وقدم الخير بأن تيمور لنك رجع إلى بلاده، فدقت البشائر ثلاثة أيام.
وفيه قدم إلى القاهرة رسل ابن عثمان متملك الروم.
وفي أول شهر رجب: أخذ الفرنج عدة مراكب تحمل الغلال إلى الشام.
وفي سابع عشره: برزت العساكر من دمشق تريد حلب، وفيها الأمير الكبير كمشبغا الحموي أتابك العساكر، والأمير بكلمش أمير سلاح، وأحمد بن يلبغا، وبيبرس ابن أخو السلطان، ونائب صفد ونائب غزة.
وفيه سار البريد من دمشق بتشريف الأمير نعير، واستقراره في إمرة العرب على عادته.
وفيه قدم الأمير سالم الذكرى أمير التركمان، فخلع عليه.
وفي سلخه: قدم جلال الدين عبد الرحمن ابن شيخ الإسلام البلقيني قاضي العسكر من دمشق إلى القاهرة. وقد نزل له والده عن تدريس الزاوية الخشابية بجامع عمرو بن العاص بمصر، وعن مشيخة التفسير والميعاد بالمدرسة الظاهرية المستجدة بين القصرين، وأقام والده مع السلطان.
وفيه كبس الأمير شرف الدين موسى بن طي متولي البهنسا على سفط ميدون، فقتله العرب بها، فاستقر عوضه إبراهيم الشهابي.
وفي يوم الاثنين أول شعبان: توجه القان غياث الدين أحمد بن أويس من دمشق إلى بغداد. وقد قام له السلطان بجميع ما يحتاج إليه، وعند وداعه خلع عليه أطلسين بشاش متمر، وسيف بسقط ذهب. وأعطى تقليداً بنيابة السلطنة ببغداد، فأراد أن يقبل الأرض، فلم يمكنه السلطان من ذلك إجلالاً له، ويقال إن الذي حمل إليه من النقد خمسمائة ألف درهم، سوى ما حمل إليه من الخيل والجمال والسلاح، وغير ذلك.
وفي ثالث عشره: سار من ظاهر دمشق.
وفيه أنعم على الأمير أقبغا طولو تَمُري - الذي يقال له اللكاش - بإمرة ألف، بعد وفاة بيليك المحمدي.
وفي عشرينه: أخذ قاع النيل، فكان ستة أذرع.
وفي ثاني عشرينه قدم البريد باستقرار سيدي أبى بكر بن سنقر الجمالي، حاجباً ثالثاً.
وتوقف النيل عن الزيادة تسعة أيام متوالية من سلخ بؤونة - وهو رابع عشرين شعبان - إلى ثامن أبيب، فلم يناد عليه سوى إصبع واحد في كل يوم.
وفيه استقر قطلوبغا الطشتمري في كشف الفيوم، والبهنساوية، والأطفيحية، مضافاً لما معه من كشف الجيزية.
وفي ليلة الثلاثاء - الثلاثين من شعبان - : تراءى الناس هلال رمضان، فلم ير أحد الهلال مع كثرة عمرهم، فأصبح الناس على أخر شعبان، وأكلوا إلى الظهر، فقدم الخبر بأن الهلال رؤى ببلبيس، فنودي بالإمساك قبيل العصر.
وفي ثالثه: زاد النيل بعد توقفه.
وفي خامسه: نقل أمير فرج بن أيدمر من ولاية الغربية إلى نيابة الوجه البحري، عوضاً عن عمر بن إلياس قريب قُرُط، واستقر أخوه محمد بن أيدمر في ولاية الغربية.
وفيه قدم البريد بالقبض على نصر الله بن شَنْطيَّة مستوفي المرتجع، وإيداعه خزانة شمايل على مال، وإحضار محمد بن صدقة الأعسر والي المنوفية، فسار إليه البريد وأحضره إلى القاهرةَ، فهرب، واستقر عوضه أحمد الأرغوني.
وفيه أخصب البطيخ العبدلي، حتى أبيع كل مائة رطل بدرهم.
وفي يوم الجمعة تاسع شوال - الموافق تاسع مسري - : توقف النيل عن الزيادة، وأقام بغير زيادة إلى ثاني عشره، فزاد على العادة، واستمرت الزيادة.
وفي ثاني عشرينه: استقر بدر الدين محمود السرائي الكلستاني في كتابة السر، عوضاً عن بدر الدين محمد بن فضل اللّه العمري بعد وفاته، وخلع عليه بدمشق.
وفي ثامن عشرينه - وهو ثامن عشر مسري - : أو في النيل ستة عشر ذراعاً، وفتح الخليج على العادة.
وقدم الخبر على السلطان من القان أحمد بن أويس، أنه لما وصل إلى ظاهر بغداد، خرج إليه نائب تيمور بها، وقاتله فانكسر، ودخل بغداد، وأطلق المياه على عسكر ابن أويس ليغرقه، فأعانه الله وتخلص منها بعد يومين، وعبر بغداد، وقد هرب التمرية منها، فاستولى عليها، واستخدم جماعة من التركمان والعربان، فلما بلغ ذلك تيمور جهز أمراءه بالأموال إلى سمرقندي.
وقدمت رسل ابن عثمان على السلطان بأنه جهز لنصرة السلطان مائتي ألف، وأنه ينتظر ما يرد عليه ليعتمده.
وقدم رسول القاضي برهان الدين أحمد صاحب سيواس بأنه في الطاعة، يترقب ورود المراسيم عليه بالمسير لجهة تعين له.
وفي أول ذي القعدة: سار السلطان من دمشق يريد حلب.(2/462)
واتفق بالقاهرة ومصر وظواهرهما أنه أشيع بأن امرأة طال دوام رمد عينها، وأيس الأطباء من برئها، فرأت في منامها كأنها تشكو ما بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أمرها أن تمضي إلى سفح جبل المقطم، وتأخذ من حصى هناك وتكتحل به بعد سحقه، وأنها عملت ذلك، فزال ما في عينيها من الرمد، فلم يبق من الناس إلا من أخذ من الحصى الذي بالجبل واكتحل به، وعملوا منه في الإثمد وغيره، حتى أفنوا من ذلك لما لا يقدر قدره، وأقاموا على هذا مدة، وزعموا أنه شفي به خلق كثير.
وفي يوم الأحد سادسه - وهو سادس عشر توت - : انتهت زيادة النيل إلى أحد عشر إصبعاً من الذراع الثامن عشر، وانحط، فارتفعت الأسعار. وبلغ الأردب القمح أربعين درهماً، والفول والشعر عشرين درهماً، والبطة الحقيق وزنتها خمسون رطلاً إلى اثني عشر درهماً. وضج الناس على البهاء محمد بن البرجي المحتسب، فرسم الأمير سودن النائب للأمير علاء الدين الطلاوي بالتحدث في السعر، فنادى بفتح المخازن والبيع بسعر اللّه تعالى، وهدد من لا يفتح مخزنه ويبيع بالنهب. وفتح مباشرو الأمراء الشون وباعوا، فانحل السعر قليلاً. ثم شحت الأنفس بالبيع، وكثر الخوف من القحط؛ لكثرة ما شرق من الأراضي ولم يزرع.
وفي يوم الخميس رابع ذي الحجة: قدم البريد بعزل قطلوبغا من كشف الفيوم، بطيبغا الزيني، واستمر على كشف الجيزية كما كان.
وفي حادي عشره: وصل الأمير شيخ الصفوي من الشام، وهو مريض.
وفي ثالث عشره: زاد ماء النيل، وغرق بعض ما زرع، ثم انحط.
وقدم البريد بأن الأمير تغري بردي استقر في نيابة حلب، عوضاً عن جلبان. وأنعم على جلبان بإقطاع تغري بردي. وأن الأمير محمد بن قارا خرج عن الطاعة، والتحق بنعير، وصار بعربانه في جملته، وأن ناصر الدين محمد بن قاضي القضاة كمال الدين بن المعري استقر في قضاء طرابلس، عوضاً عن مسعود. وأن السلطان خرج من حلب يريد دمشق في خامس عشره. وأنه قلد أرغون شاه الإبراهيمي نائب صفد نيابة طرابلس، عوضاً عن دمرداش المحمدي، وأنعم على أقبغا الجمالي أحد أمراء حلب بنيابة صفد وأعلى إمرته لدمرداش المحمدي. وأن عامر بن ظالم انهزم من عرب زبيد بمن معه من آل مهنا إلى الفرات، فغرق، وغرق معه سبعة عشر من أمراء آل مهنا، وقتل ممن معه خلق كثير جداً.
وفي ثاني عشرينه: استقر علي بن غلبك بن المكللة في ولاية منوف، وعزل أحمد الأرغوني.
وفي تاسع عشرينه: قدم مبشرو الحاج بحسن سيرة قديد أمير الحاج، وكثرة الأمن والرخاء. واستقر علاء الدين علي بن قاضي القضاة شهاب الدين أبي البقاء في قضاء الشافعية بدمشق، عوضاً عن الشهاب أحمد الباعوني. واستقر نجم الدين أحمد بن قاضي القضاة عماد الدين إسماعيل بن محمد بن أبي العز في قضاء الحنفية بدمشق، عوضاً عن التقي عبد الله الكفري. واستقر علم الدين القفصي في قضاء المالكية، عوضاً عن البرهان إبراهيم الصنهاجي. واستقر ناصر الدين محمد بن أبي الطيب في كتابة السر بحلب، عوضاً عن ناصر الدين محمد بن صلاح الدين صالح بن أحمد بن السفاح.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
سوى من قتل إبراهيم ابن السلطان، في عشرين جمادى الأولى، ودفن بالمدرسة الظاهرية المستجدة.
ومات الصارم إبراهيم الباشقردي - والي قطيا - بها فجأة، في ثامن صفر.
ومات الأمير سيف الدين أبرك المحمودي، شاد الشراب خاناه، ودفن بدمشق.
ومات الشيخ شهاب الدين أحمد بن عبد الهادي بن أحمد بن أبي العباس الشاطر، الأديب الشاعر، في خامس عشرينه جمادى الأولى.
ومات الوزير الصاحب موفق الدين أبو الفرج الأسلمي القبطي، تحت العقوبة، في يوم الاثنين حادي عشرينه ربيع الآخر، وكان أسوأ الوزراء سيرة، وكثرت في أيامه المصادرات، وتسلط السفهاء بالسعاية إليه على الناس حتى عم الخوف، وفقد الأمن، وبه اقتدى في الظلم من بعده، وعجل الله له في الدنيا من العذاب ما لا يمكن وصفه، إلى أن أهلكه الله وأدخله سعيرا، فإنه لم يؤمن بالله قط، بل أكره حتى قال كلمة الإسلام، ولبس العمامة البيضاء فتسلط على الناس بذنوبهم، ومن العجب أنه لما كان يتظاهر بالنصرانية، ويباشر الحوائج خاناه، كان مشكوراً بكثرة بره ورعايته للناس، فلما تظاهر بالإسلام جاء عذاباً واصباً على عباد الله.(2/463)
ومات بدر الدين حسن بن العَيْذَابي رئيس المؤذنين، في سلخ جمادى الأولى، وكان من العجائب في النهمة وكثرة الأكل.
ومات الشيخ المعتَقد رشيد الأسود التكروري، في المارستان، في يوم السبت ثالث عشرين جمادى الآخرة، وكان يقيم بجامع راشدة خارج مصر، وهو أخر من سكنه.
ومات الأمير سلام - بتشديد اللام - بن محمد بن سليمان بن فايد، بالفاء، المعروف بابن التركية، أمير خفاجة بالصعيد، في سابع ربيع الآخر.
ومات الأمير زين الدين عبد الرحمن بن منكلي بغا الشمسي، وابن أخت الملك الأشرف شعبان بن حسين، في عاشر شعبان.
ومات الرئيس علاء الدين علي بن عبد الواحد بن محمد بن صغير رئيس الأطباء، وهو بحلب، في يوم الجمعة تاسع عشر ذي الحجة، ودفن بها، ثم نقل إلى القاهرة، وكان من محاسن الدنيا.
ومات بدر الدين محمد بن علي بن يحيى بن فضل الله العمري، كاتب السر، في يوم الثلاثاء العشرين من شوال بدمشق.
ومات القاضي الدين محمد بن محمد بن محمد المليجي، المعروف بصائم الدهر، ناظر الأحباس ومحتسب القاهرة، وخطيب مدرسة حسن، في تاسع عشر صفر، عن نحو سبعين سنة، وكان خيراً ديناً، كثير النسك، ساكناً، قليل الكلام، بهيج الزي، جميل الهيئة، يسرد الصوم دائماً.
ومات ناصر الدين محمد بن مقبل الجندي الظاهري، في يوم الأربعاء ثالث عشر جمادى الآخرة. كان يتظاهر يحف شاربه، ورفع يديه في كل خفض ورفع في الصلاة، ولا يكتم الاقتداء بمذهب أهل الظاهر، وكتب بخطه كثيراً، واشتغل بالحديث.
ومات ناصر الدين محمد بن شرف الدين موسى بن سيف الدين أرقطاي، في ليلة الأربعاء سادس عشرين ذي القعدة. كان حجه وأبوه من أمراء الألوف، وهو من أمراء العشراوات، ويحب الحديث، ويواظب سماعه على المشايخ.
ومات الأمير سيف الدين منكلي الطرخاني الشمسي، أحد الأمراء، ونائب الكرك. وتوفي ليلة العاشر من المحرم.
ومات جمال الدين عبد الله بن محمد بن العمري، المعروف بكاتب أيتمش، وبكاتب السمسرة، في يوم الثلاثاء تاسع عشر ربيع الآخر.
ومات أمين الدين يحيى بن محمد الحنبلي العسقلاني ليلة الأربعاء ثاني ربيع الأول. وماتت زبيدة بنت قاضي القضاة زين الدين عمر بن عبد الرحمن بن أبى بكر البسطامي الحنفي.
وماتت أم قاضي القضاة صدر الدين محمد بن إبراهيم المناوي، في ليلة يوم السبت تاسع المحرم، ودفنت بالقرافة.
وماتت الشيخة الصالحة شيخة رباط البغدادية، في يوم السبت ثاني عشرين جمادى الآخرة. وكانت على قدم فاضلة من العبادة، وتذكير النساء في وعظها إياهن، وتَعليمهن الخير.
ومات متملك تونس أبو العباس أحمد بن محمد بن أبى بكر بن يحيى بن إبراهيم بن يحيى بن عبد الواحد بن عمر بن يحيى بن عمر بن ونُودَين الحفصي، في ليلة الخميس رابع شعبان، فكانت مدة ملكه أربعاً وعشرين سنة وثلاثة أشهر ونصف. وقام من بعده ابنه أبو فارس عبد العزيز.
ومات صاحب فاس السلطان أبو العباس أحمد بن أبي سالم إبراهيم بن أبي الحسن المريني، ملك المغرب، في محرم. وأقيم بعده ابنه أبو فاس عبد العزيز بن أبي العباس.
سنة سبع وتسعين وسبعمائة
أهل المحرم يوم الثلاثاء.
ففي ثالثه: قدم ثقل الأمير محمود الأستادار من الشام. وقدم البريد باستقرار دقماق في نيابة ملطية، وكان مقبل في نيابة طرسوس، وطَغَنْجي في نيابة قلعة الروم، ومَنْكلي بُغا الأسَنْبغاوي في نيابة الرها. وأن السلطان قبض على عدة من أمراء حلب، منهم ألطنبغا الأشرفي، وتمرباي الأشرفي، وقُطْلوشاه المارديني. وأن عربان آل مهنا خرجوا بأجمعهم عن الطاعة، ودخلوا إلى البرية.
وفي رابعه: خرج أتباع ابن أويس إلى بغداد بحريمه.
وفي سابعه: قدم السلطان من حلب إلى دمشق بعساكره.
وفي سابع عشره توجه السلطان من دمشق يريد مصر، وولي الأمير بدخاص السودوني - حاجب الحجاب - نيابة الكرك، عوضاً عن الشهاب أحمد بن الشيخ علي. ونقل الشهاب إلى دمشق حاجب الحجاب بها، عوضاً عن تمربغا المنجكي. وقدم تمربغا في الخدمة إلى مصر، واستقر قُنُق باي السيفي اللالا بصفد من جملة أمرائها. واستقر الجبغا الجمالي الحاجب أميراً بدمشق، على طبلخاناه.
وفي ثالث عشرينه: نودي بزينة القاهرة ومصر، فزينتا.
وفيه قدم المحمل والحاج صحبة الأمير قديد وهم ركب واحد.(2/464)
وقدم البريد بأن السلطان توجه من الرملة لزيارة القدس، جريدة.
وفي يوم الخميس أول صفر: قدم شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني من الشام.
وفي خامسه: قدم الحريم السلطاني مع الطواشي بَهادُر المقدم، وفيهن عدة من حرائر دمشق وأبكارها، ليختار منهن من يعقد عليها.
وفي سابعه: قدم الأمير محمود الأستادار، وشق القاهرة من باب النصر إلى باب زويلة، وقد فرشت له شقاق الحرير من باب زويلة إلى داره، فمشى عليها بفرسه، ومعه من الخلائق عدد لا يقع عليه حصر، وأوقدت له البلد.
وفيه نودي بالخروج إلى لقاء السلطان.
وفي تاسعه: قدم بالبريد بأن السلطان قبض على جلبان الكمشبغاوي نائب حلب بقطيا، وبعثه من الطينة في البحر إلى دمياط.
وفي ثاني عشره: قدم السلطان وصعد إلى القلعة، فكان يوماً مشهوداً وكان الشيطان قد أجرى على ألسنة العامة كلمة سوء، وهي: لو جاء السلطان لوقع الرخاء وصاروا يتَناجون بذلك في كل موضع، فأخلف الله ظنهم، وتزايدت الأسعار من يوم دخوله، تصديقاً لقوله عليه الصلاة والسلام: " من تعلق بشيء وكل إليه " . وأبيع القمح بسبعين بعد أربعين، والفول والشعير بأربعين كل أردب، والحمل من التبن بعشرة دراهم بعد خمسة، وكل حملة دقيق - وهي ست بطط - بمائة وعشرة دراهم، والخبز كل ثلاثة أرطال بدرهم، والأرز كل قدح بدرهمين، والسكر كل رطل بستة دراهم، بعد ثلاثة، والجبن المقلو بنحو درهمين، بعد ثلثي درهم، والرطل اللحم البقري بدرهم، بعد نصف درهم، والرطل اللحم من الضأن بدرهم ونصف، بعد نصف وربع درهم كل رطل.
واتفق مع تزايد الأسعار كثرة ظلم الدولة، ووقوع الوباء، ووقوف أحوال الناس من قلة المكاسب.
وفي خامس عشره: ركب السلطان وعبر إلى القاهرة من باب زويلة، وزار أباه بمدرسته بين القصرين. وخرج من باب النصر إلى القلعة.
وفي سادسه: عدى إلى بر الجيزة.
وأحدث الأمير تمربغا المنجكي شراباً من زبيب يعمل لكل عشرة أرطال من الزبيب أربعون رطلاً من الماء ويدفن في جرار بزبل الخيل أياماً، ثم يشرب فيسكر، وصار يقال له التمربغاوي، وأقبل السلطان على الشرب منه مع الأمراء، و لم يكن يعرف عنه أنه يتعاطى المسكر قبل ذلك.
وفي ثامن عشره: عاد السلطان من الجيزة إلى القلعة.
وفي تاسع عشره: أنعم على الأمير فارس من قطلو خجا بتقدمة ألف، واستقر حاجب الحجاب، عوضاً عن بِدخاص المتنقل لنيابة الكرك.
وفيه استعفى الأمير سودُن من نيابة السلطة والإمرة، لكبره وعجزه، فأعفي ولزم بيته.
وفي رابع عشرينه: أنعم على علاء الدين علي بن سعد الدين عبد الله بن محمد بن الطلاوي بإمرة طبلخاناه، واستقر أخوه ناصر الدين محمد في ولاية القاهرة، كأنه ينوب عنه، وشرط عليه ألا يستبد بشيء، بل يراجعه في الأمور. وأنعم على أرغون شاه البَيْدمري الأقبغاوي بتقدمة ألف، وعلى نوروز الحافظي بتقدمة ألف. وعلى تمربغا المنجكي بإمرة طبلخاناه، وعلى شيخ المحمودي بطبلخاناه، وعلى صلاح الدين محمد ابن تنكز بطبلخاناه، وعلى صَرْغَتْمُش المحمدي القزويني بطبلخاناه، وعلى سودُن الطيار الناصري بطبلخاناه. وأنعم على كل من مقيل الرومي، وأقباي بن حسين شاه، وآق بلاط الأحمدي، ومنكلي بغا الناصري بإمرة عشرة.
وفي تاسع عشرينه: استقر الأمير علاء الدين علي بن الطبلاوي حاجباً عوضاً من ألجبغا الجمالي، مع النظر في الولاية على أخيه.
وفي يوم الأحد ثالث ربيع الأول: عدى السلطان إلى بر الجيزة، وعاد آخر يوم الأربعاء سادسه.
وفي سابعه: خلع على الأمراء والأكابر وناظر الجيش وناظر الخاص، أقبية بفرو سور.
وفيه عمل السلطان المولد النبوي على عادته.
وفي تاسعه: عقد مجلس حضر فيه شيخ الإسلام والقضاة والفقهاء عند السلطان. وأحضر رجل من العجم يتفقه على مذهب أبي حنيفة، يقال له مصطف القرماني، وأنه كتب شيئاً في الفقه، قال فيه: لا يبول أحد إلى الشمس والقمر لأنهما عبدا من دون اللّه، ونسب إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - إلى ما نزهه اللّه من عبادتهما. فأراد قاضي المالكية ناصر الدين أحمد بن التنسي الحكم بقتله، فاعتنى به جماعة من الأمراء، وسألوا السلطان أن يفوض أمره إلى قاضي القضاة الحنفية جمال الدين محمود العجمي، فعزره بأن أقامه وبعث به إلى السجن، ثم أفرج عنه بعد ثلاثة أيام، وضربه ثم خلاه لسبيله.(2/465)
وفي رابع عشره: أنعم على ناصر الدين محمد بن جلبان العلاي بإمرة عشرين، عوضاً عن قرابغا بعد موته.
وفي ثامن عشره: قدم البريد من حلب بأن تيمور توجه من قراباغ، وعدى السلطانية، وتوجه ابنه إلى كيلان، فإن طقتمش أخذ أكثر بلاده. وقد حدث ببغداد وباء عظيم، واشتد بها الغلاء، وانتقل ابن أويس عنها إلى الحلة.
وفي ثالث عشرينه: قدم الأمير مبارك شاه نائب الوجه القبلي، ومعه أمراء العربان، وهم: أبو بكر بن الأحدب أمير عرك، وعمر بن عبد العزيز أمير هوارة، وعلي بن غريب أمير هوارة أيضاً، وأحضروا تقادمهم على العادة.
وفيه تنكر السلطان على الأمير جمال الدين محمود الأستادار، وكاد يبطش به. فلما نزل إلى داره أتاه الأمير علاء الدين علي بن الطلاري يأمره عن السلطان بحمل خمسمائة ألف دينار، وإن امتنع يوقع الحوطة عليه، ويضربه بالمقارع، فتلطف في السعي بينه وبين السلطان، حتى تقرر أنه يحمل مائة ألف وخمسين ألف دينار، فلما صعد في يوم الاثنين خامس عشرينه إلى الخدمة بالقلعة، صاح به المماليك من الأطباق، وسبوه ورجموه.
وفي سابع عشرينه: قبض على يلبغا الزيني والي الأشمونين، وضرب بالمقارع بين يدي السلطان، لكثرة ما شكا منه أهل البلاد، وتسلمه ابن الطلاوي، ليخلص منه حقوق الناس.
وفيه أحضر مبارك شاه تقدمته، وهي مائة وستونفرساً، ومائة وخمسون جملاً، وسبع، وعشر نعامات، وعدة أبقار، وأنواع من الحلاوات، وأحضر أبو بكر بن الأحدب مائة فرس. وأحضر كل من عمر بن عبد العزيز وعلي بن غريب خمسين فرساً. وفيه ادعى نصراني على شمس الدين محمد بن الشهاب أحمد الحفري - أحد نواب القضاة المالكية بالقاهرة - بين يدي السلطان، فاقتضى الحال أنه ضرب القاضي وهو مبطوح على الأرض، ورسم عليه حتى يخلص منه النصراني.
وفي ثامنه عشرينه: استقر منجك السيفي في ولاية أطفيح.
وفي يوم الاثنين ثالث ربيع الآخر: استقر قرطا التاجي في ولاية الأشمونين، عوضاً عن يلبغا الزيني.
وفيه اشتد حنق السلطان على الأمير جمال الدين محمود الأستادار، وضربه لتأخره كسوة المماليك عن وقتها الذي تفرق فيه.
وفي رابعه: استقر علي بن أبي بكر القرمانة في ولاية الجيزة، وعزل علي بن قراجا.
وفي خامسه: هرب مبارك شاه نائب الوجه القبلي لكثرة شكوى أهل النواحي من ظلمه، و طلب فلم يقدر عليه.
وفي سادسه: أنعم على أحمد بن الوزير ناصر الدين محمد بن رجب بإمرة عشرين، عوضاً عن تمان تمر الأشرفي الموسوي.
وفيه بلغ الأردب من القمح إلى ستة وستين درهماً، والأردب من الفول والشعير إلى ثلاثة وثلاثين درهماً.
وفي سابعه: ظهر أن مبارك شاه لبس زي الفقراء، وأخذ بيده إبريقاً، ومضى نحو الجبل، فلم يعرف أين قصد.
وفي حادي عشره: استقر الشريف علاء الدين علي بن البغدادي الأصل، الصعيدي الدار، في ولاية منفلوط، عوضاً عن آقبغا الزيني.
وفي ثالث عشره: استقر أمير فرج بن أيدمر نائب الوجه البحري في نيابة الوجه القبلي، عوضاً عن مبارك شاه. واستقر عوضه في الوجه البحري أوناط السيفي.
وفي رابع عشره: عدى السلطان النيل إلى بر الجيزة، ونزل بناحية صقيل وأقبل على اللهو.
وفي حادي عشرينه: ترامى مبارك شاه على الأمير تاني بك اليحياوي أمير أخور، فشفع فيه حتى عفا السلطان عنه.
وفي رابع عشرينه: رجع السلطان إلى القلعة.
وفيه حضر مبارك شاه بين يدي السلطان، فألبسه قباء مطرزاً.
وفي خامس عشرينه: قدم السلطان ولد بن علي شاه زاده بن شيخ أويس بن حسن، وكان ولد قد قدم مع عمه القان مغيث الدين أحمد بن أويس، وأقام حتى خرج صحبة حريمه، فالتحق بالقدس لتخوفه من عمه، وعاد إلى القاهرة - بعد أن استأذن - ومعه عياله، فأنزله السلطان في دار من الأمراء وأجرى عليه ما يقوم به، ووعده بإمرة.
وفيه قدم مسعود بن الشيخ محمد الكجاني من تبريز، فاراً من تيمور.
وفي سادس عشرينه: قدم الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير محمود الأستادار نائب الإسكندرية بتقدمته، وهي مائة فرس، وثلاثمائة قطعة من ثياب الإسكندرية، وعشرة آلاف دينار.
وفيه أفرج عن قطلوبك السيفي، وكمشبغا اليوسفي، وقدما من دمياط.
وفيه تزوج سلطان ولد بانية عمه تندى بعد انقضاء عمتها من السلطان، وأنعم عليه لإمرة عشرة، وترك زي البغاددة، ولبس القباء والكلفتة كهيئة أمراء مصر.(2/466)
وفي يوم الاثنين أول جمادى الأولى: رسم لجماعة من الأمراء الخاصكية بأن يسيروا في الموكب تحت القلعة بالرملية مع الأمراء، وهم صَرْغَتْمش المحمدي القزويني، وصلاح الدين محمد بن تنكز، وهما من الطبلخاناة، وقرمان المنجكي، وتمر الشهابي، وهما من أمراء العشرينات، ودمرداش السيفي، وبهادر السيفي، وجرجي الصَرغَتْمُشي، وأسَنبغا التاجي، وقوصون المحمدي وألجبغا السلطاني، وتغرة بردي القردمي، وقجماس البشيري، ويلبغا المحمدي وبَيدمر المحمدي، وبى خُجا الحسني، فركبوا في الموكب وصعدوا إلى القلعة فوقفوا مع الخاصكية، وصار هنا رسمهم.
وفيه طلب من سائر الأمراء خيول لعمارة مراكز البريد، فألزم كل من الأمراء المقدمين بعشرة أكاديش، وكل من الوزير والأستادار وبقية أرباب الوظائف وأمراء الطبلخاناة أكديشان، وكل من العشرينات والعشراوات بأكديش واحد، فجبي ذلك منهم وأرسلوا إلى المراكز.
وفي حادي عشرينه: فقبض على منكلي بغا الزيني والي قوص، وسلم إلى ابن الطبلاوي لشكوى أهل البلاد منه، واستقر عوضه أقبغا البشتكي.
وفي رابع عشرينه: خلع على الأمير محمود خلعة الرضا.
وفي أول جمادى الآخرة: قدم البريد بمحاربة تركمان الطاعة لنعير، وقتل ألف من عربانه، وأنه انهزم وهلك له نحو ثلاثة آلاف بعير.
وقدم قاصد متملك ماردين، فجهز على يده تقليد لمرسله بنيابة السلطنة وتشريف، وهو أطسان وسيف عنبرية ومنديل زركش.
وقدم البريد من حلب بأن سولي بن دُلغار انكسر كسرة قبيحة، وفر بمفرده.
وفي رابع عشره: قدم عمر بن نعير بن حيار بن مهنا، فعفا السلطان عنه، وترافع رجلان من أهل الإسكندرية يقال لأحدهما زكي الدين أبو بكر بن الموازيني، والآخر أَحمد المالقي، وكلاهما يدولب دار الضرب، فقبل قول كل منهما في الآخر، وتسلمهما ابن الطبلاوي، وخلص منهما ألف ألف درهم.
وفي ثامن عشره: استقر يلبغا السالمي الخاصكي في نظر الخانكاه الصلاحية سعيد السعداء، فأراد أن يجرى أمورها على ما شرطه الواقف، وأخرج منها أرباب الأموال، وزاد الفقراء المجردين كل فقير رغيفاً في اليوم على الثلاثة الأرغفة المقررة له، ورتب بها وظيفتي ذكر بعد صلاتي العشاء والصبح.
وفي يوم الاثنين خامس رجب: استقر الأمير صلاح الدين محمد بن تنكز أستادار الأملاك السلطانية، والوزير الصاحب سعد الدين نصر الله بن البقري ناظر ديوان الأملاك. واستقر كل من صرغتمش المحمدي القزويني، وقجماش البشيري أمير جاندار. واستقر الأمير تمر الشهابي حاجباً صغيراً.
وفي ثامنه: استقر الأمير نوروز الحافظي رأس نوبة صغيراً، عوضاً عن تغرى بردى من يشبغا.(2/467)
وفيه عقد مجلس عند السلطان حضره القضاة وشيخ الإسلام سراج الدين، عمر البلقيني، بسبب يلبغا السالمي وشهاب الدين أحمد العبادي - أحد نواب القضاة الحنفية بالقاهرة - وذلك أن عدة الصوفية بخانكاه سعيد السعداء كانت عندما تحدث الأمير سودن النائب في نظرها من ابتداء دولة السلطان، دون الثلاثمائة، فتزايدت حتى بلغت نحو الخمسمائة. و لم يف ريع الوقف بالمصروف، فقطع ما كان لهم من الحلوى والصابون في كل شهر، ومن الكسوة في السنة. فلما شرقت ناحية دهمرو - الموقوفة على الخانقاه - في هذه السنة، من جملة ما شرق من النواحي، لقصور النيل، عزم مباشرو الخانقاه على غلق مطبخها ومخبزها من أول شهر رجب هذا، وقطع ما للصوفية من الطعام واللحم، والخبز في كل يوم، فلم يصبروا على ذلك. وتكرر وقوفهم للسلطان، وشكواهم، حتى ولي يلبغا السالمي نظر الخانكاه، وشرط عليه إجراء الأمور فيها على ما في كتاب وقفها من الشروط فوجد شرط الواقف أن يكون من بها من الصوفية أهل السلوك، فإن تعذر وجودهم كانت وقفاً على الفقراء والمساكين، وأفتاه شيخ الإسلام بوجوب اتباع شرط الواقف، فجمع القضاة وشيخ الإسلام بالخانقاه، وأحضر سائر صوفيتها، وقرأ عليهم كتاب الوقف، سألهم في الحكم بالعمل بشرط الواقف، فانتدب له من جملة الصوفية زين الدين أبو بكر القمني من فقهاء الشافعية، وشهاب الدين أحمد العبادي من فقهاء الحنفية، وقضاتهم، وأخذا في مخاصمته. وطال النزاع فأضرب عن قولهما، وسأل القضاة عما يفعل. فقالوا كلهم مع شيخ الإسلام افعل شرط الواقف وانفضوا. فقطع من ليلته نحو الخمسين من الصوفية الذين يركبون البغلات، أو يلون القضاء والحكم بين الناس، أو لهم شهرة بغناء، وسعة مال، وفيهم القمني والعبادي، فأطلقا ألسنتهما فيه. وزاد العبادي في التعدي، وصرح بأن السالمي قد كفر، وصار يقول في المجالس الكافر يلبغا سالمي استنبطت آية من كتاب الله فيه. وهي قوله تعالى: " أم حَسِبَ الذين اجتَرَحُوا السيئاتِ أَن يَجعَلَهم كالِذينَ آمَنُوا وَعَمَلُوا الصالحات سَوَاء " ، وكتبت في ذلك كراريس، وهذا الكافر يلبغا يريد أن يكون مثل الفقراء الصالحين. فلما بلغ ذلك السالمي لم يحتمله، وشكا العبادي للسلطان. ونزل من القلعة إلى داره، فإذا بالعبادي قد مر في شارع القاهرة، فلشدة حنقه منه نزل عن فرسه، وقبض على كم العبادي، ودعاه إلى الشرع فزاد العبادي في التحامق، وقال: " تمسك كمي كفرت، فبينما هما في ذلك إذ مر سعد الدين نصر الله بن البقري، فنزل عن فرسه، وما زال بهما حتى أخذهما ومشى إلى المدرسة الحجازية برحبة باب العيد، وجلسوا بها، فأتاهم الأمير علاء الدين علي بن الطبلاوي. وأخذ في الإصلاح بينهما، فزاد تجانن العبادي، وقال: قد كفر السالمي بمسكه كمي، وأنا مذهبي من قال للفقيه يا فقيه بصيغة التصغير فقد كفر، لأنه احتقره، وكذلك مسك كمي فيه احتقاري، وهو كفر. فانفض المجلس عن غير صلح، فعاد السالمي إلى السلطان. وقد بلغ السلطان ما جرى بينه وبين العبادي، فقال له: قد كفرك الفقهاء يا يلبغا، فقال: يا مولانا قد كفروا أكبر مني. يعرض له بما كان من إفتاء الفقهاء فيه لمنطاش أيام كان بالكرك. ثم سأل في عقد مجلس له ولغريمه، فرسم بذلك، وحضر القضاة وشيخ الإسلام عند السلطان، في يوم الخميس ثامن شهر رجب هذا، وجيء بالعبادي، وأقيمت عليه البينة عند قاضي القضاة ناصر الدين محمد التنسي المالكي، بعد الدعوى فحكم بتعزيره، فقال السلطان: التعزير لي. وأراد ضربه بالمقارع، فشفع فيه الأمير قَلَمطاي الدوادار، حتى فوض تعزيره لقاضي القضاة جمال الدين محمود الحنفي، فأجابه، وأمر به الجمال عند ذلك، فكشف رأسه، وأنزل به بين يدي بغال القضاة من القلعة، وهو ماش، حتى سجن بحبس الديلم من القاهرة، ثم أخرج منه ونقل إلى سجن الرحبة. وطلب يوم السبت حادي عشره إلى بيت الجمال العجمي، وحضر ابن الطبلاوي، وضربه على قدميه نحو الأربعين ضربة، وأعيد إلى السجن. ثم خرج في ثامن عشره إلى بيت السالمي، وقد حضر شيخ الإسلام عنده. وما زال به حتى أرج عنه، وتسامع القضاة فأتوا إلى السالمي، وحضروا إصلاح شيخ الإسلام بينهما.(2/468)
وفيه استقر تاج الدين محمد بن عبد اللّه بن الميموني في مشيخة خانكاة قوصون بالقرافة، بعد وفاة نور الدين علي الهوريني. واستقر محمد بن حسن بن ليلى في ولاية قطيا، عوضاً عن صدقة الشامي.
وفي يوم الاثنين رابع شعبان: جلس السلطان بدار العدل من القلعة، وعملت الخدمة السلطانية، وكان قد عطل حضور دار العمل من نحو سنة ونصف.
وفي تاسعه: أعاد السلطان على الأيتام المال الذي اقترضه من المودع، وهو مبلغ نحو ألف ألف ومائة ألف وخمسين ألف درهم، من ذلك ما يختص بمودع القاهرة والشام خمسمائة وخمسون ألفاً، ومن مودع الشام ستمائة ألف درهم.
وفي تاسعه: استقر الأمير علاء الدين علي بن الطبلاوي يتحدث في أمر دار الضرب بالقاهرة، عوضاً عن محمود الأستادار.
وفيه أعيد صدر الدين محمود المناوي في قضاء القضاة بديار مصر، وعزل البدر محمد بن أبي البقاء لفراغ الغرض منه. ونزل من القلعة بالتشريف ومعه الأمراء على العادة. فكان يوماً مشهوداً.
وفي رابع عشره: قبض على عمر بن الأمير نعير وحجابه الثلاثة، وحملوا إلى سجن الإسكندرية.
وفي سادس عشره: نزل السلطان في عيادة الأمير بكلمش، وعاد.
وفي سابع عشره: ركب الصدر المناوي إلى مدينة مصر على العادة، وعاد، وفي ثامن عشره ركب السلطان ودخل القاهرة من باب النصر، وطلع إلى مدرسته بين القصرين لزيارة قبر أبيه، وعاد إلى القلعة.
وفي ليلة الثلاثاء سادس عشرينه: خرج من الأمراء المقدمين بكلمش أمير سلاح، ونوروز رأس نوبة، وقلمطاي الدوادار، وأرغون شاه البيدمري، وفارس حاجب الحجاب، وقديد الحاجب، وأحمد بن يلبغا، في عدة من أمراء الطبلخاناه والعشراوات، لكبس العربان ببلاد الصعيد.
وفي ثامن عشرينه: أخذ قاع النيل فكان أربعة أذرع واثني عشر إصبعاً.
وفي آخره: استقر الصاحب تاج الدين عبد الرحيم بن أبي شاكر في وزارة دمشق، وعزل بدر الدين محمد بن الطوخي.
وفي يوم الاثنين ثاني رمضان: عاد الأمراء من الصعيد بعدما قبضن الأمراء على خمسمائة رجل، وأخفوا ثمانين فرساً، وأحضروا نحو الستين رجلاً، وأفرجوا عن البقية، فسجنوا بخزانة شمايل.
وفي سادس عشره: استقر شرف الدين محمد بن الدماميني الإسكندراني في حسبة القاهرة، عوضاً عن بهاء الدين محمد بن البرجي.
وفيه أضيف إلى ابن الطبلاوي الكلام في دار الضرب بالإسكندرية، وفي متجر السلطان عوضاً عن الأمير محمود، فلم يمض غير أيام حتى تنافسا وخرج ابن الطبلاوي على محمود من جهة دار الضرب مبلغ ستة آلاف درهم فضة، صالح السلطان عليها بمائة ألف وخمسين ألف دينار ذهباً، غلقها في تاسع عشرينه، فخلع عليه وعلى ولده محمد، وعلى ابن الطبلاوي، وعلى ناظر الخاص، وعلى سعد الدين إبراهيم بن غراب كاتب الأمير محمود وكان قد تنكر ما بينه وبين مخدومه الأمير محمود، وظاهر عليه ابن الطبلاوي وصار يكاشفه بالعداوة، فجعله ابن الطبلاوي من أكبر أعوانه على إزالة محمود، حتى تم له ذلك، فكان هذا ابتداء ظهور ابن غراب واشتهار ذكره ولم يبلغ العشرين سنة. وهذه أول غدراته، فإن محمود أخذه من الإسكندرية وهو طفل صغير، ورباه عنده، وعلمه الكتابة، ورتبه في كتابة خاص أمواله. فلما كبر وبلغ مبالغ الرجال سمت نفسه إلى الرئاسة، ورأى أنه يبدأ بمحمود ولي نعمته فيزيله أولاً، وكان ابن الطبلاوي قد كثر اختصاصه بالسلطان، فصار إليه وساعده على محمود، ودله على عوراته، ومت إليه بمعرفة حواصل أمواله، فجمع بينه وبين السلطان، وأخلاه به، فعرفه من حال محمود ما أوجب له أن صارت له بذلك اليد عند السلطان، وكان ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
وفيه استقر محمد بن العالي في ولاية المنوفية، عوضاً عن آيدمر المظفري.
وفي يوم السبت سادس شوال: ابتدأ السلطان بالجلوس في الميدان تحت القلعة للحكم بين الناس. وكانت عادته أن يجلس في يومي الأحد والأربعاء، فغير بذلك بيومي الثلاثاء والسبت، وجعل الأحد والأربعاء لمعاقرة الشراب مع الأمراء، فاستمر ذلك. واستدعى مباشري الأمراء، وقال: لقد بلغني أنكم تحمون البلاد، فمن سمعت أنه حمى بلداً، ضربته بالمقارع وسمرته، بل ساووا الأجناد في المغارم على النواحي. وكتب إلى ولاة الوجهين القبلي والبحري بأن يكون الأمراء والأجناد سواء في المغرم. ولا تحمى بلد أمير عن إخراج المغرم، ولا يحمر فلاح البتة.(2/469)
واتفق في زيادة النيل أمر غريب، وهو أن الزيادة استمرت منذ أخذ القاع حتى كملت ثمانية أَذرع ثم زاد في ستة أيام ثمانية أذرع وإصبعين، وهي من يوم الخميس رابع شوال إلى يوم الثلاثاء تاسعه، وهو ثالث مسرى.
وفيه كان الوفاء، وركب السلطان حتى عدى النيل إلى المقياس، ثم فتح الخليج على العادة.
وفي ثامن عشره: توجه الأمير ناصر الدين محمد جمق بن الأمير الكبير أيتمش إلى الحج، وهو أمير الركب، فكان يوماً مشهوداً.
وفي يوم الأربعاء أول ذي القعدة: قدم الخبر من الحجاز بأن الحرب ثارت بين بني حسن وقواد مكة، ببطن مر، فقتل فيها الشريف علي بن عجلان، وامتنع القواد بمكة، وصدوا عنها بني حسن. فأفرج السلطان عن الشريف حسن بن عجلان، وولاه إمرة مكة، عوضاً عن أخيه علي، وخلع عليه، وسار إلى مكة ومعه يلبغا السالمي ليقلده إمارة مكة في سابعه.
وفي ثاني عشره - وهو آخر أيام النسئ - : انتهت زيادة ماء النيل ثانية عشر ذراعاً ونصف، ونقص من يومه.
وفي ثالث عشره: ركب السلطان إلى دار الأمير محمود، يعوده من مرضه.
وفي رابع عشره: استقر منكلي بغا الزيني في ولاية الأشمونين، وعزل قرطاي التاجي.
وفي خامس عشره - وهو ثالث توت - : زاد ماء النيل، ونودي عليه من الغد واستمرت زيادته.
وفيه استقر عمر بن إلياس - قريب قرط - في ولاية منفلوط، عوضاً عن الشريف علي البغدادي.
وفي سابع عشرينه - وهو خامس عشر توت - : انتهت زيادة ماء النيل إلى ثمانية أصابع من عشرين ذراعاً، وثبت إلى رابع بابه، فكان طوفاناً، والأسعار تتزايد حتى بلغ القمح ثمانين درهماً، والأردب من الفول والشعير أربعة وخمسين، والبطة الدقيق باثني وعشرين درهماً، والخبز كل رطلين ونصف بدرهم، والحمل من التبن بعشرة دراهم، والقدح الأرز بدرهمين، والأردب من الحمص بخمسين، والرطل من الجبن المقلو بدرهمين، والرطل من لحم الضأن بدرهم وربع، والرطل من لحم البقر بدرهم، والسكر بخمسة دراهم الرطل.
وفي آخره: استقر سنقر المارديني في ولاية قوص، وعزل أقبغا البشتكي.
وفي السبت ثاني ذي الحجة: قدم الأمير طولو بن علي شاه المتوجه إلى طَقتمش خان، وأنه بعد ما اتفق معه على محاربة تيمور، توجه تيمور لمحاربته، فسار إليه وقاتله ثلاثة أيام، فانكسر من تيمور، ومر إلى بلاد الروس، فخرج طولو من سراي إلى القرم، ومضى إلى الكفا، فعوقه متملكها ليتقرب به إلى تيمور، حتى أخذ منه خمسين ألف درهم، فملك تيمور القرم والكفا وخربها.
وقدم رسول الأمير يوسف بن قرا محمد بن بيرم خجا - صاحب الموصل - بأن عسكر تيمور أتاه، فقاتلهم وهزمهم.
وفي آخره: قدم مبشرو الحاج، وأخبروه باستيلاء حسن بن عجلان على مكة، ووجود الأمن والرخاء.
وفيه ولى شمس الدين محمد الأخناي قضاء الشافعية بحلب، عوضاً عن ناصر الدين محمد بن محمد بن خطب نقيرين. وأعيد برهان أبي سالم إبراهيم بن محمد بن علي الصنهاجي إلى قضاء المالكية بدمشق، عوضاً عن علم الدين محمد بن محمد القفصي. واستقر شمس الدين محمد بن أحمد بن محمود النابلسي في قضاء الحنابلة بدمشق، عوضاً عن علاء الدين علي بن محمد بن محمد بن محمد بن عمر بن المنجا. ثم ولي القفصي قضاء المالكية محلب، عوضاً عن البرهان إبراهيم الركراكي.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
برهان الدين إبراهيم بن محمد القرقشندي موقع الحكم في ثلث عشرين شعبان.
ومات الشيخ برهان الدين إبراهيم بن الآمدي، أحد أصحاب ابن تيمية، في رابع عشرين ذي القعدة.
ومات إسماعيل بن الملك الأشرف شعبان بن حسين، في ثالث عشر رمضان، عن خمس وعشرين سنة.
ومات الأمير ألطُنبغا الحلبي الأشرفي، وهو مسجون بقلعة حلب.
ومات الشيخ المعتقد أبو بكر البجائي المغربي المجذوب، في يوم السبت خامس جمادى الآخرة، ودفن من الغد، خارج باب النصر حيث التربة الظاهرية الآن. وهو أحد الذين أوصى الملك الظاهر أن يدفن عندهم. وأنفق عليه في مؤنة كفنه ودفنه، وقراءة ختمات عند قبره مائتي دينار، على يد يلبغا السالمي، وكانت جنازته عظيمة جداً.
ومات الأمير أبو بكر بن الأسعدي في سابع عشر رجب.
ومات صدر الدين بديع بن نفيس التبريزي، رئيس الأطباء في سادس عشر ربيع الأول.
ومات الأمير سيف الدين بلاط المنجكي، أحد أمراء العشرينات.(2/470)
ومات عز الدين حمزة بن علي بن يحيى بن فضل الله العمري، نائب أخيه بدر الدين محمد كاتب السر، وأحد كتاب الدست. مات بدمشق يوم تاسوعاء، وهو آخر من رأس من بني فضل الله.
ومات الخواجا الكبير رشيد الهُبّي، أحد تجار الكارم، في ليلة السبت، العشرين من جمادى الأولى.
ومات الأمير سيف الدين طوغان الإبراهيمي، أحد المماليك الظاهرية، وأمير جاندار، في سادس صفر.
ومات السيد الشريف علي بن عجلان، أمير مكة، مقتولاً، في سادس عشر شوال. ومات نور الدين علي الهوريني، شيخ القوصونية، في ثالث عشر شهر رجب.
ومات نور الدين علي بن الركاب، أحد نواب قضاة الحنفية بالقاهرة، في سابع عشر رجب.
ومات نور الدين علي بن الشراب دار، أحد نبهاء الفقهاء الشافعية، في تاسع عشر رجب.
ومات جمال الدين عبد الله بن فراج النويري، أحد الفقهاء المالكية، ونواب قضاتهم بالقاهرة.
ومات الأمير قاسم بن السلطان في ثاني عشر ذي الحجة، وعمره نحو خمس سنين. ومات الأمير قرابغا والد الأمير جَرَكتمر الخاصكي الأشرفي، وأحد أمراء العشرينات في ثاني ربيع الأول.
ومات الأمير ناصر الدين محمد بن السلطان، في يوم السبت ثالث عشرين ذي الحجة، مولده مستهل ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة، وكان قد أعيا الأطباء داؤه الذي برجليه وبه مات. وكان إقطاعه الديوان المفرد، وهو أكبر أولاد السلطان، ودفن في التربة الظاهرية بين القصرين.
ومات ناصر الدين محمد بن عبد الدايم بن محمد المعروف بابن بنت ميلق الشاذلي، قاضي القضاة بديار مصر، وكان أولاً يعظ الناس، ولهم فيه اعتقاد، ثم امتحن بولاية القضاء، فلم تُشكر سيرته، وعُزل ونكب بأخذ مال كبير منه ظلماً، وغُوِّرت عينه. ومات في ليلة الاثنين تاسع عشرين جمادى الأولى.
ومات غياث الدين محمد بن جمال الدين عبد الله بن محمد بن علي بن حماد بن ثابت، الواسطي الأصل، البغدادي، ابن العاقولي في يوم الأربعاء سادس عشرين ربيع الآخر ببغداد. وقدم إلى القاهرة في الجفلة من تيمور. وكان من علماء فقهاء الشافعية. ومات شمس الدين محمد بن علي بن صلاح الحريري، أحدنواب القضاة الحنفية بالقاهرة، ومشايخ القراء، وفقهاء الحنفية، في يوم الجمعة رابع عشرين رجب، ومولده في العشرين من شوال سنة عشرين وسبعمائة. قرأ على برهان إبراهيم الحركي القراءات و الحديث على علاء الدين التركماني، والفقه على القوام الأتقاني.
ومات شمس الدين محمد بن عمر القليجي الحنفي مفتى دار العدل، وأحد نواب القضاة بالقاهرة وموقعي الحكم، في ليلة الثلاثاء العشرين من رجب. وقد بلغ من الرئاسة مبلغاً كبيراً.
ومات شمس الدين محمد الأقصراي الحنفي، شيخ المدرسة الأيتمشية، في سابع عشر جمادى الأولى.
ومات الشيخ محمد بن أبي يعقوب القدسي الشافعي المعتقد في يوم الأحد أول شهر رمضان. وكان يسكن بجامع المقس على الخليج، وله حظ من الناس.
ومات الشيخ المعتقد محمد السالوطي المالكي في ثاني عشر رمضان.
ومات شمس الدين محمد بن أحمد بن علي بن عبد العزيز المعروف بابن المطرز المصري، ولد في سنة عشر وسبعمائة تخميناً، وحدّث بصحيح مسلم عن علي بن عمر الوالي، وبسنن أبي داوود عن يوسف بن عمر الختني، وبكتاب التوكل لابن الدنيا عن الدبوسي. ومات يوم الأحد سادس جمادى الآخرة.
ومات موسى بن أبي بكر بن سلار، أحد أمراء العشراوات وأمير طبر. ولي أمير طبر بعد دمرخان بن قرمان، سنة ثمان وسبعمائة. ومات في ثالث ذي الحجة والله تعالى أعلم.
سنة ثمان وتسعين وسبعمائة
أهل المحرم يوم الأحد.
ففي ثانيه: تناقص سعر القمح وأبيع الأردب بستين درهماً.
وفيه غير السلطان كتاب وقف مدرسته، وكان شرط النظر عليها من بعده للقضاة، فجعله لمن يكون سلطاناً.
وفي خامسه: قرر الأمير قلمطاي الدوادار في نظرها، ونزل إليها بالتشريف في موكب جليل.
وفي تاسعه: توجه السلطان إلى سرحة سرياقوس على العادة. وارتفع السعر حتى أبيع الأردب القمح بمائة درهم، والبطة الدقيق بستة وعشرين درهماً، والخبز كل رطلين ونصف بدرهم.
وفي عاشره: قدم يلبغا السالمي من الحجاز.
وفي ثامن عشره - وهو في أفناء هاتور - : كان النيل ثابتاً على ثمانية عشر أصبعاً من تسعة عشر ذراعاً، وهذا من غرائب أحوال النيل.
وفي سادس عشره: عاد السلطان من سرياقوس.(2/471)
وفي يوم الخميس رابع صفر: نقل الأمير يلبغا الأسعدي المجنون من كشف الوجه البحري إلى نيابة الوجه القبلي، وعزل أوناط. ورسم ليلبغا أن يقيم بالقاهرة، ويخرج لعمل مصالح الإقليم. وبطل كشف الوجه البحري، وصارت نيابة بتقدمة ألف، رهو أول من عمل هنا.
وفيه عزل شرف الدين محمد بن الدماميني من حسبة القاهرة بنور الدين على الفور.
وفي سادسه: بعث السلطان الطواشي فارس الدين شاهين الحسني الجمدار، فأخذ من دار الأمير محمود وهو مريض مالاً كبيراً، يقال إنه مبلغ مائة ألف دينار وجد في عقد سلم غمز عليه، وعمدة أحمال من قماش. وقبض على زوجته، وكاتبه سعد الدين إبراهيم بن غراب، وصار بهم إلى القلعة، وعاد فأخذ ابنه الأمير ناصر الدين محمد.
وفي سابعه: تسلم سعد الدين إبراهيم بن غراب الأمير إلى باي الخازندار ونزل به إلى دار محمود ليدله على دخيرة اعترف بها، فكانت جملتها خمسين ألف دينار.
وفي ثامنه: استقر علي بن غلبك بن المكللة في ولاية الشرقية، عوضاً عن علي بك بحكم انتقاله إلى ولاية البحيرة.
وفي تاسعه: استقر قطلوبغا الطشتمري نائباً بالوجه القبلي، عوضاً عن أمير فرج بن أيدمر بعد وفاته. واستمر الأمير بيسق الشيخي في كشف الجيزة عوضاً عن قطلوبغا.
وفي حادي عشره: استقر قطلوبك العلاي أستادار الأمير أيتمش في وظيفة الأستادارية، عوضاً عن الأمير محمود، وأنعم عليه بإمرة عشرين. واستقر محمود على إمرته وهو مريض. واستقر سعد الدين إبراهيم بن غراب ناظر الديوان المفرد.
وفي خامس عشره: استقر الأمير قديد القلمطاوي في نيابة الإسكندرية، عوضاً عن الأمير مبارك شاه. واستقر علاء الدين علي بن الطلاوي أستادار خاص الخاص، وناظر كسوة الكعبة، عوضاً عن نجم الدين محمد الطنبدي وكيل بيت المال ومحتسب القاهرة - كان - مضافاً لما معه من الحجوبية، والتحدث في ولاية القاهرة، ودار الضرب، والمتجر، وشق القاهرة في محفل حفل. واستقر الأمير أزدمر في كشف الجيزة، عوضاً عن بيسق، وعاد بيسق أمير أخور كما كان، وأَضيف إليه كشف الجسور بالقليوبية.
وفي ثامن عشره: قدمت رسل الأمير قرا يوسف بن قرا محمد - صاحب تبريز - برجل يقال له أطلمش من نواب تيمور لنك، قبض عليه، فسلم لابن الطبلاوي.
وفي خامس عشرينه: استقر الأمير زين الدين مبارك شاه في الوزارة، بعد موت الوزير ناصر الدين محمد بن رجب. واستقر سعد الدين نصر الله بن البقري ناظر الدولة، واستقر أمير فرج الحلبي شاد الدواوين.
وفي سابع عشرينه: أعيد شرف الدين محمد بن الدماميني إلى حسبة القاهرة، وعزل القور لعجزه عن القيام. مما التزم به من المال، وأضيف إلى ابن الدماميني نظر الكسوة، ونزعت من النجم الطنبدي بعد ما تحدث فيها ابن الطبلاوي كما ذكر.
وفي سلخه: أنعم على الوزير مبارك شاه بإمرة ناصر الدين محمد بن رجب.
وفي يوم الثلاثاء سابع ربيع الأول: استقر أحمد بن محمد بن ماما في ولاية المنوفية، عوضاً عن محمد بن العادلي. ثم عزل في اليوم الرابع، وأعيد ابن العادلي.
وفي حادي عشره: توجه السلطان إلى ناحية صقيل من الجيزة، وعاد في سادس عشره.
وفيه تسلم ابن الطبلاوي سعد الدين أبا الفرج بن تاج الدين موسى ناظر الخاص، وابنه أمين الدين ليخلص منهما أربعمائة ألف وسبعين ألف درهم، وجد بها حجة لابن رجب الوزير، ثم أفرج عنهما بعد يومين.
وفي تاسع عشره: سلم ناصر الدين محمد بن محمود الأستادار لابن الطبلاوي، على مائة ألف دينار يخلصها منه، فأخرق به وبالغ في إهانته ونزع عنه ثيابه ليضربه بحضرة الناس، فقال له: يا أمير: قد رأيت عزناً وما كنا فيه، وقد زال، فعزك أيضاً ما يدوم، وهذا أول يوم زال عني: عن أبي فيه السعادة وأقبل الإدبار،. فلم يضربه.
وفي عشرينه: أفرج عن سعد الدين ناظر الخاص وابنه، وخلع عليهما خلع الرضا.
وفيه نقل ابن محمود إلى الطواشي شاهين الحسني، فأقام عنده يومين.
وفي ليلة الخميس ثالث عشرينه: نزل الطواشي صندل، والطواشي شاهين الحسني، وابن الطبلاوي إلى خربة خلف مدرسة الأمير محمود، وأخرجوا من الأرض - بعد حفر كثير - عدة أزيار فيها ألف ألف درهم فضة، حملت إلى السلطان.
وفي بكرة يوم الخميس: وجد بالخربة أيضاً بعد حفر كثير، ستة آلاف دينار، وأربعة عشر ألف وخمسمائة درهم فضة.(2/472)
وفي رابع عشرينه: أعيد ابن محمود إلى ابن الطبلاوي.
وفي خامس عشرينه: أحضرت أمه إلى السلطان.
وفي ثامن عشرينه: ظفر أيضاً بمبلغ ثمانية وثلاثين ألف ومائتين وثلاثين ديناراً في مخزن حمار بثغر الإسكندرية، حملت إلى السلطان.
وفي يوم الخميس ثامن ربيع الآخر: ابتدأ السلطان بعمل الخبز الذي يفرق في الفقراء، وهو عشرون إردباً من القمح تعمل خبزاً، وتولى ابن الطبلاوي ذلك، فعمت فقراء القاهرة ومصر وأهل السجون وسكان القرافة، فكفى الله الناس بهذا الخبز هماً عظيماً، بحيث لم يعرف أن أحداً مات في هذا الغلاء بالجوع، واغتنى جماعة منه، فإنهم صاروا يأخذون الخبز من عدة مواضع ويبيعونه، ثم يستجدون الناس أيضاً.
وفي تاسعه: عدى السلطان إلى بر الجيزة، ونزل بشاطئ النيل، تجاه القاهرة.
وفي رابع عشره: عاد إلى القلعة.
وفي خامس عشره: استقر تاج الدين عبد الرزاق بن أبي الفرج الملكي - ناظر قطا - في ولايتها مع وظيفة النظر، والتزم كل شهر بحمل مائة ألف وخمسين ألف درهم. وكان في ابتداء أمره صيرفياً بقطا، وترقى حتى باشر بها، ثم ولي النظر إلى أن جمع بين النظر والولاية.
وفيه ظفر أيضاً بديخرة لمحمود عند لاجين أمير سلاحه، فكان مبلغها ثلاثين ألف دينار.
وفي سابع عشره: استعفي أزدمر من كشف الجيزة، فأعفي. واستقر عوضه يلبغا مملوك الوزير مبارك شاه.
وفيه ارتجع عن شهاب الدين أحمد بن الوزير ناصر الدين محمد بن رجب إمرته، وهى عشرة، وعوضه عنها إقطاعاً برمح واحد.
وفي تاسع عشره: قدم محمد بن العادلي والي المنوفية في الحديد فتسلمه ابن الطبلاوي، واستقر عوضه حسام الدين.
وفيه قدم الأمير نوروز الحافظي رأس نوبة، ومعه علي بن غريب أمير هوارة، وثلاثة وثلاثين رجلاً من أهله وأولاده في الحديد، فسجن ابن غريب بالبرج في القلعة، وأودع أصحابه بخزانة شمايل.
وفيه تصدق السلطان بنصب كثير، فاجتمع بالإصطبل خمسمائة نفس، حصل لكل منهم مبلغ خمسين درهماً.
وفي رابع عشرين: جلس السلطان لتفرقة الصدقة أيضاً، فاجتمع عالم لا يقع عليه حصر، بحيث مات منهم في الازدحام بباب الإصطبل سبعة وأربعون نفساً، تولى تكفينهم ودفنهم الأميران فارس حاجب الحجاب، والوزير مبارك شاه.
وقدم الخبر من الحجاز بأن الشريف حسن بن عجلان هزم بني حسن إلى ينبع، وهو في طلبهم، ثم عاد إلى خليص، ومعه أمير ينبع، فكبس عليهم وظفر بهم، وأن الأترك الذين استخدمهم أمير ينبع ركبوا عليه وقاتلوه، وقتلوا جماعة من أصحابه، فظفر بهم، وقتل منهم اثني عشر، وأخرج باقيهم من بلاده.
وفي يوم الخميس سابع جمادى الأولى: أوقعت الحوطة على دار الأمير محمود الأستادار، وأخذت مماليكه، وترك عنده ثلاثة يخدمونه في مرضه.
وفيه فر شمس الدين محمد بن محمد بن محمد بن الدزري الدمشقي، من ترسيم ابن الطبلاوي. وكان قد تحدث للأمير أيتمش فيما يتعلق به في دمشق وأحضره لعمل حسابه، فوقف عليه مال عجز عنه فهرب، ولم يوقف له على خبر.
وفيه توجه السلطان إلى بر الجيزة وعمل في كل يوم طعاماً للفقراء يفرق فيهم اللحم والمرق والخبز، فبلغ عدد الفقراء الذين يأخذون ذلك خمسة آلاف نفس. ومن فاته الأخذ من الطعام أخذ مع الرغيف درهماً، فإن فاته الخبز وأخذ من الطعام، أخذ عوض الخبز نصف درهم، ومن فاته الطعام والخبز أخذ درهماً ونصف.
وكانت الأسعار قد تزايدت لقلة وجود الغلال، وفقد الخبز من الحوانيت بالقاهرة ومصر سبعة أيام متوالية، وازدحم الناس على الأفران، وأبيع القمح بمائة وخمسة وسبعين درهماً الأردب في غلته، فإذا غربل تعدى المائتين.
وبلغت البطة الدقيق إلى أربعة وأربعين درهماً، والخبز كل رطل وربع، بدرهم.
وفي عاشره: وجدت دخيرة لمحمود، فيها مبلغ سبعين ألف دينار.
وفي يوم الجمعة خامس عشره: حضِر شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني بالجامع الأزهر من القاهرة بعد العصر للدعاء برفع الغلاء، ومعه خلائق، فكان وقتاً عظيماً. فلما كان من الغد قدم إلى ساحل القاهرة ومصر عدة مراكب بها الغلال، فانحط سعر الأردب عشرة دراهم، وأخذ يتناقص حتى أبيع الأردب بمائة وثلاثين درهماً، والخبز كل رطلين بدرهم، ثم انحط عن ذلك أيضاً.(2/473)
وفي عشرينه: وجدت دخيرة لمحمود أيضاً، فيها ثلاثة وستون ألف دينار ووجدت أيضاً أخرى فيها مبلغ أربعين ألف دينار، ووجد له عند شخص مبلغ أربعين ألف دينار، وعند آخر عشرين ألف دينار. ووجد في بيت مبلغ مائة دينار وسبعة وثلاثون ألف دينار، وفي موضع آخر مائة ألف دينار وثلاث براني في إحداها أحجار البلخش وفي اثنتين اللؤلؤ كبار، ووجد أيضاً عند شخص حلي ذهب له قدر كبير.
وفي ليلة الثلاثاء سادس عشرينه: شدد على محمود حتى التزم بإرضاء السلطان.
وفي سابع عشرينه: وجد له في موضع مائة ألف دينار، وثمانية وثلاثون ألف دينار. وكثرت صمتات السلطان في هذا الشهر، وأكثر من تفرقة دنانير الذهب والدارهم الفضة، والخبز والطعام، حتى عم الفقراء والمساكين وغيرهم، وصار لبعضهم من ذلك غنى.
وفي يوم الثلاثاء ثالث جمادى الآخرة: خرج البريد إلى دمشق بإحضار الوزير بدر الدين محمد بن الطوخي.
وفيه سُلم محمود الأستادار إلى شاد الدواوين ليعاقبه، فعصره من ليلته.
وفي خامسه: أخرج الأمير شهاب الدين أحمد بن يَلبغا الخاصكي المعمري إلى طرابلس.
وفيه أنعم على تمربُغا المنجكي بتقدمة ألف، وعلى قُطلوبَك الأستادار بتقدمة ألف. وعلى كل من طُولُو بن علي شاه، ويَلْبُغا الناصري، وسراي تمر الناصري، وشاذي خُجا العثماني، وقينار العلاي بإمرة طبلخاناه. وعلى كل من طَيبغا الحلبي أمير خور، وسودن طاز من علي باي، ويعقوب شاه الخازندار، ويَشبك الخازندار، وتَمَان تَمُر الأشَقتمُري رأس نوبة الجمدارية بإمرة عشرة.
وفي عاشره: قدم البريد من الوجه القبلي بأن العرب الأحامدة قتلوا قُطُلوبُغا الطَشتمري نائب الوجه القبلي، فاستقر عوضه عمر بن إلياس والي منفلوط مضافاً لما بيده.
وفيه استقر الشيخ زين الدين أبو بكر القمني في مشيخة الصلاحية بالقدس، عوضاً عن شمس الدين محمد بن الجزري، وبعث بالنيابة عنه، وذلك بسفارة الأمير قَلْمطاي الدوادار لاختصاصه به.
وفي رابع عشره: استقر الشيخ شمس الدين محمد ويقال له شيخ زاده الدويزاتي في مشيخة الشيخونية، عوضاً عن البدر الكُلُستاني كاتب السر. واستقر الجمالي محمود العجمي ناظر الجيش وقاضي القضاة الحنفية في تدريس الصرغتمشية، عوضاً عن البدر الكُلُسْتاني. واستقر شهاب الدين أحمد بن النقيب اليغموري الدمشقي في التحدث على مستأجرات خاص الخاص، والمتجر نيابة عن ابن الطبلاوي، واستقر حاجباً بدمشق.
وفي سادس عشره: استقر الأمير فارس حاجب الحجاب في نظر الصرغتمشية والشيخونية، واستقر تمُر بُغا المنجكي حاجباً ثانياً، عوضاً عن قديد.
وفي ثامن عشره: قدم بدر الدين محمد بن الطوخي وزير الشام على البريد.
وفي تاسع عشره: استقر ألطنبغا البريدي في ولاية البهنسا، عوضاً عن الصارم إبراهيم الشهابي، وأحضر الصارم، وضرب بالمقارع عند ابن الطبلاوي واستقر ألطُنْبُغا المرادي في ولاية أسوان عوضاً عن حسين صهر أبي درقة، واستقر أقبغا المُزَوَّق في ولاية قوص، بعد موت سُنقُر.
وفي العشر الثاني من هذا الشهر: انحلت الأسعار لكثرة ما جُلب، وأبيع الأردب القمح بخمسين درهماً، وأبيع الأردب من الشعير والفول بثلاثين درهماً، وأبيع في ثاني عشرينه الخبز أربعة أرطال بدرهم، فسخط جلابة الغلال، وانحدروا بها إلى جهة الإسكندرية طلباً للسعر الغالي، فتكالب الناس على شراء الخبز والدقيق في يوم الاثنين ثالث عشرينه، وتخاطفوه من رؤوس الحمالين، فكان يوماً مهولاً، ووقف الناس من الغد إلى السلطان وضجوا من عدم ما يأكلونه، فندب الأمير علاء الدين علي بن الطبلاوي للتحدث في ذلك وتمادى الأمر في الشدة يوم الأربعاء.(2/474)
وفي يوم الخميس: رُسم أن يباع الرغيف بربع درهم، والناس في غاية الإنهماك على طلبه، وخطفه من الأفران، وقتال بعضهم لبعض بسببه، وأبيع القمح كل قدح بدرهم ونصف سدس، والشعير بربع وسدس درهم القدح. واختفى شرف الدين محمد ابن الدماميني المحتسب في بيته ثلاثة أيام، خوفاً من العامة أن تبطش به، وطلب القمح كل أردب بمائة وعشرين درهماً، والشعير بستين درهماً، فلم يكد يقدر عليه. وفقد الخبز من الأسواق، فلم يره أحد، فصرف السلطان ابن الدماميني واستدعى شمس الدين محمد المخانسي الصعيدي، وولاه الحسبة - بسفارة ابن الطبلاوى - بغير مال، في يوم الخميس سادس عشرينه، فاستمر الأمر على ما ذكر بقية الشهر، فكانت أيام شنعة.
وفي آخره: استقر علاء الدين علي بن محمد بن محمد بن منجا في قضاء الحنابلة بدمشق، عوضاً عن شمس الدين محمد النابلسي.
وفي يوم الخميس رابع رجب: استقر سعد الدين نصر الله بن البقري في الوزارة، وبدر الدين محمد بن الطوخي، عوضاً عنه في نظر الدولة، وبقى مبارك شاه على إمرته. واستقر شرف الدين محمد بن الدماميني في نظر الكسوة، وخلع على الجميع. واستقر محمد بن حسن بن ليلى في ولاية الجيزة، عوضاً عن الشهاب أحمد الأرغوني.
وفي هذا الشهر: سارت الأحامدة من عرب الصعيد في جمع من هوارة علي ابن غريب إلى أسوان، واتفقوا مع أولاد الكنز، ففر منهم حسين صهر أبي درقة، ونهبوا داره، وكل ما في البلد، فخرج البريد بتوجه عمر بن إلياس نائب الوجه القبلي لطلبهم، فسار بهوارة عمر بن عبد العزيز، فلم يقدر عليهم، وعاد بغير طائل.
وفيه استقر علاء الدين علي بن السنجاري الدمشقي وزيراً بدمشق.
وفي أول شعبان: نقل الأمير محمود إلى ابن الطبلاوي، فعاقبه بالضرب والعصر لرجليه، وعاقب ابنه ناصر الدين محمداً، وألزمه بأربعمائة ألف درهم، فباع سائر موجوده، فلم يبلغ ثلاثمائة ألف.
وفيه استقر الحسام بن أخت الغرس في شد الدواوين بغير إمرة. واستقر أمير فرج على إمرته بغير وظيفة الشد. واستقر ناصر الدين محمد بن الأمير علاء الدين علي بن كلفت التركماني في نقابة الجيش. وعزل علاء الدين علي بن سنقر العينتابي.
وفي ثالث عشره: أخذ قاع النيل، فكان ستة أذرع سواء.
وفي ليلة الخميس رابع رمضان: خسف جميع جرم القمر بعد صلاة العشاء، حتى أظلم الجو.
وفي يوم السبت تاسع عشرين شوال: أوفى النيل ستة عشر ذراعاً، وذلك في ثاني عشر مسرى، فنزل السلطان إلى المقياس وفتح الخليج على العادة.
وفي يوم الخميس تاسع عشر ذي القعدة: قبض على سعد الدين أبي الفرج بن تاج الدين موسى ناظر الخاص، وأحبط بداره، واستقر عوضه في نظر الخاص سعد الدين إبراهيم بن غراب الإسكندراني كاتب الأمير محمود بن علي.
وفي أول ذي الحجة: عزل ابن السنجاري من وزارة دمشق بشهاب الدين أحمد بن الشهيد، وتوجه من القاهرة، وقد أضيف إليه نظر المهمات والأسوار بدمشق.
وانتهت زيادة النيل إلى تسعة عشر ذراعاً.
وفي رابع عشرينه: استقر علاء الدين على بن الطبلاوي في نظر المارستان المنصوري، عوضاً عن الأمير الكبير كمشبغا الحموي.
وفي سابع عشرينه: قدم مبشرو الحاج، وهو الأمير سودن طاز، وأخبروا بالأمن والرخاء، وأن حسن بن عجلان واقع بني حسن في خامس عشرين شوال، وقتل من أعيانهم اثني عشر شريفاً، وقتل من القواد ثلاثين قائداً، وهزم من بقي منهم.
وفي يوم الأربعاء سلخه: قبض الوزير الصاحب سعد الدين بن البقري على مقدم الدولة محمد بن عبد الرحمن، وأقام عوضه ابن صابر وعلى ابن الفقيه.
وفيها ولي الأمير شرف الدين موسى بن عَسَّاف بن مهنا بن عيسى إمرة فضل. عوضاً عن الأمير شمس الدين محمد بن قارا بن مهنا بن عيسى في المحرم. واستقر الأمير علم الدين أبو سليمان بن عنقاء بن مهنا بن عيسى في إمرة آل فضل، عوضاً عن موسى بن عساف، في شوال، بعد موته.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
برهان الدين إبراهيم بن الشيخ عبد الله المنوفي خطيب جامع ابن شرف الدين بالحسينية، الفقيه المالكي، في ليلة الثلاثاء تاسع رجب، ودفن بتربة أبيه خارج باب النصر.
ومات المقرئ الجندي شهاب الدين أحمد بن محمد بن بيبرس، المعروف بابن الركن البيسري الحنفي؛ أخذ القراءات عن الشيخ شمس الدين محمد بن نمير بن السراج المقرئ الكاتب.(2/475)
ومات تقي الدين عبد الرحمن بن أحمد بن علي، المعروف بابن الواسطي، وبابن البغدادى، وكان عارفاً بالقراءات، وعلم الميقات، ويقرأ بالمصحف في الجامع الأزهر، ويقوم في رمضان بعد التراويح إلى طلوع الفجر. ومات بالفيوم في صفر عن خمس وسبعين سنة، ومولده بالقاهرة في سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة.
ومات ولي الدين أحمد بن تقي الدين عبد الرحمن بن محب الدين محمد ناظر الجيش، وهو يلي كتابة الدست، ونظر خزائن السلاح، في سادس عشرين جمادى الآخرة. واستتر بموته، فإنه أسرف حتى ذهب ماله.
ومات شهاب الدين أحمد بن محمد الشاوي، في ثاني جمادى الأولى. كان أولاً يعاني كَحْل الأعين، ويقيم أوده من ذلك، فتعلق بفخر الدين عبد الرحيم بن أبي شاكر، وهو يلي نظر دار الضرب، فاستنابه فيها، وخدم ابن الطبلاوي ففخم أمره، وعين لنظر الخاص، فعاجلته المنية، دون بلوغ الأمنية.
ومات شهاب الدين أحمد بن تاج الدين عبد الوهاب بن الشامية موقع الحكم، في سابع عشرين شعبان.
ومات أمير فرج بن عز الدين أحمد السيفي نائب الوجه القبلي. قتل في سادس صفر.
ومات الأمير سيف الدين بهادر الأعسر في يوم عيد الفطر، كان مشرفاً بمطبخ الأمير خجا أمير شكار، ثم خدم زرد كاش الأمير الكبير يلبغا العمري، وانتقل حتى صار أحد الأمراء، وولي مهمندارا ثم شاد الدواوين.
ومات الأمير سيف الدين تمر الشهابي الحاجب، أحد أمراء الطبلخاناه. وكان ينظر في الفقه على مذهب الحنفية، ويتدين، وخرج عليه العرب، فقاتلهم وجرحوه، فمات من جراحه بعد أيام بالقاهرة.
ومات الأمير سيف الدين تغري بردي القُرْدُمي، أحد العشراوات، قتل في محبسه.
ومات رضي الدين محمود بن الأقفهسي، نقيب القضاة الحنفية، في خامس عشرين جمادى الآخرة. وكان يعرف الفقه على مذهب أبى حنيفة، ويتقن العربية، وله سيرة مشكورة.
ومات صلاح الدين خليل بن محمد الشطنوفي، موقع الحكم، في خامس عشر رمضان.
ومات الأمير سيف الدين سودن الشيخوني الفخري، نائب السلطان، بديار مصر، في يوم الثلاثاء خامس جمادى الأولى بعد ما شاخ، وعلت سنه، وكان خيراً ديناً. ومنذ مات تجاهر الملك الظاهر بمنكرات لم تكن تعرف عنه.
ومات الفقيه صَفَر شاه الحنفي، رسول متملك الروم خوند كار أبي يزيد بن مراد بك بن عثمان، بالقاهرة في جمادى الأولى.
ومات فتح الدين عبد اللّه بن فرج المكيني أحد الأقباط الكتاب، في العشرين من شعبان، ويحكى عنه مكارم جمة.
ومات زين الدين عبد الرحمن بن محمد الشريشي، الموقت الفاضل، في تاسع عشر رمضان.
ومات نور الدين علي بن عبد الله بن عبد العزيز بن عمر بن عوض الدميري المالكي، شيخ القراء بخانكاة شَيْخو، وأخو القاضي تاج الدين بهرام، في ثاني عشرين رمضان.
ومات الأمير سيف الدين قرابغا الأحمدي، أحد الطبلخاناه، وأمير جاندار في.... .
ومات الأمير سيف الدين قطلوبغا الطشتمري، أحد الأمراء الألوف، فقتله العرب.
ومات الأمير الوزير ناصر الدين محمد بن رجب بن محمد بن كلفت، في يوم الجمعة سادس عشرين صفر، وهو ممن مات بغير نكبة من وزراء مصر.
ومات الأمير ناصر الدين محمد جُمُق بن الأمير الكبير أيتمش البجاسي، أحد أمراء الطبلخاناه، في يوم الجمعة خامس صفر.
ومات الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير جركس الخليلي، أحد الطبلخاناه، في يوم الثلاثاء تاسع صفر.
ومات ناصر الدين محمد بن الشيخ زين الدين مقبل الصرغتمشي. كان بارعاً في علوم الحساب، وكان قصير القامة، أحدباً. مات يوم السبت سادس رجب.
ومات القاضي شمس الدين محمد بن محمد بن موسى الشنشي المعروف بالرخ - أحد نواب الحنفية - خارج القاهرة، في يوم الخميس سادس جمادى الأول.
ومات تقي الدين محمد بن محمد بن أحمد القاياتي موقع القضاة الحنفية، في يوم الخميس ثالث عشر جمادى الأولى.
ومات شمس الدين محمد بن عبد الله بن عبد العزيز صاحب ديوان الجيش، في ليلة السبت ثالث عشر صفر.
ومات الشيخ شمس الدين محمد الزرزاري الحجاجي الصوفي المعتقد أمين مطبخ المارستان، في رابع عشر ربيع الآخر.
ومات فتح الدين صدقة - الذي يقال له أبو دقن - ناظر المواريث، كان يتوكل في بواب القضاة، ثم دولب وكالة قوصون بالقاهرة، وخدم معامل الحوائج خاناه السلطانية. ثم ولي نظر المواريث، فشكرت سيرته. مات في أوائل جمادى الآخرة.(2/476)
ومات الشريف صدر الدين مرتضى بن غياث الدين إبراهيم بن حمزة الحسني العراقي، في ليلة السبت ثالث ربيع الآخر، ودفن على أبيه خارج القاهرة. قدم مع أبيه إلى القاهرة واتصل أبوه بأرباب الدولة، فدرت أرزاقه، وتمكن من الأمير الكبير يلبغا العمري، حتى مات في رجب سنة أربع وستين وسبعمائة. دفنه الأمير يلبغا بتربته خارج القاهرة، وأجرى على ابن مرتضى ما كان يجريه عليه. وكثر اتصاله بأرباب الدولة حتى أثرى، وولي نظر وقف الأشراف ونظر القدس والخليل، وكان شكلاً بهياً جميلاً، صاحب عبارة وفصاحة بالألسن الثلاثة، العربية والفارسية والتركية.
ومات الشيخ زين الدين مقبل الصرغتمشي الحنفي، أحد الأجناد، في أول رمضان، وكان عارفاً بالفقه والنحو، وهو والد الأحدب.
وماتت خوند عائشة القردمية بنت الملك الناصر محمد بن قلاوون، في أول جمادى الأولى، بعد ما كبر سنها، وتلف مالها، بتبذيرها وإسرافها، حتى افتقرت.
ومات ملك المغرب أبو فارس عبد العزيز بن أبي العباس أحمد بن أبي سالم إبراهيم ابن أبي الحسن المريني، صاحب فاس. وأيم بعده أخوه أبو عامر عبد الله. رحمة اللّه تعالى عليهم أجمعين، والحمد الله رب العالمين.
سنة تسع وتسعين وسبعمائة
أهل المحرم يوم الخميس.
ففيه ركب. السلطان، وتصيد ببركة الحاج، وعاد من يومه.
وفي ثانيه: استقر تغري برمش السيفي في ولاية الشرقية، عوضاً عن علي بن غلبك ابن المكللة، بحكم انتقاله إلى ولاية منفلوط، عوضاً عن بهاء الدين الكردي.
وفي خامسه: ركب الأمير سودن طاز البريد لإحضار الأمير تنم الحسني نائب الشام.
وفي عاشره: توجه السلطان إلى سرحة سرياقوس، ونزل بالقصور على العادة في كل سنة، وخرج الأمراء وأهل الدولة، فأقام إلى سادس عشرينه وعاد إلى القلعة. واستقر محمد بن قرابغا الأنباقي في ولاية أكوم الرمان، وعزل أسنبغا السيفي. وحضر الأمير علاء الدين ألطبغا نائب الملك الظاهر مجد الدين عيسى صاحب ماردين، فأنعم عليه وعلى من معه، ورتب لهم اللحوم والجرايات. وكان سبب قدومه أن الظاهر عيسى لما قبض عليه تيمور لنك وأقام في أسره، قام ألطبغا بأمر ماردين ومنع تيمور لنك منها. وكان الظاهر قد أقام في مملكة ماردين الملك الصاع شهاب الدين أحمد بن إسكندر بن الملك الصالح صالح، وهو ابن أخيه وزوج ابنته، فقاتل أصحاب تيمور قتالاً شديداً، وقتل منهم جماعة، فشق هذا على تيمور، ثم أفرج عن الظاهر بعد أن أقام في أسره سنتين وسبعة أشهر، وحلفه على الطاعة له وإقامة - الخطبة باسمه، وضرب السكة له، والقبض على ألطنبغا وحمله. فعندما حضر إلى ماردين، فر منه ألطنبغا إلى مصر، فرتب له السلطان ما يليق به.
وقدمت رسل تيمور إلى دمشق، فعوقوا بها، وحملت كتبهم إلى السلطان فإذا فيها طلب أطلمش، فأمر أن يكتب إلى أطلمش بما هو فيه ورفيقه من إحسان السلطان، وكتب جوابه بأنه متى أرسل من عنده من أصحاب السلطان، خبر إليه أطلمش.
وفي يوم السبت أول صفر: حمل محمود الأستادار إلى عند السلطان، وانتصب له سعد الدين إبراهيم بن غراب ناظر الخاص، وفجر عليه، وبالذي في محاققته، والفحش في الكلام، حتى امتلأ السلطان على محمود غضباً، وأمر بعقوبته حتى يموت، فأنزل إلى بيت الحسام شاد الدواوين.
وفي ثالثه: قدم الأمير تنم نائب الشام، فخرج السلطان إلى لقائه بالريدانية وجلس له على مطعم الطور، وبعث الأمراء والقضاة إليه، فأتوه به، وسار معه إلى القلعة، وأنزل بالميدان الكبير على موردة الجبس، وبعث إليه السماط والنفقات، وحمس بقج قماش متصل، وأجرى له الرواتب التي تقوم به، وبمن معه، فحمل تنم تقدمته، وهى عشر كواهي، وعشرة مماليك صغار في غاية الحسن، وعشرة آلاف دينار، وثلاثمائة ألف درهم، ومصحف قرآن، وسيف بسقط ذهب مرصع، وعصابة نساوية من ذهب مرصع بجواهر نفيسة، وطراز من ذهب مرصع أيضاً، وأربعة كنابيش زركش، وأربعة سروج ذهب، وبدلة فرس فيها أربعمائة دينار ذهباً، وأجرة صياغتها ثلاثة آلاف درهم فضة، ومائة وخمسون بقجة فيها أنواع الفرو، ومائة وخمسون فرساً، وخمسون جملاً، وخمسة عشر حملاً من النصافي ونحوه، وثلاثون حملاً من فاكهة وحلوى، وغير ذلك مما يؤكل، واثنتي عشرة علبة من سكر النبات.
وفي سادسه: استقر أوناط السيفي في ولاية قوص، وعزل أقبغا الزيني.(2/477)
وفي سابعه: على السلطان إلى بر الجيزة ومعه الأمير تنم، ونزل على شاطئ النيل تجاه القاهرة، وتصيد، ثم عاد في ثالث عشره.
وفيه استقر تاج الدين عبد الغني بن صورة في توقيع الدست، عوضاً عن ولي الدين أحمد بن تقي الدين ناظر الجيش.
وفي سابع عشره: جلس السلطان بدار العدل، وركب الأمير تنم في الموكب تحت القلعة بمنزلة النيابة، وطلع إلى دار العدل، وخلع عليه خلعة الاستمرار. وجرت له من الإصطبل ثمانية جنايب بكنابيش وسروج ذهب.
وفيه استقر شرف الدين محمد بن الدماميني في حسبة القاهرة، وصرف شمس الدين محمد المخانسي.
وفي تاسع عشره: استقر شمس الدين محمد بن أحمد بن محمود النابلسي في قضاء الحنابلة بدمشق، وكان قد حضر مع الأمير تنم. واستقر تاج الدين عبد الرزاق الملكي ناظر ديوان الأمير تنم - وقد حضر معه أيضا إلى القاهرة - في نظر الجيش بدمشق، عوضاً عن شمس الدين بن مشكور، وخلع عليهما.
وفيه خرج البريد بطلب الأمير جُلْبان من دمياط.
وفي عشرينه: لبس الأمير تنم قباء السفر، وتوجه في حادي عشرينه إلى نيابته بدمشق.
وفي خامس عشرينه: عدى السلطان إلى بر الجيزة، وعاد في سابع عشرينه.
وفيه قدم الأمير جلبان الكمشبغاوي من دمياط ومثل بحضرة السلطان، وقبل الأرض، فصفح عنه وألبسه خلعة الرضا، وأنعم عليه بإقطاع الأمير فخر الدين إياس الجرجاوي، وجعله أتابك العساكر بدمشق، وبعث إليه بثمانية أفراس، منها فرس بقماش ذهب.
وفيه سلم إياس الجرجاوي أتابك دمشق إلى ابن الطبلاوي ليخلص منه المال، فالتزم بخمسمائة ألف درهم، وبعث مملوكه لإحضار ماله من دمشق فخلى عنه وهو مريض، فمات بعد يومين.
وفي يوم الخميس رابع ربيع الأول: قبض على الوزير الصاحب سعد الدين نصر اللّه بن البقري، وولده تاج الدين، وسائر حواشيه، واستقر عوضه في الوزارة بدر الدين محمد بن محمد بن محمد بن الطوخي، واستقر عوضه في نظر الدولة سعد الدين الهيصم.
وفي ثامنه: استقر شرف الدين محمد بن الدماميني في نظر الجيش بعد موت جمال الدين محمود العجمي القيصري، على أربعمائة ألف درهم فضة، قام بها بعد ما حمل في ولاية الحسبة بالقاهرة مائتي ألف وخمسين ألف درهم فضة، سرق ذلك كله وأضعافه من مال الأمير محمود الأستادار، فإنه كان رفيقاً لسعد الدين إبراهيم بن غراب في مباشرته.
وفي تاسعه: استمر شمس الدين محمد بن أحمد بن أبى بكر الطرابلسي، في ضاء القضاة الحنفية، عوضاً عن الجمال محمود العجمي، وهذه ولائَه الثانية. وولي كليهما من غير بذل مال، ولا سعى، بل يطلب لذلك. واستقر البهاء محمد بن البرجي في حسبة القاهرة، عوضاً عن ابن الدماميني بمال قدام به. ولم يل قط إلا بمال، فتشاءم الناس بولايته من أجل أن القمح كان الأردب منه بنحو ثمانية وعشرين درهماً، والبطة الدقيق أحد عشر درهماً، والخبز ستة أرطال بدرهم، فأبيع القمح بستة وثلاثين الأردب، والبطة المقيق بأربعة عشر درهماً، والخبز دون الخمسة أرطال درهم.
وفي سادس عشره: استقر أنواط اليوسفي في نيابة الوجه القبلي، وعزل عمر بن إلياس، وخرج البريد بطلبه. واستقر محمد بن العادلي في ولاية قوص عوضاً عن أنواط.
وفي تاسع عشره: قدم الأمير طولو بن علي شاه من بلاد الروم، وقد توجه في الرسالة إلى خوندكار بن عثَمان، وأخبر بأنه واقع الأكروس، وظفر منهم بغنائم كثيرة، وقتل خلائق لا تحصى، وأن شمس الدين محمد بن الحزري لحق بابن عثمان، فبالغ في إكرامه، وجعل له في اليوم مائة وخمسين درهماً نقرة.
وكان خبره أنه لما فر من القاهرة ركب البحر من الإسكندرية إلى أنطاكية في ثلاثة أيام يريد اللحاق بابن عثمان، فإنه أقرأ بدمشق القراءات رجلاً من الروم يقال له حاجي مؤمن، صار من عظماء أصحاب ابن عثمان، فأكرمه متولي أنطاكية، وبعث به إلى برصا - دار ملك ابن عثمان - من بلاد الروم، فتلقاه أهل برصا، ودخل على ابن عثمان، فأكرمه وأجزى عليه المرتب المذكور، وقاد إليه تسعة أروس من الخيل وعدة مماليك وجواري، وصار يعد من العظماء.
وورد الخبر أيضاً بأن الوزير تاج الدين عبد الرحيم بن أبي شاكر فر من دمشق، وصار من بيروت إلى عند ابن عثمان، فأكرمه، وأجرى عليه في اليوم خمسين درهماً.(2/478)
وفي حادي عشرينه: قدمت هدية الملك الأشرف ممهد الدين إسماعيل بن الأفضل عباس بن المجاهد على بن داود بن يوسف بن عمر بن رسول، متملك اليمن، صحبة برهان الدين إبراهيم المحلى للتاجي، والطواشي افتخار الدين فاخر، وهي عشرة خدام طواشية، وأربعة عبيد وست جواري، وسيف بحلية ذهب، مرصع بعقيق، وحياصة، بعواميد عقيق مكلل بلؤلؤ كبار، ووجه فرس مرآة هندية، محلاة بفضة قد رصعت بعقيق وبراشيم وحشية برسم الخيول عشرة، ورماح عدة مائتين، وشطرنج عقيق أبيض وأحمر، وأربع مراوح مطرطقة بذهب، ومسك ألف مثقال، وعنبر خام ألف مثقال، وزباد سبعون أوقية، ومائة مضرب غالية، ومائتي وستة عشر رطلاً من العود، وثلاثمائة واثنتين وأربعين رطلاً من اللبان الجاوي، وثلاثمائة وأربعة وستون رطلاً من الصندل، وأربع براني من الشند وسبعمائة رطل من الحرير الخام، ومن البهار والأنطاع والصيني، وغير ذلك من تحف اليمن والهند.
وفي ثاني عشرينه: عدى السلطان إلى بر الجيزة، وعاد في يوم الأربعاء ثاني ربيع الآخر، فصاح العوام، وشكوا من ابن البرجي المحتسب، وسألوا عزله.
وفي ثالثه: وقف أوباش العامة تحت القلعة، ورصدوا ابن البرجي حتى نزل، ورجموه بالحجارة حتى كاد يهلك، لولا امتنع ببيت بعض الأمراء. وكان ذلك بإغراء المخانسي وتفرقته مبلغ مائتي درهم في عدة من أوباش العامة ليرجموا ابن البرجي، ويسألوا عزله وعود المخانسي، فتم له ذلك واشتد صراخ العامة بعد رجم البرجي، وهو يسألون عزله وولاية المخانسي فاستدعى وخلع عليه من يومه.
وفي خامسه: استقر محمد بن عمر بن عبد العزيز أميراً على هوارة، بعد موت أبيه.
وفي ثامنه: ركب شرف الدين محمد بن الدماميني بفوقانية من صوف أخضر وعذبته مسبلة عليها من وراء ظهره. ولم يعهد قبله أحد من القضاة الذين يلبسون الجبة، ويلبسون العذبة، يلبس جبة ملونة، بل دائماً لا يلبسون شتاء ولا صيفا إلا الجبة البيضاء، ففي الصيف من القطن، وفي الشتاء من الصوف، وكذلك كان الوزراء وأكابر الفقهاء، وأعيان الكتاب، لا يلبسون في الخدمة السلطانية وأوقات الركوب وعند لقاء بعضهم بعضاً إلا البياض دائماً، فغير الناس ذلك، وصاروا يلبسون الملونات من الصوف بأمر السلطان لهم على لسان كاتب السر.
وفي ثالث عشره: أحضر طيبغا الزيني والي الفيوم، فسلم لابن الطبلاوي ليعاقبه واستقر ألطنبغا عوضه والي البهنسا، واستقر عوضه في البهنسا خليل بن الطوخي. وفيه ولدت امرأة أربعة أولاد في بطن، عاش منهم أحدهم.
وفيه تنكر السلطان على قاضي القضاة صدر الدين محمد المناوي، لحدهَ خُلقه.
وفي يوم الخميس ثاني جمادى الأولى توجه الحسام حسين شاد الدواويِن إلى مساحة البلاد السلطانية بالوجه القبلي. ونُقل الأمير محمود إلى خزانة شمايل في ليلة الجمعة ثالثه وهو مريض، فسجن بها.
وفيه أنعم على أمير خضر بن عمر بن أحمد بن بَكتنُر الساقي بإمرة عشرة.
وفي سادسه: عدى السلطان إلى بر الجيزة، وفرق الخيول على الأمراء، كما هي العادة في كل سنة، وعاد في عشرينه.
وفي يوم الخميس ثاني عشرينه: استدعى تقي الدين عبد الرحمن الزبيري، أحد الخلفاء الحكم، وفرض إليه قضاء القضاة، عوضاً عن الصدر محمد المناوي، ونزل معه الأمير قَلَمْطاي الدوادار، والأمير نوروز الحافظي رأس نوبة، والأمير فارس حاجب الحجاب في عدة من الأمراء، وكاتب السر، والقضاة، والأعيان، وعليه التشريف. ولم تخطر ولايته ببال أحد، بل طلبه السلطان على بغتة، فشق ذلك على المناوي، وعظم عليه أن عزل بنائبه.
وفي سادس عشر جمادى الآخرة: أنعم على بيسق الشيخي بإمرة طبلخاناه. وقدم سري الدين محمد بن المسلاتي من دمشق بعد عزله.
وفي هذا الشهر: اشتد الغلاء بدمشق، فخرج الناس يستسقون، وثاروا برجل يعرف بابن النشو، كان يحتكر الغلال، وقتلوه شر قتلة، وأحرقوه بالنار.
وفيه استقر ألطنبغا حاجب غزة في نيابة الكرك، وعزل ناصر الدين بن مبارك بن المهمندار.(2/479)
وفي سابع عشرين رجب: استقر عماد الدين أحمد بن عيسى المقيري الكركي في خطابة القدس، بعد وفاة سري الدين محمد بن المسلاني. واستقر عوضه في تدريس الجامع الطولوني شيخ الحديث زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي وسراج الدين عمر بن الملقن عوضه في تدريس وقف الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بقبة الملك المنصور من المارستان. واستقر عوضه في نظر وقف الملك الصالح هذا شهاب الدين أحمد بن عبد اللّه النحريري المالكي، واستقر علاء الدين علي بن أبي البقاء في قضاء الشافعية بدمشق مرة ثانية، عوضاً عن سري الدين أبو الخطاب محمد بن محمد.
وفي ليلة الأحد ثامن شعبان - وحادي عشر بشنس - : أبرقت وأرعدت وجاء مطر بعد المغرب، قلما عهد مثله، وهذا من عجيب ما يقع بأرض مصر، ثم أمطرت، غير مرة من الليل.
وفي سادس عشره: استقر صَرْغَتْمش القزويني الخاصكي في نيابة الإسكندرية، وعزل قديد ونفي إلى القدس، ونفي أيضاً صلاح الدين محمد بن تنكز إلى الإسكندرية، وخرج البريد بارتجاع إقطاع أحمد بن يلبغا، وألجبغا الجمالي وخضر الكريمي، فأقاموا بطالين بالبلاد الشامية، وأنعم على شيخ المحمودي بإقطاع صرغتمش القزويني، وعلى طَغَثْجي نائب البيرة بإقطاع شيخ، وعلى يشبك العثماني بإقطاع صلاح الدين محمد ابن تنكز، وعلى شيخ السليماني بعشرة يشبك العثماني واستقر علاء الدين علي بن الطلاوي، عوضاً عن ابن تنكز في أستادارية الأملاك والأوقاف السلطانية، مضافاً لما بيده. واستقر سعد الدين الهيصم في صحابة الديوان المفرد. واستقر عوضه في الاستيفاء بالديران المفرد الأسعد البحلاق النصراني.
وفي تاسع عشره: خلع على الأمير حسام الدين حسن الكجكني عند فراغه من عمل الجسور بالبهنساوية، وأتقنها إتقاناً جيداً، و لم يقبل لأحد شيئاً من المأكول، فضلاً عن المال.
وفي ثاني عشرينه: استقر زين الدين شعبان بن محمد بن داود الآتاري في حسبة مصر، عوضاً عن نور الدين علي بن عبد الوارث البكري بمال التزم به.
وفي ثالث عشرينه: قدمت رسل ابن عثمان متملك الروم إلى ساحل بولاق فخرج إليهم الحاجب بالخيول السلطانية حتى ركبوها إلى حين أنزلوا بحار أعدت لهم.
وفي يوم الجمعة رابع رمضان: أقيمت الخطبة بالجامع الأقمر من القاهرة، وخطب فيه شهاب الديِن أحمد بن موسى بن إبراهيم الحلبي الحنفي - أحد نواب القضاة الحنفية - ولم يعهد فيه قط خطبة، لكن لما جدد الأمير يلبغا السالمي عمارته بنى على بابه مناراً يؤذن عليه، ولم يكن به منارة قبل ذلك، وجدد بوسطه بركة ماء، وبصدره - بحد المحراب - منبراً، فاستمر ذلك.
وفي سابعه: قدَّم رسل ابن عثمان هدية مرسلهم. وأحضر صلاح الدين محمد بن تنكز من الإسكندرية، ورسم بإقامته بدمشق، متحدثاً على أوقاف جده تنكز بغير إمرة. فسار إليها.
وفي حادي عشره: استقر عوض التركماني في ولاية بلبيس، وعزل تغري برمش، واستقر عمر بن إلياس في ولاية منفلوط، وعزل علي بن غَلْبَك بن المكللة، واستقر شاد دواليب الخاص بمنفلوط.
وفيه ترافع شهاب الدين أحمد بن عمر بن قطينه، وسعد الدين الهيصم، ناظر الدولة، فألزم الهيصم بحمل مائة ألف درهم.
وفيه أخذ قاع النيل، فكان خمسة أذرع، وخمسة وعشرين إصبعاً.
وفي ساس عشرينه: استقر الأمير يلبغا الأحمدي المجنون أستادار السلطان عوضاً عن الأمير قَطْلوبَك العلاي، واستقر قطلوبك على إمرته بعشرين فارساً فتحدث، المجنون في الأستادارية والكشف. وقبض على ناصر الدين محمد بن محمود الأستادار، وألزم بثلاثة آلاف دينار بعد موت أبيه، فعوقب عند ابن الطبلاوي عقوبة عظيمة.
وفيه استقر علاء الدين على البغدادي الشريف في ولاية دمياط، بعد موت أحمد الأرغوني.
وقدم الوزير تاج الدين عبد الرحيم بن أبي شاكر من بلاد الروم، بعد ما أسره الفرنج، فلزم داره.(2/480)
وقدم البريد بوصول عساكر تيمور لنك إلى أزرنكان من بلاد الروم. وقتل كثير من التركمان، فتوجه الأمير تمربغا المنجكي على البريد لتجهيز عساكر الشام إلى أرزنكان، وندب شهاب الدين أحمد بن عمر بن قطينة، لتجهيز الشعير برسم الإقامات في منازل طريق الشام. وكان في أثناء هذه السنة قد قبض الأمير بَكْلَمِش العلاي أمير سلاح علي زين الدين مهنا - دواداره - بمرافعة موقعه وشاهد ديوانه، صفي الدين أحمد ابن محمد بن عثمان الدميري، وأخذ منه أربعمائة ألف وخمسين ألف درهم، ثم أفرج عنه، وقبض على الصفي الدميري وبالغ في عقوبته، وأخذ منه مائة ألف درهم.
وفيه استقر شمس الدين أينبغا التركماني الحنفي في مشيخة القوصونية، وعزل تاج اللين محمد بن الميموني.
وفي أول ذي القعدة: استقر ألطنبغا السيفي والي الفيوم في نيابة الوجه القبلي وعزل أوناط. واستقر قرابغا مُفرق إلى أطيفح في ولاية الفيوم وكشفها، واستقر أسندَمر الظاهري في ولاية أطفيح.
وفي يوم الجمعة ثامنه - وهو عاشر مسري - : أوفى النيل ستة عشر ذراعاً فركب السلطان إلى المقياس، وفتح الخليج على العادة.
وفي عاشره: استقر قطلوبغا التركماني الخليلي أمير آخور في ولاية البهنسا، عوضاً عن خليل بن الطوخي واستقر طيبغا الزيني في ولاية الجيزة، وعزل محمد بن حسن بن ليلى وضرب وصودر.
وفي عشرينه: قتل الأمير أو بكر بن الأحدب، أمير عرك من سيوط، فأقيم بدله في الإمرة أخوه عثمان بن الأحدب، واستقر محمد بن مسافر في ولاية قوص، وعزل إبراهيم بن محمد بن مقبل.
وفي أول ذي الحجة: توعك بدن السلطان إلى تاسعه، فنودي بالزينة، فزينت القاهرة ومصر، ودقت البشائر لعافية السلطان.
وفي يوم الثلاثاء عاشره: نزل السلطان إلى الميدان تحت القلعة، وصلى صلاة عيد النصر على العادة.
وفي سادس عشره: جلس بدار العدل.
وفي ثالث عشرينه: ركب إلى خارج القاهرة، وعبر من باب النصر، وعاد إلى القلعة من باب زويلة، فقلعت الزينة.
وفي سادس عشرينه: انتهت زيادة النيل إلى خمسة عشر إصبعاً من عشرين ذراعاً، وثبت إلى ثاني بابه، وانحط. ومع ذلك فالسعر في سائر الأشياء غال، والبطة الدقيق بأكثر من اثني عشر درهماً.
وفيه توجه السلطان إلى السرحة بناحية سرياقوس، ونزل بالقصور على العادة في كل سنة.
وفي ثامن عشرينه: قدم مبشرو الحاج بالأمن والرخاء.
وفيها ولي شرف الدين موسى بن محمد بن محمد بن جمعة الأنصاري، قضاء الشافعية بحلب، عوضاً عن شمس الدين محمد الأخناي.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
من الأعيان شهاب الدين أحمد الأرغوني متولي دمياط في شوال.
ومات إسماعيل بن الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون، بقلعة الجبل، في خامس عشرين شوال. وكان قد تأمر في أيام الأشرف شعبان.
ومات أسنبغا التاجي، أحد أمراء العشراوات.
ومات إياس الجرجاوي نائب طرابلس، وأحد أمراء الألوف بالقاهرة.
ومات أبو بكر بن محمد بن واصل، المعروف بابن الأحدب، أمير عرك، في عشرين ذي القعدة قتيلاً.
ومات بيبرس التمان تمري أمير آخور، في رابع عشر جمادى الآخرة.
ومات عمر بن عبد العزيز أمير هوارة.
ومات الشيخ المعتقد حسن القشتمري، في تاسع عشر جمادى الأولى.
ومات شعبان بن الملك الظاهر برقوق، وهو طفل، في ثامن عشرين ربيع الأول.
ومات الشيخ المسند المعمر زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن مبارك بن حماد الغزي، المعروف بابن الشيخة الشافعي. ولد في سنة خمس عشرة وسبعماية تخميناً. وأخذ الفقه على مذهب الشافعي عن التقي السبكي. وحدث بصحيحي البخاري ومسلم، وسنن أبي داود، وموطأ مالك، وغير ذلك مما يطول شرحه، وتصدى للأسماع عدة سنين، حتى مات في تاسع عشرين ربيع الآخر خارج القاهرة، وكان شيخاً مباركاً.
ومات الشيخ نور الدين أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد العزيز العقيلي - بفتح العين المكي، إمام المالكية بالمسجد الحرام، وأخو القاضي أبى الفضل المعروف بالفقيه على النوبري، في ثاني جمادى الأولى بمكة، وسمع وحدث.
ومات علي النًوَساني، شيخ ناحية صندفاً من الغربية، في ثالث عشر شوال، وكان له ثراء واسع.
ومات زين الدين قاسم بن محمد بن إبراهيم المغربي المالكي، في حادي عشر المحرم، درس الفقه زماناً باب مع الأزهر، وكتب على الفتوى، وكان متديناً خيراً.(2/481)
ومات محب الدين محمد بن شمس الدين محمد الطُرَيْني أحد نواب القضاة الشافعية، خارج القاهرة، في ليلة الثلاثاء ثالث عشر المحرم.
ومات الشيخ محب الدين محمد بن الشيخ جمال الدين عبد الله بن يوسف بن هشام النحوي، في ليلة الاثنين رابع عشرين رجب، وقد تصدر لإقراء النحو سنين. وكان خيراً ديناً.
ومات شمس الدين محمد بن علي بن حسب الله بن حسون الشافعي، في عاشر شعبان.
ومات ناصر الدين محمد بن فخر الدين أياز الدواداري، أحد أمراء الطبلخاناه.
ومات سري الدين أبو الخطاب محمد بن محمد بن عبد الرحيم بن علي بن عبد الملك، المعروف بابن المسلاني، قاضي القضاة الشافعية بدمشق. مات بالقاهرة في يوم الخميس سابع عشرين رجب.
ومات شمس الدين محمد بن أحمد بن أبي بكر الطرابلسي، قاضي القضاة الحتفية بالقاهرة ومصر، في يوم السبت ثامن عشرين ذي الحجة، وكان من خيار من ولي القضاء عفة، وصرامة وشهامة.
ومات جمال الدين محمود بن محمد القيصري العجمي قاضي القضاة الحنفية وناظر الجيوش، وشيخ الشيخونية، في ليلة الأحد سابع ربيع الأول.
ومات الأمير جمال الدين محمود بن علي بن أصفر. عينه الأستادار، في يوم الأحد تاسع رجب، بخزانة شمايل، بعد ما نكب نكبة شنعة، ودفن بمدرسته خارج باب زويلة وجملة ما أخذ منه في مصادرته للسلطان ألف ألف دينار، أربعمائة ألف دينار ذهباً، وألف ألف درهم فضة، وبضائع وغلال، وغير ذلك بألف ألف درهم فضة، وتلف له وأخفي هو شيئاً كثيراً.
ومات الوزير الصاحب سعد الدين نصر الله بن البقري القطبي الأسلمي، في ليلة الاثنين رابع جمادى الآخرة، مخنوقاً بعد عقوبة شديدة.
ومات الشريف إبراهيم بن عبد الله الأخلاطي، في يوم الأربعاء تاسع عشرين جمادى الأولى.
ومات قاضي القضاة نجم الدين أبو العباس أحمد بن إسماعيل بن محمد بن أبي العز بن صالح بن أبي العز وهيب بن عطا بن جبير بن جابر بن وهيب المعروف بابن أبي العز، قتيلاً بدمشق، في مستهل ذي الحجة. وقد باشر قضاء مصر، كما تقدم في سنة سبع وسبعين، واستعفى ومضى إلى دمشق، وولي بها قضاء القضاة الحنفية غير مرة، وصرف، فلزم بيته حتى مات، رحمه الله.
سنة ثمانمائة
أهل المحرم يوم الاثنين: ويوافقه من شهور القبط اليوم السابع والعشرون من توت، والنيل قد انتهت زيادته وبدأ ينحط.
وفيه ركب السلطان، وعاد الأمير بكلمش، وسار إلى شاطئ النيل وعاد إلى القلعة.
وفي ثانيه: قدم ناصر متملك بلاد النوبة فاراً من ابن عمه، فأكرمه السلطان وخلع عليه، وأعاد الصارم إبراهيم الشهابي إلى ولاية أسوان، وتقدم إليه بمعاونة ناصر.
وفي ثامنه: توجه السلطان إلى السرحة بناحية سرياقوس، ونزل بالقصور على العادة في كل سنة.
وفيه كُتب بعود العسكر المجرد بسبب تيمور لنك، وقد قربوا من بلد سيواس.
وفي ثاني عشرينه: خرج على البريد بكتمُر جلق لإحضار الأمير تغري بردي من يشبغا نائب حلب، وكتب بانتقال أرغون شاه الإَبراهيمي من نيابة طرابلس إلى نيابة حلب. وسار على البريد الأمير يشبك العثماني بتقليده. ورسم بانتقال أقبغا الجمالي من نيابة صفد إلى نيابة طرابلس، وتوجه لتقليده الأمير أزْدَمُر أخو أينال، ومعه أيضاً الأمير تنم الحسني باستمراره في نيابة دمشق، ورسم بانتقال شهاب الدين أحمد بن الشيخ على من نيابة غزة إلى نيابة صفد، وتوجه لتقليد الأمير يلبغا الناصري رأس نوبة.
وفي ثامن عشره: قدم سوابق الحاج وأخبروا أنه هلك بالسبع وعرات من شدة الحر نحو ستمائة إنسان، وأنه هلك من حاج الشام زيادة على ألفي إنسان، وأن ودائع الحاج التي بعقبة أيلة نهبت.
وفي خامس عشرينه: عاد السلطان من سرياقوس. ولم يخرج إليها بعد ذلك، ولا أحد من السلاطين، وجهلت عوائدها، وخربت القصور، وكانت من أجمل عوائد ملوك مصر.
وفي تاسع عشرينه: - في وقت الخدمة السلطانية بالقصر - قبض على الأمر الكبير كمشبغا الحموي أتابك العساكر، وعلى الأمير بكلمش العلاي أمير سلاح، وقيدا. ونزل الأمير قلمطاي الدوادار، والأمير نوروز الحافظي رأس نوبة، والأمير فارس حاجب الحجاب إلى الأمير شيخ الصفوي، ومعهم خلعة بنيابة غزة، فلبسها وخرج من وقته ليسافر، ونزل بخانكاة سرياقوس.(2/482)
وفي ليلة الثلاثاء سلخه: توجه الأمير سودن الطيار بكُمُشبغا وبكمش في الحديد إلى الإسكندرية، فسجنا بها.
وفي الغد استعفي الأمير شيخ من نيابة غزة وسأل الإقامة بالقدس، فرتب له النصف من قريتي بيت لحم، وبيت جالة من القدس يرتفق بهما، وسار إلى القدس.
وفيه عرض السلطان مماليك الأمير كمشبغا وأولاده ومماليك بكلمش، فاختار منهم طائفة، وفرق البقية على الأمراء. قبض على شاهين رأس نوبة كُمشبغا.
وفي يوم الخميس ثاني صفر: استقر الأمير أيتمش البجاسي أتابك العساكر، وأنعم عليه وعلى الأمير قلمطاي الدوادار، والأمير تاني بك أمير أخور ببلاد من إقطاع كمشبغا، وأنعم ببقيته على الأمير سودن المعروف بابن أخت السلطان، وصار من أمراء الألوف. وأنعم بإقطاع سودن المذكور على الأمير عبد العزيز ولد السلطان. وأنعم بإقطاع بكلمش على نوروز الحافظي رأس نوبة، وبإقطاع نوروز على الأمير أرغون شاه الأقبغاوي، وبإقطاع أرغون شاه على الأمير يلبغا الأسعدي المجنون الأستادار. وأنعم بإقطاع شيخ الصفوي على الأمير تغري بردي قبل قدمه من حلب.
وفي رابعه: استقر الأمير باي خجا طيفور الشرفي أمير أخور بنيابة غزة.
وفي سادسه: ركب السلطان للصيد، وشق القاهرة من باب القنطرة، وعاد إلى القلعة من باب زويلة.
وفي تاسعه: استقر الأمير بيبرس ابن أخت السلطان أمير مجلس، عوضاً عن شيخ الصفوي.
وفي حادي عشره: توجه السلطان للصيد وعاد في ثالث عشره.
وفي رابع عشره: سُمر شاهين رأس نوبة كُمُشبغا، وطيف به ثم وسُط.
وفي سادس عشره: لبس طيفور نائب غزة قباء السفر، وتوجه إلى غزة.
وفي عشرينه: قدم تَمُربُغا المنجكي على البريد، بعد ما جهز عساكر الشام مع الأمير تنِم نائب دمشق إلى أرزن كان.
وفي ثالث عشره: عاد السلطان من بر الجيزة إلى القلعة.
وفي سابع عشرينه: أنعم على يَلْبُغا السالمي الخاصكي بإمرة عشرة، عوضاً عن بهاُدر فطير، وانتقل بهاُدر إلى إمرة طبلخاناه.
وفيه استقر شمس الدين محمد الشاذلي في حسبة مصر، وعزل شعبان بن محمد الآثاري.
وفي يوم الخميس أول ربيع الأول: استقر حسن بن قراجا العلاي في ولاية الجيزة، وعزل يَلْبغا الزيني.
وفي ليلة الجمعة ثانيه: عمل السلطان المولد النبوي على عادته في كل سنة، وحضر شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني، والشيخ إبراهيم بن زقاعة، وقضاة القضاة، وعدة من شيوخ العلم في الحوش من القلعة تحت خيمة ضربت هناك. وجلس السلطان وعن يمينه البلقيني وابن زقاعة، وعن يساره الشيخ أبو عبد اللّه المغربي، وتحته القضاة. وحضر الأمراء فجلسوا على بعد منه. فلما فرغ القراء من قراعة القرآن، قام الوعاظ واحداً بعد واحد فدفع لكل منهم صرة فيها أربعمائة درهم فضة، ومن كل أمير شقة حرير، وعدتهم عشرون واعظاً. ثم مدت الأسمطة الجليلة. فلما أكلت، مدت أسمطة الحلوى، فانتهبت كلها. فلما فرغ الوعاظ مضى القضاة، وأقيم السماع من بعد ثلث الليل إلى قريب الفجر.
وفي خامس عشره: قدم الأمير تغري بردي من حلب، فخرج السلطان وتلقاه من الريدانية خارج القاهرة، وسار به معه إلى القلعة، وأنزله في دار تليق به، وبعث إليه خمسة أفراس، بقج فيها ثياب.
وفي سادس عشره: استقر أقبغا المزوق والياً بالأشمونين، عوضاً عن الشهاب أحمد المنقار.
وفي سابع عشره: حمل الأمير تغري بردي تقدمته، فكانت عشرين مملوكاً، وثلاثينِ ألف دينار عينا، ومائة وخمساً وعشرين فرساً، وعدة جمال، وأحمالاً من الفرو والثياب. وفيه توجه السلطان إلى بر الجيزة، وعاد.
وفي تاسع عشره: استقر قُطُلوبُغا الخليلي التركماني في ولاية الشرقية، وعزل عوض التركماني.
وفيه خلع على الأمير يلبغا الأستادار، واستقر في كشف الوجه البحري.
وفي هذا الشهر: وقع بالوجه البحري وباء، وفشت الأمراض بالقاهرة ومصر. وكان قد خرج جماعة من الأمراء إلى الصعيد فمرض أكثرهم، وعاد الأمير قَلْمطاي الدوادار في يوم الثلاثاء رابع ربيع الآخر، وهو مريض، لا يثبت على الفرس.
ومات الأمير تمان شاه الشيخوني، فأنعم على ابنه عبد الله بإمرته.(2/483)
ومات طوغان العمري الشاطر أحد العشراوات، فأنعم على سودن من زاده بإمرته، واستقر علاء الدين علي الحلبي في كشف الوجه البحري، عوضاً عن أمير علي السيفي. وفي حادي عشره: ركب السلطان، وعاد الأمير قَلْمطاي، ففرش تحت حوافر فرسه شقاق الحرير، مشى عليها من باب داره حتى نزل بباب القصر فمشى على شقاق النخ المذهب حتى جلس. وقدم إليه طبقاً فيه عشرة آلاف دينار، وخمسة وعشرين بقجة قماش، وتسعة وعشرين فرساً، وغلاماً تركياً بديع الحسن.
وفيه قدم الخبر بمسير تيمور لنك من سمرقند إلى بلاد الهند، وأنه ملك مدينة دله.
وفي خامس عشره: شكا الشهاب أحمد بن أبي بكر بن محمد العبادي الحنفي غريمه السالمي إلى السلطان فأفحش في المخاطبة، فرسم بسجنه بخزانة شمايل بعد ما رسم بضربه بالمقارع، ولولا أنه شفع فيه لضرب.
وفي ثامن عشره: قدم على البريد جمال الدين يوسف بن صلاح الدين موسى بن شمس الدين محمد الملطي الفقيه الحنفي من حلب باستدعاء، ليلى قضاء الحنفية، فنزل عند بدر الدين محمود الكستاني كاتب السر، واستقر في قضاء الحنفية بالقاهرة ومصر، عوضاً عن شمس الدين محمد الطرابلسي، في يوم الخميس عشرينه. ونزل بالخلعة ومعه عدة أمراء بعدما شغر قضاء الحنفية مائة يوم وأحد عشر يوماً. وأنعم على جاني بك جياوي بإمرة عشرة، عوضاً عن آق بلاط الأسعدي.
وفي يوم الاثنين ثامن جمادى الأولى: أنعم على الأمير ألي باي بتقديمة تاني بك أمير خور، بعد موته.
وفي تاسعه: استقر مقبل - أحد المماليك الظاهرية - في ولاية قليوب، عوضاً عن محمد العلاي.
وفي ثامن عشره: أنعم على الأمير يَشبك العثماني بتقدمة قَلْمطاي بعد وفاته وعلى الأمير أسنبغا العلاي الدوادار التاني بطلخاناة بكتمر الركني، وعلى بكتمر بطبلخاناة ألي باي، وعلى محمد بن الأمير قَلَمْطاي بإمرة عشرة، وعلى أقباي الطرنطاي طبلخاناه، وعلى تنكزبغا الحطلي بإمرة عشرين.
وفي عشرينه: استقر صدر الدين أحمد بن جمال الدين محمود القيصري في توقيع الدست، عوضاً عن ناصر الدين محمد بن بدر الدين حسن الفاقوسي بعد عزله.
وفيه عدى السلطان إلى بر الجيزة، وعاد في خامس عشرينه.
وظهر في هذا الشَهر خرطوم من جزيرة أروى، امتد إلى تجاه جامع الخطيري من بولاق، فيما بين الجامع وناحية منبابة من البر الغربي.
وفي تاسع عشرينه: استقر تغري بردي من يَشْبُغا أمير سلاح، وأقبغا الطُولوتَمُري - المعروف باللكاش - أمير مجلس، والأمير نوروز الحافظي أمير أخور، والأمير بيبرس ابن أخت السلطان دوادراً، والأمير ألي باي العلاي خازنداراً، وخلع السلطان على الجميع الأطلسين. واستقر على بن غلبك في ولاية منفلوط بعد قتل عمر بن إياس: واستقر شمس الدين محمد الأخنادي الدمشقي في قضاء القضاة بدمشق، عوضاً عن علاء الدين علي بن بهاء الدين أبي البقاء.
وفي يوم الثلاثاء ثامن جمادى الآخرة: حضر الوزير علم الدين عبد الوهاب بن إبرة بطلب، من الإسكندرية وهو يلي نظرها، فضرب بين يدي السلطان بالمقارع.
وفي ثاني عشره: عدى السلطان إلى الجيزة، وعاد في رابع عشرينه. وكتب بعزل تاج الدين أبي بكر بن معين الدين محمد بن عبد اللّه بن أبي بكر بن محمد، المعروف بابن الدماميني من قضاء الإسكندرية، وكان قد وليها بسفارة أخيه شرف الدين، فلم تُشكر سيرته لعدم أهليته. واستقر عوضه ابن الربعي، بسفارهَ سعد الدين إبراهيم بن غراب.
وفي هذا الشهر: منع الأمير علاء الدين علي بن الطبلاوي من الحديث في إسكندرية، وتحدث فيها سعد الدين إبراهيم بن غراب، فولى أخاه فخر الدين ماجد نظر الإسكندرية. وخرج أمير فرج بالكشف على ابن الطبلاوي.
وفي يوم الجمعة ثاني رجب: أفرج عن الشهاب العبادي من سجنه بخزانة شمايل.
وفي ثامنه: خلع على شمس الدين محمد المخانسي خلعة الاستمرار، واستقر تمراز قماري في شد الأحوال، وأمير شكار بعد موت شرف الدين موسى بن قماري.(2/484)
وفي ليلة الجمعة ثامن شعبان: قبض على الأمير علاء الدين علي بن سعد الدين عبد الله بن محمد بن الطبلاوي وجماعة من ألزامه. وذلك أن سعد الدين إبراهيم بن غراب لما تسور على مخدومه الأمير جمال الدين محمود الأستادار - بمعاونة ابن الطلاوي - وتمالئا عليه حتى نكب وهلك كما ذكره صار ابن غراب بعده من أعيان الدولة، فالتَفت إلى ابن الطبلاوي وقد صار عظيم أهل الدولة، وظاهر عليه الأمير يلبغا المجنون الأستادار، وقد نافس ابن الطبلاوي، وما زال به يحمله عليه حتى أغرى به السلطان حسداً منه وبغياً، إلى أن قرر معه القبض عليه، فأشاع أنه وُلد له وَلد ودعا إلى عمل وليمة، خضر ابن الطبلاوي ومعه ابن عمه ناصر الدين محمد بن محمد بن محمد بن الطبلاوي - المعروف بابن سُتَيْت حضر النادر، وفيهم الأمير يعقوب شاه الخازندار، وقد رسم له معاونة ابن غراب في القبض على ابن الطلاوي، فعندما استقر بالناس الجلوس بعث ابن غراب بالأمير بهاء الدين أرسلان نقيب الجيدة، فقبض على ناصر الدين محمد بن سعد الدين عبد الله بن محمد بن الطبلاوي والي القاهرة، وأكثر حواشيه، وحواشي أخيه علاء الدين. فلما علم ابن غراب بالقبض عليهم مد السماط ليأكل الناس، فتقدم الأمير يعقوب شاه، وقبض على علاء الدين وابن عمه ناصر الدين، وتوجه بهما. ووقعت الحوطة في الليل على دور الجميع، وتُتُبعت من الغد أسبابهم وأتباعهم، فتجمعت العامة ورفعوا الأعلام، وحملوا المصاحف، ووقفوا تحت القلعة يسألون إعادة ابن الطلاوي، فأمر بضربهم، ففروا. وأمر الأمير يلبغا المجنون الأستادار بمعاقبة ابن الطلاوي، واستخلاص الأموال منه ومن حواشيه وأهله.
وفي ثاني عشره: حمل ابن الطبلاوي على فرس، وفي عنقه طوق من حديد مع الأمير يلبغا المجنون، وشق به القاهرة نهاراً، حتى دخل به إلى منزله برحبة باب العيد، فأخرج منه اثنين وعشرين حمالاً، ما بين دور وغيره من أنواع الفرو، وثياب صوف ومالاً، ذُكر أنه مبلغ مائة وستين ألف دينار.
وفي ثالث عشره: أخذ من داره أيضاً ألف ومائتا قُفة فلوساً، صَرْفُها ستمائة ألف درهم، ومن الدراهم الفضة خمسة وثمانون ألف درهم، وجملة من الذهب.
وفي رابع عشره: استقر الأمير الكبير أيتمش الأتابك في نظر المارستان المنصوري، عوضاً عن ابن الطبلاوي.
وفي سادس عشره: طلب ابن الطبلاوي الحضور إلى مجلس السلطان، فلما حضر طلب من السلطان أن يُدنيه منه، فاستدناه حتى بقي على قدر ثلاثة أذرع منه، قال له: " تكلم " . قال: " أريد أسار السلطان في أذنه " ، فلم يمكنه من ذلك، فألح ابن الطلاوي في طلب مسارة السلطان في أذنه، حتى استراب منه، وأمر بإبعاده واستخلاص المال منه. فمضى به الأمير يَلْبُغا المجنون، حتى خرج من مجلس السلطان إلى باب النحاس، حيث يجلس خواص الخدام الطواشية، فجلس ابن الطبلاوي هناك ليستريح، وضرب نفسه بسكين كانت معه ليقتل نفسه، فلم يكن سوى أنه جرح نفسه في موضعين وثار به من معه ومنعوه من قتل نفسه، وأخذوا السكين. ووقعت الصرخة حتى بلغ السلطان الخبر، فلم يشك في أنه أراد اغتياله وقتله بهذه السكين، فأمر بتشديد عقوبته، فمضى به الأمير يَلْبُغَا، وعاقبه فأظهر في سابع عشره خبية فيها مبلغ ثلاثين ألف دينار، ثم دلَّ على أخرى فيها مبلغ تسعين ألف دينار، ثم عشرين ألف دينار، وتُتُبعَت أحواله وأبيع موجوده وعقاره، وألزم ابن عمه ناصر الدين محمد بحمل مائتي ألفَ درهم، وعوقب عقوبة شديدة حتى أوردها، وألزم أخوه ناصر الدين محمد بمائة ألف درهم، وألزم أربعة من خواصه بمائتي ألف درهم.
وفيه استقر بهاء الدين أرسلان في ولاية القاهرة، عوضاً عن ناصر الدين محمد بن الطبلاوي.
وفيه شُكا على تاج الدين أبي بكر بن الدماميني قاضي الإسكندرية، فضرب بين يدي السلطان، ورسم عليه لُيرضي شكاته.
وفي ثامن عشرينه: أعيد بهاء الدين محمد بن البرجي إلى حسبة القاهرة، وعزل المخانسي.(2/485)
وقدم رسول الملك الظاهر مجد الدين عيسى متملك ماردين بكتابه، يترامى على التزام الطاعة، ويعتذر من طاعته لتيمور لنك بأنه أقام عنده في قيد زنته خمسة وعشرون رطلاً من الحديد مدة سنتين، حتى حلف له بالطلاق، وغير ذلك من الأيمان، أنه يقيم على طاعته، فأفرج عنه، وأنه وفي بما حلف له عليه، وعاد إلى طاعة السلطان، فأجيب بالشكر والثناء، وجهز إليه تشريف ومبلغ ثلاثين ألف دينار، وكتب تقليده بنيابة ماردين.
وفيه استقر تغري برمش السيفي متولي القاهرة - قبل ذلك أحد حجاب دمشق - متحدثاً على مستأجرت الديوان المفرد ببلاد الشام، عوضاً عن الشهاب أحمد بن النقيب اليغموري.
وفي يوم الاثنين ثالث شهر رمضان: وصل الأمير قُطلُوبغا الخليلي أمير أخور للتوجه إلى بلاد المغرب بسبب شراء الخيول، ومعه مائة وعشرون فرساً ورسل ملوك المغرب، فقَدَّم رسول صاحب فاس ثلاثين فرساً، وبغلتين منها ثمانية بقماش ذهب، وباقيهم دون ذلك، وثلاثين سيفاً محلاة بنصب، وثلاثين مهمازاً من ذهب، وقماشاً، وغير ذلك.
وقَدّم رسول تلمسان أربعة وعشرين فرساً مسرجة ملجمة، وبغلتين وأربعة وعشرين سيفاً بحلية من ذهب وأربعة عشر مهمازاً من ذهب، وكثيراً من القماش وغيره.
وقَدَّمَ رسول صاحب تونس ستة عشر فرساً مسرجة ملجمة بصب، وقماشاً كثيراً. وفيه نزل تيمور لنك على بغداد بجموعه، وقد حصنها السلطان أحمد بن أويس، فسار عنها من الغد نحو همذان.
وفي ثالث عشره، أنعم على أمير فرج الحلبي بإمرة علاء الدين علي بن الطبلاي، واستقر في دار الضرب، وأنعم على ناصر الدين محمد بن سنقر البكجري بإمرة أمير فرج. واستقر شهاب الدين أحمد بن حسن بن علي بن بلبان - المعروف بابن خاص ترك، أحد البريدية - شاد الدواوين، عوضاً عن الحسام بن أخت الغرس، بإمرة عشرة.
وفي يوم الأربعاء ثالث شوال: أخذ قاع النيل، فكان خمسة أذرع، واثني عشر إصبعاً.
وفي خامسه: ضرب علاء الدين علي بن الطبلاوي ضرباً مبرحاً، فلم يعترف بشيء من المال.
وفي خامس عشره: ختن السلطان ولديه، الأمير فرج والأمير عبد العزيز وختن عدة من أولاد الأمراء المقتولين، منهم ابن الأمير منطاش، وكساهم وأنعم عليهم، وعمل مهماً عظيما بالقلعة للنساء.
وفي ثامن عشره: نقل علاء الدين على بن الطبلاوي من دار الأمير الأستادار إلى خزانة شمايل، فسجن بها، بعد أن نوعت عقوباته، واشتد عقبه.
وفيه استقر محيي الدين محمود بن نجم الدين أحمد بن عماد الدين إسماعيل بن عمد ابن أبي العز صالح بن أبي العز، المعروف بابن الكشْك الدمشقي، في قضاء الحنفية بدمشق، عوضاً كن تَقي الدين عبد الله بن يوسف بن أحمد بن الحسين بن سليمان بن فزارة الكُفري.
وفي خامس عشرينه: استعفي سعد الدين إبراهيم بن غراب من نظر الديوان المفرد ونظر الكارم، فأعفي منهما.
وفيه قدم البريد بأن الحريق وقع بدمشق في ليلة السبتَ عشرينه، وأقام إلى يوم الثلاثاء ثالث عشرينه، فتلف فيه معظم أسواق المدينة، وتشعث جدار الجامع القبلي.
وفي يوم الاثنين سابع ذي القعدة: استقر سعد الدين بن غراب في ظهر الجيش، وعزل شرف الدين الدماميني، وبقي بيد ابن الدماميني نظر الكسوة.
وفي ثامنه: عزل شعبان بن محمد الآثاري من حسبة مصر، بعد ما نودي عليه بها؛ فحضر عدة من شكاته إلى الدوادار، وادعوا عليه بقوادح، فأهين إهانة بالغة، ومن العجب أَنه لما عزل ابن الدماميني من نظر الجيش، اًظهر شماتة بعزله، ونادى لعزله في مصر، فاتفق له هذا من الغد.
وفي تاسعه: أفرج عن ناصر الدين محمد بن الطبلاوي.
وفي عاشره: أعيد شمس الدين محمد الشاذلي إلى حسبة مصر، بعد عزل شعبان الآثاري، وكان قد وفي قبل ذلك بمال، ففر من مطالبهَ أرباب الديون بمالهم.
وفي ليلة السبت ثاني عشره: وقع حريق بدار التفاح خارج باب زويلة، فرعب لأمير يَشبك الخازندار، والأمير فارس حاجب الحجاب، وطفياه بمن معهما.(2/486)
وفي يوم السبت هذا: عمل السلطان مهماً عظيماً بالميدان تحت القلعة، سببه أنه لعب بالكرة على العادة، فغلب الأمير أَيْتمش، والتزم أَيْتمش بعمل مهم. بمائتي ألف درهم كونه غلب، فقام السلطان عنه بذلك، وألزم به الوزير بدر الدين محمد بن الطوخي، والأمير يِلبغا الأستادار. ونصبت الخيم بالميدان، وعمل المهم، فكان فيه من المخيم عشرون ألف رطل، ومائتي زوج إوز، وألف طائر من الدجاج، وعشرون فرساً ذبحت، وثلاثون رطلاً من السكر عملت حلوى ومشروباً، وثلاثون قنطاراً من الزبيب لعمل المشروب المباح والمسكر، وستون إردباً دقيقاً لعمل الشراب المسكر، وعملت المسكرات في دنان الفخار. ولزل السلطان سحر يوم السبت، وفي عزمه أن يقيم نهاره مع الأمراء والمماليك يعاقرهم الشراب، فأشير عليه بترك هذا، وخوف العاقبة، فمد السماط وعاد إلى قصره قبل طلوع الشمس، وأنعم على كل من الأمراء المقدمين بفرس عليه قماش ذهب، وأنعم على الوزير، وناظر الخاص معهم أيضاً. وأذن للعامة في انتهاب المآكل والمشارب، فكان يوماً في غاية القبح والشناعة، أبيحت فيه المسكرات، وتجاهر الناس من الفحش والمعاصي بما لم يعهد مثله، وفطن أهل المعرفة بزوال الأمر، فكان كذلك ومن يومئذ انتهكت الحرمات بديار مصر، وقل الاحتشام.
وفي خامس عشره: أعيد الشريف شرف الدين علي بن فخر الدين محمد بن شرف الدين علي الأرموي إلى نقابة الأشراف، بعد موت الشريف جمال الدين عبد الله الطباطبي.
وفي يوم السبت تاسع عشره - وعاشر مسرى - : وفي النيل ستة عشر ذراعاً.
وقدم البريد بقتل سولي بن دلغادر أمير التركمان.
وفيه ركب السلطان بعد صلاة الظهر يريد المقياس، وفتح الخليج على العادة، ومعه الأمراء - إلا الأمير ألي باي الخازندار - فإنه كان قد انقطع في داره أياماً لمرض نزل به - فيما أظهره - وفي باطن أمره أنه قصد الفتك بالسلطان، فإنه علم أنه إذا نزل الخليج يدخل إليه ويعوده على ما جرت به عادته مع الأمراء، فدبر على اغتَيال السلطان، وأخلى إصطبله وداره من حريمه وأمواله، وأعد قوماً اختارهم لذلك. وكان سبب هذا فيما يظهر أن بعض مماليكه المختصين به - وكان شاد شراب خاناتَه - تعرض لجارية من جواري الأمير أقباي الطرنطاي، يريد منها ما يريده الرجل من المرأة، وصار بينهما مشاكلة، فبلغ ذلك أقباي، فقبض عليه وضربه ضرباً مبرحاً. فحنق آلي باي وشكاه للسلطان فلم يلتفت إلى قوله، وأعرض عن ذلك. وكان ألي باي في زعمه أن السلطان يزيل نعمة أقباي لأجله، فغضب من ذلك وحرك ما عنده من البغي الكامن. فلما فتح السلطان الخليج وركب إلى جهة القلعة اعترضه مملوك من خشداشيته اليلبغاوية، يعرف بسودن الأعور، وأسر إليه أن داره التي يسكنها تشرف على إسطبل الأمير ألي باي، وأنه شاهد مماليك ألي باي وقد لبسوا بدلة الحرب، وقفوا عند بوائك الخيل، وستروا(2/487)
البوائك بالآنخاخ ليخفي أمرهم. فكتم السلطان الخبر، وأمر الأمير أرسطاي رأس نوبة أن يتوجه إلى دار الأمير ألي باي، ويعلمهم أن السلطان يدخل لعيادته. فلما أعلم بذلك اطمأنوا، ووقف أرسطاي على باب إلي باي ينتظر قدوم السلطان، وعندما بعث السلطان أرسطاي أمير الجاويشية بالسكوت، وأخذ العصابة السلطانية التي ترفع على رأس السلطان فيعلم بها مكانه، يريد بذلك تعمية خبره، وسار إلى تحت الكبش، وهو تجاه دار ألي باي، والناس من فوقه قد اجتمعوا لرؤية السلطان، فصاحت به امرأة: " لا تدخل فإنهم قد لبسوا آلة القتال " . فحرك فرسه وأسرع في المشي ومعه الأمراء، ومن ورائه المماليك يريد القلعة. وأما ألي باي فإن بابه كان مردود الفردتين، وضبته مطرفة ليمنع من يدخل حتى يأتي السلطان، فلما أراد الله، مر السلطان حتى تعدى بابه، وكان في طريقه، فلم يعلموا بمروره حتى تجاوزهم بما دبره من تأخير العصائب وسكوت الجاويشية. وخرج أحد أصحاب ألي باي يريد فتح الضبة فأغلقها، والي أن يحضر مفتاح الضبة ويفتح فاتهم السلطان، وصار بينهم وبينه سد عظيم من الجمدارية، قد ملأوا الشارع بعرضه. فخرج ألي باي بمن معه لابسين السلاح، وعمدهم نحو الأربعين فارساً يريد السلطان، وقد ساق ومعه الأمراء حتى دخل باب السلسلة، وامتنع بالإصطبل. فوقف ألي باي تجاه الإصطبل بالرميلة تحت القلعة، ونزل إليه طائفة من المماليك السلطانية لقتاله، فثبت لهم وجرح جماعة، وقتل من السلطانية بيسق المصارع ثم انهزم ألي باي، وتفرق عنه من معه. هذا وقد ارتجت مصر والقاهرة، وجفل الناس من مدينة مصر، وكانوا بها للفرجة على العادة في يوم الوفاء، وطلبوا مساكنهم خوفاً من النهابة. وركب يلبغا المجنون ومعه مماليكه لابسين بدلة القتال يريد القلعة. واختلف الناس في السلطان، وأرجفوا بقتله وبفراره، وتباينت الأقوال فيه، واشتد الخوف وعظم الأمر. هذا، وقد ألبس السلطان الأمراء والمماليك، وأتاه من كان غائباً منهم. فعندما طلع الأمير يلبغا المجنون إليه ثار به المماليك السلطانية، واتهموا بموافقة ألي باي؛ لكونه جاء هو ومماليكه بآلة القتال، وخذَه اللكم من كل جهة، ونزعوا ما عليه، وألقوه إلى الأرض ليذبحوه، فلولا ما كان من منع السلطان لهم لقتلوه، فلما كفوا عن ذبحه سجن بالزردخاناه وقيد. وقبض أيضاً على شاد شراب خاناه ألي باي لأنه الذي أثار هذه الفتنة، وقطع قطعاً بالسيوف. وبات السلطان بالإصطبل وقد نهبت العامة بيت ألي باي وخربوه، ونهبوا دار الأمير يلبغا المجنون وخربوها. وأما ألي باي فإنه لما تفرق عنه أصحابه اختفي في مستوقد حمام، فقبض عليه، وحمل إلى السلطان فقيده وسجنه بقاعة الفضة من القلعة. فلما أصبح نهار الأحد نزع العسكر آلة الحرب وتفرقوا، وعصر ألي باي، فلم يقر على أحد. وأحضر يلبغا المجنون فحلِف أنه لم يوافقه، ولا علم بشيء من خبره، وأنه كان مع الوزير بمصر. فلما أشيع خبر ركوب ألي باي لحق يلبغا المجنون بداره، ولبس ليقاتل مع السلطان وبرأه ألي باي أيضاً، فأفرج عنه، وأخلع عليه. ونزل إلى داره، فلم يجد بها شيئاً، وقد نُهبت جميع أمواله، وسلبت جواريه، وفرت امرأته ابنة الملك الأشرف شعبان، وأخذ رخام داره وأبوابها، وأكثر أخشابها، وتشعثت تشعثاً قبيحاً.
وفيه قدم البريد بأن أولاد ابن بزدغان من التركمان اقتتلوا مع القاضي برهان الدين أحمد صاحب سيواس، فقتل في الحرب، وقام من بعده ابنه بمدينة سيواس، ومنعها من التركمان. وكان من خبره أن الأمير عثمان بن قرايلك التركماني خالف عليه، ومنع ما كان يحمله إليه من التقادم، فلم يكترث به القاضي برهان الدين؛ لأنه من أقل أمرائه. وصار قرايلوك يتردد إلى أماسية وأرزبخان، فاتفق أنه قصد مصيفاً بالقرب من مدينة سيواس، ومر عليها وبها القاضي برهان الدين، فشق ذلك عليه، وركب عجلاً وساق في طلبه، وتقدم عسكره حتى أقبل الليل، فمال عليه قرايلوك بجماعته، فأخذه قبضًا بالليل ثم قتله وحاصر سيواس، فمنعه أهلها وقاتلوه أشد القتال، وكتبوا إلى أبي يزيد بن عثمان أن يدركهم، فسار إليهم ومضى قرايلوك إلى تيمور لنك وهو على أذربيجان، فأقام في جملته.(2/488)
وفي حادي عشرينه: جلس السلطان بدار العدل على العادة، وعصر ألي باي فلم يعترف على أحد وإذا بهجة عظيمة قامت في الناس، فلبس العسكر ووقفوا تحت القلعة وقد غلقت أبوابها. وكثرت الإشاعة بأن يلبغا المجنون، وأقبغا اللكاش قد خامرا على السلطان، و لم يكن الأمر كذلك، فركب اللكاش إلى القلعة. وكان المجنون في بيت أمير فرج الحلبي بالقاهرة، فلما بلغه هذا ركب معه أمير فرج ليعلم السلطان بأنه كان في داره بالقاهرة حتى يبرأ مما رمي به، فصارا مع الأمراء بالقلعة عند السلطان، وأمر السلطان بقلع السلاح، ونزل كل أحد إلى داره، فانفضوا وسكن الأمر، ونودي بالأمان، ففتح الناس الأسواق واطمأنوا.
وفي ليلة الثلاثاء ثاني عشرينه: عذب ألي باي بين يدي السلطان عذاباً شديداً، كسرت فيه رجلاه وركبتاه، وخسف صدره، فلم يقر على أحد، فأخذ إلى الخارج وخنق، فتنكرت الأمراء، وكثر خوفهم من السلطان، خشية من أن يكون ألي باي ذكر أَحداً منهم. ومن حينئذٍ فسد أمر السلطان مع مماليكه، فلم ينصلح إلى أن مات، ولخوفه منهم لم ينزل بعد ذلك من القلعة.
وفي يوم الثلاثاء: نودي بالأمان، وأمر يلبغا المجنون أن ينفق في المماليك السلطانية، فأعطى الأعيان منهم خمسمائة درهم لكل واحد منهم فلم يرضهم ذلك، وكثرت الإشاعات الردية، وقوي الإرجاف، فنقل الأمراء ما في دورهم إلى القاهرة في يوم الأربعاء رابع عشرينه، وباتوا ليلة الخميس على تخوف، ولم تفتح الأسواق يوم الخميس، فنودي بالأمان والبيع والشراء ولا يتحدث أحد فيما لا يعنيه.
وفيه استقر مقبل الظاهري والي قليوب في ولاية الفيوم عوض عن قراجا مفرق، واستقر في ولاية قليوب محمد بن قرابغا، وأنعم على الأمير أَرُسْطاي من خواجا على بتقديمه ألي باي، واستقر رأس نوبة. وأنعم على تمان تمر الناصري بطبلخاناه أرسطاي.
وفي سادس عشرينه: نزل الأمير فارس حاجب الحجاب والأمير تمربغا المنجكي الحاجب، وقبضا على الأمير يلبغا المجنون الأستادار من داره، وبعثاه في النيل إلى دمياط. وطلب الأمير ناصر الدين محمد بن سنقر البكجري وخلع عليه للأستادارية، عوضاً عن يلبغا المجنون بإمرة خمسين فارساً.
وفيه قدم محمد بن مبارك المنقار بن المهمندار بهدية.
وفيه أنعم على الأمير بكتمر رأس نوبة بتقدمة يلبغا المجنون.
وفي يوم السبت ثالث ذي الحجة: خلع على اثنين رؤوس نوب صغار، وهما الأمير طولو، والأمير سودن الظريف.
وَفي يوَم الأحد رَابع ذي الحجة: سمر أربعة من مماليك ألي باي، ووسطوا.
وفيه أبيع الخبز كل ثمانية أرطال بدرهم عنها اثني عشر رغيفاً، زنة الرغيف ثماني أواق بفلسين، فسر الناس سروراً زائدا، ًفإن لهم نحو الست سنين لم يروا الرغيف بفلسين، لكن لم يستمر هذا.
وقدم الخبر بأن الأمير شيخ الصفوي كثر فساده بالقدس، وتعرضه لأولاد الناس، يريدهم على الفاحشة، فرسم بنقله من القدس واعتقاله بقلعة المرقب من طرابلس، فاعتقل بها.
وفي يوم النحر: صلى السلطان صلاة العيد بجامع القلعة، ولم ينزل إلى الميدان فاستمر ذلك. وتركت صلاة العيد بالميدان حتى نسيت.
وفيه توجه البريد لإحضار الأمير بكلمش من الإسكندرية، ومسيره إلى القدس، على ما كان لشيخ من المرتب بها.
وفيه استقر علي بن مسافر في ولاية منوف، وعزل الشهاب أحمد بن أسد الكردي.
وفيه سار الأمير أرغون شاه، والأمير تمراز، والأمير طولو في عدة من الأمراء إلى الشرقية، وخذوا من عرب بني وائل مائتي فارس، وعادوا فسمر منهم نحو الثلاثين، وسجن البقية بالخزانة.
واستمر السلطان من حركة ألي باي يتزايد به المرض إلى ليلة الاثنين سادس عشرينه، أقلع عنه الألم، ونودي من الغد بالزينة، فزينت القاهرة ومصر لعافيته وتصدق في هذه المدة على يد الطواشي صندل وغيره بمال كبير، يقال مبلغه مائتا ألف وخمسون ألف دينار ذهباً.
وفي سابع عشرينه: سمر من بني وائل مائة وثلاثة رجال.
وفيه قدم مبشرو الحاج بالسلامة والأمن.(2/489)
وفيها ولى الأمير شمس الدين محمد بن عنقاء بن مهنا إمرة آل فضل، عوضاً عن أخيه أبي سليمان بعد وفاته، وولى ناصر الدين محمد بن محمد بن محمد بن عمر بن أبي الطيب كتابة السر بدمشق، عوضاً عن أمين الدين محمد بن محمد بن علي الحمصي بعد موته، ونقل علم الدين محمد القفصي من قضاء المالكية بحلب إلى قضاء المالكية بدمشق، عوضاً عن برهان الدين إبراهيم التادلي وولى شهاب الدين أحمد بن عبد الدايم الموصلي قضاء المالكية بحلب.
ومات في هذه السنة من الأعيان ممن له ذكر
الشيخ برهان الدين إبراهيم بن أحمد بن عبد الواحد بن عبد المؤمن البعلبكي الدمشقي الضرير، المعروف بالبرهان الشامي، في ثامن جمادى الأولى، عن تسعين سنة، وقد حدث منذ سنين.
ومات تاج الدين أحمد بن فتح الدين محمد بن إبراهيم بن محمد بن الشهيد، ومات شهاب الدين أحمد بن قايماز في ثاني عشر ربيع الأول، وكان من الأعيان، ويخدم في أستادارية الأمراء، وامتحن في نوبة الشريف العنابي.
ومات شهاب الدين أحمد بن محمد البكتمري أحد علماء الميقات، في سابع عشرين جمادى الأولى.
ومات آق بلاط الأسعدي، أحد أمراء العشراوات.
ومات تاني بك اليحياوي أمير آخور، أحد أمراء الألوف، في ليلة الخميس رابع عشر ربيع الآخر، ومشى السلطان في جنازته وبكى عليه، وركب حتى دفن، وأقام القراء على قبره أسبوعاً، وتمد لهم الأسمطة السلطانية.
ومات الأمير تَلكتمُر دوادار الأمير قلمطاي، في رابع عشر ربيع الآخر.
ومات الأمير طوغان العمري أحد أمراء العشراوات، ونقيب الفقراء السطوحية في أول ربيع الأول.
ومات مجد الدين عبد الرحمن مكي، أحد نواب القضاة المالكية خارج القاهرة، في أول جمادى الأولى.
ومات الشريف جمال الدين عبد اللّه بن عبد الكافي بن علي بن عبد اللّه الطباطبي، نقيب الأشراف في ليلة الرابع عشر من ذي القعدة.
ومات تاج الدين عبد الله بن علي بن عمر، المعروف بقاضي صور - بفتح الصاد المهملة - بليدة بين حصن كيفا وماردين - السنجاري الحنفي، عن نحو الثمانين سنة بدمشق، وقدم القاهرة، وأقام بها زماناً، وكان فاضلاً أفتى، ودرس، وصنف كتاب البحر الحاوي في الفتاوى، ونظم المختار في الفقه، وناب في الحكم بالقاهرةْ وبدمشق. ولي وكالة بيت المال بدمشق وكان لطيفاً ظريفاً.
ومات الأمير عمر بن إلياس قريب الأمير قرط التركماني، والي منفلوط قتله العرب بها.
ومات الشيخ المعتقد عمر الفرنوي.
ومات الأمير قلمطاي الدوادار في ليلة السبت ثالث عشر جمادى الأولى فصلى السلطان عليه، وشهد دفنه، وبكى عليه، وعمل للقراء الأسمطة عند قبره أسبوعاً.
ومات الأمير قجماس البشيري أحد أمراء العشراوات، ونقيب الفقراء الدسوقية.
ومات الأمير قرابغا المحمدي أحد أمراء العشراوات.
ومات أمين الدين محمد بن محمد بن علي الحمصي كاتب السر بدمشق وقدم القاهرة مع الأمير تنم. وكان أديباً شاعراً ناثراً.
ومات نجم الدين محمد بن عمر بن محمد الطنبدي وكيل بيت المال، ومحتسب القاهرة في رابع عشرين ربيع الأول.
ومات الشيخ المعتقد أبو عبد الله محمد بن سلامة التوزري المغربي المعروف بالكركي لإقامته بالكرك، في خامس عشرين ربيع الأول. وكان عند السلطان بمنزلة مكينة جداً، يجلسه إلى جانبه، وتحته قاضي القضاة الشافعي ولم يغير لبس العباءة، ولا أخذ شيئاً من المال. والناس فيه بين مفرط في مدحه، ومفرط في الغض منه. وتولى الأمير يلبغا السالمي تجهيزه إلى قبره، وبعث السلطان مائتي دينار لذلك، ولقراءة القرآن على قبره مدة أسبوع، فعمل ذلك على العادة.
ومات صفي الدين أحمد بن محمد بن عثمان الحميري، موقع الدست، وأحد نواب القضاة المالكية، في رابع المحرم، بعدما ابتلى من الأمير بَكْلَمِش ببلاء عظيم. وله نظم. ومات الأمير شرف الدين موسى بن قُماري أمير شكار، وشاد الأحوال السلطانية الموضوعة للطيور، في ثاني عشر رجب.(2/490)
ومات ملك المغرب صاحب فاس أبو عامر عبد الله بن السلطان أبي العباس أحمد ابن أبي سالم إبراهيم بن أبي الحسن المريني وأقيم بعده أخوه أبو سعيد عثمان بن أبي العباس. هذا، والشيخ أَبو العباس أحمد بن على القبايلي هو القائم بتدبير الدولة بعد موت السلطان أبي العباس أحمد. وكل من أبي فارس عبد العزيز وأبي عامر عبد الله، وأبي سعيد عثمان تحت حجره، حتى قتل كما سيأتي ذكره، إن شاء اللّه تعالى.
وقتل الأمير سولي بن الأمير زين الدين قراجا بن دُلْغَادر التركماني، في ذي القعدة، قتله رجل من أقاربه يقال له علي بك. وذلك أنه غاضبه وأخرجه، فنزل حلب، ثم اتفق مع غلامه - على القُصير - على قتل سولي، واحتالا عليه بأن ضرب علي بك غلامه ضرباً مبرحاً، فمضى الغلام إلى سولي يشكو حاله، فأواه عنده، ووعد بأخذ ثأره. فما زال عنده حتى سكر سولي ليلة. فلما انفرد به ضربه بسكين قتله، ثم صاح. فلما جاءه التركمان أوهمهم أن بعض أعدائه اغتاله، ثم استغفلهم وهرب إلى مخدومه بحلب. فلما صح السلطان الخبر، استدعى علي بك وغلامه، وأنعم عليهما بإمرتين لعلي بك إمرة طبلخاناه، ولعلي القصير بإمرة عشرة.
وقتل أمير آل فضل الأمير علم الدين أبو سليمان بن عنقاء بن مهنا، بعد القبض عليه في كائنة جرت بينه وبين عمه الأمير نعير، بالقرب من الرحبة.
ومات الأديب المادح أبو الفتح محمد بن الشيخ العارف على البديوي، في ثامن عشر جمادى الآخرة، بالنحريرية. واًكثر شعره مدائح نبوية، وله صلاح مشهور.
؟سنة إحدى وثمانمائة
أهل هذا القرن التاسع وخليفة الوقت أمير المؤمنين المتوكل على اللّه أبو عبد الله محمد بن المعتضد، وليس له أمر ولا نهي ولا نفوذ كلمة، وإنما هو بمنزلة واحد من الأعيان. وسلطان الديار المصرية، والبلاد الشامية، والحرمين - مكة والمدينة - الملك الظاهر سيف الدين أبو سعيد برقوق بن أنص أول ملوك الجركس، ونائبه بدمشق الأمير تنم الحسني، ونائبه بحلب الأمير أرغون شاه الخازندار، ونائبه بطرابلس الأمير قبغا الجمالي، ونائبه بحماة الأمير يونس بَلْطَا، ونائبه بصفد الأمير شهاب الدين أحمد بن الشيخ علي، ونائبه بغزة الأمير طيفور، ونائبه بالإسكندرية الأمير صَرْغتمش، ونائبه بمكة المشرفة الشريف حسن بن عجلان الحسني، ونائبه بالمدينة النبوية - على ساكنها أفضل الصلاة والتسليم - الشريف ثابت بن نعير. والأمير الكبير أتابك العساكر بديار مصر الأمير أيتَمش البجاسي. وقاضي القضاة الشافعي بها تقي الدين عبد الرحمن الزبيري، ورفقاؤه قاضي القضاة جمال الدين يوسف الملطي الحنفي وقاضي القضاة ناصر الدين أحمد التنسي المالكي، وقاضي القضاة برهان الدين إبَراهيم ابن نصر الله الحنبلي. وحاجب الحجاب الأمير فارس القطلوقجاوي، وناظر الخاص والجيش معاً سعد الدين إبراهيم بن غراب، وكاتب السر بدر الدين محمود الكلستاني العجمي، والوزير بدر الدين محمد بن محمد الطوخي.
شهر اللّه المحرم أوله الجمعة.
فيه صرف المثقال الذهب المختوم الهرجة بأحد وثلاثين درهماً، ويصرف في ثغر الإسكندرية باثنين وثلاثين درهماً.
وفيه نودي على النيل بزيادة إصبع واحد لتتمة اثنا عشرة إصبعاً من تسع عشرة ذراعاً.
وفي ثانيه: خلع على الأمير زين الدين مقبل أحد المماليك السلطانية، واستقر في ولاية ثغر أسوان عوضاً عن الصارم إبراهيم الشهابي، وقد قتله أولاد الكنز.
وفي تاسعه: أعيد شمس الدين محمد المخانسي إلى حسبة القاهرة، وعزل بهاء الدين محمد البرجي.
وفيه نودي بقلع الزينة فقلعت.
وفي عاشره: أحضر بعض مسالمة النصارى، من الكتاب الأقباط، إلى باب القلعة من قلعة الجبل، وقد ارتد عن الإسلام، وعرف في إسلامه ببرهان الدين إبراهيم بن بُرَيْنيَّة مستوفي المارستان المنصوري، فعرض عليه الإسلام مراراً، ورغب في العود إليه، فلم يقبل، وأصر على ردته إلى النصرانية، فسأل عن سبب ردته، فلم يبد شيئاً، فلما أيس منه ضربت رقبته بحضرة الأمير الطواشي شاهين الحسني، أحد خاصكية السلطان.
وفي سابع عشره: سمر سبعة من المماليك، يقال لأحدهم أقبغا الفيل من جملة مماليك السلطان، وأحد إخوة الأمير ألي باي، وباقيهم مماليك ألي باي.(2/491)
وفيه رسم بالإفراج عن الأمير بكلمس من سجنه بالإسكندرية. فلما خرج من سجنه، وتوجه يريد القاهرة أدركه مرسوم السلطان بأن يسير إلى القدس، ويقيم به بطالاً، فمضى حيث رسم به.
وفيه رسم بإعادة ناصر الدين محمد بن تقي الدين عمر بن نجم الدين محمد بن زين الدين عمر بن أبي القاسم بن عبد المنعم بن أبي الطيب الدمشقي الشافعي إلى كتابة السر بدمشق، عوضاً عن أمين الدين محمد بن الحمصي بعد وفاته.
وفيه رسم بانتقال الأمير سيف الدين جنتمر التركماني من إمرة الطبلخاناه بدمشق، في نيابة حمص، عوضاً عن تَمَان بغا الظاهري، بعد وفاته.
وفيه تنكر السلطان على سودن الحمزاوي الخاصكي، وضربه بين يديه، وسجنه بخزانة شمايل عدة أيام، ثم أخرجه منفياً إلى بلاد الشام.
وفي ثاني عشرينه: خلع على علاء الدين على بن الحريري شاد المارستان، واستقر، كشف الوجه البحري، عوضاً عن علاء الدين علي الحلبي إلى ولاية الغربية، كل ذلك بمال وعد به.
وفيه قدم ركب الحاج الأول.
وفي رابع عشرينه: قدم المحمل ببقية الحجاج، وقد تأخر قدومهم يومين عن العادة. شهر صفر أوله الأحد.
ففي ليلة الأربعاء رابعه: وقع حريق بخط باب سر المدرسة الصالحية، تلف فيه عدة دور، فنزل إليه الأمير فارس حاجب الحجاب، والأمير تَمُربغا المنجكي الحاجب، الأمير أرغون شاه أمير مجلس، والأمير طولو، حتى طفوه.
وفيها قبض على أينال خازن دار الأمير تاني بك اليحياوي أمير أخور، وقد اتهم أنه ممن كان من أعوان ألي باي.
وفيها ابتدأ وعك بدن السلطان، وحدث له إسهال مفرط لزم منه الفراش، واستمر وعكه مدة تزيد على عشرين يوماً.
وفي تاسعه: قدم البريد بموت الأمير بكلمش العلاي أمير أخور، في نفيه بالقدس.
وفي عاشره: رسم السلطان للفقراء بمال كبير يفرق فيهم، فاجتمع تحت القلعة منهم عالم كبير وازدحموا لأخذ الذهب، فمات في الزحام منهم سبعة وخمسون شخصاً، ما بين رجل وامرأة، وصغير وكبير.
وفي ثاني عشره: رسم بجمع أهل الإصطبل السلطاني من الأمير أخورية والسلاخورية، ونحوهم، فاجتمعوا، ونزل السلطان من القصر إلى مقعده بالإصطبل - وهو موعوك - لعرضهم، حتى انقضى ذلك وصرفهم. ثم قبض على جرباش من جماعتهم، وعرض الخيول وفرق خيل السباق على الأمراء كما هي العادة، ثم عرض الجمال البخاتي. كل ذلك تشاغلاً، والغرض غير ذلك. ثم أظهر أنه قد تعب، واتكأ على الأمير نوروز الحافظي أمير أخور، ومشى في الإصطبل متكئاً عليه حتى وصل إلى الباب الذي يصعد منه إلى القصر، أدار بيده على عنق نوروز، فتبادر المماليك إليه يلكموه حتى سقط، فعبر السلطان الباب وقد ربط نوروز وسحب حتى سجن عنده. وكان القصد في حركة السلطان مع توعكه إنما هو أخذ نوروز، فإنه كان يتهمه بممالأة ألي باي، ومعه الأمير أقبغا اللكاش. ثم بلغه أن نوروز، قصد أن يركب فمنعه أصحابه، وأشاروا عليه أن يصبر حتى ينظر، فإن مات السلطان حصل القصد بغير تعب، وإن حصل له الشفاء، جمع لحربه وركب، وكان ممن حضر هذا المشور مملوكان من الخاصكية، قرر نوروز معهما أنهما إذا كانت ليلة نوبتهما في المبيت عند السلطان يقتلاه، ويرميا الثريا التي توقد بالمقعد المطل على الإصطبل حتى يأخذ هو حينئذ الإصطبل ويركب للحرب، فنم هذان المملوكان عليه، وأعلما صاحبا لهما من المماليك يقال له قاني باي، وواعداه أن يكون معهما، فأجابهما. وحضر إلى السلطان وأعلمه الخبر، فكان ما ذكر، وعندما قبض على نوروز ارتجت المدينة، وغلقت الأسواق، وحسب الناس أنها فتنة، فلم يظهر شيء، وسكن الحال، ونودي بالأمان، ففتح باب زويلة، وكان قد أغلق بغير إذن الوالي، فضرب البواب بالمقارع، وشُهّر من أجل أنه أغلقه. فلما أصبح الناس يوم السبت رابع عشره خلع على الأمير أقبغا اللكاش بنيابة الكرك وأخرج من ساعته ومعه الأمير أرُسْطَاي رأس نوبة، والأمير فارس حاجب الحجاب، والأمير تمربغا المنجكي أمير حاجب، موكلين به إلى خارج القاهرة، وأُذن له في الإقامة بخانكاة سرياقوس عشرة أيام، حتى يجهز أحواله. ووكل به الأمير تاني بك الكركي الخاصكي، وأن يكون متسفره.
وفي ليلة الأحد خامس عشره: أنزل الأمير نوروز من القلعة إلى الحراقة، وأخذ النيل إلى الإسكندرية ومعه الأمير أرنبغا الحافظي أحد أمراء العشرات موكلاً به حتى يسجنه بالبرج.(2/492)
وفي ثامن عشره: قبض على قوزي الخاصكي، وسلم إلى والي القاهرة.
وفي تاسع عشره: أنعم على الأمير سيف الدين تمراز الناصري بإقطاع نوروز الحافظي، وعلى الأمير سودن المارديني بإقطاع اللكاش، وعلى الأمير سيف الدين أرغون البيدمري الأقبغاوي، واستقر أمير مجلس. واستقر الأمير سودن قريب السلطان أمير أخور، عوضاً عن نوروز.
وفي ثالث عشرينه: أملى بعض المماليك السلطانية سكان الطباق بالقلعة على بعض فقهاء الطاق أسماء جماعة المماليك والأمراء أنهم قد اتفقوا على إقامة فتنة، فكتبها ودخل بها المملوك على السلطان، فلما قرئت عليه استدعى المذكورين، وأخبرهم بما قيل عنهم، فحلوا أوساطهم، ورموا سيوفهم وقالوا: " يوسطنا السلطان، وإلا يخبرنا بمن قال هذا عنا؟ " . فأحضر المملوك وسلمه إليهم - ضربوه نحو الألف، فقال. " أنا اختلقت هذا حنقاً من فلان " وسمى شخصاً قد خاصمه، فأحضر الفقيه الذي كتب الورقة، وضرب بالمقارع، وسمر، ثم عفي عنه من القتل، وسجن بخزانة شمايل.
وفي آخره: وصل اللكاش إلى غزة، فقُبض عليه بها، وأحيط بسائر ما معه، وحمل إلى قلعة الصبيبة، فسجن بها.
وفي هذا الشهر: ورد البريد بأن السكة ضربت في ماردين باسم السلطان، وخطب له بها على المنبر، وحملت الدنانير والدراهم باسم السلطان إليه، ففرقها في الأمراء.
شهر وبيع الأول، أوله الاثنين.
ففي ثانيه: استقر القاضي أمين الدين عبد الوهاب بن قاضي القضاة شمس الدين محمد بن أحمد بن أبي بكر الطرابلسي الحنفي في قضاء العسكر، عوضاً عن موفق الدين العجمي، بحكم أنه نقل إلى قضاء الحنفية بالقدس، عوضاً عن خير الدين بن عيسى الحنفي بعد موته.
وفي رابعه: قدم البريد بوفاة الأمير سيف الدين أرغون شاه الإبراهيمي نائب حلب، وأحضر سيفه على العادة.
وفيه عمل السلطان المولد النبوي على عادته.
وفي سادسه: توجه الأمير أرغون شاه أمير مجلس إلى السراحة ببلاد الصعيد على عادة من تقدمه.
وفي حادي عشره: رسم أن ينقل الأمير علاء الدين أقبغا الجمالي من نيابة طرابلس إلى نيابة حلب، وتوجه بتقليده الأمير أينال باي بن قُجماس، وكان قد سأل في ذلك على أن يحمل ألف ألف درهم فضة واستقر أيضاً الأمير شرف الدين يونس بَلْطا نائب حماة في نيابة طرابلس، وتوجه بتقليده الأمير يلبغا الناصري. واستر الأمير دمرداش المحمدي أتابك العساكر بحلب في نيابة حماة، وتوجه بتقليده الأمير سيف الدين شيخ من محمود شاه رأس نوبة. واستقر الأمير سيف اِلدين سودن الظريف نائب الكرك، وسار من القاهرة ومعه الأمير تاني بك الكركي متسفراً.
وفي خامس عشره. توجه الأمير تغري بردي أمير سلاح إلى السرحة بالبحيرة، وتوجه إليها أيضا الأمير فارس حاجب الحجاب.
وفي سلخه: قبض على الأمير عز الدين أزْدَمُر أخي أينال، وعلى ناصر الدين محمد بن أينال اليوسفي، ونفيا إلى الشام.
شهر ربيع الآخر.
أوله الأربعاء، فرسم فيه للأمير صُراي تَمُر شَلَق الناصري رأس نوبة، أحد الطبلخاناه بديار مصر، بإمرة دمرداش بحلب، وأُخرج إليها.
واستقر جمال الدين يوسفي بن أحمد بن غانم قاضي نابلس في خطابة القدس، عوضاً عن العماد الكركي.
وفي تاسعه: استقر شهاب الدين أحمد بن عمر بن الزين الحلبي - في ولاية القاهرة، وعزل عنها الأمير بهاء الدين أرسلان الصفدي، وألزم بعشرين ألف أردب شعير كان قد قبضها من الأمير يلبغا المجنون الكاشف لما كان يلي ولاية العرب؛ ليفرقها في العربان.
وفي ثالث عشره: نودي بالقاهرة ومصر أن يتجهز الحجاج الرجبية إلى مكة، فسر الناس ذلك. وكانت الرجبية قد بطلت من سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة.
وفي رابع عشره: نودي أيضاً: " من له ظلامة، من له شكوى، فعليه بالباب الشريف " . وجلس السلطان على العادة في يومي الثلاثاء والسبت للنظر في المظالم. واستقر الأمير ناصر الدين محمد بن طَلي والي قليوب، عوضاً عن الأمير ناصر الدين محمد بن قرابغَا الألناقي.
وفي عشرينه: أنعم على إينال بن إينال بخبز أخيه محمد، وعلى كل من سودن من زاده، تغري بردي الجلباني، ومنكلي بغا الناصري، وبكتمر جَلَق الظاهري، وأحمد بن عمر الحسني بإمرة طبلخاناه. وأنعم على كل من بشباي، وتَمُربُغا من باشاه، وشاهين من إسلام وجوبان العثماني، وجَكَم من عوض بإمرة عشرة.(2/493)
وفي خامس عشرينه: طلع رجل عجمي إلى السلطان - وهو جالس للحكم بين الناس - وجلس بجانبه ومد يده إلى لحيته، فقبض عليها وسبه سباً قبيحاً، فبادر إليه رؤوس النوب، وأقاموه ومروا به وهو مستمر في السب، فسلم إلى الوالي، فنزل لجه وضربه أياماً حتى مات.
وفيه استعفي الأمير سودن باشاه من الحجوبية لعجزه، فأعفي، واستعيد خبزه.
وفي يوم الخميس سلخه: خلع الأمير تاج الدين عبد الرزاق بن أبي الفرج بن نقول الأرمني الأسلمي، والي قطا، واستقر في الوزارة عوضاً عن الوزير الصاحب بدر الدين محمد بن الطوخي، وكان بدء أمره. وسبب ولايته أن أباه كان نصرانياً من النصارى الأرمن الذين قدموا إلى القاهرة، فأظهر الإسلام وخدم صيرفياً بناحية منية عقبة من الجيزة مدة، ثم انتقل إلى قطا، وخدم بها صيرفياً. ومات هناك، فاستقو ابنه عبد الرزاق هذا عوضه، وباشر الصرف بقطا مدة، ثم سمت نفسه إلى أن استقر عاملاً بها، فباشر زماناً. وانتقل من عمالة قطا إلى وظيفة الاستيفاء فوعد بمال، واستقر في نظر قطا، ثم جمع إليها الولاية، ولم يسبق إلى ذلك، فباشرهما مدة. وترك زي الكتاب ولبس القباء والكلفتاه، وشد السيف في وسطه، وصار يدعي بالأمير بعدما كان يقال له العلم. ثم صار يقال له القاضي، وتشدد على الناس في أخذ المكوس، وكثر ماله، فوشى به إلى الصاحب بدر الدين محمد بن الطوخي، فندب إليه الأمير شهاب الدين أحمد بن الزين الحلبي، فسار إليه، وصادره، وضرب ابنه عبد الغني - وكان صغيراً - بحضرته، وأخذ منه مالاً جزيلاً يقارب الألف ألف درهم، فحنق من الوزير، وكتب إلى السلطان يسأل في الحضور، فأذن له وقدم، فأوصله المهتار زين الدين عبد الرحمن إلى السلطان في خفية، فرافع الوزير بما وغر عليه صدر السلطان، ونزل وقد رسم له أن ينزل عند الوزير، فأقام بداره وتحدث في الوزارة مع خواص السلطان، فثقل مقامه على الوزير، واستأذن الولاية بقطيا، وقرره في الوزارة، فنزل بزي الأمراء وسلم إليه ابن الطوخي، فأنزله من القلعة ومعه شاد الدواوين. وقبض على برهان الدين إبراهيم بن عبد الكريم الدمياطي ناظر المواريث بالقاهرة ومصر، وناظر الأهراء، وعلى المتقدم زين الدين صابر وشريكه على البديوي، فالتزم الدمياطي للوزير بأربعمائة ألف درهم، والتزم مقدماً الدولة بثلاثمائة ألف درهم، وتسلمهم الأمير شهاب الدين أحمد بن الحاج عمر قَطيَنة أستادار البيوت؛ ليخلص ذلك منهم.
شهر جمادى الأولى أوله الجمعة.
في رابعه: رسم بإحضار الأمير سيف الدين يلبغا الأحمدي المجنون من ثُغر دمياط، فتوجه لإحضاره سيف الدين بيغان الخاصكي.
وفي يوم الاثنين حادي عشره: استدعى الريس فتح الدين فتح اللّه بن معتصم بن نفيس الداودي - رئيس الأطباء - وخلع عليه، واستقر في كتابة السر عوضاً عن بدر الدين عمود الكلستاني بحكم وفاته. وفتح الله هذا كان جده نفيس يهودياً من أولاد نبي الله داود عليه السلام، فقدم من الوزير في أيام الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون إلى القاهرة، واختص بالأمير شيخو العمري وطلبه، وصار يركب بغلة بخف ومهماز، وهو على اليهودية. ثم أنه أسلم على يد السلطان حسن. وولد فتح الله بتوزير وقدم على جده، فكفله عمه بديع بن نفيس، وقد مات أبوه وهو طفل. ونشأ وعانى الطب إلى أن وفي رئاسة الأطباء بعد موت شيخنا علاء الدين علي بن صغير، واختص بالملك الظاهر، فولاه كتابة السر بعدما سئل فيها بقنطار من ذهب، فأعرض عنه، واختار فتح الله، مع علمه ببعده عن معرفة صناعة الإنشاء، وقال " أنا أعلّمه " فباشر ذلك، وشكره الناس.
وفي رابع عشره: خلع على جمال الدين يوسف الملطي الحلبي قاضي القضاة الحنفية، واستقر في تدريس المدرسة الصرغتمشية المجاورة للجامع الطولوني عوضاً عن الكلستاني.
وفيه وجد في تركة الكلستاني من الذهب المختوم ما زنته مائة رطل وعشرة أرطال مصرية، سوى الأثاث والثياب والكتب والخيول وغير ذلك.
وفي خامس عشره: استقر الأمير صارم الدين إبراهيم بن ناصر الدين محمد بن مقبل في ولاية مصر، عوضاً عن الأمير علم الدين سليمان الشهرزوري وأضيف إليه ولايتي الصناعة والأهراء والقرافتين.(2/494)
وورد البريد بوقوع الفتنة بين محمد بن عمر بن عبد العزيز الهواري وبين أصحاب علي بن غريب الهواري النازلين بالأشمونين. وذلك أن ابن عمر أراد إخراجهم من البلاد، فتحالف أصحاب ابن غريب الهواري الذين بالبحيرة وغيرها، مع فزارة وعرك وبني محمد. ووافقهم عثمان بن الأحدب، وكبسوا بأجمعهم كاشف الوجه القبلي، وقتلوا عدة مماليكه. ونجا بنفسه، فرسم بتجريد ستة من الأمراء المقدمين، وهم الأمير تغري بردي أمير سلاح، والأمير أرغون شاه أمير مجلس، وتمربُغا المنجكي أمير حاجب، والأمير أرسطاي رأس نوبة، والأمير بَكتمُر الركني، وسودن المارديني، ورسم بتجريد عدة من أمراء الطبلخاناه والعشرات. ورسم لكل من المقدمين بثلاثين ألف درهم، وبكل من الطبلخاناه - وهم عشرة - بعشرة آلاف درهم، ولكل من العشرات بخمسة آلاف درهم. فشرعوا في التجهيز إلى السفر، فحضر إلى القلعة فخر الدين عثمان بن الأحدب طائعاً، وشكا من ابن عمر، وأن العربان توجهوا بعد كسرة الكاشف إلى ناحية جرجا، وقاتلوا محمد بن عمر فكسرهم، وردوا مهزومين، فبطل سفر الأمراء. وفيه قدم البريد بموت الأمير سيف الدين صرغتمش المحمدي القزويني نائب الإسكندرية.
شهر جمادى الآخرة أوله السبت.
في عاشره: توجه على البريد شهاب الدين أحمد بن خاص ترك إلى دمشق، واستقر جمال الدين الهذباني في نيابة قلعة دمشق، عوضاً عن يَلو.
وفي يوم الجمعة رابع عشره: أركب الوزير ابن الطوخي حماراً وسار به الرسل إلى القلعة، فتمثل بين يدي السلطان، وطالبه مشافهة بالمال، فأنكر أن يكون له مال، وحلف بالله على ذلك، فلم يقبل قوله. وسلمه إلى الوزير تاج الدين بن أبي الفرج، فأنزله إلى داره، وعصره فتجلد ولم يعترف بشيء، فأخذ عبداً من عبيده وخوفه وهم بضربه، فدل على شعير وجد فيه أربعة آلاف دينار ونيف، ثم وجد في مكان آخر تتمة سبعة آلاف دينار، وضرب بعد ذلك فلم يعترف بشيء فقام في أمره القاضي سعد الدين إبراهيم بن غراب ناظر الجيوش وناظر الخاص، وتسلمه على أن يحمل سبعمائة ألف درهم، ونقله إلى داره، فشرع في بيع أثاثه وايراد المال.
وفي رابع عشرينه: استقر الأمير زين الدين فرج الحلبي أستادار الأملاك والذخيرة في نيابة الإسكندرية، وخرج إليها.
وفيه استقر الأمير قلطوبغا والي الشرقية كاشف الوجه البحري، وصرف علي بن الحريري. وخلع على الأمير علاء الدين على نائب الوجه البحري خلعة استمرار، وتدرك الطرانة بثمانمائة ألف درهم في السنة.
وفي خامس عشرينه: استقر الطبيب كمال الدين عبد الرحمن بن ناصر بن صغير، والطبيب شمس الدين عبد الحق بن فيروز في رئاسة الأطباء، عوضاً عن فتح اللّه كاتَب السر.
شهر رجب أوله الاثنين.
وفي ثانيه: استقر جقمق الصفوي في نيابة ملطية عوضاً عن دقماق المحمدي، وجهز تقليده وتشريفه على يد مقبل أمير خازندار، على البريد.
وفي رابعه: كتب لنائب قلعة حلب بأن يحمل مائة قرقل وخمسين بركستوان من خزانة السلاح بها إلى نائب يأذنه، أحمد بن رمضان، وحمل له أيضا مبلغ ألفي دينار.
وفي سادسه: رسم لبدر الدين المقدسي بقضاء الحنفية بدمشق عوضاً عن محيي الدين محمود بن أحمد بن الكشك، وتقي الدين إبراهيم بن محمد بن مفلح بقضاء الحنابلة بدمشق، عوضاً عن شمس الدين محمد النابلسي. واستقر الأمير يلبغا المجنون على إقطاع الأمير حسام الدين حسن بن على الكجكي، بحكم وفاته.
وفي يوم الاثنين ثامنه: دار المحمل، وبرز الأمير بيسق الشيخي بالريدانية ليكون أمير الحاج الرجبية، ورسم له بعمارة ما تهدم من المسجد الحرام، وخرج معه المعلم شهاب الدين أحمد بن طولوني المهندس، وبرز الناس شيئاً بعد شيء للحج.
وفي حادي عشره: استقر كاتبه أحمد بن علي المقريزي في حسبة القاهرة والوجه البحري، عوضاً عن شمس الدين محمد المخانسي.
وفي خامس عشره: استقر قاضي القضاة صدر الدين محمد بن إبراهيم المناوي الشافعي في قضاء القضاة بديار مصر، وصرف تقي الدين عبد الرحمن بن محمد الزبيري، ونزل معه دوادار السلطان الأمير بيبرس، والأمير فارس حاجب الحجاب، والأمير أرسطاي رأس نوبة، وفتح الدين كاتب السر إلى المدرسة الصالحية بين القصرين، فكان يوماً مشهوداً لم نر بعده لقاض مثله.
وفي سادس عشره: ركب البريد الأمير مشترك الخاصكي بتقليد نيابة غزة للأمير ألطنبغا قراقاش.(2/495)
وفي تاسع عشره: رحل ركب الحجاج من بركة الجب إلى مكة.
وفي ثاني عشرينه استقر الأمير يلبغا المجنون في وظيفة الأستادارية، وصرف الأمير ناصر الدين محمد بن سنقر البجكاوي، ونزل في خدمته نحو العشرين أميراً. واستقر ابن سنقر أستادار الأملاك والأوقاف، والذخيرة السلطانية، عوضاً عن أمير فرج نائب الإسكندرية.
وفي خامس عشرينه: كتب إلى الأمير تنم نائب الشام بالقبض على الأمير شهاب الدين أحمد بن الشيخ على نائب صفد، والأمير سيف الدين جُلْبان الكمشبغاوي أتابك دمشق، فورد المرسوم على النائب وهو بالغور، فاستدعى نائب صفد وقبض عليهما، وبعث بسيفهما إلى قلعة الجبل على العادة، وسجنا بقلعة دمشق. ورسم أن يستقر الأمير علاء الدين ألطبغا العثماني حاجب الحاجب بدمشق في نيابة صفد، فسار إليها في خامس شعبان، ونفل الأمير سيف الدين بَيقجاه الشرفي طيفور نائب غزة إلى دمشق، واستقر حاجب الحجاب بها، ونفل علاء الدين ألطبغا نائب الكرك لنيابة غزة. شهر شعبان أوله الأربعاء.
في خامسه: قرئ تقليد قاضي القضاة صدر الدين المناوي بالظاهرية الجديدة على العادة، وحضر القضاة والفقهاء والوزير تاج الدين، والأمير تمربغا المنجكي أمير حاجب، والأمير أينال باي بن قمجاس، وقرأه القاضي ناصر الدين محمد بن الصالحي أحد نواب الحكم، فخلع عليه القاضي سعد الدين بن غراب بعد فراغه من القراءة، وكان قد جلس بالقبة، ومعه الأمير أبو بكر أمير حاجب.
وفي تاسعه: استقر كمال الدين عمر بن العديم في قضاء الحنفية بحلب، وتوجه إليها من القاهرة، وكان قد قدم إليها بطلب. وخلع على سائر الأمراء المقدمين أقبية مقترح نخ، وهي أقبية الشتاء. وكان قد بطل ذلك منذ انقطع الركوب في الميادين نحو خمس عشرة سنة. وخلع على الأمير يلبغا السالمي أحد العشرات، واستقر في نظر خانقاه شيخو، عوضاً عن الأمير حاجب الحجاب فارس، لشكوى الصوفية من تأخر معاليهم مدة أشهر. واستقر الأمير علي بن مسافر نائب السلطنة بالوجه البحري، وخلع عليه عوضاً عن أمير علي السيفي.
وفي ليلة الاثنين ثالث عشره: - بالرؤية - خسف القمر جميِعه.
وفي رابع عشره: خلع على الأمير علاء الدين علي بن الحريري لولاية قوص عوضاً عن قطليجا بن أوزان، وعلى كزل المحمودي لولاية منوف، عوضاً عن علاء الدين علي بن مسافر وحمل جهاز خديجة بنت الأمير جهاركس الخليلي على ثلاثمائة وستين جلا، وعشرين قطارا بغالاً، إلى دار زوجها الأمير بيبرس الدوادار ابن أخت السلطان، وبني عليها الجمعة سابع عشره. وكتب لنائب حلب بأن يحمل إلى عثمان بن طور علي من المال الحاصل خمسين ألف درهم فضة مع الأمان المجهز له، وكتب لنائب صفد أن يحمل موجود الأمير أحمد بن الشيخ على نائب صفد، كان.
وفي ثالث عشرينه: خلع على القاضي أصيل الدين محمد بن عثمان الأشليمي واستقر في قضاء القضاة الشافعية بدمشق، عوضاً عن شمس الدين محمد بن الأخشاي على مال، فكتب إلى دمشق بأن يخلفه في الخطابة والقضاء شهاب الدين أحمد بن حجي، فناب فيهما عنه.
وفي رابع عشرينه: ترافع الأمير محمد بن عمر بن عبد العزيز الهواري أمير هوارة هو والأمير عثمان بن الأحدب، والأمير ألطنبغا والي العرب نائب السلطنة بالوجه القبلي بين يدي السلطان بالإصطبل، فظهر الحق مع محمد بن عمر، مْسُلم ألطبغا إلى الوزير ليصادره، وسلم ابن الأحدب وأولاده إلى الوالي، فسجنهم بخزانة شمايل، واستقر أمير على السيفي نائب السلطنة بالوجه القبلي.
وفي أخريات شعبان: رسم للقضاة بعرض الشهود الجالسين بالحوانيت للتكسب بالشهادة، فكتب نقباء القضاة أسماءهم، وشرع القضاة في عرضهم ليختبر حال كل منهم، ويبقى من عرف بحسن السيرة، ويمنع من تحمل الشهادة من جهل حاله أو عرف بسوء، فمنع جماعة، ثم أعيدوا بالرسائل وشفاعات الأكابر، فلم يتم الغرض.
شهر رمضان أوله الخميس.
في ثالثه: خلع على الأمير سيف الدين أوناط اليوسفي، واستقر كاشف الوجه البحري، وعزل قطلوبغا الخليلي.
وفي عاشره: خرج البريد لإحضار الشيخ ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون من قريته بالفيوم؛ ليستقر في قضاء القضاة المالكية، وكان قد سعى في ذلك شرف الدين محمد بن الدماميني الإسكندراني، بسبعين ألف درهم، فردها السلطان.(2/496)
وفي خامس عشره: حضر ابن خلدون وخلع عليه، واستقر في قضاء القضاة المالكية، عوضاً عن ناصر الدين محمد بن التنسي بعد موته، فشرع في عرض الشهود، وأغلق عدة حوانيت استجدت بعده. وهذه ولايته الثانية بعد ما أقام معزولاً نحو خمس عشرة سنة.
وفي سادس عشره: سافر قاضي القضاة أصيل الدين إلى دمشق على خيل البريد، بعد ما وزن نحو المائة ألف درهم تداين كثيراً منها.
وفي حادي عشرينه: استقر الأمير ركن الدين عمر بن علي الكوراني، في ولاية مصر، عوضاً عن الصارم إبراهيم بن مقبل بعد عزله.
وفي رابع عشرينه: كتب بالإفراج عن الأمير شهاب الدين أحمد بن الشيخ على من اعتقاله بقلعة دمشق، وأن يستقر في الأتابكية بدمشق، عوضاً عن الأمير جلبان.
وفي سابع عشرينه: أخرج الأمير علاء الدين علي بن الطبلاوي من خزانة شمايل، وسلم إلى الأمير يلبغا المجنون الأستادار، فاجتمع لخروجه من الناس عدد لا يحصيه إلا اللّه، وظنوا أنه قد أفرج عنه، فاشتروا من الزعفران، وأوقدوا من الشموع ما يبلغ منه ألوف الدراهم. فلما يئسوا منه انقلبوا خائبين، وكان هذا من جلة ذنوبه التي نقمت عليه.
وفي ثامن عشرينه: قدم أصيل الدين محمد بن عثمان إلى دمشق على البريد.
وفي هذا الشهر: ورد الخبر بأخذ تيمور لنك بلاد الهند، وأن سباياها أبيعت بخراسان بأبخس الأثمان، وأنه توجه من سمرقند إلى الهند في ذي الحجة من السنة الماضية.
شهر شوال أوله الجمعة: صلى السلطان صلاة عيد الفطر بالميدان على العادة، وصلى به قاضي القضاة صدر الدين محمد المناوي، وخطب، وخلع على الأمراء وسائر أرباب الدولة على العادة، فكان يوماً مشهوداً.
وفيه ورد البريد بموت رجب ابن الأمير كمشبغا الحموي في سابع عشرين رمضان، وموت أبيه الأمير الكبير كمشبغا من الغد في ثامن عشرينه، بسجن الإسكندرية. فابتهج السلطان لموته، ورأى أنه قد تم له أمره، فإنه آخر من كان قد بقي من الأمراء اليلبغاوية. وأقبل الناس في يوم العيد وما بعده على أنواع من اللهو في القرافة والترب خارج القاهرة، وبخرطوم الجزيرة الذي انحسر عنها ماء النيل ببولاق، فمر لهم فيه مسرات، وتفننوا في أنواع اللذات، وكأنما كانوا يودعون الأمن والراحات.
وفي خامسه: قدم الأمير دقماق نائب ملطية إلى دمشق معزولاً، وتوجه منها إلى القاهرة في حادي عشره على البريد.
وفي سادسه: أخرج ابن الطبلاوي من القاهرة منفياً إلى الكرك، ومعه نقيب واحد قد وكل به، فسار ذليلاً حقيراً وحيداً فريداً، فسبحان مزيل النعم. ومازال سائراً إلى أن وصل بلد الخليل - عليه السلام - فبلغه موت السلطان، فتوجه من بلد الخليل إلى القدس، فمر به الأمير شاهين كتك - يعنى الأفرم - وقد توجه إلى الكرك بخبر موت السلطان، وسلطنة ابنه بعده، فسأله أن يشفع له في الإقامة بالقدس. فلما ورد إلى قلعة الجبل سأل الأمير الكبير أيتمش في ذلك فأجابه، وكتب مرسوماً إلى ابن الطبلاوي أن يقيم بالقدس، فأقام، وكان من خبره ما يأتي ذكره إن شاء الله.
وفي يوم الثلاثاء خامسه: ابتدأ مرض السلطان. وذلك أنه ركب للعب الكرة بالميدان في القلعة على العادة. فلما فرغ منه قدم إليه عسل نحل ورد من كختا، فأكل منه ومن لحم بلشون، ودخل إلى قصوره، فعكف على شرب الخمر، فاستحال ذلك خلطاً ردياً لزم منه الفراش من ليلة الأربعاء، وتنوع مرضه حتى أًيس منه لشدة الحمى، وضعف القوى، فأرجفت بموته في يوم السبت تاسعه. واستمر أمره يشتد إلى يوم الأربعاء ثالث عشره، فشنع الأرجاف، وغلقت الأسواق، فركب الوالي ونادى بالإمعان. فلما أصبح يوم الخميس استدعى الخليفة المتوكل على اللّه أبا عبد اللّه محمد، وقضاة القضاة وسائر الأمراء - الأكابر والأصاغر - وجميع أرباب الدولة إلى حضرة السلطان، فحدثهم في العهد لأولاده. فابتدأ الخليفة بالحلف للأمير فرج ابن السلطان أنه هو السلطان بعد وفاة أبيه، ثم حلف بعده القضاة والأمراء.(2/497)
وتولى تحليفهم كاتب السر فتح الدين فتح اللّه، وكان منذ نزل بالسلطان مرضه أقام عنده ليلاً ونهاراً لثقته به. فلما تم الحلف لفرج حلفوا أن يكون القائم بعد فرج أخوه عبد العزيز، وبعد عبد العزيز أخوهما إبراهيم، ثم كتبت وصية السلطان، فأوصى لزوجاته وسراريه وخدامه. بمائتي ألف دينار وعشرين ألف دينار، وأن تعمر له تربة تحت الجبل بجوار تربة الأمير يونس الدوادار خارج باب النصر بثمانين ألف دينار، ويشترى بما يفضل عن العمارة عقار ليوقف عليها، وأن يرفن بها في لحد تحت أرجل الفقراء الذين بحوش الخليلي، وهم علاء الدين علي السيرامي، وأمين الدين الخلوتي وعبد الله الجبرتي، وعبد الكريم الجبرتي، وطلحة وأبو بكر البجائي، وأحمد الزهوري. وقرر أن يكون الأمير الكبير أيتمش هو القائم بعده بتدبير دولة ابنه فرج. وجعله وصياً على تركته، ومعه الأمير تغري بردي أمير سلاح، والأمير بيبرس الدوادار، والأمير يشبك الخازندار، وفتح الدين فتح اللّه كاتب السر، والأمير ناصر الدين محمد بن سنقر البجكاوي، وسعد الدين إبراهيم بن غراب، والأمير قطلوبغا الكركي، والأمير يلبغا السالمي. وجعل الخليفة ناظراً على الجميع. فلما تقرر ذلك انفض الجميع ونزل الأمراء بأسرهم في خدمة الأمير أيتمش إلى منزله. فوعدهم بخير، وأنه يبطل المظالم وأخذ البراطيل على المناصب والولايات. وأكثر السلطان من الصدقات، فبلغ ما تصدق به في هذه المرضة أربعة عشر ألف دينار وتسعمائة دينار وستة وتسعين ديناراً.
ومات بعد نصف ليلة الجمعة خامس عشر شوال، وقد تجاوز الستين سنة، منها مدة حكمه بديار مصر منذ صار أتابك العساكر، عوضاً عن الأمير طشتمر العلاي الدوادار، إلى أن جلس على تخت السلطة أربع سنين وتسعة أشهر وعشرة أيام. ومنذ تسلطن إلى أن مات ست عشرة سنة وأربعة أشهر وسبعة وعشرون يوماً، منها سلطته إلى أن خلع ست سنين وثمانية أشهر وعشرون يوماً، وسلطته منذ أعيد إلى أن مات تسع سنين وثمانية أشهر. والفترة بينهما ثمانية أشهر وتسعة أيام، ومدة حكمه أتابكاً وسلطاناً إحدى وعشرون سنة وعشرة أشهر وستة عشر يوماً.
وترك ثلاثة أولاد ذكور: الأمير فرج وتسلطن من بعده، وعبد العزيز وتسلطن أيضاً: وإبراهيم ومات - هو وعبد العزيز - في حياة أخيهما فرج وسلطته الثانية، بثغر الإسكندرية، واتهم فرج بأنه سمهما. وخلف برقوق ثلاث بنات تزوجن من بعده.
وترك من الذهب العين ألف ألف دينار وأربعمائة ألف دينار، ومن الغلال والنقود والأعسال والسكر والثياب وأنواع الفرو ما قيمته ألف ألف وأربعمائة ألف دينار. ومن الجمال نحو خمسة آلاف جمل. ومن الخيل نحو سبعة آلاف فرس.
وبلغت جوامك مماليكه في كل شهر نحو تسعمائة ألف درهم فضة، وعليق خيولهم في الشهر ثلاثة عشر ألف أردب شعيراً، وعليق الخيل الخاص وجمال النفر، وأبقار السواقي في كل شهر أحد عشر ألف أردب من الشجر والفول، وبلغت عدة مماليكه خمسة آلاف مملوك.
وكان نائبه بديار مصر الأمير سودن الفخري الشيخوني إلى أن مات فلم يستنب بعده أحداً.
ونوابه بدمشق الأمير بيدمر الخوارزمي وعَشَقتمُر المارديني، وألطنبغا الجوباني وطُرْنطاي السيفي، وَيْلبغا الناصري، وبطا الطولوتمري، وسودن الطرنطاي، وكُمُشبغا الأشرفي، وتاني بك المعروف بتنم الحسني، ومات السلطان وهو على نيابة دمشق. ونوابه بحلب يلبغا الناصري، وسودن المظفري، وكُمُشْبُغا الحموي، وقرا دمرداش الأحمدي، وجلبان الكُمُشبغاوي، وتغري بردي من يشبغا، وأرغون شاه الإبراهيمي وأقْبُغا الجمالي، ومات السلطان وهو على نيابة حلب.(2/498)
ونوابه بطرابلس مأمور القلمطاوي، وكُمُشبُغا الحموي، وأسندمر السيفي، وقرا دمرداش الأحمدي، وأينال بن خجا علي، وإياس الجرجاوي، ودمرداش المحمدي، وأرغون شاه الإبراهيمي، وأقبغا الجمالي، ويونس بُلطا. ومات السلطان وهو على نيابة طرابلس. ونوابه بصفد، أُرُكماس السيفي، وبُتْخاص السودوني، وأرغون شاه الإبراهيمي، وأقبغا الجمالي، وأحمد بن الشيخ علي، وألطنبغا العثماني، ومات السلطان وهو على نيابة صفد. ونوابه بحماة صَنجَق الحسني، وسودن المظفري، وسودن العلاي، وسودن العثماني، وناصر الدين محمد بن مبارك بن المهمندار، ومأمور القلمطاوي، ودمرداش المحمدي، وأقبغا السلطاني الصُّغَيَّر، ويونس بلطا، ثم دمرداش المحمدي، ومات السلطان وهو على نيابة حماة. ونوابه بالكرك طغاي تمر القبلاوي، ومأمور القلمطاوي، وقديد القلمطاوي، ويونس القَشْتَمُري، وأحمد بن الشيخ علي، وبتخاص السودوني ومحمد بن مبارك المهمندار، وألطبغا الحاجب، وسودن الظريف الشمسي، ومات السلطان وهو على نيابة الكرك. ونوابه بغزة قُطْلُوُبغا الصفوي، وأقبغا الصُغَيَّر، ويلبغا القَشْتَمُري، وألطنبغا العثماني، وبيقجاه الشرفي طيفور، وألطنبغا الحاجب، ومات السلطان وهو على نيابة غزة.
وأستاداريته بديار مصر بَهادُر، ومحمود بن علس،وقرقماس الطشتمري وعمر بن محمد بن قايماز، وقطلو بك العلاي، ويَلْبغُا الأحمدي المجنون، ومحمد بن سنقر البجكاوي، ثم يَلْبغُا المجنون ثانياً، ومات السلطان وهو أستادار.
وقضاته الشافعية بديار مصر برهان الدين إبراهيم بن جماعة، وبدر الدين محمد بن أبي البقاء، وناصر الدين محمد بن المليق، وعماد الدين أحمد الكركي وصدر الدين محمد المناوي، وتقي الدين عبد الرحمن الزبيري، ثم المناوي ثالث مرة، ومات السلطان وهو قاض. وقضاته صدر الدين محمد بن منصور الدمشقي، وشمس الدين محمد الطرابلسي، ومجد الدين إسماعيل بن إبراهيم، وجمال الدين محمود القيصري، وجمال الدين يوسف الملص، ومات السلطان وهو قاض. وقضاته المالكية جمال الدين عبد الرحمن بن خير السكندري، ثم ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون، وشمس الدين محمد الركراكي المغربي، وشهاب الدين أحمد النحريري، وناصر الدين محمد بن التنسي، ثم ابن خلدون ثانياً، ومات السلطان وهو قاض. وقضاته الحنابلة ناصر الدين العسقلاني، ثم ابنه برهان الدين إبراهيم، ومات السلطان وهو قاض. وقضاته الشافعية بدمشق ولي الدين عبد اللّه بن أبي البقاء، وبرهان الدين إبراهيم بن جماعة، وشرف الدين مسعود، وشمس الدين محمد بن الجزري وشهاب الدين الزهري، وعلاء الدين علي بن أبي البقاء، وشهاب الدين أحمد الباعوني، وشمس الدين محمد الأخناي، وأصيل الدين محمد ومات السلطان وهو قاض.
ووزراؤه بديار مصر علم الدين عبد الوهاب سن إبرة، وشمس الدين إبراهيم كاتب أرلان، وعلم الدين عبد الوهاب أبن كاتب سيدي، وكريم الدين عبد الكريم بن الغنام، وموفق الدين أبو الفرج، وسعد الدين نصر الله بن البقري، وناصر الدين محمد بن الحسام، وركن الدين عمر بن قايماز، وتاج الدين عبد الرحيم بن أبي شاكر، وناصر الدين محمد بن رجب، ومبارك شاه، وبدر الدين محمد بن الطوخي، وتاج الدين عبد الرزاق، ومات السلطان وهو وزير.
وكتاب سره بدر الدين محمد بن فضل الله، وأوحد الدين عبد الواحد بن ياسين، وعلاء الدين علي الكركي، وبدر الدين محمود الكستاني، وفتح الدين فتح الله، ومات السلطان وهو كاتب السر.
ونظار الجيش، تقي الدين عبد الرحمن بن محب الدين، وموفق الدين أبو الفرخ، وجمال الدين محمود القيصري، وكريم الدين عبد الكريم بن عبد العزيز، وشرف الدين محمد بن الدماميني، وسعد الدين إبراهيم بن غراب، ومات السلطان وهو ناظر الجيش، وناظر الخاص أيضاً.
ونظار الخاص سعد الدين نصر الله بن البقري، وموفق الدين أبو الفرج الوزير، وسعد الدين أبي الفرج بن تاج الدين موسى كاتب السعدي، وسعد الدين إبراهيم بن غراب ناظر الجيش، وماتَ السلطان وهو ناظر الخاص والجيش.(2/499)
وكان برقوق جركسي الجنس، قدم إلى مصر مع خواجا عثمان، فاشتراه الأمير يلبغا، وحماه برقوق، بعد أن كان اسمه من بلاد القرم سودن، وأعتقه. فلما قتل يلبغا وسجن بالكرك مدة، ثم أفرج عنه، فسار إلى دمشق، وخدم عند نائبها الأمير منجك، ثم استدعي إلى مصر واستخدم عند الأمير علي بن الأشرف إلى أن قتل الأشرف.
وكانت أيام الأمير أينَبَك، استقر من جملة أمراء الطبلخاناه، ثم ركب في أخواته، وملك باب السلسة، وصار أمير أخور، وأقام بالإصطبل السلطاني. ثم صار أميراً كبيراً، وترقى حتى ملك تخت مصر، وتلقب بالملك الظاهر، ثم خلع ونفي إلى الكرك فسجن بها، ثُم أخرجه عوام الكرك، وسار إلى دمشق، وجمع الناس وعاد إلى مصر، فملك التخت ثانياً. وقد تقدم جميع ذلك في تواريخه.
وكان ملكاً حازماً، شهماً، صارماً، شجاعاً، مقدما، فطناً، له خبرة بالأمور ومهابة عظيمة، ورأي جيد ومكر شديد، وطمع زائد. وكان يحب الاستكثار من المماليك، ويقدم الجراكسة على الأتراك والروم، ويشره في جمع المال، بحيث لم يشبع منه، ويرغب في اقتناء الخيول والجمال وكان كثير التؤدة، لا يكاد يجعل في شيء من أموره، بل يتروى في الشيء المدد الطويلة، ويتصدى للأحكام بنفسه، ويباشر أحوال المملكة كلها، ويجل أهل الخير ومن ينسب إلى الصلاح. وكان يقوم للفقهاء والصلحاء إذا دخل أحد منهم عليه، ولم يكن يعهد ذلك من ملوك مصر قبله. وتنكر للفقهاء في سلطنته الثانية من أجل أنهم أفتوا بقتله، فلم يترك إكرامهم قط مع شدة حنقه عليهم.
وكان كثير الصدقات وقف ناحية بهبيت من الجيزة على سحابة تسير مع الركب إلى مكة في كل عام، ومعها جمال تحمل المشاة من الحاج، ويصرف لهم ما يحتاجون إليه من الماء والزاد ذهاباً وإياباً. ووقف أرضاً على قبور أخوة يوسف - عليه السلام - بالقرافة. وكان يذبح دائماً. طول أيام إمارته وسلطنته في كل يوم من أيام شهر رمضان خمسة وعشرين بقرة، يتصدق بها بعد ما تطبخ، ومعها آلاف من أرغفة الخبز النقي، على أهل الجوامع والمشاهد والخوانك والربط وأهل السجون، لكل إنسان رطل لحم مطبوخ وثلاثة أرغفة من نقي البر، سوى ما كان يفرق في الزوايا من لحم الضأن، فيعطى في كل يوم لكل زاوية خمسون رطلاً وعدة أرغفة خبز، وفيهم من يعطى أكثر من ذلك بحسب حالهم، ويفرق كل سنة على نحو عشرين زاوية لكل زاوية ألف درهم فضة، ويفرق كل سنة في أهل العلم والصلاح مائتين ألف درهم الواحد، إلى مائة دينار ذهباً. ومنهم من له أقل من ذلك بحسب حاله، ويفرق في فقراء القرافتين لكل فقير من دينارين إلى أكثر وأقل، ويفرق في الخوانك وغيرها كل سنة مالاً كثيراً. وكان يفرق في كل سنة ثمانية آلاف أردب قمحاً على أهل الخير وأرباب الستر. ويبعث في كل سنة إلى الحجاز ثلاثة آلاف أردب قمحاً تفرق بالحرمين. وفرق في مدة الغلاء كل يوم أربعين أردباً، منها ثمانية آلاف رغيف، فلم يمت فيه أحد بالجوع، فما علمنا. وكان يبعث كل قليل بجملة من الذهب تفرق في الفقراء والفقهاء، حتى أنه تصدق مرة بخمسين ألف دينار ذهباً على يد الطواشي صندل المنجكي.
وأبطل عدة مكوس، منها ما كان يؤخذ من أهل شورى، وبلطيم من البرلس شبه الجمالية، وهو في كل سنة مبلغ ستين ألف درهم، وأبطل ما كان يؤخذ على القمح بثغر دمياط غماً يبتاعه الفقراء وغيرهم من أردبين إلى ما دون ذلك. وأبطل مكس معمل الفراريج بالنحريرية وما معها من الغربية، وأبطل مكس الملح بعين تاب من عمل حلب، ومكس الدقيق بالبيرة. وأبطل من طرابلس ما كان مقرراً على قضاة البر وولاة الأعمال، عند قدوم النائب، وهو مبلغ خمسمائة درهم على كل منهم، أو بغلة بدل تلك. وأبطل ما كان يقدم لمن يسرح إلى العباسة خارج القاهرة في كل سنة من الخيل والجمال، والغنم. وأبطل ما كان يؤخذ على الدريس والحلفاء بباب النصر خارج القاهرة. وأبطل ضمان المغاني بمدينة الكرك والشوبك وبمدينة بني خصيب وأعمال الأشمونين وزفتا ومنية غمر من أعمال مصر. وأبطل رمي الأبقار - بعد الفراغ من عمل الجسور بأراضي مصر - على البطالين بالوجه البحري.(2/500)
وأنشأ بالقاهر مدرسة لم يعمر مثلها بالقاهرة، ورتب بها صوفية بعد العصر كل يوم، وجعل بها سبعة دروس لأهل العلم، أربعة يلقى بها الفقه على المذاهب الأربعة، ودرس تفسير القرآن، ودرس الحديث النبوي، ودرس للقراءات، وأجرى على الجميع في كل يوم الخبز النقي ولحم الضأن المطبوخ. وفي كل شهر الحلوى والزيت والصابون والدراهم، ووقف على ذلك الأوقاف الجليلة من الأراضي والدور ونحوهما. وعمر جسراً على نهر الأردن بالغور في طريق دمشق، طوله مائة وعشرون ذارعاً، في عرض عشرين ذراعاً. وجدد خزائن السلاح بثغر الإسكندرية، وسرر دمنهور بالبحيرة. وعمر الجبال الشرقية بالفيوم، وزريبة البرزخ بدمياط، وقناة العروب بالقدس، وأنشأ به أيضاً بركة كبيرة. وعمر بركة أخرى برأس وادي بني سالم، في طريق المدينة النبوية، يردها الحاج. ورم القناة التي تحمل ماء النيل إلى قلعة الجبل، حتى صلحت بعد ما أعيت من تقدمه من الملوك. وجمد عمارة الميدان تحت قلعة الجبل بعد ما خرب، وسقاه وزرع به القُرْط وغرس فيه النخل، وعمر صهريجاً، ومكتباً يقرأ فيه الأًيتام القرآن الكريم بقلعة الجبل، وجعل عليه وقفاً داراً، وعمر بها أيضاً طاحوناً. وعمر أيضاً سبيلاً تجاه باب الضيافة تحت قلعة الجبل.
وخطب على منابر توزير عندما أخذها قرا محمد وضرب الدنانير والدراهم فيها باسمه، وبعثها إلى حضرته بقلعة الجبل. وخطب له على منابر الموصل، وعلى منابر ماردين، ومنابر سنجار وأخذت عساكره دوركى وأرزنكان من أرض الروم. ورثاه عدة من الشعراء، رحمه الله تعالى.
السلطان زين الدين أبو السعادات
السلطان الملك الناصر زين الدين أبو السعادات فرج بن الملك الظاهر سيف الدين أبي سعيد برقوق بن الأمير الكبير سيف الدين آنص الجركسي ثاني ملوك الجراكسة بمصر جلس على تخت الملك بقلعة الجبل صبيحة موت أبيه، يوم الجمعة النصف من شوال، سنة إحدى وثمانمائة.
وذلك أنه اجتمع بالقلعة الأمير الكبير أيتمش وسائر الأمراء وأرباب الدولة، واستدعى الخليفة وقضاة القضاة، وشيخ الإسلام البلقينِي، ومن عادته الحضور. فلما تكاملوا بالإصطبل السلطاني أحضر فرج بن الملك الظاهر برقوق، وخطب الخليفة وبايعه بالسلطة، وقلده أمور المسلمين، فقبل تقليده. وأحضرت خلعة سوداء، أفيضت على فرج، ونعت بالملك الناصر. ومضى حتى جلس على التخت بالقصر، وقبل الأمراء كلهم له الأرض على العادة، وألبس الخليفة التشريف.
وأخذ بعد ذلك في جهاز الملك الظاهر، فغُسل وكفُن، وصَفي عليه بالقلعة قاضي القضاة صدر الدين محمد المناوي، وحُمل نعشه على الأعناق من قلعة الجبل إلى التربة قبل صلاة الجمعة، وسائر الأمراء والعساكر والأعيان والرعايا مشاة، يضجون ويصرخون، حتى وري تحت التراب تحت أقدام الفقراء حيث أوصى. ولم يعهد قبله أحد من الملوك، دفن نهاراً بديار مصر.
فلما انقضى أمر دفنه عاد الأمراء، ونودي بالقاهرة ومصر بالترحم على الملك الظاهر، والدعاء للملك الناصر، وتطمين الناس وأمنهم. وخطب يومئذ على منابر القاهرة ومصر للناصر، وكثر الأسف على فقد الظاهر، وضربت خيمة على قبره، وقرأ القراء القرآن على قبره، وكان الناس يظنون قيام فتنة عظيمة لموته. فلم يتحرك ساكن في هذا اليوم.
وأنشد الأديب المقرئ شهاب الدين أحمد بن عبد اللّه بن الحسن الأوحدي في ذلك:
مضى الظاهر السلطان أكرم مالك ... إلى ربه يرقى إلى الخلد في الحرج
وقالوا ستأتي شدة بعد موته ... فأكذبهم ربي وما جاء سوى فرج
وفي هذا اليوم. بشر بزيادة ماء النيل، وأن القاع أربعة أذرع ونصف.
وفيه أراد الأمير الكبير أيتمش أن يتحول من داره إلى الحراقة بالإصطبل السلطاني. فمنع من ذلك الأمير سودون أمير أخور، ورد ما حضر من قماش الأمير أيتمش، فاستدعى، إلى حضرة السلطان، فامتنع.
وفي رابع عشره: كتب إلى مكة كتاب بالعزاء والهناء، وان تقليد الشريف حسن بن عجلان يصل صحبة أمير الحاج، وكتب إلى الأمير بيسق بذلك، وإلى أمير المدينة النبوية أيضاً.
وفي يوم السبت سادس عشره: اجتمع أيتمش والأمراء بالقلعة لتقرير أحوال الدولة، فكتب بالعزاء والهناء إلى مملكة الشام وغيرها.
وكتب إلى الأمير نعير بن حيار بإمرة آل فضل على عادته.(3/1)
وعزل الأمير شمس الدين محمد بن عنقاء بن مهنا، وعرف بموت الظاهر وقيام الملك الناصر، وحُمل إليه التشريف على يد الأمير أسنبغا الدوادار.
وجهز سودون الطيار أمير أخور بالكتب إلى دمشق ومعه تشريف وتقليد ونسخة يمين، وستة أروس خيل. وجهز الأمير يلبغا الناصري إلى حلب بمثل ذلك، والأمير تغري بردي قرا إلى طرابلس بمثل ذلك، والأمير أرتبغا الحافظي إلى حماة، ومعه خمسة أروس من الخيل، والأمير بشباي إلى صفد، والأمير شاهين كتك الأفرم إلى الكرك؛ وعلى يد كل منهم كتاب يتضمن العزاء بالظاهر والهناء بالناصر. وأن يحلف نائب السلطة والأمراء على العادة، فساروا على خيل البريد.
وقرر الأمير أيتمش مع الأمراء إبقاء الأمور على ما هي عليه، وأكد على الوزير تاج الدين عبد الرزاق، والأمير يلبغا الأستادار في الكف عن ظلم الرعية، وتجهيز القسط والجامكية والعليق برسم المماليك السلطانية.
وفي ثامن عشره: خرج المحمل إلى الحج، صحبة الأمير شيخ المحمودي، وجعل أمير المحمل. وقدم أمير الركب الأول الأمير الطواشي سيف الدين بهادر مقدم المماليك.
وفيه اجتمع الأمراء بالقلعة على عادتهم للخدمة، وتأخر الأمير سودون أمير أخور عن الحضور، فبعث الأمراء إليه ليحضر، فامتنع، فكرروا الإرسال إليه ثلاث مرات، إلى أن حضر، فكلموه في النزول من الإصطبل، فلم يجبهم إلى ذلك، فتخيلوا منه، واتهموه أنه يريد إثارة فتنة، فقبضوا عليه وعلى الأمير علي بن أينال، وأخرجوا ما كان له بالإصطبل من خيول وقماش ونحو ذلك.
وسكن الأمير أيتمش مكانه، وأنزل بسودون وابن إينال مقيدين إلى الحراقة، وجهزا إلى الإسكندرية، فسجنا بها.
وفي العشرين منه نودي بالقاهرة ومصر بخروج طائفة العجم من مصر، وهدد من تأخر بعد ثلاثة أيام بالقتل، فلم يخرج منهم أحد، وسكت عن ذلك. مما بلغ الأمراء عن الخاصكية أنهم قد اتفقوا على القبض عليهم عند طلوعهم إلى الخدمة بالقلعة، فكثر خوفهم.
وخُلع على الأمير يشبك الشعباني الخازندار واستقر لالا السلطان، ومعه الأمير قطلوبغا الكركي، لالا أيضاً.
فلما كان يوم الخميس حادي عشرينه: جلس السلطان بدار العدل على عادة الملوك، وخلع على الأمير أيتمش، وعلى الأمير تغري بردي أمير سلاح، والأمير بيبرس الدوادار، والأمير أرغون شاه أمير مجلس، والأمير أرسطاي رأس نوبة، والأمير يلبغا إستادار، والوزير تاج الدين، والأمير ناصر الدين محمد بن سنقر، والأمير فارس حاجب الحجاب، والأمير تمربغا المنجكي أمير حاجب، ومد السماط على العادة.
ودخل السلطان من دار العدل إلى القصر. وجلس القضاة بجامع القلعة حتى يخلع عليهم وعلى بقية أرباب الدولة. فعندما تكامل الأمراء بالقصر أغلق الخاصكية باب القصر، وكان رأسهم يومئذْ سودون طاز، وسودون بن زاده، وأقباي رأس نوبة، وجهاركس المصارع. ثم سلوا سيوفهم وهجموا على الأمراء، وقبضوا على أرسطاي وتمراز الناصري وتمربغا المنجكي وطغنجى وبلاط السعدي وطولو رأس نوبة وفارس الحاجب. وفر مبارك شاه وطبج، فأدركا وقبض عليهما.
وبلغ ذلك يلبغا أستادار - وكان خارج القصر - فخلع خلعته، وسل سيفه، ونزل من القلعة إلى داره.
وأحضر الخاصكية الأمراء المقبوض عليهم إلى عند الأمير أيتمش - وقد بهت وأسكت - فقيدوا أرسطاي رأس نوبة، وتمراز، وتمربغا المنجكي، وطغنجي أحد أمراء الطبلخاناه، وطولو، وبلاط من الطبلخاناه أيضاً. وأطلقوا من عداهم. واستدعي يلبغا أستادار، فلما حضر قبض عليه، وقيد. وأنزل بالأمراء المقبوض عليهم إلى الحراقة فأحضروا إلى الإسكندرية في ليلة السبت ثالث عشرينه، ارسطاي، وتمراز، وطولو.
وأحضروا إلى دمياط تمربغا المنجكي، وبلاط السعدي، وطغنجى الأشرفي. وعصروا الأمير يلبغا ليحضر المال، وأسلموه إلى القاضي سعد الدين إبراهيم بن غراب ليحاسبه، فنزل به إلى داره. وسألوا يلبغا السالمي بوظيفة الأستادارية، فامتنع، فعرضوها على ابن سنقر وابن قطينة فلم يوافقا، فخلع على الأمير زين الدين مبارك شاه، واستَقر أستاداراً، عوضاً عن يلبغا المجنون، في ثالث عشرينه.
وفيه أمر بالنفقة على المماليك، فتولى الإنفاق عليهم يلبغا السالمي، وأعطى بحضرة السلطان كل مملوك من أرباب الخدم الجوانية ستين ديناراً، صرف كل دينار ثلاثين درهماً وكل واحد من أرباب الأشغال البرانية خمسمائة درهم.(3/2)
ونودي أن يكون سعر الدينار ثلاثين درهماً، فإن الناس كانوا قد توقفوا في الذهب بعد موت السلطان، وانحط من ثلاثين إلى ثلاثة وعشرين درهماً الدينار فشق ذلك على الناس، وخافوا الخسارة، لما كانوا يظنونه من انحطاط سعر الذهب، فجاء الأمر بخلاف ما في ظنونهم. ولم يزل يرفع حتى بلغ ما لم يكن في بال أحد قط.
وفي يوم الاثنين خامس عشرينه: تأخر سائر الأمراء الألوف عن حضور الخدمة بالقلعة، خوفاً من الخاصكية، فإن الأمور صارت معذوقة بهم، فبعث الخاصكية إلى الأمراء بالحضور، فأبوا من ذلك. فنزل حينئذٍ الخاصكية إلى الإصطبل في خدمة الأمير أيتمش، واستدعوا الأمراء من منازلهم، فحضروا وكثر الكلام بينهم إلى أن اتفقوا جميعاً وتحالفوا على الائتلاف، وطاعة الأمير الكبير أيتمش، والملك الناصر. وحلف لهم أيتمش أيضاً، ثم حلفوا سائر المماليك والخدام، وتولى ذلك يلبغا السالمي، وقام أيضاً في أمر المرتجع من إقطاعات الأمراء حتى تقرر أن يكون المرتجع من الأمير المقدم خمسين ألف درهم، ومن الطبلخاناه عشرين ألف درهم.
ومن أمير عشرين عشرة ألاف ومن أمير عشرة خمسة آلاف، ومن أمير خمسة ألفين وخمسمائة، وكتب بذلك مرسوم سلطاني خلد في الدواوين.
وفيه خلع على الأمير قطلوبغا الحسني الكركي شاد الشرابخاناه، عوضاً عن سودون المارديني، مضافاً لما بيده. وأنعم على الأمير قراكسك بتقدمة ألف.
وفي يوم الثلاثاء سادس عشرينه: خلع على الوزير تاج الدين عبد الرزاق، واستقر أستاداراً، عوضاً عن مبارك شاه بحكم استعفائه، فباشر الوظيفتين.
وفيه كتب مرسوم باستمرار الأمير قرا يوسف في نيابة الرها على عادته. وباستمرار الأمير دمشقَ خجا في نيابة جعبر على عادته.
وفي ليلة الأربعاء سابع عشرينه: هرب الأمير شهاب الدين أحمد بن الزين والي القاهرة، فخلع على شرف الدين عيسى فلان الشامي عوضه، في يوم الأربعاء. وقبض على ابن الزين وسلم إليه. وكادت العامة أن تقتله لبغضهم فيه، فضرب بالمقارع ضرباً مبرحاً عند فلان، وألزم بحمل أربعمائة ألف درهم.
وفيه ورد الخبر بأن بايزيد بن عثمان ملك الروم تحرك للمشي على بلاد الشام، وأن تمرلنك القائم ببلاد العجم أخذ ممالك الهند.
وفي ثامن عشرينه: ورد الخبر بأن الأمير تنم نائب الشام أخذ قلعة دمشق، وذلك إنه كان بالمرج من غوطة دمشق، فلم يشعر الناس به في ليلة الأربعاء - العشرين منه - حتى حضر إلى دار السعادة ثلث الليل.
فلما أصبح استدعى الأمير جمال الدين يوسف الهذباني نائب القلعة، بحجة أن الملك الظاهر طلبه، فعندما نزل إليه قبض عليه وبعث من تسلم القلعة فكثر كلام الناس إلى أن أذن الظهر، وصل فارس دوادار تنم من مصر، وأخبر بموت الملك الظاهر، وإقامة ابنه الناصر، وتحكم الأمير أيتمش، وأن سودون الطيار قادم بالخلعة والتقليد. فخرج الأمير تنم إلى لقائه، ولبس الخلعة خارج المدينة. واجتمع القضاة والأعيان بدار السعادة. وقرئ عليهم كتاب السلطان الملك الناصر، فأجابوا بالسمع والطاعة ونودي في البلد بالأمان والزينة، فزينت الأسواق، ودقت الكوسات، وسر الناس بذلك.
وأخذ الأمير تنم يصرح بأن السلطان صغير، وكل ما يصدر ليس هو عنه، وإنما هو عن الأمراء وأنا وصى السلطان، لا يعمل شيء إلا بمراجعتي، ونحو هذا. فترقب الناس بدمشق وقوع الفتنة، وبلغ هذا نائب حمص، فأخذ القلعة، وأخذ أيضاً نائب حماة قلعتها.
شهر ذي القعدة، أوله الأحد: في ثانيه: ركب طغيتمر - مقدم البريدية - البريد، ومعه ملطفات لأمراء الورسق والأمراء الأوجقية، ومطلق لنواب المماليك والقلاع، ومثال لأحمد بن رمضان نائب أذنة، ولأمراء التركمان، ولنائب حلب ونائب سيس، وصحبته أقبية مطرزة بفرو وخمس عشرة قطعة، وفوقانيات حرير بأطرزة زركش أربع وعشرون قطعة، وتشاريف عدة كثيرة.
وفي ثالثه: فرغ تحليف المماليك.
وفيه أنعم على الأمير سيف الدين أينال باي بتقدمة ألف، وخبز أرسطاي. وعلى سودون من علي بك - المعروف بطاز - بتقدمة تمراز، وعلى يلبغا الناصري بتقدمة سودون أمير أخور، وعلى أقباي بن حسين شاه بتقدمة تمربغا المنجكي.(3/3)
وأنعم على الأمير شرف الدين يعقوب شاه بطبلخاناه زيادة على طبلخاناته فصارت تقدمة ألف بثمانين فارساً، وأنعم على كل من قرابغا الأسنبغاوي وينتمر المحمدي، وأقباي الأينالي بإمرة طبلخاناه، وعلى الأمير جرباش الشيخي بإقطاع يلبغا المجنون بخمسين فارساً، وعلى أقبغا المحمدي بطبلخاناه، وعلى كل من تمر الساقي، وجركس المصارع، وأينال حطب، وكمشبغا الجمالي، وألطنبغا الخليلي، وكزل البشمقدار، وقاني باي العلاي، وجكا من عوض، وصوماي الحسني بإمرة عشرة.
وفي خامسه: جلس السلطان بدار العدل، وحضر الأمراء، والقضاة وسائر أرباب الدولة على العادة.
وفي سابعه: خلع على سودون المارديني، واستقر رأس نوبة كبيراً، عوضاً عن أرسطاي، وعلى يعقوب شاه واستقر حاجباً ثانياً عوضاً عن تمربغا المنجكي، وعلى كل من سودون بن زاده، وتنكز بغا الحططي، وخاير بك من حسين شاه، وبشباي وجكم، وأقيغا المحمدي الأشقر، واستقروا رؤوس نوب.
وفي ثامنه: نودي على النصب بأن يكون صرف الدينار الإفرنتي بثمانية وعشرين درهماً، والهرجة بثلاثين درهماً، وكان قد انحط سعره، فشق ذلك على الناس وتغيب الصيارفة وتوقفت أحوال الناس.
وفي تاسعه: خلع على قرابغا الأسنبغاوي، وسمذ المحمدي، ومقبل، وعملوا حجاباً، فصارت الحجاب ستة. وخلع على تمان تمر الأشقتمري بنيابة قلعة دمشق ثم بطل أمره. وحضر الأمير سيف الدين دقماق نائب ملطية بتقادم كثيرة.
وخلع على برهان الدين إبراهيم بن علي التادلي، وأعيد إلى قضاء المالكية بدمشق، عوضاً عن البرهان القفصي.
وفي ثاني عشره: - خلع على جرباش الشيخي، وتمان تمر واستَقرا من رؤوس النوب. وخلع على كزل المحمدي البشمقدار - المعروف بالعجمي الأجرود - واستقر أستادار الصحبة، عوضاً عن قرابغا الأسنبغاوي، وعلى سعد الدين أبي الفرج بن تاج الدين موسى بن كاتب السعدي، واستقر ناظر الإصطبلات السلطانية. وعلى كل من الطواشيين شاهين السعدي الأْشرفي وعبد اللطيف الشرفي، وصارا لالا السلطان.
وعلى الأمير ناصر الدين محمد بن علي بن كلفت، واستقر نقيب الجيش وعلى علاء الدين على بن قرط بولاية أطفيح.
وفي رابع عشره: خلع على الشيخ جلال الدين أحمد - ويقال له إسلام - بن نظام الدين إسحاق الأصفهاني. وأعيد إلى مشيخة الشيوخ بخانقاه سرياقوس، عوضاً عن الشريف فخر الدين بعد وفاته.
ونودي أن يكون صوف الدينار المختوم بثلاثين درهماً، والإفرنتي بثمانية وعشرين درهماً. وكان بعد موت السلطان قد انحط المثقال من اثنين وثلاثين إلى خمسة وعشرين، والدينار الإفرنتي من ثلاثين ونصف إلى عشرين درهماً.
وفي خامس عشره: أخرج الأمير يلبغا المجنون إلى الإسكندرية فسجن بها.
وفي سادس عشره: خلع على الخليفة وقضاة القضاة وكاتب السر وفي سابع عشره: خُلع علي، وكتب إلى حسبة القاهرة. وعلى زين الدين عبد الرحمن بن الكويز بنظو الدولة، عوضاً عن شمس الدين عبد الله الهيصم.
واستدعى شيخ الإسلام والقضاة وأعيان الفقهاء إلى حضرة الأمير الكبير أيتمش بالحراقة من الإصطبل. وقد حضر الأمراء والخاصكية، بسبب الأموال التي خلفها الملك الظاهر: هل تقسم بين ورثته أو تكون لبيت مال المسلمين؟ فوقع كلام محير آخره أن يفرق في ورثته منه السدس، وما بقي فلبيت المال.
وفيه استقر الأمير أرغون شاه البيدمري أمير مجلس في نظر الشيخونية عوضاً عن يلبغا السالمي، وخلع عليه في تاسع عشره، وخلع على جاني بك اليحياوي بنيابة قلعة دمشق، وتوجه إليها.
وفيه قدم فخر الدين ماجد بن غراب ناظر الإسكندرية.
وفي حادي عشرينه: خلع على الأمير سودون الطيار، واستَقر أمير أخور عوضاً عن الأمير سودون قريب السلطان.
وفي يوم الاثنين ثالث عشرينه: خلع على الأمير شهاب الدين أحمد بن الحاج عمر، المعروف بابن قطينة الحسني، واستقر وزيراً، عوضاً عن تاج الدين عبد الرزاق والي قطيا، وسلم إليه ليعاقبه على إحضار المال، فاستدعى بالوزير بدر الدين محمد بن الطوخي ليحاققه.
وخلع فيه أيضاً على الأمير يلبغا السالمي، واستقر أستاداراً، عوضاً عن الوزير تاج الدين.(3/4)
وعلى شهاب الدين أحمد بن أسد الكردي الطبرادار بولاية المنوفية، وعزل كزل المحمدي. وعلى علم الدين سليمان بن يوسف الشهرزوري الكردي، واستقر في ولاية مصر على عادته عوضاً عن ركن الدين عمر بن ممدود بن الكوراني.
وفي سادس عشرينه: وصل يلبغا الناصري من حلب، وأسنبغا من عند نعير، وأخبرا باجتماع الكلمة على الملك الناصر.
وتوجه أسندمر الخاصكي على خيل البريد لإحضار علاء الدين علي بن الطبلاوي من القدس، فورد في عدة البريد بأن نائب الشام استدعاه إلى دمشق، وأنه سار إليه.
وفي ثامن عشرينه: استقر تاج الدين عبد الله بن سعد الدين نصر الله بن البقري في نظر الإسكندرية، عوضاً عن فخر الدين ماجد بن غراب.
وفي تاسع عشرينه: أعيد نور الدين علي بن عبد الوارث البكري إلى حسبة مصر. وعزل شمس الدين محمد الشاذلي الإسكندراني.
؟شهر ذي الحجة، أوله الاثنين: ففي أوله: استقر بدر الدين محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد العينتابي الحنفي في حسبة القاهرة، عوضي.
وفي رابعه: صرف ابن قطينة من الوزارة باستعفائه، فخلع عليه، ورد إليه التحدث في أمر الكارم، كما كان قبل الوزارة. وخلع على فخر الدين بن غراب خلعة الوزارة، فصار إليه والي أخيه سعد الدين إبراهيم أمر الدولة.
وفيه فرق السلطان الأضاحي بالدودار من القلعة، على العادة في كل سنة.
وخلع على القاضي سعد الدين إبراهيم بن غراب.
وحضر على البريد جاني بك اليحياوي نائب قلعة دمشق، ومعه نسخة يمين الأمير تنم نائب الشام بإقامته على الطاعة، وأنه يريد من الأمراء الحلف ألا يغيروا عليه ولا يؤذوه، فحلف الأمير أيتمش بحضرة القضاة، وحلف له أيضاً جميع الأمراء، وعاد جاني بك بنسخ الأيمان على البريد.
وفي سابعه: وهو سادس عشر مسري سنة ألف وست عشرة، من تاريخ القبط أوفى النيل ستة عشر ذراعاً، فنزل الأمير فارس حاجب الحجاب وخلق المقياس، وفتح الخليج على العادة.
وفي ثالث عشره: ورد الخبر بأن ابن عثمان ملك الروم أخذ الأبلستين، وعزم أن يمشي على البلاد الشامية، فطلب الأمراء والقضاة وأرباب الدولة إلى القصر السلطاني في يوم الاثنين خامس عشره، وقرئ عليهم كتب تتضمن أن ابن عثمان ملك الروم بعث أخاه عليا بالعساكر، وأنه أخذ ملطة والأبلستين، وفر منه صدقة بن سولي، فتسلمها في ثامن عشرين ذي القعدة، وأنه محاصر درندة، فوقع الاتفاق على المسير إلى قتاله، وتفرقوا، فأنكر المماليك السلطانية صحة ذلك، وقالوا " هذا حيلة علينا حتى نخرج من القاهرة فقط " وعينوا سودون الطيار أمير أخور لكشف هذا الخبر.
وفيه أعيد شمس الدين محمد الأخناي إلى قضاء دمشق وعزل أصيل الدين محمد بن عثمان الأشليمي، فكانت ولايته نحو مائة يوم.
وفي ثامن عشره: قدم أسندمر وأخبر أن ابن الطبلاوي ترك لبس الأمراء وتزيا بزي الفقراء، وجاور بجامع بني أمية، واستجار بالمصحف العثماني، وامتنع من الحضور إلى مصر، وأن نائب الشام قال: " هذا رجل فقير، وقد قنع بالفقر اتركوه في حاله " ، فتركه.
وفيه سار سودون الطيار على خيل البريد لكشف الأخبار، فدخل دمشق في العشرين منه. وأخرج مرسوم السلطان بتجهيز عساكر الشام إلى بلاد ابن عثمان، فنودي في البلد بذلك، وتوجه إلى حلب.
وفي هذا الشهر: أبطل السالمي تعريف منية بنى خصيب، وضمان العرصة وأخصاص الغسالين، وكتب بذلك مرسوماً سلطانياً بعثة إلى الأشمونين نودي بإبطال ذلك في سواحل البلاد، وفي منية بني خصيب، ونقش على باب جامعها فبطلت هذه المظالم.
وأبطل أيضاً وفر الشون السلطانية، وكان في كل سنة آلافاً من الأرادب وأبطل المقرر على البردار وهو في كل شهر سبعة آلاف درهم، والمقرر على مقدم المستخرج وهو ثلاثة آلاف درهماً في كل شهر.
وأبطل ما كانت السماسرة في الغلال تأخذه من المبتاعين، وهو عن كل أردب درهمين. وكتب عليهم ألا يأخذوا عن كل أردب سوى نصف درهم.
وفي سابع عشرينه: استقر قطلوبغا التركماني الخليلي في ولاية الشرقية على عادته. وعزل أرغون، واستقر صارم الدين إبراهيم بن محمود والي أشموم طناح. وعزل قطلوبغا الجنتمري.(3/5)
وأما نائب الشام فإنه لما استولى على قلعة دمشق، وصل إليه في سادس عشر ذي القعدة شخص ادعى أنه فداوى، بعثه الأمير أيتمش ليقتله وأحضر سكيناً بدار السعادة، فوصله بمال وصرفه؛ فتحدث الناس أن هذه مكيدة ومقدمة لإظهار الخلاف، وأخذ النائب يسب أيتمش في مجلسه. ويظهر الخلاف عليه. فلما قدم الأمير جاني بك اليحياوي دمشق على نيابة القلعة لما يمكنه منها، ورده ومعه سونج بغا - أحد مماليكه - ليحلف الأمراء فحلفا الأمراء، وعادا إليه في نصف ذي الحجة، ومعهما تشريف، فلبسه إلى دار السعادة، ونزعه عنه، وألبسه الذي قدم به عليه. ودافع جاني بك عن القلعة وأعاد مملوكه سونج بغا إلى مصر. وبعث إلى قلعة الصبيبة، فأفرج عن أقبغا اللكاش وألجى بغا الحاجب، وخضر الكريمي، واستدعاهم إلى دمشق فقدموا عليه في ثاني عشرين ذي الحجة، وأنزلهم بدار السعادة.
ومات في هذه السنة من الأعيان
قاضي القضاة عماد الدين أحمد بن عيسى بن موسى بن عيسى بن سليم بن جميل الأزرقي العامري الكركي الشافعي، بالقدس في سادس عشرين ربيع الأول.
ومات أمير حاج بن مغلطاي أحد الأمراء ونائب الإسكندرية بدمياط في ربيع الأول.
ومات أرغون شاه الإبراهيمي نائب حلب بها، في صفر، ليلة الخامس والعشرين منه، فكانت جنازته عظيمة جداً؛ لأنه كان أظهر من العدل بحلب أمراً كبيراً.
اتفق أنهم اكتروا لديوانه جمالاً لنقل الملح، فأخذت سرية من العرب الجمال؛ فأحضر أربابها، وجعل بعلي من حلف، قيمة جمله التي يحلف عليه. وهذا غريب في زماننا وقيل إنه مات مسموماً. كان أولاً خازنداراً، ثم ولي نيابة صفد ثم طرابلس ثم حلب. ومات بكلمش العلاي أمير سلاح، وأمير مجلس بالقدس، في صفر.
ومات تمان بغا الحسني، نائب حمص.
ومات الأمير حسام الدين حسن بن علي الكجكني، أحد أمراء الطبلخاناه في رابع رجب.
ومات الشيخ المقرئ المعتقد خليل بن عثمان بن عبد الرحمن بن عبد الجليل، ويعرف بابن المشبب، في سادس عشرين ربيع الأول.
ومات شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن محمد العبادي الحنفي، في ليلة الأحد تاسع عشرين ربيع الآخر. وكان من فضلاء الحنفية، درس في عدة فنون وناب في الحكم بالقاهرة.
وَمات الأديب علاء الدين علي بن أيبك الدمشقي بها، في ثاني عشرين ربيع الأول. ومات العارف شمس الدين محمد بن أحمد بن علي، عرف بابن نجم الصوفي بمكة في صفر، وقد جاور عدة سنين بمكة.
ومات الخليفة المستعصم بالله زكريا بن إبراهيم بن محمد بن أحمد الحاكم، وهو مخلوع، في رابع عشرين جمادى الأولى.
ومات الأمير شيخ الصفوي بقلعة المرقب، مسجوناً.
ومات الطواشي صندل المنجكي في ثالث رمضان.
ومات الأمير صرغتمش المحمدي نائب الإسكندرية، في ثالث عشر جمادى الأولى. ومات الأمير كمشبغا الحموي بسجن الإسكندرية، في ثامن عشرين رمضان.
ومات الملك المنصور محمد بن المظفر حاجي بن الناصر محمد بن المنصور قلاوون . وهو مسجون بقلعة الجبل، في تاسع المحرم.
ومات قاضي القضاة ناصر الدين أحمد بن محمد بن محمد بن التنسي المالكي، وهو قاضي أول شهر رمضان.
ومات بدر الدين محمود بن عبد الله الكُلُسْتاني السراي كاتب السر وهو متول، في عاشر جمادى الأولى.
ومات الأمير قديد أحد الأمراء ونائب الإسكندرية، وهو منفي في رابع ربيع الآخر بالقدس.
ومات أحمد بن عبد اللّه الزهوري في أول صفر، وكان شيخاً عجمياً ذاهب العقل للسلطان فيه اعتقاد كبير.
ومات الأمير أزدمر دوادار السلطان، وهو أمير.
//سنة اثنتين وثمانمائة أهل المحرم بيوم الأربعاء، وهو خامس توت: والأردب القمح بأربعين درهماً والشعير بخمسة وعشرين درهماً، والفول بسبعة وعشرين، والدينار المصري بثلاثين درهماً، والدينار الإفرنتي بخمسة وعشرين درهماً.
وفي ثانيه: استقر جمال الدين محمد بن عمر الطنبدي في حسبة القاهرة، وصرف البدر محمود العين تابي. واستقر الأمير حاج بن أيدمر وإلى البهنسا وصرف حيواط السيفي.
وفي سادسه: استقر الشريف الأمير علاء الدين على البغدادي وإلى دمياط في وظيفة شد الدواوين، عوضاً عن شهاب الدين أحمد بن حسن بن خاص بك المعروف بابن خاص ترك البريدي وكان الملك الظاهر بعثه إلى بلاد الشام لتحصيل الأموال والأغنام.(3/6)
فلما مات الملك الظاهر عوقه الأمير تنم نائب دمشق. وكان قد جمع كثيراً من الأغنام والأموال.
وفي سابعه: قبض على أمير حاج بن بيدمر وسجن. وذلك أنه كان يلي الفيوم أيام الأمير منطاش، فحبس عنده الأمير تمرباي الحسني حاجب الحجاب، والأمير قرابغا العمري أمير مجلس، والأمير أردبغا العثماني، والأمير يونس الأسعردي، والأمير طغاي تمر الجركتمري، والأمير قازان المنجكي، والأمير تنكز العثماني، والأمير عيسى التركماني، فبعث إليه الأمير صراي دوادار الأمير منطاش بقتلهم في السجن، فألقي عليهم حائطاً قتلهم، واحضر قاضي الفيوم، وكتب محضراً بأنهم ماتوا تحت الردم.
فلما انقضي تحكم منطاش، وعاد الظاهر برقوق ، هرب من الخوف مدة حياة الظاهر. فلما مات الظاهر برقوق تعلق بخدمة الأمير تغري بردى أمير سلاح، حتى استقر بشفاعته في ولاية البهنسا، كما تقدم.
وكانت ابنة الأمير تمرباي الحسني تحت تغري بردى، فعرفها مماليك أبيها بأنه قاتل أبيها، فما زالت بزوجها حتى قبض عليه، وسجنه بخزانة شمايل، واستقر عوضه الأمير ناصر الدين محمد الضاني.
وفي ثامنه: أحضر الأمير يلبغا السالمي أوناط اليوسفي كاشف الوجه البحري. وضربه عريا بالمقارع والعصي معاً، من أجل أنه أخرق برسوله. واستقر عوضه علاء الدين على بن طرنطاي في تاسعه.
وفي سادس عشره: استقر جمال الدين يوسف بن قطلوبك - صهر ابن المزوق - في ولاية الغربية. وصرف علاء الدين على الحلبي.
وفي سابع عشره: أطلق الأمير تنم نائب الشام من سجن الصبيبة الأمير ألجبغا والأمير خضر. وقدم دمشق وأطلق الأمير آقبغا اللكاش أيضاً.
وفي ثامن عشره: استقر علاء الدين ألطنبغا وإلى العرب نائب الوجه القبلي، وصرف علاء الدين على اليلبغاوي.
وورد الخبر بنزول ابن عثمان على ملطية ومحاصرتها، وبها الأمير جمق من الظاهرية. وأن العشير ببلاد الشام كانت بينهم فتن وحروب، قتل فيها آلاف. وكان من خبر أبي يزيد بن عثمان أن القاضي برهان الدين صاحب سيواس لما قتل، كتب أهل سيواس إلى ابن عثمان يستدعوه، فسار إليهم من فوره على عسكر كبير وملكها، وأقام عليها ابنه سلمان ثم مضي إلى أرزنجان، ففر منه طهر ابن حاكمها إلى تيمورلنك، فأخذ ابن عثمان ماله، وأفحش في حريمه بتمكين سواسه منهن، وعاد إلى مملكته.
وفي تاسع عشره: استقر القاضي نور الدين علي بن الشيخ سراج الدين عمر بن الملقن في إفتاء دار العدل، مضافاً لمن بها.
وفي عشرينه: استقر المقدم محمد بن عبد الرحمن مقدم الدولة، وصرف الحاج زين الدين عمر بن صابر ورفيقه علي البديوي وقبض عليهما.
وفي يوم الثلاثاء حادي عشرينه: ركب الملك الناصر من قلعة الجبل ومعه الأمير الكبير أيتمش وسائر الأمراء إلى تربة أبيه، وشق القاهرة من باب النصر إلى باب زويلة، وصعد القلعة. وهذه أول ركباته بعد السلطنة.
وفيه دخل المحمل والحاج، وشكوا من المشقة بشدة الحر وموت الجمال، وأن الشريف حسن بن عجلان أمير مكة، شكا إلى الأمير شيخ المحمودي أمير الحاج من الأمير بيسق أمير الرجبية، والمتحدث في عمارة الحرم. وأن العبيد هموا غير مرة بقتله لثقله عليهم، فاستدعاه واصلح بينه وبينهم، وأقام بمكة ليتم عمارة الحرم، وأن الأمير شيخ لما وصل إلى ينبع، وهو عائد، نادي في الحاج من كان فقيراً فليحضر إلى خيمة الأمير يأخذ عشرة دراهم وقميصاً فاجتمع عنده عدة من الفقراء، فقبض عليهم وسلمهم إلى أمير ينبع، وأمره أن ينزلهم في مراكب بالبحر ليسيروا إلى الطور، ورحل بالحاج من فوره، فتأخر الفقراء بينبع.
وفي ليلة الجمعة رابع عشرينه: أفرج الأمير تنم نائب الشام عن الأمير جلبان من سجنه بقلعة دمشق.
وفي خامس عشرينه: استقر علاء الدين أقبغا الزيني المزوق في ولاية الفيوم وكشفها، وكشف البهنساوية والأطفيحية، وصرف طيبغا الزيني من ولاية الفيوم.
شهر صفر، أوله الخميس: وفيه خلع على الأمير شهاب الدين أحمد بن أسد الهذباني الكردي الطبردار لولاية المنوفية، وعزل اقبغا البشتكي.
وفيه ركب الأمير تنم نائب الشام في موكب جليل بدمشق، وركب معه الأميران جلبان وأقبغا اللكالش. وفيه كتب الأمير تنم إلى النواب يدعوهم إلى موافقته، فلم يجبه نائب حلب، ولا نائب حماة.
وفي ثالثه: استقر شهاب الدين أحمد الطرخاني والي مصر، وصرف علم الدين سليمان الشهرزوري.(3/7)
وفي سادسه: استقر بهاء الدين أرسلان والي العرب المعزول من ولاية القاهرة في نيابة الوجه البحري.
وعزل علاء الدين علي بن مسافر. وقبص على الوزير بدر الدين محمد بن الطوخي، وعلى ابنه سليمان، وسلما إلى الشريف شاد الدواوين فضربهما، وعصر الوزير على مائة ألف درهم، تأخرت للأمير الكبير أيتمش في أيام مباشرته، من ثمن اللحم المرتب له على الدولة، فأوردا ثلاثة وثمانين ألفاً، وضمنهما شرف الدين محمد بن الدماميني، والمهتار عبد الرحمن في مبلغ سبعة عشر ألفا، وأفرج عنهما، فهربا، وغرما ذلك من مالهما.
وفيه استقر علاء الدين طيبغا الزيني في ولاية الفيوم على عادته، وعزل أقبغا المزوق. وفيه قبض الأمير تنم نائب الشام على الأمير شهاب الدين أحمد بن خاص ترك شاد الدواوين، وأخذ جميع ما جمعه من الأغنام والأموال، وفوض أمر أستادارية الشام إلى الأمير علاء الدين الطبلاوي.
وفي خامس عشره: أعيد شمس الدين محمد الشاذلي إلى حسبة مصر، وصرف نور الدين على البكري.
وفي خامس عشرينه: أحضرت جثة الأمير كمشبغا الحموي من الإسكندرية إلى تربته خارج باب المحروق.
وفي هذا الشهر: تحركت الأسعار بالقاهرة. وذلك أن الظاهر لما مات كان أعلى سعر: القمح كل إردب بخمسة وعشرين مما دونها، والشعير كل أردب من خمسة عشر درهماً إلى ما دون ذلك، فأصبح في يوم السبت التالي لدفن الملك الظاهر كل إردب من القمح بأربعين درهماً من غير سبب. ودام ذلك حتى بلغت زيادة النيل في نصف المحرم من هذا العام - وهو سابع عشر توت - ثمانية أصابع من تسعة عشر ذراعاً، وهبط عقيب ذلك أصابع.
فلما انقضي شهر توت انحط الماء، وتزايد السعر من أربعين درهماً الإردب القمح حتى بلغ ستين درهماً. وبلغ الأردب من الشعير والفول إلى خمسة وثلاثين، بعد خمسة وعشرين، والحملة من الدقيق - وهي زنة ثلاثمائة رطل بالمصري - مائة درهم، والخبز أربعة أرطال بدرهم. وارتفع سعر غالب المأكولات.
وفي آخره أبيع الرغيف بثمن درهم، زنته سبع أواقي.
وفيه أيضاً: تزايد الاختلاف بين الأمراء والخاصكية، وكثر نفور الخاصكية من الأمير أيتمش، وظنوا به وبالأمراء أنهم قد مالوا إلى نائب الشام. واتفقوا معه على إفناء المماليك بالقتل والنفي، فتخيل الأمراء منهم، واشتدت الوحشة بين الطائفتين. وتعين من الخاصكية سودون طاز، وسودون بن زاده، وجركس المصارع، ووافقوا الأمير يشبك، فصاروا في عصبة قوية وشوكة شديدة وشرع كل من الأمراء والخاصكية في التدبير، والعمل على الآخر.
وأما أمر الأمير تنم نائب الشام فإنه لما عاد إليه مملوك سونج بغا من مصر، في ثالث عشر المحرم، ومعه مرسوم شريف بتفويض أمور البلاد الشامية إليه، وأن يطلق من شاء من الأمراء المحبوسين. أطلق الأمير جلبان من قلعة دمشق في ليلة الجمعة رابع عشرينه، وأطلق الأمير أزدمر أخا أينال، ومحمد بن أينال من طرابلس، واحضرهما إلى دمشق. وبعث إلى نواب البلاد يدعوهم إلى القيام معه، فأجابه يونس الرماح نائب طرابلس وألطبغا العثماني نائب صفد، وأقبغا الأطروش نائب حلب.
وامتنع من إجابته الأمير دمرداش المحمدي نائب حماة. وبعث تنم إلى نائب طرابلس أن يجهز شينيا إلى ثغر دمياط ليحمل فيه الأمير نوروز الحافظي وغيره من الأمراء المسجونين. فبادر ناصر الدين محمد بن بهادر المؤمني، فتسلم برج الأمير الكبير أيتمش بطرابلس، وركب البحر إلى دمياط، وقدم إلى قلعة الجبل، وأخبر بذلك. فكتب على يده عدة كتب ملطفات إلى الأمير قرمش حاجب طرابلس، وغيره من القضاة والأعيان، بأن قرمش الحاجب يثب على يونس الرماح، نائب طرابلس ويقتله، ويلي مكانه، فسار بذلك. واتفق أن يونس الرماح قبض على قرمش الحاجب وقتله، قبل وصول ابن بهادر. واستدعي نائب الشام بالأمير علاء الدين على بن الطبلاوي، وأقامه متحدثاً في أمور الدولة، كما كان بديار مصر، وسلم إليه شهاب الدين أحمد بن خاص ترك شاد الدواوين في ثامن صفر هذا، فأخذ منه ما جمعه من الأموال السلطانية.(3/8)
ثم إنه حلف الأمراء في ثاني عشره على أن يكونوا معه، وتأهب للمسير إلى حلب، وأخذ ابن الطبلاوي في طلب أرباب الأموال بدمشق، وطرح عليهم السكر الحاصل من الأغوار، فضر الناس كلهم، بحيث أنه طرح ذلك على الفقهاء ونقباء القضاة وأهل الغوطة. فتنكرت القلوب على النائب بهذا السبب، وكثر الدعاء عليه. وأظهر الأمير جنتمر نائب حمص الخلاف على تنم. وقدم البريد من حلب إلى قلعه الجبل في حادي عشرينه أن نائب حلب ونائب حماة، ونائب حمص، باقون على الطاعة، وان تنم نائب دمشق خرج عن الطاعة، وأطلق من السجن الأمير جلبان، والأمير أقبغا اللكاش، والأمير أحمد بن يلبغا والأمير أزدمر أخا إينال، والجبغا الجمالي، وخضر الكريمي، فتحقق أهل الدولة حينئذ صحة ما كان يشاع من عصيان تنم، وصرح الخاصكية بأن الأمير أيتمش قد وافقه على ذلك في الباطن، وتحرزوا منه.
وفي يوم الأربعاء ثامن عشرينه: كسفت الشمس، قبل العصر.
شهر ربيع الأول، أوله السبت: فيه وجه الأمير تنم نائب الشام عسكرا إلى غزة مع الأمير آقبغا اللكاش.
وفي ثالثه: أخرج عسكرا إلى حلب مع الأمير جلبان.
وفيه قبض على بتخاص، وسجن بقلعة دمشق.
وفي يوم الخميس سادسه: استدعي الملك الناصر فرج بالأمير الكبير أيتمش إلى القصر، وقال له: يا عم، أنا قد أدركت، وأريد أن أترشد. وكان هذا قد بيته معه الأمير يشبك، والأمير سودون طاز، فيمن معهما من الخاصكية، ليستبد السلطان، ويحصل لهم الغرض في أيتمش والأمراء، ويمتنع أيتمش من تصرف السلطان، فينفتح لهم باب إلى القتال، ومحاربة أيتمش والأمراء. فأجاب أيتمش السلطان بالسمع والطاعة، واتفق مع الأمراء والخاصكية على ترشيد السلطان، وأن يمتثل سائر ما يرسم به. واستدعي في الحال الخليفة، وشيخ الإسلام سراج الدين البلقيني، وقضاة القضاة وقضاة العساكر، ومفتو دار العدل، وكاتب السر، وناظر الجيش، وغيره ممن عادته حضور المجالس السلطانية. وادعي القاضي سعد الدين إبراهيم بن غراب ناظر الجيش والخاص على الأمير أيتمش بأن السلطان قد بلغ راشداً. وأشهد عدة من الأمراء الخاصكية بذلك، فحكم القضاة برشد السلطان، وخلع على الخليفة وشيخ الإسلام، وقضاة القضاة، ومن حضر من بقية القضاة والفقهاء، وعلى الأمير أيتمش. ونزل أيتمش إلى داره التي كان يسكنها في الأيام الظاهرية ونقل سائر ما كان له بالإصطبل السلطاني وللحال دقت البشائر، ونودي في القاهرة ومصر بالزينة والدعاء للسلطان، فزينتا.
وفي هذا اليوم: عمل السلطان المولد النبوي على عادة أبيه، وحضر معه الأمراء والقضاة ومن عادته الحضور.
وفيه خرج الأمير تنم نائب دمشق منها إلى نحو حلب. وعمل نائب الغيبة الأمير أزدمر أخا أينال. وافترق من يومئذ العسكر فريقان، فرقة مع أيتمش وفرقة مع يشبك. وانقطع يشبك بداره، وأظهر أنه مريض، فتخيل أيتمش ومن معه من الأمراء وظنوا أنها من يشبك حيلة، حتى إذا دخلوا لعيادته قبض عليهم، فلزم كل منهم داره، واستعد. وأخلد أيتمش إلى العجز، وأعرض عن إعمال الرأي والتدبير. وكان قد تبين منذ مات الظاهر عجزه وعدم أهليته للقيام بالأمر.
فلما كان ليلة الاثنين عاشره: أشيع من العصر ركوب العساكر للقتال، وماج الناس، وكثرت حركاتهم، فلم يدخل الليل حتى لبس أيتمش. ممن معه آلة الحرب. وملك أيتمش الصوة تجاه باب القلعة، وأصعد عدة من المقاتلة إلى عمارة الأشرف تجاه الطبلخاناه، ليرموا على من فيها ومن يقف على باب القلعة.
و لم يخرج يشبك من بيته. وأخذ الأمير فارس حاجب الحجاب رأس الشارع الملاصق لباب مدرسة السلطان حسن، ليقاتل من يخرج من باب السلسلة. وأخذ الأمير تغري بردي أمير سلاح، والأمير أرغون أمير مجلس رأس سويقة منعم تجاه القصر. وركب الأمير يشبك الخازندار، والأمير بيبرس الدوادار إلى القلعة. ودقت بها الكوسات الحربية. ولبست المماليك السلطانية. ولحق بهم من الأمراء سودون طاز وسودون المارديني، ويلبغا الناصري، وبكتمر الركني، وأينال باي بن قجماس، ودقماق المجدي نائب ملطية.(3/9)
ووقعت الحروب بين الفريقين من وقت العشاء الآخرة إلى السحر. وقد نزل السلطان من القصر إلى الإصطبل، فاشتد قتال المماليك السلطانية، وثبت لهم الأمير فارس، وكاد يهزمهم لولا ما كادوه من أخذ مدرسة السلطان حسن، ورميه من أعلاها إلى أن هزموه، وأحاطوا بداره، وهزموا تعري بردى وأرغون شاه، بعدما أبلى تغري بردى بلاءاً كثيراً، وأحاطوا بدورهما، فصار الجميع إلى أيتمش. وقد امتدت الأيدي إلى دورهم فنهبوا ما فيها، فنادي أيتمش بالقاهرة وظواهرها: من قبض مملوكاً جركسيا من المماليك السلطانية، وأحضره إلى الأمير الكبير أيتمش يأخذ عرية " فحنقوا من ذلك، وفارقه من كان معه من الجراكسة، وصاروا إلى جهة السلطان، ومالوا بأجمعهم على أيتمش، فإنهزم. ممن بقي معه وقت الظهر من يوم الاثنين يريدون جهة الشام، وانهزم معه من الأمراء الألوف أرغون شاه أمير مجلس، وتغري بردي أمير سلاح، وفارس حاجب الحجاب ويعقوب شاه الحاجب. ومن الطلخاناه ألطنبغا شادي، وشادي خجا العثماني، وتغري بردى الجلباني وبكتمر. جلق الناصري، وتنكر بغا الحططي، وأقبغا المحمودي الأشقر، وعيسي فلان وإلى القاهرة. ومن أمراء العشرينات أسندمر الأسعردي، ومنكلي بغا العثماني، ويلبغا الظريف من خجا علي. ومن أمراء العشرات خضر بن عمر ابن بكتمر الساقي، وخليل بن قرطاي شاد العمائر، وعلى بن بلاط الفخري، وبيرم العلاي، وأسنبغا المحمودي، ومحمد بن يونس النوروزي، وألجي بغا السلطاني، وتمان تمر الأشقتمري، وتغري بردى البيدمري، وأرغون السيفي، ويلبغا البلشون المحمودي، وباي خجا الحسني، وأحمد بن أرغون شاه الأشرفي، ومقبل أمير حاجب، وناصر الدين محمد ابن علاء الدين على بن كلفت نقيب الجيش، وخايربك بن حسن شاه، وجوبان العثماني، وكزل العلاي، ويدي شاه العثماني، وكمشبغا الجمالي، وألطنبغا الخليلي، وألطنبغا الحسني، في تتمة نحو الألف. فمروا بالخيول السلطانية في ناحية سرياقوس، فأخذوا من جيادها نحو المائة، وساروا إلى دمشق.
وتجمع من المفسدين خلائق، ونهبوا مدرسة أيتمش، وحفروا قبر ولده الذي بها، وأحرقوا الربع المجاور لها من خارج باب الوزير، فلم يعمر بعد ذلك. ونهبوا جامع أقسنقر، واستهانوا بحرمة المصاحف. ونهبوا مدرسة السلطان حسن، وأتلفوا عدة من مساكن المنهزمين، وكسروا حبس الديلم وحبس الرحبة، وأخرجوا المسجونين.
وقتل في هذه الواقعة من الأمراء قجماس المحمدي شاد السلاح خاناه من أمراء العشرات، وقرابغا الأسنبغاوي، وينتمر المحمدي من الأمراء الألوف. واختفي ممن كان معه مقبل الرومي الطويل أمير جاندار، وكمشبغا الخضري فندب السلطان في طلب المنهزمين بكتمر الركني ويلبغا الناصري، وأقبغا الطرنطاي من أمراء الألوف، وأسنبغا الدوادار من الطبلخاناه، وباشا باي بن باكي، وصوماي الحسني من العشرات، في خمسمائة من المماليك السلطانية، فلم يدركوهم، وعادوا.
وفي حادي عشره: استقر قرابغا مغرق في ولاية القاهرة، عوضاً عن عيسي فلان، فنودي بين يديه أن من أحضر أميراً من أصحاب أيتمش أخذ ألف دينار.
وفي ثاني عشره: استقر في ولاية القاهرة بلبان من المماليك السلطانية، عوضاً عن مغرق، فإنه مات من جراحة كانت به، ونزل بالخلعة إلى القاهرة، فمر من باب زويلة يريد باب الفتوح، وعبر راكباً من باب الجامع الحاكمي، وهو ينادي قدامه، فإذا بالأمير شهاب الدين أحمد بن عمر بن الزين قد جاء إلى نحو باب النصر وهو ينادي بين يديه أيضاً. فلما التقيا وافي الطواشي شاهين الحسني، ومعه خلعة ألبسها لابن الزين، فبطل أمر بلبان، وتصرف ابن الزين في أمور الولاية، ونودي بالكف عن النهب، وهدد من ظفر به من النهابة، فسكن الحال.
وفي ثالث عشره: خلع على أسندمر العمري بنقابة الجيش، وعلى ناصر الدين محمد ابن ليلي بولاية مصر، وعزل الشهاب أحمد الطرخاني.
وفي رابع عشره: قبض على الأمير مقبل الرومي أمير جاندار من منزله، ونهب ما وجد له.(3/10)
وأما تنم فإنه وجه الأمير آقبغا اللكاش في عدة من الأمراء والعساكر إلى غزة فساروا من دمشق في أوله، وتبعتهم أطلاب أمراء دمشق. وخرجوا منها في ثالثه، وعليهم الأمير جلبان، ومعه الأمير شهاب الدين أحمد بن الشيخ علي، وطيفور حاجب الحجاب بدمشق، ويلبغا الأشقتمري، وصرق الظاهري مساروا إلى حلب. وقبص الأمير تنم على الأمير بتخاص، وموسي التركاني، وحبسهما بقلعة دمشق، من أجل أنه اتهمهما بالميل مع أهل مصر.
ثم خرج تنم من دمشق فيمن بقي معه في سادسه، يريد حلب، وجعل الأمير أزدمر أخا إينال نائب الغيبة، فوصل إلى حمص واستولي عليها، وأقام فيها من يثق به. وتوجه إلى حماة. ووافاه يونس الرماح نائب طرابلس، ومعه عسكر طرابلس، فامتنع دمرداش المحمدي نائب حماة وقاتل تنم قتالاً شديداً، وقتل من أصحابه نحو الأربعة، و لم يقدر عليه تنم فأتاه الخبر على حماة بقيام أهل طرابلس.
وذلك أنه لما قرب محمد بن بهادر المؤمني من طرابلس بعث. كلا معه من الملطفات لأربابها، فوصلت إليهم قبل قدومه. ثم وصل. ممن معه في البحر، فظنه نائب الغيبة من الفرنج، فخرج إليه في نحو ثلاثمائة فارس من أجناد طرابلس فتبين له أنه من المسلمين، فقاتلهم على ساحل البحر حتى هزمهم إلى برج أيتمش، فأصبح الذين أتتهم الملطفات، نادوا في العامة بجهاد نائب الغيبة، نصرة لابن بهادر. وأفتاهم فقهاء البلد بذلك. ونهبت دار نائب الغيبة، وخطب خطيب البلد بذلك فتسرعت العامة إلى النهب، فانهزم نائب الغيبة إلى حماة، وأعلم الأمير تنم بذلك فبعث بالأمير صرق على عسكر إلى طرابلس، فقاتله أهلها قتالاً شديداً مدة تسعة أيام، ودفعوه عنها.
وفي أثناء ذلك ورد على الأمير تنم خبر واقعة الأمير أيتمش، وأنه وصل إلى غزة ونزل بدار النيابة، فأذن بدخوله ومن معه إلى دمشق، ورجع من حماة بالعساكر، وقد عجز عنها، فدخل دمشق، في خامس عشرينه، وأرسل يونس الرماح نائب طرابلس في عسكره ومن انضم إليه من أمراء دمشق، وهم: ألجي بغا الحاجب، وخضر الكريمي، في طائفة إلى طرابلس فدخلوا، وانهزم ابن بهادر إلى البحر، فركبه، ومعه القاضي شرف الدين مسعود الشافعي قاضي طرابلس يريدون القاهرة. ونهب يونس الرماح أموال الناس كافة، وفعل ما لا تفعله الكفار. وقتل نحو العشرين رجلاً من المعروفين، منهم الشيخ المفتي جمال الدين بن النابلسي الشافعي، والخطيب شرف الدين محمود، والمحدث القاضي شهاب الدين أحمد بن الأذرعي المالكي، والقاضي شهاب الدين الحنفي، وموفق الدين الحنبلي. وقتل من العامة ما يقارب الألف وصادر الناس مصادرة كبيرة، وأخذ أموالهم. وكانت هذه الكائنة في الخامس عشر منه.
وفي سادس عشره: عرض السلطان الملك الناصر المماليك، ففقد منهم مائة وثلاثين، انهزموا مع أيتمش.
وفيه قبض على الأمير بكتمر جلق، وتنكر بغا الحططي رأس نوبة، وقرمان المنجكي، وكمشبغا الخضري، وخضر بن عمر بن بكتمر الساقي، وعلى بن بلاط الفخري، وأسنبغا المحمدي، ومحمد بن يونس النوروزي، وألجبغا السلطاني، وأرغون السيفي، وأحمد بن أرغون شاه الأشرفي، وناصر الدين محمد بن على بن كلفت نقيب الجيش، وألطنبغا الخليلي، وسجنوا. ثم أفرج عن قرمان، وخضر، وابن يونس، وابن كلفت وألطنبغا وحمل إلى الإسكندرية منهم مقبل الرومي، وبكتمر جلق، والحططي، وابن بلاط، وأسنبغا وألجبغا، وأرغون، وأحمد بن أرغون شاه. وتأخر بالقلعة كمشبغا الخضري، وإياس الخاصكي.
وفيه استدعي السلطان الأمير سودون أمير أخور، والأمير تمراز من الإسكندرية، والأمير نوروز من دمياط فسارت القصاد لإحضارهم.
وفي سابع عشره: استقر موفق الدين أحمد بن قاضي القضاة ناصر الدين نصر الله الحنبلي في قضاء القضاة الحنابلة بالقاهرة ومصر، بعد وفاة أخيه قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم. واستقر علاء الدين أقبغا المزوق في ولاية الفيوم وكشفها، وكشف البهنساوية، والأطفيحية، وعزل طيبغا الزيني، وطلب، فهرب. واستقر أيضاً يلبغا الزيني وإلى البهنسا، وعزل الضاني.
وفي عشرينه: وصل الأمير نوروز من دمياط، والأمير سودون، والأمير تمراز من الإسكندرية إلى القلعة. وقبلوا الأرض للسلطان، ونزلوا إلى دورهم. وكتب إلى الأمير تنم نائب الشام بدخوله في الطاعة. وفي آخره: قدم الأمير بيسق من مكة.(3/11)
وفي هذا الشهر: ارتفعت أسعار المأكولات والمشروبات والملبوسات.
وبلغ سعر الرطل من لحم الضاد درهمين، ومن البقر درهم وثمن، والأردب القمح إلى سبعين درهما، ثم نزل إلى خمسين.
شهر ربيع الآخر، أوله الأحد: في ثانيه: استقر الأمير أقباي الطرنطاي بن حسين شاه حاجب الحجاب. والأمير دقماق المحمدي حاجب رأس الميسرة.
وفي ثالثه: استقر كل من الأمير اسنبغا العلاي الدوادار، والأمير قماري الأسمبغاوي وإلى باب القلة ومنكلي بغا الصلاحي الدوادار وسودون المأموري حاجباً. واستقر تمربغا المحمدي نائب القلعة.
وفي خامسه: قدم الأمير أيتمش. ممن معه إلى دمشق، فخرج الأمير تنم إلى لقائه، وبالغ في إكرامه وإكرام من معه، وقدم إليهم تقادم جليلة. وخير في الإقامة، فاختار النزول بالميدان، وسكني القصر الأبلق، فأقام. وعظم شأن تنم بقدوم أيتمش عليه، وأطاعه من خالف عليه.
وفي ثامنه: قدم عليه كتاب الملك الناصر بمسك أيتمش ومن معه وقدومه إلى مصر، فأحضر الكتاب وحامله إلى عند أيتمش، وأعلمه بذلك. ثم جهز أيتمش وتغري بردى قصادهما إلى نائب حماة، ونائب حلب، بدعواهما إلى ما هم عليه، فأجابا بالسمع والطاعة.
وكان الأمراء بمصر قد اتفقوا أن يكون الأمير بيبرس الدوادار أتابك العساكر، فأقاموه صورة بلا معنى. وأنعم على نوروز بإقطاع تغري بردى، وعلى تمراز بإقطاع أرغون شاه، وعلى سودون أمير أخور بإقطاع فارس. وعلى دقماق بإقطاع يعقوب شاه، وعلى الأمير الكبير بيبرس بإقطاع أيتمش، إلا النحريرية، ومنية بدران، وطوخ الجبل، فامتنع من قبوله وغضب، وأنعم بإقطاع بيبرس على بكتمر الركني، وبإقطاع بكتمر على دقماق، وبإقطاع دقماق - الذي كان باسم يعقوب شاه - على جركس المصارع القاسمي، واستقر أمير طبلخاناه.
وأنعم على كل من كزل بغا الناصري، وقماري الأسنبغاوي، وشاهين من شيخ إسلام، وشيخ السليماني، وباشا باي من باكي، وتمربغا، وحبك من عوض، وصوماي الحسني، وتمر، وأينال حطب، وقاني باي العلاي بإمرة طبلخاناه. وعلى كل من بردي بك العلاي، وسودن المأموري، وألطبغا الخليلي، واجترك القاسمي، وكزل المحمدي، وبيغان الأينالى بإمرة عشرين، وعلى كل من أزبك الرمضاني، والطبرس العلاي، وأسندمر العمري، وقرقماس السيفي، ومنكلي بغا الصلاحي، وأقبغا الجوهري، وطيبغا الطولوتمري، وقاني باي بن باشا، ودمرداش الأحمدي، وأقباي السلطاني، وأرغون شاه الصالحي، ويونس العلاي، وجمق، ونكباي الأزدمري، وأقبغا المحمدي، وقاني بك الحسامي، وبايزيد من بابا، وسودون البجاسي، وسودون الشمسي، وتمراز من باكي، وشكدان، وقطلوبغا الحسني، وأسنبغا المسافري، وسودون النوروزي، وقطلو أقتمر المحمدي، وقانق، وسودون الحمصي، وأرزمك، وأسن باي، وسودون القاسمي بإمرة عشرة.
وفي ثامنه: تحالف الأمراء على السفر بالسلطان إلى الشام، فامتنع المماليك وهددوا الأمراء. فخالف الأمير سودون طاز، وتأخر عن الخدمة، واجتمع المماليك بالأمير يشبك وهو ضعيف، وحدثوه في أمر السفر، فاعتذر. مما هو فيه من الشغل بالمرض.
وفيه اختلف الأميران سودون أمير أخور - كان - وسودن طاز وتسابا بسبب سكنى الحراقة من الإصطبل، وكادا يقتتلان، لولا فرق بينهما الأمير نوروز. ووقع أيضاً بين جركس المصارع وسودون طاز تنافس بسبب الإقطاع وتقابضا، و لم يبق إلا أن تثور الفتنة، حتى فرق بينهما.
وفي عاشره: استقر أمير على ناسب الوجه البحري، وعزل بهاء الدين أرسلان. واستقر بلبان والي قليوب، وعزل عمر بن الكوراني. ورتب الأمراء أموراً منها، إقامة نائب بمصر، وعبوا عدة تشاريف لإقامة أرباب وظائف من الأمراء. فلما كان يوم الخميس ثاني عشره خلع على سودون طاز، وعمل أمير أخور، عوضاً عن سودون الطيار، لتأخره بدمشق.
وفي رابع عشره: أعيد بدر الدين محمود العين تابي إلى حسبة القاهرة وصرف الجمال الطنبدي.
واستقر محمد بن الطويل في ولاية منوف، وعزل الشهاب أحمد بن أسد الكردي.
واستقر الأمير مبارك شاه حاجبا ثالثاً بتقدمة ألف ولم يقع مثل ذلك فيما تقدم.(3/12)
وفيه قدم قاضي القضاة شرف الدين مسعود من طرابلس، ومعه الشريف بدر الدين محمد بن كمال الدين محمد البلدي نقيب الأشراف، ووكيل بيت المال بها، وأخبر بواقعة طرابلس، وقتل قرمش حاجبها، وأن المقتولين في الواقعة ألف وسبعمائة واثنان وثلاثون رجلاً، وأن النائب أراد إحراقها، فاشتراها منه بثلاثمائة وخمسين ألف درهم.
وفي ثامن عشره: قدم نائب حماة إلى دمشق، فخرج الأمير تنم والأمير أيتمش بالعساكر إلى لقائه، وخلع عليه، وأنعم عليه تنم بمال جزيل وأقام خمسة أيام، وعاد إلى حماة ليتجهز.
وخلع الملك الناصر على أحد الأمراء، واستقر حاجباً ثامناً، و لم يعهد بمصر مثل ذلك فيما سلف.
وفي تاسع عشره: قبض السلطان على الوزير فخر الدين ماجد بن غراب، وأخيه سعد الدين إبراهيم ناظر الجيش والخاص، والشهاب أحمد بن عمر بن قطنية المتحدث في المكارم، والشريف علاء الدين على شاد الدواوين. وتسلمهم أزبك رأس نوبة، ووقعت الحوطة على موجودهم.
وفي العشرين منه: قبض على الأمير قطلو بك الأستادار، وسجن عند صهره زوج ابنته سعد الدين إبراهيم بن غراب.
وفي حادي عشرينه: استدعي الوزير بدر الدين محمد بن الطوخي، وخلع عليه خلعة الوزارة، وخلع على شرف الدين محمد بن الدماميني وكيل بيت المال لنظر الجيش ونظر الخاص.
وفي ثالث عشرينه: أفرج عن قرمان المنجكي وقطلو بك العلاي، ونقل ابنا غرابا من عند أزبك إلى بيت الأمير قطلوبغا الكركي - شاد الشرابخاناه - فنزلا في داره ومعهما ابن قطينة والشريف علاء الدين علي، فأتاهما الناس بكل ضيافة فاخرة، وتوقف لذلك حال الوزير ابن الطوخي، وابن الدماميني ناظر الخاص.
وفي رابع عشرينه: أفرج عن ابن قطينة على مائة ألف درهم، وعن الشريف علاء الدين علي على خمسين ألف درهم.
وفي سادس عشرينه: توجه المهتار عبد الرحمن على البريد، ومعه مائة ألف درهم وخمسون ألف درهم فضة، وعدة خلع لأهل الكرك، وعلى يده ملطفات لتخذيل العساكر عن تنم نائب الشام.
وفي يوم السبت ثامن عشرينه: أفرج عن ابني غراب، وخلع عليهما، كما كانا. وسلم إليهما ابن الطوخي، وابن الدماميني ونقل أبناء التركماني من مشيخة خانقاة قوصون إلى مشيخة خانقاه سرياقوس، عوضاً عن شيخ الشيوخ بهاء الدين إسلام ابن شيخ الشيوخ نظام الدين إسحاق الأصبهاني بعد موته. واستقر في مشيخة القوصونية الشيخ شرف الدين أبو يوسف يعقوب بن الشيخ جلال الدين التباني الحنفي.
شهر جمادى الأولى، أوله الثلاثاء: في ثالثه: قبض سعد الدين بن غراب على شرف الدين محمد بن الدماميني، ونقله إلى داره، ثم أفرج عنه في ثامنه، وخلع عليه بقضاء القضاة بالإسكندرية، وخطابة الجامع المغربي بها. واستقر أخوه تاج الدين أبو بكر في حسبة الإسكندرية، ونزل ابنا غراب معه إلى داره مجملين له.
وفي ليلة الخميس عاشره: كان بمكة - شرفها الله - سيل عظيم بعد مطر غزير، امتلأ منه المسجد الحرام حتى دخل الكعبة، وعلا على بابها نحو ذراع، وهدم عمودين من عمد المسجد، وسقطت عدة دور، ومات تحت الهدم - وفي السيل - نحو الستين إنساناً.
وفيه قدم الأمير ألطنبغا العثماني نائب صفد إلى دمشق، فأكرمه الأمير تنم وأنزله، ثم أعاده إلى صفد في تاسع عشره.
وفي يوم الخميس: هذا استقر بهاء الدين محمد بن البرجي في وكالة بيت المال، عوضاً عن شرف الدين محمد بن الدماميني.
وفي رابع عشره: خلع على الأمير الكبير بيبرس ابن أخت الملك الظاهر لأتابكية العساكر، وعلى الأمير نوروز، واستقر رأس نوبة كبير. وعلى الأمير تمراز، واستقر أمير مجلس. وعلى الأمير سودون واستقر دوادار السلطان، وخلع على شرف الدين مسعود، واستقر قاضي دمشق عوضاً عن الأخناي.
وفي خامس عشره: ورد الخبر بخروج تنم نائب الشام، وأيتمش. ممن معهما من دمشق إلى جهة غزة، فرسم بالتجهيز للسفر، وكثر عمل الناس في القاهرة للدروب والخوخ خوفاً من النهب، وتتبع ابن الزين وإلى القاهرة المماليك البطالة، وقبض عليهم، وسجنهم بخزانة شمايل.(3/13)
وفي سابع عشره: اجتمع الأمراء والمماليك بمجلس السلطان، فحثهم على السفر في أول جمادى الآخرة، وأن يخرج ثمانية أمراء من الألوف بألف وخمسمائة من المماليك المشتراوات وخمسمائة من المستخدمين، فاختلف الرأي فمنهم من أجاب، ومنهم من قال لابد من سفر السلطان، وانفضوا على غير شيء، ونفوسهم متغيرة من بعضهم علي بعض.
وفي ثامن عشره: أعدت إلى حسبة القاهرة، وصرف العين تابي. ووقع الشروع في النفقة للسفر، فحمل إلى كل من الأمراء الأكابر مائة ألف درهم، ولمن يليهم دون ذلك، وأنفق على ثلاثة آلاف وستمائة مملوك، لكل مملوك مائة دينار، فبلغت النفقة نحو خمسمائة ألف دينار.
وفي ثامن عشره: علق الجاليش، وخرج خام السلطان، فنصب تجاه مسجد تبر.
وفي تاسع عشره: استقر محمد بن غرلو في ولاية الغربية وكشف جسورها وذلك بعد موت الجمال يوسف بن قطلو بك صهر ابن المزوق. واستقر علاء الدين على بن الحريري في ولاية قوص، وصرف أسنبغا.
وفي رابع عشرينه: استقر الأمير شهاب الدين أحمد بن الزين وإلى القاهرة نائب الوجه القبلي عوضاً عن ألطبغا وإلى العرب. واستقر شهاب الدين أحمد بن أسد الكردي في ولاية القاهرة مسئولاً بها. واستقر الحاج سعد المنجكي مهتار الطشتخاناه، عوضاً عن مفتاح عبد نعمان، بعد وفاته. وفيه فر قطلوبغا الخليلي التركماني وإلى الشرقية، وقد اجتمع عنده نحو الخمسين من مماليك الأمراء المنهزمين إلى الشام، ولحقوا بنائب الشام، فقدموا دمشق أول جمادى الآخرة.
وفي خامس عشرينه: استقر المهتار غرس الدين خليل بن الشيخي مهتار الركاب خاناه على عادته، وصرف المهتار عمر. واستقر تغري برمش السيفي صراي وإلى الشرقية.
شهر جمادى الآخرة أوله الأربعاء: في ثانيه: استقر نور الدين على بن خليل بن علي بن أحمد بن عبد الله بن محمد الحكري في قضاء القضاة الحنابلة بالقاهرة ومصر، على خمسين ألف درهم، وصرف موفق الدين أحمد بن نصر الله، واستقر الأمير بكتمر الركني أمير سلاح، عوضاً عن تغري بردى من يشبغا، وفي سابعه: عرضت الجمال السلطانية، فعين، الأمير سودون طاز منها برسم سفر السلطان وأثقال مماليكه سبعة آلاف وخمسمائة وخمسة وستين جملاً، سوي ما فرق على المماليك السلطانية، وسوي الهجن.
وفيه ورد الخبر بالفتنة في الكرك، وذلك أن المهتار عبد الرحمن لما قدمها، أظهر كتباً إلى الأمير سودون الظريف نائب الكرك باستعداده لحرب الأمير أيتمش، فاختلف أهل الكرك وافترقوا فرقتين: قيسية ويمانية، فرأس قيس قاضي الكرك شرف الدين موسى بن قاضي القضاة عماد الدين أحمد الكركي. ورأس يمن الحاجب شعبان بن أبي العباس. ووقعت فتنة، نهب فيها رحل المهتار عبد الرحمن والخلعة التي أحصرها إلى النائب، وامتدت إلى الغور فنهب، ورحل أهله وفر عبد الرحمن إلى جهة مصر. وكانت بين الطائفتين مقتلة قتل فيها ستة، وجرح نحو المائة.
وانتصر ابن أبي العباس. ممن معه من يمن، لميل النائب معهم على قيس، وقبض على القاضي شرف الدين موسى وأخيه جمال الدين عبد الله، وذبحا في ثامنه، ومعهما ثمانية من أصحابهما، وألقوا في بئر من غير غسل ولا كفن، وأخذت أموالهم كلها.
وقدم علاء الدين على بن غلبك بن المكللة وإلى منفلوط، وأخبر أن ألطنبغا نائب الوجه القبلي، خرج هو ومحمد بن عمر بن عبد العزيز الهواري عن الطاعة وكبسا عثمان بن الأحدب. ففر إلى جهة منفلوط وتبعاه إليها، وخربوها. فرسم لكل من الأمير بيبرس الأتابك، وإينال باي بن قجماس، وأقباي حاجب الحجاب، وسودون بن زاده، وإينال حطب رأس نوبة، وبيسق أمير أخور، وبهادر فطيس أمير أخور، أن يتجهزوا ويسيروا جميعاً إلى بلاد الصعيد. فلم يوافقوا على ذلك، ولا سار أحد.
وورد الخبر بقدوم نائب حماة بعسكرها في ثالث عشره إلى دمشق. وأن الأمير أقبغا نائب حلب لما برز من حلب للمسير إلى دمشق ثار عليه جماعة من الأمراء، وقاتلوه فكسرهم، وقبض على جماعة منهم. وسار إلى دمشق فقدمها في يوم الخميس سادس عشره، فأكرمه الأمير تنم، وأنزله.
وأنه قد توجه الأمير أرغون شاه ويعقوب شاه، وفارس، وصرق، وفرج بن منجك إلى غزة من دمشق في ثاني عشره، فعلق جاليش السفر على الطبلخاناه تحت قلعة الجبل، وخرج دهليز السلطان. إلى الريدانية خارج القاهرة في يوم الاثنين عشرينه.(3/14)
وفي ثالث عشرينه خلع على الأمير ركن الدين عمر بن الطحان حاجب غزة بنيابة غزة، وعلى سودون حاجبها الصغير، وصار حاجب الحجاب بها.
وفي ثالث عشرينه: قدم يونس الرماح نائب طرابلس بعسكرها، ومعه الأمير أحمد ابن يلبغا إلى دمشق، فخرج الأمير دمرداش المحمدي نائب حماة من دمشق في خامس عشرينه، وتبعه الأمير تنم في بقية العساكر، يريدون مصر.
وفي سابع عشرينه: استقر شهاب الدين أحمد بن الزين عمر في ولاية القاهرة ومصر، وأن يكون حاجباً. وفي ليلة ثامن عشرينه: توجه الأمير سودون المأموري الحاجب إلى دمياط، لينقل منها الأمير يلبغا المجنون، والأمير تمربغا المنجكي، وطغنجي، وبلاط السعدي، وقراكسك إلى سجن الإسكندرية.
وكان بالقاهرة ومصر من أول ربيع الأول إلى أخر جمادى الآخرة أمراض فاشية في الناس من الحمي والبرد. ومات فيه عدة كبيرة مع توقف الأحوال، وتعطل المعايش.
وتزايد الأسعار في كل ما يباع. وصار الخبز كل خمس أواقي بثمن درهم. وانقطع الواصل من البلاد الشامية، فبلع الفستق عشرة دراهم الرطل، واللوز أربعة دراهم الرطل، والكمثرا سبعة دراهم الرطل. والسفرجلة الواحدة بعشرة دراهم. ومع ذلك خوف الناس من وقوع الفتن، لشدة اختلاف أهل الدولة.
شهر رجب، أوله الجمعة: في رابعه: نزل السلطان من القلعة إلى الريدانية ليتوجه إلى قتال أيتمش ونائب الشام، فأقام بمخيمه، وتلاحق به الأمراء، والعساكر، والخليفة، وقضاة القضاة.
وفي خامسه: خلع على الأمير الكبير بيبرس بنظر المارستان المنصوري ونظر الأحباس، ونيابة الغيبة، وعلى الأمير نوروز الحافظي بنظر الخانقاة الشيخونية، عوضاً عن الأمير أرغون شاه الأقبغاوي المنسحب إلى الشام. وعلى الأمير مبارك شاه الحاجب بنيابة الوجه القبلي، ورسم له أن يحكم من جزيرة القط إلى أسوان، ويولى من يختار من الولاة، ويعزل من كره.
وفي سادسه: خلع على الأمير نوروز لتقدمة العساكر، وأفرج عن علي بن غريب الهواري، وأقيم عوضاً عن محمد بن عمر الهواري.
وفي سابعه: انفق في المماليك بالريدانية مبلغ خمسة وعشرين ألف دينار. وعند تمام النفقة خلع على الأمير يلبغا السالمي، واركب حجرة بسرج وكنفوش وسلسلة ذهب.
وفيه رحل الجاليش من الريدانية، وفيه من الأمراء نوروز الحافظي مقدم العساكر، وبكتمر أمير سلاح، ويلبغا الناصري، وتمراز أمير مجلس، وسودون الدوادار، وشيخ المحمودي، ودقماق أمير حاجب.
وفي ثامنه: رحل السلطان ببقية العسكر، وعدة من سار أولاً وثانياً نحو سبعة آلاف فارس، وأقام بقلعة الجبل من الأمراء أينال باي بن قجماس، وأينال حطب رأس نوبة. وأقام بالإصطبل سودون بن زادة، وبهادر فطيس، وبيسق الشيخي أمير أخور. وأقام خارج القاهرة الأمير الكبير بيبرس، وهو نائب الغيبة، ومعه الأمير أقباي حاجب الحجاب.
وأما تنم نائب الشام، فإنه وجه نائب حلب بعسكره إلى جهة مصر في ثامنه. وخرج في تاسعه ومعه الأمير أيتمش وبقية العساكر، ومن انضم إليهم من التركمان. وخيم على قبة يلبغا خارج دمشق، حتى لحقه بقية العسكر، ومن سار معه من القضاة، وعمل الأمير جركس أبو تنم نائب الغيبة.
وفي حادي عشره: رحل الأمير تنم من ظاهر دمشق، وتبعه ابن الطبلاوي في ثاني عشره. وسار نائب طرابلس بعسكره ساقة.
وكان تنم من حين قدم عليه أيتمش يعمل كل يوم موكباً أعظم من الآخر، حتى قيل إنه أعظم من موكب الملك الظاهر، وكان يركب بالدف والشبابة والجاويشية والشعراء. وفي خدمته من الأمراء مقدمي الألوف ما يزيد على خمسة وعشرين، سوى أمراء الطبلخاناه. وجمع من التركمان جمعاً عظماً. وأخر موكب عمله بدمشق كان فيه عسكر دمشق وطرابلس وحماة وحلب، والأمير أيتمش، ومن معه من المصريين ومن انضم إليهم من التركمان في نحو أربعة آلاف. وانفق من الأموال على العساكر ما لا يحصي، وأنعم عليهم من الخيل والجمال والعدد وآلات الحرب. مما لا يعبر عنه، فصار في جيش عظيم جداً.(3/15)
وفي غيبته أخذ الأمير جركس أبو تنم نائب الغيبة بدمشق في طرح ما بقي من السكر على الناس، فكثر الدعاء عليهم بسبب ذلك. وكان الفساد قد عم بوصول العساكر إلى دمشق، وظلموا الناس خارج البلد، ونزلوا في الخانات والحوانيت والدور والبساتين بغير أجرة، وعاثوا وأفسدوا كثيراً، لاسيما عسكر طرابلس، فلذلك أخذهم الله أخذة رابية - كما يأتي ذكره إن شاء الله.
وفي يوم السبت تاسعه: قدم البريد من البحيرة على الأمير بيبرس نائب الغيبة بديار مصر، أن الأمير سودون المأموري سار بالأمراء من دمياط إلى الإسكندرية. فلما وصل بهم إلى ديروط لقيه الشيخ المعتقد عبد الرحمن بن نفيس الديروطي، وأضافه. فعندما قعد هو والأمراء للأكل ثار يلبغا المجنون وبقية الأمراء على سودون المأموري، وقبضوا عليه وعلى مماليكه. وبينما هم في ذلك، إذ قدمت حراقة من القاهرة فيها الأمير كمشبغا الخضري، وأياس الكمشبغاوي، وجقمق البجمقدار، وأمير آخر والأربعة في الحديد، ليسجنوا في الإسكندرية. فدخلت الحراقة شاطئ ديروط، ليقضوا حاجة لهم، فأحاط بهم يلبغا المجنون، وخلص الأربعة المقيدين، وضرب الموكلين بهم، وكتب إلى نائب الوجه البحري بالحضور إليه. وأخذ خيول الطواحين، وسار. بمن معه إلى مدينة دمنهور، وطرقها بغتة، وقبض على متوليها. وأتته العربان، فصار في عدة كبيرة، ونادى في إقليم البحيرة بحط الخراج عن أهلها، وأخذ مال السلطان الذي استخرج من تروجة وغيرها. وبعث يستدعي بالمال من النواحي. فكتب بذلك إلى السلطان والأمراء فوردت كتبهم إلى نائب الإسكندرية بالاحتراز، والتيقظ، وإلى أكابر العربان بالإنكار عليهم، وإمساك يلبغا المجنون ومن معه، وكتب إلى الأمير بيبرس بتجريد الأمير أقباي الطرنطاي حاجب الحجاب، والأمير أينال باي بن قجماس والأمير بيسق أمير أخور، والأمير أينال حطب رأس نوبة، وأربعمائة من المماليك السلطانية، ومثال إلى عربان البحيرة بحط الخراج عنهم لمدة ثلاث سنين.
ثم إن يلبغا عدى من البحيرة إلى الغربية في ليلة الجمعة خامس عشره، خوفاً من عرب البحيرة. ودخل المحلة ونهب دار الوالي، ودار إبراهيم بن بدوي كبيرها، وأخذ منه ثلاثمائة قفة فلوس، وست قفاف عن كل قفة مبلغ خمسمائة درهم. ثم عدى بعد أيام من سمنود إلى بر أشموم طناح، وسار إلى الشرقية، ونزل على مشتول الطواحين، وسار منها إلى العباسة، فارتجت القاهرة، وبعث الأمير بيبرس إلى مرابط الخيول على البرسيم، فأحضرها.
وورد الخبر بمخامرة كاشف الوجه القبلي مع هوارة، فكثر الاضطراب، واشتد الخوف، وتعين الأمير مبارك شاه إلى سفر الصعيد وشرع في استخدام الأجناد. وعزم الأمير بيبرس أن يخرج إلى المجنون.(3/16)
وفي رابع عشره: ورد كتاب السلطان بالقبض على شرف الدين محمد بن الدماميني قاضي الإسكندرية، فقبض عليه من منزله بالقاهرة، وسجن في برج بقلعة الجبل. وعظم الإرجاف بهجوم يلبغا القاهرة، فسدت الخوخ في سابع عشره وغلقت أبواب القاهرة من عشاء الآخرة، وخرج الأمير أقباي والأمير يلبغا السالمي، والأمير بيسق، والأمير ناصر الدين محمد بن سنقر أستادار الذخيرة، والأملاك، في ثلاثمائة من المماليك السلطانية، إلى ملاقاة يلبغا المجنون بالعباسة، في يوم الخميس حادي عشرينه، وساروا. وفيه قدم يشبك العثماني، وعلى يده كتاب السلطان بوصوله إلى تل العجول - ظاهر مدينة غزة - في ثامن عشره، وقد برز نائب حماة، ونائب صفد، وأقبغا اللكاش وتغري بردى، وفارس، وأرغون شاه، ويعقوب شاه، وفارس نائب ملطية، في عدة من أمراء الشام وحلب وغيرها، تبلغ عدتهم نحو خمسة آلاف فارس، يريدون الحرب، فلقيتهم عساكر السلطان، وقاتلوهم من بكرة النهار إلى وقت الظهر. مخرج اللكاش وانهزم في جماعة، ودخل في الطاعة الأمير دمرداش المحمدي نائب حماة، والأمير ألطبغا العثماني نائب صفد، والأمير صراي تمر الناصري أتابك العساكر بحلب، وجقمق نائب ملطية، وفرج بن منجك، في عدة من الأمراء والأجناد. وملك السلطان غزة من يومه، فدقت البشائر بذلك، ونودي بزينة القاهرة ومصر، فزينتا، وخلع على يشبك العثماني، ولما أراد الله أنكر شخص يقال له سراج الدين عمر الدمياطي - من صوفية خانقاة شيخو - أن يكون هذا الخبر صحيحاً، فقبض عليه وضرب على كتفيه ضرباً مبرحاً، وشهر على حمار، قد أركبه مقلوباً، وجهه إلى جهة ذنبه، وطيف به القاهرة، ثم سجن بخزانة شمائل، في يوم الجمعة ثاني عشرينه.
وفي خامس عشرينه: كان العسكر قد وصل إلى نحو العباسة، فلم يقفوا ليلبغا على خبر، وقيل لهم إنه سار إلى قطيا، فنزل الأمراء بالصالحية فلم يروا أحداً، فعادوا إلى القاهرة. وسار ابن سنقر وبيسق نحو بلاد السباخ في طلبه فلم يجداه، فعادا في يوم الجمعة ثامن عشرينه إلى غيفا، وأقاما فلم يشعرا إلا ويلبغا المجنون قد طرقهما، وقبض عليهما، وأخذ خطهما بجملة من المال، فارتجت القاهرة لذلك.
وأما تنم نائب الشام، فإن البريد وصل إلى دمشق من جهته في ثالث عشرينه، أنه وصل إلى الرملة، وأن المصريين وصلوا إلى غزة، وبعثوا إليه قاضي القضاة صدر الدين محمد بن إبراهيم المناوي في طلب الصلح فدقت الكوسات لذلك، وأصبحوا يوم الأحد رابع عشرينه بدمشق، فأغلقوا الأبواب التي للمدينة وسدوها بالحجارة، إلا باب النصر وباب الفرج، واحد بابي الجابية، وباب توما، فعجب الناس من ذلك، وكثر الكلام.
وفي يوم السبت سلخه: حضر إلى القاهرة قمج الخاصكي من البحر، فانه سار من عند السلطان على البريد إلى قطيا، فبلغه خبر يلبغا المجنون، فركب البحر من الطينة، وعلى يده كتاب السلطان من الرملة بالنصر على تنم نائب الشام.
وملخص ذلك أن تنم نزل على الرملة بمن معه. وكان لما قدم عليه من انكسر من عسكره على غزة، شق عليه ذلك، وأراد أن يقبض على بتخاص والمنقار، ففارقاه ولحقا بالسلطان. وأن السلطان بعث إليه من غزة بقاضي القضاة صدر الدين المناوي في يوم الثلاثاء تاسع عشره، ومعه ناصر الدين محمد الرماح أمير أخور، وطغاي تمر مقدم البريدية، وكتب له أماناً، وأنه باق على كفالته بالشام إن أراد ذلك. وكتب إليه الأمراء يقولون له: أنت أبونا وأخونا، وأنت أستاذنا، فإن أردت الشام فهي لك، وإن أردت مصر كنا مماليكك وغلمانك، فصن الدماء. وكان الأمراء والعسكر في غاية الخوف منه لقوته، وكثرة عدده، وتفرقهم، واختلافهم، فسار إليه القاضي وحدثه في الصلح ووعظه، وحذره الشقاق والخروج عن طاعة السلطان. فقال: ليس لي مع السلطان كلام، ولكن يرسل إلى الأمير يشبك وسودون طاز وجركس المصارع، وجماعه عينهم، ويعود الأمير أيتمش كما كان هو وجميع الأمراء الذين معه. فإن فعل ذلك، وإلا فما بيني وبينهم إلا السيف. وثبت على ذلك، فقام القاضي ليخرج، فخرج معه بنفسه إلى خارج الخيمة، وأركبه فرساً في غاية الحسن، وعضده لما ركب.
فقدم القاضي يوم الخميس حادي عشرينه ومعه أحد خاصكية السلطان، ممن كان عند تنم، وعوقه نحو أربعة أشهر عن الحضور، وأعاد الجواب فاتفق الجميع على محاربته.(3/17)
فلما كان يوم السبت ثالث عشرينه: ورد الخبر أنه ركب. ممن معه يريد الحرب، فسار السلطان بعساكره من غزة، إلى أن أشرف على الجينين قريب الظهر، فعاين تنم قد صف عساكره، ويقال إنهم خمسة آلاف فارس وستة آلاف راجل. فتقدمت عساكر السلطان إليهم وقاتلوهم، فلم يكن غير يسير حتى انهزمت عساكر تنم، ووقع في الأسر تنم نائب الشام، وأقبغا نائب حلب، ويونس نائب طرابلس، وأحمد ابن الشيخ علي، وفارس حاجب الحجاب وبيغوت، وشادي خجا، وبيرم رأس نوبة أيتمش، وجلبان نائب حلب. ومن أمراء الطبلخاناه والعشرات ما ينيف على مائة أمير، وفر أيتمش، وتغري بردى، ويعقوب شاه، أرغون شاه، وطيفور، في ثلاثة آلاف إلى دمشق ليملكوها. وعندما قبض على تنم كتب إلى دمشق بالنصرة ومسك تنم، فوصل البريد بذلك يوم الثلاثاء سادس عشرينه على نائب الغيبة بدمشق، فنودي بذلك.
ثم قدم الأمير أيتمش إلى دمشق يوم الأربعاء سابع عشرينه، فقبض عليه، وعلى تعري بردى، وطيفور، وأقبعا اللكاش، وحبسوا بدار السعادة. ثم مسك بعد يومين أرغون شاه، ويعقوب شاه. وتقدم القاضي سعد الدين إبراهيم بن غراب إلى دمشق، فقدمها في يوم السبت سلخه.
وأما يلبغا المجنون فإنه نزل البير البيضاء في يوم الخميس ثامن عشرينه، فبعث إليه الأمير بيبرس أماناً، فقبض على من أحضره إليه وطوقه بالحديد. فاستعد الناس بالقاهرة، وباتوا ليلة السبت على أهبة اللقاء. وركب الأمراء كلهم بكرة يوم السبت سلخه إلى قبة النصر خارج القاهرة، وأقبل يلبغا المجنون، فواقعهم عند بساتين المطرية، ومعه نحو ثلاثمائة فارس، وقصد القلب، وفيه سودون بن زادة، وأينال حطب، وثلاثمائة من المماليك السلطانية، فأطبق عليه الأمير بيبرس من الميمنة، ومعه الأمير يلبغا السالمي، وساعدهما إينال باي. ممن معه من الميسرة، فتقنطر سودون من زادة، وخرق يلبعا المحنون القلب في عشرين فارساً، وصار إلى جهة الجبل الأحمر، وانكسر سائر من معه من الأمراء وغيرهم، فتبعهم العسكر وفي ظنهم أن يلبغا المجنون فيهم، فأدركوا الأمير تمربغا المنجكي بالزيات وأخذوه، وأخذ طلب يلبغا المجنون من عند خليج الزعفران برأس الريدانية، فوجد فيه الأمير ناصر الدين محمد بن سنقر الأستادار، والأمير بيسق أمير أخور، فأطلقوهما، ونهبوه، وعاد العسكر إلى تحت القلعة. وسار المجنون في عشرين فارساً مع ذيل الجبل إلى تجاه دار الضيافة. فلما رأى كثرة من اجتمع من العامة خاف منهم أن يرجموه، فقال لهم: أنتم ترجوني بالحجارة وأنا أرجمكم بالذهب، فدعوا له وتركوه، فسار من خلف القلعة، ومضى إلى جهة الصعيد من غير أن يعرف به الأمراء. وفيه استقر علاء الدين علي بن طرنطاي كاشف الوجه البحري، وتغري برمش والي الشرقية.
شهر شعبان، أوله الأحد: في أوله: قدم الأمير سيف الدين جكم رأس نوبة إلى دمشق، وقيد أيتمش ومن معه ونقلهم من دار السعادة إلى قلعة دمشق، ونادى في الناس بالأمان، ومنع المماليك السلطانية من المعرض للناس، وألا ينزلوا داخل المدينة.
وفي ليلة الاثنين قال: وصل الأمير سردون الدوادار قريب السلطان وقد والي نيابة دمشق، ومعه الأمير تنم، وعشرة من الأمراء في القيود فحبسهم بالقلعة أيضاً.
وفي يوم الاثنين المذكور: دخل السلطان الملك الناس بأمرائه وعساكره إلى قلعة دمشق، فكان يوما مشهوداً وسر الناس به سروراً كبيراً. وقدم معه شرف الدين مسعود، وقد استقر في قضاء دمشق، عوضاً عن الأخناي. ووقعت الحوطة على حواشي تنم وأسبابه، وعلى ابن الطبلاوي. و لم يفقد في هذه الواقعة من الأعيان سوى الأمير صلاح الدين محمد بن تنكز، فإنه قتل.(3/18)
وفي خامسه: خلع على الأمير سودون الدوادار بنيابة دمشق، وعلى الأمير دمرداش نائب حماة بنيابة حلب، وعلى الأمير شيخ المحمدي بنيابة طرابلس، وعلى الأمير دقماق بنيابة حماة، وعلى الأمير ألطنبغا العثماني بنيابة صفد على عادته، وعلى الأمير جنتمر التركماني نائب حمص بنيابة بعلبك، وعلى الأمير بشباي حاجب الحجاب بدمشق، وعلى شمس الدين محمد بن الأخناي، وأعيد إلى قضاء دمشق، وعزل مسعود، فكانت ولايته منذ كتب توقيعه نحو ثمانين يوماً، لم يباشر فيها بدمشق سوي ثلاثة أيام، وعلى تقي الدين عبد الله بن الكفري بقضاء الحنفية بدمشق عوضاً عن البدر محمد المقدسي، فاستناب صدر الدين على بن أمين الدين بن الآدمي، وعلى شمس الدين محمد النابلسي بقضاء الحنابلة بدمشق، عوضاً عن تقي الدين إبراهيم بن مفلح. وفيه قبض على الأمير كمشبغا الخضري، وبتخاص الخاصكي من أصحاب يلبغا المجنون، وسجنا بقلعة الجبل. وورد الخبر بأن يلبغا المجنون في نحو المائة، وأنه أخذ خيل والي الفيوم، وبغال قاضيها، واستخدم عدة، وتوجه إلى الميمون.
وفي تاسعه: استقر مسعود في قضاء طرابلس.
وفي عاشره: استقر جمال الدين محمد بن عمر بن علي بن عرب في حسبة القاهرة، عوضى، ممال وعد به.
وفي ثاني عشره: قدم أسنبغا العلاي بخبر دخول السلطان إلى دمشق، ووقوع أيتمش وغيره من الأمراء في القبضة، فدقت البشائر بقلعة الجبل ونودي بتقوية الزينة. وأما الأسعار فإنها تزايدت بالقاهرة، وبلغ القمح خمسة وسبعين درهماً الأردب، والحملة الدقيق ماية وعشرين درهماً، والخبز ثلاثة أرطال بدرهم.
وفي ليلة الرابع عشر: ذبح بقلعة دمشق أربعة عشر أميراً وهم: الأمير أيتمش، وأقبغا اللكاش، وجلبان الكمشبغاوي وأرغون شاه، وفارس الحاجب، ويعقوب شاه، وبيقجا طيفور حاجب دمشق، وأحمد بن يلبغا الخاصكي العمري، وبيغوت اليحياوي، ومبارك المجنون، وبهادر العثماني نائب البيرة. وجهزت رأس أيتمش ورأس فارس إلى القاهرة.
وفي رابع عشره: توجه الأمير دمرداش المحمدي نائب حلب من دمشق إليها، وتوجه من الغد الأمير دقماق نائب حماة إليها. وتوجه في سادس عشره الأمير شيخ نائب طرابلس إليها.
وفيه قدم الخبر من الرحبة إلى السلطان بدمشق أن السلطان أحمد بن أويس متملك بغداد، والأمير قرا يوسف التركماني، فرا هاربين في نفر يسير إلى الفرات فمنعا من التعدية، حتى يرسم لهما بذلك. وفيه خلع على الأمير يشبك الخازندار، واستقر دوادارا، عوضاً عن الأمير سودون، المنتقل لنيابة الشام.
وفي سادس عشره: نودي في القاهرة بقلع الزينة فقلعت.
وفي تاسع عشره: وصل البريد من دمشق برأسي أيتمش وفارس، فعلقتا على باب قلعة الجبل، ونقلا من الغد إلى باب زويلة، وعلقا عليه إلى ثالث عشرينه، سلما لأهلهما، وقال في ذلك المقرئ الأديب شهاب الدين أحمد الأوحدي:
يا دهركم تفني الكرام عامدا ... هل أنت سبع للوري ممارس
أيتمش رب العلا صرعته ... ورحت لليث الهمامفارس
وقال:
أرى العز الكرام من البرايا ... تحكم فيهم أهل المناحس
ولولا جور حكم الدهر فيهم ... لما ظفرت جراكسة بفارس
وقال أيضاً:
أيا فرسان الوغا أمراء مصر ... ذللتم للجراكسة العوابس
ولولا طبع هذا الدهر غدر ... لأعجزهم من الفرسان فارس
وفيه أفرج عن سراج الدين عمر الدمياطي، وبعث الأمير يلبغا السالمي من مال الديوان المفرد برسم نفقة المماليك مبلغ خمسة وثلاثين ألف دينار إلى دمشق.
وخرج من القاهرة لتعبئة الإقامات السلطانية إلى قطيا، وقبض على الأمير طولو بالقاهرة، فسجن مع تمربغا المنجكي وكمشبغا الخضري.
وفي سابع عشرينه: ولى الملك الناصر بدمشق السيد الشريف علاء الدين علي بن برهان الدين إبراهيم بن عدنان نقيب الأشراف بدمشق كتابة السر بها، وصرف ناصر الدين محمد بن عمر بن محمد بن محمد بن هبة الله بن عبد المنعم بن محمد بن الحسن بن علي بن أبي الكتائب بن أبي الطيب.
شهر رمضان، أوله الاثنين:(3/19)
في ليلة الخميس رابعه: قتل الأمير تنم نائب الشام والأمير يونس الرماح نائب طرابلس بقلعة دمشق خنقاً بعد أن استصفيت أموالهما، ولم يبق لهما شيء، ثم سلما إلى أهلهما، فدفن تنم بتربته بميدان الحصى خارج دمشق، ودفن يونس بالصالحية. فكانت مدة ولاية تنم نيابة الشام سبع سنين وستة أشهر ونصفاً، وولاية يونس طرابلس نحو ست سنين.
وكان سودون الظريف نائب الكرك قد خرج منها، وقدم دمشق على السلطان بعد أن استخلف على الكرك الحاجب شعبان بن أبي العباس، فعزل سودون في هذا اليوم، وأقام السلطان في نيابة الكرك الأمير سيف الدين بدخاص السودوني، وخرج إليها.
وفيه خرج السلطان من قلعة دمشق بعساكره، ونزل الكسوة يريد مصر، فكانت إقامته بدمشق أحدا وثلاثين يوماً. وأخرج ابن الطلاوي، وابن أبي الطيب كاتب السر - في الترسيم، بعدما أهينا وأخذت أموالهما. وسار البريد إلى القاهرة بخروج السلطان من دمشق فقدم في ثامنه، فدقت البشائر ثلاثة أيام بقلعة الجبل. ونودي في القاهرة أن يبيض الناس حوانيتهم وظواهر أملاكهم وكثروا القناديل التي تعلق على الحوانيت كل ليلة.
وفي ثاني عشره: نزل السلطان غزة. وقتل ابن الطبلاوي. وقدم الحريم السلطاني إلى القاهرة، فدخل قلعة الجبل في عشرينه، ودخل أيضاً ابن أبي الطب محتفظاً به، فزينت القاهرة ومصر.
وفيه قدم القاضي سعد الدين إبراهيم بن غراب إلى القاهرة فخرج الناس إلى لقاء القادمين.
وفي سادس عشرينه: قدم السلطان، وقد فرشت له شقاق الحرير من تربة يونس عند قبة النصر إلى القلعة، فكان يوماً مشهوداً.
وفي ثامن عشرينه: أنعم على كل من الأمير قطلوبغا الحسني الكركي بإقطاع الأمير سودون - نائب الشام - وإمرة ماية تقدمة ألف، وعلى الأمير أقباي الكركي الخازندار بإقطاع الأمير شيخ المحمودي نائب طرابلس، وعلى الأمير جركس القاسمي المصارع بإقطاع مبارك شاه، وعلى الأمير جكم بإقطاع دقماق المحمدي، وعلى الطواشي مقبل الزمام بإقطاع الأمير الطواشي بهادر الشهابي مقدم المماليك، وعلى الطواشي سعد الدين صواب السعدي جنكل بإقطاع مقبل، وبإقطاع صواب على الطواشي شاهين الحلبي نائب المقدم.
وفي هذا الشهر: نقص ماء النيل بحيث صار الرجل يخوض من بولاق إلى البر الغربي.
وفي آخره: كثر ازدحام الناس على شراء روايا الماء بالقاهرة وظواهرها، حتى بلغت الراوية أربعة دراهم، بعد درهم ونصف. وعجز كثير من الناس عن شرائها لعظم الازدحام، وكثرة تلقي السقائين من البحر. وصار الناس يخرجون بأنفسهم وعبيدهم وإمائهم وغلمانهم، فينقلون الماء من البحر إلى دورهم على البغال والحمير، وفي الجرار على الروس. وتزايد العطش بالناس. واتفق مع ذلك شدة الحر المفرط، وقدوم العسكر، فكان من ذلك ما لم يعهد مثله.
وفي هذا الشهر: امتنع شعبان بن أبي العباس بالكرك على الأمير بتخاص، فكانت بينهما حروب شديدة طويلة، هلك فيها كثير من الناس وخربت عدة من القرى.
شهر شوال، أوله الأربعاء: وفيه قبض على علاء الدين ألطنبغا وإلى العرب نائب الوجه القبلي، وسلم إلى الوالي. واستقر دمرداش السيفي نائب الوجه القبلي، وصرف مبارك شاه، وأنعم عليه بإمرة طبلخاناه. وأفرج عن ناصر الدين محمد بن أبي الطيب، كاتب سر دمشق.
وقدم مملوك يلبغا المجنون بكتابه يسأل نيابة الوجه القبلي، فرسم أن يخرج إليه تجريدة فيها الأمير تمراز، ويلبغا الناصري، وأقباي الحاجب وأينال باي وبكتمر، ونوروز الحافظي، وأسنبغا، وتتمة ثمانية عشر أميراً. وأن يكون مقدمهم الأمير نورور، وخرجوا في ثالث عشره ومعهم نحو الخمسمائة من المماليك السلطانية.
وفي رابع عشره: أعيد شمس الدين محمد البخانسي إلى حسبة القاهرة، وصرف الطنبدي. وورد الخبر بأن محمد بن عمر بن عبد العزيز الهواري حارب يلبغا المجنون في شرق أبويط. وقبض على أمير على دواداره، وعلى نائب الوجه البحري، وعلى أياس الكمشبغاوي الخاصكي وعلى جماعة من أصحابه، وأنه فر ونزل البحر فغرق بعرسه، وغرق معه جماعة، وأنه أخرج من النيل فوجد قد أكل السمك لحم وجهه، فتوجه البريد لرجوع الأمراء. وفيه استقر سنقر السيفي في ولاية أشموم الرمان، وعلى بن قرط في ولاية أسوان.
وفي ثامن عشره: برز المحمل، وأمير الحاج بيسق، إلى الريدانية خارج القاهرة.(3/20)
وفي ثاني عشرينه: استقر علي بن حمزة - أحد مقدمي الحلقة - في ولاية منوف، وصرف محمد بن الطويل، وضرب بالمقارع عند الأمير يشبك الشعباني الدوادار.
وفي يوم الجمعة رابع عشرينه: - والناس في انتظار الصلاة بالجوامع - ارتجت القاهرة وظواهرها، وقيل قد ركب الأمراء والمماليك فغلقت أبواب الجوامع، واختصر الخطباء الخطة، ونزلوا عن المنابر، وأوجزوا في الصلاة، وفي بعض الجوامع لم يخطب، وفي بعضها لم تصل الجمعة.
وخرج الناس مذعورين خوفاً من النهب، وفيهم من سقط منه منديله أو دراهمه و لم يع لذلك وأغلقت الأسواق، واختطف الناس الخبز، فلم يظهر للإشاعة صحة، وإنما كان سبب ذلك أن مملوكين تخاصما تحت القلعة، وكان حمار قد ربط في تخت من خشب، فنفر من ذلك وسحب التخت، فجفلت الخيول التي تنتظر أربابها بالقرب من جامع شيخو بالصليبة حتى تنقضي الصلاة. فلما رأى الناس الخيول ظنوا لما في نفوسهم من الاختلاف بين سودون طاز أمير أخور ويشبك الدوادار وأنهم على عزم الركوب للحرب، أن الواقعة قامت بينهما، فطار هذا الخبر إلى بولاق وظواهر القاهرة إلى مصر. وفي بقية النهار قبض وإلى القاهرة على جماعة من أراذل العامة، وضربهم وشهرهم، ونودي عليهم هذا جزاء من يكثر فضوله ويتكلم فيما لا يعنيه. ثم نودي من الغد بالأمان وأن من تحدث فيما لا يعنيه ضرب بالمقارع وسمر، فسكن الناس.
وفيه حضر أمير على اليلبغاوي أبو دقن نائب البحيرة وقطلو بغا دوادار المجنون، وعمر دوادار ألطنبغا وإلى العرب، فسجنوا بخزانة شمايل.
وفي يوم الأحد سادس عشرينه: وسادس عشرين شهر بشنس: - أحد شهور القبط - بشر بزيادة ماء النيل على العادة، وأن القاع - وهو الماء القديم - ثلاثة أذرع ونصف. وكان القاع في السنة الماضية أربعة أذرع ونصف.
وفي ليلة الثامن والعشرين منه: ظهرت نار بالمسجد الحرام من رباط، ومشت بالجانب الغربي من المسجد، فعمت النار، واحترقت جميع سقف هذا الجانب، وبعض الرواقين المقدمين من الجانب الشامي، وعم الحريق فيه إلى محاذاة باب دار العجلة لخلوه بالهدم وقت السيل. وصار موضع الحريق أكواماً عظيمة، وتكسر جميع ما كان في موضع الحريق من الأساطين، وصارت قطعاً.
وفي ثامن عشرينه: منع جميع مباشري الدولة بديار مصر من النزول إلى بيت الأمير يشبك الدوادار. وذلك أن كل من الأستادار والوزير وناظر الجيش والخاص وكاتب السر كانوا منذ قدم السلطان من دمشق ينزلون من القلعة أيام المواكب الأربعة - وهي يومي الاثنين والخميس، ويومي الثلاثاء والسبت - إلى دار الأمير يشبك، ويقفون في خدمته، ويعرضون عليه الأمور، فيأمرهم. مما يريد، وينهاهم عما لا يحب، فيصرفون سائر أحوال الدولة عن أوامره ونواهيه. فحنق من ذلك سودون طاز أمير أخور، وتفاوض معه بمجلس السلطان في كفه عن ذلك، حتى أذعن، فمنعوا، ثم نزلوا إليه على عادتهم وصاروا جميعاً يجلسون عنده من غير أن يقفوا.
وفيه استقر علي بن مسافر نائب الوجه البحري، وعزل أحمد بن أسد.
واستقر ناصر الدين محمد بن صلاح الدين صالح بن أحمد بن السفاح الحلبي في نظر الأحباس، وعزل بدر الدين حسن بن المرضعة، وأضيف إليه نظر الجوالي وتوقيع الدست. وكان قد حضر مع العسكر من دمشق.
وفي تاسع عشرينه: استقر الوزير تاج الدين عبد الرزاق في ولاية قطا ونظرها، كما كان قبل الوزارة.
شهر ذي القعدة، أوله الخميس: فيه استقر غرس الدين خليل بن الطوخي والي الجيزة، وعزل الأمير حسن بن قراجا العلاي.(3/21)
وفي ثانيه: ورد البريد من حلب ودمشق بأن ألقان أحمد بن أويس صاحب بغداد، لما توجه إلى بغداد واستولى عليها، كان لقرا يوسف في مساعدته أثر كبير، فعندما تمكن قبض على كثير من أمراء دولته وقتلهم، وأكثر من مصادرات أهل بغداد وأخذ أموالهم، فثار عليه من بقي من الأمراء، وأخرجوه منها، وكاتبوا صاحب شيراز أن يحضر إليهم، فلحق ابن أويس بقرا يوسف بن قرا محمد التركماني صاحب الموصل، واستنجد به، فسار معه إليها، فخرج أهل بغداد وكسروهما بعد حروب، فانهزما إلى شاطئ الفرات، وبعثا يسألان نايب حلب أن يستأذن السلطان في نزولهما بالشام. وأن الأمير دمرداش استدعي الأمير دقماق نايب حماة إلى حلب، وخرجا في عسكر جريدة يبلغ عددهم الألف، وكبسا ابن أويس وقرا يوسف، وهما في نحو سبعة آلاف فارس، فاقتتلا قتالاً شديداً في يوم الجمعة رابع عشرين شوال، قتل فيه الأمير جاني بلث اليحياوي أتابك حلب، وأسر دقماق نائب حماة، وانهزم دمرداش نائب حلب، وصار إلى حلب ولحقه بعد ان افتك نفسه، بمائة ألف درهم وعد بها، وأن سودون بن واده - القادم من مصر إلى حلب بالبشارة بقدوم السلطان إلى مصر سالماً - بعث المائة ألف إليهما، مبعثا إليه: إنا لم نأت محاربين وإنما جئنا مستجيرين، ومستنجدين بسلطان مصر، فحاربنا هؤلاء فدفعنا عن أنفسنا. فكتب إلى نائب الشام بمسير عساكر الشام جميعاً، وأخذ ابن أويس وترا يوسف وإرسالهما إلى مصر.
وفي ثامنه: استقر أمير سعيد بن أمير فرج بن أيدمر في ولاية الغربية، وصرف محمد، ابن غرلو.
وفيه توقفت زيادة ماء النيل ثلاثة أيام أولها الخميس، فركب عدة من الأمراء، وكبسوا أماكن اجتماع الناس للفرجة ونهوا عن عمل الفواحش، فزاد يوم الأحد، واستمرت الزيادة.
وورد الخبر بأن محمد بن عمر الهواري قابل الأمراء المجردين بالصعيد، وأنهم خلعوا عليه، وفر عثمان بن الأحدب فتتبع حتى أخذ.
وفيه استقر عمر بن ممدود الكوراني في ولاية مصر، عوضاً عن الأمير شهاب الدين أحمد بن الزين. وبقيت ولاية القاهرة بيد ابن الزين. واستقر أبو بكر بن بدر في ولاية قليوب، وعزل بلبان.
وفيه توجه عبد الرحمن المهتار إلى الكرك، فقدمها في سادس عشرينه، وطلب من منجد بن خاطر أمير بني عقبة أربعمائة بعير وعد بها في الإمرة ووجد بتخاص لم يتسلم الكرك لامتناع شعبان بن أبي العباس بها.
شهر ذي الحجة، أوله السبت: فيه ورد الخبر من مكة بحريق الحرم الذي تقدم ذكره، وأنه تلف به ثلث الحرم. ولولا ما سقط قبل ذلك من السيل لأتت النار على ساير الحرم، وأنه تلف فيه من العمد الرخام مائة وثلاثون عموداً، فهال الناس ذلك وتحدث أهل المعرفة بأن هذا منذر بحادث جليل يقع في الناس، فكان كذلك. ووقعت المحن العظيمة بقدوم تمرلنك، كما يأتي ذكره إن شاء الله.
وفي خامسه: رسم باستقرار علاء الدين علي بن أبي البقاء في قضاء دمشق، وعزل الإخناي. ثم انتقض ذلك، واستقر عوضه أخوه قاضي القضاة بدر الدين محمد بن أبي البقاء ثم أعرض عنها واستقر علاء الدين في خامس عشره.
وفي ثامنه وهو سابع مسرى: أوفي ماء النيل ستة عشره ذراعاً، فركب الأمير يشبك وخلق المقياس، وفتح الخليج على العادة، بعدما عزم السلطان على الركوب لذلك، ثم تركه خوفاً من الفتنة.
وفي يوم عرفة: أفرج عن الأمير تغري بردى، والأمير أقبغا الأطروش نائب حلب من سجنهما بقلعة دمشق، وحملا إلى القدس ليقيما به بطالين. وظهر الأمير صرق من اختفائه بدمشق، فأكرمه نائب الشام، وكاتب فيه، فأنعم عليه بتقدمة ألف بحلب، وسار إليها.
وفي ثالث عشره: قدم حاجب الأمير نعير بن حيار أمير آل فضل، وقاصد نائب حلب، ونائب بهسنا، بأن نائب بهسنا جمع من التركمان كثيراً، وواقع أحمد بن أويس صاحب بغداد، وكسره، ونهب ما معه، وبعث بسيفه. ويقال إنه سيف علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وفي سابع عشره: نزل تيمورلنك على مدينة سيواس، ففر منها الأمير سليمان بن خوندكار أبي يزيد بن عثمان إلى أبيه، فاستمر تيمور يحاصرها.
وفي ليلة الثلاثاء خامس عشرينه: اتفق مماليك الأمير نوروز على قتله. فلما بلغه ذلك احترز منهم بداره، وأصبح قبض على جماعة منهم، وغرف منهم في النيل أربعة.(3/22)
وفي يوم الخميس سابع عشرينه: أعيد موفق الدين أحمد بن نصر الله إلى قضاء القضاة الحنابلة، وصرف نور الدين علي الحكري. واستقر شهاب الدين أحمد اليغموري الدمشقي في نيابة الأستادار بالبلاد الشامية. وفيه قدم مبشرو الحاج، واخبروا بسلامة الحجاج.
وفي هذه السنة: ملك الأمير تيمورلنك مدينة دله من الهند، وقد مات ملكها فيروز شاه بن نصره شاه.
وكان من عظماء ملوك الإسلام، فملك بعده مملوكه ملو وعليه قدم تيمور، ففر منه، وأوقع تيمور بالمدينة وما حولها وخربها، وسار عنها، فعاد إليها ملو وقد خربت، فمضي منها إلى السلطان.
ومات في هذه السنة
الشيخ برهان الدين إبراهيم بن حسن بن موسي بن أيوب الأبناسي الشافعي، بطريق مكة في ثامن المحرم.
ومات الأمير علاء الدين علي الحلبي والي الغربية، وكاشف الوجه البحري في حادي عشرين ربيع الأول.
ومات قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم بن قاضي القضاة ناصر الدين نصر الله بن أحمد بن محمد بن أبي الفتح الحنبلي، وهو قاض، في ثامن ربيع الأول، عن نحو أربع وثلاثين سنة، وكان عفيفاً جميل السيرة.
ومات المعلم شهاب الدين أحمد بن محمد الطولوني المهندس، بطريق مكة، في صفر.
ومات قاضي القضاة مجد الدين إسماعيل بن إبراهيم بن محمد بن على الحنفي، وهو معزول، في عاشر جمادى الأولى.
ومات شيخ الشيوخ شيخ الإسلام جلال الدين أبو العباس أحمد، ابن شيخ الشيوخ نظام الدين إسحاق بن عاصم الأصفهاني، بخانقاة سرياقوس، في خامس عضرين ربيع الآخر.
ومات الأمير الطواشي بهادر الشهابي مقدم المماليك، في سابع عشر رجب.
ومات الفقير المعتقد المجذوب سليمان السواق القرافي في تاسع عشر ربيع الأول.
ومات الأمير قجماس المحمدي، شاد السلاح خاناه، في ثامن ربيع الأول، قتيلاً.
ومات الأمير قشتمر بن قجماس أخو الأمير أينال باي، في ثامن ربيع الأول، قتيلاً.
ومات الأمير قطلوبك الحسامي المنجكي، بالينبع من الحجاز.
ومات قرابغا الأسنبغاوي، أحد أمراء الطبلخاناه.
ومات الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير جمال الدين عبد ا لله ابن الأمير بكتمر الحاجب، في خامس عشرين ربيع الآخر.
ومات الأمير ينتمر المحمدي الحاجب.
وماتت خوند التنكزية، بنت الملك الناصر محمد بن قلاوون، امرأة الأمير تنكز بغا، في ثامن صفر.
وماتت شيرين أم الملك الناصر فرج، في ليلة السبت أول ذي الحجة. ودفنت بالمدرسة الظاهرية بين القصرين.
ومات الأمير جمال الدين يوسف الهذباني، في ثامن ذي الحجة بدمشق، ومولده سنة أربع وسبعمائة تخمينا وتأمر في أيام الناصر محمد بن قلاوون، وباشر ولاية الولاة بدمشق، وأعلى تقدمة ألف بها، وولى نيابة قلعة دمشق غير مرة. وكان شيخ الطور، وحصل فيها مالاً كثيراً، ونكب غير مرة، وقدم القاهرة مراراً. وكانت فيه دعابة مفرطة.
ومات بالقدس شهاب الدين أحمد بن الحافظ أبي سعيد صلاح الدين خليل بن كيكلدي العلاي، في شهر ربيع الأول، ومولده سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة بدمشق، جمع الكثير، وقدم القاهرة، وأقام بالقدس، ورحل الناس إليه.
سنة ثلاث وثمانمائة
أهل المحرم، بيوم الأحد، تاسع عشرين مسرى: والأردب القمح من خمسين إلى ما دونها، والشعير والفول بثلاثين فما دونها. والدينار الأفرنتي بتسعة وعشرين درهماً.
وفي ثالثه: خلع على الأمير تغري برمش السيفي متولي الشرقية، لولاية القاهرة، عوضاً عن شهاب الدين أحمد بن الزين.
وفي سادسه: قدم البريد من دمشق بأن تمرلنك نزل على سيواس، وانهزم سليمان ابن أبي يزيد بن عثمان، وقرا يوسف بن قرا محمد إلى جهة برصا، بلد الروم، وأنه أخذ سيواس، وقتل من أهلها جماعة كبيرة.
وفي تاسعه: وردت رسل ابن عثمان، فكتبت أجوبة كتبهم، وسفروا.
وفي يوم الخميس ثاني عشره: استقر القاضي نور الدين على بن الجلال يوسف بن مكي الدميري المالكي في قضاء القضاة المالكية، عوضاً عن قاضي القضاة ولى الدين عبد الرحمن بن خلدون على مال وعد به.(3/23)
وفي رابع عشره: استدعي إلى حضرة السلطان بالقصر من القلعة قاني باي العلاي، رأس نوبة أحد الطبلخاناه، وأمر بلبس تشريف نيابة غزة، فامتنع من ذلك، فقبض عليه وسلم إلى الأمير أقباي حاجب الحجاب، فأقام عنده إلى آخر النهار، فاجتمع طائفة من المماليك السلطانية يريدون أخذه فخاف، وصعد إلى قلعة الجبل وشاور في أمره، فأخرج عنه، وبقيت عليه إمرته.
وفي سادس عشره: استقر الأمير جركس السودوني، - ويقال له أبو تنم - في نيابة الكرك، عوضاً عن الأمير بتخاص من غير أن يتسلمها، فسار جركس إليها، ودخلها من غير أن ينازعه شعبان بن أبي العباس، وأقام بها، وقد عمها الخراب، وتلف أكثر القرى، لشدة ما كان من بتخاص وابن أبي العباس من الفتن والحروب.
وفي عشرينه: استقر محمد بن العادلي والي منوف، وعزل علاء الدين بن حمزة.
وفي رابع عشرينه استقر: بلبان وإلى أسوان، وعزل علي بن قرط.
وفي خامس عشرينه: ورد البريد من حلب بأخذ تمرلنك سيواس وملطية.
وفي سادس عشرينه: قدم البريد من حلب بوصول أوائل عسكر تمرلنك إلى عين تاب، فأدركوا المسلمين. وفيه انتهت زيادة ماء النيل إلى تسعة عشر ذراعاً واثني عشر إصبعاً، وثبت إلى سابع عشر توت.
وفي ثامن عشرينه: استقر الأمير شهاب الدين أحمد بن الوزير الأمير ناصر الدين محمد بن رجب بن كلفت في شد الدواوين، عوضاً عن الشريف علاء الدين على البغدادي. وفيه استدعى الخليفة، وقضاة القضاء، والأمراء، وأعيان الدولة، وأعلموا أن تمرلنك وصل إلى سيواس وأخذها، ووصلت مقدمته إلى مرعش وعين تاب والقصد أخذ مال من التجار إعانة على النفقة في العساكر. فقال القضاة: أنتم أصحاب اليد، وليس لكم معارض، وإن كان القصد الفتوى فلا يجوز أخذ مال أحد، ويخاف من الدعاء على العساكر إن أخذ مال التجار، فقيل لهم نأخذ نصف الأوقاف نقطعها للأجناد البطالين، فقيل وما قدر ذلك ومتى اعتمد في الحرب على البطالين من الأجناد؟ خيف أن يأخذوا المال؟ ويميلون عند اللقاء مع من غلب وطال الكلام حتى استقر الرأي على إرسال الأمير أسنبغا الحاجب لكشف الأخبار، وتجهيز عساكر الشام إلى جهة تمرلنك.
وفي سلخه: استقر الأمير مبارك شاه حاجباً ثانياً، عوضاً عن دقماق نائب حماة، وأضيف إلى تغري برمش وإلى القاهرة الحجوبية على عادة ابن الزين. واستقر ناصر الدين محمد بن الأعسر كاشف الفيوم وواليها كاشف البهنساوية والأطفيحية وعزل أسنبغا.
شهر صفر، أوله الثلاثاء: وفي خامسه: استقر حسام الدين بن قراجا العلاي والي الجيزة، وصرف خليل بن الطوخي.
وفيه سار الأمير أسنبغا لكشف أخبار تمرلنك. وأنعم على أقبغا الجمالي نائب - كان - بنيابة غزة، ثم بطل ذلك.
وفي رابع عشره: قدم البريد من حلب بكتاب النائب وكتاب أسنبغا، أن تمرلنك نزل على قلعة بهسنا، بعدما ملك المدينة، وأنه يحاصرها، وقد وصلت عساكره إلى عينتاب، فوقع الشروع في حركة السفر.
وفي حادي عشرينه: خلع علي بدر الدين محمد بن محمد بن مقلد القدسي الحنفي بقضاء الحنفية بدمشق، عوضاً عن تقي الدين عبد الله بن يوسف بن أحمد بن الحسين بن سليمان بن فزارة، المعروف بابن الكفري.
وفي رابع عشرينه: خرج الأمير يلبغا السالمي إلى شبرا الخيام - من ضواحي القاهرة - وكسر بها من جرار الخمر أربعة وأربعين ألف جرة، وأراق ما فيها، وخرب بها كنيسة للنصارى. وعاد في أخره ومعه عدة م أحمال من جرار الخمر، فكسرها عند باب زويلة وتحت القلعة.
ومن حينئذ تلاشى حال أهل شبرا ومنية الشيرج، فإن معظم أموالهم كان من عصير الخمر وبيعه.
وفي سادس عشرينه: استقر طيبغا الزيني كاشف الوجه البحري، وعزل ابن طرنطاي.
شهر وبيع الأول، أوله الأربعاء: وفي ثانيه: عمل السلطان المولد النبوي على العادة.(3/24)
وفي ثالثه: علق جاليش السفر، وأخذ العسكر في أهبة السفر. وذلك أنه قدم البريد من أسنبغا أن تمرلنك نزل على بزاعة ظاهر حلب، فبرز نائب طرابلس بسبعمائة فارس إلى حاليش تمرلنك، وهم نحو ثلاثة آلاف. وترامي الجمعان بالنشاب، ثم اقتتلوا، وأخذ من التتار أربعة، وعاد كل من الفريقين إلى موضعه فوسط الأربعة على أبواب مدينة حلب. وأما دمشق فإن أهل محلاتها اجتمعوا في ثانية، ومعهم أهل النواحي، بالميدان وحملوا الصناديق الخليفتية، وشهروا السيوف، ولعبوا بين يدي النائب، ثم انفضوا. وخرج في ثالثه القضاة في جمع كبير، ونادوا بقتال تمرلنك، وتحريض الناس عليه، وعرض النائب العشران بالميدان، وفرض على البساتين والدور مالاً، وقدم الأمير أسنبغا من القاهرة في سابعه بتجهيز العساكر وغيرهم لحرب تمرلنك. فقرئ كتاب السلطان بذلك في الجامع، ونودي في تاسعه بألا يؤخذ من أحد شيء مما فرض على الدور وغيرها.
وفيه قدم رسول تمر بكتابه للمشايخ والأمراء والقضاة بأنه قدم في عام أول إلى العراق، يريد أخذ القصاص ممن قتل رسله بالرحبة ثم عاد إلى الهند لما بلغه ما ارتكبوه من الفساد، فأظفره الله بهم. فبلغه موت الظاهر، فعاد وأوقع بالكرج. ثم قصد، لما بلغه قلة أدب هذا الصبي - أبي يزيد بن عثمان - أن يعرك أذنه، ففعل بسيواس وغيرها من بلاده ما بلغكم. ثم قصد بلاد مصر ليضرب بها السكة، ويذكر اسمه في الخطة، ثم يرجع بعد أن يقرر سلطان مصر بها. وطلب أن يرسل إليه أطلمش ليدركه، إما بملطية أو حلب أو دمشق، وإلا فتصير دماء أهل الشام وغيرهم في ذمتكم، مخرج نائب صفد في رابع عشره، وخرجت الأطلاب في نصفه.
وقدم الخبر من حلب بنزول تمر على بهسنا فأخذ الناس في الرحيل من دمشق، فمنعهم النائب من ذلك، ورحل النائب من برزه في ثاني عشرينه يريد حلب، فلقيه نائب طرابلس في طريقه.
وكان من خبر أخذ تمرلنك مدينة حلب، أنه لما نزل على عين تاب، بعث إلى دمرداش نائب حلب يعده باستمراره في نيابة حلب، ويأمره بمسك الأمير سودن نائب الشام. فلما قدم عليه الرسول بذلك أحضره إلى نواب ممالك الشام، وقد حضروا إلى حلب وهم: سودن نائب دمشق، وشيخ المحمودي نائب طرابلس ودقماق نائب حماة، وألطنبغا العثماني نائب صفد، وعمر بن الطحان نائب غزة بعساكرها، فاجتمع منهم بحلب نحو ثلاثة آلاف فارس منهم عسكر دمشق ثمانمائة فارس، إلا أن الأهواء مختلفة، والآراء مفلولة، والعزائم محلولة والأمر مدبر. فبلغ رسول تمرلنك الرسالة دمرداش، فأنكر مسك سودن نائب دمشق. فقال له الرسول إن الأمير - يعني تمرلنك - لم يأت إلا بمكاتبتك إليه، وأنت تستدعيه أن ينزل على حلب، وأعلمته أن البلاد ليس بها أحد يدفع عنها. فحنق منه دمرداش، وقام إليه وضربه، ثم أمر به فضربت رقبته. ويقال أن كلام هذا الرسول كان من تنميق تمرلنك ومكره، ليغرق بذلك بين العساكر. ونزل تمر على جبلان خارج حلب، يوم الخميس تاسع ربيع الأول. وزحف يوم الجمعة، وأحاط بسور حلب، وكانت بين الحلبيين وبينه في هذين اليومين حروب.
فلما أشرقت الشمس يوم السبت حادي عشره، خرجت نواب الشام بالعساكر وعامة أهل حلب إلى ظاهر المدينة وعبوا للقتال. ووقف سودن نائب دمشق في الميمنة، ودمرداش في الميسرة، وبقية النواب في القلب، وقدموا أمامهم عامة أهل حلب. فزحف تمرلنك بجيوش قد سدت الفضاء، فثبت الأمير شيخ نائب طرابلس، وقاتل - هو وسودن نائب دمشق - قتالاً عظيماً، وبرز الأمير عز الدين أزدمر أخو أينال اليوسفي، وولده يشبك ابن أزدمر في عدة من الفرسان، وأبلوا بلاء عظيماً. وظهر عن أزدمر وولده من الإقدام ما تعجب منه كل أحد، وقاتلا قتالاً عظيماً، فقتل أزدمر وفقد خبره، وثخنت جراحات يشبك، وصار في رأسه فقط زيادة على ثلاثين ضربة بالسيف، سوى ما في بدنه، فسقط بين القتلى، ثم أخذ وحمل إلى تمرلنك.
ولم يمض غير ساعة حتى ولت العساكر تريد المدينة، وركب أصحاب تمر أقفيتهم، فهلك تحت حوافر الخيل من الناس عدد لا يدخل تحت حصر، فإن أهل حلب خرجوا حتى النساء والصبيان، وازدحم الناس مع ذلك في دخولهم من أبواب المدينة، وداس بعضهم بعضاً، حتى صارت الرمم طول قامة، والناس تمشي من فوقها.(3/25)
وتعلق نواب المماليك بقلعة حلب، ودخل معهم كثير من الناس، وكانوا قبل ذلك قد نقلوا إلى القلعة سائر أموال الناس بحلب. واقتحمت عساكر تمرلنك المدينة وأشعلوا بها النيران، وجالوا بها ينهبون ويأسرون ويقتلون. واجتمع بالجامع وبقية المساجد نساء البلد، فمال أصحاب تمر عليهن، وربطوهن بالحبال، ووضعوا السيف في الأطفال فقتلوهم بأجمعهم، وأتت النار على عامة المدينة فأحرقتها. وصارت الأبكار تفتض من غير تستر ولا احتشام، بل يأخذ الواحد الواحدة ويعلوها في المسجد والجامع، بحضرة الجم الغفير من أصحابه، ومن أهل حلب، فيراها أبوها وأخوها ولا يقدر أن يدفع عنها، لشغله بنفسه.
وفحش القتل، وامتلأ الجامع والطرقات برمم القتلى، واستمر هذا الخطب من صحوة نهار السبت إلى أثناء يوم الثلاثاء، والقلعة قد نقب عليها من عدة أماكن، وردم خندقها، و لم يبق إلا أن تؤخذ. فطلب النواب الأمان، ونزل دمرداش إلى تمرلنك، فخلع عليه ودفع إليه أماناً، وخلعاً للنواب، وبعث معه عدة وافرة إلى النواب، فأخرجوهم. ممن معهم، وجعلوا كل اثنين في قيد وأحضروا إليه، فقرعهم ووبخهم، ودفع كل واحد منهم إلى من يحتفظ به. وسيقت إليه نساء حلب سبايا. وأحضرت إليه الأموال، ففرقها على أمرائه. واستمر بحلب شهراً. والنهب في القرى لا يبطل، مع قطع الأشجار، وهدم البيوت وجافت حلب وظواهرها من القتلى، بحيث صارت الأرض منهم فراشاً، لا يجد أحد مكاناً يمشي عليه إلا وتحت رجليه رمة قتيل. وعمل من الروس منابر عدة، مرتفعة في السماء نحو عشرة أذرع، في دور عشرين ذراعاً، حرز ما فيها من رءوس بني آدم، فكان زيادة على عشرين ألف رأس. وجعلت الوجوه بارزة يراها من يمر بها.
ثم رحل تمر عنها، وهي خاوية على عروشها، خالية من ساكنها وأنيسها، قد تعطلت من الأذان، وإقامة الصلوات. وأصبحت مظلمة بالحريق، موحشة، قفراء مغبرة، لا يأويها إلا الرخم. وأما دمشق، فأنه لما قدم عليهم الخبر بأخذ حلب، نودي في الناس بالتحول إلى المدينة والاستعداد للعدو، فاختبط الناس، وعظم ضجيجهم وبكاؤهم، وأخذوا ينتقلون في يوم الأربعاء نصفه من حوالي المدينة إلى داخلها. واجتمع الأعيان للنظر في حفظ المدينة.
فقدم في سابع عشره المنهزمون من حماه، فعظم الخوف، وهم الناس بالجلاء، فمنعوا منه، ونودي من سافر نهب. فورد في ثامن عشره الخبر بنزول طائفة من العدو على حماه، فحصنت مدينة دمشق، ووقف الناس على الأسوار، وقد استعدوا، ونصبت المناجنيق على القلعة، وشحنت بالزاد.
فقدم الخبر في ثاني عشرينه بأخذ قلعة حلب، وبوصول رسل تمر بتسليم دمشق، فهم نائب الغيبة بالفرار، فرده العامة رداً قبيحاً، وماج الناس وأجمعوا على الجلاء. واستغاث الصبيان والنساء فكان وقتاً شنعاً، ونودي من الغد لا يشهر أحد سلاحاً، وتسلم البلاد لتمر، فنادى نائب القلعة بالاستعداد للحرب، فاختلف الناس. فقدم الخبر بمجيء السلطان، ففتر عزم الناس عن السفر، ثم تبين أن السلطان لم يخرج من القاهرة.
وفي ثامن عشره: فرقت الجمال بقلعة الجبل على المماليك السلطانية.
وفي عشرينه: نودي بالقاهرة وظواهرها على أجناد الحلقة أن يكونوا يوم الأربعاء ثاني عشرينه في بيت الأمير يشبك الدوادار للعرض عليه، فانزعج الناس، ووقع عرض الأجناد من يوم الأربعاء.
وفي خامس عشرينه: ورد الخبر بهزيمة نواب الشام، وأخذ تمرلنك حلب ومحاصرته القلعة، فقبض على المخبر، وحبس. ووقع الشروع في النفقة للسفر، فأخذ كل مملوك ثلاثة آلاف وأربعمائة درهم. وخرج الأمير سودن من زاده، والأمير أينال حطب على الهجن في ليلة الأربعاء تاسع عشرينه، لكشف هذا الخبر.(3/26)
وفي هذا الشهر: أيضاً أخذت مدينة حماه وكان من خبرها أن مرزه شاه ابن تمرلنك، نزل عليها بكرة يوم الثلاثاء رابع عشره، وأحاط بسورها، ونهب المدينة، وسبي النساء والأطفال، وأسر الرجال، ووقع أصحابه على النساء يطؤوهن ويفتضوا الأبكار جهاراً، من غير استتار، وخربوا جميع ما خرج عن السور. وقد ركب أهل البلد السور، وامتنعوا بالمدينة، وباتوا على ذلك. فلما أصبحوا يوم الأربعاء فتحوا باباً واحداً من أبواب المدينة، ودخل ابن تمر في قليل من أصحابه ونادي بالأمان. فقدم الناس إليه أنواع المطاعم فقبلها، وعزم أن يقيم رجلاً من أصحابه على حماه، فقيل له أن الأعيان قد خرجوا منها، فخرج إلى مخيمه، وبات به. ودخل يوم الخميس ووعد الناس بخير، وخرج. ومع ذلك، فإن القلعة ممتنعة عليه.
فلما كان ليلة الجمعة نزل أهل القلعة إلى المدينة وقتلوا من أصحاب مرزه شاه رجلين كانا أقرهما بالمدينة، فغضب من ذلك وأشعل النار في أرجاء البلد، واقتحمها أصحابه يقتلون ويأسرون وينهبون، حتى صارت كمدينة حلب، سوداء، مغبرة، خالية من الأنيس.
وفيه تكاثر جمع الناس بدمشق، بمن فر إليها من مملكة حلب وحماه وغيرها، واضطربت أحوال الناس بها، وعزموا على مفارقتها، وخرجوا منها شيئاً بعد شيء، يريدون القاهرة.
وفيه ركب شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني وقضاة القضاة، والأمير أقباي حاجب الحجاب، والأمير مبارك شاه الحاجب. ونودي بين أيديهم بالقاهرة من ورقة تتضمن أمر الناس بالجهاد في سبيل الله لعدوكم الأكبر تمرلنك، فإنه أخذ البلاد، ووصل إلى حلب، وقتل الأطفال على صدور الأمهات، وأخرب الدور والمساجد والجوامع، وجعلها إسطبلات للدواب، وهو قاصدكم، يخرب بلادكم، ويقتل رجالكم وأطفالكم، ويسبي حريمكم. فاشتد جزع الناس وكثر صراخهم، وعظم عويلهم، وكان يوماً شديداً.
شهر ربيع الآخر، أوله الجمعة: في ثالثه: قدم الأمير أسنبغا السيفي الحاجب، وأخبر بأخذ تمرلنك مدينة حلب وقلعتها، باتفاق دمرداش معه، وأنه بعد أن قبض عليه أفرج عنه. وحكي ما نزل من البلاء بأهل حلب، وأنه قال لنائب الغيبة بدمشق أن يخلي بين الناس وبين الخروج منها، فإن الأمر صعب وأن النائب لم يمكن أحداً من المسير. فخرج السلطان في يومه، ونزل بالريدانية ظاهر القاهرة، وتبعه الأمراء والخليفة والقضاة إلا قاضي القضاة جمال الدين يوسف الملطي الحنفي، فإنه أقام لمرضه. وألزم الأمير يشبك قاضي القضاة ولى الدين عبد الرحمن بالسفر إلى دمشق، فخرج مع العسكر وتعين الأمير تمراز أمير مجلس لنيابة الغيبة. وأقام من الأمراء الأمير جكم من عوض في عدة من الأمراء. وأمر تمراز بعرض أجناد الحلقة، وتحصيل ألف فرس وألف جمل، وإرسال ذلك مع من يقع عليه الاختيار من أجناد الحلقة.
وفيه استقر الأمير أرسطاي من خجا علي في نيابة الإسكندرية، عوضاً عن أمير فرج بعد موته. وكان أرسطاي منذ أفرج عنه مع الأمير نوروز قد أقام بثغر الإسكندرية بطالاً. فوردت إليه الولاية بالتقليد والتشريف.
وفي خامسه: نودي على أجناد الحلقة بالحضور للعرض في بيت الأمير تمراز، وهدد من تأخر عن الحضور. وخرج البريد إلى أعمال ديار مصر بالوجهين القبلي والبحري بجمع أقوياء أجناد الحلقة من الريف، وبتجهيز العربان للخروج إلى حلب تمرلنك.
وفي بكرة يوم الجمعة ثامنه: سار الجاليش، وفيه من الأمراء والأكابر نوروز رأس نوبة، وبكتمر الركني أمير سلاح، ويلبغا الناصري، وأقباي حاجب الحجاب، وأينال باي بن قجماس، وبيبرس الأتابك ابن أخت السلطان الظاهر.
وفي عاشره: رحل السلطان ببقية العساكر.
وفي ثاني عشره: قدم الخبر إلى دمشق بوصول جماعة تمرلنك قريباً من حمص، فأنزعج الناس، وأخذوا في الاستعداد وحمل الناس أموالهم إلى القلعة، وجفل جماعة من الناس بقدوم الأمير دمرداش نائب حلب إلى دمشق، في يوم السبت رابع عشرينه، فاراً من تمرلنك. وخرج لملاقاة السلطان فقدم من الغد الناس - وقد جفلوا - من بعلبك وأعمالها، بنسائهم ومواشيهم، لنزول تمر عليهم، فخرج كثير من أهل دمشق في ليلة الأربعاء ثامن عشرينه.
وفي رابع عشره: استقر البدر محمود العينتابي في حسبة القاهرة بسفارة الأمير جكم، وعزل البخانسي.(3/27)
وفي خامس عشره: استقر الأمير أسنبغا الحاجب في كشف الجسور بالأشمونين. وخليل الشرفي جسور المنوفية، وقجماس والي العرب في كشف جسور الغربية.
وفي عشرينه: دخل السلطان مدينة غزة واستقر بالأمير تغري بردى من أسنبغا في نيابة دمشق، وبأقبغا الجمالي في نيابة طرابلس، وبتمربغا المنجكي في نيابة صفد، وبطولو من علي شاه في نيابة غزة، وبصدقة بن الطويل في نيابة القدس، وبعثهم إلى ممالكهم. وسار الجاليش من غزة في رابع عشرينه.
وسار السلطان في سادس عشرينه، وقد انضم إليه كثيرة ممن فر من البلاد الشامية.
وفي آخره: استقر الأمير تمراز نائب الغيبة بمنكلي بغا - مملوك مبارك شاه - في ولاية البهنسا، عوضاً عن يلبغا الزيني. فلما حضر إلى الأمير يلبغا السالمي نزع عنه الخلعة، وضربه بالمقارع ومقترح، ووكل به. فلما أصبح خلع عليه، وأذن له في السفر إلى ولايته، وذلك بعد ما دخل عليه في أمره، فراعى الأمير تمراز، وتلافي ما وقع منه، فلم يرض هذا تمراز، وحقد عليه حقداً زائداً.
شهر جمادى الأول، أوله السبت: في ثانيه: قدم البريد من السلطان، بأنه قد ورد خمسة من أمراء طرابلس بكتاب أسندمر نائب الغيبة، يتضمن أن أحمد بن رمضان التركماني، وابن صاحب الباز، وأولاد شهري، ساروا وأخذوا حلب، وقتلوا من بها من أصحاب تمرلنك، وهم زيادة على ثلاثة آلاف فارس. وأن تمرلنك بالقرب من سليمة، وأنه بعث عسكراً إلى طرابلس، فثار بهم أهل القرى وقتلوهم عن أخرهم بالحجارة، لدخولهم بين جبلين، وأنه قد حضر إلى الطاعة خمسة من أمراء المغل، وأخبروا بأن نصف عسكر تمرلنك على نية المصير إلى الطاعة السلطانية. وأن صاحب قبرس، ووزيره إبراهيم كرى، وصاحب الماغوصة، وردت كتبهم بانتظار الإذن في تجهيز المراكب في البحر لقتال تمرلنك.
وفيه استقر تمراز بناصر الدين محمد بن خليل الضاني في ولاية مصر. وعزل عمر بن الكوراني. وفيه قبض الأمير يلبغا السالمي على متا بترك النصارى ليعاقبه، وألزمه بمال ليأخذ عنه بضائع، فحلف أنه ليس عنده مال، وأن سائر ما يرد إليه من المال يصرفه في فقراء المسلمين وفقراء النصارى، فوكل به.
وفي ثالثه: قدم الأمير تغري بردى - نائب الشام - دمشق.
وفيه جفل أهل قرى دمشق إليها لوصول طائفة من أصحاب تمرلنك نحو الصنمين.
وفي سادسه: قدم السلطان دمشق بعساكره، وقد وصلت أصحاب تمرلنك إلى البقاع.
وفي عاشره: اقتتل بعض العسكر مع التمرية.
وفي يوم السبت خامس عشره: نودي في القاهرة ومصر أن الأمير يلبغا السالمي أمر أن نساء النصارى يلبسن أزراراً زرقاً. ونساء اليهود يلبسن أزراراً صفراً.
وأن النصارى واليهود لا يدخلون الحمامات إلا وفي أعناقهم أجراس وكتب على بترك النصارى بذلك إشهاداً، بعد أن جرت بينه وبينه عدة محاورات، حتى أشهد عليه بالتزام ذلك، إلزامه سائر النصارى بديار مصر، وألزم سائر مدولبي الحمامات ألا يكونوا يهودياً ولا نصرانياً من الدخول بغير جرس في عنقه، فقام الأمير تمراز في معارضته.
وفي يوم السبت: هذا نزل تمرلنك إلى قطا فملأت جيوشه الأرض، وركب طائفة منهم إلى العسكر وقاتلوهم، فخرج السلطان من دمشق يوم الثلاثاء ثامن عشره إلى يلبغا، فكانت وقعة انكسرت ميسرة العسكر، وانهزم أولاد الغزاوي وغيرهم إلى ناحية حوران، وجرح جماعة، وحمل تمر حملة منكرة، ليأخذ بها دمشق، فدفعته عساكر السلطان.
وفي عشرينه: نادي الأمير تمراز بالقاهرة من كانت له ظلامة فعلية ببيت الأمير وأن اليهود والنصارى على حالهم، كما كانوا في أيام الملك الظاهر. فبطل ما أمر به السالمي.
وفيه أمر السالمي أن يضرب دنانير الذهب محررة الوزن، على أن كل دينار مثقال، سواء عزم على إبطال المعاملة بالدنانير الأفرنتية المشخصة، فضرب الدينار السالمي، وتعامل الناس به عدداً، ونقش عليه السكة الإسلامية.(3/28)
وفي ثاني عشرينه: قدم البريد من السلطان أنه دخل دمشق يوم الخميس سادسه، وأقام بقلعتها إلى يوم السبت ثامنه، ثم خرج إلى مخيمه ظاهر المدينة عند قبة يلبغا. فحضر جاليش تمرلنك وقت الظهر من جهة جبل الثلج، وهو نحو ألف فارس، فسار إليهم مائة فارس من عساكر السلطان، وكسروهم وقتلوا منهم جماعة، وأنه حضر في تلك الليلة عدة من التمرية للطاعة، وأخبروا بنزول تمر على البقاع العزيزي فلتكونوا على حذر، فإن تمر كثير الحيل والمكر فدقت البشائر بقلعة الجبل ثلاثة أيام.
وفي خامس عشرينه: قدم البريد من السلطان، فاستدعي الأمير تمراز شيخ الإسلام البلقيني وولده جلال الدين عبد الرحمن قاضي العسكر، ومن تأخر بالقاهرة من الأعيان، وقرئ عليهم كتاب السلطان بأنه قدم إلى دمشق في سادسه، وواقع طائفة من العسكر في ثامنه، أصحاب تمرلنك، وأن مرزه شاه بن تمر، وصهره نور الدين قتلا. وقتل قرايلك بن طرالي التركماني، وأن السلطان حسين بهادر - رأس ميسرة تمرلنك وابن بنته - حضر إلى الطاعة في ثالث عشره، ومعه جماعة كبيرة، فخلع عليه، وأركب فرساً بسرج وكنفوش من ذهب، وأنزل دار الضيافة بدمشق، وأن تمر نازل تحت جبل الثلج، وقد أرسل في طلب الصلح مراراً، فلم نجبه لأنه بقي في قبضتنا، ونحن نطاول معه الأمر حتى يرسل إلينا الأمراء المقبوض عليهم، وما أخذه من حلب وغيرها. وأن الأمير نعير دخل في الطاعة، وقدم إلى عذراء وضمير. وأن الأمير شهاب الدين أحمد بن الشيخ توجه إلى الأغوار، وجمع خلقاً كثيراً، منهم عيسى بن فضل أمير آل علي، وبني مهدي، وعرب حارثة، وابن القان، والغزاوي، فصدفوا من التمرية زيادة على ألفي فارس، فقاتلوهم وقتلوا أكثرهم، وأخذوا منهم ذهباً ولؤلؤاً كبيراً. وأنه قد مات من أصحاب تمر بالبرد أكثر من ثلاثة آلاف نفس.
وقرئ أيضاً كتاب آخر بأن الأمير يلبغا السالمي لا يحكم إلا فيما يتعلق بالاستادارية خاصة، ولا يحكم في شيء مما كان يحكم فيه بين الأخصام مما يتعلق بالأمور الشرعية، وما يتعلق بالأمراء والحجاب، وأن الحاكم في هذه الأشياء الأمير تمراز نائب الغيبة. وسبب هذا أن السالمي - لما مات قاضي القضاة جمال الدين يوسف الملطي في تاسع عشر ربيع الآخر - كتب إلى السلطان يسأل في الإذن له بالتحدث في الأحكام الشرعية، فأجيب إلى ذلك، وكتب إليه به، فأقام له نقيباً كنقباء القضاة، وحكم بين الناس، في الأمور الشرعية، فشق هذا على تمراز، وكاتب السلطان في إبطال هذا، فكتب إليه بذلك. ولما قرئ على من حضر، نودي بالقاهرة ومصر أن من وقف ليلبغا السالمي في شكوى عوقب، ومن كانت له ظلامة أو شكوى أو أخذ منه السالمي شيء، فعليه بالأمير الكبير تمراز. ودقت البشائر أيضاً بالقلعة.
وفي سابع عشرينه: استدعي الأمير تمراز شمس الدين محمد البرقي الحنفي - أحد موقعي قضاة الحنفية - وتحدث معه في أمر السالمي، فكتب محضراً بقوادح في السالمي، وكتب فيه جماعة. وبلغ ذلك السالمي، وكان قد خرج من القاهرة، فحضر يوم الأحد سلخه إلى عند الأمير تمراز، وتفاوضا مفاوضة كبيرة، آلت إلى أن أصلح بينهما الأمير مبارك شاه الحاجب، والأمير بيسق أمير أخور. وعاد السالمي إلى منزله، وطلب البرقي وضربه عريا ضرباً مبرحاً، وأمر به أن يشهر كذلك، فقام الناس وشفعوا فيه حتى رده من الباب، وطلب جماعة من اليهود والنصارى وضربهم، وشهرهم، ونادي عليهم هذا جزاء من يخالف الشرع الشريف. وطلب دوادار وإلى القاهرة، وضربه لكونه نادى بما تقدم ذكره في حقه، فهرب الوالي إلى بيت تمراز واحتمي به، خوفا على نفسه.
شهر جمادى الآخرة، أوله الاثنين: في أوله خلع الأمير تمراز على ناصر الدين محمد بن ليلى بولاية مصر. فلما حضر إلى السالمي نزع عنه الخلعة وضربه عرياناً، وشهره وهو ينادي عليه هذا جزاء من يلي من عند غير الأستادار، ومن يلي بالبراطيل، فأدركه أحد مماليك تمراز وسار به إليه. فلما رآه مضروباً اشتد حنقه، وعزم على الركوب للحرب، فما زال به من حضر حتى أمسك عن إقامة الحرب. واشتدت العداوة بينهما.(3/29)
وفيه قدم من أخبر باختلاف الأمراء على السلطان، وعوده إلى مصر، فكثر خوض الناس في الحديث، وكان من خبر السلطان أن تمرلنك بعث إليه وإلى الأمراء في طلب الصلح، وإرسال أطلمش من أصحابه، وأنه يبعث من عنده من الأمراء والمماليك، فلم يجب إلى ذلك. وكانت الحرب بين أصحاب تمر وطائفة من عساكر السلطان في يوم السبت ثامن جمادى الأولى كما تقدم. ثم كانت الحرب ثانياً في يوم الثلاثاء حادي عاشره. وفي كل ذلك يبعث تمرلنك في طلب الصلح فلا يجاب.
وفي يوم الأربعاء ثاني عشره: اختفي من الأمراء والمماليك السلطانية جماعة منهم الأمير سودن الطيار، والأمير قاني باي العلاي، وجمق أحد الأمراء.
ومن الخاصكية يشبك العثماني، وقمج الحافظي، وبرسبغا الدوادار، وطرباي في آخرين، فوقع الاختلاف عند ذلك بين الأمراء. وأتاهم الخبر بأن الجماعة قد توجهوا إلى القاهرة، ليسلطوا الشيخ لاجين الجركسي، فركب الأمراء في أخر ليلة الجمعة حادي عشرينه، وأخذوا السلطان، وخرجوا بغتة من غير أن يعي والد على ولده. وساروا على عقبة دمر، يريدون مصر من جهة الساحل، ومروا بصفد، فاستدعوا نائبها الأمير تمربغا المنجكي وأخذوه معهم إلى غزة. وتلاحق بهم كثير من أرباب الدولة. فأدرك السلطان الأمراء الذين اختفوا بدمشق: سودن الطار، وقاني باي ومن معهما بغزة. فما أمكن إلا مجاملتهم، وأقام بغزة ثلاثة أيام، وتوجه إلى القاهرة، بعدما قدم بين يديه آقبغا الفقيه أحد الدوادارية. فقدم إلى القاهرة يوم الاثنين ثاني جمادى الآخرة، وأعلم بوصول السلطان إلى غزة، فارتجت البلد، وكادت عقول الناس أن تختل. وشرع كل أحد يبيع ما عنده، ويستعد للهروب من مصر. فلما كان يوم الخميس خامسه، قدم السلطان إلى قلعة الجبل، ومعه الخليفة وأمراء الدولة ونحو الألف من المماليك السلطانية، ونائب دمشق الأمير تغري بردى، وحاجب الحجاب بها الأمير باشا باي، وغالب أمرائها، ونائب صفد، ونائب غزة، وهم في أسوأ حال، ليس مع الأمير سوى مملوك أو مملوكين فقط، وفيهم من هو بمفرده، ليس معه من يخدمه. وذهبت أموالهم وخيولهم وجمالهم وسلاحهم، وسائر ما كان معه، مما لو قوم لبلغت قيمته عشرات آلاف ألف دينار. وشوهد كثير من المماليك لما قدم وهو عريان. وكان الأمير يلبغا السالمي قد تلقي السلطان بالكسوة له، وللخليفة، وسائر الأمراء.
وأما دمشق فإن الناس بها أصبحوا يوم الجمعة بعد هزيمة السلطان، ورأيهم محاربة تمرلنك، فركبوا أسوار المدينة ونادوا بالجهاد، وزحف عليهم أصحاب تمر، فقاتلوهم من فوق السور، وردوهم عنه، وأخذوا منهم عدة من خيولهم. وقتلوا منهم نحو الألف، وأدخلوا رءوسهم إلى المدينة، فقدم رجلان من قبل تمر، وصاحا بمن على السور: أن الأمير يريد الصلح، فابعثوا رجلاً عاقلاً حتى نحدثه في ذلك. فوقع اختيار الناس على إرسال قاضي القضاة تقي الدين إبراهيم بن محمد بن مفلح الحنبلي، فأرخى من السور، واجتمع بتمرلنك وعاد إلى دمشق، وقد خدعه تمرلنك، وتلطف معه في القول، وقال: هذه بلدة الأنبياء، وقد أعتقتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة عن أولادي. فقام ابن مفلح في الثناء على تمر قياماً عظيماً، وشرع يخذل الناس عن القتال، ويكفهم عنه، فمال معه طائفة من الناس، وخالفته طائفة، وقالت: لا نرجع عن القتال. وباتوا ليلة السبت على ذلك، وأصبحوا وقد غلب رأي ابن مفلح، فعزم على إتمام الصلح، وأن من خالف ذلك قتل.(3/30)
وفي الوقت، قدم رسول تمر إلى سور المدينة في طلب الطقزات، وهي عادة تمر إذا أخذ مدينة صلحاً أن يخرج إليه أهلها من كل نوع من أنواع المآكل والمشارب والدواب والملابس تسعة، يسمون ذلك طقزات، فإن التسعة بلغتهم يقال لها طقز. فبادر ابن مفلح واستدعي من القضاة والفقهاء والتجار حمل ذلك، فشرعوا فيه حتى كمل وساروا به إلى باب النصر ليخرجوه إلى تمرلنك، فمنعهم نائب القلعة من ذلك، وهددهم بحريق المدينة عليهم. فلم يلتفتوا إلى قوله، وتركوا باب النصر، ومضوا إلى جهة أخرى من جهات البلد. وأرخوا الطقزات من السور، وتدلي ابن مفلح ومعه كثير من الأعيان وغيرهم، وساروا إلى مخيم تمرلنك، وباتوا به ليلة الأحد. ثم عادوا بكرة الأحد وقد استقر تمر منهم بجماعة في عدة وظائف، ما بين قضاة قضاة، ووزير، ومستخرج الأموال، ونحو ذلك، ومعهم فرمان، وهو ورقة فيها تسعة أسطر، تتضمن أمان أهل دمشق على أنفسهم، وأهليهم خاصة. فقري على منبر جامع بني أمية، وفتح من أبواب المدينة باب الصغير فقط، وقدم أمير من أمراء تمرلنك، فجلس به ليحفظ البلد ممن يعبر إليها وأكثر ابن مفلح ومن كان معه من ذكر محاسن تمرلنك وبث فضائله، ودعا العامة إلى طاعته، وموالاته، وحثهم بأسرهم على جمع المال الذي تقرر جمعه وهو ألف ألف دينار، ففرض ذلك على الناس كلهم، وقاموا به من غير مشقة لكثرة أموالهم. فلما كمل المال، حمله ابن مفلح وأصحابه إلى تمر، ووضعوه بين يديه. فلما عاينه غضب غضباً شديداً، و لم يرض به، وأمر بابن مفلح ومن معه أن يخرجوا عنه، فاخرجوا، ووكل بهم. ثم ألزموا بحمل ألف تومان، والتومان عبارة عن عشرة آلاف دينار من الذهب، إلا أن سعر الدينار عندهم يختلف، فتكون جملة ذلك عشرة آلاف ألف دينار، فالتزموا بها، وعادوا إلى البلد، وفرضوه على الناس، فجبوا أجرة مساكن دمشق كلها عن ثلاثة أشهر، وألزموا كل إنسان من ذكر وأنثى، وحر وعبد، وصغير وكبير بعشرة دراهم. وألزم مباشر كل وقف من سائر الأوقاف بمال، فأخذ من أوقاف جامع بني أمية ألف درهم، ومن بقية أوقاف الجوامع والمساجد والمدارس والمشاهد والربط والزوايا شيء معلوم، بحسب ما اتفق، فنزل بالناس في استخراج هذا بلاء عظيم. وعوقب كثير منهم بالضرب، وشغل كل أحد بما هو فيه، فغلت الأسعار، وعز وجود الأقوات، وبلغ المسد من القمح - وهو أربعة أقداح - إلى أربعين درهماً فضة. وتعطلت الجمعة والجماعة من دمشق كلها، فلم تقم بها جمعة إلا مرتين، الأولى في يوم الجمعة تاسع عشر جمادى الآخرة، ودعا الخطب فيها بجامع بني أمية للسلطان محمود، ولولي عهده ابن الأمير تيمور كركان، ثم شغل الناس بعدها عن الدين والدنيا بما هم فيه. وذلك أنه نزل شاه الملك - أحد أمراء تمر - بجامع بني أمية، ومعه أتباعه، وادعى أنه نائب دمشق، وجمع كل ما كان في الجامع من البسط والحصر، وستر بها شرفات الجامع، وصلى الناس الجمعة في شمالي الجامع، وهم قليل. وشاهدوا أصحاب شاه ملك يلعبون في الجامع بالكعاب، ويضربون بالطنابير. ثم بعد الجمعتين منعوا من إقامة في الجمعة بالجامع، فصلى طائفة الجمعة بعد ذلك بالخانقاه السميساطية، فتعطلت سائر الجوامع والمساجد من إعلان الأذان، وإقامة الصلاة. وبطلت الأسواق كلها، فلم بيع شيء إلا ما كان مما يورد ثمنه في الجباية المقررة.
وزاد بالناس البلاء أن أصحاب تمر لا يأخذون إلا الدراهم والدنانير لا غير، وردوا الفلوس، فانحطت وصار ما كان بخمسة دراهم لا يحسب الناس فيه فيما بينهم غير درهم واحد.(3/31)
هذا ونائب القلعة ممتنع بها، وقد حاصره تمر، فخرب ما بين القلعة والجامع بالحريق وغيره. ثم إن النائب سلم بعد تسعة وعشرين يوماً. فلما تكامل حصول المال الذي هو بحسابهم ألف تومان، حمل إلى تمر، فقال لابن مفلح وأصحابه: هذا المال بحسابنا، إنما هو ثلاثة آلاف دينار. وقد بقي عليكم سبعة آلاف ألف دينار، وظهر أنكم قد عجزتم. وكان تمر لما خرجت إليه الطقزات، وفرض للجباية الأولى التي هي ألف ألف دينار، قرر مع ابن مفلح وأصحابه أن ذلك على أهل البلد، وأن الذي تركه العسكر المصري من المال والسلاح والدواب وغير ذلك لا يعتد به لهم، وإنما هو لتمر. فخرج الناس إليه بأموال أهل مصر. وبدا منهم في حق بعضهم بعضاً من المرافعات أنواع قبيحة، حتى صارت كلها إليه. فلما علم أنه قد استولى على أموال المصريين ألزمهم بإخراج أموال الذين فروا من التجار وغيرهم إلى دمشق خوفاً منه. وكان قد خرج من دمشق عالم عظيم، فتسارعوا إلى حمل ذلك إليه، وجروا على عادتهم في النميمة بمن عنده من ذلك شيء، حتى أتوا على الجميع. فلما صار إليه ذلك كله ألزمهم أن يخرجوا إليه سائر ما في المدينة من الخيل والبغال والحمير والجمال، فاخرج إليه جميع ما كان في المدينة من الدواب، حتى لم يبق بها شيء من ذلك. ثم ألزمهم أن يخرجوا إليه جميع آلات السلاح، جليلها وحقيرها، فتتبعوا ذلك، ودل بعضهم على بعض، حتى لم يبق بها من آلات القتال وأنواع السلاح شيء. ثم بعد حمل الفريضتين ورميه ابن مفلح ومن معه بالعجز عن الاستخراج، قبض على أصحاب ابن مفلح، وألزمهم أن يكتبوا له جميع خطط دمشق وحاراتها وسككها، فكتبوا ذلك ودفعوه إليه، ففرقه على أمرائه. وقسم البلد بينهم، فساروا إليها، ونزل كل أمير في قسمه، وطلب من فيه، وطالبهم بالأموال، فكان الرجل يوقف على باب داره في أزرى هيئة، ويلزم بما لا يقدر عليه من المال، فإذا توقف في إحضاره عذب بأنواع العذاب من الضرب وعصر الأعضاء، والمشي على النار، وتعليقه منكوشاً، وربطه بيديه ورجليه، وغم أنفه بخرقة فيها تراب ناعم، حتى تكاد نفسه تخرج، فيخلى عنه حتى يستريح، ثم تعاد عليه العقوبة. ومع هذا كله تؤخذ نساوه وبناته وأولاده الذكور، وتقسم جميعهم على أصحاب ذلك الأمير، فيشاهد الرجل المعذب امرأته وهي توطأ، وابنته وهي تقبض بكارتها، وولده وهو يلاط به، فيصير هو يصرخ مما به من ألم العذاب، وابنته وولده يصرخون من ألم إزالة البكارة، وإتيان الصبي، وكل هذا نهاراً وليلاً، من غير احتشام ولا تستر. ثم إذا قضوا وطرهم من المرأة، والبنت والصبي، طالبوهم بالمال، وأفاضوا عليهم أنواع العقوبات، وأفخاذهم مضرجة بالدماء. وفيهم من يعذب بأن يشد رأس من يعاقبه بحبل ويلويه حتى يغوص في الرأس، وفيهم من يضع الحبل على كتفي المعذب ويديره من تحت إبطه، ويلويه بعصا حتى ينخلع الكتفين. وفيهم من يربط إبهام اليدين من وراء الظهر ويلقي المعذب على ظهره، ويذر في منخريه رماداً سحيقاً، ثم يعلقه بإبهام يديه في سقف الدار، ويشعل النار تحته. وربما سقط في النار فسحبوه منها، وألقوه حتى يفيق، فيعذب أو يموت، فيترك.
واستمر هذا البلاء مدة تسعة عشر يوماً، آخرها يوم الثلاثاء ثامن عشرين رجب، فهلك فيها بالعقوبة ومن الجوع خلق لا يدخل عددهم تحت حصر.
فلما علموا أنه لم يبق في المدينة شيء له قدر، خرجوا إلى تمرلنك، فأنعم بالبلد على أتباع الأمراء، فدخلوها يوم الأربعاء آخر رحب، ومعهم سيوف مشهورة، وهم مشاة، فنهبوا ما بقي من الأثاث وسبوا نساء دمشق بأجمعهن، وساقوا الأولاد والرجال، وتركوا من عمره خمس سنين فما دونها، وساقوا الجميع مربطين في الحبال. ثم طرحوا النار في المنازل، وكان يوماً عاصف الريح، فعم الحريق البلد كلها، وصار لهب النار يكاد أن يرتفع إلى السحاب، وعملت النار ثلاثة أيام، آخرها يوم الجمعة.(3/32)
وأصبح تمر يوم السبت ثالث رجب راحلاً بالأموال والسبايا والأسري، بعدما أقام على دمشق ثمانين يوماً، وقد احترقت كلها، وسقطت سقوف جامع بني أمية من الحريق، وزالت أبوابه، وتفطر رخامه، ولم يبق غير جدره قائمة. وذهبت مساجد دمشق، ومدارسها، ومشاهدها، وسائر دورها، وقياسرها، وأسواقها، وحماماتها، وصارت أطلالاً بالية، ورسوماً خالية، قد أقفرت من الساكن، وامتلأت أرضها بجثث القتلى، ولم يبق بها دابة تدب، إلا أطفال يتجاوز عددهم آلاف، فيهم من مات، وفيهم من يجود بنفسه.
وأما بقية أمراء مصر وغيرهم، فإنهم لما علموا بتوجه السلطان من دمشق خرجوا منها طوائف طوائف، يريدون اللحاق بالسلطان، فأخذهم العشير، وسلبوهم ما معهم، وقتلوا خلقاً كثيراً. وظفر أصحاب تمرلنك بقاضي القضاة صدر الدين محمد بن إبراهيم المناوي الشافعي، فسلبوه ما عليه من الثياب، وأحضروه إلى تمرلنك، فمرت به محن شديدة، آلت إلى أن غرق بنهر الزاب، وهو في الأسر.
وكان قاضي القضاة ولى الدين عبد الرحمن بن خلدون المالكي بداخل مدينة دمشق. فلما علم بتوجه السلطان تدلى من سور المدينة، وسار إلى تمرلنك فأكرمه وأجله، وأنزله عنده، ثم أذن له في المسير إلى مصر، فسار إليها وتتابع دخول المنقطعين بدمشق إلى القاهرة في أسوأ حال، من المشي والعري والجوع، فرسم لكل من المماليك السلطانية بألف درهم، وجامكية شهرين.
وأما السلطان فإنه لما استقر بقلعة الجبل أعاد شمس الدين محمد البخانسي إلى حسبة القاهرة، وصرف العينتابي في يوم السبت سابع جمادى الآخرة.
وفيه أذن للأمير يلبغا السالمي أن يتحدث في كل ما يتعلق بالمملكة، وأن يجهز عسكراً إلى دمشق لقتال تمرلنك، فشرع في تحصيل الأموال، وفرض على سائر أراضي مصر فرائض، فجبي من إقطاعات الأمراء، وبلاد السلطان وأخبار الأجناد، وبلاد الأوقاف عن عبرة كل ألف دينار خمسمائة درهم ثمن فرس، وجبي من سائر أملاك القاهرة ومصر وظواهرها أجرته عن شهر، حتى أنه كان يقوم على الإنسان في داره التي هو يسكنها، ويؤخذ منه أجرتها.
وجبي من الرزق - وهي الأراضي التي يأخذ مغلها قوم من الناس على سبيل البر - عن كل فدان من زراعة القمح، أو الفول، أو الشعير عشرة دراهم، وعن الفدان من القصب، أو القلقاس، أو النيلة - ونحو ذلك من القطاني - مائة درهم. وجبي من البساتين عن كل فدان مائة درهم. واستدعي أمناء الحكم والتجار، وطلب منهم المال على سبيل القرض.
وصار يكبس الفنادق وحواصل الأموال في الليل، فمن وجد صاحبه حاضراً فتح مخزنه، وأخذ نصف ما يجد من نقود القاهرة، وهي الذهب والفضة والفلوس. وإذا لم يجد صاحب المال أخذ جميع ما يجده من النقود. وأخذ ما وجد من حواصل الأوقاف، ومع ذلك فإن الصيرفي يأخذ عن كل مائة درهم - تستخرج مما تقدم ذكره - ثلاثة دراهم. ويأخذ الرسول الذي يحضر المطلوب ستة دراهم، وإن كان نقيباً أخذ عشرة دراهم. فاشتد الضرر بذلك، وكثر دعاء الناس على السالمي، وانطلقت الألسنة بذمه، وشنعت القالة فيه، وتمالأت القلوب على بغضه.
وفيه خلع على الأمير نوروز الحافظي، والأمير يشبك الشعباني، واستقرا مشيري الدولة، مدبري أمورها. وخلع على الأمير بهاء الدين أرسلان بن أحمد لنقابة الجيش، عوضاً عن أسندمر لانقطاعه بالشام.
وفي ثاني عشره: خلع على القاضي أمين الدين عبد الوهاب بن قاضي القضاة شمس الدين محمد بن أحمد بن أبي بكر الطرابلسي قاضي العسكر، واستقر في قضاء القضاة الحنفية بديار مصر، عوضاً عن الجمال يوسف الملطي بعد وفاته وعلى القاضي جمال الدين عبد الله الأقفهسي، واستقر في قضاء القضاء المالكية بديار مصر، عوضاً عن نور الدين علي بن الجلال بعد موته أيضاً، وعلى ناصر الدين محمد بن خليل الضاني، واستقر أمير طبر، عوضاً عن الصارم إبراهيم بحكم انقطاعه، فصار والي مصر والقرافتين أمير طبر.
وفيه قدم من الشام ثلاثمائة من المماليك المنقطعين بأسوأ حال، من المضي والعري والجوع، وشكوا من العشير.
وفي تاسع عشره: قبض على المهتار عبد الرحمن، وألزم بما أخذه من العشير وغيرهم، ثم أفرج عنه بعد أيام.(3/33)
وفي حادي عشرينه: قدم قاضي القضاة موفق الدين أحمد بن نصر الله الحنبلي من الشام، في أسوأ حال. وقدم أيضاً قاضي قضاة دمشق علاء الدين علي بن أبي البقاء الشافعي. وحضر أيضاً كتاب تمرلنك على يد أحد مماليك السلطان، يتضمن طلب أطلمش أطلندي، وأنه إذا قدم عليه أرسل من عنده من النواب والأمراء والأجناد والفمهاء، وقاضي القضاة صدر الدين المناوي ويرحل، فطلب أطلمش من البرج الذي هو مسجون فيه بقلعة الجبل، وأنعم عليه بخمسة آلاف درهم، وأنزل عند الأمير سودن طاز أمير أخور، وعين للسفر معه قطلوبك العلاي، والأمير ناصر الدين محمد بن سنقر الأستادار.
وفيه توجه الأمير بيسق أمير أخور رسولاً إلى تمرلنك بكتاب السلطان.
وجد الأمير يلبغا السالمي في تحصيل الأموال، وعرض أجناد الحلقة، وألزم من كان منهم قادراً على السفر بالخروج إلى الشام، وألزم العاجز عن السفر بإحضار نصف متحصل إقطاعه في السنة. وألزم أرباب الغلال المحضرة للبيع في المراكب النيلية أن يؤخذ منهم عن كل أردب درهم، وأن يؤخذ من كل مركب من المراكب التي تتنزه فيها الناس مائة درهم.
شهر رجب، أوله الثلاثاء: فيه بلغت الدنانير السالمية ثلاث آلاف دينار، وأمر السالمي أن يضرب دنانير أيضاً، منها ما زنته مائة مثقال ومثقال، ومنها ما وزنه تسعون مثقالاً ومثقال، وهكذا ينقص عشرة مثاقيل إلى أن يكون منها دينار زنته عشرة مثاقيل، فضرب من ذلك جملة دنانير.
وفي ثالثه: خلع على علم الدين يحيى بن أسعد، الذي يقال له أبو كم، واستقر في الوزارة، عوضاً عن الصاحب فخر الدين ماجد بن غراب، لاستعفائه من الوزارة. وفيه ورد الخبر بأن دمرداش نائب حلب تخلص من تمرلنك، وجمع وأخذ حلب وقلعتها من التمرية، وقتلهم.
وفي خامسه: استقر الطواشي فارس الدين شاهين الحلبي نائب المقدم في تقدمة المماليك، عوضاً عن الطواشي شمس الدين صواب السعدي جنكل. واستقر الطواشي زين الدين فيروز من جرحي، مقدم الرفرف، نائب المقدم.
وفي سابعه: حضر من عربان البحيرة إلى خارج القاهرة ستة آلاف فارس. ومن الشرقية ابن بقر، والتزم بألفين وخمسمائة فارس، ومن العيساوية وبني وائل ألف وخمسمائة فارس، فانفق فيهم الأمير يلبغا السالمي الأموال، ليتجهزوا إلى حرب تمرلنك.
وفي ثامنه: قدم قاصد الأمير نعير، لأنه قد جمع عرباناً كثيرة، ونزل على تدمر، وأن تمرلنك رحل من ظاهر دمشق إلى القطيفة.
وفي رابع عشره: قبض على الأمير يلبغا السالمي، وعلى شهاب الدين أحمد بن عمر ابن قطينة، وسلما للقاضي سعد الدين إبراهيم بن غراب، ليحاسبهما على الأموال المأخوذة من الناس في الجبايات.
وفي ثامن عشره: استقر سعد الدين إبراهيم بن غراب أستادار السلطان عوضاً عن السالمي، مضافاً إلى ما بيده من وظيفتي نظر الجيش والخاص. ولبس جبة من حرير بوجهين، أحدهما أحمر والآخر أخضر، بطراز ذهب عريض في عرض ذراع وثمن، وترفع عن لبس التشريف، و لم يغير زي الكتاب.
وفي سادس عشرينه: استقر جمال الدين عبد الله المنجكي في ولاية البهنسا، وعزل منكلي بغا الزيني.وفي سلخه: ورد الخبر بأن ابن عثمان وصل إلى قيصرية، من بلاد الروم.
شهر شعبان، أوله الخميس: فيه قدم قاضي القضاة ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون من دمشق، وقد أذن له تمرلنك في التوجه إلى مصر، وكتب له بذلك كتاباً عليه خطه، وصورته تيمور كركان، وأطلق معه جماعة بشفاعته فيهم، منهم القاضي صدر الدين أحمد بن قاضي القضاة جمال الدين محمود القيصري، ناضر الجيش، وكان قد خرج مع السلطان من جملة موقعي الدست.
وفي ثانيه: جاء دمشق جراد كثير جداً، ودام أياماً.
وفي ثالثه: توجه تمرلنك من دمشق بعساكره، فعز القمح بدمشق، واقتات من تأخر بها من منابت الأرض.
وفي خامسه: برز الأمراء الذين كانوا بالقاهرة في غيبة السلطان بدمشق، للمسير لحرب تمرلنك، وهم: الأمير تمراز أمير مجلس، والأمير أقباي حاجب الحجاب، والأمير جرباش الشيخي، والأمير تمان تمر، والأمير صوماي الحسني. وامتنع الأمير جكم من السمر، فبطل سمر الأمراء أيضاً.
وفي سابعه: قدم الأمير سيف الدين شيخ المحمودي نائب طرابلس هارباً من تمرلنك، فتلقاه الأمراء، وقدموا إليه الخيول، بالسروج الذهب، والكنابيش الذهب، والقماش، والجمال، وغير ذلك، وفي ثامن عشره: أفرج عن ابن قطينة، ولزم داره.(3/34)
وفي تاسع عشره: قدم الأمير دقماق المحمدي نائب حماه فاراً من تمرلنك، فأنعم عليه أيضاً. مما يليق به. وفيه برز الأمير تغري بردى من بشبغا نائب الشام للمسير إلى دمشق. وخرج بعده نواب البلاد الشامية وأمراؤها وأجنادها، وسائر أعيانها. وخلع على الأمير القاضي سعد الدين إبراهيم بن غراب جبة حرير بوجهين مطرزة، باستقراره فيما بيده عند استعفائه من الأستادارية. وعلى جمال الدين يوسف بن القطب بقضاء الحنفية بدمشق، عوضاً عن محيي الدين محمود بن الكشك.
وفي ثامن عشرينه: استقر تمربغا المنجكل في نيابة صفد، وخرج إليها واستقر تنكز بغا الحططي في نيابة بعلبك وناصر الدين محمد بن الطويل في كشف الوجه البحري، وعزل طيبغا الزيني.
وفي رابع عشرينه: قبض على مملوكين، فأقرا أنهما اتفقا مع جماعة من المماليك - سموهم - على إثارة فتنة وقتل الأمراء، فعفي عنهما، ولم يتحرك في ذلك ساكن. وفيه نودي ألا يقيم بديار مصر عجمي، وأجلو ثلاثة أيام، وهدد من تأخر بعدها، فلم يتم من ذلك شيء. ولهج الناس بالكتابة على الحيطان من نصرة الإسلام قتل الأعجام.
وفي سادس عشرينه: أعيد نور الدين علي بن عبد الوارث البكري إلى حسبة مصر، وصرف شمس الدين محمد الشاذلي.
وفي يوم الخميس تاسع عشرينه: خلع على القاضي ناصر الدين محمد بن الصالحي أحد نواب الحكم، واستقر في قضاء القضاة الشافعية بديار مصر، على مال التزم به، وذلك بعدما أيس من حضور الصدر محمد بن إبراهيم المناوي، فنزل في خدمته أكابر الأمراء، مثل الأمير يشبك الدوادار وغيره، حتى جلس بالمدرسة بين القصرين، وحكم على العادة، ثم سار إلى داره.
شهر رمضان، أوله الجمعة: إلى ثاني عشره: استقر جنتمر التركماني النظامي نائب الوجه القبلي، وعزل علاء الدين علي بن غلبك بن المكللة.
وفي رابع عشره: استقر على ابن بنت معتوق في ولاية منفلوط، وعزل أحمد ابن علي بن غلبك.
وفي ثامن عشره: خلع على الأمير شيخ المحمودي بنيابة طرابلس على عادته عوضاً عن آقبغا الجمالي، وعلى دقماق المحمدي بنيابة صفد، عوضاً عن تمربغا المنجكي، وأنعم على تمربغا بإمرة مائة بدمشق. وفيه قدم حاج المغرب، وفيهم رسل صاحب تونس بهدية، منها ستة عشر فرشاً، قدمت للسلطان، وقدم معهم نحو ثلاثمائة فرس للبيع.
وفي هذا الشهر: توقفت أحوال الناس بسبب الذهب، فإنه أشيع أنه يطرح على الصيارف، ويؤخذ في الدينار الأفرنتي المشخص مبلغ تسعة وثلاثين درهماً من الفلوس. وكان قد بلغ بين الناس إلى ثمانية وثلاثين درهماً، فتناقص حتى صار إلى خمسه وثلاثين درهماً، والدينار المختوم المصري إلى ثمانية وثلاثين.
وقدم الخبر أن الفرنج أخذوا ستة مراكب موسقة قمحاً، سار بها المسلمون من دمياط إلى سواحل الشام، ليباع بها، من كثرة ما أصابها من القحط والغلاء من نوبة تمرلنك، فرسم بخروج جماعة من الأمراء إلى ثغور مصر، فخرج الأمير آقباي حاجب الحجاب والأمير بكتمر، والأمير جرباش في عدة من الأمراء وغيرهم، وتفرقوا في الثغور.
وفي ثالث عشرينه: أعيد قاضي القضاة ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون إلى قضاء المالكية، وصوف جمال الدين عبد الله الأقفهسي. واستقر مجد الدين سالم الحنبلي في قضاء القضاة الحنابلة، عوضاً عن موفق الدين أحمد بن نصر الله بعد وفاته، بعد أن طلب هو والشيخ علاء الدين علي بن محمد بن علي بن عباس بن فتيان البعلبكي المعروف بابن اللحام الحنبلي، الوارد من دمشق إلى عند الأمير يشبك الدوادار، وعرض عليهما ولاية القضاء، فامتنعا، وصار كل منهما يقول: لا أصلح، وإنما يصلح هذا لدينه وعلمه. فكثر العجب من ذلك. واستقر الأمر لسالم، وخلع عليه، وركب إلى الصالحية في موكب حمل.
شهر شوال، أوله الأحد: فيه أفرج عن الأمير يلبغا السالمي، وهو متضعف بعدما عصر، وأهين إهانة بالغة.
وفي هذا اليوم: كثر تحرز الأمراء من بعضهم بعضاً، وتحدث الناس بإثارة فتنة بينهم.
وفي خامس: وصل الأمير تغري بردى نائب الشام إلى دمشق، ومن معه من العسكر.(3/35)
وفي سابعه: استقر الأمير طولو من على شاه في نيابة الإسكندرية، عوضاً عن الأمير أرسطاي، واستقر الأمير باشا باي من باكي حاجباً ثانياً بديار مصر على خبز سودن الطيار بطبلخاناه. واستقر تمر البربري مهمنداراً، عوضاً عن ألطبغا العثماني. واستقر كل من سودن الطيار، وألطبغا سيدي حاجباً بحب.
وفيه استدعي السلطان الأمراء إلى القلعة، وقال لهم: قد كتبنا مناشير جماعة من الخاصكية بإمريات بالشام من أول رمضان، فلم لا يسافروا، فقال الأمير نوروز: ما هذا مصلحة، إذا أرسل السلطان هؤلاء من يبقى.
ووافقه سودن المارديني على ذلك. فقال السلطان: من رد مرسومي فهو عدوي، فسكت الأمراء، وأمر السلطان بالمناشير أن تبعث إلى أربابها.
فلما نزلت إليهم امتنعوا من السفر، ومنهم من رد منشوره، فغصب السلطان وأصبح الجماعة يوم الأحد وقد اتفقوا مع الأمراء، وصاروا إلى الأمير نوروز، وتحدثوا معه في ألا يسافروا، فاعتذر إليهم، وبعثهم إلى سودن المارديني رأس نوبة، فحدثوه في ذلك. وما زالوا به حتى ركب إلى الأمير يشبك الدوادار، وحدثه في ألا يسافروا، فأغلظ في الرد عليه، وهددهم بالتوسيط إن امتنعوا، وبعثه إلى السلطان ليحدثه في ذلك، فصعد القلعة وسأل السلطان في إعفائهم من السفر، وأعلمه أنه قد اتفق منهم نحو الألف تحت القلعة وهم مجتمعون. فبعث السلطان إليهم أحد الخاصكية يقول لهم: نحن ما خليناكم بلا رزق، بل عملناكم أمراء. فما هو إلا أن بلغهم ذلك، ثاروا عليه وضربوه، حتى كاد يهلك. وبينما هم في ضربه إذا بالأمير قطلوبغا الكركي، والأمير أقباي الخازندار، نزلا من القلعة فمال عليهم المماليك يضربونهم بالدبابيس، إلى أن سقط قطلوبغا، فتكاثر عليه مماليكه، وحملوه إلى بيته، ونجا أقباي إلى بيت الأمير يشبك. وماجت البلد، فنودي آخر النهار أن الأمراء والمماليك السلطانية يطلعون من غد إلى القلعة، ومن لم يطلع حل دمه وماله للسلطان. فطلع الأمير يشبك ونوروز، وآقباي الخازندار، وقطلوبغا الكركي إلى القلعة بعد عشاء الآخرة، وباتوا بها إلا نوروز، فإنه أقام معهم ساعة ثم نزل. وطلع أيضاً غالب المماليك. وأصبحوا يوم الاثنين تاسعه، فطلع جميع الأمراء والمماليك، إلا الأمير جكم، وسودن الطيار، وقاني باي العلاي، وقرقماش الأينالي، وتمربغا المشطوب، وجمق، في عدة من أعيان المماليك، منهم يشبك العثماني، وقمج، وبرسمبغا، وطراباي، وبقية خمسمائة مملوك، فإنهم لبسوا السلاح، ووقفوا تحت القلعة حتى تضحى النهار، ثم مضوا إلى بركة الحبش، ونزلوا عليها. فبعث الأمير يشبك الدوادار - نقيب الجيش - إلى الشيخ لاجين قبض عليه، وحمله إلى بيت آقباي حاجب الحجاب، فوكل به من أخرجه من القاهرة إلى بلبيس وقبض على سودن الفقيه، أحد دعاة الشيخ لاجين، وأخرج إلى الإسكندرية فسجن بها. وما زال الأمير جكم ببركة الحبش إلى ليلة الأربعاء، فاستدعي الأمير يشبك الدوادار سائر الأمراء، فلما صاروا إلى القلعة وكل بهم من يحفظهم حتى مضى جانب من الليل، استدعى سودن طاز أمير أخور من الإسطبل ليحضر إلى عند الأمراء بالقلعة. وقد وقع الاتفاق على أن سودن طاز إذا طلع قتل هو والأمراء الموكل بهم، فأتى بعض الخاصكية إلى سودن طاز، وقال له: فز بنفسك. فلم يكذب الخبر، وأخذ الخيول التي بالإسطبل السلطاني، وركب بمماليكه ولحق بالأمير جكم على بركة الجيش. فارتج القصر السلطاني. ولحق كل أمير بداره، وركبوا بأجمعهم ودقت الكوسات، فلما أصبح نهار الأربعاء نزل السلطان من القصر إلى الإصطبل، وطلع إليه الأمراء، وبعث إلى الأمير جكم بأمان، وأنه يتوجه إلى صفد نائباً بها، فقال: نحن مماليك السلطان، وهو أستاذنا وابن أستاذنا، لو أراد قتلنا ما خالفناه، وإنما لنا غرماء، يخلونا وإياهم.(3/36)
فلما عاد الرسول بذلك، بكي الأمير يشبك وأقباي الخازندار، وقطلوبغا الكركي، ودار بينهم وبين السلطان كلام كثير، فبعث السلطان بالأمير نوروز الحافظي، وقاضي القضاة ناصر الدين محمد بن الصالحي، وناصر الدين الرماح أمير أخور، إلى الأمير جكم في طلب الصلح، فامتنع من ذلك هو ومن معه، وقالوا: لابد لنا من غرمائنا، وأخروا عندهم الأمير نوروز، وعاد قاضي القضاة والرماح بذلك. فقال السلطان ليشبك دونك وغرماءك. فنزل إلى بيته، وقد اختل أمره. ثم عاد إلى القلعة، فلم يمكن منها، وتخفي عنه المماليك السلطانية، وتركوه وحده تحت الإسطبل السلطاني، فلم يكن غير ساعة حتى أقبل الأمير جكم، وسودن طاز، ونوروز، في عددهم وعديدهم. وصاحب الموكب نوروز وجكم عن يساره، وطاز عن يمنه، وصاروا قريباً من يشبك. فنادي يشبك: من قاتل معي من المماليك يأخذ عشرة آلاف درهم. فأتاه طائفة، فحمل عليه نوروز في من معه، فانهزم إلى داره، وقاتل ساعة، ثم فر، فنهبت داره ودار قطلوبغا وأقباي. وقبض على أقباي، فشفع فيه السلطان، فترك بداره إلى يوم الخميس ثاني عشره، ركب الأمير جكم إليه. وأخذه وصعد به إلى الإسطبل السلطاني، وقيده. وقبض على قطلوبغا من عند الأمير يلبغا الناصري، وقيده. وقبض على جركس المصارع من عند سودن الجلب، وقيده، وبعث الثلاثة إلى مدينة الإسكندرية ليلة السبت رابع عشره. وكتب بإحضار سودن. الفقيه من الإسكندرية. وطلب الأمير يشبك، فلم يقدر عليه، إلى ليلة الاثنين سادس عشره، دل عليه أنه في تربة بالقرافة. فلما أحيط به ألقى نفسه من مكان مرتفع، فشج جبينه، وقبض عليه الأمير جكم، وأحضره إلى بيت الأمير نوروز، ثم سير من ليلته إلى ثغر الإسكندرية، فسجن بها.
وفي يوم الاثنين: خلع على الأمير القاضي سعد الدين إبراهيم بن كراب جبة مطرزة، باستقراره على ما هو عليه.
وفي ثامن عشره: استقر ناصر الدين بن غرلوا نائب الوجه البحري، وعزل ابن مسافر. وألبس الأمير شيخ المحمودي نائب طرابلس قباءنخ، وألبس أيضاً الأمير دقماق نائب صفد قباء السفر، وأذن لهما في السفر إلى ولايتهما.
وإلى تاسع عشره: خلع على الأمير حكم، واستقر دوادار السلطان، مكان الأمير يشبك الشعباني. وعلى سودن من زاده، واستقر خازندازاً، موضع أقباي الكركي. وعلى أرغون من بشبغا، واستقر شاد الشربخاناه، بدل قطلوبغا الكركي. وفيه خرج المحمل مع الأمير قطلوبك العلاي إلى الريدانية، خارج القاهرة. وعمل أمير الركب الأول الأمير بيسق الشيخي، ورسم له أن يقيم بعد انقضاء الحج بمكة، لعمارة ما بقي من المسجد الحرام.
وفي يوم الاثنين ثالث عشرينه: أقبل على دمشق جراد، حجب من كثرته الشمس عن الأبصار، فأتلف جميع ما تنتبه الأرض بعامة أرض الشام كلها، حتى لم يدع بها خضراً من شجر ولا غيره، من غزة إلى الفرات.
وفي سادس عشرينه: استقر يونس الحافظي في نيابة حماة، وعزل ركن الدين عمر ابن الهذباني، واستقر ناصر الدين محمد بن الطبلاوي في ولاية القاهرة، وصرف الأمير الوزير تاج الدين عبد الرزاق بن أبي الفرج، المعروف بوالي قطيا، وعمل أحد الأمراء الحجاب بغير إقطاع، ثم قبض عليه بعد أيام وعصر وأخذ منه مال، ثم أفرج عنه.
وفيه أنعم على الأمير جكم بإقطاع يشبك، وعلى سودن الطيار بإقطاع الأمير جكم، وبإقطاع أقباي الكركي على الأمير قاني باي العلاي، وبإقطاع قطلوبغا الكركي على الأمير تمربغا من باشاه، المعروف بالمشطوب، وبإقطاع جركس المصارع على سودن من زاده بستين فارساً.
شهر ذي القعدة، أوله الثلاثاء: فيه ألزم سعد الدين إبراهيم بن غراب بتجهيز نفقة المماليك، فالتزم أن يحمل منها مائة ألف دينار، وألزم الوزير ناصر الدين محمد بن سنقر، وتاج الدين عبد الرزاق بن أبي الفرج، ويلبغا السالمي، بمائة ألف دينار، فشرعوا في تجهيزها. وفيه قبض الأمير شهاب الدين أحمد بن رجب شاد الدواوين على يلبغا السالمي من داره، وحمله إلى بيته، وضربه ضرباً مبرحاً، وبالغ في عصره وتعذيبه، حتى أشرف على الموت،فأبيع موجوده فيما ألزم به.
وفيه جاء رجل جراد غير ذلك إلى دمشق، فعظم به الخطب.
وفي ثالثه: قدم الأمير تمربغا المنحكي نائب صفد إلى دمشق، على إقطاع تقدمة ألف. وقدمت ولاية شمس الدين الأخناي قضاء دمشق.(3/37)
وفي خامسه: استقر الشهاب أحمد اليغموري الحاجب بدمشق نائب قلعتها، والتزم بعمارتها، فأفرد لها من بلاد دمشق داريا الكبرى وأريحا من الغور، والمواريث الحشرية بدمشق وأعمالها، والرملة والقدس، وغزة ونابلس، والمسابك، ودار الضرب، ونصف متحصل كنيسة قمامة من القدس، وربع العشر، وربع الزكاة، وربع ما يتحصل من دار الوكالة. وأعيد بدر الدين حسن إلى نظر الأحباس بديار وعزل ناصر الدين محمد بن صلاح الدين صالح بن أحمد بن السفاح.
وفي سادس: وهو سابع عشرين بؤونة، أحد شهور القبط أخذ قاع النيل، فجاء أربع أذرع ونصف.
وفي ثاني عشره: خلع على يونس نائب حماة، وعلى علي بن مسافر نائب الوجه البحري، للسفر.
وفي خامس عشره: أفرج عن يلبغا السالمي، فسار من بيت شاد الدواوين إلى داره على حمار.
وفيه ورد الخبر بأن دقماق المحمدي نائب صفد لما قدمها وجد متيريك بن قاسم بن متيريك - أمير حارثة - قد نزل على بلاد صفد، وقسمها.
وكان قد أخذ من أموال الفارين من دمشق إلى مصر في نوبة تمرلنك ما يجل وصفه. فركب عليه وحاربه، فانكسر منه دقماق، وقتل من مماليكه اثنا عشر فارساً، وأسرت أمه، بعدما قتل عدة من عرب حارثة. وأنه استنجد بالأمير شيخ نائب طرابلس، وكان نازلاً على مرج العيون، فرجع إليه، وركبا معاً بمن معهما على متيريك فكسراه، وقتلا جماعة من عربه، وأسرا له ولدين وسطاهما، وأخذا له ستة آلاف بعير، فكتب إلى متيريك بتطييب خاطره.
وكتب إلى شيخ ودقماق برد أباعره عليه، فلم يقبلا ذلك. وقدم الخبر أن نائب حلب أحواله تقتضي أنه قد خرج عن الطاعة.
وفي سادس عشرينه: صعد سعد الدين بن غراب إلى القلعة برسم النفقة، فأنفق في نحو ألف من المماليك، فثاروا به، وقبضوا عليه، وضربوه وعوقوه في مكان، ثم خلى عنه، فنزل إلى داره. وفي هذا الشهر: خربت بغداد. وفيه طمع العربان في بلاد الشام ونهبوا ما فيها.
شهر ذي الحجة، أوله الأربعاء: في ليلة السبت رابعه: اختفى سعد الدين إبراهيم بن غراب، وأخوه فخر الدين ماجد وصهره - أخو زوجته - يوسف بن قطلوبك العلاي، وعدة من ممالكه، فلم يوقف لهم على خبر.
وفي يوم السبت المذكور: فرقت الأضاحي بالحوش من القلعة، على الأمراء وسائر أرباب الدولة، من القضاة والأعيان والمماليك السلطانية، وفي جهات البر من الجوامع والمدارس والخوانك والمشاهد والزوايا، وفي أرباب البيوت من أهل الستر، على العادة في كل سنة. وفيه قدم إلى دمشق نائب حماة، وحريم تغري بردى نائب الشام.
وفي سادسه: خلع على الأمير ناصر الدين محمد بن سنقر البحكاوي، واستقر في أستادارية السلطان، عوضاً عن سعد الدين بن غراب، مضافاً لما معه من الذخرة والأملاك. وأنعم عليه بإقطاع ابن غراب، وإقطاع ابن قطينة. فأرصد الدواليب، وإقطاع يلبغا السالمي للديوان المفرد. وأرصد إقطاع ابن قطينة لخزانة السلطان، يتصرف فيه الخازندارية بأمر السلطان.
وفيه استعفي الأمير سودن من زاده من وظيفة الخازندارية.
وفي سابعه: أضيف إلى الوزير علم الدين - الذي يقال له أبو كم - نظر الخاص مع الوزارة، عوضاً عن سعد الدين بن غراب، وخلع عليه بذلك. وخلع أيضاً على سعد الدين أبي الفرج بن بنت الملكي صاحب ديوان الجيش، واستقر في نظر الجيش، عوضاً عن سعد الدين بن غراب. وفيه ورد الخبر أن نائب الوجه البحري حضر إلى الإسكندرية، وطلب نائبها ليخرج إليه بسبب حفر الخليج فامتنع من الخروج إليه، فانصرف عنه. فكتب إليه أنه إن حضر أحد يطلب الأمراء المسجونين، فليبادر بقتل الأمير يشبك، وإلقاء رأسه إليهم.(3/38)
وفي تاسعه: ورد رسول مشايخ تروجة بقدوم سعد الدين بن غراب إليهم، ومعه مثال سلطاني باستخراج الأموال ومسيرهم معه إلى الإسكندرية، وإخراج يشبك والأمراء من السجن، ليحضروا إلى القاهرة بهم فخلع على الرسول، وكتب معه بأخذ ابن غراب ومن معه وإرسالهم إلى القاهرة. وقدم كتاب أرسطاي نائب الإسكندرية بأن سعد الدين بن غراب طلب زعران الإسكندرية، فخرج إليه أبو بكر المعروف بغلام الخدام بالزعر إلى تروجه، فأعطي كل واحد منهم مبلغ خمسمائة درهم، وقرر معهم قتل النائب. فلما بلغ النائب ذلك، وقدموا إلى الإسكندرية، قبض على جماعة منهم، وقتل بعضهم، وقطع أيدي بعضهم، وضرب غلام الخدام بالمقارع، وأنه ظفر بكتاب ابن غراب إلى بعض تجار الإسكندرية وجهزه، وفيه أنه يجتمع بالنائب ويؤكد عليه أن لا يقبل ما يرد عليه من أمراء مصر في أمر يشبك ومن معه، وأنه يجعل باله لا يجري له ما جرى على ابن عرام في قتله الأمير بركة. وورد كتاب مشايخ تروجة بسؤال الأمان لابن غراب، فكتب له السلطان أماناً، وكتب له الأمراء أيضاً - ما خلا الأمير جكم - فإنه كتب إليه كتاباً ولم يكتب أماناً.
وخلع على علي بن غريب الهواري، وعثمان بن الأحدب، وعملا في الإمرة على هوارة ببلاد الصعيد، عوضاً عن محمد بن عمر بن عبد العزيز الهواري، وسارا. واستقر بهاء الدين أرسلان نقيب الجيش، حاجباً.
وفي سادس عشره: خلع على الصاحب الوزير علم الدين، واستقر وكيل الخاص. وخلع على الأمير ناصر الدين محمد بن الطبلاوي وإلى القاهرة، وأضيف إليه ولاية القرافة. وفيه رحل تمرلنك عن بغداد، بعدما هدمها.
وفيه قدم رسل أبي يزيد بن عثمان - ملك الروم - بهدية، فيها عشرة مماليك، وعشرة أرؤس من الخيل، وعشر قطع من الجوخ، وشاربان من الفضة، وعشر قطع فضة، ما بين أطباق وغيرها، وعدة هدايا إلى الأمراء، فقرئ كتابه في العشرين منه.
وفي حادي عشرينه. قدم سعد الدين بن غراب إلى القاهرة ليلاً، ونزل عند صديقه جمال الدين يوسف أستادار بجاس، وهو يومئذ أستادار سودن طاز أمير أخور. فتحدث له مع سودن طاز، وأوصله إليه، فأكرمه وأنزله عنده يومي الثلاثاء والأربعاء، واسترضي له الأمراء وأحضره في يوم الخميس ثالث عشرينه إلى مجلس السلطان، فقبل الأرض وخلع عليه جبة حرير مطرزة على عادته، واستقر في الأستادارية، ونظر الجيش، ونظر الخاص على إقطاعه، وأضيف إليه الذخيرة ودواليب خاص الخاص.
وعزل ناصر الدين محمد بن سنقر، ونزل إلى بيت الأمير جكم الدوادار، فمنعه من الدخول إليه ورده، فصار إلى داره. وما زال حتى دخل مع الأمير سودن من زادة إلى عند الأمير جكم، فقبل يده، فلم يكلمه كلمة، وأعرض عنه، فرضاه بعد ذلك.
وفي يوم الخميس سلخه: أنفق الأمير القاضي سعد الدين بن غراب تتمة النفقة على المماليك السلطانية، فأعطى كل واحد ألف درهم، وعندما نزل من القلعة أدركه عدة من المماليك السلطانية، ورحموه بالحجارة يريدون قتله، فبادر إلى بيت الأمير نوروز واستجار به، فأجاره، حتى انصرف المماليك عن بابه، وتوجه إلى داره.
وفيه نودي على النيل بزيادة ثمانية وأربعين إصبعاً، وتأخر عليه من الوفاء ست عشرة إصبعاً، وفاها في الليل، وبلغ الدينار المصري إلى أربعين درهماً ثم انحط، وبلغ الأفرنتي إلى سبعة وثلاثين ثم انحط.
وفي هذا الشهر كانت وقعة بين الأمير نعير وبين نائب حلب.
ومات في هذه السنة قاضي القضاة موفق الدين أحمد بن قاضي القضاة ناصر الدين نصر الله بن أحمد بن محمد بن أبي الفتح بن هاشم بن إسماعيل بن إبراهيم العسقلاني الحنبلي، في ثاني عشر رمضان، وكان مشكوراً.
ومات قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن عبد الله النحريري المالكي، وهو معزول، في ثاني عشر رجب.
ومات ناصر الدين محمد بن تقي الدين عمر بن نجم الدين محمد بن نجم الدين أبي القسم هبة الله بن عبد المنعم بن محمد بن الحسن بن علي بن أبي الكتائب بن محمد بن أبي الطيب العجلي الدمشقي الشافعي، كاتب سر دمشق، يوم الأحد سادس عشرين رجب، في العقوبة بيد التمرية. ولى كتابة سر حلب وطرابلس ودمشق مرات، وأقام بالقاهرة مدة.
ومات الأمير شهاب الدين أحمد بن الحاج عمر بن الزين والي القاهرة، في ثاني عشر ربيع الأول.
ومات شهاب الدين أحمد بن أسد بن طرخان الملكاوي الشافعي بدمشق، في نصف رمضان.(3/39)
ومات الأمير سيف الدين أسنبغا العلاي، دوادار الملك الظاهر، في سادس عشر جمادى الأولى.
ومات أمير فوج الحلبي، نائب الإسكندرية بها، في آخر ربيع الأول.
ومات الأمير سيف الدين المعروف بسيدي أبي بكر بن الأمير شمس الدين سنقر أبن أخي بهادر الجمالي، في ثالث عشر جمادى الآخرة.
ومات أبو بكر بن الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون في ثالث عشر ربيع الآخرة.
ومات الأمير سيف الدين بجاس النوروزي، في ثاني عشر رجب.
ومات الأمير سودن نائب الشام في آخر رجب، ودفن خارج دمشق بقيده، وهو في أسر تمرلنك.
ومات تقي الدين عبد الله بن يوسف بن أحمد بن الحسين بن سليمان بن فزارة الدمشقي الحنفي، عرف بابن الكفري قاضي القضاة الحنفية بدمشق، في العشرين من ذي القعدة، في محنة تمرلنك.
ومات الوزير كريم الدين عبد الكريم بن عبد الرزاق بن إبراهيم بن مكانس، في خامس عشرين جمادى الآخرة، وهو مصروف عن الوزارة.
ومات العلامة علاء الدين على بن محمد بن عباس بن فتيان البعلبكي الدمشقي، عرف بابن اللحام الحنبلي، يوم عيد الفطر.
ومات نور الدين علي بن عبد العزيز بن أحمد بن الخروبي التاجر الكارمي، في ثاني عشر رجب.
ومات قاضي القضاة نور الدين على بن يوسف بن مكي، المعروف بابن الجلال الدميري، المالكي، باللجون من طريق دمشق، في جمادى الأولى.
ومات الفقيه الجندي قطلوبغا الحنفي، أحد أعيان الحنفية، في نصف جمادى الأولى.
ومات قاضي القضاة بدر الدين محمد بن أبي البقاء محمد بن عبد البر الخزرجي السبكي الشافعي، وهو مصروف عن القضاء، في سابع عشر ربيع الآخر.
ومات شرف الدين محمد بن محمد الدماميني، قاضي الإسكندرية بها، في آخر المحرم.
ومات شيخ المالكية شرف الدين محمد بن محمد بن إسماعيل بن المكين مدرس الظاهرية المستجدة بين القصرين، في ثاني عشرين ربيع الآخر.
ومات بدر الدين محمد الأقفهسي، ناظر الدولة، في ثالث عشر ربيع الآخر.
ومات قاضي القضاة جمال الدين يوسف بن موسى بن محمد الملطي الحنفي، وهو قاض، في تاسع عشرين ربيع الآخر، ومولده ستة ست وعشرين وسبعمائة.
وهلك بحلب وحماة ودمشق وأعمال الشام في محنة تمرلنك، بالجوع والقتل والحريق، وفي الأسر، عشرات آلاف آلاف.
ومات قاضي القضاة صدر الدين أبو المعالي محمد بن إبراهيم بن اسحق بن إبراهيم ابن عبد الرحمن السلمي المناوي الشافعي، وهو في الأسر مع تمرلنك غريقاً بنهر الزاب، بعد ما مرت به محن شديدة.
ومات بدر الدين محمد بن محمد بن مقلد القدسي الحنفي، قاضي الحنفية بدمشق. مات بغزة، في ربيع الأول. ومولده سنة أربع وأربعين وسبعمائة وكان قد أقام بالقاهرة مدة، وفيها ولي قضاء دمشق، فلم تشكر مباشرته. وكان أولاً ينوب في الحكم بدمشق، وأفتى، ودرس، وبرع في الفقه، وشارك في العقليات.
ومات الملك الأشرف إسماعيل بن الأفضل عباس بن المجاهد علي بن المؤيد داود ابن المظفر يوسف بن منصور عمر بن على بن رسول، في ليلة السبت ثامن عشر ربيع الأول، بمدينة تعز من بلاد اليمن، عن سبع وثلاثين سنة. ولى سلطنة اليمن بعد أبيه، في سنة ثمان وسبعين وسبعمائة. حتى مات. وكان حليماً، كثير السخاء، مقبلاً على العلم، محباً للغرباء، وصنف تاريخاً لليمن. قدم علينا إلى القاهرة ووقفت عليه، وقام بمملكة اليمن بعده ابنه الملك الناصر أحمد.
ومات نور الدين على بن يحيى بن جميع الطائي الصعدي، كبير تجار اليمن بعدد أمين، في ليلة عيد الفطر، وقد جاور الستين، وكان مكيناً عند الأشرف.
ومات برهان الدين إبراهيم بن على التادلي قاضي القضاة المالكية بدمشق، يوم الثلاثاء ثامن عشر جمادى الأولى، في الحرب مع أصحاب تمرلنك. ومولده سلخ سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، ولي قضاء دمشق بعد المازوني سنة ثمان وسبعين، ثم صرف وأعيد، فكانت ولايته التي مات فيها هي العاشرة. وكان قوي اليقين، فاضلاً.
ومات تاج الدين أحمد بن محمد بن عبد الله ويعرف بابن الخراط الإسكندري المالكي بالثغر، في عاشر صفر، حدث بكتاب التيسير في القراءات عن العرادياشي، وبموطأ مالك عنه أيضاً.
ومات ملك دله من بلاد الهند، وهو فيروز شاه بن نصرة شاه، وقام من بعده ابنه محمد شاه ه(3/40)
ومات قاضي الحنابلة بدمشق تقي الدين إبراهيم بن العلامة شمس الدين محمد بن مفلح في شعبان، عن اثنتين وخمسين سنة. وكان فقيهاً واعظاً، إلا أنه قام في مصالحة الطاغية تيمور، فلم ينجح، ولم يحمد.
سنة أربع وثمانمائة
أهل المحرم بيوم الخميس: فيه كان وفاء النيل ستة عشر ذراعاً، ففتح الخليج على العادة. وأما الذهب فإن الدينار المختوم بستة وثلاثين درهماً، والأفرنتي بأربعة وثلاثين. والأردب القمح من خمس إلى ما دونها، والشعير بخمسة وعشرين، والأرز بمائه وتسعين الأردب، والكتان كل رطل بدرهمين ونصف بعد درهم، والحملة الحطب - وهي مائة وعشرة أرطال - بعشرة دراهم بعد درهمين.
وفي ثانيه: توجه الأمير زين الدين عبد الرحمن المهتار إلى بلاد الشام، في مهم سلطاني.
وفي تاسعه: استقر الأمير أركماس الظاهري نائب عين تاب في نيابة ملطية، كان الأمير دمرداش نائب حلب قد عزله من نيابة عين تاب، فقدم إلى القاهرة واستقر علاء الدين صهر يلبك في كشف البحيرة، وخلع على سعد الدين بن غراب عند تكملة النفقة على المماليك السلطانية.
وفي سادس عشره: استقر شمس الدين محمد بن البنا في نظر الأحباس، وصرف بدر الدين حسن بن الداية. واستقر الصارم في ولاية مصر، وعزل الضاني.
وفي حادي عشرينه: أو لم الأمير الكبير نوروز لعرسه على سارة ابنة الملك الظاهر، فذبح ثلاثمائة رأس من الغنم، وستة عشر فرساً.
وفي ثالث عشرينه: استقر الأمير أبو يزيد - أحد الحجاب - بإمرة عشرة.
وفي سابع عشرينه: استقر شهاب الدين أحمد بن الجواشني في قضاء الحنفية بدمشق، عوضاً عن شمس الدين محمد بن القطب.
وفي أول صفر: قدم الخبر بأن الأمير تغري بردى نائب دمشق اختفى.
وذلك أن السلطان كان قد كتب إلى أمراء دمشق بالقبض عليه، فلما أحس بذلك، فر من دمشق في ليلة الجمعة ثاني عشرين المحرم، في نفر يسير فتعين لنيابة دمشق عوضاً عنه الأمير أقبغا الجمالي أتابك دمشق، والأمير تمربغا المنجكي لنيابة صفد، عوضاً عن دقماق. ونقل دقماق لنيابة حلب، وعزل دمرداش عنها. فورد الخبر بالتحاق تغري بردى بدمرداش في حلب.
وفي خامسه: كتب توقيع باستمرار نجم الدين عمر بن حجي في قضاء القضاة الشافعية بحماة وتوقيع بنقل علاء الدين علي بن مغلي قاضي الحنابلة بحماة، إلى قضاء الحنابلة بحلب.
وفي عشرينه: جهز تشريف الأمير آقبغا بنيابة دمشق، على يد غنجق.
وفي رابع عشرينه: خلع على الصاحب علم الدين يحيى - المعروف بأبو كم - خلعة استمرار. وذلك أنه كان لكثرة طلب كلف الدولة منه، وعجزه، اختفي، فلما ظهر خلع عليه. وورد الخبر أن دمرداش نائب حلب قبض على الأمير خليل بن قراحا بن دلغادر - زعيم التركمان - وسجنه. فلما قدم عليه تغري بردى - نائب دمشق - شفع فيه، فافرج عنه وعن من معه، وهم نحو الخمسين رجلاً.
وفيه رسم للأمير سودن الحمزاوي بنيابة صفد وسبب ذلك أنه اختلف مع الأمراء الكبار وهم: نوروز، وحكم، وسودن طاز، وتمربغا المشطوب، وقاني باي العلاي، فانقطعوا عن الخدمة السلطانية من أول صفر، وعزموا على إثارة الحرب. فلبس الحمزاوي للحرب في داره، واجتمع إليه من يلوذ به. وكان الأمراء قد عينوا للخروج من ديار مصر ثمانية أنفس وهم: الحمزاوي، وسردن بقجة، وهما من أمراء الطبلخاناة، ورءوس نوب، وأزبك الدوادار، وسودن بشتا، وهما من أمراء العشراوات، وقاني باي الخازندار، وبردى باك، وهما من الخاصكية، وآخرين من المماليك الخاصكية، ثم مشى الحال بينهم وبين الأمراء، واصطلحوا على خروج الحمزاوي لنيابة صفد، وإقامة الباقين من غير حضورهم الخدمة، وحلف الأمراء والممالك السلطانية على الطاعة والاتفاق. وفيه سار القاصد بتشريف دقماق لنيابة حلب.
وفي خامس عشرينه: استقر حسن بن قراجا في ولاية الجيزة وعزل عمر بن الكوراني.
وفي سابع عشرينه: خلع على سودن الحمزواي لنيابة صفد، عوضاً عن دقماق المنتقل لنيابة حلب. وفيه قدم الأمير ألطنبغا العثماني نائب صفد، والأمير بهاء الدين عمر بن الطحان نائب غزة من أسر تمرلنك، وذكروا أنهما فارقاه من أطراف بغداد.(3/41)
وفي هذا الشهر: كانت كائنة طرابلس وذلك أنه قدم إليها في يوم الاثنين عاشره مركب فيه عدة من الفرنج، فخرج الناس لحربهم، وكان بالميناء مراكب لتجار الفرنج، فاجتمعوا على مراكب المسلمين التي قد شحنت بالبضائع لتسير إلى أرض، وأخذوا منها مركبين، فيهما مال كبير، وأسروا خمسة وثمانين مسلماً بعدما قاتلوا قتالاً شديداً وغرق جماعة وفر جماعة، وأصبحوا من الغد على الحرب، فوقع الاتفاق على فكاك من أسروه بمال يحمل إليهم فلما حمل إليهم بعض المال أسروا الرجل، ومضوا في ليلة الخميس خامس عشره، ونزلوا على قرية هناك فقاتلهم أميرها، وقبضهم وجاء بهم إلى طرابلس، فسجنوا، وأخذ المسلمون مركبهم.
شهر وبيع الأول، أوله الاثنين: في خامسه: لبس آقبغا خلعة بنيابة الشام، وقد وصلت إليه من القاهرة إلى دمشق، وقوي تقليده.
وفي عاشره: قدم الأمير دقماق من صفد إلى دمشق، يريد حلب وقد استقر في نيابتها، فخرج الأمير أقبغا إلى لقائه، وأنزله بالميدان، وصحبة متسفره كتاب السلطان يطلب الأمير دمرداش نائب حلب إلى مصر، وبتوجه الأمير تغري بردى نائب الشام إلى القدس، بعد ما أحيط بموجوده في دمشق. وفي ثاني عشره: سار دقماق من دمشق يريد حلب.
وفي نصفه: طلع الأمير نوروز إلى الخدمة، بعدما انقطع عنها زيادة على شهر، فخلع عليه وعلى الأمير سودن طاز، وخلع على الأمير ألطبغا العجمي وإلى دمياط، واستقر كاشف الوجه القبلي، عوضاً عن الأمير جنتمر الطرنطاي بحكم رفاته.
وفي ثاني عشره: طلع الأمير جكم إلى الخدمة، بعدما انقطع عنها مدة شهرين، وخلع عليه.
وفيه استقر شمس الدين محمد الشاذلي الإسكندراني في حسبة القاهرة، وعزل البخانسي.
وفيه نودي في دمشق بخروج العسكر لقتال دمرداش بحلب.
وفي يوم الخميس خامس عشرينه: استقر فخر الدين ماجد بن غراب في نظر الخاص برغبة أخيه سعد الدين إبراهيم بن غراب له عن ذلك.
وفي سابع عشرينه: استقر تاج الدين بن الحزين مستوفي الدولة، في الوزارة بدمشق.
شهر ربيع الآخر، أوله الثلاثاء: في ثالثه: استقر تاج الدين محمد بن أحمد بن علي - عرف بابن المكللة - ربيب ابن جماعة، في حسبة مصر، وعزل نور الدين البكري.
وفي خامسه: استقر الأمير جمق رأس نوبة دواداراً ثانياً، عوضاً عن الأمير جركس المصارع، واستقر تنباك الخاصكي دواداراً.
وفي سابعه: استقر في نظر الأحباس بدر الدين محمود العينتابي، عوضاً عن شمس الدين بن البنا، بحكم وفاته. وخلع على الأمير سلمان لنيابة الكرك، عوضاً عن الأمير جركس والد تنم.
وفي خامس عشره: كتب توقيع شمس الدين محمد بن عباس الصلتي نائب قاضي غزة باستقراره في قضاء القضاة الشافعية بدمشق، عوضاً عن شمس الدين محمد بن الأخناي.
وفي سابع عشره: استقر الأمير مبارك شاه - الحاجب وكاشف الجيزة - وزيراً، وصرف علم الدين يحمي أبوكم، وقبض عليه، وسلم إلى شاد الدواوين ليعاقبه.
وفي حادي عشرينه: استقر أقتمر - أحد المماليك السلطانية - في ولاية القاهرة، وعزل الأمير ناصر الدين محمد بن الطلاوي.
وفي هذا الشهر: فر من كان مع الأمير دقماق من التراكمين، وقد قرب دقماق من حلب، فعاد بمن بقي معه إلى حماة، واستنجد الأمير آقبغا نائب دمشق فأمده بطائفة. فسار دمرداش من حلب، ولقي دقماق على حماة في يوم الخميس ثاني جمادى الأولى، فانكسر بعد قتال طول النهار، وكثرت فيه الجراحات. فلم يمكن دمرداش العود إلى حلب، من أجل أن الأمراء بها أخذوها للسلطان، ومر على وجهه، فعاد عسكر دمشق إليها، وسار دقماق إلى حلب فتسلمها.
وفي ثاني عشره: قبض بدمشق على شمس الدين محمد الأخناي قاضي دمشق، ونودي بالكشف عليه، فكثر شاكوه باستيلائه على أملاك الناس وأوقافهم.
وقدم في سادس عشرينه: إلى دمشق شمس الدين محمد بن عباس الصلتي - نائب قاضي غزة متوليا القضاء عن الأخناي، وأفرج عن الأخناي، في أول جمادى الآخرة.(3/42)
وفي ليلة الجمعة تاسعه: ركب الأمير صروق نائب غزة. واقتتل هو والأمير سلامش الحاجب، والأمير جركس نائب الكرك فقتل بينهم عشرة أنفس، وجرح جماعة، وفر سلامش، وأخذ جوكس أسيراً، فجمع سلامش لحرب صروق، واستنجد بعمر بن فضل أمير حزم، فقام معه، وقدما في جمع كبير إلى غزة في رابع عشره، واقتتلوا مع صروق، فانهزم منهم في يوم الخميس خامس عشره، فتبعوه، وقبضوا عليه، وقيدوه ونهبت غزة. وقتل بينهم نحو الخمسين رجلاً، وجرح نحو ثلاثمائة.
وفي يوم الجمعة سادس عاشرين شعبان: أقيمت الجمعة بالجامع الأموي بدمشق، وهو خراب منذ أحرقه التفرية، بعد ما نودي فيه الناس بذلك، فشهدها جماعة. هذا وجميع مدينة دمشق خراب، لا ساكن بها. وقد بني الناس خارجها، وسكنوا هناك، وصاروا ينقلون ما عساه يوجد بالمدينة من الأحجار ونحوها، وببني بذلك في ظاهر المدينة، حتى أزالوا ما بقي من أثار الحريق، وصارت مدينة دمشق كيماناً.
وفي هذا الشهر: كتب باستقرار الأمير صروق في كشف بلاد الشام، لدفع العربان عنها، فأوقع بهم، وأكثر من القتل فيهم.
وفي ثامن عشر رمضان: خرج الأمير دقماق نائب حلب لقتال الأمير دمرداش، وقدم دمرداش في جمائع التركمان، فأقبل الأمير نعير لقتاله أيضاً، فانهزم، وأخذت أكثر أثقاله.
وفي يوم الاثنين خامس جمادى الآخرة: صرف قاضي القضاة ناصر الدين محمد بن الصالحي عن قضاء القضاة بديار مصر. واستقر القاضي جلال الدين عبد الرحمن بن شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني قاضي العسكر في قضاء القضاة بديار مصر.
وفي ثامنه: استقر الأمير ألطنبغا العثماني في نيابة غزة، عوضاً عن الأمير صروق.
وفي طول هذه الأيام: كثر تنافر الأمراء واختلافهم، وانقطع نورور، وجكم، وقنباي عن الخدمة. ودخل شهر رمضان: وانقضي، فلم يحضروا للهناء بالعيد، ولا صلوا صلاة العيد مع السلطان.
فلما كمان يوم الجمعة ثاني شوال: ركبوا للحرب، فنزل السلطان من القصر إلى الإسطبل عند سودن طاز، ووكب نوروز وجكم وقنباي، وقرقماس الرماح. ووقعت الحرب من بكرة النهار إلى العصر. ورأس الأمراء نوروز وجكم، وخصمهم سودن طاز. فلما كان آخر النهار: بعث السلطان بالخليفة المتوكل على الله وقضاة القضاة الأربع إلى الأمير الكبير نوروز في طلب الصلح، فلم يجد بداً من ذلك، وترك القتال وخلع عنه آلة الحرب، فكف الأمير جكم الدوادار أيضاً عن الحرب. وعد ذلك مكيدة من سودن طاز، فإنه خاف أن يغلب ويسلمه السلطان إلى الأمراء، فأشار عليه بدلك حتى فعله، فتمت مكيدته بعدما كاد أن يؤخذ، لقوة نوروز وجكم عليه، وبات الناس في هدوء.(3/43)
فلما كان يوم السبت الغد: ركب الخليفة وشيخ الإسلام البلقيني، وحلفوا الأمراء بالسمع والطاعة للسلطان، وإخماد الفتنة، فطلع الأمير نوروز إلى الخدمة في يوم الاثنين خامسه، وخلع عليه، وأركب فرساً خاصاً بسرج، وكنفوش ذهب. وطلع الأمير جكم في ثامنه وهو خائف. ولم يطلع قنباي، ولا قرقماس، وطلبا فلم يوجدا، مجهز إليهما خلعتان، على أن يكون قنباي نائباً بحماة، وقرقماس حاجباً بدمشق. ونزل جكم بغير خلعة حنقاً وغضباً، فما هو إلا أن استقر في داره، ونزل إليه سرماش رأس نوبة، وبشباي الحاجب بطلب قنباي، ظناً أنه اختفي ليلبس الخلعة بنيابة حماة، فأنكر أن يكون عنده، وصرفهما، وركب من ليلته بمن معه من الأمراء والمماليك وأعيانهم: قمش الخاصكي الخازندار، ويشبك الساقي، ويشبك العثماني، وألطبغا جاموس، وجانباي الطيبي، وبرسبغا الدوادار، وطرباي الدوادار، وصاروا كلهم على بركة الحبش خارج مصر. ولحق به الأمير قنباي، وقرقماس الرماح، وأرغز، وغنجق، ومحو الخمسمائة من مماليك السلطان. وأقاموا إلى ليلة السبت عاشره، فأتاهم الأمير نوروز، والأمير سودن من زاده رأس نوبة، والأمير تمربغا المشطوب، في نحو الألفين، فسر بهم وأقاموا جميعاً إلى ليلة الأربعاء، وأمرهم يزيد ويقوى بمن يأتيهم من الأمراء والمماليك. فنزل السلطان من القصر في ليلة الأربعاء رابع عشره إلى الإسطبل عند سودن طاز. وركب بكرة يوم الأربعاء فيمن معه، وسار من باب القرافة، بعد ما نادى بالعرض، واجتمع إليه العسكر كله. وواقع جكم ونوروز، وكسرهما، وأسر تمربغا المشطوب، وسودن من زاده، وعلى بن أينال، وأرغر. وفر نوروز وجكم في عدة كبيرة يريدون بلاد الصعيد. وعاد السلطان ومعه الأمير سودن طاز إلى القلعة مظفراً منصوراً. وبعث بالأمراء المأسورين إلى الإسكندرية، في ليلة السبت سابع عشره. وانتهي نوروز وجكم إلى منية القائد وعادوا إلى طموه، ونزلوا على ناحية منبابه من بر الجيزة، تجاه القاهرة. فمنع السلطان المراكب أن تعدى بأحد منهم في النيل، وطلب الأمير يشبك الشعباني من الإسكندرية. فقدم يوم الاثنين تاسع عشره إلى قلعة الجبل، ومعه عالم كبير ممن خرج إلى لقائه، فباس الأرض ونزل إلى داره.
وفي ليلة الثلاثاء عشرينه: ركب الأمير نوروز نصف الليل، وعدي النيل، وحضر إلى بيت الأمير الكبير بيبرس الأتابك. وكان قد تحدث هو والأمير إينال باي بن قجماس له مع السلطان، حتى أمنه ووعده بنيابة دمشق. وكان ذلك من مكر سودن طاز، فمشى ذلك عليه، حتى حضر، فاختل عند دلك أمر جكم وتفرق عنه من معه، وفر عنه قنباي وصار فريداً. فكتب إلى الأمير بيبرس الأتابك يستأذنه في الحضور، فبعث إليه الأمير أزبك الأشقر رأس نوبة والأمير بشباي الحاجب، وقدما به ليلة الأربعاء حادي عشرينه إلى باب السلسلة من الإصطبل السلطاني، فتسلمه عدوه الأمير سودن طاز وأصبح وقد حضر يشبك وسائر الأمراء للسلام عليه. فلما كانت ليلة الخميس ثاني عشرينه قيد وحمل في الحراقة إلى الإسكندرية، فسجن بها حيث كان الأمير يشبك مسجوناً.
وفي يوم الخميس: هذا خرج المحمل وأمير الحاج نكباي الأزدمري، أحد أمراء الطبلخاناه. وكان قد ألبس الأمير نوروز تشريف نيابة دمشق في بيت الأمير بيبرس يوم الأربعاء، فقبض عليه من الغد يوم الخميس، وحمل إلى باب السلسلة، وقيد، وأخرج في ليلة الجمعة ثالث عشرينه إلى الإسكندرية، فسجن بها أيضاً. وغضب الأميران بيبرس وإينال باي، وتركا الخدمة السلطانية أياماً، ثم أرضيا. واختفى الأميران قانباي وقرقماس، فلم يعرف خبرهما.
وفي سابع عشرينه: كتب تقليد الأمير شيخ المحمودي باستقراره في كفالة السلطة بالشام، عوضاً عن الأمير أقبغا الأطروش.
شهر ذي القعدة، أوله السبت: في ثالثه: أنعم بإقطاع على الأمير إينال العلاي حطب رأس نوبة، وأخذ منه النحريرية. وبإقطاع قنباي على علان الأقطع. وبإقطاع تمربغا المشطوب على الأمير بشباي الحاجب، فلم يرض به، فاستقر باسم قطلوبغا الكركي، على عادته أولا. وبقي بشباي على طبلخانته. وأنعم بإقطاع جكم على الأمير يشبك العثماني على عادته أولا، وأنعم على بيغوت بإمرة طبلخاناه، بعدما كان أمير عشرة. وعلى أسنبغا المصارع بطبلخاناه. وعلى سودن بشتا بطبلخاناه، نقلوا كلهم من العشراوات.(3/44)
وفي سادسه: قدم الأمراء من سجن الإسكندرية، وهم: أقباي وقطلوبغا - الكركيان - وجركس المصارع، وصعدوا إلى القلعة، فباسوا الأرض على العادة، ونزلوا إلى منازلهم. وفيه استقر بدر الدين حسن بن آمدي - أحد الأجناد - في مشيخة خانقاه سرياقوس، وعزل الفقيه أنبياء التركماني.
وفي ثامنه: خلع على الأمراء القادمين من الإسكندرية.
وفي تاسعه: قدم كتاب السلطان بعزل الأمير آقبغا، فانعزل. وكانت مدة نيابته تسعة أشهر تنقص خمسة أيام. وتوجه إلى القدس بطالا في سابع عشره، فقدم متسلم الأمير شيخ لدمشق، وأمر الناس بملاقاة شيخ بالسلاح وهيئة القتال.
وفي ثامن عشره: لعب الأمراء بالأكرة في بيت الأمير الكبير بيبرس، فاجتمع من المماليك السلطانية فوق الألف تحت القلعة، يريدون الفتك بسودن طاز. فعند ما خرج من بيت بيبرس هموا به، فساق ولحق بباب السلسلة، وامتنع بالإصطل. وفيه نفي الأمير يلبغا السالمي إلى دمياط.
وفي رابع عشرينه: خلع على الأمير الكبير بيبرس الأتابك خلعة الاستمرار على الأتابكية، وخلع على الأمير يشبك، واستقر دوادار السلطان عوضاً عن جكم. وخلع على ناصر الدين محمد الطناحي إمام السلطان ومؤدبه، واستقر في نظر الأحباس عوضاً عن البدر محمود العينتابي. وفيه توجهت الأمراء إلى عرب تروجة، وتأخر الأمير بيبرس والأمير بشباي، وقدموا ليلة عيد النحر من غير شيء.
وفي أول ذي الحجة: كتب إلى الأمير قرايوسف يخير في مكان يأوي إليه هو وجماعته، ليكتب له به. وجهز إليه فوقاني حرير بوجهين، وطراز زركش عرض ذراع، وألف دينار، وتعبئة قماش عدة خمسين قطعة، ولإخوته فرعلي وترعلي، ولولده محمد شاه، ولألزامه أقبية حرير بطرز زركش.
وفي يوم السبت رابع عشر ذي الحجة: استقر الأمير أقباي الكركي خازنداراً على عادته.
وفيه قدم الأمير شيخ المحمودي نائب الشام إلى دمشق من غير مدافع، فنزل بها، وولي جماعة من أصحابه عدة وظائف.
وفي سادس عشره: خلع على الأمير يشبك الدوادار بنظر الأحباس، على عادته.
وفي ثالث عشرينه: استقر الأمير ناصر الدين محمد بن علي بن كلفت التركماني في ولاية القاهرة والحجوبية، وصرف أقتمر. واستقر ناصر الدين محمد بن ليلى في ولاية مصر، عوضاً عن ناصر الدين محمد الضاني.
وفي سادس عشرينه: استقر ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون المغربي في قضاء المالكية، وصرف جال الدين يوسف بن خالد بن نعيم مقدم بن محمد بن حسن بن غانم ابن محمد بن على البساطي.
وفي يوم الاثنين سلخه: استقر الأمير جمق الدوادار في نيابة الكرك، عوضاً عن سلمان. واستقر الأمير علان الأقطع أحد المقدمين في نيابة حماة، وعزل عنها يونس الحافظي، فشق ذلك على سودن طاز، من أجل أنهما كانا عضديه، وكتب باستقرار الأمير دمرداش المحمدي في نيابة طرابلس، والأمير على باك بن دلغادر في نيابة عين تاب، والأمير عمر بن الطحان في نيابة ملطية. وكانت الأخبار وردت بتجمع التركمان مع دمرداش ونزولهم على حلب، وأن دقماق نائب حلب اجتمع هو ونائب حماة والأمير نعير، وأن تمرلنك نزل على مدينة سيواس.
ولم يحج في هذه السنة أحد من الشام ولا العراق.
ومات في هذه السنة
الشيخ فخر الدين عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان البلبيسي الضرير، إمام الجامع الأزهر، وشيخ القراءات بديار مصر، في ثاني ذي القعدة.
ومات شرف الدين عبد الوهاب بن تاج الدين محمد بن محمد بن عبد المنعم البارنباري، موقع الدرج، في حادي عشر ذي الحجة، وكان أبوه تاج الدين كاتب السر بطرابلس.
ومات شمس الدين محمد بن البنا ناظر الأحباس في خامس ربيع الآخر.
ومات الأمير جنتمر التركماني الطرنطاي، كاشف الوجه القبلي، في منتصف صفر، قتله هوارة الصعيد، طائفة الأمير محمد بن عمر بن عبد العزيز الهواري، في نحو المائتين من عسكره، ونهبوا سائر ما كان معه.
وكان أولاً من أمراء الشام وولي نيابة حمص وبعلبك، وأسر مع تمرلنك، ثم قدم بعد أسره إلى القاهرة، وولي كشف الصعيد. وكان سمحاً طائشاً، عسوفاً، جباراً، ظالماً، مفسداً.
ومات الأمير علاء الدين علي الشهير بابن الملكة والي منفلوط، في أخر ربيع الأول، قتله عرب بني كلب.(3/45)
وماتت الست خوند شقراء بنت حسين بن محمد بن قلاوون، أخت الملك الأشرف شعبان بن حسين، ليلة الاثنين ثامن عشر المحرم. ودفنت من الغد بمدرسة أم السلطان الأشرف بالتبانة خارج القاهرة.
ومات الشيخ لاجين الجركسي، في رابع ربيع الآخر، عن ثمانين سنة. وكان عظيماً عند الجراكسة، يزعمون أنه يملك مصر، ويشيعونه، فلا يتكتم هو ذلك. ويعد أنه إذا ولي أبطل الأوقاف التي أوقفت على المساجد والمدارس، وأخرج الإقطاعات عن الأجناد والأمراء، ويحرق كتب الفقه، ويعاقب الفقهاء. وعين جماعة لعدة وظائف، وحذر وأنذر، فأخذه الله دون ذلك.
ومات الشيخ المعتقد شهاب الدين أحمد بن محمد بن محمد بن الناصح بالنوب في سابع عشرين رمضان. حدث بمسلم عن ابن عبد الهادي، وبأبي داود والترمذي عن الميدومي. وكان وجيهاً عند الملوك، وللناس فيه اعتقاد كثير.
ومات المسند شهاب الدين أحمد، بن المحدث بدر الدين حسن بن محمد بن محمد بن زكريا بن محمد بن يحيى القدسي.
سنة خمس وثمانمائة
أهل المحرم يوم الأربعاء، والأردب القمح بستين درهماً، والأردب الشعير بأربعين درهماً، والمثقال الذهب بخمسين درهماً، والدينار الأفرنتي بسبعة وأربعين درهماً.
وفيه كانت وقعة الطاغية تيمور كركان ملك الشرق مع خوند كار أبي يزيد بن مراد عثمان ملك الروم. وملخص ذلك أنه سار من العراق إلى جهة بلاد الروم، فجمع ابن عثمان عساكره وعوضهم على مدينة آقشهر - يعني المدينة البيضاء - فبلع عدد الفرسان نحو السبعمائة ألف فارس، وثلاثمائة ألف راجل. ومات يوم العرض تحت الأقدام من الدوس في الازدحام خمسة وعشرون رجلاً. وسار يريد لقاءه نحو الخمسة عشر يوماً. فبعث إليه تمرلنك يخدعه ويقول: أنت رجل مجاهد غازي في سبيل الله، وليس غرضي قتالك، ولكني أريد منك أن تقنع بالبلاد التي كانت مع أبيك وجدك، وآخذ أنا بلاد الأمير أرطنا أمير الروم أيام السلطان أبي سعيد. فانخدع لذلك ومال إلى الصلح، فلم يشعر إلا بالخبر قد ورد عليه أن تمرلنك نزل على كماخ وقتل أهلها وسباهم وخربها، فعلم أنه ما أراد إلا مخادعته، وسار إليه حتى قرب منه، فكاده تمرلنك ورجع، فظن أبو يزيد أنه قد خافه. وإذا به سلك طريقاً من وراء أبي يزيد، وساق في بلاد الروم مسيرة ثمانية أيام، ونزل على عمورية - ويقال لها اليوم أنكورية - وحاصرها، وألقي فيها النيران، فبلغ ذلك ابن عثمان فساق في عساكره إليه مدة ثمانية أيام، إلى أن أشرف عليه، وقد جهده التعب، وتقطعت عساكره، وتلفت خيولهم. فعندما وصل ركب تمرلنك إلى حربه في أول يوم من المحرم هذا، وقد علم أنه وعساكره في غاية التعب، فلم يجد بداً من محاربته، فاقتتل كل منهما مع الآخر في يوم الأحد خامسه من أول النهار إلى العصر، وتمرلنك مشرف على مكان مرتفع يرتب عساكره. وثبت كل من الفريقين حتى قتل بينهما على ما قيل نحو الثمانين ألفاً، وتعين الغلب للروم على عساكر تمرلنك، حتى هموا بالهزيمة. فلما كان في آخر النهار خرج كمن لتمرلنك، فيه نحو المائة ألف، وصدم الأمير سلمان بن أبي يزيد بن عثمان، فانكسر ولحق بأبيه في ثلث العسكر، فانكشفت الميمنة، وانقلبت على القلب، ففر الأمير سلمان في نحو مائة ألف يريد مدينة برصا تخت الملك. وأحاطت عساكر تمرلنك عند ذلك بابن عثمان ومن ثبت معه، وأخذوه أسراً، وجاءوا به إلى تمرلنك، وقد تفرقت جمائعه، وتمزقوا كل ممزق، فلو لم يحل بينهم الليل، لما أبقي التمرية منهم أحداً، ولما جيء بابن عثمان إلى تمرلنك أوقفه وأبنه، ثم وكل به. وبعث من الغد في تتبع المنهزمين، فأحضر إليه من الجرحى نحو الثلاثة آلاف. وتفرقت التمرية في بلاد الروم، تعبث وتفسد وتنهب، وتنوع العذاب على الناس، وأحرقوا مدينة برصا. ومكثوا ستة أشهر يقتلون ويأسرون وينهبون ويفسدون. وعدى الأمير سلمان بن أبي يزيد بن عثمان إلى بر القسطنطينية.
وفي ثالث المحرم: أنعم لإقطاع علان نائب حماة على الأمير جركس المصارع، وبإقطاع جمق نائب الكرك على الأمير آقباي الخازندار الكركي، وزيد عليه سمسطا.
وفي سابعه: الأمير سودن طاز أمير أخور من الإصطبل السلطاني بأهله وحاشيه إلى داره، وعزل نفسه عن الأمير أخوريه، وصار من جملة الأمراء.
وفي ثامنه: توجه الأمير عبد الرحمن المهتار إلى جهة الكرك في مهمات.(3/46)
وفي عاشره: استقر علاء الدين على بن أبي البقاء في قضاء القضاة بدمشق، عوضاً عن ابن عباس، واستقر صدر الدين على بن الآدمي في كتابة السر بدمشق، عوضاً عن الشريف علاء الدين علي بن عدنان.
وفي خامس عشره: أوفي النيل، وذلك في ثاني عشرين مسرى.
وفي سادس عشره: قدم الأمير تغري بردى - نائب الشام كان - إلى دمشق، وقد فارق دمرداش ورغب في الطاعة، فأنزله الأمير شيخ وأكرمه.
وفي سابع عشره: خرج علان وجمق من القاهرة وخيما بالريدانية، وسارا إلى نيابتهما في ليلة السبت تاسع عشره. وعندما نزل الحاج إلى منزلة نخل قبض على الأمير نكباي أمير الحاج في عدة من المماليك السلطانية، وسفروا إلى الكرك فسجنوا بها.
وفي خامس عشرينه: قدمت ولاية علاء الدين علي بن أبي البقاء إلى دمشق باستقراره في قضائها، عوضاً عن ابن عباس.
وفي ثامن عشرينه: ظهر الأمير قرقماس الرماح، وصعد إلى قلعة الجبل، فعفا السلطان عنه، ونزل إلى داره. وفيه قبض بدمشق على الأمير أسن بيه أتابكها، وعلى الأمير حقمق حاجب الحجاب وغيره، فسجنوا بالصبيبة.
شهر صفر، أوله الأربعاء: في أوله: سار الأمير تغري بردى من دمشق إلى القاهرة، فقدم في أخره.
وفي ليلة الاثنين ثالث عشره: خرج الأمير سودن طاز بمماليكه وحواشيه إلى المرج والزيات خارج القاهرة، ونزل هناك ليقيم الفتنة. وذلك أنه لما ثقل عليه الأميران نوروز وجكم، ودبر في إخراجهما من مصر - كما ذكر - ظن أنه ينفرد بأمور الدولة، فنزل عليه الأمير يشبك وجماعته، وانحصر لمجيئهم من الإسكندرية، وتحكمهم في الدولة، وتلاشي أمره. وكان الأمير أقباي الكركي مع ذلك يعاديه قديماً. فما زال يدبر عليه حتى نزل من الإصطبل، خوفاً على نفسه من كثرة جموع يشبك وجرأة أقباي، وميل السلطان معهم عليه. فعندما نزل، شق عليه فطامه عن التحكم، وكفه عن الأمر والنهي، فخرج ليأتي إليه المماليك السلطانية وغيرهم، ويحارب بهم يشبك وطائفته، ويخرجهم من مصر، أو يقبض عليهم، ويستبد بعدهم بالأمر، فجاء حساب الدهر غير حسابه، و لم يخرج إليه أحد، وولي السلطان عوضه في الإصطبل الأمير إينال باي بن قجماس، وخلع عليه في يوم الاثنين عشرينه، واستقر أمير أخور، وسكن في الحراقة بباب السلسلة على العادة في ذلك.
وبعث السلطان إلى سودن طاز بالأمير قطلوبغا الكركي يأمره بالعود على أمريته من غير إقامة فتنة، وإن أراد البلاد الشامية فله ما يختار من نيابات السلطة بها، فامتنع وقال: لابد من إخراج أقباي الكركي أولاً إلى بلاد الشام، ثم إذا خرج كان في طاعة السلطان، فإن شاء أقره على إمرته، وإن شاء أخرجه، وإن شاء حبسه. فلم يوافق السلطان على إخراج أقباي، وبعث إليه ثانياً الأمير بشباي الحاجب فلم يوافق، فبعث إليه مرة ثالثة، وهو مقيم على ما قال. فلما أيس منه السلطان أن يوافق ركب بالعساكر من قلعة الجبل، وقد لبسوا للحرب، ونزل في يوم الأربعاء سادس ربيع الأول، فلم يثبت سودن طاز، ورحل بمن معه، وهم نحو الخمسمائة من المماليك السلطانية ومماليكه. وقد ظهر الأمير أقباي، ولحق به من نحو عشرة أيام، وصار من حزبه وفريقه، فتبعه. السلطان، وهو يظن أنه توجه نحو بلبيس وعندما حاذى سرياقوس مضى إليها، وسلك على الخليج إلى جهة القاهرة، وعبر من باب البحر بالمقدس إلى الميدان. وهجم قنباي في عدة كبيرة على الرميلة تحت القلعة، ليأخذ باب السلسلة، فلم يقدر على ذلك.
ومر السلطان وهو سائق على طريق بلبيس، فتفرقت عنه العساكر، وتاهوا في عدة طرق، فبلغ السلطان وهو سائق أن سودن طاز قد نزل يحاصر القلعة فرجع مسرعاً، وسار يريد القلعة حتى وصل إليها بعد العصر، وقد بلغ منه التعب بلغاً عظيماً، ونزل بالمقعد المطل على الرميلة وسوق الخيل. وندب الأمراء والمماليك لقتال سودن طاز، فقاتلوه في الأزقة طعناً بالرماح ساعة، فلم يثبت وانهزم، وقد جرح من الفريقين كثير، فحال الليل بين عساكر السلطان وبينه. وتفرق من كان معه في الدور، وبات السلطان ومن معه على تخوف.
فلما كان يوم الخميس سابعه: لم يظهر لسودن طاز وقنباي خبر إلى الليل، فلم يشعر الأمير يشبك بعد عشاء الآخرة إلا بسودن طاز قد دخل عليه داره في ثلاثة أنفس، وترامى عليه، فقبله، وبالغ في إكرامه، وأنزله عنده.(3/47)
وأصبح يوم الجمعة: فكتب وصيته، وأقام في ليلة الأحد عاشره، فأنزله في الحراقة، وحمل إلى دمياط بغير قيد، ورتب له بها ما يكفيه، وأنعم عليه الأمير يشبك بألف دينار ذهباً مكافأة له على ما كان من سعيه في إخراجه من سجن الإسكندرية، وعوده إلى رتبته بعد نوروز وجكم. وأما قنباي فإنه اختفى، فلم يوقف له على خبر.
وفي رابع عشره: خلع على الأمير يلبغا السودني، أحد أمراء حلب، واستقر أتابك دمشق، عوضاً عن الأمير أسن باي التركماني بعد القبض عليه. وخلع أيضاً على الأمير سودن الظريف نائب الكرك، واستقر حاجب الحجاب بدمشق عوضاً عن الأمير جقمق الصفوي بعد القبض عليه أيضاً.
وقدم الخبر بأن الأمير دمرداش نائب حلب نزل إلى طرابلس واستقر بها عوضاً عن الأمير شيخ المحمودي. وكان قد خرج قصاد السلطان بطلب كل من دمرداش نائب حلب، وتغري بردى نائب دمشق من عند التركمان، وقد نزلا في جواريهم بعد عزلهما، فتوجه الأمير سودن بقجة رأس نوبة إلى دمرداش، وأظهر له ولاية طرابلس، وسار به إليها. وأما تغري بردى فإنه قدم إلى قلعة الجبل في أخر صفر.
وفي خامس عشر ربيع الأول: توجه الشريف جماز بن هبة بن جاز الحسيني من القاهرة إلى المدينة النبوية أميراً بها، عوضاً عن ابن عمه ثابت بن نعير. وكان جماز قد عزل في سنة تسع وثمانين وسبعمائة، وحمل قلعة الجبل إلى وسجن بها، وولي عوضه ثابت. فلم يزل في السجن إلى أن أفرج عنه وعن الشريف عنان بن مغامس الحسني أمير مكة. وخلع على جماز بإمرة المدينة. ومرض عنان فمات في مرضه.
وفي خامس عشرينه: قدم الأمير سودن الحمزاوي من صفد إلى قلعه الجبل باستدعاء، مع الطواشي عبد اللطيف اللالا، وسعى الأمير أقباي الكركي له لصداقة بينهما، حتى يقوى به عضده.
وفي يوم الجمعة ثالث عشر وبيع الآخر: أعيد أنبياء التركماني إلى مشيخة خانقاه سرياقوس، عوضاً عن بدر الدين حسن بن علي بن آمدي.
وفي سادس عشره: خلع على الأمير شيخ السليماني شاد الشراب خاناه، واستقر في نيابة صفد عوضاً عن سودن الحمزاوي. وأنعم على سودن الحمزاوي بإمرة مائة وتقدمة ألف بديار مصر، فصار من جملة الأمراء الأكابر. وأنعم أيضاً على الأمير تعري بردى نائب الشام بتقدمة ألف بديار مصر.
وفي سابع عشره: أخرج الأمير قرقماس الرماح إلى دمشق، على إمرة الأمير صروق.
وفي عشرينه: خلع على سودن الحمزاوي، واستقر شاد الشراب خاناه عوضاً عن الشيح السليماني.
وفي يوم الخميس ثالث جمادى الآخرة: استقر كريم الدين محمد بن نعمان الهوى في حسبة القاهرة، وصرف شمس الدين محمد الشاذلي.
وفي هذا الشهر: ارتفعت الأسعار، فبلغ الدينار الهرجة خمسة وستين درهماً، والدينار المشخص ستين درهماً، وسبب ذلك تنقيص الفلوس، فإن القفة من الفلوس كان وزنها مائة رطل وخمسة عشر رطلاً، عنها خمسمائة درهم، كل درهم أربعة وعشرين فلساً، رنة الفلس مثقال، فصارت القفة زنتها خمسين رطلاً. وغلت الأصناف، فبيع البدن من الفرو السنجاب - وهو أربع شقاق - بما ينيف على ألف درهم، بعد مائتين وخمسين درهماً. وكان قدم في أوله خواجا نظام الدين مسعود الكحجاني بكتاب تمرلنك، يتضمن أشياء، منها أنه إن وصل إليه أطلمش سار إلى سمرقند، فأفرج عن أطلمش في آخره. وأنعم عليه بمال وقماش، وجهز مع الرسول المذكور، وخرج من القاهرة يوم الثلاثاء أول جمادى الآخرة إلى الريدانية، ورحل منها يوم الخميس، وسار إلى تمرلنك، بعد أن أقام مسجوناً نحو عشر سنين.
وفي يوم الاثنين سابع جمادى الآخرة: خلع على سودن الحمزاوي شاد الشراب خاناه، واستقر خازنداراً عوضاً عن أقباي الكركي بعد وفاته.
وفي عاشره: استقر الأمير قطلوبك - المعروف بأستادار أيتمش - في كشف الجيزية، وعزل الأمير مبارك شاه. ثم عزل قطلوبك عن ذلك، في سابع عشره بالأمير بشباي الحاجب، فاستعفي بعد أيام، وأعفي.
وفي ثاني عشرينه: قدمت ولاية شمس الدين محمد بن عباس قضاء دمشق، مولى عوضاً عن علاء الدين علي بن أبي البقاء، وسعى شخص بالأمير قنباي أنه في دار فكبس عليه الأربعاء ثالث عشرينه، وقبض وقيد، وحمل إلى الإسكندرية في سابع عشرينه، فسجن بها.(3/48)
وفيه ورد الخبر بأن سودن طاز خرج من ثغر دمياط يوم الخميس رابع عشرينه في طائفة، فخرج إليه في يوم الاثنين تاسع عشرينه الأمير تغري بردى، والأمير تمراز، والأمير يلبغا الناصري، والأمير سودن الحمزاوي في عدة أمراء، فبلغهم أنه نزل عند الأمير علم الدين سليمان بن بقر بالشرقية، ليساعده على غرضه، فعندما أتاه أرسل يعلم به، فطرقه الأمراء وقبضوا عليه، وأحضروه إلى قلعة الجبل يوم الأربعاء سلخه.
وفي يوم الخميس أول شهر وجب: سمر خمسة من المماليك السلطانية، ممن كان مع سودن طاز، أحدهم سودن الجلب، فاجتمع المماليك لإقامة الفتنة بسبب ذلك، فخلى عنهم، وقيدوا، وسجنوا بخزانة شمايل، ونفي سودن الجلب إلى بلاد الفرنج من الإسكندرية.
وفي ثالثه: حمل سودن طاز مقيداً في الحراقة إلى الإسكندرية، وسجن بها. وفيه خلع على القضاة الأربع خلع الاستمرار.
وفي يوم الاثنين ثاني عشره: دار المحمل بالقاهرة ومصر، على العادة في ذلك. وفيه قدم الأمير جقمق إلى دمشق، وقد أفرج عنه من سجنه بالصبيبة، بكتاب سلطان.
وفي نصفه: سكن الأمير شيخ نائب الشام بدار السعادة من دمشق، بعدما عمرها، كانت قد احترقت في نوبة تمرلنك.
وفي يوم الجمعة سادس عشره: عقد للأمير سودن الحمزاوي على خوند زينب ابنة الملك الظاهر برقوق وأخت الملك الناصر، وعمرها نحو الثماني سنين.
وفي هذا الشهر: ارتفعت الأسعار ارتفاعاً لم يعهد مثله بمصر، فبلغ القمح إلى سبعين درهماً الأردب، وزاد سعر الشعير على القمح، وبلغ الفول تسعين درهماً، والحمل التبن إلى سبعين درهما بعد خمسة دراهم، والفدان البرسيم الأخضر ستمائة درهم بعد تسعين درهماً، والقنطار السمن ستمائة درهم بعد مائة وعشرين درهماً، والسكر إلى ألفي درهم القنطار المكرر بعد ثلاثمائة درهم، والقنطار الفستق بأربعة آلاف درهم بعد مائتين وخمسين، والقنطار الزيت خمسمائة بعد مائة درهم ودونها، والدبس أربعمائة درهم بعد أربعين درهماً، وزيت الزيتون أربعمائة درهم بعد خمسين درهماً. والصابون خمسمائة درهم القنطار، بعد ما كان بمائة درهم. ولحم الضان ثلاثة دراهم الرطل، بعد نصف وربع درهم، ولحم البقر درهمين، بعدما كان بنصف درهم الرطل.
وارتفع أيضاً سعر الثياب، فبلغ الثوب القطن البعلبكي أربعمائة درهم، بعدما كان بستين درهماً، والثوب القطن البطانة بمائة درهم بعد ثلاثين درهماً ودونها، والثوب الصوف المربع ألف وخمسمائة درهم بعد ثلاثمائة درهم وسرى الغلاء في كل ما يباع.
وفي يوم الاثنين سادس عشرينه: استقر كمال الدين عمر بن جمال الدين إبراهيم ابن العديم قاضي حلب الحنفي في قضاء القضاة الحنفية بديار مصر، على مال. وصرف قاضي القضاة أمين الدين عبد الوهاب بن الطرابلسي، وكان مشكور السيرة.
وفي ليلة الأربعاء سابع عشرينه: سار إلى الإسكندرية أقبردي وتنباك من أمراء العشراوات في ثلاثين من المماليك السلطانية، فقدموا إليها في تاسع شعبان، وأخرجوا الأمير نوروز الحافظي، والأمير جكم، والأمير قنباي، والأمير سودن طاز، وأنزلوهم في البحر الملح وساروا بهم إلى البلاد الشامية، فحبس نوروز وقنباي في قلعة الصبيبة من عمل دمشق، وحبس جكم في حصن الأكراد من عمل طرابلس. وحبس سودن طاز في قلعة المرقب من عمل طرابلس أيضاً. ولم يبق بسجن الإسكندرية من الأمراء غير تمربغا المشطوب وسودن من زاده، ثم حول جكم إلى قلعة المرقب فاستمر بها هو وسودن طاز في الاعتقال.
وأهل شعبان بيوم الأحد: ففي تاسعه: استقر شهاب الدين الأموي في قضاء المالكية بدمشق.
وفي يوم الثلاثاء ثاني عشر شعبان: استقر شمس الدين محمد بن شعبان الجابي في حسبة القاهرة، وعزل الهوى.
وفي حادي عشرينه: تفاوض الأمير سودن الحمزاوي مع القاضي الأمير سعد الدين إبراهيم بن غراب في مجلس السلطان، وأغلظ كل منهما على صاحبه وقاما. فعندما نزل ابن غراب من القلعة، تجمع عليه عدة من المماليك السلطانية ضربوه بالدبابيس، حتى سقطت عمامته عن رأسه، وسقط على الأرض، فحمله مماليكه إلى باب السلسلة، واحتمي منهم بالأمير إينال باي أمير أخور حتى تفرقوا، ثم صار إلى داره، فانقطع عن الخدمة السلطانية أياماً لما به.(3/49)
وفي يوم الثلاثاء رابع رمضان: خلع على الأمير الشريف علاء الدين علي البعدادي، واستقر في الوزارة عوضاً عن الوزير فخر الدين ماجد بن غراب. وبقي فخر الدين بن غراب على نظر الخاص فقط. وخلع أيضاً عن الأمير قجماس كاشف الشرقية، واستقر في كشف البحيرة.
وفي عاشره: خلع على الأمير بهاء الدين رسلان، واستقر أحد الحجاب، بعد عزله من الحجوبية مدة بشهاب الدين أحمد بن المعلم ناصر الدين محمد بن سلام الإسكندراني القزاز.
وفي حادي عشره: ضرب الأمير يشبك الدوادار محمد بن شعبان محتسب القاهرة زيادة على أربعين عصا، لسوء سيرته، فتولى ضربه والي القاهرة بحضرة الناس في دار الأمير.
وفي ثاني عشره: قبض على سعد الدين إبراهيم بن غراب وأخيه فخر الدين ماجد، واعتقلا بالزردخاناه في القلعة. وقبض على زين الدين صدقة، ومحمد بن الوارث المغربي، ومحمد بن الشيخة صباح، وجمال الدين يوسف أستادار بجاس، وغير هؤلاء من ألزام بي غراب.
وفي رابع عشرينه: خلع على تاج الدين أبي بكر بن محمد بن عبد الله، بن أبي بكر بن محمد بن الدماميني الإسكندراني، واستقر في وظيفة نظر الجيش، عوضاً عن سعد الدين إبراهيم بن غراب على مال كبير. وخلع على تاج الدين عبد الله ابن الوزير سعد الدين نصر الله بن البقري، واستقر في نظر الخاص عوضاً عن فخر الدين ماجد ابن غراب.
وفيه رسم بقطع جوامك المماليك السلطانية المستجدة بالديوان المفرد، بعد موت الظاهر برقوق، وقطع عليق خيولهم أيضاً، فقطع نحو الألف ومائتي مملوك، ثم أعيدوا بشفاعات الأمراء، ما عدا مائتين وثلاثين لم يوجد من يعتني بهم، فاستمر منعهم.
وفي يوم الاثنين سابع عشرينه: خلع على الأمير الوزير ركن الدين عمر بن قايماز، واستقر أستادار السلطان عوضاً عن سعد الدين بن غراب.
وفيه أفرج عن جمال الدين يوسف المعروف بأستادار بجاس، واستقر أستادار الأمير الكبير بييرس، عوضاً عن ركن الدين عمر بن قايماز، فصار يباشر أستادارية سودن الحمزاوي، وهو يومئذ شرارة الدولة، وأستادارية الأمير بيبرس - وهو أكبر الأمراء - فاشتهر ذكره وبعد وصيته، وصار يعد من أعيان البلد.
وفي تاسع عشرينه: خلع على الأمير أزبك الأشقر الرمضاني رأس نوبة، واستقر أمير الحاج، عوضاً عن الأمير بيسق الشيخي، لتقلق الحاج منه.
وفي يوم الخميس رابع شوال: خلع على الأمير مبارك شاه الحاجب وكاشف الجيزة، واستقر في الوزارة عوضاً عن الشريف علاء الدين علي البغدادي، بعد القبض عليه.
وفي ثامنه: أخرج الأمير ألجيبغا أحد الحجاب في الأيام الظاهرية إلى دمشق ليكون نائب ملطية وأخرج سرماش أحد الأمراء أخورية لنيابة سيس وكانت ملطية وسيس قد تغلب عليهما التركمان من واقعة تمرلنك.
وفي ليلة النصف منه: اختفي الوزير مبارك شاه، لعجزه عن كلف الوزارة.
وفي هذه الأيام: نزل الدينار الهرجة من سبعين درهماً إلى ستين، والدينار المشخص من ستين إلى خمسة وأربعين درهماً.
وفي ثامن عشره: استقر سودن الحمزاوي رأس النوبة كبيراً عوضاً عن سودن المارديني، واستقر المارديني أمير مجلس عوضاً عن تمراز. واستقر تمراز أمير سلاح عوضاً عن بكتمر الركني. واستقر بكنمر رأس نوبة الأمراء، وهو ثاني أتابك العساكر في المنزلة والرتبة. وخلع على الجميع، وعلى الأمير يلبغا السالمي، واستقر مشير الدولة، وكان قد استدعى من دمياط فقدم. وفيه خرج المحمل، وأمير الحاج أزبك الرمضاني إلى الريدانية، للمسير إلى الحجاز على العادة.
وفي ثاني عشرينه: خلع على الأمير الوزير تاج الدين رزق الله المعروف بوالي قطيا، واستقر في الوزارة عوضاً عن مبارك شاه، وهذه وزارته الثانية. وفيه نودي أن يكون الذهب المختوم بستين المثقال، والأفرنتي بخمسة وأربعين درهماً الدينار، ونودي من قبل السالمي بإبطال مكس البحيرة، وهو ما يذبح من الغنم والبقر.
وفي ثالثه عشرينه: أعيد ناصر الدين محمد بن الصالحي إلى قضاء القضاة بديار مصر. وصرف قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن بن شيخ الإسلام الشافعية البلقيني.
وفي خامس عشرينه: خلع على الأمير طوخ، واستقر خازنداراً كبيراً، عوضاً عن الحمزاوي.
وفي تاسع عشرينه: خلع علي الحمزاوي لنظر خانقاه شيخو، عوضاً عن سودن المارديني.(3/50)
وفي يوم الثلاثاء سلخه: خلع على تاج الدين عبد الله بن سعد الدين نصر الله بن البقري بوظيفة نظر الجيش، عوضاً عن تاج الدين أبي بكر بن محمد الدماميني، لعجزه عن المباشرة، فباشر وظيفتي نظر الخاص والجيش.
وأهل ذو القعدة يوم الأربعاء: وفي ثانيه: كتب توقيع ناصر الدين محمد بن خطب نقيرين، بقضاء القضاة بدمشق، عوضاً عن ابن عباس.
وفي تاسعه: نقل الأمير تاج الدين عبد الرزاق بن أبي الفرج جمال الدين عبد الله من الوزارة إلى كشف الوجه البحري، عوضاً عن الأمير قجماس. واستقر فيه ألطبغا العجمي في كشف الشرقية.
وفي رابع عشره: ورد الخبر بحركة الفرنج على السواحل، فخرج من الأمراء الألوف بكنمر رأس نوبة، ويلبغا الناصري، وجركس المصارع، وأقباي حاجب الحجاب، وسودن المارديني أمير مجلس، وتمراز أمير سلاح وتغري بردى. ومن الطبلخاناة سودن بقجة، وبشباي الحاجب. وساروا إلى دمياط وإسكندرية.
وفي خامس عشرينه: أفرج عن سعد الدين إبراهيم بن غراب وأخيه فخر الدين، ونزلا إلى دورهما بعد أن تسلمهما الأمير ركن الدين عمر بن قايماز، وضرب فخر الدين فالتزم سعد الدين بألف ألف درهم، وفخر الدين بثلاثمائة ألف درهم. فنقلا إلى الأمير يلبغا السالمي ليقتلهما، فاتقى الله في أمرهما، ولم يتبع هوى نفسه، ولا انتقم منهما، وخاف سوء العاقبة، فعاملهما من الإكرام بما لم يكن ببال أحد. وما زال يسعى لهما حتى نقلا من عنده إلى بيت شاد الدواوين ناصر الدين محمد بن جلبان الحاجب، فرفق بهما حتى خلصا من غير أن يمسهما سوء، بخلاف ما فعلا مع السالمي.
وفي سابع عشرينه: ارتجع السلطان الزيادات من سائر الأمراء، ما خلا ابن عمته الأمير الكبير بيبرس، فإنه أبقي الزيادة بيده.
وفيه استقر الأمير يلبغا السالمي استادار السلطان، وعزل ابن قايماز، وهذه ولاية السالمي الاستادارية الثانية، وتحدث أيضاً في الوزارة. وفيه عزل الأمير ألطبغا العثماني عن نيابة غزة واستقر خاير بك أحد أمراء دمشق بها.
وفي يوم الأحد ثالث ذي الحجة: قدم الأمراء المجردون، ولم يلقوا أحداً.
وفي هذا الشهر: بلغ القنطار الصابون سبعمائة درهم، والأردب القمح خمسة وتسعين درهماً، والشعير زيادة على ستين، والفول ثمانين درهماً، والأرز إلى مائتين وخمسين الأردب. وورد الخبر برخاء البلاد الشامية.
وفي سابع عشره: أخرج إلى دمشق الأمير أسنبغا المصارع، والأمير نكباي الأزدمري، وهما من الطبلخاناة، وأينال جيا من أمراء العشرين، وإينال المظفري من أمراء العشراوات. وعمل لهم هناك اقطاعات، فساروا من القاهرة.
وفي تاسمع عشرينه: اغلق المماليك السلطانية باب القصر السلطاني من القلعة على من حضر من الأمراء، وعوقوهم بسبب تأخر نفقاتهم وجوامكهم، فأقاموا ساعة، ثم نزلوا من باب السر إلى الإصطبل، ولحقوا بدورهم، وقد اشتد خوفهم. وطلب السالمي فاختفى، ثم طمر به وعوق بباب السلسلة من الإصطبل عند الأمير أينال باي، ووكل به حتى يكمل نفقة المماليك. ولم يحج أحد في هذه السنة من الشام ولا العراق ولا اليمن.
وفي هذه السنة: ثار على السلطان أحمد بن أويس ولده طاهر وحاربه، ففر من الحلة إلى بغداد فأخذ وديعة له كانت بها، فهجم عليه طاهر وأخذ منه المال، ففر أحمد من ابنه، وأتاه قرايوسف بطلبه له وأعانه على ابنه، وحاربه معه، ففر طاهر اقتحم بفرسه دجلة فغرق بها، ولحق بربه.
ومات في هذه السنة
شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان بن نصير بن صالح بن شهاب الدين ابن عبد الخالق العسقلاني، المعروف بالبلقيني، يوم الجمعة عاشر ذي القعدة، عن إحدى وثمانين سنة وثلاثة أشهر إلا ثلاثة عشر يوماً. وقد انتهت إليه رياسة العلم في أقطار الأرض، ودفن بمدرسة من حارة بهاء الدين بالقاهرة.
ومات قاضي القضاة تاج الدين بهرام بن عبد الله بن عبد العزيز بن عمر بن عوض الدميري المالكي، في يوم الاثنين سابع جمادى الآخرة عن سبعين سنة، وكان عين المالكية بديار مصر.
ومات قاضي القضاة المالكية بدمشق، علم الدين محمد بن محمد بن محمد القفصي، في حادي عشرين المحرم، وقد قارب السبعين، وكان مشكور السيرة.
ومات قاضي قضاة الحنابلة بدمشق، شمس الدين محمد بن أحمد بن عمود النابلسي الحنبلي بدمشق، في ثاني عشر المحرم، وكان فقيهاً نحوياً.(3/51)
ومات شيخ الشيوخ بدر الدين حسن بن علي بن آمدي، خارج القاهرة في أول شعبان. وكان يعتقد فيه الخير.
ومات الأمير الشريف عنان بن مغامس بن رميثة الحسني بالقاهرة في أول ربيع الأول.
ومات الأمير أقباي الكركي، في ليلة السبت رابع عشر جمادى الأولى بعد مرض طويل، ودفن بالحوش الظاهري خارج باب النصر.
ومات الأمير يلبغا السودني. حاجب الحجاب بدمشق في جمادى الآخرة، فاستقر عوضه جركس والد تنم، نقل إليها من حجوبية طرابلس. واستقر عوضه في حجوبية طرابلس مراد.
ومات الأمير شهاب الدين أحمد بن الوزير ناصر الدين محمد بن رجب أحد أمراء العشراوات والحجاب، في حادي عشر وجب، بالقاهرة، وكان شاباً جميلاً شجاعاً.
ومات الأمير قرقماس الرماح الأينالي، قتل بدمشق في أخر رمضان بأمر السلطان وكان لما أخرج من القاهرة على إقطاع الأمير صروق بدمشق ولي كشف رملة لد، ثم تحدث بالقبض عليه، ففر إلى جهة حلب، فأخذ عند بعلبك، وحمل إلى دمشق، وقتل بسجنها في عدة من المماليك.
ومات نور الدين محمود بن هلال الدولة الدمشقي بالقاهرة، في آخر رجب، ومولده سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة. وكان من أدباء دمشق وموقعيها.
ومات عبد الجبار رئيس الفقهاء عند تمرلنك، في ذي القعدة.
ومات خوندكار أبو يزيد بن الأمير مراد بن الأمير أوره خان ابن الأمير عثمان ملك بلاد الروم، وهو في الأسر عند تمرلنك في ذي القعدة.
ومات جال الدين عبد الله بن الخطب شهاب الدين أحمد القسطلاني، خطيب جامع عمرو بمصر في العشر الآخر من رمضان بعدما اختلط وقد أناف على السبعين، وخطب هو وأبوه بالجامع نحو خمسين سنة، وعنه أخذت الخطابة.
ومات الفقير المعتقد شمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله بن عمر، المعروف بابن الزيات، الأنصاري الشافعي، في المحرم، ودفن في القرافة. وعلى يده سلك صاحبنا الشاب النائب.
سنة ست وثمانمائة
أهل شهر الله المحرم يوم السبت: والذهب الهرجة كل مثقال بستين درهماً من لفلوس الجدد، والدينار الإفرنتي - وهو المشخص ضرب الفرنج النصارى - كل شخص بخمسة وأربعين درهماً من الفلوس. والنقد الرابح الفلوس، وكل أربعة وعشرين فلساً تحسب بدرهم. والفضة الكاملية - التي كانت نقد مصر، ويصرف منها كل درهم بأربعة وعشرين فلساً - قد صارت عزيزة الوجود، ويصرف كل درهم منها بدرهم ونصف وربع من الفلوس. والسلع كلها، وأجر الأعمال إنما تنسب إلى الفلوس. والأردب القمح بمائة درهم، والشعير كل أردب من ستين درهماً إلى سبعين درهماً، والفول سبعين درهماً الأردب، والأرز بمائتي درهم الأردب، والكتان بثلاثة دراهم الرطل، وبأربعة أيضاً.
وفي يوم الاثنين ثالثه: قدم رسل الطاغية تيمورلنك، وكبيرهم مسعود الكحجاني، فتلقاهم الحجاب ونحوهم من الأمراء، وشقوا القاهرة ومعهم هدية، فيها فيل عليه رجل قائم بيده علمان أخضران. قد نشرهما وقبض عليهما بيديه، وفيها فهد وصقران وثياب، فأنزلوا في دار، وأحضروا بين يدي السلطان بقلعة الجبل في يوم الخميس سادسه، ثم أمر بهم إلى دار، وأجرى عليهم في كل يوم ثلاثمائة رطل من لحم الضأن، وعدة من الأوز، والدجاج، وغير ذلك، وألف درهم، ومنعوا من الاجتماع بالناس مدة أيام، ثم أذن لهم في الركوب والحركة.
وفيه نودي بإشارة الأمير يلبغا السالمي أن يتعامل الناس بالفلوس وزناً لا عدداً، وأن يكون كل رطل منها بستة دراهم حساباً عن كل قنطار ستمائة درهم، فاستمر ذلك ولم ينتقض.
وفي يوم الثلاثاء رابعه: خلع على الأمير ركن الدين عمر بن قايماز، واستقر في الأستادارية عوضاً عن الأمير يلبغا السالمي. وقبض على السالمي وسلم إليه، فسكن بدار السالمي وسجنه بمكان منها، ثم نقل من عنده، وسلم إلى أمير أخور بالإصطبل السلطاني، في عصر يوم الجمعة سابعه.(3/52)
وفي يوم السبت ثامنه: خلع على علم الدين يحيى - المعروف بأبي كم - واستقر في الوزارة ونظر الخاص، عوضاً عن الصاحب تاج الدين بن البقري. واستقر ابن البقري على ما بيده من نظر الجيش، ونظر الديوان المفرد وسبب ذلك أن جمال الدين يوسف أستادار الأمير بجاس استدعي بجمدار إلى حضرة السلطان، وأمر يفاض عليه تشريف الوزارة، فعندما ألقى عليه ليلبسه، حلف ألا يلبسه. وطالت محاورته وهو يمتنع حتى أعيى أمره، وقال: عندي من يلبس الوزارة بشرط أن يضاف إليها نظر الخاص، وهو أبو كم فأحضر، وخلع عليه، ونزل وفي خدمته الناس على العادة.
وفي عاشره: استقر شمس الدين محمد بن شعبان في حسبة القاهرة، وصرف شمس الدين عمد الشاذلي.
وفي يوم الثلاثاء حادي عشره: استدعى السالمي إلى حضرة السلطان ليعاقب فالتزم بحمل مال كبير، فسلم إلى شاد الدواوين.
وفي يوم الخميس ثالث عشره: استقر قاضي القضاة بدمشق - محمد الأخناي - في قضاء القضاة بديار مصر عوضاً عن ناصر الدين محمد بن الصالحي، بعد موته.
وفي ليلة الجمعة رابع عشره: خسف جميع جرم القمر نحو خمس ساعات.
وفي يوم السبت نصفه: فقد الوزير أبو كم من داره، فلم يعرف موضعه لعجزه عن سد كلف الوزارة، فأعيد التاج بن البقري إليها يوم الثلاثاء ثامن عشره.
وفيه أضيف شد الدواوين إلى الأمير ناصر الدين محمد بن كلفت والي القاهرة وأحد الحجاب، وسلم إليه الأمير السالمي ليعاقبه، فتشدد عليه حتى باع كتبه العلمية.
وفي يوم الخميس سابع عشرينه: كثر اضطراب المماليك السلطانية بالقصر من قلعة الجبل، وهموا بأخذ الأمراء ورجوهم، وذلك لتأخر نفقاتهم وعليق خيولهم وكسوتهم، فوعدوا بخير، وأمر بإحضار التجار، وألزموا بمال في نظير غلال بيعت عليهم، توزع الأمراء مالاً يقومون به، فناب بعضهم من ذلك خمسة آلاف، وناب آخرون فوقها، ومنهم من قام بدونها.
وفي هذا الشهر: توقف النيل عن الزيادة في وسط مسرى، فارتفع سعر الغلال حتى أبيع القمح بمائة وعشرين درهماً الأردب، فأمر الناس بالاستسقاء في يوم الجمعة ثامن عشرينه، بالجوامع عقيب صلاة الجمعة، فاستسقوا.
وفيه عزل الأمير جمق عن نيابة الكرك وسفر إلى دمشق، واستقر عوضه الأمير الهذباني.
وفي هذا الشهر: كانت واقعة الفرنج بطرابلس، وذلك أنهم نزلوا على طرابلس في ثلاثين شينياً وقراقر. وكان الأمير دمرداش غائباً عن البلد، فقاتلهم الناس قتالاً شديداً، في يوم الثلاثاء ثاني عشره إلى الغد. فبلغ دمرداش وهو بنواحي بعلبك الخبر، فاستنجد الأمير شيخ نائب الشام، وتوجه إلى طرابلس، فقدمها يوم الخميس عشرينه.
ونودي في دمشق بالنفير، فخرج الناس على الصعب والذلول، فمضى الفرنج إلى بيروت بعدما قاتلهم دمرداش قتالاً كبيراً، قتل فيه من المسلمين اثنان وجرح جماعة، فوصل الأمير شيخ إلى طرابلس وقد قضى الأمر، فسار إلى بيروت، فقدمها وقت الظهر من يوم الجمعة حادي عشرينه، والقتال بين المسلمين وبين الفرنج من أمسه، وقتلى الفرنج مطروحين على الأرض، فحرق تلك الرمم، وتبع الفرنج، وقد ساروا إلى صيدا بعدما حرقوا مواضع وأخذوا مركباً قدم من دمياط ببضائع لها قيمة كبيرة. وقاتلوا أهل صيدا، فطرقهم الأمير شيخ وقت العصر وقاتلهم وهم في البر، فهزمهم إلى مراكبهم. وساروا إلى بيروت فلحقهم وقاتلهم، فمضوا إلى جهة طرابلس، ومروا عنها إلى جهة الماغوصة. فركز الأمير شيخ طائفة ببيروت، وطائفة بصيدا، وعاد إلى دمشق في ثاني صفر.
شهر صفر، أوله الاثنين:(3/53)
ويوافقه سابع عشرين مسرى: - أحد شهور القبط - تمادت زيادة النيل إلى يوم الأحد سابعه، وثالث أيام النسيء، فانتهى ماء النيل فيه إلى اثنين وعشرين إصبعاً من الذراع السادس عشر، وبقى من الوفاء إصبعان. فتوقف يومي الاثنين والثلاثاء عن الزيادة، ونقص أربع أصابع، فاشتد جزع الناس، وتوقعوا حلول البلاء، فسار شيخ الإسلام قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن بن البلقيني من داره ماشياً قبيل الظهر إلى الجامع الأزهر في جمع موفور، ولم يزل يدعو ويتضرع، وقد غص الجامع بالناس، إلى بعد العصر. ثم خرج القضاة وشيوخ الخوانك إلى الجامع، ففعلوا ذلك إلى آخر النهار، فتراجع النيل من الغد إصبعين، واستمر إلى يوم الخميس حادي عاشره - ويوم النوروز أول توت - فركب الأمير يشبك بعد العصر حتى فتح الخليج، وقد بقي من الوفاء أربع أصابع. وانتهي سعر الأردب القمح إلى مائة وثلاثين درهماً.
وفي يوم السبت ثالث عشره: توجه شيخ الإسلام جلال الدين إلى رباط الآثار النبوية، وحمل الآثار النبوية على رأسه، واستسقى، وأكثر من التضرع والدعاء ملياً، وانصرف، فتراجع ماء النيل، ونودي في يوم الثلاثاء بوفاء ستة عشر ذراعاً وإصبعين من سبعة عشر، وارتفع أيضاً سعر الذهب، فبلغ المثقال الهرجة إلى أربعة وستين درهماً، والدينار الأفرنتي إلى خمسين وزيادة.
وفيه قدم الخبر بنزول الفرنج إلى صيدا وبيروت، وأن الأمير شيخ المحمودي نائب الشام سار إليهم وقاتلهم، وقتل منهم عدة، وهزم باقيهم، وبعث إلى القاهرة سبع رءوس منهم.
وفي سادس عشرينه: قدم الخبر بتكاثر مراكب الفرنج على الإسكندرية، فندب برهان الدين إبراهيم المحلي كبير التجار بمصر للمسير إلى الإسكندرية، وتبعه عدة من الأمراء، فأقاموا أياماً ثم عادوا، ولم يلقوا كيداً.
شهر ربيع الأول، أوله الأربعاء.
فيه نقص ماء النيل، فشرق الصعيد بكماله ورويت الشرقية، وكثير من بلاد الغربية، وارتفع السعر، فوصل القمح إلى مائة وثمانين درهماً الأردب، والشعير إلى مائة درهم الأردب، والمثقال الذهب إلى سبعين، والدينار الأفرتني إلى ستين.
وفي يوم السبت رابعه: أعيد قاضي القضاة جلال الدين البلقيني إلى قضاء القضاة، وصرف الأخناي.
وفي سادسه: أعيد البخانسي إلى حسبة القاهرة، وعزل ابن شعبان، وأعيد جمال الدين يوسف البساطي إلى قضاء القضاة المالكية بديار مصر، وصرف قاضي القضاة ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون. وقدم الخبر بقدوم السلطان أحمد بن أويس متملك بغداد إلى حلب، فاراً من الطاغية تيمورلنك، وأنه يعتذر عما كان منه، ومتى لم يقبل عذره مضى إلى بلاد الروم.
وفي عشرينه: بلغ الأردب القمح إلى مائتين وخمسين درهماً، والفول والشعير إلى مائتين وثلاثين، وعز وجود الشعير، بحيث فرق عليق خيول المماليك السلطانية فولاً، وبلغ الحمل التبن إلى خمسين درهماً.
وفي سابع عشرينه: خلع على رسل تيمورلنك خلعة السفر، وخلع على الأمير قاني باي التمربغاوي - أحد أمراء الطبلخاناه - وتوجه لإحضار الأمير دقماق نائب حلب.
وفي تاسع عشره: اختفى الوزير تاج الدين بن البقري عجزاً عن تكفية اللحم والنفقات السلطانية.
وفي يوم الثلاثاء عشرينه: خلع على القاضي سعد الدين إبراهيم بن غراب ناظر الخاص، واستقر في وظيفتي الأستادارية ونظر الجيش. وصرف الأمير ركن الدين عمر ابن قايماز عن الأستادارية، وخلع على الأمير تاج الدين رزق الله كاشف البحيرة وأعيد إلى الوزارة وهي ثالث وزارته. واستقر محيى الدين محمود بن نجم الدين أحمد بن عماد الدين إسماعيل بن الشيخ شرف الدين محمد بن الشيخ عز الدين أبي العز، المعروف بابن الكشك، في قضاء القضاة الحنفية بدمشق، عوضاً عن زين الدين عبد الرحمن بن الكفري، وسافر من القاهرة، فلم يبلغ دمشق حتى استقر عوضه جمال الدين يوسف ابن القطب. واستقر شمس الدين محمد البيري - أخو جمال الدين يوسف الأستادار - في قضاء القضاة الشافعية بحلب.
وفي هذا الشهر: ألزم قاضي القضاة جلال الدين أن يكتبوا أجاير الدور والأراضي، وصدقات النساء وغير ذلك بالفلوس، ولا يكتبوا من الدراهم النقرة، فاستمر ذلك.
شهر ربيع الآخر، أوله الخميس:(3/54)
في خامسه: كتب باستقرار الأمير أقبغا الهذباني في نيابة حلب، وجهز إليه تشريف، عوضاً عن الأمير دقماق، وطلب دقماق إلى مصر، فلما وصل إليه القاصد بطلبه هرب من حلب.
وفي يوم السبت آخره: قدم قرا يوسف بن قرا محمد إلى دمشق، فأنزله الأمير شيخ بدار السعادة، وكان من خبره أنه حارب أحمد بن أويس، وأخذ منه بغداد، فبعث إليه تمرلنك عسكراً فكسرهم، فسير إليه جيشاً كبيراً فكسروه، وفر بأهله وخاصته إلى الرحبة، فلم يمكن منها، ونهبه العرب، فمر على وجهه إلى دمشق.
وفيه أيضاً هرب الأمير قانباي من سجن الصبيبة، وكان مسجوناً هو والأمير نوروز الحافظي، فتأخر نوروز بالسجن، وفر قانباي، فلم يعرف له خبر.
شهر جمادى الأولى، أوله السبت: فيه استقر كريم الدين محمد بن نعمان الهوى في حسبة القاهرة، وصرف البخانسي، فمات يوم الثلاثاء رابعه.
وفي يوم الثلاثاء خامسه: خلع علي بدر الدين حسن بن نصر الله بن حسن الفوى، واستقر في نظر الخاص، عوضاً عن ابن البقري.
وفي أوله: قدم إلى دمشق الأمير علاء الدين أقبغا الأطروش من القدس وقد ولي نيابة حلب، فأقام بها إلى رابعه، وتوجه إلى حلب.
وفي سادسه: قدم السلطان أحمد بن أويس متملك بغداد إلى دمشق، فاراً من تمرلنك، فتلقاه الأمير شيخ وأنزله.
وفي تاسع عشره: نودي في دمشق بإبطال مكس الفاكهة والخضراوات، بأمر الأمير شيخ. وكتب في ذلك إلى السلطان، فرسم به، واستمر ولله الحمد.
شهر جمادى الآخرة، أوله السبت: في سابعه: صرف الهوى عن الحسبة بالشاذلي.
وفي عاشره: اختفي الوزير تاج الدين، عجزا عن تكفية اللحم وغيره، من مصارف الدولة.
وفي يوم الاثنين ثالث عشرينه: أعيد ابن البقري إلى الوزارة ونظر الخاص وصرف ابن نصر الله عن نظر الخاص.
وفي هذا الشهر: حدث في الناس بالقاهرة ومصر وضواحيهما سعال، بحيث لم ينج أحد منه. وتبع السعال حمى، فكان الإنسان يوعك نحو أسبوع ثم يبرأ، و لم يمت منه أحد. وكان هذا بعقب هبوب ريح غريبة، تكاد من كثرة رطوبتها تبل الثياب والأجسام.
وفيه اشتد البرد، وعظمت نكايته إلى الغاية، فشنع الموت في المساكين من شدة البرد وغلاء الأقوات وتعذر وجودها، فإن القمح بلغ إلى مائتين وستين درهماً الأردب، والقدح من الأرز خمسة دراهم، والرطل السمن إلى ستة دراهم، فكان يموت في كل يوم بالجوع والبرد عدد كثير. وقام بمواراتهم الأمير سودن المارديني، والقاضي الأمير سعد الدين بن غراب الأستادار، وغيره سوى من يجهز من وقف الطرحاء، فكان المارديني يواري منهم في كل يوم ما يزيد على مائة، وابن غراب يواري في كل يوم مائتين وما فوقها، والأمير سودن الحمزاوي، والأمير ناصر الدين محمد بن سنقر الأستادار، ووقف الطرحاء يوارون عدة كبيرة في كل يوم مدة أيام عديدة. ثم تجرد ابن غراب لذلك تجرداً مشكوراً، فبلغت عدة من واراه منهم إلى آخر شوال، اثني عشر ألف وسبعمائة، سوى من ذكرنا.
وفي سابع عشره: أعيد علاء الدين علي بن أبي البقاء إلى قضاء دمشق، عوضاً عن ابن خطيب نقيرين. وفيه قبض على السلطان أحمد بن أويس، والأمير قرايوسف، وسجنا بدمشق، في سابع عشره، مقيدين.
شهر رجب، أوله الاثنين: في ثامن عشره: قدم الأمير أقبغا الجمالي الأطروش نائب حلب، وقد مات.
وفي ثالث عشرينه: خلع على رسل تيمورلنك خلعة ثانية، وعين للسفر معهم الأمير منكلي بغا أحد الحجاب.
وفي هذا الشهر: بلغ الأردب القمح إلى ثلاثمائة وعشرين، وفيه علت كثير، وبيع كل قدح منه بثلاثة دراهم وثلث، وأبيع الخبز كل ثماني أواق بدرهم، وكل قدح من الشعير بدرهمين، وكل أردب من الفول بمائة وثمانين، فاشتد الحال بديار مصر، وبلغت غرارة القمح بدمشق - وهي ثلاثة أرادب مصرية - إلى سبعمائة درهم وخمسين درهماً فضة، عنها من نقد مصر الآن ألف وخمسمائة درهم.
وفيه عمل الأمير شيخ نائب الشام محمل الحاج وأداره بدمشق، في ثاني عشرينه، حول المدينة وكان قد انقطع ذلك من سنة ثلاث وثمانمائة، مبلغ مصروف ثوب المحمل - وهو حرير أصفر مذهب - نحو خمسة وثلاثين ألف درهم فضة. ونودي بخروج الحاج على طريق المدينة النبوية وعين لإمرة الحاج فارس دوادار الأمير تنم.
شهر شعبان، أوله الأربعاء:(3/55)
في ثالثه: ورد الخبر بأن الأمير دقماق نزل على حلب بجماعة التركمان، فيهم الأمير على باي بن دلغادر، ففر منه أمراؤها إلى حماة، فملك حلب، فتوجه الأمير سودن المحمدي بتقليد الأمير دمرداش المحمدي نائب طرابلس بنيابة حلب، عوضاً عن أقبغا الجمالي الأطروش، وتوجه الأمير أقبردي بتقليد الأمير شيخ السليماني نائب صفد بنيابة طرابلس، عوضاً عن دمرداش واستقر في نيابة صفد بكتمر جلق - أحد أمراء دمشق - وتوجه أينال المأموري بقتل الأمراء المحبوسين.
وفي يوم الخميس سادس عشره: صرف قاضي القضاة جلال الدين البلقيني عن وظيفة القضاء بالأخناي.
وفي ثالث عشرينه: صرف الشاذلي عن الحسبة، بابن شعبان. وفيه بلغ الحمل التبن إلى ثمانين درهماً، والأردب الشعير والفول إلى مائتين وخمسين درهماً، والأردب القمح إلى أربعمائة درهم، والرطل من لحم الضان إلى درهمين ونصف. وفيه ورد الخبر بأن طرابلس الشام زلزلت بلادها زلزلة عظيمة، هدمت مباني عديدة، منها جانب من قلعة المرقب. وعمت اللاذقية وجبلة وقلعة بلاطنس وثغر بكاس، وعدة بلاد بالجبل والساحل، فهلك تحت الروم جماعة.
شهر رمضان أوله الخميس: وفيه بلغ المثقال الذهب إلى تسعين درهماً، والدينار الأفرنتي إلى سبعين، والدرهم الكاملي ثلاثة دراهم من الفلوس، وكل درهم من الفضة الحجر بأربعة دراهم. وفيه فتح جامع الأمير سودن من زاده، بخط سويقة العزى، خارج باب زويلة. وخطب من العد فيه قاضي القضاة أمين الدين عبد الوهاب، ابن قاضي القضاة شمس الدين محمد الطرابلسي الحنفي. ودرس فيه بدر الدين حسن القدسي الحنفي.
وفيه أفرج الأمير دمرداش عن الأمير سودن طاز، والأمير جكم، وكانا قد سجنا ببعض حصون طرابلس، وسار بهما إلى حلب.
وفي تاسعه: قدم رسول تمرلنك، ومعه الطواشي مقبل الأشقتمري ممن أسره تمر من الخدام السلطانية إلى دمشق، وقدموا إلى قلعة الجبل في تاسع عشرينه.
وفي هذا الشهر: تحارب الأمير نعير بن حيار والتركمان، فقتل ابن سالم الدكرى، وانهزم التركمان.
شهر شوال، أوله السبت: في رابعه: صرف ابن شعبان عن الحسبة بالهوى وبلغ المثقال الذهب نحو المائة درهم، والأفرنتي خمسة وسبعين، والقنطار السكر ستة آلاف درهم، والمروج الواحد إلى سبعين درهماً، والرطل من البطيخ الصيفي إلى ثلاثة دراهم، والحمل التبر بمائة وأكثر، منها.
وورد الخبر بأن الأمير نعير بن حيار بن مهنا حارب التركمان الدكرية، قريباً من حلب، وهزمهم أقبح هزيمة.
وفي رابع عشره: استقر تاج الدين محمد بن شقير - خطيب جامع الجيزة - في حسبة مصر، عوضاً عن نور الدين البكري.
وفي سابع عشره: قبض على الوزير تاج الدين بن البقري، وسلم للأمير سعد الدين ابن غراب. وخلع في يوم الخميس خلعة الوزارة على بدر الدين حسن بن نصر الله، مضافة إلى نظر الخاص.
شهر ذي القعدة، أوله الاثنين.
فيه أعيد ابن شعبان إلى الحسبة، وعزل الهوى، ثم أعيد الهوى وصرف ابن شعبان في يوم الخميس رابعه. واستقر شمس الدين محمد بن عبد الله بن أبي بكر القليوبي - أحد طلبة الشافعية - في مشيخة خانكاة سرياقوس عوضاً عن الفقيه أنبياء التركماني. وفيه ارتفعت أسعار عامة المبيعات. فبلغ الرطل الجبن المقلي إلى اثني عشر درهماً، والرطل اللحم البقري إلى ثلاثة دراهم، والرطل اللحم الضاني إلى خمسة دراهم. وقلت الأغنام ونحوها، فأبيع عشر دجاجات سمان بألف وخمسين درهماً. وبيعت عشر دجاجات في سوق الدجاج بحراج حراج بخمسمائة درهم. وأنا أستدعيت بفروجين لأشتريهما، وقد مرضت، فأخبرت أن شراءهما أربعة وسبعون درهماً، ويريد ربحاً على ذلك.(3/56)
وتوالى في شوال وذي القعدة هبوب الرياح المريسية، فكانت عاصفة ذات سموم وحر شديد، مع غيم مطبق، ورعود ومطر قليل، غرق منها عدة سفن ببحر الملح، وفي نيل مصر، هلك فيها خلائق. واشتدت الأمراض بديار مصر، وفشت في الناس حتى عمت، وتتابع الموتان. ثم عقب هذا الريح الحارة هواء شمالي رطب، تارة مع غيم، ومرة بصحو، حتى صار الربيع خريفاً بارداً، فكانت الأمراض في الأيام الباردة تقف ويقل عدد الموتى، فإذا هبت السمائم الحارة كثر عدد الموتى. وكانت الأمراض حادة، فطلبت الأدوية حتى تجاوز ثمنها المقدار، فبيع القدح من لب القرع بمائة درهم، والويبة من بذر الرجلة بسبعين درهماً بعد درهمين. والرطل من الشير خشك بمائة وثلاثين. والأوقية من السكر النبات بثمانية دراهم، ومن السكر البياض بأربعة دراهم، ثم بلغ الرطل إلى ثمانين درهماً. والرطل البطيخ بثمانية دراهم، والرطل الكمثري الشامي بخمسة وخمسين درهماً، والعقيد بستين درهماً الرطل، وعضد الخروف الضأن المسموط بأربعة دراهم، والزهرة الواحدة من اللينوفر بدرهم، والخيارة الواحدة بدرهم ونصف. وزكت الغلال بخلاف المعهود، فأخرج الفدان الواحد من أرض انحسر عنها ماء بركة الفيوم - المعروفة ببحر يوسف الصديق - أحداً وسبعين أردباً شعيراً بكيل الفيوم، وهو أردب ونصف، فبلغ بالمصري مائة وستة أرادب كل فدان. وهذا من أعجب ما وقع في زمننا. وأخرج الفدان مما روي - سوى هذه الأرض - ثلاثين أردباً شعيراً، ودون ذلك من القمح. وأقل ما أبيع القمح الجديد بمائتي درهم وخمسين درهماً الأردب.
وهلك أهل الصعيد لعدم زراعة أراضيهم. وكثرت أموال من رويت أرضه من أهل الشرقية والغربية. وعز البصل حتى أبيع الرطل بدرهم ونصف، وبلغ الفدان منه إلى عشرين ألفاً. وأحصي من مات بمدينة قوص فبلغوا سبعة عشر ألف إنسان، ومن مات بمدينة سيوط فبلغوا أحد عشر ألفاً، ومن مات بمدينة هو فبلغوا خمسة عشر ألفاً، وذلك سوى الطرحاء، ومن لا يعرف.
شهر ذي الحجة، أوله الاثنين: في سابعه: أعيد قاضي القضاة جلال الدين البلقيني إلى منصب القضاء، وصرف الأخناي.
وفي يوم الخميس سابع عشره: قبض على الأمير ببيرس الدوادار الصغير، وعلى الأمير جانم، والأمير سودن المحمدي، وحملوا إلى الإسكندرية، فسجنوا بها. واستقر الأمير قرقماس - أحد أمراء الطبلخاناة - دواداراً صغيراً، عوضاً عن بيبرس.
وسار أمير الحج في هذه السنة طول. وحج من الأمراء شرباش رأس نوبة، وتمان تمر الناصري رأس نوبة، وبيسق الشيخوني أمير أخور ثاني. ونودي على النيل في يوم السبت ثاني عشره - وسابع عشرين بؤونة - ثلاث أصابع، وجاء القاع ذراع واحد وعشر أصابع. وكان النيل قد احترق احتراقاً غير ما نعهد، حتى صار الناس يخوضون من بر القاهرة إلى بر الجيزة، وقلت جوية الماء.
وهذه السنة: هي أول سني الحوادث والمحن التي خرجت فيها ديار مصر، وفني معظم أهلها، واتضعت بها الأحوال، واختلت الأمور خللاً أذن بدمار إقليم مصر.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
علي بن خليل بن علي بن أحمد بن عبد الله بن محمد الحكري الحنبلي. مات في يوم السبت ثامن المحرم. وكان قد ولي قضاء القضاة الحنابلة بديار مصر نحو ستة ثم عزل، وكان من فضلاء الحنابلة.
ومات محمد بن محمد بن عبد الرحمن ناصر الدين الصالحي الشافعي، توفي يوم الأربعاء ثاني عشر المحرم، وهو متولي قضاء القضاة بديار مصر، وكان غير مشكور السيرة، قليل العلم، يشدو شيئاً من الأدب، ويكتب خطاً حسناً.
ومات محمد بن مبارك بن شمس الدين، شيخ رباط الآثار النبوية توفي يوم الاثنين سابع عشر المحرم، عن ثمانين سنة.
ومات محمد بن شمس الدين البخانسي الصعيدي. توفي يوم الثلاثاء رابع جمادى الأولى، وقد ولي حسبة القاهرة عدة مرار، وكان عسوفاً.
ومات عبد الرحيم بن الحسين بن أبي بكر، زين الدين العراقي، الشافعي شيخ الحديث، توفي يوم الأربعاء ثامن شعبان، ومولده في سنة خمس وعشرين وسبعمائة، وولي قضاء المدينة النبوية، وانتهت إليه رياسة علم الحديث.
ومات علي بن محمد بن عبد الوارث نور الدين البكري الشافعي. توفي في ذي القعدة، وولي حسبة القاهرة والفسطاط غير مرة. وكان يعد من فضلاء الفقهاء.(3/57)
ومات الأمير أزبك الرمضاني، أحد أمراء الطبلخاناة، توفي ليلة الثلاثاء رابع عشر ربيع الأول. ومات الأمير قطلوبك، أستادار أيتمش. توفي يوم الأربعاء سابع ربيع الآخر، وولي أستادارية السلطان، وكان من الأغنياء.
ومات أقبغا الفقيه، توفي ليلة الثلاثاء ثاني عشر جمادى الأولى. وكان أحد دوادارية السلطان، وله به اختصاص زائد، وسيرته ذميمة.
ومات إبراهيم بن عمر بن علي برهان الدين المحلي توفي يوم الأربعاء ثاني عشرين ربيع الأول. وبلغ من الحظ في المتجر وسعة المال الغاية، وجدد عمارة جامع عمرو بن العاص بمصر، وانتهب ماله نهباً.
ومات الأمير شهاب الدين أحمد بن الشيخ علي نائب صفد. توفي بدمشق - وهو أحد أمرائها الألوف - في ذي القعدة، وقدم مصر غير مرة.
ومات الأمير سودن طاز. مات مقتولاً في شهر ذي الحجة.
ومات الشيخ محمد بن علي بن عبد الله، المعروف بالحرفي، المغربي، في يوم الخميس سادس شوال. وكان من خواص الملك الظاهر، يمت إليه بمعرفة علم الحرف.
سنة سبع وثمانمائة
أهلت بيوم الخميس، ثم بعد أيام أثبت القضاة أن أول المحرم الأربعاء.
وكان فيه النيل على ستة وعشرين إصبعاً من الذراع السادس، ووافقه خامس عشر أبيب. وكان سعر القمح بالقاهرة قد انحط، فأبيع بمائتين وخمسين درهماً الأردب، وهو يباع في الريف بثلاثمائة درهم. وقطع الرغيف زنة رطل بدرهم. وأبيع الفول بمائتين وخمسين درهماً، لقلته من أجل انهماك الناس في أكله أخضر. وبلع سعر المثقال الذهب تسعين درهماً، والأفرنتي سبعين.
وفي رابعه: باشر أبو العباس أحمد بن محمد بن سلطان الحمصي قضاء دمشق، عوضاً عن علاء الدين بن أبي البقاء.
وفي رابع عشره: استقر شمس الدين محمد بن سعد بن عبد الله - المعروف بسويدان الأسود - أحد قراء الأجواق، في حسبة القاهرة، وعزل الهوى.
وفي ثامن عشرينه: أوفي النيل ستة عشر ذراعاً. وركب السلطان من قلعة الجبل، وعدى النيل حتى خلق المقياس بين يديه، وفتح الخليج على العادة.
شهر صفر، أوله الخميس: في ثانيه: توجه الأمير طولو إلى الشام في مهم سلطاني، فقدم دمشق في سادس عشره، ومعه الأمير خير بك نائب غزة فتلقاهما الأمير شيخ، ولبس التشريف السلطاني، الذي حمله طولو. وأقام عنده طولو إلى سادس عشر ربيع الأول، ثم سار إلى القاهرة.
وفي ثالثه: عزل الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله عن نظر الخاص، واستقر عوضه الصاحب فخر الدين ماجد بن غراب.(3/58)
وارتفع سعر الذهب، فبلغ المثقال بالإسكندرية إلى مائتي درهم بالفلوس، وبالقاهرة إلى مائة وعشرة. وسبب ذلك فساد الفلوس، وذلك أن سنة الله في خلقه أن النقود التي تكون أثماناً للمبيعات وقيماً للأعمال إنما هي الذهب والفضة فقط، وأما الفلوس فإنها لمحقرات المبيعات التي يقل أن تباع بدرهم أو بجزء منه. وكانت الفلوس أولا تعد بمصر: في درهم الكاملي منها ثمانية وأربعون فلساً، ويقسم الفلس منها بأربع قطع، تقام كل قطعة مقام فلس، فيشترى بها ما يشترى بالفلس، إلى أن كانت سنة تسع وخمسين وسبعمائة ضربت الفلوس الجدد، وجعلت أربعة وعشرين فلساً بدرهم كاملي، زنة الفلس منها مثقال. فلما استبد الأمير محمود بن علي بن أصفر عينه - المعروف بجمال الدين الأستادار - وتحكم في أمور الدولة، منذ أعوام بضع وتسعين، أكثر من ضرب الفلوس شرفاً في الفائدة. فلم يمت الظاهر برقوق حتى صارت الفلوس هي النقد الرائج الذي ينسب إليه قيم الأعمال كلها وأثمان المبيعات بجملتها. وقلت الدراهم الكاملية بترك السلطان والرعية ضربها، ولسبكهم إياها، واتخاذها حلياً وأواني وردف ذلك كثرة النفقات في العساكر من الذهب المخلف عن الظاهر، فكثر بالأيدي، وصار أيضاً نقداً رائجاً، إلا أنه ينسب إلى الفلوس، ولا تنسب الفلوس إليه، فيقال: كل دينار بكذا كذا درهم من الفلوس. وصارت الفضة مع هذا كأنها من جملة العروض، تباع بحراج في النداء، كل درهم من الكاملية بكذا وكذا من الفلوس. وكل درهم من الفضة الحجر - وهي الخالصة التي لم تضرب ولم تغش - بكذا وكذا درهم من الفلوس. ثم دخل الفساد في الفلوس، فضرب بالإسكندرية منها شيء أقل من وزن فلوس القاهرة وتمادى أمرها في النقصان حتى صار وزن الفلس أقل من ربع درهم وكانت القفة زنة مائة وعشرين رطلاً - عنها خمسمائة درهم - فصارت زنة مائة وثمانية عشر رطلاً، ثم صارت مائة وسبعة عشر رطلاً ما ثم صارت مائة وخمسة عشر رطلاً، ثم صارت مائة واثني عشر رطلاً، واستمرت كذلك عدة أعوام. فلما كان في هذه المحن والحوادث، كثرت فلوس الإسكندرية حتى بقيت زنة القفة ثمانية وعشرين رطلاً، فشنعت القالة، وكثر تعنت الناس في الفلوس، وزهدوا فيها، وكثرت رغبتهم في الذهب، فبدلوا فيه الكثير من الفلوس حتى بلغ هذا المقدار، فامتعض الأمير يشبك الدوادار لذلك، وتقدم بإبطال ضرب الفلوس بالإسكندرية، فبطلت.(3/59)
وبلغ سعر لحم الضأن كل رطل بخمسة دراهم ونصف، والدرهم الكاملي، كل عشرة دراهم بثلاثة وثلاثين درهماً من الفلوس، والطائر الأوز بسبعين درهماً. وقلت اللحوم، فلم توجد إلا بعناء، وهي هزيلة وأبيع الرطل من لحم البقر بثلاثة دراهم ونصف، واللبن كل رطل بدرهمين، والرطل السمن بثمانية عشر درهماً. وبيعت خمس بقرات بخمس وعشرين ألف درهم، وخروفان بألفين وأربعمائة درهم، وزوج أوز بثلاثمائة درهم. وانحل سعر الغلات، فبيع الأردب القمح بمائتين وعشرين بعد أربعمائة ونيف، والأردب الشعير بمائة وأربعين بعد مائتين ونيف، والحمل التبن بثلاثين إلى أربعين بعد مائة ونيف. وأبيع في شهر ربيع الأول الأردب الحمص بخمسمائة، والأردب من حب البرسيم بثمانمائة. والفضة الكاملية كل مائة درهم بأربعمائة درهم من الفلوس. وبلغ الرطل اللحم من الضأن إلى اثني عشر درهماً، والرطل من اللحم المسموط عشرة دراهم، ورطل اللحم البقري إلى أربعة دراهم وربع. والبيضة الواحدة بنصف درهم، والرطل الزيت بستة دراهم، والسيرج بتسعة دراهم، وعسل النحل كل رطل بثمانية عشر درهماً، والجبن من الحالوم بسبعة دراهم الرطل، والقدح الحمص المصلوق بثلاثة دراهم، والقدح الفول المصلوق بدرهمين ونصف، وكل رغيف زنة سبع أواقي بدرهم، والبطة الدقيق زنة خمسين رطلاً بمائة درهم وعشرة دراهم. وارتفع سعر القمح بعد انحطاطه، فبلغ الأردب إلى أربعمائة درهم، سوى كلفة وهي: عشرة عشرة دراهم، وحمولة سبعة دراهم، وغربلته بدرهمين، وأجرة طحنه ثلاثون درهماً. وأكثر ما يخرج عنه خمس ويبات ونصف، فينقص الأردب نصف سدسه وبلغ الأردب الفول إلى ثلاثمائة وعشرين درهماً غير حمولته وعسرته، والشعير كذلك. وبيعت الفجلة الواحدة بربع درهم، والدجاجة بنحو عشرين درهماً، والجيدة بأربعين درهماً، والمعلوفة بمائة درهم ونيف، وأبيع الكتان كل رطل بعشرة دراهم واشترى جمل من الحجاز بخمسة وأربعين درهماً كاملية، فبيع بسوق الجمال تحت قلعة الجبل بنحو تسعمائة درهم. واشتري جمل آخر من الحجاز بمائة وأربعين درهماً كاملية، فأبيع بريف مصر بألف ومائتي درهم، واسترخص، وقيل قد غبن بائعه، وارتفع سعر الثياب، فبلغ الذراع من الكتان المنسوج عشرة دراهم بعد ثلاثة. وبيع الثوب الصوف بألفين وخمسمائة بعد ثلاثمائة، والبدن الفرو السنجاب بألفين ونيف بعد ثلاثمائة، وبلغ ثلاثة آلاف درهم البدن، وبلغ البدن الفرو السمور بخمسة عشر ألف درهم. وبيع زوج أوز بثلثمائة وخمسين درهماً.
وفي نصف جمادى الأولى نودي بتسعير الذهب بمائة درهم المثقال، وثمانين درهماً الأفرنتي، فكسد كساداً عظيماً، وكثر في الأيدي ورده الناس، وامتنعوا من أخذه في ثمن المبيعات، خوفاً من انحطاط سعره. وتغيب الصيارفة، فتوقفت أحوال الناس، حتى نودي بعد أيام بالسعر الذي ذكر، فسكنوا قليلاً وغلت البزور، فبلغ القدح من بزر القرع، وبزر الجزر، وبزر البصل إلى مائة درهم ونيف. وتعطل كثير من الأراضي لاتساع النيل بكثرة زيادته، وعجز الفلاحين عن البذر، سيما أراضي الصعيد فإن أهلها بادوا موتاً بالجوع والبرد، وباعوا أولادهم بأبخس الأثمان، فاسترق منهم بالقاهرة خلائق، ونقل الناس منهم إلى البلاد الشامية ما لا يعد، فبيعوا في أقطار الأرض كما يباع السبي، ووطئ الجواري بملك اليمين. ولقد كنت أسمع قديماً أنه يتوقع لأهل مصر غلاء، وجلاء، وفناء. فأدركنا ذلك كله في سني ست، وسبع، وثمان مائة. وهلك فيها ما ينيف على ثلثي أهل مصر، ودمر أكثر قراها.
وفي آخر جمادى الأولى: عز وجود الشعير، فبلغ إلى ثلاثمائة وستين درهماً الأردب. وبلغ الأردب الفول إلى أربعمائة درهم، لكثرة أكل الناس له، وبيع الرطل البصل بدرهمين، والرطل الثوم بخمسة دراهم هذا مع اختلاف أهل الدولة، وكثرة تحاسدهم.
وفي ثامن عشره: قدم الأمير دقماق دمشق، وذلك أنه لما فر من حلب اجتمع هو والأمير جكم بحماة وكان دمرادش قد أفرج عن سودن طاز وجكم، وسار بهما من طرابلس إلى حلب وخرج بهما لقتال التركمان فانكسر، وفر جكم إلى حماة، فاجتمع بدقماق بعدما قتل سودن طاز، وصارا في جماعة، فبعث السلطان يخبر دقماق في بلد ينزل بها، فأحب الإقامة بدمشق وخرج الأمير شيخ إلى لقائه وأكرمه.
شهر جمادى الأولى، أوله الجمعة:(3/60)
أهل والفتنة قائمة بين أمراء الدولة، وذلك أن الأمير يشبك هو زعيم الدولة، بيده جميع أمورها من الولاية والعزل، والنقض والإبرام. فإذا ركب من داره إلى الخدمة السلطانية بالقلعة، ركب معه كثير من الأمراء والمماليك، فيبرم بالقصر بين يدي السلطان سائر ما يريد إبرامه، وينقض ما يختار نقضه. ثم يقوم وأهل الدولة عن آخرهم في خدمته إلى داره، فيجلسون بين يديه، ويصرف أمور مصر والشام والحجاز، كما يحب ويختار. وصار له عصبة كبيرة، فأحبوا عزل الأمير إينال باي ابن الأمير قجماس ابن عم الملك الظاهر برقوق من وظيفة أمير أخور. وذلك أنه اختص بالسلطان لأمور منها قرابته، ثم مصاهرته إياه، فإنه تزوج بخوند بيرم ابنة الملك الظاهر، وسكن بالإصطبل، فصار السلطان ينزل إليه ويقيم بدار أخته، فشق ذلك على عصبة يشبك، وأحبوا أن يكون جركس المصارع أمير أخور، وانقطعوا عن حضور الخدمة السلطانية عدة أيام من جمادى الأولى، فاستوحش السلطان منهم، وتمادى الحال إلى يوم الجمعة هذا. فتقدم السلطان إلى الأمير أينال باي أن ينزل إلى الأمراء ويصالحهم، فمنم جماعة من المماليك السلطانية إينال باي أن ينزل، وتشاجروا مع طائفة من مماليك الأمراء واشتد ما بينهم من الشر، حتى أزعج الناس بالقاهرة، وباتوا مترقبين وقوع الحرب. وكان قد تقدم السلطان إلى الأمير يشبك أن يتحول من داره، فإنها مجاورة لمدرسة السلطان الملك الناصر حسن، فإنه وشى به أنه يسرر إليها، ويرمي منها على القلعة، فامتنع من ذلك، فساء الظن به. واستدعى السلطان القضاة في يوم السبت ثانيه إلى بيت الأمير الكبير الأتابك بيبرس ابن أخت الظاهر، ليصلحوا بين الأمير إينال باي والأمراء، فامتنع أن ينزل من الإصطبل، وتسور بعض أصحاب الأمير يشبك على مدرسة حسن، فتحقق السلطان ما كان يظنه بيشبك، وأخذ كل أحد في أهبة الحرب، وأصبحوا جميعاً يوم الأحد لابسين السلاح، وقد أعد يشبك بأعلا مدرسة حسن مدافع النفط والمكاحل، ليرمى على الإصطبل السلطاني، ومن يقف تحت القلعة بالرميلة.(3/61)
ونزل السلطان من قلعة الجبل إلى الإصطبل، واجتمع عليه من أقام على طاعته من الأمراء والمماليك. وأقام مع يشبك من الأمراء المقدمين سبعة هم: تمراز الناصري أمير سلاح، ويلبغا الناصري، وإينال حطب العلاي، وقطلوبغا الكركي، وسودن الحمزاوي رأس نوبة، وطولو، وجركس القاسمي المصارع وانضم معهم سعد الدين إبراهيم بن غراب الأستادرار، وناصر الدين محمد بن سنقر البكجري، وناصر الدين محمد بن علي ابن كلفت، في جماعة من الأمراء والمماليك السلطانية ومماليك الأمراء وثبت مع السلطان الأمير الكبير بيبرس ابن عمته، والأمير إينال باي قجماس عم أبيه، والأمير سودن المارديني، والأمير بكتمر، والأمير أقباي حاجب الحجاب، وأكثر المماليك الظاهرية فأقاموا على الحصار والمراماة، من بكرة الأحد إلى ليلة الخميس سابعه. وقد أخذ أصحاب السلطان على اليشبكية المنافذ، وحصروهم والقتال بينهم مستمر، وأمر يشبك في إدبار، فلما كان ليلة الخميس نصف الليل، خرج يشبك بمن معه على حمية من الرميلة، ومروا إلى جهة الشام، فلم يتبعهم أحد من السلطانية. ونودي من آخر الليل في الناس بالقاهرة الأمان والاطمئنان ومنع أهل الفساد من النهب. ومر يشبك بمن معه إلى قطيا، فتلقاه مشايخ عربان العايد، ومشايخ ثعلبة، وهلبا سويد وبنو بياضة وقفوا في خدمته، فدخلها بكرة يوم السبت تاسعه. وبات بها ليلة الأحد، وأصبح، فنهب أصحابه بيوتها وأسواقها، ثم رحلوا بعد الظهر، وتركوا جركس المصارع، ومحمد ابن كلفت بقطيا، حتى يتلاحق بهما من انقطع منهم، فأتاهم جماعة، ثم مضوا حتى لحقوا بيشبك، فسار إلى العريش، وقد بلغ خبره إلى غزة فتلقاه أمراؤها. ثم خرج إليه الأمير خير بك نائب غزة، فدخلها يوم الأربعاء ثالث عشره، ونزل بها. وبعث طولو إلى الأمير شيخ المحمودي نائب الشام يعلمه بالخبر، فقدم دمشق يوم الأحد ثامن عشره، وخرج الأمير شيخ، فتلقاه. ولما أعلمه بما وقع، شق ذلك عليه، فإنه كان من أصحاب يشبك وبعث إليه الأمير ألطنبغا حاجب دمشق، والأمير شهاب الدين أحمد بن اليغموري بأربعة أحمال قماش، ومال وكتب إليه يرغبه في القدوم عليه، ويعده بالقيام معه ونصرته، فسار من غزة بعدما أقام بها ثلاثة عشر يوماً، في ليلة الاثنين خامس عشرينه. وأخذ ما كان بها من حواصل الأمراء، وعدة خيول، وبعدما قدم عليه مشايخ العربان بالتقادم، وبعث إليه أهل الكرك والشوبك بأنواع من التقادم، وبعدما عرض من معه، فكانوا ألفاً وثلاثمائة وخمسة وعشرين فارساً. فتلقاه بعد مسيره من غزة مشايخ بلاد الساحل والجبل، وحمل إليه الأمير بكنمر شلق نائب صفد عدة تقادم من أغنام وشعير وقماش وغير ذلك. وقدم إليه ابن بشارة في عدة من مشايخ العشير. وجهز إليه الأمير شيخ الناس لملاقاته طائفة بعد أخرى، ثم سار إليه.
فلما تقاربا، ترحل الأمير شيخ عن فرسه، وسلم عليه، وسار به وقد ألبسه وجميع من معه من الأمراء الأقبية بالأطرزة العريضة، وعدتهم أحد وثلاثون أميراً من أمراء الطبلخاناه والعشرات، وسوى من تقدم ذكره من أمراء الألوف، ومعهم من الخاصكية والممالك والأجناد نحو الألفي فارس، بعددهم وآلات حربهم. وقد انضم إليهم خلق كثير، فدخلوا دمشق بكرة الثلاثاء رابع شهر رجب، فسألهم الأمير شيخ عن خبرهم، فأعلموه بما كان، وذكروا له أنهم مماليك السلطان، وفي طاعته، لا يخرجون عنها أبداً غير أن الأمير إينال باي ثقل عنهم ما لم يقع منهم، فتغير خاطر السلطان، حتى وقع ما وقع، وأنهم ما لم ينصفوا منه ويعودوا لما كانوا عليه وإلا فأرض الله واسعة، فوعدهم بخير، وقام لهم بما يليق بهم، حتى قيل أنه بلغت نفقته عليهم نحو مائتي ألف دينار، وكتب إلى السلطان يسأله في أمرهم.
وفيه أحضر الأمير شيخ، الأمير أسن بيه، من سجنه بقلعة صفد، وأكرمه. وأما السلطان، فإنه لما أصبح، وقد انهزم يشبك ومن معه، كتب بالإفراج عن سودن من زادة، وتمربغا المشطوب، وكتب إلى الأمير نوروز بالحضور ليستقر على عادته، وكتب إلى الأمير جكم أماناً، وتوجه به طغيتمر مقدم البريدية.
وفي رابع عشره: أعمد علاء الدين علي بن أبي البقاء إلى قضاء دمشق، عوضاً عن أبي العباس الحمصي، وهو شهاب الدين أحمد بن محمد بن سلطان.
وفي يوم السبت تاسعه: ولي ناصر الدين محمد - ويعرف بمحنى ذقنه - ولاية القاهرة، وعزل أقتمر.(3/62)
وفي ثاني عشره: خلع السلطان على عدة من الأمراء، فخلع على الأمير سودن المارديني، وعمله دواداراً عوضاً عن الأمير يشبك، وعلى الأمير سودن الطيار أمير أخور ثانياً وعمله أمير مجلس عوضاً عن سودن المارديني، وعلى أقباي حاجب الحجاب، وعمله أمير سلاح عوضاً عن تمراز، وخلع علي أبي كم، وعمله ناظر الجيش عوضاً عن سعد الدين إبراهيم بن غراب وكان قد استقر في الوزارة تاج الدين بن البقري في خامسه وهم في الحرب.
وفي خامس عشره: استقر ركن الدين عمر بن قايماز أستاداراً، وعزل سعد الدين ابن غراب.
وفي سابع عشره: قدم من الإسكندرية سودن من زاده، وتمربغا المشطوب، وصروق إلى قلعة الجبل، فقبلوا الأرض بين يدي السلطان، ونزلوا إلى دورهم.
وفي حادي عشرينه: استقر الأمير يشبك بن أزدمر رأس نوبة، عوضاً عن سودن الحمزاوي.
وفي ثاني عشرينه: أعيد الأخناي إلى وظيفة قضاء القضاة بديار مصر، وصرف شيخ الإسلام جلال الدين البلقيني. واستقر الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله في نظر الجيش، وعزل أبوكم.
وفي هذا الشهر: ألزم مباشرو الأمراء المتوجهين إلى الشام بمال، بعدما أوقفوا بين يدي السلطان في ثامن عشره، وقرر على موجود الأمير يشبك الدوادار مائة ألف دينار، وعلى موجود تمراز مائة ألف دينار، وعلى موجود الحمزاوي ثلاثون ألف دينار، وعلى موجود قطلوبغا الكركي عشرون ألف دينار، وأن يكون الدينار بمائة درهم، ثم مضى الوزير تاج الدين بن البقري إلى حواصل الأمراء، فختم عليها، وافتقد من توجه من المماليك السلطانية، فكانوا مائتي مملوك.
وفي يوم الثلاثاء عشرين جمادى الآخرة: وصل الأمير نوروز الحافظي من قلعة الصبيبة إلى دمشق، فتلقاه الأمير شيخ وأكرمه، وضرب البشائر لقدومه.
وتاسع عشرينه: خرج الأمير شيخ من دمشق إلى لقاء الأمير يشبك ومن قدم معه.
وفي هذا الشهر: كثر فساد فارس بن صاحب الباز، من أمراء التركمان، واستولى على كثير من معاملة حلب، فبعث إليه الأمير دمرداش نائب حلب بناصر الدين محمد ابن شهري الحاجب، وتغري بردى ابن أخي دمرداش، إلى علاء الدين علي بك بن دلغادر بعث ابن أخيه الآخر قرقماس إلى الأمير شهاب الدين أحمد بن رمضان، ليحضرا بجمائعهما من التراكمين البياضية والأينالية. وخرج من حلب في جمع موفور، فنزل العمق، وجمع بين ابن رمضان وابن دلغادر، وأصلح بينهما بعد العداوة الشديدة. واصلح أيضاً بين طائفتيهما وهما الأجقية والبزقية، وحلفهما للسلطان، وبالغ في إكرامهم. وألبس الأميرين وخواصهما خلعاً سنية. ثم مضى بهم على ابن صاحب الباز، وقد انضم مع الأمير جكم، وسودن الجلب، وجمق، وغيره من المخامرين على السلطان، وقاتلهم، فانهزم ابن صاحب الباز، وتحصن هو وجكم بإنطاكية، فنزل عليها دمرداش وحصرها. فبينما هو في ذلك، قدم طغيتمر - مقدم البريدية - وشاهين الأقجي، وأقبغا - من إخوة جكم - وشرف الدين موسى الهذباني حاجب دمشق، ومملوك الأمير شيخ نائب الشام، والأمير علان الحافظي نائب حماه وعلى يدهم أمان السلطان وكتابه إلى الأمير جكم بتخييره بين الحضور إلى ديار مصر، أو إقامته بالقدس أو طرابلس فتفرق الجميع عن دمرداش، ورحل ابن رمضان وابن دلغادر عائدين إلى بلادهما. فأدرك الأمير دمرداش بن دلغادر، ولم يزل به حتى أقام معه على العمق، في طائفة من البياضية والأينالية.
وقدم طغيتمر على الأمير بإنطاكية فلم يعبأ به، ولا أكثرت بما على يده من الأمان والكتاب، بل قبض عليه واعتقله، وخلى سبيل البقية، ما عدا أقبغا، فإنه أخره عنده.
شهر رجب، أوله السبت: في رابعه استدعى جمال الدين يوسف أستادار الأمير بجاس، ولم يزل به السلطان حتى رضي أن يلبس خلعة الأستادارية، فلبسها عوضاً عن ابن قايماز بعدما رسم عليه في بيت شاد الدواوين محمد بن الطبلاوي يوماً وليلة. واستمر يتحدث في أستادارية الأمير بيبرس ابن أخت السلطان، كما كان يتحدث فيها قبل استقراره في أستادارية السلطان.
وفي عشرينه: توجه عبد الرحمن المهتار إلى البلاد الشامية في مهمات سلطانية.(3/63)
وقدم الخبر على السلطان بإفراج الأمير شيخ نائب الشام عن الأمير نوروز من سجن قلعة الصبيبة، وأنه جهز له فرساً بسرج ذهب، وكنفوش مطرز بذهب، وأحضر الأمير قانباي، وبعث إلى الأمير عمر بن فضل الحرمي خلعة بطراز عريض. وقدمت كتب نواب الشام إلى الأمير يشبك، تعده بالأمداد، وتقويته بما يريد وقدم عليهم الأمير نوروز والأمير دقماق، فبعث الأميران شيخ ويشبك بيشبك العثماني إلى الأمير جكم، يستدعيه من أنطاكية إلى دمشق. وأفرج الأمير شيخ أيضاً عن قرا يوسف ابن قرا محمد التركماني، في يوم الاثنين سابع عشره، وخلع عليه وحلفه على موافقته والقيام معه.
وفيه سار الأمير جكم من أنطاكية يريد طرابلس، فلما نزل عليها واطأه الأمير تنكزبغا الحاجب، وأقجبا أمير أخور، وكز السيفي أسندمر، ومكنوه من البلد، وقد أقامهم النائب على بعض جهاتها، فدخل إليها، فلم يثبت عسكر طرابلس، وفر الأمراء والأجناد. وبقي الأمير شيخ السليماني نائب طرابلس في طائفة من ألزامه، فقاتل جكم من بكرة يوم الأحد عاشره إلى وقت الظهر، فأحيط به، وقبض عليه وعلى مماليكه، ونهبت داره وحواصله، ثم حمل إلى قلعة صهيون فسجن بها عند نائبها الأمير بيازير - من إخوة الأمير نوروز - ثم كتب الأمير جكم بقتله، فامتنع بيازير من ذلك، واتفق معه على مخالفة جكم. وعندما تمكن جكم من طرابلس، قطع اسم السلطان من الخطبة، وكتب إلى نائب غزة، وإلى عمر بن فضل أمير جرم يأمرهما بتجهيز الإقامات، ويعلمهما بأنه قد عزم على التوجه إلى مصر، وأخذها صحبة الأمير نائب شيخ نائب الشام وكان الأمير نائب الشام لما بلغه استيلاء جكم على طرابلس، بعث إليه الأمير قانباي يدعوه إلى الاجتماع معهم، والحضور إليهم بدمشق، فعوق عنده قانباي، واستماله إليه، فصار من جماعته.
وفي هذا الشهر: أبيع عجل مخصي بالقاهرة بسبعة آلاف درهم كانت قيمته خمسمائة. وبيع زوج أوز بألف ومائتي درهم. واشتد الغلاء بالوجه البحري، فبلغ القدح القمح إلى أربعين درهماً، والقدح الشعير إلى ثلاثين درهماً، والخبز إلى عشرة دراهم الرطل. وأبيع بالإسكندرية كل قدح من القمح بثلاثين درهماً، وكل قدح من الشعير بخمسة وعشرين درهماً، وكل رطل لحم من الضأن بالجروي بستين درهماً، وكل طائر من الدجاج المتوسط من خمسين إلى خمسة وخمسين درهماً، وبيعت البيضة من بيض الدجاج بدرهمين، والأوقية من الزيت بأربعة دراهم. وبلغ الدينار إلى ثلاثمائة وعشرة دراهم، فخرج منها خلق كثير من الغلاء، ركب عدة منهم في خمس مراكب، فغرقوا بأجمعهم. وبيعت عجلة بالريف بستة آلاف درهم. وتزايد الموتان في الفقراء بالجوع، فقبض على رجل من أهل الجرائم بمدينة بلبيس ووسط، ثم علق خارج المدينة، فوجد رجل قد أخذ قلبه وكبده ليأكلهما من الجوع، فمسك واحضر إلى متولي الحرب - وهما معه - فقال: الجوع حملني على هذا فوصله بمال، وخلاه لسبيله.
وفيه غلت الملابس من الحرير وغيره حتى تعدت الحد وتجاوزت المقدار، فبلع الذراع الكتان الخام إلى عشرين درهماً وأكثر بعد أربعة دراهم.
وفيه قبض الأمير شيخ على جماعة بدمشق، والزمهم بحمل مال كبير. وفرض على البساتين بالغوطة مبلغاً كبيراً من الذهب، جبي من الناس، وأكثر من المصادرات.
شهر شعبان، أوله لأحد:(3/64)
فيه سار الأمير جكم من طرابلس على أنه متوجه إلى الأمراء بدمشق. فلما نزل حماة، أخذ الأمير علان نائبها ومضى إلى حلب. وقد كتب إليه عدة من أمرائها يستدعونه إليها، فقدمها في سابعه، ومعه عسكر طرابلس وحماة، وطغرول بن سقل سيز - أحد أمراء التركمان - في جمع موفور، فقاتله الأمير دمرداش. فلم يشعر إلا بجكم قد فتح له الأمراء أحد أبواب المدينة ودخلها، ففر دمرداش ومعه ناصر الدين محمد بن شهري الحاجب وابن عمه نصر الدين محمد بن شهري نائب القلعة، وأزدمر الحاجب، وشرباش نائب سيس ومضى إلى البياضية والأينالية من التركمان، فنزل فيهم قربياً من حلب مدة أيام. ثم توجه إلى مدينة إياس بجماعته، وولدي أخيه قرقماس، وتغري بردى، فدخلها في ثالث عشره، فقام له نائبها بما يليق به، وأركبه البحر يريد مصر. وأما الأمير جكم فإنه استولى على حلب، وأنعم على الأمير علان نائب حماة بموجود دمرداش، وبعض جواريه، وأعاده إلى حماة، بعد دخوله حلب بثلاثة أيام. وأحسن جكم السيرة في حلب، وولي في القلاع نواباً من جهته، فاجتمعت له حلب وحماة وطرابلس. وأما الأمير شيخ نائب الشام فإنه سير في أوله الأمير شودن الحمزاوي، والأمير سودن الظريف إلى الأمير جكم على أنه بطرابلس. وكان في أمسه قد ضرب خامه خارج دمشق ليلقي الأمير جكم. وسير الأمير شرف الدين موسى الهذباني الحاجب إلى الأمير دمرداش على أنه بحلب يستدعيه إلى موافقته ومن عنده من أمراء مصر. وكان قد ورد كتابه بأنه معهم، ومتى دعوه حضر إليهم. وعين الأمير شيخ الأمير جركس المصارع، ليتوجه إلى غزة بعسكر. وخلع في ثالثه على الأمير أسن بيه، وبعثة إلى الرملة.
وفي رابعه: خرج الأمير تمراز والأمير جركس المصارع، والأمير سودن الظريف - وقد عاد من طرابلس - والأمير ألطنبغا العثماني، والأمير تنكز بغا الحططي، على عسكر، ومعهم خليل التوريزي الجشاري، في مائتي فارس من التركمان والجشارية، لأخذ صفد بحيلة أنهم يمضوا إلى جشار الأمير بكتمر شلق نائب صفد ليأخذوه. فإذا أقبل إليهم ليدفعهم عن الجشار، قاطعوا عليه، وأخذوا المدينة، فتيقظ بكتمر شلق، وترك لهم الجشار، فساقوه من غير أن يتحرك عن المدينة، وعادوا إلى دمشق.
فاستعد الأمير شيخ، وعمل ثلاثين مدفعاً، وعدة مكاحل للنفط ومنجنيقين، وجمع الحجارين والنقابين وآلات الحرب. وخرج من دمشق يوم الثلاثاء سابع عشره، ومعه جميع من عنده من عسكر مصر والشام، وقرا يوسف بجماعته، وجماعة السلطان أحمد بن أويس متملك بغداد، والتركمان الجشارية، وأحمد بن بشارة بعشرانه، وعيسى بن الكابولي بعشيره، بعدما نادى بدمشق من أراد النهب والكسب فعليه بصفد فاجتمع له خلائق، وسار ومعه مائة جمل تحمل المدافع والمكاحل والمناجنيق، والزحافات، والبارود، ونحو ذلك من آلات الحصار. وولي الأمير ألطنبغا العثماني نيابة صفد، فكتب يستدعي عشران صفد وعربانها وتركمانها، فقدم الأمير شيخ بمن معه إلى صفد في عشرينه. وبعث أمامه تقي الدين يحيى بن الكرماني، وقد ولاه مضاء العسكر، ومعه قطلوبغا رأس نوبة بكتابه إلى الأمير بكتمر شلق، يدعوه إلى موافقته، ويحذره من مخالفته، ويعلمه أن الأمير جكم قد أخذ حلب من الأمير دمرداش بالقهر، وأنه قادم إليه ومعه الأمير علان نائب حماة. فلم يذعن له بكتمر، وأبى إلا قتاله. فأحاط الأمير شيخ بقلعة صفد وحصرها من جميع جهاتها، وقد حصنها الأمير بكتمر وشحنها بالرحال والآلات. فاستمرت الحرب بينهم أياماً، جرح فيها من الشيخية نحو ثلاثمائة رجل، وقتل ما ينيف على خمسين فارساً.
وفيه سار الأمير سودن الجلب من حلب إلى حريمه بالبيرة فحضر يغمور من الدكرية، وكبس البيرة، وسبي الحريم، وعاد إلى ناحية سروج. فلما بلغ ذلك الأمير جكم سار من حلب في ثاني عشرينه إلى البيرة، وسار بسودن الجلب إلى يغمور، وقاتله وكسره، وأخذ له ستة آلاف جمل، وعشرة آلاف رأس من الغنم. وبعث سودن الجلب في أثره، فضرب حلقة، وأسر سودن الجلب ومن معه. وعاد الأمير جكم إلى حلب ومعه حريم يغمور رهينة على سودن الجلب. فأفرج يغمور عن سودن الجلب ومن معه، ولم يبعثهم إلى جكم.(3/65)
وفيه ورد الخبر من مكة بأن جميع ما احترق من المسجد الحرام - وهو ما بين الثلث والنصف - قد عمر علواً وسفلاً، وعملت العمد من حجارة صوان منحوتة، وأن الأرضة قد أكلت في سقف مقام إبراهيم عليه السلام. وفيه باع سنقر نائب طرسوس المدينة للأمير ناصر الدين محمد بن قرمان، وسلمها له، وقد نزل ظاهرها.
وفيه سار الأمير المهتار زين الدين عبد الرحمن إلى الكرك، ونزل عليها في سادس عشره. وقد أتهم الأمير عمر بن الهذباني النائب بالخروج عن طاعة السلطان، فجمع عبد الرحمن العشير في تاسع عشره، وزحف على المدينة وقاتل النائب، وهزمه، وقتل منه عدداً كبيراً وحصر المدينة، ومنع الميرة عنها، وجمع جمعاً آخر وقاتل النائب مرة ثانية. وكان الغلاء قد اشتد بتلك البلاد، وكثر نهب الدور بالمدينة، وأخذ أموال أهلها، وتخربت ديارهم وتنوعت عقوبتهم. وأما السلطان فإنه قبض في ثانيه على الصاحب تاج الدين بن البقري، وأخذ جميع ما وجد له، وأسلمه إلى شاد الدواوين.
وفي تاسعه: خلع على الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، واستقر في الوزارة ونظر الخاص، مضافاً لما معه من نظر الجيش، عوضاً عن ابن البقري.
وفي حادي عشره: أعيد ابن خلدون إلى قضاء المالكية، وصرف البساطي.
وفي رابع عشره: استقر الأمير بشباي حاجب الحجاب، عوضاً عن الأمير أقباي الطرنطاي، المستقر أمير سلاح.
شهر رمضان، أوله الثلاثاء: في عاشره: قدم الأمير يلبغا السالمي من ثغر الإسكندرية، وقد أفرج عنه واستدعي فأكرم، ونزل إلى داره، ثم طلب إلى قلعة الجبل وخلع عليه، واستقر مشير الدولة. وخلع معه على الأمير جمال الدين الأستادار خلعة استمرار. وخلع علي ناصر الدين محمد بن الطلاوي خلعة الوزارة، نقل إليها من شد الدواوين. واستقر أقتمر شاد الدواوين عوضه. وخلع على الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، واستقر في نظر الجيش ونظر الخاص على عادته.
وفيه قدم سلامش حاجب غزة يخبر بوصول الأمير نوروز إلى غزة طائعاً. وذلك أنه خرج من دمشق للدورة بأرض حوران والرملة فلما قارب غزة كتب إلى السلطان بأنه قد أناب ودخل في طاعته، فكتب إليه بما يرضيه، ورسم للأمير خاير بك نائب غزة أن يتلقاه ويكرمه، فقدم به إلى غزة، وتوجه منها يريد القاهرة، فقدمها في رابع عشر رمضان، فخلع عليه، وأعلى خبز الأمير يلبغا السالمي، وزيد عليه.
وأما أمر الشام، فإن الأمير جكم خرج من حلب في حادي عشره يريد دمشق، وقد حضر إليه شاهين دوادار الأمير شيخ يستدعيه. وكان جكم قد سلم القلعة إلى شرف الدين موسى بن يلدق، وعمل حجاباً وأرباب وظائف، وعزم على أن يتسلطن ويتلقب بالملك العادل. ثم أخر ذلك وقدم دمشق في ثالث عشرينه، ومعه الأمير قانباي، والأمير تغري بردى القجقاري وجماعة. وقد خرج الأمير شيخ والأمراء إلى لقائه، وأنزله في الميدان، فترفع على الأمراء ترفعاً زائداً أوجب تنكرهم عليه في الباطن، إلا أن الضرورة قادتهم إلى الإغضاء فأكرموه، وأنزلوه، وحلفوه على القيام معهم على السلطان، وموافقتهم. وأخذ في إظهار شعار السلطة، فشق عليهم ذلك، ومازالوا به حتى تركه. وأقام معهم بدمشق إلى ليلة الأحد سابع عشرينه، فتوجه منها مخفا إلى طرابلس، وترك أثقاله بدمشق، ليجمع عساكر طرابلس وغيرها ممن انضم إليه.
وأما الأمير دمرداش نائب حلب، فإنه قدم على ظهر البحر إلى دمياط في سابع عشره، وبعث يستأذن في الحضور فإذن له، وقدم إلى قلعة الجبل.
وفيه قبض بدمشق على الأمير جركس الحاجب في رابع عشرينه، وأنعم بموجوده على الأمير قرا يوسف بن قرا محمد.(3/66)
وأما الأمير الشيخ فإنه في ليلة الجمعة ثامن عشره، وقع الصلح بينه وبين الأمير بكتمر نائب صفد، ونزل إليه أمراء صفد في يوم السبت تاسع عشره ثم نزل إليه الأمير بكتمر في يوم الاثنين حادي عشرينه، وتحالفوا جميعاً على الاتفاق. فكانت مدة الحرب اثنين وعشرين يوماً، أولها ثاني عشرين شعبان، وآخرها نصف شهر رمضان، مستمرة ليلاً ونهاراً، نقب فيها على القلعة ستة نقوب، وخرب كثير من المدينة، ونهب أموال أهلها، وقطعت أشجارها. وفشت الجراحات في أكثر المقاتلة، وجرح الأمير شيخ، والأمير يشبك، والأمير جركس المصارع، وقتل في الحرب عدد كثير. وعاد الأمير شيخ إلى دمشق، فقدم عليه الأمير جكم كما تقدم، ومنعوا في يوم الجمعة خامس عشرينه من الدعاء للسلطان على المنير.
وفي حادي عشرينه: نزل ابن الأمير طور علي - المعروف بقرا يلك - علي البيرة ونهبها، وسبى وأحرق.
وفي هذا الشهر: حلت الشمس برج الحمل، الذي هو أول فصل الربيع، فعزت الأدوية لكثرة الأمراض الحادة بالقاهرة ومصر، وبلع بزر الرجلة إلى ستين، ثم إلى ثمانين درهماً كل قدح، وبيع وزن الدرهم بدرهم من الفلوس، وبلغ القنطار الشيرخشك إلى ثلاثين ألفاً بعد ألف وأربعمائة، والقنطار الترنجبين إلى خمسة عشر ألفاً بعد أربعمائة. ووصف طبيب دواء لمريض فيه سنامكي وشيرخشك، وترنجبين، وماء ورد، وسكر نبات، فابتاعه بمائة وعشرة دراهم. وبلغ بزر القرع إلى مائة وعشرين درهماً.
وفي هذا الشهر: ظهر في بر الجيزة على شاطئ النيل، وفي النيل، وفي مزارع بلاد القليوبية شبه نيران كأنها مشاعل، وفتايل سرج تقد، ونار تشتعل، فكان يرى من ذلك عدد كبير جداً مدة ليال متوالية، ثم اختفى.
وفيه كثرت المصادرات بدمشق، وغلت أسعار المبيعات بها، لتحول أحوال النقود، وكثرة تغييرها، فإن الفلوس كثرت وصغر حجمها من أجل أنها كل قليل تضرب جدداً وتصغر، وينادى على التي قبلها بالرخص، فتشترى لدار الضرب، وتضرب ثم بعد أيام تعاد العتق قبلها إلى الميزان. فتضرر الناس، وبلغ صرف العشرة منها بخمسة وعشرين، وتزايدت حتى بلغت العشرة ثلاثين، وبلغ الدينار المشخص سبعين، وانتهى إلى ثمانين درهماً فنودي على الفلوس بتسعة دراهم الرطل.
وفيه حسن نائب القدس على الناس مالاً، فأبوا عليه فتركهم حتى اجتمعوا بالمسجد، وغلق الأبواب، وألزمهم بالمال، فاستغاثوا عليه، فلبس السلاح وقاتلهم، فقتل بينهم بضعة عشر رجلاً، وجرح كثير، وفر النائب مهزوماً. فلما بلغ الخبر الأمير شيخ نائب الشام، بعث عوضه إلى القدس، وخلع على الأمير أسن بيه وولاه حاجب الحجاب في ثامن عشرينه.
شهر شوال أوله الخميس: فيه عين الأمير شيخ نائب الشام ممن عنده الأمير تمراز الكبير، والأمير سودن الحمزاوي والأمير يلبغا الناصري، والأمير إينال حطب، والأمير جركس المصارع، والأمير سودن بقجة، للمسير إلى غزة، وحمل إلى كل منهم مائة ألف درهم فضة.
وفي سادسه: برز الحمزاوي خامه خارج دمشق، وتبعه بقية الأمراء.
ولم يتأخر بدمشق سوى الأميرين شيخ نائب الشام، ويشبك الدوادار في انتظار الأمير جكم حتى يحضر من طرابلس، وبعثا يستحثانه وحمل الأمير جركس الحاجب إلى قلعة بعلبك، وبعث الأمير شيخ بعياله وأمواله إلى الصبيبة.
وفيه تنكر جكم على تنكز بغا الحاجب بطرابلس، وقبضه، وأخذ موجوده، ثم قتله.
وفيه قدم سودن الجلب على الأمير جكم، وقد أفلت من أيدي التركمان، فلم تطل إقامته حتى استوحش منه، ومضى إلى قلعة المرقب، وأخذها.
وفي سابع عشره: أطلق بيازير نائب قلعة صهيون الأمير شيخ السليماني، واتفقا على طاعة السلطان، وكتبا إلى جماعة من الناس يدعوهم إلى ذلك، وأعلنا بالدعاء للسلطان. ودقت البشائر، وعلق السنجق السلطاني. وكتب إلى الأمير علان نائب حماة، وإلى الأمير طغرول بن سقل سيز فأجابا، ووعدا بالحضور إلى صهيون متى دعيا. وكتب الأمير شيخ نائب الشام إلى سودن الجلب، يدعوه إليه، فأجابه بالطاعة، وأنه قد استمال جماعة من مماليك جكم. وفيه حضر عشير الصلت، مع صديق أبي شوشة التركماني الكاشف بقلعة الصبيبة، وقتلوا عدة.
وفي رابع عشرينه: قدم الأمير دقماق في طائفة إلى صفد، داخلاً في طاعة السلطان، مفارقاً للأمير شيخ ومن معه.(3/67)
وفيه فرض على كل واحد من جند دمشق فرس، ومبلغ خمسمائة درهم. وفيه أنعم الأمير شيخ على السلطان أحمد بن أويس بمبلغ مائة ألف درهم فضة، وثلاثمائة فرس، بعدما أفرج عنه. وأنعم على قرا يوسف بمائة ألف وثلاثمائة فرس، وولي ألطنبغا بشلق نيابة قلعة الصبيبة، وبعث حريمه صحبته. وأما السلطان فإنه أفرج عن الأمير سودن المحمدي، وبيبرس الصغير، وجانم، من سجن الإسكندرية في سابع عشره، وجهزوا إلى قلعة الجبل.
وفي ثاني عشرينه: قدم الأمير خير بك - نائب غزة - إلى قلعة الجبل، فدقت البشائر لقدومه وخلع عليه. وفيه أعيد كاتبه المصنف إلى حسبة القاهرة مكرهاً، بعد مراجعة السلطان ثلاث مرار، وصرف سويدان. وكان الأمير يلبغا السالمي قد سعر المثقال الذهب بمائة درهم، بعدما وصل إلى مائة وثلاثين، وسعر الدينار الأفرنتي بثمانين، وجعل الرطل من الفلوس بستمائة درهم، بعدما كانت القفة بخمسمائة، فكثر اختباط الناس، ولعنتهم واختلافهم، ثم اعتادوا ذلك، فاستمر سعر الفلوس على هذا، ثم أراد السالمي أن يرد سعر المبيعات إلى سعر الذهب، فيجعل ما يباع بدينار قبل تسعير الذهب، يباع بدينار بعد تسعيره، فسعر القمح بمائتي درهم الأردب، وسعر الخبز كل عشرة أواق بدرهم، فعز وجود الخبز. ثم قدم القمح الجديد فانحل السعر، وبيع الأردب بمائة وخمسين، ثم بيع بمائة درهم الأردب، فسعر الخبز كل رطل ونصف، وربع رطل بدرهم. واتفق مع هذا حركة السلطان للسفر، وعمل البشماط، ففقد الخبز، ولم يوجد البتة، وتعذر وجود الدقيق أيضاً مدة خمسة عشر يوماً، قاسى الناس فيها شدائد، لا تكاد توصف وفي هذه السنة حدثت ولاية قاض مالكي بمكة، فاستقر المحدث تقي الدين محمد بن أحمد بن علي الفاسي الشريف الحسني. وحدثت أيضاً ولاية قاض حنفي، فاستقر شهاب الدين أحمد ابن الضياء محمد بن محمد بن سعيد الهندي، ولم يعهد قط مثل هذا.
شهر ذي القعدة، أوله الجمعة: في ثانيه: علق الجاليش على قلعة الجبل للسفر.
وفي رابعه: أنفق السلطان للماليك خمسة آلاف لكل واحد، وصرف الذهب سعر مائة درهم كل مثقال، فصر لكل منهم تسعة وأربعين مثقالاً، واحتاج السلطان، فاقترض من مال أيتام الأمير قلمطاي الدوادار عشرة آلاف مثقال، ورهن بها جوهرة، وجعل كسبها ألف دينار ومائتي دينار. وأخذ منهم أيضاً نحو ستة عشر آلف مثقال، وباعهم بها بلداً من الجيزة. وأخذ من تركة برهان الدين إبراهيم المحلي التاجر، وغيره، مالاً كثيراً. ووزع له قاضي القضاة شمس الدين الأخناي خمسمائة ألف على تركات خارجة عن المودع، منها تركة بدر الدين محمد بن فضل الله كاتب السر. وكانت النفقة على نحو خمسة آلاف مملوك، بلغت النفقة عليهم - سوى ما أنفق في الأمراء - إلى مائتي ألف دينار، وخمسين ألف دينار.
وفي ثاني عشرينه: أعيد شيخ الإسلام جلال الدين البلقيني إلى قضاء القضاة، وصرف الأخناي غير مشكور.
وفي سادس عشرينه: استقر جمال الدين في قضاء القضاة المالكية بديار مصر، وصرف ابن خلدون. وأما أمر الشام، فإن الأمير سيف الدين علان - نائب حماة - في تاسعه أظهر مخالفة الأمراء، وأعلن بانتمائه إلى طاعة السلطان، وخرج من حماة يريد صهيون. فبعث إليه الأمير جكم عسكراً من طرابلس، صحبة حسين بن أمير أسد الحاجب فسبقه إلى صهيون ونزل عليها وحصرها عشرة أيام.(3/68)
وكتب إلى عشير الجبل يدعوهم، فجرت بينه وبين الأمير شيخ السليماني حروب، قتل فيها جماعة. ثم سار جكم من طرابلس في عشرينه، وخيم ظاهرها. فبعث شيخ السلماني يستدعي علان، فبعث إليه نائب شيزر على عسكر، ففر ابن أمير أسد بمن معه وترك أثقاله، فأخذها السليماني، ورتب أمر قلعة صهيون، وجعل بيازير بها. وتوجه إلى علان - وقد نزل على بارين - فتلقاه وبالغ في كرامته، وأنزله بمخيمه. فأخذ شيخ عند ذلك في مكاتبة أمراء طرابلس وتراكمينها يدعوهم إلى طاعته، فأجابوه بالسمع والطاعة، ووعدوه بالقيام معه. فاضطرب أمر جكم، وانسل عنه من معه، طائفة بعد أخرى، فمضى إلى الناعم، وقد كثر جمع السليماني، فمشى ومعه علان يريدان حكم فتركهم، ومضى إلى دمشق، فأدركه في طريقه إليها الأمير سعد الدين إبراهيم بن غراب، ويشبك العثماني، وأقبغا دوادار الأمير يشبك الدوادار، يحثوه على القدوم. وقد سار من دمشق في مستهله، فسار معهم، وأركب السليماني تراكمين طرابلس في أثر جكم، فأخذوا بعض أطرافه. وقدم السليماني طرابلس في ثاني عشرينه، وأعاد الخطبة للسلطان، ومهد أمورها، وكتب يعلم السلطان بذلك. ثم خرج منها بعد يومين يستنفر الناس، فاجتمع عليه خلائق من التراكمين، والعربان، والعشران، وعسكر طرابلس وكثير من عسكر حلب، وطائفة من المماليك السلطانية. وكان العجل بن نعير قد استولى على معاملة الحصن والمناصف، واستولى فارس بن صاحب الباز - وأخوه حسين - على سواحل اللاذقية وجبلة وصهيون، وبلاطنس. واستولى علم الدين على حصن الأكراد وعصى بها. واستولى رجب بن أمير أسد على قلعة المرقب، فطرد السليماني العجل من المعاملة. ونزل على حصن الأكراد وحصرها، حتى أخذها، وأعاد بها الدعاء للسلطان. وأخذ في استرجاع الساحل، فقدم عليه الخبر بولاية الأمير قانباي طرابلس، ووصول متسلمه سيف الدين بوري - ومعه شهاب الدين أحمد الملطي - على ظهر البحر من ديار مصر. ففت ذلك في عضده، وصار إلى علان نائب حماة، فأشار عليه أن لا يسلم طرابلس حتى يراجع السلطان بما يترتب على عزله من الفساد بتبدد كل العساكر، فكتب بذلك، ودخل بوري والملطي إلى طرابلس، وتسلماها، وحلفا الأمراء وغيرهم للسلطان.
وفي ثامنه: خرج الأمير شيخ نائب الشام ومعه الأمير يشبك وبقية الأمراء إلى لقاء الأمير جكم، فعندما رأوه ترجل له يشبك، ونزل الأرض، وسلم عليه، فلم يعبأ به، ولا التفت إليه، وجرى على عادته في الترفع والتكبر، فشق ذلك على الأمير شيخ، ولام يشبك على ترجله، وعيب جكم على ما كان منه. ودخلوا معه إلى دمشق يوم السبت تاسعه، والطول تضرب وهو في مركب مهول. فنزل الميدان، وجرى على عادته في التكبر والترفع، فتنكرت القلوب، واختلفت الآراء، فكان جكم أمة وحدة، يرى أنه السلطان، ويريد إظهار ذلك، والأمراء تسوسه برفق، حتى لا يتظاهر بالسلطنة. ورأيه التوجه إلى بلاد الشمال، ورأي بقية الأمراء المسير إلى مصر، فكانوا ينادون يوماً بالمسير إلى مصر، وينادون يوما بالمسير إلى حماة وحلب، وينادون يوماً من أراد النهب والكسب فعليه بالتوجه إلى صفد. ثم قوي عزمهم جميعاً على قصد مصر، وبعثوا لرمي الإقامات بالرملة وغزة، وبرزوا بالخيام إلى قبة يلبغا في رابع عشره. وخرج الأمير شيخ والأمير يشبك وقرا يوسف من دمشق، في عشرينه وقد عمل الأمير شيخ في نيابة الغيبة سودن الظريف، ووقف جميع أملاكه على ذريته وعلى جهات بر، منها مائتا قميص تحمل في كل سنة إلى مكة والمدينة، مربوط على كل قميص عشرة دراهم فضة، تفرق في الفقراء، ومنها مبلغ لمن يطوف عنه كل يوم أسبوعاً. ومنها عشرة أيتام في كل من الحرمين، ومؤدب يقرئهم القرآن، ومنها قراء بجامع دمشق. وندبوا الأمير يشبك وقرا يوسف إلى صفد، فسارا من الخربة في عسكر.
ومضى الأمير شيخ إلى قلعة الصبيبة فاستعد الأمير بكتمر شلق نائب صفد، وأخرج كشافته بين يديه. ونزل بجسر يعقوب، فالتقي أصحابه بكشافة يشبك وقرا يوسف، واقتتلوا، فكثرت الجراحات بينهما، وغنم الصفديون منهم عشرة أفراس، فرجع يشبك وقرا يوسف إلى طبرية، ونزلا على البحيرة ليلة الخامس والعشرين، حتى عاد الأمير شيخ من الصبيبة، وقد حصن قلعتها. ثم ساروا جميعاً إلى غزة وقد تقدمهم الأمير جكم، ونزل بالرملة في خامس عشرينه.(3/69)
وفيه سار ألطنبغا بشلاق، وصديق أبو شوشه - كاشف أذرعات - بخمسمائة رأس من الغنم وعدة جمال، عليها غلة، يريدا قلعة الصبيبة، فاعترضهم الأمير بكتمر شلق وأخذ ما معهم، وفر بشلاق وصديق.
وفيه قدم الخبر على السلطان بنزول الأمراء إلى غزة، وأخذهم الإقامات المعدة لسفر السلطان، من الشعر وغيره. وكانت غزة قد غلت الأسعار بها لقلة الأمطار. وبلغت الوبية القمح مائة وعشرين درهماً، فجد السلطان في الحركة للسفر والاستعداد للحرب. وفيه نزل العجل بن نعر شرقي دمشق، وأخذ ما وجد من الغلال.
وفيه فرض مال على قرى دمشق كلها، الموقوف منها وغير الموقوف، ما عدا القرى التي هي إقطاعات الأمراء. ثم تقرر على القضاة مبلغ ألفي دينار مصالحة عن الأوقاف من القرى. وهذا الذي فرض في هذا الشهر سوى ما تقدم أخذه من الأوقاف وغيرها.
شهر ذي الحجة، أوله السبت.
في ثانيه: سار شاليش الأمراء من غزة إلى جهة القاهرة.
وفي ثالثه: سار منها الأمير شيخ بمن بقي معه، واستناب في غزة الأمير ألطنبغا العثماني.
وفي سادسه: سقط الطائر من بلبيس بنزول الأمراء قطيا. فكثرت حركات العساكر بالقاهرة، وركب السلطان من قلعة الجبل في يوم السبت ثامنه، ونزل بالريدانية، وبات بها. وقد عمل بباب السلسلة من القلعة الأمير بكتمر أمير سلاح. فورد الخبر بنزول الأمراء الصالحية يوم التروية، وبأخذهم ما بها من الشعير وغيره، فرحل السلطان في يوم الأحد تاسعه، ونزل العكرشة، ثم سار منها ليلاً، وأصبح ببلبيس، فضحى بها، وأقام يومي الاثنين والثلاثاء، وأعاد في يوم الثلاثاء ابن شعبان إلى حسبة القاهرة، عوضاً عن ابن الجباس، ثم صرف في يوم الخميس ثالث عشره، وأعيد ابن الجباس.
وفي يوم الأربعاء ثاني عشره: قبض بالقاهرة على الأمير يلبغا السالمي وعوق بباب السلسلة، وأخذ جميع موجوده بسعاية الأمير جمال الدين الأستادار. وذلك أنه غض بمكانه، فأغرى به السلطان حتى رسم له أن يقبض عليه وكان قد خرج لتعبئة الإقامات، ونزل بالحوف، فسار إليه، فأعلم به، ففاته وقدم على السلطان، فاصلح بينهما. ثم لما كان يوم عيد الأضحى نادي السالمي في الناس أن الفلوس بأربعة دراهم الرطل بعد ستة، وأن المثقال الذهب بثمانين بعد مائة وثلاثين، وأن الإفرنتي بستين فقلق الناس من ذلك قلقاً عظيماً، وأنكر نائب الغيبة هذا، ونادى بخلافه. وكتب فيه إلى السلطان فوجد جمال الدين السبيل إلى القول فيه، واغتنم غيبته بالقاهرة عن السلطان، وما زال حتى كتب إلى نائب الغيبة بقبضه وتقييده.
وفيه التقت مقدمة السلطان ومقدمة الأمراء واقتتلوا، فرحل السلطان من بلبيس بكرة نهار الأربعاء، ونزل السعيدية فأتاه كتاب الأمراء الثلاثة شيخ، وجكم، ويشبك، بأن سبب حركتهم ما جرى بين الأمير يشبك والأمير إينال بيه بن قجماس من حظ الأنفس، حتى توجه يشبك بمن معه إلى الشام، فكان بها من خراب البلاد، وهلاك الرعية ما كان. وطلبوا منه أن يخرج أينال بيه ودمرداش نائب حلب من مصر إلى الشام، وأن يعطى لكل من يشبك وشيخ وجكم، ومن معهم بمصر والشام ما يليق به، لتخمد هذه الفتنة باستمرارهم على الطاعة، وتحقن الدماء، ويعمر ملك السلطان. وإن لم يكن ذلك تلفت أرواح كثيرة، وخربت بيوت عديدة وقد كان عزمهم المكاتبة بهذا من الشام، لكن خشوا أن يظن بهم العجز، فإنه ما منهم إلا من جعل الموت نصب عينيه.(3/70)
فلما كانت ليلة الخميس ثالث عشره: بيت الأمراء السلطان وهم في نحو الثلاثة آلاف فارس وأربعمائة تركماني من أصحاب قرا يوسف، فاقتتل الفريقان قتالاً شديداً، من بعد عشاء الآخرة إلى بعد نصف الليل، جرح فيه جماعة، وقتل الأمير صرق صبراً بين يدي الأمير شيخ، لأنه ولي نيابة الشام من السلطان. وركب السلطان ومعه الأمير سودن الطيار، وسودن الأشقر هجنا، وساقوا على البر تحت غلس الصبح يريدون القلعة. وتفرقت العساكر وتركوا أثقالهم وسائر أموالهم، فغنمها الشاميون، ووقع في قبضتهم الخليفة وقضاة مصر، ونحو من ثلاثمائة مملوك، والأمير شاهين الأفرم، والأمير خير بك نائب عزة. وقدم المنهزمون إلى القاهرة في يوم الخميس ثالث عشره. ولم يحضر السلطان، ولا الأمراء الكبار فكثر الإرجاف، وأقيم العزاء في بعض الدور وماج الناس، وكثر النهب، حتى وصل السلطان قريب العصر، ومعه الأمراء، إلى الأمير أقباي، وقد قاسى من العطش والتعب ما لا يوصف، فاستعد وجمع إليه عساكره.
وفي يوم السبت: سلم الأمير يلبغا السالمي إلى الأمير جمال الدين الأستادار، فرسم أن يكون سعر الذهب والفلوس على ما كان عليه قبل مناداة السالمي.
وأصبح في يوم الأحد: فعاقب السالمي بالضرب المبرح وفي يوم الاثنين سابع عشره: حمله مقيداً إلى الإسكندرية فسجن بها.
وفيه زحفت عساكر الشاميين من الريدانية، وقد نزلوا بها من أمسه وكثر اضطراب الناس بالقاهرة، وغلقت أبوابها ودروبها، وتعطلت الأسواق، وعز وجود الماء. ووصلت العساكر قريباً من دار الضيافة تحت القلعة، فقاتلهم السلطانية من بكرة النهار إلى بعد الظهر فأقبل عدة من الأمراء إلى جهة السلطان طائعين له، منهم أسن بيه أمير ميسرة الشام، والأمير يلبغا الناصري، والأمير سودن اليوسفي، وإينال حطب، وجمق، ففت ذلك في أعضاد من بقي، وعاد طائفة منهم، وحملوا خفهم وأفرجوا عن الخليفة والقضاة وغيرهم. وتسلل الأمير قطلوبغا الكركي، والأمير يشبك الدوادار، والأمير تمراز الناصري، وجركس المصارع في جماعة، واختفوا بالقاهرة وظواهرها، فولي حينئذ الأمير شيخ المحمودي نائب الشام، والأمير جكم، وقرا يوسف، وطولو، في طائفة يسيرة، وقصدوا الشام، فلم يتبعهم أحد من عسكر السلطان. ونادي السلطان بالأمان، وأصبح، فقيد من استأمن إليه من الأمراء، وبعثهم إلى الإسكندرية، فاعتقلوا بها. وانجلت هذه الفتنة عن تلف مال العسكريين، فذهب فيها من الخيل والبغال والجمال والسلاح والثياب والآلات، ما لا يدخل تحت حصر.
وفي تاسع عشره: قبض على الصاحب تاج الدين بن البقري، وعاقبه الأمير جمال الدين، واستقر عوضه في الوزارة، فخر الدين ماجد بن غراب وكان أخوه سعد الدين قد ترامى عند فراره من عسكر الشاميين على الأمير أينال بيه، فجمع بينه وبين السلطان ليلاً، ووعده بستين ألف دينار. فأصبح يوم الأربعاء تاسع عشره، وصعد القلعة، فخلع عليه السلطان، وجعله مشيراً، وجعل أخاه وزيراً.
وفي ثالث عشرينه: خلع على الأمير نوروز واستقر في نيابة الشام، وعلى الأمير بكتمر واستقر في نيابة صفد وعلى الأمير سلامش - حاجب غزة - واستقر في نيابتها، ونودي بعرض أجناد الشام.
وفي ثاني عشرينه: مرض السلطان بحمى حادة، قيل إنها دوسنطاريا، وكثر رميه للدم، واستمر به بقية الشهر. وأما الأمير شيخ فإنه قدم إلى غزة، ومعه جكم، وقرا يوسف في نحو الخمسمائة فارس، معظمهم أصحاب قرا يوسف، وقد غنموا شيئاً كثيراً، وفروا به، وتمزقت عساكر الأمير شيخ، وتلفت أمواله وخيوله. ومضى إلى دمشق، فقدمها يوم الجمعة ثامن عشرينه، بعد ما نهب اللجون وخرج إليه بكتمر نائب صفد، وشيخ السليماني نائب طرابلس - وقد قدم صفد في نحو المائتين - فتبعاه إلى عقبة فيق فلم يدركاه، وتخطفا من أعقابه بعض خيل. فوجد السلطان أحمد بن أويس صاحب بغداد قد فر من دمشق في ليلة الأحد سادس عشره. وكان قد تأخر بدمشق، ولم يتوجه مع الأمراء إلى مصر، فأوقع الأمير شيخ الحوطة ببيوت الأمراء، الذين خامروا عليه.(3/71)
وأما حلب، فإن الأمير جكم لما سار عنها ثار بها عدة من أمرائها، ورفعوا سنجق السلطان بباب القلعة، فاجتمع إليهم العسكر، وحلفوا للسلطان، فقدم ابنا شهري الحاجب، ونائب القلعة من عند التركمان البياضية إلى حلب. وقام بتدبير الأمور يونس الحافظي. وامتدت أيدي عرب العجل بن نعير وتراكمين ابن صاحب الباز إلى معاملة حلب، فقسموها، ولم يدعوا لأحد من الأمراء والأجناد شيئاً من المغل.
وفي سادس عشرينه: أشيع بمكة أن ركب العراق قدم صحبة ابن تمرلنك بعسكر، فاستعد الشريف حسن بن عجلان أمير مكة إلى لقائه. وكشف عن الخبر، فتبين أن محمل العراق قدم ومعه حاج ضعفاء بغير عسكر. فلما قضوا مناسك الحج تأخروا بعد مضي الركب المصري يوماً، ثم قاسوا طول الكعبة وعرضها، وعدوا عمد المسجد الحرام وأبوابه، فأسر إلى ابن عجلان رجل ممن حضر معهم من بني حسن بأن تمرلنك كان قد عزل على بعث جيش عدتهم عشرة آلاف فارس، صحبة المحمل، فخوف من عطش الدرب فأخرهم وبعث لكشف الطريق، حتى يبعث من قابل عسكراً بكسوة الكعبة، فكتب بذلك ابن عجلان إلى السلطان.
وفي هذا الشهر: أخذ ناصر الدين محمد بن دلغادر قلعة درنده صلحاً. واستهم لمحاربة محمد بن كبك، وأخذ ملطية منه.
وفيه أخذ قرا يلك قلعة الرها بعد حصارها مدة، وأنزل بها ولده، ومضى إلى ماردين فأخذ المدينة وأحرقها وخربها، وحصر قلعتها، وأخذ التركمان كركر وكختا وبهسنا، وعدة قلاع. ولم تنسلخ هذه السنة حتى كل الخراب إقليم مصر، وتلاشى الصعيد، ودثرت عدة مدن، وكثير من القرى وتعطلت معظم أراضيه من الزراعة، وتمزق أهله أيدي سبا وبيع من الأطفال ما لا يدخل تحت حصر، فاسترقوا بعد الحرية، وذلوا بعد العز.
وفيه كتب تقليد الأمير علان اليحياوي في نيابة حلب، منتقلاً عن نيابة حماة وتوجه على يد متسفره أينال الخازندار. واستقر الأمير بكتمر شلق نائب صفد في نيابة طرابلس، وتوجه لتقليده الأمير صرماش العمري واستقر عوضه في نيابة صفد الأمير بكتمر الركني، ومتسفره أينال الخازندار.
واستقر الأمير دقماق المحمدي في نيابة حماة، عوضاً عن علان. واستقر الأمير علم الدين سلمان في نيابة الكرك والشوبك. واستقر الأمير سلامش نائب غزة، عوضاً عن خاير بك.
وفيه سار الأمير شيخ السليماني نائب طرابلس - بعد عزله عنها - إلى جهة صفد.
ومات في هذه السنة
الوزير بدر الدين محمد بن محمد بن محمد بن الطوخي.
ومات ناصر الدين محمد بن صلاح الدين صالح بن أحمد، المعروف بابن السفاح الحلبي، توفي يوم الثلاثاء ثاني محرم وكان قد قدم من حلب، وباشر توقيع الأمير يشبك الدوادار، وتعين لكتابة السر.
ومات الأمير قانباي رأس نوبة أحد أمراء العشرينات في يوم الخميس أول جمادى الآخرة.
ومات علي بن عمر بن الملقن نور الدين بن سراج الدين، في يوم الاثنين سلخ شعبان، فجأة بمدينة بلبيس وحمل ميتاً، فدفن عند أبيه بحوش الصوفية، خارج باب النصر، ومولده في شوال سنة ثمان وستين وسبعمائة وكان قد برع في الفقه، ودرس بعد أبيه في عدة مواضع، وناب في الحكم مدة أعوام، حتى فخم ذكره، تعين لقضاء القضاة الشافعية، وكثر ماله.
ومات عبيد الله بن الأردبيلي في شهر رمضان وكان يعد من فضلاء الفقهاء الحنفية. وناب في الحكم مدة، ودرس، وولي قضاء العسكر في أيام تغلب الأمير منطاش، فتأخر في الأيام الظاهرية.
ومات عبد المنعم بن محمد بن داود شرف الدين البغدادي الحنبلي، في يوم السبت ثامن عشر شوال، وقد انتهت إليه رئاسة الحنابلة وكتب على الفتوى، ودرس عدة سنين. وكان قد قدم من بغداد، وأخذ الفقه عن الموافق الحنبلي قاضي القضاة. وتعين لقضاء الحنابلة ثم ولى غيره. وانقطع بالجامع الأزهر عدة سنين، يدرس ويفتى، ولا يخرج منه إلا في النادر.
ومات شمس الدين محمد بن عباس بن حسين بن محمود بن عباس الصلتي، في مستهل جمادى الأولى، ولد في سابع عشرين شعبان، سنة خمس وأربعين وسبعمائة وولي القضاء في عدة بلاد من معاملة دمشق ثم ولي قضاء بعلبك وحمص وغزة وحماة. وجمع في أيام الفتنة بين قضاء القدس وغزة ونابلس. ثم عمل مالكاً، واستقر في قضاء المالكية بدمشق، ثم ترك ذلك وولي قضاء القضاة الشافعية بدمشق، وباشر مباشرة غير مشكورة.
الجزء الرابع
سنة ثمان وثمانمائة(3/72)
المحرم أوله الاثنين ويوافقه خامس أبيب: أهل والسلطان قد اشتد به المرض. وأرجف بموته ليلة الاثنين هذا، فباع في يومه فرساً بمائتي ألف درهم، وتصدق بها.
وفي ثانيه: استقر صدر الدين أحمد بن جمال الدين محمود القيسري في حسبة القاهرة، وعزل ابن الجباس.
وفي ثالثه: قدم مبشرو الحاج.
وفي يوم السبت سادسه: بعث الأمير شيخ نائب الشام برسالته: شهاب الدين أحمد ابن حجي - أحد خلفاء الحكم بدمشق - والسيد ناصر الدين محمد بن الشريف علاء الدين علي - نقيب الأشراف - والفقير المعتقد محمد بن قدادار، ويلبغا المنجكي، ومعهم كتابه يتضمن الترقق والاعتذار عما وقع منه، ويسأل استقراره في نيابة الشام، فقدموا القاهرة يوم الاثنين ثالث عشرينه، ودخل منهم على السلطان ابن حجي وابن قديدار ويلبغا خاصة، لأنهم الرسل، ومن عداهم رفقاؤهم فلم يلتفت السلطان إلى قوله، ورسم أن ينزل السيد ناصر الدين عند كاتب السر، وينزل ابن حجي وابن قدادار عند القاضي الشافعي، والمنجكي عند الأمير أينال بيه. وأن لا يجتمعوا بأحد.
وفي تاسعه: استقر الأمير قاني بيه في نيابة الإسكندرية.
وفي ثالث عشره: نودي بالزينة لعافية السلطان، فزينت القاهرة ومصر إلى خامس عشره وتوجه الأمير يشبك الموساوي الأفقم إلى الشام، يبشر بعافية السلطان.
وفي ثاني عشرينه: قدم المحمل ببقية الحاج، وقد تأخر عن عادته يوماً.
وفي رابع عشرينه: سار الأمير نوروز الحافظي إلى دمشق، بعدما خلع عليه وخرج لوداعه الأمراء، فأناخ بالريدانية، ثم رحل منها، ومضي لشأنه، ومعه متسفره برد بك الخازندار، في ثامن عشرينه.
وفي هذا الشهر: بلغ المثقال الذهب إلى مائة وأربعين، والدينار الأفرنتي إلى مائة وعشرين. والفلوس كل رطل عنه ستة دراهم، واستمر الأمر عليه وأبيع القمح بمائة وسبعين درهماً فلوساً الأردب، والشعير والفول بمائة وخمسين الأردب، واللحم الضأن السليخ بسبعة دراهم الرطل والسميط كل رطل بستة دراهم، ولحم البقر بأربعة دراهم، وهو قليل جداً. وكل بيضة بنصف درهم، وكل راوية ماء من عشرة دراهم إلى اثني عشر درهماً. وسائر ما يباع غال، حتى بلغ القدح الأرز إلى ثلاثة عشر درهماً. وبيعت ملوطتان قطن قد لبستا وغسلتا بألفين ومائتي درهم، وأربعين درهماً. وبلغ رطل الحب رمان إلى عشرة دراهم. وأما الأمير شيخ نائب الشام، فإنه قبض في سابعه على الأمير سودن الظريف، وحمله إلى الصبيبة، فسجن بها. وقبض على القضاة وكاتب السر والوزير. وولي ابن باشى قاضي دمشق. ومشي قضاة دمشق في خدمته وهو راكب من باب النصر إلى العادلية وسلمهم إليه ليصادرهم، ففروا منه ليلا وبذلوا للأمير شيخ مالاً وعادوا إلى القضاء. واستناب ابن أبي البقاء ابن باشى.
شهر صفر، أوله الأربعاء: وفي ليلة الاثنين سادسه: قبض على الأمير يشبك بن أزدمر رأس نوبة، والأمير تمراز والأمير سودن، من إخوة سودن طاز، فاختفى الأمير أينال بيه أمير أخور، ومعه الأمير سودن الجلب، وحزمان في جماعة، فأحاط السلطان بدورهم، وأخذ ما قدر عليه.
وفي يوم الثلاثاء سابعه: سفر ابن أزدمر وتمر سودن إلى الإسكندرية، فسجنوا بها.
وأما أينال بيه، فإنه دار على جماعة من الأمراء ليركبوا معه، فلم يوافقوه فاختفى، واجتمع طائفة من المماليك السلطانية تحت القلعة. فأغلق باب الإصطبل، وكثرت مفاوضة المماليك من القلعة إلى من وقف تحتها منهم، ثم رموهم بالنشاب، فتفرقوا وسكن الحال.
وفي تاسعه: استقر فخر الدين ماجد، ويدعي عبد الله بن سديد الدين، أبي الفضائل ابن سناء الملك، المعروف بابن المزوق، كاتب سعد الدين إبراهيم بن غراب في نظر الجيش، وعزل الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله. وأعيد ابن شعبان إلى حسبة القاهرة، وعزل صدر الدين أحمد بن العجمي.
وفي يوم الجمعة عاشره: ظهر الأمير أينال بيه بن قجماس، وطلع به الأمير بيبرس بن أخت السلطان إلى القلعة، فكثر الكلام. ثم آل الأمر إلى أن قبض عليه السلطان، وأرسله إلى دمياط في حادي عشره، بطالاً.
وفي رابع عشره: أعيد الأخناي إلى قضاء القضاة، وصرف شيخ الإسلام جلال الدين.
وفي يوم السبت ثامن عشره: - وخامس عشرين مسرى - وفي النيل، فركب الأمير الكبير بيبرس لكسر الخليج، في عدة من الأمراء.(3/73)
وفي حادي عشرينه: فرق السلطان إقطاعات الأمراء الممسوكين، فأنعم بإقطاع إينال باي بن قجماس على الأمير تغري بردى، وبإقطاع تغري بردى على الأمير دمرداش نائب حلب وبإقطاع دمرداش على الأمير أزبك الإبراهيمي. وأنعم على الأمير بيبرس الصغير الدوادار بإمرة مائة وعلى قراجا بإمرة عشرين، نقل إليها من إمرة عشرة وعلى الأمير بشباي الحاجب بإمرة مائة، نقل إليها من الطبلخاناة. وعلى الأمير علان بإمرة مائة، وأنعم بطبلخاناة سودن الجلب على الأمير ألتش الشعباني، نقل إليها من إمرة عشرة.
وفي ثالث عشرينه: نقل الأمير شرباش من وظيفة رأس نوبة، واستقر أمير أخور كبير، عوضاً عن أينال بيه. واستقر الأمير أرسطاي حاجب الحجاب، عوضاً عن الأمير بشباي.
وفي سابع عشرينه: أعيد صدر الدين أحمد بن العجمي إلى الحسبة، وعزل ابن شعبان. واستقر الحجازي والي القاهرة، وعزل ناصر الدين مجد المحني.
وأما الأمير شيخ، فإنه توجه من دمشق، ومعه الأمير جكم والأمير قرا يوسف في نصفه، لحرب الأمير نعير، فأدركوا أعقابه ثم اختلفوا، فمضى جكم إلى ناحية طرابلس، ومضي بقرا يوسف إلى جهة الشرق، عائداً إلى بلاده. وعاد الأمير شيخ من البقاع، فنزل سطح المزة في ثامن عشره، ومعه خواصه فقط، فأقام يسيراً، وتوجه إلى جهة الصبيبة. فدخل الأمير نوروز دمشق يوم الثلاثاء ثاني عشرينه من غير قتال ولا نزاع على عادة النواب. وبلغ في هذا الشهر بالقاهرة الأردب الأرز إلى ألف ومائتي درهم، غير كلفه. وبلغ القنطار السيرج إلى ألف وثلاثين درهماً، غير كلفه. وبيعت بطيخة خضراء بعشرين درهماً. وأبيع الرطل العنب بأربعة دراهم، والرطل الخوخ بدرهمين ونصف، والتين بدرهم ونصف الرطل، والقنطار القرع بثمانين درهماً.
وفيه نادى الأمير نوروز على الفلوس كل رطل شامي بتسعة دراهم، ومنع من ضرب الفلوس بدمشق. ثم نادى أن يكون الرطل من الفلوس بستة، فصار الدرهم الفلوس كالدرهم الفضة. والدينار الإفرنتي بخمسة وعشرين درهماً، إما فضة وإما فلوساً. واستقام أمر الناس بدمشق في المعاملة.
شهر وبيع الأول، أواله الخميس: فيه استقر جمال الدين عبد الله بن قاضي القضاة ناصر الدين التنسي، في قضاء القضاة المالكية، وصرف البساطي، ثم صرف يوم السبت ثالثه، وأعيد البساطي، فكانت ولايته يومين.
وفي خامسه: استقر الأمير بشباي رأس نوبة كبيراً، عوضاً عن يشبك بن أزدمر. وأعيد شيخ الإسلام جلال الدين بن البلقيني إلى قضاء القضاة، وعزل الأخناي، فكانت مدة عزله وولاية الأخناي يوماً. وهذه خامسة ولايات شيخ الإسلام قاضي القضاة.
وفي يوم الثلاثاء سادسه: تخبطت الأحوال بين السلطان وبين المماليك، فوقف طائفة من المماليك الجراكسة، وسألوا أن يقبض على الأمير تغري بردى، والأمير دمرداش، والأمير أرغون، من أجل أنهم من جنس الروم.
وذلك أن السلطان اختص بهم، وتزوج ابنة تغري بردى، وأعرض عن الجراكسة، وقبض على أينال بيه فخاف الجراكسة من تقدم الروم عليهم، وأرادوا من السلطان إبعادهم، فأبى عليهم، فتحزبوا عليه، واجتمعوا على الأمير الكبير بيبرس، وتأخروا عن الخدمة السلطانية، فتغيب في ليلة الأربعاء الأميران تغري بردى ودمرداش. وأصبح الناس يوم الأربعاء سابعه، وقد ظهر الأمير يشبك الدوادار، والأمير تمراز، والأمير جركس المصارع، والأمير قانباي العلاي، وكانوا مختفين من حين الكسرة، بعد وقعة السعيدية. وذلك أن الأمير بيبرس ركب سحراً إلى السلطان وتلاحى معه طويلاً، وعرفه بمواضع الأمراء المذكورين، فاستقر الأمر على مصالحة السلطان للجراكسة، وإحضار الأمراء المذكورين، والإفراج عن إينال باي وغيره، فانفضوا على ذلك.
وفي ثامنه: استقر سودن المحمدي - المعروف بتلي، يعني المجنون - أمير أخور، وصرف جرباش.
وفي يوم السبت عاشره: طلع الأمير يشبك، وتمراز، والمصارع، وغيره إلى القلعة، فخلع السلطان عليهم خلع الرضا، ونزلوا إلى دورهم.
وفي ثاني عشره: أعيد الهوى إلى الحسبة، وعزل ابن العجمي.
وفي خامس عشره: قدم الأمير قطلوبغا الكركي، والأمير أينال حطب، وسودن الحمزاوي، ويلبغا الناصري، وتمر، وأسندمر الناصري الحاجب، من الإسكندرية. وقدم الأمير أينال بيه بن قجماس، والأمير تمان تمر الناصري رأس نوبة، من دمياط.
وفي سابع عشره: خلع عليهم خلع الرضا.(3/74)
وفي تاسع عشره: قدم الأمير يشبك بن أزدمر من سجن الإسكندرية.
وفي يوم الثلاثاء عشرينه: قبض على فتح الدين فتح الله، كاتب السر، وتسلمه الأمير ناصر الدين محمد بن كلفت شاد الدواوين، وأحيط بداره وحواصله، وألزم بحمل ألف ألف درهم. واستقر عوضه في كتابة السر سعد الدين إبراهيم بن غراب، وخلع عليه الأمراء بطراز ذهب، ولم يعهد هذا قبله.
وفي ثاني عشرينه: ظهر الأمير دمرداش المحمدي نائب حلب من اختفائه. وخلع عليه بنيابة غزة، وأنعم عليه بمال كبير وخيول، فسار في يوم السبت رابع عشرينه. وخلع على يشبك بن أزدمر بنيابة ملطية فامتنع من ذلك، فأكره حتى لبس الخلعة، ووكل به الأمير أرسلان حاجب الحجاب، والأمير ناصر الدين محمد بن جلبان الحاجب حتى أخرجاه من فوره إلى ظاهر القاهرة. وبعث السلطان إلى الأمير أزبك الإبراهيمي - المعروف بخاص خرجي وكان قد تأخر عن الخدمة، بأن يستقر في نيابة طرسوس فأبى أن يقبل، والتجأ إلى بيت الأمير أينال بيه. فاجتمع طائفة من المماليك ومضوا إلى يشبك بن أزدمر، وردوه في ليلة الجمعة ثالث عشرينه، وقد وصل قريباً من سرياقوس، وضربوا الحاجب، وصار العسكر حزبين وأظهر الجراكسة الخلاف، ووقفوا تحت القلعة يمنعون من يقصد السلطان، وجلس الأمير الكبير بيبرس في جماعة من الأمراء بداره. وصار السلطان بالقلعة، وعنده عدة أمراء. وتمادى الحال يوم الخميس والجمعة والسبت، والناس في قلق، وبينهم قالة وتشانيع وإرجافات.(3/75)
وفي يوم السبت هذا: نزل السلطان إلى باب السلسلة، واجتمع معه بعض الأمراء ليصلح الأمر، فلم يفد شيئاً، وكثرت الشناعة عليه. وباتوا على ما هم عليه. وأصبحوا يوم الأحد خامس عشرينه وقد كثروا، فطلبوا من السلطان أن يبعث إليهم بالأمير تغري بردى والأمير أرغون. فلما بعثهما قبضوا عليهما، وأخرجوا تغري بردى منفياً في الترسيم إلى القدس. فلما كان عند الظهيرة، فقد السلطان من القلعة، فلم يعرف له خبر. وسبب اختفائه أن النوروز كان في يوم السبت رابع عشرين ربيع الأول هذا، فجلس السلطان مع عدة من خاصكيته لمعاقرة الخمر، ثم ألقي نفسه في بحره ماء وقد ثمل، فتبعه جماعة وألقوا أنفسهم معه في الماء. وسبح بهم في البحرة، وقد ألقي السلطان عنه جلباب الوقار، وساواهم في الدعابة والمجون، فتناوله من بينهم شخص، وغمه في الماء مراراً، كأنه يمازحه ويلاعبه، وإنما يريد أن يأتي على نفسه. مما هو إلا أن فطن به فبادر إليه بعض الجماعة - وكان رومياً - وخلصه من الماء، وقد أشرف على الموت، فلم يبد السلطان شيئاً، وكتم في نفسه. ثم باح بما أسره، لأنه كان لا يستطع كتمان سر. وأخذ يذم الجراكسة - وهم قوم أبيه، وشوكة دولته، وحل عسكره - ويمدح الروم، ويتعصب لهم، وينتمي إليهم، فإن أمه شيرين كانت رومية. فشق ذلك على القوم، وأخذوا حذرهم، وصاروا إلى الأمير الكبير بيبرس ابن أخت الظاهر واستمالوه، فخاف السلطان وهم أن يفر، فبادره الأمير بيبرس وعنفه، وما زال به حتى أحضر الأمراء من الإسكندرية ودمياط، وأظهر الأمراء المختفين كما ذكر، فاجتمع الأضداد، واقترن العدي والأنداد. ثم عادوا إلى ما هم عليه من الخلاف بعد قليل، وأعانهم السلطان على نفسه، بإخراج يشبك بن أزدمر، وأزبك، فأبدوا عند ذلك صفحات وجوههم، وأعلنوا بخلافه، وصاروا إلى أينال باي بن قجماس، ليلة الجمعة، وسعوا فيما هم فيه. ثم دسوا إليه سعد الدين بن غراب كاتب السر، فخيله منهم، حتى امتلأ قلبه خوفاً. فلما علم ابن غراب بما هو فيه من الخوف، حسن له أن يفر، فمال إليه. وقام وقت الظهر من بين حرمه وأولاده، وخرج من ظهر القلعة فن باب السر الذي يلي القرافة، ومعه الأمير بيغوت، فركبا فرسين قد أعدهما ابن غراب، وسارا مع بكتمر مملوك ابن غراب، ويوسف بن قطلوبك صهره أيضاً، إلى بركة الحبش. ونزلا وهما معهما في مركب، وتركوا الخيل نحو طرا وغيبوا نهارهم في النيل، حتى دخل الليل، فساروا بالمركب إلى بيت ابن غراب، وكان فيما بين الخليج وبركة الفيل، فلم يجدوه في داره، فمروا على أقدامهم حتى أووا في بيت بالقاهرة لبعض معارف بكتمر مملوك ابن غراب. ثم بعثوا إلى ابن غراب فحول السلطان إليه وأنزله عنده بداره، من غير أن يعلم بذلك أحد. وقد حدثني بكتمر المذكور بهذا فيما بعد، وقد صحبته في السفر، فبلوت منه ديناً، وصدق لهجة، وشجاعة، ومعرفة ومحبة في العلم وأهله.
السلطان الملك المنصور عز الدين أبو العز
عبد العزيز بن السلطان الظاهر أبي سعيد برقوق بن أنص ثالث ملوك الجراكسة أمه أم ولد تركية، اسمها قنقباي. ولد بعد التسعين وسبعمائة بسنيات، وجعل أبوه إليه السلطنة بعد أخيه الناصر فرج.
فلما فقد الملك الناصر وقت الظهر من يوم الأحد خامس عشرين ربيع الأول، بادر الأمراء بالركوب إلى القلعة، وهم طائفتان: الطائفة التي خالفت علي الناصر في السنة الماضية وحاربته، ثم مضت إلى الشام، فشنت الغارات وأقبلت بالعساكر وبيتته بالسعيدية. وانتهبت ما كان معه ومع عساكره، حتى رجع إلى قلعة الجبل على جمل. فجمع وحشد.، وأعد واستعد، فقاتلوه أياماً، ثم غلبوا، فكر بعضهم راجعاً إلى الشام، واختفى بعضهم إلى أن أمنهم وأعادهم إلى رتبهم. وهم عدة، يرجع أمرهم إلى الأمير يشبك الدوادار.
والطائفة الأخرى هي التي وفت للناصر وحاربت من ذكرنا معه، وكبيرهم الأمير الكبير بيبرس ابن أخت الظاهر. فلما صار الفريقان إلى القلعة، منعهم الأمير سودون تلى المحمدي أمير أخور من صعود القلعة، وهم يضرعون إليه من بعد نصف النهار إلى بعد غروب الشمس. ثم مكنهم من العبور من باب السلسلة.(3/76)
وقد أحضروا الخليفة والقضاة الأربع، واستدعوا الأمير عبد العزيز بن الظاهر، وقد ألبسه بن غراب الخلعة الخليفتية، وعممه. فعهد إليه الخليفة أبو عبد الله محمد المتوكل على الله بالسلطنة، ولقبوه الملك المنصور عز الدين، وكنوه بأبي العز. وذلك عند أذان عشاء الآخرة، من ليلة الاثنين سادس عشرين ربيع الأول، وقد ناهز الاحتلام.
وصعدوا به من الإسطبل إلى القصر. ولم تدق البشائر على العادة، ولا زينت القاهرة، وأصبح الناس في سكون وهدوء، فنودي بالأمان والدعاء للملك المنصور. فتحيرت المماليك التي من عصبة الناصر. وأشاعوا أنه مضى به دمرداش نائب حلب وبيغوت إلى الشام.
وهم كثير منهم باللحاق به، فأشاع آخرون أنه قتل، وأعرض الأمراء عن الفحص عنه، وتواصوا بالاتفاق. وقام بن غراب بأعباء المملكة، يدبر الأمراء كيف شاء. والمنصور تحت كفالة أمه. ليس له من السلطنة سوى مجرد الاسم في الخطة، وعلى أطراف المراسيم.
وفي يوم الثلاثاء سابع عشرينه: استقر الأمير بيبرس لالا السلطان، وخلع عليه.
وفي يوم الخميس تاسع عشرينه: عملت الخدمة بالإيوان المعروف بدار العدل وجلس السلطان على تخت الملك. وحضر الأمراء والقضاة وأهل الدولة على العادة، وخلع على أرباب الوظائف. فاستمر الأمير الكبير بيبرس على عادته أتابك العساكر، والأمير أقباي أمير سلاح، وسودن الطيار أمير مجلس، وسودن تلى المحمدي أمير أخور، وبشباي رأس نوبة كبيراً، وأرسطاي حاجب الحجاب، وسعد الدين بن غراب كاتب السر، وفخر الدين ماجد بن غراب وزيراً، وفخر الدين بن المرزوق ناظر الجيش. وخلع على القضاة الأربع خلع الاستمرار.
وفي هذا الشهر: بلغ المثقال الذهب إلى مائة وخمسين، والإفرنتي إلى مائة وثلاثين، فنودي في سابع عشرينه أن المثقال بمائة وأربعين، والأفرنتي بمائة وعشرين، من أجل أنه توقف الذهب من قلة الفلوس، وذلك أنها صارت رخيصة، وكل قنطار منها بستمائة، عنها أربعة مثاقيل من الذهب. ومع ذلك يباع النحاس الأحمر الذي لم يضرب بألفي درهم، عنها ثلاثة عشر مثقالاً وثلث. فضن التجار بإخراج الفلوس، حتى اتضع الذهب، وكثر في الأيدي، وزهد الباعة في أخذه. فتوقفت الأحوال بسبب هذا، حتى نودي فمشت الأحوال.
وفيه أبيع الأردب القمح بمائتين وعشرين، والشعير والفول بمائة وعشرين، وبلغ الأرز إلى ستة عشر درهماً القدح. وأبيع الباذنجان كل واحدة بنصف درهم.
والرطل اللحم الضأن بثمانية دراهم. ولحم البقر بخمسة دراهم الرطل. وبيع رأسان من البقر - بعد النداء عليهما بحراج حراج في السوق - باثني عشر ألف درهم. وبلغ الأردب من زريعة الجزر إلى خمسمائة درهم، والقدح من بزر الفجل إلى مائة وخمسين درهماً. والقدح من بزر اللفت إلى ثمانين درهماً.
والرطل من لحم الجمل بثلاثة دراهم ونصف، بعد خمسة أرطال بدرهم.
وفي هذا الشهر: كانت وقعة بين المسلمين والفرنج بالأندلس. وذلك أن مدة الصلح بين المسلمين بغرناطة وبين الطاغية صاحب قشتالة لما انقضت، أبي الطاغية من الصلح، فبعث السلطان أبو سعيد عثمان صاحب ماس عشرين غراباً أوسقها بالعدد والزاد، وجهز ثلاثة آلاف فارس، قدم عليهم القائد مارح. وجعل الشيخ عمر بن زيان الوساطي على ألف فارس أخرى.
فنزلوا سبتة. وجهز أبو عبد الله محمد بن أبي الحجاج يوسف - صاحب غرناطة - أسطوله إلى جبل الفتح، فلقيهم أسطول الطاغية بالزقاق، في يوم الجمعة سادس عشرة، وقاتلهم. وقد اجتمع أهل فاس وأهل غرناطة، فكانت النصرة للفرنج، ولم ينج من المسلمين إلا القليل. وغنم الفرنج المراكب كلها بمن فيها وما فيها. فكانت مصيبة عظيمة، تكالب فيها الفرنج على المسلمين، وقوي طمعهم فيهم.
شهر ربيع الآخر أوله الجمعة: فيه بلغ الأردب القمح إلى مائتي درهم وستين. ولحم الضأن إلى عشرة دراهم الرطل. ولحم البقر إلى خمسة ونصف. وفيه انتهت زيادة ماء النيل إلى تسع عشرة ذراعاً سواء، وعزت ألبقار، وطلبت لأجل حرث الأراضي، فأبيع ثور بثمانية آلاف درهم.
وفي آخر نهار الأربعاء ثامن عشره: أفرج عن فتح الله كاتب السر. على أن يحمل خمسمائة ألف درهم فلوساً. عنها ثلاثة آلاف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون مثقالاً ذهباً، وثلث مثقال.
وفيه توجه الأمير نوروز نائب الشام من دمشق إلى الصبيبة، لقتال الأمير شيخ.
شهر جمادى الأولى أوله الأحد.(3/77)
فيه بلغ رطل اللحم الضأن إلى اثني عشر درهماً، ولحم البقر إلى ستة دراهم، والأردب القمح إلى مائة وثمانين، وبلغت الفضة الكاملية إلى أربعمائة وسبعين درهماً فلوساً، كل مائة درهم منها. وبلغ القنطار الزيت إلى ستمائة وعشرين. وبيع في السوق بحراج ثمانية أطيار من الدجاج بستمائة درهم وبيع زوج أوز بستمائة درهم. فوقف فيه اللحم - بعد عطه - كل رطل بخمسة وعشرين درهماً.
وفيه فشت الأمراض الحادة في الناس بالقاهرة ومصر، وشنع موت الأبقار. فبلغ لحم الضأن إلى خمسة عشر درهماً الرطل، وبيعت ثلاث رمانات بستين درهماً، والرطل الكثمري بعشرين درهماً، وغلت الأسعار بغزة أيضاً، فبيع القدح القمح بسبعة دراهم، والقدح الشعير بخمسة، والقدح العدس بعشرة، وبيع في القاهرة بطيخة بثمانية وستين درهماً بعد درهم، والرطل من لعاب السفرجل بمائة وثلاثين، من كثرة طلبه للمرضى.
وفي حادي عشره: توجه الطواشي الأمير شاهين الحسني - لالا السلطان - في عشرة سروج لإحضار الأمير شيخ المحمودي نائب الشام، والأمير جكم، وقد ورد كتاب للأمير شيخ قبل ذلك بعشرين يوماً، وكتاب الأمير جكم بعد كتاب الأمير شيخ بعشرة أيام، يخبرا بأنهما حاربا الأمير نوروز وهزماه، وأنه لحق بطرابلس، ودخلا إلى دمشق، فولي الأمير شيخ قضاء دمشق شهاب الدين أحمد بن الحسب في الشافعي، في ثانيه.
وفي سابع عشرة: خرج الأمير جكم من دمشق في جماعته، يريد محاربة الأمير نوروز، وقد ورد الخبر بنزوله على بحرة حمص، ثم تلاه الأمير شيخ بجماعته، فبلغ ذلك نوروز، فسار في عشية الأربعاء ثامن عشره إلى حماة، ونزل شيخ وجكم حمص إلى يوم الثلاثاء رابع عشرينه. ثم سارا إلى طرابلس، وقد نزل نائبها بأعناز ففر عنه من معه، ومضى يريد حماة. فدخل شيخ وحكم طرابلس يوم الخميس سادس عشرينه، فنزل حكم بدار النيابة.
فلما بلغ علان نائب حلب نزول نوروز وبكتمر نائب طرابلس على حماة، سار إلى نوروز، وأقام معه بعسكره وجماعة من التراكمين.
شهر جمادى الآخرة، أوله الثلاثاء. فيه مرض السلطان الملك المنصور.
وفي يوم الجمعة رابعه: عادت الخيول من الربيع.
وظهر بين أهل الدولة حركة، فكثرت القالة، وبات المماليك تسعى بعضها إلى بعض، فظهر الملك الناصر في بيت الأمير سودن الحمزاوي، وتلاحق به كثير من الأمراء والمماليك، ولم يطلع الفجر حتى ركب السلطان بآلة الحرب. وإلى جانبه ابن غراب. وعليه آلة الحرب. وسار بمن اجتمع إليه يريد القلعة، فقاتله سودن المحمدي أمير أخور، وأينال بيه بن قجماس، وبيبرس الكبيري، ويشبك بن أزدمر، وسودن المارديني، قتالاً ليس بذاك.
ثم انهزموا، وصعد السلطان إلى القلعة، فكانت مدة عبد العزيز سبعين يوماً.
عود السلطان زين الدين فرج إلى الملك
عود السلطان الملك الناصر زين الدين فرج ابن الملك الظاهر برقوق إلى الملك ثانيا وذلك أنه لما فقد من القلعة، وصار إلى بيت سعد الدين بن غراب، ومعه بيغوت، قام له بما يليق به. وأعلم الأمير يشبك به، فخفي على أهل الدولة مكانه، ولم يعبأوا به. وأخذ ابن غراب يدبر في القبض على الأمير أينال بيه، فلم يتم له ذلك، فلما تمادت الأيام، قرر مع الطائفة التي كانت في الشام من الأمراء، وهم: يشبك، وقطلو بغا الكركي، وسودن الحمزاوي في آخرين، أنه يخرج إليهم السلطان، ويعيدوه إلى الملك، لينفردوا بتدبير الأمور.(3/78)
وذلك أن الأمير بيبرس الأتابك قويت شوكته على يشبك، وصار يتردد إليه، ويأكل على سماطه، فعز عليه، وعلى أصحابه ذلك، فما هو إلا أن أعلمهم ابن غراب بالخبر، وافقوه على ذلك، وواعد بعضهم بعضاً. فلما استحكم أمرهم، برز الناصر نصف ليلة السبت خامس جمادى الآخرة من بيت ابن غراب. ونزل بدار الأمير سودن الحمزاوي، واستدعى الناس، فأتوه من كل جهة. وركب وعليه سلاحه. وابن غراب إلى جانبه، وقصد القلعة، فناوشه من تأخر عنه من الأمراء قليلاً، ثم فروا، فملك السلطان القلعة بأيسر شيء. وذلك أن صوماي رأس نوبة كان قد وكل بباب القلعة، فعندما رأى السلطان فتح له، فطلع منه، وملك القصر، فلم يثبت بيبرس ومن معه، ومروا منهزمين. فبعث السلطان بالأمير سودن الطيار في طلب الأمير بيبرس فأدركه خارج القاهرة، فقاتله وأخذه وأحضره إلى السلطان، فقيده، وبعثه إلى الإسكندرية فسجن بها. واختفي الأمير أينال بيه بن قجماس، والأمير سودن المارديني.
وفي يوم الاثنين سابعه: خلع على الأمير يشبك الشعباني، واستقر أتابك العساكر، عوضاً عن الأمير بيبرس. وعلى الأمير سودن الحمزاوي، واستقر دواداراً، عوضاً عن سودن المارديني، وعلى جركس المصارع، واستقر أمير أخور، عوضاً عن سودن تلى المحمدي.
وفيه قبض على الأمير جرقطلو رأس نوبة، والأمير قنباي أمير أخور، والأمير أقبغا رأس نوبة، وكلهم أمراء عشرات. وقبض على الأمير بردبك رأس نوبة، أحد أمراء الطبلخاناه.
وفيه استقر سعد الدين بن غراب رأس مشورة. وأنعم عليه بإمرة مائة تقدمة ألف. ولبس الكلفته. وتقلد السيف كهيئة الأمراء، وترك زي الكتاب. ونزل إلى داره. فلم يركب بعدها إلى القلعة ومرض.
وفيه كتب تقليد الأمير شيخ المحمودي بكفالة الشام على عادته، وجهز إليه على يد أينال المنقار شاد الشراب خاناة، وكتب تقليد الأمير جكم بنيابة حلب، وجهز على يد سودن الساقي. وكتب للأمير نوروز الحافظي أن يحضر من دمشق إلى القدس بطالاً، وحذر من التأخر. وكتب للأمير دمرداش المحمدي نائب حلب - كان - بالحضور إلى مصر.
وفي عاشره: قبض على سودن تلى أمير أخور، واخرج إلى دمشق على تقدمة سودن اليوسفي.
وفي رابع عشره: توجه سودن الساقي بخلعة الأمير جكم وتقليده بنيابة حلب.
وفي خامس عشره: استقر الأمير سودن من زاده في نيابة غزة، عوضاً عن الأمير سلامش. واستقر فخر الدين ماجد بن المزوق - ناظر الجيش - في كتابة السر، عوضاً عن سعد الدين بن غراب، بحكم انتقاله إلى الإمرة.
واستقر الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله في نظر الجيش. واستقر شرف الدين يعقوب بن التباني في وكالة بيت المال ونظر الكسوة، عوضاً عن ولي الدين محمد ابن أحمد بن محمد الدمياطي، مؤدب الأمير بيبرس وموقعه.
وفي حادي عشرينه: استقر الأمير يشبك في نظر المارسنان المنصوري بين القصرين، ونزل إليه وعليه التشريف السلطاني، على العادة.
وفيه استقر الأمير تمراز الناصري نائب السلطة، وقد شغرت من أثناء الأيام الظاهرية.
وفيه استقر الأمير أقباي رأس نوبة الأمراء، والأمير سودن الطيار أمير مجلس في وظيفة أمير سلاح، عوضاً عن الأمير أقباي. واستقر يلبغا الناصري أمير مجلس، عوضاً عن الطيار.
وفي سادس عشرينه: استقر شرف الدين محمد بن علي الجيزي - أحد باعة السكر - في حسبة مصر، عوضاً عن شمس الدين محمد بن محمد بن المنهاجي، بمال قام به، فكان هذا من أشنع القبائح وأقبح الشناعات.
وفي ثامن عشرينه: استقر شمس الدين محمد بن علي بن المعلمة الإسكندراني في حسبة القاهرة، وعزل كريم الدين الهوى. واستقر بهاء الدين محمد بن البرجي في الوكالة ونظر الكسوة، عوضاً عن ابن التباني.
وفي هذا الشهر: بلغ القنطار السيرج إلى ألف ومائتي درهم. وبلغت الفضة الكاملية كل مائة درهم خمسمائة درهم من الفلوس. وفيه انحل سعر الغلال، ولحوم البقر، لكثرة موتها.
الش فإن الأمير سارا من طرابلس، يريدان نائب طرابلس وهي على قص، ففر منها، ونزلا بوطاقه، وقدم في ثالثه الطرابلسي شاهين الحسني إلى دمشق، ومعه رسول الأمير شيخ إلى السلطان يسأله النيابة في دمشق، فأنكر على ابن الحسباني وغيره ممن ولي من قبل شيخ بغير موسوم السلطان، وأخبرا أنه قدم لأخذ شيخ وجكم إلى مصر.(3/79)
وفي ثالث عشره: قدم الخبر إلى دمشق بعود السلطان الملك الناصر إلى السلطة، واستقراره بشيخ في نيابة الشام، وجكم في نيابة حلب، فضربت البشائر، ونودي بذلك في دمشق. ودعي للسلطان الملك الناصر في يوم الجمعة ثامن عشره.
وفي ثالث عشرينه: قدم الأمير أينال المنقار إلى دمشق، بخلعة الأمير شيخ لنيابة الشام. ووصل معه الأمير سودن المحمدي. فتوجه المنقار إلى الأمير شيخ، فكتب بقبض سودن المحمدي، فأخذ في ليلة الأحد سابع عشرينه وقيد.
وفيه دخل الأمير شيخ حماة، وذلك أنه سار من حمص يوم الثلاثاء ثاني عشرينه، وقدم حماة يوم السبت وحصرها، وقاتل من بها. وكان نوروز وعلان قد مضيا إلى حلب، فإن الأمير دمرادش كان فارقهما، ومضى إليها ليأتهم بالتركمان، فلما وصلها ملكها. فلما وصل نوروز حلب مر منها دمرداش، واستقر بها دقماق، فامتنع وقاتل، حتى أخذ وقتل بين يدي الأمير جكم، ونهبت حلب.
شهر رجب، أوله الخميس: في رابعه: أعيد ابن التباني إلى الوكالة والكسوة، وصرف ابن البرجي.
وفي ثامن عشره: قبض على الأمير أزبك الرمضاني، وسفر إلى الإسكندرية فسجن بها.
وفي سابع عشرينه: مات الخليفة أبو عبد الله محمد المتوكل على الله.
وأما الشام فإن الأمير شيخ والأمير جكم سارا بعسكريهما من حماة يريدان حلب، وبها الأمير نوروز. فلما وصلا إلى المعرة، كتب إليهما نوروز، يعتذر بأنه لم يعلم بولاية الأمير جكم حلب. وخرج بمن معه منها إلى البيرة، فدخل الجماعة إلى حلب بغير قتال، واستقر جكم بها، وعاد الأمير شيخ.
وكتب باستقرار الأمير جكم في نيابة طرابلس مضافاً إلى نيابة حلب بمثال سلطاني على يد مغل بيه، من غير كتابة تقليد. وكتب إلى الأمير نوروز الحافظي بالحضور إلى القدس بطالا، وإلى الأمير بكتمر شلق بأن يكون أميراً كبيراً مقدم ألف بدمشق.
فلما كان يوم الاثنين عشرينه: دخل الأمير شيخ إلى دمشق بالخلعة السلطانية ونزل بدار السعادة، وقرئ تقليده. فكتب بالإفراج عن الأمير سودن الظريف، ودمرادش حاجب دمشق، وتنكز بغا نائب بعلبك، فقدموا من الصبيبة في رابع عشرينه. وكان سماط الخليل عليه السلام قد بطل، فحمل إليه من دمشق مائة غرارة ما بين قمح وشعر، لتعمل جشيشة وتخبز خبزا.
وأما الأمير جكم فإنه لما استقر بحلب، ما زال يكاتب الأمير نوروز وعلان حتى قدما بمن معهما حلب، وانضما إليه. ثم كتب إلى الأمير شيخ بذلك، فقبض حينئذ على الطواشي شاهين وسجنه بقلعة دمشق.
شهر شعبان أوله الجمعة.
في يوم الاثنين رابعه: استدعى أبو الفضل العباس بن محمد المتوكل على الله وقرر في الخلافة، عوضاً عن أبيه. ولبس التشريف بحضرة السلطان ولقب بالمستعين بالله، ونزل إلى داره. وكتب باستقرار الأمير طولو من علي باشاه في نيابة صفد عوضاً عن الأمير بكتمر الركني. وجهز تقليده وتشريفه على يد الأمير آق بردى رأس نوبة.
وكتب باستقرار الأمير دمرداش المحمدي في نيابة حماة. وكان منذ فارق نوروز على حماة، وسار إلى حلب، وأخذها. فلما أدركه نوروز، هرب دمرداش ونزل عند التركمان.
وفي ثامن عشره: خلع بدمشق على الشهاب الحسباني بقضاء دمشق، وقد كتب فيه الأمير شيخ إلى السلطان، فبعث إليه بالخلعة والتوقيع، وكان قبل ذلك يباشر القضاء بغير ولاية.
وفي تاسع عشره: قدم دمشق الأمير علان نائب حلب - كان - يريد القاهرة، فأكرمه الأمير شيخ وأنزله.
وفي سابع عشرينه: قدم إلى دمشق الأمير ألطنبغا العثماني، وقد ولاه السلطان حاجب الحجاب بدمشق، فلبس تشريفة، وباشر من الغد.
شهر رمضان، أوله الأحد: في رابع عشره: أعيد ابن شعبان إلى الحسبة، وعزل ابن المعلمة.
وفي سادس عشره: أعيد ابن خلدون إلى قضاء القضاة المالكية، وعزل البساطي، واستقر في الحسبة ابن المعلمة، وعزل ابن شعبان بعد يومين.
وفي تاسع عشره: مات سعد الدين إبراهيم بن غراب.
وفي ثالث عشرينه: مسك أينال الأشقر، وسفر إلى الإسكندرية.
وفي رابع عشرينه: أعيد الهوى إلى الحسبة، وعزل ابن المعلمة.
وفي خامس عشرينه: أعيد ابن التنسي إلى قضاء المالكلية، بعد موت ابن خلدون. وفيه قبض إلى الأمير سودن المارديني من بيته، مقيد وحمل إلى الإسكندرية.(3/80)
وفي سادس عشرينه: كتب أمان لكل من الأمير جمق، والأمير أسن باي، والأمير برسبان، والأمير أرغز، والأمير سودن اليوسفي، وجهز إليهم بالشام.
وكان من خبر البلاد الشامية في هذا الشهر أن التركمان اجتمعوا على ابن صاحب الباز، وقصدوا حماة، فدافعهم أهلها أشد المدافعة عن دخولها، فأفسدوا في الضواحي فساداً كبيراً.
وقدم في يوم الاثنين ثانيه: تشريف سلطاني للأمير شيخ نائب الشام، فلبسه، وأعاد صدر الدين علي ابن الآدمي إلى كتابة السر بدمشق. عوضاً عن السيد الشريف علاء الدين، بتوقيع وصل إليه من السلطان.
ونودي بدمشق في العسكر بالتأهب للسفر، فقدم في ثامنه الأمير بكتمر شلق إلى دمشق، وقد عزل عن نيابة صفد بالأمير طولو، واستقر على إقطاع الأمير أسن بيه، بحكم أنه أقام بطرابلس، نيابة عن الأمير جكم بها، فلبس بكتمر تشريفة. واستقر أتابك دمشق، وسار طولو من دمشق إلى صفد، فتسلمها.
وفي ثالث عشره: قبض الأمير شيخ على سودن الظريف، وأعيد إلى السجن لكلام نقل عنه.
وكانت الأسعار قد غلت بدمشق، ففرق الأمير شيخ الفقراء على الأغنياء وجعل لنفسه منهم نصيباً وافراً، فاجتمعوا في بعض الليالي لأخذ الطعام فمات منهم أربعة عشر إنساناً.
وقدم الأمير دمرداش إلى دمشق في يوم السبت ثاني عشرينه، وقد وصل إليه تقليده بنيابة حماة، وهو مشتت عند التركمان. فتوصل حتى دخل حماة. فيوم دخلها وصل إليها ابن صاحب الباز بجمائع التركمان، فلم تكن فيه قوة يلقاهم بها، فإن عسكر حماة سار إلى الأمير حكم بحلب، فخرج من حماة فاراً إلى حمص، وكتب إلى الأمير شيخ يستأذنه في القدوم عليه، فأذن له. ولما قدم أكرمه وأنزله.
وفي هذا الشهر: فرض الأمير شيخ على أهل دمشق أجرة مساكنهم لشهر يحملونها إليه، إعانة له على قتال التركمان، فإنهم أكثروا الفساد في بلاد حماة وطرابلس. وفيه كتب السلطان بطلب الأمير نوروز من حلب، وقدومه إلى القاهرة.
شهر شوال أوله الاثنين.
في يوم الثلاثاء سادس عشره: استقر البساطي في قضاء المالكية، وعزل ابن التنسي. واستقر قاضي القضاة كمال الدين عمر بن العديم الحنفي في مشخة خانكاه شيخو، وعزل الشيخ زادة الخرزياني.
وفي عشرينه: أعيد ابن شعبان إلى الحسبة، وعزل الهوى.
وأما البلاد الشامية فإن الأمير جكم نائب حلب خرج ومعه الأمير نوروز وغيره، فقاتل التركمان وكسرهم كسرة فظيعة فقدم عليه كتاب السلطان بطلب نوروز وغيره من الأمراء، فأغلظ على الرسول، وامتنع من ذلك، وكان قد بعث إلى الأمير شيخ يطلبه ليحارب التركمان، فتباطأ عنه، وبلغه مع ذلك أنه قد أكرم الأمير دمرداش. فشق ذلك عليه وتنكر على الأمير شيخ وكتب يأمره بإمساك دمرداش وفطن دمرداش بذلك، ومر من دمشق في ليلة الاثنين ثالث عشرينه، فبعث الأمير شيخ في طلبه جماعة، ففاتهم ولم يدركوه.
شهر ذي القعدة، أوله الثلاثاء.
في ثالثه: قدم الخبر بأن الأمير جكم لما أخذ حلب سار إلى الأمير فارس بن صاحب الباز التركماني المتغلب على إنطاكية، وقاتله وكسره أقبح كسرة وقتله وأخذ له أموالاً جزيلة فقوى جكم بذلك، فجاءه الخبر بمسير الأمير نعير بن حيار أمير الملا إليه، فلقيه عند قنسرين في نصف شوال، وقاتله، فوقع نعير في قبضته، وسجنه بقلعة حلب. وولي ابنه العجل بن نعير إمرة آل فضل، عوضاً عنه، فسار العجل إلى سلمية وعاد جكم إلى حلب، ثم بدا له في العجل رأي، فاستدعاه فأخذ يعتذر بأعذار، فقبلها، وسار إلى إنطاكية، فأرسل إليه التركمان بالطاعة، وأن يمكنهم من الخروج إلى الجبال لينزلوا من أماكنهم القديمة، وهم آمنون، ويسلمو إليه ما بيدهم من القلاع فأجابهم إلى ذلك، وعاد إلى حلب. ثم سار منها يريد دمشق، منزل شيزر وواقع أولاد صاحب الباز وكسرهم كسرة فاحشة وأسر منهم جماعة، قتلهم صبرا، وقتل الأمير نعير أيضاً، وبعث برأسه إلى السلطان، وذلك كله في شوال، ثم واقع جكم التركمان في ذي القعدة وبدد شملهم.
وفي خامسه: أعيد الهوى إلى الحسبة، وعزل ابن شعبان، وفيه قدم طولو نائب صفد إلى دمشق.
وفي سابعه: قبض على الوزير فخر الدين ماجد بن غراب مشير الدولة، وأحيط بموجوده.
وفي تاسعه: قبض على كثير من التجار ووكل بهم في بيت الأمير جمال الدين الأستادار ليؤخذ منهم مال على قمح وفول بناحية منفلوط من صعيد مصر، حساباً عن كل أردب مائة درهم.(3/81)
وفيه قدم الأمير دمرداش إلى دمشق بعدما وصل إلى الرملة فأتته ولايته بنيابة طرابلس، فبعث الأمير شيخ يستدعيه لينظرا ما بينه وبين الأمير جكم، فأكرمه الأمير شيخ وأنزله.
وفيه قدم الخبر بتغلب الأمير جكم على البلاد الحلبية، وأنه حارب الأمير نعير بن مهنا أمير آل فضل، وكسره، وقبص عليه.
شهر ذي الحجة، أوله الأربعاء: في رابعه: كتب إلى الأمير نوروز بأنه تقدمت الكتابة له بأن يتوجه إلى القدس، وأنه لم يجب عن ذلك، فيتقدم بالحضور إلى مصر.
وفي سابعه: أعيد فتح الدين فتح الله بن معتصم بن نفيس الداودي إلى كتابة السر، بسفارة الأمير جمال الدين الأستادار، وعزل فخر الدين ماجد بن المزوق.
وفي ثاني عشره: رضي السلطان على فخر الدين بن غراب، واستمر مشيراً، وزيراً، ناظر الخاص، على عادته. وخلع عليه بعدما قام بعشرين ألف دينار.
وفي هذا الشهر: انحل سعر القمح، وأبيع بمائة وثلاثين درهماً الأردب، وبيع الرغيف زنة نصف رطل بثلث درهم، وأبيع ثور بمائة مثقال ذهباً، عنها من الفلوس ثلاثة عشر ألف درهم، و لم نسمع بمثل ذلك. وفيه أبيع الرطل اللوز العاقد بأربعة عشر درهماً، يحصل من قلبه أوقيتان وذلك من حساب أربعة وثمانين درهماً الرطل، وهذا أعجب ما يحكي.
وفيه فشى الطاعون بصعيد مصر، حتى خلت عدة بلاد، وأحصي من مات من سيوط ممن له ذكر، فكانوا عشرة آلاف، سوى من لم يفطن له. وهم كثير. وأحصي من مات في بوتيج، فبلغوا ثلاثة آلاف وخمسمائة، وكان الزمان ربيعاً، فلما انقضى فصل الربيع ارتفع الوباء.
وأما الشام، فإن في ثالثه كتب باستقرار الأمير زين الدين عجل بن نعير في إمرة آل فضل، عوضاً عن والده، وكتب بعزل الأمير جكم عن نيابة حلب وطرابلس، وولاية الأمير دمرداش المحمدي في نيابة حلب، والأمير عمر بن الهيدباني في نيابة حماة، والأمير علان اليحياوي: في نيابة طرابلس، وتوجه بتقاليدهم ألطنبغا شقل الأينالي مملوك الأمير شيخ نائب الشام في رابعه.
وفي خامسه: اقتتل الأمير جكم، والأمير شيخ المحمودي نائب الشام، بأرض الرستن - فيما بين حماة وحمص - ، قتل فيها الأمير طولو نائب صفد، والأمير علاق نائب حماة، وجماعة كثيرة من الفريقين، وانهزم الأمير شيخ ومعه الأمير دمرداش المحمدي إلى دمشق. ومضى منها إلى الرملة يريد القاهرة.
وقدم الأمير نوروز إلى دمشق من قبل الأمير جكم في يوم الاثنين سابع عشرين ذي الحجة.
وكان من خبر الأمير شيخ، والأميرين جكم ونوروز، أن الأمير شيخ توجه من دمشق بعد عيد الأضحى، ومعه الأمير دمرداش، فنزل مرج عذراء في عسكره يريد حمص، وقد نزل بها عسكر جكم عليهم الأمير، ونزل جكم على سلمية، فلبس الأمير دمرداش خلعة نيابة حلب الواصلة إليه مع تقليده وهو بالمرج. وقدم إليهم الأمير عجل ابن نعير بعربه طالباً أخذ ثأره من جكم.
ووصل أيضاً ابن صاحب الباز يريد أيضاً أخذ ثأر أخيه من حكم، ومعه جع من التركمان، فسار بهم الأمير شيخ من المرج في ليلة الاثنين ثالث عشره إلى أن نزل قارا ليلة الثلاثاء، فوصل تقليد العجل بن نعير بإمرة العرب.
وقدم الأمير علان نائب حماة وحلب - كان - من مصر، وقد استقر أتابك دمشق. ونزل الأمير شيخ حمص يوم الخميس سادس عشره، فكاتب الفريقان في الصلح فلم يتم، واقتتلا في يوم الخميس ثالث عشرينه بالرستن، فوقف الأمير شيخ والأمراء في الميمنة، ووقف العرب في الميسرة، فحمل جكم بمن معه على جهة الأمير شيخ فكسره، وتحول إلى جهة العرب - وقد صار شيخ إليها وقاتلوا قتالاً كبيراً ثبتوا فيه، فلم يطيقوا جموع جكم وانهزموا، وسار شيخ بمن معه - من دمرداش وغيره - إلى دمشق، فدخلوها يوم السبت خامس عشرينه، وجمعوا الخيول والبغال، وأصحابهم متلاحقيين بها. ثم مضوا من دمشق بكرة الأحد.(3/82)
فقدم في أثناء النهار من أصحاب الأمير جكم الأمير نكبيه، وأزبك، دوادار الأمير نوروز. ونزل أزبك بدار السعادة، وقدم الأمير جرباش، فخرج الناس إلى لقاء نوروز، فدخل دمشق يوم الاثنين سابع عشرينه، ونزل الإسطبل. ودخل الأمير جكم يوم الخميس سلخه، ونادى ألا يشوش أحد على أحد. وكان قد شنق رجلاً في حلب رعى فرسه في زرع، وشنق آخر بسلمية، ثم شنق جندياً بدمشق على ذلك، فخافه الناس، وانكفوا عن التظاهر بالخمر. وقتل في وقعة الرستن الأمير علان نائب حماة وحلب، والأمير طولو نائب صفد، قدما بين يدي الأمير جكم فضرب أعناقهما، وعنق طواشي كان في خدمة الأمير شيخ، كان يؤذي جماعة نوروز المسجونين، ومضى الأمير شيخ إلى جهة الرملة.
وفي ليلة الأربعاء خامس عشره: خسف القمر من آخر الليل.
وفي هذا الشهر: انحل سعر القمح إلى مائة وعشرين درهماً الأردب، ثم ارتفع في آخره لقلة ما يصل منه، وعز وجود الخبز في الأسواق.
ووقف الحاج بعرفة يوم الجمعة، ولم يسر المحمل من دمشق على العادة لكثرة الفتن بالشام، وقدم من الشام حاج قليل نحو خمسمائة، وقدم من العراق نحو ذلك.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
محمد بن موسى بن عيسى الدميري، كمال الدين أبو البقاء الشافعي، توفي ليلة الثلاثاء ثالث جمادى الأولى، عن نحو ست وستين سنة، وكان عالماً صالحاً.
ومات محمد بن حسن شمس الدين السيوطي الشافعي، في يوم الأحد عشرين، جمادى الآخرة، عن سن عالية، وكان صاحب فنون عديدة من نحو وفقه. وأصول، وغيرذلك. وكان يأخذ الأجر على التعليم، وللناس عنه إعراض، وفيه وقيعة.
ومات أبو حاتم محمد بن أبي حامد أحمد بن علي بن عبد الكافي القاضي تقي الدين، حفيد الشيخ بهاء الدين السبكي، في يوم الخميس سادس عشرين جمادى الأولى، ومولده في شعبان سنة أربع وستين وسبعمائة: ناب في الحكم بالقاهرة، ولم يكن بالماهر في الفقه.
ومات أحمد بن محمد بن إسماعيل بن عبد الرحيم بن يوسف بن سمير بن حازم شهاب الدين أبو هاشم بن البرهان العبد الصالح الداعي إلى الله، في يوم الخميس لأربع بقين من جمادى الأولى، وهو الذي قام على الملك الظاهر برقوق، وكان أحد نوادر الدنيا.
ومات علي بن محمد بن عبد النصير بن علي علاء الدين عصفور، السنجاري الأصل، الدمشقي المولد والدار، المالكي، شيخ الكتاب، في يوم الاثنين رابع عشرين شهر رجب، كتب على زين الدين محمد بن الحراني، ناظر أوقاف دمشق.
ومات محمد بن محمد بن محمد بن أسعد بن عبد الكريم بن يوسف بن علي بن طحا القاضي فخر الدين أبو اليمن الثقفي القاياتي، أحد نواب الحكم الشافعية، في ليلة الأربعاء حادي عشرين شهر رجب، وقد تجاوز الثمانين، بمدينة مصر. وكان عريا عن العلم. وكتب بخطه كثيراً.
ومات عبد الرحمن بن علي بن خلف زين الدين أبو المعالي الفارسكوري أحد فضلاء الشافعية وخيريهم، في ليلة الأحد سادس عشرين شهر رجب.
ومات الخليفة أمير المؤمنين المتوكل على الله أبو عبد الله محمد بن المعتضد أبي بكر ابن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان بن الحكم بأمر الله أبي العباس أحمد.
بويع بالخلافة بعهد من أبيه في سابع جمادى الآخرة سنة ثلاث وستين وسبعمائة. وجعله الأمير أينبك البدري بن زكريا بن إبراهيم في ثالث عشرين صفر سنة تسع وسبعين، ثم أعيد في عشرين ربيع الأول، منها. وقبض عليه الظاهر برقوق في أول رجب سنة خمس وثمانين، وقيده وسجنه إلى أول جمادى الأولى سنة إحدى وتسعين، ثم أفرج عنه. واستمر في الخلافة حتى مات ليلة الثلاثاء ثامن عشرين شهر رجب. وعرض عليه الاستقلال بالأمر مرتين فأبى، وأثرى كثيراً.
ومات عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن خلدون أبو زيد ولي الدين، الحضرمي، الأشبيلي، المالكي، في يوم الأربعاء خامس عشرين شهر رمضان فجأة، ولي المالكية عدة مرار.
ومات إبراهيم بن عبد الرازق بن غراب، الأمير القاضي سعد الدين بن علم الدين ابن شمس الدين، في ليلة الخميس تاسع عشر شهر رمضان، ولم يبلغ الثلاثين سنة.
ومات طاهر بن الحسن بن عمر بن الحسن بن عمر بن حبيب زين الدين الحلبي، رئيس كتاب الإنشاء، في يوم الجمعة سابع عشرين ذي الحجة. وقد أناف على الستين، وعين لكتابة السر.(3/83)
ومات عبد الله بن سعد الله بن البقري الوزير الصاحب تاج الدين بن الوزير الصاحب سعد الدين، مات تحت العقوبة ليلة الاثنين ثامن عشرين ذي القعدة.
ومات الأمير قانباي العلاي أحد أمراء الألوف، في ليلة الأحد، حادي عشرين شوال، بعد مرض طويل، وكان كثير الفتن، ويعرف بالغطاس لكثرة اختفائه.
ومات الأمير قينار أحد أمراء الطبلخاناه. مات في خامس عشرين جمادى الأولى.
ومات الأمير بلاط السعدي أحد أمراء الطبلخاناه ماتت بطالا في رابع عشرين جمادى الأولى.
ومات أحمد بن عماد بن يوسف شهاب الدين المعروف بابن العماد الأقفهسي أحد فضلاء الشافعية، وله من المصنفات، أحكام المساجد، وأحكام النكاح سماه كتاب توقيف الحكام في غوامض الأحكام، وكتاب أحوال الهجرة نظمه ثم شرحه.
ومات محمد بن عبد الرحمن بن عبد الخالق بن سنان، شمس الدين البرشنسي، أحد فضلاء الشافعية، توفي عن نحو سبعين سنة.
ومات شاهين السعدي، أحد الخدام السلطانية الأشرفية، عظم في الأيام الناصرية حتى صار لالا السلطان، وولي نظر خانكاة سرياقوس.
ومات محيي الدين محمود بن نجم الدين أحمد بن العماد إسماعيل بن العز - عرف بابن الكشك - الحنفي، بدمشق، في ذي القعدة. ولي قضاء الحنفية بدمشق، وقدم القاهرة.
ومات عبد الرازق بن أبي الفرج الأمير الوزير تاج الدين المعروف بابن أبي الفرج الأرمني، مات في رابع شهر ربيع الآخرة كان أولاً كاتباً، ثم ولي نظر قطيا، ثم صار والي قطيا. وولي الوزارة ثم الأستادارية معاً، ثم ولي بعد ذلك كشف الوجه البحري، ثم ولاية القاهرة وكان أولا يسمى بالمعلم، ثم سمي بالقاضي، ثم نعت بالصاحب، ثم بالأمير، ثم بملك الأمراء كل ذلك في مدة يسيرة من السنين.
ومات تيمورلنك كوركان بن أنس قتلغ، وقيل بل هو تيمور بن سرتخنته بن زنكي بن سبنا بن طارم بن طغرل بن قليج بن سنقرر، بن كنجك بن طوسبوقا بن ألتان خان، ومعني لنك الأعرج، ومعني كوركان صهر الملك. توفي تيمور بآهنكران من شرقي سمرقند، في ثالث عشر شعبان، وملك عامة بلاد العراق، وخراسان. وسمرقند، والهند، وديار بكر، وبلاد الروم، وحلب، ودمشق، وخرب مدن العالم، وحرقها، وهدم بغداد، وأزال نعم الناس، وكان قاطع طريق. أول ظهوره سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة.
سنة تسع وثمانمائة
استهلت والخليفة المستعين بالله أبو الفضل العباس بن محمد المتوكل على الله والسلطان الملك الناصر فرج بن الظاهر برقوق، ودمشق بيد الأمير نوروز، من قبل الأمير جكم، وحلب وحماة وطرابلس بيد الأمير جكم، وهو خارج عن طاعة السلطان. ونائبه بديار مصر الأمير تمراز، وبدمشق الأمير شيخ، وقد توجه بعد الكسرة على حمص إلى جهة الرملة.
شهر الله المحرم، أوله الجمعة، ويوافقه رابع عشرين بؤونة: والمثقال الذهب بمائة درهم وخمسة وثلاثين درهماً بالفلوس، وكل دينار أفرنتي بمائة وخمسة عشر درهماً، والقمح بمائة وثلاثين درهماً الأردب، والشعير والفول بنحو مائة درهم، والفلوس كل رطل بستة دراهم، والفضة لا تظهر بين الناس، وإذا ظهرت تباع كل درهم كاملي بخمسة دراهم من الفلوس - زنة عشر أواقي - وبهذا فسدت أحوال أرباب الجوامك من الفقهاء وأمثالهم، الذين رزقهم على الأوقاف، والمرتبات السلطانية، فصاروا يأخذون معاليمهم عن كل درهم فضة أوقيتين فلوسا، وتسمي درهماً، وارتفعت أسعار جميع المبيعات حتى بلغت أضعاف قيمتها المعتادة بالفضة، فصار من معلومه مثلاً مائة درهم في الشهر - وكان قبل هذه الحوادث والمحن يأخذها فضة، عنها خمسة مثاقيل ذهباً - فإنه الآن يأخذ عن المائة سبعة عشر رطلاً، وثلثي رطل من الفلوس، يقال لها مائة درهم، ولا تبلغ ديناراً واحداً، فيشتري بهذه المائة ما كان قبل هذا يشتريه بأقل من عشرين بكثير، فإن كل سلعة كانت تباع بدينار لا تباع الآن إلا بدينار وبأكثر من دينار.(3/84)
وأما الأجراء وأصحاب الصنائع فإن أجرهم تزايدت، فكل من كانت أجرته درهماً لا يأخذ الآن إلا خمسة فما فوقها. وكذلك التجار ضاعفوا ربحهم في بضائعهم، وأما أرباب الإقطاعات فإنهم جعلوا كل فدان بستة أمثال ما كان، فلم يختل من حالهم شيء، إلا أنه صار بهذا الاعتبار لا يرجى الرخاء بمصر، فإن الغلة تقوم على صاحبها بقيمة زائدة من أجل غلاء أجرة الطين، وثمن البذر، وأجرة الحصادين ونحوهم، وكل ذلك من سوء نظر ولاة الأمور. وقد كتبت في هذا مصنفاً اسمه إغاثة الأمة بكشف الغمة، وقد اعتذر لي بعضهم عن إفساد أهل الدولة الدرهم، فإنه حملهم على ذلك كثرة ما عليهم من جوامك المماليك، وذلك أن نفقة المماليك السلطانية تبلغ في كل شهر إلى ألف ألف ومائتي ألف درهم، سوى ما لهم من لحم وعليق خيولهم وكسوتهم. وحامكية المملوك منهم من أربعمائة إلى خمسمائة، وكانت أولا المائة درهم عنها خمسة مثاقيل ذهباً، فجعل المباشرون المثقال بهذا السعر، لعلمهم أن الأمتعة لا تنزل عن سعرها من الذهب والفضة، وأنهم لا ينفقون للمماليك إلا الفلوس، وقطعوا ضرب الفضة، وأكثروا من ضرب الفلوس، فرخصت الفلوس، وبذل الكثير منها في الذهب لقلة الفضة، وكثرة احتياج المسافرين إلى حمل النقود حتى بلغ الدينار إلى هذا القدر، فصار الدرهم بعد أن كان قيراطاً وبعض قيراط من الدينار، لا يساوي كل خمسة منه أو ستة قيراطا.
واستمرت نفقة المماليك على ذلك وهم لا يشعرون بحقيقة الحال، فعم الفساد، وخص الفقهاء ونحوهم من ذلك أعظم البلوى. ومؤسس هذا الفساد بديار مصر رجلان هما: سعد الدين إبراهيم بن غراب، وجمال الدين يوسف الأستادار، وذلك أن ابن غراب منذ ولي نظر الخاص في آخر الأيام الظاهرية لم يزل لكثرة ما ظفر به من الذهب يزيد في سعره حتى بلغ هذا القدر، وهو آخذ في الزيادة أيضاً على هذا القدر. وأما جمال الدين فإنه منذ كان يلي أستادارية الأمير بجاس في أجرة الراضي: ثم لما مات الظاهر ولي في الأيام الناصرية أستادارية جماعة كثيرة من الأمراء الأكابر، فجرى على عادته، وزاد في أجر الأراضي حتى عمل ذلك كل أحد، وصار باعتبار غلاء سعر الذهب كل شيء يباع فإنه بأضعاف ثمنه، وباعتبار غلاء الأطيان لا يرجى الرخاء، وهذان الفسادان سبب عظيم في خراب إقليم مصر، وزوال نعم أهله سريعاً، إلا أن يشاء ربي شيئاً.
وفي أوله: كتب باستقرار الأمير خير بك في نيابة غزة.
وفي يوم الأحد ثالثه: استقر شمس الدين محمد بن عبد الخالق المناوي - المعروف بالطويل وبالبدنة - في حسبة القاهرة، وصرف الهوى.
وفي رابعه: نودي على النيل.
وفي حادي عشرينه: قدم الركب الأول من الحاج إلى القاهرة، وقدم المحمل ببقية الحاج من الغد.
وفي خامس عشرينه: نودي في المماليك السلطانية بالعرض لأخذ نفقة السفر.
وفي ثامن عشرينه ابتدأ السلطان في نفقة المماليك يفرقها عليهم، فأنفق لكل واحد أربعين مثقالاً، فبلغت النفقة على ثلاثة آلاف.
ونودي في يومه بأن سعر كل مثقال بمائة وخمسين بعد مائة وثلاثين فكثر الضرر بذلك.
وأما الشام فإن في خامسه قدم الخبر بانهزام الأمير شيخ نائب الشام من حكم إلى غزة، فاهتم السلطان للسفر.
وفي حادي عشره: توجه الأمير سودن من زادة إلى الأمير شيخ باستمراره في نيابة الشام على عادته، وصحبته سلاح كثير أنعم به عليه، وتشرف ليلبسه مع عدة ثياب. وفيه خرج المطبخ إلى ملاقاة الأمير شيخ.
وفيه أنكر على الأمير كزل العجمي أمير الحاج ما فعله، فإنه أخذ من الحجاج عن كل حمل ديناراً، وباعهم الماء الذي يريدوه، فصودر، وأخذ منه قريب المائتي ألف درهم، ففر في سلخه، فأخذ له حاصل فيه قماش وغيره، وأخرج إقطاعه.
وأما الشام فإن الأميرين جكم ونوروز وجها فيرابعه الرسل إلى السلطان بصورة ما جرى، وخرج الأمير جكم من دمشق هو والأمير نوروز في حادي عشره، متوجه جكم إلى جهة حلب، وتوجه نوروز في طلب شيخ فلم يدركه وفر سودن المحمدي من عند الأمير شيخ - وكان مقيداً - ولحق بالأمير نوروز.
وفي آخره: أثبت قضاة حماة أن طائرات سمع وهو يقول: اللهم انصر حكم.
شهر صفر، أوله السبت: أهل والأسعار غالية، وبلغ لحم البقر إلى سبعة دراهم الرطل، ولحم الضأن إلى تسعة، والأسواق متعطلة، والناس في خوف ووجل من كثرة الظلم.(3/85)
وفيه خرج الأمير يشبك وغيره من الأمراء إلى ملاقاة الأمير شيخ.
وفي ثالثه: قدم الأمير شيخ ومعه الأمير دمرداش نائب حلب، والأمير خير بك نائب غزة، والأمير ألطنبغا العثماني حاجب الحجاب بدمشق، والأمير يونس الحافظي نائب حماة - كان - والأمير سودن الظريف، والأمير تنكز بغا الحططي وغيرهم، فصعدوا القلعة وأكرموا غاية الإكرام، وذلك أن عسكر الأمير جكم سار من دمشق وأخذ صفد والصبيبة والكرك وغزة.
وفي سادسه: خلع على الأمير شيخ واستقر في نيابة الشام على عادته، وعلى الأمير دمرادش بنيابة حلب على عادته.
وفي سابعه: استقر تاج الدين عبد الوهاب بن نصر الله في نظر الأحباس، عوضاً عن ناصر الدين محمد الطناحي.
وفي حادي عشرينه: حمل السلطان أخاه الملك المنصور عبد العزيز، وأخاه إبراهيم إلى إسكندرية، مع الأمير قطلوبغا الكركي، والأمير أينال حطب العلاي ليقيموا بها، وخرج مع أخويه أمهاتهما وخدمهما، وأجرى لهما في كل يوم خمسة آلاف درهم، ولكل من الأمير ألف درهم في اليوم.
شهر ربيع الأول، أوله الاثنين: فيه برز الأمير شيخ نائب الشام، والأمير دمرداش نائب حلب، ومعهما جماعة من عسكر دمشق وحلب، ونزلا خارج القاهرة بالريدانية، ولحق بهما الأمير سودن الحمزاوي الدوادار، والأمير سودن الطيار أمير سلاح.
وفيه أعيد الهوى إلى الحسبة، وعزل شمس الدين الطويل، ورحل الأمير شيخ، والأمير دمرداش بالشاميين.
وفي رابعه: ضربت خيمة السلطان بالريدانية، فرحل الحمزاوي والطيار.
وفي ثامنه: سار السلطان من قلعة الجبل ونزل مخيمه بالريدانية.
وفي حادي عشره: أعيد الطويل إلى الحسبة، وعزل الهوى.
وفي ثاني عشره: رحل السلطان من الريدانية يريد الشام، وجعل الأمير تمراز الناصري نائب الغيبة، فلم يحمد رحيله في يوم الجمعة، فقد نقل عن الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - أنه قال: ما سافر أحد يوم الجمعة إلا رأى ما يكره.
وفي رابع عشرينه: نزل السلطان غزة، ورحل منها في سابع عشرينه.
وأما الشام فإن الأمير نوروز جهز في أوله عسكراً من دمشق، عليهم الأمير سودن المحمدي، وأزبك الدوادار، فساروا إلى جهة الرملة.
وفي حادي عشره: خرج الأمير بكتمر شلق من دمشق لجمع العشران، فقدم في ثالث عشره الأمير أينال بيه بن قجماس، والأمير يشبك بن أزدمر، وكانا مختفيين بالقاهرة، من حين عاد الملك الناصر إلى الملك بعد أخيه المنصور عبد العزيز، ووصل معهما الأمير سودن المحمدي لضعف حصل له، فأكرمهما الأمير نوروز، وأنعم عليهما. وعقيب ذلك عاد العسكر المتوجه مع سودن المحمدي إلى الرملة، لوصول الأمير خير بك نائب غزة إليها - هو والأمير ألطنبغا العثماني - وأخبروا باستقرار الأمير شيخ في نيابة الشام، وأن السلطان قد خرج من القاهرة، فاضطرب نوروز، وخرج من دمشق في يوم الثلاثاء سابع عشره، فبلغه وصول الأمير ألطنبغا العثماني إلى صفد، وقد ولي نيابتها، ومعه شاهين دوادار الأمير شيخ. ففر منه بكتمر شلق، وقدم على نوروز، فعاد حينئذ من جسر يعقوب، وقد عزم على الفرار خوفاً من السلطان، ولحق به من كان بدمشق من أصحابه. وسار من دير زيتون في سادس عشرينه على بعلبك إلى حمص، فدخل شاهين - دوادار شيخ - من الغد يوم الجمعة سابع عشرينه إلى دمشق، ثم قدم الأمير شيخ في يوم الاثنين آخره، ومعه دمرداش نائب حلب، وألطنبغا العثماني نائب صفد، والأمير زين الدين عمر بن الهذباني أتابك دمشق، فلم يجد من يمانعه.
شهر ربيع الآخر، أوله الثلاثاء: في ليلة الاثنين سابعه: مات الملك المنصور عبد العزيز بن الظاهر برقوق بالإسكندرية. بعد مرضه مدة إحدى وعشرين ليلة. ومات بعقب موته من ليلته أخوه إبراهيم، ودفنا من الغد، فكانت جنازتهما جمعها كبير، ولهج الناس بأنهما ماتا مسمومين.
وفي هذا اليوم: دخل السلطان إلى دمشق في تجمل عظيم، ونزل بدار السعادة إلى أن توجه يريد حلب في سابع عشره، فدخلها في سادس عشرينه، وقد رحل الأمير جكم عنها، وعدى الفرات ومعه الأمير نوروز، والأمير تمربغا المشطوب، وجماعة، منزل السلطان بالقلعة، وبعث الأمراء في طلب جكم.(3/86)
وفي ثامن عشرينه: قدمت رمة الملك المنصور عبد العزيز وأخيه إبراهيم من الإسكندرية على ظهر النيل إلى ساحل القاهرة، وحملا إلى تحت القلعة، وأمهاتهما وجواريهن مسلبات، فصلى عليهما، ودفنا عند أبيهما تحت الجبل بتربته التي أوصى بعمارتها.
شهر جمادى الآخرة، أوله السبت: فيه خرج السلطان من حلب عائداً إلى دمشق، وولي بحلب الأمير جركس المصارع. وولي الأمير سودن بقجة نيابة طرابلس. وأقر الأمير شيخ على نيابة الشام، وجد في مسيره حتى قدم دمشق في خمسة أيام، وترك الخام وراءه.
فثارت طائفة من المماليك ومعهم عامة حلب على جركس المصارع، وقدم الأمير نوروز بعسكره ففر جركس يريد دمشق، ونوروز في أثره، فعثر بخام السلطان فقطعه، ووقع النهب فيه. وخلص الأمير جركس إلى السلطان، ودخل معه دمشق في ثامنه، فنزل السلطان دار السعادة، ونادى بالإقامة في دمشق شهرين. وكان الأمير يشبك قد دخل بالأمس وهو مريض، ومعه الأمير دمرداش، والأمير باش باي رأس نوبة.
وهي خامس عشره: أعيد شمس الدين الأخناي إلى قضاء دمشق، وعزل ابن حجي. وقدم الخبر بنزول الأمير نوروز حماة ثم حمص ووصول جكم إلى حلب، فسار السلطان من دمشق يوم الأحد سادس عشره بعدما تقدم إلى العسكر بأن من كان فرسه عاجزاً فليذهب إلى القاهرة، وألا يتبعه إلا من كان قوياً، فتسارع أكثر العساكر إلى العود إلى القاهرة. ولم يتبع السلطان منهم كثير أحد فانتهى في مسيره إلى قريب منزلة قارة، ثم عاد مجداً، فدخل دمشق يوم الخميس عشرينه. وقد فرق شمله، وتأخر جماعة من الأمراء مع شيخ نائب الشام، فخرج الأمير يشبك في ثاني عشرينه، وخرج شبح ودمرداش وألطنبغا العثماني في عدة أمراء يوم الأحد ثالث عشرينه إلى صفد. وسار السلطان ويشبك يريد مصر، فدخل إلى القدس، وقد تخلف الأمير سودن الحمزاوي بدمشق ومعه عدة من الأمراء مغاضبين للسلطان. ثم توجه الحمزاوي من دمشق يريد صفد، وأخذ كثيراً من الأثقال السلطانية، واستولى على صفد.
وفي يوم الأحد رابع جمادى الأولى: أعاد نائب الغيبة ابن شعبان إلى الحسبة وعزل الطويل.
وأما الشام فإن الأمير سودن الحمزاوي الدوادار دخل بالجاليش السلطاني إلى دمشق في يوم الخميس ثالث شهر ربيع الآخر، ودخل الأمير بيغوت في رابعه، وقدم السلطان في يوم الاثنين سابعه والأمير شيخ نائب الشام قد حمل الجتر على رأسه، وبين يديه الخليفة والقضاة والأمير يشبك وبقية العساكر، فنزل السلطان بدار السعادة.
وفي ليلة الثلاثاء ثامنه: بعث الوزير في طلب علاء الدين علي بن أبي البقاء قاضي دمشق، ففر من الأعوان بعدما قبضوا عليه.
وفي يوم الثلاثاء: هذا خلع على الأمير سودن بقجة بنيابة طرابلس، وسار إليها.
وفي يوم الجمعة حادي عشره: صلى السلطان الجمعة بجامع بني أمية وحطب به، وصلى الشهاب أحمد بن الحساباني. وفي هذه الأيام ركب المماليك السلطانية تحت قلعة دمشق، وطلبوا النفقة، وتكلموا كثيراً بما لا يليق، وفي ثامن عشره: توجه الأمير شيخ نائب الشام والأمير دمرداش نائب حلب من دمشق يريدان حلب، وضرب خام السلطان ببرزة، وخرج السلطان من الغد، فنزل ببرزة.
وفي خامس عشره: أعيد الشريف علاء الدين علي بن عدنان إلى كتابة السر بدمشق، وكانت بيد ابن الآدمي، فلما قدم الأمير نوروز اختفى منه مباشرها تقي الدين القرشي موقع نوروز، حتى حوج من البلد.
وفي تاسع عشره: ولي نجم الدين عمر بن حجي قضاء دمشق. وعزل الشهاب الحساني.
وفي حادي عشرينه: قدم قاضي القضاة شمس الدين محمد الأخناي من القاهرة إلى دمشق، وكاد قد ولي بعد صرفه من قضاء ديار مصر خطابة القدس.
وفي خامس عشرينه: وصل إلى دمشق الأمير جمال الدين الأستادار، وكان قد تأخر بعد السلطان بالقاهرة.
وفي آخره: قبض على قضاة حماة، ووضعوا في الحديد، وألزموا بمال، كونهم أثبتوا محضر الطائر بالدعاء لجكم.
وأهل جمادى الأول: والناس في دمشق وأعمالها في ضرر كبير لما نزل من جباية الشعير للسلطان.
وفي تاسع عشره: طلب السلطان قضاة طرابلس فقدموا عليه بحلب، وأخذ منهم مالاً. وأعادهم إلى حالهم. وأخذ من قضاة حلب مالاً وأقرهم.(3/87)
وفي خامس عشرينه: ولي صدر الدين علي بن الأدمي قضاء الحنفية بدمشق بمال كبير. وقدم الأمير يشبك من حلب إلى دمشق في سابع جمادى الآخرة، ثم قدم السلطان في ثامنه، وخلع في عاشره على شيخ خلعة الاستمرار في نيابة الشام، وعلى سودن الحمزاوي خلعة الاستمرار. ونودي بالإقامة في دمشق فقدم الخبر في سادس عشره بوصول نوروز إلى حمص، فنودي بالرحيل، فتقدم الأمير شيخ. ثم سار السلطان في آخره. وتوجه كثير من العسكر إلى جهة القاهرة، فوصل السلطان إلى قارا وعاد إلى دمشق يوم الخميس عشرينه، مخرج الأمير يشبك في يوم السبت وهو مريض يريد القاهرة.
وخرج شيخ ودمرداش وألطنبغا العثماني في يوم الأحد ثالث عشرينه إلى جهة صفد، ومعهم جماعة من الأمراء ندبهم السلطان إليها. وخرج السلطان ليتبعهم، فنزل الكسوة يريد مصر، ورحل، فثار بدمشق في يوم الاثنين رابع عشرينه جماعة نوروز الذين كانوا مختفين، ونادوا بالأمان، ودقوا البشائر. ثم قدم في سابع عشرينه عدة أمراء، منهم سودون الحلب وجمق وأزبك دوادار نوروز إلى دمشق. وقدم من الغد أينال بيه بن قجماس، ويشبك بن أزدمر، ويشبك الساقي في عدة من النوروزية.
شهر وجب، أوله الأحد: فيه قدم الأمير نوروز دمشق، في موكب جليل.
وفي ثانيه: وصلت طائفة من عسكر السلطان إلى القاهرة، وتتابع دخولهم.
وفي تاسعه: قدم الأمير جمال الدين الأستادار.
وفي سادسه: أعيد الطويل إلى الحسبة، وعزل ابن شعبان. وفيهقدم حريم السلطان من الشام، وقدم عدة من المماليك السلطانية وغيرهم.
وفي حادي عشره: قدم السلطان إلى قلعة الجبل، ولم ينل غرضاً، وقد تلف له مال كثير جداً، ونقصت عساكره، فزينت القاهرة لقدومه.
وفي ثامن عشره: قدم الأمير دمرداش نائب حلب، والأمير سودن من زاده نائب غزة، وقد ثار بها الأمير خير بك.
وفي ثاني عشرينه: استقر زين الدين حاجي التركماني في حسبة القاهرة، وعزل الطويل، ثم أعيد في سابع عشرينه.
وكان الأمير سودن الحمزاوي قد أخذ صفد وقلعتها، واستمر هو والأمير شيخ، ودمرداش. ففر عنهم دمرداش، وأخذ الحمزاوي يسعى في صلح شيخ مع نوروز حتى أجاب نوروز إليه. وكتب في ذلك إلى جكم، فخرج الحمزاوي يوماً من صفد ليسير في برها، فسار شيخ، وأخذ في عيبته القلعة، فنجا الحمزاوي بنفسه وبعض أصحابه، وقدم دمشق في ثاني عشره، فأخذ شيخ جميع ما كان له بصفد، وقبض على جماعته. ونزل دمرداش بغزة، فأخذ نوروز في عمارة قلعة دمشق، ووقف عليها بنفسه ومعه الأمراء والقضاة، وفرض الأموال على الأراضي، فجبي مالاً كبيراً، وأخرج الأوقاف إقطاعات لإصحابه، وأقطع الأملاك أيضاً.
شهر شعبان، أوله الثلاثاء: في رابعه: قبض على الوزير المشير فخر الدين بن غراب، وسلم إلى الأمير جمال الدين الأستادار ليعاقبه.
وفي سابعه: استقر الأمير جمال الدين في وظيفتي الوزارة ونظر الخاص، مضافاً لما بيده. وكان بن غراب قد قطع في شهر رجب اللحم المرتب على الدولة للمماليك السلطانية والأمراء وأهل الدولة، وصرف لأربابه عن كل رطل لحم درهماً، وسعره يومئذ ثمانية دراهم الرطل، فخفت كلفة الدولة، وصار الوزراء في راحة. وذلك أن اللحم كان ثمنه في كل يوم زيادة على خمسين ألف درهم، فنزل بالناس من أجلها أنواع من البلاء، ويمر بالوزير من القباض - إذا تأخرت - إهانة لا توصف، ويحتاج في هذا إلى مصادرات الناس وأخذ الأموال بأنواع الظلم، ولذلك كان الوزراء يعجزون عن سد الوزارة، فمنهم من يختفي، ومنهم من يستعفي، ومنهم من ينكب. وكان ثمن هذا اللحم يقال له النقدة، والذين يقضونه من الوزير يقال لهم المعاملون، ولهم سلاطة، فإذا أحيلوا على أحد استخصوا منه بأيديهم، فإن تعاسر عليهم نهبوا داره أو حانوته. وإذا لم يجد الوزير سبيلاً إلى إعطائهم تلك الليلة ثمن اللحم ولا أحالهم على أحد، أسمعوه ما يكره، ومدوا أيديهم إلى ما يجدوه تحته من فراش أو عنده من شيء، وأخذوه، فزال عن الناس عامة، وعن الوزراء خاصة بترك صرف لحم الراتب وتعويض أربابه عنه مالاً، بلاء عظيم.(3/88)
وصار الوزير بعدما كان يحتاج إلى النقدة في كل ليلة، ولا يقدر أن ينام حتى يدفعها إلى المعاملين، أو يوزعها على من يحيلهم عليهم قد أمن، فإنه لا يصرف ممن ذلك لأربابه إلا من الشهر إلى الشهر. ومع هذا فيعطى في الدرهم سدسه أو سبعه، واستمر الأمر على هذا.
وفي خامس عشره: نودي على المثقال الذهب بمائة وعشرين درهماً، وعلى الدينار الإفرنتي بمائة درهم، بعد مائة وخمسة وثلاثين، فتوقفت الأحوال.
وفيه انحل سعر القمح فنزل إلى ستين درهماً الأردب، ونزل الشعير إلى خمسة وثلاثين، والفول إلى خمسة وعشرين الأردب. ونودي أن يكون الخبز ثلاثة أرغفة بدرهم، زنة الرغيف عشر أواقي، فقل وجوده في الأسواق، ثم نودي أن كل أربعة أرغفة بدرهم زنة تسع أواقي كل رغيف، فبيع كذلك، وتعذر وجوده غالباً.
وفي ثامن عشره: قبض بغزة على الأمير خير بك. وحمل مقيداً إلى القاهرة وقدم في ثاني عشرينه.
وأما الشام فإن المصادرات كثرت بدمشق، وصار أهلها في شدة من كثرة ما جبي منهم لعمارة القلعة، وأخرجت أوقافهم وأملاكهم إقطاعات للنوروزية. وأخذت أموال كثير من التجار.
وفي رابع عشرينه: ولي الأمير نوروز نيابة غزة للأمير أينال بيه بن قجماس وولي أسن بيه كاشف الرملة، وأخرجهما ومعهما يشبك بن أزدمر، وسودن الحمزاوي، فساروا إلى جهة غزة. وبعث سودن الحلب إلى الكرك نائباً بها، فأطلق من كان سجنه السلطان فيها، وبعثهم إلى دمشق.
شهر رمضان، أوله الخميس: وفي عاشره: خرج من القاهرة عسكر إلى الشام، فيه الأمير تمراز الناصري، والأمير أقباي، فورد الخبر بأن عسكراً من الشام قد أخذ غزة، وأن يشبك بن أزدمر نزل قطيا وخربها، وعاد إلى غزة. فأقام تمراز بمن معه على بلبيس.
وفي هذا الشهر: أخرج أهل القدس عبد الرحمن المهتار ويشبك الساقي. وابن قجماس ومن معهم إلى وادي بني زيد، فكثر هناك جمعهم، وساروا إلى الرملة، وقاتلوا العسكر، فقتل منهم نحو الخمسين رجلاً، وأسر خمسة عشر، وجرح أسنباي، وانهزم من بقى.
وفيه سار عسكر من دمشق يريد الرملة، فخرج ألطنبغا العثماني من صفد إلى قاقون وكتب إلى السلطان أن ينجده بعسكر.
وفي هذا الشهر: تسلطن الأمير جكم بحلب يوم حادي عشره، وتلقب بالسلطان الملك العادل أبي الفتوح عبد الله جكم، وخطب باسمه من حلب إلى الفرات إلى غزة، ما عدا صفد، فإن الأمير شيخ المحمودي نائب الشام كان قد أخذها من الحمزاوي وأقام بقلعتها. ففر منه الحمزاوي، وقام الأمير شيخ على طاعة السلطان. ولم يجب جكم إلى التوجه إليه.
شهر شوال، أوله الجمعة: في رابعه: خلع الأمير نوروز على الأمير بكتمر شلق بنيابة صفد، عن أمر الملك العادل عبد الله جكم.
وفي سابعه: عاد الأمير تمراز والأمير أقباي بمن معهما إلى القاهرة، من غير أن يتجاوزوا السعيدية، وقدمت عدة كتب من الشاميين إلى المماليك السلطانية بترغيبهم في اللحاق بهم، وتخويفهم من التأخر بديار مصر، وقدمت عدة كتب من الأمير جكم وغيره إلى عربان مصر وفلاحيها، يمنعهم من دفع الخراج إلى السلطان وأمرائه، وتخويفهم وتحذيرهم.
وفي ثامن عشره: قدم إلى دمشق قاصد الملك العادل جكم، ومعه مرسومه بتقرير الأمير سودن الحمزاوي دوداراً، وتقرير الأمير إينال بيه بن قجماس أمير أخور، والأمير يشبك بن أزدمر رأس نوبة، والأمير سودن الحمزاوي. أمير مجلس، والأمير نوروز قسيم الملك، وما يختار يفعل، وأمرهم بلبس الكلفتاة، وكانوا قد تركوها مدة، إشارة منهم أنهم غير طالعين السلطان.
وفي خامس عشرينه: لبس الأمير نوروز خلعة الملك العادل حكم، ودقت البشائر بدمشق وزينت.(3/89)
وفي هذا الشهر: ابتدأ الطاعون بالقاهرة ومصر. وتزايد حتى فشا في الناس وكثر الموت الوحي، وبلغ عدد من يرد اسمه الديوان إلى مائتين وخمسين في كل يوم، وترجف العامة بأن عددهم أضعاف ذلك وشبهتهم أن الحوانيت المعدة لإطلاق الأموات أحد عشر حانوتاً، في كل حانوت نحو الخمسين تابوت، ما منها تابوت إلا ويتردد إلى الترب كل يوم ثلاث مرات وأكثر، مع كثرة ازدحام الناس عليها، وعز وجودها، فيكون على هذا عدة من يموت لا يقصر عن ألف وخمسمائة في اليوم، سوى من لا يرد اسمه الديوان من مرضى المارستان، ومن يطرح على الطرقات، وغالب من يموت الشباب والنساء. ومات بمدينة منوف العليا أربعة آلاف وأربعمائة إنسان، كان يموت بها في كل يوم مائة وأربعون نفراً. واتفق في هذا الشهر أنه كان لبعض الأمراء صاحب من فقراء العجم، وكان له أيضاً ولد صغير كيس، فكان الفقير يحب ذلك الصغير ويكثر أن يقول: لو مات هذا الصغير لمت من الأسف عليه، فقدر الله موت الصغير، فما فرغوا من غسله حتى مات الفقير، فساروا بالجنازتين معاً، ودفنا متجاورين.
شهر ذي القعدة، أوله الأحد: في سادس عشره: استقر في حسبة القاهرة تاج الدين محمد بن أحمد بن علي، عرف بابن المكللة، ربيب ابن جماعة، وعزل الطويل.
وفي رابع عشرينه: أعيد ابن شعبان إلى الحسبة، وعزل ربيب بن جماعة.
وفي هذا الشهر: كثر الموتان في الناس، وعز وجود البطيخ الصيفي من كثرة طلبه للمرضى. فبيعت بطيخة بمائتي درهم وسبعين درهماً.
وفي آخره: توجه عدة من الأمراء إلى جهات مصر، فمضى الأمير يشبك في طائفة إلى البحيرة، ومضى الأمير يلبغا الناصري في طائفة إلى أطفيح لأخذ جمال الناس من أجل التجريدة لقتال جكم.
وفيه ظهرت بثرة برجل، فوصف له شخص أن يؤخذ فروج ويوضع دبره على تلك البثرة، فإن مات الفروج وضع دبر فروج آخر. وفعل كما قال فمات عشرون فروجاً عندما يلصق دبر الفروج بالبثرة يموت لوقته. وفيه ملك العادل جكم البيرة.
وفي رابع عشرة: بعث الأمير شيخ - وهو بصفد - عسكره إلى نابلس، فقبض على عبد الرحمن المهتار، وحمل إليه، فعاقبه ثم قتله.
وفي ثامن عشره: حلف الأمير نوروز ومن معه بدمشق للملك العادل حكم ولبسوا الكلفتاه.
ووقع الجد في عمارة قلعة دمشق، وسخر نوروز فيها الناس.
شهر ذي الحجة، أوله الاثنين: فيه كبس الناصري بأطفيح على العربان، وساق عدة من إبلهم، فاجتمعوا عليه، وأوقعوا بساقته وأخذوا عدة من بغاله، وقتلوا منه جماعة، وجرحوا طائفة. وقدم الخبر بأن عربان البحيرة، أحاطوا بمن توجه إليهم من الأمراء، وحصروهم في مدينة دمنهور فخرجت النجدة إليهم، بحيث لم يتأخر أحد من الأمراء، فمرت العربان في البرية إلى جهة الحمامات. وفيه وقع الاهتمام بالسفر إلى الشام.
وفيه طلب ابن التركية من الأمير يشبك الأمان فأمنه، وحلف له، فندما نزل قريباً منه، بينه وقبض عليه، وقتل عدة من أصحابه، وبعث إلى أمواله فنهبها، وساق له منها ثلاثين ألف رأس غنم، وبعثها مع الأمير تعري بردى، والأمير أقباي والأمير بشباي، فوصلوا إلى الجيزة في سادس عشره، بعد ما لقوا في رمل الحاجر شدة، وتلفت لهم عدة خيول. وقدم يشبك بمن معه في يوم الجمعة تاسع عشره وبين يديه بن التركية وجماعة من أهل البحيرة، فوسط السلطان ابن التركية وعلق رأسه على باب زويلة.
وفي خامس عشرينه: علق الجاليش لتجهز العسكر للسمر.
وفي تاسع عشرينه: رسم بالنفقة، وصر لكل فارس مبلغ ثلاثين مثقالاً وألف درهم فلوساً، فتجمع المماليك تحت القلعة وامتنعوا من أخذها.(3/90)
وفيه دقت البشائر بموت جكم. وكان من خبره أنه لما تسلطن، استعد لأخذ بلاد الشمال، وأعرض عن مصر. ثم حرج من حلب يريد الأمير عثمان بن طور علي بن قوايلك، وقد نزل بتركمانه في أراضي آمد. فحضر جكم البيرة حتى أخذها وقتل نائبها كزل ثم عدا الفرات من البيرة، فأتته رسل قرايلك ترغب إليه في رجوعه إلى حلب، وأنه يحمل إليه من الجمال والأغنام عدداً كثيراً، فلم يقبل. وسار حتى قرب من ماردين، فنزل وأقام أياماً، حتى نزل إليه الملك الظاهر مجد الدين عيسى وحاجبه فياض من ماردين، فسار به إلى قرايلك وحطم عليه، فقاتله قتالاً كبيراً أبلي فيه جكم بنفسه بلاء عظيماً، وقتل بيده إبراهيم بن قرايلك، فانهزم لقتله التركمان إلى مدينة آمد، وامتنعوا بها، فاتحكم جكم في طائفة عليهم حتى توسط بين بساتين آمد، فإذا هم قد أرسلوا المياه فوحلت الأراضي بحيث يرتطم فيها الفارس بفرسه فلا يقدر على الخلاص، فأخذ جكم ومن معه الرجم من كل جهة، وقد انحصروا في مضيق لا يمكن فيه كر ولا فر، وصوب بعض التراكمين على جكم ورماه بحجر في مقلاع أصاب جبهته، فتجلد قليلاً، ومسح الدم عن وجهه ولحيته، ثم اختلط وسقط عن فرسه، فتكاثر التركمان على من معه وقتلوهم، فانهزم بقية العسكر، والتركمان في أعقابهم تقتل وتأسر، فلم ينج منهم إلا القليل، وطلب جكم بين القتلى، حتى عرفه بعض التراكمين، فقطع رأسه وبعثها إلى مصر، وقتل في هذه الوقعة الأمير ناصر الدين محمد بن شهري حاجب حلب، والأمير أقمول نائب عينتاب، والملك الظاهر عيسى صاحب ماردين، وحاجبه فياض، وفر الأمير كمشبغا العيساوي، والأمير تمربعا المشطوب، حتى لحقا بحلب. وكانت هذه الوقعة في سابع عشرين ذي القعدة، فدقت البشائر بقلعة الجبل ثلاثة أيام.
وفي هذا الشهر: أيضاً ركب الأمير شيخ نائب الشام من صفد يريد الأمراء بغزة، وهم سودن الحمزاوي، والأمير أينال بيه بن قجماس، والأمير يشبك بن أزدمر فطرقهم على حين غفلة، فقاتلوه على الجديدة في يوم الخميس رابعه، فقتل أينال بيه ويونس الحافظي نائب حماة وسودن تلي المحمدي، وسودن قرناس.
وقبض على سودن الحمزاوي بعدما قلعت عينه، وفر يشبك بن أزدمر إلى دمشق، ووقع في قبضة الأمير شيخ عدة من المماليك، فوسط تسعة من المماليك السلطانية، وغرق أحد عشر، وأفرج عن مماليك الأمراء، وقال لهم: قد وفيتم لأستاذيكم، وبعث بطائفة من المماليك السلطانية إلى السلطان، وعاد إلى صفد.
وفي هذا الشهر: خسف جميع جرم القمر في ليلة الأحد رابع عشره. وفيه عاد الأمير نوروز إلى طاعة السلطان الملك الناصر، بعد قتل جكم، وافتتح كتبه بالملكي الناصري، وأعيدت الخطبة للناصر بدمشق يوم الجمعة سادس عشرينه. وسمع بعض أهل طريق الله صوتاً في الهواء بدمشق، حفظ منه:
يمر السحاب بأرض الشام ... كمر الحمام بأرض الحرم
تروم النزول فلا تسطيع ... لفعل الخطايا وذنب الأمم
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
أحمد بن عمر بن محمد الطنبدي الشافعي، وقد أناف على الستين في حادي عشرين ربيع الأول، وكان من أعيان الفقهاء العارفين بالأصول والتفسير والغريب. وأفتى ودرس ووعظ عدة سنين، وكان من الأذكياء، والأدباء الفصحاء، ولم يكن مرضى الديانة.
ومات تقي الدين محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن حيدرة بن عبد الله الدجوي الشافعي، في ليلة الأحد ثامن عشر جمادى الأولى، عن ستة وسبعين سنة، وكان إماماً في الحديث والنحو واللغة والتاريخ وغير ذلك، حافظاً، ضابطاً، ثقة، حدث في آخر عمره. بعد طول خموله.
ومات شرف الدين أبو بكر بن تاج الدين محمد بن اسحق السلمي المناوي، أحد خلفاء الحكم الشافعية، وخطب الجامع الحاكمي، في نصف جمادى الآخرة، عن بضع وخمسين.
ومات الشيخ محمد بن أحمد بن محمد المعروف بابن فهيز المغيربي، في يوم الاثنين رابع عشرين جمادى الآخرة. وكان في شبابه له تنسك. وخدم عبد الله اليافعي بمكة. ثم صحب طشتمر الدوادار في الأيام الأشرفية، فنوه به حتى صار يعد من الأعيان والأغنياء المترفين.
ومات الشريف بدر الدين حسن بن محمد بن حسن النسابة الحسنى، شيخ خانكاه بيبرس، في ليلة السبت سادس عشر شوال، عن سبع وثمانين سنة. حدث عن الوادياشي والميدومي، والحافظ قطب الدين عبد الكريم، وغيرهم.(3/91)
ومات الشيخ شمس الدين محمد بن زاده الخرزباني شيخ خانكاه شيخو في يوم الأحد آخر ذي القعدة، ودفن بالخانكاه. وكان من أعيان الحنفية، وله يد في العلوم الفلسفية، واستدعاه السلطان من بغداد إلى القاهرة.
ومات سراج الدين عمر بن منصور بن سليمان القرمي في يوم الاثنين خامس جمادى الأولى. وولي حسبة مصر ثم حسبه القاهرة.
ومات الأمير ركن الدين عمر بن قايماز أستادار السلطان، في يوم الاثنين أول شهر وجب.
ومات الأمير نعير بن حيار بن مهنا ملك العرب، قتله جكم في قلعة حلب.
ومات الأمير ناصر الدين محمد بن سنقر البكجري، أستادار السلطان، بحلب.
ومات علاء الدين علي بن بهاء الدين أبي البقاء محمد بن عبد البر السبكي الشافعي، قاضي قضاة دمشق، ليلة الأحد ثاني عشر ربيع الآخر بدمشق، ومولده بها في سنة سبع وخمسين وسبعمائة. وقدم القاهرة صغيراً ونشأ بها، ثم عاد إلى دمشق، ودرس بها، ثم ولي قضاء القضاة بها غير مرة، وطلبه السلطان، فاختفي حتى مات.
ومات زين الدين عبد الرحمن بن يوسف الكفري قاضي الحنفية بدمشق، ليلة السبت سادس عشر ربيع الآخر. ومولده سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، بدمشق. وقدم القاهرة، وولي قضاء الحنفية بدمشق غير مرة، فساءت سيرته.
ومات شهاب الدين أحمد بن محمد بن الجواشني الحنفي بدمشق، في ليلة الأحد سادس عشر جمادى الآخرة، وقدم القاهرة، وناب في الحكم بها، وولي قضاء الحنفية بدمشق، ودرس في عدة مدارس، وكان مشكوراً.
ومات شرف الدين مسعود بن شعبان الحلبي، في يوم الجمعة تاسع شهر رمضان بطرابلس. قدم القاهرة غير مرة، وولي قضاء القضاة الشافعية بدمشق وطرابلس مراراً. ومات عبد الرحمن المهتار، مقتولاً بصفد، في ذي القعدة وكان قد تأمر وغزا الكرك وأفسد فيما هنالك بكثرة الفتن.
سنة عشر وثمانمائة
أهلت ودمشق بيد نوروز الحافظي، وقد تغلب تمربغا المشطوب على حلب بعدما حاربه أهلها، وأعانهم الأمير علي بك بن دلغادر، وقد قصد حلب بجمع كبير من التراكمين، بعد قتل جكم، ليأخذها، فكانت بينهم حروب آلت إلى استيلاء المشطوب على القلعة بموافقة من بها، فانهزم ابن دلغادر، وتمكن المشطوب، وأخذ أموال حكم، واستخدم مماليكه، فعز جانبه.
وأهل المحرم بيوم الأربعاء: وسعر الدينار المشخص بالقاهرة مائة وأربعين درهماً فلوساً. وكل درهم كاملي بخمسة دراهم من الفلوس. وكل رطل من الحم الضأن بتسعة دراهم. وكل رطل من لحم البقر بسبعة، وهو قليل الوجود. وكل أردب من القمح بمائة وثمانين فما دونها.
وفي يوم الخميس ثانيه: جلس السلطان للنفقة، فلم يتهيأ.
وفي ثالثه: قدم مبشوا الحاج، ولم تجر عادتهم بالتأخر إلى مثل هذا الوقت. وذلك أن صاحب خليص عوقهم عنده، وجرح بعضهم بعد محاربتهم، من أجل تأخر مرتبه الذي جرت عادته أن يحمل إليه من قديم الزمان.
وفي يوم الاثنين سادسه: فرقت الجمال على الممالك والأمراء، بسبب السفر إلى الشام. وفيه قدم كتاب الأمير شيخ المحمودي من صفد بوصول رأس حكم، فدقت البشائر.
وفي ثامنه: وصل عدة مماليك، قد قبض عليهم الأمير شيخ في وقعة غزة.
وفي ثاني عشره: ضربت عنق والي الفيوم بين يدي الأمير جمال الدين الأستادار في داره، بأمر شهد به عليه، اقتضى قتله.
وفي يوم الجمعة ثامن عشره: تدم حاجب الأمير نعير ومعه رأس الأمير جكم، ورأس ابن شهري، فخلع عليه، ودقت البشائر لذلك. وطيف بالرأسين على قناتين، ونودي عليهما في القاهرة، ثم علقا على باب زويلة، ونودي بالزينة، فزينت القاهرة ومصر، وقدم كتاب الأمير شيخ، يحث على سرعة حركة السلطان إلى الشام.
وفي يوم السبت تاسع عشره: ضربت خيمة السلطان تجاه مسجد التبر خارج القاهرة، فتأهب العسكر للسفر.
وفي يوم الأحد عشرينه: درس ناصر الدين محمد بن قاضي القضاة كمال الدين عمر بن العديم الحلبي الحنفي بالمدرسة المنصورية بين القصرين، وهو شاب إما بلغ الحلم أو لم يبلغ. فحضر معه القضاة والفقهاء والأمير يشبك والأمير تمراز، والأمير تغري بردى، وقد زوجه بابنته، وبني عليها في ليلة الجمعة ففخم أمره بمصاهرة الأمير تغري بردى. ووجد بذلك أبوه سبيلاً إلى تقديمه للتدريس مع صغر سنه، وخلو وجهه من الشعر جملة.(3/92)
وفي يوم الأربعاء ثالث عشرينه: قدم المحمل بالحاج مع الأمير شهاب الدين أحمد ابن الأمير جمال الدين الأستادار، وقد توجه به وعمل أمير الحاج مع صغر سنه. ولعله لم يبلغ عشرة سنة، فسار بجاه أبيه. وتمشت له الأحوال مع هوجه وسخفه. وحدث في الحاج ما لم يعهد، وهو أنهم عند رحيلهم من بركة الحجاج في شوال، وقف الأمير جمال الدين وقد خرج لوداع ولده، حتى رتبهم ليسيروا ذهاباً وإياباً، قطارين متحاذيين، لا غير وجعل الحاج ناساً بعد ناس، فاستمر هذا ولم يتغير. وكان الحاج يسيرون كيف شاءوا، فإذا وصلوا إلى مضيق وقف أمير الحاج بنفسه وعقبهم، فساروا قطاراً، أو قطارين بحسب الحال، حتى يخلصوا من المضيق بغير قتال، فيسيروا كيف شاءوا، ثم لما تغيرت الأحوال وولي الأمور غير أهلها، قلت عناية أمراء الحاج بما ذكرنا، فصار الناس في المضايق يقضي بهم الحال إلى القتال، وإسالة الدماء، وكسر الأعضاء، وغلبة الأقوياء على الضعفاء. ثم لما ولي الأمير كزل العجمي الحاجب إمارة الحاج فيما تقدم، جبى من الحاج مالاً كثيراً، حتى عقبهم في المضايق، فقصد الأمير جمال الدين بما فعله خيراً، فكان فيه خير من وجه وشر من وجه، أما خيره فراحة الناس من الازدحام في المضايق.
وأما شره فإن الأقوياء والأعيان يسيرون أولاً فأولاً. وضعفاء الناس لا يزالون في الأعقاب. فإذا نزلوا لا تقدم الساقة حتى يرحل من تقدم، فيسيرون طول سيرهم في عناء. وأحسن من ذلك ما أدركنا الناس عليه في تعقيبهم عند المضايق، من غير غلبة ولا قتال. واستمر ما رتبه الأمير جمال الدين في كل عام.
واتفق أن المغاربة انضم إليهم في عودهم من مكة حاج الإسكندرية وغزة والقدس، فنهبوا جميعاً، ونزل بالمغاربة بلاء كبير.
وفي حادي عشرينه: برز الأمير يشبك الأتابك والأمير تغري بردى والأمير بيغوت، والأمير سودن بقجة في عدة أمراء إلى الريدانية، فأقاموا إلى ليلة الجمعة خامس عشرينه، ورحلوا.
وفي يوم الاثنين ثامن عشرينه: سار السلطان من قلعة الجبل في آخر الثانية بطالع الأسد، ونزل بمخيمه من خارج القاهرة تجاه مسجد تبر، وقد بلغت النفقة على المماليك إلى مائة ألف دينار وثمانين ألف دينار، وبلغت عدة الأغنام التي سيقت معه عشرة آلاف رأس من الضأن، وتقرر عليق خيوله وجماله - لخاصه ومماليكه - في كل يوم ألفاً وخمسمائة أردب، خارجاً عن عليق الأمراء وغيرهم من أهل الدولة. وبلغ راتب لحمه المطبوخ بمطابخه في كل يوم إلى ألفين ومائه رطل.
وأما الشام، فإن دمشق بيد الأمير نوروز، وقد خرج منها لقتال الأمير شيخ، فخيم على عقبة يلبغا من نصف ذي الحجة، ثم نزل شقحب وأخذ في الإرسال إلى السلطان ليسأله الأمان. ودخل بمن معه إلى دمشق في ثالث المحرم، بعدما غاب ستة عشر يوماً بشقحب، ثم بعث الأمير بكتمر شلق في ثامنه إلى الجهة الغربية في طلب أصحاب شيخ فلم يظفر بهم، وعاد من الغد.
ثم خرج جماعة من الأمراء في حادي عشره، منهم جمق، وسلامش، وقرمشي وسودن اليوسفي، ثم عادوا في نصفه بغير طائل. فخرج الأمير نوروز إلى المزة، وعاد بالأمراء المذكورين، وبعث طائفة إلى البقاع، كل ذلك في طلب أصحاب شيخ، فلم ينل سهم القصد، وعاد إلى طلب الصلح وترك الحرب، حتى يكتبا معاً إلى السلطان، فما يرسم به يمتثل، ورغب نوروز إلى شيخ في الموافقة وترك الخلاف، وأنه يتوجه من دمشق إلى حلب، ويترك دمشق لشيخ على أنه يستقر في نيابة حلب، وأكد على شيخ أن يكتب إلى السلطان في ذلك، وبعث في الرسالة جماعة من قضاة دمشق وأعيانها في أول صفر، وقد نزل شيخ على بحيرة قدس، وقدم الخبر من الغد بأنه عازم على التوجه إلى دمشق، فنادي نوروز بالخروج لحربه، وسار في خامسه، وخيم بالمزة، ففر منه في تلك الليلة جماعة، منهم جمق وقمش إلى شيخ، ففت ذلك في عضده، وتحول في سابعه إلى قبة يلبغا، فقدم عليه جواب شيخ بأن تشريف نيابة الشام قد وصل إليه، وأن طلبه له نيابة حلب فات، فإن السلطان قد وصلت عساكره غزة، فتحول نوروز إلى برزة. ودخلت عساكر شيخ دمشق في سابعه، ورحل نوروز من برزة إلى جهة حلب. ودخل الأمير شيخ إلى دمشق بكرة يوم الجمعة، تاسع صفر.
وفي حادي عشره: سار ألطنبغا العثماني من دمشق لنيابة طرابلس.
شهر صفر، أوله الخميس:(3/93)
في ليلة الجمعة ثانيه: رحل السلطان من الريدانية خارج القاهرة بمن معه من العسكر، وجعل الأمير تمراز نائب الغيبة، وأنزله بباب السلسلة، وأنزل الأمير أقباي بالقلعة وأنزل الأمير سودن الطيار في بيت الأمير بيبرس بالرميلة تجاه باب السلسلة، فلما نزل السلطان الصالحية أبيع بها الشعير كل أردب بدرهمين فضة، لكثرته.
وفي يوم الاثنين ثاني عشره: دخل السلطان إلى غزة، فقدم الخبر بفرار الأمير نوروز من دمشق.
وفي سابع عشره: أعاد الأمير تمراز نائب الغيبة شمس الدين الطويل إلى حسبة القاهرة، وعزل ابن شعبان.
وهي يوم الخميس ثاني عشرينه: دخل السلطان إلى دمشق، بعدما خرج الأمير شيخ في سابع عشره إلى لقائه، فأكرمه، وسار معه، وحمل الجتر على رأسه، لما عبر البلد، فنزل السلطان بدار السعادة، وصلى الجمعة بجامع بني أمية.
وفي يوم الجمعة هذا: قبض على قضاة دمشق ووزيرها، وكاتب السر علاء الدين، وأهينوا وألزموا بمال.
وإلى يوم الأحد خامس عشرينه: قبض السلطان على الأمير شيخ وعلى الأمير الكبير يشبك بدار السعادة، واعتقلهما بقلعه دمشق، وكان الأمير جركس المصارع أمير أخور قد تأخر بداره، فلما بلغه الخبر فر من ساعته، فلم يدرك، وفر جماعة من الشيخية، واليشبكية.
وفي سادس عشرينه: خلع على الأمير بيغوت بنيابة الشام، وعلى الأمير فارس دوادار تنم حاجب الحجاب، وعلى عمر الهيدباني بنيابة حماة، وعلى صدر الدين علي بن الآدمي بقضاء الحنفية بدمشق.
شهر ربيع الأول، أوله السبت: في ليلة الاثنين ثالثه: فر الأميران يشبك وشيخ، وذلك أن السلطان لما قبض عليهما وكل بهما الأمير منطوق لثقته به، وعمله نائب القلعة، فاستمالاه، حتى وافقهما، ثم تحيل على من عنده من المماليك، بأن أوهمهم بأن السلطان أمره بقتل الأميرين، فصدقوه، فأخرجهما على أن يقتلهما، وفر بهما.
فلم يبلغ السلطان الخبر حتى مضوا لسبيلهم، وأصبح السلطان يوم الاثنين، فندب الأمير بيغوت نائب الشام لطلبهم، فسار في عسكر، وقد اختفى الأمير شيخ في الليل، ومضى يشبك، فلم يدرك بيغوت غير منطوق، فقبض عليه بعد حرب، وقتله وقطع رأسه، فطف بها، ثم علقت على سور القلعة.
وقدم الخبر باجتماع يشبك وشيخ وجركس على حمص، في دون الألف فارس، وأنهم اشتدوا على الناس في طلب المال. فكتب السلطان إلى الأمير نوروز - وقد وصل حلب، وتلقاه الأمير تمربغا المشطوب، وأنزله، وقام له بما يليق به - يستدعيه لمحاربة يشبك وشيخ، وولاه نيابة الشام، ويأمره أن يحمل إليه جماعة من الأمراء. وبعث إليه التشريف والتقليد مع الأمير سلامش، وقد ولاه السلطان نيابة غزة، فلبس التشريف، وخدم على العادة وكتب إليه يعتذر عن حضوره بما عنده من الحياء والخوف، وأنه إذا سار السلطان من دمشق قدم وكفاه أمر أعدائه.
وفي ثامن عشره: قدم الخبر بأن الأمراء الذين فروا من دمشق قبض منهم الأمير نوروز بحلب على الأمير علان، والأمير جانم، والأمير أينال الجلالي المنقار، والأمير حقمق أخو جركس، وبعث إليه بالأمير أينال المنقار، والأمير علان، والأمير جمق نائب الكرك، والأمير أسن باي التركماني أحد أمراء الألوف بدمشق، والأمير أسن باي أمير أخور.
وفي تاسعه: قدم كتاب السلطان إلى الأمراء بمصر يتضمن دخوله دمشق، وقبضه على يشبك وشيخ، وفرار جركس، ويأمرهم بالقبض على الأمير تمراز نائب الغيبة، فأذعن لذلك، وقيد وسجن بالبرج في القلعة، ونزل سودن الطيار موضعه من باب السلسلة، وانفرد الأمير أقباي بالحكم بين الناس. وفيه نودي بالزينة، فزينت القاهرة ومصر. وفيه قبض على مباشري الأمير يشبك، والأمير تمراز، والأمير جركس المصارع، ووقعت الحواطة على حواصلهم.
وفي عاشره: أعيد الشيخ شمس الدين محمد البلالي، شيخ خانكاه سعيد السعداء، وكان الأمير تمراز قد عزله في يوم الخميس وولي عوضه خادمه خضر السراي، فقبض على تمراز كما ذكر في يوم السبت، فطار أتباع البلالي كل مطار، وعدوا ذلك من جملة كراماته، فأعيد. وفيه أعيد ابن شعبان إلى الحسبة، وعزل الطويل.
شهر ربيع الآخر، أوله الأحد: في رابعه: ركب السلطان، وتنزه بالربوة، وعاد.
وفي خامسه: لعب بالكرة في الميدان. وفيه قدم الأمير بكتمر شلق من حلب بالأمراء الذين قبض عليهم الأمير نوروز. وفيه توجه حريم السلطان إلى جهة مصر.(3/94)
وفي سادسه: قبض على الأمير أسن باي، وخرج غالب العسكر.
وفي يوم السبت سابعه: خرج السلطان من دمشق، ومعه الأمراء الذين أرسلهم إليه الأمير سودن الحمزاوي، وقد أحضره من سجن صفد، والأمير أقبر دي رأس نوبة أحد أمراء الطبلخاناه، والأمير سودن الشمسي أمير عشرة، والأمير سودن البجاسي، أمير عشرة، وسار السلطان إلى مصر، وجعل نائب الغيبة بدمشق الأمير بكتمر شلق. فقدم فيه أزبك دوادار الأمير نوروز إلى دمشق، ونزل بدار السعادة، ونزل بكتمر شلق نائب طرابلس بالإصطبل.
فلما كانت ليلة الأحد ثامنه: طرق الأمير شيخ - ومعه يشبك وجركس المصارع - دمشق، ففر من كان بها من الأمراء وملك شيخ دمشق، وقبض على جماعة، وولي وعزل، ونادى بالأمان. وأخذ خيول الناس، وصادر جماعة. فورد الخبر في يوم الأربعاء حادي عشره، بأن بكتمر شلق نزل بعلبك في نفر قليل، فسار يشبك وجركس في عسكر، فمضى بكتمر إلى جهة حمص، فوافاهم الأمير نوروز بجمع كبير على كروم بعلبك، فكانت بينهما وقعة قتل فيها يشبك وجركس المصارع في طائفة، وقبض نوروز على عدة ممن معهما. فلما بلغ ذلك الأمير شيخ سار من دمشق على طريق جرود في ليلة الجمعة ثالث عشره، وهي الليلة التي تلي يوم الوقعة، مدخل نوروز دمشق يوم السبت رابع عشره بغير ممانع، وبعث بالخبر إلى السلطان، فوافاه ذلك بالعريش، في يوم الخميس تاسع عشره، فسره سروراً كثيراً. وجد السلطان في سيره حتى صعد قلعة الجبل ضحى نهار الثلاثاء رابع عشرينه وبين يديه ثمانية عشر أميراً في الحديد، ورمة الأمير أينال بيه بن قجماس، وقد حملها من غزة، فسجن الأمراء، ودفن الرمة، فزينت القاهرة ومصر.
وفي عشرينه: توجه الأمير بكتمر جلق من دمشق إلى طرابلس، وتوجه يشبك بن أزدمر إلى نيابة حماة.
وفي سادس عشرينه: استدعى السلطان القضاة إلى بين يديه، وأثبت عندهم إراقة دم سودن الحمزاوي لقتله إنساناً ظلماً، فحكموا بقتله، فقتل. وقتل بربغا دواداره، والأمير أقبردي، والأمير جمق. ولأمير أسن باي التركماني والأمير أسن باي أمير أخور. وتأخر أينال المنقار، وعلان، وسودن الشمس وسودن البجاسي في البرج.
وفي سابع عشرينه: أنعم على الأمير تغري بردى بإقطاع الأمير يشبك، وعلى الأمير قردم الحسني بإقطاع تغري بردى، وعلى الأمير قراجا بإقطاع الأمير تمراز، واستقر شاد الشراب خاناه، وعلى الأمير أرغون بخبز قراجا، وعلى الأمير شاهين قصقا بخبز أرغون، وعلى الأمير طوغان الحسني بخبز قصقا.
وفي ثامن عشرينه: قتل الأمير أسن باي أمير أخور.
شهر جمادى الأولى، أوله الثلاثاء: في يوم الخميس ثالثه: خلع على الأمير تغري بردى، واستقر أتابك العساكر عوضاً عن الأمير يشبك الشعباني، ونحى الأمير كمشبغا المرزوق، واستقر أمير أخور كبيراً، عوضاً عن جركس المصارع. وفيه قدم قاصد الأمير نوروز برأس الأمير يشبك، ورأس الأمير جركس المصارع، ورأس الأمير فارس التنمي حاجب دمشق.
وفي خامسه: شق أساس مدرسة الأمير جمال الدين يوسف الأستادار برحبة باب العيد.
وفي عاشره: حمل في النيل الأمير يلبغا الناصري، والأمير أينال الجلالي المنقار، والأمير علان إلى سجن الإسكندرية.
وفي سادس عشره: ركب السلطان متخففاً بثياب جلوسه ونزل إلى بيت الأمير قراجا يعوده، ثم سار إلى بيت الأمير جمال الدين الأستادار، فأكل ضيافته، وركب إلى المدرسة الظاهرية بين القصرين فزار قبر أمه وجده واخوته، وأنعم بناحية منبابة من الجيزة على المدرسة الظاهرية زيادة على وقف أبيه، فتسلمها مباشرو المدرسة. ثم ركب منها إلى دار الأمير بشباي رأس نوبة، وأقام عنده ثم ركب إلى بيت الأمير كزل العجمي حاجب الحجاب، وسار من عنده إلى القلعة، ولم يعهد قط أن ملكاً من ملوك مصر ركب وشق القاهرة بثياب جلوسه، وما من أحد ممن ذكرنا إلا وقدم للسلطان من الخيل والمال وغيره ما يليق به.
وفي تاسع عشره: خلع على الأمير قردم، واستقر خازنداراً، عوضاً عن الأمير طوخ، وعلى طوخ، واستقر أمير مجلس، عوضاً عن يلبغا الناصري.
وفي ثاني عشرينه: توجه سودن الحلب من دمشق إلى نيابة الكرك، فامتنع بها يشبك الموساوي ولم يسلم قلعتها، فنزل سودن البلقاء، واشتد ظلمه للناس.
وفي سادس عشرينه: خرج الأمير نوروز من دمشق يريد حلب، ليصالح الأمير شيخ، وقد جرت بينهما عدة مكاتبات.(3/95)
شهر جمادى الآخرة، أوله الخميس: في سادس عشره: قبض على الأمير سودن من زاده، وحمل إلى الإسكندرية، فسجن بها.
وفي سابع عشرينه: كتب تقليد حسام الدين حسن نائب غزة - كان - باستقراره في نيابة الكرك، عوضاً عن يشبك الموساوي الأفقم، ورسم بإحضار يشبك.
شهر رجب، أوله الجمعة: في ثامن عشره: استقر الحجازي في نقابة الجيش، عوضاً عن حسام الدين حسين الوالي.
وفي حادي عشرينه: استقر شهاب الدين أحمد بن ناصر الدين محمد بن الطلاوي في ولاية القاهرة، وقبض على حسام الدين المذكور، وصودر.
شهر شعبان، أوله الأحد: في حادي عشره: أفرج عن الأمير تمراز الناصري نائب السلطنة، ونزل من البرج بالقلعة إلى داره.
وفي رابع عشره: خرج أزبك دوادار الأمير نوروز من دمشق على عسكر لأخذ الأمير يشبك الموساوي نائب الكرك، وقد منع سودن الجلب في قلعتها، وجمع عرب جرم مع أميرهم عمر بن فضل، وسار إلى غزة، فاستعد نائبها سلامش وقاتله، فوقع في قبضته، وكان سودن المحمدي قد بعثه الأمير نوروز لنيابة غزة، ونزل بالرملة، فبعث سلامش إلى الأمير نوروز بأخذه يشبك الموساوي، فندب لإحضاره أزبك، فسار إليه، وقدم بيشبك إلى دمشق، في أول شهر رمضان، فسجن بالقلعة.
وفي ليلة الأربعاء عاشر رمضان: فر الأمير بكتمر شلق من سجنه بقلعة دمشق، إلى جهة صفد، ونزل غزة.
وفي خامس عشرينه: توجه الأمير نوروز من دمشق، وتلاحق به العسكر. وقدم الأمير يشبك بن أزدمر نائب حماة إلى دمشق في يوم السبت تاسع شوال بطلب نوروز له، وقدم الخبر بأن تمربغا المشطوب - نائب حلب - توجه لقتال التركمان، فبيتوه وكسروه، فعاد إلى حلب.
وفي خامس عشرينه: خلع علي نجم الدين عمر بن حجي، وصدر الدين علي بن الآدمي، واستقرا في قضاء دمشق، وقد قدما إلى القاهرة، وأنعم السلطان بالرضا عن شيخ، وعين المذكورين في الرسالة إليه.
شهر ذي القعدة، أوله الجمعة: فيه كتب تقليد الأمير شيخ المحمودي باستمراره في كفالة الشام على عادته، وتوجه به ألطنبغا بشلاق وألطنبغا شقل، وقاضي القضاة نجم الدين عمر بن حجي الشافعي، وقاضي القضاة صدر الدين علي بن الآدمي الحنفي، ومعهم تشريفة ولسخة اليمين، وكتب تقليد باستقرار الأمير بكتمر شلق في نيابة طرابلس على عادته، وجهز إليه مع تشريفة، وكتب باستقرار الأمير يشبك بن أزدمر في نيابة حماة، وجهز إليه تشريفة.
وفي رابعه: قدم الأمير نوروز إلى دمشق، بعد غيبته خمساً وثلاثين يوماً، انتهى فيها إلى الرملة.
وفي ثامنه: وصلت رسل السلطان إلى الأمير شيخ على ظهر البحر إلى عكا.
وفي سابع عشره: قدم تمربغا المشطوب نائب حلب إلى دمشق، ثم توجه إلى حلب في رابع عشرينه.
شهر ذي الحجة، أوله السبت: في رابع عشرينه: استقر الجيزي محتسب مصر في حسبة القاهرة، عوضاً عن ابن شعبان، فصار محتسب القاهرة ومصر. وسار أمير الحاج - الأمير بيسق الشيخي - بالمحمل على العادة.
وفي رابعه: قدمت رسل السلطان إلى شيخ، فنزلوا صفد، ثم ساروا إلى طرابلس. وقد نازل الأمير شيخ المرقب، فلقوه عليها، وأوصلوه التقليد والتشريف فلم يقبل ذلك. وجهز التشريف إلى الأمير نوروز، وأعلمه أنه باق على طاعته. فزينت دمشق ودقت البشائر.
وفي هذه السنة: أقبلت سحابتان من جهة برية أيلة والطور، حتى حاذتا بلد العريش، ومرتا في البحر، فإذا في وسطهما تنينان مثل عامودين عظيمين، لا يرى أعلاهما وأسفلهما مما يلي الماء، وفي كل عمود منهما خط أبيض بطوله من أعلاه إلى أسفله، فيرتفعان عن الماء قدر ساعة ثم ينحطان، فيضرب كل منهما بذنبه في البحر، فيضطرب اضطراباً شديداً، ثم يرتفعان وذنب كل منهما بقدر جامور المنارة التي يؤذن عليها، فلم يزالا على ذلك حتى غابا عن العين.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر(3/96)
الشيخ سيف الدين يوسف بن محمد بن عيسى السيرامي الحنفي شيخ المدرسة الظاهرية برقوق، في ليلة السبت حادي عشرين ربيع الأول، واستقر عرضه ابنه نظام الدين يحيى. وكان منشأه بتبريز حتى طرقها تيمورلنك، فسار في الجفل إلى حلب، وأقام بها، فاستدعاه الملك الظاهر برقوق وقرره في مشيخة مدرسته، عوضاً عن علاء الدين السيرامي بعد موته، في سنة تسعين وسبعمائة. ثم أضاف إليه مشيخة خانكاه شيخو بعد موت عز الدين الرازي. وناب عنه ابنه محمود في الظاهرية. ثم ترك الشيخونية، وبقي على مشيخة الظاهرية حتى مات.
ومات شمس الدين محمد بن الشاذلي الإسكندراني محتسب القاهرة ومصر، في يوم الجمعة ثاني صفر، وكان عارياً من العلم، كان خردفوشيا ثم بلانا بالإسكندرية، فترقى لما تقدم ذكره ببذل المال.
ومات الأمير سودن الناصري الطيار أمير سلاح، في ليلة الثلاثاء ثامن عشرين شوال، وشهد السلطان جنازته، وكان مشكور السيرة، شجاعاً محباً لأهل العلم والصلاح.
ومات الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير جمال الدين محمود بن علي الأستادار، في ليلة الأحد ثالث ذي القعدة، قتلا في بيت الأمير جمال الدين الأستادار، وكان قد اختفى بعد محنة أبيه في آخر أيام الملك الظاهر بعد واقعة إلى باي، وفر إلى الشام، وأقام بها مدة، ثم قدم القاهرة متنكراً، فدل عليه حتى أخذ وقتل، وكان غير مشكور السيرة. ومات الأمير شاهين قصقا في ليلة الجمعة ثامن ذي القعدة، وكان من الأشرار المفسدين.
ومات الأمير مقبل الطواشي زمام الدار السلطانية، في يوم السبت أول ذي الحجة، وترك مالاً كثيراً، وله بخط البندقانيين من القاهرة مدرسة تقام بها الجمعة.
سنة إحدى عشرة وثمانمائة
أهلت والأمير نوروز مستول على البلاد الشامية، والقمح في ديار مصر بنحو مائة درهم الأردب، والشعير بنحو سبعين الأردب، والفول بستين.
شهر الله المحرم الحرام، أوله الأحد: في ثانيه: برز الأمير نوروز من دمشق إلى قبة يلبغا يريد صفد. ثم رحل إلى سعسع، فأتاه الخبر بأن الأمير بكتمر شلق جمع لحربه، ونزل الجاعونة، فتقدم إليه ومعه حسين ومحمد وحسن بنو بشارة، واقتتلا، فقتل بينهما جماعة وحرق الزرع، وخربت القرى، ونهبت. وسار نوروز إلى الرملة.
وفي نصفه: سار الأمير ألطنبغا العثماني إلى عزة، وقد ولي نيابتها، ومعه الأمير باشا باي رأس نوبة النوب، والأمير طوغان رأس نوبة، والأمير سودن بقجة، ليأخذوا عزة من سودن المحمدي، ويمضوا إلى صفد نجدة لمن بها.
وفي ثاني عشرينه: قدم الأمير بيسق أمير الحاج بالمحمل، ولم يزر الحجاج في هذه السنة قبر رسول ا لله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الأمير بيسق قبض بمكة على قرقماس أمير الركب الشامي، فتخوف أن يبلغ خبره إلى الأمراء بدمشق، فيبعثون إليه من يقصده بسوء فيما بين عقبة أيلة ومصر، فعدل السير ولم يعرج على المدينة النبوية. وهلك جماعة كثيرة من الضعفاء لعنفه في السير.
شهر صفر، أوله الاثنين: في ثامن عشره: كان وفاء النيل ستة عشر ذراعا، فركب السلطان على عادته حتى خلق المقياس بين يديه، ثم فتح الخليج، وعاد إلى القلعة.
وفي هذا الشهر: عاد الأمير بشباي بمن خرج معه من الأمراء وغيرهم إلى القاهرة. وكان من خبرهم أن الأمير بكتمر جلق، والأمير جانم خرجا من صفد إلى غزة، وملكاها، ففر منها سودن المحمدي المعروف بتلي - يعني المجنون - في نفر، ولحق بالأمير نوروز. فلما انتهى عسكر مصر إلى العريش بلغهم إقامة الأمير نوروز بالرملة، وأنه جهز إليهم سودن المحمدي، وسار في أثره، فردوا على أعقابهم إلى القاهرة. وقدم " لمحمدي فلم يدركهم فعاد إلى نوروز، فمضى عند ذلك نوروز إلى دمشق، فقدمها في حادي عشره، بعد غيبته عنها ثمانية وثلاثين يوماً، بعدما قصد صفد، فقدم عليه الخبر بحركة الأمير شيخ، فضاق بذلك ذرعه، واستعد له. ثم سار من دمشق في عشرينه ونزل برزة، فقدم عليه من الغد سودن المحمدي، فاراً من بكنمر حلق، وقد قدم عليه غزة وأخذها، فأعاده إلى دمشق، حتى أصلح شأنه، ولحق به في ليلة الأربعاء رابع عشرينه، فسار إلى حمص، وكان الأمير شيخ قد جمع من العربان والتراكمين طوائف. وسار بهم من حلب يريد دمشق، في ثاني عشره.
شهر ربيع الأول، أوله الأربعاء:(3/97)
في أوله: قدم الأمير علان والأمير أينال المنقار من الإسكندرية، صحبة الطواشي فيروز، وقد أفرج عنهما، فمثلا بين يدي السلطان، ثم نزلا إلى بيوتهما.
وفي رابعه: نزل الأمير شيخ القريتين، وقد عاد الأمير نوروز محادياً له، وتراسلا في الكف عن القتال، فامتنع الأمير شيخ وأبي إلا أن يأخذ دمشق، واحتج عليه بأن السلطان قد ولاه نيابتها، فاعتدا على القتال من الغد، فلما كان الليل تحمل الأمير شيخ، وسار بمن معه يريد دمشق، وأكثر من إشعال النيران في منزلته، يوهم أنه يقيم، فلم يفطن نوروز برحيله، حتى مضى أكثر الليل، فرحل في إثره، ففاته. ودخل الأمير نوروز دمشق يوم الأحد خامسه، ومعه الأمير يشبك بن أزدمر نائب حماة. وأما الأمير شيخ فإنه لما رحل علق بالكسوة ظاهر دمشق، ورحل فنزل سعسع، ثم سار.
وفي ثامنه: قدم الأمير تمربغا المشطوب نائب حلب إلى دمشق، فأكرمه الأمير نوروز، وأنزله. وشرع في تعبئة العسكر ليسير إلى الأمير شيخ.
ثم بدا له فأخذ في بيع ما كان قد أعده من الغلال بقلعة دمشق، فكثرت القالة.
وفي حادي عشره: ولي الأمير نوروز كلاً من سونج صهر الأمير تنم، وعمر بن الطحان، حاجبا بدمشق.
وفي ثاني عشره: أعاد شمس الدين محمد الأخناي إلى قضاء القضاة الشافعية بدمشق، وولي جمال الدين يوسف بن القطب قضاء الحنفية بها.
وفي رابع عشره: خرج نوروز من دمشق بالعسكر، ونزل قبة يلبغا إلى ليلة الخميس سادس عشره، سار إلى سعسع، فلقيه الأمير شيخ وقد تفرق عنه أصحابه، وبقي في جمع قليل، فلم يثبت نوروز مع كثرة من معه، وانهزم بمن معه، وقصد حلب، فركب الأمير شيخ أقفيتهم، وذلك في يوم السبت ثامن عشره، فدخل نوروز بمن معه دمشق في ليلة الأحد، فمر في عدة من الأمراء على وجهه وبات بها ليلة واحدة، ثم خرج منها على وجهه إلى حلب، وبعد خروج نوروز دخل الأمير بكتمر حلق نائب طرابلس، والأمير قرقماس ابن أخي دمرداش إلى دمشق ونودي بالأمان، فلم يبق للنوروزية عين ولا أثر. وقدم الأمير شيخ في الساعة الرابعة من يوم الأحد، ونزل بدار السعادة، ونودي من الغد: من عرف له شيئاً أخذ منه فليأخذه، فأخذ جماعة ما عرفوه.
وفي حادي عشرينه: خلع السلطان بقلعة الجبل على الأمير شرباش كباشة أمير عشره ورأس نوبة، وولاه نيابة الإسكندرية، عوضاً عن الأمير أرسطاي بعد موته، فاستعفى منها، فأعفي، وخلع في ثالث عشرينه على الأمير سنقر الرومي رأس نوبة، وأمير طبلخاناه بنيابة الإسكندرية.
وفي هذا اليوم: ركب الأمير شيخ نائب الشام من دار السعادة بدمشق، وسار إلى قبة يلبغا، ولبس التشريف السلطاني المجهز إليه من مصر بنيابة الشام. وعاد ومعه القضاة والأمراء والأعيان والعسكر إلى دار السعادة، فخدم على العادة، وكان يوماً شهوداً. وفيه لبس أيضاً نجم الدين عمر بن حجي تشريفه المجهز إليه بقضاء القضاء بدمشق، عوضاً عن الأخناي.
وفيه قبض على الأمير أرغز بدمشق، وعلى الأمير نكباي الحاجب أيضاً، وقبض على جماعة من النوروزية.
وفي رابع عشرينه: قدم الأمير دمرداش المحمدي إلى دمشق، فأكرمه الأمير شيخ، وأنزله.
وفيه أفرج الأمير شيخ عن محمد بن أينال بيه، ويعقوب شاه من السجن، وبقي سودن بن الظريف، وسلامش وأرغز في السجن بدمشق.
وفي سابع عشرينه: خرج الأميران دمرداش، وبكتمر جلق من دمشق بعسكر كبير، فنزلوا برزة قاصدين حرب نوروز، واستقلا بالمسير في يوم الجمعة.
وفي هذا الشهر: استناب نجم الدين بن حجي قاضي دمشق عشرة نواب، ولم يبلغ عدد نواب قضاة دمشق هذا قبله. وفيه قدم أولاد بشارة في عشيرهم إلى وادي التيم في رابع عشره، وعاثوا في معاملة صفد، وقتلوا جماعة، ولهبوا شيئاً كثيراً، فخرج إليهم عدة من عسكر وقاتلوهم، فقتلوا بأجمعهم، واشتدت وطأة بني بشارة على الناس، وكتب ناصر الدين محمد، وبدر الدين حسن ابنا بشارة إلى السلطان يسألان في تقدمة العشير على عادتهما، والتزما بحمل ثمانية آلاف دينار.
شهر ربيع الآخر، أوله الخميس: فيه طلب الأمير شيخ نائب الشام من أهل دمشق مالاً كثيراً، وفرض على القرى شعيراً يقوم به أهلها، فأخذ من تجار دمشق خمسة آلاف دينار على يد كبيرهم شمس الدين محمد بن المزلق، وألزم القضاة بألف وخمسمائة دينار، وأمرهم أن يفرضوها على الأوقاف، ووكل بهم بعض الحجاب حتى قاموا بها.(3/98)
وفي سادسه: قبض الأمير شيخ على تاج الدين زق الله ناظر الجيش بدمشق، وألزمه بحمل خمسة آلاف دينار، وولي عوضه علم الدين داود بن الكويز في نظر الجيش، واستقر بأخيه صلاح الدين خليل بن الكويز ناظر ديوان النيابة. واستقر بشهاب الدين أحمد الصفدي الموقع في كتابة السر بدمشق، وخلع عليهم، وقبض على غرس الدين خليل الأشتقتمري أستاداره وضربه بالمقارع. وكان حين قدم دمشق جعله أستاداراً، ثم عزله وجعل عوضه في الأستادارية بدر الدين حسن بن محب الدين كاتب سر طرابلس وجعل الغرس أستادار المستأجرات، ثم قبض عليه ونكبه في تاسعه. وفيه استقر أيضاً شهاب الدين أحمد الباعوني في خطابة الجامع الأموي.
وفي عاشره: خرج الأمير شيخ من دمشق بالعسكر يريد نوروز، وعمل تمراز الأعور نائب الغيبة، فنزل ببرزة أياماً، وأخذ من بدر الدين بن الموصلي محتسب دمشق ألف دينار، ثم ألفاً أخرى، وسار.
وفي ثالث عشرينه: قدم إلى دمشق الأمير يشبك الموساوي الأفقم. وكان الأمير نوروز قد قبض عليه وسجنه بدمشق، ثم حمله معه لما انهزم، وسجنه بقلعة حلب، وأمر بقتله. فلما اختلف نوروز وتمربغا المشطوب نائب حلب وصعد القلعة، أفرج تمربغا عن الموساوي، وكتب معه إلى السلطان يسأل الأمان. وكان سبب الاختلاف بين نوروز والمشطوب أن نوروز لما خرج منهزماً من دمشق سار إلى حلب، فتلقاه المشطوب، وقام له بما يليق به، ثم أشار عليه أن يطلب من السلطان الأمان، ويدخل في طاعته، فلم يوافقه. ومال المشطوب إلى طاعة السلطان وترك نوروز. وامتنع عليه بقلعة حلب، ففر نوروز من حلب وقصد ملطية، واستمر المشطوب في القلعة.
وفي ثامن عشره: سار يشبك الموساوي من دمشق يريد القاهرة، وقد ظلم الناس ظلماً كثيراً.
وفي سابع عشرينه: قدم إلى دمشق صدر الدين علي بن الآدمي من القاهرة، وقد ولاه السلطان كتابة السر بدمشق وقضاء الحنفية، وكان الأمير شيخ قد سيره رسولاً إلى السلطان لما أخذ دمشق ولبس تشريف النيابة، وبعث معه ألطنبغا شتل، وقاصد الأمير عجل بن نعير وكتب معه إلى الأمير جمال الدين الأستادار، فأنزله جمال الدين وأنعم عليه، وتحدث له مع السلطان حتى ولاه ذلك، وأعاده مكرماً. فلم يمض الأمير شيخ له كتابة السر وأقره على وظيفة قضاء الحنفية فقط.
وفي تاسع عشرينه: قدم قاصد السلطان إلى دمشق بتشريف الأمير تمراز الأعور واستقراره أتابك العسكر بدمشق، وكان الأمير شيخ قد كتب يسأل له في ذلك.
شهر جمادى الأولى، أوله السبت.
في سابع عشره: قبض السلطان بقلعة الجبل على الأمير بيغوت - أخص الأمراء عنده - وعلى الأمير سودن بقجة، وعلى الأمير أرنبغا أحد أمراء الطبلخاناة من إخوة بيغوت، وعلى الأمير أينال الأجرود أحد أمراء الطبلخاناه وعلى الأمير قرا يشبك أمير عشرة، وسجنهم بالقصر، وأحاط بأموالهم. ثم بعث بيغوت وسودن بقجة وقرا يشبك إلى الإسكندرية، فسجنوا بها. وذبح أرنبغا وأينال الأجرود، وأنعم على أينال المنقار وعلان ويشبك المرساوي، وعمل كل منهما أمير مائة مقدم ألف.
وفي خامس عشرينه: استقر ناصر الدين محمد بن قاضي القضاة كمال الدين عمر ابن العديم الحنفي في مشيخة خانكاه شيخو، وتدريس الحنفية بها، برغبة أبيه له عنها، كما وغب له عن تدريس المدرسة المنصورية، فباشر ذلك مع صغر سنه، وكثرة جنه، فيا نفس جدي إن دهرك هازل.
وفي سابع عشرينه: خلع على الأمير أرغون واستقر أمير أخور كبير، عوضاً عن كمشبغا المزوق. وفيه منع الأمير جمال الدين من فصل المحاكمات بين الناس.
وأما الشام فإن الأمير نوروز لما قدم ملطية واستقر بها، أواه ابن صدر الباز التركماني، وسلم تمربغا المشطوب حلب لأصحاب الأمير شيخ، ونزل من قلعتها، فتسلم حلب الأمير قرقماس ابن أخي دمرادش. فلما نزل الأمير شيخ العمق فر جماعة من النوروزية إليه، منهم سودن تلي المحمدي، وسودن اليوسفي، وأخبروا بأن نوروز عزم على الفرار من أنطاكية. وقدم أيضاً على الأمير شيخ الأمير شهاب الدين أحمد بن رمضان زعيم التركمان، في عدد كبير من قومه، فرحل الأمير شيخ بجمائعه من العمق يريد نوروز، فأدرك أعقابه، وقبض على عدة من أصحابه، وعاد إلى العمق، وبعث العسكر في طلبه، فقدم عليه الخبر أنه أمسك، هو ويشبك بن أزدمر، وجماعة من أصحابه.
في ثامن عشرينه: كسفت الشمس.(3/99)
وفي هذا الشهر: قدم كتاب الشريف حسن بن عجلان إلى الشريف جماز بن هبة أمير المدنية في عاشره، وكانت تولية إمارة المدينة للشريف ثابت بن نعير، فمات فولي حسن بن عجلان مكانه نيابة عنه أخاه، فثار بالمدينة جاز بن نعير، فكتب إليه ابن عجلان يقول: اخرج بسلام، وإلا فأنا قاصدك: فأظهر جماز الطاعة. وكان السلطان قد فوض سلطنة الحجاز لحسن بن عجلان. ثم أن جاز أرسل إلى الخدام بالمسجد النبوي يستدعيهم، فامتنعوا، فأتى إلى المسجد وأخذ ستارتي باب الحجرة النبوية، وطلب من الطواشية - خدام المسجد - المصالحة عن حاصل القبة بتسعة آلاف درهم، فأبوا ذلك، فطلب مفاتيح الحاصل من زين الدين أبي بكر بن حسين قاضي المدينة، فمانعه، فأهانه وأخذها منه، وأتى إلى القبة، وضرب شيخ الخدام بيده، ألقاه على الأرض، وكسر الأقفال ودخلها ومعه جماعة، فأخذ ما هناك فمن ذلك أحد عشر حوائج خاناه، وصندوقين كبيرين، وصندوقاً صغيراً فيها ذهب من ودائع ملوك العراق وغيرهم. وأخرج خمسة آلاف شقة بطاين معدة لأكفان الموتى، فنقل ذلك كله، وهم أحد بني عمه بأخذ قناديل الحجرة الشريفة، فمنعه. وأخذ آخر بسط الروضة، فأمره جماز بردها. وصادر بعض الخدام. ثم خرج من الغد حادي عشره راحلاً، فقصد العرب المجتمعة الرجوع، فرماهم الناس بالحجارة.
فلما كان ليلة تاسع عشره: وصل الشريف عجلان بن نعير من مكة إلى المدينة أميراً عليها من قبل حسن بن عجلان، ومعه آل منصور، فنودي بالأمان. ومن الغد قدم العسكر من مكة مع الشريف أحمد بن حسن بن عجلان، وهم ستون ما بين فارس وراجل، واثنان وعشرون مملوكاً، وصحبتهم رضي الدين أبو حامد محمد بن عبد الرحمن بن محمد المطري متوليا قضاء المدينة من قبل السلطان، قدم من القاهرة بولايته، فقرأ توقيعه بعد توقيع الشريف حسن بن عجلان، وتضمن استقراره في سلطنة المدينة النبوية وينبع، وخليص والصفراء وأعمالهم. وقرئ بعده مرسوم آخر باستقرار الشريف ثابت وتسلميه المدينة، وإيقاع الحوطة على الشريف جاز وما تحت يده من ناطق وصامت. وقرأ توقيع من جهة الشريف باستنابته عجلان بن نعير على المدينة. ثم توجه العسكر بعد أيام من المدينة عائداً إلى مكة.
شهر جمادى الآخرة، أوله الأحد: في تاسعه: أخذ عسكر الأمير شيخ - نائب الشام - أنطاكية من التركمان البازانية بعد حرب، فسار أحمد بن رمضان بالأمير نوروز ومن معه، و لم يمكن العسكر منه.
وفي رابع عشره: استقر ناصر الدين محمد بن كمال الدين عمر بن العديم في قضاء القضاة الحنفية بديار مصر، بعد موت أبيه، وهو أمرد، ليس بوجهه شعر. وكانت ولايته إحدى الدواهي والمصائب العظام.
وفي ثالث عشرينه: قدم شاهين دوادار الأمير شيخ إلى دمشق ومعه سودن المحمدي، وطوخ، وسودن اليوسفي، وقد قبض عليهم الأمير شيخ، فاعتقلوا بقلعة دمشق. وقدمت رأس حسين بن صدر الباز زعيم التركمان إلى دمشق، وذلك أنه لما سار مع الأمير نوروز من إنطاكية، حصلت بينه وبين الأمير شيخ حرب، قتل فيها، فانكسرت شوكة التركمان بقتله.
وفي خامس عشرينه: أنعم بإقطاع الأمير بشباي رأس نوبة على الأمير أينال الساقي، وبإقطاع أينال على الأمير أرغون أمير أخور، وبإقطاع أرغون على الأمير مقبل الرومي، نقل إليه من الطبلخاناه. وأنعم بطبلخاناه مقبل على الأمير بردبك.
وفي سادس عشرينه: كتب مرسوم باستقرار ناصر الدين محمد وبدر الدين حسن ابني بشارة في تقدمة العشير بمعاملة صفد، على أن يحملا ثمانية آلاف دينار للسلطان، ففرضا على أهل النواحي مالاً كبيراً جبوه لأنفسهما، ولم يصل منه شيء إلى السلطان. وفي سابع عشرينه: خلع على الأمير أينال الساقي واستقر رأس نوبة النوب عوضاً عن الأمير بشباي بحكم موته.
شهر رجب، أوله الثلاثاء: فيه قدم الأمير شيخ نائب الشام من سفره إلى دمشق، وقد دخل حلب، فكانت غيبته ثمانين يوماً. وبعث من ليلته بسودن الظريف. وسودن اليوسفي، وطوخ، وأرغز، وسلمان، وطغاي تمر - مقدم البريدية بديار مصر - إلى قلعة الصبيبة، فسجنوا بها.(3/100)
وفي ثالثه: فتحت مدرسة الأمير جمال الدين الأستادار التي أنشأها برحبة باب العيد من القاهرة، وحضر بها مدرسو الفقه على المذاهب الأربعة، ومدرس الحديث، فكان يوماً مشهوداً. وقرر في تدريس الحنفية بدر الدين محمود بن محمد - ويعرف بابن الشيخ زاده الخرزباني، وفي تدريس المالكية شمس الدين محمد البساطي، وفي تدريس الحنابلة فتح الدين محمد بن نجم الدين محمد الباهي، وفي تدريس الحديث النبوي الشريف شهاب الدين أحمد بن حجر، وفي تدريس التفسير شيخ الإسلام قاضي القضاة حلال الدين عبد الرحمن بن البلقيني. وقرر عند كل مدرس طائفة، عمل لهم الخبز في كل يوم والمعلوم في كل شيء وصار يجلس كل مدرس في يوم حتى كان آخرهم جلوساً مدرس التفسير.
وفي خامسه: أفرج الأمير شيخ عن رزق الله ناظر الجيش بدمشق.
وفي عاشره: استقر شيخ بالأمير برسباي حاجب الحجاب بدمشق. وولي شمس الدين محمد بن الجلال التباني نظر الجامع الأموي.
وفي حادي عشرينه: قدم الخبر بأن التركمان أطلقوا الأمير نوروز.
وفي ثاني عشرينه: فر الأمير تمربغا المشطوب نائب حلب من الأمير شيخ بدمشق.
وفي رابع عشرينه: أعاد السلطان أمين الدين عبد الوهاب بن محمد بن الطرابلسي إلى قضاء القضاة الحنفية بديار مصر، وعزل ناصر الدين محمد بن العديم، فشكر الناس ذلك من أفعاله.
وفي ليلة الأحد سابع عشرينه: فر من دمشق جماعة من المماليك، ولحقوا بالأمير نوروز، وقد سار بعد خلاصه من يد التراكمين إلى قلعة الروم، واستولى عليها، فركب الأمير شيخ في طلبهم، فلم يدركهم وعاد ليلة الثلاثاء وقبض على يشبك العثماني.
وفيه ولي شمس الدين محمد البيري - أخو الأمير جمال الدين الأستادار - تدريس الشافعي بالقرافة، ومشيخة خانكاه بيبرس القاهرة، مع ما بيده من خطابة بيت المقدس تجاه أخيه.
وفي هذا الشهر: توجه الأمير يشبك الموساوي الأفقم إلى الأمير شيخ لإحضاره من عنده من الأمراء النوروزية، وقتل أرغز وجان بك القرمي. وجهز إلى الأمير أحمد بن رمضان خيول ثلاثة أروس. وتشريف. وسرج ذهب، وسيف، وسلاح، وقماش سكندري، وأقبية مفرية، له ولإلزامه.
شهر شعبان، أوله الأربعاء: في رابعه: قدم دمشق قاصد السلطان ومعه تشريف للأمير شيخ، فركب إلى داريا ولبسه، وعاد إلى دار السعادة في أبهة جليلة، وبين يديه الأمير برسباي الحاجب، وعليه تشريف سلطاني قدم من مصر، والأمير تمراز الأعور وعليه أيضاً تشريف سلطاني، وقاضي القضاة شمس الدين محمد الأخناي وعليه تشريف سلطاني قد بعثه إليه السلطان، وأعاده إلى قضاء دمشق عوضاً عن نجم الدين بن حجي.
وفي خامسه: فرض الأمير شيخ خطابة الجامع الأموي لناصر الدين محمد بن البارزي كاتب سر حماة، وصرف الباعوني، وخطب يوم الجمعة عاشره، وكان قد ترك كتابة سر حماة، وقدم دمشق.
وفي تاسعه: قدم الأمير يشبك المرساوي الأفقم من القاهرة إلى دمشق، فخرج الأمير شيخ إلى لقائه، وأكرمه وأنزله، وقام له بما يليق به، ثم توجه إلى بلاد حلب وغيرها في مهمات سلطانية.
وفي عاشره: جاءت زلزلة عظيمة في نواحي بلاد حلب وطرابلس. فخرب من اللاذقية وجبلة وبلاطنس أماكن عديدة، وسقطت قلعة بلاطنس. فمات تحت الردم بها خمسة عشر نفساً، ومات بجبلة خمسة عشر نفساً، وخربت شغر بكاس كلها والقلعتين بها، ومات جميع أهلها، إلا نحو خمسين نفساً، وانشقت الأرض وانقلبت قدر بريد من بلد القصير إلى سلفوهم، وأن بلد السلفوهم كانت فوق رأس جبل، فنزلت عنه وانقلبت قدر ميل بأهلها وأشجارها وأعينها ومواشيها، وذلك ليلاً لم يشعروا إلا وقد صاروا إلى الموضع الذي انتقلت إليه البلد، ولم يتأذ أحد منهم. وكانت الزلزلة أيضاً بقبرص فخربت منها أماكن كثيرة، وكانت بالساحل والجبال، وشوهد ثلج على رأس الجبل الأقرع، وقد نزل إلى البحر، وطلع وبينه وبين البحر عشر فراسخ. وأخبر البحرية أن المراكب بالبحر الملح جلست على الأرض بما فيها، من انحسار البحر. ثم أن الماء عاد كما كان، ولم يتضرر أحد.
وفي حادي عشره: ولي الأمير شيخ نيابة بعلبك للأمير سيف الدين أبي بكر بن شهاب الدين أحمد بن النقيب اليغموري. وفيه وصل إلى دمشق عدة رءوس من المماليك الذين فروا، وقد قبض عليهم بحلب، وقتلوا منهم رأس طوخ الأجرود.(3/101)
وفي سادس عشرة: قرئ بدمشق كتاب السلطان بإلزام الناس بعمارة ما خرب من المساكن والمدارس وغيرها داخل مدينة دمشق. وفيه خلع على تاج الدين رزق الله ناظر الجيش بدمشق، واستقر نائب السلطة بالقدس، وناظر أوقاف القدس والخليل. ولم نعهد مثل ذلك أن كاتباً يلي نيابة السلطة ببلد.
وفي آخره: نودي بالقاهرة ألا يركب أحد من القضاة والفقهاء والكتاب والتجار وأجناد الحلقة فرساً، ولا بغلاً إلا أن يكون في خدمة السلطان، أو الأمراء الكبار، فامتنع الجميع. ثم أذن لطوائف في الركوب بمراسيم سلطانية، وكتبت من ديوان الإنشاء. فكان الرجل يحمل مرسومه معه خشية من تعرض المماليك له. واشتد الأمر في ذلك أياماً، ثم انحل.
شهر رمضان، أوله الجمعة: في يوم الأربعاء سادسه: نودي بالقاهرة ألا يتعامل أحد بالذهب، وهدد من باع بالذهب واشترى، وكان قد وصل المثقال إلى مائة وسبعين فلوساً، كل درهم وزنه أوقيتان، واستدعى الأمير جمال الدين جميع أهل الأسواق، وكتب عليهم قسايم بذلك، فنزل بالناس من ذلك ضرر عظيم، من أجل أن النقد الرابح الذهب وبه معاملة الكافة أعلاهم وأدناهم، ومنع أيضاً من صنع الذهب المطرز والمصوغ، فاستمر الحال على ذلك أياماً. ثم نودي في حادي عشرينه بأن يتعامل الناس بالذهب على أن يكون كل مثقال بمائة وعشرين، وكل دينار مشخص بمائة درهم، فشح الناس بإخراج الذهب، وارتفعت الأسعار ارتفاعاً كثيراً.
وفي ليلة الاثنين حادي عشره: فر من دمشق الأمير برسباي حاجب الحجاب، فلم يعلم خبره، وأقام الأمير شيخ عوضه الأمير ألطنبغا القرمشي. وفيه شرع الأمير شيخ في عمارة مواضع من داخل مدينة دمشق مما خرب في فتنة تيمورلنك، وألزم الناس بالعمارة في أماكنهم، ومن عجز فليؤجر ذلك، فأخذ الناس في ذلك.
وفي ليلة حادي عشرينه: خرج الأمير شيخ من منزله بدار السعادة ماشياً إلى جامع بني أمية، بثياب بدلته، وهو حاف متواضع لربه تعالى، حتى دخل الجامع، وتصدق بأقراص محشوة بالسكر وغير محشوة، فعم القراء والفقراء. وطلب أرباب السجون المعسرين، فأدى غرماؤهم ما عليهم من الديون.
وفي بكرة نهاره: قدم يشبك الأفقم من حلب إلى دمشق، وقد مشى على المملكة كلها، فأكرمه الأمير شيخ، وأنعم عليه، وأعاده إلى القاهرة في ثالث عشرينه.
وفي هذا الشهرة ضرب الأمير شيخ بدمشق فلوساً كل ستة منها بثمن درهم. وكانوا منذ سنين يتعاملون بها وزناً، كل رطل دمشقي بثمانية دراهم، فصارت على حسابها عدداً كل رطل باثني عشر درهماً، ووزن الفلس منها درهم، فشملت المضرة في هذا الشهر أهل مصر والشام من جهة المعاملة.
وفي هذا الشهر: كوتب الأمير قرا يوسف، جواباً عن مكاتبته عند أخذه تبريز.
شهر شوال، أوله الأحد: في خامسه: قبض الأمير شيخ على الأخناي قاضي دمشق وسجنه، من أجل أنه وشى به أنه يكاتب الأمير نوروز ثم أفرج عنه آخر النهار، على أن يقوم بثلاثمائة ثوب أبيض، نصفها وجوه ونصفها بطائن، فأخذ في جمعها.
وفي سادسه: قدمت ولاية نجم الدين بن حجي القضاء عوضاً عن الأخناي وتاريخ توقيعه ثالث عشر شهر رمضان.
وفي تاسع عشره: وصل إلى دمشق تشريف السلطان للأمير شيخ، فركب إلى تلقيه، ولبسه خارج دمشق، وعاد إلى دار السعادة. ثم لبس بن حجي تشريفة بولايته قضاء دمشق ومضى إلى الجامع، فقرئ تقليده بحضرة الحاجب والوزير والقضاة والأعيان. وأخذ مع القضاء جميع ما بيد ابن الأخناي من الوظائف، سوى نظر وقف القلانسي، فإنه خرج باسم كاتبه أحمد بن علي المقريزي.
وفي هذا الشهر: نودي بالقاهرة أن يكون المثقال الذهب بمائة درهم فامتنع الناس من إظهاره، وارتفع سعر المبيعات ارتفاعاً زائداً.
وفي يوم الثلاثاء رابع عشرينه: سار المحمل بالحاج مع الأمير شهاب الدين أحمد بن الأمير جمال الدين الأستادار، وبلغت نفقة الأمير جمال الدين على الحاج في هذه السنة إلى أربعين ألف دينار، منها لشيخ الجبال مبلغ خمسين ألف درهم.
شهر ذي القعدة، أوله الثلاثاء: في رابعه: نودي بالقاهرة أن يكون المثقال الذهب بمائة، والأفرنتي ثمانين، وألا يمكن أحد من السفر بشيء من الذهب، فاشتد الأمر على الناس.(3/102)
وفي عاشره: قدم الخبر على الأمير شيخ بأن يشبك الموساوي وشى به إلى السلطان أنه قد خرج عن طاعته، وأن السلطان غضب، وعزم على السفر إلى الشام، فاستدعى القضاة والأعيان، وكتب محضرا أخذ خطوطهم فيه ببطلان ما قيل عنه، وأنه باق على الطاعة السلطانية. وبعث به مع نجم الدين بن حجي قاضي دمشق، فسار في ثالث عشره.
وفي رابع عشره: خرج الأمير شيخ من دمشق إلى جهة القبلية، وأفرج - وهو نازل على قبة يلبغا - عن يشبك العثماني. وفيه قدم الأمير قرقماس بن أخي دمرداش نائب صفد منها، مارا بدمشق إلى حلب يريد عمه الأمير دمرداش المحمدي نائب حلب، وقد استدعاه. فاستماله الأمير شيخ واشتمل عليه، ومضى به إلى الخربة للصيد والنزهة.
وفي خامس عشره: نقل الوزير فخر الدين بن غراب من سجنه بدار الأمير جمال الدين الأستادار، وسلم للأمير شهاب الدين أحمد بن الطبلاوي والي القاهرة، فعاقبه عده عقوبات.
وفي حادي عشرينه: نودي بالقاهرة أن يكون المثقال الذهب الهرجة بمائة وعشرين، والدينار المشخص، والدينار الناصري بمائة درهم.
وفي ثالث عشرينه: قدم القاضي نجم الدين بن حجي القاهرة بالمحضر وكتاب الأمير شيخ، يستعطف خاطر السلطان، ويعتذر عن تأخيره إرسال من طلبه من الأمراء، فلم يقبل السلطان عذره، واشتد غضبه، وأظهر الاهتمام بالخروج إلى الشام، ثم كتب الجواب بتجهيز أمراء عينهم إلى مدة ستة وعشرين يوماً، ومتى مضت هذه المدة ول يجهزهم سار لقتاله وحربه. وبعث بذلك على يد ابن حجي.
وفي ليلة الأربعاء رابع عشرينه: قتل الأمير عمر بن فضل الجرمي. وذلك أن السلطان كان قد بعث بنيابة الكرك رجلاً يقال له محمد التركماني، من عرض الجند وآحاد الناس، عزل به سودن الجلب، وأسر إليه قتل عمر بن فضل، وكان قد اشتدت شوكته وثقلت وطأته وكثر عصيانه وخروجه عن طاعة السلطان. فلما نزل محمد التركماني على الكرك - وقد امتنع الجلب، وأسر إليه قتل عمر بن فضل، وكان قد اشتدت شوكته وثقلت وطأته وكثر عصيانه وخروجه عن طاعة السلطان. فلما نزل محمد التركماني على الكرك - وقد امتنع الحلب بها - أتاه ابن فضل وقد نازعه عمه وكثر الخلف بينهما، فأخذ ليصلح بينهما، ويسكن ما ثار من الشر، وفي ظن ابن فضل وغيره أنه أقل من أن يتعرض لأحد من خدمه، فضلا عنه، فلم يعبأ به، ولا أتاه في عدة من سلاحه ولا عدد من قومه، فوجد عند ذلك التركماني السبيل إليه، فانتهز الفرصة، وبادر إليه وقتله، وبعث برأسه إلى السلطان. فكتب فضل بن عيسى الجرمي يسأل السلطان في الإمرة عوض عمر، على أن يقوم بمائة و خمسين ألف درهم فضة، وكتب: شاورت عمر بن فضل، يسأل فيها، ويعد بمائتي ألف درهم.
وفي هذا الشهر: بعث الأمير شيخ إلى سودن الجلب بالكرك يستميله إليه، وبعث بالأمير جانم ليصلح بينه وبين الأمير نوروز، وجهز له ستة آلاف دينار، فمال إليه.
وفيه اهتم الأمير دمرداش نائب حلب بحرب الأمير نوروز، وجمع طوائف العربان والتركمان، وسار إليه الأمير بكتمر حلق نائب طرابلس في ثانيه، منزل بالعمق، وحضر إليه نائب إنطاكية وقصد الأمير شهاب الدين أحمد بن رمضان زعيم التركمان، يحث بمسيره إليه.
وقدم كردي باك بن كندر وعربان بني كلاب، ومضوا ببيوتهم إلى إعزاز، وقد لزل تغري بردى بن أخي دمرداش وهو أتابك العسكر بحلب على برج دابق، ومعه أيدغمش بن كبك، وطوائف التركمان الأوشرية.
وبرز الأمير دمرداش نائب حلب منها ومعه التراكمين البياضية، فرحل الأمير بكتمر جلق والأمير تغري بردى من مرج دابق. وقد نزل الأمير نوروز بجمائعه على عين تاب، فتقدم إليه تعري بردى بالكبكية جاليش. فرحل نوروز إلى جهة مرعش، وتحاربت كشافته مع كشافة العسكر محاربة قوية، أسر فيها عدة من النوروزية، فانهزم نوروز، واستولى العسكر السلطاني على عين تاب. وكانت كسرة نوروز يوم الأحد ثاني عشره، وعاد الأمير دمرداش إلى حلب، وكتب بذلك إلى السلطان.
شهر ذي الحجة، أوله الأربعاء: فيه قدم رأس عمر بن فضل إلى السلطان، فطف به القاهرة، وعلق على باب زويلة. وفيه هبت رياح عاصفة شديدة. وفيه أخرج الوزير الصاحب فخر الدين ماجد بن غراب من سجنه بدار الأمير شهاب الدين أحمد بن محمد بن الطلاوي والي القاهرة، ميتا.(3/103)
وفي حادي عشره: قدم ابن حجي قاضي دمشق بجواب السلطان على الأمير شيخ، فأعاده إلى دمشق، فقدمها في رابع عشره، ومضى الأمير شيخ إلى صرخد وعاد فنزل الحرجلة في رابع عشرينه. ونودي بدمشق من الغد بخروج العسكر إليه، فخرجوا في سابع عشرينه، فدخل وهم بين يديه ومعهم القضاة إلى دمشق، فنزل بدار السعادة وقد غاب في سفره بأراضي الخربة مدة اثنتين وأربعين يوماً، فأقام يومه، وأصبح وعزمه قوي على تجهيز الأمراء المسجونين إلى السلطان، وأخذ في ذلك فبلغه أن تغري برمش كاشف الرملة فر منها لقدوم كاشف ونائب القدس من قبل السلطان، وأن السلطان عزم على المسير إلى الشام، وأخرج الروايا والقرب على الجمال، ومعها الطبول، وعدتها نحو مائتي جمل، على كل جمل راويتان وثلاث، لتطيب في الردك بشاطئ النيل بسبب التجريدة. فرجع عن إرسال الأمراء، وعول على أمر آخر.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
عمر بن إبراهيم بن محمد بن العديم، قاضي القضاة كمال الدين، في ليلة السبت ثاني عشر جمادى الآخرة، ومولده بحلب سنة إحدى وستين وسبعمائة، وكان قاضي سوء. قال فيه عثمان بن محمد الشغري الحنفي.
ابن العديم الذي في عينه عور ... وليس محمودة في الناس سيرته
أليس أن عليه ستر عورته ... لكن نزول القضاء أعمي بصيرته
ومات الأمير بشباي رأس نوبة النوب في ليلة الأربعاء رابع عشرينه، ودفن بالقرافة. وكان ظالماً غشوماً.
ومات الأمير يلبغا السالمي، خنق بعد عصر يوم الجمعة سابع عشره بالإسكندرية. وكان مخبطاً، خلط عملاً صالحاً بعمل سيئ.
ومات محمد بن محمد بن أبي البقاء جلال الدين بن قاضي القضاة بدر الدين بن قاضي القضاة بهاء الدين، في يوم الاثنين سابع رجب. وكان ينوب في القضاء، ودرس الشافعي وغيره، وهو عار من الفضل والفضيلة.
ومات الأمير أرسطاي نائب الإسكندرية، بها، في نصف ربيع الآخر، وكان مهاباً.
ومات الأمير الكبير بيبرس ابن أخت الظاهر برقوق بسجنه من الإسكندرية، مقتولاً.
ومات الأمير سودن المارديني. ومات الأمير بيغوت.
ومات الشريف ثابت بن نعير بن ومنصور بن جماز بن شيحه الحسيني، أمير المدينة النبوية، في صفر، فولي بعده أخوه عجلان بن نعير.
ومات الوزير فخر الدين ماجد، ويسمى محمد بن عبد الرازق بن غراب، في غرة ذي الحجة.
سنة اثنتي عشرة وثمانمائة
أهلت وخليفة الوقت المستعين بالله أبو الفضل العباس بن محمد المتوكل على الله أبي عبد الله محمد. والسلطان الملك الناصر أبو السعادات فرج بن الظاهر أبي سعيد برقوق بن أنص العثماني اليلبغاوي. وهو مستقل بتدبير الأمور، ومعتمد على وزيره الأمير الوزير المشير ناظر الخواص، وكاشف الكشاف جمال الدين يوسف بن أحمد الأستادار البجاسي البيري، وكاتب سره فتح الدين فتح الله بن معتصم بن نفيس الإسرائيلي الداودي التبريزي. وناظر جيشه الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله النستراوي، ونائب الشام الأمير شيخ المحمودي. ونائب حلب الأمير دمرداش المحمدي ونائب حماة الأمير جانم، ونائب طرابلس الأمير بكتمر جلق، ونائب صفد الأمير قرقماس ابن أخي دمرداش. ونائب غزة الأمير ألطنبغا العثماني. ونائب الكرك الأمير ناصر الدين محمد التركماني، ولم يمكن منها لتغلب سودن الحلب عليها.
وقضاة مصر شيخ الإسلام قاضي القضاة جلال الدين أبي الفضل بن شيخ الإسلام قاضي القضاة سراج الدين عمر بن رسلان بن نصر البلقيني الشافعي. وقاضي القضاة أمين الدين عبد الوهاب بن قاضي القضاة شمس الدين محمد بن أبي بكر الطرابلسي الحنفي، وقاضي القضاة شمس الدين محمد بن علي بن معبد القدسي المدني المالكي، وقاضي القضاة مجد الدين سالم بن سالم المقدسي الحنبلي. وقضاة دمشق نجم الدين عمر بن حجي الشافعي، وصدر الدين علي بن الآدمي الحنفي. وشرف الدين عيسى المغربي المالكي، وشمس الدين محمد بن عبادة الحنبلي.
شهر الله المحرم الحرام، أوله الجمعة ثم ثبت أنه الخميس: أهل والدينار الهرجة في القاهرة بمائة وستين درهماً فلوساً، والقمح بمائة وخمسين درهماً الأردب.
وفي ثانيه: أخرج الأمير شيخ نائب الشام المنجنيق من قلعة دمشق إلى الإسطبل، وأقطع جماعة من أصحابه عدة من الأوقاف.
وفي ثالثه: سار شيخ من دمشق إلى المرج، فخيم به.(3/104)
وفي رابعه: نصبت خيمه السلطان تجاه مسجد تبر من الريدانية، خارج القاهرة.
وفي سابعه: خرج مقدم العساكر الأمير الكبير تغري بردى الأتابك، ومعه من الأمراء الألوف، الأمير أقباي الطرنطاي رأس نوبة الأمراء، والأمير طوخ أمير مجلس، والأمير طوغان الحسني رأس نوبة، والأمير علان، والأمير أينال المنقار الجلالي، والأمير كمشبغا المزوق، والأمير يشبك الموساوي الأفقم، وعدة من الأمراء الطبلخاناة، والعشرات والمماليك، ونزلوا بالريدانية. وفيه أعيد ناصر الدين محمد بن العديم الحنفي إلى قضاء الحنفية بديار مصر وعزل قاضي القضاة أمين الدين عبد الوهاب بن الطرابلسي، وكان قد قبص نفقة السفر أسوة رفقائه خمسة عشر ألف درهم فلوساً، فأنعم بها عليه.
وولي مشيخة خانكاه شيخو، عوضاً عن ابن العديم، فغبطه الناس على هذه النعم الثلاثة: العافية من السفر، وتعوض الشيخولية عن القضاء، والسعة بهذا القدر من المال. وكانت ولاية ابن العديم بمال جزيل. وفيه أعيد ابن شعبان إلى الحسبة بمال، وعزل الحبري.
وفي يوم الاثنين حادي عشره: ركب السلطان من قلعة الجبل في بقية عساكره، ونزل بمخيمه تجاه مسجد تبر.
وفيه رحل الأمير الكبير تغري بردى من الريدانية، بمن معه من الأمراء والأجناد، قاصداً دمشق. وفيه طلب الأمير شيح نائب الشام قضاة دمشق، فخرجوا إليه بالمرج فأرادهم أن يسلموه الأوقاف ليقطعها أصحابه، فآل الأمر إلى مصالحته عنها بثلث متحصلها، وعادوا.
وفي ثالث عشره: أعيد الحبري إلى حسبة القاهرة، وخلع عليه بحضرة السلطان، وهو بتربة أبيه خارج باب النصر، وقد عاد إليها من مخيمه، وعزل بن شعبان.
وفي رابع عشره: خلع السلطان على الأمير أرغون الرومي، واستقر نائب الغيبة مقيماً بالإسطبل على حاله بالأمير مقبل الرومي. ورسم أن يقيم بقلعة الجبل لحفظها، والأمير يلبغا الناصري، واستقر نائب الغيبة، لفصل القضايا والأحكام بين الناس.
والأمير كزل العجمي الحاجب، ليحكم بين الناس أيضاً، والأمير شهاب الدين أحمد ابن أخت الأمير جمال الدين الأستادار، ليتحدث عوضاً عن خاله مدة غيبته، ومرجع الجميع إلى الأمير يلبغا الناصري. وفيه رحل السلطان من تجاه مسجد تبر، يريد الشام، ومعه الخليفة والقضاة وأرباب الدولة.
وفيه أفرج الأمير شيخ نائب الشام عن الأمير سودن تلي الحمدي، والأمير طوخ، والأمير سودن اليوسفي، وهم الذين طلبهم السلطان، فامتنع من إرسالهم إليه حتى غضب، وسار من مصر إلى دمشق ليأخذ الأمير شيخ. وفيه قبض الأمير شيخ على الأمير كمشبغا الجمالي الواصل من جهة السلطان لأخذ الأمراء المذكورين.
وفيه أظهر شيخ ما في نفسه، وصرح بالخروج عن طاعة السلطان، وأخذ في الاستعداد، وطلب الأمراء الذين أفرج عنهم إليه بالمرج، في ليلة الثامن عشرينه. واستدعى قضاة دمشق وفقهاءها، وتحدث معهم بحضرة الأمراء بجواز محاربة السلطان، فأفتاه شهاب الدين أحمد بن الحسباني بما وافق غرضه، وقام في ذلك شمس الدين محمد ابن الجلال التباني الحنفي قياماً بالغاً، نقل عنه إلى السلطان.
وفي حادي عشرينه: سار الأمير سودن المحمدي من دمشق إلى غزة، ومعه طائفة من عسكر الأمير شيخ، واستخدم جماعة.
وفي ثالث عشرينه: دخل السلطان إلى غزة، ونزل ظاهرها. وولي الأمير أينال الصصلاني أمير أخور نيابة غزة، وعزل عنها الأمير ألطنبغا العثماني، وولاه نيابة صفد. وقدم الخبر بأن الأمير تغري بردى كبس الرملة، يريد القبض على شاهين، دوادار الأمير شيخ، في حادي عشرينه ففر منه ولم يظفر به، وأقام حتى تقدم السلطان إلى الرملة، فرحل السلطان.
وفي بكرة رابع عشرينه: عاد سودن المحمدي ومعه شاهين الدوادار إلى وطاق الأمير شيخ، وأخبراه بقدوم السلطان، فتحول في سادس عشرينه من المرج إلى داريا، ونزل إلى قبة يلبغا. فقدم عليه قرقماس ابن أخي دمرداش، فار من صفد. وفيه قبض الأمير شيخ على ابن عبادة قاضي الحنابلة بدمشق، وعلى الرشاوي أحد نواب قضاة الشافعية، وعلى الأمير شرف الدين يحيى بن لاقي وألزمهم بمال كثير.
وفي ثامن عشرينه: قدم الأمير جانم نائب حماة على الأمير شيخ في عشرة.(3/105)
وفي تاسع عشرينه: رحل الأمير شيخ بمن معه يريد ناحية صرخد، وجعل نائب الغيبة بدمشق الأمير تنكر بغا الحططي. وفيه قبض شيخ على عدة من تجار دمشق وقرر عليهم عشرة آلاف دينار وحملهم معه، هم وبدر الدين محمد بن الموصلي محتسب دمشق وكمشبغا الجمالي، وغيره في الحديد، وأفرج عن ابن عبادة الحنبلي، وفر الرشاوي.
وفي سلخه: قدمت كتب السلطان إلى دمشق - بعد رحيل الأمير شيخ - باسم قضاتها وأعيانها، تتضمن إنكار أفعال الأمير شيخ، وأنه ما لم يجهز الأمراء الذين طلبوا منه، وإلا فهو معزول، ولتقاتله العامة.
شهر صفر، أوله السبت: في ليلة السبت المذكور: نزل السلطان باللجون، فشاع بين العسكر تنكر قلوب المماليك الظاهرية على السلطان، وتحدثوا بإثارة فتنة لتقديمه مماليكه الحلب عليهم، واختصاصه بهم، وكثرة عطائه لهم، فلما أصبح السلطان، رحل ونزل بيسان من آخره، فما هو إلا أن غربت الشمس، ملج العسكر، وهدت الخيم، واشتد اضطراب الناس. وكثر قلق السلطان وخوفه طول الليل إلى أن طلع الفجر رحل إلى جهة دمشق. وسبب ذلك أن الأمير أقبغا دوادار يشبك - وهو يومئذ من جملة دوادارية السلطان - قال لكاتب السر فتح الدين فتح الله - وقد خرج معه من خدمة السلطان بالمخيم - أن الأمير علان، والأمير أينال المنقار، والأمير سودن بقجة، قد عزموا على الركوب في هذه الليلة على السلطان، ومعهم عدة من المماليك السلطانية. فأخذ فتح الله بيد أقبغا، وعاد به إلى السلطان، وأمره أن يعلمه بما حدثه به، فاعلم السلطان الخبر سراً فيما بينه وبينه. فاستدعي الأمير جمال الدين الأستادار، وأمر أقبغا فحدثه الحديث وذلك أنه لم يكن حينئذ السلطان يثق بأحد، ولا يعتمد عليه.، كثقته بكاتب السر فتح الله، وأستاداره جمال الدين، فاستشارهما فيما يعمل، فدار الرأي بين السلطان وبينهما، وبين أقبغا، من غير أن يعلم ذلك أحد، حتى استقر رأيهم على أن السلطان يستدعي وفي وقت المغرب بعلان وأينال المنقار إلى عنده، ويقبض عليهما، ويكون جمال الدين قد ركب في جماعته إلى ظاهر العسكر من جهة الشام لأخذ من عساه يفر من المماليك إلى جهة الأمير شيخ، وقاموا من عند السلطان على هذا، فغدر جمال الدين، وبعث إلى علان، وأينال المنقار، وسودن بمجة، والأمير تمراز الناصري نائب السلطة - وكان قد خرج من مصر وهو أرمد - يسير في المحفه، فأعلمهم بالخير وبعث إليهم بمال كبير لهم، وللأمير شيخ نائب الشام، فما هو إلا أن غربت الشمس ركب تمراز، وسودن بقجة، وأينال المنقار، وقرا يشبك، وسودن الحمصي وعدة مماليك سلطانية يتجاوز عددهم المائة، وسروا إلى جهة الشام يريدون الأمير شيخ، حتى لحقوا به، فاختبط العسكر، واشتد قلق السلطان، وطلب السلطان جمال الدين وفتح الله لثقته بهما - ولا علم له بشيء مما فعله جمال الدين - فأشار عليه فتح الله بالثبات، وأشار جمال الدين بركوبه ليلاً، وعوده إلى مصر، يريد بذلك إفساد حال السلطان، فنازعه فتح الله وخاصة السلطان، وما زالوا بالسلطان يثبتونه حتى طلع النهار، فسار يريد دمشق.
وفي ثانيه: نودي بدمشق في الناس بقدوم السلطان، فخرجوا إلى لقائه. وفيه ورد الخبر على السلطان برحيل الأمير شيخ عن دمشق إلى جهة بصرى.
وفي ليلة الخميس سادسه: نزل السلطان الكسوة، ففر الأمير علان وجماعة من المماليك إلى جهة الأمير شيخ. فركب السلطان بكرة يوم الخميس، ودخل دمشق، ونزل بدار السعادة. ونزل الأمراء في أماكنهم.
وفي سابعه: قبض بدمشق على الشهاب أحمد بن الحسباني، وسلم إلى ألطنبغا شقل من أجل أنه أفتي بقتال السلطان. وطلب ابن التباني فإذا هو قد سار مع الأمير شيخ. وفيه كتب السلطان بالإفراج عن سودن الظريف، وأرغز، وسلمان، من سجنهم بقلعة الصبيبة.
وفي ثامن: توجه الأمير ألطنبغا العثماني نائب صفد من دمشق إلى محل كفالته. وفيه ألزم الأخناي وابن عبادة الحنبلي بحمل شعير، قرر عليهما. وفيه قدم الخبر بنزول الأمير شيخ الصنمين، فنودي في العسكر بدمشق أن يلبسوا السلاح، ويقفوا بالليل عند باب الميدان، فبات الناس على خوف ووجل.
وفي تاسعه: استقر الأمير زين الدين عمر الهيذباني حاجب الحجاب بدمشق والأمير ألطنبغا شقل حاجباً ثانياً، والأمير بردي باك نائب حماة، عوضاً عن جانم، وخلع عليهم بدار السعادة.(3/106)
وفيه كتب تقليد الأمي رنوروز بنيابة حلب، وجهز إليه، ومعه التشريف والسيف على العادة.
وفي رابع عشره: قدم الأمير أق بلاط من القاهرة بطائفة من المماليك السلطانية. وفيه قبض على رجلين معهما كتب الأمير شيخ إلى الأمراء، فشنقا.
وفي خامس عشرة: قدم الأمير بكتمر جلق نائب طرابلس إلى دمشق، وكان قد اجتمع مع الأمير دمرداش نائب حلب عند باب الحديد، يريدان حرب الأمير نوروز، وهو على ملطية، فوافاهما كتاب السلطان من غزة بطلبهما، فسارا حتى قدما على السلطان. وفيه قدم الخبر بأن الطاعون قد فشا بحمص، ومات بها - وبحماة - ألوف من الناس، وأنه حدث بطرابلس طاعون.
وفي سادس عشره: قدم من مصر عدة من المماليك السلطانية، وفيه فرض على قرى المرج والغوطة - ظاهر دمشق - وعلى بلاد حوران وغيرها، شعير يقوم به أهل كل ناحية بقدر معلوم، فاشتد الأمر في جبايته على الناس.
وفي عشرينه: قدم الأمير دمرداش نائب حلب، فأكرمه السلطان، وأنعم عليه. وفيه خلع على الأمير بكتمر جلق، واستقر نائب الشام، عوضاً عن الأمير شيخ، وخلع على الأمير دمرداش، واستقر في نيابة طرابلس مضافة إلى نيابة حلب. وفيه قبض الأمير جمال الدين الأستادار على ناصر الدين محمد بن البارزي الحموي، وضربه ضرباً مبرحاً، واستعاد منه ما تناوله من معلوم خطابة الجامع الأموي، وسبب ذلك أنه كان ولي أخاه شمس الدين محمد بن أحمد البيري - قاضي حلب - خطابة القدس، عوضاً عن شهاب الدين أحمد الباعوني، وعوض الباعوني خطابة القدس بخطابة الجامع الأموي، فولي الأمير شيخ بن البارزي الخطابة بالجامع الأموي، وعزل الباعوني - كما تقدم ذكره - فترامي الباعوني على الأمير جمال الدين وتلقاه قبل دخوله دمشق بعدة أيام، فتعصب له، وفعل بابن البارزي هذا وسجنه.
وفي ليلة ثاني عشرينه: قتل شرف الدين محمد بن موسى بن محمد بن الشهاب محمود الحلبي، قتله الأمير جمال الدين الأستادار، لحقد كان في نفسه منذ أيام حموله بحلب.
وفي رابع عشرينه: ولي السلطان قضاء الحنفية بدمشق شهاب الدين أحمد بن محيي الدين محمود بن نجم الدين أحمد بن إسماعيل بن محمد بن أبي العز - المعروف بابن الكشك - وعزل الصدر علي بن الآدمي، وولي نجم الدين عمر بن حجي قضاء طرابلس بسؤاله. ورسم أن يعين غيره بقضاء دمشق، فوقع الاختيار على الباعوني، فولاه قضاء دمشق في سابع عشرينه، وهذه ولايته الثانية.
وفي تاسع عشرينه: ركب الخليفة المستعين بالله، وقضاة مصر الأربع، وقضاة دمشق، ونودي في الناس بدمشق أن يقاتلوا الأمير شيخ الكذا، فإنه كذا، إلى غير ذلك في كلام طويل، يقرأ من ورقه.
شهر ربيع الأول، أوله الأحد: فيه ركب السلطان من دار السعادة إلى الربوة، وعاد.
وفي ثانيه: سارت أطلاب السلطان والأمراء من دمشق إلى الكسوة، وتبعهم السلطان بعساكره، وعليهم آلة الحرب، فبات بالكسوة، وأصبح راحلاً إلى جهة الأمير شيخ. وأقر تنكز بغا الحططي في نيابة الغيبة بدمشق، وسار بكرة يوم الثلاثاء، فمر بالصنمين، ونزل من آخره برأس الماء على بريد من الصنمين، وبات. فقدم الخبر بالتقاء كشافة السلطان بكشافة الأمير شيخ، وأسرهم رجلاً من الشيخية. وسار السلطان بكرة يوم الأربعاء إلى قرية الحراك، فنزل نصف النهار قدر ما أكل السماط ثم رحل رحيلاً مزعجاً، ظن الناس أن العدو قد طرقهم، فحد في مسيره ونزل عند الغروب بكرك البثنية من حوران. وبات على خوف من جمال الدين أن يقبض عليه، فإنه بلغه أنه وافق الأمير قردم وغيره على ذلك، فأعد عنده بداخل مخيمه هجنا، وأسر إلى كاتب سره فتح الله أنه قد عزم في هذه الليلة على ركوب هذه الهجن والعود إلى مصر فإن جمال الدين وقردم قد عولا على أن يكبسا علي، فرحلت من الحراك خوفاً منهما. ثم ها أنا متيقظ لحدوث أمر، فتأهب أنت أيضاً لتسير إلى مصر. فعاد فتح الله من عند السلطان ليلاً، وتأهب للرحيل، وأطلعني على ما عزم عليه - وكنت في صحبته - فترقبنا حدوث أمر لنركب، فلم يحدث شيء، حتى أصبحنا.
وفي هذه الليلة: وصلت طائفة من المماليك الجلبان إلى دمشق، فنهبوا عدة مواضع فقاتلهم العامة، وقبضوا على جماعة منهم، فاجتمعوا في يوم الخميس عند قبة سيار، فخرج إليهم عامة دمشق، وقاتلوهم.(3/107)
وفي يوم الخميس: سار السلطان إلى أن نزل ظاهر مدينة بصرى، فتحقق هناك خبر الأمير شيخ، وأنه في عصر يوم الأربعاء الماضي بلغه أن السلطان قد سار في إثره، فوحل فزعا يريد صرخد، فأقام السلطان على بصرى إلى بكرة السبت. وقدم عليه ببصرى من الشيخية الأمير برسباي والأمير سودن اليوسفي، فكتب بذلك إلى دمشق. ثم سار ونزل بقرية عيون - تجاه صرخد - فكانت حرب بين أصحابه وبين الشيخية، قتل فيها فارسان من الشيخية، وجرح من السلطانية جماعة، ففر منهم جماعة إلى الأمير شيخ، فلحقوا به.
وكثر تخوف السلطان من أمرائه ومماليكه. وبلغه أنهم عولوا على أنه إذا وقع مصاف الحرب، تركوه ومضوا إلى الأمير شيخ، فبات ليلته مستعداً لأن يؤخذ، ودبر أمراً كان فيه نجاته. وهو أنه لما أصبح عند طلوع الفجر، نادى ألا تهد خيمة، ولا يحمل جمل، وأن يركب العسكر خيولهم، ويجر كل فارس جنيبه مع غلامه، من غير أن يأخذوا أثقالهم ولا جمالهم. وسار بهم كذلك، وقد أخر الأمراء ومن يخشاه من المماليك وراءه، وتقدم أمامهم في ثقاته. فلم يفجأ القوم إلا ومد طلع عليهم من ثنية هناك، وقد عبأ الأمير شيخ أصحابه، فأوقف المصريين ناحية، وقدم عليهم الأمير تمراز الناصري نائب السلطة، ووقف في ثقاته - وهم نحو الخمسمائة فارس - وحطم عليهم السلطان بنفسه ومن معه، فانهزم تمراز بمن معه من أول وهلة، وثبت الأمير شيخ فيمن معه، فكانت بينهم معارك صدراً من النهار، وأصحاب الأمير شيخ تنسل منه، وهو يتأخر إلى جهة القلعة. وكانت الحرب بين جدران مدينة صرخد، فولى السلطان وطاق الشيخية، وانتهب أصحابه جميع ما كان فيه من خيل، وجمال، وثياب، وأثاث، وخيام، وآلات، وغيرها، فحازوا شيئاً كثيراً. واستولى السلطان على جامع صرخد، وأصعده أصحابه، فرموا من أعلى المنارة بمكاحل النفط والأسهم الخطالية على الأمير شيخ، وحمل السلطان عليه حملة واحدة منكرة، فانهزم أصحاب شيخ، والتجأ في نحو العشرين إلى قلعة صرخد، وكانت خلف ظهره، وقد أعدها لذلك، فتسارع إليه عدة من أصحابه، وتمزق باقيهم، فأحاط السلطان بالمدينة، ونزل على القلعة، فأتاه الأمراء فهنوه بالظفر، وامتدت الأيدي إلى صرخد، فما تركوا بها لأهلها جليلاً ولا حقيراً، حتى أخذوه نهباً وغصباً.
فامتلأت الأيدي مما لا يدخل تحت حصر. وسار الأمير تمراز، وسودن بقجة، وسودن الحلب، وسودن المحمدي، وتمربغا المشطوب - نائب حلب - وعلان، في عدد كبير إلى دمشق، فقدموها يوم الاثنين تاسعه، فقاتلهم العامة في عاشره، ودفعوهم عن البلد، فولوا يريدون جهة الكرك، بعدما قتل منهم وجرح جماعة. وتأخر كثير منهم بدمشق، ومضى طائفة إلى جهة حماة وحلب، فأخذ منهم بدمشق وغيرها عدد كثير.
وفي عاشره: قدم كتاب السلطان إلى دمشق بخبر الواقعة. وفيه قدم من صرخد إلى دمشق الأمير برد بك نائب حماة، وسار إليها في رابع عشره.
وفي رابع عشره: قدم دمشق الأمير تغري بردى ابن أخي دمرداش من صرخد، متوجهاً إلى حلب، نائب الغيبة بها، عن عمه الأمير دمرداش. وقدم أيضاً الأمير أقباي حاجب الحجاب، وقد مرض بصرخد، ليقيم بدمشق حتى يبرأ. وقدم الأمير قردم، وقضاة مصر، وتاج الدين رزق الله ناظر جيش دمشق، في جماعة، فأقاموا بدمشق.
وقدم أيضاً كتاب السلطان فقرئ بالجامع الأموي. وفيه خبر وقعة صرخد، وأنه قد حصر الأمير شيخ بالقلعة، وعزم ألا يبرح حتى يأخذه، وأنه رد أمور دمشق إلى الأمير قردم، وأن من ظفر بأحد من الأمراء المنهزمين وأحضره فله من المال كذا. وفيه قبض بدمشق على الكليباتي والي دمشق في أيام الأمير شيخ، فضرب ضرباً مبرحاً.
وفي ثامن عشره: قدم الخبر على السلطان بأن التراكمين كسروا الأمير نوروز كسرة قبيحة، فدقت البشائر بصرخد. وفيه قبض بدمشق على علم الدين داود الكويز وأخيه صلاح الدين خليل من بيت نصراني. وفيه قدم من صرخد إلى دمشق الأمير دمرداش نائب حلب وطرابلس، فأقام بها إلى حادي عشرينه، وسار إلى محل كفالته.
وفي حادي عشرينه: اشتد الطلب بدمشق على من اختفى من الشيخية. وفيه أخرج من دمشق بالمنجنيق إلى صرخد.(3/108)
وفيه قدم من صرخد إلى دمشق الطواشي فيروز الخازندار، فتسلم ابني الكوبز والشهاب أحمد الصفدي، موقع الأمير شيخ. ولم يزل السلطان على قلعة صرخد يرميها بالمدافع والسهام، ويقاتل من بها ثلاثة أيام بلياليها، حتى أحرق جسر القلعة، فامتنع الأمير شيخ ومن معه بداخلها، وركبوا أسوارها، فأنزل السلطان الأمراء حول القلعة، وألزم كل أمير بقتال جهة من جهاتها، واستدعى المدافع ومكاحل النفط من الصبيبة وصفد ودمشق، ونصبها حول القلعة، فكان فيها ما يرمي بحجر زنته ستون رطلاً دمشقياً. وتمادى الحصر ليلاً ونهاراً، حتى قدم المنجنيق من دمشق على مائتي جمل. فلما تكامل نصبه ولم يبق إلا أن يرمي بحجره - وزنته تسعون رطلاً شامياً - ترامى الأمير شيخ ومن معه من الأمراء على الأمير الكبير تغري بردى الأتابك، وألقوا إليه ورقة في سهم من القلعة، يسألونه فيها الوساطة بينهم وبين السلطان، فما زال حتى بعثه السلطان إليهم، فصعد إلى القلعة، ومعه الخليفة، وكاتب السر فتح الله، وجماعة من ثقات السلطان، في يوم السبت ثامن عشرينه، فجلسوا على شفير الخندق، وخرج الأمير شيخ، وجلس بداخل باب القلعة، ووقف أصحابه على رأسه، وفوق سور القلعة، وتولى كاتب السر محادثة الأمير شيخ، فطال الخطب بينهما، واتسع مجال الكلام، فتارة يعظه وأخرى يؤنبه ويوبخه، وآونة يعدد بالله على السلطان من جميل الأيادي وعوائد النصر على أعدائه، ويخوفه عاقبة البغي، وفي كل ذلك يعتذر الأمير شيخ، ثم انصرفوا على أن الأمير شيح لا يقابل السلطان أبداً خوفاً من سوء ما اجترمه، وقبيح ما فعله، فأبى السلطان إلا أن ينزل إليه، وأعاد الأمير تغري بردى وفتح الله فقط، بعدما ألح تغري بردى على السلطان في سؤاله العفو، فأحلف الأمير شيخ، وأخذ منه الأمير كمشبغا الجمالي وأسنبغا، بعدما خلع عليهما، وأدلاهما بحبال من سور القلعة، ثم أرخى أيضاً ابنه ليبعث به إلى السلطان، فصاح الصغير وبكي من شدة خوفه، فرحمه من حضر، وما زالوا به حتى نشله. وتصايح الفريقان من أعلى القلعة، وفي جميع خيم العسكر. فرحاً وسروراً بوقوع الصلح. وذلك أن أهل القلعة كانوا قد أشفوا على الأخذ لقلة زادهم ومائهم، وخوفاً من حجارة المنجنيق، فإنها كانت تدمرهم تدميراً، لو رمى بها عليهم.
وأما العسكر فإنهم كانوا طول إقامتهم يسرحون كل يوم، فينهبون القرى نهباً قبيحاً، ويأخذون ما يجدونه من الغلال، والأغنام، وآلات النساء، ويعاقبون من ظفروا به حتى يطلعهم على ما عنده من علف الدواب وغيره، وفيهم من يتعرض للحريم فيأتون من القبائح بما يشنع ذكره، وهذا وهم في خصاصة من العيش، وقل من المأكل. وكادت بركة صرخد أن ينزح ماؤها. ومع ذلك فإن أصحاب السلطان معظمهم غير مناصح له، لا يريدون أن يظفر بالأمير شيخ خشية أن يتفرغ منه لهم. فلهذا حسن موقع الصلح من الطائفتين، وبات العسكر على رحيل، وأصبحوا يوم الأحد، فركب الأمير تغري بردى، وكاتب السر فتح الله، والأمير جمال الدين، ومعظم الأمراء، فصعدوا إلى قلعة صرخد، وجلسوا على شفير خندقها - وكنت معهم - فخرج الأمير شيخ وجلس بداخل باب القلعة، ووقف من معه على رأسه، ومن فوق السور. وأحلف فتح الله من بقي مع الأمير شيخ من الأمراء للسلطان، وهم جانم نائب حماة، وقرقماس ابن أخي دمرداش نائب صفد، وتمراز الأعور وأفرج الأمير شيخ عن يحيي بن لاقي وتجار دمشق، وغيرهم ممن كان مسجوناً معه، وبعث للسلطان تقدمة، فيها عدة مماليك، وتقرر الحال على مسير الأمير شيخ نائباً بطرابلس، وأن يلبس التشريف السلطاني إذا رحل السلطان. فلما عادوا إلى السلطان رحل من صرخد، وقد رحل أكثر المماليك من الليل، فسار في قليل من ثقاته، وترك عدة من الأمراء على صرخد، وأفق فيهم خمسة وعشرين ألف دينار وستين ألف درهم فضة، خارجاً عن الغنم والشعير ونزل زرع، فبات بها.
شهر ربيع الآخر، أوله الثلاثاء:(3/109)
فيه قدم السلطان دمشق قبيل الغروب، وقد جد في المسير، فنزل بدار السعادة، وأما الأمير شيخ فإنه نزل من قلعة صرخد بعد رحيل السلطان، ولبس تشريف نيابة طرابلس، وقبل الأرض على العادة، وعاد إلى القلعة، وجهز ابنه إلى الأمير تغري بردى، فرحل به من صرخد، ورحل معه سائر من تأخر من الأمراء السلطانية، وقدم الأمير جمال الدين الأستادار دمشق في يوم الخميس ثالثه. وفيه أفرج السلطان عن المسجونين، إلا ابني الكويز والصفدي.
وفي سادسه: قدم الأمير تغري بردى والأمير بكتمر جلق وبقية الأمراء.
وفي سابعه: قدم ابن الأمير شيخ - وعمره سبع سنين - فأكرمه السلطان، وخلع عليه، وأعاده إلى أبيه، ومعه خيول وجمال وثياب ومال كبير. وفيه ولى السلطان بدمشق الشريف جماز بن هبة الله إمرة المدينة النبوية، وشرط عليه عادة ما أخذ من الحاصل وولى أيضاً جمال الدين محمد بن عبد الله الكازروني قضاء المدينة، وبعث لهما توقيعهما وتشريفهما. وأفردت خطابة المسجد النبوي لابن صالح.
وفي ثامنه: أعفي نجم الدين عمر بن حجي من قضاء طرابلس، وكتب بإحضاره.
وفي رابع عشره: توجه قضاة مصر من دمشق، وكثير من الأثقال، يريدون القاهرة، فنزلوا بداريا. ثم عاد القضاة من يومهم لعقد ابنة السلطان على الأمير بكتمر جلق نائب الشام.
وفي يوم الخميس سابع عشره: حمل بكتمر المهر وزفته المغاني حتى دخل دار السعادة. ثم عقد العقد بحضرة السلطان والأمراء والقضاة، فتولى السلطان العقد بنفسه، وقبله عن الأمير بكتمر الأمير الكبير تغري بردى.
وفي يوم الجمعة ثامن عشره: توجه القضاة سائرين إلى مصر. وفيه أعيد الصدر على بن الآدمي إلى قضاء الحنفية بدمشق. وعزل ابن الكشك. وصلى السلطان الجمعة بالجامع الأموي، وسار بعساكره، يريد مصر، فنزل الكسوة. وفيه استقر الأمير نكباي حاجب الحجاب بدمشق، عوضاً عن الهيدباني.
وفي تاسع عشره: استقر سودن الحلب في نيابة الكرك.
وفي ليلة الأحد: سار السلطان من الكسوة، وقد ولى غرس الدين خليل الأشقتمري حاجباً بدمشق، ومتحدثاً في أستادارية السلطان بها، واستولى الأمير بكتمر جلق على دمشق، ونزل بدار السعادة على العادة.
وفي رابع عشرينه: نزل السلطان على الرملة، وسار منها يريد القدس، فقدمها. وبعث الأثقال إلى غزة، فزار، وتصدق بخمسة آلاف دينار وعشرين ألف فضة. وبات ليلة بالقدس. وسار من غده إلى الخليل، فبات به، وتوجه إلى غزة، فدخلها في سابع عشرينه، وأقام بها.
شهر جمادى الأولى، أوله الأربعاء: في ثانيه: شنق السلطان بغزة ثلاثة من مفسدي بلد الخليل، ورحل.
وفي ثالثه: قرئ بدمشق كتاب السلطان بأنه قد ولى الأمير شيخ نيابة طرابلس فإن قصد دمشق فدافعوه عنها وقاتلوه. وكان الأمير شيخ قد قصد دمشق، وكتب إلى الأمير بكنمر جلق بأنه يريد دخول دمشق، ليقضي بها أشغاله ويرحل إلى طرابلس، فكثر تخيل السلطان من دخوله إليها. وفيه قدم من حلب إلى دمشق جمال الدين الحسفاوي، ومحب الدين محمد بن الشحقه الحنفي وأخوه، وقد طلبهم السلطان لينكل بهم، من أجل أنهم وافقوا الأمير جكم على السلطة، وأفتوه بذلك.
وفي سادسه: جمعت قضاة دمشق وقرر عليهم ما فرض على القرى الموقوفة من المغارم، كما فرض على بقية القرى.
وفي يوم الخميس تاسعه: نزل السلطان على غيفا خارج بلبيس، وقبض على الأمير جمال الدين الأستادار، وعلى ابنه الأمير شهاب الدين أحمد وعلى ابني أخته الأمير شهاب الدين أحمد وحمزة، وعامة حواشيه وأسبابه، وقيدوا. ومضى بهم الأمير الكبير تغري بردى إلى القاهرة. وسار السلطان فدخل قلعة الجبل في يوم السبت حادي عشره، وقد ختم على حواصل جمال الدين ودوره، وأحيط بها. وتقدم فتح الله كاتب السر لحفظ موجوده.(3/110)
وفي ليلة الجمعة عاشره: نزل الأمير شيخ على شقحب، وكان الأمير بكتمر قد خرج إلى لقائه بعسكر دمشق. ونزل قبة يلبغا. وثم ركب ليلاً يريد كبس الأمير شيخ، فلقي كشافته عند خان ابن ذي النون، فواقعه فبلغ ذلك الخبر شيخاً، فركب وأتاه. فلم يثبت بكتمر، وانهزم وأتى الأمير شيخ فنزل بمن معه قبة يلبغا. ودخل بكرة يوم الجمعة إلى دمشق، ونزل بدار السعادة من غير ممانع، وقد تلقاه الناس، فاعتذر لهم بأنه لم يقصد سوي النزول في الميدان خارج دمشق، ليقضي أشغاله، وأنه كتب يستأذن الأمير بكتمر في ذلك، فأبى ثم خرج وقاتله، فانهزم بكتمر وأما بكتمر فإنه توجه نحو صفد، ومعه قريب مائة فارس، وتخلف العسكر عنه بدمشق.
وفي ثالث عشره: ولى الأمير شيخ شهاب الدين أحمد بن الشهيد نظر الجيش بدمشق. وولى شمس الدين محمد التباني نظر الجامع الأموي، وتغري برمش - استادار - نيابة بعلبك، وأياس الكركي نيابة القدس، ومنكلي بغا كاشف القبلية والشريف محمد ابن دغا محتسب دمشق.
وإلى يوم الثلاثاء رابع عشره: خلع علي تاج الدين عبد الرازق بن الهيصم ناظر الإسطبل، وكاتب المماليك. واستقر استادار السلطان، عوضاً عن الأمير جمال الدين، ولبس زي الأمراء - وهو القباء - وشد بوسطه السيف، وعمل على رأسه كلفتاه، وخلع على أخيه مجد الدين عبد الغني بن الهيصم، مستوفي الديوان المفرد، واستقر في نظر الخاص، وخلع على سعد الدين إبراهيم البشيري ناظر الدولة، واستقر في الوزارة. وخلع علي تقي الدين عبد الوهاب بن أبي شاكر، واستقر ناظر الديوان المفرد على عادته، وأضيف إليه أستادارية الأملاك والأوقاف السلطانية، عوضاً عن الأمير شهاب الدين أحمد ابن أخت جمال الدين، وخلع على تاج الدين فضل الله بن الرملي، واستقر في نظر الدولة بمفرده، وخلع على حسام الدين حسين الأحول، واستقر أمير جاندار. وفيه ركب الأمير شيخ، ومعه عسكر دمشق بأجمعهم، يريدون صفد.
ولم يتأخر بدمشق سوى الأمير تمراز نائب السلطنة، والأمير علان.
وفيه كتب الأمير شيخ محضراً بأنه كان متوجهاً إلى طرابلس، فلما وصل شقحب قصده بكتمر، وأراد أن يركب عليه، ويبدد شمله، فدفع عن نفسه. وشهد له فيه جماعة، وقصد تجهيزه إلى السلطان، فلم يجسر أحد على المضي به، فسار - وهو معه - حتى بلغ إلى المنية قريباً من صفد وجد إمام الصخرة بالقدس، فبعثه به إلى القاهرة.
وفي ثامن عشره: سار سودن المحمدي من دمشق ليلحق الأمير شيخ. وكان الأمير شيخ لما قارب صفد جهز الأمير جانم والأمير قرقماش ابن أخي دمرداش، وسودن الجلب، وشاهين الدوادار إلى صفد، فطر قوها على غفلة فثار إليهم أهل القلعة ودفعوهم، فولوا راجعين.
وفي سابع عشرينه: قدم الأمير بكنمر جلق نائب الشام، ومعه الأمير برد بك نائب حماة، والأمير نكباي حاجب دمشق، والأمير ألطنبغا العثماني نائب صفد، والأمير يشبك الموساوي الأفقم نائب غزة، فخرج السلطان إلى لقائهم، ودخل من باب النصر، فشق القاهرة، وخرج من باب زويلة، ونزل بدار الأمير طوخ أمير مجلس يعوده في مرضه. وصعد إلى القلعة. وفيه خلع على شهاب الدين أحمد بن أوحد، واستقر في مشيخة خانكاه سرياقوس، عوضاً عن شمس الدين محمد القليوبي.(3/111)
وفيه أحضر الأمير جمال الدين الأستادار محمولاً إلى بين يدي السلطان، لعجزه عن المشي من العقوبة. وكان قد عوقب بالعصر في رجليه، فأخرج عدة دخائر منها دخيرة في حادي عشره من حارة زويلة، وجدت مدفونة في التراب، ذهباً صبيباً من غير وعاء، زنته خمسة وخمسون ألف مثقال، غربلت من التراب، ووزنت بحضرة قضاة القضاة الأربع، ودخيرة أخرى في غده، وجد فيها تسع قفاف مملوءة ذهباً، وحق فيه نفاش من الجوهر، ودخيرة ثالثة أخرجها ابنه أحمد بحضرة القضاة وكاتب السر من منزله، بلغت مائتي ألف دينار، واثنتين ألف دينار، عنها اثنان وعشرون قنطارا وخمس قنطار، حضروا بها القضاة وكاتب السر، ثم خبية أخرى من داره، بلغت ستين ألفي دينار. ومن السلاح والقماء وسائر الأصناف شيئاً كثيراً، فكان يحمل منه في كل يوم عدد كثير من الأحمال ثم عصر في ثاني عشرينه عصراً شديداً، وعصر ابنه بحضرته، فاعترف الابن بدخيرة وجد فيها أحد عشر ألف دينار، وثلاثمائة دينار، ولم يعترف جمال الدين بشيء، فأنزل بابني أخته شهاب الدين أحمد الحاجب وأخيه حمزة إلى بيت الأمير تاج الدين بن الهيصم الأستادار، فسلما إليه، فعاقب جماعة من أقارب جمال الدين وألزامه. فلما مثل جمال الدين بحضرة السلطان عنفه على ما كان منه فاعترف بالخطأ، وسأل العفو، وقبل الأرض، ثم أعاده إلى موضع حبسه من القلعة، وأمر بمعالجته حتى يبرأ.
وفي سابع عشريه: أيضاً قدم الأمير نوروز من عند التركمان إلى حلب، ومعه الأمير يشبك بن أزدمر وجماعة. فخرج الأمير دمرداش إلى لقائه، وبالغ في إكرامه، وأنزله. وقام له ولمن معه بما يليق بهم، وحلفهم للسلطان، وكتب يعلم السلطان بذلك، ويسأله أن يعيد الأمير نوروز إلى نيابة الشام، وأن يولي يشبك بن أزدمر طرابلس، ويولي ابن أخيه تغري بردى حماة.
شهر جمادى الآخرة، أوله الجمعة.
فيه توجه الأمير مقبل الرومي أحد أمراء الألوف إلى دمياط، ليركب البحر إلى الأمير نوروز، ومعه تشريف وتقليده نيابة الشام، ومبلغ خمسة عشر ألف دينار. وإنما ركب البحر لتعذر السلوك في البر إلى الشام.
وفيه وجد لجمال الدين بمدرسته بيت فيه سبعمائة قفة فلوس، فكان مبلغ ما وجد له تسعمائة ألف دينار وأربعة وستين ألف دينار.
وفي ثانيه: قدم إمام الصخرة، ومعه جندي بكتاب الأمير شيخ والمحضر، فغضب السلطان ووسط الجندي، وضرب الإمام ضرباً مبرحاً، وسجنه بخزانة شمايل.
وفي رابعه: أنزل بجمال الدين وابنه أحمد من قلعة الجبل على قفصي حمال، إلى بيت ابن الهيصم. وفيه قدم الأمير شيخ من سفره إلى دمشق، وقد وصل إلى غزة في طلب الأمير بكتمر، فلم يدركه، فولى في غزة سودن المحمدي، وفي الرملة جانبك، فقدم الخبر إلى دمشق بأن يشبك ابن أزدمر، وتغري بردى بن أخي دمرداش، بعثهما نوروز إلى حماة، ففر منها جانم، وكان قد بعثه الأمير شيخ إليها.
وفي سابعه: قبض السلطان على الأمير بلاط أحد أمراء الألوف، وعلى الأمير كزل الحاجب، وبعثا مقيدين إلى الإسكندرية.
وفي ثامنه: بعث الأمير شيخ الأمير قرقماس ابن أخي دمرداش من دمشق على عسكر إلى طرابلس.
وفي تاسعه: أعيد شمس الدين محمد الطزويل إلى حسبة القاهرة، وعزل ابن شعبان، واستقر زين الدين حاجي في قضاء العسكر وعزل شمس الدين محمد البرقي الحنفي.
وفي حادي عشره: نقل جمال الدين الأستادار ليلاً من بيت ابن الهيصم في قفص حمال إلى بيت الأمير حسام الدين حسين الأحول، فعاقبه أشد العقوبة لإحن كانت في نفسه منه، ثم خنقه من الغد، وقطع رأسه، وحمله إلى السلطان حتى رآه، ثم أعاد الرأس، فدفن مع جثته.
وفيه استقر علاء الدين علي الحلبي قاضي غزة في مشيخة خانكاه بيبرس بالقاهرة، عوضاً عن شمس الدين محمد البيري قاضي حلب وأخي جمال الدين، واستقر نور الدين على التلواني في تدريس الشافعي، عوضاً عن أخي جمال الدين.
وفيه أحضر السلطان رجلاً يعرف بالشهاب أحمد بن الزعيفريني، وقطع يسيراً من لسانه، وبعض عقد أصابع يده، من أجل أنه كتب ملحمة قيل أنها من نظمه، زعم أن الملك يصل إلى جمال الدين وإلى ابنه أحمد.
وفي رابع عشره: خلع على الأمير يلبغا الناصري، واستقر حاجب الحجاب عوضاً عن كزل العجمي.(3/112)
وفي سابع عشره: قبض سنان نائب قلعة صفد على الأمير ألطنبغا العثماني، لممالأته الأمير شيخ. وقام الأمير علان بنيابة صفد من قبل الأمير شيخ. وفيه ولى الأمير شيخ صدر الدين علي بن الآدمي نظر الجيش بدمشق، وولي محب الدين محمد بن الشحنة الحلبي قضاء الحنفية بدمشق.
وفي حادي عشرينه: ولي الأمير شيخ الشهاب أحمد بن الحسباني خطابة الجامع الأموي، وعزل الباعوني، ثم أعاده من الغد، وخطب، ثم قسم الخطابة بعد صلاة الجمعة بينه وبين الحسباني. ثم في عصر يومه ولي الحسباني قضاء الشافعية بدمشق، وعزل الباعوني.
وفي رابع عشرينه: خرج الأمير شيخ من دمشق، يريد حماة.
وفي ثامن عشرينه: وصل الأمير يشبك الموساوي من مصر إلى رفح، فلقيت كشافته كشافه سودن المحمدي فكسروهم، ففر المحمدي من غزة، ودخلها الموساوي من يومه نائباً بها، بعدما نهب المحمدي شيئاً كثيراً من غزة فتبعه يشبك، ومن قدم معه من مصر، وهم الأمير قانبك رأس نوبة، والأمير فخر الدين عبد الغني بن أبي الفرج كاشف الشرقية، والأمير حسين بن قطايا وعدة من المماليك السلطانية، فلحق بجهة الكرك، وقدم خبر ذلك إلى دمشق، فانزعج الشيخية انزعاجاً شديداً.
وفي هذا الشهر: كانت فتنة بين الأمير علان وأهل صفد، هزموه فيها، لما بلغهم من قدوم عسكر السلطان مع الموساوي إلى غزة، فقدم دمشق في سابعه. وفيه تقرر الصلح بين الأمير نوروز والأمير شيخ، فدقت البشائر بدمشق عدة أيام. وفيه قدم شرف الدين يعقوب بن الجلال التباني الحنفي إلى دمشق، فاراً من السلطان في أوائله. وفيه سار أبو شوشة صديق التركمان من صفد بطائفة، وكبس حولة بانياس، ففر من كان بها من جهة الأمير شيخ، ولحقوا بدمشق.
شهر رجب، أوله السبت: في سابعه: أعيد ابن شعبان إلى الحسبة، وعزل الطويل، ثم عزل ابن شعبان بشمس الدين محمد بن يعقوب الدمشقي في ثامن عشره.
ومن النوادر أن النيل وفى ست عشرة ذراعاً، وفتح الخليج في أول يوم من مسرى، وبلغ في الزيادة ما يقارب اثنتين وعشرين ذراعاً، وثبت إلى نصف هاتور.
شهر شعبان، أوله الاثنين: فيه بلغ القمح إلى قريب ثلاثمائة درهم الأردب، والشعير والفول إلى مائتي الأردب، والحمل التبن إلى مائة وعشرين، والرطل اللحم الضأن إلى عشرة دراهم.
وفي ثالثه: أعيد كريم الدين الهوى إلى الحسبة، وعزل ابن يعقوب.
وفي هذا الشهر: كانت وقعة بغزة بين يشبك الموساوي، وسودن المحمدي، وعلان نائب صفد، قتل فيها جماعة، وفر الموساوي، ودخل القاهرة في أوائله، وجرح علان في وجهه، فحمل إلى الرملة، ومات بها، فبعث المحمدي يسأل الأمير شيخ في نيابة صفد، فولاه في خامس عشره.
وفي سابع عشرينه: قبض على الأخناي قاضي دمشق، وسجن بدار السعادة وطلب منه عشرة آلاف دينار، وسبب ذلك أنه اتهم بمكاتبة نوروز.
وفي ليلة الأحد حادي عشرينه: قدم الأمير دمرداش إلى حماة نجدة للأمير نوروز، ومعه عسكر حلب وطوائف التراكمين الأوشرية والبياضية، وكردي بن كندر، وعرب الفرات، وبلاد حلب. وكان قد وصل الأمير مقبل الرومي من مصر على ظهر البحر، وسار الأمير نوروز، فوصل إلى حماة في رابعه، ومعه تقليده بنيابة الشام، والتشريف السلطاني. وكتاب السلطان، فلبس التشريف، وقبل الأرض على العادة، وجدد اليمين بالطاعة للسلطان، فقدم عليه في غد قدوم مقبل جماعة ممن في صحبة الأمير شيخ، منهم تمربغا المشطوب، وتمراز نائب حماة، وسودن الحلب، وجانبك القرمي، وبردبك حاجب حلب فلما بلغ الأمير شيخ قدوم دمرداش نائب حلب ركب وترك وطاقه وأثقاله، وتوجه إلى ناحية الربان، مركب دمرداش بكرة يوم الأحد المذكور، وأخذ الرطاق، فعاد الأمير شيخ وقاتله قتالاً شديداً، قتل فيه جماعة، منهم بيازير من إخوة نوروز، وأسر عدة كثيرة، منهم الأمير محمد بن قطكي أمير الأوشرية، وفارس أمير أخور دمرداش، وأحد طبلجاناه دمرداش، وكسر أعلامهم. ونزل الأمير شيخ على نقيرين، ورحل ليلة الاثنين يريد حمص، فقدم الخبر إلى دمشق في ليلة الخميس بكسرة الأمير شيخ، فعزم من بها من أصحابه على الهرب، واشتغلوا بأنفسهم، ففر الأخناي من سجنه بدار السعادة، واختفى حتى سار إلى صفد، فقدمها في ثالث شوال، وكتب يعرف السلطان خبره، ويغريه بالأمير شيخ.(3/113)
وفي سادس عشرينه: قدم إلى دمشق من وطاق الأمير شيخ شمس الدين محمد بن التباني، وقد ولاه خطابة الجامع الأموي، فأكبر الناس ذلك، لأنهم لم يعهدوا خطبه قط إلا شافعياً. وكتبوا في هذا إلى الأمير شيخ فأعاد الباعوني إلى الخطابة.
شهر رمضان، أوله الثلاثاء: فيه أرجف في دمشق بهجوم سودن المحمدي، فجعلت الستائر على قلعة دمشق، وسبب ذلك أن نوروز كاتبه يستميله إليه، فاستحال على الأمير شيخ، وتوجه إلى دمشق يريد أخذها، وعاث في بلاد صفد، وصادر أهل القرى. ونزل سعسع، فكتب بدلك إلى الأمير شيخ فبعث دواداره جقمق، فقدم في سادسه باستخراج الأموال من الناس، ففرض على البساتين والقرى مالاً جبى منهم. فبينما هو في ذلك، إذ قدم المحمدي من غده يوم الاثنين سابعه إلى داريا، وزحف حتى وصل إلى المصلى، وضرب خامه، ونادى بالأمان.
وقال: أنا من جهة السلطان والأمير نوروز نائب الشام، وحطم يريد القلعة، وقد وقف الأمير ألطنبغا القرمشي نائب الغيبة بمن معه على باب النصر، فدخل طائفة من أصحاب المحمدي المدينة من باب الصغير، فدخل القرمشي وجماعته من باب النصر، وأغلقوا عليهم. ورمي من بالقلعة على رجالة المحمدي فانهزموا. وبينما الناس في القتال، إذ قدم من وطاق الأمير شيخ الأمير سودن بقجة، والأمير أينال المنقار على عسكر، فقاتلوا المحمدي قتالاً كثيراً، تقنطر فيه عن فرسه إلى الأرض، فأدركه من معه وأركبوه، وقد تفرق جمعه.
فمر على وجهه ولحق بالأمير نوروز وحلف له وللسلطان وغنم أهل دمشق ما كان معه، وقبضوا على خمسين من أصحابه. فلما انجلت الوقعة، قدم في الليل شاهين الدوادار من وطاق الأمير شيخ، وجد في استخراج ما فرض على الناس من الأموال، فنزل بأهل دمشق شدائد.
وفي سادس عشرينه: نودي في دمشق بالتأهيب للخروج مع الأمير سودن بقجة، ليشر إلى صفد، فإنه استقر في نيابتها من جهة الأمير شيخ، وكان قد وصل الأمير شاهين الزردكاش إلى صفد من قبل السلطان نائباً بها، وولي أيضاً جانبك دوادار الحمزاوي نيابة غزة، وشاهين الحلبي كاشف الرملة، ووعدهم أن يسيرهم جميعاً إلى محل ولاياتهم في عيد الفطر.
وفي هذا الشهر: كتب الأمير شيخ كتاباً إلى السلطان يخادعه فيه، من مضمونه أنه لما عفي السلطان عنه بصرخد امتنع من الحلف الأمير بكتمر جلق، والصلح معه. ثم توجه بعد رحيل السلطان، وصحبته الأمير سودن الأسندمري متسفره، حتى بلغ عجلون أعاده السلطان ليعود إليه بما يرسم به، فلما تأخر حضوره توجه إلى محل كفالته، فبلغه أن الأمير بكتمر جمع عليه ثم أنه كبسه على شقحب، فكان من أمره ما كان. ثم توجه إلى عزة وجهز قصاده بمطالعته، تتضمن صورة ما اتفق، فلم يصل إليه الجواب، وأن ذلك بوساطة من قصده إبعاده عن خاطر السلطان، ثم بلغه أن الأمير نوروز حضر إلى حماه وتطرق إلى حمص وأعمالها، وشن الغارات بها، وأظهر الفساد ونهب، فما وسعه سوى المبادرة إليه ليردعه، وتعب البلاد والعباد مما حل بهم، فلما قربه تحصن بمدينة حماة، فنازله وضايقه، وحاصره مدة، إلى أن حضر إليه الأمير دمرداش نائب حلب بعسكرها، وطوائف التركمان والعرب، وخرج إليه فقاتله وكسره، وقتل منه جماعة. فلما أن أدركه شهر رمضان رفع القتال تعظيماً لحرمته، ونزل بحمص ليصوم بها، فبلغه أن سودان المحمدي كاتب نوروز ووعده أن يأخذ له دمشق فبادر وجهز فرقة ليسير بها إليه خوفاً على المسلمين، فوافوه وقد قدم بالعشير والتركمان، فكسروه، وأخذوا غالب جماعته، وجميع ما كان معه، ثم أخذ بعد هذه الأخبار يذكر أنه تاب وأناب، ورجع إلى طاعة السلطان. ثم أخذ يغري نوروز، وأنه يريد الملك لنفسه، ولا يطيع أبداً، وأنه هو لا يريد إلا الانتماء إلى السلطان فقط، ورغبته في عمل مصالح العباد والبلاد، وسأل العفو والصفح عنه، فلم يمش هذا على السلطان.
شهر شوال، أوله الخميس: في ثالثه: قدم قاضي القضاة شمس الدين محمد الأخنادي إلى صفد، فاراً من الشيخية بدمشق، فأكرمه الأمير شاهين الزردكاش، وأنزله ثم بعث الأخناي كتبا يخبر فيه السلطان بما جرى له، ويغريه بالأمير شيخ، وأنه خارج عن طاعته، ويحثه فيه على سرعة الحركة إلى الشام.(3/114)
في ثامنه: خرج من دمشق عسكر، عليه شاهين الدوادار، وخرج من غده عسكر آخر عليه الأمير سودن بقجة، والأمير ألطنبغا القرمشي الحاجب، فساروا إلى سعسع وأقاموا بها، وقد جمع الأمير شاهين نائب صفد العشير، واستعد لهم، وكان تغري برمش نائب بعلبك قد جمع منها أموالاً جزيلة، بأنواع الظلم على عادته، ثم فر بها، وقدم صفد مفارقاً للأمير شيخ، ثم سار إلى السلطان.
وفي يوم السبت عاشره: وكتب السلطان من قلعة الجبل وعدى النيل إلى بر الجيزة، ونزل بناحية أوسيم عند مرابط خيوله على البرسيم الخضر ليتصيد ويتنزه.
وفي ثالث عشره: أعاد السلطان ابن شعبان إلى الحسبة وعزل الهوى بم ثم عدي النيل في يوم الخميس ثالث عشرينه، وركب يريد القلعة، حتى وصل قريباً من قناطر السباع عند الميدان، أمر بالقبض على الأمير قردم الخازندار، والأمير أينال المحمدي الساقي، فقبض في الطريق على قردم.
وأما أينال فإنه شهر سيفه، وساق فرسه، ومضى فلم يلحقه غير الأمير قجق أدركه وضربه على يده ضربة جرحه جرحاً بالغاً، وفاته، فلم يقدر عليه، وصعد السلطان إلى القلعة سالماً. وسبب ذلك أنه بلغه عنهما أنهما يريدان إثارة فتنة. وقام بعض المماليك فحاققهما أنهما يكاتبان الأمير شيخ، فنودي على الأمير أينال بالقاهرة، عدة أيام، فلم يعرف خبره،. وحمل قردم إلى الإسكندرية، فسجن بها، ورتب له في كل يوم مبلغ خمسمائة درهم من الفلوس. ولم يؤخذ له خيل ولا قماش، ولا غير ذلك.
وفي ثالث عشره: نزل على صفد عسكر دمشق، وفيه شاهين الدوادار، وقرقماش ابن أخي دمرداش وسودن بقجة، وألطنبغا القرمشي، وخليل الجشاري، وحسن بن قاسم بن متيرك مقدم عرب حارثة، وأبو بكر بن مشاق شيخ جبل نابلس، في جمع كثير من العشير والتركمان، فخرج إليهم الأمير شاهين وقاتلهم يومه، وباتوا متحاربين، وعدوا على حربهم، فاقتتلوا يومهم بطوله قتالاً شديداً، جرح فيهم شاهين بوجهه ويده، وكاد يؤخذ لولا أنه فر، فتبعه قرقماش وبقية العسكر، وقد جرح أكثرهم، ونهب لهم شيء كثير، وقتل بين الفريقين جماعة، وأسر من أهل صفد أسندمر كاشف الرملة، فنزل الشيخية قريباً من صفد، ومنعوا الميرة أن تصل إليها، وبعثوا بأسندمر إلى الأمير شيخ، وسألوه في نجدة، فعين لهم أقبردي المنقار بمائة وخمسين فارساً، وأردفه بيشبك الأيتمشي، وبنائب بعلبك.
وفي خامس عشره: قدم إلى صفد الأمير يشبك الموساوي نائب عزة من قبل السلطان. وقدم أيضاً سودن اليوسفي، وبردبك من أصحاب نوروز.
ثم سار قرقماش ابن أخي دمرداش عن صفد، وقدم على الأمير شيخ بحمص، مسيره إلى دمشق، فقدمها في ثاني عشرينه، ومعه مائة فارس لتجهيز الآلات لقتال صفد، وقد حصنت قلعة دمشق، ونصب عليها المنجنيق خوفاً من قدوم الأمير نوروز إليها.
وفيه قدم أيضاً إلى دمشق ناصر الدين محمد بن خطب نقيرين، وقد ولاه الأمير شيخ قضاءها. وعزل الشهاب الحسباني. وقدم شرف الدين يعقوب بن التباني وقد ولاه أيضاً مشيخة السميساطية، وعزل الباعوني عنها.
وفي خامس عشرينه: ركب الشيخية بأجمعهم على صفد، وقد أتاهم من العشران وغيرهم طوائف، فافترقوا عن المدينة ثلاث فرق، وزحفوا عدة زحوف، فكان قتالاً شديداً من بكرة النهار إلى الظهر، فانكسر قرقماس، وجرح، وقتل عدة من أصحابه، فانهزم البقية، وتبعهم الصفديون، ونهبوا وطاقهم، وعدة دواب لهم وخرج من الغد الأمير بردبك السيفي نوروز من صفد بعسكر إلى حولة بانياس، ومعه الأمير مهنا ابن الغزاوي بقومه، وقد أبلى في أمه على صفد بلاء كثيراً، وقتل ولده الأكبر، وعورت عين ابنه الآخر، وأصيبت رجل ابنه الثالث. وتوجه معه أيضاً فضل بن غنام بن زامل من آل مهنا. وكانت له أيضاً في الوقعة أثار مشهورة. وتوجه أيضاً محمد بن هيازع، فعاثوا في تلك النواحي.
وفيه سار يشبك الموساوي من صفد عائداً إلى غزة، وعاد أولاد ابن بشارة أيضاً بعشيرهم إلى بلدانهم، فكانت وقعة صفد هذه من الحروب المذكورة، قل من سلم فيها من عسكر صفد، فكانوا بين قتيل وجريح، وتلفت خيول كثيرة، وأقام الشيخية بأراضي الحول هوهم بأسوأ حال، فاشتد الأمر بدمشق، وطلب سودن بقجة نائب شيخ من تجارها وأعيانها الأموال والخيول، وجبى من الجناد ومن الطواحين عدة خيول، واستجد بها عسكراً. هذا والأمير شيخ بحمص، حاصر الأمير نوروز بحماة.(3/115)
وفيه قدم على الأمير شيخ كتاب قرا يوسف، بأنه قد ملك عراق العجم وديار بكر وماردين، وأنه سلطن ابنه محمد شاه، ونزل في الموصل، وقصده الحضور إلى الشام نجدة له لاستمراره على ما بينه وبينه من العهود والمودة. فجمع الأمير شيخ الأمراء واستشارهم، فما منهم إلا من أشار بحضور قرا يوسف إلا الأمير تمراز الناصري نائب السلطة، فإنه أنكر ذلك وخوفهم عاقبة قدومه، وأشار بتأخير جوابه حتى يعلم السلطان بذلك، ويراجع في أمر الأمير شيخ ومن معه، ثم يعمل بمقتضى جوابه عن ذلك، فوافقوه على هذا، وكتبوا إلى السلطان يخوفوه من قدوم قرا يوسف إلى بلاد الشام أن يتطرق منها إلى مصر، وسألوه حسن النظر للأمراء، بما فيه مصلحة العباد والبلاد.
وفي سابع عشرينه: استقر شمس الدين محمد بن علي بن معبد المدني في قضاء القضاة المالكية بديار مصر، وعزل جمال الدين يوسف البساطي. وفيه أنعم على سودن الأشقر رأس نوبة بتقدمة ألف بديار مصر.
شهر ذي القعدة، أوله السبت: فيه سارت نجدة من دمشق إلى من في الحولة من الشيخية، فمضوا إلى بيسان وكبسوا محمد بن هيازع أمير عرب بني مهدي في خامه، وأخذوا ما كان معه، وتوجهوا إلى صفد، فكانت بينهم وبين الأمير شاهين وقعة جرح فيها جماعة.
وفي عاشره: قبض على الأمير أينال المحمدي الساقي أمير سلاح في بعض حارات القاهرة، فأخرج إلى الإسكندرية في يومه. وفيه استقر أقتم أحد المماليك الظاهرية في ولاية القاهرة، وعزل ابن الطلاوي. واستمر حسام الدين حسين الأحول أمير جاندار في شد الدواوين، وعزل آدم البريدي، وكان ظالماً فاجراً، وقبض عليه، وعوقب.
وفي آخره: أضيفت ولاية القاهرة إلى الحسام حسين الأحول.
شهر ذي الحجة، أوله الأحد: في ثانيه: قدم كتاب الأمير شيخ من الوطاق إلى دمشق، بأن الشيخ أبا بكر بن تبع وصل إليه رسولاً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن منام رآه شخص، فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول له: " قل لشيخ أن لم يرجع عما هو فيه وإلا هلك ومن معه " . فقال: " يا رسول ا لله أخاف ألا يصدقني " .
فقال: " قل لابن تبع يذهب إليه " . فقال: " ما يصدقه " . فذكر له علامة من تحويط نفسه عند النوم بذكر ذكره. متوجه هو وابن تبع إليه فقص عليه المنام، مصدق العلامة، وكتب إلى دمشق برفع المظالم، وأنه قد رجع وأناب إلى الله تعالى، وسأل الدعاء له بالتوفيق والسداد. فقرئ الكتاب في الجامع الأموي بحضرة القضاة والأعيان والعامة. ونادى الأمير سودن بقجة نائب الغيبة برفع المظالم، فلم يرفع شيء منها، بل قدم تاج الدين محمد بن الشهاب أحمد الحسباني من الوطاق بحمص إلى دمشق، وقد ولاه الأمير شيح حسبة دمشق ووكالة بيت المال وقضاء العسكر، وإفتاء دار العدل، على أن يقوم له بألف دينار، كتب بها خطه، حتى بيها من وجوه المظالم. وقدم أيضاً الطواشي مرجان الهندي الخازندار بالكشف عن أوقات الصدقات ومحاسبة المباشرين عليها.
وفي سادسه: سار من دمشق شاهين الدوادار على عسكر، وسار جقمق الدوادار من الغد إلى البقاع.
وفي ليله الاثنين تاسعه: قتل سنان نائب قلعة صفد، بحيلة دبرت عليه.(3/116)
وأما الأميران شيخ ونوروز، فإنه لما كان في أول هذا الشهر اجتمع على الأمير شيخ جمع كبير من عسكره، ومن طائفة التركمان البازية والأشرية، والكبكية، والذكرية، والأسقية، والبزقية. وقدم عليه الأمير شهاب الدين أحمد بن رمضان، ونزل العمق، فسار الأمير شيخ من حمص إلى وادي الخزاندار، واجتمع بأمير الملا العجل بن نعير وأخذه معه، وقد قدم ببيوته وبوشه، ونزل بظاهر حماة في يوم الخميس ثاني عشره، وخيم بظاهرها. هذا وقد اجتمع عند الأمير نوروز ودمرداش بحماة طائفة التركمان الأوشرية والبياضية، وقدم على ابن دلغادر، ونزل قريباً من العمق ببيوته، فاقتتل أصحاب شيخ ونوروز قتالاً يسيراً، وأصبح الأمير شيخ في يوم الجمعة على ألا يقاتل، فما أحس وقت صلاة الجمعة، إلا ونوروز قد خرج من مدينة حماة - هو ودمرداش بعساكرهما، مركب حينئذ واقتلوا إلى قريب العصر فخامر على نوروز طائفة التركمان الأوشرية، فانهزم وعبر المدينة - هو ودمرداش - وقد أخذ الأمير شيخ سودن الجلب وجان بك القرمي وشاهين الأياسي وسودن أمير أخور، ونوروز، وبيازير، وجماعة. وغرق بوزجا أمير التركمان البياضية في نهر العاصي، وغرق أسطاي أخو يونس، وجماعة كثيرة، وتسحب منهم جماعة، وغنم الأمير شيخ نحو ألف فرس. وتفرق أكثر التركمان والعربان عن نوروز، ولحق بالأمير شيخ منهم جماعات. ونزل بالميدان خارج حماة ومعه العجل، وأقاما يومي السبت والأحد بغير قتال، فلما كان ليلة الاثنين صلع تمربغا المشطوب وسودن المحمدي وتمراز نائب حماة، وكبسوا العجل ليلاً، فاقتتلوا إلى قريب الفجر وأخذوا مواشي كثيرة، فركب الأمير شيخ نجدة للعجل، فخرج نوروز ونهب وطاقه وعاد إلى حماة، فنزل الأمير شيخ بكرة يوم الاثنين قريباً من شيزر، ونزل العجل بطرف البر، وقد كملت مدة الحرب سبعة أشهر. وكتب الأمير شيخ إلى دمشق بكسرة نوروز، فدقت البشائر بها وزينت، وكتب دمرداش إلى السلطان يطلب منه نجدة، ويحثه على سرعة المسير إلى الشام، ويخوفه عاقبة تأخره لخروج البلاد من يده.
وفي تاسع عشره: وصلت كشافة برد بك السيفي إلى عقبة شحورا ظاهر دمشق، ونزل هو بشقحب، وتأهب أهل قلعة دمشق لحربه.
وفي عشرينه: وصل إلى دمشق الأمراء المأخوذون من أصحاب نوروز، وهم سودن الجلب، وكشكنا، وجان بك القرمي، ونحو خمسين مملوكاً، ما بين ماش وراكب حمار، فسجنوا بقلعة دمشق. وفيه خرج عسكر من دمشق مع سودن بقجة وألطنبغا القرمشي، فاقتتلوا مع برد بك، فانكسر جاليش بقجة، فركب ومال على تركمان برد بك وكسرهم، وحمل بمن معه على برد بك هزمه على خان ابن ذي النون، فمر إلى صفد، ونهب ما كان معه، ومضى سودن بقجة وألطنبغا القرمشي، والأجرود نائب بعلبك وأينال المنقار بجمع كبير من العشير والتركمان والعرب يريدون غزة، فاشتد الأمر على نوروز من طول الحصار، ومنع الميرة، وفرار أكثر التركمان عنه، بحيث لم يبق عنده غير كردي باك، وابن دلغادر، وانضم ابن رمضان وابن صاحب الباز إلى الأمير شيخ. وأخذت له إنطاكية، فكثر جمعه، وجهز شاهين الدوادار، وأيدغمش من كبك، إلى حلب، ولم يبق بيد السلطان من البلاد الشامية غير غزة وصفد، ومعه بردبك السيفي، ونوروز بحماة وهو محصور، فلما تزايد الضيق على نوروز ودمرداش، استدعيا أعيان مدينة حماة.(3/117)
وما زالا بهم حتى كتبوا إلى العجل بن نعير بأن نوروز فر من حماة، ولم يبق بها إلا دمرداش، وسألوه أن يأخذ لهم الأمان من الأمير شيخ، فمشى ذلك على العجل، وركب إلى الأمير شيخ، وأعلمه بذلك، فبعث فرقة من مماليكه ومن عرب العجل بسلالم تسوروا منها على السور، وتركوا خيولهم بباب الجسر، ونزلوا المدينة، فأخرج النوروزية خيولهم وركبوا عليهم وقتلوهم جميعاً، إلا رجلين من أمراء العجل، وعلقوا الرءوس على السور، وألزم أمير العجل حتى كتب إليه بأن الصلح قد انعقد بين نوروز وشيخ على أن يمسك نوروز دمرداش يسلمه لشيخ، ويمسك شيخ يسلمه لنوروز، فلم يكذب العجل ذلك، وركب لوقته وسار يريد البر، فركب الأمير شيخ في إثره ليرده، فخرج نوروز ودمرداش بمن معهما، ونهبوا وطاقه وخيله، فبلغه ذلك، فعاد إلى حمص، ثم سار عنها إلى القريتين وكتب إلى سودن بقجة أن يبعث الأمراء النوروزية والمماليك إلى قلعة المرقب، وكتب يطلب الصلح من نوروز فأبى عليه، وخرجت السنة وهم على ذلك والسلطان متحرك للسفر إليهما.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
جماعة منهم نصر الله بن أحمد بن محمد بن عمر التستري البغدادي مدرس المدرسة الظاهرية برقوق للحنابلة، في حادي عشرين صفر. ومولده ببغداد في حدود الثلاثين وسبعمائة، وله مصنفات ونظم ونثر.
ومات الأمير جمال الدين يوسف بن أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر بن قاسم البيري الحلبي. قتل في ليلة الثلاثاء حادي عشر جمادى الآخرة، بعدما حكم إقليمي مصر والشام، ولم يفته من السلطة إلا الاسم، وقد بسطت ترجمته في التاريخ الكبير المقفي، وفي كتاب درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة هو وكل من له وفاة في هذا الجزء، ويستحق بها أن يذكر، إما بشهرته أو بفضيلته.
ومات الأمير أقباي الكبير الطرنطاي رأس نوبة الأمراء، في ليلة الأربعاء سابع عشرين جمادى الآخرة، ونزل السلطان إلى داره، ثم تقدم راكبا إلى المصلى فصلى عليه، وشهد دفنه. وترك من العين أربعين ألف دينار مصرية واثني عشر ألف دينار مشخصة، ومن الغلال والخيول والجمال وغير ذلك شيئاً كثيراً، فأخذ السلطان الجميع، ولم يترك لأولاده شيئاً، وكان عسوفاً، شرهاً في جمع المال، بخيلاً.
ومات الأمير طوخ الخازندار، في آخر جمادى الآخرة.
ومات الأمير بلاط، أحد المقدمين، مقتولاً بين الإسكندرية ودمياط.
ومات شمس الدين محمد بن عبد الله، أبي بكر القليوبي، شيخ خانكاه سرياقوس، بها في يوم الخميس ثاني عشرين جمادى الأولى، وكان من فضلاء الشافعية، متواضعاً، ديناً.
وقتل الأمير الشريف جماز بن هبة الله بن جاز بن منصور الحسيني، أمير المدينة النبوية، في جمادى الآخرة، بالفلاة، وهو في عشر الستين.
وولي إمارة المدينة ثلاث مرات، آخرها في سنة خمس وثمانمائة، واستمر إلى صفر سنة إحدى عشرة، وما خرج حتى نهب ما في القبة من حاصل الحرم النبوي.
ومات الشريف أحمد بن ثقبة بن رميثة بن أبي نمى الحسني بمكة، في المحرم، وقد أناف على الستين، وكان الشريف عنان بن مغامس في ولايته الأولى على مكة أشركه معه في ولايتها وهو مكحول، وكان ابن أخته الشريف محمد بن أحمد بن عجلان، وكبيش بن عجلان قد خافا منه، فكحلاه، وقتل ابن أخته بعد ثلاثة أشهر، وكبيش بعد ستة أشهر من كحله.
ومات محمد بن أميرزه، الشيخ عمر بن الطاغية تيمورلنك، في المحرم، مقتولاً، على يد بعض خواصه، وكان مشكور السيرة، وقام من بعده بمملكة جغطاي أخوه اسكندر شاه بن أمير زه شيخ عمر بن تيمورلنك.
سنة ثلاث عشرة وثمانمائة
أهلت والخليفة المستعين بالله أبو الفضل العباسي بن محمد، والسلطان الملك الناصر فرج بن برقوق، ونائب الشام الأمير نوروز، و لم يتمكن من المباشرة بل هو محصور بحماة، والأمير شيخ وجماعته يحيطون به، ونائب حلب الأمير دمرداش، وهو بحماة مع نوروز، وعنده أيضاً نائبي حماة وطرابلس، ونائب صفد الأمير شاهين الزردكاش، ونائب غزة الأمير يشبك الموساوي الأفقم.(3/118)
والذهب في القاهرة بمائة وثمانين المثقال، وبمائة وستين الدينار المشخص، والأردب القمح بمائتي درهم، وقد هافت الزروع، إلا قليلاً، بسبب ريح هبت، سيما الشعير فإنه كاد يهيف كله، والفلوس كل رطل منها بستة دراهم، تسمية لا معنى لها، والفضة إن وجدت فكل درهم نقرة خالص باثني عشر درهماً ممن الفلوس التي زنتها رطلان. وكل درهم كاملي بستة وسبعة دراهم من الفلوس.
شهر المحرم، أوله الثلاثاء: في ثالثه: قدم الأمير شاهين، دوادار الأمير شيخ، إلى حلب، على عسكر، فقاتله أهلها من أعلى السور، فلم يزل حتى أصعد جماعة من عسكره فوق السور بسلالم قد أحضرها معه، فأخذوا له المدينة في خامسه، وامتنع من كان يقاتله بالقلعة.
وفي عاشره: خلع السلطان على الأمير قراجا شاد الشراب خاناه، وجعله دواداراً كبيراً، عوضاً عن الأمير قجاجق بعد موته، وخلع على سودن الأشقر، واستقر شاد الشراب خاناه.
وفيه كانت وليمة الأمير بكتمر جلق، وزفت عليه ابنة السلطان ليلاً، فبني عليها ليلة الجمعة حادي عشره.
وفي ليلة السبت ثاني عشره: أخرج من قلعة دمشق سودن الجلب، ومن معه من المسجونين، وتوجه بهم الأمير ألطنبغا القرمشي إلى قلعة المرقب، فسجنهم بها، وعاد إلى دمشق.
وفي ليلة الاثنين حادي عشرينه: اجتمع رجلان بصالحية دمشق، أحدهما تراس والآخر قيم حمام، وشربا الخمر، فأصبحا محرقين، ولم يكن عندهما نار، ولا وجد أثر الحريق في غير يديهما، وبعض ثيابهما. وقد مات أحدهما، وفي الآخر رمق، فأقبل الناس أفواجاً أفواجاً لرؤيتهما، والاعتبار بحالهما.
وفي هذا الشهر: فشا الطاعون ببلاد الشام، فعم طرابلس وحوران وبالس ودمشق، ووقع جراد بالرملة والساحل. وفيه توجه السلطان أحمد بن أويس من بغداد إلى توريز، ليأخذها من قرا يوسف، وقد سار عنها إلى أرزنكان.
شهر صفر، أوله الأربعاء.
في ثانيه: قدم الأمير ألطنبعا القرمشي من قلعة المرقب إلى دمشق، بعدما مر على الأمير شيخ وعمله نائب الغيبة بدمشق، وأذن لسودن بقجة أن يخرج ويسير من دمشق للدورة لأخذ مال يرتفق به.
وفي يوم الخميس ثالث عشرينه: خرج الأمير بكتمر الناصري جلق الأتابك وخيم بالريدانية ظاهر القاهرة، ليشير جاليش العسكر إلى الشام، ومعه الأمير طوغان الحسني رأس نوبة النوب، والأمير سنقر الرومي، والأمير يلبغا الناصري حاجب الحجاب، والأمير خاير بك، والأمير ألطنبغا العثماني، والأمير شاهين الفرم رأس نوبة، وعدة من أمراء الطبلخاناه، وغيرهم.
وفيه نودي بالقاهرة أن تكون الفلوس باثني عشر درهماً الرطل، وكانت بستة دراهم الرطل، وقد بلغ المثقال الذهب إلى مائتين، والدينار المشخص إلى مائة وثمانين، فغلقت الأسواق، وتعطلت أسباب الناس، فنودي بذلك في يوم الجمعة، وهدد من خالف، فاشتد الأمر، وفقد الخبز وغيره من المأكل، فلم يقدر على شيء منها، فغضب السلطان، وهم أن يركب بنفسه بعد صلاة الجمعة، ويضع السيف في العامة، فما زال الأمراء به حتى كف عن الركوب. وبات الناس في كربة. وأصبحوا يوم السبت خامس عشرينه، فسأل الأمراء السلطان في أمر سعر الفلوس، وما زالوا به حتى رسم - بعد جهد - أن يكون الرطل بتسعة، فنودي بذلك في القاهرة، فسكن الحال قليلاً، وظهرت المآكل، ثم نودي في يوم الاثنين سابع عشرينه أن تكون الفلوس بستة دراهم الرطل، كما كانت، ففتحت الأسواق، وعاد الأمر كما كان أولاً. وكان لهذا الحادث سبب، وهو أن السلطان اشتري نعالاً للخيل، وسك حديداً لأجل السفر، فحسب ثمنها كل رطل باثني عشر، فقال: هذا غبن أن يكون الحديد الأسود باثني عشر درهماً الرطل، والنحاس المصفى المسكوك - وهو الفلوس - كل رطل بستة دراهم، ووجد عنده عشرة آلاف قفة من الفلوس، زنة كل قفة مائة رطل، عنها ستمائة درهم، قد حملت إلى القلعة لتنفق في المماليك عند السفر إلى الشام، فأراد أن يجعل الرطل الفلوس بخمسة عشر ليعطي القفة الفلوس التي حسبت عليه بستمائة في النفقة بألف وخمسمائة، وتخيل في ذلك ربحاً عظيماً إلى الغاية، وخشي ألا يتمشى له هذا، فرسم أن تكون الرطل باثني عشر درهماً، ثم وجع عنه إلى تسعة، ثم إلى ستة. وسبب رجوعه تنمر المماليك عليه، ليفطنهم بما أراده من الفائدة عليهم، وحدثوه غير مرة فلم يجد بداً من عود الأمر إلى حاله، خشية نفورهم عنه وقت حاجته إليهم.(3/119)
وفي سابع عشرينه: رحل الأمر بكتمر من الريدانية بمن معه يريد الشام.
وفي يوم الخميس سلخه: عمل السلطان المولد النبوي ليلاً، بعمارته التي أنشأها في الحوش من قلعة الجبل، على عادته، وحضر القضاة، فجلسوا صفاً عن يساره، وجلس عن يمينه الشيخ إبراهيم بن زقاعة، والشيخ نصر الله الجلالي، ومشايخ العلم، ومدت الأسمطة، وفرقت الخلع.
شهر وبيع الأول، أوله الجمعة: وفي يوم الاثنين رابعه: ركب السلطان من قلعة الجلبل إلى الريدانية بعساكره، فنزل بمخيمه، وبات به، ثم عاد من الغد إلى التربة التي أنشأها على قبر أبيه، خارج باب النصر، في سفح الجبل، وقرر في مشيختها صدر الدين أحمد بن جمال الدين محمود العجمي، ورتب عنده أربعين صوفياً، وأجرى عليهم الخبز واللحم الضأن المطبوخ أنواعاً في كل يوم، مع المعاليم في كل شهر.
وفي سادسه: أخذ ما في الطواحين والمعاصر من الخيل والبغال، وسيرت إلى العسكر، فتضرر الناس بالقاهرة من ذلك.
وفيه تقرر الصلح بين الأمير شيخ والأمير نوروز، بعدما اشتد الأمر بحماة، وقلت العلوفات منها، حتى أخذت حصر الجامع، وقدمت للخيل، فأكلتها من الجوع. وحلف كل منهما لصاحبه بموافقته، وما ذاك عن حب ولا رغبة سوى الخوف من السلطان أن يظفر بأحدهما فيتطرق إلى أخذ الآخر. فلما تم صلحهما عزما على أخذ دمرداش نائب حلب، وابن أخيه قرقماش. فلما أحسا بذلك، فر دمرداش من حماة، ولحق بالعجل بن نعير، ثم سار إلى السلطان، فقدم عليه. وسار ابن أخيه إلى إنطاكية. وتوجه نوروز إلى حلب، فدخلها في عاشره، وتسلم قلعتها من بيتحار مملوك دمرداش، وفر الأمير مقبل الرومي، ولحق بالسلطان وهو على غزة، وعاد الأمير شيخ إلى دمشق، فقدمها في ثامن عشره، ومعه الأمير يشبك بن أزدمر، وسودن الجلب، وقد أفرج عنه وعن أصحابه من سجنهم بقلعة المرقب، وترك خامه على قبة يلبغا - خارج دمشق - وأشاع أنه يسير إلى غزة، ونزل بدار السعادة.
وأظهر بدمشق، ونوروز بحلب، الخروج عن طاعة السلطان، وأعلنا بذلك. وصارا يكتبان في كتبهما ومراسيمهما بدل الملكي الناصري ما مثاله الملك لله فظهر ما كان خافياً، وانكشف ما كان خافياً، وانكشف ما كان من سنين مستوراً.
وفي يوم السبت تاسعه: استقل السلطان بالمسير من الريدانية يريد الشام، ومعه من الأمراء الألوف تغري بردى الأتابك، وقنباي، وقجق العيساوي، وسودن الأسندمري، وسودن من عبد الرحمن، وسودن الأشقر، وكمشبغا المزوق، وبرد بك لخازندار، وعدة من أمراء الطبلخاناه، والعشرات، والمماليك، والخليفة، والقضاة، وأرباب الوظائف. وجعل نائب الغيبة الأمير أرغون، وأنزله بباب السلسلة، وجعل بقلعة الجبل الأمير كمشبغا الجمالي نائب القلعة، وجعل بظاهر القاهرة الأمير أينال الصصلاني الحاجب الثاني، وأنفق في هذه الحركة مالاً عظيماً، فأعطى كل مملوك عشرين ألف درهم من الفلوس، وأعطى الأمير تغري بردى والأمير بكتمر حلق ثلاثة آلاف دينار لكل منهما، ولكل من المقدمين ألفين ألفين، ولكل من أمراء الطبلخاناه خمسمائة دينار، ولمن دونهم ثلاثمائة دينار، ولمن دونهم مائتي دينار. وأعطى لقاضي القضاة مجد الدين سالم الحنبلي مائة دينار. ولم يعط غيره من القضاة.
وفي ليلة الاثنين خامس عشرينه: توجه الأمير شيخ من دمشق، وأوقع بالعربان، وأخذ لهم جمالاً وأغناماً كثيرة، فرقها في أصحابه، وعاد، فكثر عنده الإرجاف بمسير السلطان، فلم يثبت للقائه، وخرج من دمشق يوم الثلاثاء سادس عشرينه، ومعه العسكر، وتبعه جانم نائب حماة، فلم يشعر الناس بدمشق في يوم الأربعاء سابع عشرينه إلا والأمير بكتمر جلق قد قدم بعد الظهر على حين غفلة، فأدرك أعقاب الأمير شيخ، وأخذ منه جماعة.(3/120)
وقدم السلطان بعد العشاء من ليلة الخميس ثامن عشرينه، وقد ركب من بحيرة طبرية عصر يوم الأربعاء على جرائد الخيل، ليكبس الأمير شيخ ففاته، لأن النذير عندما أتاه يوم الأربعاء ركب من وقته ونجا بنفسه، فما بلغ سطح المزة إلا وبكتمر جلق بدمشق، فمر على وجهه، وتبعه أصحابه، وفي يوم الخميس قدمت أثقال السلطان. وفيه نودي بدمشق الأمان والاطمئنان، ولا ينزل أحد من العسكر في منزل أحد، ولا يشوش أحد منهم على أحد في بيع ولا شراء. ونودي أن الأمير نوروز هو نائب الشام. وقدم الأخناي مع العسكر، وقد لقي السلطان بالطريق، فأعاده إلى قضاء دمشق.
وفي يوم الجمعة: صلى السلطان الجمعة بالجامع الأموي، وخطب به، وصلى شهاب الدين أحمد الباعوني. ثم عوض الباعوني عن خطابة الجامع الأموي بخطابة القدس، وأضيفت خطابة الجامع الأموي للأخناي.
وفي هذا الشهر: كان قرا يوسف بالقرب من أرزنكان، فبلغه مسير أحمد بن أويس إلى توريز، وأنه اتفق مع شاه رخ بن تمرلنك وأخويه إسكندر وخليل، فاعرض قرا يوسف عن محاربة قرا يلك، واستعد لحرب بن أويس وعزم على لقائه.
وفيه بلغ الأردب القمح بالقاهرة مائتين وخمسين درهماً، والشعير إلى مائة وخمسين، والفول إلى مائة وستين. فلما سافر السلطان نزل القمح إلى مائة وعشرين، والشعير إلى ستين درهماً، والفول إلى تسعين درهماً.
شهر ربيع الآخر أوله السبت: في ثانيه: قدم الأمير شاهين الزردكاش نائب صفد إلى دمشق. وفيه استقر الأمير نكباي حاجب الحجاب بدمشق، واستقر تغري برمش - الذي كان أستادار الأمير شيخ، وفر من بعلبك وسار إلى القاهرة - فولى شاد الدواوين. ثم توجه إلى عزة ليجهز الإقامات للسلطان، وقدم دمشق فشرع في أمسه يقرر الشعير على ضياع الغوطة والمرج، فزاد على ظلم من قبله، وبالغ. فلما أصبح، عزله السلطان وولاه نيابة غزة، ثم في آخر النهار طلب وأخذت منه الخلعة التي لبسها بكرة النهار، وقبض عليه، وصودا.
وفي ثالثه: استقر الأمير يشبك الموساوي في نيابة طرابلس على مال مبلغه مائة ألف دينار، ومضى إليها. واستقر زين الدين أو بكر بن اليغموري في نيابة بعلبك، وأخوه شعبان في نيابة القدس.
وفي خامسه: قدم إلى القاهرة عاقل الخازندار من قبل السلطان، وعلى يده كتبه بقدومه دمشق.
وفي يوم الجمعة سادسه: سارت أطلاب السلطان والأمراء وغيرهم من دمشق إلى برزة. وصلى السلطان الجمعة بجامع بني أمية، وتوجه بعساكره، فنزل في مخيمه على برزة، وعمل شاهين الزردكاش نائب صفد على دمشق نائب الغيبة، فتحول إلى دار السعادة، ونزل بها، وتأخر بدمشق الأمير قنباي المحمدي لضعف به، وتخلف بها أيضاً القضاة الأربع، والوزير سعد الدين إبراهيم بن البشيري لجمع مال السلطان، وعمل أشياء اقترح عملها، وتأخر مجد الدين بن الهيصم ناظر الخاص أيضاً. وسار السلطان في طلب الأمير شيخ والأمير نوروز ومن معهما، وقد قصدوا حلب.
وفي سابع عشره: قدم ابن أبي الرداد إلى دمشق ليبشر السلطان بوفاء النيل في خامس مسرى.
وفيه قبض بدمشق على موسى الملكاوي، وضرب ليحضر صدر الدين علي بن الآدمي كاتب سر دمشق، وقاضي الحنفية بها، فدل عليه، فلما أتاه الطلب فر.
وفي خامس عشره: سار السلطان من حلب، بعدما قدم عليه الأمير دمرداش نائب حلب يريد أعداءه، وقد ساروا إلى عينتاب، فلما أحسوا بمسيره، مضوا إلى مرعش، ثم إلى ككسوا حتى أتوا إلى قيسارية الروم.
فنزل السلطان بأبلستين وأقام عليها، وكتب إلى الأميرين شيخ ونوروز ومن معهما يخيرهم بين الخروج من مملكته وبين الوقوف لمحاربته، أو الرجوع إلى طاعته، وأنه قد عزم على الإقامة بأبلستين السنتين والثلاث، حتى ينال غرضه منهم. فأجابه الأمير شيخ يعتذر عن حضوره بما خامر قلبه من شدة الخوف عند القبض عليه في سنة عشر وثمانمائة، وأنه لا يحارب السلطان ما عالق، بعدما حلف له في نوبة صرخد. وكرر الاعتذار عن محاربته الأمير بكتمر جلق، وذكر أن الذين معه إنما هم مماليكه، اشتراهم بماله من نحو عشر سنين، ولا يمكنهم مفارقته، وأنه ما أخذ من أوقاف دمشق إلا ما خرب، وصار لا ينتفع به، ولا يقام فيه شعائر الإسلام، فكان يأكلها من لا ستحقها.(3/121)
وأنه لم يفعل ذلك إلا من فقره وعدم قدرته، وأنه إن لم يسمح السلطان له بنيابة الشام كما كان، فلينعم عليه بنيابة أبلستين، وعلى الأمير نوروز بملطية، وعلى يشبك ابن أزدمر بعينتاب، وعلى غيرهم من الأمراء ببقية القلاع، فإنهم أحق من التركمان والأكراد المفسدين. فلم يرض السلطان منهم بذلك، وصمم على الإقامة، وكتب يستدعي التراكمين وغيرهم.
وفي هذا الشهر: مات نيق، القائم بمدينة الكرك، فقام بعده أخوه يشبك، واستولى على قلعتها.
وفيه وقعت فتنة بجبل نابلس، بين ابن عبد الساتر وابن عبد القاد، شيخي العشير، ففر ابن عبد القادر، وكثرت الفتن بتلك البلاد، حتى انقطعت الدروب فلم تسلك. وفيه بعث تنبك نائب قلعة الروم إلى الأمير نوروز عشرين فرساً تقدمة، فعين لأخذ قلعة الروم وقلعة البيرة سودن تلي المحمدي على أربعمائة فارس، فنزل تنبك إلى البيرة، فقاتله مبارك شاه نائبها، وظفر به، واعتقله بالقلعة، فكتب السلطان بمسير مبارك شاه مع نكباي، وقد ولاه قلعة الروم حتى يتسلمها فمضى به وأخذها.
وفيه وصل قوا يوسف إلى توريز وقد جمع أحمد بن أويس قدر ستين ألف فارس، فيهم ابن الشيخ إبراهيم بن الدربندي، وأمراء البلاد، فاقتتلا قتالاً عظيماً في يوم الجمعة ثامن عشرينه، فانكسرت عساكر ابن أويس، وقتل هو وولده سلطان علي، في ليلة الأحد آخره، وقتل أيضاً كثير من الأمراء، وأسر ابن الشيخ إبراهيم، وعدة من الأمراء، ونهبت أموالهم، وملك قرا يوسف بلاد توريز وغيرها، وقدم كتابه بهذا إلى السلطان، ويقال أن ابن أويس لما وقعت الكسرة اختفى في عين ماء، ودخل عليه بعض فرسان قرا يوسف ليقتله، فعرفه بنفسه، فأخذه، وأعلم قرا يوسف به، فأحضره إليه وبالغ في إكرامه، ووكل به أحد أمرائه، فلم يرض كثير ممن مع قرا يوسف بذلك، وما زالوا به حتى قتله خنقاً.
شهر جمادى الأولى، أوله الاثنين: في سابعه: قض على صدر الدين علي بن الآدمي، وسجن بقلعة دمشق.
وفي خامس عشرينه: قدم كتاب السلطان من أبلستين إلى دمشق، فلم يؤخذ من البساتين نصف ما كان يأخذه شيخ ونوروز. هذا وأهل القرى بأجمعهم يجبى منهم الشعير الذي وظف عليهم. ثم قرر عليهم شعير آخر ليزرع القصيل برسم رعي الخيول السلطانية.
وفي سلخه: قدم محمد التركماني من أبلستين إلى دمشق، وقد ولي نيابة الكرك. وولي علاء الدين علي الحلبي قاضي غزة خطابة القدس مع قضاء غزة، فنزل غزة قبل رحيل الناصر من القاهرة، واستقر عوضه شهاب الدين بن حجر فكان في مدة تسعة أشهر قد ولي خطابة القدس خمسة، أحدهم وليها مرتين.
وفي هذا الشهر: سار الأمير عثمان بن أمير طرعلي - المعروف بقرايلك - إلى طأة أرزنجان، وحرق قراها، وجلا رعيتها معه إلى بلاده.
وفيه اقتتل أمير سليمان بن خوندكار أبي يزيد بن مواد بن أورخان بن عثمان مع أخيه موسى جلبي وهزمه، ففر موسى إلى أفلاق، فحصره سليمان، وكان أخوهما كرشجي مقيماً ببرصا.
وفيه خامر على الأمير ناصر الدين محمد باك بن قرمان صهره ابن كريمان ولحق بكرشجي في عسكره. وفيه قدم على السلطان بأبلستين كثير من طوائف التركمان والعربان، ونواب القلاع، وأتته رسل ماردين، ورسل قرا يوسف، وقرا يلك، بتقادمهم. فلما ملت عساكره من طول الإقامة خشي تفرقهم عنه، ورحل من أبلستين وقد التزم له ابنا دلغادر - محمد وعلي - بأخذ أعدائه أو طردهم من البلاد. ومضى على الفرات إلى قلعة الروم، وقبض على نائبها تنبك، وقرر عوضه طوغان الطويل، وسار على البيرة إلى سودن الجلب، فقدمها.
شهر جمادى الآخرة، أوله الأربعاء: في رابعه: قدم الخبر من دمشق بأن سودن الجلب مارق الأميرين شيخا ونوروز، ومر على القريتين في نحو عشرة فرسان، يريد الكرك، فانزعج العسكر، وخرج الأمير نكباي في طلبه، فلم يدركه، ودخل الجلب إلى الكرك وملكها، وقدم الخبر بأن قرقماس ابن أخي دمرداش، وجانم، فارقا الجماعة أيضاً وقصدا حلب، فلما وصلا ملطية مضى جانم في طائفته من طريق، ومضى قرقماس من أخرى، فقدم قرقماس على السلطان بحلب، فأكرمه وأنعم عليه.
وفي هذا الشهر: سار حيدر - نائب قلعة المرقب - من طرابلس على عسكر ونزل عليها، وبها بدر الدين حسن بن محب الدين أستادار الأمير شيخ، وأولاد الكويز. وفيه سار تنكز نائب حصن الأكراد ومعه ابن أيمان بتركمانه لأخذها.(3/122)
وقد نزل علي بن صوجي ببيوته وحواشيه وتركمانه على برج السلطان - قريباً من صهيون - لحصارها، وكان السلطان قد ولي نيابتها بلبان ليأخذها من كزل، أحد أصحاب الأمير شيخ.
وفيه وصل إلى ميناء يافا، أربع قطع، فيها نحو سبعمائة من الفرنج، فأسروا جماعة من المسلمين، وأخذوا مركباً فيه خام للسلطان قدم من مصر، وفيه قدم أيضاً إلى يافا، مركب فيه فرنج، معهم أخشاب، وعجل، وصناع، برسم عمارة بيت لحم، بالقدس، حيث مولد عيسى عليه السلام، وبيدهم مرسوم السلطان بتمكينهم من العمل، فدعوا الناس للعمل بالأجرة، فأتاهم عدة من القلعة والصناع، وشرعوا في إزاحة ما بطريقهم من الأوعار.
وكان سبب هذا أن موسى - صبي بطرك النصارى الملكانية - سأل السلطان لما قدم إلى القدس، بعد نوبة صرخد، في سنة اثنتي عشرة وثمانمائة، أن يمكن النصارى من إعادة عمارة مولد عيسى - بيت لحم - على ما كان عليه، فكتب له بذلك مرسوماً، فطار به كل مطار، وبعثه إلى بلاد الفرنج فاغتنموا الفرصة، وبعثوا هؤلاء، فبدءوا بتوسعة الدرب، الآخذ من ميناء روبيل إلى القدس، وقصدوا أن يصير سعته بحيث يمر فيه عشرة فرسان متواكبين، فأنه لم يكن يسع غير فارس واحد بمشقة، وأحضروا معهم دهناً إذا وضعوه على تلك الصخرة، سهل قطعها.
وفيه خلع السلطان على الأمير قرقماس ابن أخي دمرداش - ويقال له سيدي الصغير - وولاه نيابة صفد، واستقر بالأمير جانم في نيابة طرابلس، واستقر بجركس الذي يقال له أبو تنم، حاجب الحجاب بدمشق، وعزل نكبية عنها، وأنعم عليه بإمرة في ديار مصر، وولي الأمير بكتمر جلق نيابة الشام، وأنعم بتقدمته على الأمير دمرداش نائب حلب.
شهر رجب، أوله الخميس: في خامسه: برز الأمير ألطنبغا العثماني، والأمير قنباي المحمدي من دمشق يريدان حلب، وقد أتاهما الطلب من السلطان. وفيه نودي بدمشق، ألا يتأخر بها أحد ممن قدم من ممالك السلطان من حلب.
وفي سادسه: وصل إلى دمشق، متسلم الأمير بكتمر جلق. وقدم أيضاً فيروز الخازندار، لإخراج من بدمشق من المماليك، ولأخذ مال، وسلاح، فأقام يومه وبات، ثم أصبح فركب العسكر، ووقفوا تحت القلعة، وعليهم آلة الحرب، فدقت كوسات القلعة حربياً، ورفع علم السلطان على باب الناصر، ونودي: من أطاع السلطان فليقف تحت الصنجق السلطاني، فسارع العسكر إليه، إلا قليلاً منهم، تحيزوا إلى الميدان، ودقوا طبلاً، وقبضوا على الأمير قنباي المحمدي، وعلى نكباي الحاجب، وساروا والطلب في أثرهم، فلم يقدر عليهم، وساروا إلى الكرك، وكبيرهم بردبك الخازندار، وكان قد بعثه السلطان، من حلب، فانحل عنه كثير ممن خرج معه، وبقي في نفر قليل، فأدخله سودن الجلب إلى الكرك، وسكن الشر بدمشق في يومه.
وفي تاسع عشره: قدم دمشق، الأمير تغري بردى بن أخي دمرداش، ويقال له سيدي الكبير، يريد صفد، وقد ولاه السلطان نيابتها، عوضاً عن شاهين الزردكاش، نائب الغيبة بدمشق، فلما قدم أخوه قرقماس إلى حلب طالعاً وولاه صفد، عوضه عنها بحلب، وأقر هذا على صفد.
وفي هذه الأيام: فرض على قرى دمشق وعلى بساتينها ذهباً يجبى من أهلها، سوى ما عليهم من الشعير، وفرض أيضاً على طواحين دمشق وحماماتها وحوانيتها مال جبى منهم.
وفي رابع عشرينه: وصلت خلعة سودن الجلب إلى دمشق، باستقراره في نيابة الكرك، وسارت إليه.
وفي ثامن عشرينه: توجه الأمير تغري بردى نائب صفد من دمشق إلى صفد.
وفيه أدير محمل الحاج بدمشق، فبينما الناس في التفرج عليه، إذ أتاهم خبر وصول السلطان من حلب، فماج الناس، وقدم السلطان بعد العصر في طائفة من خواصه، ونزل بدار السعادة. وسبب ذلك أن الخبر ورد عليه بأن شيخ ونوروز وصلا عينتاب، وسارا على البريد، فبعث عسكراً في طلبهما وركب من حلب على حين غفلة في ثالث عشرينه، وسار إلى دمشق في أربعة أيام، ثم قدم الأمير الكبير تغري بردى، ثم قدم الأمير بكتمر نائب الشام في تاسع عشرينه، ومعه الأمير دمرداش، والأمير جانم نائب طرابلس، فنزلوا منازلهم بدمشق.(3/123)
وفي هذا الشهر: قدم محمد شاه بن قرا يوسف بغداد، وقد امتنع من بها من تسليمه، فحاصرها مدة عشرة أشهر، فكانت فيها أمور عجيبة، حاصلها أن قرا يوسف لما هزم ابن أويس وقتله، بلغ ذلك أهل بغداد، وكان عليها من قبل أحمد بن أويس مملوكه بخشايش، فلم يصدق ذلك، واستمر على الخطة له. فبعث قرا يوسف ابنه، فلما قارب بغداد بعث إلى الأعيان يعدهم ويرغب إليهم في تمكينهم من البلد، فأبوا عليه وقالوا لرسوله، إن ابن أويس لم يقتل وإنما هو حي، وأقاموا صبياً لم يبلغ الحلم، يقال له أويس، من أخي أحمد أويس وسلطنوه. فنزل بن قرا يوسف على بغداد، فقاتلوه من فوق الأسوار مدة أربعة أشهر، ثم قامت ببغداد ضجة عظيمة في الليل، قتل فيها بخشايش، وأصبح ملقى في بعض الشوارع. وأشيع أن الذي أمر بقتله أحمد بن أويس، وأنه في بعض الدور ببغداد، فصار يخرج من الدار - التي قيل أنه بها - أوامر على لسان رجلين، أحدهما يقال له المحب، والآخر يقال له ناصر الدين، وقام بعد بخشايش عبد الرحيم بن الملاح، وأعيدت الخطبة باسم أحمد بن أويس، وضربت السكة باسمه، وانقطع ذكر أويس الصبي، فسار محمد شاه بن قرا يوسف عن بغداد، وكتب إلى أبيه ، يخبره بما وقع ببغداد، فخرج من بغداد عسكر نحو خمسمائة وكبسوا بعض أمراء ابن قرا يوسف، فقتل وأسر عده من أصحابه، وكان في جهة غير جهة ابن قرا يوسف، وزعموا أن هذا بأمر أحمد بن أويس، ثم قتل المحب وناصر الدين، وعبد الرحيم الملاح ببغداد، ونسبوا قتلهم أيضاً إلى أحمد بن أويس، فلما كان بعد إشاعة حياته بأربعين يوماً، أشيعت وفاته، وكان الذي أشاع وفاته، أم الصبي أويس، وذلك أنها استدعت الأعيان، وأعلمتهم أنها هي التي أمرت بما وقع من القتل، وإشاعة حياة أحمد بن أويس، وأنه ليس بحي، وما زالت بهم حتى أعادوا ابنها أويس إلى السلطنة، وعملوا عزاء أحمد بن أويس ببغداد. فلما بلغ ذلك ابن قرا يوسف عاد إلى بغداد وحاصرها، فأشيع أيضاً أن أحمد بن أويس حي لم يمت، فعوقب جماعة ممن ذكر هذا، ثم بعد أربعة أشهر من إظهار موت أحمد بن أويس وقعت ضجة عظيمة ببغداد على حين غفلة، وقيل ظهر أحمد بن أويس، فاجتمع الناس إلى دار، فخرج إليهم منها رجل في زي أحمد بن أويس على فرس، فقبلوا له الأرض، وتناقل الناس حياته. ثم سألوا ذلك الشخص أن يروه رؤية بتبين لهم فيها أكثر من المرة الأولى، فوعدوا بذلك في دار عينت لهم، فلما صاروا إليها خرج إليهم عند غروب الشمس شخص راكب على فرس في زي أحمد بن أويس، فصاح غوغاء العامة هذا السلطان أحمد، وتناقلوا ذلك، ثم أشاعوا أنه غير موجود، فكانت مدة إشاعة وجوده ثانيا خمسة عشر يوماً، وفي أثنائها خرج من بغداد نحو خمسمائة فارس إلى جهة البصرة بأمر أحمد بن أويس على زعمهم، ثم خرجت أم الصبي أويس به ومعها خواصها، وسارت من بغداد إلى ششتر.
فبعث أهل بغداد إلى ابن قرا يوسف يستدعونه، وقد رحل عندما أشيع ظهور أحمد ابن أويس مرة ثانية، فقدم ودخلها في أثناء سنة أربع عشرة وثمان مائة فكان خبر بغداد هذا من أغرب ما يحكي.
شهر شعبان، أوله الجمعة: فيه قدم الأمير قرقماس نائب حلب إلى دمشق، فأكرمه السلطان وأنعم عليه.
وفي ثالثه: قدم الأمير تمراز الناصري نائب السلطة في خمسين فارساً، وقد فارق الأمير شيخ، فركب السلطان وتلقاه، وبالغ في إكرامه، وأنعم عليه بما يليق به.
وفي ثامنه: توجه قاضي القضاة جلال الدين عبد الرحمن بن البلقيني من دمشق إلى القاهرة، لتجهيز صرر المال المحمولة مع الحاج إلى مكة والمدينة على العادة، وتوجه مجد الدين بن الهيصم ناظر الخاص أيضاً.
وفي خامسه: قدم الخبر على السلطان بدخول الأمير شيخ قلعة صرخد. وفيه أفرج عن الصدر علي بن الآدمي، ثم قبض عليه من الغد، وأعيد إلى السجن.
وفي سابعه: سمر بدمشق ستة من أصحاب الأمير شيخ ووسطوا.
وفي ثاني عشرة: استقر نائب الغيبة بديار مصر، في حسبة القاهرة، بزين الدين محمد بن شمس الدين محمد الدميري، عوضاً عن شمس الدين محمد المناوي الملقب ببدنة والمعروف بالطويل بعد وفاته.(3/124)
وفي خامس عشره: ورد الخبر على السلطان بوصول الأميرين شيخ ونوروز في نحو مائتين وخمسين فارساً إلى أرض البلقاء، وأنهم في قل وجهد، وليس معهم غلمان تخدمهم، وكان من خبرهم أن السلطان لما سار عن أبلستين قدم الجماعة من قيسارية إلى أبلستين، فمنعهم ابن دلغادر وقاتلهم، فانكسروا منه وفروا إلى عينتاب، وعندما قاربوا تل باشر تمزقوا، وأخذت كل طائفة تسلك جهة من الجهات، فلحق بحلب ودمشق منهم عدة وافرة، واختفى منهم جماعة، ومر شيخ ونوروز في خواصهما على البر إلى تدمر، فامتاروا منها، ومضوا مسرعين إلى صرخد، فلم يقر لهم قرار بها، فمضوا إلى البلقاء، ودخلوا بيت المقدس، وتوجهوا إلى غزة فأقاموا بها. فأخرج السلطان إليهم الأمير بكتمر نائب الشام على عسكر، فسار إلى زرع، وكتب يطلب نجدة، فخرج إليه من دمشق الأمير طوغان الدوادار على عسكر في خامس عشرينه.
وفي سادس عشره: وصل مجد الدين بن الهيصم ناظر الخاص إلى القاهرة، واشتد في طلب الأموال من المصادرات فلم يمهل، ومات في ليلة العشرين منه، فسر الناس بموته سروراً عظيماً.
وفي خامس عشرينه: كتب السلطان إلى أرغون كاشف الرملة بمنع الفرنج من عمارة بيت لحم، والقبض عليهم، وعلى من معهم من الصناع، وأخذ ما عندهم من السلاح والآلات والمال، والجمال التي استأجروها لنقل آلات، وحمل ما معهم من العجل والدهن الذي إذا وضع على الحجارة هان قطعها، فختم أرغون على مخازن ثلاثة من الفرنج، وقبض عليهم، وحملهم، ومعهم ما رسم به.
وفي يوم الأربعاء سادس عشرينه: دخل الأميران شيخ ونوروز بمن معهما إلى غزة، وقد مات من أصحابهما الأمير تمربغا المشطوب نائب حلب، والأمير أينال المنقار، بطاعون في مدينة حسبان. وقدم عليهما بغزة الأمير سودن الجلب من الكرك، فتتبعوا ما بغزة من الخيول وأخذوها.
شهر رمضان، أوله الأحد: في ثانيه: وصل الأمير طوغان الدوادار والأمير قنبك رأس نوبة، والأمير ألطنبغا العثماني، والأمير أسنبغا الزردكاش، والأمير يشبك الموساوي الأفقم، والأمير سودن الظريف، والأمير تمراز الناصري نائب السلطنة - كان - في عدة من المماليك السلطانية إلى قاقون، وهناك الأمير بكتمر شلق نائب الشام وكثير من المماليك، فساروا جميعاً مجدين في السير إلى غزة، فقدموها عصر يوم الثلاثاء ثالثه، وقد رحل الأميران شيخ ونوروز ومن معهما بكرة النهار عندما قدم الأمير سودن بقجة وشاهين الدوادار من الرملة، وأخبرا بقدوم عسكر السلطان، فنهبوا غزة وأخذوا منها خيولاً كثيرة وغلالاً، فتبعهم الأمير خير بك نائب غزة إلى الزعقة، وكشافته في أثرهم إلى العريش، وعندما قدم العسكر إلى غزة بعث الأمير بكتمر بالأميرين شجاع الدين شاهين الزردكاش وسيف الدين أسنبغا الزردكاش إلى قلعة الجبل من على البرية ليخبر من بها بقدوم العسكر، فسارا وقدم الخبر من القاهرة وقلعة الجبل على الأمير بكتمر في كتاب الأمير سيف الدين أرغون نائب الغيبة بأنه قد حصن قلعة الجبل، والإصطبل السلطاني والحوش، ومدرسة السلطان حسن، ومدرسة الأشرف، وأنه ومن معه قد استعدوا للقاء شيخ ونوروز. فسار شاهين الزردكاش بمن معه من غزة عصر يوم الخميس خامسه يريد القاهرة.
وفيه ورد الخبر بموت جماعة من أصحاب الأميرين شيخ ونوروز، منهم تمربغا المشطوب نائب حلب وأينال المنقار، وألطنبغا بابا، وشاهين دوادار الأمير شيخ، وأن شاهين هذا مات بالعريش.(3/125)
وفيه سقط الطائر من قطيا إلى قلعة الجبل، وقد سرحه الأمير فخر الدين عبد الغني ابن أبي الفرج - متولي قطيا وكاشف الوجه البحري - بخبر وصول الأميرين شيخ ونوروز إلى قطيا، وأن من معهما نهبها، وأنه تنحى إلى جهة الطينة، وأنهم ساروا من قطيا يريدون القاهرة. فأخذ الأمير أرغون ومن معه أهبتهم، وعزم الأمير كافور - زمام الآدر السلطانية - أن يسير بالأميرين فرج ومحمد ولدي السلطان مع الحريم السلطاني إلى ثغر الإسكندرية، حسب ما رسمه به، فلم يتمكن من ذلك لضيق الوقت، وقلة الأمن، وكثرة الفتن في البر والبحر، فلما كان يوم الأحد ثامنه، وصل الأمير شيخ، والأمير نوروز، والأمير يشبك بن أزدمر، والأمير بردبك، والأمير منباي، والأمير سودن بقجه، والأمير سودن المحمدي، ويشبك العثماني، وقمش، وقوزي، وأتباعهم، ومعهم جمع كثير من الزهور، وبني وائل من عرب الشرقية، وأمير سعيد كاشف الشرقية وهو معزول عنها، فبلغهم تحصين القلعة والمدرستين، وأن الأمير أرغون ومن معه من الأمراء قبضوا على أربعين مملوكاً من النوروزية الذين يمشون في الخدمة السلطانية، وسجنوهم بالبرج من قلعة الجبل، خوفاً من غدرهم، فسار الأمير شيخ بمن معه من ناحية المطرية إلى جهة بولاق، ومضوا على الميدان الكبير إلى الصليبة، وخرجوا إلى الرميلة تحت القلعة من سويقة منعم، فرماهم الممالك السلطانية بالمدافع والنشاب. وبرز لهم الأمير أينال الصصلاني الحاجب بمن معه، وقد وقف عند باب السلسلة، فتقنطر من القوم فارسان، وانهزموا، ثم عادوا ونزلوا في بيت الأمير نوروز، حيث كان سكنه بالرميلة، وفي بيت الأمير أينال حطب بجواره، وقد اجتمع معهم من الغوغاء خلائق، وأقام الأمير شيخ رجلاً في ولاية القاهرة فنادي بالأمان والاطمئنان، ووعدوا الناس بترخيص سعر الذهب، وسعر القمح، ورغبوهم بإزالة المظالم، فمال إليهم جمع من العامة، فأقاموا على ذلك يوم الحد، وملكوا مدرسة الأشرف تجاه الطبلخاناه. ثم أخذوا مدرسة السلطان حسن تجاه الإسطبل، وهزموا من كان فيهما من المقاتلة، وأقاموا بهما رماة من أصحابهم، ورموا على الإسطبل يومهم وليلتهم، ففر الأمير أرغون من بشبغا نائب الغيبة، والتجأ إلى باب السر، وسأل أن يكون مع الأمير جرباش والأمير كمشبغا الجمالي بداخل القلعة، فأدخلاه بمفرده، من غير أن يدخل معه أحد من مماليكه.
فلما كان ليلة الاثنين: كسوت خوخة أيدغمش - بجوار باب زويلة - وعبر طائفة من الشاميين إلى القاهرة، ومعهم طوائف من العامة، ففتحوا باب زويلة. وكان الأمير حسام الدين حسين الأحول والي القاهرة قد أغلقه، وجميع أبواب القاهرة، على ما جرت به العادة من ذلك في أوقات الفتنة.
ثم أنهم كسروا خزانة شمايل التي هي سجن أصحاب الجرائم، وأخرجوا من بها من المسجونين، وكسروا سجن حارة الديلم، وسجن رحبة باب العيد، وأفرجوا عمن بهما، وانتشروا في حارات القاهرة وظواهرها. ونهبوا بيت الأمير كمشبغا الجمالي، وتتبعوا الخيول البغال، فأخذوا منها شيئاً كثيراً. وفتحوا حاصل الديوان المفرد بين القصرين، وأخذوا منه مالاً، فداخل الناس خوف عظيم.(3/126)
هذا وقد ملك الأمير شيخ باب السلسلة، واستولى على الإسطبل، وجلس في الحراقة، ومشى الأمير نوروز ومعه يشبك بن أزدمر، وبردبك، وقنباي المحمدي الخازندار، ويشبك العثماني، وقمش في بكرة يوم الثلاثاء إلى باب القلعة - وهو مغلوق - وطلبوا فتحه، فاعتل الأمراء عليهم بأن مفاتيحه عند الزمام، فاستدعوه، فأتاهم وكلمهم من وراء الباب، فسلموا عليه من عند الأمير شيخ، ومن عند أنفسهم، وسألوه الفتح لهم، فقال: ما يمكن، فإن حريم السلطان في القلعة، فقالوا ما لنا غرض في النهب، وإنما نريد أن نأخذ ابن أستاذنا، يعنون فرج بن السلطان الناصر فرج، فقال وإيش أصاب السلطان؟ قالوا: لو كان السلطان حياً ما كنا هنا، فلم يفتح لهم. فهددوه بإحراق الباب، فقال: إن كنتم إنما تريدون ابن أستاذكم فليحضر إلى باب السر منكم اثنان أو ثلاثة، وتحضر القضاة، واحلفوا أنكم لا تغدرون به، ولا تمسوه بسوء، وكان بلغهم - بالقلعة - قرب العسكر، فسرحوا الطائر باستعجالهم، وأنهم في الحصار، ومتى ما لم يدركوا أخذوا، فأخذ الزمام في مدافعة الجماعة، والتمويه عليهم، وتسويفهم رجاء أن يحضر العسكر، فبينما هو في ذلك، إذ لاحت بيارق العسكر لمن وقف يرقبهم من المماليك بأعلى موادن القلعة، وقد ارتفع العجاج، وأقبلوا سائقين خيولهم سوقاً عظيماً، جهد طاقتهم، فضجوا بالتكبير والتهليل، وأن السلطان وصل، فخارت قوى الجماعة، ولم يثبتوا للقائه، وركبوا من ساعتهم، ووقفوا قريباً من باب السلسلة وفيهم الأمير شيخ، فدهمهم العسكر، فولوا هاربين نحو باب القرافة، والعسكر في أثرهم، فكبى بالأمير شيخ جواده في باب القرافة، فبادر إليه أصحابه وأركبوه غيره، ومروا به على وجوههم، وقد نزل الأمير طوغان الدوادار بباب السلسلة من القلعة، فقبض العسكر من الشاميين جماعة، منهم قرا يشبك قريب الأمير نوروز، وبردبك رأس نوبة نوروز، وبرسباي الطقطائي أمير جاندار - كان - وثمانية وعشرون فارساً. وحضر سودن الحمصي فاعتقل الجميع بالبرج، وجرح يشبك بن أزدمر. وتبعهم العسكر إلى طموه. فقدم الخبر ليلة الأربعاء حادي عشره بنزول الأمير شيخ في طائفة بأطفيح، وأن شعبان بن محمد بن عيسى العائدي توجه بهم إلى نحو الطور، فنودي في يوم الأربعاء بالقاهرة ومصر بتحصيل من تسحب أو اختفى من الشاميين ثم قدم الخبر بوصولهم إلى السويس، فإنهم أخذوا ما هنالك للتجار علفاً، وزاداً، وجمالاً، وسار بهم شعبان بن عيسى في درب الحاج إلى نخل، فأخذوا عدة من جمال العربان، وأن شعبان أمدهم بالشعير والزاد، وأنهم افترقوا فرقتين، فرقة رأسها الأمير نوروز ومعه يشبك ابن أزدمر، وسودن بقجة، وفرقة رأسها الأمير شيخ، ومعه سودن تلي المحمدي، وسودن صقل، وجماعة. وأنهم لما وصلوا إلى الشوبك دفعهم أهله وصدوهم، فساروا إلى الكرك، فنزل إليهم الأمير سودن الجلب، وتلقاهم، وأدخلهم المدينة، وأنزلهم، فاستقروا بها، وتتبع الأمير حسام الدين والي القاهرة من كان انتمى إلى الشاميين، وأخذ منهم مالاً، حتى منعه الأمير طوغان من ذلك.
وفي يوم الخميس ثاني عشره: خلع الأمير أرغون نائب الغيبة على القاضي تاج الدين عبد الوهاب بن نصر الله، واستقر في نظر الكسوة ووكالة بيت المال، بعد موت شمس الدين الطويل، مضافاً لما بيده من نظر الأحباس وتوقيع الدست، وتوقيع نائب الغيبة، ونيابة القضاء، عن قاضي القضاة ناصر الدين محمد بن العديم الحنفي.
وفي خامس عشره: اشتدت مضرة الأمير بكتمر جلق بالناس، وألزم زين الدين محمد بن الدميري محتسب القاهرة بألفي دينار، ثمن قمح يبيعه له على الناس، وطلب من جماعة من تجار الشام مالاً، وأخذ من الأمير منكلي الأستادار ألف دينار.
وفي سادس عشره: سار الأمير بكتمر من القاهرة بالعسكر يريد دمشق، وتأخر الأمير طوغان الدوادار ويشبك الموساوي، وأسنبغا الزردكاش، وشاهين الزردكاش.(3/127)
وفي ثاني عشرينه: وصل الأمير بكتمر إلى غزة بمن معه، فبث قصاده في كشف أخبار الأميرين شيخ ونوروز. وأما دمشق فإن شهر رمضان افتتح بمصادرة الناس، فأخذ من الخانات والحمامات والطواحين والحوانيت والبساتين أجرتها من ثلاثة أشهر، سوى ما أخذ قبل ذلك، وطلب جماعة من الناس اتهموا بأن عندهم ودائع للشيخية، وعوقبوا وكبست عدة دور. وقدم في عاشره ولد الجلال التباني شمس الدين محمد، وشرف الدين يعقوب، ومحب الدين محمد بن الشحنة الحلبي، وشهاب الدين بن سفري إمام نوروز في الحديد إلى دمشق، وقد قبض عليهم من حلب، فسجنوا بقلعة دمشق، وأرجف بقتلهم.
وفي حادي عشره: أعيد شهاب الدين أحمد بن الكشك إلى قضاء الحنفية بدمشق، وكان منصب قضاء الحنفية شاغراً من حين قدم السلطان. وفيه قدم الأمير تغري بردى نائب صفد إلى دمشق، فأكرمه السلطان، وأنعم عليه.
وفي ثاني عشرينه: قدم الأمير جانم نائب طرابلس إلى دمشق، فأكرمه السلطان، وأنعم عليه، وكان قد بعث يستدعيهما. وفيه ألزم مباشرو مدارس دمشق بألف دينار، وكلف القضاة يجمعها. وفيه استقر نجم الدين عمر بن حجي قاضي دمشق في قضاء طرابلس، وقدم نائب حماة أيضاً.
وقد كان في يوم الثلاثاء سابع عشره: خرجت أطلاب الأمراء تريد أخذ الأميرين شيخ ونوروز، وهم الأمير الكبير تغري بردى، والأمير دمرداش نائب حلب، وتغري بردى نائب صفد، وجانم نائب طرابلس، والأمير يلبغا الناصري، في طائفة من المماليك السلطانية، فقدم الخبر بدخول الجماعة إلى القاهرة، وخروجهم منها، متوجه في تاسع عشره أقبغا دوادار الأمير يشبك - وهو من جملة أمراء العشرات - إلى القاهرة، ومعه التشاريف إلى أمراء مصر، وأمراء العسكر، لشكرهم، والثناء عليهم. هذا وقد وشي إلى السلطان بأن الأمير طوغان الدوادار، والأمير بكتمر جلق قصراً في أمر أعداء السلطان، وأنه لم يكن بينهم وبين الأعداء في مدة السفر إلا نحو بريد واحد، ولو أرادا لأخذا الأعداء، فأسر السلطان ذلك في نفسه، وحقده عليهما، ولم يسعه إلا مجاملتهما، والإغضاء عن هذا.
وفي تاسع عشرينه: قدم الأمير قرقماس نائب حلب إلى دمشق باستدعاء، فأكرمه السلطان، وأنعم عليه. وأما حلب فإن قرقماس هذا كان قد سار منها لمحاربة أولاد ابن بيشان في حادي عشره، وكتب إلى أولاد ابن كبك وإلى كردي بن كندر بملاقاته، فمضى عن حلب يوماً وليلة، وأوقع ببيوت أولاد ابن بيشان فيما بين مرعش وكينوك، فقاتلوه قتالاً شديداً، قتل فيه منهم نحو مائتي رجل، وانكسر من بقي، فأتاه أولاد بن كبك في أخو القتال بنحو مائتي فارس، فرمى أيدغمش بن كبك بسهم في صدره خرج من قفاه فمات، وجرح أخوه حسين بن كبك في وجهه. ثم سار نائب حلب إلى عينتاب، وقبض على حسين ابن كبك وأعيان أصحابه، وقيدهم، وبعثهم إلى حلب، ومشي على بيوتهم وساق أعيانهم، ورجع، فلما وصل حسين بن كبك قريباً من أعزاز، أدركه تركمانه، واستنقذوه - ومن أسر معه - ومضوا بهم، فلم يقدر عليهم، وقدم قرقماس إلى حلب، وجهز مما أخذه من الأغنام أربعة آلاف رأس إلى مطابخ السلطان وسار من حلب، في تاسع عشره يريد دمشق، فقدمها ومعه صغير، له من العمر نحو خمس سنين، اسمه حسن ابن السلطان أحمد بن أويس فرت به مرضعته من بغداد. وقدم أيضاً اسفنديار قاصد قرايلك.
وورد الخبر بأن الأمير سلمان بن عثمان حصر أخاه جلبي ببلاد أفلاق، وأن أخاه محمد كرشجي ولى ابنه مراد البلاد الرومية، وأن ابن قرمان حاصر بلاد ابن كريمان وأحرقها، وأن دلغادر منع من الزرع بأبلستين.
شهر شوال، أوله الاثنين: فيه دقت البشائر بقلعة دمشق لأخذ قلعة صرخد.
وفي حادي عشره: قبض على الأمير جانبك القرمي، فضربه السلطان ضرباً مبرحاً، وسجنه بقلعة دمشق.
وفي خامس عشره: خرج محمل الحاج من دمشق صحبة الأمير تنكز بلغا الحططي.
وفي سابع عشره: توجه الأمير قرقماس ابن أخي دمرداش من دمشق عائداً إلى نيابة حلب على عادته، وتوجه قاضي القضاة شمس الدين محمد الأخناي، وتاج الدين رزق الله ناظر الجيش، وغرس الدين خليل الأشقتمري الأستادار من دمشق، لتجهيز الإقامات من بلاد عجلون، برسم سفر السلطان إلى الكرك، وفي عشرينه أخرج بالمماليك المقبوض عليهم من سجنهم بقلعة دمشق، وسيقوا في الحديد إلى مصر وهم بأسوأ حال.(3/128)
وفي رابع عشرينه: قدم شمس الدين محمد بن شعبان من دمشق إلى القاهرة، وعلى يده توقيع باستقراره في حسبة القاهرة على عادته، عوضاً عن زين الدين محمد بن الدميري، وكان قد توجه إلى دمشق، وسعى حتى خلع عليه بها، وكتب توقيعه ومال إلى الأمير أرغون نائب الغيبة بتمكينه من مباشرة الحسبة، فأمضى الأمير أرغون ذلك، وخلع عليه في غده، وعزل أبن الدميري، وكل ذلك بمال وعد به.
شهر ذي القعدة، أوله الأربعاء: في ثانيه: قدم الأمير الكبير دمرداش بمن معه من العسكر إلى بلد الخليل عليه السلام، فأقام به، وبث القصا، ذلك من أخبار أهل الكرك.
وفي سابعه: وصل إلى القاهرة من دمشق الأمير تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم الأستادار، والوزير الصاحب سعد الدين إبراهيم بن البشيري، لتحصيل الأموال، فأسعر ابن الهيصم البلد ناراً، وطلب جماعة قد ورثوا من مات لهم في مدة غيبة السلطان، ما بين أولاد ذكور وإناث وزوجات، وإخوة وأخوات ونحو ذلك، وألزمهم برد ما أخذوا من الإرث الشرعي، فمنهم من أخذ ما ورثه، ومنهم من صالحه ببعض شيء من إرثه، فشنعت القالة بأنهم قد أبطلوا أحكام الله - سبحانه - في المواريث.
وفي عاشره: دخل الأمير جانم إلى طرابلس.
وفي رابع عشره: نودي بدمشق بالعسكر أن يلبسوا سلاحهم، ويقفوا بأجمعهم عند باب النصر في يوم الجمعة. وفيه تتبعت الحمير بدمشق، وأخذت من البساتين وسائر المواضع، لتحمل عليها الأمتعة للسفر، فنزل بالناس من هذا ضرر كبير.
وفي ليلة الأربعاء خامس عشره: خسف جرم القمر كله.
وفي يوم الأربعاء هذا: ركب السلطان من دار السعادة إلى الغوطة، فكبس عقرباء ونهبها، على أن الأمير شيخ قد اختفى بها، فلم يوجد، وتبين كذب ما قيل، وحل بأهل الناحية بلاء عظيم.
وفي يوم الجمعة سابع عشره: خرج السلطان من دمشق ونزل بقبة يلبغا، وتبعه من بقي معه من العسكر، فبات بمخيمه، واستقل بالمسير من الغد يريد الكرك، وعاد الأمير بكتمر جلق نائب الشام وعليه تشريف جليل، فنزل بدار السعادة على العادة.
وفي سادس عشرينه: ورد الخبر بأن الأمير شيخ نزل من قلعة الكرك، وعبر الحمام بالمدينة ومعه الأمير قنباي المحمدي، والأمير سودن بقجة، وطائفة يسيرة، فبادر شهاب الدين أحمد بن أبي العباس حاجب الكرك إليه، ومعه جمع كبير من أهل البلد، واقتحموا الحمام ليقتلوه، فسبقهم بعض المماليك وأعله بهم، فنهض ولبس ثيابه، ووقف في مسلخ الحمام عند الباب، ومعه أصحابه، فدفع عن نفسه، وقاتل القوم حتى أدركه الأمير نوروز ومعه بقية عسكره، وهزموهم، فأصاب الأمير شيخ بهم غار في بدنه، وخرج منه دم كثير كاد يأتي على نفسه، وحمل إلى قلعة الكرك فأقام ثلاثة أيام لا يعقل وهو في غيبة عن حسه. وقتل في وقعة الحمام الأمير سودن بقجة، وحمل الأمير نوروز على حاجب الكرك. وقتل ممن معه جماعة.
وفي سلخه: ألزم بكتمر نائب الشام قضاة دمشق بحمل عشرة قراقل وألزم تجارها بعشرة أخرى.
وفي هذا الشهر: كثرت الفتن بين التركمان، وخربوا قرى كثيرة ببلاد حلب. وفيه قدم رسل ابن عثمان متملك الروم إلى حلب. وفيه خالف أقبغا شيطان - أحد أصحاب الأمير شيخ - عليه، وسار من قلعة المرقب في عشرين رجلاً، وقدم حلب، منتمياً إلى طاعة السلطان، وفيه تنكر سودن الجلب عن الأمراء النازلين عنده بالكرك، وسار عنهم حتى عدى الفرات، فبعث معه يغمور من يوصله إلى ماردين، فلما نزل بها أقام ثلاثاً، وعزم على المضي إلى قرا يوسف، فأتاه الخبر بأن أيدكي بك ملك الترك، والشيخ إبراهيم الدربندي، وشاه رخ ابن تيمورلنك ملك جقطاي، قد اجتمعوا على محاربة قرا يوسف، فتحير في أمره.
وفي يوم الجمعة رابع عشرينه: نزل السلطان على مدينة الكرك، وحصرها.
شهر ذي الحجة، أوله الخميس: وفي خامسه: ورد مرسوم السلطان إلى دمشق بطلب نواب الشام.
وفي سابعه: وصل حريم السلطان من دمشق إلى قلعة الجبل، صحبة الأمير كزل العجمي، ووصل معه قضاة القضاة الثلاث بديار مصر، وجماعة كثيرة ممن كان بدمشق مع العسكر، وقدم مرسوم السلطان بإعادة زين الدين محمد بن الدميري إلى حسبة القاهرة، فخلع عليه في حادي عشره، وعزل ابن شعبان.
وفي ثالث عشره: قدم رسول محمد شاه بن قرا يوسف صاحب بغداد.(3/129)
وفي تاسع عشره: خرج الأمير بكتمر جلق نائب الشام من دمشق، ونزل قبة يلبغا، فقدم عليه الخبر بأن الأميرين تغري بردى وتمراز الناصري دخلا بين السلطان وبين الأميرين شيخ ونوروز في الصلح، وصعدا إليهما بقلعة الكرك ونزلا ومعهما الأمير سودن تلي المحمدي، ويشبك العثماني، وقرروا مع السلطان نزول الأمير شيخ والأمير نوروز إلى خدمته غداً، وأنهما نزلا إليه من الكرك، فخلع عليهما وعلى جماعة ممن معهما بضع عشرة خلعة، فسار الأمير بكتمر من قبة يلبغا ليلة الخميس ثاني عشرينه يريد الكرك، فقدم الخبر بانتقاض الصلح بين السلطان وبين الأميرن شيخ ونوروز، ثم ترددت الرسل بينهما وبين السلطان، حتى انعقد الصلح على أن يستقر الأمير الكبير تغري بردى في نيابة الشام، عوضاً عن الأمير بكتمر، ويستقر الأمير شيخ في نيابة حلب، عوضاً عن الأمير قرقماس ابن أخي دمرداش، وتستمر قلعة المرقب بيده، ويستقر الأمير نوروز في نيابة طرابلس، عوضاً عن الأمير جانم، ويستقر جانم أمير مائة مقدم ألف بديار مصر، ويكون أمير مجلس، ويستقر الأمير تغري بردى ابن أخي دمرداش في نيابة حماة على عادته، وينقل سودن من عبد الرحمن من صفد إلى إمرة مائة تقدمة ألف بديار مصر، وأن يكون الأمير يشبك بن أزدمر أتابك على العسكر بدمشق، ويكون الأمير قنباي المحمدي أميراً بحلب، وشرط السلطان على الأميرين شيخ ونوروز ألا يخرجا إمرة ولا إقطاعاً ولا غير ذلك إلا بمرسوم سلطاني، وألا ينفرد أحد منهما بأمر يتعلق بالسلطة، وأن يسلما قلعة الكرك ومدينتها للسلطان، ويسلم الأمير شيخ قلعة صرخد وقلعة صهيون للسلطان، وحلف الجميع للسلطان على الوفاء له بما ذكر، والإقامة على طاعته.
وحلف لهم السلطان أيضاً، وخلع عليهم خلعاً جليلة، ومد لهم سماطاً، أكلوا معه عليه.
ثم رحل السلطان عن الكرك يريد القدس بمن معه، وتوجه الأمير تغري بردى نائب الشام إلى جهة دمشق، فأقام السلطان بالقدس خمسة أيام، وسار يريد القاهرة، فقدم دوادار الأمير تغري بردى إلى دمشق متسلماً لها في ثامن عشرينه، ونزل بدار السعادة، فكانت مدة الأمير بكتمر جلق بدمشق بعد رحيل السلطان منها إلى الكرك سبعة وثلاثين يوماً، وكانت مدته في النيابة الأولى عشرين يوماً.
وفي هذا الشهر ذي الحجة: فشا الطاعون بدمشق وضواحيها. وكان في أول هذا العام وباء ببلاد فلسطين وحوران وعجلون ونابلس وطرابلس، فمات خلق كثير جداً، وانحلت الأسعار بديار مصر في آخر هذه السنة، فأبيع الأردب القمح بمائة وثلاثين فما دونها، والأردب الشعير بثمانين درهما فما دونها، والأردب الفول بمائة فما دونها.
هذا والدينار الأفرنتي بمائتي درهم من الفلوس، والمثقال الهرجة بمائتي درهم وعشرين درهما، والدينار الناصري - وهو على وزن الأفرنتي - بمائتي درهم الدينار، وبطل الدينار السالمي الذي ضربه الأمير يلبغا السالمي في أيام ولايته، وكان يتعامل به عدداً به، فمنه ما زنته مثقال، ومنه ما زنته نصف مثقال وربع مثقال، وعليه سكة أهل الإسلام، فاستحسنه الناس، وراج بينهم، فأراد السلطان أن يكون له اسم في ذلك، فجدد ضرب الدينار الناصري على وزن الأفرنتي، وأكثر من ضربه، فراج كرواج الأفرنتي، وقل السالمي في أيدي الناس، لكن دخل الغش في الناصري والأفرنتي، فصار ما ذكرنا بأيدي الناس من الذهب، شيء يقال له خارج الدار، وهو يعمل بغير دار الضرب افتئاتا على السلطان، وينقص سعره قليلاً، وشيء يقال له التركي، وهو دينار من بلاد الفرنج، وسعره أقل من سعر الأفرنتي، ودينار آخر يقال له المغربي، يجلب من بلاد المغرب، عليه سكة أهل الإسلام، ودينار من ضرب الإسكندرية، وأما الفلوس، فإنها النقد الرائج بديار مصر كلها، حاضرتها وريفها، إليها حسب أثمان المبيعات كلها، وقيم الأعمال بأجمعها، ويتعامل بها كما قرره السالمي وزناً، على أن كل رطل مصري منها بستة دراهم، وبلغت الفضة النقرة التي لم تغش بثلاثة عشر درهماً من الفلوس، زنة كل درهم منها، وقلت الفضة الكاملية، فلم تكد توجد.(3/130)
وحج بالناس من مصر في هذه السنة الأمير الطواشي فارس الدين شاهين الحسني. وأخذت في هذه السنة مدينة أشقيرة من بلاد الأندلس، وذلك أن الطاغية صاحب قشتالة لما أوقع بالمسلمين في الزقاق، كثرت غاراته في بلاد المسلمين بالأندلس، وكثرت غاراتهم أيضاً على بلاد قشتالة، وكان ألفنت قد قام بأمر أخيه دون، وكان عارفاً بالحروب والمكايد، شجاعاً، درياً، شديد البأس، فجمع لحرب المسلمين، ونزل على أنتقيرة - تجاه مالقة - أول ذي الحجة، فلم يستنجد أبو الحجاج يوسف بن يوسف بن محمد بن إسماعيل بن نصر بن الأحمر - صاحب غرناطة - عساكر فاس كما هي العادة، بل رأى أن في عسكره كفاية، وجهز أخويه محمد وعلياً على عسكر الأندلس، وقد جمع أهل القرى بأسرها، وخرجوا من غرناطة في ثامن عشر ذي الحجة سنة اثنتي عشرة وثمانمائة، ونزلوا على حصن أرشذونة - وهو على ستة أميال من أنتقيرة - حتى تكاملت الجموع في ثامن عشرينه، ثم ساروا في ليلة التاسع والعشرين وعسكروا تجاه العدو، بسفح جبل المدرج، فما استقرت، وقد أعجبتهم أنفسهم بهم الدار حتى زحف العدو لحربهم، فثاروا لقتاله، وقد أعجبتهم أنفسهم، واغتروا بكثرتهم، وتباهوا بزينتهم، ولم يراقبوا الله في أمرهم، فما أحد إلا ومعه نوع من المعاصي كالخمر والأحداث، حتى لقد أخبرني من شهد الوقيعة انه سمع عالم الأندلس - أبا يحيى بن عاصم - يقول: ما أظن إلا أنا مخذولون. فلما اشتد القتال في الليل، انهزم العدو بعد ما قتل من المسلمين عشرة فرسان، ولما كان أول يوم من محرم سنة ثلاث عشرة، نادى أخو السلطان في العسكر بالنقة، وكانت نفقة السفر قد أخرت عن وقتها، لئلا يأخذها العسكر ولا يشهدوا الحرب، وجعلت عند حضور الجهاد، فهم في أخذ النفقة، وإذا بالعدو وقد أقبل عند طلوع الشمس، فخرجت المطوعة وقاتلتهم، وأقام العسكر بأجمعهم لأخذ النفقة، وعلم العدو بذلك فرجعوا كأنهم منهزمين، والمطوعة تتبعهم. وتنادي في العسكر: يا أكالين الحرام العامة هزمت النصارى، وأنتم في خيامكم جلوس.
فلما وصل العدو إلى معسكرهم، وقفوا للحرب، وقد اجتمع جميع رجالة المسلمين طمعاً في الغنيمة، فإذا العدو وقد خندق على معسكره ورتب عليه الرماة، فسقط في أيديهم، ووقفوا إلى الظهر في حيرة، فخرج أمراء الطاغية عند ذلك من جوانب الخندق، وحملوا على المسلمين، فقتلوا من قاتلهم، وأسروا من ألقى منهم سلاحه، حتى وصلوا مخيم المسلمين، فركب طائفة من بني مرين وبني عبد الواد، وقاتلوا على أطراف خيمهم قليلاً، وانهزموا هم وجميع أهل الأندلس، بحيث خرج أخوا السلطان بمن معهما مشاة إلى الجبل على أقدامهم، فأحاط العدو بجميع ما كان معهم، وأكثروا من القتل فيهم.
وكانت عدة من قتل من المعروفين من أهل غرناطة خاصة مائة ألف إنسان، سوى من لم يعرف، وسوى أهل أقطار الأندلس، بحرها وبرها، سهلها وجبلها، فإنهم عالم لا يحصيه إلا الله تعالى. واستشهد أبو يحيى بن عاصم في عدة من الفقهاء. وأقام النصارى ثلاثة أيام يتتبعون المسلمين، فيقتلون ويأسرون.(3/131)
وبعث الطاغية إلى أعماله يخبرهم بنصرته. فلما بلغ ذلك أهل أبده وسبته، وأهل حيان، خرجوا إلى وادي أش - وهو بيد المسلمين - ولزلوا قريباً من حصن أرتنة، فاستغاث أهل الحصن بأهل غرناطة، فأمدوهم بعسكر، فصار النصارى إلى حصن مشافر، وقاتلوا أهله حتى أخذوا الربض، وشرعوا في تعليق الحصن. وإذا بعسكر غرناطة قد جاءهم في سابع المحرم، فأوقعوا بهم وقيعة شنعاء، أفنوهم فيها، وأسروا منهم زيادة على ألف وخمسمائة، وعادوا إلى غرناطة بهم، فدخلوا في تاسعه، وبلغ ذلك الطاغية - وهو على حصار أنتقيرة - فكف أصحابه عن الدخول بعدها إلى بلاد المسلمين، وأقام على الحصار ستة أشهر حتى ضعفت أحوال المسلمين بأنتقيرة، ورفعوا كرائم أموالهم إلى حصنها، وتعلقوا به، فملك الطاغية المدينة بما فيها من الأزواد والأمتعة. ووقع مع هذا في المسلمين الوخم، فمات منهم جماعة كثيرة، فاضطرهم الحال إلى طلب الأمان ليلحقوا ببلاد المسلمين بأموالهم فأمنهم ألفنت على أن يخرجوا بما يطيقون حمله، فخرجوا بأجمعهم إلى معسكره، فوفي لهم، حتى أن بعض البطارقة من أكابر أمرائه أخذ بنتا جميلة، وخلا بها يومه كله، ثم خلى سبيلها. فوقفت بها أمها، وشكت ما نزل بها، فقال لها: أتعرفيه قالت: إذا رأيته عرفته فنادى بحضور جميع من معه، فأتوا بأسرهم، ووقفوا صفوفاً، فقال للمرأة: سيري فيهم حتى تعرفي غريمك. فما زالت تتصفح وجوههم إلى أن رأت خصمها، فقادته إليه، فشنقه لوقته. وجهز جميع المسلمين، وبعث من أوصلهم إلى غرناطة، فلم يفقد أحد منهم، ولا شراك نعل وأقام بأنتقيرة من يثق به، وعاد عنها قافلاً إلى بلاده في أوائل جمادى الآخرة، فكانت هذه الحادثة من أشنع ما أصاب المسلمين بالأندلس، ولا قوة إلا بالله.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
قجاجق دوادار السلطان، في سادس المحرم، وكان أشبه بالنساء منه بالرجال، فشهد السلطان دفنه، بعدما صلى عليه.
وتوفي كريم الدين محمد بن محمد بن نعمان بن هبة الله الهوى، محتسب القاهرة، في حادي عشر شعبان، وكان من فضائح الزمان.
وتوفي مجد الدين عبد الغني بن الهيصم ناظر الخاص، في ليلة الأربعاء عشرين شعبان. وكان من ظلمة الأقباط.
وتوفي قاضي القضاة تقي الدين عبد الرحمن بن تاج الرياسة محمد بن عبد الناصر المحلي الزبيري الشافعي، في يوم الأحد أول شهر رمضان. ومولده سنة أربع وثلاثين وسبعمائة وولي قضاء القضاة - كما تقدم - نحو ثلاثين شهراً، حسنت فيها سيرته ثم عزل، فلزم بيته نحو ثلاث عشرة سنة، حج فيها مرتين، وجاور بمكة سنة. وأول من حكم عنه قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة.
وتوفي شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الملك الدميري المالكي، يوم الاثنين تاسع شهر رمضان، وولي حسبة القاهرة في الأيام الأشرفية شعبان، وبعده غير مرة. وولي نظر الأحباس، ونظر المارستان، وقضاء العسكر على مذهب مالك. وكان عارياً من العلم.
وتوفي الشيخ شمس الدين محمد بن علي القطان الشافعي، في أول شهر شوال وكان من أعيان الفقهاء النحاة القراء.
وتوفي شمس الدين محمد بن عبد الخالق المناوي المعروف ببدنه، ويعرف بالطويل أيضاً، في رجب، وولي حسبة القاهرة، ووكالة بيت المال، ونظر الكسوة، ونظر الأوقاف. وكان غاية في الجهل.
وتوفي الأمير قراجا دوادار السلطان، في منزلة الصالحية، وهو صحبة السلطان يريد الشام، يوم الأربعاء ثالث عشر ربيع الآخر، ودفن بها.
وتوفي الأمير قرا تنبك الحاجب، أحد أمراء الطبلخاناه بالقاهرة، في أول شوال.
وتوفي القان أحمد بن شيخ حسن بن شيخ حسين بن أقبغا بن أيلكان، صاحب بغداد، مقتولاً في ليلة الأحد آخر شهر ربيع الآخر، وكان جلوسه سلطاناً في صفر سنة أربع وثمانين وسبعمائة وقتل الأمير سلمان بن بايزيد بن عثمان، وملك أخوه موسى الجزيرة الرومية وأعمالها. وملك محمد بن عثمان القرية الخضراء وأعمالها، وهي يقال لها برصا بالرومية.
سنة أربع عشرة وثمانمائة(3/132)
أهلت، وسلطان الديار المصرية، والبلاد الشامية وأرض الحجاز الملك الناصر أبو السعادات فرج بن السلطان الملك الظاهر أبي سعيد برقوق بن أنص، وخليفة الوقت الإمام المستعين بالله أبو الفضل العباس بن المتوكل على الله أبي عبد الله محمد. وأتابك العساكر الأمير تمرتاش المحمدي. والدوادار الكبير الأمير طوغان الحسني ورأس نوبة قنباي، وحاجب الحجاب يلبغا الناصري. وقاضي القضاة بديار مصر شيخ الإسلام جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن شيخ الإسلام سراج الدين أبي حفص عمر بن رسلان البلقيني الشافعي، وقاضي القضاة الحنفية ناصر الدين محمد بن قاضي القفساة كمال الدين عمر بن العديم، وقاضي القضاة المالكية شمس الدين محمد بن علي بن معبد المدني، وقاضي القضاة الحنابلة مجد الدين سالم بن سالم المقدسي. وكاتب السر فتح الدين فتح الله بن معتصم بن نفيس، وناظر الجيش الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله والوزير الصاحب سعد الدين إبراهيم البشيري. والأستادار الأمير تاج الدين عبد الغني بن الهيصم ونائب الشام الأمير تغري بردى، ونائب حلب الأمير شيخ المحمودي، ونائب طرابلس الأمير نوروز الحافظي، ونائب حماة الأمير تغري بردى ابن أخي دمرداش، ويعرف بسيدي الصغير، ونائب صفد الأمير قرقماس بن أخي دمرادش، المعروف بسيدي الكبير، ونائب غزة الأمير أينال الرجبي، وقد عزل واستقر عوضه الأمير سودن من عبد الرحمن، ومتملك بغداد وتبريز قرا يوسف ابن قرا محمد التركماني، وينوب عنه ببغداد ولده محمد شاه. وأمير مكة المشرفة الشريف حسن بن عجلان، وصاحب اليمن الملك الناصر أحمد بن الملك الأشرف إسماعيل، وصاحب بلاد قرمان الأمير ناصر الدين محمد باك بن الأمير علاء الدين بن قرمان، وصاحب أجات الأمير موسى جلبي بن الأمير أبي يزيد بن مراد خان بن أزمان بن عثمان جق. وصاحب قرم وصراي وبلاد الدشت الأمير أيدكي، وصاحب سمرقند وبخاري وبلاد فارس فرخشاه بن تيمورلنك.
والأسعار بديار مصر: أما الذهب الهرجة فكل مثقال بمائتي درهم، وخمسة عشر درهماً بالفلوس المتعامل بها كل رطل بستة دراهم. والدينار الأفرنتي والدينار الناصري، كل شخص منها بمائة وتسعين درهماً، إذا عوض الذهب في ثمن مبيع حسب بزيادة خمسة دراهم. وأما القمح فإن الأردب بمائة وأربعين درهماً إلى ما دونها، فيكون على حساب الذهب في غاية الرخص فإنه بثلثي مثقال. والأردب من الشعير والفول بمائة درهم فما دونها.
شهر الله المحرم الحرام، أوله السبت: فيه تسلم الأمير أسنبغا الزردكاش قلعة الكرك من الأميرين شيخ ونوروز فوجد مدينة الكرك خراباً، ليس فيها من أهلها سوى خمسين إنساناً، وقد تشتت أهلها في البلاد من كثرة الظلم وشدة الجور.
وفي سادسه: قدم الأمير تغري بردى نائب الشام إلى دمشق، ونزل بدار السعادة على العادة، فنودي بالزينة، فزين الناس حوانيتهم.
وفي ثامنه: وصل الأميران شيخ نائب حلب، ونوروز نائب طرابلس إلى دمشق، ونزلا بسطح المزة، فخرج الأمير تغري بردى نائب الشام إليهما، وسلم عليهما وترحب بهما وعاد. وكان لما بلغه قدومهما خرج ليلقاها على قبة يلبغا، فبلغه أنهما مضيا إلى المزة، فعاد إلى دار السعادة، وتخفف من ثيابه، وركب إليهما بثياب بذلته، فوجد الأمير شيخ في أثناء الطريق، وقد ركب إليه ليسلم عليه، فرجع معه وتوجه إلى الأمير نوروز، فقضي حقه من السلام. ثم جاء إلى دار السعادة، فركب الأمير شيخ وأتى إلى البلد، ونزل بدار القرماني، ونزل الأمير نوروز بدار فرج بن منجك، بعدما ركب إلى النائب، وسلم عليه.
وفي تاسعه: نزل السلطان بقطيا، وسرح الطائر إلى قلعة الجبل بأنه يقدم يوم الأربعاء ثاني عشره، فتأهب الناس إلى لقائه، وخرجوا إليه، فنزل بكرة يوم الأربعاء بتربة والده السلطان الملك الظاهر خارج باب النصر، وخلع على الخليفة والقضاة والأمراء وسائر أرباب الوظائف، وخلع على شمس الدين محمد بن يعقوب وولاه حسبة القاهرة، وعزل ابن الدميري، وخلع على محمد بن النجار. وعزل ابن الهوى من حسبة مصر، وقبض عليه ليحضر ما خلفه أبوه من المال. وصعد إلى قلعة الجبل، فكان يوماً مشهوداً.(3/133)
وفي سابع عشره: سار الأمير شيخ من دمشق إلى حلب، بعدما قضى أشغاله، فخرج الأمير تغري بردى معه ليوادعه، حتى نزل بسطح المزة، ثم خرج الأمير نوروز فنزل بالمزة أيضاً، واستقلا بالمسير في غده، وكان الأمير شيخ قد بعث متسلمه إلى حلب، وهو مملوكه قنباي، فقدمها في ثالث عشره، فخرج الأمير قرقماش ابن أخي دمرداش من حلب، وخيم بظاهرها، ثم سار من غده يريد صفد.
وفي حادي عشرينه: خلع السلطان على زين الدين حاجي التركماني الحنفي قاضي العسكر وأحد أئمة السلطان، وولاه مشيخة التربة الظاهرية برقوق خارج باب النصر، وعزل عنها صدر الدين أحمد بن جمال الدين محمود القيصري - المعروف بابن العجمي - من أجل أنه ودع عنده قبل سفره عشرة آلاف دينار، فأنفقها كلها في مأكل وملابس، وحج منها، فقبض عليه السلطان وطلب منه المال، فباع ما اشتراه منه، وأورد بعضه، وعجز عن البعض، فتركه له.
وفي رابع عشرينه: وصل الأمير بكتمر جلق من الشام، فركب السلطان وتلقاه، وألبسه تشريفاً سنياً، وخلع على الأمير الكبير تمرتاش تشريفاً بنظر المارستان المنصوري على العادة، وعبر السلطان إلى القاهرة من باب النصر، وهما بتشريفهما بين يديه، حتى مر بالمدرسة التي أنشأها الأمير جمال الدين يوسف الأستادار برحبة باب العيد، نزل إليها وصلى بها، ثم ركب منها.
وذلك أن جمال الدين لما قتل في سنة اثنتي عشرة، وقبض السلطان على أمواله، حسن أعداؤه للسلطان أن يهدم هذه المدرسة، ويأخذ رخامها، فإنه في غاية الحسن، ويسترجع الأملاك والأراضي الموقوفة عليها، فإنها تغل جملة كبيرة، فعزم على ذلك، ولم يبق إلا أن تهدم، فقام فتح الله كاتب السر في صرف السلطان عن ذلك، ومازال به حتى رجع إليه، على أنه ينقض ما وقفه جمال الدين، ويجدد السلطان وقفها، فتصير مدرسته، وذلك أن مكان هذه المدرسة كان وقفاً على تربة، فاستبدله جمال الدين بقطعة أرض من أراضي مصر الخراجية، فأخذ السلطان المستبدل بها، وقال: إني لم أذن له في أخذ هذه الأرض، وهي من جملة أراضي الخراج، وإنما أخذها افتئاتا. فصارت أرض هذه المدرسة وقفاً على ما كانت عليه قبل بنائها. فحكم قاضي القضاة المالكي أن البناء الموقوف على هذه الأرض ملك لم يصح وقفه، فاشترى السلطان عند ذلك بناء المدرسة، بعدما قوم بمبلغ عشرة آلاف دينار، من ورثة جمال الدين ثم أشهد عليه أنه وقفه بعدما عوض مستحقي أرضها بدلها. وحكم القضاة الحنفية بصحة الاستبدال. وكتب لها كتاب وقف على ما كان جمال الدين قرره فيها من الفقهاء والقراء وغيرهم. وأبطل ما كان لأولاد جمال الدين من الفائض بعد المصروف. ومزق كتاب وقف جمال الدين، وأفرد لهذه المدرسة بعض ما كان جمال الدين جعله وقفاً عليها، وزادها قطعة أرض بأراضي الجيزية. وفرق باقي وقف جمال الدين على التربة التي أنشأها على قبر أبيه خارج باب النصر، وعلى أولاده، وحكم القضاة الأربعة بصحة ذلك كله، وإبطال ما عمله جمال الدين. فلما تم ذلك أمر أن يمحي اسم جمال الدين ورنكه من المدرسة، فمحي، وكتب بدله اسم السلطان، فصارت تدعى بالمدرسة الناصرية، بعدما كان يقال لها الجمالية.
ولما سار السلطان من هذه المدرسة مر بمدرسة أبيه في بين القصرين، فنزل إليها أيضاً، وزار جده. ثم ركب وخرج من باب زويلة إلى القلعة، وعبر الأمير تمرتاش إلى المارستان، ومعه فتح الله كاتب السر، وقد ولاه السلطان أيضاً نظر المارستان وهو بدمشق، عوضاً عن شمس الدين محمد الدميري بعد وفاته، فنظرا في أمره وانصرفا، وقد استناب الأمير تمرتاش عنه في المارستان الأمير صلاح الدين محمد بن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله.
شهر صفر، أوله الاثنين: في سادسه: وصل الأمير قرقماس نائب صفد إلى دمشق، فأراح بها، وسار إلى صفد بعدما قدم له الأمير تغري بردى نائب الشام ما يليق به، وأكرمه غاية الإكرام.
وفي ثاني عشره: عين السلطان اثنين وعشرين أميراً من الأمراء البطالين، ليتوجهوا إلى الشام على إقطاعات عينها لهم، منهم الأمير حزمان الحسني، والأمير تمان تمر الناصري، والأمير سونجبغا، والأمير شادي خجا، والأمير أرطوبغا، والأمير قنباي الأشقر، ومعهم مائتا مملوك ليكر النائب(3/134)
وفي ثالث عشره: قتل بسجن الإسكندرية الأمير جانبك القرمي، والأمير أسندمر الحاجب، والأمير سودن البجاسي، والأمير قنباي أخو بلاط.
وفي حادي عشرينه: خلع على تقي الدين عبد الوهاب بن الوزير الصاحب فخر الدين ماجد بن أبي شاكر، واستقر في نظر الخاص، ولم يول السلطان فيها بعد مجد الدين بن الهيصم أحدا.
وفي رابع عشرينه: قبض السلطان على ثلاثة أمراء من المقدمين، وهم الأمير قنباي رأس نوبة، والأمير يشبك الموساوي الأفقم، والأمير كمشبغا المزوق، وقبض على الأمير منجك أمير عشرين، والأمير قنباي الصغير ابن بنت أخت الملك الظاهر برقوق أمير عشرة، وشاهين، وخير بك، ومأمور، وخشكلدي، وحملوا في الحديد إلى الإسكندرية فسجنوا بها، ورسم للأمير تمراز الناصري أن يكون طرخانا، لا يحضر الخدمة السلطانية، ويقيم بداره، ويتوجه إلى دمياط، وعين له شيء يقوم بحاله.
وفي سابع عشرينه: ورد كتاب الملك مانويل صاحب إصطبول، وهي القسطنطينية، وهدية خمس كواهي، فتضمن كتابه ما عنده من المحبة، ويسأل الوصية بالنصارى، ومراعاة كنائسهم، ونحو ذلك.
وفي ثامن عشرينه: خلع على الأمير سنقر الرومي، واستقر رأس نوبة كبير، عوضاً عن قنباي.
وفي سلخه: انقطع الأمير طوغان الدوادار عن الطلوع إلى الخدمة السلطانية بقلعة الجبل على العادة، خوفاً على نفسه، فإنه وشى به مملوكان من مماليكه، ومملوك من مماليك السلطان، أنه يريد الركوب على السلطان ومحاربته، فأرسل السلطان إليه الأمير الكبير تمرتاش، والأمير يلبغا الناصري حاجب الحجاب ليحضراه، فما زالا به حتى صعد معهما إلى القلعة، فآل الأمر بعد كلام كثير إلى أن خلع عليه، وسلم له غرماؤه في الحديد.
وفي هذا الشهر: انتهى الطاعون الذي ابتدأ في البلاد الشامية من شوال، فأحصي من مات من أهل دمشق وسكان غوطتها، فكانوا نحو خمسين ألفاً، سوى من لم يعرف، فخلت عدة من القرى، وبقيت الزروع قائمة لا تجد من يحصدها.
شهر ربيع الأول، أوله الثلاثاء: فيه قدم الأمير أينال الساقي من سجن الإسكندرية.
وفي ثالثه: قطع السلطان خبز الأمير شرباش كباشة، ورسم بتوجهه بطالا إلى دمياط.
وفي رابعه: أخرج الأمير تمراز الناصري والأمير شرباش كباشة إلى دمياط، منفيين. وفيه قبض على جماعة من المماليك الخاصكية، منهم جان بك العثماني، وفيه قدم الخبر بأن الأميرين شيخ ونوروز لم يمضيا حكم المناشير السلطانية وأنهما أخرجا إقطاعات حلب، وطرابلس لجماعتهما، وأن الأمير شيخ سير يشبك العثماني لمحاصرة قلعة البيرة، وقلعة الروم، وأنه خرج من حلب وخرج نوروز من طرابلس، وأن عزمهما العود على ما كانا عليه من الخروج عن الطاعة. وقدم الخبر بأن جلبي بن أبي يزيد بن عثمان - صاحب برصا - قتل أخاه سلمان، وأخذ جميع بلاده، وهو عازم على المسير إلى أخيه كرشجي.
وفي خامسه: قبض السلطان على جماعه من كبار مماليك أبيه الخاصكية، وسجنهم بالبرج، ثم قتلهم بعد شهر.
وفي سابعه: قبض على الأمير خير بك نائب غزة، وهو يومئذ أحد أمراء الألوف بديار مصر، وقبض على عدة من المماليك، وحملهم إلى الإسكندرية، وفيه قدم الخبر بقتل الأمير قرا يشبك والأمير أقبغا جركس، والأمير أسندمر الناصري والأمير سودن الحمصي، بسجن الإسكندرية.
وفي عشرينه: قدم سودن الجلب من بلاد الشرق إلى حلب، فسيره الأمير شيخ إلى الأمير نوروز. وفيه ورد الخبر بأن الأمير نوروز بعث عسكراً لحصار قلعة الأكراد.
شهر ربيع الآخر، أوله الخميس: في ثانيه: خلع على الأمير أسنبغا الزركاش أحد أمراء الأولوف، وزوج أخت السلطان، واستقر شاد الشراب خاناه، عوضاً عن الأمير سودن الأشقر.
وفي ثالث عشره: خلع على الأمير فخر الدين عبد الغني ابن الأمير الوزير تاج الدين عبد الرزاق ابن أبي الفرج كاشف الوجه البحري، واستقر أستادار السلطان، عوضاً عن الأمير تاج الدين بن الهيصم بعد عزله والقبض عليه، وتسليمه وحواشيه وأسبابه له، مع إيقاع الحوطة على بيوته وحواصله.
وفي ثامن عشره: أوفى النيل ستة عشر ذراعاً، فركب السلطان وعدى النيل إلى المقياس، حتى خلق بين يديه، ثم فتح الخليج على عادته.(3/135)
وفي هذا الشهر: قدم الخبر بأن قرا يوسف سار ونزل على بلاد قرايلك، وحصر آمد، ففر قرايلك إلى جهة الأطاغ، وأن عساكر قرا يوسف تفرقت على قلاع قرايلك، وسار ابنه على عسكر كبير إلى ماردين، وأن الحرب امتدت بين قرا يوسف، وقرايلك مدة اثنين يوماً، قتل بينهما خلائق كثيرة، فبينما هم في ذلك، إذ قدم الخبر على قرا يوسف بأن ابن تيمورلنك نزل على توريز، فرحل من وقته وترك أثقاله، فركب قرايلك في أثره، وأخذ منه جماعة، ومضى إلى أرزنكان، ليخرب بلادها، كما خرب قرا يوسف بلاده، وأن نائب عينتاب كبس أكراد قلعة الروم، وقاتلهم فقبض عليه طوغان نائب قلعة الروم، واعتقله بها، وأن كردي بن كندر ركب على نائب إنطاكية وأخذه، ومضى به، وأن الأمير نوروز نائب طرابلس، نزل على قلعة صهيون وحاصرها أياماً، حتى صالحه أهلها على مال، ثم رحل وعاد إلى طرابلس، وأن الأمير شيخ نائب حلب قبض على المماليك الذين فروا من الكرك، وأنه مشى هو والأمير نوروز على الأمير العجل بن نعير، فتركهم وتوجه إلى الرحبة من غير لقاء، فعاد الأمير شيخ ونزل على سرمين وعاد الأمير نوروز ونزل على جبلة، وأن الأمير شيخ ما زال حتى أفرج عن نائب عنتاب، وأن نائب صهيون قبض على نائب اللاذقية، وقتله. وأن ابن أوزر التركماني حصر إنطاكية وأخذ الأمير جانبك نائبها، واعتقله. وأن الأمير العجل بن نعير استولى على بلد عانة، فبعث إليه قرا يوسف عسكراً، فكسره، ومضى إلى الأنبار، فرحل من بغداد من التركمان، خوفاً منه، فبعث إليهم وطيب قلوبهم، وكانوا في اختلاف شديد.
وفي هذا الشهر: ضربت الحوطة على قرايب الأمير جمال الدين يوسف الأستادار، فأمسك ابنه الأمير شهاب الدين أحمد، وأخواه القاضي شمس الدين محمد، وناصر الدين، وابنا أخته الأمير شهاب الدين أحمد الحاجب، وحمزة، وزوج ابنة أخيه شرف الدين أبو بكر بن العجمي، وعوقبوا عقوبات شديدة، وألزموا بأموال كثيرة. فمات ناصر الدين أخو جمال الدين في العقوبة بعد ما أخذ منه نحو مائة ألف درهم، وأخذ من الأمير أحمد ابن أخته ستة آلاف دينار مصرية.
وفيه وردت من طائفة الفرنج الكيتلانية والجنوية جماعة إلى ميناء الإسكندرية، واقتتلوا، فخاف أهل الإسكندرية، وظنوا أنها مكيدة، فلما تمادى الشر بينهم، وبلغت عدة قتلاهم نحو الألفين، اطمأنوا قليلاً، وكان من الجنويين رجل من العتاة المفسدين - يعرف بالبسقاوني - قد أسرته الكيتلانية، فأسلموه للسلطان، وحمل في الحديد إلى قلعة الجبل، فالزم بمائة وخمسين ألف دينار، فذكر أن ماله بيد الجنويين، فطلب منهم ذلك، فأبوا أن يعطوه شيئاً، فقبض على تجارهم بالإسكندرية، فغضبوا، وساروا بمراكبهم إلى الطينة، فسبوا نساء أهلها وبنيهم بعد وقعة كانت لهم مع المسلمين، فخرجت طائفة من دمياط لنجدتهم، فاستشهد منهم فقير معتقد، يعرف بمحيي الدين، في نفرين من فقرائه، وأخذ الفرنج ما كان بالطينة من مال أهلها، وأموال التجار، وساروا. وصالح السلطان البساقي بستين ألف دينار.
شهر جمادى الأولى، أوله السبت: فيه أمر السلطان بهدم مدرسة السلطان الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد ابن قلاوون، التي تجاه الطبلخاناه، فوقع الهدم فيها، وكانت من أعظم بناء رأيناه، وعمر بأحجارها في مواضع بالقلعة، وأمر أيضاً بهدم الدور التي كانت ملاصقة لسور القلعة، ما بين الصوة وتحت الطبلخاناه إلى قريب باب القرافة، فهدمت، وصارت خرابا موحشة، وتشتت سكانها وتمزقوا، وألسنتهم تضج بالدعاء.
وفي ثانيه: ختم على جميع حواصل القاهرة التي يتوهم أن فيها فلوساً لتؤخذ فلما كان في رابع عشرينه رسم لقاضي القضاة مجد الدين سالم الحنبلي أن يتوجه مع الأمير شهاب الدين أحمد بن محمد بن الطبلاوي متولي القاهرة، وبعض ممالك السلطان، وعبد الرحمن بن فيروز الصيرفي إلى الحواصل المختوم عليها، وأخذ ما فيها من الفلوس، وتعويض أربابها عن ذلك ذهبا ناصرياً، من حساب كل دينار بمائتي درهم، وكان صرفه يومئذ بمائة وتسعين. فمضوا لذلك، وفتحوا الحواصل في غيبة أربابها، وأخذوا نحو خمسمائة قفة فلوساً كل قفة ستمائة درهم، بثلاثة دنانير ناصرية.
وفي هذا الشهر: اشتدت العقوبة على أقارب الأمير جمال الدين الأستادار، ثم خنق أحمد ابن أخته، وأحمد ابنه، وحمزة بن أخته، في ليلة الأحد سادس عشره.(3/136)
وفي هذا الشهر: أخذت عساكر قرا يوسف بن قرا محمد بغداد بعد حصارها نحو عشرة أشهر، وهم ببغداد يشيعون أن السلطان أحمد بن أويس قد وصل إليهم مختفياً، وتبرز المراسيم عن أمره، ويخرجونه أحياناً فيكبسون عسكر قرا يوسف، ويأخذون ما قدروا عليه، ثم أشاعوا خروجه غداً، وزينوا المدينة. فلما كان الليل، اجتمع عسكرهم، وساروا نحو تستر بأجمعهم، فدخلها أصحاب قرا يوسف مع ولده شاه محمد، ونهبوها، وقتلوا بها جماعة. واستمرت بغداد بيد قرا يوسف.
وفيه كتب السلطان إلى الأمير شيخ يعتبه على ما وقع منه، ويحذره، ويخوفه، ويأمره أن يجهز إليه يشبك العثماني، وبرد بك، وقنباي الخازندار، محتفظاً بهم، ويرسل سودن الجلب إلى دمشق أو صفد ليكون من جملة الأمراء بها.
شهر جمادى الآخرة، أوله الأحد: في أوله: قدم كتاب السلطان إلى دمشق بعمارة القلعة والمدينة، فنودي بذلك.
وفي رابعه: وصل إلى دمشق حريم الأمير تغري بردى وأولاده من القاهرة، وفي هذا الشهر فارق الأمير برد بك - نائب حماة - الأمير نوروز، وسار عنه من طرابلس، فقدم دمشق، فأكرمه الأمير تغري بردى، وكتب يعلم السلطان به.
وفيه تواترت الأخبار بأن الأميرين شيخ ونوروز قد الفقا على الخروج عن طاعة السلطان، وعزما على أخذ حماة، فوقع الشروع في عمارة قلعة دمشق، وكتب تقدير المصروف على ذلك، مبلغ ثلاثين ألف في ينار. وفيه وقع الاهتمام في بلاد الشام بتجهيز الإقامات للسلطان، فإنه عزم على السفر. وفيه شنعت المصادرات بالقاهرة، وفحش أخذ الأموال من الناس، حتى خاف البريء، وتوقع كل أحد أن يحل به البلاء من الأمير فخر الدين الأستادار.
وفيه أفرج عن الأمير تاج الدين بن الهيصم، وخلع عليه خلعة الرضا، فاستماله الأمير فخر الدين إليه، وعزما على أن يتحدثا مع السلطان في تسليمهما الوزير سعد الدين إبراهيم بن البشيري، والرئيس تقي الدين عبد الوهاب بن أبي شاكر ناظر الخاص بمال يقومان به في نظير ما عساه يؤخذ منهما بأنواع العقوبات. فلما بلغهما ذلك، بادرا واتفقا مع السلطان وأرضياه بمال جزيل، فقبض على الأمير فخر الدين وعلى الأمير تاج الدين في عصر يوم الاثنين سلخه على حين غفلة، وسلمهما للوزير سعد الدين ففوجئ الناس من السرور ما لا يعبر عنه، وأظهروا من الفرح شيئاً زائداً. ونزل الوزير بابن أبي الفرج معه إلى داره، وأذن له في عقوبته، فلم يدع نوعاً من أنواع العذاب حتى عاقبه به، فلم يعترف بشيء، ووجد له نحو ستة آلاف دينار، وجرار كثيرة قد ملئت خمرا، فطرحت كل جرة بمائة درهم على باعة الخمر، فكان هذا من أقبح ما سمع به.
شهر رجب، أوله الاثنين: فيه شرع الأمير غرس الدين خليل الأشقتمري الأستادار بدمشق في تقرير الشعير على بساتين دمشق وضياعها، كما فعل فيما مضى.
وفيه رجم رجل تركماني تحت قلعة دمشق، أقر بالزنا، وكان رجمه بعدما كتف وأقعد في حفرة. وما زال يرجم حتى مات. ثم غسل وصلى عليه ودفن.
وفي هذا الشهر خرج السلطان للصيد، فبات ليلة، وعزم على مبيت ليلة أخرى بناحية سرياقوس، فبلغه أن طائفة من الأمراء والمماليك اتفقوا عليه، فعاد إلى قلعة الجبل سريعاً، وتتبع ما قيل له، حتى ظفر بمملوكين عندهما الخبر، فعوقبا في ثامن عشره، فاظهرا ورقة فيها خطوط جماعة، وكبيرهم الأمير جانم. وكان جانم قد سافر إلى منية ابن سلسيل من الغربية، وهي من جملة إقطاعه، فكثرت القالة بالقاهرة، وخرج الأمير طوغان الدوادار والأمير بكتمر جلق لإحضار الأمير جانم، في يوم السبت عشرينه. على أن الأمير طوغان يلقاه والأمير بكنمر يمسك عليه الطريق، وقبض السلطان على جماعة من الأمراء، والمماليك، منهم الأمير عاقل، والأمير سودن الأبايزيدي، وقدم طوغان على جانم فاقتتلا في البر، ثم في المراكب على ظهر النيل قتالاً شديداً، تعين فيه طوغان، فألقي جانم نفسه في الماء لينجو، فرماه أصحاب طوغان بالسهام حتى هلك، فقطع رأسه في ثاني عشرينه، وقدم به في رابع عشرينه.
وكان السلطان قد قبض في ثاني عشرينه على الأمير أينال الصصلاني الحاجب، والأمير أرغز، والأمير سودن الظريف، وعلى جماعة من المماليك. وقبض في ثالث عشرينه على الأمير سودن الأسندمري، أحد أمراء الألوف وأمير أخور ثاني، وعلى الأمير شرباش العمري رأس نوبة وأحد أمراء الألوف.(3/137)
وفي خامس عشرينه: قبض على جماعة من أكابر مماليك أبيه، ووسط خمسة. وفيه خلع على الأمير منكلي أستادار الأمير جركس الخليلي، واستقر أستادار السلطان، عوضاً عن فخر الدين عبد الغني بن أبي الفرج.
وفي هذا الشهر: قدم الخبر بأن الأمير نوروز نائب طرابلس توجه منها إلى حصن الأكراد، وحاصرها. وأن الأمير شيخ كتب إليه أنه اتفق مع جماعة من قلعة حلب على أن يسلموها له، وأشار عليه أن يرجع إلى طرابلس يحصل قلعة حلب بيده، وأن الاتفاق وقع بينهما على أن يجهزا سودن الجلب على ثلاثمائة فارس ليأخذ حماة، وأن الأمير شيخ أرسل إلى ناصر الدين محمد بن دلغادر يعرض عليه نيابة عينتاب فلم يقبل ذلك، وأنه خرج من حلب يريد العمق، فنزله سلخ جمادى الآخرة، وجمع عليه طائفة التركمان البياضية وابن سقل سيز، ابن صاحب الباز، وغيرهم من التركمان والعرب، وأنه أوقع بعمر بن كندر في ثالث رجب ثم قاتل التركمان في سابعه، فكسرهم، وأسر منهم جماعة. وأنه بعث أحمد الجنكي أحد ندمائه بهدية إلى قرا يوسف، وأن نوروز بعث إليه بهدية أخرى، صحبة بهلوان، من أصحابه.
وفيه كتب إلى الأمير تغري بردى نائب الشام، بالقبض على الأمير يشبك بن أزدمر، والأمير أينال الخازندار، والأمير برد بك الخازندار، والأمير برد بك أخي طولو، والأمير سودن من إخوة يشبك، والأمير تنبك من إخوة يشبك، والفحص عن الأمير نكباي الحاجب، فإن وحده من جملة المخالفين فليقبض عليه، ويعتقلهم، وينعم على الأمير تمراز بالإمرة الكبرى بدمشق.
شهر شعبان، أوله الأربعاء: في ليلة الأربعاء مستهله: ذبح السلطان عشرين رجلاً، ممن قبض عليهم من المماليك. ووسط في يوم الأربعاء ثلاثة عشر رجلاً تحت القلعة، منهم الأمير حزمان نائب القدس وأحد أمراء العشرات، والأمير عاقل، والأمير أرغز، أحد أمراء الألوف بدمشق، والأمير سودن الظريف، والأمير مغلباي، ومحمد بن الأمير قجماس ابن عم الملك الظاهر.
وفي ليلة الخميس ثانيه: قتل السلطان بالقلعة زيادة على مائة من أكابر الجراكسة وعتاتهم، وركب السلطان سحر يوم الخميس للصيد بناحية بهتيت من الضواحي. وتقدم إلى والي القاهرة أن يقتل عشرة من المماليك، لتخلفهم عن الركوب معه، فقتلوا. وعاد السلطان من الصيد، فمر بشارع القاهرة في دون المائة فارس، وعليه ثياب جلوسه، وهو ثمل، لا يكاد يثبت على فرسه حتى صعد القلعة نصف النهار، ولم يعرف قط بمصر ملك شق القاهرة بثياب جلوسه قبل هذا.
وفي خامس عشره: أعيد ابن شعبان إلى حسبة القاهرة، وعزل ابن يعقوب الدمشقي.
وفي يوم السبت ثامن عشره: عزم السلطان على شرب دواء مسهل، وبعث رئيس الأطباء علم الدين سليمان بن جنيبة إلى الأمراء يعلمهم بذلك، فتهيئوا بأجمعهم لتجهيز التقادم في غده، وأصبحوا يوم الأحد في حملها على مقاديرهم، فحمل الوزير مبلغ ألفي دينار وأربعمائة طائر من الدجاج، ومائة طائر إوز، وقنطارين سكراً مكرواً، وفواكه وحلوى، وغير ذلك. وحمل ناظر الخاص وغيره، حتى محتسب القاهرة، واستمر هذا عادة في كل سنة.
وفي هذا الشهر: اشتد مرض الأمير تغري بردى نائب الشام، فكتب إلى الأمير قرقماس نائب صفد بالحضور، فتوجه إلى دمشق، وكان خبر قتل جانم قد اشتهر بدمشق، فتخيل الأمير يشبك بن أزدمر وخاف على نفسه، وعزم أن يثور بجماعة، ثم ركب وخرج من البلد في سابعه، فقدم نائب صفد إلى دمشق في تاسعه، فقبض فيه على جماعة منهم تمراز الأعور، وأينال الخازندار، وخشكلدي، وسودن، وأزدمر، فماج الناس. ثم حمل تمراز الأعوار، وبرد بك الخازندار، وجركس التنمي، وأزدمر إلى قلعة الصبيبة، فسجنوا بها في عاشره، وقبض على تغري برمش دوادار بن أزدمر، وسجن. وأما ابن أزدمر فإنه لحق بنوروز، وقد اجتمع مع الأمير شيخ في ناحية التركمان، فعاد كل منهما إلى بلده وأخذا في إظهار الخلاف.
وفي عشرينه: قبض بدمشق على الأمير نكباي الحاجب، وحمل إلى الصبيبة، فسجن بقلعتها. وكثر الإرجاف بدمشق أن الأمير شيخ قد عزم على أخذها، فاستعد العسكر، وحصنت القلعة، وكتب بذلك إلى السلطان، وأن يعجل بتجهيز ألف فارس نجدة، لئلا يطرق الأمير شيخ دمشق، ويشير عليه الأمير تغري بردى نائب الشام بأن يحضر بنفسه إلى دمشق: فأجيب بتجهيز الإقامات، وأنه عزم على السفر، فاشتد الطلب بدمشق على الناس، وألزموا بالشعير وغيره.(3/138)
وفيه كانت فتنة بين كرشجي بن أبي يزيد بن مراد بن أورخان بن عثمان جق، وبين أخيه موسى جلبي، فانكسر فيها محمد كرشجي من أخيه موسى جلبي على قسطنطينية. وفيه نزل قرا يوسف بن قرا محمد متملك تويز وبغداد على قرا باغ، ليشتي بها، فوقع في عسكره فناء عظيم. وفيه نهب الأمير عثمان قرا يلك بن طور على بلاد قرا يوسف، ونهب بلد سنجار، وأخذ قفل الموصل، وأوقع بالأكراد، وأسر عدة من أموالهم حتى افتدوا منه بمائة ألف درهم، وألف رأس من الغنم، وعشرة أفراس، فبعث قرا يوسف إليه في الصلح، فامتنع من ذلك.
وفيه أجتمع أصحاب تيمورلنك على حرب قرا يوسف، وقصدوا مدينة توريز.
شهر رمضان، أوله الخميس: فيه نودي بالقاهرة لجميع المماليك بالأمان، وأنهم عتقاء شهر رمضان، فظهر منهم جماعة، فأمنوا. وتتابع بقيتهم حتى ظهر قريب من ثلاثين مملوكاً في عدة أيام، فوعدوا بخير، وأن يعطوا الخيل. ورسم لهم بيوم يجتمعون فيه لأخذ خيولهم فاغتروا وحضروا، فقبض عليهم كلهم وحبسوا، وتتبع الممالك السلطانية، وجلس السلطان لتفريق القرقلات برسم الرسم عليهم، فقبض على جماعة كثيرة منهم، وسجنهم، فما انقضى شهر رمضان حتى زادت عدة المسجونين من المماليك السلطانية على أربعمائة رجل.
وفي رابعه: أبل الأمير تغري بردى نائب الشام من مرضه.
وفي هذا الشهر: تأكد عند السلطان خروج الأميرين شيخ ونوروز عن طاعته، وأنهما عزما على أخذ دمشق، وأن سودن الجلب ويشبك بن أزدمر سعيا في ذلك، وأن الأمير نوروز قتل أقسنقر الحاجب، وأن الأمير شيخ بعث في رابعه إلى ناصر الدين محمد بن دلغادر خلعة وبدلة قماش كاملة - حتى السراويل - برسم لباسه، وبدلة نسائية كاملة برسم امرأته، وذلك بعدما بعث الأمير شيخ يشبك الساقي، وجقمق الدوادار إليه، وإلى أخيه على باك بن دلغادر، يستدعيهما ليحضرا إلى عينتاب، فامتنعا من ذلك وأعادا قاصديه، ثم أنهما اختلفا فمضى على باك إلى جهة بلاد الروم، فلما بلغ ذلك الأمير شيخ أعاد يشبك الساقي ومعه تتر إلى محمد بن دلغادر، لقياه بأبلستين، وما زالا به حتى سار معهما إلى عينتاب، فقدموها في حادي عشره، ونزل بها محمد ابن دلغادر حتى أتته الخلعة والبدلتان.
وفي هذا الشهر: توجه الأمير شيخ بمن معه إلى قلعة نجمة، وعدى الفرات، ليوقع بالعربان، فغرق جماعة من أصحابه، فعاد وجمع النجارين، وأنشأ بناحية الباب - قريباً من حلب - مركباً، وحمله إلى قلعة نجمة، فكان طوله اثنتين وعشرين خطوة، وهو محمل خمسين رجلاً. فجهز إليه الأمير مبارك شاه نائب قلعة الروم ثلاثين فارساً لإحراقه.
شهر شوال، أوله السبت: في ليلة الاثنين ثالثه: ذبح السلطان من مماليك أبيه الذين في الاعتقال مائة رجل وسحبوا، ثم ألقوا من سور القلعة إلى الأرض، ورموا في جب مما يلي القرافة. واستمر الذبح فيهم.
وفي يوم الاثنين عاشره: عدى السلطان النيل إلى ناحية وسيم، وبات بها ورحل سحراً يريد الإسكندرية، بعدما نودي بالقاهرة ألا يتأخر أحد من المماليك السلطانية في القاهرة، وأن يعدوا إلى بر الجيزة، فعدوا بأجمعهم، فمنهم من أمره بالسفر في خدمته، ومنهم من أمره بالسفر في خدمته، ومنهم من أبره بالإقامة. وبعث الأمير طوغان الدودار، والأمير جانبك الصوفي، والأمير سودن الأشقر، والأمير يلبغا الناصري في عدة من المماليك إلى عدة جهات من أرض مصر لأخذ الأغنام والخيول والجمال، حيث وجدت، فشنوا الغارات على النواحي، وما عفوا ولا كفوا.(3/139)
وسار السلطان إلى الإسكندرية فدخلها يوم الثلاثاء ثامن عشره، وقد قدم عليه مشايخ البحيرة بناحية تروجة، ومعهم تقادمهم، فخلع عليهم، ثم أمسكهم وساقهم في الحديد، واحتط على أموالهم، ففر باقيهم إلى جهة برقة، وقدم الأمراء، وقد ساقوا عشرات آلاف من الغنم التي انتهبوها من النواحي، وقد تلف كثير منها، فسيقت إلى القاهرة مع الأموال والجمال والجاموس، والخيل. ورسم السلطان أن يؤخذ من تجار المغاربة العشر، وكان يؤخذ منهم الثلث، فشكر له هذا. ثم خرج السلطان من الإسكندرية عائداً إلى القاهرة، فترك ناحية وسيم في يوم السبت تاسع عشرينه، وأقام على مرابط خيوله. وكان الوقت شتاء، وهي مرتبطة على البرسيم الأخضر. وفيه أضيف إلى الأمير قتلوبغا الخليلي نائب الإسكندرية كشف الوجه البحري، ولبس التشريف الذي جهز إليه من السلطان. وفيه مات الأمير خير بك - نائب غزة - بسجن الإسكندرية.
وفي هذا الشهر: غلا الزيت الحار، حتى بيع بتسعة دراهم الرطل، بسعر الزيت الزيتون، ولم يعهد ذلك قط. وفيه بلغ المثقال الذهب إلى مائتي درهم وثلاثين درهماً والدينار الأفرنتي إلى مائتي درهم وعشرة دراهم، والدينار الناصري إلى مائتي درهم.
وفيه قبض بدمشق على شهاب الدين أحمد بن الحسباني الشافعي، وعلى ناصر الدين محمد بن البارزي الحموي، وسجن بقلعة دمشق في سابع عشره بمرسوم السلطان.
وفيه قدم كتاب الأمير نوروز على يد فقيه يقال له سعد الدين، ومملوك اسمه قنغر، ومحضر شهد فيه من أهل طرابلس ثلاثة وثلاثون رجلاً، ما بين قاضي وفقيه وتاجر، بأنه لم يظهر منه منذ قدم طرابلس إلا الإحسان للرعية، والتمسك بطاعة السلطان، وامتثال مراسيه، وأن أهل طرابلس كانوا قد نزحو منها في أيام جانم، لما نزل بهم من الضرر، فعادوا إليها. وأنه كلما ورد عليه مثال سلطاني يتكرر منه تقبيل الأرض أمامه، وأنه حلف بحضرة من يضع خطه فيه بالأيمان المغلظة الجامعة لمعاني الحلف، أنه مقيم على الطاعة، متمسك بالعهد واليمن التي حلفها للسلطان بالكرك، لم يحل ذلك، ولا يخرج عنه، ونحو ذلك. فلم يغتر السلطان به.
وفي هذا الشهر: نزل على دمياط في ثاني عشرينه أربعة أغربة وبيونيين، تحمل عدة من الفرنج، فقاتلهم المسلمون على بر الطينة قتالاً كبيراً، جرح فيه جماعة من المسلمين، وقتلت خيولهم. فمضى الفرنج في آخر النهار إلى بر الطينة القديمة، ونهبوا ما كان هناك، وأتوا من الغد إلى حيث كانوا، فقاتلوا المسلمين مرة ثانية قتالاً كثيراً، وعادوا إلى مراكبهم. فقدم في الحال غراب من أغربة المسلمين، فأحاط به الفرنج، فلم يثبت من كان في الغراب وألقوا أنفسهم في الماء، وخلصوا إلى البر - وكانوا قريباً منه - ثم مضوا إلى دمياط. فتكاثر المسلمون على الفرنج، وأخذوا منهم غراب المسلمين بعد قتال شديد، وقتلوا منهم إفرنجيين وأخذوا سلاحاً، فانهزم بقيتهم، وحمل الرأسان والسلاح إلى السلطان.
وفيه وصلت سرية مبارك شاه نائب قلعة الروم إلى قلعة نجمة، تريد إحراق المركب الذي أنشأه الأمير شيخ، فدفعهم أصحابه عنه، وعادوا خائبين. فبعث عسكرا عدته مائة فارس في سادس عشره، فقاتلوا أصحاب الأمير شيخ قتالاً شديداً، حتى أثخنوا جراحهم، وأحرقوا المركب حتى لم يبق منه شيء، وغرقوا مركباً صغيراً، يحمل فارسين. وفيه عاد إلى الأمير شيخ رسوله المجهز إلى قرا يوسف، وصحبته فاختبط الناس، وغلقت حوانيت الباعة كتابه على يد قاصده.
شهر ذي القعدة، أوله الأحد: في ثانيه: عدى السلطان النيل، وصعد قلعة الجبل.
وفي سادس عشره: نودي بالقاهرة أن تكون الفلوس باثني عشر درهماً الرطل، فلم يقدر على الخبز ولا غيره، فغضب السلطان غضباً شديداً وهم أن يركب مماليكه الجلبان، فتضع السيف في الناس، وتحرق جميع الأسواق، مما زال به الأمراء حتى كف عن ذلك، وأمر فقبض على جماعة، وضربوا بالمقارع.
وفي سابع عشره: شنق رجل، وأشيع أنه قتل بسبب الفلوس. وفيه قتل بسجن الإسكندرية الأمير شرباش العمري، والأمير خشكلدي، ودفنا بالثغر. وفيه قبض على الأمير شهاب الدين أحمد بن ناصر الدين محمد بن الطبلاوي كاشف الشرقية، وعلى الأمير تاج الدين بن الهيصم، وعلى الحجازي نقيب الجيش، وسلموا للوزير سعد بن البشيري.
وفي تاسع عشره: استقر زين الدين محمد بن محمد بن الهوى في حسبة القاهرة، وعزل بن شعبان.(3/140)
وفي رابع عشرينه: أنفق السلطان على المماليك نفقة للسفر، لكل نفر سبعين ديناراً ناصرياً، ومبلغ ستة آلاف درهم، حسابا عن كل قنطار بألف ومائتي درهم، وبعث إلى الأمير الكبير تمرتاش المحمدي ثلاثة آلاف دينار، ولكل من أمراء الألوف ألفي دينار، ولأمراء الطبلخاناه ما بين سبعمائة دينار وستمائة دينار، وخمسمائة دينار، بحسب رتبهم.
وفي ليلة الخميس سابع عشرينه: ضرب السلطان عنق الأمير شهاب الدين أحمد ابن محمد بن الطبلاوي بيده. وقتل السلطان امرأته - ابنة الأمير صروق - فإنه وشى بها أنها تأتي ابن الطبلاوي هذا في منزله، وأمر بهما، فلفا في لحاف، ودفنا معا في قبر واحد.
وفي يوم الخميس: هذا خرج الأمير بكنمر حلق رأس نوبة النوب، والأمير طوغان الحسني الدوادار، والأمير شاهين الأفرم أمير سلاح، والأمير شاهين الزردكاش بمضافيهم، وعليهم آلة الحرب بأجمعهم وهم في تجمل كبير، فعرضوا على السلطان وهم مارون من تحت القلعة، ثم مضوا فنزلوا بالريدانية خارج القاهرة، في مخيماتهم.
شهر ذي الحجة، أوله الثلاثاء: في خامسه: نودي بالقاهرة على الفلوس، أن تكون على عادتها، كل رطل بستة دراهم، فسر الناس بذلك. وفيه رحل الأمراء من الريدانية، وساروا يريدون دمشق.
وفي يوم الاثنين ثامنه: ركب السلطان من قلعة الجبل، فيمن بقي عنده من العسكر، وقد لبسوا كلهم السلاح، وتباهوا بزي لم نر مثله حسناً وإتقاناً، وجر السلطان ثلاثمائة جنيب من عتاق الخيل بالسروج الذهب الثقيلة، التي بعضها مرصع بالجوهر، ومياثرها من حرير مطرز بالذهب الموشى بأبدع إتقان، وعلى أكفالها عبي الحرير البديعة الصنعة، وفيها ما هو مطرز بالذهب الثقيل، وبعضها على أكفالها الكنافيش الذهب، وكلها باللجم المسقطة بالذهب الثقيل، ومن وراء الجنائب المذكورة ثلاثة آلاف فرس، ساقها جشار، ثم عدد كثير من العجل التي تجرها الأبقار، وعليها آلات الحصار، من مكاحل النقط الكبار، ومدافع النفط المهولة، ونحو ذلك. وخرجت خزانة السلاح على ما ينيف على ألف جمل، تحمل القرقلات والخوذ ونحوها في الحوائج خاناه الخشب، التي غشيت باللباد الأحمر، وبجلود البقر، وتحمل الرماح، وتحمل الصناديق المملوءة بالنشاب، وغير ذلك من السيوف ونحوها. وخرجت خزانة المال في الصناديق المغشاة بالحرير الملون، وفيها ما ينيف على أربعمائة ألف دينار، وخرج المطبخ، وقد ساق الرعيان برسمه ثمانية وعشرين ألف رأس من الغنم وكثيراً من الأبقار والجواميس، تحلب ألبانها. وتقدم الحريم في سبع محفات قد غشيث بالحرير، وبعضها مطرز بالذهب، ومن ورائها نحو الثلاثين حملاً من المحاير المغشاة بالحرير والجوخ، فبلغت عدة الجمال إلى ثلاثة وعشرين ألف جمل، فكان شيئاً مستكثراً إلى الغاية.
ونزل السلطان في مخيمه تجاه مسجد تبر خارج القاهرة، وخرج الخليفة المستعين بالله، وقضاة القضاة الأربع وأرباب الدولة، وكلهم قد بالغ في تحسين جماله وخيوله وخيمه وآلات سفره، وزاد فيها على عادته، فنزلوا منازلهم. وتردد السلطان من الريدانية إلى تربته التي أنشأها على قبر أبيه خارج باب النصر وبات بها ليال، ونحر بها ضحاياه على عادته، وجعل الأمير يلبغا الناصري نائب الغيبة. وأنزل بباب السلسلة الأمير ألطنبغا العثماني. وأنزل بقلعة الجبل الأمير أسنبغا الزردكاش شاد الشراب خاناه، وزوج أخته خوند بيرم. وولي نائب القلعة شاهين الرومي، عوضاً عن الأمير كمشبغا الجمالي. وبعث الجمالي صحبة الحريم، وقدمهم بين يديه بمرحلة.
وفي حادي عشره: خلع علي زين محمد بن الدميري، وأعيد إلى حسبة القاهرة، وعزل بن الهوى. ورحل السلطان من التربة قبل غروب الشمس من يوم الجمعة ثاني عشرة، بطالع اختاره له الشيخ برهان الدين إبراهيم بن زقاعة. وبات بمخيمه من الريدانية، تجاه مسجد تبر، واستقل بالمسير سحر يوم السبت.
وفي ثاني عشره: فر من دمشق الأمير سودن اليوسفي. وفيه انتكس الأمير تغري بردى نائب الشام، ولم يزل بما به، حتى مات.
وفيه قدم الأمير شيخ من حلب إلى حمص. ثم جاءه الأمير نوروز، فكثر الإرجاف بدمشق، وفر إليه جماعة منها. وأما السلطان فإنه حذر من معه من الرحيل قبل النفير، فبلغه وهو بالريدانية - إن طائفة رحلت، فركب بنفسه، وقبض على واحد ووسطه.(3/141)
ونصبت مشنقة يرهب بها، فما وصل إلى غزة حتى قتل عدة من الغلمان، من أجل الرحيل قبل النفير. فتشاءم الناس بهذه السفرة. ثم لما نزل بغزة وسط تسعة عشرة من المماليك الظاهرية، وهو لا يعقل من شدة السكر، فقدم عليه - عقب ذلك - الخبر بأن الأمراء الذين تقدموه قد خرجوا عن الطاعة، فلم يثبت، وسار من غزة مجداً في طلبهم، وقد نفرت منه القلوب، وتمالت على بغضه، لقبح سيرته، وسوء سريرته.
وفي ثاني عشرينه: أفرج بدمشق عن شهاب الدين أحمد بن الحسباني، بعد سجنه ثلاثة وستين يوماً.
وفي سادس عشرينه: نزل الأمراء الذين تقدموا بقبة يلبغا خارج دمشق، وركبوا إلى الأمير تغري بردى نائب الشام، فعادوه، وقد اشتد به مرضه، وأعلنوا بما هم عليه من الخلاف للسلطان، والخروج عن طاعته. ثم رحلوا عن قبة يلبغا في تاسع عشرينه، ونزلوا على برزة يريدون اللحاق بالأميرين شيخ ونوروز على حمص، فلم يوافقهم على ذلك الأمير شاهين الزردكاش، فقبضوا عليه ومضوا. ونزل السلطان الكسوة في بكرة يوم الثلاثاء سلخه، وقد فت في عضده مخالفة الأمراء عليه، ولاحت إمارات الخذلان عليه، وظهرت كآبة الزوال والإدبار. فألبس من معه من العسكر السلاح، ورتبهم بنفسه. ثم ساق بهم، وقصد دمشق، فدخلها وقت الزوال من يومه.
وفي هذه السنة: قوي الأمير محمد بن قرمان، وفتح مملكة كرميان جميعها. وفيها حاصر الأمير موسى بن عثمان القسطنطينية، وفتح منها عده بلاد، وغنم غنائم كثيرة، ومزق كل النصارى.
وفيها انخسف قبر بمقبرة باب الصغير خارج دمشق، فخرج من الخسف ذباب أزرق كبار، حتى صارت كالظلة. ووجد ذلك قد خرج من قبر طوله اثنان وعشرون ذراعاً، وبطوله ميت قد صار على هيئة الرماد من البلاء.
ومات في هذه السنة من له ذكر
السلطان الملك الصالح المنصور حاجي بن الملك الأشرف شعبان بن الأمير حسين ابن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون الألفي الصالحي، في ليلة الأربعاء تاسع عشر شوال. ودفن بتربة جدته خوند بركة أم الأشرف.
وولي سلطنة مصر والشام والحرمين مرتين كما تقدم ذكره. ثم أقام بدوره من قلعة الجبل، وتعطلت حركة رجليه ويديه مدة سنين قبل موته. وتوفي عن بضع وأربعين سنة. وقتل من المماليك الظاهرية ستمائة وثلاثون رجلاً، وطأ الملك الناصر بقتلهم لمن بعده سلطانه. وقتل عدة من الأمراء، منهم: الأمير تمراز الناصري في آخر أيام التشريق بالإسكندرية، وقد نقل إليها من دمياط، وقد بلغ نحو ستين سنة. وكان تركياً، غيره شر منه.
والأمير خير بك في تاسع عشرين شوال، لم يعرف عنه خبر.
والأمير جانم، قتل في ثاني عشرين شهر رجب، وكان من شرار الخلق المفسدين في الأرض.
والأمير يشبك الموساوي الأفقم، وكان كثير الشر والظلم، محباً للفتن، مفسداً، لا خير فيه.
والأمير قردم الحسني، قتل بالإسكندرية، وكان من أمراء الألوف، خازنداراً كبيراً، وله تربة بباب الفافة.
والأمير قنباك، رأس نوبة كبير، قتل أيضاً، وكان من سيئات الزمان، جهلاً، وظلماً، وفسقاً.
ومات الأمير آقبغا القديدي، دوادار يشبك أحد أمراء العشرات، ومن جملة دوادارية السلطان، توفي ليلة الثالث عشر من شوال.
وقتل الأمير شهاب الدين أحمد بن ناصر الدين محمد بن الطبلاوي والي القاهرة، وكاشف الشرقية. قتل ليلة السابع والعشرين من ذي القعدة، فأراح به الناس من ظلمه، وفسقه، وعتوه.
ومات الأمير الشريف علاء الدين علي البغدادي، ثم الأخميمي، والي دمياط، ثم وزير الديار المصرية.
ومات الطواشي فيروز. توفي في ليلة الأربعاء تاسع شهر رجب، وكان قد شرع في بناء مدرسة خط الغرابليين داخل باب زويلة من القاهرة، ووقف عليها عدة أوقاف، فمات قبل فراغها، فدفن بحوش السلطان خلف قبر الملك الظاهر برقوق. فأقر السلطان ما قرره في كتاب وقفه من المصارف على الفقهاء والأيتام وغيرهم، وأضاف الوقف إلى تربته التي أنشأها على قبر أبيه، فاستمر ذلك، وأخذ السلطان آلات عمارة فيروز، وأنعم بمكانها على الأمير الكبير تمرتاش المحمدي، فشرع في بنائها قيسارية، وكمل بظاهرها عدة حوانيت. فما شعر حتى خرج في خدمة السلطان إلى الشام وتركها، وكان من أمرها ما يأتي ذكره - إن شاء الله - في سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة.(3/142)
وتوفي الأديب أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد بن أبي الوفاء الشاذلي، غريقاً ببحر النيل، في يوم تاسوعاء. وغرق معه أيضاً جمال الدين عبد الله بن ناصر الدين أحمد التنسي، قاضي القضاة المالكية.
وتوفي الشيخ تاج الدين أبو عبد الله محمد بن الشيخ الملك يوسف بن عبد الله بن عمر بن خضر العجمي الكوراني، في يوم الحادي والعشرين من شعبان، ودفن بزاوية الشيخ يوسف العجمي بالقرافة، وكان حشماً، يركب الخيول، ويتردد إلى الأمراء، وله غنى وسعة.
سنة خمس عشرة وثمانمائة
أهلت وخليفة الوقت أمير المؤمنين المستعين بالله أبو الفضل العباس، ابن المتوكل على الله أبي عبد الله محمد، والسلطان الملك الناصر أبو السعادات زين الدين فرج ابن السلطان الملك الظاهر أبي سعيد سيف الدين برقوق، ابن الأمير أنص، وهما بدمشق. وأتابك العساكر الأمير دمرداش المحمدي، وأمير أخور الأمير أرغون البشبغاوي الرومي، والدوادار الكبير الأمير طوغان الحسني، وقد خرج عن طاعة السلطان، ومضى إلى الأمير شيخ بحمص، هو والأمير بكتمر جلق الناصري رأس نوبة، والأمير شاهين الأفرم أمير سلاح ورأس نوبة الأمير الكبير سنقر الرومي. وبديار مصر الأمير يلبغا الناصري نائب الغيبة، والأمير أسنبغا الزردكاش شاد الشربخاناه، والأستادار الأمير منكلي الخليلي، والقضاة الأربع، وكاتب السر، والوزير وناظر الخاص، وناظر الجيش، الذين تقدم ذكرهم في السنة الماضية، وهم بدمشق صحبة السلطان. ونائب حلب الأمير شيخ المحمودي، وقد أعلن هو والأمير نوروز الحافظي نائب طرابلس بمخالفة السلطان، ونزلا على حمص، ونائب دمشق الأمير تغري بردى، وهو شديد المرض، ونائب غزة الأمير سودن من عبد الرحمن، ونائب صفد الأمير قرقماس ابن أخي دمرداش، وهو بدمشق، وقد ولاه السلطان نيابة حلب، عوضاً عن الأمير شيخ، فلم يتمكن من المسير إليها. ونائب حماة الأمير تمراز. ومتملك بلاد قرمان الأمير محمد باك ابن الأمير علاء الدين بن قرمان. ومتملك بقية الروم الأمير موسى جلبي بن أبي يزيد خوندكار بن مراد خان بن أرخان بن عثمان جق. متملك بغداد وتوريز الأمير قرا يوسف بن قرا محمد التركماني وهو مقيم بتوريز، وعلى بغداد لابنه محمد شاه. ومتملك اليمن الملك الناصر أحمد بن الأشرف إسماعيل بن رسول. وأمير مكة الشريف حسن بن عجلان الحسني، وأمير المدينة النبوية الأمير ثابت بن نعير الحسيني.
وسعر المثقال الذهب الهرجة بديار مصر مائتين وأربعين درهماً من الفلوس إذا اشترى به شيء من أنواع المبيعات، وإذا أخذ عنه الفلوس فينقص خمسة دراهم والدينار الأفرنتي بمائتين وعشرين في المعاملة، وينقص إذا صرف بالفلوس خمسة دراهم، والدينار الناصري بمائتين وعشر دراهم، ويدفع فيه من الفلوس بناقص خمسة دراهم. والأردب القمح بمائة وخمسين درهماً. والنقد الرابح الفلوس، وإليه ينسب ممن كل ما يباع، وقيمة جميع الأعمال. وحصل في الزروع عند حصادها ودراسها نماء، بحيث يحصل من الفدان قدر اثني عشر أردباً من القمح.
شهر الله المحرم، أوله يوم الأربعاء: فيه خلع السلطان على شهاب الدين أحمد بن الكشك، وأعاده إلى قضاء الحنفية بدمشق، وكان قد قدم ابن القضامي الحموي مع العسكر متولياً قضاء الحنفية بدمشق. ولي وهو بغزة وكان أولاً على قضاء الحنفية بحماة، فجرت له كائنة قبيحة مع نائبها يشبك بن أزدمر، افتضح بها. وقدم دمشق فولاه الأمير نوروز قضاء الحنفية بها في أيام عصيانه، بمال التزم به. ثم خرج من دمشق وصار إلى مصر، فاتصل بالأمير طوغان الدوادار، وسعى به حتى ولاه في غزة قضاء دمشق، فصرت قبل أن يباشر. وكان قد قدم قبل ذلك بإسبوع الشريف ابن بنت عطاء، وبيده توقيع شريف باستقراره في قضاء الحنفية بدمشق، مؤرخاً أيام من شهر رجب، فوصل قبل وصوله توقيع ابن الكشك بإعادة وظائفه إليه. ثم كتب توقيعه بالقضاء بعدما لبس ابن بنت عطاء تشريفه بيومين، فلبس ابن الكشك تشريفه، واستمر، فكان في مدة عشرة أيام ثلاث قضاة، ولوا وعزلوا، منهم ابن الكشك ولي ثلاث ولايات، وعزل مرتين. وفيه أفرج عن ناصر الدين محمد بن البارزي الحموي من سجنه بقلعة دمشق وأفرج أيضاً عن الأمير نكباي الحاجب.(3/143)
وفي يوم الاثنين سادسه: سار السلطان من دمشق، ونزل برزة، ثم رحل بعسكره يريد محاربة الأميرين شيخ ونوروز، ومن انضم إليهما من الأمراء المصريين، ومن معهم. فنزل حسيا بالقرب من حمص، فبلغه رحيل القوم من قارا إلى جهة بعلبك، فترك أثقاله بحسيا. وسار في أثرهم إلى بعلبك، وقد توجهوا إلى البقاع، فقصدهم، فمضوا نحو الصبيبة وهو يتبعهم، حتى نزلوا باللجون، فأشار عليه كاتب سره فتح الله أن يعود إلى دمشق، ولا يتوجه إلى اللجون فإذا استقر بدمشق، تخير لنفسه إما أن يبعث إليهم عسكراً، أو يصفح عنهم ويوليهم أماكن، أو يريح عساكره ويخرج إليهم، فمال إلى قوله، وكاد أن يعود، فخلا به شياطينه - أقبغا النظامي، أحد الدوادارية، وألطنبغا شقل، وأضرابهما من الفجار المفسدين - وقبحوا هذا الرأي، وشجعوه على المسير إلى أعدائه، وأنه عندما يلقاهم يأخذهم عن آخرهم أخذاً باليد، فإنهم كلهم في قبضته، ورموا عنده فتح الله بأنه ما قال هذا ولا أشار به إلا وهواه مع القوم. وكان الناصر يميل مع من يستميله، ويؤثر فيه قول كل قائل، فانفعل لهذا، واستدعى فتح الله، وأوسعه سباً، وملأ آذانه توبيخاً وتهديداً بحضرة الملأ، ورماه بأنه مع أعدائه عليه فخرج وقد اشتد غيظه وغضبه، وملئ حنقاً وحقداً.
وركب السلطان من ساعته وساقه وهو ثمل، فما وصل إلى اللجون حتى تقطعت عساكره من شدة السوق، ولم يبق معه غير من ثبت وهم أقل ممن تأخر، وكان قد دخل وقت العصر من يوم الاثنين ثالث عشره، والقوم قد نزلوا قبله، وأراحوا، وفي ظنهم أنه يتمهل ليلته ويلقاهم من الغد، فإذا جنهم الليل، ساروا بأجمعهم من وادي عارة إلى جهة الرملة، وسلكوا البر عائدين إلى حلب، وليس في عزمهم أن يقاتلوه أبداً، خوفاً منه وعجزاً عنه. فلما أراد الله سبحانه لم يتمهل، وحمل بنفسه من فوره - حال وصوله - واقتحم عليهم، فارتطمت طائفة ممن معه في وحل كان هناك من سيل عظيم حصل عن قريب. وخامر مع ذلك عليه طائفة أخرى، ومضوا إلى القوم، فقووا. وثبت السلطان في حماته وثقاته، فقتل الأمير مقبل الرومي أحد أمراء الألوف، وزوج ابنة الملك الظاهر التي كانت تحت الأمير نوروز، وتركها عند خروجه من مصر، فأنكحها السلطان قبل هذا بعقد ملفق، لا يعبأ الله به، وقتل أيضاً أحد رءوس الفتنة ألطنبغا شقل. وانهزم السلطان وقد جرح في عدة مواضع، ونجا بنفسه، وهو يريد دمشق، ليكون بها مصرعه. وفاته الرأي أخيراً كما فاته أولاً، فلم يتوجه إلى مصر، وعدل عنها ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
وأحاط القوم بالخليفة المستعين بالله، وكاتب السر فتح الله، وناظر الخاص تقي الدين عبد الوهاب بن أبي شاكر، وناظر الجيش بدر الدين حسن بن نصر الله. وكان الناصر أمرهم أن يقفوا على حدة. فذكر لهم كاتب السر أن الرأي أن يتوجه إلى صفد، فإذا انتصر السلطان أتيناه، فأبى وكان هذا من سوء تدبيره أيضاً، فإن القوم إزدادوا بالخليفة ومن ذكرنا قوة إلى قوتهم، وبهم تم لهم الأمر، وأحاطوا أيضاً بجميع ما كان مع الناصر من مال وخيول وجمال وغير ذلك، ما عدا الأثقال التي تركها بحسيا، فإنها عادت إلى دمشق، في ثاني عشره، قبل الوقعة بيوم، فما غربت الشمس حتى صار القوم من الخوف إلى الأمن، ومن الذل إلى العز، فتقدم شهاب الدين أحمد بن حسن بن الأذرعي - إمام الأمير شيخ - وصلى بهم المغرب، فقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة بصوته الشجي " واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض، تخافون أن يتخطفكم الناس، فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون " فوقعت قراءة هذه الآية أحسن موقع بمناسبة الحال.(3/144)
وباتوا بمخيماتهم ليلة الثلاثاء، وأصبحوا ليس فيهم واحد ينقاد لآخر، فينادي الأمير شيخ بأنه الأمير الكبير، ويرسم بما شاء وينادي الأمير نور بأنه الأمير الكبير، ويرسم بما شاء، وينادي بكتمر جلق بأنه الأمير الكبير، ويرسم بما شاء وأخذ الأمير سودن تلي المحمدي بيده الإصطبل السلطاني، وحواه لنفسه، فبعث الأميران شيخ ونوروز إلى كاتب السر فأحضراه إليهما في خلوة، وبالغا في إكرامه، وأراداه أن يكتب بما جرى إلى الديار المصرية، ويعلم الأمراء به، فقال لهما من السلطان الذي يكتب عنه، فأطرق كل منهما رأسه ساعة، ثم قال ابن أستاذنا ما هو هنا حتى نسلطنه، يريدان الأمير فرج بن السلطان الملك الناصر فرج. فلما رأى انقطاعهما قال: الرأي أن يتقدم كل منكما إلى موقعه بأن يكتب عنه إلى أمراء مصر كتاباً بصورة الحال، ويأمر بحفظ القلعة والمدينة حتى يقدم عليهم، ويعدهم بالخير ثم يكتب الخليفة أمير المؤمنين عنه كتاباً إلى الأمراء بصورة الحال، ويأمرهم بامتثال ما تضمنه كتابيكما. فوقع هذا الرأي منهما الموقع الجيد، وكتب كل منهما كتاباً، وكتب الخليفة كذلك. وندب قجقار القردمي بحمل الكتب وجهز إلى القاهرة، فمضى إليها من يومه.
ونودي بالرحيل، فرحل العسكر يريدون دمشق في يوم الأربعاء خامس عشره، وليس عندهم من السلطان علم، وكان السلطان قد قدم دمشق آخر ليلة الأربعاء في ثلاثة نفر، ونزل بالقلعة، وأصبح الناس في اضطراب. فاستدعى القضاة والأعيان ووعدهم بكل خيبر، وحثهم على نصرته، والقيام معه، ورغبهم فيما لديه، فانقادوا له، وقووا قلبه، وشجعوه فأخذ في تدبير أموره، وتلاحقت به عساكره شيئاً بعد شيء. وقدم عليه الأمير دمرداش، لمحمدي عصر يوم الخميس، فولاه سادس عشره نيابة الشام، عوضاً عن الأمير تغري بردى، وقد مات في هذا اليوم. ثم قدم الأمير أرغون أمير أخور، والأمير سنقر، وبقية من تأخر من عسكر السلطان.
وأخذ السلطان في الاستعداد، فأخرج الأموال وصبها بين يديه ظاهرة. ودعا الناس إلى القيام بنصرته، فأتاه جمع كبير من التركمان وغيرهم، فكتب أسماءهم، وأنفق فيهم، وقواهم بالسلاح، وأنزل كل طائفة في موضع لحفظه. فكانت عدة من استنجده من المشاة زيادة على ألف رجل قد أجلسوا فوق سقائف الحوانيت وأعلى الحيطان. وجمع العساكر المصرية والشامية، وقواها، وأنفق فيها. وحصن القلعة بالمجانيق، ومدافع النفط الكبار، وبالمكاحل، وجعل بين كل شرفتين من شرفات سور المدينة، جنوية، ومن ورائها الرماة بالسهام والجروخ، والمدافع والأسهم الخطائية. ونصب على كل برج من أبراج السور شيطانياً يرمى به الحجارة. ورفع الجسور عن الخنادق، وأتقن تحصين القلعة، بحيث لم يبق سبيل إلى التوصل لها بالقوة. وفيه ولي السلطان الأمير نكباي الحاجب نيابة حماة.
وفيه وكتب قاضي القضاة شيخ الإسلام جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن البلقيني، ومعه بقية قضاة مصر ودمشق، وجماعة من أرباب الدولة، ونودي بين أيديهم بأسواق دمشق عن لسان السلطان، أنه قد أبطل المكوس وأزال المظالم، فادعوا له. فقوي ميل الشاميين إليه، وتعصبوا له، وصار أكثرهم من حزبه وفريقه.
وفي يوم الجمعة سابع عشره: ورد الخبر بنزول الأمراء سعسع، فقوي الاستعداد.
وفي بكرة يوم السبت ثامن عشره: نزل الأمراء على قبة يلبغا خارج دمشق، فندب السلطان إليهم عسكراً توجهوا إلى القبيبات، فبرز لهم الأمير سودن تلي المحمدي، والأمير سودن الجلب، فاقتتلوا حتى تقهقر السلطانية منهم مرتين، ثم انصرف الفريقان.
وفي يوم الأحد تاسع عشره: ارتحل الأمراء عن قبة يلبغا، ونزلوا غربي البلد من جهة الميدان، ووقفوا من جهة القلعة إلى خارج البلد، فتراموا عامة نهارهم بالنشاب والنفط، فاحترق ما عند باب الفراديس من السواق، ومضوا.(3/145)
فلما كان الغد يوم الاثنين عشرينه: اجتمعوا للحصار، فوقفوا شرقي البلد وقبليه، ثم كروا راجعين، فنزلوا ناحية القنوات إلى يوم الأربعاء ثاني عشرينه. فوقع القتال في ناحية شرقي البلد، ونزل الأمير نوروز بدار الطعم، وامتدت أصحابه إلى العقيبة، وأخذ طائفة، الصالحية والمزة، ونزل الأمير شيخ بدار الأمير غرس الدين خليل الأستادار - تجاه جامع كريم الدين بطرف القبيبات - ومعه الخليفة وكاتب السر وجماعته ورفقته. ونزل الأمير بكتمر شلق، والأمير قرقماس ابن أخي دمرداش في جماعة من جهة بستان معين الدين ومنعوا الميرة عن الناصر، وقطعوا نهري دمشق، ففقد الماء من البلد، وتعطلت الحمامات، وغلقت الأسواق. واشتد الأمر على أهل دمشق، وترامي الأمراء بالنشاب، واقتتلوا قتالاً شديداً، احترق فيه عدة حوانيت وغيرها. وكثرت الجراحات في أصحابه الأمراء، وذلك أن رميهم يقع في أحجار السور، ورمي السلطان دائما يقع فيهم فينكيهم.
وفي آخر هذا اليوم: بعث الأمير شيخ إلى شهاب الدين أحمد بن الحسباني، وشهاب الدين أحمد الباعون، وقاضي القضاة ناصر الدين محمد بن العديم - وكان قد انقطع بالشبلية لمرض به - فلم يدخل إلى جامع بني أمية مع رفاقه قضاة مصر، فأحضر الثلاثة وأنزلهم عنده.
وفيه أيضاً لحق بالأمير شيخ، ناصر الدين محمد بن البارزي الحموي، وصدر الدين علي بن الآدمي، فتأنس بهما، وأخذا في تعريفه بأمر البلد، ومواضع العورات منها، ونحو ذلك مما يتقرب به إليه. فلما بلغ السلطان ذلك استدعى محب الدين محمد بن الشحنة الحلبي، وخلع عليه، وولاه قضاء القضاة الحنفية بديار مصر، عوضاً عن ناصر الدين محمد بن العديم، في يوم الخميس ثالث عشرينه.
وفي يوم الجمعة رابع عشرينه: أحضر الأمير شيخ إلى بين يديه الأمير بلاط آقشق شاد الشربخاناة، وكان ممن قبض عليه في وقعة اللجون، ووسطه من أحل أنه كان يتولى ذبح المماليك الظاهرية، ليل قتلهم السلطان بقلعة الجبل. ووسط أيضاً الأمير بلاط أمير علم، وكان ممن قبض عليه أيضاً.
وفي يوم السبت خامس عشرينه: خلع الخليفة المستعين بالله الملك الناصر من الملك، فكانت مدته في السلطنة منذ مات أبوه الملك الظاهر وجلس بعده على سرير الملك إلى أن خلع بأخيه السلطان الملك المنصور عبد العزيز ست سنين وخمسة أشهر وأحد عشر يوماً. ومدة سلطنته الثانية من حين وثب على أخيه عبد العزيز إلى أن خلعه الخليفة أمير المؤمنين ست سنين وعشرة أشهر سواء. فجميع مدة سلطته ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر وأحد عشر يوماً.
الخليفة المستعين بالله أبو الفضل
الخليفة أمير المؤمنين المستعين بالله أبو الفضل.
العباس بن محمد المتوكل على الله أبي عبد الله العباسي(3/146)
اجتمع عليه الأمراء وبايعوه خارج دمشق، في آخر الساعة الخامسة من نهار السبت الخامس والعشرين من شهر الله المحرم الحرام سنة خمس عشرة وثمانمائة، والطالع برج الأسد. وسبب ذلك أنه خرج صحبة الملك الناصر فرج من القاهرة إلى الشام عند سفره إليها، كما جرت العادة به. فلما وافى اللجون ليقاتل الأمراء، أوقف الخليفة ناحية، وأوقف معه كاتب السر ورفقاءه، من المباشرين. فما هو إلا أن نزلوا وصلوا صلاة العصر، إذ انهزم الناصر، فأشار كاتب السر حينئذ على الخليفة أن ينشر علمه الأسود، يريد بذلك أن يصيروا في حمايته خشية من معرة العساكر. فعندما نشر العلم، وعاينه الأمراء تباشروا بالفتح. وفي ذلك الوقت جاء صلاح الدين خليل بن الكوير صاحب ديوان الأمير شيخ، وشهاب الدين أحمد الصفدي، في طائفة من العسكر، فأخذوا الخليفة، ومن معه وأتوا بهم إلى الأمراء، فأجلوا مقدم الخليفة، وأنزلوه ومن معه عند الأمير طوغان الدوادار. فلم يزل عنده حتى نزلوا ظاهر دمشق، فاستدعى الأميران شيخ ونور وكاتب السر فتح الله - وقد بلغهم أن الناصر قد صار في قلعة دمشق وحصنها، وأعد لهم - واستشاراه فيما يعملاه فقال لهما: ما هكذا يقاتل السلطان. وذكر لهما ما هم فيه من الافتراق، وعدم الانقياد إلى واحد منهم، وأن كلا من الأمراء يرى أنه الأمير الكبير، وهذا أمر لابد فيه من إقامة واحد ترجع الأمور كلها إليه وتصدر عنه. فأطرق كل منهما ساعة، ثم رفع رأسه وقال: ابن أستاذنا ما هو حاضر هنا حتى نسلطه، فلما رأى عجزهم وانقطاعهم قال: أقيموا الخليفة يتحدث، وقوموا معه، فإن أحداً لا يتجاسر عليه. فقالا له: أو يرضى بذلك. قال: أنا أرضيه. وقام عنهما إلى الخليفة، فذكر له شيئاً من هذا، فأبى أن يقبل، وفرق من الناصر فرقاً شديداً، وخاف ألا يتم له هذا الأمر فيهلك، وصمم على الامتناع، وفتح الله يلح عليه، لما داخل قلبه من خوف الناصر والحقد عليه، فلما رأى أن الخليفة لا يوافقه على القيام بالأمر، دبر عليه حيلة يقوده بها لما يريد منه، وهو أنه حسن للأمير شيخ حتى أمر ناصر الدين محمد بن مبارك شاه الطازي أخا الخليفة لأمه، فركب ومعه ورقة تتضمن أسطراً عديدة، فيها مثالب الناصر ومعايبه، وأن الخليفة قد خلعه من الملك وعزله من السلطة، ولا يحل لأحد معاونته، ولا مساعدته، فإنه الكذا الكذا. فلما بلغ الخليفة هذا، سقط في يده، وأيس من انصلاح الناصر له وأراد أن يبقى له حيلة مع الأمراء، يعيش بها حيناً من الدهر في رحيله معهم، وفي ظنه وظن غيره عجز الأمراء عن الناصر، فأذعن حينئذ لهم أن يقوم بالأمر، فبايعوه بأجمعهم، وأطبقوا كلهم على يده، يعطوه صفقة أيمانهم، وحلفوا له على الوفاء بتبعيته، ونصبوا له كرسياً خارج باب الدار، تجاه جامع كريم الدين. وجلس فوقه وعليه سواده الذي أخذوه من الجامع، وهو بثياب الخطب عند خطبته للجمعة. ووقفوا بين يديه على قدر منازلهم، ما عدا الأمير نوروز فإنه لم يحضر لاشتغاله بحفظ الجهة التي هو بها. ثم قبلوا الأرض بين يديه على العادة، وتقدم الأمير بكتمر جلق فخلع عليه، واستقر به في نيابة الشام، وخلع على الأمير قرقماس ابن أخي دمرداش، واستقر به في نيابة حلب. وخلع على الأمير سودن الجلب واستقر به في نيابة طرابلس.
ثم ركب أمير المؤمنين والأمراء، ونادي مناد ألا إن الناصر فرج بن برقوق قد خلع من السلطنة، فلا يحل لأحد مساعدته، ومن حضر إلى أمير المؤمنين من جماعته فهو آمن، وأمدكم إلى يوم الخميس، في كلام كبير من هذا المعني قد رتب. وسار أمير المؤمنين بعساكره من تجاه جامع كريم الدين إلى قرب المصلى، ثم عاد وأمر فنودي بذلك أيضاً في الناحية الشرقية من دمشق. فتفخذ الناس عن الناصر، وصاروا حزبين، حزب يرى أن مخالفة أمير المؤمنين كفر، وأن الناصر قد انعزل من الملك، فمن قاتل معه فقد عصى الله ورسوله، ومنهم من يرى أن القتال معه واجب، ومن قاتله فإنما هو باغ عليه. وكثر الناس في ذلك. وكتب أمير المؤمنين إلى أمراء مصر، باجتماع الكلمة على إقامته، وأنه خلع الناصر، وقد أبطل المكوس والمظالم. وبعث بذلك على يد الأمير كزل العجمي.(3/147)
وفي يوم الأحد سادس عشرينه: قدم حاج دمشق مع الأمير مؤمن، فأوقفهم الأمير شيخ عند جامع كريم الدين، وبعث كل طائفة إلى جهة قصدها من البلد، ومنعهم أن يمروا تحت القلعة، وأنزل المحمل بجامع كريم الدين حيث كان الشهابان أحمد الباعوني وأحمد بن الحسباني نازلين بمن معهما من فقهاء دمشق وأتباعهما.
وفيه مات الأمير سكب الدوادار، وكان ممن خامر على الناصر، وصار في جملة أصحاب الأمير شيخ من حين وقعة اللجون، فأتاه سهم في ركبته أتى عليه.
وفي سابع عشرينه: خلع أمير المؤمنين على شهاب الدين أحمد الباعوني، واستقر به في القضاء بديار مصر، عوضاً عن قاضي القضاة جلال الدين بن البلقيني. وخلع أيضاً على شهاب الدين أحمد بن الحسباني، واستقر به في قضاء القضاة بدمشق، عوضاً عن الأخناي.
وفي يوم الخميس سلخه: اشتد القتال من جهة الأمير شيخ قريباً من باب الجابية - ومن جهة الأمير نوروز قريباً من باب الفراديس، فكثرت الجراحات ومات جماعة.
وأما القاهرة فإن مبشري الحاج تأخر وصولهم إلى ثامنه. وقدم في تاسع عشره الخبر بمخامرة الأمراء وقدوم السلطان دمشق، ثم مسيره منها يريد أعداءه، وتأخر قدوم الحاج عن العادة، فلم يصل إلى سادس عشرينه، وخرج هذا الشهر والإرجاف بالقاهرة كثير، وقد استعد الأمير أسنبغا الزردكاش، فحصن قلعة الجبل وشحنها بالغلال والزاد، ووسط الأمير قنباي، قريب الأمير الكبير بيبرس، ابن أخت السلطان، في ليلة الحادي والعشرين منه.
شهر صفر، أوله الجمعة: فيه مات يشبك العثماني خارج دمشق، من سهم أصابه في أمسه، فصلى عليه الأمير شيخ.
وفيه خلع السلطان الملك الناصر بدمشق على فخر الدين ماجد - المعروف بابن المزوق - ناظر الإسطبل، واستقر به في كتابة السر، عوضاً عن فتح الدين فتح الله. وقبض على ما كان لفتح الله بدمشق من خيل وجمال، فكان هذا أيضاً مما أعان به على نفسه، فإنه تأكد بذلك بعد ما بينه وبين فتح الله، وكشف له عن قناعه، وحسر عن ساعد الجد، ودبر عليه بمكايده وحيله، حتى هدم ما رسخ من ملكه، ونقض ما ثبت من أكيد سلطانه.
وفيه خلع أيضاً على الوزير الصاحب سعد الدين إبراهيم بن البشري، وولاه نظر الخاص، عوضاً عن تقي الدين عبد الوهاب بن أبي شاكر، وخلع على ابن وزير بيته صاحب ديوان الجيش، واستقر به في نظر الجيش، عوضاً عن بدر الدين حسن بن نصر الله.
وفيه قدم إلى القاهرة قجقار القردمي في عشرين فارساً، فأراد الأمير أسنبغا أن يقبض عليه، فبادر الأمير يلبغا الناصري وأرسل طائفة من أجناده إلى لقائه، وشقوا به القاهرة، وأنزله ببيت الأمير تمراز، ورتب له ما يليق به، وقرأ ما على يده من الكتب، فاشتهر الخبر في البلد، وكثرت القالة بين الناس.
وفي ثالثه: وصل عشير البقاع مع ابن حنيش إلى دمشق، فقاتلوا المشاة قتالاً كبيراً، ورجعوا من الغد إلى الصالحية، فأفسدوا، ونهبوا ما قدروا عليه.
وفي خامسه: وصل بدر الدين حسن بن محب الدين عبد الله الطرابلسي - أستادار الأمير شيخ - من قلعة المرقب بالزردخاناة، فتقوي بها الأمير شيخ، وكان قد عمل مدافع، وكثيراً من النشاب، ونحوه من آلة الحرب.
وفي سادسه: دقت البشائر بقلعة دمشق، ونودي أنه قد وصلت أمراء التركمان - قرا يلك وغيره - ونواب القلاع لنجدة السلطان، فنودي بمعسكر الأمير شيخ - عن أمير المؤمنين - باستعداد العوام لقتال المذكورين، فإنهم مقدمة تمرلنك وجاليشه. ثم اجتمع الأمراء والمماليك السلطانية كلهم، وحلفوا بأجمعه يميناً ثانية لأمير المؤمنين، بأنهم يلتزمون طاعته، ويأتمرون بأمره، وأنهم راضون بأنه الحاكم عليهم، وأنه يستبد بجميع الأمور من غير أن يعارضه أحد في شيء، وأنهم لا يسلطوا أحداً غيره، وقبلوا كلهم له الأرض، ومضى كاتب السر فتح الله إلى الأمير نوروز بدار الطعم - حيث هو نازل - فحلفه على ذلك، وقبل الأرض لأمير المؤمنين، وقد استقبل جهته وأظهر من الفرح والسرور، باستبداد أمير المؤمنين بالأمر ما لا يوصف كثرة، وحمد الله تعالى على ذلك، وقال: حينئذ استقام لنا الأمر. وسأل كاتب السر أن ينوب عنه في تقبيل الأرض بين يديه، وسؤاله في أن ينفرد بالتدبير ولا يشارك في أمره الأمير شيخ، ولا هو، ولا غيره.
وفي ليلة الجمعة ثامنه: اشتد القتال إلى الغاية، واستمر من بعد العصر إلى ثلث الليل.(3/148)
وفي يوم الجمعة هذا: وصل الأمير كزل العجمي الحاجب من دمشق إلى القاهرة يبشر بقيام أمير المؤمنين، فشق القاهرة، وخرج من باب زويلة، ونزل عند الأمير يلبغا الناصري، وحضر إليه الأعيان. فقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين إليه، بأن العساكر المصرية والشامية قد اتفقت على إقامته، وبايعوه، وحلفوا له. وأنه قد خلع الناصر فرج من الملك، لما ظهر منه، وثبت عليه، بمقتضى محضر شهد فيه خمسمائة نفس بقوادح في الدين، توجب إراقة الدم. ويأمر في كتابه أن ينادي في القاهرة ومصر: لا سلطان إلا الخليفة، وأنه قد أبطل المكوس والمظالم، وأخذ البراطيل، ورمى البضائع على التجار، وأن يأمر الخطباء بقطع اسم الناصر من الخطب، وإقامة اسم أمير المؤمنين بمفرده. فلم يتمكن الأمير يلبغا الناصري من ذلك، خوفاً من أسنبغا الزردكاش، فإنه كان قد امتعض الناصر، وعزم على أخذ كزل هذا، فسبقه الأمير يلبغا، وأنزله. هذا، والكتب من الناصر تأتي مع السعاة إلى أسنبغا بأنه محصور بقلعة دمشق، فيهم بأمور من الشر، فيوسوسه الأمير يلبغا الناصري، ويتلطف به، حتى يكف عن ذلك.
وفي هذا اليوم: بلغ الأمير شيخ أن الناصر قد عزم على إحراق ناحية قصر حجاج حتى تصير فضاء، ثم يركب بنفسه ويواقع القوم هناك. فبادر وركب بعد صلاة الجمعة، بأمير المؤمنين وجميع من معه، وسار من طرف القبيبات، حيث كان منزله. ونزل بأرض الثابتية وقاتل من بالقلعة، فاشتد القتال إلى أن مضى من الليل جانب، وكثر الرمي بالنفط وغيره، فاحترق سوق خان السلطان وما حوله. وحمل السلطانية على الشيخية حملة منكرة، هزموهم فتفرقوا شذر مدر. وثبت الأمير شيخ في حماته بعدما وصل إلى قريب الشويكة ثم حمل بنفسه - هو ومن معه - حملة واحدة، ملك فيها القنوات، ففر من كان هناك من التراكمين الرماة.
وكان الأمير دمرداش منزله عند باب الميدان تجاه القلعة، فلما بلغه ذلك أتى إلى السلطان وهو جالس تحت قبة فوق باب النصر، فسأله أن يندب معه طائفة كبيرة من المماليك ليتوجه بهم إلى الأمير شيخ، فإنه قد وصل إلى طرف القنوات، وسهل أخذه فنادى السلطان من هناك من العساكر وأمرهم بذلك، فلم يجبه منهم أحد، فلما كرر الأمر به. أجابه بعضهم جواباً فيه جفاء.
وبينما هم في ذلك، إذ اختبط العسكر، ووقع الصوت فيهم: قد كبسكم الأمير نوروز. فتسارعوا بأجمعهم، وعبروا من باب النصر إلى المدينة، وتفرقوا في خرائبها، بحيث لم يبق منهم أحد بين يدي السلطان، فولى الأمير دمرداش عائداً إلى موضعه. وقد ملك الأمير شيخ الميدان، والإسطبل، فبعث دمرداش إلى السلطان بأن الأمر قد فات، والرأي أن تلحق بحلب. فقام عند ذلك من مجلسه وترك الشمعة تتقد حتى لا يقع الطمع بأنه قد ولي، ويوهم الناس أنه ثابت. ثم دخل إلى حرمه، وجهز ماله فلم يخرج حتى مضى أكثر الليل. وتوجه دمرداش نحو حلب، وخامر الأمير سنقر. وجاء إلى الأمير شيخ، فإذا الطبول قد بطل دقها، والرماة قد فروا. وكان قد تقرر من النهار بأن يدس بعض من استماله فتح الله من أصحاب الناصر ناساً، يقومون في الليل، يقولون من فوق الأسوار: نصر الله أمير المؤمنين. فما هو إلا أن قالوا ذلك تفرق الرماة من فوق الأسوار، وعندما خرج الناصر من داره، أمر بخيوله، فحملت المال ليسير إلى حلب، عارضه الأمير أرغون أمير أخور وغيره، ورغبه في الإقامة،: وأن الجماعة مماليك أبيك لا يوصلون إليك سوءاً، ونحو ذلك، حتى طلع الفجر، فركب فرسه، ودار على السور، فلم يجد أحداً ممن أعده للرمي، فعاد، والتجأ إلى القلعة.
وأقبل الأمير شيخ نحو باب النصر، وركب نوروز إلى جهة باب أتوما، ونصبت السلالم حتى فتح باب النصر، وأحرق باب الجبية، فعبر الأمير شيخ من باب النصر، وأخذ المدينة، ونزل بدار السعادة، وامتدت أيدي النهابة من الغوغاء، فما عفوا ولا كفوا. وأخذوا من المال ما يجل عن الوصف. فلم يكد أحد يسلم من معرة النهب. ونزل أمير المؤمنين بدار في طرف من ظواهر دمشق، وتحول الأمير شيخ إلى الإصطبل. وأنزل الأمير بكتمر جلق بدار السعادة.(3/149)
وأخذ الناصر يرمي من أعلى القلعة يومه، وبات ليلة الأحد على ذلك، فلما كان يرم الأحد عاشره بعث بالأمير أسندمر أمير أخور ليحلف له الأمراء فكتب نسخة اليمين، فحلفوا له، ووضعوا خطوطهم. وكتب أمير المؤمنين خطه أيضاً. وصعد به إليه ناصر الدين محمد بن مبارك أخو الخليفة، فطال الكلام بينهما، وكثر الترداد بغير طائل. وعاد الناصر إلى الرمي من القلعة بمدافع النفط، والنشاب. فركب القوم وأحاطوا به يريدون قتاله. فأرسل يسأل في الكف عنه، فضايقوا القلعة خشية أن يفر منها، فأضطره الحال إلى أن نزل ليلة الاثنين حادي عشره، ومعه أولاده يحملهم ويحملون معه، وهو ماش من باب القلعة إلى الإصطبل، حيث منزل الأمير شيخ، فقام إلى لقائه وقبل له الأرض، وأجلسه بصدر المجلس، وسكن روعه، وتركه وانصرف عنه، فأقام بمكانه إلى يوم الثلاثاء ثاني عشره، فجمع فقهاء مصر والشام بدار السعادة بين يدي أمير المؤمنين، وقد تحول إليها وسكنها، فأفتوا بإراقة دم الناصر شرعاً. فأخذ في ليلة الأربعاء من الإصطبل، وأنزل بموضع من قلعة دمشق وحده، وقد ضيق عليه، وأفرد من خدمه إلى ليلة السبت سادس عشره دخل عليه ثلاثة، أحدهم ابن مبارك أخو الخليفة، وآخر من ثقات الأمير شيخ، وآخر من ثقات الأمير نوروز، ومعهم رجلان من المشاعلية، فعندما رآهم ثار إليهم، ودافع عن نفسه فساوره الرجلان حتى صرعاه، بعدما أثخنا جراحه. وتقدم إليه بعض صبيان الفداوية بخنجر فخنقه، وقد أصابته الجراحة في خمسة مواضع. فلما ظن أنه قد أتى على نفسه وقام عنه، تحرك فعاد وخنقه مرة ثانية، حتى قوى عنده أنه هلك تركه، فإذا به يتحرك، فعاوده مرة ثالثة، وفرى أوداجه بخنجر، وسحب بعدما سلب جميع ما عليه من الثياب. وألقى على مزبلة مرتفعة عن الأرض تحت السماء، وهو عاري البدن، يستر عورته وبعض فخذيه سراويله، وعيناه مفتوحتان، والناس تمر به، ما بين أمير ومملوك، قد صرف الله قلوبهم عنه. وغوغاء العامة وأراذل الغلمان تعبث بلحيته ويديه ورجليه طول نهار السبت، نكالاً من الله له، فإنه كان مستخفاً بعظمة الله سبحانه، فأراه الله قدرته فيه:
لا تيأسن على شيء فكل فتى ... إلى منيته يستن في عنق
بأيما بلدة تقدر منيته ... ألا يسارع إليها طالعاً يسق
وقد أخرج الإمام أحمد من حديث ابن لهيعة: حدثنا يزيد بن أبي حبيب أن قيس بن سعد بن عبادة - رضي الله عنه - قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من شدد سلطانه بمعصية الله عز وجل، أوهن الله كيده إلى يوم القيامة " .
فلما كانت ليلة الأحد: حمل وكفن بعدما غسل، وصلى عليه، ودفن بمقبرة باب الفراديس، بموضع يعرف بمرج الدحداح، ولم يكن له جنازة مشهودة، ولا عرف من تولى غسله وكفنه، ويقال أنه تصدق عليه بالكفن، فسبحان المعز المذل.
وقد كان الأمير شيخ لا يريد قتله، وعزم على أن يحمله مع الأمير طوغان الدوادار إلى الإسكندرية ويسجنه بها، فقام الأمير نوروز والأمير بكتمر حلق في قتله قياماً بذلاً فيه جهدها، فإن الأمير يشبك بن أزدمر ممن امتنع من الموافقة على قتله، وشنع في ذلك، واحتج بالأيمان التي حلفت له، فتقوى نوروز وبكتمر بالخليفة، فإنه اجتهد هو وكاتب السر فتح الله في ذلك، وحمي الفقهاء والقضاة على الكتابة بإراقة دمه. وتجرد قاضي القضاة ناصر الدين محمد بن العديم الحنفي لذلك، وكافح من خالف في قتله، وأشهد على نفسه أنه حكم بقتله شرعاً، فأمضى قتله، وقتل كما تقدم ذكره.
وكان الناصر هذا أشأم ملوك الإسلام، فإنه خرب بسوء تدبيره جميع أراضي مصر وبلاد الشام، من حيث يصب النيل إلى مجرى الفرات، فطرق الطاغية تيمورلنك بلاد الشام في سنة ثلاث وثمانمائة، وخرب حلب وحماة وبعلبك ودمشق، وحرقها، حتى صارت دمشق كوماً ليس بها دار، وقتل من أهل الشام ما لا يحصى عدده إلا الله تعالى، وقطع أشجارها حتى لم يبق بدمشق حيوان، ونقل إليها من مصر، حتى الكلاب، وخربت أراضي فلسطين بحيث أقامت القدس مدة إذا أقيمت صلاة الظهر بالمسجد الأقصى لا يصلى خلف الإمام سوى رجلين.(3/150)
وطرق ديار مصر الغلاء من سنة ست وثمانمائة، فبذل أمراء دولته ومدبروها جهدهم في ارتفاع الأسعار، بخزنهم الغلال وبيعها بالسعر الكبير، ثم زيادة أجرة أطيان أراضي مصر، حتى عظمت كلفة ما تخرجه الأراضي، وأفسدوا مع ذلك النقود بإبطال السكة الإسلامية من الذهب، والمعاملة بالدنانير المشخصة، التي هي ضرب النصارى. ورفعوا سعر الذهب حتى بلغ إلى مائتين وأربعين كل مثقال، بعدما كان بعشرين درهماً. وعكسوا الحقائق، فصيروا الفلوس - التي لم تكن قط في قديم الدهر ولا حديثه نقداً رابحاً - هي التي ينسب إليها ممن المبيعات، وقيم الأعمال. وأخذت على نواحي مصر مغارم تجبى من الفلاحين في كل سنة، وأهمل عمل جسور أراضي مصر، وألزم الناس أن يقوموا عنها بأموال تجبى منهم، وتحمل إليه.
وأكثر وزرائه من رمي البضائع على التجار ونحوهم من الباعة بأغلى الأثمان، واضطروهم إلى حمل ثمنها، فعظمت مغارمهم للرسل التي تستحثهم، ولمستخرجي المال منهم مع الخسارة في أثمان ما طرح عليهم من البضائع، لا جرم أن خرب إقليم مصر، وزالت نعم أهله، وقلت أموالهم، وصار الغلاء بينهم كأنه طبيعي، لا يرجى زواله.
هذا مع تواتر الفتن واستمرارها بالشام ومصر، وتكرار سمره إلى البلاد الشامية، مما من سفرة إليها إلا وينفق فيها خارجاً عما عنده من الخيول والسلاح وغير ذلك، زيادة على ألف ألف دينار، يجبيها من دماء أهل مصر، ومهجهم. ثم يقدم إلى الشام، فيخرب الديار ويستأصل الأموال، ويدمر القرى. ثم يعود وقد تأكدت أسباب الفتنة، وعادت أعظم ما كانت.
فخربت الإسكندرية، وبلاد البحيرة، وأكثر الشرقية، ومعظم الغربية، والجيزية، وتدمرت بلاد الفيوم، وعم الخراب بلاد الصعيد، بحيث بطل منها زيادة على أربعين خطة كانت تقام في يوم الجمعة، ودثر ثغر أسوان، وكان من أعظم ثغور المسلمين، فلم يبق به أمير ولا كبير لا سوق ولا بيت، وتلاشت مدائن الصعيد كلها، وخرب من القاهرة وظواهرها زيادة على نصف أملاكها. ومات من أهل إقليم مصر بالجوع والوباء نحو ثلثي الناس. وقتل في الفتن بمصر مدة أيامه خلائق لا تدخل تحت حصر، مع تجاهره بالفسوق من شرب الخمر، وإتيان الفواحش، والتجرؤ العظيم على الله - جلت قدرته - ، والتلفظ من الاستخفاف بالله تعالى ورسله ما لا تكاد الألسنة تنطق بحكايته لقبيح شناعته.
ومن العجيب أنه لما ولد كان قد أقبل الأمير يلبغا الناصري بعساكر الشام لينزع أباه الملك الظاهر من الملك، وهو في غاية الاضطراب من ذلك، فعندما بشر به، قيل له: ما نسميه فقال: بلغاق يعني فتنة، وهي كلمة تركية، فقبض على أبيه وسجن بالكرك - كما تقدم ذكره - وهو لم يسم. فلما عاد برقوق إلى الملك عرض عليه، فسماه فرج، فما كان في الحقيقة إلا فتنة. أقامه الله سبحانه نقمة على الناس لذيقهم بعض الذي عملوا. ومن عجيب الاتفاق أن حرف اسمه فرج وعددها ثلاثة وثلاثون ومائتان، وهي عدد جركس، فكان فناء طائفة الجركس على يديه، فإن حروفها يعني إذا أسقطت بحروف اسمه. وكانت وفاته عن أربع وعشرين سنة، وثمانية أشهر، وأيام.
وفي يوم الأحد عاشر صفر هذا: قبض على الأخناي قاضي دمشق، وعلى رزق الله ناظر جيشها، وعلى الأمير غرس الدين خليل الأستادار، وعلى فخر الدين بن المزوق كاتب سر الناصر، وعلى يحيى بن لاقي، وسلموا للأمير نوروز. ثم شفع فيهم فأطلقوا بعد أيام، ما عدا غرس الدين، فإنه استمر في قبضة الأمير نوروز، وصادره.
وفي ثامن عشره: خلع على صدر الدين علي بن الآدمي، واستقر في كتابة السر بدمشق، عوضاً عن محيي الدين يحيي بن زكريا البهنسي، وخلع على شهاب الدين أحمد ابن محمد بن الأموي، واستقر في قضاء المالكية بدمشق.(3/151)
وفي خامس عشرينه: استقر الأمير نوروز في نيابة الشام، وخلع عليه بحضرة أمير المؤمنين بدار السعادة، وقد جلس بها. وجلس الأمير شيخ عن يمينه في وقت الخدمة، وكان منذ قتل الناصر قد اتفق الحال على الأميرين شيخ ونوروز يقومان بالأمر مع أمير المؤمنين، ويسيران إلى مصر، فينزل الأمير شيخ بباب السلسلة من قلعة الجبل، وينزل الأمير نوروز في بيت الأمير قوصون بالرميلة تجاه باب السلسلة، وكتب إلى القاهرة بتجديد عمارته، وأن يضرب عليه رنك الأمير نوروز. وصار الأمير نوروز يركب من داره إلى تحت قلعة دمشق، فيخرج الأمير شيخ من الإصطبل - حيث هو نازل - ويسيران تحت القلعة بموكبهما ساعة، ثم يدخلان إلى دار السعادة، فيجلس الأمير طوغان الدوادار على عادته، والأمراء على مراتبهم، ويقرأ كاتب السر فتح الله القصص على أمير المؤمنين، فيمضي ما يختار إمضاءه، ثم يقدم إليه المراسيم والأمثلة، فيعلم عليها. ويمد السماط بين يديه، فيأكل الأمراء كما جرت به عادتهم، فإذا انقضت الخدمة، قاموا وصاروا إلى دورهم. فكان الناس يتوقعون عود الفتنة بين الأميرين شيخ ونوروز، إلى أن اختار نوروز من تلقاء نفسه أن يكون بالشام، وخلع عليه. وعندئذ انفرد الأمير شيخ بتدبير المملكة، وأخذ جانب الخليفة في الأتساع، وفوض إلى الأمير نوروز كفالة الشام كله - دمشق وحلب وحماة - وجعل له تعيين الإمريات والإقطاعات لمن يريده ويختاره، وأن يولي النواب بالقلاع وغيرها، ويولي الكشاف والولاة بالأعمال، ويولي المباشرين أيضاً، ويطالع الخليفة بمن يستقر به في شيء من ذلك، ليجهز إليه التشريف، فكانت مدة نيابة الأمير بكتمر نحو الشهرين.
وفي سادس عشرينه: استدعى أمير المؤمنين شيخ الإسلام قاضي القضاة جلال الدين أبا الفضل عبد الرحمن بن البلقيني، وخلع عليه وأعاده إلى قضاء القضاة بالديار المصرية، فكانت ولاية الباعوني نحو شهر، ثم خلع على بقية قضاة مصر، وخلع على ناصر الدين محمد بن محمد البصروي موقع الأمير نوروز، واستقر به في كتابة السر بدمشق، عوضاً عن ابن الآدمي، وأضاف إليه قضاء طرابلس، وأذن له أن يستنيب فيه.
وفي ثامن عشرينه: قدم كتاب الخليفة، وكتابي الأميرين شيخ ونوروز إلى الأمراء بديار مصر، تتضمن أخذ الناصر فرج، فقرئت الكتب عند الأمير يلبغا الناصري، وعند الأمير ألطنبغا العثماني. ثم نودي بالقاهرة: الأمان، فإن فرج بن برقوق قد مسك، ودخل في قبضة الأمير شيخ ونوروز، وأرسلت الكتب إلى الجوامع، فقرئت بالجامع الأزهر، وبجامع الحاكم من القاهرة، وبجامع أحمد بن طولون، وجامع عمرو من مدينة مصر، على المنابر، فكان يوماً مشهوداً. وامتنع الأمير أسنبغا الزردكاش بقلعة الجبل، وكذب ذلك، وأراد أن يركب للحرب. فساس الأمير يلبغا الناصري الحال، حتى كف أسنبغا عن الفتنة.
وفي هذا الشهر: بث أمير المؤمنين كتبه في البلاد الشامية وغيرها إلى التركمان والعربان والعشير، وجعل افتتاحها بعد البسملة: من عبد الله ووليه الإمام المستعين بالله أمير المؤمنين، وخليفة رب العاملين، وابن عم سيد المرسلين، المفترض طاعته على الخلق أجمعين. أعز الله ببقائه الدين، إلى فلان..،.
شهر ربيع الأول، أوله السبت: في رابعه: ورد كتاب أمير المؤمنين إلى الأمراء بديار مصر، يتضمن قتل فرج بن برقوق، وأن الأمير أسنبغا الزردكاش يسلم قلعة الجبل إلى الأمير يلبغا الناصري. فنزل أسنبغا إلى الأمير يلبغا بمفاتيح القلعة، وتوجه إلى داره، وشيعه الأمير يلبغا، وشكر له فعله.
وقدم أيضاً من الإسكندرية الأمراء المسجونون بها، وهم سودن الأسندمري أمير أخور ثاني، وأينال الصصلاني الحاجب الثاني، والأمير كمشبغا المزوق، والأمير جانباك الصرفي، وتاج الدين بن الهيصم الأستادار. وقد كتب من دمشق بالإفراج عنهم، لتوجهوا إلى منازلهم.
وفي ثامنه: توجه أمير المؤمنين والأمير شيخ وعساكر مصر من دمشق، ونزلوا بقبة يلبغا.
وفي تاسعه: أعيد شمس الدين محمد الأخناي إلى قضاء القضاة بدمشق، فكانت مدة ولاية ابن الحسباني أحد وأربعين يوماً، منها مباشرته أقل من شهر. واستقل الخليفة والأمير شيخ بالمسير إلى ديار مصر.
وفي سادس عشرة: توجه الأمير نوروز نائب الشام من دمشق يريد حلب، فنزل على برزة.(3/152)
وفيه تقدم الأمير نوروز بأن يضرب دراهم نصفها فضة ونصفها نحاس، فضربت، واستمرت أيضاً الدراهم التي يتعامل بها في دمشق وليس فيها من الفضة إلا العشر، والتسعة أعشار من نحاس، وكانوا في سنه ثلاث عشرة قد جعلوا بدمشق الربع فضة والثلاثة أرباع نحاساً، وضربوا الدراهم على هذا، ثم ما زالوا يقلوا من الفضة حتى لم يبق فيها من الفضة سوى العشر، فغلا عندهم أيضاً سعر الذهب، وارتفع من خمسة وعشرين درهماً الدينار، حتى بلغ إلى خمسة وخمسين درهماً. ثم أمر الأمير نوروز بأن تضرب الدراهم من فضة خالصة، ليس فيها غش، فضربت دراهم، زنة كل درهم منها نصف درهم فضة. وجعل كل دينار من الذهب بثلاثين درهم منها، فاستمر الصرف عندهم على هذا.
وفي سابع عشره: قدم الأمير ألطنبغا القرمشي إلى صفد، على نيابتها.
وفي ثالث عشرينه: خلع الأمير يلبغا الناصري نائب الغيبة بديار مصر، على محب الدين محمد بن شرف الدين عثمان بن سليمان بن رسول بن أمير يوسف بن خليل بن نوح الكرادي، المعروف بابن الأشقر. واستقر به في مشيخة خانقاة سرياقوس، عوضاً عن شيخها شهاب الدين أحمد بن أوحد برغبته عنها.
شهر ربيع الآخر، أوله الاثنين: في يوم الثلاثاء ثانيه: قدم أمير المؤمنين والأمير شيخ والعسكر إلى القاهرة، فشقوا القصبة من باب النصر إلى باب زويلة، ومضوا إلى القلعة وقد زينت الشوارع، فنزل الخليفة بالقصر من قلعة الجبل، ونزل الأمير شيخ باب السلسلة. وظهر اتضاع جانب الخليفة. وظن الأمير شيخ أنه لما دخل إلى القاهرة، أن الخليفة كان يمضي إلى داره، ولا يصعد إلى القلعة. ولم يخلع على أحد ممن جرت العادة بأنه يخلع عليه عند القدوم من السفر. وأقبل الناس إلى باب الأمير شيخ للسعي في الوظائف، وترك الخليفة وحده، ليس له سوى من يخدمه من حاشيته قبل مصير ما صار إليه.
وفي رابعه: قبض الأمير شيخ على الأمير أسنبغا الزردكاش، واستفتى في قتله، لقتله الأمير قنباي، فأفتوا بقتله، وحكموا به، وقبض فيه أيضاً على الأمير حطط البكلمشي - من أمراء العشرات - وعلى آخر، وكانا من خواص الناصر.
وفي سادسه: قبض الأمير شيخ على الأمير أرغون الرومي، أمير أخور، ورأس نوبة في الأيام الناصرية، وعلى الأمير سودن الأسندمري، والأمير كمشبغا المزوق، الذي قدم من سجن الإسكندرية، وسفروا إلى دمياط.
وفيه خلع على خليل الجشاري - من أصحاب الأمير شيخ - واستقر به في نيابة الإسكندرية، عوضاً عن الأمير قطلوبغا الخليلي، بعد موته.
وفي ثامنه: حضر الأمير شيخ بالقصر بين يدي أمير المؤمنين، ومعه الأمراء وأهل الدولة وخلع على الأمير شيخ تشريف جليل، بطراز لم يعهد مثله في عظم القدر، واستقر به أميراً كبيراً، وفوض إليه الحكم بالديار المصرية في جميع الأمور، وأن يولي ويعزل من غير مراجعة ولا مشورة، وأشهد عليه بذلك، فتلقب بنظام الملك، وكتب بذلك في مكاتباته، وكوتب به. وخلع أيضاً على الأمير طوغان الحسني، واستقر دواداراً على عادته.
وخلع على الأمير شاهين الأفرم، واستقر على عادته أمير سلاح، وخلع على الأمير يلبغا الناصري، واستقر أمير مجلس، وخلع على الأمير إينال الصصلاني، واستقر حاجباً، عوضاً عن يلبغا الناصر. وخلع على الأمير سودن الأشقر، واستقر رأس نوبة النوب، عوضاً عن الأمير سنقر الرومي. وخلع على الأمير ألطنبغا العثماني، واستقر في نيابة غزة، عوضاً عن سودن من عبد الرحمن. ونزلوا في خدمة الأمير شيخ، ثم حضروا إلى دورهم، فكان يوماً عظيماً.
وفي تاسعه: عرض الأمير شيخ المماليك السلطانية، وفرق عليهم الإقطاعات بحسب ما اقتضاه رأيه. وأنعم على جماعة من مماليكه بعدة إمريات، ما بين طبلخاناة وعشرة.
وفيه خلع الأمير شيخ على دواداره الأمير جقمق، واستقر به دوادار الخليفة، وأسكنه بقلعة الجبل، حتى لا يتمكن الخليفة من العلامة على شيء ما لم يكن على يد جقمق، ولا يقدر أحد على الاجتماع به إلا وهو معه. فاستوحش الخليفة من ذلك لانفراده بعياله في تلك القصور الواسعة، وضاق صدره، وكثر فكره.(3/153)
وفي حادي عشره: خلع على الأمير سودن بن الأشقر، واستقر في نظر خانكاة شيخو، ومدرسة صرغتمش بالصليبة خارج القاهرة، وخلع على الأمير قنباي المحمدي، وعلى الأمير سودن من عبد الرحمن، لإطابة قلبيهما، من غير ولاية وظيفة. وخلع على صدر الدين أحمد بن محب الدين محمود العجمي، واستقر في حسبة القاهرة، وعزل زين الدين محمد بن الدميري. وكان ابن العجمي هذا قد أوصله شرف الدين يعقوب بن الجلال التباني بالأمير شيخ، وصار من ندمائه، هو وقاسم البشتكي، زوج ابنة الأشرف شعبان بن حسين. وخلع فيه أيضاً على الوزير الصاحب سعد الدين إبراهيم بن البشيري، واستقر في الوزارة على عادته. وكان عندما قتل الناصر بدمشق ترامى على أمير المؤمنين، فأمنه، ونزل عنده. ثم توصل إلى الأمير شيخ بعلم الدين داود، وأخيه صلاح الدين خليل - ابني الكويز - فجمع بينه وبين بدر الدين حسن بن محب الدين أستادار الأمير شيخ، حتى قام معه، وأصلح أمره عند الأمير شيخ، فأقر على وزارته إلى أن قدموا مصر، فبادر على عادته. وخلع أيضاً على الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، واستقر على عادته في نظر الجيش وقد تقدم أنه صار مع كاتب السر فتح الله، وتقي الدين عبد الوهاب بن أبي شاكر عند وقعة اللجون إلى عند الأمير شيخ ونوروز، فتسلمهم الأمير طوغان. وما زالوا عند الأمير شيخ حتى ظفر بالسلطان الملك الناصر، فأقره الخليفة على نظر الجيش، وتوصل بالتاج الشويكي - أحد أصحاب الأمير شيخ - إلى الأمير شيخ وخدمه، حتى اعتني به، وصار عنده بمكانة.
وخلع فيه أيضاً علي تقي الدين عبد الوهاب بن أبي شاكر، واستقر به في نظر الخاص وكان قد تعرف في دمشق بزين الدين عبد الباسط بن خليل - أحد خواص الأمير شيخ - فأوصله بالأمير شيخ مع ما رباه به عنده كاتب السر فتح الله، فصار من المقربين عنده، المعتمد على قوله، الموثوق به.
وخلع أيضاً في هذا اليوم على فتح الدين فتح الله، واستقر في كتابة السر على عادته. وقد تقدم أنه صار مع الخليفة بعد واقعة يوم اللجون إلى الأميرين شيخ ونوروز، فكانا يجلانه، بحيث إن أصحاب الأمير شيخ أنكروا عليه قيامه له إذا دخل عليه، فقال لهم: أيا ويلكم لما كنت أرى ثياب هذا على مقعد أستاذي الملك الظاهر، وهو يحادثه سراً. أين كنت أنا أقف، إنما كنت أقف في أخريات المماليك. ثم إنه اختص به، وقام في مكايدة الناصر حتى أقام الخليفة وخلع الناصر. ثم مازال به حتى قتله، فتمكنت رياسته عند أهل الدولة، وصار منه منزلة شيخهم ومشيرهم، فصار يجلس فوق الوزير سعد الدين إبراهيم بن البشيري، أو لم تكن عادة كاتب السر ذلك، بل صار الوزير وناظر الخاص وناظر الجيش مدة إقامته بعد قتل الناصر في دمشق لا يتمشى أحوالهم إلا به، لتقدمه في الدولة، وامتنانه بأنه هو الذي أقام الخليفة، ووطأ للقوم سلطانهم.
وفي ثالث عشره: قبض على الأمير بهاء الدين أرسلان والي القاهرة، وخلع علي تاج الدين تاج بن سيفا القازاني - المعروف بالتاج الشويكي - أحد خواص الأمير شيخ وندمائه، واستقر في ولاية القاهرة.
وفي ثامن عشره: أخرج الأمير شيخ عدة بلاد من أوقاف الناصر، منها ناحية منبابة على الخانكاة الظاهرية برقوق، وناحية دنديل عليها أيضاً. وأخرج أيضاً عدة أراضي من الرزق التي وقفها الناصر على المدارس ونحوها.
وفي تاسع عشره: خلع على قضاة القضاة الأربع خلع الاستمرار. وخلع أيضاً علي بدر الدين حسن بن محب الدين عبد الله الطرابلسي. أستادار الأمير شيخ، واستقر استادار السلطان، فنزل إلى دار الأمير جمال الدين، وجميع أهل الدولة في خدمته، وأصبح عزيز مصر.
وفي ثاني عشرينه: خلع علي شهاب الدين أحمد الصفدي، موقع الأمير شيخ، واستقر في نظر المارستان المنصوري - برغبة كاتب السر فتح الله له عنه - وفي نظر الأحباس، عوضاً عن تاج الدين عبد الوهاب بن نصر الله. وخلع على ناصر الدين محمد بن البارزي الحموي، واستقر في توقيع الأمير شيخ، عوضاً عن الشهاب الصفدي. وكان قد قدم إلى الأمير شيخ كما تقدم ذكره، وهو في محاصرة الناصر، واختص به، فأخذه معه إلى مصر، وجعله من ندمائه الأخصاء.
وفي خامس عشرينه: خلع على الشيخ شرف الدين يعقوب بن الجلال التباني، واستقر في وكالة بيت المال ونظر الكسوة، وعزل عنها تاج الدين عبد الوهاب بن نصر الله.(3/154)
وفي هذا الشهر: نزل الأمير نوروز نائب الشام على حمص، وقد امتنع عليه الأمير أينال الرجبي، فلم يزل به حتى نزل إليه بأمان، فعصر كعبيه وأخذ أخته منه، وقتل ممن كان معه خمسة عشر رجلاً، وبعثه مقيداً إلى قلعة دمشق، فسجن بها.
وسار نوروز إلى حماة، وكان الأمير دمرداش قد عاد إلى حلب، فخرج منها إلى جهة قلعة الروم، فدخل نوروز حلب، وعليه تشريفة، وأمر فقرئ تقليده الخليفتي بحضرة أهل الدولة. ثم مضى يريد عينتاب، وجعل نائب الغيبة بحلب الأمير سودن الجلب نائب طرابلس، ففر الأمير دمرداش وقطع الفرات. فعاد نوروز إلى حلب، وقدمها في ثاني عشره، وقد مات سودن الجلب، فعين بنيابة طرابلس الأمير طوخ، ولنيابة حلب الأمير يشبك بن أزدمر.
شهر جمادى الأولى، أوله الأربعاء، يوافقه سابع عشر مسرى: فيه أوفي ماء النيل ستة عشر ذراعاً، فركب الأمير يلبغا الناصري أمير مجلس، والأمير شاهين الأفرم أمير سلاح، والأمير طوغان الحسني الدوادار، حتى خلق المقياس بحضرتهم، وفتح الخليج على العادة.
وفي رابعه: قدم الأمير نوروز من حلب إلى دمشق.
وفي يوم الخميس سادس عشره: قرئ تقليد أمير المؤمنين للأمير الكبير نظام الملك شيخ، بأنه فوض إليه ما وراء سرير خلافته.
وفي ثالث عشرينه: جلس الأمير الكبير نظام الملك شيخ بالحراقة من الإصطبل، وبين يديه قضاة القضاة، والأمراء، والوزير، وكاتب السر، وناظر الجيش، وناظر الخاص، وسائر أرباب الدولة، وقرأ كاتب السر عليه القصص كما جرت عادته بالقراءة بين يدي السلطان، فكان موكباً سلطانياً لم يعره إلا أنه عمل في الإصطبل، ولم يعمل في دار العدل، وأن الأمير جالس وليس تحته تخت الملك.
وفي رابع عشرينه: خلع الأمير نظام الملك شيخ على صدر الدين علي بن الآدمي الحنفي، واستقر به في قضاء القضاة الحنفية بديار مصر، وعزل ناصر الدين محمد بن العديم.
وفيه بعث الأمير نظام الملك بالأمير جقمق الدوادار إلى البلاد الشامية، ومعه تقاليد النواب الخليفتية باستقرارهم على عادتهم، وخلع عليه عندما سار.
شهر جمادى الآخرة، أوله الخميس: في ثامنه: مات الأمير بكتمر جلق من مرض تمادى به نحو شهرين. أصله أن عقربا لسعته وهو عائد مع العسكر من دمشق، فاشتد ألمه منها، وأخذه الحمى. فنزل الأمير الكبير نظام الملك راكباً، وجميع الأمراء وغيرهم مشاة، حتى صلى عليه تحت القلعة، وعاد من غير أن يشهد دفنه. وخلا له الجو بموت بكتمر هذا، وصرح بما كان يكتمه من الاستبداد بالأمر، وعزم على ذلك، ثم أخره.
وفي ثاني عشره: خرج الأمير نوروز من دمشق لملاقاة أهله، خوند سارة ابنة الملك الظاهر، وقد سارت إليه من القاهرة، فلقيها بالرملة، وهي مريضة، فتوجه بها إلى القدس، فماتت هناك، فدفنها. وولي في إقامته بالقدس الشيخ شمس الدين محمد بن عطاء الله بن محمد بن محمود بن أحمد الهروي - ثم الرازي - تدريس الصلاحية، وكانت بيد الشيخ زين الدين أبي بكر بن عمر بن عرفات القمني وهو مقيم بالقاهرة، وينوب عنه بها الشيخ شهاب الدين أحمد بن محمد بن الهايم، وقد مات.
وفيه استقر ناصر الدين محمد بن البارزي الحموي، موقع الأمير الكبير نظام الملك، يقرأ القصص على الأمير الكبير بالإصطبل السلطاني، وقد انتصب فيه للحكم بين الناس، وجلس في المقعد الذي كان يقعد فيه الملك الظاهر برقوق، وابنه الملك الناصر فرج، وكان كاتب السر فتح الله قد قرأ بين يديه، كما كان يقرأ بين يدي من تقدم ذكره، فاختار أن يقرأ عليه موقعة، فانحط بذلك جانب فتح الله، وقل ترداد الناس إليه، وكثر الناس على باب ابن البارزي لطلبهم الحوائج.
وفي يوم الجمعة ثالث عشرينه: دعي لأمير المؤمنين المستعين بالله على منبر المسجد الحرام، بعدما دعي له في ليلة الخميس على ظهر بئر زمزم، واستمر ذلك في كل ليلة على زمزم، وفي كل جمعة على منبري مكة والمدينة، ولم يدع بها لأحد من الخلفاء الذين قاموا بديار مصر من بني العباس، سوى المستعين هذا. وآخر من دعى له على منابر الحجاز من بني العباس الخليفة المستعصم بالله. فلما قتله هولاكو في سنة ست وخمسين وستمائة، انقطع الدعاء من الحرمين لبني العباس، واستقر الحال بمكة على أن يدعى على منبرها وفوق زمزم لصاحب مصر، وصاحب اليمن، ولأمير مكة، من بني حسن خاصة.
شهر رجب، أوله السبت:(3/155)
في ثالث عشره: قدم الأمير نوروز من سفره إلى دمشق.
وفي تاسع عشرينه: خلع الأمير الكبير نظام الملك على قاضي القضاة ناصر الدين محمد بن العديم، واستقر به في مشيخة خانكاة شيخو، وعزل عنها قاضي القضاة أمين الدين عبد الوهاب بن الطرابلسي.
وفيه خلع أيضاً على شيخ شمس الدين محمد البيري أخي الأمير جمال الدين يوسف الأستادار، فاستقر به في مشيخة خانكاة بيبرس، وعزل عنها الشيخ شهاب الدين أحمد ابن حجر، وكان قد استنزل عنها علاء الدين على الحلبي قاضي غزة، وباشرها مدة. فما زال يتوصل بقاضي القضاة صدر الدين علي بن الآدمي، والقاضي ناصر الدين محمد بن البارزي، إلى أن اشترك هو وأخو جمال الدين في المشيخة.
وفي هذا اليوم: عقد مجلس عند الأمير الكبير نظام الملك بسبب أوقاف جمال الدين، وقد تقوي جانب أخيه شمس الدين، وزوج ابنة شرف الدين أبو بكر بن العجمي الحلبي الموقع، ومن بقي من ذرية جمال الدين يوسف الأستادار لانتمائهم إلى حاشية الأمير الكبير نظام الملك شيخ محكيهم بما نزل بهم في أيام الناصر فرج، فقام معهم قاضي القضاة صدر الدين بن الآدمي وناصر الدين بن البارزي، حتى أعادوا إلى أخي جمال الدين مشيخة البيبرسية.
وقررا مع الأمير الكبير أن الناصر غصب هؤلاء حقهم وأخذ أوقافهم، وقتل رجالهم، وغرضهم في الباطن تأخير كاتب السر فتح الله وإضاع قدره. فصادف مع ذلك عناية الأمير الكبير بجمال الدين فإنه كان عندما انتقل إليه - بعد موت الملك الظاهر - إقطاع الأمير بجاس وإمرته استقر عنده جمال الدين أستادار، وخدمه. ولم يترك خدمته في مدة غيبته طرابلس ولا بدمشق، وهو يتولى نيابتها حتى أنه في الحقيقة لم يقبض عليه إلا لممالأته الأمير شيخ كما تقدم ذكره، فأحضر في هذا اليوم قضاة القضاة وأخو جمال الدين وابنته، وطلبوا كاتب السر فتح الله ليوقعوا عليه الدعوى، فإنه كان يتولى نظر المدرسة، فوكل في سماع الدعوى ورد الأجوبة بدر الدين حسن البرديني - أحد خلفاء الحكم الشافعية - فلم يرض الأمير الكبير بذلك وأقام البدر البرديني، وأمر فتح الله بمحاكمتهم، فأدعوا عليه وحكم صدر الآدمي برد أوقاف جمال الدين إلى ورثته حكماً كله تهور ومجازفة فعصوا على ذلك، فانكسر فتح الله، وتبين فيه اتضاع القدر، واستطال عليه حاشية جمال الدين وغيرهم.
شهر شعبان المكرم، فيه تولى:
السلطان أبو النصر
السلطان الملك المؤيد أبو النصر شيخ المحمودي الظاهري(3/156)
سرق من بلاده وهو صغير، فصار إلى تاجر يقال له محمود شاه اليزيدي، اشتراه بثلاثة آلاف درهم فضة، وقدم به إلى القاهرة على ظهر بحر الملح، في سنة اثنتين وثمانين وسبع مائة، وعمره قريباً من اثنتي عشرة سنة، فأخذه السلطان الملك الظاهر بعد موت محمود هذا من تركته، ودفع إلى ورثته ثلاثة آلاف درهم، ورقاه في خدمته، فعرف بشيخ المحمودي، ثم أنعم عليه بإمرة عشرة ثم بإمرة طبلخاناه، وجعله رأس نوبة، ثم سار من جملة أمراء الألوف. وولي نيابة طرابلس، ثم نيابة الشام، وحاربه السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق إلى أن انهزم وقتل، كما تقدم ذكره، وقدم بعد قتله إلى الديار المصرية من دمشق بالخليفة المستعين بالله. وفوض الخليفة إليه جميع الأمور، ولقبه نظام الدولة، فتصرف في الولايات والعزل والأخذ والعطاء وغير ذلك، بحيث لم يكن للخليفة معه أمر ولا نهي ولا نفوذ كلمة، وإنما هو مقيم في دار وحشة بقصور قلعة الجبل، وتحضر إليه المراسيم، فيكتب عليها بحسب ما يختاره الأمير شيخ، إلى أن كان يوم الاثنين مستهل شعبان هذا، واجتمع قضاة القضاة الأربع، وجميع الأمراء وكافة أرباب الدولة، بمجلس الخدمة مع الحراقة، وعمل الموكب على العادة، قام فتح الدين فتح الله كاتب السر على قدميه، وقال لمن حضر أن الأحوال ضائعة، ولم يعهد أهل نواحي مصر عندهم اسم الخليفة، ولا تستقيم الأمور إلا بأن يقوم سلطان على العادة. ودعاهم إلى الأمير شيخ، فقال الأمير شيخ: هذا أمر لا يتم إلا برضى أهل الحل والعقد، فقال من حضر من الأمراء بلسان واحد: نحن راضون بالأمير الكبير. فمد قاضي القضاة شيخ الإسلام جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن البلقيني يده، وبايعه، فلم يختلف عليه أحد، وقام من فوره إلى مخدع بجانبه، ولبس الخلع السود الخليفتية، وتقلد بالسيف على العادة، وخرج شيخ مركب فرس النوبة، والأمراء وغيرهم مشاة، إلى أن عبر القصر الكبير من قلعة الجبل، فجلس على تخت الملك وسرير السلطنة، وقبل الأمراء الأرض بين يديه، وقبلوا يده.
فلما استقر له الأمر بعث وهو بالقصر القضاة إلى الخليفة ليسلموا عليه، ويشهدوا عليه بأنه فوض إليه السلطنة، كما جرت به عادة ملوك الترك بمصر، فدخلوا إليه وراودوه على ذلك، فتوقف في الإشهاد عليه بتفويض السلطنة توقفاً كبيراً. ثم اشترط أن يؤذن له في النزول من القلعة إلى داره، وأن يخلص له السلطان بأنه يناصحه سراً وجهراً، ويكون سلماً لمن سالمه، حرباً لمن حاربه، فعاد القضاة إلى السلطان، وردوا الخبر عليه، وحسنوا عبارة الرد، فأجاب. ليمهل علينا أياماً، فإن الآن لا يمكن نزوله إلى بيته. فنزلوا إلى دورهم، وكانت مدة إقامة الخليفة حاكماً - منذ جلسته خارج دمشق إلى هذا اليوم - سبعة أشهر وخمسة أيام.
وإلى يوم الثلاثاء ثانيه: قدم الأمير جقمق الدوادار إلى دمشق، فتلقاه الناس، وأنزله الأمير نوروز بدار السعادة، وخلع عليه خلعة سنية، وفي ظنه أن الأمر بيد الخليفة. ثم سار بعد أيام إلى طرابلس.
وفي رابعه: نادي الأمير نوروز بدمشق ألا يتعامل أحد بالدراهم المغشوشة، وأن تكون المعاملة بالدراهم الخالصة التي استجد ضربها، وكانوا بدمشق يتعاملون بها جميعاً إلى أن ضربت فلوس جدد، زنة الفلس منها مثقال، وكانت الدراهم المغشوشة قد فسدت بحيث لم يكد يوجد فيها - إذا سبكت - شيء من الفضة، وتعاملوا بينهم على صرف خمسة منها بدرهم خالص، مما وزنه نصف درهم فضة، ثم نودي بتسعير المأكل، فسعرت.
وفي سادسه: خلع السلطان الملك المؤيد على الأمير درباي أحد الطبلخاناة، وسيره إلى الأمير نوروز بخلعة استقراره في نيابة الشام، ويعلمه بأنه تسلطن.(3/157)
وفي ثامنه: جلس السلطان بدار العدل من قلعة الجبل، وعملت خدمة الإيوان على عادة من تقدم من السلاطين، وخلع بدار العدل على الأمير يلبغا الناصري، واستقر به أتابك العساكر، وعلى الأمير طوغان، واستقر كعادته دوادار السلطان، وعلى الأمير شاهين الأفرم، واستقر على عادته أمير سلاح، وعلى الأمير قنباي المحمدي، واستقر أمير أخور، وعلى الأمير سودن الأشقر، واستقر على عادته رأس نوبة النوب، وخلع على كاتب السر، وناظر الجيش، وناظر الخاص، وعلى الوزير، والقضاة خلع الاستمرار، وفي هذا اليوم أعاد الأمير نوروز شرف الدين عيسى المغربي إلى قضاء المالكية بدمشق، وعزل شهاب الدين أحمد بن محمد الأموي، فتوجه إلى القاهرة.
وفي حادي عشره: خلع على شمس الدين محمد بن الجلال التباني - أحد خواص السلطان - واستقر في قضاء العسكر.
وفي سابع عشره: ورد الخبر إلى دمشق بسلطنة الملك المؤيد، بقدوم الأمير درباي، فتجهم نوروز لذلك.
وفي ثامن عشره: قدم الأمير جقمق من طرابلس إلى دمشق فقبض عليه نوروز وسجنه، وأعاد الأمير درباي بجواب خشن، لم يخاطب فيه السلطان إلا كما كان يخاطبه من غير أن يعترف له بالسلطة.
وفي هذا الشهر: نزلت لبيد على تروجة وأفسدت فسار إليهم الأمير طوغان وقاتلهم، وقتل منهم جماعة، وعاد. فنزلوا بعد عوده على الإسكندرية وحصروها، فسار إليهم الأمير قرقماس ابن أخي دمرداش.
شهر رمضان، أوله الثلاثاء: فيه قدم الأمير درباي، وأخبر بامتناع الأمير نوروز من لبس التشريف، وأنه قبض على الأمير جقمق واعتقله. وفيه جمع اليهود والنصارى بزيادة جامع الحاكم من القاهرة. وحضر الشيخ زين الدين أبو هريرة بن النقاش - خطيب الجامع الطولوني - وشمس الدين محمد بن التباني، قاضي العسكر، وصدر الدين أحمد بن العجمي محتسب القاهرة، وكتبت أسماؤهم ليؤخذ منهم الجزية بحسب قدرتهم، وعلى قدر أحوالها، فإنهم لا يزنون الجزية إلا مصالحة عن الجميع، بمبلغ بضعة وثلاثين ألف درهم في السنة، فقام الجماعة المذكورون مع السلطان في أن يؤخذ من كل واحد من أهل الذمة بمفرده، إن كان غنياً أخذ منه أربعة دنانير، وأن كان متوسط الحال فيؤخذ منه ديناران، وإن كان فقيراً أخذ منه ديناراً واحدا.
وفي ليلة السبت ثماني عشره: هرب الأمير أينال الرجبي من قلعة دمشق ومعه جماعة ممن كان مسجوناً بها، وسار إلى صفد يريد القاهرة.
وفي سابع عشره: أرسل السلطان الشيخ شرف الدين يعقوب بن التباني رسولاً إلى الأمير نوروز.
وفي تاسع عشرينه: خرج الأمير نوروز لملاقاة الأمير تغري بردى ابن أخي دمرداش، وقد قدم ومعه علي بن دلغادر، بعث به الأمير دمرداش، وقد كتب إليه الأمير نوروز يستدعيه إليه، فأكرمه الأمير نوروز وخلع عليه، وأنزله، ورتب، ولمن معه ما يليق بهم.
شهر شوال، أوله الأربعاء: في ثالثه: توجه أقبغا الأسندمري إلى الأمير دمرداش المحمدي، بتقليد نيابة حلب.
وفي سابعه: قدم ابن التباني دمشق على الأمير نوروز، فمنعه من الإجماع بالناس وكتب يستدعي نواب البلاد الشامية إليها.
وفي يوم الخميس تاسعه: قبض على الأمير سردن المحمدي، وحمل من وقته إلى الإسكندرية، وقبض أيضاً على فتح الدين فتح الله كاتب السر، وعوق بقلعة الجبل، وأحيط بداره. وقبض على حواشيه وأسبابه، فكانت مدة ولايته أربع عشرة سنة وثمانية وعشرين يوماً، تعطل فيها. وعصر في ليلة الجمعة، وألزم بمائتي ألف دينار، فتقرر معه الوزن على خمسين ألف دينار، بعدما ضرب ضرباً مبرحاً، ثم حمل في ليلة الأحد ثاني عشره إلى بيت الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين الأستادار، وأخرجت حواصله فبيعت.
وفي يوم الاثنين ثالث عشره: خلع علي ناصر الدين محمد بن عثمان بن محمد البارزي، واستقر في كتابة السر، عوضاً عن فتح الله.
وفي هذا اليوم: قبض الأمير نوروز على نجم الدين عمر بن حجي وسجنه بقلعة دمشق، خشية أن يتوجه إلى القاهرة، فأقام خمسة عشر يوماً، وأفرج عنه. وفيه خرج محمل الحاج بدمشق.
وفي عشرينه: دار المحمل بالقاهرة، ولم يعهد تأخره إلى مثل هذا الوقت فيما مضى من السنين، وخرج أمير الحاج بيبغا المظفري.
وفي ثاني عشرينه: قدم الأمير طوخ من طرابلس إلى دمشق، وقدم أيضاً الأمير قمش من حماة، فخرج الأمير نوروز لملاقاتهما، وبالغ في إكرامهما، والإنعام عليهما.(3/158)
وفي ليلة السبت خامس عشرينه: حمل فتح الله إلى قلعة الجبل، وسجن بها.
وفي سادس عشرينه: قدم الأمير يشبك بن أزدمر من حلب، فخرج الأمير نوروز إلى لقائه وأكرمه إكراماً كبيراً.
وفي سلخه: قدم كاشف الرملة إلى دمشق فاراً، وذلك أن الأمير أينال الرجبي لما هرب من قلعة دمشق إلى صفد سار منها إلى القاهرة، فأقبل عليه السلطان، وجهزه إلى غزة، فخرج ومعه الأمير جاني بك الصوفي على عسكر، فنزلوا على غزة، وأخذوها للسلطان، فلما قدم كاشف الرملة إلى دمشق، وأخبر بقدوم عسكر مصر، كان الاتفاق قد وقع على عود النواب من دمشق إلى بلادهم، ليستعدوا ويعودوا، فيتوجهوا إلى غزة، فتغير رأيهم، وعينوا جماعة لتسير إلى غزة. وولي الأمير نوروز الأمير كستا نيابة غزة.
شهر ذي القعدة، أوله الجمعة: في رابعه: جمع الأمير نوروز قضاة دمشق وفقهائها بدار السعادة، ليسألهم ما حكم الله في سلطنة الملك المؤيد شيخ، وسجنه للخليفة، وكان السلطان قد نقل الخليفة من القصر، وأنزله في بعض دور القلعة، ومعه أهله وأولاده، ووكل به من يحفظه، ويمنع من يجتمع به، فأقام الفقهاء ساعة، ثم مضوا من غير شيء سئلوا عنه. وفيه سار النواب من دمشق إلى بلادهم، وخرج الأمير نوروز مودعاً الأمير يشبك ابن أزدمر.
وفي سابعه: سار على باك بن دلغادر من دمشق، بعدما خلع عليه الأمير نوروز، وأنعم عليه إنعاماً بالغاً. وكثر إنعام الأمير نوروز في هذه المدة على الأمراء والمماليك، بحيث انه أنعم على يشبك بن أزدمر بخمسة آلاف دينار، وعلى تعري بردى ابن أخي دمرداش مرة بثلاثة آلاف دينار ومرة بخمسة آلاف دينار، وبلغت نفقته في يوم واحد إلى أربعين ألف دينار، وعمر قلعة دمشق أحسن عمارة، وأخذ من الأمير غرس الدين خليل الأستادار في مصادرته ما يزيد على مائتي ألف دينار.
وفي هذا الشهر: سار الأمير أينال الرجبي من غزة إلى جهة القدس، فهجم عليه كاشف الرملة، وقاتله فكسره. ثم قبض عليه وبعثه إلى دمشق، فقدم صحبة أينال الدوادار، وقد توجه إليه ليحضره في سادس عشره وهو مقيد، فلما مثل بين يدي الأمير نوروز بصق في وجهه، وأفرج عنه، وخلع عليه من غير أن يؤاخذه، فإنه زوج أخته، وكان بين فراره من قلعة دمشق وعوده أربعة وستين يوماً. وفيه أخذ عسكر الأمير نورز غزة، ولحق الأمير جانبك الصوفي ومن معه بصفده وفي تاسع عشره: سار الأمير سودن بن كستا من دمشق على عسكر يريد غزة، فنزل على قبة يلبغا، واستقل بالمسير في حادي عشرينه. وفيه مات الأمير طوغان نائب قلعة الروم، فأخذها الأمير دمرداش.
وفيه قطع الدعاء للخليفة بالحرمين، ودعي للسلطان الملك المؤيد، واستمر يدعى له بالصلاح قبل أن يدعى للسلطان نحو سنة، ثم قطع من أجل أن الدعاء للخليفة بمكة لم يكن يعهد من بعد قتل المستعصم، فكان مدة الدعاء للخليفة بتلك الأماكن نحو خمسة أشهر. وفيه قدم ابن التباني من دمشق.
شهر ذي الحجة الحرام، أوله الجمعة: في ثالثه: خلع على الأمير قرقماس ابن أخي دمرداش بقلعة الجبل، واستقر به السلطان في نيابة الشام، عوضاً عن الأمير نوروز، وخلع أيضاً على الشيخ شرف الدين يعقوب بن التباني، واستقر به في مشيخة خانكاة شيخو، وعزل ناصر الدين محمد بن العديم، وكان قد توجه للحج.
وفي خامسه: تنكر أهل حلب على الأمير يشبك بن أزدمر، فركب عليهم وقاتلهم فغلبوه وهزموه، ففر منهم، وكان الأمير طوخ قد توجه من طرابلس إلى حماة، وأقام بها، فسار أهل طرابلس على مباشريه، وقتلوا أستاداره وولده، وأخرجوا الحاجب بعدما جرح جراحات بالغة.
وفي سادسه: عوقب كاتب السر فتح الله بالضرب على ظهره عقوبة شديدة بالغة وعصر حتى أشفى على الموت، وأهين مع هذا إهانة من يطلب منه ثأر.
وفي ثامنه: حمل من القلعة إلى بيت تقي الدين عبد الوهاب بن أبي شاكر ناظر الخاص، فسجنه في داره، ووكل به، وأخذ في حمل المال المقرر عليه.(3/159)
وفي تاسعه: قدم أقبغا الأسندمري إلى حلب من جهة السلطان، وعلى يده تقليد الأمير دمرداش المحمدي نيابة حلب، وتشريفه، وكان دمرداش قد وصل إليها في يوم الجمعة سابعه، فخرج من مدينة حلب، ولبس تشريف السلطان، وسار به في مركب خليل إلى باب القلعة، فنزل، وصلى هناك ركعتين، وقبك الأرض خدمة للسلطان على العادة، ودعي باسم السلطان بحلب ومعاملتها وضربت السكة باسمه، وحلف الأمراء وأرباب الدولة على الطاعة للسلطان.
وفي ثامن عشرينه: عزل صدر الدين أحمد بن العجمي عن الحسبة بابن شعبان وقد وعد ابن شعبان بخمسمائة دينار يقوم بها، والتزم أن يحمل في كل شهر مائة دينار. وعوق ابن العجمي في بيت الأمير جانبك الدوادار، وألزم بمال يحمله.
وفي هذا الشهر: اشتد الغلاء بمكة أيام الموسم، فأبيع الشعير كل ويبة بدينارين، وكل ويبة فصا - وهو نوي التمر - بدينار ونصف، وكل رطل بشماط بعشرة دراهم فضة. ولم يحج أحد من العراق ولا من اليمن. وعز الفلفل بمكة، لطلب التجار له، فإنه قل بديار مصر، حتى بلغ الحمل إلى مائتين وعشرين مثقالاً من الذهب، بعدما كان بستين مثقالاً، فاشتري منه بمكة للسلطان من حساب خمسة وعشرين مثقالاً الحمل، بمبلغ خمسة آلاف دينار. وحملإلى القاهرة فبلغ الحمل بمكة خمسة وثلاثين ديناراً هرجة، بعدما كان بعشرة مثاقيل.
وفي هذه السنة: توغل الأمير موسى بن عثمان في بلاد النصارى، يأسر وينهب ويحرق، ثم عاد فوجد صاحب الطبول قد عدى بأخيه محمد بن عثمان إليه، وقد خامر الأمراء معه، فجرت بينهم حروب عظيمة.
ومات في هذه السنة
ممن له ذكر سوى من تقدم ذكره
جمال الدين عبد الله بن محمد بن طميان، المعروف بالطيماني الشافعي، قتل بدمشق في الفتنة ليلة الجمعة ثاني صفر، وكان من الفضلاء، وانتقل من القاهرة إلى دمشق وسكنها.
ومات قاضي القضاة شهاب الدين أبو العباس أحمد بن عماد الدين إسماعيل بن خليفة ابن عبد العال الدمشقي، المعروف بابن الحسباني، في يوم الأربعاء عاشر شهر ربيع الآخر، بدمشق، عن خمس وستين سنة وسبعة أشهر وأيام. أفتى، ودرس، وبرع في العربية والفقه والحديث، وولي قضاء دمشق وخطابتها غير مرة، وقدم إلى القاهرة مراراً.
ومات قاضي القضاة محب الدين محمد بن محمد بن الشحتة الحلبي الحنفي في يوم الجمعة ثاني عشر شهر ربيع الآخر، بحلب، عن ست وستين سنة. أفتى ودرس بحلب ودمشق والقاهرة وولي القضاء بحلب ودمشق، وبرع في العربية والأدب وغيره.
ومات الشيخ شهاب الدين أحمد بن محمد بن عماد بن علي بن الهايم المصري الشافعي، بالقدس، في جمادى الآخرة، عن سبع وخمسين سنة، درس بالقدس، وكان قد تحول إليه من القاهرة، وبرع في الحساب والفرائض.
سنة ست عشرة وثمانمائة
أهلت هذه السنة، وسلطان مصر والحرمين الملك المؤيد أبو النصر شيخ المحمودي، والخليفة المستعين بالله، ممنوع من التصرف، موكل به، وأتابك العسكر الأمير يلبغا الناصري. والدوادار الكبير الأمير طوغان الحسني. وأمير أخور الأمير قنباي المحمدي. وكاتب السر ناصر الدين محمد بن البارزي الحموي، وقضاة القضاة على ما كانوا عليه في السنة التي قبلها، ما عدا الحنفي، فإنه قاضي القضاة صدر الدين علي بن الآدمي الدمشقي. والمباشرون على ما كانوا عليه، ما عدا الأستادار، فإنه الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين الطرابلسي، وحاجب الحجاب الأمير أينال الصصلاني، ووالي القاهرة الأمير تاج الدين تاج بن سيفا الشويكي، ونائب الإسكندرية الأمير غرس الدين خليل الجشاري، ونائب غزة الأمير ألطنبغا العثماني، والشام كله بيد الأمير نوروز الحافظي، وهو يدعو على المنابر بها لأمير المؤمنين المستعين بالله، ويضرب السكة باسمه، ويفتتح كتبه التي يبعثها إلى البلاد ومراسيمه التي تصدر عنه، بالإمامي المستعيني. ما خلا حلب، فإنها بيد السلطان، ونائبه بها الأمير دمرداش المحمدي.
شهر الله المحرم أوله الأحد:(3/160)
يوافقه اليوم الثالث من نيسان، واليوم الخامس من برمودة: وسعر الذهب بالقاهرة، ما كان من الهرجة فبمائتين وخمسين درهماً كل مثقال، وما كان من الإفرتني فكل دينار بمائتين وثلاثين درهماً، وما كان من الناصري فبمائتين وعشرة دراهم الدينار، والقمح من مائة وثمانين الأردب إلى ما دونها، وبلغ الكتان كل رطل إلى ثلاثين درهماً. وهذا شيء لم نعهده قط بمصر، فغلا لغلائه جميع أصناف الثياب، حتى أبيع الثوب القطن البعلبكي بعشرين مثقالاً.
وفي رابع عشره: نقل فتح الله محمولاً من بيت ابن أبي شاكر، ولعجزه عن الحركة، وسلم إلى الأمير تاج الدين والي القاهرة، فأنزله بدار أقام بها وحيداً فريداً، يقاسي ألم العقوبة، ويترقب الموت، وخرج من القاهرة جماعة لضبط ما يصل من أصناف المتجر، صحبة الحاج، فساروا إلى عقبة أيلة، ففر كثير من التجار، وتوجهوا نحو الشام، ففات أهل الدولة منهم مال كبير.
وفي عشرينه: سافر الأمير قرقماس ابن أخي دمرداش من القاهرة يريد أخذ دمشق.
وفي رابع عشرينه: قدم الأمير بيبغا المظفري بالمحمل وبقية الحاج.
وقدم الخبر بمفارقة الأمير تغري بردى ابن أخي دمرداش لدمشق، وقدومه إلى صفد منتمياً إلى السلطان، فسر بذلك، ودقت البشائر بقلعة الجبل، واشتد الأمر على صدر الدين أحمد بن العجمي في حمل ما ألزم به، وهو خمسمائة دينار، وقد تأخرت عليه من ألف دينار، فباع موجوده، وأورد نحو ثلاثمائة دينار.
وفي هذا الشهر: تزايد الطاعون في الناس بالقاهرة ومصر، وكان ابتداؤه من أخريات ذي الحجة الحرم، وهب يوم النحر ريح في غاية الشدة من ناحية الجنوب، واستمرت أياماً، ففشا الطاعون والحميات الحادة المحرقة في الناس، لاسيما الأطفال والشباب.
وأهلت السنة، ويموت في كل يوم ممن يرد الديوان ما بين العشرين إلى الثلاثين، والوقت ربيع. وقد صار حاراً يابساً، ورياحه كلها جنوبية، وحره خارج عن المعتاد، فكثر الوباء، وناف عدة من يرد الديوان على المائة.
وفي سلخه: أفرج عن صدر الدين بن العجمي، وخلع عليه، وقرر في نظر المواريث، وأفردت عن الوزير، وألزم أن يحمل ما يتحصل من ذلك إلى خزانة السلطان.
وفي هذا الشهر: ثار بالسلطان وجع المفاصل.
شهر صفر، أوله الاثنين: أهل والوباء يتزايد، ثم تناقص من نصفه. وذلك أن الشمس لما نقلت إلى برج الثور رطب الحر المحرق، واستمر الوقت رطباً مدة عشرين يوماً، ثم انقلب الزمان في آخر برج الثور إلى حر مفرط، وعوم محرقة، فتزايدت الأمراض، حتى تجاوز عدد من يرد الديوان من الأموات مائة وعشرين، فعز وجود البطيخ الصيفي من كثرة ما يطلب للمرضى، حتى بيعت نصف بطيخة بخمسمائة درهم، عنها مثقالان من الذهب، وعز أيضاً وجود الماء وأقبل الناس في أخذ جمال السقائين، فبلغت الراوية خمسة عشر درهماً، وأبيعت خمس بطيخات بألفي درهم، عنها ثمانية مثاقيل ذهباً.
وفي تاسعه: سار الأمير قرقماس ابن أخي دمرداش من غزة، وقد وصل إليها يريد صفد، ومعه أخوه تغري بردى نائب حماة، وقد بعث إليه السلطان بولايتها، وخرج الأمير ألطنبغا العثماني في أثرهما من الغد، لمساعدتهما، فبلغهم عود الأمير نوروز من حلب إلى دمشق، فأقاموا على الرملة.
وفي ثامن عشرينه: قدم أقبغا الأسندمري بجواب الأمير دمرداش ونواب القلاع بطاعتهم، وصحبته قاصد عثمان بن طر علي وغيره من أمراء التركمان، ودمرداش، والفضة المضروبة بالصكة المؤيدية.
شهر ربيع الأول، أوله الثلاثاء، ثم استقر الأربعاء: وفي ثانيه: منع خدم فتح الله من الدخول إليه، فأقام إلى ليلة الأحد سادسه، فخنق وأخرج به من الغد، فدفن بتربته خارج باب المحروق. ولم يشيع جنازته أحد من الناس. وفيه وقع حريق في الدور بقلعة الجبل عظم أمره، واستمر إلى يوم الأربعاء تاسعه، وهم في إطفائه فاحترق فيه رجل ومات.
وفي سابعه: سمر الأمير فارس المحمودي، ثم وسط تحت القلعة، وهو أحد أمراء الطبلخاناه من الأيام الناصرية، وسبب ذلك أنه وشي للأمير طوغان الدوادار، وللأمير شاهين الأفرم بأن السلطان الملك المؤيد عزم على قبضهما، فاجتمعا بالسلطان وأعلماه بذلك، فقبض عليه وقتله.
شهر ربيع الآخر، أوله الجمعة: في أوله حمل الأمير قصروه إلى ثغر الإسكندرية، فسجن بها.(3/161)
وفي ثامن عشره: خلع على شهاب الدين أحمد بن محمد بن محمد المغربي المالكي الأموي قاضي دمشق، واستقر في قضاء القضاة بديار مصر، وعزل شمس الدين محمد ابن المدني.
وأما أخبار الشام، فإن الأمير نوروز كتب في خامس عشرين المحرم كتاباً إلى السلطان الملك المؤيد أبو النصر شيخ جرى فيه على عادته من مخاطبته بمولانا، وافتتحه بالإمامي المستعيني. ولم يخاطبه فيه كما يخاطب السلطان، فكان يتضمن العتب على ولايته الأمير دمرداش حلب، وابن أخيه الأمير تغري بردى حماة، وبن أخيه الآخر الأمير قرقماش طرابلسي وتقديمهم عليه، وقد تقدمت بينهما عهود، فإن كان القصد أن يستمر على الأخوة، ويقيم على العهد فلا يتعرض إلى ما هو بيده، وينقل دمرداش من نيابة حلب إلى نيابة طرابلس، ويستقر قرقماش أميراً بمصر. ثم خرج من دمشق يريد محاربة دمرداش، حتى نزل حماة في تاسع صفر.
فلما بلغ ذلك الأمير دمرداش، خرج من حلب في حادي عشره، ومعه الأمير بردبك أتابك حلب، والأمير شاهين الأيدكاري الحاجب، والأمير أردبغا الرشيدي، والأمير جربغا، وبقية العسكر. ونزل العمق، فحضر إليه الأمير كردي بن كندر، وأخوه الأمير عمر، وأولاد أوزر، ودخل الأمير نوروز إلى حلب في ثالث عشره، بعدما تلقاه الأمير أقبغا جركس نائب القلعة بالمفتاح، فولى الأمير طوخ نيابة حلب، والأمير يشبك السامي نيابة قلعتها، وعمر بن الهيذباني حاجب الحجاب، والأمير قمش نيابة طرابلس. ثم خرج منها في تاسع عشره، ومعه الأمير يشبك بن أزدمر يريد دمشق، فقدمها في سادس عشرينه. وسار الأمير دمرداش بمن معه إلى حلب فنزل على بانقوسا في هذا اليوم، فقاتله النوروزية قتالاً شديداً إلى ليلة ثامن عشرينه، قدم عليه الخبر بأن العجل بن نعير قد أقبل لمحاربته نصرة للأمير نوروز، فلم يثبت لعجزه عنه، ورحل من ليلته إلى العمق، ثم سار إلى أعزاز، فأقام بها.
فلما كان عاشر ربيع الأول: بعث طوخ نائب حلب عسكراً إلى سرمين، وبها آق بلاط - دوادار الأمير دمرداش - فكبسوه، فثار عليهم، هو وشاهين الأيدكاري، ومن معهما من التراكمين، وقاتلوهم، وأسروا منهم كثيراً، بعثوا بهم إلى دمرداش، فسجن أعيانهم في قلعة بغراص، وجدع أنافي أكثرهم، وأطلقهم عراة، وقتل بعضهم. فعندما بلغ طوخ الخبر ركب من حلب، ومعه قمش إلى تل السلطان، وقد نزل عليه العجل بن نعير، وسألاه أن يسير معهما لحرب دمرداش، فأنعم بذلك، وتأخر قليلاً. فبلغهما أنه قد اتفق مع دمرداش على مسكهما فاستعدا له، وترقباه حتى ركب إليهما في نفر قليل، ونزل عندهما ودعاهما إلى ضيافته، وألح عليهما في ذلك. فثار به، ومعهما جماعة من أصحابهما، فقتلوه بسيوفهم، في رابع عشرين ربيع الأول ورحلا من فورهما عائدين إلى حلب، وكتبا بالخبر إلى نوروز، وطلبا منه النجدة، فإن حسين ابن نعير جمع العرب، ونزل على دمرداش، وسار به إلى حلب، وحصرها، فصعد طوخ وقمش إلى القلعة، واشتد القتال بينهم، فانهزم دمرداش.
واتفق في ربيع الأول أيضاً أن شخصاً يسمى عثمان بن أحمد بن عثمان بن محمود ابن محمد بن علي بن فضل بن ربيعة، يعرف بابن ثقالة، من فقهاء دمشق، قدم إلى أرض عجلون، وادعى في أوله أنه السفياني، وظهر بقرية الجيدور وحلف أهل البلاد وأقطع الإقطاعات، وأمر عدة من الناس، وقال: أنا السلطان الملك الأعظم السفياني، فاجتمع عليه خلق كثير، من عرب وترك وعشير، بألوية خضر إلى وادي البايس من جبل عوف بمعاملة عجلون، وبث قصاده بكتبه، ووقع عليها تحت البسملة السمياني، ونصها: إلى حضرة فلان أن يجمع فرسان هذه الدولة السلطانية، الملكية، الإمامية، الأعظمية، الربانية، المحمدية، السفيانية، أعلاها الله تعالى وشرفها، وأنفذها في الآفاق، وصرفها ويحضروا بخيلهم ورجالهم وعددهم، مهاجرين إلى الله ورسوله، ومجاهدين في سبيل الله تعالى، ومقاتلين، لتكون كلمة الله هي العليا، والاعتماد على العلامة الشريفة أعلاه أعلاها الله تعالى.(3/162)
ثم دخل عجلون في تاسعه، بعسكر كبير، فيه سلاح دارية، وطبر دارية، فاقطع الاقطاعات، وكتب على القصص، يكتب كما يكتب السلطان، فقبل الناس الأرض بين يديه في ساعة واحدة، وهم زيادة على خمسمائة رجل، في وقت واحد معاً، وحطب له على منبر عجلون، فقيل السلطان الملك الأعظم السفياني، ونادي ببلاد عجلون أن مغل هذه السنة يسامح به الناس فلا يؤخذ منهم منه، وفيما بعدها يؤخذ منهم العشر فقط، ويترك أخذ الخراج وأخذ المكس، فإن حكم الترك قد بطل، ولم يبق إلا حكم أولاد الناس.
فثار عند ذلك غانم الغزاوي به، وجهز إليه طائفة طرقوه وهو بالجامع وقاتلوه، وقبضوا عليه، وعلى ثلاثة من أصحابه، بعدما ركب وقاتلهم، فاعتقل الأربعة بقلعة عجلون. وكتب بالخبر إلى السلطان، فنقله إلى قلعه صفد، واعتقله بها.
ثم إن الأمير نوروز سار من دمشق يريد غزة، ففر منها قرقماس ابن أخي دمرداش بمن معه، ونزل على الصالحية بطرف الرمل، وعاد نوروز من غزة إلى دمشق، فقدمها في ثامن عشر شهر ربيع الآخر هذا.
شهر جمادى الأولى، أوله الأحد: في يوم الأربعاء رابعه: أوفى النيل ستة عشر ذراعاً، فركب السلطان، وعدى النيل حتى خلق المقياس بين يديه، وفتح الخليج على عادة من تقدمه من الملوك فكان ذلك تاسع مسرى، فقال الأديب تقي الدين أبو بكر بن حجة الحموي - أحد ندماء السلطان - يخاطبه:
أيا ملكاً بالله أضحى مؤيداً ... ومنتصباً في ملكه نصب تمييز
كسرت بمسرى نيل مصر وتنقضي ... وحقك بعد الكسر أيام نوروز
وفي يوم الخميس خامسه: قبض السلطان على تقي الدين عبد الوهاب بن أبي شاكر ناظر الخاص، واعتقله بقلعة الجبل، وأحاط بعامة أسبابه وحاشيته، وقبض أيضاً على الوزير الصاحب سعد الدين إبراهيم بن بركة البشيري، وخلع علي تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم، واستقر به في الوزارة، فعاد إلى زي الكتاب، كما كان قبل أن يلي الأستادارية. وتسلم ابن البشيري، ونزل به إلى داره.
وفي يوم السبت ثامنه: خلع على الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله ناظر الجيش، واستقر في نظر الخاص، عوضاً عن ابن أبي شاكر، وخلع على علم الدين داود ابن الكويز، واستقر في نظر الجيش، عوضاً عن ابن نصر الله.
وفي حادي عشره: ضرب شمس الدين محمد ابن الحاج عمر بن شعبان، محتسب القاهرة بين يدي السلطان بالإسطبل أكثر من ثلاثمائة ضربة بالعصي، وكتب عليه إشهاد، وحلف أنه لا يسعى في وظيفة الحسبة.
وفي يوم الخميس المبارك ثاني عشره: خلع على قاضي القضاة صدر الدين علي بن الآدمي الحنفي، وأضيف إليه حسبة القاهرة، عوضاً عن ابن شعبان، ولم نعهد قبله الحسبة أضيفت إلى قاضي القضاة.
وفيه خلع الأمير جانباك الصوفي، واستقر رأس نوبة النوب، عوضاً عن الأمير سودن الأشقر، وكان جانباك قد قدم من غزة هو وألطنبغا العثماني وتغري بردى، قرقماس ابنا أخي دمرداش، فأقام الخوان على قطيا، ودخل جانباك والعثماني إلى القاهرة قبل يومه. وفيه خلع على الأمير سودن الأشقر، واستقر أمير مجلس.
وفي سادس عشره: أشيع بالقاهرة أن الأمير طوغان الدوادار استعد للركوب على السلطان، وقد اتفق معه جماعة من الأمراء والمماليك، فلما كان الليل انتظر أن يأتيه أحد من أصحابه، فلم يأته، حتى قرب الفجر، فرأى مملوكين، وأصبح الناس يوم الثلاثاء سابع عشره يتوقعون الحرب، والأسواق مغلقة، فنادى السلطان بالأمان، وأن من أحضر طوغان فله ما عليه، مع خبز في الحلقة. ولم يحرك ساكن إلى ليلة الجمعة عشرينه، ووجد طوغان قد اختفي بمدينة مصر، فأخذ وحمل إلى القلعة، وأرسل إلى الإسكندرية مع الأمير طوغان المؤيدي أمير أخور، فسجن بها.
وفي يوم السبت حادي عشرينه: قبض على الأمير سودن الأشقر أمير مجلس والأمير كمشبغا العيساوي أمير شكار، وتوجه بهما الأمير برسباي، فسجنهما بالإسكندرية.
وفي ثاني عشرينه: وسط أربعة أحدهم مغلباي نائب القدس من جهة نوروز وكان الأمير قرقماس ابن أخي دمرداش قد قبض عليه، وبعثه إلى السلطان واثنان من مماليك السلطان، وآخر من أصحاب طوغان الدوادار.(3/163)
وفي يوم الاثنين ثالث عشرينه: أنعم بإقطاع طوغان الدوادار على الأمير أينال الصصلاني، وبإقطاع الأمير سودن الأشقر على الأمير تنباك البجاسي نائب الكرك، وخلع على الصصلاني، واستقر أمير مجلس، عوضاً عن سودن الأشقر، وخلع على الأمير قجق، واستقر حاجب، عوضاً على الصصلاني، وخلع على الأمير شاهين الأفرم خلعة الرضى، لأنه اتهم بممالأة طوغان.
وفي ثامن عشرينه: خلع على الأمير جانباك، أحد المماليك المؤيدية، والدوادار الثاني من أمراء الطبلخاناة، واستقر دواداراً كبيراً، عوضاً عن طوغان. وخلع على الأمير شرباش كباشة، واستقر أمير جاندار.
وفي يوم الاثنين سلخه: خلع على الأمير فخر الدين عبد الغني بن أبي الفرج كاشف الشرقية والغربية، واستقر أستاداراً، وعزل الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين، وخلع على الأمير بدر الدين، واستقر مشير الدولة. ولم يكن في جمادى الآخرة كثير شيء تجدد.
شهر رجب، أوله الجمعة: في سادسه: قدم من دمشق الأمير جار قطلو أتابكها، فاراً من نوروز، فخلع عليه.
وفي ثامنه: أعرس الأمير صارم الدين إبراهيم ابن السلطان بابنة الملك الناصر خوند التي كانت تحت الأمير بكتمر جلق، وعمل مهم حسن.
وفي ثاني عشره: قدم الأمير ألطنبغا القرمشي نائب صفد باستدعاء، وقد استقر عوضه في نيابة صفد الأمير قرقماس ابن أخي دمرداش، وعزل عن نيابة الشام من أجل أنه لم يتمكن منها. وصار يتردد من حين خرج من القاهرة فيما بين غزة والرملة واستقر أخوه تغري بردى في نيابة غزة، عوضاً عن الأمير ألطنبغا العثماني.
وفي خامس عشره: خرج الأمير نوروز من دمشق يريد صفد، فنزل من الغد على القنيطرة، قريباً من طبرية وكان قرقماس ابن أخي دمرداش قد قدم إلى صفد، فلما بلغه ذلك قصد أن يسكن قلعتها بمماليكه، وينزل فيها معه أخاه تغري بردى، فلم يتمكن من ذلك فجرد، وركب من يوم الجمعة خامس عشره، وعاد إلى الرملة. وبعث الأمير نورز أينال دواداره إلى بيسان لجمع العشير.
وفي تاسع عشره: قدم الأمير بيسق الشيخي من بلاد الروم، وكان الملك الناصر أخرجه إليها. وفيه أيضاً خلع علي تقي الدين عبد الوهاب بن أبي شاكر، واستقر أستادار الذخيرة والأملاك، كما كان بعد جمال الدين الأستادار قبل أن يلي نظر الخاص. وذلك بعدما عصر وضرب، وأخذ منه نحو خمسين ألف دينار.
وفي عشرينه: خلع على الأمير منكلي بغا العجمي، أحد دوادارية الملك الظاهر برقوق الصغار، واستقر حاجباً ومحتسب القاهرة، عوضاً عن قاضي القضاة صدر الدين علي بن الآدمي. ولم يعهد قبل ذلك تركياً تولى الحسبة.
وفي هذا الشهر: انتهت زيادة النيل إلى خمسة عشره إصبعا وعشرين ذراعاً.
وفيه فشت الأمراض في الناس من حميات، ونزلات، وسعال. فعز السكر النبات والرمان، حتى بلغا أربعة أمثال سعرهما، وكانت أمراض سليمة، لم يكن معها موتان وقدم الخبر أنه كان ببلاد الروم فناء عظيم، وأنه امتد إلى حلب وحماة، وفشت الأمراض بدمشق، كما فشت بأرض مصر.
شهر شعبان، أوله الأحد: في سابع عشره: عزل صدر الدين أحمد بن العجمي من نظر المواريث، وتحدث فيها الطواشي زين الدين مرجان الهندي خازندار السلطان.
وفي ثامن عشرينه: قدم الأمير قرقماس ابن أخي دمرداش، فأكرمه السلطان وخلع عليه، وأنزله. وذلك أن الأمير نوروز لما توجه من دمشق يريد صفد، وبعث يجمع الرجال، لم يثبت الأخوان تغري بردى وقرقماس، فسارا إلى مصر، وقدم قرقماس إلى مصر، وأقام أخوه تغري بردى على قطيا، وهذه كانت عادتهما في الأيام الناصرية، أنهما لا يجتمعان عنده قط حذراً من القبض عليهما، وإنما إذا اضطر أحدهما وحصر إليه، كان الآخر نائباً عنه.
شهر رمضان، أوله السبت: فيه قدم الأمير دمرداش المحمدي، فأجل السلطان مقدمه، وخلع عليه خلعة جليلة إلى الغاية، ونزل إلى داره، وكان من خبره أنه لما انهزم على حلب - كما تقدم ذكره - اجتمع إلى أصحابه وقد تحير في أمره، بين أن ينتمي إلى الأمير نوروز ويصير معه على رأيه - وكان نوروز قد بعث إليه بألف دينار، ودعاه إليه - وبين أن يقدم على السلطان، فأشار عليه جل أصحابه بالانتماء إلى نوروز، فلم يوافقهم، وركب البحر حتى نزل دمياط، واستأذن في القدوم، فأذن له السلطان.(3/164)
وفي سادسه: خلع على صدر الدين أحمد بن العجمي، واستقر في مشيخة التربة التي أنشأها الملك الناصر فرج على قبر أبيه الملك الظاهر برقوق، خارج باب النصر، وعزل عنها زين الدين حاجي. وفيه كتب بنقل الأميرين سودن الأشقر، وكمشبغا العيساوي من سجن الإسكندرية إلى دمياط.
وفي سابعه: بعث السلطان الأمير سودن القاضي والأمير قجقار القردمي، والأمير أقبردي رأس نوبة، والأمير يشبك شاد الشرابخاناه إلى الشرقية، وأظهر أنهم خرجوا لكبس المفسدين من العربان. وأسر إليهم أن يقبضوا على الأمير تغري بردى ابن أخي دمرداش - المعروف بسيدي صغير - وكان نازلاً على الصالحية، فساروا.
وفي ليلة السبت ثامنه: استدعى السلطان الأمراء للفطر عنده، ومد لهم سماطاً يليق بهم، فأكلوا معه، وتباسطوا فلما رفع السماط، قبض على الأمير دمرداش المحمدي وعلى ابن أخيه الأمير قرقماس، وقيدهما، وبعثهما من ليلته إلى الإسكندرية، فاعتقلا بها.
وفي يوم الاثنين عاشره: قدم الأمراء ومعهم الأمير تغري بردى ابن أخي دمرداش، مقيداً فسجن بقلعة الجبل، ثم قتل في آخر شوال، وأراح الله بالقبض على هؤلاء الثلاثة فتناً كثيرة، وأراح منهم العباد والبلاد، فإنهم كانوا قد أكثروا في الأرض الفساد، من لإقامة الفتن وإثارة الشرور.
وفي هذا اليوم أيضاً: خلع على قاضي القضاة ناصر الدين محمد ابن قاضي القضاة كمال الدين عمر بن العديم الحنفي، وأعيد إلى قضاء القضاة الحنفية بديار مصر، عوضاً عن صدر الدين علي بن الآدمي، بعد موته.
وفي ثالث عشره: خلع على الأمير قنباي المحمدي أمير أخور كبير، واستقر في نيابة الشام، ونزل من باب السلسلة في يومه، فسكن بداره، وخلع أيضاً على الأمير أينال الصصلاني أمير مجلس، واستقر في نيابة حلب، وخلع أيضاً على الأمير سودن قراصقل، واستقر في نيابة غزة. وخلع على الأمير ألطنبغا القرمشي، واستقر أمير أخور كبيراً، عوضاً عن الأمير قنباي.
شهر شوال، أوله الاثنين: في ثامنه: خلع على الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين المشير، واستقر في نيابة الإسكندرية، وعزل خليل الجشاوي.
وفي حادي عشرينه: خلع على صدر الدين أحمد بن العجمي، وأعيد إلى نظر المواريث. وتسلم ذلك من الطواشي مرجان.
شهر ذي القعدة، أوله الثلاثاء: في يوم الخميس ثالثه: عدى السلطان النيل، ونزل على أوسيم، فألزم الأمير التاج والي القاهرة النصارى واليهود بحمل ثلاثمائة مروقة حمر، فوزعت على الأسارى المعروفين ببيع الخمر، وعلى بقية النصارى، وعلى طوائف اليهود الثلاث، وجبيت منهم بعنف وعسف وضرب، وأخذ الخمر من النصارى بالمقارع، واحتاج الجميع إلى كلف كثيرة لأعوان الوالي، ولمن حمل الجرار إلى بر الجيزة، حيث أمروا، وطلب أيضا باعة الفواكه وأصحاب البساتين أن يحملوا النرجس ونحوه من المشموم، فجبي ذلك منهم، حتى عز وجود البنفسج بعد ذلك، وأبيع بخمسة وعشرين درهماً الباقة بعد درهم. وأقام السلطان إلى يوم الاثنين حادي عشرينه، وعدى النيل، وصعد إلى قلعة الجبل، فنصب جاليش السفر من يومه، وأخذ في التأهب هو والأمراء.
وفي خامس عشرينه: جلس السلطان لعرض الأجناد المماليك. وفيه توجه الأمير أينال الصصلاني نائب حلب، والأمير سودن قرا صقل نائب غزة، إلى جهة الشام، ونزلا بالريدانية خارج القاهرة.
شهر ذي الحجة أوله الخميس، ثم استقر الأربعاء:(3/165)
في سادس عشره: توجه الأمير قنباي المحمدي نائب الشام إليها، ونزل بالريدانية. وفيه استدعى السلطان داود بن المتوكل على الله من داره، فحضر بين يديه بقلعة الجبل، وقد حضر قضاة القضاة الأربع، فعندما رآه قام له، وقد ألبسه خلعة سوداء، وأجلسه بجانبه، بينه وبين قاضي القضاة شيخ الإسلام جلال الدين بن البلقيني، فدعا القضاة، وانصرفوا على أن داود بن المتوكل على الله استقر في الخلافة، ولم يقع خلع الخليفة المستعين بالله تعالى، ولا أقيمت بينه بما يوجب شغور الخلافة عنه، ولا بويع داود هذا، بل خلع عليه فقط، ولقب بأبي الفتح المعتضد بالله أمير المؤمنين. وكانت العادة بديار مصر أن يدعى على منابرها أيام الجمع، وفي الأعياد للخليفة، ويذكر كنيته ولقبه، من حين المستعين بالله في أيام المعتضد غير أن من الخطباء من يقول: اللهم أصلح الخليفة من غير أن يعينه، ومنهم من يقول: اللهم أيد الخلافة العباسية ببقاء مولانا السلطان ومنهم من يقتصر على الدعاء للسلطان. وفيه أنفق السلطان على المماليك مائة دينار ناصري لكل واحد، برسم السفر.
وفي عشرينه: خرج الأمير سودن من عبد الرحمن ونزل بالريدانية، وخرج الأمير سودن القاضي أيضاً. وفيه رحل الأمير قنباي نائب الشام من الريدانية. وفيه خلع على شمس الدين محمد بن التباني قاضي العسكر، واستقر في قضاء القضاة الحنفية بدمشق.
وفي سابع عشرينه: نصب خام السلطان تجاه مسجد تبر، من أجل سفره إلى الشام. وفيه قدم مبشرو الحاج، وأخبروا بأن الوقفة كانت يوم الجمعة.
وفي ثامن عشرينه: تنكر السلطان على الوزير تاج الدين بن الهيصم، وضربه وبالغ في إهانته، ثم خلع عليه خلعة الرضا.
ذي الحجة: وفي هذا الشهر قدم الأمير فخر الدين بن أبي الفرج من بلاد الصعيد، في ثالث عشرينه، بخيل وجمال وأبقار وأغنام كثيرة جداً، وقد جمع المال من الذهب وحلي النساء مع السلاح والغلال وغير ذلك من العبيد والإماء والحرائر اللاتي، استرقهن. ثم وهب منهن وباع باقيهن. وذلك أنه عمل في بلاد الصعيد كما تعمل رءوس المناسر إذا هم هجموا ليلاً على القرية وتمكنوا بها، فإنه كان ينزل على البلد فينهب جميع ما فيها من غلال وحيوان، وسلب النساء حليهن وكسوتهن، بحيث لا يسير عنها إلى غيرها حتى يتركها أوحش من بطن حمار، فخرب بهذا الفعل بلاد الصعيد تخريباً يخشى من سوء عاقبته، فلما قدم إلى القاهرة شرع في رمي الأصناف المذكورة على الناس من أهل المدينة وسكان الريف بأغلى الأثمان، ويحتاج من ابتلي بشيء من ذلك أن يتكلف لأعوانه من الرسل ونحوهم شيئاً كثيراً، سوى ما عليه من ثمن ما رمى عليه. وفيها ملك برصا الأمير محمد بن عثمان بعد قتل أخيه موسى.
وفيها نزل الأمير محمد بن قرمان على مدينة برصا وحرقها وحصر قلعتها، حتى كاد أن يملكها، فلما بلغه قتل الأمير موسى رحل إلى بلاده.
ومات في هذه السنة
ممن له ذكر سوى من تقدم ذكره:
الأمير عمر بن السلطان الملك المؤيد شيخ، في خامس عشرين صفر، وقد تجاوز عشر سنين، فدفن بالقبة التي أنشأها الملك الناصر فرج بن برقوق تجاه قبة أبيه الظاهر برقوق التي على قبره.
ومات شمس الدين محمد بن أحمد بن خليل الغراقي - بفتح الغين المعجمة وتشديد الراء المهملة وكسر القاف - الشافعي، رحمه الله، الأربعاء، خامس شهر شعبان، بعدما تصدى بالجامع الأزهر من القاهرة عدة سنين للتدريس في الفقه والفرائض والحساب طول نهاره، وكان بارعاً في ذلك، وكان على طريقة مشكورة.
ومات فخر الدين عثمان بن إبراهيم بن أحمد البرماوي الشافعي شيخ الإقراء بالمدرسة الظاهرية برقوق، في يوم الاثنين تاسع عشر شعبان فجأة وقد خرج من الحمام. وكان إماماً بارعاً في معرفة القراءات وتوجيهها، عارفاً بالفقه والحديث والعربية، جميل الشام.
ومات قاضي القضاة صدر الدين علي بن أمين الدين محمد بن محمد بن الآدمي الدمشقي الحنفي، في يوم السبت ثامن شهر رمضان، وقد تجاوز الأربعين. وكان أديباً بارع النظم، ونظر في الفقه، ذكياً. ولي قضاء القضاة الحنفية بدمشق والقاهرة، وولي كتابة السر، ونظر الجيش بدمشق، ولم يكن مرضي الديانة.(3/166)
ومات الشيخ شهاب الدين أحمد بن علاء الدين حجي بن موسى السعدي الحسباني الأصل، الدمشقي المولد والوفاة، في ليله الجمعة سادس المحرم، عن خمس وستين سنة، ولي خطابة جامع بني أمية، ودرس وأفتى، وقدم القاهرة في الرسالة عن الأمير شيخ قبل أن يلي السلطنة، وكان عارفاً بالفقه والحديث والعربية.
ومات قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن ناصر بن خليفة الباعوني الشافعي، في رابع المحرم، ومولده بقرية باعونة من قرى عجلون، في سنة إحدى وخمسين وسبعمائة، تخميناً. ولي قضاء القضاة بدمشق، وخطابة بيت المقدس. ودرس وقال الشعر، وقدم القاهرة.
ومات قاضي القضاة شمس الدين محمد بن محمد بن عثمان الدمشقي، الشافعي، المعروف بابن الأخناي، في نصف شهر رحب، عن نحو ستين سنة. ولي قضاء القاهرة بغزة ودمشق وحلب وديار مصر عدة سنين، وكان قليل العلم.
ومات الأمير مبارك شاه الظاهري في شهر رمضان، ولي كشف الوجه القبلي، ووزارة الديار المصرية، والأستادارية، والحجوبية. وكان تبعاً يخدم الملك الظاهر برقوق وهو جندي، فرقاه لما تأمر ثم لما تسلطن.
ومات قاضي المدينة النبوية زين الدين أبو بكر بن حسين بن عمر بن عبد الرحمن بن أبي الفخر بن نجم العثماني المراغي، المعروف بابن حسن الشافعي، في سادس عشر ذي الحجة، وقد قارب التسعين. كان من الفقهاء الفضلاء، شرح منهاج النووي، وكتب تاريخاً للمدينة النبوية. وولي قضاءها وخطابتها وإمامتها. وهو من مصر، وسكن المدينة حتى مات.
ومات الشيخ برهان الدين إبراهيم بن محمد بن بهادر بن أحمد القرشي النوفلي الغزي الشافعي، المعروف بابن زقاعة - بضم الزاي المعجمة وتشديد القاف وفتح العين المهملة - في ثاني عشرين ذي الحجة، عن اثنتين وسبعين سنة، أخبرني مراراً أن مولده سنة خمس وأربعين وسبعمائة، كان عارفا بعدة فنون من الأعشاب وغيرها، وله نظم كثير وتقدم في الأيام الظاهرية برقوق، واشتمل على عقيدته.
ومات شهاب الدين أحمد المعروف بابن الشنبل - بضم الشين المعجمة، ثم نون ساكنة بعدها باء موحدة مضمومة - الحمصي الشافعي، قدم القاهرة وولي منها قضاء القضاة بدمشق في آخر سنة ست وثمانمائة، ثم عزل بعلاء الدين علي بن أبي البقاء بعد أشهر، وكان عارفاً بالفقه، خفيفاً، طائشاً.
سنة سبع عشرة وثمانمائة
أهلت هذه السنة، وخليفة الوقت المعتضد بالله أبو الفتح داود بن المتوكل على الله أبي عبد الله محمد، والسلطان الملك المؤيد أبو النصر شيخ المحمودي الظاهري، وأتابك العساكر الأمير الكبير يلبغا الناصري، وقاضي القضاة شيخ الإسلام جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن ابن قاضي القضاة شيخ الإسلام سراج الدين أبي حفص عمر بن رسلان بن نصير بن صالح البلقيني الشافعي، وقاضي القضاة الحنفية ناصر الدين محمد ابن كمال الدين عمر بن العديم الحلبي، وقاضي القضاة المالكية شهاب الدين أحمد بن محمد بن محمد الأموي المغربي، وقاضي القضاة الحنابلة مجد الدين سالم بن سالم بن أحمد ابن سالم بن عبد الملك المقدسي، وكاتب السر ناصر الدين محمد بن عثمان بن البارزي الحموي، والوزير الصاحب تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم، وناظر الخاص الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله بن حسون الفوي، وناظر الجيش علم الدين داود بن زين الدين عبد الرحمن بن الكويز الكركي. والأستادار الأمير فخر الدين عبد الغني ابن الأمير الوزير تاج الدين عبد الرزاق بن أبي الفرج، ونائب الإسكندرية الأمير المشير بدر الدين حسن بن محب الدين عبد الله الطرابلسي، ونائب عزة الأمير سودن قرا صقل. والشام كله بيد الأمير نوروز الحافظي ويقيم الخطة ويضرب السكة باسم أمير المؤمنين المستعين بالله، وهو مقيم في داره بقلعة الجبل، وقد منع من التصرف.
شهر الله المحرم، أوله يوم الجمعة: أهل وسعر الدينار الهرجة بمائتي درهم وخمسين درهماً، والدينار الأفرنتي بمائتي درهم وثلاثين درهماً، والدينار الناصري بمائتي درهم وعشرة دراهم، وهو أكثرها وجوداً، والفلوس هي النقد الرائج الذي ينسب إليه قيم المبيعات، وأجر الأعمال، وصرف الذهب، وسعر الأردب من القمح من مائة وأربعين إلى ما دونها، ويباع في الريف كل ثلاثة أرادب مصرية بناصري، وثياب القطن والكتاب في غاية من الغلو.(3/167)
وفي ثالثه: هبت ريح شديدة تلاها رعد مرعب، ومطر غزير، وسقط مع ذلك بمدينة مصر خاصة برد بقدر البندقة كثير جداً، بحيث ألقى على أسطحة الدور منه قناطير، وأخرب عدة دور، فخزن الناس منه شيئاً كثيراً وبيع في الأسواق بعد ذلك كل رطل بستة دراهم، ولم يسقط منه بالقاهرة شيء البتة.
وفي يوم الاثنين رابعه: ركب السلطان من قلعة الجبل بعد طلوع الفجر، وسار إلى مخيمه بالريدانية تجاه مسجد تبر من غير تطليب في قليل من العسكر، ثم خرجت الأطلاب في أثناء النهار، وعمل نائب الغيبة الأمير ألطنبغا العثماني، وأنزله بباب السلسلة، وعمل بالقلعة الأمير بردى قصقا. وكان قد قدم إلى القاهرة مع الأمير دمرداش المحمدي من حلب في البحر، فأنعم عليه السلطان بإمرة مائة، ووكل بباب الستارة الأمير صماي الحسني، وجعل للحكم بين العامة الأمير قجق حاجب الحجاب.
وفي يوم الجمعة ثامنه: رحل الأمير يلبغا الناصري من الريدانية خارج القاهرة جاليش بمن معه من الأمراء. وفيه خلع علي زين الدين حاجي، وأعيد إلى مشيخة التربة الظاهرية برقوق خارج باب النصر، عوضاً عن صدر الدين أحمد بن العجمي، وخلع علي صدر الدين، واستقر في نظر الجيش بدمشق، وأعيدت المواريث إلى ديوان الوزارة كما كانت.
وفي يوم السبت تاسعه: استقل السلطان بالمسير من طرف الريدانية يريد محاربة الأمير نوروز، ومعه الخليفة المعتضد بالله داود، وقضاة القضاة الأربع، وأرباب الدولة، ما عدا الأمير فخر الدين الأستادار، فإنه تأخر بالقاهرة إلى يوم الجمعة خامس عشره، وخرج يريد المشي في بلاد الوجه البحري ليجبي أموالها، فنزل مدينة قليوب، ثم رحل منها وقد ذعر منه أهل النواحي خوفاً بما نزل منه بأهل الوجه القبلي، فبعث رسله واستدعى أكابر البلاد، وقرر عليهم أموالاً جبيت منهم، ثم عاد بعد أيام بأحمال موفرة ذهباً، وتوجه إلى السلطان.
وفي يوم الثلاثاء عشرينه: نزل السلطان بغزة، ورحل منها في تاسع عشرينه.
شهر صفر أوله الأحد: في ثامنه: نزل السلطان على قبة يلبغا - خارج دمشق - وقد استعاد نوروز وحصن القلعة والمدينة، فأقام السلطان أياماً، ثم رحل ونزل بطرف القبيبات. وكان السلطان - من الخربة - قد بعث قاضي القضاة مجد الدين سالم الحنبلي إلى الأمير نوروز ومعه قرا أول المؤيدي في طلب الصلح، فامتنع من ذلك، ووقعت الحرب، فانهزم نوروز، وامتنع بالقلعة في سادس عشرينه ونزل السلطان بالميدان، وحاصر القلعة، ورمى عليها بالمكاحل، والمدافع والمنجنيق، حتى بعث نوروز بالأمير قمش الأمان، فأجيب، ونزل من القلعة، ومعه الأمراء طوخ، ويشبك بن أزدمر، وسدن كستا، وقمش، وبرسبغا، وأينال، فقبض عليهم جميعاً في حادي عشرين شهر ربيع الآخر وقتل من ليلته، وحملت رأسه على يد الأمير جرباش إلى القاهرة، وعلى يده كتب البشارة. وذلك أن الأمير كزل نائب طرابلس قدم في العشر الأخير من صفر، وقاتل عسكر نوروز، فركب السلطان بمن معه، فانهزم النوروزية إلى القلعة، وملك السلطان المدينة، ونزل بالإسطبل ودار السعادة، وحصر القلعة.
وفي يوم الخميس مستهل جمادى الأولى: قدم رأس نوروز، فعلق على باب القلعة، وارتجت البلد، ونودي بتقوية الزينة. وفيه خرج السلطان من دمشق، ونزل برزة، ورحل منها في ثانيه يريد حلب، فلما قدمها أقام بها إلى آخره، ثم سار منها أول جمادى الآخرة، ومضى إلى أبلستين، وأقام بها أياماً، ودخل إلى ملطية، واستناب بها الأمير كزل المذكور، ثم عاد إلى حلب، وأقر بها الأمير أينال الصصلاني. وولى بحماة الأمير تنباك البجاسي، وبطرابلس الأمير سودن من عبد الرحمن، وبقلعة الروم جانباك الحمزاوي، بعد ما قتل نائبها طوغان، ثم قدم دمشق في ثالث شهر رجب، فقرر بنيابتها الأمير قنباي المحمدي، وسار منها.
أول شعبان: قد وصل السلطان إلى القدس، ومضى إلى غزة، فولى نيابتها الأمير طرباي في ثاني عشرينه، وسار فنزل على سرياقوس يوم الخميس رابع عشرين شعبان، فأقام هناك بقية الشهر، وعمل أوقاتاً بالخانكاه، أنعم فيها على أهلها وغيرهم بمال جزيل. وركب يوم الأربعاء سلخه، ونزل تجاه مسجد تبر، وبات هناك.
وفي هذا الشهر: خرج في سادس عشرينه الأمير أينال الصصلاني من حلب ومعه العسكر وجماعة من التركمان والعرب، يريد قتال حسين بن نعير.
شهر رمضان، أوله يوم الخميس:(3/168)
فيه سار السلطان من الريدانية، وصعد قلعة الجبل، فانتفض عليه ألم رجله من ضربات المفاصل، وانقطع بداخل الدور. وفيه قدم الأمير يشبك نائب الكرك إليها، فوجدها خراباً، وقد تهدم أكثر قلعتها، ونفد ما كان بها حاصلاً من السلاح وغيره.
وفي ثامنه: أخرج الأمير جرباش كباشة منفياً إلى القدس، ورسم بإخراج الأمير أرغون الرومي - أمير أخور في الأيام الناصرية - بطالاً إلى القدس أيضاً، فسأل أن يتأخر إلى بعد العيد، فأجيب، ثم سار بعد عيد الفطر.
وفيه خلع على الأمير ألطنبغا العثماني، واستقر أتابك العساكر عوضاً عن الأمير يلبغا الناصري بعد موته.
وفي يوم السبت عاشره: ركب السلطان من القلعة إلى خارج باب النصر، وشق القاهرة، وصعد القلعة، فهدمت الزينة.
وفي ثاني عشره: قبض على الأمير قجق حاجب الحجاب، والأمير بيبغا المظفري، والأمير تمان تمر أرق، وحملوا في الحديد إلى الإسكندرية، صحبة الأمير صماي. وفيه خلع على الأمير ألطنبغا العثماني، واستقر في نظر المارستان المنصوري، وخلع على قاضي القضاة جمال الدين عبد الله بن مقداد بن إسماعيل الأقفهسي المالكي وأعيد إلى القضاة المالكية بديار مصر، وعزل شهاب الدين أحمد بن محمد بن محمد الأموي المغربي.
وفي ثالث عشره: كتب للأمير صوماي الحسني المسفر بالأمراء أن يستقر في نيابة الإسكندرية، وأن يحضر الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين إلى القاهرة.
وفي خامس عشره: خلع على الأمير سودن القاضي، واستقر حاجب الحجاب، عوضاً عن الأمير قجق، وعلى الأمير قجقار القردمي، واستقر أمير مجلس، وعلى الأمير جانبك الصوفي رأس نوبة، واستقر أمير سلاح عوضاً عن الأمير شاهين الأفرم، وقد مات. وخلع على الأمير كزل العجمي الأجرود - حاجب الحجاب في الأيام الناصرية - واستقر أمير جاندار، عوضاً عن الأمير جرباش كباشة. وفيه قبض على ثلاثة من أمراء العشرات، وهم طقز ونفاه إلى الشام، ومنطاش نفاه إلى صفد، وتنبك القاضي نفاه إلى طرابلس، وأخرج خاصكيا يعرف بسودن الأعراج إلى قوص منفياً.
وفي سابع عشره: قدم الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين من الإسكندرية.
وفي تاسع عشره: خلع على الأمير تنبك ميق، واستقر رأس نوبة النوب، عوضاً عن الأمير جانباك الصوفي، وخلع على الأمير أقباي الخازندار واستقر دواداراً كبيراً، عوضاً عن الأمير جانباك بعد موته. وفيه أفرج عن الأمير كمشبغا العيساوي من سجنه بدمياط وقدم القاهرة، ونقل الأمير سودن الأسندمري، والأمير قصروه، وشاهين الزردكاش، وكمشبغا الفيسي أمير أخور إلى دمياط.
وفي خامس عشرينه: قدم الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين للسلطان مائة فرس وثياباً وسلاحاً، فكانت قيمة ذلك خمسة عشر ألف ديناراً.
وفي يوم الاثنين سادس عشرينه: خلع على الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين، وأعيد إلى الأستادارية، وكان ابن أبي الفرج - لما سار من القاهرة إلى الشام كما تقدم - داخله خوف من السلطان، ففر في أوائل شهر رجب - وهو بمدينة حماة - إلى جهة بغداد، وسد تقي الدين عبد الوهاب بن أبي شاكر - وهو يلي نظر الديوان المفرد - أمور الأستادارية في هذه المدة.
وفي هذا الشهر: انحل سعر الغلال، حتى بيع كل ثلاثة أرادب من القمح بدينار، وكل أربعة أرادب شعير بدينار. وفيه كثرت الدراهم الفضة بأيدي الناس، وكان قد بعد عهد أهل مصر بها. وفقدوها، وتركوا المعاملة بها من نحو ثلاثين سنة وأزيد. وكانت هذه الدراهم مما جلبه العسكر وأتباعهم من البلاد الشامية، وهي صنفان: أحدهما يقال له الدراهم النوروزية، وهي التي ضربها الأمير نوروز كما تقدم ذكره، ونقش عليها اسم أمير المؤمنين المستعين بالله العباس بن محمد، وزنة الدرهم منها نصف درهم فضة خالصة من النحاس، والصنف الآخر الدراهم البندقية، وهي التي تضرب ببلاد الفرنج، وعليها سكتهم، وهي فضة خالصة.
شهر شوال: في أوله: حمل إلى الإسكندرية الأمير سودن الأسندمري وقصروه وكمشبغا الفيسي أمير آخور وشاهين الزردكاش، فسجنوا بها، وكتب بإحضار الأمير كمشبغا العيساوي من دمياط. وفيه أمر السلطان بضرب الدراهم المؤيدية فضربت. وفيه ولي السلطان عدة ولاة في نواحي أرض مصر، وضرب جماعة، وقتل عدة من مشايخ النواحي.(3/169)
وفيه جلس السلطان شيخ بالإصطبل من القلعة للحكم بين الناس، كما جلس الملك الظاهر برقوق، ثم ابنه الملك الناصر فرج، وجعل ذلك في كل يوم ثلاثاء وجمعة وسبت، ورد كثيراً من المحاكمات إلى القضاة. وفيه خسف جميع جرم القمر في ليلة الخميس رابع عشره، ومكث منخسفاً نحو أربع ساعات. وفيه كثرت الدراهم النوروزية والبندقية بأيدي الناس في ديار مصر، وحسن موقعها من كل أحد. وفيه تراخي سعر الغلة، بحيث أبيع في بلاد البحيرة كل خمسة أرادب مصرية بمثقال ذهب، وهذا شيء لم نعهد مثله.
وفيه اشتدت وطأة الأمير بدر الدين حسن الأستادار على الرسل والبرددارية المرصدين بباب الأستادار لقضاء الأشغال، والتصرف في الأمور وكانوا منذ أيام الأمير جمال الدين يوسف الأستادار قد كثر عددهم، وتزايدت أموالهم، حتى تبلغ نفقة الواحد من آحادهم الألف درهم في اليوم، فمال عليهم، وصادر جماعة منهم.
وفيه اشتد السلطان في أيام جلوسه للحكم بين الناس على المباشرين من الكتاب الأقباط، وضرب جماعة منهم بالمقارع، ووضع منهم، ولهج بذمهم، فذعروا ذعراً زائداً. وفيه ألزم اليهود بمبلغ ألفي مثقال من الذهب، وألزم النصارى بثمانية عشر ألف مثقال، لتتمة عشرين ألف مثقال، وذلك في نظير تفاوت ما كانوا يقومون به فيما مضى من الجزية، وتولى استخراج ذلك منهم زين الدين قاسم البشتكي المعروف بسيدي قاسم.
وفي يوم السبت آخره: خلع على الأمير تاج الدين التاج الشويكي والي القاهرة، واستقر في حسبة القاهرة، مضافاً لما بيده من الحجوبية والولاية، وقبض على الأمير منكلي بغا العجمي، وسلم إليه ليحمل مالاً قرر عليه، فأقام عنده أياماً، ثم أفرج عنه.
شهر ذي القعدة، أوله الأحد: في يوم الاثنين ثانيه: ركب السلطان من قلعة الجبل، وعدى النيل إلى بر الجيزة، ونزل على ناحية أوسيم، وتبعه الأمراء والمماليك، وخرجت الزردخاناة فأقام أياماً، ثم توجه إلى ناحية البحيرة لقبض مشايخها، فأقام على تروجة، وولي الأمير كمشبغا العيساوي كشف الوجه البحري، واستمر هناك إلى آخر السنة.
وفي هذا الشهر: وقع وباء بكورة البهنسي، واستمر بقية السنة.
وفي هذه المدة: كثر حمل شجر النارنج، حتى أبيع كل مائة وعشر حبات نارنج بدرهم بندقي، زنته نصف درهم فضة، عنه من الفلوس رطلان، فيكون باثني عشر درهماً، ولم نعهد مثل هذا، وقال لي شيخنا - الأستاذ قاضي القضاة ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون - ما كثر النارنج بمدينة إلا أسرع إليها الخراب.
ووقع في الخامس من ذي الحجة بمكة، أن الأمير جقمق أمير الحاج المصري، ضرب أحد عبيد مكة، وقيده لكونه يحمل السلاح في الحرم، وكان قد منع من ذلك، ثارت فتنة انتهكت فيها حرمة المسجد الحرام، ودخلت الخيل إليه، عليها المقاتلة من قواد مكة العمرة لحرب الأمير جقمق، وأدخل هو أيضاً خيله المسجد، فباتت به تروث، وأوقدت فيه مشاعله، وأمر بتسمير أبواب المسجد، فسمرت كلها إلا ثلاثة أبواب، ليمتنع من يأتيه. ثم أنه أطلق الذي ضربه، فسكنت الفتنة من الغد، بعدما قتل جماعة. ولم يحج أكثر أهل مكة من كثرة الخوف. ونهب بمأزمي عرفة جماعة وجرحوا، وقدم الخبر بأن الأمير يغمور بن بهادر الذكرى - من أمراء التركمان - مات هو وولده في يوم واحد بطاعون في أول ذي القعدة، وأن قرا يوسف انعقد بينه وبين شاه رخ بن تيمورلنك صلح، وتصاهرا.(3/170)
وفيها نزل ملك البرتقال من الفرنج على مدينة سبتة في ثلاثمائة مركب، وأقام بجزيرة فيما بينها وبين جبل الفتح - يقال لها طرف القنديل - مدة، حتى مل المسلمون الذين حشروا بسبتة من الجبال، ونفدت أزوادهم، وعادوا إلى حبالهم، فطرقها عند ذلك الفرنج، وقاتلوا المسلمين، وهزموهم، وركبوا أقفيتهم، وعبروا باب الميناء فتحمل المسلمون بما قدروا عليه، ومروا على وجوههم، فتملك البرتقال سبتة في سابع شعبان منها. وكان لذلك أسباب، منها أن بني مرين - ملوك فاس - لما ملكوها ساءت سيرتهم في أخذ أموال أهلها، ثم أن موسى بن أبي عنان، لما ملك، أعطى سبتة لأبي عبد الله محمد بن الأحمر، فنقل منها العدد الحربية بأجمعها إلى غرناطة، فلما استرد بنو مرين سبتة ساءت سيرة عمالهم بها، وكثر ظلمهم، فوقع الوباء العظيم بها، حتى باد أعيانها، وكان من فساد ملك بني مرين وخراب فاس وأعمالها ما كان، فاغتنم الرند ذلك، ونزلوا على سبتة، فلم يجدوا فيها من يدفعهم، ولله عاقبة الأمور. وفيها كانت وقعة بين الأمير محمد بن عثمان وبين الأمير محمد بن قرمان، انهزم فيها ابن قرمان، ونجا بنفسه.
وفيها أحرق قبر الشيخ عدي بجبل هطار من بلاد الأكراد، وهذا الشيخ عدي هو عدي بن مسافر الهكاري - بتشديد الكاف - صحب عدة من مشايخ الصوفية، وسكن جبل الطائفة الهكارية من مشايخ الصوفية، وسكن جبل الطائفة الهكارية من الأكراد، وهو من أعمال الموصل، وبني له به زاوية، فمال إليه بتلك النواحي من بها، واعتقدوا صلاحه، وخرجوا في اعتقاده عن الحد في المبالغة، حتى مات عن تسعين سنة، في سنة سبع - وقيل خمس - وخمسين وخمسمائة، فدفن بزاويته، وعكفت طائفته المعروفة بالعدوية على قبره، وهم عدد كثير، وجعلوه قبلتهم التي يصلون إليها، وذخيرتهم في الآخرة التي يعولون عليها، وصار قبره أحد المزارات المعدودة، والمشاهد المقصودة، لكثرة أتباعه، وشهرته هو في الأقطار، وصار أتباعه يقيمون بزاويته عند قبره شعاره، ويقتفون آثاره، والناس معهم على ما كانوا عليه زمن الشيخ من جميل الاعتقاد، وتعظيم الحرمة، فلما تطاولت المدة، تزايد غلو أتباعه فيه حتى زعموا أن الشيخ عدي بن مسافر هذا هو الذي يرزقهم، وصرحوا بأن كل رزق لا يأتي من الشيخ عدي لا نرضاه، وأن الشيخ عدي جلس مع الله تعالى - عن قولهم - وأكل معه خبزاً وبصلاً، وتركوا الصلوات المفروضة في اليوم والليلة، وقالوا الشيخ عدي صلى عنا، واستباحوا الفروج المحرمة، وكان للشيخ عدي خادم، يقال له حسن البواب، فزعموا أن الشيخ لما حضرته الوفاة، أمر حسن هذا أن يلصق ظهره، فلما فعل ذلك قال له الشيخ: انتقل نسلي إلى صلبك، فلما مات الشيخ عدي ولم يعقب ولداً، صارت ذرية الشيخ حسن البواب تعتقد العدوية فيها أنها ذرية الشيخ عدي، وتبالغ في إكرامهم، حتى أنهم ليقدمون بناتهم إلى من قدم عليهم من ذرية الشيخ حسن، فيخلو بهن، ويقضي منهن الوطر، ويري أبوها وأمها أن ذلك قربة من القرب التي يتقرب بها إلى الله تعالى، فلما شنع ذلك من فعلهم انتدب لهم رجل من فقهاء العجم يتمذهب بمذهب الشافعي - رحمه الله - ويعرف بجلال الدين محمد بن عز الدين يوسف الحلواني، ودعا لحربهم، فاستجاب له الأمير عز الدين البختي صاحب جزيرة ابن عمر والأمير توكل الكردي - صاحب شرانس - وجمعوا عليهم كثيراً من الأكراد السندية - وأمدهم صاحب حصن كيفا بعسكر، وأتاهم الأمير شمس الدين محمد الجردقيلي، وساروا في جمع كبير جداً إلى جبل هكار، فقتلوا جماعات كثيرة من أتباع الشيخ عدي - وصاروا في هذا الوقت يعرفون بين الأكراد بالصحبتية، وأسروا منهم خلائق حتى أتوا الشرالق - وهي القرية التي فيها ضريح الشيخ عدي - فهدموا القبة المبنية عليه، ونبشوا ضريحه وأخرجوا عظامه، فأحرقوها بحضرة من أسروه من الصحبتية، وقالوا لهم: انظروا كيف أحرقنا عظام من ادعيتم فيه ما ادعيتم، ولم يقدر أن يدفعنا عنه. ثم عادوا بنهب كثير، فاجتمعت الصحبتية بعد ذلك وأعادوا بناء القبة، وأقاموا بها على عادتهم، وصاروا عدواً لكل من قيل له فقيه، يقتلونه حيث قد قدروا عليه، ولو شاء ربك ما فعلوه.
ممن مات في هذه السنة
ممن له ذكر الأمير نوروز الحافظي.
ومات الأمير طوخ نائب حلب.
ومات الأمير يشبك بن أزدمر.
ومات الأمير قمش.(3/171)
ومات الأمير برصبغا. قتلوا جميعاً بدمشق، في شهر ربيع الآخر.
ومات الأمير شاهين الأفرم برملة لد، وهو عائد من دمشق، وكان ظالماً فاسقاً، من شرار خلق الله.
ومات الأمير يلبغا الناصري، في ليلة الجمعة ثاني عشر رمضان بمنزله، بعد عوده من الشام، وكان خير أمراء الوقت بعفته عن الأموال التي أحدثوا أخذها من الحمايات والمستأجرات ونحوها، وصيانته عن القاذورات المحرمة من شرب الخمر وشبهه. ومع ذلك فاستجد مباشروه شونة خارج القاهرة، لبيع الملح، وألزموا الباعة ألا يشتروا الملح إلا منها، وباعوه بأغلى الأثمان. وتتبعوا بائعيه، ممن ظفروا به، وقد اشتري الملح من غيرهم ضربوه وغرموه مالاً، فلهذا بلغ الملح أضعاف ثمنه.
ومات الأمير جانباك الدوادار، أحد المماليك المؤيدية بمدينة حمص، وهو متوجه مع العسكر إلى حلب من جرح أصابه في محاربة نوروز على دمشق، لزم منه الفراش إلى أن مات.
ومات بمكة قاضيها ومفتيها، جمال الدين أبو حامد محمد بن القدوة، عفيف الدين عدل الله بن ظهيرة بن أحمد القرشي الشافعي، في ليلة سابع عشر شهر رمضان، عن نحو سبع وستين سنة، ولي قضاء مكة وخطابتها وحسبتها مرات، وتصدى بها للتدريس والإفتاء نحو أربعين سنة، وصنف، فبرع في الفقه والحديث، واشتغل بالقاهرة معنا قديماً. ولم يخلف بالحجاز بعده مثله.
ومات بالمدينة النبوية قاضي القضاة الحنفية زين الدين عبد الرحمن بن نور الدين علي ابن يوسف بن الحسن بن محمود الزرندي الحنفي، في ربيع الأول، ومولده سنة ست وأربعين وسبعمائة، وقد أناف على السبعين. وولي قضاء الحنفية بالمدينة نحو ثلاث وثلاثين سنة، مع حسبتها، وكان غزير المروءة.
وتوفي بزبيد من بلاد اليمن قاضي القضاة بها، شيخنا مجد الدين محمد أبو الطاهر بن يعقوب بن محمد بن إبراهيم بن عمر الفيروزابادي الشيرازي الشافعي اللغوي، في ليلة العشرين من شوال، عن ثماني وثمانين سنة وأشهر. وهو ممتع بحواسه. وله مصنفات كثيرة، منها كتاب القاموس في اللغة، لا نظير له. وقد اشتهر في أقطار الأرض كتابه الذي صنفه للناصر وسماه تسهيل الأصول إلى الأحاديث الزائدة على جامع الأصول، وله نظم حسن. ولي قضاء الأقضية ببلاد اليمن نحو عشرين سنة حتى مات بعدما طاف البلاد مشارقاً ومغارباً، وأقام بالقاهرة زماناً.
ومات بالقاهرة الشريف سليمان بن هبة بن جاز بن منصور الحسيني أمير المدينة النبوية، مسجوناً، وهو في عشر الأربعين. ولي إمرة المدينة النبوية في أخريات ذي الحجة سنة اثنتي عشرة ثم قبض عليه في أخريات ذي الحجة سنة خمس عشرة، وعلى أخيه محمد، وحملا إلى القاهرة، فاعتقل بها حتى مات، وولي بعده المدينة عزيز بن هيازع بن هبة.
ومات بالنحريرية الأديب الشاعر أبو عبد الله محمد بن محمد بن علي البديوي، في رابع عشر ربيع الآخر. وأكثر شعره في المدائح النبوية.
سنة ثمان عشرة وثمانمائة(3/172)
أهلت، وخليفة الوقت المعتضد بالله أبو الفتح داود، والسلطان بديار مصر والشام والحرمين الملك المؤيد أبو النصر شيخ المحمودي الظاهري، وأتابك العساكر الأمير ألطنبغا العثماني، وأمير أخور الأمير ألطنبغا القرمشي والدوادار الأمير أقباي المؤيدي، ورأس نوبة النوب تنباك ميق، وأمير مجلس جانباك الصوفي، وأستادار الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين عبد الله الطرابلسي، وقاضي القضاة الشافعية شيخ الإسلام جلال الدين عبد الرحمن بن البلقيني وقاضي القضاة الحنفية ناصر الدين محمد بن عمر ابن العديم، وقاضي القضاة المالكية جمال الدين عبد الله بن مقداد بن إسماعيل الأقفهسي. وقاضي القضاة الحنابلة مجد الدين سالم بن سالم بن عبد الملك المقدسي، وكاتب السر قاضي القضاة ناصر الدين محمد بن محمد بن عثمان بن البارزي الحموي الشافعي، والوزير تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم، وناظر الخاص الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، وناظر الجيش علم الدين داود بن عبد الرحمن بن الكويز، ونائب الإسكندرية الأمير صوماي الحسني، ونائب غزة الأمير طرباي، ونائب الشام الأمير قنباي المحمدي، ونائب طرابلس الأمير سودن من عبد الرحمن، ونائب حماة تنباك البجاسي، ونائبحلب الأمير أينال الصصلاني، وأمير مكة الشريف حسن بن عجلان الحسني، وأمير المدينة النبوية الشريف عزيز بن هيازع بن هبة الحسيني، ومتملك اليمن الملك الناصر أحمد بن الشرف إسماعيل بن رسول، ومتملك الروم محمد كرشجي بن خوندكار أبي يزيد بن مراد خان بن أورخان بن عثمان جق، وكان قد عدى من بر قسطنطينية يريد الأمير محمد باك بن قرمان، ففر إليه أعيان دولة بن قرمان، فملك أكثر بلاده وفر منه إلى بلاد الورسق، وامتنع بها، وأهلت هذه السنة وهم على هذا.
شهر الله المحرم الحرام، أوله الأربعاء: إلى يوم الخميس ثانيه: قدم السلطان من البحيرة، بعدما قرر على من قابله من أهلها أربعين ألف دينار، فكانت مدة عيبته ستين يوماً.
وفي عاشره: أفرج عن الأمير بيبغا المظفري، والأمير تمان تمر اليوسفي من سجن الإسكندرية. وقدم الخبر بأن شاه رخ بن تيمورلنك عمل عيد النحر بمدينة قزوين وتسلم مدينة السلطانية، وأرسل إلى قرا يوسف يطلب منه فرسين عينهما، ويطلب منه امرأة أخيه وابنة أخيه، وكانتا عنده في الأسر، ويلزمه بدماء اخوتهم، والقيام بأموالهم التي وصلت إليه، وأن يضرب السكة ويقيم الخطبة باسمه، فاستعد قرا يوسف لمحاربته، وبعث يستدعي ابنه شاه محمد من بغداد، وبقية عسكره، خوفاً على تبريز أن يملكها منه شاه رخ.
وقدم كتاب الأمير فخر الدين عبد الغني بن أبي الفرج من بغداد، يتضمن أنه مقيم بها في المدرسة المستنصرية، وسأل العفو عنه، فأجيب بما طيب خاطره.
وقدم كتاب أقبغا النظامي - أحد خواص الناصر فرج - من جزيرة قبرص، وقد توجه إليها لفك الأسرى، بأنه وجد بالجزيرة من أسارى المسلمين خمسمائة وخمسة وثلاثين أسيراً، فكاكهم بثلاثة عشر ألف دينار وثلاثمائة دينار، وأنه قد أوصل إلى متملك قبرص العشرة آلاف دينار المجهزة معه، فانفك بها أربعمائة أسير، كل أسير بخمسمائة درهم، عنها خمسة وعشرون ديناراً، وقد افتك متملك قبرص من مائه مائة وخمسة وثلاثين أسيراً، بثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمسة وسبعين ديناراً، وقد حمل منهم إلى جهة مصر في البحر مائتي أسير، وفرق في جهات السواحل الشامية باقيهم.
وقدم الخبر بأن الأمير أينال الصصلاني نائب حلب سار منها في نصف ذي القعدة من السنة الخالية، ومعه العساكر إلى العمق لمحاربة كردي بن كندر، ففر منه، وأنه أخذ له عدة كثيرة من الأغنام، فصار كردي إلى علي بن دلغادر وسأله في الصلح، فدخل بينهما ابن دلغادر، حتى اصطلحا، وعاد إلى حلب.
وفي هذا الشهر: قتل بسجن الإسكندرية الأمير طوغان الحسني الدوادار، والأمير دمرداش المحمدي، والأمير سودن تلي المحمدي، والأمير أسنبغا الزردكاش، في يوم السبت ثامن عشره، وأقيم عزاؤهم بالقاهرة في خامس عشرينه.
وفي هذا الشهر: ابتدأ الطاعون في الناس بالقاهرة، فمات منه جماعة.
شهر صفر، أوله الخميس: فيه أمر قاضي القضاة مجد الدين سالم بن سالم بن أحمد بن عبد الملك المقدسي العسقلاني الحنبلي أن يلزم داره، ومنع من الحكم بين الناس.(3/173)
وفي ثامنه: ركب السلطان من القلعة، وسار إلى نحو منية مطر، التي تعرف اليوم بالمطرية وعاد فدخل القاهرة من باب النصر، ونزل بمدرسة جمال الدين الأستادار من رحبة باب العيد، ثم عبر إلى بيت الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين الأستادار، فأكل عنده ومضى إلى القلعة.
وفي ثاني عشره: خلع على قاضي القضاة علاء الدين علي بن محمود بن أبي بكر، ابن مغلي الحنبلي الحموي واستقر في قضاء القضاة الحنابلة بديار مصر، عوضاً عن مجد الدين سالم، وكان قد قدم من حماة إلى القاهرة من نحو شهرين، وخلع أيضاً علي تقي الدين أبي بكر بن عثمان بن محمد الحسيني الحموي الحنفي، واستقر في قضاء العسكر.
وفي هذا الشهر: وقع الشروع في حفر الرمال التي حدثت ما بين الجامع الجديد الناصري خارج مدينة مصر وبين جامع الخطيري في بولاق، وسبب ذلك أن النيل - في وقتنا هذا - سار مجراه فيما يلي بر مصر والقاهرة على غير ما كان عليه في الدهر الأول، وهيئته الآن أنه إذا صار في الجهة القبلية من مصر - قريباً من طرا - فإنه يمر من الجهة الغربية من أجل أنه حدث فيما بين طرا وطرف الروضة تجاه المقياس جزيرة رمل في غاية الكبر، ينحسر عنها الماء في أيام نقصه، فيصير ما تجاه بركة الحبش إلى رباط الآثار النبوية وحسر الأفرم إلى المدرسة المعزية التي تجاه المقياس رملاً لا يعلوه الماء، إلا في أيام الزيادة، وصار عظم النيل من وراء جزيرة الصابوني فيمر بينها وبين الجيزة إلى أن يصل قريباً من المقياس، فيصير فرقتين: واحدة تمر فيها بين الروضة والجيزة وهي معظم النيل، وأخرى تمر فيها بين الروضة ومصر إلى أن تصل قريباً من موردة الحلفاء، تقف في أيام نقص الماء هناك.
ويصير ما بين موردة الحلفاء وجامع الخطيري ببولاق رمالاً لا يعلوها الماء إلا في أيام زيادته فقط، ولذلك خربت منشاة المهراني ومنشأة الكتبة وخط موردة البلاط، وخط زريبة قوصون، وخط فم الخور، وحكر ابن الأثير لانقطاع ماء النيل عن هذه المواضع، وجميعها في البر الشرقي، وتجاهها من غربيها حسر الخليلي والجزيرة الوسطى، ومجرى النيل من غربي الجزيرة الوسطى إلى أن يصل قريباً من جامع الخطيري، فيصير بين الماء وبين الجامع جزيرة ظهرت من حدود سنة ثمانين وسبعمائة من بحري الجزيرة، واتسعت شيئاً فشيئاً في الطول والعرض حتى لم يبق بناحية بولاق إلى أوائل جزيرة الفيل شيء من ماء النيل البتة، وإنما هي أرض، فإذا كان أوان الزيادة علاها الماء، ثم ينحسر عنها إذا هبط فخرب - كما ذكرنا - بسبب انطراد الماء عن البر الشرقي مما بين منشأة المهراني وجزيرة الفيل، أكثر ما كان هناك من المباني، فقصد السلطان حفر ما بين موردة الحلفاء وبولاق، ليعود الماء هناك صيفاً وشتاء على الأبد، وأمر في يوم السبت عاشر صفر هذا أن يشرع في حفره، وندب له الأمير كزل العجمي الأجرود - أمير جاندار - فنزل وعلق مائة وخمسين رأساً من البقر لتجرف الرمال،. وعملت أياماً، ثم ندب الأمير سودن القاضي حاجب الحجاب لهذا العمل، فاستمر العمل بقية.
صفر وشهر ربيع الأول: وفي هذا الشهر: أيضاً تعامل الناس في القاهرة بالدراهم المؤيدية، وسبب ذلك أن نقود مصر الآن - كما تقدم - هي الذهب والفلوس، والذهب صار ثلاثة أصناف، وهي: الذهب الهرجة: وقد قل في أيدي الناس، وبلغ كل مثقال منه إلى مائتي درهم وخمسين درهماً من الفلوس. وهذا الصنف هو الذهب الإسلامي الخالص من الغش، وهو مستدير الشكل على أحد وجهيه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وعلى الوجه الآخر اسم السلطان وتاريخ ضربه، واسم المدينة التي ضرب بها، وهي إما القاهرة أو دمشق أو الإسكندرية، وكل سبعة مثاقيل زنتها عشرة دراهم.(3/174)
والصنف الثاني: ذهب يقال له الأفرنتي والأفلوري والبندقي، والدوكات وهو يجلب من بلاد الإفرنج، وعلى أحد وجهيه صورة إنسان في دائرة مكتوبة بقلمهم وفي الوجه الآخر صورتان في دائرة مكتوبة ولم يكن يعرف هذا الصنف قديماً مما يتعامل به الناس، وإنما حدث في القاهرة من حدود سنة تسعين وسبعمائة، وكثر حتى صار نقداً رائجاً، وبلغ إلى مائتي درهم وثلاثين درهماً من الفلوس، كل دينار منه. ووزن كل مائة دينار من هذا الذهب أحد وثمانون مثقالاً وربع مثقال. غير أن الناس قصوه حتى خف وزنه، واستقر ثمانية وسبعين وثلثا، وضرب كثير من الناس على شكله، وتسامح الناس في أخذه، فراج بينهم كرواج الإفرنجي، ويقع فيه اختلاف كبير، فيقال هذا تركي وهذا خارج الدار، وهذا ناقص الوزن، وهذا ليس بجيد العيار، ويجعل بازاء كل عيب حصة من المال تنقص من صرفه.
والنوع الثالث: الذهب الناصري، وهو الذي ضربه الملك الناصر فرج، كما تقدم ذكره، وزنة كل دينار منه تسعة عشر قيراطاً من أربعة وعشرين قيراطاً، وذهبه دون الحايف، وبلغ كل دينار منه إلى مائتي درهم وعشرة دراهم. وفيه الخارج الدار أيضاً. وأما الفلوس فإنها كانت معدودة غير موزونة. ويعد في الدرهم الكاملي منها أربعة وعشرون فلساً زنة كل فلس مثقال، ثم تناقص وزنها وكثر ضربها، حتى صارت في آخر الأيام الظاهرية برقوق هي النقد الرائج، كما تقدم ذكره.
ثم نقص أهل الدولة وزنها، وكثر تعنيت الناس فيها، فرسم الأمير يلبغا السالمي الأستادار في سنة سبع وثمانمائة أن يتعامل الناس بها وزناً، وجعل كل رطل منها بستة دراهم، كما تقدم ذكره فاستمر الحال على ذلك، وتزايد سعر الذهب لكثرة الفلوس، وشناعة حملها في الأسفار، وقلة الدراهم الكاملية، حتى بلغ ما بلغ، وصارت الفلوس هي التي ينسب إليها ثمن جميع المبيعات، جليلها وحقيرها، وقيم الأعمال بأسرها، ويعطي الذهب والفضة عوضاً عنها.
فلما قدم السلطان من دمشق، وكثرت الدراهم النوروزية والبندقية بأيدي الناس في القاهرة - كما تقدم ذكره - تقدم السلطان بضرب دراهم مؤيدية.
فأهل صفر هذا: والإشاعة قوية بأن السلطان سبك دنانير كثيرة من الناصرية، وعمل دنانير مؤيدية، فتوقف الناس في أخذ الدينار الناصري، إلى يوم الجمعة ثالث عشرينه، استدعى السلطان قضاة القضاة، وكبار الصيارفة، إلى بين يديه بالإسطبل من القلعة، وتحدث في إبطال الدنانير الناصرية، فذكر له قاضي القضاة جلال الدين بن البلقيني أن في هذا إتلاف كثير من الأموال، فلم يعجب السلطان ذلك، ورد النظر في النقود إليه.
فلما كان الغد يوم السبت رابع عشرينه: حضر الصيارفة، وكثير من التجار إلى مجلس قاضي القضاة من المدرسة الصالحية بين القصرين، فآل الأمر إلى أن تقرر سعر المثقال الذهب المختوم الهرجة المؤيدي ونحوه من الذهب المصري الهرجة بمائتين وخمسين درهماً فلوساً، وسعر الدينار الأفرنتي الجيد بمائتين وثلاثين درهماً فلوساً، وسعر الدينار الناصري الجيد من نسبة المثقال، وأن يتعامل بالناصرية وزناً، وما كان منها ناقص الوزن أو رديء الذهب يقطع، ويؤخذ فيه بحسب قيمته، وأن يكون الدرهم المؤيدي - وزنته نصف وربع وثمن درهم فضة خالصة - بثمانية عشر درهماً من الفلوس، وعملت أنصاف وأرباع، واستكثروا من ضرب الأنصاف، فتكون بتسعة دراهم النصف، وتقرر أن يكون الفضة - المصوغة والحجر - لا تباع كلها إلا للسلطان، ليضربها دراهم مؤيدية، وسعر كل درهم منها بخمسة عشر درهماً فلوساً، وتقررت الدراهم البندقية والنوروزية بالوزن لا بالعدد، فما كان منها جيداً حسب فيه خمسة عشر درهماً كل درهم وما كان منها رديا قطع وبيع بسعره.(3/175)
فم لما كان يوم الاثنين سادس عشرينه: حملت الدراهم المؤيدية والذهب المؤيدي، من دار الضرب بالقاهرة إلى القلعة، وزفت بالمغاني، ثم نودي أن تكون المعاملة على ما تقرر، كما تقدم ذكره، فشملت الخسارة خلقاً كثيراً، واعتبر الباعة الدنانير الناصرية، وقصوا منها كثيراً من الجيد فيها، وحملوه إلى دار الضرب فسبك، ودفع لصاحبه فيه، مائة وثمانين درهماً، وقصوا أيضاً كثيراً من الناصرية الناقصة والردية، وحملوها إلى دار الضرب، وحسبوا فيها من نسبة مائة وثمانين في الجيد، وأخذت الدراهم النوروزية والبندقية أيضاً وحملت إلى دار الضرب، وأعطى في وزن كل درهم منها خمسة عشر درهماً، وحجر على صنف الفضة، وابتيع كله للسلطان.
فلما كان بعدد ثلاثة أيام - في سلخ الشهر - : نودي ألا يقص من الناصرية ما كان جيداً وازناً، وأن يستمر بمائة وثمانين كل دينار منه، فكف الناس عن قصه، وتعاملوا به ما رسم لهم.
وفي هذا الشهر: قبض بحلب على الأمير شاهين الأيدكاري، وسجن بالقلعة.
وفيه مات الأمير سنقر الرومي بسجن الإسكندرية، في سابع عشره.
فيه استقر الأمير طوغان أمير أخور في نيابة صفد، واستقر حسن بن بشارة في تقدمة العشير على ثلاثين ألف دينار، يقوم بها للسلطان وجهز إلى كل منهما تشريفة من قلعة الجبل، على يد يشبك الخاصكي، فلبسه وقبل الأرض على العادة، ووكل يشبك بابن بشارة حتى حمل ثلاثة عشر ألف دينار، وأحيل عليه الأمير أرغون شاه الأستادار بالشام، بعشرة آلاف دينار، فغضب محمد بن بشارة، وجمع على حسن واقتتلا، فانكسر محمد وفر إلى البقاع، ونزل بالزبداني، خارج دمشق، ومر على وجهه يريد العراق.
وفيه قدم كتاب نائب حلب بأن الشهابي أحمد بن رمضان أخذ مدينة طرسوس عنوة في ثالث عشر المحرم، بعد أن حاصرها سبعة أشهر، وأنه سلمها إلى ابنه إبراهيم، بعدما نهبها وسبى أهلها، وقد كانت طرسوس من نحو اثنتي عشرة سنة يخطب بها تارة لتمرلنك وتارة لمحمد باك بن قرمان، فيقال السلطان الأعظم سلطان السلاطين، فأعاد ابن رمضان الخطبة فيها باسم السلطان الملك المؤيد. وقدم الخبر بأن حسين بن نعير نزل على الرقة بعدما رعى زروع بلاد الرحبة. وأنه قد تحالف مع فسليس مقدم الكلبيين، وتزوج ابنته.
وفيه بعث حسين بن نعير إلى الأمير عثمان بن طر على قرا يلك يسأله أن يشفع إلى السلطان فيه، فكتب قرا يلوك يسأل تأمينه، وبعث حسين مع ذلك قوده وكتابه يسأل العفو عنه، فأجيب بما يطيب خاطره.
وقدم الخبر بأن محمد باك كرشجي بن عثمان حارب الأمير محمد بن قرمان صاحب قونية وكسره، وأخذ له بلاداً كثيرة، بحيث لم يبق بيده سوى قونية.
وفيه كثر الموتان في الناس بالقاهرة ومصر، وزادت عدة من يرد اسمه الديوان على ثمانين في كل يوم. وفيه حدث رعد وبرق، قل ما عهد مثله بمصر، وعقبه مطر كثير جداً سالت منه الأودية، وتغير ماء النيل لكثرة ما انحدر إليه من السيل، وكان ذلك في تاسع بشنس.
وفي سابع عشرينه: أنكر السلطان على القضاة الأربع كثرة نوابهم في الحكم بالقاهرة ومصر، وكانوا قد تجاوزوا مائتي قاض، فعزلوا نوابهم، ثم أذن قاضي القضاة ناصر الدين محمد ابن العديم في الحكم لستة من نوابه.
شهر ربيع الأول، أوله الجمعة.
فيه أذن قاضي القضاة جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن البلقيني لأربعة عشر من نوابه في الحكم، وشرط عليهم شروطاً منها أن من أخذ مالاً رشوة فهو معزول.
وفي ثالثه: نودي بأن الدراهم البندقية يصرف ما كان وزنه نصف وثمن، باثني عشر درهماً، وما كان أقل من ذلك فإنه من حساب خمسة عشر كل وزن درهم.
وفي رابعه: رسم بنقلة السكان من قيسارية سنقر الأشقر المقابلة لقيسارية فاضل فإن السلطان عزم على هدمها لتبنى جامعاً.
وفي خامسه: نزل الأمير التاج والي القاهرة، وجماعة من أرباب الدولة، وابتدأ بالهدم في القيسارية المذكورة وما بجوارها، فكثر بكاء النساء والأطفال من السكان، ونقلوا أمتعتهم.
وفي ثاني عشره: عمل مهم عرس الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير ألطنبغا القرمشي، على ابنة الملك الناصر فرج بن برقوق، واعتنى به عناية كبيرة، إلى أن بني عليها ليلة الجمعة رابع عشره، فتظاهر فيه المماليك والعامة بما كان يجب فيه الاحتشام، وكان شيئاً نكرا.(3/176)
وفي سادس عشره: نودي في القاهرة بمنع المعاملة بالدنانير الناصرية، وأن تقص كلها، ويدفع فيها من حساب مائة وثمانين، فقصها الصيارفة.
وفي حادي عشرينه: قدم إلى القاهرة الشيخ شمس الدين محمد بن عطاء الله بن محمد بن محمود الرازي الهروي، مدرس الصلاحية بالقدس، بعدما خرج الأمير ألطنبغا العثماني، فتلقاه وصعد إلى السلطان بقلعة الجبل، فأقبل عليه السلطان وأكرمه، وأجلسه عن يمينه، وحضر مجتمعا كان عند السلطان، هو وقاضي القضاة جلال الدين البلقيني. ثم انصرف إلى دار قد أعدت له، ورتب له في كل يوم مبلغ مائتي درهم فلوساً، ومن اللحم قدر ثلاثين رطلاً، وأنعم عليه بفرس قد أسرج برج ذهب، وبكثير من الثياب الفاخرة، وأهدى إليه كثير من أهل الدولة الهدايا الجليلة.
وفي هذا الشهر: ارتفع الوباء من القاهرة. وفيه قبض بحلب على الأمير آق بلاط نائب عينتاب، وسجن، وقبض على الأمير شاهين الزردكاش، وسجن بقلعة حلب في ثامنه. وفيه استقر محيي الدين أحمد بن حسين بن إبراهيم المدني الدمشق في كتابة السر بدمشق.
شهر ربيع الآخر، أوله الأحد: في يوم الاثنين ثانيه: ركب السلطان من قلعة الجبل بأمرائه ومماليكه ووجوه دولته، وسار إلى حيث العمل في حفر البحر تجاه منشأة المهراني، ونزل في خيم قد نصبت له هناك، ونودي بخروج الناس للعمل في الحفير، وكتبت حوانيت الأسواق كلها، فخرج الناس طوائف، ومع كل طائفة الطبول والزمور، وهم في لهو ولعب، وغلقت الأسواق. وأقبلوا إلى العمل ونقلوا التراب والرمل من غير أن يكلف أحد منهم فوقي طاقته. وعمل جميع العسكر أيضاً من الأمراء والمماليك، وجميع أرباب الدولة وأتباعهم، ثم ركب السلطان بعد العصر وقد مدت أسمطة جليلة، فكان يوماً بالهزل واللهو أشبه منه بالجد ووقف السلطان حتى فرض على كل من الأمراء حفر قطعة عينها له، وعاد إلى القلعة، واستمر العمل والنداء في كل يوم بالقاهرة، أن يخرج أهل الأسواق وغيرهم للعمل في الحفر.
وفي تاسعه: ركب الأمير ألطنبغا القرمشي أمير أخور ومعه جميع مماليكه وأتباعه وعامة غلمان الإصطبل السلطاني، والركابة من عرب آل يسار، والأوحاقية، والبياطرة، وصوفية المدرسة الظاهرية برقوق بخط بين القصرين وأرباب وظائفها، من أجل أنهم تحت نظره، فمضوا بأجمعهم إلى باب السلسلة، وتوجهوا معه للعمل، وخرج معهم الفيل والزرافة، بعدة طبول وزمور، فحفروا فيه ونقلوا، وقد اجتمع هناك معظم الناس من الرجال والنساء للفرحة، فكثرت سخريتهم، وتضاحك بعضهم على بعض، فأعفى القرمشي فقهاء الظاهرية من العمل، وردهم، وتولى القيام بحفر ما وظف عليه، ومعه عالم كبير، طول نهاره.
وفي عاشره: جمع الأمير الكبير ألطنبغا العثماني أتابك العساكر جميع من يلوذ به، وألزم كل من هو ساكن في شيء من البيوت والحوانيت الجارية في وقف المارستان المنصوري أن يخرج معه من أجل أنه يلي نظر المارستان، وأخرج أيضاً جميع أرباب وظائفه من الأطباء والجرائحية، والكحالين والفراشين والقراء والمباشرين والمؤذنين، وأخرج سكان جزيرة الفيل لأنها من وقف المارستان. وتتابع الأمراء في العمل، وخرج علم الدين داود بن الكويز ناظر الجيش، والصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله ناظر الخاص، والأمير بدر الدين حسن بن محب الدين الأستادار، في حادي عشره، ومع كل منهم طائفة من أهل القاهرة، وجمع غلمانه وأتباعه ومن يلوذ به وينسب إليه، وأخرج والي القاهرة جميع اليهود والنصارى، وكثر النداء في كل يوم بالقاهرة على أصناف الناس بخروجهم للعمل، وخرج كل أمير، وأخذ معه جيرانه ومن يقرب سكنه من داره، فلم يبق عنبري ولا فراء ولا تاجر ولا بزاز ولا قزاز ولا طباخ ولا جبان ولا سقاء ولا مناد، إلا وخرج للعمل، وأخرج كاتب السر القاضي ناصر الدين محمد بن البازري معه جميع البريدية والموقعين، بأتباعهم، فعملوا.
وفي رابع عشره: خلت أسواق القاهرة وظواهرها من الباعة، وغلقت القياسر، وخرج الناس للعمل وجدوا في الحفر نهارهم مع ليلهم، بحيث لم يعف أحد من العمل، وكثرت حركات الناس وخروجهم إلى العمل طوائف طوائف، وتكرر النداء في الناس بالخروج للحفير، وتهديد من تأخر عنه.(3/177)
وفي خامس عشره: نودي أن لا يفتح في غد حانوت، ومن فتح دكاناً شنق، وأن يخرجوا كلهم بالسلاح، فأصبحت الأسواق كلها مغلقة، واستمر العمل طول هذا الشهر في الحفير، فتوقفت أحوال الناس بغلق الأسواق.
وفي هذا الشهر: اشتد الطلب على اليهود والنصارى، وأهينوا في استخراج العشرين ألف دينار إهانة بالغة، ونالهم للأعوان كلف كبيرة.
وفيه ألزم السلطان الأمير بدر الدين حسن الأستادار بحمل عشرين ألف دينار من مباشري الديوان المفرد، وألزم الوزير الصاحب تاج الدين عبد الرازق بن الهيصم بحمل عشرين ألف دينار من مباشري الدولة، وألزم الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله ناظر الخاص بحمل عشرة آلاف دينار من مباشري الخاص، فوقع الشروع في توزيع ذلك وجبايته من يوم الخميس سابع عشره. وفيه كثر عبث العربان بالوجه القبلي والوجه البحري، واشتد بأسهم، وعجز أرباب الدولة عنهم.وفيه ثارت الأحامدة من عرب الصعيد بوالي قوص وقتلوا كثيراً ممن معه. وفيه قتل الأمير يشبك من عبد العزيز بدمشق، وصلب على باب القلعة في تاسعه.
وفيه أفرج عن أقبردي الحاجب بدمشق، وقدم منها إلى القاهرة. وفيه سار الأمير بيبغا المظفري من القاهرة إلى دمشق، فقدمها في ثامن عشره، واستقر بها أميراً كبيراً.
وفيه سار الأمير أينال الصصلاني نائب حلب في خامسه، ومعه الأمير سودن من عبد الرحمن نائب طرابلس، ومضى على جرائد الخليل في طلب كردي بن كندر، فأخذ أعقابه، وقد فر من العمق وتعلق بالجبال، فاستولى على كثير من أغنامه وأبقاره، ثم نزل على قلعة دربساك وحاصرها ثلاثة أيام حتى أخذها في سادس عشره بأمان، ففر عن كردي أكثر جمائعه، وعزموا على قبضه، فتسحب إلى مرعش، وانضم أصحابه على فارس بن دمرخان بن كندر.
وفيه استقر الأمير جرباش حاجباً بحلب، عوضاً عن شاهين الأيدكاري. وفيه خرج شاه محمد بن قرا يوسف من بغداد لمحاصرة ششتر.
وفيه ركب الأمير كزل - نائب ملطية - في رابع عشرينه، وقاتل سولو بن كبك وأخاه حسيناً على كركر، وقد أحرقا بلد جوباص من أعمال ملطية فقتل من جماعتها كثيراً، وهزم بقيتهم، وعاد إلى ملطية، فجمعا عليه الأكراد والتركمان ونائب كركر، وزحفوا عليه، فاقتتلوا قتالاً كثيراً. وفيه نقل الأمير طوغان أمير أخور نائب صفد منها إلى دمشق، واستقر بها حاجب الحجاب عوضاً عن خليل الجشاري، واستقر خليل في نيابة صفد، وكان المتوجه لنقلهما الأمير أينال الأزعري الأعور، أحد رءوس النوب.
شهر جمادى الأولى، أوله الاثنين: أهل والناس يعملون في الحفير، والأخبار متواترة بكثرة فساد أهل الوجه القبلي والوجه البحري.
وفي خامسه: سار الأمير بدر الدين حسن الأستادار في عدة من الأمراء معه إلى الوجه البحري.
وفي سابعه: ركب الأمير صارم الدين إبراهيم ولد السلطان، وجمع له من الناس خلائق ما بين مسلمين وأهل الذمة، ومضى بهم إلى العمل في الحفير، يعملوا يومين، وتمادى العمل عدة أيام من هذا الشهر، حتى أدركته زيادة ماء النيل، فلم يظهر لما كان من العمل أثر.
وفي سابعه: خلع على الأمير ألطنبغا العثماني أتابك العساكر، واستقر في نيابة الشام. وعزل الأمير قنباي المحمدي وخلع على الأمير أقبردي المنقار، واستقر في نيابة الإسكندرية، عوضاً عن صوماي الحسني. وفيه نودي بالمنع من المعاملة بالدنانير الناصرية، وهدد من تعامل بها أو وجدت عنده وكان الناس قد تظاهروا بها، وصرفوها بمائة وثمانين درهماً الدينار، فلم ينتهوا عن ذلك، فنودي في خامس عشرينه بتهديد من اشترى بها شيئاً بأن تسبك في يده.
وفي هذا الشهر: تحسن سعر الغلة، وسببه أن في يوم الأربعاء عاشره وثالث عشرين أبيب، بلغ ماء النيل إلى أربعة عشر إصبعاً من أحد عشر ذراعاً، ونقص أربعة أصابع، ثم لم يناد عليه في يومي الخميس والجمعة، فاشتد قلق الناس، وأمسك خزان القمح أيديهم عن بيعه، ليبلغوا فيه أملهم من الغلو، فلطف الله بعباده، ونودي عليه في يوم السبت، واستمر النداء.
وفي يوم الأربعاء: المذكور انتقض على السلطان الألم الذي يعتاده برجله، ولزم الفراش إلى يوم الخميس خامس عشرينه.
وفي يوم الأحد سابع عشرينه: - وهو حادي عشر مسرى - أوفي ماء النيل ستة عشر ذراعاً، فركب السلطان حتى خلق المقياس بين يديه، ثم فتح الخليج.
شهر جمادى الآخرة، أوله الأربعاء:(3/178)
أهل والناس من كثرة فساد العربان بنواحي أرض مصر، في جهد.
وفي رابعه: حفر أساس الجامع المؤيدي بجوار باب زويلة.
وفي سادسه: برز الأمير ألطنبغا العثماني نائب الشام، ونزل بالريدانية خارج القاهرة.
وفي ليلة الحادي عشر منه: طرق الأمير سودن القاضي حاجب الحجاب الجامع الأزهر بعد الفراغ من صلاة عشاء الآخرة، ومعه كثير من مماليكه وأعوانه، فنهبوا شيئاً كثيراً من ثياب وفرشهم، ومنع الناس من المبيت به، وكان قد وشي إليه بأن كثيراً ممن ينام به تصدر منه منكرات قبيحة، فكان في إزالته ما ظنه منكراً أضعاف ما ظنه من المنكر.
وفي هذا الشهر المبارك: ارتفع سعر الغلال، فبلغ الأردب القمح إلى مائة وستين درهماً، والأردب الشعير إلى مائة وثلاثين درهماً، مع توالي زيادة ماء النيل وكثرة الغلال.
وفيه قدم الخبر بخروج الأمير قنباي المحمدي عن الطاعة، وأنه ثارت الفتنة بدمشق، ثم قدم الخبر بخروج الأمير طرباي نائب غزة أيضاً عن الطاعة، وأنه سار إلى الأمير قنباي فاستعد السلطان، وناب الأمير يشبك شاد الشرابخاناه، ومعه مائة مملوك، وبعثه نجدة إلى الأمير ألطنبغا العثماني، وذلك أنه لما حضر الأمير جلبان أمير أخور إلى دمشق بطلب الأمير قانباي المحمدي إلى القاهرة أظهر امتثال ذلك، وأخذ ينقل حريمه إلى بيت غرس الدين، وطلع بنفسه في ثاني جمادى الآخرة إلى البيت المذكور بطرف القبيبات على أنه متوجه إلى مصر. فلما كان في سادسه، وبيبغا المظفري، وابن منجك، وجلبان، وأرغون شاه، ويشبك الأيتمشي، في جماعة يسيرون بسوق الخيل، بلغهم أن يلبغا كماج كاشف القبلية، حضر في عسكر إلى قريب داريا، وأن خلفه من جماعته طائفة، وأن قنباي طلع إليه، وتحالفا، ثم عاد إلى بيت غرس الدين، وقد تأهب للحركة، فاستعد المذكورون، ولبسوا آلة الحرب، وزحفوا إليه، وقاتلوه من بكرة النهار إلى العصر، فهزمهم ومروا على وجوههم إلى صفد، ودخل قانباي إلى دمشق، ونزل دار العدل من باب الجابية، ورمى على أهل القلعة بالمدفع، وأحرق جملون دار السعادة، فرماه من بالقلعة بالمجانيق. فانتقل إلى خان السلطان، وبات في خيمة وهو يحاصر القلعة. ونزل على باب الفرنج تنبك البجاسي نائب حماة، وعلى الباب الذي من جهة باب البريد الأمير طرباي نائب غزة، وعلى باب الحديد الأمير تنبك دوادار قانباي، إلى أن بلغهم وصول العساكر، ساروا من دمشق. وكان الأمير ألطنبغا العثماني قد توجه على بلاد المرج إلى جرود، فجد العسكر السير وراء قانباي، إلى أن نزلوا برزة، وتقدم منهم طائفة، فأخذوا من ساقته أغناماً وغيرها، وجرح أحمد بن تنم في يده بنشاب، وجرح معه جماعة فلما بلغ الخبر الأمير أينال الصصلاني نائب حلب رحل في ثالث عشره من حلب، فنزل قانباي سلمية في سلخه، ثم رحل من حماة ليلة ثاني عشر شهر شعبان يريد حلب، فاجتمع بأينال نائب حلب في نهار الأربعاء حادي عشره، واتفقوا جميعاً على التوجه إلى جهة العمق، وسيروا أثقالهم في ليلة الخميس وأصبحوا وقد أجهر نائب قلعة حلب النداء بالنفير العام، فأتاه جل أهل حلب، ونزل بمن عنده من العسكر، فلم يثبتوا، وفر قانباي وأينال الصصلاني على خان طومان، وتخطف العامة بعض أثقالهم. وكان السلطان قد بلغه - وهو برأس وادي عارا يريد دمشق - فرار قانباي، فعدى السير حتى دخل دمشق.(3/179)
وفيه صار الجامع الأزهر تحت نظر الأمير سودن القاضي حاجب الحجاب فاستناب عنه في النظر رجلاً ممن قدم إلى القاهرة مع الملك المؤيد شيخ من دمشق، واشتهر بمجالسته وعرف بكثرة الترداد إليه، يقال له شمس الدين طغد الخواجا الشمس الماجوزي - يعاني المتجر - فجرت في مباشرة هذا المذكور حوادث بالجامع الأزهر لم يعهد لها نظير في شناعتها، منها أنه لم يزل هذا الجامع منذ بني يجاور به طوائف من الناس، ما بين عجم ومغاربة وزيالع، ومن يرد من أرض الريف إلى القاهرة من طلبة العلم، ولكل طائفة رواق يختص بهم، فلا يبرح عامراً بتلاوة القرآن ودراسته وتعليمه والاشتغال بأنواع العلوم من الفقه والنحو وسماع الحديث، وعقد مجالس الوعظ، فيجد الإنسان إذا دخل إليه من الأنس بالله، والارتياح، وترويح النفس، ما لا يجده قبل أن يصير فيه، وصار أرباب الأموال يقصدون هذا الجامع بأنواع البر، من الذهب والفضة والفلوس، مساعدة للمقيمين به على التفرغ للعبادة، وفي كل قليل تحمل إليهم أنواع الأطعمة والخبز والحلاوات، لاسيما في المواسم، وبلغ عدد مجاوريه إلى سبعمائة وخمسين رجلاً فأمر الماجوزي - في جمادى الأولى من هذه السنة - بإخراج المجاورين من الجامع ومنعهم من الإقامة به، وأخرج ما كان لهم فيه من صناديق ونحوها، ظناً منه أن هذا الفعل مما يثاب عليه من الله، وما كان إلا من أعظم الذنوب وأشدها نكراً، وأكثرها ضرراً، لما نزل بأهل الجامع من البلاد الكبير، وتشتت كل الفقراء، وعز عليهم وجود ما كان يأويهم، فساروا في القرى، وتبدلوا بعد الصيانة، وفقد من الجامع ما كان يوجد فيه من كثرة تلاوة القرآن، ودراسة العلم، وذكر الله تعالى، ثم لم يقنع بما صنع، حتى زاد في التعدي، وأغرى الأمير سودن القاضي بأن أناساً يبيتون بالجامع ويفعلون ما لا ينبغي ذكره، وكانت العادة أيضاً قد جرت بمبيت كثير من الناس في هذا الجامع، ما بين تاجر وفقيه وجندي وغيرهم، منهم من يقصد بمبيته البركة، ومن الناس من لا يجد مكاناً يأويه، وفيه من يستروح بالمبيت فيه، خصوصاً في زمن الصيف، وأيام المواسم، فإنه يمتلئ صحنه، وأكثر رواقاته.
فلما كان في ليلة الأحد حادي عشر جمادى الآخرة: طرق الأمير سودن الجامع بعد عشاء الآخرة، والوقت صيف، وقبض جماعة وضربهم، وكان قد حضر معه من الأعوان والغلمان، ومن يقصد النهب أمة كبيرة، فحل بمن كان بالجامع أنواع من البلاء، ووقع النهب فيهم، فأخذت عمائمهم وفرشهم، وفتشوا فأخذ من عدة من الناس مال كان على أوساطهم ما بين ذهب وفضة، وفيهم من سلب ثيابه، فكان أمراً من الشناعة لم يسمع بأقبح منه، سيما والناس يومئذ يتظاهرون بأنواع المحرمات القبيحة، تظاهر من يتبجح بما يعمل، ويفتخر بما يبدي، ورأى الماحوزي أنه قد أزال المنكر من الجامع، ولم يبق من المعروف إلا عمل ثوب أسود غشي به المنبر، وجدد له علمين، بلغت النفقة على ذلك نحو خمسة عشر ألف درهم، فسبحان من يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، لا إله إلا هو.
وفي هذا الشهر: قدم الأمراء من سفرهم بالبحيرة، وذلك أن أهل البحيرة فروا منهم إلى جهة الفيوم، فسار الأمير تنبك ميق، وسودن القاضي حاجب الحجاب، إلى حربهم بالفيوم، فلم يظفرا بهم.
وفي ثاني عشرينه: استقر الأمير مشترك في نيابة غزة، عوضاً عن طرباي.
وفي سابع عشرينه: خلع على الأمير ألطنبغا القرمشي أمير أخور، واستقر أميراً كبيراً، عوضاً عن الأمير ألطنبغا العثماني. وفيه قدم رسول دوج البنادقة من الفرنج بكتابه وهدية فيها هناب بلور محلى بفضة مجراة بالمينا، وأربعة طشوت بأربعة أباريق، وخمسة أطباق وهناب، وشربتان، كل ذلك فضة مجراة بالمينا وملعقة فضة بساعد مرجان، وجوخ، وحرير مخمل، وحلوى سكرية، وزجاج، فعرب كتابه، وقبلت هديته.
وفي سلخه: خلع على الأمير الكبير ألطنبغا القرمشي واستقر في نظر المارستان المنصوري على العادة، وخلع على الأمير تنبك ميق رأس نوبة، واستمر أمير أخور، عوضاً عن القرمشي.
شهر رجب أوله الجمعة:(3/180)
في ثالثه: قدم الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين الأستادار من البحيرة بغير طائل، وقد بلغ إلى قبيصة قريباً من العقبة الصغرى وقد التقى أهل البحيرة مع عرب لبيد أهل برقة، واقتتلوا، فانكسر أهل البحيرة، وأخذ منهم لبيد نحو ثلاثة آلاف بعير، وعشرات آلاف من الأغنام ومضى أهل البحيرة نحو الفيوم، فاستولى العسكر على أغنام كثيرة جداً، وهلك لهم أكثر مما أخذ منهم، فكان عدة ما ذهب لأهل البحرة في هذه الحركة من الأغنام زيادة على مائة ألف رأس، يخاف بسببها أن تعز الأغنام بأرض مصر.
وفي رابعه: خلع على الأمير سودن القاضي حاجب الحجاب، واستقر رأس نوبة عوضاً عن تنبك ميق، وخلع الأمير سودن القاضي قرا صقل، واستقر حاجب الحجاب.
وفي حادي عشره: سار الأمير أقباي الدوادار على مائتي مملوك، نجدة لنائب الشام. وفيه دار محمل الحاج على العادة.
وفي ثالث عشره: قدم الأمير ناصر الدين محمد بن إبراهيم بن منحك من دمشق، فاراً من الأمير قنباي، فارتجت القاهرة لسفر السلطان، وكثر الاهتمام بذلك.
وفي رابع عشره: قبض على الأمير جانبك الصوفي أمير سلاح وسجن في برج بقلعة الجبل.
وفيه رسم للأمراء بالتأهب للسفر إلى الشام، وأخذ السلطان في عرض المماليك، وتعيين من يختاره للسفر.
وفي ثامن عشره: أنفق السلطان نفقات السفر، فأعطى كل مملوك ثلاثين ديناراً أفرنتية، وتسعين نصفاً مؤيدية، وفرق الجمال.
وفي تاسع عشره: قبض على الوزير تاج الدين عبد الرزاق بن الهيصم، وضرب بالمقارع، وأحيط بحاشيته وأتباعه، وألزم بمال كبير.
وفي حادي عشرينه: خلع علي علم الدين - المعروف بأبو كم - واستقر في نظر الدولة، ليسد مهمات الدولة مدة غيبة السلطان.
وفي يوم الجمعة ثاني عشريه: ركب السلطان بعد صلاة الجمعة من قلعة الجبل، ونزل بمخيمه خارج القاهرة. وخلع على الأمير ططر وعمله نائب الغيبة بديار مصر، وأنزله بباب السلسلة. وخلع على الأمير سودن قراصقل حاجب الحجاب، وجعله مقيماً للحكم بين الناس، وخلع على الأمير قطلوبغا التنمي، وأنزله بقلعة الجبل.
وبات السلطان تلك الليلة، واستقل من الغد بالمسير إلى الشام، ومعه الخليفة، وقاضي القضاة ناصر الدين محمد بن العديم الحنفي - وحده من دون القضاة حسب سؤاله لما له من التعلقات ببلاد الشام - فدخل السلطان إلى غزة في تاسع عشرينه، وسار منها في نهاره، وكان قد خرج الأمير قنباي من دمشق في سابع عشرينه، ومعه طرباي نائب غزة، وسودن من عبد الرحمن نائب طرابلس، يريد حلب.
وفي تاسع عشرينه: نزل حسين بن نعير على سلمية، لأخذ الأمير حديثة بن سيف، فركب إليه وقاتله، فظفر به حديثة وقطع رأسه، وحملها إلى السلطان.
شهر شعبان، أوله الأحد: في ثانيه: دخل الأمير ألطنبغا العثماني نائب الشام إلى دمشق، وقرئ تقليده فكان يوماً مشهوداً.
وفي يوم الجمعة سادسه: قدم السلطان دمشق، وسار منها بعد يومين في أثر قنباي ورفيقه.
وقدم الأمير أقباي الدوادار على عسكر، فانتهى إلى قريب من تل السلطان، ونزل السلطان على سرمين، فخرج أينال الصصلاني نائب حلب، وقنباي، بمن معهما، ولقوا أقباي وقاتلوه، فكسوره، وقبضوا عليه، وعلى جماعة كبيرة، فأتى الصارخ بذلك للسلطان، فركب من سرمين وأدركهم، فلم يثبتوا، وفروا فقبض على أينال نائب حلب، وشرباش كباشة حاجب حلب، وتمان أرق، وجماعة، في يوم الخميس رابع عشره، ومضى إلى حلب فأخذ قنباي أسيراً، وأحضر إليه في ثالث يوم الوقعة، فقتل معه جماعة وسيرت أربعة رءوس من رءوسهم إلى القاهرة، فقدم بها الأمير شاد الشربخاناه في يوم الأحد خامس عشر رمضان، وهي رأس الأمير قنباي المحمدي نائب الشام، ورأس الأمير أينال الصصلاني نائب حلب، ورأس شرباش كباشة - وكان قد نقل من القدس واستقر في حجوبية الحجاب بحلب - ورأس الأمير تمان تمر أرق، الأمير الكبير بحلب، فرفعت على رماح، ونودي عليها بالقاهرة هذا جزاء من خامر على السلطان، وأطاع الشيطان، وعصى الرحمن، ثم علقت على باب زويلة أياماً وحملت إلى الإسكندرية، فطيف بها هناك، ثم أعيدت إلى القاهرة وسلمت إلى أهاليها.(3/181)
وخلع السلطان بحلب على الأمير أقباي الدوادار، واستقر به. في نيابة حلب، وعلى الأمير جرقطلو، واستقر به في نيابة حماة، عوضاً عن الأمير تنبك البجاسي، وخلع على الأمير يشبك شاد الشربخاناه، واستقر به في نيابة طرابلس، فقدم أبو يزيد بن قرا يلوك على السلطان بحلب، يهنئه بالنصر، ومعه هدية سنية، فخلع عليه وأكرمه، ثم بعثه إلى أبيه في رابع عشرين رمضان، ومعه هدية جليلة.
وفيه توجه الأمير يشبك نائب طرابلس من حلب إلى محل كفالته، ثم قدمت رسل قرا يوسف وغيره. وورد الخبر بخروج كزل نائب ملطية عن الطاعة، ومسيره منها إلى جهة التركمان.
وتوجه السلطان من حلب عائداً إلى دمشق، فنزل حماة، وعزم على الإقامة بها مدة الشتاء، ليحسم مواد الفتن، ويأخذ من فر في وقعة قنباي، وهم تنباك البجاسي نائب حماة، وسودن من عبد الرحمن نائب طرابلس، وطرباي نائب غزة، وكزل نائب ملطية وغيرهم، فأقام أياماً، وبلغه عن القاهرة ما اقتضى حركته إليها، وقدم الأمير طوغان أمير أخور نائب صفد، وقد أنعم عليه بإمرة مائة بديار مصر، في آخر شهر رمضان، وتوجه إلى الشرقية لأخذ تقادم الولاة والعربان، عوناً له على تجديد ما نهب له في الوقعة.
وفي هذه السنة: حدث غلاء عظيم بديار مصر، وذلك أن هذه السنة لما أهلت كانت الأسعار رخيصة، فلا يتجاوز الأردب القمح نصف دينار، إلا أن الغيث كان في أوانه قليلاً بأرض مصر، فلم ينجب الزرع بنواحي الوجه البحري كله من الشرقية والغربية والبحيرة، ولا حصل منها وقت الحصاد طائل.
وحدث مع هذا في كثير من نواحي أرض مصر فأر أتلف كثيراً من الغلال، واتفق مع ذلك وقوع الفتنة بأراضي البحيرة وخروج العسكر إليها، فتلف من غلالها شيء كثير، فإنها تمزقت تمزيقاً فاحشاً، ثم أن العسكر توجه إلى بلاد الصعيد في وقت قبض المغل، فعاثوا وأفسدوا ولم ينالوا من المفسدين الغرض، وعادوا عوداً ردياً، فعظم النهب وشن الغارات ببلاد الصعيد، وشملت مضرة العربان عامة الناس.
ووقع الغلاء بأرض الحجاز وبوادي العرب، وبلاد الشام، فدف إلى أرض مصر من هذه البلاد خلائق كثيرة لشراء القمح، فحملوا منه ما لا يقدر قدره، وكان مع ذلك كله توجه السلطان من القاهرة إلى الشام، بسبب الفتنة التي أثارها قنباي المحمدي، فخلا الجو لمن يحكم بالقاهرة، وتصرف أقبح تصرف وذلك أنه أخذ عند ابتداء زيادة النيل يستكثر من شراء القمح، فأشيع عنه أنه يخزنه لينال فيه ربحاً كثيراً، فإن النيل يكون في هذه السنة قليلاً، وكثرت الإشاعة بهذا، فتنبه خزان القمح وأمسكوا أيديهم عن بيعه، فحدث مع هذا توقف النيل عن الزيادة في جمادى الآخرة، كما تقدم ذكره، فجزع الناس، وأخذ الأغنياء في شراء القمح وخزنه، فارتفع سعره، وعز وجوده بعد كساده. فلما من الله بزيادة ماء النيل، حتى بلغ القدر المحتاج إليه بزيادة، اطمأنت قلوب العامة، فأرجف خزان القمح بأن الفتن ببلاد الصعيد عظيمة، وأن الغلاء واقع من عدم الواصل، فلطف الله عز وجل، وثبت ماء النيل حتى قرب برد الخريف، ثم نزل نزولاً حسناً، وزرع الناس الأراضي، وقد أمنوا حدوث الدودة، حتى كمل الزرع، ودخل شهر رمضان، ومع ذلك القمح أخذ في الزيادة في الثمن إلى أن بلغ الأردب إلى مائة وستين درهماً، وعز وجوده، وتعذر وجود التبن أيضاً، بحيث علفت الدواب بالنخال، ومن الناس من علفها عوضاً عن التبن قشور القصب، وبلغ كل حمل من التبن إلى ثلاثمائة درهم، بعد ما كان بدون الأربعين درهماً، فلم يهل شوال حتى زاد الأردب القمح على مائتي درهم، وقل الواصل منه من أجل أن المتولي حجر على من يجلب القمح، وجدد على كل أردب مبلغاً يؤخذ من بائعه، فعز وجود الخبز بالأسواق، وتزاحم الناس في الأفران على شرائه منها، وشنعت القالة في متولي القاهرة. وفحش الإرجاف به، فخاف على نفسه، واستعفى نائب الغيبة، فأعفاه من التحدث في الحسبة، واستدعى رجلاً من الشاميين يعرف بشمس الدين محمد الحلاوي، وولاه الحسبة في العشرين منه بسفارة الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين الأستادار، فباشر بعفة عن تناول ما لا يستحقه، إلا أنه منع من الزيادة في السعر، وتشدد فيه، فقل الواصل حتى فقد القمح وبلغ الناس الجهد.(3/182)
وكان خبر القاهرة المحروسة قد انتشر في عامة أرض مصر، قبليها وبحريها، فارتفعت عندهم الأسعار أيضاً، وأقبل أهل الوجه البحري إلى ساحله بالقاهرة في شراء القمح لقلته عندهم، وأمسك أهل الصعيد أيديهم عن بيع القمح، لما بلغهم من منع الحلاوي الزيادة في سعره، فاشتد الأمر، وكثر صراخ الناس من الرجال والنساء، وشنع ضجيجهم لفقدهم الخبز بالقاهرة ومصر وجميع أرض مصر، من دمياط والإسكندرية إلى قوص، وضجت عامة المدن والقرى والأرياف.
فلما أهل ذو القعدة: تزايدت الأسعار بالقاهرة ومصر لقلة الواصل، واشتد الزحام بالأفران في أخذ الخبز، فخشي الحلاوي على نفسه، واعتزل.
وأعيد التاج في يوم الاثنين ثاني عشره، وقد امتدت الأيدي لخطف الخبز، واجتمع عشرات آلاف من الناس بساحل بولاق لطلب القمح، فاستشعر الناس بنهب البلد كله، وخشوا من تعطل الأسواق وترك البيع والشراء، لكثرة الاشتغال بطلب الخبز والقمح، فإن العامة صارت تخرج لطلبه من نصف الليل، وتزدحم بالأفران، وتمضي طوائف من الرجال والنساء في طلب القمح إلى الساحل، ويبيتون هناك، فغلت أصناف المأكل كلها وشرهت النفس، وطلب كل أحد شراء أكثر ما يحتاج إليه بحسب قدرته، وبمقتضى حاله من السعة والضيق، فتفاقمت الشناعة، وعظم الخطب، بحيث عجز كل أحد عن شراء القمح ما لم يعط أحداً من أعوان الوالي مالاً، ويبيت معه بالساحل، وكان الوقت شتاء، فإذا اشترى أردباً فما دونه يحتاج إلى عون آخر يحرسه، ويحميه من النهابة.
واستقر على كل أردب مبلغ خمسين درهماً لمن يحميه، ولا يأخذ السمسار إلا عشرة دراهم، بعدما كانت عسرته خمسة دراهم، ويأخذ التراس أجرة حمل الأردب خمسة عشر درهماً، بعدما كانت أجرته خمسة دراهم، وإذا وردت مركب تحمل القمح إلى قريب الساحل لا يجسر أربابها على عبور الساحل خوفاً من النهب، وإنما يوقف بها في وسط النيل، فيحتاج المشتري أن يركب إليها في مركب يسير به، ثم يعود به وبما اشتراه بأجرة يتكلف لها، وغرقت مركب فيها جماعة كثيرة ممن عدى من الساحل ليشتري من قمح وصل في مركب قد وقفت في وسط النيل، فغرق منهم نحو العشرين ما بين رجل وامرأة، فلم يقدر عليهم. ومات عدة من النسوان في الزحمة بالأفران، وتجاوز القمح الثلاثمائة درهم كل أردب، سوى كلفه، وتقرب من مائة درهم، ويحتاج في غربلته وطحنه إلى مائة أخرى، فيقوم بنحو خمسمائة درهم.
فلما اشتد الأمر، خرج قاضي القضاة شيخ الإسلام جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن البلقيني ليس تسقى بالناس، في يوم الاثنين ثامن عشره ومعه عالم لا يحصيهم إلا خالقهم، سبحانه وتعالى فسار من منزله ماشياً، ومعه الأمير التاج، حتى خرج من باب النصر إلى الترب، فانطلقت الألسنة بكل سوء في حق التاج، ولم يبق إلا أن يرجم، فاختفى ومضى شيخ الإسلام بالناس إلى سفح الجبل، قريباً من قبة النصر، فضجوا ودعوا الله سبحانه وتعالى وهم قيام نحو ساعة، ثم انصرفوا، فكان من المشاهد العظيمة، وتيسر وجود الخبز إلى يوم السبت رابع عشرينه، ثم فقد. وسبب فقده أن التاج منع كل من قدم بقمح أن يبيعه إلا للطحانين، وسعر الأردب بثلاثمائة وخمسين درهماً، فكان إذا طحن وبيع دقيقاً وقف من حساب ستمائة درهم وأزيد، فإذا عجن خبزاً كان من حساب ثمانمائة درهم وأزيد، فامتنع من سوى الطاحنين من سائر الناس من شراء القمح، وكثر طلبهم للدقيق والخبز، وازدحموا على الأفران من عدم الخبز بالأسواق.
وانقطع الواصل من القمح، فركب التاج إلى البلاد القريبة، وتتبع مخازن القمح بها، وباعها على الطحانين فشنع الأمر في الأفران، واقتتل الناس على أخذ الخبز منها، وانتهبوا عدة أفران وأخذوا ما بها من العجين، فعطلها أربابها، وتغيبوا، وأبيعت البطة من الدقيق بمائة درهم، والقدح من الأرز بثلاثة عشر درهماً، والأردب القمح في البحر للطحان بثلاثمائة وخمسين، سوى كلفه، ولمن عدا الطحان من الناس بحسب تشدد بائعه، فاشتري بثمانمائة وألف درهم الأردب، وشح كل أحد به، وامتنع من عنده منه شيء أن يبيعه، وإن باع فلا يسمح منه إلا بقليل، وبلع الأردب الشعير - إن وجد - إلى مائتين وخمسين، والأردب الفول إلى ثلاثمائة درهم، وبلغ الحمل من التبن إلى مائتين، وبيعت أربعة أحمال بألف درهم، حسبها أن تكون قدر حملين فيما كنا نعهده.(3/183)
وتزايد سعر الذهب، فبلغ المثقال إلى مائتين وسبعين درهماً، والدينار الأفرنتي إلى مائتين وخمسين درهماً، والدينار الناصري إلى مائتين، ثم اشتد الأمر، فندب نائب الغيبة إلى كل فرن جماعة من الأجناد يقفون به لمنع العامة من الخطف والنهب، وقعد حاجب الحجاب بنفسه على فرن بخط التبانة، ومعه عدة من مماليكه، حتى وجد الخبز على الحوانيت بالأسواق، بعدما عجز الكثير من الناس عن الخبز، واعتاضوا عن أكله بالفول الأخضر والقلقاس، ولولا لطف الله تعالى بعباده وكون البهائم مرتبطة على البرسيم الأخضر، لهلكوا من عند آخرهم جوعاً، فإن القدح الفول بلغ أربعة دراهم، وتعذر وجود الشعير، وخرج الناس أفواجاً إلى الأرياف فاشتروا القمح بخمسمائة درهم الأردب غير كلفه، وأنا استقام على أردب قمح في آخر ذي القعدة، اشترى لي من الريف مع - العناية - بستمائة درهم.
وأهل ذو الحجة: والناس في جهد جهيد، من تعذر وجود الخبز والدقيق والقمح، إلا بعناء ومشقات كثيرة، مع تواصل مجيء مراكب الغلال، ونزول الغيث المحتاج إليه في وقت الحاجة، وخصب الزروع وكثرتها، وقرب أوان مجيء الغلة الجديدة، ولكن الله يفعل ما يريد.
وفي يوم الخميس رابع عشرين شوال: قدم الأمير فخر الدين عبد الغني بن أبي الفرج إلى القاهرة، وقد عاد من بغداد إلى السلطان وهو بحلب، فولاه كشف الشرقية والغربية والبحيرة، ورد إليه أمر قطيا.
وفي يوم السبت رابع عشرين ذي القعدة: قدم كتاب السلطان بأنه قدم دمشق، وعزم على عوده إلى القاهرة، وأنه قبض على الأمير سودن القاضي، وخلع علي بردى باك قصقا، واستقر به عوضه رأس نوبة كبيراً، وسجن سودن القاضي.
ورسم السلطان بتجهيز ولده الأمير صارم الدين إبراهيم لملاقاته، فسار إليه في يوم الثلاثاء سابع عشرينه وفي خدمته الأمير سودن حاجب الحجاب، والأمير كزل العجمي في عدة من المماليك، فلقي السلطان، وعاد معه، فنزل السلطان على السماسم شمالي خانكاه سرياقوس في يوم الخميس نصف ذي الحجة.
وركب السلطان في ليلة الجمعة إلى الخانكاه، وعمل مجتمعاً حضره عشر جوق من قراء القرآن، وعدة من المنشدين، ومدت لهم أسمطة جليلة، ثم أقيم السماع بعد فراغ القراء والمنشدين طول الليل، فكانت ليلة غراء، مدت فيها أنواع الأطعمة وأنواع الحلاوات، وطيف على الحاضرين بالمشروب من السكر المذاب، وأنعم السلطان على القراء والمنشدين، وصوفية الخانكاه بمائة ألف درهم.
وركب السلطان بكرة يوم السبت سادس عشره من الخانكاه، ونزل بطرف الريدانية، فتغدى هناك، وعبر من يومه إلى القاهرة، وصعد قلعة الجبل، فكان يوماً مشهوداً.
ونودي من الغد بالأمان، وأن الأسعار بيد الله سبحانه تعالى، فلا يتزاحم أحد على الأفران، وتصدى السلطان للنظر في الأسعار بنفسه، وعمل معدل القمح، وقد تزايدت الأسعار، وبلغ الأردب القمح - إن وجد - إلى ما يزيد على ستمائة درهم، والأردب الشعير إلى أربعمائة درهم.
وفي يوم الاثنين خامس عشرينه: خلع على الأمير جقمق الدوادار الثاني، واستقر دوادار كبيراً، عوضاً عن الأمير أقباي المتولي نيابة حلب، وخلع على الأمير يشبك واستقر دواداراً ثانياً، عوضاً عن الأمير جقمق.
وفيه نودي بمنع الناس من المعاملة بالدنانير الناصرية، وتهدد من تعامل بها أن تسبك في يده هذا وقد بلغ سعر المثقال الذهب إلى مائتين وثمانين درهماً، والدينار الأفرنتي إلى مائتين وستين درهماً، والدينار الناصري إلى مائتين وعشرة دراهم، فرسم أن يكون سعر المثقال بمائتين وخمسين، والأفرنتي بمائتين وثلاثين، وأن يقص الناصري، ويدفع فيه من حساب مائة وثمانين، ولا يتعامل به.
وفي يوم السبت سلخه: خلع على الأمير سيف الدين إبراهيم، المعروف بأبخروص - ويقال خرز - نقيب الجيش، واستقر في ولاية القاهرة عوضاً عن تاج الدين تاج بن سيفا القازاني، المعروف بالتاج الشويكي الدمشقي، وخلع على الأمير التاج، واستقر أستادار الصحبة.
وفيه انتصب السلطان في مجلسه بالإصطبل للحكم بين الناس على عادته، وضرب جماعة من الكتاب والفلاحين وغيرهم. وفيه قدم مبشرو الحاج، وأخبروا بسلامة الحاج، وأن القمح أبيع بمكة كل ويبة ونصف بدينار.
وفيه قل وجود الخبز في الأفران، لعدم القمح بالساحل، وبشون الأمراء، ومخازن التجار.
وحج بالناس من مصر الأمير يشبك الدوادار الصغير.(3/184)
وفيها عدى مصطفى بن عثمان من اسطنبول إلى أفلاق، فاضطرب الأمير محمد كرشجي.
وفيها اشتد الوباء بمدينة فاس من بلاد المغرب وأعمالها، حتى فني أكثر الناس سوى من مات من الجوع في سني الغلاء.
ومات في هذه السنة
ممن له ذكر سوى من تقدم
الوزير سعد الدين إبراهيم بن بركة البشيري، يوم الأربعاء رابع عشر صفر. ومولده ليلة السبت سادس ذي القعدة، سنة ست وستين وسبعمائة، وبالقاهرة.
ومات قاضي القضاة الحنفية بدمشق، شمس الدين محمد بن الشيخ جلال الدين رسولاً بن أحمد بن يوسف التركماني، المعروف لابن التباني، يوم الأحد ثامن عشرين رمضان.
ومات سعد الدين بن بنت الملكي، في ثالث رمضان. ولي نظر الجيش.
ومات زين الدين حاجي الرومي، شيخ التربة التي أنشأها الملك الناصر فرج، على قبر أبيه الملك الظاهر برقوف، خارج باب النصر من القاهرة، ليلة الخميس رابع عشرين شوال، واستقر عوضه في مشيختها الشيخ شمس الدين محمد البساطي المالكي، بعناية الأمير ططر نائب الغيبة.
ومات الملك سكندر بن ميرز شيخ عمر بن تيمورلنك، وكان قد ملك بلاد فارس بعد قتل أخيه يبر محمد عدة سنين، ثم خالف على عمه شاه رخ، فسار إليه وقاتله، وأسره، وسمل عينيه، وأقام عوضه أخاه رستم، وخلاه لسبيله، وعاد فجمع سكندر جمعاً قليلاً، وقدم عليهم ابنه، فقاتلهم رستم وهزمهم، وأخذ سكندر، وقتله بأمر عمه شاه رخ.
ومات الفقير المعتقد الشيخ محمد الديلمي، في رابع ذي القعدة، ودفن بالقرافة.
سنة تسع عشرة وثمانمائة
أهلت، وسلطان الديار المصرية والبلاد الشامية والحجاز، الملك المؤيد أبو النصر شيخ المحمودي الظاهري، وخليفة الوقت المعتضد بالله أبو الفتح داود، وأتابك العساكر الأمير ألطنبغا القرمشي، وأمير أخور كبير تنبك ميق ورأس نوبة النوب الأمير بردباك. والدوادار الكبير الأمير جقمق، وحاجب الحجاب الأمير سودن قرا صقل، وقضاة القضاة على ما تقدم في السنة الماضية، ما عدا الحنبلي، فإنه قاضي القضاة علاء الدين علي بن محمود بن أبي بكر بن مغلي الحمري، ومباشري الدولة على ما مر في السنة الماضية، ما خلا الوزارة، فإنها شاغرة، ونائب الإسكندرية الأمير أقبردي المنقار، ونائب غزة الأمير مشترك، ونائب صفد الأمير خليل الجشاري، ونائب الشام الأمير ألطنبغا العثماني، ونائب طرابلس الأمير ونائب حماة الأمير جرقطلو، ونائب حلب الأمير أقباي.
وأما مكة فإن الشريف حسن بن عجلان عزل عن نيابة السلطنة ببلاد الحجاز، وعزل ابناه الشريف بركات والشريف أحمد عن إمرة مكة، في صفر من السنة الماضية، واستقر الشريف رميثة بن محمد بن عجلان في إمرة مكة. ودخل إليها بعد ما فارقها المذكورون في مستهل ذي الحجة منها، وأقام بها، فأهلت هذه السنة والأمر على هذا.
شهر الله المحرم الحرام، أوله الأحد: في ثانيه: ركب السلطان من قلعة الجبل، وعبر النيل في الحراقة إلى البر الغربي للصيد، وأقام هناك، فتلاحقت به أهل الدولة. وقدم كتاب الأمير فخر الدين عبد الغني بن أبي الفرج من الوجه البحري أن القمح بلغ عنده إلى تسعمائة درهم الأردب.
وفيه نزل الطواشي زين الدين فارس بمبلغ كبير من الفضة المؤيدية، وطاف في الجوامع والمدارس، والخانكاهات، وفرق في أرباب وظائفها، الفقهاء والقراء والأئمة والمؤذنين والخطباء والقومة والمترددين، مبلغاً كبيراً فحصل في الأكثر لكل واحد أربعة عشر مؤيدياً، وفيهم من تكرر اسمه في خمسة مواضع وأكثر، فأخذ في كل مكان نصيباً، فتوسع الناس بذلك، وحسن موقعه، وفرق أيضاً مبلغاً في السؤال، فأقل ما كان نصيب الواحد من المساكين خمسة مؤيدية، عنها مبلغ خمسة وأربعين فلوس، فعم النفع، وكل البر عدة طوائف، وكان جملة ما فرق أربعة آلاف دينار.
وفيه بيعت ويبة قمح بمائة وثلاثين درهماً من الفلوس، من حساب كل أردب بثلاثة مثاقيل ذهباً، وبيعت ويبة شعير بثمانين درهماً فلوساً، من حساب الأردب بدينارين.(3/185)
وفي خامسه: خلع السلطان - وهو بناحية أوسيم من الجيزية - على بدر الدين محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين بن يوسف بن محمود العينتابي الحنفي، واستقر به في حسبة القاهرة، وكانت شاغرة منذ قدم السلطان، وإنما كان قد تقدم للطواشي مرجان الهندي الخازندار أن يتحدث فيها من غير أن يخلع عليه، ولا كتب له توقيع، متحدث أياماً، ثم بعثه السلطان إلى الوجه القبلي بمال ليشتري القمح، ويسيره إلى القاهرة توسعة على الناس، وتقدم بعد سفر مرجان إلى الأمير أينال الأزعري أن يتحدث فيها، فنظم العينتابي في الحسبة، والخبز لا يكاد يوجد.
وفي يوم الجمعة سادسه: وردت عدة مراكب من الوجه القبلي تحمل نحو الألفي أردب قمحاً، فتباشر الناس بها.
وفي يوم السبت سابعه: ركب المحتسب، والأمير أينال الأزعري إلى ساحل بولاق، لتفرقة القمح وتوزيعه على الطحانين، فاجتمع عالم لا يحصيهم إلا الله لشراء القمح، فركب الأمير أينال الأزعري في أجناده، طرد الناس عن القمح، خوفاً من النهب، فلم ينتهبوا وتكاثروا عليه، فغضب منهم، وحمل عليهم بمن معه يضربهم، فشنع الحال، وغرقت امرأة، فلم يوقف لها على خبر، وصلب الأمير أينال الأزعري أربعة رجال طول نهارهم وضرب رجلين على ظهورهما عرياً ضرباً وجال في القوم جولة هو ومماليكه، ذهب فيها من العمائم ونحوها ما شاء الله، وعطب عدة أناس، وضرب بدبوسه رجلاً كسر لوح كتفه، وسالت دماء جماعة متعددة، فكان من الأيام الشنيعة، بات الناس بالقاهرة ومصر ليلة الأحد والخبز عندهم أعز ما يذكر، وأشهى شيء به ينظر، وأفخر ما يتحف به من الطرف، وأجل ما يتهادى به من التحف، فلا قوة إلا بالله.
وفي ليلة الخميس: نقلت الشمس إلى برج الحمل، ودخل فصل الربيع، وقد فشا في الناس الموت بالطاعون.
وفي يوم الثلاثاء سادس عشره: عبر السلطان النيل بمن معه، وصعد قلعة الجبل، بخير.
وفي ثامن عشره: وردت عدة مراكب فيها غلال، بعث بها الأمير فخر الدين بن أبي الفرج مما اشتراه، الأردب بمبلغ ثمانمائة درهم بكيل الريف، وهو أردب ونصف بكيل القاهرة، فرسم السلطان أن يباع كل أردب منه على الطحانين بستمائة درهم، فاشتروه منه على هذا السعر، وقبض منهم في ثمنه الذهب خاصة، دون غيره من النقود، ولم يعد لهم في الدينار الأفرنتي إلا بمائتين وثلاثين درهماً، ولا في الناصري إلا بمائة وستين، فتضرروا بذلك من أجل أن الذهب يخرج بالأكثر، فالأفرنتي بمائتين وخمسين، والناصري بمائتين وقد كانوا في سادسه اشتروا القمح الذي ورد بأربعمائة وعشرين الأردب فشملتهم الخسارة من الوجهين، واقتضى هذا أن عز وجود الخبز، وأبيع الرغيف الذي زنته نصف رطل بدرهمين بعد ما كان بدرهم.
وفي تاسع عشره: جلس السلطان بدار العدل من القلعة، وأحضر زين الدين مفلح رسول الملك الناصر أحمد بن الشرف إسماعيل متملك اليمن، ومعه هدية جليلة من شاشات وأزر، وتفاصيل من حرير، وصيني، وعود، ولبان، وصندل، وغير ذلك على مائتي جمال، وفيها عدة سروج من عقيق بأطراف ذهب، وقطاط يخرج منها الزباد فقبلت هديته، وقرئ كتابه، وأنزل رسوله، وأجرى عليه ما يليق به.
وفيه رسم أن يزاد في قطيعة الفدان بأراضي مصر مبلغ مائتي درهم، فيصير بستمائة درهم الفدان، بعدما كان بأربعمائة درهم، وهذا يقتضي استمرار غلاء الأسعار، لأن الغلال لا تتحصل إلا وقد استقامت على أربابها بسعر عال والخسارة لا يأتيها أحد طوعاً، خصوصاً ومعظم غلال أرض مصر للسلطان والأمراء.
وفيه استدعي تقي الدين عبد الوهاب بن أبي شاكر، وخلع عليه خلع الوزارة كرهاً، وكانت شاغرة منذ عزل بن الهيصم.
وفي هذا الشهر: خصب البرسيم الأخضر، وكثر، وانحط سعره، بحيث أنه كان يباع الفدان منه بألف ومائتي درهم، فنزل إلى مائتي درهم، ولهذا عنت البهائم في هذا الغلاء لكثرة اعتلافها من البرسيم الأخضر. وفيه تزايدت أسعار الغلال، فبلغت البطة الدقيق إلى مائتين وخمسين درهماً، ولم يعهد فيما تقدم من الغلوات مثل ذلك.
وفي حادي عشرينه: قدم الركب الأول من الحاج.
وفي ثالث عشرينه: قدم المحمل ببقية الحاج.(3/186)
وفي سادس عشرينه: ركب السلطان ونزل إلى دار الضيافة بجوار القلعة، وقد جمع بها الصناع من الحجارين والبنائين والفعلة، وأقام بها صدراً من النهار، وقد شرعوا في مرمتها، وكانت تشعثت لخلولها في الأيام الظاهرية والناصرية، فذبح فيه للصناع بقرة طبخت واستمر العمل في دار الضيافة مدة أيام.
وفي ثامن عشرينه: نودي بتأهب أجناد الحلقة للعرض على السلطان في أول ربيع الأول، وندب جماعة من البريدية، توجهوا إلى جميع أعمال مصر، لإحضار من في النواحي من الأجناد.
وفي هذا الشهر: قدم الأمير كزل نائب ملطية في جماعة، وهجموا على حلب، فكانت بينهم وقعة انهزموا فيها، بعدما قتل منهم وأسر طائفة. وفيه استقر الأمير ركن الدين عمر بن الطحان نائب قلعة صفد.
وفيه ارتفع السعر بالرملة حتى بلغت العليقة الشعير إلى اثني عشر درهماً فضة، ثم انحط.
وفيه كثرت الفتن بين عرب جرم وعرب العايد، بأرض القدس وغزة والرملة.
وفيه رغب الأمير أحمد بن أبي بكر بن نعير في الطاعة، ثم نفر لما قبض على أخيه.
وفيه قبض على أينال الجركسي - أحد أمراء دمشق - وسجن بقلعتها.
شهر صفر، أوله الثلاثاء: فيه عزل السلطان جميع نواب القضاة الأربع، وكانت عدتهم مائة وستة وثمانين قاضي بالقاهرة ومصر، سوى من بالوجه القبلي والوجه البحري، وشنعت القالة عنهم. وفيه تيسر وجود الخبز بحوانيت الباعة من أسواق القاهرة، فتباشر الناس بذلك، وابتهجوا برؤيته لبعد عهدهم برويته في الحوانيت، وأخذه من غير ازدحام مدة ثلاثة أشهر، أولها مستهل ذي القعدة من السنة الماضية. واستقرت زنة الأخباز التي يفرقها السلطان في كل يوم على الفقراء ستة آلاف رطل، عنها نحو اثني عشر ألف رغيف. وفيه خرج عسكر نجدة للأمير فخر الدين بن أبي الفرج بالبحيرة، وتزايد موت الناس بالطاعون.
وفي خامسه: وقع الاهتمام في عمارة الجامع المؤيدي بجوار باب زويلة، وأقيم بها مائة فاعل، وبضع وثلاثون بناء، ووفيت لهم أجرهم من غير أن يكلفوا فيه أكثر من طائفتهم، ولا سخر أحد من الناس بالقهر.
وفي عاشره: أحصي من ورد اسمه الديوان ممن مات بالقاهرة في مدة شهر أوله عاشر المحرم، فكان ثلاثة آلاف إنسان.
وفي ثاني عشره: استدعى السلطان قضاة القضاة الثلاث، سوى الحنبلي، فإنه سافر إلى بلدة حماة، فحضر الثلاثة بنوابهم، واستقر الحال بين يديه على أن يكون نواب القاضي الشافعي عشرة، ونواب الحنفي خمسة، ونواب المالكي أربعة، وانفضوا على هذا، فتصدى النواب المذكورون للحكم بين يدي، بعدما امتنع نواب الحكم من أول الشهر.
وفي رابع عشره: زيد في عدة نواب القضاة، ثم رد من منع شيئاً بعد شيء، حتى زادت عدتهم عما كانت عليه قبل المنع.
وفي خامس عشره: نودي أن لا يزوج أحد من الشهود مملوكاً من مماليك السلطان، وهدد من عقد نكاح أحد منهم. وفيه بطلت تفرقة الأخباز السلطانية على الفقراء، لسعة الوقت، وذهاب الغلاء.
وفي سادس عشره: تجاوز عدد من يرد اسمه الديوان من الأموات مائة نفس في اليوم. وهذا سوى من يموت بالمارستان، وفي عدة مواضع خارج المدينة، ويكون ذلك نحو الخمسين نفساً.
وفي ثاني عشرينه: كانت عدة من صلي عليه من الأموات - بمصلى باب النصر خاصة - من أول النهار إلى آذان الظهر اثنين وتسعين ميتاً، وشنع ما يحكى من تواتر نزول الموت في الأماكن، بحيث مات في أسبوع واحد من درب واحد ثلاثون إنساناً، وكثير من الدور يموت منها العشرة فصاعداً، وقدم الخبر بكثرة الوباء أيضاً ببلاد الصعيد، وفي طرابلس الشام، وأحصي من مات بها في مدة أيام، فكانت عدتهم عشرة آلاف إنسان، وكثر الوباء أيضاً بالوجه البحري من أراضي مصر.
وفي سادس عشرينه: تجاوزت عدة أموات القاهرة المائتين. وفيه قدم الطواشي مرجان الهندي الخازندار من الصعيد بغلال كثيرة وقد انحل السعر، فبيع الأردب القمح بمائتين وسبعين درهماً، وعنها يومئذ مثقال ذهب، فإن الناس لم يمتثلوا ما رسم به في سعر الذهب، وبلغ المثقال إلى مائتين وسبعين، والأفرنتي إلى مائتين فقط. وقدم الخبر بأن معظم أهل مدينة هو - من صعيد مصر - قد ماتوا بالطاعون.(3/187)
وفي ثامن عشرينه: أنفق من الديوان المفرد على أرباب الجوامك من الأمراء، والمماليك وغيرهم، ذهب وفضة مؤيدية، فحسب عليهم المثقال الذهب بمائتين وسبعين، والأفرنتي بمائتين وخمسين. ولم يصرف لأحد منهم فلوس، ورسم بأنها تخزن، وأن لا يقبض من أحد أبيع عليه شيء من الغلال المحضرة من الصعيد إلا الفلوس لا غير، وذلك ليغير ضربها وتعمل فلوس مؤيدية.
وفيه خلع على الأمير قطلوبغا، واستقر في نيابة الإسكندرية، وعزل أقبردي المنقار، وكان قطلوبغا هذا ممن أنعم عليه الأمير منطاش بإمرة مائة، فطال حموله في الأيام الظاهرية والناصرية، حتى تنبه في هذا الوقت، وولي بغير سؤال ولا قدرة على ما يتجهز به. وفيه قتل بدمشق يعقوب شاه، وشاهين الأجرود، وطوغان المجنون.
وفيه خرجت عدة من الأمراء لقتال أهل البحيرة، فتبعوهم واحتووا لهم على كثير من الجمال والغنم والبقر والخيل، حملت إلى السلطان، وقتلوا عدة من الناس. وفيه اشتد الغلاء بنابلس، وكثر فساد محمد بن بشارة بأرض صفد.
وفيه قدم الأمير فخر الدين بن أبي الفرج كاشف الكشاف، بطائفة من أهل البحيرة، واستاق لهم من الأغنام الشعاري أربعة آلاف وستمائة رأس، وأغنام ضأن ثلاثمائة رأس، وأبقار مائتي رأس، وحمير مائتي رأس، بعثها إلى السلطان، سوى ما حصل بيده ويد أعوانه، ثم جهز أيضاً غنماً شعاري ثلاثة آلاف رأس، وغنم ضأن ألف رأس، وخيلاً عشرين فرساً، ومائتي رأس من البقر، ومائة حمار. وفيه كتب إلى عرب لبيد - أهل برقة - بنزولهم على البحيرة، واستيطانها وقتال أهلها، وأخذهم.
شهر ربيع الأول، أوله يوم الأربعاء: فيه كثر الموتان بالقاهرة ومصر، وتجاوزت عدة من ورد اسمه الديوان من المولي الثلاثمائة، وتوهم كل أحد أن الموت أتيه عن قريب، لسرعة موت من يطعن، وكثرة من يموت في الدار الواحد، وتواتر انتشار الوباء في جميع أراضي مصر، وبلاد الشام، والمشرق، بحيث ذكر أنه بأصبهان غالب أهلها، حتى صار من يمشي بشوارعها لا يرى أحداً يمر إلا في النادر، وأن مدينة فاس بالمغرب أحصى من مات بها في مدة ثلاثين يوماً ممن ورد الديوان - سوى الغرباء من المساكين - فكانوا ستة وثلاثين ألف، وأن المساكن عندهم صارت خالية، ينزل بها من قدم إليها من الغرباء، وأن هذا عندهم في سنتي سبع عشرة، وثمان عشرة وثمانمائة.
وفي هذا الشهر: تصدى الأمير بدر الدين الأستادار لمواراة من يموت من المساكين، بعد تغسيلهم وتكفينهم، فحسن الثناء عليه. وفيه وعك السلطان من عاشره، وشنع حال البلد من كثرة ما بها من الأحزان، فلا تجد إلا باكياً على ميت، أو مشغولاً بمريض، وبلغت عدة من يرد اسمه الديوان من الأموات في ثالث عشرينه ما ينيف على خمسمائة، بما فيهم من موتى المارستان والطرحاء، ومع ذلك والأخبار متواترة بأنه صلى في هذا اليوم بمصليات الجنائز على ما ينيف على ألف ميت، وأن الكتاب يخفون كثيراً ممن يرد اسمه إليهم.
وفي يوم الثلاثاء رابع عشره: خلع على شمس الدين محمد بن الحاج عمر بن شعبان الجابي، واستقر في وظيفة الحسبة، وعزل بدر الدين محمود العينتابي.
وفي سابع عشره: أشهد عليه السلطان بوقف الجامع الذي أنشأه بجوار باب زويلة، ووقف عليه عدة أماكن بالشام ومصر. وفيه تزايد بالسلطان ألم رجله، وتمادى به أياماً.
وفي عشرينه: خرج عدة من الأمراء إلى الصعيد، لقتال المفسدين، والوقت حينئذ أيام قبض الغلال، فيخشى منه تمزقها. وفيه نقص عدد الموتى من خامس عشره.
وفي سابع عشرينه: خلع علي بدر الدين محمود العينتابي، واستقر ناظر الأحباس بعد موت شهاب الدين أحمد الصفدي. وفيه قدم الأمير فخر الدين بن أبي الفرنج من الوجه البحري إلى القاهرة وأقام بها.
وفي تاسع عشرينه: قدم الخبر بنزول الفرنج على ثغر نستراوه، ونهبهم وتحريقهم الثغر. فيه استقر الشيخ ولي الدين أبو زرعة أحمد بن الشيخ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي الشافعي في مشيخة المدرسة الجمالية برحبة باب العيد، بعد موت الشيخ همام الدين محمد بن أحمد الخوارزمي. وانقضي هذا الشهر، وقل دار بالقاهرة ومصر وظواهرهما لم يكن بها حزن على ميت وأقل ما قيل أنه مات من عاشر المحرم إلى آخر هذا الشهر عشرون ألفاً والمكثر يبالغ في العدد.(3/188)
وفيه كانت وقعة في عاشره، بين نائب حلب وبين كزل، قريباً من دربساك، انهزم فيها كزل، وقتل وجرح منه جماعة، وأخذ كردي باك وقتل، وحمل رأسه إلى مصر. وفيه أخذ حسين بن كبك ملطية، وأساء السيرة في أهلها. وفيه حارب نائب حلب حميد بن نعير وهزمه، وغنم له كثيراً من الجمال.
شهر ربيع الآخر، أوله الجمعة: بلغت عدة من ورد اسمه الديوان من الأموات - سوى المارستان والطرحاء - إلى مائة وعشرين.
وفي خامسه: سفر الأمير جانبك الصوفي من سجنه بقلعة الجبل إلى الإسكندرية، فسجن بها.
وفيه كانت عدة من ورد اسمه الديوان من الأموات نيفا وستين، وفي تاسعه كانت عدتهم ثلاثة وعشرين.
وفي ثاني عشره: قبض على الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين الأستادار، بعد ما أوسعه السلطان سباً، وهم بقتله، ثم عوق نهاره بالقلعة، فشفع فيه الأمير جقمق الدوادار، فأسلم له على أن يحمل ثلاثمائة ألف دينار، ونزل معه آخر النهار، وسبب قبضه تأخر جوامك المماليك وعليق خيولهم من عجزه، مع كثرة دالته على السلطان، وبسط لسانه المانه عليه.
هذا والأمير فخر الدين بن أبي الفرج يواصل حمل المال من الوجه البحري، حتى أناف ما حمله على مائة ألف دينار، سوى الخيول وغيرها.
وفيه قبض على كثير من التجار والصيارفة، وجمعوا في بيت الأمير جقمق الدوادار، واشتد الإنكار عليهم، بسبب غلاء سعر الذهب، ومخالفتهم ما رسم لهم به فيه غير مرة، حتى بلغ المثقال إلى مائتين وثمانين، والدينار الأفرنتي إلى مائتين وستين، والناصري إلى مائتين وعشرة دراهم، وباتوا في داره، محتفظاً بهم، وموكلاً عليهم، حتى تراجع السلطان في أمرهم.
فكثر خوض الناس في حديث الذهب، وتوقفوا في أخذه، ثم أفرج عنهم من الغد، ولم يتقرر شيء يعتمد عليه في أمر الذهب.
وفيه كانت عدة من ورد اسمه الديوان من الأموات تسعة وعشرين، وقدم الخبر من دمشق بتزايد الموتان عندهم، وأنه يموت في اليوم ستون إنساناً وأنه ابتدأ الوباء عندهم من أثناء ربيع الأول، عندما تناقص من ديار مصر.
وفي ثامن عشره: كتب السلطان بطلب الشيخ شمس الدين محمد بن عبد الله بن أسعد العبسي القدسي الديري الحنفي من القدس، ليستقر به في قضاء القضاة الحنفية بديار مصر، عوضاً عن ابن العديم بعد موته.
وفي عشرينه: بعث السلطان تشريفاً إلى الأمير فخر الدين عبد الغني بن أبي الفرج كاشف الوجه البحري، ليستقر أستاداراً، عوضاً عن الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين، وكتب إليه بحضوره. وفيه تقرر على الأمير بدر الدين بحمل مائة ألف دينار وخمسين ألف دينار، بعد ما عصر في بيت الأمير جقمق عصراً شديداً وضربت الحوطة على موجوده، وتتبعت حواشيه وأسبابه وألزامه، فقبض عليهم. وفيه قدم الخبر بأن عدد الموتى بدمشق بلغ إلى مائة إنسان في اليوم، ممن يرد اسمه للديوان.
وفي حادي عشرينه: قبض على كثير من الصيارفة والتجار، ورسم عليهم وأخذوا من الغد، وأحضروا بالقلعة، فلم يتهيأ لهم حضور بين يدي السلطان، وتقرر معهم ألا يخالفوا ما يرسم به في الذهب، وأفرج عنهم بعدما أرجف بأنهم يشنقوا، ونودي أن يكون المثقال الذهب بمائتين وخمسين، والدينار الأفرنتي بمائتين وثلاثين، وأن لا يتعامل بالناصري، بل يقص ويصرف بحساب الذهب الهرجة المصري، فشق ذلك على الناس وتلف لهم مال كثير.
وفي ثالث عشرينه: قدم الأمير فخر الدين عبد الغني بن أبي الفرج إلى القاهرة.
وفي رابع عشرينه: نودي على النيل أنه زاد ثلاثة أصابع، وأن القاع بلغ سبعة أذرع ونصف ذراع.
وفي خامس عشرينه: خلع على الأمير فخر الدين بن أبي الفرج، واستقر أستاداراً، مع ما بيده من كشف الوجه البحري.
وفي ليلة الأربعاء سابع عشرينه: نقل الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين من بيت الأمير جقمق الدوادار إلى بيت الأمير فخر الدين الأستادار، وقد أهينت حاشيته وأتباعه، وعوقبوا عقوبات كثيرة متعددة، وقبض على امرأته وعوقبت حتى أظهرت مالاً كثيراً، فاصبحوا مرحومين بعدما كانوا محسودين، نكالاً من الله بما قدمت أيديهم، فإنهم كانوا قوم سوء فاسقين، لم يعفوا عن قبيح، ولا كفوا يداً عن ظلم.(3/189)
وفي هذا الشهر: قدم الفرنج في أربعة أغربة إلى مدنية يافا، وأسروا نحو الخمسين امرأة وطفلاً، وحاربهم المسلمون، وقتلوا منهم واحداً، ثم افتكوا الأسرى بخمسة عشر ديناراً كل أسير. ونزل في ثاني عشرينه على الإسكندرية فرنج في مركب بضاعة، فثار بينهم وبين بعض العتالين شر، إلى أن آل القتال، وأخذ الفرنج مركباً فيها عدة من المسلمين، ولم يكفوا عن الحرب حتى بعث إليهم النائب غرماءهم من العتالين، وهم ثلاثة، فردوا ما أخذوه عند ذلك، ثم قدمت مركب للمغاربة، فأخذها الفرنج بما فيها، ولم ينج منهم سوى خمسة عشر نفراً، سبحوا في الماء إلى البر، وأسر بقيتهم.
شهر جمادى الأولى، أوله السبت: فيه سار الأمير جقمق الدوادار في عدة من الأمراء إلى الوجه القبلي، وكتب بإحضار من هناك من الأمراء.
وفي سادسه: ندب السلطان طائفة من القراء إلى الاجتماع على تلاوة كتاب الله العزيز بالمقياس وأجرى عليهم من الأطعمة ما يليق بهم، وفرق فيهم مالاً، فأقاموا على ذلك بالمقياس وسببه توقف النيل عن الزيادة مدة أيام، ونقصه أربعة عشر إصبعاً.
وفي يوم الجمعة سابعه: ركب الأمير سودن قرا صقل حاجب الحجاب إلى شاطئ النيل، وأحرق ما كان هناك من الأخصاص، وطرد الناس، ومنعهم من الاجتماع، فإنهم كانوا قد أظهروا المنكرات من الخمور ونحوها من المسكرات، واختلاط النساء بالرجال، من غير استتار، فعندما طرقهم الحاجب اضطربوا، ونهب بعضهم بعضاً، فذهبت أموال عديدة.
وفي ثالث عشره: قدم الشيخ شمس الدين محمد الديري من القدس، ونزل بقاعة الحنفية من المدرسة الصالحية بين القصرين.
وفي يوم الاثنين سابع عشره: استدعي إلى قلعة الجبل، وخلع عليه بحضرة السلطان، واستقر في قضاء القضاة الحنفية بديار مصر، ونزل ومعه أعيان الدولة إلى المدرسة الصالحية، فحكم على العادة.
وفي ثالث عشرينه: قبض على الأمير كزل العجمي الأجرود أمير جاندار، ونفي إلى صفد.
وفيه كثر الطاعون بدمشق، حتى بلغ عدد من يموت نحو المائتين في كل يوم. وفيه قبض على محمد بن سيف بن عمر بن محمد بن بشارة، الذي كان يقطع الطريق، وعلى عبده، وحمل من وادي التيم إلى دمشق.
وفي خامس عشرينه: نزل عرب لبيد في خمسمائة خيال - سوى المشاة - على ريف البحيرة.
شهر جمادى الآخرة، أوله الاثنين: فيه اشتد الطلب على الأمير بدر الدين بن محب الدين، وعوقب أشد عقوبة، ونوعت عقوبات إلزامه أيضاً. وفيه قدم الأمراء من الوجه القبلي. وفيه أشار السلطان لمن حضر مجلسه من الفقهاء بأن من الأدب أنه إذا دعا الخطاء في يوم الجمعة للسلطان، أن ينزلوا عن موقفهم الذي كانوا فيه درجة، ثم يدعوا للسلطان، حتى لا يكون ذكر السلطان في الموضع الذي فيه يذكر الله تعالى ورسوله، صلى الله عليه وسلم، وأمر الخطباء بذلك، وكان ممن حضر يومئذ بين يديه الشيخ زين الدين أبو هريرة بن النقاش خطب الجامع الطولوني، والشيخ شهاب الدين أبو الفضل أحمد ابن حجر خطب الجامع الأزهر، فامتثلا ذلك.
وفي يوم الخميس رابعه: خلع على الأمير فخر الدين عبد الغني بن أبي الفرج، واستقر مشير الدولة، مضافاً لما بيده من الأستادارية وكشف الوجه البحري. وفيه قدم الأمير جقمق من الوجه القبلي.
وفي يوم الجمعة خامسه: اعتمد خطباء مصر والقاهرة ما أشار به السلطان، فنزلوا عندما أرادوا الدعاء له درجة، ثم دعوا، وامتنع من ذلك قاضي القضاة البلقيني في جامع القلعة، لكونه لم يؤمر بذلك ابتداء، فسئل عن ذلك، فقال: ليس هو السنة، فغير عزم السلطان عن ذلك، فترك الناس ذلك بعده ولقد كان عزم السلطان في هذا جيلاً، ولله الأمر.
وفي سادسه: فرق السلطان على يد الطواشي فيروز جملة فضة مؤيدية على الفقهاء والفقراء والأيتام، فتوسع الناس بذلك.
وفي يوم الاثنين ثامنه - وعاشر مسرى - : أوفى النيل ستة عشر ذراعاً، فنزل السلطان وعدى النيل إلى المقياس، حتى خلق بين يديه، ثم سار، وفتح سد الخليج على العادة، وعاد إلى القلعة.(3/190)
وفي سادس عشره: نودي أن يكون صرف الدينار المختوم الهرجة بثلاثين مؤيدياً فضة، وصرف الدينار الأفرنتي بثمانية وعشرين مؤيدياً، فيكون الدينار الهرجة بمائتين وسبعين درهماً من الفلوس، والدينار الأفرنتي بمائتين واثنين وخمسين درهماً، ومنع الناس أن يتعاملوا بالناصري، وأن يقص جميع ما ظهر منه، ويحسب في المثقال منه مبلغ مائتين وأربعين درهماً فلوساً، فلم يستقر الحال على ذلك، وخرج الدينار الأفرنتي بمائتين وستين درهماً، والناصري بمائتين وعشرة.
وفي سادس عشره: قدم الأمير صلاح الدين محمد الحاجب بن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله ناظر الخاص إلى الإسكندرية في تحصيل المال، فجلس بالخمس، وبين يديه أعيان أهلها، فجاءه الخبر بأن الفرنج الذين وصلوا ببضائع المتجر - وهم في ثمان عشاريات من مراكب بحر الملح - قد عزموا على أن يهجموا عليه، وأن يأخذوه هو ومن معه، فقام عجلاً من غير تأن يريد الفرار، وتسارع الناس أيضاً يفرون، فهجم الفرنج من باب البحر، فدافعهم من هناك من العتالين، حتى أغلقوا باب البحر، وقتلوا رجلاً من الفرنج، فقتل الفرنج نحو عشرين من المسلمين، وانتشروا على الساحل، وأسروا نحو سبعين مسلماً، وأخذوا ما ظفروا به، ولحقوا بمراكبهم، وأتوا في الليل يريدون السور، فتراموا ليلتهم كلها مع المسلمين إلى الفجر، فأخذ كثير من المسلمين في الرحيل من الإسكندرية، وأخرجوا عيالهم، وقام الصياح على فقد من قتل وأسر، وباتوا ليلة الجمعة مع الفرنج في الترامي من أعلى السور، فقدمت طائفة من المغاربة في مركب ومعهم زيت وغيره من تجاراتهم، فمال الفرنج عليهم وقاتلوهم قتالاً شديداً حتى أخذوهم عنوة، وأخرجوهم إلى البر، وقطعوهم قطعاً، وأهل الإسكندرية يرونهم فلا يغيثونهم. فقدم الخبر بذلك في ليلة السبت عشرينه، فاضطرب الناس بالقاهرة، وخرج ناظر الخاص نجدة لولده، ومضى معه عدة من الأمراء، وخرج الشيخ أبو هريرة بن النقاش في عدة من المطوعة، يوم الأحد حادي عشرينه، وقدموا الإسكندرية، فوحدوا الفرنج قد أقلعوا، وساروا بالأسرى، وما أخذوه من البر ومن مركب المغاربة، في يوم الثلاثاء ثاني عشرينه، فعادوا في آخر الشهر إلى القاهرة.
وفيه كثر الطاعون بدمشق. وفيه قتل حميد بن نعير غدراً.
وفيه نزل على مدينة الرحبة حسين بن نعير وحصرها عشرين يوماً، كانت فيها حروب عظيمة، حتى أخذها ونهبها، ثم أحرقها حتى جعلها فحمة سوداء.
وفي سابع عشرينه: اعتقل الأمير كزل العجمي، الذي كان حاجب الحجاب بديار مصر، ونفي إلى قلعة صفد.
شهر رجب، أوله الثلاثاء: في سابع عشره: دار المحمل على العادة، بعدما جبي الأمير سيف الدين خرز والي القاهرة ما حدث من أخذ الخمر للمماليك الرماحة من أهل الذمة، فجبي من اليهود خمسة وستين مروقة خمر، ثمنها عندهم مائة وعشرون درهماً كل مروقة، وغرموا مع ذلك جملة لأعوانه، بلغت خمسة آلاف درهم.
وطلب من النصارى مثل ذلك، فتعززوا عليه لقوة جاههم، فحقد عليهم ذلك، وكبس سريقة صفية خارج القاهرة، وكبس الكوم خارج مصر، وأراق للنصارى - باعة الخمر - عدة آلاف من جرارها وكتب على أكابرهم إشهادات بكثير من جرار الخمر، يقومون له بها، فمنهم من ألزمه بثلاثمائة جرة، وتلف لهم مع هذا مال كبير مما غرموه للأعوان، ومما نهب، فكان هذا من شنيع المنكرات.
وفي ثامن عشره: نودي أن يكون النصف المؤيدي بثمانية دراهم فلوساً، وكل رطل من الفلوس بخمسة دراهم ونصف، وكل دينار أفرنتي بمائتين وثلاثين فلوساً، وكل دينار هرجة بمائتين وخمسين درهماً فشملت المضرة عامة الناس لخسارة أموالهم.
وفي ثاني عشرينه: خلع على الأمير منكلي بغا العجمي، وأعيد إلى حسبة القاهرة. وعزل ابن شعبان مزموماً لقبح سيرته، ونودي بتهديد من خالف ما رسم به في الفلوس والفضة المؤيدية، أو تكلم فيما لا يعينه.
وفي يوم الثلاثاء سلخه: خلع على الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين، واستقر كاشف الوجه القبلي، بعدما ضرب بحضرة السلطان.(3/191)
وفي هذا الشهر: رسم بدمشق على قاضي نجم الدين عمر بن حجي الشافعي، ونودي بعزله والكشف عليه، وأن من له عليه حق يحضر إلى بيت الحاجب الدعوى عليه، واستمر النداء مدة أيام، فلم يظهر عليه شيء ثم نفل إلى المدرسة اليونسية، بالشرف الأعلى، ورسم عليه، ونصب للحكم بين الناس نائبان من نوابه، وكتبت أوراق بوظائفه، وأشهد عليه أنه إن كان له غير ذلك يكون عنده عشرة آلاف دينار لعمارة الأسوار، وحملت الأوراق إلى السلطان.
وفيه نزل قرا يلوك على أرزنجان، وأفسد بلادها، فكتب نائبها بير عمر إلى قرا يوسف، فأمده بابنه اسكندر، ففر منه قرا يلوك، وأخذ ما كان معه. وفيه مات الأمير ناصر الدين محمد إلياس حاجب غزة وقد كان قدم إلى القاهرة غير مرة، وكان من الظلمة الكبار.
شهر شعبان المكرم، أوله الأربعاء: فيه انتهت زيادة النيل إلى عشرين ذراعاً سواء، وثبت إلى وقت انحطاطه، فنزل نزولاً حسناً.
وفيه تردد السلطان إلى العمارة بجوار باب زويلة، غير مرة.
وفيه كثر طلب مباشري الدولة للرخام - من العمد والألواح - برسم الجامع المؤيدي، فأخذ ذلك من عدة بيوت في القاهرة ومصر.
وفيه كثر غبن الناس لانحطاط النقود بديار مصر، مع ثبات أسعار المبيعات وأجر الأعمال.
وفي يوم الأربعاء ثاني عشرينه: وسط بمدينة المحلة شمس الدين محمد بن مريجينة - قاضي ناحية جوجر من الغربية ومتدركها - وأحيط بموجوده، وهو نحو خمسة وأربعين ألف دينار، فدخل ديوان السلطان، ولم يترك منه لأولاده شيء.
وفي سلخه: خلع على الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين خلعة السفر، فتوجه إلى الوجه القبلي من غده. وفيه خلع على زين الدين قاسم قاضي العلايا من بلاد الروم، واستقر في قضاء العسكر وإفتاء العدل، على مذهب الحنفية، وكانتا قد شغرتا من مدة، وقاسم هذا قدم إلى القاهرة من نحو سنة، وحضر في مجلس السلطان مع من يحضر من الفقهاء في كل أسبوع.
وقدم الخبر بكثرة الوباء بالقدس وصفد، وأنه ابتدأ عندهم من مدة أشهر. وفيه وعك السلطان.
وفيه مات أيدغمش بن أوزر من أمراء التركمان، في الاعتقال بدمشق.
وفيه قبض على محمد عبد القادر وأخيه عمر بغزة، وحملا إلى القاهرة.
وفيه قدمت هدية سلمان بن أبي يزيد بن عثمان، متملك برصا، فأنزل قاصده بدار الضيافة، وقبلت هديته، ورسم أن تجهز له هدية.
شهر رمضان المعظم، أوله الجمعة: لم يشهد فيه السلطان الجمعة، لملازمته الفراش. وفيه فرق الطواشي فيروز في الناس مبلغاً من المؤيدية، على العادة. وفيه رتب السلطان عدة أبقار تذبح في مواضع متعددة، ويفرق لحمها كما كانت عادة الملك الظاهر برقوق في شهر رمضان.
وفي يوم الخميس سابعه: خلع على الأمير أقبغا شيطان، شاد الدواوين، واستقر في ولاية القاهرة، وعزل الأمير خرز، فصار بيده ولاية القاهرة وشد الدواوين والحجربية، وخلع على خرز واستقر في نقابة الجيش.
وفي تاسعه: نودي بأن يكون سعر المؤيدي ثمانية دراهم، وأن تكون الفلوس بخمسة دراهم ونصف كل رطل، ويكون الدينار الأفرنتي بمائتين وثلاثين، وهدد من زاد في ذلك أو غيره. وكان الأفرنتي قد بلغ إلى أحد وثلاثين مؤيدياً.
وفيه قدم الشريف بركات بن الأمير حسن بن الأمير عجلان من مكة المشرفة بخيل وغيرها، تقدمة للسلطان، فقبلت منه، وأنزل وأجرى عليه راتب.
وفي حادي عشره: خلع على الأمير خرز، واستقر شاد الداوين، عوضاً عن أقبغا شيطان، وجعل من جملة الحجاب، فصار شاد الدواوين، نقيب الجيش، حاجباً.
وفي خامس عشره: كتب تقليد الشريف حسن بن عجلان بإعادته إلى إمرة مكة، وعزل الشريف رميثة.
وفي عشرينه: أحضر إلى السلطان برجل عجمي، ادعى أنه صعد إلى السماء السابعة، ورأى الله سبحانه، وأنه تعالى صرفه في الملك، فسجن بالمارستان عند الممرودين.
وفيه أعيد رسول ملك اليمن، ورسول الفرنج البندقية، ورسول قرا يوسف، ومع كل منهم هدية.
وفي آخره: قدم قاضي القضاة نجم الدين عمر بن حجي من دمشق، وقد عزل عن قضاء دمشق بجمال الدين عبد الله بن نور الدين محمد بن صدر الدين محمد بن محمد ابن زيد، قاضي بعلبك.(3/192)
وفي هذا الشهر: قرئ كتاب صحيح البخاري بالقصر من قلعة الجبل، على ما جرت به العادة، وحضر قراءته القضاة الأربع، ولم تجر العادة بذلك، وإنما كان يحضر قاضي القضاة الشافعي، وشيخ الإسلام في طائفة يسيرة من الفقهاء، فزاد عدد الفقهاء الحاضرين في هذه السنة على ستين فقيهاً، صرف لكل منهم ألف درهم فلوساً. وفيه كان السلطان منقطعاً لألم رجله. وفيه كانت فتنة بالبحيرة. وفيه كثر الغبن من انحطاط النقود وتغيرها، مع ثبات السعر في المبيعات.
شهر شوال، أوله السبت: في ثالثه: قتل الأمير دمرداش الفخري كاشف الوجه البحري، موسى بن رحاب، وخلاف بن عتيق من شيوخ البحيرة، وقتل أهل البحيرة حسين بن شرف، وعدة من شيوخهم.
وفي سادسه: قدمت رسل قرا يوسف.
وفي رابع عشره: توجه الأمير فخر الدين بن أبي الفرج بالعسكر لقتال أهل البحيرة. وفيه قدم ركب التكرور للحج، ومعهم ألف وسبعمائة رأس من العبيد والإماء، وشيء كثير من التبر.
وفي عشرينه: خرج محمل الحاج إلى بركة الحجاج، وحج من الأعيان قاضي القضاة جمال الدين عبد الله بن مقداد الأقفهسي المالكي، والأمير صلاح الدين محمد الحاجب بن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله ناظر الخاص، وخوند خديجة زوجة السلطان.
وفي سابع عشرينه: قلع باب مدرسة السلطان حسن، ونقل إلى الجامع المؤيدي بجوار باب زويلة، ونقل معه التنور الذي كان معلقاً هناك، وقد اشتراهما السلطان بخمسمائة دينار.
وفي هذا الشهر: توجه محمد كرشجي بن أبي يزيد بن عثمان صاحب برصا لقتال اسفنديار بن أبي متملك قسطمونية وحصره في جزيرة سينوب إلى أن وقع بينهما الاتفاق على أن يخطب له ويضرب السكة باسمه، فأفرج عنه وعاد اسفنديار إلى قسطمونية، وخطب باسم محمد كرشجي، فلم يوافقه وزيره خواند سلار على إقامة الخطة بالجامع الذي أنشأه لمحمد، وصار يخطب فيه باسم ملكة اسفنديار، وخطب اسفنديار في بقية جوامع قسطمونية باسم محمد كرشجي، وهذا من غريب ما وقع أن يخطب في مدينة واحد باسم ملكين في وقت واحد.
وفيه عز وجود لحم الضأن ولحم البقر بالقاهرة.(3/193)
وفيه كانت فتنة بمكة وذلك أن الشريف حسن بن عجلان لما عزل بالشريف رميثة في صفر من السنة الخالية، ودخل رميثة إلى مكة في أول ذي الحجة منها - كما تقدم - لم يتعرض إليه الشريف حسن، حتى بعث ابنه بركات، وقائده شكر، إلى السلطان، فقدما - كما تقدم - فكتب السلطان بإعادة الشريف حسن إلى الإمرة في ثامن عشر شهر رمضان، وجهز إليه تشريفه وتقليده، فقدما عليه وهو بجدة في ثاني شوال، فبعث إلى القواد العمرية - وكانوا باينوه من شعبان ولحقوا برميثة في مكة - يرغبهم في طاعته، فأبوا عليه، وجمعوا لحربه، فسار إلى مكة، وعسكر بالزاهر - ظاهر مكة - في يوم السبت ثاني عشرين شوال هذا، ومعه الأشراف، آل أبي نمي، وآل عبد الكريم، والأدارسة، ومعه الأمير الشريف مقبل بن مختار الحسني أمير ينبع بعسكره، ومعه مائة وعشرون من الأتراك، فبعث إلى العمرية يدعوهم إلى طاعته، فندبوا إليه ثلاثة منهم، فلما أتوه خوفهم عاقبة الحرب، وحذرهم، ومضوا إلى مكة، فلم يعودوا إليه لتماديهم وقومهم على مخالفته، فركب يوم الاثنين رابع عشرينه من الزاهر، وخيم بقرب العسيلة أعلا الأبطح وأصبح يوم الثلاثاء زاحفاً في ثلاثمائة فارس وألف راجل، فخرج إليه رميثة في قدر الثلث من هؤلاء فلما بلغ الشريف حسن إلى المعابد، بعث يدعوهم، فلم يجيبوه فسار إلى المعلا ووقف على الباب ورمى من فوقه فانكشفوا عنه، وألقيت فيه النار فاحترق، وانبت أصحاب حسن ينقبون السور ويرمون من الجبل بالنشاب والأحجار أصحاب رميثة، ثم اقتحموا السور عليهم وقاتلوهم حتى كثرت الجراحات في الفريقين، فتقدم بعض بني حسن وأجار من القتال، فانكف عند ذلك حسن، ومنع أصحابه من الحرب، فخرج القضاة، والفقهاء، والفقراء، بالمصاحف والربعات إلى حسن، وسألوه أن يكف عن القتال، فأجابهم بشرط أن يخرج رميثة ومن معه من مكة، فمضوا إلى رميثة وما زالوا به حتى تأخر عن موضعه إلى جوف مكة، ودخل الشريف حسن بجميع عسكره، وخيم حول بركتي المعلا، وبات بها، وسار يوم الأربعاء سادس عشرينه وعليه التشريف السلطاني، ومعه عسكره، إلى المسجد، فنزل وطاف بالبيت سبعاً، والمؤذن قائم على بر زمزم، يدعو له حتى فرغ من ركعتي الطواف ثم مضى إلى باب الصفا فجلس عنده، وقرئ تقليده إمرة مكة هناك، ثم قرئ كتاب السلطان إليه بتسلم مكة من رميثة، وقد حضره عامة الناس، ثم ركب وطاف البلد، ونودي بالأمان، وأجل رميثة ومن معه خمسة أيام، فلما مضت سار بهم إلى جهة اليمن، واستقر أمر الشريف حسن بمكة على عادته، وثبت من غير منازع. وفيه قدمت الخاتون زوجة الأمير أيدكي صاحب الدست إلى دمشق، تريد الحج، وفي خدمتها ثلاثمائة فارس.
شهر ذي القعدة، أوله الاثنين: فيه سار الشريف بركات بن حسن بن عجلان إلى مكة.
وفي رابعه: ركب السلطان، وعدى النيل البر الغربي، وأمام هناك يتصيد.
وفي ثامنه: قدم الأمير فخر الدين بن أبي الفرج من البحيرة، ومعه شيء كثير من الأغنام وغيرها، وعدة رءوس ممن قتله من الناس، بعدما وصل في طلب أهل البصرة إلى العقبة، فلم يظفر بهم، فمضى من العقبة نحو برقة أياماً، ثم رجع بغير طائل، سوى تخريب البلاد ونهبها.
وفيه قدم أيضاً الأمير سودن الأشقر من سجن الإسكندرية، فنزل خارج القاهرة، ومضى منها إلى القدس، ليقيم به بطالاً.
وفي ثامن عشره: عاد السلطان إلى القلعة، وقد انتهى إلى الطرانة.
وفي يوم السبت عشرينه: خلع على الأمير فخر الدين بن أبي الفرج واستقر في الوزارة بعد موت تقي الدين عبد الوهاب بن أبي شاكر، مضافاً لما بيده من الأستادارية، والكشف. وخلع على سيدي سليمان بن الكويز، واستقر أستادار الأمير صارم الدين ابن السلطان، عوضاً عن تقي الدين بن أبي شاكر، ولبس هيئة الأجناد، وحملة السلاح، من القباء والكلفتاه، وترك زي أبيه وأخويه، وخلع على الأمير يحيى بن لاقي، واستقر شاد الخاص مضافاً لما بيده من المهمندارية.(3/194)
وفي هذا الشهر: كان اللحم بالقاهرة عزيز الوجود. وفيه بيعت الباقية البنفسج - وهو حين أوانه - بمائة وخمسين درهماً فلوساً، عنها نحو عشرين مؤيدياً فضة، وذلك لقلة وجوده، فإنه لم يزرع سوى في موضع واحد ولقد عهدنا الباقة منه تباع بنصف درهم فضة، فسبحان محيل الأحوال. وفيه هدمت قلعة الخوابي إحدى قلاع الإسماعيلية من عمل طرابلس، حتى سوي بها الأرض بعد حصار طويل، فصارت أثراً بعد عين.
وفي سابع عشرينه: خلع على مانع بن سنيد بإمرة بني مهدي عوضاً عن محمد ابن هيازع، بحكم وفاته.
شهر ذي الحجة، أوله الثلاثاء: في رابعه: استدعي نجم الدين عمر بن حجي، وخلع عليه بإعادته إلى قضاء القضاة الشافعية بدمشق.
وفي رابع عشره: وصل إلى القاهرة دوغان بن حديثة، أمير آل فضل، بكتاب أبيه، يتضمن تسحب أولاد نعير من الرحبة.
وفي سلخه: قدم رسول الأمير ناصر الدين محمد بن قرمان، ومعه دراهم قد ضربت بالسكة المؤيدية.
وفي هذا الشهر: ابتدأ الأمير جقمق الدوادار بعرض أجناد الحلقة.
وفي يوم النحر عاشره: أنزل بالخليفة المستعين بالله العباس بن محمد من محبسه بقلعة الجبل نهاراً إلى ساحل مصر، وهو على فرس، وجيء أيضاً بالأمير فرج بن الملك الناصر فرج، وباخويه محمد وخليل، في محفة، فساروا في النيل إلى الإسكندرية، ووكل بهم الأمير كزل الأرغون شاوي أحد أمراء حماة، فسجنوا بها، وكان الخليفة لما جلس الملك المؤيد على التخت، حوله من القصر، وأسكنه بدار من دور الحرم السلطانية ومعه أهله وولده، ثم نقله إلى برج قريب من باب القلعة، فأقام به وعنده أهله مدة، حتى حمل إلى الإسكندرية، فأنزل ببرج من أبراجها بأهله وولده، من غير أن يجري عليه شيء.
وفي ثاني عشره: ركب السلطان، وعدى إلى ناحية أوسيم. فأقام هناك إلى سادس عشرينه، ثم سار إلى شاطئ النيل، ونزل على منبابة إلى ثامن عشرينه وعدى إلى القلعة. وفيه قدمت خديجة خاتون - زوجة الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر - من أبلستين في طلب ولدها. وكان قد عوقه السلطان عنده من مدة طويلة، فأكرمها السلطان، وأنزلها، وجمع بينها وبين ابنها، وكان قد قبض عليه بعد فتنة الأمير قانباي، وحمله إلى قلعة الجبل، وأجرى عليها ما يليق بها.
وفي تاسع عشرينه: قدم مبشرو الحاج، وأخبروا بسلامة الحجاج، وأخبروا أنهم وقفوا بعرفة يوم الخميس، وكانت الوقفة بمصر يوم الأربعاء. وكانت النفقة على الجامع المؤيدي إلى سلخ هذه السنة مبلغ أربعين ألف دينار. وفيها كانت بين ابن عثمان وبين النصارى حروب عظيمة، أخذ له فيها النصارى اثني عشر مركباً، وقتلوا من المسلمين أربعة آلاف.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
الأمير الوزير شهاب الدين أحمد بن الحاج عمر المعروف بابن قطنة - تصغير قطنة بالنون - يوم الأحد ثاني عشرين المحرم، باشر الوزارة في سنة اثنتين وثمانمائة دون الأسبوع، وعزل، وتصرف في عدة أعمال. وكان ذا يسار وترف.
ومات الأمير تنبك شاد الشراب خاناة، في سادس عشرين صفر، فشهد السلطان جنازته، وشكر لما سافر بالحاج في سنة ثمان عشرة.
ومات قاضي القضاة شمس الدين محمد بن علي بن معبد القدسي، المعروف بالمدني المالكي، يوم الجمعة عاشر شهر ربيع الأول، وقد بلغ سبعين سنة وكان مشكور السيرة في ولايته، بالعفة مع قلة العلم.
ومات شهاب الدين أحمد الصفدي ناظر المارستان وناظر الأحباس، ثاني عشر ربيع الأول، ولم يكن مشكور السيرة.
وماتت خوند ستيتة بنت الملك الناصر فرج بن الملك الظاهر برقوق، ليلة السبت تاسع عشر ربيع الأول، فاشتد حزن زوجها الأمير صارم الدين إبراهيم ابن السلطان عليها.
ومات الشيخ فتح الدين أبو الفتح ابن الشيخ محمد بن محمد بن عبد الدايم الباهي الحنبلي، في ليلة الجمعة خامس عشرينه، وكان من نبهاء الفضلاء في عدة فنون.
ومات الشيخ همام الدين محمد بن أحمد الخوارزمي الشافعي، شيخ المدرسة الجمالية، برحبة باب العيد من القاهرة وكان يدرس في عدة علوم، من فقه ونحو وغيره.
ومات قاضي القضاة أمين الدين عبد الوهاب بن قاضي القضاة شمس الدين محمد بن أبي بكر الطرابلسي الحنفي، ليلة السبت سادس عشرينه، وقد تجاوز أربعين سنة، وكان مشكور الطريقة.(3/195)
ومات تقي الدين أبو بكر بن عثمان بن محمد الجيتي الحموي الحنفي، قاضي العسكر، في تاسع عشرينه، وكان من فضلاء الحنفية ونحاتهم.
ومات الطواشي زين الدين مقبل الأشقتمري، رأس نوبة الجمدارية، ليلة الاثنين رابع ربيع الآخر، ودفن بمدرسته بخط التبانة، خارج باب زويلة. وكان رومياً، يحفظ القرآن الكريم، وكتاب الحاوي في الفقه على مذهب الشافعي ويجله، مع ديانة.
ومات قاضي القضاة ناصر الدين محمد ابن قاضي القضاة كمال الدين عمر بن إبراهيم بن محمد بن العديم، الحلبي، الحنفي، في ليلة السبت تاسعه، بعد مرض طويل، عن سبع وعشرين سنة، وكان سيئ السيرة، رديء الطريقة، كثير الهوج، أحمقاً، مائقاً، جر هو وأبوه على أهل الإسلام عاراً كبيراً.
ومات الشيخ عز الدين محمد بن شرف الدين أبي بكر ابن قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز ابن قاضي القضاة بدر الدين محمد بن إبراهيم بن جماعة يوم الأربعاء عشرين ربيع الآخر، ومولده بمدينة ينبع في سنة تسع وخمسين وسبعمائة، وكان قد برع في عدة علوم مع الانقطاع عن الناس وإطراح التكلف والقنع باليسير.
ومات الوزير الصاحب تقي الدين عبد الوهاب بن الصاحب فخر الدين عبد الله بن الوزير تاج الدين موسى بن علم الدين بن أبي شاكر بن تاج الدين أحمد بن الصاحب شرف الدين إبراهيم بن الشيخ سعد الدولة في يوم الخميس حادي عشر ذي القعدة.
وماتت خوند عائشة ابنة الأمير أنص، أخت الملك الظاهر برقوق، وأم الأمير الكبير بيبرس، ليلة الأحد رابع عشرين ذي القعدة، وقد بلغت الكبر.
ومات الشيخ زين الدين أبو هريرة عبد الرحمن ابن الشيخ شمس الدين أبي أمامة محمد بن علي بن عبد الواحد بن يوسف بن عبد الرحيم الدكالي، المعروف بابن النقاش الشافعي، خطب جامع أحمد بن طولون، في يوم عيد النحر، وكان آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، قوياً في ذات الله تعالى.
ومات الأمير قماري شاد السلاح خاناه، وأمير الركب الأول، من الحاج، في تاسع عشرين شوال، بوادي القباب، وهو متوجه إلى الحج.
وقتل محمد بن سيف بن عمر بن محمدبن بشارة، أحد شيوخ صفد، بسجنه من القاهرة، في سادس ذي الحجة، وجعل بواً محشوا، وحمل إلى صفد، وكان قد قبض عليه، وحمل إلى القاهرة.
ومات الأمير أرغون، أمير أخور في أيام الناصر فرج، وهو بالقدس، في يوم الجمعة ثالث ذي القعدة، بعدما ابتلي بالجذام، وكان ديناً خيراً.
ومات حسين بن شرف، من شيوخ البحيرة، في نصف شهر رمضان.
سنة عشرين وثمانمائة
أهلت، ومتملك مصر والشام والحجاز السلطان الملك المؤيد أبو النصر سيف الدين شيخ المحمودي الظاهري، والأمير الكبير سيف الدين ألطنبغا القرمشي، وأمير سلاح سيف الدين قجقار القردمي، وأمير مجلس الأمير بيبغا المظفري، وأمير أخور تنبك ميق والدوادار الكبير الأمير جقمق، ورأس نوبه الأمير برد بك. وأمير جندار نكباي. ونائب الشام الأمير ألطنبغا العثماني، ونائب حلب الأمير أقباي، ونائب طرابلس الأمير يشبك اليوسفي، ونائب حماة الأمير حار قطلي، ونائب غزة الأمير اجترك، ونائب الكرك الأمير شاهين، وقضاة القضاة بمصر، وكاتب السر، وبقية المباشرين على حالهم كما تقدم.
شهر الله المحرم، أوله الخميس: فيه ورد الخبر بأن حديثة بن سيف أمير آل فضل لما توجه إلى مدينة الرحبة، صحبه نائبها الأمير زين الدين عمر بن شهري وطائفة من عسكر الشام، افترق عذرا وموسى ولداً على بن نعير وتسحبا، فعادت العساكر، وأقام الأمير حديثة على الرحبة، ثم نزل قريباً من تدمر، فأتاه عذراً في نحو ثلاثة آلاف فارس، فحاربهم وكسرهم.
وفي ثانيه: جلس السلطان لعرض الأجناد البطالين، فعن منهم طائفة ليسافروا صحبته إلى الشام.
وفي خامسه: علق الشاليش على الطبلخاناه بقلعة الجبل، ليتأهب العسكر للسفر. وفيه نودي أن يكون سعر الفضة المؤيدية على ما هو عليه، كل مؤيدي بثمانية دراهم فلوساً، وأن كل دينار أفرنتي بمائتين وثلاثين درهماً فلوساً، وكل مثقال ذهب مصري بمائتين وخمسين، وكل رطل فلوس بستة دراهم، وكان بخمسة ونصف، فازداد نصف درهم فلوساً، وعاد كما كان، فسر الناس بذلك، وتمشت أحوالهم، إلا أنه حصل لكثير من الناس غبن، ولآخرين فوائد، لتفاوت السعرين.(3/196)
وفي سادسه: وضعت جاموسة بناحية بلقس من ضواحي القاهرة مولوداً أنثى، برأسين، وعنقين، وأربع أيدي، ورجلين اثنين، وسلسلتي ظهر، وذنب مفروق من آخره اثنين، ودبر واحد، وفرج واحد.
وفي سابعه: خلع على الأمير طغرل بن صقل سيز ورسم بسفره لجمع تراكمينه. وفيه جلس السلطان لتفرقة النفقات، فبعث إلى كل من أمراء الألوف ألفي دينار، وأعطى كل مملوك ثمانية وأربعين دينار، صرفها عشرة آلاف درهم فلوساً، فرقت فيهم فضة مؤيدية وفلوساً وذهباً منه ما زنة الدينار الواحد منه عشرة مثاقيل.
وفي عشرينه: عرضت كسوة الكعبة على السلطان، وكان قد صرف عن نظر الكسوة شرف الدين يعقوب بن الجلال التباني، وكيل بيت المال، في سنة سبع عشرة، وفوض ذلك إلى علم الدين داود ناظر الجيش، المعروف بابن الكويز، ثم فوض ذلك إلى زين الدين عبد الباسط بن خليل ناظر الخزانة السلطانية، في سنة ثمان عشرة، فاستمر فيه، وزاد في تحسين الكسوة وبهجتها. وقدم الخبر بموت الأمير شهاب الدين أحمد بن رمضان، صاحب درند وسيس، واختلاف أولاده.
وفي ثالث عشرينه: قدم الخبر بنزول الأمير أقباي نائب حلب إلى قطيا، في ثمان هجن، فكثرت الأقوال، وساءت الظنون به، ورسم بتلقيه، فسار الأمراء والخاصكية إلى سرياقوس، وجهز له فرس بسرج ذهب، وكنبوش ذهب، وكاملية بفرو سمور، فقدم من الغد يوم السبت رابع عشرينه، فلامه السلطان وعنفه على حضوره على هذا الوجه، فاعتذر، واستغفر الله، ثم أمر السلطان باستقراره في نيابة الشام، واستقر عوضه في نيابة حلب الأمير قجقار القردمي أمير سلاح، وأنعم بإقطاع قجقار القردمي على الأمير بيبغا المظفري أمير مجلس، وجهز أقبغا المؤيدي أمير أخور إلى دمشق، للقبض على الأمير ألطنبغا العثماني نائب الشام، وإيداعه القلعة، والحوطة على موجوده.
وفيه نودي للبطالين أن كلاً منهم يخدم عند الأمراء أو عند السلطان، ومن امتنع لا يلومن إلا نفسه. وفيه قدم الركب الأول من الحاج، مع أميرهم صلاح الدين محمد الحاجب بن الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، ناظر الخاص. وفيه نصبت المدورة السلطانية، برسم السفر خارج القاهرة. وفيه قبض على جماعة من البطالين الذين تركوا الخدمة، وتسببوا في البيع والشراء في الأسواق، واعتقلوا.
وفي خامس عشرينه: قدم الحاج ببقيتهم مع الأمير أزدمر شايا، وقد قاسوا شدة من موت الجمال، وغلاء الأسعار معهم.
وفي سادس عشرينه: توجه السلطان من قلعة الجبل، ونزل بمخيمه ظاهر القاهرة، تجاه مسجد تبر. وفيه خلع على شمس الدين محمد بن يعقوب الشامي بحسبة القاهرة، وعزل عنها الأمير منكلي بغا الحاجب، وقدم من دمشق بخيمات مبيتين ومدورتين ومطبخين، وبيوتات، بلغت النفقة عليهم عشرة آلاف دينار.
وفي سابع عشرينه: خلع على الأمير أقباي نائب الشام خلعة السفر، وسار جريدة على الخيل، وخلع على الأمير طوغان أمير أخور، واستقر نائب الغيبة وعلى الأمير أزدمر شايا بنيابة القلعة، وعلى الأمير قجقار القردمي نائب حلب خلعة السفر وسار وتقدم الشاليش صحبة الأمير صارم الدين إبراهيم ابن السلطان ومعه عدة من الأمراء.
شهر صفر، أوله السبت: في رابعه: استقر بالمسير من ظاهر القاهرة ببقية العساكر يريد الشام، ومعه الخليفة وقضاة القضاة ومعه من القصاد الواردين في السنة الخالية قاصد قرا يوسف، وقاصد سليمان بن عثمان، وقاصد بير عمر صاحب أرزنكان، وقاصد ابن رمضان، وتأخر بالقاهرة الأمير فخر الدين بن أبي الفرج الأستادار، والصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله ناظر الخاص، وخلع عليهما بمنزلة العكرشة فيه، فعين الأمير طوغان نائب العيبة من أجناد الحلقة - بعد عرضهم - مائتين يكونون مع الأمير فخر الدين.(3/197)
وفي سابع عشره: سار الأمير فخر الدين باتباعه وأجناد الحلقة المذكورين إلى الوجه البحري، لتحصيل المال، وقد كثر بالقاهرة طرح البضائع على التجار والباعة، فغرم الناس فيها أموالاً جمة، وداخل الخوف كثيراً من الناس أن يوقع بهم الأمير فخر الدين، فإنه ألزم طائفة من الكتاب بالدواوين بمال، ومضى في مسيره هذا إلى المحلة ودمياط، وجبى جميع تلك الأعمال البحرية بفريضة ذهب، يقرره على كل قرية من قرى ديوان السلطان، وقوي الأمراء والأجناد لم يترك بلداً من بلدان الوجه البحري حتى أخذ منه ما قرره على أهله، فكان لا يأخذ إلا الذهب فقط، فتحسن سعر الذهب لكثرة طلبه، وبلغ الدينار المصري مائتين وستين، بعد مائتين وثلاثين، وتتبع مع ذلك كل من يشار إليه بغنى أو مال، فأخذ مالاً كثيراً من مصادرات الناس، سوى ما ساق من الخيل والجمال وغيرها، فأنزل بالإقليم من الخلل ما يخاف عواقبه.
وفي هذا الشهر: كثر فساد العربان ببلاد الجيزة وكورة البهنسي. وفيه هدم الأمير فخر الدين عبد الغني بن أبي الفرج الدور التي بالأحكار فيما بين طهر المقس إلى قنطرة الموسكي ليعمل مكانها بستاناً، فأتى الهدم على ما لا يدخل تحت حصر من الدور والرباع والمساجد والأسواق، وغير ذلك مما يكون قدر مدينة من مدن الشام.
شهر ربيع الأول، أوله الاثنين: في هذا الشهر: كثر ضرر المفسدين بالوجه القبلي والوجه البحري، وثقلت وطأة الأمير فخر الدين بن أبي الفرج على أهل النواحي البحرية، وعظم البلاء بالوجه القبلي، من جور الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين. وفيه هدمت الدور التي فوق البرج المجاور لباب الفتوح من القاهرة، رسم أن يعمل سجناً لأرباب الجرائم، عوضاً عن خزانة شمايل.
وفيه كثرت حركة الإرجاف بحركة الفرنج، فحفر خندق الإسكندرية، واستعد أهلها.
وفي حادي عشره: قدم الأمير فخر الدين عبد الغني من الوجه البحري، ونزل بداره التي شرع في عمارتها، وتعرف ببيت بهادر الأعسر، وكانت تعرف قديماً بدار الذهب.
وفي خامس عشره: قدم الخبر بدخول السلطان إلى دمشق في أول الشهر، وأن الأمير أق بردى المنقار مات، وأنعم بإقطاعه على الأمير سودن القاضي، بعد ما عفي عنه، وأخرج من سجنه بدمشق.
وفي سادس عشره: سار الأمير الوزير المشير فخر الدين بن أبي الفرج الأستادار بجمع موفور إلى جهة الصعيد، ومعه القرب والروايا، ليتبع العربان في البرية، حيث ساروا، فإنه كثر عبثهم وفسادهم.
وفي عشرينه: دخل السلطان مدينة حلب.
وفي سادس عشرينه: مات الأمير فرج بن السلطان الملك الناصر فرج بن السلطان الملك الظاهر برقوق، بثغر الإسكندرية، وقد ناهز الاحتلام فكان في هذا عبرة لمن يعتبر، فإن أباه الناصر فرج أخرج أخويه - عبد العزيز وإبراهيم - إلى الإسكندرية لما توجه إلى الشام، فماتا بها، واتهم أنه سمهما، ففعل الله كذلك بأولاده، وأخرجهم المؤيد شيخ عند مسيره إلى الشام، وسجنهم بالإسكندرية، فمات فرج - أكبرهم - في هذا اليوم، وبموته يثورون، ويقيمونه في السلطة، ولا يزالون يتربصون الدوائر لأجل ذلك، فبطل ما كانوا يعملون.
وفي هذا الشهر: كثر الموت بدمياط والإسكندرية وما حولهما، وكان منه بالقاهرة شيء بلغ في اليوم عدة من يموت نحو الأربعين، وكل ذلك بالطاعون. وفيه واقع الأمير فخر الدين العرب بناحية القلندون من الأشمونين، وهزمهم.
شهر ربيع الآخر، أوله الأحد: فيه قدم قاصد السلطان يبشر بقدومه حلب. وأهل هذا الشهر، وفي جميع أرض مصر - أعلاها الذي يقال له بلاد الصعيد، وأسفلها الذي يعرف بالوجه البحري، وحاضرتها، وفي القاهرة ومصر - من أنواع الظلم ما لا يمكن وصفه بقلم، ولا حكايته بقول، من كثرته وشناعته، فجملته أن الحكام بالقاهرة وأعمالها ما بين محتسب، ووال، وحجاب، وقضاة، ونائب الغيبة، والأمير فخر الدين الأستادار، فالمحتسب بالقاهرة والمحتسب بمصر كل ما يكسبه الباعة مما تغش به البضائع وما تغبن فيه الناس في البيع يجبى منهم بضرائب مقررة لمحتسبي القاهرة ومصر وأعوانهما، فيصرفون ما يصير إليهم من هذا السحت في ملاذهم المنهى عنها، ويؤديان منه من استداناه من المال الذي دفع رشوة عند ولاياتهما، ويؤخران منه بقيه لمهاداة أتباع السلطان، ليكونوا عوناً لهما في بقائهما.(3/198)
وأما القضاة فإن نوابهم يبلغ عددهم نحو المائتين، ما منهم إلا من لا يحتشم من أخذ الرشوة على الحكم، مع ما يأتون - هم وكتابهم وأعوانهم - من المنكرات بما لم يسمع بمثله فيما سلف، وينفقون ما يجمعونه من ذلك فيما تهوى أنفسهم، ولا يغرم أحد منهم شيئاً للسلطنة، بل يتوفر عليهم فلا يتخولون في مال الله تعالى بغير حق، ويحسبون أنهم على شيء، بل يصرحون بأنهم أهل الله وخاصته، افتراء على الله سبحانه.
وأما والي القاهرة، ووالي مصر، وغيرهما من سائر ولاة النواحي، فإن جميع ما يسرق من الناس يأخذونه من السراق، إذا ظفروا به، فلا يأتون بسارق معه سرقة إلا أخذوها منه، فإن لم تكن السرقة معه ألزموه مالاً، ويتركوه لسبيله، وقد تيقن أنه متى عثر عليه صانع عن نفسه، وتخلص.
وصار كل من يقطع من السراق يده، إنما يقطع لأحد أمرين، إما لقوة جاه المسروق منه، أو عجز السارق عن القيام للولاة بالمال، ويزيد ولاة البر على والي مصر والقاهرة بأخذ من وجدوا معه غنماً أو إبلاً أو رقيقاً، من الفلاحين أو العربان وغيرهم، فإذا صار أحد من ذكرنا في أيديهم، قتلوه واستهلكوا ماله، ومع هذا فلأعوان الولاة في أخذ الأموال من الناس أخبار لم يسمع قط بمثل قبحها وشناعها، حتى أنه إذا أخذ شارب خمر غرم المال الكثير، وكذلك من ساقه سوء القضاء إليهم من المتخاصمين، فيغرم الشاكي والمشكو المال الكثير، بقدر جرمه، بحيث تبلغ الغرامة آلافا كثيرة. وجميع ما تجمعه الولاة كلهم من هذه الوجوه لا يصرف إلا في أحد وجهين، إما للسلطة مصانعة عن إقامتهم في ولاياتهم، أو فيما تهواه أنفسهم من الكبائر الموبقات، وينعم أعوانهم بما يجمعونه من ذلك، ويتلفونه إسرافاً وبدار في سبيل الفساد، ويتعرض الولاة لمقدميهم، ويأخذون منهم المال حيناً بعد حين.
وأما الحجاب فإنهم وأعوانهم قد انتصبوا لأخذ الأموال بغير حق من كل شاك إليهم، ومشكو عليه، فما من أحد من الحجاب إلا وفي بابه رجل يقال له رأس نوبة، يضمن له في كل يوم قدراً معلوماً من المال، يقوم له به، ومن هذا المال المضمون يقيم أوده، فيقسط رأس نوبة على النقباء الذين تحت يده ما ضمنه للحاجب، وما لا بد له من صرفه على عياله، ومؤنة فرسه، وأجرة سايسها، وما اعتاده من المحرمات التي لا يتركونها ما وجدوا إليها سبيلاً وما يرصده ويدخره عنده عدة له في وقت مكروه ينزل به من عزله، أو مصادرة الحاجب له، أو غير ذلك من العوارض، فيتناول من كل واحد من النقباء شيئاً مقرراً عليه عند مضيه في طلب غريم، يقال له الإطلاق، فإذا حضر الغريم فتح عليه رأس نوبة أبواباً من أنواع مكرهم الذي تفقهوا فيه، فيحتاج إلى بذل المال له، ولدوادار الحاجب، وللحاجب، بحسب ما يقتضيه رأيهم. فربما بلغ الغرم في الشكوى الآلاف من الدراهم، فإنهم يسلسلون قضايا ظلمهم حتى يستمر المشكو في الترسيم الأيام والأشهر، وجميع ما يتحصل الحجاب من هذه الوجه، فإنهم يصرفونه فيما لا تجيزه أمة من الأمم من أنواع قبائح المحرمات، ولا يكلفون حمل شيء منه إلى السلطان. وأما نائحاً الغيبة فسبيل بابه سبيل أبواب الحجاب فيما تقدم ذكره.
وأما الأستادار فإنه أمدهم باعاً، وأقواهم في الظلم ذراعاً، وأنفذهم في ضرر الناس أمراً، وأشنعهم في الفساد ذكراً، وذلك أنه خرج إلى الوجه البحري، ففرض على جميع القرى فرائض ذهب، قررها بحيث أن الجباية شملت أهل النواحي عن آخرهم، ولم يعف عن أحد منهم البتة، فما وصلت إليه مائة دينار إلا وأخذ أعوانه مائة دينار أخرى، ثم تتبع أرباب الأموال مصادرهم، وأخذ لنفسه ولأعوانه مالاً كثيراً ثم طرح على جميع النواحي بعد ذلك الجواميس التي نهبها، فقامت كل واحدة من الجواميس على الناس باثني عشر ألف درهم، وأكثر ما تبلغ الجيدة منهن إلى ألفي درهم، فجبى من الوجه البحري على اسم الجاموس مالاً جماً، ثم أنه ألزم الصيارفة ألا تأخذ الدرهم المؤيدي إلا من حساب سبعة دراهم ونصف، وهو محسوب على الناس بثمانية دراهم، وألزمهم أيضاً ألا يأخذوا الفلوس إلا من حساب خمسمائة وخمسين درهماً القنطار، وهو إلى الناس بستمائة درهم.(3/199)
فإذا أمر بصرف الفلوس على أحد حسب عليه بستمائة درهم القنطار، وربما كان هذا الذي حسبت عليه بستمائة قد أخذت منه أمس بخمسمائة وخمسين، وألزمهم أيضاً أن لا يقبضوا الذهب الأفرنتي إلا من حساب مائتين وثلاثين الدينار، وهو معدود على الناس بمائتين وستين، وإذا صرف لأحد ذهباً يحسبه عليه بمائتين وستين، فلا يورد أحد لديوان السلطان ألف درهم إلا ويحتاج إلى غرامة مثلها، أو قريب منها، ثم إنه كل قليل يلزم صيارفته، ومقدميه، وشادي أعماله، ومباشريها، وولاتها، بمال يقرره عليهم، في نظير ما يعلم أنهم أخذوه من الناس، ثم تقرر في أعمالهم حتى يعلم أنهم قد جمعوا شيئاً آخر، أعاد عليهم المصادرة، فما من مرة إلا وهم يبالغون في ظلم الناس، حتى يفضل لهم بعد المصادرة شيء هذا وهم يبالغون في الترف، ويتلفون المال الكثير في أنواع السرف في المحرمات، ثم أنه لما عاد من الوجه البحري وسار إلى بلاد الصعيد أوقع بلهانه على الأشمونين، وكسرهم، وساق من الأغنام والأبقار والجمال والخيل شيئاً كثيراً فرقه على أهل الوجه البحري بأغلى الأثمان، وهو الآن يفرض على جميع بلاد الصعيد الذهب كما فرضه على نواحي الوجه البحري ومع ذلك فقد شمل باعة مصر والقاهرة رماية البضائع عليهم، من السكر والعسل والصابون والقمح وغير ذلك، فإنه اشترى من الإسكندرية وغيرها بضائع كثيرة، ثم طرحها على الباعة بأغلى الأثمان فلا يصير إليه درهم حتى يغرم لأعوانه نظيره، وله نوع آخر من الظلم وهو أنه أخذ دار بهادر الأعسر بخط بين السورين - فيما بين باب الخوخة وباب سعادة - وشرع في عمارتها، وعمارة ما حولها، وما تجاهها من بر الخليج الغربي، فأخذ من الناس آلات العمارة بغير ثمن، أو بأقل شيء، وتفنن أعوانه في ظلم من يستدعيه بهم إلى هذه العمارة حمل صنف من الأصناف، أو عمل شيء من أنواع العمارة حتى يغرموه لأنفسهم مالاً آخر، هذا وجميع ما يتحصل من وجوه الأموال التي تقدم ذكرها فإنه يحمل إلى السلطان وأعوانه، وينفق في سبيل الشهوات المحرمة. وقد اختل إقليم مصر في هذه السني خللاً شنيعاً، يظهر أثره في القابلة.
ومع ذلك ففي أرض مصر من عبث العربان ونهبهم وتخريبهم وقطعهم الطرقات على المسافرين من التجار وغيرهم شيء، عظيم قبحه، شنيع وصفه. والسلطان بعسكره في البلاد الشامية يجول وقد قال الله سبحانه وتعالى: " إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة، وكذلك يفعلون " .
ويضاف إلى ما تقدم ذكره أن الطاعون فاش بدمياط والغربية والإسكندرية، والإرجاف بالإفرنج متزايد، وأهل الإسكندرية على تخوف من هجومهم، وقد استعدوا لذلك، ولله عاقبة الأمور.
وفي سابع عشره: سقط من العمال بالعمارة السلطانية بجوار باب زويلة عشرة، مات منهم أربعة، وتكسر ستة.
وفي عشرينه: قدم الخبر برحيل السلطان في ثاني عشرين شهر ربيع الأول من حلب، ونزوله على العمق.
وفي خامس عشرينه: سار مفلح - رسول الناصر أحمد متملك اليمن - عائداً إلى بلاده، وصحبته الأمير بكتمر السعدي، بكتاب السلطان وهديته. وقد كثر بر مفلح هذا، وصلاته وصدقاته، وحسن الثناء عليه واحتاج من كثرة مصروفه إلى قرض مال.
شهر جمادى الأولى، أوله الخميس: في ثانيه: أقيمت الجمعة بالجامع المؤيدي، ولم يكمل منه سوى الإيوان القبلي، وخطب به عز الدين عبد السلام القدسي - أحد نواب الحكم الشافعية بالقاهرة - نيابة عن ناصر الدين محمد بن البارزي الحموي كاتب السر.
وفي خامسه: نودي على النيل ثلاثة أصابع، وكانت القاعدة ستة أذرع.
وفي عاشره: سافر الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله - ناظر الخاص - إلى جهة الشام، بالخزانة السلطانية.(3/200)
وفي رابع عشره: قدم الأمير فخر الدين بن أبي الفرج من الوجه القبلي ومعه ستة آلاف رأس من البقر، وثمانية آلاف رأس من الغنم، وألفا جمل، وألفا قنطار من القند، وعدد كثير من الإماء والعبيد، ومبلغ وافر من الذهب، وذلك أنه فرض على أهل البلاد مالاً قاموا به فمن النواحي من فرض عليها الألفي دينار. وفرض على هوارة خمسة وعشرين ألف دينار، عوضوه عن أكثرها أصنافاً فما هو إلا أن قدم أخذ يطرح الأبقار وغيرها على نواحي بلاد الجيزة وسائر الوجه البحري، وعلى دواليب الناس بالقاهرة من البساتين والمعاصر، بأغلى الأثمان، وبث أعوانه في طرح ذلك وجباية ثمنه، فأذاقوا الناس أنواع المكاره، ونظر في الرقيق الذي أحضره - وفيه من بنات أهل الصعيد عدة قد استرقهن بعد الحرية - ففرق من خيارهن طائفة على الأعيان، وطئوهن - على زعمهم - بملك اليمين، واختار لنفسه طائفة، وباع باقيهن مع ما جلبه من العبيد، فشملت مضرته عامة أهل مصر، من أعلى الصعيد إلى أسفل مصر، وصادر مع هذا عدة من أعيان الصعيد، فاختل الإقليم بهذا من فعله خللاً فاضحاً.
وفي تاسعه: نودي أن يكون سعر الدينار الأفرنتي بمائتين وثلاثين فنقص ثلاثين، وأن يكون الدينار الهرجة بمائتين وخمسين فنقص ثلاثين أيضاً، وأن لا يتعامل بالدينار الناصري وإنما يقص، وكان قد بلغ إلى مائتين وعشرين، فوقفت أحوال الناس، وكسدت الأسواق وذلك أن القصد جباية ممن ما طرح من البضائع بنوع آخر من التجسر.
هذا والنيل ينادي عليه كل يوم إصبع، من سادس عشره إلى ثالث عشرينه، فارتفع سعر القمح من مائة وثمانين الأردب إلى مائتي درهم، فلما كان يوم السبت رابع عشرينه لم يناد عليه، فقلق الناس، وطلبوا القمح، وساءت ظنونهم، وأصبح الناس يوم الأحد وقد نقص ستة أصابع، ثم زاد سبعة أصابع، فرد النقص، وزاد إصبعاً نودي به في يوم الاثنين سادس عشرينه واستمرت الزيادة في كل يوم، فانحل سعر القمح.
شهر جمادى الآخرة، أوله الجمعة: في ثامن عشره: وقع الشروع في بناء برجين بجانبي باب السلسلة، أحد أبواب قلعة الجبل.
وفي حادي عشرينه: عزل ابن يعقوب عن حسبة القاهرة، واستقر فيها عماد الدين ابن بدر الدين بن الرشيد، وكان ينوب في الحسبة عن التاج وغيره، وناب أبوه في حسبة مصر أكثر من أربعين سنة متوالية، وخلع الأمير طوغان نائب الغيبة.
وفي رابع عشرينه: - الموافي له سادس عشرين مسرى - وفي النيل ستة عشر ذراعاً، وفتح الخليج على العادة، واستمرت زيادة النيل في كل يوم بقية الشهر.
وأما السلطان فإنه رحل من العكرشة في رابع صفر، فلما نزل سبخة بردويل - في ثاني عشره - قدم ناصر الدين بن خطاب الحاجب بدمشق، وعلى يده سيف الأمير ألطنبغا العثماني نائب الشام، وقد قبض عليه وسجن بقلعة دمشق، وكان من خبره أن كتب قبل ذلك إلى الأمير شاهين الحاجب الكبير بدمشق بالقبض على المذكور وسجنه، فوافاه الكتاب والنائب قد توجه من دمشق، وهو بنابلس، فلما بلغه الخبر بادر بالتوجه إلى دمشق، فلقيه شاهين بعسكر دمشق، قريباً من الخربة، وقرأ عليه كتاب السلطان، فأذعن وحل سيفه بيده، وتوجه صحبة العسكر إلى دمشق حتى تسلمه نائب القلعة، فسار السلطان، ونزل غزة في يوم السبت خامس عشره على مصطبة، استجدها بظاهر المدينة، ضرب مخيمه عليها، ونودي بالأمان والاطمئنان، فقدم الأمير غرس الدين خليل الجشاري نائب صفد، والأمير بدر الدين حسن بن بشارة مقدم البلاد الصفدية بغزة، ثم ما زال يسير، وأمراء العربان ومشايخ البلاد والمقدمين يردون عليه إلى أن وصل إلى برج الكثيبة في يوم الخميس سابع عشرينه، فقدم عليه قصاد الأمير علي باك بن دلغادر، وكردي باك بن كندر، والأمير طغريل بن صقلسيز بمكاتباتهم يسألون الصفح والعفو عنهم، ويعدون بحضورهم إلى الطاعة، فأجيبوا بأنهم أن صدقوا وداسوا البساط، وإلا فليتخذ كل منهم نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء، ثم قدم من الغد الأمير أقباي نائب الشام بعسكر دمشق، لملاقاة السلطان، وقدم سيف الأمير آق بردى أحد الأمراء المقدمين الألوف بالديار المصرية، وقد مات في ليلة الخميس المذكور بدمشق.(3/201)
وفي يوم الاثنين مستهل شهر ربيع الأول: حل السلطان بمنزلة برزة بالموكب السلطاني، وولده الأمير صارم الدين إبراهيم حامل القبة على رأسه، من قرب ميدان الحصى خارج دمشق من جهة مصر إلى المصطبة المستجدة بمنزلة برزة خارج دمشق من جهة حلب، فكان يوم مشهوداً، مر السلطان من تحت القلعة، ولم ينزلها، بل مضى حتى أناخ ببرزة.
وفي ثالثه: أفرج عن الأمير سودن القاضي من سجنه بقلعة دمشق، وأركب فرساً بسرج ذهب وكنبوش ذهب.
وفي ليلة الجمعة رابعه: عمل السلطان المولد النبوي بالمصطبة ظاهر برزة، وحضره القضاة والأمراء والخاصكية والقراء، فكانت من الليالي المشهودة المذكورة، وأنعم على السادة القراء بالخلع والمال.
وفي ثامنه: توجه الخواجا زين الدين ولى تاجر الخاص إلى الأمير محمد بن قرمان، رسولاً بكتاب السلطان.
وفي تاسعه: قدم الأمير يشبك نائب طرابلس، وقد نزل السلطان قريباً من حسيا.
وفي عاشره: نزل السلطان حمص، فقدم نائب طرابلس المذكور تقدمته، وفيه قدم الأمير جار قطلو نائب حماة، فأعيد من ساعته إليها لعمل المهم، وسار السلطان إلى حماة، فقدم عليه بها الأمير حديثة بن سيف، أمير آل فضل وقدم غنام بن زامل، كبير عرب آل موسى، فكانت بينهما مشاجرة بسبب قتل سالم بن طويب من آل أحمد، فسكن السلطان ما بينهما، وعرضت عليه تقادم نائب طرابلس، وأمير آل موسى، ونائب حمص، وقدم قصاد الأمير إبراهيم بن رمضان، وقصاد أولاد بن أوزر، وهم يسألون العفو فكان يوماً مشهوداً، ثم سار السلطان وخيم في ليلة الثلاثاء سابع عشرة بمنزلة تل السلطان، وبها من تقدم من العساكر في الجاليش.
وقد رسم لهم أن لا يبرحوا منها حتى يقدم السلطان، فبات السلطان، وأصبح يوم الثلاثاء وقد ضرب له صيوان على التل المذكور، وجلس في أبهة ملكه. ونودي في العساكر أن تتقدم للعرض بعددها وأسلحتها، فعرضت بين يديه. وفيه ورد الخبر بوصول جميع التراكمين من الأوجقية وغيرهم.
وفي يوم الخميس تاسع عشره: رحل السلطان إلى منزلة قنسرين فقدم بها الأمير قجقار القردمي نائب حلب بعسكرها، وقدم أيضاً الأمير طغريل بن صقلسيز في ألف وخمسمائة فارس.
وفي يوم الجمعة: انتقل السلطان إلى منزلة الوضيحي.
وفي يوم السبت حادي عشرينه: ركب السلطان عند انشقاق الفجر، وشرع في صف الأطلاب وتعبئة العساكر بنفسه، فانتشرت يميناً وشمالاً إلى أن طبقت الأرض، ثم سار إلى حلب، ومر من ظاهرها، ودخل منها نائب الشام، ونائب طرابلس، ونائب حماة، ونائب صفد، وعدة من العربان والتركمان، وخرجوا من الباب الآخر، ونزل السلطان بالمصطبة الظاهرية في مخيماته، وترقب عود الرسل المتوجهة إلى الأطراف، فقدم في ثاني عشرينه خليل بن بلال نائب مدينة أياس، وكان قد ولي نيابتها في عاشر شوال سنة ست عشرة وثمانمائة ومعه مفاتيح قلعتها، فخلع عليه.(3/202)
وفي يوم الاثنين ثالث عشرينه: جلس السلطان بالميدان، وحضر نواب الشام وأمراء مصر، ومن قدم من التركمان والعربان والأكراد، وعين السلطان الأمير أقباي نائب الشام والأمير جار قطلو نائب حماة وعسكر دمشق وحماة ومعهم خمسمائة ماش من التركمان الأوشرية والأينالية، وفرقة من البوصجاوية وفرقة من عرب آل موسى، المتوجة إلى ملطية وإخراج حسين بن كبك منها وإلى كختا وكركر. وخلع علي داود بن أوزر، وجمائعه، وسوغهم مالاً جزيلاً وأسلحة، وأعادهم إلى بيوتهم بالعمق، وولي الأمير سيف الدين صاروجا مهمندار حلب نيابة أياس، عوضاً عن خليل بن بلال، وقدم الجاليش بين يديه، وفيه الأمير الكبير ألطنبغا القرمشي أتابك العساكر، والأمير يشبك اليوسفي نائب طرابلس، والأمير غرس الدين خليل الجشاري التوريزي نائب صفد، في عدة من أمراء مصر، فساروا إلى العمق، وركب السلطان إلى قلعة حلب، وأقام بها، ثم رحل السلطان بكرة يوم الاثنين ثاني شهر ربيع الآخر إلى جهة العمق على درب الأثارب، فقدم بالمنزلة المذكورة قصاد الأمير ناصر الدين محمد بن قرمان، وفيهم القاضي مصلح الدين مرتيل - قاضي عسكره - بهدية، وكتاب يتضمن أنه ضرب السكة المؤيدية، ودعا للسلطان في الخطة، وبعث من جملة الهدية طبقاً فيه دراهم بالصكة المؤيدية، فعنف السلطان رسوله ووبخه، وعدد له خطأ مرسله في تقصيره في الخدمة، لما وصل السلطان والعسكر إلى قيسارية، ومنها إهماله القبض على كزل ومن معه من المستحبين، ومنها عدم تجهيزه مفاتيح طرسوس، لما استولى عليها، فاعتذر مصلح الدين، وسأل الصفح، فقال السلطان له: إنما سرت وتكلفت هذه الكلفة العظيمة لأجل طرسوس لا غير، ثم فرق الدراهم وغيرها على الحاضرين، وأمر مصلح الدين، فجلس وأنسه وقدم كتاب الأمير سلمان بن أبي يزيد ابن عثمان، صاحب برصا، ثم قدم الأمير صارم الدين إبراهيم بن رمضان، وابن عمه حمزة بن أحمد بن رمضان، وسائر أمراء التركمان الأوحقية، في جمع كبير، ومعهم أم إبراهيم المذكور، وأولاده الصغار في خمسمائة من أمرائه وأقاربه وألزامه، فقام السلطان لها، وخلع على إبراهيم وعلى أخيه، وأركبهما بالسروج الذهب والكنابيش الذهب.
وفي يوم السبت سابعه: عمل السلطان الموكب بالعمق، وحلف التركمان على الطاعة، وأنفي فيهم، وخلع عليهم نحواً من مائتي خلعة، وألبس إبراهيم بن رمضان الكلوتة، وأنعم عليه، وعلى جماعته، فقبلوا الأرض بأجمعهم، وضجوا بالدعاء، فكان وقتاً عظيماً، ثم تقرر الحال على أن الأمير قجقار نائب حلب يتوجه بمن معه إلى مدينة طرسوس، ويسير السلطان على جهة مرعش إلى الأبلستين، ويتوجه مصلح الدين إلى ابن قرمان بجوابه، ويعود في مستهل جمادى الأولى بتسليم طرسوس، فإن لم يحضر مشى السلطان إلى بلاد ابن قرمان، فسار مصلح الدين صحبة نائب حلب إلى طرسوس، وسار السلطان يريد الأبلستين، فنزل النهر الأبيض في حادي عشره، وقدم كتاب نائب حلب أنه لما نزل بغراص قدم إليه خليفة الأرمن بسيس - المسمى كريكون - وأكابر الأرمن، وعلى يدهم مفاتيح قلعتي سيس وناورزا، وأنه جهزهم، فحضروا بالمفاتيح، فولى السلطان نيابة القلعة الشيخ أحمد أحد أمراء العشرات بحلب، وخلع عليه وعلى الأرمن، وأعادهم إلى القلعة المذكورة.(3/203)
وفي ثاني عشره: نزل السلطان بمنزلة كونيك، فقدم كتاب نائب الشام بأن حسين ابن كبك أحرق ملطية في خامس شهر ربيع الآخر، فشاهد أسواقها ودار السعادة بها قد عمهم الحريق، وأنه لم يتأخر بها إلا الضعيف والعاجز، وأن فلاحي بلادها نزحوا بأجمعهم، وأن ابن كبك قد نزل عند كوركي، فإنه سار من ملطية في إثره، فندب عند ذلك السلطان - وهو بكونيك - ولده الأمير صارم الدين إبراهيم للمسير، ووجهه في يوم الأحد ثالث عشره، ومعه الأمير جقمق الدوادار، وجماعة من الأمراء، لكبس الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر، فساروا مجدين، وأصبحوا بالأبلستين، وقد فر ابن دلغادر منها، وأخلى البلاد من سكانها، فجدوا في السير ليلاً ونهاراً، إلى أن نزلوا بمكان يقال له كل دلى في يوم الثلاثاء خامس عشره، فأوقعوا بمن هناك من التركمان، وأخذوا بيولهم، وأحرقوها. ومضوا إلى خان السلطان فأوقعوا بمن هناك أيضاً، وأحرقوا بيوتهم، وأخذوا من الدواب شيئاً كثيراً، وصاروا إلى موضع يقال له صاروش، فحرفوا بيوت من فيه من التركمان، وأخذوا ما عندهم، وباتوا هناك، وتوجهوا بكرة يوم الأربعاء سادس، عشره، فأدركوا محمد بن دلغادر وهو سائر بأثقاله وحريمه، فتبعوه، وأخذوا أثقاله، وأثاثه، وجميع ما كان معه، وخلص على جرائد الخيل ووقع في قبضتهم عدة من أصحابه، ثم عادوا إلى السلطان بالغنائم ومن جملتها مائة بسرك - يعني بختي - كالأفيلة، وخمسمائة حمل من اللوكات - جمال الأثقال - ومائتي فرس، وأما ما أخذ من الأقمشة الحرير والفرو والأواني ما بين فضيات وغيرها، فشيء لا يكاد ينحصر.(3/204)
ومازال السلطان يتنقل في مراعي الأبلستين، فقدم الأمير أقباي نائب الشام، بعد أن سار في إثر حسين بن كبك إلى أن بلغه أنه دخل بلاد الروم، وبعد أن قرر أمر ملطية بعود أهلها إليها، وبعد أن جهز الأمير جار قطلو نائب حماة، ومعه عدة من الأمراء، ونائب البيرة، ونائب قلعة الروم، ونائب عين تاب، ونائب كختا وكركر إلى جهة كختا وكركر فنازلوا القلعتين وقد أحرق نائب كختا أسواقها وتحصن بقلعتها، فبعث السلطان إليهم نجدة فيها ألف ومائتي ماش وعدة من آلات الحصار، وقدم كتاب محمد بن دلغادر وهو يسأل العفو، وأنه يسلم قلعة درندة، فأجيب إلى ذلك، وكان الأمير قجقار نائب حلب لما توجه إلى طرسوس، قدم بين يديه إليها الأمير شاهين الأيدكاري متولي نيابة السلطة بها، وقد بعث ابن قرمان نجدة إلى نائبه بطرسوس الأمير مقبل، فلما بلغ مقبل مسير عساكر السلطان إليه، رحل من طرسوس وبعث إلى شاهين الأيدكاري يخبره برحيله، فدخل شاهين طرسوس وقد امتنع مقبل بقلعتها، فنزل الأمير قجقار والأمير شاهين عليها، وكتب إلى السلطان بذلك، فورد كتابه في سادس عشرينه إلى الأبلستين، فدقت البشائر لذلك، وبعث السلطان الأمير سيف الدين أينال الأزعري - أحد مقدمي الألوف بديار مصر - إلى درندة ليحمل من معاملتها الميرة، فأحضر شيئاً كثيراً من العلوفات ونحوها، بحيث أبيعت العليقة الشعير بنصف درهم بمعاملة درندة. واستمر الأمير قجقار والأمير شاهين على حصار قلعة طرسوس، إلى أن أخذت بالأمان في يوم الجمعة ثامن عشره، وأخذ مقبل ومن معه وسجنوا، وكتب بذلك إلى السلطان، فقدم الكتاب في عشية يوم الأحد سابع عشرينه فانتقل السلطان إلى منزلة سلطان قرشي، فقدم قاصد الأمير على باك بن دلغادر بهديته وكتابه، وقدم كتاب الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر مع ولده، وصحبته كواهي، ومفاتيح قلعة درندة، فأضاف السلطان نيابة الأبلستين إلى على باك بن دلغادر مع ما بيده من نيابة مرعش، وجهز له التشريف. ثم ركب السلطان في ثامن عشرينه ليرى درندة، وسار جرائد الخيل ونازلها، وبات عليها، وأصبح فرتب الأمير أقباي نائب الشام في إقامته عليها، واستدعى من المخيمات بالزردخاناه والعتالين والنقابين والصناع، وألزمهم بأخذها، وعادوا إلى المخيم، فوصل في تلك الليلة مفاتيح قلعة خندروس، من مضافات درندة، وقدم الخبر باستقرار على باك بن دلغادر في الأبلستين على يد ولده حمزة، ومعه هدية، وقدم الخبر بأن الأمير أسنبك بن أينال واقع عسكر الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر، وأخذ منهم جميع ما معهم، وأنه قطعت يد ولده الكبير في الوقعة، فسر السلطان بذلك، وركب إلى درندة وبات على سطح العقبة المطلة عليها، فلما أصبح، ركب بعساكره، وعليهم السلاح، ونزل بمخيماته على القلعة وهي في شدة من قوة الحصار، فلما رأى من فيها السلطان قد نزل عليهم طلبوا الأمان فأمنهم ونزلوا بكرة الجمعة سلخه، وفيهم داود بن الأمير ناصر الدين محمد بن قرمان، فألبسه السلطان تشريفاً، وأركبه فرساً بقماش ذهب، وخلع على جماعته، واستولى السلطان على القلعة، وكتب بالبشارة إلى البلاد، وخلع على الأمير ألطنبغا الحكمي أحد رءوس النوب، واستقر في نيابة درندة، وأنعم عليه بأربعة ألاف دينار سوى السلاح، وخلع على الأمير منكلي بغا الأرغون شاوي - أحد الأمراء الطبلخاناه بالديار المصرية - واستقر به في نيابة ملطية ودوركي، وأنعم عليه بخمسة آلاف دينار، وصعد السلطان من الغد إلى قلعة درندة، وأحاط بها علماً، ثم رحل، فورد كتاب ناصر الدين محمد بن شهري يتضمن أنه جهز في يوم الأربعاء سابع جمادى الأولى عشرة أنفس، ليسرقوا قلعة كرت برت من أصحاب محمد بن دلغادر، وأردفهم بعسكر، فقاتلوا من بالقلعة في يوم الخميس غده، حتى غلبوهم، وأخذوا القلعة، وجهز من أهلها أحد عشر رجلاً، فصلبوا على قلعة درندة.(3/205)
ولما قضى السلطان الغرض من أمر درندة وطرسوس وأياس، وجعل أمر الأبلستين إلى علي باك بن دلغادر، وأمر مرعش إلى ولده حمزة، ارتحل بالعسكر ونزل على النهر من غربي الأبلستين بنحو مرحلة، ليتوطد له أمر ملطية ونائب درندة، وتكمل رجوع أهل البلدين إليهما، فأقام أربعة أيام، ثم عاد ونزل الأبلستين، يريد بهسنى وكختا وكركر، وأعاد من هناك حمزة بن علي باك دلغادر إلى أبيه، وجهز دنكز رسول قرا يوسف وصحبته رسول على يده جوابه وهدية، وكان قد سار الأمير أقباي نائب الشام إلى بهسنى فرحل السلطان في أثره، فقدم الخبر من الأمير أقباي نائب الشام بأنه كتب إلى الأمير طغرق بن داود بن إبراهيم بن دلغادر، المقيم بقلعة بهسنى يرغبه في الطاعة، ويدعوه إلى الحضور، فاعتذر عن حضوره بخوفه على نفسه، مما زال به حتى سلم القلعة، وحضر إليه.
فلما كان في سادس عشرين جمادى الآخرة: قدم الأمير أقباي، ومعه الأمير طغرق - وقد قارب السلطان في مسيره حصن منصور - فخلع على طغرق ومن معه، وأنعم عليهم بمال والكساوى، وأنزل بخام ضرب له، ونزل السلطان بحصن منصور، فقدم الخبر بنزول الأمير قجقار نائب حلب على كركر وكختا وقدم أيضاً قاصد قرا يلك بهدية، فخلع عليه، وقدم رسول الملك العادل سليمان صاحب حصن كيفا بهدية، فلما كان الغد رحل السلطان ونزل شمالي حصن منصور، قريباً من كركر وكختا، وأردف نائب حلب بالأمير حار قطلو نائب حماة، وجماعة من أمراء مصر والشام، وبعث يشبك اليوسفي نائب طرابلس لمنازلة كختا.
وفيه خلع على الأمير منكلي خجا السيفي أرغون شاه بنيابة قلعة الروم، عوضاً عن الأمير أبي بكر بن بهادر البابيري الجعيري، وخلع على الأمير كمشبغا الركني رأس نوبة جمال الدين الأستادار - كان - بنيابة بهسنى، عوضاً عن الأمير طغرق بن دلغادر. وقدم جواب قرايوسف صحبة القاضي حميد الدين قاضي عسكره، وكتاب محمد شاه بن قرايوسف وكتاب بير عمر حاكم أرزنكان وهدية جليلة من قرايوسف، فانزل حميد الدين وأجرى عليه ما يليق به.
ثم رحل السلطان ونازل كختا وحصر قلعتها، وقد نزح أهل كختا ومعامليها عنها، فنصب للرمي على القلعة مدفعا زنة حجره ستمائة رطل بالمصري، وعدة مدافع دون ذلك، فبينما هو في حصارها، إذ ورد الخبر بقرب قرايوسف وأنه يقصد قرايلك. فبادر قرايلك وجهز ابنه الأمير حمزة العشاري صحبة نائبه الأمير شمس الدين أمير حمزة بهدية، من خيل وشعير، ويسأل الاعتناء به، فأكرم السلطان ولده ونائبه وأنزلهما.
وقدم أيضاً قاصد طور على نائب الرها وقاصد الأمير ناصر الدين محمد بن شهري نائب دوركي، وقاصد بيرعمر حاكم أرزنكان، بكتابه أنه مشى يريد قرا يلك، معه عشرون ألف فارس لأخذه. وقدم أيضاً قاصد الأمير محمد بن دولات شاه الحاكم بأكل من ديار بكر، ومعه مفاتيح قلعتها، فأعيدت إليه المفاتيح، ومعها تشريف أطلسين. فلما اشتد الحصار على قلعة كختا، وفرع النقابون من النقب، ولم يبق إلا إلقاء النار فيها، طلب قرقماس شمس الدين أمير زاه فبعثه السلطان إليه، فجرت أمور آلت إلى أنه بعث ولده رهناً، وأنه بعد رحيل السلطان عنه ينزل، فرحل السلطان إلى جهة كركر، وأقام الأمير جقمق على كختا وسارت الأثقال إلى عين تاب، فنازل السلطان قلعة كركر، ونصب عليها منجنيقا يرمي بحجر زنته ما بين الستين والسبعين رطلاً بالدمشقي، وذلك في يوم الجمعة تاسع عشرينه.
؟؟شهر رجب، أوله السبت:(3/206)
فيه قدم الخبر من الأمير جقمق بنزول الأمير قرقماس من قلعة كختا، ومعه حريمه، فتسلمها نواب السلطان، وأنه توجه ومعه قرقماس إلى حلب، وقدم الخبر من الأمير منكلي بغا نائب ملطية بأن طائفة من عسكر قرايوسف نزلوا تحت قلعة منشار ونهبوا بيوت الأكراد، وعدى الفرات منها نحو ثلاثمائة فارس، وأنه ركب عليهم وكسرهم، وقتل منهم نحو العشرين، وغرق بالفرات نحو ذلك، وأسر اثني عشر نفراً، وأنهم ساروا وفيه خلع السلطان على الأمير شاهين الحاجب بصفد، واستقر به في نيابة كركر، وعلى الأمير كزل بغا - أحد أمراء حماة - بنيابة كختا، فمضى كزل بغا وتسلم كختا وقلعتها ورحل السلطان بكرة يوم الثلاثاء رابعه، وقد عاوده ألم رجله الذي يعتريه في كل سنة، فركب المحفة عجزاً عن ركوب الفرس، وقصد حلب، ثم ركب الفرات في الزوارق من تجاه بلدة يقال لها كيلك وصحبته خاصته، ونزل قلعة الروم عشية الخميس سادسه وبات بها ونزل من الغد بالميدان، بعدما رتب أحوال القلعة، وأنعم على نائبها بخمسمائة دينار، وعلى بحريتها بنفقة، فقدم الخبر في يوم الجمعة سابعه من الأمير قجقار نائب حلب بهزيمة قرا يلك من قرايوسف، وأن من معه من العسكر المقيم على كركر خافوا، وعزموا على الرحيل، وبينما كتابه يقرأ، إذ قدم كتاب الأمير أقباي نائب الشام، بأن الأمير قجقار رحل عن كركر بمن معه، من غير أن يعلمه، وأنه عزم على محاصرتها، فكتب إليه بأن يستمر على حصارها.
وفي بكرة يوم السبت ثامنه: انحدر السلطان على الفرات إلى البيرة، فدخلها من آخره، وصعد قلعتها، وقرر أمورها، فقدم الخبر من الغد بقرب قرايوسف، وأن الأمير أقباي نائب الشام صالح خليل نائب كركر، ورحل بمن معه، فحنق السلطان من ذلك، واشتد غضبه على الأمير قجقار نائب حلب، ثم رحل السلطان من البيرة يريد حلب فدخلها بكرة يوم الخميس ثالث عشره، بأبهة الملك، وقد تلقاه أهل حلب، وفرحوا بمقدمه لكثرة الإرجاف بقدوم قرايوسف، فاطمأنوا، وصعد القلعة، ونادي بالأمان، وفرق في الفقهاء والفقراء مالاً جزيلاً، وأمر ببناء القصر الذي كان الأمير جكم شرع في عمارته.
وفي سابع عشره: قدم أقباي نائب الشام، وقجقار نائب حلب، وجار قطلو نائب حماة، فأغلظ السلطان على الأمير قجقا ووبخه، فأجابه بدله، ولم يراع الأدب، فقبض عليه وحبسه بالقلعة، ثم أفرج عنه من يومه بشفاعة الأمراء، وبعثه إلى دمشق بطالاً. واستقر بالأمير يشبك اليوسفي - نائب طرابلس - في نيابة حلب، وخلع عليه. واستقر بالأمير بردبك رأس نوبة في نيابة طرابلس.
وفي يوم الخميس عشرينه: ركب السلطان إلى خارج حلب وعاد إلى دار العدل في موكب عظيم، وحضر الأمير حديثة أمير العرب، وحميد الدين رسول قاصد قرايوسف، وخلع عليه، وأنعم له بمال وأعاده. وخلع على الأمير ططر، واستقر به وأس نوبة كبيراً، عوضاً عن برد بك نائب طرابلس، واستقر بالأمير نكباي في نيابة حماة، عوضاً عن جار قطلو، واستقر بجار قطلو في نيابة صفد، عوضاً عن الأمير غرس الدين خليل التوريزي الجشاري، واستقر خليل في الحجوبية الكبرى بطرابلس وخلع على الجميع، فاستعفى خليل من حجوبية طرابلس، فأعفي، وخلع على الأمير سودن قرا صقل حاجب الحجاب بديار مصر، واستقر في الحجوبية بطرابلس، واستقر بالأمير شاهين الأرغون شاوي في نيابة قلعة حلب عوضاً عن الأمير ألطنبغا المرقبي، بحكم انتقاله في جملة مقدمي الألوف على إقطاع الأمير أقبردي المنقار.
وفي رابع عشرينه: رسم للنواب بالتوجه إلى محل كفالاتهم، وخلع عليهم خلع السفر.
وفي خامس عشرينه: قبض على الأمير طغرول بن صقل سيز وابن عمه طر علي وسجنا بقلعة حلب واستقر الأمير ناصر الدين محمد بن التركماني في نيابة شيزر، عوضاً عن طغرول المذكور، واستقر الأمير مبارك شاه في نيابة الرحبة، عوضاً عن عمر بن شهري.
وفي سادس عشرينه: كملت عمارة القصر بقلعة حلب، وجلس فيه السلطان واستدعى مقبل القرماني ورفاقه، وضربه ضرباً مبرحاً ثم صلب هو ومن معه.
وفيه قدم الخبر من القاهرة بوفاء النيل وقدم رسول سليمان صاحب حصن كيفا وكتابه، يسأل انتسابه إلى السلطان، وأن ينعم عليه بتقليد باستقراره واستمراره واحداً من نواب السلطة، وطلب تشريفاً على عادة النواب، فأجيب إلى ذلك وخلع على قاصديه وعين له حجرة بقماش ذهب، وتعبية ثياب.
شهر شعبان، أوله الاثنين:(3/207)
فيه عمل السلطان الخدمة بالقصر الجديد من قلعة حلب، وأصلح بين الأمير حديثة أمير آل فضل وبين غنام بن زامل، وحلفهما على الطاعة، وأن لا يتضارا، واستقر بالأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر في نيابة الأبلستين على عادته، وجهز له نفقة وسيفاً وسلاحاً وجمالاً وخيولاً.
وفيه قدم قاصد كردي باك، ومعه الأمير سودن اليوسفي، أحد المنسحبين من وقعة قانباي، وقد قبض عليه، فسمر تحت قلعة حلب من الغد، ثم وسط. وانتهت زيادة النيل في يومه - وهو سادس عشر توت - إلى عشر أصابع من عشرين ذراعاً.
وفي يوم الجمعة خامسه: خطب القاضي ناصر الدين محمد بن البارزي الحموي - كاتب السر - خطة الجمعة، وصلى بالسلطان في القصر المستجد بقلعة حلب.
وفي يوم السبت سادسه: أمسك بالقاهرة نصراني وقد خلا بامرأة مسلمة، فاعترفا بالزنا، فرجما خارج باب الشعرية ظاهر القاهرة عند قنطرة الحاجب، وأحرق العامة النصراني ودفنت المرأة، فكان يوماً عظيماً.
وفي ثامنه: قدم على السلطان بحلب كتاب الأمير سليمان بن عثمان، بأنه قبض على محمد بن قرمان وعلى ولده مصطفى بعد محاصرته بقونيا، وأنه استولى عليها، وعلى غالب بلاد ابن قرمان، قيسارية وغيرها.
وفيه خلع على تمراز بحجوبية حلب، عوضاً عن أقبلاط الدمرداشي. وفيه اجتمع عدة من فقهاء القاهرة عند الأمير فخر الدين عبد الغني بن أبي الفرج الأستادار، في أمر نصراني ادعى عليه بما يوجب إراقة دمه، فتشطرت البينة عليه، ولم يكمل النصاب، فحكم قاضي القضاة جمال الدين عبد الله بن مقداد الأقفهسي المالكي بتعزيره، فعندما جرد ليضرب أسلم، فأنعم عليه، وترك لحاله، وتجاورا ما فيه النصارى من كبر عمائمهم، ولبسهم الفرجيات والجبب بالأكمام الطويلة الواسعة، كهيئة قضاة الإسلام، فنودي بمنعهم من ذلك، ومن ركوبهم الحمر الفرة، ومن استخدامهم المسلمين، وأن يلتزموا الصغار، ولا يلبسوا إلا عمامة من خمسة أذرع فما دونها.
وفي يوم الخميس حادي عشره: قدم الأمير يشبك - أحد دوادارية السلطان - إلى القاهرة، وقد استقر أمير ركب الحاج. وفيه عزل السلطان تمراز عن حجوبية حلب، واستقر عوضه بالأمير عمر سبط بن شهري، وخلع عليه وعلى عمر شاه بن بهادر البابيري بنيابة جعبر عوضاً عن خليل ابن شهري.
وفي يوم الاثنين خامس عشره: جمع الناس بالجامع الأزهر من القاهرة وبالجامع المؤيدي بجوار باب زويلة، وقرأ عليهم القاضي الحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر بالجامع الأزهر كتاب السلطان بأنه وصل إلى الأبلستين وملك كختا وسيس والمصيصة وأذنة وغير ذلك، وأن قرايوسف حاكم توريز وبغداد بعث إليه بهدية، وقد قرب ما بينهما، وأن السلطان عاد إلى حلب، وسطرها في تاسع عشر رجب وقرئ ذلك بالجامع المؤيدي، فكثر كلام الناس واختلف على قدر أغراضهم.
وفي سابع عشره: قدم الخبر على السلطان بحلب من الأمير فخر الدين عثمان بن طور على قرايلك، ومن الأمير ألطنبغا نائب البيرة، ومن نائب قلعة الروم، ومن نائب كختا، ونائب ملطية، بأن الصلح وقع بين قرايوسف على أن قرايوسف تسلم قلعة صور، وعوض قرا يلك عنها ألف ألف درهم بمعاملتهم، ومائة فرس ومائة جمل بسارك، ثم رحل في رابع شهر شعبان عنه إلى جهة توريز، فلما تحقق أهل حلب رحيل قرايوسف، وعوده إلى بلاده اطمأنوا، بعدما كانوا قد تهيئوا للرحيل عن حلب.
وأصبح السلطان بكرة يوم الخميس ثامن عشره، راجلاً عن حلب إلى جهة مصر، فنزل عين مباركة. وفيه أسلم الأسعد النصراني خازناً، وكان كاتب الأمير فخر الدين عبد الغني بن أبي الفرج الأستادار، وذلك بعدما حفظ جزءاً من القرآن الكريم، وشدا طرفاً من النحو، فتسمى بعد إسلامه بمحب الدين محمد.
وفي عشرينه: استقل السلطان بالمسير من عين مباركة، ونزل قنسرين، وأعاد منها الأمير يشبك نائب حلب إليها، بعدما خلع عليه، ثم سار ونزل حماة بكرة الأربعاء رابع عشرينه. ورحل عنها من الغد، ونزل حمص، ورحل عنها عشية الجمعة سادس عشرينه.
شهر رمضان المعظم، أوله الثلاثاء: في بكرة يوم الخميس ثالثه: دخل السلطان دمشق، ونزل بقلعتها وكان يوماً مشهوداً، ونودي في الناس بالأمان والاطمئنان.(3/208)
وفي سابعه: قبض على الأمير أقباي نائب الشام، وقيد وسجن بقلعة دمشق، وسبب ذلك أن السلطان اشتراه صغيراً بألفي درهم، ورباه، ثم عمله خازنداراً، ثم نقله في أيام سلطنته إلى أن صار من الأمراء، وولي داوداراً كبيراً، ثم ولاه نيابة حلب، وهو مجبول على طبيعة الكبر، يحدث نفسه - كلما انتهى إلى غاية - بأعلى منها، فآوي جماعة من مماليك قانباي بعد قتله، وعدة من العصاة، فأشيع عنه الخروج عن الطاعة فلما بلغه ذلك، بادر إلى التوجه إلى القاهرة، وقدم على السلطان بغتة، كما سبق فيما سبق، فتنكر السلطان له وأسرها في نفسه، وولاه نيابة الشام، وكان الجاليش قد نصب، وفرقت نفقات السفر، فظن أن يصل قبل ذلك، فيثني عزم السلطان عن السفر بعده، كما شرح فوشى به دواداره، الأمير شاهين الأرغون شاوي إلى السلطان، في جماعة من أمراء دمشق، وقد ذكروا للسلطان إنه يسير إذا مرض السلطان، أو عاوده ألم رجله، وأنه استخدم جماعة من أعداء الدولة وأن حركاته كلها تدل على أنه يطلب فوق ما هو فيه، وأنه يعاني غير ما تعانيه النواب، وأنه يكثر سماطه وجنايبه وهجنه إذا ركب في الموكب، ونحو ذلك، إلى أن كان يوم تاريخه، التفت السلطان إليه بحضرة الأمراء، وسأله عن المماليك المستخدمين عنده، وعدد له من استجده من العصاة الذين كانوا مع قانباي وغيره، وأنكر عليه تركه إمساك جماعة رسم له بمسكهم، وكونه قدم إلى مصر بغتة، وأشياء من هذا الجنس، وقبض عليه، ثم أشار إلى الأمير تنبك ميق أمير أخور كبير باستقراره في نيابة الشام، فامتنع من ذلك ساعة طويلة، ثم أذعن، ولبس التشريف، وقبل الأرض على العادة.
وفيه استدعى السلطان الأمير قجقار القردمي نائب حلب - كان - وأنعم عليه بإمرة الأمير تنبك ميق. وفيه أفرج عن الأمير ألطنبغا العثماني نائب الشام - كان - ورسم بتوجهه إلى القدس بطالاً. وفيه قبض على جماعة من المماليك. وفيه خلع على عز الدين عبد العزيز المقدسي، واستقر في قضاء الحنابلة بدمشق، عوضاً عن شمس الدين محمد بن عبادة بحكم وفاته.
وفي يوم الاثنين رابع عشره: سار السلطان من دمشق يريد مصر، ونزل على قبة يلبغا، ثم استقل بالمسير، وأعاد الأمير تنبك ميق إلى دمشق بعدما خلع عليه.
وفي ثامن عشره: سار الشريف بركات بن حسن بن عجلان من القاهرة عائداً إلى مكة في تجمل زائد، وقد التزم عنه وعن أبيه الأمير فخر الدين بمال للسلطان.
وفيه بلغ الأمير فخر الدين أن السجن الذي استجد عند باب الفتوح بالقاهرة - عوضاً عن خزانة شمايل - تقاسى فيه أرباب الجرائم شدة من ضيقه، ويقاسون غماً وكرباً شديداً، فعين قصر الحجازية، بخط رحبة باب العيد، ليكون سجناً وأنعم على من هو بيده بعشره آلاف درهم فلوساً عن أجرة سنتين، وشرع في عمله سجناً، ثم أهمل.
وفي ليلة الخميس رابع عشرينه: توجه الأمير فخر الدين بن أبي الفرج لملاقاة السلطان.
وفي بكرة يوم الجمعة خامس عشرينه: قدم السلطان بيت المقدس فزار وفرق في أهله مالاً جزيلاً، وصلى الجمعة، وجلس بالمسجد الأقصى بعد الصلاة، وقرئ صحيح البخاري من ربعه فرقت على من بين يديه من الفقهاء القادمين إلى لقائه من القاهرة، ومن القدس، ثم قام المداح بعد فراغهم، فكان وقتاً مشهوداً. ثم سار السلطان من الغد إلى الخليل عليه السلام، فزار وتصدق، وسار فلقيه الأمير فخر الدين بين قرية السكرية والخليل فأقبل عليه، وسر السلطان بالقائمة التي أوقفه الأمير فخر الدين عليها، مما أعده له من الأموال، ونزل غزة يوم الاثنين ثامن عشرينه، فأراح بها.
شهر شوال، أوله الخميس:(3/209)
فيه صلى السلطان صلاة العيد على المسطبة المستجدة ظاهر غزة، وصلى به وخطب شيخ الإسلام قاضي القضاة جلال الدين البلقيني، ورحل من آخره، فقدم قاضي القضاة جلال الدين إلى القاهرة في ثامنه، ونزل السلطان على خانكاه سرياقوس في يوم الجمعة تاسعه، فأقام إلى يوم الأربعاء رابع عشره، ثم رحل ونزل خارج القاهرة، فبات، وركب يوم الخميس من الريدانية في أمرائه وعساكره، وعبر من باب النصر، وولده الأمير صارم الدين إبراهيم يحمل القبة على رأسه، فترجل المماليك، ومشوا من داخل باب النصر وبقي الأمراء ركاباً، ببعد من السلطان، وعليهم - وعلى قضاة القضاة وسائر أرباب الدولة - التشاريف، وفي جملتهم الخليفة المعتضد بالله فمر كذلك إلى الجامع المؤيدي، ونزل به وقد زينت القاهرة وأشعلت بحوانيتها القناديل والشموع، فأكل السلطان سماطاً، عبأه له الأمير فخر الدين، ثم ركب إلى قلعة الجبل، ودخلها من باب السر، راكباً بشعار الملك حتى دخل من باب الستارة، وهو على فرسه، إلى قاعة العواميد، فنزل عن فرسه على فراشه بحافة الإيوان، وقد تلقاه حرمه، فكان يوماً مشهوداً.
وفي يوم الاثنين تاسع عشره: خلع على الأمير طوغان، واستقر أمير أخور كبير. مكان الأمير تنبك العلاي - ويقال له ميق - المتنقل إلى نيابة الشام، وخلع على الأمير علاء الدين ألطنبغا المرقبي نائب قلعة حلب، واستقر حاجب الحجاب، وعلى الأمير فجقار القردمي، واستقر أمير سلاح، على عادته قبل نيابة حلب، وعلى الأمير فخر الدين بن أبي الفرج خلعة الاستمرار، وأضيف إليه أستادارية الأمير صارم الدين إبراهيم ابن السلطان، عوضاً عن سليمان بن الكويز.
وفي يوم الثلاثاء عشرينه: خرج محمل الحاج إلى الريدانية خارج القاهرة، مع الأمير بشبك الدوادار الثاني، أحد الطبلخاناه وحصل في الجمال شيء يستغرب، وهو أن العادة غلو سعر الجمال عند سفر الحاج لطلبها، فمنذ قدم السلطان من الشام انحط سعرها، لكثرة ما جاء به العسكر منها، حتى أبيع الجمل الذي كان ثمنه أربعين ديناراً بخمسة عشر ديناراً.
وفي يوم الخميس ثاني عشرينه: سرح السلطان إلى بر الجيزة لصيد الكركي وعاد في آخره من باب القنطرة، ومر بين السورين ونزل في بيت الأمير فخر الدين، فقدم له فخر الدين المذكور عشرة آلاف دينار، وركب حتى شاهد الميضأة التي بنيت للجامع المؤيد وصعد قلعة الجبل، ثم ركب من الغد وسرح أيضاً ثم عاد في يوم الأحد خامس عشريه إلى القلعة.
وفي يوم الاثنين سادس عشريه: خلع على الأمير أرغون شاه الأعور - أستادار نوروز - واستقر في الوزارة عوضاً عن الأمير فخر الدين، وخلع على الأمير فخر الدين خلعة باستمراره في الأستادارية وأن يكون مشير الدولة، وبلغت تقدمه فخر الدين التي قدمها للسلطان عند قدومه من الشام أربعمائة ألف دينار عيناً، وثمانية عشر ألف أردب غلة، من ذلك ما وفره من ديوان الوزارة مبلغ أربعين ألف دينار وثمانية عشر ألف أردب غلة، وما وفره من الديوان المفرد ثمانين ألف دينار، وما جباه من النواحي مائتي ألف دينار وخمسين ألف دينار، ومن إقطاعه ثلاثين ألف دينار، وذلك سوى مائة ألف دينار حملها إلى السلطان وهو بالشام.
شهر ذي القعدة الحرام، أوله الجمعة: في سادسه: قدم الخبر من الأمير تنبك ميق نائب الشام بأن في ليلة السبت رابع عشرين شوال خرج الأمير أقباي ومن بالقلعة من المسجونين، ففر نائب القلعة، وخرج في أثره أقباي إلى باب الحديد، بمن معه، وقد أدركه الأمير تنبك ميق بالعسكر، فأغلق الباب، وامتنع بالقلعة، وأنه على حصاره، فتشوش السلطان من ذلك، وكتب بالجد في أخذه، فقدم من الغد كتاب الأمير تنبك ميق، بأن أقباي استمر بالقلعة إلى ليلة الاثنين سادس عشرين شوال، ثم نزل فيها من قرب باب الحديد، ومشى في نهر بردا إلى طاحون باب الفرج، فقبض عليه هناك وعلى طائفة، فأجيب بمعاقبته حتى يقر على الأموال ثم يقتل، وحمل جماعة من أهل القلعة إلى مصر، وأنعم عليه بفرس قماش ذهب، وكاملية حرير مخمل بفرو سمور، وطراز عريض ورسم أن يستقر الأمير شاهين - مقدم التركمان - الحاجب الثاني بدمشق نائب القلعة، ويستقر عوضه حاجباً كمشبغا السيفي طولو. وفي تقدمة التركمان الأمير شعبان بن اليغموري، أستادار المفرد بدمشق.(3/210)
وفي يوم الجمعة ثامنه: سار الأمير صارم الدين إبراهيم ابن السلطان في عدة من الأمراء إلى الوجه القبلي، لأخذ تقادم العربان، وولاة الأعمال.
وفي تاسعه: قدم رسول قرا يلك. وفيه خلع على الأمير ططر رأس نوبة، واستقر في نظر الشيخونية على عادة رءوس النوب، وخلع على الأمير طوغان أمير أخور، واستقر في نظر المدرسة الظاهرية برقوق. وسرح السلطان إلى الطرانة في يوم الاثنين حادي عشر ذي القعدة.
وفيه قدم محمد وخليل - ولدا الملك الناصر فرج بن برقوق - من الإسكندرية، إلى قلعة الجبل.
وفي تاسع عشره: وصلت رمة الأمير فرج بن الناصر مرج من الإسكندرية، فصلى عليها بمصلى المؤمني تحت قلعة الجبل، ودفن بتربه جده الملك الظاهر برقوق، خارج باب النصر.
وفي يوم الاثنين حادي عشرينه: عاد السلطان من السرحة، وهو وصل إلى العظامي ويعرف برأس القصر، فنزل بقصر أنشأه القاضي ناصر الدين محمد بن البارزي كاتب السر على شاطئ النيل من البر الغربي، تجاه داره المطلة على النيل، وكان قد شرع في أساسه قبل سرحة السلطان، ففرغ منه بعد أربعة أيام، واستمر به السلطان ثلاثة أيام ثم ركب النيل، وتصيد بناحية سرياقوس، وصعد القلعة.
واتفق هذا الشهر ببلاد الصعيد أن غنماً عدتها نحو الأربعة وعشرين ألف رأس من الضأن رعت ببعض المراعي، فماتت عن آخرها.
وفيه جهزت الأضاحي السلطانية، فقام الأمير فخر الدين منها بعشرة آلاف رأس من الضأن، وقام الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله - ناظر الخاص - بألفي رأس.
وفي سلخه: نودي بأن يكون سعر المؤيدي الفضة تسعة دراهم من الفلوس وزنتها رطل ونصف. وأن يكون الذهب بسعره الذي يتعامل به، وكان قد بلغ المثقال الذهب الهرجة المختوم إلى مائتين وثمانين درهماً، والدينار الإفرنتي إلى مائتين وستين درهماً فلوساً، فآل الأمر على هذا.
وفي هذا الشهر: انحل سعر عامة المبيعات من أغلال وسائر الأقوات وغيرها من الملابس والدواب والأثاث. وكان في الظن أن تغلو بقدوم العسكر من الشام، فجاء الأمر بخلاف ذلك.
شهر ذي الحجة، أوله الأحد: فيه حمل إلى الأمير فخر الدين مائة ألف دينار، وإلى الأمير الوزير أرغون شاه خمسون ألف دينار، وإلى الصاحب بدر الدين ناظر الخاص خمسون ألف دينار، وأمر الثلاثة أن يأخذوا من القاهرة بهذه المائتي ألف دينار فلوساً لتضرب بصكة مؤيدية. ففرق الذهب في الناس، وألزموا بالفلوس، على أن كل دينار بمائتين وستين.
وفي ثانيه: قدم رأس الأمير أقباي من دمشق، فعلق على باب النصر، بعدما علقت جثته - بعد قتله - على قلعة دمشق، وصلب عليها جماعة.
وفي ثالثه: نودي بالقاهرة من كان عنده فلوس فليحملها إلى الديوان السلطاني. وهدد بالنكال من امتنع من حملها، أو سافر بها من القاهرة. وفيه فرقت الأضاحي السلطانية. وفيه ساق الأمير فخر الدين إلى السلطان ألف رأس من الكباش المعلوفة، ومائة وخمسين بقرة في غاية السمن.
وفي سادس عشره: ركب السلطان بثبات جلوسه في قليل من خاصكيته ونزل بالجامع المؤيدي، ثم توجه منه إلى بيت ناصر الدين محمد بن البارزي الحمري كاتب السر، بسويقة المسعودي فقدم له تقدمة، ثم ركب إلى القلعة.
وفي رابع عشرينه: استقر الأمير علاء الدين أقبغا شيطان. شاد الدواوين، ووالي القاهرة، في الحسبة، عوضاً عن عماد الدين، بعد عزله لسوء سيرته.
واستقر الأمير سودن القاضي - الحاجب كان - في نيابة الوجه القبلي، وعزل الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين، ورسم بإحضاره.
وفي يوم السبت تاسع عشرينه: قدم الأمير صارم الدين إبراهيم ابن السلطان من سفره، بعد أن وصل إلى جرجا وأخذ التقادم، ومن جملتها تقدمة الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين، وتبلغ نحو اثني عشر ألف دينار، سوى الكلف من العلوفات والمآكل في مدة النزول عليه.(3/211)
وفي هذا الشهر: وقعت فتنة بدمياط قتل فيها الوالي، وهي أن أعمال مصر منذ ابتداء الأيام الظاهرية برقوق، لا يولي بها وال إلا بمال يقوم به، أو يلتزم به، وكان من اتباع المماليك رجل سولت له نفسه ولاية في دمياط، يعرف بناصر الدين محمد السلاخوري، إلتزم بمال ووليها، واستدان مالاً حتى عمل له ما يتجمل به وباشرها غير مرة في هذه الأيام المؤيدية، فلما وليها في هذه السنة، جرى على عادته في ظلم الناس، وأخذ أموالهم ونسائهم وشباب أولادهم. ومن جملة أهل دمياط طائفة يقال لهم السمناوية، يتعيشون بصيد السمك من بحيرة تنيس ويسكن كثير منهم بجزائر يسمونها العزب - واحدتها عزبة - فأنفوا من قبائح أفعال السلاخوري في يوم الأحد ثاني عشرين ذي الحجة: وأوقعوا بنائب الوالي وضربوه وأهانوه، بحيث كاد يهلك، وجروه إلى ظاهر البلد، وتجمعوا على باب الوالي، وقد امتنع بها، ورماهم بالنشاب من أعلاها، فأصاب واحداً منهم قتله، وجرح ثلاثة حردهم وألحوا في أخذه، وهو يرميهم، حتى نفدت سهامه، فألقى نفسه في البحر، وركب في سفينته إلى الجزيرة، فتبعوه في السفن، وأخذوه وتناوبوا ضربه، وأتوا به إلى البلد، وسجنوه موثقاً في رجليه بالخشب، وباتوا يحرسونه إلى بكرة غدهم، ثم أخرجوه وحلقوا نصف لحية نائبه، وشهروه على جمل والمغاني تزفه، حتى طافوا به البلد ثم قتلوه شر قتلة، وأخرجوا الوالي من الحبس، وأتوا ببعض قضاتهم وشهودهم، ليثبتوا عليه محضراً، وأوقفوه على رجليه مكشوف الرأس عاري البدن، فبدره أحد السمناوية، وصرعه. وتواثب عليه باقيهم حتى هلك، وسحبوه وأحرقوه بالنار ونهبوا داره وسلبوا حريمه وأولاده ما عليهم، وقتلوا ابناً له في المهد، مات من الرجفة، واسروا له ابنا. فكانت فتنة لم يدرك مثلها في معناها.
وفي ليلة الأحد تاسع عشرينه: طرق القاهرة منسر، عددهم ثلاثة وعشرون رجلاً منهم فارسان، ومروا على الجامع الأزهر أول الليل، وقتلوا رجلين برحبة الأيدمري ونهبوا عدة حوانيت، وعادوا على حارة الباطلية فكان هذا مما لم يدرك مثله في الشناعة ببلدنا.
وفي هذا الشهر: قلت الغلال، وبلغ سعر الأردب القمح مائتين وأربعين بعد مائة وثلاثين، ومائة وخمسين، وبلغ الأردب من الشعير والفول قريباً من المائتين، بعدما كان الشعير قريباً من تسعين فما دونها، وسبب ذلك قلة المطر في فصلي الخريف والشتاء، وعدمه، فخفت زروع الوجه البحري، وأمسك الناس ما عندهم من الغلال، فلما طلبت تعذر وجودها، فارتفع سعرها، فتدارك الله بلطفه، وأنزل الغيث - بعدما قنطوا - في يوم الثلاثاء، ويوم الأربعاء رابع عشره، وسقي الزروع عند حاجتها، فإن الزمن شهر أمشير، حتى جادت وزكت ونمت، " إن الله بالناس لرءوف رحيم " . وفيها نزل ابن عثمان صاحب برصا على قونيا، وحاصر محمد بن قرمان، فدهمه سيل عظيم، كاد أن يهلكه وعساكره، فرحل عنها.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
الأمير أقبردي المنقار، أحد الأمراء المقدمين بمصر، في ليلة الخميس سابع عشرين صفر بدمشق، وقد توجه إليها صحبة العساكر. وهو أحد المماليك المؤيدية، ولم يكن بالمشكور. ومات الأمير فرج ابن السلطان الملك الناصر فرج ابن السلطان الملك الظاهر برقوق في ليلة الجمعة سادس عشرين ربيع الأول بثغر الإسكندرية وقد نفي إليها ثم حملت رمته، ودفنت بتربة جده خارج باب النصر، ولم يبلغ الحلم وتحدث غير مرة بإقامته في الملك، فلم يقدر ذلك ومات القاضي الرئيس تاج الدين عبد الوهاب بن نصر الله بن حسن الفوي، أخو الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، في ليلة السبت ثالث عشر جمادى الآخرة بالقاهرة، ومولده سنة ستين وسبعمائة ولي نظر الأحباس، ووكالة بيت المال، ونظر الكسوة، وتوقيع الدست، وناب عن قضاة الحنفية ووقع عند عدة أمراء، وورثه أبوه.(3/212)
ومات الشيخ موسى بن محمد بن علي المناوي بمكة، في ثاني شهر رمضان، ولم تدرك مثله فيما رأينا وعاشرنا، فإنه نشأ بالقاهرة يعاني طلب العلم، وتفقه على مذهب مالك، وحفظ الموطأ حفظاً جيداً، وبرع في الفقه والعربية، ثم زهد في الدنيا الفانية، وترك ما كان بيده من الوظائفي من غير عوض تعوضه، وانفرد بالصحراء مدة. ثم خرج إلى مكة في سنة تسع وتسعين وسبعمائة، وأقبل على العبادة متخلياً عن كل شيء من أمور الدنيا، معرضاً عن جميع الناس، يسكن القفر والجبال، ويقتات ما تنبته الأرض، ولا يدخل مكة إلا يوم الجمعة فقط، ليشهد بها الجمعة، ثم مضى لشأنه في الجبال، وأقام بالمدينة النبوية على هذا القدم زماناً، وهو يتردد إلى الحرمين، ولا يأوي داراً، ولا يسكن إلى أحد، ثم سافر إلى اليمن، وعاد إلى مكة، وطالما عرض عليه المال الكثير من المذهب، يحمل إليه من مصر وغيرها، ويراه فلا يمسه بيده، بل يأمر بتفرقته على من يعينه لهم، فيدفع إليهم، ولم يزل على ذلك حتى خلصه الله تعالى إلى دار القدس والسعادة.
ومات الشيخ شمس الدين محمد بن علي بن جعفر البلالي، شيخ خانكاه سعيد السعداء بها، في يوم الأربعاء رابع عشر شهر رمضان وكان فقيهاً معتقداً، له شهرة طارت في الآفاق، وللناس فيه اعتقاد، وعليه انتقاد.
ومات الأمير أقباي نائب الشام مقتولاً بها، في ذي القعدة، كما شرح أمره.
وقتل الأمير ناصر الدين محمد السلاخوري والي ثغر دمياط مقتولاً، في رابع عشرين ذي الحجة، كما ذكر.
ومات عز الدين محمد بن علاء الدين بن بهاء الدين عبد الرحمن ابن قاضي القضاة عز الدين محمد ابن قاضي القضاة تقي الدين سليمان بن حمزة المقدسي الحنبلي، قاضي الحنابلة بدمشق، في ليلة السبت رابع عشرين ذي القعدة، وكان عالماً ديناً حسن السيرة.
سنة إحدى وعشرين وثماني مائة
أهل شهر الله المحرم بيوم الثلاثاء.
فيه قدم مبشرو الحاج، وأخبروا بسلامتهم.
وفي ثالثه: أعرس الأمير فخر الدين ببعض جواري السلطان، وعمل مهماً جليلاً ذبح فيه ثمانية وعشرين فرساً وأغناماً، بلغ زنة لحمها عشرة آلاف رطل، ومن الدجاج ألفين ومائة طائر، ومن الأوز ثلاثة آلاف طائر، ومن الدقيق ستة وخمسين قنطاراً، ومن الزبيب خمسين قنطاراً عملت مشروباً.
وفي رابعه: ركب السلطان إلى جامع أحمد بن طولون وصلى فيه الجمعة، ثم عدى النيل، وسرح إلى ناحية أوسيم.
وفي حادي عشره: كتب من المخيم على يد الأمير حكم الخاصكي بخروج عسكر من دمشق ومن حمص وحماة، والأمير حديثة بن سيف أمير آل فضل، إلى قتال التركمان. وكذلك أن الأمير ألطنبغا الجكمي - نائب درندة - ركب على حسين كبك، فتقنطر به فرسه، فقبض عليه وقتل، ونزل حسين على ملطية وحصرها.
وفي خامس عشره: قدم الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين الأستادار من الوجه القبلي.
وفي سادس عشره: قدم الخبر بأن الأمير يشبك الدوادار أمير الحاج لما قدم المدينة النبوية، بعد انقضاء الحج، أظهر أنه يسير إلى الركب العراقي، يبتاع منه جمالاً، ومضى في نفر يسير، وتسحب صحبة الركب العراقي خوفاً أن يصيبه من السلطان ما أصاب الأمير أقباي نائب الشام.
وفي ثالث عشرينه: نودي بالقاهرة أن جميع الباعة من الجبانين والطباخين والخبازين واللحامين، ونحوهم، يحمل كل واحد منهم عشرة مسارج إلى بولاق، لتعرض على الأمير التاج، فشرعوا في تحصيل المسارج، وحملوها إلى الأمير تاج الدين الشويكي. وفيه قدم محمل الحاج الأربعاء.
وفي ليلة الخميس رابع عشرينه: كان الوقيد ببر منبابة، بين يدي السلطان، وذلك أنه سار من وسيم، ونزل بالقصر الذي أنشأه ابن البارزي بحري منبابة على النيل، وألزم الأمراء بحمل الزيت والنفط، فجمع من ذلك شيء كثير، وأخذ من البيض، وقشر النارنج، ومن المسارج الفخار التي أحضرها الباعة عدد كثير جداً، وعمل فيها فتايل القطن المغموسة بالزيت، وأشعلت بالنار، ثم أرسلت في النيل بعد غروب الشمس بنحو ساعة، وأطلقت النقوط وقد امتلأ البران بطوائف الناس، ومر لهم جميعاً من السخف ما لم نعهد مثله لملك قط.
وفي خامس عشرينه: قدم محمل الحاج ببقيتهم. وفيه عدى السلطان النيل، وصعد قلعة الجبل.(3/213)
وفي يوم السبت سادس عشرينه: قبض على الأمير سيف الدين بيبغا المظفري: أحد مقدمي الألوف، وأمير سلاح، وحمل مقيداً إلى الإسكندرية، ليعتقل بها. وفيه وجد السجن المستجد بجوار باب الفتوح قد نقب، وفر منه جماعة من المعتقلين.
وفي ثامن عشرينه: نودي بالقاهرة أن كل غريب ينزح إلى وطنه، فإنه كان قد كثرت بالقاهرة أصناف الطوائف من القلندرية وغيرهم من العجم، فاضطربت الأعاجم، ثم تركوا على حالهم.
شهر صفر، أوله الأربعاء: أهل والناس بالقاهرة ومصر في ضيق من قلة الفلوس، فإن السلطان - كما تقدم - طرح على التجار والباعة الذهب، يريد بدله فلوسا، فقلت في الأيدي، من الشح بإخراجها، حتى عزت بعد هوانها.
وفي رابعه: وسط قرقماس متولي كختا وخمسة عشر رجلاً معه، خارج باب النصر. وكانوا فيمن أحضره السلطان معه في الحديد، وسجنوا بالقلعة.
وفي سادسه: ركب السلطان بثياب جلوسه، ومعه ابنه الأمير إبراهيم في نفر يسير، إلى جامعه بجوار باب زويلة، ثم توجه منه إلى دار الأمير فخر الدين فأكل عنده، وقدم له فخر الدين خمسة آلاف دينار، ثم توجه إلى بيت الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، ونزل عنده، فقدم له ثلاثة آلاف دينار، وعرض عليه خزانة الخاص، فأنعم منها على ولده، وعلى من معه من الأمراء، بعدة ثياب حرير، وفرو سمور، ثم عاد إلى القلعة.
وفي عاشره: نودي أن يكون سعر الدينار المختوم بمائتين وخمسين وكان بمائتين وثمانين، وأن يكون الدينار الأفرنتي بمائتين وثلاثين، وكان بمائتين وستين وأن تكون الفلوس على حالها، كل رطل بستة دراهم، والمؤيدي بحاله، كل نصف بتسعة دراهم.
وفي سادس عشره: نودي أن يكون سعر الدينار المختوم بمائتين وثلاثين، والدينار الأفرنتي بمائتين وعشرة، وأن يكون المؤيدي بسبعة دراهم، حتى يصرف بالدينار الأفرنتي من المؤيدية بمبلغ ثلاثين، فماج الناس، وكثر قلقهم وكلامهم، لما نزل بهم من الخسارة، فلم يعتد بهم، واستمر الحال على ذلك.
وفي سابع عشره: طلب الأمير علاء الدين أقبغا شيطان - والي القاهرة ومحتسبها وشاد الدواوين - جميع أرباب المعايش، وقرر أسعار المبيعات على حططتها بقدر ما انحط من سعر الذهب والفضة، وتشدد عليهم، فلم يجدوا بداً من امتثال ما أمر به، على مضض وكره، فغرم كثير من الناس غرامات متعددة.
وفي ثاني عشرينه: ركب السلطان لعيادة الأمير الكبير ألطنبغا القرمشي، من وعك به، ثم مضى إلى بيت الأمير جقمق الدوادار، وأقام عنده يومه كله، وعاد من آخره إلى القلعة على حالة غير مرضية في الديانة من شدة السكر.
شهر ربيع الأول، أوله الجمعة: في ثالثه: قدم علاء الدين محمد الكيلاني الشافعي، أحد فضلاء العجم، من بلاد الشرق، فبدأ أولاً بزيارة قبر الإمام الشافعي، ثم نزل بالقاهرة، فأكرمه الناس، وأتاه قضاة القضاة والفقهاء للسلام عليه، ثم اجتمع بالسلطان، وتردد إلى مجلسه مع الفقهاء.
وفي يوم الاثنين حادي عشره: جمع الأمير أقبغا شيطان أهل الأسواق من تجار البز وغيرهم، وأنكر عليهم مخالفة ما رسم به في سعر الذهب والفضة، وبالغ في تهديدهم ووعيدهم، من أجل أنهم لم يحطوا من سعر البضائع بقدر ما انحط من سعر الدينار والدرهم، وضمن بعض أكابر الأسواق لبعض، وواعدهم الحضور بين يدي السلطان في يوم الجمعة، وصرفهم، فكثر الإرجاف بهم، وتوقف أحوال الناس، وقل جلب البائع، وكثرت خسارات الناس.
وفي رابع عشره: انقطع السلطان عن حضور الموكب بالقصر على العادة، لانتقاض ألم رجله عليه.
وفيه قدم الخبر بأن الأمير برديك الخليلي - نائب طرابلس - خرج للدورة، فلما عاد بلغه اتفاق قضاة طرابلس وأمرائها ورعيتها على منعه من الدخول إلى البلد، كراهة فيه، لكثرة ظلمه وطمعه، فأقام بعد مراسلتهم في جهة من الجهات، حتى يرد مرسوم السلطان، ثم سار إلى جهة مصر، فكتب أهل طرابلس إلى السلطان بقبيح سيرته وأخذه الأموال بغير حق، ومخالفته المراسم السلطانية، فرسم السلطان بإحضاره.(3/214)
وقدم الخبر بقيام أهل المحلة - من النواحي الغربية - على الوالي بها ورجمه، بسبب طلب الفلوس، وذلك أنه حمل إلى الغربية مبلغ كبير من الذهب لتؤخذ به الفلوس، بسعر مائتين وعشرة الأفرنتي، فنزل بالناس بلاء عظيم، وعملوا في الحديد، ونزح كثير منهم إلى القاهرة في طلب الفلوس، فانحط سعر الدينار إلى مائة وسبعين، لعزة الفلوس، وهوان الذهب.
وفي يوم الجمعة خامس عشره: جمع الأمير أقبغا شيطان التجار وكبار المتعيشين، ومضى بهم إلى قلعة الجبل، وقد اشتد خوفهم من السلطان، وشنعت القالة بالإرجاف فإذا بالسلطان في شغل عنهم بألم رجله، فلم يروه بل أوقفهم الأمير جقمق الدوادار، وقرر معهم أن يكون المؤيدي هو النقد المتعامل به، دون غيره من الذهب والفلوس، فلا يباع ويشتري إلا بالدراهم المؤيدية، ويدفع الذهب أو الفلوس عوضاً عنها، ليكون النقد الرابح المنسوب إليه ثمن المبيعات، وقيم الأعمال هي المؤيدية، وأن لا يأخذ التاجر في كل مائة درهم اشترى بها الفائدة سوى درهمين، وحذرهم من مخالفة ذلك، ثم أفرج عنهم، فانصرفوا، وكأنما ردت إليهم الحياة بعد الموت. ونودي من الغد على الخيل في سوقها تحت القلعة بالدراهم المؤيدية، وعمل كذلك في بقية أسواق القاهرة، فبطل النداء على البضائع بالفلوس من يومئذ. وفيه نودي أن يكون الدينار على حاله بمائتين وعشرة، والمؤيدي بسبعة دراهم فلوساً، إلا في الديون القديمة، وأجر الأملاك، وجوامك الغلمان، فإن المؤيدي يحسب بتسعة كما كان، فظهر ارتفاع الأسعار فيما نودي عليه بالمؤيدية.
وفي هذا الشهر: تنكر السلطان على قاضي القضاة جلال الدين بن البلقيني لاستكثاره من النواب، فكثرت القالة وتجرأ عليه رفاقه، فعزل طائفة من نوابه، واقتصر منهم على أربعة عشر.
وفي ثامن عشره: خلع على الشريف حسن بن الشريف علي بن محمد بن على الأرموي، بنقابة الأشراف، عوضاً عن والده بعد وفاته، واستقر الأمير فخر الدين في نظر وقف الأشراف، لصغر سن الشريف.
وفي ثامن عشرينه: قدم الأمير بردبك الخليلي نائب طرابلس، وقدم الخبر بكثرة الأمطار بالغربية، وأنه سقط برد، منه ما زنة الحبة الواحدة مائة درهم، تلف منه زروع كثيرة قد استحق حصادها، حتى أن مارساً فيه ثمانمائة فدان تلف عن آخره، وهلكت عدة أغنام بوقوعه عليها.
وفي سلخه: قدم الأمير سودن الأسندمري من الإسكندرية، وقد أفرج عنه، وكان مسجوناً بها منذ زالت الدولة الناصرية فرج. وفيه قدم الشيخ شمس الدين محمد بن عطاء الله الهروي ناظر القدس والخليل، ومدرس الصلاحية بالقدس، فأكرمه السلطان، وأنزله، وبعث إليه الأمراء عدة تقادم. وأجرى له راتب.
شهر ربيع الآخر، أوله الأحد: أهل هذا الشهر وألم السلطان متزايد من رجله، وهو منقطع ملازم للفراش، والناس في ضيق من تعذر وجود الفلوس، وقلة وجود المآكل بالأسواق، منذ نودي على المؤيدية بسبعة دراهم.
وفي ثانيه: قبض على الأمير أرغون شاه الوزير، وعلى الأمير أقبغا شيطان وسلما إلى الأمير فخر الدين، متتبع حواشيهما وأسبابهما، ودورهما.
وفيه استقر الأمير بردبك نائب طرابلس في نيابة صفد، وكتب بنفي عمر بن الهذباني إلى طرسوس، ثم كتب باستقراره في نيابة بهسنى، عوضاً عن كمشبغا رأس نوبة جمال الدين، واستقر شاهين بن عبد العزيز - الحاجب بصفد - في نيابة قلعتها، عوضاً عن عمر بن الطحان.
وفيه قدم كتاب طغرول بن صقيل سيز على يد أخيه طرعلي، يسأل الأمان، وكان قد قدم إلى القاهرة، وسار في ركاب السلطان، ثم فر من دمشق فأمن، وقدمت مكاتبه الأمير شاهين الأيدكاري - نائب طرسوس - بأنه محصور مدة أربعة أشهر من إبراهيم بن رمضان، وقد عزم محمد بن قرمان على المشي إلى طرسوس.
وفي ثالثه: نقل الأمير علاء الدين علي أبن الأمير ناصر الدين محمد بن الطبلاوي، من ولاية مصر إلى ولاية القاهرة، عوضاً عن أقبغا شيطان.
وفي خامسه: أعيد شمس الدين محمد بن يعقوب الدمشقي إلى حسبة القاهرة، عوضاً عن أقبغا شيطان.
وفي يوم السبت سابعه: خلع على الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين، واستقر في الوزارة، عوضاً عن أرغون شاه.
وفي عاشره: أفرج عن أرغون شاه، من غير عقوبة.
وفي ثاني عشره: خلع على قاضي القضاة شهاب الدين أحمد بن محمد بن محمد الأموي، وأعيد إلى قضاء القضاة المالكية بدمشق، عوضاً عن شرف الدين عيسى.(3/215)
وفي سادس عشره: ضرب عنق بعض أعوان الظلمة المتصرفين بأبواب الوزراء، لتعرضه إلى ما يريق دمه شرعاً.
وفيه نقل سوق الرقيق من موضعه بخط المطاح فيما بين الوزيرية وخط الملحيين إلى فندق تجاه المشهد الحسيني، ثم أعيد إلى موضعه بعد قليل.
وفي سابع عشره: خلع على الأمير أرغون شاه وأركب فرساً، واستقر في إمرة لتركمان بثلاثين ألف دينار، وكتب أن ينقل الأمير سنقر نائب المرقب إلى نيابة قلعة دمشق، عوضاً عن شاهين، ويستقر ألطنبغا الجاموس في نيابة المرقب، ويستقر سودن الأسندمري - الذي أفرج عنه - حاجباً بطرابلس، عوضاً عن بزدار، واستقر في وزارة دمشق يعقوب الإسرائيلي، بعدما أسلم، وكان صيرفياً في يهوديته، واستقر في وزارة حلب علم الدين سليمان بن الجابي.
وفيه أوقع الأمير سودن القاضي - نائب الوجه القبلي - بعرب فزارة، ونهب أموالهم، وساق إلى السلطان منها ألف جمل وخمسين فرساً، وفر من نجا منهم إلى البحيرة، فأوقع بهم الأمير دمرداش نائب الوجه البحري، وقتل كثيراً منهم، ونهب ما معهم، وحمل إلى السلطان منه أربعمائة جمل وعشرين فرساً، ورءوس رجال كثيرة قد قطعها، فانحسم أمرهم وقدم الخبر بقتل منكلي بغا الأجرود وسودن الركني، من جماعة الأمير أقباي، وقتل علي بن نعير، وناصر الدين وزير حلب، وصلبهم على شرفات قلعة دمشق.
وقدم الخبر من حلب بوقعة عظيمة بين علي باك بن دلغادر وأخيه محمد باك، انتصر فيها محمد، وكسر أخاه، وغنم جميع موجوده، فأدركه الأمير يشبك نائب حلب بعد الواقعة وقد انتصر، فتلقاه وأضافه، وقدم له وحلف على الطاعة. وفيه جهز الأمير جار قطلو نائب حماة وصفد إلى الإسكندرية، فسجن بها عند حضوره من صفد إلى قطيا، فحمل منها.
وفي تاسع عشره: سار الأمير فخر الدين بن أبي الفرج إلى الوجه القبلي، وخيم بالجيزة، واستقل بالمسير من غده في طوائف كثيرة من العربان، وعدة من المماليك. وقد استعد للحرب، وأخذ معه الروايا والقرب والزاد ليتتبع العرب حيث ساروا.
وفيه ظهر بالمأذنة المؤيدية اعوجاج.
وفي ثالث عشرينه: استمر الأمير برسباي الدقماقي - أحد مقدمي الألوف - في نيابة طرابلس، عوضاً عن الأمير بردبك الخليلي، المنتقل إلى نيابة صفد، وأنعم بإقطاعه على الأمير فخر الدين على الوزير الأمير بدر الدين، وكان برسباي يلي كشف التراب وعمل الجسور بالغربية، فطلب منها، وخلع عليه فيه، واستقر أيضاً الأمير سودن الأسندمري أميراً كبيراً بطرابلس.
وفيه كتب محضر بهدم المأذنة المؤيدية، فهدمت من الغد، وغلق باب زويلة مدة ثلاثين يوماً.
شهر جمادى الأولى، أوله الاثنين: فيه سافر الأمير أرغون شاه إلى دمشق على تقدمة التركمان بها. وفيه تحرك عزم السلطان إلى الحجاز، فكتب إلى أمراء الحجاز بذلك.
وفي رابعه: قدم من الشام ألف وثلاثمائة حمل، جهزها الأمير تنبك ميق نائب الشام. وذلك أنه أوقع بعرب آل علي، قريباً من حمص، وكسرهم، وأخذ لهم ألفاً وخمسمائة حمل، باع منها رديئها، وجهز باقيها.
وفي يوم الخميس حادي عشره: ولد للسلطان ولد ذكر، سماه موسى، من أمة يقال لها طولو باي، فدقت البشائر، وكتب إلى الأقطار بذلك، فتوجه الطواشي مرجان الهندي إلى الشام للبشارة بولادته، وزينت القاهرة ومصر.
وفي سادس عشره: ابتدئ بالنداء على النيل ثلاثة أصابع، وجاءت القاعدة أربعة أذرع وثمانية أصابع.
وفي سابع عشره: كانت عقيقة الأمير موسى ابن السلطان، عمل فيها مدة جليلة، وخلع على الأمراء، وأركبوا خيولاً بقماش ذهب، بلغ المصروف عليها خمسة عشر ألف دينار.
وفي ثالث عشرينه: قدم الخبر بأن الأمير فخر الدين ركب في طلب هوارة، فتبعهم من سيوط مدة خمسة أيام، حتى أركبهم قريب أسوان، فقاتلوه عامة يومهم، فجرح كثير منهم، وقتل جماعة نحو المائتين وعشرين، وانهزم باقيتهم إلى الواحات فأحاط بأموالهم، وبعث خمسة رءوس من أعيانهم.
وفي يوم الجمعة خامس عشرينه: عرض السلطان مماليك الطباق بالقلعة، وعين منهم عدة للسفر معه إلى الحجاز، وأخرج الهجن، وجهز الغلال في البحر إلى مكة وينبع. وفيه كتب أن يستقر الأمير شاهين الزردكاش - حاجب الحجاب بدمشق - في نيابة حماة، عوضاً عن الأمير نكباي، ويستقر نكباي في الحجوبية.(3/216)
وفي سابع عشرينه: ركب السلطان - ومعه ولده - الأمير إبراهيم، والأمراء، ونزل إلى المارستان المنصوري بخط بين القصرين، وهو بثياب جلوسه، فزار المرضى، وعاد إلى القلعة. وفيه فتح باب زويلة، ولم يعهد قط أنه أقام هذه المدة مغلوقاً.
وفيه كتب بإعادة إقطاع علي بن أبي بكر الجرمي إليه واستقراره في الإمرة على عادته، وجهز له تشريفي، وكتب إلى الأمير شاهين نائب الكرك أنه جهز إليه نائب عزة ونائب القدس، وكاشف الرملة، بمن معهم من العساكر، لضرب عربان بني عقبة وأخذهم، وجهز إليه فوقاني بوجهي حرير كمخا بطراز عريض، وكتب إلى المذكورين أن يتوجهوا إلى الكرك، لضرب بني عقبة وأخذهم صحبة نائب الكرك، وأسر إلى نائب غزة بأن يقبض عليه، ويوقع الحوطة على موجوده. وفيه جهز إلى ملطية مبلغ أربعين ألف دينار، لعمارة طاحونين وخان وقيسارية تشتمل على أربعين دكاناً وزاوية، وكتب إلى نائب طرابلس أن يتوجه إلى ملطية بعسكره، ويقيم مع نائبها لمعاضدته.
وفي ثامن عشرينه: منع قاضي القضاة جلال الدين بن البلقيني من الحكم.
وفي يوم الثلاثاء تاسع عشرينه: خلع على الشيخ شمس الدين محمد بن عطاء الله الهروي، واستقر قاضي القضاة، عوضاً عن شيخ الإسلام جلال الدين بن اللقيني، ونزل من قلعة الجبل، ومعه الأمير جقمق الدوادار والأمير قطلوبعا التنمي رأس نوبة، وعدة من الأمراء والقضاة وغيرهم، إلى المدرسة الصالحية بين القصرين، وحكم على العادة، ومضى إلى داره، ثم بعث إلى قاضي القضاة جلال الدين بأن يحمل ما عنده من مال الحرمين والأوقاف، فأبى أن يسلمه ذلك إلا بإذن السلطان، وكان قاضي القضاة جلال الدين لما أعيد إلى وظيفة القضاء في شهر ربيع الأول سنة ثمان وثمانمائة تصدى لمحاسبة مباشري أوقاف الحرمين وغيرهما بنفسه، فضبط عليهم ضبطاً زائداً، وخشي من تفريطهم، فجعل ما يتحصل من المال تحت يده، وصار ينفق ما يحتاج إليه من مصارف الحرمين وغيرهما، ففاض تحت يده نحو سبعة آلاف دينار، منها لجهة حرمي مكة والمدينة ستة آلاف دينار، ولجهة الجامع الطولوني والمدرسة الأشرفية ألف دينار. وهذا شيء لم يقع لقاض قبله في الدولة التركية.
وفي يوم الأربعاء غده: استدعى قاضي القضاة شمس الدين محمد الهروي شهود القاهرة ومصر، الجالسين بالحوانيت للتكسب بتحمل الشهادة وأدائها ليعرضوا عليه، فأوقفهم بين يديه، طائفة بعد أخرى، وأقرهم على ما هم عليه، ولم يستنب سوى عشرة، وكان قاضي القضاة جلال الدين قد انصرف ونوابه أربعة عشر، ثم زاد الهروي بعد ذلك في عدة النواب في الحكم حتى بلغوا نحو العشرين، وأقام أياماً يركب ويمر في الشوارع بهيئة العجم، وهو لابس فرجية مفتوحة عن صدره، ولعمامته عذبة مرخاة على يساره، وسلك في تحجبه مسلكاً غير مسلك القضاة، مع قلة الدراية بمصطلح البلد، وعادة الناس بمصر.
وفي يوم الجمعة: ترقب الناس ركوبه للقلعة ليخطب ويصلي بالسلطان في جامع القلعة، فبعث نائباً عنه، فإن لسانه فيه عجمة، وعنده حبسة، بحيث أنه إذا أراد أن يتكلم عسر عليه ابتداء الكلام قليلاً، وهو يعالجه علاجاً، ثم يتكلم بعجمة، وهذا لا يتأتى معه إقامة الخطبة، واتفق له أيضاً أنه حضر مع رفقائه قضاة القضاة الثلاث عند السلطان، فلما حان انصرافهم لم يستطع قراءة الفاتحة والدعاء كما هي العادة، فقرأ قاضي القضاة شمس الدين محمد الديري الحنفي فاتحة الكتاب، ودعا، ومن العادة أن لا يتقدم أحد في القراءة على قاضي القضاة الشافعي.
شهر جمادى الآخرة، أوله الأربعاء: في ثالثه: وقفت طائفة من بلد الخليل عليه السلام للسلطان، وشكوا الهروي على مال أخذه منهم في أيام نظره على بلد الخليل، وأنه طرح على بعضهم بيضاء وألزمه أن يحمل بعدده دجاجاً، فبعث السلطان إليه يأمره أن يخرج لهم مما يلزمه من الحق.(3/217)
وفيه وشي للسلطان بالأمير جقمق الدوادار أنه موافق لقرايوسف، وذلك أنه اتصل بالسلطان رجل ادعى أنه من أولاد علي الدربندي، فأحسن إليه وأمر بتجهيزه للحج، فحج وعاد، فوشي بالأمير جقمق أنه لما كان السلطان بكختا حسن لرسول قرايوسف جذبه إلى البلاد الشامية، وأنه مشى بينه وبين قرايوسف بذلك، فبعث إليه قطعة بلخش ثمينة، فأعلم السلطان الأمير جقمق بما قيل عنه، ولم يسم القائل، وأظهر له أنه لم يصدق الناقل، فقلق جقمق قلقاً كبيراً، إلى أنكان في شهر تاريخه، أعاد ابن الدربندي الكلام، وأنه قدم إلى جقمق كتاب في المعني المذكور، فأسلمه السلطان في هذا اليوم إلى جقمق، وأعلمه بخبره، وما نقل عنه، فعاقبه فلم يثبت، وأحضر وتداً مجوفاً مسدوداً بالحديد من رأسه، وطيه كتاب رق لطيف مكتوب بالفارسية بماء الذهب معناه أنه للأمير جقمق من قرايوسف، أن القاضي حين وصل إليه أوصله رسالته وهديته، وأن هذا الكلام لم يرد إلينا منك وحدك، ولكن اعتمدنا عليك، وعد من الذين فروا جماعة، واللقاء بيننا وبينك حلب، ولك نياتها، فطلب الأمير جقمق الخراطين وأراهم الوتد المذكور، معرفة بعضهم وقال: أنا صنعت هذا لشخص شاب، ولم يعطني أجره فأحضر الشاب، وتنبع الكتاب من العجم، فوجد رجل أعجمي قد مرض، ونزل بالمارستان فأوقف على الكتاب فاعترف أنه خطه، فنفي الشاب إلى قوص، وطلب ابن الدربندي وعنف على ما عمل، فقال: الأمير ألطنبغا الصغير ألجأني إلى الكذب على الأمير جقمق، فلم يعبأ به ولا بقوله، وغرق في النيل. ومات العجمي المريض بالمارستان من ليلته.
وفي رابعه: قدم الخبر بأن الشيخ إبراهيم الدربندي مات، وأن قرايوسف بعث ابنه الخان على ستة آلاف فارس إلى شماخي فأتته عساكر بلاد الدشت، وكسرته، وقتل منه أناس كثير. فلما بلغ ذلك شاه ميرزه بن تيمورلنك، عزم على أن يصيف في تبريز لأجل قرايوسف، وأن بير عمر حاكم أرزن كان انكسر من عساكر الروم كسرة عظيمة، قتل فيها كثير من أصحابه وأن قرا يلك ركب على بلاد قرايوسف، وحارب من بماردين منهم وكسرهم، وقتل وأسر منهم نحو السبعين، وأخذ له ثمان قلاع ومدينتين، ورحل مائتين وعشرين قرية بأموالها وعيالها، ليسكنهم ببلاده، وأنه على حصار ماردين.
وفي ثامنه: قدم الأمير فخر الدين بن أبي الفرج من الوجه القبلي، ومعه من الأغنام عشرون ألف رأس، سوى ما تلف منها، فإنه أخذ أربعة وخمسين ألف رأس لم يحضر للسلطان إلا ما ذكر، ومن الرقيق العبيد والإماء ألف وثلاثمائة شخصاً، ومن البقر ثلاثة آلاف رأس، ومن الجاموس تسعة آلاف رأس، ومن الجمال ألفان، ومن القند والعسل والغلال شيء كثير جداً، قوم عليه بمائة ألف دينار، يقوم بها. وفيه رسم أن يستقر الأمير بردبك العجمي في نيابة سيس، وجهزت إليه الخلعة، عوضاً عن أقبغا.
وفي تاسعه: رسم بإخراج من لا وظيفة له من العجم، بين الفقهاء من الخوانك وغيرها ثم أهمل أمرهم.
وفي تاسع عشره: قدم الخبر بأن هوارة اجتمعوا - ما بين راكب وماشي - نحو الألفين، وأقبلوا يريدون الأمير سودن القاضي، وكان معه من الأمراء أينال الأزعري أحد مقدمي الألوف، فاقتتلوا قتالاً كبيراً قتل فيه من أصحاب الأميرين جماعة. ثم كانت الكسرة على هوارة، وقتل منهم جماعة، حمل منهم عشرون رأساً إلى السلطان. فتوجه الأمير الكبير ألطنبغا القرمشي والأمير جقمق الدوادار، والأمير ططر رأس نوبة النوب، والأمير ألطنبغا المرقبي حاجب الحجاب، والأمير قطلو بغا في عدة من المماليك في حادي عشرينه نجدة لسودن القاضي.
وفي عشرينه: أعيد شمس الدين محمد بن الحاج عمر بن شعبان الجابي إلى حسبة القاهرة، وعزل ابن يعقوب.
وفي رابع عشرينه: قدم الخبر بأن نائب غزة، وكاشف الرملة ونائب القدس، ساروا نجدة للأمير شاهين نائب الكرك على العرب، فتلقاهم ليسير بهم، ويقاتل العرب، فامسكوه - كما أسر إليهم السلطان - وحمل مع نائب القدس إلى دمشق، وسجن بقلعتها، وقبض معه على حاجب الكرك، واعتقل بقلعتها، وسبب إمساك شاهين هذا لم يحضر لملاقاة السلطان عند عوده من بلاد الروم. وقدم الخبر بأن نائب حلب سار بالعسكر الحلبي ونواب القلاع، وأمراء تركمان الطاعة، ونزل على قلعة كركر، في ثاني جمادى الآخرة هذا، وحصر خليل نائبها، وقد جلا أهل كركر عنها، واستعد خليل بقلعتها وحصنها.(3/218)
وفي هذا الشهر: شرع السلطان في بناء مارستان للمرضى، موضع مدرسة الملك الأشرف شعبان بن حسن تجاه الطلبخاناه من القلعة.
وفي آخره: نقل سوق الرقيق من مكانه إلى مكان بطرف البندقانيين.
شهر رجب، أوله الخميس: فيه وفى النيل ستة عشر ذراعاً، وزاد إصبعين، فركب السلطان النيل إلى المقياس حتى خلق بين يديه، ثم فتح الخليج على العادة، مكان يوماً مشهوداً، وغرق فيه جماعة انقلبت بهم المركب، فهلكوا.
وفي يوم الجمعة سادس عشره: ولد للسلطان ولد ذكر، من خوند ابنة الأمير تنم الحسني، نائب الشام سماه محمداً، وكناه بأبي المعالي، ونودي بزينة القاهرة ومصر، فزينتا.
وفي عشرينه: ورد الخبر بأن الأمراء أوقعوا بهوارة على ناحية جرجا فقتلوا منهم وأسروا نحو الخمسين، ومر باقيهم على طريق الواحات، وتركوا حريمهم وأموالهم.
وفي يوم الخميس ثاني عشرينه: كانت عقيقة الأمير المعالي محمد ابن السلطان، وخلع على الأمراء، وأركبوا الخيل بالقماش الذهب، فتجاوز المصروف عليها خمسة عشر ألف دينار.
وفي ثالث عشرينه: قدم سيف بردبك الخليلي، نائب صفد، بعد موته.
شهر شعبان، أوله الجمعة: فيه وجد السلطان ورقة بمجلسه. فيها:
يا أيها الملك المؤيد دعوة ... من مخلص في حبيه لك ينصح
انظر لحال الشافعية نظرة ... فالقاضيان كلاهما لا يصلح
هذا أقاربه عقارب وابنه ... وأخ وصهر فعلهم مستقبح
غطوا محاسنه بقبح صنيعهم ... ومتى دعاهم للهدى لا يفلح
وأخو هراة بسيرة اللنك اقتدى ... فله سهام في الجوانح تجرح
لا درسه يقرأ ولا أحكامه ... تدري ولا حين الخطابة يفصح
واكشف هموم المسلمين بثالث ... فعسى فساد منهم يستصلح
فعرضها السلطان على الفقهاء الذين يحضرون مجلسه في يوم الأحد، فلم يعرفوا كاتبها، واستحسن السلطان الأبيات، وكانت ابتداء سقوط الهروي من عينه.
وفيه غرق ولد بعض الباعة في الخليج، فأخرجه أبوه ميتاً، فلم يمكن من دفنه إلا بعد استئذان الأمير علاء الدين علي بن الطبلاوي، والي القاهرة، - كما هي العادة - فأمر به عندما استأذنه إلى السجن، فسجن، وبعث إليه أنه لا سبيل إلى الإفراج عنك، حتى تحمل خمسة دنانير، مما زالوا به حتى وعدهم بذلك، وخرج وهو موكل به، فباع بضاعته التي يقيم منها أوده وأود عياله فأحرزت ثلاثة دنانير، ثم أخذ جميع ما عند امرأته - أم الغريق - وباعه، مبلغ ديناراً واحداً واقترض ديناراً، حتى كملت الخمسة دنانير التي للوالي، ثم اقترض شيئاً أخذه الموكلون عليه من أعوان الوالي، وشيئاً كفن به ولده ودمعه لمن دفنه، ثم ترك امرأته، وفر. وهذا من بعض ما تفعله الولاة، في هذا الزمن العجيب.
وفي يوم السبت ثامن شعبان: نودي على النيل بزيادة إصبعين، تتمة ثلاثة أصابع، من تسعة عشر ذراعا. وكان له من يوم النوروز - وهو يوم الاثنين سادس عشرين شهر رجب لم يزد، فإنه انتهى في يوم النوروز إلى إصبع من تسعة عشر ذراعاً. ثم نقص نصف ذراع، ثم تراجع قليلاً قليلاً، حتى ود النقص وزاد إصبعين، وكان منذ نقص النيل، ارتفع سعر الغلال.
وفيه قدم الأمراء من الوجه القبلي، بألفي جمل، واثني عشر ألف رأس من الغنم الضأن، سوى ما تفوقه الأمراء من الجمال، وعدتها نحو الألفين، وسوى ما نهب من الأغنام، وهو شي كثير جداً.(3/219)
وفيه نودي أن لا يتعامل الناس بالدنانير الأفرنتية الناقصة عن درهم وثمن في الوزن، وأن من وجد معه دينار ناقص يقص، ويحضر به إلى دار الضرب، وأن يكون الدينار الأفرنتي التام على حاله بثلاثين مؤيدياً وكل مؤيدي بسبعة دراهم فلوساً، ليكون الأفرنتي بمائتين وعشرة دراهم فلوساً، والأصل في هذه الدنانير المشخصة، التي يؤتى بها من بلاد الفرنج، وتعرف بالأفرنتية، أن تكون زنة كل مائة دينار منها أحد وثمانين مثقالاً وربع مثقال، والمعاملة بها عدداً لا وزناً، فلم يتركها أهل الفساد على حالها، بل يردئوا منها، حتى فحش نقصها، نودي عليها، وقع كثير من الناس في الخسارة من أجل ما في الأيدي منها، ووجدت الصيارفة والباعة السبيل إلى أخذ أموال الناس، بحجة أن الدينار نقص بكذا وكذا، ويتحكم الصيرفي بما يريد فذهب كثير من أموال الناس في تغيير أحوال النقود، ولا قوة إلا بالله.
وفي تاسعه: قبض على الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، ناظر الخاص، بقلعة الجبل، وأنزل به مع بعض الأمراء المقدمين إلى بيت الأمير فخر الدين بن أبي الفرج، وسلم له، وكان قد تقدم من ابن نصر الله قبل ذلك بأيام يسيرة مفاحشة، خرج فيها عن الحد في حق ابن أبي الفرج، وشافهه في حضرة السلطان بعظائم تقتضي غضب السلطان عليه، فما شك أحد في هلاكه، فكان الأمر بخلاف ذلك، وأكرمه ابن أبي الفرج، وأنزله وقام له بما يليق به، وأرسل إلى داره يعد أهله بكل خير، ويأمر غلمانه وأتباعه أن يلازموا ما هم فيه من خدمته على عادتهم، وركب فخر الدين من الغد إلى السلطان، وقد نزل إلى بركة الحبش لعرض الهجن التي بها إلى الحجاز، فأقام عنده يومه كله، وهو يلج في السؤال أن يفرج عن ابن نصر الله، ويقره على ما بيده، إلى أن قبل شفاعته فيه، فلما عاد أركبه إلى داره، فبات بها وركب في بكرة يوم الثلاثاء ثاني عشره إلى القلعة، فخلع عليه خلعة الرضا والاستمرار، ونزل إلى داره، وقد سر الناس به سروراً كبيراً، وعدت هذه الفعلة من ابن أبي المرج نجداً لا يشابهه شيء من أخلاق أهل زماننا.
وقدم الخبر بأن الأمير يشبك نائب حلب أقام على كركر أربعين يوماً، مجداً في حصارها، حتى نفذ العليق من العسكر، فأخلى بلاد كركر من أهلها، وسيرهم إلى بلاد حلب، ورعى الكروم وحرقها، وحرق القرى حتى تركها بلاقع وعاد إلى حلب بمن معه، من غير أخذ قلعة كركر. وقدم الخبر بأن الأمير ناصر الدين محمد بيك بن علي بيك بن قرمان نزل على طرابلس، في خامس عشر رجب، وحاصرها، وسأل نائبها الأمير شاهين الأيدكاري النجدة، فكتب بخروج عساكر الشام إليها. واستقر الأمير عز الدين حمزة ابن الأمير شهاب الدين أحمد بن رمضان في نيابة أذنة، وإمرة التركمان، على عادة أبيه عوضاً عن إبراهيم بن رمضان، لانتمائه إلى ابن قرمان. وأنعم على عساكر حلب بعشرة آلاف دينار، نفقة كونهم توجهوا إلى كركر. واستقر في نيابة كختا الأمير بردبك الحمزاوي، عوضاً عن الأمير منكلي بغا، وأعيد منكلي بغا إلى إمرته بحماة.
وفي يوم الجمعة نصفه: نقص النيل عشر أصابع، بعد ما انتهى في الزيادة إلى عشر أصابع، من تسعة عشر ذراعاً.
وفي سادس عشره: ابتدئ بهدم دار التفاح، خارجباب زويلة، وهي جارية في وقف الأمير طقز دمر، على خانكاته بالقرافة، بعد ما دفع فيها ألف دينار أفرنتية، ليعتاض أهل الوقف بها مكاناً غيره.
وفي ثامن عشره: استقر الأمير مراد خجا أحد أمراء الألوف - في نيابة صفد وخلع عليه، وأنعم بتقدمته وإقطاعه على الأمير جلبان المؤيدي رأس نوبة السلطان، ورأس نوبة الأمير إبراهيم ابن السلطان.
وفي ثالث عشرينه: توجه الأمير أزدمر الظاهري - أحد مقدمي الألوف - في عدة الأمراء والمماليك السلطانية إلى بلاد الصعيد، لإقامة بها، وعاد الأمير جقمق الداودار بمن بقي معه.
وفيه قدم الخبر باستمرار ابن قرمان على حصار طرسوس ونزول قرايوسف على آمد، وفرار قرايلك منه، ونزوله على جانب الفرات تجاه قلعة نجمة، واستئذانه نائب حلب في التعدية، وأن أهل البلاد الحلبية عظم خوفهم، وعزموا على الفرار منها، مخافة أن يصيبهم مثل ما أصابهم في نوبة تمرلنك.(3/220)
وفي يوم الاثنين خامس عشرينه شعبان: ركب السلطان من قلعة الجبل إلى ظاهر القاهرة، وعبر من باب النصر ومر في شارع المدينة إلى القلعة، وبين يديه الهجن التي عينها للسفر معه إلى الحجاز، وعليها حلي الذهب والفضة، فكان يوماً عظيماً، فما هو إلا أن استقر بالقلعة قدم الأمير بردبك الحمزاوي - أحد أمراء الألوف بحلب - ومعه نائب كختا - الأمير منكلي بغا - بكتاب نائب حلب والأمير عثمان بن طرعلي، المعروف بقرايلك، بأن قرايلك عدى الفرات من مكان يقال له زغموا ونزل على نهر المرزبان وذلك أنه بلغه أن قرايوسف قصد كبسه مما أحسن قرايلك إلا وقد هجمت فرقة من عسكر قرايوسف عليه من شميصات دخل بهم خليل نائب كركر، فأدركوا قرايلك عند رحيله من نهر المرزبان إلى مرج دابق، فقاتلهم في يوم الثلاثاء ثاني عشر شعبان هذا، وأخذوا بعض أثقاله، فنزل مرج دابق، ثم قدم حلب في نحو ألف فارس، باستدعاء الأمير يشبك له، فجفل من كان خارج سور مدينة حلب، ورحلوا ليلاً عن آخرهم. واضطرب من بداخل السور، وألقوا بأنفسهم من السور ورحل أجناد الحلقة ومماليك النائب المستخدمين، بحرمهم وأولادهم، فانثنى عزم السلطان عن السفر إلى الحجاز، وكتب إلى العساكر الشامية في المسير إلى حلب، والأخذ في تهيئة الإقامات. وأصبح يوم الثلاثاء سادس عشرينه وقد جمع الأمراء والخليفة وقضاة القضاة، وطلب شيخ الإسلام جلال الدين البلقيني، وقص عليهم خبر قرايوسف، وما حصل لأهل حلب من الخوف والفزع، وجفلتهم - هم وأهل حماة - وأن الحمار بلغ ثمنه خمسمائة درهم فضة، والأكديش إلى خمسين ديناراً، وأن قرايوسف في عصمته أربعون امرأة، وأنه لأيدين بدين الإسلام، وكتب صورة فتوى في المجلس فيها كثير من قبائحه، وأنه قد هجم على ثغور المسلمين، ونحو هذا من الكلام. فكتب شيخ الإسلام جلال الدين البلقيني وقضاة القضاة بجوار قتاله. وكتب الخليفة خطه بها أيضاً. وانصرفوا ومعهم الأمير مقبل الداودار فنادوا في الناس بالقاهرة بين يدي الخليفة وشيخ الإسلام وقضاة القضاة الأربع، بأن قرايوسف يستحل الدماء، ويسبي الحريم، ويخرب الديار، فعليكم بجهاده كلكم، بأموالكم وأنفسكم. فدهى الناس عند سماعهم هذا، واشتد قلقهم. وكتب إلى ممالك الشام أن ينادي بمثل ذلك في كل مدينة، وأن السلطان واصل إليهم بنفسه وعساكره. وكتب إلى الوجه القبلي بإحضار الأمراء.
وفيه بلغ ماء النيل في زيادته عشر أصابع، من تسعة عشر ذراعاً، ونقص في يومه إصبعين، بعدما نقص خمساً، وذلك قبل أوان نقصه فارتفع سعر الغلال، وتخوف الناس الغلاء.
وفي يوم الأربعاء سابع عشرينه: نودي بين يدي الأمير خرز نقيب الجيش في أجناد الحلقة بتجهيز أمرهم للسفر إلى الشام، ومن تأخر حل به كذا وكذا من العقوبة.
شهر رمضان، أوله الأحد: فيه قدم الخبر بأن قرايلك رحل من حلب، وأقام بها الأمير يشبك نازلاً بالميدان، وعنده نحو مائة وأربعين فارساً، وقد خلت حلب من أهلها، إلا من التجأ إلى قلعتها. فأتاه النذير ليلاً أن عسكرا قرايوسف قد أدركه، فركب قبيل الصبح فإذا مقدمته معلى وطأة بابلاً فواقعهم وهزمهم، وقتل وأسر جماعة، فأخبروه أنهم جاءوا لكشف خبر قرايلك، وأن قرايوسف بعين تاب. فعاد وتوجه إلى سرمين، فلما بلغ قرايوسف هزيمة عسكره، كتب إلى نائب حلب يعتذر عن نزوله بعين تاب، وأنه ما قصد إلا قرايلك، فإنه أفسد في ماردين، فبعث إليه صاروخان - مهمندار حلب - فلقيه على جانب الفرات، وقد جازت مجموعة الفرات وهو على نية الجواز، فأكرمه واعتذر عن وصوله إلى عين تاب، وحلف أنه لم يقصد دخول الشام، وأعاده بهدية للنائب، فسر السلطان بذلك.
وكان سبب حركة قرايوسف، أن الأمير فخر الدين عثمان بن طر علي بن محمد - ويقال له قرايلك - صاحب آمد، نزل في أوائل شعبان على مدينة ماردين من بلاد قرايوسف، فأوقع بأهلها، وأسرف في قتلهم، وسبي نساءهم، وباع الأولاد والنساء، حتى أبيع صغير بدرهمين، وحرق المدينة، ورجع إلى آمد، فلما بلغ قرايوسف ذلك، اشتد حنقه وسار، ومعه الطائفة المخالفة للسلطان، يريد أخذ قرايلك، ونزل على آمد، ثم رحل عنها في ثامن شعبان جريدة خلف قرايلك، وقطع الفرات من شميصات في عاشره ولحق قرايلك، وضربه على نهر المرزبان ففر منه إلى حلب، وهو في أثره، فتوجه قرايلك من حلب، وكان من مواقعة نائب حلب لعسكر قرايوسف ما ذكر.(3/221)
وفي ثانيه: كتب ببيع الغلال المجهزة في البحر إلى الحجاز لرجوع السلطان عن السفر إلى الحج.
وفي خامسه: نودي في أجناد الحلقة، بالعرض على السلطان، فعرضوا عليه في يوم الجمعة سادسه، وابتدأ بعرض من يركب منهم في خدمة الأمراء، فخيرهم بين الاستمرار في جملة رجال الحلقة، وترك خدمة الأمراء وبين الإقامة في خدمة الأمراء وترك أخبار الحلقة فاختار بعضهم هذا وبعضهم هذا، فأخرج اقطاعات من أراد خدمة الأمراء، وصرف من خدمة الأمراء من أراد الإقامة على إقطاعه، وشكا إليه بعضهم قلة متحصل إقطاعه، فزاده، وكان هذا من جيد التدبير، فإن العادة كانت أن عسكر مصر في هذا الدولة التركية على ثلاثة أقسام قسم يقال لهم أجناد الحلقة، وموضوعهم أن يكونوا في خدمة السلطان، ولكل منهم إقطاع يقال له خبز، ونظيرهم في أيام الخلفاء أهل العطاء وأهل الديوان، وقسم يقال لهم مماليك السلطان، ولهم جوامك مقروة في كل شهر، وجرايات ولحوم في كل يوم، وكسوة في كل سنة، وقسم ثالث يقال لهم مماليك الأمراء وهم الذين يخدمون الأمراء، ويعتد بطائفة من إقطاع الأمير للعدة المقررة له منهم، فلذلك كانت عدة عساكر مصر كثيرة، ثم تغير هذا في الأيام الظاهرية برقوق ومن بعده، وصار الأمراء يأخذون إقطاعات الحلقة بأسماء مماليكهم، وطواشيتهم، وتخدم أجناد الحلقة عندهم وتأخذ المماليك السلطانية أيضاً الإقطاعات مع الجوامك، فقلت عدة الرجال، وكثر متحصل قوم، وقل لآخرين ما يحصل من الإقطاعات، وخربت عدة بلاد من كثرة المغارم، وعجز مقطعيها.
وفي سابعه: أفرج عن الأمير كمشبغا الفيسي أمير أخور، وعن قصروه من تمراز وكانا بالإسكندرية، وعن الأمير كزل العجمي حاجب الحجاب وكان، بصفد وعن الأمير شاهين نائب الكرك وكان بقلعة دمشق.
وفي تاسعه: قدم الخبر بأن قرايوسف أحرق أسواق عين تاب ونهبها، فصالحه أهلها على مائة ألف درهم، وأربعين فرساً، فرحل عنها بعد أربعة أيام، إلى جهة البيرة، وعدى معظم جيشه إلى البر الشرقي في يوم الاثنين سابع عشر شعبان، وعدى من الغد، ونزل ببساتين البيرة وحصرها، فقاتله أهلها يومين وقتلوا منه جماعة، فدخل البلد، ونهب، واحرق الأسواق، حتى بقيت رماداً، امتنع الناس منه ومعهم حريمهم بالقلعة، ثم رحل في تاسع عشره إلى جهة بلاده، بعد ما حرق ونهب جميع معاملة البيرة، فسر السلطان برجوع قرايوسف، وفتر عزمه عن السفر إلى الشام.
وقدم الخبر بأن ابن قرمان حارب أهل طرسوس، فقتل بين الفريقين خلق كثير، إلى أن رحل عنها في سابع شعبان من ألم اشتد بباطنه.
وإلى ثالث عشره: جلس السلطان لعرض أجناد الحلقة، فعرض عليه منهم زيادة على أربعمائة، ما بين غني وفقير، وكبير وصغير. فمن كان إقطاعه قليل المتحصل أشرك معه غيره، ومثال ذلك أن جندياً يتحصل من إقطاعه في السنة سبعة آلاف درهم فلوساً، وآخر يتحصل له ثلاثة آلاف، فألزم من إقطاعه ثلاثة آلاف أن يعطي الذي إقطاعه سبعة آلاف مبلغ ثلاثة آلاف ليسافر صاحب السبعة آلاف ويقيم الذي أعطى الثلاثة آلاف، وأفرد جماعة وجد إقطاعاتهم قليلة المتحصل ثم ضم أربعة منهم، وأمرهم أن يختاروا منهم واحداً يسافر، ويقوم الثلاثة بكلفته، ورسم أن المال المجتمع من أجناد الحلقة يكون تحت يد قاضي القضاة شمس الدين الهروي.
وفي رابع عشره: قدم كمشبغا الفيسي وقصروه من تمراز من الإسكندرية، فمثلا بين يدي السلطان ونزلا إلى دورهما.
وفي سابع عشره: ركب السلطان إلى خارج القاهرة، وعبر من باب الفتوح إلى القلعة.
وفي ثامن عشره: قدم الخبر من طرابلس بنزول التركمان - الأينالية والبياضية والأوشرية - على صافيتا من عمل طرابلس، جافلين من قرا يوسف، وأنهم نهبوا بلاداً، وأحرقوا منها جانباً، وأن الأمير برسباي الدقماقي النائب نهاهم عن ذلك، فلم يرجعوا، وأنه أمرهم بالعود إلى بلادهم بعد رجوع قرايوسف، فأجابوا بالسمع والطاعة، فركب عليهم برسباي ليأخذ مواشيهم وقاتلهم في يوم الثلاثاء سادس عشرين شعبان، فقتل منهم خلق كثير، منهم الأمير سودن الأسندمري، وثلاثة عشر من عسكر طرابلس، وانهزم باقيهم عراة، فغضب السلطان، ورسم بعزل برسباي عن نيابة طرابلس، واعتقاله بقلعة المرقب، وكتب بإحضار سودن القاضي نائب الوجه القبلي ليستقر في نيابة طرابلس.
وفي عشرينه: عرض السلطان أجناد الحلقة.(3/222)
وفي ثالث عشره: ركب السلطان إلى المطعم خارج القاهرة، وعاد فلم يكد يستقر حتى في الساعة الرابعة، وشق القاهرة من باب زويلة، وخرج من باب القنطرة إلى السرحة، وعاد في يوم الأربعاء خامس عشرينه. وفيه ختمت قراءة صحيح البخاري بالقصر من قلعة الجبل، وحضر السلطان ختمه على العادة، وفرق على الجماعة الحاضرين من الفقهاء - وعدتهم سبعون - مبلغ مائة وأربعين مؤيدياً كل واحد، وخلع على قاضي القضاة شمس الدين محمد الهروي جبة صوف بفرو سمور على العادة.
وفي سابع عشرينه: عرض السلطان الأجناد على عادته، وتشدد في طلب المال منهم، فنزل بهم من ذلك شدائد، لفقر أكثرهم، وعجزهم عن القيام بما لزمهم، فلما انقضى مجلس العرض، ركب السلطان، وعدى النيل إلى بر الجيزة، وبات هناك، ثم عاد من الغد.
وفي هذا الشهر: أتلفت الدودة كثيراً من البرسيم المزروع بأراضي الجيزة.
وفيه قدم مصطفى ابن الأمير ناصر الدين محمد بن قرمان، إلى مدينة طرسوس، باستدعاء أهلها، من قبيح سيرة نائبها شاهين الأيدكاري، واستحلاله أموالهم ودماءهم، وأخذ المدينة وحصر القلعة، وقد امتنع بها شاهين الأيدكاري حتى أخذه، وبعث به ابنه، وأن قرايوسف لما مضى إلى بلاده مات ابنه بير بدق على ماردين، وعندما وصل إلى بلاده قبض على ولده اسكندر واعتقله، وأنه وقع بينه وبين ولده شاه محمد، صاحب بغداد.
شهر شوال، أوله الاثنين: في ثانيه: عرض السلطان الأجناد.
وفي خامسه: جلس للحكم بين الناس، وكان قد ترك ذلك، فعاد إليه، وضرب ابن الطبلاوي والي القاهرة بالمقارع بين يديه، ولم يعزله، واستقر الملطي في نيابة الوجه القبلي، عوضاً عن سودن القاضي.
وفي ليلة السبت سادسه: ركب السلطان، وسرح إلى جهة سرياقوس.
وفي ثامنه: قدم الأمير سودن القاضي من الوجه القبلي، وتمثل بمخيم السلطان من السرحة.
وفي عاشره: عاد السلطان من السرحة إلى القلعة.
وفي ثاني عشره: ركب إلى الصيد، وعاد في ثالث عشره، وقد وعك بدنه، وعاوده ألم رجله، فلزم الفراش.
وفي خامس عشره: خلع على الأمير سودن القاضي، واستقر في نيابة طرابلس عوضاً عن الأمير برسباي الدقماقي، وخلع على الأمير كمشبغا الفيسي، واستقر أميراً كبيراً بطرابلس.
وفي سادس عشره: خلع على الأمير سيف الدين أبي بكر ابن الأمير قطلوبك، المعروف بابن المزوق، واستمر أستادار السلطان، بعد وفاة الأمير فخر الدين عبد الغني ابن أبي الفرج وخلع على ناصر الدين محمد بن البارزي كاتب السر، واستقر في نظر وقف الأشراف عوضاً عن ابن أبي الفرج، واشتملت تركة ابن أبي الفرج على نحو ثلاثمائة ألف دينار، منها صندوق فيه مبلغ اثنين وسبعين ألف دينار، وثلاثة مساطير بمبلغ سبعين ألف دينار وغلال وفرو وقماش وعدة بضائع بنحو مائة ألف دينار، أحاط السلطان بها كلها.
وفي حادي عشرينه: خرج محمل الحاج إلى البركة مع الأمير جلبان أمير أخور، ورحل في رابع عشرينه، بعد أن تقدمه الركب في أمسه.
وفي هذا الشهر: عز وجود التبن، حتى أبيع الحمل بدينار، بعد خمسة أحمال بدينار. وفيه كثرت الفتن بالوجه البحري. وانقضى الشهر والسلطان مريض.
شهر ذي القعدة. أوله الثلاثاء: في ثالثه: قبض على الوزير بدر الدين حسن بن محب الدين عبد الله الطرابلسي. وسلم إلى الأمير أبي بكر الأستادار، بعد إخراق السلطان به، ومبالغته في إهانته لسوء تدبيره، وقبح سيرته، وخبث سريرته. وتتبعت حواشيه أتباعه فقبض عليهم ثم أفرج عنهم، وفيه خلع على الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله خلع الوزارة، مضافاً لنظر الخاص. وأنعم عليه مرة ماله وتقدمة ألف، فنزل الأمراء وأهل الدولة معه، وسر الناس به، وفيه دقت الطبلخاناه على بابه بعد غروب الشمس على عادة الأمراء الأكابر ولم يقع في الدولة التركية مثل هذا لوزير صاحب قلم.
وفيه خلع على الأمير جربغا دوادار الأمير يشبك نائب حلب، واستمر على عادته، وكان قد قدم في سادس عشرين شوال، وصحبته شهاب بن أحمد بن صلاح الدين صالح بن محمد، كاتب سر حلب بطلب، لشكوى نائب حلب منها، فسار جربغا وتأخر ابن السفاح بالقاهرة وكتب بقبض على قرمش الأمير الكبير بحلب وسجنه بقلعتها.
وفي خامسه: ركب السلطان المحفة - وهو مريض - وسرح، ثم عاد من آخره.
وفي سابعه: استقر شمس الدين محمد بن يعقوب في وزارة دمشق.(3/223)
وفي تاسعه: خلع على الشيخ الأمجد رفائيل - كاتب الجيزة - واستقر بطرك اليعاقبة، عوضاً عن متى بعد موته.
وفي عاشره: ركب السلطان ونزل إلى بيت كاتب سره، ناصر الدين محمد بن البارزي، المطل على النيل، وعدى الأمراء إلى بر الجيزة ثم سار السلطان من بيت كاتب السر في يوم الجمعة حادي عشره إلى السرحة ببركة الحجاج، وركب من الغد النيل يريد سرحة البحيرة، ونزل بالبر الغربي على الطرانة، وانتهي إلى مريوط فأقام بها أربعة أيام. ورسم بعمارة بستان السلطان بها، وقد تهدم، واستأجر مريوط من مباشري وقف الملك المظفر بيبرس الجاشنكير على الجامع الحاكمي، وتقدم بعمارة سواقيه، ومعاهد الملك الظاهر بيبرس البندقداري، وعاد.
وفي هذا الشهر: عز وجود لحم الضأن بأسواق القاهرة، ولم يرتفع سعره.
وفيه أفرج عن الشريف عجلان بن نعير الحسيني أمير المدينة، وللإفراج عنه خبر فيه معتبر: وهو أن عز الدين عبد العزيز بن علي البغدادي الحنبلي - أحد جلساء السلطان - رأى في منامه كأنه في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد انفتح قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج منه صلى الله عليه وسلم، وجلس وعليه أكفانه، وأشار بيده المقدسة إلى عز الدين فقام إليه حتى دنا منه، فقال له: " قل للمؤيد يفرج عن عجلان " فانتبه وصعد على عادته إلى مجلس السلطان، وحلف له بالأيمان الحرجة أنه ما رأى عجلان قط ولا بينه وبينه معرفة، وقص عليه رؤياه، فسكت حتى انفض المجلس، وخرج إلى مرمى نشاب استجدها بالقلعة، فأحضر الشريف عجلان، وخلى عنه، وقد حدثني عز الدين بالرؤيا، وأقسم لي بالله أنه ما كان قبل رؤياه يعرف عجلان، ولا رآه قط، وهو غير متهم فيما تحدث به شهر ذي الحجة، أوله الخميس: فيه قل وجود الخبز بالأسواق، وازدحم الناس في طلبه ثلاثة أيام، ثم كسد وارتفعت الأسعار، حتى تجاور الأردب من الشعير والفول مائتين وخمسين درهماً.
ووافى عيد الأضحى والسلطان بناحية وردان وهو عائد، فصلى به صلاة العيد وخطب ناصر الدين محمد بن البارزي كاتب السر. وكان الحال بالقاهرة في الأضاحي بخلاف ما نعهد، لقلة ما ذبح، فإن السلطان والأمراء لم يفرقوا الأضاحي، كما جرت به العادة.
وفي ثاني عشره: قدم السلطان من سرحة البحيرة، وعدى النيل إلى بيت كاتب السر، وأقام به إلى بكرة يوم الثلاثاء ثالث عشره، وركب إلى القلعة وألم رجله لم يبرح. وتقدم إلى الأمراء بتجهيزهم للسفر إلى الشام.
وفي خامس عشره: عرض السلطان أجناد الحلقة على عادته، وعين منهم من يسامر، وألزم من يقيم بالمال، كما تقدم. وفيه قدمت أم إبراهيم بن رمضان التركماني من بلاد الشرقي، وتمثلت بين يدي السلطان، فوسم بتعويقها، فعوقت.
وفي تاسع عشره: عرض السلطان أجناد الحلقة، ثم ركب في خاصته بثياب جلوسه إلى جامعه بجوار باب زويلة، واجتمع عنده القضاة فتنافس كل من القاضيين شمس الدين الهروي، وشمس الدين محمد الديري، وخرجا عن الحد حتى تسابا سباباً قبيحاً بحضرة السلطان، وقد اجتمع من طوائف الناس خلق كثير، وانفضوا وعناية السلطان بالهروي. فكان هذا مما لا يليق بالقضاة. وفيه بلغ الأردب القمح مائتين وستين درهماً، والأردب الفول ثلاثمائة درهم، لقلته. وكثر كساد الأسواق، وتوقف حال الناس، وقلة فوائدهم.
وفي ثاني عشرينه: ركب السلطان للصيد، وشق القاهرة من باب النصر.
وفي رابع عشرينه: أفرج عن الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين، وأقام بالمدرسة الفخرية موكلاً به، ومرسماً عليه. وفيه ركب السلطان للصيد، وعاد من يومه.
وفي يوم الثلاثاء خامس عشرينه: جلس السلطان بالإسطبل لعرض أجناد الحلقة، على عادته، وتشدد في طلب المال ممن عين للإقامة، وضرب عدة منهم.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
الشريف النقيب شرف الدين أبو الحسن علي بن الشريف النقيب فخر الدين أبي علي أحمد بن الشريف النقيب شرف الدين أبو محمد علي بن شهاب الدين حسن بن محمد بن الحسين بن محمد بن الحسين بن محمد بن زيد بن الحسين بن مظفر بن علي بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب الأرموي، نقيب الأشراف، في يوم الاثنين تاسع عشر ربيع الأول، وكان يعد من رؤساء البلد، كرماً وأفضالاً من غير شهرة بعلم ولا نسك.(3/224)
ومات فيه عبد الله بن علاء الدين علي بن محي الدين يحيي بن فضل الله العمري، وقد حمل واشتدت فاقته، وهو آخر من بقي من أولاد علاء الدين بن فضل الله.
ومات الأمير أجترك القاسمي، وقد تنقل في عدة ولايات، منها نيابة غزة.
وقتل الأمير حسين بن كبك، أحد أمراء التركمان، في ثالث جمادى الأولى، وكان من خبر قتله أن الأمير تغري بردى الجكمي - أحد العصاة على السلطان - فر والسلطان على مدينة كختا فيمن تسحب، ثم لحق بالأمير منكلي بغا نائب ملطية مع رفقته، فسأل السلطان في الصفح عنه، فصفح، وأقام عند منكلي بغا إلى أن قدم حسين ابن كبك على ملطية، وحصرها، فقرر الأمير منكلي بغا تغري بردى هذا، أنه يظهر الهرب، ويتسحب إلى حسين بن كبك، ويقيم عنده إلى أن يجد فرصة يقتله فيها، فخرج من ملطية فاراً إليه، فأكرمه، واستمر به عنده إلى أن توجه إلى بير عمر حاكم أرزنكان، في أول جمادى، فأنزله بير عمر في مخيم، وأجرى له ما يليق به، فلم يبت عنده سوى ليلة واحدة، وجلسوا لشرب الخمر في الليلة التي بعدها، حتى تفرق عن حسين أصحابه ودخل إلى مبيته، واستدعى بتغري بردى إليه ليكبسه، فعندما نام - وهو سكران - أخذ تعري بردى سيفه وحشاه في بطه، فلم يتنفس، وركب فرسه ليلاً إلى جهة شماخي وتوصل منها إلى ملطية، وقدم حلب، وجاء إلى مصر، فأكرمه السلطان، وخلع عليه، وأعطاه عشرة آلاف درهم فضة، وثلاثة أرؤس من الخيل كاملة العدة، وثياباً نفيسة، وإقطاعاً بديار مصر كثير المتحصل، وتقدم إلى الأمراء أن يخلع كل منهم عليه، فناله مال كبير، واستراح الناس من حسين بن كبك.
ومات بالقاهرة شهاب الدين أحمد بن عبد الله بن أحمد القرقشندي الشافعي في ليلة السبت عاشر جمادى الآخرة، عن خمس وستين سنة، وقد كتب في الإنشاء، وبرع في العربية، وشارك في الفقه، وناب في الحكم، وعرف الفرائض ونظم ونثر. وصنف كتاب صبح الأعشى في صناعة الإنشا، جمع فيه جمعاً كبيراً مفيداً، وكتب في الفقه وغيره.
ومات الأمير بيسق الشيخي، أحد المماليك الظاهرية، في جمادى الآخرة بالقدس، وترقي حتى صار من أمراء الطلبخاناه، وأمير أخور، وولي إمرة الحج في الأيام الظاهرية والناصرية، وولي عمارة المسجد الحرام، لما احترق في سنة ثلاث وثمانمائة، ثم تنكر عليه الناصر فرج، وأخرجه من القاهرة إلى بلاد الروم منفياً، فأقام بها حتى تسلطن المؤيد شيخ قدم عليه، فلم يقبل عليه وأقام في داره مدة، ثم أخرجه إلى القدس بطالاً، فمات بها، وكان عارفاً بالأمور، متعصباً الفقهاء الحنفية على الشافعية، شرس الخلق، عسوفاً، كثير المال، وفيه بر وصدقات.
ومات الأمير علاء الدين أقبغا شيطان، مقتولاً في ليلة الخميس سادس شعبان، وقد جمع له بين ولاية القاهرة وحسبتها، وشد الدواوين، وكان يحسن المباشرة، ولم يشهر عنه تعاطي شيء من القاذورات المحرمة، كالخمر ونحوه.
ومات الأمير بردبك الخليلي بصفد، في ليلة الخميس نصف شهر رجب بها، وهو على نيابتها.
ومات الأمير سودن الأسندمري، مقتولاً في وقعة التركمان خارج طرابلس، في يوم الأربعاء سابع عشرين شعبان، وهو أحد مماليك الظاهرية، ومن جملة أمراء مصر، فلما قتل الناصر فرج، قبض عليه وسجن، ثم أفرج عنه، وعمل أميراً بطرابلس، فقتل بها عن قليل.
ومات الأمير أبو الفتوح موسى ابن السلطان، في يوم الأحد تاسع عشرين شهر رمضان، وهو في الشهر الخامس، فدمن بالجامع المؤيدي.
ومات الأمير فخر الدين عبد الغني ابن الأمير تاج الدين عبد الرزاق بن أبي الفوج، في يوم الاثنين نصف شوال، ودفن بجامعه.
ومات الأمير علاء الدين ألطنبغا العثماني الظاهري، نائب الشام، بطالاً بالقدس، في يوم الاثنين ثاني عشرين شوال.
ومات الأمير الطواشي بدر الدين لؤلؤ العزي كاشف الوجه القبلي، في يوم الأربعاء رابع عشرين شوال. ولي كشف الوجه القبلي في سنة ثلاث عشره، ثم في رجب سنة ثمان عشرة، وعزل وصودر وأخذ منه مال جزيل، بعد عقوبة شديدة، ثم ولي شد الدواليب السلطانية بالوجه القبلي، حتى مات، وكان من الحمقاء المتمعقلين، والظلمة الفاتكين، في هيئة متدين ناسك واعظ.(3/225)
وتوفي شرف الدين محمد بن عز الدين أبي اليمن محمد بن عبد اللطف بن أحمد بن محمود بن أبي الفتح، الشهير بابن الكويك الربعي، الإسكندري، الشافعي، في يوم السبت سادس عشرين ذي القعدة، ومولده في ذي القعدة سنة سبع وثلاثين وسبعمائة، بالقاهرة، وقد انفرد بأشياء لم يروها غيره. وتصدى للأسماع عدة سنين، فسمع عليه كثير من أهل القاهرة والقادمين إليها، وأضر قبل موته. وكان خيراً ساكناً كافا عن الشر، من بيت رياسة. وأول سماعه حضوراً سنة إحدى وأربعين وسبعمائة. و لم يشتهر بعلم.
ومات الأمير قطلوبغا الخليلي نائب الإسكندرية، في يوم الخميس خامس عشرين ذي الحجة، وكان قد ولي حاجباً بالقاهرة، ثم تعطل ستاً وعشرين سنة، فساءت حاله، إلى أن ولاه الملك المؤيد نيابة الإسكندرية، مباشرها مباشرة مشكورة، ومات وهو على نيابتها.
ومات الأستاذ إبراهيم بن باباي العواد، في ليلة الجمعة مستهل شهر ربيع الأول. وقد انتهت إليه الرياسة في الضرب بالعود. وكان أبي النفس، من ندماء السلطان، مقرباً عنده، وجدد عمارة بستان الحلبي المطل على النيل، وبه مات.
سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة
أهلت وخليفة الوقت المعتضد بالله أبو الفتح داود بن المتوكل على الله أبي عبد الله محمد، وسلطان مصر والشام والحجاز الملك المؤيد أبو النصر شيخ المحمودي الظاهري، والأمير الكبير ألطنبغا القرمشي، وأتابك العساكر المقام الصارمي إبراهيم ابن السلطان، والدوادار الأمير جقمق، ورأس نوبة الأمير ألطنبغا الصغير، وأمير سلاح الأمير قجقار القردمي، وأمير مجلس الأمير ططر، وكاتب السر ناصر الدين محمد بن البارزي، والوزير وناظر الخاص الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، أحد الأمراء مقدمي الألوف، والأستادار الأمير أبو بكر، وناظر الجيش علم الدين داود بن الكويز، وقضاة القضاة على حالهم، ونائب الشام الأمير تنبك ميق العلاي، ونائب حلب الأمير يشبك اليوسفي، ونائب طرابلس الأمير سودن القاضي، ونائب حماة الأمير شاهين الزردكاش، ونائب صفد الأمير قرا مراد خجا، ونائب الإسكندرية ناصر الدين محمد بن العطار.
شهر الله المحرم الحرام، أوله الجمعة: في ثانيه: جلس السلطان لعرض أجناد الحلقة على ما تقدم، وأنفق على الأمراء نفقة السفر، فبعث إلى كل من الأميرين ألطنبغا القرمشي وططر ثلاثة آلاف دينار، ولمن عداهما ألفي دينار.
وفي خامسه: قدم مبشرو الحاج، وأخبروا أنه لم يرد أحد من حاج العراق.
وفي رابع عشره: قرئ تقليد الوزير الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، بالجامع المؤيدي، وكانت العادة أن يقرأ تقليد الوزارة بخانكاه سعيد السعداء.
وفي نصفه: ضرب خام المقام الصارمي إبراهيم ابن السلطان تجاه مسجد تبر خارج القاهرة.
وفي يوم الاثنين ثامن عشره: ركب إبراهيم ابن السلطان بكرة النهار في أمراء الدولة والعساكر، وتبعه طلبه وطلب الأمير جقمق الدوادار، حتى نزل بمخيمه، وخرج بعده الأمراء بأطلابهم، وهم ططر أمير مجلس، وقجقار القردمي أمير سلاح، وأينال الأزعري رأس نوبة، وجلبان، وأركماس الجلباني من مقدمي الألوف، وثلاثة من أمراء الطبلخاناه، وخمسة عشر من أمراء العشرات، ومائتين من المماليك السلطانية.
وفي عشرينه: نزل السلطان إلى مخيمه على خليج الزعفران، ثم سار إلى مخيم ولده وبات عنده، ثم ودعه وركب من الغد إلى القلعة.
وفي يوم الجمعة ثاني عشرينه: رحل المقام الصارمي إلى جهة البلاد الشامية، بمن معه وفي ثالث عشرينه: قدم الركب الأول من الحاج، وقدم المحمل ببقية الحاج من عده، ومعهم الشريف عجلان بن نعير، أمير المدينة النبوية في الحديد. وقدم الأمير بكتمر السعدي عائداً من اليمن، بكتاب الناصر أحمد بن الأشرف. وفيه شرع السلطان في عمارة قبة عظيمة بالحوش من قلعة الجبل، أنفق عليها مالاً كبيراً. وفيه كتب تقليد الأمير ناصر الدين محمد بن باك بن دلغادر، باستقراره في نيابة السلطنة بقيسارية الروم، وجهز إليه. وفيه خلع على الأمير مقبل الدوادار، واستقر شاد العمارة بالجامع المؤيدي، عوضاً عن الأمير ططر.(3/226)
وفي يوم الخميس ثامن عشرينه: نزل السلطان إلى جامعه بجوار باب زويلة، واستدعى القضاة ومشايخ العلم، ليسألهم عن إصلاح ما تهدم من أروقة المسجد الحرام، وتشقق الكعبة، وعمارة الحجرة النبوية، ومن أين تكون النفقة على ذلك. فأجالوا القول في هذا. وسأل قاضي القضاة علاء الدين علي بن مغلي الحنبلي قاضي القضاة شمس الدين الهروي عن أربع مسائل، وهو يجيبه، فيقول له: أخطأت. وأخذ قاضي القضاة شمس الدين محمد الديري الحنفي في الكلام مع الهروي حتى خرجا إلى المسابة. وعدد الديري قبائح الهروي، من أنه من أتباع تيمورلنك، وأنه كان ضامن يزد، ونحو ذلك. ثم قال: يا مولانا السلطان، أشهدك علي أني حجرت عليه أن لا يفتي، وحكمت بذلك. فنفذ الحنبلي والمالكي حكمه. فكان مجلساً في غاية القبح، من إهانة الهروي وبهدلته، ثم انفضوا على ذلك، وقد تبين انحطاط قدره، وبعده عن العلم بالفقه والحديث.
شهر صفر، أوله الأحد: في خامسه: اجتمع المماليك السلطانية بالقلعة، وهموا أن يوقعوا بالوزير والأستادار لتأخر عليق خيولهم، فما زال الأمراء بهم حتى فرقوهم على أن يصرف لهم ما استحق.
وفيه خلع على صدر الدين أحمد بن جمال الدين محمود العجمي، واستقر في حسبة القاهرة، عوضاً عن ابن شعبان.
وفي يوم السبت سابعه: عدى السلطان النيل، ونزل بناحية أوسيم وأقام بها. فقدمت له التقادم، من الخيول والجمال، على العادة.
وفي سادس عشره: توجه الأمير بدر الدين حسن بن محب الدين عبد اللطف الطرابلسي إلى طرابلس، ليكون مقيماً بها، من جملة أمرائها.
وفي ثامن عشره: عاد السلطان من أوسيم، ونزل على النيل بناحية منبابة، وعمل الوقيد في ليلة الخميس تاسع عشره، فمر تلك الليلة من السخف، وإتلاف النفوط ما ينكر مثله، ثم أصبح مركب الحراقة، وقطع النيل بكرة، وصعد القلعة، فتعصب المماليك سكان الطباق بقلعة الحبل، وبقوا يداً واحدة وامتنعوا من أخذ الجامكية، وطالبوا بأن يصرف لهم في هذه الدولة المؤيدية من ابتدائها نظير ما كان يصرف في الأيام الظاهرية، من الكسوة واللحم، والسكر وغيره، فتوقع الناس حدوث شر وفتنة، فردوا وسكن الشر.
وفي هذا الشهر: استقر رقم أمير هوارة البحرية، وتوجه ومعه الأمير ألطنبغا المرقبي إلى الوجه القبلي، وكتب للكشاف والولاة بالركوب معه، وطرد هواره، فلما نزل الأمير ألطنبغا بسفط ميدوم وقد نزلت هوارة قمن في نحو أربعة آلاف، فركبوا يوم الجمعة ثامن عشرينه، وطرقوا الأمير ألطنبغا والأمير رقم، وقاتلوهم عامة النهار، ثم مضوا إلى الميمون وقد قتل من الفريقين نحو ثلاثة آلاف، فأخذ العسكر السلطاني ما تركوه من الأغنام، والأبقار، والجمال، والرقيق، وغيرها، وهو شيء كثير جداً.
وفي يوم الاثنين سادس عشره: وصل المقام الصارمي إبراهيم ابن السلطان بمن معه إلى دمشق، وقد تلقته النواب والعساكر.
وفي هذا الشهر: فشا الموت بالطاعون في إقليمي الشرقية والغربية وجميع الوجه البحري، وابتدأ بالقاهرة ومصر منذ حلت الشمس في برج الحمل، في يوم الأحد خامس عشرة، فبلغت عدة من يرد الديوان من الأموات ما بين العشرين والثلاثين في كل يوم.
وفيه رسم بمرمة قناطر شبين بالجيزية وكتب تقدير مصروفها خمسة آلاف دينار، فرضت على بلاد الجيزة. وقرر على كل فدان مبلغ عشرين درهم يسهم الفلاح منها بستة دراهم، والمقطع بأربعة عشر. ولا يعفي من ذلك من انقطع رزقه. فجبي المال من البلاد على هذا.
وفي ثامن عشرينه: عرض السلطان أجناد الحلقة، وكان قد ترك عرضهم مدة أيام.(3/227)
وفي تاسع عشرينه: كسفت الشمس قبيل الزوال، فاجتمع الناس، وصلى بالناس في الجامع الأزهر الشيخ الحافظ شهاب الدين أبو الفتح بن حجر العسقلاني الشافعي - خطب الجامع - صلاة الكسوف. عقيب صلاة الظهر ركعتين، ركع في كل ركعة ركوعين، أطال فيهما القراءة، فقرأت في قيام الركعتين نحواً من ستة أحزاب. وكان الركوع نحوا من القيام والسجود نحو الركوع، فقارب في أركان الصلاة ما بينها، وأذكرني بصلاته أهل السلف، ثم صعد بعد صلاته المنبر فخطب خطبتين، وعظ فيهما وأنذر، وذكر. وعم اجتماع الناس جوامع مصر والقاهرة، وظواهرها وعد هذا من حميد أفعال محتسب القاهرة صدر الدين أحمد بن جمال الدين محمود العجمي، فإنه بث أعوانه قبل أذان الظهر، فنادوا في الأسواق تهيئوا رحمكم الله لصلاة الكسوف. فبادر الناس للتطهر، وأقبلوا يسعون إلى الجوامع طوائف طوائف، ما بين رجال ونساء. وهم في خشوع وذكر واستغفار، فدفع الله بذلك عن الناس بلاءاً كثيراً.
وفي هذا الشهر: اتفق وقت العصر من يوم الثلاثاء سابع عشره حدوث زلزلة استمرت ثلاثة أيام بلياليها. لا تهدأ، فسقط سور المدينة، وخرجت عامة دورها، بحيث لم يبق بها دار إلا سقطت أو هدم بها شيء، وانقطع من جبل قطعة في قدر نصف هرم مصر، وسقطت إلى الأرض، وتفجرت عدة أعين من وادي الأزرق، وانطمت عدة أنهر، وكانت الزلزلة تأتي من جهة المغرب إلى جهة المشرق، ولها دوي كركض الخيل، ثم امتدت الزلزلة بعد ثلاثة أيام مدة أربعين يوماً، تعود كل يوم مرة أو مرتين وثلاث وأربع، حتى خرج الناس إلى الصحراء، ثم تمادت سنة.
شهر ربيع الأول، أوله الثلاثاء: فيه نزل المقام الصارمي تل السلطان ظاهر حلب، وقد خرج إليه نائب حلب بعسكرها، وأتته العربان والتركمان، ودخل حلب في ثالثه. وفيه جلس السلطان لعرض أجناد الحلقة، على عادته. وفيه بلغت عدة من ورد من الأموات بالقاهرة إلى الديوان نحو الخمسين، أكثرهم أطفال، وذلك سوى المارستان، وموتهم بأمراض حادة. وحبة الموت قل من يمرض منهم ثلاثة أيام، بل كثير منهم يموت ساعة يمرض، أو من يومه.
وفي رابعه: سار الأمير أبو بكر الأستادار إلى الوجه القبلي لأخذ أموال هوارة.
وفي ثامنه: استدعى قاضي القضاة شمس الدين محمد الهروي إلى قلعة الجبل، وقد قدم طائفة من بلد القدس والخليل مع الأمير حسن نائب القدسي، للشكوى عليه بأنه أخذ في أيام نظره من مال وقف الخليل قدراً كبيراً، فندب السلطان للقضاء بينهم الشيخ شهاب الدين أحمد بن حجر مفتي دار العدل، وخطيب الجامع الأزهر، فثبت في جهة الهروي مال كثير بحضرة السلطان، فرسم بإمضاء حكم الشرع فيه، فلما نزل من القلعة وحاذي المدرسة الصالحية بين القصرين، أمره نقيب قاضي القضاة شمس الدين محمد الديري بالنزول ليعتقل بها،. فنزل بعد تمنع، وجلس قليلاً وركب يريد منزله، فتسارع إليه الرسل أعوان القضاة وجذبوا بغلته ليردوه إلى المدرسة، فتصايحت العامة وعطعطوا به وسبوه ورجموه، فعاد عوداً قبيحاً، وقد رحمه من رآه، وأدخل في دار وأغلق عليه، فلم يمض غير قليل حتى نزل إليه الطواشي مرجان الهندي الخازندار وأخرجه من معتقله، ومضى به إلى داره.
وفيه واقع الأمير ألطنبغا المرقبي هوارة بناحية بني عدي، وكان قد توجه في طلبهم إلى ناحية الأشمونين وترك أثقاله بها، وتبعهم بالعساكر جريدة حتى أدركهم ليلاً، فكانت بينهما معركة قتل فيها جماعة وانهزمت هوارة وتشتتوا.
وفي ثاني عشره: جلس الأمير مقبل الدوادار، والقاضي علم الدين داود بن الكوبز ناظر الجيش، بقلعة الجبل، لعرض بقية أجناد الحلقة، من غير أن يحضر السلطان. وفيه رسم السلطان للشيخ شهاب الدين أحمد بن حجر أن يرسم على قاضي القضاة شمس الدين محمد الهروي ليخرج عما ثبت عليه، فندب له أربعة من أعوان القضاة لازمه منهم اثنان في داره، أقاما معه في موضع منها، وتوكل اثنان ببابي داره، ومنع من البروز من داره حتى يخرج مما في قبله.(3/228)
وفي رابع عشره: نزل مرسوم السلطان إلى الهروي أن يخرج مما ثبت عليه، ويدفع إلى مستحقي وقف الخليل مصالحة عما ثبت في جهته، لو عمل حسابه، لمدة مباشرته مبلغ ثلاثة آلاف دينار، فشرع في بيع موجوده إلى يوم الثلاثاء نصفه، بعث السلطان من ثقاته أميراً إلى بيت الهروي، فأخذ منه ما تحت يده من المال المأخوذ من أجناد الحلقة، وهو ألف ألف وستمائة ألف درهم فلوساً، فلم يوجد سوى ألف ألف درهم، وقد تصرف في ستمائة ألف درهم عنها نحو ثلاثة آلاف دينار، فشنعت القالة عليه، واشتد غضب السلطان منه، وبعث قاضي القضاة شمس الدين محمد الديري الحنفي إلى نواب الهروي، فمنعهم من الحكم بين الناس، بمقتضي أنه ثبت فسقه، وحكم الفاسق لا ينفذ وولايته لا تصح عند الإمام الشافعي، وهددهم متى حكموا بين الناس، فانكفوا عن الحكم.
وفي يوم الأربعاء غده: صعد بعض الرسل المرسمين على الهروي إلى السلطان، وبلغه - على لسان بعض خواصه - أنه تبين له ولرفقائه أن الهروي تهيأ ليهرب، فبعث عدة من الأجناد وكلهم به في داره.
وفي يوم الخميس سابع عشره: نزل السلطان إلى جامعه بجوار باب زويلة، واستدعى شيخ الإسلام قاضي القضاة جلال الدين البلقيني، فارتجت القاهرة، وخرج الناس من الرجال والنساء على اختلاف طبقاتهم لرؤيته، فرحاً به، حتى غصت الشوارع، فعندما رآه السلطان، قام له وأجله، وبالغ في إكرامه وأفاض عليه التشريف، وشافهه بولاية القضاة، وتوجه جلال الدين البلقيني من الجامع إلى المدرسة الصالحية، فمر من تحت الربع، وعبر من باب زويلة، وسلك تحت شبابيك الجامع، وقد قام السلطان في الشباك ليراه، فأبصر من كثرة الخلق، وشدة فرحهم، وعظيم ما بذلوه، وسمحوا به من الزعفران للخلوق، والشموع للوقود، مع مجامر العود والعنبر، ورش ماء الورد، وضجيجهم بالدعاء للسلطان، ما أذهله، وقوي رغبته فيه، وسار كذلك حتى أن بغلته لا تكاد أن تجد موضعاً لحوافرها، حتى نزل بالمدرسة الصالحية، ومعه أهل الدولة عن آخرهم، لم توجه إلى داره، فكان يوماً مشهوداً، واجتماعاً لم يعهد لقاض، مثله.
وفي سادس عشرينه: انتهي عرض أجناد الحلقة.
وفي هذا الشهر: تتبع صدر الدين محتسب القاهرة أماكن الفساد بنفسه، ومعه والي القاهرة، فأراق آلافاً من جرار الخمر وكسرها، ومنع النساء من النياحة على الأموات، ومنع من التظاهر بالحشيش، وكف البغايا عن الوقوف لطلب الفاحشة في الأسواق، ومواضع الريب، وألزم اليهود والنصارى بتضييق الأكمام الواسعة وتصغير العمائم، حتى لا تتجاوز عمامة أحدهم سبعة أذرع، وأن يدخلوا الحمامات بجلاجل في أعناقهم، وأن تلبس نساوهم أزراً مصبوغة، ما بين إزار أصفر لليهودية، وإزار أزرق للنصرانية، فاشتد قلقهم من ذلك، وتعصب لهم قوم، فعمل بعض ما ذكر دون باقيه. وبلغت عدة من ورد الديوان من الأموات في هذا الشهر بمدينة بلبيس ألف إنسان، وبناحية بردين من الشرقية خمسمائة نفس، وبناحية ديروط من الغربية ثلاثة آلاف إنسان، سوى بقية القرى، وهي كثيرة جداً.
شهر ربيع الآخر، أوله الخميس: في ثالثة: بلغت عدة من يرد الديوان من الأموات بالقاهرة إلى مائة وستة وتسعين، سوى المارستان، ومصر، وبقية المواضع التي لا تود الديوان، وما تقصر عن مائة أخرى. هذا مع شناعة الموتان بالأرياف، وخلو عدة قرى من أهلها.
وفي خامسه: خدع قاضي القضاة الهروي الموكلين به من الأجناد، حتى مكنوه أن يخرج من داره، فالتجأ إلى بيت الأمير قطلوبغا التنمي، فطار الخبر في الوقت إلى الأمير مقبل الدوادار وغيره، بأن الهروي قد هرب، وبلغ السلطان ذلك، فبعث الأمير تاج الدين الشويكي أستادار الصحبة إليه، فأخذه من بيت التنمي، وحمله إلى القلعة، فسجنه بها في أحد أبراجها، وضرب الدوادار الأجناد الموكلين به ضرباً مبرحاً.
وفي يوم الخميس ثامنه: نودي في الناس من قبل المحتسب أن يصوموا ثلاثة أيام أخرها يوم الخميس خامس عشره، ليخرجوا مع السلطان، فيدعوا الله بالصحراء في رفع الوباء، ثم أعيد النداء في ثاني عشره أن يصوموا من الغد فتناقص عدد الأموات فيه، وأصبح كثير من الناس صياماً، فصاموا يوم الثلاثاء، ويوم الخميس، وبطل كثير من الباعة بيع الأقوات في أول النهار، كما هي العادة في أول شهر رمضان.(3/229)
وفي يوم الخميس خامس عشره: نودي في الناس بالمضي إلى الصحراء من الغد، وأن يخرج العلماء والفقهاء، ومشايخ الخوانك، وصوفيتها وعامة الناس، ونزل الوزير الصاحب بدر الدين بن نصر الله، والأمير التاج الأستادار بالصحبة إلى تربة الملك الظاهر برقوق، ونصبوا المطابخ بالحوش القبلي منها، وأحضروا الأغنام والأبقار، وباتوا هناك في تهيئة الأطعمة والأخباز، ثم ركب السلطان بعدما صلى صلاة الصبح، ونزل من قلعة الجبل، وهو لابس الصوف، وعلى كتفيه مئزر صوف مسدل كهيئة الصوفية، وعليه عمامة صغيرة جداً، لها عذبة مرخاة من بين لحيته وكتفه الأيسر، وهو بتخشع وانكسار وفرسه بقماش ساذج، ليس فيه ذهب ولا حرير، وقد أقبل الناس أفواجاً.
وسار شيخ الإسلام قاضي القضاة جلال الدين البلقيني من منزله، ماشياً في عالم كبير، وسار معظم الأعيان من منازلهم، ما بين ماش وراكب، حتى وافوا السلطان بالصحراء قريباً من قبة النصر، ومعهم الأعلام والمصاحف، ولهم بذكر الله تعالى أصوات مرتفعة، فنزل السلطان عن فرسه، وقام على قدميه، وعن يمينه وشماله القضاة والخليفة، وأهل العلم، ومن بين يديه وخلفه طوائف لا يحصيها إلا خالقها سبحانه، فبسط يديه، ودعا الله وهو يبكي، وينتحب، والجم الغفير يراه ويشهده زماناً طويلاً، ثم ركب يريد الحوش من التربة الظاهرية، والناس في قدمه وبين يديه، حتى نزل وأكل ما تهيأ، وذبح بيده قرباناً، قربة إلى الله، مائة وخمسين كبشاً سميناً، من أثمان خمسة دنانير الواحد، ثم ذبح عشر بقرات سمان، وجاموستين، وجملين، وهو يبكي، ودموعه تنحدر - بحضرة الملأ - على لحيته، ثم ترك القرابين على مضاجعها كما هي، وركب إلى القلعة، فتولى الوزير والتاج تفرقتها، صحاحاً، على الجوامع المشهورة، والخوانك، وقبة الإمام الشافعي، وتربة الليث بن سعد ومشهد السيدة نفيسة، وعدة من الزوايا، حملت إليها صحاحاً، وقطع منها عدة بالحوش، فرقت لحماً على الفقراء، وفرق من الخبز النقي يومئذ عدة ثمانية وعشرين ألف رغيف، تناولها الفقراء من يد الوزير، وبعث منها إلى كل سجن خمسمائة رغيف، وعدة قدور كبار مملوءة بالطعام الكثير اللحم، هذا، وشيخ الإسلام في طائفة عظيمة من الناس يقرءون القرآن، ويدعون الله حيث وقف السلطان، وشيخ الحديث النبوي - شهاب الدين أحمد بن حجر - في صرفية خانكاة بيبرس، وغيرهم كذلك، وأهل كل جامع ومشهد وخانكاه كذلك، حتى اشتد حر النهار، انصرفوا، وركب الوزير بعدهم قبيل نصف النهار إلى منزله، فكان يوماً مشهوداً، لم ندرك مثله، إلا أنه بخلاف ما كان عليه السلف الصالح، فقد خرج الإمام أحمد - عن شهر بن حوشب - في حديث طاعون عمواس أن أبا عبيدة بن الجراح قام خطيباً، فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة من ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وأن أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم لنا حظاً منه فطعن، فمات. واستخلف معاذ بن جبل، فقام خطيباً بعده، فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة من ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وأن معاذاً يسأل الله أن يقسم لآل معاذ حظه منه فطعن ابنه عبد الرحمن، فمات. ثم قام فدعا ربه لنفسه، فطعن في راحته. ولقد رأيته ينظر إلى السماء، ثم يقبل كفه ويقول: ما أحب أن لي بما فيك شيئاً من الدنيا ومات. فاستخلف عمرو بن العاص، فذكر الحديث. فهذه أعزك الله أفعال الصحابة. وقد عكس أهل زماننا الأمر، فصاروا يسألوا الله رفعه عنهم.
ومن غريب ما وقع في هذا الطاعون أن رجلاً له أربعة أولاد أراد ختانهم وعمل لهم مجتمعاً، بالغ في عمل الأطعمة ونحوها لمن دعاه، يريد بذلك تفريح أولاده وأهله قبل أن يأتيهم الموت، وقدمهم واحداً واحداً ليختنوا، وهم يسقون الأولاد الشراب المذاب بالماء على العادة، فمات الأربعة في الحال عقيب اختتانهم، والناس حضور. فأتهم أباهم الخاتن أنه سمهم، فجرح نفسه بالموسى الذي ختنهم به ليبرئ نفسه فانقلب الفرح مأتماً، وبينما هم في ذلك، إذ ظهر أن الزير الذي عندهم فيه الماء الذي أخذوا منه ومزجوا به الشراب الأطفال، فيه حية ميتة. تنوعت الأسباب والداء واحد.(3/230)
وقدم الخبر بحدوث زلزلة عظيمة ببلاد الروم، حدثت يوم كسف الشمس. خسف منها قدر نصف مدينة أرزنكان، هلك فيها عالم كثير، وانهدم من مباني القسطنطينية شيء كثير، وكان ابن عثمان قد بني في برصا قيسارية وعدة حوانيت، خسف بها وبما حولها، فهلك خلق كثير، لم يسلم منهم أحد. وأن الوباء عم أهل إقريطش والبندقية من بلاد الفرنج، حتى خلتا، وأن الفرنج قد اجتمعوا لحرب ابن عثمان متملك برصا.
وفي ثاني عشرينه: أنزل بالهروي مع معتقله بالبرج، مع الأمير التاج إلى المدرسة الصالحية بين القصرين، وقد اجتمع قضاة القضاة الثلاث عند شيخ الإسلام قاضي القضاة جلال الدين البلقيني بقاعته منها، فأوقف الهروي تحت حافة الإيوان، وادعي الأمير التاج عليه عند الشيخ شهاب الدين أحمد بن حجر - بحضرة القضاة - بما ثبت عليه عنده في مجلس السلطان، فأجاب بأن ما ثبت عليه قد أدى بعضه، وأنه يحمل باقيه قليلاً قليلاً، فطلب التاج حكم الله فيه، فأمر بسجنه، حتى يودي ما عليه، فأخرج به إلى قبة الصالح فسجن بها، ووكل به جماعة يحفظونه. فأقام إلى ثامن عشرينه، ونقل من القبة إلى قلعه الجبل من كثرة شكواه، بأنه يمر به من سب الناس ولعنهم له، ما لا يحتمل مثله، وأنه لا يأمن أن يفتك الناس به لكراهتهم فيه، فعندما صار بجامع القلعة، نقل للتاج أن الهروي ما أراد بتحوله من القبة إلى القلعة إلا القرب من خواص السلطان، ليتمكن منهم، حتى يشفعوا له عند السلطان في خلاصه، فبادر ونقله من جامع القلعة إلى موضع يشرف على المطبخ السلطاني.
وقدم الخبر برحيل ابن السلطان من حلب، ودخل إلى مدينة قيسارية الروم، في يوم الخميس تاسعه، فحضر إليه أكابرها من القضاة والمشايخ، والصوفية، وتلقوه، فألبسهم الخلع، وطلع قلعتها في يوم الجمعة، وخطب في جوامعها للسلطان، وضربت السكة باسمه. وأن شيخ جلبي نائب قيسارية تسحب قبل وصوله إليها، وأنه خلع على الأمير محمد بك قرمان، وأقره في نيابة السلطنة بقيسارية الروم فدقت البشائر بقلعة الجبل، وفرح السلطان بأخذ قيسارية، فإن هذا شيء لم يتفق لملك من ملوك الترك بمصر، سوى للظاهر بيبرس، ثم انتقص الصلح بينه وبين أهلها.
شهر جمادى الأولى، أوله السبت: فيه بلغت عدة من يرد الديوان من الأموات سبعة وسبعين، وكان عدة من مات بالقاهرة وورد اسمه إلى الديوان من العشرين من صفر إلى سلخ شهر ربيع الآخر - أمسه - سبعة آلاف وستمائة واثنين وخمسين: الرجال ألف وخمسة وستون رجلاً، والنساء ستمائة وتسعة وستون امرأة، والصغار ثلاثة آلاف وتسعمائة وتسعة وستون صغيراً، والعبيد خمسمائة وأربعة وأربعون، والإماء ألف وثلاثمائة وتسع وستون، والنصارى تسعة وستون، واليهود اثنان وثلاثون، وذلك سوى المارستان، وسوى ديوان مصر، وسوى من لا يرد اسمه إلى الديوانين، ولا يقصر ذلك عن تتمة العشرة آلاف. ومات بقري الشرقية والغربية مثل ذلك وأزيد.
وفي يوم الأحد ثانيه: ولد الأمير أحمد ابن السلطان من زوجته سعادات.
وفيه رسم بإخلاء حوش العرب تحت القلعة، مما يلي باب القرافة، فأخرج منه عرب آل يسار بحرمهم وأولادهم، ووقع الشروع في عمارته.
وفي ثالثه: خلع على الشيخ شهاب الدين أحمد بن حجر، واستقر مدرس الشافعية بالجامع المؤيدي، واستقر الشيخ يحيي بن محمد بن أحمد العجيسي البجائي المغربي النحوي في تدريس المالكية، واستقر الشيخ عز الدين عبد العزيز بن على بن العز البغدادي في تدريس الحنابلة، وخلع عليهم بحضرة السلطان، ونزلوا ثلاثتهم.
وفي سادسه: استدعى السلطان الأطباء، وأوقفهم بين يديه، ليختار منهم من يوليه رئاسة الأطباء، فتكلم سراج الدين عمر بن منصور بن عبد الله البهادري الحنفي، ونظام الدين أبو بكر محمد بن عمر بن أبي بكر، الهمداني الأصل، البغدادي المولد، ومولده بها في شعبان سنة سبع وخمسين وسبعمائة، وقد استدعاه السلطان من دمشق، فقدم إلى القاهرة في شهر ربيع الآخر، وادعي دعوى عريضة في علم الطب، والنجامة، فظهر البهادري عليه بكثرة حفظه واستحضاره، وكاد يروج، لولا ما رمي به عند السلطان من أنه لا يحسن العلاج، وأنه مع علمه، يده غير مباركة، ما عالج مريضاً إلا مات من مرضه، فانحل السلاح عنه، وصرفهم من غير أن يختار منهم أحداً.(3/231)
وفي سابعه: استدعى بطرك النصارى، وقد اجتمع القضاة ومشايخ العلم عند السلطان، فأوقف على قدميه، ووبخ وقرع، وأنكر عليه ما بالمسلمين من الذل في بلاد الحبشة، تحت حكم الحطي متملكها، وهدد بالقتل، فانتدب له محتسب القاهرة صدر الدين أحمد بن العجمي وأسمعه المكروه له من أجل تهاون النصارى فيما أمروا به من التزام الذلة والصغار في ملبسهم وهيأتهم، وطال الخطاب في معنى ذلك إلى أن استقر الحال على أن لا يباشر أحد من النصارى في ديوان السلطان، ولا عند أحد من الأمراء، ولا يخرج أحد منهم عما يلزموا به من الصغار، ثم طلب السلطان بالإكرام فضائل النصراني كاتب الوزير، وكان قد سجن منذ أيام، فضربه بالمقارع وشهره بالقاهرة، عرياناً بين يدي المحتسب، وهو ينادي عليه هذا جزاء من يباشر من النصارى في ديوان السلطان. ثم سجن بعد إشهاره، فانكف النصارى عن مباشرة الديوان ولزموا بيوتهم، وصغروا عمائهم، وضيقوا أكمامهم، وألتزم اليهود مثل ذلك، وامتنعوا جميعهم من ركوب الحمير في القاهرة، فإذا خرجوا من القاهرة ركبوا الحمير عرضاً، وأنف جماعة من النصارى الكتاب أن يفعلوا ذلك، وبذلوا جهدهم في السعي، فلما لم يجابوا إلى عودهم إلى ما كانوا عليه، تتابع عدة منهم في إظهار الإسلام، وصاروا من ركوب الحمير إلى ركوب الخيول المسومة، والتعاظم على أعيان أهل الإسلام، والانتقام منهم بإذلالهم، وتعويق معاليمهم ورواتبهم، حتى يخضعوا لهم، ويترددوا إلى دورهم، ويلحوا في السؤال لهم، ولا قوة إلا بالله.
وفيه قدم الخبر بتوجه ابن السلطان من مدينة قيسارية إلى جهة قونية في خامس عشر شهر ربيع الآخر، بعدما مهد أمور قيسارية، ورتب أحوالها، ونقش اسم السلطان على بابها وأن الأمير تنبك ميق نائب الشام، لما وصل إلى العمق، حضر إليه الأمير حمزة ابن رمضان بجمائعه من التركمان، وتوجه معه هو - وابن أرزر - إلى قريب المصيصة، وأخذ أذنة وطرسوس.
وفي ثامنه: عملت عقيقة الأمير أحمد ابن السلطان، وخلع على الأمراء، وأركبوا الخيول بالقماش الذهب على العادة.
وفيه قدم الأمير ألطنبغا المرقبي حاجب الحجاب، والأمير أبو بكر الأستادار، من الوجه القبلي، وخلع عليهما. وفيه نادي المحتسب في شوارع القاهرة ومصر بأن النصارى واليهود لا يمرون في القاهرة إلا مشاة، غير ركاب، وإذا ركبوا خارج القاهرة، فليركبوا الحمير عرضاً، ولا يلبسوا إلا عمائم صغيرة الحجم، وثياباً ضيقة الأكمام، ومن دخل منهم الحمام فليكن في عنقه جرس، وأن تلبس نساء النصارى الأزر الزرق، ونساء اليهود الأزر الصفر، فضاقوا بذلك، واشتد الأمر عليهم، فسعوا في إبطاله سعياً كبيراً، فلم ينالوا غرضاً، وكبست عليهم الحمامات، وضرب جماعة منهم لمخالفته، فامتنع كثير منهم عن دخول الحمام، وعن إظهار النساء في الأسواق.
وفيه أحضر إلى السلطان ما قدم به الأمير أبو بكر الأستادار من أموال هوارة، وهو مائتا فرس، وألف جمل، وستمائة رأس جاموس، وألف وخمسمائة رأس بقر، وخمسة عشر ألف رأس من الغنم الضأن، وذلك سوى ما تفرق في الأيدي، وسوى ما هلك واستهلك، وهو كثير جداً، وقد اختل بهذه النهبات إقليم مصر خللاً فاحشاً، فإن الصعيد بكماله قد أقفر من المواشي، وإذا أخذت منه رميت على أهل الوجه البحري بأغلى الأثمان، فتجحف بهم.
وفي هذه الأيام: كثر تسخير الناس في العمل بحوش العرب تحت القلعة وتتبعهم أعوان الوالي في الطرفات، حتى قل سعي الناس في الطرقات ليلاً. وفيه شرع السلطان في حفر صهريج بجوار خانكاه بيبرس.
وفي ثالث عشره: درس الشيخ شهاب الدين أحمد بن حجر بالجامع المؤيدي.
وفيه تشاجر الصاحب بدر الدين بن نصر الله، والأمير أبو بكر الأستادار بين يدي السلطان، وتفاحشا، فكثر الإرجاف بهما.
وفي نصفه: رسم أن لا يسخر أحد من العامة في العمل بحوش العرب، فاعفوا وخلص كثير من العمامة.
وفي تاسع عشره: خلع على الوزير والأستادار، بعدما ألتزما أن يحملا مائة ألف دينار، فلما نزلا، وزعا ذلك على من تحت أيديهما، فعمت هذه البلية جماعة كثيرة بالقاهرة والأرياف.
وفي ثالث عشرينه: لم يشهد السلطان الجمعة، لانتقاض ألم رجله، ولزم الفراش.(3/232)
وفي رابع عشرينه: وصل محمد بن بشارة شيخ بلاد صفد في الحديد وكان قد خرج عن طاعة السلطان، فتطلبه زماناً، وأزعجه من بلاد صفد إلى أن ترامي بدمشق على الأمير ناصر الدين محمد بن منجك أحد خواص السلطان وقدم عليه في سابع صفر، وقد بعث إليه بأمان السلطان، وخلع عليه، وأنزله فلما ظن أنه أمن، تصرف في أشغاله، وركب في أرجاء دمشق. فبينما هو في ذات يوم قد وقف بسوق الخيل - هو وابن منجك - إذ دعاه إلى الدخول على الأمير نكباي نائب الغيبة بدمشق، فدخل معه إليه، ووقف أصحابه - وهم نحو العشرين - على خيولهم، خارج باب السعادة، فما هو إلا أن استقر بابن بشارة المجلس، أشار ابن منجك إلى نكباي بطرفه أن اقبضه، فأحيط به، فأخذ ليدفع عن نفسه، وسل سيفه، فقبض عليه، فسل خنجره، وجرح به من تقدم إليه، فتكاثرت السيوف على رأسه، وأخذ، وقيد، وقبض على العشرين من أصحابه، ووسط منهم أربعة عشر، واعتقل أربعة مع ابن بشارة، ثم حمل محتفظاً به، فاعتقل.
وفي سابع عشره: أخذ قاع النيل فجاء أربعة أذرع، تنقص إصبعين. ونودي بزيادة ثلاثة أصابع. وقدم الخبر بأن ابن السلطان وصل إلى نكدة في ثامن عشر شهر ربيع الآخر، فتلقاه أهلها، وقد عصت عليه قلعتها، فنزل عليها وحصرها، وركب عليها المنجنيق، وعمل النقابون فيها، وأن محمد بن قرمان تسحب من مدينة نكدة في مائة وعشرين فارساً، هو وولده مصطفى.
وفي سلخه: رسم للأمير التاج الشويكي أن يتوجه إلى البلاد الشامية، مبشراً بولادة الأمير أحمد ابن السلطان، فسار من غده.
شهر جمادى الآخرة، أوله الأحد: أهل والسلطان ملازم الفراش، وقد تزايد ألمه، والأسعار مرتفعة، والخبز يعز وجوده بالأسواق أحياناً، لكثرة اختزان الغلال، طلباً للزيادة في أسعارها.
وفي خامسه: أفرج عن شمس الدين محمد الهروي، ونزل إلى داره في هيئة جميلة.
وفي ثاني عشره: قدم الخبر بأن ابن السلطان حاصر قلعة نكدة سبعة وعشرين يوماً، إلى أن أخذها عنوة، في رابع عشر جمادى الأولى، وقبض على من فيها وقيدهم، وهم مائة وثلاثة عشر رجلاً، ثم توجه في سادس عشره إلى مدينة لارندة.
وفي سادس عشره: استدعى قاضي القضاة شمس الدين محمد الديري الحنفي - محتسب القاهرة - صدر الدين أحمد بن العجمي طلباً مزعجاً، لما بلغه أنه انتقص عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فأوقفه بين يديه، وادعى عليه مدع أنه قال: وإيش هو عبد الله بن عباس بالنسبة إلى الإمام أبي حنيفة رحمه الله، فأمر به فسجن بالمدرسة الصالحية حتى تقام عليه البينة بذلك، وكان سبب هذا أن السلطان لما اشتد به المرض، أفتاه بعض الفقهاء أن يجمع بين كل صلاتين ما دام مريضاً، فلما فعل ذلك أنكره صدر الدين على مقتضى مذهبه، وهو المنع من الجمع بين الصلاتين في المرض والسفر، وقال للسلطان: مذهبك حنفي، ولا يجوز تقليدك غير مذهب أبي حنيفة، فناظره بعض من هناك على جواز الجمع، وأنه ثبت في صحيح مسلم وغيره، وقد ذهب عبد الله بن عباس إلى الجمع بين الصلاتين في الحضر من غير عذر، واختار طائفة من أهل العلم الجمع في حال المرض، فلم يحسن الرد، وقال في مسلم عدة أحاديث غير صحيحة، وأخذ في تفصيل أبي حنفية بما نسبوه فيه إلى غضه من ابن عباس وترجيح أبي حنيفة عليه، فشنعوا عليه ذلك، وقد حرك منهم أحقاداً في أنفسهم أنتجها جرأته وإقدامه، حتى رسم السلطان بإمضاء حكم الشرع فيه، فكان ما ذكر.
وفي سابع عشرينه: ركب السلطان من القلعة، يريد النزول بدار ابن البارزي على النيل فلم يطق حركة الفرس لما به من الألم، فركب المحفة إلى البحر وحمل منها على الأعناق حتى وضع على فراشه، ونقل حرمه معه، ونزل الأمراء في عدة من دور الناس التي حوله، وصارت الطبلخاناه تدق هناك، وتمد الأسمطة، وتعمل الخدمة على ما جرت به العادة في القلعة، ولم نعهد بمصر نظير هذا.
وفي تاسع عشره: طلب صدر الدين المحتسب من الصالحية إلى بيت ابن الديري، ليعزره، فسار ماشياً ومعه من العامة خلائق لا يحصى عددها إلا الذي خلقها، وقد تعصبوا له، وجهروا بسب من يعاديه ويعانده، حتى دخل إلى بيت الديري، فأدبه بما اقتضاه رأيه من غير إقامة بينه عليه. ثم أفرج عنه، فترك الحكم، والنظر في أمر الحسبة إلى أن خلع عليه في ثالث عشرينه ببيت كاتب السر بين يدي السلطان، فسر الناس به سروراً كبيراً.
شهر رجب، أوله الثلاثاء:(3/233)
أهل والسلطان في بيت ابن البارزي كاتب السر، وينتقل منه وهو محمول على الأعناق، تارة إلى الحمام التي بالحكر، وتارة حتى يوضع بالحراقة، ويسير فيها على النيل إلى رباط الآثار النبوية، ثم يحمل من الحراقة إلى الرباط، وتارة يسير فيها إلى القصر من بحر منبابة. وتارة يقيم بالحراقة وهي بوسط النيل نهاره.
ووافى أول مسرى، والنيل على عشر أذرع وستة عشر إصبعاً، والقمح من مائتين وخمسين درهماً الأردب إلى دونها، والشعير بمائة وثمانين الأردب فما دونها. والشعير والفول بمائة وسبعين وما دونها كل أردب.
وفي ثاني عشره: قدم الخبر بأن ابن السلطان لما تسلم نكدة، استناب بها على باك ابن قرمان، ثم توجه بالعساكر إلى مدينة أركلي ومدينة لارندة في سادس عشر جمادى الأولى، فوصل إلى أركلي في ثامن عشره، ثم سار منها إلى لارندة فقدمها في ثامن عشرينه. وبعث الأمير يشبك اليوسفي نائب حلب، فأوقع بطائفة من التراكمين، وأخذ أغنامهم وجمالهم وخيولهم وموجودهم. وعاد فبعث الأمير ططر والأمير سودن القاضي نائب طرابلس، والأمير شاهين الزردكاش نائب حماة، والأمير مراد خجا نائب صفد، والأمير أينال الأزعري، والأمير جلبان رأس نوبة، وجماعة من التركمان، فكبسوا على محمد بن قرمان بجبال لارندة في ليلة الجمعة سادس جمادى الآخرة، ففر منهم وأخذ جميع ما في وطاقه من خيل وجمال وأغنام وأثقال، وعادوا. فتوجه يريد حلب في تاسعه، فجهز السلطان إليه ستة آلاف دينار ليفرقها على الأمراء، ويقيم بحلب لعمارة سورها.
وفي رابع عشره: تحول السلطان من بيت ابن البارزي إلى بيت نور الدين الخروبي التاجر بساحل الجيزة تجاه المقياس. وكان في مدة إقامته ببيت ابن البارزي قد أحضر الحراريق من ساحل مصر إلى ساحل بولاق، وزينت بأفخر زينة وأحسنها. وصار السلطان يركب في الحراقة الذهبية، وبقية الحراريق سائرة معه، مقلعة ومنحدرة، وتلعب بين يديه أحياناً. والناس على اختلاف طبقاتهم مجتمعون للتفرج، فلا ينكر على أحد منهم، ثم تقدم إلى المماليك السلطانية بلعب الرمح بكر الأيام على شاطئ النيل، وهو يشاهدها، ومع ذلك فإنه لا ينهض أن يقوم، بل يحمل على الأعناق، فمرت للناس ببولاق في تلك الأيام والليالي أوقات لم نسمع بمثلها. ولم يكن فيها - بحمد الله - شيء مما ينكر، كالخمور ونحوها، لإعراض السلطان عنها. فلما نزل بالخروبية أرست الحراريق بساحل مصر - كما هي عادتها - إلى أن كان يوم الوفاء، في سادس عشره، ركب السلطان من الخروبية في الحراقة على النيل إلى المقياس، ثم إلى الخليج، حتى فتح على العادة. وتوجه على فرسه في الموكب إلى القلعة، فكانت غيبته عنها في تنزهه ثلاثين يوماً. وبلغ مقدار ما حمله الأمير أبو بكر الأستادار إلى السلطان منذ باشر إلى آخر هذا الشهر مائة ألف دينار، وستة وعشرين ألف دينار، كلها من مظالم العباد، ما منها دينار إلا وتلف بأخذه عشرة، وتخرب بجبايته من أرض مصر ما يعجز القوم عن عمارته. ولو شاء ربك ما فعلوه.
وقدم الخبر بوصول ابن السلطان إلى حلب في ثالث رجب، وأن الأمير تنبك ميق العلائي نائب الشام واقع مصطفى بن محمد بن قرمان، وإبراهيم بن رمضان، على أذنه، فانهزما منه، وأن يشبك الدوادار - الفار من المدينة النبوية - أقام ببغداد، عند شاه محمد بن قرا يوسف، منذ قدم عليه، ثم فر منه ولحق بقرا يوسف، لما بينه وبين ابنه شاه محمد من التنكر.
وقدم الخبر من الإسكندرية بتجمع العامة في سادس عشرينه، وأنهم أخذوا السلاح والأحجار وكسروا للفرنج ثلثمائة بنية خمر، ثمنها عندهم أربعة آلاف دينار. ثم مالوا على جميع بيوتهم ومخازنهم، فأراقوا ما فيها من الخمر ونهبوها. وتعرضوا لنهب بيوت القزازين، وأراقوا ما وجدوا فيها من الخمر، فكان يوماً مشهوداً. ولم يعلم لهذه الفتنة سبب.
شهر شعبان. أوله الأربعاء.(3/234)
في ثامنه: كان نوروز القبط. والنيل على ثمانية عشر ذراعاً تنقص إصبعا، فلما فتح بحر أبي المنجا، فقص النيل عشر أصابع. وارتفعت الأسعار فبلغ القمح ثلاثمائة درهم الأردب، وزاد سعر اللحم وغيره. وسببه قلة الغلال بالوجه القبلي من خسة وقوعها بعد حصادها، ثم كثرة قطاع الطريق في النيل وأخذهم المراكب الموسقة بالغلال ونحوها، مع كثرة ما حمل من الغلال إلى الحجاز، لشدة الغلاء به، وشره أهل الدولة وأتباعهم في الفوائد، واختزانهم الغلال طلبا للزيادة في أسعارها.
فلما كان يوم الخميس سادس عشره: نودي على النيل بزيادة إصبعين بعد رد النقص، فسكن بعض قلق الناس، وتيسر وجود الأخباز بالأسواق.
وفي عشرينه: قدم الأمير التاج الشويكي من الشام. وفيه تزايد ألم السلطان، ولم يحمل إلى القصر، واستمر به المرض واشتد.
وفي ثالث عشرينه: خلع على الأمير التاج، واستقر أمير الحاج.
وفي خامس عشرينه: برز مرسوم السلطان ألا يصرف لأحد من غلمان البيوتات السلطانية، ولا غلمان الأمراء جراية من الخبز. ورسم لجميع مباشري الأمراء بذلك، فألتزموه. وكان يصرف قديماً مستمراً عادة لكل غلام رغيفان في اليوم. ورسم أيضاً أن تكون جامكية السايس على الفرسين ثلاثمائة درهم في الشهر، وجامكية على الفرسين والبغل ثلاثمائة وخمسين، من غير جراية خبز. وفيه ابتدأ نقص النيل، وهو ثامن عشر توت، وقد انتهت زيادته إلى ثمانية عشر ذراعاً ونصف.
وفي سابع عشرينه: ركب السلطان سحراً ومعه الأمراء والمماليك، ووقف بهم تحت قبة النصر. وقد بعث أربعين فرساً إلى بركة الحجاج فأجريت منها، وأتته ضحى النهار، فعاد من موقفه بقبة النصر إلى تربة الظاهر برقوق، ووقف قريباً منها دون ساعة. ثم بعث المماليك والجنائب والشطفة إلى القلعة، وتوجه إلى خليج الزعفران، فنزل بخاصته، ثم عاد من آخر النهار إلى القلعة.
وفي سلخه: ركب أيضاً إلى بركة الحبش، وسابق بالهجن. ونظر في عليق الجمال، واستكثره، فرسم أن يصرف نصف عليقة لكل جمل.
وفي هذا الشهر: سرق الفرنج البنادقة من الإسكندرية رأس مرقص الإنجيلي - أحد من كتب الإنجيل - فغضب اليعاقبة من النصارى وأكبروا ذلك، وعدوه وهناً في دينهم. وذلك أنهم لا يولون بطركاً إلا ويمضي إلى الإسكندرية، وتوضع هذه الرأس في حجره، زعماً منهم أن البطركية لا تتم بدون ذلك، وقد اقتصصت في تاريخ مصر الكبير المقفي أخبار المرقص هذا، فانظره في حرف الميم، تجده.
شهر رمضان، أوله الخميس.
أهل هذا الشهر والناس في قلق، لنقص النيل قبل أوانه. وأسعار الغلال مرتفعة. والسلطان بحاله من المرض، إلا أنه تناقص. وقدم الخبر بأن ابن السلطان رحل من حلب في رابع عشرين شهر شعبان. وأن محمد بن قرمان، وولده مصطفى، وإبراهيم بن رمضان، وصلوا إلى قيسارية، في سادس عشر شعبان، وحصروا الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر نائبها، فقاتلهم، وكسرهم، ونهب ما معهم. وقتل مصطفى، وحملت رأسه، وقبض على أبيه محمد بن قرمان، فسجن. وقدم رأس مصطفى بن محمد بك بن قرمان إلى القاهرة في يوم الجمعة، سادس عشر شهر رمضان، وطيف به ثم علق على باب النصر. وكانت العادة أن تعلق الرءوس على باب زويلة. فلما أنشأ السلطان الملك المؤيد الجامع بجوار باب زويلة، منع من تعليق الرءوس هناك، فعلقت على باب النصر. ودقت البشائر عند قدوم الرأس. وكان من خبره أن الأمير ناصر الدين محمد بك بن علي بك بن قرمان، اقتتل مع الأمير ناصر الدين محمد بن دلغادر نائب مدينة أبلستين، فكاده ابن دلغادر بأن تأخر عن بيوته، فنهبها أبن قرمان. فرد عليه ابن دلغادر، وقتل ابنه الأمير مصطفى، بعدما عورت عينه، ففر ناصر الدين إلى مغارة، ومعه بعض من يثق به، فدل عليه رجل نصراني. فأخذه ابن دلغادر وبعث به، وبرأس ابنه مصطفى. ومر إبراهيم بن ناصر الدين محمد بن قرمان، إلى بلاده.
وفيه قدم الخبر بمسير ابن السلطان من حلب، وقدومه دمشق في خامسه.(3/235)
وفي سابع عشرينه: ركب السلطان إلى لقاء ولده، وقد وصل قطيا. فاصطاد ببركة الحاج، ومضى إلى بلبيس. فقدم الخبر بنزول الابن الصالحية. فتقدم الأمراء وأهل الدولة، فوافوه بالخطارة. فلما عاين ابن البارزي كاتب السر، نزل له، وتعانقا. ولم ينزل لأحد من الأمراء غيره، لما يعلم من تمكنه عند أبيه. ثم عادوا معه إلى العكرشة، والسلطان على فرسه. فنزل الأمراء وقبلوا الأرض. ثم نزل المقام الصارمي، وقبل الأرض. ثم قام ومشى حتى قبل الركاب، فبكي السلطان من فرحه به، وبكي الناس لبكائه، فكانت ساعة عظيمة. ثم ساروا بموكبيهما إلى المنزلة من سرياقوس وباتا بها ليلة الخميس تاسع عشرينه. وتقدمت الآطلاب، والأثقال، وزين الدين عبد الباسط بن خليل بن إبراهيم الدمشقي، ناظر الخزانة. ودخلوا القاهرة. وركب السلطان آخر الليل، ورمي الطير بالبركة. فقدم الخبر بكرة يوم الخميس بوصول الأمير تنبك ميق نائب الشام. وكان قد طلب، فوافى ضحى، فركب في الموكب. ودخل السلطان من باب النصر، وشق القاهرة، وقد زينت، والأمراء قد لبسوا التشاريف الجليلة. وأركبوا الخيول المسومة بقماش الذهب والمقام الصارمي بتشريف عظيم، وخلفه الأسرى الذين أخذوا من قلعة نكدة وغيرها في الأغلال والقيود، وهم نحو المائتين، كلهم مشاة، إلا أربعة، فإنهم على خيول، منهم نائب نكدة، وثلاثة من أمراء ابن قرمان، وكلهم في الحديد. ومضى حتى صعد القلعة، فكان يوماً مشهوداً، أذن بانقضاء الأمر فإنها غاية لم ينلها أحد من ملوك مصر، وعند التناهي يقصر المتطلول.
شهر شوال، أوله السبت.
فيه صلى السلطان العيد بالقصر، لعجزه عن المضي إلى الجامع من شدة ألم رجله، وامتناعه من النهوض على قدميه. وصلى به وخطب قاضي القضاة جلال الدين البلقيني على عادته، ثم أنشد تقي الدين أبو بكر بن حجة الحموي - على عادته - قصيداً، أبدع فيها ما شاء.
وفي ثالثه: خلع على الأمير جقمق الدوادار، واستقر في نيابة الشام، عوضاً عن الأمير تنبك ميق. وخلع الأمير مقبل الدوادار الثاني، واستقر دواداراً كبيراً، عوضاً عن جقمق. وأنعم بإقطاع جقمق وإمرته على الأمير تنبك ميق العلاي.
وفي رابع عشره: خلع على الأمير قطلوبغا التنمي، أحد أمراء الألوف، واستقر في نيابة صفد، عوضاً عن الأمير مراد خجا. ورسم بنفي مراد خجا إلى القدس. وأنعم بإقطاع التنمي على الأمير جلبان أمير أخور ثاني.
وفي سابع عشره: رحل الأمير جقمق سائراً إلى دمشق، بعدما خلفه كاتب السر ناصر الدين محمد بن البارزي على العادة، فأركبه فرساً بسرج ذهب وكنبوش ذهب، كما جرت به العادة.
وفي عشرينه: برز الأمير التاج بالمحمل إلى الريدانية ظاهر القاهرة، بعدما خلع عليه خلعة سنية. وتتابع خروج الحاج.
وفي يوم الجمعة حادي عشرينه: نزل السلطان إلى جامعه، وقد هيئت المطاعم والمشارب، فمد سماط عظيم، وملئت البركة التي بصحنه سكراً قد أذيب بالماء، وأحضرت الحلاوات، لإجلاس قاضي القضاة شمس الدين محمد الديري الحنفي على سجادة مشيخة الصوفية، وتدريس الحنفية، وخطابة القاضي ناصر الدين محمد بن البارزي كاتب السر. فعرض السلطان الفقهاء، وقرر منهم عند المدرسين السبعة من اختار، ثم أكل على السماط، وتناهبه الناس، وشربوا السكر المذاب، وأكلوا الحلوى. ثم استدعي الديري وألبس خلعة، واستقر في المشيخة وتدريس الحنفية. وجلس بالمحراب، والسلطان وولده عن يساره، والقضاة عن يمينه، ويليهم مشايخ العلم وأمراء الدولة، فألقى درساً تجاذب فيه أهل العلم أذيال المناظرة، حتى قرب وقت الصلاة، ثم انفضوا. فلما حان وقت الصلاة صعد ابن البارزي المنبر، وخطب خطبة من إنشائه، بلغ فيها الغاية من البلاغة، ثم نزل فصلى. فلما انقضت الصلاة، خلع عليه، واستقر في الخطابة، وخزانة الكتب. ثم ركب السلطان، وعدى النيل إلى الجيزة، فأقام إلى يوم الأحد ثالث عشرينه، وعاد إلى القلعة.
وفيه رحل ركب الحاج الأول من بركة الحاج، ورحل التاج بالمحمل من الغد.
وفيه سرح السلطان إلى ناحية شيبين القصر، وعاد إلى القلعة من الغد.
وقدم الخبر أن الغلاء اشتد بمكة، فعدمت بها الأقوات، وأكلت القطط والكلاب، حتى نفدت، فأكل بعض الناس الآدميين، وكثر الخوف منهم، حتى امتنع الكثير من البروز إلى ظاهر مكة خشية أن يؤكلوا.(3/236)
شهر ذي القعدة، أوله الأحد: فيه ركب السلطان للصيد.
وفي ثالثه: سار الأمير الكبير ألطنبغا القرمشي، والأمير طوغان أمير أخور للحج، على الرواحل.
وفي يوم الجمعة سادسه: خلع على زين الدين عبد الرحمن بن علي بن عبد الرحمن التفهني، واستقر في وظيفة قضاء القضاة الحنفية، عوضاً عن شمس الدين محمد بن الديري، المستقر في مشيخة الجامع المؤيدي. وكان له من حادي عشرين شوال قد انجمع عن الحكم بين الناس ونوابه تقضي.
وفيه عدى السلطان النيل، يريد سرحة البحيرة. وجعل نائب الغيبة الأمير أينال الأزعري.
وفي هذا الشهر: تزايد سعر الغلال، فبلغ القمح إلى ثلاثمائة وخمسين درهماً الأردب، والشعير إلى مائتين وخمسين، والفول إلى مائتين وعشرة. وذلك أن فصل الخريف مضى ولم يقع مطر بالوجه البحري، فلم ينجب الزرع، وأتلفت الدودة كثيراً من البرسيم المزروع، حتى أنه تلف بها من ناحية طهرمس وقرية بجانبها ألف وستمائة فدان. وتلف بعض القمح أيضاً. هذا وقد شمل الخراب قرى أرض مصر. ومع ذلك فالأحوال متوقفة، والأسواق كاسدة، والمكاسب قليلة، والشكاية عامة، لا تكاد تجد أحداً إلا ويشكو سوء زمانه. وقد فشت الأمراض من الحميات، وبلغ عدد من يرد الديوان من الأموات نحو الثلاثين في اليوم. والظلم كثير، لا يتركه إلا من عجز عنه. والعمل بمعاصي الله مستمر. ولله عاقبة الأمور.
وفي هذا الشهر: قدم مهنا بن عيسى، وولي إمرة جرم، عوضاً عن علي بن أبي بكر بعد قتله. وعاد إلى أرضه. وكان لبسه من المخيم السلطاني.
شهر ذي الحجة، أوله الثلاثاء: أهل والسلطان بعسكره نازل على تروجة. وفيه منع صدر الدين بن العجمي محتسب القاهرة النساء من عبور الجامع الحاكمي والمرور فيه. وألزم الناس كافة ألا يمروا فيه بنعالهم، فامتثل ذلك، واستمره وتطهر المسجد - ولله الحمد - من قبائح كانت به بين النساء والرجال، ومن لعب الصبيان فيه، بحيث كان لا يشبه المساجد، فصانه الله بهذا ورفعه.
وفي خامسه: وردت هدية الأمير علي باك بن قرمان - نائب السلطنة بنكدة ولارندة ولؤلؤة. وقدم الخبر بقبض الأمير جقمق نائب الشام على نكباي الحاجب بدمشق، واعتقاله. وانتهى السلطان في مسيره إلى مريوط. وعاد فأدركه الأضحى بمنزلة الطرانة. وصلى به العيد وخطب ناصر الدين محمد بن البارزي كاتب السر. وارتحل من الغد، فنزل منبابة بكرة الأحد ثالث عشره. وعدى النيل من الغد إلى بيت كاتب السر المطل على النيل، وبات به. ودخل الحمام التي أنشأها كاتب السر إلى جانب داره، وهي بديعة الزي. ثم عاد في يوم الاثنين رابع عشره إلى القلعة، وخلع على الأمراء والمباشرين خلعهم على العادة.
وفي ثامن عشره: قرئ تقليد قاضي القضاة زين الدين عبد الرحمن التفهني الحنفي بالجامع المؤيدي، على ما استقر عليه الحال. وحضر عنده القضاة والأعيان على العادة.
وفي يوم الجمعة ثامن عشره: صلى السلطان الجمعة بالجامع المؤيدي، وخطب به كاتب السر ناصر الدين محمد بن البارزي، وصلى. ثم أكل طعاماً أعده له شيخ الشيوخ شمس الدين محمد الديري وركب إلى الصيد، وفي سابع عشرينه: وصل الأمير بكتمر السعدي، وقد قدم بالأمير شمس الدين محمد باك بن الأمير علاء الدين على باك بن قرمان، صاحب قيسارية وقونية ونكدة ولارندة، وغيرها من البلاد القرمانية، وهو مقيد، محتفظ به، فأنزل في دار الأمير مقبل الدوادار، ووكل به.
وفي هذا الشهر: زلزلت مدينة اصطنبول، وعدة مواضع هناك، حتى كثر اضطراب البحر، وتزايد تزايداً غير المعهود.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
الأمير سيف الدين كزل الأرغون شاوي، نائب الكرك، بعدما عزل، وأنعم عليه بإمرة طبلخاناة بدمشق. فمات في خامس عشرين المحرم قبل توجهه من مرض طال به مدة.(3/237)
ومات الأمير شرف الدين يحيى بن بركة بن محمد بن لاقي الدمشقي، في يوم الأربعاء حادي عشر صفر، قريباً من غزة، فحمل ودفن بغزة، يوم الجمعة ثالث عشره. وكان أبوه من أمراء دمشق، ونشأ بها في نعمة، وصار من أمرائها. وقدم القاهرة مراراً، آخرها في خدمة السلطان الملك المؤيد، وصار من أعيان الدولة بالقاهرة. واستقر مهمنداراً، وأستادار النواحي التي أفردها السلطان لعمل غذائه وعشائه. فعرف بأستادار الحلال إلى أن تنكر عليه الأمير جقمق الدوادار، بسبب كلام نقله عنه للسلطان لبين الأمر بخلافه، فرسم السلطان بنفيه من القاهرة، وولي الأمير خرز مهمندار عوضه، وأخرج من القاهرة على حمار، فمات - كما ذكر - غريباً طريداً.
ومات إبراهيم بن خليل بن علوة، برهان الدين بن غرس الدين الإسكندري، رئيس الأطباء، ابن رئيسها، في يوم الاثنين آخر صفر، وكان عارفاً بالطب.
ومات الشيخ محمد بن محمود الصوفي، أحد طلبة الحنفية وفضلائهم، في ثامن عشرين شهر ربيع الأول. وكان لا يكترث بملبس ولا زي، بل يطرح التكلف، ومتهم بحشيشة الفقراء.
ومات أخي، ناصر الدين محمد بن علاء الدين علي بن محيي الدين عبد القادر بن محمد بن إبراهيم المقريزي، يوم السبت ثالث شهر ربيع الآخر. ومولده يوم الأحد ثالث جمادى الآخرة، سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة.
ومات الأمير شهاب الدين أحمد ابن كاتب السر ناصر الدين محمد بن محمد بن عثمان بن البارزي الحموي. يوم الاثنين تاسع عشر ربيع الآخر، وصلى عليه السلطان.
ومات مجد الدين فضل الله بن الوزير فخر الدين عبد الرحمن بن عبد الرزاق بن إبراهيم بن مكانس، في يوم الأحد خامس عشرين ربيع الآخر. ومولده في رابع عشر شهر شعبان سنة سبع - أو تسع - وستين وسبعمائة، على الشك منه. وكان يقول الشعر ويترسل، كتب في الإنشاء مدة.
ومات الخواجا نظام الدين مسعود بن محمود الكججاني العجمي، ناظر الأوقاف، في يوم الأربعاء ثاني عشر جمادى الأولى، وكان قدم إلى دمشق في زي فقراء العجم المتصوفة، وأقام بها، وصار يلي المدرسة الكججانية التي بالشرف الأعلى، خارج دمشق. فلما قدمها الطاغية تيمورلنك اتصل به، فبعثه في الرسالة إلى القاهرة، وعاد إليه، وقد أثرى وحسنت حاله، فلم يجد منه إقبالاً، وتنكر له، فعاد إلى دمشق، وتوجه إلى بلاد الروم، واتصل بالأمير محمد باك بن قرمان، وأقام عنده. ثم قدم القاهرة في الأيام المؤيدية. واتصل بالسلطان، فولاه نظر الأوقاف في سنة إحدى وعشرين، وقد تزيا بزي الأجناد، وصار يخاطب بالأمير، فساءت سيرته، وقبحت الأحدوثة عنه، بأخذه الأموال، حتى ولي الهروي القضاء أخذ منه مالاً، وكف يده عن الأوقاف، فشق عليه ذلك، وأطلق لسانه في الهروي، ورماه بعظائم. ووضع منه بعد ما كان مبالغ في إطرائه، ويتجاوز الحد في تعظيمه. ومات على ذلك، بعد مرض طويل.
ومات عز الدين عبد العزيز بن أبي بكر بن مظفر بن نصير البلقيني، أحد خلفاء الحكم بالقاهرة، في يوم الجمعة ثالث عشرين جمادى الأولى. كان فقيهاً شافعياً. عارفاً بالفقه والأصول والعربية، رضى الخلق، ناب في الحكم من سنة إحدى وتسعين وسبع مائة.
ومات علي بن أمير جرم، ببلاد المقدس، في وقعة بينه وبين محمد بن عبد القادر شيخ جبل نابلس، في رابع عشر شوال. وكان كثير الفساد.
وقتل أيضاً صدقة بن رمضان، أحد أمراء التركمان، قريباً من سيس، في شوال.
وقتل بالقاهرة محمد بن بشارة، شيخ جبال صفد، في يوم السبت آخر شوال.
ومات الأمير سودن القاضي، نائب طرابلس، في رابع عشر ذي القعدة، ومات الأمير أبو المعالي محمد ابن السلطان، في عاشر ذي الحجة. ودفن بالجامع المؤيدي.
ومات خصر بن موسى، شيخ عربان البحيرة، في يوم عيد الفطر. وسطه الأمير طوغان التاجي نائب البحيرة.
ومات أحمد بن بدر شيخ عربان البحيرة، في تاسع شعبان.
ومات بالنحريرية الشيخ المعتقد أبو الحسن علي بن محمد ابن الشيخ كمال الدين عبد الوهاب، في المحرم.
//سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة(3/238)
أهلت وخليفة الوقت المعتضد بالله أبو الفتح داود بن المتوكل على الله أبي عبد الله محمد. وسلطان الديار المصرية والبلاد الشامية والحجاز والروم، السلطان الملك المؤيد أبو النصر شيخ المحمودي الظاهري، والأمير الكبير ألطنبغا القرمشي. وأتابك العساكر المقام الصارمي إبراهيم ابن السلطان. وأمير أخور الأمير طوغان. والدوادار الأمير مقبل، من أمراء الطبلخاناه. وأمير سلاح الأمير قجقار القردمي. وأمير مجلس الأمير ططر. ورأس نوبة الأمير ألطنبغا من عبد الواحد، المعروف بالصغير، وحاجب الحجاب الأمير ألطنبغا المرقبي. ونائب الشام الأمير جقمق. ونائب حلب الأمير يشبك اليوسفي. ونائب حماة الأمير شاهين الزرد كاش. ونائب صفد الأمير قطلوبغا التنمي. ونائب غزة الأمير أينال السيفي نوروز. ونائب الأبلستين وقيسارية الروم ونكدة ولارندة ولؤلؤة الأمير على باك بن قرمان. ونائب سيس الأمير بردبك العجمي.
ونائب طرسوس الأمير بيكي باك التركماني، ونائب أياس الأمير في درمش. ونائب دوركي ناصر الدين محمد بن شهري. ونائب مالطية الأمير منكلى بغا الأرغن شاوي. ونائب كختا الأمير أكزل بغا. ونائب قلعة الروم الأمير أق فجا. ونائب البيرة الأمير ألطنبغا الصفوي. ونائب الرها الأمير طور علي ابن الأمير عثمان بن طور علي، المعروف بقرايلك. ونائب جعبر الأمير عمر الجعبري. ونائب الرحبة الأمير أرغون شاه الشرفي. وأمير مكة المشرفة الشريف حسن بن عجلان. وأمير المدينة النبوية الشريف عزيز بن هيازع. وأمير ينبع الشريف مقبل بن نخبار الحسني. ونائب الإسكندرية الأمير ناصر الدين محمد بن العطار.
شهر الله المحرم، أوله الأربعاء: أهل والسلطان في الصيد، فقدم إلى القلعة. وجلس من الغد - يوم الخميس - بالإيوان المعروف بدار العدل. وحضر الأمراء والقضاة وسائر أرباب الدولة. وأوقفت العساكر من المماليك السلطانية. وأجناد الحلقة، والنقباء، والأوجاقية، صفوفاً من تحت القلعة إلى باب الإيوان. وأحضر بالأمير محمد بن قرمان - وهو مقيد - ومعه داود بن دلغادر، فمرا في العساكر، ثم في الطبردارية، والسلاح دارية، وبأيديهم السلاح، حتى دخلا، فمثلاً قائمين بين يدي السلطان، وقد جلس على تخت الملك. فأمر بإيقاف الأمير دواوين بن دلغادر مع الأمراء، وتأخير ابن قرمان. ثم نهض السلطان قائماً إلى القصر، وأحضر ابن قرمان وأنعم على داود، وأركب هو ومملوك أبيه قانباي بالقماش الذهب. ورتب له ما يليق به. ثم أمر بابن قرمان فجلس، ولامه السلطان على تعرضه لطرسوس، وشرهه لما أوجب وقوعه في الأسر. ووبخه على قبيح سيرته، وتعرضه لأخذ أموال رعيته، وعلى خيانته لكرشجي بن عثمان متملك برصا، وإحراقه بعض بلاده، بعد ما من عليه وأطلقه. فسأل العفو. ثم قال: لمن يعطي مولانا السلطان البلاد؟ فضحك منه، وقال له: وما أنت والبلاد؟. ثم أمر به فأخرج إلى الاعتقال، فسجن بالقلعة. وأمر السلطان بأن يكتب ابن قرمان إلى نوابه بالبلاد القرمانية أن يسلموا ما بقى بأيديهم منها إلى نواب السلطان، وأعلم أنهم متى لم يسلموا ما قد بقي بأيديهم منها إلى نواب السلطان وإلا قتل، فكان هذا اليوم من الأيام المشهودة.
وفيه قدم مبشرو الحاج، وأخبروا بأن الوقفة بعرفة كانت يوم الأربعاء بخلاف ما كانت بمصر. وأخبروا بأن حاج العراق لم يأتوا. وأن الغلاء شديد بمكة، وأن الغرارة القمح أبيعت بخمسة وعشرين ديناراً، وهي سبع ويبات مصرية. ثم انحطت لما قدم الحاج إلى عشر دينارا. وأن السمن والعسل واللحم في غاية القلة، لعدم المطر. وأن مسجدي مكة والمدينة قد تشعثا، ويخاف خرابهما. وأن الجانب الشامي من الكعبة قد آل إلى السقوط.
وفي ثالثه: قدم الأميران ألطنبغا القرمشي وطوغان أمير أخور كبير من الحجاز، فكانت مدة غيبتهما تسعة وخمسين يوماً.
وفي رابعه: ركب السلطان للصيد، وعاد من يومه.
وقدم على بار - أحد الأمراء الأينالية من التركمان - فأكرمه السلطان، وأنعم عليه. وجهز الأمير قجقار القردمي رسولا إلى ابن عثمان متملك برصا، وعلى يده كتاب يتضمن القبض على ابن قرمان واعتقاله.(3/239)
وفيه استقر الأمير شاهين الزردكاش نائب حماة في نيابة طرابلس. واستقر في نيابة حماة عوضه الأمير أينال السيفي نائب غزة. واستقر عوضه في نيابة غزة الأمير أركماس الجلباني أحد الأمراء مقدمي الألوف بديار مصر. وأفرج عن الأمير نكباي من سجنه بقلعة دمشق، واستقر في نيابة طرسوس، وإحضار نائبها الأمير تاني بك إلى حلب.
واستقر الأمير خليل الجشاري أحد أمراء الألوف بدمشق في الحجوبية بدمشق، عوضاً عن نكباي المذكور. واستقر الأمير سنقر المؤيدي نائب قلعة دمشق في الحجوبية بطرابلس، عوضاً عن الأمير سودن بن علي شاه بعد وفاته. واستقر الأمير كمشبغا التنمي في نيابة قلعة دمشق. واستقر الأمير أقبغا الأسندمري - الذي كان نائب سيس وحمص - حاجباً بحماة، وكان بطالاً بالقدس، عوضاً عن الأمير سودن السيفي علان، بحكم عزله واعتقاله .
وفي سادس عشره: نقل عز الدين عبد العزيز البغدادي من تدريس الحنابلة بالجامع المؤيدي إلى قضاء الحنابلة بدمشق، واستقر عوضه في التدريس محب الدين أحمد بن نصر الله البغدادي، وخلع عليهما.
وفي عشرينه: قدم الركب الأول من الحاج. وقدم الأمير التاج بالمحمل من الغد. وكتب بالإفراج عن الأمير برسباي الدقماقي الظاهري من قلعة المرقب، واستقراره في جملة الأمراء الألوف بدمشق.
وفي هدا الشهر: أغاث الله الزروع في الوجه البحري، وأسقاها، فأخصبت بعد ما كانت جافة، فانحل السعر قليلاً.
وفيه عز وجود القمح بالوجه القبلي، وبلغ الأردب المصري إلى دينارين، واقتاتوا بالذرة، وأكثروا من زراعتها، لسوء حالهم، وبوار أرضهم، وخراب قراهم، وقلة المواشي عندهم، حتى لقد صار اللبن عندهم طرفة من الطرف، فسبحان مزيل النعم.
وفيه قدم الخبر بفتنة كانت في شهر رمضان ببلاد اليمن، ثار فيها حسين بن الأشرف على أخيه الناصر أحمد، وأنه عم بلاد اليمن جراد عظيم، أهلك زروعهم، فاشتد الغلاء عندهم.
وفيه انتقض على السلطان ألم رجله، وتزايد، فلزم فراشه.
شهر صفر، أوله الخميس: فيه عدى السلطان النيل، ونزل بناحية أوسيم على العادة في كل سنة، فقدم عليه بها في ثامنه رسول الأمير على باك بن قرمان، نائب لارندة، ونكدة، وقوينا، ومعه هدية وكتاب، يتضمن أنه أخذ مدينة قونيا، وأقام فيها الخطبة باسم السلطان، وضرب الصكة المؤيدية، وأنه محاصر قلعتها.
وفي عشرينه: عدى السلطان النيل عائداً من سرحة أوسيم، فنزل في بيت كاتب السر على النيل، وبات به، وعمل الوقيد في ليلة الخميس ثاني عشرينه على ما تقدم. وأكثر فيه من النفط وإشعال النيران، فكانت ليلة مشهودة. وركب بكرة الخميس إلى القلعة. فقدم بالخبر بأن عذراً بن علي بن نعير بن حيار احتال حتى قبض الأمير أرغون شاه نائب الرحبة، وحمل إلى عانة. وأن قرا يوسف نادى في عسكره بالتأهب إلى المسير للشام.
وفي سادس عشرينه: نزل السلطان إلى بيت الأمير أبو بكر الأستادار، يعوده وقد مرض، فقدم له تقدمة سنية.
وفي ثامن عشرينه: عملت خدمة الإيوان بدار العدل، وأحضر برسل الأمير محمد كرجي بن عثمان صاحب برصا وهديته.
وفيه سخط السلطان على صدر الدين بن العجمي المحتسب، لكلام نقل له عنه، فأخرجه من القاهرة إلى صفد، وكتب لوقيعه بكتابة السر بها، فخرج بعد الظهر، ونزل بتربة خارج باب النصر، ثم سار في يوم الجمعة آخره، وقد أزعج إزعاجاً غير لائق.
شهر ربيع الأول، أوله السبت:(3/240)
فيه أمر السلطان برد صدر الدين بن العجمي فأعيد إلى القاهرة، وأنزل عند الأمير مقبل الدوادار إلى يوم الاثنين ثالثه، أصعد إلى القلعة، فرسم له بخلعة، فلبسها، واستقر في كتابة سر صفد. ونزل إلى بيت الأمير مقبل الدوادار، فشفع فيه ألطنبغا الصغير رأس نوبة، فقبل السلطان شفاعته. واستمر في حسبة القاهرة على عادته، ففرح الناس به فرحاً كبيراً لمحبتهم إياه، وبالغوا في إظهار السرور به، وكان السلطان قد تنكر على كاتب السر من أجل إخراج ابن العجمي من القاهرة بغير خلعة، ولم يمهله حتى يأخذ عياله معه. وبالغ في الإنكار عليه بسبب ذلك، وأسعه مكروهاً كبيراً، فنزل في يوم السبت إلى داره. وكانت عادته دائماً أن يبيت ليلة الأحد وليلة الأربعاء عند السلطان، فأشيع عزله، وركب الأعيان إليه يتزعمون له. فلما كان يوم الاثنين المذكور، ركب إلى القلعة، وباشر وظيفة كتابة السر، ونزل وفي ظنه أن ابن العجمي إنما لبس خلعة بكتابة سر صفد. فعندما رأى حوانيت الباعة بالقاهرة وقد أشعلوا الحوانيت بالقناديل والشموع فيمر ابن العجمي بخلعته عليهم، فرحا بأنه قد عاد إلى الحسبة، غضب ابن البارزي من ذلك، وأسمعهم مكروهاً. ومالت مماليكه على القناديل، فكسروا بعضها، وسبوا ولعنوا. فما كاد ابن البارزي يصل إلى بيته حتى شفع الأمير ألطنبغا الصغير في ابن العجمي، واستقر في الحسبة، وشق القاهرة وعليه الخلعة، فتزايد كلام الغوغاء في ابن البارزي، وجهروا مما يقبح ذكره.
وفي يوم الثلاثاء رابعه: قدم شمس الدين محمد بن حمزة بن محمد بن الفنري الحنفي قاضي مملكة الأمير محمد كرشجي بن عثمان ببلاد الروم. وكان قد قدم دمشق في السنة الماضية، يريد الحج. فلما حج وعاد استدعاه السلطان ليستفهم منه أحوال البلاد الرومية، فتمثل بين يدي السلطان، فأكرمه وأنزله عند القاضي زين الدين عبد الباسط ناظر الخزانة، وأجريت عليه الإنعامات. وأمر أهل الدولة بإكرامه، فبعثوا إليه ما يليق به من الهدايا.
وفي خامسه: ركب الأمير أبو بكر الأستادار إلى السلطان، وهو في شدة المرض بحيث لا يستطع القيام، ومعه خيول وسلاح وغير ذلك، مما تبلغ قيمته نحو ثلاثين ألف دينار، فخلع عليه، ونزل وقد اشتد به مرضه، فمات بعد أربعة أيام.
وفي سادسه: خلع على ابن البارزي كاملية صوف بفرو سمور خلعة الرضا.
وفي ليلة الجمعة سابعه: عمل المولد النبوي عند السلطان على عادته. وحضر الأمراء والقضاة ومشايخ العلم وأهل الدولة، ورسل ابن عثمان، وابن الفنري، وكان وقتاً جليلاً.
وفي يوم الجمعة: أعيد داود ابن الأمير ناصر الدين محمد بك بن دلغادر بهدية إلى أبيه، وقصاد على باك بن قرمان، ومعهم فرس بقماش ذهب، وعدة تعابي في ثياب سكندري، وغيرها. وتوجه معه محمود العينتابي ناظر الأحباس، لتحليف نواب قلاع البلاد القرمانية وبلادها. وكتب إلى نواب الممالك، وإلى العربان والتراكمين، بالتهيؤ إلى ملاقاة السلطان، فإنه عزم على المسير لحرب قرا يوسف. وسبب ذلك قدوم كتاب قرا يوسف يتضمن أن السلطان يجهز إليه الجواهر - التي أخذها منه وهو مسجون بدمشق - كما هي، وإلا سار إليه وخرب البلاد وأخذها.
وفي عاشره: توجه شمس الدين محمد الهروي إلى القدس، على ما كان عليه من تدريس الصلاحية فقط، دون نظر القدس والخليل.
وفي يوم الخميس ثالث عشره: خلع على الأمير يشبك أينالي المؤيدي، واستقر في الأستادارية، عوضاً عن الأمير أبي بكر بعد وفاته، وكان قد استقر قبلها في كشف الجسور بالغربية، وعزل عنها، وخلع على الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله خلعة الاستمرار في الوزارة ونظر الخاص.
وفي سابع عشره: أضيف إلى صاحب بدر الدين بن نصر الله أستادارية المقام العالي الصارمي إبراهيم ابن السلطان، وخلع عليه عوضاً عن الأمير أبي بكر المتوفي. وأنعم على ولده الأمير صلاح الدين محمد الحاجب بإمرة طبلخاناه.
وفي ثاني عشرينه: سافر ابن الفنري قاضي الروم بلاده، بعد ما ألقى عدة دروس في الفقه والأصول بالجامع الباسطي من القاهرة، وجهزه السلطان وأهل الدولة جهازاً جليلاً، فسار بتجمل كبير.
وفي رابع عشرينه: قدم قاصد الأمير شاه رخ أمير زه بن تيمورلنك.(3/241)
وفي سابع عشرينه: نزل السلطان إلى جامعة بجوار باب زويلة، وحضر دروس المشياخ كلهم، فكان يجلس في كل حلقة قليلاً، والمدرس يلقى درسه. ثم يقوم إلى الحلقة الأخرى، حتى طاف الحلق السبع، وعاد إلى القلعة.
وفي هذا الشهر: عزم السلطان على السفر لقتال قرا يوسف. وأخذ في الأهبة لذلك، وأمر الأمراء به فشرعوا في ذلك.
شهر ربيع الآخر، أوله الاثنين: فيه وقع الشروع في بناء منظرة على الخمس وجوه بجوار التاج خارج القاهرة ، لينشئ السلطان حولها بستاناً جليلاً، ويجعل ذلك عوضاً عن قصور سريا قوس، ويسرح إليها كما كانت سرحة سريا قوس.
وفي خامسه: سافر قاضي القضاة علاء الدين علي بن مغلي الحنبلي إلى مدينته لينظر في أحواله، واستخلف على قضاء القضاة بعض ثقاته.
وفي ثالث عشره: ابتدأ بالسلطان ألم تجدد له من حبس الإراقة، مع ما يعتريه من ألم رجله.
وفي سابع عشره: صرف الصاحب بدر الدين بن نصر الله من أستادارية ابن السلطان. وأقيم بدله جمال الدين يوسف بن خضر بن صاروجا المعروف بالحجازي، وأصله من الأكراد، وقدم القاهرة، وترقى حتى عمل أستادارية الأمراء في الأيام الناصرية فرج. وتمكن عند الأمير طوغان الحسني الدوادار تمكناً زائداً، فعظم قدره. ثم لما قبض على طوغان فر إلى مكة، وأقام بها مدة. ثم حضر إلى القاهرة وباشر الدواليب السلطانية بالوجه القبلي زماناً، فنكبه الأمير فخر الدين عبد الغني بن أبي الفرج، وعاقبه وصادره، ثم أفرج عنه فلزم داره حتى الأمير أبو بكر الأستادار، سعى جمال الدين يوسف في الأستادارية، فأخرق به الصاحب بدر الدين بن نصر الله، وأراد القبض عليه، فلم يمكنه السلطان منه، وعنى به، ثم ولاه بعد ذلك أستادارية ولده.
وفي ثاني عشرينه: اشتد بالسلطان الألم وتزايد به إلى يوم الأربعاء رابع عشرينه، نودي في القاهرة بإبطال مكس الفاكهة البلدية والمجلوبة، وهو في كل سنة نحو ستة آلاف دينار سوى ما يأخذه القبط الكنبة والأعوان - ويقارب ذلك - فبطل، ونقش ذلك على باب الجامع المؤيدي.
وفي هذا الشهر: كثر الوباء بالإسكندرية والبحيرة، وكثر الإرجاف بحركة قرا يوسف إلى جهة البلاد الشامية.
شهر جمادى الأولى، أوله الأربعاء: وفي ثانيه: ركب السلطان - وقد أبل من مرضه - إلى خارج القاهرة وعبر من باب النصر، وقد زينت المدينة فرحاً بعافيته، وأشعلت الشموع والقناديل، فمر إلى القلعة.
وفي هذه الأيام: مرض المقام الصارمي إبراهيم ابن السلطان، فركب في يوم الثلاثاء رابع عشره من القلعة في محفة، لعجزه عن ركوب الفرس، ونزل إلى بيت زين الدين عبد الباسط المطل على البحر، وأقام به. ثم ركب النيل في غده إلى الخروبية بالجيزة وأقام بها: وقد تزايد مرضه.
وفي ثان عشرينه: ركب السلطان إلى الخمس وجوه، فشاهد ما عمل هناك ورتب ما اقتضاه نظره من كيفية البناء، وعاد إلى بيت صلاح الدين خليل بن الكوب ناظر الديوان المفرد، المطل على بركة الرطلي خارج باب الشعرية، فأقام عنده نهاره وعاد من آخره إلى القلعة، وقدم له ابن الكويز تقدمة تليق به سوى ما أعده له من المآكل والمشارب.
وفي يوم السبت خامس عشرينه: خلع على الشيخ شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان البساطي شيخ الخانكاة الناصرية فرج، بتربة أبيه الظاهر برقوق خارج باب النصر، واستقر قاضي القضاة المالكية بالقاهرة ومصر، بعد وفاة جمال الدين عبد الله بن مقداد الأقفهسي، فاقتصر من نواب الحكم على أربعة، ثم زادهم بعد ذلك.
وفي يوم الأربعاء آخره: نزل السلطان إلى الميدان الكبير الناصري. بموردة الجبس. وكان قد خرب وأهمل أمره، منذ أبطل السلطان الملك الظاهر برقوق الركوب إلي ولعب الكرة فيه، وتشعثت قصوره وجدرانه، وصار منزلاً لركب المغاربة الحجاج فرسم السلطان لصاحب بدر الدين بن نصر الله بعمارته في هذا الشهر، فعمره أحسن عمارة. فعندما شاهده السلطان أعجب به، ومضى منه إلى بيت ابن البارزي كاتب السر المطل على النيل، ونزل به، وقد تحول المقام الصارمي من الحروبية بالجيزة إلى المنظرة الحجازية، وهو بحاله من المرض، فزاره السلطان غير مرة، وأنزل بالحريم إلى بيت كاتب السر، فأقاموا به عنده.
شهر جمادى الآخرة، أوله الجمعة:(3/242)
فيه صلى السلطان الجمعة بجامع ابن البارزي، الذي جدد عمارته، تجاه بيته. وكان يعرف قبل ذلك بجامع الأسيوطي. وخطب به وصلى شيخ الإسلام قاضي القضاة جلال الدين البلقيني، وركب من الغد إلى الميدان، فعمل به الخدمة، وتوجه إلى القلعة.
وفيه نودي أن لا يتحدث في الأمور الشرعية إلا القضاة، ولا يشكو أحد غريمه على دين لأحد من الحجاب. وسبب ذلك أن القاضي زين الدين عبد الرحمن التفهني الحنفي رفع على رجل في مجلسه من أجل دين لزمه، فاحتمى ببيت الأمير ألطنبغا المرقبي - حاجب الحجاب - وامتنع عن الحضور إلى بيت القاضي. وضرب الحاجب رسوله ضرباً مبرحاً. فلما أعلم القاضي بهذا السلطان، أنكر على المرقبي. ووبخه على ما فعل ونادى. مما تقدم ذكره؛ فسعى الأمراء في نقض ذلك حتى نودي في يوم الاثنين رابعه - بعد يومين - بعود الحكم إلى الحجاب، وضرب من جهر بالنداء.
وفي سادسه: نزل السلطان إلى بيت كاتب السر على النيل، وأقام به.
وفي سابعه: أخذ قاع النيل، فكان ثلاثة أذرع سواء، ونودي عليه من الغد.
وفي يوم السبت تاسعه: ركب السلطان إلى الميدان وعمل به الخدمة، وصعد إلى القلعة.
وفي حادي عشره: ضرب الأمير علاء الدين علي بن الطبلاوي والي القاهرة بالمقارع، بين يدي السلطان. ونزل وهو عاري البدن على حمار إلى بيت شاد الدواوين، ليستخلص منه مالاً. وخلع على ناصر الدين محمد بن أمير أخور واستقر والي القاهرة ومصر وقليوب.
وفي يوم الأربعاء ثالث عشره: حمل المقام الصارمي إبراهيم ابن السلطان على الأكتاف من الحجازية إلى القلعة، لعجزه عن ركوب المحفة، فمات ليلة الجمعة خامس عشره. ودفن من الغد باب مع المؤيدي. وشهد السلطان دفنه، مع عدم نهضته للقيام، وإنما يحمل على الأكتاف حتى يركب، ثم يحمل حتى ينزل، وأقام السلطان بالجامع إلى أن صلى الجمعة، فصلى به ابن البارزي، وخطب خطة بليغة. ثم عاد إلى القلعة. وأقام القراء يقرأون القرآن على قبره سبع ليال.
وفي ثامن عشره: توقف النيل عن الزيادة، وتمادى على ذلك أياماً. فارتفع سعر الغلال، وأمسك أربابها أيديهم عن بيعها، وكثر قلق الناس، ثم نودي فيهم أن يتركوا العمل. بمعاصي الله، وأن يلتزموا الخير. ثم نودي في ثاني عشرينه أن يصوموا ثلاثة أيام، ويخرجوا إلى الصحراء، فأصبح كثير من الناس صائماً، وصام السلطان أيضاً. فنودي بزيادة إصبع مما نقصه، ثم نودي من يوم الأحد غده أن يخرجوا غداً إلى الجبل وهم صائمون، فبكر في يوم الاثنين خامس عشرينه شيخ الإسلام قاضي القضاة جلال الدين البلقيني، وسار من منزله راكباً بثياب جلوسه في طائفة، حتى جلس عند فم الوادي، قريباً من قبة النصر، وقد نصب هناك منبر، فقرأ سورة الأنعام، وأقبل الناس أفواجاً من كل جهة، حتى كثر الجمع، ومضى من شروق الشمس نحو ساعتين أقبل السلطان. بمفرده على فرس، وقد تزيا بزي أهل التصوف، فاعتم. بمئزر صوف لطيف، ولبس ثوب صوف أبيض، وعلى عنقه شملة صوف مرخاة، وليس في سرجه - ولا شيء من قماش فرسه - ذهب ولا حرير، فأنزل عن الفرس، وجلس على الأرض من غير بساط ولا سجادة، مما يلي يسار المنبر، فصلى قاضي القضاة جلال الدين ركعتين كهيئة صلاة العيد، والناس من ورائه يصلون بصلاته. ثم رقي المنبر، فخطب خطبتين، حث الناس فيهما على التوبة والاستغفار، وأعمال البر، وفعل الخير، وحذرهم، ونهاهم. وتحول فوق المنبر فاستقبل القبلة، ودعا فأطال الدعاء، والسلطان في ذلك يبكي وينتحب، وقد باشر في سجوده التراب بجهته. فلما انقضت الخطبة انفض الناس، وركب السلطان فرسه، وسار والعامة محيطة به من أربع جهاته، يدعون له، حتى صعد القلعة، فكان يوماً مشهوداً، وجمعًا موفورًا.
وفي مشاهدة جبار الأرض على ما وصفت، ما تخشع منه القلوب، ويرجى رحمة جبار السماء، سبحانه. ومن أحسن ما نقل عنه في هذا اليوم. أن بعض العامة دعا له، حالة الاستسقاء أن ينصره الله، فقال: اسألوا فإنما أنا واحد منكم،. فلله دره، لو كان قد أيد بوزر أصدق وبطانة خير، لما قصر عن الأفعال الجميلة بل إنما اقترن به فاجر جريء، أو خب شقي.
وفي غده، يوم الثلاثاء: نودي على النيل بزيادته اثني عشر إصبعا، بعدما رد(3/243)
النقص وهو قريب من سبع وعشرين إصبعاً، فتباشر الناس باستجابة دعائهم، ورجوا رحمة الله وقدم الخبر بنزول قرا يوسف على بغداد، وقد عصاه ولده شاه محمد فحاصره ثلاثة أيام، حتى خرج إليه، فأمسكه واستصفى أمواله، وولى عوضه ابنه أصبهان أمير زاة ثم عاد إلى تبريز لحركة شاه رخ بن تمرلنك عليه.
وفي تاسع عشرينه: خلع على الأمير مقبل الدوادار، والقاضي ناصر الدين محمد بن البارزي كاتب السر، بنظر الجامع المؤيدي، فنزلا إليه، وتفقدا أحواله.
شهر رجب، أوله السبت: في ثالث عشره: أدير محمل الحاج على عادته، وفي نصفه: استدعى السلطان بخلعة لكاتب سر صفد، وبعثها إلى الأمير مقبل الدوادار، وأمر أن يطلب صدر الدين أحمد بن العجمي محتسب القاهرة إلى داره، ويلبسه الخلعة، ويخرجه إلى صفد، فأحضره في الحال، وألبسه الخلعة، وأمره بالتوجه من القاهرة إلى صفد، فتوجه إلى داره، وانجمع عن التحدث في الحسبة، وأخذ يسعى في الإقامة في القاهرة بطالاً. فرسم السلطان أن يخرج إلى القدس بطالا، فسار في يوم الثلاثاء ثامن عشره.
وفي يوم الاثنين سابع عشره: نزل السلطان إلى بيت كاتب السر المطل على النيل، ليقيم به على عادته، ونزل الأمراء بالدور من حوله. وصارت الخدمة تعمل هناك.
وفي يوم الأربعاء تاسع عشره: سبح السلطان في النيل مع خاصته، من بيت كاتب السر إلى منية السيرج، ثم عاد في الحراقة، وكثر التعجب من قوة سبحه مع زمانة رجله، وعجزه عن القيام، لكنه يحمل على الأكتاف، ويمشي به، أو يوضع على ظهر الفرس، ثم يحمل، وينزل عنها. ولما أراد السباحة أقعد في تخت من خشب، وأرخي من أعلا الدار بحبال إلى الماء، فلما عاد رفع به في التخت كذلك، حتى جلس على مرتبته. فنودي من الغد يوم الخميس، بزيادة ثلاثين إصبعاً، و لم يزد في هذه السنة مثلها جملة، فتيامن الناس بعوم السلطان، وعدوا ذلك من حملة سعادته. ومن صحة عقيدته أنه لما بلغه قول العوام أن النيل زاد هذه الزيادة البالغة لكونه سبح فيه، فقال: لو علمت أن ذلك يقع لما سبحت فيه، لئلا يضل العوام بذلك.
وفي عشرينه: خلع على صارم الدين إبراهيم ابن الوزير ناصر الدين محمد بن الحسام الصقري بوظيفة حسبة القاهرة، عوضاً عن صدر الدين بن العجمي فباشرها وهو يتزيا بزي الجند، وقد التزم بحمل ألف دينار، يجبيها من الباعة ونحوهم، فلم تحمد مباشرته.
وفي يوم الجمعة حادي عشرينه: ركب السلطان النيل للنزهة به، فزار الآثار النبوية، وبر من هناك من الفقراء بمال، ثم توجه إلى المقياس بالروضة، فصلى الجمعة بجامع المقياس، ورسم بهدمه وبنائه، وتوسعته، وترميم بناء رباط الآثار النبوية أيضاً. ثم ركب من الجزيرة الوسطى إلى الميدان الناصري، وبات به. وركب من الغد يوم السبت إلى القلعة.
وفيه قدم البدر محمود العينتابي ناظر الأحباس من بلاد ابن قرمان، فخلع عليه.
وفي ثالث عشرينه: وجد بكرة النهار خارج القاهرة فرسان، فقيدا إلى بيت الأمير يشبك الأستادار، فعرفا أنهما من خيل ابن العجمي المحتسب، وذلك أنه نزل بلبيس يوم السبت أمسه، وفقد منها عشاء. فارتجت القاهرة بأنه قتل وخرج نساءه مسبيات يصحن صعدن القلعة إلى السلطان، ووجهوا التهمة بقتله إلى ابن البارزي كاتب السر، فأنكر السلطان أن يكون قتل، وقال: هذه حيلة عملها، وقد اختفي بالمدينة، ثم بعث للكشف عن قتله من أرباب الأدراك فلم يوقف به على خبر. ونودي في سابع عشرينه بتهديد من أخفاه عنده، وترغيب من أحضره. فظهر في آخر النهار أنه بعث إلى أهله كتاباً يتضمن أنه من خوفه على نفسه مضى على وجهه. فطلب زوج ابنته، وعوقب على إحضاره، ثم سجن.
وفيه قدم الخبر بأن الأمير علمان بن طر علي قرايلك كبس على بير عمر، حاكم أرزنكان من قبل قرا يوسف، وأمسكه وقيده، هو وأربعة وعشرين من أهلة وأولاده، وقتل ستين رجلاً، وغنم شيئاً كثيراً.
شهر شعبان المكرم، أوله الاثنين:(3/244)
فيه وصل رأس بير عمر حاكم أرزنكان، وكان السلطان قد كتب محاضر وفتاوي بكفر قرا يوسف وولده حاكم بغداد، فأفتى مشايخ العلم بوجوب قتاله. ورسم للأمراء بالتهيؤ للسفر، وحملت إليهم النفقات، فوقع الشروع في تجهيز أمور السفر. ونودي في رابعه، وقد ركب الخليفة والقضاة الأربع بنوابهم، وبين يديهم بدر الدين حسن البرديني أحد نواب الحكم الشافعية، وهو راكب يقرأ من ورقة استنفار الناس لقتال قرا يوسف، وتعداد قبائحه ومساوئه، فاضطرب الناس، وكثر جزعهم.
وفيه ادعى على الأمير ناصر الدين محمد بن أمير أخور والي القاهرة بأنه قتل رجلا وسطه بالسيف نصفين بغير موجب شرعي. وأقيمت البينة بذلك بحضرة القضاة، وهم بين يدي السلطان، فحكم بقتله، فأخذ ووسط في الموضع الذي وسط فيه المذكور.
وخلع فيه على الأمير ناصر الدين محمد، ويعرف ببكلمش بن فرى نائب الوجه البحري وابن والي العرب، واستقر والي القاهرة، عوضاً عن ابن أمير أخور، على مال كبير التزم بحمله مما يجبيه من مظالم العباد، فباشر مباشرة سيئة، وركبته الديون، وهان أمره على العامة، لعدم حرمته، حتى كان أحد المقدمين أحشم منه. وصار الناس يلقبونه قندوري؛ لأنه أراد أن يقول قباي فغلط وقال قندوري، فنقبت عليه، وهو بزي النساء أشبه منه بالرجال.
وفي يوم الاثنين ثامنه - وخامس عشرين مسرى - : كان وفاء النيل، فركب السلطان إلى المقياس، وفتح الخليج على العادة، ثم عاد إلى قلعة.
وفي يوم الجمعة ثاني عشره: عقد للأمير الكبير ألطنبغا القرمشي على خوند ستيتة - ابنة السلطان - بصداق مبلغه خمسة عشر ألف دينار هرجة، بالجامع المؤيدي، بحضرة القضاة والأمراء والأعيان.
وفي يوم السبت ثالث عشره: برز الأمير الكبير ألطنبغا القرمشي إلى الربدانية خارج القاهرة، ومعه من الأمراء ألطنبغا الصغير رأس نوبة، وطوغان أمير أخو، وجلبان المؤيدي أحد مقدمي الألوف، وألطنبغا المرقي حاجب الحجاب، وجرباش الكريمي رأس نوبة، وأقبلاط السيفي دمرداش، وأزدمر الناصري من مقدمي الألوف، ليتوجهوا إلى حلب، خشية حركة قرا يوسف.
وفيه نزل السلطان إلى بيت كاتب السر على النيل، فأقام به يوم الثلاثاء سادس عشره، توجه إلى الميدان لعرض المماليك السلطانية الرماحة. وعاد من آخره على ظهر النيل. ثم ركب إلى الميدان نهار السبت، وبات به. وتوجه نهار الأحد، فزار الآثار النبوية، وكشف عمارة جامع المقياس بالروضة. وعاد إلى الميدان، فبات به. وعرض الرماحة في يوم الاثنين. ثم راجع زيارة الآثار النبوية في يوم الثلاثاء. وعاد إلى مخيمه بالجزيرة الوسطى، فأقام يومه ومعه الأمراء ومباشروه، فأكلوا وشربوا القمز. وعاد إلى الميدان، فبات به ليلتين ثم رجع إلى بيت كاتب السر في يوم الخميس، فبات به وصلى الجمعة بجامع كاتب السر. ثم توجه إلى الميدان، فبات به، وركب إلى القلعة بكرة السبت سابع عشرينه. وكان صائماً في رجب وشعبان، لم يفطر فيهما إلا نحو عشرة أيام.
شهر رمضان المعظم، أوله الثلاثاء: أهل، وقد انتفض على السلطان ألم رجله.
وفي رابع عشره: خلع السلطان على الصاحب تاج الدين عبد الرازق الهيضم واستقر في نظر الديوان المفرد، بعد موت صلاح الدين خليل بن الكويز.
وقدم الخبر من غزة أن في ليلة الأربعاء ثالثه ذبح جمل بسوق الجزارين، وعلق لحمه في داخل بيت الجزار، فأضاء اللحم كما يضيء الشمع إذا أشعل فيه النار، فأخذ منه قطعة فأضاءت. بمفردها، فقطعوه قطعاً فأضاءت كل قطعة منه، فأخذوه بجملته ودفنوه من غير أن يأكل أحد منه شيئاً، إلا أن رجلاً قطع منه قطعة لحم وهي تضيء، وتركها عنده إلى أن أصبح وألقاها لكلب. فلم يأكلها وتركها. وكان لحم هذا الجمل بحيث لو أخذ منه زنة درهم لأضاءت كأنها النجم. وشاهد هذا جماعة لا يحصى عددهم.
وانتهت زيادة النيل في ثالث بابة إلى ثمانية عشر ذراعاً وثلاثة أصابع، وابتدأ النقص من خامس بابة.
وفي هذا الشهر: ابتدأ مرض القاضي ناصر الدين محمد بن البارزي، كاتب السر.
شهر شوال، أوله الأربعاء: فيه صلى السلطان صلاة العيد بالقصر الكبير من القلعة، عجزاً عن المضي إلى الجامع.
وفي رابعه: ركب السلطان في المحفة إلى منظرة الخمس وجوه التي استجدها، وقد كملت، ثم عاد من يومه.(3/245)
وفي يوم الأربعاء خامس عشره: تنكر السلطان على الوزير الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، وضربه ببين يديه ضرباً مبرحاً. ثم أمر به فنزل إلى داره على وظائفه. هذا والسلطان مريض.
وفي يوم الاثنين عشرينه: أرجف بموت السلطان، فاضطرب الناس، ونقلوا ثيابهم خوفاً من الفتنة أن تثور ثم أفاق فسكنوا.
وفيه خرج محمل الحاج إلى الريدانية، والحجاج على تخوف من النهب.
وفيه طلب القضاة والأمراء، وجلس السلطان، فعهد إلى ولده الأمير أحمد بالسلطة من بعد. ومولده في ثاني جمادى الأولى من السنة الماضية، وله من العمر سبعة عشر شهراً وخمسة أيام، وجعل الأمير الكبير ألطنبغا القرمشي القائم بأمره، وأن يقوم بتدبير الدولة حتى يحضر القرمشي من حلب الأمراء الثلاثة وهم: قجقار القردمي، وتنبك ميق، وططر. وحلف الأمراء على ذلك، ثم حلف المماليك من الغد.
وفي يوم السبت خامس عشرينه: خلع على كمال الدين محمد بن ناصر الدين محمد بن البارزي، واستقر في كتابة السر، بعد وفاة أبيه، على مبلغ أربعين ألف دينار، يحملها، وكان صدر الدين أحمد بن العجمي لم يزل مختفياً حتى مات ناصر الدين محمد بن البارزي، فظهر، وعند جمهور الناس أن ابن البارزي ناصر الدين محمد كاتب السر هو الذي قتله، فشفع فيه بعض الأمراء، وكان السلطان في شغل بمرضه عنه، فقبل شفاعته، ورسم أن يقيم بداره من القاهرة، فلزم داره، وظهرت براءة ابن البارزي.
وفي سابع عشرينه: خلع على بدر الدين محمد بن محمد بن أحمد بن مزهر الدمشقي، ناظر الإصطبل، واستقر في نيابة كتابة السر، عوضاً عن كمال الدين بن البارزي المنتقل لكتابة السر.
وفي تاسع عشرينه: دخل السلطان الحمام، وقد تناقص ما به من الأمراض فنودي بالزينة، فزينت القاهرة ومصر، وفرق مال في الناس من الفقهاء والفقراء.
وفي هذا الشهر: أعاد قاضي القضاة شمس الدين محمد البساطي المالكي نواب الحكم الذين كانوا يلون عمن قبله، واستناب زيادة عليهم عدة من إلزامه.
شهر ذي القعدة أوله الجمعة: فيه ظهرت دخيرة لناصر الدين محمد بن البارزي، فيها نحو من سبعين ألف دينار، أخذها السلطان.
وفي رابعه: ركب السلطان وشق القاهرة من باب زويلة، وخرج من باب القنطرة فنزل بمنظرة الخمس الوجوه إلى يوم الأربعاء سابعه عاد من باب القنطرة، وشق القاهرة بثياب جلوسه، حتى صعد القلعة.
وفي تاسعه: ركب السلطان إلى المنظرة أيضاً، وبات بها، وتصيد من الغد ببر الجيزة، وأقام هناك.
وفيه نزل زين الدين عبد الباسط، ومرجان الهندي الخازندار إلى بيت الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، وقد لزم الفراش من يوم ضرب، وأخذا منه خزانة الخاص وسلمت للطراشي مرجان المذكور، فتحدث في نظر الخاص عن السلطان من غير أن يخلع عليه، ولا كتب له توقيع، وأنفق من غده عن كسوة المماليك السلطانية نحو ثمانية آلاف دينار.
وفي يوم الثلاثاء ثاني عشره: عاد السلطان في المحفة إلى القلعة.
وفي رابع عشره: خلع على الصاحب بدر الدين بن نصر الله خلعة الرضا، واستمراره في الوزارة والإمرية. وفيه قرئ توقيع كمال الدين محمد بن البارزي بكتابه السر في الجامع المؤيدي بحضرة الأمراء والقضاة وأرباب الدولة والأعيان. ولم يقرأ قبله توقيع كاتب السر.
وفي خامس عشره: ركب السلطان إلى منظرة الخمس الوجوه، وأقام بها إلى سابع عشره، ثم عاد إلى القلعة، وركب في يوم الأربعاء عشرينه بثياب جلوسه، وعبر من باب زويلة، وشق القاهرة حتى خرج من باب القنطرة إلى المنظرة، فأقام بها إلى يوم الجمعة، وعدى النيل إلى الجيزة، يريد صرحة البحيرة. وخرج الناس على عادتهم بعد ما نزل في يوم الجمعة هذا بدار على شاطئ نيل مصر، وعبر الحمام بجوار الجامع الجديد. ثم خرج إلى الجامع المذكور وصلى به الجمعة. ثم ركب النيل، وهو في هذا كله يحمل على الأكتاف.
وفي هذا الشهر: فقد لحم الضأن من أسواق القاهرة عدة أيام، وعز وجرد لحم البقر، ثم أبيع لحم الضأن بعشرة دراهم الرطل، بعد سبعة، ثم أبيع بتسعة.
وفيه قتل العربان كاشف البهنسي، لكثرة ظلمه وفسقه، وشدة تعديه وعتوه، فلم يؤخذ له بثأر.
شهر ذي الحجة، أوله السبت:(3/246)
في ثامنه: عاد السلطان من السرحة، بعد ما انتهى إلى الطرانة. وقد اشتد به المرض، وأفرط الإسهال، فارجف بموته، وكادت تكون فتنة. ثم ركب النيل منها عجزاً عن الركوب في المحفة، حتى نزل منبابة، فأقام بها حتى نحر قليلا من ضحاياه، ثم ركب النيل آخر يوم النحر إلى بيت كاتب السر المطل على النيل، وبات به. ثم صعد القلعة في المحفة يوم الثلاثاء حادي عشره، وهو شديد المرض من الإسهال، والزحير والحصاة، والحمى، والصداع، والمفاصل.
وفي ثامن عشره: قدم كتاب سليمان صاحب حصن كيفا، يتضمن موت قرا يوسف في رابع عشر ذي القعدة، مسموماً، فيما بين السلطانية وتوريز، وهو متوجه إلى قتال شاه رخ بن تيمورلنك.
وفي ثامن عشرينه: قدم مبشرو الحاج.
وفي يوم السبت تاسع عشرينه: أرجف بموت السلطان.
وفيه أثبت عهد الأمير أحمد ابن السلطان، على قاضي القضاة زين الدين عبد الرحمن التفهني الحنفي، بالسلطنة. ثم نفذ على بقية القضاة، فكثر الاضطراب في الناس، وتوقعوا الفتنة، واشتد خوف خواص السلطان، ونقلوا ما في دورهم.
ومات في هذه السنه ممن له ذكر
شرف الدين محمد بن علي الحبري، في ثاني عشرين ربيع الأول. وقد ولي حسبة القاهرة ومصر غير مرة، بعد ما كان من شرار العامة، بتمعش بنيابة الحكم عند المالكية بمصر. ثم وقع في كفر في سنة ست وتسعين، فأريد قتله، ثم حقن دمه وعزر بالضرب والحبس. ثم صار بتمعش ببيع السكر في حانوت بالقاهرة. ويشهر بقبائح من السخف، والمجون، وسوء السيرة.
ومات صاحبنا ناصر الدين محمد بن مبارك الطازي، أخو الخليفة المستعين بالله لأمه. ونعم الرجل كان.
ومات محب الدين محمد بن الخضري الأسلمي، أحد كتاب القبط، في عاشر ربيع الآخرة. وكان نصرانياً، وأسلم عن قريب، على يد الأمير فخر الدين الأستادار، فسماه محمداً كما تقدم، ولقبه محب الدين.
ومات قاضي القضاة جمال الدين عبد الله بن مقداد بن إسماعيل الأقفهسي المالكي، في رابع عشر جمادى الأولى عن نحو ثمانين سنة - وقد ولى قضاء القضاة المالكية مرتين، الأولى في الأيام الناصرية فرج، بعد موت نور الدين علي بن يوسف بن جلال، في ثالث عشر جمادى الآخرة، سنة ثلاث وثمانمائة، فأقام أربعة أشهر وعشرة أيام، وصرف في ثالث عشرين شهر رمضان بابن خلدون. ثم ولي ثانياً، فأقام خمس سنين وثمانية أشهر ويومين، ومات وهو قاض، وكان فقيهاً، بارعاً في الفقه. أخذ عن الشيخ خليل. وناب في الحكم عن العلم سليمان البساطي من سنة ثمان وسبعين وسبعمائة إلى أن استبد بالقضاء. ودرس بالقمحية وغيرها. وعرف بالستر والصيانة وصار المعول على فتاويه مدة سنين.
ومات شمس الدين محمد بن محمد بن حسين البرقي الحنفي، أحد نواب الحكم الحنفية، في سابع جمادى الآخرة. وكانت سيرته ذميمة.
ومات الشيخ علي كهنفوش: صاحب الزاوية تحت الجبل الأحمر. وكان مشكور السيرة، محمود الطريقة، له حظ من الأتراك.
ومات صلاح الدين خليل بن زين الدين عبد الرحمن بن الكويز، ناظر الديوان المفرد، في عاشر رمضان.
ومات ناصر الدين محمد بن كمال الدين محمد بن عثمان بن محمد بن عبد الرحيم ابن إبراهيم بن المسلم بن هبة الله بن حسان بن محمد بن منظور بن أحمد بن البارزي، الجهني، الحموي، الشافعي، الفقيه، الأديب، النحوي، كاتب السر، في يوم الأربعاء ثامن شوال، ودفن على ولده الشهابي أحمد تجاه قبر الإمام الشافعي بالقرافة.
ومات الصاحب كريم الدين عبد الله بن شاكر بن عبد الله بن غنام، في سابع عشرين شوال، وقد أناف على المائة، وحواسه سليمة، وزر مرتين، وأنشأ مدرسة بجوار الجامع الأزهر من القاهرة.
ومات قرا يوسف بن قرا محمد بن بيرم خجا، صاحب بغداد وتبريز، في رابع عشر ذي القعدة.(3/247)
وقتل ملك المغرب صاحب فاس، السلطان أبو سعيد عثمان ابن السلطان أبي العباس أحمد ابن السلطان أبي سالم إبراهيم ابن السلطان أبي الحسن علي بن عثمان بن يعقوب ابن عبد الحق المريني، في ليلة الثالث عشر من شوال، قتله وزيره عبد العزيز اللباني، وأقام عوضه ابنه أبا عبد الله محمد. وكانت مدته ثلاثاً وعشرين سنة، وثلاثة أشهر، وأياماً، خربت فيها فاس وأعمالها، وذلت بنو مرين، واتضع ملكها، وتلاشى، وفي ذي الحجة سار أبو زيان محمد بن أبي طريق محمد ابن السلطان أبي عنان من تازي. وكان ابن الأحمر قد بعث به من الأندلس لأخذ فاس، فنزل عليها وبايعه الشيخ يعقوب الحلفاوي الثائر بمدينة فاس، بمن اجتمع معه من أهل البلد، وقاتلوا اللباني أربعة أشهر.
سنة أربع وعشرين وثمانمائة
أهلت وخليفة الوقت المعتضد بالله أبو الفتح داود بن المتوكل على الله أبي عبد الله محمد. والسلطان بديار مصر والشام والحجاز الملك المؤيد أبو النصر شيخ المحمودي الظاهري، وهو مريض، ومعظم عسكر مصر بمدينة حلب صحبة الأمير الكبير ألطنبغا القرماشي أتابك العساكر، ومعه من الأمراء طوغان أمير أخور، وألطنبغا من عبد الواحد - المعروف بالصغير - رأس نوبة النوب، وألطنبغا المرقبي حاجب الحجاب، وجرباش الكريمي رأس نوبة، وغيرهم. وعند السلطان من الأمراء قجقار القردمي أمير سلاح، وططر أمير مجلس، وتنبك ميق العلاي، ومقبل الدوادار. والوزير يومئذ الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله. ووظيفة نظر الخاص ليست بيد أحد، وإنما يتحدث فيها عن السلطان الطواشي مرجان الهندي الخازندار. وأستادار الأمير يشبك أينالي. وكاتب السر كمال الدين محمد بن محمد بن البارزي، وقاضي القضاة شيخ الإسلام جلال الدين عبد الرحمن بن البلقيني الشافعي. وقاضي القضاة الحنفية زين الدين عبد الرحمن التفهني. وقاضي القضاة المالكية بديار مصر شمس الدين محمد البساطي. وقاضي القضاة الحنابلة علاء الدين علي بن مغلي. ونائب الإسكندرية ناصر الدين محمد بن أحمد بن عمر بن العطار. ونائب غزة أركماس الجلباني. ونائب الشام جقمق الدوادار. ونائب حلب يشبك اليوسفي، ونائب قيصرية الروم محمد بك بن دلغادر التركماني. ونائب صفد قطلوبغا التنمي. ونائب طرابلس اسنبغا الزردكاش. ونائب حماة أق بلاط. وأمير مكة الشريف حسن بن عجلان. وأمير المدينة النبوية الشريف عزير بن هيازع، ومتملك اليمن الملك الناصر أحمد بن الأشرف إسماعيل. ومتملك بلاد الشرق شاه رخ بن تيمور كركان، ومتملك بلاد الروم سلطان محمد كرشجي بن خوندكار بايزيد بن مراد بن عثمان. ومحتسب القاهرة إبراهيم ابن الوزير ناصر الدين محمد بن الحسام. ووالي القاهرة بكلمش ابن فري. وكاشف الوجه القبلي دمرداش. وكاشف الوجه البحري حسين الكردي ابن الشيخ عمر، وكان مشكور السيرة على تقوى، كما ذكر.
شهر الله المحرم الحرام، أوله الأحد: أهل والقمح بمائتي وثمانين درهماً الأردب فما دونها، والشعير كل أردب بمائة وسبعين. والفول كل أردب بمائة وستين، وذلك سوى كلفه، ولحم الضأن بتسعة دراهم الرطل، ولحم البقر بستة دراهم ونصف كل رطل. والدينار المشخص بمائتين وعشرة دراهم فلوساً. والمثقال الهرجة بمائتين وثلاثين درهماً، وهو قليل الوجود بأيدي الناس. والدراهم المؤيدية كل مؤيدي بسبعة دراهم فلوساً، وهي كثيرة بأيدي الناس، وقد أتلف أهل الفساد وزنها ونقصوها بهرشها، حتى خفت، وضربوا على مثالها نحاساً يخالطه يسير من الفضة، فعن قليل تنكشف ويظهر زيفها. والفلوس كل رطل بستة دراهم، وقد فسدت، فإنه صار يخلط مع الفلوس من المسامير الحديد المكسورة، ومن نعال الخيل الحديد، ونحوها من قطع النحاس وقطع الرصاص شيء كثير، بحيث لا يكاد يوجد في القنطار من الفلوس إلا دون ربعه فلوساً وباقيه حديد ونحاس ورصاص.
هذا والناس في القاهرة على تخوف وقوع الفتنة بموت السلطان. وقد كثر عبث المفسدين وقطاع الطريق ببلاد الصعيد. وفحش قتل الأنفس، وأخذ الأموال هناك. ومع ذلك فالأسواق كاسدة، والبضائع بأيدي التجار بايرة، والأحوال واقفة، والشكاية قد عمت، فلا تجد إلا شاكياً وقوف حاله، وقلة مكسبه. وجور الولاة والحكام وأتباعهم متزايد، فتسأل الله حسن العاقبة.(3/248)
وفي يوم الخميس خامسه: صعد الأمراء قلعة الجبل، وجلسوا على باب الدار، فخرج إليهم الطواشي واعتذر لهم عن دخولهم، فانصرفوا، وكانوا على هذا منذ أيام. والإرجاف يقوي، فإن السلطان أفرط به الإسهال مع تنوع الأسقام، وتزايد الآلام، بحيث قال لي طبيبه: لم يبق مرض من الأمراض حتى حصل له. وقد افترق الأمراء فرقا، فطلب الأمراء الذين في القلعة - وكبيرهم ططر - الأمير التاج الشويكي، وخلعوا عليه في بعض دور القلعة، وجعلوه والي القاهرة، وشقها في تجمل زائد، أرهب به من كان يخاف منه أن يمد يده إلى النهب من مفسدي العامة. وما برح الإرجاف بالسلطان في كل يوم، حتى مات قبيل الظهر من يوم الاثنين تاسعه، فارتج الناس ساعة، ثم سكنوا. فطلب القضاة والخليفة لإقامة ابن السلطان، فأقيم في السلطنة. وأخذ في جهاز المؤيد، وصلى عليه خارج باب القلة، وحمل إلى الجامع المؤيدي، فدفن بالقبة قبيل العصر، ولم يشهد دفنه كثير أحد من الأمراء والمماليك، لتأخرهم بالقلعة، فيما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
واتفق في أمر المؤيد موعظة فيها أعظم عبرة، وهو أنه لما غسل لم يوجد له منشفة ينشف بها، فنشف بمنديل بعض من حضر غسله. ولا وجد له مئزر تسر به عورته، حتى آخذ له مئنر رصوف صعيدي من فوق رأس بعض جواريه فستر به ولا وجد له حتى أخذ له طاسة يصب عليه بها الماء وهو يغسل مع كثرة ما خلفه من أنواع الأموال.
ومات وقد أناف على الخمسين، وكانت مدة ملكه ثماني سنين، وخمسة أشهر، وثمانية أيام. وكان شجاعاً، مقداماً، يحب أهل العلم، ويجالسهم، ويجل الشرع النبوي، ويذعن له، ولا ينكر على من طلبه منه إذا تحاكم إليه أن يمضي من بين يديه إلى قضاة الشرع، بل يعجبه ذلك. وينكر على أمرائه معارضة القضاة في أحكامهم. وكان غير مائل إلى شيء من البدع. وله قيام في الليل إلى التهجد أحياناً. إلا أنه كان بخيلاً، مسيكاً يشح حتى بالأكل، لجوجاً، غضوباً، نكداً، حسوداً، معياناً، يتظاهر بأنواع المنكرات، فحاشاً، سباباً بذيا شديد المهابة، حافظاً لأصحابه، غير مفرط فيهم، ولا مضيعاً لهم، وهو أكثر أسباب خراب مصر والشام، لكثرة ما كان يثيره من الشرور والفتن أيام نيابته بطرابلس ودمشق. ثم ما أفسده في أيام ملكه من كثرة المظالم ونهب البلاد، وتسليط أتباعه على الناس، يسومونهم الذلة، ويأخذون ما قدروا عليه، بغير وازع من عقل، ولا ناه من دين.
السلطان أبو السعادات أحمد بن المؤيد
السلطان الملك المظفر أبو السعادات أحمد بن المؤيد شيخ أقيم في السلطة يوم مات أبوه، على مضى خمس درج من نصف نهار الاثنين، تاسع المحرم سنة أربع وعشرين وثماني مائة، وعمره سنة واحدة، وثمانية أشهر، وسبعة أيام. وأركب على فرس من باب الستارة، فبكى. وساروا به وهو يبكي إلى القصر، حيث الأمراء والقضاة والخليفة، فقبلوا له الأرض، ولقبوه بالملك المظفر أبي السعادات. وأمر في الحال، فنودي في القلعة والقاهرة أن يترحم الناس على الملك المؤيد، ويدعوا للملك المظفر ولده. وأخذ في جهاز المؤيد ودفنه. وقبض على الأمير قجقار القردمي أمير سلاح قبل دفن المؤيد، وأحيط بمباشريه وحواصله، بإشارة الأمير ططر، وبات بالقلعة والناس على تخوف.
وفي يوم الثلاثاء عاشره: عملت الخدمة بالقصر، وعرض على الأمير تنبك ميق أن يتحدث في أمور الدولة، رفيقاً للأمير ططر، فامتنع من ذلك أشد امتناع، فقام الأمير ططر بأعباء الدولة، وخلع عليه لالا للسلطان وكافله. وخلع على الأمير تنبك ميق هذا، والمظفر قد أجلس وهم حوله. فلما انقضت الخدمة أعيد إلى أمه. واستقر سكني الأمير ططر بالأشرفية من القلعة، ووقف الأمراء ومباشرو الدولة بين يديه.(3/249)
وفي يوم الأربعاء حادي عشره: قبض على الأمير جلبان والأمير شاهين الفارسي، وهما من أمراء الألوف. وطلب قضاة القضاة الأربع إلى القلعة، وختم بحضورهم على حواصل المؤيد بعد ما أخرج منها أربعمائة ألف دينار، برسم النفقة على العسكر. فلما كان عشاء، اضطرب الناس ولبس الأمراء والمماليك للحرب، فخرج الأمير مقبل الدوادار في عدة من أمراء الطبلخاناه والعشرات ومن المماليك والأتباع، وسروا إلى جهة الشام، فاجتمع الأمراء بكرة الخميس بالقلعة. ونودي بأبطال المغارم التي حدثت على الجراريف وعمل الجسور بأعمال مصر. ونودي باجتماع المماليك السلطانية للنفقة فيهم، فأخذ كل واحد منهم مائة دينار. ونودي ثالث مرة بحضور أجناد الحلقة، ليرد عليهم ما أخذ منهم المؤيد من المال في سنة اثنين وعشرين، فسروا بذلك سروراً زائداً وفيه أخذ الأمير الكبير ططر بيد المظفر، وفيها القلم حتى علم على المناشير ونحوها، بحضرة الأمراء وأرباب الدولة، واستمر ذلك أحياناً.
وفي يوم الجمعة ثالث عشره: حمل قجقار القردمي وجلبان وشاهين الفارسي في القيود إلى سجن الإسكندرية.
وفيه أنفق في بقية المماليك السلطانية أيضاً كما تقدم.
وفي يوم السبت رابع عشره: خلع على الوزير الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله، وأعيد إليه نظر الخاص. وخلع على صدر الدين أحمد بن العجمي وأعيد إلى حسبة القاهرة، عوضاً عن الصارم إبراهيم بن الحسام، وأنعم عليه بصره فيها ثمانون ديناراً. وأضيف إليه حسبة مصر، ورتب له على ديوان الجوالي في كل يوم دينار.
وفيه أنفق في بقية المماليك أيضاً، وأفرج عن جماعة سجنهم المؤيد.
وفي يوم الاثنين سادس عشره: خلع على الأمير الكبير ططر، واستقر نظام الملك، كافل المماليك. وخلع على الأمير تنبك ميق العلاي، واستقر أمير مجلس، عوضاً عن الأمير ططر. وخلع على الأمير تغري بردي من قصروه، أحد رءوس النوب الطبلخاناه، واستقر أمير أخور، وأنعم عليه بتقدمة، عوضاً عن طوغان أحد المجردين بحلب. وخلع على الأمير أق قجا الأحمدي أحد الطبلخاناه، واستقر أمير مائة. وخلع على الأمير قشتمر أحد العشرات، واستقر في نيابة الإسكندرية عوضاً عن ابن العطار. وخلع على الأمير جانبك الصوفي، واستقر أمير سلاح عوضاً عن الأمير قجقار القردمي. وأنعم عليه بخبز أق بلاط الدمرداشي. وخلع على الأمير أينال أحد الطبلخاناه، واستقر رأس نوبة النوب، عوضاً عن الأمير ألطنبغا الصغير أحد المجردين بحلب. وخلع على الأمير يشبك أستادار، خلعة الاستمرار، وخلع على التاج باستمراره في ولاية القاهرة، وأن يكون حاجباً.
وفي يوم الثلاثاء سابع عشره: توجهت القصاد بتشاريف نواب الشام وتقاليدهم المظفرية باستقرارهم على عاداتهم في كفالاتهم. وكتب الأمير نظام الملك ططر العلامة على الأمثلة ونحوها، كما يكتب السلطان.
وفي يوم الأربعاء ثامن عشره: ابتدئ بالنفقة في أجناد الحلقة، ورد على كل أحد منهم ما أخذ منه. وتولى ذلك الأمير نظام الملك بنفسه.
وفيه نودي بكف الناس عن المنكرات كلها، فكثر الدعاء لناظم الملك، وتمشت أحوال الناس، وكثر البيع والشراء، فراجت البضائع وربحت التجار لتوسع أهل الدولة، مما صار إليهم من الأموال.
وفي يوم الخميس تاسع عشره: خلع على قضاة القضاة الأربع، وبقية أرباب الدولة باستمرارهم على عوائدهم في وظائفهم. وخلع على شرف الدين محمد بن تاج الدين عبد الوهاب بن نصر الله موقع الأمير نظام الملك. واستقر في نظر أوقاف الأشراف. كان يليه الأمير ططر منذ مات ناصر الدين محمد بن البارزي .
وفيه استعفي علم الدين داود بن الكويز من مباشرة نظر الجيش، فأعفي. وخلع عليه جبة بفرو سمور، ونزل إلى داره.
وفيه قدم الخبر بوصول الأمير مقبل الدوادار إلى قطيا، ومضيه إلى الطينة وركوبه البحر في غراب قد أعده.
وفي يوم الجمعة عشرينه: نودي بأن الأمير الكبير نظام الملك ططر يجلس للحكم بين الناس، فجلس بعد الصلاة بالمقعد من الاصطبل، كما كان المؤيد يجلس، إلا أنه قعد عن يسار الكرسي، و لم يرقه. وحضر الأمراء على العادة، وقعد كاتب السر على الدكة، فقرأ عليه القصص، كما كان يقرأ في الأيام المؤيدية. ووقف نقيب الجيش والي القاهرة بين يديه، كما كانا يقفان بين يدي المؤيد، فنظر في ظلامات الناس.(3/250)
وفي يوم السبت حادي عشرينه: تنكر الأمير الكبير على الصاحب تاج الدين بن الهيصم، وعزله عن نظر الديوان المفرد.
وفي يوم الأحد المبارك ثاني عشرينه: فرق الأمير الكبير نظام الملك ططر في بقية أجناد الحلقة ما أخذ منهم. وفيه قدم ركب الحاج الأول.
وفي يوم الاثنين ثالث عشرينه: قدم محمل الحاج ببقية الحجاج. وفيه طلب تاج الدين عبد الرزاق بن شمس الدين عبد الله، المعروف بابن كاتب المناخات، مستوفي الديوان المفرد، وخلع عليه بوظيفة نظر الديوان المفرد، عوضاً عن ابن الهيصم. وخرج من بين يدي الأمير الكبير، حتى توسط الدهليز طلب ونزعت عنه الخلعة، وأفيض عليه تشريف الوزارة وهو يمتنع، فلم يلتفت إليه ومضى إليه في داره. وكان ذلك برغبة ابن نصر الله عن الوزارة، وتعيينه لها عوضه. وطلب ابن الهيصم، وخلع عليه وأعيد إلى نظر الديوان المفرد. وخلع على الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله باستقراره في نظر الخاص. وخلع على الأمير يشبك باستقراره ملك الأمراء كاشف الكشاف بالوجهين القبلي والبحري، مضافاً للأستادارية.
وفي يوم الخميس سادس عشرينه: خلع علي كمال الدين محمد بن البارزي كاتب السر، واستقر في نظر الجيمق، عوضاً عن علم الدين داود بن الكويز.
وفي يوم الجمعة سابع عشرينه: جلس الأمير الكبير ططر بالمقعد السلطاني من الاصطبل بعد صلاة العصر، للحكم بين الناس. وأخرج المسجونين وعرضهم، فعزل من عليه دين منهم ليصالح غرماءهم عن ديونهم.
وفي يوم السبت ثامن عشرينه: توجه الأمير يشبك أستادار، وكاشف الكشاف، إلى الوجه القبلي، في عدة من الأجناد.
وفي يوم الاثنين سلخه: خلع على القاضي علم الدين داود بن الكويز، واستقر في نظر ديوان الإنشاء كاتب السر عوضاً عن كمال الدين محمد بن البارزي، فتسلم القوس غير راميها، ووسدت الأمور إلى غير أهليها.
وفيه خلع أيضاً على عدة من موقعي الدست، خلع الاستمرار.
شهر صفر: أهل بيوم الثلاثاء: والإرجاف متزايد بأن أهل الشام قد امتنعوا من طاعة الأمير ططر.
وفي يوم الجمعة رابعه: جلس الأمير ططر للحكم على العادة.
وفي سابعه: قدم الخبر بأن الأمير جقمق نائب الشام أخذ قلعة دمشق واستولى على ما فيها من الأموال وغيرها، وكان بها نحو المائة ألف دينار، فاضطرب أهل الدولة.
وفي عاشره: جمع الأمير الكبير ططر عنده بالأشرفية من القلعة قضاة القضاة وأمراء الدولة ومباشريها، وكثيراً من المماليك السلطانية، وأعلمهم بأن نواب الشام والأمير ألطنبغا القرمشي ومن معه من الأمراء المجردين لم يرضوا بما عمل بعد موت المؤيد، ولا بد للناس من حاكم يتولى تدبير أمورهم، ولا بد أن يعينوا رجلاً ترضونه ليقوم بأعباء المملكة ويستبد بالسلطنة. فقال الجميع قد رضينا بك. وكان الخليفة حاضراً فيهم، فأشهد عليه أنه فوض جميع أمور الرعية إلى الأمير الكبير ططر، وجعل إليه ولاية من يرى ولايته، وعزل من يريد عزله من سائر الناس، وأن يعطي من شاء ما شاء ويمنع من يختار من العطاء، ما عدا اللقب السلطاني، والدعاء له على المنابر، وضرب اسمه على الدنانير والدراهم، فإن هذه الثلاثة أشياء باقية على ما هي عليه للملك المظفر. وأثبت قاضي القضاة زين الدين عبد الرحمن التفهني هذا الإشهاد، وحكم بصحته. ونفذ حكمه قضاة القضاة الثلاثة. ثم حلف الأمراء للأمير الكبير يمينهم المعهودة. وكان سبب هذا أن بعض فقهاء الحنفية تقرب إلى الأمير الكبير بنقل أخرجه إليه من فروع مذهبه أن السلطان إذا كان صغيراً وأجمع أهل الشوكة على إقامة رجل ليتحدث عنه حتى يبلغ رشده نفذت أحكامه، وأقام أياماً يحسن له ذلك، فاتفق ورود الخير باستيلاء جقمق على قلعة دمشق. ثم ردفه خبر آخر، بأنه جهز عدة أمراء إلى غزة، فعمل ما تقدم ذكره ليكون فيه تقوية لقلوب العسكر، وأنهم على حق، ومن يخالفهم على باطل.
وفي يوم الاثنين رابع عشره: خلع علي عبد القادر ابن الأمير فخر الدين عبد الغني ابن أبي الفرج، واستقر في كشف الشرقية وولاية قطيا، وله من العمر خمسة عشر سنة أو أكثر منها، فتحكم في دماء الخليقة وأبشارها من لم يجعل الله له تحكماً فيما يرثه من أبيه، لعدم رشده.
وفي ليلة الثلاثاء سادس عشره: خسف جميع جرم القمر.(3/251)
وفي يوم الثلاثاء هذا: قدم سيف نائب حلب الأمير يشبك اليوسفي المؤيدي، وقد قتل. وكان من خبره أنه لما ورد خبر موت المؤيد علي الأمير ألطنبغا القرمشي وهو بحلب، جمع الأمراء وفيهم الأمير يشبك نائب حلب، وحلفهم للسلطان الملك المظفر، وأخذ في رحيله بمن معه، فلم يتكامل رحليهم حتى ركب يشبك في جمع من التركمان، وهجم عليهم وهم في جدران المدينة، فقاتلوه وقد مالت معهم العامة، فتقنطر عن فرسه، فأخذ وقتل، وذلك في يوم الثلاثاء ثالث عشرين المحرم. وكان من شرار خلق الله، لما هو عليه من الفجور والجرأة على الفسوق، والتهور في سفك الدماء، وأخذ الأموال. وكان المؤيد قد استوحش منه لما يبلغه من أخذه في أسباب الخروج عليه، وأسر للأمير ألطنبغا القرمشي إعمال الحيلة في القبض عليه، فأتاه الله من حيث لم يحتسب، وأخذه أخذاً وبيلاً، و لله الحمد.
وفي يوم الخميس سابع عشره: قدم الأمير قجق العيسوي حاجب الحجاب، والأمير بيبغا المظفري وقد أفرج عنهما من سجن الإسكندرية. وقدم يشبك الساقي الأعرج وكان قد نفاه المؤيد من دمشق إلى مكة. وقد حضر إليه من حلب في حصاره الأمير نوروز بحيلة دبرها عليه، حتى استنزله من قلعة حلب. فلما ظفر بنوروز أراد قتله فيمن قتل من أصحابه، فشفع فيه الأمير ططر فأخرجه إلى مكة فأقام بها سنين. ثم نقله إلى القدس، فلم تطل إقامته بها حتى مات المؤيد وتحكم الأمير ططر، فاستدعاه. وكان له منذ خرج من القاهرة نحو العشرين سنة، فإنه خرج في نوبة بركة الحبش من سنة أربع وثماني مائة.
وفيه أيضاً قدم سودن الأعرج من قوص، وقد نفي إليها من سنين عديدة وفيه أفرج عن الأمير ناصر الدين محمد باك بن علي باك بن قرمان، وخلع عليه، ورسم بتجهيزه ليعود إلى مملكته. وأنعم عليه بمال وثياب وخيول وغير ذلك، فسار في النيل يوم السبت سادس عشرينه إلى جهة رشيد، ليتوجه منها.
شهر ربيع الأول، أوله الأربعاء: فيه ورد كتاب الأمير الكبير ألطنبغا القرمشي من حلب، يتضمن أنه لما قتل الأمير يشبك نائب حلب، ولي عوضه نيابة حلب الأمير ألطنبغا الصغير، وأنه عند ما ورد عليه خبر موت السلطان بعد ما عهد بالسلطنة من بعده لابنه، وأن يكون القائم بأمور الدولة ألطنبغا القرمشي، وأنه قد أقيم في السلطنة الملك المظفر كما عهد، أخذ في الرحيل إلى مصر كما رسم له به. فكان من أمر يشبك ما كان، فاشتغل عن المسير. ثم ورد عليه الخير باستقرار نواب المماليك الشامية على عوائدهم فيما بأيديهم، وتحليفهم للسلطان الملك المظفر، وللأمير الكبير ططر، فحمل الأمر في ذلك على أنه غلط من الكاتب، وسال أن يفصح له عن ذلك، فأجيب بأنه بعد ما عهد المؤيد لابنه، وأقيم من بعده في السلطة طلب الأمراء والخاصكية والمماليك السلطانية أن يكون المتحدث في أمور الدولة كلها الأمير ططر، ورغبوا إليه في ذلك، ففوض إليه الخليفة جميع أمور المملكة، ما عدا اللقب السلطاني والخطبة والسكة، فليحضر الأمير ومن معه ليكونوا على إمرياتهم. وأنكر عليه استقرار ألطنبغا الصغير في نيابة حلب من غير استئذان.
وفيه أيضاً قدم الخبر بأن علي بن بشارة قاتل الأمير قطلوبغا التنمي نائب صفد، فامتنع بالمدينة، فحصروه حتى فر إلى دمشق. وأن الأمير جقمق استعد بدمشق، واستخدم جماعة، وسكن قلعة دمشق.(3/252)
وفي تاسعه: خلع على الأمير تنبك ميق العلاي، واستقر أتابك العساكر، عوضاً عن الأمير ألطنبغا القرمشي. وأنعم عليه بإقطاعه. وأنعم بإقطاع تنبك ميق على الأمير أينال الأزعري. وأنعم بإقطاع أينال الأزعري على الأمير قجق العيسوي. وأنعم بإقطاع الأمير طوغان أمير أخور - أحد المجردين - على الأمير تغري بردي الأقبغاوي، المعروف بأخي قصروه. وأنعم بإقطاع الأمير ألطنبغا من عبد الواحد المعروف بالصغير رأس كوبة المستقر في نيابة حلب، على سودن العلاي. وأنعم بإقطاع سودن العلاي على قطج من تمرار. وأنعم بإقطاع الأمير أزدمر الناصري - أحد المجردين - على الأمير بيبغا المظفري. وأنعم بإقطاع الأمير جرباش من عبد الكريم على تمربيه من قرمش. وبإقطاع على أركماس اليوسفي. وبإقطاع أركماس علي سودن الحموي. وبإقطاع سودن الحموي على شاهين الحسمي وتغري بردي المحمدي قسم بينهما. وأنعم بإقطاع الأمير جلبان المؤيدي أمير أخور على ألي بيه من علم شيخ الدوادار. وأنعم بإقطاع ألي بيه على الديوان المفرد، زيادة فيه. وأنعم بإقطاع الأمير مقبل الدوادار على جقمق الخازندار. وأنعم بإقطاع الأمير ألطنبغا المرقبي حاجب الحجاب على قصروه التمرازي. وأنعم بإقطاع جانجك من حمزة على قانبيه الحمزاوي. وأنعم بإقطاع قصروه على مغلباي البوبكري.
وفي يوم الأحد حادي عشره: عوق القاضي كمال الدين محمد بن البارزي ناظر الجيق، وحموه الأمير ناصر الدين محمد بن العطار نائب الإسكندرية بالقلعة، على مال يقومان به. ثم أفرج عنهما من الغد يوم الاثنين، وخلع على كمال الدين خلعة الاستمرار، ليقوم بمال، ورسم على ابن العطار.
وفيه قدم الأمير يشبك استادار من الوجه القبلي، فخلع عليه في يوم الثلاثاء حادي عشرينه، واستقر كاشف الكشاف، وفوض إليه عزل الولاة بالأعمال وولايتهم، عوناً له على كلف الديوان المفرد. بما يأخذه منهم من البراطيل.
وفي يوم الأربعاء ثاني عشرينه: فرق الأمير الكبير ططر على الأمراء والمماليك أربع مائة فرس برسم السفر إلى الشام ورسم بالتجهيز للسفر.
وفيه قدم قصاد عديدة، من الأمراء المجردين بالشام، في طلب جمالهم وأموالهم، فمنعوا منها. وكتب إلى الأمير ألطنبغا القرمشي بأن الجمال فرقها السلطان، وقد عزم على السفر وأنك مخير بين أن تحضر على ما كنت عليه، وبين أن تستقر في نيابة الشام، عوضاً عن جقمق. وكثر الاهتمام بأمر السفر.
وفي يوم الاثنين سابع عشرينه: خلع الأمير صلاح الدين محمد ابن الوزير الصاحب ناظر الخاص بدر الدين حسن بن نصر الله أحد الحجاب، واستقر أستادارا عوضاً عن الأمير يشبك بعد عزله من يوم الجمعة. وأنعم على الأمير صلاح الدين بإمرة مائة تقدمة ألف.
وفي هذا الشهر والذي قبله: نودي أن لا يسافر أحد من الناس كافة إلى البلاد الشامية، وهدد من وجد مسافراً إليها بأشد العقوبة. وكان القصد بذلك تعمية الأخبار عن المخالفين.
شهر ربيع الآخر: أهل بيوم الجمعة: والعسكر في أهبة السفر.
وفي يوم الاثنين رابعه: ركب الأمير الكبير نظام الملك ططر من القلعة، ومعه الأمراء والمماليك السلطانية. ودخل إلى القاهرة من باب النصر، وخرج من باب زويلة إلى القلعه، فكان في موكب سلطاني لم يفقد فيه إلا الجاويشية والعصابة. وهذا أول موكب ركبه، فإنه منذ مات المؤيد شيخ لم يركب سوى يومه هذا.
وفي سادسه: نودي من قبل الأمير الكبير نظام الملك ططر في سائر المماليك السلطانية باجتماعهم لتنفق عليهم النفقة.
وفي يوم الخميس سابعه. جلس الأمير الكبير نظام الملك ططر بالقلعة، وأنفق في المماليك نفقة السفر، لكل واحد منهم مائة دينار أفرنتية.
وفيه خلع على شمس الدين محمد ابن قاضي القضاة زين الدين عبد الرحمن التفهني واستقر قاضي العسكر. وكان قضاء العسكر قد شغر منذ أعوام.
وفي تاسعه: أنفق في الأمراء والمماليك أيضاً، فحمل إلى الأمير تنبك العلاي ميق خمسة آلاف دينار.
وفي عاشره: أخرج بولدي الملك الناصر فرج بن الظاهر برقوق من القلعة، ونفيا إلى الإسكندرية.
وفي رابع عشره: نصب المخيم السلطاني خارج القاهرة.
وفيه وسط الأمير راشد بن أحمد بن بقر، خارج باب النصر، ظلماً.(3/253)
وفي ثامن عشرة: قدم الخبر بأن عساكر دمشق برزت منها، وأنها نزلت باللجون، فركب الأمير ططر في يوم الثلاثاء تاسع عشره من قلعة الجبل ة ومعه السلطان الملك المظفر والأمراء، يريد السفر إلى الشام. ونزل بهم في المخيم ظاهر القاهرة، وخرج الناس أفواجاً، في إثره، وأصبح يوم الأربعاء الأمير تنبك ميق راحلاً، ومعه عدة من الأمراء وغيرهم ثم استقل الأمير ططر بالمسير ومعه السلطان والخليفة وبقية العسكر في يوم الجمعة ثاني عشرينه. وقد جعل نائب الغيبة الأمير قانبيه الحمزاوي - وهو يومئذ غائب ببلاد الصعيد - وأن ينوب عنه حتى يحضر الأمير جقمق أخو جركس المصارع، وتأخر عن السفر الوزير وأستادار.
شهر جمادى الأولى أوله الأحد: في ثانية: دخل الأمير ططر بالسلطان إلى غزة، فقدم إليه طائعاً كثير ممن خرج من عسكر دمشق، منهم الأمير جلبان أمير أخور أحد المجردين إلى حلب في أيام المؤيد، والأمير أينال نائب حماة، فسر بهم، وأنعم عليهم، وفر ممن كان معهم الأمير مقبل الدوادار في طائفة يريد دمشق. وقدم الخبر بذلك إلى القاهرة في تاسعه، فدقت البشائر بالقلعة، وخلع على القادم.
وفي سادس عشره: قدم الخبر بنزول الأمير ططر ومن معه على بيسان في يوم الثلاثاء عاشره، وأنه ورد عليه الخبر من دمشق أن الأمير في مقبل لما دخل دمشق وأخبر بدخول الأميرين جلبان أمير أخور وأينال نائب حماة في الطاعة، شق ذلك على الأمير جقمق نائب الشام، وعلى الأمير ألطنبغا القرمشي، واختلفا، فاقتضي رأي القرمشي أن يدخل في الطاعة، وامتنع جقمق من ذلك، وصاروا حزبين.
فلما كان في يوم الاثنين ثالثه: بلغ القرمشي عن جقمق بأنه يريد أن يقبض عليه، فبادر إلى محاربته، وركب في جماعته بآلة الحرب، ووقف بهم تجاه القلعة، وقد رفع الصنجق السلطاني، فأتاه جماعة عديدة راغبين في الطاعة. وكانت بينه وبين جقمق وقعة طول النهار. فانكسر جقمق ومضى هو والأمير طوغان أمير أخور والأمير مقبل الدوادار في نحو الخمسين فارساً إلى جهة صرخد. وأن القرمشي استولى على مدينة دمشق وتقدم إلى القضاة والأعيان أن يتوجهوا إلى ملاقاة السلطان. فقدموا إلى العسكر، فدقت البشائر بقلعة الجبل، وخلع على الذي قدم بذلك.
وفي يوم السبت حادي عشرينه: قدم الأمير قانبيه الحمزاوي من بلاد الصعيد، وحكم في نيابة الغيبة، فانكفت يد جقمق عن الحكم، وكانت سيرته في الناس جيدة وفيه نودي على النيل ثلاثة أصابع، وجاء القاع أربعة أذرع وأربعة وعشرين إصبعاً.
وفي تاسع عشرينه: قدم الخبر بأن الأمير ططر لما نزل. ممن معه اللجون، أتاه الأمير أزدمر الناصري، وعلى يده كتاب الأمير ألطنبغا القر ومضمونه أن جقمق نائب الشام ركب عليه في يوم الثلاثاء ثالثه بعسكر دمشق، ووقف عند باب النصر. وأنه ركب. ممن معه، ووقف عند جامع يلبغا. وكانت بينهما حرب من قبل الظهر إلى بعد العصر، فانكسر من جقمق إلى سويقة صاروجاً ثم قوى وعاد، وقد نصب الصنجق السلطاني ونادى من كان في طاعة السلطان فليقف تحت الصنجق فأتاه كثير ممن مع جقمق، فلم يجد بداً من الفرار، فتوجه نحو صرخد ومعه الأميران مقبل وطوغان فسر الأمير ططر سروراً زائداً. وأنه قدم أيضاً الأمير قطلوبغا التنمي نائب صفد، فخلع عليه. وسار الأمير ططر، ممن معه إلى دمشق، فدخلها بكرة يوم الأحد، خامس عشره، وقد تلقاه الأمير ألطنبغا القرمشي والأمير ألطنبغا المرقبي والأمير جرباش قاشق، فخلع على القرمشي ونزل الأمير ططر بالقلعة مع السلطان. وأول ما بدأ به أن قبض على القرمشي والمرقبي وجرباش، وعلى الأمير أردبغا من أمراء الألوف بدمشق، وعلى الأمير بدر الدير حسن بن محب الدين أستادار المؤيد.(3/254)
وأصبح يوم الاثنين سادس عشره: وقد جلس للخدمة بالقلة. وخلع على الأمير تنبك العلاي ميق، واستقر به نائب الشام عوضاً عن جقمق. وخلع على الأمير أينال الجكمي رأس نوبة النوب، وأستقر به نائب حلب. وخلع على الأمير يونس الأتابك بدمشق، واستقر نائب غزة، عوضاً عن أركماس الجلباني. وخلع على الأمير جانبك الصوفي أمير سلاح واستقر أتابك العساكر، عوضاً عن الأمير تنبك ميق. وبعث في طلب الأمير جقمق الأمير بيبغا المظفري والأمير أينال الأزعري، والأمير يشبك أينالي، والأمير سودن اللكاشي ومعهم مائتا مملوك. فدقت البشائر بقلعه الجبل مدة ثلاثة أيام. وزينت القاهرة عشرة أيام.
شهر جمادى الآخرة أوله الثلاثاء: في ثامن عشره: قدم إلى دمشق جماعة من المماليك الظاهرية برقوق الذين فروا من الملك المؤيد منذ سنين، منهم الأمير طرباي نائب غزة، والأمير سودن من عبد الرحمن نائب طرابلس، والأمير يشبك الدوادار، والأمير جانبك الحمزاوي نائب طرسوس فخلع عليهم الأمير ططر. وأنعم عليهم بالمال والخيل والسلاح والقماش. وحمل إليهم الأمراء عدة تقادم على قدر رتبهم.
وفي تاسع عشرينه: توقفت زيادة ماء النيل، ونقص خمسة أصابع. وقد بلغ خمسة أذرع واثنين وعشرين إصبعاً.
وفيه قدم الخبر بتوجه الأمير ططر. ممن معه من السلطان والعساكر إلى جهة حلب، في خامس عشرينه.
شهر رجب، أوله الأربعاء: أهل والناس في قلق لتوقف ماء النيل عن الزيادة، وقد نقص بضع عشرة إصبعا، ثم أن الله أغاث عباده، ونودي عليه في رابعه بزيادة إصبع، واستمرت زيادته.
وفي سادسه: دخل الأمير ططر. ممن معه إلى حلب، فقدم عليه بها الأمير مقبل الحسامي الدوادار طائعاً، وقد فارق جقمق بصرخد، فخلع عليه، وعفي عنه. وخلع على الأمير تغري بردي من قصروه أمير أخور، واستقر في نيابة حلب، عوضا عن أينال الجكمي وخلع على أينال، واستقر أمير سلاح.
شهر شعبان، أوله الجمعة: في يوم الاثنين حادي عشره - الموافق لثامن عشر مسرى - : كان وفاء النيل ستة عشر ذراعاً، وفتح الخليح على العادة. وقدم الخبر بأن الأمير برسباي الدقماقي نائب طرابلس - كان - بعثه الأمير ططر من حلب، ومعه القاضي بدر الدين محمد بن مزهر ناظر الاصطبل إلى صرخد، وأنه ما زال بالأمير جقمق حتى أذعن، وسار معه إلى دمشق، وصحبه الأمير طوغار أمير أخور. فلما قدموا دمشق قبض الأمير تنبك ميق النائب على جقمق وطوغان وسجنهما. وأن الأمير ططر برز من حلب بمن معه في حادي عشره، وأنه قدم بهم إلى دمشق في ثالث عشرينه، فقتل جقمق نائب الشام ونفى طوغان إلى القدس بطالا. وأنه قبض في ثامن عشرينه على كثير من الأمراء منهم سبعة من أمراء الألوف بمصر، وهم أينال الأزعري حاجب الحجاب وأينال الجكمي نائب حلب، وأمير سلاح، وسودن اللكاشي، وجلبان أمير أخور، وألي بيه الدوادار، ويشبك أينالي أستادار، وأزدمر الناصري. وقبض على الطواشي مرجان الخازندار، ثم أفرج عنه. وعزم على خلع المظفر من السلطنة، وخلعه في تاسع عشرينه فكانت مدته سبعه أشهر وعشرين يوماً.
السلطان سيف الدين أبو الفتح ططر
السلطان الملك الظاهر سيف الدين أبو الفتح ططر جلس على تخت الملك بقلعة دمشق في يوم الجمعة تاسع عشرين شعبان سنة أربع وعشرين وثمانمائة، الموافق له يوم نوروز القبط بمصر، وتلقب بالملك الظاهر. وخطب له من يومه على منابر دمشق وكتب إلى مصر وحلب وحماة وحمص وطرابلس وصفد وغزة بذلك.
شهر رمضان، أوله السبت: نودي على النيل ثلاثة أصابع، لتتمه ثمانية عشر ذراعاً وإصبعين. فلما فتح بحر أبي المنجا نقص النيل اثني عشر إصبعا، ثم إنه تراجعها قليلا قليلا في عدة أيام.(3/255)
وفي يوم الاثنين ثالثه: خلع السلطان الملك الظاهر ططر بقلعة دمشق على الأمير طرباي الذي كان نائب غزة، وفر من الملك المؤيد، واستقر حاجب الحجاب عوضاً عن أينال الأزعري. وخلع على الأمير برسباي الدقماقي، واستقر به دواداراً كبيراً، عوضاً عن الأمير ألي بيه. وبرسباي هذا بعث به الأمير دقماق نائب ملطية إلى الظاهر برقوق، فنزل بالطباق من القلعة إلى أن أخرج له خيلاً، وصار يركب وينزل، فلما مات الظاهر انتمى إلى الأمير جركس المصارع، وتقلبت به الأحوال في تلك الأيام إلى أن خرج من القاهرة فاراً إلى الشام. وصار من جماعة الأمير نوروز الحافظي. ثم انتقل عنه هو وأخوه ططر إلى الأمير شيخ المحمودي وما زالا معه حتى قتل الملك الناصر فرج بن برقوق، وقدم الأمير شيخ إلى مصر، وتسلطن، أنعم على برسباي بإمرة، وعمله كاشف الجسور. ثم ولاه نيابة طرابلس، فواقع التركمان فكسروه. فتنكر عليه الملك المزيد شيخ وسجنه بالمرقب مدة، ثم أفرج عنه وأنعم عليه بإمرة في دمشق، فمات المؤيد، وهو من جملة أمراء دمشق فقبض عليه الأمير جقمق نائب الشام، وسجنه من أجل أنه معروف بينهما قرابة قريبة. فلم يزل مسجوناً بقلعة دمشق، حتى ثار الأمير ألطنبغا على جقمق نائب الشام، وهزمه. فأفرج عن برسباي. ودخل عقيب ذلك الأمير ططر إلى دمشق، فتوجه معه إلى حلب وبعثه منها حتى أحضر جقمق من صرخد. فلما تسلطن ططر عمله دواداراً كبيراً. وسيظهر لك فائدة التعريف بحال برسباي هذا عن قريب، إن شاء الله تعالى.
وخلع في هذا اليوم أيضاً على الأمير يشبك الدوادار الذي فر من الحجاز إلى قرا يوسف في الأيام المؤيدية، واستقر أمير أخور، عوضاً عن الأمير تغري بردي من قصروه.
وفي يوم الأربعاء خامسه: خلع على قاضي القضاة جمال الدين يوسف البساطي، بين يدي الأمير قانبيه الحمزاوي، واستقر في حسبة القاهرة، عوضاً عن صدر الدين أحمد بن العجمي، ونزل في موكب جليل إلى داره. وكان سبب ولايته أنه طالت عطلته سنين، فلما استبد الظاهر ططر بالسلطنة، تذكره لصحبة بينهما، فكتب إلى الأمير قانبيه بطلبه، وعرض الحسبة عليه فإن قبلها ولاه، فلم يمتنع من قبولها لرغبته في الحكم.
وفي ثامنه: قدم الخبر بسلطنة الأمير ططر، فنودي بذلك في القاهرة، ودقت البشائر بقلعة الجبل.
وفي يوم الاثنين سابع عشره: برز السلطان من دمشق عائداً إلى مصر، بعد ما أثر بدمشق آثاراً جميلة، منها أن نائب الشام كان له محتسب دمشق في كل سنة نحو الألف وخمسمائة دينار يحملها إليه، ويتعوضها بزيادة من مظالم العباد، فعوض السلطان نائب الشام عن هذا المبلغ بلد أربل، ويتحصل له منها في السنة نحو الألفين وخمسمائة دينار، وولى حسبة دمشق لرجل بغير مال، ونادى إن طلب منكم المحتسب يا أهل دمشق شيئاً فارجموه. ونقش بإبطال هذه الحادثة - وما كان منه فيها - على حجر بجامع بني أمية.
ثم مر السلطان في طريقة بمدينة القدس، فرفع إليه أن من عادة نائبها أن يجبي كل سنة من فلاحي الضياع نحو أربعة آلاف دينار، وبسبب ذلك خربت معاملة القدس، فعوض النائب عن ذلك. ونادى بإبطال هذه المغارم، ونقشه على حجر بالمسجد، فتباشر الناس بأيامه، ورجوا أن يزيل الله عنهم به ما هم فيه من الجور.
شهر شوال، أوله الاثنين، الموافق له ثاني بابة: وفيه بلغت زيادة النيل تسعة عشر ذراعاً، وإصبع واحد.
وفيه نزل السلطان بالصالحية، فخرج الناس إلى لقائه، وقد تزايد السرور به، فصعد قلعة الجبل في يوم الخميس رابعه، وأنزل المظفر مع أمه في بعض دور القلعة.
وفي يوم الجمعة خامسه: خلع على الطواشي مرجان الهندي، واستقر زمام الدار، عوضاً عن الطواشي كافور الشبلي.
وفي يوم الاثنين: ابتدأ السلطان بعرض مماليك الطباق، وأنزل منهم عدة، فسكنوا في الصليبة وغيرها.(3/256)
وفي يوم الاثنين خامس عشره: استدعى السلطان الشيخ ولي الدين أبو زرعة أحمد ابن الشيخ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العرامي الشافعي، وخلع عليه، وفوض إليه قضاء القضاة بديار مصر، بعد وفاة جلال الدين عبد الرحمن بن البلقيني. فنزل في موكب عظيم من الأمراء والقضاة والأعيان، بعد ما اشترط أن لا يقبل شفاعة أمير في يوم الحكم. فسر الناس بولايته لكفاءته، وتمنكه من علوم الحديث والفقه وغير ذلك، مع جميل طريقته وحسن سيرته، وتصديه للإفتاء والتدريس عدة سنين، وتنزهه عن الترداد لأبواب الأمراء ونحوهم، وسعة ذات يده، وغير هذا من الصفات المحمودة.
وفي يوم الاثنين ثاني عشرينه: أصبح السلطان مريضاً فلزم الفراش إلى آخر الشهر.
وفي هذا الشهر أنعم على كل من الأمير سودن الأشقر والأمير كزل العجمي بإمرة. وكانا منفيين، فأعادهما السلطان إلى القاهرة.
وفيه انحل سعر الغلال عما كان.
شهر ذي القعدة، أوله الثلاثاء: فيه أبل السلطان من مرضه، ودخل الحمام، وخلع على الأطباء وأنعم عليهم.
وفي ثالثه: خلع على فارس دوادار السلطان وهو أمير، واستقر في نيابة الإسكندرية، عوضاً عن قشتمر، وقد أحضر من الثغر.
وفيه قبض على قشتمر المذكور، وعلى الأمير قانبيه الحمزاوي نائب الغيبة، وحملا مقيدين إلى الإسكندرية، فسجنا بها.
وفي يوم الاثنين رابعه: خلع على زين الدين عبد الباسط بن خليل بن إبراهيم الدمشقي، واستقر ناظر الجيوش، عوضا عن كمال الدين محمد بن محمد بن البارزي الحموي. وخلع على شرف الدين محمد بن تاج الدين عبد الوهاب بن نصر الله، واستقر في نظر وقف الأشراف، وفي نظر الخزانة، ونظر كسوة الكعبة عوضاً عن عبد الباسط.
وفي عاشرينه: انتكس السلطان، ولزم الفراش.
وفي خامس عشرينه: عزل قاضي القضاة ولي الدين أبو زرعة نفسه لمعارضة بعض الأمراء له في ولاية القضاء ببعض الأعمال.
وفي سادس عشرينه: رسم بالإفراج عن أمير المؤمنين أبي الفضل العباس بن محمد من سجنه بالبرج في الإسكندريه، وأن يسكن بقاعة في المدينة، ويخرج لصلاة الجمعة بالجامع، ويركب حيث شاء. وجهز إليه بفرس عليه سرج ذهب وكنفوش زركش وبقجة قماش تليق بمقامه، ورتب له على الثغر في كل يوم مائة درهم من نقد القاهرة وفي يوم الأحد سابع عشرينه: درس علم الدين صالح ابن شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني بالزاوية المعروفة بالخشابية التي بجامع عمرو بن العاص بمدينة مصر، عوضاً عن أخيه قاضي القضاة القضاة جلال الدين عبد الرحمن بن البلقيني.
شهر ذي الحجة، أوله يوم الخميس.
أهل والسلطان مرضه متزايد، والإرجاف به كبيره وفي يوم الجمعة - ثانيه - : استدعى الخليفة والقضاة إلى القلعة، وقد اجتمع الأمراء والمباشرون والمماليك، وعهد السلطان لابنه الأمير محمد، وأن يكون القائم بدولته الأمير جانبك الصوفي، والأمير برسباي الدقماقي لالا، فحلف الأمراء على ذلك، كما حلفوا لابن الملك المؤيد.
وفيه أذن لقاضي القضاة ولي الدين بن العراقي أن يحكم، وأعيد إلى القضاء. وكان من حين عزل نفسه قد انكف هو ونوابه عن الحكم، فصلى بالناس الجمعة، بعد ما خطب في جامع القلعة، ونزل من غير أن يخلع عليه، شغلا. فمرض السلطان.(3/257)
وفيه أخذ الناس في توزيع أمتعتهم من الدور والحوانيت خوفاً من الفتنة، فلما كانت ضحوة نهار الأحد رابعه، توفي السلطان، فاضطرب الناس ساعة، ثم غسل وأخرج من باب السلسة، وليس معه إلا نحو العشرين وجلا، حتى دفن بجوار الليث بن سعد من القرافة. فكانت مدة تحكمه منذ مات المؤيد أحد عشر شهراً تنقص خمسة أيام، منها مدة سلطنته أربعة وتسعين يوماً. وكان جركسي الجنس، رباه بعض التجار، وعلمه شيئاً من القرآن وفقه الحنفية. وقدم به القاهرة في سنة إحدى وثمانمائة، وهو صبي، فدل عليه الأمير قانبيه العلاي لقرابته به، فسأل السلطان الملك الظاهر فيه حتى أخذه من تاجره. ومات السلطان قبل أن يصرف ثمنه. فوزن الأمير الكبير أيتمش ثمنه اثني عشر ألف درهم. ونزله في جملة مماليك الطباق، فنشأ بينهم، وكان الملك الناصر فرج اعتقه، فلم يزل في مماليك الطاق، حتى عاد الناصر إلى السلطة بعد أخيه المنصور عبد العزيز، فأخرج له الخيل، وأعطاه إقطاعاً في الحلقة، فانضم إلى الأمير نوروز الحافظي، وتقلب معه في بحار تلك الفتن، وفر إليه بالشام، ثم صار منه إلى جماعة الأمير شيخ. وما زال معه حتى قتل الناصر، وقدم إلى مصر، وتسلطن، فأمره، وتنقل حتى صار سلطاناً، فلم يتهن. وكان أولا كالمحجور عليه مع ألي بيه الدوادار، وتغري بردي من قصروه أمير أخور. ثم تعلل منذ خرج من حلب، فلم يقم بقلعة الجبل سوى ثمانية عشر يوماً. وألجأه تعلله إلى لزوم الفراش، حتى مات. وكان يميل إلى تدين، وفيه لين، وإعصاء، وكرم، مع طيش، وخفة. وكان شديد التعصب لمذهب الحنفية. يريد أن لا يدع أحداً من الفقهاء غير الحنفية. وأتلف في مدته - مع قلتها - أموالا عظيمة، وحمل الدولة كلفا كثيرة، أتعب بها من بعده. ولم تطل أيامه حتى تشكر أفعاله أو تدم.
السلطان ناصر الدين محمد بن الظاهر ططر
السلطان الملك الصالح ناصر الدين محمد بن الظاهر ططر(3/258)
أقيم في السلطنة بعهد أبيه إليه، وعمره نحو العشر سنين، عقيب موت أبيه. في يوم الأحد رابع ذي الحجة، سنة أربع وعشرين وثمانمائة قد اجتمع الأمراء بالقلعة، إلا الأمير جانبك الصوفي فإنه لم يحضر، فما زالوا به حتى حضر، وأجلسوا السلطان، ولقبوه بالملك الصالح. ونودي في القاهرة أن يترحموا على الملك الظاهر، ويدعوا للملك الصالح وسكن الأمير جانبك الصوفي بالحراقة من باب السلسة، وانضم إليه معظم الأمراء والمماليك. وأقام الأمير برسباي الدقماقي بالقلعة، في عدة من الأمراء والمماليك، منهم الأمير طرباي حاجب الحجاب، والأمير قصروه رأس نوبة، والأمير جقمق، وباتوا بأجمعهم مستعدين. وأصبحوا يوم الإثنين خامسه وقد تجمع المماليك يطلبون النفقة عليهم، والأضحية، وأغلظوا في القول، حتى كادت الحرب أن تكون. فترضاهم الأمراء حتى تفرق جمعهم. وبات العسكر على أهبة القتال. وأصبحوا يوم الثلاثاء سادسه في تفرقة الأضاحي، فأخذ كل مملوك رأسان من الضأن. وتجمعوا تحت القلعة لطلب النفقة، فطال النزاع بينهم وبين الأمير جانبك الصوفي، حتى تراضوا أن ينفق فيهم بعد عشرة أيام من غير أن يعين لهم مقدار ما ينفقه فيهم، فانفضوا وبعث الأمير جانبك إلى الأمير برسباي أن ينزل من القلعة هو والأمير طرباي والأمير قصروه، وأن يسكنوا في دورهم ويقيم الأمير جقمق عند السلطان. فنزل الأمير طرباي مظهرًا أنه في طاعة الأمير جانبك وهو في الباطن بخلاف ذلك، فإنه أخذ في تدبير أمره وإحكام الأمر للأمير برسباي. واستمال كثير من المماليك، وأصبح في يوم الأربعاء ثامنه الأمير جانبك الصوفي متوعكاً، وقد أشيع أنه قصد بذلك مكيدة فتمادى الحال إلى يوم الخميس تاسعه. وأصبح يوم الجمعة عاشره، وهو يوم النحر، وقد أخرج الأمير برسباي بالسلطان من قصره إلى الجامع بالقلعة، ومعه الأمير قصروه، فصلى بهم قاضي القضاة ولي الدين العراقي صلاة العيد، وخطب على العادة. ثم مضى الأميران بالسلطان إلى باب الستارة، فذبح السلطان هناك طائفة من غنم الأضحية، وذبح الأمير برسباي ما هنالك من البقر وبقية الغنم. وبينما هم في ذلك إذ رمى المماليك بالنشاب من أعلا القلعة على الأمير جانبك، وهو بالحراقة من باب السلسلة، فاضطرب الناس وللحال أغلق باب القلعة، ودقت الكوسات حربيا، فخرج الأمير طرباي من داره في عسكر كبير، وقد لبسوا جميعهم لامة الحرب. وطلع ومعه الأمير قجق إلى الأمير جانبك الصوفي بالحراقة، وأخذ يلومه على تأخره عن الطلوع لصلاة العيد، ومازال يخدعه حتى انخدع له، وركب معه ليشتروا في بيت الأمير بيبغا المظفري على ما يعمل. وكان بيبغا قد تأخر عن الركوب، وأقام في داره. ومضوا وقد ركب مع جانبك الأمير يشبك أمير أخور. فما هو إلا أن صاروا في داخل بيت بيبغا المظفري إذا بباب الدار قد أغلق، وأحيط بجانبك الصوفي، ويشبك أمير أخور وقيدا، وأخذا أسيرين إلى القلعة، ونودي بالنفقة في المماليك مائة دينار لكل واحد، فكأنها جمرة طفيت. وللحال سكنت الفتنة، كأن لم تكن، فلم تنتطح فيها عنزان. ونودي في القاهرة بالأمان، فقد قبض على أعداء السلطان، ففتحت أبواب القاهرة، بعد ما أغلقت. واطمأن الناس بعد ما كان في ظنهم أن الفتنة تطول. وكل ذلك في ضحى النهار، فسبحان من بيده الأمر كله.
وفي يوم السبت حادي عشره: استدعى الأمير أرغون شاه أستادار الأمير نوروز الحافظي. وكان قد قدم من دمشق في خدمة الظاهر ططر، فصعد القلعة، وخلع عليه الأمير برسباي، واستقر استادارا، عوضاً عن الأمير صلاح الدين محمد بن نصر الله.
وفيه حمل الأمير جانبك الصوفي والأمير يشبك مقيدين من القلعة إلى الإسكندرية، فسجنا بها.
وفي يوم الأحد ثاني عشره: أعيد الصاحب تاج الدين بن الهيصم إلى نظر الديوان المفرد. وكان قد عزل عنه بدمشق في شهر رمضان. وعاد إلى القاهرة بطالاً.
وفي يوم الاثنين ثالث عشره: خلع على الأمير آق قجا، واستقر في كشف الوجه القبلي، وكان قد وليه في الأيام الظاهرية ططر. وساءت سيرته حتى أشيع أنه افتض مائة بكر غصباً، إلى غير ذلك.(3/259)
وفي يوم الخميس سادس عشره: اجتمع الأمراء بالخدمة في القصر. وقد أخرج السلطان من عند أمه وأجلس ثم خلع على الأمير برسباي الدقماقي الدوادار، واستقر نظام الملك، كما كان الظاهر ططر قبل أن يتسلطن. وكان الأمير برسباي منذ اشتد مرض الظاهر مقيماً بالقلعة، لم ينزل منها طول هذه المدة.
وفيه فوض الخليفة إلى الأمير الكبير نظام الملك برسباي أمور المملكة بأسرها، ليقوم بها إلى أن يبلغ السلطان رشده. وحكم بصحة ذلك قاضي القضاة الحنفي.
وفيه خلع على الأمير سودن من عبد الرحمن، واستقر دوادارا كبيراً، عوضاً عن الأمير الكبير نظام الملك برسباي. وخلع على الأمير طرباي حاجب الحجاب. واستقر أميراً كبيراً عن جانبك الصوفي. وتقرر الحال على أن يكون تدبير الدولة وسائر أمور المملكة بيد الأمير برسباي والأمير طرباي شركة. وأن يسكن طرباي بداره تحت القلعة تجاه باب السلسلة، ويحضر الخدمة عند الأمير برسباي بالأشرفية. وخلع على الأمير جقمق نائب القلعة، واستقر حاجب الحجاب، عوضاً عن الأمير طرباي. وخلع على الأمير قصروه رأس نوبة، واستقر أمير أخور، عوضاً عن يشبك. وخلع على الأمير أزبك، واستمر رأس نوبة كبيراً، عوضاً عن قصروه. وخرج جميع الأمراء وسائر أهل الدولة من الخدمة السلطانية بالقصر مشاة في خدمة الأمير نظام الملك برسباي، حتى دخل الأشرفية التي هي سكنه، وعملت بها الخدمة بين يديه. وصرف أمور الدولة على حسب أخياره، ومقتضى رأيه، واستمر الأمر على هذا.
وفي السبت ثامن عشره: ورد الخبر بأن الأمير تغري بردي من قصروه نائب حلب استدعى جمائع التركمان إلى حلب، وقبض على الأمراء الحلبيين، وخرج عن الطاعة. وسبب ذلك أن الظاهر ططر كان قد كتب بولاية الأمير تنبك البجاسي نائب طرابلس في نيابة حلب، وعزل تغري بردي. فلما بلغه ذلك كان منه ما ذكر.
وفي ثالث عشرينه: خلع على صدر الدين أحمد بن محمود العجمي، وأعيد إلى حسبة القاهرة، عوضاً عن جمال الدين يوسف البساطي.
وفيه نودي بمنع النساء من الخروج إلى الترب، وتشدد الأمير جقمق الحاجب في ذلك. وكان قد كثر في هذا الشهر مرض الناس. ومات عدة منهم، فصارت النساء يترددن إلى الترب في أيام الجمع، ويقمن بها المآتم والعزاء.
وقدم الخبر بعظم الفناء ببلاد الفرنج - سيما رودس - وبشدة الغلاء ببلد العلايا، ونحوها من بر التركية.
وفي يوم الثلاثاء ثامن عشرينه: ابتدأ الأمير نظام الملك برسباي في نفقة المماليك، وهو والأمراء على تخوف منهم أن يمتنعوا من أخذها. وذلك أنهم وعدوا في نوبة جانبك الصوفي. بمائة دينار لكل واحد، فلم يصرف لكل واحد منهم سوى خمسين ديناراً من أجل قلة المال، فإن الظاهر ططر أتلف المال الذي كان خلفه المؤيد شيخ حتى لم يبق منه غير ستين ألف دينار. ومع ذلك فإنه زاد في نفقة المماليك المقررة بالديوان المفرد كل شهر ما ينيف على عشرة آلاف دينار. فأحسن الأمير صلاح الدين محمد الأستادار بالعجز واستعفى؛ على أنه قام هو وأبوه الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله ناظر الخاص بعشرة آلاف دينار عن ثمن الأضحية، وبعشرين ألف دينار في نفقة المماليك. وتسلم منهما الأمير أرغون شاه عشرين ألف أردب شعيراً. وعندما استقر أرغون شاه أستادارا، وهب الناس واشتد عليهم، وخشن جانبه، حتى غلقت أسواق القاهرة ومصر عدة أيام خوفاً من بطشه. وكتب يطلب متدركي النواحي ليصادرهم. وقرر على مباشري الدولة بأسرهم أموالاً يحملونها إليه، فقرر على الوزير الصاحب تاج الدين بن كلاب المناخ ستة آلاف دينار، وعلى الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله ناظر الخاص عشرة آلاف دينار، وعلى من دونهما بحسب ما سولت له نفسه، حتى اجتمع من ذلك نفقة المماليك، فأنفق في ثلاثة آلاف ومائتي مملوك مبلغ مائة وستين ألف دينار، فأخذوا النفقة، وانفضوا بغير شر، ولله الحمد.
وفي يوم الخميس تاسع عشرينه: قدم مبشرو الحاج وأخبروا بسلامتهم، وأنهم وقفوا بعرفة يوم الجمعة، وأنه لم يرد حاج من العراق ولا من اليمن.
وفي هذه السنة: كانت حروب مثيرة بين طوائف الفرنج، اقتتل فيها طائفة الكتيلان مع الفنش، فهزموه، وقتل بينهم عشرة آلاف فأقل ما قيل أن عدة قتلاهم ثمانون ألفاً.(3/260)
وفيها كانت حرب بمدينة فاس من بلاد المغرب بين أبي زيان محمد بن أبي طريق بن أبي عنان - وقد قام بأمره الشيخ يعقوب الحلفاوي الثائر على الوزير الحاجب عبد العزيز اللباني لقتله السلطان أبي سعيد عثمان بن أبي العباس أحمد وثلاثة عشر أميراً من إخوته وأولاده وبني أخوته - وبين اللباني، وكان قد استنصر بالشاوية، وبعث إليهم بمال كبير، فأتوه، فلم يطق الحلفاوي مقاومتهم، فأدخله مدينة فاس بجموعه، وألويته منشورة على رأسه، وأنزله دار الحرة آمنة بنت السلطان أبي العباس أحمد، فرحل الشاوية عن المدينة. وقبض على اللباني. وأسلم إلى الحلفاوي. فدخل السلطان أبو زيان فاس الجديد في ربيع الآخر، وبعث بالسلطان أبي عبد الله محمد بن أبي سعيد إلى الأندلس. فما كان سوى شهر حتى ثار بنو مرين على أبي زيان، وحصروه، وطلبوا الوزير أبا البقاء صالح بن صالح أن يحمل أبا عبد الله محمد المتوكل ابن السلطان أبي سعيد، فقدم الوزير به، واستمرت الحرب أربعة أشهر إلى أن فر أبو زيان ووزيره فارح. وأخذ بنو مرين البلد الجديد، وطلبوا من ابن الأحمر أن يبعث بالسلطان الكبير أبي عبد الله محمد المستنصر بن أبي سالم إبراهيم بن أبي الحسن، فبعثه إليهم، فملكوه وأطاعوه. وفيها - كما تقدم - كان تغير دول مصر، فبلغت عدة من قتل وسجن من أمراء مصر والشام زيادة على أربعين أميراً.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
السلطان الملك المؤيد شيخ الحموي - أحد مماليك الملك الظاهر برقوق في يوم الاثنين ثامن المحرم، وقد أناف على الخميس سنة.
ومات عبد الرحمن بن السمسار، في ثالث صفر، وله شهرة في طائفته، ومال جم. ومات الأمير مرج بن سكربيه، أحد الأمراء العشرات، في رابع صفر. وكان من خواص المؤيد، الجمال صورته.
ومات بهاء الدين محمد بن بدر الدين حسن بن عبد الله، المعروف بابن البرجي، عن ثلاث وسبعين سنة، في يوم الخميس عاشر صفر. وقد ولي حسبة القاهرة غير مرة. وولى وكالة بيت المال ونظر كسوة الكعبة وباشر نظر عمارة الجامع المؤيدي. وكان أبوه يلي قضاء المحلة.
وقتل الأمير سيف الدين يشبك اليوسفي نائب حلب، أحد المماليك المؤيدية، في يوم الثلاثاء ثالث عشرين المحرم. وكان من شرار الخلق.
ومات علم الدين سليمان بن جنيبة رئيس الأطباء، وقد أناف على ثمانين سنة، في سادس عشر صفر. كان أبوه يهودياً، ونشأ سليمان هذا مسلماً، يتكسب بصناعة الطب، ويعاشر الأعيان، فصار من مشهوري الأطباء عدة سنين، وعرف بحسن العلاج. ثم ولي رياسة الأطباء في سنة ثلاث عشرة. وكان فاضلاً في علم الطب، هشاً، جميل المعاشرة، يكتب الخط الجيد. تردد إلى سنين، وما علمت عليه إلا خيراً.
ومات تاج الدين عبد الوهاب بن الجباس، الذي ولي حسبة القاهرة في سنة سبع وثمانمائة. وكان عامياً في هيئة فقيه. توفي يوم السبت سادس عشر ربيع الآخر.
وقتل الأمير ألطنبغا القرمشي في خامس عشرين جمادى الأولى بقلعة دمشق. وهو أحد المماليك الظاهرية برقوق الذين فروا إلى الشام، وصار من جملة الأمير شيخ. وما برح يرقيه على ما تقدم ذكره.
ومات الأمير الوزير المشير الأستادار بدر الدين محمد بن محب الدين عبد الله الطرابلسي. كان أبوه من مسالمة نصارى طرابلس. وبها نشأ البدر هذا وولي بها كتابة سرها، وولي شد الدواوين بها. وتعلق بخدمة الأمير شيخ أيام تلك الفتن. وعمل أستادارا عنده. فلما قدم مصر باشر به أستادار، ثم عزله وولاه الوزارة. ثم عزله كما تقدم. وكان يكتب الخط المنسوب، ويتظاهر بقبائح المعاصي، وينوع الظلم في أخذ الأموال، فعاقبه الله بيد ناصره المؤيد شيخ أشد عقوبة، ثم قبض عليه الظاهر ططر وعاقبه حتى هلك تحت الضرب. وضرب ميتاً. فأراح الله منه عباده. وذلك في سابع عشر جمادى الآخرة بدمشق.
ومات بحلب الأمير كردي بن كندر. أحد أمراء التركمان، مقتولاً في شهر رجب. ومات متملك بلاد الروم بمدينة برصا، غياث الدين أبو الفتح محمد كرشجي بن بايزيد بن مراد بن أرخان بن عثمان، وملك برصا بعده ابنه خوند كار مراد شلبي محمد كرشجي بن بايزيد خوند كار، وذلك في شهر رجب.
وقتل الأمير ألطنبغا من عبد الواحد المعروف بالصغير، في واقعة مع التركمان بمعاملة حلب، في تاسع شعبان. وهو أحد المماليك الظاهرية برقوق الذين أنشأهم المؤيد شيخ، وجعله أمير مائة مقدم ألف.(3/261)
وقتل الأمير قجقار القردمي بسجن الإسكندرية، في سادس عشرين شعبان. وهو أحد من أنشأه المؤيد شيخ، حتى صار أمير مائة مقدم ألف، أمير سلاح.
وقتل الأمير جقمق نائب الشام بعد عقوبة شديدة، في ليلة الأربعاء سابع عشرين شهر شعبان. وكان ممن أنشأه المؤيد شيخ، وعمله أمير مائة مقدم ألف، وأعطاه نيابة الشام. وكان فاجراً ظالماً غشوماً، لا يكف عن قبيح.
وتوفي قاضي القضاة جلال الدين أبو الفضل عبد الرحمن ابن شيخ الإسلام سراج الدين أبي حفص عمر البلقيني الشافعي، في ليلة الخميس حادي عشره، عن ثلاث وستين سنة. وصلى عليه بالجامع الحاكمي. ودفن على قبر أبيه وأخيه، بمدرستهم من حارة بهاء الدين، فكان جمعاً موفوراً، ومشهداً جليلاً حافلاً مذكوراً. وانتاب الناس قبره مدة. و لم يختلف بعد مثله في كثرة علمه بالفقه وأصوله، وبالحديث والتفسير والعربية، مع العفة والنزاهة عما يرمي به قضاة السوء، وجمال الصورة، وفصاحة العبارة وبالجملة فلقد كان ممن يتجمل به الوقت.
ومات السلطان الملك الظاهر ططر، في يوم الأحد رابع ذي الحجة. وقد تقدم التعريف به.
سنة خمس وعشرين وثمانمائة
أهلت وسلطان مصر والشام الملك الصالح ناصر الدين محمد بن الظاهر ططر. والقائم بأمور الدولة الأمير الكبير نظام الملك برسباي الدقماقي. والأمير الكبير الأتابك طرباي. والدوادار الأمير سودن من عبد الرحمن. وأمير سلاح بيبغا المظفري. وأمير مجلس الأمير قجق. وأمير أخور الأمير قصروه. ورأس نوبة الأمير أزبك. والوزير تاج الدين عبد الرزاق ابن كاتب المناخ. وكاتب السر علم الدين داود بن الكويز. وناظر الخاص بدر الدين حسن بن نصر الله. وأستادار الأمير أرغون شاه. وقاضي القضاة الشافعي ولي الدين أبو زرعة أحمد بن العراقي. وباقيهم كما تقدم في السنة الخالية. وكاشف الوجه القبلي الأمير أقجا ونائب الإسكندرية الأمير فارس. ونائب الشام الأمير تنبك العلاي ميق. ونائب حلب الأمير تغري بردي من قصروه، وقد أظهر الخلاف. ونائب طرابلس الأمير تنبك البجاسي ونائب حماه الأمير شارقطلوا. ونائب صفد الأمير أينال. وبلاد الصعيد قد عاث بها العربان، وكثر فسادهم.
شهر الله المحرم، أوله الجمعة.
في ثالث عشره: قدم الخبر بفرار الأمير تغري بردي نائب حلب منها، بعد وقعة كانت بينه وبين الأمير تنبك البجاسي نائب طرابلس. وقد كتب له باستقراره في نيابة حلب ومحاربة المذكور، فسار إليه وحاربه، فانهزم منه وتسلم تنبك حلب، فدقت البشائر بقلعة الجبل أياماً.
وفي تاسع عشره: خلع على بلبان الجمالي، واستقر كاشف الوجه القبلي، بعد موت أقجا.
وفي ثالث عشرينه: قد الركب الأول من الحجاج، وقدم المحمل ببفية الحاج في عده صحبة الأمير تمر بيه اليوسفي، أحد الأمراء الألوف. وقد كثر ثناء الحجاج عليه لحسن سيرته فيهم، فقبض عليه في ثامن عشرينه.
وفي هذا الشهر: دخل شخص يعرف بالشيخ سعد، لم يزل يعرف بالفقر، ويقبل من الناس صدقتهم، ويقرئ الأطفال بالأجرة، إلى الجامع الأزهر، وتصدق بمائتين وسبعين ديناراً إفرنتية، وبستة وعشرين ديناراً هرجة، وبأربعة آلاف وخمسمائة درهم وفيه قبض على الأمير قرمش أحد الأمراء الألوف، وأخرج هو وتمربيه إلى دمياط. وأنعم على يشبك الساقي الأعرج بإقطاع قرمش وإمرته.
وفيه وقع برد بناحية قصر عفرا من بلاد حوران بالشام، فكان فيه شبه خنافس وعقارب وضفادع.
شهر صفر، أوله الأحد: في ثانيه. قبص على الأمير أيتمش الخضري، ونفي بطالا إلى القدس.
وفي يوم الأربعاء ثامن عشره: جمعت الصيارف بالاصطبل للنظر في الدراهم المؤيدية، فإنه كثر هرش الجيد منها. ومعنى الهرش أن يبرد من الدرهم حتى يجف وزنه، ويصير نحو ربع درهم. فاستقرت المعاملة بها وزناً لا عدداً. ورسم أن يكون كل درهم وزناً بعشرين درهماً فلوساً. وأن يكون الدينار الإفرنتي بمائتين وعشرين فلوسا، وبأحد عشر درهما فضة، وازنة عنها من المؤيدية اثنان وعشرون عدداً، زنة كل مؤيدي نصف درهم، فنزل بالناس من ذلك شدة لخسارتهم. وذلك أن المؤيدي الذي كان بسبعة دراهم فلوساً صار بخمسة دراهم، وفيها ما لا يبلغ الخمسة. وكثر مع ذلك الاختلاف في أسعار المبيعات، وقيم الأعمال، أجر المستأجرات، فذهب معظم مال الناس.
وفي هدا الشهر: عز وجود لحم الضان في الأسواق، لقلة الأغنام.(3/262)
وفيه كثر فساد لهانة وهوارة ببلاد الصعيد، وقطعهم الطرقات على المسافرين، وشنهم الغارات على البلاد، وإحراقهم عدة نواحي بما فيها. هذا مع ما ببلاد الصعيد من قلة وجود القمح عندهم، بحيث صار يحمل إليهم من القاهرة، وذلك لخراب بلاد الصعيد ودثور أكثر بلادها، بحيث العشرة أيام ببلاد الصعيد لا يوجد فيها أحد، ولا تزع أراضيها، فقلت الأغنام عندهم. وصار أهلها إلى فقر وبؤس، حتى أن غالب قوت أهلها إنما هو الذرة. ومع ذلك كله، فجور الولاة فيهم لا يمكن وصفه. ولعل هذا إن تمادى أن تهلك بلاد الصعيد كلها.
وفيه تنكر الحال بين الأمير طرباي والأمير نظام الملك برسباي. وخرج طرباي إلى بر الجيزة في هيئة متنزه، والإرجاف يقوى حتى انسلخ الشهر.
شهر ربيع الأول، أوله الاثنين: في ثانيه: قدم الأمير طرباي من بر الجيزة.
وفي ثالثه: قبض الأمير برسباي على الأمير سودن الحموي، أحد أمراء الألوف، وعلى الأمير قانصوه أحد أمراء الطبلخاناة، وكانا من أصحاب الأمير طرباي، فكثرت القالة، وبات طرباي ليلة الخميس وجماعته يحذرونه الطلوع إلى القلعة، وهو لا يصغي لقولهم، وفي ظنه أن الأمير برسباي لا يفاجئه بسوء، لأنه في ابتداء الأمر كان طرباي متميزاً عليه منذ مات الظاهر برقوق، وفي أخر الأمر كان هو استمال المماليك للأمير برسباي، وفخذهم عن جانبك الصوفي، ثم خدع جانبك حتى نزل من الاصطبل ثم قبض عليه، فكان يرى أنه هو الذي أقام الأمير برسباي فيما هو فيه، وأصبح يوم الخميس مركب طرباي إلى الخدمة بالقلعة، مما هو إلا أن استقر جلوسه، أشار الأمير برسباي بالقبض عليه، فجذب سيفه ليدفع عن نفسه، وقام، فبدره الجماعة وعاقوه عن النهوض وغافصه الأمير برسباي بالسيف، وضربه ضربة جاءت في يده كادت أن تبينها. وأخذ إلى السجن، وقد تضمخ بدمه فوقعت هجة بالقصر، ثم سكنت من ساعتها. و لم يتحرك أحد لنصرة طرباي. ونودي بالأمان والبيع والشراء، وأن لا يتحدث أحد فيما لا يعنيه. وأخرج من الغد بطرباي مقيداً إلى الإسكندرية ليسجن بها. فكان في هذا عبرة لأولي الأبصار، وهو أن طرباي مكر بجانبك الصوفي، وخدعه حتى أنزله من الحراقة بباب السلسله، وقبض عليه بحيلة دبرها، وحمله مقيدا إلى الإسكندرية، حتى سجن بها وظن أنه قدم صفا له الوقت، فأتاه الله من حيث لم يحتسب، وخدعه الأمير برسباي حتى صعد إليه، بعد ما امتنع ببر الجيزه أياماً، والإرجاف قوي بوقوع الحرب، إلى أن مشى لحتفه بقدميه، حتى قبض عليه، وسجن بالإسكندرية لتجزي كل نفس ما كسبت.
وفيه أخرج الأمير سودن الحموي منفياً إلى دمياط، وتوجه الأمير ناصر الدين محمد ابن منجك إلى دمشق ليحضر بالأمير تنبك ميق من الشام وقد تحدث بأمر سيظهر بمجيء نائب الشام. ورسم بإحضار أيتمش الخضري من القدس.
وفي خامس عشره: قبض على الطواشي مرجان الهندي زمام الدار، وسلم للأمير أرغون شاه، أستادار، ليستخلص منه مالاً.
وفي ثاني عشرينه: خلع على الطواشي كافور الشلبي، واستقر زمام الدار على عادته.
وفي ثالث عشرينه: قدم الأمير أيتمش الخضري من القدس، فلزم داره.
شهر ربيع الآخر، أوله الأربعاء: في ثانيه: أفرج عن الطواشي مرجان الهندي بعد ما أخذ منه عشرون ألف دينار، وضمنه جماعة في عشرة آلاف دينار أخرى.
وفي سادسه: قدم الأمير تنبك العلاي ميق نائب الشام، بعد ما تلقاه عامة أهل الدولة، فخلع عليه واستقر على عادته في نيابة الشام. وتحدث معه في سلطنة الأمير برسباي، فوافق على ذلك.
وخلع الملك الصالح في يوم الأربعاء ثامنه، فكانت مدته أربعة أشهر وثلاثة أيام.
السلطان أبو النصر برسباي
السلطان الملك الأشرف سيف الدين أبو النصر برسباي الدقمقاي الظاهري الجركسي.(3/263)
تقدم التعريف به. ومازال قائماً بتدبير أمر الدولة. ثم أحب أن يطلق عليه اسم السلطان، لما خلا له الجو، فأخذ طرباي وسجنه، تم بموافقة نائب الشام على ذلك، فاستدعى الخليفة والقضاة، وقد جمع الأمراء وأرباب الدولة، فبايعه الخليفة في يوم الأربعاء ثامن شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين وثمانمائة. ولقب بالملك الأشرف أبي العز، ونودي بذلك في القاهرة ومصر. وكان في هذا موعظة وذكرى لأولي الألباب، فإن الملك المؤيد أنشأ ططر وآواه، بعد ما كان من أقل المماليك الناصرية الهاربين من الملك الناصر فرج. وما زال يرقية حتى صار من أكبر أمراء مصر، وائتمنه على ملكه. فقام بعد موت المؤيد بكفالة ولده أحمد المظفر. وما زال يحكم الأمر لنفسه إلى أن خلع ابن المؤيد، وتسلطن، وأودع ابن المؤيد وأمه ببعض دور القلعة في صورة معتقل. فلما أشفي ططر على الموت، عهد إلى ابنه محمد، واستأمن برسباي - لقرابة بينهما - على ولده، بعد ما كان برسباي مقيماً بدمشق من جملة أمرائها وجل مناه أن يبقى المؤيد عليه مهجته، فآواه ططر، وجعله من أكبر أمراء مصر، فقام بأمر ابنه الملك الصالح قليلاً، واقتدى بأخيه ططر في أخذ الملك لنفسه. فلما أخذ طرباي، كما قبض ططر على الأمراء بدمشق، و لم يبق من يخشاه إلا نائب الشام، بعث يخيره بين أن يكون الأمير الكبير بديار مصر مكان طرباي وبين أن يستمر على نيابة الشام، فرغب في السلامة، وأتى إلى بين يديه، فأمن برسباي عند ذلك، وتسلطن، وأودع الصالح محمد بن ططر وأمه في دار بالقلعة. من يعمل سوءاً يجز به.
وفي يوم الخميس تاسعه خلع على الأمير بيبعا المظفري أمير سلاح، واستقر الأمير الكبير الأتابك، عوضاً عن طرباي. وخلع على الأمير قجق أمير مجلس واستقر أمير سلاح عوضاً عن بيبغا المظفري. وخلع على الأمير أقبغا التمرازي من مقدمي الألوف، واستقر أمير مجلس، عوضاً عن قجق. وخلع على حسن الكردي، واستقر نائب الوجه البحري على عادته. وأفرج عن جماعه كانوا مسجونين بالقلعة من أمراء العشرات قبض عليهم فيما تقدم. وكان أول ما بدأ به السلطان أن منع الناس كافة من تقبيل الأرض له، فامتنعوا. وجرت العادة عند ملوك مصر، منذ قدم أمير المؤمنين الإمام المعز لدين الله أبو تميم معد الفاطمي إلى مصر، أن كل من تمثل بين يدي الخليفة ثم بين يدي السلطان أن يخر وهو قائم حتى يقبل الأرض. فلم يعف من ذلك أمير، ولو بلغ الغاية، ولا مملوك، ولا وزير ولا صاحب قلم، ولا رسول ملك من ملوك الأقطار، إذا قدم برسالة، ولا أحد من سائر الناس على اختلافهم، إلا قضاة الشرع، وجميع أهل العلم وأهل الصلاح وأشراف الحجاز من بني حسن وبني حسين، فإن هؤلاء أدركناهم ولا يقبل أحد منهم الأرض، إجلالاً لهم عن ذلك. وكذلك إذا ورد مرسوم السلطان على نائب مملكة أو والي عمل، فإنه يقوم عند وروده عليه، ويقبل الأرض. فأبطل السلطان برسباي ذلك كله، وجعل بدله إما تقبيل يده لمن عظم قدره، أو يقف فقط. فكان هذا حسناً لو دام، لكنه بطل عن قليل، وعاد الأمر كما تقدم ذكره.
وفي يوم الثلاثاء رابع عشره: خلع على الأمير تنبك ميق نائب الشام قباء السفر، وتوجه إلى دمشق، فخرج عظماء الدولة لوداعه، بعد ما قدموا له عدة تقادم، ما بين خيول وقماش وغير ذلك.
وفي يوم السبت خامس عشرينه: توجه الأمير سودن الحاجب، ومعه مال برسم حفر خليج سكندريه مما أجدي شيئاً.
وفي هذا الشهر: أجدبت أراضي بلاد حوران والكرك والقدس والرملة وغزة، لعدم نزول المطر في أوانه، ونزح كثير من سكان هذه البلاد عن أوطانهم، وقلت المياه عندهم. ومع هذا ففي بلاد حلب وحماة ودمشق وبلاد الساحل كلها رخاء من كثرة الأمطار التي عندهم، فسبحان الفعال لما يريد.
وفيه عظم الخطب، واشتد البلاء ببلاد الصعيد، من كثرة الفتن، ونهب البلاد.
وفيه قتل، وادي قوص، تعذر أخذ الخراج.(3/264)
وفيه عمل المارستان المؤيدي الذي بالصوة تحت القلعة جامعاً، تقام به الجمعة والجماعة، ورتب له إمام وخطيب ومؤذنون وبواب وقومة. وجعل جهة مصرف ذلك من وقف الجامع المؤيدي. وأن المؤيد قد جعل هذا الموضع مارستان، ونزل به المرضى. فلما مات لم يوجد في كتاب الوقف المؤيدي له جهة تصرف، فأخرجت المرضى منه، وأغلق، وصار منزلا للرسل الواردين من ملوك الشرق، فبقي حانة خمار برسم شرب المسكرات، وشرب الطنابير، وعمل الفواحش. ومع ذلك تربط به الخيول. فكان هذا منذ مات المؤيد إلى هذا الوقت، فطهره الله من تلك الأرجاس، وجعله محل عبادة.
وفيه وقع الشروع في هدم المنظرة التي استجدها المؤيد فوق الخمس الوجوه. ثم انتفض ذلك، فبقي بناؤها مشعثاً، وسكنها بعض فقراء العجم.
شهر جمادى الأول، أوله الأربعاء: في سابعه: سارات تجريدة إلى بلاد الصعيد.
وفي ثامنه: نودي أن لا يخدم أحد من اليهود والنصارى في ديوان من دواوين السلطان والأمراء، فلم يتم ذلك.
وفي يوم الجمعة تاسعه: جددت خطبة بمدرسة شمس الدين شاكر بن البقري بالجوانية، جددها علم الدين داود بن الكويز كاتب السر، لقربها من داره التي يسكنها.
وفيه قدم الخبر بكثرة الوباء ببلاد حلب وحماة وحمص، فهلكت خلائق.
وفيه أقيمت الجمعة بالمارستان المؤيدي، يوم الجمعة سلخه.
وفيه رسم أن لا تباع الثياب التي تجلب من بغداد أو الموصل وبلاد الشام والإسكندرية إلا بالنقد. وكانت العادة إذا ورد التاجر بشيء من القماش، تسلمته السماسرة وباعته على التجار إلى أجل، ثم جبت الثمن في مدة أشهر، فمن أجل بيعها نسيئة يزداد ثمنها عما تباع في النداء الحراج زيادة كبيرة، فإذا باعها التاجر أخذ ربحاً آخر، فتغبن الناس دائماً فيما يشتروه من التجار، سيماإذا باعوا ذلك في النداء فإنه ربما ثلث الثمن. فامتنع التجار مدة من الشراء نسيمة، ثم عادوا لما نهوا عنه.
وقدم الخبر إلى العراق وشدة الغلاء. وسبب ذلك أن شاه محمد بن قرا يوسف متملك بغداد خاف من قدوم شاه رخ بن تيمورلنك، فمنع الناس من الزرع، وطرد ضعفاء الناس، فنزحوا عن العراق، وقدم منهم كثير إلى بلاد الشام. وجمع أهل القوة عنده ببغداد، فكان القحط والغلاء عقوبة من الله لهم مما هم عليه من القبيح.
شهر جمادى الآخرة، أوله السبت: في تاسعه: توجه السيد الشريف شهاب الدين أحمد بن علاء الدين علي بن البرهان إبراهيم بن عدنان الحسيني كاتب السر بدمشق ونقيب الأشراف إلى بلده. وكان قد طلب من دمشق، مقدم القاهرة في ثالث عشر جمادى الأولى، وسجن في بعض المدارس، وألزم بحمل عشرين ألف دينار. وكتب باستقرار بعض مسالمة السمرة - ويقال له حسين عوضه - في كتابة السر بدمشق. وكان حسين هذا قد قدم إلى القاهرة في الأيام الناصرية فرج، وخدم من حملة كتاب الأمير بكتمر شلق، ثم عاد إلى دمشق. واتفق أنه تزوج مملوك يقال له أزبك بابنة امرأة حسين. وكان أزبك هذا ممن أنشأه ططر، وصار أمير مائة مقدم ألف، فتحدث لحسين هذا في استقراره ناظر الجيش بدمشق، فأجيب إلى ذلك. واستقر حسين في نظر الجيش، عوضاً عن قاضي القضاة الحنفية شهاب الدين أحمد من الكشك. ثم أضيف إليه كتابة السر، مع نظر الجيش ولم يتفق مثل ذلك في هذه الدول. وما زال السيد محبوساً حتى تقرر عليه عشرة آلاف دينار، فخلع عليه في رابع جمادى الآخرة، هذا وتوجه إلى بلده لحمل ما ألزم به. وسبب ذلك تنكر السلطان عليه لأمور بدت منه في حقه، وهو أمير بدمشق والسيد كاتب السر.
وفي يوم الاثنين حادي عشره: قدم قاضي القضاة شمس الدين محمد الهروي من القدس.
وفي رابع عشره: نودي بسفر الناس في رجب إلى مكة، فكثرت المسرات بذلك، لبعد العهد بسفر الرجبية. ثم انتقض ذلك.
ونودي في سابع عشرينه لا يسافر أحد الرجبية.
وفي هذا الشهر: قدم الخبر بغلاء مدينة توريز، وأن المطر تأخر نزوله ببلاد إفريقية.
وفيه عزم تغري بردي الجكمي - الذي قتل ابن كبك - على الفتك بالأمير تنبك ميق نائب الشام، ففطن به وقتله.
وفيه جلس السلطان للحكم بين الناس، كما كان المؤيد ومن قبله، وصار يحكم يومي الثلاثاء والسبت بالمقعد من الاصطبل السلطاني.
شهر رجب، أوله الأحد:(3/265)
فيه نودي على النيل ثلاثة أصابع. وقد جاء القاع خمسة أذرع وسبعة أصابع. واستمر يزيد في كل يوم عدة أصابع، بحيث نودي عليه في يوم خمسة عشر إصبعاً. وقل ما عهد مثل هذا شهر أبيب.
وفي خامس عشره: توجه الهروي عائداً إلى القدس، بعد ما أهدى للسلطان هدية بنحو خمسمائة دينار، سوى ما أهداه للأمراء. وكان أن يلي القضاء على أنه يقوم في كل سنة بثمانين ألف دينار. ويثبت في جهة جلال الدين بن البلقيني زيادة على ثمانين ألف دينار. ويحمل معجلاً خمسة آلاف دينار، فألزم أن يكتب خطة بذلك كله، فأنكر أن يكون قال شيئاً من ذلك، فانحل أمره، ورده الله خائباً، ولله الحمد.
وفيه زينت القاهرة ومصر لإدارة محمل الحاج على العادة، فمنع صدر الدين أحمد بن العجمي المحتسب النساء من الجلوس على حوانيت الباعة، وتشدد في ذلك، فامتنعن. وكانت العادة أن تجلس النساء صدراً من النهار، ويبتن بالحوانيت حتى ينظرن المحمل من الغد فيختلطن بالرجال في مده يومين وليلة، وتقع أمور غير مرضية، فعد منعهن من جميل ما صنع، لكنه لم يتم، وعدن فيما بعد كما كن لإهمال أمرهن.
وفي يوم الاثنين سادس عشره: أدير محمل الحاج بالقاهرة ومصر على ما جرت به العادة. وقد كثر الاعتناء بأمره، وعملت كسوة الكعبة في غاية الحسن، بحيث لم يعمل مثلها فيما أدركناه. وولي عملها شرف الدين أبو الطيب محمد بن تاج الدين عبد الوهاب بن نصر الله ناظر الكسوة، لحسن مباشرته وعفته.
وفي هذا الشهر: نزل الأمير تنبك البجاسي نائب حلب بعساكرها على مدينة بهسني. وحضر الأمير تغري بردي بن قصروه.
وفيه خرج الأمير أينال الظاهري نائب صفد عن الطاعة، وذلك أنه كان من جملة مماليك الظاهر ططر، رباه صغيراً، ثم ولاه نيابة قلعة صفد، لما خرج بالمظفر إلى دمشق لحفظ ذخيرة حملها إلى القلعة صفد. فلما قام السلطان برسباي بالأمر بعد ططر، ولي أينال نيابة صفد، فشق عليه خلع ابن أستاذه من السلطة، وأخذ في تدبير أمره، حتى أظهر ذلك، وأخرج من كان مسجوناً بقلعة صفد، وهم الأمير يشبك أينالي استادار، والأمير أينال الجكمي نائب حلب، والأمير جلبان أمير أخور. وقبض على من خالفه من أمراء صفد وأعيانها. فكتب السلطان إلى الأمير مقبل الحسامي المؤيدي حاجب دمشق باستقراره في نيابة صفد، وأن يستمر إقطاع الحجوبية بيده، حتى يتسلم صفد، وكتب إلى الأمير تنبك ميق نائب الشام أن يخرج بالعسكر إلى قتال أينال بصفد.
وفيه كانت وقعة بين الأمير يونس نائب غزة وبين عرب جرم، هزموه فيها، وقتلوا عدة من عسكره.
وفيه كثرت الحروب والفتن والغارات والنهب والتخريب ببلاد الصعيد من عربانها.
وفي خامس عشرينه: قدم كتاب نائب الشام بمجيء أينال الجكمي ويشبك أينالي وجلبان من صفد إلى دمشق طائعين، فدقت البشائر بقلعة الجبل.
وفي سابع عشرينه: قدم الأمير فارس نائب الإسكندرية باستدعاء، فخلع عليه، وأنعم عليه بإمرة مائة وتقدمة ألفاً. وخلع على الأمير أسندمر النوري أحد مقدمي الألوف، واستقر في نيابة الإسكندرية.
وفي سلخه: نودي من كانت له ظلامة فعليه بالاصطبل. وكان السلطان قد شرك جلوسه للحكم منذ قدم خبر صفد، معاد للجلوس للنظر في محاكمات المتخاصمين، على عادته.
شهر شعبان، أوله الاثنين.
فيه تكرر النداء بجلوس السلطان للحكم.
وفي ثانيه: جلس للحكم، واستدعى مدرسي المدرسة القمحية بمصر، وأوقفهم بين يديه، وألزمهم بعمل حساب أوقافها وعمارتها، مما تناولوه من ريعها فيما سلف، وأخرج وقفها - وهو ضيعتان بالفيوم يقال لهما الأعلام والحنبوشية - لمملوكين من مماليكه، ليأكلوها إقطاعاً بينهما. وندب الأمير أزبك رأس نوبة للكشف عن المدرسة، فوجد الخراب قد أحاط بها من جوانبها، وصار ما هنالك كيمان تراب، وهي قائمة بمفردها ليس بجانبها عامر ولا بها ساكن، سوى رجل يحرسها، فطلب السلطان مدرسيها الخمسة، وأوقفهم بين يديه بالاصطبل، وألزمهم بعمل حسابها، والقيام بما استأدوه من العلوم، فخرجوا في الترسيم.
وفيه نظر السلطان في أمر جامع عمرو بن العاص، وأخذ الناس في تتبع عورات القضاة والفقهاء لميل ولاة الشوكة إلى معرفة ذلك، فإن الأحدوثة عنهم قبحت، والقالة فيهم شنعت:
وكنا نستطب إذا مرضنا ... فجاء الداء من قبل الطبيب(3/266)
وفي يوم الخميس رابعه - الموافق له تاسع عشرين أبيب - : كان وفاء النيل ستة عشر ذراعاً. وهذا من النوادر، مع أن زيادته في هذا العام كانت مما يتعجب له، وذلك أن العادة التي عهدت أن زيادة النيل في شهر أبيب تكود قليلة، حتى أنه ليقال قديما في أبيب، يدب الماء دبيب. وأما مسرى فأيام الزيادة الكثيرة، ويقال لها عرس النيل وهي مظنة الوفاء حتى يقال إذا لم يوف النيل في مسرى فانتظره في السنة الأخرى هذه عادة الله التي أجراها بين خلقه في أمر نيل مصر، وربما وقع الأمر في النيل بخلاف ذلك، فيعد نادراً. واتفق في هذه السنة أنه منذ ابتدأت الزيادة لم تزل زيادته كبيرة بحيث نودي عليه في يوم بزيادة خمسين إصبعاً، فكثر تعجب الناس لذلك، ثم ازدادوا تعجباً لوفائه قبل مسرى، و لله الحمد. وتولى تخليق المقياس وفتح الخليج الأمير الكبير بيبغا المظفري.
وفي يوم الثلاثاء سادس عشره: أخرج بالمظفر أحمد بن المؤيد شيح وأخيه من ظ قلمة الجبل نهاراً، وحملا في النيل إلى الإسكندرية، فكانت هذه موعظة، فإن المؤيد أخرج بأولاد ابن أستاذه الملك الناصر فرج إلى الإسكندرية، فعومل بمثل ذلك، وأخرج ابنيه إلى الإسكندرية، كما يدين الفتى يدان.
وفي ثاني عشرينه: خلع على بدر الدين محمود العينتابي ناظر الأحباس، وأعيد حسبة القاهرة، عوضاً عن صدر الدين أحمد بن العجمي.
وفي هذا الشهر: كثر عبث الفرنج بالسواحل، وهجم في الليل غرابان، فيهما طائفة من الفرنج، على ميناء الإسكندرية فوجدوا فيها مركباً للتجار فيه بضائع بنحو مائة ألف دينار، فاقتتلوا معهم عامة الليل، فخرج الناس من المدينة، فلم يقدروا على الوصول إليهم، لعدم المراكب الحربية عندهم، ولا وصلت سهامهم إلى الفرفج، بل كانت تسقط في البحر، فلما طال الحرب بين الفرنج والتجار المسلمين، واحترقت مركب التجار، نجوا في القوارب إلى البر، فأتت نار الفرنج على سائر ما في المركب من البضائع، حتى تلف بأجمعها، ومضى الفرنج نحو برقة، فأخذوا ما قدروا عليه، ثم عادوا إلى الإسكندرية، ومضوا إلى نحو الشام.
وفيه قدم رسول اسكندر بن قرا يوسف، ومعه رأسان، زعم أنهما رأس متملك السلطانية نيابة عن شاه رخ بن تيمور لنك، ورأس نائبه بشيراز.
شهر رمضان، أوله الأربعاء: في تاسعه: أعيد الآذان بمأذنتي مدرسة السلطان حسن بسوق الخيل.
وفي حادي عشره: كان نوروز القبط بمصر، والنيل قد بلغ تسعة عشر ذراعاً وستة أصابع، فعم به النفع عامة أراضي مصر إلا أن الجسور لم يعتن بها لسوء سيرة متوليها، فقطع ماء النيل منها عدة مقاطع، أفسدت أكثر الزراعات الصيفية كالسمسم والبطيخ ونحوه، فكان بلوغ النيل هذا القدر في النوروز عجب آخر.
وفيه اتضع سعر الغلال، حتى أبيع الأردب القمح بمائة وخمسين درهماً من الفلوس، وعنها يومئذ سبعة دراهم وربع فضة أشرفية، وأبيع الشعير بخمسة وثمانين درهماً الأردب عنها أربعة دراهم وربع فضة، وأبيع الفول بثمانين درهمًا الأردب، عنها أربعة دراهم فضة.
وفيه فتح باب مدرسة السلطان حسن، الذي سده الظاهر برقوق، وهدم درجه.
وفي يوم الاثنين عشرينه: جلس السلطان بدار العدل وعمل به الخدمة، وأحضرت رسل الفرنج الفرنسيس بهدية. وهذا أول جلوس جلسه السلطان بدار العدل.
وفي حادي عشرينه: خلع على الأمير أيتمش الخضري، واستقر أستادار عوضاً عن الأمير أرغون شاه.
وفي ثالث عشرينه: خلع على صدر الدين أحمد بن العجمي، واستقر في نظر الجوالي.
وفي سابع عشرينه: نودي أن السلطان رسم أن لا ينزل أحد من الفقهاء عن وظيفته في وقف من الأوقاف، وهددمن نزل منهم عن وظيفته، فامتنعوا عن النزول، ثم عادوا كما كانوا، ينزل هذا عن وظيفته من الطلب في الدروس، أو التصوف في الخوانك، أو القراءة أو المباشرة بالمال، فيلي الوظائف غير أهلها، ويحرمها مستحقوها، فإن الوظائف المذكورة صارت بأيدي من هي بيده، ينزلها منزلة الأموال المملوكة، فيبيعها إذا شاء ويسمى بيعها نزولا عنها، ويرثها من بعده صغار ولده. وسرى ذلك حتى في التداريس الجليلة، والأنظار المعتبرة، وفي ولاية القضاء بالأعمال يليه الصغير من بعد موت أبيه ويستناب عنه كما يستناب في تدريس الفقه والحديث النبوي، وفي نظر الجوامع ومشيخة التصوف، فيا نفس جدي إن دهرك هازل!!.(3/267)
وفيه خلع على الأمير أرغون شاه أحد أمراء دمشق، واستقر كاشف الوجه القبلي، عوضاً عن بلبان الجمالي.
وفيه أغلقت كنيسة قمامة بالقدس عن أمر السلطان.
وفي سلخه: نودي بمنع النساء من الخروج إلى الترب في أيام العيد، وهددن بالعقوبة إن خرجن، فامتنع كثير منهن عن الخروج إليها.
وفيه ارتفع سعر الشيرج، حتى أبيع الرطل بثمانية عشر درهما من الفلوس و لم يعهد مثل ذلك، وسببه غرق السمسم، فقل وجوده.
شهر شوال، أوله الجمعة: فيه صلى السلطان صلاة العيد بجامع القلعة.
وفي رابعه: رفعت يد قاضي القضاة زين الدين عبد الرحمن التفهني الحنفي عن وقف الطرحاء، ثم أعيد إليه بعد أيام، وكان لما رفعت يده عنه نودي من مات له ميت وعجز عن كفنه فعليه بمصلى المؤمني تحت القلعة.
وفيه رفعت يد قاضي القضاة ولي الدين أبو زرعة أحمد بن العراقي الشافعي عن وقف قراقوش، وفوض السلطان أمره إلى التاج الشويكي والي القاهرة، واستمر كذلك، فلم يعد إلى القضاة، فكان هذا مما يستشنع، وكثرت الشناعات بمقت السلطان للقضاة والفقهاء، وأنه يريد الكشف عما بأيديهم من الأوقاف.
وفيه انتهت زيادة ماء النيل إلى عشرين ذراعاً ونصف ذراع، وابتدأ نقصه من الغد، وهو رابع عشرين توت.
وفي هذه الأيام: ابتدئ بعمل الخربة - التي بخط الركن المخلق من القاهرة - وكالة، وهذه الخربة موضعها الآن داخل الدرب الأصفر، حيث كان يعرف قديماً بالمنحر، وبابها من وسط سوق الركن المخلق، عملته خوند بركة أم السلطان الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون أعوام بضع وسبعين وسبعمائة ليكون داخله قاعة، بجوار القيسارية التي أنشأتها، وعملت برسم بيع الجلود، فماتت قبل عمارتها، وقد فرغت واجهة الباب فقط، فتعطلت دهرا إلى أن أخذ الأمير جمال الدين يوسف - أستادار القيسارية المذكورة - من وقف أم السلطان على مدرستها بخط التبانة قريباً من قلعة الجبل، وصيرها من جملة أوقافه على مدرسته التي أنشأها بخط رحبة باب العيد، وضع يده أيضاً على هذه الخربة، ومات قبل أن يعمل فيها شيئاً، فلم تزل معطلة حتى وقع اختيار السلطان في هذا الوقت على عملها وكالة فابتدئ بعملها.
وفي يوم السبت تاسع هذا الشهر: رسم بإعادة مكس دار التفاح الذي أبطله الملك المؤيد شيخ، فأعيد بسفارة الوزير تاج الدين عبد الرزاق ابن كلاب المناخ وطول سعيه فيه، عامله الله بعدله، فإنه جدد مظلمة يتلف فيها من أموال الناس بنهب الظلمة الفساق ما شاء الله. " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " .
وفي يوم الاثنين رابع عشره: برز محمل الحاج بكسوة الكعبة صحبة الطواشي افتخار الدين ياقوت - مقدم المماليك السلطانية - ونزل خارج القاهرة، ثم توجه إلى بركة الحاج على العادة.
وفي سابع عشرينه: قدم من صفد ثلاثون رجلاً، ممن أسر من أصحاب الأمير أينال، فقطعت أيدي الجميع إلا واحداً، فإنه وسط بالسيف نصفين، وأخرج الذين قطعت أيديهم من يومهم إلى بلاد الشام، فمات عدة منهم بالرمل. وكان من خبر صفد، أن الأمير مقبل لم يزل على حصارها إلى يوم الاثنين رابع شوال هذا، فنزل إليه أينال بمن معه، فتسلم أعوان السلطان القلعة، وعندما نزل أينال أمر أن تفاض عليه خلعة السلطان ليتوجه أميراً بطرابلس، وكان قد وعد بذلك، وترددت الرسل بينه وبينهم مراراً، حتى استقر الأمر على أن يكون من جملة أمراء طرابلس، وكتب له السلطان أماناً ونسخة يمين، فانخدع البائس ونزل من القلعة، فما هو إلا أن قام ليلبس الخلعة، وإذا هم أحاطوا به وقيدوه وعاقبوه أشد عقوبة. ثم قتلوه، وقتلوا معه مائة رجل ممن كان معه بالقلعة، وعلقوهم بأعلاها.
وفي هذا الشهر: تسلم الأمير نلغري بردي بن قصروه قلعة بهسني، ونزل بأمان، فقيد وسجن بقلعة حلب، فأمن السلطان بعد تخوفه من جهة صفد وتغري بردي.
شهر ذي القعدة، أوله الأحد: في ثانيه: ركب السلطان من القلعة إلى مطعم الطير تجاه الريدانية خارج القاهرة، وألبس الأمراء الأقبية الصوف لملابس الشتاء كما كان المؤيد يفعل، ثم عبر القاهرة من باب النصر، ودخل عمارتها بخط الركن المخلق، وخرج من باب زويلة إلى القلعة، ونثر عليه الدنانير والدراهم وهذه أول ركبة ركبها في سلطته(3/268)
وفي خامسه: عزل الأمير أيتمش الخضري، وأعيد الأمير أرغون شاه أستادارا، ولم تشكر سيرة أيتمش لعتوه وشدة ظلمه، مع عجزه عن القيام بما وليه.
وفي سابعه: ركب السلطان إلى جهة بركة الحجاج، وعاد.
شهر ذي الحجة، أوله الاثنين.
في رابعه: اختفي الوزير تاج الدين عبد الرزاق ابن كاتب المناخ، فخلع على الأمير أرغون شاه، وأضيفت إليه الوزارة، فصار وزيراً أستادار، وذلك في يوم الاثنين ثامنه، فظهر ابن كلاب المناخ في عاشره، وصعد إلى القلعة فعفي عنه، ولزم بيته بطالاً على حمل مال قام ببعضه.
وفي يوم السبت سادسه: خلع على علم الدين صالح ابن شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني، وفوض إليه قضاء القضاة، عوضاً عن ولي الدين أبو زرعة أحمد بن العراقي، بمال كثير.
وفي سابع عشرينه: نزل الحاج بينبع، وقد استعد من فيهم من المماليك السلطانية مع الأمير جانبك الخازندار أحد أمراء العشرات لحرب الشريف مقبل متولي ينبع، وقد قدم عقيل بن وبير الحسني من القاهرة صحبتهم، بعد ما خلع عليه بها، في شوال، واستقر أمير ينبع، شريكاً لعمه مقبل، بمال التزم للدولة، فلما علم مقبل بذلك، نزح عن ينبع إلى واد بالقرب منها. ودخل الحاج إلى ينبع في ذي القعدة، فبعث أمراء الحاج الثلاثة، وهم افتخار الدين ياقوت أمير المحمل، وأسندمر الأسعردي من أمراء العشرات أمير الركب الأول، وجانبك أمير الركب الثاني، إلى الشريف مقبل حتى يحضر إليهم، فجرت أمور آخرها، أن يستقر عقيل شريكاً له كما كان أبوه وبير، وأن يكاتب السلطان بذلك. ومهما ورد المرسوم به اعتمده. ورحل الحاج من ينبع إلى مكة، وقد وجهوا نجابا إلى السلطان بكتبهم، وتركوا عقيلاً بينبع، فاقتتل هو وعمه، فظفر به عمه، وقيده، وأقام بينبع حتى عاد الحاج إليها، فاستعد الأمير جانبك - كما قلنا - وركب في جمع من المماليك وغيرهم، ليلة الأحد ثامن عشرين ذي الحجة هذا، وطرق مقبل على حين غفلة، فكانت بينه وبين مقبل وقعة قتل فيها جماعة من الأشراف بني حسن، وجرح كثير من العربان والعبيد، وانهزم مقبل، فمدت المماليك أيديها، وانتهبت ما قدرت عليه، وسلبت النساء الشريفات ما عليهن، وساقوا خمسمائة وخمسين رجلاً، وثلاثين فرساً، وأمتعة كثيرة، ومالا جزيلا، وعادوا من يومهم إلى ينبع، ومعهم عقيل قد خلصوه من الأسر ورحلوا، وقد أقام عقيل بينبع أميراً، فلم يكن إلا ليال حتى عاد مقبل، واحترب مع عقيل، فانهزم مقبل، وقتل بينهما جماعة، كل ذلك بسوء الطبع والطمع في القليل.
وفي سابع عشرينه: قدم مبشرو الحاج وأخبروا بسلامة الحجاج.
وفي هذا الشهر: اتفقت نادرة فيها عبرة لذوي النهي والأبصار، وهو أن رجلاً من فقراء الناس الذين لا يكادون يجدون القوت، له امرأة وبنات منها، يسكنون بخرابات الحسينية، ظاهر القاهرة، فلما كان يوم عيد النحر، ذبح أرباب اليسار ضحاياهم واشتووا لحومها، فهاجت شهوات بنات هذا الرجل لأكل اللحم، وطلبن منه فلم يجد سبيلاً إلى قضاء شهواتهن، وأخذ يعللهن، وهن يتصايحن وينتحبن بالبكاء، وقلبه يتقطع عليهن حسرات طول نهار العيد حتى جنة الليل، ورقدن. فكان يسمع في الليل حركة تتوالى طول ليلته، وهو وأم أولاده لشدة الحزن قد ذهب نومهما، حتى أصبحا فإذا كوم كبير من اللحم في دارهم قد باتت العرس تنقله طول ليلها، لا يدرون من أين أتت به، فسرا بذلك سروراً كبيراً، وأيقظ بناته فاشتووا من ذلك اللحم، فأكلوا حتى شبعوا، وطبخوا منه وقد درا باقيه، فكافهم عدة أيام. " إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " " آل عمران، 37 " .
وفي هذه السنة: كثرت الأمطار بأرض الحجاز وبلاد الشام، وسقط بقرية تسمى حداثا من جبال صفد برد لم يعهدوا مثله، بلغ وزن بردة واحدة سبعة أرطال ونصف بالدمشقي، عنها ثلاثون رطلاً مصرية، ووجدت بردة على باب دار قدر الثور. وكان سقوط هذا البرد ليلة السبت سادس ذي الحجة هذا.(3/269)
وفيها كانت حروب ببلاد الروم بين أهل حصنين بالقرب من مدينة برصا، في أحدهما طائفة من الروم المسلمين، وفي الأخرى طائفة من النصارى، فامتدت الحرب عاماً، حتى كان بعض الليالي، إذا هم بصيحة من حصن النصارى، كادت تنخلع منها قلوب المسلمين، فلما أصبحوا إذا بجميع من في الحصن من النصارى قد هلكوا هم ودوابهم، فتسلموا ما في الحصن بلا مانع. وفيها فشت الأمراض بالقاهرة والوجه البحري، عند انحطاط ماء النيل في فصل الخريف.
وفيها انحل سعر الغلال، ورخت رخاءاً زائداً.
وفيها سار مراد بن محمد كوشجي بن عثمان في شهر رجب من برصا إلى اسطنبول وهي قسطنطينية - ونزل عليها أول شعبان، وقطع عامة أشجارها، ومنع عنها الميرة، حتى فرغ شهر رمضان من غير حرب، سوى مرة واحدة في يوم الجمعة ثالث رمضان، فإنه زحف على المدينة فكان بينه وبين أهلها حرب شديدة، فتخلى عنه عسكره، وبينما هو في ذلك إذ جاءه أخوه مصطفى، وكان في مملكة محمد باك بن قرمان، فتفرق عن مراد عسكره، وكانوا نحو مائة وخمسين ألفاً، حتى بقي في زهاء عشرين ألفاً، والتجأ مصطفى إلى اسطنبول، وواقف مراد نحو شهر، وقد عجز عنه مراد لمخالفة عسكره عليه.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
علاء الدين علي ابن قاضي القضاة تقي الدين عبد الرحمن الزبيري، ليلة الأحد ثالث المحرم، وقد أناف على الستين. وكان يعرف الفرائض والحساب، ويشارك في الفقه، وناب في الحكم بالقاهرة، ودرس في عدة مدارس.
ومات بدر الدين محمود بن شمس الدين محمد الأقصراي الحنفي، ليلة الثلاثاء خامس المحرم، و لم يبلغ ثلاثين سنة، وكان يعرف طرفاً من الفقة، ويشارك في غيره، وتحرك له حظ في دولة المؤيد، وصار يحضر مجلسه فيمن يحضر من الفقهاء، فلما قام ططر بعد المؤيد اختص به، معظم قدره، وتردد الناس لبابه، وتحدثوا برقيه إلى العليا، فلم يمهل وعوجل ومات الأمير أق قجا، كاشف الوجه القبلي، في العشرين من المحرم، فأراح الله منه.
ومات شمس الدين محمد بن أحمد بن معالي الحبتي الدمشقي الحنبلي يوم الخميس ثامن عشرين المحرم وكان من فقهاء الحنابلة، وأحد المحدثين، ناب في الحكم عن القضاة سنتين، واتصل بالمؤيد، وكان يحضر عنده في جملة الفقهاء، ويقرأ عنده صحيح البخاري كل سنة، وولاه مشيخة الخروبية التي استجدها بالجيزة.
ومات الأمير حسن بن سودن الفقيه الجركسي، خال الصالح بن ططر، يوم الجمعة ثالث عشر صفر، وكان قد صار أمير مائة مقدم ألف في أيام ابن أخته الصالح محمد بن ططر، بعد ما عمله زوج أخته الظاهر ططر أمير طبلخاناه، فلم يتهن بالنعمة، وطال مرضه حتى مات.
ومات الشريف عزيز بن هيازع بن هبة بن جماز بن شيحة أمير المدينة النبوي، في ربي الأول، وهو مسجون بالقلعة، وقد أخذ من المدينة مقيداً في موسم السنة الخالية، وولي عوضه عجلان بن نعير.
ومات شمس الدين محمد بن علي بن أحمد المعروف بالزراتيتي، المقرئ الحنفي، إمام الخمس بالمدرسة الظاهرية برقوق، في يوم الخميس سادس جمادى الآخرة، وقد تجاوز السبعين، وكف بصره وصار شيخ الإقراء بالقاهرة.
ومات برهان الدين إبراهيم بن أحمد بن علي البيجوري، الفقيه الشافعي، يوم السبت رابع عشر رجب، وقد أناف على السبعين، وتصدى للأشغال عدة سنين، ولم يخلف بعده أحفظ منه لفروع الفقه، مع إطراح التكلف، وقلة الاكتراث بالملبس، والإعراض عن الرياسة التي عرضت عليه فأباها.
ومات مقدم العشير بجبال صفد، بدر الدين حسن بن أحمد بن بشارة، في سابع ذي الحجة
؟؟سنة ست وعشرين وثمانمائة
أهلت وسلطان مصر والشام والحجاز الملك الأشرف برسباي الدقماقي، والأمير الكبير الأتابك بيبغا المظفري، والدوادار الكبير الأمير سودن بن عبد الرحمن، وأمير سلاح الأمير قجق، وأمير مجلس الأمير أقبغا التمرازي، وأمير أخور الأمير قصروه، نوبة النوب الأمير أزبك، والوزير أستادار الأمير أرغون شاه، وكاتب السر علم الدين داود بن عبد الرحمن بن الكويز، وناظر الخاص الصاحب بدر الدين حسن بن نصر الله وقاضي القضاة الشافعي علم الدين صالح بن البلقيني، ونائب الشام الأمير تنبك العلاي ميق، ونائب حلب الأمير تنبك البجاسي، ونائب طرابلس الأمير أينال النورزي ونائب صفد الأمير مقبل الدوادار ونائب، حماة شار قطلوا.
شهر الله الحرام، أوله الأربعاء:(3/270)
في ثالث عشرينه: قدم الركب الأول من الحجاج وقدم المحمل ببقية الحاج من وكانت سنة مشقة إلى الغاية، توالت فيها الأمطار الخارجة عن الحد، زيادة على يوماً، وأتت سيول مهولة مع غلاء الأسعار بمكة، فأبيع الحمل الدقيق بخمسة وثلاثين ديناراً، وأبيعت ويبة شعير في الأزلم بخمسين مؤيديا، فيكون الأردب الشعير على ذلك بألفين ومائة درهم من نقد القاهرة، وكثر موت الجمال، ومشت النساء والصغار عدة مراحل، ومات كثير من الناس، واشتد الحر، ثم اشتد البرد، ومع هذا كله كثرة الخوف.
وفي ثامن عشرينه: أعيد زين قاسم بن البلقيني إلى نظر الجوالي، عوضاً عن صدر الدين أحمد بن العجمي على مال التزم به.
وفيه أنعم على الأمير جانبك الخازندار بإمرة طبلخاناه من جملة إقطاع الأمير فارس نائب الإسكندرية، كان.
شهر صفر، أوله الخميس: في ثامن عشره: جمع السلطان الأمراء والقضاة ومباشريه، وأحضر جماعة من التجار، وأنكر حال الفلوس، وذلك أنها كما تقدم غير مرة أنها هي النقد الرائج بأرض مصر، فينسب إليها أثمان المبيعات وقيم الأعمال، ثم لما ضرب الملك المؤيد شيخ الدراهم المؤيدية رسم أن تنسب قيم الأعمال وأثمان المبيعات إليها، فعمل بذلك مدة من أيامه حتى مات، فعادت قيم الأعمال وأثمان المبيعات تنسب إلى الفلوس، كما كانت قبل المؤيدية، وحدث في الفلوس مع ذلك ما لم يكن يعهد منذ ضربت، وهو أنه خلط فيها قطع الحديد وقطع النحاس وقطع الرصاص، من أجل أنها تؤخذ وزناً لا عدداً، وتغافل الحكام عن إنكار ذلك فتمادى الحال على هذا من بعد موت المؤيد، حتى صارت القفة من الفلوس التي وزنها مائة رطل لا يكاد يوجد فيها قدر عشرين رطلاً من الفلوس، وإنها هي - كما قدم - ذكره ما بين نحاس وحديد ورصاص وانفتح للصيارفة ونحوهم من ذلك باب ربح، وهو أنهم صاروا ينقون الفلوس ويبيعونها لمن يحملها إلى الحجاز واليمن وبلاد المغرب، كل قنطار بسبعمائة درهم، فلما بلغ السلطان ذاك أراد أن يضرب فلوساً، فاختلفوا عليه في مقدار وزنها، فأشار بعضهم أن يكون كل ستين فلساً بدرهم أشرفي، وأشار أخرون أن تكون أوزانها مختلفة، فيها ما زنته مثقال، وفيها ما زنته غير ذلك، فجمع الناس كما تقدم ليقوي عزمه على ما يمضيه، فما زالوا به حتى رجع عن تغيير المعاملة بالفلوس التي بأيدي الناس، خوفاً من وقوف أحوال الأسواق، لعنت العامة، فاستقر الرأي على أن نودي بأن يكون سعر الفلوس المنقاة من الحديد والرصاص والنحاس، بسبعه دراهم كل رطل، ويكون سعر هذه القطع بخمسة دراهم الرطل، فامتثل الناس ذلك، وصارت الفلوس صنفين بسعرين مختلفين، ومشى الحال على هذا.
وفيه أبيع الرغيف بنصف درهم فلوساً، بعد ما كان بدرهم لرخاء الأسعار.
وفي سادس عشرينه: قدم الأمير أينال النوروزي نائب طرابلس باستدعاء، فأكرمه السلطان، وأنزله بدار، ثم طلب الأمير قصروه أمير أخور، وخلع عليه بنيابة طرابلس، عوضاً عن الأمير أينال المذكور، وأنعم على أينال هذا بإقطاع قصروه.
في هذا الشهر: اتضع سعر الغلال، حتى أبيع القمح كل خمسة أرادب بدينار، ولهذا أسباب: أحدها النيل في وقت زيادته، حتى شمل الري عامة أراضي مصر. ثانيها غزارة الأمطار في فصل الشتاء وتواليها أياماً فأخصبت الزروع والمراعي. ثالثها رخاء الأسعار ببلاد الشام وأرض الحجاز فاستغنت العربان عن شراء الغلال، وترك التجار في الحجاز، فتوفرت بديار مصر. رابعها أن الأمير الوزير شمس الدين أرغون شاه أستادار خرج إلى نواحي الغربية والبحيرة وعسف المزارعين والمتدركين، حتى ألجأتهم الضرورة إلى أن يبيعوا غلالهم ويقوموا له. مما ألزموا به من المال، فلذلك كثرت الغلال، فاتضعت ولله الحمد. ومع هذا فقد ناس كثير من الغلال بالوجه البحري، فتسارع خزانها إلى بيعها خوفاً عليها من التلف، ولله عاقبة الأمور.
شهر ربيع الأول، أوله السبت: وفي ثانيه: قدم الأمير الوزير أرغون شاه من الوجه البحري، بما جمعه من الأموال التي جباها.(3/271)
وفي ليلة الجمعة سابعه: عمل المولد السلطاني على العادة، في كل سنة وحضر الأمراء وقضاة القضاة الأربع ومشايخ العلم وجمع كبير من القراء والمنشدين، فاستدعى قاضي القضاة ولي الدين أحمد بن العراقي ليحضر، فامتنع من الحضور، فتكرر استدعاؤه حتى جاء فأجلس عن يسار السلطان حيث كان قاضي القضاة زين الدين التفهني جالساً، وقام التفهني فجلس عن يمين السلطان، فيما يلي قاضي القضاة علم الدين صالح ابن البلقيني.
وفي ثاني عشره: توجه الأمير قصروه نائب طرابلس إلى محل كفالته.
وفي هذه الأيام: وجدت ورقة بالقصر، فيها شناعات علي علم الدين بن الكويز كاتب السر، منها أنه يريد إقامة ابن الملك المؤيد شيخ في السلطنة، فعرف من ألقاها، فدل على الذي كتبها، وهو رجل من الفقراء يقال له حسن العليمي، يخدم قبر الشيخ علي بن عليم بالساحل، فاعترف أنه كتبها نصيحة للسلطان، فبعث به السلطان إلى ابن الكويز، فثبت على قوله وفاجأه بما لا يحب، فنفاه إلى بلاد الصعيد.
وفي خامس عشره: سار الأمير أرغون شاه إلى بلاد الصعيد ليجبي أهلها، كما جبى الوجه البحري.
وفي يوم الثلاثاء خامس عشرينه: ثارت ريح مريسية طول النهار، فلما كان قبل الغروب بنحو ساعة، ظهر في السماء صفرة من قبل مغرب الشمس، كست الجدران والأرض بالصفرة، ثم أظلم الجو حتى صار النهار مثل وقت العتمة، فكنت أمد يدي فلا أراها لشدة الظلام، فما بقي أحد بمصر إلا واشتد فزعه، فلما كان بعد ساعة وقت الغروب أخذ الظلام ينجلي قليلاً قليلاً، وعقبه ريح عاصف كادت المباني تتساقط وتمادي طول ليلة الأربعاء، فرأى الناس أمراً مهولاً من شدة هبوب رياح عاصفة، وظلمة في النهار والليل لم يعهد مثلها، بحيث كان جماعة في هذه الليلة مسافرين وسائرين خارج القاهرة فتاهوا من شدة الظلام طول ليلتهم حتى طلع الفجر، وعمت هذه الظلمة أرض مصر حتى وصلت دمياط والإسكندرية وجميع الوجه البحري وبعض بلاد الصعيد، ورأى بعض من يظن به الخير في منامه كان قائلاً يقول ما معناه: لو لا شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل مصر لأهلكت هذه الريح الناس، لكنه شفع فيهم، فحصل اللطف.
وفي هذا الشهر: كثر الوباء بدمشق.
وفيه أضيفت ولاية مصر وحسبتها إلى الأمير تاج الدين الشويكي وإلى القاهرة.
وفيه رسم بمصادرة نجم الدين عمر بن حجي قاضي القضاة الشافعي بدمشق، وشهاب الدين أحمد بن محمود بن الكشك قاضي القضاة الحنفي بها، وعدة من تجارها، فصودروا.
وفيه رسم بإيقاع الحوطة على خيول أهل الوجه البحري من الغربية والبحيرة ونحوها فأخذت.
وفيه قدم إلى المدينة النبوية جراد عظيم أتلف عامة زروعها وأشجارها، حتى أكل الأسابيط من فوق النخل فأمحلت ونزح كثير من أهلها، فمات معظم الفقراء النازحين جوعاً وعطشاً، ولا قوة إلا بالله.
شهر ربيع الآخر، أوله الأحد: في ثانيه: عدى السلطان إلى بر الجيزة، وأقام بناحية وسيم في أمرائه ومماليكه يتنزه، ثم عاد.
وفي سادس عشرينه: قدم الأمير تنبك البجاسي نائب حلب، فخلع عليه، ورتب له ما يليق به، وقدم له الأمراء على مقدارهم.
وفي هذا الشهر: كثر الوباء بدمشق.
وفيه قدم الخبر أن مدينة الكرك تلاشى أمرها، وخربت قراها وتشتت أهلها، وأنها آيلة إلى الدثور.
وفيه عدى مصطفى بن عثمان من اسطنبول إلى أزنيك وملكها بعد ما حاصرها مدة، فسار إليه أخوه مراد بعساكره وقاتله، فظفربه وقتله، وعاد إلى برصا، وقد صفا له الجو.
شهر جمادى الأولى، أوله الثلاثاء: في ثالثه: توجه الأمير تنبك البجاسي إلى حلب على نيابته.
وفيه أبيع الخبز كل ثلاثة أرغفة بدرهم من الفلوس، وأبيع الأردب القمح بثمانين درهماً، فيكون كل ثلاثة أرادب بمثقال ذهب، وكل أردب بأربعة دراهم فضة، وكل ستين رغيفاً بدرهم فضة، ولم يعهد مثل هذا الرخاء في هذه الأزمنة، ومع ذلك فالرخاء عام بالشام والحجاز، فالله يحسن العاقبة.
وفي رابع عشره: خلع على الأمير جقمق، واستقر أمير أخور، عوضاً عن قصروه نائب طرابلس، وكانت في هذه المدة شاغرة.(3/272)
وفي يوم السبت تاسع عشر: أمطرت السماء مطراً كثيراً من أول يوم الجمعة أمسه، حتى مضى السبت، وكانت عامة في معظم أرض مصر قبليها وبحريها، فسألت الأودية، وظهرت في النيل زيادة نحو ذراع، ودثرت مقابر كثرة وسقط ببلاد البحرة برد كبار جداً، يتعجب من كبرها وكان الزمان ربيعاً.
وفي شهر بشنس، وفي نصف نهار السبت هذا: هبت رياح قوية ألقت مباني عديدة وعم هبوبها في أكثر أرض مصر، فسقط في ناحية أبيار ألف ومائتا نخلة، وسقط كثير من شجر السنط والسدر والجميز وكانت الشجرة تقتلع من أصلها وسقط كثير من طير السماء واحتملت الريح أشياء ثقيلة من أماكنها وألقتها ببعد وشملت مضرة هذا المطر وهذه الريح أشياء عديدة.
وفي هذا الشهر: انتشر ببلاد الصعيد من الطير التي يقال لها الزرازير أمة لا يحصى عددها إلا الله خالقها سبحانه، فأهلكها هذا الريح، حتى صار منها عدة كيمان يمر الفارس فيها بفرسه مدة ثلاثة أيام، ولو لا هلكت لرعت الزروع.
وفيه جاء من ناحية الحجاز جراد يخرج عن الحد في الكثرة، فلما وافى الطور يريد دخول أرض مصر كان هذا المطر، فهلك عن آخره، كفايه من الله.
وفيه تلفت زروع عدة بلاد من نواحي أرض مصر لكثرة المطر والبرد بحيث وجد في البرد ما وزن الواحدة منه عدة أواقي، وتلفت أشجار كثيرة ونخيل كثير بالقرى من الريح، وسقط من طير السماء فيما بين الإسكندرية وبرقة شيء كثير جداً من قوة الريح.
شهر جمادى الآخرة، أوله الأربعاء: في هذا الشهر: عظم الوباء بدمشق، وفشا في البلاد إلى غزة.
وفيه تحرك سعر الغلال بأرض مصر، فارتفع الأردب القمح من مائة إلى مائة وأربعين، والشعير من سبعين درهماً الأردب إلى مائة درهم.
وفي سابع عشره: قدم الأمير أرغون شاه من بلاد الصعيد، وقد وصل إلى مدينة هو، فجبى الأموال، وما عف ولا كف، وأحضر معه من الأغنام والأبقار والخيول ومن القند والسكر والعسل شيء كثير، فخرب في حركتيه المذكورتين إقليم مصر، أعلاه وأسفله، ثم شرع في رمى ما أحضره على الناس بأغلى الأثمان والعسف في الطلب.
شهر رجب، أوله الخميس: فيه كملت الوكالة وعلوها بخط الركتن المخلق على يد عظيم الدولة القاضي زين الدين عبد الباسط ناظر الجيوش، ولم يعسف العمال فيها، ولا بخسوا شيئاً من أجرهم، فجاءت من أحسن المواضع وكثر النفع بها.
وفيه ابتدئ بهدم الحوانيت والفنادق، التي فيما بين المدرسة السيوفية وسوق العنبريين لعمل موضعها مدرسة للسلطان، وكانت موقوفة على المدرسة القطبية وغيرها، فاستبدل بها أملاك أخر من غير إجبار المستحقين. وجعل الاختبار لهم فيما يستبدل به حتى تراضوا، و لم يشق عليهم. وتولى ذلك زين الدين عبد الباسط.
وفيه انحل سعر الغلال ومد أبيعت الغلال الجديدة.
وفيه قدم عدة من الفرنج الكيتلان، لزيارة القدس مستخفين، فعسر على نحو المائة منهم، وسجنوا.
وفي ثاني عشره: ابتدأت المناداة بزيادة النيل، وقد جاءت القاعدة ثمانية أذرع وعشر أصابع. وهذا مما يندر مثله.
وفيه أدير محمل الحاج على العادة.
وفيه كتب بعزل قاضي القضاة الشافعي بدمشق، نجم الدين عمر بن حجي وسجنه، والكشف عنه، واستقرار شمس الدين محمد بن زيد قاضي بعلبك عوضه في قضاء دمشق. وسبب ذلك تنكر الأمير تنبك ميق نائب الشام عليه، وتغير كاتب السر علم الدين داود بن الكويز وزين الدين عبد الباسط ناظر الجيش وبدر الدين محمد بن مزهر ناظر الاصطبل ونائب كاتب السر، فإنه أطرح جانبهم، وصار يبلغهم عنه ما يوغر صدورهم، من استخفافه بهم لمعرفته إياهم قبل ارتفاعهم في الأيام المؤيدية. واغتر بكثرة من يساعده من الأمراء لما له عليهم من الأفضال المستمر، فأخذ الجماعة في مكايدته، حتى أوقعوا بينه وبين السلطان، فلم يفده مساعدة الأمراء له.
وفي يوم السبت سابع عشره: اتفقت حادثة فيها موعظة، وهي أن الأمير أرغون شاه جمع الجزارين لأخذ شيء من الأبقار التي أحضرها، ورسم على كل منهم رسولا من الأعوان الظلمة، حتى يمضي إلى بر منبابة حيث الأبقار، ويأخذ منهم ما ألزم به منها، فوافوا ساحل بولاق بكره، ونزلوا في مركب، ونزل معهم أناس آخرون.(3/273)
وأخذوا يدعون الله على أنفسهم أن يغرقهم ولا يحييهم حتى يأخذوا هذه الأبقار ليستريحوا مما هم فيه من الغرامات والخسارات وتحكم الظلمة فيهم بالضرب والسب والإهانة. وقرأ واحد منهم فاتحة الكتاب، ودعا بذلك، وهم يؤمنون على دعائه، فما هو إلا أن توسطوا النيل وتجاوزوه حتى كادوا أن يصلوا إلى بر منبابة. وإذا بمركبهم انقلبت، فغرقوا بأجمعهم، إلا قليلا منهم، فإنهم نجوا. وكانت عدة الغرقى عشرين رجلاً وأربع نسوة، فارتجت القاهرة بعويل أهاليهن عليهن، وكثرت الشناعة على الأمير أرغون شاه، وذهب الغرقى بلا قاتل ولا قود.
وفي ثالث عشرينه: رسم السلطان أن لا يكون لقاضي القضاة الشافعي إلا عشرة نواب، وأن يكون للحنفي ثمانية نواب وللمالكي ستة وللحنبلي أربعة. فعمل ذلك مديدة، ثم أعيد من عزل منهم بزيادة. وقد ساءت قالة العامة فيهم، وأكثروا من التشنيع بما يغرمه المتداعيان في أبوابهم، حتى اتضعت نواب القضاة في أعين الكافة، وانحطت أقداراهم عند أهل الدولة، وجهروا بالسوء من القول فيهم.
واتفق في هذه السنة ما لم نعهده وهو انتشار الحمرة عند طلوع الفجر إلى شروق الشمس في جميع الجهة الشمالية، التي يسميها المصريون وجه بحري؛ وانتشار الحمرة في الجهة الشمالية أيضاً بعد غروب الشمس حتى يمضي من الليل ساعة، وتصير الأرض والجدران وغير ذلك في هذين الوقتين كأنها صبغت بالحمرة. وتمادى هذا الحال أربعة أشهر، وانقضى شهر رجب هذا والأمر على ذلك.
وفيه تناقص الوباء ببلاد الشام، بعد ما عم كورة دمشق وفلسطين والساحل. وبلغت عدة من مات بصالحية دمشق زيادة على خمسة عشر ألف إنسان. وأحصي من ورد ديوان دمشق من الموتى فكانوا نحو الثمانين ألفاً، وكان يموت من غزة في كل يوم مائة إنسان وأزيد، وكان معظم من مات الصغار والخدم والنساء، فخلت الدور منهم إلا قليلاً وفيه وقع الوباء ببلاد الخليل عليه السلام.
شهر شعبان، أوله السبت: في يوم الجمعة سابعه: ورد الخبر بأن الأمير جانبك الصوفي فر من السجن بالإسكندرية، فلم يقدر عليه، فقبض بسببه على جماعة وعوقبوا عقوبات كثيرة.
وقدم الخبر بوقوع الوباء بدمياط.
وفي يوم الخميس عشرينه: خلع على الأمير جرباش قاشق، واستقر حاجب الحجاب. وكانت شاغرة منذ انتقل جقمق عنها، وصار أمير أخور.
وفيه كتب باستقرار الأمير تنبك البجاسي نائب حلب، في نيابة الشام، بعد موت تنبك ميق. واستقر شارقطلوا نائب حماة في نيابة حلب، عوضاً عن تنبك البجاسي، واستقر جلبان - أمير أخور الملك المؤيد شيخ - في نيابة حماة. وقد كان من جملة أمراء دمشق. وتوجه الأمير جانبك الخازندار في ثامن عشرينه بتقاليد المذكورين وتشاريفهم. وفيه رسم بإعادة نجم الدين عمر بن حجي إلى قضاء القضاة بدمشق، وحمل تقليده وتشريفه.
وفيه جرى الماء في خليج الإسكندرية، وعبرت فيه السفن، وذلك أنه غلب الرمل على أشتوم بحيرة الإسكندرية حتى جف ماؤها، وصارت الريح تسفي الرمال على الخليج، إلى أن علت أرضه، وجف ماؤه من بعد سنة سبعين وسبعمائة، وصار الماء لا يدخل إليه إلا أيام الزيادة، فإذا نقص ماء النيل جف الخليج. ولذلك خرجت أكثر بساتين الإسكندرية وضياعها التي على الخليج. وصار شرب أهلها من الماء المخزون بالصهاريج. وحاول السلاطين حفر هذا الخليج مراراً، فلم ينجح عملهم، لقلة المعرفة بأمره، ثم إن السلطان ندب الأمير جرباش قاشق - أحد مقدمي الأولوف - لعمل هذا الخليج، فجمع من النواحي ثمانمائة، وخمسة وسبعين رجلاً، وابتدأ في حفره من حادي عشر جمادى الأولى من حنى فم النيل. وصار كلما حفر منه شيئاً أرسل الماء عليه من الفم، حتى انتهى حفره في حادي عشر شعبان هذا لتمام تسعين يوماً، وعبر الماء في اليوم المذكور إلى الإسكندرية، وقد خرج الناس لرؤيته، وسروا به سروراً كبيراً. وكانت كلفة الحفر مما جبى من النواحي التي تسقى من الخليج، ومن بساتين الإسكندرية.
شهر رمضان، أوله الأحد: في ثانيه - الموافق له سادس مسرى - : كان وفاء النيل ستة عشر ذراعاً، فنزل الأمير ناصر الدين محمد ابن السلطان، حتى خلق عمود المقياس، وفتح الخليج على العادة.
وفيه قبض على الأمير سودن الأشقر أحد مقدمي الألوف، ونفي بطالاً إلى القدس. ثم أنعم عليه بإمرة في دمشق، فتوجه إليها.(3/274)
وفيه خرج عدة من الأمراء إلى الإسكندرية ودمياط ورشيد، وقد ورد الخبر بحركة الفرنج، فتكامل توجههم في سابعه.
وفي ثامن عشرينه: جمع السلطان التجار والصيارف بسبب الفلوس، فإنها من حين نودي عليها في صفر أن تكون المضروبة بسبعة دراهم الرطل، والقطع بخمسة الرطل، قلت حتى لم تكد توجد. وسبب ذلك أن التجار كثرت تجارتهم فيها، وشدوا أحمالاً كثيرة من الفلوس المنقاة، وقد بلغ القنطار منها ثمانمائة درهم، وبعثوا منها إلى الحجاز واليمن والهند وبلاد المغرب بشيء لا يدخل تحت حصر، لما لهم فيها من الفوائد. وضرب آخرون منها الأواني النحاس كالقدور ونحوها، وباعوها بثلاثين درهماً الرطل. وتصدى جماعة لقطع الحديد والنحاس والرصاص والقصدير، فأفرزوا كل صنف على حدة، واستعملوه فيما يصلح له، فربحوا فيها كثيراً. ومع ذلك فمن عنده شيء منها شح بإخراجه في المعاملة. وتصدت جماعة لجمعها، فعزت حتى لم يقدر عليها. وتوقفت أحوال الناس في معايشهم، لفقدها. فلما اجتمع الناس عند السلطان، استقر الرأي على أن تكون الفلوس المنقاة بتسعة دراهم الرطل، وأن لا يتعامل أحد بشيء من القطع النحاس والحديد والرصاص والقصدير، ونودي بذلك، وهدد من خالف وسافر بشيء منها إلى البلاد.
شهر شوال، أوله الثلاثاء: في سادسه: ابتدأ الهدم في الحوانيت والرباع التي علوها فيما بين الصنادقيين ورأس الخراطين، لتبنى وكالة وربعا، تجاه العمارة الأشرفية.
وفي سابعه: قدم قاضي القضاة الحنفية بدمشق، شهاب الدين أحمد بن محمود بن الكشك، باستدعاء.
وفي يوم الخميس عاشره: خلع على جمال الدين يوسف بن الصفي الكركي، واستقر كاتب السر بعد موت علم الدين داود بن الكويز، فأذكرتني ولايته بعد ابن الكويز قول أبي القاسم خلف بن فرج الألبيري - المعروف بالسميسر - وقد هلك وزير يهودي لباديس بن حبوس الحميدي أمير غرناطة من بلاد الأندلس، فاستوزر بعد اليهودي وزيراً نصرانيا:
كل يوم إلى ورا ... بدل البول بالخرا
فزمانا تهودا ... وزماناً تنصرا
وسيصبو إلى المجو ... س إذا الشيخ عمرا
وقد كان أبو الجمال هذا من نصارى الكرك، وتظاهر بالإسلام في واقعة كانت للنصارى، هو وأبو العلم داود بن الكويز، وخدم كاتباً عند قاضي الكرك عماد الدين أحمد المقيري. فلما قدم إلى القاهرة. وصل في خدمته وأقام ببابه، حتى مات وهو بائس فقير، لم يزل دنس الثياب، مقتم الشكل، وابنه هذا معه في مثل حاله. ثم خدم عند التاجر برهان الدين إبراهيم المحلى كاتباً لدخله وخرجه، فحسنت حاله، وركب الحمار. ثم سار بعد المحلى إلى بلاد الشام، وخدم بالكتابة هناك، حتى كانت أيام الملك المؤيد شيخ، ولاه ابن الكويز نظر الجيش بطرابلس، فكثر ماله بها. ثم قدم في أخر أيام ابن الكويز إلى القاهرة، فلما مات وعد بمال كثير حتى ولى كتابة السر، فكانت ولايته أقبح حادثة رأيناها.
وفي رابع عشره: قدم الأمير أسندمر نائب الإسكندرية باستدعاء، فقبض عليه، ونفي إلى دمياط بطالاً. واستقر الأمير أقبغا التمرازي أمير مجلس عوضه في نيابة الإسكندرية.
وفي سادس عشره - الموافق له رابع عشرين توت - : انتهت زيادة النيل إلى تسعة عشر ذراعاً، تنقص إصبعاً واحداً، وابتدأ نقصه من الغد.
وفي تاسع عشره: خرج محمل الحاج صحبة الطواشي افتخار الدين مثقال مقدم المماليك، ورحل من بركة الحاج في ثالث عشرينه، وقد تقدمه الركب الأول صحبة الأمير أينال الششماني أحد أمراء العشرات وفي رابع عشرينه: خلع علي نقيب الأشراف، السيد الشريف بدر الدين حسن بن الشريف النقيب علي، وأضيف إليه نظر وقف الأشراف، عوضاً عن شرف الدين محمد ابن عبد الوهاب بن نصر الله. وكان قد باشر وقف الأشراف بعفة ونهضة، وأنفق للأشراف في كل سنة أزيد مما كانت عادتهم.
وفي سادس عشرينه: نزل السلطان إلى عمارته.
وفيه خلع على صدر الدين أحمد بن العجمي، واستقر في نظر الكسوة، عوضاً عن شرف الدين المذكور، وفي نظر الجوالي عوضاً عن قاسم بن البلقيني وخلع على الأمير زين الدين عبد القادر ابن الأمير فخر الدين بن أبي الفرج، واستقر كاشف الشرقية. وكان الكشف بيد الأمير أرغون شاه أستادار.(3/275)
وفي سابع عشرينه: قبض على أرغون شاه المذكور لعجزه - مع ظلمه وعسفه - عن جامكية المماليك، فإن مصروف الديوان المفرد عظم، وصارت البلاد المفردة له - مع مظالم العباد - لا تفي به.
وفي ثامن عشرينه: خلع على ناصر الدين محمد بن شمس الدين محمد بن موسى المرداوي، المعروف بابن أبي وافي، واستقر أستادارا، عوضاً عن أرغون شاه. وعوقب أرغون شاه بين يدي السلطان. ومن خبر ابن أبي والي هذا أن أباه من تجار القدس، وتزيا هو بزي الأجناد، وخدم أستادار الأمير جقمق الدوادار في أيام المؤيد بديار مصر مدة، ثم صادره وصرفه، فخدم أستادار نائب الشام مدة. وكثر ماله، فأحضر من دمشق إلى القاهرة في هذا الشهر، وألزم بحمل عشرين ألف دينار، فوعد أن يحمل في هذا اليوم ثلاثة آلاف دينار. فلما قبض على أرغون شاه، سولت له نفسه وزين له شيطانه أن يكون أستادارا، ويسد المبلغ الذي ألزم به منها، فاستقر.
وفيه خلع أيضاً على كريم الدين عبد الكريم ابن الوزير الصاحب تاج الدين عبد الرزاق ابن كاتب المناخ، واستقر في الوزارة، عوضاً عن أرغون شاه.
وفي تاسع عشرينه: سلم أرغون شاه إلى الأمير ناصر الدين محمد بن أبي والي أستادار ليستخلص منه ستين ألف دينار، فنزل من القلعة مع أعوان الوالي حتى دخل داره التي كان يسكنها أرغون شاه وقد سكنها ابن أبي والي، فعندما دخلها بكى، وكان في بلائه هذا أعظم عبرة. وذلك أن ابن والي في ابتداء حاله كان من جملة أجناد أرغون شاه الذين يخدمونه أيام عمله وهو أستادار نوروز الحافظي، فدارت الدوائر حتى صار ابن أبي والي أستادار عوضاً عن أرغون شاه، وسكن في داره بالقاهرة التي كان بالأمس يتردد إليه فيها. ويجلس حتى يستأذن له عليه. ثم أخذ ليعلقه في هذه الدار، يحضره من كان يخدمه بها. أعاذنا الله تعالى من سوء العاقبة وزوال نعمه، ورزقنا العافية بمنه وكرمه.
وفيه خلع على الأمير إينال النوروزي الذي كان نائباً بطرابلس، واستقر أمير مجلس، عوضاً عن أقبغا التمرازي نائب الإسكندرية.
شهر ذي القعدة، أوله يوم الخميس: فيه قدم للسلطان إخوان من بلاد الجركس في ستين من الجراكسة، فخرج الأمراء إلى لقائهم.
وفيه توجه الأمير قجق أمير سلاح، والأمير أركماس الظاهري أحد مقدمي الألوف، والقاضي زين الدين عبد الباسط ناظر الجيوش إلى مكة، على الرواحل حاجين.
وفي رابعه: تقرر على أرغون شاه عشرة آلاف دينار حالة يقوم بها، ويمهل في مبلغ عشرين ألف دينار مدة، فأفرج عنه.
وفي سادسه: وصلت هدية الأمير قصروه نائب طرابلس، وهي مائة وخمسون فرساً، وكثير من القماش والفرو.
وفي هذه الأيام: هبط ماء النيل سريعاً مع فساد جسور النواحي، من سوء سيرة ولاة عملها، فانقطعت منها مقاطع كثيرة، شرق بسببها عدة أراضي بالوجه القبلي وبالوجه البحري وبالجيزة، فنسأل الله اللطف. هذا، والغلال رخيصة، فالقمح بمائة وأربعين درهماً من الفلوس كل أردب، والشعير والفول بسبعين درهماً الأردب.
وفي يوم الأربعاء خامس عشره - الموافق له ثاني عشرين بابه - : والشمس في الدرجة الخامسة من برج العقرب، حدث في السماء راعد شديد وبرق، ثم مطر كثير جداً، لم تعهد مثله في مثل هذا الزمان. ومع ذلك فالحر موجود، فسبحان الفعال لما يريده.
وفي سادس عشره: قدم الأمير جانبك الخازندار من الشام، وقد قلد النواب، فخلع عليه، واستقر دوادارا ثانياً، عوضاً عن الأمير قرقماس المتوجه إلى الحجاز، بحكم انتقاله إلى تقدمة ألف. وجانبك هذا رباه السلطان صغيراً، فحفظ حق التربية، بحيث أن جقمق نائب الشام لما ثار بعد موت المؤيد وقبض على السلطان، وهو يومئذ من أمراء دمشق، وسجنه، بذل الرغائب لجانبك هذا، فلم تستمله الدنيا، وثبت على خدمة أستاذه حتى خلصه الله، فوفى السلطان له بذلك، وأنعم عليه بإمرة عشرة، ثم إمرة طبلخاناة، وبعثه لتقليد نواب الشام فأثرى. ولما قدم، صار دواداراً. وفي الحقيقة هو صاحب التدبير في الدولة نقضاً وإبراماً، لكثرة اختصاصه بالسلطان، ومزيد قربه منه.
وفي سادس عشرينه: ثارت المماليك بأستادار لعجزه عن تكملة النفقة، وضربوه، ففر حتى التجأ إلى بيت بعض الأمراء.(3/276)
وفي ثامن عشرينه: ختم على مطابخ السكر، وألزم من يدولب طبخ السكر ألا يتعرض أحد منهم لعمله، ومنعت باعة السكر وباعة الحلوى من شراء السكر إلا من سكر السلطان. وعمل لذلك ديوان، وأقيم له جماعة ليدولبوا السكر، فامتنع كل أحد من بيع السكر، إلا السلطان، ومن شراه إلا من سكر السلطان، فضاق الناس ذرعاً بذلك، وتضرر به جماعة عديدة.
شهر ذي الحجة، أوله الجمعة: في ثالثه: ركب الأمير ناصر الدين محمد ابن السلطان للسرحة في عدة من الأمراء حتى اصطاد، ودخل القاهرة من باب النصر، وصعد القلعة من باب زويلة. ومولده في سنة تسع عشرة. وركب أيضاً في سادسه.
وفي هذه الأيام: اشتد الفحص عن الأمير جانبك الصوفي، وعوقب بعض الممالك حتى هلك بسببه. وقبض على أصهاره وعوقب بعضهم، وأخذت له أشياء وجدت له. وفيها تحرك سعر الغلال، وفشت الأمراض في الناس من الحميات.
وفي ليلة السبت سادس عشره: زلزلت القاهرة زلزلة كلمح البصر، ثم زلزلت كذلك في ليلة الأحد.
وفي حادي عشرينه: ألزم الناس أن لا يتعاملوا بالذهب الإفرنتي المشخص، إلا من حساب كل دينار بمائتين وعشرين فلوساً، وكان آخر ما استقر عليه الحال أن الدينار بمائتين وخمسة وعشرين، فلم يتغير صرفه عن ذلك مدة إلى أثناء هذه السنة، زادت العامة في صرفه حتى بلغ مائتين وثلاثين، فأنكر السلطان ذلك عندما بلغه، ورسم أن ينقص كل دينار عشرة دراهم، حتى يبقي بمائتين وعشرين درهماً، فخسر الناس مالاً كثيراً.
وفي ثامن عشرينه: قدم مبشرو الحاج، وأخبروا برخاء الأسعار، وكثرة الأمطار، وأن الشريف حسن بن عجلان لم يقابل أمير الحاج ونزح عن مكة، لما بلغه من الإرجاف بمسكه، فنودي من يومه بعرض الأجناد البطالين، ليجهزوا إلى التجريدة بعد النفقة عليهم لغزو مكة، فاستشنع ذلك.
وفيه كبست عدة أماكن بسبب جانبك الصوفي فلم يوجد.
وفي هذه السنة: اشتد غضب متملك الحبشة وهو أبرم - ويقال له إسحاق بن داود بن سيف أركد - بسبب غلق كنيسة قمامة بالقدس، وقتل عامة من في بلاده من الرجال المسلمين، واسترق نساءهم وأولادهم، وعذبهم عذاباً شديداً، وهدم ما في مملكته من المساجد، وركب إلى بلاد جبرت فقاتلهم وقتل عامة من فيها، وسبى نساءهم وذراريهم، وهدم مساجدهم، فكانت في المسلمين ملحمة عظيمة جداً لا يحصى عدد من قتل فيها.
وفي هذه السنة: حدث أمر الناس في غفلة عنه معرضون، وهو أنه أخبرني من لا أتهم في سنة إحدى وتسعين وسبعمائة. أن الأرضية التي من طبعها إفساد الكتب والثياب الصوف، أكلت له بناحية مرج الزيات - ظاهر القاهرة - ألفا وخمسمائة قتة دريس وهذا الدريس يحمله خمسة عشر جملاً وأكثر. فكثر تعجبي من ذلك، وما زلت أفحص عنه على عادتي في الفحص عن أحوال العالم حتى وقفت على أن ضرر الأرضة تعدى بناحية مرج الزيات، فأتلفت الأخشاب والثياب عندهم، وقوى ضررها حتى شاهدت تلك الأعوام حوائط البساتين التي بناحية المطرية وقد جددت الأرضية فيها أخاديد طوالاً. ثم لما كان بعد سنة عشرين وثمانمائة كثر عبث الأرضة بالحسينية خارج القاهرة، حتى صارت أخشاب سقوف الدور ترى مجوفة من داخلها، فشرع أربابها في الهدم حتى أتوا على معظم تلك الديار، والأرضة ضررها يفحش، إلى أن وصلت الدور التي بباب النصر. وقد كثر ضررها أيضاً بالمدينة النبوية. وحدثت في هذه الأعوام بمكة أيضاً، وفي سقف الكعبة. ولقد مر بي قديماً في كتب الحدثان مما أنذر بوقوعه في هذا الزمان، أن يسلط على الناس الحيوان الرديء، فكنت أفكر في ذلك زماناً وأقول كيف يسلط الحيوان على الناس وأحسب ذلك من جملة ما رمزوه، حتى كان من أمر الأرضة ما كان، فعلمت أنها هي الحيوان المعني، ولعمري هذا أمر له ما بعده.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
تاج الدين فضل الله بن الرملي ناظر الدولة، في حادي عشرين صفر وباشر نظر الدولة عدة سنين، وأناف على الثمانين، وسئل بالوزارة غير مرة فامتنع. وكان من ظلمه الكتاب الأقباط وفساقهم.
وقتل ناصر الدين عبد الرحمن بن محمد بن صالح قاضي المدينة النبوية، ليلة السبت رابع عشرين صفر.
وقتل ناصر الدين محمد باك بن علي باك بن قرمان متملك بلاد قرمان في صفر بحجر مدفع أصابه في حرب مع عساكر مراد بن كرشجي متملك برصا. وقد ذكرنا قدومه أسيراً في الأيام المؤيدية شيخ ثم أفرج عنه بعد موته.(3/277)
ومات الأمير قطلوبغا التنمي أحد أمراء الألوف في الأيام المؤيدية شيخ، وهو بطال بدمشق. في ليلة السبت سابع عشرين ربيع الأول.
وماتت خوند زينب ابنة الظاهر برقوق في ليلة السبت ثامن عشرين ربيع الآخر وهي آخر من بقي من أولاد الظاهر، لصلبه.
وماتت ابنتي فاطمة يوم الأربعاء ثالث عشرين ربيع الأول، وهي آخر من بقي من أولادي، عن سبع وعشرين سنة وستة أشهر.
ومات الأمير غرس الدين خليل الجشاري، نائب الإسكندرية - كان - وهو من حملة أمراء دمشق في شهر رجب.
ومات الأمير تنبك ميق العلاي نائب الشام، في يوم الاثنين ثامن عشر شعبان. وكان مع ظلمه سخيفاً ماجناً متجاهراً. وهو من جملة المماليك الذين أثاروا الفتن. وفر من الناصر فرج، ولحق بشيخ المحمودي وهو ببلاد الشام، فلزمه حتى تسلطن، فرقاه كما تقدم.
ومات قاضي القضاة ولي الدين أبو زرعة أحمد بن الشيخ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي الشافعي في يوم الخميس سابع عشرينه، عن خمس وستين سنة. وقد نشأ على أجمل طريقة، وبرع في الحديث الشريف والفقه، وشارك في فنون، وناب في الحكم بالقاهرة عن العماد أحمد بن عيسى الكركي، ومن بعده. ثم ترفع عن ذلك، وتصدى للإفتاء والتدريس، حتى وفي القضاء ثم صرف عنه كما تقدم.
ومات علم الدين داود بن زين عبد الرحمن بن الكويز الكركي، كاتب السر، في يوم الاثنين سلخه، و لم يبلغ الخمسين سنة. ودفن خارج القاهرة. وكان الجمع في جنازته موفوراً. وقد كان أبوه من كتاب الكرك النصارى، يقال له جرجس، فأظهر الإسلام، وتسمى عبد الرحمن، وباشر عدة جهات بالكرك ودمشق والقاهرة، آخرها نظر الدولة. وخدم ابنه داود هذا في الجيزة، ثم لحق بالشام، وباشر نظر جيش طرابلس. واتصل بالمؤيد شيخ المحمودي - هو وأخوه صلاح الدين خليل فولاه نظر الجيش بدمشق. وعمل أخاه صلاح الدين في ديوانه فقبض عليهما في سنة اثنتي عشرة، وحملا إلى القاهرة على حمارين في أسوأ حال. ثم أفرج عنهما ففرا إلى دمشق. وما زالا في خدمة شيخ حتى قدم بهما إلى مصر وتسلطن، فولي داود هذا نظر الجيش، ثم ولاه ططر كتابة السر. وكانت تؤثر عنه فضائل، منها أنه يلازم الصلاة، وصيام أيام البيض من كل شهر، ويتنزه عن القاذورات المحرمة كالخمر واللواط والزنا، ويتصدق كل يوم على الفقراء، إلا أنه كان متعاظماً، صاحب حجاب وإعجاب، مع بعد عن جميع العلوم. ولكنه في الألفاظ ذو شح زائد، وحفظت عليه ألفاظ تكلم بها سخر الناس منها زماناً، وهم يتناقلونها، وكان مهاباً إلى الغاية متمكناً في الدولة، موثوقاً به فيها، بحيث مات ولا أحد أعلا رتبة منه.
ومات قاضي القضاة مجد الدين سالم بن سالم بن أحمد المقدسي الحنبلي، يوم الخميس تاسع عشرين ذي القعدة، وقد بلغ الثمانين، وابتلى بالزمانة والعطلة عدة سنين وكان يعد من نبهاء الحنابلة وخيارهم. وباشر القضاء.
سنة سبع وعشرين وثمانمائة
أهلت هذه السنة وسلطان مصر والشام والحجاز الملك الأشرف أبو العز برسباي والأمير الكبير الأتابك بيبغا المظفري. والدوادار الكبير سودن بن عبد الرحمن. وأمير سلاح قجق. وأمير مجلس أينال النوروزي. وأمير أخور جقمق. ورأس نوبة أزبك. وحاجب الحجاب جرباش قاشق. والوزير كريم الدين عبد الكريم بن عبد الرزاق بن محمد ابن كاتب المناخ. وناظر الخاص بدر الدين حسن بن نصر الله. وكاتب السر جمال الدين يوسف بن الصفي الكركي. وأستادار ناصر الدين محمد بن محمد بن أبي والي القدسي. ونائب الشام تنبك البجاسي. ونائب حلب شارقطلوا. ونائب حماة جلبان ونائب طرابلس قصروه. ونائب صفد مقبل. ونائب الإسكندرية أقبغا التمرازي. والسلطان في قلق من جانبك الصوفي، وهو حثيث الطلب له، والفحص عنه. والناس في تخوف من ذلك، فما بين الواحد وبين هلاكه، إلا أن يقول عدو له: جانبك الصوفي عند فلان فيؤخذ ويعاقب حتى يهلك.
ومع ذلك فالناس في ضيق من الحجر على السكر، والامتناع من بيعه إلا للسلطان بأربعة آلاف درهم القنطار، ولا يشتريه أحد إلا من الحوانيت التي يباع منها سكر السلطان.
شهر الله المحرم، أوله الأحد: في ثانيه: قدم الأمير مقبل نائب صفد باستدعاء، فأكرمه السلطان، وخلع عليه خلعة الاستمرار .(3/278)
وفي رابعه: ركب السلطان في طائفة يسيرة، وعبر من باب زويلة، حتى شاهد عمارته. ومضى عائدا إلى القلعة من باب النصر، وهو بثياب جلوسه، كآحاد الأجناد، من غير شعار المملكة.
وفي ثامنه: قدم الأمير قجق، والأمير أركماس، والقاضي زين الدين عبد الباسط من الحجاز على الرواحل، فخلع عليهم. وقدم معهم الشريف مقبل أمير ينبع، راغباً في الطاعة، فخلع عليه وفي رابع عشره: توجه الأمير مقبل عائدا إلى صفد، على عادته.
وفي حادي عشرينه: قدم الركب الأولى من الحجاج. وقدم من الغد المحمل ببقية الحاج. وتأخر الأمير قرقماس الدوادار في ينبع، وطلب عسكرًا ليقاتل به الشريف حسن بن عجلان، ويستقر عوضه في إمارة مكة، فأجيب إلى! ذلك. ونودي في الأجناد البطالين بالعرض، كما تقدم. وعين منهم ومن المماليك السلطانية جماعة ليسافروا صحبة حسين الكردي الكاشف.
وفي ثالث عشرينه: خلع على الأمير سودن بن عبد الرحمن الدوادار، واستقر نائب الشام، عوضاً عن تنبك البجاسي، ونزل من القلعة سائراً إلى دمشق، من غير أن يدخل داره، في عدة من مماليكه على خيولهم بغير أثقال. وكان قد تحدث منذ أيام بمخامرة تنبك.
وفي سادس عشرينه: قدمت رسل مراد بن عثمان صاحب برصا بهدية.
وفيه خلع على الشريف علي بن عنان بن مغامس، واستقر في إمارة مكة شريكاً للأمير قرقماس.
وفي ثامن عشرينه: خلع على الشيخ شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن علي بن حجر، مفتي دار العدل، واستقر في قضاء القضاة بديار مصر، عوضاً عن قاضي القضاة علم الدين صالح بن البلقيني.
وفي هذا الشهر: كثرت الأمطار بالقاهرة والوجه البحري كثرة زائدة. واشتد البرد إلى غاية لم نعهد مثلها، حتى جمد الماء في بعض الأواني، وتجلد الطل في الأسحار على الأرض وعلى الزروع. وهلكت دواب كثيرة بالأرياف من البرد، وسقطت دور كثيرة بها من الأمطار، ورؤى الثلج على جبل المقطم.
شهر صفر، أوله الثلاثاء: في عاشره: قدم شمس الدين محمد الهروي من القدس، متعرضاً بعودة إلى القضاء وغير ذلك من المناصب.
وفي رابع عشره: قدم الخبر بخروج تنبك البجاسي عن الطاعة ومحاربته أمراء دمشق. وسبب ذلك أنه لما ولي سودن بن عبد الرحمن نيابة الشام، تقدمت الملطفات السلطانية إلى أمراء دمشق، بالقبض على تنبك البجاسي، فأتوا دار السعادة في ليلة الجعة رابعه، واستدعوه ليقرأ عليه كتاب السلطان، فارتاب من ذلك، وخرج من باب السر، وقد لبس السلاح في جمع من مماليكه. فثار إليه الأمراء واقتتلوا معه حتى مضى صدر نهار الجمعة، فانهزموا منه، وتحصن طائفة منهم بالقلعة، ومضى آخرون إلى سودن بن عبد الرحمن، وقد نزل على صفد.
وفي تاسع عشره: خلع على نور الدين السفطي - أحد مباشري دواوين الأمراء - واستقر في وكالة بيت المال، بعد موت شرف الدين يعقوب بن الجلال التباني.
وفي ثاني عشرينه: نودي بأن يمكن الناس من طبخ السكر وبيعه وشرائه، وارتفع تحريكه، وتضمين بيعه، فسر الناس بذلك.(3/279)