد إليه بحملها فعوض عنها قماشًا، وأذن أن يباع من عقاره بالقاهرة ما يكمل تتمة ذلك، فسامحه السلطان بألف دينار، فأورد إلى الخزانه أربعة آلاف دينار.(3/466)
وفيها أيضًا فوض السلطان نظر الجامع الحاكمي بالقاهرة إلى الأمير دولت بيه الدوادار. وأنعم برسم عمارته بألف دينار، وحملت إليه من الخزانة السلطانية فركب وكشف أحواله، فوجد سقوفه قد سقط منها مواضع، وفيها مواضع ساقطة، وبلاطه قد تلف منه كثير، ومقاصيره الخشب قد تلف كثير منها، وميضات الجامع متهدمة، وأحوال الجامع بمرور النساء والصبيان وغيرهم ملعبة فمنع دخول النساء الجامع وألزم بوابيه أن لا يمكنوا إمرأة ولا صغيرًا من الجلوس فيه، ولا المرور منه، وكان هذا الجامع قد فسدت أحواله، فأصلحه اللّه على يد هذا الأمير، وغلقت أبوابه عدة أيام، سوى بابين، ثم فتحت أبوابه كلها، وامتنع الناس كافة من المرور في صحن الجامع بنعالهم، وشرع في عمارة السقوف والمقاصير والبلاط، وهدم الميضأة بأسرها، وأنشأها إنشاء جديدًا وتشدد في جباية ريعه، واستولى على جميع ما هو موقوف عليه، وهو ثلاث جهات: إحدها الوقف القديم، وهو ما بين مساكن وأحكار، وكان من القديم إلى آخر وقت بيد قضاة القضاة الشافعية، ومنه تصرف معاليم المؤذنين، والإمام والخطب، والقومة ونحو ذلك، وهو وقف ضعيف متهدم، والجهة الثانية: وقف المظفر بيبرس الجاشنكير على أرباب وظائف سماها في كتاب وقفة ما بين دروس فقه وحديث وقراء وملء صهريج بالجامع، ونظره أيضًا للقاضي الشافعي، والجهة الثالثة: رزقة وقفها الناصر حسن، على الرماس وذريته، وأن يشترى منها حصر وزيت للجامع، ونظرها لهم، فاستوى دولت بيه على جمع ذلك.
وفي هذا الشهر: أيضًا رسم بنفل الطواشي خشقدم المقدم من المدينة النبوية إلى القدس، وإقامته هناك بطالاً.
وفي سلخه: قدم الأمير طوغان قز أستادار من الوجه البحري، وقد جبي من أموال أهله الضيافات التي أحدثوها، وحمل تقدمته ما بين خيل وجمال وغير ذلك مما تبلغ قيمته زيادة على عشرة آلاف دينار.
شهر شوال، أوله يوم الخميس: فيه صلى السلطان صلاة العيد بجامع القلعة على العادة، وعندما سلم الإمام في آخر الصلاة، وثب كثير من المماليك يدًا واحدة يريدون المبادرة لدخول القصر حتى تلبس أرباب الخلع خلعهم، وقام بقيامهم جماعة، فاشتد زحام الناس بحيث مات والي باب القلة، وسقط جماعة أشفوا على الموت مغمي عليهم، فأفاق أكثرهم، ومات بعضهم.
وفي يوم الجمعة ثانيه: كتب بعزل ابن عامر عن قضاء الإسكندرية، وطلب ابن الدماميني.
وفي ثالثه: قدم الأمير بايزيد ومن معه من المجردين بالبهنساوية، وقد قرروا على هوارة ما لا يقومون به.
وفي يوم الثلاثاء ثالث عشره: قدم قود الشريف بركات أمير مكة، وأخبر قاصده بوصول ما رسم به وهو فلفل بعشرة آلاف دينار إلى الطور، فبطل الأرجاف بعزله وولاية أخيه، وقدم أيضًا القاضي جمال الدين عبد اللّه بن الدماميني من الإسكندرية، فخلع عليه في يوم الخميس نصفه، وإستقر في قضاء الإسكندرية على عادته، وعاد بن عامر إلى منزله، فلزمه بطالاً، لا حاجتك قضيت ولا صديقك أبقيت.
وفي يوم الإثنين تاسع عشره: خرج محمل الحاج مع الأمير تمرباى رأس نوبة النوب . وخرج في هذه السنة للحج ثلاثة من أمراء الألوف: تمرباى هذا، وطوخ، وتمراز أمير سلاح، وسبعة أمراء ما بين عشرات وطبلخاناه ، منهم والي القاهرة، ومنهم سودون قرقاش النوروزي أحد رؤوس النوب، وأمير عشرة وهو أمير الركب الأول، فرحل من بركة الحجاج الأمير تمراز في حادي عشرينه، وتبعه كثير من الحجاج، ورحل سودون قرقاش في ركب كبير من الغد، ورحل الأمير تمرباى بمحمل الحاج في ثالث عشرينه، وكتب إلى الشريف بركات، وإلى أمير المدينة النبوية، وإلى أمير ينبع بإعفائهم مما كانوا يقومون به من المال لأمير الركب في كل سنة، وأكد السلطان على الأمراء عندما وادعوه أن لا يأخذوا من المذكورين شيئًا، فما أجمل هذا وأحسنه إن عمل به .
وفي حادي عشرينه: قدم بن قاسم من مكة، فسلم إلى الأمير دولت بيه الدوادار.
وفي هذا للشهر: خربت مدينة الفيوم، وجلا أهلها عنها، لغلبة ماء بحر يوسف .
شهر ذي القعدة أوله يوم الجمعة: في ثالثه: ركب مولانا السلطان لهدم ميضأتين ودور في زيادة الجامع الطولوني، كما هدم دار ابن النقاش، فصرف اللّه قلبه عن ذلك، ومضي من الجامع، بعدما كشف أحواله إلى الميدان الكبير، فنظر ما عمر في سورة، وعاد سريعًا.(3/467)
وفي يوم السبت تاسعه: قدم الأمير قانباى الحمزاوي نائب حلب بإستدعاء، فركب السلطان إلى مطعم الطيور ونزل به، وتقدم الأمير الكبير الأتابك في عدة من الأمراء حتى قدموا به، فخلع عليه، وعاد السلطان وهو في الخدمة، فصعد السلطان إلى القلعة، ومضي النائب إلى دار أعدت له، فنزلها، وقدم من الغد تقدمته، وهي مماليك، وخيول، وجمال، وقماش، وفرو، وغير ذلك مما قيمته نحو عشرة آلاف دينار.
وفي يوم الإثنين حادي عشره: توجه الأمير أينال الأجرود مجرداً في جماعه من المماليك نحو بلاد الصيد، لقتال محارب.
وفي هذه الأيام: أفرج عن ولي الدين محمد بن قاسم من عاقته ببيت الأمير دولت بيه، على أن يحمل خمسة عشر ألف دينار، ضمنه فيها جماعة. وفيها زاد النيل نحو ذراعين ونصف، حتى صار في إثني عشر ذراعًا ونصف، والوقت زمن الربيع، والشمس في برج الحمل، ويوافق من شهور القبط برمودة ، وجرت العادة أن في مثل هذا الزمان يأخذ النيل في النقصان، ويسمى الإحتراق ، وهذا من النوادر، إلا أنه وقع مثل ذلك في سنة تسع وثلاثين وثمانمائة. وكثر في هذا الزمان تخاصم الناس، وتعدي بعضهم على بعض، وتزايد وقوع الشر فيما بينهم، وشنع جهرهم بالسوء ، وتناجيهم بالإثم والعدوان، فاللّه تعالى يكفي شر ذلك. وقدم الخبر بأن صاحب قشتيلة من بلاد الفرنج عمر أربعين بيوني وعشرة أغربة يريد رودس ، ليأخذ بثأرهم من المسلمين . وفيها منع الأمير أيتمش الخضري من الإجتماع بالسلطان، وأمر بلزوم بيته، وهذا ثاني مرة منع فيها.
وفي حادي عشرينه: إستقل نائب حلب بالمسير عائدًا إلى محل كفالته على عادته، بعد أن خلع عليه.
وفي رابع عشرينه : قدم الخبر أيضًا من طرابلس بأن أهل رودس قد إستعدوا للحرب، وهم في إنتظار عمارة الفنش صاحب قشتيلة، وأن كثيرًا من المسلمين سكان الساحل قد أخلوا ضياعهم، وصعدوا إلى الجبال.
وفي يوم الأربعاء سابع عشرينه: ورد الخبر بأن عشرة أغربة من عمارة الفنش وصلت إلى ساحل بيروت ، فأخذت مركبًا مشحونًا بالبضائع ، وأنهم باعوا ممن أسروا منه من المسلمين أربعين رجلاً، وأقلعوا من غير أن يقاتلهم أحد، فأمر بعرض أجناد ليخرجوا إلى السواحل، فبدأ الأمير تغري بردي الدوادار.
في يوم السبت سلخه: بعرضهم، على أيخرج منهم مائة جندي إلى رشيد والطينة.
شهر ذي الحجة، أوله يوم الأحد: في يوم الأربعاء رابعه: عرض الأمير تغري بردي الدوادار أجناد الحلقة المجردين، ولم يعين إلا من كان سجل إقطاعه بثلاثين ألف درهم فما فوقها ، ثم عفوا من التجريدة لما جرت به عادتهم من تداول كلمة ألقاها الشيطان بينهم ، أن من تعرض لأجناد الحلقة زالت دولته.
وفي يوم الأربعاء خامس عشرينه: قدم مبشرو الحاج وأخبرت كتبهم بكثرة المراعى ورخاء الأسعار وأمن الحجاج وسلامتهم، وأن الشريف بركات أمير مكة قابل الأمراء ولبس التشريف السلطاني على العادي، إلا أنه كانت وقعة قريب خليص بين أمير ركب الكركيين وبين حجاج ينبع، قتل فيها من الينابعة زيادة على عشرين رجلاً، ونهبت أموالهم، وبلغت نفقات السلطان في نفقات المماليك وصلات الأمراء والتراكمين وغيرهم وفي أثمان مماليك إشتراهم ونفقات تجاريد جردها وغير ذلك، في مدة أولها موت الأشرف برسباى وأخرها سلخ هذه السنة، وذلك مدة ثلاث سنين، مبلغ ثلاثة آلاف ألف دينار ذهبًا، وهي ما خلفه الأشرف برسباى من الذهب والدراهم والبهار، والجمال، والخيل، وثياب الحرير، والبعلبكي، وأنواع الفرو، ومن الغلال والقنود، والأعسال، والسلاح، وغير ذلك، مع ما دخل إلى الخزانة في أيام سلطنته وهو نحو خمسمائة ألف دينار، نفذ ذلك كله، وعلى الله العوض.
وفي هذا الشهر: زاد النيل بعد نقصه حتى تجاوز إثني عشر ذراعان وذلك في بشنس.
وفيه وردت تقدمة أربعة من القاضي زين الدين عبد الباسط ، بعد ما وصلت له كاملية بفرو سمور، وحجرة بقماش كامل، فكانت تقدمته هذه خيلاً وفرواً وثياب وحرير.
وفي هذه السنة : تجددت عمارة مواضع عديدة، منها مشهد السيدة رقية قريبًا من المشهد النفيسي كان قد إتخذه بعض الناس سكنًا ، وتعطلت زيارته مدة سنين، فجدد عمارته السيد بدر الدين حسين بن الفراء نقيب الأشراف، في أول شعبان.(3/468)
وفي هذا الشهر: أيضًا جددت عمارة جامع الصالح طلائع بن رزيك خارج باب زويلة، وقام بذلك رجل من الباعة وجدد أيضًا جامع الفاكهيين بالقاهرة، وجامع الفخر بخط سويقة الموفق قريب من بولاق وجدد أيضًا عمارة جامع الصارم قريب من بولاق .
وفي يوم الجمعة رابع شهر رمضان: أقيمت الجمعة بالجامع الذي أنشأه في هذه السنة الطواشي جوهر نائب مقدم المماليك بالرميلة تحت القلعة.
وفي أول شوال: أقيمت الجمعة بالجامع الذي أنشأه الأمير تغري بردي البكلمشي الدوادار المعروف بالمؤذي، بخط الصليبة. وأما اليمن فقد خرج عن متملكها ضياع تعز ، وحسبه أنه يحفظها، فإن البلاد خرجت عنه من زبيد إلى بيت حسين، وصارت العرب المعازبة تركب في نحو ألف فارس .
ومات في هذه السنة مما له ذكر
موفق الدين علي بن أبي بكر الناشري، قاضي القضاة ببلاد اليمن، في خامس عشرين صفر بمدينة تعز عن تسعين سنة. ومات الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير صارم الدين إبراهيم بن الأمير منجك اليوسفي ، في يوم الأحد خامس عشر شهر ربيع الأول، عن نحو سبعين سنة بدمشق، وكان يوصف بدين وعفة، وحظي في الدولة المؤيدية شيخ، والدولة الأشرفية برسباي، وكان يقدم في كل سنة إلى السلطان بهدية، ويشاور في الأمور، وكان له غنى وثراء، وأفضال على قوم يعتقدهم بدمشق.
ومات سعد الدين إبراهيم بن المرة في يوم الخميس عاشر شهر ربيع الآخر بالقاهرة، وقد أناف على الستين سنة بعد ما تعطل من المباشرة، ولزمه دين كبير، حبس من أجله مدة، إحتاج فيها إلى سؤال الناس، وكان له بر وأفضال، وكان حشمًا، يحب الفخر ويكثر من إتلاف المال، فاللّه يعفو عنه.
ومات مبارك شاه رسول القان شاه رخ مات بغزة في يوم الأحد ثالث عشر ربيع الآخر، وكان يوصف بمعرفة وفضيلة وعقل. ومات الخواجا كلان بن مبارك شاه المذكور، قام بعد موت أبيه، وقدم بالهدية والكتاب إلى السلطان وهو متمرض، فمثل بين يدي السلطان حتى ثقل مرضه، ومات في يوم الثلاثاء تاسع جمادي الأولى، فدفن خارج باب النصر من القاهرة ثم نقل هو وأَبوه إلى القدس، فدفنا هناك ومات القاضي شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن رسلان البلقيني، المعروف بالعجمي الشافعي قاضي المحلة، في يوم الثلاثاء رابع عشر جمادي الأولى، وكان من فضلاء الشافعية.
ومات قاضي القضاة محب الدين أبو الفضل أحمد ابن شيخنا جلال الدين نصر اللّه ابن أحمد بن محمد بن عمر الششتري الأصل ، البغدادي المولد والمنشأ، الحنبلي، في يوم الأربعاء خامس عشر جمادي الأولى، ومولده ببغداد في شهر رجب سنة خمس وستين وسبعمائة، وقدم القاهرة في سنة ثمان وثمانين، ولزم شيخنا صلاح الدين محمد بن الأعمى الحنبلي، وتفقه به، وواظب شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني وشيخنا سراج الدين عمر بن الملقن، وبرع في الفقه والأصول والحديث والعربية، وقرأ بنفسه وسمع على شيوخنا عدة كتب، وناب في الحكم عن ابن المغلي، ثم ولي القضاء مستقلاً عدة سنين حتى مات ، ودرس في عدة مواضع، ولم يخلف في الحنابلة بعده مثله، ولا أعلم فيه ما يعاب به، لكثرة نسكه ومتابعته للسنة، إلا أنه ولي القضاء، فاللّه تعالى يرضى عنه أخصامه.
ومات الأمير ناصر الدين محمد بن بوالي بدمشق في سابع عشره، وقد ولي أستاداراً في الأيام المؤيدية شيخ ، ثم إستمر أستادارًا بدمشق، وهو معدود من الظلمة.
ومات القاضي شهاب الدين أحمد بن عيسى الحنبلي، أحد نواب الحكم بالقاهرة، في يوم الخميس ثالث عشر جمادي الأولى، وقد رأس، وشكرت سيرته، وإشتهر بالعفة.
ومات أمين الدين عبد اللّه بن سعد الدين أبي الفرج بن تاج الدين موسى، في يوم الأحد ثالث جمادي الآخرة وكانت له رياسة ضخمة في أيام أبيه سعد الدين ناظر الخاص، وتولى بعده نظر الإصطبل، ثم إنحط قدره، وتكسح، وعرف بصحبة جماعة من أهل الدول، فإذا دخل إليهم خدمه حتى يجلس ثم يحملوه إذا ركب، وحج غير مرة، وشاهدته وهو محمول يطوف بالبيت، وبلوت منه مروءة وخفة روح، عفي اللّه عنه.(3/469)
ومات الأمير سيف الدين الطنبغا المرقبي في يوم الإثنين عاشر شهر رجب، وهو من جملة المؤيدية، عمله المؤيد شيخ في أيام تلك الفتن بقلعة المرقب من عمل طرابلس، فأقام بها مدة فعرف بينهم بالمرقبي، فلما تسلطن، رقاه حتى صار أمير مائة مقدم ألف حاجب الحجاب، ثم حمل بعد موت المؤيد طول الأيام الأشرفية، وتلاشت أحواله. فلما كانت أيام السلطان الملك الظاهر جقمق ، إنتعش وصار من جملة الأمراء الألوف حتى مات بها.
ومات زين الدين قاسم بن البشتكي، في يوم السبت ثامن رجب، بناحية يبنا من عمل فلسطين، ولم يدفن إلا في يوم الإثنين عاشره، وكان حشمًا سريًا فخوراً، له ثراء واسع ومال جم، ورثه، وأفضال كثير، وفضيلة ، ثم تردد إلى مجلس السلطان الملك المؤيد، واختص به مدة ، إلى أن تنكر له وضربه وشهره ، فاتضع جانبه، وصار يكثر من الترداد إلى يبنا، حتى مات بها، فاللّه يرحمه، فلقد شاهدنا منه كرمًا جمًا، وإفضالاً زائدًا، ومروءة غزيرة، ونعمة ضخمة.
ومات الأمير ممجق نائب قلعة الجبل في أول يوم من رجب، وهو ممن إنتشأ في الأيام الظاهرية جقمق.
ومات الأمير الطواشي صفي الدين جوهر السيفي قنقباي اللالا زمام الدور خازندار السلطان في ليلة الإثنين أول شعبان عن نحو سبعين سنة، وصلى عليه السلطان، ودفن بمدرسته، بجوار الجامع الأزهر. وكان من جملة هدية الحطي داود بن سيف أرعد ملك بلاد الحبشة إلى السلطان الملك الظاهر برقوق، فأنعم به على الأمير قنقباى اللالا، لالا المقام الناصري محمد ولد السلطان، فرباه وهو صغير، وأقرأه القرآن العظيم، ثم خدم من بعد قنقباي جماعة من الأمراء، زمامًا لدورهم، وعارك خطوب الدهر ألوانًا، حتى إستدعاه الأشرف برسباى، وعمله خازندارَا، فتمكن منه ممكنًا زائدًا، وإنبسطت يده في تحصيل الأموال للذخيرة بقوة وشهامة وضبط، فلما مات الأشرف أضيفت إليه أزمة الدور، فباشر ذلك حتى مات، ولم يخلف في أبناء جنسه بعده مثله ، وكان عفيفًا، له بر وأفضال مع رصانة عقل، وجد من غير هزل، وكان مهابًا يتلو القرآن بالسبع، إلا أنه فتن بصحبة السلطان، فحرص على رضاه، وإقتحم المهالك، بحيث أنه لم يكن في الدولة الأشرفية أحد أخص منه بالسلطان ولا أقوى تمكنًا، فاللّه يعفو عنه. بمنه.
ومات القاضي شرف الدين الأشقر، وإسمه أبو بكر بن سليمان، المعروف بابن العجمي الحلبي، نائب كاتب السر، في يوم الأربعاء تاسع رمضان، وقد أناف على الستين، قدم من حلب في أيام الأمير جمال الدين يوسف أستادار، وعنده يومئذ بنت أخي جمال الدين، فنوه به، وأقره في توقيع الدوادار الكبير، فيعد من رؤساء القاهرة، حتى زالت دولة جمال الدين، فنكب في جملة من نكب من ألزامه نكبة نجاه الله منها، بعدما أشفى على الهلاك، فلما كانت الأيام المؤيدية شيخ عاد إلى ما كان عليه من مباشرة الترقيع عند الأستادارية مدة سنين ثم رغب عن ذلك، وباشر في ديوان الإنشاء مع ابن مزهر كاتب السر ومن بعده، وصار نائب كاتب السر، به حل الديون وعقده، ثم ولي كتاب السر بحلب مدة، وتركها لولده معين الدين، وعاد إلى نيابة كتابة السر حتى مات، وكان ماهرًا بصناعة الإنشاء، جميل المحاضرة، بشوشًا، متوددًا، حشمًا، فخورًا، له فضيلة، وسيرته مشكورة.
ومات العبد الصالح شهاب الدين أحمد بن حسين بن حسن بن رسلان الفقيه الشافعي المحدث المفسر بمدينة القدس، في يوم الإثنين عشرين شهر رمضان عن إحدى وسبعين سنة، ولم يخلف بتلك الديار بعده مثله علمًا ونسكًا.
ومات القاضي شمس الدين محمد بن شعبان في حادي عشرين شوال عن نيف وستين سنة وولي حسبة القاهرة مرارًا عديدة، ولا فضل ولا فضيلة.
ومات الشيخ نور الدين على بن عمر بن حسن بن حسين التلواني، في يوم الإثنين ثالث عشرين ذي القعدة، وقد أناف على الثمانين، وأصل آبائه من بلاد المغرب، وسكن أبوه ناحية جروان، وأقرأ الأطفال القرآن. ثم تحول إلى تلوانه وولد له بها علي وغيره، ثم قدم على القاهرة وتفقه على مذهب الإمام الشافعي رحمه اللّه حتى درس وأفتى، وولي مشيخة الخانقاه الركنية بيبرس ثم عزل عنها و ولي تدريس المدرسة الناصرية بجوار قبة الإمام الشافعي من القرافة مدة سنين. وكان دينًا خيرًا، له مروءة وفيه قوة، وله أفضال، رحمه اللّه.(3/470)
ومات الشيخ شمس الدين محمد بن عمار محمد المالكي في يوم السبت رابع عشر شهر ذي الحجة عن نيف وثمانين سنة، وقد كتب على الفتوى ودرس، وصار ممن يعتقد فيه الخبر.
ومات الرئيس إبراهيم بن فرج اللّه بن عبد الكافي الإسرائيلي اليهودي الداودي العافاني، في يوم الجمعة عشرين ذي الحجة، وقد أناف على السبعين ولم يخلف بعده من يهود مصر مثله في كثرة حفظ نصوص التوارة، وكتب الأنبياء ، وفي تنسكه في دينه، مع حسن علاجه لمعرفته بالطب وتكسبه به. وكان يقر بنبوة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ويجهر بأنه رسول إلى العرب، ويقول في المسيح عيسى بن مريم عليه السلام إنه صدق، وهذا خلاف ما يقوله اليهود لعنهم اللّه وخزاهم فما أكثر طعنهم في أنبياء اللّه ورسله، على ما وقفت عليه من أقوالهم من كتبهم.
ومات شهاب الدين أبى العباس أحمد بن صالح بن تاج الدين المحلي الشافعي ، في يوم الأربعاء ثامن عشر ذي الحجة، وكان فاضلاً في الفقه والفرائض والنحو وله سلوك ونسك، وللناس فيه إعتقاد، ودرس وخطب مدة، رحمه اللّه تعالى.(3/471)