ومات إسماعيل وأولاده قتلا بالإسكندرية.
ومات الأمير أرغون العلائي أحد المماليك الناصرية. رقاه السلطان الملك الناصر محمد، وزوجه أم ابنيه شعبان وإسماعيل، وعمله لالا أولاده فدبر الدولة في أيام ربيبه الصالح إسماعيل، وشكرت سيرته، ثم قام بدولة شعبان الكامل حتى قتل، وإليه تنسب خانكاه العلائي بالقرافة. وكان كريما، ينعم في السنة. بمائتين وثلاثين فرسا، ومبلغ أربعين ألف دينار، على الأمراء، وغيرهم.
وقتل أيتمش عبد الغني، وتمر وقراجا، وصمغار.
وقتل بقلعة الجبل الأمير شجاع الدين غرلو، في خامس عشر جمادى الآخرة. وكان من أرمن قلعة الروم، ويدعى أنه جركسي الجنس. وقدم مصر، وخدم في جملة أوجاقية الأمير بهادر المغربي، وصار بعده أوجاقيا عند الأمير بكتمر الساقي، ثم عمله أمير آخور حتى مات بكتمر ثم خدم الأمير بشتاك، ثم تنكر عليه بشتاك، وضربه لتحامقه، وأخرجه فولى ولاية أشمون، ثم استقر في ولاية القاهرة، وانتقل إلى وظيفة شاد الدواوين، وأحدث مظالم كثيرة. وجمع الجراكسة على المظفر حاجي، لأنهم من جنسة وعظم في الدولة المظفرية حتى قتل كما تقدم.
وقتل السلطان المظفر حاجي في مدة أربعين يوماً أحداً وثلاثين أمير، منهم أحد عشر أمراء ألوف.
وقتل متملك تونس أبو حفص عمر بن أبي بكر بن يحيى بن إبراهيم بن يحيى بن عبد الواحد بن أبي حقص، في جمادى الآخرة؛ فكانت مدته نحواً من أحد عشر شهراً.وكان قد بويع أخوه العباس أحمد، في تاسع رمضان سنة سبع وأربعين، ثم قتل بعد سبعة أيام.
ومات الشيخ حسن بن النوين أرتنا ملك الروم، في شوال.
سنة تسع وأربعين وسبعمائة
أهلت بيوم الثلاثاء، وهو الخامس من برمودة، والشمس في الدرجة التاسعة عشر من برج الحمل، أول برج فصل الربيع.
في يوم الثلاثاء أول المحرم: قدم الخبر بقتل إسماعيل الوافدي والي قوص، بعد فراره منها وقد جمع عليه عدة من الوافدية يريد تملك بلاد السوادن، فحاربوه وقتلوه ومن معه بأسرهم، وأخذوا منهم مالا كبيراً.
وفيه خلع على الأمير علاء الدين على بن الكوراني، واستقر في ولاية القاهرة، عوضاً عن أسندمر القلنجقى بعد موته - وأخرج ابن الكوراني من السجن أربعين مسجوناً وفعل بهم من القتل والقطع ما توجبه جرائمهم شرعاً.
وفيه قبض على الشيخ علي الكسيح نديم المظفر حاجي، وضرب بالمقارع والكسارات ضربا عظيما، وقلعت أضراسه وأسنانه شيئاً بعد شيء في عدة أيام، ونوع له العذاب أنواعاً حتى هلك. وكان شنع المنظر، له حدبة في ظهره وحدبة في صدره، كسيحاً لا يستطع القيام، إنما يحمل على ظهر غلامه. وكان يلوذ بألجيبغا المظفري وهو مملوك، فعرف به ألجيبغا الملك المظفر حاجي، فصار يضحكه. وصار المظفر يخرج عليه، ويعاقره الشراب، فتهبه الحظايا شيئاً كثيراً. ثم زوجه المظفر حاجي بإحدى حظاياه، وصار يسأله عن الناس، فينقل له أخبارهم على ما يريد، وداخله في قضاء الأشغال فخافه الأمراء وغيرهم خشية لستانه، وصانعوه بالمال حتى كثرت أمواله، بحيث أنه إذا دخل خزانة الخاص لابد أن يعطيه ناظر الخزانة منها شيئاً له قدر، ويدخل عليه الخاص حتى يقبله منه. وإذا دخل إلى النائب أرقطاى استعاذ من شره، ثم قام له وترحب به وسقاه مشروبا، وقضى شغله الذي جاء بسببه، وأعطاه ألف درهم من يده، واعتذر إليه فيقول للنائب: " ها أنا أدخل على ابني السلطان، فأعرفه أحسانك " . فلما زالت دولة المظفر حاجي عنى به ألجيبغا، إلى أن شكاه عبد العزيز العجمي - أحد أصحاب الأمير قراسنقر - على مال أخذه منه لما قبض عليه غرلو بعد قتل قراسنقر حتى خلصه منه فتذكره أهل الدولة، وسلموه إلى الوالي فعاقبه، واشتد عليه الوزير منجك حتى أهلكه.
وفيه رجمت العامة ابن الأطروش المحتسب. وسببه أن السعر لما تحسن بلغ الخبز ستة أرطال وسبعة أرطال بدرهم؛ عمل بعض الخبازين خبزا، ونادى عليه ثمانية أرطال بدرهم، فطلبه المحتسب وضربه، فثارت العامة به، ورجموا بابه حتى ركب الوالي وضرب منهم جماعة.(2/146)
وفيه توحش ما بين الأمير شيخو والأمير بيبغا روس نائب السلطان. وسببه أن نفقة السلطان المائة درهم دخلت إليه على العادة، فطلب منه أحد المماليك ثلاثمائة درهم، فبعث إلى الأمير شيخو يطلب منه ذلك، فقال لقاصده: " أيش تعمل بالدراهم؛ وأيش له حاجة بها؛ وما ثم هذا الوقت شيء " . فعز عليه ذلك لما بلغه، وأرسل يطلب هذا المبلغ من النائب بيبغا روس، فبعث إليه ثلاثة آلاف درهم. فقامت قيامة شيخو وأقام أياما لا يحدث النائب بيبغا روس، حتى دخل بينهما الوزير منجك، وسأل عن سبب الغضب على النائب. فقال له شيخو: " أنا ما كان عندي دراهم أسيرها للسلطان لكن حفظت ما اتفقنا عليه، فعمل النائب وجهه أبيض عند السلطان، وسود وجهي " ؛ فما زال به الوزير منجك حتى رضى.
وفيه قدم الخبر بوقوع الحرب بين سيف بن فضل وعمر بن موسى بن مهنا أسر فيها سيف، وقتل أخوه وجماعة من أصحابه.
وفيه توقف أمر الدولة على الوزير منجك فقطع ستين من السواقين ووفر لحمهم ومعلومهم وكسوتهم وعليقهم وقطع كثيراً من الركابين والنجابة، وقطع كثيراً من المباشرين، حتى وفر في كل يوم أحد عشر ألف درهم. وفتح ابن منجك باب المفايضات بالأخباز والنزولات عنها، وأخذ من ذلك مالا كثيراً وحكم على أخيه الأمير بيبغا روس النائب بتمشية هذا، فاشترى الإقطاعات كثير من العامة.
وفيه قدم خبر من طرابلس بأن قبرص وقع بها فناء عظيم، هلك فيه خلق كثير.
وفيه مات ثلاثة ملوك في شهر واحد، وأن جماعة منهم ركبوا البحر إلى بعض الجزائر، فهلكوا عن آخرهم.
وفي رابع عشريه: قدم الحاج.
وفي خامس عشريه: قبض على الطواشي عنبر السحرتي مقدم المماليك في الدولة المظفرية؛ وكان قد أخرج إلى المقدس، وحج منه بغير إذن، وقدم القاهرة. فأنكر عليه حجه بغير إذن، وأخذت أمواله؛ ثم أخرج إلى القدس.
وفي يوم الإثنين ثالث ربيع الأول: عزل الأمير منجك من الوزارة. وسبب ذلك أن علم الدين عبد الله بن زنبور ناظر الخاص قدم من الاسكندرية بالحمل على العادة، فوقع الاتفاق على تفرقته في الأمراء، فحمل إلى الأمير بيبغا روس النائب منه ثلاثة آلاف دينار، وإلى الأمير شيخو ثلاثة آلاف دينار، ولجماعة من الأمراء كل واحد ألف دينار ولجماعة أخرى منهم كل أمير ألف دينار فامتنع شيخو من الأخذ، وقال: " أنا ما يحل لي أن أخذ من هذا شيئاً وقدم أيضاً حمل قطيا وهو مبلغ سبعين ألف درهم، وكانت قطيا قد أرصدت لنفقة المماليك فأخذ الوزير منجك من الحمل أربعين ألف، وزعم أنها كانت قرضاً في نفقة المماليك. فوقف المماليك إلى الأمير شيخو، وشكوا الوزير بسببها فحدث الأمير شيخو الوزير في الخدمة ليردها، فلم يفعل، وأخذ في الحط على ابن زنبور ناظر الخاص، وأنه يأكل المال جميعه، وطلب إضافة نظر الخاص له مع الوزارة والأستادرية. وألح منجك في ذلك عدة أيام، فمنعه شيخو من ذلك، وشد من أزر ابن زنبور، وقام بالمحاققة عنه، حتى غضب منجك بحضرة الأمراء في الخدمة. فمنع الأمير بيبغا روس النائب الوزير منجك من التحدث في الخاص، وانفض الجمع، وقد تنكر كل منهما على الآخر. فكثرت القالة بالركوب على النائب ومنجك حتى بلغهما ذلك، فطلب النائب الاعفاء من النيابة، وإخراج أخيه منجك من الوزارة، وأبدأ وأعاد حتى طال الكلام. ووقع الاتفاق على عزل منجك من الوزارة واستقراره أستادارا وشادا على عمل الجسور في النيل.
وفيه طلب الأمير أسندمر العمري المعروف برسلان بصل من كشف الجسور، ليتولى الوزارة. فخلع عليه في يوم الإثنين رابع عشريه خلعة الوزارة، و خرج إلى قاعة الصاحب، وجلس والموفق ناظر الدولة والمستوفون، وطلب جميع المشدين وأرباب الوظائف.
وفيه أخرج الأمير أحمد شاد الشربخاناه إلى نيابة صفد وسبب ذلك أنه كان قد كبر في نفسه، وقام مع المماليك على المظفر حتى قتل. ثم أخذ في تحريك الفتنة، واتفق مع ألجيبغا وطنبرق على الركوب. فبلغ الأمير بيبغا روس النائب الخبر، فطلب الإعفاء من النيابة وذكر ما بلغه. ورمى أحمد شاد الشرابخاناه بأنه صاحب فتن، ولابد من إخراجهم من بينهم؛ فطلب أحمد وخلع عليه، وأخرج من يومه.
وفي يوم الثلاثاء خامس عشريه: اجتمع القضاة الأربعة والفقهاء وكثير من الأمراء بالجامع الحاكمي، وقرأوا القرآن ودعوا الله. ثم اجتمعوا ثانياً في عصر النهار، فبعث الله مطراً كثيراً.(2/147)
وفي يوم الأربعاء سادس عشريه: أنعم على الأمير منجك بتقدمة أحمد شاد الشرابخلناه.
وفي يوم الخميس سابع عشريه: امتنع النائب من الركوب في الموكب، وأجاب بأنه ترك النيابة. فطلب إلى الخدمة، وسئل عن سبب تغيره، فذكر أن الأمراء المظفرية تريد إثارة الفتنة، وتبيت خيولهم في كل ليلة مشدودة، وقد اتفقوا على مسكه، وأشار لألجيبغا وطنيرق. فأنكرا ما ذكر عنهما، فحاققهما الأمير أرغون الكاملي أن ألجيبغا واعده بالأمس على الركوب في الغد إلى الموكب، ومسك بيبغا روس النائب والوزير منجك فعوتب ألجيبغا على هذا، فاعتذر بعذر لم يقبل منه، وظهر صدق ما رمي به؛ فخلع عليه بنيابة طرابلس، وعلى طينرق بإمرة في دمشق، وأخرجا من يومهما. فقام في حق طينرق صهره الأمير طشتمر طلليه حتى أعفي من السفر، وتوجه ألجيبغا لطرابلس، في ثاني ربيع الآخر بعدما أمهل أياما؛ فأقام الأمراء على حذر وقلق مدة أيام.
وكان ماء النيل قد نشف فيما بين مدينة مصر ومنشأة المهراني إلى زربية قوصون وفم الخور، وفيما بين الروضة والجزيرة الوسطى؛ وصار في أيام احتراق النيل رمالاً وكان قد ركب في الأيام الماضية جماعة من الأمراء والمهندسين ورؤساء المراكب للكشف عن ذلك، وقاسوا ما بين الجيزة والمقياس ليعملوه جسرا. فقال الريس يوسف: " ما يستد هذا البحر أبدا، ومتى ما سديتوه مال على الجيزة وأخربها " ورأى الأمير طقزدمر النائب أن عمل هذا الجسر يدفع قوة الماء إلى بر مصر وبولاق، ويخرب ما هناك من الأملاك. فقام الأمير ملكتمر الحجازي في شكر رجل عنده قد تكفل بسد ذلك، وقام الأمير طغيتمر النجمي بشكر رجل آخر. فرسم بإحضار الرجلين، ونزل النائب والوزير لعمل ذلك، وهما معهما فاستدعى صاحب الحجازي بالخشاب والصواري الكبار والحلفاء، وطلب مراكب لتملأ بالحجارة حتى يغرقها من جهة المقياس ويعمله سداً، ثم يرجع إلى السد الثاني فيسده بالتراب، وطلب الأبقار والجراريف فخالفه الآخر صاحب طغيتمر، وقال بل يسد من بستان الذهبي إلى رأس الجزيرة والتزم أنه لا يصرف عليه سوى أربعة آلاف درهم فسخر منه جميع من حضر، النائب كيف يكون هذا، فذكر أنه يسده بالحلفاء والخوص فعادوا إلى السلطان المظفر حاجي، فالتزم له أن يسد الجسر.مما تقدم ذكره، على أن يعطيه إقطاعاً، ويرتب له لحماً وعليقاً، وأن لم يسده شنقه السلطان.
فرسم للأمير أسندمر الكاشف ولشاد العمائر بالوقوف معه في العمل، فاستدعى الرجل بأخشاب وحلفاء وخوازيق، وطلب الرجال، وابتدأ العمل من موضع قليل الماء تجاه بستان الذهبي، ورمى فيه التراب والحلفاء ودكه بالرمال مدة أسبوع. وكلما سد موضعاً بالنهار قطعه الماء بالليل وعاد كما كان؛ فظهر جهله، وقصد السلطان تأديبه حتى شفع فيه النائب.
فقام صاحب الحجازي بالعمل، وكتب تقدير ما يحتاج إليه من صواري وأخشاب وغيرها مائة وخمسين ألف درهم، وذلك عن ثمن خمسمائة صاري، وألف حسنية وألف حجر عرض ذراعين في مثلها، وخمسة آلاف شنف وغير ذلك فرسم بجباية ذلك من الأملاك التي على شاطئ النيل من رأس الخليج إلى آخر بولاق، فاستخرج منها هو سبعين ألف درهم؛ وكان من انتقاض الدولة المظفرية ما كان.(2/148)
فلما كان في سنة تسع وأربعين هذه وقع الكلام في ذلك، فأراد الأمير شيخو أن يكون عمله على الأمراء والأجناد وفلاحي البلاد، فلم يوافقه الأمير منجك، واحتج بقرب زيادة النيل، وأن الغلات قد تعطل حملها في النيل من النواحي لقلة الماء في مواضع الحمل، والتزم بعمله من غير أن يسخر فيه أحدا. فيكب الأمير بيبغا روس النائب والأمير شيخو والأمير منجك وعامة الأمراء إلى الجزيرة، وقاسوا منها إلى المقياس، ليعمل هناك جسر. فذكرت البحارة أن هذا الموضع لا يمكن سده لكثرة كلفه، وأنهم إن سدوه أضر ببلاد الجيزة، وقوى الماء على جهة مصر، وأضر وأتلف ما على النيل من الدور فسفه الأمير منجك رأيهم، ورد قولهم، والتزم للأمراء بسده. فعادوا وقدروا مصروفه على الأمراء والأجناد والكتاب وأصحاب الأملاك، وسائر الناس وكتب أوراق من ديوان الجيش بأسماء الأجناد والأمراء وعبر إقطاعاتهم. وفرض على كل مائة دينار درهم واحد، وفرض على كل أمير من أمراء الألوف ما بين أربعة آلاف درهم إلى خمسة آلاف درهم، وفرض على بقية الأمراء الطبلخاناه والعشرات بحسبهم. ورسم أن يؤخذ من كل كاتب أمير مقدم مبلغ مائتي درهم، ومن كل كاتب أمير طبلخاناه مائة درهم. وفرض على كل حانوت من حوانيت التجار والباعة درهم، وعلى كل دار بالقاهرة ومصر وظواهرهما درهمان، وعلى كل بستان عشرة دراهم الفدان، وبعضها أخذ منه عن كل فدان عشرون درهماً، وعلى كل حجر من حجارة الطواحين خمسة دراهم. وجبى من كل صهريج ماء بتربة أو مدرسة ما بين عشر دراهم إلى خمسة دراهم، ومن كل تربة ما بين ثلاثة دراهم إلى درهمين وضقعت الأملاك التي استجدت من الدور والبساتين وغيرها، فيما بين بولاق إلى كوم الريش ومنية السيرج، والأحكار التي عمزت على الخليج الناصري، وبركة الطوابين المعروفة ببركة الرطلى، وقنطرة الحاجب وأرض الطبالة، وجامع حكر أخي صاروحا وقيست كلها وأخذ عن كل ذراع خمسة عشر درهماً، وأخذ من أقمنة الطوابين والفواخير. وطلب مباشرو أوقاف الشافعي وأوقاف المدارس الصالحية والظاهرية والمارستان وسائر الأوقاف، وألزموا بمال. وكتب بطلب الرهبان من الديارات بالأعمال، وقرر على كل منهم ما بين المائتي درهم إلى المائة درهم، وأن يؤخذ عن كل نخلة ببلاد الصعيد درهم. وجبى من المتعيشين في القاهرة ومصر ما بين درهم كل واحد إلى عشرة دراهم، ومن كل قاعة ثلاثة دراهم، ومن كل طبقة درهمان، ومن كل مخزن أو اسطبل درهم، ومن كل فندق وخان بحسبه. وقرر على ضامنة المغاني خمسة آلاف درهم.
وعمل موضع المستخرج من الناس خان مسرور بالقاهرة، وشاد المستخرج الأمير تلك. وعمل لكل جهة من هذا الجهات شاد وكاتب، وعدة أعوان من الرسل وصيرفي.
فارتجت أحوال المدينتين وأعمالهما وبطلت الأسباب لسعى الناس فيما عليهم وتسلطت العرفاء والضمان وأصحاب الرباع والرسل على كل أحد، فلم يبق رجل ولا امرأة حتى جبوا منه، وكان الواحد منهم يغرم للرقاص والصيرفي والشاد، ويعطي أجرة الشهود الذين يشهدون عليه أنه قام.مما عليه.
وشرع منحك في جميع الأصناف المحتاج إليها، وضرب له خياماً على جانب النيل بالروضة. ونودي في الناس من أراد العمل فله درهم ونصف، وثلاثة أرغفة خبز؛ فاجتمع له خلائق، وعمل لهم موضعاً يستظلون فيه حر الشمس؛ ورفق منجك بهم في العمل. وأقام منجك عدة من الحجارين لقطع الحجارة من الجبل، ونقلها إلى الساحل، وحملها في المراكب لبر الجيزة، لعمل جسر من الجيزة إلى المقياس. ورتب منجك عمل جسر آخر من الروضة إلى الجزيرة الوسطى، وأقام الأخشاب بجانبي كل جسر منهما، وردم التراب والحجارة في وسطه مع الحلفاء، ورتب جمال السلطان لقطع الطين من بر الروضة ورميه بوسط الجسر؛ وأقام على كل جهة شادين ومستحثين. وأقام منجك الصارم شاد العمائر على العمل، ورسم ألا يتاخر عنه صانع، والزم تجار مصر وغيرهم بنقل التراب إلى الجسر؛ فكان الرجل منهم يغرم في نقل التراب ما بين الخمسمائة إلى آلاف درهم؛ ورميت عشر مراكب مملوءة حجارة في وسط جسر المقياس. ولم يزل العمل مدة أربعة أشهر، أولها مستهل المحرم وآخرها سلخ ربيع الآخر.(2/149)
وكان منجك قد حفر أيضاً خليجاً تحت الدور من موردة الحلفاء إلى بولاق فلما زاد النيل جرى الماء فيه، ودخلته المراكب الصغار. ففرح الناس به، وسروا سرورا زائدا، ونسوا ما نزل بهم من الغرامة والمشقة.
غير أن الشناعة قامت على منجك، لكثرة ما جبى من الأموال العظيمة، حتى أراد بيبغا روس النائب منعه من ذلك، فلم يقبل منه، ولم يتم من العمل سوى ثلثيه وقويت الزيادة، فبطل العمل.
وكان القاع في هذه السنة أربعة أذرع، ونودي في أول الزيادة بإصبعين، ثم بعشر أصابع، ثم بخمسة عشر إصبعا، ثم بثمان، ثم بعشرين. ولم تزل الزيادة تقوى حتى غرقت المقاتي، والتقى البحر برأس الخليج الذي استجد فيه الماء. ثم علا الماء على الجسر، وكاد يقطعه.
فركب منجك ومعه والي الجيزة وخلائق من العامة والأمراء، وردمه بالتراب، فاندفع الماء إلى جهة الميدان وزربية قوصن. فكان قياس جسر الجزيرة الوسطى مائتي قصبة في عرض ثماني قصبات، وارتفاع أربع قصبات، وطول جسر المقياس مائتين وثلاثين قصبة، وعدة ما رمى فيه من المراكب الحجر اثنا عشر ألف مركب، سوى التراب والطين؛ وغرم عليه ما لا يمكن حصره. ويقال إنه جبى من الناس بسببه زيادة على ثلاثمائة ألف دينار، فإن الرجل كان يفرض عليه درهمان، فيغرم فيما تقدم ذكره عشرة دراهم.
وفي يوم الإثنين خامس عشر ربيع الآخر: أعيد الأمير منجك اٍ لى الوزارة، باستعفاء أسندمر العمرى، لتوقف أحوال الدولة.
وفيه أخرج من الأمراء المظفرية لاجين العلائى، وطيبغا المظفرى، ومنكلى بغا المظفرى وفُرقوا ببلاد الشام.
وفيه قدم من جهة أَولاد جوبان قاصد.بمال لعمارة عين جوبان بمكة، وإجراء الماء إليها وقد انقطع. فلم توافق الأمراء على ذلك، وعينوا فارس الدين قريب ال ملك لعمارتها، صحبة الرجبية. ورُسم لقاضى القضاة عز الدين بن جماعة بالإنفاق عليها من مال الحرمين فاًخذ فى الاهتمام للسفر.
وفيه خلع على أيتمش الناصرى الحاجب، واستقر أمير جاندار.
وفيه خلع على الأمير جركتمر، واستقر نائب الكرك، بعد وفاة تمربغا العقيلى وفيه قدمت هدية الأمير شاه نائب الشام وقوده، بزيادة عما جرت به العادة، وهى مائة وأربعون فرسًا بعبى تدممرية، فوقها أجلة أطلس، ومقاود سلاسلها فضة، ولواوين بحلق فضة، وأربعة قطر هجن سلاسل مقاردها الحرير من فضة وذهب، وأكوارها مغشاة بذهب، وأربعة كنافيش ذهب عليها ألقاب السلطان، وتعابى قماش مفتخر. و لم يدع الأمير أرغون شاه نائب الشام أحدَا من الأمراء المقدمين، ولا من أرباب الوظائف حتى الفراش ومقدم الاسطبل، ومقدم الطبلخاناه والطباخ، حتى بعث إليهم هدية. فخلع على مملوكه عدة خلع، وكُتب إليه بزيادة على اٍقطاعه، ورسم له بتفويض حكم الشام اٍليه، يعزل ويولى بحسب اختياره.
وفيه خلع على صدر الدين الكازاتى بمشيخة الشيوخ بخانكاه سرياقرس عرضاعن الركن الملطى. وكان هذا الرجل قد ورد اٍلى مصر، وأقام بها لا يؤبه له حتى نيابة بيبغا روس ووزارة منجك، فتردد إليهما، وأظهر التزهد ومعرفة العلم، وصنف كتابًا على مذهب الحنفية بالتركى، وقدمه لهما، فراج به عندهما، وكان قد تحرك للحنفية حظ مندْ أعوام. ثم سألهما صدر الدين هذا فى مشيخة الشيوخ، جْمع بيبغا روس النائب الشيخ شمس الدين محمد الأصفهانى وعامة صوفية الخوانك وشمايخها بجامع القلعة وعرفهما الأمير قبلاى الحاجب عن الأمير بيبغا روس النائب أن الركن الملطى له منذ غاب سبع سنين، وقد ثبتت عنده وفاته، وعين عوضه الكازاتى ة فأنكروا بأجمعهم ولايته، ووضعوا منه فشق ذلك على الأمير بيبغا روس النائب ورسم بحضورهم بعد العصر في الخدمة. فلما حضروا خلع بيبغا روس على الكازاتي، فلم يتكلم أحد منهم فنزل وهم معه.
وفيه أنعم على خليل بن قوصون بإمرة طبلخاناه، وعلى ابن المجدي بإمرة طبلخاناه أيضا.
وفي جمادى الأولى: ركب السلطان إلى الميدان على العادة، ثم خرج إلى ناحية سرياقوس في أول جماد الأولى، وأقام بها أياما. فكثر تسلط السراق على الناس، فوكل بهم الوزير منجك عرب بني صبرة بإقطاعات، وندبهم للركوب في الليل، ودركهم تلك الأراضي.
وفي مستهل رجب: جهز لعمارة عين جوبان من مال الحرمين مبلغ مائتي ألف درهم.(2/150)
وفيه قدم الخبر بوقعة كانت بين الشيخ حسن وأولاد دمرداش، وانتصر فيها أولاد دمرادش، وقتلوا كثيراً من عسكر الشيخ حسن.
وفيه قدم أحمد بن مهنا، فخلع عليه، واستقر في إمرة العرب، وتوجه إلى بلاده وهو مريض وفيه أنعم على الأمير أسندمر العمري بإمرة كوكاى المنصوري، بعد موته؛ وأنعم بإمرة أسندمر على الأمير نوروز.
وفيه أخرجت ناحية بوصير عن الوزير منجك، وعوض عنها ناحية برما، وهي مثلا بوصير.
وفيه أوقعت الحوطة على بقية موجود عنبر السحرتي، بعد موته.
وفيه ولي الوزير مازان الغربيه، وولي ابن سلمان منوف عوضا عن مازان وولي صلاح الدين بن العنتابي البهنساوية، وكان جملة ما أخذ من المذكورين ستة آلاف دينار.
وفيه سار ركب الحجاج الرجبية على العادة.
وفيه أنعم على ابن الوزير منجك بإمرة مائة.
وفيه وفر إقطاع الأمير قشتمر شاد الدواوين، وأقطع المماليك، وأنعم عليه باقطاع الأمير جركتمر.
وفيه وفرت جوامك جماعة ورواتبهم.
وفيه قصد عدة من أطراف الناس باب الوزير للسعي في الوظائف.بمال، فلم يرد أحداً؛ وكثر طعن الأمراء فيه بسبب ذلك.
وفيه توجه الأمير طاز لسرحة البحيرة، وأنعم عليه بألف عليقة.
وفيه توجه ببيغا روس النائب إلى العباسة، ثم توجه إلى الإسكندرية؛ فأنعم عليه من مالها بستة آلاف دينار، وأتته تقادم جليلة.
وفي هذا الأيام: كثر سقوط الدور التي على النيل، وذلك أن ماء النيل كثرت زيادته في ابتداء أوانها حتى غرقت المقاتى كما تقدم ذكره، إلى أن كان الوفاء في يوم الجمعة أول جمادى الأولى، وهو ثامن مسرى. ثم ولت زيادته، وتوقف أياماً؛ ثم نقص إلى يوم عيد الصليب حمس أصابع، فقلق الناس قلقا زائداً. فمن الله بزيادته حتى رد ما نقصه؛ وثبت على سبعة عشر ذراعا وثمان عشرة إصبعا. فشمل الري البلاد وانحط سعر الغلال. فلما أخذ ماء النيل في الهبوط تساقطت الدور المجاورة للماء شيئاً بعد شيء، ثم سقط أحد عشر بيتا بناحية بولاق دفعة واحدة من شدة القلقيلة، فإن الماء لما عمل الجسر الذي تقدم ذكره اندفع على ناحية بولاق، وقوى هناك حتى سقطت الدور المذكورة وسقط ما خلفها، وذهب فيها مال كبير للناس في الغرق ونهب الأوباش. ثم خرب ربع السنافي، وقطعة من ربع الخطيرى، وعدة دور.
وفيه كثرت الأخبار بوقوع الوباء في عامة أرض مصر، وتحسين جميع الأسعار، وكثرة أمراض الناس بالقاهرة ومصر؛ فخرج السلطان والأمراء إلى سرياقوس. فكثر الوباء حتى بلغ في شعبان عدد من يموت في كل يوم مائتي إنسان، فوقع الاتفاق على صوم السلطان شهر رمضان بسرياقوس.
وفيه قدم محضر ثابت على قاضى حلب بجماعة من القادمين إليها أنهم شاهدوا بواد في ناحية توريز أفاعي ذات خلق عظيم من الطول والضخامة، وقد اجتمع منها عدد كثير جداً. وصارت فرقتين، واقتتلت يوما كاملا حتى دخل الليل فافترقوا، ثم عادوا من الغد بكزة النهار إلى القتال، وأقاموا كذلك ثلاثة أيام. وفي اليوم الرابع قويت إحدى الفرقتين على الأخرى، وقتلت منها مقتلة عظيمة، وانهزم باقيها، فلم تدع في هزيمتها حجراً إلا قصمته، ولا شجراً إلا قلعته من أصله، ولا حيوانا إلا أتلفته؛ فكان منظراً مهولا.
وفيه قدم فياض بن مهنا بقوده، وفيه اثنان وسبعون فرسا، أقلها بعشرة آلاف درهم، وأوسطها بعشرين ألفا، وأغلاها بثلاثين ألفا، سوى الهجن وغيرها. وقدم صحبته أحمد ططر أمير بني كلاب، وندا أمير آل مرا؛ فأكرم ندا وأحمد ططر، وأعيدا إلى بلادهما؛ وقبض على فياض، وأخذت خيوله وما معه، وحمل إلى الإسكندرية، فسجن بها.
وفيه قدم الخبر بقتل الأمير صعبه كاشف الوجه القبلي، فيما بين عرك وبني هلال، وقتل كثير من أصحابه، وأخذ ما معهم. وشن العرب بعد قتله الغارات على البلاد، وأمعنوا في نهب الغلال وقطع الطرقات، وذلك بعد دخولهم سيوط ونهبها. فعين عشرة أمراء للتجريدة، ثم تأخر سفرهم خوفاً على الزرع وفي ثالث ذي الحجة: أخرج الأمير طشبغا الدوادار إلى الشام. وسببه مفاوضة جرت له مع علاء الدين علي بن فضل الله كاتب السر؛ أفضت به إلى أن أخذ بأطواق كاتب السر، ودخلا على الأمير شيخو كذلك. فأنكر شيخو عليه ذلك، وبقى بطالا، وعمل قطليجا الأرغوني دواداراً عوضه.
وفيه أنعم على جاورجي مملوك قوصون بإمرة عشرة، وعلى عرب بن ناصر الدين الشيخي بإمرة طبلخاناه.(2/151)
وفيه قدم محمل سيس بحق النصف، لخراب البلاد من كثرة الفناء بها.
وفيه كتب بولاية حياد بن مهنا إمرة العرب.
وفيه قدم الخبر بخروج عشير الشام عن الطاعة، وكثرة الحروب بينهم، وقتل بعضهم بعضا، ونهب الغرد ونابلس، وكثرة فساد عرب الكرك وقطعهم الطرقات، وكسرهم الأمير جركتمر نائب الكرك.
وفيه أخرج يلجك قريب لنيابة غزة عوضاً عن أحمد الساقي؛ وقدم أحمد الساقي إلى مصر.
وفيه انحلت إقطاعيات كثيرة لموت الناس، فوفر الوزير جوازك الحاشية ورواتبها؛ وقطعت مثالات لجميع أرباب الوظائف وأصحاب الأشغال، والمرتبين في الصدقات، والكتاب والموقعين، والمماليك السلطانية، على قدر ما بأسمائهم.
وفيه توقفت الأحوال بالقاهرة ومصر، وغلقت أكثر الحوانيت بسبب زغل الفلوس بالرصاص والنحاس. فنودي ألا يأخذ من الفلوس إلا ما عليه سكة، وبرد الرصاص والنحاس الأصفر، فمشت الأحوال.
وفيه رسم أن يجلس الأمير بيغرا أمير جندار رأس الميسرة، واستقر الأمير أيتمش الناصري عوضاً أمير جندار، واستقر الأمير قبلاوي حاحب الحجاب عوضا عن أيتمش. وفيه استقر ابن الأطروش في قضاء العسكر على مذهب أبى حنيفة، ولم يعرف أحدا قبله ولي هذا.بمصر؛ واستقر تاج الدين محمد بن إسحاق المناوي في قضاء العسكر على مذهب الشافعي.
وفيه استقر خاص ترك بن طغيه الكاشف في ولاية منفلوط، واستقر مجد الدين موسى بن الهذباني والي الأشمونين في كشف الوجه القبلي، بعد قتل طغيه بم ونقل محمد ابن أياس الدويداري من ولاية أشموم إلى ولاية البهنساوية.
وفيه استقر نجم الدين عبد القاهر بن عبد الله بن يوسف في قضاء الشافعية بحلب عوضا عن نور الدين محمد بن محمد بن محمد بن الصابغ، بعد وفاته. واستقر زين الدين عمر بن يوسف بن عبد الله بن أبي السفاح كاتب السر بحلب، عوضا عن جمال الدين إبراهيم بن الشهاب محمود.
وفيها وجد للشيخ حسن متولي بغداد بدار الخلافة دفينا في خربة مبلغ نحو عشرة قناطير دمشقية ذهباً.
فكانت سنة كثيرة الفساد في عامة أرض مصر والشام، من كثرة النفاق، وقطع الطريق، وولاية الوزير منجك جميع أعمال المملكة بالمال، وانفراده وأخيه الأمير بيبغا روس النائب بالتدبير، دون كل أحد.
ومع ذلك فكان فيها الوباء الذي لم يعهد في الإسلام مثله، فإنه ابتدأ بأرض مصر آخر أيام التخضير وذلك في فصل الخريف في أثناء سنة ثمان وأربعين. وما أهل محرم سنة تسع وأربعين حتى انتشر الوباء في الإقليم بأسره، واشتد بديار مصر في شعبان ورمضان وشوال، وارتفع في نصف ذي القعدة.
وكان يموت بالقاهرة ومصر ما بين عشرة آلاف إلى خمسة عشر ألف إلى عشرين ألف نفس في كل يوم. وعملت الناس التوابيت والدكك لتغسيل الموتى للسبيل بغير أجره، وحمل أكثر الموتى على ألواح الخشب وعلى السلالم والأبواب، وحفرت الحفائر وألقوا فيها. وكانت الحفرة يدفن فيها الثلاثون والأربعون، وأكثر. وكان الموت بالطاعون يبصق الإنسان دماً، ثم يصيح ويموت؛ وعم مع ذلك الغلاء الدنيا جميعها.
ولم يكن هذا الوباء كما عهد في إقليم دون إقليم، بل عم أقاليم الأرض شرقا وغربا وشمالا وجنوبا جميع أجناس بني أدم، وغيرهم حتى حيتان البحر وطير السماء ووحش البر.
وأول ابتدائه من بلاد القان الكبير حيث الإقليم الأول، وبعدها من توريز إلى أخرها ستة أشهر، وهى بلاد الخطا والمغل، وأهلها يعبدون النار والشمس والقمر، وتزيد عدتهم على ثلاثمائة جنس. فهلكوا بأجمعهم من غير علة، في مشاتيهم ومصايفهم، وفي مراعيهم، وعلى ظهور خيولهم، وماتت خيولهم، وصاروا كلهم جيفاً مرمية فوق الأرض، وذلك في سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، على ما وصلت به الأخبار من بلاد أزبك ثم حملت الريح نتنتهم إلى البلاد، فما مرت على بلد ولا خركاه ولا أرض، إلا وساعة يشمها إنسان أو حيوان مات لوقته وساعته. فهلك من زوق القان الكبير خلائق لا يحصى عددها إلا الله، ومات القان وأولاده الستة، و لم يبق بذاك الإقليم من يحكمه.(2/152)
ثم اتصل الوباء ببلاد الشرق جميعها، وبلاد أزبك وبلاد اسطنبول وقيصرية الروم؛ ودخل إلى أنطاكية حتى باد أهلها. وخرج جماعة من جبال أنطاكية فارين من الموت، فماتوا بأجمعهم في طريقهم؛ وبدت فرس منهم بعد موتهم عائدة إلى جبالهم، فأخذ بقية من تأخر بها في تتبع آثارهم حتى تعرف خبرهم، فأخذوا ما تركوا من المال وعادوا، فأخذهم الموت أيضاً في طريقهم، ولم يرجع إلى الجبل إلا القليل، فماتوا مع أهاليهم جميعاً إلا قليلا نجوا إلى بلاد الروم، فأصابهم الوباء.
وعم الوباء بلاد قرمان وقيصرية وجميع جبالها وأعمالها، ففني أهلها ودوابهم ومواشيهم. فرحلت الأكراد خوفاً من الموت، فلم يجدوا أرضاً إلا وفيها الموتى، فعادوا إلى أرضهم، وماتوا جميعاً.
وعظم الموتان ببلاد سيس، ومات من أهل تكفور في يوم واحد.بموضع واحد مائة وثمانون نفساً؛ وخلت سيس وبلادها.
ووقع في بلاد الخطا مطر لم يعهد مثله في غير أوانه، فماتت دوابهم ومواشيهم عقيب ذلك المطر حتى فنيت، ثم مات الناس والطيور والوحوش حتى خلت بلاد الخطا؛ وهلك ستة عشر ملكاً في مدة ثلاثة أشهر. وباد أهل الصين، و لم يبق منهم إلا القليل؛ وكان الفناء ببلاد الهند أقل منه ببلاد الصين.
ووقع الوباء ببغداد أيضاً، وكان الإنسان يصبح وقد وجد بوجهه طلوعاً، فما هو إلا أن يمر بيده عليه مات فجأة. وكان أولاد دمرداش قد حصروا الشيخ حسن بها، ففجأهم الموت في عسكرهم من وقت المغرب إلى باكر النهار من الغد، حتى مات عدد كثير فرحلوا وقد مات منهم ستة أمراء ونحو ألف ومائتا رجل. ودواب كثيرة؛ فكتب الشيخ حسن بذلك إلى سلطان مصر.
وفي أول جمادى الأولى: ابتدأ الوباء بأرض حلب، فعم جميع بلاد الشام وبلاد ماردين وجبالها، وباد أهل الغور وسواحل عكا وصفد، وبلاد القدس ونابلس والكرك، وعربان البوادي وسكان الجبال والضياع. و لم يبق في بلدة جينين سوى عجوز واحدة خرجت منها فارة. ولم يبق.بمدينة لد أحد، ولا بالرملة؛ وصارت الخانات وغيرها ملآنة بجيف الموتى. ولم يدخل الوباء معرة النعمان من بلاد الشام، ولا بلد شيزر، ولا حارم. وأول ما بدأ الوباء بدمشق كان يخرج خلف أذن الإنسان بثرة فيخر صريعاً ثم صار يخرج بالإنسان كبة تحت إبطه، فلا يلبث ويموت سريعا. ثم خرجت بالناس خيارة، فقتلت قتلا كثيراً. وأقاموا على ذلك مدة، ثم بصقوا الدم، فاشتد الهول من كثرة الموت حتى أنه أكثر من كان يعيش بعد نفث الدم نحو خمسين ساعة.
وبلغ عدد من يموت بحلب في كل يوم خمسمائة إنسان، ومات بغزة من ثاني المحرم إلى رابع صفر - على ما ورد في كتاب نائبها - زيادة على اثنين وعشرين ألف إنسان، حتى لقت أسواقها.
وشمل الموت أهل الضياع بأرض غزة، وكان أواخر زمان الحرث. فكان الرجل يوجد ميتا والمحراث في يده، ويوجد أخر قد مات وفي يده ما يبذره، وماتت أبقارهم. وخرج رجل بعشرين نفرا لإصلاح أرضه، فماتوا واحداً بعد واحد، وهو يراهم يتساقطون قدامه. فعاد إلى غزة، وسار منها إلى القاهرة. ودخل ستة نفر لسرقة دار بغزة فأخذوا ما في الدار ليخرجوا به فماتوا كلهم. وفر نائبها إلى ناحية بدعرش، وترك غزة خالية.
ومات أهل قطا، وصارت جثثهم تحت النخيل وعلى الحوانيت، حتى لم يبق بها سوى الوالي وغلامين من أصحابه وحاربة عجوز. وبعث الوالي يستعفي، فولى الوزير عوضه مبارك أستادار طغجى.(2/153)
وعم الوباء بلاد الفرنج، وابتدأ في الدواب، ثم الأطفال والشباب. فلما شنع الموت فيهم جمع أهل قبرص من في أيديهم من الأسرى المسلمين، وقتلوهم جميعاً من بعد العصر إلى المغرب، خوفا أن يبيد الموت الفرنج، فتملك المسلمون قبرص. فلما كان بعد عشاء الآخرة هبت ريح شديدة، وحدثت زلزلة عظيمة، وامتد البحر من المينة نحو مائة قصبة فغرق كثير من مراكبهم وتكسرت. فظن أهل قبرص أن الساعة قامت، فخرجوا حيارى لا يدرون ما يصنعون، ثم عادوا إلى منازلهم، فإذا أهاليهم قد ماتوا، وهلك لهم ثلاثة ملوك واستمر الوباء فيهم مدة أسبوع، فركب فيهم ملكهم الذي ملكوه عليهم رابعاً بجماعته في مركب يريدون جزيرة بقرب منهم، فلم يمض عليهم في البحر سوى يوم وليلة حتى مات أكثرهم في المركب؛ ووصل باقيهم إلى الجزيرة، فماتوا بها عن أخرهم. ووافى هذه الجزيرة بعد موتهم مركب فيها تجار، فماتوا كلهم وتجارتهم إلا ثلاثة عشر رجلا، فمروا إلى قبرص وقد بقوا أربعة نفر، فلم يجدوا بها أحداً؛ فساروا إلى طرابلس الغرب، وحدثوا بذلك، فلم تطل إقامتهم بها وماتوا.
وكانت المراكب إذا مرت بجزائر الفرنج لا تجد ركابها بها أحدا، وإن صدفت أحدا في بعضها يدعوهم أن يأخذوا من أصناف البضائع بالصبر بغير ثمن؛ لكثرة من كان يموت عندهم صاروا يلقون في البحر. وكان سبب الموت عندهم ريح تمر على البحر، فساعة يشمها الإنسان سقط، ولا يزال يضرب برأسه الأرض حتى يموت.
وقدمت مركب إلى الإسكندرية فيها اثنان وثلاثون تاجراً وثلاثون رجل، ما بين تجار وعبيد؛ فماتوا كلهم، و لم يبق منهم غير أربعة من التجار وعبد واحد، ونحو أربعين من البحارة؛ فماتوا جميعاً بالثغر، وعم الموت أهل حزيرة الأندلس، إلا مدينة غرناطة، فإنه لم يصب أهلها منه شيء وباد من عداهم حتى لم يبق للفرنج من يمنع أموالهم. فأتتهم العرب من إفريقية تريد أخذ الأموال إلى أن صاروا على نصف يوم منها، مرت بهم ريح، فمات منهم على ظهور الخيل جماعة كثيرة. ودخلها باقيهم، فرأوا من الأموات ما هالهم، وأموالهم ليس لها من يحفظها، فأخذوا ما قدروا عليه، وهم يتساقطون موتى. فنجا من بقي منهم بنفسه، وعادوا إلى بلادهم، وقد هلك أكثرهم؛ والموت قد فشا بأرضهم، بحيث مات منهم في ليلة واحدة عدد عظيم، وماتت مواشيهم ودوابهم كلها.
وعم الموتان إفريقية بأسرها، جبالها وصحاريها ومدنها، وجافت من الموتى، وبقيت أموال العربان سائبة لا تجد من يرعاها. ثم أصاب الغنم داء، فكانت الشاه إذا ذبحت وجد لحمها منتنا قد اسود. وتغير أيضاً ريح السمن واللبن، وماتت المواشي بأسرها. وشمل الوباء أيضاً أرض برقة إلى الإسكندرية، فصار يموت بها في كل يوم مائة. ثم مات بالإسكندرية في اليوم مائتان، وشنع ذلك حتى أنه صلى في يوم الجمعة بالجامع الإسكندري دفعة واحدة على سبعمائة جنازة. وصار يحملون الموتى على الجنويات والألواح. وغلقت دار الطراز لعدم الصناع، وغلقت دار الوكالة لعدم الواصل إليها، وغلقت الأسواق وديوان الخمس؛ وأريق من الخمر ما يبلغ ثمنه زيادة على خمسمائة دينار. وقدمها مركب فيه إفرنج، فأخبروا أنهم رأوا بجزيرة طرابلس مركبا عليه طير يحوم في غاية الكثرة، فقصدوه فإذا جميع من فيه من الناس موتى، والطير تأكلهم، وقد مات من الطير أيضاً شيء كثير، فتركوهم ومروا، فما وصلوا إلى الإسكندرية حتى مات زيادة على ثلثيهم.
وفشى الموت.بمدينة دمنهور، وتروجه، والبحيرة كلها حتى عم أهلها؛ وماتت دوابهم فبطل من الوجه البحري سائر الضمانات، والموجبات السلطانية.
وكل الموت أهل البرلس ونستراوه، وتعطل الصيد من البحرة لموت الصيادين. وكان يخرج بها في المراكب عدة من الصيادين لصيد الحوت، فيموت أكثرهم في المراكب ويعود من بقي منهم فيموت بعد عوده من يومه هو وأولاده وأهله. ووجد في حيتان البطارخ شيء منتن، وفيه على رأس البطرخة كبه قدر البندقة قد اسودت. ووجد في جميع زراعات البرلس وبلحها وقثائها دود، وتلف أكثر ثمر النخل عندهم.
وصارت الأموات على الأرض في جميع الوجه البحري، ولا يوجد من يدفنها وعظم الوباء بالمحلة حتى أن الوالي كان لا يجد من يشكو إليه؛ وكان القاضي إذا أتاه من يريد الإشهاد على وصيته لا يجد من العدول أحداً إلا بعد عناء لقلتهم؛ وصارت الفنادق تجد من يحفظها.(2/154)
وعم الوباء جميع تلك الأراضي، ومات الفلاحون بأسرهم، فلم يوجد من يضم الزرع وزهد أرباب الأموال في أموالهم، وبذلوها للفقراء. فبعث الوزير منجك إلى الغربية كريم الدين مستوفي الدولة ومحمد بن يوسف مقدم الدولة في جماعة، فدخلوا سنباط وسمنود وبوصير وسنهور وأبشيه ونحوها من البلاد، وأخذوا مالاً كثير لم يحضروا منه سوى ستين ألف درهم.
وعجز أهل بلبيس وسائر البلاد الشرقية عن ضم الزرع، لكثرة موت الفلاحين. وكان ابتداء الوباء من أول فصل الصيف، وذلك في أثناء ربيع الآخر. فجافت الطرقات بالموتى، ومات سكان بيوت الشعر ودوابهم وكلابهم وتعطلت سواقي ألحنا، وماتت الدواب والمواشي وأكثر هجن السلطان والأمراء. وامتلأت مساجد بلبيس وفنادقها وحوانيتها بالموتى، ولم يجدوا من يدفنهم، وجافت سوقها فلم يقدر أحد على القعود فيه؛ وخرج من بقي من باعتها إلى ما بين البساتين. ولم يبق بها مؤذن، وطرحت الموتى بجامعها، وصارت الكلاب فيه تأكل الموتى، ورحل كثير من أهلها إلى القاهرة وتعطلت بساتين دمياط وسواقيها، وجفت أشجارها، لكثرة موت أهلها ودوابهم، وصارت حوانيتها مفتحة والمعايش بها لا يقربها أحد، وغلقت دورها. وبقيت المراكب في البحيرة، وقد مات الصيادون فيها والشباك بأيديهم مملوءة سمكاً ميتاً، فكان يوجد في السمكة كبة. وهلكت الأبقار الخيسية والجاموس في المراحات والجزائر، ووجد فيها أيضاً الكبة.
وقدم الخبر من دمشق بأن الوباء كان بها أخف مما كان بطرابلس وحماة وحلب، فلما دخل شهر رجب والشمس في برج الميزان أوائل فصل الخريف هبت ريح في نصف الليل شديدة جداً، واستمرت حتى مضى من النهار قدر ساعتين، واشتدت الظلمة حتى كان الرجل لا يرى من بجانبه؛ ثم انجلت، وقد علت وجوه الناس صفرة ظاهرة في وادي دمشق كله. وأخذ فيهم الموت منه شهر رجب، فبلغ في اليوم ألفا ومائتي إنسان. وبطل إطلاق الموتى من الديوان، فصارت الأموات مطروحة في البساتين وعلى الطرقات. فقدم على قاضي دمشق تقي الدين السبكي رجل من جبال الروم، وأخبره أنه لما وقع الفناء ببلاد الروم رأى رسول صلى الله عليه وسلم، فشكا إليه ما نزل بالناس من الفناء، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: " اقرأوا سورة نوح ثلاثة آلاف وثلاثمائة وستين مرة، واسألوا الله أن يرفع عنكم ما أنتم فيه " ؛ فعرفهم قاضي دمشق ذلك. فاجتمع الناس في المساجد، وفعلوا ما ذكر لهم، وتضرعوا إلى الله، وتابوا من ذنوبهم، وذبحوا أبقاراً وأغناما كثيرة للفقراء مدة سبعة أيام، والفناء يتناقص كل يوم حتى زال. فنودي في دمشق باجتماع الناس بالجامع الأموي، فصاروا إليه جميعاً، وقرأوا به صحيح البخاري في ثلاثة أيام وثلاث ليال؛ ثم خرج الناس كافة بصبيانهم إلى المصلى، وكشفوا رءوسهم وضجوا بالدعاء، وما زالوا على ذلك ثلاثة أيام، فتناقص الوباء حتى ذهب بالجملة.
وابتدأ الوباء في القاهرة ومصر بالنساء والأطفال، ثم في الباعة، حتى كثر عدد الأموات. فركب السلطان إلى سرياقوس، وأقام بها من أول رجب إلى العشرين منه وقصد العود إلى القلعة، وأشير عليه بالإقامة بسرياقوس وصوم شهر رمضان بها. فبلغت عدة من يموت ثلاثمائة نفر كل يوم بالطاعون موتاً وجباً في يوم أو ليلة، فما فرغ شهر رجب حتى بلغت العدة زيادة على الألف في كل يوم. وصار إقطاع الحلقة ينتقل إلى ستة أنفس في أقل من أسبوع؛ فشرع الناس في فعل الخير، وتوهم كل أحد أنه ميت وقدم كتب نائب حلب بأن بعض أكابر الصلحاء بحلب رأى النبي صلى الله عليه وسلم في نومه، وشكا إليه ما نزل بالناس من الوباء، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بالتوبة والدعاء وهو: " اللهم سكن هيبة صدمى قهرمان الحروب، بألطافك النازلة الواردة من فيضان الملكوت، حتى نتشبث بأذيال لطفك، و نعتصم بك عن إنزال قهرك. ياذا القوة والعظمة الشاملة، والقدرة الكاملة، يا ذا الجلال والإكرام " ، وأنه كتب بها عدة نسخ بعث بها إلى حماة وطرابلس ودمشق.
وفي شعبان: تزايد الوباء في القاهرة، وعظم في رمضان، وقد دخل فصل الشتاء فرسم بالاجتماع في الجوامع للدعاء.(2/155)
وفي يوم الجمعة سادس رمضان نودي أن يجتمع الناس بالصناجق الخليفية، والمصاحف عند قبة النصر، فاجتمع الناس بعامة جوامع مصر والقاهرة، وخرج المصريون إلى مصلى خولان بالقرافة، واستمرت قراءة البخاري بالجامع الأزهر وغيره عدة أيام، والناس يدعون الله تعالى ويقنتون في صلواتهم، ثم خرجوا إلى قبة النصر، وفيهم الأمير شيخو والوزير منجك والأمراء، بملابسهم الفاخرة من الذهب ونحوه، في يوم الأحد ثامنه.
وفيه مات الرحل الصالح عبد الله المنوفي، فصلى عليه ذلك الجمع العظيم. وعاد الأمراء إلىسرياقوس، وانفض الجمع. واشتد الوباء بعد ذلك حتى عجز الناس عن حصر الأموات. فلما انقضى شهر رمضان قدم السلطان من سرياقوس، وحدث في شوال بالناس نفث الدم، فكان الإنسان يحس في بدنه بحرارة، ويجد في نفسه غثيان، فيبصق دماً ويموت عقيبه، ويتبعه أهل الدار واحد بعد واحد حتى يفنوا جميعاً بعد ليلة أو ليلتين؛ فلم يبق أحد إلا وغلب على ظنه أنه يموت بهذا الداء. واستعد الناس جميعاً، وأكثروا من الصدقات، وتحاللوا وأقبلوا على العبادة.
ولم يحتج أحد في هذا الوباء إلى أشربة ولا أدوية ولا أطباء، لسرعة الموت. فما تنصف شوال إلا والطرقات والأسوق قد امتلأت بالأموات، وانتدبت جماعة لمواراتهم، وانقطع جماعة للصلاة عليهم في جميع مصليات القاهرة ومصر. وخرج الأمر عن الحد، ووقع العجز عن العدو، وهلك أكثر أجناد الحلقة؛ وخلت أطباق القلعة من المماليك السلطانية لموتهم.
وما أهل ذو القعدة: إلا القاهرة خالية مقفرة، لا يوجد في شوارعها مار، بحيث إنه يمر الإنسان من باب زويلة إلى باب النصر فلا يرى من يزاحمه، لكثرة الموتى والاشتغال بهم وعلت الأتربة على الطرقات، وتنكرت وجوه الناس، وامتلأت الأماكن بالصياح، فلا تجد بيتا إلا وفيه صبحة، ولا تمر بشارع إلا وفيه عدة أموات وصارت النعوش لكثرتها تصطدم، والأموات تختلط.
وصل في يوم الجمعة بعد الصلاة على الأموات بالجامع الحاكمي من القاهرة، فصفت التوابيت اثنين اثنين من باب مقصورة الخطابة إلى الباب الكبير. ووقف الإمام على العتبة، والناس خلفه خارج الجامع.
وخلت أزقة كثيرة وحارات عديدة، وصارت حارة برجوان اثنين وأربعين داراً خالية. وبقيت الأزقة والدروب. مما فيها من الدور المتعددة خالية، وصارت أمتعة أهلها لا تجد من يأخذها، وإذا ورث إنسان شيئاً انتقل في يوم واحد عنه إلى رابع وخامس. وحصرت عدة من صلى عليه بالمصليات خارج باب النصر وخارج باب زويلة، وخارج باب المحروق وتحت القلعة، ومصلى قتال السبع تجاه باب جامع قوصون، في يومين، فبلغت ثلاثة عشر ألفا وثمانمائة، سوى من مات في الأسواق والأحكار، وخارج باب البحر وعلى الدكاكين، وفي الحسينية وجامع ابن طولون، ومن تأخر دفنه في البيوت ويقال بلغت عدة الأموات في يوم واحد عشرين ألفا، وأحصيت الجنائز بالقاهرة فقط في مدة شعبان ورمضان تسعمائة ألف، سوى من مات بالأحكار والحسينية والصليبة وباقي الخطط خارج القاهرة، وهم أضعاف ذلك. وعدمت النعوش، وبلغت عدتها ألفا وأربعمائة نعش. فحملت الأموات على الأقفاص ودراريب الحوانيت وألواح الخشب؛ وصار يحمل الإثنان والثلاثة في نعش واحد على لوح واحد.
وطلبت القراء إلى الأموات، فأبطل، كثير من الناس صناعاتهم، وانتدبوا للقراءة أمام الجنائز. وعمل جماعة من الناس مدراء، وجماعة تصدوا لتغسيل الأموات، وجماعة لحملهم؛ فنالوا بذلك سعادة وافرة. وصار المقرئ يأخذ عشرة دراهم وإذا وصل الميت إلى المصلى تركه وانصرف لآخر. وصار الحمال يأخذ ستة دراهم بعد الدخلة عليه إذا وجد، ويأخذ الحفار أجرة القبر خمسين درهماً؛ فلم يمتع أكثرهم بذلك، وماتوا.
ودخلت غاسلة مرة لتغسل امرأة، فلما جردتها من ثيابها، ومرت بيدها على موضع الكبة صاحت وسقطت ميته؛ فوجد في بعض أصابعها كبة بقدر الفولة.(2/156)
وامتلأت المقابر من باب النصر إلى قبة النصر طولا، وإلى الجبل عرضاً. وامتلأت مقابر الحسينية إلى الريدانية، ومقابر خارج باب المحروق والقرافة. وصار الناس يبيتون بموتاهم على الترب، لعجزهم عن تواريهم. وكان أهل البيت يموتون جميعا وهم عشرات، فما يوجد لهم سوى نعش واحد، ينقلون فيه شيئاً بعد شيء. وأخذ كثير من الناس دوراً وأثاثاً وأموالا من غير استحقاق، لموت مستحقيها؛ فلم يتمل أكثرهم.مما أخذ ومات، ومن عاش منهم استغنى به.
وأخذ كثير من العامة إقطاعات الحلقة، وقام الأمير شيخو والأمير مغلطاي أمير آخور بتغسيل الناس وتكفينهم ودفنهم.
وبطلت الأفراح والأعراس من بين الناس، فلم يعرف أن أحداً عمل فرحاً في مدة الوباء، ولا سمع صوت غناء. وتعطل الأذان من عدة مواضع، وبقي في الموضع المشهور بأذان واحد.
وبطلت أكثر طبلخاناه الأمراء، وصار في طبلخاناه المقدم ثلاثة نفر، بعدما كانوا خمسة عشر.
وغلقت أكثر المساجد والزوايا. واستقر أنه ما ولد أحد في هذا الوباء إلا ومات بعد يوم أو يومين، ولحقته أمه.
وشمل في آخر السنة الفناء بلاد الصعيد بأسرها، وتعطلت دواليبها. ولم يدخل الوباء ثغر أسوان، فلم يمت به سوى أحد عشر إنساناً. وطلب بناحية بهجورة شاهد فلم يوجد، وخرج من مدينة أخميم شاهد مساحة مع قاضيها بقياسين، لقياس بعض الأراضي؛ فعندما وضعت القصبة للقياس سقط أحد القياسين فحمله رفيقه إلى البلد، فسقط بجنبه ومات؛ وأخذت الشاهد الحمى.
واجتمع ثلاثة بناحية أبيار، وكتبوا أوراقاً بأسمائهم ومن يموت منهم قبل صاحبه؛ فطلعت الأوراق.بموت واحد بعد آخر، فمات الثلاثة على ما طلع في الأوراق، وكتب بذلك محضر ثابت قدم إلى القاهرة.
وكانت البزداريه إذا رمت طيراً من الجوارح على طائر ليصيده، وجد الصيد وفيه كبة كالبندقة؛ ولم تذبح أوزة ولا شيء من الطيور إلا وجد فيه كبة. ووجدت طيور كثيرة في الزروع ميتة، ما بين غربان وحدأة وغيرها من سائر أصناف الطيور؛ فكانت إذا نتفت وجد فيها أثر الكبة. وماتت القطاط حتى قل وجودها.
وتواترت الأخبار من الغور وبيسان وغير ذلك من النواحي أنهم كانوا يجدون الأسود والذئاب والأرانب والإبل وحمر الوحش والخنازير وغيرها من الوحوش ميتة، وفيها أثر الكبة.وكانت العادة إذا خرج السلطان إلى سرحة سرياقوس يقلق الناس من كثرة الحدأة والغربان، وتحليقها على ما هناك من اللحوم الكثيرة؛ فلم يشاهد منها شيء مدة شهر رمضان، والسلطان هناك، لفنائها.
وكانت بحيرات السمك بدمياط ونستراوة وسخا توجد أسماكها الكثيرة طافية على الماء، وفيها الكبة. وكذلك كلما يصطاد منها، بحيث امتنع الناس من أكله. وكثر عناء الأجناد وغيرهم في أمر الزرع، فإن الوباء ابتدأ في آخر أيام التخضير، فكان الحراث يمر ببقره وهى تحرث في أراضي الرملة وغزة والساحل، وإذا به يخر ميتا والمحراث في يده، ويبقى بقره بلا صاحب.
ثم كان الحال كذلك بأراضي مصر، فما جاء أوان الحصاد حتى فني الفلاحون، ولم يبقى منهم إلا القليل فخرج الأجناد وغلمانهم لتحصد، ونادوا من يحصد ويأخذ نصف ما يحصده. فلم يجدوا من يساعدهم على ضم الزروع، ودرسوا غلالهم على خيوهم، وذروها بأيديهم؛ وعجزوا عن كثير من الزرع، فتركوه.
وكانت الإقطاعات قد كثر تنقلها من كثرة موت الأجناد، بحيث كان الإقطاع الواحد يصير من واحد إلى آخر حتى يأخذه السابع والثامن. فأخذ إقطاعات الأجناد أرباب الصنائع من الخياطين والإسكافية والمنادمين، وركبوا الخيول، ولبسوا تكلفتاه والقباء.
ولم يتناول أحد من إقطاعه مغلا كاملا، وكثير منهم لم يحصل له شيء. فلما كان أيام النيل، وجاء أوان التخضير تعذر وجود الرجال، فلم يخضر إلا نصف الأراضي. و لم يوجد أحد يشتري القرط الأخضر، ولا من يربط عليه خيوله فانكسرت بلاد الملك من ضواحي القاهرة، مثل المطرية والخصوص وسرياقوس وبهتيت. وتركت.ألف وخمسمائة فدان براسيم بناحية ناي وطنان، فلم يوجد من يشتريها لرعي دوابه، ولا من يعملها دريسا.
وخلت بلاد الصعيد مع اتساع أرضها، بحيث كانت مكلفة مساحي أرض سيوط تشتمل على ستة آلاف نفر يجيء منهم الخراج، فصارت في سنة الوباء هذه تشتمل على مائة وستة عشر نفرا، ومع ذلك فكان سعر القمح لا يتجاوز خمسة عشر درهماً الأردب.(2/157)
وتعطلت أكثر الصنائع، وعمل كثير من أرباب الصنائع أشغال الموتى، وتصدى كثير منهم للنداء على الأمتعة. وانحط سعر القماش ونحوه، حتى أبيع بخمس ثمنه وأقل و لم يوجد من يشتريه وصارت كتب العلم ينادى عليها بالأحمال، فيباع الحمل منها بأبخس ثمن، واتضعت أسعار المبيعات كلها، حتى كانت الفضة النقرة التي يقال لها.بمصر الفضة الحجر، تباع العشرة منها بتسعة دراهم كاملية. وبقي الدينار بخمسة عشر درهما، بعدما كان بعشرين.
وعدمت جميع الصنائع، فلم يوجد سقاء ولا بابا، ولا غلام. وبلغت جامكية غلام الخيل ثمانين درهماً في كل شهر، بعد ثلاثين درهماً. فنودي بالقاهرة من كانت له صنعة فليرجع إلى صنعته، وضرب جماعة منهم. وبلغ ثمن راوية الماء إلى ثمانية دراهم، لقلة الرحال والجمال؛ وبلغت أجرة طحن الأردب القمح خمسة عشر درهماً.
ويقال إن هذا الوباء أقام على أهل الأرض مدة خمس عشرة سنة، وقد أكثر الناس من ذكره في أشعارهم، فقال الأديب زين الدين عمر بن الوردي من مقامة عملها:
إسكندرية ذا الوبا ... سبع يمد إليك ضبعه
صبراً لقسمتك التي تركت ... من السبعين سبعه
وقال:
أصلح الله دمشقاً ... وحماها عن مسبه
نفسها خست إلى أن ... تقتل النفس بحبه
وقال:
إن الوبا قد غلبا ... وقد بدا في حلبا
قالوا له عي الورى ... كاف ورا قلت وبا
وقال:
الله أكبر من وباء قد سبا ... ويصول في العقلاء كالمجنون
سنت أسنته لكل مدينة ... فعجبت للمكروه في المسنون.
وقال:
حلب والله يكفي ... شرها أرض مشقه
أصبحت حبة سوء ... تقتل الناس ببزقه
وقال:
قالوا فساد الهواء يردى ... فقلت يردى هوى الفساد
كم سيئات وكم خطايا ... نادى عليكم بها المنادي
وقال:
فهذا يوصى بأولاده ... وهذا يودع إخوانه
وهذا يهيئ أشغاله ... وهذا يجهز أكفانه
وهذا يصالح أعداءه ... وهذا يلاطف جيرانه
وهذا يوسع إنفاقه ... وهذا يخالل من خانه
وهذا يحبس أملاكه ... وهذا يحرر غلمانه
وهذا يغير أخلافه ... وهذا يغير ميزانه
ألا إن هذا الوبا قد سبا ... وقد كاد يرسل طوفانه
ولا عاصم اليوم من أمره ... سوى رحمة الله عبدانه
وقال الصلاح خليل بن أيبك الصفدي:
قد قلت الطاعون وهو بغزة ... قد جال من قطيا إلى بيروت
أخليت أرض الشام من سكانها ... وحكمت يا طاعون بالطاغوت
وقال:
لما افترست صحابي ... يا عام تسع وأربعينا
ما كنت والله تسعاً ... بل كنت سبعاً يقينا
وقال:
دارت من الطاعون كاس الفنا ... فالنفس من سكرته طافحة
قد خالف الشرع وأحكامه ... لأنه يثبت بالرائحة
وقال:
أسفي على أكناف جلق إذ غدا ... الطاعون فيها ذا زناد وارى
الموت أرخص ما يكون بحبة ... والظلم زاد فصار بالقنطار
وقال:
أما دمشق فإنها قد أوحشت ... من بعد ما شهد البرية أنسها
تاهت بعجب زائد حتى لقد ... ضربت بطاعون عظيم نفسها
وقال:
تعجبت من طاعون جلق إذ غدا ... وما فاتت الآذان وقعة طعنه
فكم مؤمن تلقاه أذعن طائعا ... على أنه قد مات من خلف أذنه
وقال:
رعى الرحمن دهرا قد تولى ... يحاذي بالسلامة كل شرط
وكان الناس في غفلات أمر ... فجا طاعونهم من تحت إبط
وقال:
يا رحمتا لدمشق من طاعونها ... فالكل مغتبق به أو مصطبح
كم هالك نفث الدما من حلقه ... أو ما تراه بغير سكين ذبح
وقال:
مصيبة الطاعون قد أصبحت ... لم يخل منها في الورى بقعه
يدخل في المنزل لو أنه ... مدينة أخلاه في جمعه(2/158)
وقال الأديب بدر الدين الحسن بن حبيب الحلبي:
إن هذا الطاعون يفتك في العالم ... فتك امرئ ظلوم حقود
ويطوف البلد شرقاً وغرباً ... ويسرق العباد نحو اللحود
قد أباح الدما وحرم جمع الش ... مل قهراً وحل نظم العقود
كم طوى النشر من أخ عن أخيه ... وسبا عقل والد بوليد
وقال:
أيتم الطفل أنكل الأم أبكى ال ... عين أجرى الدموع فوق الخدود
بسهام يرمي الأنام خفيا ... ت تشق القلوب قبل الجلود
كما قلب زدت في النقص أقصر ... وتلبث يقول هل من مزيد
إن أعش بعده فإني شكور ... مخلص الحمد للولي الحميد
وإذا مت هنئوني وقولوا ... كم قتيل كما قتلت شهيد
وقال الأديب جمال الدين محمد بن نباتة المصري:
سر بنا عن دمشق ياطالب العيش ... فما في المقام للمرء رغبه
رخصت أنفس الخلائق بالطاعون ... فيها كل نفس بحبه
وقال الصلاح خليل بن أيبك الصفدي أيضاً:
قد نغص الطاعون عيش الورى ... وأذهل الوالد والوالده
كم منزل كالشمع سكانه ... أطفأهم في نفخة واحده
وقال:
لا تثق بالحياة طرفة عين ... في زمان طاعونه مستطير
فكأن القبور شغلة شمع ... والبرايا لها فراش يطير
وقال الأديب إبراهيم المعمار:
يا طالب الموت أفق وانتبه ... هذا أوان الموت ما فاتا
قد رخص الموت على أهله ... ومات من لا عمره ماتا
وقال:
قبح الطاعون داء ... فقدت فيه الأحبة
بيعت الأنفس فيه ... كل نفس بحبيبه
ومات في هده السنة خلائق من الأعيان، منهم برهان الدين إبراهيم بن لاجين بن عبد الله الرشيدي الشافعي، يوم الثلاثاء تاسع عشري شوال؛ ومولده سنة ثلاث وسبعين وستمائة، أخذ القراءات على التقي الصائغ، وسمع الحديث من الأبرقوهي، وأخذ الفقه عن العلم العراقي، وبرع فيه، وفي الأصول والنحو وغيره؛ ودرس وأقرأ، وخطب بجامع أمير حسين، واشتهر بالصلاح.
وتوفي برهان الدين إبراهيم بن عبد الله بن علي الحكري، شيخ الإقراء، في يوم عيد النحر. أخذ القراءات عن التقي الصائغ، ونور الدين علي بن يوسف بن حرير الشنطوفي.
وتوفي الأديب إبراهيم بن علي بن إبراهيم المعمار.
ومات شهاب الدين أحمد بن عز الدين أيبك بن عبد الله الحسامي المصري الدمياطي، نسبة إلى جده لأمه الشافعي الجندي.
ومات الأديب المادح شهاب الدين أحمد بن مسعود بن أحمد بن ممدود السنهوري أبو العباس الضرير؛ كانت له قدرة زائدة على النظم، وشعره كثير.
ومات الأمير أحمد بن مهنا بن عيسى بن مهنا بن مانع بن حديثة بن غضية بن فضل ابن ربيعة، أمير آل فضل بسلمية، عن نيف وخمسين سنة.
وتوفي كاتب السر بدمشق شهاب الدين أحمد بن محيى الدين بن فضل الله بن علي العمري، في تاسع ذي الحجة بدمشق؛ ومولده بها في ثالث شوال سنة سبعمائة. عرف الفقه على مذهب الشافعي، ودرس العربية؛ وبرع في الإنشاء والتاريخ، وقال الشعر الجيد، وصنف عدة كتب في التاريخ والأدب، وباشر كتابة السر بديار مصر عن أبيه في حياته، ثم استقل في كتابة السر بدمشق.
وتوفي شهاب الدين أحمد بن محمد بن قيس بن ظهير الأنصاري المصري الشافعي، يوم عيد النحر بالقاهرة. درس بالخشابية والمشهد الحسيني، وبرع في الفقه؛ وعظمت شهرته ومات أحمد بن الأمير آقبغا عبد الواحد.
ومات الأمير أحمد بن الأمير أصلم.
ومات شهاب الدين أحمد بن الوجيه المحدث.
وتوفي شهاب الدين أحمد بن ميلق الشاذلي.
ومات الأمير أحمد بن الأمير جنكلى بن البابا، قريبا من عقبة أيلة، بعد عوده من الحج وتوفي شهاب الدين أحمد بن الغزاوي، ناظر الأوقاف المارستان، بطريق الحجاز.
وتوفي المسند زين الدين أبو بكر بن قاسم بن أبي بكر الرحبي الحنبلي، بدمشق؛ ومولده سنة ست وستين وستمائة.
وتوفي الشيخ المعتقد أبو بكر بن النشاشيبي ومات الأمير آقبغا أخو الأمير طقزدمر الحموي.
ومات الأمير أسندمر القلنجقي، والي القاهرة.(2/159)
ومات الأمير إسماعيل الوافدي، والي قوص، مقتولا.
ومات الأمير إلمش الجمدار، الحاجب بدمشق، وكان مشكورا.
ومات الأمير بلك المظفري الجمدار، أحد أمراء الألوف، في يوم الخميس رابع عشرى شوال.
ومات الأمير برلغي الصغير، قريب السلطان الملك المنصور قلاوون. قدم إلى القاهرة صحبة القازانية سنة أربع وسبعمائة، فأنعم عليه بإمرة، وتزوج ابنة الأمير بيبرس الجاشنكير قبل سلطنته، وعمل له مهم عظيم، أشعل فيه ثلاثة آلاف شمعة. ثم قبض عليه بعد زوال المظفر بيبرس، وامتحن، وحبس عشرين سنة. ثم أفرج عنه، وأنعم عليه بتقدمة ألف فمات بعد أيام.
ومات الأمير بلبان الحسيني أمير جاندار، وهو من المماليك المنصورية قلاوون، وقد أناف على الثمانين.
ومات الأمير بكتوت الفرماني أحد المماليك المنصورية قلاوون، وكان أحد الأمراء البرجية، ثم ولي شد الدواوين بدمشق، وحبس؛ ثم أنعم عليه بطبلخاناه في ديار مضر؛ وكانت به حدبة فاحشة، وولع بتتبع المطالب وعمل الكيميا.
ومات الأمير تخمان.
ومات الأمير تمربغا العقيلي نائب الكرك، في جمادى الآخرة؛ وكان مشكور السيرة وتوفي كمال الدين جعفر بن ثعلب بن جعفر بن علي الإدفوي الفقيه الشافعي الأديب الفاضل، له كتاب الطالع السعيد في تاريخ الصعيد، وغيره؛ وشعره جيد.
ومات الأمير وداد بن الشيباني، متولى إياس؛ وكان مشكور السيرة.
ومات الأمير سنقر الرومي المستأمن. قدم رسولا من الفرنج في الأيام الناصرية محمد قلاوون، فأسلم وأنعم عليه بإمرة عشرة. ثم اختص بالصالح إسماعيل وأخيه شعبان الكامل، واتهم بأنه ركب لهما السموم؛ فقبض عليه بعد انقضاء أيام المظفر حاجي؛ ونفي. ثم أحضر، وأنعم عليه بإمرة.
ومات الأمير ناصر الدين خليفة، وزير البلاد القانية علي شاه، في سادس عشرى جمادى الأولى، بدمشق؛ وكان قد قدم من بلاد المشرق، وأعطي إقطاعاً.
وتوفي نجم الدين سعيد بن عبد الله الدهلي بكسر الدال المهملة، الفقيه الحنبلي الحافظ، خامس عشرى ذي القعدة؛ وله كتاب تفتيت الأكباد في واقعة بغداد. ولد سنة سبع عشرة وسبعمائة، وقدم من بغداد إلى القاهرة، وسمع ودأب وصنف، فبرع في الحديث ومعرفة التراحم.
وتوفي جمال الدين أبو الربيع سليمان بن أبي الحسن بن سليمان بن ريان الحلبي، ناظر الجيش بها وبدمشق.
ومات شيرين بن شيخ الخانكاه الركنية بيبرس، فولى بعده نجم الدين الملطي فمات عن قريب.
ومات الأمير طشتمر طلليه، أحد الأمراء المقدمين، في شوال؛ وقيل له طلليه لأنه كان إذا تكلم قال في أخر كلامه طلليه وهو من المماليك الناصرية.
ومات الأمير طغاي الكاشف مقتولا، فقدم الخبر بقتله يوم الخميس ثالث عشرى ذي القعدة.
وماتت خوند طغاي أم آنوك، وتركت مالا كبيراً وألف جارية وثمانين طواشيا؛ وأعتقت الجميع؛ ولها تنسب تربة خوند بالصحراء.
وتوفي الصفي عبد العزيز بن سرايا بن علي بن أبي القاسم بن أحمد بن نصر بن أبي العزيز سرايا بن ناقا بن عبد الله السنبسي الحلي الأديب الشاعر، آخر يوم من ذي الحجة؛ ومولده خامس ربيع الآخر سنة سبع وسبعين وستمائة؛ قدم القاهرة مرتين.
وتوفي تاج الدين عبد الرحيم بن قاضي القضاة جلال الدين محمد بن عبد الرحمن ابن محمد بن أحمد بن محمد عبد الكريم القزويني الشافعي، خطيب الجامع الأموي بدمشق، وتوفي معه أخوه صدر الدين عبد الكريم.
وتوفي الرجل الصالح عبد الله المنوفي المالكي، في يوم الأحد ثامن رمضان، وقبره خارج القاهرة يقصد للتبرك به.
وتوفي المسند بهاء الدين علي بن عمر بن أحمد المقدسي الصالحي الدمشقي وقد أناف على الثمانين؛ حدث عن ابن البخاري وغيره.
ومات أمير علي بن طغريل الإيغاني، أحد أمراء الألوف.
ومات أمير علي بن الأمير أرغون النائب.
وتوفي شيخ الشيوخ بدمشق علاء الدين علي بن محمود بن حميد القونوي الحنفي، في رابع رمضان.
وتوفي زين الدين عمر بن داود هارون بن يوسف بن علي الحارثي الصفدي، أحد موقعي الدست - وقد أناف على الستين - بالقاهرة برع في الفقه على مذهب الشافعي، وفي العربية والإنشاء، ونظم الشعر.
وتوفي زين الدين عمر بن المظفر بن عمر بن محمد بن أبي الفوارس بن علي المغربي الحلبي، المعروف بابن الوردي، الفقيه الشافعي، وهو ناظم الحاوي؛ وقد جاوز الستين، وكانت وفاته بحلب، في تاسع عشرى ذي الحجة.(2/160)
وتوفي زين الدين عمر بن عامر بن الخضر بن عمر بن ربيع العامري الغري الشافعي،. بمدينة بلبيس، عن إحدى وسبعين، باشر بالكرك وعجلون وقوص وبلبيس، وبرع في الفقه.
وتوفي زين الدين عمر بن محمد بن عبد الحاكم بن عبد الرزاق البلقيائي الشافعي، قاضي حلب وصفد، وبها مات عن نحو سبعين سنة.
ومات الأمير ركن الدين عمر بن طقصو؛ وكان فاضلا، صنف في الموسيقا وغيره. ومات الطواشي عنبر السحرتي اللالا مقدم المماليك، منفياً بالقدس.
ومات الأمير قطز أمير آخور ونائب صفد، وهو من جملة الأمراء بدمشق، يوم الثلاثاء رابع ذي القعدة ومات الأمير قرونه من الأويراتية.
ومات الأمير قطليجا السيفي البكتمري، متولي الإسكندرية، ووالي القاهرة.
ومات الأمير كوكاي السلاح دار المنصوري؛ وترك زيادة على أربعمائة ألف دينار.
وتوفي قاضي الشافعية بحلب نور الدين محمد بن محمد بن محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق بن خليل بن مقلد بن جابر بن الصائغ الأنصاري، وقد أناف على السبعين.
ومات شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان بن إبراهيم بن عدلان، الفقيه الشافعي عن ست وثمانين سنة، بالقاهرة.
وتوفي شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد المؤمن بن اللبان الأسعردي الفقيه الشافعي، عن تسع وستين سنة.
وتوفي شمس الدين محمد المعروف بابن الكتاني الشافعي.
وتوفي عماد الدين محمد بن إسحاق بن محمد البلبيسي الشافعي، قاضي الإسكندرية في الأيام الناصرية، وهو معزول، في يوم الثلاثاء حادي عشر شعبان.
ومات شمس الدين محمد بن مسكين ناظر الأحباس.
ومات شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عمر الأسيوطي، وناظر بيت المال، وهو باني جامع الأسيوطي بخط جزيرة الفيل.
وتوفي الشيخ شمس الدين محمد الأكفاني الحكيم، صاحب التصانيف، في يوم الأربعاء ثالث عشرى شوال.
وتوفي شمس الدين محمد بن محمد بن عبد الله بن صغير الطيب؛ وله شعر جيد.
ومات الشيخ شمس الدين محمود بن أبي القاسم عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن أبي بكر الأصفهاني، الفقيه الشافعي ذو الفنون، بالقاهرة، في ذي القعدة؛ ومولده سنة أربع وسبعين وستمائة.
ومات الأمير شرف الدين محمود بن خطير، أخو أمير مسعود.
ومات نكباي البريدي أحد المماليك المنصورية قلاوون؛ ولي قطيا وإسكندرية، ثم أنعم عليه بطبلخاناه، واستقر مهمنداراً، وإليه تنسب دار نكباي خارج مدينة مصر على النيل، وعني بعمارتها، فلم يمتع بها.
وتوفي الشيخ المعتقد يوسف المرحلي.
ومات نور الدين الفرج.
وتوفي نور الدين الفرج بن محمد بن أبي الفرج الأردبيلي الشافعي: شارح منهاج البيضاوي، في ثالث عشر جمادى الآخرة، بدمشق.
سنة خمسين وسبعمائة
أهل شهر الله المحرم: وقد تناقص الوباء.
وفيه أخرج الأمير قبجق إلى دمشق، على إمرة طبلخاناه.
وفيه اجتمع رأي كثير من طائفة الفقهاء الحنفية على أن يكون قاضيهم جمال الدين عبد الله بن قاضي القضاة علاء الدين بن عثمان التركماني، بعد موت والده في تاسعه وطلبوا ذلك من الأمير شيخو وغيره، فأجيبوا إليه. وطلب جمال الدين، وخلع عليه، واستقر قاضي القضاة الحنفية، ونزل إلى المدرسة الصالحية؛ وعمره دون الثلاثين سنة.
وفيه قدم الحاج، وفهم قاضي القضاة زين الدين عمر البسطامي. فترك قاضي القضاة جمال الدين عبد الله بن التركماني تدريس الحنفية بجامع أحمد بن طولون، فشكره الناس على هذا.
وفيه وقدم أيضاً قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة، فزوج قاضى القضاة عز الدين بن جماعة جمال الدين عبد الله بن التركماني بابنته.
وفيه وقدم أيضاً الأمير فارس الدين، وقد نازعه عرب بني شعبة في عمارة عين جوبان، فجمع لهم وقاتلهم، وقتل منهم جماعة، وجرح كثيراً وهزمهم؛ وقتل له مملوكان؛ وأصلح الأمير فارس الدين العين حتى جرى ماؤها بقلة وكان الغلاء.بمكة شديداً بلغت الويبة من الشعير إلى سبعين درهما، فهلك كثير من الجمال؛ ووقع.بمكة والمدينة وعامة بلاد الحجاز وبواديها وباء عظيم حتى جافت البوادي.
وفيه خلع على تاج الدين محمد بن علم الدين محمد بن أبي بكر بن عيسى الأخنائي واستقر في قضاء القضاة المالكية، عوضاً عن عمه تقي الدين محمد بن أبي بكر بن عيسى الأخنائي، بعد موته.(2/161)
وفيه تقدم الوزير منجك لعلاء الدين علي بن الكوراني والي القاهرة بطلب الخفراء أصحاب الرباع، وإلزامهم بكتابة أملاك القاهرة ومصر وظواهرهما، وأسماء سكانها وملاكها؛ فكتبوا ذلك. وكان يوجد في الزقاق الواحد من كل حارة وخط عدة دور خالية، لا يعرف لها ملاك، فختم عليها. وتتبع الوالي الفنادق والمخازن ودار الوكالة والحواصل والشون وفعل فيها كذلك وفيه قدم الخبر بنفاق العشير وعرب الكرك، وذلك أن عشير بلاد الشام فرقنان - قيس، ويمن - لا ينفقان قط، وفي كل قليل يثور بعضهم على بعض ويكثر قتلاهم، فيأتي إليهم من السلطان من يجبيهم الأموال الكثيرة. فلما وقع الفناء في الناس ثاروا على عادتهم، وطالت حروبهم لاشتغال الدولة عنهم، فعظم فسادهم وقطعهم الطرقات على المسافرين. فجرد إليهم النائب - أعني الأمير أرغون شاه نائب الشام - ابن صبح مقدم الجبلية في عدة من الأمراء، فلم يظفر بهم، وأقام بالعسكر على اللجون وأخذ العشير في الغارات على بلاد القدس والخليل ونابلس، فكتب نائب غزة.بمساعدة العسكر.
وفيه اشتدت الفتنة أيضاً في بلاد الكرك بين بني نمير وبني ربيعة، فإن الملك الناصر محمد بن قلاوون كان لما أعياه أمرهم وتحصنهم بجبالهم المنيعة أخذ في الحيلة عليهم، وتقدم إلى شطي أمير بني عقبة، وإلى نائب الشام ونائب غزة ونائب الكرك، بأن يدخلوا إلى البرية كأنهم يصطادون ويوقعون بهم؛ فقبضوا على كثير منهم، وقتلوا في جبالهم خلقا كثيراً منهم، وحبسوا باقيهم حتى ماتوا. فسكن الشر بتلك الجهات إلى أن كانت فتنة الناصر أحمد بالكرك، عاد بنو نمير وبنو ربيعة إلى ما كانوا عليه من الفساد، وقوي أمرهم. فركب إليهم الأمير جركتمر نائب الكرك، وطلع إليهم فقاتلوه، وقتلوا من أصحابه عشرة، وكسروه أقبح كسرة؛ فكتب لنائب الشام الأمير أرغون شاه بتجهيز عسكر لقتالهم.
وفي صفر: أنعم على عرب بن ناصر الدين الشيخي بإمرة طبلخاناه، وعلى شاورشي دوادار قوصون بإمرة عشرة.
وفي أول ربيع الأول: قدم قود الأمير جبار بن مهنا، صحبة ولده نعير.
وفيه قدم البريد من غزة بركوب نائبها على العشير، وكبسهم ليلا، وأسر أكثرهم، وقتل ستين منهم، وتوسيط الأسرى بغزة.
وفي يوم الأربعاء ثاني عشريه: شنقت جارية رومية الجنس خارج باب النصر، عند مصلى الأموات. وسبب ذلك أنها كانت جارية أم الأمير يلبغا اليحياوي فاتفقت مع عدة من الجواري على قتل سيدتها، وقتلوها ليلا بأن وضعن على وجهها مخدة، وحبس نفسها حتى ماتت، وأقمن من الغد عزاءها، وزعمن أنها ضربت بدم. فمشت حيلتهن على الناس أياماً، إلى أن تنافسن على قسمة المال الذي سرقنه، وتحدثن.بما كان، وأعترفن على الجارية التي تولت القتل، فأخذت وشنقت، وهى بإزارها ونقابها. وأخذ من الجواري ما معهن من المال، وكان جملة كثيرة. و لم يعهد.بمصر امرأة شنقت سوى هذه.
وقد وقع في أيام المنصور قلاوون أن امرأة كانت تستميل النساء وترغبهن حتى تمضي بهن إلى موضع توهمن أن به من يعاشرهن بفاحشة، فإذا صارت المرأة إليها قبضها رجال قد أعدتهم، وقتلوها وأخذوا ثيابها. فاشتهر بالقاهرة خبرها، وعرفت بالخناقة؛ فما زال بها الأمير علم الدين سنجر الخياط والي القاهرة حتى قبص عليها، و سمرها.
ووقع أيضاً في أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون أن امرأة بأرض الطبالة كانت عند طائفة البزادرية تفعل ذلك بالنساء، فقبض عليها، وسمروا وسمرت معهم؛ فكانت تقول - وهي مسمرة يطاف بها على الجمال في القاهرة - إذا رأت النساء وهن يتفرجن عليها: " أه يا قحاب، لو عشت لكن لأفنيتكن، ولكن ما عشت " .
وفي يوم الأربعاء تاسع عشريه: قدم الخبر بقتل الأمير أرغون شاه نائب الشام، وكان شأنه مما يستغرب.
وذلك أنه لما كان نصف ليلة الخميس ثالث عشريه لم يشعر الأمير أرغون شاه، وقد نزل بالقصر الأبلق من الميدان خارج مدينة دمشق، ومعه أهله، وإذا بصوت قد وقع في الناس بدخول العسكر، فثاروا بأجمهم. ودارت النقباء على الأمراء بالركوب ليقفوا على مرسوم السلطان. فركبوا جميعاً إلى سوق الخيل تحت القلعة، فوجدوا الأمير ألجيبغا المظفري نائب طرابلس، وإذا بالأمير أرغون شاه ماش، وعليه بغلوطاق صدر وتخفيفة على رأسه، وهو مكتف بين مماليك الأمير فخر الدين أياس.(2/162)
وذلك أن ألجيبغا لما قدم من طرابلس سار حتى طرق دمشق على حين غفلة، وركب معه الأمير فخر الدين أياس السلاح دار، ثم ركب أياس بأصحابه، وأحاط بالقصر الأبلق، وطرق بابه وعلم الخدام بأنه قد حدث أمر مهم، فأيقظوا الأمير أرغون شاه؛ فقام من فرشه، وخرج إليهم، فقبضوا عليه، وقالوا حضر مرسوم السلطان بمسكه، والعسكر واقف. فلم يحسر أحد يدفع عنه، وأخذه أياس وأتى به ألجيبغا. فسلم أمراء دمشق على ألجيبغا، وسألوه عن الخبر، فذكر لهم أن مرسوم السلطان ورد عليه بركوبه إلى دمشق بعسكر طرابلس، وقبض أرغون شاه وقتله والحوطة على موجوده؛ وأخرج لهم كتاب السلطان بذلك؛ فأجابوا بالسمع والطاعة، وعادوا إلى منازلهم؛ ونزل ألجيبغا بالميدان.
وأصبح يوم الخميس: فأوقع ألجيبغا الحوطة على موجود أرغون شاه؛ وأصبح يوم الجمعة أرغون شاه مذبوحا. فكتب ألجيبغا محضراً بأنه وجد مذبوحاً والسكين في يده، فأنكر الأمراء ذلك عليه، و كونه لما قبض أموال أرغون شاه لم يرفعها إلى القلعة على العادة، واتهموه فيما فعل، وركبوا لحربه يوم الثلاثاء ثامن عشريه. فقاتلهم ألجيبغا، وجرح الأمير مسعود بن خطير، وقطعت يد الأمير ألجيبغا العادلي، وقد جاوز تسعين سنة.
وولي ألجيبغا نائب طرابلس، ومعه خيول أرغون شاه وأمواله؛ وتوجه نحو المزة، وصحبته الأمير أياس الذي كان نائب حلب، ومضى إلى طرابلس.
وسبب ذلك أن أياس لما عزل من نيابة حلب بأرغون شاه، وأخذت أمواله وسجن، ثم أفرج عنه واستقر من جملة أمراء دمشق وأرغون شاه نائبها. وكان أرغون شاه يهينه ويخرق به. واتفق أيضاً إخراج ألجيبغا المظفري من القاهرة إلى دمشق أميراً بها، فترفع عليه أرغون شاه وأذله، فاتفق مع أياس على مكيدة. وأخذ ألجيبغا في السعي لخروجه من دمشق عند الأمراء، وبعث إلى الأمير بيبغا روس نائب السلطان وإلى أخيه الوزير منجك هدية سنية، فولوه طرابلس كما تقدم، وأقام بها إلى أن كتب يعرف السلطان والأمراء أن أكثر عسكر طرابلس مقيم بدمشق، وطلب أن يكتب لنائب الشام يردهم إلى طرابلس، فكتب له بدلك. فشق على أرغون شاه أن ألجيبغا لم يكتب إليه يسأله، وإنما كتب إلى السلطان والأمراء دونه، وكتب إلى ألجيبغا بالإنكار عليه، وأغلظ له في القول، وحمل البريد إليه مشافهة شنيعة؛ فقامت قيامة ألجيبغا عند سماعها، وفعل ما فعل.
ولما قدم خبر قتل الأمير أرغون شاه ارتاع الأمراء، واتهم بعضهم بعضا. فخلف كل من شيخو والنائب بيبغا روس على البراءة من قتله، وكتبوا إلى ألجيبغا بأنه قتل أرغون بمرسوم من، وإعلامهم. بمستنده في ذلك؛ وكتب إلى أمراء دمشق بالفحص عن هذه الواقعة.
وكان ألجيبغا وأياس قد وصلا إلى طرابلس، وخيما بظاهرها فقدمت في غد وصولهما كتب أمراء دمشق إلى أمراء طرابلس بالاحتراز على ألجيبغا حتى يرد مرسوم السلطان، فإنه فعل فعلته بغير مرسوم السلطان، " ومشت حليته علينا " ، وكتبوا إلى نائب حماة ونائب حلب وإلى العربان.بمسك الطرقات عليه. فركب عسكر طرابلس بالسلاح، ووقفوا تجاه ألجيبغا، وأحاطوا به. فوافاهم كتاب السلطان بمسكه، وقد صار عن طرابلس، فساروا خلفه إلى نهر الكلب عند بيروت، فإذا أمراء العربان، وأهل بيروت واقفون في وجهه. فوقف ألجيبغا نهاره، ثم كر راجعاً، فقابله عسكر طرابلس، فقبض عليه وفر أياس، فلم يقدر عليه. ووقعت الحوطة على مماليك ألجيبغا وأمواله، وأخذ الذي كتب الكتاب بقتل أرغون شاه، فاعتذر بأنه أكره على ذلك، وأنه غير الألقاب وكتب أوصال الكتاب مقلوبة حتى يعرف أنه مزور. وحمل ألجيبغا مقيد إلى دمشق. فقبض نائب بعلبك على أياس، وقد حلق لحيته ورأسه واختفي عند بعض البصارى، وبعث إلى دمشق فحبسا بقلعتها، وكتب بذلك إلى السلطان والأمراء.
وكان قد ركب الأمير قجا السلاح دار البريد إلى دمشق بأمر السلطان، فأخرج أياس وألجيبغا ووسطهما، وعلقهما على الخشب يوم الخميس حادي عشري ربيع الآخر. وكان عمر ألجيبغا نحو تسع عشرة سنة، وهو ما طر شاربه.
وفيه كتب باستقرار الأمير أرقطاى نائب حلب في نيابة الشام، عوضا عن أرغون شاه. واستقر الأمير قطليجا الحموي نائب حماة في نيابة حلب، عوضاً عن الأمير أرقطاى واستقر أمير مسعود بن خطير في نيابة طرابلس، عوضا عن ألجيبغا المظفري.(2/163)
وفيه قدم طلب أرغون شاه ومماليكه وموجوده، ثم وصل طلب ألجيبغا ومماليكه وأمواله وأموال أياس؛ فتصرف الوزير منجك في الجميع.
وفيه قدم الخبر.بموت الأمير أرقطاي نائب الشام، فكتب باستقرار الأمير قطليجا نائب حلب في نيابة الشام، وتوجه ملكتمر المحمدي بتقليده. فقدم الخبر بأن ملكتمر المحمدي قدم حلب وقطليجا متغير المزاج، فأخرج ثقله بريد دمشق، وأقام بظاهر حلب مدة أسبوع ومات، فأراد بيبغا روس النائب منجك إخراج الأمير طاز لنيابة الشام، والأمير مغلطاي أمير آخور لنيابة حلب؛ فلم يوافقا على ذلك، وكادت الفتنة أن تقع. فخلع على الأمير أيتمش الناصري واستقر في نيابة الشام، عوضاً عن قطليجا، في يوم الجمعة سادس عشرى جمادى الأولى، وتوجه إليها وخرج الأمير قماري الحموي إلى دمشق، وجمع أمراءها، وقبض على كثير منهم، وقيدهم وسجنهم.
وفي هذه الأيام: توقفت أحوال الدولة، وقطعت مرتبات الناس من اللحم والشعير، وصرف للماليك السلطانية عن كل أردب شعير خمسة دراهم، وقيمته اثنا عشر درهما.
وفي عاشر جمادى الآخر: خرحت التجريدة إلى قتال العشير والعربان. وسببه كثرة فسادهم ببلاد القدس ونابلس. وكان قد قبض على أدى بن فضل أمير جرم، وسجن بقلعة الجبل، ثم أفرج عنه بعناية الوزير منجك. فجمع أدى وقاتل سنجر بن علي أمير ثعلبة فمالت حارثة مع أدى، ومالت بنو كنانة مع سنجر، وجرت بينهم حروب كثيرة، قتل فيها خلائق، وفسدت الطرقات على المسافرين. فخرحت إليهم عساكر دمشق، فلم يعبئوا بهم. فلما ولي الأمير يلجك غزة استمال أدى بعد أيام، وعضده على ثعلبة؛ واشتدت الحروب بينهم، وفسدت أحوال الناس. فركب يلجك بعسكر غزة ليلا، وطرق ثعلبة، فقاتلوه وكسروه كسرة قبيحة، وألقوه عن فرسه إلى الأرض، وسحبوه إلى بيوتهم فقام سنجر بن علي أمير ثعلبة عليهم حتى تركوا قتله، بعد أن سلبوا ما عليه، وبالغوا في إهانته، ثم أفرجوا عنه بعد يومين فعاد يلجك إلى غزة، وقد اتضع قدره وتقوى العشير.بما أخذوه من عسكره، وعز حانبهم، فقصدوا الغور، وكبسوا القصير المعيني، وقتلوا به جماعة كثيرة من الجبلية وعمال المعاصر، ونهبوا جميع ما فيه من القنود والأعمال والعسكر وغيره، وذبحوا الأطفال على صدر الأمهات. وقطعوا الطرقات، فلم يدعوا أحداً يمر من الشام إلى مصر حتى أخذوه. وقصدوا القدس، فخلى الناس منه ومن الخيل ثم قصدوا الرملة ولد فانتهبوها؛ وزادوا في التعدي، وخرحوا عن الحد، والأخبار ترد بذلك.
فوقع الاتفاق على ولاية الأمير سيف الدين دلنجي نيابة غزة، وأبقى على إقطاعه بمصر، وخلع عليه وأخرج إليها وكتب بخروج ابن صبح من دمشمق على ألفي فارس، وتجهز الوزير منجك ومعه ثلاثة أمراء من المقدمين، وهم المحمدي وأرغن الكاملي وطقتمر فسار قبلهم لاجين أمير آخور في جماعة من طريق عقبة أيلة، في يوم السبت رابع عشره.
وبينما الوزير ومن معه في أهبة السفر إذ قدم الخبر أن الأمير قطيلجا توجه من حماه إلى نيابة حلب، عوضاً عن الأمير أرقطاي فوحد طلب أرقطاى وقد برز خارج حلب يريد القاهرة، فأعاقه لعمل محاسبة إقطاع النيابة بحلب، وركب بحلب موكبا. ثم ركب الأمير قطليجا الموكب الثانى، ونزل وفي بدنه تغير؛ فلزم الفراش أسبوعاً ومات. فسأل أرغون الكاملي أن يستقر عوضه في نيابة حلب، فأجيب إلى ذلك، وخلع عليه في يوم الخميس؛ وأنعم بتقديمة على الأمير قطلوبغا الذهبي، ورسم بسفره في يوم الخميس المذكور.
وخرج الوزير منجك في تجمل عظيم، وقد كثرت القالة في أنقضاء مدته ومدة أخيه الأمير بيبغا روس، وأن الأمير شيخو وطاز ومغلطاي وغيرهم من الأمراء قد اتفقوا عليهما حتى بلغهما ذلك، وأن الوزير منجك قصد إبطال التجريدة.
وهذا وقد قدم الوزير النجابة لكشف أخبار العشيرة، فلما رحل عن بلبيس عادت نجابته بأن ثعلبة ركبت بأجمعها، ودخلت برية الحجاز، لما بلغهم مسير العسكر إليهم، فنهب أدى كثيراً منهم، وانفرد في البلاد بعشيرة. فعاد الوزير.بمن معه، وعبر القاهرة في ثاني عشريه بعد أربعة أيام. وكان قد حصل للوزير في هذه الحركة من تقادم الكشاف والولاة والأمراء والمباشرين ما ينيف على مائة ألف دينار، فتلقته العامة بالشموع، وابتهجوا بقدومه، وأتته الضامنة بجميع أرباب الملاهي، وكان من الأيام المشهورة.(2/164)
وفي مستهل رجب: قدم الخبر بأن الأمير دلنجي نائب غزة بلغه كثرة جميع العشير، وقصدهم نهب لد والرملة؛ فركب إليهم ولقيهم قريباً من لد، منزل تجاههم، وما زال يراسلهم ويخدعهم حتى قدم إليه نحو المائتين من أكابرهم، فقبضهم وعاد إلى غزة، وقد تفرق جمعهم، فوسطهم كلهم.
وفيه توحه طلب الأمير أرغون الكاملي إلى حلب.
وفيه قدم طلب الأمير أرقطاى مع ولده وفي يوم الخميس مستهل شعبان: خرج الأمير قبلاي الحاجب.بمضافيه من الطبلخاناه والعشرات إلى غزة، لأحد شيوخ العشر.
وفي هذا الشهر: غير الوزير ولاة الوجه القبلي، وكتب بطلبهم، وعزل مازان من الغربية بابن الدواداري.
وفيه أضيف كشف الجسور إلى ولاة الأقاليم.
وفيه أعيد فار السقوف إلى ضمان جهات القاهرة ومصر بأجمعها، وكان قد سجن في الأيام الناصرية محمد بن قلاوون، وكتب على قيده مخلد، بعد ما صودر وضرب بالمقارع لقبح سيرته. فلم يزل مسجونا إلى أن أفرج عن المحابيس في أيام الصالح إسماعيل، فافرج عنه في جملتهم، وانقطع إلى أن اتصل بالوزير منجك واستماله، فسلمه الجهات بأسرها، وخلع عليه، ومنع مقدمي الدولة من مشاركته في التكلم في الجهات، ونودى له في القاهرة ومصر، فزاد في المعاملات ثلاثمائة ألف درهم في السنة.
وفيه قدم الأمير قبلاي غزة، فاحتال على أدى حتى قدم عليه، فأكرمه وأنزله، ثم رده بزوادة إلى أهله فاطمأنت العشرات والعربان لذلك، وبقوا على ذلك إلى أن أهل رمضان. حضر أدى في بنى عمه لتهنئة قبلاي بشهر الصوم فساعة وصوله اليه قبض عليه وعلى بني عمه الأربعة، وقيدهم وسجنهم، وكتب إلى على بن سنجر: " بأني قد قبضت على عدوك ليكون لي عندك يد بيضاء، فسر سنجر بذلك، وركب إلى قبلاى، فتلقاه وأكرمه، فضمن له سنجر درك البلاد. ورحل قبلاى من غده ومعه أدى وبنو عمه يريد القاهرة، فقدم في يوم الإثنين حادي عشره، فضربوا على باب القلة بالمقارع ضرباً مبرحاً وألزم أدى بألف رجل ومائتي ألف درهم، فبعث إلى قومه بإحضارها، فلما أخذت سمر هو وبنو عمه في يوم الإثنين خامس عشريه وقت العصر، وسيروا إلى غزة صحبة جماعة من أجناد الحلقة، فوسطوا بها. فثار أخو أدى، وقصد كبس غزة، فخرج إليه الأمير دلنجى ولقيه على ميل من غزة، وحاربه ثلاثة أيام، وقتله في اليوم الرابع بسهم أصابه، وبعث دلنجي بذلك إلى القاهرة، فكتب بخروج نائب صفد ونائب الكرك لنجدته، وفي مستهل شوال: توجه السلطان إلى الأهرام على العادة.
وفيه كثر الإنكار على الوزير منجك، فإنه أبطل سماط العيد، واحتج بأنه يقوم بحملة كبيرة تبلغ خمسين ألف في درهم، وتنهبه الغلمان، وكان أيضا قد أبطل سماط شهر رمضان.
وفي هذا الشهر: فرغت القيسارية التي أنشأها تاج الدين المناوي، بجوار الجامع الطولوني، من مال وقفه، وتشتمل على ثلاثين حانوتا.
وفيه خرج ركب الحاج على العادة، صحبة الأمير فارس الدين، ومعه عدة من مماليك الأمراء. وحمل الأمير فارس الدين معه مالا من بيت المال، ومن مودع الحكم، لعمارة عين جوبان.بمكة، ومبلغ عشرة آلاف درهم للعرب بسبب العين المذكورة، ورسم أن تكون مقررة لهم في كل سنة. وخرج معه حاج كثير جداً، وحمل الأمراء من الغلال في البحر إلى مكة عدة آلاف أردب.
وفي مستهل ذي القعدة: قدم كتاب الأمير دلنجى نائب غزة بتفرق العربان، ونزول أكثرهم بالشرقية والغربية من أرض مصر، لربط إبلهم على البرسيم. فكبست البلاد عليهم، وقبض على ثلاثمائة رجل، وأخذ لهم ثلاثة آلاف جمل. ووحد عندهم كثير من ثياب الأجناد وسلاحهم وحوائصهم، فاستعمل الرجال في العمائر حتى هلك أكثرهم.
وفي نصفه: خرج الأمراء لكشف الجسور، فتوجه الأمير أرنان للوحه القبلي، وتوجه أمير أحمد قريب السلطان للغربية، وتوحه الأمير آقجبا للمنوفية، وتوجه أراى أمير آخور للشرقية، وتوجه أحد أمراء العشرات لأشمون.
وفيه توقف حال الدولة، فكثر الكلام من الأمراء والمماليك السلطانية والمعاملين والخوشكاشية(2/165)
وفيه طلب الأمير مغلطاي أمير آخور زيادة على إقطاعه، فكشف عن بلاد الخاص، فدل ديوان الجيش على أنه لم يتأخر منها سوى الإسكندرية ودمياط وقوة وفارس كور، وخرج باقيها للأمراء، وخرج أيضاً من الجيزة ما كان لديوان الخاص للأمراء. وشكا الوزير من كثرة الكلف والإنعامات، وأن الحوائج خاناه في الأيام الناصرية محمد بن قلاوون مرتبها في كل يوم ثلاثة عشر ألف درهم، وهو اليوم اثنان وعشرون ألف درهم. فرسم بكتابة أوراق. بمتحصل الدولة ومصروفها، فبلغ المتحصل في السنة عشرة آلاف ألف درهم، والمصروف بديوان الوزارة وديوان الخاص أربعة عشر ألف ألف درهم وستمائة ألف درهم، وأن الذي خرج من بلاد الجيزة على سبيل الإنعام زيادة على إقطاعات الأمراء نحو ستين ألف دينار. فتغاضى الأمراء عند سماع ذلك إلا مغلطاي أمير آخور، فإنه غضب وقال: " من يحاقق الدواوين على قولهم؟ " .
وفيه قدم طلب الأمير قطليجا الحموي من حلب، فوضع الوزير منجك يده عليه، وتصرف بحكم أنه وصي.
وفيه قدم الأمير عز الدين أزدمر الزراق من حلب، باستدعائه، بعد ما أقام بها مدة سنة من جملة أمراء الألوف، فأجلس مع الأمراء الكبار في الخدمة.
وفيه أخرج ابن طقزدمر إلى حلب؛ لكثرة فساده وسوء تصرفه.
وفيه خرج الأمير طاز لسرحة البحيرة، وأنعم عليه من مال الإسكندرية بألفي دينار.
وخرج الأمير صرغتمش أيضاً، فأنعم عليه منها بألف دينار.
ثم توجه الأمير بيبغا روس النائب للسرحة، وأنعم عليه بثلاثة آلاف دينار. وتوجه الأمير شيخو أيضا، ورسم له بثلاثة آلاف دينار.
وفيه أنعم على الأمير مغلطاي أمير آخور إرضاء لخاطره بناحية صهرجت زيادة على إقطاعه، وعبرتها عشرون ألف دينار في السنة فدخل الأمير شيخو في سرحته إلى الإسكندرية، فتلقته الغزاة بآلات السلاح، ورموا بالجرخ بين يديه، ونصبوا المنجنيق ورموا به. ثم شكوا له ما عندهم من المظلمة، وهي أن التاج إسحاق ضمن دكاكين العطر، وأفرد دكانا لبيع النشا فلا تباع بغيرها، وأفرد دكانا لبيع الأشربة فلا تباع بغيرها، وجعل ذلك وقفا على الخانكاه الناصرية بسرياقوس. فرسم بإبطال ذلك، وأطلق للناس البيع حيث أحبوا، وكتب مرسوم بإبطال ذلك وفي مستهل ذي الحجة: عوفي علم الدين عبد الله بن زنبور، وخلع عليه، بعد ما أقام أربعين يوماً مريضاً، تصدق فيها بثلاثين ألف درهم، وأفرج عن جماعة من المسجونين.
وفيه كتب الموفق ناظر الدولة أوراقا بما استجد على الدولة، من وفاة السلطان الناصر محمد بن قلاوون إلى المحرم سنة خمسين وسبعمائة، فكانت جملة ما أنعم به وأقطع - من بلاد الصعيد وبلاد الوحه البحري وبلاد الفيوم، وبلاد الملك، وأراضي الرزق - للخدام والجواري وغيرهن سبعمائة ألف الف أردب، وألف ألف وستمائة ألف درهم، معينة بأسماء أربابها من الأمراء والخدام والنساء، وعبرة البلد ومتحصلها، وجملة عملها وقرئت على الأمراء، ومعظم ذلك بأسمائهم، فلم ينطق أحد منهم بشىء.
وفيه أبطل الوزير منجك سماط عيد النحر أيضاً.
وفيها أبطل ما أحدثه النساء من ملابسهن. وذلك أن الخواتين نساء السلطان وجواريهن أحدثن قمصانا طوالا تخب أذيالها على الأرض، بأكمام سعة الكم منها ثلاثة أذرع، فإذا أرخته الواحدة منهن غطى رجلها، وعرف القميص منها فيما بينهن بالبهطلة، ومبلغ مصروفه ألف درهم فما فوقها. وتشبه نساء القاهرة بهن في ذلك، حتى لم يبق امرأة إلا وقميصها كذلك. فقام الوزير منجك في إبطالها، وطلب والي القاهرة ورسم له بقطع أكمام النساء، وأخذ ما عليهن.
ثم تحدث منجك مع قضاة القضاة بدار العدل يوم الخدمة بحضرة السلطان والأمراء فيما أحدثه النساء من القمصان المذكورة، وأن القميص منها مبلغ مصروفه ألف درهم، ؛ وأنهن أبطلن لبس الإزار البغدادي، وأحدثن الإزار الحرير بألف درهم، وأن خف المرأة وسرموزتها بخمسمائة درهم. فأفتوه جميعهم بأن هذا من الأمور المحرمة التى يجب منعها، فقوى بفتواهم، ونزل إلى بيته، وبعث أعوانه إلى بيوت أرباب الملهى، حيث كان كثير من النساء، فهجموا عليهن، وأخذوا ما عندهن من ذلك.(2/166)
وكبسوا مناشر الغسالين ودكاكين البابية، وأخذوا ما فيها من قمصان النساء، وقطعها الوزير منجك. ووكل الوزير مماليكه بالشوارع والطرقات، فقطعوا أكمام النساء، ونادى في القاهرة ومصر.بمنع النساء من لبس ما تقدم ذكره، وأنه متى وجدت امرأة عليها شىء مما منع أخرق بها وأخذ ما عليها.
واشتد الأمر على النساء، وقبض على عدة منهن، وأخذت أقمصتهن. ونصبت أخشاب على سور القاهرة بباب زويلة وباب النصر وباب الفتوح، وعلق عليها تماثيل معمولة على صور النساء، وعليهن القمصان الطوال، ارهابا لهن وتخويفا.
وطلبت الأساكفة، ومنعوا من بيع الأخفاف والسراميز المذكورة، وأن تعمل كما كانت أولا تعمل، ونودي من باع إزاراً حريراً أخذ جميع ماله للسلطان. فانقطع خروج النساء إلى الأسواق، وركوبهن حمير المكارية، وإذا وجدت امرأة كشف عن ثيابها. وامتنع الأساكفة من عمل أخفاف النساء وسراميزهن المحدثة، وانكف التجار عن بيع الأزر الحرير وشرائها، حتى إنه نودي على إزار حرير بثمانين درهماً فلم يلتفت له أحد، فكان هذا من خير ما عمل.
وفيه استقر جمال الدين يوسف المرداوي في قضاء الحنابلة بدمشق، بعد وفاة علاء الدين على بن أبي البركات بن عثمان بن أسعد بن المنجا.
وفيه استقر نجم الدين محمد الأزرعي في قضاء الشافعية بحلب، بعد وفاة نجم الدين عبد القاهر بن أبي السفاح.
وفيه توقف النيل، ثم زاد حتى كان الوفاء في جمادى الآخرة. ثم نقص نحو ثلثي ذراع، وبقى على النقص إلى النوروز، وهو ستة عشر ذراعا وإحدى وعشرين اصبعاً. ثم رد النقص وزاد إصبعين، فبلغ ستة عشر ذراعاً وثلاثاً وعشرين اصبعاً في يوم عيد الصليب.
وفيه أضاع الولاة عمل الجسور، وباعوا الجراريف حتى غرق كثير من البلاد.
ومع ذلك امتدت أيديهم إلى الفلاحين، وغرموهم ما لم تجر به عادة؛ فشكى من الولاة للوزير، فلم يلتفت لمن شكاهم.
ومات فيها من الأعيان
شيخ الإقراء شهاب الدين أحمد بن موسى بن موسك بن جكو الهكاري بالقاهرة، عن ست وسبعين سنة، في ثاني عشر جمادى الأولى. وكتب بخطه كثيراً، ودرس القراءات والحديث ومات النحوى شهاب الدين أحمد بن سعد بن محمد بن أحمد النشائي الأندرشي بدمشق، وله شرح سيبويه في أربعة أسفار.
ومات مكين الدين إبراهيم بن قروينة بعد ما ولي استيفاء الصحبة ونظر البيوت، ثم ولي نظر الجيش مرتين، وصودر ثلاث مرات، وأقام بطالا حتى مات ومات الأمير أرغون شاه الناصري نائب الشام، مذبوحا، في ليلة الخميس رابع ربيع الأول رباه السلطان الناصر محمد بن قلاون حتى عمله أمير طبلخاناه رأس نوبة الجمدارية؛ ثم استقر بعد وفاته أستادارا أمير مائة مقدم ألف، فتحكم على المظفر شعبان حتى أخرجه لنيابة صفد، وولي بعدها نيابة حلب، ثم نيابة الشام. وكان جفيفاً قوي النفس شرس الأخلاق، مهابا جائراً في أحكامه، سفاكا للدماء غليظاً فحاشاً كثير المال وأصله من بلاد الصين، حمل إلى أبو سعيد بن خربندا، فأخذه دمشق خواجا بن جوبان، ثم ارتجعه أبو سعيد بعد قتل جربان، وبعث به إلى مصر هدية، ومعه ملكتمر السعيدى ومات الأمير أرقطاى المنصورى بظاهر حلب، وهو متوجه إلى دمشق، عن نحو ثمانين سنة، في يوم الأربعاء خامس جمادى الأولى. وأصله من مماليك المنصور قلاوون، رباه الطواشي فاخر أحسن تربية، إلى أن توجه الناصر محمد بن قلاوون إلى الكرك كان معه. فلما عاد إليه ملكه جعله من جملة الأمراء، ثم سيره صحبة الأمير تنكز نائب الشام، وأوصاه ألا يخرج عن رأيه، وأقام عنده مدة. ثم تنكر عليه السلطان الناصر محمد، فولاه نيابة حمص مدة سنتين ونصف، ثم نقله لنيابة صفد، فأقام بها ثماني عشر سنة. وقدم مصر، فأقام بها عدة سنين، وجرد إلى أياس. ثم ولي نيابة طرابلس، ومات الناصر محمد وهو بها. ثم قدم مصر، وقبض عليه، ثم أفرج عنه، وأقام مدة. ثم ولي نيابة حلب، ثم طلب إلى مصر، فصار رأس الميمنة. ثم ولى نيابة السلطنة نحو سنتين، ثم أخرج لنيابة حلب، فأقام بها مدة. ثم نقل لنيابة الشام، فمات في طريقه لدمشق، فدفن بحلب، وكان مشكور السيرة ومات الأمير ألجيبغا المظفري نائب طرابلس، موسطاً بدمشق، في يوم الإثنين ثامن عشر ربيع الآخر.(2/167)
وقتل معه أيضاً الأمير أياس وأصله من الأرمن، أسلم على يد الناصر محمد بن قلاوون، فرقاه حتى عمله شاد العمائر، ثم أخرحه إلى الشام، ثم أحضره غرلو، وتنقل إلى أن صار شاد الدواوين. ثم صار حاجباً بدمشق، ثم نائبا بصفد، ثم نائبا بحلب، ثم أميراً بدمشق، حتى كان من أمره ما تقدم ذكره ومات بدمشق الأمير طقتمر الشريفي بعد ما عمى.
ومات قاضى الشافعية بحلب نجم الدين عبد القاهر بن عبد الله بن يوسف بن أبي السفاح.
وتوفي نجم الدين عبد الرحمن بن يوسف بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن علي القرشي الأصفوني الشافعي،.بمنى في ثالث عشر ذي الحجة. ودفن بالعلاء، وله مختصر الروضة وغيره.
وتوفي قاضي القضاة علاء الدين علي بن الفخر عثمان بن إبراهيم بن مصطفى المارديني، المعروف بابن التركماني الحنفي في يوم الثلاثاء عاشر المحرم بالقاهرة. وله كتاب الرد النقي في الرد على البيهقي وغيره، وله شعر، وكان الناصر محمد بن قلاون يكره منه اجتماعه بالأمراء، وكان يغلو في مذهبه غلواً زائداً.
وتوفي قاضي الحنابلة بدمشق، علاء الدين علي بن الزبن أبي البركات بن عثمان ابن أسعد بن المنجا التنوخي، عن ثلاث وسبعين سنة.
ومات الأمير قطليجا الحموي أصله المملوك المؤيد صاحب حماة، فبعثه إلى الناصر محمد بن قلاون، وترقى صار من جملة الأمراء. ثم ولي نيابة حماة، ونقل إلى نيابة حلب، فأقام بها أياما ومات، وكان سيىء السيرة.
وتوفي قاضى القضاة تقي الدين محمد بن أبي بكر بن عيسى بن بدران السعدي الأخنائي المالكي، في ليلة الثالث من صفر ومات الأمير نوغيه البدري والي الفيوم.
وماتت خوند بنت الملك الناصر محمد بن قلاوون، وهي زوجة الأمير طاز. وتركت.مالا عظيماً، أبيع موجودها بباب القلة من القلعة بخمسمائة ألف درهم، من جملته فبقاب مرصع بأربعين ألف درهم، ثمنها ألف دينار مصرية.
ومات علم الدين بن سهلول. كان أبوه كاتباً عند بعض الأمراء، فخدم بعده أمير حسين بن جندر، ثم ولي الإستيفاء ونظر الدولة، شركة للموفق. ثم صودر ولزم بيته، وعمر دارا جليلة بحارة زويلة من القاهرة وفيها قام بتونس أبو العباس الفضل بن أبي بكر بن يحيى بن إبراهيم بن عبد الواحد ابن أبي حفص في ذي القعدة، وكان فد قدم إلى تونس السلطان أبو الحسن علي بن أبي سعيد عثمان بن.يعقوب بن عبد الحق ملك بني مرين صاحب فاس، وملك تونس وإفريقية ثم سار منها للنصف من شوال، واستخلف ابنه أبا العباس الفضل؛ فقام أبو العباس المذكور وملك تونس ملك أبيه.
سنة إحدى وخمسين وسبعمائة
أهل المحرم والناس في بلاد عظيم من فأر السقوف ضامن الجهات، فإنه أحدث حوادث قبيحة في دار البطيخ ودار السمك وسائر المعاملات، وزاد في ضرائب المكوس، وتمكن من الوزير منجك تمكنًا زائداً، حتى كان يقول: " هذا أخي " وكثرت الشكاية منه، ووقفت العامة فيه للسلطان، فلم يتغير الوزير عليه وفيه أوقع الأمير أرغون الكاملي نائب حلب بكاتب سرها زين الدين عمر بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن أبي السفاح وضربه وسجنه. فاستقر عوضه فيكتابة السر بحلب الشريف شهاب الدين الحسين بن محمد بن الحسين، المعروف بابن قاضي العسكر.
وفيه أوقع الشيخ حسن نائب بغداد والأمير حيار بن مهنا بطائفة من العرب، وقتل منهم نحو المائتين، وأسر كثيراً منهم، ففر عدة منهم إلى الرحبة. فطلب الأمير حيار من أزدمر النوري نائب الرحبة تمكينه منهم، فأبى عليه، فكتب فيه الأمير حيار إلى السلطان، فعزله، وفيه اقتتل موسى بن مهنا وسيف بن فضل، فانهزم سيف، ونهبت أمواله.
وفيه ابتدأت الوحشة بين الأمير مغلطاي أمير آخور وبين الوزير منحك، بسبب الفار الضامن، وقد شكى منه. فطلبه مغلطاي من الوزير عندما احتمى به، فلم يمكنه منه وفيه قدم صاحب حصن كيفا، والخواجا عمر بن مسافر، بعد غيبة طويلة. فسر به الأمير شيخو، لأنه هو الذي جلبه من بلاده، ونسب إليه، فقيل له شيخو العمري. وأكرم صاحب حصن كيفا، وروعي في متجره، وكان من جملته ثلاثمائة ألف جلد سنجاب. فقدم صاحب حصن كيفا عدة تقادم للأمراء، فبعثوا إليه.بمال كثير، و بعث إليه الأمير شيخو ألف دينار، وتعبئة قماش، وبعث إليه الوزير منجم بألفي دينار وقماش كثير، وأنزله في بيته، وبعث إليه الأمير بيبغا روس وغيره، ثم عاد بعد شهر إلى بلاده.(2/168)
وفيه كمل صهريج الوزير منجك على الثغرة تحت القلعة، واشترى له من بيت المال ناحية بلقينة من الغربية بخمسة وعشرين ألف دينار، أنعم عليه بها، ووقفها على صهريجه. وكانت بلقينة مرصدة لجوامك الحاشية، فعوضوا عنها.
وفي رابع عشريه: قدم الأمير فارس الدين بالحجاج، وكانوا لما قدموا مكة نزلت ربهم شدة من غلاء الأسعاء وقلة الماء، بحيث أبيعت الراوية بعشرين درهما، حتى هموا بالخروج منها ونزول بطن مرو. فبعث الله في تلك الليلة مطرا استمر يومين وليلة، حتى امتلأت الآبار والبرك، وقدم عدة قوافل؛ فانحل السعر قليلا. وحصل لهم خود من عبور المدينة النبوية؛ وذلك أن الشريف أدى لما عزل بالشريف سعد، جمع العربان، وهجم المدينة قبل قدوم سعد إليها، وأخذ أموال الخدام وودائع الشاميين وقناديل الحجرة الشريفة وأموال الأغنياء وغيرهم، وخرج.
وفيه أفرج عن عيسى بن حسن الهجان، وكان قد قبض عليه وسجن، بسبب أنه مالا هو وعربه جماعة العايد المفسدين من العربان، وأحيط بأمواله. وكان فد كثرت سعادته، فإنه كان مع الناصر محمد بن قلاوون في الكرك، فلما عاد إليه ملكه سلمه الهجن وحكمه فيها، فطالت أيامه وكثرت أمواله. وتسلم بعده الهجن جمال الدين نفر، فقام الوزير حتى أفرج عنه، ورد عليه إقطاعه، وأنعم على جماعة من عربه بإقطاعات.
وفي مستهل صفر: قدمت رسل أرتنا نائب الروم، وسأل أن يكتب له تقليد نيابة الروم على عادته، فكتب له، وأكرم رسوله.
وفيه تنافس الوزير منجك والأمير مغلطاي، واستعد كل منهما بأصحابه للآخر، فقام الأمير شيخو حتى أخمد الفتنة.
وفي يوم الجمعة ثاني عشريه: وقت الصلاة وقعت نار بخط البندقانيين من القاهرة، فأحرقت دار هناك. فركب الأمير علاء الدين علي بن الكوراني لإطفائها على العادة، وكان الهواء شديداً، والدور متلاصقة، فاشتد لهب النار بحيث رؤى من القلعة. فركب الوزير منجك، والأمير بيبغا روس النائب، والأمير شيخو، والأمير طاز، والأمير مغلطاى، والأمير قبلاى حاجب الحجاب، وغيرهم من الأمراء بمماليكهم، وأتوا إلى الحريق، ونزلوا عن خيولهم، ومنعوا العامة من النهب فامتدت النار من دكاكين البندقانيين إلى دكاكين الرسامين ودكاكين الفقاعين والفندق المجاور لها، والربع علوة. وتعلقت.بما نجاه ذلك من الدور المجاورة لبيت المظفر بيبرس الجاشنكير، فأحرقت الربع، واتصلت بزقاق الكنيسة إلى بيت كريم الدين بن الصاحب أمين الدين، إلى بير الدلاء التي كانت تعرف قديما ببئر زويلة فأحرقت النار الدكاكين والربع المجاور لدار الجوكندار، ولم يبق إلا أن تصل إلى دار علاء الدين على بن فضل الله كاتب السر وعظم الأمر، والأمراء جميعهم على أرجلهم.بمن معهم، والمقيدون بالمساحي بين أيديهم تهدم الدور وتطفي النار، والناس في أمر مريج.
وبينا أصحاب الدار في نقلة متاعهم خوفا من وصول النار إليهم، إذا بالنار قد ظهرت عندهم، فينجون بأنفسهم، ويتركون أموالهم، حتى شمل الهدم والحريق ما هنالك من العمائر. ولم يبق بالقاهرة سقاء إلا وأحضر لإطفاء الحريق، وكانت الجمال تحمل الروايا بالماء من باب زويلة إلى البندقانيين. واستمرت النار يومين وليلتين، وجميع الأمراء وقوف حتى خف اللهب. فوكل بالحريق بعض الأمراء مع الوالي، ومضى بقيتهم إلى بيوتهم، وبهم من التعب ما لا يوصف. فأقامت النار بعد انصرافهم ثلاثة أيام وهي تطفا، فكان حريقا مهولا، ذهب فيه من الأموال ما لا ينحصر.
وامتد الحريق إلى قيسارية طشتمر وربع بكتمر، ثم صارت النار توجد بعد ذلك في مواضع عديدة من القاهرة وظواهرها. ووجد في بعض المواضع التي بها الحريق كعكات زيت ومطران، ووجد في بعضها نشابة في وسطها نفط. وكان أكثر الأماكن تقع النار بسطحها، و لم يعرف من فعل ذلك فنودي باحتراس الناس على أملاكهم من الحريق، فلم يبق جليل ولا حقير حتى اتخذ عنده أوعية ملأها ماء. و لم يزل الحريق في الأماكن إلى أثناء شهر ربيع الأول، فقبض في هذه المدة على كثير من أوباش العامة، وقيدوا ليكونوا عونا على إطفاء الحريق، ففر معظمهم من القاهرة. ثم نودي ألا يقيم بالقاهرة غريب، ورسم للخفراء تتبعهم وإحضارهم.(2/169)
وتعب والي القاهرة في مدة الحريق تعباً لا يوصف، فإنه أقام مدة شهر لا يكاد ينام هو وحفدته، فإنه لا يخلو وقت من صيحة تقع بسبب الحريق، فذهبت دور كثيرة. ثم وقع بعد شهر. بمصر حريق في شونة حلفاء، بجوار مطابخ السلطان وبعدة أماكن.
وفي يوم السبت حادي عشرى ربيع الأول: سمر حمام وعبده الذي كان يحمل سلاحه، وثلاثة نفر. وكان قد عظم فساده، وكثر هجومه على الدور وأخذ ما فيها وقتل من يمنعه، وأعيا الولاة أمره حتى أوقعه الله وكفى شره.
وفي أول ربيع الآخر: قبض على أحمد بن أبي ريد، ومحمد بن يوسف، مقدمي الدولة. وسبب ذلك أن ابن يوسف حج في السنة الماضية على ستة قطر جمال، وثلاثة قطر هجن بطبل وبيزه كما حج الأمراء، بحيث كان معه نحو مائتي عليقة. ولما قدم ابن يوسف إلى القاهرة أهدى للوزير منجك، والنائب بيبغا روس، والأمير طاز والأمير صرغتمش، الهدايا الجليلة القدر، و لم يهد إلى الأمير شيخو، ولا إلى الأمير مغلطاي شيئا. فعاب عليه الناس ترك مهاداة شيخو، فحمل إليه بعد مدة هدية سنية، فردها عليه وقال: " هذا ماله حرام " . ثم يعد أيام وقف جماعة من الأجناد، وشكوا في الولاة طمعهم وفساد البلاد، فأنكر الأمراء على الوزير منج سيرة ولاة الأعمال، وتعرضوا لهم بأنهم ولوا بالبر أطيل، فاحتاجوا إلى نهب أموال الناس وأخذ الأمير شيخو في الحط على مقدمي الدولة، وأنكر كثرة ما أنفقه ابن يوسف في حجته، وأن ذلك جميعه من مال السلطان فقام الأمراء في مساعدة شيخو، وعددوا ما يشتمل عليه ابن يوسف من لعبه ولهوه وانهماكه في اللذات، فلم يجد الوزير بدا من موافقتهم على عزل الولاة، ومسك المقدمين أحمد بن أبي زيد ومحمد بن يوسف، فقبض عليهما، وألزما بحمل المال وطلب ابن سلمان متولي المنوفية، وألزم.بمال، واستقر عوضه ابن فنغلي واستقر في ولاية الشرقية ابن الجاكي، وعزل أسندمر منها.
وفي يوم الخميس رابع عشريه: خرج إلى الأطفيحية سبعة أمراء ألوف، وعشرون أمير طبلخاناه، وقت العصر بأطلابهم، فيهم الوزير منجك والأمير طاز وسبب ذلك أن الأمير بيبغا روس فأمر بهم، فقيدوا وحبسوا وأعاده النائب إلى الأطفيحية، فقبض الأمير.
عرب بن الشيخي كان بالإطفيحية مقيماً بها، فاستمال العرب حتى وثقوا به، وأتاه منهم نحو عشرين رجلا، فقبض عليهم وركب بهم إلى القاهرة، وأوقفهم بين يدي النائب الأمير عرب بن الشيخي على خمسة أخر وقيدهم، فأتاهم ليلا عدة من العربان وفكوا قيودهم، وكبسوا خيمته، ففر إلى القاهرة، ومالوا على موجوده وانتهبوه. فعظم ذلك على الأمراء، وخرجوا إلى الأطفيحية. وقد بلغ العرب خبرهم، فارتفعوا إلى الجبال، فقبض الأمراء على نحو مائة من الأوباش وأهل البلاد، وقطعوا جميع ما هناك من شجر المغل، وخربوا السواقي، وعادوا بعد ثلاثة أيام، في يوم الثلاثاء تاسع عشريه. فعادت العربان بعد رجوع العسكر، وأكثروا من قطع الطريق.
وفي نصف جمادى الأولى: وصلت أم الأمير بيبغا روس النائب، وأم الأمير أرغون الكاملي نائب حلب وأبوه، وعدة من أقاربهم. فركب النائب وتلقاهم من سرياقوس، وسر بهم.
وفيه أخرج أمير أحمد الساقي إلى حلب؛ لسوء سيرته في كشف الجسور بالغربية.
وفيه قدم قود جبار بن مهنا، وقود سيف بن فضل صحبته. ثم قدم الأمير جبار بعده، فأقام أياما وعاد إلى بلاده.
وفيه قدم كتاب الملك الأشرف دمرداش بن جوبان صاحب توريز، يتضمن السلام والتودد. فأكرم رسوله، وأعيد بالجواب، وأرسل السلطان بعده إليه والي الشيخ حسن صاحب بغداد رسولين.
وفيه قدم الخبر بان الأمير أرغون الكاملي نائب حلب ركب إلى التركمان، وقد كثر فسادهم، فقبض على كثير منهم، وأتلفهم، وأوقع بالعرب حتى عظمت مهابته ثم بعث موسى الحاجب على ألفي فارس في طلب نجمة أمير الأكراد، فلما قرب منه بعث صاحب ماردين يشير بعود العسكر، خوفاً من كسر حرمة السلطة. فعاد موسى الحاجب بهم إلى حلب، من غير لقاء. فتنكر الأمير أرغون على موسى الحاجب، وكتب يشكو منه وفيه قدم الخبر بأن الهذباني الكاشف واقع عرب عرك وبني هلال، فهزموه أقبح هزيمة، وجرحوا فرسه، وقتلوا عدة من أصحابه، وأخذوا الطلب.بما فيه من خيل وغيرها، وأنه نزل بسيوط، وطلب تجريد العسكر إليه؛ فاقتضى الرأي تأخير التجريدة حتى يفرغ تأخير الأراضي بالزرع.(2/170)
وفي رجب:.سار ركب الحجاج الرجبية، فلقوا الشريف عجلان بالعقبة، وقد أخرجه أخوه ثقبة من مكة. فقدم عجلان إلى القاهرة، ودخل على السلطان، وطلب منه تجريد عسكر معه فلم يجب إلى ذلك. ورسم له بشراء مماليك، واستخدام الأجناد البطالين، فشرع في ذلك. وقدم كتاب أخيه ثقبة يشكو منه، فكتب لعجلان توقيع بإمرة مكة.بمفردة، واشترى أربعين مملوكا، واستخدم عشرين جندياً، وأنفق فيهم خمسمائة درهم كل واحد، ثم استجد عجلان طائفة أحرى حتى صار في مائة فارس. وحمل معه حملين نشاباً وقسياً ونحوها، وسافر إلى مكة مستهل رمضان، فأخذ الأمير بيبعا روس والأمير طاز في الحركة للحج.
وفيه توجه السلطان لسرحة سرياقوس.
وفيه أنعم على الأمير قطلوبغا الذهبي بإقطاع الأمير لجحين أمير آخور، بعد إمرته، وأنعم لإمرته وتقدمته على عمر بن أرغون النائب.
وفيه أخرج بكلمش أمير شكار لنيابة طرابلس، عوضا عن أمير مسعود بن خطير، وكتب بإحضار أمير مسعود.
وفيه هجم ابن معين بعربه على الأطفيحية، فقاتله أهلها، فكسرهم بعد أن قتل منهم عدة قتلى كبيرة تبلغ المائتي رجل.
وفيه قدم حمل سيس بحق النصف؛ لخراب بلادهم.
وفيه قدم كتاب الشريف ثقبة، وصحبته محضر ثابت يتضمن الشكر من سيرته، وتكذيب عجلان فيما نقل عنه، فكتب باستقراره شريكا لأخيه عجلان.
وفيه كتب بعود أمير مسعود إلى دمشق بطالا، حتى ينحل من الإقطاع ما يليق به. فعاد من الرملة إلى دمشق، وأنعم عليه بإمرة طبلخاناه، ورسم بجلوسه فوق الأمراء المقدمين.
وفيه خلع على الأمير فارس الدين ألبكي، واستقر في نيابة غزة، بعد موت دلنجي وأنعم بإمرته على أخيه، وأنعم على قطليجا الدوادار بإمرة طبلخاناه.
وفيه قدم قرا وأشقتمر المتوجهين إلى الشيخ حسن، وإلى الأشرف دمرداش بن جوبان، بكتابيهما. وذكر الشيخ حسن في كتابه أن دمرداش إنما طلب الود مكراً منه، فإن رسوله إنما قدم مصر لكشف أمر عسكرها، فإنه طمع في أخذ البلاد.
وفيه توجه الأمير طاز لسرحة البحيرة، وأنعم عليه بعشرة آلاف أردب شعير وخمسين ألف درهم بناحية طموه من الجيزية، زيادة على إقطاعه.
وفيه توجه السلطان إلى بر الجيزة؛ ليتم صوم شهر رمضان بها.
وفيه تواردت تقادم نواب الشام والأمراء بديار مصر على الأمير بيبغا روس؛ لحركته للحج.
وفي شوال: قدم السلطان من بر الجيزة إلى القلعة.
وفي خامس عشره: خرج محمل الحاج إلى بركة الحاج، صحبة الأمير بزلار أمير سلاح.
وخرج طلب الأمير بيبغاروس النائب بتجمل زائد، وفيه مائة وخمسون مملوكا معدة بالسلاح، وخرج طلب الأمير طاز، وفيه ستون فارسا. فرحل النائب قبل طاز بيومين، ثم رحل الأمير طاز بعده، ثم رحل بزلار بالحجاج ركباً ثالثاً في عشريه وفي يوم السبت رابع عشره: عزل الأمير منجك من الوزارة، وكان الأمير شيخو قد خرج إلى العباسة. وذلك أن السلطان بعد توجه الأمير شيخو طلب القضاة والأمراء، فلما اجتمعوا بالخدمة قال لهم: " يا أمراء هل لأحد على ولاية حجر، أو أنا حاكم نفسي؟ " . فقال الجميع: " يا خوند ما ثم أحد يحكم على مولانا السلطان، وهو مالك رقابنا. فقال: " إذا قلت لكم قولا ترجعوا إليه؟ " فقالوا جميعاً: " نحن في طاعة السلطان، وممتثلون ما يرسم به " . فالتفت إلى الحاجب، وقال: " خذ سيف هذا " . وأشار إلى منجك، فأخذ سيفه، وأخرج وقيد ونزلت الحوطة على أمواله مع الأمير كشلى السلاح دار، فوجد له خمسون حمل جمل زردخاناه، و لم يوجد له كثر مال، فرسم بعقوبته، ثم أخرج إلى الإسكندرية فسجن بها. وساعة قبض عليه رسم بإحضار الأمير شيخو من العباسة، على لسان بعض الجمدارية، وإعلامه.بمسك منجك. فقام الأمير منكلى بغا والأمير مغلطاي في منعه من الحضور، ومازالا يخيلان السلطان منه حتى كتب له مرسوم بنيابة طرابلس، على يد طينال الجاشنكير فلقيه طينال قريب بلبيس، وقد عاد صحبة الجمدارية، وأوقفه على المرسوم، فأجاب بالسمع والطاعة وبعث شيخو يسأل في الإقامة بدمشق، فكتب له بخبز الأمير بلك بدمشق وحضور بلك، فتوجه شيخو إليها وفيه قبض على الأمير عمر شاه الحاجب، وأخرج إلى الإسكندرية وفيه أنعم على الأمير طنيرق باستقراره رأس نوبة كبيراً(2/171)
وفيه قبص على حواشي منجك، وعلى عبده عنبر البابا، وصودر. وكان عنبر البابا قد أفحش في سيرته مع الناس، وشره في قطع المصانعات، وترفع ترفعا زائدا. فضرب ضرباً مبرحا، وأخذ منه نحو سبعين ألف درهم وفيه ضرب بكتمر شاد الأهراء، فاعترف للوزير باثني عشر ألف أردب غلة، اشتراها منجك من أرباب الرواتب والصدقات، على حساب ستة دراهم الأردب وسبعة دراهم.
وفي مستهل ذي القعدة: قبض على ناظر الدولة والمستوفين، وألزموا بخمسمائة ألف دينار. فترفق في أمرهم الأمير طنيرق حتى استقرت خمسمائة ألف درهم، وزعها الموفق ناظر الدولة على جميع المباشرين، من الكتاب والشهود والشادين ونحوهم، وألزم كل منهم بحمل معلومه عن ستة أشهر. فاشتد شاد الدواوين في استخراحها، وأخرق بجماعة منهم والتزم علم الدين عبد الله بن زنبور ناظر الخاص والجيش بتكفية جميع الأمراء والمقدمين بالخلع من ماله، وقيمتها خمسمائة ألف درهم، وفصلها وعرضها على السلطان. فبعث السلطان بها إلى الأمراء، وركبوا بها الموكب، وقبلوا الأرض، فكان موكباً جليلا وفيه قبض على أسندمر كاشف الوجه القبلي، وناصر الدين محمد بن الدوادارى متولي المحلة والغربية، وألزم ابن الدواداري بحمل مائة ألف درهم.
وفيه قبض على الفأر الضامن، وضرب بالمقارع، وأخذ منه جملة مال، وسجن.
وفي يوم السبت ثامنه: خلع على الأمير بيبغا ططر حارس الطير، واستقر في نيابة السلطنة عوضا عن بيبغا روس، بعد ما عرضت على أكابر الأمراء، فلم يقبلها أحد. وتمنع بيبغا ططر تمنعاً كبيراً، ثم قبلها.
وفيه استقر الأمير مغلطاي رأس نوبة، عوضاً عن طينرق. وأطلق له التحدث في أمور الدولة كلها، عوضاً عن الأمير شيخو، مضافا إلى ما بيده من التحدث في الإصطبل.
وفيه استقر الأمير منكلى بغا الفخري رأس المشورة أتابك العساكر، وأنعم على ولده بإمرة. ودقت الكوسات وطبلخاناه الأمراء بأجمعها، وزينت القاهرة ومصر يوم الأحد تاسعه، واستمرت ثمانية أيام وفيه قدم الخبر صحبة الأمير طشبغا الدوادار من دمشق، بأن الأمير شيخو لما قدم دمشق ليلة الثلاثاء رابع ذي القعدة، أظهر طينال كتابا بأن يستقر شيخو على إمرة بلك السلامي، وتجهز بلك إلى القاهرة. فقدم من الغد الأمير أرغون التاجي بإمساكه، فقيد وأخرج من دمشق. وكان شيخو لما قدم تلقاه النائب وأخرج له كتاب السلطان.بمكة، وإرساله صحبة الأمير طيلان. فحل شيخو سيفه بيده، وقال: " وأي حاجة إلى غدونا إلى الشام، كفي هتكنا في مصر. ثم قال للنائب: " والله يا أمير ما أعرف لي ذنباً غير أني كنت جسرا بينهم، أمنع بعضهم من الوصول إلى بعض " ، فقيد، وتسلمه طيلان ليسير به إلى مصر، وسلم سيفه لطشبغا وفيه قبض على ملك آص شاد الدواوين، وعلى شهاب الدين أحمد بن علي بن صبح؛ وتسلم سيفهما طشبغا.
وفيه أركب قطلوبغا، فخرج أخوه مغلطاي رأس نوبة إلى لقائه.
وفيه قدم الأمير شيخو إلى قطيا، فتوجه به متسلمه منها إلى الطينة وأوصله إلى الإسكندرية، فسجن بها.
وفيه خلع على طشبغا، واستقر على ما كان عليه دواداراً. وتصالح هو وعلاء الدين علي بن فضل الله كاتب السر بحضرة الأمراء، وبعث كل منهما إلى الآخر هدية. وكان لما أمسك منجك خرج الأمير قردم إلى الأمير طاز وأمير بزلار أمير الركب بكتاب السلطان، يتضمن القبض على الوزير منجك، وأنهما يحترسان على الأمير بيبغاروس.وكتب يبغا روس بتطييب خاطره وإعلامه بتغير السلطان على أخيه لأمور صدرت منه اقتضت مسكه، وأنه مستمر على نيابة السلطنة، فإن أراد العود عاد، وان أراد الحج حج. فركب الأمير قردم يوم القبض على الوزير منجك الهجن وقت العصر، وأوصل طاز وبزلار كتابيهما، ومضى إلى بيبغاروس وقد نزل سطح العقبة. فلما قرأ بيبغاروس الكتاب وجم، ثم قال: " كلنا مماليك السلطان " ، وخلع على الأمير قردم، وكتب جوابه بأنه ماض لأداء الحج. ثم إن السلطان رسم للأمير صرغتمش أن يدخل الخدمة مع الأمراء، بعد أن عزله من وظيفة الجمدارية، هو وأمير على، وكانا من جملة حاشية شيخو.
وفي يوم الأربعاء ثاني عشره: أمسك الأمير عمر شاه الحاحب، والأمير آقبغا البالسي. وأخرج عمر شاه إلى الإسكندرية، ونفي أقبغا البالسي وطشتمر القاسمي إلى طرابلس. وأخرج أمير على إلى الشام، وأخرج الأمير صرتمش لكشف الجسور بالصعيد.(2/172)
وفيه ألزم أستادار بيبغا روس بكتابة حواصله، وندب الأمير؛ آقجبا الحموي لبيع حواصل منجك. وأخذت جواري النائب بيبغا روس ومماليكه، وجواري منجك ومماليكه، إلى القلعة. وطلع من مماليك منجك خمسة وسبعون مملوكاً صغاراً، وطلع من جواري بيبغا روس خمس وأربعون جارية، فلما وصلن إلى دار النيابة بالقلعة صحن صيحة واحدة، وبكين فأبكين من هناك.
وفي يوم الجمعة رابع عشره: نفي ابن العرضي إلى حماة، بعد ما صورد.
وفيه خلع على بابان السناني نائب البيرة، وقد حضر منها، واستقر أستادارا، عوضا عن الأمير منجك الوزير.
وفيه قدم الخبر أن الأمير أحمد الساقي نائب صفد خرج عن الطاعة. وسببه أنه لما قبض على الوزير منجك، خرج الأمير قمارى الحموي، وعلى يده ملطفات لأمراء صفد بالقبض على أحمد، فبلغه ذلك من هجان جهزه إليه أخوه فندب الأمير أحمد الساقي طائفة من مماليكه لتلقى قمارى. وطلب نائب قلعه صفد وديوانه، وأمره أن يقرأ عليه كم له بالقلعة من غلة، فأمر لمماليكه منها بشيء فرقه عليهم إعانة لهم على ما حصل من المحل في البلاد، وبعثهم ليأخذوا ذلك، فعندما طلعوا القلعة شهروا سيوفهم وملكوها فقبض الأمير أحمد الساقي على عدة من الأمراء، وطلع بحريمه إلى القلعة وحصنها، وأخذ مماليكه قمارى، وأتوه به فكتب السلطان لنائب عزه ونائب الشام تجريد العسكر إليه، ورسم بالإفراج عن فياض بن مهنا وعيسى بن حسن الهجان أمور العايد، وخلع عليه وجهز، وأخذت الهجن من جمال الدين بقر أمير عرب الشرقية، وأعيدت إلى علي بن حسن. وكانت الأراجيف قد كثرت بأن الأمير طاز قد تحالف هو والأمير بيبغا روس بعقبة أيله، فخرج الأمير فياض وعيسى بن حسن أمير العايد؛ ليقيما على عقبة أيلة، بسبب بيبغا روس. وكتب لعرب شطي وبني عقبة وبني مهدي بالقيام مع الأمير فضل، وكتب لنائب غزة بإرسال السوقة إلى العقبة.
وفيه خلع على شهاب الدين أحمد بن قزمان بنيابة الإسكندرية، عرضاً عن بكتمر المؤمني.
وفيه خلع على الأمير أرلان أمير آخور، واستقر في نيابة الكرك، عوضا عن جركتمر. وأنعم على جركتمر باستقراره حاجباً بحلب، عوضاً عن موسى الحاجب، لشكوى نائب حلب منه.
وفي يوم الأربعاء سادس عشريه: قدم سيف الأمير بيبغا روس، وقد قبض عليه.
وذلك أنه لما وردعليه الكتاب.بمسك أخيه منجك اشتد خوفه، وطلع إلى العقبة، ونزل المنزلة فبلغه أن الأمير طاز والأمير بزلار ركبا للقبض عليه، فركب.بمن معه من الأمراء والمماليك بآلة الحرب. فقام الأمير عز الدين إزدمر الكاشف. بملاطفته، وأشار عليه ألا يعجل، وأن يكشف عن الخبر أولا فبعث الأمير بيبغا روس نجاباً في الليل لذلك، فعاد وأخبروا أن الأمير طاز مقيم بركبه، وأنه سار بهم وليس فيهم أحد لابس عدة الحرب، فقلع الأمير بيبغا روس السلاح هو ومن معه، وتلقى طاز وسأله عما تخوف منه، فأوقفه طاز على كتاب السلطان إليه. فلم ير بيبغا روس فيه ما يكره فاطمأن، ورحل كل منهما بركبه من العقبة. فأتت الأخبار إلى الأمراء باتفاف طاز وبيبغا روس، فكتب السلطان إلى طاز بزلار أمير الركب بالقبض على بيبغا روس قبل دخول مكة، وتوجه إليهما طيلان الجاشنكير، وقد رسم له أن يتوجه مع بيبغا روس إلى الكرك(2/173)
وجرد فياض وعيسى بن حسن إلى العقبة، ثم خرج الأمير أرلان.بمضافية تقوية لهما. فلما قدم طيلان على طاز وبزلار كتبا إلى أزدمر الكاشف يعلمانه.بما رسم به لهما من مسك بيبغا روس، ويؤكدان عليه في استمالة الأمير فاضل والأمير محمد بن بكتمر الحاجب وبقية من مع بيبغاروس، وتعجيزهم عن القيام معه، فأخذ أزدمر الكاشف في تنفيذ ذلك. ثم كتب طاز وبزلار لبيبغا روس أن يتأخر لسماع مرسرم السلطان، حتى يكون دخولهم مكة جميعاً فأحس بيبغا روس بالشر، وهم بالتوجه إلى الشام، فمازال أزدمر الكاشف به حتى رجعه عن ذلك. وعند نزول بيبغا روس المويلحة قدم طاز وبزلار، فتلقاهما وأسلم نفسه من غير ممانعة، فأخذوا سيفه، وأرادا تسليمه لطيلان حتى يحمله إلى الكرك. فرغب بيبغا روس إلى طاز أن يحج معه، فأخذه صحبته محتفظا به، وكتب بذلك إلى السلطان فتوهم السلطان ومغلطاى أن طاز قد مال مع بيبغاروس. وتشوشا تشوشاً زائداً ثم أكد ذلك ورود الخبر بعصيان أحمد في صفد، وظنوا أنه مناظر لبيبغا روس فأخرج طيلان ليقيم على الصفراء حتى يرد الحجاج إليها، فيمضي بيبغا إلى الكرك وفي يوم الخميس سابع عشريه: خلع على علم الدين عبد الله بن زنبور، خلعة الوزارة، مضافاً لما معه من نظر الخاص ونظر الجيش، بعد ما امتنع، وشرط شروطاً كثيرة وخرج ابن زنبور في موكب عظيم، فركب بالزنارى الحرير الأطلس إلى داره.بمصر، فكان يوما مذكوراً.
وفيه خلع على الأمير طنيرق بنياية حماة، عرضا عن أسندمر العمري.
وفي يوم السبت تاسع عشريه: جلس الوزير علم الدين بن زنبور بشباك قاعة الصاحب من القلعة، وفي دست الوزارة. وجلس الموفق ناظر الدولة قدامه، ومعه جماعة المستوفين. فطلب ابن زنبور جميع المباشرين، وقرر معهم ما يعتمدونه، وطلب محمد بن يوسف، وشد وسطه على عادته، وطلب المعاملين، وسلفهم على اللحم وغيره. وأمر فكتبت أوراق من بيت المال والأهراء، فإنه لم يكن بهما درهم واحد ولا أردب غلة، وقرأها على السلطان والأمراء. وشرع في عرض الشادين والكتاب وسائر أرباب الوظائف، وتقدم إلى المستوفين بكتابة أوراق المتأخر في النواحي، واهتم بتدبير الدولة. ورسم على بدر الدين ناظر البيوت، وألزمه.بمال لشيء كان في نفسه منه، وولى عوضه فخر الدين ماجد بن قرونه صهره نظر البيوت. ورسم لأولاد الخروبي النجار. بمصر بتجهيز راتب السكر لشهر المحرم، وأنفق في بيت السلطان جامكية شهر، فطلع إلى الحوائج خاناه السكر والزيت والقلوبات وسائر الأصناف.
وفيه أفرج ابن زنبور عن الفأر الضامن بسفارة الأمير ملكتمر المحمدي، وضمنه الجهات بزيادة خمسين ألف درهم وضمن الفأر معاملة الكيزان من الأمير طيبغا المجدي، بزيادة ثلاثين ألف درهم.
وفيه حمل علاء الدين بن فضل الله كاتب السر تقليد الوزارة إلى الصاحب علم الدين عبد الله بن زنبور، ونعت فيه بالجناب العالي. وكان جمال الكفاة قد سعى أن يكتب له ذلك زمن السلطان الصالح إسماعيل، فلم يرض كاتب السر، وشح به. فخرج الصاحب وتلقى كاتب السر، وبالغ في إكرامه، وبعث إليه تقدمة سنية.
وفي مستهل ذي الحجة: خلع على بكتمر المؤمني نائب الإسكندرية، واستقر شاد الدواوين.
وفيه خلع على سعد الدين رزق الله، ولد الوزير علم الدين، واستقر بديوان المماليك. وفيه التزم الوزير علم الدين بين يدي السلطان والأمراء أنه يباشر الوزارة بغير معلوم، ويباشر ابنه أيضا بغير معلوم، ويوفر ذلك للسلطان.
وفيه قدم الخبر بأن هند وأحد الأكراد استولى على بلاد الموصل، وصار في جمع كبير يقطع الطريق، والتحق به نجمة التركماني، فاستنابه وتقوى به وركب من مندر إلى سنجار وتحصن بها، وأغار على الموصل ونهب وقتل، ومضى إلى الرحبة وأفسد بها، ومشى على بلاد ماردين ونهبها. فخرجت إليه عساكر الشام، وحصروه بسنجار ومعهم عسكر ماردين، ونصبوا عليها المنجنيق مدة شهر حتى طلب هند الأمان، على أنه يقيم الخطبة للسلطان، ويبعث بأخيه ونجمة في عقد الصلح، وبقطع قطيعة يقوم بها كل سنة، فأمنه العسكر، وسروا عنه بأخيه ونجمة إلى حلب؛ فحمل نجمة ورفيقه إلى مصر، فلما نزلا منزلة قانون هرب نجمة.(2/174)
وفي خامسه: رسم بعرض أجناد الحلقة، وخرجت البريدية إلى النواحي لإحضار من بها منهم، فحضروا، وابتدئ بعرضهم بين يدي النائب بيبغا ططر حارس الطير في يوم السبت حادي عشره. وسبب ذلك دخول جماعة كبيرة من أرباب الصنائع في جملة أجناد الحلقة، وأخذ جماعة كثيرة من الأطفال الإقطاعات، حتى فسد العسكر. فرسم لنقيب الجيش بطلب المقدمين ومضافيهم، وإحضار الغائبين، وحذروهم من إخفاء أحد منهم. وتقرر العرض بين يدي السلطان في كل يوم مقدمين. بمضافيهما، ثم رسم للنائب بيبغا ططر حارس الطير أن يتولى ذلك، فطلع إليه عدة أيتام مع أمهاتهم، ما بين أطفال تحمل على الأكتاف وصغار وشباب، وجماعة من أرباب الصنائع. فساءه ذلك، وكره أن يقطع أرزاقهم، ومضى يومه بالتغاضي، وصرفهم جميعاً على أن يحضروا من الغد. وتحدث بيبغا ططر حارس الطير مع الأمراء في إبطال العرض، فعارضه منكلى بغا الفخري، وأشار بأن العرض فيه مصلحة، فإن القصد من إقامة الأجناد إنما هو الذب عن المسلمين، فلو تحرك العدو ما وجد في عسكر مصر من يدفعه فلم توافقه الأمراء على دلك، وخرج الأمير قبلاى الحاجب على لسان السلطان بإبطال العرض، وقد اجتمع بالقلعة عالم كبير، فكان يوماً مهولا من كثرة الدعاء والبكاء والتضرع.
وفيه قدم الخبر بنزول عسكر دمشق وطرابلس على صفد، وزحفهم عليها عدة أيام، جرح فيها كثير من الأجناد، ولم ينالوا من القلعة غرضا، إلى أن بلغهم القبض على بيبغا روس. وعلم بذلك الأمير أحمد الساقي نائب صفد من هجانته، فانحل عزمه، فبعث إليه بكلمش نائب طرابلس يرغبه في الطاعة، ودس إلى من معه في القلعة حتى حاصروا عليه، وهموا. بمسكه. فوافق الأمير أحمد الساقي على الطاعة، وحلف لنائب طرابلس، ونزل إليه.بمن معه. فسر السلطان بذلك، وكتب بإعانته وحمله.
وفي عاشره: كانت الوقعة.بمنى، وقبض على المجاهد على بن المؤيد داود بن المظفر أبو سعيد المنصوري عمر بن رسول صاحب اليمن فكان من خبر ذلك أن ثقبة لما بلغه استقرار أخيه عجلان في إمرة مكة، توجه إلى اليمن، وأغرى المجاهد بأخذ مكة وكسوة الكعبة. فتجهز المجاهد، وسار يريد الحج في جحفل كبير بأولاده وأمه حتى قرب من مكة، وقد سبق حاج مصر. فلبس عجلان آلة الحرب، وعرف أمراء مصر ما عزم عليه صاحب اليمن، وحذرهم غائلته. فبعثوا إليه بأن " من يريد الحج إنما يدخل مكة بذلة ومسكنة، وقد ابتدعت من ركوبك والسلاح حولك بدعة لا يمكنك أن تدخل بها، وابعث إلينا ثقبة ليكون عندنا حتى تنقضي أيام الحج، ثم نرسله إليك " فأجاب المجاهد إلى ذلك، وبعث ثقبة رهينة، فأكرمه الأمراء، وأركبوا الأمير طقطاي في جماعة إلى لقاء المجاهد، فتوجهوا إليه ومنعوا سلاحداريته من المشي معه بالسلاح، ولم يمكنوهم من حمل الغاشية. ودخلوا به مكة، فطاف وسمى، وسلم على الأمراء واعتذر إليهم، ومضى إلى منزله وصار كل منهم على حذر حتى وقفوا بعرفة، وعادوا إلى الحيف من منى، وقد تقرر الحال بين الشريف ثقبة وبين المجاهد على أن الأمير طاز إذا سار من مكة أرقعاهما بأمير الركب ومن معه، وقبضا على عجلان، وتسلم ثقبة مكة. فاتفق أن الأمير بزلار رأى وقد عاد من مكة إلى منى خادم المجاهد سائراً، فبعث يستدعيه فلم يأته، وضرب مملوكه - بعد مفاوضة جرت بينهما - بحربة في كتفه فماج الحاج، وركب بزلار وقت الظهر إلى طاز فلم يصل إليه حتى أقبلت الناس جافلة تخبر بركوب المجاهد بعسكره للحرب، وظهرت لوامع أسلحتهم، فركب طاز وبزلار والعسكر. وأكثرهم. بمكة.(2/175)
فكان أول من صدم أهل اليمن الأمير بزلار وهو في ثلاثين فارساً، فأخذوه في صدورهم إلى أن أرموه قرب خيمة. ومضت فرقة منهم إلى جهة طاز، فأوسع لهم، ثم عاد عليهم وركب الشريف عجلان والناس، فبعث طاز لعجلان " أن احفظ الحاج، ولا تدخل بيننا في حرب، ودعنا مع غريمنا " ؛ واستمر القتال بينهم إلى بعد العصر. فركب أهل اليمن الذلة، والتجأ المجاهد إلى دهليزه، وقد أحيط به وقطعت أطنابه، وألقوه إلى الأرض. فمر المجاهد على وجهه ومعه أولاده، فلم يجد طريقاً، ولديه إلى بعض الأعراب، وعاد.بمن معه وهم يصيحون: " الأمان يا مسلمين " فأخذوا وزيره، وتمزقت عساكره في تلك الجبال، وقتل منهم خلق كثير، ونهبت أموالهم وخيولهم حتى لم يبق لهم شيء، وما انفصل الحال إلى غروب الشمس. وفر ثقبة بعربه، وأخذ عبيد عجلان جماعة من الحجاج فيما بين مكة ومنى، وقتلوا جماعة. فلما أراد الأمير طاز الرحيل من منى سلم أم المجاهد وحريمه لعجلان، وأوصاه بهن وركب الأمير طاز ومعه المجاهد محتفظاً به، وبالغ في إكرامه، وصحب معه أيضا الأمير بيبغا روس مقيداً، وبعث الأمير طنطاي مبشراً. ولما قدم الأمير طاز المدينة النبوية قبض على الشريف طفيل وكان قاع النيل في هذه السنة أربعة أذرع ونصف ذراع. وتوقفت الزيادة حتى ارتفع سعر الأردب القمح من خمسة عشر درهماً إلى عشرين درهماً، ثم زاد النيل في يوم واحد أربعا وعشرين إصبعا، ونودي من الغد بزيادة عشرين إصبعاً، ثم بزيادة خمسة عشر إصبعا، ثم ثماني أصابع. واستمرت الزيادة حتى بقي من ذراع الوفاء ثلاثة أصابع، فتوقف ستة أيام، ثم وفى الستة عشر ذراعاً في يوم الإثنين ثاني عشرين مسرى. وزاد بعد ذلك إلى خامس توت، فبلغ سبعة عشر ذراعاً، وهبط فشرقت بلاد كثيرة، وتوالى الشراقي ثلاث سنين شق الأمر فيها على الناس من عدم الفلاحين وخيبة الزرع بخلاف ما يعهد، وكثرة المغارم والكلف، وظلم الولاة وعسفهم، وزيادة طمعهم في أخذ ما بذلوا مثله حتى ولوا، مع نفاق عرب الصعيد، وطمعهم في الكشاف والولاة، وكسر المغل، وعنتقهم في إعطائه الأجناد، ورمي الشعير على البلاد من حساب سبعة دراهم الأردب، وحمله إلى الأهراء، فحمل نحو الأربعين ألف أردب شعيراً، ونحو خمسة آلاف أردب برسيما.
وفيه خلع على ملك تونس أبو العباس الفضل بن أبي بكر بن يحيى بن إبراهيم بن عبد الواحد بن أبي حفص، في ثامن عشر جمادى الأولى، فكانت مدته ستة أشهر، فقام بعده أخوه أبو إسحاق إبراهيم بن أبي بكر.
ومات في هذه السنة من الأعيان الأمير سيف الدين دلنجى نائب غزة. قدم القاهرة سنة ثلاثين وسبعمائة، فأنعم عليه بإمرة عشره، ثم إمرة طبلخاناه، وولي غزة بعد يلجك فأوقع بالعشير، وقويت حرمته.
ومات الأمير لاجين أمير آخور.
وتوفي فخر الدين محمد بن على بن إبراهيم بن عبد الكريم المصري الفقيه الشافعي بدمشق، في ثالث عشر ذي القعدة، ومولده سنة إحدى وتسعين وستمائة، وخرج من القاهرة سنة اثنتين وسبعمائة، وسكن دمشق، وبرع في الفقه والعربية وغير ذلك. وكان يتوقد ذكاء، بحيث أنه حفظ مختصر ابن الحاجب مع تعقد ألفاظه في تسعة عشر يوماً، ودرس وأفتى وأفاد وتوفي العلامة شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب المعروف بابن قيم الجوزية الزرعي الدمشقي في ثالث عشر رجب، ومولده سنة إحدى وتسعين وستمائة. وبرع في عدة علوم، ما بين تفسير وفقه وعربية، وغير ذلك. ولزم شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية بعد عوده من القاهرة سنة اثنتي عشرة وسبعمائة حتى مات، وأخذ عنه علماً جماً، فصار أحد أفراد الدنيا، وتصانيفه كثيرة، وقدم القاهرة غير مرة ومات ابن قرقمان صاحب جبال الروم ومات الحسين بن خضر بن محمد بن حجي بن كرامة بن بختر بن على بن إبراهيم ابن الحسين بن إسحاق بن محمد الأمير ناصر الدين، المعروف بابن أمير الغرب التنوخى، في نصف شوال. وولى عوضه ابنه زين الدين صالح، وولايته ببلاد الغرب من بيروت. وأول من وليها منهم كرامة بن بختر في أيام نور الدين محمود بن زنكي، فسمي كرامة أمير الغرب.
سنة اثنتين في خمسين وسبعمائة
في يوم الخميس رابع المحرم: قدم الأمير أسندمر العمري من حماة.(2/176)
وفي يوم الجمعة خامسه: قدم الأمير أرغون الكاملي من حلب بغير مرسوم، فخلع عليه، وأنزل بالقلعة وسبب ذلك أنه كان قد أشيع بحلب القبض عليه، وأشيع.بمصر أنه خامر، فكره تمكن موسى حاجب حلب، لما بينهما من العداوة، ورأى أن وقوع المكروه به في غير حلب أخف عليه؛ فركب من حلب وقدم مصر ففرح السلطان بقدومه، لما كان عنده من إشاعة عصيانه وفيه قدم عيسى بن حسن الهجان من العقبة، بكتاب الأمير فياض يتضمن حضور طقطاى ورفيقه مبشرين، وأنه عوقهما بالعقبة، وبعث ما على يديهما من الكتب، وأن طيلان لفي الحاج ينبع، فكتب بإحضار طقطاى ورفيقه.
وفيه قدم الخبر بأن طيلان تسلم الأمير بيبغا روس من الأمير طاز، وتوجه به إلى الكرك من بدر. فسر السلطان والأمراء بذلك، وكتب بإعادة العسكر من العقبة.
وفيه توجه الأمير فياض بن مهنا إلى أهله، وسير إليه منشوره بإمرة العرب، عوضاً عن جبار، صحبة قطلوبغا أخي الأمير مغلطاى؛ ليسافر به إلى بلاده.
وفي رابع عشره: خلع على الضياء يوسف الشامي، وأعيد إلى حسبة القاهرة ونظر المارستان، عوضا عن ابن الأطروش، بسفارة النائب الأمير بيبغا ططر حارس الطير، لكلام نقله ابن الأطروش للوزير ابن زنبور، فسبه وأهانه، وتحدث في عزله وعود الضياء.
فعرض الضياء حواصل المارستان، فلم يجد بها شيئاً، وكتب بذلك أوراقاً، وأوقف الأمير بيبغا ططر حارس الطير النائب عليها. فنزل النائب معه إلى المارستان، واستدعى القضاة وأرباب الوظائف بالمارستان، وأحضر ابن الأطروش، وطلب كتاب الوقف وقرأه، حتى وصل فيه القارئ إلى قوله: " عن الناظر التعمم، ويكون عارفاً بالحساب وأمور الكتابة " . فقال الضياء لابن الأطروش: " قد سمعت ما شرطه الواقف فيك، وأنت عامي مشهور ببيع الخرائط لا تدري شيئاً مما شرطه الواقف " . وناوله ورقة حساب ليقرأها، فقام إليه بعض الفقهاء، وقال: " هذا معه تدريس وإعادة، وأنا أسأله عن شيء، فإن أجاب استحق المعلوم " . وأخذته الألسنة من كل جانب، فقال النائب: " يا قوم! هذا رجل عامي، وقد أخطأ، وما بقي إلا الستر عليه فاعترف ابن الأطروش أنه لا يدري الحساب، وأنه عاجز عن المباشرة، وألزم نفسه ألا يعود إليها أبداً، بإشهاد كتب فيه قضاة القضاة ونوابهم يتضمن قوادح شنيعة، ومازال النائب بأخصامه حتى كفوا عنه ثم قام النائب لكشف أحوال المرضى، فوجدت فرشهم قد تلفت، ولها ثلاث سنين لم تغير، فسد النائب خلله وانصرف.
وفيه قبض على مستوفي الدولة الأسعد حربة، وكريم الدين أكرم بن شيخ وسلما لشاد الدواوين فضرب شاد الدواوين ابن شيخ، وعاقبه حتى وزن مائة وستين ألف درهم، تتمة ثلاثمائة ألف درهم، ووزن حربة مالا جزيلا. واستقر عوضهما تاج الدين ابن ريشة، والعلم كاتب آل ملك.
وفي يوم السبت عشريه: قدم الأمير طاز من الحجاز.بمن معه، وصحبته الملك المجاهد، والشريف أدى أمير المدينة، بعد ما سافر ولحق باليمن، وقدم مع المجاهد إلى مكة. فخرج الأمير مغلطاي إلى البركة ومعه الأمراء، ومد له سماطاً جليلا، وقبض على من معه من الأمراء الذين كانوا من جماعة الأمير بيبغا روس، وقيدوهم، وهم فاضل أخو بيبغا روس وناصر الدين محمد بن بكتمر الحاجب. وأما الأمير أزدمر الكاشف فإنه أخرج عنه إقطاعه، ولزم بيته وفي يوم الإثنين عشريه: طلع الأمير طاز بالمجاهد إلى القلعة، فقيد عند باب القلعة، ومشى بقيده حتى وقف مع العموم بالدركاه - تجاه النائب، والأمراء جلوس - وقوفاً طويلا، إلى أن خرج أمير جاندار يطلب الأمراء على العادة، فدخل معهم وخلع السلطان على الأمير طاز، ثم أخذ المجاهد، وأمر به مقبل الأرض ثلاث مرات. وطلب السلطان الأمير طاز وسأل عنه، فمازال طاز يتشفع في أمر المجاهد إلى أن أمر بقيده ففك، وأنزل بالأشرفية من القلعة عند الأمير مغلطاى، وأجريت له الرواتب السنية، وأقيم له من يخدمه.
وفيه أنعم على الأمير طاز.بمائتي ألف درهم وفيه قبض على الأمير حسين الططرى وولده، وأخرج مع الأمراء الممسوكين إلى الإسكندرية.
وفيه خلع على الأمير أرغون الكاملي، واستقر في نيابة حلب على عادته، ورسم أن يكون موسى الحاجب بحلب نائباً بقلعة الروم.
وفي يوم الإثنين خامس عشريه: حضر المجاهد الخدمة، وأجلس تحت الأمراء.(2/177)
وفيه ألزم المجاهد بحمل أربعمائة ألف دينار يقترضها من الكارم، ثم بعد ذلك ينعم له بالسفر إلى بلاده.
وفيه قدم المجردون من العقبة بسبب بيبغا روس.
وفي يوم الخميس ثامن عشريه: قدم الأمير قطلوبغا الكركي، ومعه أمير أحمد الثائر بصفد، فأرسل إلى الاسكندرية، فسجن بها.
وفي يوم الإثنين تاسع عشريه: خلع على الأمراء اليمنيين المقيدين، وعلى المجاهد صاحب اليمن بالإيوان وقبل الأرض عدة مرار. وكان الأمير طاز والأمير مغلطاي تلطفا في أمره حتى أعفى من حمل المال، وقربه السلطان ووعده بالسفر إلى بلاده مكرهاً فقبل المجاهد الأرض، وسر بذلك، فأذن له أن ينزل من القلعة إلى إصطبل الأمير مغلطاى، ويتجهز للسفر. وأفرج عن وزيره وخادمه وحواشيه، وأنعم عليه.بمال. فبعث له الأمراء مالا جزيلا، وشرع في القرض من الكارم تجار مصر واليمن فبعثوا له عدة هدايا، وصار يركب حيث شاء، وفيه خلع على ابن بورقية، واستقر في حسبة مصر عوضاً عن ولي الدين.
وفي يوم الخميس ثاني صفر: ركب المجاهد في الموكب بسوق الخيل تحت القلعة، وطلع مع الأمير بيبغا ططر حارس الطير النائب إلى القلعة، ودخل إلى الخدمة بالإيوان مع الأمراء والنائب فكان موكباً عظيماً، ركب فيه جماعة من أجناد الحلقة مع مقدميهم وخلع السلطان على المقدمين، وطلعوا إلى القلعة، وأجناد الحلقة معهم. واستمر المجاهد يركب في الخدمة مع النائب في سوق الخيل، ويطلع إلى الخدمة بالقلعة وفيه خلع على الأمير صرغتمش، واستقر رأس نوبة على ما كان عليه، بعناية الأمير طاز والأمير مغلطاي وفيه قبض على محمد بن يوسف مقدم الدولة، وسلم لشاد الدواوين، وأفرد محمد ابن زيد بالتقدمة.
وفي يوم السبت ثامن عشره: برز المجاهد صاحب اليمن بثقله إلى الريدانيه؛ ليسافر إلى بلاده، وصحبته الأمير قشتمر شاد الدواوين. وكتب السلطان إلى الشريف عجلان أمير مكة بتجهيزه إلى بلاده، وكتب لبنى شعبة وغيرهم من العربان بالقيام في خدمته، وخلع عليه أطلس، فوعد المجاهد بإرسال الدية والمال، وقرر على نفسه حملا في كل سنة وأسر السلطان إلى قشتمر أنه إن رأى منه ما يريبه.بمنعه من المضي، ويطالع بأمره. فرحل المجاهد من الريدانية خارج القاهرة، في يوم الخميس ثالث عشريه، ومعه عدة مماليك اشتراها، وكثر من الخيل والجمال وفي مستهل ربيع الأول: قدم الأمير قطلوبغا مستقر الأمير فياض بن مهنا، وقد أنعم عليه. بمائة ألف درهم، وثلاثين فرساً، وخمسين جملا، وقماش كثير.
وفيه قدم الخبر بلين الأمير أيتمش المصري نائب الشام، وضياع أحوال الشام، وكثرة قطع الطرقات، وأن أهل الشام سموه " ايش كنت أنا " ، وأن أحوال شمس الدين موسى بن التاج إسحاق الناظر توقفت. ووقع جراد مضر بالزرع، أفسد أكثرها، وأن الغرارة القمح ارتفعت من ثمانين إلى مائة وعشرين درهماً.
ووقع بحماة سيل لم يعهد مثله، وخرب السيل أماكن كثيرة.
وفيه قدم الأمير قطلوبغا الذهبي من الوجه القبلي، وقد عجز عن مقاومة الأحدب.
وفيه قدم الخبر بقتل الشريف سعد بن ثابت أمير المدينة النبوية. وسببه أن الشريف أدى لما نهب المدينة وفر إلى اليمن، وصار عند صاحبها المجاهد حتى قدم مكة، ترامى على الأمير طاز إلى أن أخذ له أمانا من السلطان وقدم معه ومثل بين يدي السلطان وفي عنقه منديل الأمان فقيل له: " إنما أمنك على نفسك، وأما الأموال التى أخذتها من أهل المدينة ومن الحجج فلابد من ردها إلى أربابها " .
فجمع أدى ولده وطرق سعد بن ثابت ليلا وحاربه فقتل سعد وكتب باستقرار فضل ابن قاسم عوضه.
وفي مستهل ربيع الآخر. كان عرس خوند زهراء ابنة السلطان الملك الناصر محمد وهي زوجة آقسنقر الناصري المقتول زمن المظفر حاجي على الأمير طاز، ثم كان بعد ذلك عرس الأمير تنكز بغا، وأعرس جماعة من الأمراء و عمل السلطان لكل منهم مهما يليق به، فأقامت الأفراح طول الشهر، وأنعم السلطان على طاز وعلى تنكز بغا بثلاثمائة ألف درهم، وأنعم على كل من الأمير مغلطاي رأس نوبة، والأمير منكلى بغا الفخري. وفيه أخرج الأمير نوروز على إمرة طبلخاناه، بدمشق. وسببه أنه لما قدم من الشام أنعم عليه بتقدمة ألف، فصار يتحدث مع السلطان في المشور، وترفع على الأمراء.
وفيه قدم سيف بن فضل، بقوده.(2/178)
وفي ليلة الثلاثاء رابعه: قدم الخبر بأن الأمير قشتمر أمسك المجاهد صاحب اليمن بينبع، بعد ما فر بنفسه، وترك ثقله. ثم قدم قشتمر في يوم السبت خامس عشره، وأرسل المجاهد إلى الكرك، فسجن بها.
وفي أول جمادى الأولى: قدمت رسل الأشرف دمرداش بن جوبان بسبب الصلح، فأنزلوا بصهريج منجك ثلاثة أيام، و لم يمكن أحد من الاجتماع بهم. ثم مثلوا بين يدي السلطان، وأعيدوا بجوابهم.
وفيه خلع على الأمير أرغون الإسماعيلي، واستقر في نيابة غزة، عوضاً عن فارس الدين ألبكي. وقدم فارس الدين فأنعم عليه بإمرة طبلخاناه.
وفيه خرجت العرب المعروفة ثعلبة من أماكنها، وتفرقوا في البلاد.
فوقفت أحوال مراكز البريد، فإن درك البريد عليهم فسعى ابن طلدية في ولاية الشرقية وتكفل برد ثعلبة، فخلع عليه بولايتها.
وفيه ركب الأمير طاز لكبس عرب الأطفيحية، وقد اشتد ضررهم وكثر قطعهم الطريق، فلم يظفر منهم بأحد، وتعلقوا بالجبال.
وفيه توعك السلطان ولزم الفراش أياما، فبلغ طاز ومغلطاى ومنكلى بغا أنه أراد بإظهار توعكه القبض عليهم إذا دخلوا إليه، وأنه قد اتفق مع قشتمر وألطنبغا الزامر وملكتمر المارديني وتنكز بغا على ذلك، وأن ينعم عليهم بإقطاعاتهم وإمراتهم. فواعدوا أصحابهم، واتفقوا مع الأمير بيبغا ططر حارس الطير النائب، والأمير طيبغا المجدي والأمير رسلان بصل، وركبوا يوم الأحد سابع عشري جمادى الآخرة بأطلابهم، ووقفوا عند قبة النصر.
فخرج السلطان إلى القصر الأبلق، وبعث يسألهم عن سبب ركوبهم، فقالوا: " أنت اتفقت مع مماليكك على مسكنا، ولابد من إرسالهم إلينا. فبعث السلطان إليهم تنكز بغا وقشتمر وألطنبغا الزامر وملكتمر، فعندما وصلوا إليهم قيدوهم، وبعثوهم إلى خزانة كايل، فسجنوا بها. فشق ذلك على السلطان، وبكى، وقال: " قد نزلت عن السلطنة " ، وسير إليهم النجاة، فسلموها للأمير طيبغا المجدي. وقام السلطان إلى حريمه، فبعث الأمراء الأمير صرغتش، ومعه الأمير قطلوبغا الذهبي وجماعة؛ ليأخذه ويحبسه. فطلعوا إلى القلعة راكبين إلى باب القصر الأبلق، ودخلوا إلى الناصر حسن وأخذوه من بين حرمه، فصرخ النساء صراخاً عظيما، وصاحت ست حدق على صرغتمش صياحاً منكراً، وسبته، وقالت: " هذا جزاؤه منك " . فأخرجه صرغتمش وقد غطى وجهه إلى الرحبة، فلما رأه الخدام والمماليك تباكوا عليه بكاءاً كثيراً. وطلع صرغتمش به إلى رواق فوق الإيوان، ووكل به من يحفظه، وعاد إلى الأمراء. وكانت مدته ثلاث سنين وتسعة أشهر وأربعة عشر يوماً، منها مدة الحجر عليه ثلاث سنين، ومدة استبداده تسعة أشهر، وكان القائم بدولته الأمير شيخو رأس نوبة، وإليه أمر خزانة الخاص - ومرجع ذلك إلى علم الدين بن زنبور ناظر الخاص - والأمير بيبغاروس نائب السلطة، وإليه حكم العسكر وتدبره والحكم بين الناس، والأمير منجك الوزير الأستادار مقدم المماليك، وإليه التصرف في أموال الدولة، والمتولي لتربيته خوند طغاي أم آنوك، وفي خدمته ست حدق. ورتب له في كل يوم مائة درهم تصرف لخدامه من خزانة الخاص، فكان كذلك في طوع الأمراء، يصرفونه على حسب اختيارهم، إلى أن نفرت نفوس الأمراء الخاصكية من الوزير منجك، وحسدوه على ما هو فيه، وكان أشدهم عليه حقدا الأمير مغلطاي والأمير طاز. وكان الأمير شيخو يفهم عنه إلى أن خرج الأمير بيبغا روس إلى الحج، وخرج الأمير شيخو إلى السرحة بالعباسة، وقع الاتفاق على ترشيد السلطان، ومسك منجك كما تقدم. فاستبد السلطان بالتصرف، وأخذ أموال الأمراء المقبوض عليهم، وفرقها في خواصه. ثم اختص بطاز، وبالغ في الإنعام عليه، واستخص قشتمر وألطنبغا وملكتمر وتنكز بغا، وجعلهم ندماءه في الليل ومشيريه في النهار، فلم يكن يفارقهم أبداً ليلا ولا نهاراً، وسوغهم من الأملاك، وأنعم عليهم من الجواهر والأموال بشيء جليل إلى الغاية، وأعرض عن الأمراء، فلم يلتفت إليهم حتى كان ما كان من خلعه.(2/179)
وكانت أيامه شديدة، كثرت فيها المغارم بالنواحي، وخربت عدة أملاك على النيل، واحترقت مواضع كثيرة بالقاهرة ومصر، وخرحت عربان العايد وثعلبة وعشير الشام وعرب الصعيد عن الطاعة، واشتد فسادهم وكثر قطعهم الطرقات. وكان الفناء العظيم الذي لم يعهد مثله، وتوالي شراقي الأراضي، وتلاف الجسور، وقيام ابن واصل الأحدب ببلاد الصعيد والعجز عنه، وقتل عرب الصعيد طغية الكاشف، وهزيمتهم الهذباني وأخذ ثقله. فاختلت أرض مصر وبلاد الشام بسبب ذلك خللاً فاحشاً، إلا أن الناصر حسن كان في نفسه مفرط الذكاء، ضابطاً لما يدخل إليه ويصرفه كل يوم، عارفاً متديناً شهماً، لو وجد ناصراً ومعيناً لكان أجل الملوك.
السلطان الملك الصالح
صلاح الدين صالح بن الناصر محمد بن قلاون أمه بنت الأمير تنكز نائب الشام، أقيم سلطانا بعد خلع أخيه الناصر حسن، في يوم الإثنين ثامن عشرى جمادى الآخرة، سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة. وذلك أن الأمراء لما حملت إليهم النمجاة، باتوا ليلة الإثنين بإصطبلاتهم، وبكروا يوم الإثنين إلى القلعة، واجتمعوا بالرحبة داخل باب النحاس، وطلبوا الخليفة والقضاة وسائر أهل الدولة، واستدعوا به. فلما خرج إليهم ألبسوه شعار السلطنة، وأركبوه فرس النوبة من داخل باب الستارة، ورفعت الغاشية بين يديه. وكان الأمير طاز والأمير منكلى بغا الفخري آخذين بشكيمة الفرس حتى جلس على التخت. وحلفوا له، وحلفوه على العادة، ولقبوه بالملك الصالح، ونودي بسلطنته في القاهرة ومصر.
وكان النيل قد نقص عندما كسر، فرد نقصه، ونودي عليه هذا اليوم بزيادة ثلاثة أصابع من سبعة عشر ذراعاً، فتباشر الناس بولايته.
وفيه نقل السلطان أخاه حسن الناصر إلى حيث ساكنا، ورتب في خدمته جماعة وطلب أخاه أمير حسين وأكرمه، ووعده بتغيير إقطاعه وزيادة راتبه.
وفيه توجه الأمير بزلار أمير سلاح إلى الشام، ومعه التشريف والبشارة بولاية السلطان وتحليف العساكر له على العادة.
وفيه دقت البشائر، ونودي بزينة القاهرة ومصر، فزينتا.
وفيه طلب الأمير مغلطاي والأمير طاز مفاتيح الذخيرة، ليعتبروا ما فيها، فوجد شيء يسير.
وفيه رسم للوزير علم الدين عبد الله بن زنبور بتجهيزه تشاريف الأمراء وأرباب الوظائف على العادة، فجهزها.
وفيه وقف الأمير طاز، وسأل الأمراء والسلطان في الإفراج عن الأمير شيخو، فرسم به.وكتب كل من مغلطاي وطاز إليه كتاباً، فبعث مغلطاي بكتابه، أخاه قطلوبغا رأس نوبة، وبعث طاز الأمير طقطاي صهره. وجهزت الحراقة لإحضار شيخو من الإسكندرية، في يوم الثلاثاء تاسع عشرينه.(2/180)
وكان ذلك بغير اختيار الأمير مغلطاى، فإن الأمير طاز دخل عليه في ذلك، ومضى إلى بيته، فاعتذر إليه بأنه يخشى من خلاصه على نفسه، فحلف له طاز أيمانا مغلظة أنه معه على كل ما يريد، ولا يصيبه من شيخو ما يكره، وأن شيخو إذا حضر ما يعارضه من في شيء من أمر المملكة، " وإني ضامن له في هذا " ؛ وما زال به حتى وافق على الإفراج عنه، وكتب إليه مع أخيه. فشق ذلك على الأمير منكلى بغا الفخري، وعتب مغلطاي على موافقته لطاز، وأوهمه أن بحضور شيخو يزول عنهم ما هم فيه، حتى تقرر ذلك في ذهنه، وندم على ما كان منه، إلى أن كان يوم الخميس أول شهر رحب، وركب الأمراء في الموكب على العادة، أخذ منكلى بغا يعرف الأمير بيبغا ططر حارس الطير النائب والأمراء الكبار ما دار بينه وبين مغلطاى، وخيلهم من حضور شيخو إلى أن وافقوه، وطلعوا إلى القلعة ودخلوا إلى الخدمة. فابتدأ الأمير بيبغا حارس الطير النائب بحديث شيخو، وأنه رجل كبير، ويحتاج إلى إقطاع كبير وكلف كبيرة. فتكلم منكلى بغا ومغلطاي والأمراء، وطاز ساكت قد اختبط لتغير مغلطاي ورجوعه عما وافقه عليه. وأخذ طاز يتلطف به، فصمم مغلطاي على ما هو عليه، وقال: " ما لى وجه أنظر به شيخو، وقد أخذت منصبه بعد ما مسكته، وسكنت بيته " . فوافقه الأمير بيبغا ططر حارس الطير النائب، وقال لناظر الجيش: " اكتب له مثالا بنيابة حماه، وانتقال طنبرق لنيابة حلب " ، وقال لكاتب السر. " اكتب كتابا بعوده من طريقه إلى نيابة حماه " فكتب ذلك، وتوجه به أيدمر الدوادار من وقته وساعته في حراقته. وعين لسفر شيخو إلى حماة عشرون هجينا ليركبها ويسير عليها، وانفضوا، وفي نفس طاز ما لا يعبر عنه. فاجتمع هو وصرغتمش وملكتمر وجماعة، واتفقوا جميعاً وبعثوا إلى مغلطاي بأن " منكلى بغا رجل فتنى، وما دام بيننا لا نتفق أبداً " . فلم يصغ مغلطاي إلى قولهم، واحتج بأنه إن وافقهم لا يأمن على نفسه. فدخل عليه طاز ليلا بالأشرفية من القلعة حيث سكنه، وخادعه حتى أجابه إلى إخراج منكلى بغا، وتحالفا على ذلك. فما هو إلا أن خرج عنه طاز أخذ دوادار مغلطاي يفتح ما صدر منه، ويهول عليه الأمر بأنه متى أبعد منكلى بغا وحضر شيخو أخذ لا محالة، فمال إليه. وبلغ الخبر منكلى بغا، بكرة يوم الجمعة ثانيه، فواعد الأمير بيبغا ططر حارس الطير النائب والأمراء على الاجتماع في صلاة الجمعة؛ ليقع الاتفاق على ما يكون. فلم يخف عن طاز وصرغتمش رجوع مغلطاي عما تقرر بينه وبين طاز ليلا، فاستعد للحرب، وواعد الأمير ملكتمر المحمدي والأمير قردم الحموي ومن هوى هواهم، واستمالوا مماليك بيبغا روس ومماليك منجك حتى صاروا معهم رجاء الخلاص أستاذيهم وشد الجميع خيولهم.(2/181)
فلما دخل الأمراء لصلاة الجمعة اجتمع منكلى بغا بالنائب بيبغا ططر حارس الطير وجماعة، وقرر معهم أن يطلبوا طاز وصرغتمش إلى عندهم في دار النيابة، ويقبضوا عليهما. فلما أتاهم الرسول بطلبهما أحسا بالشر، وقاما ليتهيئا للحضور، وصرفا الرسول على أنهما يكونان في أثره، وبادر إلى باب الدور ونحوه من الأبواب فأغلقاها، واستدعوا من معهم من المماليك السلطانية، ولبسوا السلاح. ونزل صرغتمش بمن معه من باب السر، ليمنع من يخرج من إصطبلات الأمراء، ودخل طاز على السلطان حتى يركب به للحرب، فلقى الأمير صرغتمش في نزوله الأمير أيدغدي أمير آخور، فلم يطق منعه، وأخذ بعض الخيول من الإصطبل، وخرج فوجد خيله وخيل من معه في انتظارهم. فركبوا إلى الطبلخاناه، فإذا طلب منكلى بغا مع ولده ومماليكه يريدون قبة النصر، فألقوه عن فرسه وجرحوه في وجهه، وقتلوا حامل الصنجق، وشتتوا كل الجميع. فما استتم هذا حتى ظهر طب مغلطاي مع مماليكه، ولم يكن لهم علم.بما وقع على طلب منكلى بغا. فصدمهم صرغتمش.بمن معه صدمة بددهم، وحرح جماعة منهم، وهزم بقيتهم. ثم عاد صرغتمش ليدرك الأمراء قبل نزولهم من القلعة، وكانت خيولهم واقفة على باب السلسلة تنتظرهم، فمال عليها ليأخذها. وامتدت أيدي أصحابه إليها، فقتلوا الغلمان، وقد عظم الصياح، وانعقد الغبار، وإذا بالنائب بيبغا ططر حارس الطير ومغلطاى ومنكلى بغا وبيغرا ومن معهم قد نزلوا، وركبوا خيولهم. وكانوا لما أبطأ عليهم مجيء طاز وصرغتمش بعثوا في استعجالهما، فإذا الأبواب مغلقة، والصيحة داخل باب القلة، فقاموا من دار النيابة يريدون الركوب، فما توسطوا القلعة حتى سمعوا ضجة الغلمان وصياحهم. فأسرعوا إليهم وركبوا، فشهر مغلطاي سيفه، واقتحم.بمن معه على صرغتمش ومن معه؛ ومر النائب بيبغا ططر حارس الطير وبيغرا ورسلان بصل يريد كل منهم اصطبله. فلم يكن غير ساعة حتى انكسر مغلطاي كسرة قبيحة، وجرح كثير من أصحابه، وفر إلى جهة قبة النصر وهم في أثره، وانهزم منكلى بغا أيضاً وكان طاز لما دخل على السلطان عرفه أن الأمير بيبغا ططر حارس الطير النائب والأمراء اتفقوا على إعادة الناصر حسن إلى السلطنة، وأخذه في مماليكه، ونزل به من باب السر إلى الإصطبل. واستدعى السلطان بالخيل ليركب، فقعد به أيدغدي أمير آخور، واحتج بقلة السروج، فإنه كان ممالئاً لمغلطاي؛ فأخذ المماليك ما وجدوه، وخرجوا بالسلطان، ودقت الكوسات. فاجتمع إليه الأمراء والأجناد والمماليك السلطانية من كل جهة، حتى عظم جمعه، فلم تغرب الشمس إلا والمدينة قد غلقت، والرميلة قد امتلأت بالعامة. وسار طاز بالسلطان يريد قبة النصر حتى يعرف خبر صرغتمش، فوافى قبة النصر بعد المغرب.
وأما صرغتمش فإنه تمادى في طلب مغلطاي ومنكلى بغا حتى أظلم الليل، فلم يشعر إلا.بمملوك الأمير بيبغا ططر حارس الطير النائب قد أتاه برسالة النائب أن مغلطاي عنده في بيت آل ملك بالحسينية، فبعث جماعة لأخذه. ومر صرغتمش في طلب منكلى بغا، فلقيه الأمير محمد بن بكتمر الحاحب، وعرفه أن منكلى بغا نزل قريباً من قناطر الأميرية، ووقف يصلي، وأن طلب الأمير مجد الدين موسى الهذباني كان قد جاء من جهة كوم الريش. ولحق بالأمير منكلى بغا الأمير أرغون المكي في جماعة، فقبضوا عليه وهو قائم يصلي، وكتفوه بعمامته، وأركبوه بعد ما نكلوا به. فلم يكن غير قليل حتى أتوا به وبمغلطاي، فقيدا وسجنا بخزانة شمائل، ثم أخرجا إلى الإسكندرية، ومعهما ابن منكلى بغا، فسجنوا بها، وأقبل صرغتمش ومن معه إلى السلطان بقبة النصر، وعرفه بمسك الأميرين، فسر سروراً كبيراً، ونزل هو والأمراء وباتوا عند قبة النصر.
وركب السلطان بكرة يوم السبت ثالثه إلى القلعة، وجلس بالإيوان، ودخل الأمراء فهنأوه السلامة، ونودي بالزينة. وفي الحال كتب باستدعاء الأمير شيخو، وخرج جماعة من الأمراء ومماليكه إلى لقائه. ونزلت البشائر إلى بيوت شيخو وبيبغا روس ومنجك، وكان يوما مذكورا، وبات الأمراء على تخوف.(2/182)
وأما شيخو، فإن حراقة أخي طاز وطقطاي وافت الاسكندرية يوم الخميس أول رجب، فخرج شيخو من السجن وهو ضعيف، وركب الحراقة في الخليج، وأهل الإسكندرية في فرح وسرور بخلاصه. فوافاه كتاب صرغتمش بأنه " إذا أتاك أيدمر بمرسوم توجهك إلى حماة لا ترجع، وأقبل إلى القاهرة، فأنا معك " ، فتغير لقراءته، وعلم أنه قد حدث في أمره حادث. فلم يكن غير ساعتين حتى لاحت له حراقة أيدمر، فمر وهو مقلع، وأيدمر منحدر إلى أن تجاوزه، وهو يصيح ويشير.بمنديله، فلا يلتفتون إليه. واستمرت حراقة شيخو طول الليل وأيدمر في أثره، فلم يدركه إلا بكرة يوم السبت. فعندما طلع إليه أيدمر، وعرفه ما رسم له من عوده إلى حماة، وقرأ المرسوم الذي على يده، وإذا بالخيل على البر تتبع بعضها بعضاً، والمراكب قد ملأت وجه الماء تبادر لبشارته وإعلامه.بما وقع من الركوب، ومسك مغلطاي ومنكلى بغا فسر شيخو بذلك سروراً كثيراً، وسار إلى أن أرسى بساحل بولاق، في يوم الأحد رابعه.
وكان الناس قد خرجوا يوم السبت إلى لقائه، وأقاموا ببولاق ومنبابه. ووصلت المشاة إلى منية السيرج تنتظر قدومه. فلما رأوا الحراقة صاحوا ودعوا له، وتلقته مراكب أصحابه. وخرج الناس للفرجة، فبلغ كراء المراكب إلى مائة درهم، وما وصلت الحراقة إلا وحولها فوق الألف مركب. وركب الأمراء إلى لقائه، وزينت الصليبة، وأشعلت الشموع، وخرج مشايخ الصوفية بصوفيتهم إلى لقائه. فسار شيخو في موكب عظيم إلى الغاية، لم ير مثله لأمير، إلى أن صعد القلعة. ودخل شيخو على السلطان، فأقبل عليه، وخلع عنه ثياب السجن، وألبسه تشريفاً جليلا، وخرج شيخو إلى منزله والتهاني تتلقاه.
وفيه فرقت الخلع على الأمراء، وركبوا بها إلى الخدمة، في يوم الإثنين خامسه.
وفي يوم الأربعاء سابعه: رسم بإخراج الأمير بيبغا ططر حارس الطير نائب السلطنة، والأمير بيغرا. فنزل الحاحب إلى بيت آل ملك بالحسينية، وأخرج منه النائب؛ ليسير إلى نيابة غزة. وأخرج بيغرا من الحمام إخراجاً عنيفاً؛ ليتوجه إلى حلب. فركبا من فورهما، وسارا وفيه قبض على الطيب أحد أمراء الطبلخاناه من أصحاب مغلطاي، وقيد وسجن.
وفيه أخرج أيدغدي أمير آخور إلى طرابلس، بطالا وفيه كتب بالإفراج عن المسجونين بالإسكندرية والكرك وفي عاشره: ركب السلطان والأمراء إلى الميدان على العادة، ولعب فيه بالكرة، فكان يوماً مشهوداً.
وفيه وقف الناس في الفأر الضامن، ورفعوا فيه مائة قصة. فقبض عليه، وضربه الوزير بالمقارع ضرباً كثيراً، وهو يحمل المال، فوجدت له خبية فيها نحو مائتي ألف درهم حملت إلى بيت المال.
وفيه قبض على النائب بيبغا ططر حارس الطير في طريقه، وسجن بالإسكندرية.
وفي يوم الأحد حادي عشره. وصل الأمراء من سجن الإسكندريه، وهم سبعة. منجك الوزير، وفاضل أخو بيبغا روس، وأحمد الساقي نائب صفد، وعمر شاه الحاجب، وأمير حسين التتري وولده، ومحمد بن بكتمر الحاجب. فركب الأمير طاز ومعه الخيول المجهزة لركوبهم حتى لقيهم، وطلع بهم إلى القلعة، فخلع عليهم بين يدي السلطان. ونزلوا إلى بيوتهم، فامتلأت القاهرة بالأفراح والتهاني ونزل الأمير شيخو والأمير طاز والأمير صرغتمش إلى إصطبلاتهم، وبعثوا إلى الأمراء القادمين من السجن التقادم السنية، من الخيول والتعابي القماش والبسط وغيرها، فكان الذي بعثه الأمير شيخو لمنجك خمسة أفراس، ومبلغ ألفي دينار وفي يوم الإثنين ثاني عشره: خلع على الأمير قبلاي الحاجب، واستقر في نيابة السلطنة عوضاً عن بيبغا ططر حارس الطير.
وفيه قدم الخبر بنفاق عرب الصعيد، ونهبهم الغلال ومعاصر السكر، وكبسهم البلاد، وكثره حروبهم، بحيث قتل منهم ألف رجل، وأن ابن مغنى حشد وركب في البر والبحر. وامتنع الناس من سلوك الطرقات، وأنه متى لم يبادر الأمراء إلى حربه لا يحصل للأراضي تخضير، وكان زمن النيل. فطلب عز الدين أزدمر الأعمى الكاشف، وأعيد له إقطاعه من الأمير قندس أمير آخور، وخلع عليه، واستقر في كشف الوجه القبلي. وخلع على مملوك أسندمر، واستقر في كشف الإطفيحية، وأنعم عليه بإقطاع ابن بيبغا ططر حارس الطير النائب. وأنعم على فارس الدين ألبكي نائب غزة بتقدمة ألف، ورسم بخروجه صحبة أزدمر الأعمى الكاشف، وعين معه ستة أمراء طبلخاناه.(2/183)
وفي يوم الخميس خامس عشره: قدم الأمير بيبغا روس من سجن الكرك، فركب الأمراء إلى لقائه، وطلع إلى السلطان، فخلع عليه ونزل بيبغا روس إلى بيته، فلم يبق أحد من الأمراء حتى قدم له تقدمة تليق به.
وفي يوم السبت سابع عشره: ركب السلطان إلى الميدان، ومعه الأمير بيبغا روس، وعليه التشريف، وصحبته الأمراء. فلعب السلطان بالكرة، وعاد إلى القلعة آخر النهار.
وفي يوم الإثنين تاسع عشره: خلع على الأمير بيبغا روس، واستقر في نيابة حلب عوضا عن أرغون الكاملي. واستقر أرغون الكاملي في نيابة الشام، عوضا عن أيتمش الناصري وفيه خلع أيضا على أمير أحمد الساقي شاد الشرابخاناه ونائب صفد، واستقر في نيابة حماة، عوضا عن طنبرق. ورسم طنبرق إلى حلب أمير طبلخاناه، ثم رسم أن يكون بطالا بدمشق وفيه خلع على الوزير علم الدين بن زنبور خلعة الاستمرار، وركب قدام المحمل بالزناري في موكب عظيم. ولم يركب أحد من الوزراء قدام المحمل سوى ابن السلعوس، في أيام الأشرف خليل، وأمين الملك بن الغنام في أيام الناصر محمد، مرة واحدة.
وفيه أحيط بموجود ست حدق، ووكل بها. وكتب موجودها، وألزمت.بمال كبير سوى موجودها، ثم أفرج عنها، ولم يؤخذ لها شيء.
وفي يوم الجمعة أول شعبان: خلع على محمد بن الكوراني بولاية مصر والصناعة، عوضا عن بلاط.
وفي يوم الأحد ثالثه: سافر الأمير بيبغا روس إلى نيابة حلب، وأمير أحمد إلى نيابة حماة وفيه كتب باستقرار منجك في نيابة صفد، فسأل الإعفاء، وأن يقيم بجامعه بطالا؛ فأجيب إلى ذلك بسفارة الأمير شيخو. فاسترد أملاكه التي أنعم بها على المماليك والخدام والجواري، ورم ما تشعت من صهريجه، واستجد به خطبة، وولي زين الدين البسطامي في خطابته وفيه خلع على عمر شاه، واستقر حاحب الحجاب، عوضاً عن النائب قبلاي وفيه أنعم على طشتمر القاسمي بتقدمة ألف، واستقر حاجباً ثانياً.
وفيه أنعم على جماعة من المماليك السلطانية، بإمرات.
وفي يوم الخميس سابعه: قدم أمير على المارديني، وأنعم عليه بتقدمة بيغرا.
وفيه أخرج أقجبا الحاحب الحموي، وطينال الجاشنكير، وملكتمر السعيدي، وقطلوبغا أخو مغلطاى، وطشنبغا الدوادار، وفرقوا ببلاد الشام.
وفي يوم السبت تاسعه: وصل المجاهد صاحب اليمن من سجن الكرك، فخلع عليه من الغد، ورسم له بالعود إلى بلاده من جهة عيذاب فبعث إليه الأمراء تقادم كثيرة، وتوجه.وكانت أمه رجعت من مكة بعد مسكه، وأقامت في مملكة اليمن ابنه الملك الصالح، وكتبت إلى تجار الكارم توصيهم بابنها المجاهد صاحب اليمن أن يقرضوه ما يحتاج إليه، وختمت على مالهم من أصناف المتجر بعدن وزبيد وتعز فقدم قاصدها، وقد قبض على المجاهد ثانيا، وسجن بالكرك.
وفي يوم الإثنين ثاني عشره: وصل الأمير أيتمش الناصري من الشام، فقبض عليه من الغد وفي يوم الجمعة ثاني عشريه: خرج الأمير فارس الدين ألبكي، ومعه الأمير آينبك، وأربعة أمراء طبلخاناه، صحبة الأمير أزدمر الأعمى الكاشف إلى الوجه القبلي، بسبب نفاق العربان، في تجمل كبير.
وفي مستهل شهر رمضان: قدم الشريف ثقبة، بعد ما قدم قوده وقود أخيه عجلان، فخلع عليه، واستقر في إمارة مكة.بمفرده. أنعم عليه الأمير طاز بقرض ألف دينار، وأقرضه الأمير شيخو عشرة آلاف درهم. واقترض ثقبة من التجار مالا كثيراً، واشترى الخليل والسلاح والمماليك، واستخدم عدة مماليك.
وفيه رسم بسفر الحسام لاجين العلائي مملوك آقبغا الجاشنكير وأستادار العلائي صحبة ثقبة؛ ليقلده.بمكة.
وفيه رسم بإبطال رمى والبرسيم والشعير على أهل النواحي، ونقش المرسوم على رخامة بجانب باب القلة، وكتب بذلك إلى الولاة.
وفيه خلع على ابن الأطرش، وأعيد إلى حسبة القاهرة ونظر المارستان، عوضا عن الضياء، بعناية جماعة من الأمراء به؛ لكثرة مهاداته لهم.
وفيه أخرج أيدمر الدوادار وعدة من المماليك إلى الشام.
وفيه قدم الخبر بخروج عيسى بن حسن الهجان عن الطاعة، وامتنع بجماعته في الوادي.
وفي شوال: قدم كتاب الأمير أرغون الكاملي نائب الشام بالحط على قاضي القضاة تقي الدين السبكي وأنه حكم بنزع وقف من أصحابه وأعاده ملكا، وطلب الأمير أرغون الكاملي أن يعقد لذلك مجلس فيه قضاة مصر وعلماؤها بين يدي السلطان.(2/184)
وكان من خبر ذلك أن أرغون لما ولى نيابة الشام خرج علاء الدين الفرع إلى لقائه قريب حلب، وأغراه بالسبكي، وقدح فيه وفى ولده بقوادح حتى غير خاطره. فلما لقيه السبكي لم يجد منه إقبالا، وبقي على ذلك إلى أن وقف جماعة بدار العدل يشكون من السبكي أن لهم وقفا من عهد أجدادهم، وأقطع للأجناد ثم استرجعوه منهم، وثبت وقفه على قاضي القضاة المالكي بدمشق، فانتزعه السبكي منهم، وسلمه لمن كان قديماً في يده بالملكية، وسألوا عقد مجلس. فلما اجتمع القضاة والفقهاء لذلك، قام الفرع وجماعة في العصبية على السبكي، وشنعوا عليه. فأجاب السبكي بأنه " ثبت عندى أن يكون في يد مالكه، وقد حكم بذلك. وهأنا، ومن ينازعني فيما حكمت؟ " ، فلم ينازعه أحد. فطلب الأمير أرغون الكاملي قضاة القضاة، فحضروا إلا عز الدين بن جماعة، فإنه تعذر حضوره. وقرئ عليهم كتاب النائب بحضرة الشيخ بهاء الدين أحمد إبن السبكي، فأظهر كتاب أبيه بصورة الواقعة، وهى أن أجداد الشكاة ادعوا الوقفية في ضيعة كذا، فوقفها أبناءهم من بعدهم، ثم أقطعت بعد وفاتهم لجماعة من الجند فادعى الشيخ تقي الدين البوسي لما قدم من بعلبك أنها ملكه وبيده، وأنه ابتاعها من أهلها قبل وفاتهم، وأثبت كتاب مشتراه وتسلمها، وأن الشراء كان سنة اثنتين وثمانين وستمائة، وبقي إلى سنة أربع وتسعين. فأظهر قوم كتاب وقفها وأثبتوه وتسلموها، فسمي البوسي في سنة أربع وسبعمائه واستعاد الضيعة منهم، بعد منازعا عقد فيها عدة مجالس. فأخذها تنكز منهم، ثم استردها البوسى، فلم يزل إلى هذا الوقت وقف أهل الوقف، وأثبتوه على قاضي المالكية جمال الدين المسلاتى. فأثبت الآخرون أن المسلاتي كانت بينه وبين البوسي عداوة لا يجوز معها أن يحكم كل وأخذوا الضيعة. فتحاكم الفريقان إلى السبكي، فحكم باستقرار يد الملاك، وأبقى كل ذي حجة على حجته. فتنازع ابن السبكي والتاج المناوي طويلاً وانقضوا، وأخذ السبكي خطوط جماعة من المفتين بصحة حكم أبيه. ثم اجتمعوا ثانياً، وحضر قاضي القضاة عز الدين بن جماعة، وانتدب للنظر في ذلك.بمفرده. فادعى قوام الدين أمير كاتب الحنفي فساد حكم السبكي، وتعصب عليه تعصبا زائداً. وذلك أنه لما قدم قوام الدين دمشق، وبها يلبغا اليحياوي نائبا اختص به، وأخذ ينهاه عن رفع يديه في الركوع، وأن هذا لا يجوز، وصلاته التي صلاها كذلك باطلة يجب عليه إعادتها فسأل يلبغا ابن السبكي عن ذلك، فأنكر مقالة القوام.
واشتهر بين الأمراء والأجناد مقالة القوام، وكثرت القالة فيها. فطلب السبكي القوام ومنعه من الإفتاء، واقتضى رأي ابن جماعة النظر في من شهد بالعداوة، وفيمن، شهد بالوقفية، فكتب بذلك لنائب الشام.
وفيه ارتفع سعر اللحم، ووقف حال المعاملين بحيث أخذوا الأغنام من أربابها بغير ثمن. فأبطل الوزير المعاملين، واشترى الأغنام بالثمن الناض وكانت عادة اللحم من أربعين درهما إلى خمسين درهما القنطار، وأكثر ما عهد بستين درهما القنطار. فبلغ في هذه الأيام بتعريف الحسبة إلى مائة وأربعين، ومائة وخمسين درهماً، وأبيع في الحوانيت كل رطل بخمسة دراهم سوداء، عنها درهم وثلث درهم كاملية.
وتعذر وجود الغنم، فكتب في البلاد الشامية بتجهيز التركمان بالأغنام، وحمل نحو الخمسمائة ألف درهم لشراء الأغنام. وكتب إلى ولاة الوجه القبلي والوجه البحري بحمل الأغنام، فحملت أغنام كثيرة من أعمال مصر. وقدم من الشام نحو العشرين ألف رأس، فانحط سعر اللحم.
وفي خامس عشره: سار محمل الحاج، صحبة الأمير طيبغا المجدي. وقدم الحج عالم كثير من أهل الصعيد والفيوم والوجه البحري، وقدم من أهل المغرب جماعة كثيرة، وقدم التكرور ومعهم رقيق كثير، وفيهم ملكهم.فسأل ملكهم الإعفاء من الدخول على السلطان، فأعفي، وسار بقومه إلى الحج، مستهل ذي القعدة.
وفيه قدم البريد بقتل نجمة الكردي بحيلة عملها عليه صاحب ماردين حتى قدم عليه، فتلقاه وأكرمه، ثم قبض عليه، وضرب عنقه بيده، وقتل من معه.(2/185)
وفيه قدم الخبر بان الأمير أزدمر الأعمى الكاشف رتب من معه من الأمراء في عدة مواضع، وركب ومعه الأمير آينبك ليلا، وصاح العربان من عرك صباحاً، وقتل منهم جماعة، وامتنع باقيهم بالجبل. فعاد الأمير أزدمر وطلب بني هلال أعداء عرك، فأتاه منهم ومن غيرهم خلق كثير. وكتب الأمير أزدمر لأولاد الكنز.بمسك الطرقات على عرك، وركب ومعه الأمير فارس الدين والأمراء، وأسندمر المتوفي الإطفيحية، إلى الجبل؛ وقد لقيه الأحدب في حشد كبير، فلم بثبت الأحدب وانهزم من رمي النشاب، وترك أثقاله وحريمه. ونادى الأمير أزدمر. " يا بنى هلال دونكم أعداءكم " ، فمالوا عليهم يقتلون، وينهبون الواشي والغلال والدقيق والقرب والروايا، وسلبوا الحريم، حتى امتلأت أيدي بني هلال وأيدي الأجناد والغلمان من النهب. وكتب بذلك إلى السلطان، وأن البلاد قد خضرت أراضيها، وأطاع عربانها العصاة، وتوطن أهلها. فسر السلطان والأمراء بذلك، وحمل إلى كل من الكاشف والأمراء خلعة.
وفيه ألزمت ست حدق ألا تجتمع بأحد، فإنها كانت من جملة أنصار الناصر حسن.
وفيه ضيق على الناصر حسن، وسدت عنه أماكن كثيرة كان ينظر منها ويحدث من يريد؛ واحتفظ به احتفاظاً زائداً.
وفيه توجه السلطان والأمراء إلى السرحة قريباً من الأهرام.
وفي أول ذي الحجة قدم عيسى بن حسن الهجان طائعاً بأمان، فخلع عليه.
وفيه ارتفع سعر القمح من عشرين إلى سبعة وثلاثين درهماً الأردب؛ وانحط سعر اللحم، فأبيع بدرهم الرطل.
وفيه قدم كتاب الأمير أرغون الكاملي نائب الشام يطلب الإعفاء من النيابة.
وفي هذه السنة: استقر في قضاء المالكية بحلب زين الدين عمر بن سعيد بن يحيى التلمساني، عوضاً عن الشهاب أحمد بن ياسين الرياحي. واستقر في قضاء الحنفية بها جمال الدين إبراهيم بن ناصر الدين محمد بن الكمال عمر بن العز عبد العزيز بن العديم، بعد وفاة أبيه. واستقر في كتابة السر بحلب جمال الدين إبراهيم بن الشهاب محمود، عوضاً عن الشريف شهاب الدين بن قاضي العسكر، وقدم الشريف إلى القاهرة.
ومات فيها من الأعيان قطب الدين أبو بكر بن محمد بن مكرم، كاتب الإنشاء، في أواخر شعبان، عن اثنتين وثمانين سنة وأشهر؛ وكان كثير العبادة.
وتوفي الشريف أدى صاحب المدينة النبوية، في السحن.
ومات الأمير طشبغا الدوادار، بدمشق؛ وكان فاضلا ديناً.
وتوفي قاضى الحنفية بحلب ناصر الدين محمد بن عبد العزيز بن محمد بن أبي الحسن ابن أحمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن أبى جرادة المعروف بابن العديم، عن ثلاث وستين سنة، منها في قضاء حماة عشر سنين، وفي قضاء حلب اثنتان وثلاثون سنة.
وتوفي تاج محمد بن إبراهيم بن يوسف بن حامد المراكشي الفقيه الشافعي، بدمشق، في يوم الأحد ثالث عشرى جمادى الآخرة عن اثنتين وخمسين سنة، نشأ بالقاهرة، واستوطن بدمشق.
ومات الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير بيبرس الأحمدي أحد الطبلخاناه، وهو مجرد بالصعيد. فحمل ميتا إلى القاهرة، وقدم في يوم الإثنين ثاني عشري رمضان.
ومات علاء الدين على بن محمد بن مقاتل الحراني، ناظر الشام، في عاشر رمضان بالقدس.
وتوفي شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد بن محمد خالد بن محمد بن نصر المعروف بابن القيسراني موقع الدست، وصاحب المدرسة بسويقة الصاحب من القاهرة، وبها قبره.
ومات الشيخ.ابن بدلك في يوم الأحد سابع عشرى شوال.
ومات تاج الدين محمد بن أحمد بن الكويك، في داره ليلة السبت سادس عشرى ذي الحجة، ذبحه الحرامية.
ومات آقبغا والي المحلة، يوم الخميس تاسع عشرى ذي الحجة.
ومات ملك المغرب أبو الحسن علي بن أبي سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق ابن محيو بن أبي بكر بن حمامة، في ثالث عشري ربيع الآخر. وقام بعده ابنه أبو عنان فارس، وكانت مدته احدى وعشرين سنة.
سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة(2/186)
في أول المحرم: قدم مبشرو الحاج، وأخبروا أن الشريف ثقبة لما نزل بطن مر، وتدم إلى مكة متسفر الحاج حسام الدين لاجين، وعرف الشريف عجلان بانفراد أخيه ثقبة بالإمرة، امتنع الشريف عجلان من تسليمه مكة. وعاد حسام الدين إلى ثقبة، فأقاما حتى قدم الحاج صحبة الأمير طيبغا المجدى. فتلقاه ثقبة، وطلب منه أن يحارب معه عجلان، فلم يوافقه على محاربته، فأسمعه ما لا يليق، وهدده أنه لا يمكن الحاج من دخول مكة. وقام ثقبة عنه وقد اشتد غضبه، وألبس من معه من العربان وغيرهم السلاح. فاجتمع أمير الركب، وقاضي القضاة عز الدين بن جماعة - وكان قد توجه صحبة الركب للحج - واتفقا على إرسال الحسام إلى عجلان ومعه ابن جماعة. فجرت لهم معه منازعات، آخرها أن تكون الإمرة شركة بينه وبين أخيه ثقبة. وعادا إلى بطن مر، وقررا ذلك مع ثقبة حتى رضي، وساروا جميعاً إلى مكة. فتلقاهم عجلان على العادة، وأنصف ثقبة، وأنعم عليه بسبعين ألف درهم. وكانت الوقفة بعرفة يوم الجمعة، وجاور قاضي القضاة عز الدين بن جماعة. ولقي الحاج من عبيد مكة شراً كثيراً.
وفيه قدم الخبر أن المجاهد قدم إلى تعز في ثامن عشري ذي الحجة الماضية، واستولى على ملكه. وكانت أمه قد ضبطت البلاد في غيبته، وأنفقت عند قدومها مائة ألف دينار للشريف الزيدي صاحب صنعاء، ولأهل الجبال ولأكابر المملكة، حتى أقامت ابن المجاهد، واسمه الصالح. ثم قبضت عليه، وساست الأمور، ووفت ما اقترضه المجاهد من التجار.بمصر.
وفيه قدم الأمير أزدمر الأعمى الكاشف والأمراء من بلاد الصعيد، فركب الأحدب وكبس ناحية طما على بني هلال، وقتل منهم جماعة، ونهب ما وجد. فتوجه إليهم الأمير بلبان السناني الأستادار. بمضافيه، والأمير قمارى الحموي الحاحب، وعدة من أولاد الأمراء في مستهل صفر؛ ليقيموا حتى يتم قبض المغل.
وفيه استقر ابن عقيل في ولاية البهنسي، واستقر بيبغا الشمسي في ولاية إطفيح. وكانتا مع أسندمر مملوك أزدمر الأعمى الكاشف، فعادت العربان بعد عزل أسندمر إلى ما كانت عليه من الفساد.
وفي يوم الخميس حادي عشر ربيع الأول: قدم الأمير أيتمش الناصري من سجن الإسكندرية، وخرج من القاهرة في يوم السبت ثالث عشره إلى صفد بطالا.
وفي حادي عشريه: نفي الأمير قردم أمير آخور إلى صفد، ثم أنعم عليه بإقطاع يلك الحسني الأرغوني الحاجب، وأن يحضر يلك إلى مصر، فلما حضر يلك هذا - ويعرف بيلك الشحنة - أنعم عليه بإقطاع قردم.
وفيه استقر يلك الحسني الأرغوني الحاحب أمير آخور، عوضاً عن قردم على إقطاعه، وهو حاحب.
وفي يوم الخميس رابع عشريه: أخرج الأمير ألطنبغا العلائي شاد الشرابخاناه، إلى حلب.
وفي هذا الشهر: شرع الأمير طاز في عمارة قصر وإسطبل تجاه حمام الفارقاني، بجوار المدرسة البندقدارية، وأدخل فيه عدة أملاك. وتولى عمارته الأمير منجك، وحمل إليها الأمراء وغيرهم من الرخام وآلات العمارة شيئاً كثيراً.
وفيه ابتدأ الأمير صرغتمش عمارة إصطبل الأمير بدرجك، بجوار بئر الوطاويط، قريباً من الجامع الطولوني، وأدخل فيه عدة دور، وحمل إليه الناس ما يحتاج اليه من الرخام وغيره.
وفيه عوفي الأمير قبلاي النائب، وركب الموكب. وكان منذ استقر في النيابة مريضا بوجع المفاصل، لم يركب فرسا، وإنما يجلس في شباك النيابة للحكم بين الناس. ومشت في ولايته المقايضات والنزولات عن الإقطاعات، فزاد فساد الأجناد بكثرة دخول أرباب الصنائع فيهم. وفحش ذلك حتى نزل مقدمو الحلقة عن التقدمة، وقام جماعة نحو الثلاثمائة رجل عرفوا بالمهيسين على الإقطاعات، وصاروا يطوفون على الأجناد، ويبذلون لهم الرغبات في النزول عن إقطاعاتهم.
وفيه خلع على الأمير صرغتمش، واستقر رأس نوبة كبير، في رتبة الأمير شيخو باختياره. وجعل إليه التصرف في أمور الدولة كلها من الولاية والعزل والحكم، ما عدا مال الخاص، فإن الأمير شيخو متحدث فيه، وما عدا أمور الوزارة. فقصده الناس، وكثرت مهابته، وعارض الأمراء في جميع أفعالهم. وأراد صرغتمش ألا يعمل شيء إلا من بابه وبإشارته، فان تحدث غيره في عزل أو ولاية غضب، وأبطل ما تحدث فيه، وأخرق بصاحبه.
وفيه اجتمع الأمراء على استبداد السلطان بالتصرف، وأن يكون ما يرسم به على لسان الأمير صرغتمش رأس نوبة.(2/187)
وفيه قدم الخبر من مكة بأن الأسعار بها غلت حتى بلغ الأردب القمح ثلاثمائة درهم، والشعير مائتي درهم، والراوية الماء بأربعة دراهم مسعودية فأغاثهم الله تعالى في أول يوم من المحرم.بمطر استمر ثلاثة أيام، فانحل السعر، وأبيع الأردب القمح بمائة وخمسين درهماً، والراوية الماء بنصف وربع مسعودي؛ لجريان ماء عين جوبان.
وفيه قدم الخبر بنفاق عرب الصعيد ونهبهم سقط ميدان وقتل أهلها، ونهب بلاد سودى بن مانع، وأن أهل منفلوط رجموا الوالي. فألزم الأمير أزدمر الأعمى الكاشف بالخروج إليهم، وأنعم عليه بألف أردب شعير وأربعين ألف درهم، قبضها وسافر.
وفيه قدم الخبر أن طائفة الزيلع كانت عادتهم حمل قطيعة في كل سنة إلى ملك الحبشة، من تقادم السنين. فقام فيها عبد صالح ومنعهم من الحمل، وشنع عليهم إعطاءهم الجزية وهم مسلمون لنصراني، ورد رسول ملك الحبشة. فشق ذلك على ملك الحبشة، وخرج بعساكره ليقتل الزيلع عن آخرهم. فلما صار على يوم منهم قام العبد الصالح تلك الليلة يسأل الله تعالى كفاية أمر الحبشي، فاستجاب دعاءه. وعندما ركب ملك الحبشة بكرة النهار أظلم الجو - حتى كاد الرجل لا يرى صاحبه - مقدار ساعة، ثم انقشع الظلام، وأمطرت السماء عليهم ماء متغير اللون بحمرة، وأعقبه رمل أحمر امتلأت منه أعينهم ووجوههم، ونزل من بعده حيات كبيرة جداً، فقتلت منهم عالماً كثيراً. فعاد بقيتهم من حيث أتوا، وهلك في عودهم معظمهم دوابهم، وكثير منهم.
وفيه تزايد تسلط الأمير صرغتمش رأس نوبة، وكثر ترفعه. فتنكر له الأمراء، وكثرت الأراجيف بوقوع الفتنة بينهم، وإعادة الناصر حسن، ومسك شيخو وطاز، وانفرد صرغتمش بالكلمة فقلق طاز - وكان حاد الخلق - وهم بالركوب، فمنعه شيخو، فاحترز طاز وشيخو. وأخذ صرغتمش في التبرئ مما رمى به، وحلف للأمير شيخو والأمير طاز، فلم يصدقه طاز وهم به. فقام شيخو قياماً كبيراً حتى أصلح بينهما، وأشار على طاز بالركوب إلى عمارة صرغتمش، فركب إليه وتصافيا.
وفيه خلع على جرجى الدوادار، واستقر حاجبا، عوضا عن طشتمر القاسمي باستعفائه.
وفيه ركب الأمير ضروط البريد؛ لطلب جمال وهجن للسلطان من الأمير فياض بن مهنا، فإن جمال السلطان قلت، بحيث أنه لما خرج إلى السرحة اكترى له جمالا كثيرة لحمل ثقله، ومنع أمير آخور الكتاب والموقعين وغيرهم مما جرت به عادتهم من حمل أثقالهم على جمال السلطان.
وفيه قدم الخبر بفتنة الفرنج الجنوية والبنادقة، وكثرة الحروب بينهم، من أول المحرم إلى آخر ربيع الآخر. فقل الواصل من بلاد الفرنج، إلى الإسكندرية، وعز وجود الخشب، وغلا وتعذر وجود الرصاص والقصدير والزعفران. وبلغ المن بعد مائتي درهم إلى خمسمائة، ولم يعهد مثل ذلك فيما سلف. ثم قدم الخبر بأن البنادقة انتصرت على الجنوية، وأخذت لهم واحداً وثلاثين غراباً بعد قتل من بها.
وفيه قدم الشيخ أحمد الزرعي من الشام، فبالغ الأمير شيخو والأمير طاز في إكرامه.
وفيه قدمت رسل الأشرف دمرداش بن جوبان صاحب توريز بكتابه، يخبر أنه قد حسن إسلامه هو وأخوته وأقاربه، والتزم سيرة العدل في رعيته، وترك ظلمهم. وشكا الأشرف دمرداش من كثرة الاختلاف بينهم حتى هلك رعيته، وطلب أن يبعث إليه. ممن نزح عن بلاده من التجار، وكتب إليهم أمانا، وأن أرتنا نائب الروم قد أفسد بلاده، ومنع التجار أن تسير إليهم، وطلب ألا يدخل السلطان بينهما. وكان قد قدم إلى مصر والشام في هذه السنة وما قبلها كثير من تجار العجم؛ لسوء سيرة الولاة فيهم، فعرض عليهم أمان الأشرف دمرداش، فلم يوافقوا على العود إلى بلاده.(2/188)
وفيه رسم للأمير جرجي الحاجب أن يتحدث في أمر أرباب الديوان، ويفصلهم من غرمائهم بأحكام السياسة ولم يكن عادة الحجاب فيما تقدم أن يحكموا في الأمور الشرعية، فاستمر ذلك فيما بعد. وكان سبب ذلك وقوف تجار العجم بدار العدل، وذكروا أنهم لم يخرجوا من بلادهم إلا لما نزل بهم من جور التتار، وأنهم باعوا بضائعهم لعدة من تجار القاهرة، فأكلوها عليهم، وأرادوا إثبات إعسارهم على القاضي الحنفي، وهو في سجنه، وقد فلس بعضهم. فرسم لجرجي بإخراج غرماء التجار من السجن، وخلاصهم مما في قبلهم، وأنكر على القاضي الحنفي ما عمله، ومنع من التحدث في أمر التجار والمديونين. فأخرج جرجي التجار من السجن، وأحضر لهم أعوان الوالي، وضربهم، وخلص منهم المال شيئاً بعد شيء ومن حينئذ صارت الحجاب بالقاهرة وبلاد الشام تتصدى للحكم بين الناس، فيما كان من شأن القضاة الحكم فيه. وفيه ركب عرب إطفيح على بيبغا الشمسي، ونهبوا ما معه وهزموه، وخرجوا عن الطاعة، فجرد إليهم طائفة من الأمراء.
وفي هذه السنة: رتب الأمير شيخو في كل ليلة جمعة وقتاً يجتمع عنده فيه الفقهاء للمذاكرة، ويقوم الشيخ علي بن الركبدار المادح، فينشد من مدائح الصرصري ونحوه ما يطربهم، وينصرفون بعد أكلهم.
وفيه كثرت الإشاعة بمدينة حلب أن الأمير بيبغا روس نائبها يريد الفرار منها إلى بلاد العدو حتى ساءه ذك، وقبض على عدة من العامة سمرهم وشهرهم، ثم أفرج عنهم.
وفيها رتب الأمير شيخو في الجامع الذي أنشأه للشيخ أكمل الدين محمد الرومي الحنفي مدرساً وشيخ صوفية، وقرر له في كل شهر أربعمائة درهم، وجعل عنده عشرين فقيهاً. وجعل خطيبه جمال الدين خليل بن عثمان الزولي، ونقله من مذهب الشافعي إلى مذهب الحنفي. وجعل به درساً للمالكية أيضاً، وولي تدريبه نور الدين السخاوي، وقرر له ثلاثمائة درهم في كل شهر. ورتب به قراء ومؤذنين، وغير ذلك من أرباب الوظائف، وقرر لهم معاليم بلغت جملتها في الشهر ثلاثة آلاف درهم.
وفيه قدم الشريف طفيل بن أدى من المدينة النبوية، يطلب تركة سعد في الإمارة.
وفيه قدم صدر الدين سليمان بن محمد بن قاضي القضاة صدر الدين سليمان بن عبد الحق، فخلع عليه، واستقر في توقيع الدست.
وفي عاشر جمادى الآخرة: خلع على الأمير شيخو، وأعيد رأس نوبة، عوضاً عن صرغتمش. فعند لبسه التشريف قدم البشير بولادة بعض سراريه ولداً ذكراً، فسر به سروراً زائداً؛ لأنه لم يكن له ذكر.
وهنأه الأدباء بعدة قصائد، منها أبيات فخر الدين عبد الوهاب كاتب الدرج، قال:
بأيمن ساعة قدم الوليد ... تحف به النجابة والسعود
مبارك غرة ميمون وجه ... فيوم وروده بشرى وعيد
لقد كادت سروج الخيل تأتى ... إليه قبل أن تأتى المهود
هلال سوف تستجليه بدراً ... تماما يستنير به الوجود
وشبل سوف يبدو وهو ليث ... تروع من بسالته الأسود
وزهرعن قريب منه تجنى ... ثمار كلها كرم وجود
وفجر سوف يظهر منه صبح ... وجوهرة تزان بها العقود
وأبناء الكرام هم الكرام ... كذلك فرعك الزاكي يسود
أيا من نفعه عم البرايا ... ويا من سعيه سعي حميد
ومن للملك منه أجل ذخر ... إلى أبوابه يأوى الطريد
ومن لولاه لم تسكن خطوب ... ولم تكتم مواضيها الغمود
ومن قد شد للإسلام أزرا ... وأيده وإن رغم الحسود
لقد وافاك مولود كريم ... يسرك فيه ذو العرش المجيد(2/189)
وفي هذا اليوم: قدم البريد من صفد بأن في يوم الجمعة سلخ جمادى الأولى ظهر بقرية حطين، من عمل صفد، شخص ادعى أنه السلطان أبو بكر المنصور ابن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، ومعه جماعة تقدير عشرة أنفار فلاحين فبلغ ذلك الأمير علاء الدين ألطنبغا برناق نائب صفد، فجهز إليه دواداره شهاب الدين أحمد، وناصر الدين محمد بن البتخاصي الحاجب، فأحضره. فجمع له النائب الناس والحكام، فادعى أنه كان في قوص، وأن واليها عبد المؤمن لم يقتله، وأنه أطلقه، وركب في البحر، ووصل إلى قطيا، وبقي مخفياً في بلاد غزة إلى الآن، وأن له دادة مقيمة في غزة، عندها النمجاة والقبة والطير فقال النائب: " إذا كنت في تلك الأيام جاشنكيراً، وكنت أمد السماط بكرة وعشياً، وما أعرفك؟ " . فأقام مصرا على حاله، وانفسدت له عقول جماعة، وما شكوا في ذلك. فكشف أمره من غزة، فوجدت المرأة التي ذكر أنها دادته، واعترفت أنها أمه، وأنه يعتريه جنون منذ سنن في كل سنة مرتين وثلاثا. وذكر أهل غزة أنه يعرف بأبي بكر بن الرماح، وله سيرة قبيحة، وأنه ضرب غير مرة بالمقارع. فكتب بحمله، فخشبه نائب صفد في يديه ورجليه، وجعل الحديد في عنقه، وحمله إلى السلطان. فقدم قلعة الجبل في يوم الثلاثاء ثامن عشره، فسئل بحضرة الأمراء، فخلط في كلامه، وهذي هذياناً كثيراً. ثم قدم بين يدي السلطان، فتكلم.مما سولت له نفسه. فسمر في يوم الخميس عشريه تسمير سلامة، وشهر بالقاهرة ومصر. فكان في تلك الحالة يتحدث أنه كان سلطانا، ويقول: " اشفقوا على سلطانكم، فعن قليل أعود إليكم " . فاجتمع حوله عالم كثير، وأتوه بالشراب والحلوى، وحادثوه. فكان إذا أتى اليه أحد بالماء حتى يشربه يقول له: " اشرب ششني، وإذا رأى أميراً قال: " هذا مملوكي ومملوك أبي " . ويقول: " لي أسوة بأخي الناصر أحمد، وأخي الكامل شعبان وأخي المظفر حاجي الكل قتلوهم " . وأقام على الخشب يومين، ثم حبس في ثالثه، فاستمر في الحبس على حاله، فقطع لسانه.
وفيه ادعى شخص بالقاهرة النبوة، وأن معجزته أن ينكح امرأة فتلد من وقتها ولداً ذكراً يخبر بصحة نبوته. فقيل له: " إنك لبئس النبي " . فقال: " لكونكم لبئس الأمة " . فسجن، وكشف عن أمر؛ فوجد له اثنا عشر يوماً منذ خرج من عند الممرورين بالمارستان، وأنه أخذ غير مرة وهو مجنون، فعمل عند الممرورين وفي يوم الإثنين رابع عشريه: سمر ابن مغنى، ومعه جماعة قبض عليهم الأمير مجد الدين بن موسى الهذباني. الكاشف، من معدية زفتية.
وفي مستهل رجب: قدم الأمير أزدمر الأعمى الكاشف، وقد كمل تحضير أراضي الوجه القبلي، واطمأن أهله. وطلب أزدمر الإعفاء من كشف الوجه القبلي، فخلع عليه واستقر في كشف الوجه البحري، عوضاً عن مجد الدين بن موسى الهذباني.
وفيه قدم كتاب الملك المجاهد على من اليمن بوصوله إلى بلاده، وأنه جهز تقدمته، وأوفي التجار أموالهم التي اقترضها، وأنه أطلق مراكب التجار لتسير، إلا أنه منعها أن ترسى بجدة وتعبر إلى مكة كراهة في أمرائها.
وفي يوم الأربعاء عاشر رجب: قدم كتاب الأمير أرغون الكاملي نائب الشام، يتضمن أنه قبض على قاصد الأمير منجك الوزير، بكتابه إلى أخيه الأمير بيبغا روس نائب حلب، يحسن له الحركة. وقد أرسله الأمير أرغون الكاملي، فإذا فيه أنه قد اتفق مع سائر الأمراء على الأمر، " وما بقي إلا أن تركب وتتحرك " . فاقتضى الرأى التأني حتى يحضر الأمراء والنائب من الغد إلى الخدمة، ويقرأ الكتاب عليهم، ليدبروا الأمر على ما يقع عليه الاتفاق.
فلما طلع الجماعة من الغد إلى الخدمة لم يحضر منجك، فطلب فلم يوجد، وذكر أتباعه أنه من عشاء الآخرة لم يعرفوا خبره. فركب الأمير صرغتمش في عدة من الأمراء، وكبس بيوت جماعة، فلم يوقف له على خبر. وافتقدوا مماليكه، ففقد منهم اثنان. فنودي عليه في القاهرة، وهدد من أخفاه. وأخرج عيسى بن حسن الهجان في جماعته من عرب العايد على النجب لأخذ الطرقات عليه، وكتب إلى العربان ونواب الشام وولاة الأعمال على أجنحة الطيور بتحصيله، فلم يقدر عليه، فكبست بيوت كثيرة. وكان قد خرج في يوم الخميس حادي عشره الأمير فارس الدين ألبكي بألفه، والأمير طشتمر القاسمي بألفه إلى غزة، فأخر أمرهم(2/190)
وفي يوم الأربعاء رابع عشريه: قدم البريد من دمشق بعصيان الأمير بيبغا روس نائب حلب، واتفاقه مع الأمير أحمد الساقى نائب حماة، والأمير بكلمش نائب طرابلس فجرد في يوم السبت سابع عشريه جماعة من الأمراء وأجناد الحلقة إلى الصعيد، منهم عمر شاه الحاجب، وقماري الحاجب، ومحمد بن بكتمر الحاجب، وشعبان قريب يلبغا. وكتب لبيبغا روس نائب حلب بالحضور إلى مصر، على يد سنقر وطيدمر من مماليك الحاج أرقطاي وكتب معهما ملطفات لأمراء حلب تتضمن أنه إن امتنع عن الحضور فهو معزول، ورسم لهما أن يعلما بيبغا بذلك أيضا مشافهة بحضرة الأمراء فقدم البريد من دمشق.بموافقة ابن دلغادر لبيبغا روس، وأنه تسلطن يحلب، وتلقب بالملك العادل، وأظهر أنه يريد مصر لأخذ غرمائه، وهم طاز وشيخو وصرغتمش وبزلار وأرغون الكاملي نائب الشام. فرسم للنائب بيبغا ططر حارس الطير بعرض مقدمي الحلقة، وتعيين مضافيهم من عبرة أربعمائة دينار الإقطاع فما فوقها؛ ليسافروا. فقدم البريد بأن قراجا بن دلغادر قدم حلب في جمع كبير من التركمان، فركب بيبغا روس وقد واعد نائب حماة ونائب طرابلس على مسيرة أول شعبان، وأنهم تلقوه بعساكرهم على الدستن.
فركب الأمير أرقطاى الدوادار الكبير البريد.بملطفات لجميع أمراء حلب وحماة ونائب طرابلس، فقدم دمشق وبعث بالمطلفات لأصحابها، فوجد أمر بيبغا روس قد قوي، ووافقه النواب والعساكر وابن دلغادر تركمانه وكسابته، وجبار بن مهنا بعربانه فكتب الأمير أرغون الكاملي نائب الشام بأن سفر السلطان لابد منه، " وإلا خرح عنكم جميعه " . فاتفق رأي الأمراء على ذلك، وطلب الوزير علم الدين عبد الله ابن زنبور، ورسم له بتهيئة بيوت السلطان وتجهيزه الإقامات في المنازل، فذكر أنه ما عنده مال لذلك، فرسم له بقرض ما يحتاج اليه من التجار، فطلب الكارم وباعهم غلالا من الأهراء بالسعر الحاضر، وعدة أصناف أخرى، وكتب إلى مغلطاي بالإسكندرية بقرض أربعمائة ألف درهم، فأجاب إليها. وأخذ من ابن منكلى بغا ستمائة ألف درهم، وأنعم عليه بإمرة طبلخاناه. وأخذ من الأمير بيبغا ططر حارس الطير النائب مائة ألف درهم قرضاً، ومن الأمير بلبان السناني أستادار مائة ألف درهم. فلم يمضي أسبوع حتى جهز الوزير جميع ما يحتاج اليه، وحمل الشعير إلى العريش، وحمل في الخزانة أربعمائة تشريف، منها خمسون أطلس بحوائص ذهب وخرج الأمير طاز في يوم الخميس ثالث شعبان، ومعه الأمير بزلار، والأمير كلتاي أخو طاز، وفارس الدين ألبكي ثم خرج الأمير طيبغا المجدي وابن أرغون النائب، في يوم السبت خامسه وخرج الأمير شيخو في يوم الأحد سادسه في تجمل عظيم، فبينا الناس في التفريج على طلبه إذ قيل قبض على منجك. وسبب ذلك أن الأمير طاز رحل في يوم السبت، فلما وصل بلبيس قيل له إن رجلا من بعض أصحاب منجك صحبة شاروشي مملوك قوصون، فطلبهما طاز، وفحص عن أمرهما، فرأى به بعض شيء فأمر بالرجل ففتش، فإذا معه كتاب منجك لبيبغا روس تضمن أنه قد فعل كل ما يختاره، وجهز أمره مع الأمراء كلهم، وأنه أخفي نفسه، وأقام عند شاورشى أياما، ثم خرج من عنده إلى بيت الحسام القصرى أستاداره، وهو مقيم حتى يكشف خبره، وهبر يستحثه على الخروج من حلب. فبعث الأمير طاز بالكتاب إلى الأمير شيخو، فوافى والأطلاب خارجة. فطلب الأمير شيخو الحسام القصرى، وسأله فأنكر، فأخذ الأمير صرغتمش وعاقبه، ثم ركب إلى بيته بجوار الجامع الأزهر وهجمه، فإذا منجك ومملوكه، فأركبه مكتوف اليدين إلى القلعة؛ فسفر إلى الإسكندرية.(2/191)
وفي يوم الإثنين سابعه: ركب السلطان إلى الريدانية، وجعل الأمير قبلاي نائب الغيبة ورتب أمير علي المارديني في القلعة، ومعه الأمير كشلي السلاح دار؛ ليقيما داخل القلعة، ويكون على باب القلعة الأمير أرنال والأمير قطلوبغا الذهبي، ورتب الأمير مجد الدين موسى الهذباني مع والي القاهرة لحفظها. واستقل السلطان بالمسير من الريدانية يوم الثلاثاء ثامن شعبان بعد الظهر، فقدم البريد بأن الأمير طقطاي الدوادار خرج من دمشق يريد مصر، وأن الأمير أرغون الكاملي نائب الشام لما بلغه خروج بيبغا روس من حلب في ثالث عشر رجب، ومعه قراجا بن دلغادر وجبار بن مهنا، وقد نزل بكلمش نائب طرابلس وأمير أحمد نائب حماه على الرستن في انتظاره، عزم أرغون كذلك على لقائه. فبلغه مخامرة أكابر أمراء دمشق عليه، فاحترس على نفسه، وصار يجلس بالميدان وهو لابس آلة الحرب. ثم اقتضى رأي أمير مسعود بن خطير أن النائب لا يلقى القوم، وأنه ينادى بالعرض للنفقة في منزلة الكسوة، ويركب اليها، فإذا خرج العسكر إليه.بمنزلة الكسوة منعهم من عبور دمشق، وسار بهم إلى الرملة في انتظار قدوم السلطان. ففعل أرغون ذلك، وأنه مقيم على الرملة بعسكر دمشق، فإن ألطنبغا برناق نائب صفد سار إلى بيبغا روس في طاعته، وأن بيبغاروس وصل إلى حماه، واجتمع مع نائبها أحمد، وبكلمش نائب طرابلس، وسار بهم إلى حمص، فلقيه مملوك أرقطاى بكتاب السلطان ليحضر، فقبض عليهما وقيدهما، وسار يريد دمشق، فبلغه مسير السلطان بعساكره، واشتهر ذلك في عسكره، وأنه قد عزل من نيابة حلب، فانحلت عزائم كثير ممن معه، وأخذ في الاحتفاظ بهم والتحرر منهم، إلى أن قدم دمشق يوم الخميس خامس رجب، فإذا أبواب المدينة مغلقة والقلعة محصنة. فبعث بيبغا روس إلى الأمير أياجي نائب القلعة يأمره بالإفراج عن الأمير وقردم، وأن يفتح أبواب المدينة.
ففتح أياجي أبواب دمشق، و لم يفرج عن قردم. فركب أمير أحمد نائب حماة وبكلمش نائب طرابلس من الغد، ليعبرا على الضياع، فواقى نجاب بخبر مسك منجك، ومسير السلطان من خارج القاهرة. وعاد أحمد وبكلمش في يوم الإثنين رابع عشره، وقد نزل الأمير طاز بمن معه المزيرب فارتج عسكر بيبغا روس، وتواعد فراجا بن دلغادر وجبار ابن مهنا على الرحيل، فما غربت الشمس يومئذ إلا وقد خرحا بأثقالهما وأصحابهما، وسارا فركب بيبغا روس في أثرها، فلم يدركهما، وعاد بكرة يوم الثلاثاء فلم يستقر قراره حتى دقت البشائر بالقلعة، وأعلن أهلها بأن الأمير طاز والأمير أرغون نائب الشام وافيا، وأن الأمير شيخو والسلطان ساقه. فبهت بيبغاروس، وتفخد عنه من معه، وركب عائداً إلى حلب في تاسع عشر شعبان فكانت إقامته أربعة وعشرين يوماً، أثر أصحابه فيها بدمشق وأعمالها آثاراً قبيحة، من النهب والسبي والحريق والغارات على الضياع من حلب إلى دمشق، كما فعل المغول أصحاب غازان. فبعث السلطان الأمير أسندمر العلائي والي القاهرة ليبشر بذك، فقدم إلى القاهرة يوم الجمعة خامس عشريه. فدقت البشاثر وطبلخاناه الأمراء، وزينت القاهرة سبعة أيام. وجبى من الأمراء والدواوين والولاة ومقدمي الحلقة الذين لم يسافروا ثمن الشقق الحرير التى تفرش إذا قدم السلطان، وكان قدم إليه من صفد الأمير أيتمش الناصري، فكان يرجعه عن كثير من ذلك وأما السلطان فإنه التقى مع الأمير أرغون الكاملي نائب الشام على بدعرش من عمل غزة، وقد تأخر معه الأمير طاز.بمن معه. فدخل السلطان بهم إلى غزة؛ وخلع على نائب الشام، وأنعم عليه بأربعمائة ألف درهم، وأنعم على أمير مسعود بألف دينار، وأنعم على كل من أمراء الألوف بدمشق بألفي دينار، وعلى كل من أمراء الطبلخاناه بعشرة آلاف درهم، وعلى كل من أمراء العشرات بخمسة آلاف درهم، فكانت جملة ما أنفق فيهم ستمائة ألف درهم.(2/192)
وتقدم الأمير شيخو والأمير طاز والأمير أرغون الكاملي نائب الشام.بمن معهم إلى دمشق، وتأخر الأمير صرغتمش صحبة السلطان ليدبر العسكر. وتبعهم السلطان، فكان دخوله دمشق في يوم الخميس مستهل رمضان، وقد خرج الناس إلى لقائه، وزينت المدينة زينة حفلة، فكان يوماً مشهوداً. ونزل السلطان بالقلعة، ثم ركب منها في غده يوم الجمعة ثانيه إلى الجامع الأموي في موكب جليل، حتى صلى به الجمعة. وكان الأمراء قد مضوا في طلب بيبغا روس، فقدم خبرهم في يوم الإثنين خامسه بنزول الأمير شيخو والأمير طاز على حمص، وأنه قد بلغهم مسك بيبغا روس وأمير أحمد نائب حماه وجماعة. فدقت البشائر بالقلعة، ثم تبين كذب هذا الخبر وفي يوم الأربعاء سابعه: رسم بعود أجناد الحلقة ومقدميها وأطلاب الأمراء إلى القاهرة، فخرحوا فيه من دمشق أرسالا. وكانت جماعة من العسكر قد تخلفوا بغزة، فقدموا القاهرة في رابعه، وقدم الأجناد وأطلاب الأمراء إلى القاهرة في خامس عشريه وأما بيبغا روس فإنه قدم حلب في تاسع عشري شعبان، وقد حفرت خنادق تجاه أبوابها، وغلقت الأبواب وامتنعت القلعة، ورمته رجالها بالمنجنيق والحجارة، وتبعهم من فوق الأسوار من الرجال بالرمي عليه. وصاحوا عليه فبات.بمن معه، وركب من الغد يوم الخميس أول شهر رمضان للزحف على المدينة، وإذا بصياح عظيم، والبشائر تدق في القلعة، والرجال يصيحون: " يا منافقين ! العسكر وصل " . فالتفت بيبغا روس بمن معه، فإذا البيارق والصناجق نحو جبل جوشن فانهزموا بأجمعهم نحو البر. ولم يكن ما رأوه على حبل جوشن عسكر السلطان، ولكنه جماعة من جند حلب وطرابلس وحماة كانوا مختفين من عسكر بيبغا روس عند خروحه من دمشق، فساروا في أعقابه رجاء أن يدركهم عسكر السلطان. فلما حضر بيبغا روس إلى حلب أجمعوا على كبسه، وراسلوا أهل جبل بانقوسا بموافاتهم، وجمعوا عليهم كثيراً من العربان. وركبوا أول الليل، وترتبوا بأعلا جبل حوشن، ونشروا الصناجق. فعندما أشرقت الشمس ساروا، وهم يصرخون صوتاً واحداً، فلم يثبت بيبغا روس ولا أصحابه، وولوا ظناً منهم أنه عسكر السلطان. فإذا أهل بانقوسا قد أمسكوا عليهم طرق المضيق، وأدركهم العسكر، فتبددوا وتمزقوا، وقد انعقد عليهم الغبار حتى لم يكن أحد ينظر رفيقه. فأخذهم العرب وأهل حلب قبضاً باليد، ونهبوا الخزائن والأثقال، وسلبوهم ما عليهم من آلة الحرب.
ونجا بيبغا روس بنفسه، وامتلأت الأيدي بنهب ما كان معه، وهو شيء يجل عن الوصف؛ لكثرته وعظم قدره. وتتبع أهل حلب أمراءه ومماليكه، وأخرجوهم من عدة مواضع، فظفروا بكثير منهم، فيهم أخوه الأمير فاضل، والأمير ألطنبغا العلائي مشد الشرابخاناه، وألطنبغا برناق نائب صفد، وملكتمر السعيدي وشادي أخو أمير أحمد نائب حماة، وطيبغا حلاوة الأوجاقي، وابن أيدغدي الزراق أحد أمراء حلب، ومهدي شاد الدواوين بحلب، وأسنباى قريب بن دلغادر، وبهادر الجاموس، وقلج أرسلان أستادار بيبغا روس، ومائة من مماليك الأمراء؛ فقيد الجميع وسجنوا. وتوجه مع بيبغا روس أمير أحمد نائب حماة، وبكلمش نائب طرابلس، وطشتمر القاسمي نائب الرحبة، وآقبغا البالسي، وصصمق، وطيدمر، وجماعة تبلغ عدتهم نحو مائة وستة عشر فدخل الأمراء حلب، وبعثوا بالمماليك إلى دمشق، وتركوا الأمراء المقيدين بسجن القلعة. وركب الحسام العلائي إلى طرابلس، فأوقع الحوطة على موجود نائبها، بكلمش؛ وتم إيقاع الحوطة بحماة على موجود أمير أحمد.(2/193)
وكتب الأمراء إلى قراجا بن دلغادر بالعفو عنه، والقبض على بيبغا روس ومن معه، وكان بيبغا روس قد قدم عليه، فركب وتلقاه، وقام له.بما يليق به. فلما وقف قراجا بن دلغادر على كتب الأمراء أجاب بأنه ينتظر في القبض عليه مرسوم السلطان به، وارسال الأمان لبيبغا روس، وأنه مستمر على إمرته، فلما حهز له ذلك امتنع من تسليمه. فطلب رمضان من أمراء التركمان، وخلع عليه بإمرة قراجا بن دلغادر وإقطاعه. وعاد الأمراء من حلب، واستقر بها الأمير أرغون الكاملي نائباً، عوضاً عن بيبغا روس وقدموا دمشق ومعهم الأمراء المسجونون، يوم الجمعة سلخ رمضان، وركبوا مع السلطان لصلاة العيد، والأمير مسعود بن خطير حامل الجتر على السلطان حتى عبر الميدان فصلى بهم تاج الدين محمد بن إسحاق المناوي قاضي العسكر صلاة العيد، وخطب ومد السماط بالميدان، فكان يوماً مذكوراً.
وفي يوم الإثنين ثالثه: جلس السلطان بطارمة قلعة دمشق، ووقف الأمير شيخو وطاز وسائر الأمراء بسوق الخيل تحت القلعة. وأخرج الأمراء المسجونون في الحديد، ونودي عليهم: " هذا جزاء من يخامر على السلطان، ويخون الإسلام " ووسطوهم واحداً بعد واحد، وهم ألطنبغا برناق، وطيبغا حلاوة، ومهدي شاد الدواوين بحلب، وأسنبغا التركماني، وألطنبغا الثلاثي شاد الشرابخاناه، وشادي أخو أمير أحمد نائب حماه، وأعيد ملكتمر السيدي إلى السجن وفيه قبض على ملك آص شاد الدواوين بدمشق، وساطلش الجلالي، ومصطفى، والحسام مملوك أرغون شاه، وأمير علي بن طرنطاي البشمقدار، وابن جودى، وقردم أمير آخور، وأخرجوا إلى الإسكندرية، ومعهم ملكتمر السعيدي، ونفي مقبل نقيب الجيش إلى طرابلس وفيه خلع على الأمير أيتمش الناصري، واستقر في نيابة طرابلس، عوضاً عن بكلمش. وأنعم على أمير مسعود بن خطير بإقطاع قردم، وأنعم على كل من ولديه بإمرة طبلخاناه واستقر الأمير طنيرق في نيابة حماة، عوضاً عن أمير أحمد الساقى. واستقر شهاب الدين أحمد بن صبح في نيابة صفد، ورسم بإقامة الأمير طيبغا المجدي بدمشق، على إمرة.
وتوجه الأمير يلبك والأمير نوروز إلى مصر.
وفي يوم الجمعة سابعه: صلى السلطان الجمعة، وخرج من دمشق يريد مصر. فكانت إقامته بها سبعة وثلاثين يوماً.
وأما القاهرة فإن مماليك الأمراء وأجنادهم كانت تركب في مدة غيبة السلطان كل ليلة من عشاء الآخرة، وتتفرق في نواحي المدينة وظواهرها، لحفظ الناس فإذا رأوا أحدا يمشى ليلا حبسوه، حتى يتبين أمره، ولم يبق حانوت ولا زقاق إلا وعليه قنديل يشمل طول الليل. وطلب الأمير قبلاي النائب مقدمي الوالي، وألزمهم أن يقوموا بجميع ما يصرف في القاهرة وظواهرها. وانتدب الأمير مجد الدين موسى الهذباني، والأمير ناصر الدين محمد بن الكوراني؛ لحفظ مدينة مصر. ورتب جماعة لحفظ بيوت المتجر، في البر والبحر. فلم يعدم لأحد شيء سوى سرقة متاع من حانوت يهودي، فضرب الأمير قبلاى النائب مقدمي الوالي بالمقارع حتى أحضروا متاع اليهودي له.
واتفق أن ابن الأطروش محتسب القاهرة مر بسوق الشرابشيين، وابن أيوب الشرابيشي في حانوته. وكان أيوب هذا يعتريه جنون في بعض الأحيان، فأخذ يسب المحتسب ويهزأ به، ثم وثب اليه وألقاه عن بغلته، وركب صدره. فما خلصه الناس منه إلا بعد جهد، وأقاموه من تحت ابن أيوب، وقد تباعدت عمامته وانكشف رأسه. فطلع ابن الأطروش إلى الأمير قبلاي النائب، وأخبره.بما جرى عليه، فأحضر الأمير قبلاى ابن أيوب، وضربه وحبسه.
وفيه حدثت زلزلة في رمضان، والناس في صلاة العشاء الآخرة.
وفي سابع عشره: خرج الأمير أرنان والأمير قطلوبغا الذهبي، والأمير علم دار إلى الصعيد في البر والبحر، بسبب نفاق العربان، وقطع الطرقات على المسافرين، وتشليح الأجناد.
وفي يوم الثلاثاء خامس عشرى شوال: قدم السلطان، ومشى بفرسه على شقاق الحرير التي فرشت له، وخرج الناس إلى لقائه ورويته، فكان يوماً مشهوداً لم يتفق مثله لأحد من أخوة السلطان الذين تسلطنوا.
وعندما طلع السلطان القلعة تلقته أمه وجواريه وأخوته، ونثر عليه الذهب والفضة، وقد فرشت له طريقه بشقاق الحرير الأطلسي، ولم يبق بيت من بيوت الأمراء إلا وفيه الأفراح والتهاني. وفيه يقول الأديب شهاب الدين أحمد بن أبي حجلة:(2/194)
الصالح الملك العظيم قدره ... يطوى له الأرض البعيد النازح
لاتعجبوا من طيها لمسيره ... فالأرض تطوى دائماً للصالح
وعم الموت أهل جزيرة الأندلس، إلا مدينة غرناطة، فإنه لم يصب أهلها منه شيء، وباد من عداهم حتى لم يبق للفرنج من يمنع أموالهم. فأتتهم العرب من إفريقية تريد أخذ الأموال إلى أن صاروا على نصف يوم منها، مرت بهم ريح، فمات منهم على ظهور الخيل جماعة كثيرة. ودخلها باقيهم، فرأوا من الأموات ما هالهم، وأموالهم ليس لها من يحفظها، فأخذوا ما قدروا عليه، وهم يتساقطون موتى فنجا من بقى منهم بنفسه، وعادوا إلى بلادهم، وقد هلك أكثرهم، والموت قد فشا بأرضهم، بحيث مات منهم في ليلة واحدة عدد عظيم، وماتت مواشيهم ودوابهم كلها.
وعم الموتان أرض إفريقية بأسرها، جبالها وصحاريها ومدنها، وجافت من الموتى، وبقيت أموال العربان سائبة لا تجد من يرعاها. ثم أصاب الغنم داء، فكانت الشاة إذا ذبحت وجد لحمها منتناً قد اسود. وتغير أيضاً ريح السمن واللبن، وماتت المواشي بأسرها.
وشمل الوباء أيضاً أرض برقة إلى الإسكندرية، فصار يموت بها في كل يوم مائة. ثم مات بالإسكندرية في اليوم مائتان، وشنع ذلك حتى أنه صلى في يوم الجمعة بالجامع الاسكندري دفعة واحدة على سبعمائة جنازة. وصاروا يحملون الموتى على الجنويات والألواح وغلفت دار الطراز لعدم الصناع، وغلقت دار الوكالة لعدم الواصل إليها، وغلقت الأسواق وديوان الخمس، وأريق من الخمر ما يبلغ ثمنه زيادة على خمسمائة دينار. وقدمها مركب فيه إفرنج، فأخبروا أنهم رأوا بجزيرة طرابلس مركباً عليه طير يحوم في غاية الكثرة، فقصدوه، فإذا جميع من فيه من الناس موتى، والطير تأكلهم، وقد مات من الطير أيضاً شيء كثير، فتركوهم ومروا، فما وصلوا إلى الإسكندرية حتى مات زيادة على ثلثيهم.
وفشى الموت.بمدينة دمنهور، وتروجة، والبحيرة كلها حتى عم أهلها، وماتت دوابهم فبطل من الوجه البحري سائر الضمانات، والموجبات السلطانية. وشمل الموت أهل البرلس نستراوه، وتعطل الصيد من البحيرة لموت الصيادين. وكان يخرج بها في المركب عدة من الصيادين لصيد الحوت، فيموت أكثرهم في المركب، ويعود من بقي منهم، فيموت بعد عوده من يومه هو وأولاده وأهله. ووجد في حيتان البطارخ شيء منتن، وفيه على رأس البطرخة كبة قدر البندقة قد اسودت ووجد في جميع زراعات البرلس وبلحها وقثائها دود، وتلف أكثر ثمر النخل عندهم. وصارت الأموات على الأرض في جميع الوجه البحري، لا يوحد من يدفنها. وعظم الوباء بالمحلة حتى أن الوالي كان لا يجد من يشكو إليه، وكان القاضي إذا أتاه من يريد الإشهاد على وصيته لا يجد من العدول أحداً إلا بعد عناء لقلتهم، وصارت الفنادق لا تجد من يحفظها. وعم الوباء جميع تلك الأراضي، ومات الفلاحون بأسرهم، فلم يوجد من يضم الزرع.
وزهد أرباب الأموال في أموالهم، وبذلوها للفقراء. فبعث الوزير منجك إلى الغربية كريم الدين مستوفي الدولة ومحمد بن يوسف مقدم الدولة في جماعة فدخلوا سنباط وسمنود وبوصير وسنهور وأبشيه ونحوها من البلاد، وأخذوا مالا كثيراً لم يحضروا منه سوى ستين ألف درهم.
وعجز أهل بلبيس وسائر بلاد الشرقية عن ضم الزرع؛ لكثرة موت الفلاحين. وكان ابتداء الوباء عندهم من أول فصل الصيف، وذلك في أثناء ربيع الآخر. فجافت الطرقات وغير ذلك. وألزم محمد بن الكوراني والي مصر بتحصيل بنات ابن زنبور، فنودي عليهن. ونقل ما في دور صهري ابن زنبور، وسلما لشاد الدواوين. وعاد الأمير صرغتمش إلى القلعة. فطلب السلطان جميع الكتاب وعرضهم، وعين الموفق هبة الله بن إبراهيم للوزارة، وبدر الدين كاتب يلبغا لنظر الخاص، وتاج الدين أحمد بن الصاحب أمين الملك عبد الله بن الغنام لنظر الجيش، وأخاه كريم الدين لنظر البيوت، وابن السعيد لنظر الدولة، وقشتمر مملوك طقزدمر لشد الدواوين.(2/195)
وفي يوم الأحد تاسع عشريه: خلع عليهم. فأقبل الناس إلى طلب الأمير صرغتمش للسعي في الوظائف، فولي أسعد حربة استيفاء الدولة، وولي كريم الدين أكرم بن شيخ ديوان الجيش. وسلم الأمير صرغتمش المقبوض عليهم لشاد الدواوين، وهم الفخر بن قزوينة ناظر البيوت، والفخر بن مليحة ناظر الجيزة، والفخر مستوفي الصحبة، والفخر ابن الرضي كاتب الإصطبل، وابن معتوق كاتب الجهات، وأكرم الملكي. وطلب التاج ابن لفيتة ناظر المتجر وناظر المطبخ، وهو خال ابن زنبور، فلم يوجد، وكسبت بسببه عدة بيوت حتى أخذ. وصار الأمير صرغتمش ينزل ومعه ناظر الخاص وشهود الخزانة، وينقل حواصل ابن زنبور من مصر إلى حارة زويلة بالقاهرة فأعياهم كثرة ما وجدوا له. وتتبعت حواشي ابن زنبور، وهجمت دور كثيرة بسببهم، عدم لأربابها مال عظيم.
وفي يوم الإثنين مستهل ذي القعدة: قدم البريد من نائب حلب بمائة وعشرين منشوراً للتركمان، ويستأذن في تجريد عسكر حلب إلى ابن دلغادر.
وفيه نزل الأمير صرغتمش إلى بيت ابن زنبور بالمصاصة وعدم منه ركغاً دل عليه، فوجد فيه خمسة وستين ألف دينار حملها إلى القلعة. وطلب الأمير صرغتمش ابن زنبور، وضربه عرياناً، فلم يعترف بشىء، فنزل إلى بيته، وضرب ابنه الصغير وأمه تراه في عدة أيام حتى أسمعته كلاماً جافياً؛ فأمر بها، فعصرت.
وأخذ ناظر الخاص في كشف حواصل ابن زنبور.بمصر، فوجد له من الزيت والشيرج والنحاس والرصاص والكبريت والعكر والبقم والقند والسكر والعسل وسائر أصناف المتجر ما أذهله، فشرع في بيع ذلك. هذا، والأمير صرغتمش ينزل بنفسه وينقل قماش ابن زنبور وأثاثه إلى حارة زويلة، ليكون ذخيرة للسلطان. فبلغت عدة الحمالين الذين حملوا النصافي والتفاصيل، وأواني الذهب والفضة، والبلور والصيني والكفت، والسنجاب والملابس الرجالية والنسائية، والزراكش والجواهر واللالىء، والبسط الحرير والصوف، والفرش والمقاعد، وأواني الذهب والفضة زنة ستين قنطاراً، ومن الجوهر زنة ستين رطلا، ومن اللؤلؤ كيل أردبين، ومن الذهب الهرجة مبلغ ثلاثين ألف دينار وأربعة آلاف دينار، ومن الحوائص ستة آلاف حياصة، ومن الكلفتاه الزركش ستة آلاف كلفتاه، ومن ملابس ابن زنبور نفسه عدة ألفين وستمائة فرجية، ومن البسط ستة آلاف بساط، ومن الصنج لوزن الذهب والفضة بقيمة خمسين ألف درهم، ومن الشاشات ثلاثمائة شاش. ووجد له من الخيل والبغال ألف رأس، ودواب عاملة ستة آلاف رأس، ودواب حلابة ستة آلاف رأس، ومن معاصر السكر خمسة وعشرون معصرة، ومن الإقطاعات سبعمائة إقطاع، كل إقطاع متحصله خمسة وعشرون ألف درهم في السنة. ووجد له مائة عبد، وستون طواشي وسبعمائة جارية، وسبعمائة مركب في النيل، وأملاك قومت بثلاثمائة ألف دينار، ورخام.بمائتي ألف درهم، ونحاس بأربعة آلاف دينار، وسروج وبدلات عدة خمسمائة. ووجد له اثنان وثلاثون مخزناً، فيها من أصناف المتجر ما قيمته أربعمائة ألف دينار. ووجد له سبعة آلاف نطع وخمسمائة حمار، ومائتا بستان، وألف وأربعمائة ساقية، وذلك سوى ما نهب، وسوى ما اختلس، على أن موجوده أبيع بنصف قيمته. ووجد له في حاصل بيت المال مبلغ مائة ألف وستين ألف درهم، وفي الأهراء نحو عشرين ألف أردب وكان مبدأ أمره أنه باشر استيفاء الوجه القبلي، وتوجه إليه صحبة الأمير علم الدين أيدمر الزراق، وهو كاشف. فنهض فيه، وشكرت سيرته، إلى أن عرض السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون الكتاب في أيام النشو ليختار منهم من يوليه كاتب الإصطبل؛ وكان ابن زنبور من جملتهم، وهو شاب، فأثنى عليه الفخر ناظر الجيش، وساعده الأكوز. فخلع عليه السلطان الناصر محمد، واستقر به كاتب الإصطبل، عوضاً عن ابن الجيعان فنال في مباشرة الإصطبل سعادة طائلة. وأعجب به السلطان لفطنته، وشكره من تحت يده، حتى مات السلطان الناصر محمد.
ثم استقر ابن زنبور مستوفي الصحبة في أيام المنصور أبي بكر، وانتقل منها في وزارة نجم الدين محمود وزير بغداد إلى نظر الدولة. ثم أخرجه جمال الكفاة لكشف القلاع، فقدم إلى مصر بعد موته. ثم استقر في نظر الخاص بعناية الأمير أرغون العلائي؛ ثم أضيف إليه نظر الجيش، وجمع بعد مدة إليهما الوزارة. ولم يتفق لأحد قبله بالجمع بين الوظائف الثلاث(2/196)
وعظم ابن زنبور إلى الغاية، حتى أنه كان إذا خرجت الخيول لأرباب الوظائف من إصطبل السلطان، يخرج له ثلاثة أرؤس، وإذا خلع عليه خلع عليه ثلاث خلع. ونفذت كلمته، وقويت مهابته، وفخمت سعادته، واتجر في جميع الأصناف حتى في الملح والكبريت، وربح في سنة واحدة من المتجر زيادة على ألف ألف درهم، منها في صنف الزيت الحار خاصة مائة ألف وعشرة آلاف. فكثرت حساده، وعادته الكتاب لضبطه، وأحصوا عليه جميع ما يتحصل له.
فلما ولى الأمير صرغتمش بعد الأمير شيخو رأس نوبة، أغروه به، فإنه كان يحمل لشيخو مال الخلص، وهو الذي عمر له العمارة التي على النيل من ماله، وكان يقوم له بما يفرقه من الحوائص على مماليكه ونحو ذلك، حتى تغير صرغتمش وصار صرغتمش يسمع شيخو الكلام. الكثير بسببه، فيقول له: " قد كثرت القالة فيك بسبب ابن زنبور، وأنه يحمل إليك كل ما يتحصل من الخاص، وأنه قد كثر ماله. فلو مكنتني أخدت للسلطان مالا ينقصه " . فيدافع شيخو عنه، ويعتذر له بأنه إذا قبض عليه لا يجد من يسد مسده، وإن كان ولابد فيقرر عليه النشو مال يحمله، وهو على وظائفه. وبينما هو في ذلك إذ قدم خبر مخامرة بيبغا روس، فاشتغل عنه صرغتمش، وخرج إلى الشام، وفي نفسه منه ما فيها. وصار صرغتمش يتجهم لابن زنبور، ويسمعه ما يكره، إلى أن أرجف.بمسكه، وهو يسترضيه، ويحمل له أنواع المال فلا يرضى، حتى أعيى ابن زنبور أمره. وحدث ابن زنبور شيخو بدمشق.بما هو فيه مع صرغتمش، فطب شيخو خاطره بأنه مادام حياً لا يتمكن منه أحد؛ فركن لقوله. وأخذ صرغتمش يغري الأمير طاز بابن زنبور حتى وافقه على مسكه، فقوى به على شيخو؛ ووكل يثقله لما توجه من دمشق من يحرسه، وهو لا يشعر فلما وصل السلطان خارج القاهرة أشيع أنه يعبر من باب النصر ويشق القاهرة، فاجتمع لرؤيته عالم عظيم، وأشعلوا له الشموع والقناديل. فدخل ابن زنبور على بغلة رائعة بزناري أطلس، في موكب جليل إلى الغاية، وبين يديه جميع المتعممين من القضاة والكتاب، وقد أعجب بنفسه إعجاباً كثيراً، والناس تشير إليه بالأصابع. فكانت تلك نهايته، وقبض عليه كما تقدم.
وانتدب جماعة بعد مسك ابن زنبور للسعي في هلاكه، وأشاعوا أنه وجد في بيته عدة صلبان، وأنه لما دخل إلى القدس في سفرته هذه بدأ بكنيسة القيامة، فقبل عتبتها، وتعبد فيها، ثم خرج إلى المسجد الأقصى فأراق الماء في بابه، و لم يصل فيه، وكانت صدقته على النصارى بكنيسة القيامة، ولم يتصدق على أحد من فقراء المسلمين بالقدس. فأثبتوا في ذهن صرغتمش أنه باق على النصرانية، ورتبوا فتاوى تتضمن أنه ارتد عن الإسلام. وكان أحل من قام عليه الشريف شرف الدين نقيب الأشراف، والشريف أبو العباس الصفراوي، وبدر الدين ناظر الخاص، والصواف تاجر صرغتمش. فأول ما بدأوا به من نكايته أن حسنوا لصرغتمش حتى بعث إليه الصدر عمر وشهود الخزانة، فشهدوا عليه في مكتوب، أن جميع ما بيده من الدور والبساتين والأراضي ما وقفه منها وما هو طلق - جميعه اشتراه من مال السلطان دون ماله، وأنه ملك للسلطان ليس فيه شيء قل أو جل. ثم حسنوا له ضر به، فأمر به فأخرج بكرة يوم وفي عنقه باشة وجنزير، وضرب عرياناً قدام باب قاعة الصاحب من القلعة. ثم أعيد إلى موضعه، وعصر، وسقى الماء والملح. ثم سلم لشاد الدواوين، وأمر بقتله، فنوع عقوبته. فمنع الأمير شيخو من قتله، فأمسك عنه، ورتب له الأكل والشرب، وغيرت عنه ثيابه، ونقل من قاعة الصاحب إلى بيت الأمير صرغتمش.
وفي يوم الأحد رابع عشر ذي القعدة: قبض على الأمراء قمارى الحموي، وشعبان قريب يلبغا، ومحمد بن بكتمر الحاحب، ومأمور، وحملوا إلى الإسكندرية، فسجنوا بها، ماعدا شعبان فإنه أخرج إلى دمشق.
وفيه قدمت رسل الأشرف بن جوبان أنه يريد محاربة أرتنا نائب الروم، وطلب ألا يدخل السلطان بينهما، فأجيب عن ذلك.
وفي يوم الإثنين خامس عشره: قدم الأمير ناصر الدين بن المحسني.
وفي أول ذي الحجة: قرر على أتباع ابن زنبور مال، وأفرج عنهم، فكانت جملة ذلك ستمائة وسبعين ألف درهم.
وفي خامسه: وصل أمير علي المارديني نائب الشام إلى دمشق، صحبة الأمير عز الدين أزدمر الخازاندر متسفره، وركب أمير على الموكب على العادة.(2/197)
وفي يوم الإثنين ثامن عشريه: قدم البريد من حلب بأخذ أحمد الساقي نائب حماة، وبكلمش نائب طرابلس، من عند ابن دلغادر، وقد قبضهما. فدخلا حلب في حادي عشريه، وسجنا بقلعتها، فأجيب الأمير أرغون الكاملي نائب حلب بالشكر والثناء، وأنه يشهر المذكورين بحلب، ويقتلهما، وجهز لنائب حلب خلعة.
وفيه قدم الخبر من غزة بكثرة الأمطار التي لم يعهد بغزة مثلها، وأنه هدم عدة بيوت كثيرة منها على أهاليها، وسقط نصف دار النيابة، وسكن النائب بجامع الجاولي، وتلف ما زرع من كثرة المياه. ثم سقط ثلج كثير حتى تعدى العريش.
وفيه كانت الأمطار بأراض كثيرة جداً، وسقط الثلج بناحية بركة الحبش وعلى الجبل، وبأراضي الجيزة.
وأما النيل فان القاع جاء ثلاثة أذرع وثلث، وتوقفت الزيادة أياماً. ثم زاد في كل يوم ما بين أربعين وثلاثين وعشرين إصبعاً، حتى كان الوفاء، في يوم الثلاثاء حادي عشري جمادى الآخرة، وثالث عشر مسرى، ونودي بزيادة عشر أصابع من سبعة عشر ذراعا، وانتهت زيادته إلى ثمانية عشر ذراعاً وتسعة عشر أصبعاً.
وفيها وقع بدمشق حريق عظيم، عند باب جيرون، عدم فيه الباب النحاس الأصفر الذي لم ير مثله، ويزعم أهل دمشق أنه من بناء جيرون بن سعيد بن عاد بن أرم بن سام بن نوح.
وفيها ولي الأمير بكتمر المؤمني شاد الدواوين، عوضاً عن الأمير يلك أمير آخور بعد موته بغزة. وكان قد توجه إلى الحجاز، فتوجه النجاب لإحضاره حتى قدم، واستقر بعناية الأمير شيخو وتعيينه له.
وفيه تولى نظر خزانة الخاص قاضي القضاة تاج الدين محمد بن محمد بن أبي بكر الأخنائي، ثم استعفي منها بعد القبض على ابن زنبور، فولى عوضه تاج الدين الجوجري.
ومات فيها من الأعيان أرتنا نائب الروم من قبل بوسعيد.
وتوفي بدر الدين حسن بن علي بن أحمد الغزي، المعروف بالزغاري، الدمشقي الأديب الشاعر، عن نيف وخمسين سنة بدمشق، في ليلة الخميس حادي عشر رجب، ومولده سنة ست وسبعمائة.
وتوفي العضد عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار العراقي، شارح المختصر والمواقف. ولي قضاء مملكة أبي سعيد.
وتوفي الأمير فاضل أخو بيبغا روس بحلب، وكان عسوفاً.
ومات الأمير يلك أمير آخور بغزة، وهو عائد إلى القاهرة وتوفي شمس الدين محمد بن سليمان القفصي، أحد نواب المالكية بدمشق.
وتوفي بهاء الدين محمد بن علي بن سعيد، والمعروف بابن إمام المشهد، الفقيه الشافعي بدمشق، في ثامن عشرى رمضان، وقد أناف على الستين، وولي حسبة دمشق، وقدم القاهرة.
وتوفي شهاب الدين يحيى بن إسماعيل بن محمد بن عبد الله بن محمد بن محمد بن خالد بن محمد بن نصر، المعروف بابن القيسراني، كاتب السر لدمشق، وهو بطال، عن نيف وخمسين سنة.
وتوفي ناظر الخزانة تاج الدين ابن بنت الأعز.
ومات الأمير شهاب الدين أحمد بن بيليك الحسني، والي دمياط. وكان فقيهاً شافعياً، شاعراً أديباً، نظم كتاب التنبيه في الفقه، وكتب عدة مصنفات ومات الأمير منكلى بغا الفخري، قدم الخبر بوفاته مستهل جمادى الأولى.
ومات الحاج عمر مهتار السلطان، يوم الجمعة ثاني جمادى الأولى.
ومات سيف الدين خالد بن الملوك بالقدس، في أول رمضان.
ومات الأمير تمر بغا، ليلة الأربعاء رابع عشري رحب.
سنة أربع وخمسين وسبعمائة
شهر الله المحرم، أوله الخميس: فيه قدم الخبر من متولي مدينة قوص بقدوم رسل الملك المجاهد على بن المؤيد داود ابن المظفر يوسف بن منصور عمر بن علي بن رسول متملك اليمن، إلى عيذاب، بهدية. فتوحه الأمير آقبحا الحموي لملاقاتهم، وصحبته الإقامات من الأنزال والعلوفات والطبائخ، ونحو ذلك.
وفي يوم الأربعاء سابعه: قدم البريد من حلب بالقبض على الأمير قراجا بن دلغادر مقدم التركمان، فسر أهل الدولة بذلك.
وفيه قدم الأمير جنتمر أخو طاز برأسي الأمير بكلمش والأمير أحمد الساقي، وقد قتلا بحلب.(2/198)
وفي هذا الشهر: حملت رمتا والد الأمير طاز، وأخيه جركس. وكان أبوه قدم إلى مصر من بلاد الترك في سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة، فتلقاه وأكرمه، وأدخله في دين الإسلام وختنه. ثم توجه أبوه هذا بعد مدة عائداً إلى بلاده، بحجة أن يسوق بقية أهله، فهلك بالمعرة، ودفن بها، فبنى نائب حلب على قبره تربة. ثم لما توجه الأمير طاز بالعسكر إلى حلب، هلك أخوه جركس، فدفنه بالمعرة مع أبيه، ثم بدا له في نقلهما إلى مصر، فنقلهما في هذا الشهر، ودفنهما خارج باب المحروق، ظاهر القاهرة، في تربة أنشأها هناك، ورتب بها القراء وغير ذلك من أرباب الوظائف، وجعل لها أوقافاً دارة، وعمل لقدومهما عدة مجتمعات ختم فيها القرآن الكريم على قبريهما. وحصر تلك المجتمعات معه الأمراء والأعيان، فاحتفل لذلك احتفالا زائداً.
وفي ثامن عشره: قدم شيخ الشيوخ زكي الدين الملطي من بلاد الهند، فتلقاه طوائف الناس، وطلع قلعة الجبل. فخلع عليه بين يدي السلطان، وحمل على بغلة رائعة بزنارى، واستقر على ما كان عليه في مشيخة الخانكاه الناصرية بسرياقوس. وقد تقدم سفره في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين، فكانت غيبته بالهند عشر سنين وتسعة أشهر، وعاد بغير طائل. ولم يرض الأمير صرغتمش بولايته.
وفي يوم السبت سابع عشريه: أعيد الوزير ابن زنبور إلى تسليم قشتمر شاد الدواوين، وأمر بقتله، فعاقبه بقاعة الصاحب من قلعة الجبل أشد عقوبة. فشق ذلك على الأمير شيخو، وعتب الأمير طاز والأمير صرغتمش، وأغلظ في القول، ومنع من التعرض لابن زنبور، وأخرجه بعد المغرب من ليلة الإثنين تاسع عشريه، وحمله في النيل إلى قوص. وكانت مدة شدته ثلاثة أشهر.
ولما قدم الحاج أخبروا أن الشريف عجلان مضى قبل قدوم الحاج إليه من مكة يريد جدة؛ لأخذ مكس التجار الواردين في البحر. فبعث اليه أخوه ثقبة يطلب نصيبه من ذلك، فأبى عجلان أن يدفع له شيئاً، فركب إليه ولقيه. فلما نزلا غدر ثقبة بعجلان، وقبص عليه وقيده، وأسلمه لمن يحفظه، وركب ليأخذ أموال عجلان من وادي نخلة. فلما أبعد ثقبة في السير أفرج الموكلون بعجلان عنه، وأطلقوه، فرمى نفسه على عرب بالقرب منه، وتذمم منهم. فأنزلوه عندهم، وأركبوه ليلا، وصاروا به إلى بني حسن وبني شعبة؛ وأقام عجلان معهم خارج مكة حتى قدم الحاج. وكان قد بلغ ذلك ثقبة، فعاد يريد عجلان، ففاته.
ومن الأخبار كذلك أن الحاج لما قدم مكة لم يجد بها أحداً من بني حسن ولا من العبيد، وأن أسعار مكة رخية، وأن المجاهد باليمن منع التجار من المجيء إلى مكة غيظا من أمرائها.
وفي أول صفر: قام الأمير صرغتمش في أمر أوقاف ابن زنبور يريد حلها وبيعها، وقد حسن له ذلك الشريف شرف الدين علي بن الحسين بن محمد نقيب الأشراف، والشريف أبو العباس الصفراوي، ولقناه في ذلك أموراً يحتج بها، منها أن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون لما قبض على كريم الدين الكبير أراد أخذ أوقافه، فلم يوافقه على ذلك قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، فندب السلطان من شهد على كريم الدين بإشهاده له على نفسه أن جميع ما ملكه من العقار وغيره - وقفه وطلقه - هو من مال السلطان دون ماله. فلما ثبت ذلك بطريقة صارت أملاك كريم الدين بأجمعها للسلطان، فأقر ما كان منها وقفاً على حاله، وسعاه الوقف الناصري، وتصرف فيما ليس بوقف.(2/199)
فلما اجتمع القضاة الأربعة بدار العدل من قلعة الجبل في يوم الخدمة السلطانية على العادة، كلمهم الأمير صرغتمش في حل أوقاف ابن زنبور، فاشتد عليه قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة في الإنكار لذلك، وساعده قاضي القضاة موفق الدين عبد الله الحنبلي، وجبه صرغتمش بكلام خشن، وقال له: " أخربت البلد بشرك يا صبي " . هذا وصرغتمش يحاججهم، ويذكر قضية أوقاف كريم الدين، فأجاباه بأن كريم الدين كانت بيده جميع أموال السلطان كلها، ما بين خزانته وحواصله ومتاجره، يتصرف فيها برأيه، فلهذا ساغ أن يثبت الإشهاد عليه بأن جميع أملاكه وعقاراته وغيرها إنما هي من مال السلطان دون ماله. وأما من له مال من متجر، أو اكتسبه من مباشرة ونحوها، فليس لأحد أن يتعرض لماله، ولا يجوز نقض شىء وقفه من ذلك، ولا أخذ ما ملكه أو وهبه من يد من هو في أيديهم، فإن جميع تصرفاته في ماله سائغة بطريقها. فذكر لهم صرغتمش أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شاطر عماله، ومال الوزير جميعه إنما هو مال السلطان. فعرض له قاضي القضاة عز الدين بذكر الشريفين علي بن حسين وأبي العباس الصفراوي، وقال يا أمير: " إن كنت تبحث معنا في هذه المسألة بحثنا معك، وإن كان أحد ذكرها لك فليحضر حتى نناظره فيها، فإنه ما قصد بذكر هذه المسألة إلا مصادرة سائر الناس، وأخذ أموالهم " ، وقاموا على الامتناع والإنكار على من يريد هذا ونحوه.
وكان صرغتمش قد وعد أم السلطان بالدار المعروفة بالسبع قاعات من أوقاف ابن زنبور، فبعث لقاضي القضاة عز الدين في ذلك، فخوفها عاقبة ذلك، ومازال بها حتى أعرضت عن طلبه. فشق ذلك على الأمير صرغتمش، واشتد حنقه حتى مرض عدة أيام مرضا خيف عليه منه، فتصدق بأموال جزيلة على الفقراء، وافتك أهل السجون. وفي أثناء ذلك اتفق الأميران شيخو وطاز على عزل صرغتمش من وظيفة رأس نوبة، ليقل شره وتنحط رتبته، ويعود الأمير شيخو رأس نوبة. فلما عوفي صرغتمش نزل من القلعة إلى إصطبله المجاور لمدرسته، فأشعلت له الشموع، وفرح به سكان الصليبة، وتصدق صرغتمش.بمال كبير.
وفيه اجتمع الأمراء بالقصر بين يدي السلطان، في الخدمة على العادة، وذكروا أمر توقف حال الدولة من قلة حاصل بيت المال وخزانة الخاص، وأن الوقت محتاج إلى نظر الأمير شيخو. وكان الأمير شيخو منذ خرج من وظيفة رأس نوبة، ووليها الأمير صرغتمش، ترك التحدث في أمر الدولة لصرغتمش، وصار كالمشير. فلما عينه الأمراء في هذا اليوم للتحدث كما كان امتنع عليهم، فمازالوا به حتى ألبوه التشريف، وولي على عادته، بعد ما شرط عليهم ألا يتحدث أحد في أمر جليل ولا حقير غيره، فأجابوا إلى ذلك.
وفيه خلع أيضاً على الأمير ناصر الدين محمد بن بدر الدين بيليك المحسني، واستقر مشير الدولة، رفيقا للصاحب موفق الدين، على قاعدة الأكوز في الدولة الناصرية.
وفيه استقر سيف الدين قطلو شاد الدواوين أمير طبلخاناه، كما كان لؤلؤ مع الأكوز، وقيل للوزير ألا يفصل أمراً دونهما، وخرحوا من الخدمة. فجلس ابن المحسني من داخل الشباك بدار الوزارة من القلعة تجاه الوزير، وأمر بكتابة كلف الدولة. وأقبل الناس إلى باب الأمير شيخو، فصارت أمور الدولة كلها تصدر عنه حتى الإقطاعات. وفيه رسم بإبطال المقايضات والنزولات في الإقطاعات، فبطل ذلك بعد ما كان قد فحش الأمر فيه، وأخذ كتاب الجيش منه مالا جزيلا. فتعطل كتاب الجيش بسبب ذلك ولاسيما بعد أن رسم لهم ألا يأخذوا رسماً في كل منشور أو محاسبة سوى ثلاثة دراهم، وكان رسم ذلك عشرين درهماً.
وفيه استقر أن الوزير والمشير ونحوهما يحضرون كل يوم إلى مجلس الأمير شيخو، ويطالعونه.بما تحصل وانصرف، ويحضر إليه ناظر الجيش من الأشغال ما شاء، حتى تعطل حكم الأمير قبلاي نائب السلطنة.
وفي ربيع الأول: ورد الخبر بوصول الصاحب علم الدين بن زنبور إلى قبرص سالما، وقد نفي إليها.
وفيه رفعت يد ناظر الخاص من وقف الصالح إسماعيل وفوض نظره إلى الأمير عز الدين أزدمر الخازندار.(2/200)
وفيه قدم الخبر بوصول الأمير بيبغا روس إلى حلب وقتله، فكتب إلى الأمير أرغون الكاملي نائب حلب بالشكر والثناء، وعمل وحمل اليه تشريف، وأمر أن يعمل الحيلة في إحضار قراجا بن دلغادر، وجهز إليه تشريف برسمه، وتقليد تقدمة التركمان فاستدعاه الأمير أرغون الكاملي نائب حلب ليلبس التشريف السلطاني، ويقرأ عليه التقليد بحضرة أمراء حلب، فاعتذر عن حضوره.
فلما قدم كتاب الأمير أرغون الكاملي نائب حلب بذلك، كتب له بالركوب اليه ومحاربته، فاعتذر بأنه قد حلف له قبل ذلك بأنه إن سير إليه بيبغا روس لا يحاربه. فشق ذلك على الأمراء، وكتبوا إليه بالإنكار عليه، وجهز له الأمير عز الدين طقطاي الدوادار، ومعه الكتب إلى نواب الشام بنجدة الأمير أرغون الكامل نائب حلب على قتال ابن دلغادر، فسار طقطاي في يوم الإثنين مستهل شهر ربيع الآخر.
وفيه انحطت رتبة الشريف أبي العباس الصفراوي،.بمنع الأمير شيخو له من عبوره إلى داره وصعوده إلى القلعة. فثار عليه أعداؤه، ونفوه من الشرف، وشنعوا عليه؛ فالتجأ الشريف أبو العباس إلى الأمير طاز حتى كف عنه من يقاومه.
وفي يوم الخميس رابعه: سمر عيسى بن حسن شيخ العايد.
وفيه أعرس الأمير أخو طاز بابنة الأمير آقسنقر، أنعم عليه بسبعة آلاف دينار ومائتي قطعة قماش، وعمل له مهم جليل.
وفيه قدم من المدينة النبوية جماعة يشكون من قاضيها شمس الدين محمد بن سبع، فعين عوضه بدر الدين ابراهيم بن أحمد بن عيسى الخشاب، فلم يجب حتى اشترط ألا يقيم بها سوى سنة واحدة، وأن تستقر وظائفه التي بالقاهرة بيد نوابه؛ فأجيب بدر الدين إلى ذلك، وولي قضاء المدينة.
وعزل أيضا عن قضاء الإسكندرية لسوء سيرته، وولي عوضه الربعي.
وفيه استقر صدر الدين سليمان بن عبد الحق في نظر الأحباس، عوضاً عن شمس الدين بن الصاحب.
وفي يوم السبت حادي عشر ربيع الآخر: قدمت رسل المجاهد صاحب اليمن، ومعهم ابنه الملك الناصر، وعمره إحدى عشرة سنة. فأنزلوا بالميدان، ونزل اليهم الأمير طاز حتى عرضت عليه الهدية، ثم تمثلوا بين يدي السلطان بهديتهم، قدر ستين رأساً من الرقيق بقية ثلاثمائة ماتوا، ومائتي شاش، وأربعمائة قطعة صيني، ومائة وخمسين نافجه مسك وقرن زباد وعدة تفاصيل، ومائة وخمسين قنطاراً من الفلفل وأشياء ما بين زنجبيل وعنبر وأفاويه، وفيل واحد؛ وذلك سوى هدية لكل من الأمير شيخو، وطاز، وقبلاي نائب السلطنة، وللوزير علم الدين بن زنبور. فحملت الهدية السلطانية إلى الصاحب موفق الدين؛ فلم يرض الأمراء بذلك، فإن هدية المؤيد للملك الناصر محمد بن قلاوون كان فيها قدر ألفي شاش.
ومع ذك فإنه أنفق على الرسل منذ قدموا عيذاب إلى وصلوا إلى الميدان نحو مائتي ألف درهم، وخلع على الجميع وتقرر لهم في كل يوم خمسمائة درهم، و لم يبق أحد من الأمراء، حتى عمل لهم ضيافة.
وفي يوم الجمعة سابع عشره: صلى قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة بالسلطان الجمعة على العادة، ثم اجتمع بالسلطان وعنده الأمير شيخو، واستعفي من القضاء، فإنه عزم على الحج والمحاورة، واعتذر بكبر سنه. فلم يجب إلى ذلك، فما زال يتلطف ويترفق حتى - أجيب، بشرط أن يعين للقضاء من يختاره. فعين صهره وخليفته على الحكم قاضي العسكر تاج الدين محمد بن إسحاق المناوي، فولاه السلطان القضاء، وأشهد عليه بذلك في غيبته؛ وانفضوا على ذلك. فامتنع المناوي من القبول، فما زال به قاضي القضاة عز الدين حتى قبل، في يوم السبت ثامن عشره. وولي المناوي سهاب الدين أحمد بن يوسف بن محمد الحلبي المعروف بالسين وغيره، فبادر الناس للسعي في وظائفه، وكانت جليلة، وكتب المناوي لبهاء الدين أحمد بن تقي الدين بن علي بن السبكي بقضاء العسكر.(2/201)
وما أذن عصر يوم السبت حتى اجتمع عند الأمير شيخو نحو ستين قصة رفعت اليه بالسعي في وظائف المناوي، فقام قاضي القضاة جمال الدين عبد الله الحنفي، وقاضي القضاة موفق الدين عبد الله الحنبلي، في عود ابن جماعة إلى القضاء؛ ومازالا بالأمير شيخو حتى بعث بالأمير عز الدين أزدمر الخازندار إليه، فتلطف به إلى أن أجاب إلى استقراره في القضاء على عادته، وأنه يتوجه إلى الحجاز، ويستخلف على الحكم والأوقاف إلى أن يعود أو تدركه الوفاة. فاستدعي ابن جماعة في يوم الإثنين خامس عشريه، وجددت له ولاية ثانية، وخلع عليه، ونزل في موكب عظيم إلى داره.
وفي يوم السبت: المذكور توجه عز الدين أيدمر السناني إلى الشام، وقدم الأمير طقطاى الدوادار من حلب، وقد ألزم الأمير أرغون الكاملي نائب حلب حتى سار لحرب ابن دلغادر وأتاه نواب القلاع حتى صار في عشرة آلاف فارس، سوى الرجالة والتركمان. ونزل الأمير أرغون الكاملي على الأبلستين، فنهبها وهدمها، وتوجه إلى قراجا بن دلغادر، وقد امتنع بجبل عال، فقاتلوه عشرين يوماً، فقتل فيها وجرح عدد كثير من الفريقين. فلما طال الأمر نزل إليهم قراجا بن دلغادر، وقاتلهم صدرا من النهار قتالا شديداً، فاستمر القتل في تركمانه، وانهزم إلى جهة الروم، فأخذت أمواله ومواشيه. وصعد العسكر إلى جبل، فوجدوا فيه من الأغنام والأبقار ما لا يكاد ينحصر، فاحتووا عليها، بحيث ضاقت أيديهم عنها، وأبيع الرأس من البقر بعشرين إلى ثلاثين درهماً، والرأس من الضان بثلاثة دراهم، والإكديش من أربعين إلى خمسين درهماً. وسبيت نساؤه ونساء تركمانه وأولاده، وبيعوا بحلب وغيرها بالهوان، فكانت خيار بناته تباع بخمسمائة درهم؛ وظفروا بدفائن فيها مال كبير.
وفي هذا الشهر: أعلن بعض النصارى الواردين من الطور بالقدح في الملة الإسلامية، فأحضر إلى القاضي تاج الدين المناوي، وسأله المناوي عن سبب قدومه، فقال: " جئت أعرفكم أنكم لستم على شيء، ولا دين الا دين النصرانية، وما قلت هذا إلا لكي أموت شهيداً " فضربه المناوي بالمقارع ضرباً مبرحاً مدة أسبوع، وهو يقول: " عجل على القتل حتى ألحق بالشهداء " ، فيقول له: " ما أعجل عليك غير العقوبة ثم ضربت عنقه، وأحرقت جثته.
وفيه قدم البريد من حلب بأن ابن دلغادر لما انهزم تبعه العسكر، وأسروا ولديه ونحو الأربعين من أصحابه، ونجا بخاصة نفسه إلى ابن أرتنا، وقد سبق الكتاب إليه بإعمال الحيلة في قبضه. فأكرمه ابن أرتنا وأواه، ثم قبض عليه وحمله إلى حلب، فدخلها وسجن بقلعتها في ثاني عشرى شعبان. فكتب إلى الأمير أرغون الكاملي نائب حلب بحمله إلى مصر، وأنعم عليه بخمسمائة ألف درهم، منها ثلاثمائة ألف من مال دمشق، وباقيه من مال حلب. وأعفي الأمير أرغون من تسيير القود الذي جرت عادة نواب حلب بحمله إلى السلطان من الخيل والجمال البخاتي والهجن والعراب ومن البغال والقماش والجواري والمماليك، وقيمته خمسمائة ألف درهم. فعظم بذلك شأن الأمير أرغون الكاملي نائب حلب، فإنه مع صغر سنه كان له أربعة مماليك أمراء، وله ولد عمره ثلاث سنين أمير مائة مقدم ألف، فلما مات هذا الولد أضيفت تقدمته إلى إقطاع النيابة، وكان لأربعة من أخوته القادمين من البلاد وأقاربه أربع إمرات.
وفي ثالث جمادى الآخرة: سافر الأمير حسام الدين طرنطاي إلى البلاد الشامية، بعدة خيول لنواب الشام.
وفي خامسه: عزل الأمير بكتمر المؤمني أمي آخور، واستقر عوضه الأمير قندس.(2/202)
وكان من خير آل مهنا أنهم قووا وفخم أمرهم، حتى صار من أولاد مهنا بن عيسى وأولادهم نحو مائة وعشرة، ما منهم إلا ومن له إمرة وإقطاع. فبطروا، وشنوا الغارات على البلاد، وقطعوا الطرقات على التجار حتى امتنعت السابلة، وذلك بعد موت السلطان الملك الناصر محمد فقبض على فياض وسجن، واستقرت الإمرة لأخيه جبار، فسكن الشر، وسافرت القوافل. ثم خلص فياض من السجن، بشفاعة الأمير مغلطاي أمير آخور، وركب من القاهرة، ولحق بأهله، فلما خامر بيبغا روس كتب له بالإمرة، فبعث أولاده بتقدمته. ثم قدم سيف بن فضل، فولى الإمرة، وعزل فياض، فلم يحرك ساكناً حتى توجه الأمير أرغون الكاملي نائب حلب لقتال ابن دلغادر، فكثر طمعه وفساده. ثم ركب جبار وفياض ابنا مهنا إلى إقطاعاتهم التي خرجت عنهم لسيف بن فضل وبريد بن تتر، وقسموها ورفعوا مغلاتها. فلم يطق سيف معارضتهم، لقوتهم وكثرة جمعهم، فبعث يعرفهم أن هذه البلاد قد أقطعها له السلطان، فردا عليه جواباً جافياً. فكتب إليهما الأمير أرغون الكاملي نائب حلب يعتب عليهما، فلم يذعنا له، فكتب إلى السلطان والأمراء بذلك، فكتب إليهما بالقدوم إلى الحضرة، فاعتذرا عن الحضور. فتوجه الأمير قشتمر الحاحب لإحضار الجميع على البريد في نصف شعبان، فلم يوافقاه، وأجابا بالاعتذار، فعاد قشتمر. وقدم عمر بن موسى بن مهنا به بقوده، وسعى في الإمرة، فأدركه سيف بن فضل بعد حضور الأمير قشتمر، وسعى حتى استقر على إمرته شريكا لعمر بن موسى.
وفيه أيضاً كثر عبث العربان ببلاد الصعيد، وقووا على المقطعين، وقام من شيوخهم رجل أحدب، فجمع جمعاً كبيراً، وتسمى بالأمير. فقدم الخبر في شعبان بأنهم كبسوا ناحية ملوى، وقتلوا بها نحو ثلاثمائة رجل، ونهبوا المعاصر، وأخذوا حواصلها وذبحوا أبقارها، وأن عرب منفلوط والمراغة وغيرهم قد نافقوا، وقطعوا بعض الجسور بالأشمونين. فوقع الاتفاق على الركوب عليهم بعد تخضير الأراضي بالزراعة، وكتب إلى الولاة بتجهيز الإقامات.
وفي يوم السبت سابع عشرى جمادى الآخرة: عمل الأمير طاز وليمة عظيمة بداره التي عمرها برأس الصليبة عندما كملت، حضرها السلطان وجميع الأمراء، فلما انقضى السماط قدم الأمير طاز للسلطان أربعة أرؤس خيل مسرجة ملجمة بسروج ذهب وكنابيش ذهب مطرز، ولكل من الأميرين شيخو وصرغتمش فرسين، ولمن عداهما من الأمراء كل واحد فرساً، ولم يعهد قبل ذلك أن أحداً من ملوك الترك.بمصر نزل إلى بيت أمير.
وفيه ورد كتاب الأمير أيتمش نائب طرابلس، ومعه محضر ثابت على قاضيها، يتضمن أن امرأة من أهل طرابلس اسمها نفيسة جميلة الصورة تزوجت بثلاثة أزواج و لم يقدر واحد منهم على بكارتها، من غير مانع منهم، وظنوا أنها رتقاء وطبقوها واحداً بعد واحد. فلما بلغت خمس عشرة سنة غر ثدياها، واعتراها النوم ليلا ونهاراً، وصار يخرج من فرجها شيء قليلا قليلا إلى أن تشكل منه ذكر صغير وأنثيين فكتمت أمرها إلى أن خطبها رجل رابع، و لم يبق إلا العقد عليها، فأطلعت أمها على أمرها، فاشتهر ذلك بطرابلس، وأعلم به الأمير أيتمش النائب، فكتب به محضراً وجهزه إلى السلطان.
وبرز المذكور بين الناس، وتسمى عبد الله، وسار إلى دمشق، ووقف بين يدي نائبها أمير علي، فسأله عن حاله فأخبره.بما ذكر فأخذه الحاجب كجكن عنده، وأخبر أنه احتلم ثلاث مرات منذ صار ذكراً، في مدة ستة أشهر. ثم نبتت له لحية سوداء، وصار من جملة الأجناد، ولم تبق فيه من سمات النساء شيء سوى كلامه، فإن فيه أنوثة فكتب بإحضاره إلى مصر، فكان هذا من عجائب صنع الله. وقد ذكر شيخنا عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير في تاريخه أنه اجتمع به.
وفيه وقف السلطان الملك الصالح ناحية سردوس من القليوبية على كسوة الكعبة، وكانت تعمل بدار الطراز، فيؤخذ حريرها من التجار بغير ثمن يرضيهم. وأضيف إليها أراضي أخر مما تغل في السنة مبلغ ستين ألف درهم واستقر نظرها لوكيل بيت المال فاستمر ذلك فيما بعد.
وفيه قدم الأمير طيبغا المجدي من دمشق، فلزم بيته، وبقي على إقطاعه الذي بدمشق.(2/203)
وفي يوم الخميس خامس عشرى رمضان: وصل مقدم التركمان قراجا بن دلغادر، وهو مقيد في زنجير، فأقيم بين يدى السلطان، وعددت ذنوبه. ثم أخرج إلى الحبس، فلم يزل به إلى أن قدم البريد من حلب بأن جبار بن مهنا استدعى أولادا بن دلغادر في طائفة كبيرة من التركمان،. لينجدوه على سيف. وكان سيف قد التجأ إلى بني كلاب، فالتقى الجمعان على تعبئة، فانكسر التركمان وقتل منهم نحو سبعمائة رجل، وأخذ منهم ستمائة إكديش. فكتب السلطان من سرياقوس - وكان بها - إلى النائب قبلاي بقتل ابن دلغادر، فأخرجه من السجن إلى تحت القلعة ووسطه، في يوم الإثنين رابع عشر ذي القعدة، بعد ما أقام مسجوناً ثمانية وأربعين يوماً.
وفيه عزل ركن الدين عن مشيخة الشيوخ بخانكاه سرياقوس، وأعيد.
وأما العربان، فإن الأمراء عقدوا مشورا بين يدي السلطان في أمرهم، فتقرر الحال على التجريد إليهم، فرسم للأمير سيف الدين بزلار العمري أن يتوجه إلى قوص بمضافيه، وللأمير سيف الدين أرلان والأمير قطلوبغا الذهبي أن يتوجها. بمضافيهما إلى ألواح، وتتمة ثلاثة عشر مقدماً. بمضافيهم من أمراء الطبلخاناه، وأن يكون مقدمهم الأمير شيخو، وجهزت الإقامات براً وبحراً. فأخذ العرب حذرهم، فتفرقوا واختفوا، وقدمت طائفة منهم إلى مصر، فأخذوا، وكانوا عشرة. فقبض ما وجد معهم من المال، وحمل لأمير جندار، فإنهم كانوا فلاحيه، وأتلفوا.
فلما برز الحاج إلى بركة الحجاج ركب الأمير شيخو، وضرب حلقة على الركب، ونادى من كان عنده بدوي وأخفاه حل دمه، وفتش الخيام وغيرها، فقبض على جماعة، فوسط بعضهم وأفرج عن بعض. ثم لما عاد السلطان إلى الجيزة كبست تلك النواحي، وحذر الناس من إخفاء العربان، فأخذ البحري والبري، وقبضت خيول تلك النواحي وسيوف أهلها بأسرها. وعرضت الرجال، فمن كان معروفا أفرج عنه، ومن لم يعرف أقر في الحديد، وحمل إلى السجن. ورسم أن الفلاحين تبيع خيولهم بالسوق، ويوردون أثمانها مما عليهم من الخراج فبيعت عدة خيول، وأورد أثمانها للمقطعين، والفرس الذي لم يعرف له صاحب حمل إلى إصطبل السلطان.
وكتب للأمير عز الدين أزدمر، الكاشف بالوجه البحري، أن يركب ويكبس البلاد التي لأرباب الجاه، والتي يأويها أهل الفساد فقبض على جماعة كثيرة ووسطهم، وساق منهم إلى القاهرة نحو ثلاثمائة وخمسين رجلا، ومائة وعشرين فرساً، وسلاحاً كثيراً. ثم أحضر الأمير أزدمر من البحيرة ستمائة وأربعين فرساً، فلم يبق بالوجه البحري فرس، ورسم لقضاة البر وعدوله بركوب البغال والأكاديش.
ثم كبست البهنسا وبلاد الفيوم، فركب الأميران طاز وصرغتمش.بمن معهما إلى البلاد، وقد مر أهلها، واختفى بعضهم في حفائر تحت الأرض. فقبضوا النساء والصبيان، وعاقبوهم حتى دلوهم على الرجال، فسفكوا دماء كثيرين، وعوقب كثير من الناس بسبب من اختفي، وأخذت عدة أسلحة.(2/204)
واتفق لناحية النحريرية أنه شهد على بعض نصاراها أن جده كان مسلما، فحكم قاضيها بإسلامه، وحبسه حتى يسلم. فاجتمع النصارى إلى الوالي، وأخرجوا الحبيس ليلا، فتصايحت العامة من الغض بالقاضي فغضب الوالي من ذلك، وطلب القاضي لينكر عليه ما فعله فقامت العامة مع القاضى، وأغلقوا الحوانيت، واجتمعوا ليرجموا الوالي. فجمع لهم الوالي أيضاً ليوقع بهم، فحملوا عليه وهزموه حتى خرج من البلد، وهدموا كنيسة كانت بها حتى لم يبق بها جدار قائم، وأحرقوا ما بها من الصلبان والتماثيل، وعمروها مسجداً ونبشوا قبور النصارى، وأحرقوا رممهم، وهموا يأخذون النصارى، فهربوا منهم، وكان يوماً مهولا. فكتب الوالي إلى الأمراء والوزير بالشكاية من القاضي، وأنه ضيع مال السلطان، وهو خمسمائة ألف درهم، بتعرضه للنصراني حتى ثارت بسببه الفتنة. وكتب النصارى أيضا إلى الحسام أستادار العلائي - وقد ترقى حتى صار أمير طبلخاناه - ، فقام مع النصارى، وحدث الأمير شيخو، وشنع على القاضي، وسعى في إلزامه لإعادة الكنيسة من ماله. فطلب القاضي والوالي فحضرا، وعقد مجلس حضره القضاة الأربعة بجامع القلعة، ومعهم الوزير وغيره من أهل الدولة، فانتصب الحسام لمخاصمة قاضي النحريرية، ومازالوا حتى انفضوا على غير رضى فأغرى الأمير شيخو بقيام القضاة مع قاضي النحريرية، وهول الأمر، فانعقد المجلس بين يديه، وقد امتلأ غضبا على القاضي. فعندما استقر بهم المجلس أغلظ شيخو على القاضي، وأخذ الحسام ينهره ويخزيه بالقول، وساعده على هذا الأمير عز الدين أزدمر كاشف الوجه البحري حتى يتبين الغرض. فامتعض لذلك الشيخ أكمل الدين محمد بن محمود بن أحمد شيخ الجامع الشيخوني يومئذ، وله اختصاص زائد بالأمير شيخو، وأخذ يتكلم معه بالتركية في إنكار ما قام فيه الحسام من إعادة الكنيسة، وتعصبه على القاضي للنصارى، وخوف الأمير عاقبة ذلك. فشاركه الحسام في الكلام مع الأمير، وجرى على عادته في إعادة الكنيسة، فصدعه الأكمل بالإنكار، وزجره ومنعه من الكلام في هذا، وقال له: " ما يحل السلام عليك، فإنك فد خرحت من الإسلام بتعصبك للنصارى " . ومازال الشيخ أكمل الدين يلح في الكلام حتى رسم الأمير شيخو بالكشف عن الواقعة، لينظر من تعدى من الرجلين - القاضي أو الوالي، ووكل بهما من يحفظهما حتى يحضر الكشف عن أمرهما. فلما حضر الكشف من والي المحلة، وكان قد حسن أمرهما بأن ذكر أن كلا منهما أساء التدبير، رسم بعزل الوالى والقاضي.
وفيه رسم بتجريد أجناد الحلقة إلى بلاد الصعيد، فعرض النائب قبلاي مقدمي الحلقة وعين منهم تسعين مقدماً، اختار منهم خمسة وعشرين مقدماً، مع كل مقدم عشرون من أجناد الحلقة؛ لتكون عدة الجملة خمسمائة فارس، فبينما هم في تجهيز أمرهم إذ ورد كتاب الأمير بأنه لا يحتاج إلى ذلك، فبطلت تجريدتهم.
وفيها كثرت المناسر بظاهر القاهرة في مدة غيبة السلطان، وكبسوا عدة دور، وركبوا الخيل، وضاقت بهم الرجالة، فعظم الضرر بهم. وتتبع الوالي آثارهم حتى ظهر أنهم في ناحية بلبيس، فكبس عليهم، وقبض منهم جماعة اعترفوا بعد - عقوبتهم على بقية أصحابهم؛ فتتبعهم الولاة بالنواحي حتى أخذوهم. ورتب في أثناء ذلك أربعة أمراء، وأضيف إليهم عدة من أجناد الحلقة، للطواف بالليل خارج القاهرة. وركب الوالي بجماعته طول الليل في القاهرة، وسمر عدد كثير من أهل الفساد بالقاهرة، ووسط خلق في النواحي. وكتب إلى جميع أعمال الوجه البحرى بألا يدعوا عندهم مفسداً، ولا أحداً ممن يتجمع إليهم من بلاد الصعيد والفيوم، ومن آواهم حل دمه. وحذر أيضاً من اقتناء الخيل بجميع الأعمال، وألزموا بإحضارها. فاشتد طلب الولاة لذلك، وقبض على جمع كبير، وأخذت خيول وأسلحة كثيرة.
وفيها استسقى أهل دمشق، لتأخر نزول المطر بعامة بلاد الشام، حتى بلغت الغرارة من القمح إلى مائة وعشرين درهماً، بعد ما كانت بثمانين درهماً. فأغيثوا من ليلتهم، وأمطروا كثيرا مدة أسبوع، فنزل سعر القمح في يومه عشرين درهما للغرارة.(2/205)
وفيها كثرت تزويرات المساطير وغيرها، فقام في ذلك قاضي القضاة موفق الدين الحنبلي، وتحدث مع الأمير شيخو فيه حتى رسم له بالفحص عن ذلك، ومقابلة من يفعله.بما يستحقه. فكبس قاضي القضاة عدة بيوت، وأخرج منها تزاوير كثيرة، وقبض على جماعة وعاقبهم وسجنهم، ولم يقبل فيهم شفاعة أحد من الأمراء. واشتد الطلب على ابن أبي الحوافر، فإنه كان عجباً في محاكاة الخطوط، وكبست داره، فوجد فيها من تزويره كتب كثيرة، و لم يقدر عليه لاختفائه.
وفيها قدم نفيس الدواداري الداودي اليهودي التبريزي؛ لمعالجة الأمير قبلاى النائب من ضربان المفاصل، ومعه ولداه، وهو في خنزوانة وتعاظم. فادعى دعوى عريضة، وأراد أن يركب بغلة، فلم يمكن من ذلك.
وفيها ولدت امرأة طفلين ملتصقين، لكل منهما ثلاثة أيدي وثلاثة أرجل، وليس لهما قبل ولا دبره وفيها انحطت الأسعار بأرض مصر، حتى بيع الأردب من القمح من عشرة دراهم الى خمسة عشر درهماً.
وفيها فشت الأمراض في الناس بالاسكندرية والوجه البحري كله والقاهرة مدة شهرين، وبلغ عدة الموتى في كل يوم ما بين الخمسين إلى الستين.
وفيها ولد السلطان الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون وفيها توجه ركب الحجاج صحبة الأمير ركن الدين عمر شاه الحاحب، وحج من الأمراء الأمير سيف الدين كشلى، والأمير سيف الدين بزلار والأمير سيف الدين طقطاي، والأمير شهاب الدين أحمد بن آل ملك، والأمير ناصر الدين محمد بن بكتمر الساقي، والأمير ركن الدين عمر بن طقزدمر، وحج الخليفة المعتضد بالله أبو بكر، وحج قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة، والشيخ بهاء الدين عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عقيل. وأسر السلطان والأمراء مدبرو الدولة إلى أمير الحاج ومن صحبته من الأمراء أن يقبضوا على الشريف ثقبة، ويقرروا الشريف عجلان بمفرده على إمارة مكة. فلما قدم الحاج بطن مر، ومضى عجلان إلى لقائهم شكا إلى الأمراء من أخيه ثقبة، وذكر ما فعله معه، وبكى. فطمنوا قلبه، وساروا به معهم حتى لقيهم ثقبة في قواده وعبيده، فألبسوه خلعة على العادة، ومضوا حافين به نحو مكة، وهم يحادثونه في الصلح مع أخيه عجلان، ويحسنون له ذلك، وهو يأبى موافقتهم حتى أيسوا منه. فمد الأمير كشلى يده إلى سيفه فقبض عليه، وأشار إلى من معه فألقوه عن فرسه، وأخدوه ومعه ابن لعطيفة، وآخر من بني حسن، وكبلوهم بالحديد، ففر القواد والعبيد. وأحضر عجلان، وألبس التشريف؛ وعبروا به إلى مكة، فلم يختلف عليهم اثنان. وسلم ثقبة للأمير أحمد بن آل ملك، فسر الناس بذلك. وكثر حلب الغلال وغيرها، فانحل السعر عشرين درهما الأردب. وقبض على إمام الزيدية أبي القاسم محمد بن أحمد اليمني، وكان يصلي في الحرم بطائفته، ويتجاهر، ونصب له منبراً في الحرم يخطب عليه يوم العيد وغيره.بمذهبه. فضرب بالمقارع ضرباً مبرحاً ليرجع عن مذهبه، فلم يرجع وسجن، ففر إلى وادي نخلة، فلما انقضى موسم الحاج حمل الشريف ثقبة مقيداً إلى مصر وبلغ النيل في زيادته إلى ستة عشر أصبعاً من تسعة عشر ذراعاً، بعد ما توقف في ابتداء الزيادة. وكان الوفاء يوم الأحد تاسع رجب، وهو ثامن عشر مسرى، وفتح الخليج على العادة.
ومات في هذه السنة ممن لهم ذكر ومات فيها أمين الدين إبراهيم بن يوسف المعروف بكاتب طشتمر، وولي نظر الجيش في أيام الصالح إسماعيل، ثم عزل وتوجه إلى القدس حتى أقدم الأمير شيخو، وعمله ناظر ديوانه، فمات قتيلا بحلب في رابع عشر المحرم.
ومات الأمير بكلمش نائب طرابلس، في أول المحرم. وأصله من مماليك صاحب ماردين، بعثه إلى السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، فترقى في خدمته، وأنعم عليه إلى أن ولى نيابة طرابلس في الأيام المظفرية، وكان من أمره ما ذكره.
ومات الأمير أحمد بن الساقي نائب حماة، في أول المحرم. وأصله من الأويرانية، وبعثه نائب البيرة في الأيام الناصرية، فأعطاه السلطان للأمير بكتمر الساقي، ثم أنعم عليه السلطان بعد موت بكتمر بإمرة عشرة، ولقبه بأحمد الساقى، ثم أنعم عليه بإمره طبلخاناه، وعمله شاد الشراب خاناه. وتنقل بعد موت السلطان، فعمل أمير شكار في الأيام المظفرية، ثم أخرج لنيابة صفد، ثم ولي نيابة حماة، حتى كان من أمره ما كان، وكان شجاعاً أهوج جهولا مقداماً.(2/206)
ومات الأمير بيبغا روس القاسمي، أحد المماليك الناصرية. توفي السلطان الناصر محمد ابن قلاوون وهو من خاصكيته، فترقى حتى صار في الأيام الصالحية إسماعيل أمير طبلخاناه، وتمكن منه حتى كان الصالح لا يفارقه ساعة واحدة. ثم أنعم عليه في الأيام الكاملية شعبان بتقدمة ألف، ثم كان من قبضه على المظفر حاجي ما كان.
ثم ولي في الأيام الناصرية حسن نيابة السلطنة، فشكرت سيرته فيها، ثم قبض عليه بطريق الحجاز وسجن، ثم أفرج عنه. وولى نيابة حلب، وكان من عصيانه ما كان حتى لحق بقراجا بن دلغادر، فاخذه وبعث به إلى حلب، فقتل بها ومات الأمير ألجيبغا العادلي، في سابع ربيع الآخر بدمشق؛ وكان فارسا جواداً ومات الأمير شعبان قريب يلبغا اليحياوي. وكان من جلة خواص ألماس الحاحب، فسجن عند مسكه مدة، ثم نفي إلى صفد. وأنعم عليه بعد مدة بإمرة، وتوجه إلى حلب في نيابة يلبغا اليحياوي، ثم سجن بعد موت يلبغا اليحياوي مدة، ثم أفرج عنه، وأنعم عليه بإمرة، وقدم مصر، ثم توجه إلى دمشق، فمات بها.
ومات الأمير بيغرا المنصوري أحد أمراء الألوف بديار مصر، وهو بطال بحلب، وكان خيراً، ولى الحجوبية.بمصر، فشكرت سيرته لجودة عقله ومات الأمير بدر الدين مسعود بن أوحد بن مسعود بن الخطير الرومي، في سابع شوال، ومولده ليلة السبت سابع جمادى الأولى، سنة ثلاث وثمانين وستمائة بدمشق. ترقى في خدمة الأمير تنكز نائب الشام، وولي حاجباً بالقاهرة، ثم ولى نيابة غزة وطرابلس غير مرة؛ وكان مشكوراً.
ومات الشريف أمير ينبع عيسى بن حسن الهجان، في رابع ربيع الآخر.
ومات قراجا ين دلغادر في رابع عشر ذي القعدة.
ومات الشيخ إبراهيم بن الصائغ، في رابع عشرى رجب.
ومات عمر بن مسافر الخواجا ركن الدين، أستاذ الأمير شيخو وغيره من المماليك العمرية؛ في عشرى ربيع الآخر.
ومات الوزير علم الدين عبد الله بن تاج الدين أحمد بن إبراهيم بن زنبور بقوص، في يوم الأحد رابع عشر ذي القعدة.
ومات أسعد خربه، مستوفي الصحبة، وهو أحد مسالمة الكتاب، في عشرى ذي القعدة.
ومات شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن محمد بن الشهاب محمود بن سليمان الحلبي أحد موقعي الدست، بدمشق.
ومات شرف الدين عبد الوهاب الشهاب أحمد بن محيى الدين يحيى بن فضل الله العمري، أحد موقعي الدست، بدمشق.
ومات شرف الدين عمر بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن أبي السفاح، كاتب سر حلب بها.
ومات صدر الدين محمد بن الشرف محمد بن إبراهيم بن أبي القاسم الميدومي أبو الفتح الشيخ المسند المعمر. حدث عن النجيب وغيره. ومولده سنة أربع وستين وستمائة. حدثنا عنه شيخنا سراج الدين عمر بن الملقن وتوفي إمام الدين محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن علي بن محمد بن الحسن بن عبد الله بن أحمد بن ميمون إمام الدين بن زين الدين بن المحدث أمين الدين أبي المعالي بن الإمام القدوة قطب الدين أبي بكر بن الفقيه أبي العباس القيسي القسطلاني، بالقاهرة في المحرم، ومولده بمكة سنة إحدى وسبعين وستمائة ومات جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن الإمام شمس الدين أبي محمد أبي عبد الله ابن العفيف محمد بن يوسف بن عبد المنعم بن سلطان المقدسي النابلسي، ثم الدمشقي الحنبلي، في رجب. ومولده بنابلس، في سنة إحدى وتسعين وستمائة، حدث عن جماعة.
ومات الفقيه المحدث تقي الدين محمد بن عبد الله بن محمد بن عسكر بن مظفر نجم الطائي. ومات القيراطي المصري ثم الدمشقي الشافعي، في شوال. حدث بالقاهرة ودمشق ودرس بهما.
وقتل حسن بن هند، وهو الحاكم بمدينة سنجار، وبالموصل، قتله صاحب ماردين، وكانت عساكر الشام حاصرته، ثم عادت عنه.
الجزء الثالث
سنة خمس و خمسين وسبعمائة
شهر الله المحرم أوله يوم الأحد وفي ثامن عشره: قدم الحاج، و لم يتفق بمثل هذا فيما سلف، وهلك جماعة من المشاة، وقدم الشريف ثقبة مقيداً، فسجن.(2/207)
وفي ثامن عشريه: قدم الأمير شيخو، ممن معه من بلاد الصعيد وكان من خبره أن العربان بالوجه القبلى خرجوا عن الطاعة، وسفك بعضهم دماء بعض، وقطعوا الطرقات، وأخذوا أموال الناس، وكسروا مغل الأمراء والأجناد. وقتلوا الكاشف طغاى، وكسروا مجد الدين موسى الهذبانى، وأخذوا خامه وقماشه، وقتلوا بعض أجناده. وقام في البهنساوية ابن سودى، وحشد على بنى عمه، وقتل منهم نحو الالفي رجل، وأغار على البلاد، وأكثر من القتل والنهب. ونافق أيضاً ميسرة بالأطفيحية، واقتتل مع ابن مغنى قتالاً كبيراً فاستمر هذا البلاء بالصعيد سنة كاملة، هلك فيها من العربان خلائق كثيرة، فمازال السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون يسوس الأمر حتى سكنت تلك الفتن، وتتبع أهل الفساد، وحرث ديارهم بالأبقار، وأفناهم بالقتل. ثم ثاروا بعد ذلك، وركبوا على بيبغا الشمسى الكاشف، وحاربوه، وتجمعوا على الفساد، ثم تبع ذلك قيام الأحدب، واسمه محمد بن واصل، و لم يكن أحدب ولكن أقفص، فشهر لذلك بالأحدب، وقام الأحدب هذا في عرب عرك بناحية ، وقاتل بنى هلال. فلما تغافل أهل الدولة بعد موت السلطان الناصر محمد بن قلاوون عن أهل النواحي، قلت مهابة الكشاف والولاة عندهم، فخرجوا عن الحد، وقطعوا الطرقات براً وبحراً حتى تعذر سلوكها. ومالوا على المعاصر والسواقي، فنهبوا حواصلها من القنود والسكر والأعسال، وذبحوا الأبقار.
وادعى الأحدب السلطنة، وجلس في جتر أخذه من قماش الهذبانى، وجعل خلفه المسند، وأجلس العرب حوله، ومد السماط بين يديه، فنفذ أمره في الفلاحين. وصار الجندي إذا انكسر له خراج قصده، وساله في خلاصه من فلاحه، فيكتب لهورقة لفلاحه وأهل بلده، فيصل بها إلى حقه، ويرسل مع مماليك الكاشف والوالي بالسلام عليه، ويأمره أن يقول: إن كانت لك حاجة قضيتها لك. وحدثته نفسه بتملك الصعيد، وقويت نفسه بتأخر ولاة الأمور عنه، وأقام له حاجباً وكاتباً.
فلما عظم أمره عقد الأمراء المشور بين يدي السلطان الملك الصالح، في مستهل شوال سنة أربع وخمسين وسبعمائة، في أمر عرب الصعيد. وقرروا تجريد العسكر لهم، صحبة الأمير سيف الدين شيخو العمرى رأس نوبة، ومعه اثنى عشر مقدماً. بمضافيهم من أمراء الطبلخاناه والعشرات، وهم أسندمر العمرى وطشتمر القاسمي، وقطلوبغا الطرخانى، وأرلان، وبزلار أمير سلاح، وكلتاى أخو طاز، واصر على بن أرغون النائب، وتنكز بغا، وجركتمر، ويلجك قريب قوصون، وقطلوبغا الذهبى، وأن يتوجه كلتاى وابن أرغون النائب نحو الشرق بالإطفيحية، ويتوجه يلجك إلى الفيوم، وبزلار وأرلان نحو الواح، ويتوجه الأمير شيخو ببقية الأمراء إلى جهة قوص، ويتأخر في صحبة السلطان عند سفره الأمير طاز، والأمير صرغتمش، والأمير قجا أمير شكار. فيتوجه السلطان نحو البهنسا كأنه يتصيد، وأن يكون السفر في ذي القعدة، فيتوجه الأمراء أولاً، ثم يركب السلطان بعدهم.
فطار الخبر إلى عامة بلاد الوجه القبلي، فأخذ العربان حذرهم، فمنهم من عزم على الدخول بأهله إلى بلاد النوبة، ومنهم من اختفي في موضع أعده ليأمن فيه على نفسه ومنهم من عزم على الحج وقدم إلى مصر، ففطن بهم أعداؤهم، ودلوا عليهم الأمراء. فقبض على جماعة ممن قدم مصر نحو العشرة، وأخذ ما معهم. ثم ركب الأمير شيخو إلى بركة الحاج في عدة وافرة، وأحاط بالركب، وتتبع الخيام وغيرها بعد ما حذر من أخفي العرب، فقبض على جماعة منهم، وقتل من عرف منهم بفساد، وأطلق من شكر حاله.(2/208)
ثم توجه الأمراء في ذي القعدة، وعدى السلطان. ممن معه من بقية الأمراء إلى بر الجيزة، فكبست بلاد الجيزة، بعد ما كتب لمتوليها ومشايخها وأرباب أدراكها أنهم لا يخفون أحداً من العرب، ولا من أولادهم ونسائهم، فأخذ الصالح والطالح. وقبض الأمراء على الخيول والسيوف، حتى لم يبق ببلاد الجيزة فرس ولا سيف، وأحضروا أصحابها إلى الوطاق. واستدعى الوالي ومشايخ العربان، وعرض من قبض عليه، فمن عرفوه أنه من أهل البلاد أفرج عنه، ومن لم يعرفوه قيد وحمل إلى القاهرة فسجن بها. وعرضت الخيول، فمن عرف فرسه من الفلاحين رسم له ببيعها في سوق الخيل تحت القلعة، وحمل ثمنها إلى الديوان مما عليه من الخراج. ورسم بمثل ذلك فيما يحضر من خيول فلاحي بقية النواحي، أي أن الفلاح يبيعها ويورد ثمنها فيما عليه من الخراج، إما الأمير أو للجندي. فامتثل ذلك وعمل به، وسيقت خيول المفسدين، ومن لم يعرف له صاحب حمل إلى إصطبل السلطان.
وندب الأمير عز الدين أزدمر كاشف الوجه البحري للسفر إلى عمله، فكبس البلاد المتجوهة، والتي تعرف بأنها مأوى المفسدين في عامة الشرقية والوجه البحري بأجمعه. وأحسن أزدمر التدبير في ذلك، فإنه كتب لجميع الولاة أن يلاقوه في البر والبحر، وواعدهم يوماً عينه. وكان الوالي بالغربية في بره، والكاشف والولاة وأرباب الأدراك مقابله، ومنعوا الناس كلهم من ركوب النيل، فأخذ الوالي عرباً كثيراً، وكبس بلاداً عديدة، وأخذ منها المفسدين، فوسط وسمر جماعات منهم، وسير إلى القاهرة مائة وخمسين رجلاً في الحديد، ومائة وعشرين فرساً، وسلاحاً كثيراً. وأرسل متولي البحيرة من خيل عريها ستمائة وأربعين فرساً، فلم يتأخر في الوجه البحري فرس واحد من خيول العربان. ورسم لقضاة البر وعدوله بركوب البغال والأكاديش.
وتوجه السلطان بعد رحيل الأمراء من الجيزة إلى البهنسا، فتولى الكبسات الأمير طاز والأمير صرغتمش، وتتبعوا الرجال، وعاقبوا النساء والصبيان حتى دلوهم على أماكنهم، فأخرجوهم من المطامير، وسفكوا دماء كثيرة. وقبضوا على عدة رجال، فأودعوهم الحديد، وحازوا من الخيل والسلاح شيئاً كثيراً.
فحشد الأحدب بن واصل شيخ عرك جموعه، وصمم على لقاء الأمراء، وحلف أصحابه على ذلك. وقد اجتمع معه عرب منفلوط، وعرب المراغة وبني كلب وجهينة وعرك، حتى تجاوزت فرسانه عشرة آلاف فارس تحمل السلاح، سوى الرجالة المعدة، فإنها لا تعد ولا تحصى لكثرتها. وجمع الأحدب مواشي أصحابه كلهم وأموالهم وغلالهم وحريمهم وأولادهم، وأقام ينتظر قدوم العسكر.
فقدم الأمير شيخو بمن معه حتى نزل سيوط، ومعه الولاة والكشاف، فتلقها أهلها وعرفوه أمور العرب، وما هم عليه من العزم على اللقاء والمحاربة، وكثرة جمعهم. فاستراح الأمير شيخو، وقدمت عليه عرب الطاعة، وهولوا عليه بكثرة جمع المارقين حتى داخله الوهم، وبعث يستدعي بالعسكر من القاهرة. فعرض الأمير سيف الدين قبلاى نائب السلطنة مقدمي الحلقة ومضافيهم، وعين منهم تسعين مقدماً، وأضاف إلى كل مقدم جماعة. وعرضت أوراق بأسمائهم على السلطان والأمراء، فاختاروا منهم خمسة وعشرين مقدماً، مع كل مقدم من مضافيه عشرون جندياً، فتكون عدتهم خمسمائة فارس؛ ورسم بتجهيزهم. وأعيد جواب الأمير شيخو بذلك، فرد جوابه بأن في حضور نجدة من القاهرة ما يوجب طمع العربان في العسكر، وظنهم أن ذلك من عجزهم عن اللقاء، وأشار بإبطال تجريد النجدة، فبطلت.
ثم رحل الأمير شيخو عن سيوط، وبعث الأمير مجد الدين الهذبانى ليؤمن بنى هلال أعداء عرك، ويحضرهم ليقاتلوا عرك أعداءهم. فانخدعوا بذلك، وفرحوا به، وركبوا بأسلحتهم، وقدموا في أربعمائة فارس، فما هو الا أن وصلوا إلى الأمير شيخو فأمر بأسلحتهم وخيولهم فأخذت بأسرها، ووضع فيهم السيف، فأفناهم جميعاً. وركب الأمير شيخو من فوره، وصعد عقبة أدفو في يوم وليلة، فلما نزل إلى الوطاة قدم عليه نجاب من أمراء أسوان بأن العرب قد نزلوا في برية بوادي الغزلان، فالبس العسكر الة الحرب.(2/209)
وقدم الأمير سودون أحد أمرأء الطبلخاناه في مائة من مماليك الأمراء طليعة، وساروا. فلما كان قبيل العصر التقت الطليعة بفئة من طلائع العرب، فبعث سودون يخبر الأمير شيخو بذلك، وقاتلهم فانهزموا، ثم عادوا للحرب مراراً حتى كلت خيول الترك، و لم يبق الا أن تأخذهم العرب. فأدركهم الأمير شيخو، وقد ساق لما أتاه الخبر سوقاً عظيماً ممن معه، وامتلأ الجو من غبارهم. وهبت ريح، فحملت الغبار والقته في وجوه العرب حتى صار أحدهم لا يرى رفيقه، مع رؤيتهم بريق الأسنة ولمعان السيوف. فخارت قواهم، وانهزموا بأجمعهم، بعد ما استعدوا للقاء استعداداً محكماً. فقدموا الرجالة بالدرق أمام الفرسان، لتلقى عنهم السهام، وقامت الفرسان من ورائهم بأسلحتها، وأوقفوا حريمهم من ورائهم. وصار الرجل منهم يصدم ابنه وأخاه وهو لا يلوى على شيء. فركب الترك أقفيتهم، ومن وقت الغروب عند الهزيمة، يقتلون ويأسرون حتى أعتم الليل، وباتوا متحارسين، فلم يعد أحد من العرب اليهم. وعند ارتفاع النهار جرد الأمير شيخو طائفة في طلبهم، فأحاطوا بمال كثير ما بين مواشي وقماش، وحلى ونقود، وعروض وأقوات، وأزواد وروايا ماء. وسبوا حريمهم وأولادهم، فاسترقوا كثيراً منهم، وصار إلى الأجناد والغلمان منهم شيء كبير، باعوا منه عدداً كثيراً بالقاهرة، بعد عودهم.
وهلك من العرب خلائق بالعطش، ما بين فرسان ورجالة وجدهم المجردون في طلبهم، فسلبوهم. وصعد كثير منهم إلى الجبال، واختفوا في المغائر، فقتل العسكر وأسر، وسبا عدداً كثيراً، وارتقوا إلى الجبال في طلبهم، وأضرمرا النيران في أبواب المغائر فمات بها خلق كثير من الدخان. وخرج اليهم جماعة، فكان فيهم من يلقى نفسه من أعلى الجبل ولا يسلم نفسه، ويرى الهلاك أسهل من أخذ العدو له. فهلك في الجبال أمم كثيرة وقتل منهم بالسيف ما لا يحصى كثرة، حتى عملت عدة حفائر وملئت من رممهم، وبنى فوقها مصاطب ضربت الأمراء رنوكها عليها، وأنتنت البرية من جيف القتلى ورمم الخيل.
ثم فرق الأمير شيخو الأمراء في البلاد لكبسها، فطرقوا عامة النواحي، وقبضوا على جماعة كثيرة قتلوا منهم خلقاً كثيراً، وأحضروا خلقاً إلى الأمير شيخو فأقاموا على هذا عدة أيام، حتى لم يبق ببلاد الصعيد بدوي. ثم نصبت الأخشاب على الطرقات، وعلق فيها أعداد وافرة ممن شنق ووسط من العرب، فكان أولها طما وأخرها منية ابن خصيب. ثم عاد الأمير شيخو. ممن معه، وصحبته نحو الالفي رجل في الحديد، فلم يصل إلى القاهرة منهم سوى ألف ومائتين، وهلك باقيهم بالجوع والتعب. فلما نزل طموة خرج اليه الأمراء بأجمعهم، وعملوا له الولائم العظيمة مدة أيام. ثم سافر الأمير شيخو منها في موكب جليل، والأسرى بين يديه، والخيول والجمال والسلاح، حتى صعد القلعة، وكان يوماً مشهوداً. وأثنى عليه من كان معه، بإحسانه اليهم ونفقاته فيهم، فكانت مدة غيبته نحو ثلاثة أشهر، وأقل ما قيل إنه قتل في هذه الواقعة زيادة على عشرة الاف رجل.
ثم قدمت الأسرى التي أحضرت مع الأمير شيخو، أو من بعث به الكشاف والولاة، وفيهم ابن ميسرة الثائر بالأطفيحية، فأفرج عن جماعة منهم. وسمو ابن ميسرة وثلاثة عشر من أكابر العربان، ومائة وأربعون رجلاً من شرارهم، وشهروا. وقيد جماعة وسخروا في العمل. وعرضت الدواب، فكانت الفا وثلاثمائة فرس، والفا وخمسمائة جمل، وسبعمائة حمار، وأغناماً كثيرة، سوى ما نهبه العبيد وأكلوه. وعرض السلاح، فكان مائة حمل رماح، وثمانين حمل سيوف، وثلاثين حمل درق. وكتب لجميع ولاة الأعمال وكشافها الا يدعوا في جميع النواحي فرساً لبدوي ولا لفلاح سوى أرباب الأدراك، فإنه يترك لكل واحد منهم فرس. فركب الولاة إلى البلاد، وأخذوا ما بها من الخيول، وسيروها إلى اصطبل السلطان. فكان الرجل إذا حضر وادعى ملك شيء سلم اليه، بعد ما تظهر صحة دعواه، والزم بعد تسليمه بأن يبيعه ويعطى ثمنه مما عليه من الخراج، فكثرت الخيول بالقاهرة، واستوفى الأجناد خراجهم قبل أوانه.
فكانت هذه الواقعة من أعظم حوادث الصعيد، وأشنع محنها، ولذلك سقتها في هذا الموضع كما هي، وإن كان قد تقدم في السنة الحالية طرف منها، لأن حكايتها متوالية أبين لها، وأكثر فائدة لمن وقف عليها.(2/210)
وقد مدح الأمير شيخو غير واحد عند قدومه، منهم ناصر الدين النشائي أحد كتاب الإنشاء، فقال قصيدة أولها:
صعودك للصيد له سعود ... به نجزت من النصر الوعود
وأرسل نحوهم فرسان حرب ... ضراغمة تحافهم الأسود
فخاضوا فيهم بالسيف حتى ... غدوا وهم قتيل أو شريد
ومهدت البلاد فزال عنها ... ظلام الظلم وابتهج الوجود
وقال الفخر عبد الوهاب كاتب الدرج، من أبيات:
قدوم سعيد مبهج وإياب ... به حف للنصر العزيز ركاب
مضيت مضى السهم في غزو عصبة ... بغاة وغازى المفسدين يتاب
ومن كان قتل النفس بعض ذنوبه ... فليس له الا السيوف عتاب
فلم تنجهم أرض ولا عصمتهم ... مغائر ما بين الصخور صعاب
وقال الأمير عز الدين أزدمر الكاشف قصيدة منها:
حسام عزمك بردى الأسد في الأجم ... ونور رأيك يهدى الناس في الظلم
وحين أصبح أمر العرب مختلفاً ... فليس يعرف منه خلف من أمم
سالت عليهم جيوش الله يقدمها ... شيخو لمؤبد بالصمصامة الخدم
سعى اليهم ونصر الله يقدمه ... في بحر جيش بموج الخيل منتظم
والأرض ترجف تحت الخيل من فرق ... والخيل تمشى على الأشلاء والرمم
فأوقع السيف في الأعداء منتصراً ... لله حتى غدوا لحما على وضم
ولم يدع دار بغى غير دائرة ... ولا منار شقاق غير منهدم
وكان الأحدب قد نجا بنفسه، فلم يقدر عليه، ومن حينئد أمنت الطرقات براً وبحراً، فلم يسمع بقاطع طريق بعدها. ووقع الموت فيمن تأخر في السجون من العربان، فكاد يموت منهم في اليوم من عشرين إلى ثلاثين، حتى فنوا الا قليلاً.
وقدم الخبر من المدينة النبوية أن الشريف مانع بن على بن مسعود بن جماز وأولاد طفيل جمعوا ونازلوا المدينة، يريدون قتل الشريف فضل بن قاسم بن قاسم بن جماز فامتنع بها، وهم يحارصرونه اثني عشر يوماً مرت بينهم فيها حروب، فانهزموا ومضو من حيث أتوا.
وفيه أخرج الأمير ساطلمش تركاش منفياً، لسوء سيرته.
وفيه ضربت عدة من شهود الزور، وحلقت لحاهم، وشهروا في القاهرة، وكان يوماً شنيعاً.
وفيها أخرج ابن طشتمر الساقي منفياً إلى طرابلس، لانهماكه في اللعب.
وفي شهر ربيع الأول: قدم محمد بن واصل الأحدب، شيخ عرك من بلاد الصعيد، طائعاً. وكان من خبره أنه لما نجا وقت الهزيمة. وأخذت أمواله وحرمه، ترامى بعد عود العسكر على الشيخ المعتقد أبى القاسم الطحاوى فكتب الشيخ في أمره إلى الأمير شيخو، يسال العفو عنه وتأمينه. على أنه يقوم بدرك البلاد، ويلتزم بتحصيل جميع غلالها وأموالها، وما يحدث بها من الفساد فإنه مواخذ به، وأنه يقابل نواب السلطان من الكشاف والولاة فكتب له أمان سلطاني، وكوتب بتطييب خاطره وحضوره أمناً، فسار ومعه الشيخ أبو القاسم. فأكرم الأمراء الشيخ، وأكرموا لأجله الأحدب، وكان دخوله يومًا مشهوداً.
وتمثل الأحداب بين يدي السلطان. وأنعم عليه السلطان والبسه تشريفاً وناله من الأمراء إنعام كثير، وضمن منهم درك، البلاد على ما تقدم ذكره، فرسم له بإقطاع. وعاد الأحدب إلى بلاده بعد ما أقام نحو شهر، وقد البسه السلطان تشريفاً ثانياً ثم توجه الشيخ أبو القاسم الطحاوي أيضاً بعد أيام، وكان نزوله بزاوية العربان من القرافة، فجددها الأمير شيخو تجديداً حسناً.
وفيه توجه الناصر بن المجاهد صاحب اليمن عائداً إلى أبيه بمن معه، بعد أربعة أشهر من قدومه. وأخذ معه كثير من الصناع والمخايلين والشعبذين والمساخر وأرباب الملاهى، وتحفا عديدة قامت عليه بأموال جزيلة وأنعم عليه السلطان والأمراء بغير نوع من الهدايا والتحف السنية، والبسوه الخلع الجليلة، وبالغوا في إكرامه. وجهروا له ما يحتاج اليه من المراكب، وكتب إلى ولاة الأعمال بإكرامه، فسار في البحر.(2/211)
وفي حادي عشر رجب: أفرج عن الأمير سيف الدين منجك، والأمير علاء الدين مغلطاي أمير أخور. وكان المعتنى بالأمير منجك الأمير شيخو، والمعتنى بالأمير مغلطاي الأمير طاز. فتوجه اليهما الأمير جنتمر أخو طاز، وحملهما من الإسكندرية، فكان دخولهما يوماً مشهوداً، بعد ما أقاما بسرياقوس عشرة أيام، والتقادم ترد اليهما، وتمد لهما الأسمطة العظيمة بالهمة الجليلة، فانعما على متسفرهما الأمير جنتمر بسبعة الاف دينار.
وفيه قدم البريد من حلب بتعذر مسير القوافل من كثرة فساد العرب وقطعهم، الطريق، وأن سيف بن فضل تعجز عن مقاومة عرب فياض بن مهنا، وأن الأمير أرغون الكاملي نائب حلب أخرج مقدماً من مقدميه في تجريدة لحفظ الطريق مع بعض الأمراء، فكبسه العرب وقاتلوه، فقتل في المعركة، وأن سيف بن فضل عمر بن موسى ابن مهنا لما الزمهما الأمير أرغون الكاملى نائب حلب بتحصيل من قتل المذكور ادعوا أنهم من غير عربهم.
وكان فياض لما كتب اليه بالحضور اعتذر عن ذلك، والتزم بدرك البلاد وكف أسباب الفساد، وبعث ابنه إلى السلطان رهينة بمصر. فحضر سيف وعمر بقود كبير، من جمال وخيل، فاعتنى الأمير طاز بسيف، ومازال حتى خلعه عليه وعلى عمر، وأستقرا في الإمرة. فتوجه ولد فياض من مصر إلى أبيه، وأخبره بذلك، فاشتد حنقه، وكثر قطعه الطريق، وعزم على المسير إلى أولاد قراجا بن دلغادر وإحضارهم بجمائعهم لأخذ حلب. فانحصر الأمير أرغون الكاملي نائب حلب، وضاق ذرعه. فلما قدم كتابه اقتضى الرأي إرسال الأمير جنتمر أخي طاز إلى الأمير فياض، وكتبت على يده عدة كتب من السلطان والأمراء، بتطمين خاطره والحلف له الا يتعرض له بسوء. فركب الأمير جنتمر في عشرة سروج على البريد، ولقى فياضاً، ومازال به حتى أذعن له ووكب معه، بعد ما بالغ في إكرامه، وأكثر من التقادم السنية له، وقدم إلى القاهرة في عاشر جمادى الآخرة.
وفيه أخذ الأمير صرغتمش من دار ابن زنبور بالقاهرة ما كان بها من الرخام، فوجد في زواياها من أواني الصيني والنحاس ومن القماش وغيره شيئاً كثيراً.
وفيه قدم عدة من النصارى بالغربية، ووقفوا بدار العدل من القلعة للسلطان، وسالوا إعادة كنيسة النحريرية التي هدمها العامة وعملوها مسجداً. فلم يجابوا لذلك، وطردوا بعد ضربهم، وكتب إلى متولى الناحية أن يعمل لهذا المسجد مناراً يؤذن فيه للصلوات الخمس، وتجدد عمارة المسجد، فامتثل ذلك.
وفي شهر ربيع الآخر: وقفت أحوال ديوانى الخاص والدولة، حتى إن السلطان كان إذا استدعى بشيء من الخاص يقول بدر الدين ناظر الخاص: ما تم حاصل، وليس لي مال. وتأخر من الدولة ما يصرف للحوالج كاشية وأرباب المرتب ونفقات مماليك السلطان. فكثر الإنكار على بدر الدين ناظر الخاص، وأسمعه الأمراء ما يكره، فالتجأ إلى الأمير صرغتمش وكان يعضده، وذكر له ما هو فيه من العجز. فوعده الأمير صرغتمش بتخليصه، وأسر اليه أن يتمارض في بيته أياماً حتى يدبر أمره مع السلطان والأمراء. فانقطع بدر الدين عن الخدمة، وأظهر أنه مريض، فلم يبق أحد من أهل الدولة حتى عاده على العادة. ثم بعد أيام انقطع الوزير الصاحب موفق الدين أبو الفضل عبد الله بن سعيد الدولة لوعك أصابه؟؟؟؟؟، فتعطلت أشغال السلطنة. وأخذ الأمير صرغتمش يحدث الأمراء في إعفاء بدر الدين ناظر الخاص، فاستدعى تاج الدين أحمد بن الصاحب أمين الملك عبد الله بن غنام، وعرض عليه السلطان نظر الخاص، فتمنع تمنعاً زائداً، فلم يوافقه الأمير طاز، والبسه التشريف في يوم الخميس رابع عشره، فولي الخاص عوضاً عن بدر الدين.
ثم كان موت الوزير موفق الدين في يوم الجمعة ثاني عشريه، فتعين الأمير ناصر الدين محمد بن بيليك المحسنى وطلب الأمير ناصر الدين لذلك، فامتنع أشد الامتناع، وجرت بينه وبين تاج الدين ناظر الخاص مفاوضة في مجلس السلطان، سببها أنه قال: أما ثم من يصلح للوزارة الا الأمير ناصر الدين، فحنق منه، وقال له: ما يصلح الا أنت، فتكون الوزارة مضافة للخاص كما كان من قبلك. فامتنع تاج الدين من ذلك، وانفض المجلس، فأخذ الأمير طاز بحسن لناظر الخاص التحدث في الوزارة، ويعده بمساعدته، وهو يأبى.(2/212)
وفي أثناء ذلك استعفى الأمير شيخو من التحدث في أمر الدولة، فتقرر الحال على أن ينفرد السلطان بتدبير دولته، من غير أن يعارضه أحد في ذلك، ويستبد بالمملكة وحده، كما كان أبوه وحده. واجتمع الأمراء وسائر أهل الدولة بين يدي السلطان، وفاوضوه في ذلك، فوافق غرضه، فإنه كان في حصر شديد، ليس له أمر ولا نهى ولا تصرف في شيء من أمور الدولة، وهو محجور عليه مع الأمير شيخو. فقلدوه الأمور، والتزموا بطاعته فيما يرسم به. فصار مباشرو الدولة يدخلون على السلطان، وينهون له الأحوال، فيمضيها بأمره ونهيه.
واختص السلطان بالأمير طاز، وتقدم اليه أن ينظر في أمور الدولة من غير أن يظهر ذلك. فاشتهر بين الأمراء وغيرهم أن استعفاء الأمير شيخو من التحدث في أمور الدولة، واستقلال السلطان بالأمر، إنما هو بتدبير طاز وقيامه فيه مع السلطان، فإن السلطان كان له ميل كبير إلى الأمير طاز، وشغف بحب أخيه جنتمر وفتن به وكان ذلك مما لا يخفي على شيخو، فرأى أن ترك التحدث في الدولة من تلقاء من نفسه خير من عزله عنه. فلما استبد السلطان بأمره منع الأمير شيخو الوزير وناظر الخاص وأمثالهما من الدخول اليه، واستأذن السلطان في الإقامة بإصطبله عدة أيام ليشرب دواء. فخلا تاج الدين ناظر الخاص بالأمير طاز، وعرفه كثرة ما على الدولة من الكلف، وأنها لا تفى بذلك، وقرر معه أن يوفر من المصاريف جلة. وكتب تاج الدين ما على الدولة من المصروف، فكانت جملة ما أطلقه الصاحب موفق الدين لزوجته اتفاق وخدامها ومن يلوذ بها سبعمائة ألف درهم في كل سنة. ثم كتب تاج الدين استيمارا بما يترتب صرفه، وأخذ عليه خط السلطان، وعين صهره فخر الدين ماجد بن قزوينة لنظر الدولة، فطلب وخلع عليه شريك فخر الدين بن السعيد. فكان المتوفر من معاليم المباشريين جملة كثيرة، فإنه لم يدع مباشراً الا وفر من معلومه نصفه أو ثلثيه، ولم يراع منهم أحداً، لا من مباشرى الدولة، ولا مباشرى الخاص، ولا مباشرى الإسكندرية ودمياط، وجيع أعمال الوجه القبلى والوجه البحرى. ثم عزل تاج الدين كثيراً من مباشرى المعاملات، فإنه كان في كل معاملة ستة مباشرين وأكثر، فجعل في كل معاملة ثلاثة مباشرين، ورتب لكل منهم نصف معلوم. ووفر تاج الدين معلومه على نظر الخاص، وباشر الخاص بمعلوم الجيش. فشمل هذا كل من له معلوم في بيت السلطان، من متجر وغيره، ما خلا الموقعين والأطباء، فإن الموقعين عنى بهم كاتب السر علاء الدين على بن فضل الله، وكان عظيماً في الدولة، فلم يتعرض تاج الدين لشيء من معاليمهم، وأقرها بكمالها. وأما الأطباء فاعتنى بهم الأمير طاز، فانه أمير مجلس، وهم من تعلقه. وأما من عدا هؤلاء، فإنه حاصصه على مباشرى صرغتمش وطاز وشيخو، فجاء جملة المتوفر نحو سبعمائة ألف درهم، في كل سنة. فشق ذلك على الأمراء، وكرهوا قطع الأرزاق، وتشاءموا بهذا الفعل. واشتهر ذلك بين الناس، فتنكرت قلوبهم، وكثر دعاؤهم وابتهالهم إلى الله تعالى.
ثم إن تاج الدين اتهم بدر الدين ناظر الخاص بأنه حوى مالاً كثيراً من جهة تركة ابن زنبور، ومازال به حتى حمل من بيته وهو مريض إلى القلعة، والزم بحمل مال كبير، فحمل بدر الدين المال مدة أيام، ومات يوم الثلاثاء رابع عشرى جمادى الأولى في قاعة الصاحب بالقلعة، بعد موت الصاحب موفق الدين بشهر ويومين. فقام الأمير صرغتمش في مساعدته، ومنع من الحوطة على موجوده، وكان بدر الدين قد خلف سعادة جليلة مما حصله من جهة ابن زنبور.
وفي سادس عشر جمادى الأولى: قدم ابن رمضان التركمانى، المستقر عوضاً عن قراجا بن دلغادر، وقدم للسلطان والأمراء ألف أكديش. فرسم له بالإمرة على التركمان، وأنعم له بالإقطاع، وأنعم على عدة من أصحابه بإمرات، ما بين عشرات وطبلخاناه، وعاد إلى بلاده.
وفيه رسم بعمل أوراق بالرزق الأحباسيه التي في إقطاعات الأمراء، وفي غير ذلك من أراضي مصر، مما هي موقوفة على الكنائس والديارات، فجاءت خمسة وعشرين ألف فدان. فأنعم على كل أمير بما في إقطاعه من ذلك، ورسم لجماعة من الفقهاء بشىء من هذه الرزق.(2/213)
وفي هذه السنة: كانت واقعة النصارى، وذلك أنهم كانوا قد تعاظموا، وتباهوا بالملابس الفاخرة، ومن الفرجيات المصقولة والبقيار الذي يبلع ثمنه ثلاثمائة درهم، والفرط التي تلفها عبيدهم على رؤوسهم. بمبلغ ثمانين درهماً الفوطة. وركبوا الحمير الفره ذات الأثمان الكثيرة، ومن ورائهم عبيدهم على الأكاديش. وبنوا الأملاك الجليلة في مصر والقاهرة ومتنزهاتها، واقتنوا الجواري الجميلة من الأتراك والمولدات، واستولوا على دواوين السلطان والأمراء، وزادوا في الحمق والرقاعة، وتعدوا طورهم في الترفع والتعاظم. وأكثروا من أذي المسلمين وإهانتهم، إلى أن مر بعضهم يوماً على الجامع الأزهر بالقاهرة، وهو راكب بخف ومهماز وبقيار طرح سكندرى على رأسه، وبين يديه طرادون يبعدون الناس عنه، وخلفه عدة عبيد على أكاديش، وهو في تعاظم كبير. فوثب به طائفة من المسلمين، وأنزلوه عن فرسه، وهموا بقتله، فخلصه الناس من أيديهم.
وتحركت الناس في أمر النصارى وماجوا، وانتدب عدة من أهل الخير لذلك، وصاروا إلى الأمير طاز الشريف أبى العباس الصفراوي، وبلغوه ما عليه النصارى مما يوجبه نقض عهدهم، وانتدبوه لنصرة الإسلام والمسلمين. فانتفض الأمير طاز لذلك، وحدث الاصرين شيخو وصرغتمش وبقية الأمراء في ذلك بين يدي السلطان، فوافقوه جميعاً، وكان لهم يومئذ بالإسلام وأهله عناية. ورتبوا قصة على لسان المسلمين، قرئت بدار العدل على السلطان بحضرة الأمراء والقضاة وعامة أهل الدولة. فرسم بعقد مجلس للنظر في هذا الأمر، ليحمل النصارى واليهود على العهد الذي تقرر في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وطلب بطرك النصارى ورئيس اليهود، وحضرت قضاة القضاة وعلماء الشريعة، وأمراء الدولة، وجىء بالبطرك والرئيس، فوقفا على أرجلهما وقرأ العلائى على ابن فضل الله كاتب السر نسخة العهد الذي بيننا وبين أهل الذمة، بعد ما الزموا بإحضاره، وهو الا يحدثوا في البلاد الإسلامية وأعمالها ديراً ولا كنيسة ولا صومعة، ولا يجددوا منها ما خرب، ولا يمنعوا من كنائسهم التي عاهدوا عليها أن ينزل بها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعمونه. ولا يكتموا غشاً للمسلمين، ولا يعلموا أولادهم القرآن، ولا يمنعوهم من الإسلام إن أرادوا، وإن أسلم أحدهم لا يردوه. ولا يتشبهوا بشيء من ملابس المسلمين ويلبس النصراني منهم العمامة الزرقاء عشر أذرع فما دونها، واليهودي العمامة الصفراء كذلك، ويمنع نساؤهم من التشبه بنساء المسلمين. ولا يتسموا بأسماء المسلمين، ولا يكتنوا بكناهم، ولا يتلقبوا بالقابهم، ولا يركبوا على سرج، ولا يتقلدوا سيفاً، ولا يركبوا الخيل والبغال، ويركبون الحمير عرضاً بالكف من غير تزيين ولا قيمة عظيمة لها. ولا ينقشوا خواتمهم بالعربية، وأن يجزوا مقادم رؤوسهم، والمرأة من النصارى تلبس الإزار المصبوغ أزرق، والمرأة من اليهود تلبس الإزار المصبوغ بالأصفر. ولا يدخل أحد منهم الحمام الا بعلامة مميزة عن المسلم في عنقه، من نحاس أو حديد أو رصاص أو غير ذلك، ولا يستخدموا مسلماً في أعمالهم. وتلبس المرأة السائرة خفين أحدهما أسود والآخر أبيض، ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم، ولا يرفعوا بناء قبورهم، ولا يعلوا على المسلمين على المسلمين في بناء، ولا يضربوا بالناقوس الا ضرباً خفيفاً، ولا يرفعوا أصواتهم في كنائسهم. ولا يشتروا من الرقيق مسلماً ولا مسلمة، ولا ما جرت عليه سهام المسلمين، ولا يمشوا وسط الطريق توسعة للمسلمين، ولا يفتنوا مسلماً عن دينه، ولا يدلوا على عورات المسلمين. ومن زنى بمسلمة قتل، ومن خالف ذلك فقد حل منه ما يحل من أهل المعاندة والشقاق.
وكل من مات من اليهود والنصارى والسامرة، ذكراً كان أو أنثى، يحتاط عليه ديوان المواريث الحشرية، بالديار المصرية وأعمالها وسائر الممالك الإسلامية، إلى أن يثبت ورثته ما يستحقونه بمقتضى الشرع الشريف. فإذا استحق يعطونه. بمقتضاه، وتحمل البقية لبيت مال المسلمين، ومن مات منهم ولا وارث له يحمل موجوده لبيت المال. ويجرى على موتاهم الحوطة من ديوان المواريث ووكلاء بيت المال مجرى من يموت من المسلمين، إلى أن تبين مواريثهم.(2/214)
وكان هذا العهد قد كتب في رجب سنة سبعمائة في الأيام الناصرية محمد بن قلاوون، فلما انتهى العلائى على بن فضل الله كاتب السر من قراءته تقلد بطرك النصارى وديان اليهود حكم ذلك، والتزما بما فيه، وأجابا بالسمع والطاعة.
ثم جال الحديث في أمر اليهود والنصارى وإعادة وقائعهم الماضية، وأنهم بعد التزامهم أحكام العهد يعودون إلى ما نهوا عنه. فاستقر الحال على أنهم يمنعون من الخدم في جميع الأعمال، ولا يستخدم نصراني ولا يهودي في ديوان السلطان، ولا في شيء من دواوين الأمراء، ولو تلفظ بالإسلام، على أن أحداً منهم لا يكره على الإسلام، فإن أسلم برضاه، لا يدخل منزله، ولا يجتمع بأهله، الا إن اتبعوه في الإسلام، ويلزم أحدهم إذا أسلم. بملازمة المساجد والجوامع. وأن تكون عمامة النصراني واليهودي عشر أذرع، ويلزموا بزيادة صبغها، والا يستخدموا مسلماً، وأن يركبوا الحمير بالآكل، وإذا مروا بجماعة من المسلمين نزلوا عن دوابهم، وأن يكون قيمة حمار أحدهم أقل من مائة درهم، وأن يلجأوا إلى أضيق الطرق، ولا يكرموا في مجلس، وأن تلبس نساؤهم ثياباً مغيرة الزي إذا مررن في الطرقات، حتى أخفافهن تكون في لونين، ولا يدخلن حمامات المسلمين مع المسلمات. وكتب بذلك كله مراسيم سلطانية سار بها البريد إلى البلاد الإسلامية، فكان تاريخها ثاني عشري جمادى الآخرة، وقرىء منها مرسوم. بمجلس السلطان في يوم الخميس خامس عشريه. وركب من الغد يوم الجمعة سادس عشريه الأمير سيف الدين قشتمر الحاجب، ومعه الشريف شهاب الدين المنشيء بالمراسيم السلطانية إلى البلاد الإسلامية.
وقرىء مرسوم بجامع عمرو من مدينة مصر، وآخر بجامع الأزهر من القاهرة، فكان يوماً عظيماً هاجت فيه حفاظ المسلمين، وتحركت سواكنهم، لما في صدورهم من الحنق على النصارى، ونهضوا من ذلك المجلس بعد صلاة الجمعة، وثاروا باليهود والنصارى، وأمسكوهم من الطرقات، وتتبعوهم في المواضع وتناولوهم بالضرب، ومزقوا ما عليهم من الثياب، وأكرهوهم على الإسلام، فيضطرهم كثرة الضرب والإهانة إلى التلفظ بالشهادتين خوف الهلاك. فإنهم زادوا في الأمر حتى أضرموا النيران، وحملوا اليهود والنصارى، والقوهم فيها. فاختفوا في بيوتهم، حتى لم يوجد منهم أحد في طريق ولا ممر، وشربوا مياه الآبار لامتناع السقائين من حمل الماء من النيل اليهم.
فلما شنع الأمر نودي في القاهرة ومصر الا يعارض أحد من النصارى أو اليهود، فلم يرجعوا عنهم. وحل بهم من ذلك بلاء شديد، كان أعظمه نكاية لهم أنهم منعوا من الخدم بعد إسلامهم، فإنهم كانوا فيما مضى من وقائعهم إذا منعوا من ذلك كادوا المسلمين لإظهار الإسلام، ثم بالغوا في إيصال الأذي لهم بكل طريق، بحيث لم يبق مانع يمنعهم لأنه صار الواحد منهم فيما يظهر مسلماً ويده مبسوطة في الأعمال، وأمره نافذ، وقوله ممتثل. فبطل ما كانوا يعملون، وتعطلوا عن الخدم في الديوان، وامتنع اليهود والنصارى من تعاطى صناعة الطب. وبدل الأقباط جهدهم في إبطال ذلك، فلم يجابوا اليه.
ثم لم يكف الناس من النصارى ما مر بهم حتى تسلطوا على كنائسهم ومساكنهم الجليلة التي رفعوها على أبنية المسلمين، فهدموها. فازداد النصارى واليهود خوفاً على خوفهم، وبالغوا في الاختفاء، حتى لم يظهر منهم أحد في سوق ولا في غير. ثم وقعت قصص على لسان المسلمين بدار العدل تتضمن أن النصارى استجدوا في كنائسهم عمال، ووسعوا بناءها، وتجمع من الناس عدد لا ينحصر، واستغاثوا بالسلطان في نصرة الإسلام، وذلك في يوم الاثنين رابع عشر رجب. فرسم لهم أن يهدموا الكنائس المستجدة، فنزلوا يداً واحدة وهم يضجون. وركب الأمير علاء الدين على بن الكوراني والى القاهرة ليكشف عن صحة ما ذكروه، فلم يتمهلوا بل هجموا على كنيسة بجوار قناطر السباع، وكنيسة للأسرى في طريق مصر، ونهبوهما وأخذوا ما فيهما من الأخشاب والرخام وغير ذلك، ووقع النهب في دير بناحية بولاق التكرور. وهجموا على كنائس مصر والقاهرة، وأخربوا كنيسة بحارة الفهادين من الجوانية بالقاهرة. وتجمعوا لتخريب كنيسة بالبندقانيين من القاهرة، فركب والي القاهرة، فركب والي القاهرة ومازال حتى ردهم عنها، وتمادى هذا الحال حتى عجزت الحكام عن كفهم.(2/215)
فلما كان في أخريات رجب بلغ الأمير صرغتمش أن بناحية شبرا الخيام كنيسة فيها أصبع الشهيد التي ترمى كل سنة في النيل، فتحدث مع السلطان فيه. فرسم بركوب الحاجب والوالي إلى هذه الكنيسة وهدمها، فهدمت ونهبت حواصلها، وأخد الصندوق الذي فيه أصبع الشهيد، وأحضر إلى السلطان وهو بالميدان الكبير قد أقام به كما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى. فأضرمت النار، وأحرق الصندوق. بما فيه، ثم ذرى رماده في البحر.
وكان يوم رمى هذا الأصبع في النيل من الأيام المشهودة، فإن النصارى كانوا يجتمعون من جميع الوجه البحري ومن القاهرة ومصر في ناحية شبرا، وتركب الناس المراكب في النيل، وتنصب الخيم التي يتجاوز عددها الحد في البر، وتنصب الأسواق العظيمة، ويباع من الخمر ما يودون به ما عليهم من الخراج، فيكون من المواسم القبيحة. وكان المظفر بيبرس قد أبطله كما ذكره، فأكذب الله النصارى في قولهم أن النيل لا يزيد ما لم يرم فيه أصبع الشهيد، وزاد تلك السنة حتى بلغ إلى أصبع من ثمانية عشر ذراعاً. ثم سعت الأقباط حتى أعيد رميه في الأيام الناصرية، كما تقدم، فأراح الله منه بإحراقه. وأخذ عباد الصليب في الإرجاف بأن النيل لا يزيد في هذه السنة، فاظهر الله تعالى قدرته، وبين للناس كذبهم، بأن زاد النيل زيادة لم يعهد مثلها كما سيأتي ذكره.
وكثرت الأخبار من الوجه القبلي والوجه البحري بدخول النصارى في الإسلام، ومواظبتهم المساجد، وحفظهم للقرآن، حتى أن منهم من ثبتت عدالته وجلس مع الشهود. فإنه لم يبق في جميع أعمال مصر كلها قبليها وبحريها كنيسة حتى هدمت، وبنى مواضع كثير منها مساجد. فلما عظم البلاء على النصارى، وقلت أرزاقهم، رأوا أن يدخلوا في الإسلام. ففشا الإسلام في عامة نصارى أرض مصر، حتى أنه أسلم من مدينة قليوب خاصة في يوم واحد أربعمائة وخمسون نفراً، وممن أسلم في هذه الحادثة الشمس القسى، والخيصم. وحمل كثير من الناس فعلهم هذا على أنه من جملة مكرهم، لكثرة ما شنع العامة في أمرهم، فكانت هذه الواقعة أيضاً من حوادث مصر العظيمة.
ومن حينئذ اختلطت الأنساب بأرض مصر، فنكح هؤلاء الذين أظهروا الإسلام بالأرياف المسلمات، واستولدوهن، ثم قدم أولادهم إلى القاهرة، وصار منهم قضاة وشهود وعلماء، ومن عرف سيرتهم في أنفسهم، وفيما ولوه من أمور المسلمين، تفطن لما لا يمكن التصريح به.
وفي يوم السبت ثاني عشري رجب: ركب السلطان إلى الميدان الكبير المطل على النيل، بعد كسر الخليج من العادة، وعاد من أخره إلى القلعة. ثم ركب السلطان السبت الثاني إلى الميدان. وأقامبه ومعه الأمير شيخو، والأمير طاز، والأمير صرغتمش، وبقية الأمراء الخاصكية. وعمل السلطان به الخدمة في يومي الإثنين والخميس، كما تعمل بالإيوان في القلعة، ولم يتقدمه أحد إلى مثل هذا.
وكانت العامة في طول إقامته بالميدان لا يبرحون على الحيطان للفرجة هناك، وتجمع منهم عالم عظيم، ونصبت هناك أسواق كثيرة، فصاروا يخوضون فيما لا يعنيهم ويتكلمون في الليل بكل فاحشة، في حق كبراء الدولة، ويقولون ليسمع السلطان: قم اطلع قلعتك، ما جرت بذا عادة، واحترس على نفسك، وإياك تأمن لأحد. فلما كثر هذا وشبهه من كلامهم، وسمعه منهم الأمراء، اشتد حنقهم، وأمروا مماليكهم فركبوا، وأوقعوا بهم ضرباً بالدبابيس والعصى، ففروا هاربين، والقوا أنفسهم في البحر، وتفرقوا في كل جهة. فقبض منهم جماعة، وأسلموا لوالى القاهرة، ورسم له بأن يتتبع غوغاء العامة حيث كانوا، فهجم أماكنهم، وقبض على جماعة كثيرة وسجنهم. فاظهر النصارى الشماتة بهم، وتجاهروا بأن هذا عقوبة من الله لهم بما فعلوه معهم. فشق هذا على الأمراء، وأمروا بأن يفرج عنهم حتى لا يشمت بهم أهل الكفر، فأطلقوا، وخرج عدة منهم إلى الأرياف.(2/216)
وركب السلطان في يوم السبت ثالث شعبان - بعد ما لعب بالكرة على عادته - إلى القلعة. فلما اسثقر بها حسن له ناظر الخاص أن ينقل ما بخزانة الخاص من التحف التي قدمها النواب وغيرهم إلى داخل الدار، فحملت كلها. ثم كتب ناظر الخاص أسماء جماعة لهم أموال، من جملتهم خالد بن داود مقدم الخاص، وأغرى السلطان به. فأخذ الأمير قجا أمير شكار في الدفع عن خالد، وكان يعنى به، ثم أعلم خالداً بما كان، فالتزم له خالد أن يحصل للسلطان أموالاً عظيمة من ودائع ابن زنبور أضعاف ما يطلب منه، على أن يعفى من تقدمة الخاص، وينعم عليه بإقطاع، ويبقى من جملة الأجناد فأتقن له أمير شكار ذلك مع السلطان، فأجاب السلطان سؤاله، واستدعى خالد والبسه الكلفتاه، ومكنه مما يريد. فنزل خالد وقبض على جماعة من الزام ابن زنبور، فدلوه على صندوق قد أودع عند قاضى الحنفية بالجيزة، فركب اليه، وأخذه منه، فوجد فيه مصاغاً وزراكش. فأخذ خالد في تتبع حواشي ابن زنبور حتى أخذ منهم ما ينيف على مائة ألف دينار، فاشتكى ناظر الخاص من فعله نكاية بالغة.
فلما كان في شهر رمضان خرج السلطان إلى ناحية سرياقوس على العادة، ومعه والدته وحريمه، وجميع الأمراء وغيرهم من أهل الدولة، وتأخر الأمير شيخو بإصطبله لوعك به. فكثر لهو السلطان ولعبه، وشغفه بالأمير جنتمر حتى أفرط، وجمع عليه الأمير قجا أمير شكار وأخوته.
ومال السلطان إلى جهة الأمير طاز وأعرض عن الأمير شيخو والأمير صرغتمش. وصار يركب النيل في الليل، ويستدعى أرباب الصنائع، من الطباخين والخراطين والقزازين، ونصب له نول قزازة، وعمل هذه الأعمال بيده، فكان إذا رأى صناعة من الصناعات عملها في أيسر زمن بيده. وعمل لخوند قطلوبك أمه مهما طبخ فيه الطعام بيده، وعمل لها جميع ما يعمل في الموكب السلطاني، ورتب لها الخدام والجواري، ما بين حمدارية وسقاة، ومنهم من حمل الغاشية والقبة والطريق وأركبها في الحوش بزي الملك وهيئة السلطنة. وخلع وأنفق، ووهب شيئاً كثيراً من المال. ثم شد في وسطه فوطة، ووقف فطبخ الطعام في هذا المهم بنفسه، ومد السماط بين يديها بنفسه، فكان مهما يخرج عن الحد في كثرة المصروف، فأنكر ذلك الأمير شيخو، وكتم ما في نفسه. فلما عاد السلطان في آخر الشهر من سرياقوس إلى القلعة، وقد بلغ شيخو أن السلطان قد اتفق مع إخوة طاز على أن يقبض عليه وعلى صرغتمش يوم العيد. وكان طاز قد توجه إلى البحيرة في هذه الأيام، بعد ما قرر مع السلطان ما ذكر، فركب السلطان في يوم الأحد أول شوال لصلاة العيد في الإصطبل على العادة، وقرر مع كلتاي وجنتمر واصر عمر ما يفعلونه، وأمر بمائة فرس فشدت وأوقفت، فلم يحضر شيخو صلاة العيد، وكان قد بلغه جميع ما تقرر، فباتوا ليلة الاثنين على حذر، وأصبحوا وقد اجتمع مع الأمير شيخو من الأمراء صرغمتش وطقطاى ومن يلوذ بهم، وركبوا إلى تحت الطبلخاناه، ورسموا للاصر علم بضرب الكوسات، فضربت حربياً. فركب جميع العسكر تحت القلعة بالسلاح وصعد الأمير تنكربغا والأمير أسنبغا المحمودي إلى القلعة، وقبضا على السلطان وسجناه مقيداً، فزال ملكه في أقل من ساعة وصعد الأمير شيخو ومن معه من الأمراء إلى القلعة، وأقامت أطلابهم على حالها تحت القلعة. وقبض الأمير شيخو على إخوة الأمير طاز، واستشار فيمن يقيمه للسسلطة، وصرح هو ومن معه بخلع الملك الصالح صالح، فكانت مدة سلطنته ثلاث سنين وثلاثة أشهر وثلاثة أيام، فسبحان من لا يزول ملكه.
السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاوون الالفي ولما قبض على الملك الصالح وخلع اقتضى رأى الأمير شيخو - وسائر الأمراء - إعادة السلطان حسن، لما كان يبلغهم عنه من ملازمته في مدة حبسه للصلوات الخمس والإقبال على الاشتغال بالعلم حتى إنه كتب بخطه كتاب دلائل النبوة للبيهقي.(2/217)
فاستدعوا الخليفة وقضاة القضاة، وأحضروا السلطان من محبسه، وأركبوه بشعار المملكة، ومشى الأمراء كلهم، وسائر أرباب الدولة في ركابه، حتى جلس على تخت الملك، وبايعه الخليفة، فقبلوا له الأرض على العادة، وذلك في يوم الإثنين ثاني شهر شوال. وبات الأمراء في الأشرفية من القلعة. وأرسل الأمير صرغتمش، والأمير تقطاى الدوادار، إلى الأمير طاز ليخبراه. مما وقع، فصارا اليه، ولقياه بالطرانة، وقد رجع. وبلغه الخبر، فعرفاه ما كان في غيبته، وأقبلا معه إلى حيث أرادا تعدية النيل، فأرسل الله ريحاً عاصفاً منعت المعادى من المسير. فأقاموا على الشط - والريح قوية - إلى بعد العصر، ثم عدوا إلى مدينة مصر.
ونزل الأمير طاز بالمدرسة المعزية ليفطر، فإنه كان صائماً. وبلغ إخوته ومن يلوذ به مجيئه، فأخذوا في تدبير أمورهم، فلم يجدوا إلى ذلك سبيلا، لاحتراز الأمير شيخو منهم، والتوكيل بهم. الا أن الأمير كلتا ركب في عدة من مماليكه - ومماليك أخيه الأمير طاز - يريد ملتقاه، فأنكر شيخو ذلك.
واتفق أن مماليكه ظفروا. بمملوكين من أصحاب كلتا لابسين، وأحضروهما إلى شيخو. فركب الأمير بلجك في عدة من مماليكه، والتقاه بعد العصر عند باب اصطبل طاز، فلم يطق محاربته. لكثرة جمعه، فرجع، فرموه بالنشاب وساروا إلى لقاء طاز. وبعث الأمير شيخو. بمماليك كل من الاصرين صرغتمش وتقطاى ليلتقوهما، فجدوا في المسير حتى لقوهما عند الرصد بعد المغرب، وهما مع الأمير طاز. فما هو الا أن أتت أطلاب الاصرين، رفس كل منهما فرسه، ودكس من جانب طاز، وصار في طلبه بين مماليكه، فإنهما كانا لما رأيا مماليك كلتا قد أقبلوا إلى لقاء طاز وهم ملبسين، خافا على أنفسهما. وفي الحال وقعت الضجة و لم يبق الا وقوع الحرب. فتفرقت مماليك طاز عنه لقلة عددهم، فإن الأطلاب صارت تتلاحق من قبل الأمير شيخو شيئاً بعد شيء، فطلب طاز أيضاً نجاة نفسه وولى بفرسه، فلم يعرف أين يذهب. وأقبلت الأمراء إلى الأمير شيخو، فأركب الأمير قطلوبغا الطرخانى في جماعة من الأمراء لحراسة الطرقات، فتفرقوا في عدة جهات، وبات بقية الأمراء في الأشرفية من القلعة، ووقفت عدة وافرة تحت القلعة.
وبات السلطات والأمير شيخو على باب الإصطبل، فكانوا طول ليلتهم في أمر مريج وظلوا يوم الخميس وليلة الجمعة كذلك. ففي أثناء ليلة الجمعة حضر الأمير تقطاى الدوادار - وصحبته الأمير طاز - إلى عند الأمير شيخو. وكان طاز قد التجأ إلى بيت تقطاى، فإن أخت طاز كانت تحته، فقام اليه الأمير شيخو وعانقه، وبكى بكاء كثيراً، وتعاتبا، وأقام عنده ليلته تلك. وركب به يوم الجمعة إلى القلعة، فأقبل عليه السلطان، وطيب خاطره، ورسم له بنيابة حلب، عوضاً عن الأمير أرغون الكاملى. فلبس طاز التشريف في يوم السبت سابعه، وسار من يومه ومعه الأمير شيخو وصرغتمش، وجميع الأمراء لوداعه، فسال أن تكون إخوته صحبته، فأجيب إلى ذلك، وأخرجوا اليه، بحيث لم يتأخر عنه أحد من حاشيته، وعاد الأمراء، ومضى لمحل نيابته. وسجن الملك الصالح صالح حيث كان أخوه الملك الناصر حسن مسجوناً.
ومن غريب ما وقع - مما فيه أعظم معتبر - أنه عمل الطعام للسلطان الملك الصالح ليمد بين يديه على العادة، وعمل الطعام للناصر حسن ليأكله في محبسه، فاتفق خلع الصالح في أق من ساعة وسجنه، وولاية أخيه حسن السلطنة عوضه، فمد السماط بالطعام الذي عمل ليأكله الصالح، فأكله حسن في دست مملكته، وأدخل الطعام - الذي عمل لحسن ليأكله في محبسه - على الصالح، فأكله في السجن الذي كان أخوه حسن فيه. فسبحان محيل الأحوال، لا اله الا هو.(2/218)
وفيها كان القبض على تاج الدين أحمد بن الصاحب أمين الملك عبد الله بن غنام، ناظر الخاص وناظر الجيش. وعددت له ذنوب، منها أنه لما ولى نظر الجيش - بعد علم الدين بن زنبور - تشدد فيه، مع سلوكه سبيل الأمانة على المعنى. بمنع المقايضات والنزولات، حتى قلت أرزاقهم. ثم لما ولى نظر الخاص بعد بدر الدين - مضافاً إلى الجيش - ثم مات الوزير موفق الدين، مالط إلى جهة طاز والملك الصالح، وأوقع في ذهنهما أنه لا يتمكن من عمل مصالح السلطان مع تحدث الأمير شيخو في أمور الدولة. فنقل ذلك إلى شيخو وصرغتمش، فقام صرغتمش على شيخو حتى استعفي من التحدث في أمور الدولة، وقلدوا السلطان أمرها، فاستقل بالتدبير وحده. وجعل الأمير طاز كأنه يتحدث عنه من غير إظهار ذلك، فاتفق مع الأمير طاز على توفير جملة من المعاليم المستقرة للمباشرين، فوفر منها ما تقدم ذكره، و لم يراع أحداً، فتنكرت القلوب له. ونقل مع هذا الأمير شيخو عنه أنه أغرى الملك الصالح به. وعرفه كثرة متاجره وأمواله، حتى تنكر عليه وعلى الأمير صرغتمش. فلما توطدت دولة الملك الناصر حسن، تفرغ الأمير شيخو لناظر الخاص. وعندما خرج من خزانة الخاص بالقلعة أخذ ووضع في رقبته باسة وجنزير، وكشف رأسه، وتناولته أيدي الناس يضربونه بنعالهم، وهم خدام السلطان ومماليكه بقتله، فلولا من هو موكل به، لأتوا على نفسه، ومازالوا به حتى أدخلوه قاعة الصاحب بالقلعة. وماجت القاهرة ومصر بأهلها لسرورهم بذلك، فكان يوماً معدوداً. ووقع الطلب عليه بحمل المال، وبسطت عليه العقوبات بأنواعها. وتولى تعذيبه عدوه خالد بن داود، فقبض على أخيه كريم الدين ناظر البيوت، وعلى الزامه وأصهاره وأتباعه. وولى مجد الدين موسى الهذبانى شاد الدواوين، فعظمت مصيبتهم وجلت بلاياهم، فإنه أدخل على تاج الدين. بمزين حلق رأسه ثم شق جلدة رأسه بالموسى، وحشى جراحاته من الخنافس. ثم البس رأسه طاسة من نحاس قد أوقد عليه بالنار، حتى اشتدت سخونتها، فعندما أحست الخنافس بالحرارة سعت لتخرج، فلم تجد سبيلاً، فجعلت تنقب في جراحات رأسه حتى هلك، بعد ما رأى في نفسه العبر من كثرة تنوع العذاب الاليم عليه. واعتزل بخبيئة في داره، فنزل الأمير قشتمر الحاحب، ومجد الدين الهذبانى - شاد الدواوين - وخالد بن داود اليها، فوجدوا ستة الاف دينار. وأبيع موجوده، وهدمت داره، فكانت جملة ما أخذ منه عشرة الاف دينار.
واستقر عوضه في نظر الخاص والجيش علم الدين عبد الله بن نقولا، كاتب الخزانة. واستقر كريم الدين أكرم بن شيخ في نظر الدولة ونظر البيوت. واستقر الفخر ابن السعيد - صاحب ديوان الجيش - في كتابة الخزانة عوضه.
وفي هذا الشهر: قدم الأمير أرغون الكاملى نائب حلب، فأكرم إكراماً زائداً، وخلع عليه، وأنعم عليه بإقطاع الأمير طاز من غير زيادة، وهي منية ابن خصيب وناحية أخرى.
وفي يوم الأربعاء سابع عشر ذي القعدة: أخرج الأمير أسندمر العمرى لنيابة حماة، ونقل الأمير سيف الدين طبيرق نائب حماة إلى إمرة بدمشق. ونقل الأمير منجك من صفد إلى نيابة طرابلس، عوضاً عن أيتمش الناصري بعد وفاته.
وفي هذا الشهر: ركب السلطان إلى جهة الأهرام، وعاد فدخل إلى بيت الأمير شيخو، يعوده وقد وعك، فقدم له تقدمة جليلة.
وفيه خلع على الأمير صرغتمش، واستقر في نظر المارستان المنصوري، وكان قد تعطل نظره من متحدث تركي، وانفرد بالكلام فيه القاضي علاء الدين على بن الأطروش وفسد حال وقفه، فإنه كان يكثر من مهاداة أمراء الدولة ومدبريها، ويمهل عمارة رباعه حتى تشعثت فنزل اليه الأمير صرغتمش، ودار فيه على المرضى، فساءه ما رأى من ضياعهم، وقلة العناية بهم، فاستدعى القاضي ضياء الدين يوسف بن أبى بكر بن محمد بن خطيب بيت الآبار وعرض عليه التحدث في المارستان كما كان، عوضاً عن ابن الأطروش. فامتنع من ذلك، فمازال به حتى أجاب. وركبا إلى أوقاف المارستان بالمهندسين، لكشف ما يحتاج اليه من العمارة، فكتب تقدير المصروف ثلاثمائة ألف درهم، فرسم بالشروع في العمارة، فعمرت الأوقاف حتى ترفع ما فسد منها، ونودى بحمايه من سكن فيها، فزاد ريع الوقف في الشهر نحو أربعين ألف درهم، ومنع من يتعرض اليهم، وانصلحت أحوال المرضى أيضاً.(2/219)
وعرض الأمير صرغتمش جميع مستحقى الوقف من الفقهاء والقراء وغيرهم، وأكثر من سؤالهم، ونقب عن أمورهم، والزمهم بمواظبة وظائفهم.
وفيها انفتح باب السعي عند الأمير شيخو بالبراطيل في الولايات، فسعى جماعة بأموال في عدة جهات، فأجيبوا إلى ذلك، وقرروا فيما أرادوه، وأخذ منهم ما وعدوا به، منهم حاجي أستادار ظهير بغا، استقر في ولاية قوص بمائتين وخمسين ألف درهم، قام بها للسلطان والأمراء. واستقر أيضاً ناصر الدين عمد بن إياس بن الدويدارى في كشف الوجه البحري، عوضاً عن عز الدين أزدمر الأعمى بنحو ستة الاف دينار.
وكان أزدمر قد عمى من اثنتي عشرة سنة، وهو لا يظهر أنه أعمى، ويركب، ويكبس البلاد، ويحضر الخدمة السلطانية مع الأمراء، وله مملوك يكون معه حيث سلك، يعرفه ما يريد، وإذا رأى أحداً يقصده يعرفه به، فيستقبله من بعد ويسلم عليه كأنه يراه. وكذا إذا جلس للحكم أرشده سراً لما لابد منه. ومع ذلك فقد كان لطول مدته وتمرنه صار يعرف أكثر أحوال العربان، ويستحضر أسماءهم، فيقوى بذلك على تمشية أموره، بحيث يخفي على أكثر الناس عماؤه، وأنعم عليه بإمرة طبلخاناه.
وفيها خرج ركب الحجاج الرجبية، صحبة الأمير عز الدين أزدمر الخازندار، ونزل بركة الجب على العادة في يوم الاثنين حادي عشرين رجب. وسافر فيه الطواشي شبل الدولة كافور الهندي، وقطب الدين هرماس وجماعة من الأعيان. فلما وصل الركب إلى بدر، لقيهم قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة، وقد توجه من المدينة النبويه - وكان مجاوراً بها - يريد مكة ليصوم بها شهر رمضان. وعند نزولهم بطن مرو لقبهم الشريف عجلان أمير مكة. فخلع عليه، ومضوا إلى مكة، فدخلوها معتمرين يوم الخميس تاسع عشرين شعبان، فنودي من الغد مستهل رمضان الا يحمل أحد من بنى حسن والقواد والعبيد سلاحاً بمكة، فامتنعوا من حمله. وكان الرخاء كثيراً كل غرارة قمح - وهي سبع ويبات مصرية - بثمانين درهماً، والغرارة الشعير بخمسين درهماً. الا أن الماء قليل، بحيث نزحت الآبار وانقطعت عين جوبان ، فأغاثهم الله بمطر عظيم رووا منه. وحضر أبو القاسم محمد بن أحمد اليمنى - إمام الزيدية الذي ضربه عمر شاه أمير الركب في السنة الخالية - إلى قاضى القضاة عز الدين بن جماعة تائباً مما كان عليه من مذهب الزيدية، فعقد له مجلس بالحرم، حضره أمير الركب وعامة أهل مصر ومكة، وأشهدهم أنه رجع عن مذهب الزيدية، وتبرأ إلى الله تعالى من إباحة دماء الشافعية وأموالهم، وأنه يواظب على صلاة الجمعة والجماعة مع أئمة الحرم، وإن خرج عن ذلك فعل به ما تقتضيه الشريعة، وكتب خطه بذلك،. فقال بعضهم:
استتوبوا الزيدى عن مذهب ... قد كان من قبل به معجبا
لو لم يدارك نفسه بتوبة ... لعجل الله له مذهبا(2/220)
وهبت الريح بمكة من قبل اليمن، أظلم عقبيها الحرم، وفشث الأمراض في الناس، حتى لم يكن أحد الا وبه وعك، الا أنه كان سليماً يحصل البرء منه بعد أسبوع. فلما كان شهر شوال ظهر بعد العشاء الآخرة من قبل جبل أبي قبيس، كوكب في قدر الهلال، وأكثر نوراً منه، ومر على الكعبة ثم اختفي بعد ثلاثة درج، فسمع من فقير يماني وهو يقول: لا اله الا الله، القادر على كل شيء، هذا يدل على رجل يكون في شدة، يفرج الله عنه، ورجل يكون في فرج يصير إلى شدة، والله يدبر الأمر بقدرته. وقدم الخبر في أخريات شوال بخلع الصالح وإعادة السلطان حسن، وكان اتفق أيضاً أن الشيخ المعتقد أبا طرطور قال يوماً: لا اله الا الله، اليوم جلس حسن في دست مملكة مصر. ولم يكن عنده سوى الشيخ قطب الدين أبى عبد الله محمد بن أبى الثناء محمود ابن هرماس بن ماضي القدسي، المعروف بالهرماس فقام من فوره إلى أمير الركب عز الدين أزدمر وقاضى القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة وهما بالحرم، فجلس اليهما، ثم أطرق ورفع رأسه وقال: لا اله الا الله، اليوم جلس الملك الناصر حسن في دست مملكة مصر عن الملك الصالح صالح، فور خوا ذلك عندكم. فورخه الأمير عز الدين أزدمر. وقدم الخبر بخلع الصالح وجلوس الناصر حسن في ذلك اليوم بعينه. فمن حينئذ ارتبط الأمير عز الدين أزدمر على الهرماس، وأوصله للسلطان حسن حتى بلغ ما بلغ، ظناً منه أن الكلام المذكور كان من قبله على جهة الكشف، وما كان الا مما تلقفه من الشيخ أبي طرطور، فنسبه إلى نفسه.
وفيها كان من زيادة النيل ما يندر وقوع مثله، فإنه انتهى في الزيادة إلى أصابع من عشرين ذراعاً، فقيل خمسة، وقيل سبعة، وقيل عشرون أصبعاً، من عشرين ذراعاً، ففسدت الأقصاب والنيلة ونحوها من الزراعات، وفسدت الغلال التي بالمطاصر والأجران والمخازن، وتقطعت الجسور التي بجميع النواحي، قبليها وبحريها، وتعطلت أكثر الدواليب وتهدمت دور كثيرة مما يجاور النيل والخلجان، وغرقت البساتين، وفاض الماء حتى بلغ قنطرة قديدار فكانت المراكب تصل من بولاق اليها، ويركب الناس في المراكب من بولاق إلى شبرا ودمنهور.
وغرقت كوم الريش، وسقطت دورها، فركب الأمير علاء الدين على بن الكوراني والي القاهرة، والأمير قشتمر الحاحب، وجماعة. وقطعت أشجار كثيرة، وعمل سد عظيم، حتى رجع الماء عن الحسينية بعد ما أشرفت على الغرق، فإن المطرية والاصرية والمنيا وشبرا مع جميع الضواحي بقوا ملقة واحدة متصلة بالنيل الأعظم، فعز التبن بالنواحي لتلفه كله، وبلغ كل حمل عشرين درهماً في الريف، ووصل في القاهرة كل حمل إلى خمسة وأربعين درهماً، ثم انحط إلى خمسة وعشرين درهماً. وتحسنت الأسعار، فبلغ الأردب القمح إلى ستة وثلاثين درهماً، والأردب الشعير إلى عشرين درهماً، والأردب الفول إلى ستة عشر درهماً. وشرق مع ذلك كثير من بلاد الفيوم، فإن جسرها انقطع، فتوجه الأمير ناصر الدين محمد بن المحسنى والأمير مجد الدين موسى الهذبانى، والأمير عمر شاه - كاشف الجسور - وغيره، حتى سدوه وجبوا من بلاد الفيوم ثلاثمائة ألف درهم، وبنوا زريبة حجر موضع الجسر، حتى أتقنوه، ثم عادوا. وغلا البرسيم الأخصر حتى بلغ الفدان بالضواحي إلى مائتين وخمسين درهماً، وفي غيرها إلى مائتين، من قلة الأتبان. وانحط سعر العسل والسكر، وتلفت الفواكه جميعها وهلكت أشجار أكثر البساتين.
ومات في هذه السنة من الأعيان ممن له ذكر
الأمير سيف الدين أيتمش المحمدي الناصري نائب طرابلس في رمضان ترقى في الخدم إلى أمره الناصري قريباً من سنة أربع وعشرين، ثم ولى حاجباً في المحرم سنة أربع وأربعين، وانتقل منها إلى الوزارة في شهر رمضان منها، فاستمر إلى سنة خمس وأربعين وأعيد إلى الحجابة. فلما قتل أرغون شاه نائب دمشق استقر عوضه، فقدم دمشق في جمادى الآخرة سنة خمسين، وأقام بها إلى رجب سنة اثنتين وخمسين، فدعى إلى مصر، وقبض عليه بها، وسجن بالإسكندرية، ثم أفرج عنه بعد يسير، وأخرج إلى صفد، ومنها لحق بيبغ روس فأشار عليه بخبره. فلما قدم السلطان إلى دمشق، وعرفت سيرته الحسنة، ولى نيابة طرابلس، فمات بها. وكان لين العريكة، وطى الجانب.(2/221)
ومات الأمير علاء الدين مغلطاي - أمير شكار واصر أخور - بطالا بدمشق. كان من خواص الناصري، فترقى في خدمته، حتى صار رأس نوبة كبير أمير مايه، واستقر أمير شكار واصر آخور، ثم قبض عليه وأخرج إلى طرابلس، ثم نقل إلى دمشق، فمات بها في عاشر رمضان، وكان حاد الخلق.
ومات جمال الدين أبو الطب الحسين، ابن قاضى قضاة دمشق تقي الدين أبى الحسن على بن عبد الكافي بن على بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام الأنصاري السبكي، بدمشق، في يوم السبت ثاني شهر رمضان، ومولده. بمصر سنة إحدى وعشرين. كتب بديوان الإنشاء في وزارة أبيه، ثم ولى استيفاء الصحبة. وتقلد في سنة تسع وثلاثين إلى نظر الدولة، واستقر عوضه في استيفاء الصحبة أخوه كريم الدين، حتى أمسك مع أبيه في نوبة النشو وعوقبوا. ثم توجه بعد موت أبيه إلى القدس وأقام به مدة. ثم طلب وولى نظر البيوت، فاستعفى منها، وولى نظر النظار بالشام. ثم استعفى منها أيضاً وقدم القاهرة حتى ولى نظر الجيش بعد ابن زنبور، وأضيف اليه نظر الخاص وكان فاضلاً كريماً درس بعدة مواضع.
توفي تاج الدين أبو الفضايل أحمد بن الصاحب أمين الملك عبد الله بن غنام في رابع شوال تحت العقوبة، كما تقدم. وهو أحد كتاب مصر المعدودة، وكان يخدم جريدته بيده، ولا يحتاج إلى كشف عامل ولا غيره، بل يكاد أن يعمل محاسبة كل أحد من ذهنه لفرط ذكائه وشدة فطنته، مع العفة والأمانة، أو التشدد على الناس، والتوفير من الأرزاق حتى لم يعهد أنه جرى على يده رزق لأحد، بل ما برح يومر المال للسلطان إلى أن كان من أمره ما كان. وكان لا يراعى أحداً، ولا يحابى، ويكثر من المحاققة والضبط.
توفي الأمير سيف الدين أياجى نائب قلعة دمشق وتوفى الشريف علاء الدين أبو الحسن على بن عز الدين حمزة بن الفخر على بن الحسن الحسن بن زهرة بن الحسن بن زهرة الحسيني الحلبي، نقيب الأشراف بحلب. قدم القاهرة، وكتب بديوان الإنشاء مدة، ثم عاد إلى حلب، وولى وكالة بيت المال ونقابة الأشراف لها حتى مات، وقد أناف على السبعين.
وتوفي الوزير الصاحب، موفق الدين، أبو الفضل، هبة الله بن سعيد الدولة إبراهيم، في يوم الجمعة ثاني عشرين ربيع الآخر. وكان كاتباً مجيداً مشكور السيرة. له بر ومعروف. باشر أولاً نظر الدولة ثم تنقل إلى الوزارة فلم يزل وزيراً حتى مات، ودفن بتربته من القاهرة، وكانت جنازته حفلة.
وتوفي متملك الأندلس أبو الحجاج يوسف بن إسماعيل بن فرج بن الأحمر في صلاة عيد الفطر، طعن بخنجر وهو ساجد، فكانت منيته.
وتوفي قاضي القضاة المالكية ببلاد الشرق عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار بن أحمد الإيجي المطرزي المعروف بالعضد الشيرازي الشافعي مسجوناً في سخط صاحب كرمان ومولده سنة ثمانين وستمائة. وله شرح مختصر ابن الحاجب في الأصول صلى الله عليه وسلم المواقف، وكتاب القواعد الغياثية. وكان إماماً في المعقولات والنحو والأصول والمعاني والبيان، مشاركاً في الفقه. وله سعادة ضخمة، وكلمة نافذة. وولاه أبو سعيد القضاء وسكن سلطانية ثم شيراز. وبينه وبين فخر الدين أحمد بن الحسن الجاربردى مناظرات.
سنة ست وخمسين وسبعمائة
في المحرم: شرع الأمير شيخو في هدم أملاك ابتاعها بخط صليبة جامع ابن طولون. فكانت مساحتها زيادة على فدان، واختط موضعها خانكاه، وحمامين وحوانيت، يعلوها رباع. وجد في بنائها بحيث أنه عمل فيها بنفسه ومماليكه، حتى انتهت عمارتها، وأشهد عليه بوقفها. ووقف عليها عدة جهات بأرض مصر والشام. ورتب بها دروس الفقه للمذاهب الأربعة، وشيخاً للصوفية، ومدرساً للحديث النبوي، وشيخاً لإقراء القرآن الكريم بالقراءات السبع، وغير ذلك من الفراشين والقومة والمباشرين.(2/222)
وشرط على الفقهاء والصوفية الا يتزوج منهم الا طائفة عينهم من كل مذهب، وأن يقيم العزاب بالخانكاه ليلاً ونهاراً. وشرط الا يكون فيهم ولا منهم قاض ولا شاهد، يتكسب بتحمل الشهادة. فلما كان يوم عرفة منها ركب في جماعة الأمراء وأعيان الدولة وقضاة القضاة ومشايخ العلم إلى هذه الخانكاه. وقد قرر في تدريس الشافعية بهاء الدين أحمد ابن الشيخ الإمام تقي الدين على بن عبد الكافي السبكي، والشيخ خليل الجندي في تدريس المالكية، والقاضي ناصر الدين نصر الله في تدريس الحنابلة، شريكاً لقاضي القضاة موفق الدين عبد الله الحنبلي. والقى المدرسون الثلاثة دروس الفقه على مذاهبهم، وطلبتهم قد تحلقوا بين أيديهم فيما بين الظهر إلى العصر. فلما صلوا العصر فرش الأمير شيخو سجادة مشيخة التصوف بيده، وأجلس الشيخ أكمل الدين محمد بن محمود الحنفي عليها. ثم لما انقضى الحضور انفضوا. فكان يوماً مشهوداً. و لم يسخر في بنائها أحد من المقيدين الذين بالسجون، كما هي عادة أمراء الدولة في عمايرهم، ولا سخر من الناس أحداً بغير أجرة في شيء من أعمال هذه الخانكاه، بل كانت توفى للعمال أجرهم. وأنشد أدباء العصر في هذه الخانكاه عدة أشعار، منها قول الأديب صلاح الدين صلاح بن الزين لبيكم:
لقد شاد شيخو خانكاه بديعة ... تفوق على الروض المكلل بالندا
بناها ولم يعمل بها من مقيد ... ولكن على أهل الوظايف قيدا
وقال الأديب شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يحيى بن أبي بكر بن عبد الواحد الشهير بابن أبي حجلة المغربي، من مقامه عملها في الخانكاه المذكورة:
ومدرسة للعلم فيها مواطن ... فشيخو بها فرد وإيثارة جمع
لئن بات فيها في القلوب مهابة ... فواقفها ليث وأشياخها سبع
وفي يوم الإثنين ثاني صفر: عزل تاج الدين محمد بن علم الدين محمد بن أبى بكر الأخنائي، عن قضاء المالكية بالقاهرة، واستقر في نظر خزانة الخاص، عوضاً عن ابن الجوجرى، وخلع عليه.
واستقر في قضاء المالكية الشيخ نور الدين أبو الحسن على بن عبد النصير بن علي السخاوي، فمرض بعد شهر ولزم الفراش حتى مات بعد اثنين وسبعين يوماً، بعد ما أفاق من مرضه إفاقة. وبلغه أنه لما أيس منه عزل، فسال الأمير شيخو أن بجدد السلطان له ولاية، فخلع عليه، وعمل الأمير شيخو وليمة لعافيته، فمات يوم الثامن من الوليمة، فاستدعى تاج الدين الإخنائي وخلع عليه، وأعيد إلى قضاء القضاة المالكية مع نظر خزانة الخاص، فاستناب في نظر الخاص أخاه برهان الدين إبراهيم.
وفيه كتب توقيع لتاج الدين عبد الوهاب بن تقي الدين على السبكي بأن يكون نائباً عن أبيه في قضاء القضاة بدمشق، ومستقلاً بعد وفاته. ورسم بحضور التقى إلى القاهرة، بسعى ولده بهاء الدين أحمد في ذلك، فكتم التقى عن أهل دمشق هذا وخرج - وهو مريض - في محفة ليزور القدس، فقدم القاهرة وقد اشتد مرضه، فمات بعد أيام. واستقر عوضه في قضاء القضاة بدمشق ابنه تاج الدين عبد الوهاب.
وفي يوم الإثنين تاسع صفر: قبض على الأمير أرغون الكاملي خوفاً من شره، وسجن بالإسكندرية. واستقر كريم الدين أكرم ابن شيخ في نظر الدولة، وأعيد شهاب الدين أحمد بن ياسين بن محمد الرياحي إلى قضاء المالكية بحلب، بعد وفاة زين عمر بن سعيد يحيى التلمستاني المغربي. واستقر خالد بن داود شاد الدواوين بأمرة عشرة، ولبس الشربوش في يوم عاشرة واستقر الحاج محمد بن يوسف مقدم الدولة عوضاً عن الحاج أحمد بن زيد. والزم ابن زيد بحمل ثلاثمائة ألف درهم، فحملها، فتتبع ابن يوسف أثاره حتى أظهر له من دفائن وودائع نحو أربعمائة ألف درهم. ثم صرف ابن يوسف وأعيد ابن زيد. وقبض على ابن يوسف، وعلى خالد بن داود شاد الدواوين وسلما لأحمد بن زيد، فعاقبهما والزمهما بحمل المال، فلم يزل خالد في العقوبة حتى مات وأنعم السلطان على ولده الأمير أحمد بإمرة مائة تقدمة الف، وأفرد له ديواناً.
وقدم الخبر بهجوم الفرنج على طرابلس الغرب، وأخذها، وقتل عامة أهلها. فلما بلغ ذلك أبو عنان فارس بن أبى الحسن علي بن يعقوب - متملك فاس - اشتراها من الفرنج. بمال كبير وعمرها.(2/223)
وفيه سافر الأمير عمر شاه إلى الصعيد، وقد خرج سودى بن مانع وأخوه عن الطاعة، فأخذهما ووسطهما في عدة من أصحابهما، وعاد.
وفيه قدم أولاد قراجا بن دلغادر بتقادم، فأعيد كبيرهم إلى الإمرة.
وقدم الأمير فياض بن مهنا بقول جليل، فأكرم، وأجريت له الرواتب على العادة، فشفع في الشريف ثفبة، فأفرج عنه وعن أخيه وابن عمه مغامس فأقاموا مدة قليلة، ثم فر ثقبة إلى مكة، فطلب فلم يقدر عليه.
وفي سابع جمادى الأولى: أعيد تاج الدين محمد الأخنائي إلى قضاء المالكية، بعد موت نور الدين على السخاوى.
وفي يوم الأربعاء سادس جمادى الأخر: ولد للاصر شيخو ولد ذكر من أبنة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، فاحتفل احتفالاً زائد في عقيقته ومات الوليد بعد أيام، وعميت أمه عقيب ولادته. وفي خامس عشره قطعت يد الشريف المزور، وضرب أصحابه بالمقارع وشهروا، وكان في التزوير ومحاكاة الخطوط عجباً، وسجن بسبب ذلك مراراً.
وفيه سقط مطر في غير أوانه، عم الوجه البحري، ونزل معه برد قتل عدة أغنام كثيرة، بلغ وزد البردة أوقية وأوقيتين، ومنها ما نزل في قدر الرغيف الكبير. وتلف زرع كثير من السيل وهبت قبل هذه، المطرة ريح عاصفة غرق منها عدة مراكب.
وفي هذه السنة: ابتدأ الأمير صرغتمش في هدم مساكن بجوار الجامع الطولوني، واختط موضعها مدرسة في خامس رمضان، وكشف أوقاف الجامع بنفسه، ورم شعثها.
وقدم الخبر بأن في شهر ربيع الآخر أمطرت السماء بأرض الروم برداً أهلك منه نحو مائة وخمسين قرية، فجعلها دكاً، وكاد وزن البردة الواحدة نحو رطل وثلث بالحلبي، وذلك في شهر نيسان.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ومات في هذه السنة من الأعيان ممن له ذكر شهاب الدين أحمد بن حسن بن محمد بن عبد العزيز بن محمد بن الفرات المالكي - موقع الحكم - في ليلة الاثنين عاشر ذي القعدة، وكان عاقلاً ديناً فاضلاً.
وتوفي الشيخ الإمام قاضى القضاة بدمشق، تقي الدين أبو الحسن على بن زين الدين عبد الكافي بن على بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام بن حامد بن يحيى بن عمر بن عثمان بن سوار بن سليم الأنصاري السبكي بحزيرة النيل من شاطىء النيل خارج القاهرة، في ليلة الإثنين رابع جمادى الآخر. ومولده في صفر سنة ثلاث وثمانين وستمائة بناحية سبك من المنوفية، أحد أعمال مصر. قرأ القراءات على التقى الصايغ، والتفسير على العلم العراقي، وسمع على الحافظ الدمياطي، وتفقه للشافعي، وولى قضاء دمشق بعد الجلال القزويني في تاسع عشر جمادى الآخرة سنة تسع وثلاثين وسبعمائة، وانتهت اليه رياسة العلم.
وتوفي قاضى القضاة المالكي نور الدين أبو الحسن علي بن عبد النصير بن علي السخاوي المالكي، ليلة الإثنين رابع جمادى الأولى، ودفن بالقرافة.
وتوفي زين الدين أبو حفص عمر بن سعيد بن يحيى التلمساني المالكي، قاضي قضاة المالكية بحلب، عن نيف وستين سنة، منها في قضاء حلب نحو خمس سنين.
وتوفي تاج الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد المنعم بن عبد العزيز بن عبد الحق السعدي البارنباري، كاتب سر طرابلس، وله شعر جيد.
وتوفي الأديب الشاعر شمس الدين أبو عبد الله محمد بن يوسف بن عبد الله، يلقب بالضفدع، ويشهر بالخياط، الدمشقي في طريق الحجاز. قدم القاهرة، ومدح الأعيان، وجمع شعره في عدة أجزاء، وتكسب بتحمل الشهادة في دمشق. وكان لا يؤمن هجوه لطول لسانه وتعرضه لكل أحد.
وتوفي العلامة شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يوسف بن محمد الحلبي النحوي المقرىء، الفقيه الشافعي، المعروف بابن السمين في عاشر جمادى الآخرة. قرأ النحو على أبى حيان، والقراءات على التقى الصايغ، وسمع بآخره من يونس الدبابيسي، وتصدر للإقراء بجامع ابن طولون. وناب في الحكم بالقاهرة، وولى نظر الأوقاف، وصنف تفسير القرآن فأطال فيه جداً حتى جاء في عشرين سفراً كباراً، وصنف إعراب القرآن، وشرح التسهيل والشاطبية. وكان فقيهاً بارعاً في النحو والتفسير وعلم القراءات، وتكلم في علم الأصول، وكان خيراً ديناً.
وتوفي فخر الدين عثمان بن علم الدين يوسف بن أبي بكر بن محمد الأنصاري النويري المالكي، في ذي الحجة. ومولده سنة ثلاث وستين وستمائة. وحفظ الموطأ، وسمع على جماعة. بمصر والشام والحرمين، وتفقه، ودرس وأفتى، وأحكم المذهب. وكان كثير الحج والمجاورة والتاله.(2/224)
ومات الأمير قبلاى النائب، يوم الأربعاء ثالث ربيع الأول.
ومات شهاب الدين، شاهد الجيش، يوم الإثنين ثالث عشرين صفر.
ومات زين الدين الخضر بن تاج الدين محمد بن زين الدين الخضر بن جمال عبد الرحمن بن علم الدين سليمان بن نور الدين على المعروف بابن الزين خضر في آخر ربيع الأول. ومولده سنة عشر وسبعمائة. سمع على الحجاز وقرأ في النحو وغيره، وكتب في الإنشاء ونوه به كاتب السر علاء الدين على بن فضل الله، واعتمد عليه، وأقره يكتب بين يدي نائب السلطة، وكان يكتب سريعاً من رأس القلم ما شاء، وكان ينطق بالجيم كافاً.
ومات الأمير ملك آص، في ثامن عشر رمضان بدمشق، وكان جاشنكير ثم ولى شاد الدواوين بدمشق، ونيابة جعبر، وسجن بالإسكندرية، ثم أقام بدمشق بطالا حتى مات.
ومات الأمير قردم بدمشق يوم الأحد تاسع عشر شهر رمضان. كان أمير أخور، ثم أخرج إلى دمشق بطالا، وقبض عليه، ثم صار بدمشق من جملة الأمراء حتى مات. والله تعالى أعلم بالصواب.
سنة سبع وخمسين وسبعمائة
فيها ولى أويس بن الشيخ حسن بن أقبغا بن أيلكا لسطان بغداد بعد موت أبيه.
وولى كمال الدين أبو القاسم عمر بن الفخر، بن عمرو، عثمان بن هبة الله المعري، قضاء القضاة الشافعية بحلب، بعد وفاة نجم الدين محمد الزرعي.
وهجم على طرابلس الشام الفرنج في عدة شوانى، وأفسدوا ثم عادوا.
ووقع حريق بمدينة دمشق، فتلف منه عدة مواضع، ظاهر باب الفرج، منها ستمائة حانوت سوى البيوت، عدم فيها ما تزيد قيمته على ألف الف درهم. ثم وقع حريق آخر بالعقيبة - ثم حريق آخر بالصالحية، وحريق أخر داخل باب الصغير، مثل الحريق الذي بباب الفرج. ثم وقع في أماكن أخرى من البلد.
واستولى الفرنج على صيدا، وقتلوا وأسروا، وقتل منهم أيضاً جماعة وعادوا.
وفي شهر ربيع الأول: هبت بالقاهرة ومصر ريح غريبة، من أول النهار إلى المغرب، اصفر منها الجو، ثم احمر ثم اسود. واستمرت الريح إلى نصف الليل، فسقطت عدة أماكن، وامتلأت الأرض من تراب أصفر، ثم أمطرت السماء وسكن الريح.
وفي جمادى الأولى: ظهر كوكب له ذؤابة، وكان كبيراً مضيئاً.
وفيها كمل بناء مدرسة الأمير صرغتمش، بجوار جامع أحمد بن طولون. ورتب في تدريس الحنفية بها قوام الدين أمير كاتب بن أمير عمر بن أمير غازي أبو حنيفة الفارابي الأتقائي الحنفي، وقرر عنده عدة من طلبة الحنفية، وشرط أن يكونوا أفاقية، وعمل بها درسا للحديث النبوي، وحضر في يوم الثلاثاء تاسعه صرغتمش، ومعه الأمراء، والقضاة والمشايخ، فألقى القوام الدرس، ثم مد سماط جليل، وملئت البركة سكرا مذابا، فأكل الناس وشربوا، ثم انفضوا.
وفيها يقول العلامة شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن الصايغ الحنفي:
ليهنك يا صرغتمش ما بنيته ... لأخراك في دنياك من حسن بنيان
به يزدهي الرخيم كالزهر بهجة ... فلله من زهر ولله من بان
وقال النقيب صلاح الدين صلاح بن الزين لبيكم الرفاعي:
صَرْغَتمش قد شاد يا حبذا ... مدرسة بديعة فائقة
كأنها من حسنها جنة ... وقد غدت قبابها شاهقة
وقد حكى رخامها روضة ... أزهارها من طيبها عابقة
وقال الشهاب أحمد بن أبى حجلة:
فلها به فضل على الأقران ما ... بالبان في الأغصان فضل البان
وقد أنبت الترخيم في محرابها ... زاهراً كدر قلائد العقيان
فكأنه كسرى أنو شروان قد ... وضعوا عليه التاج في الإيوان
لو لم يبت وأبو حنيفة شيخها ... ماشبهت بشقائق النعمان
حبر يطوف بمصر بحر علومه ... حتى كأن الناس في طوفان
يثنى إليه العلم فضل زمانه ... وأبو حنيفتنا الإمام الثاني
وفيها أمر بإحضار الشيخ جمال الدين محمد بن محمد بن محمد بن نباتة المصري من دمشق، فقدم القاهرة، فلم ينجح سعيه وأقام خاملاً.
وفيها وقع حريق عظيم ببلاد الساحل، وأراضي كسروان من بلاد الشام، عم من بلاد طرابلس إلى معاملة بيروت، أتلف كثيراً من الوحش والأمتعة، وشجر الزيتون. وكان عجباً من العجب، فإن ورقة من شجرة سقطت في بيت فاحترق جميع ما فيها، واستمرت ثلاثة أيام، ثم وقع مطرا فأطفاه.(2/225)
وفيها عمرت مدينة عمان من البلقاء للأمير صَرْغَتمش، ونقل إليها الولاية والقضاء من حسبان، وجعلت أم تلك البلاد. وهي بلد قديم من بناء عمان ابن أخي لوط، بناها بعد هلاك قوم لوط. وقيل هي مدينة دقيانوس الملك الذي أخرج منها أصحاب الكهف، والرقيم هناك موضع معروف، وبها ملعب سليمان بن داود عليهما السلام.
وفيها ولى شيخنا الشيخ جمال الدين عبد الرحيم الأسنوي وكالة بيت المال، بعد وفاة الشريف شرف الدين على نقيب الأشراف. وولى نقابة الأشراف الشريف شهاب الدين بن أبي الركب.
ومات في هذه السنة من الأعيان ممن له ذكر
شرف الدين أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم المناوي الشافعي، في يوم الثلاثاء خامس شهر رجب، ناب في الحكم بالقاهرة، وتفقه، وشارك في الحديث، وأفتى ودرس، وشرح فرائض الرسيط.
وتوفى كمال الدين أبو محمد وأبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد بن مهدي النشائي الشافعي، في يوم الأحد حادي عشر صفر. ومولده في أوائل ذي القعدة سنة إحدى وتسعين وستمائة. تفقه على أبيه وبرع ودرس بالجامع الخطيري ببولاق. وهو أول من ولى خطابته وإمامته وتدريسه. وصنف كتاب جامع المختصرات، وكتاب المنتقى، وعلق على التنبيه استدراكات.
ومات متملك بغداد الشيخ حسن بن حسين بن أقبغا بن أيلكان التتري، سبط أرغون بن أبغا بن هولاكو، وكانت مدته سبع عشرة سنة.
وتوفى الشريف شرف الدين أبو الحسن على بن حسين بن محمد الحسيني نقيب الأشراف، ووكيل بيت المال، ومحتسب القاهرة، في ثالث عشر جمادى الآخرة. مولده سنة إحدى وتسعين وستمائة. حدث وتفقه للشافعي وقرأ النحو، ودرس بالمشهد الحسيني، والمدرسة الفخرية، وكتب توضيح الحاوي، وأقرأه بمكة في مجاورته سنة إحدى وخمسين.
وتوفي نجم الدين أبو عبد اللّه محمد بن فخر الدين عثمان بن أحمد بن عمرو بن محمد الزرعي الحلبي الفقيه الشافعي، قاضي القضاة الشافعية بحلب. فكانت مدته نحو ست سنين. وكان فاضلاً ممدحاً أديباً ماهراً في النثر مع معرفة بالفقه والأصول والنحو.
سنة ثمان وخسمين وسبعمائة
فيها قبض على ابن الزبير ناظر الدولة، وعوقب حتى هلك.
وفى جمادى الآخر: خلع على شمس الدين محمد ابن الصاحب مدرس الصاحبية والشريفية. بمصر، واستقر محتسب القاهرة بعد وفاة علاء الدين علي بن الأطروش. واستقر شيخنا سراج الدين الهندي عوضه في قضاء العسكر.
وفي يوم الخميس ثامن شعبان: وثب قطا وقجا - ويقال باي قجا - أحد المماليك السلاح دارية على الأمير شَيْخُو وهو بدار العدل، وضربه بسيف ثلاث ضربات، في رأسه ووجهه وذراعه، فسقط وارتج المجلس. وقام السلطان عن كرسي الملك إلى قصره في خاصكيته، وتفرق الأمراء. وطار الخبر بأن الأمير شيخو قتل، فركب الأمير خليل ابن قوصون - ربيب شيخو ولبس، آلة الحرب، وساق في عدة وافرة إلى القلعة، وصعدها. بمن معه وهم ركاب، إلى رحبة دار العدل. وحمل شيخو على جنوية - على أنه قد مات - إلى إصطبله. وركب العسكر جميعهم إلى تحت القلعة بالسلاح. وركب الأمير صرغَتمش في عدة من الأمراء إلى الأمير شيخو، فوجدوا به رمقاً، فاعتذروا إليه مما وقع، وأنه لم يكن يعلم السلطان، وأنه قبض على الغريم وأمر بتسميره وتوسيطه. ثم قاموا فسمر المذكور، وطيف به على جمل، ثم وسط بعد ما قرر فلم يقر على أحد. وقال: قدمت له قصة لينقلني من الجامكية إلى الإقطاع فلم يفعل، فبقي في نفسي منه، وركب السلطان من الغد لعيادة شَيْخُو وحلف له أنه لم يعلم. بما جرى حتى وقع، ثم عاد. فمازال شيخو صاحب فراش حتى مات يوم الخميس خامس عشرين ذي القعدة، ودفن من الغد بخانكاته، وقبره بها، وكان قد قارب الستين سنة. وكان كثير المعروف، وهو أول من قيل له الأمير الكبير بمصر.
وفي شعبان: قدم رسل السلطان جانبك بن أزبك، فركب العسكر من الأمراء والمماليك والمقدمين وأجناد الحلقة إلى لقائهم بالزي الفاخر. وتمثلوا بين يدي السلطان، وقدموا معهم من الهدية، وهي عدة مماليك، وفرو سمور، وطيور جوارح. فكتب جوابهم وأعيدوا.
وفي هذا الشهر: حملت جارية بدمشق، من عتقاء الأمير تمر المهمندار، قريباً من سبعين يوماً، ثم طرحت أربعة عشر بنتاً وصبياً، يعرف الذكر من الأنثى في نحو أربعين يوماً.(2/226)
ولما مات شيخو قبض السلطان على الأمير خليل بن قوصون، وغيره من أتباع شيخو، فيهم الأمير قجا السلاح دار أمير شكار، والأمير تقطاى الدوادار، والأمير قطلوبغا الذهبي، وأرغون الطرخاني، فنفي بعضهم إلى الشام، وسجن بعضهم بالإسكندرية، وانفرد الأمير صرغتمش بتدبير الدولة.
وفي يوم الجمعة: استقر الأمير تنكزبغا أمير مجلس والأمير أزدَمُر الخازندار أمير سلاح، والأمير كشتمر القاسمي حاجب الحجاب، والأمير علم دار دوادارا كبيراً. وأنعم على يلبغا العمري الخاصكي بإمارة طبلخاناه، وعلى مَنْكلى بُغا بإمرة طبلخاناه، وعلى أيْدَمُر بإمرة طبلخاناه، وعلى طَيبغا الطويل بإمر طبلخاناه. واستقر قطب الدين ابن عرب في حسبة القاهرة، بعد وفاة شمس الدين محمد ابن الصاحب فجأة وهو راكب على بغلته بين القصرين فسقط عنها، فلا يدرى أمات فسقط أو سقط فمات. واستقر تاج الدين بن الريشة في نظر الدولة.
ومات في هذه السنة من الأعيان
قاضي قضاة الحنفية بدمشق، نجم الدين أبو إسحاق إبراهيم بن العماد أبي الحسن علي ابن أحمد بن عبد الواحد بن عبد المنعم بن عبد الصمد الطرسوسي الحنفي، عن أربعين سنة. وكان مشكور السيرة، صنف كتاب رفع الكلفة عن الأخوان، في ذكر ما قدم القياس على الاستحسان، وكتاب الاختلافات الواقعة في المصنفات، وكتاب مناسك الحج - مطولاً - وكتاب محظورات الإحرام، وكتاب الإشارات في ضبط المشكلات، - عدة مجلدات - وكتاب الفتاوى في الفقه، وكتاب الإعلام في مصطلح الشهود والحكام وكتاب الفوايد المنظومة في الفقه.
ومات شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن عبد المحسن العسجدي الشافعي، وقد قارب الثمانين.
ومات الأمير أرغون الكاملي بالقدس في تلك السنة، أصله من مماليك الكامل شعبان بن الناصر محمد فترقى في الخدم حتى صار من أمراء الألوف وولى نيابة حلب ونيابة دمشق، ثم قبض عليه وسجن، ثم نفي إلى القدس، فمات بها.
وتوفي الشيخ قوام الدين أبو حنيفة أمير بن كاتب بن أمير عمر بن أمير غازي الفارابي الأتقاني في شوال، ولى تدريس مشهد الإمام أبى حنيفة - رحمه الله تعالى - ببغداد، ثم قدم إلى الشام، فاستدعى منها إلى القاهرة، واختص بالأمير صَرْغَتمش، وعمل له درساً بجامع المارديني ، ثم ولاه تدريس مدرسته.
وتوفى محب الدين أبو عبد اللّه محمود بن علاء الدين على بن إسماعيل بن يوسف القونوي الشافعي في يوم الأربعاء ثامن عشرين ربيع الآخر. درس بالمدرسة الشريفية من القاهرة، وبالجامع المارديني. وشرح كتاب ابن الحاجب في الأصول، وكتب تعليقه في الفقه، وكتب إعتراضات على شرح الحاوي في الفقه لأبيه.
وتوفي علاء الدين أبو الحسن على بن محمد بن الأطروش الحنفي، محتسب القاهرة، وقاضي العسكر في تلك السنة. حدث، وكان فيه كرم، وهو معدود من رجال الدنيا في معناه. وله منازعات مع الضياء الشامي، في نظر المارستان وحسبة القاهرة. وكان يلي هذا مرة وهذا مرة. وولى أولاً حسبة دمشق. وكان أبوه يبيع السقط.
سنة تسع وخمسين وسبعمائة
أول المحرم: استقر محب الدين محمد بن نجم الدين يوسف بن أحمد بن عبد الدايم التيمي، المعروف بكاتب جانكلى، صاحب ديوان الأمير قجا السلاح دار، في نظر البيوت.
وفي هذا الشهر: أمر - بإشارة الأمير صَرْغتمش - أن تضرب فلوس زنة الفلس منها مثقال، فضرب منها عدة قناطير. ثم رسم أن يكون كل فلس من هذه الجدد بفلسين من العتق، وكل رطل من الفلوس العتق بدرهم ونصف، بعد ما كان الرطل منها بدرهمين. وركب والي القاهرة ووالي مصر ومحتسبيهما وأحمال الفلوس الجدد بين أيديهم. ونودي في الناس بأن يتعاملوا بها على ما ذكرنا. فاستمرت المعاملة بالفلوس الجدد، واستقرت أربعة وعشرون فلساً بدرهم فضة.
وعزل تاج الدين عبد الوهاب بن السبكي عن قضاء دمشق، واستقر عوضه بهاء الدين أبو البقاء محمد بن عبد البر السبكي الشافعي.
واستقر جمال الدين محمود بن أحمد بن مسعود القونوي - المعروف بابن السراج الحنفي - في قضاء الحنفية بدمشق، عوضاً عن شهاب الدين أحمد بن فزارة الكفري.
واستقر شرف الدين أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عسكر البغدادي المالكي في قضاء المالكية بدمشق، عوضاً عن جمال الدين المسلاتي.(2/227)
وأستقر شمس الدين محمد بن أحمد بن المخلطة في قضاء الإسكندرية، عوضاً عن ابن الريغي.
وفي يوم سار البريد بالقبض على الأمير طاز نائب حلب، فبلغ الخبر طاز، فسار من حلب في أصحابه كأنه يريد الحرب. وأخذ السلطان في تجهيز العساكر لقتاله، فلما قارب دمشق، أرسل إلى الأمير على النائب بأنه مملوك السلطان وفي طاعته، وما قصدت إلا أن يصل أهلي إلى دمشق في سلامة من نهب العربان والتراكمين. وسلم نفسه، فقبض نائب الشام على حاشيته وجهز سيوفهم إلى السلطان على العادة، وحمل طاز مقيداً إلى الكرك فبطلت تجريدة العساكر، ورسم بنقل طاز إلى الإسكندرية. وكتب باستقرار الأمير منجك في نيابة حلب، عوضاً عن طاز.
وتقدم مرسوم قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن محمد بن جماعة ، بألا يشهد في المساطير المكتبة بمبلغ كبير من المال، وفي صدقات النساء التي مبلغها كبير إلا أربعة شهود، ولا يشهد على مريض بوصية إلا بإذن أحد القضاة الأربعة، أو أحد نواب الشافعي.
وفى يوم الخميس ثامن عشرين جمادى الآخر: صرف قاضي القضاة عز الدين بن جماعة عن القضاء، واستقر عوضه الشيخ بهاء الدين عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد اللّه بن عقيل العقيلي، فأبطل ما رسم به للشهود، وفرق من مال الصدقات في الفقراء نحو الستين ألف درهم في أيام ولايته، وفرق الفقهاء مائة وخمسين ألف درهم من وصية، واستناب زوج ابنته سراج الدين عمر بن رسلان بن نصير بن صالح البلقيني وتاج الدين بن سالم وغيره من أصهاره.
وأنعم على الأمير شهاب الدين أحمد بن قشتمر حمص أخضر بإمرة مائة.
وكثر في شهر رمضان إكرام السلطان للأمير صَرْغَتْمش، وأمر فعمل له بثغر الإسكندرية قبانخ . فلما كان يوم الاحد تاسع عشره أصبح السلطان متوعك البدن، فلما دخل عليه صَرْغَتْمُش ليعوده ألبسه القبانخ ونزل إلى داره. ثم صعد من الغد يوم الإثنين عشرينه إلى القصر على عادته، وأمر ونهى على باب القصر وصرف أمور الدولة على عادته، ثم دخل. فلما استقر به الجلوس، وتكامل المركب، تقدم الأمير طيبغا الطويل، وقبض عليه، وأعانه الأمير منكلى بغا، ثم قبض على الأمير قشتمر القاعي حاجب الحجاب والأمير طقبغا صاروق الماجارى. وارتج القصر. بمن فيه، فركب الأمير أحمد بن قشتمر في عدة من المماليك، ولبس وهم آلة الحرب، ووقف تحت القلعة، فركب إليه الأمير عز الدين أزدمر الخازندار، والأمير يلبغا الخاصكي، والأمير تنكر بغا، والأمير طيبغا الطويل، والأمير منكلى بغا، في طائفة من المماليك السلطانية، وقاتلوه من بكرة النهار إلى العصر حتى هزموه ومن معه. وركب العامة أقفيتهم يرجمونهم بالحجارة، ثم امتدت أيديهم إلى بيت الأمير صَرْغتْمش فنهبوه، ونهبوا الحوانيت التي بالصليبة بجواره، وتتبعوا العجم، فإن صرغتمش كان يعنى بهم، ونوه باسمهم، وجعل مدرسته وقفاً عليهم. فكان يوماً مشهوداً عظيماً شناعته. واستمر الطلب على ابن قَشتَمُر حتى قيض عليه وعلى جماعته من أخر النهار، فقيدوا وحملوا إلى الإسكندرية - وفيهم صرغَتمش - فسجنوا بها.
وقبض على القاضي ضياء الدين يوسف بن أبى بكر محمد ناظر المارستان وأهين وأركب على حمار، ثم نفي بعد ضربه بالمقارع عرياً، ومصادرته. وعزل عامة من كان جهته صَرْغَتْمُش، فعزل قطب الدين بن عرب من حسبة القاهرة، واستقر عوضه الشيخ عبد الرحيم الإسنوي، وعزل ابن عقيل عن قضاء القضاة بعد اثنين وثمانين يوماً، وأعيد عز الدين بن جماعة في يوم الثلاثاء حادي عشرين شهر رمضان. وقبض على ناظر الخاص والجيش علم الدين عبد اللّه بن نقوله وصودر، واستقر عوضه في نظر الخاص تاج الدين بن الريشة مضافاً إلى الوزارة. وفي نظر الجيش محب الدين محمد بن نجم الدين يوسف بن أحمد بن عبد الدايم. واستقر عوض محب الدين في نظر البيوت فخر الدين بن السعيد. قبض على جرجى الأدريسي ونفي في عدة من الأمراء.(2/228)
وأنعم السلطان على عدة من مماليكه بأمريات، أنعم على مملوكه الأمير يلبغا الخاصكي بتقدمة ألف، وعمله أمير مجلس عوضاً عن تنكز بغا. وأنعم على كل من الأميرين مَنكَلى بُغَا والأمير طَيبغا الطويل، والأمير أندَمُر الشامي والأمير ألجَاي اليوسفي بإمرة مائة وتقدمة ألف. وعمل أيْدَمر الشامي داودارا، وألحَا حاجباً ثانياً. وعمل الأمير عز الدين أزدمر الخازن دار أميراً كبيراً، مكان صَرْغَتمش، وولاه نظر المارستان المنصوري، ونظر وقف الصالح إسماعيل بقية المنصورية. وأنعم على عدة من مماليكه أيضًا بأمريات ما بين طبلخاناه وعشرات.
وفي يوم الأحد: المبارك ولد للسلطان ولد ذكر سماه قاسم، وأعطاه إمرة مائة.
ونقل الأمير مَنْجَك من نيابة حلب إلى نيابة الشام، عوضاً عن أمير علي. ونقل أمير علي إلى نيابة حلب.
وفيه خرجت تجريدة إلى برقة مع الأمير محمد باك القازاني.
وفي هذه السنة: كثر اختصاص قطب الدين هِرْماس بالسلطان، وصار يدخل عليه متى أراد بغير إذن، ويدخل معه أيضاً زوج ابنته صدر الدين. وكانت بين الهندي سراج الدين عمر الحنفي وبين الهرماس منافرة، فتقدم لقاضي القضاة جمال الدين عبد اللّه بن التركماني أن يعزله من نيابة الحكم، فصرفه وهجره، فأعرض عنه عامة فقهاء الحنفية. وفيه استقر التنيسي المالكي في قضاء الإسكندرية بعد وفاة ابن المختلطة وقدم الخبر بموت صرغَتمش في سجنه بالإسكندرية، فكانت مدة سجنه شهرين واثني عشر يوماً.
ومات في هذه السنة من الأعيان
شرف الدين أبو البقاء خالد بن العماد إسماعيل بن محمد بن عبد اللّه بن محمد بن محمد بن خالد بن محمد بن نصر القَنسَراني، بدمشق عن نيف وخمسين سنة.
ومات الأمير الكبير سيف الدين صَرغَتْمش الناصري بسجن الإسكندرية مقتولاً في ذي الحجة. كان يكتب الخط الجيد، ويشارك في الفقه على مذهب أبى حنيفة، ويتعصب لمذهبه، ويجل العجم، ويختص بهم، ويتكلم أيضاً في العربية، ودبر أمر الدولة مدة. ومات أبو عنان فارس بن أبي الحسن علي بن أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق بن محيو بن جماعة المريني متملك المغرب وصاحب فاس.
وتوفي فخر الدين أبو العباس محمد بن أحمد بن عبد الله بن المُختَلطَة قاضي الإسكندرية، في يوم الجمعة سابع رجب.
وتوفي شمس الدين بن عيسى بن حسن بن كر الحنبلي إمام أهل الموسيقى، وله تأليف حسن في الموسيقى.
ومات الأمير سيف الدين تَنْكِزبغا المارديني، أمير مجلس، وزوج أخت السلطان حسن ومات الأمير الطواشي، صفي الدين جوهر الجَناحي، مقدم المماليك، وقد قارب المائة سنة.
وتوفى شمس الدين أبو عبد اللّه محمد بن إبراهيم بن داود بن نصر الهكاري الكردي الدمشقي الشافعي بدمشق، في ذي القعدة، ومولده سنة خمس وثمانين وست مائة. حدث عن التقي الواسلي، والشريف بن عساكر وتفقه وأفتى ودرس.
وتوفى أمير المدينة النبوية الشريف مانع بن علي بن مسعود بن جاز بن شيحة الحسيني. واستقر بعد ابن عمه فضل بن قاسم في ذي القعدة سنة ثلاث وخمسين. وكثر تظاهره. بمذهبه. فلما قدم الحاج ولبس الخلعة على العادة وثب عليه فداويان، قتلاه في أواخر ذي الحجة، فثارت الفتنة بعد قتله، وتأذى بها كثير من الحجاج.
وتوفي إمام الحنابلة بمكة أبو عبد الله محمد بن محمد بن عثمان بن موسى الآمدي الحنبلي، بعدما أم الناس ثلاثين سنة.
ومات قتيلاً الأمير سيف بن فضل بن مهنا بن عيسى بن مهنا بن مانع بن حديثة بن غضينة بن فضل في ذي القعدة. وكان جواداً، ولى إمرة آل فضل غير مرة.
ومات الأمير مَلَكتمُر السعيدي، في ثامن ذي القعدة.
سنة ستين وسبعمائة
في الأربعاء ثالث المحرم: قدم أمير على إلى دمشق وقد أعيد إلى نيابتها، وعزل الأمير مَنجَك عنها، وطلب إلى مصر، ففر من غزة ولم يُقف على خبره، فعوقب بسببه عدة من الناس.
واستقر الأمير سيف الدين بكتمر المؤمني في نيابة حلب، ثم صرف عنها، واستقر عوضه الأمير سيف الدين بيدمر الخوارزمي.
وصرف أمير على عن نيابة الشام، واستقر عوضه الأمير سيف الدين أَسَنْدَمُر الزيني. وانتهت زيادة ماء النيل إلى أربع أصابع من عشرين ذراعاً، وثبت إلى أول شهر هاتور، فخرج الناس ودعوا حتى هبط، فكثرت الأمراض ببلاد الصعيد.(2/229)
وفيها عقد لشمس الدين محمد بن علي بن عبد الواحد بن يوسف بن عبد الرحيم الدكالي الأصل، المعروف بابن النقاش، الفقيه الشافعي، فجلس بين يدي قاضي القضاة عز الدين بإشارة الهرماس، وادعى عليه زين الدين عبد الرحيم العراقي أنه يفتي بغير مذهب الشافعي، فمنع من الإفتاء، وألا يتكلم في مجالس الوعظ، إلا من كتاب، فامتنع بعد ما حبس، ثم أفرج عنه.
وفيه أخرج الأمير عز الدين. أَزدَمر الخازندار إلى الشام، على إمرة بها، فانحط قدر الهرماس فإن أَزْدَمُر هذا كان عضده.
وفي شهر رجب: سارت الحجاج الرجبية من القاهرة، وسافر فيهم قاضي القضاة عز الدين بن جماعة، وقاضي القضاة موفق الدين الحنبلي، وقطب الدين الهرماس. وكان الشريف عجلان قد قدم من مكة، فعزله السلطان عن إمارتها وولى عوضه الشريفان محمد بن عُطفة وسند بن رُمَيثة، وقواهما بالأمير جرَكتمُر الحاجب والأمير قطلوبغا المنصوري، وناصر الدين أحمد بن أصلَم، ليقيموا بمكة، حتى يأتيهم البدل من مصر.
وعُوق الشريف عجلان بمصر، فاتصل - في غيبة الهرماس - بالسلطان، سراج الدين عمر الهندي قاضي العسكر، وشمس الدين محمد بن النقاش، ولازماه سفراً وإقامة، وبلغا منه منزلة مكينة، فأخذا في إغراء السلطان به حتى تنكر له، وتغير عليه، لقوادح رمياه بها.
ومات في هذه السنة من الأعيان
جمال الدين أبو إسحاق إبراهيم بن الشهاب محمود بن سلمان بن فهد الحلبي كاتب سر حلب.
ومات الأمير عز الدين تُقطاي الداودار الصالحي بطرابلس منفياً، أصله من مماليك يلبغا اليحياوي، ثم انتقل إلى الملك الصالح فترقى حتى صار من الأمراء، ثم أخرج إلى الشام، فقدم دمشق في ربيع الآخر سنة تسع وخمسين، ومضى إلى طرابلس، فأقام لها حتى هلك.
وتوفى الشيخ خليل بن عبد الرحمن بن محمد بن عمر أبو الوفا المالكي.
ومات علم الدين محمد بن القطب أحمد بن مفضل، كاتب سر دمشق وناظر الجيش بها، وقد جاوز الستين.
ومات تقي الدين محمد بن أحمد بن شاس المالكي، في يوم الأربعاء رابع شوال، وقد ناب في الحكم وأفتى ودرس.
ومات تقي الدين محمود بن محمد بن عبد السلام بن عثمان القيسي، أبو المظفر الحموي، عرف بابن الحكيم الحنفي، قاضي حماة، وقد أناف على ستين سنة.
ومات الأمير سيف الدين بن فضل بن عيسى، قتله عمر بن موسى. وكان قد ولى إمرة العرب في أيام المظفر حاجى بعد أحمد بن مهنا، فلما مات أعيد أحمد بن مهنا. واللّه تعالى أعلم بالصواب.
سنة إحدى وستين وسبعمائة
فيها استقر أًمين الدين محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن نصر اللّه بن المظفر بن أسعد بن حمزة التميمي، المعروف بابن القلانسي الدمشقي، كاتب السر بدمشق، استقر صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي، كاتب السر بحلب.
ولما قدم الحاج، كان السلطان بقصور سرياقوس توجه قاضي القضاة عز الدين ابن جماعة، وقاضي القضاة موفق الدين عبد اللّه الحنبلي، والشيخ قطب الدين الهرماس، وقد قدموا من الحج للسلام على السلطان، فأذن للقاضيين في الدخول على السلطان، فدخلا ومنع الهرماس من ذلك، فأقبل السلطان عليهما وألبسهما خلعتين، وخرجا إلى منازلهما بالقاهرة. وتبين للناس انحطاط رتبة الهرماس، وفساد حاله مع السلطان.
وفيه سار الأمير بيدمر نائب حلب بالعساكر إلى بلاد سيس، ففتح أذنة وطرسوس والمصيصة وعدة قلاع، وأقام بأذنة وطرسوس نائبين بعسكر معهما، وعاد بالغنائم إلى حلب، فنقل في شهر ربيع الأول إلى نيابة دمشق عوضاً عن أسندمر الزيني.
واستقر الأمير شهاب الدين أحمد بن القشتمري في نيابة حلب.
واستقر ناصر الدين محمد بن يعقوب بن عبد الكريم بن أبي المعالي الحلبي كاتب السر بحلب عوضاً عن الصلاح الصفدي، واستقر الأمير ألجاي اليوسفي صاحب الحجاب بدمشق.
وظفر المسلمون بغراب للفرنج فأسروا من فيه، وقدموا بهم القاهرة.
واستقر فخر الدين ماجد - ويدعى عبد الله بن أمين الدين خصيب - في الوزارة، بعد وفاة ابن الريشة. وكان خصيب من جملة الكتاب النصارى فأسلم وترقى ابنة ماجد في الخدم بالكتابة الديوانية حتى ولى الوزارة.
وفيها اشترى السلطان القصر المعروف بالبيسري من القاهرة، وقصر بشتاك المقابل له، وجدد عمارتهما.(2/230)
وفي يوم الأحد: ركب السلطان من قلعة الجبل، وعبر من باب زويلة إلى المارستان المنصوري، وشقاق الحرير مفروشة ليمشي عليها، فزار أباه وجده. وقد زينت له القاهرة، واجتمع بالمدرسة المنصورية قضاة القضاة الأربع، ومشايخ العلم. بهاء الدين ابن عقيل، وزين الدين البسطامي الحنفي، وأكمل الدين الحنفي، وبهاء الدين السبكي، وسراج الدين الهندي، وسراج الدين البلقيني، وناصر الدين نصر اللّه الحنبلي، وشمس الدين بن الصايغ الحنفي، وشمس الدين محمد بن النقاش، وبدر الدين حسن الشجاع الحنفي، وعدة أخر. فأتاهم السلطان وهم بالإيوان القبلي، فجلس وهم حلقة بين يديه، وأداروا البحث في مسألة حتى انتهوا إلى غايتهم فيها. وقدمت عدة سجاجيد وغيرها للسلطان، فقبلها، وصار يرمي بها إلى الأمراء وهم يقبلون الأرض. ثم قام فركب من الباب، وركب معه ابن النقاش وسراج الهندي، حتى حاذى جامع الحاكم، فأمر بهدم دار الهرماس. ثم خرج من باب النصر وصعد إلى القلعة.
فهدمت دار الهرماس المجاورة للجامع، ونزل الأمير شرف الدين موسى بن الأزكشي فقبض على الهرماس وولده، ونزع عنه ثيابه، وضربه بالمقارع قريباً من عشرة شيوب ، وداره تهدم وهو يشاهدها، ثم أخرج إلى مصياف من بلاد الشام منفياً.
وكان من الدهاء والمكر على جانب كبير. وفيه يقول العلامة شمس الدين محمد بن الصايغ الحنفي:
نال هرماس الخسارة ... من بعد ربح وجسارة
وحسب البهتان يبقى ... أخرب الله دياره
وقبض على الأمير منجك من داريا بالشرف الأعلى ظاهر مدينة دمشق، بعد ما أقام مختفياً نحو سنة، فحمل إلى مصر، وتمثل بين يدي السلطان وهو لابس بشتا من صوف، وقد أعتم. بميزر من صوف، فعفا عنه، وأنعم عليه بإمرة طبلخاناه بالشام، ورسم أن يكون طرخانا، وأن يقيم حيث شاء من البلاد.
وكان النيل في هذه السنة مما يتعجب منه، فإن القاع جاء نحو اثنتي عشرة ذراعًا. وكان الوفاء يوم الخميس، وهو سادس مسرى، فكسر سد الخليج من الغد يوم الجمعة، ونودي عليه تسعة أصابع من عشرين ذراعاً. ثم بطل النداء عليه فبلغ نحو أربعة وعشرين ذراعاً، وخربت عدة مساكن، واستمر ثابتاً إلى خامس بابة، فخرج الناس من الغد، ودعوا اللّه، فهبط من يومه أربعة أصابع.
وسارت الحجاج الرجبية على العادة. وتوجه الأمير قُنْدش بدلاً من الأمير جركتمر. ورسم بتوجه جركتمر إلى الشام بعد الحج، وقد قطع خبزه. وكان الشريف ثقبة فيما مضى مقيماً بجدة، فلما خرج جركتمر من مكة بعد قضاء الحج، هجم ثقبة عليها، وأخذ خيول قُندسُ ومن معه، وحصرهم في المسجد، فأغلقوا عليهم أبوابه، وقاتلوا من أعلاه بالنشاب، فقتل الشريف مغامس، وانهزم قُندسُ بأصحابه، فقتل منهم وأسر جماعة، نودي عليهم. بمكة للبيع، فبيعوا بأبخس الأثمان. وأخذ قندس، فعذب عذابًا أشفى منه على الموت. ثم نودي عليه، وأبيع بدرهمين، فشفع إليه تقي الدين محمد بن أحمد ابن قاسم الحرازي قاضي مكة، حتى أخرج من مكة ومعه جميع الأتراك. وقد اقترض ما يبلغه إلى ينبع. وفر أيضاً الشريف محمد بن عُطيفة إلى ينبع، والتجأ الشريف سند بن رميثة إلى الشريف ثقبة وصار من جملته. فلما قدم الحاج من المدينة النبوية إلى ينبع، وجدوا بها الأمير قُنْدُس ومن بقي من المجردين ومحمد بن عُطَيْفَةَ، فساروا مع الحاج إلى القاهرة.
ومات في هذه السنة من الأعيان
صلاح الدين خليل بن كيكلدي العلاي أبو سعيد الشافعي صاحب كتاب القواعد وغيره، في المحرم. ومولده سنة أربع وتسعين وستمائة. وكان حافظاً فقيهاً شافعياً، لم يخلف بعده في الحديث مثله. ودرس بالقدس سنتين.
ومات صدر الدين أبو الربيع سليمان بن داود بن سليمان بن محمد بن عبد الحق الحنفي، ناظر الأحباس، عن ثلاث وستين سنة.
ومات جمال الدين أبو محمد عبد اللّه بن يوسف بن أحمد بن عبد اللّه بن هشام النحوي في يوم الثلاثاء ثاني ذي القعدة، ومولده في ذي القعدة سنة ثمان وسبعمائة. ومات الشريف زين الدين أبو الحسن علي بن محمد بن أحمد بن علي بن محمد بن علي بن محمد بن عبد اللّه بن جعفر بن زيد بن جعفر بن محمد الممدوح الحسيني الحلبي، نقيب الأشراف بحلب.(2/231)
ومات السلطان الملك الصالح صالح بن محمد بن قلاوون في محبسه من قلعة الحبل، سلخ ذي الحجة، ودفن بتربة عمه الصالح علي بن قلاوون قريباً من المشهد النفيسي. رحمه اللهّ تعالى.
وتوفى فخر الدين محمد بن محمد بن مسكين الشافعي، أحد نواب الحكم، ولى قضاء الإسكندرية وغيرها عن ثلاث وتسعين سنة، في يوم الاثنين سابع رجب رحمه اللّه ومات صدر الدين محمد بن قاضي القضاة تقي الدين أحمد بن عمر بن عبد اللّه بن عمر بن عوض الحنبلي، فاستقر عوضه في تدريس المدرسة المنصورية قاضي القضاة موفق الدين عبد اللّه الحنبلي. وفي تدريس المدرسة الأشرفية، ناصر الدين نصر اللّه الحنبلي.
ومات شرف الدين موسى بن كجك، الإسرائيلي الأصل، الطيب، في يوم الثلاثاء ثامن شوال. وكان بارعاً في الطب، مشاركاً في عدة علوم، وكتب بخطه الجيد كتباً كثيرة.
وتوفي شهاب الدين أحمد القسطلاني خطيب جامع عمرو بمصر وخطيب جامع القلعة، في يوم الجمعة خامس ذي الحجة.
وتوفي تاج الدين أحمد الزَركشي الشافعي مدرس المدرسة الفارسية، وخطيب الجامع الأخضر في يوم الإثنين ثامن ذي الحجة.
وتوفي سراج الدين عبد اللّه بن محمد بن معز، يوم الخميس حادي عشرين المحرم، عن ماية سنة، وولى حسبة الإسكندرية وشهادة بيت المال.
وتوفي ضياء الدين أبو المحاسن يوسف بن أبى بكر بن محمد المعروف بالضياء بن خطيب بيت الآبار الشامي، في ذي الحجة. ولى الحسبة، ونظر الدولة، ونظر المارستان، وغير ذلك، وكان ناهضاً أميناً. رحمه اللّه تعالى واللّه تعالى أعلم بالصواب.
وحسبنا اللّه ونعم الوكيل.
سنة اثنتين وستين وسبعمائة
أهلت والأمراض بالباردة فاشية في الناس، وقد ساءت أحوالهم لطول مدة أمراضهم. وفيها قدم الأمير بيدمر نائب الشام، ومعه الأمير جركتمر المارديني المجرد بالحجاز، وقد قبض عليه وعلى الأمير قطلوبغا المنصوري، وقدم الأمير منجك، وتمثل بين يدي السلطان.
وفيها عدى السلطان إلى بر الجيزة ونزل بناحية كوم برا قريباً من الأهرام.
وفيها قبض على الوزير الصاحب فخر الدين ماجد بن خصيب وعلى أخيه وحواشيه وأصهاره، وأحيط بدياره، وألزم بمال كبير. ثم نفي إلى مصياف من بلاد الشام، فأقام بها سنة ونيفاً ثم نقل إلى القدس، فأقام هناك أربع سنين. ومات وكان قد أظهر في وزارته من الترفع والتعاظم أمراً زائداً. من ذلك أنه ألزم جميع مباشري الدولة والخاص وعامة المشدين بالركوب معه إذا ركب، فإذا وصلوا بين يديه إلى رأس سوق الحريريين من القاهرة، نزل مقدم الدولة ومقدم الخاص ومضيا في ركابه إلى بين القصرين، ثم نزلت طائفة بعد طائفة، بحسب رتبهم، ومشوا بين يديه حتى لا يبقى أحد راكب سواه، إلى أن يصل إلى داره برأس حارة زويلة، فإن كان في داره بفم الخور على النيل نزل من ينزل من قنطرة قدادار ومشوا إلى داره وهو راكب، فإذا مضى إلى الصناعة بمدينة مصر، نزل الناس من باب مصر، وبقي هو وأخوه راكبين. بمفردهما إلى الصناعة، والناس جميعاً مشاة. وعنى بالأسمطة، فكان يطبخ دائماً في كل يوم بداره ألف رطل من اللحم، سوى الدجاج والأوز. وكان يبعث كل ليلة بعد عشائه إلى بين القصرين من القاهرة فيشترى له. بمبلغ مائتين وخمسين درهماً فضة ما بين قطا وسمان وفراخ وحمام وعصافير مقلوة. وتناهي في أنواع الأطعمة الفاخرة، واقترح علباً كبار للحلوى، عرفت بعده مدة سنين بالعلب الخصيبية. وأخبرني الوزير الصاحب تقي الدين عبد الوهاب بن الوزير فخر الدين ماجد بن أبي شاكر أنه كان في دارهم من جواري ابن خصيب جاريتين، تحسن كل واحدة منهما ثمانين لوناً من التقالى سوى بقية ألوان الطعام. وبلغت عدة جواريه سبعمائة جارية، بعد ما كان من أفقر الكتاب. وقد غلبه الدين، وأقام في السجن والترسيم على ديون الناس مدة شهر.(2/232)
وفيها قدم فخر الدين ماجد بن قزوينة وزير دمشق إلى القاهرة باستدعاء فخلع عليه، واستقر في الوزارة ونظر الخاص عوضاً عن ابن خصيب. وفيها عزل الشيخ جمال الدين عبد الرحيم الإسنوي نفسه من حسبة القاهرة لمفاوضة حصلت كانت بينه وبين الصاحب فخر الدين ماجد بن قزوينة. واستقر عوضه برهان الدين إبراهيم بن محمد بن أبى بكر الأخنائي أخو قاضي القضاة علم الدين محمد الأخنائي، فسار في الحسبة أحسن سيرة، وتصلحت عامة المعايش وفي يوم السبت سادس ربيع الآخر: سقطت إحدى منارتي مدرسة السلطان حسن، فهلك تحتها نحو ثلاثمائة من الأطفال الأيتام الذين كانوا بمكتب السبيل، وغير الأيتام، فتشاءم الناس بذلك، وتطيروا به لزوال السلطان، فكان كذلك، وزال ملكه في ليلة الأربعاء تاسع جمادى الأولى وذلك أنه بلغه وهو بمنزله بكوم برا أن الأمير يلبغا الخاصكي يريد قتله، وأنه لا يدخل إلى الخدمة إلا وهو لابس آلة الحرب من تحت ثيابه فاستدعى به، وهو مع حريمه في خلوة، وأمر فنزعت عنه ثيابه كلها، ثم كتفت يداه، فْشفعت فيه إحدى حظايا السلطان، حتى خلى عنه وخلع عليه، واعتذر إليه بأنه بلغه عنه أنه لا يدخل إلا بالسلاح مخفي في ثيابه. فخرج إلى مخيمه وقد اشتد حنقه، فلم يمض سوى ثلاثةّ أيام وبلغ السلطان أن يلبغا قد خامر وأظهر العصيان، وألبس مماليكه آلة الحرب، فبادر للركوب في طائفة من مماليكه ليكبسه على بغتة، ويأخذه من مخيمه، فسبق ذلك إلى يلبغا من الطواشي بشير الجمدار، وقيل بل من الحطة التي شفعت فيه. فركب بمماليكه من فوره بالسلاح، يوم الإثنين ثامن جمادى الأولى بعد العصر، ولقى السلطان وهو سائر إليه، وتوافقا حتى غربت الشمس، فحمل يلبغا. بمن معه يريد السلطان فانهزم من غير قتال، ومعه الأمير عز الدين أيدمر الدوادار، فتفرقت مماليكه في كل جهة، وتمادى السلطان في هزيمته إلى شاطىء النيل، وركب هو وأيدمر فقط في بعض المراكب، وترك ركوب الحراقة السلطانية، وصعد قلعة الجبل، وألبس من بها من المماليك، فلم يجد في الإصطبل خيولاً لهم، فإنها كانت مرتبطة على البرسيم لتربع على العادة، فاضطرب ونزل من القلعة ومعه أيْدَمُر وقد تنكرا ليسيرا إلى الشام فعرفهما بعض المماليك، فأنكر حالهما، وأخذهما ومضى بهما إلى بيت الأمير شرف الدين موسى بن المازْكَشي، فأواهما.(2/233)
هذا، وقد مضى يلبغا وقت هزيمة السلطان في إسره فلم يظفر به، فركب الحراقة ومنع أن يعدى مركب بأحد من المماليك السلطانية إلى بر مصر، وعدى بَأصحابه في الليل إلى البر، فلقيه الأمير ناصر الدين محمد بن المحسني والأمير قشتمر المنصوري في عدة وافرة، فحاربهما وهزمهما، وتقدم فهزم طائفة بعد طائفة. ثم وجد الأمير أسنبغا ابن البوبكري في عدة وافرة فقاتله قريباً من قنطرة قديدار، قتالاً كبيراً، جرح فيه أسنبغا وانهزم من كان معه. ومضى يلبغا حتى وقف تحت القلعة، فبلغه نزول السلطان وأَيْدَمُر منكسرين. وبينما هو مفكر فيما يفعله، إذ أتاه قاصد ابن الأزْكَشي وأخبره بأن السلطان وأَيْدَمر عنده، فسار بعسكره إلى بيت ابن الأزْكَشي بالحسينية، وأحاط به، وأخذ السلطان والأمير أَيْدَمُر ومضى بهما إلى داره، قرب جبل الكبش فحبسهما بها، ووكل بهما من يثق به. ثم عاد إلى القلعة وقد امتنع بها طائفة من مماليك السلطان، ورموه بالنشاب، فأعلمهم بأنه قد قبض على السلطان وسجنه في داره، فانحلت عزائمهم، وفتحوا باب القلعة، فصعد يلبغا ومن معه إليها وملكها وأقام في السلطنة محمد بن المظفر حاجي بن محمد بن قلاوون. ولم يوقف للسلطان حسن على خبر، فقيل إنه عاقبه عقوبة شديدة حتى مات ودفنه في مصبطة كان يركب عليها من داره بالكبش. وقيل دفنه بكيمان مضر وأَخفي قبره، فكان عمره دون الثلاثين سنة، منها مدة سلطنته هذه الثانية ست سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام. وترك عشرة أولاد ذكور، وهم أحمد وقاسم وعلي وإسكندر وشعبان وإسماعيل ويحيى وموسى ويوسف ومحمد، وست بنات. وكان من خيار ملوك الأتراك. أخبرني ثقتان من الناس أنهما سمعاه يحلف بالأيمان الحرجة، أنه ما شرب خمرًا ولا لاط منذ كان، إلا أنه شغف بنسائه وجواريه شغفاً زائداً، واشتهر في أمرهن، وأفرط في الإقبال عليهن، مع القيام بتدبير ملكه. وعزم على قطع دابر الأقباط والأتراك المماليك، فولى عدة وظائف كانت بيد الأقباط لجماعة من الفقهاء، منها وظيفة نظر الجيش ونظر بيت المال. وجعل عشرة من أولاد الناس أمراء ألوف، وهم ولداه أحمد وقاسم وأسنبغا بن البوبكري، وعمر بن أرغون النائب، ومحمد بن طرغاي ومحمد بن بهادر آص، ومحمد بن المحسني، وموسى بن أرقطاي، وأحمد بن آل ملك، وموسى بن الأزكشي. وأنعم على عدة منهم بإمريات طبلخاناه وعشرات. وولى ابن القَشتَمُري نيابة حلب، وابن صُبْح نيابة صفد. وقد وافق أباه في عدة أمور في اللقب الخاص بالملوك، فكلاهما لقب بالملك الناصر. وفي أنه خلع ثم أعيد كل منهما إلى السلطنة بعد الخلع، كان ذلك في ثاني شوال. وما منهما إلا من وزر له مُتعمم وصاحب سيف. وأقام مدة بغير وزير ولا نائب، وبنى المدرسة التي لم يبن في ممالك الإسلام بيت للّه مثلها في العظم والجلالة والضخامة.
السلطان صلاح الدين محمد
السلطان الملك المنصور صلاح الدين محمد بن الملك المظفر حاجي بن الناصر محمد بن قلاوون أقامه الأمير يلبغا في السلطنة. وذلك أنه لما قبض على السلطان حسن، وصعد إلى القلعة ومعه الأمير طيبغا الطويل أمير سلاح، والأمير مَلَكتمُر المارديني رأس نوبة الجمدارية، والأمير أَشَقتمر أمير مجلس، في بقية الأمراء اشتوروا فيمن يقام في السلطة، فذكر بعضهم الأمير حسين بن محمد بن قلاوون، وهو آخر من بقى من أولاد الملك الناصر محمد لصلبه، فلم يرضوه خشية من أن يستبد بالأمير دونهم ثم لا يبقى منهم أحداً. وذكر الأمير أحمد بن السلطان حسن فرأوا أن تقديمه - وقد عُمل بأبيه ما عُمل - سوء تدبير فإن الحال يلجئه لأن يأخذ بثأر أبيه، فأعرضوا عنه.(2/234)
ووقع الطارق على محمد بن المظفر حاجى، فاستدعى الخليفة وقضاة القضاة، وأحضر ابن المظفر وعمره نحو أربع عشرة سنة، ففوض الخليفة إليه أمور الرعية، وركب والكافة بين يديه من باب الدار إلى الإيوان، حتى جلس على تخت الملك، وحلف له الأمراء على العادة، وهو لابس الثوب الخليفتي، وذلك في يوم الأربعاء تاسع جمادى الأولى، ولقب بالملك المنصور صلاح الدين. وهو أول من تسلطن من أولاد أولاد الملك الناصر محمد، فقام الأمير يلبغا بتدبير الدولة، و لم يبق للمنصور سوى الاسم. واستقر الأمير طَيبغا الطويل على عادته أمير سلاح، والأمير قطلُوبغا الأحمدي رأس نوبة كبير، والأمير مَلَكتمُر المارديني رأس نوبة الجمدارية، والأمير أشَقتمُر أمير مجلس، والأمير أرغون الأشعردي دوادارا، والأمير ألجاى اليوسفي حاجب الحجاب، والأمير قَشتمر المنصوري نائب السلطنة.
ودقت البشائر، ونودي بالقاهرة ومصر بسلطنة الملك المنصور، وكتب إلى الأعمال بذلك، فسارت البريدية.
وقبض على الأمير ناصر الدين محمد بن المحسني وسجن بالإسكندرية.
وأفرج عن الأمير طاز وقد سمل الناصر حسن عينيه، فلما مثل بين يدي السلطان وعلى عينيه شعرية توجع له وخلع عليه، فسأل الإقامة بالقدس وأجيب إلى ذلك، وأنعم له بإمرة طبلخاناه. فسار إلي القدس وأقام به.
وأفرج عن الأمير جركَتمر المارديني والأمير قَطْلُوبُغا المنصوري، والأمير قَشتَمُر القاسمي، والأمير مَلَكتمُر المحمدي، والأمير أَقتمُر عبد الغني، والأمير بَكتمر المؤمني، وأخيه طاز. واستقر قَشتَمُر القاعي نائب الكرك، ومَلَكتمُر المحمدي نائب صفد. وأخرج بَكتمُر المؤمني إلى أسوان منفياً. ونقلت رمة الأمير صَرْغَتمش من الإسكندرية، ودفنت بمدرسته المجاورة لجامع ابن طولون خارج القاهرة. وخلع على الشريف عجلان وأعيد إلى إمارة مكة.
وقدمت الأخبار في شهر رجب بخروج الأمير بَيدَمُر نائب الشام عن الطاعة، وموافقة جماعة من الأمراء له على ذلك، منهم أسَنْدَمُر أخو يَلبغا اليحياوي، والأمير مَنجَك وجماعة، وأنه قام لأخذ ثأر السلطان حسن، وأفتاه جماعة من الفقهاء بجواز قتال قاتله الذي تغلب على المُلك - يعني الأمير يَلْبُغا - ومنع البريد أن يمر من الشام. وجهز الأمير مَنجَك والأمير أَسَندَمُر الزيني في عسكر إلى غزة، فحاربوا نائبها وملكوها. فنصب الأمير يَلبُغا. السَنْجق السلطاني، وتقدم إلى الأمراء بالتجهيز للسفر، وأخرج الأمير قَشَتمر نائب السلطة إلى جهة الصعيد في عسكر ليحفظ تلك الجهة في مدة الغيبة بالشام.
وأقيم الأمير شرف الدين موسى بن الأزْكَشي نائب الغيبة، وخرجت طلاب الأمراء شيئاً بعد شيء. وركب السلطان في أول شهر رمضان من قلعه الجبل، ونزل خارج القاهرة، ثم رحل وصحبته الخليفة والأمراء، وتاج الدين محمد بن إسحاق المناوي قاضى العسكر، وسراج الدين عمر الندى قاضي العسكر. فرحل الأمير منجَك بمن معه من غزة، عائداً إلى دمشق. فنزل بها السلطان بعساكره وجلس الأمير يلبغا لعرض العسكر. ثم ساروا جميعاً إلى دمشق، وخيموا بظاهرها، فخرج إليهم أكثر أمراء دمشق وعسكرها راغبين في الطاعة، حتى لم يبق من الأمراء مع بَيْدَمُر سوى مَنجَك وأَسَنْدَمُر - وقد امتنعوا بالقلعة - فترددت القضاة بين الفريقين في الصلح حتى تقرر، وحلف لهم الأمير يَلُبغا على ذلك، فاطمأنوا إليه ونزلوا من القلعة.
فركب السلطان بعساكره صبح يوم الإثنين تاسع عشرين شهر رمضان، ودخل إلى دمشق وقبض على الأمير بيدمر والأمير منجك والأمير أَسَندَمُر، وقيدوا، فأنكر ذلك جمال الدين يوسف بن محمد المرداوي الحنبلي قاضي دمشق، وصار إلى الأمير يَلْبُغا، وقال له: لم يقع الصلح على هذا فاعتذر بأنه ما قصد إلا إقامة حرمة السلطان، ووعد بالإفراج عنهم. فلما انصرف بعث بهم إلى الإسكندرية، فسجنوا بها. وصعد السلطان إلى قلعة دمشق، وسكنها. واستبد الأمير يَلْبُغا بتدبير الأمور في الشام، على عادته في مصر. واستقر الأمير علاء الدين أمير على نائب الشام عوضاً عن الأمير بَيْدَمُر، واستقر الأمير قطْلُوبُغا الأحمدي رأس نوبة في نيابة حلب عوضاً عن الأمير أحمد بن القَشتمري.(2/235)
ثم سار السلطان بعساكره من دمشق، في يوم الأحد، فلما قرب من القاهرة دُقت البشائر بقلعة الجبل، وزينت القاهرة ومصر زينة عظيمة، وصعد إلى قلعته في يوم الإثنين عشرين شوال.
وفيه قدم الأمير قَشْتَمُر النائب من الوجه القبلي.
وقدم الأمير حيار بن مهنا، فخلع عليه، واستقر في الإمرة عوضاً عن أخيه فياض ابن مهنا بعد موته.
واستقر علاء الدين على بن إبراهيم بن حسن بن تميم في كتابة سر حلب، عوضاً عن ناصر الدين محمد بن الصاحب شرف الدين يعقوب بن عبد الكريم.
واتفق بحلب أن في يوم الإثنين سادس عشرين ربيع الأول جىء إلى النائب بمولود قد مات بعد ولادته بساعة، فإذا له على كل كتف رأس بوجه مستدير، وهما إلى جهة واحدة.
وفيها اتفق الأمير حسين بن محمد بن قلاوون مع الطواشي جوهر الزمردي نائب مقدم المماليك على أن يلبس المماليك السلطانية آلة الحرب ويتسلطن. وكان السفير بينهما نصر السليماني أحد طواشية الأمير حسين، فوشى بذلك إلى الأمراء. وكان السلطان بالشام، فبادر الأمير أَيْدَمُر الشمسي نائب الغيبة والأمير موسى بن الأزْكَشي وقبضا على جوهر ونصر وسجنا بخزانة شمايل بالقاهرة. فلما قدم السلطان والأمير يلبغا سمراً وشهراً، ثم نفيا إلى قوص في ذي القعدة.
ومات في هذه السنة من الأعيان ممن له ذكر
شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب بن خلف بن بدر، المعروف بابن بنت الأعز العلائي، الففيه الشافعي، ناظر بيت المال، وناظر الأحباس في يوم الخميس ثامن عشر ربيع الآخر.
والأمير بلبان السناني أستادار السلطان، وأحد مقدمى الألوف، بعد ما نفاه الناصر حسن ثم أعيد واستقر إلى القلعة، وهو من المماليك الناصرية محمد بن قلاوون.
ومات الشريف شهاب الدين حسين بن محمد بن حسين بن محمد بن حسين بن حسين بن زيد المعروف بابن قاضي العسكر الأرموي نقيب الأشراف بديار مصر، وكاتب السر بحلب، عن اثنتين وستين سنة، بالقاهرة.
ومات الشريف بدر الدين محمد بن علي بن حمزة بن علي بن الحسن بن زهرة بن الحسن بن زهرة نقيب الأشراف بحلب.
ومات شمس الدين محمد بن عيسى بن محمد بن عبد الوهاب بن دويب الآمدي الدمشقي المعروف بابن قاضي شهبة، الأديب الماهر، خطيب مدينة غزة، وكاتب الإنشاء بدمشق.
ومات شمس الدين محمد بن مجد الدين عيسى بن محمود بن عبد الضيف البعلبكي المعروف بابن المجد الموسوي في سلخ صفر. وكان قد ابتلى في الوسواس بأمر شديد، حتى أنه كان إذا توضأ من فسقية المدرسة الصالحية بين القصرين لايزال به وسواسه إلى أن يلقى نفسه في الماء بثيابه ويغطس شتاءً وصيفاً، زعماً منه أنه لا يسبغ الوضوء ما لم يفعل هذا. وكان جميل المعاشرة حسن المحاضرة، لا تمل مجالسته.
وتوفي الشيخ جمال الدين عبد اللّه بن الزيلعي الحنفي، في حادي عشرين المحرم، برع في الفقه والحديث، وخرج أحاديث الهداية في الفقه على مذهب أبي حنيفة، وخرج أحاديث الكشاف للزمخشري في تفسير القرآن، وبين ما وصلت إليه قدرته من أسانيدها، فأحسن ما شاء.
وتوفي الشيخ جمال الدين خليل بن عثمان بن الزولي في حادي عشرين المحرم، كان شافعياً ثم صار حنفياً، وكان تيمي الاعتقاد حتى مات. ولي خطابة جامع شيخو وإمامته، وتدريس الحديث بالخانكاه الشيخونية. وكان لشيخو فيه اعتقاد جيد، وله به اختصاص. وكان عبداً صالحاً كثير السكون، يكتب الخط الجيد.
وتوفي الحافظ علاء الدين مُغْلطَاي بن قليج بن عبد الله البَكْخَري الحنفي المحدث.
وتوفي الشيخ المعمر أبو العباس أحمد بن موسى الزرعي الحنْبلي، أحد الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، في المحرم بمدينة حبراص من الشام. قدم إلى القاهرة، وكان قوياً في ذات اللّه، جريئاً على الملوك، أبطل مظالم كثيرة، وصحب شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية فانتفع به. وكان متقشفاً، وله وجاهة عند الخاصة والعامة، لزهده وورعه وتقواه. ولما قدم على الناصر محمد بقلعة الجبل، قال له: يا شيخ ما جئتنا بهدية! فقال: نعم، جراب ملآن حيات وعقارب. وأخرج جراباً فيه قصص مظالم، فرسم السلطان بإجابته إلى جميع ذلك. وعاد إلى دمشق، فأمضى النائب بعضها ودافع في البعض.(2/236)
وتوفي الفقيه المنشىء الكاتب كمال الدين أبو عبد اللّه محمد بن شرف الدين أحمد ابن يعقوب بن فضل بن طرخان الزينبي الجعفري العباسي الدمشقي الشافعي، بضواحي القاهرة، عن بضع وخمسين سنة، في ربيع الأول.
وتوفي الخواجا عز الدين حسين بن داود بن عبد السيد بن علوان السلامي التاجر، في رجب بدمشق، وقد حدث عن ابن النجاري وغيره.
ومات الأمير سيف الدين المهمندار حاجب الحجاب بدمشق، في شوال.
والأمير سيف الدين برناق، نائب قلعة دمشق في شعبان.
ومات محيى الدين أبو زكريا يحيى بن عمر بن الزكي بن أبي القاسم الشافعي قاضي الكرك، في أوائل ذي القعدة بالقدس، معزولاً.
وتوفي الشريف ثُقبة بن رُميثَة في شوال، وانفرد أخوه عَجلان بعده بإمارة مكة.
وفيها قتل صاحب فاس ملك المغرب السلطان أبو سالم إبراهيم، ابن السلطان أبي الحسن علي بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق في ليلة الأربعاء ثامن عشر ذي القعدة. وأقيم بعده أبو عمر تاشفين بن السلطان أبي الحسن.
سنة ثلاث وستين وسبعمائة
في شهر الله المحرم: تزوج الأمير يَلْبُغا الأتابك بخوند طولونية زوج السلطان حسن.
وفي يوم الإثنين سادس صفر: خلع على الأمير الطواشي سابق الدين مثقال الآنوكي، واستقر مقدم المماليك عوضاً عن شرف الدين مختص الطَقتمُري بعد وفاته.
وخرج السلطان والأمير يَلبغَا إلى الصيد بالجيزة.
واستدعى جماعة من الفقهاء إلى مخيم الأمير يَلْبُغَا، فعين طائفة منهم، وعرضهم على السلطان في يوم الخميس ثاني عشرين صفر، فخلع على برهان الدين إبراهيم بن علم الدين محمد بن أبي بكر بن عيسى بن بدران الأخنائي محتسب القاهرة، واستقر في قضاء القضاة المالكية عوضاً عن أخيه تاج الدين بعد موته. وخلع على صلاح الدين عبد الله بن عبد اللّه بن إبراهيم البردمي المالكي مدرس المدرسة الأشرفية، واستقر في حسبة القاهرةْ عوضاً عن البرهان الأخنائي. وخلع على تاج الدين محمد بن بهاء الدين شاهد الجمالي، واستقر في نظر المارستان المنصوري عوضاً عن البرهان الأخنائي.
وخلع على الشيخ شرف الدين محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن عسكر البغدادي المالكي، واستقر في نظر الخزانة الخاص، عوضاً عن التاج الأخنائي. وعدوا النيل إلى القاهرة، فكان يوماً مشهوداً. ثم عاد السلطان إلى قلعة الجبل.؟؟؟ وفي يوم الخميس تاسع شهر رجب: خلع على الأمير طُغاى تَمُر النظامي، واستقر حاجب الحجاب عوضاً عن الأمير ألجاي اليوسفي. واستقر أُلجاي أمير جندار.
وفي سابع عشريه: نفي الأمير موسى بن الأزكشي إلى حماة بطالاً، واستقر عوضه أستادار الأمير أروس المحمودي.
وفي يوم الإثنين خامس شعبان: خلع على الأمير قشتمر النائب، واستقر في نيابة الشام عوضاً عن أمير على بحكم استعفائه. وخلع على الشيخ بهاء الدين أحمد بن التقي السبكي، واستقر في قضاء دمشق، عوضاً عن أخيه تاج الدين عبد الوهاب.
واستقر التاج في وظائف أخيه، وهي تدريس المدرسة المنصورية، والخانكاه الشيخونية، والمدرسة الناصرية بجوار قبة الإمام الشافعي، وإفتاء دار العدل. وقد استدعى إلى القاهرة لكثرة شكواه.
وفي ثامنه: أنعم على الأمير قَطْلَقتمُر العلاي الجاشنكير بتقدمة ألف.
وفي يوم الخميس خامس شوال: خلع على الأمير أَشَقتمر المارديني أمير مجلس، واستقر في نيابة طرابلس.
وخلع على الأمير طُغَاى تَمر النظامي واستقر أمير مجلس عوضاً عن أَشقتمر، وخلع على الأمير أَسنبغا بن البوبكري واستقر حاجب الحجاب.(2/237)
وفيه استقر الأمير عز الدين أَيْدَمُر الشيخي في نيابة حماة. واستقر الأمير مَنكَلى بغا الشمسي في نيابة حلب، عوضاً عن قطلوبغا الأحمدي. واستقر الأمير أَسندمر الطازي في نيابة ملطية فأكثر من الغارات على بلاد الروم، وأسرهم وقتلهم، فبعث إلية الأمير محمد بن أَرتَنَا صاحب قيصرية الروم عسكراً مع ابن دُلغَادر، فكسبه وهو يتصيد فقاتله قتالاً شديداً، ونجا بنفسه إلى ملطية. فكتب السلطان والأمير يلبُغا بخروج عساكر دمشق وطرابلس وحماة وحلب بآلات الحرب والحصار، صحبة الأمير قطْلُوبغا نائب حلب. فخرج من دمشق خمسة آلاف فارس، ومن بقية البلاد الشامية سبعة آلاف فارس. وتوجه نائب حلب في اثني عشر ألفاً ومعه المجانيق والنقابون، وجميع ما يحتاج إليه، فشنوا الغارات على بلاد الروم، ثم عادوا بغير طائل.
وفيها استدعى أبو عبد اللّه محمد بن الخليفة المعتضد باللّه أبي بكر، في يوم الخميس ثاني عشر جمادى الأولى، إلى قلعة الجبل، وجلس مع السلطان بالقصر، وقد حضر الأمراء فأقيم في الخلافة بعد وفاة أبيه، ولقب بالمتوكل على اللّه، وخلع عليه، وفوض له نظر المشهد النفْيسي. ليستعين بما يحمل إليه من النذور على حاله، وركب إلى منزله، فهنأه الناس بالخلافة.
وفيها استقر جمال الدين يوسف بن قاضي القضاة شرف الدين أبي العباس أحمد بن الحسين بن سليمان بن فزارة الكفري في قضاء الحنفية بدمشق، عوضاً عن والده في جمادى الأولى.
واستقر صدر الدين أحمد بن عبد الظاهر بن محمد الدميري في قضاء المالكية بحلب، عوضاً عن الشهاب أحمد بن محمد بن ياسين الرياحي في صفر.
واستقر كمال الدين أبو الفضل محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن القسم النويري في قضاء مكة، عوضاً عن تقي الدين أبي اليمن محمد بن أبى العباس أحمد بن قاسم الحرازي، بعد عزله.
وفيها استقر جمال الدين عبد اللّه بن كمال الدين محمد بن عماد الدين إسماعيل بن تاج الدين أحمد بن السعيد بن الأثير في كتابة السر بدمشق، عوضاً عن ناصر الدين محمد بن الصاحب شرف الدين يعقوب بن عبد الكريم الحلبي، بعد وفاته.
وفيها اشتد البرد بدمشق. وخرج ركب الحاج من القاهرة صحبة الأمير طَيبغَا الطويل، أمير سلاح، وهو في تجمل عظيم، فوصلت إليه الإقامات إلى عرفة، حملها إليه الأمير يَلبغا وفيها خلع صاحب فاس ملك المغرب أبو عمر تاشفين بن السلطان أبي الحسن على ابن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق في محرم. وولى ملك المغرب بعد أبو زيان محمد ابن الأمير أبى عبد الرحمن بن السلطان أبي الحسن.
وفيها اشتد البرد ببلاد الشام، وجمدت المياه حتى ماء الفرات، ومر المسافرون عليه بأثقالهم، فرأوا منه منظراً عجيباً. وهذا الأمر لم يعهد في هذه الأعصار مثله.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر من الأعيان
الخليفة المعتضد باللّه أبو الفتح، واسمه أبو بكر بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان ابن الحاكم بأمر اللّه أبي العباس أحمد بن الحسن بن أبي بكر بن أبي علي بن الحسن بن الخليفة الراشد بن المسترشد، في يوم الثلاثاء عاشر جمادى الأولى ومدة خلافته عشرة أعوام. وحج سنة أربع وخمسين وسنة ستين. وكان يلثغ في حرف الكاف، وعهد إلى ابنه محمد قبل وفاته بقليل.(2/238)
وتوفي السلطان أبو سالم إبراهيم بن أبي الحسن علي بن أبي سعيد عثمان بن أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق المريني صاحب فاس من بلاد المغرب. وكان من خبره أن أباه السلطان - أبا الحسن - أقامه أميراً، فقدم هو وأخوه إلى غرناطة من الأندلس في العشرين من جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين، فأقاما بها إلى أن مات أبو عنان في سنة تسع وخمسين، وأقيم بعده ابنه السعيد في الملك، فخرج أبو سالم من غرناطة ليلاً، ولحق بأشبيلية وبها سلطان قشتالة فطرح نفسه عليه، فوعده ولم يف له، فاجتمع الناس على منصور بن سليمان بن منصور بن عبد الواحد بن يعقوب بن عبد الحق، ونازل البلد الجديد، فخرج أبو سالم من إشبيلية بغير طائل، ومضى إلى الإفرنس فانضم إليه طائفة وأخدْ مدينة أصيلا وطنجة، فتلاحقت به جيوش منصور بن سليمان، وقد اختل أمره ففر. فسار أبو سالم بمن معه ودخل دار الإمارة، يوم الخميس النصف من شعبان، سنة تسع وخمسين، فلم يختلف عليه أحد إلى أن كانت هذه السنة ثار عليه ثقته ودعا إلى أخيه تاشفين. ففر الناس عنه، وخرج ليلاً فأخذ وذبح، فاضطربت الأمور من بعده. وكان وسيماً بديناً كثير الحياء مؤثراً للجميل، له معرفة بالحساب والنجوم، ومحبة في الراحة.
وتوفي الأمير طاز في العشرين من ذي الحجة بالشام.
وتوفي الشريف شمس الدين محمد بن شهاب الدين أحمد بن محمد بن الحسين بن محمد المعروف بابن أبى الركب، نقيب الأشراف بالقاهرة، وإليه تنسب المدرسة الشريفية بحارة بهاء الدين.
وتوفي أبوه شهاب الدين في شعبان، سنة اثنتين وستين.
وتوفي شمس الدين أبو إمامة محمد بن علي بن عبد الواحد بن يحيى بن عبد الرحيم، المعروف بابن النقاش الشافعي، الفقيه المحدث، المفسر الواعظ، في يوم الثلاثاء ثالث عشر ربيع الأول.
وتوفي أمين الدين محمد بن الجمال أحمد بن محمد بن محمد بن نصر اللّه بن المظفر ابن أسعد بن حمزة المعروف بابن القلانس التميمي الدمشقي، وكان أحد أعيان دمشق، وباشر بها وكالة بيت المال وقضاء العسكر، ودرس الفقه، ثم ولي كتابة السر مدة، وعزل عنها.
وتوفي قاضي القضاة المالكية، تاج الدين أبو عبد الله محمد بن علم الدين محمد بن أبي بكر بن عيسى بن بدران الأخنائي المالكي، في ثامن عشر صفر بالقاهرة.
وتوفي ناصر الدين محمد بن أبي القاسم بن حمل المعروف بابن التونسي، أحد نواب القضاة المالكية، في يوم الجمعة حادي عشر صفر بالقاهرة.
ومات ناصر الدين محمد بن الصاحب شرف الدين يعقوب بن عبد الكريم بن أبي المعالي الحلبي الشافعي. ولي كتابة السر بحلب ودمشق، ثلاَثاً وعشرين سنة، ودرس، وقال الشعر.
وتوفي صلاح الدين عبد اللّه بن محمد بن كثير التاجر النحوي المعروف بابن المعزى بمكة، في ذي القعدة. أخذ النحو بالقاهرة عن أبي الحسن والد الشيخ سراج الدين عمر بن الملقن. وكان عبداً صالحاً.
وتوفي الأمير أَيْنَبَك أخو الأمير بَكتمُر الساقي.
وتوفي الصاحب الطواشي صفي الدين جوهر الزمردي بقوص في شعبان.
وتوفي فتح الدين يحيى بن عبد اللّه بن مروان بن عبد اللّه بن قمر بن الحسن الفارقي الأصل الدمشقي الشافعي، في ربيع الآخر بدمشق. ومولده في القاهرة سنة اثنتين وسبعين وستمائة. وقد حدث، وكان صالحاً، ثقة، ثبتاً.
وتوفي والده في صفر سنة ثلاث وسبعمائة.
وتوفي شمس الدين محمد بن مفلح بن محمد بن مفرح الدمشقي الحنبلي، في رجب بدمشق، ومولده بعد سنة سبعمائة، برع في الفقه وغيره، وصنْف كتاب الفروع، وهو مفيد جداً. والله أعلم.
سنة أربع وستين وسبعمائة
في المحرم: عدى السلطان والأمير يَلْبغا النيل إلى بر الجيزة، وخيم قريباً من الأهرام، وفي يوم الإثنين: رابع عشر صفر قدم قاضي القضاة بهاء الدين أحمد بن السبكي على البريد من دمشق، باستدعاء، فاجتمع بالسلطان والأمير يلبغا ثم عاد إلى القاهرة. وفي تاسع عشر شهر ربيع الأول: عاد السلطان من السرحة بالجيزة، ومعه الأمير يَلْبُغَا.
وفي يوم الإثنين ثاني عشرينه: خلع على تاج الدين عبد الوهاب بن السبكي وأعيد إلى قضاء دمشق، وخلع على أخيه بهاء الدين وأعيد إلى إفتاء دار العدل، وبقية وظائفه. وخلع على الأمير أَقتمُر عبد الغنى واستقر حاجب الحجاب، عوضا عن أسنبغا بن البوبكري.(2/239)
وفي جمادى الأولى: فشت الطواعين والأمراض الحادة في الناس بالقاهرة ومصر وعامة الوجه البحري، وتزايد حتى بلغ في شهر رجب عدة من يموت في اليوم ثلاثة آلاف. ولم تزل الأمراض بالناس إلى شهر رمضان.
وقدم الخبر بوقوع الوباء بدمشق وغزة وحلب، وعامة بلاد الشام، فهلك فيه خلائق كثيرة جدًا وفي يوم الإثنين رابع عشر شعبان: اقتضى رأى الأمير يَلبغَا خلع السلطان فوافقه الأمراء على ذلك، فخلعوه من الغد لاختلال عقله، وسجنوه ببعض الدور السلطانية من القلعة، فكانت مدة سلطنته سنتين وثلاثة أشهر وستة أيام، لم يكن له سوى الاسم فقط
السلطان زين الدين أبو المعالي
السلطان الملك الأشرف زين الدين أبو المعالي شعبان بن الأمجد حسين بن الناصر محمد بن قلاوون ولي السلطنة وعمره عشر سنين، ولم يل أحد من بني قلاوون واًبوه لم يل السلطنة سواه. وكان من خبره أن الأمير يلبغا جمع الأمراء بقلعة الجبل كما تقدم، حتى اتفقوا على خلع السلطان المنصور. ثم بكروا في يوم الثلاثاء النصف من شعبان إلى القلعة وأحضروا الخليفة أبا عبد اللّه محمد المتوكل على اللّه وقضاة القضاة الأربع، وأعلموهم باختلال عقل المنصور وعدم أهليته للقيام بأمور المملكة، وأن الاتفاق وقع على خلعه فخلعوه، وأحضروا شعبان بن حسين وأفاضوا عليه خلعة السلطنة، ولقبوه بالملك الأشرف زين الدين أبي المعالي، وأركبوه بشعار السلطة، حتى جلس على تخت الملك وحلفوا له، وقبلوا الأرض على العادة. وكتب إلى الأعمال بذلك فسارت البرد في أقطار المملكة، وخلع على أرباب الوظائف.
وفي يوم الخميس ثالث عشرين رمضان: عزل قاضي القضاة موفق الدين الحنبلي نفسه من القضاء من أجل أن الأمير يَلبغَا استدعاه، فوافاه القاصد وهو نايم، فلم يتمهل عليه حتى ينتبه، بل أمر به فأيقظ وقد انزعج، فغضب لذلك، وعزل نفسه، وأبى أن يجيب القاصد أو يجتمع به، فشق ذلك على الأمير يَلبغَا. ومازال يرسل إليه ويترضاه حتى رضي. ثم استدعى في يوم الإثنين سابع عشرينه إلى مجلس السلطان، وخلع عليه وأعيد إلى وظيفة القضاء على عادته. واستقر الأمير مَنْكَلى بُغَا الشمسي في نيابة الشام، عوضاً عن الأمير قَشْتَمُر. واستقر الأمير أَشَقتمر المارديني في نيابة حلب، عوضاً عن الأمير سيف الدولة قطلوبغا الأحمدي بعد موته.
واستقر الأمير أَزْدَمر الخازندار في نيابة طرابلس، واستقر عوضه في نيابة صفد الأمير قَشْتَمُر المنصوري نائب الشام ومصر. واستقر الأمير عمر شاه في نيابة حماة. واستقر الأمير أحمد بن القَشَتمُري في نيابة الكرك، والأمير أَرَنبُغا في نيابة غزة. واستقر الأمير أَرْغون الأحمدي الخازندار لالا السلطان واستقر عوضه خازندار الأمير يعقوب شاه. واستقر الشريف بَكتمُر بن علي الحسني والي قطا في ولاية القاهرة، عوضاً عن الأمير علاء الدين علي بن الكوراني بحكم استعفائه. وولي الأمير علاء الدين علي بن الطشلاقي والي دمياط ولاية قطيا. واستقر خليل بن الزيني في ولاية الغربية، عوضاً عن عمر بن الكركَنْد، وهي ولايته الثالثة. واستقر قَشْتَمُر أستادار طَقَزْدَمُرْ في ولاية الجيزة، ثم عزل عن قريب بموسى بن الديناري. واستقر أحمد بن جميل والي الأشمونين ومقبل السيفي والي منوف عوضاً عن محمد بن عقيل، ومحمد بن السميساطي والي دمياط. واستقر الحسام المعروف بالدم الأسود أستادار أيتمش في ولاية الفيوم عوضاً عن محمد بن طغاى. واستقر فتح الدين أبو بكر محمد بن إبراهيم ابن أبي الكرم محمد بن الشهيد في كتابة السر بدمشق، عوضاً عن الجمال عبد اللّه بن محمد بن إسماعيل بن أحمد بن سعيد بن الأثير.
وفي هده السنة: توقفت زيادة ماء النيل في أيام زيادته مدة أيام، ثم نودي عليه في يوم السبت سابع ذي القعدة وسادس عشرين مسرى زيادة إصبع لتتمة سبعة عشر إصبعاً من ستة عشر ذراعاً. ثم نقص ثلث ذراع، وتوقفت الزيادة حتى انقضت أيام مسرى وبعدها أيام النسىء. ثم زاد في آخر أيام النسىء إصبعاً واحداً، واستمر حتى كان الوفاء في يوم الثلاثاء ثامن عشر ذي القعدة. وفتح الخليج، فتمادت زيادته حتى انتهت إلى أربعة أصابع من ثمانية عشر ذراعاً، ثم انهبط فتحرك سعر الغلال.(2/240)
وفيها فرق الأمير يلبغا كثيراً من الغلال والأموال في الفقهاء والصوفية. وولى من ذلك جانباً موفوراً للقاضي محب الدين ناظر الجيش، فارتفق الناس بهذه الصدقات بحيث استغنى منها جماعة.
وفيها استقر الأمير بَكتمُر مملوك طاز - أحد الطبلخاناه - في نيابة الرحبة .
ومات فيها من الأعيان الشريف غياث الدين أبو إسحاق إبراهيم بن صدر الدين حمزة العراقي، والد الشريف مرتضى ومات شهاب الدين أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم البعلبكي، مفتي دار العدل بدمشق في سابع عشرين شهر رمضان. برع في الفقه على مذهب الإمام الشافعي، وشارك في عدة فنون، وأفتى ودرس وقدم القاهرة.
وتوفي الشيخ مجد الدين أبو الفدا إسماعيل بن يوسف بن محمد الكفتي شيخ القراءات، في نصف شعبان. قرأ على الشيخ شمس الدين محمد بن محمد بن نمير بن السراج، وعلي التقي الصايغ، ونجم الدين عبد الله الواسطي، وتصدر للإقراء بجامع أحمد بن طولون، وعليه قرأ التقي البغدادي وشيخنا فخر الدين عثمان بن عبد الرحمن البلبيسي ومات بَكتمر أمير علم ومات جَرْكَس النوروزي أحد أمراء الطبلخاناه.
وتوفي الفقير المعتقد حسن بن مسلم المسلمي، المقيم بجامع الفيلة وكان يجاهد الفرنج من جهة طرابلس المغرب، ويقيم حاله وحال من معه من الفقراء المسلمين مما يكون من الغنايم. وكان عنده أسد قد رباه وساسه حتى صار بين فقرائه بمنزلة الهر في البيوت. فلما مات أخذ السباعون الأسد، فتوحش عندهم، وعاد إلى ما جبل عليه.
وتوفي أبو حاتم بن بهاء الدين أحمد بن السبكي وتوفي الشيخ صلاح الدين أبو الصفا خليل بن أيبك الصفدي في ليلة الأحد عاشر شوال بدمشق. برع في عدة فنون من أدب وتاريخ وغيره، وأكثر من قول الشعر وإنشاء الكتب والرسائل ونحوها. وألف كتبا كثيرة مفيدة، منها كتاب الوافي بالوفيات في التاريخ، كبير جدا، وكتاب أعوان النصر في أعيان العصر، جدد فيه ما شاء، وكتاب شرح لامية العجم، طول فيه كثيرًا، وملأه بفوائد جليلة، وغير ذلك، وكتب الإنشاء بالقاهرة ودمشق وباشر كتابة سر حلب قليلاً.
وتوفي تقي الدين أبو الربيع سليمان بن علي بن عبد الرحيم بن أبي سالم، بن مراجل الدمشقي، ناظر الدولة بديار مصر، ووزير دمشق.
ومات شمس الدين عبد اللّه بن يوسف بن عبد اللّه بن يوسف بن أبي السفاح بالقاهرة.
ومات شمس الدين عبد الرحمن بن الضياء المناوي، في تاسع عشرين جمادى الآخر، وهو شاب وتوفي زين الدين عمر بن الشرف عيسى بن عمر الباريني الحلبي الفقيه الشافعي بحلب ومات الشيخ عماد الدين محمد بن الحسين بن علي بن عمر الإسنوي الشافعي، في ثامن عشرين جمادى الآخر بالقاهرة، برع في الفقه والأصول، ودرس، وناب في الحكم، وصْنف ومات ناصر الدين أبو عبد اللّه محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن الربوة القونوى، ثم الدمشقي، الحنفي، الفقيه الخطيب، المفتي. شرح كتاب السراجية في الفرائض، والمنار في الأصول، ودرس وخطب بجامع يَلْبُغَا.
ومات الأمير سيف الدين قطلوبغا الأحمدى، نائب حلب بها.
ومات تقي الدين محمد بن أحمد بن الحسن بن محمد بن عبد العزيز بن محمد بن الفرات الشافعي النحوي، موقع الحكم، في يوم السبت تاسع عشرين جمادى الآخرة، بالقاهرة. برع في العربية، وانفرد بمعرفة التواقيع الحكمية.
وتوفي ناصر الدين محمد بن صلاح الدين عبد اللّه بن شرف الدين عبد الوهاب بن فضل اللّه العمري، أحد أمراء دمشق وتوفي محدث الشام أمين الدين محمد بن أحمد بن علي الجوخي، في ليلة السبت حادي عشر رمضان. حدث عن الفخر علي، وزينب بنت كامل، وسمع الناس عليه مسند الإمام أحمد.
وتوفي خطيب دمشق جمال الدين محمود بن محمد بن إبراهيم بن جملة ، في يوم الإثنين العشرين من رمضان.
ومات يزدار أمير شكار، وجوهر المظفري اللالا، وجماعة كثير جدا.
وتوفي حسين بن محمد بن قلاوون، ليلة السبت رابع ربيع الآخر.
سنة خمس وستين وسبعمائة(2/241)
في المحرم: أنعم على الأمير طَيْدَمر البالسي بتقدمة الأمير قَندس الناصري. وقد كف بصره. وأنعم على الأمير علي بن قندس الناصري بإمرة طبلخاناه. واستقر الأمير أَرْغُون التاجى أمير جندار حاجب طرابلس، واستقر الأمير ألطنبُغَا فرفور جاشنكيرا. عوضا عن مَنْكُوتَمُر عبد الغني، وقد استعفي. واستقر الأمير آسن قُجَا على بك الجوكندار في نيابة ملطية في ثالث صفر واستقر الأمير عمر بن أرغون النايب في نيابة صفد عوضًا عن قَشْتَمر المنصور. واستدعى قَشْتَمُر إلى القاهرة. وأنعم عليه بتقدمهْ عمر ابن أرغون النايب. واستقر الأمير طَيْنال المارديني والي القلعة عوضاً عن أَلْطنْبُغا الشمسي آنوك، وقد استعفي.
وأنعم السلطان على جماعة بإمريات طبلخاناه، منهم تَمُرقُبا العمري، ومحمد بن قمارى أمير شكار، وأَلْطنبُغَا الأحمدي، وأقبغا الصفدي.
وأنعم على كل من إبراهيم بن الأمير صرغتمش، وقَشتمُر العلاي طاجار من عوض، وأروس بغا الخليلي، ورجب بن كَلَفتَ التركماني، بإمرة عشرة.
واستقر الأمير قمارى الحموي في نيابة طرسوس. واستقر الأمير قَشْتَمُر القاسمي في نيابة سلمية عوضاً عن الأمير طنيرق. واستمّر عمر بن الكَركَند في ولاية الغربية عوضاً عن خليل بن الزيني. واستقر فخر الدين عثمان الشرفي في ولاية الأشمونين.
وفيها ارتفع سعر الغلال، فبلغ القمح أربعين درهماً الأردب، ووقع الموت في الأبقار بأرض مصر وإفريقية.
وفي المحرم: قدم بهاء الدين أبو البقاء محمد بن عبد البر بن يحيى السبكى إلى القاهرة من دمشق، معزولاً عن قضاياها.
وفي يوم الأربعاء تاسع عشرين صفر: خلع على علاء الدين على بن سديد الدين أبي محمد عبد الوهاب بن الفخر عثمادْ بن محمد بن هبة الله بن علي بن إبراهيم بن حسين بن عبد العظيم بن عبد الكريم بن عبد اللّه بن سليمان، بن عبد الوهاب بن سليمان بن خالد بن الوليد المعروف بابن عرب، واستقر محتسب القاهرة، عوضا عن الصلاح عبد اللّه بن عبد اللّه البرلسي، بعد وفاته.
وفي يوم الخميس ثاني عشر ربيع الآخر: خلع على بهاء الدين أبي البقاء، واستقر قاضى العسكر ووكيل الخاص، عوضاً عن التاج محمد بن عبد الحق المناوى بعد وفاته. وخلع على السراج عمر الهندي الحنفي، واستقر قاضي العسكر أيضًا. وخلع على الشيخ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن الصايغ الحنفي، واستقر في إفتاء دار العدل، وهو أول حنفي ولي إفتاء دار العدل. وخلع على الشيخ سراج الدين عمر بن رسلان البلقيني الشافعي، واستقر في إفتاء دار العدل أيضًا. وأمر هؤلاء الأربعة مع الشيخ بهاء الدين بن السبكي بحضور دار العدل في أيام الخدمة.
وفي شوال: خلع على أبي البقاء، واستقر في نظر الأوقاف ونيابة الحكم، مضافا لما بيده وقدمت رسل متملك سيس في طلب تخفيف الضريبة المقررة عليهم، فهلك ملكهم وهم بمصر، فعادوا بغير طائل.
وكثر الجراد بالشام حتى شنع، وأتلف الزروع، فغلت الأسعار حتى بلغت الغرارة القمح بدمشق ماية وثمانين درهماً، ثم انحطت إلى مائة وعشرة دراهم، وفشت الطواعين والأمراض الحادة في الناس بدمشق. وفتح الأمير منكلى بغا الشمسي نائب الشام باب كيسان من مدينة دمشق بعد ما أقام مغلوقا زيادة على مائتي عام، منذ أيام الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي وعقد عليه قبوا كبيرًا، ونصب له جسرًا يمر الناس عليه، وأنشأ هناك جامعًا.
وفيها برز مرسوم السلطان.بمنع الوكلاء الذين. بمجالس القضاة.بمصر والشام لكثرة خداعهم ومكرهم وتحذلقهم فى تنوع الشرور.
وفيها حفر الأمير يَلبغَا الأتابك ترعة استجدها، من البدرشين بالجيزية، فكثر النفع بها.
وفى ثامن عشرين ذي الحجة: السلطان الملك الأشرف زين الدين أبو المعالي شعبان بن الأمجد حسين بن الناصر محمد بن قلا استقر الأمير قَطْلُبَك والأمير منوف.
ومات فى هذه السنة من الأعيان
شهاب الدين أحمد بن الجمال محمد بن عمر بن أحمد بن هبة اللّه بن محمد بن هبة الّله بن أحمد بن يحيى بن أبى جرادة العقيلى الحلبى، المعروف بابن العديم الحنفْى، نائب شيزر، عن بضع وستين سنة.(2/242)
وتوفي قاضى حماة نجم الدين عبد الرحيم بن شمس الدين إبراهيم بن هبة ا للّه بن عبد الرحيم بن اٍ براهيم بن المسَلْم بن هبة اللّه بن حسان بن محمد بن منصور بن أحمد بن البارزى الجهنى الحموى الشافعى، بعد ما أقام قاضيا شيئًا وعشرين سنة.
ومات الأمير قُطْلُوئغا الأحمدى. تقدم ذكره فى السنة التى قبلها، وهو نْائب حلب. ومات القاضى تاج الدين أبو عبد اللّه محمد بن بهاء الدين إسحاق بن إبراهيم ا!سَلَمى الممناوى الشافْعى، خْليفهْ الحكم، وقاضي العسكر، ووكيل الخاص في يوم الجمعهْ سادس ربيع الآخر، ودفن بالقرافة.
وتوفى صلاح الدين عبد ا للّه بن عبد ا للّه بن اٍبراهيم البرلسى المالكى، محتسب القاهرة، يوم الخميس خامس عشرين صفر، ودفن بالقرافة، وبيعت كتبه.بمائة ألف درهم ونيف. وفى حسبته أمر الموًذنين أن يقولوا مع قولهم فى ليالي الجمعة بعد أذان عشاء الآخرة، وفي السلام قبل الفجر السلام عليك يا رسول ا للّه، الصلاهْ والسلام عليك يا رسول ا لله . فاستمر ذلك.
وتوفى فتح الدين أبو عبد ا للّه محمد بن محمد بن أبى الحسن القلانسى الحنبلى. عاقد الأنكحة. فى ليلة الجمعة، رابع جمادى الأولى، عن سن عالية، وقد حدث بعلو إسناد عن جماعهَ.
وتوفي أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن عبد العزيز بن إسحاق بن أحمد بن أسد بن قاسم المعروف بابن الحاج النميري الغرناطي، قدم إلى القاهرة حاجاً، وكتب الإنشاء بغرناطة وبجاية وقال الشعر.
وتوفي قاضي مكة، تقي الدين محمد بن أحمد بن قاسم العمري الحرازي الشافعي، معزولاً ومات الأمير أقبغا بوذ السيفي، أحد رءوس النوب.
ومات الأمير أرغون التاجي، أحد الطبلخاناه.
وتوفيت خوند طولباى التركية عتيقة السلطان حسن، وامرأة الأمير يلبغا الأتابك، في رابع عشرين ربيع الآخر، ودفنت بتربتها خارج باب البرقية.
وتوفي الملك الصالح صالح بن المنصور نجم الدين غازي بن المظفر قرا أرسلان بن السعيد غازي بن أرتق بن أرسلان بن إيلغازى بن ألبى بن تمرداش بن إيلغازى بن أرتق. متملك ماردين ، فلما قدم الخبر بوفاته جهزت الخلعة بالسلطنة لولده الملك المنصور حسام الدين أحمد. وكان قد ملك أربعاً وخمسين سنة.
ومات بالمدينة النبوية الحافظ عفيف الدين أبو السيادة عبد اللّه بن محمد بن أحمد بن خلف المطري، في سادس عشرين ربيع الأول. واللّه تعالى أعلم.
سنة ست وستين وسبعمائة
في المحرمك استعفى الشيخ جمال الدين عبد الرحيم الإسنوي من وكالة بيت المال. حنقا من الوزير فخر الدين بن قزوينة، فأعفي، وخلع على علاء الدين علي بن عرب. واستقر عوضه في الوكالة والكسوة، مضافا إلى حسبة القاهرة.
وفيه خلع على شمس الدين محمد بن علي بن أبي رقيبة، واستقر في حسبة مدينة مصر والوجه القبلي، عوضاً عن بهاء الدين بن المفسر بعد عزله.
وفي رجب استقر الأمير جرجى الإدريسي أمير آخور في نيابة حلب، عوضاً عن أشقتمر المارديني.
وفي عشرين صفر: استقر جمال الدين محمد بن السراج أحمد بن مسعود القونوي - المعروف بابن السراج الحنفي - في قضاء الحنفية بدمشق، عوضا عن الجمال يوسف الكفري.
وفيها أسلم الشمس أبو الفرج المقسي وتسمى عبد الله، ولقب شمس الدين، واستقر مستوفي المماليك، ثم نقل إلى استيفاء الخاص.
واستقر الأمير يعقوب شاه أمير آخور عوضاً عن الأمير جرجى نائب حلب، بإمرة طبلخاناه وأنعم على كل من قَطلَوبُغا البلاني، وكمُشْبغا الحموي، وجنغرا السيفي، وأقبغا الجوهري بإمرة طبلخاناه، وعلى كل من سلجوك الرومي، وأروس السيفي، وسُنْقر السيفي بإمرة عشرة واستقر حسام الدين حسن بن علاء الدين علي بن ممدود الكوراني في ولاية المنوفية، عوضاً عن قَطْلُبَك السيفي، واستقر حسن بن الحرامي في ولاية قوص عوضاً عن بَكتمُر العلمي.
وفي أول شهر بيع الأول: قدم التاج عبد الوهاب بن السبكي قاضي دمشق إلى القاهرة، ثم عاد في عاشر جمادى الآخر إلى محل ولايته بدمشق.(2/243)
وقدم الخبر بغلاء الأسعار بمكة، حتى بيعت الغرارة القمح - وهي مائة قدح مصري - بأربعمائة درهم وثمانين درهماً، وعز وجود الأقوات بها فهلك جماعة كثيرة جوعاً، ونزع أكثر أهلها عنها، فجهز الأمير يلبغا الأتابك في جمادى الأولى إلى مكة ألفي أردب قمحاً، وواصل الإرسال حتى حمل من مصر إليها اثني عشر ألف أردب. فرقت كلها في الناس، فعم النفع بها.
وكتب مرسوم بإسقاط ما يؤخذ من مكس الحاج بمكة، فيما يحمل إليها من البضائع، خلا مكس الكارم تجار اليمن، ومكس الخيل، ومكس تجار العراق، وعوض أمير مكة عن ذلك إقطاعاً. بمصر، وحمل إليه مبلغ أربعين ألف درهم فضة، عنها يومئذ نحو الألفي مثقال ذهباً.
واستقو آل ملك السيفي في ولاية الشرقية. وفخر الدين عثمان الشوفي ولاية البهنسا عوضاً عن الشهاب أحمد بن جميل. واستقر ابن جميل في ولاية الأشمونين. واستقر شمس الدين بن الديناري في ولاية الفيوم عوضاً عن علاء الدين العمري.
وفي يوم الإثنين سادس عشر جمادى الآخرة: عدى قاضي القضاة عز الدين بن جماعة النيل إلى بر الجيزة، وقد خيم بها السلطان على العادة، بكوم برا، وسأل الأمير يلبغا في إعفائه من القضاء، وتشفع إليه بمصحف معه، وعزل نفسه. وقام، وقد أقر الأمير يلبغا نواب الحكم على حالهم. فلما عدى السلطان النيل، وصعد القلعة في يوم الخميس تاسع عشره، وجه الأمير يلبغا بالأمير جرجي أمير آخور إلى ابن جماعة يدخل عليه في عوده إلى وظيفة القضاء، فامتنع غاية الامتناع. فبعث إليه بكاتب السر علاء الدين علي بن فضل اللّه فلم يجبه أيضاً. فركب الأمير يلبغا بنفسه في يوم السبت حادي عشرينه، وأتاه إلى منزله بالجامع الأقمر وألح في سؤاله وهو يمتنع. فلما أيس منه سأله أن يعين من يصلح، فأشار بولاية أبي البقاء، ثم صلى وراءه المغرب وانصرف. فاستدعى في يوم الإثنين ثالث عشرينه بأبي البقاء، وفوض إليه السلطان قضاء القضاة، عوضاً عن ابن جماعة، وخلع عليه، وأضاف إليه نظر وقف الأشراف وخلع معه على بهاء الدين أحمد بن السبكي واستقر في قضاء العسكر عوضاً عن أبى البقاء. وخلع على تاج الدين محمد بن بهاء الدين، واستقر في وكالة الخاص زيادة على ما بيده من نظر المارستان.
وفي يوم الخميس سادس عشرينه: خلع على عز الدين بن جماعة، واستقر في نظر جامع أحمد بن طولون، وتدريس الفقه، وتدريس الحديث به، ورتب له على بيت المال في كل شهر ألف درهم.
وفي أول شهر رجب: عزل فخر الدين أبو جعفر محمد بن الكُويك عن نظر الأحباس، واستقر عوضه ناصر الدين محمد القرشي موقع الدست.
وفي سابعه: استقر الأمير قُطلو أقتمر العلاى أمير جاندار في نيابة صفد، عوضاً عن الأمير عمر بن أرغون النائب، وأنعم على عمر بإمرة قُطلو أقتمر.
وفي حادي عشره: استقر الأمير أينال اليوسفي أمير جاندار.
واستقر ألطُنبغا البُشْتكي في نيابة غزة، عوضاً عن أربغا الكاملي.
واستقر الأمير جمال الدين عبد الله بن بَكتمُر الحاجب في نظر المشهد النفيسي، عوضاً عن الخليفة.
وأنعم على الأمير شعبان بن الأمير يلبغا الأتابك بتقدمة ألف.
وفي شهر رمضان: استقر الأمير أزدمر نائب طرابلس في نيابة صفد، عوضاً عن قطلو أقتمر.
واستقر الأمير قشْتَمُر المنصوري في نيابة طرابلس.
وأنعم على الأمير أَسَندمُر المظفري بتقدمة ألف.
وفي سادس عشرين شوال: استقر الأمير عبد اللّه بن بَكتمر الحاجب أمير شكار، عوضاً عن الأمير ناصر الدين محمد بن ألجيبغا. واستقر أَسَنْدمُر حرفوش حاجباً، عوضاً عن عبد الله بن بَكتمر.
وفي آخر ذي القعدة: استقر الأمير مَنْجَك اليوسفي في نيابة طرسوس، عوضاً عن قمارى الحموي، بعد وفاته.
وفيها توجه نائب حلب بالعسكر إلى نجدة ناصر الدين محمد بن باك بن أرتنا، وتوجه عز الدين عبد العزيز بن جماعة إلى مكة، صحبة الركب، وجاور بها.
وقدم السلطان حلى عبد الحكيم من المغرب فاراً، فأنعم السلطان عليه وأجرى له الرواتب السنية، فتزوج بإتفاق الصالحية امرأة الصاحب موفق الدين هبة اللّه بن إبراهيم، وتوجه حاجاً صحبة الركب في تجمل زايد. وتوجه أيضاً إلى الحج الأمير صلاح الدين خليل بن عرام متولي الإسكندرية، واستناب عنه في الثغر الأمير جنغرا، وكان أمير الحاج محمد بن قُندس(2/244)
وفيها لخمس وعشرين من ذي القعدة قدم البريد من ناحية المشرق إلى دمشق بقماقم فيها ماء من عين هناك، من خاصيته أن يتبعه طير يسمى السمرمر، في قدر الزرزور ولونه، وفيه ريش أصفر، يأكل الجراد. فعلق بطارمة القلعة، وبمأذنة العروس وقبة النصر من الجامع الأموي، وكان الجراد قد كثر بأعمال دمشق، وأضر بمزارعها، فبعث الأمير منكلى بغا الشمسي نائب الشام لإحضار هذا الماء. فلما جيء به وعلق كثر السمرمر بدمشق، وأفنى ما كان الجراد هناك، حتى لم يبق منه شيئاً وأقامت قماقم الماء معلقة بتلك الأماكن إلى أن جف ما فيها، والطير موجود.
ومات في هذه السنة من الأعيان ممن له ذكر
الشريف شمس الدين حسن بن محمد بن حسن بن علي بن حسن بن زهرة بن حسن بن زهرة الحسني، نقيب الأشراف بحلب.
ومات شمس الدين محمد بن عبد الهادي الفوَّى الفقيه الشافعي في يوم الخميس ثاني عشر جمادى الأولى، وقد تصدر للتدريس.
وتوفي قطب الدين محمد بن محمد الرازي المعروف بالقطب التحتاني، بدمشق وقد أناف على الستين. وبرع في المنطق والنحو، وصنف شرح الشمسية والمطالع وحواشي على الكشاف، وغير ذلك.
وتوفي زين الدين محمد بن سراج الدين عمر بن محمود، المعروف بابن السراج الحنفي، أحد نواب الحكم بالقاهرة، في يوم السبت العشرين من ذي القعدة، عن بضع وسبعين سنة. وكان يحفظ الهداية في الفقه، ودرس وأعاد.
وتوفي بدر الدين محمد بن قطب الدين محمد بن محمد بن منصور، المعروف بابن الشامية، موقع الحكم، في يوم السبت ثاني شهر رمضان.
وتوفي شرف الدين محمد بن أحمد بن أبي بكر المزي الدمشقي الحريري، بمصر، في شعبان، حدث عن سليمان بن حسن، والقاسم بن عساكر، وأبى نصر الشيرازي.
وتوفي قاضي القضاة الحنفية بدمشق، جمال الدين يوسف بن شرف الدين أحمد بن الحسين بن سليمان بن فزارة الكفري، الحنفي. كان بارعاً في الفقه والعربية، عارفاً بالأحكام.
ومات الأمير قمارى الحموي الحاجب. وهو على نيابة طرسوس، بها.
ومات الأمير آسن قجا بن عبد الله من على بك، أحد أمراء الطبلخاناه، بعد ما ولى نيابة البيرة ثم نيابة طرسوس، وبها مات.
وتوفي أبو محمد عبد السلام بن سعيد بن عبد العال القيرواني المالكي، بالمدينة النبوية. وكان قد برع في الفقه، ودرس زمانا.
وتوفي المسند شمس الدين أبو عبد اللّه محمد بن إبراهيم بن محمد بن أبي بكر بن إبراهيم بن يعقوب بن إلياس، الأنصاري، الخزرجي، البياني المقدسي، الدمشقي، الشاهد عرف بابن إمام الصخرة، في تاسع عشرين ذي القعدة بالقاهرة. ومولده سنة ست وثمانين وستمائة. حضر على زينب بنت مكي في الثانية، وعلى الفخر بن البخاري. وابن القواس وغيرهم في الثالثة. وسمع من ابن عساكر وطائفة، وحدث، وخرج له ابن رافع مشيخة حدث بها.
سنة سبع وستين وسبعمائة
في المحرم: ولى قاضي القضاة زين الدين عمر بن عبد الرحمن البسطامي الحنفي خطابة جامع شَيْخُو خارج القاهرة، بعد وفاة شهاب الدين أحمد بن الشرف.
وفيه سرح السلطان على العادة إلى سرياقوس. وتوجه الأمير يلبغا الأتابك إلى بر الصيد بالعباسة فورد البر في يوم السبت رابع عشرينه. بمنازلة الفرنج الإسكندرية، وأنهم قدموا يوم الأربعاء حادي عشرينه. فسرح الطائر بذلك إلى الأمير يلبغا، فتوهم أن تكون هذه مكيدة يكاد بها، فبادر ودخل إلى داره خارج القاهرة، وتبعه السلطان، فصعد القلعة في يوم الأحد خامس عشرينه. فلما تحقق الأمير يلبغا الخبر، عدى النيل من ساعته إلى البر الغربي، وتلاحق به أصحابه، ونودي بالقاهرة: من تأخر من الأجناد غداً حل دمه وماله فخرج الناس أفواجاً، وسار السلطان بعساكره إلى الطرانة، وقدم عسكراً عليه الأمير قطلوبغا المنصوري والأمير كوكنداي، والأمير خليل بن قوصون ليدركوا أهل الثغر فقدر الله تعالى في ذلك أن أهل الثغر كان قد بلغهم منذ أشهر إهتمام الفرنج بغزوهم، فكتب بذلك الأمير صلاح الدين خليل بن عرام - متوفي الثغر - إلى السلطان والأمير يلبغا، فلم يكن من الدولة اهتمام بأمرهم. فلما توجه ابن عرام إلى الحج، واستناب عنه في الثغر الأمير جنغرا - أحد أمراء العشرات - وجاء أوان قدوم مراكب البنادقة من الفرنج لاح للناظور عدة قلاع في البحر. ثم قدم في عسكره يوم(2/245)
الأربعاء حادي عشرينه إلى الميناء، ثمانية أغربة، وتلاها من الأغربة والقراقر ما بلغت عدتها ما بين سبعين إلى ثمانين قطعة. فأغلق المسلمون أبواب المدينة، وركبوا الأسوار بآلة الحرب، وخرجت طائفة إلى ظاهر البلد، وباتوا يتحارسون. وخرجوا بكرة يوم الخميس يريدون لقاء العدو، فلم يتحرك الفرنج لهم طول يومهم، وليلة الجمعة. فقدم بكرة يوم الجمعة طوايف من عربان البحيرة وغيرهم، ومضوا جهة المنار، وقد نزل من الفرنج جماعة في الليل بخيولهم، وكمنوا في الترب التي بظاهر المدينة. فلما تكاثر جمع المسلمين من العربان، وأهل الثغر، عند المنار، برز لهم غراب إلى بحر السلسلة، حتى قارب السور، فقاتله المسلمون قتالاً شديداً، قتل فيه عدة من الفرنج، واستشهد جماعة من المسلمين. وخرج إليهم أهل المدينة وصاروا فرقتين، فرقة مضت مع العربان، نحو المنار، وفرقة وقفت تقاتل الفرنج بالغراب. وخرجت الباعة والصبيان وصاروا في لهو، وليس لهم اكتراث بالعدو. فضرب الفرنج عند ذلك نفيرهم. فخرج الكمين وحملوا على المسلمين حملة منكرة. ورمى الفرنج من المراكب بالسهام، فانهزم المسلمون، وركب الفرنج أقفيتهم بالسيف. ونزل بقيتهم إلى البر فملكوه، بغير مانع وقدموا مراكبهم إلى الأسوار، فاستشهد خلق كثير من المسلمين، وهلك منهم في الازدحام عند عبور باب المدينة جماعة، وخلت الأسوار من الحماة، فنصب الفرنج سلالم ووضعوا السور، وأخذوا نحو الصناعة، فحرقوا ما بها، وألقوا النار فيها، ومضوا إلى باب السدرة، وعلقوا الصليب عليه، فانحشر الناس إلى باب رشيد، وأحرقوه، ومروا منه على وجوهم، وتركوا المدينة مفتوحة بما فيها للفرنج، وأخذ الأمير جنغرا ما كان في بيت المال، وقاد معه خمسين تاجراً من تجار الفرنج كانوا مسجونين عنده، ومضى هو وعامة الناس، إلى جهة دمنهور، فدخل وقت الضحى من يوم الجمعة، ملك قبرص - واسمه ربير بطرس بن ريوك - وشق المدينة وهو راكب، فاستلم الفرنج الناس بالسيف، ونهبوا ما وجدوه من صامت وناطق، وأسروا وسبوا خلائق كثيرة، وأحرقوا عدة أماكن، وهلك في الزحام، بباب رشيد، ما لا يقع عليه حصر، فأعلن الفرنج بدينهم، وانضم إليهم من كان بالثغر من النصارى، ودلوهم على دور الأغنياء، فأخذوا ما فيها، واستمروا كذلك، يقتلون، ويأسرون، ويسبون، وينهبون، ويحرقون، من ضحوة نهار الجمعة إلى بكر نهار الأحد، فرفعوا السيف، وخرجوا بالأسرى والغنايم إلى مراكبهم، وأقاموا بها إلى يوم الخميس ثامن عشرينه، ثم أقلعوا، ومعهم خمسة آلاف أسير، فكانت إقامتهم ثمانية أيام. وكانوا عدة طوائف، فكان فيهم من البنادقة أربعة وعشرون غراباً، ومن الجنوية غرابين، ومن أهل رودس عشرة أغربة، والفرنسيس في خمسة أغربة، وبقية الأغربة من أهل قبرص. وكان مسيرهم، عند قدوم الأمير يلبغا بمن، معه، فلما قدم عليه الأمير قطلوبغا المنصوري، لم يجد معه سوى عشرين فارساً، وعليه، إقامة مائة فارس، فغضب عليه، ووجد الأمر قد فات، فكتب بذلك إلى السلطان، فعاد إلى القلعة، وبعث بابن عرام، نائب الإسكندرية على عادته، بأمر الأمير يلبغا. بموارة من استشهد من المسلمين، ورم ما احترق، وغضب على جنغرا وهدده، وعاد فأخذ في التأهب لغزو الفرنج. وتتبعت النصارى، فقبض على جميع من بديار مصر، وبلاد الشام وغيرهما من الفرنج، وأحضر البطريق والنصارى، وألزموا بحمل أموالهم، لفكاك أسرى المسلمين من أيدي الفرنج، وكتب بذلك إلى البلاد الشامية، وتتبعت ديارات النصارى، التي بأعمال مصر كلها، وألزم سكانها بإظهار أموالهم وأوانيهم، وعوقبوا على ذلك. فكانت هذه الواقعة، من أشنع ما مر بالإسكندرية من الحوادث، ومنها اختلت أحوالها، واتضع أهلها، وقلت أموالهم، وزالت نعمهم. وكأن الناس في القاهرة، منذ أعوام كثيرة، تجرى على ألسنتهم جميعاً: في يوم الجمعة تؤخذ الإسكندرية، فكان كذلك. ومر بمن خرج من الإسكندرية في وقت الهزيمة، من العربان بلاء لا يوصف.
ولما استقر الأمير يلبغا، بعد عوده من الإسكندرية، أشار بالقبض على الأمير قطلوبغا المنصوري، فقبض عليه، ونفي إلى الشام. وأنعم على الأمير أرغون الأزقي، بتقدمته. واستقر الأمير يعقوب شاه اليحياوي حاجباً، عوضاً عن قطلوبغا المنصوري. واستقر الأمير طشتمر الحسني، أمير آخور، عوضاً عن يعقوب شاه.(2/246)
وأخذ الأمير يلبغا، في تجهيز مولاي حلى، بعد عوده من الحج، للسفر إلى بلاده وخلع عليه السلطان فرجية حرير أطلس أحمر، من تحتها تحتانية أطلس أصفر، وعلى الفرجية تركيبة زركش، وطوق بعنبرانية. وألبس طرحة عن عمامته، وقلد بسيف محلى بالذهب في يوم الخميس، ثامن عشرين صفر. وسافر، فمات على تروجة، في أوائل شهر ربيع الأول.
وفيه قدم تاج الدين عبد الوهاب بن السبكي قاضي دمشق باستدعاء. وقد شُكى، وأمر بالكاف عليه.
وقدم الخبر بكثرة فساد أولاد الكنز ، وطائفة العكارمة بأسوان، وسواكن وأنهم منعوا التجار، وغيرهم من السفر، لقطعهم الطريق، وأخذهم أموال الناس. وأن أولاد الكنز قد غلبوا على ثغر أسوان، وصحرا عيذاب وبرية الواحات الداخلة.(2/247)
وصاهروا ملوك النوبة، وأمراء العكارمة، واشتدت شوكتهم. ثم قدم ركن الدين كرنبس من أمراء النوبة، والحاج ياقوت ترجمان النوبة، وأرغون مملوك فارس الدين، برسالة متملك دمقلة، بأن ابن أخته خرج عن طاعته، واستنجد ببني جعد من العرب، وقصدوا دمقلة فاقتتلا قتالاً كثيراً، قتل فيه الملك وانهزم أصحابه. ثم أقاموا عوضه في المملكة أخاه، وامتنعوا بقلعة الدو فيما بين دمقلة وأسوان. فأخذ ابن أخت المقتول دمقلة، وجلس على سرير المملكة، وعمل وليمة، جمع فيها أمراء بني جعد وكبارهم، وقد أعد لهم جماعة من ثقاته، ليفتكوا بهم، وأمر فأخليت الدور التي حوال دار مضيفهم، وملأها حطباً. فلما أكلوا وشربوا، خرجت جماعة بأسلحتهم، وقاموا، على باب الدار، وأضرم آخرون النار في الحطب، فلما اشتعلت، بادر العربان بالخروج من الدار، فأوقع القوم بهم، وقتلوا منهم تسعة عشر أمير في عدة من أكابرهم. ثم ركب إلى عسكرهم، فقتل منهم مقتلة كبيرة، وانهزم باقيهم، فأخذ جميع ماكان معهم واستخرج ذخائر دمقلة وأموالها، وأخلاها من أهلها. ومضى إلى قلعة الدو، وسألا أن ينجدهما السلطان، على العرب، حتى يستردوا ملكهما، والتزم بحمل مال في كل سنة إلى مصر. فرسم بسفر الأمير أقتمر عبد الغني، حاجب الحجاب، ومعه، الأمير ألجاي أحد أمراء الألوف وعشرة أمراء عشرات، وثمانية أمراء طبلخاناه منهم أمير خليل بن قوصون، وأسندمر حرفوش الحاجب، ومنكوتمر الجاشنكير، ودقماق بن طغنجى، ويَكتمر شاد القصر، وأمير موسى بن قرمان، وأمير محمد بن سرطقطاى، في عدة من المماليك السلطانية، وأخذوا في تجهيزهم من سادس عشر شهر ربيع الأول. وساروا في رابع عشرينه، وهم نحو الثلاثة آلاف فارس، فأقاموا بمدينة قوص ستة أيام، واستدعوا أمراء أولاد الكنز من ثغر أسوان ورغبوهم في الطاعة، وخوفوهم عاقبة المعصية، وأمنوهم. ثم ساروا من قوص، فأتتهم أمراء الكنوز طائعين عند عقبة أدفو، فخلع عليهم الأمير أَقتمر عبد الغني وبالغ في إكرامهم. ومضى بهم أسوان، فخيم بظاهره من البر الغربي، أربعة عشر يوماً، نقل ما كان مع العسكر في المراكب من الأسلحة وغيرها على البر، حتى قطعت الجنادل إلى قرية بلاق فأكمل نقل الأسلحة، والغلال، وغير ذلك، وطلعت المراكب من الجنادل، وأصلح ما فسد منها في طلوعها من الجنادل، وصارت من وراء الجنادل، وشحنت بالأسلحة والغلال، وبقية الأزواد، والأمتعة، ومرت في النيل. وسارت العساكر، تريد النوبة، على محازاتها في البر، يوماً واحداً، وإذا برسل متملك النوبة قد لاقتهم، وأخبروهم بأن العرب قد نازلوا الملك، وحصره بقلعة الدوه فبادر الأمير أقتمر عبد الغني لانتقاء العسكر، وسار في طائفة منهم جريدة، وترك البقية مع الأثقال. وجد في سيره، حتى نزل بقلعة أبريم، وبات بها ليلته، وقد اجتمع بملك النوبة، وعرب العكارمة، وبقية أولاد الكنز، ووافاه بقية العسكر. فدبر مع ملك النوبة على أولاد الكنز، وأمراء العكارمة، وأمسكهم جميعاً. وركب متملك النوبة في الحال، ومعه طائفة من المماليك. ومضى في البر الشرقي إلى جزيرة ميكائيل، حيث إقامة العكارمة. وسار الأمير خليل بن قوصون في الجانب الغربي، ومعه طائفة، فأحاطوا جميعاً بجزيرة ميكائيل عند طلوع الشمس، وأسروا من بها من العكارمة، وقتلوا منهم عدة بالنشاب والنفط. وفر جماعة نجا بعضهم، وتعلق بالجبال وغرق أكثرهم. وساق بن قوصون النساء والأولاد، والأسرى والغنائم، إلى عند الأمير أَقتمر، ففرق عدة من السبي في الأمراء، وأطلق عدة، وعين طائفة للسلطان. ووقع الاتفاق على أن يكون كرسي ملك النوبة بقلعة الدو، لخراب دمقلة، كما مر ذكره، ولأنه يخاف من عرب بني جعد أيضاً إن نزل الملك بدنقلة أن يأخذوه فكتب الأمير أقتمر عبد الغني محضراً برضاء ملك النوبة بإقامته بقلعة الدو، واستغنائه عن النجدة، وأنه أذن للعسكر في العود إلى مصر. ثم ألبسه التشريف السلطاني، وأجلسه على سرير الملك بقلعة الدو، وأقام ابن أخته بقلعة أبريم. فلما تم ذلك جهز ملك النوبة هدية للسلطان، وهدية للأمير يَلْبُغا الأتابك، ما بين خيل، وهجن، ورقيق، وتحف. وعاد العسكر ومعهم أمراء الكنز، وأمراء العكارمة في الحديد. فأقاموا بأسوان سبعة أيام، ونودى فيها بالأمان والإنصاف من أولاد الكنز. فرفعت عليهم عدة مرافعات، فقبض على عدة من عبيدهم(2/248)
ووسطوا. ورحل العسكر من أسوان، ومروا إلى القاهرة، فقدموا في ثاني شهر رجب، ومعهم الأسرى، فعرضوا على السلطان، وقيدوا إلى السجن، وخلع على الأمير عبد الغني، وقبلت الهدية.ا. ورحل العسكر من أسوان، ومروا إلى القاهرة، فقدموا في ثاني شهر رجب، ومعهم الأسرى، فعرضوا على السلطان، وقيدوا إلى السجن، وخلع على الأمير عبد الغني، وقبلت الهدية.
وفيها حدثت وحشة بين السلطان أويس متملك بغداد وتوريز، وبين نائبه ببغداد، خواجا مرجان، فعصى عليه مرجان، وخطب ببغداد للسلطان الملك الأشرف. وبعث رسله بذلك، فقدموا في أوائل جمادى الأولى، ومعهم كتابه بأنه قد خلع أويس، وأقام الخطبة، وضرب السكة باسم السلطان الأشرف، وأخذ له البيعة على الناس ببغداد، وعزم على محاربة أويس وأنه نائب السلطان ببغداد، إن نصره اللّه عليه، وإن تكن الأخرى قدم إلى أبواب السلطان. فأكرمت رسله، وجهز له تشريف جليل وأعلام خليفتية وأعلام سلطانية، وكتب له تقليد بنيابة بغداد، وجهز أيضاً عدة خلع لأمرائه وأكابر دولته، وخلع على رسله، وأعيد.
وفي يوم الخميس ثالث عشره: خلع على تاج الدين عبد الوهاب بن السبكي وأعيد إلى قضاء دمشق على عادته، وسافر في ثالث عشرينه، وهذه ولايته الثالثة.
وفي هذه المدة: اهتم الأمير يَلْبُغا الأتابك بعمل الشواني البحرية لغْزو الفرنج، فجمع من الأخشاب والحديد والآلات ما يجل وصفه، وشرع النجارون في عملها بجزيرة أروى المعروفة بالجزيرة الوسطى، وتولى عملها الوزير فخر الدين ماجد بن قزوينة، فقام في ذلك أتم قيام، وبذل همته، وأستفرغ وسعه، وتصدى له ليلاً ونهاراً، واستقر شاد العمل الأمير علاء الدين طيبغا العلاي أستادار الأمير يلبغا، وناظر العمل بهاء الدين بن المفسر، فقدم للعمل مائة شيني، ما بين غراب وطريدة، برسم حمل الخيل، فكان أمراً مهولاً. ونودي بالقاهرة ومصر بحضور البحارة والنفاطة، ومن يريد الجهاد في سبيل الله، إلى بيت الأمير يلبغا الأتابك للعرض وأخذ نفقة للسفر في المراكب. فاجتمع عدة من المغْاربة رجال البحر، وكتبت أسماؤهم، وقررت لهم المعاليم، وأقيمت لهم نقباء، وقاموا في مساعدة صناع المراكب. وكتب إلى طرابلس، ونحوها من بلاد الساحل، بإنشاء مراكب حربية، وجمع رجالها، فكان عملاً جليلاً.
وفي تاسع عشره: قدم الخبر بفرار تجار الفرنج من الإسكندرية في البحر، فلم يقدر عليهم.
وفي عشرينه: طلب نقباء أجناد الحركة، وألزموا بألا يخفوا أحداً من أجناد الحلقة، وهددوا إن أخفوا أحداً منهم، فكتب كل نقيب مضافيه وأحضروهم للعرض، فقطع الأمير يلبغا منهم جماعة.
وفي آخره: قدم قاضي تبريز في جماعة برسالة السلطان أويس أن مرجان قد عصى عليه، وأنه قصد المسير لقتاله، فلا يمكن - إذا فر - من دخوله إلى الشام ومصر، فأجيب بما لا يريد، وأنه إن أراد نجدة سيرنا إليه العساكر لنصرته، وأهين رسوله، وأعيد خائباً.
وفي حادي عشر جمادى الآخرة: أنعم على الأمير طيبغا العلاى - أستادار الأتابك يلبغا - بتقدمة ألف، عوضاً عن ملكَتمر المارديني بعد موته. وأنعم على الأمير أَيْنَبكَ البدري - أمير آخور يلبغا - بإمرة طبلخاناه، واستقر أستادار يلبغا عوضاً عن طيبغا. واستقر الأمير أرغون ططر رأس نوبة كبيراً، عوضاً عن ملكتمر المارديني.
وفي ثاني عشره: استقر الأمير أرغون الأزقي أستادار السلطان، عوضاً عن أروس المحمودي.
وفي خامس عشره: استقر الشريف بكتمر والي القاهرة في ولاية الإسكندرية، عوضاً عن صلاح الدين خليل بن عرام، وكانت ولاية حرب. فاستقر لبَكتَمُر نيابة بتقدمة ألف، وهو أول من باشرها نيابة سلطنة، وعمل معه حاجب أمير طبلخاناه ووالي حرب إمرية عشرة، وخمسمائة فارس بالثغر.
واستقر الأمير علاء الدين طيبغا أستادار كشلي في ولاية القاهرة. واستقر عوضه في ولاية مصر الأمير - حسام الدين حسين بن علاء الدين علي بن الكوراني.
واستقر ابن عرام في ولاية الفيوم ، عوضاً عن حسين بن الكوراني.(2/249)
وكان الأمير طَيبغا الطويل أمير سلاح قد خرج إلى العباسة يتصيد، فبعث الأمير يلبغا إليه مرسوم السلطان في يوم الثلاثاء ثالث عشره مع الأمير أقبغا العمري الحاجب، بأن يتوجه إلى دمشق نائب السلطنة بها، وحمل معه التقليد والتشريف، فلم يوافق على ذلك، ورد الحاجب رداً غير جميل، وكان الأمير يلبغا بتربة مَلَكتمر المارديني مقيماً على قبره، فلما بلغه الحاجب جواب الأمير طيبغا، غضب، وبعث إليه الأمير أرغون الأسعردي الدوادار، والأمير أروس المحمودي، والأمير أرغون الأزقي، والأمير طيبغا العلاي بالتشريف وتقليد النيابة، وأكد عليهما في ترجيعه عن الفتنة، وإن لم يمض فليقبضوا عليه. فما هو إلا أن مضوا حتى أبعدوا قليلاً، فتأخر عدة من مماليك الأمير طَيبغا العلاي، ومماليك أرغون الأزقي، ووافى الأمير طيبغا، فامتنع من إجابتهم إلى السفر، وقال: ليس بيني وبينهم إلا السيف. فمال إليه أرغون الأسْعَردي والأمير أروس، وقبضوا على الأمير طيبغا العلاي، ففر أرغون الأزقي إلى الأمير يلبغا، وهو بالتربة، ثم لحق به الأمير طيبغا العلاي، وأخبراه بما وقع، فركب من فوره إلى قلعة الجبل، وأمر فدقت الكوسات حربياً. ولبس السلطان وعامة العسكر السلاح، وركبوا ليلة السبت سابع عشره، وعمل كميناً في خلف الجبل، قريباً من قبة النصر. فما طلع الفجر حتى وافى الأمير طيبغا الطويل قبة النصر، فاقتتل الفريقان، فاستظهر طيبغا الطويل على القوم، وكادت النصرة تتم له، فخرج الكمين من ورائه. وعاد الأمير يلبغا، بعد ما أبعد قليلاً، فانهزم طيبغا الطويل، وتفرق جمعه، فاختفي بالقاهرة.
وعاد السلطان إلى القلعة، ونودي بإحضار من وجد من المنهزمين، وهدد من أخفاهم، فلم يسر وإلى القاهرة، والنداء بين يديه، عن بين القصرين - من القاهرة - غير قليل، حتى دله بعض الناس، على طيبغا الطويل، فدخل خانكاه بيبرس وأخذه منها، وصعد به القلعة، فقيده وسجن. وظفر أيضاً في آخر النهار بالأمير أروس، وبالأمير أرغون الأسعردي، والأمير كَوْكَنداي أخي طيبغا الطويل، والأمير كليم. ثم قبض على الأمير جَرَكتمُر السيفي منجك الجوكندار، والأمير أرغون عبد الملك، شاد الشرابخاناه والأمير جمق الشيخوني، والأمير تلك، وأقبعا العمري البالسي، وقرا السلاح دار، والأمير أزكاه السيفي، وجرجى بن كوكندي، وأزرمق بن مصطفي، وطشتمر العلاي، فحملوا ثغر إلى الإسكندرية في النيل مقيدين، وسجنوا هناك. وأخرج الأمير حسين بن طوغان الساقي منفياً إلى الشام. وارتجع إقطاع ولدى طيبغا الطويل - وهما على وحمزة - وأنعم في يومه على الأمير طيْدمر البالسي، واستقر أمير سلاح عوضاً عن طيبغا الطويل. واستقر الأمير طيبغا البوبكري المهمندار، دوادارا بإمرة طبلخاناه.
وفي ثاني عشرينه: خلع على الأمير أرغون الأزقي، واستقر أستادار السلطان، عوضاً عن أروس. واستقر الأمير قطلوبغا الشعباني شاد الشرابخاناه، بإمرة طبلخاناه، عوضاً عن أرغون عبد الملك. واستقر الأمير تمرقيا العمري جوكندار، عوضاً عن جَرَكتمر السيفي. وأنعم على كل من الأمير أقبغا الأحمدي المعروف بالجلب، والأمير أسندمر الناصري بتقدمة ألف.
وفي يوم الأحد خامس عشرينه: نودي بزينة القاهرة ومصر، فزينتا أحسن زينة.(2/250)
وفي يوم الإثنين سادس عشرينه: قدم ثمانية وثلاثين أميراً، منهم أمراء طبلخاناه: أقبغا الجوهري، وأرغون القَشْتَمُري، وأَيْنَبَك البدري، وعلى السيفي كُشلى - والي القاهرة - وطُغَاى تَمُر العثماني، وألطنبغا العزى، وقجماس السيفي طاز، وأرغون العزى كتك، وقَراتمر المحمدي، وأروس بغا الخليلي، وطاجار من عَوض، وقطْلُوبغا العزى، وأقْبُغا اليوسفي، وألطنبغا المارديني، ورسلان السيفي - واستقر حاجب الإسكندرية - ، وعلى بن قَشْتَمُر، وسودون القُطلُقتمُرى، وقطلوبغا الشعباني وطُغَاى تَمُر العزى، ومحمد الترجمان. وبقيتهم أمراء عشرات، وهم ككبغا السيفي وتنبك الأزقي، وأرغون الأحمدي، وأرغون الأرغوني، وسودون الشيخوني، وأزدمر العزى، وأروسِ النظامي، ويونس العمري، ودَرْتُ بُغا البالسي، وطُرحسن، وقرا بغا الصَرْغتْمُشي، وطاز الحسنِي، وقماري الجمالي، ويوسف شاه، وطقبغا العلاي، وفيرعلي وقرقماس الصَرْغتْمُشي وطاجار المحمدي. وخلع على الجميع، وألبسوا الشرابيش، ونزلوا جميعاً من دار العدل بالقلعة إلى المدرسة المنصورية، بين القصرين من القاهرة، حتى حلفوا كما هي العادة. ثم ركبوا إلى القلعة، وقد أقيمت لهم المغاني، في عدة مواضع من بين القصرين إلى القلعة، فكان يوماً مذكوراً، ثم أزيلت الزينة بعد ثلاث من نصبها.
وفي أول شهر رجب: قدم الخبر، بوصول رسل الفرنج إلى ميناء الإسكندرية، وأنهم طلبوا رهائن عندهم، حتى ينزلوا من مراكبهم ويردوا رسالتهم، فلم تؤمن مكيدتهم. واقتضى الحال إجابتهم، فأخرج من سجن الوافي - المعروف بخزانة شمايل - جماعة وجب قتلهم، وغسلوا بالحمام، وألبسوا ثياباً جميلة، وسفروا إلى الإسكندرية. فأكرمهم النايب، وأشاع أنهم من رؤساء الثغر، وبعث بهم إلى الفرنج، وشيع خلفهم نساء وصبيانا، يصيحون، ويبكون، كأنهم عيالهم، وهم يخافون الفرنج عليهم. فمشى ذلك على الفرنج، وعلى أهل الثغر لانتظام حال المملكة، وملاك أمرها، وجودة تدبيرها.
فتسلم الفرنج الجماعة ونزلت رسلهم من المراكب. وقدموا إلى قلعة الجبل، وقد عدى السلطان إلى سرحة كوم برا بالجيزة، فحملوا إلى هناك. وجلس لهم الأمير يلبغا الأتابك، وقام الأمراء والحجاب بين يديه وأدخلوا عليه فهالهم مجلسه، وطنوا أنه السلطان، فقيل لهم هذا مملوك السلطان. فكشفوا عن رءوسهم، وخروا على وجوههم يقبلون الأرض، ثم قاموا، ودنوا إليه وناولوه كتاب ملكهم، وقدموا هديته إليه، ففرق ذلك بحضرتهم فيمن بين يديه، واختار منه طشطا وأبريقاً من ذهب، وصندوقاً لم يعرف ما فيه. وتضمنت رسالتهم، أنهم في طاعة السلطان ومساعدوه على متملك قبرص، حتى ترد الأسرى، التي أخذت من الإسكندرية، ويعوض المال وسألوا تجديد الصلح، وأن يمكن تجارهم من قدوم الثغر، وأن تفتح كنيسة القيامة بالقدس، وكانت قد غلقت بعد واقعة الإسكندرية. فأجابهم، بأنه لابد من غزو قبرص، وتخريبها. ثم أخرجوا، فأقاموا بالوطاق ثلاثة أيام، وحملوا إلى دار الضيافة بجوار قلعة الجبل. فلما عاد السلطان من السرحة، وقفوا بين يديه، وقدموا هديتهم، وأدوا رسالتهم، فلم يجابوا، وأعيدوا إلى بلادهم خائبين.
وفي أول شعبان: أخرج الأمير جركس الرسول شاد العماير، منفياً إلى حلب، واستمْر عوضه الأمير ناصر الدين محمد بن أقبغا آص في شد العماير. ورسم بإحضار الأمير قشتمر المنصوري نايب طرابلس، واستقر عوضه الأمير أشَقتمُر المارديني. واستقر الأمير أسندمر الزيني في نيابة صفد. وكتب إلى الأمير جرجي نايب حلب، أن يسير لأخذ قلعة خرت برت من ديار بكر، وأخذ صاحبها خليل بن قراجا بن دُلغادر مقدم التركمان، فنازل قلعتها نحو أربعة أشهر، وعاد بغير طائل. لمنعتها وحصانتها. ثم إن ابن دلغادر طلب الأمان، فأمن، وقدم إلى القاهرة.
وفيه أخرج الأمير قطْلوبغا العمري الحاجب، والأمير أحمد بن أبي بكر بن أرغون النايب، بعد ما قطع لسان كل منهما، ونفي إلى الشام.
واستقر سعد الدين بن الريشة، ناظر الدولة. واستقر عوضه في نظر الخزانة الكبرى، فخر الدين بن السعيد. ثم أضيف إلى الفخر بن السعيد نظر البيوت، عوضاً عن تاج الدين موسى بن أبي شاكر.(2/251)
وتوجه الأمير طقبغا رسولاً إلى قبرص، فأدى رسالته وعاد في أول شهر رمضان وفيه رسم بالإفراج عن الأمير طيبغا الطويل، فتوجه إليه الأمير خليل بن قوصون، وقدم به في يوم الثلاثاء ثامنه، فأخرج إلى القدس، بطالا.
وفيه عزل جمال الدين يوسف بن محمد بن عبد الله بن محمد بن محمود المرداوي، قاضي الحنابلة بدمشق. واستقر عوضه شرف الدين أحمد بن الحسن بن عبد اللّه بن محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، المعروف بابن قاضي الجبل. وعزل جمال الدين محمد بن عبد الرحيم بن علي بن عبد الملك المسلاتي قاضي المالكية بدمشق، واستقر عوضه سرى الدين أبو الوليد إسماعيل بن محمد بن محمد هاني اللخمي الأندلسي وعزل شمس الدين محمد بن الحكري عن قضاء المدينة النبوية، واستقر عوضه شمس الدين محمد بن خطيب أبرود.
وفي يوم عيد الفطر: رسم بالإفراج عن الأمير أرغون الأسعردي، والأمير أروس المحمودي، وبقية الأمراء المسجونين، فأفرج عنهم وأخرجوا إلى الشام متفرقين.
وفي خامسه: قدم رسول الملك أرخان بن عثمان ملك الروم يخبر أنه جهز مائتي غراب بحرية نجدة للسلطان على متملك قبرص، فأجيب بالشكر والثناء، وأنه لا يتحرك حتى تقدم من ديار مصر الشواني.
وقدم الخبر بمسير السلطان أويس من توريز إلى بغداد، وقبضه على خواجا مرجان وسمل عينيه، وحبسه. وأَن حيار بن مهنا، لما خرج عن الطاعة، ثم فر إلى العراق، وطردت عربه من بلاد الشام، خدم أويس زيادة على سنتين، حتى خالف عليه خواجا مرجان ببغداد، وقبض عليه، فر منه بعض أمرائه إلى حيار. فلما طلبه منه أويس، لم يبعث به إليه، فبعث أويس يطرده من بلاده. فسار عنها، وسأل الأمير عمر شاه، نائب حماة، أن يشفع إلى السلطان فيه، ويسأله رد إقطاعه إليه. فكتب بذلك عمر شاه، فأجيب إلى قبول شفاعته، وأن يجهزه إلى الأبواب السلطانية صحبته. فقدم الأمير عمر شاه، ومعه الأمير حيار في يوم الخميس خامس عشره. وقدم عقيب ذلك رسول السلطان أويس بطلب الأمير الذي فر إلى حيار وألا يمكن أحداً فر من مملكته أن يعبر الشام ومصر، فلم يجب إلى قصده. وخلع على حيار وولده الأمير نعير، وخواصه وأعيد إلى الأمرة، وخلع على الأمير عمر شاه، وأعيدوا إلى محل ولايتهما.
وفي أول ذي القعدة: قدم رسول متملك ماردين بأن بيرم خجا التركماني تغلب على الموصل منذ سنين، وبلغ عسكره نحو الثلاثين ألفاً. فلما أخذ السلطان أويس نايبه مرجان بعث إلى الموصل جيشاً، ففر منه بيرم خجا إلى بلاد العجم، وملكها أويس، وقد عزم على أخذ ماردين، ومتى ملكها تعدى منها إلى حلب. وطلب نجدة فخرج من يكشف عن هذا الأمر.
وقدمت أيضاً رسل متملك جنوة بستين أسيراً من أهل الإسكندرية، وهدية للسلطان وللأمير يلبغا. وذكر أن هذه الأسرى كانت نصيبه، واعتذر بأنه لم يعلم بواقعة الإسكندرية إلا بعد وقوعها، وأنه مستمر على الصلح، ومتى قدر على متملك قبرص قبضه وقتله. فقبلت هديته وأثنى الأسرى عليه خيراً، وأن متملك قبرص لما عاد من الإسكندرية، قسم ما غنمه منها بين ملوك الفرنج، وبعث بهؤلاء إلى متملك جنوة، فعرضهم وتغمم لهم، وأحسن إليهم، وكساهم، وأجرى لهم الرواتب حتى بعث بهم.
وفيه استقر الأمير حسام الدين حسين بن الكوراني وإلى القاهرة. واستقر الأمير الأكز الكشلاوي نايب الإسكندرية. ونقل الشريف بَكتمُر منها إلى ولاية البر بالشام. وقدم وزير متملك اليمن بهدية من جملتها فيل.(2/252)
واستجد السلطان والياً بأسوان على إقطاع أولاد الكنز، ولم يعهد مثل ذلك. فيما سلف. وخلع على الحسام المعروف بالدم الأسود، وسلمه أولاد الكنز المسجونين بالقاهرة. وسار إلى قوص فسمرهم جميعاً، ومضى بهم مسمرين من قوص إلى أسوان، و وسطهم بها. فشق ذلك على أولادهم، وعبيدهم، واجتمعوا مع العكارمة، وأتوا. في جمع كبير إلى أسوان. فلقيهم الدم الأسود وقاتلهم، فهزموه، وجرحوا عدة من مماليكه ومالوا على أهل أسوان، يقتلون وينهبون، ويخربون الدور، ويحرقون بالنار، حتى أفنوا عدة من الناس، وأسروا النساء، وفعلوا كما فعلت الفرنج بالإسكندرية، وفيها قام بمملكة اليمن الملك الأفضل عباس بن المجاهد على بن المؤيد هزبر الدين داود المظفر يوسف بن عمر بن على بن رسول ، بعد موت أبيه. واستقر شيخنا ضياء الدين عبد الله بن سعد العفيفي المعروف بقاضي قرم في مشيخة الخانكاه الركنية بيبرس من القاهرة، بعد موت الرضي.
ومات في هذه السنة من الأعيان
شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبد الظاهر المعروف بابن الشرف الحنفي. خطب جامع شيخو.
ومات الأمير بُطَا أحد أمراء الطبلخاناه. وقرأ على قبره ألف ختمة بوصيته.
ومات شهاب الدين أحمد بن إبراهيم بن أيوب العينتابي الحلبي قاضي العسكر بدمشق. برع في الفقه وشرح مجمع البحرين والمغنى في الأصول.
ومات الشيخ خليل الدين بن إسحاق المعروف بابن الجندي الفقيه المالكي، صاحب المختصر في الفقه في يوم الخميس ثاني عشر شهر ربيع الأول، ودفن خارج القاهرة. أخذ الفقه على مذهب مالك عن الشيخ عبد اللّه المنوفي، وبرع فيه. وصنف مختصراً في الفقه على طريقة الحاوي في الفقه على مذهب الشافعي. وشرح كتاب ابن الحاجب في الفقه. وتصدر بعد المنوفي. بمجلسه من المدرسة الصالحية بين القصرين. وكان يرتزق من إقطاع له بالحلقة، ثم قرره الأمير شيخو في تدريس المالكية بخانكاته ولم يزل بها حتى مات. وكان عبداً صالحاً.
وتوفي قاضي القضاة عز الدين أبو محمد عبد العزيز بن البدر بن محمد بن إبراهيم ابن سعد اللّه بن جماعة الكناني الحموي بمكى، يوم الإثنين ثاني عشر جمادى الآخرة ومولده في محرم سنة أربع وتسعين وستمائة بدمشق. سمع الكثير عن جماعة كثيرة وحدث بأكثر مسموعاته. وقرأ الفقه والحديث، وأفتى، ودرس، وخطب وولي قضاء القضاة بديار مصر تسعاً وعشرين سنة بأحسن سيرة وأجل طريقة. ثم ترك ذلك تنزهاً وتعففاً، وجاور بمكة، فقضى بها نحبه. رحمه اللّه.
وتوفي الملك المجاهد سيف الدين على ابن المؤيد هزبر الدين داود ابن المظفر شمس الدين يوسف بن عمر بن علي بن رسول، متملك اليمن.
وتوفي شمس الأئمة محمود بن خليفة مدرس الحنفية بالمدرسة الناصرية حسن.
وتوفي الرضي شيخ الخانكاه الركنية بيبرس، في ليلة الجمعة حادي عشرين رجب. ومات الأمير ملكتمر المارديني، رأس نوبة الجمدارية، أحد مقدمى الألوف، في يوم الأحد حادي عشر جمادى الآخرة.
ومات الأمير أرغون العزي بدمشق.
ومات الأمير أرغون البَكتمري، أحد رءوس النوب.
ومات الأمير أروس العزى أحد الطبلخاناه.
سنة ثمان وستين وسبعمائة
في يوم الخميس ثالث المحرم: قدمت رسل الملك الأفضل عباس بن المجاهد صاحب اليمن بهدية سنية على العادة، وهم وزيره شرف الدين حسين بن علي الفارقي، وأمير أخوره ناصر الدين. فوقفوا بين يدي السلطان وأدوا رسالتهم ثم أنزلوا في الميدان الكبير على شاطىء النيل، وقدموا هدية مرسلهم في يوم السبت خامسه. وفيها فرس ليس له، ذكر ولا أنثيين وإنما يبول من ثقب، فقبلت.
وفي تاسع صفر: استقر الأمير طَيبغا الطويل في نيابة حماة. واستدعى الأمير منكلى بغا الشمسي نائب الشام، فقدم في محفة لتوعك به، فأكرمه السلطان، وخلع عليه.
وفي يوم الخميس ثالث عشرين صفر: خلع على الأمير منكلى بغا الشمسي، واستقر في نيابة حلب عوضاً عن جرجي الإدريسي. فصارت نيابة حلب أكبر رتبة من نيابة دمشق، وأضيف من عسكر دمشق إلى حلب أربعة آلاف فارس. وخلع على الأمير أقتمُر عبد الغني، واستقر في نيابة دمشق. وخلع على الأمير طيبغا العلاي أستادار الأمير يلبغا الأتابك، واستقر حاجب الحجاب عوضاً عن أقتمر عبد الغني، ونزل الثلاثة بتشاريفهم من القلعة.(2/253)
واستقر جمال الدين عبد الله بن نجم الدين عمر بن الجمال محمد بن الكمال عمر ابن أحمد بن عبد اللّه بن محمد بن هبة اللّه بن أحمد بن يحيى بن العديم الحنفي في قضاء الحنفية بحماة، بعد وفاة أمين الدين عبد الوهاب بن أحمد بن وهبان. واستقر جمال الدين عبد اللّه بن الكمال محمد بن العماد إسماعيل بن التاج أحمد بن سعيد بن الأثير في كتابة السر بدمشق، عوضاً عن فتح الدين أبي بكر محمد بن عثمان بن إبراهيم بن محمد ابن الشهيد.
ورسم للأمراء جميعاً بأن يسكنوا بقلعة الجبل، على ما جرت به العادة القديمة في الأيام الناصرية محمد بن قلاوون، فسكن بعضهم.
واستقر شهاب الدين أحمد بن إبراهيم بن عمر المعروف بابن زُبَيبَة الحنفي قاضياً بالإسكندرية، زيادة على قاضيها جمال الدين بن الربعي المالكي، و لم يعهد قبل ذلك بالإسكندرية قاضيان.
وفي يوم الإثنين تاسع عشر ربيع الأول: قبض الأمير يلبغا الأتابك على الأمير الطواشي سابق الدين مثقال الآنوكي، مقدم المماليك السلطانية، وضربه نحو ستماية ضربة بالعصى، وأخرجه إلى أسوان منفياً، لكلام نقل له عنه. وولى عوضه الطواشي ظهير الدين مختار المعروف بشاذروان مقدم المماليك.
وفيه استقر الأمير أرغون الأزقي في نيابة غزة عوضاً عن ألطبغا البشتكي.
وفي ثاني عشرينه: أخرج الأمير أرغون الأحمدي اللالا منفياً، وأخرج أيضاً الأمير تمرقيا العمري منفياً، فتوجها إلى الشام، وخلع على الأمير أقبغا حلب الأحمدي، واستقر لالا السلطان.
وفيه رسم للأمير طيبغا حاجب الحجاب بعرض أجناد الحلقة، فاستدعاهم وجلس لعرضهم جزيرة أروى حيث تعمل الشواني الحربية، وتشدد عليهم، وقطع منهم جماعة في عدة أيام، حتى عرض منهم نحو ثلثيهم، ثم كان ما يأتي ذكره. إن شاء الله تعالى. وفي تاسع عشرينه: استقر الأمير قُطْلُوبك السيفي والي قوص، عوضاً عن الأمير شهاب الدين قرطاي.
وفي هذا الشهر: كملت عمارة الشواني البحرية، وعدتها ماية قطعة ما بين غربان وطرايد، فاستخدم الأمير يلبغا لها من الرجال ما يكفيها، وجمعهم، ما بين مغاربة وتراكمين وصعايدة، ورتب لهم رؤوساء ونقباء، وأنفق فيهم المعاليم المقررة، وشحن الأغربة بالعدد الحربية، وجميع آلات السلاح. فلما تهيأت كلها فرقها الأمير يلبغا على الأمراء، فتسلم كل أمير ما خصه من الشواني وزينها بأعلامه، وأقام فيها الطبول والأبواق، وأنزل بها عدة من مماليكه وقد ألبسهم آلة الحرب، وأمرهم بالمسير فيها للغزو إذا سارت. ثم ركب السلطان والأمير يلبغا وسائر أمراء الدولة وأعيانها لرؤية الشواني، وقد كملت وتم أمرها، وتهيأت رحالها، وخرج الناس من أقطار المدينة، وأتوا من كل جهة في يوم السبت رابع عشرين ربيع الأول. فسار السلطان بعساكره من القلعة إلى جزيرة أروى، وركب الحراقة، وقد امتلأت تلك الأراضي بالناس. فقدمت الشواني، ولعبت رجالها بالآلات الحربية، كما يفعل عند لقاء العدو، ودقت كوساتها، ونفخت بوقاتها، وأفلتت النفوط، فكان أمراً مهولاً، ومنظراً جميلاً، وأمراً حسناً لو تم. فلما انقضى ذلك، توجه السلطان في الحراقة حتى نزل من بولاق التكروري، وخيم بمنزلته من بر الجيزة على العادة. ومضى الأمير يلبغا لتصيد في جزيرة القط، وأقيم الأمير عمر بن أرغون النايب بقلعة الجبل نايب الغيبة، وأقام الأمير طيبغا حاجب الحجاب بجزيرة أروى عند الشواني بعرض أجناد الحلقة، ثم مضى السلطان يريد الصيد بالبحيرة فنزل الطرانة.(2/254)
وكان الأمير يلبغا - لأمر يريده الله تعالى - قد شحت نفسه وساءت أخلاقه فاجتمع مماليكه الأجلاب إلى رؤوس النوب، وشكوا ما يلقوه من الأمير يلبغا وأنه يجفوهم، ويهينهم، ويبالغ في معاقبة أحدهم على الذنب اليسير، حتى أنه ضرب عدة منهم بالمقارع، وقطع ألسنة جماعة، وأنهم قد صاروا يداً واحدة، يريدون قتله وقتل من لم يوافقهم على ذلك، فأشار الأكابر منهم عليهم بالتمهل قليلاً حتى يأخذوا ما عند الأمير يلبغا وحدثوه في شأنهم وانتدب منهم الأمير أسندمر الناصري، والأمير أقبغا جلب الأحمدي، والأمير قجماس الطازي، والأمير تغرى برمش العلاي، والأمير أقبغا جركس أمير سلاح، والأمير قرابغا الصرغتمشي، ومضوا إلى الأمير يلبغا، وحدثوه في أمر المماليك، وسألوه الرفق بهم، فجبههم، ورد عليهم رداً جافياً، وتهددهم، وحلف بالأيمان الحرجة أنه لابد من ضرب جماعة من مماليكه بالمقارع، وإشهارهم في الوطاق. فشق ذلك عليهم وخرجوا من بين يديه وقد توغرت صدورهم. وحدثوا إخوانهم من المماليك بما كان من الأمير يلبغا، واتففو جميعاً على الفتك به وتحالفوا على ذلك، ولبسوا سلاحهم في ليلة الأربعاء خامس ربيع الآخر، وكبسوا مخيم يلبغا وأحاطوا به ليأخذوه. فمضى إليه بعض خواصه منهم، وأعلمه الخبر. فبادر إلى الفرار على فرس وقصد بولاق التكروري في نفر من خاصته، وبعث إلى الأمير طيبغا حاجب الحجاب يعلمه بما هو فيه، فلم يشعر الحاجب، وقد جلس بكرة يوم الأربعاء لعرض الأجناد على عادته، وهم منه على تخوف أن يقطعهم كما فعل بغيرهم، إذ جاءه أحد مماليك يَلبغا وأسر إليه طويلاً. ثم قام عنه. وقد تغير حاله، فأمر الأجناد بالإنصراف، وأبطل عرضهم. وركب إلى داره، فلبس آلة الحرب هو ومماليكه. وعاد إلى الجزيرة، وتقدم بطلب أجناد الحلقة ومن تأخر بالقاهرة من الأمراء، فأتوه في السلاح، وقد ارتجت القاهرة بأهلها وخرجت العامة من كل موضع إلى الجزيرة، وما حولها، ومنع أرباب المراكب النيلية أن يعدوا بأحد النيل من البرين. وجمعت المراكب كلها إلى بر مصر، وضموا الشواني الحربية، وألقوا مراسيها في وسط النيل، وأخرجوا منها رجالها. وتقدم حاجب الحجاب إلى فتح الدين صدقة وليس الحراقة السلطانية أن يخرج الحراقة الذهبية من بر الجيزة، ولا يعدى إلا بالسلطان والأمير يلبغا فقط ومن يصحبهما. وكان الأمير عمر ابن النائب - نائب الغيبة - قد أغلق أبواب القلعة، وألبس من بها من مماليك السلطان السلاح، وأقامهم على الأسوار، واستعد.
وأما يلبغا فإنه سار ليلة من جزيرة القط إلى بولاق التكروري، فلم يأتها إلا عند نصف النهار من يوم الأربعاء. فلم يجد مركباً يعدى به النيل إلا الحراقة الذهبية، فعدى فيها، وقد عرفه الرايس صدقة حتى وافى حاجب بالجزيرة، ومن انضم إليه من الأمراء والأجناد، فأكد في المنع بالتعدية بأحد، من بر الجزيرة. وسار في جحفل كبير إلى القلعة، فمنعهم نايب الغيبة من دخولها، ورأوا منعتها عليهم بمن فوقها من المقاتلة، فعاد عنها يجمعه من منزله بالكبش، وظل فيه بقية نهاره، وبات ليلة الخميس، وقد رجع الأمير طيبغا حاجب الحجاب إلى الجزيرة لحراسة المعادي.(2/255)
وأما المماليك لما بلغهم فرار يلبغا نادوا من أراد مخدومه يلبغا فليتبعه، ومن أراد السلطان فليقم معنا. فتبع يلبغا طايفة وتأخر أكثرهم، فأسرع القوم إلى من فارقهم وأخذوهم وقيدوهم واقتسموا جميع ما معهم. وتجمعوا بأسرهم عند وطاق السلطان ونزلوا عن خيولهم، ومثلوا بين يديه وقبلوا الأرض، وأعلموه بما كان من يلبغا في حقهم، وما رده من الكلام الجافي عليهم، وسألوه نصرتهم عليه، فوعدهم بخير، وقوى عزايمهم، فحلفوا له. ثم ساروا به إلى بولاق التكرووي في ليلة الأربعاء، حتى وافى شط النيل فلم يجد مراكب يعدى بها النيل، فخيم هناك بمن معه، ونودي بالإقامة ثلاثة أيام. وكتبت البطايق إلى الإسكندرية ودمياط ورشيد والبرلسي على أجنحة الحمام، بقدوم من بها من الأمراء والأجناد المركزين في اليزك على العادة لحفظ الثغور من الفرنج. وكتب بحضور من بالوجه القبلي والوجه البحري أيضاً، فقدموا شيئاً بعد شيء. وأخذ ولاة الجيزة في جمع المراكب من شاطىء النيل، فجمعوا منها عدة، ركب بها طائفة في الليل. وأخذوا كثيراً من الشواني الحربية التي في وسط النيل وضموا بها ما بقى منها، وصاروا بها جميعاً إلى بولاق التكروري، وفيها آلات الحرب، فما طلع النهار، حتى زينت ونصبت عددها، وعمرت بالرجال البحرية والمماليك السلطانية فكأن الأمير يلبغا إنما تعب فيها لتكون مقاتلة له ومزيلة نعمته، وسالبة لملكه.
فلما كان يوم الخميس: ركب الأمير يلبغا في عسكر موفور إلى الجزيرة، فبرزت إليه الشواني من بر الجيزة، حتى صارت في وسط النيل، ورمته المماليك السلطانية منها بالسهام، والنفط، فمازال القوم يترامون نهارهم ثم أمر يلبغا فجيء إليه بالخليفة، وآنوك ابن حسين بن محمد بن قلاوون. وطلب يلبغا من الخليفة أن يفوض إليه السلطة عوضاً عن أخيه شعبان بن حسين، فامتنع الخليفة من ذلك. واحتج بأن الشوكة للأشرف شعبان فأمر يلبغا بالكوسات فدقت، وأقام شعار السلطنة كله، وقال: أنا أعينه وأؤيده. ومن الشوكة غيري؟ فلم يجد الخليفة بداً من سلطة آنوك، فأقاموه سلطاناً، ولقبوه بالملك المنصور، وأركبوه بالشعار السلطاني.
واشتدت الحرب بين الفريقين يوم الخميس وليلة الجمعة. وجلس المنصور آنوك بكرة يوم الخميس وبين يديه أرباب الدولة من الأمراء وأرباب الأقلام على العادة. فلما انقضت الخدمة ركب بالعساكر مع الأمير يلبغا للحرب. واستمر الرمي من الشواني طول النهار إلى نصف نهار يوم السبت. ثم نزل عدة من الأشرفية في أربعة شواني يريدون جهة الروضة، فندب يلبغا جماعة من أصحابه إلى جهتهم حتى يمنعوهم الصعود إلى البر. ثم خرجت ثلاث طرايد أيضاً ومضت من بولاق التكروري تريد جهة جزيرة الفيل وشبرا، فسير إليهم يلبغا طائفة أخرى تمنعهم النزول إلى البر، ومنهم الأمير طغاي تمر النظامي، والأمير قرابغا البدري، والأمير طيبغا المجدي، فالتقوا قريباً من الوراق. وصار البدري والنظامي في جلة الأشرفية، فبعثوا بهما إلى بولاق التكروري. ونزل الأشرفية إلى ناحية شبرا في نحو ثلاثة آلاف، فملكوا البر الشرقي.(2/256)
هذا وأسواق القاهرة طول هذه الأيام مغلقة، والأسباب متعطلة، وليس للناس شغل سوى التفرج في شاطىء النيل على المقاتلين من السلطانية واليلبغاوية، وصاروا يلهجون كثير بقولهم. السلطان الجزيرة ما يساوي شعيرة. يريدون أن أمر آنوك لا يتم، ويهزأون به، وصار الأمير قجماس الطازي يمر في قارب لطيف ومعه طائفة، حتى يقرب من البر، ويرمى بالنشاب، فيرموه أيضاً ويتسابقوا، وتعصبت العامة للسلطان، وعملوا لهم رايات، وسبحوا النيل إليه، وصاحوا عنده السلطان منصور فأخذ أمر يلبغا ينحل. فلما قدم البدري والنظامي على السلطان. وأعلماه بأخذ السلطانية البر الشرقي. وتفرق اليلبغاوية في طلب الشواني، وأشارا عليه بتعدية النيل. ركب في بقية الأغربة بمن معه، ومضى إلى جهة شبرا والعامة تحاذيه من البرين، وتستغيث بالدعاء له. حتى نزل شبرا، والتفت عليه جموعه، فسار يريد القلعة فتسلل أصحاب يلبغا عنه، طائفة بعد طائفة. فلم يجد يلبغا بداً من الفرار، وتوجه يريد القلعة. وقد فر عنه من كان قد بقي معه من الأمراء، وهم يعقوب شاه، وأرغون ططر،وبيبغا العلاي الدوادار، وخليل بن قوصون وأقبغا الجوهري، وكمشبغا، وبيبغا شقير، وأينبك. ولحقوا جميعهم بالسلطان، ولم يتأخر مع يلبغا سوى علاي الدين طيبغا حاجب الحجاب. وكان العامة قد لقبوه قنصا ونسن. وفر مماليكه شيئاً بعد شيء. فأيقن بالزوال. وبعث بسلطان الجزيرة آنوك إلى القلعة، وأصعد بكوساته إلى الطبلخاناه، ونزل عن فرسه تحت الميدان بسوق الخيل، وصلى ركعتين، وحل سيفه من وسطه. وأمر طيبغا حاجب الحجاب أن يمضي به، ثم ركب فرسه ومضى إلى داره بالكبش و لم يبق معه إلا دون المائة فارس، والعامة تهزأ به وتسبه، وترجمه بالحجارة حتى وصل داره.
وقدم السلطان إلى القلعة في عساكره، وعساكر يلبغا، وعالم كبير من العامة. فدخل من باب الإصطبل أول ليلة الأحد، فنزل عند بابه. والكوسات تدق، والعساكر واقفة تحت القلعة في الرميلة. ثم أمر بإحضار يلبغا، فأحضر إليه في الحال، مع عدة من الأمراء والمماليك المتوجهين إليه من قبل السلطان، وأحضر معه طيبغا حاجب الحجاب، فحبسا بالقلعة، فخشيت المماليك منه أن يفرج السلطان عنه، فيبيدهم، فصاروا بأجمعهم إلى أكابرهم والأعيان منهم، وهم الأمير أسنَدُمر، والأمير أَقبُغا حَلَب، والأمير قجْماس. ومازالوا بهم حتى طلبوا من السلطان أن يمكنهم منه، فخلاهم وإياه، فأخرجوه من السجن ومشوا به حتى قرب من باب السلسلة، قدم له فرس لركبه، فعندما أراد ركوبه، بدره من مماليكه قراتَمُر، ألقى رأسه عن بدنه، واقتحم بقيتهم عليه بسيوفهم، حتى أتلفوا شلوه. وحملوا رأسه إلى السلطان، وبين يديه مشعل قد أضرمت ناره وعلا لهبه، فألقوا الرأس في النار، ثم أخرجوه وغسلوه، فعرفه من هنالك بسلعة كانت تحت أذنه. وحملت جثته إلى خلف القلعة. فعند ذلك قام السلطان وصعد إلى قصره من القلعة، فأخذ الأمير طاش تَمُر - دوادار يلبغا - الرأس، وتتبع الجثة حتى وجدها في ليلته. ثم غسل الجميع، ودفنه بتربته المعروفة بتربة يَلْبُغا، خارج باب المحروق من القاهرة، وذلك ليلة الأحد عاشر شهر ربيع الآخر. واستمرت الكوسات تدق طول تلك الليلة، والعساكر واقفة تحت القلعة، حتى أصبح نهار الأحد، صعدوا إلى الخدمة بالقلعة، وقد تعين منهم الأمير أقبغا الجلب والأمير أسندمر، والأمير قجماس، وأخذوا في تدبير أمور الدولة، وقبضوا على الأمير قرابغا البدري، والأمير يعقوب شاه، والأمير يَلْبُغا الدوادار وقيدوهم وبعثوا بهم، فحبسوا بالإسكندرية، وألزم الأمير خليل ابن قوصون بأن يقيم في داره بطالا.(2/257)
هذا وقد امتدت أيدي العامة وأسافل الأجناد إلى بيوت الأعيان فنهبوها بحجة أنهم من حواشي يلبغا، حتى شنع الأمر في ذلك. ونهبوا بيت الأمير فخر الدين ماجد بن قزوينة، وبيوت ألزامه وأتباعه، ونهبوا بيت الأمير علاي الدين والي القاهرة. وصار من يريد أن يبلغ عن عدوه ما يريد يقول عنه أنه يلبغاوي، فما هو إلا أن تسمع العامة عنه ذلك، وإذا بهم أتوا كأنهم جراد منتشر، فما يعفوا ولا يكفوا. وإن صدفوا في طريقهم أحداً سلبوه ثيابه. فحل بالناس من هذا بلاء لايمكن وصفه، وتخوف كل أحد أن يصيبه بلاؤهم. فتنهب داره ثم تخرب، وتتفرق آلاتها في الأيدي كما فعل بجاره أو قريبه أوصديقه. فلما تجاوز العامة في إفسادهم المقدار، ركب الأمير ضروط الحاجب، ومعه والي القاهرة في عشية النهار، ونودي بالأمان. وأن غريم السلطان قد أمسك، ومن تعرض لأحد من الناس أو نهب شيئاً حل ماله ودمه للسلطان وشق، فانكفوا عن فسادهم.
وفي يوم الاثنين حادي عشره: جلس السلطان بدار العدل من القلعة على العادة، وخلع على الأمير قشتمر المنصوري. واستقر حاجب الحجاب. وخلع على الأمير أيدَمر الشامي، واستقر مقدم ألف ناظر الأحباس دوادارا كبيراً، وعلى الأمير قجماس الطازي. واستقر أمير سلاح. وعلى الأمير ضروط، واستقر حاجباً، عوضاً عن يعقوب شاه. وعلى الأمير ناصر الدين محمد بن قماري. واستقر أمير شكار، عوضاً عن جمال الدين عبد الله بكتَمر الحاجب. وخلع على الوزير فخر الدين ماجد بن قزوينة، واستمر على عادته وقبض على الأمير أرغون العزي، والأمير أرغون الأرغوني، والأمير أزدَمُر العزي أبو دقن، والأمير يونس العمري الرماح، والأمير أقبغا الجوهري، والأمير كمشبغا الحموي الأمير نوبة يلبغا. وسجنوا بالقلعة ماعدا كمشبغا الحموي وأقبغا الجوهري فإنهما سجنا بخزانة شمايل.
وفي يوم الثلاثاء ثاني عشره: قبض على الأمير آَينبك البدري، فصالح عن نفسه بأن ينفق على المماليك الأجلاب من ماله، فأنفق فيهم، وكانوا ألفاً وثماني ماية مملوك، وعلى كل مملوك منهم ألف درهم فضة، عنها يومئذ زيادة على خمسين مثقالاً من الذهب، وحمل مالاً جزيلاً إلى الأمراء حتى أعيد إليه إقطاعه.
وفي ليلة الأربعاء ثالث عشره: توجه الأمير تغرى برمش بعدة من الأمراء والمماليك المقبوض عليهم إلى الإسكندرية، فسجنوا بها.
وفي الخميس رابع عشره: قدم الأمير ألطنبغا البشتَكي نائب غزة.
وفي ليلة السبت سادس عشره: أخرج كمشبغا الحموي وأقبغا الجوهري من خزانة شمايل، إلى الإسكندرية.
وفي يوم السبت: المذكور خُلع على الأمير طيدَمُر البالسي واستقر أستادار على الأمير قرابغا الصَرْغَتمشي أحد العشرات بتقدمة ألف.
وفي عشرينه: خلع على الأمير أَسنبغا القوصوني، واستقر لالا عوضاً الأحمدي، واستقر قراتمر المحمدي خازندار عوضاً عن ملكتمُر المحمدي.
وفيه قدم الطواشي سابق الدين مثقال الآنوكي من قوص، فقربه وأكرمه.
ونودي في الناس: من قطع طيبغا حاجب الحجاب خبزه وقت العرض فليحضر ويأخذه. فاجتمع كثير منهم في دار الأمير قَشْتَمُر حاجب الحجاب فرد إليهم أخبازهم.
وفيه كثرت المرافعات على الأمير آينبك، فرد إلى جماعة كبيرة ما كان أخذ منهم أيام يلبغا.
وفي يوم الخميس ثاني عشر جمادى الأولى: خلع على الوزير فخر الدين ماجد ابن قزوينة، ولم يقدر على أخويه سعد الدين وعلم الدين إبراهيم. وعزل الأمير علاء الدين علي بن كلفت شاد الدواوين، وقبض عليه وعلى أخيه زين الدين رجب. وخلع على فخر الدين ماجد - ويدعى عبد الله بن التاج موسى، ويدعى مالك الرق، ابن أبي شاكر كاتب الأمير يلبغا، واستقر في الوزارة ونظر الخاص، عوضاً عن الفخر بن قزوينة. وخلع على الأمير صلاح الدين خليل بن عرام، واستقر شاد الدواوين، وسُلم ابن قزوينة للأمير قرابغا الصرغتمشي ليستخلص أمواله.
وفي سادس عشره: خلع على الطواشي سابق الدين مثقال الآنوكي، واستقر مقدم المماليك على عادته.
وفي يوم الخميس تاسع عشره: نزل جماعة الأمراء من القلعة إلى المدرسة المنصورية، فحلفوا بها، وخلع عليهم بالشرابيش على العادة، وركبوا إلى القلعة، وقد زينت القاهرة لهم، فكان يوماً مشهوداً.
القاهرة الشريف بكتمُر، فُسر الناس بعزله وزوال دولة يلبغا، وقبض ابن قزوينة، وأبقوا الزينة يومهم كله.(2/258)
وفي ثامن عشره: قدمت رسل متملك جنوة من بلاد الفرنج، يسأل أن تمكن تجارهم في القدوم إلى الإسكندرية على عادتهم، فأجيبوا إلى ذلك.
وفي يوم الخميس سادس عشر شهر رجب: ركب الأمراء للحرب بالسلاح ووقفوا تحت القلعة، وكان قد أشيع أن الأجلاب اليلبغاوية يريدون الحرب، وقبض الأمراء، وأَول ما بدأوا به أن قبضوا على الأمير قرابغا الصرغتمشي وحبسوه، وأقاموا على تخوف، هذا وقد تفاحش أمر الأجلاب بحيث سلبوا الناس في الطرقات، وهجموا الحمامات على النساء، وأخذوهن بالقهر، وقصدوا أرباب الأموال بالأذى، حتى شمل الخوف الناس.
فلما كان يوم الثلاثاء حادي عشرينه: ركب الأمير تغرى بَرْمِش للحرب في جماعة كبيرة من الأجلاب، فركب الأمراء لحربهم، وقبضوا على تغرى برمش المذكور، وعلى الأمير آيْنَبَك البدري، والأمير قرابغا العزى، والأمير مُقبل الرومي، وإسحاق الرحبي، وبعثوا بهم إلى الإسكندرية، وقبضوا أيضاً عدة من الأجلاب ونفوهم من أرض مصر.
وفي سادس عشرينه: أنعم على الأمير أقطاى بتقدمة ألف، وعلى الأمير قطلوبُغا جركس بتقدمة ألف، وكان الأمير أسندمر قد صار في رتبة أستاذه يلبغا، وإليه تدبير أمور الدولة، وعنه يصدر ولاية أربابها وعزلهم، وسكن في دار يلبغا بالكبش.
فلما كان يوم الأحد سابع شوال: بلغ الأمير أسندَمُر أن جماعة من الأمراء قد اتفقوا على الفتك به وبالأجلاب، وهم أعضاده وبهم يصول. فخرج ليلاً من داره إلى دار الأمير قجماس الطازي، وبذل له مالاً كبيراً حتى استماله إليه. ثم فارقه، وفي ظنه أنه قد صار معه، و لم يكن كذلك. وعاد إلى منزله بالكبش واستدعى خواصه من اليلبغاوية، وقرر معهم أنه إذا ركب للحرب يقتل كل واحد منهم أميراً، أو يقبض عليه، وبذل لهم مالاً كبيراً حتى وافقوه، وما هو إلا أن خرج أسنَدمر من عند قجماس ليدبر ما قد ذكر مع الأجلاب. ركب قجماس إلى جماعة من الأمراء، وقرر معهم القبض على أسنَدمُر، فركبوا معه للحرب، ووقفوا تحت القلعة، فنزل السلطان في الحال إلى الإصطبل، ودقت الكوسات حربياً.
وأما أسندمر فإنه بات هذه الليلة في إصطبله، حتى طلعت الشمس، ركب من الكبش بمن معه من اليلبغاوية وغيرهم، ومضى نحو القرافة، ومر من وراء القلعة، حتى وافاهم من تحت دار الضيافة، ووقف تحت الطلبخاناه فالتقى مع الأمراء، واقتتلوا فهزمهم بمن كان قد دبر معهم من اليلبغاوية في الليل قبض الأمراء أو قتلهم. وثبت الأمير ألجَاي اليوسفي والأمير أرغون ططر، وقاتلا أسندمر إلى قبيل الظهر، فلما لم يجد معيناً ولا ناصراً انكسرا إلى قبة النصر، وانفض الجمع بعد ما قتل الأمير ضروط الحاجب، وجرح الأمير قجماس والأمير أقبغا الجلب، وكثير من الأجناد والعامة، فقبض الأمير أَسَندَمر على الأمير قجماس، والأمير أَقبغا الجلب والأمير أقطاي، والأمير قُطْلُوبغا جركس، وهؤلاء أمراء ألوف. وقبض من أمراء الطلبخاناه على قرابغا شاد الأحواش، واختفى كثير من الأمراء. ومرت مماليك أَسَندَمُر وطائفة من الأجلاب في خلق كثير من العامة، فنهبوا بيوت الأمراء، فكانت هذه الواقعة من أشنع حوادث مصر وأعظمها فساداً.
وفي يوم الثلاثاء: غد الواقعة، قبض على الأمير أيدمر الشامي الدوادار، فضربه الأمير أَسَندمر ضرباً مبرحاً، وعنفه على مخالفته عليه. ثم قيده مع بقية من قبض عليه.
وفيه أمسك أيضاً الأمير أُلْجاي اليوسفي أحد أمراء الألوف والأمير يلبغا شُقَير أحد الطبخاناه، فقيدوا وحمل الجميع إلى الإسكندرية. فسجنوا بها.
وفي يوم الأربعاء: قبض على الأمير طُغاى تَمُر النظامي - أحد الألوف - وعلى الأمير أرغون طَطَر - أحد الألوف - وعلى قُطلُوبغا الشعباني. وأيدَمُر الخطاي، وتمراز الطازي، وهم من الطلبخاناه. ثم قبض على الأمير ألطنبغا الأحمدي أحد مقدمي الألوف، وعلى طاجار من عوض، وآسن الناصري. وقراتمر المحمدي، وقرابغا الأحمدي، من الطلبخاناه. وعلى جماعة أخرى، فكانت عدة من قبض عليه أسندَمُر خمسة وعشرين أميراً.(2/259)
وفي يوم الخميس حادي عشرينه: استقر أَزْدَمُر العزى أبو دقن أمير سلاح، وجركَتَمر السيفي منجك أمير مجلس، وألطبغا اليلبغاوي أحد العشرات رأس نوبة كبير، وأنعم عليه بمأمرة ماية. واستقر قطلو أقتمر العلاي أمير جندار، وسلطان شاه حاجباً ثانياً. وأنعم على يبرم العزى أحد الأجناد بتقدمة ألف، وأعطى إقطاع طُغَاى تَمُر النظامي، وجميع ماله من خيل ومماليك وقماش ومال وغلال وغير ذلك، واستقر دواداراً كبيراً، وخلع عليهم وعلى الأمير خليل بن قوصون، وعلى الأمير قُنقُ العزى، والامير أرغون القَشْتَمُري، وعلى محمد بن طيطَق العلاي - واستقر - جوكندار - وعلى قَرْمش الصَرغَتْمشي وعلى الأمير مبارك الطازى، والأمير إينال اليوسفي، وعلى الأمير ملكتمر المحمدي - واستقر خازندار - وعلى الأمير بهادر الجمافي، واستقر شاد الدواوين عوضاً عن ابن عرام، وخلع على ابن عرام واستقر في نيابة الإسكندرية، وأنعم على كل من أرغون المحمدي الآنوكي الخازن، وبزلار العمري، وأرغون المارغوني، ومحمد بن طقبغا الماجاري، وباكيش السيفي يلبغا، وسودون الشيخوني، وأَقبغا آص الشيخوني، وكبك الصرغتمشي، وجلبان السعدي، وإينال اليوسفي، وكمشْبغا الطازي، وقماري الجمالي، وبكتمر العلمي، وأَرْسَلان خجا، ومبارك الطازي، وتَلَكتمُر الكشلاوي، وأسنبغا العزى، وقطلوبغا الحلبي، ومأمور القلمطاوي، بإمرة طلبخاناة، وارتجع عن أولاد يلبغا الأتابك تقادمهم وأنعم عليهم بطبلخاناه، وأنعم على كل من ألطُنْبُغا المحمودي، وقرابغا الأحمدي، وكَزَك الأرغوني، وحاجي بك بن شادي، وعلى بن بكتاش، ورجب بن خضر، وطيطق الرماح، بإمرة عشرة، فكان يوماً مشهوداً.
وقدم الخبر باتفاق الأمير طبغا الطويل نايب حماة، والأمير أشقتمُر نايب طرابلس، على المخامرة، فتجهز الأمير أسندمر الأتابك للسفر، وتقدم بتهيؤ الأمراء، وبعث القصاد للكشف عن ذلك على البريد، فعادوا باستمرار بقية النواب على الطاعة، ماعدا المذكورين. فكتب بالقبض عليهما، فقبضا وقبض معهما على إخوة طيبغا الطويل، وحملوا إلى الإسكندرية مقيدين.
واستقر أسندمر الزيني في نيابة طرابلس، وأعيد عمر شاه إلى نيابة حماة في أوائل ذي القعدة، واستقر أرغون الأزقي في نيابة صفد.
واستقر محمد بن أقوش الشجاعي في ولاية الغربية، وعلى العمري، في ولاية الأشمونين، واستقر بيبغا القوصوني أمير آخور عوضاً عن أقبغا الصفوي بعد موته. وبلغت زيادة ماء النيل إصبعين من عشرين ذراعاً، ثم زاد بعد ذلك، فلم يتَأذّى به. ومر بالحاج مشقة وعناء لقلة المياه، وموت فشا فيهم من شدة الحر والعطش.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر من الأعيان
الأمير ألطنبغا العزى أحد الطلبخاناه في يوم الإثنين رابع شهر ربيع الآخر.
ومات الأمير أقبغا الأحمدي أحد اليلبغاوية ويعرف بالجلب، من أمراء الألوف الذين خامروا على يلبغا. فلم يمتنع بعده.
ومات الأمير أقبغا الصفوي أمير آخور، في يوم الإثنين سابع عشر ذي القعدة.
وتوفي بهاء الدين حسن بن سليمان بن أبي الحسن بن سليمان بن ريان، ناظر الجيش، بحلب عن ثمان وستين سنة بدمشق، وقد اعتزل الناس.
وتوفي الشيخ المعتقد عبد اللّه بن أسعد بن علي بن سليمان بن فلاح الشافعي اليمني بمكة عن سبعين سنة. وله شعر ومصنفات في التصوف وغيره.
وتوفي نجم الدين عبد الجليل بن سالم بن عبد الرحمن الحنبلي الأعمى، أحد شيوخ الحنابلة بالقاهرة، في يوم الخميس تاسع عشرين شهر ربيع الأول، وهو عم الشيخ صلاح الدين محمد بن الأعمى الحنبلي.
وتوفي قاضي حماة أمين الدين عبد الوهاب بن أحمد بن وهبان الدمشقي الحنفي، وقد برع في القراءات والعربية.
وتوفي نور الدين على الدِميري، الرجل الصالح، بالقاهرة في ليلة الإثنين حادي عشرين صفر، أفنى عمره في تعليم القرآن وبر الفقراء.
وتوفي شرف الدين عيسى الزنكلوني الشافعي، أحد نواب الحكم بالقاهرة في سابع عشرين رمضان.
ومات تقي الدين محمد بن محمد بن عيسى بن محمود بن عبد الضيف البعلبكي، الشهير بابن المجد، الشافعي. ولي قضاء طرابلس وحمص وبعلبك، وقدم مصر وبغداد، وسمع الحديث، وبرع في الفقه، وشارك في عدة فنون.(2/260)
وتوفي الأديب البارع جمال الدين محمد بن محمد بن محمد بن الحسن، بن أبي الحسن بن صالح بن علي بن يحيى بن طاهر بن محمد الخطيب، بن عبد الرحيم بن نباتة المصري، بالقاهرة، في ثامن صفر، ومولده في ربيع الأول سنة ست وثمانين وستمائة.
وتوفي الوزير الصاحب ناظر الخاص فخر الدين ماجد بن قزوينة، الأسلمي تحت العقوبة، في ثامن جمادى الآخر، وترك بالأهراء السلطانية ما ينيف على ثلاثمائة ألف أردب، وفي النواحي مغل سنتين، وكان يحمل إلى الأمير يلبغا بعد تكفية السلطان، وتكفية الأمير يلبغا وصرف الرواتب في كل شهر، ستين ألف دينار، وكان أميناً عارفاً مهاباً، عمر بيوت الأموال وخزائن الخاص بأنواع الأموال إلا أنه كان كثير الترفع حتى على الأمراء، فعذب عذاباً شنيعاً، وضرب غير مرة بالمقارع، ولفت أصابع يده اليمنى بالمشاق، وغمست في الزيت ثم أشعلت بالنار حتى احترقت يده كلها، وعمل في عنقه الحديد، وصار يمر بالأسواق وهو كذلك على حمار. ويذكر أن فقيراً قدم له في وزارته فمزقها وطرده، فدعا عليه، وخرج، فلم يمض سوى أيام حتى قبض عليه وعذب إلى أن مات.
وتوفي الأمير تمرتاش العلاي، خازندار يلبغا، أحد الطبلخاناه، في يوم الإثنين ثاني عشر ربيع الآخر.
وتوفي الشيخ المسلك يوسف بن عبد اللّه بن عمر بن علي بن خضر الكوراني الكردي العجمي، مرَبي الفقراء، في يوم الأحد النصف من جمادى الأولى، بزاويته من القرافة.
وقتل صاحب فاس ملك المغرب، أبو زيان بن الأمير أبي عبد الرحمن بن أبي الحسن، في المحرم، وأقيم بعده عمه عبد العزيز بن أبي الحسن، رحمه الله.
سنة تسع وستين وسبعمائة
في المحرم: استقر الأمير بيدمر الخوارزمي في نيابة الشام، والأمير منجك في نيابة طرابلس، عوضاً عن أسندمر الزيني.
وفي أول صفر: ورد الخبر بوصول الفرنج إلى طرابلس، في ماية وثلاثين مركباً، ما بين شيني وقرقورة وغراب وطريدة، وشختور، عليها متملك قبرص، ومتملك رودس، والاسبتار، وكان النائب غائباً، فقاتلهم المسلمون قتالاً شديداً، حتى اقتحم العدو المدينة، ونهبوا من أسواقها، فتحامل المسلمون عليهم واشتدوا في قتالهم، حتى أخرجوهم بعد ما قتلوا منهم نحو الألف، واستشهد من المسلمين نحو الأربعين رجلاً. فركبوا سفنهم وانقلبوا خايبين، فمروا بمدينة إياس في ماية قطعة، فسار إليهم الأمير منكلى بغا نايب حلب، وقد فر أهل إياس منها، فدخلها الفرنج. فلما قدم نايب حلب جلوا عنها.
وفي يوم الإثنين ثانيه: خلع على ناصر الدين نصر الله بن أحمد بن محمد بن أبي الفتح العسقلاني الكناني الحنبلي قضاء الحنابلة بديار مصر، بعد وفاة موفق الدين عبد اللّه بن محمد.
وفي يوم الجمعة سادسه: ركب المماليك الأجلاب اليلبغاوية لمحاربة الأمير أسنْدَمُر الناصري الأتابك، وطلبوه في أن يسلمهم بيرم وأزدمر أبو دقن، وجَرَكتمُر أمير مجلس في عدة أخرى. فلم يجد بداً من أن يبعث إلى الأمراء، فلما أتوه قبض على الأمير جَرَكتمُر والأمير أَزْدَمُر أبو دقن أمير سلاح، واِلأمير بيرم العزى الدوادار، والأمير يلبغا القوصوني أمير آخور، والأمير كَبَك الصرغتمُشي الجوكندار، وحملهم مقيدين إلى الإسكندرية. فلم يقنعهم ذلك، وباتوا بسلاحهم، وغدوا يوم السبت على حربهم، وطلبوا منه خليل بن قوصون، فسلمه إليهم، فافتدى نفسه منه بماية ألف درهم، عجل منها ربعها، ورسموا عليه لقوم بباقيها، وأهانه إهانة بالغة، ونزعوا السلاح، وفي باطنهم غل كثير، ثم تجمع أكابرهم في ليلة الأحد واتفقوا على قتل الأمير أسنْدَمُر، وقتل السلطان، وإقامة سلطان غيره، وتحالفوا على ذلك، وركبوا من ليلتهم وقصدوا القلعة، فأمر السلطان بالكوسات، فدقت ليجتمع الأمراء والعسكر، وأحضر الأمير خليل بن قوصون، وأركب معه المماليك السلطانية، وهم نحو المائتين، والأجلاب نحو الألف وخمسمائة، ونودي في القاهرة بركوب أجناد الحلقة، وحضور العامة لقتال الأجلاب. وكانت النفوس قد مقتتهم لقبح سيرتهم، وكثرة شرهم، وزيادة تعديهم.(2/261)
فبادروا إلى تحت القلعة زمراً زمراً، وركب الأمير أسنبغا بن البوبكري، والأمير قشتَمر المنصوري وغيره، فتناولت العامة الأجلاب بالرجم من كل جهة، وتقدم إليهم المماليك السلطانية والأمراء والأجناد وقاتلوهم، فكسروهم. فمضوا في كسرتهم إلى الأمير أسَندَمر. بمنزله من الكبش، ومازالوا به حتى ركب معهم في موكب عظيم، ومر على القرافة، حتى أتى من وراء القلعة، كما فعل فيما تقدم، فلم تثبت له المماليك السلطانية، وانهزمت عند رؤيته، فثبتت العامة وحدها لقتاله، وتقدموا إليه ورموه بالحجارة رمياً متتابعاً، وهو ومن معه يرموهم بالنشاب، فكان بين الفريقين قتال شديد شنيع، قتل فيه جماعة منهما، وطالت المعركة بينهما، فعادت المماليك السلطانية والأمراء، وحملوا هم والعامة على أسندمر والأجلاب، حملة منكرة، فلم يثبت لهم، وولى الأدبار بمن معه، وامتنع بإصطبله من الكبش وفت الظهر، فقبض من أصحابه على الأمير قرمش الصرغتمشي والأمير أقبغا آص الشيخوني، والأمير أرسلان خجا، وسجنوا بخزانة شمايل من القاهرة.
وركب الوالي عن أمر السلطان، ونادى بالقاهرة ومصر وظواهرهما، من قدر على حد من الأجلاب فله سلبه، ويعطى كذا من المال إذا أحضره، فتتبعت العامة عند ذلك الأجلاب في الأزقة والحارات، وأخذوا منهم جماعة، وركب الأمير خليل بن قوصون إلى الأمير أسنَدمر، فأخذه من داره وطلع به إلى القلعة ليقيد ويسجن، فشفع فيه جماعة من الأمراء، وقرروا عليه مالاً لينفق في مماليك السلطان، فقبل السلطان شفاعتهم، وخلع عليه، وأقره على حاله، فنزل إلى داره في ليلة الإثنين، ومعه الأمير خليل بن قوصون مرسماً عليه، حتى يحضر من الغد بالمال. فخدع أسندمر بن قوصون ووعده بأن يقيمه في السلطة، فإنه ابن بنت السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، فانخدع ابن قوصون ومال إليه وتحالفا على ذلك. فبعث أسندَمُر فجمع إليه الأجلاب، وبذل فيهم المال، ووعدهم ومناهم، فما طلع نهار يوم الإثنين حتى وكب أسندَمر وابن قوصون في جمع كبير، ووقفا تحت القلعة، فعادت الحرب وركب الأمراء والأجناد، وخرج عامة الناس، فكان الأمراء إذا رأوا ابن قوصون بجانب أسندمر انضموا إليه، ظناً منهم أنه سلطاني. فأمر السلطان فدُقت الكوسات، ونزل إلى الإصطبل بآلة الحرب، فاجتمع إليه الأمراء والمماليك السلطانية والعامة، وبعث إلى أسندَمُر وابن قوصون ليحضرا إليه، فامتنعا، وصرحا بأنهما يريدان نزع السلطان من الملك وإقامة غيره في السلطة لتخمد الفتنة. فلما عاد جوابهما إلى السلطان، بعث ثانياً يخوفهما عاقبة الغدر، فأظهرا أنهما أجابا، وهمّا بالحضور، ثم سَلا سيفيهما، ومرا ليفتكا بالسلطان، وقد ركب ووقف تحت الإصطبل، فتبعهما من معهما من الأجلاب، وهم شاهرون السلاح، ليفعلا فعلهما. فبادر السلطان بالنداء في العامة هؤلاء مخامرون فارجموهم. فصاحت العامة بأجمعهما مخامرين ورجموهم بالحجارة، ورمتهم المماليك السلطانية بالنشاب، فلم يكن غير ساعة حتى انكسر أسندمُر وابن قوصون، وقتل عدة من الأجلاب، فأخذتهم العامة في هزيمتهم، وأتوا بهم إلى السلطان أرسالاً وقد نزعوا ثيابهم وكشفوا رؤوسهم، ونالوا منهم ما شفي صدورهم. ثم قبضوا على خليل ابن قوصون من ناحية المطرية، وأتوا به. ثم أخذوا أسندمر من نحو وادي السدرة تجاه قبة النصر. وقبض على الأمير ألطبغا اليلبغاوي، والأمير سلطان شاه بن قرا، وهما من أمراء الألوف. وقبض على أحد عشر أمير سوى هؤلاء من اليلبغاوية، وقيدوا، ومضى بهم الأمير مَلَكتمُر، والأمير ألطنبغا العلاي، والأمير درت بغا البالسي إلى الإسكندرية ومات في هذا اليوم الأمير قنق أحد الألوف.
ونودي في آخر النهار بالأمان، فلا ينهب أحد شيئاً، فقد ظفر السلطان بغرمائه، فزينوا القاهرة ومصر، فزينتا أحسن زينة، وفرح الناس بزوال دولة الأجلاب.
وفي عاشره: رسم بالإفراج عن الأمير طغاى تَمُر النظامي والأمير ألجاي اليوسفي، والأمير أيدَمُر من صديق. وأنعم على الأمير مَلَكتمُر بن بركة، بتقدمة خليل بن قوصون.
وفي ثالث عشره: استقر الأمير أقبغا عبد الله دواداراً كبيراً بإمرة طبلخاناه.(2/262)
وفي يوم الإثنين سادس عشره: استقر الأمير يلبغا آص المنصوري أميراً كبيراً أتابك شريكاً للأمير تَلكتَمر المحمدي. وأنعم على كل منهما بتقدمة ألف، وأجلسا بالإيوان. واشتد الطلب على المماليك اليلبغاوية، فقبض منهم على نحو الألف، وحبسوا، فبلغ السلطان أن الأميرين يلبغا آص وتلكتَمر يريدا إخراج المذكورين وسكنى بيت يلبغا في الكبش، وركوبهما بهم على السلطان وقتله، فبادر وقبض على يلبغا آص من الغد يوم الثلاثاء سابع عشره، وعلى تلكتمر المحمدي وجماعة من المماليك، وحمل الأميران إلى الإسكندرية، فسجنا بها.
وفيه قدم الأمير طُغاى تَمُر النظامي، والأمير أُلجاى اليوسفي، والأمير أيْدَمُر من صديق الخطاي من الإسكندرية، فخلع عليهم.
وفيه أنفق السلطان في مماليكه ماية دينار لكل واحد، وخلع على الأمير بكتمر المؤمني، واستقر أمير أخور عوضاً عن بيبغا القوصوني. وقدم الأمير أَقتمُر عبد الغني من الشام باستدعاء، فخلع عليه، واستقر حاجب الحجاب، وخلع على الأمير الأكز الكشلاوي، واستقر شاد الدواوين، عوضاً عن بهادر الجمالي.
وفي ليلة الخميس تاسع عشره: أغرق السلطان في النيل جماعة من المماليك اليلبغاوية الذين اتفقوا على قتله، وأمر بتقوية زينة القاهرة ومصر، فبالغ الناس في تحسينهما.
وفي بكرة يوم الخميس: هذا سمر من الأجلاب اليلبغاوية ماية من أعيانهم، ووسطهم، وأغرق جماعة منهم، ونفي باقيهم إلى الشام وإلى أسوان، فكان ممن نفي من اليلبغاوية برقوق وبركة، وألطنبغا الجوباني، وجركس الخليلي وأقبغا المارديني. تسلمهم الشريف بكتمر والي القاهرة، وأوقفهم في داره وقد جعلت أيديهم في الخشب، وحضر غداؤه فلم يطعمهم شيئاً. ورسم عليهم من توجه بهم إلى قطيا، فتسلمهم والي قطيا وبعث بهم إلى غزة، فأرسلهم نائبها إلى الكرك، فسجنوا بجب مظلم في قلعتها عدة سنين. ثم أفرج عنهم ومضوا إلى دمشق، فخدموا عند الأمير مَنْجَك نائب الشام حتى استدعى السلطان بالمماليك اليلبغاوية ليستخدمهم بديوان ولديه، فحضر برقوق وبركة وغيرهما إلى القاهرة، وخدم برقوق فيمن خدم عند ولدي السلطان حتى قتل السلطان بعد عوده من عقبة أيلة وقام الأمير أَيْنبَك بأمر الدولة، فصار برقوق من جملة أمراء الطبلخاناه، ومنها ملك الإصطبل، وأقام به حتى تسلطن. كما سيأتي ذلك كله في أوقاته مبسطاً إن شاء اللّه تعالى.
وفي هذا اليوم: أيضاً خلع على الأمير ألجاي اليوسفي واستقر أمير سلاح، عوضاً عن أزدَمُر الذي يقال له أبو دقن. وأمر بهدم بيت الأمير يلبغا الخاصكي بالكبش، فهدم جميعه حتى لم يبق منه سوى بعض سوره. وأفرج عن الأمير أرغون ططر، فقدم في يوم الخميس ثالث ربيع الأول، ومضى البريد لإحضار الأمير قُطْلُبغا الشعباني من الشام، فخلع على أرغون ططر، واستقر أمير شكار بتقدمة ألف، وقدم الشعباني في خامسه. وخرج البريد بطلب الأمير منكلى بغا الشمسي، فقدم، وخُلع عليه بالإيوان. واستقر نايب السلطان وأتابك العساكر، وأفرج عن الأمير طيبغا الطويل، واستقر في نيابة حلب، عوضاً عن منكلى بغا الشمسي، واستدعى أيضاً الأمير أزدَمُر الخازندار من الشام، فقدم.
وفي سابع عشره: استقر محيى الدين محمد بن الصدر عمر في حسبة القاهرة، عوضاً عن علاي الدين علي بن عرب، واستقر ابن عرب في نظر الخزانة، وخلع عليهما.
وفي رابع عشرينه: استقر الأمير أسنبغا بن البوبكري في نيابة الإسكندرية، عوضاً عن ابن عرام، وقدم الأمير أمير على من الشام، باستدعاء، خلع عليه واستقر نايب الشام في رابع عشر جمادى الأولى.
وفي خامس عشرينه: قدم من الإسكندرية نحو ماية وخمسين من الفرنج في الخشب، وذلك أنه ورد ميناء الإسكندرية عدة مراكب في هيئة أنها مراكب تحمل البضائع، فدخل منها إلى المدينة نحو ماية وخمسين رجلاً، فعوقهم الأمير أسنبغا النائب حتى يتبين له أمرهم، فسارت المراكب مقلعة وعادت من حيث أتت، فأمر بتخشيب أيدي المذكورين وحملهم إلى القاهرة، ليرى السلطان ما رأيه.
وفي يوم الإثنين ثاني جمادى الآخرة: قدم الأمير قطلوبغا المنصوري بإستدعاء، ورسم بمسك الأمير بيدمر نايب الشام، فقبض عليه، واستقر عوضه الأمير منْجَك، واستقر عوض منجك في نيابة طرابلس الأمير أيدَمُر الآنوكي الدوادار.(2/263)
واستقر الأمير طَقتمُر الشريفي في نيابة غزة، واستقر علاي الدين علي بن الطشلاقي.
في ولاية قطيا، عوضاً عن ابن الدوادارى، واستقر الملك الصَرْغَتمُشي في ولاية بلبيس، واستقر الأمير علاي الدين علي بن بكتاش في ولاية القاهرة، عوضاً عن الشريف بكتمر، واستقر بكتَمر في ولاية الجيزة، واستقر الأمير شرف الدين موسى الأزكَشي الأستادار في البحيرة، عوضاً عن بدر الدين بن معين.
وفي ثامن عشره: خلع على الأمير أقتمر الصاحبي الحنبلي، واستقر دوادارا، عوضاً عن أقبغا عبد اللّه.
وفي يوم السبت ثامن عشرينه: استقر سراج الدين محمد بن رسلان بن نصير البلقيني قاضي قضاة الشام، عوضاً عن تاج الدين عبد الوهاب بن السبكي، وخلع عليه، ومضى، إلى دمشق.
وفي يوم الخميس رابع رجب: تزوج الأمير الأتابك منكلى بغا الشمسي بأخت السلطان، وهي خوند سارة بنت حسين بن محمد بن قلاوون. وفيه خلع عليه، واستقر ناظر المارستان المنصوري.
واستقر الأمير الأكز الكشملاوي أستادار السلطان، عوضاً عن ألْطنبغا البَشْتَكي بعد وفاته، واستقر أَرغون الأحمدي لالا السلطان، عوضاً عن سودون الشيخوني. واستقر الأمير طغاى تمر النظامي شاد الشرابخاناه. واستقر الأمير بشتاك العمري رأس نوبة ثانياً، واستقر الأمير ككبغا السيفي خازندارا، ثم نفي بعد قليل، واستقر عوضه الأمير ناصر الدين محمد بن أقبغا آص، واستقر الأمير درت بغا البالسي خاصكيا بإمرة طبلخاناه.
وفي يوم الثلاثاء سادس عشره: أعيد علاي الدين علي بن عرب إلى حسبة القاهرة، وعزل ابن الصدر عمر، فمات بعد تسعة أيام من عزله، وفي ثالث عشرينه وقع حريق عظيم بداخل الدور السلطانية من قلعة الجبل، فدخل الأمراء حتى أطفوه.
وفي سابعِ شعبان: استقر الأمير عمر بن أرغون النايب في نيابة الكرك عوضاً عن ابن القشتمُري.
وفي يوم الإثنين حادي عشرينه: خلع على سراج الدين عمر بن إسحاق بن أحمد الهندي، واستقر في قضاء القضاة الحنفية، عوضاً عن جمال الدين عبد الله بن علي التركماني بعد وفاته، وخلع على بدر الدين محمد بن جمال الدين التركماني، واستقر في قضاء العسكر، عوضاً عن السراج الهندي، ونزلا جميعاً من القلعة، فكان يوماً مذكوراً.
وفي يوم الإثنين خامس رمضان: خلع على بدر الدين محمد بن علاي الدين علي بن فضل الله العمري، واستقر في كتابة السر، عوضاً عن أبيه، وقد اشتد مرضه. فلما رآه أبوه بالخلعة بكى.
وقدم الحاج محمد التازي المغربي رايس البحر، وقد تسلم من الشواني التي عمرها الأمير يلبغا غراباً، كمله بالعدد والآلات، وشحنه بالمقاتلة من رجال المغاربة، وأخذ غراباً آخر من الإسكندرية، متكملاً بالعدد والرجال، ومضى في البحر، وهجم على الفرنج، فملك منهم غراباً قتل منه جماعة وأسر باقيهم. وقدم في تاسع عشرين شعبان فتلقاه جماعة من الأمراء بتجمل عظيم، وخرج الناس إلى لقائه، وسروا به، فلما تمثل بين يدي السلطان خلع عليه، وأنعم عليه بجميع ما أحضره من الغنايم.
وفي يوم الثلاثاء ثالث عشره: قبض على الأمير طغاي تمر النظامي، والأمير أرغون طَطر، واتهما بإثارة فتنة على السلطان.
وفي تاسع عشرينه: استقر الأمير أَرغون الأزقي رأس نوبة كبيراً، عوضاً عن تلكتُمر، واستقر تلكتمر أمير مجلس، عوضاً عن طغاي تمر النظامي، وخلع عليهما.
وفي العشرين من ذي القعدة: قدم سراج الدين عمر البلقيني من دمشق باستدعاء، واستقر أسنبغا بن البوبكري في نيابة حلب عوضاً عن طيبغا الطويل بعد موته، واستقر طَيْدَمُر البالسي في نيابة الإسكندرية، عوضاً عن ابن البوبكري، واستقر صلاح الدين خليل بن عرام حاجباً بالثغر، واستقر قطْلُوبغا المنصوري حاجباً ثانياً، عوضاً عن طَيدَمُر البالسي.(2/264)
وفيه خلع على علم الدين إبراهيم بن قزوينة واستقر في الوزارة، عوضاً عن فخر الدين ماجد بن أبي شاكر، وخلع على ابن أبي شاكر، واستقر في نظر الخزانة الكبرى، عوضاً عن شمس الدين بن الموفق، وخلع على ابن الموفق، واستقر في نظر الإصطبل عوضاً عن شمس الدين بن الصفي، في ثالث عشرينه. وخلع على شمس الدين المقسي، واستقر في نظر الخاص عوضاً عن ابن أبي شاكر، وخلع على كريم الدين شاكر بن الغنام، واستقر في نظر البيوت، وخلع على الحاج محمد بن يوسف، واستقر مقدم الدولة، عوضاً عن المقدم عز، واستقر الأمير أشَقتمُر المارديني في نيابة طرابلس ثم عزل، واستقر الأمير أيدمر الشيخي في نيابة حماة، عوضاً عن عمر شاه، واستقر الأمير أيدمُر يانق في كشف الوجه القبلي، واستقر ابن الديناري في ولاية قوص، عوضاً عن قُرُطاى الكركي، واستقر محمد بن عقيل في ولاية الغربية، واستقر عثمان الشَرفي بالبهنساوية، ومحمد الكركى بالأشمونين، وأحمد الطرخاني بمنوف، عوضاً عن خاص ترك بن طغاى، واستقر قُطُلوبك بالفيوم، واستقر أمين الدين محمد بن علي بن الحسن الألفي في قضاء المالكية بحلب، عوضاً عن صدر الدين أحمد الدميري بعد وفاته، وأعيد فتح الدين أبو بكر محمد بن الشهيد إلى كتابة بدمشق، وقدم جمال الدين بن الأثير إلى القاهرة.
وقبض على الأمير أرغون القشُتَمري، وأخرج بطالا إلى القدس، ونفي أيضاً الأمير بَشْتَاك العُمري إلى الشام.
وفي حادي عشرين ذي الحجة: قدمت رسل السلطان أويس من بغداد، وكان قاع النيل أربعة أذرع وأربعة عشر إصبعاً.
وأنعم على كل من كَجَك بن أرطُق، وأزدَمر الخازندار، وأقتمر الحنبلي، وبكتمر المؤمني، والأكز الكشلاوى، وأرغون الأحمدي اللالا، بتقدمة ألف، وأنعم على كل من محمد بن طُرغاي، وإبراهيم الناصري، وصُراي العلاي، وبكتمر الأحمدي شاد القصر، وبشتاك العُمري، وتنبك الأزقي، ودْرت بغا البالسي، وككبُغا السيفي، وأقبغا عبد الله، وطغاى تمر عبد الله، ويوسف شاه بن يلو، وأروس السيفي، وأيدَمُر بن صديق، ومحمد ابن أقتمر عبد الغني، ويونس الشيخوني، وموسى بن أيتْمش، ومحمد ابن الدواداري، وسودون جركس أمير آخور، وبرسبغا، وقرابغا الأناقي، وعلي بن بكتاش ومحمد بن أمير علي المارديني، وصصلان الجمالي، وصراى تمر المحمدي، وأَسنبغا القوصوني، وخليل بن تنكزبغا، بإمرة طبلخاناه. وأنعم على كل من قماري الجمالي، وعمر بن طقتمر، وصربغا السيفي، وجاني بك العلاي، وألطنبغا عبد المؤمن، وطقتُمر الحسني ومبارك شاه الرسولي، وجَرْقُطْلو، وجَرجي البالسي، ومحمد بن أزدمر الخازندار، وقدق الشيخوني، وكوجيا، وأبي بكر بن قنْدُس، وأَسنْبُغا البهادري، وأقتمر عبد الغني الساقي، ويلبغا الناصري، ومحمد بن قرابغا الأناقي، وألطنبغا النظامي، وقطلوبغا من بايزيد بإمرة عشرة.
وفي هذه السنة: فشت الأمراض الحادة، والطواعين بالناس في القاهرة ومصر، فمات في كل يوم ما ينيف على مائة ألف نفس.
ومات في هذه السنة من الأعيان
الفقير المعتقد إبراهيم بن البرلسي وهو مجاور بالمدينة النبوية، وقد أناف على ماية سنة.
ومات الملك المنصور أحمد بن الصالح صالح بن المنصور غازي بن المظفر قرأ أرسلان ابن أرتق صاحب ماردين، فكانت مدته نحو ثلاث سنين، وقد جاوز ستين سنة.
وتوفي صدر الدين أحمد بن عبد الظاهر بن عبد الدميري، قاضي المالكية بحلب، وله نظم، وخمس البردة.
وتوفي شهاب الدين أحمد بن لؤلؤ بن عبد الله، المعروف بابن النقيب الشافعي، يوم الأربعاء رابع عشر شهر رمضان. ومولده سنة اثنين وسبعمائة. أخذ القراءات السبع عن جماعة، وقرأ النحو على أبي حيان، وبرع في الفقه، وكتب مختصراً حسناً في الفقه، واختصر الكفاية، وكتب النكت على المنهاج، وكتب قطعة على المهذب وقال الشعر، وتصدر بالمدرسة الحسامية، والمدرسة الأشرفية، وأم بالندقدارية، وكان جيد القراءة، حسن الصوت، ويقصد سماع قراءته في المحراب، ليالي شهر رمضان.
وتوفي شيخ الشيوخ بخانكاه سرياقوس شهاب الدين أحمد بن سلامة بن المقدسي الشافعي، وكان قبل ذلك شيخ خانكاه بَشتَاك وخطيب جامعه، وصنف كتاباً مفيداً في التصوف.
ومات الأمير عز الدين أزدمر الناصري الخازندار، أحد مقدمي الألوف ونائب طرابلس وصفد، في أول شهر ربيع الآخر.(2/265)
ومات الأمير عز الدين أزدمر العزى أبو دقن أمير سلاح، منفياً بالشام، في صفر.
ومات الأمير سيف الدين أسنَدمُر الناصر أتابك العساكر بسجن الإسكندرية في يوم الأحد.
ومات الأمير أسندمر العلاي نايب الشام ونايب طرابلس في يوم الإثنين.
ومات الأمير أسندمر العلاى الخازن.
ومات الأمير ألطنبغا البشتكي نائب غزة، وأستادار السلطان، في رابع عشرين شعبان.
ومات الأمير أيدمر يانق كاشف الوجه القبلي، في ثامن عشرين ذي الحجة.
ومات الأمير بكتمر الأحمدي شاد الدواوين ومقدم المماليك.
ومات الأمير باكيش اليلبغاوي الحاجب في صفر.
ومات الأمير بيليك الفقيه الزراق، أحد مقدمي المماليك.
ومات الأمير بركان شاد الصندوق.
ومات الأمير تلكتمر المحمدي الخازندار، أحد الألوف، بسجن الإسكندرية.
ومات الأمير جرجي الإدريسي أمير آخور ونائب حلب، وهو بدمشق.
ومات الأمير جَرْقُطلو أمير جندار في صفر.
ومات الأمير جركتمر المارديني الحاجب، بعد عطلة طويلة.
وتوفي عز الدين حمزة بن قطب الدين موسى بن الضياء أحمد بن الحسين، المعروف بابن شيخ السلامية الحنبلي، وقد أناف على الستين بدمشق، في يوم الاثنين. وله شرح على المنتقى لابن تيمية.
وتوفي بهاء الدين خليل أحد نواب الحنفية، يوم الجمعة ثالث عشر شعبان.
وتوفي الأمير طيبغا البوبكري المهمندار، في تاسع عشر المحرم.
ومات الأمير طيبغا الطويل نائب حلب بها، في تاسع ذي القعدة.
وتوفي قاضى القضاة الحنبلي موفق الدين عبد الله بن محمد بن عبد الملك بن عبد الباقي الجازي القدسي في يوم الخميس سابع عشرين المحرم، ومولده في أوائل سنة تسعين وستمائة.
وتوفي الشيخ بهاء الدين عبد الله بن عبد الرحمن بن عقيل الشافعي، في يوم الأربعاء ثالث عشرين شهر ربيع الأول.
وتوفي قاضى القضاة الحنفي جمال الدين عبد الله بن علاء الدين علي، بن فخر الدين عثمان بن إبراهيم بن مصطفي بن سليمان المارديني التركماني، في ليلة الجمعة حادى عشر شعبان وتوفي جمال الدين عبد اللّه بن علي بن الحسن بن محمد بن عبد العزيز بن محمد بن الفرات موقع الحكم، في العشرين من شهر رمضان.
وتوفي فقيه المالكية بالمدينة النبوية، بدر الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن فرحون بن محمد بن فرحون.
وتوفي صلاح الدين عبد الله بن المحدث شمس الدين محمد بن إبراهيم بن غنائم بن واحد بن سعيد، المعروف بابن المهندس الصالحي الحلبي الحنفي، سمع كثيراً بالشام ومصر والحجاز، وكتب وجمع وحدث ووعظ، وقد أناف على السبعين.
وتوفي علاى الدين علي بن محيى الدين بن فضل الله بن مُجَلي، بن دعجان بن خلف بن منصور بن نصير العمري، كاتب السر، في يوم الجمعة تاسع شهر رمضان. وقد باشر كتابة السر نيفاً وثلاثين سنة، وخدم أحد عشر سلطاناً، وكتب الخط المنسوب، وقال الشعر الجيد.
وتوفي تقي الدين عمر بن نجم الدين محمد بن عمر بن أبي القاسم، بن عبد المنعم بن أبي الطب الدمشقي ناظر الخزانة بها في يوم الأربع.
ومات قنق العزى، الأمير.
وتوفي قاضي الحنابلة بدمشق جمال الدين محمد بن عبد الله بن محمد بن محمود المرداوي صاحب الحمارة.
وتوفي قاضي الحنفية بطرابلس بدر الدين محمد بن عبد الله بن الشبلي.
وتوفي جمال الدين محمد بن كمال الدين أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن الشريشي البكري الوايلي الدمشقي الشافعي.
وتوفي كمال الدين محمد بن جمال الدين إبراهيم بن الشهاب محمود بن سليمان بن فهد الحلبي، بالقاهرة.
وتوفي بدر الدين محمد، المعروف بابن الشجاع الحنفي، أحد نواب الحنفية، في يوم الأحد رابع رمضان.
وتوفي تقي الدين محمد بن يوسف أحد نواب المالكية في الحكم بالقاهرة، يوم الخامس من شوال.
وتوفي الفقيهَ موسى الضرير المالكي.
ومات محتسب القاهرة محيى الدين محمد بن الصدر عمر، في يوم الثلاثاء خامس عشرين رجب.
وتوفي ناظر الأحباس، فخر الدين أبو جعفر محمد بن عبد اللطيف بن الكويك في ثالث عشر رمضان.
ومات الأمير يبرم العزى الدوادار، بطالا الشام.
ومات الأمير أروس البَشْتَكي، رأس نوبة الجمدارية.
ومات الأمير أرغون الأحمدي أحد الطبلخاناه.
ومات الأمير أرغون القَشْتَمُر أحد الألوف، بطالا بالقدس.(2/266)
وتوفي قطب الدين أبو عبد الله محمد بن أبي البقاء محمود بن هرماس، بن مامضى المعروف بالهرماس المقدسي.
سنة سبعين وسبعمائة
أهل المحرم يوم الأربعاء، وهو ثالث عشر مسرى من شهور قبط مصر، وفيه نودي بوفاء النيل ستة عشر ذراعاً، ففتح الخليج على العادة.
وفي أول ربيع الأول: قدم الأمير منجك نائب الشام بتقدمة سنية، فخلع عليه وقبل تقدمته، ثم أعيد بعد أيام إلى نيابته، وأعيد تاج الدين عبد الوهاب بن السبكي إلى قضاء دمشق، عوضاً عن سراج الدين عمر البلقيني.
وفي ليلة عشرينه: ولد للسلطان ولد سماه أحمد، فدقت البشائر ثلاثة أيام.
وفي يومه: ولى الأمير قَشْتَمُر المنصوري نيابة حلب عوضاً، عن أسنبغا بن البوبكرى. وقدم رسول متملك القسطنطينية، وصحبته بطريق الملكانية.
وفي يوم الاثنين ثامن ربيع الآخر: استقر الأمير الأكز الكشلاوي وزيراً عوضاً عن علم الدين إبراهيم الحليق بن قزوينة، مضافاً إلى الإستادارية. واستقر ابن قزونية في نظر الخاص، عوضاً عن الشمس المقسي، واستقر المقسي في نظر الإصطبل، عوضاً عن شمس الدين بن الموفق، وخلع عليهم.
وفيه قدم الأمير الملا حيار بن مهنا، فخلع عليه وأكرم.
وفي يوم السبت ثالث عاشره: سار السلطان إلى ناحية طنان للصيد، ومضى إلى الإسكندرية، فدخلها يوم الجمعة، رابع جماد الأولى، وقد زينت زينة عظيمة القدر، وترجل جميع الأمراء من باب رشيد إلى باب البحر في ركابه، فرمى بالمجانيق بين يديه. ثم عاد من الباب الأخضر إلى دار السلطان، وجلس على التخت بها، ومدَّ السماط، فأكل الأمراء ثم رفع، فلما أذن العصر ركب السلطان ودخل إلى دار الطراز وصعد إلى القصر، ثم عاد إلى المخيم بباب رشيد من آخر النهار، وتوجه في يوم الأحد إلى القاهرة، فصعد قلعة الجبل.
وفي سابع عشرينه: جمع الأمراء وقضاة القضاة بالإيوان من القلعة، وعقد لخوند سارة أخت السلطان على الأمير بشتاك رأس نوبة، بصداق حملته خمسة عشر ألف دينار، وأربعماية ألف درهم فضة، عنها نحو العشرين ألف دينار. وكان الذي تولى عقد النكاح بينهما قاضي القضاة سراج الدين عمر الهندي الحنفي، وأنكر عليه بعض الفقهاء عقد النكاح من أجل أن الزوج قد مسه الرق، فألف في جواز ذلك كتاباً.
وفي ثامن عشرينه: قبض على الأمير الأكز الوزير، وعوق بقاعة الصاحب من القلعة.
وخلع على شمس الدين أبي الفرج المقسى، واستقر في الوزارة ونظر الخاص، وخلع على الوزير علم الدين إبراهيم بن قزوينة، واستقر في نظر الإصطبل، عوضاً عن المقسى، وأخرج الأمير آقبغا عبد الله الدوادار منفياً. وخلع على الأمير أقتمر الحنبلي، واستقر في نظر الخانكاه الناصرية بسرياقوس.
وفي رابع عشرين شهر رجب: قبض على أرغون العجمي الساقي - من المماليك السلطانية - ونفي إلى الشام من أجل أنه فقد للسلطان جواهر نفيسة القدر، فلم يعرف لها خبر، فأحضر بعض الفرنج منها حجراً رابعاً - يعرف بوجه الفرس - إلى الأمير مَنْجَك نائب الشام فعرفه، وسأل الفرنجى عن سبب وصوله إليه، فذكر أن أرغون هذا باعه إياه، فبعث به إلى السلطان وطالعه بالخبر، فقبض على أرغون فلم يوجد معه من ثمن الحجر المذكور كبير شيء، فعفا السلطان عنه، ونفاه.
وفي يوم الأثنين أول شهر رمضان: أعيد ابن عرام إلى نيابة الإسكندرية عوضاً عن طيدمر البالسي، بحكم استعفائه.
وفي يوم الخميس رابعه: خلع على الصاحب علم الدين إبراهيم الحليق بن قزوينة إلى الوزارة، واستقر المقسي على نظر الخاص فقط، وأضيف إليه نظر أملاك خوند بركة أم السلطان، وأوقافها.
وفي ليلية الجمعة خامسه: هبت بالقاهرة وأعمالها رياح عاصفة، سقط منها نخيل كثيرة، وأعالي عدة من الدور، وغرقت سفن متعددة، فهلك تحت الردم جماعة من الناس، وكان أمراً مهولاً عامة تلك الليلة.
وفي يوم السبت عشرينه: تنكر السلطان على الأمير أقتمر الحنبلي لكلام جرى بينه وبين الأمير ألجاي، وأمر بنفيه إلى الشام، واستقر عوضه دوادار الأمير منكوتَمُر عبد الغني بإمرة طبلخاناه، وخلع عليه في يوم الإثنين ثاني عشرينه، وخلع فيه أيضاً على الأمير بهادر الجمالي، واستقر أستادار، وأنعم عليه بتقدمة ألف.
وفي أول شوال: قدم البريد من حلب بأن الأمير قَشْتَمُر نائب حلب أخذ سيس من الأرمن، وعاد إلى حلب، فغلب الأرمن عليها، بعد عوده.(2/267)
وفي أول شهر ذي القعدة: قبض الصاحب علم الدين إبراهيم بن قزوينة على كريم الدين عبد الكريم بن الرويهب، من أجل أنه بلغه أنه يسعى في الوزارة.
وفي رابع عشره: أخذ قاع النيل، فكان خمسة أذرع وعشرين إصبعاً.
وفي يوم الإثنين تاسع عشره: قدم الأمير بَيدمُر نايب الشام، صحبة الأمير ناصر الدين محمد بن قُمارى أمير شكار، وقد وكب البريد لإحضاره، فأمر به إلى الأمير علاى الدين علي بن محمد بن كَلَفْت، فسجنه بقاعة الصاحب، وألزمه بحمل ثلاثمائة ألف دينار وعصره، في يوم الأربعاء حادي عشرينه، فحمل منه ماية ألف دينار، و خرج إلى دمشق ليؤدي بقية ما ألزم به، ثم ينفى إلى طرسوس،. وكان قد استقر عوضه في نيابة الشام الأمير منجك.
وفي هذا الشهر: خرج ببلاد الشام جراد مضر، وكثر بها الفأر في البيادر، فتلفت الغلال، وفشا بها الوباء. وكثر الخوف ببلاد الساحل من الفرنج والعشمير. ووصل إلى صيدا عدة من مراكب الفرنج فحاربوا المسلمين، ورجعوا خايبين.
وفي يوم الجمعة ثالث عشرينه: تجمعت الغوغاء من زعر العامة بأراضي اللوق خارج القاهرة للشلاق، فقتل بينهم واحد منهم، فركب والي القاهرة الشريف بَكتمُر، وأركب معه الأمير علاى الدين على بن كَلَفت الحاجب، والأمير أقبغا اليوسفي الحاجب، وقصد المشالقين، ففروا منهم، وبقى من هناك من النظارة، فضرب عدة منهم بالمقارع. فتعصبت العامة، ووقفوا تحت القلعة في يوم الثلاثاء، وأصبحوا يوم الأربعاء ثامن عشرينه كذلك، وهم يستغيثون ويضجون بالشكوى من الوالي، فأجيبوا بأن السلطان يعزل عنكم هذا الوالي فأبوا إلا أن يسلمه إليهم هو والحاجبين. وكان الوالي قد ركب على عادته بكرة النهار يريد القلعة، فرجمته العامة حتى كاد يهلك فالتجأ منهم بالإصطبل، وظل نهاره فيه، والعامة وقوف تحت القلعة إلى قريب العصر، وكلما أمروا بأن يمضوا أبوا ولجوا، فركب إليهم الوالي في جمع موفور من مماليك الأمير بَكتمُر المومني، أمير آخور، ومن الأوجاقية، فثارت العامة ورجمتهم رجماً متداركاً حتى كسروهم كسرة قبيحة، فركبت المماليك السلطانية، والأوجاقية وحملوا على العامة، وقتلوا منهم جماعة، وقبضوا على خلائق منهم، وركب الأمير ألجاي اليوسفي، وقسم الخطط والحارات على الأمراء والمماليك، وأمرهم بوضع السيف في الناس، فجرت خطوب شنيعة، قتل فيها خلائق ذهبت دماؤهم هدراً، وأودعت السجون منهم طوائف، وامتدت أيدي الأجناد إلى العامة، حتى أنه كان الجندي يدخل إلى حانوت البياع من المتعيشين ويذبحه ويمضي. وحكى بعضهم أنه قتل بيده في هذه الواقعة من العامة سبعة عشر رجلاً.
وكانت ليلة الخميس تاسع عشرينه: من ليالي السوء، وأصبح الناس وقد بلغ السلطان الخبر، فشق عليه وأنكره، وقال للأمير بكتمر المومني عجلت بالأضحية على الناس وتوعده، فرجف فؤاده ونحب قلبه، وقام فلم يزل صاحب فراش حتى مات، وأمر السلطان بالإفراج عن المسجونين، ونودي بالأمان، وفتح الأسواق، ففتحت، وقد كان الناس قد أصبحوا على تخوف شديد لما مر بهم في الليل.
وفيه خلع على الأمير حسام الدين حسين بن الكوراني والي مصر، واستقر في ولاية القاهرة، عوضاً عن الشريف بكتمر.
وأتفق في هذا الشهر: أيضاً أن ناصر الدين محمد بن مسلم - كبير تجار مصر - سافر للقاء بضائع قدمت له من الهند بقوص، فأشاع ولده في الناس موت أبيه، وعمل عزاه، واجتمع بالسلطان وسأله أن يقوم عوض أبيه في المتجر، ووعد بحمل خمسين ألف دينار، فخلع عليه، ونزل فأخذ في حمل ما وعد به حتى أتى على مبلغ كبير منه. فبينما هو في ذلك إذ قدم كتاب أبيه في بعض حاجاته، فسر أهله بحياته، وبعث إليه بما كان من مولده، فبادر إلى المجيء واجتمع بأهل الدولة، وبالسلطان، فاعتذروا إليه بما كان من ولده ورسم له أن يعتد له بما حمل ولده في نظير ما يرد له من البضائع، ويحاسب به مما عليه للديوان، وخلع عليه، فكان ذلك أيضاً من شنيع ما وقع.(2/268)
واتفق أيضاً أن بني كلاب كثر فسادهم وقطعم الطريق فيما بين حماة وحلب، وأخذوا بعض الحجاج، فخرج إليهم الأمير قشتمر نائب حلب بالعسكر، حتى أتوا تل السلطان بظاهر حلب، فإذا عدة من مضارب عرب آل فضل، فاستاق العسكر جمالهم ومواشيهم ومالوا على بيوت العرب فنهبوها. فثارت العرب بهم وقاتلوهم، واستنجدوا من قرب منهم من بنى مهنا، وأتاهم الأمير حيار وولده نعير بجمع كبير، فكانت معركة شنيعة، قتل فيها الأمير قشتمر النايب وولده وعدة من عسكره، وانهزم باقيهم، فركب العرب أقفيتهم، فلم ينج منهم عرياناً إلا من شاء الله، فكان ذلك وهنا في الدولة، جره إليها طمع عساكرها.
وفي يوم الجمعة ثامن ذي الحجة: قدم الخبر بنزول أربع قطايع على الإسكندرية من الفرنج، وأنهم رموا على المدينة بمنجنيق، فخرج تلك الليلة ثلاثة وعشرون أميراً، منهم ثلاثة من الألوف وعشرة من الطبلخاناه وعشرة من أمراء العشرات، فقدم الخبر في عشية السبت أن المغاربة، والتركمان نزلوا في المراكب، وقاتلوا الفرنج، وقتلوا منهم نحو المائة، وغنموا منهم مركباً.
وفي خامس عشره: خرج على البريد الأمير قطلوبغا الشعباني ليسير بالأمير أشَقتمر المارديني إلى حلب، وكتب معه تقليده بالنيابة، وحملت إليه الخلعة، وأن يقلد الأمير زامل إمرة العرب، عوضاً عن حيار بن مهنا، فاستقر الأمير أَشَقتمر في نيابة حلب، ووجد العرب قد شرقوا.
وفيه توجه الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير سرتقطاى في الرسالة إلى أويس متملك بغداد.
واستقر جمال الدين محمد بن عبد الرحيم بن علي بن عبد الملك المسلاني في قضاء المالكية بدمشق، عوضاً عن سرى الدين إسماعيل بن محمد بن محمد بن هاني الأندلسي، واستقر الأمير بيبغا القوصوني كاشف القليوبية، والأمير محمد بك الشيخوني في نيابة غزة، والشريف بكتمر في ولاية قطيا، عوضاً عن ابن الطشلاقي، والأمير بكتمر أستادار الطويل في ولاية قوص، والأمير أسندمر الخضري في البحيرة، عوضاً عن ابن معين، والأمير قطلوبك السيفي في ولاية مصر، وأنعم على الأمير محمد بن طرغاي بإمرة طبلخاناه، واستقر أستادار، وارتجع عن الأمير أَسَندَمر المظفري تقدمته، وعوض طبلخاناة، لعجزه عن الخدمة من مرض، وأنعم على كل من الأمير بَتْشَاك العمري، والأمير بهادر الجمالي بإمرة ماية تقدمة ألف، وعلى كل من الأمير بيبغا القوصوني، وصراي الإدريسي، وأحمد بن أقتمر عبد الغني، وأحمد بن قنغلى، وطَقتمُر الحسنى، وخليل بن قمارى، وأرغون شاه الأشرفي، وحسين بن الكوراني بإمرة طبلخاناه، وعلى كل من جلبان العلاى، ومحمد بن لاجين، وأسنبغا النظامي، ومحمد بن قطلوبغا المحمدي، وعمر بن أسن البوبكرى بإمرة عشرة.
وفي هذه السنة: حجت خوند بركة أم السلطان في تجمل عظيم، ومعها الكوسات والعصايب السلطانية، وعدة جمال، تحمل الخضر المزروعة، وفي خدمتها الأمير بشتاك العمري، والأمير بهادر الجمالي، وماية من المماليك السلطانية.
ومات في هذه السنة من الأعيان
الأمير إبراهيم ابن الأمير صَرغَتْمش الناصري، أحد العشرات، في تاسع شوال، ودفن بمدرسة أبيه.
ومات الأديب الموالي أحمد بن محمد بن أحمد، المعروف بالفار طرنجي العالية.
ومات الأمير أرغون علي بك الأزقي نائب غزة وأحد أمراء الألوف رأس نوبة في أول جمادى الآخرة.
ومات تقي الدين حسن بن محمد بن فتيان، كاتب سر طرابلس.
ومات الأمير خليل بن علي بن الأمير سلار النائب، أحد الطبلخاناه.
ومات الأمير الطواشي ناصر الدين شفيع، أحد العشرات، ونائب مقدم المماليك، في ثامن شعبان.
ومات الأمير طُغاى الفخري - أحد الطبلخاناه - غريقاً بالنيل.
ومات قاضي الحنفية بدمشق، جمال الدين محمود بن أحمد بن مسعود، أحد فقهاء الحنفية الأعيان.
ومات شمس الدين محمد بن خلف بن كامل الغزي، أحد نواب الحكم بدمشق، وأعيان الفقهاء الشافعية، وله رحلة إلى القاهرة.
وتوفي ناصر الدين محمد بن تقي الدين عبد القاهر بن الوزير الصاحب ضياء الدين أبي بكر بن عبد الله بن أحمد بن منصور بن أحمد النشابي، أحد موقعي الدست، في يوم الثلاثاء ثاني عشر ذي الحجة، عن اثنتين وخمسين سنة.(2/269)
ومات عماد الدين محمد بن موسى بن سليمان بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الوهاب بن عبد الله بن علي بن أحمد بن الشيرحي محتسب دمشق، وناظر الخزانة بها. ومات بدر الدين محمد بن الجمال محمد بن الكمال أحمد بن محمد بن الشريشي الشافعي، برع في الفقه واللغة، وقال الشعر.
ومات الأمير محمد بن الأمير طقبغا الماجاري صاووق، أحد الطبلخاناه.
ومات الأديب الشاعر شمس الدين محمد بن تقي الدين على الواسطي، في شهر رجب.
ومات الأمير ألطنبغا المؤمني الجوكندار، أحد العشرات، في صفر.
ومات الأمير أقَتمُر عبد الغني الصغير - أحد العشرات - في تاسع عشرين شهر رمضان.
ومات الأمير أزكا السيفي، أحد الطبلخاناه.
ومات متملك تونس أبو إسحاق إبراهيم بن أبي بكر بن يحيى بن إبراهيم بن يحيى، في العشرين من رجب، بعد ما ملك تسع عشرة سنة وشهرين، فقام بعده ابنه أبو البقاء خالد.
سنة إحدى وسبعين وسبعمائة
في أول المحرم: ورد قاصد الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير طاز، ومعه أربعة وعشرون من الفرنج، أسرهم من ناحية الطينة، وكان مجرداً بها.
وفي يوم الأحد ثامنه: ورد البريد بطلب الأمير حيار الأمان، وكان القاصد بذلك الأمير سيف الدين بهادر أستادار الأمير منجك نائب الشام، ومعيقل حاجب حيار، فأجيب إلى ذلك.
وفي يوم الخميس ثامن عشره: خلع على كريم الدين عبد الكريم بن الرويهب، واستقر في الوزارة عوضاً عن علم الدين إبراهيم بن قزوينة باستعفائه، و لم يتعرض لابن قزوينة بسوء.
وفيه استقر عماد الدين إسماعيل بن محمد بن أبي العز بن صالح المعروف بابن الكشك الدمشقي في قضاء الحنفية بدمشق، بعد وفاة جمال الدين أبي الثناء محمود بن سراج الدين أحمد بن مسعود، المعروف بابن السراج.
وفي يوم السبت رابع عشر: ركب السلطان إلى لقاء والدته عند قدومها من الحج، ونزل بركة الحجاج ثم مضى إلى البويب. فلما قدمت في يوم الإثنين سادس عشره عاد إلى قلعة الجبل.
وفي يوم السبت حادي عشرينه: خلع على الأمير بهادر الجمالي، واستقر أمير أخور، عوضاً عن الأمير بَكتمُر المؤمني بعد وفاته، وخلع على الأمير تَلكتَمُر بن بركة، أستادار، عوضاً عن بهادر الجمالي، واستقر الأمير أرغون شاه الأشرفي أمير مجلس، عوضاً عن تلكتمر، وأنعم على الأمير جلبان العلاى بإمرة طبلخاناة.
وخرج البريد بطلب الأمير أَقتمُر الصاحبي الحنبلي من الشام، فقدم في رابع عشر صفر.
وفيه استقر كمال الدين - التنسي المالكي في قضاء الإسكندرية، عوضاً عن كمال الدين الريغي.
وفي أول شهر ربيع الأول: قدم الشيخ شمس الدين محمد بن يوسف بن إلياس القونوي الحنفي، فخرج الأمير منكلى بغا الشمسي الأتابك إلى لقائه، وأنزله في بيت بالمارستان، فأتاه الناس من كل جهة. وكان منقطع القرين في الورع والصدع بالحق.
وفي ثالث ربيع الآخر: استقر الأمير كنجكجي المنصوري في نيابة حماة، عوضاً عن أيدمر الشيخي.
وفي رابعه: خلع على الصاحب شمس الدين أبي الفرج المقسي، واستقر في الوزارة، عوضاً عن كريم الدين عبد الكريم بن الرويهب، مضافاً إلى نظر الخاص.
وفي ثاني جمادى الآخرة: أخرج الأمير محمد بن قمار أمير شكار منفياً، واستقر عوضه الأمير جمال الدين عبد الله بن بَكتمر الحاجب أمير شكار، وخلع على الأمير ناصر الدين محمد بن قيران الحسامي، المعروف بابن شرف الدين، واستقر أمير طبر، عوضاً عن شرف الدين موسى بن ديدار بن قرمان عند استعفائه، وخلع على الأمير نصرات، واستقر حاجباً عوضاً عن أسنبغا.
وفي ثالثه: استقر الأمير كنول رأس نوبة.
وفي يوم الخميس رابع عشرين رجب: استقر علاء الدين علي بن محمد بن علي ابن عبد اللّه بن أبي الفتح بن هاشم المقدسي في قضاء الحنابلة بدمشق، عوضاً عن شرف الدين أحمد بن شيخ الجبل بعد وفاته.
وفي تاسع عشرينه: رسم الأمير أسندَمُر حرفوش بالجلوس وقت الخدمة بالإيوان.(2/270)
وفي ثامن عشر شعبان: استقر الشريف بكتمر بن علي الحسيني حاجباً، عوضاً عن أقبغا اليوسفي. واستقر الأمير أرغون شاه الأشرفي رأس نوبة، عوضاً عن الأمير بَشتاك العمري بعد وفاته، واستقر الأمير أرغون الأحمدي اللالا أمير مجلس، عوضاً عن أرغون شاه، وأنعم على الأمير طينال المارديني بتقدمة ألف، وعلى الأمير علم دار بتقدمة ألف، واستقر أستادارا، واستقر الأمير محمد بن سرتقَطَاي نقيب الجيش، عوضاً عن أرغون بن قيران. واستقر الأمير شرف الدين موسى بن الأزكَشي شاد الدواوين، عوضاً عن شرف الدين موسى بن الديناري، واستقر ابن الديناري حاجباً، عوضاً عن علاء الدين ابن كلفت، واستقر الأمير آقبغا بن مصطفى جاشنكيرا عوضاً عن الأمير ألطبغا العلاى فرفور، واستقر الأمير جركس الرسولي أستادارا ثانياً، عوضاً عن محمد بن طرغاي، واستقر الأمير طغاى تمر العثماني أمير جاندار، عوضاً عن الأمير أسندمر حرفوش، وخلع على الجميع.
واستقر الأمير تلكتَمُر من بركة في نيابة صفد، عوضاً عن الأمير جنتمر أخي طاز.
وقدم البريد بغلاء الأسعار بدمشق، وتجاوزت الغرارة القمح مائتي درهم، وفشت بها الآوبئة.
وفي يوم الإثنين ثالث عشرين شوال: توجه قاضي الحنابلة بدمشق علاء الدين على ابن محمد إلى محل ولايته.
وفي رابع ذي القعدة: استقر علاء الدين علي بن الرصاص في قضاء الحنفية بصفد، وخلع عليه، وتوجه إلى ولايته.
وفي يوم الخميس خامس عشرينه: خلع على الصاحب فخر الدين ماجد بن تاج الدين موسى بن أبي شاكر وأعيد إلى الوزارة، عوضاً عن شمس الدين أبي الفرج المقسي، وخلع على الأمير ناصر الدين محمد بن إياز الدواداري، واستقر كاشف الوجه البحري، واستقر علاى الدين السناني في ولاية الغربية، عوضاً عن قطلوبك صهر المزوق، واستقر بهادر والي العرب في ولاية البهنسا، واستقر ركن الدين عمر بن المعين والي البحيرة عوضاً عن أسَندَمُر الخضري.
وفي يوم الإثنين ثامن عشرينه: رسم بتسمير نصراني، اتهم أنه سحر خوند ابنة الأمير طاز وزوجة السلطان، فماتت بسحره، فسمر ووسط وأحرق بالنار.
واستقر نجم الدين أحمد بن عماد الدين إسماعيل بن الكشك في قضاء الحنفية بدمشق، عوضاً عن أبيه، برغبته له عن ذلك، واستقر برهان الدين أبو سالم إبراهيم بن محمد بن على الصنهاجي في قضاء المالكية بحلب، عوضاً عن تقي الدين الأنفي.
وفي يوم الخميس تاسع ذي الحجة: استقر زين الدين أبو بكر على بن عبد الملك المازوني في قضاء الماليكة بدمشق، بعد وفاة جمال الدين المسلاتي.
وفي يوم الأربعاء خامس عشرينه: قدم البريد بوفاة التاج عبد الوهاب بن السبكي قاضي القضاة بدمشق، فاستقر عوضه كمال الدين أبو القاسم عمر بن الفخر عثمان ابن هبة الله المعري قاضي حلب، واستقر في قضاء حلب عوض المعري قاضي طرابلس فخر الدين عثمان بن أحمد بن عثمان بن أحمد الزرعي.
وأعيد الأمير ألطبغا الشمسي إلى ولاية القلعة، وأخرج الأمير نصرات إلى الإسكندرية، وعمل بها حاجباً، وأنعم على كل من الأمير منكوتَمر عبد الغني والأمير يلبغا المجنون بتقدمة ألف، وعلى كل من الأمير يلبغا الناصري، والأمير ألطبغا الشمسي، والأمير قطلو أقتمر العثماني، والأمير آل ملك الصرغتمشي، والأمير عبد الرحيم بن الأمير منكلى بغا الشمسي، والأمير يَاوَرجي القوصوني، والأمير تغرى بردش بن ألجاي، والأمير تلكتَمُر الجمالي بإمرة طبلخاناه، وعلى كل من محمد بن قرا ابن كُلَيته، ورجب بن طيبغا المحمدي، وعبد الله بن محمد بن طرغاي، وصراي تمر المحمدي، ومنكلى بغا البلدي الأحمدي، ويلبغا المحمدي، وبكتمر العلمي، ومحمد شاه ابن الأمير ناصر الدين محمد بن أقبغا آص، وطيدمر الذهبي أمير شكار، وبكتاش بن قطليجا.
وفيها ولد للسلطان ولد ذكر سماه رمضان، وزينت القاهرة لولادته، ودقت البشاير، وذلك في شهر رمضان.
وكان أمير الحاج علاء الدين علي بن كَلَفْت، فأقام بمكة لعمارة مأذنة باب الحزورة، وعاد بالحاج الطواشي سابق الدين مثقال الآنوكي، مقدم المماليك.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر من الأعيان
الوزير الصاحب علم الدين إبراهيم بن قزوينة، المعروف بالحليق، في ليلة الثلاثاء سابع شهر رجب.(2/271)
وتوفي قاضي الحنابلة بدمشق شرف الدين أحمد بن قاضي الحنابلة بدمشق شرف الدين أبي الفضائل الحسن بن الخطيب شرف الدين أبي بكر عبد الله بن الشيخ أبي عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي ثم الصالحي الدمشقي، المعروف بابن قاضي الجبل الحنبلي، علامة وقته في كثرة النقل وقفه الحنابلة، في يوم الثالث عشر من رجب.
وتوفي قاضى المالكية بحماة ودمشق أبو الوليد سرى الدين إسماعيل بن البدر محمد ابن محمد بن هانىء اللخمي الأندلسي بالقاهرة، برع في العربية واللغة والأدب، وشرح التلقين في النحو لأبي البقاء، وحدث بالموطأ.
ومات الأمير أروس بغا الخليلي أحد الطبلخاناه في آخر شهر رجب.
ومات الأمير أسندَمُر الكاملي زوج خوند القُرْدُمية وأحد أمراء الألوف.
ومات الأمير آسن الصرغتمشي أحد الطبلخاناه، منفياً بدمشق.
ومات الأمير أقبغا اليوسفي الحاجب، في شعبان بمدينة منفلوط، وقد توجه إلى لقاء هدية صاحب اليمن، وكان مشكور السيرة.
ومات الأمير ألطبغا العلاى الجاشنكيرى فرفور، أحد الطبلخاناه.
ومات الأمير بكتمر المؤمني أمير آخور في يوم الثلاثاء سابع عشر المحرم.
ومات الأمير بكتمر الأحمدي أحد الطبلخاناه.
ومات الأمير تنبك الأزقي أحد الطبلخاناه ورأس نوبة ثانياً. وكان من الأبطال.
ومات الأمير طيبغا المحمدي أحد أمراء الألوف، في صفر.
ومات قاضي قضاة دمشق تاج الدين عبد الوهاب بن قاضي قضاة دمشق تقي الدين على بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام الأنصاري السبكى، في يوم الثلاثاء سابع ذي الحجة بدمشق، عن أربع وأربعين سنة.
وتوفي قاضي القضاة الحنفية وعالمهم زين الدين عمر بن الكمال أبي عمر عبد الرحمن بن أبي بكر البسطامي، ليلة الجمعة خامس عشرين جمادى الآخرى بالقاهرة، ومولده في جمادى سنة أربع وتسعين وستمائة، ودفن بالقرافة عند جده لأمه قاضي القضاة شمس الدين محمد السروجي.
وتوفي زين الدين عبد الله بن القوصي، أحد نواب القضاة الشافعية، في ليلة الخميس سابع عشر جمادى الآخر.
وتوفي قاضى المالكية بدمشق جمال الدين محمد بن الزين عبد الرحيم بن علي بن عبد الملك المسلاتي بالقاهرة، في يوم السبت ثالث عشر ذي القعدة، ودفن بتربة الصوفية خارج باب النصر.
وتوفي قاضي العسكر بدر الدين محمد بن أبي الفتح محمد بن عبد اللطف بن يحيى بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام السبكي، بطريق القدس، أو قد توجه لزيارته.
وتوفي الفقيه النحوي شمس الدين محمد بن الحسن بن محمد المالقي المغربي المالكي بدمشق، وله شرح التسهيل في النحو.
ومات الأمير محمد بن الأمير تنكز نايب الشام، أحد الطبلخاناه.
ومات الأمير محمد بن الأمير طرغاي أحد الطبلخاناه.
ومات الأمير محمد الترجمان، أحد الطبلخاناه.
ومات شمس الدين موسى بن التاج أبي إسحاق عبد الوهاب بن عبد الكريم ناظر الجيش وناظر الخاص، بعد ما عزل، ووزر وزارة دمشق غير مرة. وهو من أبناء السبعين، بظاهر دمشق.
ومات الأمير الأكز الكشلاوي، الوزير الأستادار، وهو منفي بحلب في ربيع الأول.
سنة اثنتن وسبعين وسبعمائة
في يوم الاثنين ثاني عشر المحرم: استقر سعد الدين ماجد بن التاج أبي إسحاق في وزارة الشام.
وفي يوم الثلاثاء ثالث عشره: سافر زين الدين أبو بكر بن علي بن عبد الملك المازوني - قاضي المالكية بدمشق - إلى محل ولايته.
وفي حادي عشرينه: أخرج الأمير يعقوب شاه الخازندار منفياً إلى ملطة.
وفي أول صفر: قدمت رسل الفرنج لطلب الصلح، فحلفوا على ألا يغدروا ولا يحزنوا، وخلع عليهم، وسافروا ومعهم من يحلف ملكهم، وأخذت منهم رهائن بالقلعة.
وفي شهر ربيع الأول عزل الأمير شهاب الدين أحمد بن قنغلى من ولاية الجيزة بسؤاله، وارتجعت عنه إمرة طبلخاناه، وأنعم على طيبغا العمري الفقيه بإمرة عشرة. واستقر محمد بن قرطاي الموصلي نقيب الجيش، عوضاً عن أرغون بن قيران، ثم أعيد أرغون واستدعى محمد بن قماري من غزة، وأنعم عليه بإمرة طبلخاناه، واستقر أمير شكار على عادته.(2/272)
وفي يوم السبت ثامن عشر ربيع الآخر: ركب السلطان للصيد، وعبر القاهرة من باب زويلة، ونزل إلى القبة المنصورية، فزار جده وجد أبيه، وركب فخرج من باب النصر، وتصيد، وعاد يريد التوجه إلى الوجه القبلي، فقدمت له أرباب الأدراك تقادم جليلة.
وفي ليلة الخميس الخامس من جمادى الأولى: ظهر بالسماء على القدس ودمشق وحلب، حمرة شديدة جداً كأنها الجمر، وصارت في خلل النجوم، كالعمد البيض حتى سد ذلك الأفق طول ليلة الخميس حتى طلع الفجر، فارتاع الناس، واشتد خوفهم، وباتوا يستغفرون الله ويذكرونه.
وفي آخره: خلع على الأمير سيف الدين طشتمر العلاى، واستقر دوادارا بإمرة طبلخاناه، نقل إليها من الجندية بعد وفاة منكوتمر عبد الغني الدوادار.
وفيه عادت رسل الفرنج ومعهم عدة ممن أسروهم من المسلمين نحو المائة.
وكان الوقت خريفاً، فكثرت الأمراض في الناس بالقاهرة، والوجه البحري، وتجاوز عدد الأموات بالقاهرة ثمانين في كل يوم.
وفي أول جمادى الآخرة: استقر شرف الدين عبد المنعم بن سليمان بن داود البغدادي الحنبلي، في إفتاء دار العدل وتدريس مدرسة أم السلطان بخط التبانة، عوضاً عن بدر الدين حسن النابلسي بعد وفاته.
وفيه بعث الفرنج من بقي من أسرى المسلمين ببلادهم، وتم الصلح، وفتحت كنيسة القمامة بالقدس.
وفي ثالث عشرين شهر رجب: سار ركب الحجاج الرحبية إلى مكة.
وفي سابع شعبان: استقر بدر الدين عبد الوهاب بن أحمد بن محمد الأخناي في إفتاء دار العدل، عوضاً عن تاج الدين محمد بن بهاء الدين بعد وفاته بعقبة أيلة صحبة الرجبية.
وفي تاسعه: استقر علم الدين صالح الإسنوي موقع الحكم، واستقر في وكالة الخاص، عوضاً عن ابن بهاء الدين، واستقر بدر الدين الأقفهسي شاهد الأمير ألجاي اليوسفي عوضه في شهادة الجيش، واستقر محب الدين السمسطاي في نظر المارستان عوض ابن بهاء الدين.
وفي يوم الإثنين رابع عشر شعبان: خلع على الصاحب شمس الدين أبي الفرج المقسي، واستقر وكيل الخاص عوضاً عن علم الدين صالح، مضافاً لما بيده.
وفي أول شهر رمضان: خلع على الأمير علم دار، واستقر في نيابة صفد عوضاً عن تَلَكتمُر الفقيه من بركة، وقدم تَلَكتمُر واستقر أستادارا عوضاً عن علم دار.
وفي عاشر شوال: خلع على الأمير أرغون شاه، واستقر رأس نوبة بعد موت الأمير بَشتَاك.
وفي سابع عشر ذي القعدة: خلع على الأمير طيدمر البالسي، واستقر في نيابة الإسكندرية، عوضاً عن ابن عرام، وأنعم على أبن عرام بإمرة طبلخاناه بالقاهرة.
وفي رابع عشرينه: خلع على بدر الدين بن السكري، واستقر في قضاء الحنفية بالإسكندرية بعد موت ابن الزبيبة، وخلع على محمد بن سرتُقطَاي، واستقر نقيب الجيش، عوضاً عن أرغون بن قيران.
وفيه خلع أبو البقاء، خالد بن إبراهيم بن أبي بكر متملك تونس، بعد إقامته في الملك سنة وتسعة أشهر تنقص يومين، وقام بعده ابن عمه أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر بن يحيى بن إبراهيم، في يوم السبت ثامن عشر ربيع الآخر.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
من الأعيان قاضي الحنفية بثغر الإسكندرية شهاب الدين أحمد بن إبراهيم بن عمر الصالحي، عرف بابن زْبيبّة - تصغير زبيبة - في خامس عشر ربيع الأول وهو أول من ولي من قضاء المدينة بالإسكندرية.
ومات الأمير أرغون بن قيران السلاري نقيب الجيش في جمادى الأولى.
ومات الأمير أسندمر حرفوش العلاى الحاجب، بعد ما أخرج إلى الشام، وأنعم عليه بإمرة ألف في دمشق.
ومات الأمير علي المارديني نائب الشام وديار مصر، في يوم الثلاثاء سابع المحرم، وكان مشكور السيرة.
ومات الأمير بَشْتَاك العمري رأس نوبة.
ومات الأمير جرجي نائب حلب، وهو أمير كبير بدمشق، في صفر.
ومات الأمير جرجي البالسي، أحد الطبلخاناه.
ومات الأمير جرقطلو المظفري، أحد العشرات.
ومات بدر الدين حسن بن محمد بن صالح بن محمد بن محمد بن عبد المحسن النابلسي، الفقيه الحنبلي، مفتي دار العدل، ومدرس الحنابلة بمدرسة أم السلطان، في رابع عشر جمادى الآخرة، توفي بالقاهرة.
ومات شرف الدين سالم بن قاضي القضاة بهاء الدين أبي البقاء، في يوم الخميس رابع عشر شوال، بالقاهرة.(2/273)
ومات الشيخ عبد الرحيم جمال الدين أبو محمد بن الحسن بن علي بن عمر الأموي الإسنوي الشافعي، فجأة، ليلة الأحد ثامن جمادى الأولى، وقد انتهت إليه رياسة العلم. وأكثر من التصانيف في الفقه وغيره.
وتوفي قاضي الحنفية بالمدينة النبوية، نور الدين علي بن الفقيه عز الدين يوسف بن الحسن بن محمد بن محمود الزرندي.
وتوفي علاء الدين على بن إسماعيل بن إبراهيم بن موسى، المعروف بابن الظريف، الفقيه المالكي، موقع الحكم، وأحد نواب المالكية، والمقدم في عمل المناسخات، في ليلة الأربعاء رابع عشر جمادى الأولى.
ومات سراج الدين عمر بن الحسن بن محمد بن عبد العزيز بن محمد بن الفرات، موقع الحكم، في ليلة الثلاثاء حادي عشر جمادى الآخرة.
ومات الأمير قُطْلو أَقتَمُر الناصري رأس نوبة، في ثامن عشر جمادى الأولى.
ومات تاج الدين محمد بن بهاء الدين المالكي، المعروف بابن شاهد الجمال، مفتي دار العدل، وشاهد الجيش، وناظر المارستان، ووكيل الخاص، في أول شعبان، بمنزل العقبة.
وتوفي شمس الدين محمد بن عبد الله بن محمد الزركشي، أحد أعيان الفقهاء الحنابلة، في ليلة السبت رابع عشرين جمادى الأولى.
ومات الأمير منكوتمر عبد الغني الأشرفي الدودار، في يوم الجمعة ثالث عشرين جمادى الأولى.
ومات الشيخ أبو الظاهر تقي الدين محمد بن محمد إمام أهل الميقات، في يوم السبت حادي عشرين شهر رجب.
ومات الشيخ المجذوب المعتقد ذو الكرامات العجيبة، أبو زكريا يحيى بن علي بن يحيى الصنافيري الأعمى، في يوم الأحد سابع عشرين شعبان، وحزر الجمع الذين صلوا عليه بمصلى خولان من القاهرة، فكان ينيف على خمسين ألفاً.
وتوفي زين الدين عبد الرحمن بن عبد الله بن إبراهيم، أحد قراء السبع، وشيخ خانكاه بكتمر بالقرافة، في سابع عشرين ربيع الآخر، أخذ القراءات عن التقي الصايغ. ومات الأمير أروس النظامي أحد الطبلخاناه.
ومات الأمير أزْدَمُر الصفوي الجوكندار.
وتوفي الطيب الفاضل جمال الدين يوسف الشربكي، في تاسع عشر جمادى الأولى. والله تعالى أعلم.
سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة
في أول المحرم: استقر الأمير أيدمر الدوادار في نيابة حلب، عوضاً عن أَشَقتمُر المارديني.
وفي صفر: طُلب شمس الدين محمد الركراكي المغربي من فقهاء المالكية إلى مجلس الأمير الكبير ألجاي، وادعى عليه بقوادح توجب إراقة دمه، فتعصب له قوم، وتعصب عليه آخرون.
وكثرت زيادة النيل، فنودي عليه في يوم الثلاثاء ثاني عشر شهر ربيع الأول، وهو خامس عشرين توت، أربعة أصابع لتتمة إصبعين من عشرين ذراعاً، ثم زاد بعد ذلك عدة أيام، فلم يناد عليه، فإنه فاض حتى تقطعت الطرقات، وتأخرت الزراعة، ثم نقص قليلاً، وثبت حتى مضى من هاتور عدة أيام، فاجتمع الناس بجامع عمرو من مدينة مصر، والجامع الأزهر بالقاهرة، ودعوا الله لهبوط النيل عدة مرار، فهبط وزرع الناس على العادة.
وركب السلطان للعب بالكرة في الميدان الكبير بشاطىء النيل خمس سبوت متوالية ولم يتقدمه لذلك أحد، وإنما العادة أن يكون الركوب بعد وفاء النيل إلى الميدان في ثلاثة سبوت متوالية.
وفي يوم الإثنين أول جمادى الأولى: ضرب عنق بعادة مشارف ديوان المواريث الحشرية، لقوادح أوجبت إراقة دمه شرعاً.
وفي هذا الشهر: تنجز لقاضي القضاة سراج الدين عمر الهندي الحنفي مرسوماً بأن يلبس الطرحة، ويستنيب عنه قضاة في أعمال مصر قبليهاوبحريها، ويفرد له مودعاً لأموال يتامى الحنفية، كما يفعل قاضي القضاة الشافعي، فشغله الله عن إتمام ذلك بمرض نزل به، فلزم الفراش حتى مات.
وفيه أيضاً جرى بين قاضي القضاة بهاء الدين أبي البناء الشافعي، وبين قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم الأخناي المالكي، كلام في مسألة، وكان أبو البقاء بحر علم لا يدركه الدلاء، والأخناي بضاعته في العلم مزجاة، فأنجز الكلام إلى أن قال أبو البقاء: لو كان مالك حياً لناظرته في هذه المسألة. فعد الأخناي ذلك خروجاً من بهاء الدين وقال: إيش أنت حتى تذكر مالكاً، والله لو كان غيرك لفعلت به كذا يعني القتل، وهجره. فاتفق عن قريب عزل أبي البقاء، فطار البرهان كل مطار، وعدى هو وأصحابه ذلك من كرامات الإمام، رحمه الله.(2/274)
وفي يوم الإثنين ثامنه: كانت الخدمة السلطانية بدار العدل من القلعة، وحضر قضاة القضاة على العادة، ثم انقضت الخدمة، فمضى القضاة على عادتهم، وجلسوا بالجامع من القلعة، إذ أتاهم رجل من عند السلطان وأسر إلى أبي البقاء، ثم التفت إلى بقية القضاة وبلغهم عن السلطان، أنه قد عزل أبا البقاء، وأمره أن يلزم بيته، فانفضوا على ذلك، وخرج البريد بطلب خطيب القدس، برهان الدين إبراهيم بن عبد الرحيم بن جماعة، فقدم في يوم الأحد خامس جمادى الآخرة، ودخل على السلطان، فبالغ في إكرامه وخلع عليه، وولاه قضاء القضاة، عوضاً عن أبي البقاء، فنزل وبين يديه حاجبين من حجاب السلطان. و لم يتقدم لأحد من القضاة، قبله أن تركب معه الأمراء، وركب معه أيضاً الأعيان، فكان يوماً مشهوداً.
وكانت مدة عطلة الناس من ولاية قاضي القضاة سبعة وعشرين يوماً، وقد وقع مثل ذلك في الأيام الناصرية محمد بن قلاوون، تعطلت القاهرة من بعض قضاة القضاة بسبعة وعشرين يوماً.
ووقع نظير ذلك في سنة إحدى وسبعين وثمانمائة في الأيام الظاهرية خشقدم - يبقى الله عهده - عند عزله قاضي القضاة بدر الدين أبو السعادات محمد بن تاج الدين البلقيني الكناني الشافعي، وطلب السلطان الشيخ أبي يحيى زكريا السبكي الأنصاري الشافعي ليوليه وظيفة القضاء، فاختفي عند طلبه، وشغر منصب القضاء سبعة وعشرين يوماً، ثم ظهر بعد ذلك، وطلب إلى عند السلطان هو والشيخ كمال الدين محمد بن إمام الكاملية، وعرض عليهما وظيفة القضاء، وسألهما السلطان في ذلك، فأصرا على عدم الدخول في ذلك، وسعى جماعة فلم يجابوا إلى شيء، فاستشار السلطان الشيخ أمين الدين يحيى بن الأقصري الحنفي فيمن يوليه، فأشار بولاية الشيخ ولي الدين أبي الفضل أحمد بن أحمد السيوطي الشافعي، أحد خلفاء الحكم العزيز، وذكر الشيخ أمين المذكور أنه أصلح الموجودين، فطلب ولي الدين المذكور، وخلع عليه، واستقر في وظيفة القضاء، وسار سيرة حسنة بالسبة إلى مستنيبه القاضي المنفصل، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وفي يوم الخميس رابع عشر شهر رجب: دار محمل الحاج على العادة في كل سنة، فاستدعى صدر الدين محمد بن جمال الدين عبد الله بن علاء الدين علي التركماني قاضي العسكر، وخلع عليه، واستقر قاضي القضاة الحنفية، عوضاً عن السراج عمر الهندي. ونزل والمحمل والقضاة وغيرهم وقوف بالرميلة تحت القلعة، كما هي العادة، فوقف معهم ثم مضى في موكب المحمل حتى انقضى دورانه، فكان يوماً مشهوداً.
وفي يوم الإثنين ثامن عشرة: خلع على الشيخ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن الصائغ الحنفي، واستقر قاضي العسكر عوضاً عن صدر الدين محمد التركماني، وأضيف إليه أيضاً تدريس الحنفية بالجامع الطولوني، عوضاً عن السراج الهندي، واستقر جلال الدين جار الله في تدريس الحنفية بالمدرسة المنصورية، عوضاً عن حميه السراج الهندي.
وفي شعبان: على الشيخ سراج الدين عمر البلقيني، واستقر في قضاء العسكر عوضاً عن الشيخ بهاء الدين أحمد بن السبكي بعد موته، واستقر في تدريس المدرسة الناصرية بجوار قبة الإمام الشافعي - رحمه الله - من القرافة، وتدريس الشافعية بالمدرسة المنصورية بين القصرين من القاهرة، قاضي القضاة بهاء الدين أبو البقاء. واستقر في إفتاء دار العدل كمال الدين أبو البركات بن السبكي، وخلع عليه في يوم الخميس ثالث عشره، واستقر الشيخ ضياء الدين عبيد الله بن سعد القرمي في تدريس الشافعية بخانكاه شيخو، وحضر معه القضاة والأعيان، وعدة من الأمراء، منهم الأمير الكبير منكلى بغا الشمسي الأتابك والأمير أرغون اللالا، والأمير تلكتمر الفقيه أستادار السلطان، والأمير أرغون شاه رأس نوبة، والأمير طشتمر الدوادار، في آخرين، ومد سماط عظيم بالخانكاه، فكان يوم مشهوداً، ثم انفضوا بعد ما ألقى الدرس وأكلوا السماط.
وفي هذا الشهر: ألزم الأشراف بأن يتميزوا بعلامة خضراء في عمائم الرجال وأزر النساء، فعملوا ذلك واستمر، وقال: في ذلك الأديب شمس الدين محمد بن أحمد بن جابر الأندلسي:
جعلوا لأبناء الرسول علامة ... إن العلامة شأن من لم يشهر
نور النبوة في كريم وجوهم ... يغني الشريف عن الطراز الأخضر
وقال الأديب المنشىء زين الدين طاهر بن حبيب الحلبي:(2/275)
ألا قل لمن يبغي ظهور سيادة ... تملكها الزهر الكرام بنو الزهرا
لئن نصبوا للفخر أعلام خضرة ... فكم رفعوا للمجد ألوية حمرا
وفيها استقر شهاب الدين أحمد بن العماد محمد بن محمد بن المسلم بن علان القيسي في كتابة السر بحلب، بعد وفاة علاء الدين علي بن إبراهيم بن حسن بن تميم.
ومات فيها من الأعيان ممن له ذكر
الشيخ بهاء الدين أبو حامد أحمد بن تقي الدين أبي الحسن علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام الأنصاري السبكى الشافعي، بمكة، ليلة الخميس سابع رجب.
ومات الأمير أيدمر الشيخي، أحد أمراء الألوف ونائب حماة، بعد ما أقام بحلب.
ومات قاضي القضاة سراج الدين عمر بن إسحاق بن أحمد الغزنوي الهندي الحنفي، في ليلة الخميس سابع رجب، الليلة التي مات بها ابن السبكي بمكة.
ومات كمال الدين أبو الغيث محمد بن تقي الدين عبد الله بن محمد بن محمد بن محمد بن عبد القادر، المعروف بابن الصايغ، الأنصاري الدمشقي الشافعي، قاضي حمص، عن بضع وأربعين سنة.
ومات الأديب يحيى بن زكريا بن محمد بن يحيى بن الخباز العامري الحمري، وهو من أبناء الثمانين، بدمشق.
ومات تقي الدين أبو بكر بن محمد العراقي، أحد فقهاء الحنابلة، في ثامن عشرين جمادى الأولى.
ومات الفقير المعتقد عبد الله درويش، في سابع عشر رجب.
ومات الأمير أسنبغا التَلَكسي أحد العشرات.
ومات الأديب الشاعر شهاب الدين أحمد بن محمد بن عثمان بن شيحان، المعروف بابن المجد البكري التيمي القرشي البغدادي، في عاشر شهر رمضان. بمنية بني خصيب. والله تعالى أعلم بالصواب.
سنة أربع وسبعين وسبعمائة
وفيها استقر الأمير قُرُطاى الكركي شاد العماير في كشف الوجه القبلي، واستقر شاد العماير عوضه أسنبغا البهادري، واستقر محمد بن قيران الحسامي، في كشف الوجه البحري، عوضاً عن عثمان الشرفي، واستقر قطلوبغا العزى أمير علم. واستقر قرابغا الأحمد أمير جاندار، واستقر تمراز الطازي حاجباً صغيراً، واستقر شهاب الدين أحمد بن شرف الدين موسى بن فياض بن عبد العزيز بن فياض المقدسي قاضي القضاة الحنابلة بحلب، عوضاً عن أبيه برغبته له، واستقر شمس الدين محمد بن أحمد بن مهاجر في كتابة السر بحلب، عوضاً عن ابن علان بعد وفاته.
وفيها فشت الطواعين ببلاد الشام مدة ستة أشهر.
وفيها استقر الأمير شرف الدين موسى بن الأزكشي في نيابة غزة، عوضاً عن طيدَمُر البالسي.
وفي يوم الإثنين جمادى الأولى: ضرب البرهان الأخناي قاضي القضاة المالكية عنق رجل، لوقوعه فيما أوجب ذلك.
وفي عشرينه: تقدم الأمير الكبير ألجاي اليوسفي بألا يجلس في كل حانوت من حوانيت الشهود سوى أربعة، وأمر قضاة القضاة ألا يجلس كل قاض من الشهود إلا من كان على مذهبه، فانحصر الشهود من ذلك، ثم تنجزوا مرسوم السلطان بإعادتهم إلى ما كانوا عليه، فبطل ذلك.
وفي يوم الأحد أول جمادى الآخرة: قدم قود الأمير منجك نائب الشام وفيه أسدان، وضبع، وإبل، وثمانية وأربعون كلباً سلوقياً، وأربعون فرساً، وخمسون بقجة قماش، وقطاران بخاتى بقماشها الفاخر، وأربعة قط بخاتى بقماش دون قماش القطارين الأولين، وخمس جمال بخاتى، لكل واحد منها سنامان، وقماشها من حرير، وستة قطر جمال عراب، بقماشها، وأربعة وأربعون هجيناً، وثلاثة قباقيب نساوية من ذهب، فيها اثنان مرصعان بالجوهر، قيمتها مائة وخمسون ألف درهم، عنها نحو ثمانية آلاف مثقال من الذهب، وعدة قنادير من حرير مزركش، بتراكيب مرصعة من الجوهر من ملابس النساء، وعدة كنابيش زركش، وعرقيات زركش برسم الخيل وعدة عبي من حرير، وكثير من أحمال الحلاوات والفواكه والأشربة، والنخللات، فاستكثر ذلك. وفيه أنعم على الأمير منكلى بغا الإحمدي بتقدمة ألف، وعلى سلطان شاه بإمرة طبلخاناه، واستقر الأمير يلبغا الناصري الخازندار شاد الشراب خاناه، عوضاً عن منكلى بغا الأحمدي، واستقر تلكتَمُر خازندار.
وفي ثانيه: عرضت مماليك الأمير الكبير الأتابك منكلى بُغا الشمسي على السلطان بعد موته، وهم مائتان وواحد، فجعلهم في خدمة ولده أمير علي.(2/276)
وفيه ورد قود الأمير أَشقتمر المارديني نائب طرابلس، وهو خمسة وعشرون فرساً، وخمسة وعشرون بقجة قماش، ولكل من ولدي السلطان - أمير علي وأمير حاجي - أربعة أَفراس وأربع بقج، فأنعم عليه بنيابة حلب، عوضاً عن الأمير عز الدين أزدَمُر الدوادار، ونقل أيدمر إلى نيابة طرابلس، واستقر الأمير ألجاي اليوسفي أتابك العساكر وناظر المارستان، عوضاً عن الأمير منكلى بغا الشمسي، فسأل قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم بن جماعة في التحدث عنه في نظر المارستان فلم يقبل، فولى الصاحب كريم الدين شاكر بن إبراهيم بن غنام في نيابة النظر عنه بالمارستان، كل ذلك والسلطان بسرحة البحيرة، على عادته في كل سنة.
فلما قدم السلطان من السرحة، وقع في ليلة الأحد تاسع عشرينه بالدور السلطانية من قلعة الجبل حريق عظيم تمادى عدة أيام، والخلائق في إطفائه، حتى قيل إنه صاعقة سماوية، وضاق صدر السلطان بسببه.
وفي يوم الثلاثاء أول شهر رجب: عرض الشريف فخر الدين محمد بن علي بن حسين - نقيب الأشراف - عامة الأشراف لتحدث الشريفي بدر الدين حسن بن النسابة بأن النقيب أدخل في الأشراف من ليس بشريف ثابت النسب، وقدح فيه بسبب ذلك، فرسم على النسابة حتى يثبت ما رمى به النقيب.
وفي ثالثه: استقر الأمير كَجَك أمير سلاح، عوضاً عن الأمير ألجاي اليوسفي.
وفيه خلع ما استجده السلطان عند قدومه كل سنة من سرحة البحرة من الخلع على الأمراء الألوف، وهى أقبية حرير بفرو سمور، وأطواق سمور بزركش، وعلى أمراء الطبلخاناه والعشرات أقبية حرير بطرز زركش، منها ما تحته فرو قاقم، ومنها ما فروه سنجاب. واستجد في هذه السنة خلعة للأمير سابق الدين مقدم المماليك، وهي قباء حرير أزرق بطرز زركش عريض، فخلع عليه ذلك، و لم يتقدم قبله لأحد من مقدمي المماليك مثل هذا.
واستقر الأمير أحمد بن جميل في ولاية الغربية، والأمير علم دار المحمدي في نيابة صفد، عوضاً عن موسى بن أرقطاى.
وفي يوم الخميس ثاني شعبان: استقر الأمير صلاح الدين خليل بن عرام في نيابة الإسكندرية، عوضاً عن شرف الدين موسى بن الأزكشي.
وفي هذا الشهر: قصد الأمير ألجاي أن يجدد بالمدرسة المنصورية بين القصرين من القاهرة منبراً، ويقرر بها خطباً لتقام بها الجمعة، فأفتاه سراج الدين عمر البلقيني من الشافعية، وشمس الدين محمد بن الصايغ من الحنفية بجواز ذلك، وأنكره من عداهما من الفقهاء لقرب المدرسة الصالحية - وبها خطة للجمعة - بحيث يرى من المنصورية منبر الصالحية، وكثر الكلام في ذلك، فعقد مجلس في يوم السبت سادس عشرينه، اجتمع فيه القضاة والفقهاء بالمدرسة المنصورية لهذا، فجرى بينهم نزاع طويل، آل أمره إلى المنع من تجديد الخطة، وانفضوا على أحن في نفوس من أفتى بالجواز على من منع في الجواز.
وفي يوم الخميس تاسع عشر شوال: خلع على الشريف عاصم، واستقر نقيب الأشراف، عوضاً عن السيد فخر الدين، لما رمى به من أخذ الرشوة على إدخال من ليس بثابت النسب في جملة الأشراف، وذلك بعناية الأمير الكبير ألجاي بعاصم.
وفي الثلاثاء سادس عشر ذي القعدة: ركب السلطان من قلعة الجبل إلى رباط الآثار النبوية، خارج مدينة مصر للزيارة، ثم توجه لعيادة أمه بالروضة، فأقام عندها على شاطىء النيل حتى عاد إلى القلعة في يوم الخميس ثامن عشره.
وفيه استقر الأمير أرغون العزى شاد الدواوين، عوضاً عن شرف الدين موسى بن الديناري، واستقر أبو بكر القرماني في ولاية الغربية، عوضاً عن أحمد بن جميل، واستقر فخر الدين عثمان الشرفي والي الجيزة.
وفي يوم الإثنين عشرين ذي الحجة: أعيد الشريف فخر الدين إلى نقابة الأشراف، وعزل الشريف عاصم الحسيني، واستقر الصاحب كريم الدين شاكر بن إبراهيم بن غنام في الوزارة، عوضاً عن فخر الدين ماجد بن موسى بن أبي شاكر، وخلع عليه، واستقر علم الدين عبد الله بن الصاحب كريم الدين شاكر بن غنام في نظر البيوت، عوضاً عن أبيه.
وفي ثالث عشرينه: خلع على الوزير كريم الدين بن الرويهب، واستقر في نظر الدولة، فرسم له الصاحب كريم الدين بن غنام أن يجلس مقابله بشباك قاعة الصاحب من القلعة إجلالاً له، فإنه جلس بالشباك المذكور وهو وزير، فصارا يجلسان معاً به.(2/277)
وفيه خلع على جمال الدين عبد الرحيم بن الوراق الحنفي مؤدب ولدي السلطان، واستقر في نظر الخزانة الكبرى، وخلع على تاج الدين النشو المالكي، واستقر في استيفاء الصحبة.
وفي سابع عشرينه: أخرج الأمير محمد بن أياز الدواداري نقيب الجيش منفياً إلى الشام.
ومات في هذه السنة من الأعيان
الصارم إبراهيم بن خليل بن شعبان الرمحدار في ذي القعدة.
وتوفي كاتب السر بحلب، شهاب الدين أحمد بن محمد بن محمد بن المسلم بن علاء القبيسي.
وتوفي من فقهاء الحنابلة بالقاهرة الشهاب أحمد العباسي سبط فتح الدين القلانسي المحدث، في حادي عشرين جمادى الأولى.
ومات من فقهاء الشافعية الشهاب أحمد بن عبد الوارث البكري، في سابع عشرين رمضان.
ومات الأمير أرغون ططر الناصري رأس نوبة، بعد ما نفي بحماة في المحرم.
وتوفي خطيب حلب، شهاب الدين أحمد بن محمد بن جمعة بن أبي بكر الأنصاري الحلبي، الفقيه الشافعي عن ست وسبعين سنة بحلب، وله رحلة إلى القاهرة.
وتوفي الشيخ عماد الدين أبو الفدا إسماعيل بن الخطيب شهاب الدين عمر بن كثير بن ضو بن كثير القرشي الشافعي، الإمام المفسر المحدث، الواعظ الفقيه، في يوم الخميس سادس عشر شعبان، بدمشق، عن أربع وسبعين سنة.
وتوفي بدر الدين حسن بن عبد العزيز بن عبد الكريم بن أبي طالب بن علي، مستوفي ديوان الجيش، يقال إنه من لخم، في يوم العشرين من جمادى الأولى. كانت له مروءة غزيرة ومكارم مشهورة.
وتوفي الشيخ ولي الدين محمد بن أحمد بن إبراهيم الملوي الدمياجي الشافعي ذو الفنون بالقاهرة، في ليلة الخميس خامس عشرين ربيع الأول، عن بضع وستين سنة، وحزر الجمع في جنازته بثلاثين ألف رجل.
وتوفي الشيخ العارف المُسَلك بهاء الدين محمد الكازروني، في ليلة الأحد خامس ذي الحج، بزاويته التي يقال لها المشتهي بالروضة، أخذ عن أحمد الحويري خادم ياقوت الحبشي خادم أبي العباس المرسي، عن الشيخ أبي الحسن الشاذلي، وصحبه زماناً.
وتوفي تقي الدين محمد بن الجمال رافع بن هجرس بن محمد بن شافع السلامي المصري، الفقيه الشافعي المحدث، عن سبعين سنة بدمشق، يوم الثلاثاء ثامن عشر جمادى الأولى.
ومات الأديب البارع الفقيه شمس الدين محمد بن محمد بن عبد الكريم بن رضوان الموصلي، بطرابلس، في جمادى الآخرة، عن خمس وسبعين سنة.
وتوفي ناظر الجيش بحلب، بدر الدين محمد بن محمد بن الشهاب محمود بن سليمان الحلبي، بها، عن خمس وسبعين سنة.
ومات الأمير منكلى بغا الشمسي الأتابك، في جمادى الأولى.
ومات الأمير موسى بن الأمير أرقطاي نائب صفد.
ومات الشيخ يحيى بن الرهوني المالكي، في ليلة الأربعاء، ثالث ذي القعدة.
ومات الأمير أَلطنبغا المارديني أحد العشرات.
ومات الفقيه المعتقد عبد الله بن عمر بن سليمان المغربي، المعروف بالسبطير، بالجامع الأزهر، في ثاني عشرين صفر.
ومات ناصر الدين محمد الزفتاوي، المعروف بسباسب، رئيس المؤذنين وقد اختص بالسلطان، في عاشر شهر وجب.
وتوفيت خوند بركة أم السلطان، في يوم الثلاثاء آخر ذي القعدة، وهي التي بنت المدرسة المعروفة بمدرسة أم السلطان، بخط التبانة، قريباً من قلعة الجبل، وبنت الربع المعروف بربع أم السلطان، وقيسارية الجلود التي تحت الربع المذكور، بخط الركن المخلق، وكانا في جملة أوقاف مدرستها هذه حتى أخذهما الأمير جمال الدين يوسف الأستادار فيما أخذ من الأوقاف والأملاك، وهما الآن وقف على مدرسته التي أَنشأها بخط رحبة باب العيد، ومن غريب الاتفاق أن الأديب شهاب الدين أحمد السعدي قال في موتها:
في مستهل العشر من ذي الحج ... ة كانت صبيحة موت أم الأشرف
فالله يرحمها، ويعظم أجره ... يكون عاشورا موت اليوسفي
يعنى الأمير ألجاي اليوسفي زوجها، فكان كذلك، ومات يوم عاشوراء، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. أنشدني البيتين المذكورين صاحبنا صارم الدين إبراهيم ابن دقماق، قال: أنشدنيهما الأديب شهاب الدين أحمد الأعرج السعدي.
ومات ملك المغرب صاحب فاس، عبد العزيز بن السلطان أبي الحسن علي بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق المريني، ليلة الثاني والعشرين من ربيع الآخر، وأقيم بعده ابنه السعيد محمد بن عبد العزيز أبي الحسن.
سنة خمس وسبعين وسبعمائة(2/278)
في أول المحرم: خلع على الأمير علاء الدين علي بن كَلَفت، واستقر حاجباً.
وكانت عادة الأمير ألجاي أنه يسكن الغور من القلعة، ويدخل إلى الأشرفية في كل يوم اثنين ويوم الخميس، وإليه أمور الدولة كلها، فلما ماتت زوجته خوند بركة أم السلطان انحطت منزلته، وتنكر ما بينه وبين السلطان، بسبب تركتها، وبلغه عن السلطان ما يكره، فامتنع في ليلة الثلاثاء سادسه من الطلوع للمبيت بالقلعة على عادته، واعتذر للسلطان عن ذلك، وأخذ في الاستعداد للحرب، وفرق السلاح في مماليكه، فألبس السلطان أيضاً مماليكه، وأمر بدق الكوسات حربياً، فدقت بعد العشاء من ليلة الأربعاء فركب الأمراء بالسلاح إلى القلعة، وباتوا مع السلطان على حذر، حتى طلع نهار يوم الأربعاء، برز الأمير ألجاي من إصطبله في جمع موفور من مماليكه وأتباعه، شاكين في السلاح، حتى وقفوا تحت القلعة، وبعث ليمنع الأمراء أن يخرجوا من بيوتهم، فنزلت إليه المماليك السلطانية من باب السلسلة، وقد لقيتهم أطلاب الأمراء، واقتتلوا مع ألجاي قتالاً شديداً، كانت فيه إحدى عشرة وقعة، قتل فيها من الفريقين، وجرح كثير منهم، فانهزم ألجاي يريد جهة الصليبة، فلقيه طلب الأمير طَشْتَمُر الدوادار، ومال معه عدة أطلاب على ألجاي، فمر على وجهه نحو باب القرافة، والطلب في أثره، حتى أتى بركة الحبش، ومر على الجبل المقطم، حتى خرج من جانب الجبل الأحمر خارج القاهرة، ونزل قريباً من قبة النصر، وقد ضرب له مخيماه، واجتمع عليه عدة من أصحابه، وبات ليلة الخميس، فبعث السلطان يرغبه في الطاعة، فذكر أنه مملوك السلطان، ولم يخرج عن طاعته، وإنما يريد بعض الأمراء الخاصكية، أن يسلمهم إليه أو يبرزوا لمحاربته، فمن انتصر كان هو المشار إليه، وإلا فإنه لا يموت إلا على ظهر فرسه، فبعث إليه ثانياً، يخوفه عاقبة البغي، ويعرض عليه أن يتخير من البلاد الشامية ما شاء، فلم يوافق، وترددت الرسل بينهما مراراً، وبعث إليه بتشريف نيابة حماة، فقال: لا أتوجه لذلك إلا ومعي جميع مماليكي، وقماشي، وكل ما أملكه. فلم يرض السلطان بذلك، واستدعى بالأمير عز الدين أَيْنَبَك - وكان في جملة ألجاي - فأتاه طايعاً، والتزم أن يستميل من مع ألجاي من اليلبغاوية، وهم مائة مملوك، فوعده السلطان بإمرة طبلخاناه، وانصرف إلى تربة أستاذه الأمير يلبغا واختفى بها بقية نهاره، فلما أقبل الليل، بعث غلامه إلى اليلبغاوية، فما زال بهم حتى أتوه زمراً زمراً إلى التربة، فصعد بهم جميعاً إلى السلطان، فرتبهم في خدمة ولده أمير علي، وتبعهم أكثر من كان مع ألجاي من الأمراء والمماليك، بحيث لم يطلع الفجر إلا ومعه دون الخمسمائة فارس. فتوج إلى قتاله الأمير أرغون شاه، في عدة وافرة، وخلائق من العامة. ومضى أيضاً الأمير منكلى بغا البلدي من طريق أخرى في جمع موفور وكثير من العامة. وسار الأمير ناصر الدين محمد بن شرف الدين، ومعه طائفة من المقاتلة، وطوائف من أهل الحسينية، وغيرهم من طريق ثالثة، فعندما رأى أُلجاى أوائل القوم، تأخر عن موضعه قليلاً قليلاً، حتى صار الأمير أرغون في مكانه من قبة النصر، وانضم إليه الأمراء، ومن معهم، وبعث طائفة منهم فلقيت ألجاي وقاتلته، فانكسر منهم، وأخذ في الفرار، فركب القوم قفاه، وقد تأخر عنه من بقي معه، حتى وصل إلى الخرقانية من القليوبية في ثلاثة فرسان، وابن شرف الدين في طلبه، فوقف على شاطئ النيل ظاهر قليوب، واقتحمه بفرسه فغرقا في النيل، واستدعى ابن شرف الدين بالغطاسين فأخرجوه ووضعوه على بر ناحية شبرا، وحملوه في تابوت إلى القاهرة، في بكرة يوم الجمعة يوم تاسوعاء، فدفن بمدرسته من سويقة العزى قريباً من القلعة، وكان الأمير أرغون قد عاد لما انهزم ألجاي وغرق، وعرف السلطان، فصعد إلى القلعة، وبقيت العساكر واقفة تحت القلعة يوم الخميس.
وقبض السلطان على الأمير طقتمر الحسني، والأمير صراي العلاى، وسلطان شاه بن قرا الحاجب، ونفاهم. وقبض على الأمير علاء الدين علي بن كلفت، وألزمه بحمل مال، وقبض على الأمير بيبغا القوصوني، والأمير خليل بن أقماري، ثم أفرج عنهما بشفاعة الأمير طشتمر الدوادار.
وفيه نودي من وجد مملوكاً من الألجيهية، وأحضره فله خلعة، وحذر من أخفاهم، فظهر السلطان منهم بعدة.(2/279)
فلما دفن ألجاي، نزع الأمراء سلاحهم، وهنأوا السلطان بسلامته، وظفره بعدوه، ونودي بالأمان، وكتب إلى الأقطار بخير هذه الواقعة.
وفيه خرج على البريد الأمير بوري الأحمدي الخازن دار، لإحضار الأمير أيدمر الدوادار.
وفي يوم السبت عاشره: خلع على الأمير يعقوب شاه، واستقر نائب طرابلس، عوضاً عن الأمير أيدمر.
وفي يوم الإثنين ثالث عشره: استقر الأمير أرغون شاه، أميراً كبيراً، ورسم له أن يجلس بالإيوان في وقت الخدمة، واستقر الأمير صرغتمش الأشرفي، أمير سلاح، ورسم له أيضاً أن يجلس وقت الخدمة، واستقر الأمير أرغون الأحمدي اللالا أميراً كبيراً أيضاً، ورسم له أن يجلس وقت الخدمة بجانب الأمير أيدمر الشمسي، واستقر الأمير قطلوبغا الشعباني رأس نوبة ثانياً، وأنعم عليه بإمرة مائة بتقدمة ألف، واستقر الطواشي مختار الحسامي، مقدم الرفرف في تقدمة المماليك، عوضاً عن سابق الدين مثقال الأنوكي، وأمر سابق الدين أن يلزم بيته، واستقر الأمير أيدمر من صديق رأس نوبة رابعاً، وخلع على الجميع، واستدعى بأولاد ألجاي وأسكنا بالقلعة، ورتب لهم كفايتهم، ووقعت الحوطة على جميع مخلف ألجاي، فكان شيئاً كثيراً، ورتبت مماليكه في خدمة ولدي السلطان، وقبض على محمد شاه دوادار ألجاي، وعلى أقبغا البجمقدار خازن داره، وعلى مباشري ديوانه وألزامه، وألزموا بمال كبير، فحملوا بعض ما ألزموا به، وخلى عنهم.
وفيه استقر كَجَك من أرْطَق شاه في نيابة الإسكندرية، عوضاً عن ابن عرام، واستقر كمال الدين الربغي في قضاء الإسكندرية، عوضاً عن الكمال بن التنسي، واستقر الأمير فخر الدين عثمان الشرفي أستادار ابن صبح في ولاية القاهرة، عوضاً عن الأمير بَكتَمُر السيفي، وقبض على بَكتَمُر، وصودر، واستقر الأمير شرف الدين موسى بن الديناري في ولاية الجيزة، عوضاً عن عثمان الشرفي، وخلع عليهم.
وفيه أنعم على كل من الأمير أقتمر الصاحبي الحنبلي والأمير تمر باي الحسني، والأمير أحمد بن يلبغا، وإينال اليوسفي، وبلوط الصَرغَتْمُشي، وأحمد بن الأمير بُهادر الجمالي، وألجنبغا المحمدي، وحاجي بك بن شادي، والطواشي مختار الحسامي بإمرة طبلخاناة، وعلى كل من طشتمر الصالحي، وألطبغا عبد الملك بإمرة عشرة.
وفي ثاني عشرينه: استقر الأمير قطلوبغا المنصوري في نيابة صفد، عوضاً عن علمدار المحمدي، واستقر الأمير تلكتمر من بركة، حاجباً ثانياً، عوضاً عن المنصوري.
وفي رابع صفر: قدم الأمير أيدمر الدوادار من طرابلس، فخلع عليه، واستقر أتابك العساكر، عوضاً عن ألجاي اليوسفي، واستقر تمراز الطازي في نيابة حمص، عوضاً عن آقبغا عبد الله، وأنعم على كل من آقبغا المذكور - وقد قدم من حمص - ويلبغا الناصري اليلبغاوي، بإمرة طبلخاناة.
وفي سابع عشره: استقر الأمير أسنبغا البهادري نقيب. الجيش، واستقر عوضه في شد العماير قطلوبغا الكوكاي.
وفي يوم الخميس حادي عشرينه: خلع على الأمير أقتمر عبد الغني، حاجب الحجاب، واستقر نايب السلطان.
وفي هذا الشهر: اجتمع قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم بن جماعة، والشيخ سراج الدين عمر البلقيني، بالسلطان، وعرفاه ما في ضمان المغاني من المفاسد، والقبايح، وما في مكس القراريط من المظالم - وهو ما يؤخذ من الدور إذا بيعت - فسمح بإبطالهما، وكتب بذلك مرسومين إلى الوجه القبلي والوجه البحري، بعد ما قرءا على منابر القاهرة ومصر، فبطل والحمد للّه ضمان هاتين الجهتين، وكان يتحصل منهما مال عظيم جداً، وزال بزواله منكر شنيع.
وفي آخره: نفي الأمير صلاح الدين خليل بن عوام، والأمير علاء الدين على بن كَلَفت، ومحمد شاه - دوادار ألجاي - وأقبغا البجمدار، فساروا إلى الشام، ونفي الأمير بَكتمُر السيفي إلى طرسوس.
وفيه استقر الأمير شرف الدين موسى بن الأزكشي في ولاية قوص، وأضيف إليه الكشف أيضاً.(2/280)
وفي هذه السنة: توقف ماء النيل عن الزيادة في أوانها حتى كان النوروز، ولم يبلغ ستة عشر ذراعاً، وتأخر منها ثمانية أصابع، فنودي في يوم النوروز - وهو يوم الإثنين تاسع شهر ربيع الأول - بزيادة إصبعين، ونودي من الغد يوم الثلاثاء بزيادة إصبعين، ونودي في يوم الأربعاء بزيادة إصبعين، وتأخر من ذراع الوفاء إصبعان، فلم يزد بعد ذلك شيئاً، ثم نقص في يوم الجمعة ثالث عشره، فقلق الناس لذلك، وتزايد قلقهم إلى يوم الثلاثاء سابع عشره، خرج القضاة والفقهاء وغيرهم إلى جامع عمرو بمصر، وضجوا بالدعاء إلى اللّه في إجراء النيل، ثم فتح الخليج من أخر النهار، وقد بقي من الوفاء خمسة أصابع، فهبط الماء من يومه ولم يعد.
وفي تاسع عشره: قدم الأمير حيار بن مهنا، فخلع عليه، واستقر في إمرة العرب على عادته، ولم يؤاخذ بما كان من قتله الأمير قشتمر، وعفي عنه.
وفي يوم الجمعة عشرينه: خرج القضاة والناس إلى رباط الآثار النبوية، خارج مدينة مصر، وغسلوها في النيل بالمقياس، وقرأوا هناك القرآن الكريم، وتضرعوا إلى الله تعالى في إجراء النيل، ورد ما نقص، ثم عادوا، فنزل حتى جفت الخلجان من الماء، فارتفع السعر، وبيع الإردب من القمح بستة وثلاثين درهماً سوى كلفه، وشرهت الأنفس، وتكالب الناس على طلب القوت، وغلب على الناس اليأس، فنودي يوم الأحد ثاني عشرينه في الناس بالتوبة والإقلاع عن المعاصي، وصيام ثلاثة أيام، فصام من صام الإثنين، والثلاثاء، والأربعاء.
وخرج الناس في بكرة يوم الخميس سادس عشرينه إلى قبة النصر - خارج القاهرة - وهم حفاة بثياب مهنتهم، ومعهم أطفالهم، وكتب ممن خرج يومئذ، وقد نصب هناك منبر، ونزل الأمير أقتمر عبد الغني النائب، في عدة من الأمراء، فخطب ابن القْسِطلاني خطيب جامع عمرو خطبة الاستسقاء، وصلى صلاة الاستسقاء، وكشف رأسه عند الدعاء، وحول رداءه، فكشف الناس جميعاً رؤوسهم، وضجوا بالدعاء إلى الله تعالى، وارتفعت أصواتهم بالاستغاثة وهملت أعينهم بالبكاء، فكان مشهداً عظيماً، فلم يسقوا، وعادوا خائبين، فعز وجود الغلال.
وفيه تجمعت العامة تحت القلعة، وسألوا عزل ابن عرب عن الحسبة، وكانوا قد توعدوه، فاختفى، و لم يركب في هذا اليوم، ولا خرج إلى الاستسقاء.
وفيه نفي كريم الدين عبد الكريم بن الرويهب، ناظر الدولة إلى طرابلس، واستقر في نظر الدولة عوضه تاج الدين النشو المالكي، واستقر الطواشي سابق الدين مثقال الأنوكي، في تقدمة المماليك على عادته، وأعيد مختار كما كان مقدم الرفوف، وخلع على الجميع.
وفي يوم الخميس عاشر شهر ربيع الآخر استقر الأمير شهاب الدين أحمد بن الأمير الحاج آل ملك في نيابة غزة، عوضاً عن طشبغا المظفري، وأنعم على كل من الأمير الطازي، والأمير سودُن جركس المنجكي، بإمرة مائة، وارتجع عن طينال المارديني تقدمته، وعوض إمرة طبلخاناه، وأنعم على الأمير جركتمر الخاصكي بطبلخاناه.
وفي يوم الجمعة حادي عشره: خلع على بهاء الدين محمد بن المفسر، واستقر في حسبة القاهرة، عوضاً عن علاى الدين علي بن عرب، باستعفائه منها.
وفي ليلة السبت ثاني عشره: أرعدت السماء وأبرقت، وسحت بأمطار غزيرة، عمت كثيراً من أراضي مصر، بحيث زرع بعضها لريها من هذه المطرة البرسيم، فسر الناس بذلك، وانحل سعر القمح خمسة دراهم الأردب، وكان قد بلغ أربعين درهماً. وفي آخره. خلع على بهاء الدين بن المفسر محتسب القاهرة، واستقر في وكالة بيت المال، ونظر كسوة الكعبة، عوضاً عن ابن عرب، مضافاً إلى الحسبة، وأخذ سعر الغلال يرتفع.
وفي خامس عشر جمادى الأولى - وهو سابع هاتور - : زاد النيل اثني عشر إصبعاً، وفي الغد، وبعد الغد ثمانية أصابع، ثم نقص، ولم يعهد مثل ذلك.
وفي يوم السبت خامس عشرينه: ركب الأمير منكلى بغا البلدي، إلى بيت الأمير أقتمر عبد الغني النائب، ليبلغه عن السلطان رسالة، فلما دخل عليه أمر بإمساكه، وأخرجه من باب سر داره، منفياً إلى الشام، فانفض من كان معه من المماليك، ولم يتحرك أحد منهم بحركة، ثم رسم له بنيابة مدينة الكرك، فتوجه إليها.
وبلغ سعر الأردب القمح إلى خمسين درهماً، والأردب من الشعير والفول إلى خمسة وعشرين درهماً، والحملة الدقيق - وهي ثلاثمائة رطل - إلى أربعة وثمانين درهماً.(2/281)
وقدم الأمير بَيْدَمُر، ومعه تقادم جليلة، فأكرم وخلع عليه، في يوم الخميس أول جمادى الآخرة، واستقر في نيابة حلب، عوضاً عن الأمير أشقتمر، وركب السلطان - وهو معه - فعدى النيل إلى الجيزة، وهو بتشريف النيابة، ثم عاد وتوجه إلى حلب، واستقر الأمير أشقتمر في نيابة صفد، عوضاً عن قطلوبغا المنصوري، واستقر المنصوري في نيابة غزة، عوضاً عن الأمير أحمد بن آل ملك، واستقر ابن آل ملك في نظر القدس، والخليل.
وفي ثامنه: خلع على علاى الدين على بن عرب وأعيد إلى وكالة بيت المال ونظر الكسوة، عوضاً عن ابن المفسر.
وفي خامس عشره: خلع على الطواشي جوهر الصلاحي - مقدم القصر - واستقر نائب مقدم المماليك، عوضاً عن نحتار الدمنهوري، وخلع على نحتار المذكور، ويعرف بشاذروان، واستقر مقدم مماليك ولدي السلطان، وأنعم عليه بإمرة عشرة.
وفي يوم الخميس ثاني عشرينه: خلع على تاج الدين النشو المالكي، واستقر في الوزارة، عوضاً عن كريم الدين شاكر بن غنام، وخلع على ابن غنام، واستقر في نظر البيوت ونظر المارستان، ونظر دار الطراز، وأنعم على ناصر الدين محمد بن أقبغا آص بتقدمة ألف، عوضاً عن منكلى بغا البلدي، واستقر أستادار السلطان، وأنعم على الأمير ألطبغا العثماني طَطَق بتقدمة ألف، واستقر أمير سلاح، عوضاً عن طيدمر البالسي.
وفيه قدم شرف الدين حسين الفارقي وزير صاحب اليمن بكتابه وصحبته أمير آخوره ناصر الدين محمد، ومعهما هدية سنية.
وخلع على الأمير طُغَاى تَمُر دوادار الأمير يلبغا، واستقر دوادارا ثانياً بإمرة طبلخاناه، وخلع على الأمير قرطاي الكركي، واستقر في كشف الوجه البحري، عوضاً عن الأمير آل ملك الصرغتمشي.
وفيه شنقت المرأة الخناقة وزوجها جمعة الخناق، وكانا في تربة من ترب القاهرة، فيدوران بالقاهرة ومصر وظواهرهما، ويأخذان من أطفال الناس وأولادهم من قدروا عليه، ويخنقاه لأخذ ما عليه من ثياب الجميلة، ففقد الناس عدة أولاد، واشتد حزنهم عليهم، وكثر ذلك في الناس حتى ذعروا منه، ففضح الله جمعة هذا وامرأته، وقبض عليهما، وعوقبا، وأخذ ما وجد عندهما من على الأولاد وثيابهم، ثم شنقا، وكان يوماً مجموع له الناس بالقاهرة، خارج باب النصر منها.
وتقدم مرسوم السلطان بإقامة الأمير جَاوَرْجي القوصوني، والأمير أقبغا بن مصطفى، والأمير أسنبغا القوصوني، والأمير قرابغا الأحمدي، والأمير نصرات أخي بكتمر الساقي، في ثغر الإسكندرية، فساروا.
وفي يوم الخميس عشرين شهر رجب: خلع على الأمير قُطْلوبغا الكوكاي واستقر أستادارا، عوضاً عن الأمير نصرات، واستقر الأمير أسنبغا البهادري شاد العماير على عادته، واستقر الأمير آل ملك الصرغتمشي نقيب الجيش، وخلع على برهان الدين إبراهيم بن بهاء الدين بن الحِلىّ ناظر بيت المال، واستقر في نظر المارستان مضافاً لما بيده.
وفي سابع عشر شعبان: خلع على الأمير أرغون الأحمدي اللالا، واستقر نائب الإسكندرية، عوضاً عن الأمير كَجَك، واستقر كجك في نيابة غزة.
وفي يوم الخميس سابع عشرينه: خلع على بهاء الدين أبي البقاء، واستقر في قضاء دمشق، عوضاً عن كمال الدين عمر بن عثمان بن هبة الله المعري، واستقر المعري في قضاء حلب، عوضاً عن فخر الدين عثمان بن أحمد بن أحمد بن عثمان الزرعي. واستقر قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم بن جماعة في تدريس الشافعي، عوضاً عن أبي البقاء. وخلع عليه في يوم الأحد سلخه، وحضر الدرس به، فكان يوماً جليلاً جمعه.
واستقر شهاب الدين أحمد بن علاء الدين على بن محيى الدين يحيى بن فضل الله العمري في كتابة السر بدمشق، عوضاً عن شيخنا فتح الدين أبي بكر بن الشهيد، واستقر الأمير ككبغا البيبغاوي في نيابة قلعة جعبر.
وفيه قدم الأمير آسَنقُر.
وأهل شهر رمضان بيوم الإثنين.
وفيه استجد السلطان عنده بالقصر من قلعة الجبل قراءة كتاب صحيح البخاري في كل يوم من أيام شهر رمضان، بحضرة جماعة القضاة ومشايخ العلم، تبركاً بقراءته، لما نزل بالناس من الغلاء، فاستمر ذلك، وتناوب قراءته شهاب الدين أحمد بن العرياني، وزين الدين عبد الرحيم العراقي، لمعرفتهما علم الحديث، فكان كل واحد يقرأ يوماً.(2/282)
وفي يوم الإثنين حادي عشرينه: خلع على الأمير أَشَقتمُر، واستقر في نيابة حلب، عوضاً عن الأمير بَيدَمُر الخوارزمي، واستقر بيدمر في نيابة الشام، عوضاً عن الأمير منجك، وركب الأمير يلبغا الناصري البريد لإحضار الأمير منجك ومملوكه جَرَكتمُر المنجكي، وصهره أروس المحمودي، وخلع على الأمير أقتمر عبد الغني النايب، واستقر في نيابة طرابلس، عوضاً عن الأمير يعقوب شاه، واستقر يعقوب شاه حاجب الحجاب بدمشق، وخلع على الأمير طيدمر البالسي، واستقر في نيابة الكرك، عوضاً عن الأمير منكلى بغا البلدي، واستقر البلدي في نيابة صفد، واستدعى الأمير أحمد بن الحاج آل ملك من القدس، فلما قدم أنعم عليه بإمرة طبلخاناه، وأنعم على الأمير جركتمر الأشرفي الخاصكي بتقدمة ألف، وعلى الأمير أقتمر الحنبلي بتقدمة ألف، واستقر رأس نوبة ثانياً، وارتجع عن الأمير آقبغا من مصطفى إقطاعه.
وفي خامس شوال: خلع على الصاحب كريم الدين شاكر بن غنام، وأعيد إلى نظر المارستان، عوضاً عن ابن الخلى.
وفي خامس شوال: استقر الأمير شهاب الدين أحمد بن آل ملك حاجباً ثالثاً.
وفي يوم الإثنين ثالث ذي الحجة: قدم الأمير مَنجَك بأولاده ومملوكه الأمير جَرَكتمر المنجكي وصهره الأمير آروس المحمودي، فنزل بسرياقوس، وخرج إليه جميع أرباب الدولة من الوزير وقضاة القضاة والأمراء، بحيث لم يتأخر عنه سوى السلطان وولديه فقط، ثم ساروا جميعاً بين يديه حتى طلع القلعة، فلم يعهد لأمير موكب مثل موكبه. فمشى الأمراء من باب السر بين يديه وهو راكب بمفرده، وفيهم الأمير أيدمر الدوادار - أتابك العساكر - والأمير أرغون شاه، والأمير صَرْغَتمش، فلما دخل على السلطان ابتهج بقدومه، وبالغ في إكرامه، وخلع عليه خلعة نيابة السلطنة، وفوض إليه نظر الأحباس والأوقاف، وحسن إليه التحدث في الخاص والوزارة، وأن يخرج من إقطاعات الحلقة ما عبرته ستمائة دينار فما دونها، ويعزل من أرباب الدولة وأصحاب المناصب من شاء، ويولي منهم شاء، وأن يقرر في سائر أعمال المملكة من أراد، ويخرج إمريات الطبلخاناه والعشرات من البلاد الشامية ممن أحب، وينعم بها على من يريد وقرىء تقليده بالنيابة في الإيوان المعروف بدار العدل من القلعة بحضرة السلطان، والأمراء وسائر أرباب الدولة. وفيه أن السلطان قد أقامه مقام نفسه في كل شيء بيده، وفوض له ما فوض إليه الخليفة من سائر أمور المملكة، ثم خرج فجلس بدركاه باب القلة من القلعة، وجلس الوزير بين يديه، وقعد موقعو الدست لإمضاء ما يرسم به، ورفعت إليه القصص من ديوان الجيش وغيره، فنظر في الأمر نظر مستبد بها.
وفي سادسه: خلع على بَكتمُر العلمي حاجب الإسكندرية، واستقر نقيب الجيش، وأنعم على بيبغا السابقي الخاصكي بإمرة طبلخاناه، وعلى الأمير بيبغا القوصوني بإمرة طبلخاناه.
وفي هذا الشهر: فشت الأوبئة بثغر الإسكندرية وغيرها من بلاد الوجه البحري. ومات الأمير أرغون اللالا نايب الإسكندرية، فاستقر عوضه الأمير قطلوبغا الشعباني، واستقر محمد بن قرابغا - أحد العشرات - في ولاية أطفيح على إمرته.
وفي رابع عشرينه: خلع على الأمير يلبغا الناصري، واستقر حاجباً ثانياً أمير مائة مقدم ألف، وأنعم على الأمير بلاط السيفي بإمرة طبلخاناه، وعلى كل من مغلطاي الجمالي، وكبك الصرغتمشي بإمرة عشرة.
ومات صدر الدين محمد بن السكر قاضي الحنفية، بثغر الإسكندرية، فلم يستقر أحد عوضه.
وفيه تزايد سعر الغلة، فبيع الخبز أربعة أرطال بدرهم، بعد ما كان خمسة أرطال.
وفي ثالث عشر ذي الحجة: قبض على رجل مغربي كان يقف في الليل تحت القلعة، ويصيح اقتلوا سلطانكم ترخص أسعاركم ويجري نيلكم. فضربه والي القاهرة بالمقارع وتركه لحاله.
وفي رابع عشره: أنعم على الطواشي مختار شاذروان الدمنهوري بإمرة، واستقر نقيب المماليك، عوضاً عن محمد بن قرطاي الموصلي باستعفائه منها وقدم الأمير خليل ابن قوصون باستدعاء.
وقد الخبر بأن دجلة فاضت حتى علا ماؤها على سور بغداد، وأغرقها، فتهدم بها نحو الستين ألف دار، وعبرت المراكب من دجلة إلى الأزقة والأسواق، وأن الريح هبت بسنجار، فأحرقت أوراق الأشجار، وهلك بها كثير من الناس، وأمطرت ثعابين. بمدينة شيزر، وأن مدينة حلب أصابها سيل عظيم، خرب به نحو الأربعماية دار.(2/283)
وفيه استقر جلال الدين جار الله في تدريس الحنفية بالمدرسة الصرغتمشية، بعد وفاة أرشد الدين محمود.
وفيها خلع على صاحب فاس وبلاد المغرب السعيد محمد بن عبد العزيز أبي الحسن، في ذي الحجة، وملك بعده السلطان أبو العباس أحمد بن أبي سالم إبراهيم ابن أبي الحسن.
ومات في هذه السنة من الأعيان ممن له ذكر
قاضي حلب، وقاضي المدينة النبوية، وأحد خلفاء الحكم بالقاهرة. بدر الدين إبراهيم ابن صدر الدين أبي البركات أحمد بن مجد الدين عيسى بن عمر بن خالد بن عبد المحسن ابن الخشاب المخزومي الشافعي، وهو عائد من المدينة النبوية قريباً من عينونة، ودفن بجزيرة سقر في صفر.
ومات الأمير أرغون اللالا الأحمدي نائب الإسكندرية، في خامس عشر ذي القعدة.
ومات الأمير أسندمر الجوباني، وكان خيراً يقبله القضاة.
ومات آقبغا بن مصطفى أحد الطلبخاناه، وهو مجرد بالإسكندرية، في ثالث عشر ذي القعدة.
ومات الأمير آل ملك الصرغتمشي الكاشف بالوجه البحري، ونقيب الجيش، في تاسع شوال.
ومات الأمير تَلَكتمُر الجمالي أحد الطبلخاناه بمنزلة قاقون من طريق الشام، في ذي الحجة ومات الأمير تمرقيا العمري أحد الطبلخاناه.
ومات الحاج صبيح الخازن، النوبي الجنس، في حادي عشر المحرم، وقد انتشر ذكره وعظم قدره، بحيث كان له من الحرمة ما لأعيان الأمراء، وترك دنيا عريضة ونعماً جليلة، وكان خازن الشراب خاناه السلطانية.
ومات الأمير طيبغا الفقيه العمري، أحد العشرات.
ومات مُهتار الطشتخاناه السلطانية، شهاب الدين أحمد بن كسيرات، في ثاني عشر المحرم، كان وافر الحرمة عريض الجاه، لم يزل من عهد الناصر محمد في خدمة الملوك، فعز جانبه وكثرت نعمته.
وتوفي قاضي المدينة النبوية تاج الدين محمد بن الكركي الشافعي، وهو ينوب عن القضاة بالقاهرة، في سادس عشرين شعبان.
ومات قاضي الحنفية بالإسكندرية صدر الدين محمد بن السكري، في أول ذي الحجة.
وتوفي الشيِخ أرشد الدين محمود بن قُطْلوشاه السيرامي، أحد أعيان الحنفية مدرس المدرسة الصَرغتُمِشيَّة، في يوم الثامن والعشرين من جمادى الآخر.
وتوفي سعد الدين ماجد بن التاج أبي إسحاق عبد الوهاب بن عبد الكريم، عن نيف وستين سنة، بمصر.
وتوفي نور الدين علي بن الحسن بن علي الإسناي، أخو الشيخ جمال الدين عبد الرحيم، في ثامن عشر رجب.
وتوفي شمس الدين شاكر، المعروف بابن البقري، ناظر الذخيرة، صاحب المدرسة النبوية بالقاهرة، في ثالث عشر شوال، وكان مشكوراً في أقباط مصر.
وتوفي سراج الدين عمر بن محمد السعودي شيخ خانكاه بَكتمُر الساقي، في سابع عشرين ذي الحجة.
وتوفي صلاح الدين بن مسعود المقرىء المالكي، أحد أصحاب التقي الصانع، في ثالث عشرين ذي الحجة.
ومات الأمير بيبغا حارس طير أحد الطبلخاناه.
ومات الأمير تغرى برمش بن الأمير ألجاي اليوسفي، أحد أمراء الطبلخاناه.
ومات الأمير أسن قطلو الإبراهيمي.
ومات الأمير أرسلان خجا اليلبغاوي - أحد الطبلخاناه - قتيلاً، في واقعة الأمير ألجاي، في المحرم.
وتوفي الأمير آروس المحمودي الأستادار أحد الألوف، وزوج ابنة الأمير مَنجك النائب، في ثاني ذي القعدة.
وتوفي الأمير ألطبغا المارديني في ثاني جمادى الآخر.
وتوفي الأمير أقبغا العمري البالسي، أخو طيبغا الطويل، من أمراء الطبلخاناه، وهو منفي بالشام.
وتوفي الأمير أقبغا الناصري، نايب الكرك ونايب قلعة بهسنا، وبها مات.
وتوفي الأمير الكبير الأتابك ألجاي اليوسفي، أحد ممالك الناصري حسن. ترقى حتى صار حاجب الحجاب، ثم عزل في تاسع رجب سنة ثلاث وستين واستقر أمير جاندار، إلى أن كانت فتنة الأمير أَسنَدُمر والأجلاب، تولى حربه وقاتله قتالاً عظيماً، كانت بينهما فيه ست عشرة وقعة، فلما انتصر أَسنَدُمر قبض على ألجاي، وسجنه بالإسكندرية إلى أن زالت أيام أسندمر أفرج عنه وعمل أمير سلاح، ثم صار الأتابك وإليه أمور الدولة كلها، حتى مات في يوم عاشوراء، كما تقدم ذكره.
سنة ست وسبعين وسبعمائة(2/284)
في أول المحرم: اتفق أمر غريب، قد وقع مثله فيما تقدم، وهو أن الأمير شرف الدين عيسى بن باب جك - والي الأشمونين - كان له ابنة، فلما أن تم لها من العمر خمس عشرة سنة، استد فرجها، وتدلى لها ذكر وأنثيان، واحتملت كما تحتلم الرجال، واشتهر ذلك بالحسينية - حيث سكنه - وبالقاهرة، حتى بلغ منجك، فاستدعى بها، ووقف على حقيقة خبرها، فأمر بنزع ثياب النسوان عنها، وألبسها ثياب الرجال من الأجناد، وسماها محمداً، وجعله من حملة مشاة خدمته، وأنعم عليه بإقطاع، فشاهده كل أحد.
وفي ثامنه: أخذ قاع النيل، فجاء أربعة أذرع واثني عشر إصبعاً.
وفي أول شهر ربيع الأول: شرع السلطان في التجهيز إلى الحج، وتقدم إلى الأمراء بتجهيز أمورهم أيضاً.
وفي تاسعه: كان وفاء ماء النيل ستة عشر ذراعاً، ويوافقه رابع عشرين مسرى، ففتح الخليج على العادة، واستمرت الزيادة حتى بلغت سبعة عشر ذراعاً وخمسة أصابع، وثبت أوان ثباته، ثم انحط وقت الحاجة إلى هبوطه، فعم النفع والحمد للّه به، إلا أن الأسعار تزايدت، فبلغ القمح ماية درهم الأردب، والشعير ستين درهماً الأردب، والفول خمسين درهماً الأردب.
وفي أول شهر ربيع الآخر: ركب السلطان من قلعة الجبل إلى الميدان الكبير الناصري بشاطىء النيل، للعب بالكرة على العادة في كل سنة، وركب ولده أمير على قدامه بين يديه، وجعل على رأسه شطفة كما يجعل على رأس السلطان، وعين جماعة من الأمراء للمشي في ركابه، وخلع عليهم أقبية حرير بطرز زركش، وأركبهم الخيول المسومة بالسروج الذهب، وكنابيش زركش، وألبس أكابر مماليكه ومقدم مماليكه الطواشي شاذروان أيضاً الأقبية الحرير بالطرز.
وفيه أنعم على الأمير علاء الدين على بن كَلَفْت بإمرة طبلخاناه، وعلى الأمير ناصر الدين محمد بن محمد بن الأمير تنكز نايب الشام بإمرة عشرة، وخلع على الشريفّ بكتمر بن علي الحسيني، واستقر في ولاية منفلوط، وعلى الأمير محمد بن بهادر، واستقر في ولاية البهنسي، وأنعم على الأمير طشتمر الصالحي بإمرة طبلخاناه، وخلع على الأمير أحمد بن أرغون الأحمدي بإمرة عشرة.
وفي يوم الإثنين ثاني عشرين جمادى الأولى: خلع على شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الملك الدميري المالكي، واستقر في حسبة القاهرة، عوضاً عن بهاء الدين محمد ابن المفسر، فأمطرت ليلة الثلاثاء مطراً عظيماً.
وفي يوم الأربعاء: وضع المحتسب الخبز على رؤوس عدة من الحمالين، وشق به القاهرة إلى القلعة وصنوج الخليلية تزفه، والطبول تضرب، ونودي عليه كل ثلاثة أرطال إلا ربع رطل بدرهم، وكان كل رطلين وثلث بدرهم، فسر الناس بذلك، إلا أن الخبز عز وجوده، وفقد من الأسواق خمسة أيام، والناس تتزاحم على أخذه من الأفران، واشتد شره النفوس، وكان يخامرها اليأس، فنودي بتكثير الخبز، وأن يباع بغير تسعير، فتزايدت الأسعار في ساير الغلال بعد تناقصها، حتى بلغ في أوائل جمادى الآخرة الأردب القمح بماية وعشرة دراهم، والأردب الشعير ستين درهماً، والأردب الفول خمسة وخمسين درهماً، والقدح الأرز بدرهمين، والقدح من العدس والحمص بدرهم وربع، وارتفع الزيت والشيرج، وأبيع الرطل من حب الرمان بعشرة دراهم ونصف، والرطل من لحم الضأن بدرهمين، ومن لحم البقر بدرهم وثلث، وقلت البهايم من الخيل والبغال والجمال والحمير والأبقار والأغنام لفنائها جوعاً، وبيع الزوج الأوز بعشرين درهماً، وكل دجاجة بأربعة دراهم.
وفي يوم الخميس ثالث عشره: ركب السلطان من قلعة الجبل وعبر القاهرة من باب زويلة، وخرج من باب النصر للسرحة على العادة في كل سنة.
وفي نصف جمادى الآخر: هذا ابتدأ الوباء في الناس في القاهرة ومصر، وكثر موت الفقراء والمساكين بالجوع، فكنت أسمع الفقير يصرخ بأعلى صوته: للّه، لبابة قدر شحمة أذني، أشمها وخذوها فلا يزال كذلك حتى يموت هذا، وقد توقفت أحوال الناس من قلة المكاسب، لشدة الغلاء، وعدم وجود ما يقتات به، وشح الأغنياء وقلت رحمتهم، ومع ذلك فلم يزداد أجر العمال من البناة والفعلة والحمالين ونحوهم من أرباب الصنايع شيئاً، بل استقر على ما كانت عليه قبل الغلاء، فمن كان يكتسب في اليوم درهماً يقوم بحاله ويفضل له منه شيء، صار الدرهم لا يجدي شيئاً، فمات ومات أمثاله من الأجراء والعمال والصناع والفلاحين والسؤال من الفقراء.(2/285)
وفي يوم الجمعة ثالث شهر رجب: عدى السلطان النيل من بر الجيزة، عائداً من السرحة، فزار الآثار النبوية، وصلى الجمعة بجامع عمرو بمدينة مصر، وركب إلى القلعة.
وفي يوم السبت خامس عشرينه: قبض على الوزير الصاحب تاج الدين النشو المالكي، وخلع على الصاحب كريم الدين شاكر بن الغنام، وأعيد إلى الوزارة، وتسلم المالكي، واستخلص منه، ثمانين ألف مثقال من الذهب، وهدم داره بمدينة مصر إلى الأرض، وأخرجه على حمار منفياً إلى الشام.
وفيه خلع على الأمير قرطاي الكركي، واستقر شاد العماير بإمرة عشرة، واستقر الأمير بَكتمر العلمي في كشف الوجه البحري، عوضاً عن قرطاي، واستقر محمد بن قرابغا الأناقي في نقابة الجيش، عوضاً عن بكتمر، واستقر الأمير فخر الدين عثمان الشرفي كاشفاً بالوجه القبلي من حدود الجيزة إلى أسوان.
وفي شهري رجب وشعبان: اشتد الغلاء، فبلغ الأردب القمح ماية وخمسة وعشرين درهماً، والإردب الشعير تسعين درهماً، والأردب الفول ثمانين درهماً، والبطة الدقيق زنة خمسين رطلا بأربعة وثلاثين درهماً وشفع الموت في الفقراء من شدة البرد والجوع والعري، وهم يستغيثون فلا يغاثون، وأكل أكثر الناس خبز الفول والنخال، عجزاً عن خبز القمح، وبلغ الخبز الأسود كل رطل ونصف بدرهم، وكثر خطف الفقراء له، ما قدروا عليه من أيدي الناس، ورمى طين بالسجن لعمارة حايط به، فأكله المسجونون من شدة جوعهم، وعز وجود الدواب لموتها جوعاً.
وفي رابع عشرين شعبان: انتدب الأمير منجك نايب السلطان لتفرقة الفقراء على الأمراء وغيرهم، فجمع أهل الحاجة والمسكنة، وبعث إلى كل أمير من أمراء الألوف ماية فقير، وإلى من عدا أمراء الأولوف على قدر حاله، وفرق على الدواوين والتجار وأرباب الأموال كل واحد عدداً من الفقراء ثم نودي في القاهرة ومصر بألا يتصدق أحد على حرفوش، وأي حرفوش شحذ صلب، فآوى كل أحد فقراءه في مكان، وقام لهم من الغذاء بما يمد رمقهم على قدر همته وسماح نفسه، ومنعهم من التطواف لسؤال الناس، فخفت تلك الشناعات التي كانت بين الناس، إلا أن الموات عظم، حتى كان يموت في كل يوم من الطرحاء على الطرقات ما يزيد على خمسمائة نفر، ويطلق من ديوان المواريث ما ينيف على مائتي نفس، وتزايد في شهر رمضان مرض الناس وموتهم، ونفدت الأقوات، واشتد الأمر، فبلغت عدة من يرد اسمه للديوان في كل يوم خمسمائة، وبلغت عدة الطرحاء زيادة على خمسمائة طريح، فقام بمواراة الطرحاء الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير أقبغا آص، والأمير سودن الشيخوني، وغيرهما، وكان من أتى بميت طريح أعطوه درهماً، فأتاهم الناس بالأموات، فقاموا بتغسيلهم وتكفينهم ودفنهم أحسن قيام، بعد ما شاهد الناس الكلاب تأكل الموتى من الطرحاء.
فلما فني معظم الفقراء، وخلت دور كثيرة خارج القاهرة ومصر لموت أهلها، فشمت الأمراض من أخريات شهر رمضان في الأغنياء، ووقع الموت فيهم، فازداد سعر الأدوية، وبلغ الفروج خمسة وأربعين درهماً، ثم فقدت الفراريج حتى خرج البريد في الأعمال بطلبها للسلطان، وبلغت الحبة الواحدة من السفرجل خمسين درهماً، والحبة من الرمان الحامض عشرة دراهم، والرمانة الواحدة من الحلو بستة عشر درهماً، والبطيخة الواحدة من البطيخ الصيفي تسعين درهماً، وكل رطل منه بثلاثة دراهم، واشتد الأمر في شوال إلى الغاية.
وفي خامس عشر شوال: قدمت أم سالم الدكري أمير التركمان بنواحي الأبلستين، ومعها أحمد بن همز التركماني أحد الأبطال، وكان قد أقام دهراً يقطع الطريق على قوافل العراق يأخذ أموالهم ويقتل رجالهم، وأعيا النواب بالممالمك أمره، وهدروا دمه، فتشتت شمله، وضاقت عليه تلك البلاد، حتى اضطره الحال إلى الدخول في الطاعة، وقدم بأم سالم لتشفع فيه، فقبل السلطان شفاعتها، وأنعم عليه بإقطاع، وجعله من جملة من مقدمي المماليك، وأنعم على أم سالم وردها إلى بلادها مكرمة.
وفيه استقر الأمير أحمد الطرخاني في ولاية الأشمونين، عوضاً عن الأمير شرف الدين يحيى بن قرمان.
وفي يوم الإثنين ثاني عشرينه: استقر في قضاء الحنابلة بدمشق شمس الدين محمد بن تقي الدين عبد الله بن محمد بن عبد الله المقدسي، المعروف بابن تقي المرداوي، عوضاً عن علاء الدين علي بن محمد بن علي العسقلاني.(2/286)
وفي أول ذي القعدة: وصلت تراويج القمح الجديد، فانحل السعر، حتى أبيع الأردب بستين درهماً بعد مائة وثلاثين، وأبيع الأردب الشعير بعشرين درهماً، والأردب الفول بدون العشرين درهماً، وأبيع الخبز أربعة أرطال بدرهم، ثم تناقصت الأسعار، واتفق أنه أبيع في بعض الأيام الأردب القمح بماية وعشرين درهماً، ثم أبيع في أثناء النهار بتسعين، ثم أبيع بستين، ثم أبيع من آخر النهار بثلاثين درهماً.
وفي الخميس ثالثه: أنعم على الأمير بيبغا السابقي الخاصكي بتقدمة ألف.
وفي تاسع عشره: سقط الطائر بالبشارة بفتح سيس بعث به الأمير بيدمر نائب الشام، ثم قدم من الغد البريد من النواب بذلك، فدقت البشائر بقلعة الجبل ثلاثة أيام، وحمل إلى الأمير أشَقتمُر نائب حلب تشريف جليل، وذلك أنه توجه بعساكر حلب إليها فنازلها، وحصر التكفور متملكها مدة شهرين حتى طلب الأمان، من فناء أزودتهم، وعجزهم عن العسكر، فتسلم الأمير أشَقتمُر قلعتها، وأعلن في مدينة سيس بكلمة التوحيد، ورتب بها عسكراً، وأخذ التكفور وأمراءه، من أجناد وعاد إلى حلب، وجهزهم إلى القاهرة، فبعث السلطان الأمير يعقوب شاه لنيابة سيس، وأزال الله منها دولة الأرمن عباد الصليب، وقال الأدباء في ذلك شعراً كثيراً، ذكرنا بعضه في ترجمة الأمير أشقتمر من تاريخنا الكبير المقفا.
واستقر الأمير صرغتمش الخاصكي في نظر المارستان، بعد وفاة الأمير أيدمر الدوادار.
وفيه عين قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم بن جماعة، لقضاء الحنفية بديار مصر، بعد وفاة صدر الدين محمد بن التركماني شرف الدين أحمد بن علي بن محمد بن محمد أبي العز الدمشقي، فسار البريد لإحضاره.
وقدم البريد بغلاء الأسعار بحلب، حتى أبيع المكوك القمح بمائة وخمسين درهماً، وأن الشيخ أويس بن الشيخ حسن متملك بغداد مات، واستقر في السلطنة بعده ابنه حسين بن أويس بن الشيخ حسن بن حسين بن أقبغا بن إيلكين.
واستقر في قضاء القضاة بحلب فخر الدين عثمان بن أحمد بن أحمد بن عثمان الزرعي الشافعي، عوضاً عن كمال الدين عمر بن عثمان بن هبة الله المعري، واستقر سرى الدين إسماعيل بن محمد بن محمد بن هاني الأندلسي في قضاء المالكية بحلب، عوضاً عن برهان الدين إبراهيم بن محمد بن على الصنهاجي الشاذلي، واستقر الطواشي ياقوت الشيخي زمام الدور في تقدمة المماليك، بعد وفاة الأمير سابق الدين مثقال الآنوكي، واستقر الطواشي سابق الدين مثقال الجمالي الساقي شاد الحوش زمام الدور، وخلع عليهما. واستقر الأمير منكلى بغا البلدي في نيابة طرابلس، عوضاً عن الأمير أَقتمُر عبد الغني، واستقر أقتمر عبد الغني في نيابة صفد، وخرج البريد بإحضار يعقوب شاه نايب سيس، واستقر عوضه الأمير أقبغا عبد الله.
وفي آخره: فشت الأمراض في الناس بالطاعون، وقل وجود الأموات الطرحاء، وأبيع الأردب الشعير من عشرين درهماً إلى ستة وعشرين درهماً.
وفي رابع ذي الحجة: قطع الدميري المحتسب سعر الخبز ثمانية أرطال بدرهم، وقد كان خمسة أرطال وثلث بدرهم، فامتنع الطحانون أن يشتروا القمح إلا بثمانية عشر درهماً، فأبي تجار الغلال الجلابة بيع القمح بهذا، وعادوا بمراكب الغلال من حيث أتوا، فعز وجود القمح وبلغ أربعة وثلاثين درهماً الأردب، وتعذر وجود الخبز في الأسواق عدة أيام، وأبيع أقل من ستة أرطال بدرهم.
وفي يوم الإثنين خامسه: قدم الأمير يعقوب شاه على البريد من سيس، فخلع عليه واستقر في نيابة الإسكندرية، عوضاً عن قطلوبغا الشعباني.
وفي يوم النحر: تناقص الوباء.
وفي يوم الثلاثاء ثالث عشره: قدم الشيخ شرف الدين أحمد بن منصور الحنفي من دمشق، فنزل بمدرسة السلطان حسن. ثم استدعى في يوم الخميس خامس عشره إلى القلعة، فأجلس بباب القصر، ثم أمر أن يجلس على باب خزانة الخاص بجوار القصر، فجلس حتى خرج الأمراء من الخدمة بالقصر، وفيهم الأمير طشتمر الدوادار، فسلم عليه وسار به إلى منزله، وباسطه، وأطعمه معه من غذائه. وكان عنده الشيخ سراج الدين عمر البلقيني، والشيخ ضياء الدين القرم، فتجابذوا أطراف البحث في فنون العلم. ثم أمره الأمير طشتمر أن يستمر حيث نزل إلى أن يطلبه السلطان، فمضى وقد عاق القوم أمره.(2/287)
وتحدث الأمير ناصر الدين محمد بن أقبغا آص في ولاية الجلال رسولاً بن أحمد بن يوسف التباني الرومي - مدرس الحنفية بمدرسة الأمير ألجاي - قضاء الحنفية. فاستدعاه السلطان وعرض عليه ولاية قضاء القضاة، فامتنع من قبوله، واعتذر بأن العجم ليس لها معرفة بإصطلاح أهل مصر، فقبل السلطان عذره، وصرفه مكرماً. فتحدث بعض الأمراء في ولاية مجد الدين إسماعيل بن إبراهيم، وكاد أمره يتم، ثم بطل. فتحدث بعض أهل الدولة لنجم الدين أحمد بن عماد الدين إسماعيل بن محمد بن أبي العز، المعروف بابن الكشك، في ولايته، فأجيب إلى ذلك وخرج البريد يطلبه من دمشق.
وفي يوم الاثنين تاسع عشره: قبض على الصاحب كريم الدين شاكر بن الغنام، وعلى حواشيه، وعلى مقدم الدولة الحاج سيف وشريكه عبيد البازدار، وعلى الأمير شرف الدين حمزة شاد الدواوين، وأبطل الوزارة، وأمر فأغلق شباك الوزارة بقاعة الصاحب من قلعة الجبل، فخلع على الأمير شرف الدين موسى بن الأزكشي أطلسين، واستقر مشير الدولة بإمرة طبلخاناه، ورسم له أن يحمل الدواة والمرملة كما هي عادة الوزراء، وخلع على سعد الدين بن الريشة، وعلى أمين الدين أمين، واستقرا في نظر الدولة، ورسم لهما أن يجلسا من وراء شباك الوزارة وهو مغلق. وخلع على كريم الدين صهر النشو وعلى فخر الدين بن علم الطويل، واستقرا في استيفاء الدولة.
وفي يوم الخميس ثاني عشرينه: أفرج عن المقدم سيف، ونوابه، وخلع عليه، فإنه التزم أن يستخرج للسلطان ستمائة ألف من مال السلطان، وأفرج أيضاً عن كريم الدين شاكر ابن غنام، على مال التزم به، فنزل على حمار، حتى باع أثاثه وخيوله.
وفي يوم الجمعة ثالث عشرينه: عزل قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم بن جماعة نفسه من القضاء، من أجل أنه منع بعض موقعي الحكم من التوقيع، فألح عليه بعض أهل الدولة في الإذن له، فغضب من الاعتراض عليه، وأغلق بابه، واعتزل عن الحكم هو ونوابه، فشق ذلك على السلطان، وبعث إليه بالأمير ناصر الدين محمد أقبغا آص يسأله في العودة إلى الحكم، فنزل إليه في يوم السبت، وسأله عن السلطان، وتضرع إليه وترفق، فأبي من العود إلى الولاية. ورجع الأمير إلى السلطان، فأرسل إليه بالأمير بهادر الجمالي، أمير آخور، آخر النهار، فألح في مسألته وأكثر من الترقق له، فلم يقبل منه، وصمم على الامتناع. فلما أيس منه قال له: مولانا السلطان يسلم عليك، وقد حلف إن لم تقبل عنه الولاية، ولم تركب إليه، ليركبن إليك، حتى يأتيك في هذه الليلة إلى منزلك، حتى تقبل عنه ولاية القضاء، وحلف له الأمير بهادر بالطلاق، أنه سمع السلطان، وهو يحلف بالطلاق على هذا. فلم يجد القاضي عند ذلك بداً من أن قال: أنا أجتمع بالسلطان، ثم ركب بثياب جلوسه، وصعد إلى القلعة، فعرض عليه السلطان العود إلى ولاية القضاء، ولاطفه. فأجاب بعد جهد: إني أستخير الله تعالى هذه الليلة، ثم يكون ما يقدره الله. فرضي منه السلطان بذلك، وقام عنه وأجل الأمراء من يسعد بتقبيل يده، حتى أتى منزله. وركب من الغد يوم الأحد خامس عشرينه إلى القلعة، واشترط على السلطان شروطاً كثيرة، التزم له بها حتى قبل الولاية. ولبس التشريف الصوف، ونزل عليه من المهابة ما يكان بشق الصدور، فكان يوماً مشهوداً. وفي هذا الشهر: استقر جلال الدين جار الله في تدريس الحنفية بالجامع الطولوني، بعد وفاة ابن التركماني. واستقر الأمير قارا بن مهنا، في إمرة العرب، بعد موت أخيه حيار بن مهنا.
وفي يوم الثلاثاء سابع عشرينه: ركب السلطان إلى عيادة الأمير منجك في مرضه، فقدم له عشرة مماليك، وعشرة بقج قماش، وعدة من الخيل، فقبل ذلك، ثم أنعم به عليه، ولم يرزأه منه شيئاً، وقد فرش له عدة شقاق من حرير مشى عليها بفرسه في داره، ثم عاد إلى القلعة.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر من الأعيان
خلائق لا يحصيها إلا خالقها، فمن الأعيان: الأمير أسنبغا القوصوني اللالا أحد الطبلخاناه، وهو مجرد بالإسكندرية، في ثالث عشر المحرم.
ومات الأمير أسنبغا البهاوري شاد العماير، ونقيب الجيش، في آخر شهر رجب.
ومات شهاب الدين أحمد، عرف بطبيق، ابن الفقيه بدر الدين حسن، أحد فقهاء الحنفية، في رابع ذي القعدة.
ومات شهاب الدين أحمد بن السقا أحد فضلاء الميقاتية، في تاسع عشر شوال.(2/288)
ومات شهاب الدين أحمد بن براغيث، في خامس عشرين شوال.
ومات قاضي الحنفية بدمشق، شرف الدين أحمد بن شهاب الدين حسين بن سليمان بن فزارة الكفري، بعد أن كف بصره، عن خمس وثمانين سنة.
ومات قاضي الشافعية بحلب وطرابلس، شهاب الدين أحمد بن عبد اللطيف بن أيوب الحموي، عن بضع وسبعين سنة، بحماة.
ومات الإمام النحوي شهاب الدين أحمد بن محمد بن محمد بن محمد بن علي العنابي الدمشقي، عن بضع وستين سنة بدمشق. أخذ النحو بالقاهرة عن أبي حيان، وشرح كتاب سيبويه.
ومات الأديب البارع شهاب الدين أحمد بن يحيى بن أبي بكر بن عبد الواحد، المعروف بابن أبي حجلة التلمساني الحنفي، شيخ صهريج منجك، في يوم الخميس أول ذي الحجة بالقاهرة، عن إحدى وخمسين سنة.
ومات الإمام المحدث شهاب الدين أحمد بن الزيلعي شيخ الإقراء بخانكاه شيخو، في يوم الأربعاء سابع ذي الحجة.
ومات الأمير ألطنبغا النظامي الجوكندار.
ومات سلطان بغداد وتوريز القان أويس ابن الشيخ حسن بن حسين بن أقبغا بن أيلكان، عن نيف وثلاثين سنة، منها في السلطنة تسع عشرة سنة، وكان قد اعتزل قبل موته، وأقام عوضه في المملكة ابنه الشيخ حسين لمنام رأه نعيت إليه نفسه، وعين له يوم موته، فتخلى عن الملك، وأقبل يتعبد، فمات كما ذكر له في نومه.
ومات الأمير أيدمر الدوادار الآنوكي الناصري، أتابك العساكر، في يوم الأربعاء سادس عشر ذي القعدة، وكان مهاباً، سيوساً، حازماً، يبدأ الناس بالسلام، ويتبع الأحكام الشرعية.
وتوفي شيخ خانكاه سعيد السعداء بدر الدين حسين بن قاضي دمشق، علاء الدين علي بن إسماعيل بن يوسف القونوي الشافعي، في يوم السبت، سادس عشر شعبان، وهو ينوب في الحكم عن قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم بن جماعة، ويدرس في المدرسة الشريفية ومات الأمير حيار بن مهنا بن عيسى. بن مهنا بن مانع بن حديثة بن غضية بن فضل بن ربيعة، أمير آل فضل بنواحي سَلَمية، عن بضع وستين سنة.
ومات الأمير سلطان شاه بن قرا الحاجب من أَمراء الطبلخاناه.
وتوفي الشيخ جمال الدين عبد اللّه بن محمد بن أحمد الحسيني النيسابوري الشافعي، وهو من أبناء التسعين بحلب، بعد ما أقام بالقاهرة زماناً، وبرع في العربية والأصول.
وتوفي قاضي القضاة الحنابلة بدمشق علاء الدين على بن محمد بن علي بن عبد اللّه ابن أبي الفتح العسقلاني المصري، أحد أعلام الحنابلة، في ثامن عشر شوال بدمشق.
ومات قاضي حلب، علاء الدين علي بن الفخر عثمان بن أحمد بن عمرو بن محمد الزرعي الشافعي، عن خمس وثمانين سنة بدمشق، وقد باشر بها وكالة بيت المال وكتابة الإنشاء.
ومات الأمير قرقماس الصَرْغَتْمُشي، أحد العشرات.
ومات الأمير كَبَكَ الصَرْغَتْمُشي، أحد أمراء الطبلخاناه.
وتوفي قاضي العسكر مفتي دار العدل، أحد الفقهاء الحنفية، وشيخ العربية والأدب، شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن علي بن الصايغ الحنفي، في يوم الثلاثاء ثاني عشر شعبان.
وتوفي قاضي القضاة صدر الدين محمد بن قاضي القضاة جمال الدين عبد اللّه بن قاضي القضاة علاء الدين على بن فخر الدين عثمان بن إبراهيم بن مصطفى المارديني، المعروف بابن التركماني الحنفي، في ليلة الجمعة رابع ذي القعدة، عن نحو أربعين سنة، بمنزله من ناحية كوم الريش، خارج القاهرة، وقد أقام في قضاء الحنفية ثلاث سنين وأشهر، وأوصى أن يكتب على قبره من شعره.
إن الفقير الذي أضحى بحفرته ... نزيل رب كثير العفو ستار
يوصيك بالأهل والأولاد تحفظهم ... فهم عيال على معروفك الساري
وتوفي مفتي الشام جمال الدين محمد بن الحسن بن محمد بن عمار، المعروف بابن قاضي الزبداني الحارثي الدمشقي، عن سبع وثمانين سنة.
وتوفي أمين الدين محمد بن قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم بن علي بن أحمد بن علي بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الحق الحنفي، بدمشق، عن بضع وستين سنة.
وتوفي المحدث شمس الدين محمد بن الأنصاري المعروف بابن العلاف، عن نحو مائة سنة.
وتوفي رئيس التجار ناصر الدين محمد بن مسلم في يوم الجمعة ثاني عشر شوال، وإليه ينسب المدرسة المسلمية بمصر.
ومات الأمير منجك اليوسفي نائب السلطنة، في يوم الخميس تاسع عشرين ذي الحجة، ودفن من الغد بخانكاته تحت القلعة.(2/289)
وتوفي الوزير الصاحب ناظر الخاص فخر الدين ماجد، ويدعى عبد الله، بن تاج الدين موسى بن علم الدين أبي شاكر بن سعيد الدولة، في يوم الجمعة عاشر ذي القعدة، وأبوه حي.
ومات الأمير موسى بن أيدمر الخطيري، أحد أمراء العشرات.
ومات الأمير الطواشي سابق الدين مثقال الآنوكي مقدم المماليك، وأحد أمراء الطبلخاناه، في يوم الجمعة سابع عشر ذي القعدة، وإليه تنسب المدرسة السابقية بالقاهرة.
وتوفي المسند زين الدين عبد الرحمن بن علي بن محمد بن هارون، بن محمد بن هارون، المعروف بابن القارئ التغلبي، في نصف ذي القعدة، حدث بصحيح عن الشهاب أحمد بن إسحاق بن المؤيد الأبرقوهي، وهو آخر من حدث عنه، وله مشيخة، حدث بها أيضاً.
وتوفي أحد فقهاء المالكية ناصر الدين محمد الهاروني أبو جابر بمصر، في يوم الأربعاء سادس شعبان.
وتوفي كمال الدين أبو البركات السبكي الشافعي مدرس الحديث بالشيخونية، ومفتي دار العدل، في يوم الإثنين ثاني عشرين شوال.
وتوفي شيخ كتاب المنسوب عز الدين أيبك بن عبد الله التركي، عتيق طرغاي الجاشنكير الناصري في يوم الأحد بالقاهرة، وكتب على الفخر السنباطي، وجاد، وتصدر للكتابة بالجامع الأزهر دهراً، فكتب الناس عليه وانتفع به جماعة، وكان خيراً ديناً.
ومات الأمير يلبغا الناصري، أحد مقدمي الألوف، في ليلة الجمعة آخر ذي الحجة. ومات الشيخ مجد الدين محمد بن الشيخ مجد الدين أبي بكر بن إسماعيل بن عبد العزيز الزنكلوني الشافعي، في سابع شوال.
ومات ناصر الدين محمد بن محمد بن محمد بن الكتناني، أحد فضلاء الميقاتية، في يوم الثلاثاء خامس عشرين رمضان.
ومات شرف الدين محمد بن الشيخ ناصر الدين أبي جابر المالكي، أحد نواب المالكية بمصر، في سادس عشر شوال.
ومات شمس الدين محمد بن ثعلب المالكي، مدرس المدرسة القمحية بمصر، في تاسع شوال.
ومات شرف الدين حسن بن صدر الدين بن قاضي القضاة تقي الدين أحمد المقدسي الحنبلي، أحد كتاب الإنشاء ومدرس الحنابلة بالجامع الحاكمي، في يوم الأربعاء سادس عشر ذي القعدة.
ومات الأمير بيبغا العلاى الدوادار، وهو منفي بطرابلس.
وتوفي صلاح الدين يوسف بن محمد، عرف بابن المغربي، رئيس الأطباء، في يوم الأربعاء ثامن عشر جمادى الآخرة، عن سن عال، وإليه ينسب جامع ابن المغربي، بشاطىء الخليج الناصري بجانب بركة قرموط.
سنة سبع وسبعين وسبعمائة
في ثالث المحرم: خلع على نجم الدين بن الشهيد موقع الدَست، واستقر كاتب السر بسيس.
وفي يوم الأحد تاسعه: ختن السلطان ولديه أمير علي وأمير حاجي، وعملت الأفراح مدة سبعة أيام ليلاً ونهاراً.
وفي يوم الثلاثاء ثامن عشره: قدم قاضي الحنفية بدمشق نجم الدين أبو العباس أحمد، ابن قاضي دمشق عماد الدين إسماعيل بن محمد بن أبي العز بن صالح بن أبي العز وهيب بن عطا بن جبير بن وهيب الأذرعي الدمشقي، المعروف بابن أبي العز، ودخل على الأمير طشتمر الدوادار، والأمير ناصر الدين محمد بن آقبغا آص، ومحب الدين محمد، ناظر الجيش، وقاضي القضاة برهان الدين إبراهيم بن جماعة، ونزل بصهريج منجك تحت القلعة، وأقبل الأعيان للسلام عليه.
وفيه قدم قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم الأخناي المالكي من الحج وسلم على السلطان، فخلع عليه وأكرمه.
وفي آخره: استدعى نجم الدين بن أبي العز إلى القلعة، وفوض إليه السلطان قضاء القضاة الحنفية بديار مصر، وخلع عليه، وقرر عوضه في قضاء الحنفية بدمشق ابن عمه صدر الدين علي بن علي بن محمد بن محمد بن أبي العز صالح بن أبي العز، فنزل قاضي القضاة نجم الدين في موكب جليل إلى المدرسة الصالحية بين القصرين على العادة.
وفي رابع عشرينه: أنعم على الأمير طيْبغُا الجمالي الصفوي بإمرة طبلخاناه، وخلع على شرف الدين بن منصور، واستقر في قضاء العسكر، عوضاً عن ابن الصايغ.
وفيه قدم النشو الملكي الوزير من الشام باستدعاء، ولزم بيته، وأنعم على الأمير سراي تمر الخاصكي بتقدمة ألف.
وفي نصف صفر: ابتدأ السلطان بعمارة مدرسة بالصوة تجاه الطبلخاناه من قلعة الجبل، وشرع في هدم بيت الأمير سُنقر الجمالي، ليضيفه إليها.(2/290)
وفي هذا الشهر: وجد في قصر الحجازية من القاهرة - حيث كان باب الزمرد أحد أبواب القصر الفاطمي - تجاه رحبة باب العيد، عمودان عظيمان إلى الغاية تحت ردم، فرسم بسحبهما إلى عمارة السلطان، فأعيا العتالون أمرهما وعجزوا عن شحطهما لكبرهما، فانتدب ابن عايد رايس الخلافة، وإليه أمر الحراقة السلطانية لذلك، وعمل حركات هندسية، فانجرا مع تلك الحركات بطول شارع القاهرة إلى تحت القلعة حيث العمارة، في عدة أيام، كان للعامة فيها اجتماعات بطبولهم وزمورهم، وقالوا من نزهاتهم في جر العامود غناء تداولته ألسنتهم عدة سنين، واقترحوا بالإسكندرية قماشاً سموه جر العامود، للبس النساء، من الحرير. فلما وصل العمودان إلى العمارة انكسر أكبرهما نصفين.
وفي خامس شهر ربيع الأول: خلع على الأمير تمرباي التمرتاشي، واستقر في نيابة الكرك، عوضاً عن طَيدَمُر البالسي.
وفي سادسه: قبض على الأمير تمرباي أمير مجلس، والأمير كزَل وسجنا.
وفي يوم الإثنين ثامن عشرينه: خلع على الصاحب تاج الدين النشو المالكي وأَعيد إلى الوزارة بعد إبطالها، وخلع على أمين الدين أمين، واستقر في نظر الدولة بمفرده، وعزل الأمير شرف الدين موسى بن الأزكشي من الإشارة.
وفي يوم الإثنين سادس عشرين شهر وبيع الاخر: خلع على الأمير أقتمر الصاحبي الحنبلي، واستقر نائب السلطان، عوضاً عن الأمير سيف الدين منجك بحكم وفاته، فخرج وجلس بدار النيابة من قلعة الجبل على العادة، وأمضى الأمور وحكم بين المتخاصمين.
وفيه استقر ولي الدين أبو محمد عبد اللّه بن أبي البقاء في قضاء القضاة بدمشق بعد موت أبيه، وحمل إليه التقليد والخلعة على البريد.
وفي هذا الشهر: ارتفع سعر اللحم، فأبيع الرطل من لحم الضأن بدرهم ونصف، والرطل من لحم البقر بدرهم وثمن.
وفي سابع عشر شهر جمادى الأولى: قدم الأمير قطلوبغا المنصوري من الشام، باستدعاء.
وفي يوم الخميس خامس جمادى الآخرة: خرج قاضي القضاة نجم الدين أحمد بن أبي العز من القاهرة عائداً إلى دمشق، من غير أن يعلم به أحد، شبه الفأر، وذلك أنه لم تعجبه القاهرة ولا أهلها، فكان إذا دخل عليه أحد وجلس، قال نقيب الحكم بسم الله يشير إليه أن قم فينفض من في مجلسه، وأكثر من التضجر والقلق، ومازال يسأل في الإعفاء، وأن يستقر ابن عمه صدر الدين عوضاً عنه، حتى أجيب، فاغتنم ذلك وسافر.
وفي نصفه: قبض على الصاحب كريم الدين شاكر بن غنام، وأدخل قاعة الصاحب على مال يحمله، ثم أفرج عنه بعد ثلاثة أيام، فاختفى، ولم يقدر عليه، فأوقع الملكي الحوطة على داره، وقبض على أتباعه ومعارفه، وصادرهم، ونودي عليه بالقاهرة ومصر، وهدد من أخفاه، وجاء المالكي ليهدم داره، بالقرب من الجامع الأزهر فلم يتهيأ له ذلك، فإنه وجد بها محراباً، فصارت مدرسة إلى اليوم.
وفي يوم الأربعاء رابع شهر رجب: قدم صدر الدين علي بن علي بن محمد بن محمد أبي العز الحنفي من دمشق باستدعاء، فخلع عليه من الغد يوم الخميس خامسه، واستقر في قضاء الحنفية بدمشق.
وفي يوم الخميس ثاني عشرينه: خلع على بدر الدين عبد الوهاب بن كمال الدين أحمد بن قاضي القضاة علم الدين محمد بن أبي بكر الأخناي، واستقر في قضاء القضاة المالكية بالقاهرة، بعد وفاة البرهان إبراهيم الأخناي، وخلع على الأمير قطلوبغا المنصوري، واستقر حاجب الحجاب، وسافر ركب الحجاج الرجبية على العادة.
وفي أول شعبان: قدم الأمير آشقتمر نائب حلب بهدية جليلة، قدمها للسلطان، فقبلها.
وخلع على ابن عرام، وأعيد إلى نيابة الإسكندرية، عوضاً عن جركتَمُر المنجكي بعد وفاته، وعلى الطواشي مختار شاذروان الدمنهوري، واستقر مقدم المماليك بعد وفاة افتخار الدين ياقوت الشيخي، وعلى الطواشي ظهير الدين مختار الحسامي مقدم القصر، واستقر مقدم الأسياد ولدى السلطان بإمرة عشرة، عوضاً عن مختار شاذروان.
وقدمت رسل صاحب إصطنبول بهدية فيها صهرج محمل بحركات هندسية، فإذا مضت ساعة من الليل والنهار خرجت ثماثيل بنى آدم، وضربت بصنوج في أيديها، وأنواع من آلات الملاهي معها، وإذا مضت درجة سقطت بندقة.(2/291)
وفي خامس عشره: سافر الأمير أشقتمر على نيابة حلب بعد ما خلع عليه، وقدم صاحب سنجار بعد ما سلمها لنواب السلطان، فخلع عليه وأكرم، وخرج الأمير أرغون العثماني لإحضار الأمير بيدمر نائب الشام.
وفي خامس عشرينه خلع على الأمير ناصر الدين محمد بن علي بن الطواشي، واستقر في توقيع الدست، عوضاً عن ناصر الدين محمد بن القرشي بعد وفاته، وخلع على علم الدين يحيى كاتب الأمير شرف الدين موسى بن الديناري بعد ما أسلم، واستقر في نظر الخزانة الكبرى، عوضاً عن القرشي، وخلع على شمس الدين محمد الدميري المحتسب، واستقر في نظر الأحباس، عوضاً عن القاضي القرشي.
وفي تاسع عشرينه: خلع على الأمير طيبغا الصفوي، وأستقر لالا إخوة السلطان، وعلى الأمير ناصر الدين محمد بن قرطاي الكركي، واستقر في ولاية قوص، عوضاً عن ركن الدين عمر بن المعين.
وفي تاسع شهر رمضان: خلع على شرف الدين أحمد بن علي، ابن منصور، واستقر في قضاء القضاة الحنفية، عوضاً عن صدر الدين علي بن أبي العز، وسافر ابن أبي العز إلى دمشق، وخلع على مجد الدين إسماعيل بن إبراهيم التركماني الحنفي، واستقر في قضاء العسكر، عوضاً عن شرف الدين أحمد بن منصور.
وفي تاسع عشرينه: قدم الأمير بيدمر نائب الشام، ومعه هدية للسلطان لم يعهد مثلها للنائب قبله، منها مائتان وخمسون فرساً، وأهدى لجميع الأمراء والأعيان عدة هدايا، ونزل بالميدان الكبير على النيل، حتى سافر في ثالث عشر شوال بعد ما خلع عليه.
وفي ليلة السبت ثالث عشرينه: طلق السلطان نساءه الثلاث، وهن خوند صاحبة القاعة ابنة عمه السلطان حسن، وابنة الأمير تنكزبغا، وابنة الأمير طغاى تمر النظامي.
وقدم ابن عرام نائب الإسكندرية باستدعاء، وقدم طيدمر البالسي من القدس باستدعاء، وظهر الصاحب كريم الدين شاكر بن غنام من اختفائه، فخلع عليه، واستقر في نظر البيوت.
وفي يوم الأحد ثاني عشرين ذي القعدة: عزل الملكي من الوزارة، وخلع من الغد يوم الإثنين ثالث عشرينه على أمين الدين أمين، واستقر في نظر الدولة، بغير وزير، فانفرد الصاحب شمس الدين أبو الفرج المقسي ناظر الخاص بالتدبير، وخلع عليه، واستقر مشير الدولة، وخلع على أمين الدين جعيص، واستقر مستوفي الدولة.
وقدم البريد بغلاء الأسعار بدمشق، وأن الغرارة القمح بلغت نحو خمسمائة درهم، وأبيع الخبز بحلب كل رطل حلبي بستة دراهم، والمكوك القمح بثلاثمائة درهم ونيف، وأكلت الميتات والكلاب والقطاط، ومات خلق كثير من المساكين، وانكشف عدة من الأغنياء، وعم الغلاء ببلاد الشام كلها، حتى أكلت القطاط وبيعت الأولاد بحلب وأعمالها.
وفيه استناب قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم بن جماعة، صهره سرى الدين محمد ابن قاضي المالكية جمال الدين محمد بن عبد الرحيم بن علي المسلاتي في الحكم بالقاهرة، بعد ما انتقل عن مذهب مالك إلى مذهب الشافعي، واستقر البرهان أبو سالم إيراهيم بن محمد بن علي الصنهاجي، في قضاء المالكية بحلب، عوضاً عن ناصر الدين أبي عبد اللّه محمد بن سرى الدين أبي الوليد إسماعيل بن محمد بن محمد بن هاني الأندلسي، واستقر بدر الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن مزهر في كتابة السر بدمشق، عوضاً عن شهاب الدين أحمد بن فضل الله بعد وفاته.
وكان أمير الحاج في هذه السنة الأمير بوري الخاصكي، فخرج على الحاج بطريق المدينة النبوية قطاع الطريق، وقتلوا منهم طائفة.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر من الأعيان
قاضي القضاة برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن علم الدين محمد بن أبي بكر بن عيسى بن بدران السعدي الهذباني الأخناي المالكي، في ليلة الثلاثاء ثاني شهر رجب، وكانت مدة ولايته قضاء خمس عشرة سنة.
وتوفي ناظر بيت المال برهان الدين إبراهيم بن بهاء الدين الحلى، في يوم الأربعاء خامس المحرم.
وتوفي الفقير المجذوب المعتمد أحمد بن عبد الله، ويسمى مسعود، بخط المريس فيما بين القاهرة ومصر، يوم الخميس تاسع شهر رمضان، كان أسود اللون، ويؤثر عنه كرامات، وربما غاب عقله مدة ثم حضر.
وتوفي كاتب السر بدمشق شهاب الدين أبو العباس أحمد بن علاء الدين على بن محيى الدين يحيى بن فضل الله العمري، وقد أناف على الثلاثين.
ومات الأمير أرغون المحمدي الآنوكي، أحد الطبلخاناه.(2/292)
ومات الأمير سيف الدين أسنبغا بن بكتمر البوبكري، أحد أمراء الألوف، في يوم الأربعاء خامس المحرم، وإليه تنسب المدرسة البوبكرية بالقاهرة.
ومات الأمير جركتمر المنجكي أمير مجلس، وقد ولي قلعة المسلمين حتى مات بها.
ومات الأمير طقبغا العمري، أحد الطبلخاناه.
وتوفي الشيخ عبد اللّه بن محمد بن أبي بكر بن خليل بن إبراهيم بن يحيى بن أبي عبد اللّه يحيى بن إبراهيم بن سعيد بن طلحة بن موسى بن إسحاق، بن عبد اللّه بن محمد بن عبد الرحمن بن أبان بن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، في يوم الأحد ثالث جمادى الأولى، بخلوته من سطح جامع الحاكم، وكانت له جنازة عظيمة جداً، ومولده سنة أربع وتسعين وستمائة. كان فقيهاً شافعياً صاحب فنون، قدم من مكة سنة إحدى وعشرين وسبعمائة إلى القاهرة، وأخذ الفقه عن التقي السبكي والعلاء القونوي، والنحو عن أبي حيان، والأصفهاني، وعاد إلى مكة بعد سبع سنين، ثم قدم منها بعد سنتين إلى البلاد الشامية، سمع من جماعة كالبرهان بن سباع، وابن عبد الدايم، ثم استوطن القاهرة، ودرس الحديث بالمدرسة المنصورية، وباشر عدة وظائف تنزه عنها، وانقطع للعبادة بسطح الجامع الحاكمي حتى مات، وليس له نظير في حفظه ودينه. وتوفي كمال الدين أبو حفص عمر بن التقي إبراهيم بن عبد الله بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن الحسن بن العجمي الحلبي، الفقيه الشافعي المحدث بحلب، وقدم إلى القاهرة.
وتوفي زين الدين عمر بن أحمد بن إبراهيم بن عبد الله بن عبد المنعم بن أمين الدولة، الحنبلي الحلبي، عن بضع وستين سنة، بحلب، وقدم إلى القاهرة.
ومات الشريف عجلان بن رميثة بن أبي نمى محمد بن أبي سعد علي بن الحسن بن قتادة ابن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن موسى بن عيسى بن سليمان بن عبد الله بن موسى الجور بن عبد الله الكامل بن الحسن المثنى بن الإمام الحسن بن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، عليهم السلام، بعد ما وفي إمارة مكة شريكاً لأخيه ثقبة، ثم انفرد بالإمارة بعد موت أخيه، حتى رغب عنها لولده أحمد بن عجلان، واعتزل حتى مات في ليلة الإثنين حادي عشر جمادى الأولى.
وتوفي قاضي القضاة بهاء الدين أبو البقاء محمد بن سديد الدين أبي محمد عبد البر ابن القاضي صدر الدين أبي زكريا يحيى بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام ابن حامد بن يحيى بن عمر بن عثمان الأنصاري السبكي الشافعي، في يوم الخميس ثاني عشرين شهر ربيع الآخر بدمشق، ومولده سنة سبع وسبعمائة.
وتوفي شمس الدين أبو عبد الله محمد بن شهاب الدين أحمد بن عبد الرحمن بن خطيب بيروت الدمشقي الشافعي، في شوال بدمشق، ومولده سنة إحدى وسبعمائة، قدم القاهرة وسكنها مدة، ودرس بالشافعي، وولي قضاء المدينة النبوية.
وتوفي كمال الدين محمد بن زين الدين أبي القاسم عمر بن الحسن بن عمر بن حبيب الحلبي بالقاهرة، عن أربع وسبعين سنة، وهو أخو شيخنا زين الدين طاهر.
وتوفي تقي الدين محمد بن كمال الدين الشهاب محمود، أحد موقعي الدست بالقاهرة عن أربع وسبعين سنة.
وتوفي الشيخ محمد بن شرف عادي - بعين مهملة - الكلائي الشافعي الفرضي النحوي المقرىء، في يوم الثلاثاء تاسع شهر رجب، بالمدرسة القطبية من القاهرة، ودرس الفرائض زماناً، وصنف فيها، ومَهُر به جماعة.
ومات الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير قيران الحسامي، أحد الطبلخاناه.
وتوفي صلاح الدين محمد بن صوره، مدرس المعزية، بمدينة مصر، وأحد نواب الحكم الشافعية، في ليلة الثلاثاء سابع عشرين ربيع الآخر.
وتوفي قاضي الإسكندرية كمال الدين التنسي المالكي، أحد فقهاء المالكية، في يوم الإثنين عاشر المحرم بالقاهرة.
وتوفي ناصر الدين محمد بن القرشي موقع الدست، وناظر الأحباس، وناظر الخزانة الكبرى، في يوم الإثنين حادي عشرين شعبان.
وتوفي التاجر ناصر الدين محمد بن سلام الإسكندري بها، في يوم الثلاثاء سادس عشر شهر رجب.
وتوفي الشريف نجم الدين حمزة بن علي بن محمد بن أبي بكر بن عمر، أحد نواب المالكية، وهو عائد من الحج بمنزلة رابع في ذي الحجة.(2/293)
وتوفي موقع الحكم علم الدين صالح بن أحمد بن عبد الله الإسنوي في ليلة الثلاثاء ثالث عشر جمادى الأولى، وقد انتهت إليه رياسة جليلة، ورزق حظاً وافراً من الأمراء وغيرهم بغير علم، وفيه قيل وقد ولى إعادة.
ومعيد لو كتبت له حروفاً ... وقلت أعد علي تلك الحروف
لقصر في إعادته عليها ... فكيف يعيد في العلم الشريف
وتوفي تاج الدين أبو غالب الكلبشاوي الأسلمي ناظر الذخيرة، في نصف شوال، وإليه تنسب المدرسة المعروفة بمدرسة أبي غالب تجاه باب الخوخة من ظاهر القاهرة، وكان مشكوراً في مسالمة الكتاب.
وتوفي الأمير خليل بن الأمير أرغون الكاملي، في ثاني عشرين رجب.
وتوفي شيخ الكتاب المجودين بالقاهرة، شهاب الدين غازي بن قطلوبغا التركي، في يوم الثلاثاء تاسع رجب، وقد تصدى لتعليم الناس كتابه المنسوب دهراً طويلاً، وتخرج به جماعة، وكتب على محتسب مصر شمس الدين محمد بن أبي رقيبة، وكتب ابن أبي رقيبة على ابن العفيف.
وتوفي شمس الدين محمد بن سالم بن عبد الرحمن الجبلي الدمشقي الحنبلي الأعمى، والد شيخنا صلاح الدين محمد بن الأعمى، في يوم السبت سادس عشرين شعبان، وقد درس الفقه بمدرسة حسن وغيرها.
وتوفي نور الدين علي بن محمد بن محمد بن علي بن أحمد بن أحمد الكناني العسقلاني، الشهير بابن حجر. والد أخينا في الله الحافظ شهاب الدين أبي الفضل قاضي القضاة أحمد بن حجر الشافعي،في يوم الأربعاء عاشر شهر رجب، وكان تاجراً بمدينة مصر، تفقه للشافعي وحفظ كتاب الحاوي، وأخذ الفقه عن البهاء محمد بن عقيل، وقال الشعر، وكثر فضله وأفضاله، ومن شعره يشير إلى صناعة أبيه فإنه كان يبيع البز بالإسكندرية.
إسكندرية كم ذا ... يسمو قماشك عزا
فطمت نفسي عنها ... فلست أطلب بزا
وتوفي الطواشي افتخار الدين ياقوت الشيخي مقدم المماليك.
وتوفيت خوند ابنة الأمير منكلى بغا الشمسي، زوجة السلطان.
//سنة ثمان وسبعين و سبعمائة في أول المحرم: وقف صوفية خانكاة سعيد السعداء إلى السلطان وشكوا من شيخهم جلال الدين جار الله، فرسم بعزله، وعين لمشيختها علاء الدين السراني وكان بالحجاز.
وفيه طلب قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم بن جماعة دوادار الأمير آقتمر الحنبلي نائب السلطان، وأنكر عليه، ونهره في مجلس حكمه، ووضع من أستاذه بسبب ما يجري من أحكامه بين الناس، فإنه بلغه عنه أنه ضرب رب دين بحضرة مديونه، فترقق له وتلطف به في المداراة حتى خلص من مجلسه، وقد ملىء قلبه منه خوفًا.وفيه أخرج الوزير المالكي إلى الكرك منفيا، وخرجت النجب في أول صفر إلى مكة إحضار الصاحب كريم الدين شاكر بن غنام، وكان قد جاور بها.
وفي ثامن عشرينه: خلع على الشريف بكتمر، واستقر في كشف الوجه البحري عوضاً عن الأمير علي خان، وخلع على الأمير بكتمر السيفي، واستقر في ولاية القاهرة، عوضاً عن حسين بن الكوراني، وأنعم على الأمير أروس النظامي، بإمرة في حلب.
وفي يوم الخميس ثامن عشر ربيع الأول: أعيد الأمير حسين بن الكوراني إلى ولاية القاهرة بعد وفاة الأمير بكتمر.
وفي أوائل هذا الشهر: انقطع مقطع من الخليج قريبا من قناطر الأوز؛ سببه أن شهاب الدين بن أحمد بن قايماز - أستادار ابن آقبغا آص الأستادار - عمر بركة بجوار الخليج من شرقيه؛ ليجتمع فيها السمك، وفتح لها من جانب الخليج كوة يدخل منها الماء، فقوي الماء واتسع الخرق حتى فاض الماء وأغرق ما في تلك الجهة من الدور في يوم الجمعة تاسعه، فخربت عدة حارات كان فيها ما ينيف على ألف دار، وصارت ساحة، وتعب الأمير حسين بن الكوراني تعباً كبيراً حتى سد المقطع خشية أن تغرق الحسينية بأسرها، وأنفق فيها زيادة على ثلاثة آلاف درهم في ثمن أخشاب ونحوها واستمرت تلك الديار خرابا إلى يومنا، وعمل موضع بعضها بساتين، وموضع بعض برك ماء.
وفي يوم الجمعة ثاني عشره: قدم الصاحب كريم الدين شاكر بن غنام من الحجاز.
وفي أخريات هذا الشهر: استجد السلطان عدة خاصكية من مماليكه، وأسكنهم في بيت الأمير أنوك بجوار باب الدار من القلعة، وقدم عليهم الطواشي شرف الدين مختص الأشرفي، وأمره أن يوقفهم بين يديه، ولا يدع أحدا منهم يجلس، فصاروا مضافيه ، منهم الأمير بشتاك عبد الكريم الخاصكي.(2/294)
وفي مستهل شهر جمادى الأولى: رسم بإبطال ضمان المغاني، والأفراح بجميع أعمال مصر من أسوان إلى العريش، وكان قد أعاده وزراء السوء لكثرة ما يتحصل منه، فإن العرس ما كان يتهيأ حتى يغرم أهله للضامنة خمسمائة درهم فما فوقها، بحسب حال أهل العرس، ولا تقدر امرأة وإن جلت تنتقش إلا بإطلاق من الضامنة، ولا يضرب بدف في عرس أو ختان أو نحو ذلك إلا بإطلاق، وعلى كل إطلاق فريضة مال مقررة في الديوان، وكان على كل مغنية قطيعة تحملها إلى الضامنة، فإن باتت في غير بيتها قامت. بمال للضامنة، وتدور في كل ليلة على بيوت المغاني جماعة من جهة الضامنة لمعرفة من باتت منهن خارج بيتها، وكان على البغايا ضرائب مقررة ؛وأما في بلاد الصعيد والوجه البحري فإنه يفرد حارات للمغاني والبغايا تقوم كل واحدة منهن .بمال مقرر،فيكون هناك من التجاهر بالزنا وشرب الخمر ما يشنع ذكره، حتى لو مر غريب بتلك المواضع من غير أن يقصد الزنا لألزم بأن يأتي بغيا من تلك البغايا، ويكره على ذلك، أو يفتدى.بمال يدفعه إليها،حتى تقوم به مما عليها من الضريبة.
وأبطل السلطان أيضاً ما أعاده الوزراء من ضمان القراريط بأعمال مصر كلها، فكأن كل أحد من الناس - ولو جل - لا يقدر أن يشترى دارا حتى يؤخذ منه عن كل ألف درهم من ثمنها عشرون درهما، فماذا أدى ما عليه من ذلك طبع له على رق طبع أحمر شبه دائرة، وعلم حولها مباشر هذا الديوان علاماتهم، فيشهد بعد ذلك العدول في هذا الرق بقضية التتابع، ومتى لم يكن هذا في الرق لا يقدر العدول، وإن جلوا عن كتابة المبايعة، خوفا من أن ينكل النكال بهم العظيم.
وفي هذا الشهر: كان تحويل مغل سنة سبع وتسعين لديوان السنين.وفيه كان الوفاء في خامس عشر مسرى، وبلغت زيادة النيل ثمانية أصابع من عشرين ذراعا، وثبت حتى خيف فوات الزرع، ثم هبط.وعزم الأمير ناصر الدين محمد بن آقبغا آص على إعادة ضمان المغاني، فغضب من ذلك قاضى القضاة برهان الدين إبراهيم بن جماعة، وامتنع من الحكم، وحضور دار العدل، فاستدعاه السلطان وسأله عن امتناعه من الحكم، فقال: " بلغني أن ضمان المغاني أعيد وهذا يوجب الفسق " . فحلف له السلطان أنه ما أمر بإعادته، ولاعنده منه علم، وبعث إلى ابن آقبغا آص يعلمه بذلك، فاعتذر بعذر غير طائل، فرسم بإبطاله، وكتب بذلك تواقيع قرئت على الناس وسيرت إلى النواحي، فبطل ذلك ولم يعد، و لله الحمد، وتنكر السلطان على ابن آقبغا آص، وكان ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.وفيه خرج البريد بطلب الأمير آقتمر عبد الغنى نايب صفد، فلما قدم أنعم عليه بتقدمة ألف، وأنعم على الأمير حاجي بن الأمير أيدغمش بإمرة بحلب، وأخرج إليها.
وفي أول جمادى الآخرة: خلع على الأمير ملكتمر من بركة، واستقر في نيابة الكرك، عوضا عن تمرباي الدمرداشي، ونقل تمرباي إلى نيابة صفد، عوضا عن آقتمر عبد الغنى، فدخل صفد في يوم الإثنين خامسه.
وفي يوم الإثنين ثاني عشره: قبض على الأمير ناصر الدين محمد بن آقبغا آص الاستادار، وأحيط. بموجوده. بمصر والشام، وأمر بنفيه وولده إلى طرسوس، فلم يزل الأمراء بالسلطان حتى رسم أن يستقر بالقدس بطالا فسار إليها من يومه، ولحق به ابنه من الغد، هذا مع شدة تمكنه من السلطان،وكثرة اختصاصه به،حتى أنه كان يقول ولده في الملأ إذا دعاه " سيدي محمد " .وفيه خلع على الوزير المالكي، بعدما أحضر، وأعيد إلى الوزارة مرة ثالثة، وقبض على ناظر الدولة أمين الدين أمين، وعوق بقاعة الصاحب من القلعة أياما، ثم أفرج عنه. وفيه أخرج الأمير ناصر الدين محمد بن أيبك ألفافا أمير آخور منفيا إلى الشام، وأنعم بإقطاعه على الأمير قرابغا.
وفي هذا الشهر:بدت الأمراض بالحميات في الناس،واستمرت إلى أخر شعبان،فمات خلق كثير.
وفي يوم الإثنين ثالث شهر وجب: خلع على السيد الشريف شرف الدين علي بن السيد فخر الدين، واستقر في نقابة الأشراف بعد وفاة أبيه، بسؤال عدة من الأشراف ولايته.(2/295)
وفي يوم الخميس سادسه: أدير محمل الحاج بالقاهرة ومصر، و لم يعهد دورانه فيما سلف قبل النصف من رجب، وكان الناس في شغل عنه بكثرة الأمراض، وفيه رسم السلطان بتجهيزه للسفر إلى الحجاز، فبينما هم في عمل أهبة السفر إذ مرض السلطان مرضا شديدا حتى أرجف. بموته غير مرة ونكس عدة نكسات، اتهم فيها أطباؤه بموافقتهم بعض الأمراء على هلاكه، فقام بعلاجه شيخنا زكى الدين أبو البركات محمد الفقيه لمالكي، وشيخنا جلال الدين جار الله، وهو أبو عبد الله محمد ابن الشيخ قطب الدين أبى عبد الله محمد بن شرف الدين أبى البقاء محمود النيسابوري الحنفي، حتى تم برؤه.وفي أثناء ذلك ألزم بعض أمراء الدولة قاضى القضاة شرف الدين بن منصور الحنفي أن يحكم له باستبدال بعض الدور الموقوفة. بملك أحسن منه، على مقتضى مذهب أبى حنيفة رحمه الله تعالى، وكان الاستبدال بالأوقاف حينئذ غير معمول به في مصر والشام، يتركه قضاة الحنفية تنزها وتحرجا، لما فيه من الخلاف، فامتنع ابن منصور من الاستبدال للأمير، فلما ألح عليه في ذلك عزل نفسه في يوم الأحد تاسعه، فتحدث لجار الله بعض من يعنى به مع السلطان في ولاية القضاء، وهو إذ ذاك مقيم عند السلطان ليعالج مرضه، فأجاب إلى ولايته، وخلع عليه في يوم الثلاثاء خامس عشرينه، واستقر عوضا عن شرف الدين بن منصور.
وفي يوم الجمعة تاسع عشرينه: عوفي السلطان من مرضه وعبر الحمام، وصلى بجامع القلعة على العادة، فدقت البشائر ثلاثة أيام، ونودي بزينة القاهرة ومصر، فزينتا زينة عظيمة، ونثر على السلطان لما خرج إلى الجمعة ذهب كثير، فانتكس بعد يومين.
وفي يوم الأربعاء تاسع عشر شعبان: أخرج السلطان إخوته وبنى أعمامه ذرية قلاوون بأجمعهم، ومعهم حرمهم إلى مدينة الكرك، وكان الوقت شتاء باردا، فتألم الناس لذلك، وسار بهم الأمير سودن الشيخوني، هذا والسلطان مريض وحركة السفر مستمرة.
وفي سادس عشرينه: أنعم على كل من الأمير يلبغا المنجكي والأمير مغلطاي البدري بإمرة طبلخاناة، وعلى كل من قطلوبغا البزلارى وطشتمر المحمدي اللفاف وألطنبغا العلائي بإمرة عشرة.
وفي سابع عشرينه: خلع على الطواشي ظهير الدين مختار الحسامي، واستقر منهم المماليك، عوضا عن مختار شاذروان بعد موته، وأنعم على الأمير فخر الدين إياس الصرغتمشى بإمرة طبلخاناة، واستقر أستادارا ثانيا.
وفي يوم الخميس حادي عشر شهر رمضان:عزل الأمير أقتمر الحنبلي من نيابة السلطنة، واستقر أميرا كبيرا يجلس بالإيوان وقت الخدمة، وخلع على الأمير آقتمر عبد الغنى، واستقر حاجب الحجاب، وأبطلت النيابة، وخلع على الأمير بلوط الصرغتمشى أمير مشوى، واستقر شاد الشرابخاناة، وأنعم على الأمير علم دار بتقدمة ألف، وقد قدم من دمشق باستدعاء.
وفي ليلة الإثنين خامس عشره: سقطت نار احترق بها حاصل مدرسة السلطان التي يعمرها تحت القلعة، فتلف بها ماشاء الله من آلات العمارة، وتفاءل الناس بذلك على السلطان، وكان كذلك وقتل كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى، ثم تعطلت سنين، إلى أن خربها كلها الناصر فرج بن برقوق، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
وفي هذا الشهر: ارتفع الوباء، وعوفي السلطان وركب إلى السرحة بالجيزة وعاد إلى قلعة الجبل، وفيه كثر الاهتمام بحركة السلطان إلى الحج، وخرجت الإقامات من الشعير والدقيق والبشماط لتوضع في المنازل بطريق مكة.(2/296)
وفي رابع شوال: خلع على الأمير مغلطاي الجمالي، واستقر في عوضا عن جرحى البالسي بعد موته، وخلع على الشريف عاصم، واستقر في حسبة مصر والوجه القبلي بعد وفاة شمس الدين محمد بن أبى رقيبة.وندب الأمير آقتمر الحنبلي أن يخرج إلى بلاد الصعيد، ومعه عدة من الأمراء والأجناد، ويقيم به لحفظه مدة غيبة السلطان بالحجاز، وندب إلى الثغور - مثل الإسكندرية ودمياط ورشيد والبرلس - جماعة من الأمراء والأجناد يكونوا مركزين بها لدفع العدو من الفرنج، وندب عدة أمراء للمبيت كل ليلة في أماكن عينت لهم من خارج القاهرة ومصر، ورتب الأمير أيدمر الشمسي للإقامة بقلعة الجبل لحفظها، وجعل نائب الغيبة بالقاهرة الأمير آقتمر عبد الغنى، ورسم له ولجميع الأمراء المقيمين أن حضروا في أيام المواكب الخدمة عند باب الستارة من القلعة، ويقبلوا أيدي ولدى السلطان، ويقفوا ساعة لطيفة، ثم يقوم أمير على ابن السلطان من مجلسه ويقول للأمراء بيده " بسم الله " فينصرفوا بعد أن يسقوا مشروبا.ولما قوى العزم على السفر أشار على السلطان جماعة من أهل الصلاح بألا يسافر، فلم يقبل وصمم على السفر ليقضى الله أمرا كان مفعولا، وخرجت أطلاب الأمراء في يوم السبت ثاني عشره بتجمل عظم إلى الغاية، وأناخوا ببركة الحجاج، وخرج من الغد يوم الأحد ثالث عشره طلب السلطان، وفيه من الحرير والذهب ما لا يقدر على وصفه،وتفنن الغلمان في حسن ترتيبه وتأنقوا فيه، وأبدوا من صنائعهم العجائب والغرائب، فجروا أولا عشرين قطارا من الرواحل بقماش من ذهب أكوارها وعرقياتها وحطمها ومياثرها حرير مزوكش غطس، وخمسة عشر قطارا من الرواحل بعبي حرير، وقطار رواحل قماشها أسود خليفتي، وقطار رواحل قماشها أبيض برسم الإحرام ومائة فرس عليها من السروج والكنافيش والعبي ما يجل قيمته، وكجاوتين وتسع محفات أغشية، الكجاوتين مع خمس محفات حرير كله زركش غطس، وأربع محفات دونها، وستة وأربعين جملا محاير بغشية الحرير، وخزانة المال على عشرين جملا، وقطارين تحمل البقل والثمار والنعناع والسلق والكزبرة، المزروع ذلك في محاير.ومن أحمال المطابخ والمشارب وأنواع المآكل الملوكية ما لا يدخل تحت حصر، منها ثلاثون ألف علبة حلوى زنة ما في كل علبة خمسة أرطال، فيكون ذلك مائة ألف وخمسين ألف رطل، وجميعها قد عملت من السكر النقي، وطيبت.بمائة مثقال من المسك، سوى الصندل والعود، وعمل الأمراء من الحلوى مثل ذلك وأما الأجناد والأعيان فلم ينحصر ما عملوه من هذا الصنف، فانظر عظمة بلد يعمل فيه للسلطان وأمراؤه في شهر واحد ثلاثمائة ألف رطل وستين ألف رطل من السكر، سوى من دونهم ولعله نظير ذلك، و لم يعز مع هذا وجود السكر، بل ولا غلا سعره، فقد أدركنا وعلمنا صحته، وحمل معه عدة من أرباب الملاهي والمخايلين ،فأنكر الناس ذلك من أجل أنه غير لائق بالحج. وكان لمشاهدة هذا الطلب يوما مشهودا، ومنظرا بديعا، يتعذر حكايته ووصفه، زادت فيه سعادة الدولة.(2/297)
وفي يوم الإثنين رابع عشره: خلع على الشيخ ضياء الدين عبيد الله القرمي، واستقر في مشيخة المدرسة الأشرفية، ولقب بشيخ الشيوخ، وأبطل هذا اللقب من متولي مشيخة خانكاة سرياقوس، فسكنها، ودرس بها قبل أن تكمل عمارتها.وفيه أمر بسد باب القلعة مما يلي القرافة، فسد، وأوصى السلطان مماليك ولديه بهما، وبحفظ القلعة، وعهد إليهم أنه إن أصابه الموت فولده أمير علي هو السلطان من بعده.وركب من قلعة الجبل وسار إلى سرياقوس، فبات بقصوره منها ليلة الثلاثاء، ونزل إلى بركة الحجاج، فأقام بها إلى يوم الثلاثاء ثاني عشرينه، ورحل منها بكرة النهار ومعه من أمراء الألوف أرغون شاه الأشرفي، وبهادر الجمالي أمير آخور، وصرغتمش الأشرفي،وبيبغا السابقي،وصراي تمر المحمدي، وطشتمر لعلاي الدوادار، ومبارك الطازي، وقطلو آقتمر العلاي الطويل، وبشتاك عبد الكريم الأشرفي، ومن أمراء الطبلخاناة جمال الدين عبد الله بن بكتمر الحاجب، وأيدمر الخطاي، وبورى الأحمدي، وبلوط الصرغتمشى، وأروس المحمودي، ويلبغا المحمدي، ويلبغا الناصري، وأرغون العزى الأفرم، وطغاي تمر الأشرفي، ويلبغا المنجكي، وكزل الأرغوني، وقطلوبغا الشعباني، وأمير حاج بن كغلطاي، وعلى بن الأمير منجك ومحمد بن الأمير تنكز بغا، وتمر باي الحسنى، وأسندمر العثماني، وقرابغا الإحمدي، وإينال اليوسفي، وأحمد ابن الأمير يلبغا الخاصكي، وموسى بن دندار بن قرمان، ويدي بن قرطقا بن سيسون، وبكتمر العلمي، ومغلطاي البدري، ومن أمراء العشرات سنقر الجمالي، وأحمد بن محمد بن لاجين، وأقبغابوز الشيخوني، وأسنبغا التلكي، ومحمد بن بكتمر الشمسي، ومحمد بن قطلوبغا المحمدي، وجوبان الطيدمري، وألطنبغا عبد الملك، وقطلوبغا البزلاري، وطوغان العمري، وتلكتمر العيسوي، ومحمد بن سنقر المحمدي، وخضر بن عمر بن أحمد ابن الأمير بكتمر الساقي، ومنجك الأشرفي، ومعه قاضى القضاة برهان الدين بن جماعة الشافعي، وقاضى القضاة جلال الدين جار الله الحنفي، وقاضى القضاة بدر الدين عبد الوهاب الأخناي المالكي، وسراج الدين عمر البلقيني قاضى العسكر، وتوجه أيضاً الخليفة المتوكل على الله، وكاتب السر بدر الدين محمد ابن فضل الله، وناظر الجيش تقي الدين عبد الرحمن، وتأخر قاضى القضاة ناصر الدين نصر الله الحنبلي بالقاهرة.فلم يزل السلطان سائرا. بمن معه حتى نزل من عقبة أيلة، وأناخ على البحر في يوم الثلاثاء تاسع عشرينه، ونزل بقية الحاج من الغد يوم الأربعاء آخره.
فلما كان يوم السبت ثالث ذي القعدة:انتدب لإثارة الفتنة بالقاهرة أينبك البدري،وأسندمر الصرغتمشى، وقرطاي، وطشتمر اللفاف، ومشوا حين تأخر بالقلعة من المماليك السلطانية، وفي مماليك الأسياد ولدى السلطان، وفي مماليك الأمراء المسافرين صحبة السلطان، وفي جماعة من المماليك البطالة وواعدوهم جميعا على القيام معهم، ووعدوهم بأن ينفقوا فيهم خمسمائة دينار، عنها عشرة آلاف درهم، لكل واحد منهم، فمالوا إليهم وتحالفوا جميعا على الاتفاق، وركبوا بآلة الحرب.ونزل المماليك السلطانية الذين بالطباق من قلعة الجبل، وصعد الذين كانوا أسفل القلعة إليها، وصار الجميع بباب الستارة، وفي داخله الطواشي سابق الدين مثقال زمام الدور، والأمير جلبان لالا الأسياد، والأمير أقبغا جركس اللالا، فأغلقوا باب الستارة، وأخذ القوم يطرقون عليهم الباب، ويطلبون أمير علي ابن السلطان، ويقولون: " قد مات السلطان ونحن نريد نسلطن ابنه أمير علي " . فقيل لهم: " من كبيركم حتى نسلم إليه ابن السلطان " ، فتآمروا فيما بينهم ساعة وجمعهم يكثر، ثم كسروا شباك الزمام المطل على تلك الجهة وصعدوا منه فنهبوا ما في بيت الزمام، ونزلوا إلى رحبة باب الستارة وقبضوا على الطواشي مثفال الزمام، وعلى الأمير حلبان، ودخلوا من باب الستارة بأجعهم، وأخرجوا أمير علي، وأجلسوه بباب الستارة، وأحضروا الأمير أيدمر الشمسي، وألزموه بتقبيل الأرض، فقبلها، وأركبوا أمير علي إلى الإيوان المعروف بدار العدل، وأجلسوه على تخت الملك، ولقبوه بالملك العادل.(2/298)
فتأخر ناظر الخاص شمس الدين أبو الفرج المقسي في داره عن الطلوع إلى القلعة، خوفا من المماليك، فإن رءوس النوب وأكابر المماليك طلبوا منه أن يصرف لهم ولبقية المماليك رواتبهم من الدراهم واللحم ونحو ذلك، فماطلهم بالصرف وهم يلحون في الطلب، فنهرهم، وقال: " ما لكم عندي شيء حتى يجيء أستاذكم خذوا منه " .وطلع ناظر الدولة أمين الدين أمين، ومعه مقدم الدولة الحاج سيف، وبقية مباشري الدولة، فقبض المماليك عليهم ظنا منهم أنه المقسى، وأغلقوا باب القلعة، ووكلوا بناظر الدولة ومن معه عدة من المماليك، ثم نزلوا من القلعة ووقفوا على خيولهم تحتها، وبعثوا طائفة منهم لإحضار المقسي، فلم يظفروا به، فاستدعوا الأمير آقتمر عبد الغنى والأمير أيدمر الشمسي، والأمير علم دار، وبقية الأمراء، فأتوهم تحت القلعة، وأبوا من طلوعها، فأنزل المماليك أمير علي من القلعة إلى الإصطبل، وطلعوا بالأمراء إليه، فقبلوا له الأرض، وحلفوا على العادة، إلا الأمير طشتمر الصالحي، والأمير بلاط الكبير السيفي،والأمير خطط رأس نوبة،فإنهم لم يوافقوا المماليك على ما فعلوه، فقبضوا عليهم وطلبوا الأمير سيف الدين ألطنبغا أبو قورة، أمير سلاح - وكان قد تأخر عن السفر لمرض به - والأمير طاز، فاعتذرا عن الحضور بالضعف، وأرسلا مماليكهما،وكان قبل ذلك قد بلغ كل من الأمير سودن أمير آخور وأمير علي بن قشتمر الحاجب، وأبو بكر بن طاز وأيدمر الشمسي، وأقتمر عبد الغني،وعلمدار وطشتمر الصالحي، وبقية الأمراء، أن مماليك السلطان ومماليك الأسياد يريدون إثارة الفتنة والركوب للحرب، فتغافلوا عنهم خوفا على أنفسهم، فلما وقع ما وقع وأتاهم الأمراء، ورسموا عليهم، وأخذوا منهم مماليكهم، وصار دبير القوم أينبك ويشاركه الأمير طشتمر اللفاف، وأسندمر الصرغتمشى، وقرطاي، فأمروا أن ينادى في الناس بالأمان، فنودي في القاهرة ومصر بين يدي وإلى القاهرة " الأمان والإطمئنان، افتحو دكاكينكم وبيعوا واشتروا، وترحموا على الملك الأشرف، والدعاء لولده الملك العادل علي، ونائبه الأمير آقتمر الحنبلي " ، فكثرت القالة بين الناس، واستمرت الكوسات تدق بالقلعة حربيا، وطبلخاناة الأمراء أيضاً تدق، والقوم وقوف تحت القلعة طول اليوم السبت، وليلة الأحد، وأمير علي بالإصطبل.فلما أصبح نهار الأحد رابعه، غيروا لقب أمير علي وجعلوه الملك المنصور، وأخذوا خطوط جميع العلماء والأمراء أنهم رضوا به سلطانا، ونادوا بالقاهرة وأعمالهما ثانيا بالأمان والإطمئنان والدعاء للملك المنصور،وخرج البريد لإحضار الأمير آقتمر الحنبلي من بلاد الصعيد،وتقسموا الأمريات، فأخذ طشتمر اللفاف تقدمة أرغون شاه رأس نوبة، وأخذ قرطاي تقدمة صرغتمش، وأخذ أينبك تقدمة بيبغا السابقي، وأخذ أسندمر الصرغتمشى تقدمة، وأخذ بلاط الصغير تقدمة، حتى عموا من أرادوا منهم بالأمريات. واستقر الأمير شهاب الدين قرطاي أتابك العساكر، ونصبوا لهم خليفة من بنى عم الخليفة المتوكل، وأقاموا عز الدين حمزة بن علاء الدين على بن محيى الدين يحيى بن فضل الله في وظيفة كتابة السر، حتى يحضر أخوه بدر الدين، وأحضروا ناظر الخاص شمس الدين المقسي حتى فتح لهم خزانة الخاص من القلعة، وأخرج منها تشاريف الأمراء، وخلعهم، وفرقها فيهم، ورتب أحوال المملكة ومد السماط على العادة، وأعطى الرواتب، هذا وهم بالسلاح على الخيول تحت القلعة يترقبون ما يرد من الأخبار فإنهم كانوا قد وعدوا أصحابهم على أن يثيروا الفتنة مع السلطان أيضاً.فاتفق أن السلطان لما أصبح في يوم الأربعاء. بمنزلة العقبة تجمع المماليك وطلبوا عليق دوابهم، فوعدهم السلطان بصرفه في منزلة الأزلم ، فسألوه أن ينفق فيهم مالا لينفقوه في غلمانهم، فقال: " ما عندي إلا البشماط والشعير " ، فرادوه مرارا حتى نهرهم وتوعدهم، فمضوا إلى الأمير الكبير أرغون شاه رأس نوبة وشكوا ما لقيهم من السلطان، فوعدهم أن يتحدث لهم مع السلطان فانصرفوا من عنده إلى الأمير طشتمر الدوادار، وتنمروا عليه، وقالوا له " إن لم ينفق فينا قتلناه " . فقام إلى السلطان وسأله في النفقة على المماليك، فامتنع، فمازال يرادده حتى غضب منه وسبه، وقال له " تحكم على في مصر وهنا أيضاً " ، وهدده، فقام وقد أحدق المماليك بخامه ينتظرونه، فأخبرهم. بما كان، وأكثرهم حينئذ شباب ومماليك يلبغا، فهاجت(2/299)
حفائظهم، وتحركت أحقادهم، وتواعدوا على قتل السلطان وخاصكيته، ولبسوا السلاح، وأتوا إلى الأمير طشتمر وتوعدوه بالقتل إن لم يوافقهم، فألبس مماليكه السلاح، وركب معهم هو والأمير مبارك الطازي، والأمير صراي تمر المحمدي، والأمير قطلو آقتمر الطويل العلاي، وقصدوا السلطان، وكان في خامة يتحدث مع خاصكيته، وإذا بضجة، فبعث من يكشف له الخبر، فقيل قد ركب المماليك، فأمر من عنده بلبس السلاح، فما تم كلامه حتى هجموا على الخام، وقطعوا الأطناب ، فأمر بالشموع فأطفئت، وخرج السلطان.بمن معه هاربا، وهم الأمير أرغون شاه، والأمير صرغتمش، والأمير بيبغا السابقي، والأمير بشتاك الخاصكي، والأمير أرغون العزي، والأمير يلبغا الناصري، والأمير ألطنبغا فرفور، والأمير طشبغا رأس نوبة، وذلك في ليلة الخميس، وقد أعد الأمير قازان أمير آخور للسلطان ما يركبه هو ومن معه من مراكب الخاص، فركبوا وطلبوا جهة القاهرة، وليس مع كل واحد منهم سوى مملوك واحد، حتى قطعوا العقبة، فإذا. بمقدم الهجانة محمد بن عيسى ومعه نحو اثني عشر هجينا، فنزل السلطان عن فرسه، وركب منها وأركب من معه بقيتها، وساروا حتى أتوا قبة النصر خارج القاهرة، في يوم الأحد ثاني يوم قيام المماليك بالقلعة، فسمعوا دق الكوسات حربيا، فرابهم ذلك، وبعثوا لكشف الخبر، وتوجه السلطان ومعه الأمير يلبغا الناصري نحو الجبل، ودخل بقبة الآمراء قبة النصر، وناموا، فبينما المماليك راكبين تحت القلعة، إذ قبض بعد الظهر على رحل متنكر اسمه قازان ممن قدم مع السلطان، فأتى به إلى أكابرهم فعرفهم خبر وقعة العقبة، ودلهم على موضع السلطان، فتوجه الأمير أسندمر الصرغتمشى، وطولوا الصرغتمشى في جماعة إلى قبة النصر، فذبحوا الأمير أرغون شاه، والأمير صرغتمش، والأمير بيبغا السابقى، والأمير بشتاك، والأمير أرغون العزى الأفرم، وأتوا برءوسهم إلى تحت القلعة وهم يقولون " صلوا على محمد " ، ثم دفعوا الرءوس إلى أهلها، فذهبوا إلى جثث الأمراء الخمسة وواروها معها.وقد اضطرب الناس بالقاهرة، وأغلقوا ما فتح من الحوانيت، وكثر تخلقهم للحديث في أمر السلطان والقائمين بالدولة، ونودي بالقاهرة ومصر على السلطان، وتوعد من أخفاه، فاضطرب الناس، وباتوا ليلة الإثنين على تخوف وقلق شديد، فلما طلع نهار الإثنين، قبض على محمد بن عيسى، وسئل عن السلطان، فذكر أن آخر علمه به أنه فارق الأمراء، ومضى هو ويلبغا الناصرى.وأما السلطان فإنه لما أخذ نحو الجبل ومعه الناصري قعد لحاجة، وإذا بالخيل قد أتت إلى قبة النصر في طلبه، فاختفي هو والناصرى حتى جنهما الليل، فخرج به الناصري، وسار إلى بيت أستاداره، فآواهما وحدثهما بقيام المماليك، وما كان منهم وذبح الأمراء، فاشتد خوف السلطان، وخرج من ليلته. بمفرده من بيت أستادار الناصري، وقصد بيت آمنة امرأة المشتولى بحارة المحمودية من القاهرة، وبات عندها بقية ليلة الإثنين، وأصبح كذلك إلى أخر النهار، فمضت امرأة وأعلمت القائمين بالدولة بمكانه، فركب الأمير قرطاى في عدة وافرة، وأتوا بيت أمنة، وقبضوا عليها وأرهبوها، فأشارت إلى بادهنج البيت، فوجدوا السلطان قد لبس ثياب النساء، واختفي فيه، فأخذوه وألبسوه سلاحا، وستروا وجهه، وخرجوا به من باب سعادة أحد أبواب القاهرة، حتى صعدوا به قلعة الجبل، فتسلمه الأمير أينبك،وعاقبه حتى دلهم على ذخائره، وجمعوا بينه وبين ناظر الخاص شمس الدين المقسى، حتى تحاققا على الذخائر وأعادوه إلى داره، ثم استدعوا بالقاضي صدر الدين محمد بن إبراهيم المناوى - أحد خلفاء الحكم - في يوم الثلاثاء سادسه، وأرادوه أن يثبت وصية الملك الأشرف، فقال: " لابد من إثبات وفاته " ، فدخل إليه مملوك منهم اسمه جركس السيفي - من مماليك ألجاى اليوسفي - وخنقه، ثم أدخلوا إليه جماعة حتى عاينوه ميتا، وعادوا إلى القاضى فشهدوا عنده. بموته، وأنه أوصى الأمير عز الدين أينبك، ثم أنعم على جركس هذا بإمرة عشرة، واستقر شاد العماير، جزاء له. بما فعله من خنق السلطان، ثم أخذت جثة الأشرف، ووضعت في قفة وخيط عليها بلاس شعر أسود، وألقيت في بئر آخر نهار الثلاثاء المذكور، فلما مضت له أيام، ظهر نتنه، فأخرجه جيران تلك البئر، فعرفوه ودفنوه بالكيمان التي بجانب مشهد السيدة نفيسة، فأتى بعض خدام السلطان ليلا، وأخرجه من قبره وحمله إلى تربة(2/300)
أمه خوند بركة من التبانة، وغسله وكفنه وصلى عليه، ودفنه بالقبة التي بها.ومولده في سنة أربع وخمسين، ومدة سلطنته أربع عشرة سنة وشهرين وخمسة عشر يوما، وعمره أربع وعشرون سنة، وكان لينا يحب أهل الخير، ويقف عند ما يحسن له من فعل الخير، إلا أنه كان يحب جمع المال وتفرقته، جدد في أيام دولته الأقبية الحرير بالطرز الزركش في كل سنة على الأمراء، مع ركوبهم الخيل وقت لبس الأقبية المذكورة بالسروج الذهب، والكنابيش الزركشى، فكان يعم بذلك أمراء الألوف والطبلخاناة والعشرات والمماليك الخاصكية، على قدر رتبهم، و لم يتقدمه ملك لفعل ذلك، وكانت أيامه في هدوء وسكون، وأبطل مسكين شنيعين كان يتحصل منهما مال عظيم، فبطلا من بعده، ولم يكن فيه أذى ولا تجبر، بل يرفع يديه ويسأل الله تعإلى أن يخرب ديار من يريد بالناس سوءا، بالجملة فكان إلى التشبه بالنساء أميل منه إلى التشبه بالرجال، وترك من الأولاد سبعة ذكور، أمير علي، وأمير حاجى، وكلاهما تسلطن، وقاسما، ومحمدا، وإسماعيل، وأبا بكر، وأحمد، وسبع بنات.وند بركة من التبانة، وغسله وكفنه وصلى عليه، ودفنه بالقبة التي بها.ومولده في سنة أربع وخمسين، ومدة سلطنته أربع عشرة سنة وشهرين وخمسة عشر يوما، وعمره أربع وعشرون سنة، وكان لينا يحب أهل الخير، ويقف عند ما يحسن له من فعل الخير، إلا أنه كان يحب جمع المال وتفرقته، جدد في أيام دولته الأقبية الحرير بالطرز الزركش في كل سنة على الأمراء، مع ركوبهم الخيل وقت لبس الأقبية المذكورة بالسروج الذهب، والكنابيش الزركشى، فكان يعم بذلك أمراء الألوف والطبلخاناة والعشرات والمماليك الخاصكية، على قدر رتبهم، و لم يتقدمه ملك لفعل ذلك، وكانت أيامه في هدوء وسكون، وأبطل مسكين شنيعين كان يتحصل منهما مال عظيم، فبطلا من بعده، ولم يكن فيه أذى ولا تجبر، بل يرفع يديه ويسأل الله تعإلى أن يخرب ديار من يريد بالناس سوءا، بالجملة فكان إلى التشبه بالنساء أميل منه إلى التشبه بالرجال، وترك من الأولاد سبعة ذكور، أمير علي، وأمير حاجى، وكلاهما تسلطن، وقاسما، ومحمدا، وإسماعيل، وأبا بكر، وأحمد، وسبع بنات.
السلطان الملك المنصور علي
السلطان الملك المنصور علي بن السلطان الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون الصالحى الألفي.(2/301)
أقيم في السلطنة - كما تقدم - يوم السبت، ثالث ذي القعدة، وأبوه حي، فلما قتل أبوه - كما مر ذكره - في ليلة الثلاثاء، قدم في يوم الأربعاء سابعه الأمير آقتمر الحنبلي من بلاد الصعيد. بمن كان معه، فتلقاه الأمراء، وأجلوا قدره، وقالوا له: " أنت نائب السلطان، والمتحدث عنه، وكلنا من تحت أمرك " ،فوافقهم،ووقف بطلبه مع أطلابهم تحت القلعة.وأما الذين بالعقبة، فإن السلطان لما انهزم قام الأمير طشتمر الدوادار بالأمر، وعزم على العود بالناس جميعهم إلى القاهرة، وإبطال الحج، فثارت العامة ورجمته، ووقع النهب في السوق، فمضى قاضى القضاة برهان الدين إبراهيم بن جماعة، ومعه قاضى القضاة جلال الدين جار الله الحنفي من العقبة إلى جهة القدس، وتوجه معهما طائفة كبيرة من الحجاج.ووضع الأمير بهادر - أمير أخور - بعض الزاد والعلف بخان العقبة، وانتهبت المماليك من الأثقال ما قدرت عليه، ورحل الأمراء والمماليك ومعهم المحمل، ومن بقى من الحجاج عائدين إلى القاهرة، ورموا من الزاد والشعير وأنواع المأكل ومن الأثقال ما لا يقدر قدره، فلما وصلوا إلى المنزلة المعروفة بأبار العلاى، أعيد المحمل مع الأمير بهادرإلى مكة، وسار معه قليل من الناس، ومضى الأمراء نحو القاهرة، ولا علم لهم بالسلطان، حتى نزلوا نخل ، فبلغهم أن عدة من الناس مرت بهم، بعضهم على رواحل وبعضهم على خيل، تريد ناحية القاهرة، فعلموا أنه السلطان، فخاف المماليك عاقبة أمرهم، وأن يتفق لهم ما اتفق على الأجلاب بعد واقعة الأمير أسندمر، فمالوا على خزائن السلطان المحمولة في الطلب ونهبوها، وتقاسموا ما بقى فيها، وتوجه عدة منهم إلى جهة الشام، وبقيت طائفة صحبة الأمير طشتمر الدوادار، ومعه الخليفة، وكاتب السر، وناظر الجيش، وقاضى القضاة بدر الدين الإخناى، والحريم السلطانى، وعدة كبيرة من الحجاج، وقد أرادوا الخليفة أن يقوم بالأمر من غير سلطان، ويستبد بالمملكة، ويكونوا عونا له على من خالفه، فلم يوافقهم على ذلك، وهم يلحون في سؤاله، حتى نزلوا عجرود بلغهم ما وقع من قيام المماليك، وسلطة أمير على ابن السلطان، وظفرهم بالأمراء والسلطان، وقتلهم، فساروا وقد أمنوا من السلطان، وكانوا على تخوف شديد منه أن يظفر بهم ويقتلهم، حتى نزلوا بركة الحجاج، بعث الأمراء القائمون بالدولة طائفة من المماليك الأجلاب؛ لحرب الأمير طشتمر، وعليهم الأمير أحمد بن همز، فلقيهم الأمير قطلوا آقتمر العلاى الطويل - وكان طليعة الأمير طشتمر - فكسرهم، وركب أقفيتهم إلى قرب قلعة الجبل، فتكاثروا عليه وأمسكوه، وذلك يوم الثلاثاء سادسه، فبعث الأمير طشتمر بالأمير قطلوبغا الشعبانى في تقرير أمره، فلما كان الغد يوم الأربعاء سابعه، ركبت عدة من الأجلاب لمحاربة طشتمر، وافترقوا فرقتين، ومضوا، فمالت فرقة على الخزائن والأثقال، فنهبوا ما هناك، وامتدت أيديهم إلى حريم السلطان، وإلى الحجاج، فتجاوزوا الحد في النهب، وفعلوا ما لا يفعل مثله في أهل الإسلام، فكان شيئا قبيحا إلى الغاية، ذهب فيه من الأموال ما لا يحصيه إلا الله، وكانت هذه السفرة سببا لزوال سعادة الدولة، وذهاب دولة آل قلاوون إلى أخر الدهر.وأما الفرقة الأخرى فإنها قاتلت الأمير طشتمر ومن معه قتالا عظيما، فكسرهم، ومروا في الهزيمة - وهو في طلبهم - إلى تحت القلعة، فوصل عصر يوم الخميس ثامنه، فاجتمع القوم على قتاله من نصف وقت العصر، حتى غابت الشمس، فانكسر منهم ومضى نحو كيمان مصر في نفر يسير، فأدركه بعض الأمراء ممن يثق به، ومازال به حتى قرر معه أن يستقر في نيابة الشام، وحلف له القائمون بالدولة، فاطمأن لذلك، ونزل بداره، فقبضوا عليه وحبسوه بقلعة الجبل، وقبضوا على الأمير سراى تمر، وبعثوه إلى الشام، وقبضوا على الأمير بلوط الصرغتمشى أمير مشوى، وعلى جماعة كبيرة، وباتوا آمنين، وقد نزعوا السلاح عنهم.(2/302)
وفي يوم الخميس هذا: قدم الخليفة وأصعد إلى القلعة، واستدعى قاضى القضاة ناصر الدين نصر الله الحنبلي، ونواب القضاة والأمراء القائمون بالدولة، إلى باب الستارة من القلعة، وأخرجوا السلطان الملك المنصور علي، فبايعه الخليفة، وقبل له البيعة الأمير آقتمر الحنبلي، ثم أفيضت عليه الخلعة الخليفة، وهي فرجية حرير بنفسجى بطرازين ذهب، وديراها من رأس كميها وعاتقيها وذيلها تركيبة ذهب، وتحتانية حرير أزرق خطاى، وألبس عمامة عربية من حرير أسود على قبع حرير أسود، وأرخى لها عذبة حرير مزركش، وركب من باب الستارة بأبهة السلطنة إلى إيوان دار العدل، وجلس على تخت الملك، وسرير السلطنة، ومد السماط بالإيوان، فأكل من حضر على العادة، ثم قام السلطان عن التخت إلى القصر، وخلع على الأمير طشتمر اللفاف المحمدي أحد أمراء العشرات، واستقر أمير مائة مقدم ألف، وأنعم عليه بإقطاع أتابك العساكر، وبجميع ما خلفه الأمير أرغون شاه من مال وغلال وخيول وجمال ومماليك، وغير ذلك، وخلع على الأمير قرطاي الطازى أحد المماليك المفاردة، واستقر رأس نوبة كبير على تقدمة صرغتمش وإقطاعه، وأنعم عليه. بما خلفه من صامت وناطق، وعين وغلة. ورسم له وللفاف أن يجلسا بالإيوان في الميمنة.وخلع على اسندمر الذباح الصرغتمشى - أحد المماليك المفاردة - ، واستقر أمير سلاح مقدم ألف، ورسم له أن أن يجلس بالميسرة من الإيوان، وخلع على قطلوبغا البدري، واستقر أمير مجلس. وعلى الأمير طشتمر الدوادار واستقر نائب الشام، وسافر من يومه، وخلع على الأمير فخر الدين إياس الصرغتمشى، واستقر دواداراً بإمرة طبلخاناه، وأنعم على دمرادش اليوسفي أحد المماليك بتقدمة ألف، واستقر رأس نوبة ثانيا، وأنعم على بلاط الصغير السيفي، أحد المماليك المفاردة، بتقدمة ألف، وأنعم على ألطنبغا النظامي بتقدمة ألف، وعلى يلبغا النظامي بتقدمة ألف، وكلاهما من جملة المماليك المفاردة، وأنعم على الأمير أينبك بتقدمة ألف، واستقر أمير أخور، وأنعم على كل من بيقجا الكمالي، وقطلوبغا البشيرى، وطغاي تمر الناصري، وصربغا الناصري، وطولوا الصرغتمشى وألجبغا السيفي، وقطلوبك النظامي، وأحمد بن همز التركمانى، وقطلوخجا أخي أينيك، وتمربغا البدري، وألطنبغا المعلم، وتلكتمر عبد ا لله المنصوري، وأسنبغا الصارمي، وأطلمش الطازى، وأربغا السيفي، وإبراهيم بن قطلو آقتمر العلاى، وعلى بن آقتمر عبد الغنى، وأسنبغا النظامي، ومأمور القلمطاوى، وأطلمش الأرغوني، ومقبل الرومي، بإمرة طبلخاناة.وأنعم على كل ممن يذكر بإمرة عشرة، وهم: محمد بن قرطاي الطازي، وخضر بن ألطبغا السلطاني، وتكا الشمسي، ومحمد بن شعبان ابن الأمير يلبغا العمري، وأسنبغا المحمودي،، وطبج المحمدي، وتلكتمر المنجكي، وأقبغا السيفي، وجركس السيفي، وطقتمش السيفي، وطوغان العمري، وبكلمش الإبراهيمي، ويلبغا العلاى، ويوسف بن شادي البريدي، وخضر الرسولي، وأسندمر الشرفي، ومغلطاي الشرفي، وخليل بن أسندمر العلاي، ورمضان بن صرغتمش وأخيه حسن صرغتمش، وقطلوبغا حاجي أمير علم، ومنكلى الشمسي، وألجبغا السيفي، وألطنبغا شادي، وسودون العثماني، فاتفق من ارتفاع الأسافل ما فيه عبرة لمن اعتبر، وأصبح المماليك الأجلاب الذين كانوا بالأمس أقل مذكور، ثم تتبعوا بالقتل والنفي وأنواع العذاب، ملوكا تجبى إليهم ثمرات كل شيء، ويتحكمون في ممالك الأرض، بما تهوى أنفسهم، ومن حينئذ تغيرت أحوال البلاد بتغير أهلها.وفيه أيضاً قدم حريم الأشرف من بركة الحجاج، فصعد بهم إلى القلعة من باب السر، بعد ما نهبت خزانة السلطان بالريدانية خارج القاهرة.وفيه سار على البريد الأمير قطلوبغا جركس إلى دمشق ليقبض على الأمير بيدمر ويحبسه بقلعة صفد.(2/303)
وفي يوم السبت عاشره: استقر الأمير طشتمر نائب الشام بالمسير من ظاهر القاهرة إلى محل ولايته.وفيه أفرج عن الأمراء المعتقلين بقلعة الجبل، وهم آقتمر عبد الغني،وعلم دار المحمدي، وأيدمر الشمسي، وسودون جركس وطيبغا الصفوي، ومغلطاي البدري، وصربغا السيفي، وطشتمر الصالحي، وبلاط الكبير، وحطط السيفي، وإيامى المارديني، وبلوط الصرغتمشى، ويلبغا المنجكي، وقرا بغا والد جركتمر، وحاجي خطاي والد غريب، في جماعة آخرين. ثم قبض عليهم جميعا من الغد - خلا آقتمر عبد الغني، وسودون جركس - وقيدوا وحملوا من ليلتهم إلى الإسكندرية، فسجنوا بها.وفيه استولى الأمراء القائمون بالدولة على ما كان الملك الأشرف وضعه من المال في مودع الحكم بالقاهرة، وحمل على ثمانية وعشرين جملا.
وفي يوم الإثنين ثاني عشره: قرئ بالإيوان تقليد السلطان، وعلم عليه الخليفة،وشهد عليه فيه القضاة على العادة. ثم خلع على الخليفة وأنعم عليه بألف دينار رسم المبايعة، وخلع على القضاة وأرباب المناصب، واستدعى الوزير تاج الدين النشو الملكي، وخلع عليه، واستقر في الوزارة، وخلع على الصاحب كريم الدين عبد الكريم بن الرويهب، واستقر في نظر الدولة، عوضا عن أمين الدين أمين، وخلع على الأمير طيدمر البالسي، واستقر حاجب الحجاب عوضا عن أنتمر عبد الغنى، وخلع على الأمير علي ابن قشتمر واستقر حاجبا ثانيا، عوضا عن الأمير علم دار.وفيه طلب المماليك من الأمراء. وعدوهم به من النفقة فيهم، وهي مبلغ خمسمائة دينار لكل واحد، فرسموا لهم. بمائة دينار لكل مملوك، فأبوا وتجمعوا في يوم الثلاثاء ثالث عشره، وقبضوا على الأمير طشتمر اللفاف، وهموا بضرب عنقه، فقام الأمير قرطاي، وضمن لهم أن ينفق فيهم ما عدوا به، وما زال يتلطف بهم حتى أطلقوا اللفاف، وأخذ الأمراء في الإهتمام بنفقة المماليك، وطلبوا أمين الحكم، وأرادوا منه أن يقرضهم من مال الأيتام مائتي ألف دينار ذهبا، وإلا نهبوا المودع، وكان فيه حينئذ أموال عظيمة جدا، ورسموا جماعة حتى أخذوا ما شاءوا، فذهبت على الأيتام إلى اليوم، وقبضوا على شمس الدين المقسي ناظر الخاص، وعلى سعد الدين نصر الله ابن البقرى، وتاج الدين موسى بن كاتب السعدي، وولده سعد الدين.
وفي يوم الأحد ثامن عشره: حمل المقسي وتاج الدين موسى وأمين الدين مين، وعلاء الدين علي بن السايس، والمعلم شهاب الدين أحمد بن الطولوني، إلى قاعة الصاحب بالقلعة، وألزموا بأموال جزيلة، وقبض على جماعة من مباشري الدولة، وألزم كل واحد منهم بنفقة عدة من المماليك، وسلموا كل من ألزم بنفقة جماعة لهم حتى ينفق فيهم، فلم يبق أحد من مباشري الدولة والخاص حتى وزع عليه عدة مماليك، بحسب حاله، وقبض على محتسب القاهرة شمس الدين محمد الدميري ، وحمل على قفص حمال إلى القلعة لمرض به، وألزم بالنفقة على عشرة مماليك. ونهب بيت أخيه، وقبض على جماعة من التجار.
وفي يوم الإثنين تاسع عشره: طلع الأمير أسندمر الصرغتمشى، والأمير دمرداش اليوسفي إلى الدور السلطانية من قلعة الجبل، وفرقا جواري الملك الأشرف على الأمراء. وفيه قبض على الطواشي مختص الأشرفي، والطواشي جوهر السكندري والطواشي سنبل رأس نوبة، وأدخلوا قاعة الصاحب على مال ألزموا به، وألزم أيضاً الطواشي سابق الدين مثقال الجمالي بحمل ثلاثمائة ألف درهم، ثم تقرر حمله مائة ألف درهم.وفيه قدم الأمير صلاح الدين خليل بن عرام من ثغر الإسكندرية باستدعاء، فقبض عليه، وصودر على ألف ألف درهم، ثم خلع عليه، واستقر على عادته نائب الإسكندرية. وفيه خلع على الأمير آقتمر الحنبلي، واستقر نائب السلطان، وأذن له أن يخرج الإقطاعات للأمراء والأجناد ونواب المماليك، وأن ينفرد وحده بالتحدث في المملكة، بعد ما تقرر ذلك مع الأمراء والمماليك ورضوا به.
وفي يوم الثلاثاء عشرينه: قبض على جماعة من خدام السلطان، منهم الطواشي دينار اللالا، والطواشي شاهين دست، والطواشي سنبل اللفاف، وأدخلوا قاعة الصاحب على حمل مال.(2/304)
وفيه خلع على جمال الدين محمود القيصري العجمي، خطيب مدرسة ألحاي واستقر في حسبة القاهرة، عوضا عن شمس الدين محمد الدميرى فسخر العامة منه واستهزءوا به، لعهدهم به أمس - وهو من فقراء العجم، يجلس تجاه باب المارستان بالقاهرة، ويبيع التمر - فلم يجد له بيتا ينزل فيه، حتى نزل في بيت تاج الدين أحمد بن علي بن الظريف، إلى أن وجد دارا سكنها.
وفي يوم السبت رابع عشرينه: أفرج عن الصاحب شمس الدين المقسي ناظر الخاص، بعد ما حمل مالاً عظيماً، وخلع عليه، واستقر في نظر الخاص ووكالة الخاص، على عادته.
وفي يوم الإثنين سادس عشرينه: قدم قاضى القضاة برهان الدين إبراهيم بن جماعة وقاضى القضاة جلال الدين جار الله الحنفي، ومن رافقهما من الحجاج، بعد ما زاروا بيت المقدس، وعافاهم الله مما ابتلى به وقدم من العقبة من النهب والخوف الشديد والشنعة القبيحة، فعد هذا من سعادة قاضي القضاة برهان الدين.
وفي يوم الثلاثاء سابع عشرينه: خلع على علم الدين سليمان بن خالد بن نعيم البساطي - أحد نواب الحكم - واستقر قاضي القضاة المالكية، عوضاً عن بدر الدين عبد الوهاب الأخناى، بواسطة برهان الدين إبراهيم بن اللبان له، الأمير قرطاي. وكان إبراهيم هذا أبوه لبانا، يبيع اللبن خارج القاهرة، فنشأ في صغره مع الفقهاء المالكية، وتفقه على مذهب مالك، وخدم الأتراك، ومنهم قرطاي، فلما صار قرطاي من الأمراء في هذه النوبة، جعل إبراهيم شاهد ديوانه، ومن جملة موقعي الدست، فهرع الناس لبابه في طلب شفاعاته لهم، وتحدث للبساطي في ولاية القضاء مع مخدومه الأمير قرطاي وكان الوقت قابلا، فولاه وظيفة القضاء، فاستناب عنه في الحكم ابن اللبان، وقدم جماعة من المالكية كانوا في الأعين محتقرين وعند الناس غير وجيهين، ولا معتبرين فناسب الحال في الدولة.
وفي هذا الشهر: استقر في سلطنة ماردين الملك الظاهر مجد الدين عيسى بن المظفر فخر الدين داود بن الصالح صالح بن منصور غازي بن المظفر قرا أرسلان بن أرتق أرسلان بن إيلغازي بن ألبى بن تمر تاش بن إبلغازي بن أرتق الأرتقى، بعد موت أبيه، وكتب إلى السلطان يعلمه بذلك، فأجيب بتعزيته وتهنأته.وولي الأمير أرغون الأسعردي نيابة طرابلس عوضاً عن منكلي بغا البلدي الأحمدي. واستقر برهان الدين أبو سالم إبراهيم بن محمد بن علي الصنهاحي قاضي المالكية بحلب في قضاء المالكية بدمشق،عوضاً عن زين الدين أبي بكر المازوني. واستقر جلال الدين أبو المعالي محمد بن قاضي القضاة نجم الدين محمد بن فخر الدين عثمان الزرعي، في قضاء القضاة الشافعية بحلب بعد وفاة ابن عمه فخر الدين عثمان الزرعي، واستقر محب الدين أبو المعالي محمد بن الشيخ كمال الدين أبو الفضل محمد بن الشيخ شمس الدين أبي عبد الله محمد بن الشحنة في قضاء الحنفية بحلب، عوضاً عن الجمال إبراهيم بن العديم، ثم عزل بعد قليل، وأعيد ابن العديم، واستقر ناصر الدين أبو عبد الله محمد بن تقي الدين عمر بن نجم الدين محمد بن عمر بن أبي الطيب في كتابة السر بحلب، عوضاً عن شمس الدين محمد بن أحمد بن مهاجر الحنفي. وولى الملك الأشرف إسماعيل بن الأفضل عباس مملكة اليمن بعد وفاة أبيه.وفيه كانت النفقة في المماليك، وعدتهم ثلاثة ألاف، لكل واحد خمسمائة دينار، عنها عشرة ألاف درهم فضة، حساباً عن كل دينار عشرون درهماً، ومبلغ ذلك ألف ألف وخمسمائة ألف دينار، صودر فيها عامة كتاب الدولة، وأعيان الطواشية، وطرح فيها عدة بضائع من أصناف الخاص على التجار، وألزموا بحمل أثمانها، فنالهم بسبب ذلك عناء شديد، ولم يسمع. بمثل هذه النفقة في الدولة التركية.
وفي يوم الخميس رابع عشر ذي الحجة: خلع علي تقي الدين عبد الرحمن بن محب الدين محمد ناظر الجيش واستقر في الجيش بعد وفاة أبيه.
وفي آخره: توجه قاضي القضاة شرف الدين محمد بن منصور الحنفي من القاهرة، عائداً إلى مدينة دمشق، وهو متضعف منذ رغب عن منصب القضاء.
وفي هذه السنة: ابتدأ الوباء من ذي القعدة، فمات جماعة كثيرة بالطاعون، وخرجت السنة والوباء شديد.
ومات في هذه السنة من الأعيان(2/305)
السيد الشريف نقيب الأشراف بحلب، شهاب الدين أحمد بن محمد بن أحمد بن علي بن محمد ابن علي بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن زيد بن جعفر بن إبراهيم الممدوح الحسيني الحلبي، وقد أناف على سبعين سنة.وقال العلامة حسن بن زين الدين طاهر بن عمر بن الحسن بن عمر بن حبيب الحلبي يومئذ:
مضى إلى الله جميل الثنا ... لما قضى العمرمدى حده.
فلا حرمنا منه أجرا وقد ... كان لنا الأسوة في جده.
وفيه يقول العلامة والد طاهر المذكور:
جرت أعين الشهبا بعد شهابها ... سليل الكرام السيد الشامخ الذرا.
فقل لبنيه الطاهرين تثبتوا ... لكم أسوة في جدكم سيد الورا.
وتوفي المحدث شهاب الدين أحمد بن علي بن محمد بن قاسم العرياني، الفقيه الشافعي، شيخ خانكاه الأمير طيبغا الطويل، في يوم الإثنين ثاني عشر جمادى الآخرة، ومات الأمير شهاب الدين أحمد بن الأمير لاجين، أحد الطبلخاناه في يوم السبت ثامن شهررجب.
ومات الأمير أستبغا العزي، أحد الطبلخاناه.
ومات الأمير أستبغا عبد الغني، أحد العشرات.
ومات الأمير ألطنبغا الإبراهيمي، أحد العشرات.
ومات الأمير إياس المرديني، أحد العشرات.
ومات الأمير جركتمر الخاصكي، أحد أمراء الألوف، يوم الأربعاء تاسع عشر ومات الأمير صلاح الدين خليل بن الأمير قوصون، أحد أمراء الألوف، في يوم الثلاثاء خامس عشرين رجب.ومات الأمير طاز العثماني، أحد أمراء الألوف، في يوم الخميس رابع عشر ذي الحجة.
ومات الأمير طيدمر البالسي، أحد أمراء الألوف.
ومات الأمير طغيتمر العثماني، أحد أمراء الطبلخاناه.
ومات الأمير جرجي البالسي، أمير جندار.
ومات الأمير شاهين أمير علم، أحد العشرات.
وتوفي جمال الدين أبو محمد عبد الله بن كمال الدين أبي المعالي محمد بن عماد الدين أبي الفدا إسماعيل بن تاج الدين أبي العباس محمد بن شرف الدين بن أبي الفضل أحمد بن سعيد بن محمد بن سعيد بن الأثير الحلبي الأصل، المصري المنشأ والوفاة، في يوم الخميس ثاني عشرين جمادى الآخرة بالقاهرة، عن أربع وسبعين سنة، وولى كتابة السر بدمشق وكتب الإنشاء بقلعة الجبل، ثم تنزه عن ذلك، وانقطع إلى ربه حتى مات، وكان فاضلاً له عدة مصنفات.وتوفي ناظر الجيش بحلب ودمشق، تاج الدين عبد الله بن مشكور، في جمادى الآخرة بدمشق، وكان مشكور السيرة، وله مروءة.وتوفي مسند الشام زين الدين عمر بن الحسن بن مزيد بن أمية، المراغي الأصل، الحلبي الدمشقي، في يوم الإثنين ثامن ربيع الآخر بدمشق، ومولده في رجب سنة ثمانين وستمائة، تفرد بأشياء رواها عنه الناس.
وتوفي قاضي القضاة الشافعية بحلب، فخر الدين عثمان بن صدر الدين أحمد بن أحمد بن عثمان الزرعي الشافعي، في سادس شعبان بحلب.وتوفي خطيب حلب، علاء الدين علي بن محمد بن هاشم بن عبد الواحد بن عشاير، الحلبي الشافعي، عن ستين سنة بحلب.
ومات بدمشق خواجا علاء الدين علي بن ذي النون الأسعردي، صاحب الخان خارج دمشق، وأحد أعيان التجار، في ذي القعدة.
وتوفي الشيخ تقي الدين إسماعيل بن علي بن الحسن بن سعيد بن صالح القرقشندي المصري الشافعي، مفتي القدس، ومدرس الصلاحية بها، في سادس جمادى الآخرة، ومولده سنة اثنتين وسبعمائة. كان يستحضر كتاب الروضة في الفقه، وحدث عن و زيره.
وتوفي فقيه دمشق عماد الدين إسماعيل بن خليفة بن عبد العال بن خليفة الحسباني الشافعي، في ذي القعدة.وتوفي الأديب البارع جمال الدين أبو الربيع سليمان بن داود بن يعقوب بن أبي سعيد المصري بحلب عن نحو خمسين سنة، وهو كاتب أديب منشئ ومن شعره:
بعدت ولم تقنع بذاك وإنما ... بخلت على الإخوان بالكتب والرسل.
وإنا لنجري في ودادك جهدنا ... وإن كنت تمشي في الوداد على رسل.(2/306)
ومات الأمير قبلاي نائب حمص وحاجب دمشق، في شهر ربيع الآخر بحمص. وتوفي القاضي محب الدين أبو عبد الله محمد بن يوسف بن أحمد بن عبد الدايم التيمي الحلبي، ناظر الجيش، في يوم الثلاثاء ثاني عشر ذي الحجة. أخذ القراءات السبع عن التقي الصايغ، وسمع الحديث على نصر المنبجي، وعلى الحجاز ووزيره، والشريف أخى عطوف، وجماعة، وبرع في الفقه والنحو والتفسير، وصنف كتباً عديدة ودرس عدة سنين، وكتب الخط المنسوب، وفاق في معرفة الحساب، وباشر ديوان الأمير جنكلي بن البابا، ثم ديوان الأمير منكلي بغا الفخري، ثم ديوان قجاه أمير شكار، وولي نظر البيوت، ثم ولي نظر الجيش، بعد ابن خصيب، فبلغ فيه من نفوذ الكلمة، وشهرة الذكر، وارتفاع القدر، مبلغاً عظيماً في عدة دول.
وتوفي محتسب مصر،شمس الدين محمد، المعروف بابن أبي رقيبة الشافعي.
وتوفي الأمير ناصر الدين محمد بن سرتقطاي، أحد العشرات.
وتوفي الأمير شرف الدين موسى بن الأمير قبلاى أحد الطبلخاناة.
وتوفي قاضي القضاة الحنابلة بحلب، شرف الدين موسى بن فياض بن عبد العزيز بن فياض المقدسي الصالحي، وهو أول من ولي قضاء حلب من الحنابلة. باشر وظيفة القضاء بها نيفا وعشرين سنة، حتى مات في ذي القعدة، وقد أناف على تسعين سنة.
ومات الأمير الطواشي ظهير الدين مختار الدمنزوري، مقدم المماليك.
وتوفي الشيخ أبو العباس أحمد بن عبد الرحيم التونسي النحوي المالكي، في ليلة الجمعة رابع عشر شعبان بالقاهرة.
ومات الأمير قطلوبغا المنصوري، حاجب الحجاب، في يوم الأربعاء سادس عشرين وتوفي الأمير أرغون شاه الجمالي الخاصكي، رأس نوبة، مذبوحا هو والأمير صرغتمش، والأمير بيبغا السابقي، والأمير بشتاك، والأمير أرغون المعزي الأقرم، في يوم الأحد رابع ذي القعدة.
وتوفي محتسب القاهرة بهاء الدين محمد بن محمد بن محمد بن المفسر، في يوم الجمعة آخر جمادى الآخرة.
وتوفي السيد الشريف نقيب الأشراف وموقع الدست فخر الدين أحمد بن علي الحسين بن حسن بن محمد بن حسين بن حسن بن زيد، في يوم السبت أول شهر رجب.
وتوفي ناصر الدين محمد المقسى، أستادار الأمير صرغتمش، في يوم الإثنين سابع عشر رجب، وله مسجد بالمقس خارج القاهرة.
وتوفي الفقير المعتقد على السدار صاحب الزاوية بحارة الروم من القاهرة، في يوم الخميس سابع عشرين رجب.
وتوفي شمس الدين محمد بن براق الدمشقي، أحد موقعي الدست في أخر شهررجب.
وتوفي الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير الكبير ظاز، يوم السبت ثامن عشرين شعبان.
وتوفي الأمير ناصر الدين محمد بن قماري، في يوم الخميس حادي عشر رمضان.
وتوفي الأمير بكتمر السيفي، والي القاهرة، في يوم الأربعاء سابع عشر ربيع الأول.
ومات الطواشي شرف الدين مختص، المعروف بشاذروان، مقدم المماليك، في يوم الثلاثاء سابع عشر شعبان.
ومات صدر الدين بن البارنباري، أحد موقعي الإنشاء، في يوم الثلاثاء ثالث شعبان.
وتوفي بدر الدين حسن المليكشي المالكي، في تاسع ذي الحجة.
وتوفي خطيب المدينة النبوية شهاب الدين أحمد بن سليمان الصقيلي الشافعي بالقاهرة، في يوم الإثنين ثامن ربيع الآخر، وهو من ناحية صقيل بالجيزة.
وتوفي قاضي المالكية بدمشق، زين الدين أبو بكر بن علي بن عبد الملك المازوني، في شوال.
وتوفي الأمير يونس العمري. أحد الطبلخاناه.
وتوفي الأمير يعقوب شاه أحد الألوف، في يوم الإثنين سابع عشر شهر رجب.
وتوفي مؤدب الأطفال شمس الدين محمد بن عمر الخزرجي.
وتوفي الفقير المعتقد علي العقيدي، بائع العقيد بالقاهرة، في يوم الثلاثاء رابع رجب، وحكيت له كرامات.
وتوفي التاجر زكي الدين أبو بكر بن الحمامية في رابع رجب، وترك مالاً جزيلا.
وتوفي الفقير المعتقد جمال الدين الأصفهاني بسطح الجامع الأزهر، في ثالث عشر ذي الحجة.
وتوفي المسند جمال الدين يوسف بن عبد الله بن حاتم بن محمد بن يوسف بن الحبال البعلبكي، ومولده في صفر سنة ثمانين وستمائة، حدث عن جماعة.
ومات سلطان بنى مرين، صاحب فاس وبلاد المغرب، السلطان أبوالعباس أحمد بن أبي سالم إبراهيم بن أبي الحسن في جمادى الآخرة، وملك بعده السلطان الواثق محمد ابن أبي الفضل بن أبي الحسن.
سنة تسع وسبعين وسبعمائة(2/307)
أهلت والأمراض في الناس فاشية، فتزايد الوباء في هذا الشهر، ومات جماعة من الناس بالطاعون.
وفي خامس المحرم: خلع علي الأمير شهاب الدين قرطاي، واستقر أتابك العساكر. وخلع على الأمير زين الدين مبارك الطازي، واستقر رأس نوبة كبيرا، وخلع على الأمير سودن جركس، واستقر أستادار، وخلع على الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير قرابغا الأناقي، أحد العشرات، واستقر في ولاية مصر، وأفرج عن الأمير قطلو أقتمر الطويل العلاي، وأنعم عليه بإمرة طبلخاناه، وقبض علي الأمير طولوا الصرغتمشى بقطيا وقد عاد من الشام، لما كان من ظلمه وعسفه.
وفي تاسعه: وصل أولاد قلاوون من الكرك وهم الملك المنصور محمد بن حاجي ابن محمد بن قلاوون، وأولاد الناصر حسن وهم أحمد وقاسم وعلي واسكندر وموسى وإسماعيل ويوسف ويحيى وشعبان ومحمد، وأولاد حسن بن محمد بن قلاوون، وهم أنوك وأحمد وإبراهيم وجان بك ومحمد بن الصالح صالح بن محمد بن قلاوون وقاسم بن أمير علي بن يوسف، فأدخلوا بحريمهم وأولادهم إلى قلعة الجبل ليلا، وأنزلوا بدورهم منها.
وفي عاشره: قدم الأمير ناصر الدين محمد آقبغا آص، فأمر أن يقيم بداره.
وفي تاسع عشره: خلع على الأمير الكبير قرطاي، واستقر في نظر المارستان. ونزل إليه بتشريفة، فنظر في أحوال المرضى وغيرهم على العادة، ثم عاد إلى منزله.
وفيه قبض على الأمير يلبغا النظامي - أحد الأمراء الآلوف - وعلى أستبغا النظامي، أحد أمراء الطبلخاناه.
وفي عشرينه: خلع على الأمير سودن الشيخوني، وعلى الأمير بلوط الصرغتمشى، واستقرا حاحبين، يحكمان بين الناس.
وفي رابع عشرينه: عزل الأمير منكلي بغا البلدي من نيابة طرابلس، والأمير تمرباى من نيابة صفد.وفيه قدم محمل الحاج صحبة الأمير بهادر الجمالي، وقدم الخبر بأن أهل البحيرة قد عصوا، وفي أخره خلع على الأمير عز الدين أينبك البدري، واستقر ناظر المارستان، عوضاً عن الأمير الكبير قرطاي.
وفي خامس صفر: قدم البريد بسيف منكلي بغا البلدي من طرابلس وأنه سجن بالكرك.
وفي تاسعه: قدم الأمير. يلبغا الناصري من الشام باستدعاء، بعد ما نفي إليها، فأنعم عليه بإمرة طبلخاناه.(2/308)
وفي عاشره: أخذ قاع النيل، وكان خمس أذرع وأربع وعشرين إصبعا، وكان في العام الماضي خمس أذرع وست عشرة إصبعا.وفيه ورد البريد بأن تمر باى الدمرداشي لم يسمع لعزله عن نيابة صفد، وخرج عن الطاعة.وفيه استقر الأمير أرغون الأسعردي في نيابة طرابلس، عوضاً عن منكلي بغا البلدي. واستقر الأمير تمراز الطازي في نيابة حماة، واتفق أن الأمير قرطاي تزوج بابنة الأمير أينبك، وشرع في عمل المهم للعرس، فأخذ أينبك في العمل عليه، واستمال جماعة من أصحابه، منهم برقوق العثماني، أحد المماليك الأجلاب اليلبغاوية، وبركة، ووعدهم بإمرات طبلخاناه، فمالوا إليه، وواعدوه على الفتك به، فلما كان يوم الأحد عشرينه، حمل الأمير أينبك تقدمة برسم عرس الأمير قرطاي، وجهزها إليه، ما بين خراف ودجاج وأوز وسكر، ومن جملتها عدة جرار حمر قد عمل فيه بنج، فقدمت إليه فقبلها، وخلع على محضرها، وجلس للشرب مع أصحابه من الخمر الذي بعث به إليه أينبك، فاختلط، وصار كالحجر الملقى لا يحس ولا يدري، فبعث أصحابه الذين استمالهم أينبك إليه يعلموه. بما صار إليه، وأنهم قد احترزوا على أنفسهم حتى لم يصبهم شيء مما أصابه، فركب في الحال بآلة الحرب، وأنزل بالسلطان من قصره إلى الإصطبل، وأمر بدق الكوسات فدقت حربيا، حتى اجتمع الأمراء والمماليك للقتال مع السلطان على العادة، فلم يزل الأمير أينبك راكبا تحت القلعة من عصر يوم الأحد، حتى أصبح نهار يوم الإثنين. هذا وقرطاي ومن معه من الأمراء الألوف والطبلخاناه وغيرهم في غيبة من السكر لايعون ولا يفيقون، وهم الأمير أسندمر الصرغتمشى، والأمير سودن جركس، والأمير قطلوبغا البدري، والأمير قطلوبغا جركس أمير سلاح، والأمير مبارك الطازي، في آخرين فلما أصبحوا أفاق قرطاي إفاقة ما، وبعث يسأل الأمير أينبك أن ينعم عليه بنيابة حلب، فأرسل إليه التشريف ليلبسه ويخرج من وقته، وكان أينبك قد أحاط في الليل بإصطبلات الأمراء الذين عند قرطاي وخواص مماليكه أيضاً، وأخذ خيولهم بأجمعها، وكان مماليك قرطاي قد أعياهم أمره، وعجزوا عن إيقاظه، وأتوه في الليل برئيس الأطباء، فعالجه ومن معه من الأمراء، فلم ينجع فيهم الدواء، فلما جاءه التشريف بنيابة حلب مع عدة من أصحاب أينبك، أخذوا قرطاي وأخرجوه من باب سرداره، ومروا به، وهو لا يعي حتى أوصلوه إلى سرياقوس وعبر الأمير أينبك إلى بيت قرطاي - بعد إخراجه منه - وقبض على الأمراء وعلى عامة أصحاب قرطاي، وحبسهم مقيدين، وبعث بعدة منهم إلى ثغر الإسكندرية، فسجنوا بها، ونودي في القاهرة " الأمان والإطمئنان، والبيع والشراء، والدعاء للسلطان الملك المنصور " . ففتحت الأسواق.
وفي ثاني عشرينه: أخرج الأمير أتمر الحنبلي نائب السلطان إلى الشام منفيا.وفيه خلع على بدر الدين عبد الوهاب الأخناي، وأعيد إلى قضاء القضاة المالكية. عوضاً عن علم الدين سليمان البساطي.وفيه نودي بالقاهرة ومصر " من كانت له ظلامة، فعليه بباب الأمير أينبك " .
وفي آخره: أشيع بأن الأمراء تركب للحرب، فرسم للأمير حسين بن الكوراني وإلى القاهرة بقتل جماعة لإرهاب العامة، فأخرج عدة من خزانة شمايل قد وجب عليهم القتل، ونحرهم، ونودي عليهم " وهذا جزاء من يكثر فضوله. ويتكلم فيما لا يعنيه " . ثم وسطهم تحت القلعة.
وفي ثالث عشرينه:سمر ثلاثة مماليك صبيان، من أجل أنهم نهبوا من خيول الأمير أقتمر الحنبلي، وطيف بهم القاهرة وتحت القلعة.وفيه أخرج الأمير بيقجا الكمالي منفيا.
وفي يوم الخميس رابع عشرينه: خلع على الأمير أينبك، واستقر أتابك العساكر، عوضا عن قرطاى، وخلع على الأمير أقتمر عبد الغني، واستقر نائب السلطان، عوضا عن أقتمر الحنبلي، وخلع على الأمير بهادر الجمالي، المعروف بالمشرف، واستقر أستادارا، عوضا عن سودون جركس، وخلع على الأمير بلاط السيفي، واستقر أمير سلاح. وخلع على الأمير ألطنبغا السلطاني، واستقر أمير مجلس، وخلع على الأمير دمرداش اليوسفي، واستقر رأس نوبة كبير، وخلع على الأمير أطلمش الأرغوني، واستقر دوادارا، عوضا عن فخر الدين إياس الصرغتمشى، وخلع على قطلوخجا السيفي، وأنعم عليه بتقدمة، وخلع على الأمير يلبغا الناصري، وأنعم عليه بتقدمة ألف، واستقر رأس نوبة ثانيا، وخلع على الطواشي مقبل(2/309)
الدواداري، واستقر زام الدار، عوضا عن مثقال الجمالي، وخلع على الأمير أربوز السيفي، واستقر مهمندار بإمرة عشرة.وفيه أنعم على برقوق العثماني بإمرة طبلخاناه، وعلى بركة بإمرة طبلخاناه وكان من جملة المماليك، صارا من إقطاع الحلقة إلى إمرة طبلخاناه من غير أن يكونا من أمراء العشرات.وفيه خلع على عبد العال، شاهد مطبخ الأمير أينبك، واستقر في توقيع الدست، عوضاً عن برهان الدين إبراهيم بن اللبان، شاهد قرطاي.وفيه سكن الأمير الكبير أينبك بالإصطبل السلطاني، ولم تجر عادة من تقدموا بذلك. وفيه أنعم على ولديه أحمد وأبي بكر بتقدمتي ألف، وسكنا في بيت قرطاي تجاه باب السلسلة.واستقر الأمير علاء الدين علي بن قشتمر في نيابة الإسكندرية، عوضاً عن صلاح الدين خليل بن عرام، واستدعي ابن عرام إلى القاهرة.
وفي أول شهر وبيع الأول: خلع على الأمير بهادر الجمالي، واستقر في نظر المارستان.
وفي يوم الأحد رابعه: استدعى الأمير الكبير أينبك، الخليفة المتوكل على الله محمد إلى حضرته، وأراد أن يجعل في السلطة الأمير أحمد بن الأمير يلبغا العمري، فاعتذر بأنه ابن أمير وليس من بيت الملك، فقال له أينبك: " إنما هو ابن السلطان حسن، حملت به أمه، فلما قتل السلطان أخذها الأمير يلبغا فولدته على فراشه " . فلم يوافقه على ذلك، فسبه الأمير أينبك، وقال له: " ما أنت فاره إلا في اللعب بالحمام، والإشتغال بالجواري المغنيات، والضرب بالعود " ، ونهره، وأمر به فأخرج منفياً إلى قوص ، فنزل برباط الآثار خارج مدينة مصر، ليجهز حاله للسفر، وبات الناس في قلق، وعلى تخوف من ركوب الأمراء للحرب، وفي يوم الإثنين خامسه استدعى الأمير الكبير أينبك بزكريا بن إبراهيم بن محمد بن أحمد الحاكم وخلع عليه، واستقر به خليفة، عوضاً عن المتوكل على الله، ولقبه المستعصم بالله، وفي عصر هذا اليوم بعث الأمير أينبك بالأمير بلوط الحاجب إلى الخليفة المتوكل حتى عاد من رباط الآثار إلى داره، فلزمها.وفيه خلع على الأمير صلاح الدين خليل بن عرام، واستقر حاجب الحجاب. وخلع على الأمير جمال الدين عبد الله بن بكتمر، واستقر حاجبا ثانيا.
وفي ثامنه: أخرج بالأمير أرغون العثماني منفيا إلى الشام.وفيه أنزل الأمير الكبير أينبك. بمائتي مملوك، أسكن مائة بمدرسة حسن، ومائة. بمدرسة الأشراف.
وفي يوم السبت سابع عشره: ورد الخبر بأن الأمير طشتمر نائب الشام، والأمير أشقتمر نائب حلب، والأمير تمرباى نائب صفد، والأمير منكلي بغا البلدي - وقد خرج من سجن الكرك، وأنعم عليه بإقطاع جنتمر أخي طاز وتقدمته - والأمير أرغون الأسعردي، والأمير قرطاي، قد خرجوا عن الطاعة، وصاروا في جمع كبير من المماليك والعربان والتركمان، وقالوا: " لا ترضى بتحكم أبنبك " . " وأنهم جميعا في طاعة الأمير طشتمر، وقد عزموا على المسير إلى مصر، وأخذها من أينبك " ،. وقد منعوا البريد بأن يرد إلى مصر.
وفي يوم الإثنين تاسع عشره: قدم الأمير أقتمر الحنبلي، والأمير قرطاي إلى دمشق، فتلقاهما الأمير طشتمر، وبالغ في إكرامهما، وفيه جمع الأمير أينبك الأمراء والقضاة، وحلف الأمراء لنفسه وللسلطان، وأمرهم بأن يتجهزوا إلى الشام، وأمر بالجاليش السلطاني، فعلق على الطبلخاناه من قلعة الجبل.
وفيه - وهو سابع عشرين تموز وثالث مسرى - : وقع مطر كبير جداً، سال منه جبل المقطم، وكان مع ذلك رعد قوي وبرق متواتر، وتساقطت في الليل نجوم عديدة.
وفي يوم الثلاثاء عشرينه: خلع على الخليفة المتوكل على الله، واستقر خليفة على عادته.
وفي يوم الجمعة ثالث عشرينه: خلع على شمس الدين محمد الدميري وأعيد إلى حسبة القاهرة، عوضا عن جمال الدين محمود العجمي.وفيه خرج الأمير صلاح الدين خليل بن عرام، ليقف على رأس الرمل بطريق الشام؛ ليرد من عساه يتسحب من المماليك إلى الشام.
وفي يوم الإثنين سادس عشرينه: خرج الجاليش سائرا إلى الشام، وهم خمسة أمراء مقدمي ألوف: قطلوخجا، والأمير شهاب الدين أحمد بن الأمير الكبير أينبك، والأمير يلبغا الناصري، والأمير دمرداش اليوسفي، والأمير بلاط الصغير، والأمير تمر باي الحسني، وأربعة أمراء طبلخاناه، وهم: بورى الأحمدي، وآقبغا آص الشيخوني، وبرقوق العثماني، وبركة، ومائة من المماليك السلطانية، ومائة من مماليك الأمير أينبك.(2/310)
وفي يوم الخميس تاسع عشرينه: خرج طلب السلطان، وطلب الأمير الكبير أينبك، وسائر أطلاب الأمراء وغيرهم.
وفي يوم السبت أول شهر ربيع الآخر: ركب السلطان والأمير قطلوأقتمر الطويل، والأمير مبارك الطازي، والأمير ألطنبغا السلطاني، والأمير إينال، في بقية الأمراء والمماليك، وسار من قلعة الجبل حتى نزل. بمخيمه على ناجية العكرشا، شمالي سرياقوس. وفيه نودي أن النيل أربعا وعشرين إصبعا من أول النهار، ثم نودي عند العصربزيادة اثنتي عشرة إصبعا، لتتمة ست عشرة ذراعاً، وزيادة إصبع من سبع عشرة ذراعا، وذلك هو اليوم الخامس عشر من شهر مسرى، فسر الناس الوفاء وخروج أينبك من البلد، وكان أينبك قد ثقل على الناس وتطيروا له بذلك، فقالوا: " خرج في يوم الكسر " ، فوقعت عليه الطيرة.
وفي يوم الأحد ثانيه: فتح الخليج على العادة، فنودي بزيادة خمس أصابع.
فلما كان بعد عصر هذا اليوم رجع الأمير أينبك بالسلطان إلى القلعة ومعه الأمير قطلو أقتمر الطويل، والأمير ألطنبغا السلطاني، وقد اضطربت القاهرة، وذلك أن أمراء الشام وردت. مكاتبتهم إلى أمراء مصر، تتضمن توبيخهم على تقديمهم أينبك وتمكينمه من الإنفراد بالتدبير، وقرروا معهم إشاعة مخامرة نواب الشام، وخروجهم عن الطاعة، وعمل الحيلة في إزعاج أينبك حتى يخرج لمحاربتهم بالشام، ليحصل التمكن من القبض عليه، فدبروا على أينبك، حتى خرج بالسلطان، وسار جاليش العسكر حتى نزل بالصالحية فبلغ الأمير قطلوخجا، أخوأينبك وهو مقدم الجاليش، أن الذين معه من الأمراء والمماليك قد اتفقوا على أن يكبسوه، فجمع مماليكه ومماليك الأمير أحمد بن أينبك، وبادر ليأخذهم قبل أن يأخذوه، وركب إليهم وهم متهيئون له، فقاتلوه وكسروه كسرة قبيحة، لم ينج منها إلا بنفسه وثلاثة معه، وأقبل إلى أخيه أينبك فلم يثبت، ورجع من فوره بالسلطان، وكان رأس هذه الحركة ومحرك سلسلتها الأمير برقوق العثماني.
وفي غده - يوم الإثنين ثالثه - : أنزل الأمير أينبك بالسلطان من قصره إلى الأصيل، ودقت الكوسات حربيا، ليجتمع العسكر على العادة، وكان قد اتفق الأمير قطلو أقتمر الطويل - هو والأمير ألطنبغا السلطاني، وجماعة كبيرة - على مخالفة أينبك، وتوجها نصف الليل إلى قبة النصر، خارج القاهرة، ووقفوا هناك للحرب، فبعث إليهم الأمير أينبك بأخيه الأمير قطلوخجا، ومعه نحو مائتي فارس، فلقيه القوم وقاتلوه، وأخدوه أسيراً. فبعث إليهم من الأمراء أقتمر عبد الغني، وبهادر الجمالي،ومبارك الطازي، فعندما ساروا عنه لم يثبت، وفر إلى جهة كيمان مصر، فتبعه الأمير أيدمر الخطاي في جماعة، فلم يقفوا له على خبر، ثم رأوا فرسه وقباه وآلة حربه، فعادوا بذلك، وقد بلغ قطلو أقتمر الطويل فرار أينبك، فعاد بمن معه، وضرب رنكة على بيت أحمد بن أينبك بالرميلة ليستولي عليه. بما فيه، وسكن حيث كان سكن أينبك من الإصطبل السلطاني، وظن أنه قد أمن، وقلع عنه السلاح، وأقام ينتظر قدوم من خرج من الأمراء والمماليك في الجاليش، ليقوى بهم.فلما كان بكرة الغد - يوم الثلاثاء رابعه - قدم أمراء الجاليش. بمن معهم، وهم الأمير دمرداش اليوسفي، والأمير بلاط الصغير، والأمير يلبغا الناصري، وثلاثتهم مقدموا ألوف، والأمير برقوق العثماني، والأمير بركة، وهما طبلخاناه، وطلعوا إلى الإصطبل، ودار بينهم وبين الأمير قطلو أقتمر الطويل كلام آل إلى اختلافهم وتنازعهم، فقبضوا عليه وعلى الأمير ألطنبغا السلطاني، والأمير مبارك الطازي، وقيدوهم ثلاثتهم ، وبعثوا بهم عشية النهار إلى سجن الإسكندرية، مع الأمير جمال الدين عبد الله بن بكتمر الحاجب فسجنوا به، وصار التحدث من الأمراء في الدولة للأمير يلبغا الناصري، وأخرج البريد من وقته وساعته لإحضار الأمير طشتمر نائب الشام.
وفي يوم الخميس سادسه: وقفت العامة تطلب عزل الدميري وإعادة العجمي إلى الحسبة، فأجيبوا إلى ذلك، وخلع على جمال الدين محمود العجمي وأعيد إلى الحسبة، عوضا عن شمس الدين محمد الدميري.وفيه أنعم على كل من الأمير برقوق العثماني والأمير بركة بتقدمة ألف واستقر الأمير يلبغا الناصري أمير أخور، وسكن بإصطبل، كما سكن أينبك، وقطلو أقتمر الطويل.(2/311)
وفي يوم الأحد تاسعه: جاء الأمير أينبك. بمفرده إلى بيت الأمير بلاط الصغير. فطلع به إلى الأمير يلبغا الناصري، وقد سكن أيضاً بالإصطبل، فقيده، وقبض معه على أمير اسمه نعناع، وبعث بهما مقيدين إلى الإسكندرية فسجنا بها أيضاً.
وفي يوم الأربعاء ثاني عشره: قدم البريد إلى دمشق بطلب الأمير قشتمر وهو بقبة يلبغا - خارج المدينة - وقد برز ومعه العساكر ونواب الشام، يريد المسير إلى مصر ومحاربة أينبك، ونزع يده من التصرف. فلما قرأ كتاب السلطان. بما كان من القبض على أينبك، وسجنه بالإسكندرية، والمرسوم له بأن يحضر إلى مصر ليكون الأمير الكبيرالأتابك، ويحضر صحبته الأمير تمرباى ليستقر رأس نوبة كبير، وأن يستقر الأمير أقتمر الحنبلي في نيابة الشام، والأمير أشقتمر في نيابة حلب، والأميرمنكلي بغا الأحمدي في نيابة حماة والأمير أقبغا الدوادار نائب غزة في نيابة صفد فسر بذلك وتفرقت تلك العساكر، وتوجه الأمير طشتمر إلى مصر، واستقر الأمير أقتمر الحنبلي في نيابة الشام، عوضاً عن الأمير طشتمر.
وفي يوم الأحد سادس عشره: بلغ الأمراء القائمين بأمر الدولة، وهم: يلبغا الناصري، وبرقوق، وبركة، أن جماعة من الأمراء قد عزموا على الفتك بهم، فركب الأمراء الثلاثة في عدة من اليلبغاوية، وقبضوا على الأمير دمرداش اليوسفي، وعلى الأمير تمر باى الحسني، وعلى الأمير آقبغا آص الشيخوني، وعلى الأمير قطلوبغا الشعباني، وعلى الأمير دمرداش التمان تمرى المعلم، وعلى الأمير أسندمر العثماني، وعلى الأمير بجمان العلاي، وعلى الأمير أسنبغا التلكي، وقيدوهم، وبعثوا بهم إلى الإسكندرية، فسجنوا بها وهؤلاء ممن وثب من المماليك في هذه الفتنة، وعمل أميرا. وفيه قبض على الطواشي مختار الحسامي مقدم المماليك، وسجن بالبرج من القلعة.
وفي يوم الأحد ثالث عشرينه: خلع على مختار، وأعيد إلى تقدمة المماليك.وفيه ركب الأمير برقوق العثماني - وقت القايلة - في جماعة من أصحابه، وصعد إلى الإصطبل، وأنزل الأمير يلبغا الناصري منه، ونزعه من وظيفته، وسكن في موضعه من الأصطبل السلطاني، واستقر عوضه أمير أخور، واستقر بأخيه الأمير بركة الجوباني أمير مجلس، وأسكنه في بيت الأمير قوصون، تجاه باب السلسلة من الرميلة، واقتسما الحكم في الدولة بينهما.
وكانت الفتن التي تقدم ذكرها، وثورات المماليك، وتغير دولهم، إنما هي توطئة لبرقوق، وتمهيد له حتى ملك البلاد، وقام بدولة الجراكسة، كما ستراه إن شاء الله تعالى، فإنه من يومه هذا استقر قراره بالإصطبل ورسخت قدمه في الدولة، وثبت أوتاده بها، وما زالت الأقدار تساعده، والأيام تساعده، حتى استبد بالمملكة، وانفرد بتدبير السلطة، وصعد من الإصطبل، فسكن القصر حتى نقل منه إلى القبر عزيزا منيعا، عالي القدر رفيعا، فسبحان من يدبر الأمر كله، لا إله إلا هو.
وفي يوم الإثنين رابع عشرينه: خلع على الأمير جمال الدين مغلطاي الشرفي واستقر في ولاية القاهرة، عوضاً عن حسين بن علي الكوراني، وقبض على حسين واعتقل.
وفي يوم الإثنين أول جمادى الأولى: قدم الأمير طشتمر العلاي من دمشق، فركب السلطان والأمراء إلى لقائه، فلما رأى السلطان بالريدانية، خارج القاهرة، نزل عن فرسه وقبل الأرض وبكى، فنزل إليه الأمراء وسلموا عليه وأركبوه، وساروا به إلى القلعة، فخلع عليه، واستقر أتابك العساكر، وخلع على الأمير تمر باي الدمرداشي - وقد قدم أيضاً - واستقر رأس نوبة كبيرا، وأنعم على الأمير تغرى بتقدمة ألف، فكان يوما مشهودا.
وفي يوم الأربعاء ثالثه: نودي بالقاهرة ومصر: " من ظلم فعليه بباب الأمير طشتمر الأتابك " .وفيه خلع على الأمير برقوق، واستقر أمير أخور، وخلع على الأمير بركة، واستقر أمير مجلس.وفيه أنعم على الأمير أطلمش الأرغوني بتقدمة ألف، واستقر دوادار، وعلي يلبغا المنجكي، واستقر شاد الشراب خاناه. وعلى الأمير بلاط، واستقر أمير سلاح، ورسم أن يجلس بالإيوان في وقت الخدمة.
وفي يوم الإثنين خامس عشره: أفرج عن الأمير سودن جركس،والأمير قطلوبغا جركس، والأمير قطلوبغا البدري، والأمير ألطنبغا السلطاني، والأمير طغيتمر الناصري، والأمير ألجبغا السيفي، والأمير إياس الصرغتمشى والأمير قطلوبغا البشيري، والأمير أسنبغا، ورسم إحضارهم من الإسكندرية.(2/312)
وفي عشرينه: خلع على برهان الدين إبراهيم الأبناسي - من أعيان الفقهاء الشافعية - واستقر في مشيخة خانكاه سعيد السعداء، بعد وفاة علاء الدين أحمد بن محمد السراي. ونزل معه شمس الدين أبو الفرج المقسي ناظر الخاص إلى الخانكاه.وفيه حمل إلى الأمير أقتمر الحنبلي تشريف نيابة دمشق وتقليده بها.
وفي خامس عشرينه: قدم الأمير قطلو أقتمر العلاي أمير جاندار، أخو الأمير أقتمر الحنبلي، والأمير علاء الدين علي بن تشتمر نائب الإسكندرية، فأنعم على كل منهما بإمرة مائة تقدمة ألف.وفيه أعيد الأمير صلاح الدين خليل بن عرام إلى نيابة الإسكندرية.
وفي سادس عشرينه: استقر الطواشي دينار الناصري لالا السلطان، وأخرج الطواشي مقبل الكلفتي منفيا، وخلع على الأمير تمرباي الدمرداشي، واستقر ناظر المارستان.
وفي سلخه: خلع على الأمير تغرى برمش، واستقر حاجب الحجاب، وعزل الأمير أقتمر عبد الغني من نيابة السلطنة، وخلع على الأمير علي بن قشتمر، واستقر حاجبا لها.
وفي ليلة الرابع من شهر رجب: تردى الأمير قطلو أقتمر الطويل، من مكان بسجنه من الإسكندرية، فمات، وقيل إنه كان سكرانا، ومنه تفرعت الفتن التي نرد ذكرها، ودفن من الغد ولم يصل عليه أحد.
وفي يوم الأحد خامسه: قدم الأمير أيتمش البجاسى إلى ثغر الإسكندرية، بالإفراج عن جميع الأمراء المعتقلين، ما عدا أربعة: الأمير أينبك، والأمير قطلو خجا، والأمير أسندمر الصرغتمشى، والأمير جركس الإلجاوي، وأفرج عنهم، وتوجه بهم إلى القاهرة،فلما وصلوا قريبا منها رسم بتفرقهم في البلاد الشامية، فساروا إلى حيث أمروا، وأحضر إلى قلعة الجبل منهم بأحمد بن همز وأسنبغا التلكي.
وفي يوم الإثنين ثالث عشره: خلع على علم الدين سليمان البساطي، وأعيد إلى قضاء القضاة المالكية، عوضا عن بدر الدين عبد الوهاب الأخناي، وكتب باستقرار الأمير بيدمر الخوارزمي في نيابة الشام،عوضا عن الأمير أقتمر الحنبلي بعد وفاته. واستقر الأمير زين الدين مبارك شاه العلاي المشطوب في نيابة غزة .
وفي يوم الإثنين سابع عشرينه: خلع على صاحب كريم الدين عبد الكريم بن الرويهب، واستقر في الوزارة، عوضا عن التاج النشو الملكي، وسجن الملكي بقاعة الصاحب من القلعة، وفيه خلع على الأمير قطلو أقتمر أمير جندار أخي الحنبلي، واستقر في نيابة الإسكندرية، عوضاً عن ابن عرام، ورسم بإحضار ابن عرام وزوجته - الست سمراء - ليصادرا.
وفيه جهزت خلعة نيابة طرابلس إلى الأمير بلاط السيفي، وقد خرج إلى، ناحية العكرشا، ورسم له أن يتوجه من موضعه إلى طرابلس، ثم انتقض ذلك، واستعيدت الخلعة واستقر على حاله.
وفي ثاني شعبان: ارتجعت إمرية طيبغا الجمالي، وكان قد جرد لكبس الغربان بناحية أطفيح فكبسه العرب وجرحوه، وعاد مريضا من جراحته.
وفي هذه الأيام: عزل قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم بن جماعة نفسه من وظيفة قضاء القضاة، وخرج إلى تربة كوكاى، بنية العود إلى القدس، بعد أن انجمع عن أهل الدولة، وترك حضور الخدمة السلطانية بالإيوان في يومي الإثنين والخميس مع الأمراء مدة أيام، تورعا واحتياط لدينه، لما دهم الناس من تغير الأحوال، وحدوث ما لم يعهد، وتهاون القائمون بالدولة بالأمور الدينية فعين الأمير الأتابك طشتمر العلاي لقضاء القضاة سراج الدين عمر البلقيني قاضي العسكر، فلم توافقه بعض الأمراء، فتحدث لبدر الدين محمد بن أبي البقاء في ولايته.بمال قام به، فشق ذلك على البلقيني وترك قضاء العسكر لولده؛ فلما كان يوم الإثنين ثامن عشره، خلع علي بدر الدين محمد ابن قاضي القضاة بهاء الدين أبي البقاء، واستقر في قضاء القضاة، عوضا عن برهان الدين إبراهيم بن جماعة، وخلع علي بدر الدين محمد بن سراج الدين عمر البلقيني، واستقر في قضاء العسكر برغبة أبيه له عن ذلك.(2/313)
واستقر الشيخ سراج الدين عمر البلقيني في تدريس المدرسة الناصرية بجوار قبة الشافعي - رحمه الله - من القرافة، واستقر الشيخ ضياء الدين عبيد الله القرمي - شيخ الخانكاه الركنية بيبرس - في تدريس الفقه وتدريس الحديث بالمدرسة المنصورية، عوضاً عن ابن أبي البقاء، واستقر جلال الدين عبد الرحمن بن البلقيني في توقيع الدست، عوضا عن أخيه بدر الدين، واستقر صدر الدين محمد بن إبراهيم المناوي - أحد نواب القضاة الشافعية - في إفتاء دار العدل، عوضا عن أبى البقاء، وخلع على الجميع، ونزلوا بين يدي قاضي القضاة بدر الدين محمد بن أبي البقاء، فكان يوما مشهودا.وفيه أخرج الأمير بيبغا الطويل العلاي - أحد أمراء الطبلخاناه - منفيا إلى الشام.وفيه استقر الأمير منكلي بغا البلدي في نيابة طرابلس، عوضاً عن أرغون الأسعردي، واستقر الأسعردي في نيابة حماة، عوضاً عن منكلي بغا البلدي، واستقر أقبغا الجوهري - حاجب طرابلس - في نيابة غزة، عوضًا عن مبارك شاه المشطوب - واستقر مبارك شاه حاجبا بطرابلس.
وفي ثامن عشرينه: ارتجعت طبلخاناه طينال المارديني ،وعوض عنها بإمرة عشرة، ورسم أن يكون طرخانا.
وفي يوم الإثنين ثاني شوال: أمر الأمير برقوق بتسمير مملوك من مماليك السلطان السلاح دارية، اسمه تكا، فسمر وطيف به، وهو ينادي عليه. " هذا جزاء من يرمي الفتن بين الملوك، ويتكلم فيما لا يعنيه " من أجل أنه وشى به إلى الأمير طشتمر الأتابك بأن الأمير برقوق قد عزم أن يركب عليه، فبعث يعتبه على ذلك، فأنكر، وحلف، وطلب منه الناقل هذا عنه، فبعث به إليه، ففعل به ما ذكر.
وفي يوم السبت رابع عشره:صار قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم بن جماعة على البريد إلى القدس.
وفي يوم الإثنين سادس عشره: خلع على الأمير صلاح الدين خليل بن عرام، فاستقر في الوزارة، عوضاً عن ابن الرويهب، وخلع على التاج عبد الوهاب النشو الملكي، واستقر بعد الوزارة في نظر الدولة، عوضا عن سعد الدين بن الريشة، واستقر ابن الريشة في نظر الأسواق ودار الضيافة، وألزم ابن الرويهب بحمل مائة ألف درهم. وصادر الوزير ابن عرام مباشري الجهات جميعهم، فهرب أكثرهم.وكان الأمير بلاط أمير سلاح قد عدى النيل إلى الجيزة ونزل عند مرابط خيله على الربيع، ليتنزه هناك، فبعث إليه الأمراء بخلعة لنيابة طرابلس، وعوقت عنه المعادي في يوم الإثنين ثالث عشرينه وبعث من الغد إليه الأمير برقوق أمير أخور يخيره في نيابات البلاد، فامتنع من ذلك، وعزم على الحرب، وأقبل إلى ساحل النيل ليعديه، فوجد المعادي قد انحازت عنه إلى جهة بر مصر فسقط في يده، وأذعن للطاعة، فأخرج إلى القدس بطالا، وأنعم عليه بضيعة تغل في السنة نحو مائتي ألف درهم، فلما صار في أثناء الطريق، كتب بأن يتوجه إلى الكرك، ويقيم بها بطالا، ولم يجر في ذلك فتنة، إلا أن الأمير برقوق ألبس مماليكه آلة الحرب، حتى سار بلاط، ثم قبض على إخوته وحاشيته وأكابر مماليكه، وسجنوا، ومنع الأمراء من استخدام مماليكه عندهم.
وفي يوم الخميس ثالث ذي القعدة: خلع على الأمير يلبغا الناصري، واستقر أمير سلاح، عوضا عن بلاط، وخلع على الأمير إينال اليوسفي، واستقر رأس نوبة ثانيا، عوضا عن يلبغا الناصري، وكثر الرخاء في هذا الشهر، حتى أبيع الخبز البايت كل أربعة وعشرين رطلا بدرهم، حسابا عن كل رطل - وهو رغيف - بفلس، والجبن الجاموسي الطري كل عشرة أرطال بثلاثة دراهم ونصف درهم، والبيض كل أربعين بيضة بدرهم.
وفي ثامن عشرينه: خلع على الوزير صاحب تاج الدين عبد الوهاب النشو الملكي ناظر الدولة، واستقر في نظر الجيش، عوضا عن تقي الدين عبد الرحمن بن محب الدين محمد.(2/314)
وفي ذي الحجة: توحش ما بين الأمير الكبير طشتمر الأتابك، وبين الأمير برقوق أمير أخور، وأخذ الأمير برقوق في التعنت عليه حتى يخالفه، فيجعل ذلك سببا لإثارة الفتنة، وصار برسل إليه بأن ينفي فلانا من مماليكه عنه، فيمتثل إشارته وينفي ذلك المملوك قصدا لإخماد الفتنة، حتى بعث إليه هو والأمير بركة بأن يقبض على مملوكه رأس نوبته كمشبغا، ويخرجه منفيا، فلم يجد بداً من ذلك، وأمر به فقبض عليه. وجلس بعد صلاة العشاء من ليلة عرفة على عادته مع خواصه يتحدث، وإذا بمماليكه قد دخلوا عليه لابسين السلاح، وعنفوه على موافقة برقوق على مسك مماليكه، وأظهروا الغضب لذلك، وأرادوه أن يركب للحرب، فقام إلى حريمه وأغلق عليه بابه، فخرجوا عنه يدا واحدة، وركبوا خيولهم، ووقفوا تحت القلعة، فأمر برقوق بالكوسات فدقت، وركب هو والأمير بركة، ووقعت الحرب بينهم طول تلك الليلة إلى الصباح، فقتل جماعة، وجرح كمشبغا رأس نوبة طشتمر، مات منها بعد ذلك. وانكسرت بقية الطشتمرية، فخرج الأمير طشتمر من داره في يوم الخميس تاسع ذي الحجة - صبيحة الوقعة - وفي عنقه منديل، ومضى إلى الأمير برقوق، وهو قد تزوج بابنته، فقبض عليه وعلى الأمير أطلمش الدوادار، والأمير بزلار، وأرغون - دوادار طشتمر - وألابغا رأس نوبته، وعلى أمير حاج بن مغلطاي، وبعثهم جميعا مقيدين إلى الإسكندرية، فسجنوا بها، وتتبع حواشي طشتمر، فقبض على طواشيه تقطاي - وكان قد قاتل تلك الليلة قتالاً شديداً - وقبض عدة من مماليكه أيضاً، نفاهم إلى قوص .
وفي يوم الإثنين ثالث عشره: خلع على الأمير سيف الدين برقوق العثماني أمير آخور، واستقر أميراً كبيراً أتابك العساكر، عوضًا عن أبي زوجته، الأمير طشتمرالعلاي، وخلع على صديقه الأمير أيتمش البجاسي، واستقر عوضه أمير آخور بإمرة مائة تقدمة ألف، واستمر سكنى الأمير برقوق حيث كان من الإصطبل، وصار يطلع إلى الأشرفية من قلعة الجبل في يومي الإثنين والخميس، وتقاسم الأمر هو والأمير بركة، فصارا فحلي الشول، إليهما ترجع أمور الدولة بأسرها، إلا أن الولايات والعزل إذا انتظمت عند الأمير بركة في بيته كان أمضاها بين يدي الأمير الكبير برقوق بالإصطبل، فإذا أراد أحد ولاية شيء من الأمور تحدث مع حاشية الأمير بركة حتى يتقرر له ما يريد، ثم بيعت بذلك الرجل إلى أخيه الأمير الكبير برقوق، ويعلمه. مما أراد فيرضيه أيضاً، ثم يستقر فيما يقرر فيه من الوظائف، إما في الخدمة السلطانية أو في مجلس الأمير الكبير برقوق، فكان هذا حال الناس جميعا فيما يريدونه من الدولة، وفي الظاهر صاحب الأمر الأمير برقوق، غير أن الولايات كلها من القضاء والحسبة وولاية الحرب في الأعمال والكشف، وسائر الوظائف، لا سبيل أن ينالها أحد إلابمال ،يقوم به أو بأدائه، ويكتب به خطه، فتطاول كل نذل رذل وسفلة إلى ما سنح بخاطره عن الأعمال الجليلة والرتب العلية، فدهى الناس من ذلك بداهية دهياء، أوجبت خراب مصر والشام، كما ستراه فيما يمر بك على طول السنين في أوقاته، إن شاء الله تعالى.
وفي يوم الأربعاء خامس عشره: أرسل الأمير الكبير برقوق يستدعي الأمير يلبغا الناصري، ليأخذ رأيه في شيء عن له فظن أن الأمر على هذا، وركب إليه غير مستعد، في قليل من مماليكه، فلما صار إليه عزم عليه أن يتخفف من ثيابه، ويظل نهاره عنده ليفاوضه في مهماته، فقام ليخلع عنه ثياب ركوبه في بعض مخادع الدار، فأحيط به وقبض عليه، وقيد وحمل من وقته إلى الإسكندرية، فسجن بها، وقبض معه على كجلي، أحد أمراء الطبلخاناه أيضاً.
وفي عشرينه: خلع على الأمير إينال اليوسفي، واستقر أمير سلاح، عوضاً عن يلبغا الناصري، واستقر محمد بن طاجار في ولاية دمياط، واستقر علم الدين أبو عبد الله محمد بن ناصر الدين محمد القفصي المصري في قضاء المالكية بدمشق، عوضاً عن البرهان إبراهيم الصنهاجي، واستقر كمال الدين عمر بن الفخر عثمان بن هبة الله المعري في قضاء القضاة الشافعية بحلب، عوضاً عن جلال الدين محمد بن محمد الزرعي.وفيها ولي محب الدين أبو المعالي محمد بن محمد بن الشحنة قضاء الحنفية بحلب، عوضاً عن الجمال إبراهيم بن العديم، وعزل بعد أشهر قلائل بابن العديم.
ومات في هذه السنة من الأعيان(2/315)
شهاب الدين أبو جعفر أحمد بن يوسف بن مالك الرعيني الغرناطي النحوي بحلب، عن سبعين سنة، وكان حسن الأخلاق عالما بالنحو والتصريف والبديع، له مشاركة في علم الحديث وغيره، ويد طولى في الأدب، وله عدة مصنفات في النحو والبديع والعروض، منها شرح ألفية ابن معطي، وله شعر، أقام بحلب ثلاثين سنة، وحج مرارا. ومات الأمير أحمد بن الأمير قوصون، في ثاني عشر ذي الحجة.
ومات الأمير أقتمر الصاحبي - المعروف بالحنبلي، لكثرة مبالغتنا في الطهارة بالماء، وتشدده في ذلك - وهو على نيابة دمشق، في ليلة الحادي عشر من رجب.
ومات الأمير ألطنبغا أبو قورة، أمير سلاح.
وتوفي صلاح الدين صالح بن أحمد بن عمر بن السفاح الحلبي، وهو عائد من الحج، بمدينة بصرى، عن سبع وستين سنة.
ومات الأمير طشتمر اللفاف، أحد رؤوس الفتن، في يوم الثلاثاء ثالث المحرم بالطاعون.
وتوفي بدر الدين حسن بن عمر بن حسن بن عمر بن حبيب الحلبي المؤرخ بحلب، عن سبعين سنة.
ومات الأمير قرطاي، أحد مثيري الفتن، ثم أتابك العساكر، مخنوقا بطرابلس، في شهر رمضان، وحملت رأسه إلى القاهرة.
وتوفي والدي، علاء الدين علي بن محيى الدين عبد القادر بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن تميم بن عبد الصمد بن أبي الحسن بن عبد الصمد بن تميم المقريزي الشافعي، في يوم الأحد خامس عشرين شهر رمضان عن خمسين سنة. وقد باشر التوقيع السلطاني وعدة وظائف، وكان الأغلب عليه صناعة كتابة الإنشاء والحساب، مع دين متين، وعقل راجح رصين، والله تعالى أعلم.
سنة ثمانين و سبعمائة
أهلت بيوم الخميس: وفيه خلع على الأمير أقتمر العثماني، واستقر دوادارا بتقدمة ألف، عوضًا عن أطلمش الأرغوني.
وفي يوم الإثنين خامسه: استقر الأمير مبارك شاه الطازي في نيابة غزة، عوضاً عن أقبغا الجوهري، واستقر أقبغا الجوهري في نيابة صفد، عوضاً عن صُراي تَمُر المحمدي، وقبض على صرا تمر وسجن بالكرك.
وفي عاشره: مات الأمير أينَبَك، مثيرالفتن، بسجن الإسكندرية، وصودرت زوجته وأخذ منها مال عظيم، فكان هذا مما استشنع فعله، فإنه لم تجر العادة بالتعرض للحرم.
وفي يوم الإثنين ثاني عشره: خلع على كريم الدين عبد الكريم بن عبد الرازق بن إبراهيم بن مكانس، واستقر في نظر الدولة، عوضاً عن تاج الدين نشو الملكي، وأفرد الملكي بنظر الجيش.
وفي يوم الإثنين تاسع عشره: خلع على تقي الدين عبد الرحمن بن محب الدين محمد، وأعيد إلى نظر الجيش، عوضاً عن الملكي. وقبض على الملكي وسجن بقاعة الصاحب من القلعة، حتى مائة ألف درهم فضة، ثم أفرج عنه.
وفي ليلة الأحد خامس عشرينه: وقع حريق عظيم خارج باب زويلة، احترق منه دكاكين الفاكهانيين والنقليين، والبرادعيين، والرابع المعروف بالدهيشة تجاه باب زويلة، وامتدت النار إلى سور القاهرة، فركب الأمير بركة الجوباني، والأمير أيتمش البجاسي، والأمير دمرداش الأحمدي، والأمير تغرى برمش حاجب الحجاب، وطفوه بأنفسهم ومماليكهم، فكان أمرا مهولا، أقامت النار فيه يومين، وخربت أماكن جليلة كبيرة، كانت من أبهج المواضع وأحسنها. وتحدث الناس أن هذا مبدأ خراب القاهرة، وكثر ذلك على الألسنة، فكان كذلك، ثم إن الناس أخذوا في عمارة ما احترق حتى عادوه كما كان، وقال في هذا الحريق القاضي زين الدين طاهر.
بباب زويلة وافي حريق ... أزال معاني الحسن المصون.
ودمر كل عال من ذراه ... وصير كل عال مُقلّ دون.
وعبرة عبرة الرائين أجدى ... يقينا كالعيون من العيون.
وما برح الخلائق في ابتهال ... لمحى الأرض من بعد المنون.
إلى أن قال في لطف خفي ... وفضل عناية يانار كوني.
وفي آخره: أفرج عن الأمير يلبغا الناصري، وأنعم عليه بإمرة مائة تقدمة ألف بدمشق، عوضاً عن الأمير جَنتمُر أخي طاز، وقبض على جَنتمر وسجن بقلعة المرقب.
وفي يوم الخميس سادس صفر: خلع على كريم الدين عبد الكريم بن مكانس ناظر الدولة، واستقر في الوزارة، عوضاً عن صلاح الدين خليل بن عرام، وركب بنجيبين أحدهما قدامه والآخر وراءه، كما كانت عادة الوزراء.(2/316)
وفي يوم الإثنين عاشره: خلع على فخر الدين عبد الرحمن بن عبد الرازق بن إبراهيم بن مكانس واستقر في نظر الدولة مكان أخيه الصاحب كريم الدين. وخلع على تاج الدين فضل اللّه بن الرملي، واستقر في وزارة دمشق، وتوجه إليها. وكان من شياطين كتاب مصر المسالمة.
وفيه قبض على الوزير الملكي، وسجن بقاعة الصاحب، وألزم. بمال كبير.
وفي هذه الأيام: وقع حريق في خارج باب النصر؛ وحريق تجاه اليانسية خارج باب زويلة. وركب الأمير ألطنبُغا المعلم البريد إلى حلب، ليقبض على الأمير أَشَقتمُر النائب.
وفي عشرينه: خلع عن الركن وإلى الفيوم واستقر في ولاية الفيوم والبهنسي، وعلي محمد بن طاجار، واستقر في ولاية المنوفية.
وفي ثامن عشرينه: أخذ قاع النيل، فكان ستة أذرع واثنتين وعشرين إصبعاً.
وفي هذا الشهر: رخصت الأسعار، حتى أبيع لحم الضأن السليخ، كل عشرة أرطال بسبعة دراهم ونصف درهم، وكل عشرة أرطال إليه بستة دراهم.
وفي أول شهر ربيع الأول: رُسم للأمير تَلَكتمُر من بركة أن يجلس في الخدمة السلطانية بالإيوان، فيمن يجلس من الأمراء الكبار.
وفي سادسه: قبض على الحاج سيف مقدم الدولة، وخلع على الحاج محمد بن يوسف، واستقر مقدم الدولة، وسلم له سيف، ثم نقل دار الوالي، فعُوقب حتى التزم بحمل مائًة ألف دينار، حمل منها خمسمائة ألف درهم عنها خمسة وعشرون ألف دينار، وأخذ جميع ماله من مراكب بحرية ودواليب، وقيمتها أكثر منذ لك، ثم أفرج عنه في سابع عشره، فكان هذا مما لم يعهد قبل ذلك، أعني تسليم من يصادر لوالي القاهرة، وإٍ نما كان يتسلم المصادر شاد الدواوين أو مقدم الدولة. بمرسوم الوزير، ولا يتعدى حكم الوالي العامة وأهل الجرائم منهم، وأما الأجناد والكتاب وأعيان التجار فلا تمتد يده إلى الحكم فيهم، ويرجع أمرهم إلى نائب السلطان؛ فإن لم يكن فحاجب الحجاب، لأن كل أحد له رتبة محفوظة لا يتعداها، فانخرق السياج، وأخذ كل أحد يتعدى طوره، ويجهل قدره.
وفي هذه الأيام: نُقل الأمير مَنْكلي بُغا البلدي من نيابة طرابلس إلى نيابة حلب، عوضاً عن أَشقتمُر. واستقر الأمير يلبغا الناصري عوضه في نيابة طرابلس.
وفيها أشيع أن المماليك الألجائية، وهم نحو ثمانمائة مملوك، اتفقوا مع جماعة على إثارة الفتنة، فقبض على عدة من الأمراء ومماليك السلطان، ورسم للجميع بالقبض على من في خدمتهم من مماليك ألجاي اليوسفي، فقبضوهم وبالغوا في إهانتهم، بأن وضعت الزناجير في أعناقهم، وعملت يدي كل اثنين منهم في خشبة، وسجنوا بخزانة شمايل - سجن أهل الجرائم - فلم يعهد قبل ذلك أن الترك رجال الدولة أهينوا هذه الإهانة، ثم أشيع أن جماعة من مماليك الأمراء عزموا على الفتك بأستاذيهم، فقبض على كثير منهم.
وفي ثامنه: قبض على ألطنبُغا شادي - من أمراء العشرات - وعدة من مماليك ألجاي.
وفي تاسعه: قبض على قطلوبغا حاجي أمير علم، وألطنيغا العلاي، وأَسَنْبُغا التلكي، وتلك الأحمدي، وألطنبغا عبد الملك، وغريب الأشرفي، وأسَندمُر الأشرفي، وجوبان الطيدَمُري، وآقسُنقُر الأشرفي، وأقبغا القَطلقَتمُري، وتمان تمر الموسوي، وجنتمُر المحمدي، وسودن العثماني، وبدى قُرُطُقا بن سوسون، وبك يونس، وبجمان العلاي، وآقبغا ينسون، وحملوا مقيدين إلى الإسكندرية.
وفي عاشره: قبض على الأمير تَمُر باى الدمرداشي رأس نوبه، بحيلة، وهي أن الأمير بركة بعث إليه فرسا بسرج ذهب وكنبوش ذهب، فركبه، وأ تَاه متشكرا لصنيعه فأخذه وطلع إلى الأمير الكبير برقوق ليصلح بينهما وكانا قد تنافرا، وكان تمر باى بثياب جلوسه، ليس معه كثير أحد من مماليكه، فلما استقر بهم المجلس، قبض عليه، وقيد وأخرج في الليل إلى ثغر الإسكندرية فسجن بها، وأنعم على الأمير ألطنبغا الجوباني بإقطاع تمر باى.
وفيه خلع على جال الدين محمود العجمي، وأضيف غليه حسبة مصر، عوضاً عن الشريف عاصم، فرغب عنها لصديقه سراج الدين عمر بن منصور بن سليمان القرمي، فخلع عليه وباشرها.
وفي عشرينه: نزل الأمير أَشَقتمر نائب حلب على بلبيس وكان لما قدم عليه أَلطنبغُا المعلم، ليقبض عليه ويبعث به إلى القدس بطالا، قدم عليه مرسوم بأن يحضر إلى الأبواب السلطانية، فسار من حلب ومعه تقدمة جليلة، فبينما هو على بلبيس، أتاه من قبض عليه وقيده وحمله إلى الإسكندرية، فسجن بها.(2/317)
وفي يوم الأحد حادي عشرينه: سُمر اثنا عشر من الأتراك، وطيف بهم القاهرة،ثم وسط منهم ستة، وهم الأمير أقبغا البجمقدار خازن دار الأمير ألجاي، والأمير قَراكَسَك، وأسنْبُغا، من مماليك ألجاي، وبَكتمُر الفقيه، وأسندَمُر الذي حمل رأس الأمير أرغون شاه، لما قتل بقبة النصر.
وفيه أفرج عن غريب الأشرفي، أحد أمراء العشرات.
وفي أول شهر ربيع الآخر: أهين السيد الشريف علي نقيب الأشراف، من الأميرين بركة وبرقوق إهانة بالغة، لمنعه عنهم كتاب وقف ناحية بلقس على الأشراف ليتسلمه الشريف مرتضى صدر الدين مرتضى، وقد استقر في نظر وقف الأشراف عوضا عنه، ومنع من التحدث في نقابة الأشراف.
وفي يوم الخميس سابع عشره: خلع على الشريف عاصم واستقر نقيب الأشراف. وخلع على الأمير بزلار، واستقر في نيابة الإسكندرية، عوضا عن الأمير قطلو أقتَمُر، وأنعم عليه بتقدمة تلكتمر بن بركة، واسنقر قطلو أقتَمُر أمير جاندار على تقدمته. وخلع على علاء الدين على العمري، واستقر كاشفا بالوجه البحري.
وفيه كان وفاء النيل، وهو عاشر مسرى.
وفيه عين الشيخ راج الدين عمر بن الملقن أحد نواب الحكم بقضاء القضاة الشافعية، عوضا عن بدر الدين محمد بن أبي البقاء، ليلبس في يوم الإثنين.
فلما كان يوم الإثنين حادي عشرينه: طلع إلى القلعة فلم يتهيأ له لبس، وذلك أن الأمير الكبير برقوق كان قد عينه لذلك بغير مال، فسعى عليه يقوم به إذا استقر في قضاء القضاة كما قد جرت به العادة في هذا الزمان، فبعث بها الأمير بركة إلى الأمير برقوق، فلما بلغته الورقة غضب وأمر بجمع القضاة والفقهاء، فتجمعوا بين يديه بالحراقة من الإصطبل في يوم الثلاثاء ثاني عشرينه، وطلبه، وأخرج الورقة التي بعثها إليه الأمير بركة، تتضمن التزامه بأربعة آلاف دينار يقوم بها إذا استقر قاضي القضاة الشافعية. فأنكر أن يكون خطه، فزاد حنق الأمير برقوق، وأمر به، فسلم إلى الحاج محمد بن يوسف مقدم الدولة ليستلخص منه الأربعة آلاف دينار، وانفض المجلس، فرفق به ابن يوسف من أجل أنه كان قد اتهم بأنه وقع في واقع يقتضي إراقة دمه عند المالكية. فحكم ابن الملقن بحقن دمه، فرعى له ذلك، ودافع عند شاد الدواوين، وخوفه من التعرض له. بمكروه، إلى أن طلع الشيخ سراج الدين عمر البلقيني في يوم الخميس رابع عشرينه إلى الأمير برقوق، هو والشيخ المعتقد أبو عبد اللّه محمد الركراكي المغربي، في عدة من الفقهاء، وسأله في الإفراج عن ابن الملقن، فوعده بإرساله إليه، فحلف البلقيني ثلاثة أيمان في ثلاث مرات أنه ما ينصرف إلا به، فأجابه إلى ذلك، وأمر بتسليمه إليه، فمضى به، وللّه الحمد.
وفي أخريات هذا الشهر: أفرج عن الأمير طشتمر الأتابك من سجنه بالإسكندرية، ورسم بإقامته بثغر دمياط، وأقطع بلدا بالقرب منه.
وفي سابع عشرينه: خلع على الأمير منكلي الطرخاني، واستقر نائب الكرك، عوضا عن تمرباي الطازي.
وفيه خلع على همام الدين أمير غالب بن القوام أمير كاتب الأنقاني الأتراري الحنفي محتسب دمشق، واستقر في قضاء القضاة الحنفية بها، عوضا عن نجم الدين أبي العباس أحمد بن أبي العز. بمال التزم به وسافر إليها.
وفي تاسع عشرينه: خلع على الأمير بركة، واسثقر في نظر المارستان، واستقر رأس نوبة كبيرا، عوضا عن تمرباي. وخلع على قرا دمرداش الأحمدي، واسنقر أمير مجلس. وخلع على الأمير ألطنبغا الجوباني، واستقر رأس نوبة ثانيا. وخلع على محتسب القاهرة جمال الدين محمود العجمي، واستقر في نظر المارستان، نيابة عن الأمير بركة، عوَضا عن بدر الدين محمد بن عثمان الأنفهسى.
وفيه ورد البريد من طرابلس بقدوم الفرنج إليها في عشرة مراكب، ونزولهم إلى البر، فحاربهم الأمير يلبغا الناصري نائب طرابلس، وقتل منهم عدة، وفي باقيهم إلى مراكبهم و ساروا.
وفي جمادى الأولى: ركب السلطان ثلاثة سبوت متوالية إلى الميدان برسم الملعب بالكرة، على ما جرت به العادة. و لم يتفق في السنة الماضية الركوب إلى الميدان لما كان من الإشتغال بالحروب والفتن، وأنعم الأميران بركة وبرقوق في الميدان على أكابر مماليكهما بأقبية بطرز زركش.وفيه قدم زامل بن موسى بن مهنا.
وفيه قبض على سلام بن التركية من البحيرة، وقيد وحمل إلى القاهرة.(2/318)
وفي يوم الإثنين حادي عشره: قدم البريد بأن خليل بن دلغادر أمير التركمان قتل الأمير مبارك الطازي نائب الأبلستين وذلك أنه ركب في عسكر من حلب لقتال ابن دلغادر فهزمه وأخذ ما معه، ثم ركب قفاه في جماعة، فمال عليه ابن دلغادر وقاتله، فوقع في قبضته، فقدمه وضرب عنقه.
وفيه قبض على الصاحب شمس الدين أبي الفرج عبد الله المقسي ناظر الخاص، وعلى كثير من ألزامه وحبس في بيت الأمير بركة.بمرافعة الوزير كريم الدين بن مكانس إياه، وأحبط.بموجوده، ونقل من الغد ما في داره، فوجد له شيء كثير من المال والثياب والقماش، من جملته نحو الألفي بدن فرو سنجاب.
وفيه أفرج عن الأمير تمر باي الدمرداشي وأخرج إلى القدس، وأفرج عن الأمراء الذين سجنوا قبله أيضاً.
وفي يوم الأحد سابع عشره: أعيد المقدم سيف إلى تقدمة الدولة، وقبض على محمد بن يوسف وسلم إليه، فعاقبه حتى مات تحت العقوبة.
وفي يوم الإثنين ثامن عشره: خلع على الوزير الصاحب كريم الدين عبد الكريم ابن مكانس، واستقر في نظر الخاص، عوضا عن المقسي، مضافا لما معه من نظر ديواني الأميرين برقوق وبركة. ثم خلع على سعد الدين سعد ا للّه بن البقري، واستقر في نظر ديوان الأمير الكبير برقوق، وخلع على الأمير صلاح الدين خليل بن عرام، واستقر أستادار الأمير بركة، فكان هذا أيضاً من الأمور التي لم تعهد أن أميرًا من أمراء الألوف يكون أستادار أمير.
وفيه ظهر في السماء كوكب من كواكب الذوابة، له وجه وذنب.
وفي ثاني عشرينه: خرج البريد بالقبض على الأمير بيدمر نائب الشام، وإحضاره.وفيه استقر الأمير بركة ناظر الأوقاف جميعها، واستناب في التحدث عنه جمال الدين محمود المحتسب، فلم يبق وقف حكمي ولا أهلي، إلا وطلب مباشرته، وتحد فيه استضعافا لجانب قاضي القضاة بدر الدين محمد بن أبي البقاء.
وفي ثالث جمادى الآخرة: خلع على الأمير موسى بن قرمان، واستقر والي الجيزة،ثم عزل من الغد، واستقر على عادته أمير طبر.
وفيه أفرج عن الأمير أَشَقتمُر نائب حلب، ورسم بإقامته بالقدس.
وفي سادسه: انتهت زيادة ماء النيل إلى تسعة عشر ذراعا وست أصابع.
وفي تاسعه: أخرج الأمير تغري بَرْمش حاجب الحجاب إلى حلب، وسببه أنه عرّف الأمير بركة سوء سيرة بنى مكانس وكثرة ظلمهم وفسادهم، فقال له: " أصلح أنت نفسك " فشق ذلك عليه، وعزل نفسه من الحجوبية، ورمى الإمرة، وقال: " ما عدت أعمل أميرًا " وخلع قباه وألقى مهمازه من رجله، وخرج عنه، فأمر به، فخرج حاجبا بحلب، فلما وصل دمشق عزل عنها.
وفي ثالث عشره: خلع على الأمير مأمور القلمطاي، واستقر حاجب الحجاب، عوضا عن تغري برمش، وقدم الأمير بيْدَمُر نائب الشام، من دمشق، فحمل إلى الإسكندرية مقيدا، وسجن بها، واستقر عوضه في نيابة الشام الأمير كُمُشبغَا الحموي، نائب حماة، واستقر عوضه في نيابة حماة الأمير تمرباي الدمرداشي.
وفي ثامن عشره: أنعم على الأمير أزدمر الصفوي بإمرة عشرة بدمشق، وأخرج إليها.
وفي العشرين منه: توجه الشيخ برهان الدين إبراهيم الأبناسي إلى الحجاز معتمرا، واستناب عنه في مشيخة خانكاه سعيد السعداء، الشيخ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي وقدم الخبر بأن رجلاً بدمشق من آحاد العامة مات بالمارستان فغُسل وكفن، وأرخى في قبره.بمقبرة باب الفراديس، فعندما أضجع بالقبر عطس، فأخرج وعوفي، وحدث الناس.بما جرى له، وعاش بعد ذلك نحو ثلاث سنين.
وفي ثالث شهر رجب: خرج الأمير قَراكَسكَ على البريد لإحضار الأمير منكلي بغا البلدي نائب حلب.
وفي سابعه: أخرج الأمير بُورى الأحمدي إلى القدس منفيا وأنعم عليه بنظر مسجدي القدس والخليل.وفيه خلع على شمس الدين محمد النيسابوري، ابن أخي جار ا للّه، واستقر في مشيخة خانكاه سعيد السعداء عوضا عن البرهان الأبناسي.
وفيه قدم البريد بسيف منكلي بغا البلدي نائب حلب، وأنه سجن بقلعتها، فكتب باستقرار الأمير تمرباي الدمرداشي في نيابة حلب، واستقر الأمير جَنتمُر أخو طاز في نيابة حماة وكان بطالا بدمشق، وحمل إلى كل منهما تشريفه وتقليده على البريد.
وفي سادس عشرينه: قبض على المقدم سيف، وسلم للأمير صلاح الدين خليل بن عرام، ثم أفرج عنه.(2/319)
وفي ثامن عشرينه: قبض على الوزير كريم الدين عبد الكريم بن مكانس، ثم أفرج عنه من يومه، ورسم باستقرار الأمير تغرى برمش، حاجب الحجاب في نيابة غزة.
وفيه قدم من الأمير قُرط - متولي ثغر أسوان - أحد عشر رأسا من رؤوس أمراء أولاد الكنز ومائتي رجل منهم في الحديد، فعلقت الرؤوس على باب زويلة، و لم يعهد هذا من قبل. وقدم الخبر بأن طائفة من أهل البحيرة - كبيرهم بدر بن سلام - ساروا إلى الصعيد، فلقيهم الأمير مراد كاشف الوجه القبلي، وقاتلهم، فقتل في الحرب معهم. وفيه قدم الشيخ أمين الدين محمد بن محمد بن محمد النسفي الخوارزمي الخلوتي، من بلاد خوارزم، في طائفة من الفقراء، فأنزله شيخ الشيوخ نظام الدين إسحاق الأصفهاني - شيخ خانكاه سرياقوس بمدرسته التي على طارف الجبل، خارج باب المحروق من القاهرة، تحت دار الضيافة، فأقبل إليه الأمراء وبالغوا في إكرامه، وبعثوا له بضيافات كثيرة وصلات سنية، فلم يدخر منها شيئاً وعمل به أوقاتا يجمع عنده فيها الناس، فيطعمهم المآكل الطيبة، وذكر أنه عبر في سياحته إلى بلد بلغار حيث لا تطلع الشمس عدة أشهر، فدعا سكانه - وهم قوم لا يعلمون شيئًا - إلى الإسلام فاستجاب له كثير منهم وأسلم، فعلمهم شرائع الإسلام، ومضى عنهم، وكان من خير من أدركناه.
وفي أول شهر رمضان: قدم الأمير مَنْكَلي بُغا البلدي إلى دمشق، وقد أفرج عنه من سجنه بقلعة حلب، فأقام بدمشق بطالا.
وفي سادسه: خلع على الأمير شرف الدين موسى بن قرمان أطلسين، واستقر نائب الوجه القبلي، ورسم أن يكاتب.بملك الأمراء، وأنعم عليه لتقدمة ألف، وعمل في خدمته حاجب أمير طبلخاناه، وهو أول من ولي من كشاف الصعيد نيابة السلطنة، واستمر الحال كذلك فيما بعد، وخلع على الأمير علي خان، واستقر والي البحيرة، عوضاً عن أيدمر الشمسي، ثم عزل من يومه، واستقر أيدمر على عادته.
وفي يوم الأربعاء ثامنه: كانت واقعة كنيسة ناحية بو النمرس من الجيزة وذلك أن رجلاً من فقراء الزيلع بات بناحية بو النمرس، فسمع لنواقيس كنيستها صوتا عاليا، وقيل له إنهم يضربون بنواقيسهم عند خطبة الإمام للجمعة، بحيث لا تكاد تسمع خطبة الخطيب، فوقف للسلطان الملك الأشرف شعبان ، فلم ينل غرضا، فتوجه إلى الحجاز وعاد بعد مدة طويلة، وبيده أوراق تتضمن أنه تشفع برسول اللّه وهو نائم عند قبره المقدس في هدم كنيسة بو النمرس، ووقف بها إلى الأمير الكبير برقوق الأتابك، فرسم للمحتسب جمال الدين محمود العجمي أن يتوجه إلى الكنيسة المذكورة، وينظر في أمرها، فسار إليها وكشف عن أمرها، فبلغه من أهل الناحية ما اقتضى عنده غلقها، فأغلقها، وعاد إلى الأمير الكبير وعرفه ما قيل عن نصارى الكنيسة، فطلب متى بطريق النصارى اليعاقبة وأهانه، فسعى النصارى في فتح الكنيسة، وبذلوا مالاً كبيراً، فعرف المحتسب الأمير الكبير بذلك، فرسم بهدمها بتحسين المحتسب له ذلك، فسار إليها وهدمها، وعملها مسجداً.
وفي ثاني شوال: قبض على الطواشي سابق الدين مثقال الجمالي زَمَامِ الدور، وأخذ منه ثلاثة آلاف دينار، ثم أفرج عنه.
وفي يوم الأربعاء سادسه: قبض على الأمير شهاب الدين أحمد بن هُمُز التركماني، خشية من فراره إلى التركمان، وقد ورد البريد بخروجهم عن الطاعة.(2/320)
وفي سابعه: قبض على الأمير جمال الدين عبد اللّه بن بَكتمُر الحاجب، وولده الأمير ناصر الدين محمد، وأخرجهما برقوق إلى الشام ثم ردهما بعد ثلاثة أيام، وأخذ منهما عشر آلاف دينار، وأنعم على الأمير جمال الدين بإمرة طبلخاناه، وترك ولده بطالا، وسبب ذلك أنه أهدى إلى الأمير بركة عندما صرع بالبندق طائراً من طيور الواجب، وادعى له في رمي البندق، يشتمل الإهداء على خمس بقج حرير أطلس، ضمنها قماش حرير وصوف وفرو، وبدلة برسم الصيد غيار بذهب، وجراوات برسم بندق الرمي عدتها أربعون مزركشة، وكمرانات عدة أربعين، ومن قسي الحلقةَ اثنين، ومن قسي البندق مائتي قوس، ومن بندق الرمي ستين بندقة من ذهب صامت، ومائة بندقة من فضة خالصة، واثني عشر فرساً، منها واحد بسرج ذهب وكنبوش زركش، وآخر بسرج مغرق وعرقية صوف سمك ، وسبعة أرءوس بعبي، وفرسين عراه وعشر جُفَن سكر، ومائتي طائر دجاج، وثلاثين جملاً ومائة رأس غنم، فلما قدمت بين يديه قال له من حضر: " أنه قَدَمَ للأمير صرغَتُمش تقدمة أكثر من هذه " . فغضب برقوق وقال: " ما ساواني بصرغتمش " وأخذ الهدية المذكورة، ثم أمر به فنفي كما تَقدم ذكره.
وفي ثاني عشرينه: سار محمل الحاج والركب صحبة الأمير بهادر.
وفي سادس عشرينه: توجه الأمير قرا دمرداش الأحمدي أمير مجلس إلى الحجاز حاجاً.
وفيه قبض على الوزير كريم الدين عبد الكريم بن مكانس، وعلى أخيه فخر الدين، وعذبا عذابا شديداً ففرا بعد أيام، و لم يوقف لهما على خبر، وكان ابن مكانس كريم الدين هو وأخوه فخر الدين قد أحدثا عدة مظالم قبيحة، منها أن الأمير يلبغا الخاصكي لما أبطل المكس من مكة، عوض الشريف أمير مكة عن ذلك في كل سنة مائة وسبعين ألف درهم، تحمل إليه، فكان ابن مكانس يجبي ذلك من مباشري الدولة والخاص على قدر حالهم، وكان المقسي - وهو ناظر الخاص - يقوم عن مباشري الخاص. بمبلغ ستة عشر ألف درهم، ومنها أنه ختم على قيسارية جهاركس بالقاهرة، في أخريات شهر رمضان، وزعم أن عند التجار ثياباً بغير ختم، فتعطل بيع الناس وشرائهم على عيد الفطر، حتى ألتزموا له. بمال يقوم به، فلما حملوه إليه رفع ختمه بعد ثمانية أيام، ومنها أنه صار يخرج إلى بركة الحاج عند تكامل الحج بها في شهر شوال، ويلزم مقومي الحجاج بإحضار أوراق مُشتَرى جمالهم من سوق الجمال، فمن لم يحضر ورقة مباشري مكسي سوق الجمال نكل به وغرمه مالا، فأضر ذلك بكثر من الجمالة، وتعطل حجاجهم عن الحج، وعادوا من البركة إلى القاهرة، ومنها أنه عمل بعد ذلك دائرة كبيرة. بمال كبير حملوه إليه، واقتدى به من بعده من الوزراء في ذلك، صار يخرج إلى بركة الحجاج في كل سنة، ويطالب المقومين بأوراق المكس، ولما قبض عليه، وقف التجار إلى الأمير الكبير برقوق، فرسم برد ما أخذ منهم أبناء مكانس، فردا عليهم المال. هذا مع تظاهر بنى مكانس بالفسق على أنواعه تظاهراً بغير احتشام، وبقاء نسائهم وبناتهم على النصرانية، واستخفاف رجالهم بكتاب اللّه ودينه ورسوله.وفيه خلع على الصاحب تاج الدين النشو المالكي، وأعيد إلى الوزارة.
وفي ثامن عشرينه: خلع على الصاحب شمس الدين أبي الفرج عبد اللّه المقسي، وأعيد إلى نظر الخاص، وخلع على علم الدين عبد اللّه بن الصاحب كريم الدين بن غنام، واستقر في نظر الأسواق.
وفي ثالث في ذي القعدة: خلع على علم الدين يحيى طباهجة بن رزق اللّه، بن إبراهيم ابن الفخر، واستقر في نظر الدولة، عوضاً عن الفخر بن مكانس.
وفي ثاني ذي الحجة: قبض على سلام بن التركية - أمير عرب البحيرة فسجن بخزانة شمايل من القاهرة.وفيه استقر ناصر الدين أحمد بن جمال الدين محمد بن قاضي الإسكندرية شمس الدين محمد بن محمد بن عطا اللّه التنسي المالكي في قضاء مدينة الإسكندرية، عوضا عن عز الدين الربعي.
وفي سادسه: نقل الأمير كُرْجى الشمسي من ولاية قليوب إلى ولاية الغربية.(2/321)
وفي سابعه: خرج الأمير إينال اليوسفي أمير سلاحِ، وألان الشعباني، وأحمد بن يلبغا، وطبج المحمدي، وأقتمُر العثماني، وطَقتمُر، وطقتمُش، وأَطْلَمِش ألطازي، وطُغاي تَمُر القبلاوي، في عدة وافرة، لقتال عرب البحيرة ففروا منهم وعادوا بعد ما وصلوا إلى الفيوم وقد ساقوا أنعاما كثيرة جداً. ولما وصل ركب الحجاج إلى مكة بلغهم قدوم محمل، من اليمن، وكسوة للكعبة فمنع الأمير قرا دمرداش حجاج اليمن من دخول مكة، فلم يزل الشريف أحمد بن عجلان يتوسط بين حاج اليمن وحاج مصر حتى دخل أهل اليمن. بمحلهم، ووقفوا بعرفة، و لم تكن فتنة بحمد اللّه، فلما كسا الأمير قرا دمرداش الكعبة في يوم النحر على العادة، خرج من مكة عائداً إلى مصر.
وفي سادس عشره: استدعى الأمير الكبير برقوق القضاة وشيوخ العلم، وتحدث معهم في حل الأراضي الأوقاف على الجوامع والمساجد والمدارس والخوانك والزوايا والربط وعلى أولاد الملوك والأمراء وغيرهم وعلى الرزق الأحباسية، وكيف يجوز بيع أراضي مصر والشام الخراجية على بيت المال، وأحضرت أوراق. بما أوقف من بلاد مصر والشام، وبما تملك منها - ومبلغها في كل سنة مال كبير جداً - فلما قرئت على من قد حضر من الأمراء وأهل العلم، قال الأمير برقوق: " هذا هو الذي أضعف جيش المسلمين " . فقال قاضي القضاة بدر الدين محمد بن أبي البقاء: " هما جيشان جيش الليل، وجيش النهار " ، فأخذ الشيخ أكمل الدين في الكلام مع الأميرين بركة وبرقوق في ذلك باللغة التركية، حتى غضبا منه، فقال بعضهم لشيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني " لم لا تتكلم " فقال: " ما استفتاني أحد حتى أفتيه " . فأشار له الأمير برقوق أن يتكلم، فطال كلامه على عادته، وملخصه " أن أوقاف الجوامع والمساجد والمدارس والخوانك، التي هي على علماء الشريعة وفقهاء الإسلام، وعلى المؤذنين وأئمة الصلوات ونحو ذلك، لا يحل لأحد أن يتعرض بحلها بوجه من الوجوه، فإن للمسلمين حق لم يدفع إليهم، وإلا فانصبوا لنا ديوانا نحاسبه على حقنا، حتى يظهر لكم أن ما نستحقه أكثر مما هو موقوف علينا، وأما ما وقف على عويشة وفطيمة، واشترى من بيت المال بحيلة أن يؤخذ المال صورة ثم يعاد، فإنه يحتاج إلى أن ينظر في ذلك، فإن كان قد أخذ بطريق شرعي، فلا سبيل إلى نقضه، وإن كان غير ذلك نقض " . فقال ابن أبي البقاء: " يا أمراء، أنتم أصحاب الشوكة، والأمر لكم " . فقال له البلقيني " اسكت ما أنت وهذا " . فسأل الأمير بركة والأمير برقوق بن أبي البقاء " من أين يشتري السلطان هذا " فقال: " الأرض كلها للسلطان " . فقال له البدر محمد بن البلقيني - قاضي العسكر - " كيف تقول هذا من أين للسلطان ذلك وإنما هو كآحاد الناس " . فقال البلقيني: " يا أمراء أنتم تأمرون القضاة، فإن لم يفعلوا ما ترسموا به عزلتموهم، كما جرى لشرف الدين بن منصور مع الملك الأشرف، لما لم يفعل له ما أراد، عزله " ثم انفضوا وأخرجوا عدة أوقاف وأقطعوها إقطاعات.
وفيه خلع على شهاب الدين أحمد الدفري المالكي، واستقر مفتي دار العدل.
وفيه أخرج الأمير سودون العلاي، والأمير بهادر الأشْقَتَمُري، منفيين إلى صفد.
وفي ثاني عشرينه : استقر الأمير منكلي بُغا البلدي في نيابة صفد عوضا عن أقبغا الجوهري، واستقر الأمير في ولاية منفلوط .
وفي خامس عشرينه: قدم الأمير قرا دمرداش أمير مجلس من الحجاز.وفيه وجد الأمير الكبير برقوق ورقة فيها " أن غلام اللّه يريد أن يكبس عليك في صلاة الجمعة.بمائتي عبد " فطلب غلام اللّه ورسم عليه وسجن بخزانة شمايل، ووقع التحرز بحيث أمر خطيب مدرسة السلطان في يوم الجمعة سابع عشرينه أن يعجل في الخطبة، وقبض على جماعة العبيد وكثر الأرجاف بكبس الجوامع - في يوم الجمعة هذا - وقتل العامة، فنودي بالأمان.(2/322)
وفيه استقر أوحد الدين عبد الواحد بن إسماعيل بن ياسين - موقع الأمير الكبير برقوق - في نظر خزانة الخاص، بعد موت علاء الدين علي بن عرب، وقدم البريد بأن الأمير تمر باي الدمرداشي - نائب حلب - سار بالعسكر الحلبي وعدة من عسكر دمشق وحماة إلى جهة سيس وقد كثر فساد طائفة التركمان الأجقية والأغاجرية، حتى قرب من مدينة إياس أتاهم من أمراء التركمان نحو الأربعين بهدية، وسألوا الأمان لأصحابهم، والتزموا بالدرك على العادة، فقبض عليهم وقيدهم، وركب في الحال إلى بيوتهم. بمن معه، فنهب أموالهم، وسبى حريمهم، وقتل رجالهم، وارتكب منهم كل قبيح، وعاد فجمع التركمان جمائعهم، وكمنوا للعسكر.بمضيق يقال له باب الملك - على شط البحر - وأوقعوا بهم، فهلكوا ما بين غريق وقتيل، و لم ينج منهم إلا طريح أو جريح، أومن نجا بخاصة نفسه - وقليل ما هم - وحاز التركمان من المال والآلات والخيول والجمال والأسلحة ما يجل وصفه من ذلك ثلاثون ألف جمل بأحمالها، وثلاثة عشر ألف رأس من الخيل غالبها مسرجة ملجمة إلى غير ذلك، فكان هذا أيضاً من الوهن في الدولة، فإن التراكمين كانوا للدولة. بمنزلة السور عليها، ويتحصل منهم في كل سنة عشرات آلاف من الغنم، يؤخذ منهم عن زكاة أغنامهم يقال له " العداد " ، وينال أهل حلب منهم منافع لا تحصى، وإذا ندبهم السلطان لحرب بادروا إلى امتثال أمره، وعدوا ذلك طاعة وعبادة، فصيرهم سوء التدبير وكثرة الظلم، أعداء لدولة تقتل رجالها وتنهب أموالها وتستولي على أعمالها، و للّه عاقبة الأمور.واتفق أيضاً للحاج في عودهم محن شديدة، من موت الجمال وتزايد الأسعار، فلما نزلوا بالأزلم - وفي ظنهم أنهم يجدوا ما جرت به العادة من الشعير والبشماط المحمول إليهم من القاهرة - فلم يجدوا شيئاً من ذلك، وذلك أن العربان تعرضت للإقامات تريد نهبها، فلم تتجاوز مغارة شعيب، فاشتد الأمر على الحجاج، وعلفوا جمالهم. مما معهم من زادهم الذي هو قوتهم، وانقطع كثير منهم في الطرقات جوعاً وتعباً، وبلغت الويبة الشعير إلى خمسين درهما فضة، ثم تزايد سعرها حتى بلغت مائة درهم، وغلا عامة ما يباع أيضاً.
وفيها أعيد البرهان إبراهيم الصنهاجي إلى قضاء المالكية بدمشق، عوضاً عن علم الدين القفصي، وأعيد فتح الدين أبو بكر بن عماد الدين أبي إسحاق بن إبراهيم جمال الدين أبي الكرم محمد بن الشهيد إلى كتابة السر بدمشق، عوضا عن بدر الدين محمد ابن مُزْهِر، وأعيد الجلال محمد بن محمد بن عثمان الزرعي إلى قضاء الشافعية بحلب، عوضاً عن الكمال عمر بن عثمان المعري، وأعيد شمس الدين محمد بن أحمد بن مُهاجر إلى كتابة السر بحلب، عوضا عن ابن أبي الطيب.
ومات في هذه السنة من الأعيان
الشيخ أحمد بادار العجمي نزيل القاهرة بالقدس وقد عمى وأناف على السبعين، وكانت له أحوال عجيبة، وللناس فيه اعتقاد.
ومات الأمير أطْلمش الدوادار أحد أمراء الألوف، في ربيع الآخر بدمشق، وقد أخرج إليها على إمرة بها.
وتوفي الفقير المعتقد الصالح بن نجم بن صالح نزيل منية السيرج، في يوم الأربعاء خامس عشر رمضان، وكان يُقصد للتبرك بزيارته.
وتوفي الشيخ ضياء الدين عبيد اللّه بن سعد الله العفيفي القزويني، المعروف بقاضي قرم، شيخ الخانكاه الركنية بيبرس، في يوم الإثنين ثالث عشرين ذي الحجة، وقد تصدى للتدريس على مذهب الشافعي وأبي حنيفة، وإقراء النحو والأصول وغير ذلك عدة سنين، وانتفع به جماعة كثيرة، مع صدق في الديانة، وتواضع وبر وخير كثير. وتوفي الفقير المعتقد عبد اللّه الجبرتي الزيلعي، في ليلة الجمعة سادس عشر المحرم، وقبره يزار بالقرافة.
وتوفي جمال الدين عبد الله بن مختار في تاسع صفر.
وتوفي علاء الدين علي بن عبد الوهاب بن عثمان بن محمد بن هبة اللّه بن عرب، محتسب القاهرة، في ثالث عشر ذي الحجة. بمكة، بعد قضاء الحج ودفن بالمعلا.
ومات الأمير علاء الدين علي بن كلفت، شاد الدواوين، في جمادى الآخرة وهو عائد من حلب إلى دمشق، وكان عفيفاً لا يقبل رشوة أحد.(2/323)
وتوفي الشيخ أبو عبد اللّه محمد بن أبي العباس أحمد بن علي بن جابر الهواري الأندلسي، النحوي الأديب بحلب عن سبعين سنة، وهو علامة وقته في الأدب والنحو والتصريف، مع كثرة العبادة، وكان هو ورفيقه أبو جعفر كالخالدين، لا يزالان سفرا وحضرا، وله مصنفات، ومن شعره:
وقفتْ للوداع زينبُ لما ... رَحَل الركبُ والمدامعُ تُسْكَبْ.
فالتقتْ بالبَنَانِ دَمعي وحُلْو ... سَكب دمعي على أصابع زَينَب
وتوفي مسند الوقت صلاح الدين محمد بن أحمد بن إبراهيم بن عبد اللّه بن الشيخ أبي عمر المقدسي، آخر من بقي من أصحاب ابن البخاري، في شوال بصالحية دمشق، حدث. بمسند أحمد وغيره.
ومات الأمير شرف الدين موسى بن محمد بن شهرى، نائب سيس، بعد عوده من القاهرة ، إليها وكان فقيهاً شافعياً أذن له في الفتيا، وكتب الخط المنسوب، وله ترجمة.
ومات الأمير شرف الدين موسى بن الأزكَشِي، في سادس عشر من ذي القعدة، بالمحلة من قرى مصر، بعد ما ولي أستادارا ومشيرًا في الأيام الأشرفية.
وتوفي الفقيه المعتقد نهار المغربي بالإسكندرية، في يوم الثلاثاء حادي عشر جمادى الآخرة.
ومات المقرئ حافظ الدين أبو عبد الله محمد بن تاج الدين إبراهيم بن سنبكي بن أيوب بن قراجا، المقرئ بن الجمال يوسف القصيري الحنفي، أخذ القراءات عن ابن نصحان، وبرع في القراءات وغيرها، وولي قضاء العسكر بحلب، ثم بدمشق، ثم انقطع بداره حتى مات عن نيف وسبعين سنة.
سنة إحدى وثمانين وسبعمائة
في حادي عشر المحرم: قبض على غلام اللّه مهتار - الطشت خاناه السلطانية - بعدما أفرج عنه، وأعيد إلى خزانة شمايل، وسبب ذلك أن الأمير قُرُط - متولي أسوان - وجد عدة سيوف قد بعث بها من القاهرة، مكتوب عليها غلام اللّه، وهي مُتَوجه بها إلى أولاد الكنز، فأحضرها معه لما قدم.
وفي سابع عشره: سُمر رجلان من أولاد الكنز، وطيف بهما القاهرة ومصر، ثم وسطا، وهذا أيضاً مما أوجب وهن الدولة، فإن قُرُط لشدة عسفه وكثرة عتوه أوجب خروج أولاد الكنز على الطاعة، وكثرة فسادهم، حتى خرجت أسوان من أيدي الدولة، ثم خربت.
وفيه قبض على الأمير قُرُط وصودر وأخذ منه مال كثير، فإنه كان قد ساءت سيرته وشرهه في أخذ أموال الرعية، ثم أفرج عنه.
وفي هذه الأيام كثر تخوف العامة من أن يركب عليهم الأمير بركة، ويبذل فيهم السيف ويقتلهم، وأغلقوا حوانيت معايشهم من أول الليل، ثم أمر والي القاهرة بقبض الزعر والعبيد، فتطلبهم بعدة مواضع، فازداد خوف العامة، حتى نودي على لسان الأمير الكبير برقوق بالأمان، وأن " من سخركم يا عوام اقبضوا عليه، واحضروا به إلى الأمير الكبير " فاطمئنوا، وكان برقوق دائما يقصد التحبب إلى العامة، ويذب عنهم، حتى أحبوه وتعصبوا له.
وفي رابع عشرينه: قدم محمل الحاج، وقد تأخر عن عادته لما بالحجاج من المشقة.
وفيه خلع على الأمير قُرُط، واستقر نائب الوجه القبلي، وخلع على ولده حسين بولاية قوص فانفرد بالتحكم في بلاد الصعيد بأسرها من الجيزة إلى بلاد النوبة.
وفيه خلع على الأمير بَلوط الصَّرغَتْمُشى، فاستقر نائب الإسكندرية، عوضا عن بُزْلار الناصري، ونفي بُزْلار إلى الشام.
وفي سابع عشرينه: أفرج عن غلام اللّه.
وفي رابع صفر: عزل قاضي القضاة بدر الدين محمد بن أبي البقاء عن الحكم.
وفي هذا الشهر استقر عز الدين يوسف بن محمود بن محمد الرازي في مشيخة الخانكاه الركنية بيبرس، عوضا عن الشيخ ضياء الدين القرمي، وفي درس الحديث بالمنصورية، فافتضح بين الناس لجهله بالحديث.
وفي رابع صفر عزل قاضي القضاة بدر الدين محمد بن أبي البقاء عن الحكم وخرج الأمير فخر الدين إياس أمير أخور على البريد لإحضار قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم بن جماعة من القدس.(2/324)
وفي سابعه: ألزم الطواشي مثقال الجمالي الزمام بإظهار ذخاير الملك الأشرف، فدل على صندوق في موضع من الدور السلطانية، فوجد فيه مبلغ ثلاثين ألف دينار، ثم أشار إلى موضع آخر، فوجد فيه خمسة عشر ألف دينار وبرنية ، بها جواهر، منها فص عين الهر، زنته ستة عشر درهما، ثم عوقب فلم يعترف بشيء، ووجدت أوراق عند بعض جواري الملك الأشرف بخطه، تتضمن أماكن أمواله وتفصيلها فاعتبرت، فإذا تلك الأموال قد أخذت من بعده، و لم يتأخر منها سوى مبلغ ثلاثين ألف دينار، وعلبة بها جواهر، وعلبة بها لؤلؤ عند الأمير طشتمر الدوادار، فأفرج عن الزمام مثقال.
وفي يوم الأربعاء ثاني عشرينه: قدم قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم بن جماعة من القدس، فركب الأمير بركة إلى لقائه، وبالغ في التأدب معه، والتواضع له، وسار به حتى طلع إلى الأمير الكبير برقوق، فأجله، وقام بواجب حقه، وأنزله بصهريج الأمير منجك تحت القلعة، فلما أصبح نهار الخميس ثالث عشرينه استدعى به إلى حضرة السلطان بقلعة الجبل، وخلع عليه، واستقر قاضي القضاة على عادته في الأيام الأشرفية، ونزل وفي خدمته من أمراء الدرك ثلاثة عشر أميراً، منهم دوادار السلطان، وركب معه قضاة القضاة وأعيان الناس، وأشعلت القاهرة لنزوله بالشموع والقناديل، وكان يوما عظيما إلى الغاية في كثرة جمع الناس لمشاهدته، فأرضى من يومه شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني وصالحه من نفره كانت بينهما، ونزل له عن وقف السيفي ، بالقبة المنصورية، عوضا عن تدريس الشافعي، وأركبه بغلة رائعة بقماش فاخر.
وفي هذا الشهر: رفع أهل منوف على متوليهم عدة مرافعات، فطلبه الأمير الكبير برقوق، وبعث بالكشف عليه، فعادوا عليه بشنايع، فضربه بالمقارع، وألزمه أن يقوم للناس.بما أخذ من أموالهم.
وفيه ألزم الأمير بركة جميع الأمراء أن يأتوه بالكلاب، وقرر على كل أمير عددا من الكلاب، وألزم أرباب الحوانيت أن يحضر كل صاحب حانوت كلبا، فتتبعت الكلاب بالقاهرة ومصر وظواهرها، وقد كانت كثرت إلى الغاية في الأزقة والشوارع، فأخذت من كل موضع وعدى بها النيل إلى بر الجيزة، فكان يباع كل كلب بدرهم، وقيلت في ذلك عدة أشعار.
وفيه فرق الميدان تحت القلعة على الأمراء، وألزموا بعزقه وتنظيفه، فإنه كان قد هجر منذ زالت الدولة الأشرفية حتى توحش، فعادت إليه نضارته.
وفي رابع شهر ربيع الأول: أخذ قاع النيل فكان ستة أذرع وعشرين إصبعا.
وفي سادس عشره: خلع على الأمير محمد بن قرطاي الكركي، واستقر نقيب الجيش، عوضا عن علي خان بن قرمان.
وفي ثامن عشره: قدم البريد بأن أقبغا عبد اللّه وقُطوبُغَا جَركس وأَلْطنبغَا شادي، وأسنبغا الألجاوي ثاروا في جماعة من المماليك بحلب يريدون قتل نائبها، فلما فطن بهم ركب لحربهم وقاتلهم، فانكسروا، وفر أقبغا عبد الله إلى الأمير نُعَيْر بن حيار بن مهنا فأجاره.
وفيه ركب الأمير أقبغا صيوان البريد لإحضار الأمير محمد بن ألجبغا المظفري من دمشق، واستقراره نائب غزة، عوضا عن تغري برمش، والتوجه بتغري برمش إلى دمشق واستقراره بها أمير مائة مقدم ألف، وكتب باستقرار زامل بن موسى ومعيقل بن فضل - ولدي عيسى بن مهنا بن مانع بن حديثة بن غضية بن فضل بن ربيعة - في إمرة العرب، عوضا عن الأمير قار بن مهنا بعد موته.
وفي تاسع عشره: قدم قاصد الأمير ناصر الدين محمد نعير بن حيار يسأل في إمرة العرب، وأن ينعم على أقبغا عبد اللّه بن محمد بنيابة بعض الأطراف، فقبض عليه وسجن بالبرج من القلعة.وفيه سار البريد بإحضار الأمير أَشَقتمُر.
وفي هذا الشهر: استقر شمس الدين محمد الركراكي في تدريس المالكية بخانكاه شَيْخو بعد موت ابن مرزوق، واستقر جمال الدين محمود المحتسب في تدريس الحديث بالمدرسة الصَّرْغَتْمُشية، عوضا عن ابن مرزوق، واستقر شيخنا أبو البركات عوضه في تدريس القمحية.
وفي أول شهر ربيع الآخر: ركبت سلسلة على فم قنطرة الخور وعلى قنطرة الفخر. بموردة الجيش لمنع مراكب المتفرجين من دخول الخليج الناصري وبركة الرطلي من أراضي الطبالة بقيام الشيخ محمد صائم الدهر في ذلك.
وفي ثامن عشره: توجه الأمير سودن باشاه دوادار الأمير بركة إلى مكة، لعمارة الحرم، وأجرى عين عرفة.(2/325)
وفي تاسع عشره: كبست بيوت كثيرة بحارة الأسرى خارج مدينة مصر، وأريقت خمور كثيرة جداً على يد الأمير مأمور حاجب الحجاب.
وفي عشرينه - وهو ثالث عشر مسرى - : فتح الخليج بعد الوفاء على يد الأمير بركة.
وفيه أراق الأمير بركة خمرا كثيرا من بيوت الأقباط.
وفي سادس عشرينه: ورد الخبر بأن عربان الصعيد كبسوا على الأمير قرط وقتلوا من عسكره سبعين فارسا، فحاربهم وهزمهم.
وفي أول جمادى الأولى: قدم الأمير أشقتمر المارديني من القدس، فركب الأميران بركة وبرقوق إلى لقائه بالريدانية، وترجلا له، فنزل إليهما وسلم عليهما وسار معهما إلى القلعة، فأنزله الأمير برقوق، وقام له. بما يليق به.وفيه خلع على الأمير سودن الشيخوني، واستقر حاجبا ثالثا.
وفي يوم الخميس رابعه: خلع على الأمير أشقتمر، واستقر في نيابة حلب. وخلع عليه من الغد خلعة السفر، فركب البريد في ليلة الأحد سابعه، وتوجه إلى حلب. وكتب. بمجيء تمرباي من حلب إلى القدس، وإقامته بها.
وفي يوم الإثنين ثامنه: خلع على قاضي القضاة جلال الدين جار اللّه الحنفي، ورسم له أن يلبس الطرحة في أيام الخدمة السلطانية، كما يلبسها قاضي القضاة الشافعي، وأن يستنيب عنه في أعمال مصر قبليها وبحريها قضاة حنفية وأن يتخذ لأيتام الحنفية مودعا يودع فيه أموالهم، حتى لا يخرج منها زكاة، فشق ذلك على قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم بن جماعة، وتحدث في إبطال ذلك، فعقد مجلس عند الأمير برقوق الكبير بسبب ذلك في يوم الإثنين خامس عشره،حضره الأمراء والقضاة ومشايخ العلم - إلا البلقيني - فقام الشيخ أكمل الدين شيخ خانكاه شيخو في إبطال ما أراد الجار بإحداثه، قيامًا بالغا مع الأمير الكبير، ودار بينه وبين الجار في ذلك كلام غير لائق، فتم للأكمل ما أراد، ورسم. بمنع الجار مما طلبه، وكان الفقير المعتمد خلف الطوخي قد اجتمع بالأمير الكبير برقوق بالأمس، وكلمه في إبطال ذلك وبالغ معه فيه. حتى قال له: إن لم ترجع وإلا بيننا وبينك سهام الليل، فانفعل الأمير الكبير لكلامه، وخاف عاقبته.
وفي يوم الإثنين ثاني عشرينه: خلع على قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم بن جماعة، واستقر على عادته، وألا يخرج شيء عن حكمه وهذه مرة ثانية سعى العجم في إفراد مودع للحنفية وولاية قضاة حنفية بأعمال مصر.
فلم ينجح سعيهم الأولى في ولاية السراج الهندي، عاقه عن إتمامه مرضه حتى مات، وثانيها هذه فكثرت الشناعة بأنهم أرادوا منع الزكاة وقيلت في ذلك أشعار كثيرة.
وفي ثالث عشرينه: كتب باستقرار الأمير حطط في نيابة حماة وخلع على قراجا العلاى أحد مقدمي الحلقة، واستقر في ولاية الجيزة بإمرة عشرة.
وفي أوائل جمادى الآخرة: فاض الخليج الناصري، وأغرق عدة بساتين وأغرق كوم الريش وما حول تلك الأراضي بحيث صارت لجة ماء.
وفي خامسه: أفرج عن الأمير بيدمر الخوارزمي من سجن الإسكندرية، وتوجه ليقيم بالقدس.
وفي تاسعه: قدم الأمير أقبغا عبد اللّه طائعا، فخلع عليه. واستقر نائب غزة بعد وفاة محمد بن ألجبغا.
وفيه خلع على محمد بن أياز الدوادارى، واستقر في نيابة الوجه القبلي عوضاً عن قرط. وخلع على أحمد بن غرلو، واستقر في ولاية البهنسا وكل ذلك. بمال التزما به. وانتهت زيادة ماء النيل إلى إصبعين من عشرين ذراعا، ورسم لقاضي القضاة جلال الدين جار اللّه الحنفي بعزل نائبين من نوابه بالقاهرة، وهما جمال الدين عبد الرحيم بن الوراق وزين الدين السكندري أما ابن الوراق فإن امرأة اعترفت عنده بانقضاء عدتها بسقط تخلق، فحكم به، ثم ادعت ثانيا بعد ذلك على مطلقها عنده أنها حامل منه، فقرر عليه فرض الحمل، وهذا غير مذهبه.(2/326)
وأما السكندري فإن رجلا احتمى به خوفا بطش الأمير مأمور الحاجب، كما جرت العادة بأن من خاف جور من يعتدي عليه يركن إلى قاض من القضاة، فيصير في حماية الشرع النبوي ما أقام، ولا يجسر أحد على أخذه من ذلك القاضي، احتراما له وتعظيما لحرمة الدين، فشكى الأمير مأمور ذلك إلى الأمير الكبير برقوق، فرسم بعزله، وطلب الرجل المحتمي بالقاضي، وضربه ضربا مبرحا بالمقارع، هو وولده وشهرهما بالقاهرة، ونودي عليهما: " هذا جزاء من يتجاهى على الحاجب " . فكان هذا أيضاً من الحوادث التي لم تعهد، واتضع بها جانب القضاة، وانبسطت أيدي الحجاب في الأحكام. بما تهوى أنفسهم، وزين لهم شيطانهم بغير علم ولا دين يزعهم.
وفي شهر رجب: اتفقت حادثة مستغربة، وهي أن بعض من يتكسب بتحمل الشهادة بجلوسه في حوانيت الشهود من رحبة باب العيد بالقاهرة، يعرف بالشهاب أحمد بن الفيشي، من الحنفية دخل إلى منزله بالقرب من الجامع الأزهر، فسمع صوتا من جدار بيته يقول له: " اتق اللّه، وعاشر زوجتك بالمعروف " فظن أن هذا من الجان، فإنه لم ير شيئًا، وحدث أصحابه بذلك فصاروا معه إلى بيته، فسمعوا الكلام من الجدار، فسألوا عما بدا لهم، فأجابهم المتكلم من غير أن يروا شيئاً، فغلب على ظنهم أن هذا من الجان، وأشاعوه في الناس، فارتجت القاهرة ومصر، وأقبل الناس من كل جهة إلى بيت ابن الفيشي لسماع كلام الحائط، وصاروا يحادثون الحائط بزعمهم ويحادثهم، فكثر بين الناس قولهم: " يا سلام سلم الحائط بيتكلم " ، وكاد الناس أن يفتتنوا بهذا، وجلبوا إلى ذلك الجدار من الطب شيئًا كثيرًا، وحضرت العذراء من خدرها إليه. فركب محتسب القاهرة جمال الدين محمود العجمي إلى بيت ابن الفيشي هذا، ليختبر ما يقال، ووكل بابن الفيشي أحد أعوانه، فإذا بالبيت مرتفع، وتحته إصطبل فيه بعض الأجناد، فوكل به أيضاً، وطلع إلى عند الحائط، وحدثه فحادثه، فأمر بهدم الحائط، فقال له: " اخرب فإنه ما ينزل على شيء، ولا أبالي " لا فلما هدم الحائط لم ير شيئا، فعاد إلى بيته وقد كثر تعجبه، وازدادت فتنة الناس بالحائط وأخذ المحتسب مع أصحابه في ذكر ذلك فبعث من يكشف له الخبر: هل انقطع الكلام بعد تخريب الحائط أو لا فوجده قاصده يتكلم كما كان قبل خرابه، فتحير من ذلك، وكان هذا المحتسب شهما جريئًا، قد مارس الأمور وحلب الدهر أشطره، ولاحظته مع ذلك السعود، فلا يتحرك حركة إلا حمد عليها، ولا باشر جهة وقف إلا عمر خرابه، وأنفق على مستحقيه معاليمهم بعد تأخر صرفها لهم. وإذا باشر حسبة القاهرة رخت الأسعار، فإذا عزل ارتفعت، فتقف العامة وتطلب عوده لسعادة جده، ويمن إقباله. ومع ذلك فكان كما قيل " نفس عصام سودت عصاما " فلما عاد قاصده إليه أخبره بأن الكلام مستمر، قام من فوره ومعه عدة من أصحابه، حتى جلسوا عند الجدار، وأخذوا في قراءة شيء من القرآن، ثم طلب صاحب البيت، وقال له: " قل لهذا المتكلم: القاضي جمال الدين يسلم عليك " . فقال: " يا سيدي الشيخ القاضي يسلم عليك " . فقال الجدار: " وعليه السلام ورحمة الله وبركاته " . فقال المحتسب: " قل له إلى متى هذا الفساد " . فأجابه: " إلى أن يريد اللّه تعالى فقال لصاحب البيت: " قل له: هذا الذي تفعله فتنة للناس، وهذا ما هو جيد " .
فأجابه: " ما بقي بعد هذا كلام " ، وسكت وهم يقولون له " يا سيدي الشيخ فلم يكلمهم بعدها.
وكان في صوته غلظ يوهم أنه ليس بكلام إنس، فلما أيس من مكالمته قام عنه وقد اشتدت فتنة الناس بالحائط، حتى كادوا يتخذوه معبودا لهم، وغلوا فيه كعادتهم، وزعموا له ما شاءوا من ترهاتهم، وكان ذلك يوم الإثنين ثاني عشره. ثم ذلك عاد إلى الحديث مع الناس، فنزل إليه عدة من الأمراء والأعيان، وحملوا إليه المأكل، وغيرها إلى يوم الإثنين ثالث شعبان، والمحتسب يدبر في كشف هذه الحيلة.(2/327)
ودس إلى الفيشي من استدرجه حتى اعترف بأنها حيلة، فركب المحتسب في يومه، ومعه جماعة،إلى بيت الفيشي، وقبض عليه وعلى امرأته وعلى فقير عندهم للناس فيه اعتقاد، يعرف بالركن عمر، وعاد بهم إلى داره، وما زال والمرأة إلى أن أعلمته أنها هي التي كانت تتكلم، وسبب ذلك أن ابن الفيشي زوجها كان يسيء عشرتها، فاحتالت عليه بهذه الحيلة، توهمه بأن الجان توصيه بها، فتمت حيلتها عليه وانفعل لها، فأعلمته . بما كان منها، فرأى أن تستمر على ذلك لينالا به جاها ومالا، فوافقته على ذلك حتى كان ما كان.
فركب وأعلم الأمير الكبير بقول المرأة وأخذها وزوجها والشيخ عمر معه، فضرب الأمير الكبير الرجلين بالمقارع، وضرب المرأة بالعصى نحوا من ستمائة ضربة، وأمر بهم فسمروا ثلاثتهم على جمال، وشهروا بالقاهرة ومصر في يوم الإثنين هذا، فكان يوما شنيعا عظم فيه بكاء الناس على المرأة، فإنها أركبت على الجمل، ومدت يداها، وسمرتا في الخشب، وهي بإزارها ونقابها، و لم يعهد قط امرأة سمرت.
واتفق نزول المحسب بخلعة خلعت عليه، فكثر دعاء العامة امتعاضا عليها - أي على المرأة.
وكان قبل ذلك قد طلع ابن الفيشي هذا إلى الأمير الكبير وعلى رأسه طيلسان و صوف، وقدم له شيئا من كعك، قال له: " الشيخ محمد شيخ الحائط أرسل لك هذا " ، وأخذ بيده يد الأمير وقبض عليها وهزها وقال له: " اتق اللّه وأعدل في الرعية " .
فانفعل بكلامه، ومشى ذلك عليه، ثم طلع إليه بعده الشيخ عمر الركن، وكان مشهورا، قد انقطع بسطح جامع عمرو بن العاص من مصرا نحو من ثلاثين سنة، والناس تتردد إليه ما بين أمير ورئيس وغير ذلك، ويلتمسون بركة دعائه، إلى أن اشتهر كلام الحائط فأتى إلى ابن الفيشي ولزمه، وجمع عليه الناس، فلما رآه الأمير الكبير أكرمه، وأخذ هو في خزعبلاته، وانصرف، فلما طلع بهما إليه المحتسب اشتد غضبه عليهما، لما تبين له من محرفتهما، وانكشفا عن حيلة شنيعة أوقع بهما ما أوقع.
ومما اتفق في هذه الحادثة أن امرأة ابن الفيشي هذه رأت في منامها قبل هذه الحادثة بأيام أنها تخطب على منبر، فعبره لها بعض من عاصرناه من حذاق المعبرين بأنه يحصل لها شهرة قبيحة، فإن المرأة ليس من شأنها ركوب المنابر، وتعاطي الخطب، فكان كذلك، وركبت الجمل يوما كاملا، وهي مسمرة كأنها تعظ الناس بلسان حالها، نعوذ باللّه من سوء القضاء.
وفي سادس عشرينه: استقر الأمير كرجي في ولاية الشرقية، عوضا عن علي القرمي، وأخرج من السجن حتى خلع عليه.بمال التزم به.
وفي يوم الإثنين رابع عشرينه: ركب الأمير الكبير برقوق من الحراقة، حيث سكنه من الإصطبل، ومضى نحو مطعم الطيور الجوارح بالريدانية خارج القاهرة.
وكان الأمير إينال اليوسفي - أمير سلاح - قد انقطع بداره على أنه مريض، ونزل الأمير الكبير حتى عاده، فركب ومعه الأمير سودن جركس المنجكي والأمير صصلان الجمالي، والأمير سودن النوروزي، والأمير جمق الناصري في عمق من المماليك، وقصد إلى الإصطبل، فطلع إلى الحراقة، وملك بيت الأمير الكبير برقوق وقبض على الأمير جركس الخليجي، فمال أصحابه على ما هناك من العدد والآلات والأموال ينهبوها، وبعث إينال بقماري الخازندار في طلب السلطان لينزل إلى الإصطبل، فلم يوافقه على ذلك، فألبس من بالإصطبل من مماليك برقوق السلاح، ووعدهم بأموال جمة ينفقها فيهم، وأمر بالكوسات فدقت حربيا بالطلخاناه من القلعة. وطار الخبر إلى الأمير برقوق، فأيس من الحياة، وكاد ينهزم، إلا أن الأمير أيتمش البجاسي شجعه وعاد به إلى بيته تحت القلعة، وأنزله فيه، وجمع عليه مماليكه وألبسهم آلة الحرب. وركب به في عدة وافرة، وخرج معه من باب الوزير يريد القلعة، فلم يشعر إينال حتى وافاه وقد تفرق عنه أصحابه في نهب ما وجدوه، وغصت الرميلة تحت القلعة بالعامة، فهموا برجمه، ظنا منهم أن أيتمش قد خامر مع إينال، عصبية منه للأمير برقوق.
فصاح بهم أيتمش " يا جماعة، هذا أخوكم برقوق معنا " وأشار إليه وقد تلثم، فقالوا: " حتى نرى وجهه " فأماط لثامه، وقال لهم: " يا إخوتي، هذا وقت المروءة(2/328)
والعصبية " وكان كثير الدهاء والمكر، فثاروا ثورة واحدة وصرخوا جميعا: " امش قدامنا " . فسار وهم حوله كالجراد المنتشر، حتى وقف على باب سر الإصطبل أضرموا فيه النار وأحرقوه وتسلق الأمير قرط الكاشف وقد لحق ببرقوق ونزل إلى الإصطبل، حتى فتح الباب، فدخلوا منه جميعا، وقاتلوا أصحاب إينال، فمال معهم من كان من أصحاب برقوق هناك، فاشتد القتال وجرح الأمير إينال في عنقه بسهم رمى به، فانهزم إلى بيته، فبعث الأمير برقوق من قبض عليه، وحمله إليه وسجنه. وهذا والأمير بركة غائب في الصعيد، وتتبع الأمير برقوق أصحاب إينال، فقبض عليهم، ونودي في القاهرة على مماليك إينال فقبض منهم على عدة.
وحمل الأمير إينال مقيدًا إلى الإسكندرية، هو وسودن جركس، وسجنا بها، وفر برهان الدين إبراهيم بن اللبان في هذه الواقعة إلى بلاد التكرور وذُلك أنه كان قد قبض عليه بسبب مال الأمير قرطاي ثم أفرج عنه. فلما ملك إينال الإصطبل، صعد إليه، وأسمع الأمير جركس ما يكره، فخاف على نفسه، وضاقت به أرض مصر.
وفي ثامن عشرينه: قدم الأمير بركة من سرحة البحيرة فخرج الأمير الكبير برقوق وتلقاه، فنزلا جميعا عن فرسيهما وتعانقا فرحا بالسلامة، وعادا، فأمر بزينة القاهرة ومصر، فزينتا.
وفيه قبض على الأمير جمق - أحد العاشرات - وعلى الأمير أزبك، وسجنا، وأخرج الأمير قطلوبغا الكوكاي منفيا إلى الشام.
وفي ثاني شهر رمضان: أنعم على كل من يذكر بإمرة طبلخاناه، وهم الأمير قرط ابن عمر التركماني، وشاهين الصرغتمشى، ومجلس النوروزي، وطوجى العلاي، وقردم الحسني، وأنعم على كل ممن يذكر بإمرة عشرة، وهم: أقبغا الناصري - رأس نوبة الأمير برقوق - وكمشبغا، وبكبلاط الصالحي، وطوجى.
وكتب باستقرار الأمير منكلي البلدي في نيابة طرابلس عوضًا عن يلبغا الناصري، ورسم بإحضار الناصري إلى قلعة الجبل.
وفي يوم السبت سابعه: شهر رجلان بعدما ضربا، وأركبا جملا، وظهر أحدهما إلى ظهر الآخر، ونودي عليهما بالقاهرة ومصر: " هذا جزاء من يتحدث فيما لا يعنيه " . وكان سبب ذلك أن أحدهما يعرف بالكمال ابن بنت الخروبي، من أهل مصر، معروف بقلة العقل والفقر من المال، تحدث مع الأمير خضر رأس نوبة الأمير بركة أن يستقر في الوزارة، وعين رجلا من آحاد معلمي المماليك القراءة لنظر الدولة، وعين رجلا من آحاد الجند يقال له كراي بن خاص ترك لشد الدواوين، وعين آخر لنظر الجهات، وآخر من أطراف العامة لتقدمة الدولة، ووعد على ذلك بمال عظيم، وضمن تكفية الدولة ستة أشهر، فأتقن خضر الأمر مع أستاذه الأمير بركة، حتى لم يبق إلا وقوع ذلك في الخارج، وجهز له تشريف الوزارة، ففطن به الوزير وجماعة الخراربة التجار، وقد بلغهم عنه أنه عينهم فيمن عين لأخذ أموالهم، وعرفوا أهل الدولة بحاله، فقبض عليه الأمير الكبير برقوق، وضربه وجرسه هو ورفيقه، وفر بقية أصحابه.
وفي عاشره: قدم الأمير يلبغا الناصري، وأنعم عليه بإقطاع الأمير إينال، واستقر أمير سلاح.
وفي تاسع عشرينه: خلع على محمد بن طاجار، واستقر في ولاية الغربية، عوضًا عن أيدمر السيفي، وخلع على خان، واستقر في ولاية قوص.
وفي سابع شوال: خلع على محمد بن الجلبي، واستقر في ولاية منفلوط عوضا عن. بيرم، كل ذلك بمال التزموا بالقيام به من مظالم العباد.
وفي يوم الثلاثاء خامس عشره: قبض على رجل ادعى النبوة، وأنه النبي الأمي، وأنه مصدق بنبوة نبينا.
وزعم أن حروف القرآن تنطق له مع أنه أمي، وأن الذي يأتيه بالوحي جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ورضوان ومالك ودرديائيل، وزعم أنه عربي من مصر وأنه أرسل بقتل الكفرة، وأن الترك يحكموه ويملكوه عليهم، وأنه أنزل عليه القرآن فسجن عند المجانين بالمارستان، ثم أخرجه الأمير بركة وسأله عن نبوته، فأخبره، فأمر به فضرب حتى رجع عن. قوله، ثم أفرج عنه بعد أيام، وكنت أراه زمانا طويلا، وله سمت وينمسة وحدثني عنه بعض الثقات أنه كان يتلو عليه من قرآنه لنفسه به، ثم فقدناه.
وفي ثاني عشرينه: عوقبت دادة السلطان حتى أظهرت قبع السلطان الذي عمله له أبوه الملك الأشرف عند ختانه، وطراز ذهب، وطشت من ذهب، وهذه الثلاثة مرصعة بجواهر نفيسة، وأظهرت أيضًا تركة أم السلطان الملك المنصور علي.(2/329)
وفيه خرج الأمير تمربغا الحاجب على البريد، بتقليد الأمير نُعَيْر بن حيار بن مهنا إمرة العرب، عوضا عن زامل ومُعَيقْلِ.
وفيه أخرج أسنبُغَا القوصوني، من أمراء العشرات، منفيا.
وفيه أراد الأمير بركة أخذ مال أولاد ابن سلام التاجر، وأولاد ابن الأنصاري، وكان شيئاً كثيرًا، فركب إليه قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم بن جماعة، وما زال به حتى رجع عن ذلك.
وفي أول ذي القعدة: رسم بإحضار الأمير بزلار، الذي كان متولي الإسكندرية.
وفيه قام المحتسب جمال الدين العجمي على الشيخ زين الدين عمر بن مسلم بن سعيد بن عمر القرشي، وكان قد قدم من دمشق وعمل ميعادا للوعظ بالجامع الأزهري، وظهر عن حفظ جم للأحاديث النبوية، وتفسير القرآن العزيز، من أجل أنه اتهم بأن لازم ما يورده من الأحاديث أنه يثبت الصفات الإلهية، وأقام شخصا ادعى عليه بشيء من هذا، ورسم عليه وعلى ولده عدة أيام، فقام قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم بن جماعة في نصرته، وكف يد المحتسب عنه، ومنعه من التعرض له.
وفي عشرينه: قدم الأمير بزلار.
وفي يوم الأربعاء سابع عشرينه. طلب الأمير بركة الوزراء المعزولين، وهم: كريم الدين عبد الكريم بن الرويهب، وكريم الدين شاكر بن غنام، وكريم عبد الكريم بن مكانس وقد ظهر من اختفائه.
وأمر بابن الرويهب فنزعت عنه ثيابه ليضربه، ثم أعاد ثيابه عليه و لم يضربه، وأخرجه منفيا إلى طرسوس، وجرد ابن مكانس من ثيابه، وضربه عريانا بالمقارع نحو العشرين شيبا، وألزم ابن غنام.بمال، فكتب خطه أن كل ما يملكه فهو للسلطان، وكان للأمير أيتمش البجاسي به عناية، فلم يأخذ منه شيء، وأخرج إلى القدس منفيا. ثم أفرج عن ابن مكانس بشفاعة الأمير يلبغا الناصري فيه. واتهم الوزير المالكي بأنه الحامل للأمير بركة على هذا. وقدم البريد بتجمع التراكمين لقصد أخذ ملطة فركب الأمير طاش البريد لكشف الخبر.
وفي يوم السبت ثاني ذي الحجة: خلع على محمد بن سليمان - من مقدمي الحلقة - واستقر في ولاية الأشمونين وعلى أسنبغا المنجكي، واستقر في ولاية الفيوم، عوضا عن الركن. وسلم الركن للمقدم سيف، ليستخلص منه المال.
وفي يوم الأربعاء ثالث عشره: خلع على بهاء الدين باد الكردي - أحد الطبردارية - واستقر في ولاية القاهرة، عوضا عن الأمير حسام الدين حسين علي بن الكوراني، وسلم حسين لشاد الدواوين على مال، فباع ثيابه، ثم أفرج عنه في خامس عشره.
وفي يوم السبت سادس عشره: استعفى الأمير أيتمش البجاسي من نظر خانكاه سرياقوس فأعفى، وخلع على الأمير مأمور الحاجب، واستقر عوضه في نظرها.
وفي عشرينه: خلع على معين الدين محمد بن عبد اللّه بن أبي بكر الدماميني السكندري، واستقر في نظر الأسواق، عوضا عن علم الدين بن غنام.
وفي ثالث عشرينه: خلع على بيرم، واستقر في ولاية الغربية، عوضا عن محمد بن طاجار، وخلع على الأمير قادوس، واستقر في ولاية الأشمونين عوضا عن محمد بن العادلي، وخلع على ابن العادلي، واستقر في ولاية منوف عوضا عن أبي بكر بن خطاب كل ذلك. بمال يقومون به، إذا صاروا إلى الأعمال، فكانوا يجبون الناس من أهل النواحي أولا، ويسمون ذلك القدوم، فيفرض الوالي على كل بلد قدرًا من المال، ثم إذا جبى ذلك، أخذ في تحصيل المال من المظالم، وبينما هو في ذلك إذ استقر غيره في عمله . بمال التزم به، فيقبض عليه، ويحاط. بماله من خيل وخام وثياب وآلات وغير ذلك مما قد استدانه بأضعاف ثمنه، ويُعاقب على بقية ما تأخر عليه. فعندما يجد، وهو في العقوبة، سبيلا إلى عوده إلى عمله أو عمل آخر، وعد. بمال واستمر فيه، وسلط على الناس بسفك دمائهم، وبضرب أبشارهم وبأخذ مالهم، فأخذ إقليم مصر في الاختلال بهذا السبب.
وفي هذا الشهر: جرت عين الأزرق المستمدة من عين ثقبة وعين ابن رَخَم من عرفة إلى البركتين خارج باب المعلاة . بمكة المشرفة. واستجدت ميضأة عند باب بني شيبة، وربع وحوانيت، وأصلحت زمزم وحجر إسماعيل والميزاب، وسطح الكعبة. كل ذلك على يد الأمير باشاه، دوادار الأمير بركة.
وفيه حضر إلى القاهرة طائفة ما بين رجال ونساء، ذْكروا أنهم ارتدوا عن الإسلام(2/330)
وقد كانوا قبل ذلك على النصرانية، يريدون بارتدادهم التقرب إلى المسيح بسفك دمائهم، فعرض عليهم الإسلام مرارا فلم يقبلوا، وقالوا: " إنما جئنا لنتطهر ونتقرب بنفوسنا إلى السيد المسيح " فقدم الرجال تحت شباك المدرسة الصالحية بين القصرين، وضُربت أعناقهم، وعرض الإسلام على النساء، فأبين أن يسلمن، فأخذهن القاضي المالكي إلى تحت القلعة، وضرب أعناقهن، فشنّع الفقهاء على القاضي المالكي ضرب أعناق النساء، وأنكروا عليه ذلك.
وفيه قدم أيضا بعض رهبان النصارى وقدح في الإسلام، وأصر على قبيحه، فضربت عنقه، وكان هناك ثلاث نسوة، فرفعن أصواتهن بلقلقة ألسنتهن، كما تفعل النساء عند فرحهن، واستبشارا بقتل الراهب، وأظهرن شغفا به، وهياما لما جرى له، وصنعن كصنيعه، من القدح في الإسلام، وأردن تطهيرهن بالسيف أيضا. ثم ضربت رقبة رفيق الراهب في يوم الجمعة ثاني عشرينه تحت شباك الصالحية، وضربت رقاب النسوة الثلاث من الغد، يوم السبت ثالث عشرينه تحت القلعة بيد الأمير سودن الشيخوني الحاجب، وأحرقت جثثهن بحكم أنهن ارتددن عن الإِسلام، وأظهرن أنهن فعلن هذا لعشقهن في الراهب المذكور. وكان يعرف بأبي نفيفة. و لم نسمع في أخبار العشاق خبرًا أغرب من هذا، ثم جاء بعد ذلك رجل من الأجناد على فرس، وقال للقاضي: " طهرني بالسيف، فإني مرتد عن الإسلام فضرب وسجن.
وفيه عزم الأمير بركة على السفر لمحاربة التركمان، وقد عاد للكشف عن أخبارهم بخروجهم عن الطاعة، ثم اقتضى الرأي أن يتولى محاربتهم الأمير بَيدَمُر الخوارزمي، فرسم بإحضاره، وخرج الأميران برقوق وبركة وسائر الأمراء إلى لقائه، وترجلوا له جميعا حتى الأميران، وأتوا به إلى منزل أعد له، وحملت له تقادم كثيرة جدا، وخلع عليه، واستقر في نيابة الشام على إعادته عوضا عن كمشبغا الحموي، واستقر الأمير طَشْتَمُر السيفي في نيابة حماة بعد وفاة الأمير حَطَطَ.
وفيه قتل محمد بن مكي داعية الرافضة تحت قلعة دمشق.
وفيه قطع الوزير الملكي معاليم الناس ومرتباتهم على الدولة، ومنع مباشري الجهات من المباشرة، ظنا منه أنه تمشى أحواله. بما وفره من ذلك، فبلغ الأمير الكبير برقوق ما عمله، فسأله عن مقدار ما وفره، فأخبره. بمبلغه، فأخرج عن الوزارة بلادا يتحصل منها بقدر ما وفره، فعاد ذلك عليه بضرر كبير، فإن الوزراء كانوا يوفرون من ذلك معلوم من استضعفوا جانبه، ليتوسعوا به، ففات الملكي ذلك، وباء بقبح القالة، ومقت الناس له.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
برهان الدين إبراهيم بن شرف الدين أبي محمد عبد اللّه بن محمد بن عسكر بن مظفر بن نجم بن شادي بن هلال الطائي الطريفي، الشهير بالقيراطي، الأديب الشافعي، بمكة في ليلة الجمعة العشرين من شهر ربيع الآخر، ومولده يوم الأحد حادي عشرين صفر سنة ست وعشرين وسبعمائة.
وتوفى الشيخ شرف الدين أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عسكر البغدادي المالكي، بعدما عمى، في يوم الأربعاء سادس عشرين شعبان بالقاهرة، ومولده ببغداد في سنة سبع وتسعين وستمائة. ودرس بالمستنصرية، ثم قدم الشام، وولى قضاء المالكية بدمشق، بعد الجمال المسلاتي، سنة تسع وخمسين، ثم صرف في سنة ستين، وسكن القاهرة، وولي نظر خزانة الخاص، ثم صرف عنها بابن عرب، فلزم بيته حتى مات.
ومات الأمير حَطَطَ اليلبغاوي نائب حماة في جمادى الآخرة.
ومات الأمير حاجي بك، من أمراء الطبلخاناه.
وتوفي الشيخ المعتقد حسن الصبان المغربي، في ثاني عشرين ربيع الأول بعدما أقعد وتوفى الفقير المعتقد صالح الجزيري في رابع عشر ربيع الأول، ودفن بزاويته من جزيرة أروى، المعروفة بالجزيرة الوسطى.
وتوفى شيخ القراء تقي الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد بن علي، المعروف بابن البغدادي ، الواسطي الأصل، بالقاهرة، في يوم الخميس تاسع صفر. ومولده سنة ثلاث وسبع مائة - ومات الأمير قارا بن مهنا بن عيسى بن مهنا بن مانع بن حديثة بن غُضية بن فضل بن ربيعة، أمير آل فضل.
ومات الأمير ناصر الدين محمد بن ألجْبُغا العادلي نائب غزة وقد استعفى، ورجع إلى دمشق في سلخ جمادى الآخرة، وهو في عشر الخمسين بشقحب، فدفن بدمشق.(2/331)
وتوفى الفقيه شمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن أبي بكر بن محمد بن مرزوق العجيسي التلمساني المغربي المالكي، وزير المغرب، ومدرس الفقه بالمدرسة الخانكاه الشيخونية، ومدرس المدرسة القمحية، في يوم الجمعة ثامن شهر ربيع الأول بالقاهرة.
وتوفى بهاء الدين بن يوسف بن عبد اللّه بن قريش، شاهد ديوان أولاد الناصر حسن، في ثاني عشرين جمادى الآخرة.
ومات شيخنا ناصر الدين محمد بن يوسف بن علي الحراوي الكردي الطبردار، في ثامن عشر ربيع الأول.
ومات الأمير ماماق، أحد أمراء الطبلخاناه، في يوم الخميس ثالث شعبان، ودفن بتربة أنشأها له الأمير الكبير برقوق تحت دار الضيافة.
ومات الطواشي افتخار الدين ياقوت الرسولي، شيخ خدام الحجرة النبوية، في ليلة سابع عشرين شهر رمضان، وكان خيرا صالحا.
ومات الأمير ساطلمِش الجلالي بدمشق في ذي القعدة، وهو من أبناء السبعين.
ومات شمس الدين محمد بن أحمد بن مُزهِر، أحد موقعي دمشق، وأخو بدر الدين كاتب السر بها في شوال عن نحو أربعين سنة.
سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة
في يوم الإثنين ثاني المحرم: خلع على الركن متولي الفيوم واستقر في نيابة الوجه القبلي، عوضا عن محمد بن إياز الدوادارى،. بمال كبير التزم به. وخلع على الأمير بَيْدَمُر نائب الشام خلعة السفر، وسار إلى دمشق ومعه الأمير خضر متسفرا على العادة، وقدم البريد من حلب بكثرة جمائع التركمان، واتفاقهم على قصد البلاد الحلبية.
وفي تاسعه: أعاد الأمير بركة الأمير أقبغا صيوان إلى استاداريته، وعزل عنها الأمير صلاح الدين خليل بن عرام وفي عاشره: خلع على السيد الشريف علي، وأعيد إلى نقابة الأشراف، بعد وفاة الشريف عاصم.
وفيه حمل جهاز خوند ابنة الأمير طَشْتَمُر إلى الأمير الكبير برقوق، فبنى عليها ليلة الجمعة حادي عشر وفي تاسع عشره: خُلع على محمد بن طاجار، واستقر في ولاية البهنسي، عوضا عن أحمد بن غُرلوا.
وفي رابع عشرينه: ضرب الأمير بركة الوزير المالكي نحو السبعين ضربة بالعصى، ثم خلع عليه من الغد، ونودي بأن أحدا لا يتجاهى عليه.
وفي عشرينه: خلع على أبي بكر بن خطاب، واستقر في ولاية منوف وفي آخره: قدم البريد من حلب، بأن رجلا قام يصلي بقوم، فتعرض له شخص يعبث به، فتمادى في صلاته ولم يقطعها حتى سلم منها في آخرها، فتحول وجه الشخص الذي عبث به وجه خنزير، ومر على وجهه هاربا إلى غابة بالقرب من ذلك المسجد فعبرها.
وفي يوم الإثنين ثامن صفر: قدم الأمير خضر - متسفر الأمير بيدمر نائب الشام - وعرض ما أنعم به عليه، وهو مبلغ مائتين ألف درهم فضة عنها خمسة عشر ألف مثقال من الذهب، وعشرة أرءوس من الخيل بسروج ذهب وكنابيش ذهب وسلاسل ذهب، وعشرة أرءوس خيل بقماش دون ذلك، وثمانون أكديش عريا، ومائة ناقة، ومائة وخمسون جملا، وعشرون مملوكا، وعشرون جارية، وخمسون بقجة فيها ثياب الصوف وأنواع الفرو من السمور والقاقم والسنجاب، والفوط والثياب القطنية، من النصافي والبعلبكي، وغير ذلك.
وفي عاشره: شهرت امرأة على رأسها طرطور أحمر، ونودي عليها: " هذا جزاء من تتزوج برجلين في وقت واحد.
وفي سابع عشره: بعث الأمير بركة إلى الأمير برقوق بأن الأمير أَيتمش قد ألبس مماليكه حربيا، فكشف عن ذلك فلم يظهر له صحة، وطلع أَيْتمش إليه وأقام عنده خوفا من الفتنة، فترددت الرسل بينهم في الصلح مرارا، حتى ركب بينهما الشيخ أكمل الدين، والشيخ أمين الدين الخلوى، وقررا الصلح، ونزلا بالأمير أيتمش إليه، فخلع عليه الأمير بركة.
وفيه اتفق شيء يُستغرب، وهو أن رجلا من الفرنج خاصم شخصا على مال ادعى به عليه بين يدي الأمير بركة، فلم يثبت له عليه شيء، فغضب، وأخرج سكينا، وضرب بها بلبان الترجمان، فقتله في موقف الدعوى بين يدي الأمير بركة، بحضرة الملأ العظيم من الناس، ولم يخش عاقبة، فأمسك وسمر على لطليطة، فدور على الجمل، ثم قطعت يداه ورجلاه، وأحرق خارج القاهرة.(2/332)
وفي ليلة الجمعة تاسع عشره: لبس الأمير بركة السلاح، هو ومماليكه، ولبس الأمراء أيضا، وباتوا في اصطبلاتهم على احتراز، فلما أصبح نهار يوم الجمعة، طلب الأمير الكبير برقوق القضاة ومشايخ العلم، وندبهم للدخول بينه وبين الأمير بركة في الصلح، مكيدة منه ودهاء، فما زالوا يترددون بينهما عدة مرار، حتى وقع الصلح على دخن وحلف كل منهم لصاحبه، ونزعوا عنهم السلاح، فبعث الأمير برقوق بالأمير أَيْتَمِش إلى الأمير بركة، فنزل إليه وفي عنقه منديل، ليفعل ما يريد من قتل أو حبس أو غير ذلك، وخضع له خضوعا زائدا، فلم يجد بركة بدا من الإغضاء عنه وقبول معذرته، وخلع عليه، وأعاده إلى الأمير برقوق، والقلوب ممتلئة حنقا، ونودي في القاهرة بالأمان، وفتح الأسواق، فسكن انزعاج الناس.
وفي يوم الإثنين ثاني عشرينه: خلع على قضاة القضاة الثلاث: برهان الدين إبراهيم بن جماعة الشافعي، وجلال الدين جار الله الحنفي، وناصر الدين نصر اللّه الحنبلي وخلع على الشيخ أكمل الدين محمد الحنفي شيخ الشيخونية لكونهم سعوا في الصلح بين الأميرين والتزم الأمير بركة بأنه لا يتحدث في شيء من أمور الدولة. وأن يستقر الأمير الكبير برقوق متحدثا في جميع الأمور. بمفرده، وانفضوا من الخدمة السلطانية بالقصر على هذا، فشق على علم الدين سليمان البساطي المالكي حرمانه من لبس الخلعة، وكثرت الإشاعة بعزله، وكانت شائعة، فوعد بمال على استقراره، حتى استقر، وخلع عليه في يوم الخميس ثالث ربيع الأول.
وفيه أنعم على الأمير بُزْلار الناصري بإمرة طبلخاناه، وعلى الأمير محمد بن قرطاي الكركي بإمرة عشرة.
وفي يوم السبت خامسه: ولد للأمير الكبير برقوق ولد ذكر من جاريته أَردو، فسماه، محمدا، وأخذ في عمل مهم عظيم لولادته. هذا، وهو والأمير بركة كل منهما يدبر في العمل على الآخر. وسبب ذلك أنه لما كانت فتنة الأمير إينال مع الأمير برقوقّ وقبض عليه، عتبه على ما كان منه، فاعتذر بأن الأمير أيتمش اتفق معه، هو وعدة من الأمراء، على ذلك، فجمع بينه وبين أيتمش لثقة الأمير برقوق به، فظهر أن الاتفاق إنما كان بينهما على أن يأخذا الأمير بركة وحواشيه، فبلغ ذلك بركة فأسرها في نفسه، وأراد غير مرة القبض على أيتمش، وبرقوق يدافعه عنه، فتوحش مابينهما إلى الغاية، إلى أن عزم أيتمش على القيام بالحرب، ففطن به بركة واستعد له، فكاده برقوق.بما كان من خبر الصلح الذي تقدم ذكره، هذا مع ما كان بين الأميرين بركة وبرقوق من التحاسد الذي لابد منه غالبا بين الشريكين، فإنهما قاما بتدبير أمور الدولة. ومن طبع كل أحد من الملوك الإنفراد بالمجد ومحبة الاستئثار بالملك.
فلما كان يوم الإثنين سابعه: ركب الأميران بركة وبرقوق في عامة الأمراء، وسيرا إلى جهة قبة النصر خارج القاهرة، وعاد كل منهما إلى منزله، فمد الأمير برقوق سماط المهم لولادة ولده محمد، وطلع إليه الأمير صراي الطويل الرجبي - من إخوة بركة - وأسر إليه فيما قيل بأن " الأمير بركة قد اتفق مع جماعته على اغتيالك في وقت صلاة الجمعة " ثُم طلع الأمير أيتمش وغيره من الأمراء لحضور السماط وتأخر الأمير بركة عن الحضور، وبعث من إخوته الأمير قرادمرداش الأحمدي، أمير مجلس، والأمير طبج المحمدي، والأمير أَقتمر الدوادار، فهنوا الأمير الكبير بتجدد ولده محمد. وجلسوا على(2/333)
السماط وأكلوا حاجتهم منه. فلما انقضى السماط، أشار الأمير برقوق إلى الأمير جركس الخليلي، والأمير يونس النوروزي دواداره، فقبضا على صراي الطويل وقرادمرداش وطبج وأَقتمُر العثماني الدوادار، وألبس مماليكه في الحال آلة الحرب، وبادر بإرسال الأمير بزلار الناصري إلى مدرسة السلطان الملك الناصر حسن في عدة معه، فملكها وصعد إلى منارتها، ورمى بالنشاب على الأمير بركة، فإنهما يشرفان على بيته. وقد بلغه القبض على إخوته، فلبس وألبس مماليكه حربيا. وفي الحال نادى الأمير برقوق في العامة " عليكم ببيت بركة فانهبوه " . فجاء منهم خلق كالجراد المنتشر إلى بيت بركة من جهة بابه الذي بالرميلة تجاه باب السلسلة، وقد أغلق، فأضرموا فيه النار حتى احترق، وهجموا عليه، فلم يثبت لهم والرمي عليه من أعلى مأذنتي مدرسة حسن، وخرج. بمن معه من باب سرداره، ومر إلى باب زويلة، فدخله، وشق. بمن معه القاهرة إلى باب الفتوح في عسكر عظيم، وأخذ والي القاهرة حتى فتحه له، وقد أغلق وخرج منه إلى قبة النصر، وكانت بينه وبين أصحاب برقوق وقعة انتصف كل طائفة من الأخرى. وبعث الأمير برقوق إلى الأمير حسام الدين حسين بن الكوراني فأحضره إليه، وولاه ولاية القاهرة، عوضا عن بهاء الدين باد، لمخامرته مع الأمير بركة. فنزل إلى القاهرة وأغلق أبوابها على العادة في أيام الفتنة، ومنع المماليك من دخولها.(2/334)
فلما كان الغد يوم الثلاثاء ثامنه: أصبح بيت بركة خرابا نبابا قد نهبت العامة أخشابه ورخامه، وهدمت عدة مواضع منه، و لم تدع فيه إلا الجدر القائمة، ولا يجد به مالاً، ولا حريما، فإنه كان قد استعد للحرب، ووزع حريمه وأمواله في عدة أماكن. وفيه نادى الأمير برقوق في العامة " من قبض على مملوك من مماليك بركة كان له ماله ولنا روحه " . وركب الأمير آلان الشعباني، والأمير أيتمش البجاسي، والأمير قُرُط التركماني من جهة الأمير الكبير برقوق، لقتال الأمير بركة فركب إليهم الأمير يلبغا الناصري - من أصحاب بركة - وقاتلهم وكسرهم كسرة قبيحة، قتل فيها جماعة، فباتوا متحارسين، وصار العسكر فريقين، فرقة جراكسة - وهم أصحاب الأمير الكبير برقوق - وفرقة ترك - وهم أصحاب الأمير بركة - فلما أصبح نهار يوم الأربعاء تاسعه، أنزل الأمير برقوق بالسلطان إلى عنده بالحراقة من الإصطبل، ودقت الكوسات حربيًا بالطبلخاناه من القلعة، فطلع مماليك السلطان إليه، وأمر بباب القلعة من جهة باب القرافة، فسد بالحجارة، ونودي في الأجناد البطالة وأجناد الحلقة بطلوعهم إلى السلطان، فطلع جماعة كبيرة، فرقت فيهم أسلحة، أُخذت في الليل من سوق السلاح بالقاهرة، وركزت كل طائفة منهم على تربة من الترب - فيما بين القلعة وقبة النصر - ليرموا من أعلاها أصحاب بركة عند محاربتهم بالسهام، وبالغ حسين بن الكوراني في حفظ القاهرة، وأخذ الطرقات على من يتوجه إلى بركة بشيء من الأقوات والعلوفات. وقبض على جمال الدين محمود المحتسب، وسجن بالإصطبل من أجل أنه نقل عنه أنه بعث إلى الأمير بركة. بمأكل من خبز ولحم وغيره. وتوجه الأمير سودون الشيخوني في الحاجب إلى بركة بتشريف نيابة الشام، فأخرق به وأعاده أقبح عود، ثم ركب وقت القايلة، وكان الوقت صيفا، ومعه الأمير يلبغا الناصري من طريقين، وهجما على حين غفلة إلى تحت الطبلخاناه، يريدان الهجوم على القلعة، فتناولت العامة الحجارة يرجمونهم بها، ورماهم مع ذلك من بأعلى القلعة بالنشاب، وثبت لهم الأمير آلان في نحو مائة فارس، فكانت وقعة عظيمة جدا، أبلى فيها أحمد بن هُمُز التركمانى ومماليك بركة - وعدتهم ستمائة فارس - بلاء اعظيما، كسروا فيه أصحاب برقوق عشرين كسرة، يمر في كل وقعة منها ما يتعجب منه، فلما كثرت عليهم حجارة العامة ونشاب من بالقلعة، تقنطر بركة عن فرسه، فأركبه أصحابه، وعادوا به إلى مخيمهم بقبة النصر مكسورا، وقد اقتحم أيتمش على يلبغا الناصري بطبر وضربه حتى كاد يأتي على نفسه، وأخذ جاليشه وطبلخاناته . وجرح كثير منهم، وفر منهم الأمير مبارك شاه المارديني إلى الأمير برقوق في طائفة، فلما دخل الليل تفرق عن بركة أكثر من معه، وأشرفت خيول من بقي على الهلاك، من كثرة جراحاتها، أمرهم أن يطلبوا النجاة لأنفسهم، ومضى ومعه الأمير أقبغا صيوان استاداره بعد نصف الليل من قبة النصر إلى جامع المَقْس خارج باب القنطرة من القاهرة، فاختفيا به، فدل عليهما بعض من هناك، فبعث الأمير الكبير بيونس النوروزى دواداره إليهما، فأخذهما، وأتى بهما إليه في يوم الخميس عاشره، فسجنه نهاره عنده، وحمله في ليلة الجمعة مقيدا إلى الإسكندرية، فسجن بها، وبعث معه بقرا دمرداش، وبأقتمر العثماني، واستمر باب القلعة في يوم الجمعة حادي عشره مغلقا، ولم تصل الجمعة يومئذ يجامع القلعة.
وفيه قبض على الأمير خُضَر، والأمير قراكسَك، والأمير أيدَمُر الخطاي، والأمير حاج(2/335)
ابن مُغْلطاي، والأمير سودُن باشا، والأمير يَلبغا المنجكي، والأمير قرا بلاط والأمير قّرابغا الأبو بكري، والأمير إلياس الماجارى، والأميرَ تمُربغا السيفي، والأمير يوسف بن شادي، والأمير تمربغا، الشمسي، والأمير قُطلُوبك النظامي، والأمير أقبغُا صيوان الصالحي، والأمير أحمد بن هُمُز التركماني. والأمير كُزَل القرمي، والأمير طولو تمر الأحمدي، والأمير طُوجي الحسني، والأمير تنكز العثماني، والأمير قطلوبك السيفي، والأمير غريب الأشرفي، والأمير يلبغا الناصري، وجميع أصحاب بركة وألزامه ومماليكه، فانقرضت دولة الأتراك بأسرها، وتتبعوا بالأخذ فقتلوا ونفرا وسجنوا، ولقد كانت الجراكسة قبل ذلك تتحدث فيما بينها بأنه يكون فتنة كبيرة ثم تخمد، ويثور بعدها فتنة بينهم وبين الترك ينتصرون على الأتراك فيها بعد وقعة، وتعلو كلمتهم عليهم، وصاروا يتدارسون هذا فيما بينهم، لا يشكون في وقوعه. فلما كانت حركة الأمير أينال جهروا بذكر ذلك، وقالوه من غير احتشام، وأذاعوه حتى تحدث به كبيرهم وصغيرهم، فكان كذلك كما تقدم ذكره، و للّه عاقبة الأمور.
ومن عجيب ما وقع في هذه الحادثة العظيمة، أنه لم يركب فيها الأمير برقوق لحرب ساعة من النهار؛ بل لم يزل في مكانه، والحرب بين أصحابه وكبيرهم الأمير أيتمش وبين بركة ومن معه، حتى نصره الله عليهم من غير تعب، وأقامت القاهرة ثلاثة أيام مغلقة الأبواب، إلا أن الخير كثير بالأسواق، و لم يقل سوى الماء فإنه صار ينقل بالقرب من خوخة أيدغمش، فبلغت القربة نصف درهم، ثم نودي من آخر يوم الجمعة في القاهرة بالأمان، ونودي " يا عوام إن كنتم راضين.بمحتسبي القاهرة ومصر. وإلا عزلنا هما " . فطلع جمع من الغوغاء إلى تحت القلعة وصاحوا " ما نرضى بهما " فرسم بعزلهما.
وفيه خلع على الأمير أحمد الطرخاني، واستقر في ولاية الجيزة، ووجدت ذخيرة للأمير بركة في ضمن مصطبة صغيرة بوسط اصطبله. كان يجلس عليها أحيانا، فيها زنة سبعين قنطارا من ذهب ووجد له عند جمال الدين محمود العجمي - محتسب القاهرة - مبلغ ثلاثة وعشرين ألف دينار.
وفي يوم السبت ثاني عشره: عرضت مماليك بركة على الأمير برقوق، ومماليك يلبغا الناصري، فاختار من شاء منهم.
وفيه أفرج عن قراكَسَك. وطولو تمر الأحمدي، وتنكز العثماني، وأَيْدَمُر الخطاي وأمير حاج بن مُغْلِطَاي، ويوسف بن شادي، وقبض على أرسلان دوادار بركة، وسلم هو وأقبغا صيوان وخضر وباشا إلى المقدم سيف، فنوع لهم العذاب أنواعا، وهو يقول لهم " أنتم أخذتم مني ألف ألف وخمسين ألف درهم " ، وكانت عقوبتهم بقاعة الصاحب من القلعة، كما هي العادة فيمن يصادر.
وفي ليلة الأحد ثالث عشره: أخرج الأمير يلبغا الناصري مقيدا إلى الإسكندرية، ومعه الأمير طُبُج المحمدي، والأمير أَطْلَمش الطازي، والأمير قرابلاط. والأمير إلياس، والأمير تمربغا السيفي، والأمير تمربغا الشمسي فساروا جميعا في الحديد حتى سجنوا بها.
وفي نهار الإثنين رابع عشره: خلع على الأمير مبارك شاه السيفي، واستقر في ولاية بلبيس وخلع على السيد على نقيب الأشراف، واستقر في حسبة مصر، عوضا عن سراج الدين عمر العجمي، وخلع على شمس الدين محمد الدميري، وأعيد إلى حسبة القاهرة، عوضا عن جمال الدين محمود العجمي وخلع على محمد بن العادلي، واستقر في ولاية الأشمونين وأفرج عن الأمير خضر وعن الأمير أرسلان وعن مسافر استادار الصحبة لبركة، على مال قرر عليهم، وأفرج عن الأمير أقبغا صيوان، ثم أخرج بعد أيام هو وخضر إلى الشام منفيين.
وفيه أنعم على كل ممن يذكر بتقدمة ألف وهم: الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير الكبير وأنعم عليه بإقطاع بركة، والأمير جركس الخليلي والأمير بزلار الناصري والأمير أَلْطنبُغا المعلم، والأمير ألابغا العثماني.
وفي يوم الأربعاء سادس عشره: أخذ قاع النيل، فكان ستة أذرع وست أصابع.
وفي سابع عشره: أنعم على الأمير أَطْلَمش الطازي بطبلخاناه بدمشق، وأخرج إليها. وأنعم على كل ممن يذكر بإمرة طبلخاناه، وهم: تَنْكز بُغا السيفي، وأقبُغا الناصري، وطوجي العلاي، وفارس الصَّرْغَتْمُشى، وكَمُشبغا الخاصكي الأشرفي، وتمربُغا المنجكي، وسودُن السيفي باق، وأياس الصَّرْغَتْمُشي، وقُطُلوبغا السيفي كوكاي، وأنعم(2/336)
على كل ممن يذكر بإمرة عشرة، وهم: بيبرس التمانَ تمرى، وطنا الكريمي، وبيرم العلاي، وأقبغا اللاجيني، وقوصون الأشرفي.
وفيه خلع على الأمير بهادر الشاطر، واستقر شاد الدواوين، عرضا عن أقبغا الفيل.
وفي ثامن عشره: قدم البريد بسيف الأمير بيدمر نائب الشام، وذلك الأمير بركة لما خرج إلى قبة النصر، بعث إليه بأخذ قلعة دمشق، والقبض على أكابر أمرائها، وأنه إن انكسر قدم إليه، فركب يريد القبض على الأمراء، وكانوا قد وصل إليهم كتاب الأمير الكبير برقوق باحترازهم، وأعلمهم. بما كان من مخامرة بركة، وأنه إن قدم إليهم يأخذوه، فاستعدوا، وقام بحرب بَيدَمُر الأمير محمد بيك، والأمير أحمد بن جُرجي الإدريسي، والأمير جَنتمُر أخو طاز، والأمير أرغون الأسعردي، مدة ثلاثة أيام، وأعياهم من في القلعة بالرمي من أعلاها، فانكسر بيدمُر، وقبض عليه وعلى تغرى بَرْمَش وجبرائيل، والصارم البيدمري، وعامة حواشي بيدمر، وسجنوا بقلعة دمشق، فسر الأمير الكبير بذلك سرورا كبيرا.وفيه أفرج عن الأمير أينَال اليوسفي من سجنه بالإسكندرية.
وفي يوم الإثنين حادي عشرينه: خلع على الأمير أَيتمش البجاسي، واستقر رأس نوبة كبيرا، عوضا عن الأمير بركة. وخلع على الأمير آلان الشعباني، واستقر أمير سلاح. عوضا عن يَلبغا الناصري. وخلع على الأمير أَلْطنبُغا الجوباني، واستقر أمير مجلس، وخلع على الأمير ألطنبغا المعلم، واستقر رأس نوبة ثانيا بتقدمة ألف، وخلع على الأمير ألابغا العثماني، واستقر دوادارا كبيرا بتقدمة ألف، وخلع على الأمير جركس الخليلي، واستقر أمير أخور بتقدمة ألف، وخلع على الأمير بجمان المحمدي، واستقر رأس نوبة صغيرا وعلى كُمُشبغا الخاصكي الأشرفي، واستقر شاد الشراب خاناه، فصار أرباب الدولة كلهم جراكسة من أتباع الأمير الكبير برقرق.
وفي ثاني عشرينه: خلع على صلاح الدين خليل بن عرام، وأعيد إلى نيابة الإسكندرية عوضا عن بلوط الصَرغَتمُشى، وأنعم عليه بتقدمة وخلع على الأمير شرف الدين موسى بن دَندار بن قرمان، واستقر استادار الأمير محمد بن الأمير الكبير برقوق الأتابك، وخلع على ولده دَمُردان بن موسى واستقر أمير طَّبر، وكاشف الجيزة.
وفيه قدم الأمير أينال اليوسفي من الإسكندرية، فنزل ناحية سرياقوس، وتوجه منها إلى نيابة طرابلس عوضا عن منكلي بغا البلدي، ونقل البلدي إلى نيابة حلب، عوضًا عن أشَقتمُر المارديني، ونقل أشقتمر إلى نيابة الشام، عوضا عن بيدمر.
وفيه قدم ناصر الدين محمد بن الدمرداشي محتفظا به، وكان قد مات خطيب أحميم عن مال كبير، وجعل وصيه الأمير بركة، ووصى له. بمال جزيل، حماية لتركته، فشره لأخذ التركة جميعها. وبعث ابن الدمرداشي للحوطة على مخلفه، فأوقع بأصحاب الخطيب كل مكروه، فزالت دولة بركة وهو في عقوبتهم، فلم يشعر إلا وقد قبض عليه، وحمل إلى القاهرة في أسوأ حال، فضُرب ضربا عظيما، وأُخذ ماله، وأخرج منفيا إلى الصعيد، واتفق أيضا أن امرأة من مياسير نساء التجار خرجت حاجة، فأشيع أنها ماتت، فأخذ جميع مالها، وعادت إلى القاهرة فلم تُعوض عن ذلك بشيء وافتقرت بعد غناها، كما افتقر أولاد خطيب أحميم مع كثرة عددهم وعظم مال أبيهم.ومات أيضا بعض المماليك السلطانية، وترك أولادا، فأخذ ماله، و لم تعط ورثته شيئا، فكان هذا من الحوادث التي لم تعهد.
وفي ثامن عشرينه: أخرج مبارك شاه المارديني - أحد أمراء الطبلخاناه - إلى حماة، أميرا بها.
وفيه خلع على الصاحب شمس الدين أبي الفرج المقسي، واستقر ناظر ديوان الأمير أيتمش. وهذا أيضا مما لم يعهد أن وزيرا خدم ديوان أمير.وفيه رسم للأمير ألطنبغا الجوباني أن يجلس بالإيوان في وقت الخدمة السلطانية ولا يقف.
وفي يوم السبت ثالث شهر ربيع الآخر: ركب الأمير الكبير الأتابك برقوق من الإصطبل، وسير بعد ما كان منذ حركة بركة لم يتحرك من موضعه خوفا على نفسه، فوقف له أهل الرواتب والصدقات المقررة على الدولة، واستغاثوا به على الوزير الملكي أن عوّق حاريهم عن الصرف، فلما عاد إلى الحراقة من الإصطبل طلب الملكي والمقدم سيف، وضربهما وأسلمهما إلى الأمير بهادر شاد الدواوين، ثم أفرج عنهما.(2/337)
وفي رابعه: قدم الصاحب كريم الدين شاكر بن غنام من القدس، وعظم أمر الأمير الكبير، وانفرد بتدبير الدولة، وصار في موكب عظيم لم يعهد مثله لأمير قبله.
وفي خامسه: خُلع على صدر الدين بديع بن نفيس الدواداري الأسلمي التوريزي، واستقر شريكا للرئيس علاء الدين علي بن صغير في رئاسة الأطباء.
وفيه أنعم على الأمير مأمور حاجب الحجاب بزيادة في إقطاعه، وأنعم على الأمير أحمد ابن الأمير يلبغا الخاصكي بزيادة في إقطاعه، وخلع على ناصر الدين محمد بن الأسناي شاهد ألابغا الدوادار، واستقر في نظر الأحباس عوضا عن شمس الدين محمد الدميرى المحتسب، وخرج البريد بإحضار الأمير ناصر الدين محمد بن آقبغا آص.
وفي رابع عشرينه: ترك الوزير الملكي الوزارة، ولبس هيئة الزهاد، وأقام بجامع عمرو بن العاص. بمصر، فطُلب في يوم الإثنين سابع عشرينه، وسجن بقاعة الصاحب من القلعة، وتولى شاد الدواوين مصادرته، فعذبه عذابا أليما. حتى هلك تحت العقوبة في يوم النوروز، ولما قبض عليه خلع على الصاحب شمس الدين أبي الفرج المقسي، واستقر عوضه في الوزارة مضافا إلى نظر الخاص.
وفيه قدم الخبر بخروج بدر بن سلام بعربان البحيرة عن الطاعة، فرُسم أن يجرد لهم من الأمراء أَيتمش البجاسي، وآلان الشعباني، وألطنبغا الجوباني ومأمور الحاجب، وأحمد بن الأمير يلبغا، وبَلوط الصَرْغَتْمُشى، وبزلار الناصري، وبهادر الجمالي. ومعهم من أمراء الطبلخاناه اثني عشر أميرًا، منهم سَوكَب الشيخوني، وقرابغا البوبكري، وبجمان المحمدي، وطغايَ تمُر القبلاوي ومازى السيفي، وقُرُط بن عمر التركماني، ويدكار السيفي، وبجاس النوروزي، وقرابغا السيفي، وعدة من أمراء العشرات، وطائفة من مماليك الأمير الكبير برقوق، وساروا في أول جمادى الأولى، فارتفع بدر.بمن معه عن البلاد وخرج ابن عرام بعسكر الإسكندرية إلى لقاء الأمراء، فبلغهم أن بدر بن سلام يريد كبسهم ليلا، فتركوا مخيمهم وقصدوا الجهة التي يكون مجيء بدر منها، فأقبل بدر من غير تلك الطريق، وهجم ليلا على مخيم الأمراء، وليس به إلا الغلمان، وقليل من المماليك، فقتل ونهب ومضى، فأدرك الأمير آلان طائفة من أصحابه، فقاتلهم قتالا كبيرا. انكسر منهم مرتين، ثم كانت الكرة له، فقتل منهم جماعة، وقبض على بني بدران - من أعيانهم - واستولى على كثير مما كان معهم، ولما طال على الأمير أيتمش ومن معه السُرى عادوا، فإذا ببدر وجماعته قد عادوا من وقعتهم. بمن في المخيمات، فقصدوه فلم يدركوه، وقتلوا عدة ممن تخلف من أصحابه.
وفي ثالثه: على الأمير جمال الدين عبد اللّه بن بَكتمُر الحاجب واستقر حاجبا ثالثا وفي سادسه: قدم الأمير ناصر الدين محمد بن آقبغا آص.
وفي رابع عشره: قدم البريد من البحيرة بما تقدم ذكره، وأنه قُتل من عرب بدر نحو الألف.
وفيه استقر الأمير كمشبغا الحموي في نيابة صفد، عوضا عن تمرباي الدمرداشي.
وفي يوم السبت خامس عشره وخامس وعشرين مسرى: أوفى النيل ستة عشر ذراعا، وفتح الخليج على العادة.
وفيه قدم الأمراء من تجريدة البحيرة، ولم يدركوا بدر بن سلام، وقتلوا من ظفروا به ما بين مذنب وبريء، ونهبوا أموالا كثيرة، وخربوا تروجة وما حولها، فلما عاد الأمراء رجع بدر إلى البحيرة، وبعث ابن عرام يسأل له الأمان، فأجيب إلى ذلك، وخرج إليه الأمير بهادر المنجكي - استادار الأمير الكبير - والشريف بَكتمُر، في ثاني عشرينه، ومعهما أمان وخلعة لبدر وطبلخاناه، فالقهما، وبالغ في إكرامهما، والتزم تدريك البلاد وعمارة ما خرب منها، وتعويض أهلها عما تلف لهم، واعتذر عما وقع منه، وقدم إليها ابن عرام من الإسكندرية فقرأ الأمان على الناس فوق منبر مدينة دمنهور ونودي بالأمان فعاد أهل دمنهور إليها، بعدما كانت لا أنيس بها، وعاد الأمير بهادر، والشريف بَكتمُر، ومعهما بدر، حتى قاربا القاهرة، ثم مضى عنها، وقدما إلى القاهرة وقد قويت الإشاعة. بمباطنة ابن عرام لبدر بن سلام، فخرج البريد بطلبه، فحضر بتقادم جليلة، واعتذر عما رمُى به، فخلع عليه، وأعيد إلى الإسكندرية على حاله.(2/338)
وفي يوم الأربعاء سادس عشرينه: نودي بالقاهرة ومصر ألا يلعب أحد بالماء في النوروز. وهدد من لعب فيه بالماء أن يضرب ويؤخذ ماله، فامتنع الناس فيه مما كانوا يفعلونه. ووجد أربعة من الناس يلعبون بالماء في يوم النوروز. فضربوا بالمقارع وشهروا. وقدم البريد من طرابلس بأن الأمير طَقتمُر - مستقر الأمير إينال - أفسد بطرابلس من كثرة سكره وعربدته وقلة احترامه للنائب، وأن النائب ضربه بحضرة أمراء طرابلس ضربا مبرحا. فأخرج إقطاع طقتمر ورسم بسجنه بالكرك ورُسم بالإفراج عمن بالإسكندرية من الأمراء. فأفرج عنهم، وتأخر بالسجن منهم أربعة وهم بركة، ويلبغا الناصري وقرا دمرداش، وبَيْدَمُر نائب الشام. فلما قدم المسجونون. فرقوا ببلاد الشام وأرسل بعضهم إلى قوص.
وفي تاسع عشرينه: خلع على الأمير كرجي. واستقر كاشف الوجه البحري، عوضا عن قُطلوبَك صهر أيدمر المزوق. ثم خلع على الشريف بَكتمُر أطلسين. واستقر ملك الأمراء بالوجه البحري. ورسم أن تكون إقامته بتروجة. وأن يُكَاتب. بملك الأمراء. فكان أول من خوطب بذلك من كشاف الوجه البحري.
وفي يوم الجمعة ثالث عشر جمادى الآخر: رست السلاسل على قنطرة المقسي بخليج فم الخور وعلى قنطرة الفخر برأس الخليج الناصري - بجوار الميدان الكبير - كما عمل في السنة الماضية. فامتنعت المراكب التي تحمل المتفرجين وأهل الخلاعة من عبور الخليج وبركة الرطلي، وانكف بذلك فساد كبير وبلغت زيادة النيل إلى أربع أصابع من ثمانية عشر ذراعا، وثبت إلى سادس عشر توت. ثم هبط فارتفع سعر الغلال، وطلبها الناس للخزن طلبا للفائدة فيها. فكثر قلق الناس، واستغاثت العامة في عزل الدميري من الحسبة، وسألوا عود العجمي إليها، وهموا برجم الدميري مرارا فاختفى بمنزله خوفا على نفسه.
وفي يوم الإثنين ثالث عشرينه:. خلع على جمال الدين محمود العجمي، وأعيد إلى حسبة القاهرة، ففرح العامة به فرحا زائدا، وكادوا يحملون بغلته وهو عليها بالخلعة، وأتلفوا من ماء الورد الذي صبوه عليه وعلى من معه، ومن الزعفران الذي تخلقوا به شيئا كثيرا. - وبالغوا في إشعال الشموع والقناديل بالقاهرة، ووقفت له المغاني تزفه إذا مر بها في مواضع عديدة، فكان يوما مشهودا. وذلك أنه كان قد تعذر وجود الخبز بالأسواق. وفقد منها عدة أيام، فظنوا أن قدوم الجمال محمود يكون مباركا، فكان كما ظنوا.
وقدم في هذا اليوم عدة مراكب مشحونة بالغلال، فانحل السعر.
وفيه خلع على الأمير قطلوبغا الكوكاي، واستقر أستادارا ثالثا. وقدم الأمير زامل بنى موسى بن مهنا، فأكرمه الأمير الكبير كرامة زائدة.
وفي سابع عشرينه: خلع على شرف الدين بن عرب، واستقر في حسبة مدينة مصر عوضا عن الشريف علي نقيب الأشراف.
وفيه أخرج إقطاع الأمير قرابغا فرج الله عنه، وقبض عليه من أجل قتل بعض مماليكه وهو سكران. وكتب باستقرار الأمير إينال اليوسفي في نيابة حلب، واستقر عوضه في نيابة طرابلس كُمُشبُغا الحموي، واستقر طشتمر اللفاف في نيابة صفد عوضا عن كُمُشبغا.
وفي أول شهر رجب: قبض على الأمير زامل، وسجن وذلك أن ولده نزل مرج دمشق في طائفة من آل فضل. كما قد استجد. وأنزلوهم فيه أيام الشتاء فمنعهم الأمير أَشَقتمر من الإقامة به. فركبوا للحرب وقاتلوا عسكر دمشق مرتين. ثم انكسروا، ونهبت عامة أموالهم وجمالهم، وانجلت هذه الوقعة على قتل طَقتمُر الحسني.(2/339)
وفي يوم الثلاثاء خامسه: أحيط. بموجود الأمير صلاح الدين خليل بن أحمد بن عرام، وتوجه الأمير يونس دوادار الأمير الكبير للقبض عليه وسبب ذلك ورود الخبر بقتل الأمير بركة بسجنه من الإسكندرية، فثارت مماليكه تريد الفتنة، فأنكر الأمير الكبير أن يكون قد أمر بقتله. ويقال أنه كان قد تقدم إلى ابن عرام عند حضوره بأن يقتل بركة. فأخذ بذلك خطه وخطوط الأمراء الأكابر، وعاد إلى الثغر وقتله. فلما دخل يونس الدوادار إلى الثغر نبش قبر بركة، فوجد في رأسه ضربة وفي جسده ضربات عديدة وقد دفن بثيابه من غير غسل ولا كفن، فغسله وكفنه وصلى عليه، ودفنه في تربة بناها على قبره.، وقبض على ابن عرام. وخاف من بدر بن سلام أن يعترضه في الطريق ويخلصه فطلب نجدة، فسار إليه عدة مماليك ساروا به في بحر الملح إلى دمياط وأتوا في النيل إلى القاهر " وسجن في يوم الثلاثاء ثاني عشره بخزانة شمايل مقيدا، وعذب على مال اتهم أنه أخذه من بركة، فلم يقر بشيء. ثم أخرج في يوم الخميس رابع عشرينه، وحمل على حمار إلى القلعة، وقد اجتمع الأمراء بباب القلعة منها، فجرد من ثيابه، وضرب بالمقارع نحو التسعين شيبا. ونودي عليه وهو يضرب: " هذا جزاء من يقتل الأمراء بغير إذن " . فقال: " ما قتلته إلا بإذن الأمراء " ، وأخرج خطوطهم فأخذت منه وهو بستغيث: " بيني وبينكم اللهّ ياسيدي الشيخ نهار هذا اليوم الذي وعدتني، فإنا لله وإن إليه راجعون " . وذلك أن الشيخ نهار كان حدثه بأمور، ومنها أنه لا يموت إلا مقتولا بالسيف، موسطا أو مسمرا، فكان يتوقع ذلك. ثم أركب الجمل ودقت المسامير الحديد في كفيه وذراعيه وقدميه على الخشب. وهو يقول: " يا سيدي الشيخ نهار، قد صح الذي وعدتني به، هذا اليوم الذي وعدتني به " ،. وساروا به من باب القلعة على الجمل، ليشهر، فصار ينشد في تلك الحال، التي يذهل فيها المرء عن نفسه.
لك قلتبى تعِله ... فدمى لم تحله
قال إن كنت مالكا ... فلي الأمر كله
فلما صار بالرمَيلة تحت القلعة. أوقف تجاه باب السلسلة، فبدره مماليك بركة بسيوفهم يضربوه بها حتى صار قطعا، وفرقوا شلوة تفريقا. ثم حملت رأسه وعلقت بباب زويلة، فأخذت أمه ما قدرت عليه من بدنه وأخذت رأسه، وغسلت ذلك. ودفنته. بمدرسته جوار قنطرة أمير حسين. من حكر جوهر النوبي خارج القاهرة. وكان ابن عرام فطنا ذكيا، فأحسن المشاركة في القلم. كتب تاريخا مفيدا. وكانت له نوادر، وعنده حكايات يذاكر بها. وكان مهابا، رئيسا سيوسا، وكان يداخل كل ذي فن، ويتنقل في أحوال مختلفة ويخوض في كل ما يفيد وينفع.
وفي رابع عشره: استقر الأمير بلّوط الصَرغَتْمشى في نيابة الإسكندرية.
وفي حادي عشرينه: استدعى الأمير الكبير برقوق الشيخ جلال الدين رسولا التباني، فطلع إليه بعد مراجعات كثيرة، وعرض عليه أن يستقر في قضاء الحنفية. فلم يوافق على ذلك، وامتنع كما امتنع في الأيام الأشرفية شعبان بن حسين. وقال: " هذه الوظيفة ما يصلح لها عجمي، والعرب أولى بها، " فلما ألح عليه الأمير الكبير في القبول. أخرج مصحفا شريفا، وكتاب الشفاء للقاضي عياض وقال: أسألك بحق هذين. ألا ما أعفيتني " ؛ وقام عنه، فاستدعى الأمير الكبير القضاة. وشاورهم فيمن يصلح لقضاء الحنفية. فأشار قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم بن جماعة، بولاية صدر الدين أبي عبد الله محمد بن الشيخ علاء الدين أبي الحسن على بن منصور الدمشقي. فسار بإحضاره من دمشق، في يوم الخميس رابع عشرينه.
وفي خامس عشرينه: أنعم على ناصر الدين محمد بن آقبغا آص. بإمرة طبلخاناه. عوضا عن أروس المحمدي، وأخرج أروس على إمرة بصفد وأنعم على سودون النظامي بإمرة طبلخاناة.
وفي ثامن عشرينه: قدم الأمير خضر الزيني باستدعاء.
وفي يوم الجمعة رابع عشرين شعبان: قبل الأمراء الأرض بين يدي السلطان، وسألوا عفوه عن الأمراء المسجونين، فرسم بالإفراج عن الأمير يلبغا الناصري. والأمير قرادمرداش، والأمير بيدمر نائب الشام.
وفي أول شهر رمضان: قدم بيرم والي الغربية بطلب، وضرب وسجن.(2/340)
وفي يوم الأحد رابعه: قدم صدر الدين محمد بن علي بن أبي البركات منصور الدمشقي الحنفي، ونزل بصهريج منجك تحت القلعة وأتاه الناس على اختلاف طبقاتهم للسلام عليه ثم طلب في يوم الخميس ثامنه بعد العصر. إلى بين يدي السلطان، فخلع عليه واستقر قاضي القضاة الحنفية، عوضا عن جلال الدين جار اللّه بعد وفاته. ونزل ومعه قاضي القضاة برهان الدين بن جماعة، والأمير قرابغا الحاجب.
وفي عاشره: خلع على أحمد بن سنقر البريدي. واستقر في ولاية الغربية، عوضا عن بيرم. وخلع على فرج بن أيدَمُر المرزوق واستقر في ولاية أشموم الرمان.
وفي تاسع عشره: كتب مرسوم سلطاني ثان يستقر لكل من القضاة الأربع أربعة نواب. فاستقر لقاضي القضاة برهان الدين إبراهيم بن جماعة الشافعي أربعة نواب بالقاهرة، وهم: جمال الدين محمد بن محمد الخطيب الأسناي. وصدر الدين محمد بن إبراهيم المناوي وصدر الدين عمَر بن عبد المحسن بن رزين. وسرى الدين محمد بن المسلاتي. واستقر فخر الدين محمد بن محمد القاياتي نائبه بمصر. واستقر لقاضي القضاة صدر الدين محمد بن منصور الحنفي أربعة نواب، وهم: مجد الدين إسماعيل بن إبراهيم. وشمس الدين محمد بن أحمد بن أبي بكر الطرابلسي. وشهاب الدين أحمد الشنشي. وجمال الدين محمود المحتسب. واستقر لقاضي القضاة علم الدين سليمان اليساطي المالكي أربعة نواب. وهم: جمال الدين عبد الله بن عمر الفيشي، وتاج الدين بهرام، وشهاب الدين أحمد الدفري، وعبيد البشكالسي. و لم يستنب قاضي القضاة ناصر الدين نصر اللّه الحنبلي عنه أحدا. فاستراح الناس من نواب المجالس ؛ وهم قوم يتكسبون من الحكم بين الناس، ويجلسون لذلك في مجالس من الجوامع أو المدارس أو حوانيت الشهود، ويقاسمون الشهود فيما يتكسبونه من تحملهم الشهادات للناس وعليهم، فبطل ذلك بسفارة قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم " بن جماعة، و للّه الحمد.
وفي رابع عشرينه: خلع على أوحد الدين عبد الواحد بن إسماعيل بن ياسين - موقع الأمير الكبير - كاملية حرير أخضر كمخا سكندري بفرو قاقم ولم يعهد قبله متعمم يلبس مثل ذلك.
وفي ثالث شوال: أخرج الأمير طُغاي تمر القبلاوي منفيا إلى طرابلس.
وفي رابعه خلع على عبيد بن البازدار، واستقر مقدم الدولة. وخلع على قُطلوبُغا الأسَنْ قجاوي أبو درقة، واستقر في ولاية قوص. وخلع على الأمير قُرُط بن عمر التركماني، واستقر نائب البحيرة والوه البحري. عوضا عن الشريف بُكتمُر، وأنعم عليه بعُدد حربية، وأسلحة كثيرة، سومال جزيل، فأكثر من استخدام التراكمين، وسارقي عسكر كثير، فاستعد بدر بن سلام للقائه، وجمع له جمعا موفورا، فعرج قُرُط عن الطريق، حتى قارب دمنهور، فلقيه بدر وقاتله أشد قتال حتى احتاج إلى طلب نجدة من القاهرة.
وفي سادس عشرينه: خلع أقمغا المارديني، واستقر نائب الوجه القبلي، بعد موت الركن.
وفيه أخرج الأمير ناصر الدين محمد بن آقبغا آص منفيا إلى الشام، وخلع على الشيخ برهان الدين إبراهيم الأبناسي، وأُعيد إلى مشيخة الخانكاة الصلاحية سعيد السعداء، عوضا عن شمس الدين محمد بن أخي الجار.
وفي هذا الشهر: كثر الوباء بالإسكندرية، فمات في كل يوم ما ينيف على مائة وخمسين إنسانا، وتمادى إلى أثناء ذي الحجة.
وفي يوم الثلاثاء أول ذي الحجة: خلع على شمس الدين محمد الدِّميري المحتسب، وأعيد إلى نظر الأحباس، عوضا عن ناصر الدين محمد بن الأسناى، واستقر كمال الدين المعري في قضاء الشافعية بحلب. عوضا عن الجمال الزُرَعي بعد وفاته.
وفي ثالثه خلع على سعد الدين نصر اللّه بن البقري. واستقر في نظر الدخيرة، ونظر خاص الخاص،. وأضيفت إليه الإسكندرية والكارم، والأملاك والمستأجرات. وخلع على الأمير شرف الدين موسى بن قرمان، واستقر أستادار الدخيرة، رفيقا لابن البقري.(2/341)
وفي يوم الثلاثاء ثامنة: قدم البريد بوصول آنص - والد الأمير الكبير برقوق - صحبة الخواجا عثمان بن مسافر، فركب الأمير الكبير إلى لقائه وخرج معه عامة العسكر من الأمراء والأجناد، وجميع أرباب الدولة من القضاة والوزراء والأعيان، فلقي أباه بمنزلة العكرشا، وعاد به، وقد قدم معه الكمال المعري قاضي حلب، وولي الدين عبد الله بن أبي البقاء قاضي دمشق. فنزل بالمخيم من سرياقوس وقد أعد له. وهيأت المطابخ. فمد سماط عظيم إلى الغاية، أجلس الأمير الكبير أباه في صدره، وأجلس بحانبه الأمير عز الدين أيدَمُر الشمسي. وجلس الأمير الكبير تحت الأمير أَيدَمُر، وجلس بحانب ولد الأمير الكبير من الجهة الأخرى الأمير سيف الدين أَقتمُر عبد الغني، فأكلوا وأكل عامة من حضر حتى اكتفوا، ثم رفع فتناهبه الغلمان وسغيرهم، حتى عم ذلك الجمع مع كثرته. وركبوا جميعاً وقت الظهر. وعبروا إلى القاهرة، وقد خلع على الخواجا عثمان، وصعدوا به إلى الإصطبل فكان يومًا مشهوداً، بالغ العامة في إشعال الشموع والقناديل. ثم طلع الخواجا عثمان بآنص، فاشراه السلطان منه وأعتقه، وخلع عليه. وأنعم على آنص بتقدمة ألف فلم يبق أحد من الأمراء حتى قدم له التقادم الجليلة على قدر همته وبذل الأمير الكبير برقوق للخواجا عثمان مالا كثيرًا، وأنعم عليه بإنعامات سنية، من أجل أنه جلب أباه من بلاد الجركس.
وفي ثاني عشره: خرج الأمير آلان الشعباني، ومعه خمسمائة مملوك إلى البحيرة، نجدة للأمير قرُط.
وفي ثامن عشره: قدم البريد من الطرانة - وقد نزل بها الأمير آلان - بأن الأمير قرط قتل، فاضطرب العسكر بالقلعة. وعلق الجاليش للسفر، ونودي في القاهرة بخروج الأمراء والمماليك وأجناد الحلقة للبحيرة. ورسم بتجهيز السلطان، فأشار الأمير أيدمُر الشمسي بإقامة السلطان، وتجهيز الأمراء، فعين للتجريدة الأمير أيتمش البجاسي، والأمير ألطنبغا الجوباني، والأمير أحمد بن يلبغا الخاصكي، والأمير مأمور القلمُطاوي، والأمير أَقبغا العثماني، والأمير ألطنبغا المعلم، وكلهم أمراء ألوف، ومعهم من أمراء الطبلخاناة: قرابغا الأحمدي، ومازي، وقرابغا البوبكري، وبجَمَان المحمدي وفارس الصَرغتمشى، وبجاس النوروزي. وطوجي الحسني. وطقتمشى السيفي، وأطرجي العلاي، وأرسلان اللفاف. ومن أمراء العشرات:أقبغا بوز الشيخوني، وكمجي، ويوسف بن شادي، وبكبلاط الصالح، وبيبرس التمان تمري، وأقبغا اللاجيني، وسبرُج الكمشبغاوي، فقدم الخبر آخر النهار بأن قرُط بن همر لم يقتل فسكن الحال بعض الشيء.
وفي تاسع عشره: قدم من شيوخ البحيرة خِضْر بن موسى بن خضر وجماعة تحت الاحتفاظ فضربوا بالمقارع.
وفيه سارت التجريدة المذكورة صحبة الأمير أيتمِش إلى البحيرة.
وفي حاي عشرينه: قدم حسين بن الأمير قُرُط بعدة رءوس من القتلى في الحرب، وأخبر أنه حصِرَ.بمدينة دمنهور، وكاد بدر أن يأخذه، ففر إلى العطف وعدى النيل إلى مدينة فوة وسأل أن يمد بنشاب وغيره من آلة الحرب، وأخبر بوصول الأمير آلان.بمن معه إلى دمنهور، فخلع عليه.
وفيه أعيد فتح الدين محمد بن الشهيد إلى كتابة السر بدمشق، بعد وفاة شهاب الدين أحمد بن نجم الدين محمد بن القاضي بها الدين أحمد بن القاضي محيى الدين يحيى ابن فضل الله.
وفي ثاني عشرينه: خُلع على الطواشي صفي الدين جوهر الصلاحي، واستقر مقدم المماليك بعد موت ظهير الدين مختار الحسامي.
وفيه أبطل الأمير الكبير برقوق ضمان المغاني بمدينة حماة، وبمدينة الكرك وبمديته الشوبك، وبناحية منية ابن خصيب من أراضي مصر وبناحية زفتا منها، وأبطل ضمان الملح.بمدينة عين تاب وضمان الدقيق من البيرة - معاملة حلب - وضمان قمح المؤونة بدمياط وفارس كور من أردبين إلى ما دون ذلك. وأبطل المقرر على أهل البرلس، وشورى، وبلطيم، وهو شبه الجالية ومبلغه ستون ألف درهم في السنة. وأبطل مكس مدينة إعزاز بأجمعه، وعمر جسر الأردن الذي يعرف بالشريعة. فيما بين بيسان ودمشق، فجاء طوله مائة وعشرون ذراعا.
وفيه أنعم على قُطلوبَك السيفي - وإلى مدينة مصر - بإمرة عشرة زيادة على عشرة، فاستقر أمير عشرين فارسا.
وفيه أنعم على الأمير قديد القلمطاوي بإمرة عشرة.
ومات في هذا السنة من الأعيان(2/342)
شرف الدين أبو العباس أحمد بن علاء الدين أبي الحسن علي ابن أبي البركات منصور الدمشقي الحنفي، قاضي القضاة بديار مصر، بعد ما عزل نفسه، وأقام بدمشق، في ليلة الإثنين عشرين شعبان.
وتوفي الشريف شرف الدين عاصم بن محمد الحسني نقيب الأشراف، في عاشر المحرم.
وتوفي الشيخ عباس بن حسن التميمي الشافعي، المقرئ، خطيب جامع أصلم خارج القاهرة، في يوم الأحد ثالث عشر ذي الحجة. تصدى لتدريس الفقه وإقراء القراءات عدة سنين.
وتوفي نور الدين علي عبد الصمد الجلاوي - بالجيم - أحد فقهاء المالكية، في رابع عشرين ذي الحجة.
ومات الأمير منكلي بغا الأحمدي، الشهير بالبلدي، نائب حلب، وقد تجاوز نحو أربعين سنة.
ومات الركن عمر نائب الوجه القبلي.
ومات الأمير فطلوبغا البزلاري، أحد العشرات.
وتوفي قاضي الفضاة جلال الدين أبو عبد الله ويعرف بجار الله، بن قطب الدين محمد بن محمود النيسابوري، الحنفي،يوم الإثنين رابع عشر شهر رحب.
وتوفي قاضي القضاة بحلب جلال الدين أبو المعالي محمد بن محمد بن عثمان بن أحمد ابن عمرو بن محمد الزُرَعي الشافعي، قاضي حلب.
وتوفي الفقير المعتقد زين الدين محمد بن الَموِاز، في ثاني عشرين ربيع الأول بالقاهرة.
وتوفي شمس الدين محمد الحكري في ذي الحجة، بالرملة وكان فقيها شافعيا، عارفاً بالقراءات. قرأ على البرهان الحكري، ناب في الحكم ثم ولي قضاء القدس وصيدا بيروت.
توفي الوزير الصاحب تاج الدين عبد الوهاب النشو الملكي الأسلمي، تحت العقوبة، مستهل شهر جمادى الآخرة.
وتوفي أحد فقهاء الشافعية بدمشق، شمس الدين محمد بن نجم الدين عمر بن محمد بن عبد الوهاب بن محمد بن ذؤيب الأسدي الدمشقي، المعروف بابن قاضي شهبة. في ثامن المحرم،. ومولده في يوم الثلاثاء العشرين من ربيع الأول سنة إحدى وتسعين وستمائة، بدمشق.
وتوفي أبو محمد حَجي بن موسى بن أحمد بن سعد السعدي الحسباني، الشافعي، بدمشق، في ليلة الأربعاء سابع عشر صفر، وقد صار من أعيان فقهائها، مع اقتصاد وانجماع.
ومات قتيلا الأمير صلاح الدين خليل بن علي بن أحمد بن عرام في رابع عشرين شهر رجب.
سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة
في يوم الأحد ثالث المحرم: قبض على طائفة من عرب البحيرة، نحو ثلاثة وعشرين رجلا عند الأهرام، قد فروا يريدون النجاة، فوسطوا، وأخذت مواشيهم.
وفيه ابتدأ الوباء بالطاعون في الناس بالقاهرة ومصر، وتزايد حتى بلغ عدة من يموت في اليوم ثلاثمائة ميت.
وفي خامسه: خلع على قاضي القضاة بدمشق ولي الدين عبد اللّه بن أبي البقاء، باستقراره على عادتَه. وخلع على قاضي القضاة بحلب كمال الدين المعري باستقراره. وسارا عائدين إلى بلديهما في عاشره: ابتدأ الأمير مأمور الحاجب بعرض الأجناد، وإلزام من عبرة إقطاعه ستمائة دينار، بالسفر إلى البحيرة أو إخراج بديل عنه.
وفي ثاني عشره: قدم الخبر بأن خمسة من أعيان أهل البحيرة قدموا على الأمير أيتمش، راغبين في الطاعة، ومعهم نحو ستمائة فارس، وعدة رجالة.
قدم البريد من الإسكندرية بطلب بدر بن سلام، من الأمير بلوط أن يسأل له في الأمان، فلم يجبه الأمير الكبير برقوق إلى سؤاله. وكتب بالقبض على الذين قدموا إلى الأمير أيتمش، فقبض عليهم، وقتل أكابرهم.
في تاسع عشره: قدم الأمير قطلوبغا الكُوكَاي، ومعه خمسة وعشرون رجلا من أعيان البحيرة، فعفي الأمير الكبير عنهم.
وفي خامس عشرينه: خلع على جمال الدين محمود بن علي بن أصفر عينة شاد الجنان بالإسكندرية ثم أحد أجناد الحلقة، واستقر نقيب الجيش عوضا عن ناصر الدين محمد بن قرطاي الكركي وفي هذه الأيام: مرض السلطان حتى أرجف.بموته، ثم عوفي.
وفي يوم الأحد ثاني صفر: قدم الأمير أَيتمِشِ. بمن معه من تجريدة البحيرة، وقد فر بدر سلام إلى جهة برقة وبعث الأمير قرط برجال كثير قد قبض عليهم، وبعدة من رءوس قتلاهم، فعلقت على باب زويلة.ونزل قُرُط دمنهور، وبنى عليها سورا،أخذ في عمارة ما خرب من بلاد البحيرة.
وفي تاسعه خلع على آلطنبغا الصلاحي، واستقر في ولاية الأشمونين، عوضا عن محمد بن العادلي.(2/343)
وفي حادي عشره: استعفي الصاحب شمس الدين أبو الفرج المقلى من الوزارة؛ لضعف حالها. فإنه أخذ منها عدة بلاد. فقبض عليه وعلى علم الدين يحيى ناظر الدولة، وعدة من الكتاب، وسلموا الشاد الدواوين. فلما كان من الغد بعث الأمير الكبير إلى المقسي بخلعة الوزارة ليستمر على عادته، فامتنع من الولاية، ما لم يعد إلى الدولة ما خرج عنها من البلاد فالتزم كريم الدين عبد الكريم بن مكانس بتكفية الدولة والخاص من غير أن تعاد البلاد التي خرجت عن الوزارة. فخلع عليه في يوم الخميس ثالث عشره، واستقر في الوزارة. ونظر الخاص، ونظر ديوان الأمير الكبير ووكالة الخاص، عوضا عن المقسي.
وفيه أنعم على الأمير شرف آنص - والد الأمير الكبير - بتقدمة الأمير أَيدمُر الشمسي بعد موته. وخلع عليه، فقبل الأرض بين يدي السلطان، وأقام في الخدمة حتى انقضت.
وفيه أحاط الوزير على موجود الأمير أيدَمُر، ورسم على مباشري ديوانه و لم تجر عادة بذلك.
وفي رابع عشره: قدم الأمير قرُط ومعه رحاب وإبراهيم وشادي، من أمراء البحيرة.
وفي تاسع عشره: قبض على المقدم سيف، وأحاط الوزير يجميع ماله وأُلزم بحمل مائتي ألف دينار. وعوقب، فكتب خطه.بمائتي ألف درهم.
وفي عشرينه: خلع على رحاب ورفيقيه.
وفيه خلع على أحمد العَظْمَةَ - نقيب قرا غلامية - واستقر مقدم الدولة عوضا عن المقدم ورفيقه عبيد. وخلع على سعد الدين بن الريشة، واستقر ناظر الدولة، عوضا عن علم الدين يحيى، وخلع على عدة من الكتاب باستقرارهم في وظائف كانت بأيدي أصحاب ابن المقسي، فاستقر زين الدين نصر الله بن مكانس في نظر الأسواق، واستقر علم الدين أفسح في نظر دار الضيافة، واستقر تاج الدين عبد اللّه بن سعد الدين نصر الله بن البقري ،صاحب ديوان خزانة الخاص ،واستقر تاج الدين عبد الرحيم ابن الوزير فخر الدين ماجد بن أبو شاكر في نظر دار الضرب، واستقر فخر الدين عبد الرحمن ابن مكانس في نظر الإصطبل.
وفيه أفرج عن المقسي وعلم الدين يحيى، على مال مبلغه خمسمائة ألف درهم، ليورده وفي يوم الأحد ثالث عشرينه: توفي السلطان الملك المنصور علي بن الأشرف شعبان،ودفن ليلا بتربة جدته خوند بركة بالتبانة وتولى تجهيزه الأمير قطلوبغا الكوكاي فكانت مدة سلطنته خمس سنين وثلاثة أشهر وعشرين يوما، وعمُره نُحو اثنتي عشرة سنة ولم يكن له من السلطنة سوى الاسم، والجلوس على التخت، وله نفقة كل يوم.
ثم إن القبرسي لما قصد غزو الإسكندرية استنجد. بملوك النصارى بإشارة الباب لهم في ذلك والباب هو بتفخيم الباء الأولى، وهو الذي تنقاد النصارى به، ويزعمرن أنه من ذرية الحواريين، وعنده الصليب الأكبر، الذي إذا أبرزه للغزو لم يبق ملك مَن ملوك النصارى إلا أتى بجيشه نحوه. فإذا خرج الباب بصليبه ذلك ارتجت له بلاد النصرانية، فيظفر بتلك الجيوش القوية على مملكة من خالفه من ملوك الرومانية. فلما أعانت ملوك النصارى صاحب قبرس بالمال والرجال والغربان، بإشارة الباب لهم في ذلك فعمرت المراكب له على ما قيل برودس، لأنها دار صناعة الفرنج، فكانت عمارتها على ما قيل في أربع سنين، وذلك في مدة طوافه على الملوك. فلما رجع إلى قبرس، وجدهم تهيئوا له فجمع ما جاء به على ما عمر له، وتوجه إلى الإسكندرية. وكانت الأخبار تأتي إلى الإسكندرية، بأن العمارة عند القبرسي، فاهتم نائب السلطان بها - وهو الأمير زين الدين خالد. - فرفع سورها القصير من جهة الباب الأخضر، وصار يجتهد في العمارة، ويرسل يطلب من الأمير يلبغا الخاسكي - مقدم الجيوش المنصورة الإعانة على عمارة السور، ويعلمه بخبر عمارة القبرسي للمراكب الحربية، فيقول: " إن القبرسي أقل وأذل من أن يأتي إلى الأسكندرية " . وما علم يلبغا أن شرارة أحرقت الجلمود، وبعوضة أهلكت النمرود، ودلمة قتلت فيلا، وبرغوثا أَشهر ملكا جليلا.
ذكر كيفية ظفر القبرسي بالاسكندرية
بما جمعه من أجناس نصارى الرومانية، وغير ذلك من الواردات المستطردات. وذلك(2/344)
أن نائب السلطان بثغر الإسكندرية - وهو الأمير صلاح الدين خليل بن عرام - كان غائبا عن الثغر المذكور بالحجاز الشريف، بسبب الحج. وكان نائبا عنه فيه بإشارة الأمير الأتابكي الخاسكي أمير يسمى جنغرا. فلما دخل جنغرا المذكور الإسكندرية رأى طوائفها المتطوعة الحارسة لمينتها تبحر عليه بالجزيرة بقسيهم الجرخ الموترة وأعلامهم الحرير المنشورة، مع ما بأيديهم من المزاريق والرمح والدرق والصفاح، والزرد النضيد، ومصفحات الحديد، والنفط الطيار الصاعد منه لهب النار، وهم بملبوسهم المختلف الألوان كالزهر في البستان. فلما عاينهم جنغرا بكى وقال: " هؤلاء أهل الجنة لرباطهم وجهادهم في سبيل الله، قد طاب والله العيش بقوة هذا الجيش، لو أتى الإسكندرية جميع نصارى الرومانية، ما قدروا على هذا الجيش الثقيل على الإسكندرية، بل يكسرون النصارى، ويصيرونهم قتلى وأسارى،.
فأقام جنغرا بالإسكندرية من شوال سنة ست وستين وسبعمائة إلى المحرم، ينظر إلى تلك الطوائف التي لكل طائفة منها ليلة في الأسبوع، تبيت تحرس بساحل، المينا، وربما بات ليال في الغرفة التي على باب مسجد تربة طغية، ويقدم قدامه فانوسين أكرتين مقابل باب المسجد المذكور. وتأتي طائفة الزراقين يطلقون النفط وهو ينظر من طيقان الغرفة المذكورة إلى الشرار الطيار واللوالب التي تدور بألوان النار، من الخضرة والصفرة، والبياض والحمرة، فيتحصل بذلك الانشراح، من العشي إلى الصباح، ويبتهج أيضاً بنظره إلى كثرة الخلائق المنتشرة على الساحل من الرماة والعوام، وقد نصب لهم سوق فيه من أصناف المأكول، يشترون ويأكلون، ومن ماء الروايا والقرب التي تحمل من البلد إليهم، يشربون.فإذا أصبحوا انتظمت الطائفة التي باتت تحرس، ودخل البلد في همة وجلد وكثرة ومدد ، فتجتمع لدخولهم الرجال والنسوان، ينظرون لأقوام كزهر بستان، من حسن الملابس وبياض تلك الأطالس، فتزغرت لهم النسوان إعلانا عند مشاهدتهن لهم عيانا، والأبواق حينئذ تصرخ والكوسات تدق، والمزامر تزمر،والأعلام منشورة، والمباخر بالطيب معمورة، ودخانها يفوح، فتنبسط لتلك الروائح الأرجة كل روح، والناس في شرح وسرور لرؤية ذلك الجيش المخبور، المهتز له الشوارع والدور. فبينما هم كذلك على عادتهم مستمرين، وفي ثغرهم مطمئنين، لا تروعهم الأعداء، ولا رأوا مكروها أبدا، إذا دهمهم صاحب قبرس اللعين في جنده الضالين ، وشتت شملهم أجميعن، فروا منه في البلدان، ودخل البلد باطمئنان، وذلك في يوم الجمعة الثاني والعشرين من المحرم، سنة سبع وستين وسبعمائة، والنيل منتَشر على البلاد قصد الملعون بإتيانه لتتعوق النجدة من مصر لبعد الطريق من الجبل، فنال الخبيث قصده في ذلك اليوم، والذي بعده، وتحصن قبل إتيان النجدة. بمراكبه، وفرح بسلامة نفسه ومكاسبه فلو كان بها أمراء مجردة ما نال الخبيث منها ثمن زردة لكن كان ذلك في.الكتاب مسطورا ،وكان أمر الله قدرا مقدورا .
عود إلى ذكر كيفية إتيان القبرسي إلى الإسكندرية وظفره بها وذلك أنه لما كان في يوم الأربعاء العشرين من المحرم سنة سبع وستين وسبعمائة،ظهر في البحر مراكب مشرقة ومغربة، زعم أهل الإسكندرية أنهم تجار البنادقة، ينتظرونهم يأتون بمتاجرهم على جاري عادتهم في كل سنة. وكانت تجار المسلمين جلبوا لهم من اليمن أصناف البهار، يبيعونها عليهم، ويتَعوضون عنها من متاجرهم.
فلما لم يدخلوا لميناء بات الناس في خوف شديد بسببهم. فلما أصبح يوم الخميس أقبلته المراكب الكثيرة طالبة ساحل الجزيرة، منشورة قلاعها كالقصور البيض. فصار الناس في الطويل العريض من كثرة لهجهم، وحر وهجهم. وتلك المراكب مقلعة آتية قد ملأت البحر من كل ناحية، فلم تزل تشق البحر كالزلزلة، إلى أن حطت قلاعها ببحر السلسلة ، وذلك من جهة الباب الأخضر المسدود بعد الوقعة بالجير والحجر، ثم فتح بعد ذلك وركبت علمِه أبوابه الأول والثاني والثالث المتجددة، وذلك في يوم الوقعة سنة سبع وستين وسبعمائة، في ولاية الأمير سيف الدين الأكز بالإسكندرية، وسيأتي ذكر ولايته بها وما فعل فيها إن شاء الله تعالى.(2/345)
نعود ولما أرست المراكب الحربية ببحر السلسلة مبرزة عن الساحل اعتد أهل الإسكندرية للقتال والحرب والنزال، فتعمرت القلاع التي من جهة البحر والجزيرة، بالرماة الكثيرة وانتشر الناس على السور، وصار برماة الجرخ معمور، فخرج من مراكب الفرنج قارب يجس الميناء بقميرة، فرمى المسلمون عليه بالسهام، فولى هاربا حتى لصق بالمراكب. فلما كان بعد الغروب، أوقدت الفوانيس على السور، فضاء السور بالنور، وبات المسلمون متأهبين بالسور، محدقين والعدو خانس لم يتحرك من الموضع الذي أرسى به. وصارت تلك المراكب منضمة بعضها إلى بعض، كالطوقَ الصغير في البحر الكبير، فاستهون المسلون أمره وقالوا: " ما يقدر هذا على هذه المدينة المسورة الحصينة. والقلاع المشيدة المتينة " . فلما كان بعد طلوع الشمس من يوم الجمعة، انتشر على الساحل بالجزيرة خلق من المسلمين كثيرة، منهم من معه سيفه وترسه، ومنهم من معه نبله وقوسه، ومنهم من معه رمحه وخنجره، ومنهم من ليس عليه سوى ثوبه الذي يستره، وبعضهم قد لبس الزرد المنضد، وبعضهم من هو عاري مجرد. وكانت الباعة خرجوا من البلد بطباليهم وقدورهم ودسوتهم ملآنة بالطعام، يبيعونه على من بالجزيرة من الخاص والعام، وذلك من ليلة الخميس ليكسبوا معايشهم، وهم معلنون بلعن كل راهب وقسيس، وذلك من غير خوف من المراكب التي رؤيت يوم الأربعاء في البحر. ثم إنهم ما فزعوا من الإفرنج باجتماع أفروطتهم يوم الخميس، بل صاروا يلعنون القبرسي كلعنهم لإبليس لأنهم فيما تقدم لهم من بيعهم على الطوائف المتقدم ذكرهم. فكان أحدهم يغضب إذا أنقص له المشترى حبة أو حبتين، ويفرح إذا غلب المشتري بحبة واحدة، فيصير البائع كما قال الشاعر:
لاتغضب السوقي ... فبالحبة ترضيه
وأخذ الفلس من يده ... كأخذ الفرس من فيه
فصاروا يشترون من الباعة، ويأكلون كما كانوا في خروجهم مع الطوائف، يعهدون وليس كل منهم مفكر في أسطول الإفرنج، ولا منه خائف. وصارت الحرافيش والعوام يشتمون القبرسي بالصريح، ويسبونه بكل لفظ قبيح، والقبرسي يسمعهم من مراكبه، وهو ساكن، وكل من معه لم ينطق بكلمة، بل كل منهم صامت فقيل: إن القبرسي رمى من أعلى الجزيرة في الليل جواسيسه في زي لباس المسلمين، مستعربين كالشياطين، فاحتاطوا بالمسلمين متجسسين، فرأوهم من لباس الحرب عارين، فاشتروا كما قيل من المأكول، وأتوا به لصاحب قبرس بالأسطول، وقالوا: له ليس بالجزيرة أحد من الشجعان وليس بها إلا من هو من لباس الحرب عريان، يأكلون ويشربون،وبعضهم يحفر في الرمل حفائر وبها ينامون فلما كان قبل الشمس من يوم الجمعة .أقبلت العربان من كل ناحية ومكان، قد تخللوا بالكسيان. وكانت النسوان ينظرن إلى مراكب الفرنج من رءوس الكيمان التي هي داخل السور، المشرفة على القبور،فزرغتت النسوان لتلك العربان. وقلن قد أتت الشجعان، يقتلون عباد الصلبان، فصاروا يتطاردون على خيولهم تحت الكيمان، وقد أرخوا لها الأعنة، عند سماعهم الزرغتة ، وتلك العربان كالمطر من كثرتهم، خارجين من الباب الأخضر. فصاروا في الجزيرة كالجراد المنتشر، وكل من سرابيل الحرب منتشر، ليس مع كل واحد منهم غير سيفه ، الأجرب ورمحه، قاصدا إما لقتله أو لجرحه، فقال أحد المغاربة وغيره للأمير جنغرا: " هذا عدو ثقيل، وقد خرج الناس من الثغر عرايا للبلايا، والمصلحة دخولهم المدينة يتحصنون بأسوارها الحصينة. ويقاتلون من خلف الأسوار. ليظن العدو أن خلفها كل رجل كالأسد المغوار، يذيقونه برميهم عليه الشدة. إلى أن تصل من مصر النجحة " ، فقال ممن له رباط بالجزيرة: قد انصرف على بنائه ألوف كثيرة، بنيت بين مقابر الأموات لمبيت طوائف القاعات: " ما نترك هؤلاء الفرنج الذي كل منهم رجس مقامر، تطرق بأرجلها ترب المقابر " . قالوا ذلك خوفا على ربطهم تخربها الفرنج إذا نزلوا الجزيرة بجموعهم الكثيرة. فقال عبد الله التاجر لجنغرا: " دخول المسلمين البلد أصلح لهم " فقالت " أرباب الربط: " أنتم مغاربة أخربتم بلدكم طرابلس بأخذ الفرنج وتريدون أن تخربوا ربط المسلمين بدخول المسلمين البلد كذلك ولا كرامة، بل نمنعهم النزول من المركب، نذيقهم بالسهام العذاب والرعب.(2/346)
ثم لما كان بعد وقعة القبرسي بسنتين، رسم السلطان الملك الأشرف شعبان بهدم ماتجده في الجزيرة من الربط والقصور، احترازا من العدو أن ينزلها، فيجد مأوى يأويه، ويجد ما ، يشرب من صهاريجها المملوءة. بماء الأمطار، فهدمت تلك الربط والقصور. ولو كان تركوا للقبرسي الجزيرة وتحصنوا بالسور وقاتلوا من ورائه كل رجس كفور ،لكان المسلمون بتحصينهم بالثغر سلموا من القتل والنهب والأسر، وما كان عليهم من إخراب الفرنج للربط المبينة، لسلامة الإسكندرية، من أذى الملة النصرانية، فالذين خافوا على ربطهم تخربت ،ودورهم التي داخل البلد نهبت،وذلك بالرأي الغير صائب ،حتى حلت بهم المصائب ،لكن القضاء إذا نزل لا يرد ،وإذا أراد الله بحكم نفذ قال بعضهم
قضاء المهيمن لا يدفع ... إذا حل من ذا له يمنع .
و قال الآخر
وإذا أراد الله إنفاذ القضا ... لم يكن فيه لمخلوق مفر
نعود إلى ركوب أمير جنغرا لكلام أصحاب الربط ، وتركه لما قاله له عبد الله التاجر المغربي، فكان جواب جنغرا لعبد الله التاجر المذكور: " لست أترك أحدا من الفرنج يصل إلى الساحل، ولو قطعت مني الأوداج ونفذت المقاتل " ، وإذا أراد اللّه أن يلطف بعبده ألهمه حسن التدبير، وإذا خذله شتت رأيه. ثم إن الفرنج صاروا.بمراكبهم ينظرون أحوال الناس، فلم يروا إلا من هو عار من اللباس، فطمعوا فيهم، وزحفوا بغراب التقدمة إليهم، فنزلت إليه طائفة من المغاربة خائفين في الماء، ناوشوا من فيه القتال والحرب، و.النزال، وأمسكوا الغراب بأيديهم وطلبوا من الزراقين النار ليحرقوه، فلم يأت أحد بشرارة، وذلك لقلة همتهم وتهاونهم وغفلتهم، فاستعجلوهم بالنار، فرموا .بمدفع فيه نار كنار الحلفاء، فوقع في الماء فانطفأ. ثم إن المغاربة وأصحاب الغراب ضربوا بعضهم بعضا بالسيوف إلى أن قتلت المغاربة في تلك المحاربة، فحينئذ دخل الغراب الساحل، وتبعه آخر كان يرمي بالسهام. فلما دخلا البر تتابعت الغربان داخلي من أماكن متفرقة، فنزلت الفرنج سريعا من مراكبها بخيلها ورجالها، وقت ضحى نهار يوم الجمعة إلى البر، فرمت الخيالة المسلمون يقدمهم أصحاب الدرق والسيوف، مشاة على الأقدام. فلما رأت الباعة الطعام، الذين كان كل واحد منهم يخاف على الحبة والحبتين، ترك ماعونه وهرب، حافيا بغير نعلين، فمنهم من نجا من الكفرة، ومنهم من صارت هامته على الأرض مكركرة. وكانت الفرنج مسربلة بالزرد النضيد، متجلية بصفائح الحديد، على رءوسهم الخوذ اللامعة وبأيديهم السيوف القاطعة، قد تنكبوا القسي المولَودة، ورفعواأعلام الصلبان المنشورة. وصاروا يرمون على المسلمين، فارتشقت سهامهم في أهل الإيمان، وفي خيول العربان، فهاجت بهم تلك الخيول في كل جهة ومكان، فانهزموا إلى ناحية السور. فصار جيش المسلمين بهزيمة العربان مكسور، ولا عادوا قابلوا الفرنج الكلاب، بل دخلوا البلد عابرين من الأبواب.وكانت الفرنج لابسين الحديد من الفرق إلى القدم، والمسلمون كاللحم على وضم ، فكيف يقاتل اللحم الحديد وكيف يبرز العاري لمن كسى الزرد النضيد، فانهزمت المسلمون وولت،ومن الكفار فرت، فقال الشاعر في ذلك:
، قد ولت المسلمون لما ... باللبس وافاهم جنود
وكيف لايهربنون منهم ... والناس لحم وهم حديد
ثم إن أهل الإسكندرية لما رأو ما لم يعهدوه أبدا، ولا شاهدوه على طول المدى، رجفت منهم القلوب، وصار كل واحد من عقله مسلوب، ولما رأو من الرءوس الطائرة ، والخيول الغائرة، فتزاحموا في الأبواب، بعضهم على بعض، فصاروا موتى بالطول والعرض، وثبت بعض الناس، وقاتل وهو مجتهد، حتى قتل من الفرنج ما تيسر له قبل أن يستشهد. قيل إن محمد الشريف الجزار هجم على الفرنج بساطور المجزرة، جعل عظام جماعة منهم مكسرة، وهو يقول: " اللّه أكبر قتل من كفر " إلى أن تكاثرت عليه منهم جماعة كثيرة، فاستشهد - رحمه ا للّه - بالجزيرة وروى بعض فقهاء المكاتب يعرف بالفقيه محمد بن الطفال - وهو قاصد الفرنج بسيفه فقيل له " تموت يا فقيه محمد " ، فقال " إذًا أسعد وأصير مجاورا للنبي محمد، وأي موتة أحسن من الجهاد في سبيل الله لأصير إلى الجنة " ،وهجم فيهم فصار يضربهم ويضربونه إلى أن رزق الشهادة ، وختم له بالسعادة.(2/347)
نعود إلى ذكر من قاتل بالجزيرة من المسلمين للفرنج الكافرين. وذلك أن جماعة من رماة قاعة القرافة المتطوعة. لما حوصروا في الرباط الذي عمره لهما الشيخ الصالح أبو عبد الله محمد بن سلام خارج باب البحر بالجزيرة بسبب مبيتهم فيه وصلواتهم ،وذكرهم ليلة خروج طائفتهم ،ترابط به وكان بناؤه قبل الوقعة ما يزيد على سنة ،قيل وذكرهم ليلة خروج طائفتهم ،ترابط به وكان بناؤه قبل الوقعة ما يزيد على سنة ،قيل إنه انصرف على عمارته ثمانمائة دينار فلما تكاثرت الفرنج حول الرباط ،صارت رماة المسلمين في أعلاء يرمون على الفرنج بسهامهم، فقتلوا من الفرنج جماعة. فلما نفدت سهامهم عمدوا إلى شرفات الرباط صاروا يهدمونها، ويرمون الفرنج بأحجارها إلى أن نفذت حجارة الشراريف منهم. فانقطع رميهم فكسرت الفرنج شبابيك الرباط المذكور، وصعدوا إليهم فلما صارت الفرانج معهم صاحوا بأجعهم " يا محمد " وصمتوا، فلم يسمع لهم بعد ذلك صوت. أخبر عنهم بذلك عبد الله بن الفقيه أبو بكر قيم مسجد القشيري، كان مختفيا بصهريج المذكور فذبحتهم الفرنج عن آخرهم بخناجرهم، فصارت أدميتهم تجري من ميازيب الرباط المذكور، كجري الأمطار حين أبانها فيها. وقيل كان عدد المذبوحين فوق السطح الرباط من المسلمين زيادة على الثلاثين، فطوبى لهم إذ رزقوا الشهادة، وختم لهم بالسعادة. فلما رجع من خرج من الإسكندرية فارا من الفرنج من أبواب البر - كما سيأتي ذكر صفة فرارهم - وعاينوا القتلى المطروحين بالأرض داخل البلد وخارجه بالجزيرة. وقصدوا رباط ابن سلام المذكرر، فرأوا تحت الميازيب دماء كثرة جامدة، فصعدوا إلى سطحه فوجدوا الرماة ذبحوا. وبالجنة قد فرحوا وربحوا فحفروا لهم خارج الربط قبرا متسعا ودفنوهم فيه، رحمة الله عليهم. فكانوا كما قال الله تعالى في أمثالهم: " وِقاتَلوا وقتلوا لأكفِرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثواباً من عند الله و الله عنده حسن الثواب قال المؤلف - غفر اللّه له ولوالديه وللمسلمين أجعين - : حدثني الشيخ الصاع أحمد بن النشاء - شيخ رماة قاعة القرافة بالإسكندرية - قال: حدثني محمد الخياط بعد قدومه من مدينة قبرص مع من حضروا من أساري الإسكندرية الراجعين إليها منها. قال: " كنت مع رماة المسلمين على سطح رباط ابن سلام. حين صعدت الفرنج إلينا، فصاروا يذبحون الرماة، وأنا أضطرب من الخوف، فتركوني حيا لصغر سني وأما حسين البياع فإنهم لما قصدوا ذبحه. ضحك لهم فضحكت الفرنج بضحكه: وقالوا: " اتركوه لأنه ضحك موضع الخوف، فأسرنا نحن الإثنين، فحزن حسين بعد ذلك وبكى " .
ولما رأى الشيخ محمد بن سلام ما فعل برباطه من بابه وشبابيكه النحاس وكسر قناديله. وحرق سقف إيوانه، وقتل رماة المسلمين به بكى وتألم على ما رأى وشاهد. فسد حينئذ شبابيكه وبابه بالحجارة. ثم أنه عمره ثانيا سنة إحدى وسبعين وسبعمائة، فصار كما كان أولا، لكنه أقنى سقف إيوانه بالحجارة لا بالخشب، حتى لا يصير للنار فيه عمل، إن حدث أمر...
نعود إلى ذكر خبر الإسكندرية: وذلك أن الأمير جنغرا المتقدم ذكره، لما رأى الناس فروا من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وشماله بلذع سهام الفرنج، والتذع هو أيضاً بها، وسال دمه من نصلها. ندم على مخالفته لقول القائل: " أدخل الناس ليتحصنوا بأسوارها الحصينة يقاتلوا الفرنج الكفار بسهامهم من كوى الأسوار. إلى أن تأتي النجدة في أقرب مدة، ليزول بحضروها عن المسلمين الشدة " ،. فتيقن حينئذ أن عدم خروجهم من الأبواب كان عين الصواب، وأن الذي أشار بعدم دخولهم البلد كان فيه أليم العذاب، وصار كل منهم بالفرار مركون ببلد البسلقون وبلد الكريان، وغيرهما من البلاد الدانية والبعاد.(2/348)
ثم إن جنغرا قصد ناحية المطرق المحاذي لدار السلطان، غربي الإسكندرية من ظاهر سورها، خائضا بفرسه في الماء، ومن معه من المسلمين فدخل الإسكندرية من باب الخوخة. فأتى بيت المال، أخذ ما كان فيه من ذهب وفضة، وأخرجها من باب البر، وأمر بتجار الفرنج وقناصلهم - وكانوا نحو خمسين بالإسكندرية مقيمين - أخرجهم من باب البر، ووجههم إلى ناحية دمنهور ، بعد أن امتنعوا من الخروج مع الجبلية المرسمين عليهم. فعند ذلك ضرب أحد الجبلية عنق إفرنجي منهم بسيفه، فحين رأوا ذلك، خافوا أن تضرب أعناقهم، فأذعنوا بالخروج سرحة، فخرجت الجبلية بهم مسلسلين إلى جهة دمنهور. وكان خروجهم بهم حين انضمام العدو إلى القرب من السور فرمتهم المسلمون من أعلى السور بالسهام، فلم يقدروا على الوصول إليه. ثم إن الفرنج عمدوا إلى بتية خشب ماؤها حريقا، وقصدوا بها حرق باب البحر، بكركرتها بأسنة الرماح، فتتابعت عليهم السهام من أعلى السور فقتل من الفرنج جماعة، فحاروا في أمرهم ماذا يفعلون، فتركوا البتية تتقد بنارها، بعيدا من الباب، ورجعوا إلى ناحية الميناء الشرقية، ونظروا فلم يجدوا على السور من تلك الجهة أحدا. ولا ثم خندق يمنع من الصعود إلى السور، فدرجوا إلى جهة باب الديوان أحرقوه، ودخلوا مع ما نصبوا هناك من السلالم الخشب المفصلة، صعدوا عليها السور فلما رآهم المسلمون الذين على السور من البعد قد صعدوه وبينهم وبين الفرنج قلعة عالية غير نافذة إليهم، شردوا طالبين النجاة منهم لكثرتهم، ولتحققهم بأن الفرنج ملكت البلد، فقتل من المسلمين من أدركته الفرنج، وسلم منهم من خرج من أبواب البر، فلو كان السور الذي يلي البحر معمراً بالرجال من جهة الديوان والصناعة سلمت منهم الإسكندرية، وإنما قال شمس الدين بن غراب كاتب الديوان، وشمس الدين بن أبي عذيبة الناظر " أغلقوا باب الديوان الذي يلي البلد لئلا تنقل التجار بضائعها منه إلى البلد فتضيع الحقوق التي عليها " . فقفل الباب فلذلك امتنعت الرماة من تلك الجهة من السور، فبذلك رأى العدو جهة خالية ودخل البلد منها. وقيل إن ابن غراب المذكور كان متعاملا مع صاحب قبرس عليها، وأن صاحب قبرس أتاها قبل الوقعة في زي تاجر أواه ابن غراب المذكور مدة، فصار القبرسي يتمشى بالبلد في جملة الفرنج التي بها تجارا وهو يكيفها وينظر أحوال الناس. فلما علم ذلك بعد الوقعة وسط الأمير صلاح الدين بن عرام بعد قدومه من الحجاز شمس الدين بن غراب، وعلقه قطعتين على باب رشيد. فلو فتح باب الديوان الذي على البلد قاتلت المسلمون الفرنج من أعلى سوره، ووجدوا ما يقوتهم بالأكل من نقل الشام. وكانت أصحاب البضائع تحرسها، ويطعمون منها المجاهدين. فلما لم يكن للأمير جنغرا رأى صائب، وقفل ابن غراب والناظر لباب الديوان، أخذت الفرنج البلد منه، ونفذت المقادير، من كل كبير من أهل الثغر وصغير، فمنهم من قتل، ومنهم من أسر، ومنهم من سلم، ومنهم من كسر، ومنهم من هرب بعد أن ألقى سلاحه واضطرب، ومنهم من ترك وطنه وتغرب، ومنهم من ازدحم في الأبواب ومات، ومنهم من افتقر وبلى بالشتات، فما أسرع ما أخذ الثغر، وما أعجل ما انكوت قلوب أهله بالجمر، ظفرت به الفرنج في اليوم الذي نزلوا فيه من مراكبهم إلى البر، ولا أمسك بالحصار يومين بل أخذ من المسلمين في ساعتين وقيل إن الحصار للمدن والحصون تمسك السنة والسنتين.
فلما دخل الإسكندرية الأمير الأتابكي يلبغا الخاسكي، بعد الوقعة، قيل له ذلك فقال: " إذا كان النخال حفظ جهته فكيف لو كان دقيقاً أو سويقاً. كان يحمي البلد ولم يدخل إليه من الإفرنج أحد، " وكان فرار أهل الإسكندرية من الفرنج من باب السدرة وباب الزهري وباب رشيد بعد زحام شديد، فمنهم من أدركته الفرنج بباب السدرة فقتلته، ومنهم من أسرته، ومنهم من نزل من السور في الحبال والعمائم، فعطب العاطب وسلم السالم، وصعدت الفرنج على أعلى باب السدرة. نصبت عليه الصلبان، وصار كل واحد من المسلمين برؤيته للفرنج كالهائم الولهان.(2/349)
وكان خروج أهل الإسكندرية من الأبواب من أعجب العجاب، وذلك لازدحامهم. وهلاك بعضهم من قوة الزحمة. وفي ذلك الوقت نزعت من قلوبهم الرحمة، فخرج من الأبواب ألوف مؤلفة، بتوحيد الله معترفة، فامتلأت منهم الغيطان والبلدان، ونهب بعضهم العربان، وغلا السعر بينهم ما جلبته الباعة إليهم من البلدان، فباعوا الغالي بالرخيص، وصار كل منهم على تحصيل القوت حريص، ولا أمكنهم ترك القوت لزيادة الغلاء ولا رجعوا إلى قول الشاعر في بيته السائر بين الملأ وهو:
وإذا غلا شيء على تركته ... فيكون أرخص ما يكون إذا غلا
ثم إنه لما حصل الغلاء بين أهل الإسكندرية، الذين فروا من الملة النصرانية، ومنهم من باع ما عليه من فوطة وفاضل قميص، ومنهم من باع ما يتدفأ به من جبة وفرو مصيص، وذلك لخروجهم من بلدهم سرعة، وليسمع بعضهم درهم ولا قطعة، بل تركوا ديارهم مغلقة الأبواب، كسرتها ورتعت فيها الإفرنج الكلاب، فنهبتها من الحوانيت والفنادق. وحملت ما فيها على الجمال والبغال والحمير والأيانق، ثم قتلوا من اختفي عند مصادفتها له من كبير وصغير، وعرقبوا المواشي، فمنهم هالك وكسير. ثم إنهم أحرقوا القياسر والخانات، وأفسدوا النسوان والبنات، وكسر كل علج مارد قناديل الجوامع والمساجد، وعلقوا على السور أعلام الصلبان، وأسروا الرجال والنساء والولدن، وقتلوا كل شيخ عاجز. حتى المجانين والبلهاء والعجائز وضاع للناس في خروجهم من أبواب المدينة ما استخفوا حمله من ذهب ومصاغ للزينة وذلك من قوة الزحمة وطلب النجاة بقوة يتمه فمن الناس من خرج. بمن كان معه، ومنهم من ضاع ما معه في تلك الزحمة المفظعة ومنهم من ضاع ماله الذي خرج به بين الأبواب، وصار من ضياعه في حسرة واكتئاب، قيل إن بعض تجار الأعاجم خرج من باب رشيد ومعه جراب فيه ستة آلاف دينار، فمن قوة الزحمة في الباب سقط من بين يديه، بعد أن كان قابضا عليه، فما قدر على الانحناء يأخذه من الأرض من قوة ازدحام الناس بعضهم لبعض، بل رفعه من كان خلفه، فخرج صحيح البدن من الباب، مجروح القلب من ضياع الجراب، فتفتت أكباده، وعدم نومه ورقاده وصار إلى الجنون انقياده، وزال عنه عقله ورشاده، وصار يستغيث فلا يغاث، ونحل جسمه حتى صارت عظامه كالرفات، ثم حصل له بذلك الضرر والبؤس، لما أحاطت به العكوس والنحوس، فصارت الأحباب تلومه على ضيعة الجراب، فأنشد من لوعة الاكتئاب:
إذا كنت ألقى البؤس عند أحبتي ... ترى عند أعدائي يكون دوائي
ثم إن الفرنج فعلوا بالإسكندرية ما تقدم ذكره من نهب بعد كسر وقتل وإحراق، من عصر يوم الجمعة إلى أخر يوم السبت ثانيه. وكان مما أحرقوه حوانيت الحرف بكمالها، وسوق القشاشين بالمعاريج، والحوانيت الملاصقة لقيسارية الأعاجم من خارجها من الجهة الشرقية، وحوانيت شارع المرجانيين وبعض فنادقه، وفندق الطبيبة مع فندق الجوكندار، وفندق الدماميني الذي يسوق الجوار، ووكالة الكنان المقابلة لجامع الجيوشي بالقرب من العطارين مع سوق الخشابين. وأحرقوا أيضاً درابزي مدرسة ابن حباشة مع سقف الإيوان، وعبثوا بكل ناحية ومكان، وأحرقوا باب مدرسة الفخر القريبة من باب رشيد، وعبث بإحراق بعض حوانيت المحجة كل علج مريد. ذكر لي شيخ يسكن بالحجة قال: " كنت مختفيا بأعلى داري في مكان أنظر من كوة صغيرة، فرأيت الفرنج يأتون إلى الحانوت المغلق الباب، فيمد أحدهم على بابه خطة سوداء، ويخط من فوقها خطة حمراء، ويلقم الخط النار فيلتهب الباب بسرعة " قيل إن الفرنج يستصحبون معهم حلق الحراقات المغموسة بالزيت والقطران والزفت والنفط، فيضع أحدهم الحلقة الواحدة في نصل السهم الموضوع على متن قوس الركاب، ويلقم الحلقة النار، ويفك الوتر من الحوزة، فيخرح السهم صاعداً إلى السقف يوكز فيه، فليتهب الخشب بسرعة، فينزل إلى الأرض يحرق كل ما في البيت، مما ليس تحملهم به حاجة. يفعلون ذلك نكاية للمسلمين. لعنة الله على الفرنج أجمعين.(2/350)
نعود إلى ذكر ما فعلته الفرنج بالإسكندرية: ثم إن الملاعين أحرقوا فندق الكيتلانيين، وفندق الجنويين، وفندق الموزة، وفندق الموسليين، فصارت النار تعمل في البندق والبضائع التي لم تجد لها محملا معهم، لإشحان مراكبهم مما أخذوه من أموال الإسكندرية ثم كسرت الفرنج أيضاً حوانيت الشماعين والبياعين، بعد نهب قياسر البزازين، وكسروا ما فيها من الأوعية والأواني والأحقاف والبراني، فصارت ملقاة مطروحة في الطرقات، قد سال ما فيها من زيت وعسل وسمن وغير ذلك، وكسروا أيضاً حوانيت الصاغة، وأخذوا ما فيها من مال ومصاغ، كما أخذوا من حوانيت الصرف ما كان بها من دنانير ودراهم، ونهبوا أقمشة التجار المصريين والشاميين المخزونة المبيعة للسفر بها لمصر والشام ونهبوا أيضاً الحديد الذي قدمت به تجار الأعاجم وغيرهم إلى الإسكندرية، وكانت عدة قناطير، ونهبوا من الدور الأموال والأقمشة والمصاغ والفرش والبسط والنحاس وغيره وأخذوا معهم باب المنار الذي كان عمره الأمير صلاح الدين عرام قبل الوقعة، على الأساس الذي كان أسسه الملك المنصور قلاوون وبطل عمارته، فعمل ابن عرام عليه حصنا دائراً، ثم أخذت الفرنج أيضاً شبابيك قبة طغية انتي بالجزيرة وأحرقوا سقف الربط التي بها، وهي التي خاف عليها أصحابها من الإفرنج قبل نزول الفرنج من مراكبهم، وكسروا قناديلها وقناديل المزارات، وأفسدوا قصور الجزيرة وتربها، وكسروا أعمدة قبة منبر مصلى العيد، وعمودي ضريح قبة تربة الأمير طغية، والأمير بلاط، واللذين فيهما تاريخ وفاتهما. وكانا مموهين بالذهب واللازورد، وقلعوا حلقتي باب المدرسة الخلاصية التي عمرها نور الدين بن خلاص، وكانا من النحاس المخرم فعمل لباب المذكورة غيرهما بعد أشهر من حين الوقعة، وأخذوا منها كرسي الربعة وبيتها، وكانا من النحاس الأندلسي المخرم، المنزل فيهما اليقات الفضة بدائرها، لم ير منها حسن صنعة وتدقيق وتخريم وتركوا أجزاء الربعة المذكورة الثلاثين جزءا مطروحة بالمدرسة المذكورة، لا يأخذوا جزءًا واحدا، وصعدوا صومعة المدرسة النابلسية، فوجدوا فيها جمال الدين ابن بانيها مختفيا منهم بها، وكان شيخاً كبيراً، ضعيف البنية، فألقوه على رأسه من أعلاها إلى الأرض، فاندقت عنقه. فمات شهيداً رحمه الله. وقتلوا من وجدوه بالجوامع والمشاهد وأقاموا بالإسكندرية العرابد فقتلوا الناس في الدور والحمامات والشوارع والخانات، وكانت الفرنج تخرج بالنهب من الإسكندرية إلى مراكبهم على الإبل والخيل والبغال والحمير، فما فرغوا من النهب. وقضوا إربهم من البلد، طعنوها بالرماح وعرقبوها بالصفاح، فصارت مطروحة بالجزيرة والبلد لم يعلم لها عدد، فهلكت وجافت، فأحرقها المسلمون بالنار لتزول رائحة جيفها.(2/351)
ثم إن الفرنج تحصنوا. بمراكبهم بعد وقرها وإشحانها.بما نهبوه، وكانت تزيد على سبعين مركبا، وتركوا بالساحل فضلات البهار التي لم يجدوا لها محملا، فرجع إلى أربابه، من وجد علامة عليه أخذه، ثم إن مراكب الفرنج ثقلت.بما فيها، فصاروا يلقون ما فيها في البحر - على ما قيل - لتخف من كثرة الوسق وكان الغواصون يرفعون النحاس وغيره بناحية أبو قير، ولولا لطف الله تعالى بعباده بحرقهم باب رشيد وباب الزيادي كانت الفرنج ملكت البلد وحصل التعب في خلاصه، كما حصل في طرابلس الغرب ومدينة أنطاكية ببر التركية، وسيأتي فيما يرد من هذا الكتاب ذكر ظفر الفرنج بهما إن شاء اللّه تعالى. ولطف اللّه تعالى بعباده المسلمين في عدم معرفة الفرنج لقصر السلاح، الذي بالموضع المعروف بالإسكندرية بالزريبة، لو فهموه أحرقوا جميع ما فيه من السلاح المدخر من عهد الملوك السالفة. رحمة ا للّه عليهم، فلقد وضعوا فيه من الأسلحة الكثيرة ما ليس لعددها حصر، ذكر أبو العباس أحمد شيخ رماة قاعة القرافة المرصدة لسلاح الجهاد المتطوع به: بها ستون ألف سهم من بعض السهام التي في أحد بيوت قاعة من قاعاته، قيل إن فيه عدة قاعات في كل قاعة عدة بيوت، في كل بيت آلاف مؤلفة من السهام، إلى غيرها من السيوف والرماح والمزاريق والأتراس والخوذ والقنابر والزرد والزرديات والأطواف والقرقلات، والسواعد والركب والساقات والأقدام الحديد والقسي الملولبة والجرخ والركاب والأعلام ما لا ينحصر بلأقلام. ثم فيه أيضاً من حجارة العلاج والمدافع والنفط وحيل الحروب ومكايدها كثيرًا، فلو علمت به الفرنج أحرقته سريعا، فحصل اللطف الكبير من اللطيف الخبير لعدم معرفتهم إياه، بعد أن أتوا إلى بابه ظنوا أنه أحد أبواب المدينة، خافوا من كسر بابه ليكون ورائه كمين يطبق عليهم. قال المؤلف - غفر اللّه له ولوالديه وللمسلمين أجمعين - حدثني الشيخ الصالح أبو عبد الله محمد بن يوسف حارس القصر المذكور - ويعرف بابن قراجا - قال: " كنت فيه.بمفردي لما دخلت الفرنج الإسكندرية، فأغلقت بابه، وقرأت حزب سيدي الشيخ الصالح أبي الحسن الشاذلي، وإذا بالفرنج أتوا إلى الزريبة، فيهم خيالة ومشاة، وكنت صعدت أعلى القصر، فعدت أنظر إليهم من شقوق في حائط، فطلع بعضهم على زلاقة بابه، وصاروا يتشاورون في أمره، وكنت أعددت لنفسي مكاناً أختفي فيه إن دخلوه، ولكن خفت بأن يحرقوه فأهلك بالنار، فوفقوا ساعة وتركوه ومضوا، فرأى أحدهم صبيا بالزريبة يعدو سريعا حين معاينته لهم، فعدى الإفرنجي، فلما أحس به الصبي ووقف باهتا من الخوف، فضربه الإفرنجي، فالتقى الصبي الضربة بيده اليسرى. فطارت يده إلى الأرض، ثم ضربه ضربة أخرى على عانقه، فوقع على شقه الأيمن مستقبل القبلة، ومضى وتركه. فصار الصبي ينمق الذباب بيده اليمنى عن وجهه وجراحه وهو راقد، وما أمكنني النزول إليه من القصر، خوفاً من رجوع الفرنج إلى الزريبة فصار الصبي مطروحا بالأرض إلى أن مات شهيداً، رحمه الله " . انتهى.
نعود إلى ذكر ما أحرقته الفرنج أيضاً بالإسكندرية: وذلك أنهم أحرقوا أبواب البحر الأولى والثاني، وأبواب الباب الأخضر الثلاثة، وباب الخوخة، والمجانيق التي كانت بالصناعتين الشرقية والغربية، وكان أهل الإسكندرية وقت هزيمتهم خرقوا إغربة كانت بالصناعة الشرقية لئلا تأخذها الفرنج، فلما رأتها الفرنج محروقة أحرقتها بالنار، ثم أحرقت الفرنج أيضاً دار الطراز والديوان، بعد أن أخفوا ما في دار الطراز من الاستعمالات الرفيعة الأثمان وأحرقوا أيضاً قلعة ضرغام والمكان المعروف بالمكدس، وكان برسم الاستعمالات أيضاً . وكانت مدة إقامة الفرنج من حين أتوا إلى الإسكندرية وظفروا بها إلى آخر من سافر منهم ثمانية أيام، وذلك أنهم أتوها يوم الخميس حادي عشرين المحرم سنة سبع وستين وسبعمائة، وسافر آخرهم يوم الخميس الثامن والعشرين من الشهر المذكور، وكان سبب إقامتهم تلك الأيام لينظروا من البحر من يأتي من البحيرة من مصر. فلما عاينوا وهم.بمراكبهم العساكر أقبلت كالجراد المنتشر، يقدمها الأمير الأتابكي يلبغا الخاسكي، سافروا.
السلطان صلاح زين الدين أبو الجود
حاجي بن الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاون الألفي(2/352)
أقيم في السلطنة ثاني يوم مات أخوه المنصور وقد اجتمع الأمير الكبير برقوق والأمراء بالقلعة في يوم الإثنين رابع عشرينه، واستدعوا الخليفة وقضاة القضاة إلى باب الستارة، وأحضر إليهم أولاد الملك الأشرف شعبان، وهم إسماعيل وأبو بكر وحاجي، فوقع الاختيار على حاجي - فإنه أكبرهم - فحلفوا له، وبايعه الخليفة. ثم أركب من باب الستارة بشعار السلطنة، والأمراء في ركابه مشاه، حتى صعد الإيوان فأجلس على تخت الملك، ولقب بالملك الصالح، ومد السماط بين يديه، ثم عبروا به إلى القصر، فأجلس به، وخلع على الخليفة، ونودي في القاهرة ومصر بالدعاء للسلطان الملك الصالح.
وفي يوم الخميس سابع عشرينه: أجلس السلطان بدار العدل، وعملت الخدمة على العادة، فلما دخل إلى القصر بعد الخدمة، حضر الخليفة والقضاة ومشايخ العلم، وقرأ عهد الخليفة للسلطان على الأمراء، وكتب عليه الخليفة خطه، وشهد فيه القضاة عليه، ثم خلع على القضاة وكاتب السر والوزير وفيه خلع الوزير على يوسف بن المقدم محمد بن يوسف، واستقر مقدم الدولة، عوضاً عن أحمد العظمة، باستعفائه.
وفي ليلة الثلاثاء خامس عشرينه: مات المقدم سيف تحت العقوبة، ولم يخلف بعده في معناه مثله، سعة مال وكثرة أفضال، وفي هذا الشهر : كثر الوباء بالقاهرة ومصر.
وفي يوم الثلاثاء سابع عشر شهر ربيع الأول: خلع على تاج الدين بن وزير بيته مستوفي الخاص، واستقر في نظر الإسكندرية، عوضًا عن مجد الدين بن البرهان. واستقر علم الدين ودينات في استيفاء الخاص. وخلع على ناصر الدين أحمد بن محمد ابن محمد التنسي وأعيد إلى قضاء الإسكندرية، عوضاً عن تاج الدين بن الربعي..
وخلع على جلال الدين أحمد بن نظام الدين إسحاق، واستقر في مشيخة خانكاه سرياقوس ، عوضاً عن والده، ونعت بشيخ الإسلام شيخ الشيوخ.
وفي تاسع عشره: ركب الأمير يونس - دوادار الأمير الكبير - البريد إلى حلب، لكشف أحوال التركمان - وقد ورد خير خروجهم عن الطاعة - وتجهيز عساكر الشام لقتالهم.
وفي سادس عشرينه: أخذ قاع النيل، فكان خمسة أذرع وثماني أصابع.
وفي ثامن عشرينه: قدم الأمير تغري برمش من الشام باستدعاء.
وفي تاسع عشرينه: خلع على شرف الدين بن عرب، واستقر في وكالة بيت المال، عوضاً عن نجم الدين محمد الطنبدي،. بمال.
وفي آخر هذا الشهر ارتفع الوباء، وأكثر من مات فيه الأطفال.
وفي يوم الخميس: ثالث شهرِ ربيع الآخر، أنعم على الأمير تغري برمش بتقدمة ألف، عوضاً عن أمير علي بن قشتمُر بعد وفاته.
وفيه نودي بسفر الحجاج الرجبية، فسر الناس ذلك، وكتب بولاية علم الدين أبي عبد الله بن ناصر الدين محمد القفصي، قضاء المالكية بدمشق، عوضاً عن البرهان الصنهاجي.
وفي سابع عشرينه: وصلت خيمة جليلة من الشام، عملت للأمير الكبير، تُحمل على مائة وثمانين جملا، فضربت بالميدان الكبير.
وفي حادي عشرينه: أُنعم على الأمير سودن الشيخوني بتقدمة ألف، وخلع عليه، واستقر حاجبا ثانيا.
وفي ثاني عشرينه: ركب الأمير الكبير لرؤية الخيمة بالميدان. ومد للأمراء سماطا جليلا. ومد بعده سماط حلوى، ثم سماط فاكهة، فكان يوما مذكورا خرج الناس لمشاهدة ذلك، فكان جمعا كبيرًا.
وفي ثامن عشرينه: خلع على علي القرمي، واستقر في ولاية الشرقية، عوضاً عن مبارك شاه. وخلع على الأمير فخر الدين إياس الصَرْغَتْمُشِى، واستقر حاجبًا رابعا.
وهذا أيضاً مما تجدد، وكانت العادة أولاً أن يكون حاجب واحد، ثم استقر حاجب الحجاب، وحاجب ثاني، ثم زيد بعد ذلك في الأيام الأشرفية حاجبُ ثالث.
وفي أول جمادى الأولى ذكر بعض العجم للأمير الكبير أن النيل لا يزيد في هذه السنة شيئا، وأرجف بذلك، فزاد في هذا اليوم خمس عشرة أصبعا، وفي غده ست عشرة أصبعا، فضربه الأمير الكبير وشهره..
وفي يوم السبت حادي عشره: - وعاشر مسرى - وفي النيل ستة عشر ذراعًا، فركب الأمير الكبير حتى خلق المقياس، وفُتح الخليج من يومه.
وفيه قطعت أخبار الطواشين: شاهين دست، وشاهين الجلالي، وأمرا بلزوم بيتهما.
وفيه هبت ريح شديدة بدمشق، اقتلعت أشجارا كثيرة بعروشها، واستمرت عدة أيام، فهال الناس أمرها(2/353)
وقدم البريد بخروج الأمير أشقتمُر نائب الشام بعسكر دمشق، والأمير إينال اليوسفي بعسكر حلب، والأمير كمشبغا الحموي بعسكر طرابلس، والأمير طَشتمر القاسي بعسكر حماة، والأمير طَشتمر العلاي بعسكر صفد، ومعهم نواب القلاع، وتراكمين الطاعة، وللعربان، العشران لقتال خليل بن قراجا بن دلغادر وجمائعه ببلاد مَرعش، وأنهم اجتمعوا بحلب وساروا منها صحبة الأمير يونس الدوادار، في أول شهر ربيع الأول، فنزلو ظاهر مرعش. وتوجه في ثامن شهر جمادى الأولى ضياء الملك ابن بوزدوغان الواصل بعسكره إلى نصرة العساكر، ومعه طائفة من العربان والأكراد لقتال التركمان، فقاتلهم ويومه، وكسرهم، وقتل ثلاثة من أعيانهم، وعاد، فاقتضى رأي النواب الركوب لأخذ مرعش، فأخذوها، ثم مشوا لتمهيد البلاد حتى انتهوا إلى ملطية، ثم عادوا في آخر شهر شعبان.
وفي خامس عشره: عقد مجلس عند الأمير الكبير برقوق بسبب وقف، فاجتمع القضاة ومشايخ العلم، فتغيظ قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم بن جماعة على علم الدين سليمان البساطي قاضي المالكي ونهره، فرسم بعزل البساطي، وجعل تعيين غيره لابن جماعة، فعين جمال الدين عبد الرحمن بن خير، وخلع عليه.
وفي يوم الإثنين سابع عشرينه: قدم البريد بأن العسكر ركب في يوم السبت ثاني عشره، وصدم ابن دلغادر فكسره، وولى منهزما.بمن معه، والعسكر في آثارهم، فغنموا منهم شيئاً كثيراً، وملكوا منهم مدينة مرعش ونودي فيها بالأمان، فأتى الناس من الجبال وبطون الأودية. ورحل العسكر حتى نزل بمدينة الأبلستين، في تاسع عشره، وأقاموا بها.
وفي نصف شهر جمادى الآخرة أوقعت الحوطة على الصاحب شمس الدين المقسي، وأخذ على حمار إلى القلعة، فسجن بقاعة الصاحب.
وفي هذا الشهر: كثر ظلم الوزير ابن مكانس ، وأخذ مالا من الكارم، وطلب من مباشري الدولة و الخاص جامكية شهرين، ووكل بعدة من التجار أعوانه، وأخذ منهم جملة مال، وأخرق ببعضهم، فكثرت الشناعة عليه.
وفي تاسع عشرينه: أفرج عن المقسي.
وفي هذا الشهر قدمت رسل الملك المعز جلال الدين حسين بن السلطان أويس - متملك توريز وبغداد - وهم قاضي القضاة بتوريز وبغداد علاء الدين علي بن الجلال عبد اللّه بن سليمان العتائقي الأسدي الشافعي، والصاحب الوزير الأعظم شرف الدين عطا بن الحاج زين الدين حسين الواسطي والشيخ شمس الدين محمد بن أحمد بن البرادعي البغدادي، والشيخ زين الدين على بن عبد الله بن الشامي المعري، فأنزلوا بالميدان الكبير، وأُجرى عليهم في كل يوم مبلغ مائتي درهم، ومائتي رطل لحم، وثماني فردات أوز، وعشرة أطيار دجاج، وسميد ومصبعات، وخبز جراية بقدر كفايتهم. وكانوا في تجمل زائد. ذكر العتائقي عن نفسه أنه أنفق من توريز إلى مصر مائتين وخمسين ألف درهم. وجاء في مائة عليقة فترك جماعته بالشام، فأتاه قضاة القضاة، وسلموا عليه، ثم مثلوا بين يِدي الأمير الكبير، فخلع عليهم بعدما مد لهم سماطاً جليلا، أوقف عليه الطواشي مقدم المماليك السلطانية، ولم يتقدمه أمير لفعل ذلك.
وفيه عزل ابن التنس عن قضاء الإسكندرية بابن الربعي، ثم أعيد بعد ثلاثة أيام. وورد الخبر بأن متملك الحبشة داود بن سيف أرعد - الملقب بالحطى - أنفذ جيشًا إلى أطراف معاملة أسوان، فأوقعوا بالعربان، ونال أهل الإسلام منهم بلاء كبير، فبعث الأمير الكبير إلى متى بن سمعان بطريق النصارى اليعاقبة بالمعلقة من مدينة مصر، يأمره أن يكتب إلى صاحب الحبشة يمنعه من التطرق إلى بلاد المسلمين، فأجاب بعد امتناع، وكتب إليه بما اقترحه عليه الأمير الكبير من ذلك. وكتب السلطان إليه كتابا بالإنكار عليه، وندب لرسالته البرهان إبراهيم الدمياطي، نقيب قاضي القضاة المالكي، وجهز. بما يليق به.
وفي أول شهر رجب: وفُر إقطاع تقدمة الأمير أَقتمُر عبد الغني، و لم ينعم به على أحد. وفيه امتنع قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم بن جماعة من الحكم، لأجل مال طلب منه من الأوقاف لتجهيز الرسل إلى الحبشة، فأعفي من ذلك، وخلع عليه في ثانيه خلعة الاستمرار. وخلع على علي بن القرماني، واستقر في ولاية منوف عوضاً عن أبي بكر بن خطاب.(2/354)
وفيه رسم بقطع ما تكاثر من الأتربة وغيرها بالشوارع المسلوكة، حتى علت الطرقات بالقاهرة ومصر، وندب الأمير مأمور الحاجب لذلك، فقطعت بالمساحر، ونقل ما خرج منها إلى الكيمان. وبلغت زيادة ماء النيل تسع عشرة ذراعاً واثني عشرة أصبعاً، وثبت إلى سادس عشرين توت، فغرقت بساتين كثيرة.
وفي سادسه: خلع على الأمير تغري برمشى، واستقر أمير سلاح، وخلع على العتاقي - قاضي بغداد - أطلسين بطرز زركش، وطرحة حرير.
وفي سابعه: طلع الوزير ابن مكانس بهم الميدان على العادة، وهي كنابيش زركش، وطرز زركشي، فخلع عليه.
وفي يوم السبت ثامنه: ركب السلطان إلى الميدان - كما هي العادة في كل سنة - وخلع على تَقي الدين عبد الرحمن ناظر الجيش، وعلى بدر الدين محمد بن فضل اللّه كاتب السر، خلع الميدان، وكانت عادتهما أن يلبسا الجبب في الميدان الثاني، فتعجلا خلعتيهما في الميدان الأول.
وفي يوم السبت خامس عشره: ركب السلطان إلى الميدان ثانيا، برسم اللعب بالكرة مع الأمراء. وخلع على الوزير جبة نخ بقصب، فركب بها إلى تحت القلعة، ثم عاد.
وفي يوم السبت ثماني عشرينه: ركب السلطان إلى الميدان ثالثاً. وخلع على الوزير خلعة ثانية، جبة حرير بنفسجي، بطرز زركش وفرو قاقم، وخلع على جميع من جرت عادته بالخلع.
وفي هذا الشهر: دار محمل الحاج على العادة، وخرجت أثقال الحجاج الرجبية يوم دار المحمل إلى بركة الحجاج، صحبة الأمير بهادُر الجمالي، المشرف، وخرج الناس أفواجا، ثم رحلوا من البركة في يوم الأحد ثالث عشرينه.
وفي يوم الخميس سابع عشرينه: توجهت الرسُل إلى بلاد الحبشة. وفيه أخرج الأمير مأمور حاجب الحجاب، منفياً إلى الشام، ثم رسم له بنيابة حماة، عوضا عن طَشتمر القاسمي بعد موته. وخلع على الأمير تغري برمش، واستقر حاجب الحجاب، عوضا عن مأمور. وخلع على نجم الدين محمد الطنبَدي، وأعيد إلى وكالة بيت المال، عوضا عن ابن عرب. وفيه أخذت دواة الوزير ابن مكانس، وعوق نهاره، ثم أفرج عنه. وفيه سارترسل بغداد بعدما خُلع عليهم.
وفي يوم الإثنين ثاني شعبان: خُلع على الوزير ابن مكانس خلعة الاستمرار.
وفي يوم الأربعاء رابعه: رسم بنفي جمال الدين محمود العجمي محتسب القاهرة، فشفع فيه الأمير أيتمش، فأمر أن يلزم بيته .وسبب ذلك أنه نقل لقاضي القضاة صدر الدين محمد بن منصور الحنفي عن الأمير الكبير برقوق أنه قال بالتركية لمن حوله - وهو - فيهم - : " إن القضاة ما هم.بمسلمين " ،. فشق ذلك عليه، وركب إلى قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم بن جماعة، واستشاره في عزل نفسه عن القضاء، وقال: " قطعت عمري في الاشتغال بالعلم في دمشق، ثم في آخر عمري أنفى.بمصر عن الإسلام " ،.وحدثه.بما نقله المحتسب في حق القضاة عن الأمير الكبير، فتغير ابن جماعة من ذلك تغيراً كبيراً، وقام من فوره إلى الأمير الكبير، وأخبره الخبر، فغضب على محمود وعزله. وهذا أيضاً مما تجدد من الحوادث القبيحة، وهو أن الأمير الكبير صار يقع في حق القضاة والفقهاء مع خاصته، فتضع أقدارهم عند الأمراء والمماليك، بعدما كانوا يرون السلطان وأكابر الأمراء ييالغون في إجلال القضاة والفقهاء، ويرون أن بهم عرفوا دين الإسلام، وفي بركتهم يعيشون. وحسب أعظمهم قدرا أن يقبل يد الفقيه والقاضي، فانقلب الأمر، وانعكس الحال، حتى كثرت وقيعة الأمراء والمماليك فيهم، لما لُقِّنوه من الأمير الكبير..ثم تزايد الحال، بحيث صار الفقهاء والقضاة في أخريات الدولة الظاهرية برقوق، وفي الدولة الناصرية فرج ، وما بعد ذلك ينزلون من أهل الدولة منزلة سوء ويتكلم فيهم أقل الغلمان، وأرذل الباعة، بكل قبيح عقوبة من اللّه لهم، لامتهانهم العلم، وخضوعهم في طلب الدنيا ولا قوة إلا باللّه.
وفي يوم الخميس خامسه: خلع على تاج الدين محمد المليجي، شاهد خزانة الخاص، صائم الدهر، واستقر في حسبة القاهرة، عوضا عن جمال الدين محمود العجمي. وخلع على علم الدين يحيى، وأعيد إلى نظر الدولة عوضًا عن ابن الريشة، وكان مريضًا، فُحملت له الخلعة إلى داره. وخلع على الأمير قرط بن عمر، وأعيد إلى نيابة البحيرة. وخلع على عمر ابن أخيه، وأعيد إلى ولاية البحيرة.(2/355)
وفيه قدم الأمير يونس النوروزي - دوادار الأمير الكبير - من حلب، وقد عادت العساكر من محاربة ابن دلغادر. وذلك أنهم أقاموا على الأبلستين إلى خامس عشر جمادى الآخرة ثم رحلوا عنها وقد بلغهم نزول خليل بن دلغادر بقلعة خرت برت ، إلى جهة ملطية، فورد عليهم في أثناء طريقهم كتاب الأمير حسام الدين طُرنطاي - مقدم العسكر - بسيس ، يتضمن دخول الصارم إبراهيم بن رمضان - مقدم التركمان - عليه في قبول توبته، وتنصله من مساعدة ابن دلغادر، فأجيب بقبول عذره.ونزلوا بظاهر ملطية في ثامن عشره. ثم رحلوا عنها في أول شهر رجب عائدين إلى ،حلب ، بعدما عزموا على خوض الفرات، وكشفوا مخايضها، فوجدوا تعديتها إلى البر والوصول إلى خرت برت، متعذراً. فلما نزلوا على بريد من عين تاب - في ثالث عشر رجب - قدم عليهم الأمير حيدر بن باشان كبير التركمان البوزوقية في طلب الأمان لأمراء طائفته، فكتب له أمان، ورحلوا في سابع عشره، فقدموا حلب في ثاني عشرينه، وتفرقت العساكر إلى مواضعها، وقد نالهم مشقة عظيمة من البرد، وكثرة الأمطار .
وفي هذا الشهر ظهر في السماء كوكب له ذؤابة، قدر رمحين من جهة القبلة، وأقام كذلك مدة . وفيه كُتب باستقرار شهاب الدين أحمد بن أبي الرضا بن عمر في قضاء القضاة الشافعية بحلب، بعد وفاة كمال الدين عمر بن عثمان بن هبة اللّه المعري. وفيه قبض الأمير قرط على طائفة من أعيان البحيرة، منهم شادي، ووسطهم، ورماهم في النيل وأحاط. بموجودهم كله.
وفي يوم الإثنين آخره: قدم الأمير يلبغا الناصري ، فخرج الأمير الكبير إلى لقائه ،وترجل له ، ثم أركبه فرسا من مراكيبه.
وفي يوم الثلاثاء أول شهر رمضان : أنعم على الأمير يلبغا الناصري بتقدمة ألف،وأجلس وقت الخدمة - السلطانية - بالإيوان، رأس الميسرة، فوق أمير سلاح.
وفي يوم الخميس ثالثه: خلع على سعد الدين نصر الله بن البقري، واستقر في نظر الخاص، عوضا عن كريم الدين عبد الكريم بن مكانس.
وخُلع على الوزير ابن مكانس، واستقر على عادته في الوزارة فقط. وخلع على الأمير جركس الخليلي - أمير أخور - واستقر مشير الدولة. ورسم للوزير ألا يتصرف في شيء إلا بعد مراجعته.وفيه استقر تاج الدين عبد اللّه بن البقري في استيفاء الصحبة، عوضا عن أبيه سعد الدين، وخلع عليه وعلى علم الدين يحيى - ناظر الدولة - خلعة استمرار..
وفي هذه الأيام: ساق الأمير جركس الخليلي ماء النيل إلى الميدان تحت القلعة، وصُب في الحوض الذي على بابه بالرميلة، فعم النفع به سكان تلك الجهات . وكان له نحو من سبعة سنين لم يجر فيه ماء.
وفي هذا الشهر: قرئ صحيح البخاري بالقصر من قلعة الجبل، كما هي العادة من عهد الملك الأشرف شعبان بن حسين . فلما كان يوم الإثنين سابعه وانفض مجلس السماع، قام قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم، بن جماعة، لينصرف إلى داره. فلما ركب، أخذ شخص - يعرف بابن نهار - بعنان بغلته، وقال له: " حكمت عليّ بحكم لا يجوز شرعا، وقد فسقت بجهلك. " فرجع ومعه المذكور إلى الأمير الكبير، وهو في فكره، فأخذ ابن نهار في الإساءة على ابن جماعة، والأمير الكبير في شغل.بما عنده من شدة الفكر؛ فشق ذلك على ابن جماعة، وعزل نفسه، وقام فتوجه إلى تربة كوكاي خارج القاهرة ة ليمضي منها إلى القدس. وفي أثناء نزوله من عند الأمير الكبير، تجلى عنه الفكر، وسأل من حضر عما كان، فأخبروه الخبر، فبعث في طلب ابن نهار، فأتى به من الغد، واستدعى القضاة ومشايخ العلم، فأفتى شيخ الإسلام البلقيني بتعزيز ابن نهار، فضربه والي القاهرة بالمقارع، وشهره بالقاهرة. وبعث الأمير الكبير يسترضي. ابن جماعة، فلم يرض، فراجعه ثانيا فلم يرض، فبعث إليه الأمير قطلوبغا الكُوكاي، والأمير فخر الدين إياس الصرغَتمشى، فلم يزالا به حتى أخذاه، وأتيا به الأمير الكبير. فلما شاهده من بعد، قام إلى لقائه، ومشى إليه، وترضاه. فقال له: " أعدائي كثير، وما آمنهم، ومالي ولهذا الأمر. فقال له: " كل من تعرض لك - ولو بكلمة سوء - ضربته بالمقارع. ثم جيء بالتشريف ، فأفيض عليه، ونزل إلى القاهرة في تاسعه، فكان يوماً مشهوداً. وفيه ركب البريد الأمير جلبان الدوادار، لإحضار الأمير أينال اليوسفي، نائب حلب.(2/356)
وفي ثاني عشرينه: أُخرج الأمير مقبل الرومي الخازندار - أحد اليلبغاوية - منفياً، وكان ظالما غشوما.وفيه أمطرت السماء مطرًا، قل ما عُهد مثله في الكثرة، حتى سالت الأزقة والشوارع، وخاضت الخيل بالشارع في الماء فبلغ بطونها، وسال الجبل سيلا عظيما إلى الغاية.
وفي سابع عشرينه: قدم البريد بخروج الأمير إينال من غزة، فركب الأمير أقبغا الصغير - أحد أمراء الطبلخاناة - البريد، وقبض عليه بقطيا، وبعثه إلى الكرك، فسجن بها.
وفي تاسع عشرينه: ابتدأ بهدم خان الزكاة بين القصرين، لتداعيه للسقوط. وفيه ثبت أن هلال رمضان رؤى ليلة الإثنين، وأن هذا اليوم تمام ثلاثين.
وفي هذا الشهر زاد سعر اللحم عما يعهد.
وفي يوم الأربعاء - يوم عيد الفطر - : حمل الأمير يلبغا الناصري الفبة والطير على رأس السلطان، عند نزوله لصلاة العيد بالميدان تحت القلعة.
وفي يوم الخميس ثانيه: خلع على الأمير يلبغا الناصري، واستقر نائب حلب، عوضا عن إينال اليوسفي. وأنعم على الأمير يونس - دوادار الأمير الكبير - بتقدمة ألف، ورأس نوبته الأمير قُردُم الحسني أمير مائة مقدم ألف، و لم يعهد فبل ذلك أن يكون دوادار أمير ورأس نوبته من جملة مقدمي الألوف.
وفيه نادى الأمير المشير جركس الخليلي في القاهرة ومصر، أن تكون الفلوس العتق كل رطل بدرهم وثلث، بعد ما كانت بدرهم ونصف الرطل وفرق في الصيارفة فلوسا استجد ضربها، وعمل عليها رنكه، فمنها فلس زنته أوقية، ليكون كل أربعة بدرهم، كل فلس بربع درهم. ومنها ما زنته نصف أوقية، فكل ثمانية بدرهم، حسابا عن كل فلس ثُمن درهم. ومنها ما يكون كل ثمانية وأربعين فلساً بدرهم، فلم يمش له ذلك، وتوقفت أحوال الناس، وبطل بيعهم وشراؤهم، وقلّ جلب البضائع من المآكل وغيرها، فنادى الأمير الكبير برقوق في يوم الجمعة ثالثه بإبطال ذلك، واستمرار الفلوس على حالها.
وفي ثالث عشره: خلع على الأمير يلبغا الناصري خلعة السفر، وتوجه إلى حلب.
وفي رابع عشره: خلع على صلاح الدين خليل بن عبد المعطي بن عبد المحسن نقيب دروس الفقهاء الحنفية، واستقر في حسبة مصر، عوضا عن ابن عرب.بمال التزم به، فاستفظع الناس ذلك، وعدوه بلاء ونقمة، لسوء سيرته ونذالته، فلما دخل على الأمير المشير جركس الخليلي، أنكر ولايته، وضربه.
وفيه خلع على شمس الدين إبراهيم كاتب أرلان، واستقر في وزارة الشام، ونظر الخاص والمهمات، والمرتجع بها، ونظر ديوان نائب الشام، على قاعدة فخر الدين ماجد ابن قزوينه، وكتب له في توقيعه. " الوزير " ، وأنعم عليه ببغلة من الإصطبل السلطاني، وعليها زناري جنيب خلفه، فلم يرض بذلك ، لعلمه أنه إنما قصد الوزير ابن مكانس إبعاده وخروجه من مصر، خوفاً منه. وفيه اسُتدعى الجلال رسولا التبانى، وسُئل أن يحج عن الأمير آنص والد الأمير الكبير بعد وفاته، فأجاب إلى ذلك، وجُهز أحسن جهاز، وسافر صحبة الركب.
وفي ثاني عشرينه: توجه محمل الحاج سائرا من البركة، وتبعه الركب على العادة في كل سنة، وفيه أنعم على طُغاي تمُر القبلاوي - من أمراء الطبلخاناة بطرابلس - بنيابة الكرك عوضاً عن منكلي بُغا الشمسي، وخلع على زين الدين عمر بن مِنهال، واستقر في كتابة السر بدمشق، عوضاً عن فتح الدين محمد بن الشهيد. وكتب .بمصادرة ابن الشهيد. وأنعم على الأمير قطلوبغا الكوكاي بتقدمة آنص - والد الأمير الكبير - بعد موتَه.
وفي رابع ذي القعدة: خلع على الشريف جماز بن هبة الحسيني، واستقر أمير بالمدينة النبوية، عوضاً عن عمه عطية، بعد وفاته. وقدم الشيخ شمس الدين محمد القُونَوي من دمشق، فنزل بالمدرسة الصالحية بين القصرين من القاهرة، وأتاه الناس يلتمسون بركة زيارته.
وجُهز أربعمائة خلعة إلى البلاد الشامية، برسم النواب والأمراء وغيرهم، لنصرتهم على التراكمين.(2/357)
وفي سادسه: قبض على بني مكانس جميعا، بحيلةدبرها الأمير الكبير، فإنه تقدم في الوزير بجمع الكُتاب ليندبهم إلى أشغال سلطانية، فلما اجتمعوا عنده، قبض على الوزير وإخوته، وقبض على علم الدين بن قارورة - ناظر ديوان الأمير الكبير - وألزم بحمل خمسمائة ألف درهم، وخُلع على شمس الدين إبراهيم - المعروف بكاتب أرلان - المستقر في وزارة الشام، واستقر ناظر ديوان الأمير الكبير، عوضًا عن ابن قارورة، فما أغنى عن ابن مكانس حذره منه. وكُتب باستقرار ابن بشارة في نظر الشام على عادته. وخلع على سعد الدين إبراهيم الميموني، واستقر عامل ديوان الأمير الكبير.
وفي ثاني عشرينه: خلع على الشريف جمال الدين عبد الله بن عبد الكافي بن عبد الله الطاطبي، واستقر في نقابة الأشراف، عوضاً عن السيد على بن فخر الدين.
وفي يوم الخميس رابع عشرينه: خلع على علم الدين عبد الوهاب الطنساوي، ويقال له سن إبرة، واستقر في الوزارة، عوضًا عن كريم الدين بن مكانس، وسلم ابن مكانس وإخوته وحاشيتهم إلى شاد الدواوين، فعذبهم بأنواع العقوبات. وفيه استناب قاضي القضاة برهان الدين بن جماعة عنه في نظر وقف الأشراف، الشريف صدر الدين مرتضى بن غياث الدين إبراهيم بن حمزة.
وفي خامس عشرينه: خلع على بلوط نائب الإسكندرية خلعة الاستمرار، وقد حضر باستدعاء، ثم توجه إليها. وكانت الأسعار قد ارتفعت من شهر رمضان، حتى بلغ الإردب القمح إلى أربعين درهما، وتزايد حتى بلغ في ذي القعدة ستين درهما، وعز وجوده، وارتفعت أسعار الحبوب كلها، وتعذر وجود الخبز بالأسواق واختطفه الناس من الأفران. فرسم في خامس عشرينه بفتح شونة الذخيرة، وبيع منها. ثم توقفت أحوال الناس، وكثرت الشكاية في الناس جميعهم من وقوف الحال، وقلة وجود الدراهم، فكان هذا - أعنى الشكاية - مما تجدد، و لم يكن يُعرف، بل أدركنا الناس، وإذا شكا أحد من الناس حاله، عُد عليه ذلك، فصرنا وما من صغير ولا كبير إلا وهو يشكو، وتزايد أمرهم في ذلك، حتى صار أمر الناس.بمصر في الأيام الناصرية فرج وما بعدها إلى فاقة وضعة.
وفي تاسع عشرينه: وقفت العامة واستغاثت، وطلبت ولاية العجمي الحسبة، فطُلب في يوم السبت سلخه، وخُلع عليه، وأعيد إلى الحسبة، عوضا عن المليجي.
وفي ثالث ذي الحجة: سُمر ثلاثة من قطاع الطريق، ووسطوا، ثم سُمر في خامسه ثلاثة أخر.
وفي تاسعه: ترك الأمير تغري برمش أمير سلاح إمرته، وتزيا بزي الفقراء، وفرق عنه مماليكه وحاشيته، وجلس بجامع قوصون خارج باب زويلة، وجمع عليه طائفة من العامة، فبعث إليه الأمير الكبير بالأمير سودُن الشيخوني الحاجب، والأمير قُردُم الحسني - رأس نوبة - ليعود إلى إمرته، ولكنه أبى وصمم على الزهادة، فتردد إليه الأمراء وسألوه ذلك، فأبى عليهم، ثم لم يكن بأسرع من توجهه إلى الشيخ أكمل الدين شيخ خانكاه شيخو، وسؤاله في التحدث مع الأمير الكبير في عوده إلى إمرته كما كان، فبعث يسأل الأمير الكبير في ذلك، فاشتد غضبه عليه، وأمر به فأخرج في الحال ماشيا ليمضي إلى القدس، فمشى على قدميه إلى قبة النصر خارج القاهرة، وأدركه قاصد . بالإذن له. بالركوب، فركب وسار.
وفي حادي عشره: وسُط رحاب، أمير عربان البحيرة، ومعه ثلاثة نفر من أعيانها.(2/358)
وفي هذه الأيام: اتفقت حادثة مستغربة، وهي أن بعض تجار قيسارية جهاركس - يعرف بابن القماح - أخلى حماما بالقرب منها في ليلة الجمعة خامسه، وأطمع صدقه - حارس القيسارية - بأن في البئر التي بها كنزًا، ففتح له القيسارية ليستخرج الكنز من البئر. فلما صار بها هو وولده والحارس أوهمه أنه يحتاج إلى قراءة عزيمة ، وإلى تبخير البئر، حتى يتيسر أخذ الكنز بإبطال موانعه، وأمره أن ينصرف عنه - هو والولد - إلى الحمام ة ليخلو.بما ذكر. وترك عنده رجلاً في صورة أنه يعينه على ذلك، وكان صانع أقفال، فمضى الحارس وولد ابن القماح " فأخذ ابن القماح " ، في فتح ما على حوانيت القيسارية من الأقفال الحديدية بيد ذلك الرجل، حتى فتحها كلها، وأخذ منها ما يزيد قيمته على عشرة آلاف دينار، وهرب في الليل هو وأهله. فأصبح الناس بالقيسارية وهي مفتحة الحوانيت، فارتجت القاهرة بأهلها، وحضر والي القاهرة، واجتمع التجار وغيرهم بها. فقالت امرأة ممن يسكن بالربع علو القيسارية: " قد رأينا البارحة ليلاً ابن القماح هنا،، فأخذ الوالي في طلبه فلم يقدر عليه، ولا على صدقة الحارس. ورفع التجار شكواهم إلى الأمير الكبير، فاشتد حنقه على والي القاهرة، وألزمه بإخراج السارق. فبينا هو في الفحص عن ابن القماح، إذ دلّه شخص على موضعه، فركب إليه في يوم الإثنين ثامنه، وأحاط بالبيت الذي هو به، فألقى نفسه من علو البيت يريد النجاة، فانكسرت يده، وقبض عليه وعلى ولده أحمد، وعلى الأقفالي الذي فتح له الحوانيت. فوجد القماش الذي أخذ،، والمال بعينه، لم يُفقد منه شيء، فحمل ذلك على عدة حمالين، وسار بهم والمغاني تزفهم، حتى طلع إلى الأمير الكبير. فأقر ابن القماح. بما تقدم ذكره، فأمر الوالي بعقوبة الجميع. فنزل بهم في الحديد والعملة من ورائهم على رءوس الحمالين، والمغاني تزفهم في شارع القاهرة، فكان يوما مشهوداً. ثم أخذ التجار مالهم بتمامه وكماله. وظفر أيضاً الوالي بصدقة الحارس، فما زال هو والأقفالي تحت العقوبة حتى هلكا. وضُرب ابن القماح وولده مراراً، وسُجن في خزانة شمايل، فإنه لم يجب عليه القطع شرعا. لأنه كان يقول عن الأقفال هذا ناولني المتاع من الحوانيت. فأقام عدة سنين في السجن ثم أخرج واتضع حاله حتى مات.
في سابع عشره: قدم الأمير كُمُشبغا الحموي نائب طرابلس باستدعاء، فأكرم غاية الإكرام، وحمل إليه الأمراء تقادم كبيرة جداً.وفي هذا الواقعة، ألزم والي القاهرة عريف قيسارية جهاركس ألا يُسكن بها تاجراً حتى يضمن عليه، وصار يتهدد التجار بفعلة ابن القماح، فتحدث الناس في القاهرة بهذه الواقعة أعواما كثيرة.وقدم البريد بوقوع الوباء بصفد.
وجاءت الأخبار بغلاء الأسعار.بمكة، فلما قدمها الرجبية انحلت قليلا، حتى أبيعت الويبة الدقيق درهما، والويبة الشعير من ثلاثين إلى عشرين " درهماً " ،، مع غلاء كل ما يؤكل، وبلغت الغرارة بالمدينة النبوية أربعمائة درهم. فلما قدم الحاج في الموسم، ارتفعت الأسعار، وبلغت الويبة الدقيق إلى خمسين درهما وما فوقها، والويية الشعير إلى أربعين درهما، وعظمت المشقة في الرجعة إلى القاهرة من غلاء الأسعار.
ومات في هذه السنة من الأعيان
الأمير إبراهيم بن حسن بن الناصر محمد بن قلاون، في عاشر جمادى الآخرة.
وتوفي مفتى دار العدل، ركن الدين أحمد بن محمد، المعروف بقاضي قرم الحنفي، في عاشر رجب.
وتوفي فقيه حلب، شهاب الدين أحمد بن حمدان بن أحمد بن عبد الواحد بن عبد الغني بن محمد بن أحمد بن سالم بن داود بن يوسف الأذرعي الشافعي، في خامس عشرين جمادى الآخرة، بحلب. ومولده سنة تسع وسبعمائة، وله مصنفات في الفقه.
وتوفي شيخ الشيوخ، نظام الدين إسحاق بن عاصم بن سعد الدين محمد بن الأصفهاني شيخ خانكاة سرياقوس في ليلة الأحد ثالث ربيع الآخر. ودفن. بمدرسته فوق الشرف، بجوار الضيافة رحمه الله تعالى.
وتوفي عماد الدين إسماعيل بن شرف الدين أبي البركات محمد بن أبي العز بن صالح الدمشقي الحنفي، بدمشق، وقد أناف على التَسعين. ومات أمير أحمد بن الملك المظفر حاجي بن محمد بن قلاون، في سادس صفر.
ومات الأمير أَقتمر عبد الغني، نائب طرابلس، ونائب الشام ونائب السلطان بديار مصر، وأمير كبير، في تاسع عشرين جمادى الآخرة.(2/359)
ومات الأمير آنص - والد الأمير الكبير برقوق - في يوم السبت ثامن عشر شوال. ومات الأمير أيدمُر الشمسي، أحد أمراء الألوف، في ثالث عشر صفر. ومات الأمير آلان الشعباني، أمير سلاح، في ثامن عشر ربيع الآخر.
ومات الحاج سيف بن علي مقدم الدولة، تحت العقوبة، في ليلة الأحد ثالث عشرين صفر، ولم يخلف في معناه مثله.
ومات الأمير طَشتَمُر الشعباني اليلبغاوي، نائب حماة في رجب، بعين تاب. صحبة العسكر.
وتوفي الشيخ المسند جمال الدين عبد اللّه محمد بن علي بن حَديدة الأنصاري في خامس عشرين شعبان. ومولده سنة عشر وسبعمائة.
وتوفي جمال الدين عبد الله بن الرقيق الأسملمي، أحد أعيان الكتاب، في ثالث عشر صفر.
وتوفي قاضي قضاة حلب، كمال الدين عمر بن عثمان بن هبة الله المعري الشافعي،في شهر رجب بحلب.
ومات خواجا فخر الدين عثمان بن مسافر، جالب الأمير الكبير برقوق.
وإليه ينسب فيقال برقوق العثماني، في سادس عشر رجب بالقاهرة، وشهد الأمير الكبير جنازته.
وتوفي الفقير المعتقد، أبو لحاف علي الشامي بالقاهرة، في خامس صفر.
وتوفي نور الدين علي بن قَشتَمُر المنصوري الشافعي في ثامن عشرين ربيع الأول.
ومات أمير على بن قَشتَمُر الحاجب، أحد أمراء الألوف، الشهير بالوزير، في تاسع عشرين ربيع الآخر. كان يشارك في عدة علوم مشاركة جيدة، وسيرة جميلة.
ومات غلام اللّه مُهتار الطشت خاناه ؛ في ثالث عشرين ربيع الآخره وتوفي الشيخ شمس الدين محمد بن الكومي الشافعي، الأعمى، في تاسع عشرين ربيع الأول.
ومات شمس الدين محمد بن محمد بن محمد، المعروف بابن السيوري العمَّاري ، نسبة إلى عمار بن ياسر - رضى اللّه عنه - الموصلي، إمام أهل الموسيقا في زمنه، يوم العشرين من صفر.
وتوفْيت المسندة جويرة بنت الشهاب أبي الحسن أحمد بن أحمد الهكاري، في يوم السبت ثاني عشرين صفر. وقد انفردت برواية النسائي وغيره.
واللّه تعالى أعلم بالصواب.
سنه أربع وثمانين وسبعمائة
أهل المحرم بيوم الثلاثاء: فيه خُلع على الأمير مُبارك شاه السيفي، واستقر والي الفيوم، وكاشف الفيوم، وكاشف البهنساوية والأطفيحية عوضاً عن أسنبغا المنجكي.
وفي ثالثه: خلع على الأمير سودُن الشيخوني، واستقر حاجب الحجاب على إقطاع تغري بَرمش. وخلع على الأمير كُمُشبغا الحموي اليلبغاوي - نائب طرابلس - خلعة الاستمرار على عادته. وخُلع على فرج بن أَيدَمُر السيفي، واستقر في ولاية الغربية، عوضاً عن أحمد بن سُنقُر. وخلع على أَلطُنبُغا الصلاحي واستقر في ولاية الأشمونين، عوضاً عن مبارك شاة السيفي.
وأنعم بإقطاع الأمير سودن الشيخوني، على الأمير أيدكار واستقر حاجبًا ثالثاً.
وفي عاشره: قدم الأمير أَقبُعا المارديني، نائب الوجهالقبلي، باستدعاء.
وفي حادي عشره: توجه الأمير بكلمش العلاي، لإحضار الأمير بيدمر الخوارزمي من سجنه في ثغر دمياط. وقدم الأمير جَتتمُر أخو طاز من دمشق، بسؤاله.
وفي هذا الشهر: تزايد سعر الغلال، وفقد الخبز من الأسواق، وأبيع كل رطلين بدرهم، وأبيع القمح. بمائة وخمسة دراهم الأردب، والبطة الدقيق بثلاثين درهما، فلما دخل الشعير الجديد، أبيع الأردب منه بخمسين درهما.
وفيه رسم الأمير الكبير بإطلاق من في سجني الديلم والرحبة من المديونين، فأفرج عنهم جيعهم، وأغلق باب السجنين، ومنع القضاة من سجن أحد على دين، لما بالناس من الغلاء ووقوف الحال، فاشتدت وطأة الحجاب على الناس بالضرب على الديون، وترسيم نقبائهم على من في ذمته دين.
وفي ثامن عشرة: قدم ركب الحاج.
وفي عشرينه: قدم الأمير بيدمر من دمياط في النيل، فركب الأمير الكبير إلى لقائه، وحضر من الغد يوم الإثنين حادي عشرينه الخدمة السلطانية، وقبل الأرض على العادة،فخلع عليه، واستقر في نيابة الشام على عادته عوضاً عن الأمير أشَقتمُر، وهذه ولايته السادسة. وكتب بتوجه الأمير أَشَقتمر إلى القدس بطالا.
وفيه خلع على الأمير أقبغا المارديني نائب الوجه القبلي، خلعة الاستمرار.
وفي آخره: انحط السعر إلى أربعين درهما الأردب القمح، والشعير والفول إلى اثنين وعشرين درهما الأردب، والبطة الدقيق إلى أحد عشر درهما.(2/360)
وفي يوم الأربعاء: أول صفر خُلع على ابن عرب، وأعيد إلى حسبة مصر عوضاً عن خليل بن عبد المعطي، على مال يقوم به. وأضيف إليه وكالة بيت المال، عوضاً عن نجم الدين الطنبَدي.
وفي ثانيه: خلع على الأمير بَيدَمُر نائب الشام، خلعة السفر، وسافر.
وفي سادسه: خلع على محمد بن أَشَقتمُر بولاية قطيا، عوضاً عن علاء الدين على ابن الطشلاقي. وخلع علي أبي بكر بن المزوَّق بولاية قرص، عوضاً عن أبو درقة قُطلوبُغا الأسن قُجاوي.
وفيه أعيد نجم الدين أحمد بن قاضي القضاة عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن شرف الدين أبي البركات محمد بن أبي العز بن صالح بن أبي العز إلى قضاء الحنفية بدمشق، عوضا عن الهمام أمير غالب بن القوام أمير كاتب الأتقاني.
وفي تاسعه: قدم المجذوب المعتقد على الروبي من الفيوم، واجتمع بالأمير الكبير، فهرع الناس إلى زيارته، وبالغوا في اعتقاده، ونقلوا عنه خوارق، الله أعلم بحقيقتها.
وفي سادس عشره: ركب الأمير بَهَدُر المنجكي أستادار الأمير الكبير على البريد. ليحضر من دمشق المال الذي وعد به الأمير بَيدَمُر.
وفي ثامن عشره: أعيد النجم الطنبدي إلى وكالة بيت المال. لعجز ابن عرب عن القيام بالمال الذي وعد به.
وفي رابع عشرينه: طلب الأمير الكبير برقوق من قاضي القضاة أن يسلمه مال تاجر قد مات عن ورثة غائبين، وترك ما خلفه.بمودع الحكم، فأبى أن يدفعه إليه، وقال: " ثبت عندي أن له ورثة، ولا سبيل أن أدفع المال إلا لورثته " ، فغضب الأمير الكبير برقوق، واستدعى الشيخ برهان الدين إبراهيم الأبناسي ليوليه القضاء، فغيَّب و لم يظفر به، فامتنع ابن جماعة من الحكم، وأخذ الناس في السعي.
وفي ثامن عشرينه :خلع على سراج الدين عمر العجمي ،وأعيد إلى حبسة مصر ،عوضا عن ابن عرب ؛ لعجزه عن القيام. بما وعد به. ورسم الغرماء على ابن عرب ليقوم لهم بما استدانه منهم وبرطل به، ورفعوه إلى الأمير أيدَكار الحاجب، فأخرق به، وبالغ في إهانته ؛ نسأل الله العافية.وفتحت طبقة الرفرف وبيت الأمير طاز علو خزانة الخاص بالقلعة من الإصطبل، حيث سكنى الأمير الكبير برقوق، ورَكب لهما سلما ليتوصل إليها، وأسكن بها مماليكه الذين اشتراهم.
وفي يوم الخميس سلخه: خلع على قاضي القضاة بدر الدين محمد بن أبي البقاء، وأضيف إلى وظيفة القضاء، عوضا عن البرهان إبراهيم بن جماعة، وسافر ابن جماعة إلى القدس.
وقدم البريد.بمسير نائب حلب إلى محاربة التركمان، فلما دخل دربند أصلان، توفي حادي عشر صفر، وقد فر منه سولى بن دلغادر، فلم يظفر به، فثنى عنانه إلى ابن أوزر، فداس بيوته، ووضع فيمن لقيه السيف، فامتنع منه بالجبل، فعاد النائب من تل حمدون يريد مدينة مرعش، وعاد إلى حلب.
وفي يوم الأحد عاشر شهر ربيع الأول: قرئ تقليد ابن أبي البقاء وفوض أمانة الحكم لشهاب الدين أحمد الزركشي، وفوض نظر أوقاف مصر لشمس الدين محمد بن الوحيد وفوض نظر أوقاف القاهرة لجمال الدين محمود العجمي المحتسب. واستناب في الحكم تقي الدين عبد الرحمن الزبيري أحد موقعي الحكم. وأقر الصدر بن محمد المناوي وعمر بن رزين على خلافة الحكم.
وفي هذه الأيام: شرع الأمير المشير جركش الخليلي في عمل جسر بين الروضة وجزيرة أروى، في طول ثلاثمائة قصبة، وعرض عشر قصبات، وعمل فيه بنفسه ومماليكه، وحفر في وسط مجرى النيل خليجا من هذا الجسر إلى زريبة قوصون. ليعود الماء إلى البر الشرقي، ويستمر طول السنة، فأنفق على ذلك من ماله جملة من غير أن يكلف أحد فيه شيئا، حتى تم الجسر، فلم يفد شيئا، وقال فيه أدباء العصر شعراً كثيراً. وكان القاع ستة أذرع ونصف ذراع.
وفيه هرب الوزير كريم الدين عبد الكريم بن مكانس من ميضأة جامع الصالح خارج باب زويلة، وكان مسجونا به، هو وإخوته، فغضب الأمير الكبير على الأمير بهادر الأعسر - شاد الدواوين - وضرب إخوته، بالمقارع، وقبض على حواشيهم وحريمهم، ونودي عليه فلم يوجد.
وفي عاشر ربيع الأخر : خلع على ابن عبد المعطي بنظر المواريث.(2/361)
وفي سابع عشره: خرجت تجريدة إلى البحيرة، فيها خمسة أمراء ألوف، وهم بهادر الجمالي، وقُطلوبُغا الكوكاي، وأحمد بن يلبغا الخاصكي، وقُردُم الحسني، وآلابغا العثماني وأربعة أمراء طبلخاناة، وعشرة أمراء عشرات. فلم يجدوا من أهل البحيرة أحداً، فساقوا من مواشيهم ثلاثة آلاف رأس من الضأن، وستة آلاف رأس من المعز.
وفي آخره: انتهى عمل الجسر الخليلي.وفيه قدم البريد بأن حسين بن أويس - متملك بغداد - قتله أخوه أحمد بن أويس، واستقر في المملكة بعده، وذلك بإشارة خواجا شيخ الكحجاني.
وفي خامس عشر جمادى الأول: استقر الأمير قُطلوبُغا أبو درقة في ولاية دمياط، عوضاً عن محمد بن قرابغا.
وفي عشرينه: استقر فتح الدين صدقة أبو دقن في نظر المواريث، عوضاً عن ابن عبد المعطي.
وفي يوم الأحد أول جمادى الآخرة: - الموافق له من أشهر القبط تاسع عشر مسرى - كان وفاء النيل ستة عشر ذراعا، بعدما توقف عدة أيام، وأرجف خُزَّان الغلال يكون الغلاء، فخاب أملهم.
وفي سابع عشره: خُلع على جمال الدين محمود المحتسب خلعة الاستمرار وقد أرجف بعزله، ونقل قراجا من ولاية قليوب إلى ولاية الجيزة، ونقل حسين من ولاية الجيزة إلى ولاية قليوب.
وقدمت رسل ألفنس - متملك أشبيلية - بسبب الإفراج عن تكفور حاكم سيس، فأجيبوا إلى ذلك.
وفي هذه السنة: ركب السطان إلى الميدان سبتين، و لم يركب السبت الثالث لغرق الميدان. بماء النيل.
وفي عشرينه: استقر مُقبل الطيبي في ولاية قوص، عوضا عن ابن المُزَوق وأعيد علاء الدين الطشلاقي إلى ولاية قطيا.
وفي ثالث عشرينه: قدم الأمير أقبُغا المارديني - نائب الوجه القبلي - فقبض عليه، وسجن في الحديد بخزانة شمايل لقبح سيرته، وعتوه على الخلق، وإسرافه في إراقة الدماء، وأخذ الأموال، وأحيط بأمواله التي اغتصبها من أهل البلاد.
وفيه ضرب الأمير الكبير علي خان بن قرمان - كاشف الوجه البحري - ضرباً مبرحاً وأسلمه إلى حاجب الحجاب. وقدم نصارى مدينة سيس في طلب من يقوم بأمرهم، وقد مات حاكمهم، فاختير لهم بعض الأسرى المقيمين بالكوم فيما بين جامع ابن طولون ومدينة مصر. وخلع عليه وعلى القادمين من سيس، وكتب تقليده، فأصبح خماراً يبيع الخمر، وأمسى ملك الأرمن ينفذ حكمه في خلق كثير.
وفي سلخه: استقر الأمير أرسبغا المنجكي ملك الأمراء بالوجه القبلي عوضاً عن أقبغا المارديني.
وفي ثالث شعبان: استقر بهادر طُبج - كاشف الوجه البحري - عوضاً عن ابن قرمان.
وانتهت زيادة ماء النيل إلى ثلاث أصابع من عشرين ذراعاً، فعد ذلك طوفانا.وفيه عمل الأمير جركس الخليلي طاحوناً في مركب عند بسطة المقياس، يديرها الماء برسم طحن القمح دقيقاً فأتى الناس من كل جهة لرؤيتها، وقال فيها أدباء الزمان شعراً كثيراً.
وفيه نقل الأمير مأمور من نيابة حماة إلى نيابة طرابلس، ونقل كُمُشبُغا الحموي من نيابة طرابلس إلى نيابة دمشق، وأنعم عليه بإمرة جَنتمُر أخي طاز، وقبض على جَنتمُر وسجن بقلعة دمشق، ثم نقل إلى قلعة المرقب ، واستقر الأمير يلو الحاجب بدمشق، في نيابة حماة. ونقل الأمير طُرنطاي الكاملي من نيابة سيس إلى حجوبية دمشق، واستقر تمراز العلاي في ولاية البهنسي، عوضاً عن طاجار.
وفيه نقل عن مماليك الأسياد الذين في خدمة الأمير الكبير برقوق، أنهم قد اتفقوا مع طائفة من مماليكه على أن يفتَكوا به وكبيرهم في ذلك أيتمش الخاصكي. فعندما بلغه ذلك، بادر بالقبض على المذكور، وعلى بطا الخاصطي واستدعى من في خدمته من مماليك الأسياد أولاد الأشرف، وقبض على سبعة عشر من أعيانهم، وسجنهم في البرج من القلعة. وأصبح فقبض منهم على تكملة خمسة وستين، وسجنهم بخزانة شمايل، مقيدين، فهرب من بقي من مماليك الأسياد، فنودي في القاهرة عليهم، وهدد من أخفاهم. وقبض على الأمير ألابغا العثماني الدوادار في تَاسع عشرينه، وأخرج على إمرة بالشام. وأخرج أيضاً أيضاً بأميرين من العشرات منفيين. واستقر الأمير بيرم في ولاية أشموم الرمان.(2/362)
وفي يوم السبت أول شهر رمضان: نفي الأمير الكبير برقوق إلى قوص ممن قبض عليه ثلاثة وأربعين مملوكا، ونفي بقيتهم إلى الشام، وتتبع من اختفي منهم، فأغرق جماعة منهم في النيل، ونفي كثيراً منهم حتى ذهبوا بأجمعهم. وخلا الجو للأمير الكبير، ورأى أنه قد أمن، فإنه لما أخذ الإمرة في أيام الأمير أَينَبَك كان معه في ضيق ؛ لأن نفسه تريد منه ما لا يؤهل له.
فلما زالت دولة أينبكَ، وتحكم الأمير طَشتَمُر العلاي، لم يكن له معه كبير أمر، فما زال بَطشَتمر حتى أزله، وصار هو والأمير بركة يتنازعان الأمور، ولا يقدر على عمل شيء إلا. بمراجعة بركة، حتى كان من أمره ما قد ذكر، فصارت مماليك الأسياد يريدون التوثب عليه وهو يداريهم جهده، حتى وثب بهم وأخذهم، فم يبق له معاند،وصار له من المماليك الجراكسة عدد كبير جلبوا إليه من البلاد، فرقاهم إلى ما لم يخطر لهم ببال، وأنعم على جماعة منهم بإمريات.وفيه نقل الأمير طشتمر العلاي من نيابة صفد إلى القدس بطلبه لذلك، فأقام به بطالا.
وفيه أمر الأمير الكبير بالإفراج عن المسجونين بسجن الديلم وسجن الرحبة، على الديون، فأفرج عنهم.
وفي يوم الأربعاء تاسع عشره: جمع الأمير الكبير برقوق الأمراء والقضاة ومشايخ العلم، وأهل الدولة، والخليفة، إلى عنده بالحراقة من الإصطل، وعرفهم أن الأمور مضطربة لصغر سن السلطان، وقلة حرمته، وأن الوقت محتاج إلى ملك عاقل يستبد بأحوال الدولة، ويقوم بأمور الناس، وينهض بأعباء الحروب والتدبير ونحو ذلك. فاتفقوا جميعهم معه على خلع الملك الصالح حاجي، وبعثوا في الحال بالأمير قُطلوبُغا الكوكاي - أمير سلاح - والأمير ألطُنبُغُا المعلم - رأس نوبة - فقبضا على الملك الصالح من القصر، وأدخلاه إلى دور الحرم، وأخذا منه نمجاة الملك، وعادا بها، فانقضت دولة الأتراك من مصر، وزالت دولة بني قلاون، وصح ما أنذر به أرباب الحدثان، فقد قيل:
تمت ولايتهم بالحاء لا أحد ... من البنين يداني الملك في الزمن
وكذا كان، فإن آخر أولاد الناصر محمد بن قلاوون السلطان حسن بن محمد وآخر من ولي من أولاد الأولاد حاجي، وعلى رأسه زالت دولتهم، وبه ختمت ملوكهم، فسبحان محيل الأحوال، لا إله إلا هو.
السلطان سيف الدين أبو سعيد
السلطان الملك الظاهر سيف الدين أبو سعيد برقوق بن آنص الجركسي العثماني اليلبغاوي القائم بدولة الجراكسة أخذ من بلاد الجركس، فأبيع ببلاد الفرم، ثم جلبه الخواجا فخر الدين عثمان بن مسافر إلى مصر، فاشتراه الأمير يلبُغا العُمَري الخاصكي وأعتقه، وجعله من جملة مماليكه الأجلاب، وكان اسمه ألطنبغا فسماه الأمير يلبغا - برقوق - لنتوء في عينه، ومولده في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة - تخمينا - فإنه ذكر في سنة ثمان وتسعين أن سنه سبع وخمسون سنة. فلما قتل الأمير يلبغا - وكانت واقعة الأجلاب - أخرج برقوق فيمن أخرج منهم، وسجن بالكرك مدة، ثم أفرج عنه وصار إلى دمشق، فخدم عند نائبها الأمير مَنجكَ حتى طلب الملك الأشرف شعبان اليلبغاوية، قدم مع من قدم منهم، وصار في خدمة الأسياد، من جملة مماليكهم، إلى أن ثاروا بعد سفر الأشرف إلى الحجاز، كان ممن ثار معهم، وانتقل من الجندية إلى إمرة طبلخاناه، ثم إلى إمرة مائة، وملك الإصطبل، وعمل أمير آخور، ثم أميراً كبيراً. ومازال يدبر الأمور، والأقدار تساعده، حتى ذهب من يعانده، وتثبت دولته، ووافقه الجميع، على أن يكون سلطان البلاد..(2/363)
فلما خُلع الصالح، وصلى الجماعة الظهر من يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رمضان سنة أربع وثمانين وسبع مائة - الموافق له آخر هتور، وسادس عشرين تشرين الثاني - خطب الخليفة المتوكل على اللّه أبو عبد اللّه محمد الخطبة على العادة، وبايع الأمير الكبير الأتابك على السلطنة، وقلده أمر العباد والبلاد، فأفيض في الحال على السلطان تشريف الخلافة، وأفيض على الخليفة التشريف على العادة. وأشار شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني أن يقلب السلطان بالملك الظاهر، وقال: " هذا وقت الظهر، والظهر مأخوذ من الظهيرة والظهور، وقد ظهر هذا الأمر بعد أن كان خافيا " ، فتلقب بالملك الظاهر، وركب من الحراقة بالإصطبل وطلع من باب السر إلى القصر. وعندما ركب أمطرت السماء فتفاءل الناس بذلك. ولما دخل إلى القصر، جلس على التخت، فكان طالع جلوسه برج الحوت. ونودي بالقاهرة ومصر " الدعاء للسلطان الملك الظاهر، " كتب إلى أعمال المملكة بذلك، وأن يحلف النواب والأمراء للسلطان على العادة، فسارت البرد بذلك، ودقت البشائر بقلعة الجبل عند تمام البيعة، وزينت القاهرة ومصر وعامة مدائن مصر والشام.
وفي يوم الإثنين رابع عشرينه: قرئ عهد الخليفة للسلطان على الأمراء، بحضرة الخليفة والقضاة وأعيان الدولة.
وفيه خلع على الأمير أيتَمش البجاسي - رأس نوبة - وعلى الأمير آلطنبغا الجوباني - أمير مجلس - وعلى الأمير جركس الخليلي - أمير أخور - ، وخلع على الأمير سودُن الشيخوني الحاجب، واستقر نائب السلطان. وخلع على الأمير قُطْلُوبغا الكوكاي، واستقر حاجب الحجاب، عوضاً عن الأمير سودن النائب. وخلع على الأمير ألطنبغا المعلم، واستقر أمير سلاح عوضًا عن الكوكاي الحاجب. وخلع على الأمير قردم الحسني ، واستقر رأس نوبة ثانيا. وخلع على الأمير يونس النوروزي الدوادار، واستقر دوادار السلطان، عوضا عن ألابغا. وخلع على قضاة القضاة الأربع، وقضاة العسكر، ومفتين دار العدل، ومحتسبي القاهرة ومصر، وكاتب السر، والوزير، وناظر الخاص، وناظر الجيش، ووكيل بيت المال، وسائر أرباب الدولة، فكان يوما مشهودًا كثرت فيه التهاني والأفراح.
وفي يوم الخميس سابع عشرينه: جمع السلطان الأمراء بأجمعهم، وحلفهم - صغيرهم وكبيرهم - على طاعته.
وفيه خلع على أوحد الدين عبد الواحد بن إسماعيل بن ياسين، واستقر في نظر خزانة الخاص ووكالة الخاص.وخلع على الأمير بهادر المنجكي الأستادار، واستقر أستادار السلطان، بإمرة طبلخاناة، وأضيف إليه أستادارية الأمير ناصر الدين محمد ابن السلطان.
وفي يوم الإثنين تاسع شوال: خلع على أوحد الدين عبد الواحد بن إسماعيل بن ياسين الحنفي، واستقر في كتابة السر، عوضاً عن بدر الدين محمد بن على بن يحيى بن فضل الله العمري.
وفي حادي عشرينه: عرض السلطان المماليك الأشرفية، وعزل منهم خمسة، جعل لهم رواتب ليكونوا طرخان، وأرسل بقيتهم إلى الأمير سودن النائب،فعمل أصحاب الأخبار الثفال مقدمين في الحلقة، وباقيهم من جملة أجناد الحلقة. وطلب السلطان من المقسي أسماء من قبض بعد الأشرف العشرة آلاف، فوجد منهم قد بقي خمسمائة مملوك، فيهم أربعمائة مملوك بأيديهم إقطاعات في الحلقة، ومائة مملوك لهم جوامك، فأمر في يوم الإثنين سلخه، الأربعمائة أصحاب الأخباز في الحلقة بلزوم دورهم، وأكلهم إقطاعاتهم وقطع جوامك المائة أرباب الجوامك، وقرر عوضهم من مماليكه الذين اشتراهم ورباهم، وقال: " هؤلاء خونة قد خانوا أستاذهم الملك الأشرف، وأعانوا على قتله بشيء يسير أخذوه من المال، بعد ما عاشوا في نعمته دهرا طويلا، فلا خير فيهم " فتلقوا قله وذله ولقد رأيت بعض من كان من أمراء الألوف في أيام الأشرف، وقد صار فقيراً، يسأل الناس، وعليه ثياب صوف شبه عباءة.
وفي هذا الشهر: قدم شيخنا أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون من بلاد المغرب واتصل بالأمير ألطنبغا الجوباني، وتصدر للاشتغال بالجامع الأزهر، فأقبل الناس إليه، وراقهم كلامه، وأعجبوا به.وفي يوم الإثنين سابع ذي القعدة: غضب السلطان على الوزير علم الدين عبد الوهاب الطْنساوي - ويقال له سن إبرة - وضربه، واستدعى بالأسعد أبى الفرج النصراني - كاتب الحوائج خاناه - وأكرهه حتى أظهر الإسلام، فخلع عليه وأركبه فرسا بسرج ذهب، وكنبوش زركش، واستقر به ناظر ديوان ولده محمد، رفيقا للأمير بهادر الأستادار.(2/364)
وفي عاشره: خلع على الوزير سن إبرة خلعة الاستمرار وخلع على الأمير منكلى الطرخاني واستقر حاجبا رابعا وخلع على الأمير جلبان العلاي، واستقر حاجبا خامسا ولم يعهد قبل ذلك خمسة حجاب في الدولة التركية.
وفيه استقر خير الدين العجمي - من صوفية خانكاه شيخو - في قضاء الحنفية بالقدس ولم يعرف قبله بالقدس قاض حنفي، واستقر موفق الدين العجمي - من صوفية خانكاه شيخو - في قضاء الحنفية بغزة. ولم يعرف أيضاً قبل ذلك بغزة قاض حنفي.
وفيه كان بحث بين شيخ الإسلام البلقيني وبين بدر الدين بن الصاحب في مسألة علمية، آل الأمر إلى أن كفر البلقيني ابن الصاحب، فطلبه إلى قاضي القضاة جمال الدين عبد الرحمن بن خير المالكي، وأقام رجلا يدعى عليه بأمور رتبت عليه، فجرت أحوال عقد من أجلها مجلس حضره القضاة والفقهاء وذكر ما يدعى به عليه، فلم يثبت منه شيء بوجه شرعي، فحكم بعض القضاة بعدم كفر ابن الصاحب وبقائه على دين الإسلام.
وفي يوم الثلاثاء تاسع عشرينه: ركب السلطان من قلعة الجبل، ومر على قناطر السباع، حتى عدى النيل من بولاق إلى الجيزة، وتصيد، ثم عاد من أخر النهار، وقد ركب الأمير أيتمش عن يمينه، والشيخ أكمل الدين - شيخ خانكاه شيخو - عن يساره.
وفيه استقر بدر الدين محمد بن أحمد بن مُزْهر في كتابة السر بدمشق، عوضاً عن فتح الدين محمد بن الشهيد.
وفي هذا الشهر: ورد البريد بأن الأمير يلبغا الناصري - نائب حلب - سار بعسكر حلب إلى إلبيرة، يريد تعدية الفرات، فجاءه الخبر بعصيان الأمير علاء الدين ألطنبغا السلطاني - نائب الأبلستين - وأنه لم يحلف للسلطان واستولى على قلعة درندة - المضافة إليه - وطلع إليها، وأمسك بعض أمرائها، وأطلع إليها ذخيرة وميرة، فركب العسكر الذي بالمدينة عليه، وأمسكوا رجاله، فطلب الأمان منهم، وفر من القلعة إلى الأبلستين. فكتب إليه الأمير يلبغا الناصري، يهدده ويخيفه، فلم يرجعه إليه، ومر هاربا على وجهه إلى بلاد التتر، فعاد الأمير يلبغا المذكور إلى حلب.
وفي يوم الثلاثاء سادس ذي الحجة: قبض على الأمير قُرط - نائب الوجه البحري - لقبح سيرته، وسوء أفعال حاشيته، وضرب بين يدي الأمير أيتمش ضربا مبرحا، ثم جلس وصودر - هو وجماعته - وفر ابنه حسين، فنودي عليه، وهدد من أخفاه وخلع على الأمير قرابلاط الأحمدي، واستقر عوض قرط.
وفيه رسم باستقراء ولى الدين عبد الرحمن بن رشد في قضاء المالكية بحلب، عوضا عن علم الدين القفصي.
وفي يوم السبت سابع عشره: ركب السلطان من القلعة إلى جهة المطرية ومضى اٍلى قناطر أبي المنجا، وعاد فدخل إلى القاهرة من باب الشعرية، حتى خرج من باب زويلة وصعد القلعة، فكان يوما مشهودا، زينت فيه الأسواق وأشعلت الشموع والقناديل، فرحا برؤيته: وفي ثاني عشرينه: خلع على محمود بن علي بن أصفر عينه - أستادار الأمير سودن باق - واستقر شاد الدواوين، عوضا عن بهادر الأعسر. وأنعم عليه بإمرة طبلخاناة. وفيه ورد البريد بأن الأمير أقبغا عبد اللّه - نائب غزة - فر منها إلى جهة الأمير نعير.
وفيه خلع على الأمير قرقماس الطشتَمري اليلبغاوي، واستقر خازندارا كبيرا.
وفي رابع عشرينه: ركب السلطان من القلعة، وشق مدينة مصر، وقد زينت له، حتى عدى النيل إلى بر الجيزة. ثم عاد على بولاق، إلى القلعة.
وفي سابع عشرينه: قدم الأمير ألطنبغا الجوباني من الحجاز، وكان قد حج مع الركب.
مات في هذه السنة من الأعيان
قاضى القضاة الحنفية بدمشق، همام الدين - أمير غالب - ابن قوام الدين - أمير كاتب - الأتقاني، بعد عزله. وكان قد بلغ غاية في الجهل.
ومات قاضي القضاة بحر الدين عبد الوهاب بن الكمال أحمد بن قاضى القضاة علم الدين محمد بن أبي بكر بن عيسى بن بدران الأخناي المالكي، في يوم الخميس سادس عشر رجب، وهو معزول.
ومات الصاحب الوزير كريم الدين عبد الكريم بن الرويهب، في سابع عشر شهر رمضان وقد اتضع حاله وافتقر.
ومات علاء الدين علي بن عمر بن محمد بن قاضي القضاة تقي الدين محمد بن دقيق العيد - موقع الحكم - في خامس عشرين صفر.
ومات جمال الدين محمد بن علي بن يوسف، المعروف بالخطب الأسنوي أحد خلفاء الحكم الشافعية، في يوم الأحد عاشر ربيع الأول.(2/365)
وتوفي الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد الخالق، الأسيوطي الشافعي، في يوم الأربعاء حادي ذي الحجة وقد تصدر للأشغال عدة سنين.
ومات الأمير فخر الدين إياس الصرغتمشي الحاجب، أحد الطبلخاناه، في ثالث ربيع الآخر.
ومات الأمير زين الدين زبالة الفارقاني، نائب قلعة دمشق، في شعبان بدمشق وقد أناف على السبعين.
سنة خمس وثمانين وسبعمائة
في يوم السبت الأول المحرم: قدم الأمير يلبغا الناصري نائب حلب، فخرج الأمير سودان النائب إلى لقائه، وصعد به إلى بين يدي السلطان، فقبل له الأرض، وجلس تحت الأمير سودن النائب. ثم نزل إلى بيت أعد له فكان في هذا عبرة، فإنه بلأمس قد كان الناصري من جملة الأمراء الأشرفية، وبرقوق إذ ذاك من جملة مماليك الأسياد، إذا ضمه مجلس مع الناصري قام على رجليه بين يديه، فأصبح ملكا يقبل الناصري له الأرض، أمره ونهيه فسبحان مقلب الأمور.
وقي سادسه: خلع على الأمير يلبغا الناصري خلعة الاستمرار على نيابة حلب، ونزل من القلعة، وعن يمينه الأمير أيتمش، وعن يساره الأمير ألطنبغا الجوباني، ومن وراءه سبعة جنائب من الخيول السلطانية، بسروج ذهب، وكنابيش زركش أخرجت له من الإصطبل. وكان قد حمل إليه السلطان والأمراء من أنواع التقادم ما يجل وصفه.
وفي يوم السبت ثامنه: ركب السلطان ومعه الأمير يلبغا الناصري حتى عدى النيل من بولاق إلى الجيزة وتصيد ثم عاد من آخره.
وفي عاشره: خلع على الناصري خلعة السفر، وتوجه من وقته إلى حلب.
و في يوم الإثنين سابع عشره:خلع على شمس الدين إبراهيم كاتب أرلان ،واستقر في الوزارة بغد سدة تمنعه ،وكثرة إبائه ،وتشترط عدة شروط ،منها أنه لا يلبس تشريف الوزارة ، فأجيب إلى كل ما سأله، ولبس خلعة من صوف كخلع القضاة، وأشار له السلطان بأن تكون يده فوق كل أيدي أهل الدولة، وأنه يستبد بالأمور من غير مشاورة ، فنزل إلى داره، و لم يمكن أحدًا من الركوب معه كما جرت به العادة، ومضى الناس حتى نزل منزله، وضبط الأمور أشد ضبط. و لم يتناول من معلوم الوزراة، إلا الشيء اليسير ،الذي كان لا يرضاه أقل عبيد الوزراء، وأنفق في أرباب الرواتب جاريهم من غير نقص بالغلال ،وبيت المال بالأموال وأدار الطواحين السلطانية بجوار الأهراء بمدينة مصر ،وعمل الحواصل بسائر الأصناف .ولم يمكن أحداً أن يركب معه، وصار يخرج من بيته، ويغلق بابه بيده، ويضع مفاتيحه في كمه، ثم يركب فرسه، ويركب غلامه بغلة، ويردف خلفه الدوادار، وهو حامل الدواة تحت إبطه، ويمضى إلى القلعة، من غير أن يكون معه أحد من الكتاب، ولا الأعوان، فلا يعرفه إلا من له به معرفة. ومنع جميع أرباب الدولة أن يأتوا إلى بيته، وإنما يأتوه بقاعة الصاحب من القلعة. ورفع يد الأمير جركس الخليلي من التحدث في الدولة، وانفرد بالكلمة في الوزارة مع هذا الاقتصاد، ونفذت كلمته، وعظمت مهابته، حتى عند أكابر الأمراء، ولم يجد فيه عدوه سبيلا إلى الطعن عليه بوجه.
وفيه أنعم على الأمير بَهَادر المنجكي الأستادار بتقدمة الأمير قطلوبغا الكوكاي بعد موته.
وخلع على علم الدين الحزين، واستقر في استيفاء الدولة، عوضا عن أمين الدين عبد اللّه جعيص بعد موته.
وفي يوم الخميس ثاني صفر: قدمت رسل السلطان أحمد بن أويس - متملك بغداد - بهدية فيها فهد وصقر وأربع بقج قماش، وتضمن كتابه أنه ملك بغداد بعد أخيه.
وفي سابع عشرة: أفرج عن الأمير قرط.
وفي سلخه: قدم البريد بأن الأمير طُغاي تَمُر القبلاوي - نائب الكرك - تنازع مع الأمير خاطر بسبب أنه كبس عربانا كانوا نزلائه، وقبض عليهم، وآل الأمر إلى اقتتالهما، فانكسر نائب الكرك من خاطر، وتخلص العربان من يده.
وفي أول شهر ربيع الأول: قدم الخبر بأن طائفة من الفرنج شحنوا مراكبهم، وساروا من مدينة الإسكندرية هاربين، فتبعهم المسلمون من الغد، وقاتلوهم، فقتل عدة من المسلمين، وعاد من بقي بغير طائل، فقبض الأمير بلوط النائب على من تأخر بالثغر من الفرنج، وأخذ أموالهم، فتنكر السلطان على النائب، وكتب بقدومه.
وفي سابعه: ضرب قاضي القضاة جمال الدين عبد الرحمن بن خير المالكي عنقي رجلين، ارتدا عن الإسلام، و لم يوافقا على العودة إليه.
وفي عاشره: قدم الأمير بلوط نائب الإسكندرية(2/366)
وفي حادي عشره: صُرف الشريف مرتضى عن نيابة نظر وقف الأشراف برغبته عنه، واستقر عوضه صدر الدين عمر بن رزين، أحد خلفاء الحكم.
وفي ثاني عشره: قدم الأمير بلوط تقدمة سنية.
وفي خامس عشره: ضرب قاضي المالكية عنق رجل على الردة عن الإسلام.
وفي سابع عشره: خلع على بلوط خلعة الإستمرار على نيابة الإسكندرية وتوجه إليها، وكتب بالقبض على الأمير طغاي تمر الجركتمري، والأمير ألطنبغا السابقي، وكانا مجردين بالإسكندرية.
وفيه أخرج الأمير إياس السيفي - من العشرات - إلى دمشق، على إمرة بها. وأنعم على كل من سودن العلاي، وإينال الجركسي بإمرة طبلخاناة، وعلى حسن قجا الأسن قجاوي بإمرة عشرة. وقدم البريد بأن الأمير يلبغا الناصري نائب حلب توجه منها بالعسكر في طلب التركمان، فوافاه في أثناء طريقه غالب تركمان الطاعة، فخلع عليهم، وسار حتى وصل دربند بغراص وقدم طائفة من العسكر، فلقيهم التركمان وقاتلوهم، فقتل نائب بغراص، وجرح جماعة، فعاد إلى حلب. ثم قدم البريد بأن الأمير قرا محمد - حاكم الموصل - قد اتفق مع ضياء الملك بن بوز دوغان على محاربة سالم الدكري ؛ لما كان منه من قطع الطريق على حجاج الموصل وذبحهم وأخذ أموالهم، وأن الأمير يلبغا الناصري لما بلغه ذلك سار من حلب بالعسكر إلى البيرة، وعدى الفرات في المراكب إلى الرها، فوجد قرا محمد وضياء الملك قد ركبا في زيادة على اثني عشر ألف فارس على سالم، وضربا بيوته، فأخذا مالا يحد كثرة منها، قدر ثلاثين ألف حمل وكان بينهم وقعة عظيمة، قتل فيها من الفريقين خلق كثير، وفر سالم إلى جهة قلعة المسلمين، وقرا محمد في إثره، فلم ينج إلا في نفر قليل، فنهب عسكر قرا محمد تلك النواحي، وأفسدوا، فلم مجد سالم بدا من الترامي على الأمير يلبغا الناصري، وكفنه في عنقه، وعاد به إلى حلب، فكتب بتجهيزه إلى مصر.
وفي عشرينه: أخرج الأمير مقبل الرومي منفيا، وكان قد قدم من الشام، وأنعم عليه بإمرة طبلخاناة فلم يقبلها.
وفي نصف شهر ربيع الآخر: قدمت طائفة من الفرنج إلى الطينة ، وأسروا منها سبعة، وقتلوا رجلاً واحداً، فمروا على دمياط وباعوا بها الأسرى السبعة.
وفيه قدم أمير أسد الكردي - أحد أمراء الألوف بحلب - في الحديد، لشكوى بعض التجار عليه أنه أخذ له مملوكا غصبا، فحبس أياما، ثم أفرج عنه، وأخرج على إمرة بطرابلس.
وفيه استقر الأمير تمرباي الدمرداشي في نيابة صفد. وأنعم على الأمير أينال اليوسفي بتقدمة بدمشق.
وفيه استعفي الأمير يلو من نيابة حماة، فأعفي.
وفي تاسع عشره: قدم سالم الدكري من حلب، فأكرمه السلطان، وخلع عليه، وأنعم عليه بإمرة طبلخاناة بحلب.
وفيه أخذ قاع النيل فكان ثمانية أذرع سواء.
وفي يوم الإثنين حادي عشر جمادى الأولى: استقر جمال الدين محمود العجمي المحتسب، في نظر الأوقاف كلها. واستقر الأمير قديد القلمطاوي - شاد الأوقاف - رفيقا له، وخلع عليهما، فشق ذلك على قضاة القضاة.
وفي عشرينه: قدم الخبر بأن سلام ابن التركية عملت له مبارد في رباب أحضرت له، وطلب سواسي خام ليفصلها له تمصانا، فبرد شبابيك البرج الذي هو مسجون فيه، وتدلى منها في تلك السواسي وهرب، فلم يقدر عليه، فغضب السلطان على نائب الإسكندرية، وأمر بإحضاره، ثم أعفي عنه..
وفي خامس عشرينه: أنعم على دمر خان بن موسى بن قرمان، بطبلخاناة أبيه بعد موته.
وكان النيل في أول مسرى على اثني عشر ذراعاً، وأربع أصابع، فزاد في رابعه - وهو سادس عشرين جمادى الأولى - أربعين أصبعا، وفي الغد أربعة وثلاثين أصبعا، ثم زاد أربعا، فوفى ستة عشر ذراعا، وزاد أصبعين من سبعة ذراعا، فركب السلطان في نهاره - وهو خامس مسرى - وفتَح الخليج على العادة، و لم يعهد بعد الملك الظاهر بيبرس ملك ركب حتى خلق المقياس، وفتح الخليج سوى السلطان برقوق.(2/367)
وفي هذا الشهر: اتفق بناحية برما من الغربية أن طائفة من مسلمة النصارى،صنعوا عُرسًا جمعوا فيه عدة من أرباب الملاهي، فلما صعد المؤذن ليسبح اللّه تعالى " في الليل على العادة، سبوه وأهانوه، ثم صعدوا إليه وأنزلوه، بعدما ضربوه فثار خطيب الجامع بهم، ليخلصه منهم، فأوسعوه سباً ولعناً وهموا بقتله وقتل من معه، فقدم إلى القاهرة في طائفة، وشكوا أمرهم إلى الأمير سودن النائب، فبعث بهم إلى الأمير جركس الخليلي، من أجل أن ناحية وبرما من جملة إقطاعه، فلم يقبل قوالهم، وسجن عدة منهم، فمضى من بقي منهم إلى أعيان الناس، كالبلقيني وأمثاله، وتوجه الحافظ المعتمد ناصر الدين محمد فيق إلى الخليلي، وأغلظ عليه حتى أفرج عمن سجنه، فغضب كثير من أهل برما واستغاثوا بالسلطان، فأنكر على الخليلي ما وقع منه. وبعث الأمير أبدكار الحاجب للكشف عما جرى في برما، فتبين له قبح سيرة المسألة فحملهم معه إلى السلطان، فأمر بهم وبغرمائهم أن يتحاكموا إلى قاضي القضاة المالكية، فادعى عليهم بقوادح، وأقيمت البينات بها فسجنهم.
واتفق أن الخليلي وقع - في شونة قصب له - نار أحرقها كلها وفيها جملة من المال، وحدث به ورم في رجله، اشتد ألمه فلم يزل به حتى مات وذلك عقوبة له لمساعدة أهل الزندقة.
وفي أول جمادى الآخرة: قدم البريد بأن الأمير تمربادي الدمرداشي نائب صفد قدمها وأقام بها خمسة أيام، ومات فيها. وفيه استقر الأمير صنجق السيفي في نيابة حماة، عوضا عن يلو.
وفيه قدمت رسل الفرنج.
وقدم البريد من الكرك بأن نائبها الأمير طغاي تمر،صالح الأمير خاطر حتى اطمأن له، ودخل إليه ومعه إبناه، فقبض عليهم، وذبحهم ثلاثتهم.
وفي تاسعه: استقر الأمير كْمُشبغا الحموي في نيابة صفد.
وفي رابع عشرينه: أعيد ابن وزير بيته إلى نظر الإسكندرية، واستقر جمال الدين عبد اللّه بن عزيز الإسكندراني - تاجر السلطان - بها.
وفي يوم الخميس سادس عشرينه: اجتمع الأمير سودن النائب، وقضاة القضاة الأربع، بشباك المدرسة الصالحية بين القصرين، وقدمت رسل مسلمة أهل برمة - وهم ستة - وضربت أعناقهم على الزندقة، ثم غسلوا وكفنوا، ودفنوا. بمقابر المسلمين.(2/368)
وفي يوم الإثنين أول شهر رجب :طلع الأمير صلاح الدين محمد بن محمد بن تكنز - نائب الشام - بالسلطان، ونقل له عن الخليفة المتوكل على الله أبي عبد اللّه محمد أنه اتفق مع الأمير قُرُط بن عمر التركماني والأمير إبراهيم بن الأمير قُطْلو أَقتمر العلاي أمير جاندار، وجماعة قرط من التركمان والأكراد، وهم نحو الثماني مائة فارس، على أن السلطان إذ نزل من القلعة إلى الميدان في يوم السبت للعب بالكرة، وترجل الأمراء والمماليك كلهم، ومشوا في ركاب السلطان على العادة، عند قربه من الميدان، خرجوا جميعاً وقتلوا السلطان والأمراء، وأركبوا الخليفة، وصعدوا به إلى القلعة، ومكنوه من القيام بالسلطنة، فإن عارضه معارض، فر به قرط إلى الفيوم، ودعا عربان الصعيد للقيام بنصرته، وأن الخليفة قد كتب إلى بدر الدين بن سلام أن يقوم له في البحيرة بالدعوة. فحلف السلطان ابن تنكز على صحة ما نقله، فحلف له. والتزم أنه يحاققهم على ما نقل عنهم. فبعث السلطان إلى الخليفة، وإلى قرط، وإبراهيم بن قطلو أقتمر، فأحضرهم إليه، واستدعى أيضاً الأمير سودن النائب، وحدثه. بما بلغه عن الخليفة وقرط وإبراهيم، فأخذ ينكر ذلك، ويستبعد وقوعه منهم، فأمر السلطان بالثلاثة، فحضروا بين يديه، وأخذ يذكر لهم ما نقل عنهم، فأنكروا إلا قرط، فإنه لما اشتد عليه السلطان، وخاف تهديده، قال: " إن الخليفة طلبني، وقال لي هؤلاء ظلمة، وقد استولوا على هذا الأمير بغير رضائي، وأني لم أقلد برقوق أمر السلطنة إلا غصبا، وقد أخذ أموال الناس بالباطل وطلب مني أن أقوم معه للّه، وأنصر الحق، وأزيل هذه الدولة الظالمة. والتزم أنه يبطل المكَوس جميعها، ولا يفعل إلا الحق. فأجبته إلى ذلك، ووعدته المساعدة، وأن أجمع له ثماني مائة فارس من الأكراد والتركمان، وأقوم بأمره " . فقال السلطان للخليفة: " ما قولك في هذا " . فقال. " ليس لمقاله صحة " . فسأل إبراهيم بن قطلو أقتمر عن ذلك، فقال: " ما كنت حاضرا هذا الأمر والاتفاق، لكن الخليفة استدعاني إلى بيته بجزيرة الفيل، وأخبرني بهذا الكلام، وقال لي إن هذا مصلحة، ورغبني في موافقته والقيام للّه تعالى، ونصرة الحق. فأنكر الخليفة ما قاله إبراهيم، وأخذ إبراهيم يحاققه، ويذكر له أمارات، والخليفة يحلف أن هذا الكلام ليس له صحة، فاشتد حنق السلطان، واستل السيف ليضرب به عنق الخليفة، فقام الأمير سودن النائب وحال بينه وبينه، وما زال به حتى سكن بعض غضبه. فأمر بقرط وإبراهيم أن يسمرا، واستدعى القضاة ليفتوه بقتل الخليفة، فلم يفتوه بقتله، وقاموا عنه. فأخذ الخليفة وسجن في موضع بالقلعة، وهو مقيد. وسمر قرط وإبراهيم، وشهرا في القاهرة ومصر. ثم أوقفا تحت القلعة بعد العصر. فنزل الأمير أيد كار الحاجب، وسار بهما ليوسطا خارج باب المحروق من القاهرة. وابتدأ بقرط فوسطه. وقبل أن يوسط إبراهيم جاءت عدة من المماليك بأن الأمراء قد شفعوا في إبراهيم، ففكت مساميره، وسجن بخزانة شمايل.
وطلب السلطان زكريا وعمر ابني إبراهيم عم المتوكل، فوقع اختياره على عمر بن الخليفة المستعصم بالله أبي إسحاق إبراهيم بن المستمسك باللّه أبي عبد اللّه محمد بن الإمام الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد بن الحسن بن أبي بكر بن أبي علي إسحاق ابن علي القبي ، فولاه الخلافة، وخلع عليه، فتلقب بالواثق باللّه.
وفي يوم الثلاثاء ثانيه: قبض على حسين بن قرط، وعمر ابن أخي قرط فسجنا بخزانة شمايل وخلع على الأمير سَبرج الكُمُشبغاوي، واستقر والي قلعة الجبل، بإمرة طبلخاناة، عوضا عن طَشتمر المظفري. وقبض على علي ابن بدر والي أطفيح وقيد، واستعمل مع المقيدين في نقل التراب ونحوه بالقلعة. وكتب بولاية عثمان بن قارة إمرة العرب، عوضا عن نعير بن حيار بن مهنا ، وتوجه به وبالتشريف الأمير بجمان المحمدي، وقلده الإمارة. وركب هو والأمير يلبغا الناصري نائب حلب، وكبسوا نعير ابن حيار. وكانت بينهم وبينه وقعة عظيمة انهزم فيها نعير، ونهب له ما لا يوصف، فمما أخذ له ثلاثون ألف بعير. ووجد له بسط تحمل الفردة الواحدة منها على بعير، وسبى حريمه. فكان هذا أيضاً من أعظم أسباب الفساد في الدولة، ومن أكبر أسباب خراب الشام.
وفي يوم السبت سادسه: قدم البريد بخبر هذه الواقعة.
وفيه ركب السلطان إلى الميدان على العادة.(2/369)
وفي ثامنه: خلع على الطواشي بهادر الشهابي، واستقر مقدم المماليك، عوضا عن جوهر الصلاحي. وخلع على الأمير كمشبغا الخاصكي، واستقر رأس نوبة ثالثا بعد وفاة أيدمر من صديق. وخلع على الأمير بكلمش الطازي العلاي، واستقر رأس نوبة خامسا،عوضا عن بجمان المحمدي، وخلع على الأمير حسن قجا الأسن قجاوي، واستقر شاد الشراب خاناه، عوضا عن كمشبغا الخاصكي.
وفي يوم السبت ثالث عشره: ركب السلطان إلى الميدان ثاني مرة.
وفي ثامن عشره: خلع على كرجي بولاية الأشمونين، عوضا عن قطلوبغا حاجي،وفيه دار المحمل بالقاهرة ومصر على العادة في كل سنة، واستجد له ثوب حرير أصفر بشمسات زركش، فيها اسم السلطان، وعملت له رصافيات فضة، مطلية بذهب، فجاء أحسن ما عهد قبل ذلك. وفيه عرضت كسوة الكعبة، وقد استجد فيه أيضاً أن عمل طرازها الدائر بأعلاها من قصب.
وفي يوم السبت عشرينه: ركب السلطان إلى الميدان ثالث مرة.
وفي يوم السبت سابع عشرينه: ركب السلطان إلى خارج القاهرة، وعبر من باب النصر، ونزل بالبيمارستان المنصوري، ثم ركب منه إلى القلعة.
وبلغ النداء على النيل أربع أصابع من عشرين ذراعا، ثم زاد بعد ذلك حتى انتهى إلى أصابع من أحد وعشرين ذراعا، فغرقت مواضع عديدة، وتهدمت عدة دور وانتهبت، وانتدب عدة من الأمراء لسد مقاطع الماء.
وفيه قدم عدة من رجال نائب سنجار، ومن تكريت وقيصرية الروم، يسألوا أن تكون مضافة إلى مملكة مصر، فكتبت تقاليد الثلاثة، وحملت لهم التشاريف وخرج السلطان إلى السرحة بسرياقوس على العادة في كل سنة.
وفي أول شعبان: قدم الخبر بحركة الفرنج، فرسم بخروج اليزك إلى الساحل، فتجهزوا وساروا في ليلة الخميس سابع عشره، فتوجه الأمير أحمد بن يلبغا الخاصكي إلى ثغر رشيد وتوجه الأمير أيدكار الحاجب إلى ثغر دمياط.
وقدم الخبر بأن سلام ابن التركية جمع عليه كثيرا من العربان، ونهب نواحي الفيوم. وقد لحق به إبراهيم بن اللبان في زي أنه من جهة الخليفة، ولحق به أحمد بن الزعلي متولي قليوب - وقد فر من الشكوى عليه - فخرج أربعة أمراء في طلب ابن التركية، ففر منهم إلى جهة الصعيد الأعلى، واستقر في ولاية قليوب قُطْليجا الصفوي. واستقر أوناط اليوسفي في ولاية الشرقية، عوضا عن علي القرمي.
وقدم البريد بخروج الأمير يلبغا الناصري من حلب بالعسكر للقاء الفرنج، وقد وردت شوانيهم في البحر لقصد إياس، ونزوله بالعمق لقربه من البحر. فورد عليه كتاب نائب اللاذقية بوصول الفرنج إلى بيروت، وأنهم نزلوا إلى البر، وملكوا بعض أبراجها. فأدركهم العسكر الشامي في طائفة من رجّالة الأكراد، وقاتلوهم، فأيد الله المسلمين، حتَى قتلوا من الفرنج نحو خمسمائة رجل، وانهزم باقيهم إلى مراكبهم، وساروا، وعادت العساكر إلى الشام.
وأن الأمير يلبغا الناصري ألقى الفتنة بين التركمان الأجقية والقنقية، فرمى طائفة القنقية على الأخرى، وكتب إليهم بالنزول على باب الملك مفتتح البلاد السيسية حيث مقام الأجقية لإيقاع سيف الفتنة بينهم.
وفيه استقر تقي الدين أبو محمد عبد اللّه ابن قاضي القضاة جمال الدين أبو المحاسن يوسف، ابن قاضي القضاة شرف الدين أبي العباس أحمد بن الحسين بن سليمان بن فزارة الكفري في قضاء الحنفية بدمشق، عوضا عن نجم الدين أبي العباس أحمد بن أبي العز.
وفي يوم الخميس تاسع شهر رمضان: حضر سعد الدين نصر الله بن البقري ناظر الخاص، الخدمة على العادة، وقد اجتمع نساؤه في داره لفرح عندهم، وعليهن من اللؤلؤ والجوهر والذهب وثياب الحرير ما تجل قيمته، والخمور بينهن دائرة، والمغاني تغنيهن، فنزل الأمير قُرقُماس الخازندار والأمير بهاء الدين بهادر الأستادار، وأحاطا بداره، وأخذ النساء والغلمان، وحملا جميع ما في الدار، فبلغت قيمته زيادة على مائتي ألف دينار، وقبض على ابن البقري بالقصر، وعمل في الحديد، وسجن بقاعة الصاحب من القلعة، ولا علم له.بما كان في داره.
وخلع على الوزير الصاحب شمس الدين إبراهيم كاتب أرلان بنظر الخاص، فاستعفي من ذلك وقال: " هذه خلعة الاستمرار " ، فلم يكلف لولايتها. وطلب موفق الدين أبو الفرج عبد اللّه الذي أسلم، وخلع عليه، واستقر في نظر الخاص.(2/370)
وفي سادس عشره: قبض الوزير على عبيد البازدار - مقدم الدولة - وأخذ منه مائة ألف درهم، وأقام عوضه محمد بن عبد الرحمن في تقدمة الدولة، ثم جعل معه شريكا له عبد اللّه بن محمد بن يوسف.
وفي عشرينه: خرجت تجريدة إلى دمياط، فيها ستون مملوكا، وخرجت تجريدة إلى الإسكندرية، وإلى رشيد.
وفيه أخرجن إقطاعات المماليك الأشرفية عنهم إلى مماليك السلطان .
وفيه اشتدت عقوبة ابن البقري بالمقارع، وألزم بحمل خمسمائة ألف درهم، بعد ما أخذ منه ما يقارب الثلاثمائة ألف دينار.
وفي هذا الشهر ركب السلطان للصيد عدة مرار.
وفيه كتبت أسماء الذين في سجن القضاة على الديون، وصولح غرماؤهم عمالهم عليهم من الدين.بمال أخرجه السلطان على يد الأمير جركسالخليلي، وأفرج عنهم.
وفيه شفع الأمراء في الخليفة، وتقدم منهم الأمير أَيتمش، والأمير ألطنبُغا الجوباني، وقبلا الأرض، وسألا السلطان في العفو عنه، وترفقا في سؤاله، فعدد لهما ما أراد أن يفعله من قتله وقتلهم، فكفا عن مساءلته.
ثم سأله بعد ذلك الأمير سودن النائب فيه، فأمر بقيده، ففك عنه.
وفي يوم الأحد ثالث شوال: عدى السلطان إلى بر الجيزة، وعاد من يومه، وأمر بتتبع المماليك الأشرفية والمماليك البطالين، فأخذوا، وعملوا في الحديد، ونفوا من مصر.
وفي ثاني عشره: عدى السلطان النيل إلى الجيزة وتصيد، ثم عاد إلى مخيمه تحت الأهرام، فمر على خيمة الأمير قُطْلو أقتمر أمير جاندار فوقف عليها، وخرج إليه قطلو أقتمر وقبل له الأرض، وقدم له أربعة أفراس فلم يقبلها، فقبل الأرض ثانيا، وسأل السلطان أن يقبلها، فأجاب سؤاله وقبلها. وتوجه السلطان إلى مخيمه، واستدعى في الحال بإبراهيم بن قطلو أقتمر من خزانة شمايل، وخلع عليه، وأركبه فرساً بسرج ذهب وكنبوش زركش، وأعطاه ثلاثة أروس أخر، وهي التي قدمها أبوه، وأذن له أن يمشي في الخدمة، ووعده برزق، وأرسله إلى أبيه، فسر به سرورا كبيرا وكان في هذه المدة لم يحدث السلطان، ولا أحدا من الأمراء في أمر ولده، فأتاه اللّه بالفرج من حيث لا يحتسب.
ورحل السلطان إلى سسرحة بالبحيرة على العادة، وعاد في يوم الخميس سادس ذي القعدة إلى القلعة. وخلع على قاضي العسكر بدر الدين محمد بن البلقيني الشافعي، وشمس الدين محمد القرمي الحنفي.
وفي يوم السبت ثامنه: جمع السلطان القضاة، واشترى الأمير أيتمش البجاسي من ورثة الأمير جَرجي نائب حلب بحكم أن جرجي لما مات لم يكن أيتمش البجاسي ممن أًعتقه، بل كان في رقه، فأخذه بعد جرجي بجاس وأعتقه من غير أن يملكه بطريق صحيح، فلم يصادف عتقه محلا، وأثبتوا ذلك على القضاة. فلما اشتراه السلطان منهم بمائة ألف درهم أعتقه وأنعم عليه بأربعمائة ألف درهم فضة، وبناحية سفط رشين ثم خلع على القضاة والموقعين الذين أسجلوا قضية البيع والعتق.
وفي تاسعه: ركب السلطان إلى بركة الحجاج، وعاد فدخل من باب الفتوح وشق القاهرة إلى باب زويلة، وصعد إلى القلعة.
وفي عاشره: خلع على كاتب السر أوحد الدين لقراءته عتاقة الأمير أيتمش الظاهري. وخلع على نقيب الأشراف السيد الشريف جمال الدين عبد اللّه عبد الرحيم الطباطبي، واستقر في نظر وقف الأشراف، عوضا عن قاضي القضاة بدر الدين محمد بن أبي البقاء، فخرج من حينئذ نظر الأشراف عن القضاة، و لم يعد إليهم. وأنعم على الأمير ألطنبغا السلطاني بإمرة طبلخاناة.
وفي سابع عشره: ضرب ابن البقري بين يدي السلطان ضربا مبرحا.
وفيه خلع على المحتسب جمال الدين محمود العجمي خلعة الاستمرار، وقد أرجف بعزله.
وفيه كتب باستقرار قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم بن جماعة، في قضاء القضاة بدمشق، بعد وفاة ولي الدين عبد اللّه بن أبي البقاء، وحمل إليه تقليده وتشريفه فلم يقبل، فخوف عاقبة ذلك، فأجاب وتوجه من القدس إلى دمشق.
وفي يوم الثلاثاء تاسع ذي الحجة: أفرج عن الخليفة المتوكل، ونقل من سجنه بالبرج إلى دار بالقلعة، وطلع إليه عياله.(2/371)
وفيه قدم البريد بمحاربة التركمان. وكان من خبر ذلك أنه كتب بتجريد عسكر دمشق وطرابلس وحماة وحلب ونواب الثغور وتركمان الطاعة وأكرادها، إلى جهة التركمان العصاة بالبلاد السيسية، كالصارم بن رمضان نائب أدنه وبني أوزر، وابن برناص من طائفة الأجقية لمقاتلتهم على تعديهم طريقهم، وقطعهم الطرقات، ونهبهم حجاج الروم، ولاتفاقهم مع الأمير علاء الدين علي بك بن قرمان - صاحب لارندة على اقتلاع بلاد سيس، فتأهبت العساكر لذلك ووافت حلب، فتقدمها الأمير يلبغا الناصري نائب حلب، وركب من حلب في ثاني ذي القعدة يريد العمق، وكتب إلى بني أوزر وبقية التركمان العصاة، ينذرهم، ويحذرهم التخلف عن الحضور إلى الطاعة، ويخوفهم بأس العساكر، وإنهم إن أذعنوا وأطاعوا كانوا آمنين على أنفسهم وأموالهم، ومن تخلف كان غنيمة للعساكر. وسار حتى نزل تحت عقبة بغراس، فعرض العساكر، وترك الثقل وتوجه مخفا، وجاوز عقبة بغراس، وترك بها نائبي عين تاب وبغراس بخيالتهما ورجالهما، حفظا للدربند، إلى أن تصل العساكر الشامية. وجد السير إلى أن نزل باب إسكندرونه بجانب البحر، وأراح الخليل يسيرا. وقدم أمامه من أمراء الألوف بحلب دمرداش وكَشلى ليملكا جسر المصيصة قبل أن يفطن التركمان بوصول العساكر فيقطعونه ولا يمكن جوازه إلا بعد تعب زايد. ثم ركب في الثلث الأول من ليلة الأحد خامس عشره وسار مجدا، فوصل المصيصة عصر نهار الأحد فوجد الأميرين قد ملكا الجسر بعد أنْ هدم التركمان بعضه، وقطعوا منه جانبا لا يمنع الاجتياز، وتوقدت بينهم نار الحرب. وعدت العساكر نهر جاهان إلى جانب بلاد سيس، واقتفوا آثار من كان بالمصيصة من التركمان فأدركوا بعض البيوت، فانتهبوها، فتعلق الرجال بشعف الحبال، ثم حضرت قصاد التركمان - على اختلاف طوائفهم - يسألون الأمان، فأجاب الأمير يلبغا الناصري سؤالهم، وكتب لهم أمانا. ولما أحس الصارم بن رمضان بالعساكر، ترك أذنة وفر إلى الجبال التي لا تسلك. ووصلت الأطلاب والثقل إلى المصيصة في سابع عشره، فقدم من الغد ثامن عشره قاصد الأمير طَشبُغا العزي - نائب سيس - بخبر وصول ابن رمضان إلى أطراف البلاد السيسية، وأنه ركب في أثره ومعه طائفة من التركمان القرمانيين، فأدركوا بيوته، فانتهبوها، وأمسكوا أولاده وحريمه، ونجا بنفسه، ولحق بالتركمان البياضية مستجيرا بهم، فأجمعت الآراء على التوجه بالعساكر إلى جهتهم وإمساكه. فقدم الخبر من نائب سيس في أخر النهار بأنه استمر في طلب ابن رمضان إلى أن أدركه وأمسكه، وأمسك معه أخاه قرا محمد وأولاده وأمه وجماعته وعاد إلى سيس، فسرت العساكر بذلك سروراً زائداً.(2/372)
ورحلت في تاسع عشره تريد سيس، وأحاطت بطائفة من التراكمين اليراكية، فانتهبت كثيرا من خيل ومتاع وأثاث ثم أمنوهم بسؤالهم ذلك وتفرقت جموع التركمان بالجبال ومرت العساكر إلى جهة سيس. وأحضر ابن رمضان، وأخوه قرا محمد، ومن أمسك معهما، فوسطوا، وعاد العسكر يريد المصيصة. وركب الأمير يلبغا الناصري بعسكر حلب، وسلبهم جبلا يسمى صاروجا شام، وهو مكان ضيق حرج وعر، به جبال شوامخ وأودية عظام، مغلقة بالأشجار والمياه والأوحال، وبه دربندات خطرة، لا يكاد الراجل يسلكه، فكيف بالفارس وفرسه الموفرين حملا باللبوس وإذا هم بطائفة من التركمان اليراكرية، فجرى بينهم القتال الشديد. فقتل بين الفريقين جماعة، وفقد الأمير يلبغا الناصري، وجماعة من أمراء حلب، وإذا بهم قد تاهوا في تلك الأودية. ثم تراجع الناس وقد فقد منهم طائفة. وداخل العسكر رعب شديد، وخوف كاد يذهب منه أرواحهم. ووصلهم الخبر بأن التركمان قد أحاطوا بدربند باب الملك، فالتجأوا إلى مدينة إياس. ثم قدم يلبغا الناصري إلى إياس بعد انقطاع خبره، فتباشروا بقدومه، وأقاموا عليها أياما، ثم رحلوا، فلقيهم التركمان في جمع كبير. فكانت بينهم وقعة لم يمر لهم مثلها. قتل فيها خلق كثير، وانجلت عن كسرة التركمان بعد ما أبلى فيها الناصري بلاء عظيماً. وارتحل العسكر يوم عيد الأضحى إلى جهة بإياس، فما ضربت خيامهم بها حتى أحاط بهم التركمان وأنفذوا فرقة منهم إلى باب الملك، فوقفوا على دربنده ومنعوا عنهم الميرة، فعزت الأقوات عند العسكر، وجاعت الخيول، وكثر الخوف وأشرفوا على الهلاك، إلا أن الله تداركهم بخفي لطفه، فقدم عليهم الخبر بوصول الأمير سودن المظفري - حاجب الحجاب بحلب - في عدة من الأمراء. وقد استخدم من أهل حلب ألف راجل من شبان بانقوسا، ودفعوا إليهم مائة درهم كل واحد. وخرج العلماء والصلحاء وغالب الناس، وقد بلغهم ما نزل بالعسكر. ونودي بالنفير العام، فتبعهم كثير من الرجالة والخيالة، والأكراد ببلد القصير والجبل الأقرع وغيره من أعمال حلب. فقام بمؤنتهم الحاجب ومن معه من الأمراء، وهجموا على باب الملك، فملكوه وقتلوا طائفة ممن كان به من التركمان، وهزموا بقيتهم. ففرح العسكر بذلك فرحاً كبيراً، وساروا إلى باب الملك حتى جاوزوا دربنده ونزلوا بغراس ، ثم رحلوا إلى أنطاكية وقدموا حلب. فكانت سفرة شديدة المشقة، بلوا فيها من كثرة تتابع الأمطار الغزيرة، وتوالى هبوب الرياح العاصفة، وكثرة الخوف، ومقاساة آلام الجوع، ما لا يمكن وصفه..
وفي سادس عشرينه: قدم مبشرو الحاج، وأخبروا بأن الشريف سعد بن أبي الغيث الحسني - الذي كان أمير ينبع - نزل على الحاج المغاربة، بوادي العقي ، وسألهم أن يعطوه شيئا، فأمسكوه وربطوا كتفيه، وأخذوا فرسه، وأخذوه معهم ماشيا، فأتاهم كثر من عربه وقاتلوهم، فقتل من المغاربة عدد كثير، وأفلت منهم سعد فأدركهم حجاج التكرور وقاتلوهم، فقتل كثير من التكرور، وأخذت أموالهم وأموال من كان معهم من الصعايدة وغيرهم. وأن حاج العراق أخبروا بأن حاج شيراز والبصرة والحسا خرج عليهم قريش ابن أخي زامل في ثمانية آلاف نفس، فأخذوا ما معهم من اللؤلؤ وغيره - وكان شيئا له مبلغ عظيم - وقتلوا منهم خلقاً كثيرًا. فرد من بقي منهم ماشياً عاريًا، وقدم بعضهم إلى مكة كذلك صحبة حاج بغداد. وأن ركب العراق جبى منهم عشرون ألف دينارا عراقية، حسابا عن كل جمل خمسة دنانير، حتى أمكنهم التوجه إلى مكة. وأن حاج اليمن تعذر حجهم لفتنة باليمن، شغل فيها سلطانهم عن تجهيز المحمل.
وفي هذه السنة: كثر الرخاء بالقاهرة، وأبيع لحم الضأن السليخ، كل عشرة أرطال بثمانية دراهم، ولحم البقر كل رطل بنصف درهم، والقمح كل أردب من ثمانية دراهم إلى خمسة عشر درهما، والشعير من ستة دراهم الأردب إلى ثمانية دراهم.
وفي هذا الشهر. استقر شرف الدين مسعود بن شعبان بن إسماعيل في قضاء الشافعية بحلب، عوضا عن الشهاب أحمد بن عمر بن أبي الرضا. ثم بعد قليل أعيد ابن أبي الرضا.
وفيها ولى الأمير فخر الدين عثمان بن قارا بن مهنا بن عيسى بن مهنا بن مانع بن حديثه بن غضبة بن حازم بن فضل بن ربيعة، إمرة آل فضل، عوضا عن الأمير ناصر الدين محمد بن نعير بن حيار بن مهنا.(2/373)
وفيها أنشىء حوض للسبيل عند باب المعلا.بمكة، باسم السلطان. ووصل الماء إلى القدس من قناة العروب، بعدعمارتها بأمر السلطان.
وفيها قتل محمد بن مكي كبير الرافضة بدمشق، لتظاهره بزي النصرية، ضربت عنقه تحت القلعة.
ومات في هذه السنة من الأعيان
الأديب شهاب الدين أحمد بن يحيى بن مخلوف بن مر بن فضل اللّه بن سعد بن ساعد المعروف بالأعرج السعدي رحمه اللّه.
ومات الأمير أرغون دوادار الأمير طَشتَمُر أحد الطبلخاناة.
ومات الأمير أَيْدمَر الخطابي من صديق، وهو مجرد بالإسكندرية.
ومات الأمير بلاط السيفي الصغير، أمير سلاح، وهو بطرابلس، في جمادى الأولى.
ومات الأمير تمرباي نائب صفد في جمادى الأولى، بها.
ومات علم الدين سليمان بن أحمد بن سليمان بن عبد الرحمن بن أبي الفتح " بن هاشم العسقلاني، أحد أعيان الفقهاء الحنابلة، في ثالث عشرين جمادى الآخرة. ومات قاضي قضاة دمشق ولى الدين عبد الله ابن قاضي القضاة بهاء الدين أبي البقاء محمد بن عبد البر بن يحيى بن على تمام السبكي الشافعي بها.
ومات الأمير ناصر الدين محمد بن أيبك الفافا، أحد العشرات.
ومات شرف الدين موسى بن البدر محمد بن محمد بن الشهاب محمود الحلبي، أحد موقعي الدست،.بمدينة الرملة عائداً من القاهرة إلى دمشق في رابع عشرين صفر عن ثلاث وأربعين سنة. ومن شعره:
يا طيف دونك ناظري ... خذ نوره إن جئت زائر
ياطيف دونك ناظري ... خذ نوره إن جئت زائر
أخشى عليك لشقوتي ... من أن تعثر في المحابر
ومات الأمير شرف الدين موسى بن دينار بن قرمان، أحد الطبلخاناة في ليلة الأربعاء عشرين جمادى الأولى.
ومات الأمير قُطْلوبغا الكوكاي، أحد أمراء الألوف، في سادس المحرم.
ومات مستوفي المرتجع أمين الدين عبد اللّه بن جعيص الأسلمي، في ثالث عشر المحرم.
ومات الشيخ نهار المجنوب المغربي بالإسكندرية وكان يتحدث بالمغيبات، وله كرامات.
سنة ست وثمانين وسبعمائة
في يوم الخميس ثاني المحرم: استقر طشتتمُر السيفي في ولاية دمياط، عوضا عن الأمير قطلوبغا أبو درقة.
وفي ثامن عشره: استقر أبو درقة في ولاية الفيوم وكشفها، وكشف البهنساوية، والأطفيحية، عوضاً عن محمد بن قرابغا.
وفي عشرينه: قدم محمل الحاج.
وفيه رسم برمي الإقامات بالصعيد لسفر السلطان.
وفي حادي عشرينه: رسم بعمارة برجي ثغر دمياط وعمارة جسر السبيل البنهاوي.
وفيه قدم البريد بأن السيل هجم على دمشق، وخرب بها عدة دور، فلم يعهد بها سيل مثله.
وفي يوم السبت ثالث صفر: قبض على الأمير يلبغا الصغير الخازندار ، وسبعة من المماليك، وشيء بهم أنهم قصدوا الفتك بالسلطان، وضربوا ثم نفوا إلى الشام.
وفي خامس عشرينه: درس شيخنا أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون بالمدرسة القمحية بمصر، عوضا عن علم الدين سليمان البساطي بعد موته، وحضر معه بها الأمير ألطنبغا الجوباني، والأمير يونس الدوادار، وقضاة القضاة والأعيان.
وفي يوم الإثنين عاشر ربيع الأول: قدم الأمير بَيدمُر الخوارزمي نائب الشام، فجلس بدار العدل فوق الأمير سودن النائب.
وفي ثالث عشره خُلع عليه وقيد له من الإصطبل ثمانية جنائب من الخيل، بقماش ذهب، جرها الأوجاقية خلفه.
وفي يوم الجمعة رابع عشره: كان عقد السلطان على فاطمة ابنة الأمير مَنجك اليوسفي وقبل النكاح كاتب السر أوحد الدين عبد الواحد، وخلع عليه وعلى ناظر الخاص، وقضاة القضاة الأربع، وموقعي الحكم وفي يوم الثلاثاء ثامن عشره :نزل السلطان إلى عيادة الأمير الطنبغا الجوباني أمير مجلس وقد مرض وفيه طلع الأمير بيدمُر نائب الشام بتقدمة جليلة، تشتمل على عشرين مملوكًا منتخبة، وثلاثة وثلاثين حمالا عليها أنواع الثياب من الحرير والصوف والفرو بأنواعه، وثلاثة عشر كلبًا سلوقيا، وثمانية عشر فرسا عليها جلال الحرير، وخمسين فحلا، واثنين وثلاثين حجرة ومائة أكديش لتتمة مائتي فرس، وثماني قطر هجن بقماش ذهب، وخمسة وعشرين قنطارا من الهُجن بُعبي، وبكيران ساذجة، وأربعة قطر جمال بخاتي، لكل جمل منها سنمان وثمانين جملا عرايا. وباسم ولد السلطان سيدي محمد عشرين فرسا وخمس عشرة حمَّالا ثيابا وغيرها.
وفي عشرينه: خلع عليه خلعة السفر، وتوجه إلى محل ولايته.(2/374)
وقى رابع عشرينه: أذن السلطان لنواب القاضي الحنفي أن يستمروا على حكمهم، بعد موت قاضيهم صدر الدين بن منصور.
وفي خامس عشرينه: نزل السلطان لعيادة الجوباني مرة ثانية، ففرش له الجوباني شقاق الحرير السكندري، وشقاف الحرير الشامي، وشقاق نخ من باب اصطبله إلى حيث هو مضجع، فمشى عليها بفرسه، ثم بقدميه، ونثرت عليه الدنانير والمراهم، وقدّم له الجوباني جميع ما عنده من الخيل والمماليك، فلم يرزأه شيئا منها.
وفي يوم الأحد سلخه: حمل جهاز فاطمة ابنة الأمير منجك - زوجة السلطان - إلى القلعة، وقيمته مائة ألف مثقال ذهبا، يحمله ثلاثمائة حمال، وعشرة أطباق مملوءة زركش، وسبعون بغلاً. والأمير أيدكار الحاجب ماش أمام الجهاز، هو والأمير بهادر الأستدار. والأمير قُردُم الحسي رأس نوبة، والأمير يونس الدوادار، والأمير قرقماس الخازندار، فكان يوما مشهودًا.
وفي ليلة الخميس رابع شهر ربيع الآخر: بنى عليها السلطان.
وفي سابعه: قدم البرهان إبراهيم الدمياطي من الحبشة، وخلع عليه.
وفي تاسعه: قدم الخبر بنزول مركبين من مراكب الفرنج على رشيد، فخرج الأمير يونس الدوادار، والأمير ألطنبغا المعلم، فلم يدركوهم.
وفي ثامن عشره: ركب الأمير ألطنبغا الجوباني إلى الخدمة السلطانية، وقد عوفي مما كان به.
وفي يوم الخميس ثاني عشرينه: استدعى شمس الدين محمد بن أحمد بن أبي بكر الطرابلسي - أحد نواب الحكم الحنفية - وخلع عليه، واستقر قاضي القضاة الحنفية، عوضا عن صدر الدين محمد بن منصور بعد وفاته.
وقد شغر منصب القضاة بعد موته أحدا وأربعين يوماً، وسعى فيه غير واحد، فلم يتهيأ إلا للطرابلسي بسفارة أوحد الدين كاتب السر.
وفي سادس عشرينه: توفي للسلطان ولد ذكر، فدفن بتربة الأمير يونس الدوادار خارج باب النصر.
وفي تاسع عشرينه: نزل السلطان لزيارة قبره، وعبر من باب النصر، فمرّ في القاهرة وعاد إلى القلعة.
وفي يوم الأربعاء ثامن جمادى الأولى: قرىء تقليد قاضي القضاة شمس الدين محمد بن أبي بكر الطرابلسي الحنفي بالمدرسة الناصرية، بين القصرين على العادة، وحضره القضاة والأعيان، وتكلم على قوله تعالى: " يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله " وفي ثالث عشره: غضب السلطان على ناظر الجيش تَقي الدين عبد الرحمن بن محب الدين محمد بن يوسف بن أحمد الشافعي، بسبب إقطاع زامل أمير آل فضل، وقد رادَّه فيه، فضربه بالدواة، ثم أمر به، فضرب بين يديه، نحو ثلاثمائة ضربة بالعصى. وكان ترفا، فحمل في محفة إلى داره بالقاهرة، فلزم الفراش حتى مات ليلة الخميس سادس عشره.
وفي خامس عشره: قدم الأمير جمال الدين عبد الله بن بكَتمُر الحاجب من سفره، وهو مريض في محفة، فمات من يومه. وأنعم بإقطاعه على الأمير بورى، صهر الأمير أيتمش الأتابك.
وفي يوم الخميس سادس عشره: خلع على ناظر الخاص موفق الدين أبي الفرج الأسلمي، واستقر في نظر الجيش، عوضا عن تقي الدين، مضافا إلى نظر الخاص، ونظر الذخيرة، واستيفاء الصحبة.
وفيه أخرج الشريف بَكتمُر الوالي منفيا إلى الشام، وأنعم بإمرته على الأمير ناصر.
وفي يوم السبت ثالث جمادى الآخرة: عزلا قاضي القضاة جمال الدين عبد الرحمن ابن خير المالكي، من أجل أنه حكم في قضية خطّأه فيها فقهاء المالكية.
وكان قاع النيل في هذه السنة ثمانية أذرع وأربع أصابع، وزاد على العادة حتى كان الوفاء في يوم الخميس ثامنه، ورابع مسرى. فركب السلطان إلى المقياس حتى خُلّق بين يديه، ثم فتح الخليج بحضرته على العادة، وعاد إلى القلعة.
وفي يوم الجمعة سادس عشره: صلى الشيخ أكمل الدين صلاة الجمعة مع السلطان بقلعة الجبل، وترضاه. وذلك أنه كان عزل مدرس المالكية شمس الدين محمد الركراكي المغربي من تدريس الشيخونية، فبعث السلطان إليه عدة من الأمراء ليعيدوا الركراكي، فلم يقبل شفاعته، فتغيظ عليه بسبب ذلك، فصمم على منع الركراكي، وترضي السلطان.(2/375)
وفي يوم الإثنين تاسع عشره: استدعى شيخنا أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون إلى قلعة الجبل، وعرض عليه السلطان ولاية قضاء المالكية، وخلع عليه، ولقب ولي الدين. فاستقر قاضي القضاة المالكية، عوضًا عن جمال الدين عبد الرحمن بن خير، وذلك بسفارة الأمير ألطنبغا الجوباني أمير مجلس، وقرئ في المدرسة الناصرية بين القصرين على العادة، وتكلم على قوله تعالى: " إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال " وفي تاسع عشرينه ولي الشيخ أكمل الدين تدريس المالكية بخانكاة شيخو، تاج الدين بهرام، عوضاً عن شمس الدين الركراكي، وحضر معه الدرس بها قضاة القضاة والفقهاء.
وفي آخره ركب الأمير سودن بن النائب، ومعه قضاة القضاة إلى الكنيسة المعلقة بقصر الشمع من مدينة مصر الفسطاط، وكشفها، وهدم ما استجده النصارى بها من البناء.
وفي يوم السبت تاسع رجب: - ورابع أيام النسيء - ركب السلطان إلى الميدان للعب بالكرة مع الأمراء على العادة في كل سنة.
وفيه قدم عليه رسل التركمان، فعفا عنهم. وكان من خبرهم أن الأمير يلبغا الناصري نائب حلب بلغه أن التركمان الأجقية والبوزقية استولوا على مدينة مرعش واقتلعوها، وكسروا تركمان الطاعة المقيمين بها. فركب في أوائل ربيع الآخر بفرقة من العسكر، ونزل مرعش، وقتل عدة من المذكورين، وجرح كثيرا، وهزم باقيهم إلى الجبال، فأخذ أموالهم، وحرق بيوتهم، وأقام. بمرعش أياماً، فأتاه الخبر بأن خليل ابن دلغادر - عدو الدولة - اتفق مع القاضي إبراهيم حاكم سيواس وأرزنجان ومع التتار، وسار بهم أطراف بلاد درندة دوركي ، فنهبوا وعاثوا، فركب من مرعش، وسار إلى أبلستين ، وبعث كشافته في طلب القوم، فإذا بهم قد تفرقوا، فأقام عليها أياما - على نهر جاهان - ثم رحل يريد ابن دلغادر. وقد بلغه نزوله بالقرب من سيواس، فبلغه ذلك، ففر، وعاد الناصري. ثم سار إلى رأس العين من عمل ماردين، ثم عاد إلى حران في طلب التركمان، فأقام عليها أياما ثم عاد.
وفي أثناء شهر رجب: استبدل السلطان خان الزكاة من ورثة الناصر محمد بن قلاوون، بقطعة أرض، وأقام الأمير جركس الخليلي أمير آخور على عمارة موضعه مدرسة، فابتدى بهدمه في يوم الأحد رابع عشرينه.
وفي آخره: عزل السلطان قضاة حلب الأربع، وأعيد محب الدين محمد بن الشحنة إلى قضاء الحنفية بحلب، عوضا عن الجمال إبراهيم بن العديم.
واستقر جمال الدين عبد الله النحريري في قضاء المالكية، عوضا عن أبي يزيد عبد الرحمن بن رشد.
واستقر شهاب الدين أحمد بن محمد بن قاضي القضاة شرف الدين أبي البركات موسى بن فياض بن عبد العزيز بن فياض المقدسي الصالحي في قضاء الحنابلة بها، عوضا عن عمه شهاب الدين أحمد بن شرف الدين موسى بن فياض.
واستقر ناصر الدين أبو عبد الله محمد بن تقي الدين بن أبي حفص عمر بن نجم الدين بن أبي عبد الله محمد بن زين الدين عمر بن أبي الطيب الدمشقي في كتابة السر بحلب، عوضا عن شمس الدين محمد بن أحمد بن مهاجر، وولى شهاب الدين أحمد بن عبد اللّه النحريري قضاة المالكية بطرابلس، عوضا عن ناصر الدين محمد بن قاضي القضاة سرى الدين أبي الوليد إسماعيل بن محمد بن محمد بن هاني اللخمي الأندلسي. وأعاد علم الدين القفصي إلى قضاء المالكية بدمشق، عوضا عن البرهان إبراهيم الشاذلي.
وفي يوم الإثنين ثاني شعبان: مات تحت الهدم بخان الزكاة جماعة من الفعلة.
وفي خامسه: ركب السلطان إلى عمارته، فدخل من باب النصر، وخرج من باب زويلة، فدخل إلى بيت الأمير الأتابك أيتمش ، وعاد إلى القلعة.
وفي تاسعه: سار السلطان إلى سرحة سرياقوس على العادة في كل سنة، ونزل بالقصور.
وفي يوم السبت رابع عشره ورابع بابة: ابتدأ نقص ماء النيل، وقد بلغت زيادته إلى عشر أصابع من عشرين ذراعا.
وفي سادس عشره: ضُرب بهادر كاشف الوجه البحري بالمقارع ستين شيبا، ثم خلع عليه، واستمر على الكشف.
وفي ثالث عشرينه: عاد السلطان من السرحة. للقبض على سعد الدين نصر اللّه ابن البقري، وألزم.بمال، وقبض على نسائه، فدلت امرأته على موضع أخذ منه سبعة آلاف درهم فضة ومائتا دينار.
وفي يوم الثلاثاء ثاني شهر رمضان: ركب السلطان وشق القاهرة.(2/376)
وفي حادي عشره: خلع على تمرباي الحسني نائب أبلستين، وعلى دمرداش القشتمُري نائب الكرك وعلى أيدمر الشمسي أبو زلطة، نائب الوجه القبلي، وعلى ابن رمضان التركماني نائب البيرة. وحملت خلعة لأركماس حاجب طرابلس بنيابة صفد، وخلعة لطغاي تمر القبلاوي بنيابة سيس. وخلع على الشريف سعد بن أبي الغيث، واستقر شريكا لابن عمه محمد بن مسعود في إمارة ينبع.
وفي يوم الثلاثاء سادس عشره: نزل السلطان لعيادة الشيخ أكمل الدين في مرضه، ثم نزل حتى يصلى عليه في يوم الخميس ثامن عشره. وظهر أنه أغمي عليه ولم يمت، فعاد السلطان. فلما كان يوم الخميس تاسع عشره نزل السلطان حتى صلى عليه بمصلى المؤمني تحت القلعة، ومشى على قدميه إلى الخانكاة الشيخونية مع الناس في الجنازة، بعدما أراد أن يحمل النعش، فحمله الأمراء عنه، وما زال على القبر حتى دفن، ثم عاد إلى القلعة.
وفيه خلع على بكتمُر الطرخاني، واستقر في ولاية الأشمونين، عوضا عن كَرْجي.
وفيه عُزل البرهان إبراهيم الدمياطي رسول الحبشة بالحبس من أجل أنه قال: " لا رحم الله أكمل الدين فإن موته فتح،.
وفي ثاني عشرينه: عدَّى السلطان إلى بر الجيزة للصيد، وعاد من يومه.
وفي سابع عشرينه: خلع على عز الدين يوسف بن محمود الرازي العجمي الأصم، واستقر في مشيخة خانكاه شيخو، عوضا عن أكمل الدين بعد وفاته وخلع على الشرف الأشقر - واسمه عثمان بن سليمان بن رسول بن أمير يوسف بن خليل ابن نوح الكرادي العجمي الحنفي - إمام السلطان، واستقر في مشيخة خانكاه بيبرس، عوضا عن الرازي واستقر جمال الدين محمود المحتسب في تدريس الحديث بالقبة المنصورية، عوضا عن الرازي ، وأعيد الركراكي إلى تدريس المالكية بخانكاه شيخو، عوضا عن بهرام، واستَقر أوحد الدين عبد الواحد كاتب السر محدثا في نظر خانكاه شيخو، بعد أكمل الدين، بحكم أن النظر له لرأس نوبة، بشرط الواقف.
وفي ثامن عشرينه: عدى السلطان النيل إلى الجيزة، فتَصيد وعاد من يومه.
واستقر شرف الدين مسعود بن شعبان بن إسماعيل في قضاء الشافعية بحلب، عوضا عن شهاب الدين أحمد بن عمر بن أبي الرضا.
وقدم كبيش بن الشريف عجلان بالقود من جهة أخيه الشريف أحمد بن عجلان أمير مكة على العادة في كل سنة.
وفيه استقر شهاب الدين أحمد بن ظُهيرة في قضاء مكة، عوضاً عن كمال الدين أبي الفضل محمد النويري بعد وفاته، بعناية أوحد الدين كاتب السر، وحمُل إليه تقليده و تشريفه.
وقدمت هدية متملك قيصرية الروم.
وفي يوم السبت سادس شوال: عدى السلطان النيل إلى بر الجيزة، يريد سرحة البحيرة على العادة كل سنة.
وفي حادي عشره: قدم الأمير يلبغا الناصري نائب حلب، فعدى إلى السلطان.
وفي رابع عشره: خرج محمل الحاج على العادة في كل سنة، صحبة الأمير بهادر الجمالي المشرف.
وفي يوم الخميس أول ذي القعدة: قدم السلطان من سرحة البحيرة.
وفي خامسه: خلع على الأمير يلبغا الناصري خلعة السفر، وتوجه إلى حلب.
وفي سادسه: ركب السلطان إلى بركة الحجاج، وعاد فشق القاهرة إلى القلعة.
وفي يوم الخميس ثامنه: أسست المدرسة الظاهرية موضع خان الزكاة، بخط بين القصرين من القاهرة.
وفي ثالث عشره: عدى السلطان إلى الجيزة، وعاد من يومه.
وفي ليلة الأربعاء رابع عشرة: قدم الخبر.بموت الأمير بهادر أمير الحاج.بمنزلة عينونة ، فقام الأمير عبد الرحمن بن الأمير منكلي بغا الشمسي بإمرة الحاج.
وفي سادس عشره: خلع على الأمير أبي بكر بن الأمير سنقُر الجمالي، وأنعم عليه بتقدمة عمه الأمير بهادر، واستقر أمير الحاج، فسار إلى الحجاز في ليلة السبت سابع عشره. وأنعم على أمير عمر بن بهادر الجمالي بإمرة عشرة وهو أعمى.
وفي رابع عشرينه: خلع على محمد بن طاجار بولاية الغربية، عوضا عن أمير فرج بن أيدمر وفي تاسع عشرينه: خلع على علي خان بولاية البحيرة.
وفي يوم الإثنين رابع ذي الحجة: نزل الأمير يونس الدوادار إلى بيت بدر الدين محمد بن فضل اللّه العمري، وتوجه به إلى القلعة، فخلع عليه السلطان وأعاده إلى كتابة السر بعد وفاة أوحد الدين، فنزل إلى داره، ومعه عدة من الأمراء والأعيان.(2/377)
وفي حادي عشره: قدم رسل الخان طَقتمش بن أزبك - متملك بلاد الدشت فخرج الأمير سودن النائب، والأمير يونس الدوادار، وأنزلوهم بالميدان الكبير على النيل، ثم أحضروا إلى الخدمة بالإيوان في يوم الإثنين ثامن عشره، ومعهم هديتهم، وهي سبعة سناقر من الطيور الجوارح، وسبع بقج قماش، وعدة مماليك. فلما قرئ كتابهم ظهر أنهم رسل متملك بلاد القرم. فقطع راتبهم وكان في كل يوم خمسمائة رطل لجم، ورأس بقر، ورأسا من الخيل برسم الذبح، ومبلغ ألف درهم. وأخرجوا من الميدان إلى موضع بالقلعة، وخلع عليهم في حادي عشرينه وأعيدوا.
وفي عشرينه: أخرج محمد بن طاجار - والي الغربية - منفيا إلى طرابلس.
وفي خامس عشرينه: أخرج محمد بن طيبغا الدمرداش منفيا إلى صفد، وتوجه الأمير كمشبغا الخاصكي بخلعة قرابلاط الأحمدي نائب البحيرة ليستقر في نيابة ثغر الإسكندرية، عوضا عن بلوط الصَرْغَتمشُي. واستقر جَمُق السيفي في ولاية البهنسا والإطفيحية ، عوضا عن أبي درقة.
وفي ثامن عشرينه: استجد لقرافة مصر والي بإمرة عشرة، واستقر فيها سليمان الكردي، وأخرجت عن والى مدينة مصر. ولم يعهد هذا فيما سلف.
وفي سلخه: خلع على خان بولاية البهنسي، عوضا عن جَمُق. واستقر الأمير كمشبغا الحموي في نيابة طرابلس، عوضا عن مأمور القلمطاوي.
وفيه أخذ بقطيا مكس ستين ألف نصفية ، قدمت من بغداد، سوى الثياب البغدادية والموصلية والحموية والدمشقية، وهي أضعاف ذلك.
وفيها خُلع ملك المغرب صاحب فاس أبو العباس أحمد بن أبي سالم إبراهيم بن أبي الحسن المريني ومَلَكَ فاس عوضه موسى بن أبي عنان ، في العشرين من ربيع الأول.
وأعيد الأمير نعير بن حيار إلى إمرة آل فضل، عوضًا عن الأمير فخر الدين عثمان بن قارا بن مهنا. ونقل الأمير سيف الدين سودن المظفري من نيابة حماة إلى نيابة حلب، عوضاً عن الأمير يلبغا الناصري.
ومات في هذه السنة من الأعيان
شهاب الدين أحمد بن محمد بن محمد الفيشي ناظر المواريث، وناظر الأهرام، في سادس رجب.
ومات الأمير بهادر الجمالي، المعروف بالمشرف، أمير الحاج، أحمد الألوف، في ذي القعدة بعينونة من طريق الحجاز، وبها دفن.
وتوفي قاضي القضاة علم الدين أبو الربيع سليمان بن خالد بن نعيم بن مقدم بن محمد بن حسن بن غانم بن محمد الطاي البساطي المالكي، وهو معزول، في يوم الجمعة سادس عشر صفر، وقد أناف على الستين ومات الأمير طبج المحمدي - أحد أمراء الألوف - وقد أُخرج إلى دمشق.
وتوفي كاتب السر أوحد الدين عبد الواحد بن تاج الدين إسماعيل بن ياسين الحنفي، في يوم السبت ثاني ذي الحجة.
وتوفي ناظر الجيش تَقي الدين عبد الرحمن بن ناظر الجيش محب الدين محمد بن يوسف بن أحمد بن عبد الدايم التيمي، الحلبي الأصل، الشافعي، في ليلة الخميس سادس جمادى الأولى.
وتوفي الأمير جمال الدين عبد اللّه بن الأمير بَكتمُر الحاجب - أحد الطبلخاناة - في يوم الأربعاء خامس عشر جمادى الأولى.
ومات الأمير علاي الدين علي بن أحمد بن السايس الطيبرسي - أستادار خوند بركة أم الأشرف شعبان - في سادس شوال.
ومات قاضي القضاة صدر الدين محمد بن علاء الدين على بن منصور الحنفي، وهو قاضي، في يوم الإثنين عاشر ربيع الأول. وقد أناف على ثمانين سنة، وفاق في علم الفقه أهل زمانه.
ومات الشيخ أكمل الدين محمد بن محمد بن محمود الرومي البابرتي الحنفي، شيخ الخانكاة الشيخونية، وعظيم فقهاء مصر، في ليلة الجمعة تَاسع عشر رمضان. شرح الهداية في الفقه، وكتب تفسير القرآن، وشرح تلخيص المفتاح، وأخذ عن شمس الدين الأصفهاني، وأبي حيان.
ومات قاضي مكة وخطبها كمال الدين أبو الفضل محمد بن شهاب الدين أحمد بن علي العقيلي النويري المصري بمكة، في ليلة الأربعاء ثالث عشر رجب.
ومات عالم بغداد شمس الدين محمد بن يوسف بن علي الكرماني ،ثم البغدادي الشافعي، شارح البخاري، في المحرم، بطريق الحجاز، فحمل إلى بغداد ودفن بها. ومولده في جمادى الآخرة سنة تسع عشرة وسبعمائة. قدم مصر والشام.
ومات صائم الدهر محمد بن صديق التبريزي الصوفي، في ليلة الإثنين خامس عشر رمضان، بالقاهرة.(2/378)
وأقام نيفًا وأربعين سنة، يصوم الدهر، ويفطر دائما على حمص بفلس، لا يخلطه إلا بالملح فقط ويقسّم أوقاته كلها للعبادة ، ما بين صلاة وذكر وتلاوة، ومطالعة كتب العلم. وكان شديدًا في ذات اللّه.
ومات تاج الدين موسى بن أبي شاكر بن سعيد الدولة أحمد ويعرف.بمالك الرق. والد الوزير فخر الدين ماجد بن أبي شاكر، في أول ذي القعدة.
ومات ناظر الخاص تاج الدين موسى بن سعد الدين أبي الفرج، عرف بابن كاتب السعدي، وهو معزول.
وتوفي الطواشي شبل الدولة كافور الهندي الزمردي الناصري، صاحب التربة بالقرافة، في ثامن ربيع الأول، وقد عمَر طويلا.
ومات يحيى بن الناصر حسن بن محمد بن قلاوون، في ليلة الأحد سابع عشرين شوال.
ومات تاج الدين بن وزير بيته الأسلمي، ناظر الإسكندرية بها، في ربيع الآخر.
ومات أمين الدين محمد بن علي بن الحسن الأنفي، قاضي المالكية بحلب، في شوال، وقد ناهز السبعين. ومولده سنة ثلاث عشرة وسبعمائة.
ومات الأمير سيف الدين طَشتَمُر العلاي الدوادار. كان خيراً محسنًا، له مشاركة في فهم العلوم، محبًا لأهل العلم، كثير الاجتماع بهم، ويعرف الكتابة، ويحب الأدب وأهله، ولا يهمل وقتاً بغير فائدة، مع الديانة. وباشر الدوادارية في الأيام الأشرفية، ثم نيابة الشام، ثم صار أتابك العساكر والله تعالى أرحم بهم أجمعين.
ومات الأمير معيقل بن فضل بن عيسى بن مهنا بن مانع بن حديثة، أمير آل فضل، شريكا لابن عمه زامل.
سنة سبع وثمانين وسبعمائة
.في يوم الإثنين ثاني المحرم: خلع على الطواشي شمس الدين صواب الشهابي شَنكَل،واستقر نائب المماليك، عوضا عن نصر البلسي. وخلع على ناصر الدين محمد بن أبي الطيب ، واستقر كاتب السر بحلب. واستقر الأمير سودُن المظفري، حاجب حلب، في نيابة حماة، عوضا عن صَنجَق، واستقر صنجق من أمراء طرابلس.
وفي ثامنه : أخرج الأمير بلُوط الصَرغُتمشى - نائب الإسكندرية - منفيا إلى الكرك.
وفي تاسعه: خلع على الأمير قطلوبغا الأسَن قُجَاوي - الذي يقال له أبو درقَة - استقر نائب الوجه البحري، عوضا عن قرابلاط الأحمدي، واستقر قرابلاط في نيابة الإسكندرية.
وفي يوم الإثنين سادس عشره: فرش الإيوان، الذي يقال له دار العدل من قلعة الجبل، ببسط جدد، كان الملك الأشرف شعبان بن حسين قد رسم بعملها بالكرك عند توجهه إلى الحج، فأهمل عملها بعد قتله، حتى عرف السلطان برقوق بها فبعث في تجهيزها، فحملت إليه.
وفيه بسط دهليز القصر من القلعة، ورسم للأمراء ألا يدخل أحد منهم إلى القصر،ومعه من مماليكه غير مملوك واحد وتقف مماليكهم بأسرها خارج القصر، فامتثل الأمراء ذلك، واستمر.
وفي سابع عشره: ضرب الأمير على خان والي البهنسي، وأُخذ منه عشرة آلاف درهم وأخرج من القاهرة منفياً.
وفي تاسع عشره: خُلع على الأمير مبارك شاه متولي أسوان، واستقر والي البهنسي.
وفيه قدمت رسل الخان طَقتمُش خان بن أُزبك فخرج الأمراء وأجناد الحلقة إلى لقائهم، ومثلوا بين يدي السلطان، وقدموا هديتهم.
وفي سادس عشرينه: قدم البريد من حلب بورود سولى بن دلغادر طائعا، فخلع على القاصد، وأنعم عليه بثلاثة آلاف درهم.
وفي نصف شهر ربيع الأول: قدم البريد من حلب بأن سولى بنا دلغادر التركماني لما قدم طائعاً بعدما حلف له الأمير يلبغا الناصري ،أقام بحلب حتى ورد مرسوم السلطان بالقبض عليه، فسجن بالقلعة من حلب، ثم رسم بإحضاره إلى مصر، فتسلمه حاجب حلب، وأنزله إلى الميدان فهرب منه ليلاً، فركب الأمير يلبغا الناصري في طلبه حتى عدى الفرات، فلم يقدر عليه.
وفي خامس عشرينه: خُلع على بيليك السيفي بولاية أشموم الرمان، عوضًا. عن بَيْرم.
وفي سلخه: خُلع على محمد بن العادلي، واستقر في ولاية أطفيح، عوضاً عن قُطْلوشاه.
وفي يوم السبت ثاني ربيع الآخر: ركب السلطان، وشق القاهرة لرؤية عمارته، ودخل إلى بيت الأمير الطنبُغا الجوباني مسلما عليه، ثم عاد إلى القلعة.
واستقر جمال الدين بن بشارة وزير دمشق في نظر الجيش بها، عوضًا عن ناصر الدين بن مشكور مضافاً إلى الوزارة. وأعيد الأمير نُعير بن حيا بن مهنا إلى إمرة آل فضل، بعد موت عثمان بن قارا، وحمل إليه تقليده وتشريفه، وحمل إلى الأمير يلبغا الناصري نائب حلب تشريف بالاستمرار على نيابته.(2/379)
وفيه اشترى السلطان تُمُربُغا الأفضلي، المعروف. بمنطاش، أخو الأمير تمرباي، وأعتقه.
وفي ثامن عشره: توجهت شواني الأمير ألطنبغا الجوباني من ساحل مصر نحو دمياط. وقد أنشأها وشحنهما بالعدد والمقاتلة ليغزو بلاد الفرنج.
وخلع على الأمير بجمان، واستقر في نيابة الإسكندرية، بعد موت قرا بلاط الأحمدي.
وفي حادي عشرينه: أخرج جوبان العمري - من أمراء العشرات - منفيا إلى الشام.
وفي يوم السبت سابع جمادى الأولى: خلع على جمال الدين عبد الرحمن بن خير، وأعيد إلى قضاء القضاة المالكية، عوضا عن ولي الدين أبي زيد عبد الرحمن بن خلدون.
وفي عاشره: أخذ قاع النيل، فكان ست أذرع وأربع أصابع.وأنعم على أزدمر الشرفي بإمرة جوبان العمري.
وفي ثاني عشرينه: قرىء تقليد ابن خير بالمدرسة الناصرية على العادة.
وفي يوم الأربعاء سابع عشر جمادى الآخرة :قدم الخبر بأن شواني الأمير ألطنبغا الجوباني سارت من ثغر دمياط في بحر الملح، فوجدوا مركبا فيه الفرنج الجنوية، فأخذوه وأسروا منهم خمسة وثلاثين رجلا، وقتلوا غ منهم جماعة.
وفي حادي عشرينه: قدمت الشواني إلى شاطىء النيل ببولاق - خارج القاهرة - بالأسرى والغنيمة، فعرضت الأسرى من الغد على السلطان.
وفي يوم الجمعة ثالث رجب - وثامن عشر مسرى - : كان وفاء النيل ست عشر ذراعا.
وتوجه الأمير حسن قجا على البريد؛ لإحضار الأمير يلبغا الناصري، نائب حلب.
وفي عشرينه: سار كُمشبغا الخاصكي على البريد، لنقل سودُن المظفري من نيابة حماة إلى نيابة حلب.
وقدم الخبر بأن أولاد الكنز هجموا على ثغر أسوان، وقتلوا معظم أهله، ونهبوا الناس، وأن الوالي فر منهم. فخلع على حسين بن قرط بن عمر التركماني، واستقر في ولاية أسوان. ورُسم أن يتوجه معه الكاشف وابن مازن.وخلع على مُقبل مملوك الأزقي، واستقر في ولاية أشموم الرمان، بعد موت بيليك.وفيه قدم الأًمير يلبغا الناصري إلى بلبيس، فقيد وحمل إلى الإسكندرية فسجن بها.
وفي يوم السبت ثالث شعبان: سار الأمير جمال الدين محمود شاد الدواوين على البريد؛ لاستخلاص أموال الأمير يلبغا الناصري من حلب، وحملها.
وفي ليلة الثلاثاء ثالث عشره: زلزلت القاهرة مرتين، زلزالاً قليلاً.
واتفقت في هذا الشهر حادثة يتعجب منها، وهي أن امرأة رأت في منامها رسول اللّه وهو ينهاها عن لبس الشاش وهو عصبة أحدثها النساء من نحو سنة ثمانين وسبعمائة صارت تشبه أسنمة البخت، وسمينها، الشاش، يكون أوله على جبين المرأة، وآخره عند ظهرها، فمنه ما يبلغ طوله ممتداً نحو الذراع في ارتفاع دون الربع ذراع فلم تنته عن لبسه ؛ فرأته - مرة ثانية في منامها، وهو يقول لها: " قد نهيتك عن لبس الشاش فلم تسمعي، ولبستيه ما تموتي إلا نصرانية " فأتت بها أمها إلى شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني، حتى قصت رؤياها عليه، فأمرها أن تذهب إلى كنيسة النصارى، وتصلي بها ركعات، وتسأل الله تعالى لعله يرحمها، ثم تأتيه حتى يدعو لها. فمضت بها أمها من مجلس البلقيني إلى الكنيسة، فصلت ثم خرت ميتة لوقتها، فتركتها أمها وانصرفت عنها، فدفنها النصارى عندهم. نعوذ باللّه من سوء عاقبة القضاء.
وفيه قدم رسل متملك مدينة اصطنبول بهديته وكتابه، يتضمن. أن تمكن تجارهم من القدوم إلى بلاد مصر والشام، وأن يقام لهم قنصل بثغر الإسكندرية أسوة بغيرهم من طوائف الفرنج، فأجيب إلى ذلك.
وفي أول شهر رمضان: استرجع عن الخليفة المتوكل ناحية أَبو رجْوَان.
وفي هذا الشهر: ولدت امرأة ابنة لها رأسان كاملان، على صدر واحد ويدين، ومن تحت السرة تنقسم إلى شكل نصفين، في كل نصف رجلان كاملتان، فلم تعش وفي يوم الإثنين عاشر شهر رمضان: ألبس السلطان المقدم عبيد البازدارزي الأجناد من الكَلْفتاه والقباء والخف.
وفي سابع عشرينه: خلع على همام الدين عبد الواحد السيواسي العجمي، نائب الحسبة بالقاهرة، واستقر في قضاء الحنفية بالإسكندرية، ونظر أوقافها،. بمساعدة جمال الدين محمود العجمي المحتسب.
وفي يوم الثلاثاء عاشر شوال: عدّى السلطان النيل إلى الجيزة، وسار إلى سرحة البحيرة على العادة.وفيه قدم مصر خُجا أخو بيرم خجا، عم قرا محمد أمير الموصل بعد بيرم خجا، برسالة ابن أخيه قرا محمل يسأل إن دهمه عدو أن يُمكن من الانتماء إلى الدولة وعبور الشام.(2/380)
وفيه رُسم بعمارة شواني حربية، فابتدىء بعملها في أول ذي القعدة، تجاه المقياس.
وفي يوم الخميس ثالثه: عاد السلطان من سرحة البحيرة.
وفي ثامن عشرينه: كسفت الشمس من قبل نصف النهار إلى العصر.وفيه حمل الأمير جركس الخليلي قمحًا كثيرًا إلى مكة والمدينة، ليعمل منه في كل يوم.بمكة خمسمائة رغيف، وبالمدينة في كل يوم خمسمائة رغيف، تفرق في السؤال ونحوهم من الفقراء. وألا يقرر منها لأحد راتبًا، بل يأخذ من حضر ولا يراعي أحد في التفرقة، فعم النفع بها. و لم يبق بالحرمين من يسأل عن جوع.
وفي ليلة الثلاثاء رابع عشر ذي الحجة: خسف القمر من آخر الليل.
وفي ثامن عشره: خلع على أمير حاج بولاية الأشمونين، عوضا عن بَكتمُر الشهابي.
وفي يوم الإثنين ثاني عشرينه: قبض على الأمير أَلْطنبُغا الجوباني أمير مجلس وقُيد،ثم أفرج عنه بعد أيام، وخلع عليه بنيابة الكرك، عوضاً عن دمرداش القَشتَمُري. وتوجه إليها في تجمل زائد كبير.
وفي هذا الشهر: قدمت رسل تيمورلنك - القائم ببلاد الشرق - بكتابه فأعيدوا بجوابه.وفيه استقر محب الدين أبو المعالي محمد بن الكمال محمد بن محمد بن الشحنة في قضاء الحنفية بحلب، بعد وفاة جمال الدين إبراهيم بن محمد بن العديم. واستقر جمال الدين عبد اللّه النحريري في قضاء المالكية بحلب بعد وفاة زين الدين عبد الرحمن بن رشد. واستقر شهاب الدين أحمد بن محمد بن موسى بن فياض بن عبد العزيز المقدسي الصالحي في قضاء الحنابلة بحلب، عوضا عن عمه شهاب الدين أحمد ابن موسى بن فياض. واستقر شهاب الدين أَحمد بن السلاوي في قضاء الشافعية بطرابلس، عوضاً عن ابن وهيبة.واستقر شهاب الدين أحمد بن عبد الله النحريري في قضاء المالكية بطرابلس عوضا عن ناصر الدين محمد بن سرى الدين إسماعيل بن محمد بن هانىء الأندلسي.
وفي هذه السنة: تزايد سعر الغلال بتوقف النيل، فأبيع الأردب القمح بثلاثين درهما، والأردب الشجر بعشرين درهما، والأردب الفول بثمانية عشر درهما. فلما دخل شهر ذي الحجة أُبيع الأردب القمح بخمسين درهما.
وفيه كثرت رماية القمح على الطحانين بالثمن الغال، والتكلف للأعوان.وهذا أيضاً مما أحدث ونشأ منه مفاسد كثيرة.
وحج بالناس في هذه السنة الأمير أبو بكر بن سُنقُر الجمالي. وحج الأمير أحمد بن الأمير يلبغا الخاصكي. وكان الحجاز رخى السعر.
وفيها كان بحلب وباء، بلغ عدة من مات في كل يوم ألف إنسان وزيادة.
ومات فيها من الأعيان
قاضي الحنفية بحلب، تاج الدين أحمد بن محمد بن محبوب، المحدث المسند الفاضل الأديب، عن سن عالية بدمشق.
ومات جمال الدين إبراهيم بن قاضي حلب ناصر الدين محمد بن قاضي حلب كمال الدين عمر بن قاضي حلب عز الدين أبي البركات عبد العزيز بن الصاحب محيى الدين أبي عبد الله محمد، ابن قاضي القضاة نجم الدين أبي الحسن أحمد، ابن قاضي القضاة جمال الدين أبي الفضل هبة اللّه، ابن قاضي حلب مجد الدين أبي غانم محمد، ابن قاضي حلب جمال الدين هبة الله، ابن قاضي حلب نجم الدين أحمد، ابن يحيى بن زهير بن هارون بن موسى بن عيسى بن عبد اللّه بن محمد بن عامر أبي جرادة بن ربيعة بن خويلد بن عوف ابن عامر بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، المعروف بابن العديم الحلبي الحنفي. عن نيف وسبعين سنة.حدث عن ابن الشحنة.
وتوفي كبير التجار، زكي الدين أبو بكر بن علي الخروبي،.بمصر، في يوم الخميس تاسع عشر المحرم.
ومات الأمير بيليك، والي الأشمونين.
وتوفي قاضي المالكية بحلب، زين الدين عبد الرحمن بن رشد.
ومات الأمير عثمان بن قارا بن مهنا بن عيسى بن مهنا، أمير آل فضل، في ربيع الأول.
ومات نائب الإسكندرية الأمير قرابلاط الأحمدي اليلبغاوي، في نصف ربيع الآخر.
ومات شمس الدين محمد بن أحمد بن سبع العبسي، أحد الأدباء ومستوفي ديوان الأحباس، في ثامن عشر شعبان.
ومات الأمير أقبغا الدوادار، في شهر ربيع الآخر. ومات شيخ الشام نجم الدين أحمد ابن عثمان بن عيسى بن حسن بن حسين بن عبد المحسن، المعروف بابن الجابي الياسوفي الدمشقي الشافعي، في جمادى الآخرة، بعد عوده من مصر.(2/381)
وتوفي الشيخ محيى الدين عبد القادر بن الإمام شمس الدين أبي عبد اللّه محمد بن سيف الدين يحيى بن أحمد بن محمد بنَ عبد الرزاق بن الشيخ عبد القادر الكيلاني.
ومات السيد الشريف شمس الدين أبو المجد محمد ابن النقيب شهاب الدين أحمد ابن النقيب شمي الدين محمد بن أحمد الحسيني الحراني الحلبي، عن تسع وأربعين سنة، بحلب،ولم يل وظيفة.
مات شيخ الشيوخ بحلب نجم الدين عبد اللطيف بن محمد بن موسى بن أبي الفتوح بن أبي سعيد فضل اللّه بن أبي الخير الخراساني ثم الحلبي، عن بضع وسبعين سنة، بحلب.
وتوفي شرف الدين أبو بكر بن زين الدين عمر بن مظفر بن عمر، ابن الوردي، المعرى الحلبي، الفقيه الأديب، عن بضع وسبعين سنة ؛ بحلب. واللّه أعلم.
سنة ثمان وثمانين وسبعمائة
أهلت بيوم الجمعة.
في سادسه: قدم مبشرو الحاج، وقد تأخروا عن عادتهم.وفيه أخرج الأمير جوبان العمري، منفياً إلى صفد. وأُنعم بإمرته على أرسبغا السيفي.
وفي تاسعه: عقد السلطان على هاجر ابنة الأمير منكلى بغا الشمسي، وأمها أخت الملك أشرف شعبان.
وفي ثامن عشره: قدم الأمير أحمد بن يلبغا العمري الخاصكي من الحجاز، ومعه الركب الأول.
وفي حادي عشرينه: قدم الأمير أبو بكر بن سنقر. بمحمل الحاج.
وفيه قبض على عدة من المماليك، وضربوا ضربًا مبرحًا بالمقارع، لكلام بلغ السلطان عنهم من الفتك به. وقبض على الأمير تمُربُغا الحاجب، وسُمر ومعه عشرة مماليكِ، وأركب كل مملوكين على جمل، ظهر أحدهما إلى ظهر الآخر، وسُمرا بالحديد وأفرد تمربغا على جمل. وشهروا ونساؤهم حاسرات، يصحن ويلطمن خدودهن، ثم وسطوا، فكان أمرا شنيعا.
وفي خامس عشرينه: قبض على ستة عشر من مماليك الأمير الكبير أَيْتمش ونفوا إلى الشام، وتتبع من بقي من المماليك الأشرفية، فقبض على كثير منهم، ونفوا من مصر.
وفي سلخه: قدم الأمير إبراهيم بن قَراجا بن دلغادر طائعا، فخلع عليه، ورسم له بإمرة طبلخاناة بديار مصر.
وفي يوم الإثنين ثالث صفر: نقل الشريف هيازع بن هبة الله الحسيني، أخو جماز أمير المدينة النبوية، من سجنه بقلعة الجبل إلى الإسكندرية، فسجن بها.
وكان قد قبض عليه، وسجن نحو سنة و نصف، ثم أفرج عنه في ذي، الحجة من السنة الماضية ، ثم قبض عليه في هذه السنة وسجن..
وقدم الخبر ماردين باستيلاء تيمورلنك على مدينة تبريز ، وقتل أهلها وتخريبها.
وفي ليلة السبت تاسع عشرينه: دخل إلى القاهرة نحو ستين رجلاً، يقال أنهم تدلوا من السور ونهبوا سوق الجمالين بالقرب من جامع الحاكم، وقتلوا نفرين. فركب الأمير حسام الدين حسين بن الكوراني - والي القاهرة - وقبض على ثلاثة منهم في بعض الضواحي ومعهم بعض ما نهبوه، فعاقبهم حتى دلوه على بقيتهم.
وفي يوم الأحد سلخه: وقع حريق بالجسر، قريب قنطرة الحاجب ، تلف فيه عدة بيوت، ونزل عدة من الأمراء حتى أطفوه.
وفي أول شهر ربيع الأول: أبيع اللحم البقري كل رطلين ونصف بدرهم وأبيع اللحم الضأن السميط كل رطلين بدرهم.
وفي يوم الجمعة ثاني عشره: رُسم بالإفراج عن الأمير يلبغا الناصري نائب حلب، ونقله من سجنه بالإسكندرية إلى إقامته بدمياط. وأُذن له أن يركب ويتنزه بها.
وفي خامس عشره: سُمر من رجال المنسر ثمانية عشرة على جمال، وثلاثة سمرت أيديهم في الخشب، وألبسوا في أَرجلهم قباقيب خشَب، ثم سمرت أرجلهم فيها. وأكرهوا حتى مشوا وهم مسمرون كذلك، وشهروا جميعا بالقاهرة، ثم وسطوا إلا واحد منهم، وأبقي عليه ليدل على بقيتهم.
وفي يوم الثلاثاء أول ربيع الآخر: أَخرق السلطان بالأمير بَهادُر المنجكي الأستادار، وقبض عليه ثم أفرج عنه.
وفيه قدم البريد من حلب برأس الأمير خليل بن قراجا بن دلغادر، فقبض في الحال على أخيه عثمان بن قراجا، وعلى ابن أخيه إبراهيم.
وفيه غضب السلطان على موفق الدين أبي الفرج - ناظر الجيش - ، وضربه نحو مائة وأربعين ضربة بالعصى.
وقدم الخبر بوقوع الوباء بالإسكندرية، وأنه تجاوز عدة من يموت بها في كل يوم مائة إنسان.
وفيه استقر محمد بن عيسى - شيخ عرب العائد بالشرقية - كاشف الحسور بإمرة طبلخاناة. واستقر أخوه مهنا في مشيخة العائد.
وفي تاسع عشرينه: ماتت للسلطان ابنة، فأدفنت بالعمارة بين القصرين قبل أن تكمل، وكانت جنازتها حَفلَة.(2/382)
وفي يوم الخميس أول جمادى الأولى: خُلع على الوزير الصاحب كريم الدين عبد الكريم بن مكانس، واستقر في نظر الدولة بعد موت علم الدين يحيى.
وفي خامسه: خلع على الوزير الصاحب علم الدين سن إبرة، واستقر في نظر الأسواق، عوضا عن شرف الدين محمد بن الدماميني وفي ثاني: قدم الأمير أقبُغُا الجوهري - أحد أمراء الألوف بحلب - وقدم أمير زه ابن ملك الكُرْج راغبًا في الإسلام، فأسلم بحضرة القضاة بين يدي السلطان، وسمى عبد الله، وأنعم عليه بإمرة عشرة، وأنزل بقصر الحجازية من رحبة باب العيد بالقاهرة.
وفي حادي عشرينه: - وهو سادس عشرين بؤونة - أخذ قاع النيل على العادة في كل سنة، فكان ستة أذرع سواء.
وفي ثاني عشرينه: خلع على عُبَيد البازدار، وأعيد إلى تقدمة الدولة، على ما كان عليه، وفي سادس عشرينه: خلع على محمد بن أشَقتمُر، واستقر والي منفلوط.وفيه عزل شهاب الدين أحمد بن ظهيرة عن قضاء مكة وخطابتها، بمكاتبة الشريف أحمد بن عجلان أمير مكة فيه، وكُتب بنقل محب الدين محمد بن.، أبي االفضل، النويري من قضاء المدينة النبوية وخطابتها إلى قضاء مكة وخطابتها. وخلع على شيخ الحديث زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي واستقر في قضاء المدينة النبوية وخطابتها.
وفيه كملت عمارة ثمانية غربان حربية، وشحنت بالأسلحة والعدد والمقاتلة.
وفي سلخه: قدمت هدية أحمد بن أويس، صاحب بغداد. وقدم الشريف ثابت بن نعير الحسيني من المدينة النبوية،.بموت ابن عمه محمد بن عطية - أمير المدينة - فقبض عليه، وحمل إلى الإسكندرية، وسجن بها.
وفيه قدم الشريف عنان بن مَغَامس الحسني من مكة، فارًا من سجن ابن عمه الشريف أحمد بن عجلان أمير مكة.
وفي أول جماى الآخرة: قدم البريد من حلب.بمسير عساكر الشام لمحاربة التركمان، وكانت بينهم وقعة عظيمة، قتل فيها سبعة عشر أميراً، منهم سودن العلاي نائب حماة. وقتل من الأجناد خلق كثير، وانكسر بقية العسكر.
وفيه كملت عمارة المدرسة الظاهرية بين القصرين.
وفي يوم الخميس رابع عشره: نُقلت رمم أولاد السلطان الخمسة من مدافنهم إلى القبة بالمدرسة الظاهرية المستجدة، ونقلت رمة الأمير آنص والد السلطان، عشاء، والأمراء مشاة قدامه، حتى دفن بالقبة المذكورة.
وفي يوم الإثنين ثامن عشره: زلزلت القاهرة في الساعة الرابعة زلزلة خفيفة.
وفي ثامن عشرينه: استقر سودن العثماني الساقي في نيابة حماة، عوضاً عن سودن العلاي.
وفي سلخه: قدمت رسل الفرنج بهدية جليلة القدر.
وفي يوم الثلاثاء ثالث شهر رجب - وسابع مسرى: - كان وفاء النيل ستة عشر ذراعا، فركب الأمير قُرْدُم الحسني رأس نوبة، والأمير يونس الدوادار إلى المقياس، حتى خُلق العمود بحضرتهما على العادة، ثم فتح الخليج.
وفي يوم الأربعاء حادي عشره: نزل الأمير جركس الخليلي إلى المدرسة الظاهرية المستجدة، وهيأ بها الأطعمة والحلاوات والفواكه، فركب السلطان من الغد يوم الخميس ثاني عشره من القلعهّ، بأمرائه ومماليكه ونزل بها، وقد بسطت. واجتمع فيها قضاة القضاة والفقهاء والأعيِان، فمد سماط أوله عند المحراب وآخره عند البحرة التي في وسط المدرسة، مملوء كله بأنواع الأطعمة الفاخرة، والأشوية من الخيل والخراف والأوز والدجاج والغزلان، فأكل القضاة والأعيِان أولا، ثم أكل الأمراء والمماليك، وتناهب الناس بقيته. ثم مُد سماط الحلاوات الفواكه، وملئت البحرة من مشروب السكر. فلما انقضى الأكل والشرب، خلع على علاء الدين علي السيرامي الحنفي، وقد استدعاه السلطان من بلاد المشرق، واستقر مدرس الحنفية وشيخ الصوفية. وفرش له الأمير جركس الخليلي السجادة بنفسه، حتى جلس عليها. ثم خلع على الأمير جركس، وعلى المعلم شهاب الدين أحمد الطولوني المهندس، وأركبا فرسين بقماش ذهب، وخلع على خمسة عشر من مماليك الخليلي، وأنعم على كل منهم بخمسمائة درهم. وخُلع على مباشري العمارة وشاديها، وعلى المهندسين والبنائين. وتكلم العلاء السيرامي على قوله تعالى: " قل اللهم ملك الملك " ثم قرأ القارئ عشرا من القرآن، ودعا. وقام السلطان وركب إلى القلعة، فكان يوما مشهوداً.
وفي يوم الخميس تاسع عشره: دار محمل الحاج القاهرة ومصر، على العادة في كل سنة.(2/383)
وفي يوم الإثنين أول شعبان: خلع على الأمير اًحمد بن الأمير يلبغا العمري الخاصكي، واستقر أمير مجلس، عوضا عن الأمير ألطُنْبُغا الجوباني.
وفي يوم السبت سادسه: ركب السلطان إلى الميدان على العادة، ولعب بالكرة مع الأمراء.
وفيه أنعم على أحمد بن هُمز التركماني، بإمرة طبلخاناة، عوضا عن علي بن الأمير منجك، بعد وفاته.
وفي ثماني عشرينه: خُلع على سودن الطُرنطاي الخاصكي - أحد أمراء العشرات - واستقر رأس نوبة صغيرا. وأنعم على مُقْبل الرومي الطويل بإمرة عشرة، عوضا عن أحمد بن همز.
وفي ثالث عشرينه: أسلم ميخائيل الصبان - من نصارى مدينة مصر - خلع عليه، وأركب بغلة سلطانية، واستقر ناظر المتجر السلطاني.
وانتهت زيادة ماء النيل إلى عشرين ذراعا، وثبت إلى عيد الصليب، ثم هبط بعده بيِومين.
وفي ثامن عشرينه: خُلع على أمير موسى بن سلار - من الطبر دارية - واستقر أمير طبر بإمرة عشرة.
وفي أول شهر رمضان: عُزل ناصر الدين أحمد التنسي من قضاء الإسكندرية، وركب طاش البريدي البريد للقبض على الأمير بيدمر نائب الشام، وعلى جميع ألزامه، وإيقاع الحوطة على موجوده. وركب الأمير تمربغا المنجكي البريد، لتقليد الأمير أشقتَمُر المارديني نيابة الشام، وحمله من القدس إلى دمشق، وحمل إليه التقليد والتشريف.
وقدم الشريف محمد بن مبارك بن رميثة الحسني من مكة، وأَخبر بموت الشريف أحمد بن عجلان أمير مكة، وأن ابنه محمد بن أحمد أقيم بعده، وقام بإمرة عمه كُبيش بن عجلان. وقدم الخبر من المدينة النبوية أن الشريف جماز بن هبة حضر المدينة بحشده، فحاربه على بن عطية، وهزمه عنها.
وفي سادسه: ركب السلطان إلى بركة الحاج، وعاد إلى القاهرة من باب النصر، ونزل بمدرسته، ثم مضى إلى القلعة.
وفي يوم الجمعة عاشره: أقيمت الجمعة بالمدرسة الظاهرية المستجدة بين القصرين، وخطب بها جمال الدين محمود العجمي المحتسب، بثياب بيض.
وفي يوم الجمعة سابع عشره: نزل من قلعه الجبل أحد أمراء الدولة بسواد الخطبة إلى المدرسة الظاهرية، فلبسه جمال الدين محمود، وخطب بثياب السواد على العادة وصلى بالناس الجمعة. فلما انقضت الصلاة أَخرج له الأمير المذكور خلعة سلطانية، وأفاضها عليه ،فسار إلى منزله في موكب جليل وقدم الخبر بأن كبيش بن عجلان سمل أعين جماعة من بني حسن، وهم: أحمد وحسن ابنا ثقبة، ومحمد بن عجلان، وابن أحمد بن ثقبة وعمره نحو اثنتا عشرة سنة، فتغير السلطان على كبيش وابن أخيه محمد بن عجلان.
وفي سلخه: أنعم على ناصر الدين محمد بن الأمير جُلبان العلاي بطبلخاناة أبيه، بعد موته.
وارتفع سعر لب الفستق، حتى بلغ خمسة وثلاثين درهما الرطل، وعنها يومئذ قريب من مثقال ونصف، ولم يعهد مثل ذلك فيما سلف.
وفيه خلع على الشريف عنان بن مُغامس، واستقر أمير مكة.
وفي يوم الإثنين رابع شوال: ركب السلطان وتوجه إلى سرحة سرياقوس على العادة في كل سنة.
واستقر شيخنا سراج الدين عمر بن الملقن في مشيخة دار الحديث الكاملية عوضاً عن زين الدين عبد الرحيم العراقي، بحكم انتقاله إلى قضاء المدينة النبوية.وفيه أخرج السلطان خمسة من مماليكه، على إمريات بدمشق.
وفيه ضرب شهاب الدين أحمد بن الجندي الشافعي - من فقهاء ناحية دمنهور من أجل أنه أنكر على الضمن ما يأخذه من المكوس، وألزم بألا يسكن دمنهور. ثم بلغ السلطان ما هو عليه من الورع وكثرة العلم، فاعتذر إليه، وخلع عليه، وأعاده إلى دمنهور مكرمًا.
وفي يوم الأحد عاشره: حضر المدرسون بالمدرسة الظاهرية المستجدة، وهم سبعة، أربعة مدرسين الفقه على المذاهب الأربعة، ومدرس تفسير، ومدرس حديث، ومُصدر لإقراء القراءات السبع.
وفي ثامن عشره: سار محمل الحاج صحبة الأمير أقبغا المارديني، وحج أيضاً الأمير جركس الخليلي بتجمل كثر. وحج من الأمراء أيضاً كُمُشبُغا الخاصكي، ومحمد بن تنكربُغا، وجركس المحمدي. وكنب لنواب الشام باستخدام المماليك البطّالين الذين نفوا من الأشرفية وغيرهم.
وفي حادي عشرينه عاد السلطان من سرحه سرياقوس.(2/384)
وفي يوم الإثنين خامس عشرينه: استدعى السلطان زكريا بن الخليِفة المعتصم بالله أبي إسحاق إبراهيم بن المستمسك باللهّ أبي عبد الله محمد بن الحاكم بالله أحمد وأعلمه أنه يريد أن ينصبه خليفة، عوضًا عن الخليفة الواثق بالله عمر بن المعتصم إبراهيم بعد وفاته. ثم استدعى بقضاة القضاة وأهل الدولة، فلما اجتمعوا أظهر زكريا عهد عمه - المعتضد بالله أبي الفتح أبي بكر إليه بالخلافة، فخلع عليه خلعة الخلافة، ونزل إلى داره. فلما كان يوم الخميس ثامن عشرينه طلع الخليفة زكريا إلى القصر من قلعة الجبل، وحضر أعيان الأمراء وقضاة القضاة الأربع، وشيِخ الإسلام سراج الدين البلقيني، وصدر الدين محمد بن إبراهيم المناوي مفتي دار العدل - وبدر الدين محمد بن فضل الله كاتب السر، ونجم الدين محمد الطنْبَدي - وكيل بيت المال - فبدأ شيخ الإسلام بالكلام مع السلطان في مبايعة زكريا على الخلافة، فبايعه السلطان أولا، ثم بايعه من حضر على مراتبهم. ونعت نفسه بالمستعصم بالله أبي يحيى. ثم أشهد عليه الخليفة أنه قلد السلطان أمور العباد والبلاد وأقامه في ذلك مقام نفسه، فخلع عليه خلعة الخلافة، وخلع على عامة من حضر، وركب القضاة بين يدي الخليفة إلى منزله، فكان يوماً مشهوداً.
وفي سلخه: قدمت رسل أحمد بن أويس - متملك بغداد - بكتابه، يتضمن أن تيمورلنك نزل قرا باغ، ليشتي بها ثم يعود، وحذر منه.
وفي يوم الإثنين ثالث ذي القعدة: خُلع على الخليفة المستعصم بالقصر، واستقر في نظر مشهد السيدة نفيسة. وخلع على شهاب الدين أحمد الأنصاري واستقر في مشيخة خانكاه سعيد السعداء، عوضا عن برهان الدين إبراهيم الأبناسي، بواسطةَ الأمير سُودن النائب. وذلك أنه التزم أن يعمّر أوقاف الخانكاه من ماله ،بمبلغ ثلاثين ألف درهم ،ولا يتناول معلوم المشيخة، بل يقنع.بماله من معلوم التصوف، فإنه كان من جملة صوفيتَها.على أنه لا يستجد بها صوفيا، وأنه يوفر نصيب من مات منهم، حتى تُعمر أوقافها.
وفي سادسه: خلع على رسل ابن أويس وسافروا.
وفي ثامنه: عدّى السلطان النيل، ونزل تحت الأهرام، فأقام في سرحته حتى وصل إلى ناحية دلنجة ، ثم عاد فطلع إلى القلعة في عشرينه.
وفي هذا الشهر أخرج الوزير الصاحب شمس الدين إبراهيم كاتب أرنان مائة ألف وثمانية عشر ألف أردب قمحًا، طرحه على التجار، كل أربعة أرادب بثلاثة وتسعين درهما - عنها أربعة دنانير - سعر كل دينار ثلاثة وعشرون درهما وربع درهم. فمن هذه الأربعة أرادب، إردب بسبعة وعشرين درهما، وإردب بستة وعشرين درهما، وإردب بأحد وعشرين درهما؛ وإردب بتسعة عشر درهما، فيجيء معدل كل إردب بدينار.
وفيه خلع على قوزي السيفي، واستقر في ولاية قوص، عوضا عن مقبل الطيبي. وخلع على سعد الدين نصر الله بن البقري، واستقر ناظر الديوان المفرد الذي استَجده السلطان، وناظر ديوان المماليك. واستقر برهان الدين إبراهيم بن عبد الله بن عمر الصنهاجي في قضاء المالكية بدمشق، عوضا عن علم الدين محمد بن محمد القفصي. واستقر في قضاء الحنفية بحلب موفق الدين، عوضا عن محب الدين محمد بن الشحنة.
وفي أول ذي الحجة: أحضر من دمشق بأربعة من الفقهاء في الحديد، اتهموا أنهم سعوا في نقض المملكة، والدعاء لإمام قرشي، فسجنوا. ثم أحضروا في يوم الأربعاء رابع عشرينه إلى بين يدي السلطان وتقدم كبيرهم - أحمد بن البرهان - فكلم السلطان عما سأله عنه، وصدع بالإنكار عليه، وأنه غير أهل للقيام بأمر المسلمين، وعدد له ما هو عليه من أخذ المكوس ونحو ذلك، وأنه لا يقوم بأمر المسلمين إلا إمام قرشي. فأمر به وأصحابه أن يعاقبوا حتى يعترفوا. بمن معهم من أمراء الدولة، فتولى عقوبتهم الأمير حسام الدين حسين والي القاهرة، ثم سجنهم بخزانة شمايل.(2/385)
وفي خامس عشرينه: قدم مبشرو الحاج، وفيهم بطا الخاصكي، وأخبروا أن أقبغا المارديني - أمير الحاج - لما قدم مكة في أول ذي الحجة خرج الشريف محمد بن أحمد عجلان لتلقيه على العادة، وقبل الأرض، ثم خُفَّ الجمل. وعندما انحنى ليقبل عقب الرمح، وثب عليه فداويان ضربه أحدهما بخنجر في جنبه، وضربه الآخر بخنجر في عنقه، وهما يقولان: " غريم السلطان " فخر ميتا وترك نهاره ملقى، ثم حمله أهله، وواروه، وكان كبيش على بعد، فقتل الفداوية رجلا يظنوه كبيشا، ففر كبيش، وأقام الأمراء لابسين السلاح سبعة أيام، خوفا من الفتنة. فلم يتحرك أحد ولبس الشريف عنان خلعته، وتسلم مكة، وخطب له بها.
وفي تاسع عشرينه: قدمت رسل الحبشة بكتاب ملكهم الحطي، واسمه داود بن سيف أرعد، ومعهم هدية على أحد وعشرين حمالا، فيها من ظرائف بلادهم، ومن جملتها قد ملئت قد صيغ على قدرالحمص.
ومات في هذه السنة من الأعيان
أديب مصر بدر الدين أحمد بن الشرف محمد بن الوزير الصاحب فخر الدين محمد بن الوزير الصاحب بهاء الدين علي بن محمد بن سليم بن حنا ، في يوم الجمعة تاسع عشرين جمادى الآخرة.بمدينة مصر، عن نيف وسبعين سنة.
وتوفي الشريف أبو سليمان أحمد بن عجلان بن رميثة بن أبي نمي محمد بن أبي سعد الحسني أمير مكة، في حادي عشرين شعبان عن نيف وستين سنة.بمكة، ودفن بالمعلا، وكان حسن السيرة.
وتوفي الشيخ المعتقد شهاب الدين أحمد بن شرف الدين عبد الهادي بن الشيخ أبي العباس أحمد الشاطر الدمنهوري ، الأديب الشاعر ذو الفنون، في المحرم وهو عائد من الحج.
وتوفي شهاب الدين أحمد بن محمد بن على الزركشي - أمن الحكم - فجأة في ليلة الجمعة تاسع عشر شهر ربيع الأول. واتهم أنه سم نفسه، فإنه نقص من مال الأيتام عليه نحو خمسمائة ألف درهم، ذهبت كأمس الذاهب.
ومات أحمد بن الناصر حسن بن الناصر محمد بن المنصور قلاون، في ليلة الخميس رابع عشر جمادى الآخرة، ودفن.بمدرسة أبيه، وكان أسن أولاده.
وتوفي عماد الدين إسماعيل بن الزمُكحُل الناسخ، أحد الأفراد، كان يكتب سورة " قل هُو اللّه أَحَدْ " بكمالها على حبة أرز، كتابة بينة لا يطمس فيها واوا، إلى غير ذلك من بدائعه.
ومات الأمير جلبان الحاجب، أحد أمراء الطبلخاناه، في أخريات شهر رمضان. وكان مشكور السيرة.
ومات الأمير خليل بن قراجا بن دلغادر، كبير التركمان البزوقية، وأمير أبلستين ، قتيلا في الحرب، مع الصارم إبراهيم بن همز التركماني، قريبا من مدينة مرعش، عن نيف وستين سنة.
ومات الأمير سودن العلاي، نائب حماة، قتيلا في محاربة التركمان.
وتوفي المقرىء فتح الدين عبد المعطي بن عبد الله في سادس عشر رمضان، وقد أسن. أخذ القراءات عن أثير الدين أبي حيان.
وتوفي الشريف محمد بن عطيفة بن منصور بن جماز بن شيحة الحسيني، أمير المدينة النبوية.
وتوفي أحد الأفراد في العبادة والزهد والورع، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان القرمي بالقدس، في صفر. ومولده في ذي الحجة سنة ست وعشرين وسبعمائة. كان لا يزال يتلو القرآن، فيقال إنه قرأ في اليوم والليلة ثماني ختمات، وقدم القاهرة.
وتوفي الشديد في الله، الورع، شمس الدين محمد بن يوسف بن إلياس القونوي الحنفي، بدمشق، عن نيف وسبعين سنة. قدم القاهرة غير مرة. وأقسم باللّه أنه إذا رأى منكرا يحُمُّ.
وتوفي قاضي الحنابلة بدمشق شمس الدين أبو عبد الله محمد بن تقي الدين عبد الله بن محمد ابن محمود بن أحمد بن عزاز الحنبلي، المعروف بابن التقي.
وتوفي شيخ أهل الميقات ناصر الدين محمد بن الخطائي في يوم الأربعاء ثالث عشرين شعبان.
وتوفي قرينه في العلم بالميقات شمس الدين محمد بن الغزولي، في رابع رجب.
وتوفي زين الدين أبو بكر بن نور الدين علي بن تقي الدين محمد بن يوسف السعدي الخزرجي الأنصاري، المعروف بالسندوبي، أحد موقعي الدست، في يوم الخميس ثالث ربيع الأخر، وهو أحد من أدركناه من الأفراد، في الجود و الكرم.
وتوفي شرف الدين موسى بن الفافا، أستادار الأمير أَيتمش الأتابك، في تاسع شوال، وكان من رءوس الظاهرية.
وتوفي الشريف هيازع بن هبة بن جماز بن هبة بن جماز بن منصور الحسيني ، أمير المدينة النبوية، في سجنه بالإسكندرية، لأيام من شهر ربيع الأول.(2/386)
وتوفي شيخ القادرية شرف الدين صدقة ويدعى محمد بن عمر بن محمد بن محمد العادلي، في سادس عشر جمادى الآخرة بالفيوم، وأحرم مرة بالحج من القاهرة.
وتوفي ناظر الدولة علم الدين يحيى بن فخر الدولة، المعروف بكاتب ابن الديناري؛في يوم الأربعاء تاسع شهر ربيع الأخر بالقاهرة، كان أولا نصرانيا ثم أسلم، وهو في خدمة الأمير شرف الدين موسى بن الديناري شاد الدواوين. وصاهر المقسي ناظر الخاص. ثم ولي نظر الدولة، وتمذهب لأبي حنيفة، رحمه اللّه.وسمع الحديث، وجمع عنده الفقهاء، وأفضل عليهم وجمع كتبا كثيرة. وكان غاية في الترف، يقول عن نفسه أن بدنه يحتاج في كل يوم إلى ثمانين درهما، عنها نحو أربعة مثاقيل ذهبا، يصرفها فيما يأكله ويشربه خاصة. وترك أواني وقماشا وأثاثا أبيعت بجملة كبيرة، وخلف من الكتب النفيسة عدة يحل ثمنها، مع كثرة شكواه الفقر.
ومات ملك المغرب صاحب فاس موسى بن السلطان أبي عنان فارس بن أبي الحسن المريني في جمادى، وأقيم بعده المنتصر بالله محمد بن أبي العباس أحمد المخلوع ابن أبي سالم ثم خلع بعد قليل، وأقيم الواثق محمد بن أبي الفضل بن السلطان أبي الحسن كل ذلك بتدبير الوزير مسعود بن رحوب ماساي واللّه تعالى أعلم.
سنه تسع وثمانين وسبعمائة
في يوم السبت سابع عشر صفر: قدم الأمير ألطُنْبغا الجوباني من الكرك باستدعاء، فبالغ السلطان في إكرامه، وألبسه لنيابة دمشق تشريفا سنيا، في تاسع عشره، عوضا عن أشَقتمُر المارديني.
وفيه استقر جمال الدين ميخائيل الأسلمي في نظر الإسكندرية، وعزل علم الدين توما، وكان ميخائيل هذا قد أسلم يوم الثلاثاء عشرين شعبان من السنة الماضية، بحضرة السلطان، وخلع عليه وأركب بغلة رائعة، وعمل تاجر الخاص.
وفيه استقر الأمير زين الدين مبارك شاه - متولي البهنسا - في نيابة الوجه القبلي، عوضا عن أيدمر الشمسي، الذي يقال له أبو زلطة. واستقر ناصر الدين محمد ابن الحسام في ولاية البهنسا.
وفيه استقر سعد الدين عبد الله بن بنت الملكي الوزير في استيفاء الإسكندرية.
وفي سابع عشرينه: استقر شمس الدين بن مشكور، ناظر الجيش بدمشق، عوضا عن ابن بشارة.
وفي يوم الجمعة أول شهر ربيع الأول: برز الأمير ألطنبغا الجوباني، ليسافر إلى دمشق، بعد ما خلع عليه، وحمل إليه مبلغ ثلاثمائة ألف درهم فضة. وقيد إليه فرس بسرج وكنفوش ذهب. وأرسل إليه الأمير الكبير أَيتمش مائة ألف درهم، وعدة بقج ثياب، قيمتها نحو السبعين ألف درهم، وعين مُسَفِّره قُرقُماس الظاهري، وخرج بتجمل عظيم.
وفي رابعه رأى السلطان من قلعة الجبل خيمة قد ضربت على شاطىء النيل فبعث للكشف عنها، فوجد فيها كريم الدين بن مكانس، وشمس الدين أبو البركات، فأحضرا إليه، وقد كانا يتعاقران الخمر في خواصهما، فضربهما بالمقارع، وألزم ابن مكانس.بمائة ألف درهم، وأبا البركات بخمسين ألفا.
وفيه استقر عمر بن إلياس - قريب قرُط - في ولاية الشرقية، عوضاً عن أُوناط اليوسفي.
وعزم السلطان على عرض أجناد الحلقة، وشرع فيه، فتحدث معه شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني في إعفائهم من ذلك، فأجابه وعفا عنهم.
وفي عاشر ربيع الآخر: ابتدأ السلطان في اللعب بالرمح، وألزم المماليك بذلك، فاستمر.
وكثرت المرافعات في ميخائيل، فعزل عن نظر الإسكندرية، وقبض عليه الأمير جمال الدين محمود شاد الدواوين السلطانية وحبسه، فأثبت أهل الثغر عليه أنه زنديق، وشهد عليه في المحضر بذلك تسعة وأربعون نفسا، فضربت رقبته بالثغر، يوم السبت ثالث عشره وفي هذا الشهر: ضربت فلوس بإشارة الأمير جركس الخليلي في قلعة الجبل، وجعل اسم السلطان في دائرة، فتطير الناس بذلك، وقالوا: هذا يؤذن بأن السلطان تدور عليه الدوائر، ويحبس، فبطل ذلك، و لم يتم.
وورد البريد بنزول الفرنج على طرابلس، فحاربهم المسلمون، وغنموا منهم ثلاثة مراكب، وقتلوا جماعة كثيرة.
وورد الخبر بأن على بن عطيفة الحسني ، طرق المدينة النبوية ونهبها، وقتل منها أناسا، وأخذ ما كان لجماز بن هبة اللّه من المال، فأفرج عن ثابت بن نعير، وقلد إمارة . المدينة النبوية.
وقدم البريد بارتفاع الأسعار بالشام، وأن الخبز وصل بدمشق كل رطل بدرهم، والجرة الماء في القدس بنصف درهم(2/387)
وقدم الخبر من مكة بأن كبيش بن عجلان حصر مكة، وأخذ من جدة ثلاثة مراكب للتجار.
وقدم البريد. بمحاربة ابن همز نائب أبلستين ، مع ابن دلغان.
وفي ثالث جمادى الآخرة: أخذ قاع النيل، فكان سبعة أذرع، وأربع أصابع.
وفي سادسه: استقر الأمير ناصر الدين بن مبارك حفيد المهمندار في نيابة حماة، عوضا عن سودن العثماني. واستقر سودن في إقطاع ابن المهمندار بحلب.
وفي سادس عشره - وهو تاسع أبيب: - توقف ماء النيل عن الزيادة ونقص، فاضطرب الناس. ثم أنه رد النقص وزاد في رابع عشرينه.
وفي ليلة ثامن عشرينه: ظهر كوكب في جهة الشمال عظيم القدر، ممتد إلى جهة الغرب، له ثلاث شعب، في أحديها ذنب طويل بقدر الرمح، وله ضوء زايد على نور القمر، ثم أنه تحول امتداده من الغرب إلى الجنوب، وسمع له صوت مرعب، وذلك بعد عشاء الآخرة بقدر ساعة.
وفي آخره: ورد البريد بأن تمرلنك كبس قرا محمد وكسره، ففر منه في نحو مائتي فارس، ونزل قريب ملطية. ونزل تمرلنك على آمد، فاستدعى السلطان القضاة والفقهاء والأمراء وتحدث في أخذ الأوقاف من الأراضي الخراجية، فكثر النزاع، وآل الأمر إلى أنه يأخذ متحصل الأوقاف لسنة.
ورسم السلطان بتجهيز أربعة من الأمراء - الألوف، وهم الأمير ألطنبغا المعلم أمير سلاح، والأمير قردم الحسني، والأمير يونس الدوادار، والأمير سودن باق، وسبعة من أمراء الطبلخاناة، وخمسة من أمراء العشرات. فتجهزوا، وعين معهم من أجناد الحلقة ثلاثمائة فارس، وخرجوا من القاهرة في أول رجب، فساروا إلى حلب، وبها يومئذ في نيابة السلطنة سودن المظفري.وقدم الخبر بوقعة بين قرا محمد وولد تمرلنك، انكسر فيها ابن تمرلنك.
وفي تاسع عشر رجب: رسم للقاضي جمال الدين محمود، محتسب القاهرة بطلب التجار وأرباب الأموال، وأخذ زكوات أموالهم، وأن يتولى قاضي القضاة الحنفية شمس الدين محمد الطرابلسي تحليفهم على ما يدعون أنه ملكهم فعمل ذلك يوم واحد ثم رد عليهم ما أخذ منهم، وبطل، فإن الخبر ورد برجوع تمرلنك إلى بلاده. وبعث نائب دمشق رجلا تركيا اتهم أنه جاسوس لتمرلنك، فعوقب حتى أقر بأنهم ثلاثة قدموا إلى دمشق، فسجن، وكتب بطلب المذكورين.
وفي سادس عشرينه - وهو تاسع عشر مسرى - : كان وفاء النيل ستة عشر ذراعا.
وفي يوم الإثنين رابع شعبان :استدعى السلطان الشيخ ناصر الدين محمد ابن بنت ميلق ، وولاه قضاء القضاة الشافعية بديار مصر، بعد ما امتنع وصلى ركعتي الاستخارة، وعزل بدر الدين محمد بن أبي البقاء.
وفي سادس عشرينه: استقر في الوزارة علم الدين عبد الوهاب بن القسيس كاتب سيدي، عوضا عن الصاحب شمس الدين إبراهيم كاتب أرنان نقل من استيفاء المرتجع إلى الوزارة، بوصية كاتب أرنان.
وفي ثاني رمضان: عزل كريم الدين بن مكانس من نظر الدولة، واستقر عوضه أمين الدين بن ريشة، واستقر حسن السيفي أمير أخور في ولاية قطيا، عوضا عن ابن الطَشلاقي، فلم يقم سوى أيام، واعيد ابن الطَشلاقي.
وفي تاسعه: استقر جلال الدين عبد الرحمن بن شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني في إفتاء دار العدل، برغبة أخيه بدر الدين محمد له عن ذلك.
واستقر زوج أخته بهاء الدين محمد بن البرجي فيما كان باسمه من توقيع الدست، وصار بيد أخيه بدر الدين قضاء العسكر.
وانتهت زيادة ماء النيل إلى ثمانية عشر ذراعا، وأربعة عشر أصبعا، وثبت إلى خامس بابة، أحد شهور القبط.
وفي يوم الأحد ثامن عشرينه: جلس السلطان بالميدان تحت القلعة للحكم بين الناس، بعد ما نودي قبل ذلك بيومين: " من كانت له ظلامة فعليه بالإصطبل السلطاني يوم الأحد والأربعاء " . فداخل أعيان الناس من ذلك خوف شديد واجترأ أسافل الناس على الأكابر.
وفيه قدم الشريف على بن عجلان يريد إمارة مكة.
وورد الخبر بأن الشريف عنان بن مغامس اقتتل مع كبيش، فقتل كبيش في عدة من بني حسن، وعاد عنان مظفراً، فشق على المجاورين.
وفي خامس عشرينه: استقر نجم الدين محمد الطنبدي - وكيل بيت المال - في حسبة القاهرة، عوضا عن جمال الدين محمود، على خمسين ألف درهم فضة يقوم بها، عنها ألف دينار مصريهَ. واستقر جمال الدين في قضاء العسكر، عوضا عن شمس الدين محمد القرمي بعد وفاته.(2/388)
وفي ثالث شوال: استقر شمس الدين محمد النويري في قضاء طرابلس، مسئولا بها. وورد الخبر بوصول العسكر إلى حلب في أول شهر رمضان.
وقدم الأمير جبرائيل الخوارزمي، والأمير ناصر الدين محمد بن بيدَمُر نائب الشام، فسلما إلى الأمير علاء الدين علي بن الكوراني والي القاهرة، ليخلص منهما مبلغ ألفي ألف درهم.
وفي نصفه: استقر الشريف على بن عجلان في إمارة مكة، شريكا لعنان.
وفي عاشره: توجه السلطان إلى سرحة سرياقوس على العادة. واستدعى الأمير يلبغا الناصري من دمياط فوصل إلى المخيم بسرياقوس في حادي عشرينه، فأكرمه السلطان، وأنعم عليه. بمائة فرس، ومائة جمل، وسلاح، ومال وثياب، قيمة ذلك خمسمائة ألف درهم فضة. وبعث إليه سائر الأمراء.
وعاد السلطان من سرياقوس أول ذي القعدة، وخلع على يلبغا الناصري في خامسه وأعاده لنيابة حلب، عوضا عن سودن المظفري. واستقر سودن أتابك العسكر بحلب، ثم خلع عليه خلعة السفر في ثامنه، وسار من القاهرة في تاسعه لنيابة حلب.
وفي ثاني عشره: قدم البريد بأن تمربغا الأفضلي منطاش نائب ملطية خامر، ووافقه القاضي برهان الدين أحمد صاحب سيواس، وقرا محمد التركماني، والماجاري نائب البيرة ، ويلبغا المنجكي، وعدة من الأشرفية.
وفي ثالث عشره: عدى السلطان إلى بر الجيزة، وتصيد.
وفي عشرينه: استقر قُطلَيجا الصفوي في ولاية قليوب، عوضا عن الصارم إبراهيم الباشقردي وفي سادس عشرينه: عاد السلطان من الصيد بالجيزة إلى القلعة.
وفي تاسع عشرينه: جاءت رأس بدر بن سلام، فعلقت على باب القلعة.
وكان قد فر وفسدت أحواله بالبحيرة، والسلطان يعمل فكره في قتله، إلى أن قتله بعض أتباعه، وأحضر رأسه إلى الكاشف، فحملها، وكفى السلطان شره.
وفيه استقر نجم الدين أبو العباس أحمد بن قاضي القضاة عماد الدين إسماعيل بن شرف الدين محمد بن أبي العز صالح المعروف بابن الكِشك قضاء الحنفية بدمشق، وعوضا عن تقي الدين الكُفْري.
وفي رابع ذي الحجة: استقر زين الدين أمير حاج ابن مغْلطاي، في نيابة الإسكندرية، وعزل الأمير بجمان المحمدي. واستقر أمير حاج بن أيدمر والي الأشمونين، وعزل الصارم إبراهيم الشهابي القازاني.
وفي خامس عشرينه: قدم مبشرو الحاج، وأخبروا أن عنان بن مغامس لم يقابل الأمير قُرقُماس الطَشتمري الخازندار أمير الحاج، وتوجه من مكة إلى نخلة ، فدخل علي بن عجلان إليها، وقرئ تقليده بالحرم، وتسلم مكة، ثم خرج في طلب عنان ففر منه.
وفْيه خلع الواثق محمد بن أبي الفضل بن أبي الحسن، وأعيد السلطان المخلوع أبو العباس أحمد بن أبي سالم إبراهيم بن أبي الحسن، فملك فاس في " خامس " رمضان، وحمل الواثق إلى طنجة، فسجن بها ثم قتل.
ومات في هذه السنة من الأعيان
الوزير الصاحب شمس الدين إبراهيم المعروف بكاتب أرلان، ليلة الثلاثاء سادس عشرين شعبان. وأصله من نصارى مصر، وأظهر الإسلام. وخدم في دواوين الأمراء، حتى تعلق بخدمة الملك الظاهر - وهو أمير - فولاه نظر ديوانه. ثم فوض إليه الوزارة لما صارت إليه سلطنة مصر، فنفذ الأمور، ومشى الأحوال أحسن تمشية، مع الغاية في وفور الحرمة، ونفوذ الكلمة، والتقلل في ملبسه ومركبه وسائر أسبابه، بحيث كان كهيئة أوساط الكتاب. ودخل في الوزارة، وأحوال الوزارة غير مستقيمة، وليس للدولة حاصل من عين ولا غلة، وقد استأجر الأمراء النواحي بأجر قليلة عجلوها، فكف أيدي الأمراء عن النواحي، وضبط المتحصل، ومشى على القواعد القديمة، والقوانين المعروفة، فهابه الخاص والعام. وجدد مطابخ السكر، ودواليب النقود ومات والحاصل ألف ألف درهم فضة وثلاثمائة ألف وستون ألف أردب غلة، وستة وثلاثون ألف رأس من الغنم، ومائة ألف طائر من الأوز والدجاج، وألف قنطار من الزيت، وأربعمائة قنطار ماء ورد، قيمة ذلك كله خمسمائة ألف دينار.
ومات الأمير تاج الدين إسماعيل بن مازن الهواري، وترك أموالا جزيلة.
ومات القاضي شهاب الدين أحمد بن الجمال إبراهيم بن إسحاق الغزاوي الشافعي، خطيب المدرسة الصالحية، وشاهد الإصطبلات السلطانية في تاسع عشر صفر.
ومات الأمير سيف الدين بهادر أستادار طبج، كاشف الوجه البحري، في نصف رمضان.(2/389)
ومات الشيخ صدر الدين سليمان بن يوسف بن مُفلح الياسوفي بدمشق، معتقلا بقلعتها. وكان من أعيان فقهائها الشافعية وأكابر محدثيها. واشتهر بالزهد والعفة، واتهم بأنه ممن مالىء الفقهاء الظاهرية، فاعتقل بسبب ذلك.
ومات الأمير سيف الدين طيْنال المارديني، عتيق الناصر محمد بن قلاون، ترقى في الخدم من الأيام الناصرية، حتى صار من أمراء الألوف في أيام الناصر حسن، ثم نفاه إلى دمشق، فأقام بها إلى أن استبد الأشرف شعبان، أحضره إلى القاهرة، وأعطاه إمرة مائة، ثم نزعها منه، وأعطاه إمرة طبلخاناه، ثم جعله والي قلعة الجبل، فباشر ذلك مدة، ثم أعطى إمرة عشرة، وتُرك طرخانا، حتى مات في شهر رمضان.
ومات الأمير سيف الدين طقتمش الحسني، أحد المماليك اليلبغاوية، وأمير طبلخاناة. مات في تاسع عشرين رجب.
ومات زين الدين أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن الحفيد بن رُشْد السجلماسي المغربي المالكي، سمع بغلناطة أبا البركات محمد بن إبراهيم البلفيقي، وبمكة ضياء الدين أبا الفضل محمد بن خليل بن عبد الرحمن بن محمد بن عمر بن حسن القسطلاني، وبالمدينة النبوية عفيف الدين المطري. وبرع في الفقه وغيره. وأقام بالقاهرة زمانا. وولى قضاء المالكية بحلب، فسار في الناس سيرة عسوف، فعزل. وأقام بغزة حتى مات. ومولده في ثاني عشرين شعبان سنة ست وعشرين وسبعمائة.
ومات الرئيس نور الدين على بن عنان التاجر بالخاص، في ليلة الجمعة ثامن عشر شوال.
ومات الخطيب ناصر الدين محمد بن علي بن محمد بن محمد بن هاشم، بن عبد الواحد بن عشاير الحلبي، بالقاهرة، في ليلة الأربعاء سادس عشرين ربيع الآخر. وكان فقيها شافعيا، عارفا بالفقه والحديث، والنحو والشعر وغيره. ولي هو وأبوه خطابة حلب. وقدم إلى القاهرة، فلم تطل مدته بها، حتى مات.
ومات القاضي فتح الدين محمد بن قاضي القضاة بهاء الدين عبد الله بن عبد الرحمن ابن عقيل الشافعي، موقع الدرج، في حادي عشرين صفر - ومات الشيخ شمس الدين محمد بن الحافظ محب الدين عبد الله بن أحمد ابن المحب الحنبلي الدمشقي بها. وكان إماما في الحديث والورع والزهد.
ومات الشيخ أمين الدين محمد بن محمد بن محمد النسفي الخوارزمي البلغاري المعروف بالخلوتي، في سابع عشرين شعبان خارج القاهرة.
ومات القاضي شمس الدين محمد القرمي الحنفي، قاضي العسكر، في سابع عشرين ربيع الآخر.
ومات القاضي شمس الدين محمد بن علي بن الخشاب الشافعي في تاسع عشرين شعبان. حدث بصحيح البخاري عن وزيره والحجار. وناب في حسبة القاهرة، وعمر.
ومات القاضي شمس الدين محمد بن الوحيد الدمشقي، باشر نظر المواريث ونظر الأوقاف. بمدينة مصر، وشهادة الجيش، مات في سابع ربيع الأول.
ومات الشيخ شمس الدين محمد بن قطب البكري الشافعي، في خامس عشر شوال. تصدر للإشتَغال بالفقه مدة.
سنة تسعين وسبعمائة
في المحرم: قدم قاصد من الأمير منطاش،، يخبر أنه باق على الطاعة، فقدم البريد من حلب أنه خارج عن الطاعة، وقصد بهذا المدافعة عنه،َ حتى يدخل فصل الربيع، وتذوب الثلوج. فسير السلطان الأمير سيف الدين تُلَكتمُر الدوادار بعشرة آلاف دينار للأمراء المجردين، تقوية لهم وتوسعة عليهم، وليعرف حقيقة أمر منطاش وقدم الأمير جُمُق بن الأتابك أيْتمش من حلب، وقد قلد الناصري النيابة بها.
وفي يوم السبت حادي عشرينه: قدم الأمير قُرقُماس - أمير الحاج - بالمحمل، والحاج، بعد ما أصابهم سيل عظيم في ترعة حامد - فم وادي القباب - فمات فيه عدد كبير، غرق منهم جمع ودفن مائة وسبعة، وتلف من الأمتعة شيء لا يعبر عنه كثرة، وذلك في ليلة التاسع عشر منه.
وفيه سمر علي بن نجم أمير عرب الفيوم، ومعه عشرون رجلا، ووسطوا كلهم، بسبب قتلهم محمد وعمر ابني شادي.
واستقر الأمير علاء الدين أقبغا المارداني كاشف الجيزة.
وقدم رسل ابن عثمان ملك بُرصا، فأنزلوا بالميدان الكبير بخط موردة الجبس.
واستقر عمر بن الخطاب في ولاية الفيوم وكشفها، وكشف البهنسا وأطفيح، عوضا عن أمير أحمد بن الركن.
وفي أول صفر استقر أيدمر أبو زلطة نائب الوجه البحري. وعزل قطلوبغا أبو درقة. واستقر أبو درقة كاشف الوجه البحري.
وفي ثامن عشره: أحضر ترسل ابن عثمان إلى الخدمة بالقلعة، وقدموا هدية مرسلهم.(2/390)
وقدم الخبر برحيل تمرلنك عن توريز إلى سمرقند وأن الأسعار ارتفعت بسائر بلاد الشام، وأبيعت الغرارة القمح في بلد الرملة بثلاثمائة درهم فضة، فنقل الناس الغلال من ديار مصر إليها.
وقدم الخبر بأن الشريف عنان بن مغامس اقتتل مع الشريف علي بن عجلان، وانهزم من علي. ثم قدم مقاصده يسأل السلطان العفو عنه.
وقدم البريد بأن مِنْطاش خرج من ملطية إلى سيواس، فسار البريد بالخلع والأموال. لتفرق في تَلك البلاد.
وفيه فرق نجم الدين محمد الطنبدي محتسب القاهرة عدق فقراء الفقهاء على الباعة بسائر الأسواق، ليعلموهم من القرآن ما لا بد منه في الصلاة، فاستمر ذلك، وقرر لكل معلم على كل حانوت فلسين في كل يوم.
وفي ربيع الأول: منع قراء الأجواق عامة من التهنيك وأن يكون عوضه الصلاة على النبي.
وفي هذا الشهر: وقع بالقاهرة، ومصر وضواحيهم طاعون وحميات حادة، وفشى الموت بذلك في الناس.
وفيه عمل السلطان المولد النبوي بالقصر على العادة، وأقيم السماع بإبراهيم بن الجمال وأخيهخليل يشبب.
وفي ليلة الأربعاء ثماني عشره: حضر ابنا الجمال المذكورين عند بعض أهل مصر مولدا. فلما أقيم السماع سقط البيت. بمن فيه، فمات ابنا الجمال في ستة أنفس، وسلم من عداهم.
ومن الاتفاق الغريب أنه كان يغني بهذه الأبيات:
تغنيت في حبكم ... ولا فادني منه .فن
وخضت بحار الهوى ... وجزت بوادي محن .
وقالوا به جنة ... ومثلي بكم من يجن.
فؤادي بكم هايم ... وعقلي بكم مفتن
أغني ولي فيكم ... فؤاد كثير الشجن
سيطرب من في الحمى ... ويرقص حتى السكن.
فلما وصل في غنائه إلى قوله " ويرقص حتى السكن " سقط البيت على من فيه وتتمة هذه الأبيات :
لقد جئت مستِعذرا ... لكم يا أهيل المحن.
فجودوا على عبدكم ... وإن لم تجودوا فمن
وفي هذه الليلة: عمل الشيخ المعتقد إسماعيل بن يوسف الإنبابي المولد على عادته في زاويته بناحية منبوبة من الجيزة تجاه بولاق، فكان فيه من الفساد ما لا يوصف، إلا أنه وجد من الغد في المزارع مائة وخمسون جرة فارغة من جرار الخمر التي شربت - تلك الليلة في الخيم، سوى ما حكى عن الزنا واللياطة، فجاءت ريح كادت تقتلع الأرض.بمن عليها، وامتنع الناس من ركوب النيل فتأخروا هناك.
واتفق في هذا الشهر موت خمسة من المشهورين، لم يخلفوا بعدهم مثلهم في مغناهم، وهم: علم الدين سليمان القرافي المادح، مات ليلة الخميس تاسعه وإبراهيم ابن الجمال المغني، وأخوه خليل المشبب، في ليلة الأحد ثاني عشره. وعلي بن الشاطر رئيس المؤذنين بالجامع الأزهر، في ليلة الإثنين ثالث عشره. والمعلم إسماعيل الدجَيجاتي، في ليلة الأربعاء خامس عشره.
وفيه ورد الخبر بدخول العسكر المصري إلى بلاد ملطية، لقتال منطاش.
وفي يوم السبت ثالث ربيع الآخر: استقر جمال الدين يوسف بن محمد بن عبد اللّه الحميدي في قضاء الحنفية بالإسكندرية، وعزل همام الدين عبد الواحد السواسي العجمي.
وسار الشريف حسن بن عجلان من القاهرة إلى مكة، وسار معه جماعة يريدون العمرة والمجاورة بمكة.
وتزايد الموت، وطلب البطيخ الصيفي للمرضى، فأبيعت البطيخة بخمسين درهما فضة، وأبيع الرطل من الكمثرى بعشرة دراهم.
وفيه ندب قاضي القضاة ناصر الدين محمد ابن بنت ميلق، جماعهَ، فقرأو بالجامع الأزهر صحيح البخاري، ودعوا الله تعالى في رفع الطاعون. واجتمعوا أيضاً في يوم الجمعة سادس عشره بالجامع الحاكمي، وفعلوا ذلك. ثم اجتمعوا مرة ثالثة بالجامع الأزهر، بعد عصر يوم الإثنين تاسع عشره، ومعه كثير من الأطفال الأيتام، فكان جمعا موفوراً.
وفي سادس عشرينه: استقر الأمير أيدكار العمري، حاجب الحجاب بديار مصر، عوضا عن الأمير قطلوبغا الكوكاي، وكانت هذه الوظيفة متوفرة نحو أربع سنين بعد وفاة الكوكاي، وأضيف إليه نظر الخانقاة الشيخونية. واستقر الأمير سيف الدين المعروف بسيدي أبو بكر بن سنقر الجمالي حاجب ميسرة بإمرة مائة، عوضا عن أيدكار بحكم انتقاله حاجب الحجاب.
وفي ثامن عشرينه: قدم الأمير بلّوط الصَرغَتمُشى.(2/391)
وفي تاسع عشرينه: مات الأمير سُبْرج والي باب قلعة الجبل. وكثر الموت في المماليك بالقلعة، فكان يموت منهم في كل يوم زيادة على عشرين نفسا.
وفي أَول جمادى الأولى: بلغت عدة الأموات الواردين على الديوان إلى مائتين وخمسة وثلاثين، سوى من يموت بالمارستَان، وسوى الطرحاء على الطرقات.
وفي رابعه: استقر بحاس النوروزي نائب باب القلعة، وتزايدت عدة الموتى.
وفي رابع عشره: استقر فخر الدين عبد الرحمن بن عبد الرزاق بن إبراهيم بن مكانس في نظر الدولة، عوضا عن أمين الدين عبد اللّه بن ريشة بعد موته.
وفي حادي عشرينه: ورد صراي تَمُر - دوادار الأمير يونس الدوادار، ومملوك نائب حلب - على البريد بأن العسكر توجه إلى سيواس، وقاتل عسكرها، وقد استنجدوا بالتتر، فأتاهم منهم نحو الستين ألفا، فحاربوهم يوما كاملا، وهزموهم، وحصروا سيواس بعدما قتل كثير من الفريقين، وجرح معظمهم، وأن الأقوات عندهم عزيزة فجهز السلطان إلى العسكر مبلغ خمسين ألف دينار مصرية، وسار بها تُلَكتمُر الدوادار في سابع عشرينه.
ثم أن العسكر تحركوا للرحيل عن سيواس، فهجم عليهم التتار من ورائهم فبرز إليهم الأمير يلبغا الناصري نائب حلب، وقتل منهم خلقا كثير، وأسر نحو الألف، وأخذ منهم العسكر نحو عشرة آلاف فرس، وعادوا سالمين إلى جهة حلب.
وفي حادي عشرينه: استقر كل من جَركس وقُطْلوبَك السيفي أمير جاندار عوضا عن يَلْبُغا المحمدي وألطنبغا عبد الملك بعد موتهما. وقدم البريد بقتل الصارم إبراهيم بن شهري نائب دوركي على سيواس.
وفي يوم الثلاثاء ثالث جمادى الآخرة: استقر الأمير جمال الدين محمود بن على شاد الدواوين في أستادارية السلطان، بعد موت الأمير بهادر المنجكي، واستقر ناصر الدين محمد بن الحسام لاجين الصقري أستادار الأمير سودن باق في شد الدواوين.
وفي يوم الخميس خامس جمادى الآخرة: أنعم على كل من بَلُوط الصَرْغَتْمشىُ ونوغيه العلاي، وناصر الدين محمد بن الأمير محمود بإمرة طبلخاناة. وعلى كل من داود ابن دلغادر، وناصر الدين محمد بن الحسام الصقري الشاد بإمرة عشرة.
وفيه استقر الأمير محمود الأستادرار مشير الدولة، وخلع عليه، فتحدث في الدولة، والخاص، والديوان المفرد، وصار عزيز مصر. وحضر عنده الصاحب علم الدين كاتب سيدي، وموفق الدين أبو الفرج ناظر الخاص، وائتمرا بأمره.
وفي ثامنه: ارتفع الوباء بعدما تجاوز الثلاثمائة في كل يوم.
وفي عاشره: قدم البريد من الأمير يونس ومن نائب حلب بخبر وقعة سيواس التي ذكرناها، وعود العسكر إلى ملطية، فكتب بإحضار الأمير يونس الدوادار على البريد.
وفي ثاني عشره: خلع على الصاحب علم الدين خلعة استمرار، بعقب غضب السلطان عليه.
وفي رابع عشره - الموافق سادس عشرين بؤونة: - أخذ قاع النيل فجاء ستة أذرع وثمانية أصابع.
وفيه قدم الفقيه قاضي القضاة ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون الأشبيلي المغربي من الحجاز إلى القاهرة.
وفي تاسع رجب: قدم الأمير تُلَكتمر الدوادار، وأخبر بأن منطاش قد فر من سيواس خوفا من القاضي برهان الدين أحمد صاحبها أن يقبض عليه.
وفي خامس عشره: استقر الأمير قُطلوبُغا الأسَنْقجاوي أبو درقة كاشف الوجه البحري، عوضا عن ركن الدين عمر بن إلياس بن أخلا قُرطُ.
وفي خامس عشرينه: استقر مُقْبل الطيبي والي قوص ملك الأمراء بالوجه القبلي، وعزل مبارك. واستقر الصارم إبراهيم الشهابي في ولاية قوص.
وفي أول شعبان: أوفي النيل، ووافق ثالث عشر مسرى.
وفي ثالثه: قدم العسكر المجرد والأمراء من سيواس إلى قلعة الجبل بغير طائل، فخلع على الأمراء وأركبوا خيولا بقماش ذهب، فكانت غيبتهم عن. القاهرة سنة، أياما.
وفي عاشره: استقر بتخاص السودوني - حاجب طرابلس - في نيابة صفد بعد موت أركماس .
وفي خامس عشره: طلب السلطان الطواشي بهادُر مقدم المماليك، فلم يوجد بالقلعة، فأحضره سكرانا من بيت على البحر، فاشتد حنق السلطان عليه، ونفاه إلى صفد، وأعطى بها إمرة عشرة. واستقر عوضه الطواشي شمس الدين صواب السعدي - المعروف بشنكل الأسود - مقدم المماليك في سابع عشره. واستقر الطواشي سعد الدين بشير الشرفي عوضا عن شنكل في نيابة المقدم.(2/392)
وفيه قدمت رسل الفرنج بجنوة في الحديث بسبب من قبض عليه من الفرنج. وذلك أنه ورد الخبر أن بعض أقارب السلطان قدموا من بلاد الجراكسة في البحر، فأخذهم الفرنج، فقبض على من بالإسكندرية منهم، وختم على أموالهم.
وفي ثالث عشرينه: قدم البريد.بموت قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم بن جماعة بدمشق، فصلى عليه صلاة الغائب بجوامع القاهرة ومصر، في يوم الجمعة خامس عشرينه.
وفيه عُقد عقد القاضي جمال الدين محمود القيصري - قاضي العسكر - على ابنة ناصر الدين محمد بن المعلم شهاب الدين أحمد الطيلُوني في بيت الأمير يونس الدوادار، فكان يوما مشهودا.
وفيه استقر القاضي سرى الدين أبو الخطاب محمد ابن قاضي القضاة جمال الدين أبي عبد الله محمد بن زين الدين أبي محمد عبد الرحيم بن علي بن عبد الملك السُّلمي المسَّلاتي في قضاء القضاة بدمشق، عوضا عن البرهان بن جماعة، وحمل إليه التشريف والتقليد إلى دمشق، مسئولا بذلك.
وفي ثامن رمضان: خلع على الصاحب علم الدين عقب عافيته من مرضه، وعلى الفخر بن مكانس ناظر الدولة، وابن الحسام الشاد، وعلى محمد بن صدقة الأعسر، واستقر والي الأشمونين، عوضا عن أمير حاج بن أيدمر ونقل أمير حاج إلى ولاية الفيوم وكشفها وكشف البهنسا وأطفيح عوضا عن عمر بن خطاب.
واستقر محمد بن الهذباني في ولاية البهنسا، وعزل قُوزي.
وفي تاسع عشره: قبض على سعد الدين نصر الله بن البقري ناظر الديوان المفرد،وسلم لشاد الدواوين، وألزم بخمسة آلاف دينار، فباع أملاكه. وقبض على سعد الدين ابن قارورة مستوفي الدولة - وألزم بثلاثين ألف درهم.
وفي رابع عشرينه: قبض على الصاحب الوزير علم الدين عبد الوهاب بن القسيس، المعروف بكاتب سيدي. واستدعى الصاحب كريم الدين عبد الكريم بن الغنام، وخلع خلعة الوزارة، وسلم إليه كاتب سيدي، فألزمه.بمال حمل منه ثلاثمائة ألف درهم، بعد ما قبض على حواشيه، والحاج عبيد البزدار، مقدم الدولة.
وفي يوم الخميس - سادس شوال: قدم من حلب الأمير قرادمراش باستدعاء.
وفي تاسعه: قدم من الحجاز الشريف عنان بن مغامس أمير مكة، واستجار بالأمير الكبير أَيتمش، ونزل عنده، فشفع فيه، وأحضره إلى السلطان، فعفا عنه.
وفي عاشره: استقر شمس الدين محمد بن أخي الجار النيسابوري في مشيخة سعيد السعداء، عوضا عن شهاب الدين أحمد الأنصاري.
وخرج الحاج على العادة، وأمير الركب الأول جركس الخليلي أمير آخور، وأمير الركب الثاني أقبغا المارداني، صحبة المحمل.
وقدم الخبر من أمراء دمشق.بمخامرة أَلطُنبُغا الجوباني نائب دمشق، وأنه ضرب طُرنُطاي حاجب الحجاب، واستكثر من استخدام المماليك، فبلغ الجوباني ذلك، فاستأذن في الحضور، فأذن له، فركب البريد من دمشق ونزل سرياقوس - خارج القاهرة - ليلة الخميس سابع عشرينه، فبعث إليه السلطان الأمير فارس الصَرْغَتْمشُى الجوكندار، فقيده وسار به إلى الإسكندرية، فسجنه بها. وقبض بقلعة الجبل في يوم السبت تاسع عشرينه على الأمير أَلْطُنْبغا المعلم أمير سلاح، وقردُم الحَسَنيِ - رأس نوبة - وقيدا، وحملا إلى سجن الإسكندرية، مع أَلْجبُغا الجمالي الدوادار.
واستقر الأمير سيف الدين طرنطاي حاجب دمشق في نيابتها، عوضا عن الجوباني، وحمل إليه التشريف والتقليد من قلعة الجبل إلى دمشق، مع سودن الطرنطاي. وكتب بقبض الأمير كمشبغا الحموي نائب طرابلس، فقدم سيفه في عاشر ذي القعدة.
وفي حادي عشره: استقر الأمير ألجبُغا الجمالي الدوادار خازندارا ثانيا.
وتوجه الأمير شيخ الصفوي بتقليد أسندمر المحمودي حاجب طرابلس نيابة طرابلس.
ونفي كُمُشبغُا الأشرفي الخاصكي رأس نوبة إلى طرابلس، فسار من دمياط لأنه كان في اليزك بها.
وفي خامس عشرينه: عزل أَيدمر نائب الوجه البحري، ثم أعيد من يومه.
وفي سادس عشرينه: قدم البريد بعشرين سيفا من سيوف الأمراء الذين قبض عليهم ببلاد الشام. وكتب بالقبض على الأمراء البطالين ببلاد الشام فقبض عليهم. وأعيد سودن العثماني على نيابة حماة. واستقر كشلي القلمطاوي نائبا.بملطية.
وفي يوم الخميس ثاني ذي الحجة: قدم الأمير سودن الطرنطاي من الشام بعدما قلد نائب دمشق، وقبض على الأمراء، فاستقر في ثامنه رأس نوبة ثانيا عوضا عن قُردُم الحسني.(2/393)
وفيه قدمت رسل الأمير قرا محمد التركماني بكتابه، يخبر أنه أخذ مدينة تبريز، وضرب بها السكة باسم السلطان، ودعا له على منابرها، وسير دنانير ودراهم ضربت بالسكة السلطانية. وسأل أن يكون بها نائبا عن السلطة، فأجيب بالشكر والثناء. واستقر جمق السيفي في ولاية الفيوم وكشفها، عوضا عن أمير حاج بن أَيدَمُر. وقدم الأمير شيخ الصفوي من طرابلس.
وفي ثاني عشرينه: استقر شمس الدين محمد بن عيسى أمير عرب العائد في كشف الشرقية وولايتها، عوضا عن قُطْلُوبُغا التركماني.
وفي سادس عشرينه: قدم مبشرو الحاج، وأخبروا بالأمن والسلامة.
وقدم البريد من الإسكندرية بوصول خواجا علي أخي الخواجا عثمان، ومعه جميع من أسرهم الفرنج من أقارب السلطان. واستقر تقي الدين أبو محمد عبد اللّه ابن قاضي القضاة جمال الدين أبي المحاسن يوسف ابن قاضي القضاة شرف الدين أبي العباس أحمد بن الحسين بن سليمان بن فزارة الكُفْري في قضاء الحنفية بدمشق، عوضا عن نجم الدين أحمد بن أبي العز بن الكشك. واستقر شمس الدين محمد بن الشهاب أحمد بن المهاجر الحلبي في قضاء القضاة الشافعية بحلب، عوضا عن شرف الدين مسعود. وأعيد محب الدين محمد بن الكمال محمد بن الشحنة إلى قضاء القضاة الحنفية بحلب، عوضا عن موفق الدين.
و استقر علاء الدين علي بن أحمد بن عبد الله بن المقارعي في قضاء القضاة الحنابلة بحلب، عوضا عن شهاب الدين أحمد بن فياض.
وكان الحاج من مصر خاصة سبعة ركوب من كثرتهم، سوى ركبي المغاربة والتكاررة، لتتمة تسعة ركوب.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر من الأعيان
قاضي القضاة برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحيم بن محمد بن إبراهيم ابن سعد الله بن جماعة الكناني الشافعي، بدمشق، ليلة الجمعة ثامن عشر شعبان، ومولده سنة خمس وعشرين وسبعمائة. ولم يخلف بعده مثله.
ومات الشيخ جمال الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الرحيم الأسيوطي الشافعي بمكة، في ثاني شهر رجب. وقد أسن وأفتى ودرس، وأسمع صحيح مسلم وغيره.
ومات الأمير شهاب الدين أحمد بن عمر بن قليج والي الفيوم. كان أبوه أحد أمراء الألوف، وكاشف الوجه القبلي.
ومات الشيخ المعتقد إسماعيل بن يوسف الإنبابني، بزاويته بناحية منبابة، في سلخ شعبان.
ومات عماد الدين إسماعيل بن علي، المعروف بابن المشرف، أستادار الأمير جركس الخليلي، في العشرين من ذي القعدة.
ومات الأمير سيف الدين بهادر المنجكي، أستدار السلطان، وأحد الأمراء الألوف،في أول جمادى الآخرة.
ومات الوزير الصاحب علم الدين بن القسيس، المعروف بكاتب سيدي، الأسلمي،في آخر ذي الحجة.
ومات القاضي أمين الدين عبد الله بن مجد الدين فضل الله بن أمين الدين عبد الله بن ريشة القبطي الأسلمي، ناظر الدولة، في ليلة الأربعاء سادس جمادى الأولى.
ومات الأمير سيف الدين جلبان الحاجب، في خامس عشرين رمضان، وكان خيرا متدينا عارفا.
ومات الأمير سيف الدين سُبْرج الكمشبغاوي، نائب قلعة الجبل، في تاسع عشرين ربيع الآخر.
ومات الشيخ علاء الدين أحمد بن محمد، المعروف بالعلاء السيرامي العجمي، شيخ المدرسة الظاهرية المستجدة بين القصرين، في ثالث جمادى الأولى. وكان فاضلا في الفقه على مذهب أبي حنيفة، مشاركا في غيره، مشكور السيرة.
ومات الأمير ناصر الدين محمد بن قطلوبغا المحمدي، المعروف بقشقلدق ، أحد أمراء العشرات، في ثاني جمادى الآخرة.
ومات القاضي عز الدين أبو اليمن محمد بن عبد اللطف بن الكُوَيك الربعي الشافعي، في ثاني عشر جمادى الأولى، عن خمس وستين سنة، وقد أسمع الحديث مدة.
ومات القاضي تقي الدين محمد بن محمد بن أحمد بن شاس المالكي موقع الدست، في سابع عشر شعبان. وقد عين لكتابة السر.
سنة إحدى وتسعين وسبعمائة
أهلت بيوم الخميس.
ففي خامس المحرم: استقر قطلوبك السعدي البريدي والي الشرقية، عوضا عن الأمير شمس الدين محمد بن عيسى العايدي. واستقر ابن عيسى كاشف الشرقية.
وفي ثامنه: قدمت رسل ابن قَرَمان بهدية، فقبلها السلطان، وخلع عليهم.
وفي تاسع عشره: قدمت رسل فرنج جنوة بالخواجا علي وأقارب السلطان ومعه هدية ملكهم، فقبلت، وخلع عليهم.
وفيه قدم الأمير جركس الخليلي من الحجاز بإخوة السلطان.(2/394)
وفي ثالث عشرينه: قدم البريد من سيس بأن خليل بن دلغادر، ونائب سيس، جمعا تركمان الطاعة وحاربوا سولى بن دلغادر ومنطاش، وقتلوا كثيرا من أصحابهما، وهزماهما، وغنما ما معهما من الأموال والحريم.
وفيه قدم الأمير أقبغا المارداني بالمحمل وبقية الحاج.
وفيه استقر الشيخ جلال الدين نصر الله البغدادي الحنبلي في تدريس المدرسة الظاهرية المستجد بدرس الحديث النبوي، عوضا عن الشيخ أحمد بن أبي يزيد المعروف بمولانا زاده السيرامي. واستقر قاضي القضاة ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن ابن خلدون عوضه في تدريس الحديث بالمدرسة الصَرْغُتمشية، خارج القاهرة.
وفي هذا الشهر: أشيع أن الأمير يلبغا الناصري - نائب حلب - وقع بينه وبين الأمير سودُن المظفري، وكاتب كل منهما في الآخر، فلهج العامة في كل وقت بقولهم: " من غلب صاحب حلب " ، حتى لا تكاد تجد صغيرًا ولا كبيراً إلا ويقول ذلك، حتى كان من غلب الناصري نائب حلب ما يأتي ذكره، فكان هذا من غرائب الاتفاقات.
وفي يوم الأحد خامس صفر: جمع السلطان الأمراء الخاصكية في الميدان تحت القلعة، وشرب معهم القمز ، وقرر لشربه يومي الأحد والأربعاء.
وفي سابعه: استقر سيف الدين أبو بكر بن شرف الدين موسى بن الديناري في ولاية قوص، عوضا عن الصارم إبراهيم الشهابي.
وفي عاشره: بعث السلطان هدية الأمير يلبغا الناصري، فيها عدة خيول بقماش ذهب وقباء واستدعاه ليحضر. فلما قدم ذلك عليه خشي أن يفعل به كما فعل بالأمير ألطنبغا الجوباني، فكتب يعتذر عن الحضور بحركهَ التركمان ومنطاش، والخوف على حلب منهم، فلم يقبل السلطان عذره، وكثر تخيله منه. وبعث الأمير تلكتمر المحمدي الدوادار إلى حلب، وعلى يده مثالين ليلبغا الناصري وسودُن المظفري أن يصطلحا بحضرة الأمراء والقضاة. وسير معه خلعتين يلبسانهما بعد صلحهما. وحمله في الباطن عدة ملطفات إلى سودن المظفري، وغيره من الأمراء، بقبض الناصري وقتله إن امتنع من الصلح. وكان مملوك الناصري قد تأخر عن السفر ليفرق كتبًا من أستاذه على الأمراء، يدعوهم إلى موافقته على الثورة بالسلطان. وأخر السلطان جواب الناصري الوارد على يده ليسبقه تلكتمر إلى حلب، فبلغ المملوك ما على يد تلكتمر من الملطفات، وأخذ الجواب، وسار على البريد وجد في السوق حتى دخل حلب قبل تلكتمر. وعرف الناصري الحال كله، ويقال إن تلكتمر كان بينه وبين الشيخ حسن - رأس نوبة الناصري - مصاهرة، فلما قرب من حلب بعث يخبره.بما أتى فيه، فتنبه الناصري لما أخبره الشيخ حسن برسالة تلكتمر، واحترز لنفسه. وخرج حتى لقي تلكتمر على العادة، وأخذ منه المثال، وحضر به إلى دار السعادة، وقد اجتمع الأمراء والقضاة وغيرهم لسماع المثال السلطاني. وتأخر سودُن المظفري عن الحضور والرسل تستدعيه، حتى حضر وهو لابس آلة الحرب من تحت ثيابه. فعندما دخل الدهليز جس قازان البرقشي - أمير آخور الناصري - كتفه، فوجد السلاح وقال: " يا أمير، الذي يريد الصلح يدخل لابس آلة الحرب. " فسبه المظفري، فسل قازان عليه السيف وضربه، وأخذته السيوف من الدين رتبهم الناصري من مماليكه حتى برد ، فجرد ممالكيه أيضاً سيوفهم، وقاتلوا مماليك الناصري، فقتل بينهم أربعة. وثارت الفتنة، فقبض الناصري على حاجب الحجاب وأولاد المهمندار، وعدة ممن يخافهم، وركب إلى القلعة وتسلمها. واستدعى التركمان والعربان، وقدم عليه الأمير منطاش معاونا له، وداخلاً في طاعتة. وبعث تلكتمر إلى السلطان، فقدم في خامس عشره وأعلم السلطان بخروج الناصري عن الطاعة، واجتمع الناس معه، وكتب السلطان في سابع عشره إلى الأمير سيف الدين أينال اليوسفي أتابك دمشق بنيابة حلب، وجهز إليه التشريف والتقليد. وطلب السلطان في ثامن عشره القضاة والأعيان وأهل الدولة من الأمراء وغيرهم، وحدثهم بعصيان الناصري واستشارهم في أمره، فوقع الاتفاق على إرسال عسكر لقتاله، فحلف الأمراء كلهم ، ثم خرج السلطان إلى القصر الأول، وحلف أكابر المماليك على الطاعة.
وفي تاسع عشره: ضربت خيمة كبيرة بالميدان تحت القلعة، وضرب بجانبها عدة صواوين برسم الأمراء، ونزل السلطان إلى الخيمة، وحلف الأمراء وسائر المماليك. ثم مد لهم سماطاً جليلا، فأكلوا وانفضوا.(2/395)
وفي رابع عشرينه: قدم البريد من دمشق بأن قرا بغا فرج الله، وبزلار العمري، ودمرداش اليوسفي، وكمشبغا الخاصكي الأشرف، وأقبغا حنجق، اتجمع معهم عدة كبيرة من المماليك المنفيين، وقبضوا على الأمير سيف الدين أسندمر نائب طرابلس، وقتلوا من الأمراء صلاح الدين خليل بن سنجر وابنه وقبضوا على جماعة، ودخلوا في طاعة الناصري.
وفيه عرض السلطان المماليك، وعين منهم أربعمائة وثلاثين للسفر ورسم لمن يذكر من الأمراء بالسفر، وهم: الأمير الكبير أيتمش الأتابك، والأمير جركس الخليلي أمير آخور، والأمير شهاب الدين أحمد بن يلبغا أمير مجلس، والأمير يونس الدوادار، والأمير أيدكار حاجب الحجاب، وهؤلاء أمراء ألوف. ومن أمراء الطبلخانات فارس الصَرْغَتْمُشى، وبَكْلمش رأس نوبة، وجركس المحمدي، وشاهين الصرغتمشى، وأقبغا الصغير السلطاني، وأينال الجركسي أمير آخور، وقديد القلمْطاوي. ومن أمراء العشراوات خضر بن عمر بن بَكتمُر الساقي، وناصر الدين محمد بن محمد بن أقبغا آص وحمل إلى الأمير أيتمشِ مائتا ألف درهم فضة، وعشرة آلاف دينار ذهباً مصرية. وإلى كل من أمراء الألوف مائة ألف درهم وخمسة آلاف دينار ما خلا أيدكار، فإنه حُمل له مبلغ ستين ألف درهم مع الذهب نظيرهم. ولمن عداهم من الأمراء لكل منهم بلغ خمسين ألف درهم، وألف دينار، وأربعمائة دينار.
وفي سادس عشرينه: قدم البريد بأن مماليك الأمير سيف الدين سودن العثماني - نائب حماة - هموا بقتله، ففر إلى دمشق، وأن الأمير سيف الدين بيرم العزي الحاجب بحماة دخل في طاعة الناصري، وملك حماة، فعرض السلطان المماليك وعين منهم أربعة وسبعين، لتتم جملة من يسافر من المماليك خمسمائة.
وورد الخبر باستيلاء الفرنج على جزيرة جَربة.
وفي يوم الجمعة سابع عشرينه: رسم للأمير بجاس والي باب القلعة ، فتوجه إلى الخليفة المتوكل، ونقله إلى برج وضيق عليه ،ومنع الناس من الدخول إليه خوفاً من الناصري أن يدس من يأخذه، فإنه - أي الناصري - شنع على السلطان بأمور أكبرها سجن الخليفة. فبات الخليفة به ليلة واحدة، ثم أعيد إلى مكانه. ورسم للطواشي مقبل الزمام بالتضييق على الأسياد أولاد الملوك الناصرية، ومنع من يتردد إليهم، والفحص عن أحوالهم، ففعل ذلك.
وفي يوم الإثنين ثاني ربيع الأول: خرج البريد بتقليد الأمير سيف الدين طُغاي تَمُر القبلاوي - أحد أمراء دمشق - نيابة طرابلس.
وفي خامسه: قدم قاصد خليل بن دلغادر بكتاه، يخبر أن سُنْقُر - نائب سيس - توجه إلى الناصري ودخل في طاعته، فلما عاد قبض عليه، وبعث سيفه، فخلع على قاصده.وفيه أنفق في المماليك نفقة ثانية، فالأولى لكل واحد من الخمسمائة مملوك ألف درهم فضة، والثانية أيضاً ألف درهم، سوى الخيل والجمال والسلاح، فإنه فرق في أرباب الجوامك لكل واحد جملان، ولكل اثنين من أرباب الأخباز ورتب لهم اللحم والجرايات والعليق، فرتب لكل من رءوس النوب في اليوم ست عشرة عليقة، ولكل من أكابر المماليك في اليوم عشر علائق، ولكل من أرباب الجوامك خمس علائق. ورسم لكل مملوك في دمشق.بمبلغ خمسمائة درهم.
وفي رابع عشره: استدعى السلطان شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني إلى مسجد رُديني داخل القلعة، واستدعى الخليفة المتوكل على الله فقام إليه وتلقاه، وأخذ في ملاطفته والاعتذار إليه، وتحالفا. ومضى الخليفة إلى موضعه، فبعث إليه السلطان عشرة آلاف درهم، وعدة بقج، فيها صوف وثياب سكندرية، وفرو، لتتمة القيمة عن الجميع ألف دينار. فبعث الخليفة بجزء وافر من ذلك إلى شيخ الإسلام، وإلى والي القلعة.
وتواترت الأخبار بدخول سائر أمراء الشام والمماليك اليلبغاوية والأشرفية، وسولى أمير التركمان، ونعير أمير العربان، في طاعة الناصري على محاربة السلطان. وأنه أقام سناجق خليفتيه، وأخذ جميع القلاع، خلا دمشق وبعلبك والكرك، فكثر الاضطراب بالقاهرة وقلعة الجبل. وخرج الأمراء والمماليك في يوم السبت رابع عشره إلى الريدانية خارج القاهرة بتجمل عظيم واحتفال زائده، فإن الدولة كانت لم تطرق والبلد لم يتغير حاله، والناس في عافية بلا محنة.
وأقاموا في التبريز إلى يوم الإثنين سادس عشره، فكانت أياما مشهودة .
وفيه قدم البريد من صفد بأن وقعة كانت بها من أجل مخامرة بعض الأمراء.(2/396)
وفيه أنعم على قرابغا الأبو بكري بإمرة صراي الرجي الطويل، وأنعم بإقطاعه على طغايَ تمُر الجَرَكتمُرى.
وفي سابع عشره: عزل موفق الدين أبو الفرج من نظر الجيش، واستقر عوضه جمال الدين محمود القيسري قاضي العسكر الحنفي، واستقر الشيخ شرف الدين عثمان الأشقر إمام السلطان في قضاء العسكر. واستقر القاضي سراج الدين عمر الحنفي العجمي محتسب القاهرة في تدريس التفسير بالقبة المنصورية، عوضاً عن جمال الدين ، برغبته له عنه.
وقدم البريد من دمشق بأن سودن العثماني - نائب حماة - جدد له بركا بدمشق، وأقام عسكرا وسار معه الأمير صارم الدين إبراهيم بن هُمُزْ التركماني يريد أخذ حماة، فلقيه الأمير منطاش بعسكر حلب، وقاتله وهزمه إلى حمص، ومعه ابن هُمُز. وفيه أمر السلطان بإبطال الرماية والسلَف على البرسيم والشعير، وإبطال قياس الفصب والقلقاس، والإعفاء بما على ذلك من المقرر السلطاني.
وفي سلخه: عزل مُقْبل الطيبي عن نيابة الوجه القبلي، وأعيد مبارك شاه.
وفي يوم الثلاثاء أول ربيع الآخر: قدم البريد من دمشق بأن كُمُشْبُغا المنجكي - نائب بعلبك - دخل في طاعة الناصري.
وفي خامسه: قدم البريد بأن ثلاثة عشر من أمراء دمشق خرجوا. بمماليكهم إلى حلب نصرة للناصري، فواقعهم النائب بمن معه، وجرح منهم عدة، وساروا إلى حلب. وأن الأمير جركس الخليلي لما قدم إلى غزة، أحس.بمخامرة الأمير علاء الدين أقبغا الصفوي نائب غزة، فقبض عليه، وبعثه إلى الكرك، وأقر في نيابة غزة الأمير حسام الدين حسن ابن باكيش.
وفي عاشره: أنعم على بلاط المنجكي بإمرة عشرين، عوضا عن نوغاي العلاي بعد موته.
وفي حادي عشره: عزل ناصر الدين محمد بن العادلي، واستقر عوضه في ولاية منوف أقبغا البَشْتَكي. وعزل الصارم إبراهيم الباشقردي من ولاية أشموم الرمان، واستقر عوضه علاء الدين علي بن المقدم.
وفي تاسع عشره: عزل قنُق السيفي عن كشف الفيوم وولايتها، وكشف البهنسا وأطفيح، واستقر شاهين الكلبكي عوضه. وعزل محمد بن صدقة بن الأعسر من الأشمونين، واستقر عوضه عز الدين أيدَمُر المظفري.
وفي عشرينه: قدم رسول قرا محمد التركماني، ورسول الملك الظاهر صاحب ماردين، بقدومهما إلى الخابور ، ويستأذنان في محاربة الناصري، فأجيا بالثناء والشكر، وأنهما ادخرا لأهم من هذا. ودخل العسكر المصري إلى دمشق يوم الإثنين سابع ربيع الآخر، فتلقاه الأمير حسام الدين طُرُنطاَي النائب، واتفقوا على إرسال طائفة من أعيان الفقهاء إلى الناصري ليدخلوا بينه وبين السلطان في الصلح، فساوا في ثاني عشره بكتب الأمراء وهو فيما بين قارا والنبك فلما وصل الجماعة إليه تلقاهم ووعدهم بالجميل وأنزلهم في مكان، ووكل بهم من يحفظهم. وقد سار من حلب.بمن معه يريد دمشق. وقد أقبل المماليك السلطانية على الفساد بدمشق، واشتغلوا باللهو حتى نزل عليهم الناصري، في يوم السبت تاسع عشره، خان لاجين - خارج دمشق - فخرج في يوم الأحد ويوم الإثنين حادي عشرينه عساكر مصر ودمشق إلى برزة والتقوا بالناصري علي خان لاجين وقاتلوه قتالا شديداً، انكسر فيه مرتين من المماليك السلطانية. فعندما تنازلوا في المرة الثانية أقلب الأمير أحمد بن يلبغا رمحه، وصاح " فرج الله " ، ولحق بعسكر الناصري، ومعه مماليكه، وتبعه الأمير أيدكار والأمير فارس الصرْغَتْمُشى والأمير شاهين أمير آخور،.بمن معهم، وقاتلوا المماليك ومن بقي من أمراء مصر ودمشق، معاونة للناصري، فثبتوا لهم ساعة، ثم انهزموا. فهجم مملوك من عسكر الناصري يقال له يلبغا الزيني الأعور، وضرب الأمير جركس الخليلي فقتله، وأخذ سلبه ، وترك رمته بالعراء عارية مدة، إلى أن كفنته امرأة ودفنته. ومدت التراكميين أيديهم ينهبون من انهزم، ويأسرون من ظفروا به. ولحق الأمير أيتَمش بدمشق، وتحصن بقلعتها. وتمزق سائر العسكر، ودخل الناصري دمشق في يومه بعساكره وجموعه، ونزل بالقصر من الميدان، وتسلم القلعة بغير قتال. وأوقع الحوطة على سائر ما للعسكر.
وقيد أيْتَمش وطُرُنَطاي نائب دمشق، وسجنهما بالقلعة. وتتبع بقية الأمراء والمماليك، فقبض من يومه على الأمير بَكلَمش العلاي في عدة من المماليك، واعتقلهم. ومدت الأجناد والتركمان أيديهم إلى النهب، وتبعهم أوغاد الناس، فما عفوا ولا كفوا، وتمادوا على هذا عدة أيام.(2/397)
وفي رابع عشرينه: عزل سُنْقُر السيفي عن ولاية دمياط واستقر عوضه ركن الدين عمر بن إلياس، قريب قُرُط.
وفي سادس عشرينه: استقر قاضي القضاة ولي الدين أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون في مشيخة الخانقاة الركنية بيبرس، عوضا عن شرف الدين عثمان الأشقر بعد موته.
وفي سابع عشرينه: ورد الخبر من غزة بكسرة الأسراء والممالك في محاربة الناصري، واستيلائه على دمشق، وقتل الخليلي، والقبض على الأمير أيتمش وغيره، فاضطربت الناس بالقاهرة ومصر وظواهرهما اضطرابا عظيما، وغلقت الأسواق، وانتهبت الأخباز، وشغب الزعر، وتجمع أهل الفساد. وكان في البلد وباء، والناس في شغل بدفن موتاهم، فاشتد الخوف، وتزايد الإرجاف، وشنعت القالة.
وفي ثامن عشرينه: صرف سراج الدين عمر بن منصور بن سليمان القرمي العجمي عن حسبة مدينة مصر، واستقر في قضاء العسكر عوضا عن شرف الدين عثمان الأشقر. استقر عوضا عنه في حسبة مصر همام الدين العجمي. واستقر الشيخ شمس الدين محمد بن علي البلالي الحلبي في مشيخة سعيد السعداء، عوضاً عن الشيخ شمس الدين محمد ابن أخي جار الله النيسابوري بعد موته. واستقر شمس الدين محمد القليجي في إفتاء دار العدل عوضا عن النيسابوري.
وفيه خرج السلطان إلى الإيوان، واستدعى المماليك واختار منهم خمسمائة، وأنفق فيهم ذهبا حسابا عن ألف درهم فضة ة ليتوجهوا إلى دمشق صحبة الأمير سودن الطرنطاي.
وفي تاسع عشرينه: أنفق في خمسمائة مملوك ثم في أربعمائة، لتتمة ألف وأربع مائة مملوك. ثم أنفق في المماليك الكتابية، لكل مملوك مائتي درهم فضة.
وفي يوم الأربعاء أول جمادى الأولى: أنعم على كل من قرابغا الأبو بكري وبجاس النوروزي والي القلعة ،وشيخ الصفوي وقرقماس الطشتمري بإمرة مائة وتقدمة ألف ، انقلوا إليها من إمرة الطبلخاناه وأنعم على كل من ألجبغا الجمالي الخازندار، وألطنبغا العثماني رأس نوبة، ويونس الأسْعَردي الرماح، وقنق باي الألجاوي اللالا، وأسن بغا الأرغون شاهي، وبغداد الأحمدي، وأرسلان السيفي اللفاف، وأحمد الأرغوني، وجرباش الشيخي، وألطنبغا شادي، وأروس بغا المنجكي، وإبراهيم بن طَشْتمُر العلاي، وقراكسك السيفي، بإمرة طبلخاناه، نقلوا إليها من إمرة العشرة. وأنعم على كل من السيد الشريف بكتمُر الحسني والي القاهرة - كان - وقنق باي الأحمدي بإمرة عشرين. وعلى كل من سيف الدين بطا الطولو تمري، ويلبغا السودوني، وسودن اليحياوي، وتانى بك اليحياوي، وأرغون شاه البيدمري وأقبغا الجمالي الهذباني، وقوزى الشعباني، وتعزي بردي، وبكبلاط السونجي وأردبغا العثماني، وشكرباي العثماني، وأسنبغا السيفي، بإمرة عشرة، وكانوا من جملة المماليك.
وفيه قدم البريد من قطا بأن الأمير أينال اليوسفي، والأمير أينال أمير آخور، وإياس أمير آخور، دخلوا إلى غزة في عسكر، فاشتد الاضطراب، وكثر الخوف، وبدا على السلطان سيماء الزوال. وفي يومه استدعى السلطان القضاة والأعيان وشيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني.
وبعث الأمير سودن الطُرُنْطاي والأمير قُرقُماس الطَشتمُري، فأحضرا الخليفة المتوكل على الله، فقام إليه السلطان وتلقاه وأجلسه، وأشار إلى القضاة فحلفوا كلا منهما للآخر، فحلفا على الموالاة والمناصحة، وخلع على الخليفة، وقيد إليه حجرة شهباء بسرج وكنبوش وسلسلة ذهب، فركب ونزل من القلعة إلى داره، وبين يديه الأمير بجاس النوروزي، وغيره، في موكب جليل إلى الغاية، فكان يوماً مشهوداً. وأًعيدت إقطاعاته ورواتبه، وأخلى له بيت بالقلعة ليسكنه، فنقل إليه حرمه، وسكنه، وصار يركب وينزل لداره، ويسير حيث شاء، من غير ترسيم، إلا أنه لا يبيت إلا.بمنزله من القلعة وأفرج فيه أيضاً عن الأمير أسَنْبُغا السيفي ألجاي من خزانة شمايل، وأنعم عليه بإمرة طبلخاناه، وخيل وجمال وثياب وسلاح كبير.
وفيه عرض السلطان المماليك، وهم لابسين آلة الحرب، وقد ركبوا على خيولهم، وتفقد ما يحتاجون إليه، وأنعم عليهم به.(2/398)
وفي يوم الجمعة: ثالثه قدم الأمير شهاب الدين أحمد بن بقر، أمير عرب الشرقية - ومعه هجان الأمير جركس الخليلي، وحدث السلطان بتفصيل وقعة الأمراء مع الناصري، وأنه فر مع الأمير يونس الدوادار في خمس نفر، فعارضه الأمير عَنْقاء بن شَطِّى أمير آل مرا بالقرب من الخربة ، وأخذ يونس الدوادار وقتله، وبعث برأسه إلى الناصري، ووقع الأمير أينال اليوسفي بيد حسن بن باكيش بالقرب من غزة، فبعث به إلى الكرك مقيدا. ففت ذلك في عضد السلطان، واشتد قلقه، وانحط قدره، وزالت مهابته، واستشعر كل أحد ذهاب ملكه منه.
وفي رابعه: نودي في القاهرة ومصر بإبطال سائر المكوس، فتفرق الكتاب وأرباب الشرط من مقاعدهم التي كانوا يجلسون بها لأخذ المكوس.
وفي سادسه: ركب الخليفة المتوكل على الله والأمير سودن الشيخوني - نائب السلطة - وقضاة القضاة، وشيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني، فكان الموكب للخليفة وبجانبه شيخ الإسلام وبين يديه النائب والحجاب والقضاة والأعيان، وداروا، ورجل على فرس أمامهم يقرأ من ورقة، أن السلطان قد أزال المظالم، وهو يأمر الناس بتقوى الله، ولزوم الطاعة، وأنا قد سألنا العدو الباغي في الصلح، فأبى وقد قوي أمره، فاحفظوا دوركم وأمتعتكم، وأقيموا الدروب على الحارات والسكك، وقاتلوا عن أنفسكم وحريمكم فتزايد خوف الناس وقلقهم، وشرعوا في عمل الدروب وشراء الأقوات، والاستعداد للقتال والحصار.وكثر كلام العامة وانتقاصهم للدولة، وتجمع الزعر والدُعَّار ينتظرون قيام الفتنة، لينتهبوا الناس. وألزم الوزير الصاحب كريم الدين عبد الكريم بن الغنام مباشري جهات المكس بإحضار مكوس المبيعات، فاعتلوا بأن الناس امتنعوا من إعطاء المكس إعمادا على المناداة بإبطال المكوس، فألزمهم. بمطالبة الباعة.بمكس ما أبيع، فكثر بسبب ذلك اضطراب الناس، وتزايد طعنهم وهزؤهم بالدولة، وتناجوا فيما بينهم، وأكثروا من الجهر بقولهم: " السلطان من عكسه عاد في مكسه " . وبدا من الأمير قرا دمرداش وغيره تخذيل السلطان عن الحركة، وأنه يحصن القلعة، ويقاتل من ورائها. هذا وقد انقطعت الأخبار عن مصر، فإن مأمور نائب الكرك، وابن باكيش - نائب غزة - دخلا في طاعة الناصري ومنعا أحداً أن يرد إلى مصر، فكثر الكلام إلى أن قدم أحد مماليك السلطان الذين حضروا الوقعة، وأخبر.بما أخبر به ابن بقر، وذلك في سابعه، فزال الشك وتيقن كل أحد إدبار أمر السلطان.
وفي تاسعه: دمت طوائف من هوارة نجدة للسلطان، ونزلوا تحت القلعة ووقع الشروع في حفر خندق القلعة، ومرمة أسوارها، وتوعير طريق باب القلعة المعروف بياب القرافة، وتوعير باب الحوش، وباب الدرفيل وسدت خوخة أيدغمش حتى صار لا يدخل منها راكب فرس. ونودي بإبطال مكس النشا، ومكس النحاس، ومكس الجلود.
وفي عاشره - وهو يوم الجمعة: - دعى في الخطة بجوامع القاهرة ومصر، للخليفة المتوكل على اللّه قبل السلطان.
وفي ثاني عشره: اجتمع القضاة بالمشهد النفيسي لقراءة تقليد ولد الخليفة المتوكل بنظر المشهد المذكور، ثم توجهوا إلى رباط الآثار النبوية، وقرأوا صحيح البخاري، ودعوا الله تعالى للسلطان، وسألوه إخماد الفتنة.
وفي ثالث عشره: استقر قرا دمرداش أتابك العساكر، عوضا عن أَيتَمش البجاسي، وسودن باق أمير سلاح، وقرقماش الطشتمري الخازندار دوادار عوضاً عن يونس، وقرا بغا الأبو بكري أمير مجلس، عوضا عن أحمد بن يلبغا، وأقبغا المارداني حاجب الحجاب، عوضا عن أيدكار، وتمربغا المنجكي أمير آخور، عوضا عن جركس الخليلي، وخلع عليهم كلهم.
وأنعم على صلاح الدين محمد بن محمد بن تنكز بإمرة طبلخاناه وعلى جلبان الكمشبغاوي الخاصكي بإمرة طبلخاناة.
وفيه كثر الاهتمام بتحصين قلعة الجبل، ونقل الأحجار إليها ليرمى بها في المنجنيق، وأمر سكان القلعة بادخار القوت لشهرين، ورسم بجمع الحجارين لسد فم وادي السدرة بجوار الجبل الأحمر، وأن يبني حائط بين باب الدرفيل وسور القلعة، وأن يبنى أيضاً حائط من جوار باب الدرفيل إلى الجبل.(2/399)
وفيه أيضاً نودي بأن يركب من له فرس من أجناد الحلقة للحرب، ويخرج من ليس له فرس بنشاب يرمي به مع العسكر، أو يصعد إلى القلعة حتى يرمي من بين شرفاتها، فكثر الهرج، وشنع الكلام، وتزايد القلق، وصارت الشوارع كلها ملآنة بالخيول الملبسة آلة الحرب. وطلبت آلات القتال بكل ثمن، فكسب أربابها مالا جزيلا، وتحاكى الناس عدة منامات روأها، تدل على زوال دولة السلطان، ولهجوا بذلك.
وفي ثامن عشره: استقر الأمير قرا دمرداش الأتابك في نظر المارستان المنصوري بالقاهرة، وخلع عليه، ونزل إليه على العادة وتتبعت عدة طرق تفضي إلى القلعة فسدت.
وفي سادس عشرينه: استقر فخر الدين عبد الرحمن بن مكانس بمفرده في نظر الدولة من غير شريك، بعد وفاة رفيقه تاج الدين بن ريشة.
وفى سابع عشرينه: قدم الأمير علاء الدين الطَشلاقي والي قطيا منهزماً من عساكر الناصري، فرسم للأمير حسام الدين حسين بن على بن الكوراني والي القاهرة، فسد الباب المحروق والباب الحديد - من أبواب القاهرة - وسد باب الدرفيل بجوار القلعة والباب المجاور للقلعة المعروف قديماً بباب سارية ويعرف اليوم بباب المدرج، تحت دار الضيافة. وسد عدة خوخ وأزقة، يتوصل منها إلى القلعة. وركب عند قناطر السباع ثلاثة دروب، أحدهما من جهة مصر، وأخر من طريق قبر الكرماني، وأخر بالقرب من الميدان، وعمل عدة دروب أخر، وحفر خنادق كثيرة. هذا والموت بالطاعون فخبر في الناس.
وأما الناصري فإنه لما استقر بدمشق، نادى في جميع بلاد الشام وقلاعها ألا يتأخر أحد عن الحضور إلى دمشق من النواب والأجناد، ومن تأخر - سوى من عين لحفظ البلاد - قطع خبزه، وسلبت نعمته. فاجتمع الناس إليه بأسرهم، وأنفق فيهم، وخرج من دمشق بعساكر كثيرة جداً، في يوم السبت حادي عشر جمادى الأولى، وأقر في نيابة دمشق الأمير جَنتمُر أخاطاز وسار حتى نزل قطيا، ففر إليه من أمراء السلطان في ليلة الثلاثاء ثامن عشرين جمادى الأولى سيف الدين طُغيتَمنُر الجركتمري، وأرسلان اللفاف، وأزدبغا العثماني، في عدة من المماليك، ولحقوا بالناصري بعد ما صدفوا الأمير عز الدين أندَمُر أبو درقة - ملك الأمراء بالوجه البحري - وقد سار لكشف الأخبار، فضربوه، وأخذوا جميع ما معه، وساقوه معهم، وفرت عنه مماليكه.
وفي يوم الثلاثاء ثامن عشرينه: أنفق السلطان بالإيوان في العسكر، فأخذ كل من المماليك السلطانية ومماليك الأمراء الألوف وأجنادهم خمسمائة درهم فضة، واستدعاهم طائفة طائفة، وأعطى كل أحد بيده، وسار يحرضهم على القتال معه، وبكى بكاء كثيراً، وفرق جميع الخيول - حتى خيل الخاص - في الأمراء والأجناد.
وفي أثناء ذلك كثرت الشناعة في القاهرة بوصول الناصري ومنطاش، فتزاحم الناس في شراء الخبز، وغلقت الأسواق، ولبس جميع الأمراء آلة الحرب، وركبوا إلى القلعة، ووقفوا بالرميلة، وحمل إلى الأمير أقبغا المارداني جملة مال من السلطان، ليفرق ذلك في الزعر وحملة السلاح من العامة؛ تقوية لهم ليقاتلوا مع العسكر، فاشتد خوف الناس من النهاية وصارت لهم اجتماعات وعصبيات. وافترقوا عدة أحزاب لكل حزب كبير وصاروا يخرجون إلى ظاهر القاهرة ويقتتلون بالحديد والمقاليع، ومن انفردوا من الناس أخذوا ثيابه، فتعطلت الأسواق وشغل كل أحد. مما يترقبه من الخوف والنهب. واستعد الكافة للحصار، وأكثروا من شراء البقسماط والدقيق والدهن ونحو ذلك، ونقل من ذلك ومن الأغنام إلى القلعة شيء كثير جداً. وفي ليلة الأربعاء حضر بهادر والى العرب، وأخبر نزول الناصري إلى الصالحية، ومن معه من العساكر في جهد. وقد وقف لهم في الرمل عدة خيول، واًنه لما وجد الصالحية خالية من العسكر، سر بذلك وسجد للّه شكراً، فإنه كان بحال لو تلقاه عسكر لما وجد فيمن معه منعة يلقى بها، وأن عرب العايد تلقاه بهم الأمير شمس الدين محمد بن عيسى وخدموا على العادة، وأحضروا الشعير وغيره من الإقامات. فرسم للأمير قرا دمرداش أن يتوجه لكشف الأخبار من جهة بركة الحبش؛ خشية أن يأتي أحد من قبل أطفيح، فسار لذلك. ورتب السلطان عسكره نوبتين، نوبة للحفظ بالنهار ونوبة للحفظ بالليل، وسير عدة من الأمراء إلى جهة مرج الزيات طليعة تكشف الخبر.(2/400)
وفي يوم الأربعاء تاسع عشرينه: أنفق في مماليك أمراء الطبلخاناة والعشراوات، فأعطى كل واحد أربعمائة درهم فضة، وأنفق في الحطبردارية والبزدارية والأوجاقية، وأعطاهم القسى والنشاب، ورتب كثيراً من الأجناد البطالين بين شرفات القلعة ومعهم القسى والنشاب وأنفق فيهم المال، واستدعى رماة قسى الرجل من الإسكندرية فحضروا، وأنفق فيهم، ورتبهم بالقلعة في يوم الأربعاء.
وفيه عاد الأمير سيف الدين قجماس ابن عم السلطان، ومن معه من مرج الزيات، ولم يقفوا على خبر، فخرج ليلة الخميس الأمير سودن الطرنطاي في عدة من الأمراء إلى قبة النصر للحرس، وسارت طائفة أخرى إلى بركة الحبش. وبات السلطان بالإصطبل ساهراً لم ينم، ومعه النائب سودن وقرا دمردش، وعدة من المماليك والأمراء.
وفي يوم الخميس أول جمادى الآخرة: توجه الأمير قرا بغا الأبو بكري إلى قبة النصر، وعاد و لم يقف على خبر. وظل الأمراء نهارهم لابسين آلة الحرب، وهم على ظهور خيولهم بسوق الخيل تحت القلعة، ومعهم مماليكهم، ففر من مماليك السلطان اثنان، ومن ممالك الأمراء نحو الخمسين ولحقوا بالناصري. ودارت النقباء على أجناد الحلقة، فحضروا إلى بيتي الأمير سودن النائب، والأمير أقبغا حاجب الحجاب، ففرقوا على أبواب القاهرة، ورتبوا بها لحفظها. وندب الأمير ناصر الدين محمد بن الدواداري - أحد أمراء الطبلخاناه - ومعه جماعة لحفظ قياسر القاهرة وأسواقها. وأغلق والي القاهرة باب البرقية، وأمر الناس بحفظ الدروب والخوخ، ورتبت النفطية على برج الطبلخاناه وغيره بالقلعة.
وقدم الخبر بنزول طليعة الناصري بلبيس، ومقدمها الطواشي تُقْطاي الطَشْتَمُري. وفي يوم الجمعة ثانيه نزلت عساكر الناصري البير البيضاء ، فتسلل إليه العسكر أولاً بأول. فكان أول من يخرج إليه من القاهرة الأمير جبرائيل الخوارزمي، ومحمد بن بَيْدَمُر نائب الشام، والأمير بجمان المحمدي نائب الإسكندرية، وغريب الخاصكي، وأحمد ابن أرغون الأحمدي اللالا.
فنصبت الصناجق السلطانية على برج القلعة، ودقت الكوسات الحربية، فاجتمع الأمراء والمماليك السلطانية والأجناد. وركب السلطان والخليفة المتوكل على الله من القلعة بعد العصر، ووقفا خلف دار الضيافة، وجميع من بقي من العسكر لابسون السلاح. واجتمع حوله من العامة ما لا يقع عليه حصر، ثم سار إلى الإسطبل، وجلس فيه. وصعد الخليفة إلى منزله بالقلعة وقد نزلت الذلة بالدولة، وظهر من جزع السلطان وبكائه ما أبكى الناس شفقة له ورحمة. فلما غربت الشمس صعد إلى القلعة.
وفي يوم السبت ثالثه: نزل الأمير يلبغا الناصري بركة الجب ظاهر القاهرة، ومعه من الأمراء الأمير سيف الدين تمُربغا الأفضلي المدعو منطاش، والأمير سيف الدين بزلار، والأمير سيف الدين كُمُشبغا، والأمير أحمد بن يلبغا الخاصكي، والأمير مأمور، والأمير أيدكار، في آخرين وتقدمت الطلائع إلى مرج الزيات والي مسجد تبر، فغلقت أبواب القاهرة كلها، إلا باب زويلة، وغلقت جميع الدروب والخوخ، وسد باب القرافة، وماج الناس، وانتشر الزعر وأهل الفساد في أقطار المدينة، وأفسدوا.
ونزل السلطان والخليفة من القلعة إلى تحت دار الضيافة، فقدم من الإسكندرية رماة قسى الرجل بالقسى محملة على الجمال، وهم نحو الثلاثمائة رام. ففرق فيهم مائة درهم لكل واحد، ورتبهم في عدة أماكن. ونودي في القاهرة ومصر بإبطال جميع المكوس وفرقت دراهم على العامة. وخرج كثير من العامة إلى بركة الجب، حتى شاهدوا عسكر الناصري وحدثوهم. مما فعله السلطان من تحصين القلعة وغيرها.
وقدم الخبر باًن طليعة الناصري وصلت إلى الخراب طرف الحسينية فلقيهم كشافة السلطان وكسروهم، فسار الأمراء إلى قبة النصر، ونزل السلطان في بعض الزوايا عند دار الضيافة إلى أخر النهار، ثم عاد إلى الإسطبل وعاد إليه الأمراء والمماليك، والكوسات تدق، وهم جميعاً على أهبة اللقاء، ومدافع النفوط لا تفتر، والرميلة قد امتلأت بالزعر والعامة ومماليك الأمراء، فلم يزالوا على ذلك حتى أصبحوا يوم الأحد، فإذا بالأمير علاء الدين أقبغا المارداني - حاجب الحاجب - والأمير جُمق بن الأمير أيتَمُش، والأمير صار الدين إبراهيم بن الأمير طشتمر الدوادار، قد فروا في الليل، ومعهم خمسمائة من مماليك السلطان، ومماليك الأمراء، ولحقوا بالناصري.(2/401)
وفي يوم الأحد رابعه: فر الأمير قرْقُمَاش الطشتَمُري الدوادار، والأمير ترا دمرداش الأحمدي، والأمير سودن باق، صاروا في جملة الناصري، في عدة وافرة، بحيث لم يتأخر مع السلطان إلا طائفة من خاصكيته، من الأمراء، وابن عمه الأمير قَجْماس، وسودن الشيخوني نائب السلطنة، وسودن الطُرُنطاي، وتَمُربغا المنجكي، وسيدي أبو بكر بن سُنْقُر، وبيبرس التمان تَمُري، وشَنْكل المقدم، وشَيْخ الصفوي.
وفيه أغلق باب زويلة وجميع الدروب والخوخ ، وتعطلت الأسواق، وغصت القاهرة بالزعر، واشتد فسادهم، وتلاشت الدولة، واضمحل أمرها. وخاف والي القاهرة على نفسه، فقام من خلف باب زويلة، وسار بمن معه إلى منزله واختفى. وبقي الناس فوضى، فطمع المسجونون بخزانة شمايل، وكسروا قيودهم، وأتلفوا باب الخزانة، وخلصوا على حمية جملة واحدة، فتشبه بهم أهل سجن الديلم والرحبة، وخرجوا أيضاً. واشتد الأمر حتى داخل الخوف كل أحد من الناس على نفسه وماله وأهله، وأمر السلطان من عنده من المماليك، فوقفوا تحت الطبلخاناه، ومنعوا العوام من التوجه إلى يلبغا الناصري؛ لما بلغه من فعلهم بالأمس، فرجمهم العامة بالحجارة، فرماهم المماليك بالنشاب، وقتلوا منهم عدة تزيد على العشرة.
وأقبلت طليعة الناصري، فقاتلهم قجماس ابن عم السلطان، وكثر الرمي عليهم من فوق القلعة بالسهام والنفط والحجارة في المقاليع، وهم يوالون الكر والفر، وأمر السلطان في إدبار، وأصحابه تتفرق عنه شيئاً بعد شيء، وتصير إلى الناصري. وكان السلطان قد فرق في كل من الأمراء الكبار عشرة آلاف دينار، وفي كل من الطبلخاناه خمسة آلاف دينار، وفي كل من العشراوات ألف دينار، وأعطى الأمير قرا دمرداش في ليلة واحدة ثلاثين ألف دينار، وحلفهم ألا يغدروا به، فما أغنى عنه ذلك شيئاً، وفروا عنه، وصاروا مع عدوه عليه، و لم يتأخر عنده إلا من لا غنى فيه. وتكاثر الزعر يريدون نهب القاهرة لكثرة ما كان فيها من حواصل الأمراء، فقاتلهم أهل الحارات والدروب، ومنعوهم، فكان يوماً في غاية الشناعة. فلما كان أخر النهار أراد السلطان أن يسلم نفسه، فمنعه من بقي عنده، وهم قجماس ابن عمه، وسودن النائب، وسودن الطرنطاي، ومحمود الأستادار، وبعض المماليك، وقالوا: " نحن نقاتل بين يديك حتى نموت " . فلم يثق بذلك منهم، لكنه شكرهم على قولهم.
وقدم بعد العصر من عسكر الناصري الطواشي طُقْطاي الطَشْتُمري، والأمير بزلار العمري، والأمير ألطنبغا الأشرفي، في نحو الألف وخمسمائة فارس، يريدون القلعة، فبرز إليهم الأمير بُطا الخاصكي، والأمير شكربيه في عشرين فارساً، فكسروهم إلى قبة النصر. فلم يغتر السلطان بذلك وعلم أن أمره قد زال، فدبر لنفسه، وبعث الأمير المعروف بسيدي أبو بكر بن سُنقر الحاجب، والأمير بَيْدَمُر المجدي - شاد القصر - بالمنجاة إلى الناصري، ليأخذ له منه الأمان، فساروا في خفية، واجتمعا بالناصري خلوة، فأمنه على نفسه، وأمره بالاختفاء حتى يدبر له أمراً، فإن الفتنة الآن قائمة، والكلمة غير متفقة، فعادا إليه بذلك. فلما صلى العشاء الآخرة قام الخليفة إلى منزله بالقلعة، وبقى في قليل من أصحابه، فأذن لسودن النائب في التوجه إلى منزله، والنظر لنفسه، وفرق البقية، فمضى كل أحد لسبيله. واستقر حتى نزل من الإسطبل، فلم يعرف له خبر، وانفض ذلك الجمع من الأسوار وسكن دق الكوسات، ورمى مدافع النفط. ووقع النهب في حواصل الإسطبل، فاًخذوا منه نحو الألفي أردب من الشعير، ومائتي ألف درهم من الفلوس الجدد، وسائر ما كان فيه. ونهبوا أيضاً ما كان فيه.
ونهبوا أيضاً ما كان بالميدان من الغنم الضأن، وعدتها نحو الألفي رأس. ونبت طباق المماليك بالقلعة، واشتد بأس الزعر، وتخطفوا من مر بهم من المماليك والأجناد، وأخذوا ما عليه وأحاط أصحاب الناصري بالقلعة، وأعلموا الناصري بفرار السلطان، فثبت مكانه.
وزالت دولة الملك الظاهر كأن لم تكن، فكانت مدة تحكمه منذ قبض على الأمير طَشْتَمُر الدوادار في تاسع ذي الحجة سنة تسع وسبعين وسبعمائة، إلى أن جلس على تخت الملك وتلقب بالملك الظاهر في تاسع عشر شهر رمضان سنة أربع وثمانين وسبعمائة، أربع سنين وتسعة أشهر وعشرة أيام.(2/402)
ويقال له في هذه المدة الأمير الكبير أتابك العساكر. ومن حين تسلطن إلى أن اختفي ست سنين، وثمانية أشهر، وسبعة عشر يوماً فيكون مدة حكمه أميراً وسلطاناً إحدى عشرة سنة وخمسة أشهر وسبعة وعشرين يوماً. وترك ملك مصر وله نحو الألفي مملوك اشتراهم، سوى المستخدمين. وكانت له في مدته هذه آثار فاضلة، منها: إبطاله ما كان يؤخذ من أهل البرلس، وشورى، وبلطيم من أعم المصر شبه الجالية في كل سنة، وهو مبلغ ستين ألف درهم فضة، وما كان يؤخذ على القمح بثغر دمياط من المكس، وما كان يؤخذ من معمل الفراريج بالنحريرية وأعمال الغربية بديار مصر، وما كان يؤخذ على الملح من المكس بعين تاب، وما كان يؤخذ على الدقيق بالبيرة من المكس، وما كان يؤخذ في طرابلس عند قدوم النائب إليها من قضاة البر وولاة الأعمال، عن كل واحد مبلغ خمسمائة درهم، في ثمن بغلة، ويقال لذلك " مقرر النائب " ، وما كان يحمل في كل سنة من الخيل والجمال والبقر والغنم من أهل الشرقية بديار مصر إلى من يسرح إلى العباسة؛ وما كان يؤخذ من مكس الدريس والحلفاء خارج باب النصر من القاهرة، وضمان المغاني بالكرك والشوبك من البلقاء ومنية بني خصيب، وزفتي بديار مصر. وأبطل رمي الأبقار عند فراغ عمل الجسور على أهل النواحي. وأنشأ من العمائر المدرسة بخط بين القصرين من القاهرة. ولم يعمر داخل القاهرة مثلها، ولا بأرض مصر والشام نظيرها، بعد مدرسة السلطان حسن، ولا أكثر معلوماً منها، بعد خانكاة شيخو. وله أيضاً السبيل من الصهريج بقلعة الجبل من أحسن المباني، والسبيل تجاه الإيوان بالقلعة، والطاحون بالقلعة أيضاً، وجسر الشريعة على نهر الأردن، وطوله مائة وعشرون ذراعاً في عرض عشرين ذراعاً. وجدد خزائن السلاح بالإسكندرية، وسور دمنهور بالبحيرة. وعمر الجبال الشرقية بالفيوم، وزريبة البرزخ بدمياط، وقناة بالقدس. وبنى بحيرة برأس وادي بني سالم، قريباً من المدينة النبوية.
وكان حازماً، مهاباً، محباً لأهل الخير والعلم، إذا أتاه أحد منهم قام إليه، و لم يعرف قبله أحد من ملوك الترك يقوم لفقيه، وقل ما كان يمكن قام إليه، وقل ما كان يمكن أحد من تقبيل يديه، إلا أنه كان محباً لجمع المال. وحدث في أيامه تجاهر الناس بالبراطيل، فلا يكاد أن يلي أحد وظيفة ولا عملاً إلا بمال، فترقى للأعمال الجليلة والرتب السنية الأراذل، وفسد بذلك كثير من الأحوال. وكان مولعاً بتقديم الأسافل، وحط ذوي البيوتات، وغيَّر ما كان للناس من الترتيب، وعادى أكابر التركمان والعربان ببلاد الشام ومصر والحجاز.
واشتهر في أيامه ثلاثة أشياء قبيحة: إتيان الذكران، حتى تشبه البغايا لبوارهن بالغلمان، لينفق سوق فسوقهن، وذلك لاشتهاره بتقريب المماليك الحسان، وتهمته وتهمة أمرائه بعمل الفاحشة فيهم. والتظاهر بالبراطيل التي يستأديها، واقتدى الولاة به في ذلك، حتى صار عرفاً غير منكر البتة.
وكساد الأسواق وقلة المكاسب، لشحه وقلة عطائه. وبالجملة فمساوئه أضعاف حسناته. ولقد بعت العبد الصالح جمال الدين عبد الله السَكسيوي المغربي يخبر أبي - رحمهما اللّه - أنه رأى في منامه أن قرداً صعد منبر الجامع الحاكمي، وخطب ثم نزل، ودخل المحراب ليصلي بالناس الجمعة، فثار الناس عليه في أثناء صلاته بهم، وأخرجوه من المحراب. وكانت هذه الرؤيا في أخريات سلطة الملك الأشرف شعبان ابن حسين، وفي سنة ثمان وسبعين وسبعمائة. فكان تقدمه على الناس وسلطنته تأويل هذه الرؤيا، فإنه كان متخلقاً بكثير من أخلاق القردة، شحاً وطمعاً وفساداً ورذالة، ولكن اللّه يفعل ما يريد.
السلطان الملك الصالح المنصور حاجي
ابن الملك الأشرف بن حسين بن محمد بن قلاون ولما اختفى الملك الظاهر برقوق في الليل، سار الأمير منطاش بكرة يوم الاثنين خامس جمادى الآخرة إلى باب القلعة، فنزل إليه الخليفة، وسار معه إلى الأمير يلبغا الناصري بقية النصر خارج القاهرة، وقد انضمت أوغاد العامة وزعرانها إلى التركمان من أصحاب الناصري، وتفرقوا على بيوت الأمراء وحواصلهم، فانتهبوا ما وجدوا، وشعثوا الدور، وأخذوا أبوابها وكثيراً من أخشابها، وتطرقوا إلى منازل الناس خارج القاهرة، فانتهبوا كثيراً منها.(2/403)
وقدم ناصر الدين محمد بن الحسام أستادار أرغون هزكه والي البهنسا، كان من قبل الناصري على أنه والي القاهرة، فوجد باب النصر مغلوقاً، فدخل بفرسه راكباً من الجامع الحاكمي إلى القاهرة، وفتح بابي النصر والفتوح.
واقتحم كثير من عسكر الناصري المدينة، وعاثوا فيها، ومعهم من الزعر وأراذل العامة عالم عظيم، وحاصروا الدروب والحارات والأزقة ليدخلوا إليها و ينهبوها، فمنعهم الناس وقاتلوهم جهدهم، فغلب الزعر وأشباههم على حواصل الأمير محمود الأستادار، بالقرب من الجامع الأزهر، وأخذوا منه شيئاً كثيراً، وغلبوا على عدة حوانيت للتجار بشارع القاهرة، ونهبوها، فقاتلهم الناس، وقتلوا منهم أربعة. فمر بالناس من الأهوال ما لا يوصف. وبلغ الخبر الناصري، فندب سيدي أبو بكر أمير حاجب وتنكز بغا رأس نوبة إلى حفظ القاهرة، فدخلا، ونودي بالأمان، وأن من ينهب شيئاً، فلا يلومن إلا نفسه، ونزل تنكز بغا عند الجملون وسط شارع القاهرة، ونزل سيدي أبو بكر عند باب زويلة، فسكن الحال. وعندما أقبل الخليفة إلى وطاق الناصري، قام إليه، وتلقاه، وأجلسه بجانبه، وحضر قضاة القضاة والأعيان للهناء. وأُمر الخليفة فصار إلى خيمة، وأخرج القضاة إلى خيمة أخرى.
واجتمع عند الناصري من معه من الأمراء لتدبير أمرهم، وإقامة أحد في السلطنة، فأشار بعضهم بسلطنة الناصري، فامتنع من ذلك، وانفضوا بغير طائل، فتقدم الناصري بكتابة مرسوم عن الخليفة، وعن الأمير الكبير يلبغا الناصري، بالإفراج عن الأمراء المعتقلين بالإسكندرية، وهم ألطنبغا الجوبانى، وقردم الحسني، وألطنبغا المعلم، وإحضارهم إلى قلعة الجبل وسار البريد بذلك، وأمر بالرحيل من قبة النصر، وركب في عالم كبير من العساكر القادمين معه، وعدتهم فيما يقال نحو الستين ألفاً، وأن عليق جماله في كل ليلة ألف وثلاثمائة أردب. وسار إلى القلعة، فنزل بالإسطبل السلطاني ونزل الخليفة بمنزله من القلعة، ونزلت الأمراء في منازل أمراء الظاهر برقوق، ففي الحال حضر إلى الناصري الوزير الصاحب كريم الدين عبد الكريم بن الغنام وموفق الدين أبو الفرج ناظر الخاص، وجمال الدين محمود ناظر الجيش، وفخر الدين عبد الرحمن بن مكانس ناظر الدولة، والأمير ناصر الدين محمد ابن الحسام شاد الدواوين، وبدر الدين محمد بن فضل الله كاتب السر، وسائر أرباب الوظائف وقاموا بخدمته، فتقدم إلى ابن الحسام بتحصيل الأغنام لمطابخ الأمراء. وإذا بالناس تصرخ تحت القلعة، وتشكوا من كثرة نهب التراكمين والزعر، فأمر الناصري الأمير منكلي الحاجب، وسيدي أبو بكر حاجب الحاجب، وأقبغا المارداني، وبلوط، فنزلوا إلى القاهرة ونودي بأن من نهب من الترك والتركمان والعامة فاقتلوه. ووقف ابن الحسام متولي القاهرة عند باب زويلة لمنع من يدخل إلى القاهرة، وقبض على ثلاثة من التركمان، وسجنوا بخزانة شمايل، فخف الأمر. ونزل أيضاً طائفة من الأمراء لحراسة القاهرة وظاهرها. ورسم للأمير تنكز بغا رأس نوبة بتحصيل مماليك الظاهر برقوق، فأخذ في تتبعهم.
وأصبح الناس يوم الثلاثاء في هرج ومرج وقالات كثيرة في الظاهر برقوق. واستدعى الناصري الأمراء وشاورهم فيمن ينصب في السلطنة، حتى استقر الرأي على إقامة الملك الصالح حاجي بن الأشرف، فإنه خلعه برقوق بغير موجب، فصعدوا من الإصطبل إلى الحوش بالقلعة واستدعوه، وأركبوه بشعار السلطنة من الحوش إلى الإيوان، وأجلسوه على تخت الملك به، ولقبوه بالملك المنصور، وقلده الخليفة أمور الناس على العادة، وقبل الأمراء الأرض بين يديه. ودقت البشاير، وقام إلى القصر وسائر أرباب الدولة بين يديه. ونودي في الحال بالقاهرة بالأمان والدعاء للملك المنصور، والأمير الكبير يلبغا الناصري، وتهديد من نهب، فاطمأن الناس.
ورتب الناصري عند الملك المنصور بالقصر من الأمراء علاء الدين ألطنبغا الأشرفي، وأرسلان اللفاف، وقراكسك، وأردبغا العثماني.
ورسم بمنع الأتراك والتركمان من دخول القاهرة. ونزل سيدي أبو بكر بن سنقر الجمالي، وتنكز بغا رأس نوبة، ونودي بين أيديهما بتهديد من نهب شيئاً، وأقام تنكز بغا عند الجملون وسط القاهرة، وأبو بكر بن سنقر عند باب زويلة، وأخرجا من كان في القاهرة من المماليك والتركمان.(2/404)
وطلب الأمير حسين بن الكوراني، وخلع عليه عند الناصري باستمراره على ولاية القاهرة، ونزل وقد سر الناس ولايته، فنادى بالأمان، والبيع والشراء، والدعاء للسلطان والأمير الكبير وتعين الصاحب كريم الدين عبد الكريم بن عبد الرزاق بن إبراهيم بن مكانس مشير الدولة، وتعين أخوه فخر الدين عبد الرحمن لنظر الدولة على عادته، وأخوهما زين الدين نصر الله في ديوان الأمير الكبير يلبغا الناصري. فاستدعى الفخر ابن مكانس مباشري الجهات، وأعاد جميع المكوس التي أبطلها الملك الظاهر، فأخذت من الناس على العادة. ونودي بأمان الجراكسة، وأن جميع المماليك والأجناد على حالهم لا يغير على أحد منهم شيء مما هو فيه، ولا يخرج عنه إقطاعه.
وفي يوم الأربعاء سابعه: قدم الجوباني وقردم وألطنبغا المعلم من الإسكندرية على البريد إلى الأمير الكبير، ونودي بأن من ظهر من المماليك الظاهرية فهو باق على إقطاعه، ومن اختفى بعد هذا النداء حل ماله ودمه للسلطان. ورسم لسودن النائب بلزوم بيته بطالاً. وصار الأمير محمود الأستادار إلى ابن مكانس المشير، وترامى عليه، فأصلح حاله على مال يحمله إلى الأمير الكبير، وجمع بينهما، فأمنه الأمير الكبير.
وفي ثامنه: اجتمع الأمراء وغيرهم في القلعة للخدمة السلطانية، فأغلق باب القلعة، وقبض على تسعة من الأمراء المقدمين وهم الأمير سودُن الفخري الشيخوني نائب السلطنة، وسودن باق، وسودن الطرنطاي، وشيخ الصفوي، وقجماس الصالحي ابن عم الظاهر برقوق، وأبو بكر بن سنقر الحاجب، وأقبغا المارديني حاجب الحاجب، وبجاس النوروزي، ومحمود بن على الأستادار، وقبض من أمراء الطبلخاناه على عبد الرحيم بن منكلي بغا الشمسي، وبوري الأحمدي، وتمربغا المنجكي، ومنكلي الشمسي الطرخاني، ومحمد جمق بن الأمير أيتمش، وطوجي، وقرمان المنجكي، وحسن خجا، وبيرس التمان تمري، وأحمد الأرغوني، وأسنبغا الأرغون شاهي، وقنق باي السيفي الجاي، وجرباش الشيخي، وبغداد الأحمدي، ويونس الرماح الأسعردي، وأروس بغا الخليلي، وبطا الطولوتمري، وقوص المحمدي، وتنكز العثماني، وأرسلان اللفاف، وتنكز بغا السيفي، وألطنبغا شادي، وأقبغا اللاشيني، وبلاط المنجكي، وبجمان المحمدي، وألطنبغا العثماني، وعلى بن أقتمر عبد الغني، وإبراهيم بن طشتمر العلاي، وخليل بن تنكزبغا، ومحمد بن الدواداري، وسليمان بن يوسف الشهرزوري، وحسام الدين حسين بن على الكوراني الوالي، وبلبل الرومي الطويل، والطواشي صواب السعدي شنكل المقدم، ومقبل الدواداري الزمام. ومن أمراء العشراوات أزدمر الجوكاني، وقمارى الجمالي، وحلبان أخو مامق، وقلم طاي ابن ألجاي اليوسفي، وأقبغا توز الشيخوني وصلاح الدين محمد بن محمد بن تنكز، وعبدوق العلاي، ويمنشاه الشيخوني، وطولو بغا الأحمدي، ومحمد بن أرغون الأحمدي، وإبراهيم بن الشيخ على ابن قرا، وغريب ابن حاجي، وأسَنْبُغَا السيفي، وأحمد بن حاجي بك بن شادي، وأقبغا الجمالى الهذباني، وأمير زاه بن ملك الكرج، وحلبان الكمشبغاوى، وموسى بن أبى بكر بن سلار أمير طبر، وقنق باي الأحمدي، وأمير حاج بن أيدغمش وكمشبغا اليوسفي، ومحمد بن أقتمر الصاحبي الحنبلي النائب، وأقبغا الناصري حطب، ومحمد بن سنقر المحمدي، وبهادر القجاوي، ومحمد بن طغاي تمر النظامي، ويونس العثماني، وعبد الرحمن بن منكلي بغا الشمسي، وعمر بن يعقوب شاه، وعلى بن بلاط الكبير، ومحمد بن أحمد بن أرغون النائب، ومحمد بن بكتمر الشمسي، وألجبغا الدوادار، ومحمد ابن يونس الدوادار، وخليل بن قرطاي شاد العماير، ومحمد بن قرطاي نقيب الجيش، وقطلربك أمير جندار. وقبض على جماعة من المماليك.
وسفر قجُمْاس ابن عم الظاهر برقرق إلى طرابلس على البريد. وأفرج عن شَنكل المقدم، ومقبل الزمام، وشيخ الصفوي، ومحمد بن يونس الدوادار، وإبراهيم بن طشتمر للدوادار، وعبد الرحيم وعبد الرحمن ابني منكلي بغا، ومحمد بن الدواداري، وخليل ومحمد ابني قرطاي، ويمن شاه، وقماري، وحسين بن الكوراني، وعلي بن أقتمر عبد الغني، وتنكز بغا، وبجمان، وبوري، وأقبغا اللاشيني، وخليل بن تنكزبغا، وسليمان بن يوسف الشهرزوري، وأزدمر الجوكاني، وجامان، وقماري الجمالي، وابن ألجاي اليوسفي، وابن أقتمُر الحنبلي، وابن أيْدَغْمُش، وأحمد بن حاجي بك، وموسى أمير طبر. وسجن البقية بالزردخاناه.(2/405)
وفيه نودي بالقاهرة ومصر وظواهرهما من أحضر السلطان برقوق وكان عامياً خلع عليه، وأعطى ألف دينار، وإن كان جندياً أعطي إمرة عشرة، واٍ ن كان أمير عشرة أعطي طبلخاناة، وإن كان أمير طبلخاناة، أعطي إمرة مائة، ومن أخفاه بعد النداء شنق، وحل ماله للسلطان، فكثر كلام العامة في ذلك.
وفي ليلة الجمعة: حمل الأمراء المسجونون في الحراريق إلى سجن الإسكندرية خلا الأمير محمود. وعدتهم تسعة وعشرون أميراً، ونفي المماليك.
وفي يوم الجمعة تاسعه: قبض على ابن بقر، وابن عيسى العايدي، وابن حسن السلطاني، وطولبوا بمال قرر عليهم، ثم أطلقوا.
وفي عاشره: أفرج عن أقبغا المارداني بشفاعة صهره أحمد بن يلبغا، فأعيد من الحراقة ومعه محمد بن تنكز، ورسلان اللفاف.
وورد الخبر باجتماع طائفة كبيرة من المماليك الظاهرية بناحية أطفيح، فتوجه إليهم الأمير منطاش، وعاد ولم يلقهم.
وفيه نودي ثانياً على الملك الظاهر، وهدد من أخفاه، فكثر الدعاء من العامة له، وعظم الأسف على فقده وثقلت وطأة أصحاب الناصري على الناس، ونفروا منهم، فصار العامة يلهجون كثيراً، بقولهم: " راح برقوق وغزلانه وجاء الناصري وثيرانه " .
وفيه قبض على الأمير محمود وولده محمد، وقيد بقيد زنته أربعون رطلاً، وقوائمه عشرة أرطال. وجعل في عنقه ثلاث باشات.
وفي حادي عشره: استقر الشريف بكتمر بن على الحسينى في كشف الجيزة، وابن الطشلاقى في ولاية قطيا على عادته. وقبض على الطواشي بهادر الشهابي مقدم المماليك، كان وقد حضر مع الناصري، وختم على حواصله. وذلك أنه اتهم بأنه أخفى السلطان الملك الظاهر، وأخرج منفيا إلى قلعة المرقب، هو وأسنبغا المجنون.
وفي ثاني عشره: سجن الأمير محمود بالزردخاناه، وهو مقيد. وقبض على شيخ الصفوي، وسجن. وألزم حسين بن الكوراني الوالي بطلب المماليك الظاهرية، فنادى عليهم بالقاهرة ومصر، وهدد من أخفاهم.
وفيه أمر الوالي تجار القاهرة بنقل قماشهم من الحوانيت، وخوفهم من النهب، فاضطرب الناس، وكثر كلامهم، وتوهموا اختلاف الدولة، وقيام الفتنة، وأخذوا في الاحتراز.
وفيه كثر فساد التركمان، وأخذوا النساء من الطرقات، ومن بعض الحمامات، وسلبوا من انفردوا به ثيابه، من غير أن يتجاسر أحد على منعهم.
وكثر أيضاً ضرر الزعر وإخافتهم الناس.
وفيه أمر العسكر بنزع السلاح، وكانوا في هذه الأيام لا يزالوا بالسلاح عليهم وعلى خيولهم، فلا ترى أميراً ولا مملوكاً ولا جندياً إلا لابس آلة الحرب.(2/406)
وفي يوم الثلاثاء ثالث عشره: غُمز على الملك الظاهر برقوق. وذلك أنه لما نزل من الإصطبل في الليل مختفياً مضى إلى بيت أبى يزيد - أحد أمراء العشراوات - واختفي بداره، فلم يعرف خبره، والطلب له يشتد، وهجم على عدة بيوت بسببه، فلم يوجد. ونكر النداء عليه، فخاف أن يؤخذ باليد، فلا يُبقي عليه، فأعلم الأمير ألطبغا الجوباني بمكانه، فصار إليه، وقيل إنه نزل من الإسطبل ومعه أبو يزيد لا غير، فتبعه نعمان مهتار الطشت خاناه إلى الرميلة، فرده. ومضى هو وأبو يزيد إلى أن أَخلى له مكاناً اختفى فيه. وأخذ الناصري يتتبع أثره حتى سأل المهتار نعمان عنه، فأخبره أنه نزل ومعه أبو يزيد، وإنه لما تبعه رده، فأمر حينئذٍ حسين بن الكوراني بإحضار أبي يزيد، فشدد في طلبه، وهجم بيوتاً كثيرة، فلم يقف له على خبر، فقبض جماعة ممن يعرفه وقررهم، فلم يجد عندهم علماً به. وما زال يفحص حتى دله بعضهم على مملوك أبي يزيد، فقبض على امرأة المملوك وعاقبها، فدلته على أبي يزيد، وعلى الملك الظاهر، وأنهما في بيت رجل خياط بجوار بيت أبي يزيد، فمضى إلى البيت، وبعث إلى الناصري يعلمه، فأرسل إليه الأمراء. وقيل إنه لما نزل من الإسطبل كان نحو نصف ليلة الاثنين، فسار إلى النيل وعدى إلى الجيزة، ونزل عند الأهرام، وأقام ثلاثة أيام ثم عاد إلى بيت أبي يزيد، فأقام عنده إلى يوم الثلاثاء ثالث عشره، حضر مملوك أبي يزيد إلى الناصري، وأعلمه بأن الظاهر في داره أستاذه، فأحضر أبا يزيد وسأله، فاعترف أنه عنده، فأخذه الأمير ألطنبغا الجوباني، وسار به إلى حيث الظاهر، فأوقف الجوباني من معه، وصعد إليه وحده. فلما رآه الظاهر قام له، وهّم أن يقبل يده، فاستعاذ بالله من ذلك. وقال: " يا خوند أنت أستاذنا، ونحن مماليكك " . ثم ألبسه عمامة وطيلسة، ونزل به وأركبه وشق به الصليبة نهاراً، حتى مر في الرميلة، إلى أن صعد به إلى الناصري في الإصطبل، فحبس بقاعة الفضة من القلعة. وألزم أبو زيد بإحضار ما للظاهر عنده، فأحضر كيساً فيه ألف دينار، فأنعم به عليه، وخلع عليه، وخلى عنه. ورتب لخدمة الظاهر مملوكان وغلامه المهتار نعمان، وقيد بقيد ثقيل.
وفي خامس عشره: أفيض على الخليفة المتوكل تشريف جليل. وخلع على بدر الدين محمد بن فضل الله عند قراءة عهد الملك المنصور، وألبس الأمراء الذين قدموا مع الناصري أقبية مطرزة بذهب. واستقر حسام الدين حسن بن على الكجكني في نيابة الكرك، عوضاً عن مأمور القلمطاوي. وأُنعم على مأمور بإمرة مائة، بديار مصر.
وفي سابع عشره: توجه حسن لنيابة الكرك.
وفي تاسع عشره: قدم البريد من دمشق بأن الأمير أقبغا الصغير، والطنبغا استادار جَنتمُر، اجتمع عليهما نحو الأربعمائة من المماليك الظاهرية ليركبوا على جَنتمُر نائب دمشق، ويملكوا منه البلد. فلما بلغ جَنتمُر ذلك، ركب وكبسهم على حين غفلة، فلم يفلت منهم إلا اليسير، وفيهم أَقْبُغا الصغير.
وفيه أنعم على من يذكر من الأمراء، وخلع عليهم وهم: الأمير سيف الدين بزلار العمري استقر في نيابة دمشق، والأمير سيف الدين كمشبغا الحموي في نيابة حلب، وسيف الدين صنجق السيفي نائب طرابلس، وشهاب الدين أحمد بن محمد ابن المهندار في نيابة حماة.
وفي حادي عشرينه: عرض الأمير ألطُنْبُغا الجوباني المماليك الظاهرية، وأخرج من المستخدمين مائتين وثلاثين لخدمة المنصور، وسبعين من المشتروات، نزلهم بالطباق من القلعة وفرق من عداهم من الأمراء.
وكان الغرض بالإصطبل، وأنعم على كل من أقبغا الجمالي الهذباني أمير أخور ويلبغا السودوني، وتاني بك اليحياوي، وسودن اليحياوي، بإمرة عشرة في حلب، ورسم بسفرهم مع النائب.(2/407)
وفي ليلة الخميس ثاني عشرينه: رسم بسفر الملك الظاهر بروق إلى الكرك فأخرج من قاعة الفضة ثلث الليل إلى باب الفرافة - أحد أبواب القلعة - ومعه الأمير ألطنبغا الجوباني، فأركبه هجيناً، وعين معه من مماليكه ثلاثة مماليك صغار وهم: سوُدن، وقُطلوبغا، وأقباي. وسار به إلى قبة النصر خارج القاهرة، وأسلمه إلى الأمير شمس الدين محمد بن عيسى العائدي، فتوجه على عجرود إلى مدينة كرك الشوبك، وسلمه إلى الأمير حسام الدين حسن الكجكني نائبها، فأنزله بالقلعة في قاعة النحاس. وكانت ابنة الأمير يلبغا العمري - امرأة مأمور - بالكرك، فقامت له. مما يحتاج إليه من الفرش والآلات. وقدمت له أسمطة تليق به واعتنى حسن الكجكني بخدمته أيضاً، وكان الناصري قد أوصاه له، وقرر معه إن رابه أمر من شيء يبلغه عن منطاش فليفرج عن الظاهر، فاعتمد ذلك، وصار يتلطف به ويعده بالتوجه معه إلى التركمان، فإن له فيهم معارف. وحصن القلعة، وصار لا يبرح عنه، ويأكل معه، حتى أنس به، وركن له، واطمأن إليه.
وفي يوم الخميس: خلع على نواب الشام خلع السفر.
وفيه استقر سيف الدين قُطْلوبُغا الصفوي في نيابة صفد، وسيف الدين بُغاجُق السيفي في نيابة ملطية.
وفيه نودي بالقاهرة ومصر أن المماليك الظاهرية يخدموا مع نواب الشام، وألا يقيم أحد منهم بديار مصر، ومن تأخر بعد النداء حل دمه وماله، ونودي بذلك من الغد.
وفي رابع عشرينه: برز النواب بالريدانية خارج القاهرة للسفر.
وفي سادس عشرينه: أخلع على الأمير يلبغا الناصري، واستقر أتابك العساكر، وعلى الأمير ألطُنْبُغا الجوباني واستقر رأس نوبة النوب، وعلى الأمير سيف الدين قرا دمرداش الأحمدي، واستقر أمير سلاح، وعلى الأمير شهاب الدين أحمد بن يلبغا واستقر أمير مجلس، وعلى الأمير سيف الدين تمرباي الحسني، واستقر حاجب الحجاب.
وخلع على قضاة القضاة الثلاثة: جال الدين عبد الرحمن بن خير المالكي، وشمس الدين محمد الطرابلسي الحنفي، وناصر الدين نصر الله الحنبلي. وخلع على صدر الدين محمد المناوي مفتي دار العدل، وعلى بدر الدين محمد بن على بن فضل الله العمري كاتب السر، وعلى الوزير الصاحب كريم الدين عبد الكريم بن الغنام، وعلى موفق الدين أبي الفرج ناظر الخاص، وعلى جمال الدين محمود القيصري ناظر الجيش، وعلى فخر الدين عبد الرحمن بن مكانس ناظر الدولة، وعلى ناصر الدين محمد بن الحسام شاد الدواوين، وعلى مقدمي الدولة والخاص، باستمرارهم على وظائفهم.
وفيه أعيد السيد الشريف شرف الدين علي بن السيد فخر الدين إلى نقابة الأشراف. وصرف السيد جمال الدين عبد الله الطباطبي. واستقر كُمُشمْبغا الأشرفي الخاصكي نائب قلعة الروم. ولم يخلع على قاضي القضاة ناصر الدين محمد بن بنت ميلق، لتوعكه وانقطاعه.
وفيه رحل النواب من الريدانية، وسافروا إلى البلاد الشامية، وسافر معهم كثير من التركمان وأجناد الشام وأمرائها.
وفيه نودي ألا يتأخر بديار مصر أحد من المماليك الظاهرية، إلا أن يكون في خدمة السلطان أو الأمراء، ومن تأخر شُنق.
وفيه أخذ قاع النيل، فجاء خمسة أذرع وعشرون إصبعاً. ونودي في يومي الأربعاء والخميس أن التركمان والعربان يرجعوا إلى الشام.
وأخلع يوم الخميس تاسع عشرينه على قاضي القضاة ناصر الدين محمد ابن بنت ميلق، وعلى بدر الدين محمد بن شيخ الإسلام البلقيني قاضي العسكِر وعلى أخيه جلال الدين عبد الرحمن مفتي دار العدل، وعلى شهاب الدين أحمد الدَّفري مفتي دار العدل المالكي، وعلى نجم الدين محمد الطَنْبَدي محتسب القاهرة، وعلى همام الدين العجمي محتسب مصر، وعلى شمس الدين محمد الدميري ناظر الأحباس، وعلى بقيه أرباب الوظائف، باستمرارهم على وظائفهم. وأخلع أيضاً على الأمير علاء الدين أقبغا الجوهري واستقر أستادار السلطان، وعلى الأمير آلابغا العثماني واستقر دواداراً كبيراً، وعلى الأمير علاء الدين ألطنبغا الأشرفي واستقر رأس نوبة ثانياً، وعلى الأمير سيف الدين جُلْبان العلاي واستقر حاجباً، وعلى سيف الدين بلاط العلاي واستقر حاجباً، وعلى سيف الدين قطلوبك السيفي واستقر أمير جاندار بإمرة طبلخاناه، وعلى ابن شهري واستقر نائب دُوْركي.(2/408)
وفيه قدم البريد بوصول الأمير نعير بن حيار بن مهنا أمير العربان إلى دمشق، قاصداً رؤية الملك المنصور. ولم يحضر قط في الأيام الظاهرية.
وفيه قدم فتح الدين محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن الشهيد، كاتب سر دمشق.
وفي سلخه: فرق الناصري المثالات على الأمراء، وجعلهم أربعة وعشرين تقدمة. ونودي في القاهرة ومصر بالأمان، ومن ظُلم أو غُبن، أو قُهر من مدة عشرين سنة فعليه بباب الأمير الكبير يَلبغا أو حاجب الحجاب، حتى يأخذ حقه.
وفيه كُبست بيوت الأسرى، وأُخذ منها جرار الخمر، وكسرت تحت القلعة.
وفي يوم السبت أول شهر رجب: زعق زامر على باب السلسلة تحت الإسطبل - حيث سكن الأمير الكبير - فاجتمع الأمراء والممالك، ولم يعهد هذا الزمر قط بمصر، وذكروا أنها العادة في بلاد حلب، فلما اجتمع العسكر ركب الأمير الكبير يلبغا وسار إلى جهة البحر وعاد.
وفيه عقد مجلس بالمدرسة الصالحية بين القصرين، وحضر القضاة والفقهاء، وجيء بابن سبع من السجن. وقد شُهد عليه بأشياء شَنِعة، وأرد أخصامه إراقة دمه عند القضاة المالكية، فكثر سعيه بالمال حتى فوض أمره للقضاة الشافعية، ليحكموا بحقن دمه، ثم أعيد إلى السجن.
وفي ثالثه: استقر الأمير حسام الدين حسين بن باكيش في نيابة غزة على عادته، وسيف الدين بوري الأحمدي لالا السلطان، وبهاء الدين أرسلان اللفاف السيفي، وسيف الدين قراكسك، وسيف الدين أردبغُا العثماني، رؤوس نوب، واًخلع عليهم.
وفيه رسم أن يكون رؤوس نواب السلحدارية والسقاة والجمدارية ستة لكل طائفة، على ما كانوا أولاً، قبل أن يستقر الملك الأشرف شعبان بهم ثمانية، في سنة ست وسبعين، بزيادة اثنين في كل طائفة. واستقر قُطْلُوبَك السيفي في ولاية قلعة الجبل، عوضاً عن بَجَاس. واستقر زين الدين مْرج السيفي أمير جاندار بإمرة طبلخاناه. وولى شهاب الدين أحمد بن زين الدين عمر القرشي الواعظ قضاء القضاة بدمشق، عوضاً عن سري الدين محمد بن المسلاتي، وأضيف إليه نظر الجامع الأموي، وخلع على الجميع.
وفي خامسه: قدم الأمير نعَيْر، وخرج الأمير الكبير إلى لقائه، ومعه سائر الأمراء، وقدم سرى الدين المسلاتي معه.
وفي سادسه: صعد الأمير نُعَيْر إلى القلعة، وقبل الأرض بحضرة السلطان فخلع عليه، وأنزل بالميدان الكبير تحت القلعة.
وفيه أخلع على الأمير ألابغا الدوادار، واستقر في نظر الأحباس، وعلى قُرْقُماس الطَشْتَمُري، واستقر خازندارا.
وفيه عُقد عند الأمير الكبير مجلس بسبب ابن سبع، وحضر القضاة والفقهاء، وكثر الكلام إلى أن قال قاضي القضاة ولي الدين أبو زيد بن خلدون للأمير الكبير. " يا أمير، أنت صاحب الشوكة، وحُكمك ماضٍ في الأمة، ومهما حكمت به نُفذ " . فحكم الأمير الكبير بحقن دمه وإطلاقه، فأفرج عنه، و لم يعهد قط أن أحداً من أمراء الترك ولا ملوكهم حكم في شيء من الأمور التي من عادة القضاة الحكم فيها، إلا أن قضية ابن سبع هذا كانت قد شَنُعت وطال أمرها، وكثر التعصب فيها، فقوم يريدون قتله، وقوم يريدون إطلاقه، وجبن القضاة عن إمضاء شيء من ذلك، حتى عُمل ما ذكر، وهى من غريب ما وقع.
وفي ثامنه: أُخلع على الأمير نعير خلعة السفر.
وفي ثالث عشره: أنعم على الطواشي صواب السعدي شنكل بإمرة عشرة، وأخذت منه إمرة الطبلخاناه. و لم يقع مثل ذلك، أن يكون مقدم الممليلك بإمرة عشرة قط. وقبض على الأمير سيف الدين بَهَادُر الأعسر القجاوي المهندار، ونفي إلى غزة.
وفيه أخْلَع الملك المنصور على شخص، وعمله خياط السلطان، فطلبه الأمير الكبير وأخذ منه الخلعة وضربه ضرباً مبرحاً، وأسلمه إلى شاد الدواوين، ثم أفرج عنه بشفاعة أحمد بن يلبغا، فشق ذلك على المنصور وقال: " إذا لم ينفذ مرسومي في خياط، فما هذه السلطنة؟ " وسكت على مضض.
وفي خامس عشره: قبض على الأمير سيف الدين قراكسك، ونفى.
وفي سابع عشره: رُسم بالإفراج عن الأمراء المسجونين بثغر الإسكندرية، لشفاعة الأمير نُعَيْر فيهم.
وفي ليلة الثلاثاء ثامن عشره: توجه أربعون أميراً من المقدمين والطبلخاناه والعشراوات إلى الشرقية للكبس على العربان الزهيرية، وقد كثر عبثهم، وعظم فسادهم في الريف، وصارت لهم جموع يذبح لهم في بعض الأوقات أربعمائة رأس من الغنم و البقر، حتى يكفيهم أكلة واحدة من كثرتهم.(2/409)
فسار الأمراء، وفيهم الأمير ألطُنْبُغا، الجوماني ومنطاش، وقرا دمرداش، وشنوا الغارات في السباخ وبلاد أشموم الرمان، وقتلوا جماعة، وأخذوا نحو الثلاثمائة رجل وألف فرس، وعادوا بهم، فسمر منهم في خامس عشرينه نحو الثمانين رجلاً، وطيف بهم على الجمال ومشاة، ثم أفرج عنهم.
وفي سابع عشرينه: استقر طَغَنْجى في نيابة البيرة، وسافر، واستقر بدر الدين محمود الكلُسْتاني السراي في قضاء العسكر، عوضاً عن سراج الدين عمر العجمي. واستقر إمام الدين محمد بن العلاف - وكان مؤدب أطفال مصر ثم اتصل بالناصري بحلب، فصار إمام الأمير الكبير - في حسبة مصر، عوضاً عن همام الدين.
وفي أول شعبان: أُمر المؤذنون بالقاهرة ومصر أن يزيدوا في الآذان لكل صلاة بعد الفراغ منه " الصلاة والسلام عليك يا رسول الله " عدة مرار.
وسبب هذا أن رجلاً من الفقراء المعتقدين جمع في ليلة الجمعة بعد أذان العشاء الآخرة " الصلاة على النبي " صلى الله عليه وسلم؛ فأعجبه ذلك، وقال لأصحابه. " أتحبون أن يعمل هذا في كل أذان؟ " . قالوا " نعم " فبات وأصبح، وقد زعم أنه رأى رسول صلى الله عليه وسلم في منامه يأمره أن يقول لنجم الدين الطنْبَدي المحتسب بأمر المؤذنين أن يصلوا عليه عقيب كل أذان، فمضى إلى الطنبَدي - وكان في غاية الجهل - فسره قول هذا الرأي، وأمر بذلك، فاستمر إلى يومنا من سنة عشرين وثمانمائة.
وفي يوم الاثنين ثاني شعبان: استقر علاء الدين على البيري الحلبي - موقع الأمير الكبير - في توقيع الدست، وأخلع عليه. واستقر قطلوبك النظامي، نائب الوجه القبلي، عوضاً عن مبارك شاه. واستقر أَرَسبغا المنجكي كاشف الوجه القبلي، عوضاً عن أبو درقة. واستقر قطلوبغا التركماني والي الفيوم عوضاً عن شاهين العلاي. واستقر تمراز العلاي والي البحيرة، عوضاً عن أَيْدَمُر الشمسي أبو زلطة.
وفيه نودي على النيل ثلاثين إصبعاً.
واستقر مقبل الطيبي والي قوص، عوضاً عن أبي بكر بن موسى بن الديناري. وقبض على أقبغا اللاجيني ونفي إلى الشام. واستقر أمير مَلَك - قريب جَنتمر أخي طاز - في نيابة الرحبة، بتقدمة ألف.
وفيه أنزل بالمماليك السبعين، الذين رتبوا في الطاق بالقلعة، وفرقوا على الأمراء. ورُسم أيضاً بإبطال المقدمين والسوَّاقين والطواشية ونحوهم، وأنزلوا من القلعة، فاتضع أمر الملك المنصور.
وفيه حضر من الإسكندرية الأمير أبو بكر بن سنقر، ومنكلي الطرخاني وطرجي الحسمي، وعبد الرحمن بن منكلي بغا، فسفِّر الطرخاني وطرجي إلى الشام بغير خُبز. ولزم أبو بكر وعبد الرحمن منزلهما بطالين.
وفي خامسه: استقر أقبغا الفيل في ولاية الشرقية، عوضاً عن قطْلُوبك السعدي.
وفي سادسه: نودي بوفاء النيل ستة عشر ذراعاً، وهو سادس مسري أيضاً، ففتح الخيج على العادة.
وفي ثاني عشره: أخلع على الصاحب كريم الدين عبد الكريم بن عبد الرزاق بن إبراهيم بن مكانس، واستقر مشير الدولة. وعلى أخيه زين الدين نصر الله لنظر الإسطبل، واستقر صاحب ديوان الأمير. الكبير، ونزلا وبين أيديهما زامر يزمر، و لم يعهد مثل هذا. بمصر قط.
وفمه أُشيع أن منطاش تنكر مع الأمير الكبير، وتأخر عن الخدمة، وأظهر أنه متضعف؛ ففطن الأمير الكبير بأنه يريد عمل مكيدة، ولم ينزل لعيادته.
وبعث إليه الأمير ألطنْبغا الجوباني في يوم الاثنين سادس عشره، فدخل عليه وقضى حق العيادة، وهمَّ بالقيام، فقبض عليه، وعلى عشرة من مماليكه، وضرب قرقُماس دواداره، فمات من ذلك بعد أيام. وركب منطاش حال مسكه الجوباني في أصحابه إلى باب السلسلة، وأخذ جميع الخيول التي كانت واقفة هناك. وأراد اقتحام الباب ليأخذ الناصري على غفلة، فلم يتمكن من ذلك، وأغلق الباب. ورمى عليه مماليك الناصري من أعلى السور، فعاد ومعه الخيول إلى داره وهى قريب من الرميلة، بجوار مدرسة السلطان حسن، ونهب بيت الأمير أقبغا الجوهري، وأخذ خيله وقماشه، وأصعد إلى مدرسة السلطان حسن الأمير تنكزبغا رأس نوبة، والأمير أَزْدَمُر الجوكاني دوادار الظاهر برقوق في عدة مماليك، وحمل إليها النشاب والحجارة، فرموا على من في الرميلة من أصحاب الناصري من أعلى المأذنتين وجوانب القبة.(2/410)
وألبس الناصري مماليكه السلاح، وتلاحقت المماليك الأشرفية والظاهرية بمنطاش، وصار في فارس، بعد ما كانت عدة من معه أولاً نحو السبعين فارساً. وأتاه من العامة عالم كبير، فترامى الفريقان واقتتلا.
ونزل الأمير حسام الدين حسين بن الكوراني والي القاهرة، والأمير مأمور الحاجب، من عند الأمير الكبير. ونودي في الناس بنهب مماليك منطاش والقبض على من قدروا عليه، وإحضاره إلى الأمير الكبير، فخرج عليهما طائفة من المنطاشية، وضربوهما وهزموا من معهما، فعادوا إلى الناصري. ولحق الوالي بالقاهرة، وأغلق أبوابها. واشتدت الحرب، وتقرب منطاش من العامة ولاطفهم، وأعطاهم، فتعصبوا له، وتزاحموا على التقاط النشاب الذى يرمي به أصحاب الناصري على منطاش، وأتوه به، وبالغوا في المخاطرهَ معه، حتى كان الواحد بعد الواحد منهم يثب في الهواء، ويختطف السهم وهو مار، ويأتي به منطاش.
ولا يزالون في نقل الحجارة إلى مأذن مدرسة حسن. وأقبل الليل وهم على ذلك، فبات منطاش ليلة الثلاثاء على باب مدرسة حسن، والرمي لا يبطل، وأتاه طوائف من الظاهرية حتى أصبح يوم الثلاثاء، وقد زادت أصحابه على الأف فارس، فأتاه مماليك الأمراء وغيرهم شيئاً بعد شيء، حتى خشن جانبه، واشتد بأسه. فبعث الناصري بالأمير بجمان والأمير قرابُغا الأبو بكري في طائفة كبيرة، ومعهم المعلم أحمد بن الطولوني، وكثير من الحجارين، لينقبوا بيت منطاش من ظهره حتى ينحصر. فبعث إليهم عدة من جماعته قاتلوهم، وأخذوا بجمان والأمير قرابغا وهزموا من معهما، فرتب الناصري عدة رماة على الطبلخاناة، وعلى مدرسة الأشرف، فرموا على منطاش بالمدافع والنشاب، فقتل عدة من العوام، وجرح كثير، ونزل الأمير أحمد بن يلبغا والأمير جمق بن أيمش في جمع كبير، وطردوا العامة، وقتلوا منهم وجرحوا عدداً كبيراً، فحملت العامة في فرسان منطاش عليهم حملة واحدة، وهزموهم أقبح هزيمة.
واستمر ذلك بينهما حتى انقضى النهار، وأقبل إلى منطاش الأمير أقبغا المارداني بطلبه، وصار من جماعته، فتسلل الأمراء عند ذلك واحداً واحداً بعد ذلك، وأتوه. وكل من يأتيه من الأمراء يوكل به من يحفظه، ويبعث به في داره، ويأخذ مماليكه، يقاتل بهم. فلما رأى حسين الكوراني جانب الناصري قد انهضم، خاف واختفى، فطلب منطاش ناصر الدين محمد بن ليلى نائب حسين بن الكوراني، وولاه ولاية القاهرة، وألزمه بتحصيل النشاب. ونزل إلى القاهرة وحمل إليه كثيراً من النشاب. ونادى في القاهرة بالأمان والبيع والشراء وإبطال المكوس والدعاء للأمير منطاش بالنصر، فبعث الناصري الخليفة المتوكل إلى منطاش، فحدثه في الصلح وإخماد الفتنة، فقال: " أنا في طاعة السلطان، وموافقة الأمراء. لكن الناصري غريمي، فإنه حلف لي وأنا بسيواس، وحلف لي بحلب وبدمشق، أننا نكون شيئاً واحداً، وأن السلطان يتحكم كيف يشاء. فمنع السلطان من التصرف واستبد هو بالأمر، وأخرج بزلار إلى الشام، وبعثني إلى قتال الفلاحين، و لم يعطني شيئاً من المال، سوى مائة ألف درهم. وأخذ لنفسه أحسن الإقطاعات، وأعطاني أضعفها، تعمل في السنة ستمائة ألف درهم. ووالله ما أنا براجع عنه حتى أقتله أو يقتلني، أو يقيم سلطاناً يستبد بالأمور " .
فقام الخليفة وأعاد الجواب على الناصري، فركب. بمن معه ونزل في جمع كبير لقتال منطاش، فبرز إليه وقاتله وكسره، فقوى. وأتاه من الأمراء عبد الرحيم بن منكلي بغا، وصلاح الدين محمد بن تنكز ومعه خمسة أحمال نشاباً، وثمانون حمالاً عليها المآكل، وعشرون ألف درهم، فنزل الأمير قرا دمرداش وأحمد بن يلبغا، وألطنبغا المعلم، ومأمور، في جمع موفور لقتال منطاش، فقاتلهم، واشتد الرمي عليهم من أعلى مدرسة حسن، فرجعوا خائبين. وأتاه العوام بنشاب كثير مما التقطوا من الرميلة، فترقق لهم، وقال أنا واحد منهم ونحو ذلك، وهم يبذلون نفوسهم في خدمته. هذا والرمي شديد من القلعة على مدرسة حسن، ومنها على القلعة. وظفر منطاش بحاصل لجركس الخليلي، وبحاصل لِبَكلمش، فأخذ منهما نشاباً كثيراً، تقوى به.(2/411)
ونزل إليه الأمير مأمور، وكشلي، وجُمُق بن أيتمش في عدة كبيرة، فبرز إليهم العامة، وأكثروا من رميهم بالحجارة حتى كسروهم مرتين، إلا أن الرمي من القلعة اشتد على من بأعلى المدرسة، وأصاب حجر من حجارة المدافع القبة، خرقها، وقتل مملوكاً من المنطاشية، فبعث منطاش من أحضر إليه ناصر الدين محمد بن الطرابلسي، وكان أستاذاً في الرمي بمدافع النفط. فلما جاءه جرده من ثيابه ليوسطه من أجل تأخره عنه، فاعتذر إليه، ومضى في طائفة من الفرسان، وأحضر الآلات، وصعد أعلى مدرسة حسن، ورمى على الإسطبل حيث سكن الناصري، حتى أحرق جانباً من الخيمة، وفرق ذلك الجمع، وفر السلطان والناصري إلى موضع امتنعا فيه.
ولم يمض النهار حتى بلغت فرسان منطاش نحو الألفين، وبات الفريقان لا يبطلان الرمي، حتى أصبحا في يوم الأربعاء وقد جاء كثير من مماليك الأمراء إلى منطاش، وأتاه الأمير تَمُرباي الحسني حاجب الحجاب، والأمير قُرْدِمُ الحسني في جماعة من الأمراء، وصاروا في جملته. وانتدب لقتاله الأمير قرا دمرداش وأحمد بن يلبغا فهزمهما مراراً عديدة. وفي كل ساعة يتسلل طائفة من أصحاب الناصري إلى منطاش، وتعبث العامة بالأتراك، وصاروا من وجدوه منهم قالوا " ناصرى أو منطاشى؟ " فإن قال " منطاش، تركوه وأتوه به إلى منطاش، وإن قال " ناصري " أنزلوه عن فرسه وأخذوا ما عليه وسجنوه حتى يأتوا به إلى منطاش. وتكاثروا على بيت الأمير أيدكار حتى أخذوا أيدكار وساقوه إلى منطاش، فأكرمه وأتاه الأمير ألطبغا المعلم أيضاً، فعين لهما جهة يقفا بها ويقاتلا هناك. وبعث إليه الأمير قرا دمرداش يستأذنه في الحضور إليه طائعاً فلم يأذن له وأتاه الأمير بَلوط الصرغتمشي بعدما حاربه عدة مرار، وحضر أيضاً جمق بن أيتمش طائعاً فاعتذر فقبل عذره. فلما أذن العصر اختل أمر الناصري وصار في عدد قليل، فلم يثبت وفر هو وقرا دمرداش، وأقبغا الجوهري، وابن يلبغا، وألابغا الدوادار، وكشلي، في نفر من المماليك، بعد ما أغلق باب الإسطبل. وصعد إلى القلعة وخرج من باب القرافة، فبعث أهل القلعة إلى منطاش بذلك، فسار بمن معه وصعد إلى الإسطبل، ووقع النهب فيه، فأخذ منه من الخيل والقماش والمال شيء كبير جداً. وتفرق الزعر والعامة إلى دور المنهزمين يريدون نهبها، فأخذوا ما قدروا عليه، ومنعهم الناس من عدة مواضع.
وبات منطاش بالإصطبل. وأصبح يوم الخميس تاسع عشره، فصعد القلعة إلى السلطان، وأعلمه أنه في طاعته، وممتثل سائر ما يرسم به، وتقدم إلى رؤوس النوب بجمع المماليك وإنزالهم في الطاق على العادة. ونزل إلى الإسطبل، فأحضر إليه بالأمير أحمد ابن يلبغا، والأمير مأمور، فحبسهما بقاعة الفضة. وأخرج الأمير بجمان المحمدي إلى الإسكندرية، فسجن بها. وكتب بإحضار الأمير سردن الفخري النائب. واستدعى الوزير الصاحب كريم الدين بن الغنام، وبقية المباشرين، وأرباب الدولة، فأتوه. وقبض على كريم الدين بن مكانس، فوكل به من يحفظه، وقبض على الأمير يَلْبُغا الناصري من ناحية سرياقوس، فسجن بقاعة الفضة من القلعة.
وفي العشرين منه: قبض على الأمير قرا دمرداش.
وفيه استقر الأمير سيف الدين دمرداش القَشتَمُري في نيابة الكرك، وخلع عليه، ثم انتقض ذلك من يومه. وقبض أيضاً على الأمير ألطنبغا المعلم، وكشلي القلمطاوي، وأقبغا الجوهري، وألطُنبُغا الأشرفي، وألابغا العثماني، وتمرباي السيفي، وتمرباي الأشرفي، وفارس الصرَغَتْمُشى، وكُمَشبغا شيخ اليوسفي، وعبدوق العلاي، وبعثهم بأجمعهم إلى الإسكندرية.
وفي حادي عشرينه: أنعم على الأمير إبراهيم بن قطلو أقتمر أمير جاندار بإمرة مائة، واستقر أمير مجلس.
وفيه سار البريد بإحضار الأمير قطلوبغا الصفوي نائب صفد، والأمير أسنَدْمُر الشرفي بن يعقوب شاه، والأمير تمان تمر الأشرفي، وعين لكل منهم إمرة مائة.
وفيه ضرب كريم الدين بن مكانس، وعصر مرتين بخزانة شمايل، فحمل مالاً كبيراً من حاصل لجركس الخليلي.
وفي ثاني عشرينه: قبض على الأمير تمرباي الحسني حاجب الحاجب، ويلبغا المنجكي، وإبراهيم بن قطلو أفتمر، أمير مجلس.
وفيه استقر ناصر الدين محمد بن ليلى في ولاية القاهرة، وخلع عليه، وأخرج الطواشي تُقْطَاي الطَشنتَمُري إلى الشام، على إمرة طبلخاناه.(2/412)
وفي ثالث عشرينه: قبض على الأمير أرسلان اللفاف، وقراكَسَك السيفي، وأيدكار العمري، وقْرْدم الحسني، وأقبغا المارداني، وعدة مماليك.
وفي خامس عشرينه: ظهر فخر الدين بن مكانس ناظر الدولة، والتزم بمال، فخلى عنه، واستمر على وظيفته، وقبض على الطواشي مقبل الدواداري الزمام، وجوهر اليلبغاوي لالا الملك المنصور.
وفيه أنعم على ألطنبغا دوادار الناصري بإمرة في صفد، وعلى بكتمر دواداره أيضاً بإمرة في طرابلس، وعلى رأس نوبته بإمرة في حلب.
وفى سادس عشرينه: نقل قطلوبَكَ النظامي من نيابة الوجه القبلي إلى نيابة صفد، عوضاً عن قطلوبغا الصفوي، وأعيد الأمير مبارك شاه إلى نيابة الوجه القبلي. وأنعم على إبراهيم بن قطلو أقتمر أمير جاندار بإمرة تقدمة في حلب، وأخرج إليها من يومه. وأخرج قراكسك إلى طرابلس على إمرة.
وفيه عذب الطواشي زين الدين صندل المنجكي على ذخائر الملك الظاهر، وعصر مراراً حتى دل عليها. واستقر شمس الدين بن الرويهب في نظر الدولة، رفيقاً للفخر بن مكانس وخلع عليهما.
وفيه ألزم كتاب الدولة بمال فوزع على كل أحد بحسبه. وأعيد همام الدين إلى حسبة مصر، عوضاً عن إمام الدين، وأعيد سراج الدين عمر العجمي إلى قضاء العسكر.
وفي ثامن عشرينه: وصل الأمير سودن النائب من الإسكندرية، فأمر بلزوم داره.
وقدم من الشام الأمير منكلي الشمسي الحاحب، وطوجي الحسني، فأخرجا إلى مدينة قوص منفيين. وحبس الأمير ألطنبغا الجوباني في قاعة الفضة بالقلعة.
وفيه أنفق الأمير منطاش على من قاتل معه، فأعطى مائة منهم ألف دينار لكل واحد، وأعطى جماعة عشرة آلاف لكل منهم، ودونهم لكل واحد خمسة آلاف درهم، ودونهم طائفة لكل منهم ألف درهم، وطائفة لكل واحد خمسمائة درهم، وطائفة لكل منهم مائتي درهم.
وفي تاسع عشرينه: خلع على زين الدين نصر الله بن مكانس، واستمر على نظر الإسطبل. بمال يحمله.
وفي يوم الثلاثاء ثاني شهر رمضان: استدعى منطاش المماليك الظاهرية وأغلق عليهم باب السلسلة، وقبض على نحو مائتي منهم. وبعث بالأمير جلبان الحاجب، والأمير بلاط الحاحب، فقبضا على كثير من الظاهرية.
وأخذ منطاش خيولهم، وقيدوا الجميع، وسجنوا في البرج بالقلعة ونودي " من أحضر مملوكاً من مماليك برقوق فله كذا " ، وهدد من أخفي أحداً منهم، وتتبعت أسبابهم وأتباعهم وألزموا بهم. وقبض أيضاً على الأمير أقبغا المارداني، وقيد بعد ما خلع عليه بولاية الوجه القبلي، عوضاً عن مبارك شاه، ثم عصر حتى يقر على المماليك الظاهرية.
وفي ثالثه: قبض على الأمير سودُن النائب وأُلزم. ممال يحمله، وقبض على الأمير تُردُم الحسني بعد ما أفرج عنه، وقبض على بوري الأحمدي، وأرغون السلامي، وشاهين أمير أخور، وبهادر فطيس أمير أخور، وجماعة من المماليك، واشتد الطلب على الظاهرية. وفي رابعه: ضرب الأمير أقبغا المارداني، وضرب عبد الرحيم ابن الصاحب كريم الدين بن مكانس فحمل مالاً. وألزم سودن النائب بحمل ستمائة ألف درهم، أنعم عليه بها في الأيام الظاهرية.
وفيه نودي بتجهيز الناس للحج مع الأمير أبي بكر بن سنْقُر.
وفيه وقف الناس تحت القلعة، وطلبوا إعادة حسين بن الكوراني إلى الولاية، فإن الزعر اشتدت شوكتهم، وشنع ضررهم، فإن منطاش كان قد استدعاهم، وأنفق فيهم ستين ألف درهم، وجعل عليهم عرفاء.
فأجابهم إلى ذلك، وبعث إليه أماناً، فحضر إليه من اختفائه، واستقر في الولاية، وخلع عليه فنزل في موكب عظيم.
وفي خامسه: نودي على الظاهرية، وهدد من أخفي أحداً منهم، وقبض حسين الوالي على جماعة منهم، وقيدهم، وسجنهم. وتتبع أيضاً الزعر وأخذ ثمانية من كبارهم، ثم أخذ ستة أيضاً، وقطع أيديهم في يوم الأحد سابعه، وشهرهم. وأحضر خفراء الحارات وألزمهم بإحضار الزعر، فأخذوا من كل موضع، وسجنوا بخزانة شمايل، فسكن شرهم.
وفيه قبض على عدة من الظاهرية والناصرية وسجنوا.
وفي ثامنه: قدم الأمير قطلوبغا الصفوي نائب صفد، والأمير أسندَمُر الشرفي بن يعقوب شاه، فأنعم عليهما بالإمرة.
وفيه قبض على من كان في خدمة الأمراء من الناصرية، ومن كان بطالاً، فأخذوا بأجمعهم من البيوت والإصطبلات، وحبسوا بخزانة شمايل في القيود.
وفيه ظفر منطاش بذخيرة للظاهر، كانت بجوار الجامع الأزهر من القاهرة.(2/413)
وفيه أُفرج عن الأمير محمود الأستادار، وخُلع عليه، وخلى لسبيله.
وفي تاسعه: قبض على الشريف عنان بن مَغَاس، وحبس مقيداً.
وفيه ورد البريد بخروج الأمير نُعير عن الطاعة، غضباً للأمير يلبغا الناصري، واتفق هو وسولي بن دلغادر التركماني، ونهبوا عدة من البلاد الحلبية، وأن الأمير بزلار نائب دمشق خرج عن الطاعة أيضاً.
وفيه استقر أبو بكر بن المزوَّق في ولاية الشرقية، وعزل أقبغا الفيل.
وفي عاشره: قدم من الإسكندرية في النيل إلى بولاق ساحل القاهرة عدة من الأمراء المسجونين، فرسم الأمير منطاش بأن يتوجه منهم ألطنبغا العثماني، وبطا الطولوتَمُري، وألطنبغا شادي، وعبدوق العلاي، إلى دمياط. ويتوجه منهم تمربُغا المنجكي، وقرمان المنجكي، وقُنُق باي السيفي، وبيبرس التمَّان تَمُري، وطوجي الحسني، وقوصون المحمدي، وحسن خُجا، ومُقبل الرومي، وبغداد الأحمدي، ويونس الأسعَردي، وبلاط المنجكي، وطولوبغا الأحمدي، وتتمة خمسة عشر، إلى قوص.
وفيه حمل الأمير سودُن النائب مالاً، واستمر الطلب عليه.
وفي حادى عشره: قبض على الأمير أرغون البحمقدار العثماني، بعد ما كان أخص الناس. منطاش، وقُيد وعُصر.
وفي ثالث عشره: أخرج الطواشي صواب السعدي شَنْكل من القلعة، وأعبد الطواشي جوهر إلى تقدمة المماليك عوضه، واستقر صارم الدين إبراهيم بن بلُرغي في ولاية القلعة، عوضاً عن حمُلْبان أخي مامُق.
وفيه أنعم على كل من يذكر بإمرة مائة وتقدمة ألف وهمِ قُطلوبغا الصفوي، وناصر الدين محمد بن الأمير منطاش، وأسندَمُر بن يعقوب شاه وتمَّان تَمُر الأشرفي، وأيدكار العمري، وأسندمر الشرفي - رأس نوبة منطاش، وجنتمر الأشرفي، ومنكلي بيه الأشرفي، وتُكا الأشرفي، ومنكلي بغا خازندار منطاش، وصراي تَمُر دوادار منطاش. وتمَربُغا الكريمي، وألطبغا الحلبي، ومبارك شاه.
وأنعم على كل ممن يذكر بإمرة طبلخاناه وهم: الشريف بَكتمُر بن على الحسني، وأبو بكر سُنْقُر الجمالي، ودمرداش القَشْتَمُري، وعبد الرحمن بن منكلي بغا، وجُلْبَان السعدي وأروس بغا سلنغر السيفي، وإبراهيم بن طَشتَمُر، وصُربغا الناصري، وتنكز الأعور الأشرفي، وصراي تمَرُ الأشرفي، وأقبغا المنجكي، وتَلَكْتمُر المحمدي، وقرابغا السيفي، وقُطْلُوبُغا الزيني، وتمربغا المنجكي، وأرغون شاه السيفي، ومُقْبل السيفي، ومنطاش أمير سلاح، وطَيْبرَس السيفي رأس نوبة، وبَيْرم خُجا الأشرفي، وألْطبغا الجُرْبغاوي، ومَنْجَك الزيني، وبُزلار الخليلي، ومحمد بن أَسَنْدَمُر العلاي، وطالق بغا السيفي، وإلياس الأشرفي، وقُطْلُوبغا السيفي، وشَيْخو الصرغَتْمُشي وجُلبان السيفي وألطُنبغا الطازي، وإسماعيل السيفي، وحسين بن الكوراني.
وأنعم على كل ممن يذكر بإمرة عشرين، وهم: غريب خطاي، وياينجي الأشرفي، ومنكلي بغا الجوبانى، وقرابغا الأحمدي، وأق كَبَك السيفي، وفرج شاد الدواوين، ورمضان السيفي، ومحمد بن مُغْلَطاي المسعودي والي مصر.
وأنعم على كل ممن يذكر بإمرة عشرة وهم: صلاح الدين محمد بن محمد بن تنكز، وخضر بن عمر بن بَكتمُر الساقي، ومحمد بن يونس الدوادار، وعلى الجركتمري، ومحمد بن رجب بن محمد التركماني، ومحمد بن منكوتَمُر عبد الغني، وجوهر الصلاحي، وإبراهيم بن يوسف بن بلرغي، ولؤلؤ العلاي، وتنكز العثماني، وصُراي تَمُر الشرفي، ومنكلي بغا المنجكي وشيخون الأرغون شاهي، وأقسنقر الأشرفي، وتمربُغا النظامي، وطاز الأشرفي وجركس القرا بغاوي، وأسنبغا التاجي، وسنقر السيفي، وكزل الجوباني، وقرابُغا الشهابي، وقطلوبغا الزيني، وألطنبغا أمير سلاح، وبَكْ بلاط الأشرفي، وكمُشبغا الطشَتُمرى، وبَمبغا العلاى، ويلبغا التركمانى، ورُاسْبُغا الأشرفي، وحاجي اليْلبغاوي، وأرغون الزيني، ويلبغا الزيني، وتمر الأشر وجنبغا الشرفي، وجمق السيفي، وأرغون شاه البكْلَمشي، وألطنبغا الأشقر، وصُراي تمَرُ السيفي، وألطبغا الإبراهيمي، وأقبغا الأشرفي، وألجُبغا السيفي.
وفي خامس عشره: نودي على الزعر، من حمل منهم سيفاً، أو سكيناً، أو شالق بحجر، وُسّط، وتتبعوا، فقطع الوالي في ثامن عشره أيدى ستهَ منهم.
وفي تاسع عشره: قدم قاضي القضاة بدر الدين محمد بن أبي البقاء من دمشق.(2/414)
وفيه استقر عمر بن خطاب في ولاية الغربية، عوضاً عن أمير فرج بن أيدمر، بحكم انتقاله إلى كشف الوجه البحري: وقبض على الأمير محمود.
وفي عشرينه: قدم البريد باًن الأمير بزلار نائب دمشق قبض عليه الأمير جَنتمُر أخو طاز.
وفيه نزع الأمير منطاش عنه آلة الحرب، وأمر العسكر والأمراء بنزعها فنزعوها. وفي هذه المدة كلها كانوا بأجمعهم لابسين آلة الحرب.
وفي حادى عشرينه: قبض على جمق بن أيتمش، وبيرم العلاي رأس نوبة أيتمش.
وفيه قدم سيف بَزْلار نائب دمشق. وكان من خبره أن منطاش لما غلب على الأمر، كتب يستدعيه في ثلاثة سروج على البريد، فأجاب: " لا أحضر إليه إلا في ثلاثين ألفاً " فكتب إلى الأمير جَنتمُر، بولاية دمشق أن اقبض عليه. ثم سير إليه التشريف والتقليد، وكتب إليه بأن يكون محمد شاه بن بيدمر أتابك دمشق، وجبرائيل حاجب الحاجب، فتعاون الجماعة عليه وقبضوه، ففر دواداره وأظهر الخلاف، وانضم إليه طائفة كبيرة خارج دمشق.
وفيه قدم البريد من غزة بأن الملك الظاهر برقوق خلص من السجن، واستولى على مدينة الكرك، ووافقه حسن الكجكني النائب، وقام في خدمته وقد حضر إليه ابن خاطر أمير بني عقبة - عرب الكرك - ودخل في طاعته، فاضطرب منطاش.
وكان من خبر الظاهر أن منطاش لما تحكم بمصر بعث شخصاً يعرف بالشهاب البريدي إلى الكرك، ومعه كُتب إلى الأمير حسام الدين حسن الكجكني بقتل الظاهر. وكان هذا الشاب من أهل الكرك، وتزوج بابنة عماد الدين أحمد بن عيسى المقيري قاضي الكرك، ثم شجر بينهما، فما زال به حتى طلقها، وزوجها بغيره. وكانت جميلة، فشق عليه فراقها، وخرج من الكرك. وضرب الدهر ضرباته، فكان من قيام منطاش ما قد ذكرنا، فاتصل به، ووعده بأنه يقتل له الملك الظاهر برقوق. فكتب معه إلى الأمير حسن الكجكني بمعاونته على قتل الظاهر، وأن ينزله بالقلعة، فمضى على البريد ونزل بالمقير، بلد القاضي عماد الدين. ولم يكتم ما في نفسه من الحقد، وقال: " والله لأخربن دياره، وأزيد في احكار أملاكه، وأملاك أقاربه بالمقير، فأوحش قلوب الناس منه. وقام في الليل يريد دخول مدينة الكرك، وبعث إلى النائب من يصيح به من تحت السور، فمنعه من ذلك وأحس بالشر. فلما أصبح، أحضره إلى دار السعادة، وقرأ كتاب السلطان، وكتاب الأمير منطاش بأمور أخر. فلما انفض الناس أخرج إليه الكتاب بقتل الظاهر، فقام من فوره ودخل على الملك الظاهر بعد أن أنزل الشهاب في مكان بالقلعة - اختاره قريباً من الموضع الذي فيه الظاهر - وأوقفه على الكتاب، فكاد أن يهلك من الجزع، فحلف عند ذلك بكل يمين أنه لا يسلمه أو يموت. وما زال به حتى سكن روعه.
هذا، وقد اشتهر في المدينة مجيء الشهاب، وكثر الكلام فيه، وثقل على الناس، وخافوا شره. وأخذ يلج في العجلة بقتل الظاهر، والنائب يدافعه إلى أن قال له: " هذا ما أفعله بوجه حتى أكتب إلى مصر بما أعرفه " .
وبعث البريد بأنه لا يدخل في هذا الأمر، ولكن يحضر إليه من يتسلمه منه، ويفعل فيه ما يرسم له به.
وكان في خدمة الظاهر غلام من أهل الكرك يقال له عبد الرحمن، فنزل إلى جماعة من أوغاد المدينة، وأعلمهم أن الشهاب حضر لقتل الملك الظاهر، فأنفقوا من ذلك، وقاموا إلى القلعة، وهجموا على الشهاب وقتلوه، وجروه برجله إلى باب القاعة التي فيها الظاهر، فلم يشعر - والنائب عنده، وقد ابتدأوا في الإفطار ليلة الأربعاء عاشر شهر رمضان - إلا وجماعة قد اقتحموا عليه، وهم يدعون له بالنصر، وأخذوه بيده حتى أخرجوه، وقالوا: " دس بقدمك على رأس عدوك " . وأروه الشهاب مقتولاً، ونزلوا به إلى المدينة، فدهش النائب و لم يجد بداً من القيام في خدمته، وتجهيزه. وتسامع به أهل البلاد، فأتوه من كل ناحية.
وفي ثاني عشرينه: استقر محمد بن أسندمر العلاي في نيابة الإسكندرية، عوضاً عن أمير حاج بن مُغْلطاي، واستقر ابن مُغلطاوي أحد الأمراء المقدمين بالقاهرة.
وفيه استقر تاج الدين بهرام بن عبد الله بن عبد العزيز الدميري في قضاء القضاة المالكية بالقاهرة ومصر، بعد وفاة جمال الدين عبد الرحمن بن محمد بن خير الإسكندراني.
وفيه بلغت زيادة ماء النيل إلى ثمانية أصابع من عشرين ذراعاً، وهو يوم عيد الصليب.(2/415)
وفي خامس عشرينه: قبض منطاش على الأمير قُرقماس الطشتَمُري الخازندار، وعلى الأمير شاهين الصَرْغَتْمُشي أمير أخور، وقُطلوبَك أستادار الأمير أيتمش، وعلى عدة من المماليك الظاهرية. وقَبض على الأمير ناصر الدين محمد بن الحسام شاد الدواوين، وضربه ضرباً كثيراً.
وفيه استقر جلال الدين عبد الرحمن ابن شيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني في قضاء العسكر، بعد وفاة أخيه بدر الدين محمد.
وفي تاسع عشرينه: نودي على المماليك الظاهرية، وهدد من أخفي أحداً منهم.
ونودي أيضاً بسفر أجناد غزة من القاهرة إليها.
وفي سلخه: أحضر حسام الدين حسن بن باكيش مملوكاً وبدوياً، حضرا إليه من الكرك تجهيز الإقامات للملك الظاهر وملاقاته، فسحنا بخزانة شمايل.
وفي يوم الأربعاء أول شوال: - وهو عيد الفطر - نزل الملك المنصور وصلى صلاة العيد بالميدان، وحمل الأمير قطلو أقتمر القبة على رأسه.
وفي ثالثه: أفرج عن كريم الدين بن مكانس بعد أن حمل أربعمائة ألف درهم فضة، وانساق حاصل الأمير منطاش على ثلاثماية ألف دينار، وخمسة وثلاثين ألف دينار مصرية، سوى الدراهم وغير ما أنفقه.
وفي خامسه: سُمّر الذين أحضرهما ابن باكيش من الكرك، ونودي ألا يسافر أحد إلى الحجاز من الخاص والعام إلا بورقة فيها إذن الأمير الكبير منطاش.
وفي سادسه: رُسم بسفر أربعة آلاف فارس إلى غزة، وأربعة أمراء هم: أسنَدمُر اليوسفي، وقُطلوبغا الصفوي، ومنكلي بيه الأشرفي، وتَمُر بُغا الكريمي، وأُنفق في كل أمير ماية ألف درهم.
وفيه استقر ناصر الدين محمد بن العادلي في ولاية منوف، وعمر بن قادوس والي أكوم الرمان، وعزل علي بن المقدم.
وفيه عين مائة مملوك للسفر صحبة أمير الركب إلى الحجاز.
وفي سابعه: خُلع بحضرة الملك المنصور على الأمير منطاش، وفوض إليه تدبير الأمور، وصار أتابك العساكر. وعلى قطلوبُغا الصفوي واستقر أمير سلاح. وعلىَ تمان تَمُر الأشرفي، واستقر رأس نوبة النوب. وعلى أسندمر بن يعقوب شاه، واستقر أمير مجلس. وعلى ألطنبُغا الحلبي، واستقر دواداراً. وعلى تكَا الأشرفي، واستقر رأس نوبة. واستقر إلياس الأشرفي أمير أخور بإمرة طبلخاناه، وأرغون شاه السيفي رأس نوبة أيضاً، وتمُربغا المنجكي رأس نوبة رابعاً، وقطلوبغا الأرغوني أستاداراً، وجقمق السيفي شاد الشراب خاناه.
وفي ثامنه: خلع على الأميرَ تمّان تمر رأس نوبة لنظر المارستان المنصوري، وعلى الأمير أَلْطنبغا الحلبي الدوادار لنظر الأحباس.
وفيه بطل أمر التجريدة خوفاً من المماليك أن يخامروا ويذهبوا إلى الملك الظاهر.
وفي تاسعه: استقر الأمير أيدكار العمري حاجب الحجاب، والأمير أصر حاج بن مغلطاي حاجباً ثانياً.
وفيه استدعى الصاحب شمس الدين عبد الله المقسي، وعرض عليه الأمير الكبير منطاش الوزارة ونظر الخاص، وأحضر التشريف ليلبسه فامتنع، واعتذر بأن يديه ورجليه قد بطلت من ضَرَبان المفاصل، وكان قد عصبهما، ولم يحضر إلا محمولاً، فقبل عذره وخلِّى عنه. واستدعى الوزير الصاحب كريم الدين عبد الكريم بن الغنام، وقرر عليه مال، وخلع عليه بالاستمرار. وخلع أيضاً على موفق الدين أبي الفرج ناظر الخاص، وألزم بمال يحمله.
وفيه سُمر أربعة من الأمراء وهم: سودُن الرماح أمير عشرة رأس نوبة وألطبغا أمير عشرة. وأيران من الشام، ووسطوا.
وفي عاشره: أفرج عن ناصر الدين محمد بن الحسام، شاد الدواوين.
وفي حادي عشره: ضرب نجم الدين محمد الطنبدي محتسب القاهرة عند الأمير الكبير، وألزم بمال يحمله.
وفي ثاني عشره: أعيد سراج الدين عمر إلى حسبة القاهرة.
وفيه حمل جهاز خوند بنت الملك الأشرف وأخت الملك المنصور إلى القلعة، لتزف على الأمير الكبير منطاش - وقد عقد عليها - فكان على خمسمائة حمال، وعشرة قُطر بغال. ومشى الحجاب والعسكر معه، فخلع عليهم كلهم. وبنى عليها من ليلته، واهتم للعرس اهتماماً زائداً. وعندما زفت إليه خوند، علق بشربوشها ديناراً زنته مائتا مثقال، ثم ديناراً زنته مائة مثقال. وفتح للقصر باباً من الإسطبل بجوار باب السر.
وفي ثالث عشره: استقر شمس الدين محمد السلاوي الدمشقي في قضاء المدينة النبوية، عوضاً عن الشيخ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي شيخ الحديث.(2/416)
وقدم البريد بدوادار بزلار نائب دمشق الثائر بها، ومعه أمير أخر، فسجنا.
وفيه استقر تنكز الأعور نائب حماة، عوضاً عن طُغاي تمَرُ القبلاوي.
وأخرج عدة من الظاهرية إلى قوص. وعزل عمر بن قُرُط عن ولاية أسوان، واستقر عوضه أبو درقة.
وفيه قدم البريد بأن الأمراء المقيمين. ممدينة قوص خرجوا عن الطاعة، وقبضوا على الوالي، فندب إلى الخروجَ تمُربغا الناصري، وبيرم خجا، وأروس بغا، من أمراء الطبلخاناه.
وفيه انتهت زيادة ماء النيل إلى تسعة عشر ذراعاً وثمانية عشر أصبعاً، ولم يسمع بمثل ذلك إلا في النادر. وثبت إلى تاسع بابه، ثم انحط.
وفي ثالث عشرينه: قُبض على نور الدين على الحاضري وضُرب، وعُصر وسجق، بسبب تحدثه بمجيء كتب الملك الظاهر، وأنه هو الذى ينتصر.
وفيه قدم البريد بخروج الأمير كمشبغا الحموي نائب حلب عن الطاعة، وأنه حارب إبراهيم بن قُطلو أَقتمُر أمير جاندار، وقبض عليه ووسطه - هو وشهاب الدين أحمد بن عمر بن أبي الرضا الشافعي قاضي حلب - بعد أن قاتلوه ومعهم أهل بانقوسا فلما ظفر بهم قتل عدة كبيرة منهم.
وفيه استقر الأمير أق كَبك السونجة أمير علم بإمرة طبلخاناه.
وفي خامس عشرينه استقر في نظر الخاص الوزير الصاحب كريم الدين بن الغنبم، عوضاً عن موفق الدين أبي الفرج. واستقر عوضه في الوزارة موفق الدين أبو الفرج، وخلع عليهما.
وفيه قدم البريد بأن الأمير حسام الدين حسن بن باكيش نائب غزة، جمع العشير وسار لمحاربة الملك الظاهر.
وقدم البريد بقوة شوكة الأمراء الخارجين بالصعيد، فخرج الأمير أسندمر بن يعقوب شاه في نحو الخمسمائة فارس، وسار في ثامن عشرينه.
وفي سادس عشرينه: أفردت بلاد من الخاص، وتحدث فيها ناصر الدين محمد بن الحسام، فحنق من ذلك الصاحب كريم الدين بن الغنام، واستعفى، فقبض عليه وسجن بقاعة الصاحب من القلعة، وأخذ خطة بثلاثمائة ألف درهم فضة، وقبض على بعض حواشيه.
وفيه استقر أمير علي بن القرماني في ولاية الجيزة وعزل قراجا العلاي. واستقر طشبغا القَشْتَمُري والي دمياط.
وفيه ورد الخبر باتفاق الولاة مع الأمراء بالصعيد. وكان من خبرهم أنه لما استقر أبو درقة في ولاية أسوان سار إلى ابن قرط، واتفقا على المخامرة، وسارا إلى قوص وأفرجا عن الأمراء، وعدتهم زيادة على ثلاثين أميراً في عدة كبيرة من المماليك. فلما بلغ ذلك الأمير مبارك شاه نائب الوجه القبلي - وقد اجتمع معه نحو الثلاثمائة من الظاهرية - وافقهم على المخامرة، واستمال عرب هوارة، وعرب ابن الأحدب، فواقوه واستولوا على البلاد. فلما خرجت التجريدة الأولى من قلعة الجبل، انتهت إلى أسيوط ، فقبض عليهم مبارك شاه، وأفرج عمن كان معهم من المماليك الظاهرية، فخرج ابن يعقوب شاه، كما تقدم ذكره، وسار في الشرق.
وفي سابع عشرينه: أضيف نظر الخاص إلى الوزير موفق الدين أبي الفرج، وأفرج عن الصاحب كريم الدين بن الغنام، واستقر في نظر الإسطبلات.
وفيه عين خمسة أمراء من مقدمة الألوف، وثلاثمائة مملوك. ليسيروا إلى الكرك.
وفي ثامن عشرينه: استقر أمير على بن المكَلَلْة في ولاية منفلوط، وعزل محمد أَشَقْتمر.
وفيه ورد الخبر بأن الأمير أسندمر بن يعقوب شاه. ممن معه وصل أخميم، فلقبهم الخارجون عن الطاعة وكسروهم، فرسم بخروج نجدة من المماليك وأجناد الحلقة، ثم عوقوا.
وفي سلخه: استدعى القاضي صدر الدين محمد بن إبراهيم المناوي - مفتي دار العدل - واستقر في قضاء القضاة بديار مصر، عوضاً عن الشيخ ناصر الدين محمد ابن بنت الميلق، وخلع عليه، فنزل ومعه الأمير الدوادار والحجاب إلى المدرسة الصالحية على العادة، وسر الناس بولايته.
وخرج الأمير بلوط الصرغتمشي، والأمير غريب، لكشف أخبار الملك الظاهر.
وفي يوم السبت ثماني ذي القعدة: استقر قاضي القضاة بدر الدين محمد بن أبي البقاء في قضاء القضاة بدمشق، عوضاً عن شهاب الدين أحمد بن عمر القرشي. واستَقر قاضي القضاة سري الدين محمد بن المسلاني خطيب الجامع الأموي، وشيخ الشيوخ بدمشق واستقر موفق الدين بن العجمي في قضاء الحنفية بحلب، عوضاً عن محب الدبن محمد بن محمد بن محمد الشحنة. واستقر بدر الدين محمود السراي الكُلُسْتانى في قضاء الحنفية بدمشق، عوضاً عن نجم الدين الكفري.(2/417)
وفي ثالثه: توجه قاضي القضاة صدر الدين محمد المناوي إلى مدينة مصر، في موكب جليل على العادة.
وفي سادسه: حضر الأمير حسين بن أخي قرط طائعاً، واعتذر، فقبل عذره، وخلع عليه لولاية قوص، عوضاً عن مقبل الطيبي.
وفي عاشره: قرئ تقليد قاضي القضاة صدر الدين محمد المناوي، فكان الجمع موفوراً.
وفي ثاني عشره: أحضر بالأمير مبارك شاه الكاشف مقيداً، فسجن بخزانة شمايل.
وفي هدا الشهر: كثرت الإشاعات، وقويت الأراجيف، واختلفت الأقوال في الملك الظاهر برقوق، وكان من خبره أنه لما قتل الشهاب بالكرك، وأنزل عوام البلد الملك الظاهر من قلعتها، وقاموا بخدمته، أتته العربان وصار في طائفة، فلم تجد أكابر مدينة الكرك بداً من الموافقة، إلا أنهم قد سقط في أيديهم، وخافوا سوء العاقبة. فلما كثر جمع الظاهر عزم على الخروج من المدينة، وبرّز أثقاله. فاجتمع الأعيان عند العماد أحمد بن عيسى المقيري، قاضي الكرك، وأحالوا الرأي، وخشوا من السلطنة بمصر، فاتفقوا على القيام عليه، وقبضه، وإعلام أهل مصر بذلك، وأنه لم يخرج إلا باجتماع السفهاء منهم، ليكون ذلك خلاصاً لهم من معرة معاداة الدولة. وبعثوا ناصر الدين محمد أخا القاضى، فأغلق باب المدينة، وصار الظاهر وقد حيل بينه وبين أثقاله وعامة أصحابه فلما قام. ليركب ويخرج، بلغه ذلك.
وكان علاء الدين على - أخو القاضى - مباشر الإنشاء بالكرك، فكتب للظاهر في مدة خروجه وخدمه. فلما رأى ما نزل بالظاهر، عندما بلغه اتفاق أهل المدينة في بيت أخيه على قبض الظاهر، حدثه وقوّى جأشه، وسار به، حتى وصل باب المدينة، فإذا به مغلوق، وأخوه ناصر الدين قائم عنده، فما زال به حتى فتح الباب وخرج بالظاهر من المدينة، والتحق ببقية أصحابه من المماليك الذين وصلوا اٍ ليه، والعربان التى اجتمعت عليه، وأخلاط أهل مدينة الكرك. فأقام بالثنية خارج الكرك يومين، ورحل في ثامن عشرين شوال، وسار بهم يريد دمشق - وبها الأمير جَنتمُر أخو طاز، متولي نيابتها - وقد وصل إليه الأمير ألْطُنْبغا الحلبي الدوادار من مصر نائباً على حلب بحكم عصيان كمشبغا الحموي. فاستعدا لقتال الظاهر، وتوجه إليهما الأمير حسام الدين حسين بن باكيش - نائب غزة - بعساكرها وعشيرها.
وأقبل الظاهر. ممن معه، فخرجوا إليه وقاتلوه بشقحب - قريبا من دمشق - قتالاً شديداً، كسروه فيه غير مرة، وهو يعود إليهم ويقاتلهم، إلى أن كسرهم، وانهزموا منه إلى دمشق. وقتل منهم ما ينيف على الألف، فيهم خمسة عشر أميراً، وقتل من أصحابه نحو الستين، ومن أمرائه سبعة. وركب اًقفية المنهزمين، فامتنع جَنتمُر بالقلعة، وتوجه بالقلعة، وتوجه من أمراء دمشق ستة وثلاثون أميراً، ومعهم نحو الثلاثمائة وخمسين فارساً، قد أثخنوا بالجراحات. وأخذوا نائب صفد، وقصدوا ديار مصر. فلم يمض غير يوم واحد حتى وصل ابن باكيش بجمائعه، فقاتله الظاهر وهزمه، وأخذ جميع ما كان معه، فقوي به قوة كبيرة. وأتاه عدة من مماليكه، ومن أمراء الشام، فصار في عسكر كبير، وأقبل إليه الأمير جبرائيل حاجب الحجاب بدمشق، وأمير علي بن أسندمر الزيني، وجَقمَق، ومقبل الرومي، طائعين له، فصاروا في جملته.
ونزل السلطان بوقوق على قبة يلبغا ظاهر دمشق، وقد امتنع أهلها بها، وبالغوا في تحصينها، فحصرها، وأحرق القبيبات، وخربها، وأهلك في الحريق خلقاً كثيراً، وجد أهل المدينة في قتاله، وأفحشوا في سبه، وهو لا يفتر عن قتالهم، فأمده الأمير كمشبغا من حلب بثمانين فارساً من المماليك الظاهرية، فأخرج إليهم الأمير جَنتمُر خمسمائة فارس من دمشق، ليحولوا بينهم وبين الظاهر، فقاتلوهم، فكسرهم الظاهرية، واستولوا على جميع ما معهم.
وأتوا إلى الظاهر، فأقبل الأمير نعير بعربانه، يريد محاربته، فحاربه وكسره فانهزم عنه، وتقوى. مما صار إليه في هذه الوقائع. وصار له برك ويرق، بعدما كان بهيئة رثة، لا يكنه من المطر إلا خيمة صغيرة، ومماليكه في أخصاص كل منهم هو الذى يتولى خدمة فرسه بنفسه.(2/418)
واستمر الظاهر برقوق على حصار دمشق وقتال أهلها، فورد الخبر بذلك إلى منطاش في خامس عشر ذى القعدة، فتقدم في سابع عشره إلى الصاحب موفق الدين أبي الفرج بتجهيز الملك المنصور للسفر، فلم يجد في الخزائن ما يجهزه به، واعتذر بأن المال انتهب وتفرق في هذه الوقائع، فقبل ذلك، واستدعى القضاة، وسأل قاضي القضاة صدر الدين محمد المناوي أن يقرضه مال الأيتام، فامتنع من ذلك ووعظه، فلم تنجح فيه المواعظ، وختم في يومه على موادع الأيتام، وكانت إذ ذاك عامرة بالأموال. ورسم لحاجب الحجاب وناصر الدين بن قُرطُاى - نقيب الجيش - بتفرقة النقباء على أجناد الحلقة، وحثهم على التجهيز للسفر بعد العرض.
وفي تاسع عشره: قدم البريد بكسرة ابن باكيش وأخذ الملك الظاهر جميع ما كان معه، فاشتد اضطراب الناس، وكثر الإرجاف، ووقع الاجتهاد في الحركة للسفر، وأزعج أجناد الحلقة. واستدعى الأمير منطاش الخليفة المتوكل على اللّه، وقضاة القضاة، وشيخ الإسلام، وأعيان أهل العلم، فرتبوا صورة فتيا في أمر الملك الظاهر، وانفضوا من غير شيء.
وفيه قدم البريد بواقعة صفد، و كَان من خبرها أن مملوك من المماليك الظاهرية - يعرف بيلبغا السالمي - أسلمه الملك الظاهر للطواشي بهادر الشهابي مقدم المماليك، فرتبه خازنداره. واستمر على ذلك إلى أن نفي المقدم كما تقدم ذكره، فخدم يلبغا الطواشي، صواب السعدي شنكل المقدم، وصار دواداره الصغير. فلما قبض الناصري على شنكل، خدم يلبغا عند الأمير قطلوبك النظامي صفد دواداراً، وسار معه إلى صفد، فتحبب إلى الناس بالإحسان إليهم وملاطفتهم، إلى أن قدم إلى صفد خبر مسير الملك الظاهر من الكرك إلى دمشق. وجع النظامي العسكر ليصير إلى نائب دمشق. وقام يلبغا في طائفة من المماليك الذين استمالهم، وأفرج عن الأمير أينال اليوسفي، الأمير قجماس ابن عم الظاهر، ونحو المائتين من المماليك الظاهرية من سجن صفد. ونادى بشعار الملك الظاهر يريد القبض على النظامي. فلم يثبت وفر من صفد في مملوكين، فاستولى يلبغا. ممن معه على مدينة صفد وقلعتها، وصار الأمير أينال قائماً بأمر صفد، ووقف يلبغا في خدمته، وقد تقووا بثقل النظامي وبركة. فلما ورد هذا الخبر، عظم اضطراب الأمير منطاش، وزاد قلقه، وكثرت قالة الناس، وتوالت الأخبار ذلك.
وفي حادي عشرينه: استقر الشريف بَكتمُر في ولاية البحرة ونقل تمراز العلاي إلى كشف الوجه البحري، ورسم لهما بجمع عرب البحيرة لقتال الظاهر.
وفيه قدم الخبر بوصول نائب صفد ونائب حماة، وحمد بن بيدمر أتابك دمشق، في تتمة خمسة وثلاثين أميراً، وجمع كثير من المماليك، وقد انهزموا من الظاهر، فرسم بدخولهم.
وفيه استدعى الخليفة والقضاة والفقهاء بسبب الفتيا، فكتب ناصر الدين محمد بن الصالحي - موقع الحكم - فتيا تتضمن السؤال عن رجل خلع الخليفة والسلطان، وقتل شريفاً في الشهر الحرام والبلد الحرام وهو محرم، واستحل أخذ أموال الناس وقتل الأنفس، وجعلها عشر نسخ.
وفي ثالث عشرينه: قدم سواق من سواقي البريد، وبدوي، وبشرا منطاش بأن الظاهر بعد ما ملك دمشق كبس في الليل، وهرب، فمشى ذلك عليه، وأنعم عليهما. وفيه رسم بفتح سجن قديم بالقلعة، وقد ارتدم، وسجن به عدة مماليك وسجن كثير منهم بأبراج القلعة، وضيق عليهم.
وفيه وجدت ذخيرة بالقاهرة، في بيت عماد الدين إسماعيل بن المشرف أستادار جركس الخليلي، فيها ستمائة ألف درهم، ونحو الخمسين ألف درهم، فأخذها الأمير منطاش، وأخذ لابن جركس الخليلي أيضاً نحو ثلاثمائة ألف دينار مصرية.
وفيه قدم الأمراء والمماليك المنهزمون من الظاهر، وهم: قطلوبك النظامي نائب صفد، وتنكز الأعور نائب حماة، ومحمد بن بيدمر أتابك دمشق، ويلبغا العلاي أحد المقدمين بدمشق، وأقباي الأشرفي نائب قلعة المسلمين، ومن أمراء الطبلخاناة دمرداش الأطروش والي الولاة، وشكر اًحمد، وجوبان الخاصكي، وقطلوبغا جَبْجَق، وجبرائيل. ومن العشرينات أقبغا الوزيري، وأزدمر الأشقَتمري، وقُنُق الزيني، ومنكلي بغا الناصري، وبَمبغا، وطومان، وأقبغا الإينالي، وأحمد بن يانوق.
ومن العشراوات بيبغا العلاي، وطغاي تمر الأشرفي، ومصطفي البيدمري، ويوسف الأطروش، وأقتمر الأشقتمري، وأرغون شاه - دوادار يلبغا المنجكي - وألطنبغا البيدمري، وقر ابغا السيفي.(2/419)
ومن أمراء صفد تغري بردي الأشرفي، ومنجك الخاصكي، وقجقار السيفي.
ومن أمراء حماة جَنتمُر الأسعردي، وألطبغا المارديني، وبكلمق الأرغوني، وطيبغا القرمي، وأسنبغا الأشرفي، وحسين الأيتمشي.
ومن المماليك عدة مائتين وأحد وعشرين.
وفيه أفرج عن الأمير قرقماس الطشتمري، واستقر خازندارا على عادته.
وأفرج عن شيخ الصفوي الخاصكي، وأرغون السلامي، ويلبغا اليونسي، ونزلوا إلى دورهم.
وفيه رسم على مباشري الأمراء المنفصلين ليجهزوا الأمراء المستجدين للسفر، فلم يسمع بمثل هذا.
وفيه نودي أن الفقهاء والكتاب لا يركب أحد منهم فرساً عربياً، وأن الكتاب الكبار أرباب الوظائف السلطانية، وكتاب الأمراء يركبون البغال.
وفيه أخذت أكاديش الحمالين المعدة للحمل عليها، وأخذت خيرل الطواحين الجياد، وتتبعت المماليك الجراكسة، وطلبهم حسين والي القاهرة، وأخذهم من كل موضع، فقبض منهم على رجل شيخ يقال له يُلوا الأحمدي، وضرب، وأخذ منه مبلغ خمسين ألف درهم فضة، وأفرج عنه وعن طُرنطاي الخطيري، وطولو بغا الأحمدي، واًقبغا البشتكي، ومسافر، لأجل أن لكل منهم في مصر نحو الستين سنة.
وفيه خشبت أيدى المماليك المسجونين، وأرجلهم.
وفي خامس عشرينه: اجتمع الأمراء وأهل الدولة مع الأمير الكبير منطاش، واتفقوا على استبداد السلطان الملك المنصور، وأثبتوا رشده بحضرة القضاة والخليفة. فرسم السلطان بتعليق الجاليش بالطبلخاناة، ليعلم الناس بالسفر إلى الشام، وأفرج عن الأمير محمود الأستادار، وأمر بعرض أجناد الحلقة والمماليك السلطانية، ونودي أن العامة لا يركب أحد منهم فرساً أصيلاً وأن المكارية لا تحمل على أكديش حملاً.
وفيه أحضرت نسخ الفتوى في الملك الظاهر، وزيد فيها: " واستعان بالكفار على قتال المسلمين " وحضر الخليفة المتوكل وقضاة القضاة الأربع وشيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني وولده جلال الدين عبد الرحمن قاضي العسكر، وقاضي القضاة بدر الدين محمد بن أبي البقاء، وولي الدين أبو زيد عبد الرحمن بن خلدون المالكي، وسراج الدين عمر بن الملقن الشافعي، وعدة دون هؤلاء؛ بالقصر الأبلق من القلعة بحضرة الملك المنصور والأمير الكبير منطاش، وقدمت إليهم الفتوى، فكنبوا عليها بأجمعهم وانصرفوا. وفيه نودي على أجناد الحلقة بالعرض، وهدد من تأخر منهم.
وفيه كتب لعرب البحيرة بالحضور للسفر مع العسكر إلى الشام.
وفيه استقر الأمير قُطلبوبغا الزيني أمير جاندار، شريكاً لطوغان العمري.
واستقر أمير حاج بن مُغْلطاي الحاحب أستادار السلطان. وأنعم على كل من أرغون شاه السيفي، وقطلوبغا السيفي بإمرة مائة. وأنعم على الأمراء القادمين من الشام بفرس بقماش ذهب، وخمسين ألف درهم فضة لكل أمير مائة، ولمن عداهم من الأمراء بأقبية مغرية. ورتب لهم اللحم والجرايات والعليق وفيه أعيد مبارك شاه في نيابة الوجه القبلي وخلع عليه.
وفي سابع عشرينه: أخليت خزانة الخاص بالقلعة، وسدت شبابيكها وبابها، وفتح من سقفها طاق، وعملت سجنا.
وفي يوم السبت أول في ذي الحجة: قدم البريد من الصعيد بأن العسكر المجرد مع الأمير أسندمر بن يعقوب شاه واقع الأمراء الخارجين عن الطاعة بمدينة قوص، وقبضوا عليهم كلهم، فدقت البشاير ثلاثة أيام بالقلعة.
وفيه قبض على الصاحب كريم الدين بن الغنام، وألزم بحمل ثلاثمائة ألف درهم فضة، وخمسين فرساً.
وفيه أنفق على كل من الأمراء الألوف مائة ألف درهم فضة، وعلى كل من أمراء الطبلخاناة خمسون ألف درهم.
وفيه سد باب الفرج - أحد أبواب القاهرة - وخوخة أيدغمش، وغير ذلك.
وفي ثالثه: قبض على متى بطرك النصارى، وألزم بمال، وقبض على رئيس اليهود، وألزم بمال. فتقرر على البطرك مائة ألف درهم، وعلى رئيس اليهودي خمسون ألف درهم جبوها وحملوها.
وفيه طلب الشيخ شمس الدين محمد الركراكي المالكي، وألزم بالكتابة على الفتوى في الملك الظاهر، فامتنع، فضرب مائة ضربة، وسجن بالإصطبل.
وفي رابعه: أفرج عن ابن غنام.
وفي سادسه: فتحت خوخة أَيْدُغْمُش.
وفيه خرجت تجريدة إلى الصعيد خوفاً منأخذ العرب الأمراء المماليك الظاهرية المقبوض عليهم.
وفي سابعه: دقت البشائر لكذبة نمقت، وهى أن إينال اليوسفي سار من صفد. ممن معه، فقاتله أهل دمشق، وقتلوه، وجرح الملك الظاهر.(2/420)
وفي ثالث عشره: تولى الأمير تمان تمر الأشرفي رأس نوبة عرض المماليك السلطانية، وكثرت في أمر الظاهر والأرجاف، تارة بنصرته وتارة بهزيمته، وتحدث كل أحد على مقتضى غرضه.
وفي خامس عشره: عرض الأمير تمان تمر أجناد الحلقة، مَنْ إقطاعه عبرة أربعمائة دينار فما فوقها، وعين جماعة منهم للسفر، وجماعة لحراسة القلعة، وجماعة لحراسة القاهرة وجماعة لحراسة مصر، وعرض مقدمي المماليك، وعرض البحرية والمفاردة.
وفيه برز الأمراء الشاميون بظاهر القاهرة، للتوجه إلى الشام.
وفيه قبض على الخليفة المخلوع زكريا، وأخذ منه العهد الذي عهده إليه أبوه بالخلافة، وأشهد عليه أنه لا حق له في الخلافة.
وفيه قدمت التجاريد من بلاد الصعيد بالخارجين عن الطاعة في القيود، فغرق جماعة من المماليك في النيل ليلاً، وأخرج بستة من الجب بالقلعة، موتى.
وفي سادس عشره: أحضر بالقادمين من الصعيد مع الأمير أسندمر بن يعقوب شاه إلى القلعة، وهم: تمرباي الحسني، وقرابغا الأبو بكري، وبجمان المحمدي، ومنكلي الشمسي، وفارس الصرغتمشي، وتمربغا المنجكي، وطوجي الحسني، وقرمان المنجكي، وبيبرس التمان تمرى، وقراكسك السيفي، وأرسلان اللفاف، ومقبل الرومي، وطوغاي تمر الجركتمري، وجرباش الشيخي، وبغداد الأسعدي، ويونس الأسعردي، وأردبغا العثماني وتنكز العثماني، وبلاط المنجكي، وقراجا السيفي، وكمشبغا اليوسفي، وأقبغا حطب، وقرابغا المحمدي، وعيسى التركماني، وبك بلاط السونجي، فأوقفوا في القيود زماناً ثم سجنوا. وأفرج عن جماعة ممن حضر وهم: قُنُق بيه اللالا، وأقبغا السيفي، وتمرباي الأشرفي، وعز الصرغتمشي، وخلع عليهم. وأفرج أيضاً عن بك بلاط السونجي.
وفيه سجن بخزانة الخاص الأمير محمود، والأمير أقبغا المارداني، وأيدمر أبو زلطة، وشاهين الصرغتمشي أمير أخور، وجُمُق بن أيتمش، وبطا الطولوتمرى، وبهادر الأعسر، وعدة كبيرة من الأمراء والمماليك.
وفيه ألزم سائر مباشري الدواوين بأن يحمل كل واحد خمسمائة درهم ثمن فرس، وقرر ذلك على الوظائف لا على الأشخاص، على أن من كان له عشر وظائف في عدة دواوين تحمل كل وظيفة خمسمائة درهم، فنزل بالناس ما لم يعهدوه، فتوزعوا ذلك بعد أن جبى منهم عدة خيول، فجاء جملة الحمل من المباشرين خيلاً وعينا ألف فرس.
وفيه أحضر من ألزم بالسفر من أجناد الحلقة، وأعفوا من السفر، على أن يحضر كل منهم فرساً جيداً، فأحضروا خيولهم، فأخذ جيادها، ورد ما عداها. وألزم من لم يحضر فرساً بألف درهم عن ثمن فرس، فتضرروا من ذلك، فاستقرت خمسمائة درهم جبيت منهم. وألزم رؤوس نوب الحجاب بحمل كل منهم خمسين ألف درهم، وعدتهم أربعة، ثم استقر على كل واحد أربعة عشر ألف درهم، حملها وأفرج عنه.
وفيه أنفق على مماليك الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير منطاش، لكل واحد ألف درهم.
وفي يوم الاثنين سابع عشره: نزل الملك المنصور والأمير الكبير منطاش من قلعة الجبل بالعساكر إلى الريدانية خارج القاهرة. واستدعى قاضي القضاة صدر الدين محمد المناوي إلى الريدانية، وألزم بالسفر فامتنع وسأل الإعفاء، فأعفى. واستقر قاضي القضاة بدر الدين محمد بن أبي البقاء على أنه يعطى مال الأيتام ويحمل من ماله مائة ألف درهم فضة، ثم خلع عليه وعبر إلى القاهرة من باب النصر.
وفيه استقر عبيد الله العجمي في قضاء العسكر، وعزل سراج الدين عمر.
وفيها اعتقل الخليفة المخلوع زكريا، والأمير سودن النائب، بقاعة الفضة من القلعة. وفيه تقرر على سائر المماليك البحرية والمفاردة وأولاد الأمراء المقيمين بالقاهرة - ممن تعين لحفظها وحفظ القلعة ومصر في مدة غيبة السلطان - خيولاً يحملونها إلى الريدانية، وتقرر على موقعي الإنشاء أيضاً خيولاً، وعلى بقية أرباب الوظائف من المتعممين، وأزعجوا بسبب ذلك، فمنهم من قاد العشرة أرءوس، ومنهم من قاد دونها، على قدر ما لزمه، كما تقدم في الكتاب، فاشتد غم الناس، وكثرت حركاتهم، ونزل بهم ما لم يروا مثله.
وفي تاسع عشره: ركب الأمير تُمان تَمُر رأس نوبة في عدة مماليك إلى الرميلة تحت القلعة، وقبض على كل من رآه راكباً على فرس من المتعممين وغيرهم، وأخذ خيولهم ومضى بها إلى داره.(2/421)
وفيه اشتد الطلب على الأجناد وغيرهم بسبب جباية الخيول وأثمانها، وسلم كثير منهم للأمير حسام الدين حسين بن الكوراني - الوالي - ليخلص ذلك منهم بالعقوبة وفيه نزل الوزير موفق الدين أبو الفرج والأمير ناصر الدين محمد بن الحسام إلى خان مسرور بالقاهرة، حيث مودع الأيتام، وأخذا منه ثلاثمائة ألف درهم، وألزم أمين الحكم بالقاهرة أن يحمل تتمة خمسمائة ألف درهم، وألزم أمين الحكم. ممصر أن يحمل مائة ألف درهم، وألزم أمين الحكم بالحسينية أن يحمل مائة ألف درهم قرضاً، حسب إذن قاضي القضاة بدر الدين محمد بن أبي البقاء في ذلك.
وفيه استدعى قضاة القضاة الأربع إلى الريدانية بكرة النهار، فأجلسوا في خيمة، وتركوا بغير أكل إلى قريب العصر. ثم طلبوا إلى عند السلطان، فعقدوا عقده على خوند بنت أحمد بن السلطان حسن، بصداق مبلغه ألف دينار وعشرون ألف درهم، وعقدوا عقد الأمير قطلوبغا الصفوي على ابنة الأمير أيدمر الدوادار.
وفي عشرينه: رحل طليعة العسكر أربعة أمراء وهم: أسندمر بن يعقوب شاه، والكريمي، وثمان تمر رأس نوبة، وقطلوبغا الصفوي.
وفي ثاني عشرينه: رحل الأمير منطاش في عدة من الأمراء، ثم رحل السلطان والخليفة والقضاة وبقية العسكر، وقد أقيم نائب الغيبة بالقلعة الأمير تكا، ومعه الأمير دمرداش القشتمري، وبالإسطبل الأمير سرايَ تمُر، وبالقاهرة الأمير قُطلوبغا الحاجب، وجعل أمر العزل والولاية إلى الأمير سراي تمر.
وفيه نقل الأمير سودن النائب إلى بيت بالقلعة.
وفيه ألزم قاضي القضاة بدر الدين محمد بن أبي البقاء الشافعي بإحضار عشرة أروس من الخيل. وطلب من كل الأمراء من المقدمين المقيمين عشرة أروس، ومن كل أمير طبلخاناة أربعة أروس، ومن كل أمير عشرة فرسان، فأخذ ذلك من الجميع. وكلب من سائر الولاة المستقرين بأعمال ديار مصر والمعزولين، الخيل. وقرر على كل واحد منهم بحسب حاله، وطلب من سائر الخدام الطواشية خيول، ثم أعفوا.
وفيه استقر الأمير حسام الدين حسين بن الكوراني في ولاية مصر، مضافة إلى ولاية القاهرة، فاستناب في مصر ابن أخيه أمير عمر بن ممدود.
واستقر ناصر الدين محمد بن ليلى في ولاية الجيزة، عوضاً عن قرطاي التاجي بحكم انتقاله لكشف التراب بالجيزية.
وفي ثالث عشرينه: استقر قُطلوبغا السيفي أمير حاجب ثانياً، عوضاً عن أمير حاج ابن مغلطاي. ورسم لفراج السيفي بإمرة عشرة. وأنعم على كل من قراكسك، وأرسلان اللفاف، وبك بلاط السونجي بقباء بفرو، وشق.
وفيه قدم نجاب من الحجاز بموت الطواشي مثقال الساقي الزمام، ببدر.
وفيه رحل السلطان من العكرشا إلى بلبيس، فتقنطر عن الفرس، فتطير الناس من ذلك بأنه يرجع مقهوراً، وكذا كان.
وفي سلخه: سد الأمير صراي تمر باب القصر الذي بالإصطبل، وسد شبابيك الشراب خاناة.
وانقضت هذه السنة والناس في مصر والشام بشر كبير.
واتفق أيضاً في هذه السنة. وقوع حادثة عظيمة ببلاد خراسان، وهى أنه هبت بمدينة نيسابور رياح عاصفة في شهر صفر، ارتجت الأرض من شدة هبوبها، وحدثت زلزلة مهولة، تحركت الأرض منها حركة عنيفة، حتى كان الإنسان وغيره يرتفع عن موضعه قامتين وأكثر، وصارت الأرض تنتقل من موضع إلى موضع، فلم يبق شيء في جميع أقطار المدينة من البيوت والأسواق والمدارس ونحوها إلا واهتز اهتزازاً عظيماً، واستمر الحال كذلك إلى ضحوة نهار اليوم الرابع، فسكنت الزلزلة، وأمن الناس واطمأنوا، وإذا بريح عظيمة هبت في الحال، ثم تحركت الأرض أقوى مما تحركت قبل ذلك، وانقلبت بأهلها، فصار عاليها سافلها، وخربت المدينة، وهلك أهلها، فلم يسلم منهم إلا النادر. وسلم سكان الفوقانيات، وهلك سكان التحتانيات، وسلم قوم كانوا في بعض الحمامات، وقد خرجوا إلى الدهاليز فاحتوى من بقي من الأراذل على أموال من قد هلك من الأماثل، وترأسوا بعدهم. ثم بعد أشهر عمر من بقي عمارات بالقرب من المدينة التي هلكت، وعملوا عاليها من الخشب والخيام.
ومن غريب ما وقع في هذه الحادثة أن قرية انتقلت من مكانها إلى مكان قرية أخرى، فصارت فوقها بحيث لم يبق للتي كانت أولاً أثر يعرف فكانت بين أهل القريتين عدة خصومات ومحاربات.(2/422)
واتفق أيضاً أن رجلاً كان في بيته، فسقط البيت إلا الموضع الذي فيه الرجل فإنه لم يسقط، وسلم الرجل. وكانت امرأة في الحمام، وقد أخذت لقمة وضعتها في فمها، فسقط الحمام عليها، فهلكت فيمن هلك، فلما نبش عنها، وجدت واللقمة في فيها لم تبلعها، وولدها في حضنها، ومئزرها في وسطها، وقد أدخلت إحدى رجليها في داخل الحمام، ورجلها الأخرى من خارج، لم تهمل حتى تدخلها بل هلكت قبل ذلك، وسلم مع ذلك الوقاد في أتون الحمام، فإنه ممن ألقته الأرض عنها، فحدفته إلى العلو، وصار بالبعد عن موضعه، فسلم. وقد اشتهر عند أهل نيسابور أنها خربت بالزلازل سبع مرات، فكانت هذه المرة أشنع مما مضى؛ لأنها تركت المدينة عاليها سافلها. ولا حول ولا قوة إلا باللّه.
ومات في هذه السنة
عالم كبير بالطاعون والسيف، فممن له ذكر من الأعيان: الأمير صارم الدين إبراهيم بن الأمير سيف الدين قُطلو أَقتمُر العلاي، أمير جاندار بحلب، قتله الأمير كُمشبغا الحموي، وقد عصى كمشبغا. وقام إبراهيم بنصرة منطاش، واستمال جماعة وحارب كُمُشبغا، فانتصر عليه ووسطه في شوال.
ومات شهاب الدين أبو العباس أحمد بن عمر بن أبي الرضا قاضي القضاة الشافعي بحلب. ثار على كمشبغا نائب حلب، وجع أهل بانقوسا وقاتله، وظفر بهم كمشبغا وقتل كثيراً منهم، وفر ابن أبي الرضا، فأخذ قريباً من المعرة. وقتل وعمره زيادة على أربعين سنة. وكان إماماً في عدة علوم، شهماً، صارماً، مهاباً، محباً للحديث وأهله.
ومات برهان الدين إبراهيم بن على المعروف بابن الحلواني، الشامي الأصل، المصري، الواعظ بالقاهرة، في عاشر صفر، و لم يُر بعده من يعمل المواعيد مثله في حسن أدائه، وكان لا يعظ إلا من كتاب.
ومات الشيخ شهاب الدين أحمد بن أبي يزيد بن محمد، ويعرف بمولانا زاده السرائي العجمي، في يوم الأربعاء حادي عشرين المحرم بالقاهرة. وكان فاضلاً في عدة علوم، وهو أول من ولى درس الحديث بالظاهرية المستجدة بين القصرين.
ومات الأمير أرنبغا، مقدم البريدية، وأحد أمراء العشراوات بالقاهرة، في صفر.
ومات الأمير تلكتمر، أحد أمراء الطبلخاناه، وكاشف الجسور. مات بالطاعون في جمادى الأولى.
ومات الأمير جركس الخليلي، أمير أخور. قُتل في محاربة الناصري خارج دمشق، يوم الاثنين حادي عشرين ربيع الآخر. وكان مهاباً، عارفاً، خبراً بالأمور، حسن السياسة، عاقلاً، خيراً. وله بالقاهرة خان يعرف به وقفه على بر يعمل بمكة.
ومات الأمير سيف الدين بزلار العمري نائب دمشق. كان من مماليك الناصر حسن. ربي مع أولاده وتأدب ومهر في الكتابة، وشارك في العلوم، سيما الفلكيات وعلم النجوم. وتقدم في الفروسية، وأتقن أنواع الثقافة، وكان ذكياً فطناً شجاعاً، ولي نيابة الإسكندرية، وتنقل في الرتب. ثم نفي إلى طرابلس. وقدم مع الأمير يلبغا الناصري إلى القاهرة، وولى نيابة دمشق. ثم قبض عليه واعتقل بقلعتها حتى مات، وقد أناف على الخمسين.
ومات الأمير حسام الدين حسن بن الأمير علاء الدين على ابن الأمير سيف الدين قَشْتمر، أحد العشراوات. مات بالطاعون في القاهرة.
ومات الشيخ حسين الخبَّاز، الواعظ المعتقد. صحب الشيخ ياقوت الشاذلي، وتلقن منه، وتزوج ابنته، وترك بيع الخبز، وانقطع بزاويته خارج القاهرة، وجلس للوعظ، فاشتهر، وصار له عدة أتباع، حتى مات في حادي عشرين ربيع الآخر، ودفن بالقرافة ومات الأمير سودن المظفري، مقتولاً بحلب. وكان مشكوراً، فيه خير وبر ومحبة للفقراء، وملازماً للعبادة، وقلة الكلام مع المعرفة، وأصله من مماليك الأمير قُطلوبُغا المظفري، أحد أمراء حلب. وبها نشأ وترقى إلى أن صار خازندار الأمير جرجي الإدريسى نائب حلب. ثم صار أحد الحجاب، وانتقل إلى نيابة حماة، ثم ولي نيابة حلب، وعزل منها، وصار أتابك حلب، إلى أن قتل، وقد أناف على الستين.
ومات الأمير سراي الطويل الرحبي أحد المماليك اليلبغاوية، والأمراء الطبلخاناه. مات خارج القاهرة، ثالث عشر ربيع الأول.
ومات قاضي القضاة جمال الدين عبد الرحمن بن محمد بن خير الإسكندري المالكي، في يوم الأربعاء سابع عشر رمضان.
نشأ بالإسكندرية، وبرع في الفقه، واشتهر بحسن السيرة، فطلب لقضاء المالكية بديار مصر، وباشره أحسن مباشرة.(2/423)
ومات جمال الدين عبد الله بن الشيخ علاء الدين مغلطاي في ثامن عشرين ربيع الآخرة، بالقاهرة.
ومات الشيخ شرف الدين عثمان بن سليمان بن رسول ابن أمير يوسف بن خليل بن نوح الكراني التركماني الحنفي، المعروف بالأشقر. قدم إلى القاهرة، واتصل بالأمير الكبير برقوق، وحظي عنده، وصار يؤاكله، فلما ولي السلطنة رتبه إماماً يؤم به في الصلوات. ثم ولاه مشيخة الخانقاة الركنية بيبرس، وقضاء العسكر حتى مات، في رابع عضرين ربيع الآخر بالطاعون.
ومات الأمير أشقتمر المارديني نائب حلب، مات بطالاً بالقدس.
ومات علم دار بن عبد الله الناصري بدمشق. وكان خيراً، له مثار جميلة بمصر والشام.
ومات الطواشي سابق الدين مثقال الجمالي الساقي زمام الدور. كان من خدام المجاهد صاحب اليمن، فلما حج نهب وأبيع، فاشتراه حسين بن الناصر محمد، فترقى في الخدم، وصار من الجمدارية. ثم ولى شد الأحواش. فلما مات سابق الدين مثقال الآنوكي، نقل افتخار الدين ياقوت الزمام إلى تقدمة المماليك، وولى مثقال هذا زمام الدور عوضه، ثم صرف بمقبل الدوادري فسافر إلى الحجاز وجاور بالحرمين حتى مات ببدر، ليلة الجمعة تاسع عشر ذي القعدة.
ومات الأمير ناصر الدين محمد بن بزلار، أحد العشراوات. مات بالطاعون في القاهرة.
ومات الشيخ بدر الدين محمد بن شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان بن نصير البلقيني الشافعي، قاضي العسكر، في يوم الجمعة سابع عشرين شعبان، ودفن بمدرسة أبيه من حارة بهاء الدين بالقاهرة، وكان مفتياً في عدة علوم، حاد المزاج، مفرط الذكاء، منهمكاً في اللذات التي تهواها النفوس، متمتعاً بالجاه والمال.
ومات الشيخ شمس الدين بن محمود بن عبد الله النيسابوري، المعروف بابن أخي جار الله الحنفي، في سابع عشرين جمادى الأولى، عن قريب من خمسين سنة. ولي إفتاء دار العدل ومشيخة الخانكاة الصلاحية سعيد السعداء، وعدة تداريس، وكان خيراً.
ومات الشيخ منهاج الدين العجمي في رابع عشر ربيع الأول. درس فقه الحنفية بالجامع الطولوني، وبمدرسة أم الأشرف. وكان قليل العلم جداً، لا يزيد في الدرس على سماع ما يقرأ عليه.
ومات الشيخ محب الدين أحمد السبتي المعتقد، في العشرين من صفر.
ومات الأمير علاء الدين مغلطاي والي القاهرة، في المحرم.
ومات شهاب الدين أحمد بن موسى بن علي، عرف بابن الوكيل الشافعي المكي، بالقاهرة في نصف صفر.
ومات الأمير سيف الدين نوغاي، أحد أمراء العشرينات، وأمير علم.
ومات القاضي تاج الدين ابن ريشة ناظر الدولة في سادس عشرين جمادى الأولى.
ومات الأمير شرف الدين يونس النوروزي الدوادار، أصله من مماليك الأمير جرجي الإدريسي نائب حلب. واستقر من جملة المماليك اليلبغاوية، وصار دوادار الأمير الكبير أسندمر الأتابك. فلما ملك الظاهر برقوق جعله داودارا كبيراً. وكان أخص أمرائه حتى خرج إلى محاربة الناصري وانهزم، فقتله عنقاء بن شطي أمير آل مرا، قريباً من خربة اللصوص، في يوم الثلاثاء ثاني عشرين ربيع الآخر، عن نيف وستين سنة. وكان خيراً، كثير المعروف، صاحب نسك من صوم كثير وصلاة في الليل، مع وفور الحرمة، وقوة المهابة، والإعراض عن سائر الهزل، ومحبة أهل العلم والدين وإكرامهم. وله بالقاهرة قيسارية وربع، وله تربة بقبة النصر، وتربة خارج باب الوزير، ومدرسة خارج دمشق، وخاناً حليلاً خارج غزة، وعدة أحواض سبيل بديار مصر والشام.
وماتت خوند شقراء ابنة الملك الناصر حسن زوجة الأمير أروس، في ثامن عشرين جمادى الأولى.
ومات الأمير قرا محمد صاحب الموصل قتيلاً.
ومات الأمير زامل بن مهنا أمير آل فضل في السنة المذكورة. والله سبحانه وتعالى أعلم.
سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة
أهل المحرم يوم الاثنين، وديار مصر والشام من الفرات إلى أسوان في غاية الاضطراب وترقب الشر.
وفي ثانيه: وصل السلطان الملك المنصور إلى مدينة غزة بعساكر مصر، وجميعهم السلاخ، أبدانهم وخيولهم.
وفي سادسه: عدى الأمير صراي تمر نائب الغيبة بحر النيل إلى بر الجيزة، وأحاط بخيول الناس المرتبطة على البرسيم للربيع، وأخذها كلها - ولم يكن بذاك الكبير - وأدخلها في الجشارات السلطانية. وتتبعت الخيول، فأخذت خيول الأمراء وأولاد الناس وخيول عربان البحيرة والغربية والشرقية.(2/424)
وشرع الناشب في تجهيز الشعير والزاد إلى العسكر لغلاء السعر معهم.
وفي سابعه: دقت البشائر بالقلعة وأبواب الأمراء ثلاثة أيام، لكذب أشاعوه من جمرار الملك الظاهر، وتابعوا الإشاعات بفلك. ورسم بزينة القاهرة ومصر، فزينتا في ثامنه.
وفيه استقر قُرُطاي التاجي في ولاية الفيوم وكشفها، وكشف البهنساوية والأطفيحية، عوضاً عن أمير حاج بن أيدمر.
وفي حادي عشره: قُبض على ستة مماليك بالبرقية من القاهرة، وقد لبسوا السلاح وأعدوا عندهم كثيراً من السلاح، فأقروا أن معهم جماعة من مماليك نائب الغيبة، ومماليك غيره من الأمراء قد اتفقوا على أنهم يثوروا يوم الجمعة ثاني عشره، وتأخذ كل طائفة أميراً، ويملكوا الإصطبل والقلعة.
فأمسك الأمير صراي تمر نائب الغيبة من مماليكه خمسة وثلاثين رجلاً، وقبض الأمير تكا على عشرين، وقبض الأمير مقبل أمير سلاح على سبعة. وضرب الجميع فأقروا على جماعة، قبض منهم يونس من أمراء العشراوات، وناصر البدري الأستادار، وقطلوبك، وفراج. ونزل والي القاهرة حسين بن الكوراني، والأمير قطلوبغا الحاجب إلى الحار البيسرية بالقاهرة، وبها أخوات الملك الظاهر، فأخفوا بيبرس ابن أخت الظاهر برقوق وأفحش حسين الوالي في سب أخوات الظاهر، وبالغ في إهانتهن، وذم الظاهر، حتى ألجأهن إلى الخروج حاسرات مع الجنادرة، يسحبن في طول القاهرة، حتى قدم مرسوم نائب الغيبة بردهن من باب زويلة، فكان هذا أعظم الأسباب في هلاك حسين، كما يأتي ذكره إن شاء اللّه تعالى.
وفيه استقر عمر بن خطاب في ولاية المنوفية عوضاً عن محمد بن العادلي.
وفي ثاني عشره: قلعت الزينة.
وفيه نزل قطلوبغا الحاجب، وفتش البيسرية، فلم يجد فيها أحداً من المماليك الظاهرية فدخل المدرسة الظاهرية برقوق، وفتش سائر بيوت فقهائها فلم يجد أحداً، فقبض على رجلين من التجار العجم، أحدهما خواجاً إسماعيل، وعملهما في الحديد، وسار بهما إلى القلعة.
وفيه ألزم أرباب المراكب ألا يعدوا بفرس من بر الجيزة إلى بر مصر والقاهرة.
وفيه نودي على الممالك الظاهرية أن من أحضر منهم مملوكاً، أخذ ألفي درهم.
وأما الملك المنصور والأمير منطاش فإن الأخبار أتتهما بأن الأمير كُمُشبغا لم يزل يبعث من حلب يمد الملك الظاهر بالعساكر والأزواد والآلات وغير ذلك، حتى صار له برك كبير، ثم إنه قدم لنصرته بعساكر حلب، وقاتل معه، فجد الملك المنصور من غزة في المسير، وبلغ ذلك الملك الظاهر فترك قتال أهل دمشق، وأقبل نحوهم، فنزل العسكر المصري على قرية المليحة - وهى عن شقحب بنحو بريد - وأقاموا بها يومهم. وبعثوا كشافتهم، فوجدوا الظاهر برقوق على شقحب، فكان اللقاء يوم الأحد رابع عشره، وقد وافاهم الظاهر برقوق، فوقف الأمير منطاش في الميمنة، وحمل على ميسرة الظاهر، فحمل أصحاب ميمنة الظاهر على ميسرة المنصور، وبذل كل من الفريقين جهده، وكانت حروب شديدة، انهزمت فيها ميمنة الظاهر وميسرته، وتبعهم منطاش بمن معه، وثبت الظاهر في القلب، وقد انقطع عنه خبر أصحابه، وأيقن بالهلاك. ثم حمل على المنصور بمن بقي معه، فأخذ المنصور والخليفة المتوكل والقضاة والخزاين، ومالت الطائفة التي ثبتت معه على الأثقال، فأخذتها عن أخرها، وكانت شيئاً يخرج عن الحد في الكثرة، ووقع الأمير قُجماس ابن عم الظاهر في قبضة منطاش، ومر في أثر المنهزمين حتى وصل إلى دمشق، وبها يومئذ الأمير جَنتمُر أخو طاز، فقال له: " قد كسرنا برقوق، وفي غد يقدم الملك المنصور، فاخرج إلى ملاقاته " . فمشى ذلك عليه واستعد، وخرج في يوم الاثنين خامس عشره والأمير منطاش ومن معه.(2/425)
وأما الظاهر وأصحابه، فإن الأمير كُمشبغا نائب حلب كان ممن انهزم على شَقْحب، فتم في الهزيمة إلى حلب، وتبعه الأمير حسام الدين حسن الكجكني نائب الكرك، ومن بقى من عساكر حلب، فاستولى عليها، وانهزم أهل الكرك إليها، فلم يصلوا حتى مرت بهم شدائد. و لم يتأخر مع الظاهر إلا نحو الثلاثين، وقد تمزقت عساكره وعساكر مصر، فلم يقصد إلا المنصور، فأخذه بمن معه، وجرح قاضي القضاة بدر الدين محمد بن أبى البقاء الشافعي، وقاضي القضاة شمس الدين محمد بن الطرابلسي الحنفي. وسلب النهاية جميع القضاة والمتعممين، ما عدا قاضي القضاة ناصر الدين نصر اللّه الحنبلي، فإنه كان لم يركب وقت الحرب، فسلم من النهب، هو وولده برهان الدين إبراهيم. وقتل خلق كثير. ومضى بدر الدين محمد بن فضل الله كاتب السر، وأخوه عز الدين حمزة، وجمال الدين محمود ناظر الجيش، وشمس الدين محمد بن الصاحب موقع الإنشاء، وتاج الدين عبد الرحيم - ابن الوزير فخر الدين بن أبى شاكر صاحب ديوان منطاش، في طائفة كبيرة إلى دمشق. ووقف الظاهر تحت العصائب السلطانية، والمنصور والخليفة بجانبيه، فتلاحق به عدة من أصحابه. وبات ليلته على ظهر فرسه.
ووكل بالمنصور والخليفة من يحفظهما، وهو في قتل من خالفه، ولم من غاب من أصحابه، أو أطاعه من عسكر مصر، حتى أصبح في نهار يوم الاثنين وقد صار في عسكر كثيف. وأقبل منطاش في عالم كبير من عوام دمشق وعساكرها ومن كان معه، فدارت بينه وبين الظاهر في هذا اليوم منذ شروق الشمس إلى آخره حروب لم يعهد بمصر والشام في هذه الأعصر مثلها، وبعث الله ريحاً ومطراً في وجه منطاش ومن معه، فكانت من أكبر أسباب خذلانه. ولم تغرب الشمس حتى فني من الفريقين خلق كثير من الفرسان والعامة. وانهزم منطاش إلى دمشق. وعاد الظاهر إلى منزلته فأقام بها سبعة أيام. وعزت عنده الأقوات، حتى أبيعت البشماطة بخمسة دراهم فضة، وأبيع الفرس بعشرين درهماً، والجمل بعشرة دراهم لكثرة الدواب وقلة العلف. ثم طُلب من يشتري الجمال فلم يوجد، وغنم أصحاب الظاهر أموالاً جزيلة، استغنى به منهم عدة، بعد فقرهم.
وفي أثناء إقامته، أمر الظاهر فجمع كل من معه من الأعيان وأشهد على المنصور حاجي أنه خلع نفسه، وحكم بتلك القضاة. ثم بويع الظاهر، وأثبت القضاة بيعته. فولى الظاهر الأمير فخر الدين إياس الجرجاوي نيابة صفد، والأمير سيف الدين قديد القَمطاي الكرك، والأمير علاء الدين أقبغا الصغير غزة. ورحل الظاهر، فأتاه عند رحيله منطاش بعسكر الشام، ووقف على بعد، فاستعد الظاهر إلى لقائه فولى عنه، وعاد إلى دمشق. وسار الملك الظاهر عن معه يريد ديار مصر، وبعث إلى غزة يأمر منصور الحاجب بالقبض على حسام الدين حسن بن باكيش، فقبض عليه، واستولى على غزة. وبعث بابن باكيش إلى السلطان الظاهر برقوق فضربه بالمقارع وهو بالرملة. وسار الظاهر، إلى غزة، فضربه بها ضرباً مبرحاً، يوم دخلها مستهل صفر.
وأما أمر ديار مصر، فإنه أشيع كسرة الظاهر لمنطاش، في رابع عشر المحرم يوم الوقعة.
وفيه استقر الأمير ناصر الدين محمد بن الحسام أستادار الأمير منطاش، قرره في ذلك الأمير صراي تمر، وخلع عليه.
وفي خامس عشره: أفرج عن الأمير ناصر الدين ناصر البدري، وصُراي تمُر الشرفي، وبييرس ابن أخت الظاهر، في جماعة أخر.
وفيه قدم من الفيوم محضر - يقال إنه مفتَعل - بأن حائطاً سقط على الأمراء المحبوسين بالفيوم، فقتلهم، وهم: تمُر باي الحسني، وقرابغا الأبو بكري، وطغاي تمر الجركتمري، ويونس الأسعردي، وقازان السيفي وتنكز العثماني، وأردبغا العثماني، وعيسى التركماني.
وفي ثاني عشرينه: قدم المحمل والحاج، وكانوا ركباً واحداً.
وفي خامس عشرينه: قدم سواق بكتب مزورة، تتضمن أن الملك المنصور ملك دمشق، وفر الظاهر، فدقت البشائر ثلاثة أيام، وعمل الأمير حسين بن الكوراني وليمة عظيمة، وأظهر فرحاً زائداً، فلم يمش هذا على أكثر الناس.
وفي ثامن عشرينه: كثرت الإشاعات بكسرة منطاش، واستيلاء الظاهر على المنصور والخليفة، وأنه متوجه إلى القاهرة.(2/426)
وفي يوم الأربعاء أول صفر: قدم البريد من غزة وعلى يده كتاب مفتعل، بدخول المنصور دمشق، وهرب الظاهر. هذا والفتنة قائمة بين الأمير صُراي تمُر نائب الغيبة، وبين الأمير تكا المقيم بالقلعة، وكل منهما ينافس الآخر، ويحترز منه، حتى اشتهر هذا.
واتفق أن الأمراء والمماليك الذين سجنوا بخزانة الخاص من القلعة زرعوا بصلاً في قصريتين فخار وسقوه، فنجب بصل إحدى القصريتين و لم ينحب الآخر، فرفعوا القصرية التي لم ينحب بصلها، فإذا هي مثقوبة من أسفلها، وتحتها حجر يخرج من شقوق ما بينه وبين حجر آخر هواء، ففكوا الطاقة ورفعوه فوجدوا تحتَه خلوا، فما زالوا حتى اتسع، وأفضى بهم إلى سرداب، مشوا فيه حتى صعدوا الأشرفية، من القلعة.
وكان منطاش قد سد بابها الذي ينزل منه إلى الإسطبل، فعاد الذين مشوا في السرادب وأعلموا أصحابهم، فقاموا بأجمعهم - وهم نحو الخمسمائة رجل - ومشوا فيه ليلة الخميس ثاني صفر. هذا وقد ترأس عليهم الأمير بطا الطولوتمري، وحاولوا باب الأشرفية حتى فتحوه، فثار بهم الحرس الموكلون بحفظ الباب، وضربوا مملوكاً يقال له تمربغا قتلوه، فبادر بطا ليخرج فضربوه ضربة سقط منها إلى الأرض. ثم قام وضرب بقيد الرجل صرعه، وفر البقية، فصرخ المماليك صرخة واحدة، وخرجوا، وقد جعلوا قيودهم سلاحاً يقاتلون به، وصار الحرس يصيحون في هروبهم " تكا، يا منصور " فانتبه الأمير صريتمر فزعاً، وهو لا يشك أن تكا ركب عليه ليأخذه، واستخفه الفزع، فنزل من الإسطبل، وصار إلى بيت الأمير قطلوبغا الحاجب - وكان قريباً من الإسطبل، فملك بطا الإسطبل، واحتوى على ما فيه من قماش صراي تمر وأثاثه، وقبض على المنطاشية، وأفرج عن المعوقين به، وأخذ الخيول التي كانت هناك، وأمر فحقت الكوسات حربياً من نحو ثلث الليل الأول إلى أن أصبح الناس يوم الخميس، فرماهم الأمير تكا من الرفرف والقصر، وساعده الأمير مقبل أمير سلاح، ودمرداش القَشْتَمُري " بيمن معهم.
هذا، وقد تسامعت المماليك الظاهرية، وخرجوا من كل مكان، ولحقوا ببطا، وبعثوا بهم! خزانة شمايل بالقاهرة، وكسروا بابها، وأخرجوا من كان فيها من المماليك الظاهرية واليلبغاوية ويخربهم. وكسروا أيضاً سجني الديلم والرحبة، وأفرجوا عن المسجونين. فخاف الأمير حسين بن الكوراني وهرب. وركب الأمير صراي تمر، والأمير قطلوبغا الحاجب في جمع لقتال بطا وأصحابه، فنزل إليهم وقاتلهم، وقد اجتمع معه من العوام خلق كثير لمعاونته، فخامر أكثر من معهما، وصاروا إلى بطا، فانكسرا ودخلا إلى مدرسة حسن. فلما رأى الأمير تكا جمع بطا يزداد، وصُراي تمر قد انكسر، نزل من القلعة إلى الطبلخاناة، ورمى على بطا، فمضى طائفة منهم، وملكوا بيت قطلوبغا الحاجب، ونقبوا منه حتى ملكوا المدرسة الأشرفية، ورموا على من في الطبلخاناة، فانهزموا، وملكوا الطبلخاناة، وحاصروا مدرسة حسن، وكان بها طائفة من التركمان أعدهم منطاش لحفظها، فسألوا الأمان لشدة الرمي عليهم. بمكاحل النفط، فانهزم عند ذلك من كان على باب القلعة من الرماة، فسارت الظاهرية إلى بيوت الأمراء ونهبوها، والناس في القاهرة مع هذا في أمن، لم يقع بها نهب ولا شر، مع عدم من يحميها. ولم يمض النهار حتى تجاوز عدد الظاهرية الأ!ف، وأمدهم ناصر الدين ناصر - أستادار منطاش - بمائة ألف درهم فضة وأذن بطا لناصر الدين محمد بن العادلي أن يتحدث في ولاية القاهرة، فدخلها ونادى بالأمان، والدعاء للملك الظاهر برقوق، فسر الناس سيروراً زائداً، بزوال الدولة المنطاشية.
وفي بكرة يوم الجمعة - ثالثه - : سلم الأمير تكا قلعة الجبل إلى الأمير سودن النائب.
وفيه أقام الأمير بطا منجك المنجكي في ولاية القاهرة، عوضاً عن ابن العادلي، فدخلها ونادى بالأمان.(2/427)
وفيه نزل الأمير سودن النائب من قلعة الجبل، ومعه تكا ودمرداش القَشْتَمري، ومقبل السيفي إلى عند الأمير بطا فقبض عليهم، وقيدهم. وبالغ في إكرام الأمير سودن، وبعثه إلى الأمير صُراي تمر، فما زال به حتى كف عن الرمي. ونزل هو وقُطلوبُغا الحاجب إليه، فتكاثرت العامة تريد قتَلهما، والأمير سودن يمنعهم من ذلك أشد المنع، فلم يلتفتوا إليه، ورجوهما رجماً متتابعاً، كاد يهلك الجميع، فاحتاجوا إلى الرمي بالنشاب عليهم، وضربهم بالسيوف، فقتل منهم جماعة. وصار سودن بهما وبمن كان معهما إلى الإسطبل، فقيدهما بطا، وسجنهما، وأمر بمن في المدرسة من المقاتلة، فأنزلوا كلهم، وأذهب اللّه الدولة المنطاشية من مصر. وركب الأمير سودن النائب، وعبر إلى القاهرة، والمنادي بين يديه ينادي بالأمان والاطمئنان، والدعاء للسلطان الملك الظاهر. وبعث إلى خطباء الجوامع، فدعوا في خطة الجمعة.
وفيه أفرج الأمير بطا عن الخليفة المخلوع زكريا والشيخ شمس الدين محمد الركراكي المالكي، وسائر من كان بالفلعة من المسجونين، وتتبع المنطاشية.
وفيه قدم أحمد بن شكير الخليل، وأشاع في القاهرة أن الملك الظاهر قادم إلى القاهرة.
وقدم أيضاً جلبان العيسوي الخاصكي، وأخبر برحيل الملك الظاهر من غزة يوم الخميس ثاني صفر، فدقت البشائر، وتخلق الظاهرية بالزعفران.
وكتب بطا إلى السلطان يخبره بما اتفق لهم، وأنهم ملكوا ديار مصر، وأقاموا الخطبة باسمه، واستولوا على القلعة والإسطبل، وقبضوا على سائر الأمراء المنطاشية. وبعثوا به الشريف عنان بن مغامس ومعه أقبغا الطولو تمري، المعروف باللكاش - أحد المماليك الظاهرية - فسارا ليلة السبت رابعه.
وفيه استقر ناصر الدين محمد بن ليلى في ولاية القاهرة، عوضاً عن منجك، فنزل القاهرة بخلعته، ونادى بالأمان والدعاء للملك الظاهر، وكتب بطا إلى ولاة الأعمال بإحضار المنطاشية، والإفراج عن الظاهرية، وتجهيزهم إلى قلعة الجبل.
وفيه طلب الأمير حسين بن الكوراني إلى الإسطبل. فلما حضر أراد المماليك الظاهرية قتله لقبيح ما فعله فيهم، فشفع فيه الأمير سودن النائب.
وفيه قبض على ألطبغا الطازي كاشف الجيزية، وقيده، واستقر الأمير مبارك شاه عوضه.
وفي خامسه: خلع بطا على الأمير حسين بن الكوراني، وأعيد إلى ولاية القاهرة، وأمره أن يحصل المنطاشية كما حصل الظاهرية، فنادى: " من أحضر مملوكاً من الأشرفية أو من مماليك منطاش، فله كذا.
وفيه قبض بطا على الأمير قطلوبغا اللالا، والأمير بيدمر شاد القصر والأمير بوري صهر منطاش، والأمير صلاح الدين محمد بن تنكز وسجنهم بالقلعة.
وفيه حُصنت القلعة والإسطبل، ومدرسة حسن، ومدرسة الأشرف تحصيناً زائداً، ورتب الرماة والمقاتلة والنفطية، حتى ظن الناس أن بطا يمنع الملك الظاهر من القلعة، وكثر الكلام في هذا.
وفيه أمر الأمير بطا فخر الدين بن مكانس ناظر الدولة بعمل السماط بالإسطبل، فصارت الأمراء والمماليك بأجمعهم تحضر السماط في كل يوم عند الأمير بطا، ورتب لهم على الدولة اللحوم وغيرها.
وفيه أفرج بطا عن الصارم بن بلرغي والي القلعة، وأعاده إلى ولايته.
وفيه قدم الأمير سيف الدين بن محمد بن عيسى العائدي بكتاب الملك الظاهر إلى الأمير بطا، بتجهيز الإقامات، والإخبار بما من الله عليه، وأن يواصل الأخبار في كل يوم.
وفي سادسه: حضر زيد بن عيسى العائدي، وأخبر بتفصيل الوقعة.
وقدم البريد من قطا بكتاب المالك الظاهر إلى الأمير علاء الدين الطشلاقي والي قطيا، بحفظ الدرب، والقبض على من انهزم، وإعلامه بالنصرة على منطاش، وفراره. وكل هذا و لم تطمئن النفوس، ولا ارتفع الشك، بل كان بطا يخشى أن يكون هذا من مكايد منطاش، وهو ينتظر جواب كتابه.
وفي سابعه: استقر الأمير بُطا بالصارم إبراهيم الباشقردي في ولاية البهنسا، عوضاً عن محمد بن الأعسر.
وفي ثامنه: استقر بالأمير بَكتمُر الطرخاني في ولاية الأكونين، عوضاً عن أبي بكر بن بدر، واستقر بأحمد السيفي في ولاية قوص.
وفيه قدم أقبغا اللكاش، وقد ألبسه الملك الظاهر خلعة سنية، شق بها القاهرة، وكتب على يده كتاباً إلى الأمير بطا، فتحقق الناس نصرة السلطان الملك الظاهر، ونودي في الناس بالأمان، ومن ظلم أو قهر فعليه بالأمير بطا.(2/428)
وفيه قُبض على الأمير حسين بن الكوراني، وقيد بقيد ثقيل جداً، ونهبت داره. واستقر الصارم عوضه في ولاية القاهرة. وفي غده سلم إلى الصارم، فأخذه في الحديد، كما تؤخذ اللصوص، وضربه وعصره، ثم نقل من عند الصارم الوالي إلى الأمير ناصر الدين محمد بن أقبغا آص - شاد الدواوين - فعاقبه أشد العقوبة.
وفي تاسعه: قدم البريد بكتاب السلطان إلى الأمراء والمماليك بالسلام عليهم، فتزايدت مسرات الناس بنصرة الملك الظاهر، وكثر فرحهم، حتى قل بيت لم يداخل أهله السرور بذلك.
وفيه قدم تاني بك - المعروف بتنم الحسني - من الإسكندرية، المتوجه برسالة بطا إلى الإسكندرية، وقد امتنع نائبها من الإفراج عن الأمراء إلا بكتاب السلطان.
وفيه ألزم الفخر بن مكانس ناظر الدولة بتجهيز الإقامات السلطانية، وتجهيز الشقق الحرير، لتفرش تحت فرس السلطان عند قدومه.
وفيه قدم من دمياط الأمير شيخ الصفوي، وقُنُق باي السيفي، ومقبل الرومي الطويل، وألطبغا العثماني، وعبدون العلاي، وطوجي الحسني، وأربعة أخر.
وفي عاشره: شد العذاب على حسين بن الكوراني، وألزم بمائة ألف درهم فضة، ومائة فرس، ومائة لبس حربي.
وفي حادي عشره: استقر قطلو شاه - نائب والي الجيزة - في ولاية الجيزة، واستقر بوري القَلَنْجَقي في ولاية الفيوم وكشفها، وكشف البهنساوية والأطفيحية، عوضاً عن قرطاي التاجي.
وقدم البريد بنزول السلطان إلى الصالحية فخرج الناس إلى لقائه.
وفي ثاني عشره: ورد مرسوم السلطان على حسين بن الكوراني، بعمل شيء من الأمور السلطانية، ظناً أنه مستمر على ولاية القاهرة، فأمر الأمير بطا بالإفراج عنه، فخرج لسبيله.
وفيه نودي بزينة القاهرة ومصر وظواهرهما، فاهتم الناس في الزينة، وتناظروا في التفاخر بها، رغبة منهم في الدولة الظاهرية، حتى لم نعهد زينة نظيرها.
وفي ثالث عشره: نزل السلطان بالعكرشا، قريباً من سرياقوس.
الملك الظاهر سيف الدين أبو سعيد برقوق
ابن أنص الجركسي رحمه اللّه تعالى سلطنته الثانية في بكرة نهار يوم الثلاثاء رابع عشر صفر، نزل الملك الظاهر بالريدانية خارج القاهرة، فخرج إلى لقائه الأشرف، مع السيد على نقيب الأشراف، وخرجت طوائف الفقراء بصناجقها، وخرجت العساكر بلبوسها الحربية.
وكانت العساكر منذ خرج بطا وأصحابه لابسة السلاح ليلاً ونهاراً. وخرجت اليهود بالتوراة، والنصارى بالإنجيل، ومعهم شموع كثيرة مشعلة. وخرج من عامة الناس رجالهم ونساؤهم ما لا يحصيه إلا اللّه، وعندهم من الفرح والسرور شيء زائد، وهم يضجون بالدعاء للسلطان، حتى لقوه وأحاطوا به، وقد فرشت الشقق الحرير من الترب إلى باب السلسة. فلما وصل إليها تنحى بفرسه عنها، وقدم الملك المنصور حاجي بن الأشرف حتى مشى بفرسه عليها، ومشى بجانبه، فصار كأن الموكب للمنصور، فوقع هذا من الناس موقعاً عظيماً، ورفعوا أصواتهم بالدعاء والابتهال له لتواضعه مع المنصور في حال غلبته وقهره له، وأنه معه أسير، وعد هذا من فضائله. وصارت القبة والطير أيضاً على رأس المنصور الخليفة راكب بين أيديهما، وقضاة القضاة بين يدي الخليفة. فإذا تقدم الفرس عن شقة إلى أخرى تناهبها العامة من غير أن يمنعهم أحد. وكانت العادة أن الشقق الحرير لجمدارية السلطان، لكنه قصد بفلك التحبب للعامة، فإنه صاحب كيد ودهاء. وكذلك لما نثر عليه الذهب والفضة تناهبه العامة. وعندما وصل إلى باب القلعة نزل عن فرسه، ومشى راجلاً تجاه فرس المنصور - وهو راكب - حتى نزل، فأخذ يعضده وأنزله، فحسن هذا منه إلى الغاية. وأخذ في المبالغة في تعظيمه ومعاملته. مما يعامل به الأمراء سلطانهم، إلى أن أدخله داره بالقلعة ثم تفرغ لشأنه. واستَدعى الخليفة وشيخ الإسلام وقضاة القضاة وأهل الدولة، وهو بالإصطبل. وجدد عقد السلطنة وتجديد التفويض الخليفتي، فشهد بفلك القضاة على الخليفة ثانياً، وأفيضت التشاريف الخليفتية على السلطان، ثم أفيضت التشاريف السلطانية على الخليفة. وركب السلطان من الإصطبل، وصعد القلعة، وتسلم قصوره، وقد عاد إليها حرمه وجواريه، فحقت البشائر. واستمرت التهاني والأفراح بالقلعة ودور الأمواء وأهل الدولة، ونودي بالأمان والدعاء للسلطان، فسر الناس في هذا اليوم مسرة كبيرة جداً.(2/429)
وفي يوم الأربعاء خامس عشره: خلع السلطان على الفخر عبد الرحمن بن مكانس ناظر خلعة الدولة خلعة الاستمرار. واستدعى كريم الدين عبد الكريم بن عبد العزيز صاحب ديوان الجيوش، واستقر به في نظر الجيش، عوضاً عن جمال الدين محمود العجمي القيصري. وخلع على الوزير الصاحب موفق الدين أبى الفرج، واستقر به في الوزارة ونظر الخاص. وخرج البريد إلى الإسكندرية بإحضار الأمراء المسجونين بها.
وفي سادس عشره: خلع على الامير حسام الدين حسين بن الكورني، وعلى الأمير ناصر الدين محمد بن أقبغا؛ آص شاد الدواوين خلعة الاستمرار.
وأنعم على الأمير بُطا بإمرة مائة، وعين للدوادارية. واستقر الأمير قرقماس الطشتمري أستاداراً. واستقر شمس الدين محمد بن عبد العزيز في صحابة ديوان الجيش.
وفي سابع عشره: وصل الأمراء من الإسكندرية إلى بر الجيزة فباتوا به، وعدوا في ثامن عشره إلى القلعة، وهم سبعة عشر أميراً: يلبغا الناصري، وألطبغا الجوباني، وألطبُغا المعلم، وقرا دمرداش الأسعدي، وأحمد بن يلبغا العمري، وقُرْدُم الحسني، وسودُن باق، وسودُن الطُرنطاي، وأقبغا المارداني، وأقبغا الجوهري، وكَشْلي القلمطاوي، وبَجَاس النوروزي، ومأمور القلمطاوي، وألطُنبُغا الأشرفي، ويُلبغا المنجكي، ويونس العثماني، وألابغا العثماني، فقبلوا الأرض وعادوا إلى منازلهم من غير أن يؤاخذ أحد منهم بفعله، فعد هذا من جميل الأفعال.
وفي تاسع عشره: أعيد الشريف جمال الدين عبد اللّه الطاطبي إلى نقابة الأشراف، وصرف الشريف علي.
وفي يوم الاثنين عشرينه: جلس السلطان بالإيوان المعروف بدار العدل من القلعة، في الموكب السلطاني، وحضر أهل الدولة للخدمة على العادة، فأخلع على الأمير سودن الفخري الشيخوني، واستقر نائب السلطنة على عادته وعلى الأمير كُمشبغا الأشرفي الخاصكي، واستقر أمير مجلس. وعلى الأمير إينال اليوسفي، واستقر أميراً كبيراً أتابك العساكر. وعلى الأمير يلبغا الناصري واستقر أمير سلاح. وعلى الأمير الجوباني، واستمر رأس نوبة النوب. وعلى الأمير بطا، واستقر دواداراً. وعلى الأمير طوغان العمري، واستقر أمير جاندار. وعلى الأمير سودن النظامي واستقر والي القلعة، فكان يوماً عظيماً.
وفي حادي عشرينه: أعيد نجم الدين محمد الطنبدي إلى حسبة القاهرة، وصرف سراج الدين عمر العجمي، واستقر الأمير بَكْلَمش العلاي أمير أخور، وسكن بالإسطبل السلطاني.
وفي يوم الخميس ثالث عشرينه: قرئ عهد السلطان بدار العدل، وخلع على الخليفة المتوكل على الله، وكان حاضر القراءة.
وفيه استقر علاء الدين على بن عيسى المقيري الكركي في كتابة السر، عوضاً عن بدر الدين محمد بن فضل الله. واستقر الأمير سيف الدين بدخاص السودوني - نائب صفد - حاجباً ثانياً.
وفي رابع عشرينه: قدم من دمياط جماعةُ محْتَفظ بهم، كان منطاش بعثهم في بدر الملح من جهة طرابلس - قبل وقعة شقحب - إلى غزة، خوفاً من أخذهم في البر، حتى إذا وصلوا غزة ركبوا البريد إلى القاهرة، ومعهم كتب بقتل الأمراء المسجونين عن أخرهم. فلما وصلوا غزة بلغهم نصرة السلطان، فساروا في البحر يريدون طرابلس، فألقاهم الريح بدمياط، فسجنوا.
وفي سادس عشرينه: قبض على حسين بن الكورا وعُذب.
وفيه عرض السلطان المماليك.
وفيه قدم البريد من صفد بفرار الأمير طُغاي تمر القبلاوي من دمشق إلى حلب في مائتين من المنطاشية. وقدم منهم إلى صفد ثلاثمائة مملوك، وشكوا من سوء حال أهل دمشق بمنطاش.
وفي سابع عشرينه: استقر الأمير جمال الدين محمود بن على الأستادار، مشير الدولة.
وفيه سلم الصاحب كريم الدين عبد الكريم بن مكانس إلى الأمير بَكْلمش أمير أخور، فضربه بالمقارع، وألزمه. مما أخذ من دواوينه في أيام الناصري، وأطلقه بعد ما ضمن عليه.
وفي يوم الأربعاء تاسع عشرينه: جلس السلطان بالميدان تحت القلعة للنظر في المظالم والحكم بيِن الناس على عادته، فهرع الناس إليه، وأكثروا من الشكايات، فكثر خوف الأكابر وفزعهم، وترقب كل منهم أن يشتكي إليه.
وفي يوم الثلاثاء خامس ربيع الأول: قدم الأمير أَسْبُغا التاجي، ونحو العشرين مملوكاً، ومعهم عدة من المباشرين فروا من دمشق.(2/430)
وفي حادي عشره: هرب كريم الدين عبد الكريم بن مكانس عندما طلب، فلم يوقف له على خبر، فأخذ كثير من أقاربه وحواشيه وقبض على أخويه فخر الدين عبد الرحمن ناظر الدولة، وزين الدين نصر اللّه.
وفي ثاني عشره: استقر نور الدين علي بن عبد الوارث البكري في حسبة مصر، عوضاً عن همام الدين.
وفي ثامن عشره: استقر شمس الدين محمد الركراكي في قضاء القضاة المالكية، عوضاً عن تاج الدين بهرام الحميري.
وفيه استقر سعد الدين أبو الفرج بن تاج الدين موسى - المعروف بابن كاتب السعدي - في نظر الخاص، عوضاً عن صاحب موقف الدين، وانفرد الموفق أبو الفرج بالوزارة.
وفيه عزل شرف الدين محمد بن الدمامني عن حسبة الإسكندرية، بجمال الدين بن خلاص. ونقل الشيخ علاء الدين علي بن عصفور الشامي المكتب من توقيع الدرج إلى توقيع الدست.
وفي خامس عشرينه: استقر الأمير علاء الدين ألطبغا الجوباني - رأس نوبة النوب - في نيابة دمشق، والأمير سيف الدين قرا دمرداش الأسعدي نائب طرابلس، ورسم لهما بمحاربة منطاش. واستقر علاء الدين علي الكركي كاتب السر في نظر المدرسة الظاهرية المستجدة، ونظر الخانكاة الشيخونية.
وفي ثامن عشرينه: طلب الصاحب كريم الدين عبد الكريم بن الغنام، وفخر الدين عبد الرحمن بن مكانس إلى القصر السلطاني، وضربا بالمقارع، فضرب ابن الغنام سبعة شيوب، وضرب ابن مكانس نحو الخمسين شيباً.
وفي يوم السبت أول ربيع الآخر: استقر الأمير مأمور القلمطاوي في نيابة حماة، وأرغون العثماني في نيابة الإسكندرية، وألابغا العثماني حاجب الحجاب بدمشق، وأسندَمُر السيفي حاجب الحجاب بطرابلس.
وفيه أنعم على كل من: ألطبغا الأشرفي، وسودُن باق، وبجْمان المحمدي بإمرة في دمشق، ورسم أن يخرجوا مع النواب.
وفي ثالثه: استقر شرف الدين مسعود في قضاء القضاة بدمشق، عوضاً عن شهاب الدين أحمد بن عمر القرشي.
وفي رابعه: استقر الشريف عنان بن مغامس الحسني شريكاً لعلي بن عجلان في إمارة مكة.
وفي ثامنه: استقر جمال الدين عبد الله السكسيوي المغربي في قضاء المالكية بدمشق.
وفي عاشره: قدم جماعة من المنطاشية فارين من دمشق.
وفي سادس عشره: قبض على الوزير موفق الدين أبو الفرج.
وفي سابع عشره: استقر في الوزارة سعد الدين سعد اللّه بن البقري، واستقر الصاحب علم الدين عبد الوهاب سن إبرة في نظر الدولة بمفرده، عوضاً عن الفخر ابن مكانس، وشمس الدين بن الرويهب.
وفي ثامن عشره: عوقب الصاحب موفق الدين أبو الفرج.
وفي عشرينه: استقر تاج الدين عبد الله بن الصاحب سعد الدين سعد اللّه بن البقري في نظر البيوت، مع ما بيده من استيفاء الصحبة.
وفي رابع عشرينه: قبض على الأمير يدكار العمري، وسُربغَا الظاهري، وتلَكتمُر الموادار، وطاش بغا الحسني، وقرا بُغا، وأرغون الزيني.
وفيه استقر الأمير الدين جُلْبان الكمشبغاوى رأس نوبة كبيراً، عوضاً عن حسن خجا بعد وفاته.
وفي خامس عشرينه: قدم البريد بأن تجريدة خرجت من دمشق المحاصرة صفد، مع الأمير قطلوبغا الصفوي، فدخلوا بأجمعهم في الطاعة، وتوجهوا إلى مصر، فدق البشائر بالقلعة.
وفي سابع عشرينه: استقر الحاج عبيد بن محمد بن عبد الهادي الهويدي نقيب الجوندارية في مقدمة الدولة، عوضاً عن المقدم عبيد البازدار، شريكا للمقدم ثُنيتين، ولبس عبيد البزدار بالتركي، وخدم أستادار بعض الأمراء.
وفيه قتل ابن سبع الذي كان شهد عليه بالكفر، قتله بعض عبيده بالحمام، فأوقع الأمير قرقماس الأستادار الحوطة على موجوده، فوجد له من النقد ألف ألف وستون ألف درهم، ما بين ذهب وفضة وفلوس، ووجد له من الجمال والبقر والجاموس والأغنام ثمانون ألف رأس، غير عدة دواليب.
وفيه خلع على الأمير يلبغا الناصري، واستقر مقدم العساكر المتوجهة لقتال منطاش، وخلع على نواب الشام خلع السفر، وأنعم على جماعة بإمريات في الشام، ورسم لجماعة من أمراء مصر للسفر مع النواب، وألزم من له إقطاع في شيء من بلاد الشام بالسفر مع العسكر.
وفي عاشره: برزت أطلاب نواب الشام والأمراء إلى الريحانية خارج القاهرة.
وفي ثالث عشره: قدم الأمير قطلوبغا الصفوي. بمن معه، فكان يوماً مشهوداً.(2/431)
وفيه قدم البريد من صفد بأن منطاش لما بلغه مخامرة الصفوي ومن معه قبض على الأمير جنتمر أخي طاز وولده، وألطبغا أستاداره، أحمد بن جرجي، وأحمد بن جبجق، وكمشبغا المنجكي نائب بعلبك، وشهاب الدين أحمد بن عمر القرشي قاضي دمشق، وعلى عدة من الأمراء والأعيان، واًن طرنطاي بن ألجاي قدم في سبعين فارساً إلى صفد راغباً في الخدمة السلطانية.
وفيه قدم زيادة على عشرين من مماليك الأمير يلبغا الناصري، فارين من دمشق.
وفي عشرينه: قدم طرنطاي بن ألجاي بمن معه، ثم قدم أيضاً نحو المائتي مملوك.
وقدم البريد بأن منطاش أخذ بعلبك بعد أن حاصرها محمد بن بيدمر أربعة أشهر، وأنه وسط ابن حنش وأربعة معه.
وفي ثاني عشرينه: توجه الشريف عنان إلى مكة، وقد استخدم عدة أتراك.
وفي ثامن عشرينه: ألزم شمس الدين محمد الدميري ناظر الأحباس بعمل حساب الأمير قجماس ابن عم الظاهر، فإنه كان شاهد ديوانه.
وفي تاسع عشرينه: استقر الأمير جمال الدين محمود بن على المشير، في أستادارية السلطان، على عادته، عوضا عن الأمير قرقماس، بعد وفاته.
وفي يوم الثلاثاء أول جمادى الأولى: قدم البريد من صفد بنزول إبراهيم بن دُلغادر بجمائع التركمان على حلب، وأنه كسر تمان تمر الأشرفي.
وفي ثانيه: قدم رسول الأمير محمد شاه بن بيدَمُر مترامياً على السلطان، يسأله العفو عنه، فأجيب إلى ذلك، وجُهز إليه أمان وتشريف.
وفي ثامنه: قدم البريد من صفد بأن الأمير قَشتمر الأشرفي حضر على عسكر من قبل منطاش، فقاتله أهل صفد فانكسروا منه، ثم إِن جماعة من المنطاشية حضروا إلى صفد طائعين وقاتلوا مع عسكر صفد، فأنكر قَشْتمُر، وقُتل كثير ممن معه، وأخذت أثُقالهم.
وفي ثاني عشره: عزل شمس الدين محمد الدميري عن نظر الأحباس، واستقر عوضه القاضي تاج الدين محمد بن محمد بن محمد المليجي.
وفيه استقر تاج الدين بن الرملي في نظر الأسواق.
وفي رابع عشره: أنعم على الأمير قطلوبغا الصفوي بإمرة مائة وتقدمة ألف، عوضاً عن الأمير قرقماس الطَشْتَمُري، وأنعم بإقطاعه على الأمير سودن الطرنطاي.
وفي سادس عشره: قدم البريد من صفد بأن نواب الممالك لما وصلت بالعساكر إلى بحيرة قَلسَ حضر إليهم ولد الأمير نُعير وعدة من الأمراء المنطاشية.
وفي سابع عشره: قدم البريد من دمشق بأن منطاش لما بلغه قدوم العساكر برز من دمشق، وأقام بقبة يلبغا، ثم رحل نصف ليلة الأحد ثالث عشر جمادى الآخرة بخواصه، وهم نحو الستمائة فارس، ومعه نحو السبعين حملاً ما بين ذهب ودراهم وقماش، وتوجه نحو قارا والنبك، بعد أن قتل المماليك الظاهرية، والأمير ناصر الدين محمد بن المهمندار، وأن الأمير الكبير أيتمش خرج من سجنه بقلعة دمشق وأفرج عمن بها، وملك القلعة، وبعث إلى النواب يعلمهم، وسير كتابه إلى السلطان بذلك، فسار النواب إلى دمشق وملكوها بغير حرب، ففرح السلطان فرحاً زائداً، وتخلق الأمراء وأهل الدولة، ونودي بذلك في القاهرة ومصر، وأن تزين الأسواق وغيرها. ودقت البشائر ثلاثة أيام بالقلعة، وتباهى الناس في تحسين الزينة إلى الغاية، وأقامت القاهرة ومصر مزينتين عشرة أيام.
وفي تاسع عشره: قدم البريد من دمشق بثلاثة عشر سيفاً من سيوف الأمراء المنطاشية الذين قبض عليهم بدمشق.
وفي حادي عشرينه: قدم البريد بثمانية سيوف أيضاً.
وفيه أمر الناس بتقوية الزينة، فبالغوا فيها، ونصبوا عدة قلاع تزيد على عشرين قلعة، وكثر اللعب، وتوالت الأفراح، وأنفق الناس مالاً كبيراً.
وفيه قدم أيضاً البريد بسبعة سيوف، منهم سيف الأمير ألطنبغا الحلبي، وسيف الأمير دمرداش اليوسفي. وذلك أن منطاش كان قد بعث بإحضْار عسكر طرابلس ليقاتل بهم العساكر المصرية، فَقَبْل حضور عسكر طرابلس فر من دمشق، وقدم العسكر بعد ذلك من غير أن يعلم بفراره، فقبض عليه بكماله.
وفي ثاني عشرينه: قدم البريد بأن الأمير محمد بن أينال اليوسفي حضر إلى الطاعة بدمشق ومعه من عسكر منطاش نحو المائتي فارس، وأن منطاش توجه إلى الأمير نعير، ومعه عنقا بن شطى أمير آل مرا.
وفي ثالث عشرينه: قدم البريد بأن الأمير نعير بن حيار قبض على منطاش، فزينت القلعة، ودقت البشائر ثم تبين كذب هذا الخبر.(2/432)
وفي سابع عشرينه: حضر الأمراء المقبوض عليهم بدمشق، وهم أرسلان اللفاف، وقرا دمرداش، وألطنبغا الجربغاوي، وطنبرق رأس نوبة منطاش، وأسنبغا الأرغون شاهي. فأفرج عن أسنبغا، وحُبس البقية.
وفي تاسع عشرينه: قُلِعت الزينة.
وفي يوم الخميس ثاني رجب: قدم عماد الدين أحمد بن عيسى قاضي الكرك وقد خرج الأعيان إلى لقائه، وصعد إلى القلعة، فقام السلطان عند رؤيته ومشى إليه، وعانقه، وأجلسه، وتحادثا ساعة. ونزل إلى دار أعدت له بالقاهرة.
وفيه أُخذ قاع النيل، فجاء خمسة أذرع وثمانية أصابع.
وفي ثاني عشره: حضر من دمشق بدر الدين محمد بن فضل اللّه العمري كاتب السر، وجمال الدين محمود القيصري ناظر الجيوش، ونزلا في بيوتهما من غير أن يجتمعا بالسلطان.
وفي ثالث عشره: استقر عماد الدين أحمد بن عيسى الكركي في قضاء القضاة بديار مصر، عوضاً عن بدر الدين محمد أحمد بن أبي البقاء؛ ونزل بالتشريف في موكب جليل إلى الغاية.
وفي رابع عشره: استقر علاء علي بن الطبلاوي شاد المارستان المنصوري في ولاية القاهرة، عوضاً عن الصارم، واستقر علم الدين سليمان والي القرافة في ولاية مصر، عوضاً عن محمد بن مُغلطاوي.
وفي سادس عشره: دار المحمل على العادة، فحجب الوزير الصاحب سعد الدين سعد اللّه بن البقري، قاضي القضاة عماد الدين أحمد الكركي لخصوصيته بالسلطان، و لم تكن العادة، إلا أن الوزير يكون هو صاحب الموكب والقضْاة بين يديه.
وفيه استقر شرف الدين موسى بن العماد أحمد بن عيسى في قضاء الكرك، عوضاً عن أبيه.
وفيه قدم البريد من حلب بأن الأمير كمشبغا الحموي لما انهزم من شقحب، دخل حلب وأقام بها، فجهز إليه منطاش من دمشق - بعد توجه السلطان إلى ديار مصر - عسكراً، عليه الأمير تمانُ تمُر الأشرفي، فدخل إليه واجتمع عليه أهل بانقوسا، وقد امتنع كُمُشبغا بالقلعة، فحصره تمان تمر أربعة أشهر ونصف، وأحرق الباب والجسر، ونقب القلعة من ثلاثة مواضع فنقب كُمشبغا أحد النقوب حتى خرقه، ورمى على المقاتة من داخل النقب بمكاحل النفط، واختطفهم بالكلاليب الحديد، وصار يقاتلهم من النقب فوق السبعين يوما، وهو في ضوء الشمع، بحيث لا ينظر شمسا ولا قمرا ولا يعرف الليل من النهار، إلى أن بلغ تمان تمر فرار منطاش من دمشق، فضعف وفر، فثار عليه أهل بانقوسا ونهبوه. وحضر حجاب حلب إلى الأمير كمشبغا وأعلموه بذلك، فعمر الجسر في يوم واحد ونزل وقاتل أهل بانقوسا يومين، وقد أقاموا رجلاً يعرف بأحمد بن الحرامي. فلما كان اليوم الثالث وقت العصر انكسر أحمد بن الحرامي وقُبض عليه وعلى أخيه، ونحو الثمانمائة من الأتراك والأمور والبانقوسية، فوسطوا بأجمعهم، وخربت بانقوسا حتى صارت دكا، ونهب جميع ما كان بها، وأن كمشبغا بالغ في تحصين حلب وعمارة قلعتها، وأعد بها مؤنة عشر سنين. وأنه جمع من أهل حلب مبلغ ألف ألف درهم، وعمر سور مدينة حلب، وكان منذ خربه هولاكو خراباً، فجاء في غاية الإتقان، وعَمَل له بابين، وفرغ منه في نحو الشهرين وبعض الثالث، وكان أكثر أهل حلب تعمل فيه، واًن الأمير شهاب الدين أحمد بن محمد بن المهمندار، والأمير طُغنجي نائب دوركي كان لهما بلاء كبير في القتال لأهل بانقوسا. ويقال إنه قتل في هذه الواقعة بحلب عشرات الآلاف من الناس، حيث لم يمكن عدهم لكثرتهم. وفيه أُلزم أمير حاج بن مغُلطاي بلزوم بيته بطالاً.
وفي ثامن عشره: خرج البريد بإحضار الأمير كمشبغا من حلب.
وفيه قدم الأمير طغاي تمر القبلاوي، نائب حماة.(2/433)
وفيه كثرت القالة بأن الأمير بطا الدوادار يريد إثارة فتنة، فتحرز الأمراء وأعدوا للحرب، إلى أن كان يوم الاثنين: عشرينه جلس السلطان بدار العدل على العادة، وصار بعد انقضاء الخدمة إلى القصر ومعه الأمراء، فتقدم الأمير بطا، وقال للسلطان: قد سمعت ما قيل عني وها أنا وحل سيفه وعمل في عنقه منديلا كالمستسلم للموت، فشكره السلطان، وسأل الأمراء عما ذكره الأمير بطا، وأظهر إنه لم يسمع شيئا من ذلك، فذكروا أن الأمير كُمشبغا رأس نوبة تنافس مع الأمير بَكْلَمش أمير أخور، وجرى أيضا بين الأمير بطا والأمير محمود الأستادار مخاشنة، فأشاع الناس ما أشاعوا، فجمعهم السلطان وحلفهم وحلف المماليك أيضا، وطيب خواطر الجميع بلين كلامه ودهائه. وأحضر مملوك اتهم أنه هو الذي أشاع الفتنة، فضرب ضرباً مبرحاً، وسمر على جمل وشهر ثم سجن بخزانة شمايل، فلم يعرف له خبر. وقبض على بَكْبُغا - أحد العشراوت - وسمر وشهر أيضاً، ونودي عليه هذا جزاء من يرمي الفتن بين الأمراء. فسكنت الفتنة بعد أن كادت الحرب أن تقوم.
وفيه قدم البريد بأن منطاش ونعيرا جمعا جمعاً كبيراً من العربان والأشفية والتركمان، وساروا لمحاربة النواب، فخرج الأمير يلبغا الناصري والأمير ألطبغا الجوباني بالعساكر من دمشق إلى سليمة.
وفي حادي عشرينه: قدم البريد من طرابلس بأن ابن أيمان التركماني توجه إلى طرابلس من قبل منطاش في ثمانية آلاف فارس، وحاصرها حتى ملكها.
وفي سلخه: رسم لأمير حاج بن مغلطاي بالمشي في الخدمة مع الأمراء، فواظب الركوب للخدمة.
وفيه نفي تنكز بغا السيفي - كاشف التراب بالبهنسا - إلى قوص وفي ثاني شعبان: اجتمع البَيْدَمُرية والطازية والجنتمرية في طوائف من العامة بدمشق، يريدون أخذها، فسرح الأمير الكبير أيتمش الطائر من القلعة إلى سليمة يعلم الأمير يلبغا الناصري بذلك، فركب ليلا في طائفة من العسكر، وقدم دمشق وقاتلهم ومعه ألابغا العثماني حاجب الحجاب بدمشق، فقتل بينهما خلق كثير من الأتراك والعوام وكسرهم، وقبض على جماعة ووسطهم تحت قلعة دمشق وحبس جماعة، وقطع أيدي سبعمائة رجل، وعاد إلى سليمة. وافترقت جمائع منطاش وعساكر الشام ثلاث فرق، وتولى الأمير يلبغا الناصري محاربة الأمير نعير، فكسره، وقتل جمعا من عربانه، وركب قفا نعير إلى منازله. وحارب الأمير قرا دمرداش منطاش ومن معه من التركمان، فضرب كل منهما الآخر، فوقعت الضربة بكتف منطاش، جرحته وقطعت أصابع قرا دمرداش. وخامر جماعة من الأشرفية على منطاش وصاروا في جملة الأمير ألطبغا الجوباني، فأحسن إليهم وقربهم، فلما وقعت الحرب اتفق الأشرفية المذكورون مع بعض مماليكه وقتلوه، وقبضوا على الأمير مأمور ووسطوه، وقتلوا الأمير أَقْبُغا الجوهري وعدة من الأمراء، فكانت حروباً شديدة، قتل فيها بين الفرف الثلاث خلق لا يحصى عددهم إلا خالقهم - سبحانه وتعالى - ونهبت العرب والعشير جميع ما كان مع العسكرين.
وقدم البريد بذلك في ثامنه، وأن منطاش انكسر، فأقام الأشرفية بدله ألطبغا الأشرفي. فحضر منطاش من الغد وأراد قتله، فلم تمكنه الأشرفية من ذلك، وأن الناصري لما رجع من محاربة نعير جع العساكر وعاد إلى دمشق، ثم خرج بعد يومين وأغار على آل علي، ووسط منهم مائتي نفس، ونهب كثيراً من جمالهم، وعاد إلى دمشق.
وفي ثاني عشره: نودي على المماليك والأجناد البطالين بالحضور لأخذ النفقة، والسفر لقتال نعير، ومنطاش.
وفي رابع عشره: طرحت الغلال على التجار، وأرباب الأموال، وتفرقت الأعوان في طلبهم.
وقدم البريد بأن الأمير جبق السيفي خرج من دمشق لكشف أخبار طرابلس، فأخذه العرب، وحملوه إلى منطاش فقتله، وأنعم بإقطاعه على الأمير سودن الطرنطاي.
وفيه سار الأمير أبو يزيد على البريد بتقليد الأمير يلبغا الناصري دمشق، عوضاً عن ألطنبغا الجوباني، ومعه التشريف ومبلغ عشرين ألف دينار برسم النفقة في العساكر، وتوجه معه الشيخ شمس الدين محمد الصوفي لكشف الأخبار.
وفي حادي عشرينه: أو في النيل ستة عشر ذراعاً، وفتح الخليج على العادة.
وفي ثالث عشرينه: أنعم على الأمير بجاس النوروزي بإقطاع سودن الطرنطاي.(2/434)
وفيه قدم البريد من حلب بنزول نعير على سرمين ليقسم مغلها، وأن الأمير شهاب الدين أحمد بن المهندار، والأمير طُغنجي قاتلاه في عسكر كبير من التركمان وأهل حلب، وأسروا ولده عليًا في نحو المائتي رجل، وقتلوا جماعة كبيرة وهزموه، وساقوا أبنه وأصحابه إلى حلب، فقتلهم كمشبغا النائب، وسجن ابن نعير وجماعة.
وفيه سار الأمير ناصر الدين محمد بن الحسام الصقري إلى الصعيد، ليحضر الخيل والجمال والرقيق وغير ذلك من العربان وأهل البلاد.
وفي يوم السبت ثامن رمضان: عزل الأمير ناصر الدين محمد بن أقبغا آص من شدّ الدواوين، وأُلزم بحمل مائتي ألف درهم فضة، واستقر عوضه الأمير ناصر الدين محمد ابن رجب بن كلفت.
وفيه قدم البريد من الصعيد أَن ابن التركية خرج على ابن الحسام، وأخذ جميع ما حصَّله، فخرجت إليه التجريدة.
وفي خامس عشره: استقر الأمير ألطبغا المعلم نائب الإسكندرية، عوضاً عن أرغون البجمقدار العثماني، واستقر على بن غَلْبَك والي منفلوط، عوضاً عن أبي بكر ابن الكناني.
وفيه قدم البريد بنزول عدة مراكب للإفرنج على طرابلس، فعندما أشرفوا على الميناء: بعث اللّه عليهم ريحاً أغرقت مركباً، وفرقت البقية، وكانت نحو السبعين، فردوا خائبين.
وفي سابع عشره: استقر مجد الدين أبو الفدا إسماعيل بن إبراهيم الحنفي في قضاء الحنفية، عوضاً عن شمس الدين محمد بن أحمد بن أبى بكر الطرابلسي.
ونزل معه الأمير شيخ الصفوي القائم بالسعي له في عدة من الأمراء إلى المدرسة الصالحية على عادة القضاة، ثم عاد إلى معتكفه بالمدرسة الطيبرسية بجوار الجامع الأزهر. ولم يول أحدًا من نواب الحنفية ولا عُقّاد الأنكحة، ووعدهم إلى العيد فثقل عليهم ذلك.
وفي العشرين: منه أعيد الصاحب موفق الدين أبو الفرج إلى الوزارة، وقبض على ابن البقري وولده، وأوقعت الحوطة على دورهما، وجميع حواشيهما.
وفي حادي عشرينه: قدم البريد من دمشق بأن الأمير قَشْتَمُر الأشرفي، الحاكم بطرابلس من جهة منطاش، سلمها من غير قتال، وأن حماة وحمص أيضاً استولت العساكر السلطانية عليهما.
وفي ثاني عشرينه: قدم محمد بن على بن أبى هلال بهدية أبى العباس المتوكل على الله بن الأمير أبي عبد اللّه محمد بن أبي يحيى بن أبي بكر بن أبى حفص صاحب تونس، ومعه كتابه يتضمن الهناء بالعود إلى المملكة، فخرج الأمير محمود الأستادار إلى لقائه بالجيزة، وأُحضر بين يدي السلطان في سادس عشرينه، فأكرمه السلطان، وأمر به فأنزل بدار، ورتب له في كل يوم مائة درهم.
وفي يوم الإثنين أول شوال: قدم البريد من حلب بعبد الرحمن حاجب الأمير نعير، ومعه كتابه يعتذر عما وقع منه ويسأل الأمان، فكتب اٍليه الأمان، فجهز إليه تشريف وتقليد بعوده إلى إمرة آل فضل على عادته.
وفي ثانيه: قدم البريد من دمشق بفرار منطاش عن أرض حلب، ومعه عنقاء بن شطي، خوفاً على نفسه من نعير، وأنه توجه في نحو سبعمائة فارس من العرب، أخذهم على أنه يكبس التركمان ويأخذ أعناقهم، فلما قطع الدربند أخذ خيول العرب، وسار إلى مرَعش، وترك العرب مشاه، فعادوا.
وفيه قدم الخبر من الإسكندرية بأن الفرنج الذين مزقت الريح مراكبهم على طرابلس، ساروا إلى إفريقية وحاصروا المهدية، وبها ولد أبي العباس صاحب تونس، فكانت حروباً شديدة، انتصر فيها المسلمون على الفرنج، وقتلوا كثيراً منهم.
وفيه ضرب الأمير ألطنبغا الجربغاوي بالمقارع، على مال أخذه لجركس الخليلي، وأعيد بعد الضرب إلى السجن بالبرج.
وفي عاشره: قدم فقيه المغرب أبو عبد اللّه محمد بن محمد بن عرفه المالكي، يريد الحج.
وفي ثالث عشره: قدم البريد بأن أسَنْدَمُر اليوسفي وجماعة من المنطاشية دخلوا في الطاعة.
وفي ثالث عشرينه: رحل الحاج من بركة الحجاج، وأميرهم عبد الرحمن بن منكلي بغا الشمسي. وحج الأمير محمد بن أبى هلال الرسول، والفقيه محمد بن عرفة، وخلق كثير جداً، وحملت خوند أم بيبرس وهي عائشة أخت السلطان، كسوة للحجرة النبوية، بالغت في تحسينها، وعملت بابها مطرزا بالذهب. ولما وصل الحاج عجرود، أصابهم عطش شديد، بحيث أبيعت قربة الماء بنحو المائة درهم، ورجع كثير من الحجاج.(2/435)
وفي سابع ذي القعدة: ركب السلطان للصيد في بركة الحاج، وشق القاهرة في عوده إلى القلعة من باب النصر، وخرج من باب زويلة، ونزل عند الأمير بطا الدودار، وأقام عنده داره ساعة.
ثم صعد إلى القلعة من يومه، فكان من الأيام المشهودة. ثم ركب في عاشره إلى مطعم الطيور خارج الريدانية تحت الجبل الأحمر فقدم عليه من مماليكه الذين كانوا بحلب نحو الأربعين مملوكا.
وفي سابع عاشره: قدم البريد من حلب بأن منطاش سار إلى عين تاب، وقاتل نائبها ناصر الدين محمد بن شُهري وأخذ المدينة فامتنع ابن شهري بقلعتها وكبسه ليلاً، وقتل ستة من أمرائه ونحو المائتي فارس.
وفي ثاني عشرينه: قدم الأمير محمد شاه بن بيدمر، فلم يؤاخذه السلطان وأنزله عند الأمير محمود.
وحضر أيضا الأمير أسندمر اليوسفي رأس نوبة منطاش في عمة من الأمراء المنطاشية، فلم يؤاخذهم أيضا، وخلع على أسندمر.
وفي يوم الخميس أول ذي الحجة: رسم الأمير قرا دمرداش نائب طرابلس بنيابة حلب، وجهز ٍ إليه التشريف والتقليد على البريد مع الأمير تنم الحسني.
وفي خامسه: استقر إينال من خجا على، في نيابة طرابلس، واستقر الأمير أَقْبُغا الجمالي، أتابك حلب، والأمير ناصر الدين محمد بن سلار، حاجب الحجاب بحلب. وكتب السولي بنيابة الأبلستين، وجهزت الخلعة إليه.
وفي يوم عيد النحر: خرج الأمير تنبك المحمدي لإحضار الأمير كمشبغا الحموي من حلب.
وفي تاسع عشره: برز أينال - نائب طرابلس - إلى الريدانية، وسار إلى طرابلس في ثالث عشرينه.
وفيه سار الأمير تمربغا المنجكي بمال كبير ينفق في عساكر الشام وتجهيزهم إلى عين تاب، لقتال منطاش.
وفيه نودي في القاهرة ومصر: لا يركب أحد من المتعممين فرسا سوى الوزير، وكاتب السر وناظر الخاص فقط ومن عداهم فإنه يركب البغال، وأن طحانا لا يترك عنده فرسا صحيحا، ولا يركب فقيه ولا جندار ولا عامي فرساً، ولا تحمل المكارية أكديشا.
وفي سابع عشرينه: قدم مبشرو الحاج، وأخبروا بسلامة الحاج ورخاء الأسعار معهم، وأنه لم يحضر حاج اليمن.
وفيه استقر الأمير ناصر الدين محمد بن الحسام الصقري وزيرًا، عوض الموفق أبى الفرج، ورسم له بإعادة بلاد الدولة على قاعدة الوزير شمس الدين إبراهيم كاتب أرلان، و ألا يكون معه مشير يشاركه في التحدث والتصرف، بل ينفرد بالولاية والعزل وتنفيذ الأمور، وأن يستخدم جميع الوزراء المنفصلين في المباشرات تحت يده، فخرج بتشريف الوزارة إلى قاعة الصاحب بالقلعة، واستدعى بالوزراء المصروفين، فقرر شمس الدين المقسي في نظر الدولة، وعلم الدين سن إبرة شريكا له، وسعد الدين بن البقري في نظر البيوت واستيفاء الدولة، وموفق الدين أبا الفرج في استيفاء الصحبة. وقرر الفخري بن مكانس في استيفاء الدولة، شريكا لابن البقري، وركبوا في خدمته، وصار ذلك دأبهم دائما، و لم يسمع بمثل ذلك. ومن العجيب أن ابن الحسام هذا كان أولاً دوادار البقري، أيام كان في نظر الخاص لا يبرح ليلا ونهارا قائما بين يديه، يصرف أمره ونهيه، كآحاد خدمه، فصار ابن البقري يقف بين يدي ابن الحسام في وزارته هذه ويتصرف بأمره ونهيه، وربما أهانه، فسبحان محيل الأحوال.
وفي هذا اليوم: أعيد ناصر الدين محمد بن أقبغا آص إلى شدّ الدواوين، عوضا عن ناصر الدين محمد بن رجب. واستقر ابن رجب شاد دواليب الخاص، عوضا عن خاله الأمير الوزير ناصر الدين محمد بن الحسام.
وأصاب الحاج في عودهم مشقات لسوء سيرة ابن منكلي بغا ورذالته وفساده، إلا الركب الأول، فإن أميرهم بيسق الشيخوني أمير أخور كان مشكور السيرة، ومع ذلك فنزل بالجمال وباء كثير، في كثير منهم.
ومات في هذه السنة من الأعيان ممن له ذكر
مات أمير حاج ابن السلطان في ثامن جمادى الآخرة، ودفن بالمدرسة الظاهرية المستجدة، وكان أحد الأمراء، وهو صغير.
ومات الأمير علاء الدين أَقبغا الجوهري، أحد اليلبغاوية، مقتولاً في وقعة حمص، عن بضع وخمسين سنة، وكان عارفاً يذاكر بمسائل فقهية وغيرها، مع حدة خلق، وسوء معاملة.
ومات الأمير أردبغا العثماني، أحد أمراء الطبلخاناه، قتيلاً.
ومات الأمير علاء الدين ألطنبغا الجوباني قتيلاً، وقد قارب الخمسين سنة، وكان حشمًا فخوراً.
ومات الأمير تنكز العثماني، أحد أمراء الطبلخاناه، قتيلاً.(2/436)
ومات الأمير تمر الأشرفي، نائب قلعة بهنسا.
ومات الأمير تمرباي الأشرفي الحسني، حاجب الحجاب بديار مصر. ومات الأمير جبق الكمشبغاوي، أحد الأمراء الألوف بديار مصر.
ومات الأمير حسن خجا رأس نوبة.
ومات الأمير طغاي تمر الجركتمري أحد أمراء الطبلخاناة.
ومات الأمير طولوبغا الأسعدي أحد أمراء العشراوات.
ومات عيسى التركماني أحد العشراوات.
ومات الأمير قرابغا الأبو بكرى أمير مجلس.
ومات الأمير قرقماس الطشتمري، في يوم الجمعة حادي عشر جمادى الآخرة.
ومات الأمير قازان اليرقشي، أحد أمراء الطبلخاناة.
ومات الأمير مأمور القلمطاوي، حاجب الحجاب، وأحد اليلبغاوية، قتل على حمص، وهو يلي نيابة حماة.
ومات الأمير مقبل الطيبي نائب الوجه القبلي.
ومات الأمير يونس الرماح الأسعردي، أحد أمراء الطبلخاناه.
ومات الأمير على سلطان الطائفة الجعيدية بديار مصر، مات في سادس عشر جمادى الأولى، ولم يقم بعده مثله.
ومات الشيخ المعتقد على المغربل، في خامس جمادى الأولى، ودفن بزاويته خارج القاهرة بحكر الزراق.
ومات الشيخ المعتقد محمد الفاوي، في ثامن عشر جمادى الأولى، ودفن في خارج باب النصر.
ومات الأديب الشاعر شمس الدين محمد بن إسماعيل الأفلاقي المالكي في سادس جمادى الأولى.
ومات الشيخ المقرئ شمس الدين محمد بن أحمد الرفاء في سابع جمادى الأولى.
سنة ثالث وتسعين وسبعمائة
أهل المحرم يوم الجمعة.
ففي ثانيه: عزل السلطان أكثر ولاة أعمال مصر، ورسم ألا يولي أحد ممن باشر الولاية، وأن يُعين الأمير سودن النائب جماعة من مقدمي الحلقة، فأحضر مقدمي الحلقة واختار منهم ثلاثة وهم: شاهين الكلفتي استقر في الغربية، وطرقجى في ولاية البهنسا، وقجماس السيفي في المنوفية، وأخلع عليهم في رابعه.
وفي سادسه: قدم البريد من دمشق بأن الأمير يلبغا الناصري تنافس هو والأمير الكبير أيتمش، فأظهر الخروج عن الطاعة، ولبس السلاح، وألبس حاشيته. ونادى بدمشق من كان من جهة منطاش فليحضر، فصار إليه نحو الألف ومائتي فارس من المنطاشية، فقبض عليهم كلهم وسجنهم، وكتب إلى السلطان يُعَرِّفه بذلك، فأجابه بالشكر والثناء.
وفي سادس عشره: قُبض على الصاحب موفق الدين أبي الفرج، وألزم بحمل ستين ألف درهم، وقُبض على الصاحب علم الدين سن إبرة، وأُلزم بعشرين ألف درهم، وعلى الصاحب سعد الدين بن البقري، وألزم بسبعين ألف درهم.
وفي ثامن عشره: ولي شيخ الحديث زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي تدريس الظاهرية العتيقة ونظرها، بعد وفاة القاضي صدر الدين عمر بن عبد المحسن بن رزين، ونقل القاضي فخر الدين محمد القاياتي إلى مكانه بإيوان المدرسة الصالحية، للحكم بين الناس.
وفيه نودي لا يركب متعمم فرساً إلا أرباب الوظائف الكبار، ومن وجد عنده فرس أخذت منه.
وفي يوم الأحد ثامن صفر: هدمت سلالم باب مدرسة السلطان حسن، والسلالم التي تصعد إلى السطح، والمناراتان منها، وفتح بابها من شباك بالرميلة تجاه باب السلسلة، وصار يتطرق إليها منه، ويقف المؤذنون عنده ويؤذنون في أوقات الصلاة، واستمر الأمر على ذلك.
وفي تاسعه: قدم الأمير سيف الدين كُمُشْبُغا الحموي من حلب، فخرج الأمير سودن النائب إلى لقائه، ومعه الحجاب وعدة من الأمراء. وصار به إلى القلعة، فَقَبّل الأرض وجلس فوق الأمير اٍينال اليوسفي أتابك العساكر، ونزل إلى دار أعدت له، وبعث إليه السلطان ثلاثة أروس من الخيل بقماش ذهب، وعدة بقج قماش. وبعث إليه كل من أمراء الألوف فرساً بقماش ذهب، وقدم إليه أمراء الطبلخاناه وغيرهم عدة تقادم من جند وغير ذلك.
وحضر مع الأمير كُمشبغا الأمير حسام الدين حسن الكجكنة - نائب الكرك - في عدة من الأمراء.
وفي حادي عشره: قدم البريد بأن العساكر وصلت إلى مدينة عينتاب، ففر منطاش إلى جهة مرعش، وحضر عدة من جماعته إلى الطاعة.
وفيه حضر الأمير أقبغا المارديني نائب الوجه القبلي، فقبض عليه وسجن بخزانة شمايل في صورة أنه كثر ظلمه وتعسفه. وهذه عادة السلطان، أنه يصير على أعدائه فلا ينتقم منهم لنفسه حتى يتهيأ له فيهم ما يوجب العقوبة فيأخذهم بذلك الذنب، ولا يظهر أنه انتقم لنفسه، وذلك من حسن ملكته وثباته، واستقرى هذا، تجده كما قلت لك.(2/437)
وفي خامس عشره: أحضر الأمير حسام الدين حسن بن باكيش نائب غزة من السجن، وضُرب بالمقارع بين يدي السلطان، وأحضر أقبغا المارديني وضرب على أكتافه. وأمر والي القاهرة بتخليض حقوق الناس منه.
وفيه استقر الأمير مبارك شاه كاشف الجيزية، عوضاً عن محمد بن ليلى.
وفي تاسع عشره: استقر الأمير يلبغا الأسعدي المجنون نائب الوجه القبلي، عوضاً عن أقبغا المارديني، واستقر أسنبغا السيفي في ولاية الفيوم وكشف البهنسا والأطفيحية، عوضاً عن يلبغا الأسعدي، واستقر تقطاي الشهابي والي الأشمونين، عوضاً عن أسنبغا السيفي.
وفي حادي عشرينه: استقر دمرداش السيفي نائب الوجه البحري، عوضاً عن الشريف بكتمر.
وفي تاسع عشرينه: أحضر القاضي شهاب الدين أحمد بن محمد بن الحبال، قاضي الحنابلة بطرابلس، وضرب بين يدي السلطان، بسبب قيامه مع منطاش وأخذ طرابلس، وقتل من قتل بها، وأن ذلك كان بفتواه لهم.
وفيه وسط من الزهور المقبوض عليهم من الوجه البحري نحو السبعين، بعد تسميرهم وإشهارهم بالقاهرة، وكانوا قد أكثروا من الفساد وقطع الطريق على المسافرين، وأخذ أموالهم.
وفيه سار الشيخ أبو عبد الله محمد بن أبي هلال رسول صاحب تونس بجواب كتابه وهدية سنية.
وفي سابع شهر ربيع الأول: استقر الأمير يونس القشتمري نائب الكرك، عوضاً عن قديد.
وفي ثامنه: أنعم بإقطاع أرغون البجمقدار العثماني نائب الإسكندرية على الأمير حسن الكجكني، وأخرج أرغون منفياً إلى الإسكندرية.
وفيه خرج البريد بإحضار الأمير الكبير أيتمش من دمشق، فسار الأمير قُنقباي الأسعدي رأس نوبة لذلك.
وفي عاشره: قدم الأمير أبو يزيد والشيخ شمس الدين محمد الصوفي على البريد من الشام.
وفي ثالث عشره: شدد العقاب على ابن باكيش لإحضار المال، وقبض على الشريف بكتمر بسبب إهماله مستخرج تزوجه، ثم أُفرج عنه على أن يحمل مائة ألف درهم.
وفيه استقر الأمير علاء الدين بن الطشلاقي في ولاية قطيا، والتزم فيها بحمل مائة ألف وثلاثين ألف درهم، في كل شهر.
وفيه توجه يلبغا السالمي على البريد بتقليد الأمير نُعير الإمرة على عادته.
وفي يوم الأحد أول شهر ربيع الآخر: استقر برمش الكمشبغاوي حاجب الحجاب بطرابلس. واستقر الحاج محمد بن عبد الرحمن مقدم الخاص في تقدمة الدولة، عوضاً عن عبيد البازدار بعد موته، فصار مقدم ديواني الخاص والدولة.
وفي تاسع عشره: قبض على الأمير شاهين أمير آخور، ونُفي إلى الصعيد.
وفي يوم الاثنين رابع جمادى الأولى: قدم الأمير الكبير أيتمش من دمشق على البريد، فتلقاه الأمير سودُن النائب، وقدم معه عدة من الأمراء منهم: آلابغا العثماني الدوادار حاجب دمشق، والأمير جنتمر أخو طاز، وأمير ملك ابن أخت جنتمر المذكور، وألطبغا أستادار جنتمر، ودمرداش اليوسفي، وألطبغا الحلبي، وكثير من المماليك السلطانية، فمثل بالخدمة السلطانية، وقبل الأرض، وجلس بالميسرة تحت الأمير سودُن النائب واحضر بالأمراء القادمين معه، وعدتهم ستة وثلاثون أميراً، وبشهاب الدين أحمد بن عمر القرشي قاضي دمشق، وبفتح الدين محمد بن إبراهيم بن محمد بن أبي بكر بن الشهيد كاتب السر بدمشق، وابن مشكور ناظر الجيش بدمشق، وكلهم في القيود. فوبخ السلطان الأمير ألطبغا الحلبي، والأمير جنتمر، وابن القرشي وأطال الحديث معهم، وكانوا قد قاتلوه في محاصرته لدمشق، وأفحشوا في أمره فحشاً زائداً، حتى أن ابن القرشي كان يقف على الأسوار وينادي إن قتال برقوق أوجب من صلاة الجمعة، ويجمع العامة ويحرضهم على محاربته. ثم أمر السلطان بهم فسجنوا، وأُسلم ابن مشكور لشاد الدواوين، فعصر والتزم بحمل سبعين ألف درهم، وأفرج عنه. ونزل الأمير أيتمش إلى داره، وبعث إليه السلطان بإنعام كثير، وقدم إليه جميع الأمراء على قدر حالهم.
وفي ثالث عشره: وقع الهدم في أملاك تجاه باب حارة الجوانبة بالقاهرة، وشرع الأمير محمود في عمارة وكالة.
وفيه أحضر من الزهور ستة وثلاثون رجلاً، وقدم الأمير جبرائيل الخوارزمي فاراً من منطاش، فلم يؤاخذه السلطان، ورسم له بالمثنى في الخدمة مع الأمراء.(2/438)
وفي ثامن عشرينه: استقر جمال الدين محمود بن محمد بن إبراهيم المعروف بابن الحافظ في قضاء الحنفية بحلب، عوضاً عن محب الدين محمد بن محمد بن الشحنة، واستقر جمال الدين محمود بن العديم في قضاء عسكر حلب، عوضاً عن ابن الحافظ، والشريف حمزة الجعفري في وكالة بيت المال بحلب ونظر جامعها، واستقر المعري في قضاء الشافعية بطرابلس، عوضاً عن شهاب الدين أحمد السلاوي، واستقر علم الدين أبو عبد اللّه محمد بن محمد القفصي في قضاء المالكية بدمشق، عوضاً عن السكسيوي، وهي ولايته الخامسة، ثم عزل بالبرهان أبي سالم إبراهيم بن محمد بن علي الصنهاجي. وولى ابن المنجا قضاء الحنابلة بدمشق، عوضاً عن شرف الدين عبد القادر. وولى جمال الدين أبو الثناء محمود بن قاضي العسكر حافظ الدين محمد بن إبراهيم بن سنبكي قضاء الحنفية بحلب، عوضاً عن علي بن الشحنة.
وبرهان الدين إبراهيم التادلي في قضاء المالكية بدمشق، عوضاً عن برهان الدين إبراهيم بن القفصي. وبدر الدين محمد بن شرف الدين موسى بن الشهاب محمود في نظر الجيش بحلب، وخلع على الجميع.
وفيه أفرج عن أقبغا المارديني من خزانة شمايل، وعن طاش بغا السيفي.
وفي يوم الاثنين ثاني جمادى الآخرة: قبض على أسندمر الشرفي، وإسماعيل التركماني، وكزل القرمي، وأقبغا البجاسي، وصربغا، وتسلمهم والي القاهرة.
وفي تاسعه: قبض أيضاً على أحد عشر أميراً وهم: قطلوبغا الطشتمري الحاجب، وتَقْطاي الطشتمري، وآلابغا الطشتمري، وقرابغا السيفي، وأقبغا السيفي، وبيبغا السيفي، وطيبغا السيفي، ومحمد بن بيدمر نائب الشام، وجبرائيل الخوارزمي، ومنجك الزيني، وأرغون شاه السيفي.
وفيه سُمر أسندمر الأشرفي رأس نوبة ، وأقبغا الظريف البجاسي، وإسماعيل التركماني أمير البطالين في أيام منطاش، وكُزَل القرمي، وصربغا، وشهروا بالقاهرة، ثم وسطوا بالكوم، ولم يعهد مثل هذا يفعل إلا بقطاع الطريق.
وفيه أُحضر الأمير ألطبغا الحلبي، وألطُنبغا أستادار جَنتمُر إلى مجلس قاضي القضاة شمس الدين محمد الركراكي المالكي، وأُدعى عليهما بما يقتضي القتل، فسجنهما بخزانة شمايل مقيدين.
وفي ثاني عشره: قبض على الأمير صَنْجقَ.
وفي خامس عشره: شكا رجل شهاب الدين أحمد بن عمر القرشي للسلطان فأحضر من السجن، واستدعى عليه غريمه بمال له في قلبه، وبدعاوى شنعة، فضرب بالمقارع وسلم إلى والي القاهرة ليخلص منه مال المدعي الذي أَقَرَّ به، فوالى ضربه وعصره مراراً، وسجنه بخزانة شمايل.
وفي تاسع عشره: استقر الأمير قُطْلُوبغا الصفوي حاجب الحجاب، واستقر الأمير بدخاص حاجب الميسرة، واستقر الأمير قديد نائب الكرك حاجباً ثالثاً، واستقر الأمير على باشاه حاجباً رابعاً.
واستقر يلبغا الآشْقَتُمري أمير أخور في نيابة غزة، وناصر الدين محمد بن شهري في نيابة ملطية.
وفي ثاني عشرينه: وقف شخص وادعى أن أمير ملك - ابن أخت جَنتَمُر - أخذ له ستمائة ألف درهم، وأغرى به منطاش حتى ضربه بالمقارع، فأحضر وادعى عليه غريمه فضرب بالمقارع ضرباً مبرحاً، وتسلمه والي القاهرة، فمات ليلة خامس عشرينه. وفي يومه استقر أرغون شاه الإبراهيمي الخازندار حاجب الحجاب بدمشق، عوضاً عن آلابغا العثماني. واستقر آلابغا في نيابة حماة، وخرج البريد بتقليده.
وفيه أُنعم على كل من قاسم ابن الأمير الكبير كُمُشبغا الحموي، ولاجين الناصري، وسودن العثماني النظامي، وأرغون شاه الأقبغاوي، وسودُن باشاه الطاي تُمري، وشكرباي العثماني، وقجقار القَرْمُشي بإمرة طبلخاناه. وعلى كل من قطلوبغا الطَقتمُشي، وعبد الله أمير زاه بن ملك الكرُجْ وكُزَل الناصري، وآلان اليحياوي، وكُمُشبغا الإسماعيلي طاز، وقَلَمْطاي العثماني بإمرة عشرة.
وفيه قدم آقبغا الصغير نائب غزة بطلب.
وفيه قبض على مماليك الأمير بركة، والمماليك الذين خدموا منطاش، وتُتُبعوا من سائر المواضع، وأُخذوا من كل مكان.
وفي ثاني عشرينه: عرضهم السلطان، وأفرج عن جماعة منهم.
وفي خامس عشرينه: ضرب ابن القرشي نحو مائتي شيب بالمقارع، عند الوالي.
وفي سادس عشرينه: استقر الصارم والي القاهرة في ولاية الأشمونين، عوضاً عن تُقْطاي الشهابي.(2/439)
وفي أخريات هذا الشهر: ظهر كوكب طوله نحو ثلاثة أرماح، قليل النور، يرى في أول الليل ويغيب نصف الليل، أقام ليالي واختفي.
وفي أول شهر رجب: قدم منطاش دمشق، وسار إليها من مرعش على العمق، حتى قارب من حماة، فانهزم منه نائبها إلى جهة طرابلس من غير لقاء، ودخلها منطاش، ولم يحدث حدثاً. وتوجه منها إلى حمص، ففر منه أيضاً نائبها إلى دمشق، ومعه نائب بعلبك، فخرج الأمير يلبغا الناصري يريد لقائه من طريق الزبداني، فثار أحمد شكر بجماعة البيدمرية، ودخل دمشق من باب كيسان ، وأخذ ما في الإصطبلات من الخيول، وخرج في يوم الأحد تاسع عشرين جمادى الآخرة. وقدم منطاش في يوم الإثنين أول رجب من طريق أخرى، ونزل القصر الأبلق، ونزل جماعته حوله. وقد أَحضر إليه أحمد شكر من الخيول التي نهبها ثمانمائة فرس، وندبه ليدخل المدينة ويأخذ من أسواقها المال، فبينا هو كذلك إذ قدم الناصري بعساكر دمشق فاقتتلا قتالاً كبيراً مدة أيام.
وفي ثالثه: استقر أمير بن الدمر في ولاية الغربية، عوضاً عن شاهين الكلفتي.
وفي خامسه: ورد البريد من حلب بدخول منطاش إلى دمشق، ومحاربة الناصري له، كما ذكر.
وفي تاسعه: ضرب الشهاب أحمد بن عمر القرشي حتى مات بخزانة شمايل، وأُخرج من وقف الطرحاء.
وفي حادي عشره: اجتمع القضاة والأمير بدخاص الحاجب بشباك المدرسة الصالحية بين القصرين من القاهرة، وأحضر الأمير ألطبغا دوادار جَنْتمر، وأوقف تحت الشباك في الطريق، وادعى عليه. مما اقتضى إراقة دمه، وشُهد عليه به، فضرب عنقه، وشهد أيضاً على الأمير ألطبغا الحلبي، فضرب عنقه وحملت رؤسهما على رمحين. ونودي عليها في القاهرة.
وفي سادس عشره: أخذ قاع النيل، فجاء أربعة أذرع، وعشرون إصبعاً وفي رابع عشرينه قدم على ابن الأمير نُعير، فقبض عليه.
وفي خامس عشرينه: خلع على نجم الدين الطبدى خلعة استمرار.
وفي سابع عشرينه: قدم البريد من دمشق باستمرار الحرب بين الناصري ومنطاش، وأن منطاش انكسر، وقتل كثير ممن معه، وفر معظم التركمان الذين قدم بهم، وصار محصوراً بالقصر الأبلق.
وفيه استقر الصارم إبراهيم الباشَقَردي في ولاية أسوان، عوضاً عن الصارم الشهابي. وفيه أحضر أنواط - كاشف الوجه البحري - سبعين رجلاً من العرب الزهور وخيولاً كثيرة، فوسط منهم ستة وثلاثون رجلاً.
وفي الأول من شعبان: رسم بتجهيز الأمراء للسفر إلى الشام، وشرع الوزير وناظر الخاص في تهيئة بيوتات السلطان، وعمل ما يحتاج إليه في السفر.
وفي خامسه: قدم البريد من صفد بأن منطاش فر من دمشق، وتبعته العساكر، فسر السلطان والأمراء بذلك.
وفيه قتل حسام الدين حسين بن باكيش، وسببه أن الخبر ورد بأن ولده جمع كثيراً من العشير، ونهب الرملة وقتل عدة من الناس.
وفي سادسه: ضرب حسين بن الكوراني بالمقارع.
وفي عاشره: نصب جاليش السفر، ورسم للقضاة بالتهيؤ إلى السفر.
وفي حادي عشره: تسلم الأمير علاء الدين علي بن الطبلاوي: الأمير صراي تمر داودار منطاش، وتَكا الأشرفي، ودمرداش اليوسفي، ودمرداش القَشتمري، وعلي الجركتمَري، فقتلوا، إلا علي الجَرْكَتَمري فإنه عصر، وقُتل بعد ذلك هو وقطلوبك صفد.
وفي ثاني عشره: عرض السلطان المحابيس من المنطاشية، وأفرد منهم جماعة للقتل، فقتل في ليلة الأحد ثالث عشره منهم: الأمير جَنتمُر أخو طاز وابنه، وألطبغا الجُربُغاوي، والطواشي تُقْطاي الطَشتَمُري، وفتح الدين محمد بن الشهيد، ضربت أعناقهم بالصحراء.
وفي خامس عشره: صرف مجد الدين إسماعيل عن قضاء القضاة الحنفية، واستقر عوضه جمال الدين محمود العجمي القيصري، ونزل معه بعدما خلع عليه الأمير بُطا الدوادار، والأمير جُلبان رأس نوبة في عدة من الأمراء، وسائر القضاة، فكان يوماً مشهوداً. وكتب له في توقيعه الجانب العالي، كما كتب للعماد أحمد الكركي، وهما أول من كُتب به ذلك من قضاة القضاة ولم يُكتب هذا لأحد من المتعممين إ لا للوزير فقط، ويكتب للقضاة المجلس العالي، فكتب للعماد الكَرَكي الجناب العالي، وتشبه به الجمال محمود، فكتب له ذلك، واستمر لمن بعدهما.
وفي سابع عشره: أخرج أمير حاج بن مُغْلطاي إلى دمياط، وأخرج الأمراء البطالون إلى ثغر الإسكندرية، وأفرج عن تَلكتمر الدوادار، وصراتمر دوادار يونس الدوادار، ونزلا إلى بيوتهما.(2/440)
وفي ثامن عشره: قبض على عدة من الأمراء، وسجنوا، وأُمض من الغد فيهم قضاء الله، الذي لا يرد.
وفيه تعين لنيابة الغيبة بديار مصر الأمير الكبير كُمُشْبُغا الحموي، وتحول الإصطبل السلطاني. وتحول الأمير سودن النائب إلى قلعة الجبل، ومعه الأمير بجاس - النوروزي، وأقام بالقلعة ستمائة مملوك عليهم تغرى بردى رأس نوبة، والأمير الطواشي صواب السعدي. وتعين للإقامة بالقاهرة الأمير قُطلوبغا الصفوي، حاجب الحجاب، والأمير بدخاص السودوني أمير حاجب، وقديد وطغاي تمر باشاه، وقرابغا الحاجب، في عدة من أمراء العشراوات.
ورسم لشيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقيني وقضاة العسكر، ومفتيين دار العدل، وبدر الدين محمد بن أبي البقاء الشافعي، وبدر الدين محمد بن فضل الله العمري بالسفر، فتجهزوا لذلك. ونزل السلطان بعد صلاة الظهر من القلعة، وسار إلى الوطاق بالريدانية خارج القاهرة، وتلاحقت الأمراء والعساكر وأرباب الدولة به.
وفي ثاني عشرينه: قبض على الأمير ناصر الدين محمد بن أقبغا آص بالريدانية، وضرب على إحضار أربعمائة ألف درهم فضة. ورسم للأمير علاء الدين علي بن سعد الدين عبد الله بن محمد الطلاوي الوافي بالتحدث في شد الدواوين، عوضاً عن ابن أقبغا آص، وسلم إليه، فشدد في عقوبته ووجد له سبعون فرساً وأربعون جملاً، وأربعة وعشرون مركباً في النيل، وقماش كثير.
وفي ثالث عشرينه: استقر شمس الدين محمد بن الجزري المقرئ في قضاء القضاة الشافعية بدمشق، عوضاً عن شرف الدين مسعود، بمال قام به، وأخرج بسائر من في خزانة شمايل إلى الريدانية، وعُرضوا على السلطان، فأفرد منهم سبعة وثلاثين رجلاً للقتل، منهم: محمد بن الحسام أستادار أرغون أسكي، وأحمد بن النقوعي، ومقبل الصفوي، فغُرِقوا في النيل. وسمر منهم سبعة وهم: شيخ الكريمي، وأسندمر والي القلعة، وثلاثة من أهل الشام، واثنان من التركمان، ثم وسطوا.
وفي رابع عشرينه: استقر ناصر الدين محمد بن رجب بن تلفت في شد الدواوين. وأنعم على الأمير سيدي أبي بكر بن نقر الجمالي بإمرة طبلخاناة، ورسم به بإمرة الحاج.
وفي سادس عشرينه: رحل السلطان من الريدانية.
وفيه نودي بالقاهرة أن يتجهز الناس للحج، على العادة.
وفي ليلة الثلاثاء تاسع عشرينه: قتل اثنا عشر من الأمراء، منهم الأمير أرغون شاه السيفي، وآلابغا الطشتمري، وآقبغا السيفي، وبزلار الخليلي.
وفي ليلة الأربعاء سلخه: قتل من الأمراء سنجق الحسني، وقرابغا السيفي، ومنصور حاجب غزة.
وفي يوم الأربعاء: قدم البريد من السلطان بكسرة منطاش وفراره في سادس عشره، ومعه عنقاء بن شطي، فدقت البشائر، وتخلق الأمراء والممالك، ونودي بذلك في القاهرة.
وفي رابع شهر رمضان: قدم بريد السلطان بنزوله قطيا، وأن الأخبار صحت بفرار منطاش من دمشق في خمسين فارساً.
وفيه قدم الأمير ناصر الدين محمد بن رجب بمثال سلطاني إلى الأمير جمال الدين محمد الأستادار، فإذا هو يتضمن مسكه، وإلزامه بحمل مائة وستين ألف درهم، فقبض عليه، وأخذ منه سبعين ألف درهم.
وفي سادس شهر رمضان: زينت القاهرة.
وفيه أخرج الأمير كُمُشبغا مائتي فارس من أجناد الحلقة إلى كاشف الوجه البحري، تقوية له.
وفيه وُسط أحمد بن علاء الدين علي بن الطشلاقي، والي قطيا.
وفي ثامنه: قلعت الزينة من القاهرة، و لم يكن للزينة سبب يقتضي ذلك.
وفيه استقر بهاء الدين محمد بن البرجي موقع الدست في حسبة القاهرة، عوضاً عن نجم الدين محمد الطنبدي بمال قام به للأمير كُمُشبغا.
وفي عاشره: نودي على النيل بعد توقفه أياماً، وكان عاشر مسرى - وقد ارتفعت الأسعار - فتوالت الزيادة في نهاره، حتى أوفي النيل ستة عشر ذراعاً وكسر الخليج وخرج شرف الدين بن أبي الرداد على البريد ببشارة الوفاء.
وفيه قبض على بكتمر - دوادار الجوباني - فهرب، و لم يوقف له على خبر.
وفي ثاني عشرينه: دخل السلطان إلى دمشق وقد زينت له، وخرج الأمير يلبغا الناصري إلى لقائه. بمنزلة اللجون، فكان يوماً مشهوداً.(2/441)
وفيه نودي بدمشق بالأمان. وصلى يوم الجمعة ثالث عشرينه بدمشق صلاة الجمعة في جامع بني أمية. وعندها انقضت الصلاة نادى الجاويش في النادي بالأمان، والماضي لا يعاد، ونحن من اليوم تعارفنا، فضج الناس بالدعاء للسلطان، وقد كانوا مترقبين بلاء كبيراً ينزل بهم منه، لسوء ما فعلوا معه في السنة الماضية، وكثرة مبالغتهم في سبه، وإعلانهم بفاحش القول له، وهم يقاتلونه.
وفي ثاني عشرينه: استقر الأمير كمشبغا نائب الغيبة بشاهين الكلفتي في كشف الوجه البحري، وعزل أنواط السيفي، وقبض عليه.
وفي ليلة الأحد خامس عشرينه: قتل خارج القاهرة أمير علي الجَركتمُري القازاني، المهمندار في أيام منطاش.
وفي تاسع عشرينه: نودي في القاهرة. بمنع النساء من الخروج يوم العيد إلى الترب، ومن خرجت وسطت هي والمكاري والحمارة وألا يركب أحد في مركب للتفرج على النيل، وهدد من فعل ذلك بإحراق المركب، فلم يتجاسر أحد يخرج في العيد إلى القرافة، ولا إلى ترب القاهرة.
وفي ثاني شوال: قدم البريد بدخول السلطان إلى دمشق.
وقدم البريد بنزول خوندكار أبي يزيد بن عثمان ملك الروم إلى قيصرية وأخذها.
وفيه استقر قطلوبغا الصفوي في ولاية قليوب، وعزل تنكز البريدي.
وفي سابعه: خرج السلطان من دمشق، يريد حلب.
وفيه استقر فخر الدين عبد الرحمن بن مكانس في وزارة دمشق، وعزل ابن الجزري عن قضاء دمشق قبل أن يدخل إلى دمشق، وأعيد مسعود.
وفي تاسع عشره: قدم البريد إلى القلعة بتوجه السلطان إلى حلب، وأنه ورد عليه دوادار الأمير سولي بن دلغادر بهدية، فيها مائة بقجة قماش، ومائتا فرس، وهو يعتذر عن أخذ سيس، وبعث مفاتيحها، وسأل تعيين من يتسلمها منه، وأنَ نعير ومنطاش نزلا الرحبة و جعبر.
وفيه استقر محمد بن صحفة بن الأعسر في ولاية الأشمونين وعزل الصارم، واستقر محمد بن قرابغا في ولاية دمياط وعزل صديق.
وفي ثالث عشرينه: نودي بالقاهرة ألا تلبس امرأة قميصاً واسعاً، ولا تزيد على تفصيل القميص من أربعة عشر ذراعاً. وكان النساء بالغن في سعة القمصان، حتى كان يفصل القميص الواحد من اثنين وتسعين ذراعاً من البندقي الذي عرضه ثلاثة أذرع ونصف، فيكون مساحة القميص زيادة على ثلاثة وعشرين ذراعاً. وفحش هذا حتى تشبه عوام النساء في اللبس بنساء الملوك والأعيان.
وفي ليلة الأحد رابع عشرينه: أحضر الأمير محمد شاه بن بيدمر من الإسكندرية، فقتل خارج القاهرة ليلة الاثنين خامس عشرينه.
وفي سادس عشرينه: صرف نور الدين علي بن عبد الوارث عن حسبة مصر بالشريف أحمد بن محمد بن حسن بن حيدرة، المعروف بابن بنت عطا، قاضي الحنفية بثغر الإسكندرية.
وفي سلخه: قدم البريد بدخول السلطان إلى حلب في ثاني عشرينه، وأن بدر الدين محمد بن علي بن فضل الله العمري، أعيد إلى كتابة السر، وعزل علاء الدين علي بن عيسى الكركي لضعفه.
وفي يوم الأحد أول ذي القعدة: دقت البشائر، واستمرت ثلاثة أيام.
وفي ثانيه: ندب الأمير كُمُشْبُغا نائب الغيبة جماعة نزلوا إلى أسواق القاهرة وشوارعها، وقطعوا أكمام النساء الواسعة، فامتنع النساء من يومئذ أن يمشين بقمصان واسعة مدة نيابة الأمير كمشبغا، ثم عدن إلى ذلك بعد عود السلطان.
وفيه ورد الخبر بالقبض على منطاش، و لم يصح ذلك.
وفي ثالثه: قدم البريد بموت ناصر الدين محمد بن علي بن الطوسي، واستقرار ناصر الدين محمد بن حسن الفاقوسي موقع الدرج عوضه في توقيع الدست، وموت قاضي القضاة شمس الدين محمد الركراكي المالكي فأذن الأمير كمشبغا لنوابه بالحكم بين الناس على عادتهم.
وفي ثامنه - وهو عاشر بابه: - انتهت زيادة النيل، إلى إصبع، من عشرين ذراعاً.
وفي سادس عشرينه: قدم البريد من حلب بأن الخبر ورد بقبض سالم الذكرى على منطاش، وأن صاحب ماردين قبض على جماعة من المنطاشية حضروا إليه، فبعث السلطان قرا دمراش نائب حلب على عسكر، والأمير يلبغا الناصري نائب دمشق على عسكر، والأمير أينال اليوسفي أتابك العساكر على عسكر، فساروا لإحضار منطاش ومن معه، فنودي في القاهرة بالأمان، وقد حصل غريم السلطان، فدقت البشائر ثلاثة أيام.
وفيه استقر الأمير أيدمر الشمسي أبو زلطة في نيابة البحيرة، وعزل دمرداش السيفي.(2/442)
وفي سابع عشرينه: قدم البريد من حلب بأن الأمير قرا دمرداش وصل بعسكر حلب إلى أبيات سالم الذكرى، وأقام أربعة أيام يطالبه بتسليم منطاش وهو يماطله، فحنق منه وركب بمن معه، ونهب بيوته، وقتل عدة من أصحابه. ففر سالم بمنطاش إلى سنجار، وامتنع بها. وأن الأمير يلبغا الناصري حضر بعساكر دمشق بعد ذلك، فأنكر على قرا دمرداش ما وقع منه، وأغلظ في القول، وهم بضربه، فكادت تكون فتنة كبيرة، وعادا، وأن الأمير أدينال وصل بعسكر مصر إلى رأس عين، وتسلم من صاحب ماردين الذين قبضهم من المنطاشية، وكبيرهم قشتمر الأشرفي، وحضر بهم وبكتاب صاحب ماردين، وهو يعتذر، ويعد تحصيل غريم السلطان.
وفي يوم الاثنين أول ذي الحجة: خرج السلطان من حلب يريد دمشق.
وفي سادسه: قدم البريد بأن السلطان لما بلغه ما جرى من قرا دمرداش وما وقع بينه وبين الناصري من الفتنة، وأنهما عادا بغير طائل، غلب على ظنه صحة ما نقل عن الناصري من أن قصده مطاولة الأمر مع منطاش، وأنه لم يحضر إلى دمشق إلا بمكاتبته له بذلك، وأَنه قصر في أخذه بدمشق، وأن سالم الذكرى لم يرحل بمنطاش إلى سنجار إلا بكتاب الناصري إليه بذلك. فلما قدم إلى حلب قبض عليه وعلى شهاب الدين أحمد بن المهمندار نائب حماة، وكشلي أمير أخور الناصري، وشيخ حسن رأس نوبته، وقتلهم في ليلة قبضهم.
وما برح يلبغا الناصري من مبدأ أمره سيئ الرأي والتدبير، حتى قيل عنه أنه ما كان مع قوم في أمر من الأمور إلا وانعكس عليهم أمرهم بواسطته.
وولى الأمير بطا الدوادار نيابة دمشق، والأمير جُلْبان الكمشبغاوي، رأس نوبة نيابة حلب، والأمير فخر الدين أياس الجرجاوي في نيابة طرابلس، والأمير دمرداش المحمدي في نيابة حماة. وأنعم على قرا دمرداش نائب حلب بإقطاع الأمير بُطا، وأنعم على الأمير أبي يزيد بن مراد الخازن بالدوادارية، عوضاً عن بطا بإمرة طبلخاناة، وأنعم على الأمير تاني بك اليحياوي بإقطاع جُلبان. ثم سار من حلب في أول ذي الحجة، فنودي بتبييض حوانيت قصبة القاهرة، فشرع الناس في ذلك.
وفي سادس عشره: قدم البريد بأن السلطان عاد إلى دمشق في ثالث عشره، وأنه قتل من الأمراء آلابغا العثماني، وسودن باق السيفي، وسمر ثلاثة عشر أميراً منهم: أحمد ابن بيدمر، ومحمد بن أمير علي المارديني، ويلبغا العلاي، وبغا بن السيفي نائب ملطية وكُمُشْبغا السيفي نائب بعلبك، وغريب الخاصكي، وقرابغا العمري.
وفي ثالث عشرينه: توجه السلطان من دمشق يريد القاهرة.
وفي رابع عشرينه: أعيد نور الدين علي بن عبد الوارث البكري إلى حسبة مصر.
وفي تاسع عشرينه: قدم مبشرو الحاج، وأخبروا بالسلامة والأمن وانقضت السنة وديار مصر قد ساسها الأمير كمشبغا أحسن سياسة، ولم يجسر أحد أن يتظاهر في مدة تحكمه بمنكر، ولا بحمل سلاح.
ومات في هذه السنة من الأعيان
ممن له ذكر، سوى من قتل من الأمراء المذكورين.
مات قاضي القضاة شهاب الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ زين الدين أبو حفص عمر بن مسلم بن سعيد بن بدر بن مسلم القرشي، الواعظ الفقيه، الشافعي، قاضي دمشق، بخزانة دمشق، بعد عتاب شديد، في ليلة الأربعاء تاسع رجب.
ومات الأمير شهاب الدين أحمد بن الأمير الكبير سيف الدين الحاج آل ملك الجوكندار. ولد بالقاهرة، ثم أعطاه الملك الناصر محمد بن قلاون إمرة طبلخاناه في حياة أبيه، وما زالت بيده إلى الأيام الناصرية حسن، فأعطاه إمرة مائة، وبقي عليها إلى عاشر ربيع الآخر سنة خمس وسبعين وسبعمائة. ولي نيابة غزة، عوضاً عن طشبغا المظفري، فسار إليها وباشرها قليلاً.
وأعيد إلى القاهرة على إمرة أربعين، وعمل من جملة الحجاب، فاستمر إلى اثني ربيع الأول سنة تسع وتسعين، فاستعفي من الإمرة، وتركها، ولبس عباءة، وركب حماراً، ومشى بالأسواق، وتقنع بما يتحصل من أوقاف أبيه، وأقبل على عبادة اللّه، حتى مات يوم الأحد ثاني عشرين جمادى الآخرة.
ومات القاضي ولي الدين أبو العباس أحمد بن قاضي القضاة جمال الدين عبد الرحمن ابن محمد بن خير السكندري المالكي، في ثاني عشرين جمادى الآخرة. وقد برع في الفقه والأصول والنحو، وأفتى ودرس.(2/443)
ومات الشيخ شهاب الدين أحمد بن الأنصاري الشافعي شيخ الخانقاة الصلاحية سعيد السعداء، في عاشر ذي القعدة. وكان مقتصداً في ملبسه، يجلس بحانوت الشهود، ويتكسب من تحمل الشهادات، فأثرى وكثر ماله لقلة مؤنه، فإنه لم يتزوج. وأوقف ربعاً على محرس شافعي عنده عشر طلبة بالجامع الأزهر. ثم سعى بالأمير سودن النائب حتى ولي مشيخة سعيد السعداء، فلم يتناول سوى نصيب واحد، وأنشأ بها مناراً يؤذن عليه، وعمر أوقافها وبالغ في الضبط مع ساعة مَلَكَةٍ، حتى مقته الجميع.
ومات الأمير حسام الدين حسين بن علي الكوراني، والي القاهرة مخنوقاً، في عاشر شعبان.
ومات الشيخ جلال الدين رسولا بن أحمد بن يوسف العجمي التباني الحنفي قدم إلى القاهرة وأخذ عن القوام الأتقاني الفقه، وسمع الحديث على علاء الدين علي التركماني. وأخذ العربية عن الجمال بن هشام، وعن ابن عقيل ، والبدر ابن أم قاسم. وبرع في الفقه والأصول والنحو، وتصدى للتدريس والإفتاء عدة سنين، ودرس بمدرسة الأمير ألجاي، والمدرسة الصَرْغَتَمشية وغيرها.
وكان منجمعاً عن الناس، عرض عليه قضاء القضاة فامتنع. وشرح كتاب المنار في أصول الفقه. واختصر شرح البخاري لمغلطاي، وشرح مختصر ابن الحاجب في الأصول، ونظم كتاباً في الفقه وشرحه، وكتب التعليق على البزدوي، وكتب مختصراً في ترجيح مذهب أبي حنيفة، رحمه الله، وكتب على مشارق الأنوار في الحديث، وعلى تلخيص المفتَاح، وله رسالة في زيادة الإيمان ونقصانه، ورسالة في أن الجمعة لا يجوز إقامتها في مصر واحد.
ورسالة في الفرق بين الفرض العلمي والواجب. وتوفي خارج القاهرة يوم الجمعة ثالث عشر رجب. والتباني نسبة إلى موضع خارج القاهرة يقال له التبانة، كان يقف فيه سوق للتبن.
ومات الحاج عبيد بن البازدار مقدم الدولة، في يوم السبت رابع عشر صفر.
ومات شرف الدين عبد القادر بن محمد بن عبد القادر الحنبلي النابلسي، قاضي الحنابلة بدمشق، في يوم الأضحى؛ وقدم القاهرة غير مرة.
ومات الشيخ المعتقد على الروبي، في رابع عشرين ذي الحجة.
ومات صدر الدين عمر بن عبد المحسن بن رزين الشافعي، في ليلة الأحد سادس عشر المحرم، وكان من أجل خلفاء الشافعية بديار مصر.
ومات الشيخ زين الدين عمر بن مسلم بن سعيد بن عمر بن بدر بن مسلم القرشي الدمشقي الشافعي الواعظ؛ لم يجلس للوعظ حتى حفظ أربعين مجلساً.
وبرع في الحديث والفقه والتفسير. وقدم القاهرة ووعظ بها، وحصل له القبول التام. ومولده في شعبان سنة أربع وعشرين وسبعمائة. ومات بدمشق في الاعتقال، بسبب ولده القاضي شهاب الدين أحمد.
ومات فتح الدين أبو بكر محمد بن عماد الدين أبى إسحاق إبراهيم بن جلال الدين أبى الكرم محمد المعروف بابن الشهيد الدمشقي الشافعي، كاتب السر بدمشق. كان وافر الفضيلة، عالماً بالفنون، عارفاً في الأدب، مشاركاً في عدة علوم، مليح الكتابة، صحيح الفهم، رئيساً، عالي الرتَبة، رفيع المنزلة، له محاضرة لا تمل، نشأ بدمشق، وأخذ عن مشايخ عصره، وكتب في الإنشاء، ثم ولى كتابة السر بدمشق، ومشيخة الشيوخ، وتدريس الظاهرية، ونظم كتاب السيرة النبوية لابن هشام، وله نظم ونثر وتواليف مفيدة. مات بدمشق في ليلة التاسع والعشرين من شعبان.
ومات أخوه نجم الدين محمد في يوم الجمعة سادس ذي القعدة، ودفن على أخويه فتح الدين محمد، وشمس الدين محمد. وباشر توقيع الدست وكتابة سر طرابلس، وسيس وحماة. وأقام بسيس نحو عشرين سنة، ثم قدم إلى القاهرة حتى مات بها، عن نحو تسعين سنة.
ومات ناصر الدين محمد بن علي الطوسي، موقع الدست، في ثاني عشرين شوال، بحلب.
ومات الشيخ شمس الدين محمد بن يوسف بن محمد الزيلعي الحنفي، الرجل الصالح، في ثاني عشرين المحرم.
ومات أمين الدين محمد بن الحسن الأنفي المالكي، المحدث الفاضل. ومولده في شوال سنة ثلاث عشرة وسبعمائة، وسمع من البنديجي وغيره.
ومات قاضي القضاة شمس الدين محمد بن يوسف الركراكي المالكي، بحمص، في رابع عشر شوال.
ومات الشيخ تقي الدين محمد بن أحمد بن محمد بن حاتم، شيخ الحديث، في أول ذي القعدة.
ومات الشيخ المقرئ شمس الدين محمد بن محمد بن أَحمد العسقلاني، إمام جامع أحمد بن طولون، في حادي عشر المحرم، أخذ عن التقى الصايغ.(2/444)
ومات المهتار ناصر الدين محمد بن على الشيخي، في ليلة الثلاثاء أول ربيع الأول.
سنة أربع وتسعين وسبعمائة
أهل المحرم يوم الأربعاء: فيه قدم البريد بأن السلطان يدخل إلى غزة في ثالثه.
وفي حادي عشره: قدم البريد بنزول السلطان قطيا.
وفيه قدم الحريم السلطاني مع الطواشي بهادُر المقدم، فدقت البشائر، ونودي بالزينة، فشرع الناس فيها، وفي تبييض ظاهر البيوت بشارع القاهرة، وفي نصب القلاع.
وفي ثالث عشره: قدم البريد بالخروج إلى لقاء السلطان على بلبيس، فخرج الأمير كمشبغا، والأمير سودن النائب، وبقية الأمراء.
رفي يوم الأربعاء خامس عشره: نزل السلطان بالعكرشا، وأقام بها إلى ليلة الجمعة، ثم رحل، فخرج سائر الطوائف في يوم الجمعة إلى لقائه، وأقبل في موكب جليل حتى صعد قلعة الجبل، فكان يوما مشهوداً، خلع فيه على جميع الأمراء، وأرباب الوظائف بأسرهم.
وفي عشرينه: استقر أوناط في كشف الوجه البحري على عادته، وعزل شاهين الكلبكي.
وفي ثاني عشرينه: استقر دمرداش السيفي نائب الوجه البحري على عادته، وعزل أبو زلطة، واستقر طُرَقْجي في ولاية منوف على عادته، وعزل على بن محمد بن طاجار الشامي.
وفي خامس عشرينه: قدم البريد بموت الأمير بطا الطولوتمري، نائب دمشق.
وفي سابع عشرينه: استقر الأمير سودن الطرنطاي في نيابة دمشق، واستقر شهاب الدين أحمد بن عبد الله النحريري - قاضي طرابلس - في قضاء القضاة المالكية بالقاهرة ومصر، عوضاً عن الركراكي.
وفيه مات الأمير وزير الوزراء ناصر الدين محمد بن الحسام لاجين الصقري، بعد مرض طويل.
وفيه طلب السلطان الولاة المعزولين وهم: الأمير أيدمَرُ الذي يقال له أبو زلطة، وشاهين الكلفتي، وناصر الدين محمد بن حسن بن ليلى، وعلى بن محمد بن طاز، وأسَنبغا، وضرب أيدمُر بالمقارع، وسلمهم كلهم إلى والي القاهرة، ليدفعهم على حمل المال.
وفي يوم الاثنين ثاني عشر صفر: قبض على الأمير قرا دمرداش نائب حلب، وعلى الأمير ألطبغا المعلم نائب الإسكندرية، وسجنا بالبرج.
وخرج البريد بطلب تاج الدين عبد الرحيم بن الصاحب فخر الدين عبد الله بن الصاحب تاج الدين موسى بن أبي شاكر من الوجه القبلي، وقد توجه ليحضره، حتى يولى الوزارة، فلم يتم ذلك.
واستقر الأمير ركن الدين عمر بن الأمير ناصر الدين محمد بن قايماز، أستادار الأمير بيبرس - ابن أخت السلطان - في الوزارة، وخلع عليه في يوم الأربعاء رابع عشره. واستقر تاج الدين بن كحل في نظر الدولة، رفيقاًُ لشمس الدين المقسي.
وفي خامس عشره: قبض على الأمير قردم الحسني.
وفيه خلع على الشريف صدر الدين مرتضى بن غياث الدين إبراهيم بن صدر الدين حمزة الحسيني، بنظر القدس والخليل.
وفي تاسع عشره: أخرج الأمير قردم إلى غزة، بإمرة عشرة بها.
وفيه استقر الأمير العثماني أمير جاندار، بعد موت قطلوبغا الطَقتمُشي، وأفرج عن الأمير قطلوبغا الطشتمري الحاجب.
وفي ثماني عشرينه: استقر ناصر الدين محمد بن الأمير جمال الدين محمود الأستادار في نيابة الإسكندرية، عوضاً عن ألطنبغا المعلم. وقدم البريد بأن خمسة عشر من المماليك أتوا إلى باب قلعة دمشق مشاة، وشهروا سيوفهم وهجموا على القلعة، وأغلقوا بابها، وأخرجوا المنطاشية والناصرية من الحبس، وهم مائة رجل، وقتلوا نائب القلعة وجماعة معه، وأن الحاجب ركب بالعسكر وقاتلهم ثلاثة أيام حتى اقتحم عليهم القلعة، وأخذهم كلهم، إلا خمسة أنفس منهم، فإنهم فروا، ووسط الجميع.
وفي يومه: استقر صديق الكركي في ولاية الفيوم، وعزل أسَنْبُغا السيفي.
وفي يوم الاثنين ثالث ربيع الأول: برز الأمير سودن الطرنطاي نائب دمشق إلى الريحانية، بعدما لبس قباء السفر. ولبس أيضاً الأمير ناصر الدين محمد بن محمود الأستادار قباء السفر وتوجه إلى الإسكندرية.
وفيه سار الأمير حسن الكَجكَني إلى بلاد الروم بهمة، لخوند كار أبى يزيد بن عثمان.
وفي سادسه: استقر القاضي جمال الدين محمود العجمي في مشيخة الخانكاة الشيخونية ونظرها بعد وفاة الشيخ عز الدين يوسف الرازي.
وفي سادسه: قبض على الأمير ناصر الدين محمد بن عبد الله بن بَكنمُر الحاجب - صهر الأمير بطا - على مال يحمله.
وفيه رحل الأمير سودن نائب دمشق، ومعه الأمير بكتمر شاد الشراب خاناه، ليقتله بدمشق.(2/445)
وفي رابع عشره: تزوج السلطان بنت المعلم شهاب الدين أحمد الطولوني المهندس.
وفي خامس عشره: عزل قاضي القضاة عماد الدين أحمد الكركي نوابه، واقتصر منهم على خمسة فقط. وكان قد استكثر من النواب حتى زادوا على العشرين، فأنكر عليه السلطان ذلك، فصرفهم.
وفيه نقل علاء الدين على البيري مواقع الأمير يلبغا الناصري، ومحب الدين محمد بن محمد بن الشحنة قاضي الحنفية بحلب، من بيت الأمير جمال الدين محمود الأستادار إلى دار الأمير علاء الدين علي بن الطبلاوي والي القاهرة، وكان قد قبض عليهما بالشام، وحضرا مع السلطان في الترسيم، وأنزلا بدار الأمير محمود، فأكرمهما، وقام لهما. مما يليق بهما.
وفي سادس عشره: عزل قاضي القضاة شهاب الدين أحمد النحريري المالكي نوابه، وترك منهم خمسة على حالهم.
وفي سابع عشره: استقر زين الدين أمير فرج الحلبي في شد الدواوين، وكان والي القاهرة يتحدث في شد الدواوين منذ قبض على ناصر الدين محمد بن أقبغا آص.
وفي يوم السبت ثاني عشرينه: سافر إلى بلاده أبو الحجاج يوسف بن علي بن غانم، أمير العرب ببلاد المغرب، بعد ما حج، وأقام بالقاهرة أشهراً. واجتمع بالسلطان وألبسه كاملية حرير بطرز ذهب.
وفي رابع عشرينه: استقر الفخر عبد الرحمن بن مكانس وزيراً بدمشق.
وفيه قتل علاء الدين على البيري، ودفن خارج باب النصر.
وفي خامس عشرينه: أفرج عن المحب بن الشحنة.
وفي سادس عشرينه: أفرج عن ناصر الدين محمد بن بكتمر الحاجب، على أن يحمل مائتي درهم فضة.
وفي يوم السبت سابع ربيع الآخر: استقر تاج الدين عبد الرحيم بن الصاحب فخر الدين عبد الله بن أبي شاكر في نظر الديوان المفرد. واستقر منجك السيفي والي أشموم الرمان، وعزل ناصر الدين محمد بن الطويل. واستقر يلبغا مملوك مبارك شاه وافي الأشمونين، عوضاً عن محمد بن الأعسر. واستقر شرف الدين أبو البركات موسى بن محمد بن جمعة الأنصاري في قضاء القضاة الشافعية بحلب، عوضاً عن ناصر الدين محمد بن الخطب شمس الدين محمد بن خطيب نقيرين. وأنعم على الأمير قديد بتقدمة ألف، عوضاً عن قُطْلوبُغا الصفوي بعد موته. وأنعم على بلاط المنجكي بإمرة عشرة، واستقر يَلبغا الظاهري نائب الوجه القبلي على عادته.
وفي سادس عشره: أعيد نظر الجامع الطولوني إلى قاضي القضاة عماد الدين أحمد الكركي، وكان قد استقر فيه الأمير قطلوبغا الصفوي مدة.
وفي ثاني عشرينه: استقر الأمير قطلوبغا الأسنقجاوي أبو درقة في ولاية أسوان، عوضاً عن الصارم إبراهيم الباشقردي.
وفي ثالث عشرينه: قتل الأمير أيدكار العمري، وقراكسك، وأرسلان اللفاف، وصنجق، وأرغون شاه.
وفي خامس عشرينه: أعيد النجم محمد الطنبدي إلى حسبة القاهرة، وصرف بهاء الدين محمد بن البرجي.
وفيه رسم السلطان للأمير أبى يزيد الدوادار، والقاضي بدر الدين محمد بن فضل اللّه كاتب السر، بالتحدث في أوقاف الحرمِين، وأن يسترفع حسابها شمس الدين نصر اللّه ابن شظية - مستوفي ديوان المرتجع - فوُكِّل بمباشري أوقاف الحرمين، وألزموا برفع حساب عشر سنين، وألزم مباشرو موادع الحكم بعمل حساب الأيتام، وذكر الترك المهملة، ورسم على أمناء الحكم وجباة الأوقاف.
وفيه أضيف إلى الأمير مبارك شاه كشف الفيوم والبهنسا والأطفيحية، مع كشف الجيزة.
وفي أول جمادى الأولى: أحضرت عدة رؤوس من المسجونين بالإسكندرية من الأمراء. واستقر أبو بكر بن بدر في ولاية البهنسا، عوضاً عن شرف الدين بن طي الدهروطي.
وفي تاسع عشره: استقر الأمير كُمُشبغا الحموي أتابك العساكر بعد موت الأمير الكبير أينال اليوسفي، وتحدث في نظر المارستان المنصوري على العادة. واستقر الأمير أيتمش البجاسي رئيس نوبة النوب.
وفي ثالث رجب: قدم البريد بقتل منطاش، ولم يصح.
وفي حادي عشره: تجمع عدة من المماليك السلطانية على الأمير جمال الدين محمود الأستادار عند نزوله من القلعة، وسبّوه، ورجمه بعضهم من أعلى القلعة بالحجارة، وشهروا دبابيسهم ليقتلوه، وكان قريباً من بيت الأمير أيتمش. فلما بلغه ذلك ركب بنفسه ليخلصه، ففر أكثر المماليك منه، وثبت بعضهم. فما زال بهم يدافعهم عنه بالرفق حتى انصرفوا عنه. وسار به إلى بيتَه حتى سكنت الفتنة، وشيعه في مماليكه إلى داره.(2/446)
وفي يوم الخميس رابع عشره: استقر تاج الدين عبد الرحيم بن أبي شاكر في الوزارة، عوضاً عن الركن عمر بن قايماز. واستقر ابن قايماز أستاداراً، عوضاً عن الأمير محمود، بعدما أنفق من ماله ستمائة ألف درهم في تكفية ديوان الوزارة، ذهبت عليه ولم يتعوض عنها، واستقر الأمير محمود عَلَى إمرته، وخُلع على الثلاثة.
وفي ثامن عشره: أعيد الشهاب الفرجوطي إلى ولاية قوص، وعُزل محمد بن العادلي.
وفي ثالث عشرينه: استقر كريم الدين عبد الكريم ابن المعلم أفسح في نظر الإسطبلات، بعد أن تعطلت مدة من ناظر.
وفي خامس عشرينه: استقبل الصارم إبراهيم الباشقردي في ولاية منوف.
وفي تاسع عشرينه: بُشّر بزيادة النيل، وأن القاع سبعة أذرع، وعشرون إصبعاً.
وفيه حضر الشريفان عنان بن مغامس وعلي بن جلان - أميرا مكة - باستدعاء، ودخلا على السلطان في يوم الاثنين ثالث شعبان. فأجلس السلطان ابن عجلان - مع صغر سنه - فوق عنان، مع شيخوخته.
وفي ثاني عشره: قبض على الصاحب كريم الدين عبد الكريم بن مكانس من داره بدلالة بعض النصارى عليه، وسلم لوالي القاهرة، فوكل به من يحفظه في داره.
وفي ثالث عشره: استَقر الغرس خليل الشرفي والي أشموم الرمان، وصرف منجك.
وفي ثامن عشرينه: ابتَدأ بالسلطان مرض لزم منه الفراش.
وفي يوم الاثنين أول شهر رمضان: استقر الأمير كُمُشبغا الخاصكي الأشرفي نائباً بدمشق، بعد موت سودن الطرنطاي.
وفي خامسه: نودي بزينة القاهرة لعافية السلطان من مرضه، فزينت.
وفي سادسه - وهو ثالث مسري: - أوفي النيل ستة عشر ذراعاً، فنزل السلطان إلى المقياس وفتح الخليج على العادة.
وفي عاشره ورد البريد بمحاربة عسكر حلب لمنطاش، وفراره، وأنه عدى الفرات، وقبض على عدة من أصحابه.
وفي حادي عشره: خلع على الشريف علي بن عجلان، واستقر أميراً بمكة وحده من غير شريك له، وخلع على الشريف عنان والشريف علي بن مبارك، خلعتي إنعام. ولبس كمشبغا نائب دمشق قباء السفر، وسار وطُلبه بتجمل عظيم، قاد فيه سبعين جنيباً من الخيل.
وفي ثالث عشره: قُلعت الزينة.
وفي خامس عشره: نزل السلطان من القلعة إلى القاهرة، وصعد إلى مدرسته بخط بين القصرين، وزار أباه، وعاد.
وفيه أنعم على الأمير تغري بردى من كشمبغا بتقدمة ألف، وأنعم بطبلخاناته على الأمير قلمطاي العثماني. وأنعم على حادي خجا بإمرة عشرين.
وفيه أعيد الأمير محمود إلى الأستادارية، عوضاً عن الركن عمر بن قايماز.
واستقر ابن قايماز هن جملة أمراء الطبلخاناه.
وفي سادس عشره: استقر بدر الدين محمد بن الطوخي في الوزارة بدمشق، عوضاً عن الفخر عبد الرحمن بن مكانس. وخرج البريد بإحضاره من دمشق في الترسيم، هو وابنه مجد الدين فضل اللّه وأخوه نصر اللّه.
وفي ثاني عشرينه: قدم البريد بوقوع الحريق في دمشق، يوم السبت حادي عشرين شعبان، بجوار جامع بنى أمية، تلف فيه شيء كثير جداً.
وَفي هذا الشهر: وقع وباء في البقر، حتى أبيعت البقرة بعشرين بعد ما كانت تباع بخمسمائة درهم. ثم فحش الموت فيهن، فأبيعت البقرة بخمسة دراهم، وترك الناس أكل لحم البقر، استقذاراً له. وعم الوباء في البقر أرض مصر كلها، ففنى منها ما لا يقع عليه حصر.
وفي يوم الاثنين سادس شوال: استقر ناصر الدين محمد الضاني في ولاية منفلوط وعزل على بن غَلْبَك.
وفي سابعه: استقر أحمد الأرغوني في ولاية دمياط وعزل أبو بكر بن بدر.
وفي ثامن شوال: استقر القاضي بدر الدين الأقفهسي في نظر الدولة، وعزل ابن شيخ. واستقر ناصر الدين مؤمن في ولاية قليوب، وعزل قطلوبغا الصفوي. واستقر علاء الدين على الطشملاقي والي قطيا. وعزل حسام الدين حسن المؤمني أمير آخور.
وفيه أنعم على الشريف علي بن عجلان أمير مكة بأربعين فرساً، وعشرة مماليك من الأتراك، وثلاثة آلاف أردب قمحاً، وألف أردب شعيراً، وألف أردب فولاً، وحمل على فرش بقماش ذهب، ورسم له أن يستخدم مائة فارس من الترك، يسير بهم إلى مكة.
وفيه قبض على تاج الدين بن كحل، وسلم لشاد الدواويِن على مال يحمله.
وفي خامس عاشره: عزل شيخ الشيوخ المعروف بشيخ الإسلام أصلم بن نظام الدين الأصفهاني، وسلم لشاد الدواوين على حمل مائتي ألف درهم.(2/447)
وذلك أن السلطان لما اختل أمره بحركة الأمير يلبغا الناصري ومسيره إلى القاهرة، همَّ الملك الظاهر بالهرب، وأعطى شيخ الشيوخ هذا خمسة آلاف دينار، وواعده أن ينزل إليه ويختفي عنده، فلم يِف له بذلك، وغيب عنه فاختفي السلطان عند أبي يزيد كما ذكر. فلما عاد إلى الملك طلب منه الخمسة آلاف دينار على لسان الدوادار، فقال " تصدقت بها على الفقراء " . فلما ألح الدوادار في مطالبته قال: " أعلم السلطان أني أجمع الفقراء من الزوايا والربط وألزمهم بإعادة ما تصدقت به عليهم، وأقول لهم إن لسلطان قد عاد في صدقته فإنه لم يدفع هذا المالإلي إلا لأتصدق به، لا أنه وديعة عندي " .
فلما أعاد الدوادار على السلطان هذا القول أسرها في نفسه، وَصبر كعادته حتى وقف إليه من ادعى أن تاجراً ترك عند شيخ الشيوخ عدة أحمال، فيها ثياب ليسافر بها من غير مكر فأمر بطلبه من خانكاه سرياقوس. فلما وقف مع غريمه اعتذر، فقال بعض من حضر أنه مكتوب في يده سحر يسحر به السلطان، فعزله من المشيخة، وتسلمه شاد الدواوين.
وفي سادس عشره: استقر ناصر الدين محمد بن ليلى في نقابة الجيش، وعزل أسندمر.
وفي تاسع عشره: استقر الشريف فخر الدين ناظر المارستان في مشيخة الشيويخ بخانكاة سرياقوس.
وفي عشرينه: استقر جمال الدين محمود العجمي في نظر الجيمش، عوضاً عن كريم الدين عبد الكريم بن عبد العزيز، مع ما بيده من قضاء القضاة الحنفية، ومشيخة الشيخونية، ولم يقع مثل ذلك بدولة الأتراك في مصر.
واستقر قطلوبغا القشتمري الحاجب في كشف الوجه البحري، وعزل قطلوبغا وعزل أوناط.
وفي خامس عشرينه: سار الشريف علي بن عجلان بعسكره إلى مكة، ومنع الشريف عنان من السفر، ورتب له في كل يوم ما يقوم به.
وفي سادس عشرينه: نودي بزيادة النيل ثلاثة أصابع من عشرين ذراعاً.
وفي سابع عشرينه: استقر الأمير تاني بك اليحياوي أمير أخور، عوضاً عن الأمير بكلمش العلاي، واستقر بكْلَمِش أمير سلاح.
وفي سلخه: نودي بخروج القطعان الذين قطعت أيديهم في السرقات، والبرصان، والجذماء، من القاهرة وظواهرها، وهمد من أقام منهم بالتوسيط.
وفي يوم الجمعة أول ذي القعدة - وهو ثالث عشرين توت - : انتهت زيادة النيل إلى اثني عشر إصبعاً من عشرين ذراعاً، وثبت إلى سابع بابه، ثم انحط بعد ما بلغ عشرين إصبعاً من عشرين ذراعاً.
وفي رابعه: أعيد مبارك شاه إلى نيابة الوجه القبلي، وعزل يلبغا الأسعدي. واستقر حسام الدين المؤمني أمير أخور في ولاية الجيزة.
وفي سابعه: أعيد بهاء الدين محمد البرجي إلى حسبة القاهرة، وعزل النجم محمد الطنبدي، وأذن له في الحكم عن قاضي القضاة الشافعي.
وفي تاسعه: سار السلطان إلى سرحة سرياقوس، ونزل بالقصور على العادة.
وفي عاشره: عفي عن القطعان من النفي.
وفي ثالث عشره: قدم ناصر الدين أحمد التنسي من الإسكندرية باستدعاء، واستقر في قضاء القضاة المالكية. وعزل الشهاب أحمد النحريري، ودخل إلى القاهرة من سرياقوس بالتشريف.
وفي سادس عشره: قبض بسرياقوس على ستة مماليك، وحملوا في الحديد إلى والي القاهرة، من أجل أنهم ارتكبوا الفاحشة بصبي حتى مات.
وفي ثامن عشره: عزل المقدم محمد بن عبد الرحمن وألزم بحمل مائتي ألف درهم، واستقر عوضه في تقدمة الدولة تنيتين. واستقر محمد بن عبد الرحمن في تقدمة الخاص، وشرع في حمل ما قرر عليه للوزير.
وفيه قتل الأمير قرا دمرداش، والأمير طغاي تمر - نائب سيس - في عدة من الأمراء.
وفيه استقر تقي الدين أبو محمد بن قاضي القضاة جمال الدين أبى المحاسن يوسف ابن قاضي القضاة شرف الدين أبي العباس أحمد بن الحسين بن سليمان بن فزارة الكفري، في قضاء الحنفية بدمشق، عوضاً عن نجم الدين محمود بن الِكشْك. واستقر البرهان إبراهيم التادلي في قضاء المالكية بدمشق، واستقر عمر بن إلياس أخي قرط في ولاية منفلوط.
وفي خامس عشرين ذي الحجة: قدم مبشرو الحاج، وأخبروا بالسلامة والأمن، وتسلم على بن عجلان مكة، وأنه غرق بجدة نحو الثلاثين مركباً من ريح عاصف. واستقر شرف الدين مسعود في قضاء الشافعية بطرابلس، عوضاً عن ناصر الدين محمد ابن كمال الدين المعري.
وفي سابع عشرينه: أمر قاضي القضاة عماد الدين أحمد الكركي الشافعي بلزوم بيته، وألا يحكم.(2/448)
وفي هده السنة: ضرب الأمير محمود الأستادار بالإسكندرية فلوساً ناقصة العيار عن الفلوس التي يتعامل بها الناس في ديار مصر.
وفيها استقر الأميران شمس الدين محمد بن الأمير زين الدين قارا بن مهنا، وزين الدين رقيبة بن الأمير ركن الدين عمر بن موسى بن مهنا الشهير بعمر المصمع.
وفي هذه السنة: خرج جماعة من بلاد المغرب يريدون أرض مصر لأداء فريضة الحج، وساروا في بحر الملح، فألقتهم الريح إلى جزيرة صقلية ، فأخذهم النصارى وما معهم، وأتوا بهم إلى ملك صقلية، فأوقفهم بين يديه وسألهم عن حالهم، فأخبروه أنهم خرجوا يريدون الحج، فألقاهم الريح إلى هنا، فقال: " أنتم غنيمة قد ساقكم الله إلي " وأمر بهم أن يقيدوا حتى يباعوا ويستخدموا في مهنهم، وكان من جملتهم رجل شريف، فقال له على لسان ترجمانه: " أيها الملك إذا قدم عليك ابن ملك ماذا تَصنع به؟ " قال: " أكرمه " قال: " وإن كان على غير دينك؟ " . قال: " وما كرامته إلا إذا كان على غير ديني، وإلا فأهل ديني واجب كرامتهم " قال: " فإني ابن أكبر ملوك الأرض " ،. قال: " ومن أبوك؟ " ، قال: " علي بن أبى طالب رضى الله عنه " . قال: و لم لا. قلت: أبى محمد - صلى الله عليه وسلم - قال: " خشيت أن تشتموه " . قال: " لا نشتمه أبداً " . قال: " بيَّنْ لي صدق ما ادعيت به " ، فأخرج له نسبته - وكانت معه في رق - فأمر بتخليته وتخلية من معه لسبيلهم، وجهزهم. ثم بلغه أن بعض النصارى من أجناده بال على هذا الشريف، فأمر به فأحرق، وشهر في بلده. ونودي عليه: " هذا جزاء من يشتم الملوك " ، فإنه كان شتم أبا الشريف أيضاً.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر من الأعيان
سوى من قتل من الأمراء: شهاب الدين أحمد الدَّفري، أحد نواب القضاة المالكية بالقاهرة، في ثاني عشر ذي القعدة.
ومات شهاب الدين أحمد بن محمد بن علي الدّنيسري، المعروف بابن العطار، الشاعر، في سادس عشرين ربيع الآخر.
ومات الأمير الكبير أينال اليوسفي، أحد المماليك اليلبغاوية، في رابع عشر جمادى الآخرة. كان أينال شرس الأخلاق، شجاعاً.
ومات الأمير سيف الدين بُطا الطولوتمري، أحد المماليك الظاهرية برقوق، ونائب الشام في حادي عشرين المحرم بدمشق.
ومات الأمير سيف الدين تلكتمر. تنقل في الخدم حتى أنعم عليه الملك الأشرف شعبان بن حسين، وبعد واقعة الأمير أسندمر بإمرة مائة. واستقر رأس نوبة كبيراً في تاسع عشر صفر سنة تسع وستين وسبعمائة. ثم صار أمير مجلس في خامس عشر رمضان منها، ثم نقل من ذلك وصار أستاداراً في حادي عشر المحرم سنة إحدى وسبعين، عوضاً عن علم دار المحمدي. ثم أخرج إلى صفد في ثالث ربيع الآخر منها، واستقر نائبها. ثم أحضر إلى القاهرة بعد قليل، وأنعم عليه بإمرة مائة. فلما كان في صفر سنة خمس وسبعين، استقر حاجب الحجاب مدة، ثم تعطل ولزم داره، حتى مات في حادي عشرين ربيع الآخر.
ومات الأمير سودُن الطرنطاي نائب دمشق بها، في شعبان.
ومات الشيخ المعتقد طلحة المغربي المجذوب، في رابع عشر شوال بمدينة مصر. وكانت جنازته مشهورة، ودفن خارج باب النصر، وهو أحد من أوصى الملك الظاهر عند موته بدفنه تحت أرجلهم.
ومات صدر الدين عبد الخالق بن علي بن الحسن بن عبد العزيز بن محمد بن الفرات المالكي، موقع الحكم، أخذ الفقه عن الشيخ خليل، وكتب على غازي، وبرع في الفقه والكتابة. ومات في ثالث عشرين جمادى الآخرة.
ومات الشيخ عز الدين يوسف بن محمود بن محمد الرازي العجمي الحنفي الأصم، شيخ الخانكاة الركنية بيبرس، ثم شيخ الخانكاة الشيخونية، ومات في ثالث عشرين المحرم، وقد أناف على السبعين.
ومات القاضي جمال الدين عبد اللّه بن الفيشي المالكي، أحد نواب القضاة المالكية بالقاهرة. وكان نقيباً للقضاة، ثم تولى الحكم، ورتب درساً بالجامع الأزهر، وأجرى عليه وقفاً. ومات في العشرين من ربيع الأول بعد أن ابتلى بالجذام عدة سنين، وهو يباشر الحكم.(2/449)
ومات الشريف عبد الرحمن بن عبد الكافي بن علي بن عبد الله بن عبد الكافي بن قريش بن عبد الله بن عياد بن طاهر بن موسى بن محمد بن قاسم بن موسى الجليس بن إبراهيم بن طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبى طالب الطباطبي، المؤذن، في ثامن شوال، وكان قد حظي عند السلطان وتمكن منه. حدثني شمس الدين محمد بن عبد الله العمري - موقع الدست - قال: كنت في خدمة جمال الدين محمود العجمي قاضي القضاة، وناظر الجيش، فركب يوماً وأتى معه إلى دار الشريف عبد الرحمن هذا، فتلقاه وأدخله إلى داره، واستعظم مجيئه إليه، فبالغ محمود في التأدب معه، وقال له: " يا سيد، أنا أستغفر الله مما وقع مني " . فقال: " وما الخبر يا سيدي " قال: " ما دخلت البارحة إلى السلطان، وجئت أنت وجلست فوقي، أنفت من هذا في سري، وقلت: كيف يجلس هذا فوقي؟، ومحلي من الدولةَ ما قد عرف، وشق عليَّ ذلك، وقمت ولم يشعر أحد من خلق الله بشيء من ذلك، بل كان مما حدثت نفسي. فلما نمت رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم وهو يقول لي: " يا محمود تستقل ابني أن تجلس تحته " ، فاستغفرت مما وقع مني، وقد جئتك ثانياً بما خطر لي، وأسألك الدعاء " . قال: " فبكى الجميع " ، وكانت ساعة عظيمة.
ومات الأديب الوزير فخر الدين عبد الرحمن بن شمس الدين عبد الرزاق بن علم الدين إبراهيم بن مكانس القبطي، ناظر الدولة بديار مصر، ووزير دمشق. مات في خامس عشر ذي الحجة.
ومات علاء الدين علي بن عيسى بن موسى بن عيسى بن سليم بن حميد الأزرقي المقيري الكركي، كاتب السر، في أول ربيع الأول، ودفن خارج باب النصر من القاهرة.
ومات علاء الدين علي بن عبد الله بن يوسف البيري الحلبي، الأديب، الشاعر، المنشئ، الكاتب، في رابع عشرين ربيع الأول، مخنوقاً.
ومات الأمير عنقاء بن شطي أمير آل مرا، قتله الفداوية في رابع المحرم.
ومات الشريف علي بن الشريف شجاع الدين عجلان أمير مكة.
ومات الأمير سيف الدين قطلوبغا الصفوي، حاجب الحاجب، في أول ربيع الآخر. ومات الأمير قطلوبغا الطقتمشي، أحد أمراء العشراوات في عاشر صفر.
ومات الشيخ بدر الدين محمد بن بهاء الدين عبد الله المنهاجي الزركشي، الفقيه الشافعي، ذو الفنون والتصانيف المفيدة، في ثالث رجب. سمع الحديث وأفتى ودرس. ومات الشيخ المعتقد أبو عبد اللّه محمد الركراكي المغربي، في ثاني عشر جمادى الأولى، وقد قارب المائة سنة. وهو ممتع حتى بالنساء.
ومات شمس الدين محمد بن إسماعيل أمين الملك الحلبي الحنفي الأعور أحد نواب القضاة الحنفية بالقاهرة، في رابع شوال.
ومات الشيخ المحدث بدر الدين محمد بن محمد بن مجير، المعروف بابن الصايغ، وابنالمشارف، في ثالث ربيع الآخر.
ومات الأمير الوزير ناصر الدين محمد بن الأمير حسام الدين لاجين، الصقري المنجكي، في ثاني عشر صفر بمرض طويل، من غير أن ينكب.
ومات جمال الدين محمود بن حافظ الدين محمد بن تاج الدين إبراهيم بن شنبكي بن أيوب بن قراجا بن يوسف القيصري، المعروف بابن الحافظ الحنفي، قاضي الحنفية بحلب، وكان فاضلاً، جليل القدر، عفي عنه.
سنة خمس وتسعين وسبعمائة
أهل المحرم يوم الأحد: ففي ثانيه أعيد صدر الدين محمد بن إبراهيم المناوي إلى قضاء القضاة الشافعية بديار مصر، عوضاً عن العماد أحمد الكركي، ونزل بالتشريف من قلعة الجبل إلى المدرسة الصالحية على العادة، وبين يديه عالم عظيم، منهم الأمير أبو يزيد الدوادار، وبدر الدين محمد بن فضل الله كاتب السر، ورأس نوبة، وحاجب الحجاب.
وفيه استقر علاء الدين على بن غلبك بن المكللة في كشف الفيوم والبهنسا والأطفيحية، عوضاً عن طيبغا الزيني.
وفي تاسعه: قبض على الوزير الصاحب تاج الدين عبد الرحيم بن أبى شاكر وتسلمه أمير فرج شاد الدواوين؛ ليعاقبه على المال. وأعيد موفق الدين أبو الفرج إلى الوزارة.
وفي حادي عشره: قرئ تقليد قاضي القضاة صدر الدين محمد المناوي بمدرسة السلطان.
وفي ثالث عشره: قدم البريد بموت الأمير كمشبغا الخاصكي نائب دمشق فاستقر عوضه تاني بك الأمير، المعروف بتنم الحسني أتابك دمشق، وأنعم بإمرته على فخر الدين إياس الجرجاوي نائب طرابلس. ونقل دمرداش المحمدي نائب حماة إلى نيابة طرابلس. واستقر أقبغا الصغير في نيابة حماة.(2/450)
وفيه استقر حسن المؤمني والي الجيزة في ولاية قطا، وعزل على الطشلاقي واستقر على بن قراجا في ولاية الجيزة.
وفي يوم الخميس رابع صفر: استقر أسَنْبُغا السيفي في ولاية قوص.
وقدم الخبر من الحجاز بأن جنتمر التركماني أمير ركب الشام هجم على أشراف المدينة النبوية ليأخذ منهم صقراً يصطاد به، وفهداً، فدافعوه، وقتل منهم شريفين. وكادت الحرب تقع لولا ركب الأمير ثابت بن نعير أمير المدينةَ، وكف عن القتال. وأن الشريف علي بن عجلان قبض على سبعين من بني حسن بمكة.
وفيه استقر محمد في ولاية قطيا، وعزل حسن المؤمني.
وفي تاسع عشرين جمادى الأول: قدم محمد بن قارا، ومملوك نائب دمشق على البريد، بأن منطاش ونعر أمير العرب. وابن بزدغان التركماني، وابن أينال التركماني، حضروا في عساكر كثيرة جحا إلى سلمية، فلقيهم محمد بن قارا على شيزر بالتراكمين، فقاتلهم، فقتل ابن بزدغان، وابن أينال وجرح منطاش وسقط عن فرسه، فلم يعرف لأنه حلق شاربه ورمى شعره، ثم أنه أدركه ابن نعير وأردفه خلفه، وانهزم بعد أن قتل من الفريقين عالم كبير. وحُملت رأس بن بزدغان وابن أينال إلى دمشق، وعلفتا على قلعتها.
وفيه استقر يلبغا الزيني في ولاية الأشمونين، وعزل محمد بن الأعسر.
وفي سلخه: استقر الحاج سلطان مهتار الركاب خاناه، وعزل المهتار خليل بن أحمد بن الشيخي.
وفي يوم الأربعاء ثالث جمادى الآخرة: قبض على الشريف عنان بن مغامس، وسجن بالبرج في القلعة.
وقدم الخبر بموت الطواشي زين الدين مقبل الرومي الشهابي، شيخ الخدام بالمسجد النبوي، فكتب باستقرار الطواشي زين الدين مسرور الحبشي البشتكي الناصري، عوضه.
وفي ثامنه: قدم البريد بأن نعير بن حيار ومنطاش، كبسا حماه في عسكر كبير، فقاتلهم نائبي حماه وطرابلس، فانكسرا، ونهبت حماه، وأن جلبان نائب حلب سار بعسكر إلى أبيات نعير عندما بلغه ذلك، وأخذ ما قدر عليه من المال والخيل والجمال والنساء والأطفال، وأضرم النار فيما بقي، وأكمن كميناً، فما هو إلا أن سمع نعير بما نزل ببيوته رجع إليها بجمائعه، فخرج الكمين وقتل من العربان وأسر كثيراً، وقتل من عسكر حلب نحو المائة فارس، وعدة من الأمراء.
وفي عاشره: أفرج عن الأمير ألطنبغا المعلم، ونفي إلى دمياط، وأفرج عن الأمير قطلوبغا السيفي الحاجب في أيام منطاش.
وفي رابع عشره: قدم البريد بموت الأمير يلبغا الأشقتمري نائب غزة.
وفي خامس عشره: استقر الأمير علاء الدين ألطنبغا العثماني في نيابة غزة.
وفي تاسع عشرينه: استقر الحسام حسن صهر أبي عرقة في ولاية أسوان، وعزل إبراهيم الشهابي.
وفي يوم الخميس ثالث رجب: استقر الأمير قَلَمْطاي دواداراً، بعد وفاة أبى يزيد.
وفي رابع عشره: توجه ألطنبغا العثماني إلى نيابته بغزة، وأنعم على تمراز الناصري رأس نوبة بطبلخاناه العثماني، وأنعم على شرف الدين موسى بن قماري أمير شكار بعشرة تمراز، زيادة على عشرته.
وفي عشرينه: ابتدأ بالسلطان وعك اشتد به، وأفرط عليه الإسهال الدموي، وكثر الإرجاف إلى سادس عشرينه. وأبل من مرضه، فنودي بالزينة، فزينت القاهرة ومصر، وجلس للحكم بين الناس في يوم الأحد سابع عشرينه على عادته. وركب من الغد وشق القاهرة من باب النصر، وخرج من باب زويلة إلى بيت الأمير الكبير أيتمش، ودخل إليه يعوده من مرض به، وركض إلى القلعة.
وفيه قبض على الأمير ناصر الدين محمد بن محمد بن أقبغا آص، كاشف الجيزة، وضرب بالمقارع؛ لشكوى الفلاحين منه، وسلم لابن الطبلاوي والي القاهرة.
وفيه استقر الأمير يلبغا الأحمدي الظاهري - المعروف بالمجنون - في كشف الوجه البحري، وعزل قطْلُوبُغا الطشتمري، واستقر في كشف الجيزية، عوضاً عن ابن أقبغا آص.
وفي رابع شعبان: نقل ابن أقبغا آص من بيت ابن الطبلاوي إلى الأمير جمال الدين محمود الأستادار ليأخذ منه مائة ألف درهم، فوقف عدة من الفلاحين إلى السلطان في يوم الأحد سابعه، وشكوا منه أموراً قبيحة من أخذ نسائهم، وأولادهم، وفجوره بهم، وحاققوه في وجهه على ذلك، وعلى أموال أخذها منهم، فضرب بالمقارع وسلم إلى والي القاهرة ليخلص منه أموال الفلاحين، فضربه أيضاً بحضرة أخصامه.
وفي ثامنه: أخذ قاع النيل، فكان ستة أذرع، واثني عشر إصبعاً.(2/451)
وفيه استقر أوناط اليوسفي نائب الوجه البحري، وكاشف البحيرة، وواليها. وعزل دمرداش السيفي، وأعيد محمد بن حسن بن ليلى إلى ولاية قطا، بعد موت محمد بن أشقتمر. واستقر أسندمر العمري نقيب الجيش بعد أن كان في ولاية بلبيس، وعزل على بن الطشلاقي.
وفي ثاني عشرينه: استقر برهان الدين إبراهيم بن نصر الله في قضاء القضاة الحنابلة بالقاهرة ومصر، بعد وفاة أبيه قاضي القضاة ناصر الدين.
وفي سابع عشرينه: قدم عامر بن ظالم بن حيار بن مهنا - ولد أخي الأمير نعير - مغاضباً لعمه، فأقبل السلطان عليه وأجلسه، وخلع عليه.
وقدم البريد من دمشق بوصول أبى بكر وعمر ولدي نعير، مفارقين لأبيهما، ومعهما عدة من أكابر عربانه.
وفي تاسع عشرينه: قدمت رسل القان طَقْتمش خان ملك الدشت.
وفي يوم الاثنين ثالث رمضان: قدم البريد من حلب بقبض منطاش، وذلك أن الأمير جلبان نائب حلب لم يزل يبذل جهده في أمر منطاش، حتى وافقه الأمير نعير على ذلك. وكان في طول هذه المدة مقيماً عنده ويغزو معه، فبعث جلبان شاد شراب خاناته كمشبغا إلى نعير في خمسة عشر فارساً، بعدما التزم له بإعادة إمرة العرب إليه. فلما قرب من أبيات نعير نزل وبعث يأمره بقبضه، فندب نعير أحد عبيده إلى منطاش يستدعيه إليه، فأحس بالشر، وهم بالفرار، فقبض العبد عنان فرسه وأدركه عبد آخر، وأنزلاه عن فرسه وأخذا سيفه، فبدر إلى سكين معه ضرب نفسه بها أربع ضربات، وأغشى عليه، وحمل إلى كمشبغا ومعه فرسه وأربع جمال، فسار به إلى حلب في أربعمائة فارس من عرب نعير. فكان لدخوله يوماً مشهوداً، وسجن بقلعتها. فسر السلطان بذلك سروراً عظيماً، وأنعم على كمشبغا الواصل بالبشرى بخمسة آلاف درهم، وقباء مطرز بنصب، وتقدم إلى سائر الأمراء بخلعهم عليه، ودقت البشائر، ونودي بالزينة فزينت القاهرة ومصر، ونودي من الغد بأن منطاش قد قبض عليه.
وفي خامسه: قرئ تقليد قاضي القضاة برهان الدين إبراهيم الحنبلي على العادة.
وفيه توجه الأمير سيف الدين طولو من علي باشا - أحد العشراوات - على البريد لإحضار منطاش، فسار إلى حلب، وعصره ليقر فلم يعترف بشيء، ثم ذبح، وحملت رأسه على رمح وطيف بها حلب، وسائر مدن الشام، حتى قدمت قلعة الجبل صحبة طُولُو في يوم الجمعة حادي عشرينه، علقت على باب القلعة، ثم طيف بها - على رمح - القاهرة ومصر، وعلقت على باب زويلة ثلاثة أيام. ثم حطت وسلمت إلى زوجته أم ولده. فدفنت في سادس عشرينه.
وفيه قلعت الزينة، وخرج يَلبغَا السالمي على البريد إلى الأمير نعير.
وفي هذا الشهر: هجم الفرنج على ناحية نَسْتَراوه في أربعة غربان، وسبوا ونهبوا، وأقاموا ثلاثة أيام.
وفي تاسع عشرينه: أوفى النيل ستة عشر ذراعاً، وافقه سادس عشر مسري فركب السلطان إلى المقياس، وفتح الخليج على العادة.
وقدم رسل متملك دهلك بفيل وزرافة، وعدة من الجواري والخدم، وغير ذلك.
وفي يوم الاثنين سادس عشر شوال: خرج المحمل إلى الحجاز مع الأمير سيف الدين فارس من قطلو شاه، أحد أمراء الطبلخاناه.
وفيه ابتدأ الناس في العمارة على الكبش، فبنوا الدور والأصطبل.
وفي تاسع عشره: قدم رسول الملك الظاهر مَجْد الدين عيسى - صاحب ماردين - بأن تَيْمور لنك أخذ تبريز، وبعث إليه يستدعيه إلى عنده بها، فاعتذر بمشاورة السلطان مصر، فلم يقبل منه وقال: " ليس لصاحب مصر عليك حكم، ولأسلافك دهر بهذا لأقليم " ، وأرسل إليه خلعة، وصكة ينقش بها الذهب والدنانير.(2/452)
وفيه قدم رسول صاحب بسطام بأن تيمور قتل شاه منصور متملك شيراز، بعث برأسه إلى بغداد، وبعث بالخلعة والصكة إلى السلطان أحمد بن أويس متملك بغداد، فلبس الخلعة وضرب الصكة. ثم أن تيمور مَلَكَ بغداد في يوم السبت حادي عشرينه، وذلك أن ابن أويس كان قد أسرف في قتل أمراء دولته، وبالغ في ظلم رعيته، وانهمك في الفجور، فكاتب أهل بغداد تيمور، بعد استيلائه على تبريز، يحثونه على المسير إليهم، فتوجه إليها بعساكره حتى بلغ الدربند، وهو عن بغداد مسيرة يومين. فبعث إليه ابن أويس بالشيخ نور الدين الخراساني، فأكرمه تيمور وقال: " أنا أترك بغداد لأجلك " . ورحل يريد السلطانية، فبعث الشيخ نور الدين كتبه بالبشارة إلى بغداد، وقدم في إثرها. وكان تيمور قد سار يريد بغداد من طريق أخر فلم يشعر ابن أويس - وقد اطمأن - إلا تيمور قد نزل غربي بغداد، قبل أن يصل إليها الشيخ نور الدين، فدهش عند ذلك ابن أويس وأمر بقطع الجسر، ورحل بأمواله وأولاده وقت السحر من ليلة السبت المذكور. وترك البلاد فدخل إليها تيمور، وأرسل ابنه في إثر ابن أويس، فأدركه بالحلة، ونهب ماله، وسبى حريمه، وقتل وأسر كثيراً ممن معه. ونجا ابن أويس في طائفة، وهم عراة. فقصد حلب، وتلاحق به من تبقى من أصحابه.
وفي عشية يوم الجمعة. عشرينه - وهو أول توت - : أمطرت السماء بالقاهرة مطراً غزيراً، حتى خاض الناس في المياه، وهذا من غريب ما يحكى.
وفي يوم الخميس ثالث ذي القعدة: قدم البريد بأخذ تيمور بغداد.
وفي رابعه: قدم البريد بنزول ابن أويس الرحبة، في نحو ثلاثمائة فارس. وقدم كتابه وكتاب الأمير نعير، فأجيب اًحسن جواب، وكتب بإكرامه والقيام. مما يليق به، وتوجه إليه الأمير نعير، فعندما عاين ابن أويس نزل وقبل الأرض، وسار به إلى بيوته، وأضافه، ثم سيره إلى حلب، فقدمها ومعه أحمد شكر، ونحو الألفي فارس، فأنزله الأمير جلبان نائب حلب بالميدان، وقام له. مما يليق به. وكتب مع البريد إلى السلطان بذلك، وتشفع في الأمير نعير، وفي شكر أحمد. وكتب أيضاً ابن أويس يستأذن في القدوم، فجمع السلطان الأمراء للمشورة في أمر ابن أويس، فاتفقوا على إحضاره، وأن يخرج إلى مجيئه الأمير عز الدين اًزْدَشير ومعه ثلاثمائة ألف درهم فضة وألف دينار، برسم النفقة على ابن أويس.
وفي رابع عشرينه: ركب السلطان إلى مطعم الطور خارج القاهرة، وعاد من يومه.
وفي سادس عشرينه: توجه الأمير أزدمر على البريد، لإحضار ابن أويس.
وفيه سلم الصاحب تاج الدين عبد الرحيم بن أبي شاكر إلى والي القاهرة، فضربه بالمقارع، وبالغ في إهانته، وأخرجه نهاراً على حمار، وفي عنقه الحديد، وثيابه مضمخة بالدماء، فترامى على الناس، وطرح نفسه على الأبواب، يسأل شيئاً يستعين به في مصادرته.
وفيه قدمت رسل أبي يزيد بيك، بن مراد بيك، بن عثمان، متملك الروم، مع الأمير حسام الدين حسن الكجكني، بهدية سنية، منها باز أبيض، وسأل الرسل تجهيز طبيب من أطباء القاهرة إلى ابن عثمان ليداويه من مرض به، فتعين الطبيب شمس الدين محمد بن محمد الصغير، وجُهز وأعطى من الأدوية والعقاقير ما يحتاج إليه ابن عثمان.
وأما تَيمور فإنه لما مَلَك بغداد صادر أهلها ثلاث مرات في كل مرة منهم ألف تومان، وخمسمائة تومان وكل تومان مبلغ ثلاثين ألف دينار عراقية، والدينار العراقي بقدر درهم مصر الفضة، حتى أفقرهم كلهم. وكان جملة ما أخذ منهم نحو مائة ألف ألف وخمسة وثلاثين ألف ألف درهم، بعد أن تنوع في عقوبتهم، وسقاهم الملح والماء، وشواهم على النار، و لم يبق لهم ما يستر عوراتهم. وصاروا يخرجون فيلتقطون الخرق من الطرقات حتى تستر عوراتهم وتغطى رؤوسهم. ثم إنه بعث ابنه إلى الحلّة، فوضع في أهلها السيف يوماً وليلة، وأضرم فيها النار حتى احترقت، وفنى معظم أهلها ويقال إنه قتل في العقوبة من أهل بغداد ثلاثة آلاف نفس. وبعث تيمور من بغداد العساكر إلى البصرة، فلقيهم صاحبها الأمير صالح بن جولان، وحاربهم وأسر ابن تيمور، وقتل منهم خلقاً كثيراًً، فبعث إليه عسكراً آخر في دجلة، فظفر بهم صالح أيضاً.
وفيه قدم الخبر من الحجاز بأن جماز بن هبة حصر المدينة النبوية، فقاتله ابن عمه الشريف ثابت بن نعير، وقتل بينهما جماعة.(2/453)
وفي أول ذي الحجة: أفرج عن صاحب تاج الدين عبد الرحيم بن أبي شاكر وقد بقي عليه مما ألزم به شيء، وكان الذي صودر عليه مبلغ خمسين ألف درهم.
وفي خامس عشره: استقر في نظر الإصطبلات.
وفي سادس عشره: توجه السلطان إلى منزلة سرياقوس على العادة.
وفيه قدم البريد بأن الأمير يونس نائب الكرك ركب ليأخذ غنماً للعشير، فلما أحاط بها، وقبض على عشرة من العشير، ثاروا به وقتلوه. وكان قد خرج إليهم بغير عسكر، ليس معه إلا عشرة مماليك.
وفي ثامن عشره: أخرج شكر باي العثماني، أميراً بحلب.
وفي خامس عشرينه: قدم مبشرو الحاج، وأخبروا بالأمن والرخاء، وأنه لم يحضر أحد من حاج العراق.
وفي تاسع عشرينه: أمر في القاهرة ومصر بتجهيز الناس للسفر لقتال تيمور لنك، فإنه قصد أخذ البلاد، وقتل العباد، وهتك الحريم، وقتل الأطفال، وأحرق الديار، فاشتد بكاء الناس، وعظم خوفهم، وكان من الأيام الشنعة.
وفيه قدم الخبر بأن أربعة من رهبان النصارى خرجوا بمدينة القدس، ودعوا الفقهاء لمناظرتهم، فلما اجتمع الناس لهم جهروا بالسوء من القول، وصرحوا بذم الملة الإسلامية، والأزراء على القائم بها، وأنه كذاب وساحر وما الحق إلا في دين عيسى، فقبض عليهم وقتلوا وحرقوا بالنار، فكان من الأيام المشهورة بالقدس.
ومات في هذه السنة من الأعيان
الصارم إبراهيم بن طشتمر الدوادار، في خامس رمضان، بالإسكندرية.
ومات القاضي شهاب الدين أحمد بن الضياء محمد بن إبراهيم المناوي الشافعي، شيخ الجاولية، وأحد نواب القضاة بالقاهرة، في ثامن عشرين ربيع الآخر.
ومات شهاب الدين أحمد بن محمد بن مخلوف الحنفي، نقيب القضاة الشافعية، في عشرين رجب.
ومات الأديب الشاعر زين الدين أبو بكر عثمان بن العجمي، في سادس عشر ذي الحجة.
ومات الأمير زين الدين أبو يزيد بن مراد الخازن، دوادار السلطان، في سلخ جمادى الآخرة، وحضر السلطان جنازته.
ومات الحاج صبيح الغواصي، مهتار الطشتخاناه، بعدما أسنَّ وطالت عطلته، في ثامن عشرين ربيع الآخر.
ومات الوزير الصاحب شمس الدين أبو الفرج عبد اللّه المقسي القبطي، في رابع شعبان، ودفن بجامع المقس الذي جدده على الخليج.
ومات علم الدين عبد الله بن الصاحب كريم الدين عبد الكريم بن شاكر بن الغنام، ناظر البيوت، في ثامن ربيع الأول، وكان حشماً.
ومات الأمير زين الدين أبو يزيد الأرزنكاني الدوادار، وكان عفيفاً عاقلاً عارفاً يكتب الخط المليح، ويشارك في عدة علوم.
ومات شهاب الدين أحمد بن صالح الزهري، الفقيه الشافعي، بدمشق.
ومات الشيخ علاء الدين على بن محمد الأقفهسي، الفقيه الشافعي، في ثاني عشرين شوال، قرأ على الكمال النشائي، وبرع في الفقه، وأفتى ودرس بالجامع الخطيري وغيره، وناب في الحكم بالقاهرة.
ومات الشيخ علاء الدين على بن محمد بن سبع، الفقيه الشافعي، بعدما خرف وقارب المائة سنة، في سادس عشرين رمضان، عن غير وارث.
ومات الأمير سيف الدين قُطلوبغا الأسنقجاوي، ويقال له أبو عرقة، كاشف الوجه المجري.
ومات الشيخ صلاح الدين محمد بن الأعمى الحنبلي في ليلة الأربعاء سادس ربيع الآخر، وقد درس بالمدرسة الظاهرية المستجدة وغيرها، وأفتى وتعين لقضاء الحنابلة بالقاهرة.
ومات الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير سيف الدين أقبغا آص شاد الدواوين، في يوم الأربعاء ثامن عشرين شوال، وهو من بيت الإمارة، وأُنعم عليه في حياة أبيه - أيام الملك الأشرف شعبان بن حسين - بإمرة طبلخاناه. ثم لما سخط الملك الأشرف على أبيه وأخذت منه الإمرة، وتعطل، وعق أباه وحكيت عنه في عقوقه أمور شنعة، ثم سافر إلى اليمن وعاد إلى القاهرة، وولي شد الدواوين بإمرة عشرة، وصودر وعوقب عقوبة شديدة، وكان من شرار الخلق والمتجاهرين بالمنكر.
ومات الأمير ناصر الدين محمد بن اًشقتمر الخوارزمي - والي قطيا - هو وأبوه، مات في ....(2/454)
ومات الطواشي زين الدين مقبل الرومي الشهابي شيخ الخدام بالحرم النبوي. أصله من خدام الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن محمد بن قلاوون، وجانداره. وتنقل في الخدم، واختص بالأمير شيخو العمري، وخدم السلطان حسن بن محمد. ثم حج وجاور بالمدينة النبوية، وخدم الحجرة الشريفة في جملة الخدام، وصار ينوب عن الطواشي افتخار الدين ياقوت الرسولي الخازندار الناصري شيخ الخدام، حتى مات، فولي بعده المشيخة إلى أن مات بالمدينة الشريفة في ...،.
ومات قاضي القضاة ناصر الدين أبو الفتح نصر الله أحمد بن محمد بن أبى الفتح بن هاشم بن إسماعيل بن إبراهيم الكناني العسقلاني الحنبلي، ولد قريبا من سنة عشرين وسبعمائة، وبرع في الفقه والحديث والعربية والأصول والميقات، وناب في الحكم بالقاهرة عن الموفق عبد الله الحنبلي نحو العشرين سنة. ثم ولي قضاء القضاة بعده في محرم سنة تسع وستين، حتى مات ليلة الأربعاء حادي عشرين شعبان، وكان من خيار المسلمين.
ومات نجم الدين محمد بن جماعة خطيب القدس، في يوم الأربعاء تاسع ذي القعدة، بالقاهرة، ودفن خارج باب النصر.
ومات سعد الدين إبراهيم بن عبد الوهاب بن النجيب أبي الفضايل الميموني القبلي، كاتب العرب، ومباشر ديوان الجيوش.
وتَوفي الشيخ المسلك عبد الرحمن بن ..... ، الشريشي، أحد مريدي الشيِخ يوسفي العجمي في ....، .
سنة ست وتسعين وسبعمائة
أهل المحرم يوم الاثنين: والسلطان بقصور سرياقوس، وعساكره معه، ففي رابعه عاد إلى القلعة.
وفي سادسه: قبض على فرج شاد الدواوين، وألزم بمال.
وفي سابعه: استقر في نيابة الكرك الأمير شهاب الدين أحمد بن الشيخ على أحد أمراء دمشق.
وفي ثامنه: أفرج عن أمير فرج، وبقي في وظيفة شد الدواوين، بعد التزامه بمائتي ألف درهم فضة.
وفي تاسعه: عدى السلطان إلى بر الجيزة وتصيد، وعاد من يومه.
وفي عاشره: قدم الحاج محمد وزير ماردين على البريد بأن الأكراد قد دخلوا في طاعة تيمور لنك.
وفي حادي عشره: نفي الأمير قُنُقْباي إلى القدس.
وفي ثاني عشره: نزل السلطان وعدى إلى بر الجيزة وتصيد، وعاد في يومه.
وفي سادس عشره: ركب إلى المطرية، وتصيد بطان، وعاد.
وفي ثامن عشره: عدى إلى بر الجيزة، وعاد في الغد.
وفيه استقر خليل الجشاري في ولاية قطيا، وعزل أحمد الأرغوني.
ولْى ثالث عشرينه: قدم المحمل بالحاج.
وفي خامس عشرينه: ركب السلطان وتصيد، وعاد من يومه، وركب من الغد، وتصيد بالجيزة، وعاد في ثامن عشرينه، وكان البريد قد ورد بحضور رسل تيمور لنك بهدية إلى أول حدود المملكة، فكتب بقتلهم، فلما كان سلخه، قدمت رسل النواب بهدية تيمور لنك وهي: تسعة مماليك، وتسع جواري وغير ذلك، فوجد من جلة المماليك ابن وزير بغداد، وابن قاضيها، وابن محتسبها، وليس فيهم سوى مملوك واحد، فتركهم لحالهم، وتزي ابن القاضي بزي الفقهاء.
وفي يوم السبت أول صفر: ابتدأ الأمير سودن النائب بعرض أجناد الحلقة، ثم أبطله.
وفي ثالثه: ركب السلطان للصيد ببركة الحاج، وعاد.
وفي خامسه: تولى الأمير قلمطاي الدوادار عرض أجناد الحلقة بمار الأمير سودن النائب، وألزم أرباب الأخبار الثقيلة العبرة، الكثيرة المتحصل، بالسفر إلى قتال تيمور، واستمر العرض أربعة أيام في الأسبوع وهي: السبت والأحد والثلاثاء والأربعاء.
وفي سادسه: ركب السلطان وتصيد ببركة الحاج، ودخل إلى القاهرة من باب القنطرة، وخرج من باب زويلة إلى القلعة، وركب إلى الجيزة في ثامنه، وعاد في عاشره.
وفيه استقر حسن بن قراجا في ولاية قطيا، بعد وفاة الصارم إبراهيم الباشقردي.
وفي ثالث عشره: ركب السلطان وتصيد بالبركة، وعاد وركب في سابع عشره إلى الجيزة. وعاد في تاسع عشره وركب في ثاني عشرينه إلى الصيد بالبركة وعاد.
وفي رابع عشرينه: خرج المطبخ إلى لقاء ابن أويس.
وفي خامس عشرينه: استقر شمس الدين محمد بن الدميري في نظر الأحباس، بعد وفاة تاج الدين محمد المليجي، واستقر زين الدين طاهر بن حبيب الحلبي - موقع الدست - في نظر الخزانة، عوضاً عن المليِجي.
وفي سابع عشرينه: ركب السلطان للصيد بالبركة، وعاد وركب في تاسع عشرينه إلى الصيد بالجيزة، وعاد في يوم الثلاثاء ثالث ربيع الأول.
وفي خامسه: عمل السلطان المولد النبوي على العادة.(2/455)
وفي سابعه: ركب السلطان وتصيد بالبركة وعاد.
وفي حادي عشره: انتهى عرض أجناد الحلقة.
وفي ثاني عشره: نودي بالقاهرة ومصر أن من عرض على النائب والدوادر من أجناد الحلقة وتَعين للسفر، فليحضر للعرض على السلطان في يومي الخميس والاثنين. وفيه طرحت البضائع على التجار، وأخرج القمح من الأمراء، لعمل البشماط برسم السفر.
وفي ثالث عشره: نودي على أجناد الحلقة أيضاً بالعرض على السلطان وفيه قدم البريد بأخذ تيمور لنك قلعة تكريت، وتخريبها وقتل من بها.
وفيه خرج عدة من الأمراء لملاقاة القان غياث الدين أحمد بن أويس.
وفي رابع عشره: استقر موسى بن على - شاد دواليب الخاص - في ولاية البهنسا، وعزل قرطاي.
وفي يوم الثلاثاء سابع عشره: نزل السلطان إلى لقاء ابن أويس في جميع العساكر، وقعد بمسطبة مطعم الطيور من الريدانية خارج القاهرة إلى أن قرب منه ابن أويس، ونزل عن فرسه عدة خطوات، فمضى إليه الأمير بدخاص حاجب الحاجب، ومن بعده الأمراء للسلام عليه، والأمير بدخاص يعرفه اسم كل أمير ووظيفته، وهم يقبلون يده حتى أقبل الأمير أحمد بن يلبغا، فقال للأمير بدخاص: " هذا ابن أستاذ السلطان " . فعانقه ابن أويس، ولم يدعه يقبل يده. ثم جاء بعده الأمير بكلمش أمير سلاح فعانقه أيضاً، ثم بعده الأمير الكبير أيتمش رأس نوبة فعانقه، ثم الأمير سودن النائب فعانقه، ثم الأمير كمشبغا الحموي أتابك العساكر، فعانقه. وانقضى سلام الأمراء، فقام عند ذلك السلطان ونزل عن المسطبة، ومشى نحو العشرين خطوة، وهرول ابن أويس حتى التقيا، فأومأ ابن أويس لتقبيل يد السلطان فلم يمكنه وعانقه، وبكيا ساعة. ثم مضيا، والسلطان يطيب خاطره، وبعده يعوده إلى ملكه، ويده في يده، حتى صعدا إلى المسطبة، وجلسا معاً على البساط من غير كرسي وتحادثا طويلاً. ثم قدم قباء من حرير بنفسجي بفرو فاقم، وطرز ذهب عريضة، فألبسه ابن أويس. وقدم له فرساً من الخيل الخاص، بسرج وكنفوش، وسلسلة من ذهب، فركبه من حيث يركب السلطان، وركب السلطان بعده. وسارا يتحادثان، والأمراء والعساكر سائرة ميمنة وميسرة، وتارة يتقدم السلطان حتى يحجب ابن أويس، إلى أن قربا من القلعة، وقد خرج معظم الناس لمشاهدة ابن أويس، فكان يوماً مشهوداً. وعندما ترجل العسكر على العادة، صار ابن أويس مواكباً للسلطان، حتى بلغا حد موضع الطبلخاناه، أومأ إليه السلطان بالتوجه إلى المنزل الذي أعده له على بركة الفيل، وجدد عمارته وزخرفته وملأه بالفرش والآلات، فسار إليه وجميع الأمراء في خدمته، وصعد السلطان إلى القلعة. فلما دخل ابن أويس إلى منزله ومعه الأمراء، مد الأمير جمال الدين محمود الأستادار بين يديه سماطاً جليلاً فأكل وأكل معه الأمراء، وانصرفوا. فبعث إليه السلطان مائتي ألف درهم فضة، ومائتي قطعة قماش سكندري، وثلاثة أفراس بقماش ذهب، وعشرين مملوكاً حساناً، وعشرين جارية. فلما كان الليل قدم حريم ابن أويس وثقله.
وفي ثامن عشره: استقر محمد الضاني والياً بأشموم الرمان، عوضاً عن محمد بن غرلوا.
وفي يوم الخميس تاسع عشره: عمل السلطان الخدمة بالإيوان المعروف بدار العدل، على العادة. وصعد القان أحمد بن أويس إلى القلعة ليحضر الخدمة بالإيوان. وعبر من باب الجسر الذي يقال له باب السر، وجلس تجاه الإيوان حتى خرج إليه رأس نوبة، ومضى به إلى القصر فأخذه السلطان. وخرج به إلى الإيوان وأقعده رأس الميمنة فوق الأمير الكبير كمشبغا الأتابك. فلما قام القضاة ومد السماط قام الأمراء على عادتهم، فهمّ ابن أويس بالقيام معهم ووقف، فأشار له السلطان فجلس حتى فرغ الموكب. ولما انقضت خدمة الإيوان دخل مع السلطان إلى القصر، وحضر خدمة القصر أيضاً، ثم خرج، والأمراء بين يديه حتى ركب، وقدامه جاويشيته، ونقيب جيشه، فسار الأمراء بخدمته إلى منزله.
وفيه علق الجاليش بالطبلخاناه، إشارة للسفر، فشرع الناس في التَجهيز.
وفي حادي عشرينه: ركب السلطان ومعه ابن أويس إلى مدينة مصر، وعديا النيل إلى بر الجيزة، ونزلا بالخيام ليتصيدا.
وفيه قبض على الصاحب سعد الدين نصر الله بن البقري ناظر الدولة، وعلى ولده تاج الدين عبد اللّه، وجماعة من المباشرين وسلموا لشاد الدواوين.(2/456)
وفي رابع عشرينه: قدم البريد من حلب برجل تتري، يقال له دولات خجا، مقيد بالحديد، من أصحاب تيمور لنك، قبض عليه سالم الذكر.
وفيه قدم السلطان من الصيد إلى القلعة.
وفي خامس عشرينه: عرض التتري على السلطان، فسأله عن أشياء فلم يعترف، فسلم لوالي القاهرة ليعاقبه، فأقر أن بالقاهرة عدة جواسيس، قبض على سبعة أنفس، ما بين تجار وغيرهم من العجم.
وفيه أفرج عن ابن البقري وولده، على حمل خمسين ألف درهم، وعن بقية المباشرين على مائة ألف في درهم.
وفي تاسع عشرينه: استقر محمد بن صدقة بن الأعسر في ولاية منوف.
وفي سلخه: قدم البريد من حلب بتوجه الأمير ألطبغا الأشرفي، والأمير دقماق بعسكر من حلب إلى الرها، ومواقعتهم طلايع تيمور لنك، وهزيمتهم بعد أن قتل منهم خلق كثير، وأسر جماعة، وعودهم إلى حلب بمائة رأس من التمرية، وعدة من المأسورين.
وفيه استقر اسنبغا السيفي في ولاية قليوب، وعُزل محمد بن مؤمن الشمسي.
وفيه ألزم سائر مباشري ديوان الخاص والدولة ومباشري الأمراء بإحضار البغال من كل منهم، أو أخذ ثمن البغلة على قدر حال كل أحد، فوقع الشروع في ذلك.
وفيه أفرج عن المماليك المعتقلين في البرج بالقلعة، و لم يتأخر سوى الشريف عنان ومملوك واحد من الجوبانية، يقال له أسنبغا.
وفي يوم الخميس ثالث ربيع الآخر: حمل الأمير جال الدين محمود الأستادار السلاح على ثمانمائة حمال، فيه ثلاثمائة لبس كامل للفارس وفرسه.
وفيه ابتدئ بالنفقة في المماليك لكل واحد من المشتراوات مبلغ ألفي درهم، ولكل واحد من المستخدمين ألف وسبعمائة درهم، وعدتهم خمسة آلاف، فبلغت النفقة في المماليك خاصة عشرة آلاف ألف درهم فضة، سوى النفقة في الأمراء، وسوى ما حمل في الخزائن، وما جهز به فضة، سوى النفقة في الأمراء، وسوى ما حمل في الخزائن، وما جهز به الإقامات.(2/457)
وفيه قدم كتاب تيمور لنك يتضمن الإرعاد والإبراق، وينكر قتل رسله، ونصه: " قُل اللْهُم فَاطِرِ السمَواتِ وَالأرْض عَاِلمَ الْغَيْبِ وَالشهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُم بَينَ عَبادِكَ فِيمَا كانوا فِيْهِ يَختَلِفَون " . اعلموا أنا جند اللّه مخلوقون من سخطه، مسلطون على من حل عليه غضبه، لا نرق لشاكي، ولا نرحم باكي، قد نزع الله الرحمة من قلوبنا، فالويل ثم الويل لمن لم يكن من حزبنا، ومن جهتنا. فقد خربنا البلاد وأيتمنا الأولاد، وأظهرنا في الأرض الفساد، وذلت لنا أعزتها، وملكنا بالشوكة أزمتها، فإن خيل ذلك على السامع وأشكل وقال إن فيه عليه مشكل، فقل له: " إِن الملُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزةَ أَهْلِهَا أَذِلة " ، وذلك لكثرة عددنا وشدة بأسنا، فخيولنا سوابق، ورماحنا خوارق، وأسنتنا بوارق، وسيوفنا صواعق وقلوبنا كالجبال، وجيوشنا كعمد الرمال، ونحن أبطال، وأقيال، وملكنا لا يرام، وجارنا لا يضام، وعزنا أبداً بالسؤدد مقام، فمن سالمنا سلم، ومن رام حربنا ندم، ومن تكلم فينا بما لا يعلم جهل، وأنتم فإن أطعتم أمرنا وقبلتم شرطنا فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن أنتم خالفتم وعلى بغيكم تماديتم فلا تلوموا إلا أنفسكم، فالحصون منا، مع تشييدها لا تمنع، والمدائن بشدتها لقتالنا لا ترد ولا تنفع ودعاؤكم علينا لا يستجاب فينا، ولا يسمع، وكيف يسمع الله دعاءكم وقد أكلتم الحرام، وضيعتم جميع الأنام، وأخذتم أموال الأيتام، وقبلتم الرشوة من الحكام، وأعددتم لكم النار، وبئس المصير، " إن الذِيْنَ يأكلون أَمْوَالَ اليتامى ظُلماً إِنمَا يَأْكُلُون في بُطُونِهِمْ نَاراً وَسيصلون سعِيَراً " . فلما فعلتم ذلك وأردتم أنفسكم موارد المهالك. وقد قتلتم العلماء، وعصيتم رب الأرض والسماء، وأرقتم دم الأشراف، وهذا واللّه هو البغي والإسراف، فأنتم بذلك في النار خالدون، وفي غد ينادي عليكم " الْيوَمَ تُجزون عَذَابَ الهَون بمَا كنتم تستَكْبِرُون في الأَرضِ بغَيْرِ الْحَق " " وَبمَا كُنتم تَفْسقُون " فأبشروا بالمذلة والهوان، يا أهل البغي وَالعدوان، وقد غلب عندكم أننا كفرة، وثبت عندنا أنكم واللّه الكفرة الفجرة. وقد سلطنا عليكم إله له أمور مقدرة، وأحكام مدبرة، فعزيزكم عندنا ذليل، وكثيركم لدينا قليل، لأننا ملكنا الأرض شرقاً وغرباً، وأخذنا منها كل سفينة غصباً. وقد أوضحنا لكم الخطاب، فأسرعوا برد الجواب قبل أن ينكشف الغطاء، وتضرم الحرب نارها، وتضع أوزارها، وتصير كل عين عليكم باكية، وينادي منادي الفراق: هل ترى لهم من باقية؟، ويسمعكم صارخ الغناء، بعد أن يهزكم هزاً، " هلْ تَحِس مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تسمع لَهُم رِكزاً " ، وقد أنصفناكم إذ راسلناكم، فلا تقتلوا المرسلين كما فعلتم بالأولين، فتخالفوا كعادتكم سنن الماضين، وتعصوا رب العالمين، فما على الرسول إلا البلاغ المبين. وقد أوضحنا لكم الكلام، فأسرعوا برد جوابنا، والسلام.(2/458)
فكنب جوابه بعد البسملة: " قُل اللْهُم هَالِكَ المُلْكِ تؤتي الملك مَنْ تَشَاءُ، وَتَنْزَع الْمُلْك ممن تَشَاء، وتُعِز مَنْ تَشَاءُ، وَتُذل مَن تَشَاء " ، حصل الوقوف على ألفاظكم الكفرية، ونزعاتكم الشيطانية، فكتابكم يخبرنا عن الحضرة الجنابية، وسيرة الكفرة الملاكية، وأنكم مخلوقون من سخط الله، ومسلطون على من حل عليه غضب الله، وأنكم لا ترقون لشاك، ولا ترحمون عسيرة باك، وقد نزع الله الرحمة من قلوبكم، فذاك أكبر عيوبكم، وهذه من صفات الشياطين، لا من صفات السلاطين، ويكفيكمِ هذه الشهادة الكافية وبما وصفتم به أنفسكم ناهية " قُل يَا أيهَا الكافرون لاَ أَعبدُ مَا تعبدون وَلاَ أنتم عَابدون مَا أَعبد وَلاَ أَنَا عَابد مَا عَبَدتُمْ لكُمْ دِيْنُكُمْ وَليَ دِيْن " ، ففي كل كتاب لعَنتم، وعلى كل لسان كل مرسل نعيتم، وبكل قبيح وصفتم، وعندنا خبركم من حين خرجتم، إنكم كفرة، ألا لعنة اللّه على الكافرين، من تمسك بالأصول فلا يبالي بالفروع، نحن المؤمنون حقاً، لا يدخل علينا عيب ولا يضرنا ريب، القرآن علينا نزل، وهو سبحانه بنا رحيم لم يزل، فتحققنا نزوله، وعلمنا ببركته تأويله. فالنار لكم خلقت، ولجلودكم أضرمت، إذا السماء انفطرت. ومن أعجب العجب تهديِد الرتوت بالتوت، والسباع بالضباع، والكماة بالكراع. نحن خيولنا برقية، وسهامنا عربية، وسيوفنا يمانية، وليوثنا مضرية، وأكفنا شديدة المضارب، وصفتنا مذكورة في المشارق والمغارب، إن قتلناكم فنعم البضاعة، وإن قتل منا أحد فبينه وبين الجنة ساعة. " َلاَ تَحْسبَن الذِينَ قُتِلُوا في سبيلِ اللّه أَموَاتاً بَل أَحياء عِندَ رَبهم يرزقون فَرحِينَ بمَا أتَاهُمُ اللّه مِنْ فَضله ويستبشرونَ بِالذِينَ لَمْ يَلحقُوا بِهم مِنْ خَلفِهِم، ألا خوْفٌ عَلَيْهم وَلاَ هُم يَحزَنُون يستبشرون بنعمَةٍ مِنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَن اللّه لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المْؤْمِنِين " . وأما قولكم قلوبنا كالجبال، وَعمدنا كالرمال، فالقصَّاب لا يبالي بكثرة الغنم، وكثير الحطب يفنيه القليل من الضرم، " فكم مِنَ فِئَةٍ قَلِيْلَةٍ غَلَبَت فِئَةً كَثِيْرة بِإذنِ اللّهِ واللّه مَعَ الصابِرِين " . الفرار الفرار من الرزايا وحلول البلايا. واعلموا أن هجوم المنية عندنا غاية الأمنية، وإن عشنا عشنا سعداء، وإن قتلنا قتلنا شهداء، ألا إن حزب اللّه هم الغالبون. أبعد أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين تطلبون منا طاعة. لا سمع لكم ولا طاعة، وطلبتم أن نوضح لكم أمرنا قبل أن ينكشف الغطاء، ففي نظمه تركيك، وفي سلكه تلبيك، لو كشف الغطاء لبان القصد بعد بيان، أكفر بعد إيمان. أم اتخذتم إلهاً ثان. وطلبتم من معلوم رأيكم أن نتبع ربكم، " لَقَدْ جئتمْ شَيئاً إِدا تكادُ السمَوات يَتَفَطرْن مِنْهُ، وَتَنْشَقُّ الأَرْض وَتَخِرُّ الجبالُ هَدا " ، قل لكَاتبك الذي وضع رسالته، ووصف مقالته: وصل كتابك كضرب رباب، أو كطنين ذباب. كلا سنكتب ما يقول، ونمد له من العذاب مدا، ونرثه ما يقول إن شاء اللّه تعالى. " وسيَعْلَمُ الذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلبٍ يَنْقَلِبُون " . لقد لبكتم في الذي أرسلتم. والسلام " .
وفي سادسه: عرض السلطان أجناد الحلقة الذين عينوا للسفر، واختار منهم أربعمائة فارس للسفر معه، وعرض رأس نوبة الأجناد البحرية، وعين منهم مائتي فارس للسفر.
وفي سابعه: خرجت مدورة السلطان، ونصبت بالريدانية خارج القاهرة.
وفي يوم الأربعاء تاسعه، عقد السلطان على الخاتون تندي، بنت حسين بن أويس، ابنة أخي القان أحمد بن أويس، ومبلغ الصداق ثلاثة آلاف دينار، صرف الدينار يومئذ ستة وعشرون درهماً، ونصف درهم، وبنى عليها في ليلة الخميس عاشره.(2/459)
وفيه نزل السلطان من القلعة إلى الإصطبل، وخرج من باب السلسلة بالرميِلة، وقد وقف القان أحمد بن أويس وجميع الأمراء وسائر العساكر، وقد لبسوا للحرب ومعهم أطلابهم، فسار السلطان وعليه قرقل بغير أكمام، وكلفته على رأسه، وتحته فرس بعرقية من صوف سمك إلى باب القرافة، والعساكر قد ملأت الرميلة، فرتَب بنفسه أطلاب الأمراء، ومر في صفوفهم عوداً وبدءاً، حتى ترتبت أحسن ترتيب، ومضى إلى قبر الإمام الشافعي فزاره، وتصدق على الفقراء. وسار إلى مشهد السيدة نفسية، فزاره وتصدق وعاد إلى الرميلة. وأشار إلى الطلب السلطاني فسار إلى الريحانية في أعظم قوة، وأبهج زي، وأفخر هيئة، وجر فيه مائتي جنيب من عتاق الخيل، عليها من الأسلحة والذهب ما يقصر الوصف عن حكايته. وسار في موكب تهتز له الأرض، وإلى جانبه ابن أويس على فرس بقماش ذهب، وبجانب ابن أويس الأمير كمشبغا الأتابك. وتبع العساكر من ورائها طلب الأمير كمشبغا، ثم طلب الأمير قَلَمْطاي الدوادار، ثم أطلاب بقية الأمراء فكان يوماً لم ير مثله، وقد حشر الناس في كل موضع، ونزل السلطان، وابن أويس بالمخيم من الريدانية.
وفي رابع عشره: أعيد بدر الدين محمد بن أبي البقاء الشافعي إلى قضاء القضاة بديار مصر، وصرف الصدر محمد المناوي، ودخل من الريدانية إلى القاهرة، ومعه من الأمراء تغري بردي رأس نوبة، وقَلَمطاي الدوادار، وأقبغا اللكاش رأس نوبة، في آخرين وعليه التشريف.
وفيه استقر الأمير ناصر الدين محمد بن رجب بن كلفت التركماني في الوزارة وعزل الموفق أبو الفرج. واستقر سعد الدين نصر الله بن البقري ناظر الدولة، عوضاً عن بدر الدين محمد بن الأقفهسي. واستقر الصاحب كريم الدين عبد الكريم بن غنم في نظر البيوت على عادته. واستقر الصاحب علم الدين عبد الوهاب سن إبرة في استيفاء الدولة شريكاً للصاحب تاج الدين عبد الرحيم بن أبي شاكر، ودخل الجميع القاهرة بالخلع.
وفي سابع عشره: قبض على الشريف محمود العُنابي، وذلك أنه كان من العنابة خارج دمشق، فتوصل إلى السلطان وهو بها، وجاراه في أمور من المغيبات صادف وقوعها. وكان السلطان له تطلع إلى ذلك، فأكرمه، وقدم به معه إلى القاهرة، وأجرى عليه ألف درهم فضة في كل شهر، وصار إذا حضر مع القضاة يجلسه فوقهم بجانبه.
فلما كان يوم الثلاثاء خامس عشره: بعث الأمير شرف الدين موسى بن الأمير شمس الدين محمد بن عيسى العائدي من خزانة شمايل ورقة إلى الأمير علاء الدين على ابن الطبلاوي والي القاهرة، وكان السلطان قد سخط على بني عيسى وسجنهم بخزانة شمايل، فإذا في الورقة أن الشريف العنابي بعث إليه أن يأمر عربانه بالنزول قريباً من القاهرة ليملكها بهم في غيبة السلطان فلم يقنع ابن الفبلاوي بهذا من ابن عيسى، وقال لقاصده: لما إذا قيل هذا للشريف ينكره، لكن حصل إلى خطة بذلك فسير إليه في يوم الخميس سابع عشره ورقة زعم أنها من الشريف إليه، وفيها: " إنك ترسل إلى عربان البحيرة، وعربان الصعيد بالركوب على الولاة والكشاف وقتلهم، ونهب البلاد ليشتغلوا عنا بأنفسهم، وابعث إلى عربك أن يكونوا بقرب القاهرة، فإذا عدَّى الغريم قطيا أركب أنا وأنت، ومعي خمسمائة مملوك، وتحضر عربانك وتأخذ القاهرة، والنصر لنا إن شاء اللّه تعالى. وتولى الأمير شهاب الدين بن قايماز الأتابكية، وأتولى أنا الخلافة، ونفعل ما ينبغي فعله " . فقام ابن الطبلاوي من وقته إلى الريدانية، وأوصل الورقة للسلطان، فكتم ذلك، وبعث يلبغا السالمي ليحضر العنابي، فلم يجده، وقيل هرب، فألزم السلطان ابن الطبلاوي بتحصيله، فعاد إلى القاهرة، وبحث عنه حتى علم أن يخله عند شهاب الدين أحمد بن قايماز، فأكمن عدة من ثقاته حتى قبضوا على عبد العنابي، وضرب بالمقارع، حتى دله على أستاذه، فقبض عليه، وعلى ابن قايماز، وحملهما إلى الريحانية، فأمر بعقوبتهما حتى يعترفا على من معهما على ما قصداه، فعاد بهما، وسوط العنابي فاعترف أن الورقة بخطه، ثم عصره ليقر على أحد، فلم يعترف بشيء إلا أن معه طائفة من مماليك بركة، فأخذ خطه بذلك، وأن ابن قايماز معه، فأنكر ابن قايماز، وحاققه العنابي، فتمادى في الإنكار.
وفيه قبض على الأمير ركن الدين عمر بن قايماز بسبب أخيه أحمد.
وفيه نودي بحضور الأجناد البطالين إلى بيت الأمير قلمطاوي الدوادار ليستخدموا.(2/460)
وفي عشرينه: قبض ما وقع الاتفاق عليه من مال الأيتام، وذلك أن السلطان احتاج إلى المال بسبب السفر، فسأل قاضي القضاة صدر الدين محمد المناوي أن يقرضه من مال الأيتام، فامتنع كما امتَنع من قرض منطاش. فلما سمع ذلك البحر محمد بن أبي البقاء وجد سبيلاً إلى ولايته، ووعد على عوده إلى القضاء بمال يقوم به هو، وأن يقرض السلطان خمسمائة ألف وستين ألف درهم من مال الأيتام، فأجيب، واستقر كما ذكر. ونزل إليه الأمير الوزير ناصر الدين محمد بن رجب في يومه هذا، وقبض المبلغ المذكور. وفيه قرئ تقليد بدر الدين محمد بن أبي البقاء على العادة.
وفي حادي عشرينه: قدم الأمير قَلَمْطاي الدوادار من الريدانية إلى داره لعرض الأجناد البطالين، بعدما تكرر النداء عليهم مراراً، وتهديد من تأخر منهم عن العرض. فإذا بهم قد اجتمع منهم نحو الخمسمائة، فكتب أسماءهم ثم قال لهم: " أحضروا تراكيشكم التي فيها القسي والنشاب، وأحضروا سيوفكم " ، فتوجهوا لإحضار بذلك، طمعاً منهم في أنهم يأخذون النفقة، فما هو إلا أن حضروا بذلك، أحيط بهم. وكان قد أعد لهم والي القاهرة الحديد ليقيدوا به، فقبض على ثلاثة وسبعين منهم، وفر من بقي. وقتل ثلاثة أنفس، وجرح جماعة. وتسلم الوالي المقبوض عليهم في الأغلال، ومضى بهم إلى خزانة شمايل، فسجنوا بها، وكان يوماً مهولاً من كثرة بكاء نسائهم وأولادهم.
وفيه قدم ولد الأمير نعير، ومعه محضر، بأن أباه أخذ بغداد وخطب بها للسلطان، فأنعم عليه بتشريف.
وفيه أفرج عن الأمير ألطبغا المعلم، وكتب بإحضاره من دمياط.
وفيه خلع على الأمير سودن النائب، وجعل مقيماً بالقاهرة مدة الغيبة، وخلع على الأمير محمود الأستَادار وولده، وعلى الأمير بجاس، وأُلزم بالإقامة في القلعة، وخلع على برهان الدين إبراهيم المحلى التاجر، وشهاب الدين أحمد بن محمد بن مسلم، ونور الدين علي بن الخروبي؛ لأنه اقترض منهم السلطان مبلغ ألف ألف درهم.
وفيه أفرج عن الأمير قُنُقْباي الأسعدي، وكتب بإحضاره من القدس إلى غزة، ورسم لمباشريه بتجهيز بَرقه، وتعبئة طلبه.
وفي ثاني عشرينه: عرض الأمير علاء الدين على بن الطلاوي البطالين، الذين سجنوا بالخزانة، بدار الأمير محمود الأستادار وأفرج عن مائتي رجل منهم، ونفي ثلاثة وسبعين - كانوا غُرَّاباً غير معروفين - إلى عدة جهات.
وفيه أفرج عن الأمير ركن الدين عمر بن قايماز، على مال التزم بحمله.
وفي ثالث عشرينه: رحل السلطان من الريدانية، وكانت عدة الجمال التي فرقت في المماليك أربعة عشر ألف جمل، وعدة الخيل المفرقة في المماليك السلطانية ألفين وخمسمائة فرس، سوى ما عندهم من الخيل، وهي أضعاف ذلك، وهذه الخيول والجمال في المماليك خاصة.
وأما السلطان والأمراء فيكون معهم ما يزيد على مائة ألف، ما بين فرس وجمل. ومما حمل برسم خرط الشطرنج خمسة قناطير من العاج والأبنوس؛ ليلعب به السلطان. والرسم أنه إذا لعب بشطرنج أخذ أرباب النوبة، وجدد غيره.
وفي سابع عشرينه: قدم البريد من السلطان بقتل بني عيسى، فوسطوا على باب خزانة شمايل، وعدتهم أحد وعشرون رجلاً، منهم موسى بن محمد بن عيسى، وعمه مهنا بن عيسى وسلموا لغلمانهم، فأقيمت المناحة عليهم بالصحراء عدة أيام.
وفيه قتل الشريف محمود العنابي أيضاً.
وفي ثامن عشرينه: ثارت عرب بني عيسى بقليوب يريدون قتل الوالي ففر منهم إلى القاهرة.
وفيه قدم البريد بطلب بدر الدين محمود الكلستاني إلى السلطان، فخرج في غاية الخوف من القتل؛ لأنه كان من إلزام ألطنبغا الجوباني، فجاءه من العز ما لم يخطر له ببال، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
وفيه استقر عمر بن إلياس في نيابة الوجه البحري، وعزل أوناط.
وفي يوم الأحد ثاني عشر جمادى الأولى: توجه الأمير محمود بالخزانة إلى السلطان.
وفي عشرينه قدم البريد برحيل السلطان عن غزة في ثاني عشره، وأنه أنعم على ألطنبغا المعلم بإمرة مائة في طرابلس، وعلى قردم الحسني بنيابة القدس وأن قنقباي الأسعدي استعفي من الإمرة.
وفي ثالث عشرينه: قدم إلى مدينة دمشق رسل طقتمش خان، صاحب كرسي أزبك خان ببلاد القبجاق، بأنه يكون عوناً مع السلطان على تيمور لنك.
وفي ثامن عشرينه: قدم البريد بدخول السلطان إلى دمشق في عشرينه.(2/461)