ووصل خبر كسرته إلى همذان فوقعت الصرخات في بلادهم، وخرج أهل توريز وغيرها إلى القدس، واستعلام خبر من فقد منهم، فأقامت النياحة في توريز شهرين على القتلى. وبلغ الخبر غازان فاغتم غماً عظيماً - وخرج من منخريه دم كثير حتى أشفى على الموت، واحتجب حتى عن الخواتين - فإنه لم يصل إليه من كل عشرة واحد، فارتج الأردوا بمن فيه. ثم جلس غازان وأوقف قطلوشاه وجوبان وسوتاي ومن كان معهم من الأمراء، وأنكر على قطلوشاه وأمر بقتله، فمازالوا به حتى عفي عنه من القتل، وأبعده من قدامه حتى صار على مسافة كبيرة بحيث يراه، وقام إليه - وقد مسكه الحجاب - سائر من حضر وهم خلق كثير جداً، وصار كل منهم في وجهه حتى بصق الجميع، ثم أبعده عنه إلى كيلان. وضرب غازان بولاي عدة عصي، وأهانه. وقد ذكر الشعراء وقعة التتر هده فأكثروا.
وسار السلطان من دمشق في يوم الثلاثاء من شوال، ووصل إلى القاهرة ودخلها في ثالث والعشرين منه. وكان قدم بكتوت الفتاح إلى القاهرة يوم الإثنين ثامن شهر رمضان، فرسم بزينة القاهرة من باب النصر إلى باب السلسة من القلعة، وكتب بإحصار سائر مغاني العرب من أعمال مصر كلها.
واستمرت الزينة من بعد وصول الأمير بكتوت الفتاح بكتاب البشارة إلى أن قدم السلطان، وبعد ذلك بأيام، وكان قبل قدوم بكتوت الفتاح قد وقعت بطاقة من قطيا بخبر البشارة، وتأخر الفتاح لوجع يده، فقلق الناس وغلقت الأسواق، وأبيع الخبز أربعة أرطال بدرهم، والراوية الماء بأربعة دراهم. فلما قدم خرج الناس إلى لقائه، وكان يوماً عظيماً وتفاخر الناس في الزينة ونصبوا القلاع، واقتسمت أستادارية الأمراء شارع القاهرة إلى القلعة، ورتبوا ما يخص كل واحد منهم وعملوا به قلعة، بحيث نودي من استعمل صانعاً في غير عمل القلاع كانت عليه جناية للسلطان، وتحسن سعر الخثسب والقصب وآلات النجارة.
وتفاخروا في تزيين القلاع، وأقبل أهل الريف إلى القاهرة للفرحة على قدوم السلطان وعلى الزينة، فإن الناس أخرجوا الحلي والجواهر واللآلى وأنواع الحرير فزينوا بذلك. ولم ينسلخ شهر رمضان حتى تهيأ أمر القلاع، وعمل ناصر الدين محمد بن الشيخي الوالي قلعة بباب النصر فيها سائر أنواع الجد والهزل، ونصب عدة أحواض ملأها بالسكر والليمون، وأوقف مماليكه بشربات حتى يسقوا العسكر.
فقدم السلطان في يوم الثلاثاء ثالث عشرى شوال، وقد خرج الناس إلى لقائه، وبلع كراء البيت الذي يمر عليه من خمسين درهماً إلى مائة درهم. فلما وصل السلطان باب النصر ترجل سائر الأمراء، وأول من ترجل منهم الأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح، وأخذ سلاح السلطان. فأمره السلطان أن يركب لكبر سنه ويحمل السلاح خلفه، فامتنع ومشى، وحمل الأمير مبارز الدين سوار الرومي أمير شكار القبة والطير، وحمل الأمير بكتمر أمير جاندار العصي، والأمير سنجر الجمقدار الدبوس. ومشى كل أمير في منزلته، وفرش كل منهم الشقق من قلعته إلى قلعة غيره، فكان السلطان إذا تجاوز قلعة فرشت القلعة المجاورة لها الشقق حتى يمشي عليها بفرسه مشياً هيناً، لأجل مشى الأمراء بين يديه، وكلما رأى قلعة أمير أمسك عن المشي حتى يعاينها ويعرف ما اشتملت عليه هو والأمراء. هذا والأسرى من التتار بين يديه مقيدون، ورؤوس من قتل منهم معلقة في رقابهم، وألف رأس على ألف رمح، وعدة الأسرى ألف وستمائة في أعناقها ألف وستمائة رأس، وطبولهم قدامهم مخرقة.
وكانت القلاع التي نصبت قلعة الأمير ناصر الدين محمد بن الشيخي بجوار باب النصر، وتليها قلعة الأمير علاء الدين مغلطاي بن أمير مجلس، وبعده ابن أيتمش السعدي، ثم الأمير علم الدين سنجر الجاولي، وبعده الأمير طغريل الإيغاني، ثم بهادر اليوسفي، ثم سودى، ثم بيليك الخطيري، ثم برلغي، ثم مبارز الدين أمير شكار، ثم أيبك الخازندار، ثم سنقر الأعسر، ثم بيبرس الدوادار، ثم سنقر الكمالي، ثم موسى بن الملك الصالح، ثم سيف الدين آل ملك، ثم علم الدين الصوابي، ثم جمال الدين الطشلاقي، ثم سيف الدين أدم، ثم الأمير سلار النائب، ثم بيبرس الجاشنكير، ثم بكتاش أمير سلاح، ثم الطواشي مرشد الخازندار - وقلعته على باب المدرسة المنصورية - وبعده بكتمر أمير جندار، ثم أيبك البغدادي(1/327)
نائب الغيبة، ثم ابن أمير سلاح، ثم بكتوت الفتاحي، ثم تباكر التغريلي، ثم قلى السلحدار، ثم بكتمر السلاح دار، ثم لاجين زيرباج الجاشنكير، ثم طيبرس الخازنداري نقيب الجيش، ثم بلبان طرنا، وبعده سنقر العلائي، ثم بهاء الدين يعقوبا، ثم الأبو بكري، ثم بهادر العزي، وكوكاي بعده، ثم قرا لاجين، ثم كراي المنصوري، ثم جمال الدين أقوش قتال السبع - وقلعته على باب زويلة. واتصلت القلاع من باب زويلة إلى باب السلسلة، وإلى باب القلعة وباب القلة، فكانت عدتها سبعين قلعة.
وعندما وصل السلطان إلى باب المارستان نزل وصعد إلى قبر أبيه، وقرأ القراء قدامه. ثم ركب إلى باب زويلة، ووقف حتى أركب الأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح خلفه وبيده السلاح. وسار على الشقق الحرير إلى داخل القلعة، والتهاني في دور السلطان والأمراء وغيرهم، وكان يوماً عظيماً إلى الغاية.
فلما استقر السلطان بالقلعة أنعم على الأمير برلغي بثلاثين ألف درهم واستقر أمير الركب، وقدم له الأمراء شيثاً كثيراً وكتب على يده: إلى أبي الغيث وأخيه أميري مكة ألا يمكنوا من الأذان بحي على خير العمل، ولا يتقدم في الحرم إمام زيدي، وألا يربط الحاج حتى يقبضوا على ما كان في الكعبة مما سموه العروة الوثقي، ولا يمكن أحد من مس المسمار الذي كان في الكعبة. وكان يحصل من التعلق بالعروة الوثقي ومن التسلق إلى المسمار عدة مفاسد قبيحة، فترك ذلك كله بسفارة الأمير بيبرس، وترك الأذان بحي على خير العمل من مكة، ولم يتقدم من حينئذ إمام زيدي للصلاة بالحرم.
وفي هده السنة: بنابلس صام الحنابلة شهر رمضان على عادتهم بالاحتياط، واستكمل الشافعية وغيرهم شعبان وصاموا. فلما أتم الحنابلة ثلاثين يوماً أفطروا، وعيدوا وصلوا صلاة العيد و لم ير الهلال. فصام الشافعية والجمهور ذلك النهار، وأصبحوا فافطروا وعيدوا وصلوا صلاة العيد. فأنكر نائب الشام على متولي نابلس كيف لم يجتمع الناس على يوم واحد، ولم يسمع. بمثل هذه الواقعة.
واتفق أيضاً أن أهل مدينة غرناطة بالأندلس صاموا شهر رمضان ستة وعشرين يوماً، وذلك أن الغيوم تراكمت عندهم عدة أشهر قبل رمضان، فلما كانت ليلة السابع والعشرين طلعوا المأذنة ليقدوها على العادة، فإذا الغيوم قد أقلعت وظهر الهلال، فافطروا.
وفيها سخط الأمير بيبرس الجاشنكير على كاتبه المعلم المناوي من أجل فراره إلى غزة في وقت الواقعة، وطلب أبا الفضائل أكرم النصراني كاتب الحوائج خاناه وألزمه حتى أسلم، وخلع عليه وأقره في ديوانه، فزادت رتبته حتى صار إلى ما يأتي ذكره أن شاء الله، وعرف بكريم الدين الكبير.
وفيها قام الأمير بيبرس الجاشنكير في إبطال عيد الشهيد بمصر: وذلك أن النصارى كان عندهم تابوت فيه إصبع يزعمون إنه أصبع بعض شهدائهم، وأن النيل لا يزيد ما لم يرم فيه التابوت، فتجتمع نصارى أرض مصر من سائر الجهات إلى ناحية شبرا، ويخرج أهل القاهرة ومصر، وتركب النصارى الخيول للعب، ويمتلي البر بالخيم، والبحر بالمراكب المشحونة بالناس، ولا يبقى صاحب غناء ولا لهو حتى يحضر، وتتبرج زواني سائر البلاد. ويباع في ذلك اليوم من الخمر بنحو مائة ألف درهم، حتى إنه في سنة باع رجل نصراني بمائتين وعشرين ألف درهم خمراً، فكان أهل شبرا يوفون الخراج من ممن الخمر، وتثور في هذا اليوم الفتن ويقتل عدة قتلى، فأمر الأمير بيبرس بإبطال ذلك، وألا يرمى التابوت في النيل، وأخرج الحجاب والولي حتى منعوا الناس من الاجتماع، بعد أن كتب إلى جميع الولاة بالنداء إلا يحرج أحد إلى عمل عيد الشهيد. فشق ذلك على النصارى، واجتمعوا مع الأقباط الذين أظهروا الإسلام، وصاروا إلى التاج بن سعيد الدولة لتمكنه من الأمير بيبرس، فصار إليه وخيله من انكسار الخراج بإبطال العيد ومن عدم طلوع النيل، فلم يلتفت إليه وصمم على إبطاله، فبطل.
وفيها جهز صاحب سيس مراكب إلى نحو قبرص فيها بضائع قيمتها قريب من مائة ألف دينار، فألقاها الريح على مينة دمياط، فأخذت برمتها.
وفيها قدم الخبر بقحط بلاد تقطاي مدة ثلاث سنين، ثم أعقبه موتان في الخيل والغنم حتى فنيت و لم يبق عندهم ما يؤكل، فباعوا أولادهم وأقاربهم للتجار، فقدموا بهم إلى مصر وغيرها.(1/328)
وفيها كانت الزلزلة العظيمة: وذلك إنه حصل بالقاهرة ومصر في مدة نصب القلاع والزينة من الفساد في الحريم وشرب الخمور ما لا يمكن وصفه، من خامس شهر رمضان إلى أن قلعت في أواخر شوال.
فلما كان يوم الخميس ثالث عشرى ذي الحجة: عند صلاة الصبح اهتزت الأرض كلها، وسمع للحيطان قعقة وللسقوف أصوات شديدة، وصار الماشي يميل والراكب يسقط حتى تخيل الناس أن السماء أطبقت على الأرض، فخرجوا في الطرقات رجالاً ونساء، قد أعجلهم الخوف والفزع عن ستر النساء وجوههن واشتد الصراخ وعظم الضجيج والعويل، وتساقطت الدور وتشققت الجدران، وتهدمت مأذن الجوامع والمدارس، ووضع كثير من النساء الحوامل ما في بطونهن، وخرحت رياح عاصفة، ففاض ماء النيل حتى ألقى المراكب التي كانت بالشاطئ قدر رمية سهم، وعاد الماء عنها فصارت على اليبس وتقطعت مراسيها، واقتلع الريح المراكب السائرة في وسط الماء، وحذفها إلى الشاطئ.
وفقد للناس من الأموال شيىء كثير: فإنهم لما خرجوا من دورهم فزعين تركوها من غير أن يعوا على شيىء مما فيها، فدخلها أهل الدعارة وأخذوا ما أحبوا. وصار الناس إلى خارج القاهرة، وبات أكثرهم خارج باب البحر، ونصبوا الخيم من بولاق إلى الروضة.
و لم تكد دار بالقاهرة ومصر تسلم من الهدم، أو تشعث بعضها، وسقطت الزروب التي بأعلى الدور، و لم تبق دار إلا وعلى بابها التراب والطوب ونحوه.
وبات الناس ليلة الجمعة بالجوامع والمساجد، يدعون الله إلى وقت صلاة الجمعة.
وتواترت الأخبار من الغربية بسقوط جميع دور مدينة سخا، حتى لم يبق بها جدار قائم وصارت كوماً، وأن ضيعتين بالشرقية خربتا حتى صارتا كوماً.
وقدم الخبر من الإسكندرية بأن المنار انشق وسقط من أعلاه نحو الأربعين شرفة، وأن البحر هاج وألقى الريح العاصف موجه حتى وصل باب البحر وصعد بالمراكب الإفرنجية على البر، وسقط جانب كبير من السور، وهلك خلق كثير.
وقدم الخبر من الوجه القبلي بأن في اليوم المذكور هبت ريح سوداء مظلمة حتى لم ير أحد أحدا قدر ساعة، ثم ماجت الأرض وتشققت وظهر من تحتها رمل أبيض، وفي بعض المواضع رمل أحمر، وكشطت الريح مواضع من الأرض فظهرت عمائر قد ركبها السافي، وخربت مدينة قوص، وأن رجلاً كان يحلب بقرة فارتفع في وقت الزلزلة وبيده المحلب، وارتفعت البقرة حتى سكنت الزلزلة، ثم انحط إلى مكنه من غير أن يتبدد شيىء من اللبن الذي في المحلب.
وقدم الخبر من البحيرة أن دمنهور لوحش لم يبق بها بيت عامر.
وخرب من المواضع المشهورة جامع عمرو بن العاص بمصر، فالتزم الأمير سلار النائب بعمارته. وخربت أكثر سواري الجامع الحاكمي بالقاهرة وسقطت مأذنتاه، فالتزم الأمير بيبرس الجاشنكير بعمارته وخرب الجامع الأزهر، فالتزم الأمير سلار بعمارته أيضاً، وشاركه فيه الأمير سنقر الأعسر. وخرب جامع الصالح خارج باب زويلة فعمر من الخاص السلطاني، وتولى عمارته الأمير علم الدين سنجر. وخربت مأذنة المنصورية، فعمرت من الوقف على يد الأمير سيف الدين كهرداش الزراق. وسقطت مأذنة جامع الفكاهين. وكتب بعمارة ما تهدم بالإسكندرية، فوجد قد إنهدم من السور ست وأربعون بدنة، وسبعة عشر برجاً فعمرت.
وقدم البريد من صفد أنه في يوم الزلزلة سقط جانب كبير من قلعة صفد، وأن البحر من جهة عكا انحسر قدر فرسخين وانتقل عن موضعه إلى البر، فظهر في موضع الماء اشياء كثيرة في قعر البحر من أصناف التجارة، وتشققت جدر جامع بنى أمية بدمشق.
واستمرت الزلزلة خمس درج، إلا أن الأرض أقامت عشرين يوماً ترجف، وهلك تحت الردم خلائق لا تحصى. وكان الزمان صيفاً، فتولى بعد ذلك سموم شديدة الحر عدة أيام. واشتغل الناس بالقاهرة ومصر مدة في رم ما تشعث وبني ما هدم، وغلت أصناف العمارة لكثرة طلبها، فإن القاهرة ومصر صارت بحيث إذا رآها الإنسان يتخيل أن العدو أغار عليها وخربها، فكان في ذلك لطف من الله بعباده، فإنهم رجعوا عن بعض ما كانوا عليه من اللهو والفساد أيام الزينة، وفيهم من أقلع عن ذلك لكثرة توارد الأخبار من بلاد الفرنج وسائر الأقطار. مما كان من هذه الزلزلة.(1/329)
واتفق فيها من الأمر العجيب أن الأمير بيبرس الجاشنكير لما رم ما تشعت من الزلزلة بالجامع الحاكمي، وجد في ركن من المأذنة كف إنسان بزنده قد لف في قطن وعليه أسطر مكتوبة لم يدر ما هي، والكف طرى. ونبشت دكان لبان مما سقط في الزلزلة، فإذا أخشابها قد تصلبت على اللبان وهو حي، وعنده جرة لبن يتقوت منها مدة أيام، فأخرج حيا لم يمسه سوء.
وفي هده السنة: استقر في نيابة صفد الأمير سنقر شاه المنصوري، عوضاً عن بدخاص، وأنعم على بدخاص بإمرة بديار مصر. ونقل قبجق من نيابة الشوبك إلى نيابة حماة، عوضاً عن العادل كتبغا بعد موته. واستقر بلبان الجوكندار في نيابة حمص، بعد موت سيف الدين البكي. ثم استعفي بلبان، فولى عز الدين أيبك الحموي نائب قلعة دمشق عوضه، واستقر عوضه في نيابة قلعة دمشق بيبرس التلاوي.
وبلغ النيل ثمانية عشر ذراعاً.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
برهان الدين إبراهيم بن فلاح بن محمد بن حاتم السكندري الشافعي، في رابع عشرى شوال بدمشق، ومولده بالإسكندرية سنة ست وثلاثين وستمائة، وكان مشهوراً بالعلم والديانة، ناب في خطابة جامع بنى أمية، وباشر الحكم مدة بدمشق ودرس بها، وأفاد زماناً.
ومات كمال الدين أحمد بن أبي الفتح بن محمود بن أبي الوحش أسد بن سلامة ببن سلمان بن فتيان المعروف بابن العطار، أحد كتاب الدرج بدمشق، في رابع عشرى ذي القعدة، ومولده سنة ست و عشرين وستمائة، وكان كثير التلاوة للقرآن محباً لسماع الحديث وحدث، وكان صدراً كبيراً فاضلا له نظم ونثر، وأقام يكتب الدرج أربعين.
ومات الشيخ شهاب الدين أحمد بن برهان الدين إبراهيم بن معضاد الجعبري، بالقاهرة في .
ومات الأمير فارس الدين البكي الساقي، أحد ممالك الظاهر بيبرس، تنقل في الخدم حتى صار من أمراء مصر، ثم اعتقل إلى أن أفرج عنه المنصور قلاوون وأنعم عليه بإمرة، ثم ولاه نيابة صفد فأقام بها عشر سنين، وفر مع قبجق إلى غازان وتزوج أخته، ثم قدم مع غازان ولحق بالسلطان، فولاه نيابة حمص حتى مات بها يوم الثلاثاء ثامن ذي القعدة. وكان مليح الشكل، ما جلس قط بغير خف، وإذا ركب ونزل حل جمداره شاشه، فإذا أراد الركوب لفه مرة واحدة كيف جاءت ويركب ولا يعيد لفة الشاش مرتين أبداً.
واستشهد بوقعة شقحب عز الدين أيدمر العزي نقيب المماليك السلطانية، وهو من مماليك عز الدين أيدمر نائب دمشق، وكان كثير الهزل، وإليه تنسب سويقة العزي خارج القاهرة.
ومات الأمير أيدمر الشمسي القشاش، وكان قد ولى الغربية والشرقية جميعاً، واشتدت مهابته، وكان يعذب أهل الفساد بأنواع قبيحة من العذاب منها أنه كان يغرس خازوقاً ويجعل محدده قائماً، وبجانبه صار كبير يعلق فيه الرحل، ثم يرسله فيسقط على الخازوق فيدخل فيه ويخرج من بدنه، و لم يجرؤ أحد من الفلاحين بالغربية والشرقية في أيامه أن بلبس مئزراً أسود، ولا يركب فرساً ولا يتقلد سيفاً، ولا يحمل عصا محلية بحديد، وعمل بها الجسور والترع وأتقنها، وأنشأ جسراً بين ملقة صندفا وأرض سمنود عرف بالشقفي، فرآه بعد أن استشهد بمدة قاضي المحلة في النوم، فقال له: سامحني الله وغفر لي بعمارة حسر الشقفي، وكان قد فلج واستعفي من الولاية ولزم بيته، وخرج لغزوة شقحب في محفة إلى وقت القتال، فلبس سلاحه وركب وهو في غابة الألم، فقيل له: إنك لا تقدر، فقال: والله لمثل هذا اليوم أنتظر، وإلا إيش بتخلص القشاش من ربه بغير هذا وحمل على العدو وقاتل فقتل، ورأى فيه ست جراحات.
ومات الأمير حسام الدين أوليا بن قرمان، أحد الأمراء الظاهرية، وهر ابن أخت قرمان - وعروف بابن قرمان - وكان شجاعاً.
ومات الأمير عز الدين أيبك أستادار.
ومات الأمير عز الدين أيدمر الرفا المنصوري.
ومات الأمير جمال الدين أقوش الشمسي الحاجب.
ومات الأمير سيف الدين بهادر الدكاجكي، أحد الأمراء بحماة.
ومات صلاح الدين بن الكامل.
ومات علاء الدين بن الجاكي.
ومات الشيخ نجم الدين أيوب الكردي، وكان قد قدم إلى دمشق سنة سبع وثمانين وستمائة في طائفة من الأكراد، واعتقده الأمراء وحملوا إليه المال فكان يتصدق به، ثم قدم إلى القاهرة، وخرج مع السلطان وقاتل بشقحب حتى قتل.
ومات الأميرشمس الدين سنقر الشمسي الحاجب.(1/330)
ومات سنقرالكافري، أحد الأمراء.
ومات سنقرشاه أستادارالجانق.
ومات حسام الدين على بن باخل، أحد أمراء العشراوات.
ومات لاجين الرومي المنصوري أستادار المنصور قلاوون، ويعرف بالحسام أستادار، وكان دينا خيراً حشماً، سمع الحديث.
ومات الأمير شمس الدين سنقر العنتابي بدمشق، ليلة الجمعة ثاني عشر ذي القعدة.
ومات العادل كتبغا بحماة ليلة الجمعة يوم عيد الأضحى وهو في سن الكهولة، وكان دينا خيراً، أسمر اللون قصيراً دقيق الصوت قصير العنق، شجاعاً سليم الباطن متواضعاً، وهو من جنس المغل، وكان قد طال مرضه واسترخى حتى لم يقدر على حركة يديه ورجليه، وترك اولاداً. فولى نيابة حماة بعده الأمير سيف الدين قبجاق المنصوري، وقد نقل إليه من نيابة الشوبك.
ومات الشيخ تقي الدين محمد بن مجد الدين على بن وهب بن مطيع بن أبي الطاعة القشيري المعروف بابن دقيق العيد في يوم الجمعة حادي عشر صفر، عن سبع وسبعين سنة، وهو على قضاء القضاة، ومولده في خامس عشرى شعبان سنة خمس وعشرين وستمائة.
سنة ثلاث وسبعمائة
فيها انتدب الأمراء لعمارة ما خرب من الجوامع بالزلزلة، وأنفقوا فيها مالا جزيلاً.
وقدم الأمير برلغي الأشرفي من الحجاز، وشكى من قلة مهابة الشريفين أبي الغيث وعطيفة وكثرة طمع العبيد في المجاورين بمكة. فأفرج عن الشريفين حميضة ورميثة من السجن، وأحضرا إلى المجلس السلطاني وخلع عليهما بكلفتانزركش، فلم يلبسها حميضة إلا بعد التمنع والتهديد بالعود إلى الحبس. وأجلسا فوق جميع الأمراء، ونزلا إلى منازلهما وحمل إليهما سائر ما يحتاجان إليه، وهاداهما الأمراء، وأجريت لهما الرواتب والجرايات والكسوات، وركبا مع السلطان في الميدان، ولعب حميضة مع السلطان بالكرة.
وفيها سارت العساكر من القاهرة للغارة على بلاد سيس، وعليهم الأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح، ومعه الأمير علم الدين سنجر الصوابي والأمير شمس الدين سنقر شاه المنصوري ومضافيهم، وكتب إلى طرابلس وحماة وصفد وحلب بخروج العساكر إليها. فوصل الأمير بدر الدين بكتاش إلى دمشق في ثاني عشر رمضان، وخرج منها بعسكر دمشق، فسار إلى حلب وأتته عساكر البلاد، فمرض وأقام بحلب، وسار ابنه بالعساكر، وحرقوا مزارع سيس وخربوا الضياع وأسروا أهلها، ونازلوا تل حمدون وقد امتنع بقلعتها جماعة كثيرة من الأرمن، فقاتلوهم حتى فتحت بالأمان، وأخذوا منها ستة ملوك من ملوك الأرمن. فشق ذلك على تكفور ملك سيس، وقصد نكاية الملوك على تسليمهم قلعة تل حمدون بالأمان، وكتب إلى نائب حلب بأن ملوك القلاع هم الذين كانوا يمنعون من حمل الخراج، فلا تفرجوا عن أحد منهم، فليس عندي من يزن المال سواهم. فأمر النائب بقتلهم، فضربت رقاب الملوك الخمسة، وأسلم منهم صاحب قلعة نجيمة والتزم بأخذ سيس، فحمل إلى مصر وكتب صحبته بعود العساكر بالغنائم، فسر الأمراء والسلطان بذلك، وأكرم صاحب قلعة نجيمة، وكتب بعود العساكر.
وقدم البريد بموت الأمير عز الدين أيبك الحموي نائب حمص، فكتب بلبان الجوكندار نائب قلعة دمشق باستقراره في نيابة حمص، وتوجه إليها في ثامن عشرى جمادى الأولى، وولى عوضه نيابة قلعة دمشق بهادر السنجري.
وفيها وقع موتان في الخيول ببلاد الشام، فمات من حلب ودمشق نحو الثمانين ألف فرس، وفشا الموتان في خيول مصر أيضاً، فهلك كثير منها. ووقع ببلاد الساحل جراد كثير، وفيها ارتفعت أسعار الغلال بمصر، وبلغ الأردب القمح أربعين درهماً لتقاصر زيادة النيل، ثم انحط السعر عن قليل وأبيع بخمسة وعشرين درهماً.
وفيها سار الأمير بدر الدين جنغلي بن شمس الدين البابا أحد مقدمي التتار وافداً إلى الأبواب السلطانية بأهله وأتباعه، فلما قدم البريد بمسيره كتب إلى نائب حلب، فتلقاه وبالغ في إكرامه، وتلقاه نائب دمشق ودخل به في حادي عشر ذي القعدة. ومازالت الإقامات تتلقاه حتى قدم إلى القاهرة، فخرج الأمير بيبرس الجاشنكير إلى لقائه ومعه الأمراء إلى قبة النصر، وصعد به إلى أن قبل الأرض بين يدي السلطان في ثالث ذي الحجة، وأنزل في دار بقلعة الجبل.(1/331)
وفيها أخرج الأمير بهاء الدين قراقوش الظاهري على إمرة بصفد، وأنعم على جنغلي بإمرته - وهى طبلخاناه، وكتب له بزيادة مائة ألف درهم. ثم نقل إلى إمرة مائة، وأنعم على أمير على من ألزامه بإمرة عشرة، وعلى نيروز من ألزامه بتقدمة ألف، وبعث الأمراء إليه بالهدايا.
وفيها قدم رسول ملك الفرنج الريدراكون البرشلوني بهدية جليلة القدر للسلطان وللأمراء، وسأل فتح كنائس النصارى فأجيب إلى ذلك، وفتحت كنيسة اليعاقبة بحارة زويلة وكنيسة الملكيين بالبندقانيين. وجهز جوابه مع فخر الدين عثمان أستادار الأمير عز الدين الأفرم، فاقترض نحو الستين ألف درهم، وبالغ في التجمل. فلما كان وقت السفر دفع الرسل ملطفاً من ملكهم إلى السلطان يسأل في فك رجل ممن أسر بجزيرة أرواد، فأفرج عنه وسار معهم إلى الإسكندرية، فبعث بعض الأسرى يعرف السلطان بأن: هذا الذي أفرج عنه ابن ملك كبير، ولو أردتم فيه مركباً ملآن بالذهب لحمله إليكم في فكه، فكتب برده فعاد من الإسكندرية وقيد على ما كان. وركب الرسل البحر، حتى إذا أبعدوا عن الإسكندرية أنزلوا الأمير فخر الدين عثمان في قارب وأمروه بالعود، وأخذوا كل ما معه. فألقاه الريح على ساحل الإسكندرية، وحمل إلى مصر، فشكا إلى الأمراء أن الذي أخذ له دين عليه، فلم يلتفت أحد إليه، وكتب إلى الإسكندرية بإيقاع الحوطة على من يرد من فرنج برشلونة.
وفيها كملت عمارة المدرسة الناصرية بين القصرين.
وفيها نقل السلطان أمه من التربة المجاورة للمشهد النفيسي إلى التربة الناصرية بين القصرين، وموضع هذه المدرسة الناصرية كان داراً عرفت أخيراً بالأمير سيف الدين بلبان الرشيدي، فاشتراها الملك العادل كتبغا وشرع في بنائها مدرسة، وعمل بوابتها من أنقاض مدينة عكا، وهى بوابة كنيسة بها. فلما حضرت هذه البوابة إلى القاهرة - مع الأمير علم الدين الدواداري، متولي تخريب عكا وصور وعثليث وغيرها من القلاع التي فتحها الملك الأشرف خليل بن قلاوون - أخذها الأمير بيدرا، وقتل وهي على حالها، فعملها كتبغا على هذه المدرسة. وخلع كتبغا قبل أن تكمل، فاشتراها السلطان على يد قاضي القضاة رين الدين محلى بن مخلوف وأتمها، وعمل لها الأوقاف الجليلة ومن جملتها قيسارية أمير على بخط الشرابشيين ، والربع المعروف بالدهشة قريباً من باب زويلة، وحوانيت بباب الزهومة، والحمام المعروفة بالفخرية بجوار المدرسة السيفية، ودار أم السلطان، وحمامي الشيخ خضر بظاهر القاهرة، بخط بستان ابن صيرم والجامع الظافري، ودار الطعم خارج مدينة دمشق. ورتب بها قاضي القضاة زين الدين على بن مخلوف مدرس المالكية، وقاضي القضاة شمس الدين احمد السروجي مدرس الحنفية، وقاضي القضاة شرف الدين عبد الغني الحراني مدرس الحنابلة، وصدر الدين محمد بن المرحل مدرس الشافعية.
وفيها ولد للسلطان من زوجته أردكين الأشرفية ابن على، ولقبه بالملك المنصور، وعمل له مهما أراد أن يستمر سبعة أيام، فلم يوافقه الأمراء على ذلك وعمل يوماً واحداً وفيها شرع الأمير سلار النائب في التجهيز إلى الحجاز.(1/332)
وفيها تشاجر الوزير عز الدين أيبك البغدادي وناصر الدين محمد بن الشيخي متولي الجيزة، وسببها تعاظم ابن الشيخي على الوزير، وانحصار الأقباط منه لوفور حرمته وشدة ضبطه، فاتفقوا مع الوزير على أن يحققوا في جهته وجهات مماليكه من الأموال الديوانية مبلغاً كثيراً، فتحدث الوزير في ذلك مع الأمير سلار النائب، لعلمه بكراهته في ابن الشيخي. فطلب ابن الشيخي والدواوين وحضر الأمراء، وانتدب لمحاققته التاج الطويل مستوفي الدولة. وأفحش التاج الطويل في مخاطبته، وهو يخرج مما يلزم به بحجج يظهرها، ثم اشتد حنقه وقام على قدميه وقال: وحق نعمة مولانا السلطان هؤلاء! الأقباط أكلوا الأموال، وإن تسلمتهم لآخذن منهم للسلطان ثلاثمائة ألف دينار أكتب بها خطي. فقال له التاج: صرت أنت تأمر وتنهي يا ناصر الدين، ولو طلعت رأسك في السماء كنت عندي ضامناً بتقارير مكتتبة عليك كسائر الضمان. فغضب الأمير بيبرس الجاشنكير، وقال للتاج: والك ما كفي كذبكم حتى تجعل أميراً مثل ضامن والله ما يأكل مال السلطان غيركم، وأمر بإقامته من المجلس. وقال الأمير بيبرس لابن الشيخي: إيش قلت؟ تحمل من جهة هؤلاء ماقلت؟، قال: نعم! ، فرسم للوزير والحجاب بجمع الدواوين وتسليمهم له وانفضوا، فلم يبت أحد من الكتاب عنده، فا خلا ناظري الدولة وهما تاج الدين عبد الرحيم بن السنهوري، وشهاب الدين غازي بن الواسطي، وألزمهم بعمل حساب الدولة لثلاث سنين وضيق عليهم، وأهان التاج الطويل ونكل به. وأخذ التاج بن سعيد الدولة في مساعدة ابن الشيخي، وصار يأتيه في الليل ويرتبه، طهر في جهة الكتاب شىء كثير، فشكره بيبرس وعرف الأمراء بذلك، فرعوا له بعقوبة الكتاب واستخراج المال منهم، فقام الشهاب بن الواسطي في الحط على ابن الشيخي قياماً زائداً، وقال: يا أمراء! هذا ما يحل، وما بلغ قدر هذا الرجل بالأمس وهو في دكان يخيط الأقباع ، ثم فقير دائر يستعطي، ثم ضامن في ساحل الغلة، قد صار في حفدة ومماليك، وعمل ولاية القاهرة بأقبح سيرة. فبلغ ذلك ابن الشيخي فأوقع الحوطة عليه، وسأل الأمير بيبرس فيه فسلمها له، فلما دخل عليه مع الرسل أخرق به وأمر أن يعرى من ثيابه، فمازال به الحاضرون حتى عفا عنه من خلع ثيابه، وضربه تحت رجليه ثلاث ضربات. ثم خاف العاقبة فأكرم ابن الوسطي وتلطف به وبالكتاب، وحمل منهم ثلاثمائة ألف درهم، وأفرج عنهم بعد مشاورة الأمير بيبرس. فشق ذلك على الوزير، وسعى في السفر إلى الحجاز مع الأمير سلار، فأجيب إلى ذلك.
وسعى ابن الشيخي بالأمير بكتمر أمير جندار والأمير برلغي وينجار، ووعدهم أنه يؤجرهم البلاد والدواليب ويقوم عنهم بكلفها، وأهدى إليهم حتى ملأ أعين أعدائه وأصدقائه، وعمل للأمير سلار من ألات السفر شيئاً كثيراً، ومازال يسعى بحاشية سلار، وهو يمتنع من إجابتهم، ويردهم أقبح رد لبغضه فيه حتى خدعوه وأجاب. فاستقر ابن الشيخي في الوزارة يوم الإثنين تاسع عشر شوال، بغير رضا سلار، إلا أنه لم يجد بداً من ولايته. ونزل في موكب عظيم إلى داره بجوار المشهد الحسيني من القاهرة، وتعاظم على الناس تعاظماً زائداً.
وفيها سار الأمير سلار النائب إلى الحجاز، ومعه نحو الثلاثين أميراً: منهم سنقر الكمالي الحاجب، وعلم الدين سنجر الجاولي، وسنقر الأعسر، وكوري، وسودي، وبكتوت القرماني، وبكتوت الشجاعي، والطواشي شهاب الدين مرشد. وتأخر الأمير سلار، بعد خروج الركب مع الأمير سيف الدين أناق الحسامي أمير الركب، وبعث إلى الحجاز في البحر عشرة آلاف أردب غلة وبعث سنقر الأعسر ألف أردب، وبعث سائر الأمراء القمح للتفرقة في أهل الحرمين، فعم النفع بهم.(1/333)
وفيها ورد الخبر بموت غازان بن أرغون بن أبغا بن هولاكو ملك المغل، في ثالث عشر شوال بنواحي الري، من مرض حاد، وكانت مدته ثمان ستين وعشرة أشهر. وقام بعده أخوه خدا بندا بن أرغون، وجلس على تخت الملك في ثالث عشرى ذي الحجة، وتلقب بغياث الدين محمد، وكتب إلى السلطان بجلوسه، وطلبه للصلح وإخماد الفتنة، وسير إليه رسله. وفيها توجه الوزير ناصر الدين محمد بن الشيخي إلى الإسكندرية، وألزم المباشرين بعمل الحساب. وكان متحصل الإسكندرية لا ينال ديوان السلطان منه إلا القليل، فإن الأمراء بيبرس وسلار وبرلغي والجوكندار ما منهم إلا من له بها نائب يتحدث في المتجر. فقام نائب الإسكندرية، ومنع الوزير من التحدث حتى يحضر الأمير سلار من الحجاز، فاتفق وصول مركب بمتجر للفرنج بلغ موجبه أربعين ألف د ينار.
وفيها خرج السلطان إلى البحيرة للصيد، وقد عبأ له الوزير الإقامات. ونزل السلطان بتروجة، واستدعى شهاب الدين أحمد بن عبادة، الذي أقامه قاضي القضاة زين الدين على بن مخلوف وصى السلطان وكيلا على جباية أموال أملاك السلطان ونائباً عنه لاشتغاله بوظيفة القضاء. وطلب السلطان منه دراهم يشتري بها هدية من الإسكندرية، فلم يجد عنده من مال السلطان ما يكفيه، فبعثه ليقترض من تجار الإسكندرية مبلغاً. فاجتمع ابن عبادة بالوزير، وشكا له ما فيه السلطان من الضيق والحاجة، وأنه حضر ليقترض له من التجار ما يشتري به هدية لجواريه ونسائه. فقال له ابن الشيخي: ارجع، وأنا غداً عند السلطان بألفي دينار. فعاد ابن عبادة، وأعلم السلطان بذلك، فسر سروراً كبيراً. وقدم الوزير بالمبلغ وقدمه للسلطان. فاستروح السلطان معه بالكلام، وشكا إليه ما هو فيه من ضيق مع الأمراء، فوعده بأن مصير الأمر إليه، وقوى قلبه وشجعه على الفتك بالأمراء، وهون عليه أمرهم، وقام وقد حفظ عليه الجمدارية ما قاله في حق الأمراء. وعاد السلطان إلى القلعة، وقدم الوزير من الإسكندرية بمال كثير وكساو جليلة، وشكا إلى الأمير بيبرس نائب الإسكندرية.
وقدم الخبر من الأردو بأنه قد جرد مقدم اسمه قبرتو ليقيم بديار بكر، عوض جنكلي ابن البابا المهاجر إلى الإسلام. فكتب نائب الشام مطالعة بذلك، وفيها:
أتى من بلاد المشركين مقدم ... تعالن لما أن دعوه قبرتوا
وإني لأرجو أن يجىء عقيبها ... بشير لنا أن اللعين قبرتوا
وبلغ النيل ستة عشر ذراعاً وستة عشر أصبعاً، بعدما توقف، وتحسنت الغلال.
ومات في هذه السنة
عز الدين أيبك الحموي، وكان من مماليك المنصور نائب حماة، فطلبه منه الملك الظاهر بيبرس هو وأبو خرص فيسرهما إليه فأمرهما، ثم ولي الأشرف خليل أيبك هذا نيابة دمشق بعد سنجر الشجاعي، وعزله العادل كتبغا بغرلوا. ولي صرخد ثم حمص، وبها مات في تاسع عشر شهر ربيع الآخر.
ومات الأمير بيبرس التلاوي في تاسع شهر رجب، وكان يلي شد دمشق - وفيه ظلم وعسف - مدة سنة وسبعة وأربعين يوماً، منها أيام مرضه حتى هلك سبعة أشهر، واستقر عوضه في وظيفة الشد قيران الدواداري.
ومات القان إبل خان معز الدين غازان بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن طولوي ابن جنكزخان، ببلاد قزوين في ثاني عشر شوال، وحمل إلى تربته خارج توريز. وكان جلوسه على تخت الملك في سنة ثلاث وتسعين وستمائة، وأسلم في سنة أربع وتسعين وستمائة، ونثر الذهب والفضة واللؤلؤ على رؤوس الناس، ففشا الإسلام بذلك في التتار، وأظهر غازان العدل، وتسمى بمحمود، وملك العراقين وخراسان وفارس والجزيرة والروم، وتسمى بالقان، وأفرد نفسه بالذكر في الخطبة، وضرب السكة باعه دون القان الأكبر، وطرد نائبه من بلاده، و لم يسبقه أحد من آبائه إلى هذا، فاقتدى به من جاء بعده، وكان أجل ملوك بيت هولاكو، إلا أنه كان ييخل بالنسبة إليهم.
ومات شمس الدين سلمان إبراهيم بن إسماعيل الملطي الدمشقي الحنفي أحد نواب الحكم بدمشق والقاهرة، وكان ديناً مباركاً.
ومات علاء الدين على بن عبد الرحيم بن مراجل الدمشقي، والد الصاحب تقي الدين سليمان بن مراجل، في سادس عشر ذي القعدة بدمشق، وقدم إلى القاهرة سنة إحدى وسبعمائة، وكان ماهراً في الحساب، أديباً فاضلاً.(1/334)
ومات زين الدين عبد الله بن مروان بن عبد الله بن فيع بن الحسن الفارقي الشافعي، في حادي عشرى صفر بدمشق، ومولده سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، وقد درس الفقه، وخطب بجامع بنى أمية قبل موته بتسعة أشهر، فولى الخطابة بعده صدر الدين محمد بن الوكيل المعروف بابن المرحل، فلم ترض الناس به، فولى شرف الدين القزاري ومات فتح الدين أبو محمد عبد الله بن الصاحب عز الدين محمد بن أحمد بن خالد ابن محمد القيسراني بالقاهرة يوم الجمعة خامس عشرى شهر ربيع الآخر، ومولده في سنة ثلاث وعشرين وستمائة، وقد وزر جده الموفق خالد للملك العادل نور الدين محمود بن زنكي وولى الفتح هذا وزارة دمشق، ثم صرف عنها، وقدم إلى القاهرة، وباشر توقيع الدست بقلعة الجبل، وعني بالعلم، وله تصانيف ونظم حسن.
ومات نصير بن أحمد بن على المناوي المعروف بالنصير الحمامي، الأديب البارع، في.
ومات الشريف أبو فارس عبد العزيز بن عبد الغني بن سرور بن سلامة المنوفي، أحد أصحاب الشيخ أبي الحجاج الأقصري - ويقال إنه شريف حسني - في ليلة الإثنين خامس عشر ذي الحجة بمصر، عن مائة وعشرين سنة، وهو صحيح الأعضاء سليم الحواس رصين العقل، وله ديوان شعر.
ومات الأمير بكتمر السلاح دار الظاهري في .
الجزء الثاني
سنة أربع وسبعمائة
في مستهل المحرم: قدم البريد بوصول الأمير سيف الدين قطايا بن سيغرا أمير بني كلاب في عدة من مشايخ العرب، ثم قدم فأكرمه السلطان والأمراء، وأعيدوا إلى حلب. وكان من خبر قطايا أنه لما خرج عن طاعة السلطان، وعاث في أعمال حلب وأفسد، طلبه عساكر حلب، ففر إلى بلاد الشرق، وأقام مع المغل، فأكرموه مدة حياة الملك محمود غازان حتى مات، فلم يجد بعدئذ ما كان بعهده، فترامى على نائب حلب، ومازال يستعطفه في أن يأذن له في العود بعد الشفاعة له إلى السلطان، فأجاب سؤاله وكاتب فيه، فعفي عن ذنبه، أعيدت له إقطاعاته بحلب.
وقدم البريد بوقوع الفتنة بين الأمراء أسندمر كرجي نائب طرابلس، والأمير بالوج الحسامي من أمرائها، من أجل أن أسندمر استخدم في ديوانه سامرياً كاتباً يقال له أبو السرور، فزاد تحكمه، وأخذ يتجر لمخدومه في عدة بضائع، وركب الخيول المسومة بالسروج المحلاة بالذهب والفضة، وتصرف في عامة الأمور بطرابلس حتى كثرت أمواله وسعاداته، وتزايد شره وضرره، وكثرت شكاية الناس منه. فقام الأمير بالوج في ذلك وتحدث مع أمراء طرابلس في إزالته عن المسلمين، وواعدهم على نصرته ومعاونته إياهم. ثم قام في يوم الموكب للنائب أسندمر، وذكر له ما أصاب الناس من كاتبه السامري، وما هم فيه من الضرر، فرد عليه رد اً غير جيد، وجبهه بالتكذيب فيما نقله، وأغلظ عليه حتى اشتد غضب الأمير بالوج منه - وكان قوي النفس شرس الأخلاق - وحلف بالأيمان المغلظة ليضربن رقبة السامري، وقام من مجلس النائب. فكتب فيه النائب أسندمر يشكو منه شكوى طويلة عريضة، فأعيد جوابه بالقبض على الأمير بالوج وحبسه، فأخذ سيفه وسجنه، فاشتدت عند ذلك وطأة السامري على الناس، فتجردوا له وكتبوا فيه محاضر بقوادح حفظت عنه، وأثبتوها بدمشق. فكتب الأمير جمال الدين أقوش الأفرم نائب الشام فيه، فقام الأمير بيبرس الجاشنكير في ذلك. وكتب بحمل السامره إلى دمشق وتسليمه للقاضي المالكي. والإفراج عن بالوج، فأفرج عنه وأنعم عليه، وقيد السامري وسلمه للبريد، فسار به إلى حمص، فاتفق قتله بها، واتهم أسندمر أنه دس عليه من ضرب عنقه حتى لا يتمكن منه، فحملت رأسه إلى دمشق.(1/335)
وفيهما حكم قاضي المالكية بإراقة دم شمس الدين محمد بن الباجريقي ففر من دمشق وقدم الأمير سلار من الحب في نصف صفر، وقد فعل في الحجاز أفعالاً جميلة منها: أنه كتب أسماء المجاورين بمكة وأوفى عنهم جميع ما كان عليهم من الديون لأربابها، وأعطى لكل منهم بعد وفاء دينه مئونة سنة، ووصلت مراكبه إلى جدة سالمة، ففرق ما فيها على سائر أهل مكة جليلهم وحقيرهم، وكتب سائر الفقراء وجميع الأشراف، وحمل إليهم الدنانير والدراهم والغلة بقدر كفاية كل منهم سنة، فلم تبق بمكة امرأة ولا رجل ولا صغير ولا كبير ولا غني ولا فقير عبد أو حر شريف أو غير شريف إلا وعمه ذلك، ثم استدعى الزيلع وفرق فيهم الذهب والفضة والغلال والسكر والحلوى حتى عم سائرهم، وبعث مباشريه إلى جدة، ففعلوا فيها كما فعل هو بمكة. وحمل ما بقي إلى المدينة النبوية، فما بلغ وادي بني سالم وجد العرب قد أخذوا عدة جمال من الحجاج، فتبعهم واخذ منهم خمسين رجلاً، فأفتاه الفقهاء بأنهم محاربون، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وعم أهل المدينة بالعطايا كما عم أهل مكة، فكان الناس بالحرمين يقولون: يا سلار! كفاك الله هم النار، و لم يسمع عن أحد فعل من الخير كما فعل.
وقدم البريد من حلب بحضور جماعة من المغل وافدين إلى بلاد الإسلام، نحو مائتي فارس بنسائهم وأولادهم، وفيهم عدة من أقارب غازان وبعض أولاد سنقر الأشقر، فكتب بإكرامهم، فقدموا إلى القاهرة في جمادى الأولى وقدم معهم أخوا سلار، وهما فخر الدين داود، وسيف الدين جبا، وقدمت أيضاً أم سلار. فرتبت لهم الرواتب، وأعطوا الإقطاعات، وفرق جماعة منهم على الأمراء. وأنشأ سلار لأمه داراً بإسطبل الجوق الذي عمله العادل كتبغا ميداناً، ثم عرف بحكر الخازن، ورقى أخويه وأعطاهم الإمريات وقدم الأمير حسام الدين أزدمر المجيري، وعماد الدين على بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد العلي بن معرف بن السكري، من بلاد الشرق إلى دمشق في رابع عشرى شعبان، ودخلا القاهرة أول رمضان، ومعهما كتاب خر بندا وهديته، فتضمن كتابه جلوسه على تخت الملك بعد أخيه محمود غازان، وخاطب السلطان بالأخوة، وسأل إخماد الفتن، وطلب الصلح، وقال في آخر كلامه: عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه. فأجيب وجهزت له الهدية، وأكرم رسوله، وسفر معه علاء الدين على ابن الأمير سيف الدين بلبان القلنجقي أحد مقدمي الحلقة، والصدر سليمان المالكي المرتقى أحد العدول، فتوجهوا في أول ذي القعدة، وعاد علاء الدين وسليمان المالكي في رمضان من سنة خمس وسبعمائة. وقدم بدر الدين محمد بن فضل الله بن مجلي من بلاد غازان إلى دمشق في ثالث عشرى جمادى الآخرة.
وقدم رسل الملك طقطاي صاحب سراي وبر القبجاق في أول ربيع الأول، وأنزلوا بمناظر الكبش، وأجريت لهم الرواتب. ثم حضروا بهديتهم وكتاب ملكهم، وهو يتضمن الركوب لحرب غازان ليكون في المساعدة عليه، فأجيب بأن الله قد كفاهم أمر غازان، وأن أخاه خربندا قد أذعن للصلح، وجهزت له هدية خرج بها مع الرسل الأمير سيف الدين بلبان الصرخدي إلى الإسكندرية، وساروا في البحر.
وقدم عدة من التجار وشكوا من المؤيد هزبر الدين داود بن يوسف بن عمر بن على ابن رسول ملك اليمن، وكان مع ذلك قد قطع الهدية التي كانت تحمل من اليمن ومبلغها ستة آلاف دينار، يشتري بها أصناف وتسير إلى قلعة الإسماعيلية مع هدية تختص بالسلطان. وكان المظفر يوسف بن المنصور عمر بن على بن رسول حملها مدة أربعين سنة، ثم حملها ابنه الأشرف، فلما خرج عليه هزبر الدين داود بن المظفر يوسف بن المنصور بن على رسول قطع الجهتين واستخف بسلطان مصر، فكتب إليه بالإنكار والتهديد، وسير إليه مع ناصر الدين الطوري وشمس الدين ومحمد بن عدلان، ومعهما كتاب الخليفة أيضاً يالإنكار عليه والتهديد، وأمره أن يحمل المقرر على العادة.
وقدم أياي ملك دمقلة من بلاد النوبة بهدية ما بين جمال وأبقار ورقيق وشب وسنبادج ، وطلب عسكراً، فأنزل بدار الضيافة وعن معه الأمير سيف الدين طقصبا والي قوص وجماعة الوافدية ، وعدة من أجناده الحلقة نحو ثلاثمائة فارس، ومن أجناد الولاة بالوجه القبلي ومن العربان جماعة كبيرة. فاجتمعوا من البر والبحر بقوص، وسار بهم طقصبا مع أياي ملك النوبة.(1/336)
وفيها بعث الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار إلى القاضي شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله كاتب السر أن يكتب نائب الشام كتاباً، فقال: لابد من مشاورة السلطان أو النائب فغضب بيبرس واستدعاه، فلما جاءه لم يكترث به، وقال له: كيف أقول لك - والك - اكتب ما تكتب ؟فقال: تأدب يا أمير ولا تقول والك فقام بيبرس وضربه على رأسه ثلاث ضربات، فخرج من عنده إلى الأمير سلار النائب، وعرفه ما جرى عليه، فأقره عنده. واجتمع بالأمراء وقت الخدمة، وعرف الأمير بيبرس الجاشنكير الخبر فشق عليه وعلى بقية الأمراء ذلك، واتفقوا على بيبرس الدوادار فأخذ سيفه وعوق من بكرة النهار إلى الظهر، وعنف تعنيفاً زائداً، وعزل من الدوادارية، واستقر عوضه الأمير أيد مر.
وقدم البريد من دمشق بأن تقي الدين أحمد بن تيمية تنازع مع أهل دمشق في الصخرة التي بمسجد النارنج بجوار مصلى دمشق، وأن الأثر الذي بها هو قدم النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن ما يفعله الناس من التبرك به وتقبيله لا يجوز، وإنه مضى بالحجارين وقطع الصخرة في سادس عشر رجب، وقد أنكر عليه الناس ما فعله فأجيب إن كان الأمر على ما زعم فقد فعل الخير وأزال بدعة، وان كان الأمر بخلاف ما قال فإذا تبين صحته يقابل على ما فعله. وقدم أيدغدي الشمهرزوري رسولاً من جهة أبي يعقوب يوسف بن يعقوب بن عبد الحق بن محيو بن أبي بكر بن جماعة المريني ملك المغرب، بهدية جليلة، وقدم معه ركب المغاربة يريدون الحج، وكان قد انقطع من بلاد المغرب منذ سنين.
فجهزهم أبو يعقوب، وبعث معهم مصحفاً غشاه بالذهب المرصع بالجوهر الرائع، ووقفه في الحرم. فأكرم أيدغدي وأنزل بالميدان، وأجريت عليه الرواتب، وكان أيدغدي هذا لما قبض على يعقوب في الأيام الظاهرية فر في جماعة من الأكراد إلى برقة، وقدم على أبي يعقوب بهدية. ففر به وقدمه حتى صار في منزلة وزير، وحسنت سيرته عندهم إلى أن بعثه أبو يعقوب بالهدية ليحج.
وفيها بنى الأمير موسى بن الصالح على بن قلاوون على ابنة الأمير سلار النائب مملوك أبيه الصالح. وعمل مهم عظيم جداً، وجهزت ابنة سلار بمائة وستين ألف دينار، ومشى في زفته الأمير بيبرس الجاشنكير وسائر الأمراء، وحمل كل منهم التقادم من الشمع وغيره. فحمل الأمراء إليه ثلاثمائة وثلاثين قنطاراً من الشمع.(1/337)
وفيها أوقع بالوزير ناصر الدين محمد بن الشيخي: وسببه أن الأمير سلار النائب لما قدم من الحجاز عرفه الجمدارية اجتماعه بالسلطان على تروجة ومسارته له وحمله مبلغ ألفي دينار، وأنه فاوضه في أمر الأمراء، وشجعه عليهم، وأن السلطان كلما احتاج إلى شيء استدعى به منه، فيحمله إليه. فشق ذلك على سلار، وحرك منه ما في نفس من كراهته له. وكان الأمير بيبرس الجاشنكير قد عزم على الحج فأراد مبادرة ابن الشيخي قبل سفر بيبرس لئلا يوقع به في غيبته، فشق ذلك عليه، فاستشار الأمير علم الدين سنجر الجاولي في أمره، فاتفقا على إقامة شخص من الأقباط يرافعه ويحقق في جهته مال السلطان. وندب لذلك من وقع الاختيار عليه. فكتب أوراقاً، وجلس الأمراء في الخدمة، فعرفهم سلار ما بلغه عن الوزير ومماليكه وحط عليه. فقال الأمراء بأجمعهم: متى ظهر في قبله شىء قطع جلده بالمقارع ، واستدعى. فلما حضر قال لي سلار: اسمع ما يقول هذا الرجل من أنك أخذت مال السلطان وخنته، وقد عرفت الشرط ، وأشار للرجل بمحاققته. فقال ابن الشيخي لشؤم بخته: ومن هذا القطعة النحس حتى أتكلم معه، أو يسمع منه في حق مثلى ما يقوله. فاشتد عند ذلك غضب سلار، وقال له: يا قواد يا قطعة نحس إيش أنت حتى تكبر نفسك واذا حضر واحد يعرفنا خيانتك تخرق به قدامنا، أما لنا حرمة عندك؟ وأمر الحاجب فضربه على رأسه إلى أن خرب شاشه. وسلمه إلى شاد الدواوين وأمره بمعاقبته ومعاقبة مماليكه كبك وبكتوت وغيره، فأخذ سيفه في آخر يوم من شعبان ومضى به هو ومماليكه وشاور عليه من الغد، فأمر بمطالبته بالحمل، فأخذ في تحصيل المال ولا يمر به يوم إلا ويخرق به عز الدين ايبك الشجاعي شاد الدواوين وينكل به، لما كان نفسه من تكبره عليه ومشيه في ركابه هو ووالى القاهرة عند قربه من داره. ثم إنه جلس بالصناعة في مصر، واستدعاه من القلعة، فنزل راكباً حماراً وشق به أسواق مصر إلى الصناعة، فثار به أهل مصر يريدون رجمه، وسبوه. ثم أعاده، و لم يزل على ذلك إلى يوم الأربعاء ثاني عشر رمضان فاستدعى سعد الدين محمد بن عطايا ناظر البيوت واستقر في الوزارة.
وجلس والأمير علم الدين سنجر الجاولي قائم بين يديه يؤخر ما يوقع عليه من الأوراق، وكان ابن عطايا قبل هذا بثلاثة أيام قد رؤى قائماً بين يدي الجاولي يقرأ عليه ورقة حساب. واستمر ابن الشيخي إلى ليلة عيد الفطر، وبيبرس الجاشنكير لا يتحدث في أمره بشىء، وإذا عرض عليه شاد الدواوين شيئاً من أموره قال له: مهما رسم نائب السلطان افعله. هذا وقد ثقل عليه في أمر ابن الشيخي زوجته بنت بهادر رأس نوبة وولداها جركتمر وأميرعلى وأخوهما خليل، وكانوا من خواص الأمير بيبرس، وهو يعدهم بخلاصه إلى أن اجتمع والأمراء عند النائب، فتحدث معه في خلاصه، فعرفه ما كان منه مع السلطان على تروجة، فأمسك عنه وقام.
وفيها توجه الأمير بيبرس الجاشنكير إلى الحجاز مرة ثانية في أول ذي القعدة، ومعه علاء الدين ايدغدي الشمهرزوري رسول ملك المغرب، والأمير بيبرس المنصوري الدوادار، والأمير بهاء الدين يعقوب في جماعة كثيرة من الأمراء. وكان فد خرج الركب في عالم كثير من الناس مع الأمير عز الدين أيبك الخازندار زوج ابنة الملك الظاهر بيبرس إلى البركة، فكثر الحجاج ، وقسموا ثلاث ركوب: ركب مع الأمير بيبرس المنصوري، وركب مع الأمير يعقوبا، وركب مع أيبك، وعندما سار الأمير بيبرس الجاشنكير رسم النائب سلار لشاد الدواوين فضرب ابن الشيخي في يومه بالمقارع، واستمر يعاقبه حتى مات من العقوبة في سابعه.
وفيها سار الشريفان حميضة ورميثة من القاهرة مع الأمير عز الدين أيدمر الكوكندي إلى مكة، فقبض الأمير بيبرس الجاشنكير على الشريفين أبي الغيث وعطفة، وولى مكانهما حميضة ورميثة.
وفيها: وجد الحاج عدة مشاق: منها قلة الماء وغلاء السعر وهبوب سمائهم محرقة هلك منها خلق كثير من جفاف قرب الماء. وأخذ الحاج من وادي النار على طريق أخرى، فتاهوا وهلك منهم عالم كبير. وبلغ الشعير كل ويبة بأربعين درهماً، والدقيق كل وبية بستين.(1/338)
وفيها: قدم الأمير بكتاش الفخري أمير سلاح بمن معه من غزاة سيس وفيها أجدب الشام من الغور إلى العريش، وجفت المياه، ونزح الناس عن أوطانهم من العطش وخلا من الصفقة القبلية ألفان وثمانمائة قرية.
وفيها ظهر في معدن الزمرد قطعة زنتها مائة وخمسة وسبعون مثقالًا، فأخفاها الضامن وحملها إلى بعض الملوك، فدفع له فيها مائة وعشرين ألف درهم فأبى بيعها، فأخذها منه وبعث بها إلى السلطان، فمات الضامن غماً.
وفيها: توجه شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية في ذي الحجة من دمشق ومعه الأمير بهاء الدين قراقوش المنصوري، إلى أهل جبل كسروان يدعوهم إلى الطاعة فلم يجيبوا. فجمعت العساكر لقتالهم.
وفيها: قام بأمر المدينة النبوية الشريف ناصر الدين أبو عامر منصور، بعد موت أبيه الأمير عز الدين أبي سفر جماز بن شيحة في ربيع الآخر. وبلغ النيل سبعة عشر ذراعاً. وثمانية عشر إصبعاً.
ومات في هذه السنة
زين الدين أحمد بن الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين على بن محمد بن سليم بن حنا، في ليلة الخميس ثامن صفر، وكان فقيها شافعياً فاضلاً متديناً، رئيساً وافر الحرمة محباً لأهل الخير ومات فتح الدين أحمد بن محمد بن سلطان القوصي الشافعي، وكيل بيت المال بقوص وأحد أعيانها، في حادي عشر المحرم.
ومات شمس الدين أحمد بن على بن هبة الله بن السديد الإسنائي، خطيب إسنا ونائب الحكم بها وبأدفو وبقوص، في رجب؛ وكان قد انتهت إليه رياسة الصعيد، وبنى بقوص مدرسة، وكان قوى النفس كثير العطاء مهيبا ممدوحاً، يبذل في بقاء رياسته الآلاف، فيقال إنه بذل في نيابة الحكم بقوص ثمانين ألف درهم، فسار إلى مصر ومات بها.
ومات الأمير بيبرس الموفقي المنصوري أحد أمراء دمشق بها، في يوم الأربعاء ثالث عشرى جمادى الآخرة، مخنوقاً وهو سكران.
ومات الأمير الشريف عز الدين جماز بن شيحة أمير المدينة النبوية وقد أضر، وقام بالإمرة الأمير ناصر الدين منصور بن جماز.
ومات بهاء الدين عبد الحسن بن الصاحب محي الدين محمد بن أحمد بن هبة الله، ويعرف بأبي جرادة، مات بالقاهرة وكان سخياً مباركاً فاضلاً، حدث عن يوسف بن خليل وغيره.
ومات علم الدين عبد الكريم بن على بن عمر الأنصاري المعروف بالعلم العراقي، الفقيه الشافعي، مدرس التفسير بالقبة المنصورية، يوم الثلاثاء سادس صفر عن بضع وثمانين سنة، وكان عالم مصر.
ومات تاج الدين على بن أحمد بن عبد المحسن الحسينى العراقي الإسكندراني شيخ الإسكندرية، الإمام المحدث، في ذي الحجة، تفرد بالرواية عن جماعة، ورحل الناس إليه، وكان فقيهاً عالماً.
ومات نجم الدين عمر بن أبي القاسم بن عبد المنعم بن محمد بن الحسن بن الكاتب بن أبي الطيب الدمشقي، ناظر المارستان النوري بدمشق وناظر الخزانة ووكيل بيت المال بها، ليلة الثلاثاء نصف جمادى الآخرة، وكان فقيهاً مدرساً مشكوراً في ولاياته.
ومات أمين الدين محمد بن الشيخ قطب الدين محمد بن أحمد بمكة في المحرم، وسمع الحديث بمكة، وانتهت إليه مشيخة الحديث بها.
ومات شمس الدين محمد بن الصاحب شرف الدين إسماعيل بن أبي سعيد بن التيتي الآمدي، أحد الأمراء ونائب دار العدل بقلعة الجبل.
ومات الأمير مبارز الدين سوار الرومي أمير شكار، أحد الوافدية من الروم في الأيام الظاهرية، وكان كريماً شجاعاً متديناً.
ومات الأمير سيف الدين بهادر سمر مقتولًا بأيدي عرب الشام.(1/339)
ومات الأمير الوزير ناصر الدين محمد - ويقال ديباى - الشيخي تحت العقوبة في سابع ذي القعدة، وأخرج على جنوية إلى القرافة، فدفن بها، وكان فيه مكارم وعصبة ومروءة ويكتب الخط المليح، ويعرف صناعة الحساب، مع الظلم والعسف والتكبر، وأحدث مظالم عديدة، وأصله من بلاد ماردين، وقدم مع شمس الدين محمد بن التيتي إلى دمشق، وسار منهما إلى القاهرة مجرداً فقيراً يمشي على قدميه، وتعيش في خياطة الأقباع ببعض أسواق القاهرة مدة، ثم تزيا بزي الأجناد وخدم مع الشادين، ولازم الوقوف في خدمة الحسام برناق شاد الكيالة زماناً حتى عرف دخل المباشرة وخرجها، فتلطف مع بعض مقطعي الكيالة وأوعدهم حتى ضمن ساحل الغلة ببولاق، فشدد فيه حتى فاض معه جملة، وخدم الصاحب فخر الدين بن الخليلي، وهادى الأمراء إلى أن ولى شد الدواوين بإمرة عشرة، وانتقل منها إلى شد الجيزية وولاية القاهرة وجمع بينهما، فصار من أمراء الطبلخاناه، وولى الوزارة، فكان فيها حتفه.
ومات الشريف شمس الدين أبو عبد الله محمد بن الشهاب أبي على الحسين بن شمس الدين أبي عبد الله محمد الأرموي نقيب الأشراف في تاسع عشر شوال، وولى نقابة الأشراف بعده الشريف بدر الدين بن عز الدين، وقتله بدمشق أبو السرور السامري كاتب الأمير سيف الدين أسندمر كرجي نائب طرابلس.
سنة خمس وسبعمائة
في أول المحرم: باشر جلال الدين محمد بن عبد الرحمن بن عمر القزويني نيابة الحكم بدمشق، عن نجم الدين أحمد بن صصري.
وفي ثانيه: سار الأمير جمال الدين أقوش الأفرم نائب الشام من دمشق في عساكرها لقتال أهل حبال كسروان، ونادى بالمدينة من تأخر من الأجناد والرجالة شنق. فاجتمع له نحو الخمسين ألف راجل، وزحف بهم لمهاجمة أهل تلك الجبال، ونازلهم وخرب ضياعهم وقطع كرومهم، ومزقهم بعدما قاتلهم أحد عشر يوماً، قتل فيها الملك الأوحد شادي بن الملك الزاهر داود وأربعة من الجند، وملك الجبل عنوة، ووضع فيهم السيف وأسر ستمائة رجل، وغنمت العساكر منهم مالاً عظيماً، وعاد إلى دمشق في رابع عشر صفر.
وقدم الأمير بيبرس الجاشنكير من الحجاز ومعه الشريفان أبو الغيث وعطيفة، فرتب لهما ما يكفيهما وصارا يركبان مع الأمراء وقدم الحاج، ورسم بتجهيز الهدية إلى ملك الغرب، وصحبتها عشرون إكديشاً من أكاديش التتر، وعشرون أسيراً منهم وشيء من طبولهم وقسيهم، وخرج بها - مع أيدغدي الشهرزوري - علاء الدين أيدغدي التسليلي الشمسي مملوك سنقر الأشقر، والأمير علاء الدين أيدغدي الخوارزمي. واستقر أمين الدين أبو بكر بن وجيه الدين عبد العظيم بن يوسف بن الرقاقي في نظر الشام، عوضاً عن شهاب الدين بن ميسر. وعزل شمس الدين محمد بن عثمان بن الحريري عن قضاء الحنفية بدمشق، وكتب باستقرار شمس الدين الأذرعي عوضاً عنه وسبب عزل أنه وجد بخطة ان الشيخ تقي الدين أحمد بن تميمة لم يرى الناس بعد سلف الصالح مثله فاتفق أن البريدي لما توجه بتقليد الأذرعي ظن أنه للحريري وقدم دمشق والنائب قد خرج إلى الصيد، فأعطى التقليد للحريري، فقام إلى المدرسة الظاهرية وحكم، وكان ابن الأذرعي يظنها له، فيئس واغتم لذلك. ثم قرئ الثقليد بحضره الناس، فإذا هر باسم الأذرعي، فقام الحريري خجلاً، واستدعى الأذرعي فجلس وحكم.
وفيها: أظهر ابن تيمية الإنكار على الفقراء الأحمدية فيما يفعلونه: من دخولهم في النيران المشتعلة، وأكلهم الحيات ولبسهم الأطواق الحديد في أعناقهم، وتقلدهم بالسلاس على مناكبهم، وعمل الأساور الحديد في أيديهم، ولفهم شعورهم وتلبيدها. وقام في ذلك قياماً عظيماً بدمشق، وحضر في جماعة إلى النائب، وعرفه أن هذه الطائفة مبتدعة، فجمع له ولهم الناس من أهل العلم، فكان يوماً مشهوداً كادت أن تقوم فيه فتنة، واستقر الأمر على العمل بحكم الشرع ونزعهم هذه الهيئات.
وفيها اقطع السلطان في جمادى الآخرة جبال كسروان بعد فتحها للأمير علاء الدين بن معبد البعلبكي، وسيف الدين بكتمر عتيق بكتاش الفخري. وحسام الدين لاجين، وعز الدين خطاب العراقي، فركبوا بالشربوش وخرجوا إليها، فزرعها لهم الجبلية، ورفعت أيدي الرفضة عنها.(1/340)
وفيها أخر متملك سيس الحمل الجاري به العادة، فبعث إليه نائب حلب أستاداره قشتمر الشمسي أحد مقدمي حلب على عسكر نحو الألفين، وفيهم الأمير شمس الدين أقسنقر الفارسي والأمير فتح الدين صبرة المهمندار، والأمير قشتمر النجيبي، وقشتمر المظفري، في ذي الحجة من السنة الماضية. فشنوا الغارات على بلاد سيس، ونهبوا وحرقوا كثيراً من الضياع، وسبوا النساء والأطفال في المحرم. وكان قد وصل إلى سيس طائفة من التتار في طلب المال، فركب التتار مع صاحب سيس، وملكوا رأس الدربند، فركب العسكر لقتالهم وقد انحصروا، فرمى التتار عليهم بالنشاب والأرمن بالحجارة، فقتل جماعة وأسر من الأمراء ابن صبرة، وقشتمر النجيبي، وقشتمر المظفري، في آخرين من أهل حلب، وخلص قشتمر مقدم العسكر، وآقسنقر الفارسي. وتوجه التتار بالأسرى إلى خربندا بالأردن، فرسم عليهم: وبلغ نائب حلب خبر الكسرة، فكتب بذلك إلى السلطان والأمراء، فرسم بخروج الأمير بكتاش أمير سلاح، وبيبرس الدوادار وأقوش الموصلي فتال السبع، والدكن السلاح دار، فساروا من القاهرة في نصف شعبان على أربعة آلاف فارس. فبعث متملك سيس الحمل، واعتذر بأن القتال لم يكن منه وإنما كان من التتر، ووعده بالتحيل في إحضار الأمراء المأسورين، فرجع الأمير بكتاش بمن معه من غزة.
وفيها أفرج عن الأمير سيف الدين الحاج بهادر الجكمي الظاهري، وأخرج إلى دمشق على إقطاع قيران مشد الدواوين، واستقر حاجباً بدمشق عوضاً عن الأمير بكتمر الحسامي، ونقل بكتمر من الحجوبية إلى شد الدواوين، وقبض على قيران وصودر.
وفيها قدم رسول ملك قسطنطينية ، ومعه رسول الكرج، بهدايا وكتاب يتضمن الشفاعة في فتح الكنيسة المصلبة بالقدس لزيارة الكرج لها، وأن الكرج تكون في طاعة السلطان وعوناً له متى احتاج إليهم. فكتب بفتح الكنيسة ففتحت، وأعيد الرسول بالجواب.
وفيها توقفت الأحوال بالقاهرة، لكثرة الفلوس وما دخل فيها من الخفاف الوزن، وارتفع سعر القمح من عشرين درهماً الأردب إلى أربعين. فرسم بضرب فلوس جدد، وعملت الفلوس الخفاف بدرهمين ونصف الرطل، فمشت الأحوال.
وفيها قام شمس الدين محمد بن عدلان بالقاهرة، وأنكر على تقي الدين أحمد بن تيمية فتوى رآها قي مسالة الاستواء ومسألة خلق القرآن، واجتمع بالقضاة في لنائب آل الأمر فيه إلى أن كتب ابن تيمية خطه وأشهد عليه إنه شافعي المذهب يعتقد ما يعتقده الإمام الشافعي، وانه أشعري الاعتقاد. فنودي بدمشق من ذكر عقيدة ابن تيمية شنق، فاشتد حينئذ ابن عدلان، وقام معه قاضي القضاة زين الدين على بن مخلوف المالكي. وحرض الأمراء عليه. ومازال بهم حتى خرج الأمير ركن الدين العمري الحاجب على البريد بحمله وحمل أخيه شرف الدين عبد الرحمن إلى القاهرة. وطلب الأمير ركن الدين نجم الدين أحمد بن صصري، ووجيه الدين بن المنجا، وتقي الدين شقير، وأولاد ابن الصائغ، فأحضروهم يوم الخميس ثاني عشر رمضان، فاجتمع القضاة والفقهاء بقلعة الجبل، وحضر الأمراء، فادعى ابن عدلان على ابن تيميه، فلم يجبه وقام يخطب، فصاح عليه القاضي زين الدين بن مخلوف المالكي: نحن أحضرناك للدعوى عليك، ما أحضرناك خطيباً وألزمه بالجواب. فقال له: أنت عدوي لا يجوز حكمك على فأمر باعتقاله، فأخذ وسجن بحارة الديلم من القاهرة هو وأخوه.
وخلع على ابن صصري، وأعيد إلى دمشق، ومعه كتاب ليقرأ على الجامع بالمنع من الكلام في العقائد والنهي عن اعتقاد شيء من فتاوى ابن تيمية، وأن يكتب على الحنابلة محاضر بالرجوع عن ذلك، وتثبت على قضاة الممالك، وتقرا على المنابر، ففعل ذلك بدمشق.(1/341)
وفيها قطع خبر الأمير الكبير بكتاش الفخري أمير سلاح الصالحي النجمي: وسبب ذلك أنه مرض وقد أناف على الثمانين فخاف أستاداره بكتمر الفارسي من موته، وأن يطالب من ديوان السلطان بتفاوت الإقطاع في مدة إمرته وهي ستون سنة، وأن يلزم بالتقاوى السلطانية، وحسن لولده ناصر الدين محمد أن يمضي إلى الأمير بيبرس وسلار على لسان أبيه، بان يتحدثا مع السلطان بأنه قديم هجرة وله خدمة في البيت المنصوري، وقد أسن وعجز عن الركوب، ولا يحل له أكل هذا الإقطاع بغير استحقاق، ويسألاه في إخراجه عنه وكتابة مسموح لأولاده ومباشريه بما يخص السلطان من تفاوت الإقطاعات والانتقالات من تاريخ إمرته إلى خروج الإقطاع عنه، وخيله إنه متى لم يفعل ذلك حتى يموت والده لم يبق لهم من بعده وجود، ويحتاج إلى الاستدانة ليوفي الديوان السلطاني مستحقه. فانفعل لذلك، وبلغ ما رتبه الأستادار عن أبيه إلى بيبرس وسلار، فتألما وبكيا، ودخلا به إلى السلطان، فأعاد ناصر الدين محمد له الرسالة بحضور الأمراء، فأجيب، وكتب المسموح، ونصه: رسم بالأمر الشريف شرفه الله وعظمه أن يسامح المقر العالي المولوي الأميري البدري بكتاش الفخري الصالحي أمير سلاح بجميع ما عليه من تفاوت الإقطاعات المنتقل إليها والمنتقل عنها، من غير طلب تفاوت ولا تقاو، ولا ما يخص الديوان الشريف من هلالي وخراجى وغيره، مسامحة وانعاماً عليه، لما سلف له من الخدمة وتقادم الهجرة، مسامحة لا رد فيها ولا رجوع عنها بحيث لا يطالب بشئ قل ولا جل، لما مضى من الزمان وإلى يوم تاريخه، لنزوله عن إقطاعه حسب سؤاله وتوجه إليه الأمير شمس الدين سنقر الكمالي الحاجب، والأمير بدر الدين محمد بن الوزيرى بذلك. وسبق ولده ودخل عليه ومعه بكتمر أستاداره، وحدثاه في أنه قد ضعف عن الحركة، وأن الإقطاع يستكثر عليه، فقال: أرجو أن يمن الله بالعافية، وأن أموت على ظهر فرسي في الجهاد فذكرا له ما يتخوفانه بعد موته من المغرم، فلم يلتفت لكلامهما. وقدم الحاجب وابن الوزيري بالمسموح ، فقاله لهما: لا تطيلا في الكلام، فإنه اختلط وفسد عقله فدخلا وعرفاه ما قاله عنه ولده من طلب الإعفاء من الخدمة، فإنه نزل عن الإقطاع، وقدما له المسموح، وبلغاه سلام السلطان والأمراء، وأنه لم يفعل هذا إلا حسب سؤاله، وقد رتب له خمسة آلاف درهم في الشهر. فغضب عند ذلك وقال: قطع السلطان خبزي؟ قالا: نعم! وعرفاه ما كان من ولده، فالتفت إليه وقال: أنت سألت في ذلك؟ قال: نعم! فسبه، وقال للأميرين: قولاً للسلطان والأمراء ما كنت أستحق أن يقطع خبزي قبل الموت، وهم يعلمون ما فعلته معهم، وكنت أؤمل أن أموت في الغزاة، وما برحت أخرج كل سنة لعل أن يدركني أجلي، فما قدر الله. ثم أعرض عنهم، وقاموا عنه، فمات من مرضه هذا. واستقر إقطاعه في الخاص السلطاني، وأضيفت أجناده إلى الحلقة، وذلك في ذي الحجة.
وفيها قدمت هدية الملك المؤيد هزبر الدين دواد صاحب اليمن، فوجدت قيمتها أقل من العادة، فكتب بالإنكار عليه والتهديد، وسير مع بدر الدين محمد الطوري أحد مقدمي الحلقة، فلم يعبأ به الملك المؤيد، ولا أجاب عن الكتاب بشيء.
وفيها استسقى أهل دمشق لقلة الغيث، فسقوا بعد ذلك.
ومات في هذه السنة
خطيب دمشق شرف الدين أحمد بن إبراهيم بن سباع الفزارى الفقيه الشافعي المقرئ النحوي المحدث، في شوال عن خمس وسبعين سنة.
ومات مجد الدين سالم بن أبي الهيجاء بن جميل الأذرعي قاضي نابلس، بالقاهرة في ثاني عشر صفر، بعدما باشر قضاء نابلس أربعين سنة، وصرف عنها وقدم بأهله إلى القاهرة فمات بها.
ومات الحافظ شرف الدين أبو محمد عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن بن شرف ابن الخضر بن موسى الدمياطي الفقيه الشافعي المحدث آخر الحفاظ، في خامس عشر ذي القعدة، من غير مرض، عن اثنتين وتسعين سنة.
ومات قاضي القضاة بحلب شمس الدين محمد بن محمد بن بهرام الشافعي بها، في أوائل جمادى الأولى، وكان فاضلاً مشكور السيرة.
ومات محمد بن عبد المنعم بن شهاب الدين بن المؤدب بمصر، حدث عن ابن باقا.(1/342)
ومات الفقيه العابد المسند أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن أبي بكر بن محمد الحبراني الحنبلي، ومولده بحران سنة ثماني عشرة وستمائة، سمع من ابن روزبة والمؤتمن ابن قميرة، وسمع بمصر من ابن الجميزي وغيره، وتفرد بأشياء، وكان فيه دعابة، وتلا بمكة ألف ختمة.
ومات شرف الدين يحيى بن احمد بن عبد العزيز الجذامى الإسكندراني.
ومات الأوحد تقي الدين بن الملك الزاهر مجير الدين داود بن المجاهد أسد الدين شيركوه بن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شادي بن مروان، أحد أمراء دمشق، في ثاني صفر على قتال الكسرويين، وكان فاضلاً خبيراً بالأمور.
وماتت المعمرة أم الفضل زينب بنت سليمان بن إبراهيم بن هبة الله بن رحمة الإسعردية بمصر في ذي القعدة، حدثت عن ابن الزبيدي وأحمد بن عبد الواحد البخاري وغيره، وتفردت بأشياء.
سنة ست وسبعمائة
فيها توحش ما بين الأميرين علم الدين سنجر البرواني وسيف الدين الطشلاقي على باب القلة من القلعة بحضرة الأمراء، من أجل استحقاقهما في الإقطاعات، فإنهما تباعلا، ونزل الطشلاقي على إقطاع البرواني.
وكان كل منهما فيه كبر وظلم وعسف، والبرواني من خواص الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير، والطشلاقي من ألزام الأمير سلار النائب لإنه خشداشه، وكلاهما مملوك الصالح على بن قلاوون. فاشتد الطشلاقي على البرواني وسفه عليه، فقام البرواني إلى الأمير بيبرس فشكا منه، فاستدعى به وعنفه، فاساء في الرد وأفحش في حق البرواني، وقال: أنت واحد منفي وافدي تجعل نفسك مثل مماليك السلطان؟. فاستشاط بيبرس غضباً، وقام ليضربه، فجرد سيفه يريد ضرب بيبرس، فقامت قيامة بيبرس، وأخذ سيفه وأومأ ليضربه، فترامى عليه من حضره وأمسكه عنه، وأخرجوا الطشلاقي بعدما كادت مماليك بيبرس أن تقتله. وللوقت طلب بيبرس الأمير سنقر الكمالي الحاجب، وأمره بإخراج الطشلاقي إلى دمشق، فخشي من النائب سلار ودخل عليه وأخبره الخبر فوجد العلم عنده، وأمره بالعود إلى بيبرس وملاطفته في العفو عن الطشلاقي، وأنه يلزم داره حتى يرضى عنه. فعاد إلى بيبرس، وعندما أخذ يبلغه رسالة سلار صرخ فيه، وحلف إن بات الطشلاقي الليلة في القاهرة عملت فتنة كبيرة. فعاد الحاجب وبلغ سلار ذلك، فلم يسعه إلا السكوت، وأخرج الطشلاقي من وقته، وأمر الحاجب بتأخيره في بلبيس ليراجع بيبرس فيه. وعندما اجتمعا من الغد في الخدمة بدأه بيبرس بما كان من الطشلاقي في حقه من الإساءة، وسلار يسكن غضبه فلا يسكن بل يشتد، فأمسك على حقد وتوجه الطشلاقي إلى الشام.
وفيها قدم البريد من حماة بمصر ثابت على القاضي أن ضيعة تعرف ببارين بين جبلين، فسمع للجبلين في الليل قعقعة عظيمة، فتسارع الناس في الصباح إليها، فإذا أحد الجبلين قد قطع الوادي وانتقل منه قدر نصفه إلى الجبل الآخر، والمياه فيما بين الجبلين تجري في الوادي، فلم يسقط من الجبل المنتقل شيء من الحجارة، ومقدار النصف الذي انتقل من الجبل مائة ذراع وعشرة أذرع، ومسافة الوادي الذي قطعه هذا الجبل مائة ذراع وأن قاضي حماة خرج بالشهود حتى عاين ذلك، وكتب به محضراً فكان هذا من غرائب الاتفاق.
وفيها قدم الخبر من بلاد المغرب بقتل السلطان أبي يعقوب بوسف بن يعقوب المريني صاحب تلمسان في ذي القعدة من السنة الحالية على يد خدمه، وأن ابنه أبا سالم قام من بعده، فثاروا به بعد أسبوع، وأقاموا عوضه حفيده أبا عامر ثابت.(1/343)
وفيها ابتدأت الوحشة بين الأميرين بيبرس وسلار: وسببها أن التاج بن سعيد الدولة الكاتب كان متمكناً من بيبرس مستولياً على سائر أموره، فمكنه من الدولة حتى صارت أمور الأموال الديوانية المتعلقة بالوزارة والأستادارية لا يلتفت فيها إلى كلام غيره، واستعان معه أكرم بن بشير أحد أقاربه، فتقربا إلى بيبرس بتحصيل الأموال من المشتروات، وأضافا له جهة النطرون وكان التاج صديقاً لابن الشيخي، وهو الذي قدمه إلى الوزارة، فلما قتل شق عليه، واتهم الأمير علم الدين سنجر الجاولي بأنه السبب في ذلك، وأنه الذي أغرى به الأمير سلار، لما كان يعلم من عداوة الجاولي لابن الشيخي ومصادقته للصاحب سعد الدين محمد بن سعد بن عطايا، وهو الذي عينه للوزارة بقصد إنكاء التاج بن سعيد الدولة. فأخذ التاج في العمل على الجاولي، وهو يومئذ ينوب عن بيبرس الجاشنكير في الأستادرية، وندب لمرافقته رجل من الأقباط، وصار كل قليل يقول عنه لبيبرس إنه نهب الأموال، وأخذ رواتب كثيرة لنفسه وحواشيه، ومد وقفت أحوال الدولة من ذلك، والوزير ابن عطايا لا يدري صناعة الكتابة، وإنما أشار الجاولي على سلار بوزارته ليتمكن من أغراضه، وان بعض كتاب الحوائج خاناه كتب أوراقاً بمال كبير في جهة الجاولي، وأكثر من هذا القول وما أشبهه، إلى أن تقرر ذلك في نفس بيبرس وتغير على الجاولي، وحدث سلار في أمره، وأنه أخذ جملة مال مستكترة. وكان سلار صديقاً للجاولي شديد المحبة له من قديم حتى أن كلاً منهما عمر مدرسة على جبل يشكر بجوار مناظر الكبش مجاورة لمدرسة الآخر، وعمل لنفسه مدفناً بحذاء مدفن الآخر. فدافع سلار عن الجاولي، وقال لبيبرس: بالله لا تسمع للديوان؟ فإنهم مناحيس يريدون الفتن. فتمادى بيبرس في الحط على الجاولي وسبه، وقال: لابد أن أخلص منه المال . فلما افترقا أعلم سلار الجاولي بتغير بيبرس عليه، فقال له: هذا من التاج بن سعيد الدولة، فأشار عليه بالدخول إلى بيبرس ومخادعته بلين القول له، عساه ينخدع ويمسك عما يريده. فامتثل ذلك وصار إليه وخضع له وتذلل، فاشتد في الحرج وبالغ في السب والتهديد، و لم يلتفت إلى قوله، فقام يتعثر في أذياله إلى سلار وأخبره، فغضب من ذلك. وعند خروج الجاولي من عند بيبرس دخل عليه ابن سعيد الدولة بأوراق قد رتبها. مما في جهة الجاولي، وقرأها عليه، وأحضر معه أكرم بن بشير ليحاقق الجاولي على ما في الأوراق، فقوى بيبرس قلب بن بشير على المحافظة. ولما كان الغد، وخرج الأمراء من الخدمة السلطانية، وجلسوا عند النائب سلار، وفيهم الجاولي والوزير، أمر بيبرس بإحضار ابن بشير الكاتب، فلما جاء قال له: أنت قلت إن مال السلطان ضائع، وإن هذا - يعني الجاولي - أخذ منه أشياء، وإن الوزير وافقه على ذلك، وإن أحوال الدولة قد وقفت، وإنك ترافعهما وتحقق مال السلطان في جهتهما فتكلم الآن معهما، ولا تقل إلا الصحيح . فنهض عند ذلك قائماً، وأخرج الأوراق، وحاقق الوزير على فصول تلزم الجاولي، فأجاب الجاولي. عنها فصلاً فصلاً، وابن بشير يرد عليه وقال في كلامه: أنت أمير، ما تدري فصول الكتابة وطال الكلام، وانفض المجلس على أقبح صورة، وقد وقع التنافر بين بيبرس وسلار بسبب قيام كل منهما في نصرة صاحبه.
وكان من عادة بيبرس أن يركب لسلار عند ركوبه وينزل عند نزوله، فمن يومئذ لم يركب معه، وبقي كل منهما يركب في حاشيته وحده، وتوقع الناس الفتنة. فبعث الأمير سلار بسنقر الكمالي الحاجب إلى بيبرس ليتلطف به ويعرفه إن الجاولي قد علمت ما بيني وبينه من الأخوة بحيث أن كلا منا عمل الآخر وصيه على أولاده بعد موته، ويتضرع له حتى يعفو عنه. فمضى إليه وبالغ معه في الكلام، وهو يشتد إلى أن قال: لا أرجع عنه حتى أخذ منه مال السلطان وأضربه بالمقارع. وبعث إليه: إن لم تحمل المال ضربتك بالمقارع حتى تموت مثل الغير يعني ابن الشيخي، وبعث إلى الوزير بذلك أيضاً، ورسم عليهما حتى يحملا المال. فلما بلغ الكمالي ذلك لسلار قامت قيامته، إلا أنه كان كثير المداراة عاقلاً. وأخذ الجاولي في بيع خيله وقماشه وأمتعته بباب القلة على الأمراء، فشق عليهم ما نزل به وشروا مبيعه بأضعاف ثمنه، ليردوه إليه إذا صلح حاله مع الأمير بيبرس، تقرباً لخاطر الأمير سلار.(1/344)
وتمادى الحال عدة أيام وبيبرس وسلار لا يجتمعان، واستعد الأمراء البرجية ألزام بيبرس، وصاروا يركبون بالسلاح من تحت ثيابهم خوفاً من وقوع الفتنة، وترقب الناس الشر في كل يوم، وتحدثوا به. فركب الأمراء الأكابر: أقوش قتال السبع، وبيبرس الدودار، وبرلغي، وأيبك الخازندار، وسنقر الكمالي، وبكتوت الفتاح، في آخرين إلي الأمير بيبرس الجاشنكير، وتحدثوا معه في تسكين الشر وإخماد الفتنة. ومازالوا به حتى رفع الترسيم عن الجاولي بشرط أن يخرج إلى الشام بطالا، وقاموا من عنده إلى الأمير سلار، ومازالوا به حتى وافق على سفر الجاولي، فسافر من يومه بعد ما قطع خبزه، ثم أنعم عليه بعد وصوله إلى دمشق بإمرة طبلخاناه.
وفيها أفرج عن الصاحب سعد الدين محمد بن عطايا بعدما حمل نحو الثمانين ألف درهم، واصطلح بيبرس وسلار، ثم تحدثا في أمر الوزارة ومن يصلح لها، فعين سلار التاج بن سعيد الدولة، فقال بيبرس: إنه لا يوافق، فقد عرضتها عليه وامتنع منها، فقال سلار: دعني وإياه، فقال: دونك، وتفرقا. فبعث سلار إلى التاج أحضره، فلما دخل عليه عبس في وجهه وصاح بانزعاج: هاتوا خلعة الوزارة، فأحضروها، وأشار إلي التاج بلبسها فتمنع، وصرخ فيه وحلف لئن لم يلبسها ضرب عنقه. فخاف الإخراق به لما يعلمه من بغض سلار له، ولبس التشريف في يوم الخميس خامس عشر المحرم، وقبل يد الأمير سلار فبش له ووصاه، وخرج من دار النيابة بالقلعة إلى قاعة الصاحب بها، وبين يديه النقباء والحجاب، وأخرجت له دواة الوزارة والبغلة، فعلم على الأوراق وصرف الأمور إلى بعد العصر، ونزل إلى داره. وبلغ ذلك الأمير بيبرس فسر به، لأنه كان من غرضه.
وأصبح الناس يوم الجمعة إلى دار الوزير تاج الدين أبي الفتوح بن سعيد الدولة ينتظرون ركوبه، فلم يخرج إلى أن علا النهار، وخرج غلامه و قال: يا جماعة! القاضي عزل نفسه وتوجه إلى زاوية الشيخ نصر المنبجي، فتفرقوا، وكان لما نزل إلى داره توجه ليلاً إلى الشيخ نصر، وكان خصيصاً به، وله مكانة عند الأمير بيبرس، وبعث بتشريف الوزارة إلى الخزانة السلطانية بالقلعة، وأقام عند الشيخ نصر مستجيراً به، فكتب الشيخ نصر إلى بيبرس يشفع فيه، ويقول له إنه قد استعفى من الوزارة وقال إنه لا يباشرها أبداً، ويقصد أن يقيم في الزاوية مع الفقراء يعبد الله فأخذ بيبرس الورقة ودخل على سلار، فلما وقف عليها قال: قد أعفيناه، فأحضره حتى نستشيره فيمن يلي الوزارة، فأحضره بيبرس إليه فاعتذر، وأشار بوزارة ضياء الدين أبي بكر بن عبد الله بن احمد النسائي ناظر الدواوين، فاستدعى وخلع عليه في يوم الاثنين تاسع عشره. فباشر ضياء الدين الوزارة، وليس له منها سوى الاسم، وصار التاج يدبر الأمور، ولا يصرف شيء إلا بخطه، ولا يفعل أمر إلا بحكمه.
وفي سادس صفر: خلع على التاج بن سعيد الدولة، واستقر مشيراً وناظراً على الوزارة وسائر النظار مصراً وشاماً، ومنفرداً بنظر البيوتات والأشغال المتعلقة بالأستادارية ونظر الصحبة ونظر الجيوش، وكتب له توقيع لم يكتب لمتعمم مثله. وصار يجلس بجانب الأمير سلار نائب السلطنة، فوق كل متعمم من الكتاب، ونفذ حكمه ومضى قلمه في سائر أمور الدولة، فألان الوزير جانبه له وخفض جناحه بكل ممكن. واستقر عز الدين أيدمر الخطيري أستادارا عوضاً عن سنجر الجاولي.
وفيها قدم الرسل الذين توجهوا إلى الملك طقطاي صاحب بلاد الشمال: وهم الأمير بلبان الصرخدي ورفقته، ومعهم نامون رسول طقطاي بهدية سنية، وكتاب يتضمن أن عسكر مصر تسر إلى بر الفرات ليسير معهم ويأخذ بلاد غازان، ويكون لكل منهما ما يصل إليه من البلاد. فأكرم الرسول وجهزت له الهدايا، وأجيب بأن الصلح قد وقع مع خربندا ولا يليق نقضه، فإن حدث غير ذلك عمل بمقتضاه وسير إليه الأمير بدر الدين بكمش الظاهري، وفخر الدين أياز الشمسي أمير أخور، وسنقر الأشقر، وأحد مقدمي الحلقة.(1/345)
وفيها نقل شهاب الدين غازي بن أحمد بن الواسطي من نظر الدولة، ومعه تاج الدين عبد الرحيم بن السنهوري، إلى نظر حلب. وسبب ذلك إنه كان يعادي التاج بن سعيد الدولة، بحيث إنه كان سبباً في ضرب سنقر الأعسر له بالمقارع أيام وزارته حتى أسلم. وكان طويل اللسان، بعرف بالتركي، ويداخل الأمراء، فإذا دخل ابن سعيد الدولة إلى بيت أمير وهو هناك لا يقوم له ولا يلتفت إليه. فلما تحدث ابن سعيد الدولة في أمور المملكة ثقل عليه ابن الواسطي، وما زال بالأمير بيبرس إلى أن كتب توقيعه بنظر حلب، وبعث إليه. فقام لما جاءه التوقيع. وقال: والله لقد كنت قانعاً بجهنم عوضاً عن موافقة ابن تعيس الدولة، وسار إليها.
وفيها نقل الأمير سيف الدين بكتمر الحسامي من شد الدواوين بدمشق إلى الحجوبية، على عادته في ثامن ذي الحجة، واستقر عوضه في الشد الأمير جمال الدين أقوش الرستمي والي القاهرة بالصفة القبلية، بعدما التزم بثماني مائة ألف درهم في أربع سنين.
وفيها قدم البريد من دمشق بقدوم رجل من بلاد التتر يقال له الشيخ براق، في تاسع جمادى الأولى، ومعه جماعة من الفقراء نحو المائة: لهم هيئة عجيبة، وعلى رؤوسهم كلاوت لباد مقصصة بعمائم فوقها، وفيها قرون من لباد شبه قرون الجاموس فيها أجراس، ولحاهم محلقة دون شواربهم، ولبسهم لبابيد بيضاء، وقد تقلدوا بحبال منظومة بكعاب البقر، وكل منهم مكسور الثنية العليا، وشيخهم من أبناء الأربعين سنة، وفيه إقدام وجرأة وقوة نفس و له صولة، ومعه طبلخاناه تدق له نوبة، وله يحتسب على جماعته يؤدب كل من ترك شيئاً من سنته بضرب عشرين عصا تحت رجليه، وهو ومن معه ملازمون التعبد والصلاة وأنه قيل له عن زيه، فقال: أردت أن أكون مسخرة الفقراء وذكر أن غازان لما بلغه خبره استدعاه وألقى عليه سبعاً ضارياً، فركب على ظهر السبع ومشى به، فجل في عين غازان ونثر عليه عشرة آ لاف دينار، وأنه عندما قدم دمشق كان النائب بالميدان الأخضر فدخل عليه، وكان هناك نعامة قد تفاقم شرها و لم يقدر أحد على الدنو منها، فأصر النائب بإرسالها عليه، فتوجهت نحوه فوثب عليها وركبها، فطارت به في الميدان قدر خمسين ذرعاً في الهواء حتى دنا من النائب فقال له: أطير بها إلى فوف شيئاً آخر، قال: لا وإنه أنعم عليه وهاداه الناس. فكتب بمنعه من القدوم إلى مصر، فسار إلى القدس ورجع إلى بلاده، وفيهم يقول السراج: من موشحة طويلة أولها:
جتنا عجم من جوا الروم ... صور تحير فيها الأفكار
لهم قرون مثل الثيران ... إبليس يصيح منهم زنهار
وفيها عاد الأمير طقصبا ومعه العسكر من بلاد النوبة إلى قوص، بعد غيبتهم تسعة اشهر، ومقاساة أهوال في محاربة السودان وقلة الزاد.
وفيها منع الأميران بيبرس وسلار المراكب من عبور الخليج المعروف بالحاكي خارج القاهرة، لكثره ما كان يحصل من الفساد والتظاهر بالمنكرات، وتبرج النسا، في المراكب وجلوسهن مع الرجال مكشوفات الوجوه بكوافي الذهب على رؤوسهن، وتعاطيهن الخمر، وكانت تئور الفتن بسبب ذلك، وتقتل القتلى العديدة. فلم يدخل الخليج إلا مركب فيها متجر، وأما مراكب النزهة فامتنعت، وعد ذلك من أحسن أفعال.
وفيها كملت عمارة الجامع الذي أنشأه الأمير جمال الدين أقوش الأفرم بسفح جبل قاسيون ، وخطب به القاضي شمس الدين بن العز الحنفي، يوم الجمعة رابع عشرى شوال.
وفيها ولى قضاء الحنفية بدمشق صدر الدين أبو الحسن على بن الشيخ صفي الدين أبي القاسم محمد البصروي، في تاسع عشرى ذي القعدة، عوضاً عن شهاب الدين أحمد الأذرعي.
وفيها قدمت رسل صاحب سيس بالحمل، بعدما أطلق مائتين وسبعين أسيراً من المسلمين، قدموا حلب.
وفيها ولى جلال الدين محمد القزويني خطابة دمشق، بعد وفاة شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الخلاطي في شوال.(1/346)
وفيها أفرج الأمير سلار عن شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية في آخر يوم من رمضان، بعدما جمع القضاة والفقهاء، وبعثوا إليه ليحضر من الاعتقال فامتنع، وترددت إليه الرسل مراراً فلم يحضر، وانفضوا من عند سلار. فاستدعى بأخويه شرف الدين عبد الله وزين الدين عبد الرحمن، وجرى بينهما وبين القاضي زين الدين بن مخلوف المالكي كلام كثير. ثم اجتمع شرف الدين والمالكي ثانياً عند الأمير سلار، وحضر ابن عدلان، وتفرقوا عن غير شيء.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
شهاب الدين أحمد بن عبد الكافي بن عبد الوهاب البليني الشافعي، أحد نواب القضاة الشافعية خارج القاهرة، وكان صالحاً ديناً فاضلا.
ومات الصاحب شهاب الدين أحمد بن أحمد بن عطا الأذرعي الحنفي الدمشقي، محتسب دمشق ووزيرها.
ومات الأمير عز الدين أيبك الطويل الخازندار المنصوري، في حادي عشر ربيع الأول بدمشق، وكان كثير البر ديناً.
ومات الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح الصالحي النجمي، اصله من مماليك الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ، وصار إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب، فترقى في الخدم حتى صار من أكبر الأمراء، وخرج إلى الغزاة غير مرة، وعرف بالخير وعلو الهمة وسداد الرأي وكثرة المعروف، ولما قتل المنصور لاجين أجمعوا على سلطنته فأبى، وأشار بعود الناصر محمد بن قلاوون فأعيد، ومات بعدما استرجع إقطاعه بالقاهرة في ربيع الأول، عن ثمانين سنة، وهو آخر الصالحية، وإليه ينسب قصر أمير سلاح بالقاهرة.
ومات الأمير سيف الدين بلبان الجوكندار المنصوري، ولي نيابة قلعة صفد وشد الدواوين بدمشق ثم نيابة قلعتها، ومات وهو نائب حمص بها وكان خيراً.
ومات الشيخ سيف الدين الرجيحي بن سابق بن هلال ابن الشيخ يونس اليونسي شيخ الفقراء اليونسية قدم من العراق، فصارت له حرمة وافرة في الأيام المنصورية قلاوون حتى مات، وله أتباع كثيرة، فخلفه ابنه حسام الدين فضل.
ومات الطواشي شمس الدين صواب السهيلي بالكرك عن مائة سنة، وكان له بر ومعروف.
ومات ضياء الدين عبد العزيز محمد بن على الطوسي الشافعي، بدمشق في تاسع عشرى جمادى الأولى، وله شرح الحاوي في الفقه، وشرح مختصر ابن الحاجب، ودرس مدة بدمشق.
ومات بدر الدين محمد بن فضل الله بن مجلي العمري، أخو كاتبي السر شرف الدين عبد الوهاب ومحي الدين يحيى، وقد جاوز سبعين سنة.
ومات شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الخلاطي خطيب دمشق، فجأة في ثامن شوال وكان صالحاً معتقداَ.
ومات محمد بن عبد العظيم بن على بن سالم القاضي جمال الدين أبو بكر بن السفطي الشافعي، ولد سنة ثمان عشرة وستمائة، وناب في الحكم بالقاهرة أربعين سنة، ثم تعفف عن الحكم، ومات بالقاهرة ليلة الإثنين جمادى عشر شعبان.
ومات الأمير فارس الدين أصلم الردادي في رابع ذي القعدة بدمشق. وفي نصف ذي القعدة مات الأمير سيف الدين كاوركا المنصوري.
ومات الأمير بهاء الدين يعقوبا الشهرزوري بالقاهرة، في سابع عشر ذي الحجه. ومات الطواشي عز الدين دينار العزيزي الخازندار الظاهري، يوم الثلاثاء سابع ربيع الأول، وكان خيراً دينار محبا لأهل الخير، وكان دوادار الملك الناصر وناظر أوقاف الملك الظاهر.
ومات ملك المغرب أبو يعقوب يوسف بن يعقوب بن عبد الحق بن محيو بن أبي بكر بن حمامة، وثب عليه سعادة الخصي أحد مواليه في بعض حجره، وقد خضب رجليه بالحناء وهو مستلق على قفاه، فطعنه طعنات قطع بها أمعاءه، وخرج فأدرك وقتل، فمات السلطان آخر يوم الأربعاء سابع ذي القعدة، وأقيم بعده أبو ثابت عامر ابن الأمير أبي عامر بن السلطان أبي يعقوب يوسف بن يعقوب بن عبد الحق، فكانت مدته إحدى وعشرين سنة.
سنة سبع وسبعمائة(1/347)
فيها ورد الخبر بأن الملك المؤيد هزبر الدين داود ملك اليمن كثر ظلمه للتجار، وأخذ أموالهم، وترك إرسال الهدية إلى مصر على العادة بعد أن عزم على تجهيزها، وقصد أن يبعث الأموال إلى مكة ليقدم اسمه على اسم سلطان مصر في الدعاء. فكتب إليه من قبل السلطان ومن قبل الخليفة أبي الربيع سليمان بالإنذار والإرهاب، وجهزا على يد نجاب ورسم لكل من الأمراء المقدمين بعمارة مركب يقال لها حلبة، وعمارة قياسة لطيفة يقال لها فلوة برسم حمل الأزواد وغيرها، وتفسر ذلك إلى الطور على الظهر ليرمي على بحر القلزم، لغزو بلاد اليمن. فاشترك كل أمير مقدم ألف ومضافيه في عمل حلبة وفلوة، وندب لعملها الأمير عز الدين أيبك الشجاعي الأشقر شاد الدواوين، وسافر إلى قوص.
وفيها ضجر السلطان من تحكم الأميرين بيبرس وسلار عليه، ومنعه من التصرف، وضيق يده.، وشكا ذلك لخاصيته. واستدعى الأمير بكتمر الجوكندار أمير جاندار في خفية، وأعلمه. مما عزم عليه من القيام على الأميرين، فقرر الأمير أن القلعة إذا أغلقت في الليل، وحملت مفاتيحها إلى السلطان على العادة، و لبست مماليك السلطان السلاح، وركبت الخيول من الإسطبل، وسارت إلى إسطبلات الأمراء، ودقت كوسات السلطان بالقلعة دقاً حربياً ليجتمع تحت القلعة من هو في طاعة السلطان، ويحبهم بكتمر الجوكندار في عدة على بيتي بيبرس وسلار بالقلعة، ويأخذونهما. وكان لكل من بيرس وسلار أعين عند السلطان، فبلغهما ذلك فاحترسا، وأمرا الأمير سيف الدين بلبان الدمشقي والي القلعة - وكان حصيصاً بهما - أن يوهم أنه أغلق باب القلعة، ويطرف أقفالها، ويعبر بالمفاتيح على العادة، ففعل ذلك. وظن السلطان ومماليكه أنهم قد حصلوا على غرضهم، وانتظروا بكتمر الجوكندار أن يحضر إليهم فلم يحضر، وبعثوا إليه فإذا هو مع بيبرس وسلار، قد حلف لها على الفيام معهما. فلما طلع النهار ظن السلطان أن بكتمر قد غدر به، وترقب المكروه من الأمراء.
وأما بكتمر فإن بيبرس وسلار لما بلغهما الخبر خرجا إلى دار النيابة بالقلعة، وعزم بيبرس أن يهجم على بكتمر ويقتله، فمنعه سلار لما كان عنده من السبت والتؤدة، وأشار بالإرسال إليه ليحضر حتى تبطل حركة السلطان. فلما أتاه الرسول تحير وقصد الامتناع، ولبس مماليكه السلاح، ثم منعهم وخرج، فعنفه سلار ولامه على ما قصد. فأنكر وحلف لهم على أنه معهم، وأقام إلى الصباح، ودخل مع الأمراء إلى الخدمة عند الأمير سلار. ووقف ألزام بيبرس وسلار على خيولهم بباب الإسطبل مترقبين خروج المماليك السلطانية، و لم يدخل أحد من الأمراء إلى خدمة السلطان، وتشاوروا. وقد أشيع في القاهرة أن الأمراء يريدون قتل السلطان، أو إخراجه إلى الكرك، فلم تفتح الأسواق، وخرج العامة والأجناد إلى تحت القلعة، وبقي الأمراء نهارهم مجتمعين، وبعثوا بالاحتراس على السلطان خوفاً من نزوله من باب السر. وألبسوا عدة مماليك، وأوقفوهم مع الأمير سيف الدين سمك أخي سلار على باب الإسطبل.
فلما كان نصف الليل وقع بداخل الإسطبل حس وحركة من قيام المماليك السلطانية ولبسهم السلاح، لينزلوا بالسلطان على حمية من الإسطبل، وتوقعوا الحرب، فمنعهم السلطان من ذلك، وأراد سمك إقامة الحرمة، فرمى بالنشاب وضرب الطبل، فوقع سهم بالرفرف السلطاني. واستمر الحال على ذلك إلى أذان العصر من الغد، فبعث السلطان إلى الأمراء يقول: ما سبب الركوب على باب إسطبلي؟ إن كان غرضكم في الملك فهل أنا متطلع إليه؟ فخذوه وابعثوني أي موضع أردتم. فردوا الجواب مع الأمير بيبرس الدوادار والأمير عز الدين أيبك الخازندار والأمير برلغي الأشرفي، بأن السبب هو من عند السلطان من المماليك الذين يحرضونه على الأمراء، فعتبهم على ما هو فيه، وأنكر أن يكون أحد من مماليكه ذكر له شيثاً عن الأمراء.(1/348)
وفي عودهم من عند السلطان وقعت ضجة بالقلعة سببها أن العامة كان جمعهم قد كثر، فلما رأوا السلطان قد وقف بالرفرف، وحواشي بيبرس وسلار قد وقفوا على باب الإسطبل محاصرين، حنقوا من هذا وصرخوا، ثم حملوا يداً واحدة على الأمراء بباب الإسطبل، وهم يقولون: " يا ناصر يا منصور. فأراد سمك قتالهم، فمنعه من معه من الأمراء. وبلغ ذلك بيبرس وسلار، فأرسل الأمير سيف الدين تخاص المنصوري في عدة مماليك إلى العامة فضربوهم بالدبابيس ليتفرقوا فاشتد صياحهم يا ناصر يا منصور، وتكاثر جمعهم ودعاؤهم للسلطان، وصاروا يقولون: الله يخون من يخون ابن قلاوون، وحملت طائفة منهم على بتخاص ورجمته طائفة أخرى، فجرد السيف ليضعه فيهم، ثم خشي العاقبة وأخذ يلاطفهم، وقال: طيبوا خواطركم، فإن السلطان قد طاب خاطره على الأمراء، ومازال بهم حتى تفرقوا وعاد.
فبعث الأمراء ثانياً إلى السلطان بأنهم مماليكه وفي طاعته، ولابد من إخراج الشباب الذين يرمون الفتن، فامتنع من ذلك واشتد، فمازال به بيبرس الدوادار وبرلغي حتى أخرج بهم إلى الأمراء، وهم يبلغا الترجماني وأيدمر المرتد وخاص ترك. فهددهم بيبرس وسلار ووبخاهم وقصدا تقييدهم، فلم توافق الأمراء على ذلك رعاية لخاطر السلطان، وأخرجوا إلى القدس من وقتهم على البريد. ودخل جميع الأمراء على السلطان وقبلوا الأرض، ثم قبلوا يده، فأفيضت عليهم الخلع، وعلى الأمير بيبرس وسلار في ثالثه.
ثم سأل الأمراء السلطان أن يركب في أمرائه إلى الجبل الأحمر: حتى تطمئن قلوب العامة ويعلموا أن الفتنة خمدت، فأجاب وخرجوا. وبات السلطان في قلق زائد وكرب عظيم لإخراج مماليكه، وركب من الغد بالأمراء إلى قبة النصر تحت الجبل الأحمر، وعاد بعدما قال بيبرس وسلار: إن سبب الفتنة إنما كان من بكتمر الجوكندار وذلك إنه رآه قد ركب يجانب الأمير بيبرس وحادثه، فتذكر غدره به، وشق عليه ذلك. فتلطفوا به في أمره فقال: والله ما بقيت لي عين تنظر إليه، ومتى أقام في مصر لا جلست على كرسي الملك أبداً فأخرج من وقته إلى قلعة الصبيبة في خامس عشره، واستقر عوضه أمير جاندار بدر الدين بكتوت الفتاح، فلما مات سنقر شاه نائب صفد استقر عوضه بكتمر الجوكندار. وتوجه الأمير كراي المنصوري إلى بلدة أدفو بالصعيد، وهو حنق على الأمير بيبرس الجاشنكير.
وفيها عمر الأمير بيبرس الجاشنكير الخانكاه الركنية موضع دار الوزارة برحبة باب العيد من القاهرة، ووقف عليها أوقافاً جليلة، فمات قبل فتحها، وأغلقها الملك الناصر مدة، ثم أمر بفتحها ففتحت، ورتب فيها عدة من الصوفية. وبنى بيبرس أيضاً تربة بها، فاستمرت مغلقة إلى آخر سنة خمس وعشرين وسبعمائة. وأنشأ الأمير عز الدين أيبك الأفرم نائب دمشق جامعاً بصالحية دمشق، وبعث يسأل في أرض يوقفها عليه، فأجيب بأنه يعين ما يختار.
وقدم البريد من حلب بوصول الأمير فتح الدين بن صبرة، وقد خلص من بلاد التتار، ومعه جماعة ممن أسر من الأجناد في نوبة سيس، فأعيد له إقطاعه على عادته.
وورد كتاب الأمير كراي المنصوري بالشكوى من والي قوص، ومن غده قدم كتاب متولي قوص بأن كراي ظلم فلاحيه بأدفو، وأخذ دوابهم، وعمل زاداً كبير ليتوجه إلى بلاد السودان، فكتب لكراي بالحضور سريعاً، وكتب لوالي قوص بالاحتراس على كراي وأخذ الطرقات من كل جانب.
وفيها أحضرت خاصية السلطان من القدس، وذلك أن الأمير أقوش الأفرم نائب الشام بعث إلى الأميرين بيبرس وسلار يلومهما على ما وقع من نفي خاصكية السلطان ويشير بردهم، وأنه متى لم يرسم بردهم حضر بنفسه وأعادهم. فلم يسعهما إلاٍ إحضارهم، وأنعم على كل من يلبغا التركماني وألطنبغا الصالحي وبلبان الزراق بإمرة عشرة. واستقر شهاب الدين أحمد بن على بن عبادة في نظر المارستان المنصوري. وقدم الأمير كراي من الصعيد فتمارض في بيته، و لم يطلع إلى القلعة، ثم سأل الإعفاء من الإمرة، وأن يقيم بالقدس بطالا، واعتذر بكثرة أمراضه، فأجيب إلى ذلك، وولى نظر القدس والخيل بحار يقوم بكفايته، وتوجه من القاهرة ة فأنعم بإقطاعه على الأمير سيفْ الدين بتخاص المنصوري.(1/349)
وفيها وقع الاهتمام بالسفر إلى اليمن، وعول الأمير سلار على أن يتوجه إليها بنفسه: وذلك أنه خشي من أن السلطان يدبر عليه حيلة أخرى، وقد لا يتهيأ له إفسادها فيؤخذ، ومع ذلك فإنه شق عليه ما صار فيه الأمير بيبرس الجاشنكير من القوة والاستظهار عليه بكثرة خواشداشيته البرجية، وأنهم قد صاروا معظم الأمراء، واشتدت شوكة بيبرس بهم، وعظمت مهابته وانبسطت يده في التحكم، بحيث أنه أخرج الجاولي بغير اختيار سلار، وانفرد بالركوب في جمع عظيم. وقد قصد البرجية في نوبة بكتمر الجوكندار أن يخرج السلطان إلى الكرك، ويسلطن بيبرس لولا ما كان من صنع سلار بسياسة وتدبير حتى وقع الصلح مع السلطان. فخاف سلار عواقب الأمور مع السلطان ومع بيبرس، وتحيل في الخلاص من ذلك بأًنه يحج في جماعة من ألزامه وأتباعه، ثم يسير إلى اليمن ويتملكها ويتمنع بها. ففطن بيبرس بهذا، ودس إليه من الأمراء من ثنى عزمه عن ذلك. وشرع في الاهتمام بعمل المراكب حتى تنجزت، وجهزت الأسلحة والأمتعة ثم اقتضى الرأي تأخير السفر حتى يعود جواب صاحب اليمن، فكتب بحضور شاد الدواوين فقدم وهو مريض، ومازال منقطعاً بداره حتى مات، وعين الأمير سيف الدين نوغاي القبجاقي أمير الركب، وخرج بالحاج على العادة.
وقدم البريد من حلب بقتل هيتوم متملك سيس على يد بعض أمراء المغل: وذلك أن هيتوم كان يحمل القطعية إلى المغل كما يحملها إلى مصر، ويحضر إلى كل سنة أمير من أمرائهم حتى يتسلم الحمل ؛ فحضر إليه من أمراء المغل برلغوا، وقد أسلم وحسن إسلامه، فعزم على بناء جامع بسيس يعلن فيه بالآذان، كما تجهر هناك النصارى بضرب النواقيس. فشق ذلك على هيتوم، وكتب إلى خربندا باًن برلغوا يريد اللحاق بأهل مصر، وبناء جامع بسيس. فبعث خربندا بالإنكار على برلغوا، وتهدده وألزمه بالحضور، فغضب برلغوا من هيتوم، وصنع طعاماً ودعاه، ولم يكن عنده علم بأن برلغوا اطلع على شكواه منه لخربندا، فحضر وهو آمن في جماعة من أكابر الأرمن وإخوان له. فعندما مدوا أيديهم إلى الطعام أخذ تهم السيوف من كل جانب، فقتلوا عن آخرهم، و لم ينج سوى أخوه ليفون في نفر قليل، فلحق بخربندا وأعلمه بقتل برلغوا لأخيه هيتوم وأمرائه، وقدم عليه أيضاً برلغوا، فقتله بقتله هيتوم، وولى ليفون مملكة سيس وسيرة إليها.
وفيها بعث الأمير عز الدين أيبك الأفرم نائب الشام عدة عسكر إلى الرحبة، مع الأمير علاء الدين أيدغدي شقير مملوك منكوتمر، وردفه بالأمير قطلوبك الكبير، ثم بالأمير بهادر آص.
وفيها انتهت زيادة النيل إلى ثمانية عشر ذراعاً وإحدى وعشرين إصبعاُ: وهب في برمهات الموافق لشوال. من جهة الغرب ريح عند الحراك الغلال، فهافت وجف أكثرها، فلم يحصل منها عند الحصاد إلا اليسير، ومنها ما كان أقل من بذاره. فتميز سعر الغلة، وأبيع الأردب القمح بخمسين درهماً، ثم انحط.
وفيها استقر الأمير بيبرس العلائي الحاجب في نيابة غزة، عوضاً عن الأمير أقجبار.
وفيها سار من دمشق إلى الرحبة عسكر عليه الأمير علاء الدين أيدغدي الشقيري، والأمير سيف قطلوبك والأمير بهادر أص.
وفي العشرين من رجب: توجه الأمير جمال الدين أقوش نائب الشام لزيارة القدس، ومعه جماعة من أعيان دمشق، وعاد في تاسع شعبان.
وفي سابع عشرين رجب: توجه ركب العمار إلى مكة، صحبة الأمير عز الدين الكوكندي، وكان معهم الشيخ نجم الدين بن عبود، والشيخ نجم الدين بن الرفعة.
وفيها خرج الأمير شرف الدين أحمد بن قيصر التركماني والأمير بدر الدين بيليك المحسني برقا في شوال.
وفيها قدم الأمير مهنا بن عيسى، فأكرمه السلطان وأخلع عليه، فتحدث في خلاص شيخ الإسلام تقي الدين احمد بن تيمية فأجيب، وخرج بنفسه إلى الجب بالقلعة وأخرجه منه. ونزل ابن تيمية بدار الأمير سلار النائب، وعقد له مجلس حضره ابن الرفعة والتاجي وابن عدلان والنمراوي وجماعة الفقهاء، و لم تحضره القضاة، وناظروا(1/350)
ابن تيمية ثم انفضوا، ثم عقد له بعد سفر مهنا بن عيسي مجلس آخر بالصالحية. ثم قام تاج الدين أَحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عطاء، وشيخ سعيد السعداء، وجمعوا فوق الخمسمائة رجل، وساروا إلى القلعة وتبعهم العامة، وشكوا من ابن تيمية أنه يتكلم في مشايخ الطريقة ؛ فرد أمرهم إلى القاضي الشافعي، فدفعه إلى تقي الدين علي ابن الزواوي المالكي، فحكم بسفر ابن تيمية إلى الشام، فسار على البريد وحبس بها.
وفيها بنى الأمير أسندمر نائب طرابلس قلعة مكان حصن صنجيل، وبني الأمير قرا سنقر نائب حلب قلعة حارم التي خربها هولاكو.
ومات في هذه السنة
الأمير عز الدين أيدمر السناني بدمشق، وله شعر جيد ومعرفة بتعبير المنامات، ومن شعر:
تخذ النسيم الحبيب رسول ... دنف حكاه رقةً ونحولا
تجزى العيون من العيون صبابة ... فيسيل في أثر الغريق سيولا
ويقول من حسد له ياليتني ... كنت اتخذت مع الرسول سبيلا
ومات الأمير سيف الدين بيبغا الناصري في شعبان، وترك مالاً كبيرًا.
ومات الأمير ركن الدين بيبرس الجالق العجمي أحد البرجية الصالحية، و كبير الأمراء بدمشق، عن نحو الثمانين سنة، في نصف جمادى الأولى بمدينة الرملة ، وكان دينا ًله ثروة وفيه خير: كان يقرض الأجناد عند تجردهم، ويمهلهم حتى يتيسر لهم، فعدم له في ذلك مال كبير.
ومات شمس الدين خضر بن الحلبي المعروف بشلحونة والي القاهرة، وكان أبوه خازندار السلطان صلاح الدين يوسف صاحب حلب ودمشق، وقدم الخْضر إلى القاهرة، واستقر في ولايتها في الأيام الظاهرية بيبرس والأيام المنصورية قلاوون، ثم نقله الأشرف خليل بن قلاوون إلى شد الدواوين، وكان ناهضاً أميناً في جميع ما يليه، مع المعرفة والديانة والمروءة، وكان إذا أراد أن يضرب أحداً قال شلحونه، فعرف بذلك. ومات خطلو شاه نائب التتر وكان مقدمهم يوم شقحب؛ وكان كافراً فاجرًا.
ومات الأمير علاء الدين مغلطاي البيسري، أحد أمراء دمشق، ليلة الاثنين ثاني جمادى الأولى، وكانت له مروءة وشجاعة.
ومات الطواشي شهاب الدين فاخر المنصوري مقدم المماليك، وكانت له سطوة ومهابة.
ومات الشيخ عمر بن يعقوب بن أحمد السعودي، في يوم الأربعاء ثاني رجب، وكان رجلاً صالحاً معتقدًا.
ومات الصاحب تاج الدين محمد بن الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين علي بن محمد بن سليم بن حنا - ومولده في تاسع شعبان سنة أربعين وستمائة، وجده لأمه الوزير شرف الدين صاعد الفائزي - في يوم السبت خامس جمادى الآخرة.
ومات شرف الدين محمد بن فتح عبد الله بن فتح الدين عبد الله بن محمد بن محمد ابن أحمد بن خالد القيسراني، أحد موقعي الإنتماء بالقاهرة، في أول شعبان.
ومات أبو عبد الله بن مطرف الأندلسي، بمكة في رمضان عن نيف وتسعين سنة، وقد جاور بها ستين سنة، وصار شيخ الحرم، فحمل الشريف حميضة نعشه.
ومات الشيخ عثمان بن جوشن السعودي.
ومات الشيخ عز الدن أبو محمد عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد العزيز بن ظافر الشيرازي المصري، في خامس ربيع الأول، ومولده في ذي الحج سنة ثمان عشرة وستمائة.
ومات قاضي القضاة جمل الدين أبو بكر محمد بن العظيم بن علي بن سالم بن السقطي الشافعي، في ليلة الاثنين حادي عشر شعبان، ومولده سنة ثلاث وعشرين وستمائة، وأخرج له التقي الأسعردي مشيخة.
سنة ثمان وسبعمائة
في أولها قدم مبشرو الحاج بأن الأمير نوغاي حارب العبيد بمكة: وذلك أنهم كثر تخطفهم أموال التجار، وأخذهم من الناس بالغصب ما أرادوا، فلما وقف بعضهم على تاجر ليأخذ قماشه منعه، فضربه ضربا مبرحاً، فثار الناس وتصايحوا. فبعث نوغاي مماليكه إلى العبيد فأمسكوا بعضهم وفر باقيهم بعدما جرحوا، فركب الشريف حميضة بالأشراف والعبيد للحرب، وركب نوغاي بمن معه، ونادى ألا يخرج أحد من الحاج وليحفظ متاعه، وساق فإذا طائفة من السرويين قد فروا من الخوف إلى الجبل. فقتل منهم جماعة ظناً أنهم من العبيد، فكف حميضة عن القتال، وما زال الناس بنوغاي حتى أمسك عن الشر.(1/351)
وقمم البريد من حلب بأن طائفة من المغل قدموا إلى الفرات، فخرج العسكر إليهم، فلما ساروا سقط الطائر من قلعة كركر بنزول المغل عليها ونهب التركمان وأخذهم، فكتب إلى العسكر المجرد بنجدتهم، فكسبوا المغل في الليل وقتلوهم، واستردوا ما أخذوه من كركر، وأسروا منهم ستين رجلاً، وغنموا عدة خيول.
وفيها أفرج عن الملك المسعود نجم الدين خضر بن الملك الظاهر بيبرس من البرج بالقلعة، وأسكن بدار الأمير عز الدين الأفرم بمصر، في ربيع الأول.
وفي ثالث ربيع الآخر: فوضيت الخطابة بجامع قلعة الجبل لقاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، عوضاً عن الشيخ شمس الدين محمد الجزري.
وفيها وصلت رسل سيس بالحمل على العادة، ومن جملته طشت ذهب مرصع بالجوهر.
وفيها عدى السلطان إلى نهر الجيزة، وأقام يتصدى نحو عشرين يوماً، وعاد وقد ضاق صدره واشتد حنقه، وصار في غاية الحصر من تحكم بيبرس وسلار عليه، وعدم تصرفه ومنعه من كل ما يريد حتى إنه ما يصل إلى ما يشتهي أكله لقلة المرتب، فلولا ما كان يتحصل له من أوقاف أبيه لما وجد سبيلاً إلى بلوغ بعض أغراضه. فأخذ في العمل لنفسه. وأظهر أنه يريد الحج بعياله، وحدث بيبرس وسلار في ذلك يوم النصف من رمضان، فوافقاه عليه. وأعجب البرجية سفره لينالوا أغراضهم، وشرعوا في تجهيزه، وكتبوا إلى دمشق والكرك وغيره برمي الإقامات، وألزم عرب الشرقية بحمل الشعير، فتهيأ ذلك. وأحضر الأمراء تقادمهم وتأنقوا فيها، فقلبها السلطان وشكرهم على ذلك؛ وركب في خامس عشرى رمضان يريد السفر، ونزل من القلعة ومعه الأمراء؛ وخرج العامة وتباكوا حوله، وتأسفوا على فراقه، ودعوا له إلى أن نزل بركة الحاج. وتعين للسفر معه من الأمراء عز الدين أيدمر الخطيري الأستادار عوضاً عن الجاولي، وسيف الدين آل ملك الجوكندار. وحسام الدين قرا لاجين أمير مجلس، وسيف الدين بلبان أمير جاندار، وعز الدين أيبك الرومي السلاح دار، وركن الدين بيبرس الأحمدي، وعلم الدين سنجر الجمقدار، وسيف الدين يقطاي الساقي، وشمس الدين سنقر السعدي النقيب، ومن المماليك خمسة وسبعون نفراً. وودعه بيبرس وسلار فيمن معهم من الأمراء وهم على خيولهم من غير أن يترحلوا له، وعاد الأمراء. ورحل السلطان من ليلته، وعرج إلى جهة الصالحية وعيد بها، وسار إلى الكرك ومعه رحل الخاص مائة وخمسون فرساً، فقدمها يوم الأحد عاشر شوال. فاحتفل الأمير جمال الدين أقوش الأشرفي المعروف بنائب الكرك بقدومه، وقام بما يليق به، وزين القلعة والمدينة، وفتح باب السر ومد الجسر، وكان له مدة لم يمد، وقد سار خشبه، فلما عبرت الدواب عليه، وأتى السلطان في أخرهم انكسر الجسر تحت رجلي فرسه بعد ما تعدى يديه الجسر، فكاد يسقط إلى الخندق لولا أنهم جبدوا العنان حتى خرج من الجسر وهو سالم وسقط الأمير بلبان طرنا أمير جاندار، وجماعة لم يمت منهم سوى رجل واحد.
وعندما استقر السلطان بقلعة الكرك عرف الأمراء أنه قد انثنى عزمه عن الحج، واختار الإقامة بالكرك، وترك السلطنة ليستريح خاطره؛ فشق عليهم ذلك، وبكوا وقبلوا له الأرض يتضرعون إليه في ترك هذا الخاطر، وكشفوا رؤوسهم فلم يرجع إليهم، وقال السلطان للخطيري: قد أخذ بيبرس الجاشنكير السلطنة ولابد، ثم استدعى علاء الدين على بن أحمد بن سعيد بن الأثير، وكان قد توجه معه، وكتب إلى الأمراء بالسلام عليهم، وأنه رجع عن الحج وأقام بالكرك وترك السلطة، ويساًل الإنعام عليه بالكرك والشوبك، وأعطاه للأمراء وأمرهم بالعود، وأعطاهم الهجن - وعدتها خمسمائة هجين - والجمال والمال الذي قدمه له الأمراء، فساروا إلى القاهرة.(1/352)
واستولي السلطان على ما كان في الكرك من المال، وهو ستمائة ألف درهم فضة وعشرون ألف دينار، وقيل بل وجد سبعة وعشرين ألف دينار وسبعمائة ألف درهم. واستدعى أهل الكرك، فحلفهم له الأمير جمال الدين نائب الكرك، وأمرهم فحملوا له أحجاراً كثيرة إلى القلعة، فلم يبق أحد حتى حمل إليه الحجارة من الوادي. فلما حصل نائب الكرك والناس في الوادي لنقل الحجارة، بعث السلطان إلى النائب أن يتوجه إلى مصر وينقل ماله بالكرك وبين له أن أهل القلعة لا سبيل إلى مجاورتهم له بها ولا بإقامتهم بالمدينة، فإني أعلم كيف باعوا الملك السعيد بن الظاهر بالمال لطرنطاي، وقد مكنت حريمهم وأولادهم من النزول إليهم. فامتثل النائب الأمر وأخذ حريمه، وقدم للسلطان ما كان له من الغلال وهي شيء كثير فقبلها، وأخذ أهل القلعة حريمهم وتفرقوا في البلاد.
وأقام السلطان الأمير سيف الدين أيتمش المحمدي في نيابة قلعة الكرك، فصار هو وأخوه الحاج أرقطاي وأرغون الدوادار مقيمين على علو القلعة، وبعث إلى العرب الشوبك بأن يكونوا في الخدمة برسم الصيد. وكان حريم السلطان قد توجه إلى الحجاز من القاهرة في سابع عشر شوال، فلما دخل السلطان إلى الكرك بعث في طلبهم، فأدركهم وهم على عقبة أيلة مع الأمير جمال الدين خضر بن نوكيه، فقد بهم إلى الكرك.
ووصل الأمراء إلى قلعة الجبل في، يوم الجمعة ثاني عشرى شوال، واجتمعوا عند الأمير سلار النائب بدار النيابة من القلعة، وقرئ كتاب السلطان عليهم فبهتوا، ثم اشتوروا فيمن يقوم بالملك، فاختار أكابر الأمراء سلار لقلعة وتودده، واختار البرجية بيبرس؛ فلم يجب سلار إلى ذلك، وخاف البرجية لئلا يجيب، فقاموا وانفض المجلس. وخلا كل من أصحاب بيبرس وسلار بصاحبه، وحسن له القيام بالسلطنة، وخوفه عاقية تركها، وأنه متى ولى غيره لا يوافقوه بل يقاتلوه. وبات البرجية تغلي مراجلهم خوفاً من ولاية سلار، وسعي بعضهم إلى بعض، وكانوا أكثر جمعاً من أصحاب سلار، وأعدوا السلاح وتأهبوا للحرب، فبلغ ذلك سلار فخشي سوء العاقبة، واستدعى الأمراء إخوته وحفدته ومن ينتمي إليه، وقرر مع عقلائهم سراً موافقته على ما يشير به - وكان مطاعاً فيهم - فأجابوه، ثم خرج إلى شباك النيابة.
؟؟؟؟السلطان الملك المظفر
ركن الدين بيبرس الجاشنكير المنصوري جلس على تخت الملك في يوم السبت ثالث عشرى شوال سنة ثمان وسبعمائة، وذلك أنه لما أصبح يوم السبت جلس الأمير سلار النائب بشباك دار النيابة، وحضر بيبرس الجاشنكير وسائر الأمراء واشتوروا فيمن يلي السلطنة. فقال الأمير أقوش قتال السبع والأمير بيبرس الدواداري والأمير أيبك الخازندار، وهم أكابر المنصورية: ينبغي استدعاء الخليفة والقضاة وإعلامهم. كلا وقع فخرج الطلب لهم وحضروا، فقرئ عليهم كتاب السلطان، وشهد عند قاضي القضاة زين الدين علي بن مخلوف المالكي الأميران عز الدين الخطيري والحاج آل ملك، ومن كان معهم من الأمراء، بنزول الملك الناصر عن المملكة وترك سلطنة مصر والشام، فأثبت ذلك. وأعيد الكلام فيمن يصلح، فأشار الأمراء الأكابر بالأمير سلار، فقال: نعم! على شرط أن كل ما أشير به لا تخالفوه وأحضر المصحف وحلفهم على موافقته، وألا يخالفوه في شيء. فقلق البرجية و لم تبق إلا إقامتهم الفتنة، فكفهم الله عن ذلك وانقضى الحلف. فقال سلار: والله يا أمراء أنا ما أصلح للملك، ولا يصلح له إلا أخي هذا وأشار إلى بيبرس الجاشنكير، ونهض قائماً إليه؛ فتسارع البرجية وقالوا بأجمعهم: صدق الأمير، وأخذوا بيد بيبرس وأقاموه كرهاً، وصاحوا بالجاوشية فصرخوا باسمه. وكان فرس النوبة عند الشباك. فألبسوه تشريف الخلافة: وهي فرجية أطلس أسود وطرحة، وتقلد بسيفين على العادة. ومشى سلار والناس بين يديه من دار النيابة بعد العصر حتى ركب، وعبر باب القلعة إلى الإيوان، وجلس على التخت، ولقب بالملك المظفر، وصار يبكي بحيث يراه الناس. ثم قام إلى القصر، وتفرق الناس بعدما ظنوا كل ظن من وقوع الحرب بين السلارية والبيبرسية. فكانت مدة سلطنة الملك الناصر هذه عشر سنين وخمسة أشهر وسبعة عشر يوماً.(1/353)
ولما استقر الملك المظفر في مملكة مصر اجتمع الأمراء بالخدمة على العادة في يوم الإثنين خامس عشريه ؛ فأظهر التغمم بما صار إليه، وخلع على الأمير سلار خلعة النيابة على عادته، بعدما استعفى وطلب أن يكون من جملة الأمراء، حتى قال له: إن لم تكن أنت نائباً فلا أعمل أنا السلطنة ، وقامت عليه الأمراء. ثم كتب إلى الأعمال باستقرار الملك المظفر في السلطنة، وتوجه الأمير بيبرس الأحمدي إلى حلب، والأمير بلاط إلى حماة، والأمير عز الدين أيبك البغدادي وزير بغداد وسيف الدين ساطي إلى دمشق على البريد.
وطلب التاج بن سعيد الدولة، وعرضت عليه الوزارة، فامتنع منها وصمم، وأشار باستمرار الصاحب ضياء الدين النشائي، فخلع عليه وعلى التاج. واستمر ابن سعيد الدولة في نظر الجيش، والإشارة في أمر الوزارة والتوقيع، ونزلا. وقد عظم أمر التاج حتى كانت تعرض عليه أجوبة النواب، ولا يكتب السلطان على شيء ما لم ير خطه، فشق ذلك على شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله كاتب السر، وخيل السلطان من حدوث الفساد بسبب ذلك، فمنعه من الوقوف على الأجوبة والكتابة عليهما، وأمضى له ماعدا ذلك.
وكتب للملك الناصر تقليد بنيابة الكرك ومنشور بإقطاع مائة فارس، وجهز إليه وقرن بهما كتاب الملك المظفر: بأني أجبت سؤالك فيما اخترته، وقد حكم الأمراء على فلم تمكن مخالفتهم، وأنا نائبك وخرج بها الأمير الحاج آل ملك فلما وصل إليه أظهر البشر، وأمر الحراس أن يصيحوا باسم الملك المظفر، وخطب له يوم الجمعة أيضاً على منبر الكرك، وأنعم على البريدي وأعاده؛ فسر المظفر بنلك.
وقدم البريد من ممالك الشام بالطاعة وحلفهم، ماعدا الأفرم نائب دمشق. فإنه لما قد عليه وزير بغداد بالخبر قال: بئس واللّه ما فعله الملك الناصر بنفسه!، وبئس ما فعله بيبرس! وأنا لا أحلف لبيبرس - وقد حلفت الملك الناصر - حتى أبعث إلى الناصر، ثم سير جماعة إلى الكرك على البريد بكتابه، فأعاد الناصر الجواب بالشكر والثناء، وأنه قد ترك الملك، فليحلف لمن يولونه، وقدم البريدي بذلك إلى دمشق في يوم الخميس خامس عشر ذي القعدة، فاجتمع الناس من الغد بالجامع وقرئ تقليد الأمير جمال الدين أقوش الأفرم نائب الشام على عادته، وخلع على محي الدين يحمي بن فضل اللّه كاتب السر، وأنعم على الأمير برلغي بإقطاع السلطان قبل سلطنته، وأنعم بإقطاع برلغي على بتخاص، وبإقطاع بتخاص على الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك. وخطب للملك المظفر، ونودي بدمشق فزينت، وعاد وزير بغداد وساطي إلى القاهرة. فركب الملك المظفر بشعار السلطنة بعدما جددت له الولاية بالسلطة من الخليفة، وخلع على أرباب الدولة ما بين صاحب سيف ورب قلم، فبلغت عدة الخلع إلى ألف ومائتي خلعة. وكتب له تقليد السلطنة من إنشاء علاء الدين على بن عبد الظاهر، ونزل من قلعة الجبل بكرة يوم السبت سابع عشره، وسير بالميدان الأسود ومعه الأمراء وعليه التشريف: وهو فرجية سوداء بطرز ذهب وشاش أسود ملمع بقطع ذهب ولفته مدمورة، والسيفان على عاتقيه، والوزير ضياء الدين قدامه على فرس، والتقليد على رأسه في كيس حرير اًسود، بعدما قري بالقلعة على الأمراء.(1/354)
وورد الخبر باًن متملك قبرس اتفق مع جماعة من ملوك الفرنج على عمارة ستين قطعة لغزو دمياط، فجمع السلطان الأمراء وشاورهم، فاتفقوا على عمل جسر ماد من القاهرة إلى دمياط خوفاً من نزول الفرنج أيام النيل، وندب لفلك الأمير جمال الدين أقوش الرومي الحسامي، وأمر ألا يراعي أحداً من الأمراء في تأخير رجال بلاده، ورسم للأمراء أن يخرج كل منهم الرجال والأبقار، وكتب إلى الولاة بالمساعدة والعمل، وأن يخرج كل وال برجاله. وكان أقوش مهاباً عبوساً قليل الكلام، له حرمة في قلوب الناس؛ فلم يصل إلى فارس كور حتى وجد ولاة العمل قد نصبوا الخيم وأحضروا الرجال، فاستدعى المهندسين ورتب العمل. فاستقر الحال على ثلاثمائة جرافة بستمائة رأس بقر وثلاثين ألف رجل، وأحضر إليه نواب جميع الأمراء. فكان يركب دائماً لتفقد العمل واستحثاث الرجال، بحيث إنه فقد بعض الأيام شاد الأمير بدر الدين الفتاح ورجاله، فلما أتاه بعد طلبه ضربه نحو الخمسمائة عصاة. فلم يغب عنه بعد ذلك أحد، ونكل بكثير من مشايخ العربان. وضربهم بالمقارع وخزم آنافهم وقطع آذانهم، و لم يكد يسلم منه أحد من أجناد الأمراء ومشدى البلاد، وما زال يجتهد في العمل حتى نجز في اًقل من شهر، وكان ابتداؤه من قلوب وأخره بدمياط، يسير عليه الراكب يومين، وعرضه من أعلاه أربع قصبات، ومن أسفله ست قصبات، يمشي ستة فرساي صفار واحداً. وعم النفع به، فإن النيل كان في أيام الزيادة يعلو حتى تنقطع الطرقات ويمتنع الوصول إلى دمياط. وحضر بعد فراغه الأمير أقوش إلى القاهرة، وخلع عليه وشكرت همته.
ووقع الاتفاق على عمل جسر أخر بطريق الإسكندرية، وندب لعمله الأمير سيف الدين الحرمكي فعمر قناطر الجيزة إلى أخر الرمل تحت الهرمين، وكانت تهدمت، فعم النفع بعمارتها.
وورد الخبر باًن الخوارزمي والتليلي عادا من بلاد المغرب بهدية حليلة، وركب معهم الحاج، فخرج عليهم العربان وأخذوا سائر ما معهم حتى صاروا عراة. فخرج جماعة من الأجناد والمماليك إلى الإسكندرية ليتلقوا الرسل والحجاج، وساروا ومعهم نائب الإسكندرية إلى سوسة فلقوهم بها وأحسنوا إليهم وإلى الحاج. وساروا بهم إلى القاهرة.
وفيها كثرت مرافعة أهل الخانكاه الصلاحية سعيد السعداء في شيخهم كريم الدين عبد الكريم الآملي، فقام عليه الشيخ نصر المنجني قياماً عظيماً حتى صرف بقاضي القضاة بحر الدين محمد بن جماعة.
وفيها أطلقت حماة لنائبها الأمير سيف الدين قبجق، فعزل وولى.
وفيها صرف أمين الدين أبو بكر بن الرقاقي من نظر دمشق، وعاد إلى القاهرة.
ومات في هذه السنة
علم الدين إبراهيم بن الرشيد بن أبي الوحش بن أبي حليقة، رئيس الأطباء بمصر والشام، وترك مائتي ألف دينار، وقيل ثلاثمائة ألف.
ومات برهان الدين إبراهيم بن أحمد بن ظافر البرلسي ناظر بيت المال، في خامس صفر بالقاهرة، وولي نظر بيت المال عوضه نور الدين الزواوي النائب المالكي.
ومات محي الدين أحمد بن أبي الفتح بن باتكين، وكان يعاني الخدم الديوانية، وله شعر حسن وفضيلة، وعنده مفاكهة ومحاضرة جميلة، ومولده سنة أربع عشرة وستمائة، وعمي قبل موته، ومات بالقاهرة .
ومات الشهاب اًحمد بن صادق القوصي، في حادي عشر صفر بقوص، وكان فقيهاً شافعياً يوقع عن قاضي، وفيه تحرز وعنده يقظة.
ومات الشيخ عبد الغفار بن نوح القوصي، في ليلة الجمعة سابع ذي القعدة، وقد حمل من قوص إلى القاهرة، بسبب قيامه في هدم الكنائس حتى هدم العامة من قوص ثلاثة عشرة كنيسة، فعوق بالمسجد أياماً ثم خلى عنه، فاًقام بجامع عمرو بن العاص حتى مات، وبيعت ثيابه التي مات فيها بخمسين ديناراً، تفرقها أهل الزوايا.
ومات عثمان الحلبوني الصعيدي ببرزة خارج دمشق، وكانت له أحوال ومكاشفات.
ومات شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن شامة الطائي السوادي، في يوم الثلاثاء رابع عشرى ذي القعدة عن سبع وأربعين سنة، ودفن بالقرافة.(1/355)
ومات ظهير الدين أبو نصر بن الرشيد أبي السرور بن أبي النصر السامري الدمشقي، أسلم في الأيام المنصورية قلاوون، وتنقل في الخدم الديوانية ولي نظر الجيش بدمشق، ثم انقطع في داره حتى مات في حادي عشرى رمضان، ومولده اثنتين وعشرين وستمائة، وكان جميلاً ليناً متواضعاً محباً لأهل الخير، مواظباً على الصلوات بجامع بني أمية، فيه بر وصدقات مع العفة.
ومات شهاب الدين بن على الحسبني، حدث بمصر عن ابن المقير وابن رواج والشاوي، ومات بها.
ومات الأمير عز الدين أيبك الشجاعي الأشقر شاد الدواوين، في محرم بمصر ومات الأمير علاء الدين الطبرس المنصوري والي باب القلعة الملقب بالمجنون، والمنسوب إليه العمارة فوق قنطرة المجنونة على الخليج الكبير خارج القاهرة، وكان عفيفاً ديناً، له أحكام قراقوشية مع تسلط على النساء، وكان يخرج أيام المواسم إلى القرافة وينكل بهن، فامتنعن من الخروج في زمانه إلا لأمر مهم، مثل الحمام وغيره.
ومات الملك المسعود نجم الدين خضر بن الملك الظاهر بيبرس، في خامس رجب بمصر، ومات ولده قبله بيوم.
ومات الشيخ المعتقد أحمد بن أبى القاسم المراغي، في ليلة السبت ثاني المحرم بمصر. ومات الأمير عز الدين أيدمر الرشيدي أستادار النائب سلار، في تاسع عشر شوال، وكان عاقلاً له ثراء واسع وجاه عريض.
ومات ملك المغرب أبو ثابت عامر بن الأمير أبي عامر بن السلطان يوسف بن يعقوب بن عبد الحق المريني، في ثامن صفر، فبويع أخوه الربيع بن أبي عامر.
سنة تسع وسبعمائة
فيها قدم علاء الدين التليلي وأيدغدي من بلاد المغرب، ومعهما الشيخ أبو زكريا الليحاني متولي طرابلس الغرب وأبو إدريس عبد الحق المريني يريدان الحج، فكانت غيبة النليلي ورفيقه ثلاث سنين وثلاثة اًشهر فنزل اللحياني بمناظر الكبش ورتب له ما يليق به.
وفيها بني الأمير برغلي على ابنة السلطان، وعمل مهم عظيم خلع فيه على سائر الأمراء. وعزل الأمير بيبرس العلائي من نيابة عزة، واستقر عوضه بلبان البدري. وكتب إلى دمشق بإبطال المقرر على الخمور بساحل الشام، وإراقتها وتعويض الجند بدلها. وقدم شمس الدين محمد بن عدلان من اليمن، وقد مات رفيقه سنقر السعدي.
وقدم الخبر باًن الملك الناصر كثير الركوب للصيد ببلاد الكرك في مماليكه، فتخيل الملك المظفر من ذلك وخشي عاقبته. واتفق أنه قدم الخبر أيضاً بحركة خربندا للسير إلى بلاد الشام، فكتب إلى الملك الناصر بحركة خربندا، وقد دعت الحاجة إلى المال فيرسل ما أخذه معه من مال مصر، وما استولى عليه من حاصل الكرك، ومن عنده من المماليك ولا يدع عنده منهم سوى عشرة برسم الخدمة، ويرسل الخيول التي قادها من مصر، ومتى لم يفعل خرجت إليه العساكر حتى تخرب الكرك عليه. ورأي الناصر أن المغالطة أولى، وكتب الجواب: المملوك محمد بن قلاوون يقبل الأرض، وينهي أنه ما قصد الإقامة إلا طلباً للسلامة، وإن مولانا السلطان هو الذي رباني، وما أعرف لي والداً غيره، وكل ما أنا فيه فمنه وعلى يديه، والقدر الذي أخذته من الكرك لأجل ما لا بد لي فيه من الكلف والنفقة. وقد امتثلت المرسوم الشريف وأرسلت نصف المبلغ الذي تأخر عندي امتثالا لأمر مولانا السلطان، وأما الخيل فقد مات بعضها، و لم يبق إلا ما أكبه؛ والمماليك فلم أترك عندي إلا من اختار أن يقيم معي، ممن هو مقطوع العلائق من الأهل والولد، فكيف يحل لي أن أخرجهم. وما بقي إلا إحسان مولانا السلطان. وكتب الناصر بأعلى الكتاب: الملكي المظفري، وخلع على مغلطاي ودفع إليه الكتاب، وحمله معه مائتي ألف درهم، وأعاده وقد حمله مشافهة بمعني جوابه، فقنع السلطان المظفر بيبرس بذلك.
وفيها قدم السلطان البرجية أمر منهم جماعة كبيرة، وأراد أن يؤمر جماعة الأمير سلار فلم يوافق على ذلك، وحلف بأيمان مغلظة أنه لا يمكن أحداً منهم أن يتآمر.(1/356)
وفيها تفاوض كاتب السر شرف الدين عبد الوهاب بن فضل اللّه والتاج بن سعيد الدولة: وسبب ذلك أن التاج تزايد تحكمه في الدولة، بحيث اٍنه لم يكتب لأحد توقيع برزقه أو براتب أو استخدم في وظيفة حتى يكتب عليه، ثم شارك كاتب السر في معرفة أجوبة النواب وغيرهم، فامتنع ابن فضل الله من ذلك، ورد عليه الجواب، وفيه ولا كرامة أن يكون مطلعاً على أسرار المملكة. ثم حدث ابن فضل اللّه الأمير سلار النائب في ذلك، وقبح عنده أن يطلع رجل قبطي على أسرار المملكة وأخبار العدو وأنه لا يوافق على ذلك بوجه. فشق على سلار ما قصد التاج، وقام في مساعدة ابن فضل اللّه، وما زال بالسلطان إلى أن منع التاج من الإطلاع على شيء من أمر ديوان الإنشاء، فاشتد غضبه وباين ابن فضل اللّه.
وقد قام البريد بإبطال سائر الخمارات، فسر السلطان بهذا، وعزم على أن يفعل مثل ذلك بديار مصر. وندب لذلك الأمير سيف الدين الشيخي أحد البرجية، وتقدم إليه ألا يراعي أحداً من خشداشيته، ولا يدع بيتا بمصر والقاهرة من بيوت أعلى الناس وأدناهم يبلغه أن فيه خمراً إلا ويكبسه ويكسر ما فيه. وكان الشيخي فيه شدة وقوة نفس، فطلب والي القاهرة ومقدميها وأصحاب الأرباع، وسألهم عن مواضع الخمر فلم يجيبوه، أخفوا سائر المواضع، وضرب جماعة منهم بالمقارع حتى دلوه على عصر العنب أو من عنده خمر، وكتب أسمائهم، فكان فيهم عدة من الأمراء والكتاب والأجناد والتجار، وأخذ في كبس البيوت: فكان الرجل لا يشعر إلا به في مماليكه، وقد هجم عليه ومعه النجارون والبناءون لتفقد مطامير الخمر وإخراجها، فإذا ظفر بها كسر سائر ما فيها. فنزل بالناس من ذلك بلاء شديد، وافتضح كثير من المستورِين، ونهب من بيوتهم أشياء، لكثرة ما كان يجتمع من العامة، ولفرار صاحب البيت خوفاً على نفسه، وأخذ الأجناد وغيرهم من ذلك ما أغناهم. وأخذ الناس يدل بعضهم على بعض، وتشفي جماعة من أعاديهم بنلك. وكبست أيضاً دور اليهود والنصارى، وأريق ما فيها من الخمور وتعدي الأمر دون الأمراء، فكبست دور من عرف بشرب الخمر منهم، ومنها دار الأمير علاء الدين مغلطاي المسعودي أحد أمراء الألوف من البرجية. فأزال اللّه بذلك فساداً كبيراً، ووقع أيضاً بسببه من نهب الأموال فساد كبيرة فلما اشتد الأمر تجمع الأمراء وحدثوا السلطان فيه فكف عنه.
وفي ربيع الأول: خسف جميع جرم القمر. وفيه كثر الإرجاف بحركة التتر، فبرز الدهليز السلطاني إلى الريدانية.
وفيها استقر سعد الدين مسعود بن أحمد بن مسعود الحارثي في قضاء الحنابلة بالقاهرة، بعد موت القاضي شرف الدين عبد الغني بن عبد الله الحراني، في ثالث ربيع الآخر.
وفيها فشا بالناس أمراض حادة، وعم الوباء، وطلبت الأدوية والأطباء، وعز سائر ما يحتاج إليه المرضى، حتى أبيع السكر وأبيع الفروج بخمسة دراهم، والرطل البطيخ بدرهم، وكان الرجل الواحد من العطارين يبيع في كل يوم بثلاثمائة درهم إلى مائتي درهم.
وفيها توقفت زيادة النيل إلى أن دخل شهر مسرى، وارتفع سعر القمح حتى أبيع الأردب بخمسين درهماً، والأردب الشعير والفول بعشرين درهما. ومنع الأمراء البيع من شونهم إلا الأمير عز الدين أيدمر الخطيري الأستادار، فإنه تقدم إلى مباشريه ألا يتركوا عنده مباشرة سنة، وباع ما عداه قليلاً قليلاً. وخاف الناس من وقوع نظير غلاء كتبغا، وخرج بهم الخطيب نور الدين علي بن محمد بن الحسن بن على القسطلاني فاستسقى، وكان يوماً مشهوداً، فنودي من الغد بثلاثة أصابع، ثم توقف. وانتهت زيادة النيل في سابع عشرى توت إلى خمسة عشر ذراعاً وسبعة عشر إصبعاً. واتفق أنه نقص في أيام النسئ، وجاء النوروز و لم يوف النيل ستة عشر ذراعاً، وفتح الخليج يوم الجمعة ثامن توت، وهو ثامن عشرى ربيع الأول. وذكر بعضهم أنه لم يوف إلى تاسع عشر بابه، وهو يوم الخميس حادي عشر جمادى الأولى، وذلك بعد اليأس منه. وانحط مع ذلك السعر بعد الوفاء، وغنت عامة مصر: سلطاننا ركين، ونائبنا دقين ، يجينا الماء منين. جيبوا لنا الأعرج، يجي الما ويدحرج " .(1/357)
وفيها قدم البريد من حلب بأن الأمير سرتاي استنابه الملك خربندا بديار بكر، وأنه حارب طقطاي، فقتل طقطاي، وعزم على المسير إلى حلب. فخرج الأمير جمال الدين أقوش قتال السبع والأمير حسام الدين لاجين الجاشنكير وعدة الطبلخاناه والعشراوات في ألفي فارس، وساروا في جماد الأولى إلى حلب. وكتب الأمير سلار للأمير جمال الدين أقوش بأربعة آلاف غرارة من القمح وثمانين ألف درهم من ماله بدمشق، معونة له ولمن معه.
وفيها ابتدأ اضطراب دولة السلطان الملك المظفر: وذلك أنه كثر توهمه من الملك الناصر، وخيله الأمراء وحذروا السلطان منه. وحسنوا له القبض عليه، فجبن بيبرس عن ذلك، ثم مازالوا به حتى بعث الأمير مغلطاي إلى الملك الناصر، ليأخذ منه الخيل والمماليك التي عنده. وتغلظ مغلطاي في القول، فغضب الملك الناصر من ذلك غضباً شديدًا، وقال له: أنا خليت ملك مصر والشام لبيبرس، وما يكفيه حتى ضاقت عينه على فرس عندي أو مملوك لي، ويكرر الطلب؟ ارجع إليه، وقل له واللّه لئن لم يتركني وإلا دخلت بلاد التتر، وأعلمتهم أني قد تركت ملك أبي وأخي وملكي لمملوكي، وهو يتبعني ويطلب مني ما أخفته. فجافاه مغلطاي وخشن في القول، بحيث اشتد غضب الملك الناصر وصاح به: ويلك! وصلنا إلى هنا؟ وأمر أن يجر ويرمى من سور القلعة. فثار به المماليك يسبونه ويلعنونه، وأخرجوه إلى السور، فلم يزل الأمير أرغون الدوادار والأمير طغاي إلى أن عفا عنه الناصر وحبسه، ثم أخرجه ماشياً إلى الغور، وامتعض مغلطاي عند ذلك مما حل به.
وكتب الناصر ملطفات إلى نواب الشام بحلب وحماة وطرابلس وصفد، وإلى أمراء مصر ممن يثق به، . مما كان فيه من ضيق اليد وقلة الحرمة، وأنه لأجل هذا ترك ملك مصر، وقنع بالإقامة في الكرك، وأن السلطان الملك المظفر في كل قليل يرسل يطالبه بالمال ثم بالخيل ثم بالمماليك، وقال لهم: أنتم مماليك أبي وربيِتموني. فإما أن تردوه عني وإلا أسير إلى بلاد التتار وتلطف في مخاطبتهم غاية التلطف، وسير إليهم العربان، بها فأوصلوها إلى أربابها. وكتب الأمير قبجق المنصوري نائب حماة الجواب: باًني مع الأمير قرا سنفر نائب حلب وكتب الأمير قرا سنقر الجواب: باًني مملوك السلطان في كل ما يرسم به وساْل أن يتوجه إليه أحد المماليك السلطانية، فبعث الناصر مملوكه أيتمش المحمدي، وكتب معه ملطفًا إلى الأمير سيف الدين قطلوبك المنصوري، والأمير بكتمر الحسامي الحاجب، بدمشق. وأما بكتمر الجوكندار نائب صفد فإنه طرد القاصد ولم يجتمع له.(1/358)
وقدم أيتمش دمشق في خفية، ونزل عند بعض مماليك الأمير قطلوبك، ودفع إليه الملطف. فلما أوصله إلى قطلوبك أنكر عليه، وأمره بالاحتفاظ على أيتمش ليوصله إلى الأفرم نائب الشام، ويتقرب إليه بذلك. فترك أيتمش راحلته التي قدم عليها عندما بلغه ذلك، ومضى إلى دار الأمير سيف الدين بهادر آص في الليل واستأذن عليه فأذن له، فعرفه ما كان من الأمير قطلوبك، فطمن خاطره وأنزله عنده وقام بحقه، وأركبه من الغد معه إلى الموكب. وقد سبق قطلوبك وعرف النائب قدوم مملوك الملك الناصر إليه وهربه ليلاً، فقلق الأفرم من ذلك، وألزم والي المدينة بتحصيل المملوك، فقال بهادر آص: هذا المملوك عندي، وأشار إليه، فنزل عن الفرس وسلم على الأفرم وسار معه في الموكب إلى دار السعادة، وقال بحضرة الأمراء: السلطان الملك الناصر يسلم عليكم، ويقول ما منكم أحد إلا وأكل خبز الشهيد والده وخبزه، وما منكم إلا من إنعامه عليه. وأنتم تربية الشهيد والده، وأنه قاصد الدخول إلى دمشق والإقامة فيها. فإن كان فيكم من يقاتله ويمنعه العبور فعرفعوه. فلم يتم هذا القول حتى صاح عز الدين أيدمر الكوكندي الزراق أحد أمراء دمشق وابن أستاذاه!، وبكى. فغضب الأفرم نائب الشام عليه وأخرجه، ثم قال لأيتمش: قل له - يعني الملك الناصر - كيف تجيء إلى الشام، أو إلى غير الشام، كأن الشام ومصر الآن تحت حكمك؟ أنا لما أرسل إلينا السلطان الملك أن أحلف له ما حلفت حتى سيرت أقول له: كيف يكون ذلك وابن أستاذنا باق؟ فأرسل يقول: أنا ما تقدمت عليه حتى خلع ابن أستاذنا نفسه، وكتب خطه وأشهد عليه بنزول عن الملك، فعند ذلك حلفت له. ثم في هذا الوقت تقول من يردني عن الشام؟ وأمر به فسلم إلى أستاداره الطنقش. فلما كان الليل استدعاه، ودفع إليه خمسين ديناراً وقال له: قل له لا يذكر الخروج من الكرك، وأنا أكتب إلى الملك المظفر وأرجعه عن طلب الخيل والمماليك، وخلى عنه ليعود إلى الكرك. فقدم أيتمش على الملك الناصر وحدثه بما جرى له فأعاده على البرية ومعه أر كتمر وعثمان الهجان، ليجتمع بقرا سنقر نائب حلب، ويواعده على المسير إلى دمشق. وسار الملك الناصر من الكرك إلى بركة زيزاء.
وأما الملك المظفر فإنه لما بلغه أن الملك الناصر حبس الأمير علاء الدين مغلطاي أيتعلى المقدم ذكره قلق، واستدعى الأمير سلار النائب، وعرفه ذلك. وكانت البرجية قد أغروا المظفر بسلار، واتهموه بأنه قد باطن الملك الناصر، وأشاروا عليه بقبضه وخوفوه منه. فبلغ ذلك سلار، فخاف من البرجية لكثرتهم وقوتهم، وأخذ في مداراتهم. وكان أشدهم عليه الأمير سيف الدين بيكور، فبعث إليه - وكان قد شكا له من انكسار خراجه - ستة ألاف أردب غلة وألف دينار مصرية، فكف عنه، وهادى خواص السلطان، وأنعم عليهم اٍنعامات كثيرة طلباً للسلامة منهم. ثم حضر سلار عند المظفر وتكلما فيما هم فيه، فاقتضي الرأي تجهيز قاصد للملك الناصر بتهديده ليفرج عن أيتغلي. وبينما هم في ذلك قدم البريد من عند نائب دمشق باًن الملك الناصر سار من الكرك إلى البرج الأبيض، ولم يعرف مقصده، فكتب إليه بالكشف عن مقصده، وحفظ الطرقات عليه.
هذا وقد اشتهر بالقاهرة حركة الملك الناصر وخروجه من الكرك، فتحرك الأمير سيف الدين نوغاي القبجاقي - وكان شجاعاً مقداماً حاد المزاج قوي النفس، ومن ألزام الأمير سلار النائب - وواعده جماعة من المماليك السلطانية أن يهجم بهم على السلطان الملك المظفر بيبرس إذا ركب ويقتله. فلما نزل إلى بركة الجب استجمع نوغاي بمن وافقه يريدون الفتك بالسلطان في عوده من البركة، وتقرب نوغاي من السلطان قليلاً قليلاً، وفد تغير وجهه وظهر فيه أمارات الشر، ففطن به خواص السلطان وتحلقوا حوله، فلم يجد نوغاي سبيلاً إلى ما عزم عليه.(1/359)
وعاد السلطان إلى القلعة، فعرفه ألزامه ما فهموه عن نوغاي، وحسنوا له القبض عليه وتقريره على من معه. فاستدعى السلطان الأمير سلار وأعلمه الخبر - وكان قد باطن نوغاي أيضاً - فحذره من ذلك، وخوفه عاقبة الأخذ بالظن، وأن فيه فساد قلوب الجميع، وليس إلا الإغضاء فقط، وقام عنه، فأخذه البرجية في الإغراء بسلار، وأنه ولابد قد باطن نوغاي، ومتى لم يقبض عليه فسد الحال. فبلغ نوغاي ما هم فيه من الحديث في القبض عليه، فواعد أصحابه على اللحاق بالملك الناصر، وخرج هو والأمير علاء الدين مغلطاي القازاني، والأمير سيف الدين طقطاي الساقي، ونحو ستين مملوكاً، وقت المغرب عند باب القلعة من ليلة الخميس خامس عشرى جمادى الآخرة.
وعرف السلطان بذلك من الإسطبل، ففتح باب القلعة، وطلب الأمير سلار وشاوره، فأشار بتجهيز الأمراء في طلبهم، وعين أخاه علاء الدين سمك وقطز بن الفارقاني في عدة من حاشيته وخمسمائة مملوك، وساروا من وقتهم غير مجدين في طلبهم، وصار بين الفريقين مرحلة واحدة، إذا رحل هؤلاء نزل هؤلاء. فلما وصل نوغاي إلى قطيا وجد الحمل قد تجهز إلى القاهرة، وهو مبلغ عشرين ألف درهم، فأخذه وأخذ خيل الوالي وخيول العرب، وسار إلى غزة ومضى إلى الكرك، فنزل الأمراء بعده غزة، وعادوا إلى القاهرة. وقد اشتد خوف الملك المظفر وكثر خياله، فقبض على جماعة تزيد عدتهم على ثلاثمائة مملوك، وأخرج أخبارهم وأخباز المتوجهين إلى الكرك لمماليكه.
وبلغ الملك الناصر قدوم نوغاي ومن معه وهو في الصيد، فأمر بإحضارهم فأتوه، وقبلوا له الأرض وهنأوه بالعافية، فسر بهم. وساروا معه إلى زيزاء، ومضى إلى زرع يريد دمشق، ثم رجع إلى الكرك. فشق على الملك المظفر ذلك، ودار به البرجية وشوشوا فكره بكثرة إيهامهم وتخيلهم له بمخاطرة العسكر عليه، وما زالوا به حتى أخرج الأمير بينجار، والأمير صارم الدين الجرمكي، في عدة من الأمراء مجردين، وأخرج الأمير أقوش الرومي بجماعته إلى طريق السويس، ليمنع من عساه يتوجه من الأمراء والمماليك إلى الملك الناصر، وقبض على أحد عشر مملوكاً، وقصد أن يقبض على آخرين فاستوحش الأمير سيف الدين أيطرا وفر، فأدركه الأمير جركتمر بن بهادر راًس نوبة، وأحضره فحبس، وعند إحضاره طلع الأمير سيف الدين الدكز السلاح دار بملطف من الملك الناصر استجلا به إليه، فكثر قلق الملك المظفر، وزاد توهمه ونفرت مع ذلك قلوب جماعة من الأمراء والمماليك، وخشوا على أنفسهم، واجتمع كثير من المنصورية والأشرفية والأويرانية، وتواعدوا على الحرب، وخرج منهم مائة وعشرون فارساً بالسلاح، وساروا إلى الملك الناصر. فخرج إليهم الأمير بينجار والصارم الجرمكي، فقاتلهم المماليك، وجرح الجرمكي بسيف في فخذه سقط إلى الأرض، ومضى المماليك على حمية إلى الكرك. فعظم الخطب على السلطان، واجتمع إليه البرجية، وقالوا له: هذا الفساد كله من الأمير سلار، ومتى لم تقبض عليه خرج الأمر من يدك، فلم يوافق على ذلك، واتفق الرأي على تجريد العساكر.
وفي يوم السبت ثاني رجب: مات التاج بن سعيد الدولة، واستقر ابن أخته كريم الدين أكرم الكبير في وظائفه، وتكبر على الأمراء واستقرت فيه الأحوال، حتى كتب على ما يعرف وما لا يعرف.
وأما أيتمش المحمدي فإنه سار إلىحماة، واجتمع بالأمير قبجق نائبها، فأحال قبجق الأمر على الأمير قرا سنقر نائب حلب، وأنه معه حيث كان. فسار أيتمش إلى حلب، واجتمع بقرا سنقر، فأكرمه ووافق على قيام الملك الناصر، ودخل في طاعته، ووعده على السير إلى دمشق أول شعبان. وكتب قرا سنقر إلى الأفرم نائب يحثه دمشق على طاعة الملك الناصر ويرغبه، وأشار بمكاتبة الملك الناصر للأمير بكتمر الجوكندار نائب صفد، والأمير كراي المنصوري بالقدس، ونائب طرابلس، وأعاد أيتمش ومن معه إلى الملك الناصر، فسر بذلك. وكان نوغاي منذ قدم لا يبرح يحرضه على المسير إلى دمشق، فلما قدم عليه خبر قرا سنقر اشتد باًسه وقوي عزمه على الحركة، إلا أنه ثقل عليه أمر(1/360)
نوغاي من مخاشنته له في المخاطبة، وجفاه القول بحيث إنه قال له: ليس لي بك حاجة ارجع إلى حيث شئت فترك نوغاي الخدمة وانقطع إلى أن قدم أيتمش من حلب، فدخل بينه وبين السلطان حتى أزال ما بينهما، وأسر له السلطان ذلك حتى قتله بعد عوده إلى الملك كما سيأتي ذكره إن شاء اللّه تعالى.
ثم إن الملك الناصر بعث أيتمش أيضاً إلى صفد، فتلطف حتى اجتمع بناصر الدين محمد بن بكتمر الجوكندار نائب صفد، وجمع بينه وبين أبيه ليلاً في مقابر صفد فعتبه أيتمش على ما كان من رده قاصد الملك الناصر، فاعتذر بالخوف من بيبرس وسلار، وأنه لولا ثقته به لما اجتمع به قط. فلما عرفه أيتمش طاعة الأمير قرا سنقر والأمير قبجق أجاب بالسمع والطاعة، وأنه على ميعاد النواب إلى المضي إلى الشام، فأعاد أيتمش جوابه على الملك الناصر فسر به.
وسار من القاهرة عشرة من الأمراء المقدمين في يوم السبت تاسع رجب منهم: الأمير سيف الدين برلغي الأشرفي. والأمير جمال الدين أقوش الأشرفي نائب الكرك، والأمير عز الدين أيبك البغدادي، والأمير سيف الدين طغريل الإيغاني، والأمير سيف الدين تناكر، ومعهم نحو ثلاثين أميراً من الطبلخاناه، بعدما أنفق فيهم السلطان الملك المظفر، فأخذ برلغي عشرة آلاف دينار، وكل من المقدمين ألفي دينار، وكل من الطبلخاناه ألف دينار، وكل من مقدمي الحلقة ألف درهم، وكل من أجناد الكرك خمسمائة درهم، ونزلوا تجاه مسجد تبر خارج القاهرة، ثم عادوا بعد أربعة أيام إلى القاهرة، لورود الخبر بعود الملك الناصر إلى الكرك. ثم ورد الخبر ثانياً بمسيره، فتجهز العسكر في أربعة آلاف فارس، وخرج برلغي ونائب الكرك ومن تقدم ذكره، وساروا في العشرين من شعبان إلى العباسة. فورد البريد من عند الأفرم نائب دمشق بقدوم أيتمش المحمدي عليه من قبل الملك الناصر، وبما شافهه به من الجواب، وأنه بعث الأمير علاء الدين أيدغدي الحسامي والأمير سيف الدين جوبان لكشف الأخبار، وأشار بتأخير العسكر، فكتب بإقامتهم على العباسة. فقدم أيدغدي شقير وجوبان على الملك الناصر، وعرفاه أنهما قدما لكشف حاله، وحلفا له على القيام بنصرته، ورجعا إلى دمشق، فعرفا الأفرم أن الناصر مقيم ليتصيد، فخاف أن يطرق دمشق بغته، فجرد إليه ثمانية أمراء بمضافيهم: منهم الأمير سيف الدين قطلوبك المنصوري، والأمير سيف الدين الحاج بهادر الحلبي الحاجب، والأمير سيف الدين جوبان، والأمير كجكن، والأمير علم الدين الجاولي، ليقيموا على الطرقات لحفظها على من يخرج إلى الملك الناصر. وكتب الأفرم إلى الملك المظفر يحثه على إخراج العسكر المصري، ليجتمع مع عسكر دمشق على قتال الملك الناصر، وأنه قد جدد اليمين له، وحلف أمراء دمشق أنهم يخونون الملك المظفر ولا ينصرون الملك الناصر، وأن نائب حلب وغيره من النواب قد دخلوا في طاعة الملك الناصر. فلما قرأ الملك المظفر كتاب نائب الشام اضطرب وزاد قلقه.(1/361)
فورد كتاب الأمير برلغي من العباسة بأن مماليك الأمير جمال الدين أقوش الرومي تجمعوا عليه وقتلوه، وساروا ومعهم خزائنه إلى الملك الناصر، وأنهم لحق بهم بعض أمراء الطبلخاناه في جماعة من مماليك الأمراء، وقد فسد الحال، والرأي أن يخرج السلطان بنفسه. فأخرج المظفر تجريدة أخرى فيها عدة من الأمراء، وهم بشاش وبكتوت الفتاح وكثير من البرجية، وبعث إلى برلغي ألفي دينار، ووعده بأنه عازم على التوجه إليه بنفسه. فلما ورد كتاب الملك المظفر بذلك، وبقدوم التجريدة إليه عزم على الرحيل من الغد إلى جهة الكرك. فلما كان الليل رحل كثير ممن معه يريدون الملك الناصر، فكتب إلى السلطان بأن نصف العسكر قد صار عليه، وحرضه على الخروج بنفسه. فلم يطلع الفجر إلا والأمير سيف الدين بهادر جكي قد وصل بكتاب الأمير برلغي على البريد إلى السلطان، فلما قضي صلاة الصبح تقدم إليه وأعلمه برحيل أكثر العسكر إلى الملك الناصر، وناوله الكتاب، فلما قرأه تبسم وقال: سلم على برلغي، وقل له لا تخش من شيء، فإن الخليفة أمير المؤمنين قد عقد لنا بيعة ثانية، وجدد لنا عهداً، وقد قرئ على المنابر، وجددنا اليمين على الأمراء، وما بقي أحد يجسر أن يخالف ما كتب به أمير المؤمنين، فإنه قد أكد في كتابة العقد. ثم دفع المظفر إليه العهد الخليفتي، وقال: امض به إليه حتى يقرأه على الأمراء والجند، ثم يرسله لي، فإذا فرغ من قرائته يرحل بالعساكر إلى الشام ، وجهز له أيضاً ألفي دينار أخرى، وكتب جوابه بنظير المشافهة. فعاد بهادر إلى برلغي، فلما قرئ عليه الكتاب وانتهي إلى قوله: وإن أمير المؤمنين ولاني تولية جديدة، وكتب لي عهدًا، وجدد لي بيعة ثانية، فتح برلغي العهد فإذا أوله: إنه من سليمان، فقال: ولسليمان الريح، ثم التفت إلى بهادر وقال له: قل له يا بادر الذقن! واللّه ما معي أحد يلتفت إلى الخليفة، ثم قام وهو مغضب.
وكان سبب تجديد العهد أن نائب دمشق لما ورد كتابه بأنه حلف أمراء الشام ثانياً، وبعث صدر الدين محمد بن عمر بن مكي بن عبد الصمد الشهير بابن المرحل برسالة إلى السلطان، صار صدر الدين يجتمع عنده هو وابن عدلان، ويشغل السلطان وقته بهما. فاًشارا عليه بتجديد البيعة، وكتابة عهد يقرأ على المنابر، وتحليف الأمراء، فإن ذلك يثبت قواعد الملك، ففعل ذلك وحلف الأمراء بحضرة الخليفة، وكتب له عهد جديد عن الخليفة أبي الربيع، ونسخته: إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد اللّه وخليفة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على المسلمين أبي الربيع سليمان بن أحمد العباسي لأمراء المسلمين وجيوشها. " يأيها الذين آمنوا أَطيعوا الله وأَطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم " وإني رضيت لكم بعبد ا لله تعالى الملك المظفر ركن الدين نائباً عني لملك الديار المصرية والبلاد الشامية، وأقمته مقام نفسي لحينه وكفايته وأهليته، ورضيته للمؤمنين، وعزلت من كان قبله بعد علمي بنزوله عن الملك، ورأيت ذلك متعيناً علي، وحمت بذلك الحاكم الأربعة. واعلموا رحمكم اللّه أن الملك عقيم ليس بالوراثة لأحد خالف عن سالف ولا كابر عن كابر. وقد استخرتُ اللّه تعالى؛ووليت عليكم الملك المظفر، فمن أطاعه فقد أطاعني، ومن عصاه فقد عصاني، ومن عصاني فقد عصي أبا القاسم ابن عمي صلى اله عليه وسلم. وبلغني أن الملك الناصر بن الملك المنصور شق العصا على المسلمين، وفرق كلمتهم وشتت شملهم، وأطمع عدوهم فيهم، وعرض البلاد الشامية والمصرية إلى سبي الحريم والأولاد وسفك الدماء، وتلك دماء قد صانها اللّه من ذلك. وأنا خارج إليه ومحاربه إن استمر على ذلك، وأدفع عن حريم المسلمين وأنفسهم وأولادهم هذا الأمر العظيم، وأقاتله حتى يفيء إلى أمر اللّه تعالى. وقد أوجبت عليكم يا معاشر المسلمين كافة الخروج تحت لوائي - اللواء الشريف فقد اجتمعت الحكام على وجوب دفعة وقتاله إن استمر على ذلك، وأنا مستصحب معي لذلك السلطان الملك المظفر، فجهزوا أرواحكم والسلام. وقد قرئ على منابر الجوامع بالقاهرة في الجامع الأزهر وبجامع الحاكم، وقت الخطبة في يوم الجمعة، فلما بلغ القارئ إلى ذكر الملك الناصر صاحوا: لا! ما نريده!، ووقع في القاهرة ضجة وحركة بسبب ذلك.(1/362)
وفيه قدم الأمير بهادر آص من دمشق على البريد يحث السلطان على الخروج بنفسه، فإن النواب قد مالوا كلهم مع الملك الناصر، فأجاب بأنه لا يخرج، واحتج بكراهيته للفتنة وسفك الدماء، وأن الخليفة قد كتب بولايته وعزل الملك الناصر، فإن قبلوا وإلا ترك الملك. ثم قدم الأمير بلاط بكتاب الأمير برلغي أن جميع من خرج من أمراء الطبلخاناه لحقوا بالملك الناصر، وتبعهم خلق كثر، و لم يتأخر غير برلغي وجمال الدين أقوش نائب الكرك وأيبك البغدادي وتناكر والفتاح لا غير، وذلك لأنهم خواص السلطان.
وأما الملك الناصر فإنه سار في أول شعبان بمن معه يريد دمشق، فدخل في طاعته الأمير قطلوبك الحاج بهادر الحلبي وبكتمر الحاجب والجاولي، وكتبوا إليه بذلك، وأنه يتاًنى في المسير إلى دمشق من غير سرعة حتى يتبين ما عند بقية أمراء دمشق. ثم كتبوا إلى الأفرم نائب دمشق بأنه لا سبيل إلى محاربة الملك الناصر، وأرادوا بذلك إما أن يخرج الأفرم إليهم فيقبضوه، أو يسير عن دمشق إلى جهة أخرى فتأتيهم بقية الجيش. وكان كذلك: فإنه لما قدم كتابهم عليه بدمشق شاع بين الناس سير الملك الناصر من الكرك، فثارت العوام وصاحوا: نصره الله. وركب الأجناد إلى النائب، فاستدعى من بقي من الأمراء والقضاة، ونادى: معاشر أهل الشام! ما لكم سلطان إلا الملك المظفر فصرخ الناس بأسرهم: لا! لا! ما لنا سلطان إلا الملك الناصر.
وتسلل العسكر من دمشق طائفة بعد طائفة إلى الملك الناصر، وانفرط الأمر من الأفرم. فاجتمع الأمير بيبرس العلائي والأمير بيبرس المجنون بمن معهما على الوثوب بالأفرم وقبضه، فلم يثبت عندما بلغه ذلك، واستدعى علاء الدين بن صبح وكان من خواصه، وتوجه ليلاً إلى جهة الشقيف. فركب الأمير قطلوبك والأمير الحاج بهادر عندما سمعا الخبر، وتوجها إلى الملك الناصر فسر بهما، وأنعم على كل منهما بعشرة آلاف درهم. ثم قدم إليه أيضاً الجاولي وجوبان، وسار بمن معه حتى نزل الكسوة، فخرج إليه بقية الأمراء والأبضاد، وقد عمل له سائر شعائر السلطنة من الصناجق الخليفتية والسلطانية والعصائب والجتر والغاشية. فحلف العساكر، وسار في يوم الثلاثاء ثاني عشر شعبان من الكسوة يريد المدينة، فدخلها بعدما زينت زينة عظيمة. وخرج جميع الناس إلى لقائه على اختلاف طبقاتهم حتى صغار المكاتب، فبلغ كراء البيت من البيوت التي من ميدان الحصا إلى القلعة للتفرج على السلطان من خمسمائة درهم إلى مائة درهم. وفرشت الأرض بشقاق الحرير الملونة، وحمل الأمير سيف الدين قطلوبك المنصوري الغاشية، وحمل الأمير الحاج بهادر الجتر. وترجل الأمراء والعساكر بأجمعهم، حتى إذا وصل باب القلعة خرج متولي القلعة وقبل الأرض، فتوجه السلطان حتى نزل بالقصر الأبلق من الميدان. وكان عليه عند دخوله عباءة بيضاء فيها خطوط سود، تحتها فرو سنجاب.
وفي وقت نزوله قدم مملوك قرا سنفر من حلب لكشف الخبر، وذكر أن قرا سنقر خرج من حلب، وقبجق خرج من حماة؛ فخلع عليه، وكتب إليهما بسرعة القدوم. وكتب إلى الأفرام أمان، وتوجه به علم الدين الجاولي. فلم يثق بذلك، وطلب يمين السلطان له، فحلف السلطان وبعث إليه بنسخة الحلف صحبة الأمير الحاج أرقطاي الجمدار، فما زال به حتى قدم معه هو وابن صبح، فركب السلطان إلى لقائه، حتى إذا قرب منه نزل كل منهما عن فرسه. فاًعظم الأفرم نزول السلطان له، وقبل الأرض، وكان قد لبس كاملية وشد وسطه وتوشح بنصفية، يعني أنه حضر بهيئة البطال من الإمرة، وكفنه تحت إبطه وعندما شاهده الناس على هذه الحالة صرخوا بصوت واحد: يا مولانا السلطان بتربة والدك الشهيد لا تؤذيه، ولا تغير عليه، فبكي سائر من حضر. وبالغ السلطان في إكرامه، وخلع عليه وأركبه، وأقره على نيابة دمشق، فكثر الدعاء له وسار الناصر إلى القصر. فلما كان الغد أحضر الأفرم خيلاً وجمالاً وثياباً بمائتي ألف درهم، تقدمة للسلطان.
وفي يوم الجمعة ثاني عشرى: خطب بدمشق للملك الناصر، وصليت الجمعة بالميدان، فكان يوماً مشهوداً.(1/363)
وفيه قدم الأمير قرا سنقر نائب حلب، والأمير قبجق نائب حماة والأمير أسندمر كرجي نائب طرابلس، وتمر الساقي نائب حمص. فركب السلطان إلى لقائهم في ثامن عشرى، وترحل لقرا سنقر وعانقه، وشكر الأمراء وأثنى عليهم. ثم قدم الأمير كراي المنصوري من القدس، وبكتمر الجوكندار نائب صفد. وقدم كل من النواب والأمراء تقدمه على قدر حاله، ما بين ثياب أطلس وحوائص ذهب وكلفتاه زركش، وخيول مسرجة، وأصناف الجواهر والخلع والأقبية والتشاريف. وكان أجلهم تقدمة الأمير قطلوبك المنصوري، فإنه قدم عشرة أرؤس خيل مسرجة ملجمة، عنق كل فرس كيس فيه ألف دينار وعليه مملوك، وأربع قطر بغال، وعدة بخاتي، وغير ذلك.
وشرع الملك الناصر في النفقة على الأمراء والعساكر الواردة مع النواب، فلما انتهى أمر النفقة قدم السلطان بين يدية الأمير كراي المنصوري على عسكر ليسير إلى غزة، فسار إليها، وصار كراي يمد في كل يوم سماطاً عظيماً للمقيمين والواردين، وأنفق في ذلك أموالاً جزيلة من حصاله. واجتمع عليه بغزة عالم كبير، وهو يقوم بكلفهم ويعدهم عن السلطان بما يرضيهم.
وقم الخير إلى القاهرة في خامس عشرى شعبان باستيلاء الملك الناصر على دمشق بغير قتال، فقلق الملك المظفر، واضطربت الدولة، وخرجت عساكر مصر شيئاً بعد شيء تريد اللحاق بالملك الناصر، حتى لم يتأخر عند الملك المظفر بديار مصر إلا خواصه وألزامه. و لم يتأخر عند الأمير برلغي من الأمراء والأجناد سوي خواص الملك المظفر، فتشاور مع جماعته، فاقتضى رأيه ورأى الأمير أقوش نائب الكرك اللحاق بالملك الناصر أيضاً، فلم يوافق على ذلك البرجية، وعاد الأمير أيبك البغدادي وبكتوت الفتاح وقجمار وبقية البرجية إلى القاهرة، وصاروا مع الملك المظفر. وسار برلغي ونائب الكرك إلى الملك الناصر فيمن بقي من الأمراء والعساكر، فاضطربت القاهرة.
وكان الملك المظفر قد أمر في مستهل رمضان سبعة وعشرين أميراً، ما بين طبلخاناه وعشراوات: منهم من مماليكه صنقبحي وصديق وطومان، وقرمان، وغرلوا وبهادر وطرنطاي المحمدي، وبكتمر الساقي وقراجا الحسامي وبهادر قبجق، ولاجين أيتغلي وانكبار وطاشتمر أخو بتخاص، ومن ألزامه جركتمر بن بهادر رأس نوبة وحسن بن الردادي، وشقوا القاهرة على العادة، فصاحت بهم العامة: يا فرحة لا تمت.
أخرج المظفر أيضاً عدة من المماليك إلى بلاد الصعيد، وظن أن ينشئ له دولة. فلما بلغه مسير برلغي ونائب الكرك إلى الملك الناصر سقط في يده، وعلم زوال أمره، فإن برلغي كان زوج ابنته ومن خواصه، بحيث أنعم عليه في هذه الحركة بنيف وأربعين ألف دينار. وقيل سبعين ألف دينار. وظهر عليه اختلال الحال، وأخذ خواصه في تعنيفه على إبقاء سلار النائب، وأن جميع هذا الفساد منه. وكان كذلك: فإنه لما فاتته السلطنة، وقام فيها بيبرس، حسده ودبر عليه، وبيبرس في غفلة عنه، وكان سليم الباطن لا يظن أنه يخونه.
وقبض في ليلة الجمعة ثاني عشره على جماعة من العوام، وضربوا وشهروا لإعلانهم بسب الملك المظفر، فما زادهم ذلك إلا طغيانًا، وفي كل ذلك تنسب البرجية فساد الأمور إلى الأمير سلار. فلما أكثر البرجية من الإغراء بسلار قال لهم المظفر: إن كان في خاطركم شيء فدونكم وإياه إذا جاء إلى الخدمة، وأما أنا فلا أتعرض له بسوء قط فأجمعوا على قبض سلار إذا عبر يوم الإثنين خامس عشره إلى الخدمة. فبلغه ذلك فتأخر عن حضور الخدمة، واحترس على نفسه وأظهر أنه قد وعك، فبعث الملك المظفر يسلم عليه ويستدعيه ليأخذ رأيه، فاعتذر بأنه لا يطيق الحركة لعجزه عنها.
فلما كان من الغد يوم الثلاثاء سادس عشر رمضان، استدعى الملك المظفر الأمراء كلهم، واستشارهم فيما يفعل. فأشار الأمير بيبرس الدودار والأمير بهادر آص بنزوله عن الملك، والإشهاد بنلك كما فعل الملك الناصر، وتسير إليه تستعطفه، وتخرج إلى الإطفيحية ممن تثق به، وتقيم هناك حتى يرد جواب الملك الناصر، . فأعجبه ذلك، وقام ليجهز أمره وبعث ركن الدين بيبرس الدوادري إلى الملك الناصر يسأله إحدى ثلاث: إما الكرك وأعمالها، أو حماة وبلادها، أو صهيون ومضافاتها.(1/364)
ثم اضطرب المظفر آخر النهار، ودخل الخزائن، فأخذ من المال والخيل والهجن ما أحب، وخرج في يومه من باب الإسطبل في مماليكه وعدتهم سبعمائة فارس، ومعه الأمير عز الدين أيدمر الخطير الأستادار، والأمير بدر الدين بكتوت الفتاح. والأمير سيف الدين قجماس، والأمير سيف الدين تناكر، في بقية ألزامه من البرجية. وكأنما نودي في الناس بأنه قد خرج هارباً، فاجتمع الناس وقد برز من باب الإسطبل، وصاحوا به وتبعوه وهم يصيحون عليه، وزادوا في الصياح حتى خرجوا عن الحد ورماه بعضهم بالحجارة. فشق ذلك على مماليكه، وهموا بالرجوع إليهم ووضع السيف فيهم، فمنعهم من ذلك، وأمرهم بنثر المال عليهم ليشتغلوا بجمعه عنهم، فأخرج كل من المماليك حفنة مال ونثرها. فلم تلتفت العامة لذلك وتركوه، وأخذوا في العدو خلف العسكر، وهم يسبون ويصيحون، فشهر المماليك حينئذ سيوفهم، ورجعوا إلى العوام فانهزموا عنهم. وأصبح الحراس بقلعة الجبل يوم الأربعاء سابع عشره يصيحون باسم الملك الناصر. بإشارة الأمير سلار، فإنه أقام بالقلعة.
وفي يوم الجمعة تاسع عشره: خطب على منابر القاهرة ومصر باسم الملك الناصر، وأسقط اسم الملك المظفر، فكانت أيامه في السلطنة عشرة أشهر وأربعة وعشرين يوماً، فكان كما قيل:
أعجلتها النوى فما نلت منها ... طائلاً غير نظرة من بعيد
عود السلطان ناصر الدين إلى الملك
عود السلطان الملك الناصر ناصر الدين أبي المعالي محمد بن الملك المنصور قلاوون إلى الملك مرة ثالثة وذلك أنه لما عزم على المسير إلى ديار مصر، خرج من دمشق في الثانية من نهار يوم الثلاثاء سادس عشر رمضان - وهي الساعة التي خلع فيها الملك المظفر بيبرس نفسه من الملك - وسار يريد مصر.
وعندما فر المظفر بيبرس جلس الأمير سلار في شباك النيابة، وجع من بقي من الأمراء، واهتم بحفظ القلعة، وأفرج عن المحابيس بها. وركب سلار ونادى في الناس: ادعوا لسلطانكم لملك الناصر، وكتب إلى الملك الناصر بنزول بيبرس عن السلطنة وفراره، وسير بنلك أصلم الدوادار وبهادر آص إلى الملك الناصر برسالة المظفر أنه قد نزل عن السلطنة، ويسأل إما الكرك أو حماة أو صهيون. فاتفق يوم وصولهما إلى غزة قدوم الملك الناصر أيضاً، وقدوم الأمير سيف الدين ساطي السلاح دار في طائفة من الأمراء، وقدوم العربان والتركمان. وقدم الأمير مهنا بجماعة من عرب آل فضل، فركب السلطان إلى لقائه، وقدم برلغي ونائب الكرك، فسر السلطان بذلك سروراً كبيراً. وكتب الناصر إلى المظفر أمانا مع بيبرس الدودار وبهادر آص، وقدما في حادي عشرى رمضان إلى الأمير سلار، فجهز الأمان إلى المظفر.
ولما تكاملت العساكر بغزة سار الناصر يريد مصر، فقدم أصلم مملوك سلار بالنمجاة، ووصل أرسلان الدوادار، فسر بذلك. و لم يزل الناصر سائراً إلى أن نزل بركة الحاج، وقد جهز إليه الأمير سلار الطلب السلطاني والأمراء والعساكر سلخ رمضان، وخرج الأمير سلار إلى لقائه. وصلى السلطان صلاة العيد بالدهليز في يوم الأربعاء مستهل شوال، وأنشد الشعرا مدائحهم، فمن ذلك ما أنشده شمس الدين محمد بن علي بن موسى الراعي أبياتاً منها:
الملك عاد إلى حماه كما بدا ... ومحمد بالنصر سر محمدا
وإيابه كالسيف عاد لغمده ... ومعاده كالورد عاوده الندى
الحق مرتجع إلى أربابه ... من كف غاصبه وإن طال المدا(1/365)
وعمل الأمير سلار سماطاً عظيماً بلغت النفقة عليه اثني عشر ألف درهم، جلس عليه السلطان: فلما انقضى السماط عزم السلطان على المبيت والركوب بكرة يوم الخميس. فبلغه أن الأمير برلغي والأمير أقوش نائب الكرك قد اتفقا مع البرجية على الهجوم عليه وقتله، فبعث إلى الأمراء يعلمهم. مما بلغه، ويأمرهم بالركوب فركبوا، وركب في ممالكيه ودقت الكوسات. وسار الناصر وقت الظهر من يوم الأربعاء، وقد احتفت به مماليه كي لا يصل إليه أحد من الأمراء، وسار إلى القلعة، وخرج الناس بأجمعهم لمشاهدته. فلما بلغ بين العروستين ترجل سلار وسائر الأمراء، ومشوا إلى باب السر من القلعة، وقد وقف جماعة من الأمراء بمماليكهم وعليهم السلاح حتى عبر السلطان من الباب إلى القلعة، وأمر الأمراء بالانصراف إلى منازلهم، وعين جماعة من الأمراء الذين يثق بهم أن يستمروا على ظهور خيولهم حول القلعة طول الليل، فباتوا على ذلك.
وأصبح الناصر من الغد يوم الخميس ثانيه جالساً على تخت الملك وسرير السلطنة، وحضر الخليفة أبو الربيع والأمراء والقضاة وسائر أهل الدولة للهناء، فقرأ محمد بن علي ابن موسى الراعي: قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعزمن تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شئ قدير " ، ثم دعا. ولما تقدم الخليفة وسلم، نظر إليه السلطان وقال له: كيف تحضر تسلم على خارجي، هل كنت أنا خارجياً وبيبرس كان من سلالة بني العباس؟، فتغير وجه الخليفة ولم ينطق. ثم التفت السلطان إلى القاضي علاء الدين علي بن عبد الظاهر الموقع، وكان هو الذي كتب عهد المظفر عن الخليفة، وقال له: يا أسود الوجه، فقال ابن عبد الظاهر من غير توقف: يا خوند! أبلق خير من أسود؟، فقال السلطان: ويلك! حتى ألا تترك رنكه أيضاً، يعني أن ابن عبد الظاهر ممن ينتمي إلى الأمير سلار، وكان رنك سلار أبيض وأسود، ثم التفت السلطان إلى قاضي القضاة بدر الدين محمد ابن جماعة، وقال: يا قاضي! كنت تفتي المسلمين بقتالي؟ فقال: معاذ الله! إنما تكون الفتوى على مقتضى كلام المستفتي . ثم حضر صدر الدين محمد بن عمر بن المرحل، وقبل يد السلطان فقال له كنت تقول ما للصبي وما للملك يكلفه؟. فحلف بالله ما قال هذا، وإنما الأعداء أرادوا إ تلافه فزادوا في قصيدته هذا البيت. والعفو من شيم الملوك، فعفا عنه؛ وكان ابن المرحل قد مدح المظفر بيبرس بقصيدة عرض فيها بالناصر، من جملتها:
ماللصبي وما للملك يكفله ... شأن الصبي لغير الملك مألوف
ثم استأذن شمس الدين محمد بن عدلان، ففال السلطان للدوادار: قل له أنت أفتيت أنه خارجي وقتاله جائز، مالك عنده دخول؛ ولكن عرفه هو وابن المرحل أنه يكفيهما ما قال الشارمساحي فيهما. وكان من خير ذلك أن الأديب شهاب الدين أحمد ابن عبد الدائم الشارمساحي مدح السلطان الملك الناصر بقصيدة عرض فيها بهحو الملك المظفر بيبرس وصحته لابن عدلان وابن المرحل، منها:
ولي المظفر لما فاته الظفر ... وناصر الحق وافي وهو منتصر
وقد طوى اللّه من بين الورى فتنا ... كادت على عصبة الإسلام تنتثر
فقل لبيبرس إن الدهرألبسه ... أثواب عارية في طولها قصر
لما تولى الخير عن أمم ... لم يحمدوا أمرهم فيها ولا شكروا
وكيف تمشي به الأحوال في زمن ... لا النيل وفي ولا وافاهم مطر
ومن يقوم ابن عدلان بنصرته ... وابن المرحل قل لي كيف ينتصر
وكان المطر لم يقع في هذه السنة، وقصر النيل، وارتفع السعر.
واتفق في يوم جلوس السلطان، أن الأمراء لما اجتمعوا قبل خروج السلطان إليهم بالإيوان أشار الأفرم نائب الشام لمنشد يقال له مسعود أحضره معه من دمشق، فقام وأنشد أبياتاً لبعض عوام القاهرة، قالها عند توجه الملك الناصر من مصر إلى الكرك، منها:
أحبة قبلي إنني لوحيد ... وأريد لقاكم والمزار بعيد
كفى حزناً أني مقيم ببلدة ... ومن شف قلبي بالفراق فريد
أجول بطرفي في الديار فلا أرى ... وجوه أحبائي الذين أريد(1/366)
نق فتواجد الأفرم وبكى، وحسر عن رأسه، ووضع الكلفتاه على الأرض، فأنكر الأمراء ذلك، وتناول الأمير فرا سنقر الكلفتاه بيده ووضعها على رأسه. وخرج السلطان فقام الجميع، وصرخت الجاويشية، فقبل الحاضرون الأرض.
وفيه قدم الأمير سلار من المماليك والخيول وتعابى القماش ما قيمته مائتا ألف درهم، فقبل السلطان شيئاً ورد الباقي. وسأل سلار الإعفاء من نيابة السلطنة، وأن ينعم عليه بالشوبك؛ فأجيب إلى ذلك. وحلف سلار أنه متى طلب حضر، وخلع عليه، وخرج عصر يوم الجمعة ثالثه مسافراً، فكانت ثيابته إحدى عشرة سنة، وتوجه معه الأمير نظام الدين آدم، واستقر ابنه علي بالقاهرة، وأنعم عليه بإمرة عشرة.
وفي خامسه: قدم رسول المظفر بيبرس بكتابه يسأل الأمان. وفيه استقر قرا سنقر في نيابة دمشق عوضاً عن الأفرم، وقبجق في نيابة حلب. والحاج بهادر الحلبي في نيابة طرابلس عوضاً عن أسندمر كرجي، وقطلوبك المنصوري في نيابة صفد عوضاً عن بكتمر الجوكندار، وأسندمر كرجي في نيابة حلب حماة عوضاً عن قبجق، وسنقر الكمالي حاجب الحجاب بديار مصر على عادته، وقرا لاجين أمير مجلس على عادته، وبيبرس الدوادار على عادته - وأضيف إليه نيابة دار العدل ونظر الأحباس - في خامس ذي القعدة، واستقر الأفرم في نيابة صرخد بمائة فارس. وطلب شهاب الدين بن عبادة، ورسم له بتجهيز الخلع والتشاريف لسائر أمراء الشام ومصر فجهزت، وخلع عليهم كلهم في يوم الإثنين سادسه، وركبوا فكان يوماً مشهوداً.
وفي يوم الأحد ثاني عشره: استقر فخر الدين عمر بن الخليلي في الوزارة، وصرف ضياء الدين أبر بكر النشائي، وعوق بالقلعة أياماً، ثم أفرج عنه ولم يحمل مالاً.
وفي يوم الخميس سادس عشره: حضر الأمراء الخدمة على العادة، وقد قرر السلطان مع مماليكه القبض على الأمراء، وأن كل عشرة يقبضون أميراً ممن عينه لهم، بحيث تكون العشرة عند دخول الأمير محتفة به، فماذا رفع السماط واستدعى السلطان أمير جاندار قبض كل جماعة على من عين لهم. فلما حصل الأمراء في الخدمة أحاط بهم المماليك، ففهموا القصد، وجلسوا على السماط، فلم يتناول أحد منهم لقمة. وعندما نهضوا أشار السلطان إلى أمير جاندار، فتقدم إليه وقبض المماليك على الأمراء المعينين، وعدتهم اثنان وعشرون أميراً، فلم يتحرك أحد لقبضهم من خشداشيتهم، وبهت الجميع. و لم يفلت ممن عير سوى جركتمر بن بهادر رأس نوبة، فإنه لما فهم القصد وضع يده على أنفه كأنه رعف، وخرج من غير أن يشعر به أحد، واختفى عند الأمير قرا سنقر وكان زوج ابنته، فشفع فيه حتى عفى السلطان عنه. وكان الأمراء المقبوض عليهم: تناكر، وأيبك البغدادي، والعتابي؛ وبلبان التقوي، وقجماس، وصاروجا، وبيبرس عبد الله، وبيدمر، ومنكوبرس وأشقتمر، والسيواسي، والكمالي الصغير، وحسن الردادي، وبلاط، وتمربغا، وقيران، ونوغاي الحموي، والحاج بيليك المظفري، وفطقطوا، والغتمي، وأكبار، وتتمة الاثنين وعشرين.
وجرد عدد من الأمراء إلى دمشق، فأول من سافر علاء الدين مغلطاي المسعودي، وجبا أخو سلار، وطرنطاي البغدادي، وأيدغدي التليلي، وبهادر الحموي، وبلبان الدمشقي، وأيدغدي الزراق، وكهرداش الزراق، وبكتمر الأستادار، وأيدمر الإسماعيلي، وأقطاي الجمدار، وبوزبا الساقي وبيبرس الشجاعي، وكوري السلاح دار، وأقطوان الأشرافي، وبهادر الجوكندار، وبلبان الشمسي، وعدة من أمراء الشعراوات، فلما وصلوا إلى حلب رسم بإقامة ستة من أمراء الطبلخاناه وعود البقية.
وفي ثالث عشرى: استقر الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار المنصوري في نيابة السلطنة بديار مصر، عوضاً عن سلار.(1/367)
وفي خامس عشرى: أحضر الأمير بيبرس الداودار الأموال من عند الملك المظفر بيبرس. وفيه أمر السلطان اثنين وثلاثين أميراً من مماليكه منهم تنكز الحسمامي، وطغاي، وكستاي، وقجليس، وخاص ترك، وخلط قرا، وأركتمر، وأيدمر الشيخي، وأيدمر الساقي، وبيبرس أمير آخور، وطاجار، وخضر بن نوكاي، وبهادر قبجق، والحاج رقطاي، وأخوه أيتمس المحمدي، وأرغون الدوادار الذي صار بعد ذلك نائب السلطنة بمصر، وسنقر المرزوقي، وبلبان الجاشنكير، وأسنبغا، وبيبغا الملكي، وأمير علي بن قطلوبك، ونوروز أخو جنكلي، والجاي الحسامي، وطيبغا حاجي، ومغلطاي العزي صهر نوغاي، وقرمشى الزيني، وبكتمر قبجق، وبيغر الصالحي، ومغلطاي البهائي، وسنقر السلاح دار، ومنكلي بغا. وركبوا جميعاً بالشرابيش، وشقوا القاهرة، وقد أوقدت الحوانيت كلها إلى الرميلة وسوق الخيل، ورصت المغاني وأرباب الملاهي في عدة أماكن، ونثرت عليهم الدراهم، فكان يوماً مشهوداً. وكان المذكورون منهم أمراء طبلخاناه، ومنهم أمراء عشراوات.
وفيه قبض على الأمير عز الدين أيدمر الخطيري الأستادار، والأمير بدر الدين بكتوت الفتاح أمير جاندار، بعدما حضرا من عند الملك المظفر وخلع عليهما. وفيه كتب إلى ولاة الأعمال بالحوطة على موجود الأمراء المقبوض عليهم، وطلب السلطان مباشرتهم.
وفيه سفر الأمراء المقبوض عليهم إلى حبس الإسكندرية، وكتب بالإفراج عن المعتقلين بها، وهم: الأقوش المنصوري قاتل الشجاعي، والشيخ علي التتري، ومنكلي التتري، وشاورشي بن قنغر الذي أثار فتنة الشجاعي، وكتبغا، وغازي وموسى أخوا حمدان بن صلغاي، فلما حضروا خلع عليهم، وأنعم عليهم بإمريات في الشام وأحضر شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية من سجن الإسكندرية إلى السلطان، فبالغ في إكرامه.
وأما المظفر بيبرس فإنه لما فارق قلعة الجبل أقام بإطفيح يومين، واتفق رأيه ورأي أيدمر الخطيري وبكتوت الفتاح على المسير إلى برقة والإقامة بها، فلما بلغ المماليك هذا عزموا على مفارقتهم، فلما رحلوا من إطفيح رجع المماليك شيئاً بعد شيء إلى القاهرة، فما بلغ الملك المظفر إلى إحميم حتى فارقه أكثر من كان معه، فانثنى رأيه عن برقة. وتركه الخطيري والفتاح وعادا إلى القاهرة، فتبعهما كثير من المماليك المظفرية وهو يراهم. وبينما هو سائر قدم عليه الأميران بيبرس الدوادار وبهادر أص من عند الملك الناصر ليتوجه إلى صهيون، بعد أن يدفع ما أخذه من المال بأجمعه إلى بيبرس، فسار به بيبرس في النيل، وقدم بهادر آص في البر بالمظفر ومعه كاتبه كريم الدين أكرم. وسأل المظفر يمين السلطان مع من يثق به، فحلف له السلطان بحضرة الأمراء، وبعث إليه بنلك مع أيتمش المحمدي، فلما قدم عليه أيتمش بالغ في إكرامه، وتحير فيما يفعله، وكتب الجواب بالطاعة، وأنه يتوجه إليه ناحية السويس، وأن كريم الدين يحضره بالخزانة والحواصل التي أخذها فلم يعجب السلطان ذلك، وعزم على إخراج تجريدة إلى غزة ليردوه، وأطلع على ذلك بكتمر الجوكندار النائب وقرا سنقر نائب دمشق والحاج بهادر نائب طرابلس.
فلما كان يوم الخميس الذي قبض فيه على الأمراء جلس بعض المماليك الأشرفية، فلما خرج الأمراء من الخدمة قال أولئك الأشرفية: وأي ذنب لهؤلاء الأمراء الذين قبض عليهم، وهذا الذي قتل أستاذنا الملك الأشرف، ودمه إلى الآن على سيفه ما خرج أثره، قد صار اليوم حاكم المملكة - يعني قرا سنقر. فنقل هذا لقرا سنقر، فخاف على نفسه، وأخذ في التعمل على الخلاص من مصر، والتزم للسلطان أنه يتوجه و يحصل المظفر بيبرس هو والحاج بهادر نائب طرابلس من غير إخراج التجريدة، فإن في بعث الأمراء لنلك شناعة، فمشي ذلك على السلطان، ورسم بسفرهما. فخرج قرا سنقر هو وسائر النواب إلى ممالكهم، فعوق السلطان أسندمر كرجي نائب حماة عن السفر، وسار البقية.(1/368)
ثم جهز السلطان أسندمر كرجي لإحضار المظفر مقيداً، فاتفق دخول فرا سنقر والأمراء إلى غزة قبل المظفر، فلما بلغهم قربه ركب قرا سنقر وسائر النواب والأمراء ولقوة شرقي غزة، وقد تقى معه عمد من مماليكه وقد تأهبوا للحرب، فلبس الأمراء السلاح ليقاتلوهم. فأنكر المظفر على مماليكه تأهبهم للقتال، وقال: أنا كنت ملكاً وحولي أضعافكم، ولي عصبة كثيرة من الأمراء، وما اخترت سفك الدماء، وما زال حتى كفوا عن القتال، وساق بنفسه حتى صار مع الأمراء، وأسلم نفسه إليهم، فسلموا عليه وساروا به إلى معسكرهم وأنزلوه بخيمة، وأخفوا سلاح مماليكه ووكلوا بهم من يحفظهم، وأصبحوا من الغد عائدين به معهم إلى مصر. فأدركهم أسندمر كرجي بالخطارة، فأنزل في الوقت المظفر عن فرسه وقيده بقيد أحضره معه، فبكي وتحدرت دموعه على شيبته. فشق ذلك على قرا سنقر وألقى الكلفتاه عن رأسه إلى الأرض، وقال: لعن اللّه! الدنيا فياليتنا متنا ولا رأينا هذا اليوم. فترجلت الأمراء، وأخفوا كلوثته ووضعوها على رأسه. هذا مع أن قرا سنقر كان أكبر الأسباب في زوال دولة المظفر، وهو الذي حسن للملك الناصر حتى كان ما كان.
ثم عاد قراسنقر والحاج بهادر إلى جهة الشام، وأخذ بهادر يلوم قرا سنقر على مخالفة رأيه، فإنه كان قد أشار على قراسنقر في الليل بعد القبض على المظفر بأن يخلي عنه حتى يصل إلى صهيون، ويتوجه كل منهما إلى محل ولايته، ويخيفا الناصر بأنه متى تغير عما كان قد وافق الأمراء عليه بدمشق قاموا بنصرة المظفر وإعادته إلى الملك. فلم يوافق قراسنقر على ذلك، وظن أن الملك الناصر لا يستحيل عليه ولا على المظفر، فلما رأى ما حل بالمظفر ندم على مخالفة بهادر. وبينما هما في ذلك إذ بعث أسندمر كرجي إلى قراسنقر بمرسوم السلطان أن يحضر صحبة المظفر إلى القلعة، وكان عزمه أن يقبض عليه أيضاً، ففطن فراسنقر بذلك وامتنع من التوجه إلى مصر، واعتذر بأن العشير قد جمعوا ويخاف على دمشق منهم، وجد في المسير، وعرف أنه ترك الرأي في مخالفة بهادر.
وقدم أسندمر بالملك المظفر في ليلة الأربعاء الرابع عشر من ذي القعدة، فلما مثل المظفر بين يدي السلطان قبل الأرض، فأجلسه وعنفه بما فعل به، وذكره بما كان منه وعدد ذنوبه، وقال: تذكر وقد صحت على وقت كذا بسبب فلان، ورددت شفاعتي في حق فلان، واستدعيت نفقة في وقت كذا من الخزانة فمنعتها، وطلبت في وقت حلوى بلوز وسكر فمنعتني. ويلك! وزدت في أمري حتى منعتني شهوة نفسي، والمظفر ساكت. فلما فرغ كلام السلطان قال له: يا مولانا السلطان كل ما قلت فعلته، و لم تبق إلا مراحم السلطان. وإيش يقول المملوك لأستاذه. فقال له: يا ركن الدين أنا اليوم أستاذك، وأمس تقول لما طلبت أوز مشوي إيش يعمل بالأوز، الأكل هو عشرون مرة في النهار. ثم أمر السلطان به إلى مكان، وكان ذلك ليلة الخميس، فاستدعى بوضوء وصلى العشاء الآخرة. ثم جاء السلطان وأمر به فقتل، وأنزل على جنوية إلى الإسطبل، وغسل به في ليلة الجمعة خامس عشرة، ودفن خلف القلعة.(1/369)
وقدم كريم الدين أكرم بن العلم بن السديد كاتب الملك المظفر بالمال والحواصل، فقربه السلطان وأدناه وأثنى عليه، ووعده بكل جميل إن أظهره على ذخائز بيبرس، ونزل إلى داره. فبذل كريم الدين جهده في تتبع أموال بيبرس، وخدم طغاي وكستاي وأرغون الدوادار، وبذل لهم مالا كثيراً حتى صاروا أكبر أعوانه وأنصاره، لا يبرحون في الثناء عليه مع السلطان. وقدم من كان مع بيبرس من المماليك وعدتهم ثلاثمائة، ومعهم الخيل والهجن والسلاح، ومبلغ مائتي ألف درهم وعشرين ألف دينار، وستون بقجة من أنواع الثياب. فقبض السلطان الجميع. وفرق المماليك على الأمراء، واختص منهم بكتمر الساقي الآتي ذكره وما صار إليه، واختص أيضاً طوغان الساقي وقباتمر وبلك في آخرين. واستدعى السلطان القضاة، وأقام عندهم البينة بأن جميع مماليك بيبرس وسلار وسائر ما وقفاه من الضياع والأملاك اشترى من مال بيت المال. فلما ثبت ذلك ندب السلطان الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك وكريم الدين أكرم لبيع تركة بيبرس، وإحضار نصف ما يتحصل فإنه للسلطان، ودفع النصف الآخر لابنة بيبرس - امرأة الأمير برلغي الأشرفي - فإنه لم يترك سواها. فشدد كريم الدين الطلب على امرأة بيبرس حتى أخذ منها جواهر عظيمة القدر وذخائر نفيسة جداً، وحمل منها إلى السلطان، وأهدي إلى الأمراء الخاصكية القائمين بأمره والعناية به، وادخر لنفسه. وباع موجود بيبرس، وكان شيئاً كثيراً: فوجد له ثمانين بذله ثياب، ما بين أقبية وبغالطيق للبسه، وستين سروالاً، وثمانين قميصاً. وصار كريم الدين يتردد إلى بيت الشهاب الدين أحمد بن عبادة وكيل السلطان المتحدث في أملاكه، وهو حينئذ عظيم الدولة المتحدث في سائر أمور المملكة، ويقرب إليه بما يحب. وطلب الصاحب فخر الدين عمر بن الخليلي مباشري الأمراء المقبوض عليهم، وطالبهم بالأموال.
وأما قرا سنقر والنواب فإنه سقط في أيديهم، وداخل كلا منهم الخوف على نفسه من السلطان، واتفقوا على ألا يحضر أحد منهم إلى السلطان إن استدعاه، فلم يفدهم ذلك. وكان من خبرهم ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
ولما فات السلطان قرا سنقر لم ير القبض على أسندمر كرجي، وخلع عليه وولاه نيابة حماة، وسار إليها. وندب الأمير علم الدين سنجر الخازن لمساعدة الصاحب فخر الدين على حوطات الأمراء.
ثم ركب السلطان إلى الميدان في موكب عظيم، واجتمع الناس لرؤيته، واستأجروا الحوانيت والدور بمال كبير، فكان يوما مشهوداً.
وفي أول ذي الحجة: دخل الأمير قرا سنقر دمشق. وفيه سار الأمير أرغون الدوادار على البريد إلى الشوبك بتشريف سلار، وأنعم عليه بمائة فارس، وأخرجت له بلاد من خاص الكرك زيادة على ما بيده من الشوبك، وكتب له به منشور.
وفيه وسط تحت القلعة سبعة من ممالك أقوش الرومي، بسبب أنهم تولوا قتله وأخنوا ماله، وصاروا إلى الكرك كما تقدم.
وفيه منع الأويراتية من الدخول إلى الخدمة السلطانية: وسببه أنهم كانوا مستخدمين عند الأمراء، فلما خامروا على أستاذيهم وفروا إلى السلطان بالكرك ظنوا أنهم قد اتخذوا عنده بذلك يداً، فصاروا بعد عوده إلى السلطنة يمشون في خدمة السلطان ويقفون فوق المماليك السلطانية، فشق ذلك على المماليك، وأغروا السلطان بهم حتى تنكر لهم، وأكثروا من ذمهم والعيب عليهم بكونهم خامروا على أستاذيهم وأنهم لا خير فيهم، إلى أن منعهم السلطان.
وفيه كتب لقرا سنقر نائب دمشق بمحاربة العشير وقتلهم، وكانت بنو هلال وبنو أسد قد كثرت حروبهم وعظم فسادهم لاختلال أمر الدولة، فبعث إليهم قرا سنقر تجريدة أحضرت رؤوسهم، وقرر عليهم ثلاثمائة ألف دحرهم، وحبس رهائنهم، وبعث يسأل الإنعام عليه بمبلغ، فأنعم عليه. وأعيد الشيخ كريم الدين عبد الكريم الآملي إلى مشيخة سعيد السعداء، وعزل عنها بدر الدين محمد بن جماعة، واستقر عوضه جمال الدين محمد بن تقي الدين محمد بن مجد الدين حسن بن تاج الدين على بن القسطلاني في خطابة القلعة، وكان قد عزل منها ابن جماعة أيضاً لتغير السلطان عليه. وأنعم على الأمير نوغاي القبجاقي بإمرة دمشق عوضاً عن قطلوبك، وسار إليها. وكتب بقطع خبز الأمير قطلوبك الأوشاقي والطنقش أستادار الأفرم وعلاء الدين علي بن صبيح مقدمي الجبلية وحملهم إلى مصر.(1/370)
وفيه قبض على الأمير برلغي الأشرفي وطغلق السلاح دار ومغلطاي الفارقاني، وكتب لقرا سنقر بالقبض على نوغاي وبيبرس العلمي، فقبض عليهما وسحنا بقلعة دمشق. وأحيط بسائر ما لهما.
وفيها كانت حرب بالمدينة النبوية: وذلك أن الشريف مقبل بن جاز بن شيحة أمير المدينة تنافس مع أخيه منصور، فتركه وقدم إلى القاهرة، فولاه الملك المظفر نصف الإمرة بنجد، واستخلف ابنه كبيشة. ففر كبيشة عنها وملكها مقبل، فعاد كبيشة بجمع كبير وحاربه وقتله، واستقر منصور بمفرده.
ومات في هذه السنة
ممن له ذكر ضياء الدين أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن عمر بن يوسف بن عبد المنعم الأنصاري البخاري، القرطبي المتحد، القنائي المولد والوفاة، في رابع ذي القعدة، وكان رئيساً ببلده.
ومات الشيخ الصالح المعمر أبو العباس أحمد بن أبي طالب الحمامي البغدادي، بمكة في جمادى الآخرة.
ومات نبيه الدين حسن ابن حسين بن جبريل ابن نصر الأنصاري الأسعردي، بالقاهرة في أول جمادى الآخرة، ولي حسبة القاهرة، لما استقر ضياء الدين أبو بكر النشائي وزيراً تولى هو نظر الدولة، مات بمصر عن سبع وسبعين سنة.
ومات شمس الدين محمد بن أبي الفتح البعلي الفقيه الحنبلي، في المحرم بمصر، وكان بارعاً في الفقه والنحو.
ومات الأمير الوزير شمس الدين سنقر الأعسر المنصوري في ربيع الأول؛ ودفن خارج باب النصر، بعدما استعفى من الإمرة ولزم داره حتى مات ومات الشيخ نجم الدين محمد بن إدريس القمولي الشافعي، بقوص في جمادى الأولى؛ وكان صالحاً عالماً بالفقه والتفسير والحديث.
ومات قاضي القضاة شرف الدين عبد الغني بن يحيى بن محمد بن عبد الله بن نصر بن عبد الله بن نصر بن أبي بكر الحراني الحنبلي، ليلة الجمعة رابع عشرى ربيع الأول، ودفن بالقرافة، ومولده بحران سنة خمس وأربعين وستمائة.
ومات الأمير سيف الدين طغريل الإيغاني، بالقاهرة في عاشر رمضان.
ومات الأمير عز الدين أيبك الخازندار، بالقاهرة في سابع رمضان.
ومات الأمير عز الدين عبد العزيز بن شرف الدين محمد القيسراني، كاتب الدرج ومدرس المدرسة الفخرية بالقاهرة، يوم الخميس عاشر صفر.
ومات الأمير سيف الدين قيران شاد الدواوين بدمشق، بعد عزله.
ومات الأمير علاء الدين أقطوان الدواداري بدمشق أيضاً.
ومات الأمير علاء الدين علي بن معين الدين سليمان البرواناه نائب دار العدل، بقلعة الجبل، وقدمت أخته بعد موته فشاهدته ميتا، ثم دفن.
ومات الأمير جمال الدين أقوش الرستمي شاد الدواودين، بدمشق في يوم الأحد ثاني عشرى جمادى الأولى.
ومات متملك تونس الأمير أبو عبد الله المعروف بأبي عصيدة ابن يحيى الواثق بن محمد المستنصر بن يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص، في عاشر ربيع الآخر، وكانت مدته أربع عشرة سنة وأربعة أشهر، ووفى بعده الأمير أبو بكر بن أبي زيد عبد الرحمن ابن أبي بكر بن يحيى بن عبد الواحد المدعو بالشهيد، لأنه قتل ظلماً بعد ستة عشر يوماً، وبويع بعده أيضاً الأمير أبو البقاء خالد بن يحيى بن إبراهيم.
ومات التاج أبو الفرج بن سعيد الدولة، في يوم السبت ثاني رجب، وكان عند المظفر بيبرس بمكانة عظيمة قرره مشيراً، فكانت تحمل إليه فوط العلامة، فيمضي منها ما يختاره ويكتب عليه عرض، فإذا رأى السلطان خطه علم وإلا فلا، وكذلك كتب البريد، و لم يزل على ذلك حتى بعث إليه الأفرم نائب الشام يهدده بقطع رأسه، فامتنع، وكان مشهوراً بالأمانة والعفة، مهيباً له حرمة، لا يخالط أحداً ولا يقبل هدية.
سنة عشر وسبعمائة
أهل المحرم: فوردت رسل سيس بهدية، منها طشت ذهب وإبريق بلور مرصع بالجوهر، وكتاب يتضمن الهناء بالعود إلى الملك، فأجيب بالشكر.
وصرف قاضي القضاء بمر الدين محمد بن إبراهيم بن سعد الدين بن جماعة الشافعي، وولى بعده القضاء بديار مصر جمال الدين أبو الربيع سليمان بن مجد الدين أبي حفص عمر بن شرف الدين أبي الغنائم سالم بن عمرو بن عثمان الأذرعي الشهير بالزرعي الشافعي، في يوم الثلاناء تاسع عشرى صفر.(1/371)
وعزل قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني السروجي الحنفي في رابع ربيع الأول، فأقام بعد عزله ستة أيام ومات واستدعى شمس الدين محمد بن عثمان بن أبي الحسن بن عبد الوهاب بن أبي عمر الأنصار الدمشقي المعروف بابن الحريري الحنفي من دمشق إلى القاهرة، واستقر في قضاء الحنفية بالقاهرة ومصر في رابع ربيع الآخر.
وعزل الأمير علاء الدين كشتغدي البهادري من شد الدواوين، واستقر عوضه بلبان المحسني، ثم عزل بلبان بعد أيام بعلم الدين سنجر الخازن. واستقر شمس الدين غبريال في نظر الدواوين، وعزل شاورشي بن قنغر من ولاية القاهرة.
وفي ربيع الأول قبض السلطان على إخوة سلار وحاشيته، فقبض علاء الدين سمك وجبا وداود وأمير على وساطي. وقبض على الأمير طشتمر الجوكندار وكوري السلاح دار وسيف الدين الطشلاقي وقلغاي، وتتمة ستة عشر أميراً. وكتب إلى نائب دمشق ونائب طرابلس بالقبض على الأمراء الذين أفرج عنهم عندما قدم السلطان من الكرك: وهم ألطنبغا وأشقتمر وعبد الله والأقوش المنصوري والشيخ علي التتري وبينجار النتري ومرسي وغازي وأخوا حمدان بن صلغاي وطرنطاي المحمدي وأقطوان الأشرفي، فقبض عليهم خوفاً من شرهم وإقامتهم الفتن. وكتب إلى نائب حلب بالقبض على فخر الدين أياز نائب قلعة الروم، فقبض عليه، وأخذ ماله فكان ألف ألف درهم، حملت إلى السلطان.
واستقر نجم الدين محمد بن عثمان البصروي في وزارة دمشق، وسار من القاهرة في سابع صفر. واستقر الأمير بكتمر الحسامي الحاجب في نيابة غزة، عوضاً عن بلبان البدري، وسار في سابع عشري المحرم. وندب الأمير بدر الدين القرماني لكشف القلاع الشامية، فسار ومعه أمين الدين عبد اللّه بن الغنام. وقبض السلطان على قطقطواه والشيخ على وضروط مماليك سلار، وأمر جماعة من المماليك منهم بيبغا الأشرفي وسيف الدين جغطاي وطيبغا الشمسي وبكتمر قبجق وبهادر السعيدي الكركري وطشتمر أخو بتخاص والعمري وقطلوبغا وأزدمر وملكتمر الشمسي وفردز الكمالي وبيحوا وقرا وأيدمر الدوادار وبهادرالنقيب.
وفيها قدم الأمير حسام الدين مهنا ملك العرب في جمادى الأولى، فأكرمه السلطان وخلع عليه، فسأل في أشياء منها: ولاة حماة للملك المؤيد عماد الدين إسماعيل ابن الملك الأفضل علي، فأجابه السلطان إلى ذلك، ووعده بحماة عوضاً عن أسندمر كرجي، ومنها الشفاعة في عز الدين أيدمر الشيخي، فعفا عنه السلطان وأخرجه إلى قوص، ومنها الشفاعة في الأمير برلغي الأشرفي وكان في الأصل قد كسبه مهنا من التتر، وأهداه للملك المنصور قلاوون، فرتبه عند ابنه الملك الأشرف خليل فعدد السلطان ذنوبه، وما زال به مهنا حتى خفف عن برلغي، وأذن للناس في الدخول عليه، ووعده بالإفراج عنه بعد شهر، فرضي منها بذلك، وعاد إلى بلاده وهو كثير الشكر والثناء.
ولما فرغ السلطان من أمر المظفر بيبرس لم يبق عنده أهم من سلار، فندب إليه الأمير ناصر الدين محمد بن أمير سلاح بكتاش الفخري، وكتب على يده كتابا بحضوره، فاعتذر عن الحضور بوجع في فؤاده، وأنه يحضر إذا زال عنه. فتخيل السلطان من تأخيره، وخاف أن يتوجه إلى التتار، فكتب إلى قرا سنقر نائب الشام وإلى أسندمر نائب طرابلس يأخذ الطريق على سلار لئلا يتوجه إلى التتار، وبعث الأمير بيبرس الدوادار وعلم الدين سنجر الجاولي إلى سلار، وأكد عليهما في إحضاره، وأن يضمنا له على السلطان أنه يريد إقامته عنده ليستشيره في أمور المملكة فقدما عليه وبلغاه عن السلطان ما قال، فوعد بأنه يحضر، وكتب الجواب بذلك، فلما رجعا اشتد قلق السلطان وكثر خياله.
وأما سلار فإنه تحير في أمره، واستشار أصحابه فاختلفوا عليه فمنهم من أشار بتوجهه إلى السلطان، ومنهم من أشار بتوجهه إلى قطر من الأقطار، إما إلى التتار أو إلى اليمن أو برقة. فعول سلار على المسير إلى اليمن، ثم أجمع على الحضور إلى السلطان، وخرج من الشوبك وعنده ممن سافر معه من مصر أربعمائة وستون فارسا، وسار إلى القاهرة، فقدم وقبض عليه في سلخ ربيع الآخر، وسجن بالقعة.
وفيها عزل صدر الدين محمد بن عمر بن المرحل من وظائفه بدمشق، من أجل أنه قبض عليه بصالحية دمشق وعنده جماعة يعاقرونه الخمر.(1/372)
وفيها ضيق على الأمير برلغي بعد سفر الأمير مهنا، وأخرج حريمه من عنده ومنع من الوصول إليه، ومن أن يدخل إليه بأكل أو شرب فلما أشفي برلغي على الموت قتل، بعدما يبست أعضاؤه وخرس لسانه من شدة الجوع، ومات ليلة الأربعاء ثاني رجب.
وفيها قتل الأمير سلار أيضاً بقلعة الجبل، في رابع عشري جمادى الأولى، وأحيط بماله وكان شيئا كثيرا. ولما وصل طلبه فرقه السلطان على الأمراء. ثم ماتت أمه بعد أيام. وكان سلار عاقلا له رأي وحزم، وأصله لما كسبه المنصور قلاوون من التتر.
وقدم البريد بموت الأمير قبجق نائب حلب، وأن عماد الدين إسماعيل لما ورد عليه التقليد بنيابة حماة سار إليها من دمشق. فمنعه أسندمر كرجي، فأقام بين حماة وحمص ينتظر مرسوم السلطان. فاتفق موت قبجق، فسار أسندمر من حماة إلى حلب، وكتب يسأل السلطان نيابتها، فغضب السلطان من أسندمر، وأسر ذلك في نفسه.
وفيها عزل الأمير بكتمر الحاجب عن نيابة غزة، وأحضر إلى القاهرة، وولي نيابة غزة الأمير قطلقتمر.
وفيها عزل الصاحب فخر الدين عمر بن الخليلي من الوزارة، والأمير علم الدين سنجر الخازن من شد الدواوين، واستقر الأمير بكتمر الحاجب في الوزارة في حادي عشر رمضان، واستقر فخر الدين أياز أستادار سنقر الأعسر في شد الدواوين. واتفق أن أياز هذا استخدمه الأمير سلار النائب استاداره بعد موت عز الدين أيدمر الرشيدي، فلم يزل حتى قبض على سلار وأحيط بماله، ورسم على أياز مع سائر مباشريه، وسلموا لعلم الدين سنجر الخازن مشد الدواوين في المصادرة، ليستخرج منهم المال فحمل أياز للخازن ألف دينار، وللصاحب فخر الدين ألف دينار، فرد الخازن المال وقبله الصاحب. فلم يمض سوى أيام حتى عزل الصاحب والخازن، وسلما لأياز ليستخرج المال منهما فبعث إليه الخازن ألف دينار فردها، وقال لقاصده: سلم عليه، وقل له ما لنا عنده شيء، وطيب خاطره، وبعث إليه الصاحب فخر الدين ألف دينار فأخذها، وقال لقاصده: عرفه أني أخذت وديعتي التي كان أخذها مني، ثم إن الأمير بكتمر الجوكندار شفع فيهما، فأفرج السلطان عنهما.
وفيها قدم مملوك عماد الدين إسماعيل بن الأفضل بأنه دخل حماة لمعد خروج أسندمر منها. وقدم رسول الأشكري ورسل ملك الكرج بهدايا سنية في رجب، وسألوا فتح الكنيسة المصلبة بالقدس. فكتب الجواب بأن هذه الكنيسة غلقت من الأيام الظاهرية على يد الشيخ خضر، وبنى فيها مسجد، ولا يمكن نقض ذلك، ورسم أن تفتح لهم كنيسة الملكية بمصر وكنيسة اليعاقبة التي بالقاهرة وكنيسة اليهود، وأذن لهم أن يركبوا على الاستواء.
وفيها كتب بعزل نجم الدين البصري عن وزارة دمشق، وولاية شرف الدين حمزة القلانسي عوضه. وقمم البريد بوفاة الحاج بهادر الحلي نائب طرابلس، فكتب بنقل الأمير جمال الدين أقوش الأفرم من صرخد إلى نيابة طرابلس، فسار إليها. وفرح السلطان بموت الحاج بهادر فرحاً زائداً، فإنه كان يخشاه ويخشى شره.
والتفت السلطان إلى أسندمر كرجي نائب حلب، وأخرج تجريدة من القاهرة فيها من الأمراء كراي المنصوري وهو مقدم العسكر، وسنقر الكمالي حاجب الحجاب، وأيبك الرومي، وبينجار، وكجكن، وبهادر آص، وفي عدة من مضافيهم أمراء الطبلخاناه والعشراوات ومقدمي الحلقة، وأظهر أنهم قد توجهوا لغزو سيس. وكتب السلطان لأسندمر كرجي بتجهيز آلات الحصار على العادة، والاهتمام في هذا الأمر حتى يصل العسكر المجرد من مصر، وكتب إلى عماد الدين صاحب حماة بالمسير مع العسكر. وسار الأمير كراي من القاهرة مستهل ذي القعدة، بعدما أخلع عليه، وأسر إليه السلطان ما يعتمده في أمر كرجي.
وفيها عدى السلطان النيل إلى الجيزة، ونزل تحت الأهرام ليتصيد. فمات ولده على ابن الخاتون أردوكين ابنة نوكيه، وله من العمر ست سنين، في ليلة الأحد حادي عشر رجب، ودفن بالقبة الناصرية بين القصرين، بعدما حضر الأمير علم الدين سنجر الجاولي لتجهيزه. واشتد حزن أمه عليه، ووقفت على القبة ما خصها من إرث الملك الأشرف خليل، ورتبت عند قبره القراء.(1/373)
وفيها عظم شأن شهاب الدين أحمد بن عبادة وكيل السلطان، وضرب أكابر العنبر بالمقارع، مثل عز الدين بن حالومة وشمس الدين بن الحكيم : وسبب ذلك أن السلطان كان قد وهبه قبل توجهه إلى الكرك مملوكاً جميل الصورة، فصار يشتمل على المذكورين ويعاشرهم على ما لا ينبغي، فحنق ابن عبادة من ذلك وأوقع بهم. وضرب ابن عبادة أيضاً شهاب الدين أحمد النويري صاحب التاريخ بالمقارع: وذلك أنه كان استنابه في المدرسة الناصرية والمنصورية وغيرهما، وجعله يدخل على السلطان ويطالعه بالأمور، فاغتر بذلك وبسط القول في ابن عبادة. فلم يعجب السلطان منه وقيعته في ابن عبادة، وعرف ابن عبادة ما قاله في حقه، وسلمه إليه ومكنه منه، فضربه بالمقارع ضرباً مبرحاً وصادره، فلم يشكر النويري أَحد على ما كان منه.
وفيها توحش خاطر الأمير بكتمر الجوكندار نائب السلطة بمصر من السلطان، وخاف منه، واتفق بكتمر مع الأمير بتخاص المنصوري على إقامة الأمير مظفر الدين موسى ابن الملك الصاع علي بن قلاوون في السلطنة، والاستعانة بالمظفرية، وبعثوا إليه بذلك فوافقهم. وشرع النائب في استمالة الأمراء، ومواعدة المماليك المظفرية الذين بخدمة الأمراء، على أن كل طائفة تقبض على الأمير التي هي بخدمته في يوم عينه لهم، ثم يسوق الجميع إلى قبة النصر خارج القاهرة، وقد نزل هناك الأمير موسى. فدبروا ذلك حتى انتظم الأمر، و لم يبق إلا وقوعه، فأراد بيبرس الجمدار أحد المظفرية الذين انتظموا في سلك هذا العقد أن يتخذ يداً عند السلطان، وعرف خوشداشيته قياتمر الخاصكي بما وقع الاتفاق عليه، فبلغ الخبر إلى السلطان، وكان في الليل، فلم يتمهل السلطان، وطلب أمير موسى إلى عنده، وكان يسكن بالقاهرة، فلما نزل إليه الطلب هرب. واستدعى السلطان الأمير بكتمر النائب، وبعث أيضاً في طلب بتخاص، وكانوا إذ ذاك يسكنون بالقلعة، فلما دخل إليه بكتمر أكرمه وأجلسه وأخذ يحادثه حتى أتاه المماليك بالأمير بتخاص فسقط في يد بكتمر، وعلم بأنه قد هلك، فقيد بتخاص وسجن، وأقام السلطان في انتظار أمير موسى، فعاد إليه الجاولي ونائب الكرك وأخبراه بفراره، فاشتد غضبه عليهما. وما طلع النهار حتى أحضر السلطان الأمراء، وعرفهم ما كمان قد تقرر من إقامة أمير موسى وموافقة. بتخاص له، و لم يذكر بكتمر النائب. وألزم السلطان الأمير كشتغدي البهادري والي القاهرة بالنداء عليه، ومن أحضره من الجند فله إمرته، وإن كان من العامة أخذ ألف دينار. فنزل كشتغدي ومعه الأمير فخر الدين أياز شاد الدواوين وأيدغدي شقير وسودي وعدة من المماليك، وألزم سائر الأمراء بالإقامة بالقاعة الأشرفية حتى يظهر أمير موسى، وقبض على حواشي موسى وجماعته وعاقب كثيراً منهم. فلم يزل الأمر على ذلك من ليلة الأربعاء إلى يوم الجمعة، ثم قبض عليه من بيت أستادار الفارقاني من حارة الوزيرية بالقاهرة، وحمل إلى القلعة فسجن بها. ونزل الأمراء إلى دورهم، وخلى عن الأمير بكتمر النائب أيضاً، ورسم بشمير أستادار الفارقاني، ثم عفى عنه وسار إلى داره.
وتتبع السلطان المماليك المظفرية فقبض عليهم، وفيهم بيبرس الذي نم عليهم وعملوا في الحديد. وأنزلو ليسمروا تحت القلعة، وقد حضر نساؤهم وأولادهم، وجاء الناس من كل موضع، فكثر البكاء والصراخ عليهم رحمة لهم، والسلطان ينظر، فاًخذته الرحمة وعفا عنهم، فتركوا ولم يقتل أحد منهم.(1/374)
وأما العسكر فإنه لما وصل إلى حمص أقام بها على ما قرره السلطان مع الأمير كراي، حتى قدم عليه الأمير منكوتمر الطباخي بكتب السلطان لكراي ولكرجي نائب حلب بما يتعمدانه من المراسيم. وقد كتب السلطان معه أيضاً مطلقات إلى أمراء حلب بقبض كرجي، وحمله مشافهات لكراي وغيره، فقضى منكوتمر شغله من كراي بحمص، وسار إلى حلب. فرحل كراي في أثره، وجد في السير إلى حلب جريدة من غير أثقال، فقطع من حمص إلى حلب في يوم ونصف، ووقف بمن معه تحت قلعتها عند ثلث الليل الأخير، وصاح يال على وهي الإشارة التي رتبها السلطان بينه وبين نائب القلعة فنزل النائب عند ذلك من القلعة بجميع رجالها، وقد استعدوا للحرب، وزحف ومعه الأمير كراي على دار النيابة، ولحق بهم أمراء حلب وعسكرها. فسلم كرجي و لم يقاتل، فأخذ وقيد وسجن بالقلعة، وأحيط بموجوده، وسار منكوتمر الطباخي على البريد بذلك إلى السلطان. ثم حمل أسندمر كرجي إلى السلطان صحبة الأمير بينجار وأيبك الرومي، فخاف قرا سنقر عند ذلك على نفسه، وسأل أن ينقل من دمشق إلى نيابة حلب، ليبعد عن السلطان، فأجيب إلى ذلك، وكتب تقليده وجهز إليه في أخريات ذي الحجة.
وفيها استقر كريم الدين وأبو الفضائل عبد الكريم بن العلم هبة الله بن السديد ابن أخت التاج بن سعيد الدولة في نظر الخاص ووكالة السلطان، بعد موت شهاب الدين أحمد بن عبادة، في يوم الإثنين سابع عشر جمادى الأولى.
وفيها قدم أسندمر كرجي، فاعتقل بالقلعة، وبعث يسأل عن ذنبه عنده، فأعاد جوابه: ما لك ذنب إلا أنك فلت لما ودعتك عند سفرك، أوصيك يا خوند لا تترك في دولتك كبشاً كبيراً، وأنشئ مماليكك، ولم يبق عندي كبش كبير غيرك.
وفيها قبض على طوغان نائب البيرة، وحمل إلى السلطان فحبسه أياماً، ثم ولاه شد الدواوين بدمشق. وخرج الأمير أرغون الدوادار على البريد بتقليد فرا سنقر حلب، وأسر إليه القبض عليه إن أمكن ذلك.
وفيها قدم الشريف منصور أحمد بن جاز من المدنية النبوية بتقادم، فأنعم عليه بإعادة ما خرج لأخيه مقبل.
وفيها استعفى الطواشي شهاب الدين مرشد الخازندار من الإمرة، فأعفي.
واتفق في هذه السنة أمر غريب قلما عهد مثله: وهو موت سلطان مصر، وقاضيها إمام الحنفية في عصره، ومفسرها، والمتكلم على القلوب، وواعظها، وشيخ شيوخها وإمام الشافعية وعالمهم، ومحتسبها، وناظر جيوشها، وأديبها فقتل السلطان الملك المظفر بيبرس في ذي القعدة. وتوفي القضاة إمام الحنفية في عصره شمس الدين أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني السروحي المصري، عن ثلاث وسبعين سنة، في يوم الخميس ثالث عشرى رجب، ومولده سنة سبع - وقيل سنة تسع - وثلاثين وستمائة، وأخذ الفقه عن صدر الدين سليمان بن أبي العز بن وهيب وغيره، ودفن بالقرافة، وله على كتاب الهداية شرح جليل لكنه لم يكمل، وله اعتراضات على التقي ابن تيمية.
ومات الشيخ نجم الدين أحمد بن محمد بن علي بن الشيخ الرفعة مرتفع بن حازم ابن إبراهيم بن عباس الأنصاري البخاري المعروف بابن الرفعة الفقيه الشافعي المصري، في ليلة الجمعة ثامن عشر رجب، ومولده سنة خمس وأربعين وستمائة. وتوفي الإمام عز الدين عبد العزيز بن عبد الجليل النمراوي، في تاسع ذي القعدة.
ومات الشيخ تاج الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن عطا الله صاحب الكلام الرائق الفائق، في ثالث عشر جمادى الآخرة.
ومات شيخ الوعاظ نجم الدين العنبري، في سادس شعبان، ومات شيخ الشيوخ خانكاه السعداء كريم الدين أبو القاسم عبد الكريم بن الحسين أبي بكر الآملي الطبري، في تاسع شوال، وولي بعده علاء الدين على بن إسماعيل القونوي.
ومات القاضي بدر الدين حسن بن نصر الأسعردي المحتسب، في مستهل جمادى ا لآخرة.
ومات القاضي بهاء الدين أبو محمد عبد اللّه بن أحمد بن علي بن المظفر بن الحلي ناظر الجيوش، في ليلة العاشر من شوال.
ومات الأديب البارع شمس الدين محمد بن دانيال بن يوسف بن معتوق الخزاعي الموصلي في ثامن عشرى جمادى الآخرة، ومولده بالموصل سنة سبع وأربعين وستمائة، وكان كثير المجون والشعر البديع، وله كتاب طيف الخيال، لم يصنف مثله في معناه.(1/375)
ومات ملك المغرب صاحب فاس أبو الربيع بن أبي عامر بن السلطان أبي يعقوب بن يوسف بن يعقوب بن عبد الحق بن محيو بن أبي بكر بن عبد الحق المريني، في آخر جمادى الآخرة، وبويع بعده أبو سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق.
ومات شهاب الدين أحمد بن عبد الملك بن عبد المنعم بن عبد العزيز بن جامع بن راضي العزازي التاجر، عن بضع وسبعين بالقاهرة في تاسع عشرى المحرم، وله ديوان شعر كبير ومات فخر الدين إسماعيل بن عبد القوي بن الحسن حيدرة الحميري الإسنائي المعروف بالإمام الفقيه الشافعي، بعدما كف بصره، بمدينة قوص.
ومات شهاب الدين أحمد بن علي بن عبادة وكيل الخاص، في ليلة الأحد سادس عشر جمادى الأولى بالقاهرة؛ودفن بالقرافة؛ وولي بعده كريم الدين أكرم.
ومات أمين الدين أبو بكر بن وجيه الدين عبد العظيم بن يوسف بن الرقاقي ناظر الدواوين بديار مصر، ليلة الأحد ثالث عشرى جمادى الأولى ، ودفن بالقرافة، وكان ديناً خيراً كثير الإحسان، ولي نظر بيت المال ونظر البيوت ونظر الدولة بمصر والشام.
ومات عز الدين الحسن بن الحارث بن الحسين بن يحيى بن خليفة بن نجا بن حسن ابن محمد من ولد الحارث بن مسكين، أحد أعيان الفقهاء الشافعية عصر ليلة السبت ثامن جمادى الأولى.
ومات الشريف أبو عبد اللّه محمد بن علي بن أبي طالب، عرف بالشريف عطوف الحسيني الموسى العطار، ليلة الخميس خامس جمادى الآخرة، ودفن خارج باب النصر، وقل حديثه.
ومات الأمير سيف الدين بلبان البيدغاني نائب بغراس، مقتولاً بيد مماليكه.
ومات الأمير سيف الدين الحاج بهادر الحلبي نائب طرابلس، في ربيع الآخر.
ومات الشيخ الصالح عبد اللّه بن ريحان التقوي السمسار بمصر، حدث عن ابن المقير وابن رواح وغيره.
ومات بهاء الدين على بن الفقيه عيسى بن سليمان بن رمضان الثعلبي المصري، الصدر المعمر المعروف بابن القيم، في ذي القعدة، وقد تعين للوزارة، ومولده سنة ثلاث عشرة وستمائة، وكان سليم العقل والحواس.
ومات الأمير سيف الدين قبجق المنصوري نائب حلب، في جمادى الأولى.
ومات الشيخ علاء الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الرحمن بن خطاب التاجي، في سادس ذي القعدة.
ومات بحر الدين أبو البركات عبد اللطيف ابن قاضي القضاة تقي الدين محمد بن الحسين بن رزين الشافعي، يوم الأحد ثامن عشرى جمادى الآخرة بالقاهرة، ومولده بدمشق سنة تسع وأربعين وستمائة، وولي قضاء العسكر.
ومات الخطيب بهاء الدين عبد الرحمن بن عماد الدين علي بن السكري في حياة أبيه، ليلة السبت حادي عشر رجب بمصر.
ومات الأمير سيف الدين قشتمر الشمسي، بدمشق.
ومات الطواشي شهاب الدين مرشد الخازندار المنصوري، بالقاهرة في ليلة الخميس ثالث ذي القعدة وكان خيرًا، وانفرد بالرواية عن جماعة، وولد سنة ثلاث عشر وستمائة، ومات و لم تتغير حواسه.
ومات الأمير جمال الدين أقوش قتال السبع الموصلي أمير علم، بمصر في تاسع رجب. ومات خضر بن الخليفة أبي الربيع سليمان، في ثالث عشر جمادى الأولى.
ومات الأمير برلغي الأشرفي في سجن القلعة، بعدما يبست أعضاؤه وجف لسانه من الجوع في ليلة الأربعاء ثامن رجب.
ومات الأمير حسام الدين طرنطاي البغدادي.
ومات الأمير علاء الدين ألطنبغا الجمدار.
ومات الأمير سيف الدين أرغون الجمقدار.
ومات قطب الدين محمود بن مسعود بن مفلح الشيرازي صاحب التصانيف، رمضان.(1/376)
ومات الأمير سيف سلار في ليلة الرابع والعشرين من جمادى الأولى، وكان من التتار الأويراتية، وصار إلى الملك الصالح علي بن قلاوون، وبقي بعد موته في خدمة الملك المنصور قلاوون حتى مات، ثم دخل في خدمة الملك الأشرف خليل بن قلاوون، وحظى عنده، فلما قتل حظى عند لاجين لمودة كانت بينهما، وترقى إلى أن صار نائب السلطنة بديار مصر، وكان من أخباره ما تقدم ذكره، إلى أن قدم من الشوبك، فترك في السجن حتى مات جوعاً، وتولى الأمير علم الدين سنجر الجاولي دفنه بتربته على جبل يشكر بجوار مناظر الكبش، وكان سلار أسمر، لطيف القد أسيل الخد، لحيته في حنكه سوداء، ظريفاً في لبسه، اقترح أشياء نسبت إليه إلى يوم، وبلغ من السعادة إلى مبلغ عظيم: فكان يدخل إليه من أجر أملاكه في كل يوم ألف دينار مصرية، ومن إقطاعاته وضماناته وحماياته تتمة مائة ألف درهم في اليوم، عنها حينئذ زيادة على خمسة آلاف دينار مصرية، وكان بقطاعه أربعين إمرة طبلخاناه، وكان عاقلاً متأنياً داهياً قليل الظلم، واشتملت تركته على ثلاثمائة ألف ألف دينار وزيادة: فوجد له في يوم ياقوت أحمر زنة رطلين ونصف، وبلخش زنة رطلين ونصف، وزمرد تسعة عشر رطلاً، وستة صناديق فيها جواهر، ومن الماس وعين الهر ثلاثمائة قطعة، ولؤلؤ زنة ما بين مثقال كل حبة إلى درهم عدة ألف ومائة وخمسين حبة، عين مصري مبلغ مائي ألف و أربعة وأربعين ألف دينار، وفضة دراهم مبلغ أربع مائة ألف و أحد وسبعين ألف درهم، ووجد له أيضاً في يوم فصوص مختلفة زنة رطلين، وذهب عين مصري مبلغ خمسة وخمسين ألف في دينار، ودراهم فضة ألف ألف درهم، وحلي ذهب أربع قناطير، وآلات ما بين طاسات ونحوها ستة قناطير فضة، ووجد في يوم ذهب مصري مبلغ خمسة وأربعين ألف دينار، ودراهم فضة مبلغ ثلاثمائة ألف وثلاثين ألف درهم، وفضيات ثلاثة قناطير، ووجد في يوم ذهب عين ألف ألف دينار، وفضة ثلاثمائة ألف درهم، ووجد له ثلاثمائة قباء من حرير بفرو قاقم، وثلاثمائة قباء حرير بسنجاب، وأربعمائة قباء بغير فرو، وسروج ذهب مائة سرج، ووجد له ثمانية صناديق لم يعلم فيها، حملت مع ما تقدم إلى السلطان، ووجد له ألف تفصيلة ما بين طرد وحش وعمل الدار، ووجد له خام ست عشر نوبة، ووصل معه من الشوبك مبلغ خمسين ألف دينار ذهباً، وأَربعمائة ألف درهم وسبعين ألف درهم، وثلاثمائة خلعة ملونة وخركاه بغشاء حرير أحمر معدني مبطن بحرير أزرق مروى، وستر بابها زركش ووجد له ثلاثمائة فرس ومائة وعشرون قطار بغال، وعشرون قطار جمال، ومن الغنم والبقر والجواري والمماليك والعقار شيء كثير جداً، ووجد له في موضع بين حائطين عدة أكياس لم يدر ما فيها ولا كم عدتها، ووجد له في المرحاض شبه فسقية، كشف عنها فإذا هي مملوءة ذهباً؛ ووجد له من القمح والشعير والفول ونحوها ثلاثمائة ألف أردب، وذلك سوى ما أخذ من أخوته ومباشريه وحواشيه وأسبابه، فإنهم صودروا جميعاً حتى مقدم شونه وجباة أملاكه، فاجتمع من ذلك ما لا يدخل، تحت حصر لكثرته، واللّه يؤتي ملكه من يشاء.
سنة إحدى عشر وسبعمائة
في مستهل المحرم: وصل الأمير أرغون الدوادار إلى دمشق، فاحترس منه الأمير قرا سنقر على نفسه، وبعث إليه عدة من مماليكه يتلقونه ويمنعون أحداً ممن قدم معه أن ينفرد. مخافة أن يكون معه من الملطفات للأمراء ما فيه ضرر. ثم ركب إليه قرا سنقر ولقيه بميدان الحصا ظاهر المدينة، وأنزله عنده بدار السعادة، ووكل بخدمته من ثقاته جماعة. فلما كان الغد أخرج له أرغون تقليد نيابة حلب، فقبّله وقَّبل الأرض على العادة، وأخذ في التهيؤ للسفر، و لم يدع أرغون ينفرد عنه، بحيث إنه أراد زيارة أماكن بدمشق فركب معه بنفسه حتى قضى أربه وعاد.(1/377)
وكثر تحدث الناس بدمشق في مجيء أرغون، وأنه يريد قبص قرا سنقر، وأن قرا سنقر قد حضره، فهم الأمراء بالركوب على قرا سنقر وأخذه، ثم خشوا العاقبة، وأنه لم يصل إليهم مرسوم السلطان بذلك، فكفوا عنه. وصار الأمير بيبرس العلائي يركب بمماليكه في الليل، ويطوف حول القلعة على هيئة الحرس. وبلغ ذلك قرا سنقر، فاستدعى الأمراء كلهم إلى عند الأمير أرغون، وقال لهم: إنه قد بلغني أن بعض الأمراء يركب في الليل، ويطوف بالقلعة خشية أن أخرج هارباً، وما فعل هذا إلا برأيكم ولابد أن يكون علمه عندك يا أمير أرغون. فإن كان قد حضر معك مرسوم بالقبض علي فما يحتاج إلى فتنة، فإني طالع للسلطان وهذا سيفي خذه، وحل سيفه. فقال له أرغون: لم أحضر إلا بتقليد الأمير نيابة حلب حسب سؤالك، وحاش اللّه أن يكون السلطان يرى الأمير بهذه العين، وأبكز أرغون أيضاً أن يكون عنده علم بركوب الأمير بيبرس العلائي في الليل حول السور، فوعد قرا سنقر أنه يتوجه غدًا إلى حلب، وانفض المجلس.
ثم إن قراسنقر بعث إلى الأمراء ألا يركب أحد منهم لوداعه ولا يخرج من بيته، واستعد وقدم أثقاله أولاً في الليل. فلما أصبح ركب يوم الرابع من المحرم في مماليكه وعدتهم ستمائة فارس، وركب أرغون بجانبه وبهادر آص في جماعة قليلة. وسار قرا سنقر، فقدم عليه الخبر أن الأمير سنقر الكمالي الحاجب قد تأخر في حلب بجماعة من عسكر مصر، فعرج عن الطريق حتى إذا قارب حلب نزل، وقال لأرغون: لا أدخل حلب وبها أحد من عسكر مصر، فبعث أرغون إلى سنقر الكمالي يأمره بالخروج من حلب فلما رحل عنها سنقر الكمالي دخل إليها قراسنقر في نصف المحرم، ولبس التشريف وقرئ تقليده على العادة، وأعاد الأمير أرغون وقد أنعم عليه. فوصل أرغون إلى دمشق، وقلد الأمير سيف الدين كراي المنصوري نيابة دمشق في يوم الخميس حادي عشرى، وألبسه التشريف على العادة، وقرئ تقليده، وركب الموكب. ثم اًنعم كراي على أرغون بألف دينار سوى الخيل والخلعة وغير ذلك، وأعاده إلى مصر، فشكره السلطان على ما كان من حسن تأنيه وإخماد الفتنة. وقدم الأمير سنقر الكمالي بالعسكر أيضاً، فخلع عليه وأجلس بالإيوان.
وفي صفر. توجه الأمير طوغان المنصوري إلى دمشق متولياً شاد الدواوين، عوضاً عن فخر الدين أياز، فقدمها في ثامن عشره، وقبض على أياز وألزمه بثلاثمائة ألف درهم. وولى الأمير ركن الدين بيبرس العلائي نيابة حمص.
وفيها عزل الصاحب عز الدين حمزة القلانسي وزير دمشق، وعوق حتى حمل أربعين ألفاً انساقت باقيا على ضمان الجهات، ثم أفرج عنه وقدم القاهرة، فأنعم عليه ورسم بإعادة ما حمله إلى دمشق واستعاده.
وفيها عزل الأمير بكتمر الحسامي عن الوزارة، واستقر أمين الدين عبد اللّه بن الغنام ناظر الدواوين عوضه في الوزارة. وأنعم على الأمير بكتمر بإمرة، عوضاً عن سنقر الكمالي، وولى حاجباً، وذلك في سادس ربيع الآخر.
وفي يوم الأثنين حادي عشريه: أعيد قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة إلى قضاء القضاة بديار مصر، وصرف جمال الدين سليمان بن عمر الزرعي واستقر الزرعي في قضاء العسكر وتدريس الجامع الحاكمي، ورسم له أن يجلس بين الحنفي والحنبلي بدار العدل.
وفي مستهل جمادى الأولى: استقر الأمير علم الدين سنجر الجاولي في نيابة غزة، وقبض على الأمير قطلو قتمر نائب غزة.
وقدم الخبر من سيس بأن فرنج جزيرة المصطكى أسروا رسل السلطان إلى الملك طقطاي، ومن معهم من رسل طقطاي وعدتهم ستون رجلاً، وأنه بعث في فدائهم ستين ألف دينار ليتخذ بذلك يداً عند السلطان، فلم يمكنوه منهم. فكتب إلى الإسكندرية ودمياط بالحوطة على تجار الفرنج واعتقالهم كلهم، فأحيط بحواصلهم وحبسوا بأجمعهم. وحضر أحد تجار الجنوية فضمن إحضار الرسل وما معهم، فمكن من السفر.
وفيها عزم السلطان على إنشاء جامع، فاستشار الفخر ناظر الجيش فأشار بعمارته على ساحل مصر، وعين موضع الجامع الجديد وكان بستاناً يعرف بالحاج طيبرس وشونا وغير ذلك، فاستبدل بالأرض على رأي الحنابلة، فإنها كانت وقفاً. نزل السلطان حتى رتبه، وأقام الفخر على عمارته.(1/378)
وفيها قبض على الأمير بكتمر الجوكندار نائب السلطنة بديار مصر، في يوم الجمعة سابع عشر جمادى الأولى، وقبض معه على عدة أمراء، منهم صهره ألكنتمر الجمدار، وأيدغدي العثماني، ومنكوتمر الطباخي، وبحر الدين أيدمر الشمسي، وأيدمر الشيخي، وسجنوا إلا الطباخي، فإنه قتل في وقته. ثم استدعى السلطان الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار المنصوري، وخلع عليه وولاه النيابة عوضاً عن بكتمر الجوكندار في يوم السبت ثامن عشره.
وفيها أمر أن يجمد السلطان الجلوس بدار العدل في كل ثنين، فحار النقباء على القضاة وغيرهم من أهل الدولة. وجلس السلطان في يوم الإثنين عشريه، ونودي في الناس من له ظلامة فليرفع قصته بدار العدل،فخاف الأمراء وغيرهم، وأدوا ما عليهم من الحقوق من غير شكوى، ورفع الناس قصصهم فقرأها الموقعون على السلطان بدار العدل، ووقع عليها بين يديه، وحكم بين الناس، وأنصف المظلوم، واستمر الجلوس في كل يوم إثنين.
وفيها صرف السلطان قاضي القضاة زين الدين أبا الحسن علي بن مخلوف، بسبب مفاوضة في مكتوب، ثم أعاده بعد أيام في سادس رجب، وخلع عليه.
وفيها استدعى السلطان القضاة، وولى كريم الدين أكرم عبد الكريم الكبير وكالته وجميع ما يتعلق به وبأمر السلطنة بحضورهم، وخلع عليه. فكان أول سعادته أن السلطان اشترى من الفرنج جواهر وغيرها، فبلغ ثمنها ستة عشر ألف دينار، وأحالهم بها على كريم الدين، فذكر الفرنج أنهم بعد ثلاثة أيام يسافرون فحلفه السلطان ألا يؤخرهم عن الثلاثة أيام، فنزل إلى داره وهو محصور لعدم المال عنده، واستشار الأمير علاء الدين بن هلال الدولة والصلاح الشرابيشي، فحسب له أخذ حاصل المارستان المنصوري والاقتراض، من تجار الكارم بقية المبلغ وكانت تجار الكارم بمصر حينئذ في عدة وافرة، ولهم أموال عظيمة. ومضى من الأجل يومان، وأصبح في اليوم الثالث آخر الأجل فأتاه الفرنج وقت الظهر لقبض المال، فاشتد قلقه وأبطأ عليه حضور الكارم. وبينا هو في ذلك إذ أتاه تجار الكارم، فنظر بعضهم إلى واحد من الفرنج له عنده مبلغ عشرين ألف دينار قراضا، فسأل التجار الفرنج عن سبب جلوسهم على باب كريم الدين، فقالوا: لنا عليه حوالة من قبل السلطان بمال، وقد وعدنا بقبضه اليوم. فطالبهم الكارمي بماله من مبلغ القراض، فوعدوه بأدائه. وبلغ ذلك كريم الدين، فسر به سروراً زائداً وكتمه، وأمر بالكارم والفرنج فدخلوا عليه، فلم يعرف الكارم بشيء من أمره، ولا أنه طلبهم ليقترض منهم مالاً، بل قال: ما بالكم من الفرنج؟ فعرفوه أمر القراض الذي عند الافرنجي، فقال لهم : مهما كان عند الإفرنجي هو عندي. ففرح الفرنج بذلك، وأحالوا الكارمي على كريم الدين بستة عشر ألف دينار، وهي التي وجبت عليه بحوالة السلطان، ودفعوا أربعة آلاف تتمة عشرين ألف دينار للكارمي. وقام الفرنج وقد خلص كريم الدين من تبعهم بغير مال، والتزم للكارمي بالمبلغ، فمضى هو وبقية التجار من غير أن يقترض منهم شيئاً، فعد هذا من غرائب الاتفاق.
وفيها قبض على الأمير قطلوبك نائب صفد. وأنعم على الصاحب نجم الدين البصروي بإمرة.
وفيها قرر على أملاك دمشق وأوقافها ألف وخمسمائة فارس، وهي التي كانت تسمى مقرر الخيالة، فلما ورد المرسوم بذلك على الأمير كراي نائب دمشق أعسف بالناس في الطلب، وضرب جماعة وأخذ مالاً كبيراً، فتجمع الناس مع الخطيب جلال الدين محمد القزويني، وكبروا ورفعوا المصاحف والأعلام، ووقفوا للنائب، فأمله بهم فضربوا وطردوا طرداً قبيحا، فكثر عليه الدعاء، فلم يمهل بعدها غير تسعة أيام.(1/379)
وقدم أرغون الدوادار من مصر إلى دمشق يوم الأربعاء ثاني عشرى جمادى الأولى على البريد، وعلى يده مراسيم للأمراء بالقبض على الأمير سيف الدين كراي، ووصل أيضاً في هذا اليوم مملوك كراي، وصحبته تشريف وحياصة وسيف لمخدومه، واتفق قدوم رسل التتر. فأوصل الأمير أرغون الكتب إلى الأمراء، وأصبح كراي يوم الخميس فركب المركب، ونزل وقد احتفل لأجل لبس التشريف، ولقدوم الرسل. فلما فرغ الأكل، وانصرفت الرسل، أحاط الأمراء بكراي وأخرجوا مرسوم السلطان بمسكه، فقبض عليه وهو بتشريفه، وحمل مقيداً إلى الكرك، فسجن بها. وكان القبض عليه في يوم الخميس ثالث عشرى جمادى الأولى، وقبض في غده على قطلوبك نائب صفد، وسجن بالكرك. واستقر في نيابة دمشق عوض الأمير كراي الكبير جمال الدين أقوش نائب الكرك، وخلع عليه في مستهل جمادى الآخرة، فقدمها في رابع عشره.
وفيه استقر الأمير سيف الدين بهادر آص في نيابة صفد، وأرسل تشريفه صحبة الأمير جمال الدين أقوش، وقد توجه إليها. ورسم للأمير بدر الدين بكتوت القرماني بشد الدواوين بدمشق، وكتب على يده مساحة بما قرره كراي. وتوجه بكتوت مع الأمير جمال الدين أقوش إلى دمشق، فقدمها في رابع عشر جمادى الآخرة، قرئت المسامحة على منبر الجامع، فسر الناس بذلك. وقبض بدمشق على الأمير بكتوت الشجاعي، وسيف الدين جنقار الساقي، وحملا إلى الكرك.
وفيها نقل الأمير بكتمر الجوكندار النائب والأمير أسندمر كرجي من سجن الإسكندرية إلى سحن الكرك؛ فاجتمع بالكرك من الأمراء المعتقلين بكتمر الجوكندار، وأسندمر كرجي، وكراي المنصوري، وقطلوبك المنصوري نائب صفد، وبيبرس العلائي، في آخرين.
وفيها استقر الأمير سيف الدين بيبغا الأشرفي في نيابة الكرك، عوضاً عن الأمير أيتمش المحمدي، وكان السلطان قد استنابه بها لما خرج منها إلى دمشق.
وفيها وصل الأمير سليمان بن مهنا إلى القاهرة، ومعه عدة من التتر مقيمين، أسرهم في الغارة على التتر، فأنعم عليه بمائة ألف درهم.
وفيها قدم البريد من حلب بأن خربندا ملك التتر قتل جماعة من خواصه، وقتل خواصه.
وفيها أقيمت الخطبة للملك الناصر بطرابلس الغرب، أقامها له الشيخ أبو يحيى زكريا ابن أحمد بن محمد بن يحيى بن عبد الواحد بن حفص عمر اللحياني، لما جهزه السلطان إليها بالصناجق وبعدة من الأجناد، وكان ذلك في شهر رجب، وكان الأجناد قد قدموا مع بيبرس، بعدما قدمها أبو يحيى من مصر في جمادى الأولى.
وفي ثامن عشر رمضان: كتب باستقرار الأمير بلبان في نيابة قلعة دمشق، عوضاً عن بهادر السنجرلي. ورسم لبهادر بنيابة قلعة البيرة.
وفي سادس شوال: قبض على الصاحب أمين الدين عبد اللّه بن الغنام، وعلى التاج عبد الرحمن الطويل، وقرر عليهما مال، فحملاه وهما معوقان بالقلعة، من غر أن يلي أحد. ثم أفرج عنهما يوم الخميس حادي عشريه، وخلع عليهما، واستقرا على عادتهما. فمات التاج في ذي القعدة، وإستقر عوضه في نظر الدولة تقي الدين أسعد ابن أمين الملك المعروف بكاتب برلغي، وولى التاج إسحاق والموفق هبة الله وظيفة مستوفي الدولة، وكانا كتابا لسلار.
وفيها توجه السلطان إلى بلاد الصعيد. ورسم بنقص الإيوان الأشرفي بقلعة الجبل، فنقض وجدد، فلما عاد السلطان جلس فيه على العادة.
وفيها وصل كرنبس ملك النوبة بالقود المقرر عليه، بعد قتل أخيه. وقدمت رسل الملك المؤيد هزبر الدين دواد ملك اليمن، بهدية ومائتي جمل ومائتي جمال وخيول ووحوش وطيور، ففرق ذلك على الأمراء الأكابر والأصاغر.
وفيها استقر علاء الدين علي بن تاج الدين أحمد بن سعيد بن الأثير في كتاب السر، عوضاً عن شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله العمري، في يوم الأحد سابع ذي الحجة، ونقل شرف الدين إلى كتابة السر بدمشق، عوضاً عن أخيه محيي الدين يحيى. وكان ابن الأثير قد توجه من مصر مع السلطان، هو وجمال الدين إبراهيم بن المغربي، فلما أقام بالكرك خيرهما، فاختارا الإقامة عنده، فلما عاد إلى ملك مصر رعى لهما ذلك، وأقر ابن الأثير في كتابة السر، وابن المغربي في رياسة الأطباء.(1/380)
وفيها أخذ الأمير قرا سنقر في التدبير لنفسه، خوفاً من القبض عليه كما قبض على غيره؛ واصطنع العربان وهاداهم، وصحب سليمان بن مهنا وأخاه، وأنعم عليه وعلى أخيه موسى، حتى صار الجميع من أنصاره، وقدم عليه الأمير مهنا إلى حلب، وأقام عنده أياما، وأفضى إليه بسره، وأنه خائف من السلطان، وأوقفه على كتاب السلطان بالقبض على مهنا، وأنه لم يوافق على ذلك، فغضب الأمير مهنا، وأخذ يسكن ما بقرا سنقر، وانصرف وقد اشتد غضبه. وبعث قرا سنقر يسأل السلطان في الإذن له بالسفر إلى الحج، فأذن له في الحج، وقد سر أنه بخروجه من حلب يقدر على أخذه، وبعث إليه بألفي دينار وخلعة. وكتب السلطان إلى الأمير مهنا يطلب منه فرساً عينه، وأن يحضر إلى مصر لزيارته - وكان قد بلغه اجتماع مهنا بقرا سنقر. فدبر أمرا يعمله معه أيضا ً - فبعث مهنا الفرس وأعاد الجواب. وجهز قرا سنقر حاله. وخرج من حلب في نصف شوال، ومعه أربعمائة مملوك واستناب الأمير شهاب الدين قرطاي، وترك عدة مماليكه بحلب لحفظ حواصله.
فلما قدم البريد بمسيره من حلب كتب لقرطاي بالاحتراس، وألا يمكن قرا سنقر من حلب إذا عاد، ويحتج عليه بإحضار مرسوم السلطان بتمكينه من ذلك، وكتب إلى نائب دمشق ونائب غزة ونائب الكرك وإلى بني عقبة بأخذ الطريق على قرا سنقر؛ فقدم البريد بأنه سلك البرية على صرخد إلى زيزاء. ثم كثر وهمه واشتد خوفه من السلطان، لورود الخبر من ثقاته بمصر بما عزم عليه السلطان، وما كتب به، فعاد من غير الطريق التي سلكها. ففات أهل الكرك القبض عليه، وكتبوا بالخبر إلى السلطان، فشق عليه ذلك، وكتب بكشف أخباره، وكتب إلى حلب بمنعه منهما ومنع مماليكه من الخروج إليه، وإن وجدت فرصة تقبض عليه، قدم قرا سنقر ظاهر حلب قبل قدوم ما كتب به السلطان. فمنعه قرطاي من الدخول، وعوق من بحلب من مماليكه عن الخروج إليه، فسقط في يده ورحل، وكتب إلى الأمير مهنا بما جرى له، فكتب مهنا إلى قرطاي بأن يخرج حواصل قرا سنقر إليه، وإلا هجم على مدينة حلب وأخذ ماله قهراً. فخاف قرطاي من ذلك، وجهز كتابه إلى السلطان في طي كتابه، وبعث بشيء من حواصل قرا سنقر إليه مع الأمير عز الدين فرج بن قرا سنقر. وانصرف قرا سنقر عن حلب وقصد البرية، ثم جهز ولده فرج ونائبه عبدون إلى الديار المصرية، وكذلك جملة من أمواله، فقدم فرج أواخر ذي الحجة، وانعم السلطان عليه بإمرة عشرة، أقام بالقاهرة مع أخيه علاء الدين علي بن قرا سنقر.
وقدم سليمان بن مهنا إلى قرا سنقر، وأخذه حتى أنزله في بيت أمه، واستجار بها من السلطان فأجارته. وأتاه الأمير مهنا وأولاده، وقام له بما يليق به، وكتب يعرف السلطان بنزول قرا سنقر في أبياته، وأنه استجار بأم سليمان فأجارته، وسأل العفو عنه، وبعث بذلك أحد أولاده. فأجاب السلطان سؤاله، وكتب إليه أن يخبر قرا سنقر في بلد من البلاد حتى يوليه.
فلما سافر ابن مهنا من مصر أخرج السلطان تجريدة فيها من الأمراء حسام الدين قرا لاجين الأستادار، حسام الدين لاجين الجاشنكير، وعلاء الدين مغلطاي المسعودي، وشمس الدين الدكز الأشرفي، ولاجين العمري، في مضافيهم من الطبلخاناه والعشراوات. ثم أردفهم السلطان بتجريدة أخرى، فيها الأمير سيف الدين قلى السلاح دار، وسيف الدين وآل ملك، وجنكلي بن البابا، وأمير حسين بن جندر، في جماعة من الخاصكية مثل أرغون الدوادار، وأرقطاي، وأيتمش، وجغطاي، والجاي الساقي، وطقطاي الساقي. وكنب السلطان لنائب دمشق بتجريد كجكن وكتبغا الحاجب بمضافيهما، وجعل مقدم هذه العساكر قرا لاجين الأستادار، وصاحب السر والمشورة أرغون الدوادارة فساروا من دمشق يريدون جهة مهنا.(1/381)
فاستعد قرا سنقر، وكتب إلى الأمير جمال الدين أقوش الأفرم نائب طرابلس يستدعيه إليه، فأجابه بالموافقة، ووعده بالحضور إليه. وكتب الأفرم إلى صهره الأمير عز الدين أيدمر الزردكاش بدمشق يأمره باستفساد من قدر عليه ولحاقه به وبقرا سنقر، وجهز إليه خمسة آلاف دينار ليفرقها فيمن يستميله، ونزل العسكر السلطاني حمص. فأرادا قرا سنقر مخادعة السلطان ليتسع له المجال، وكتب إليه مع مملوكه، وكتب إليه مهنا مع ولده بالدعاء والشكر، وأن قرا سنفر قد اختار صرخد، وسألا يمين السلطان بالوفاء، وإخراج ما لقرا سنقر بحلب من المال وتمكينه منه. فمر ابن مهنا ومملوك قرا سنقر على حمص، وعرفا الأمير قرا لاجين وأرغون الدوادار بدخول قرا سنقر في الطاعة، وأنه عين صرخد. فمشى ذلك عليهما، وكتبا معهما إلى السلطان بمعنى ذلك. فانخدع السلطان أيضاً، وكتب تقليد قرا سنقر بنيابة صرخد، ورسم أن يتوجه به إليه أيتمش المحمدي، وكتب لأيتمش بأن يوصل الملطف إلى مهنا سراً، وأن طقطاي يتوجه إلى حلب، ويخرج ما لقرا سنقر بها من المال، ويسيره إليه. وأنعم السلطان على مملوك قرا سنقر بألف دينار، ووعده أنه متى قام على أستاذه حتى يعود إلى الطاعة أنعم عليه بإمرة، وأخرجه على البريد هو وابن مهنا. فسارا إلى حمص، ودفعا كتب السلطان إلى الأمراء، وسارا بأيتمش إلى قرا سنقر فسر به وأنزله، واحتج بأنه لا يتوجه إلى صرخد حتى يأتيه ما له في حلب، فتحيل أيتمش حتى أوصل ملطف السلطان إلى مهنا، فأطلع عليه قرا سنقر.
وبينا هم في ذلك إذ قدمت أموال قرا سنقر التي كانت بحلب إليه، فإن طقطاي توجه إليها وبعث إلى قرا سنقر بما كان له فيها فما هو إلا أن وصل ماله بحلب، إذا بالأفرم قد قدم عليه أيضاً من الغد، ومعه خمسة أمراء طبلخاناه وستة عشراوات في جماعة من التركمان. وقدم الزردكاش، ومعه الأمير بلبان الدمشقي والي القلعة، وبيبرس الحسامي، فسر قرا سنقر بقدومهم. ولما استقر بهم المنزل استدعوا أيتمش، وعددوا عليه من قتله السلطان من الأمراء، وأنهم قد خافوا على أنفسهم، وعزموا على الدخول إلى بلاد التتر، وركبوا بأجمعهم. فعاد أيتمش إلى الأمراء بحمص، وعرفهم الخبر، فركبوا عائدين إلى مصر بغير طائل، ووقعت الحوطة على أموال الأفرم ومن تبعه.
وفيها أفرج عن الأمير عز الدين أيدمر الخطيري، وأنعم عليه بخبز الجاولي.
وفيها ولي شمس الدين غبريال كاتب قرا سنقر نظر الجامع الأموي بدمشق والأوقاف، عوضاً عن شرف الدين ابن صصري، وكان غبريال لما خرج قرا سنقر من حلب قدم إلى مصر وسعى حتى ولى ذلك.
وفي ثالث ذي الحجة: قدمت تقدمة اليمن على العادة، فقبلت.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر(1/382)
الأمير بدر الدين بكتوت الخازنداري - عرف بأمير شكار - نائب الإسكندرية، وكانت وفاته بعد عزله، في ثامن عشرى رجب بالقاهرة، وأصله من مماليك الأمير بيليك الخازندار نائب السلطنة بمصر في الأيام الظاهرية، وتنقل حتى اشتهر في الأيام العادلية كتبغا وصار أمير شكار، ثم ولى الإسكندرية وكثر ماله، واختص بيبرس وسلار، فلما عاد الملك الناصر إلى السلطنة حضر وحسن للسلطان حفر خليج الإسكندرية ليستمر الماء فيه دائما، فندب معه الأمير بدر الدين محمد بن كيدغوي المعروف بابن الوزيري، وفرض العمل على سائر الأمراء، فأخرج كل منهم أستاداره ورجاله، وركب ولاة الأقاليم. ووقع العمل من رجب سنة عشر وسبعمائة، فكان فيه نحو الأربعين ألف راجل تعمل، وقد قسم بالأقصاب على الأمراء والولاة، وحفر كل أحظ ما حد له، فكان قياس العمل من فم البحر إلى شنبار ثمانية آلاف قصبة، ومثلها إلى الإسكندرية. وكان الخليج الأصلي من حد شنبار يدخل الماء، فجعل فم هذا البحر يرمي إليه، وعمل عمقه ست قصبات في عرض ثماني قصبات. فلما وصل الحفر إلى حد الخليج الأول حفر بمقدار الخليج المستجد، وجعل بحراً واحداً، وركب عليه القناطر. ووجد في الخليج من الرصاص المبني تحت الصهاريج شيء كثير، فأنعم به على بكتوت هذا. فلما فرغ أنشأ الناس عليه أراضي وسواقي، واستجدت عليه قرية عرفت بالناصرية، فبلغ ما أنشئ عليه زيادة على مائة ألف فدان ونحو ستمائة ساقية وأربعين قرية، وسارت فيه المراكب الكبار، واستغنى أهل الثغر عن خزن الماء في الصهاريج، وعمر عليه نحو ألف غيط، وعمرت به عدة بلاد. وتحول الناس حتى سكنوا ما عمر من الأراضي على الخليج، فصار بعدما كان سباخاً سواقي القصب والقلقاس والسمسم وغيره. فلما تم ذلك أنشأ بكتوت من ماله جسراً، أقام فيه نحو ثلاثة أشهر حتى بناه رصيفا واحدا نحو ثلاثة أشهر حتى بناه رصيفاً واحدا نحو الثلاثين قنطرة بناها بالحجارة والكلس، وعمل أساسه رصاصاً، وأنشأ بجانبه خاناً وحانوتاً، وعمل فيه خفراء، وأجرى لهم رزقة، فبلغت النفقة عليه نحو ستين ألف دينار. وأعانه على ذلك أنه هدم قصراً قديماً خارج الإسكندرية وأخذ حجره، ووجد في أساسه سرباً من رصاص مشوا فيه إلى قرب البحر المالح، فحصل منهه جملة عظيمة من الرصاص. ثم إنه شجر ما بينه وبين صهره، فسعى به إلى السلطان وأغراه بأمواله، وكتب أمين الدين عبد الله بن الغنام - وهو مستوفي الدولة - عليه أوراقاً بمبلغ مائة ألف دينار، فطلب إلى القاهرة. ولما قرئت عليه الأوراق قال: قبلوا الأرض بين يد السلطان وعرفوه عن مملوكه أنه إن كان راضياً عنه فكل ما كتب كذب، وإن كان غير راضياً فكل ما كتب صحيح. وكان قد وعك في سفره من الإسكندرية، فمات بعد ليال في ثامن عشر رجب وأخذ، له مال عظيم جداً، وكان من أعيان الأمراء وكرمائهم وشجعانهم مع الذكاء والمروءة والعصبية، وله مسجد خارج باب زويلة، وله عدة أوقاف على جهات بر.
ومات الأمير شمس الدين سنقر شاه الظاهري، مات بدمشق.
ومات الوزير فخر الدين عمر بن عبد العزيز الحسين بن الحنبلي التميمي، وهو معزول، ليلة عيد الفطر، ودفن بالقرافة، ومولد، في سنة أربعين وستمائة، وكان كريماً جواداً.
ومات مجد الدين عيسى بن عمر بن خالد بن الخشاب المخزومي الشافعي، وكيل بيت المال، في ثامن ربيع الأول بالقاهرة، دفن بالقرافة، وكان من أعيان الفقهاء، وولى الحسبة في الأيام المنصورية قلاوون، وصحب الشجاعي، وأضاف له قلاوون وكالة بيت المال ووكالة السلطان وعدة مباشرات، فعظمت مهابته، وعيب عليه مجونه وعزله وكثرة اجتماعه بالشجاعي ومعاشرته له، وكان الوزير ابن الخليلي يبكته بذلك، وكان لا يكتب في أخر كتبه سوى: حسبنا الله فقط، من غير ونعم الوكيل ، وسئل أن يكتب ونعم الوكيل فأبى.
ومات قاضي القضاة سعد الدين مسعود بن أحمد بن مسعود بن زيد الحارثي الحنبلي، في يوم الأربعاء رابع عشرى ذي الحجة، ودفن بالقرافة، وسمع وخرج وصنف، وصار من الأئمة الحفاظ، وكتب على سنن أبي دادو قطعة.
ومات الشيخ صالح محمد العربان، في ثامن عشر رجب.(1/383)
ومات شرف الدين أبو عبد الله محمد بن شريف بن يوسف بن الوحيد الزرعي، في يوم الثلاثاء سادس عشر شعبان بالقاهرة، وكان يكتب في التوقيع، وله معرفة بالإنشاء، وبلغ الغاية في جودة الكتابة، وانتفع الناس بالكتابة عليه، وكان فاضلاً شجاعاً مقداماً لسناً متكلماً، يرمي في دينه بالعظائم، ويعرف عدة لغات، وله نظم ونثر.
ومات الطبيب شرف الدين عبد اللّه بن أحمد بن أبي الحوافر رئيس الأطباء، في ليلة الجمعة ثالث عشرى شوال، ودفن بالقرافة، وكان ديناً فاضلاً رضي الأخلاق ماهراً في علم الطب.
ومات التاج عبد الرحمن الطويل القبلي الأسلمي، ناظر الدواوين، في ثاني عشرى ذي القعدة، وقد انتهيت إليه معرفة الكتابة الديوانية، وكان إسلامه في الأيام الأشرفية، وله صدقات كثيرة.
ومات القاضي محيي الدين محمد بن قاضي القضاة زين الدين على بن مخلوف المالكي، ليلة الخميس حادي عشر ذي الحجة، وكان ينوب عن أخيه بالقاهر في الحكم، ورسم له باستقلال بوظيفة القضاء بعد أبيه، فمات في حياته، وكان من النجباء.
ومات جمال الدين أبو الفضل محمد بن الشيخ جلال الدين المكرم بن علي، في ثالث عشرى المحرم، عن بضع وثمانين سنة، ودفن بالقرافة، وكان من أعيان الفقهاء الشافعية وروءساء القاهرة وأماثل كتاب الإنشاء، ومن رواة الحديث. ومات شمس الدين محمد ابن يوسف الجزري الشافعي خطيب جامع ابن طولون، وكان يعرف بالمحوجب، وكان عارفاً بالفقه والأصول، ودرس بالمعزية بمصر.
وفيها قتل متملك تونس الأمير أبو البقاء خالد بن يحيى بن إبراهيم بن يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص، في جمادى الأولى، فكانت مدته نحو عامين، وقدم الأمير أبو يحيى زكريا اللحياني من طرابلس، فملك تونس بعده.
سنة اثنتي عشر وسبعمائة
فيها انتهت عمارة الجامع الجديد الناصري بساحل مصر، فنزل السلطان إليه، ورتب فيه قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعية خطيباً، ورتب فيه أربعين صوفياً في سطحه، وأربعين صوفياً بداخله ورتب لكل منهم الخبز واللحم في اليوم. ومبلغ خمسة عشر درهماً في الشهر، وجعل شيخهم قوام الدين الشيرازي ووقف السلطان عليه قيسارية العنبر بالقاهرة، وعمر له ربعاً وحماماً، وأقام له خطيباً. وأول صلاة صليت به ظهر يوم الخميس ثامن صفر، بإمامة الفقيه تاج الدين أبي عبد اللّه محمد بن الشيخ مرهف، وخطب فيه من الغد يوم الجمعة تاسعه قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة. فحكر الناس حوله، وبنوا الدور وغيرها.
وقدم البريد من حلب بعبور قرا سنقر ومن معه من الأمراء إلى بلاد التتر، وأنهم بعثوا بأولادهم وحريمهم إلى مصر. وكان من خبرهم أنهم لما وصلوا إلى الرحبة انقطع كثير ممن تبعهم من المماليك والتركمان، فبعث قرا سنقر ولده الأمير فرج، وبعث الأفرم ولده موسى مع بعض من يوثق به، وأمرا بتقبيل الأرض بين يدي السلطان، وأن يبلغاه أن الأمراء ما حملهم على دخول بلاد العدو إلا الخوف، وأن الأولاد والحريم وداعه، فليفعل السلطان معهم ما يليق به، فقدما إلى القاهرة، وبقيا في الخدمة. وسار الأمراء إلى ماردين، وكتبوا إلى خربندا بقدومهم، فبعث أكابر المغل إلى لقائهم، وتقدم إلى ولاة الأعمال بخدمتهم والقيام لهم. بما يليق بهم. فلما قاربوا الأرد وركب خربندا وتلقاهم، وترجل لهم لما ترجلوا له، وبالغ في إكرامهم وسار بهم إلى مخيمه، وأجلسهم معه على التخت، وضرب لكل منهم خركاه، ورتب لهم الرواتب السنية. ثم استدعاهم بعد يومين، واختلا بقرا سنقر، فحسن له عبور الشام، وضمن له تسليم البلاد بغير قتال، ثم خلا بالأفرم فحسن له أيضاً أخذ الشام، إلا أنه خيله من قوة السلطان وكثرة عساكره. فأقطع خربندا مراغة لقرا سنقر، وأقطع همذان للأفرم، واستمروا هكذا.(1/384)
وفي يوم الأحد عاشر ربيع الأول: قبض السلطان على القاضي فخر الدين محمد ابن فضل الله ناظر الجيش، وعلى ولده شمس الدين: وسبب ذلك مفاوضة حصلت بينه وبين فخر الدين أياز الشمسي مشد الدواوين، اشتط فيها القاضي على الفخر أياز الشمسي وأهانه، فاجتمع أياز بالدواوين وعرفهم ماله من الأموال والدواليب في أعمال مصر، واجتمع بالسلطان وأغراه به، والتزم له أن يستخلص منه ألف درهم فأعجبه ذلك ومكنه منه، فاشتد بأسه حينئذ، وجلس على باب القلعة، وفتح مع الفخر باب شر، وأغلظ في القول بحضرة الأمراء إلى أن قال له: أنت كسرت معاملات السلطان وخربت بلاده، وأخذت أراضي الخاص عملتها لك رزقاً، ثم نهض وقال: أنا باللّه وبالسلطان، ودخل والفخر خلفه حتى وقفا بين يدي السلطان، فبسط أياز لسانه، وحانق الفخر على عدة فصول حتى غضب السلطان، قال له: تسلمه وخذ مالي منه، فأخذه إلى قاعة الصاحب وكتب أياز إلى الأعمال بالحوطة على مواشيه وزراعاته وسواقي أقصابه وغير ذلك وأحيط بموجوده في القاهرة ومصر، وتتبعت حواشيه، فلم يطق الفخر ما هو فيه من البلاء مع أياز، وبعث إلى طغاي وكستاي وإلى الأمير ركن الدين بيبرس الأحمدي أمير جاندار، فتحدثوا في أمره مع السلطان على أن ينقل إلى بيبرس الأحمدي، وأنه يحمل جميع ماله ولا يدع منه شيئاً فتسلمه لبيبرس أمير جاندار من أياز.
وفيها كتب بطلب قطب الدين موسى بن أحمد بن الحسين بن شيخ السلامية ناظر الجيش بدمشق على البريد، فحضر واستقر عوضاً عن الفخر في نظر الجيش. وتمكن أياز من حاشية الفخر، وضرب جماعة منهم بالمقارع، وأخذ سائر موجودهم، وحمل الفخر نحو الخمسمائة ألف درهم. ثم أفرج السلطان عنه وعن ولده وخلع عليهما، في يوم الأربعاء خامس عشرى ربيع الآخر، واستقر الفخر عوضاً عن معين الدين هبة الله ابن حشيش صاحب ديوان الجيش. و لم يوفق ابن شيخ السلامية وارتبك في المباشرة، بحيث أن السلطان كان إذا سأله عن كشف بلد ليعرف حالها يتأخر قدر ساعة، ثم يجيب بغير الغرض، فتبين جهله بمعرفة جيش مصر.
وفي حادي عشرى ربيع الأول: ولى قضاء القضاة الحنابلة بالقاهرة ومصر تقي الدين أحمد بن عز الدين عمر بن عبد الله المقدسي، عوضاً عن سعد الدين مسعود الحارثي.
وفي سادس ربيع الآخر: أمر السلطان ممن مماليكه ستة وأربعين أميراً منهم طبلخاناه تسعة، وعشراوات سبعة عشر، وألوف عشرون؛ وشقوا القاهرة بالشرابيش، وكان يوماً عظيماً.
وفيها قدم العسكر المجرد إلى الشام في يوم الإثنين ثاني ربيع الآخر، وطلع الأمراء إلى القلعة، فقبض على عدة من الأمراء لميلهم إلى قرا سنقر: منهم جمال الدين أقوش نائب الكرك - وكان قد حضر من دمشق، وخلع عليه - وبيبرس المنصوري نائب السلطنة بمصر، وسنقر الكمالي، ولاجين الجاشنكير، وبينجار، والدكز الأشرفي، ومغلطاي المسعودي، و سجنوا.
وفيها استقر سودون الجمدار نائباً بحلب في ربيع الأول، وتمر الساقي المنصوري في نيابة طرابلس في ربيع الآخر.
وفيها كتب بطلب فضل أخي مهنا وولده أبي بكر، وسير إليه تقليد الإمرة عوضاً عن مهنا، وأن مهنا لا يقيم بالبلاد، وخرج بذلك الأمير بهاء الدين أرسلان الدوادار.وفيها قبض أيضاً في رابع ربيع الأول على بيبرس العلمي بحمص، وعلى الأمير بيبرس المجنون. والأمير علم الدين سنجر البرواني، والأمير طوغان المنصوري، وبيبرس التاجي، وقيدوا وحملوا من دمشق إلى الكرك، فسجنوا بها لميلهم مع قرا سنقر.
وفيها استقر الأمير تنكر الناصري في نيابة دمشق، عوضاً عن الأمير جمال الدين نائب الكرك، مستهل ربيع الآخر، وسار على البريد يوم الجمعة سابعه، فدخلها يوم الخميس عشرى ربيع الآخر، ورسم له ألا يستبد بشيء إلا بعد الاتفاق مع الأمير سيف الدين أرقطاي، والأمير حسام الدين طرنطاي البشمقدار.
وفي سادس عشر ربيع الآخر: أمر السلطان في يوم واحد ستة وأربعين أمير منهم طبلخاناه تسعة وعشرون، وعشراوات سبعة عشر، وشقوا القاهرة بالشرابيش والخلع.
وفي يوم الأثنين أول جمادى الأولى: استقر الأمير سيف الدين أرغون الدوادار الناصري نائب السلطنة، عوضاً عن بيبرس الدوادار المنصوري. ورسم بنيابة صفد لبلبان طرنا أمير جاندار، عوضاً عن بهادر آص، وأن يرجع بهادر إلى دمشق أميراً على عادته، فسافر إليها.(1/385)
وفيه ركب السلطان إلى بر الجيزة، وأمر طقتمر الدمشقي، وقطلوبغا الفخري المعروف بالفول المقشر، وطشتمر البدري حمص أخضر.
وفيها هدم السلطان الرفرف الذي أنشأه أخوه الأشرف خليل على يد الشجاعي.
وفيها ورد الخبر في أول رجب بحركة خربندا وسبب ذلك رحيل مهنا إليه عند إخراج خبزه لأخيه، وإقامته عنده، وتقوية عزمه على أخذ الشام. وكان السلطان تحت الأهرام بالجيزة، فقوي عزمه على تجريد العساكر، ولم يزل هناك إلى عاشر شعبان، فعاد إلى القلعة، وكتب إلى نواب الشام بتجهيز الإقامات. وعرض السلطان العسكر، وقطع جماعة من الشيوخ العاجزين عن الركوب، وانفق فيهم الأموال. وابتدأ العرض من خامس ربيع الآخر، وكمل في أول جمادى الأولى، فكان السلطان يعرض في كل يوم أميرين بنفسه من مقدمي الألوف، ويخرجان بمن معهما من الأمراء ومقدمي الحلقة والأجناد، وترحلوا شيئاً بعد شيء. من أول رمضان إلى ثامن عشريه، حتى لم يبق بمصر أحد من العسكر.
وخرج السلطان في ثاني شوال، ونزل مسجد تبر خارج القاهرة، ورحل في يوم الثلاثاء ثالثه، ورتب بالقلعة سيف الدين أيتمش المحمدي. فلما كان ثامنه قدم البريد برحيل التتار ليلة سادس عشرى رمضان من الرحبة، وعودهم إلى بلادِهم بعدما أقاموا عليها من أول رمضان، ففرق السلطان العساكر في قانون وعسقلان، وعزم على الحج. ودخل السلطان دمشق في تاسع عشره، وخرج منها ثاني ذي القعدة إلى الكرك، وكان قد أقام بدمشق أرغون النائب للنفقة على العساكر وغير ذلك من الأعمال، وكلف الصاحب أمين الدين بن الغنام بجمع المال اللازم. ودخل السلطان الكرك في ثامن ذي القعدة، وتوجه إلى الحجاز في أربعين أميراً.
وفيها خرج الصاحب أمين الدين عبد الله بن الغنام من القاهرة يوم الثلاثاء ثالث عشرى شوال، ودخل دمشق وأقام بها بعد توجه السلطان ليحصل الأموال، فأوقع الحوطة على الوزير والمباشرين، وطالب محيي الدين بن فضل اللّه بمال كبير عمل به أوراقاً، وأغلظ عليه وأحاط بموجوده، وتتبع حواشيه؛ وصادر أمين الدين أكثر الناس.
وأما القاهرة فإن الأمير علم الدين سنجر الخازن نقل من ولاية البهسنا إلى ولاية القاهرة، أقام الأمير أيتمش المحمدي نائب الغيبة الحرمة، ومنع الأكابر من الهجرة وأنصف الضعفاء منهم. وحج بالركب المصري الأمير مظفر الدين قيدان الرومي.
وفيها استقر في نيابة قلعة دمشق عز الدين أبيك الجمالي، عوضاً عن بلبان البدري، ثم كتب بأن يكون بلبان شريكاً له، فباشرا جميعاً.
وفيها قدت هدية الأشكري
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
ضياء الدين أحمد بن عبد القوي بن عبد الرحمن القرشي الإسنائي المعروف بابن الخطيب. الفقيه الشافعي، وكانت وفاته ببلدة أدفو في شوال، وهو في الطريق إلى الحج، فحمل إلى سنا فدفن بها.
ومات تاج الدين أحمد بن محمد بن أبي نصر الشيرازي، محتسب دمشق وناظر الدواوين بها، في رجب عن بضع وخمسين سنة.
ومات عماد الدين أبو العباس أحمد بن قاضي القضاة شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عبد الواحد بن سرور المقدسي الفقيه الحنبلي، في جمادى الآخره بمصر، ومولده ببغداد سنة سبع وثلاثين وستمائة.
ومات زين الدين حسن بن عبد الكريم بن عبد السلام الغماري الفقيه أبو محمد المالكي، سبط زيادة بن عمران، وكانت وفاته في شوال بمصر، قرأ القرآن، وكان خيراً فاضلاً.
ومات نور الدين على بن نصر اللّه بن عمر القرشي - المعروف بابن الصواف - الخطيب الفقيه الشافعي، في رجب بمصر. ومات أبو الحسن علي بن محمد بن هارون ابن محمد بن هارون الثعلبي الدمشقي - قارئ المواعيد - الفاضل الصالح، في ربيع الآخر بمصر عن ست وثمانين سنة، ومات نور الدين أحمد بن الشيخ شهاب الدين عبد الرحيم ابن عبد عز الدين بن عبد الله بن رواحة الأنصاري الحموي بحماة، وكان فاضلاً ديناً، ومات الملك المنصور نجم الدين غازي بن المنصور ناصر الدين أرتق بن إيلغازي بن البن بن تمر تاس بن ايلغازي بن أرتق الأرتقي، صاحب ماردين، في تاسع رجب، وكانت إمرته نحو عشرين سنة، وكان مهاباً، فقام بعده ابنه الملك العادل علي، وأقام سبعة عشر يوماً، ثم ملك أخو الملك الصالح شمس الدين بن الملك المنصور.(1/386)
ومات الملك المظفر شهاب الدين غازي بن الناصر صلاح الدين داود بن المعظم عيسى بن العادل أبي بكر بن أيوب، يوم الإثنين ثاني عشر رجب بالقاهرة، عن نيف وسبعين سنة، وقد حدث، وماتت امرأته ابنة عمه الملك المغيث بعده، فحرجت الجنازتان معاً، وكان قد حج، وقدم القاهرة من طريق القدس بعدما زاره، ومولده بالكرك في عاشر جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين وستمائة، وكان ديناً متواضعاً فاضلاً. ومات الأمير علم الدين سنجر الصالحي أمير آخور بدمشق، عن مال كبير جداً، مات شرف الدين محمد بن موسى بن محمد بن خليل القدسي في خامس عشر شعبان بالقاهرة، وكان يباشر التوقيع في الإنشاء، ويكتب الخط المليح، ويقول الشعر، ويغلب عليه الهجاء، مع تفننه في علوم كثيرة.
ومات تاج الدين عبد الرحيم بن تقي الدين عبد الوهاب بن الفضل بن يحيي السنهوري، في يوم الثلاثاء، سابع عشر ربيع الآخر، وباشر نظر النظار بديار مصر ستين سنة، وعرضت عليه الوزارة غير مرة فأباها، وكان أميناً كثير الخير، ولم ينكب قط، وعاش مائة وتسع سنين، عزل قبل موته.
ومات قاضي القضاة شمس الدين أبو عبد اللّه محمد بن إبراهيم بن داود بن حازم الأذرعي الحنفي بدمشق، وهو معزول.
ومات الشيخ عمر بن الشيخ أبي عبد اللّه بن النعمان، بمصر يوم الأربعاء خامس عشرى رمضان.
ومات شهاب الدين غازي بن أحمد الواسطي بحلب، في ثامن عشر ربيع الآخر، ولى نظر الدواوين بمصر مدة، ثم نقل إلى نظر حلب، وولي نظر دمشق ونظر الصحبة، وكتب بديوان الإنشاء مدة.
ومات الفقيه نجم الدين أبو عبد الله محمد بن الفقيه جمال الدين عبد العزيز بن أحمد ابن عمر بن جعفر بن اللهيب، في خامس عشر جمادى الآخرة.
ومات بطرابلس الأمير علاء الدين مغلطاي البهائي، وقد رسم بالقبض عليه، فمات قبل وصول البريد بيوم.
سنة ثالث عشرة وسبعمائة
في أول المحرم: قدم الأمير سيف الدين قجليس من الحجاز إلى القاهرة مبشرا بعود السلطان.
وفي يوم الثلاثاء حادي عشره: قدم السلطان من الحجاز إلى دمشق، بعد دخوله إلى المدينة لنبوية، وتوجهه على الكرك وكان دخوله إلى دمشق يوماً مشهوداً، بلغت فيه أجر البيوت مبلغاً زائداً، حتى إن بيتاً أخذت أجرته للنظر إلى السلطان في مدة من بكرة النهار إلى الظهر ستمائة درهم. وعبر السلطان وهو على ناقة وعليه لشت من ملابس العرب بلثام، وبيده حربة، ولعب يوم السبت في الميدان بالكرة. ثم أخذ في الإنعام على بعض رجال دولته، فولى شمس الدين عبد الله بن غبريال بن سعيد نظر دمشق على قاعدة الوزراء، وكان ناظر البيوت؛ ونقل الأمير بدر الدين بكتوت القرماني من شد الدواوين بدمشق إلى نيابة الرحبة، عوضاً عن بدر الدين موسى الأزكشي. وخلع السلطان على الأمراء الذين كانوا صحبته بالحجاز، وعدتهم نحو الأربعين أميراً، وأفرج عن المصادرين، وأعاد الفخر إلى نظر الجيش بديار مصر، وأعاد قطب الدين موسى بن شيخ السلامية إلى نظر الجيش بدمشق.
وصار السلطان إلى مصر في سابع عشريه، بعد أن أقام بدمشق خمسة عشر يوماً، وصلى بالجامع الأموي الجمعة مرتين. وقدم قلعة الجبل في يوم الجمعة ثاني عشر صفر، وكان يوماً مشهوداً.
وفيها نقل الأمير بدر الدين محمد بن فخر الدين عيسي التركماني من ولاية الجيزة إلى شد الدواوين، واستقر فخر الدين أياز الشمسي في شد الدواوين بدمشق، عوضاً عن القرماني، واستقر كريم الدين أكرم بن الخطيري - كاتب الحميدي - المعروف بكريم الدين الصغير، في نظر الدواوين، رفيقاً لتقي الدين أسعد كاتب برلغي ابن أمين الملك مستوفي الحاشية.
وفيها ابتدأ السلطان بعمارة الميدان تحت القلعة، فاختطه من باب الإسطبل إلى نحو باب القرافة، ووزع عمله على الأمراء، فنقلت جمالهم الطين إليه حتى امتلأ وغرس فيه النخل والأشجار، وحفرت فيه الآبار وركبت عليها السواقي، وأدير عليه سور من حجر، وبنى خارجه حوض ماء للسبيل. فلما فرغت عمارته لعب السلطان فيه مع الأمراء بالكرة، وخلع عليهم وشملهم الإنعام الكثير.
وفيها اجتمع القضاة في حادي عشر ربيع الآخر بالمدارس الصالحية بين القصرين للنظر في الشهود، وأقيم منهم جماعة.(1/387)
وفيها عمل السلطان أيضاً أربع سواقي على النيل تنقل الماء وترميمه على الماء الجاري من النيل إلى السور حتى يصل إلى القلعة، ورم السور وأزال شعثه، فكثر الماء بقلعة الجبل، وزاد البئر الظاهري المجاور لزاوية تقي الدين رجب. بأن عمل عليه نقالة إلى بئر الإسطبل، واهتم بعمل مصالح الجسور التي بالنواحي والترع.
وفيها قبض على الصاحب أمين الدين عبد الله بن الغنام في يوم الخميس سابع عشرى جمادى الأولى، وألزم بحمل ثلاثمائة ألف درهم، وذلك بسعي كريم الدين الكبير وبدر الدين بن التركماني. وأغرق السلطان به، وقيل له إنه أخذ مالاً كثيراً من المصادرين بمصر والشام.
وفيها أبطلت الوزارة، فلم يل أحد بعد أمين الدين، ونقل كريم الدين أكرم الصغير من ديوان الجيش إلى نظر الدولة، شريكاً للتقي أسعد بن أمين الملك كاتب برلغي كما تقدم، واستقر شرف الدين الخيري كاتب سلار، والتاج إسحاق، الموقف أخو الخيري، مستوفي الدولة. فانفرد كريم الدين الكبير بالتمكن من السلطان، وصارت الأمور كلها منوطة به، وركب بجنيبين، وخلع عليه أطلس بطرز زركش، وأشهد على السلطان أنه ولاه جميع ما ولاه اللّه تعالى، وكاتبه الملوك المجاورة مثل ما كاتبوا السلطان.
وفيها أخذ كريم الدين الكبير مع السلطان في العمل على الوزير، وأغراه بالأسعد غبريال كاتب نائب السلطنة، وأنه كثير الظلم، وأنه نقل إلى أستاذه أموراً تضر الدولة، وأغراه بالعلم كبيبه كاتب منكلي بغا. وما زال كريم الدين الكبير بالسلطان حتى سلم الأسعد إلى الأمير علم الدين سنجر الخازن متولي القاهرة، ليخلص منه المال، وسلم العلم كبيبه إليه أيضاً، وضربا قدام السلطان، وضرب معهما أمين الدين بن الغنام بالعصي، إلا غبريال فإنه ضرب بالمقارع. وأوقعت الحوطة على موجود غبريال، وسلم هو وأمين الدين إلى شاد الدواوين، ورسم لمجد الدين سالم أن يتولى بيع موجودهما وحمله إلى بيت المال، فأقام البيع نحو شهر. وحمل من أمين الدين نحو ثلاثماثة ألف درهم من ثمن المبيع، و لم يوجد له نقد ألبته؛ ثم أفرج عنه. وأما غبريال فإن الخازن والي القاهرة عاقبه حتى هلك بعد أسبوع. وما زال أمين الدين ملازماً لداره إلى يوم السبت تاسع عشرى ذي الحجة، فاستدعى وأخلع عليه، واستقر ناظر النظار عوضاً عن الصاحب ضياء الدين النشائي، ونقل النشائي إلى نظر الخزانة، عوضاً عن سعد الدين الحسن بن عبد الرحمن الأقفهسي بعد وفاته.
ولما استقر أمين الدين في نظر النظار، ودخل عليه مجد الدين سالم ليهنه، والمجلس غاص بالناس، نظر أمين الدين إلى الحاضرين، وقال: هذا القاضي مجد الدين تفصل في حقي. حيث كان يتولى أمري في بيع حواصلي، وباع حتى زبادي المطبخ. فالتفت إليه المجد على الفور، وكان مقداماً جريئاً، وقال له: يا مولانا أني والّه تفضلت عليك، وأحسنت إليك غاية الإحسان، وخدمتك أتم خدمة، وبعت من زبادي ونحاس وفرش بمبلغ ثلاثمائة ألف درهم، وما تحدثنا في ظهور درهم ولا دينار، بل سكتنا، ونحن سكوت إلى الآن. فلم يجب أمين الدين سوى بقول حسبنا اللّه.
وفيها ولى السلطان الأمير بدر الدين محمد بن كندغدي بن الوزيري نيابة دار العدل وشد الأوقاف، بسبب قصة رفعت في الأوقاف. وكان ابن الوزيري أميناً حاد الخلق عارفاً بالأمور. فباشر الأوقاف في داره يوم الثامن من ربيع الأول.(1/388)
وجلس ابن الوزيري بدار العدل في يوم السبت خامس عشرى ربيع الأول، وجلس القضاة الأربعة بين يديه بدار العدل، ورفعت إليه القصص، وصرف الأمور، وطلب سائر مباشري الأوقاف وألزمهم بعمل الحساب مدة عشرين سنة بالأوقاف، وطلب موادع الحكم وتشدد عليهم. فقلق القضاة من ذلك، وسألوه الاغضاء عن ذلك؛ فتمادى في الطلب، وأخرق بعدة من المباشرين، وضربهم لفساد حسابهم. فقام قاضي بدر الدين محمد بن جماعة في العمل عليه - وكان عارفاً بالسعي، وله في ذلك أياد وتراتيب - ووافق رفاقه وصار إلى القاضي كريم الدين الكبير بنفسه، وترامى عليه، ثم اجتمع بالفخر ناظر الجيش، وبعلاء الدين كاتب السر، وبعدة من الخاصكية، وما زال بهم حتى خيلوا السلطان من ابن الوزيري أنه شرس الأخلاق، وله أغراض فاسدة، وقصده إهانة القضاة، وأهل العلم وحط أقدارهم، وقد كثر الدعاء على لسلطان بسببه. فلما تكاثر ذكر ذلك لدى السلطان، وبلغه عدة حكايات عنه، ومنعه من التحدث في الأوقاف، ومن حينئذ بدت عداوة ابن جماعة لفتح الدين محمد بن سيد الناس، واشتد الأمر بينهما إلى أن بلغ السلطان ذلك وتسلط الشهاب أحمد بن عبد الدائم الشارمساحي الشاعر علي ابن جماعة، وهجاه بعدة قصائد بعثها إليه، ورتب هو وابن سيد الناس القصيدة التي أولها: " تري يسمع السلطان شكوى المدارس " ، وعدتها ستون بيتاً، فحبسه ابن جماعة بسببها، لأنه أقذع فيها، وشهرها في الناس إلى أن قرئت على السلطان، فقام أيدغدي شقير في حقه، وأخرجه من السجن.
وفي يوم السبت ثاني جمادى الأولى: استقر صدر الدين بن المرحل في تدريس الزاوية المجدية بالجامع العتيق، عوضاً عن جلالي الدين على بن عبد الله العسلوجي بحكم عزله.
وفي يوم الثلاثاء رابعة: أوفى النيل، وهو أخر أيام النسيء قبل المفرد ثم قدم المفرد بعد الوفاء في يوم الخميس سادسه.
وفيها عمل الروك بالبلاد الشامية، وندب له الأمير علم الدين سنجر الجاولي نائب غزة، وابن معبد، ومعين الدين هبة الله بن حشيش ناظر الجيش بالشام، مع مباشري ديوان الجيوش بمصر. فتوجه الجاولي إلى دمشق، وأمام مع الأمير تنكر النائب إلى أن عملت أوراق بعبرة البلاد ومنحصلها، وما فيها من إقطاع ووقف وملك. وكمل ذلك في ذي الحجة، ونقلت سنة اثنتي عشرة إلى سنة ثلاث عشرة، وجهزت الأوراق إلى السلطان فقرئت عليه؛ فكتب السلطان مثالات جديدة لأمراء دمشق وأجنادها، ووفر عدة قطاعات وبلاد أدخلها في ديوان الخاص، وزاد إقطاع النيا، وكتب بلك مناشير سار بها على البريد الأمير سيف الدين قجليس حتى فرقها على أربابها وعاد.
وفيها توجهت تجريدة إلى مكة صحبة الأمير سيف الدين طقصاي الناصري والي قوص، وسيف الدين بيدوا، وعلاء الدين أيدغدي الخوارزمي، وصاروجا الحسامي، وتوجه دمشق سيف الدين بلبان البدري مع الركب، وأضيف إليهم عدة من الأجناد، وذلك بسبب حميضة بن أبي نمي، فإنه كثر ظلمه.
وفيها قبض على الأميرين عز الدين أيبك الرومي المنصوري، وركن الدين بيبرس الأحمدي أمير جاندار، في رابع عشرى رمضان. وبسبب ذلك مفاوضة جرت بين الأمير علاء الدين أيدغدي شقير وبين أيبك الرومي بحضرة الأمراء على باب القلعة، في انتقال إقطاعات بينهما خرجا فيها عن الحد. فخرج الأمير طغاي وهما في ذلك - والبحيرة بلبان الصرخدي والقلنجي وابن طرنطاي وبيبرس الجمدار، وللصعيد التليلي والمرتيني.
وفيها توجه السلطان في شعبان إلى بلاد الصعيد وقدم في يوم الخميس ثامن عشر شوال.
وفيها توجه من حلب ستمائة فارس عليهم الأمير شهاب الدين قرطاي للغارة على بلاد ماردين ودنيسر لقلة مراعاة صاحب ماردين لما يرسم به. فشن قرطاي الغارة على بلاد ماردين يومين، فصادف قراوول التتار قد قدم إلى ماردين على عادته كل سنة لجباية القطيعة، وهم في ألفي فارس، فحاربهم قرطاي وقتل منهم ستمائة رجل، وأسر مائتين وستين، وقدم بالرءوس والأسرى إلى حلب، ومعهم عدة خيول. فلما قدم البريد سر السلطان سروراً زائداً، وبعث بالتشريف لنائب حلب ولقرطاي.(1/389)
وقدم الخبر من مكة بقتل أبي الغيث في حرب مع أخيه حميضة، وأن العسكر المجرد إلى مكة واقع حميضة وقتل عدة من أصحابه، فانهزم حميضة وسار يريد بلاد خربندا، فتلقاه خربندا وأكرمه، وأقام حميضة عنده شهراً، وحسن له إرسال طائفة من المغل إلى بلاد الحجاز ليملكها، ويخطب له على منابرها. وقدم العسكر المجرد إلى الحجاز في ثامن عشرى رجب، وكان السلطان قد أنعم على محمد بن مانع بإمرة مهنا، فشن الغارات وأخذ جمال مهنا وطرده. فسار مهنا أيضاً إلى خربندا، فسر به وأنعم عليه. وجرد خربندا مع الشريف حميضة من عسكر خراسان أربعة آلاف فارس، وسار حميضة بهم في رجب يريد مكة. وأخذ خربندا في جمع العساكر لعبور بلاد الشام، فقدر اللّه موته، فخاف مهنا من الإقامة بالعراق، فسار من بغداد وبلغ محمد بن عيسى أخا مهنا سير الشريف حميضة بعسكر المغل إلى مكة، فشق عليه استيلاؤهم على الحجاز، فلما علم بموت خربندا، وخروج أخيه مهنا من بغداد، سار في عربانه وكبس عسكر حميضة ليلاً ووضع فيهم السيف، وهو يصيح باسم الملك الناصر، فقتل أكثرهم. ونجا حميضة، ووقع في الأسر من المغل أربعمائة رجل، وغنم العرب منهم مالاً كثيراً وخيولاً وجمالاً. وكتب وخيولاً وجمالاً. وكتب بذلك إلى السلطان فسر به، وأعاد الإمرة إلى مهنا، واستدعى محمد بن عيسى، فقدم إلى مصر وشمله من إنعام السلطان شيء كثير.
وفيها وصل إلى السلطان مهرة تعرف ببنت الكرتا، كان قد بذل فيها نحو مائتي ألف وتسعين ألف درهم، وضيعة من بلاد حماة، ويقال إنها بلغت كلفها على السلطان ستمائة ألف درهم.
وفيها وعك السلطان أياماً، فلما عوفي ودخل الحمام حلق رأسه كله، فلم يبق أحد من الأمراء والمماليك الناصرية حتى حلق رأسه. ومن يومئذ بطل إرخاء العسكر ذوائب الشعر، واستمر إلى اليوم وجلس السلطان يوم عيد النحر بعد عافيته، وأفرج عن أهل السجون، وطلع الناس للهناء، ونودي بزينة القاهرة ومصر، فكان يوما مشهوداً.
وفيه فرغ العمل من بناء الإيوان، وذلك أن السلطان هدم الإيوان الذي بناه أبوه الملك المنصور، وجدده أخوه الملك الأشرف، ثم أنشأ إيواناً جليلاً، وعمل به قبة عالية متسعة ورخمه رخاماً عظيماً، وجعل قدامه دركاة فسيحة، فجاء من أجل المباني الملوكية وأعظمها.
وأما الأمراء الذين توجهوا إلى روك أعمال مصر، فإن كلاً منهم لما نزل بأول عمله استدعى مشايخ البلاد ودللاءها وقياسيها وعدولها وسجلات كل بلد. وعرف متحصلها ومقدار فدنها ومبلغ عبرتها وما يتحصل للجندي من العين والغلة والدجاج والخراف والبرسيم، والكشك والعدس والكعك، ثم قاس تلك الناحية، وكتب بذلك عدة نسخ، ولا يزال يعمل ذلك حتى انتهى أمر عمله. وعادوا بعد خمسة وسبعين يوماً بالأوراق، فتسلمها الفخر ناظر الجيش، ثم طلب السلطان الفخر ناظر الجيش والتقى الأسعد بن أمين الملك - المعروف بكاتب برلغي - وسائر مستوفي الدولة، وألزمهم بعمل أوراق تشتمل على بلاد الخاص السلطاني التي عينها لهم، وعلى إقطاعات الأمراء، وأضاف على عبرة كل بلد ما كان فلاحيها من الضيافة المقررة، وما في كل بلد من الجوالى وكانت الجوالى قبل ذلك إلى وقت الروك ديواناً مفرداً يختص بالسلطان، فأضيف جوالى كل بلد إلى متحصل خراجها.
وأبطلت عدة جهات من المكوس منها ساحل الغلة، وكانت هذه الجهة مقطعة لأربعمائة من أجناد الحلقة سوى الأمراء، ومتحصلها في السنة أربعة آلاف ألف وستمائة ألف درهم، و(1/390)
إقطاع الجندي منها من عشرة آلاف درهم في السنة إلى ثلاثة آلاف، وللأمراء من أربعين ألف إلى عشرة آلاف، واقتنى منها المباشرون أموالاً عظيمة، فإنها أعظم الجهات الديوانية، وأجل معاملات مصر، وكان الناس منها في أنواع من الشدائد لكثرة المغارم والتعب والظلم، فإن أمرها كان يدور ما بين ظلم نواتيه المراكب والكيالين والمشدين والكتاب، وكان المقرر على كل أردب مبلغ درهمين للسلطان، ويلحقه نصف درهم أخر سوى ما ينهب وكان له ديوان في بولاق خارج المقس، وقبله كان خص يعرف بخص الكيالة، فلما ولى ابن الشيخي شد هذه الجهة - قبل أن يلي الوزارة - عمر مكان الخص مقعداً وجلس فيه، وكان في هذه الجهة نحو الستين رجلاً ما بين نظار ومستوفين وكتاب وثلاثين جندياً، وكانت غلال الأقاليم لا تباع إلا فيه.(1/391)
ومن المكوس التي أبطلها السلطان الناصر أيضاً نصف السمسرة الذي أحدثه ابن الشيخي في وزارته، وهو أن من باع شيئاً فإن دلالته على كل مائة درهم درهمين، يؤخذ منهما درهم للسلطان، فصار الدلال يحسب حسابه، ويخلص درهمه قبل درهم السلطان. ومنها رسوم الولايات والمقدمين والنواب والشرطية، وكانت جهة تتعلق بالولاة والمقدمين، فيجيبها المذكورون من عرفاء الأسواق وبيوت الفواحش، وعليها جند مستقطعة وأمراء، وكان فيها من الظلم والعسف والفساد وهتك الحرم وهجم البيوت ما لا يوصف. ومنها مقرر الحوائص والبغال، وهي تجبى من المدينة وسائر معاملات مصر كلها من الوجهين القبلي والبحري، فكان على كل من الولاة والمقدمين مقرر يحمل في كل قسط من أًقساط السنة إلى بيت المال عن ثمن حياصة ثلاثمائة درهم، وعن ثمن بغل خمسمائة درهم، وكان عليها عدة مقطعين سوى ما يحمل، وكان فيها من الظلم بلاء عظيم. ومنها مقرر السجون، وهو على كل من يسجن ولو لحظة واحدة مبلغ ستة دراهم سوى ما يغرمه، وعلى هذه الجهة عدة من المقطعين ولها ضمان، وكانت تجبى من سائر السجون. ومنها مقر طرح الفراريج، ولها ضمان في سائر نواحي الإقليم، فتطرح على الناس في النواحي الفراريج وكان فيها من الظلم والعسف وأخذ الأموال من الأرامل والفقراء والأيتام ما لا يمكن شرحه، وعليها عدة مقطعين ومرتبات، ولكل إقليم ضامن مفرد، ولا يقدر أحد أن يشتري فروجاً فما فوقه إلا من الضامن. ومنها مقرر الفرسان، وهي شيء يستهديه الولاة والمقدمون من سائر الأقاليم، فيجيء من ذلك مال عظيم، ويؤخذ فيه الدرهم ثلاثة دراهم لكثرة الظالم. ومنها مقرر الأقصاب والمعاصر، وهو ما يجبى من مزارعي الأقصاب وأرباب المعاصر ورجال المعصرة. ومنها رسم الأفراح، هي تجبى من سائر البلاد، وهي جهة بذاتها لا يعرف لها أصل. ومنها حماية المراكب، وهي تجبى من سائر المراكب التي في النيل بتقرير معين على كل مركب يقال له مقرر الحماية، ويجبى من المسافرين في المراكب سواء إن كانوا أغنياء أو فقراء. ومنها حقوق القينات، وهي ما كان يأخذه مهتار الطشتخاناه من البغايا ويجمعه من المنكرات والفواحش من أوباش مصر وضمان تجيب بمصر. و منها شد الزعماء وحقوق السودان وكشف مراكب النوبة، فيؤخذ من كل عبد وجارية مقرر معلوم عند نزولهم في الخانات، وكانت جهة قبيحة شنعة. ومنها متوفر الجراريف، و تجبى من المهندسين والولاة بسائر الأقاليم، وعليها عدة من الأجناد. ومنها مقرر المشاعلية، وهي ما يؤخذ عن تنظيف أسربة البيوت والحمامات والمسامط وغيرها، وحمل ما يخرج منها من الوسخ إلى الكيمان، فإذا امتلأ سرب مدرسة أو مسجد أو بيت لا يمكن شيله حتى يحضر الضامن ويقرر أجرته بما يختار، فمتى لم يوافقه صاحب البيت تركه حتى يحتاج إليه ويبذل له ما طلب. ومنها ثمن العبي التي كانت تستأدى من البلاد. ومنها مقرر الأتبان التي كانت تؤخذ لمعاصر الأقصاب بغير ثمن. ومنها زكاة الرجالة بالديار المصرية. وابطل السلطان أيضاً وظيفتي النظر والاستيفاء من سائر الأعمال في كل بلد ناظر ومستوف وعدة مباشرين، فرسم ألا يستخدم أحد في إقليم لا يكون للسلطان فيه مال، وما كان للسلطان فيه مال يكون في كل إقليم ناظر وأمين حكم لا غير. ورفع السلطان سائر المباشرين. ورسم بالمسامحة بالبواقي الديوانية والإقطاعية من سائر النواحي إلى آخر سنة أربع وسبعمائة. وجعل المال الهلالي لاستقبال صفر سنة ست عشرة، والمال الخراجي لاستقبال ثلث مغل سنة خمس عشرة وسبعمائة.
وأفرد السلطان لخاصة الجيزية وأعمالها وبلاد هو والكوم الأحمر ومنفلوط والمرج والخصوص وعدة بلاد. وأخرجت الجوالى من الخاص، و فرقت في البلاد. وأفردت جهات المكس كلها، وأضيف للوزارة. وأفردت للحاشية بلاد، ولجوامك المباشرين بلاد، ولأرباب الرواتب جهات. وارتجعت عدة بلاد كانت اشتريت، وأدخلت في الإقطاعات. واعتد في سائر البلاد بما كان يهديه الفلاح، وحسب من جملة الإقطاع.
فلما فرغ العمل من ذلك نودي في الناس بالقاهرة ومصر وسائر الأعمال بإبطال ما أبطل من الجهات، وكتبت المراسيم إلى النواحي به، فسر الناس سروراً كبيراً.(1/392)
وجلس السلطان بالإيوان الذي أنشأه لتفرقة المثالات في يوم الخميس ثاني عشرى ذي الحجة، بعدما دارت النقباء على جميع الأجناد وحضروا ورسم أن يفرق كل يوم على أميرين من المقدمين بمضافيهما. فكان المقدم يقف بمضافيه، ويستدعي السلطان المقدمين كل أحد باسمه، فإذا تقدم المطلوب سأله السلطان: من أين أنت؟ ومملوك من؟، حتى لا يخفى عليه شيء من أمره، ثم يعطه مثالاً على ما قسم له من غير تأمل، وأنبأ السلطان في العرض عن معرفة تامة بأحوال الأجناد وأمراء الجيش.
وكان الأمراء عند العرض قد جلس أكابرهم بخدمته على العادة، وإذا أخذوا في شكر جندي عاكسهم وأعطاه دون ما كان في أملهم له، وأراد بذلك ألا يتكلم أحد في المجلس. فلما فطنوا لذلك أمسكوا عن الكلام والشكر، بحيث لم يتكلم أحد بعدها إلا جواباً له عما يسأل السلطان عنه منهم. وفعل في عرض المماليك مثل عرض الأجناد، فكان المملوك إذا تقدم إليه سأله عن اسم تاجره وعن أصله وفرعه، وكم حضر من مصاف، وكم رأى بيكاراً، وأي قطعة حاصر، فإن أجابه بصدق أنصفه. وكان السلطان يخير الشيخ المسن بين الإقطاع والرواتب، فيعطيه ما يختار، و لم يقطع في العرض العاجز عن الحركة، بل كان يرتب له ما يقوم به عوضاً عن إقطاعه.
واتفق له في العرض أشياء: منها أنه تقدم إليه شاب تام الخلقة في وجهه أثر شبه ضربة سيف، فأعجبه وناوله مثالا بإقطاع جيد، وقال له: في أي مصف وقع في وجهك هذا السيف؟. فقال لقلة سعادته: يا خوند؟ هذا ما هو أثر سيف، وإنما وقعت من سلم. فصار في وجهي هذا الأثر، فتبسم وتركه. فقال الفخر ناظر الجيش: يا خوند؟ ما بقي يصلح له هذا الخبز!. فقال السلطان لا! قد صدقني وقال الحق، وأخذ رزقه، فلو قال أصبت في المصف الفلاني من الذي يكذبه؟، فدعت الأمراء له، وانصرف الشاب بالمثال. وتقدم إليه رجل ذميم الشكل، وله إقطاع ثقيل عبرة ثمانمائة دينار. فأعطاه مثالاً وانصرف. فإذا به عبرة نصف ما كان معه. فعاد وقبل الأرض. فسأله السلطان عن حاجته. فقال: الله يحفظ السلطان! فإنه غلط في حقي، فإن إقطاعي كانت عبرته ثمانمائة دينار، وهذا أربعمائة. فقال السلطان: بل الغلط كان في إقطاعك الأول، فمضى بما قسم له. فلما انتهت تفرقة المثالات في آخر المحرم سنة ست عشرة توفر منها نحو مائتي مثال.
ثم أخذ السلطان في عرض طباق المماليك، ووفر جوامك عدة منهم ورواتبهم، وأعطاهم الإقطاعات. وأفرد جهة قطيا للعاجزين من الأجناد، وقرر لكل ثلاثة آلاف درهم في السنة. وارتجع السلطان ما كانت البرجية قد اشترته من أراضي الجيزة وغيرها، وارتجع ما كان لبيبرس وبرلغي والجوكندار وغيرهم من المتاجر، وأضاف ذلك للخاص.
وبالغ السلطان في إقامة أيام العرض. وعرف النائب وأكابر الأمراء أنه من رد مثالاً أو تضرر أو شكا ضرب وحبس وقطع خبزه، وأن أحداً من الأمراء لا يتكلم مع السلطان في أمر جندي ولا مملوك، فلم يجسر أحد أن يخالف ما رسم به.(1/393)
وعين في هذا العرض أكثر الأجناد، فإنهم أخذوا إقطاعات دون التي كانت معهم، وقصد الأمراء التحدث في ذلك مع السلطان، والنائب أرغون ينهاهم عنه. فقدر اللّه أن السلطان نزل إلى البركة لصيد الكركي، وجلس في البستان المنصوري ليستريح، فدخل بعض المرقدارية - وكان يقال له عزيز - ومن عاداته الهزل قدام السلطان والمزح معه، فأخذ يهزل على عادته قدام السلطان والأمراء جلوس، وهناك ساقية والسلطان ينظر إليها. فتمادى عزيز لشؤم بخته في الهزل إلى أن قال: وجدت جندي من جند الروك الناصري وهو راكب إكديش، وخرجه ومخلاة فرسه ورمحه على كتفه، وأراد أن يتم الكلام. فاشتد غضب السلطان. وصاح في المماليك.عروه ثيابه، فللحال خلعت عنه الثياب، وربط مع قواديس الساقية، وضربت الأبقار حتى أسرعت في الدوران، وعزيز تارة ينغمر في الماء وتارة يظهر، وهو يستغيث وقد عاين الموت، والسلطان يزداد غضباً. فلم تجسر الأمراء على الشفاعة فيه حتى مضى نحو ساعتين، وانقطع حسه، فتقدم إليه الأمير طغاي والأمير قطلوبغا الفخري وقالا: ياخوند !هذا المسكين لم يرد إلا أن يضحك السلطان، ويطيب خاطره، و لم يرد غير ذلك، وما زالا به حتى أخرج الرجل وقد أشفى على الموت، ورسم بنفيه من أرض مصر، فحمد اللّه سبحانه وتعالى الأمراء على سكوتهم وتركهم الشفاعة في تغيير مثالات الأجناد وفي هده السنة: ظهر ببلاد الصعيد فأر عظيم يخرج عن الإحصاء، بحيث إن مباشري ناحية أم القصور من بلاد منفلوط قتلوا في أيام قلائل من الفأر مبلغ ثلاثمائة وسبعة عشر أردباً ينقص ثلث أردب، واعتبروا أردباً فجاء عدة ثمانية آلاف وأربعمائة فأر، وكل ويبة ألف وأربعمائة فاًر.
وفيها وقعت نار في البرج المنصوري من قلعة الجبل وطباق الجمدارية، فأحرقت شيئاً كثيراً، وذلك في تاسع عشرى شعبان.
وفيها غلقت كنائس اليهود والنصارى بأجمعها في مصر والقاهرة، في يوم السبت سابع عشرى شوال فلما كان يوم الثلاثاء العشرين من ذي الحجة فتحت الكنيسة المعلقة وخلع على بطرك النصارى.
وفيها حج الأمير سيف الدين أرغون النائب، وقاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، مع الركب، وكان أمير الركب عز الدين أيدمر الكوكندي.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
شهاب الدين أحمد بن حسين بن عبد الرحمن الأرمنتي المعروف بابن الأسعد، يوم الجمعة رابع عشرى رمضان، وكان فقيهاً شافعياً مشكور السيرة.
ومات جلال الدين إسماعيل بن أحمد بن إسماعيل بن بريق بن برعس أبو الطاهر القوصي الفقيه الحنفي، كان متصدراً بجامع أحمد بن طولون، وله فضيلة في الفقه والقراءات والعربية، وصنف وحدث، وله شعر منه:
أقول له ودمعي ليس يرقا ... ولي من عبرتي إحدى الوسائل
حرمت الطيف منك ففاض دمعي ... وطرفي فيك محرم وسائل
ومات تقي الدين سليمان بن حمزة بن عمر بن أبي عمر محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي الحنبلي، قاضي الحنابلة، بدمشق في حادي عشرى ذي القعدة، ومولده سنة ثمان وعشرين وستمائة، وكان فاضلاً واسع الرواية، له معجم في مجلدين، وتخرج به جماعة من الفقهاء، مع الدين والتواضع.
ومات شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم بن عبد السلام بن جميل التونسي المالكي، بالقاهرة ليلة الحادي والعشرين من صفر، عن ست وتسعين سنة، ودفق بالقرافة، ومولده سنة تسع وثلاثين وستمائة، وناب في الحكم بالحسينية خارج القاهرة، ثم ولي قضاء الإسكندرية، وهو أول من درس بالمدرسة المنكوتمرية بالقاهرة.
ومات السيد الإمام العلامة ركن الدين أبو محمد الحسين بن شرف الدين شاه الحسيني العلوي الأستراباذي، عالم الموصل ومدرس الشافعية، وشارح المختصر لابن الحاجب ومقدمي ابن الحاجب والحاوي في المذهب، وله سبعون سنة، وأخذ عن النصير الطوسي، وتقدم عند التتار وتوفرت حرمته، وبرع في علوم المعقولات، وكان يجيد الفقه وغيره.(1/394)
ومات شرف الدين محمد بن نصر الله القلانسي التميمي الدمشقي، في ثاني عشر المحرم بدمشق ومولده بها سنة ست وأربعين وستمائة، وكان أحد الأعيان الأخيار. ومات الشيخ صفي الدين محمد بن عبد الرحيم بن محمد الأرموي - المعروف بالهندي الأرموي - الفقيه الشافعي، في تاسع عشرى صفر بدمشق، ومولده ثالث ربيع الآخر سنة أربع وتسعين وستمائة، وله تصانيف مفيدة، وقدم من الهند إلى مصر بعد حجه، وسار إلى الروم فأقام بها إحدى عشرة سنة، وسكن دمشق من سنة خمس وثمانين وستمائة وسمع بها ودرس، وكان إماماً عالماً ديناً.
وملت شرف الدين محمد بن تميم الإسكندراني كاتب الملك المؤيد هزبر الدين صاحب اليمن بها، وكان إماماً في الإنشاء، وله نظم.
ومات عز الدين موسى بن على بن أبي طالب الشريف أبو الفتح الموسوي الحنفي العدل، في سابع ذي الحجة بمصر، وانفرد بالرواية عن ابن الصلاح والسخاوي، ورحل الناس إليه.
ومات الأمير عز الدين حسين بن عمر بن محمد بن صبرة، في تاسع عشر رجب بطرابلس، وولي حاجباً بدمشق مدة، وكان مشكوراً.
ومات الشريف أبو الغيث بن أبي نمي.
ومات الأمير علاء الدين أيدغدي شقر الحسامي، أحد مماليك الملك المنصور حسام الدين لاجين، وكان شجاعاً مقداماً عجولاً، أحمق متكبراً واسطة سوء، قتل في أول ربيع الأول.
ومات حسام الدين قرا لاجين المنصوري الأستادار، ليلة الأربعاء ثالث عشر شعبان، وكان جواداً خيراً سليم الباطن، واًنعم بإقطاعه على الأمير جمال الدين أقوش الأشرفي، وتوفرت الأستادارية ومات الأمير سيف الدين جيرجين الخازن تحت العقوبة، يوم السبت عاشر ربيع الآخر.
ومات الأمير بدر الدين موسى بن الأمير سيف الدين أبي بكر محمد الأزكشي، بدمشق في ثامن شعبان، وكان شجاعاً شهماً.
ومات الملك خربندا بن أبغا بن أرغون في سادس شوال، وتسمى بمحمد، وكان رافضياً، قتل أهل السنة، وكان منهمكاً في شرب الخمر متشاغلاً باللهو، وقام بعده ابنه أبو سعيد بعهده إليه، وكان محولاً بإحدى عينيه، عادلاً في رعيته، ملك ثلاث عشرة سنة وأشهراً.
ومات الأمير سيف الدين كستاي الناصر نائب طرابلس بها، وكان حسوراً قوي النفس معجباً بنفسه شديد الكبر، إلا أنه باشر طرابلس بعفة وحرمة مدة شهرين، ثم طلب من الناس التقادم وأَخذها.
ومات الأمير بدر الدين بن الملك المغيث، في ثاني شعبان.
مات بهاء الدين بن المحلي، في خامس شعبان.
ومات الشيخ جمال الدين محمد بن المهدوي المالكي بمصر.
ومات الفقيه شرف الدين بن محيي الدين بن الفقيه نجيب الدين، في تاسع رجب.
ومات الشيخ ناصر الدين أبو عبد ا للّه محمد بن أبي الفضل يوسف بن محمد بن عبد الله بن المهتار الكاتب، بدمشق في سادس عشرى ذي الحجة، انفرد برواية علوم الحديث بسماعه من مؤلفه ابن الصلاح، وبرواية الزهد لأحمد بن حنبل، وشيوخه كثيرة، ومولده في رجب سنة سبع وثلاثين وستمائة.
ومات الشيخ تاج الدين أبو عبد اللّه محمد بن عبد اللّه بن الشيخ مرهف، إمام الجامع الجديد الناصري خارج مصر، ليلة الأربعاء خامس عشر رجب.
ومات الشيخ المقرئ أمين الدين بن الصواف، المتصدر بجامع عمرو، بمصر ليلة الجمعة ثاني عشرى شعبان.
ومات الشيخ ابن أبي مفصلة، ليلة الأحد سادس عشر رمضان.
ومات الشيخ زين الدين المهدوي، يوم الخميس تاسع رجب.
ومات الطواشي شبل الدولة كافرر الأقطواني الصالحي، شاد الخزانة السلطانية، ليلة الإثنين رابع عشر ذي القعدة.
ومات فتح الدين بن زين الدين بن وجيه الدين بن عبد السلام، في سابع عشرى ذي القعدة.
سنة أربع عشر وسبعمائة
مستهل المحرم: وافقه حادي عشري برمودة.
فيه اخضر ماء النيل، وتغير لونه تغيراً زائداً عن العادة، وتغير طعمه وريحه أيضاً، وجرت العادة أن يكون في هذه الأيام في غاية الصفاء.(1/395)
وفي نصف المحرم: اتفق أنه كان للنصارى مجتمع بالكنيسة المعلقة بمصر، واستعاروا من قناديل الجامع العتيق جملة. فقام في إنكار ذلك الشيخ نور الدين علي بن عبد الوارث البكري، وجمع من البكرية وغيرهم خلائق، وتوجه إلى المعلقة وهجم على النصارى وهم في مجتمعهم وقناديلهم وشموعهم تزهر، فأخرق بهم وأطفأ الشموع وأنزل القناديل. وعاد البكري إلى الجامع، وقصد القومة، فاحتجوا فعله. وجمع البكري الناس معه على ذلك، وقصد الإخراق بالخطيب، فاختفى منه وتوجه إلى الفخر ناظر الجيش وعرفه بما وقع، وأن كريم الدين أكرم هو الذي أشار بعارية القناديل فلم يسعه إلا موافقته. فلما كان الغد عرف الفخر السلطان بما كان، وعلم البكري أن ذلك قد كان بإشارة كريم الدين، فسار بجمعه إلى القلعة واجتمع بالنائب وأكابر الأمراء، وشنع في القول وبالغ في الإنكار، وطلب الاجتماع بالسلطان، فأحضر السلطان القضاة والفقهاء وطلب البكري، فذكر البكري من الآيات والأحاديث التي تتضمن معاداة النصارى، وأخذ يحط عليهم، ثم أشار إلى السلطان بكلام فيه جفاء وغلظة حتى غضب منه عند قوله: أفضل المعروف كلمة حق عند سلطان جائر. وأنت وليت القبط المسالمة، وحكمتهم في دولتك وفي المسلمين، وأضعت أموال المسلمين في العمائر والإطلاقات التي لا تجوز، إلى غير ذلك، فقال السلطان له: ويلك! أنا جائر؟ فقال: نعم! أنت سلطت الأقباط على المسلمين، وقويت دينهم. فلم يتملك السلطان نفسه عند ذلك، وأخذ السيف وهم بضربه. فأمسك الأمير طغاى يده، فالتفت السلطان إلى قاضي القضاة زين الدين بن مخلوف، وقال: هكذا يا قاضي يتجرأ علي؟ إيش يجب أفعل به؟ قل لي!، وصاح به. فقال له ابن مخلوف: ما قال شيئاً ينكر عليه فيه، ولا يجب عليه شيء، فإنه نقل حديثاً صحيحاً. فصرخ السلطان فيه وقال: قم عني!. فقام بن فوره وخرج. فقال صدر الدين بن المرحل - وكان حاضراً - لقاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعي: يا مولانا! هذا الرجل تجرأ على السلطان وقد قال الله تعالى أمرا لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون " فقولا له قولاً لينا لعله يتذكر أو يخشى " فقال ابن جماعة للسلطان: قد تجرأ ولم تبق إلا مراحم مولانا السلطان. فانزعج السلطان انزعاجاً عظيماً، ونهض عن الكرسي، وقصد ضرب البكري بالسيف، فتقدم إليه طغاي وأرغون في بقية الأمراء، وما زالوا به حتى أمسك عنه، وأمر بقطع لسانه، فأخرج البكري إلى الرحبة، وطرح إلى الأرض، والأمير طغاي يشير إليه أن يستغيث، فصرخ البكري وقال: إنا في جيرة رسول الله، وكررها مراراً حتى رق له الأمراء، فأشار إليهم طغاي بالشفاعة فيه، فنهضوا بأجمعهم وما زالوا بالسلطان حتى رسم بإطلاقه وخروجه من مصر. وأنكر الأمير أيدمر الخطيري كون البكري قوى نفسه أولا في مخاطبة السلطان، ثم إنه ذل بعد ذلك، ونسب إلى أنه لم يكن قيامه خالصاً لله.
وفيه قدم الركب من الحجاز، وقد كثرت الشكوى من الأمير بلبان الشمسي أمير الركب، وأنه كثير الطمع مفرط في أمر الحاج سيء السيرة، فقبض عليه.
وفيه أفرج عن الأمير برلغى صهره المظفر بيبرس.
وفيه قدم البريد من دمشق بأنه قد اجتمع على الناس بواق كثيرة من ضمانات ومقررات على أهل البلاد، وقد تضرروا منها. فكتب مثال بمسامحة أهل الشام بالبواقي لاستقبال سنة ثمان وتسعين وتسمائة وإلى آخر سنة ثلاث عشرة وسبعمائة، وسير إلى دمشق فقرئ بها على منبر الجامع في يوم الجمعة عاشر المحرم، وتلاه مثال آخر بإبطال المقرر على السجون، وإعفاء الفلاحين من السخر، وإبطال مقرر الأقصاب، ومقرر ضمان القواسين، ورسوم الشد والولاية. فأبطل ذلك كله من جميع ممالك البلاد الشامية بأسرها.
وفيه كتب لنواب حلب وحماة وحمص وطرابلس وصفد بأن أحداً منه لا يكاتب السلطان، وإنما يكاتب الأمير تنكر نائب الشام، ويكون هو المكاتب في أمرهم للسطان. فشق ذلك على النواب، وأخذ الأمير سيف الدين بلبان طرنا نائب صفد ينكر ذلك، فكاتب فيه تنكز السلطان حتى عزل في صفر، واستقر عوضه الأمير بلبان البدري، وحمل طرنا في القيد إلى مصر، وسجن بالقعلة.(1/396)
وفيها استقر الأمير علاء الدين ألطنبغا الحاجب في نيابة حلب، بعد وفاة الأمير سيف الدين سودي في نصف رجب. وقدم زين الدين قراجا الخزنداري والخاص ترك من بلاد طقطاي، وأخبراً بموته، وهو طقطاى بن منكوتمر بن طغان بن باطو بن جوجى ابن جنكز خان ملك التتار ببلاد الشمال، أقام في الملك مدة ثلاث وعشرين سنة، وكان يعبد الأصنام على دين البخشية، وملك بعده أزبك خان بن طغرل بن منكوتمر بن طغان.
وفيها اهتم السلطان بعمارة جسور نواحي أرض مصر وترعها وندب الأمير عز الدين أيدمر الخطيري إلى الشرقية، والأمير علاء الدين أيدغدي شقير إلى البهنساوية، والأمير شرف الدين حسين بن حيدر إلى أسيوط ومنلفوط والأمير سيف الدين آقول الحاجب إلى الغربية، والأمير سيف الدين قلى أمير سلاح إلى الطحاوية وبلاد الأشمونين، والأمير بدر الدين جنكلى بن البابا إلى القليوبية، والأمير علاء الدين التليلي إلى البحيرة، والأمير بهاء الدين أصلم إلى قوص.
وفيها قدم الأمراء المجردون إلى الحجاز: وكان من خبرهم أنهم لما وصلوا صحبة الحاج من السنة الماضية فر الشريف حميضة نحو اليمن، وأقام بحلى بني يعقوب: فلما انقضى الموسم وخرج الحاج أقام الأمير طقصبا المغربي بالمعسكر حتى رتب الشريف أبا الغيث في إمارة مكة، ولم يزل مقيماً معه مدة شهرين بعد انقضاء الحج. ولم تمطر تلك السنة بمكة، وقل الجلب، فكثرت كلف العسرك، واحتاج طقصبا إلى السفر. فأشهد عليه أبو الغيث أنه أذن له في السفر، وكتب بذلك إلى السلطان. فلم يكن بعد توجه العسكر من مكة غير قليل حتى جمع حميضة وقدم، ففر منه أبو الغيث إلى هذيل بوادي نخلة، وملك حميضة منه مكة، وبعث حميضة إلى السلطان القود اثنى عشر فرساً وكتاباً،وهو يترفق ويبذل الطاعة ويعتذر؛ فلم يقبل منه العذر، وحبس رسوله.
وفيها توجه الأمير قجلس لقبض مال سودى نائب حلب وكشف أخبار مهنا، فأشار تنكز نائب الشام بإخراج مهنا من البلاد وأن عسكر الشام يكفيه، فبطل أمر التجريدة من مصر. وجرد من الشام الحاج أرقطاي وكجكن، ومن حماة ألف فارس مع عسكر طرابلس وحلب، وخرج طلب قجليس من القاهرة ليكون مقدم العساكر، فاجتمعت عنده العساكر والعربان بحلب. وبلغ ذلك منها فأجمع على الرحيل، وسارت إليه العساكر، فلما قاربته رحل وهي في إثره إلى عانة والحديثة من العراق، فجفلت أهل البلاد. وبلغ ذلك جوبان نائب خربندا ملك التتار، فظن أن السلطان قد نقض الصلح ويريد أخذ العراق، فانزعج لذلك إلى أن بلغه مجيء العسكر بسبب العرب، وأنه لم يتعد عانة ولا تعرض لزرع البلاد ولا كرومها، فسكن ما به. ورجع العسكر عن عانة إلى ضيعة تعرف بالعنقاء من ضياع منها، وأخذ ما كان بها من المغل، وسار كذلك إلى ضياع منها حتى وصل الرحبة، وقد حمل الغلال إليها. فبعث السلطان إلى قجليس بعود العساكر إلى بلادها، وإقامته على سلمية إلى أن يخزن مغلها بقلعة حلب، فاعتمد ذلك وأقام حتى استغل سلمية، وعاد قجليس إلى القاهرة فأخلع عليه.
وفيها خرج عسكر من القاهرة في أول ذي القعدة: فهي من الأمراء سيف الدين بكتمر البوبكرى السلاح دار وإليه تقدم العسكر وقلى السلاح دار، وعلم الدين سنجر الجمقدار، وركن الدين بيبرس الحاجب، وبكتمر البوبكري الجمدار، وبدر الدين محمد بن الوزيري، وأيتمش المحمدي، بمضافيهم من الأمراء ومقدمي الحلقة والأجناد. وكتب لنائب الشام الأمير تنكز بالمسير معهم بعسكر دمشق، وأن يكون المقدم على جميع العساكر، وكتب بخروج عساكر حماة وحلب وطرابلس، وأشيع أن ذلك لغزو سيس. فوصل عسكر مصر إلى دمشق في عشريه، وأقام بها حتى انقضت السنة.
واتفقت حادثة غريبة بالقاهرة: وهذا أن رجلاً من سكان الحسينية يقال له علي بن السارق ركب في يوم الجمعة فرساً وبيده سيفه، وشق القاهرة فما وجد بها يهودياً ولا نصرانياً إلا ضربه، فجرح جماعة، وقطع أيدي جماعة، وشج جماعة، ثم أمسك خارج باب زويلة، وضرب عنقه.
؟ومات فيها ممن له ذكر
رشيد الدين إسماعيل بن عثمان الدمشقي الحنفي، بمصر في رجب عن إحدى وتسعين سنة، أخذ القراءات عن السخاوي، وأفتى ودرس، وقدم القاهرة من سنة سبعمائة في الجفل.(1/397)
ومات بدمشق العدل نجم الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الرحيم بن أحمد عرف جده بالقابوني السعدي الأنصاري الدمشقي، في ليلة الجمعة أول محرم، ومولده سنة ستين وستمائة، وسمع من أبي اليسر في آخرين، وحدث عن أبي عبد الله ابن أمين الدين سليمان الموصلي، وروى عنه شيخنا العماد بن كثير، وقال كن رجلاً جيداً يشهد على القضاء، وباشر استيفاء الأوقاف.
ومات الشريف أمين الدين أبو الفضل جعفر بن محمد بن عدلان بن الحسن الحسيني، نقيب الأشراف بدمشق، في ليلة الخميس ثالث رجب، ومولده أول رجب سنة خمس وخمسين وستمائة، وكان حسن السيرة عفيفاُ، وولى نظر الدواوين بدمشق أيضاً.
ومات الأمير سودي نائب حلب في نصف رجب، ووجد له من الذهب العين مبلغ أربعين ألف دينار، واشتملت تركته على ألف ألف درهم، حملت إلى القاهرة، وكان كريماً حشماً مشكور السيرة.
ومات الشيخ علاء الدين علي بن محمد بن خطاب الباجي، بمصر ليلة الجمعة سادس ذي القعدة عن ثلاث وثمانين سنة، وكان من أئمة الفقهاء الشافعية، درس وصنف وأفتى.
ومات جمال الدين عطية بن إسماعيل بن عبد الوهاب بن محمد بن عطية اللخمي الإسكندراني، عن ثمنين سنة بالإسكندرية، ومات شرف الدين يعقوب بن فخر الدين مظفر بن أحمد مزهر الحلى، ناظر حلب ودمشق، في ثامن عشري شعبان، عن ست وثمنين سنة بحلب، ومولده سنة ثمان وعشرين وستمائة، ولم تبق مملكة بالشام إلا باشرها، وكانت له مروءة.
ومات الأمير سيف الدين كهرداش المنصوري بدمشق.
ومات عماد الدين إسماعيل بن الملك المغيث شهاب الدين عبد العزيز بن المعظم عيسى بن العادل أبي بكر بن أيوب، بحماة في ثامن عشري ربيع الآخر.
ومات الأمير سيف الدين ملكتمر الناصري المعروف بالدم الأسود بدمشق، وكان ظالماً.
ومات الأمير فخر الدين أقجبا الظاهري بدمشق، وكان خيراً، ومات الشيخ تقي الدين رجب بن أشترك العجمي، صاحب زاوية تقي الدين تحت قلعة الجبل، في ثامن رجب، وكان له أتباع ومريديون، وله حرمة ووجاهة عند أهل الدولة، ومات الشيخ شرف الدين أبو الهدى أحمد بن قطب الدين محمد بن أحمد بن القسطلاني بالقاهرة، ومولده بمكة في جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وستمائة، وكان ورعاً ديناً، ومات الشيخ المعمر محمد بن محمود بن الحسين بن الحسن المعروف بحياك الله الموصلي، في يوم الخميس تاسع ربيع الأول، بزاويته من سويقة الريش خارج القاهرة، عن مائة وستين سنة، وكان قد سئل عن مولده، فقال إنه قدم إلى القاهرة في أيام المعز أيبك، وعمره سنة، وكان قد سئل عن مولده، فقال إنه قدم إلى القاهرة في أيام المعز أيبك، وعمره يومئذ خمس وثمانون سنة، ومات سليم الحواس جيد القوة. ومات صرد الدين أحمد بن مجد الدين عيسى بن الخشاب، وكيل بيت المال، يوم الإثنين تاسع شعبان، وولي عوضه مجد الدين حرمي، ومات القاضي سعد الدين محمد بن فخر الدين عبد المجيد بن صفي الدين عبد الله الأقفهسي، ناظر الخزانة، يوم الجمعة ثامن عشري ذي الحجة فجأة، واستقر عوضه الصاحب ضياء الدين النشائي. ومات القاضي شمس الدين عبد الله بن الفخر ناظر الجيش يوم السبت ثالث عشر شعبان، وكان ناظر ديوان المماليك وأبوه غائب بالقدس، فقدم بعد موته ليلة رابع عشريه، فقررت جامكيته باسم ابنه، واستنيب عنه، ومات القاضي تقي الدين بن الفائزي، ليلة الجمعة ثاني عشري صفر. ومات الشيخ عمر الدماميني في ثاني عشري ذي القعدة. وقتل بدمشق في يوم الجمعة تاسع عشري رجب موسى بن سمعان النصراني، كاتب الأمير قطلوبك الجاشنكير بحران، وذلك أنه نصر مسلما، وكواه على يده مثال صليب، فحكم قاضي القضاة جمال الدين المالكي بقتله، فقتل.
سنة خمس عشرة وسبعمائة
في أول المحرم: سار العسكر من دمشق إلى حلب، وعليه الأمير سيف الدين تنكز نائب الشام، وقد استصحب معه قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى وشرف الدين ابن فضل الله، وجماعة من الموقعين، وكان تنكز بزي الملوك من العصائب والكوسات، ولم تجر عادة نائب قبله بذلك، وتبعه عسكر صفد وحمص حماة وطرابلس. فلا مر الأمير تنكز إلى حلب فجرد منها الأمير قرطاي والأمير ملكتمر الجمدار إلى ملطية، وكان في الظن أن المسير إلى سيس.(1/398)
وسبب غزو ملطية أن السلطان بعث فداوية من أهل مصياب لقتل قرا سنقر، فصار هناك رجل من الأكراد يقال له مندوه يدل على قصاد السلطان أخذ منهم جماعة، فشق ذلك على السلطان، وأخذ في العمل عليه. فبلغه أنه صار يجني خراج مطلية، وكان نائبها من جهة جوبان يقال له بدر الدين ميزامير بن نور الدين، فخاف من مندوه أن يأخذ منه نيابة ملطية، فما زال السلطان يتحيل حتى كاتبه ميزامير. وقرر معه أن يسلم البلد لعساكره. فجهز السلطان العساكر، وروى أنها تقصد سيس حتى نزلت بحلب، وسارت العساكر منها مع الأمير تنكز على عينتاب إلى أن وصل الدرنبد، فألبس الجميع السلاح وسلك الدرنبد إلى أن نزل على ملطية يوم الثلاثاء ثالث عشريه، وحاصرها ثلاثة أيام. فاتفق الأمير ميزامير مع أعيان ملطية على تسليمها، وخرج في عدة منم الأعيان إلى الأمير تنكز، فأمنهم وألبسهم التشاريف السلطانية المجهزة من القاهرة، وأعطى الأمير ميزامير سنجقا سلطانيا، ونودي في العسكر ألا يدخل أحد إلى المدينة. وسار الأمير ميزامير ومعه الأمير بيبرس الحاجب والأمير أركتمر حتى نزل بداره، وقبض على مندوه الكردي وسلم إلى الأمير قلى، وتكاثر العسكر ودخلوا إلى المدينة ونهبوها. وقتلوا عدة من أهلها. فشق ذلك على الأمير تنكز، وركب معه الأمراء، ووقف على الأبواب وأخذ النهوب من العسكر، ورحل من الغد وهو رابع عشري المحرم بالعسكر، الأبواب وأخذ النهوب من العسكر، ورحل من الغد وهو رابع عشري المحرم بالعسكر، وترك نائب حلب مقيماً عليها لهدم أسوارها. ففر مندوه قبل الدخول إلى الدربند. وفات أمره. فلما قطعوا الدربند أحضرت الأموال التي نهبت والأسرى، فسلم من فيهم من المسلمين إلى أهله، وأفرد الأرمن.
فلما فتحت ملطية سار الأمير قجليس إلى مصر بالبشارة، فقدم يوم الخميس ثالث صفر، ودقت البشائر بذلك. وتبعه الأمير تنكز بالعساكر - ومعه الأمير ميزامير وولده - حتى نزل عينتاب ثم دابق، فوجد بها تسعة عشر ألف نول تعمل الصوف، وتجلب كلها إلى حلب. ثم سار تنكز، فقدم دمشق في سادس عشر ربيع الأول، وسير ميزامير وابنه في ثلاثين رجلاً مع العسكر المصري إلى القاهرة فقدموا في خامس ربيع الآخر.
وفيها قبض على الأميرين علاء الدين أيدغدي شقير، وجمال الدين بكتمر الحسامي الحاجب، في أول ربيع الآخر، فقتل شقير من يومه لأنه اتهم بأنه يريد الفتك بالسلطان، وأخذ لبكتمر الحاجب مائة ألف دينار، وسجن. وكان قد قبض على الأمير بهادر المعزي في عاشر المحرم، وقبض أيضاً بعد القبض على شقير على الأمير طغاي، وقبض على تمر الساقي نائب طرابلس وحمل إلى قلعة الجبل، وقبض على الأمير بهادر آص وحمل إلى الكرك. واستقر الأمير سيف الدين كستاي الناصري في نيابة طرابلس.
وأفرج في مستهل ربيع الآخر عن داود وجبا أخوى الأمير سلار، وأفرج عن الأمير سيف الدين قجماس المنصوري أحد البرجية. وأخرج الأمير بدر الدين محمد الوزيري عن مصر ليقيم بدمشق، في يوم السبت سلخ ربيع الآخر، وأنعم عليه بما خص السلطان من خمس ملطية، وهو نحو الخمسين ألف درهم.
وفي ثامن عشري رجب: أفرج عن الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك، وخلع عليه، وأمر في ثامن عشري شهر رجب، ثم أنعم عليه في ثالث عشر شعبان بإقطاع الأمير حسام الدين لاجين أستادار بعد موته.
وفيه قدم محمد بن عيسى أخو الأمير مهنا، واعتذر عن أخيه مهنا، وقدم فرساً أصيلاً للسلطان، فقدمت الفرس للسلطان في شعبان، وعرفت ببنت الكزتا، بلغ ثمنها وكلفتها ستمائة ألف درهم. فكتب السلطان إلى مهنا بالرجوع إلى البلاد، وخلع على محمد بن عيسى، ثم بعث إلى مهنا باثنى عشر ألف دينار، وأنعم عليه بمائتي ألف درهم، وكتب له بضيعة من الخاص على سبيل الملك.
وفي يوم الجمعة عشري جمادى الأولى: وتاسع عشري مسرى كان وفاء النيل، وفتح الخليج على العادة.
وفي ثاني عشريه: عزل علاء الدين القطزى من ولاية مصر، وولى بعده ابن أمير حاجب، نقل إليها من ولاية الشرقية.
وفي ثالث جمادى الآخرة: حضر الشريف أسد الدين أبو غرارة رميثة ابن أبي نمى، من مكة فاراً من أخيه حميضة، وأخبر أنه قطع اسم السطان من الخطبة بمكة، وخطب لصاحب اليمن. فجرد السلطان معه الأمير سيف الدين طيدمر، والأمير نجم الين ذمرخان بن قرمان، وثلاثمائة فارس من أجناد الحلقة وأجناد الأمراء.(1/399)
وفيها قدم الأمير سيف الدين الخاص تركي وزين الدين قراجا الخازندار من بلاد طقطاي، ومعهم رسل الملك أزبك القائم بعد طقطاي، وأخبروا بإسلامه ومعهم هدية. فأكرم السلطان الرسل، وكتب جوابه، وسفرهم، وبعث معهم الأمير علاء الدين أيدغدي الخوارزمي بهدية.
وفيها قدم البريد من حلب بقدوم والدة صاحب ماردين تريد الحج، فرسم للنواب بخدمتها والقيام بما يليق بها.
وفيها قدم البريد بخروج سليمان بن مهنا عن الطاعة، ونهبه القريتين، وتوجهه نحو العراق من أجل خروج إقطاعه عنه. فكتب إلى مهنا في ذلك، فأجاب بأنه خارج عن طاعته.
وفيها قدمت رسل صاحب اليمن، وهما بدر الدين حسن بن أبي المنجا، والطوشي جمال الدين فيوز، وقد خرج عليهما عرب صحراء عيذاب، وأخذوا منهما الهدية، فجرد السلطان من الأمراء علاء الدين مغلطاي بن أمير مجلس، وسيف الدين ساطي السلاح دار، وصارم الدين أزبك الجرمكي، وعز الدين أيدمر الدوادار، علاء الدين علي بن قرا سنقر، وعلم الدين سنجر الدنيسرى، في عدة من الأجناد ومقدمي الحلقة، وأمروا بالتوجه إلى دمقلة بالنوبة، فساروا في أول شوال.
وفي العشر الأخير من شعبان: وقع الشروع في روك أرض مصر وسبب ذلك أن السلطان استكثر أخبارز المماليك أًحاب بيبرس الجاشنكير وسلار النائب وبقية البرجية، وكان الخبرز الواحد ما بين ألف مثقال في السنة إلى ثمانمائة مثقال، وخشي السلطان من وقوع الفتنة بأخذ أخبازهم. فقرر السلطان مع الفخر محمد بن فضل الله ناظر الجيش روك البلاد وإخراج الأمراء إلى الأعمال فتعين الأمير بدر الدين جنكلي ابن البابا للغربية، ومعه آقول الحاجب ومكين الدين إبراهيم بن قروينة، وللشرقية الأمير عز الدين أيدمر الخطيري، ومعه أيتمش المحمدي وأمين الدين قرموط، وللمنوفية والبحيرة بلبان الصرخدي والقلنجي وابن طرنطاى وبيبرس الحمدار، وللصعيد التليلي والمرتيني.
وفيها توجه السلطان في شعبان إلى بلاد الصعيد، وقدم في يوم الخميس ثامن عشر شوال.
وفيها توجه من حلب ستمائة فارس عليهم الأمير شهاب الدين قرطاي للغارة على بلاد ماردين ودنيسر لقلة مراعاة صاحب ماردين لما يرسم به. فشن قرطاي الغارة على بلد ماردين يومين، فصادف قراوول التتار قد قدم إلى ماردين على عادته كل سنة لجباية القطيعة، وهم في ألفي فارس، فحاربهم قرطاي وقتل منهم ستمائة رجل، وأسر مائتين وستين، وقدم بالرءوس والأسرى إلى حلب، ومعهم عدة خيول. فلما قدم البريد سر السلطان سروراَ زائداً، وبعث بالتشريف لنائب حلب ولقرطاي.
وقدم الخبر من مكة بقتل أبي الغيث في حرب مع أخيه حميضة، وأن العسكر المجرد إلى مكة واقع حميضة وقتل عدة من أصحابه، فانهزم حميضة وسار يريد بلاد خربندا، فتلقاه خربندا وأكرمه، وأقام حميضة عنده شهراَ، وحسن له إرسال طائفة من المغل إلى بلاد الحجاز ليملكها، ويخطب له على منابرها. وقدم العسكر المجرد إلى الحجاز في ثامن عشري رجب، وكان السلطان قد أنعم على محمد بن مانع بإمرة مهنا، فشن الغارات وأخذ جمال مهنما وطرده. فسار مهنا أيضاً إلى خربندا، فسر به وأنعم عليه. وجرد خربندا مع الشريف حميضة من عسكر خراسان أربعة آلاف فارس، وسار حميضة بهم في رجب يريد مكة. وأخذ خربندا في جمع العساكر لعبور بلاد الشام، فقدر الله موته، فخاف مهنا من الإقامة بالعراق، فسار من بغداد وبلغ محمد بن عيسى أخا مهنا سير الشريف حميضة بعسكر المغل إلى مكة، فشق عليه استيلاؤهم على الحجاز، فلما علم بموت خربندا، وخروج أخيه مهنا من بغداد، سار في عربانه وكبس سكر حميضة ليلاً ووضع فيهم السيف، وهو يصيح باسم الملك الناصر، فقتل أكثرهم. ونجا حميضة، ووقع في الأسر من المغل أربعمائة رجل، وغنم العرب منهم مالاً كثيراً وخيولاً وجمالاً. وكتب بذلك إلى السلطان فسر به، وأعاد الإمرة إلى مهنا، واستدعى محمد بن عيسى، فقدم إلى مصر وشمله من إنعام السلطان شيء كثير.
وفيها وصل إلى السلطان مهرة تعرف ببنت الكرتا، كان قد بذل فيها نحو مائتي ألف وتسعين ألف درهم، وضيعة من بلاد حماة، ويقال إنها بلغت كلفها على السلطان ستمائة ألف درهم.(1/400)
وفيها وعك السلطان أياماً، فلما عوفي ودخل الحمام حلق رأسه كله، فلم يبق أحد من الأمراء والمماليك الناصرية حتى حلق رأسه. ومن يومئذ بطل إرخاء العسكر ذوائب الشعر، واستمر إلى اليوم وجلس السلطان يوم عيد النحر بعد عافيته، وأفرج عن أهل السجون، وطلع الناس للهناء، ونودي بزينة القاهرة ومصر، فكان يوماً مشهوداً.
وفيه فرغ العمل من بناء الإيوان، وذلك أن السلطان هدم الإيوان الذي بناه أبوه الملك المنصور، وجدده أخوه الملك الأشرف، ثم أنشأ إيواناً جليلاً، وعمل به قبة عالية متسعة ورخمه رخاماً عظيماً، وجعل قدامه دركاة فسيحة، فجاء من أجل المباني الملوكية وأعظمها.
وأما الأمراء الذين توجهوا إلى روك أعمال مصر، فإن كلاً منهم لما نزل بأول عمله استدعى مشايخ البلاد ودللاءها وقياسيها وعدولها وسجلات كل بلد. وعرف متحصلها ومقدار فدنها ومبلغ عبرتها وما يتحصل للجند من العين والغلة والدجاج والخراف والبرسيم، والكشك والعدس والكعك، ثم قاس تلك الناحية، وكتب بذلك عدة نسخ، ولا يزال يعمل ذلك حتى انتهى أمر عمله. وعادوا بعد خمسة وسبعين يوماً بالأوراق، فتسلمها الفخر ناظر الجيش، ثم طلب السلطان الفخر ناظر الجيش والتقى الأسعد بن أمين الملك المعروف بكاتب برلغي وسائر مستوفي الدولة، وألزمهم بعمل أوراق تشتمل على بلاد الخاص السلطاني التي عينها لهم، وعلى إقطاعات الأمراء، وأضاف على عبرة كل بلد ما كان فلاحيها من الضيافة المقررة، وما في كل بلد من الجوالي وكانت الجوالي قبل ذلك إلى وقت الروك ديواناً مفرداً يختص بالسلطان، فأضيف جوالي كل بلد إلى متحصل خراجها.
وأبطلت عدة جهات من المكوس منها ساحل الغلة، وكانت هذه الجهة مقطعة لأربعمائة من أجناد الحلقة سوى الأمراء، ومتحصلها في السنة أربعة آلاف ألف وستمائة ألف درهم، وإقطاع الجند منها من عشرة آلاف درهم في السنة إلى ثلاثة آلاف، وللأمراء من أربعين ألف إلى عشرة آلاف، واقتنى منها المباشرون أموالاً عظيمة، فإنها أعظم الجهات الديوانية، وأجل معاملات مصر، وكان الناس منها في أنواع من الشدائد لكثرة المغارم والتعب والظم، فإن أمرها كان يدور ما بين ظلم نواتيه المراكب والكيالين والمشدين والكتاب، وكان المقرر على كل أردب مبلغ درهمين للسلطان، ويلحقه نصف درهم آخر سوى ما ينهب وكان له ديوان في بولاق خارج المقس، وقبله كان خص يعرف بخص الكيالة، فلما ولي ابن الشيخي شد هذه الجهة قبل أن يلي الوزارة عمر مكان الخص مقعداً وجلس فيه، وكان في هذه الجهة نحو الستين رجلاً ما بين نظار ومستوفين وكتاب وثلاثين جندياً، وكانت غلال الأقاليم لا تباع إلا فيه.(1/401)
ومن المكوس التي أبطلها السلطان الناصر أيضاً نصف السمسرة الذي أحدثه ابن الشيخي في وزارته، وهو أن من باع شيئاً فإن دلالته على كل مائة درهم درهمين، يؤخذ منهما درهم للسلطان، فصار الدلال يحسب حسابه، ويخلص درهمه قبل درهم السلطان. ومنها رسوم الولايات والمقدمين والنواب والشرطية، وكانت جهة تتعلق بالولاة والمقدمين، قيجيبها المذكورون من عرفاء الأسواق وبيوت الفواحش، وعليها جند مستقطعة وأمراء، وكان فيها ممن الظلم والعسف والفساد وهتك الحرم وهجم البيوت ما لا يوصف. ومنها مقرر الحوائص والبغال، وهي تجبى من المدينة وسائر معاملات مصر كلها من الوجهين القبلي والبحري، فكان على كل من الولاة والمقدمين مقرر يحمل في كل قسط من أقساط السنة إلى بيت المال عن ثمن حياصة ثلاثمائة درهم، وعن ثمن بغل خمسمائة درهم، وكان عليها عدة مقطعين سوى ما يحمل، وكان فيها من الظلم بلاء عظيم، ومنها مقرر السجون، وهو على كل من يسجن ولو لحظة واحدة مبلغ ستة دراهم سوى ما يغرمه، وعلى هذه الجهة عدة من المقطعين ولها ضمان، وكانت تجبى من سائر السجون. ومنها مقر طرح الفراريج، ولها ضمان في سائر نواحي الإقليم، فتطرح على الناس في النواحي الفراريج وكان فيها من الظلم والعسف وأخذ الأموال من الأرامل والفقراء والأيتام ما لا يمكن شرحه، وعليها عدة مقطعين ومرتبات، ولكل إقليم ضامن مفرد، ولا يقدر أحد أن يشتري فروجاً فما فوقه إلا من الضامن. ومنها مقرر الفرسان، وهي شيء يستهديه الولاة والمقدمون من سائر الأقاليم، فيجئ من ذلك مال عظيم، ويؤخذ فيه الدرهم ثلاثة دراهم لكثرة الظالم. ومنها مقرر الأقصاب والمعاصر، وهو ما يجبى من مزارعي الأقصاب وأرباب المعاصر ورجال المعصرة. ومنها رسم الأفراح، هي تجبى من سائر البلاد، وهي جهة بذاتها لا يعرف لها أصل. ومنها حماية المراكب، وهي تجبى من سائر المراكب التي في النيل بتقرير معين على كل مركب يقال له مقرر الحماية، ويجبى من المسافرين في المراكب سواء إن كانوا أغنياء أو فقراء. ومنها حقوق القينات، وهي ما كان يأخذه مهتار الطشتخاناه من الغايا ويجمعه من المنكرات والفواحش من أباش مصر وضمان تجيب بمصر. ومنها شد الزعماء وحقوق السودان وكشف مراكب النوبة، فيؤخذ من كل عبد وجارية مقرر معلوم عند نزولهم في الخانات، وكانت جهة قبيحة شنعة. ومنها متوفر الجراريف، وتجبى من المهندسين والولاة بسائر الأقاليم، وعليها عدة من الأجناد، ومنها مقرر المشاعلية، وهي ما يؤخذ عن تنظيف أسربة البيوت والحمامات والمسامط وغيرها، وحمل ما يخرج منها من الوسخ إلى الكيمان، فإذا امتلأ سرب مدرسة أو مسجد أو بيت لا يمكن شيله حتى يحضر الضمن ويقرر أجرته بما يختار، فمتى لم يوافقه صاحب البيت تركه حتى يحتاج إليه ويبذل له ما طلب. ومنها ثمن العبى التي كانت تستأدى من البلاد،. ومنها مقرر الأتبان التي كانت تؤخذ لمعاصر الأقصاب بغير ثمن، ومنها زكاة الرجالة بالديار المصرية. وأبطل السلطان أيضاَ وظيفتي النظر والاستيفاء من سائر الأعمال في كل بلد ناظر ومستوف وعدة مباشرين، فرسم ألا يستخدم أحد في إقليم لا يكون للسلطان فيه مال، وما كان للسلطان فيه مال يكون في كل إقليم ناظر وأمين حكم لا غير. ورفع السلطان سائر المباشرين، ورسم بالمسامحة بالبواقي الديوانية والإقطاعية من سائر النواحي إلى آخر سنة أربع وسبعمائة. وجعل المال الهلالي لاستقبال صفر سنة ست عشرة، والمال الخراجي لاستقبال ثلث مغل سنة خمس عشرة وسبعمائة.
وأفرد السلطان لخاصة الجيزة وأعمالها وبلاد هو والكوم الأحمر ومنفلوط والمرج والخصوص وعدة بلاد. وأحرجت الجوالي من الخاص، وفرقت في البلاد، وأفردت جهات المكس كلها، وأضيف للوزارة، وأفردت للحاشية بلاد، ولجوامك المباشرين بلاد، ولأرباب الرواتب جهات. وارتجعت عدة بلاد كانت اشتريت، وأخلت في الإقطاعات. واعتد في سائر البلاد بما كان يهديه الفلاح، وحسب من جملة الإقطاع.
فلما فرغ العمل من ذلك نودي في الناس بالقاهرة ومصر وسائر الأعمال بإبطال ما أبطل من الجهات، وكتبت المراسيم إلى النواحي به، فسر الناس سروراً كبيراً.(1/402)
وجلس السلطان بالإيوان الذي أنشأه لتفرقة المثالات في ويوم الخميس ثاني عشري ذي الحجة، بعدما دارت النقباء على جميع الأجناد وحضروا ورسم أن يفرق كل يوم على أميرين من المقدمين بمضافيهما. فكان المقدم يقف بمضافيه، ويستدعي السلطان المقدمين كل أحد باسمه، فإذا تقدم المطلوب سأله السلطان: من أين أنت؟ ومملوك من؟ حتى لا يخفى عليه شيء من أمره. ثم يعطيه مثالاً على ما قسم له من غير تأمل، وأنبأ السلطان في العرض عن معرفة تامة بأحوال الأجناد وأمراء الجيش.
وكان الأمراء عند العرض قد جلس أكابرهم بخدمته على العادة، وإذا أخذوا في شكر جندي عاكسهم وأعطاه دون ما كان في أملهم له، وأراد بذلك ألا يتكلم أحد في المجلس. فلما فطنوا لذلك أمسكوا عن الكلام والشكر، بحيث لم يتكلم أحد بعدها إلا جواباً له عما يسأل السلطان عنه منهم. وفعل في عرض المماليك مثل عرض الأجناد، فكان المملوك إذا تقدم إليه سأله عن اسم تاجره وعن أصله وفره، وكم حضر من مصاف، وكم رأى بيكارا، وأي قطعة حاصر، فإن أجابه بصدق أنصفه. وكان السلطان يخير الشيخ المسن بين الإقطاع والرواتب، فيعطيه ما يختار، ولم يقطع في العرض العاجز عن الحركة، بل كان يرتب له ما يقوم به عوضاً عن إقطاعه.
واتفق له في العرض أشياء: منها أنه تقدم إليه شاب تام الخلقة في وجهه أثر شبه ضربة سيف، فأعجبه وناوله مثالاً بإقطاع جيد، وقال له: في أي مصف وقع في وجهك هذا السيف؟ . فقال لقلة سعادته: يا خوند! هذا ما هو أثر سيف، وإنما وقعت من سلم. فصار في وجهي هذا الأثر، فتبسم وتركه. فقال الفخر ناظر الجيش: يا خوند! ما بقي يصلح له هذا الخبز!. فقال السلطان لا! قد صدقني وقال الحق، وأخذ ززقه، فلو قا لأصبت في المصف الفلاني من الذي يكذبه؟ فدعت الأمراء له، وانصرف الشاب بالمثال. وتقدم إليه رجل ذميم الشكل، وله إقطاع ثقيل عبرة ثمانمائة دينار، فأعطاه مثالاً وانصرف. فإذا به عبرة نصف ما كان معه. فعاد وقبل الأرض. فسأله السلطان عن جاجته. فقال: الله يحفظ السلطان! فإنه غلط في حقي، فإن إقطاعي كانت عبرته ثمانمائة دينار، وهذا أربعمائة. فقال السلطان: بل الغلط كان في إقطاعك الأول، فمضى بما قسم له، فلما انتهت تفرقة المثالات في آخر المحرم سنة ست عشرة توفر منها نحو مائتي مثال.
ثم أخذ السلطان في عرض طباق المماليك، ووفر جوامك عدة منهم ورواتبهم، وأعطاهم الإقطاعات. وأفرد جهة قطيا للعاجزين من الأجناد، وقرر لكل ثلاثة آلاف درهم في السنة. وارتجع السلطان ما كانت البرجية قد اشترته من أراضي الجيزة وغيرها، وارتجع ما كان لبيبرس وبرلغي والجوكندار وغيرهم من المتاجر، وأضاف ذلك للخاص.
وبالغ السلطان في إقامة أيام العرض. وعرف النائب وأكابر الأمراء أنه من رد مثالاً أو تضرر أو شكا ضرب وحبس وقطع خبزه، وأن أحداً من الأمراء لا يتلكم مع السلطان في أمر جندي ولا مملوك، فلم يجسر أحد أن يخالف ما رسم به.
وعين في هذا العرض أكثر الأجناد، فإنهم أخذوا إقطاعات دون التي كانت معهم، وقصد الأمراء التحدث في ذلك مع السلطان، والنائب أرغون ينهاهم عنه. فقدر الله أن السلطان نزل إلى البركة لصيد الكركي، وجلس في البستان المنصروي ليستريح، فدخل بعض المرقدارية - وكان يقال له عزيز - ومن عاداته الهزل قدام السلطان والمزح معه، فأخذ يهزل على عادته قدام السلطان والأمراء جلوس، وهناك ساقية والسلطان ينظر إليها. فتمادى عزيز لشؤم بخته في الهزل إلى أن قال: وجدت جندي من جند الروك الناصري وهو راكب إكديش، وخرجه ومخلاة فرسه ورمحه على كتفه، وأراد أن يتم الكلام. فاشتد غضب السلطان. وصاح في المماليك: عروه ثيابه، فللحال خلعت عنه الثياب، وربط مع قواديس الساقية، وضربت الأبقار حتى أسرعت في الدوران، وعزيز تارة ينغمز في الماء وتارة يظهر، وهو يستغيث وقد عاين الموت، والسلطان يزداد غضباً. فلم تجسر الأمراء على الشفاعة فيه حتى مضى نحو ساعتين، وانقطع حسه، فتقدم إليه الأمير طغاي والأمير قطلوبغا الفخري وقالا: يا خوند! هذا المسكين لم يرد إلا أن يضحك السلطان، ويطيب خاطره، ولم يرد غير ذلك، وما زالا به حتى أخرج الرجل وقد أشفى على الموت، ورسم بنفيه من أرض مصر، فحمد الله سبحانه وتعالى الأمراء على سكوتهم وتركهم الشفاعة في تغيير مثالات الأجناد.(1/403)
وفي هذه السنة: ظهر ببلاد الصعيد فأر عظيم يخرج عن الإحصاء، بحيث إن مباشري ناحية أم القصور من بالد منفلوط قتلوا في أيام قلائل من الفأر مبلغ ثلاثمائة وسبعة عشر أردباً ينقص ثلث أردب، واعتبروا أردباً فجاء عدة ثمانية آلاف وأربعمائة فأر، وكل ويبة ألف وأربعمائة فأر.
وفيها وقعت نار في البرج المنصوري من قلعة الجبل وطباق الجمدارية، فأحرقت شيئاً كثيراً، وذلك في تاسع عشري شعبان.
وفيها غلقت كنائس اليهود والنصارى بأجمعها في مصر والقاهرة، في يوم السبت سابع عشر شوال فلما كان يوم الثلاثاء العشرين من ذي الحجة فتحت الكنيسة المعلقة وخلع على بطرك النصارى.
وفيها حج الأمير سيف الدين أرغون النائب، وقاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة مع الركب، وكان أمير الركب عز الدين أيدمر الكوكندي.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
شهاب الدين أحمد بن حسين بن عبد الرحمن الأرمنتي المعروف بابن الأسعد، يوم الجمعة رابع عشري رمضان، وكان فقيهاً شافعياً مشكور السيرة.
ومات جلال الدين إسماعيل بن أحمد بن إسماعيل بن بريق بن برعس أبو الطاهر القوصي الفقيه الحنفي، كان متصدراً بجامع أحمد بن طولون، وله فضيلة في الفقه والقراءات والعربية، وصنف وحدث، وله شعر منه:
أقول له ودمعي ليس يرقا ... ولي من عبرتي إحدى الوسائل
حرمت الطيف منك ففاض دمعي ... وطرفي فيك محرم وسائل
ومات تقي الدين سليمان بن جمزة بن عمر بن أبي عمر محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي الحنبلي، قاضي الحنابلة، بدمشق في حادي عشر ذي القعدة، ومولده سنة ثمان وعشرين وستمائة، وكان فاضلاً واسع الرواية، له معجم في مجلدين، وتخرج به جماعة من الفقهاء، مع الدين والتواضع.
ومات شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم بن عبد السلام بن جميل التونسي المالكين بالقاهرة ليلة الحادي والعشرين من صفر، عن ست وتسعين سنة، ودفن بالقرافة، ومولده سنة تسع وثلاثين وستمائة، وناب في الحكم بالحسينية خارج القاهرة، ثم ولي قضاء الإسكندرية، وهو أول من درس بالمدرسة المنكوتمرية بالقاهرة.
ومات السيد الإمام العلامة ركن الدين أبو محمد الحسين بن شرف الدين شاه الحسيني العلوي الأستراباذي، عالم الموصل ومدرس الشافعية، وشارح المختصر لابن الحاجب ومقدمي ابن الحاجب والحاوي في المذهب، وله سبعون سنة، وأخذ عن النصير الطوسي، وتقدم عند التتار وتوفرت حرمته، وبرع في علوم المقولات، وكان يجيد الفقه وغيره.
ومات شرف الدين محمد بن نصر الله القلانسي التميميم الدمشقي، في ثاني عشر المحرم بدمشق ومولده بها سنة ست وأربعين وستمائة، وكان أحد الأعيان الأخيار.
ومات الشيخ صفي الدين محمد بن عبد الرحيم بن محمد الأرموي المعروف بالهندي الأرموي الفقيه الشافعي، في تاسع عشري صفر بدمشق، ومولده ثالث ربيع الآخر سنة أربع وتسعين وستمائة، وله تصانيف مفيدة، وقدم من الهند إلى مصر بعد حجة، وسار إلى الروم فأقام بها إحدى عشرة سنة وسكن دمشق من سنة خمس وثمانين وستمائة وسمع بها ودرس، وكان إماماً عالماً ديناً.
ومات شرف الدين محمد بن تميم الإسكندراني كاتب الملك المؤيد هزبر الدين صاحب اليمن بها، وكان إماماً في الإنشاء، وله نظم.
ومات عز الدين حسين بن عمر بن محمد بن صبرة، في تاسع عشر رجب بطرابلس، وولي حاجباً بدمشق مدة، وكان مشكوراً.
ومات الأمير علاء الدين أيدغدي شقير الحسامي، أحد مماليك الملك المنصور حسام الدين لاجين، وكان شجاعاً مقداماً عجولاً، أحمق متكبراً واسطة سوء، قتل فتى أول ربيع الأول.
ومات حسام الدين قرالاجين المنصوري الأستادار، ليلة الأربعاء ثالث عشر شعبان، وكان جواداً خيراً سليم الباطن، وأنعم بإقطاعه على الأمير جمال الدين أقوش الأشرفي، وتوفرت الأستادارية ومات الأمير سيف الدين جيرجين الخازن تحت العقوبة، يوم السبت عاشر ربيع الآخر.
ومات الأمير بدر الدين موسى بن الأمير سيف الدين أبي بكر محمد الأزكشي، بدمشق في ثامن شعبان، وكان شجاعاً شهماً.(1/404)
ومات الملك خربندا بن أبغا بن أرغون في سادس شوال، وتسمى بمحمد، وكان رافضياً، قتل أهل السنة، وكان منهمكاً في شرب الخمر متشاغلاً باللهو، وقام بعده ابنه أبو سعيد بعهده إليه، وكان محولاً بإحدى عينيه، عادلاً في رعيته، ملك ثلاث عشرة سنة وأشهراً.
ومات الأمير سيف الدين كستاي الناصري نائب طرابلس بها، وكان جسوراً قوي النفس معجباً بنفسه شديد الكبر، إلا أنه باشر طرابلس بعفة وحرمة مدة شهرين، ثم طلب من الناس التقادم وأخذها.
ومات الأمير بدر الدين بن الملك المغيث، في ثاني شعبان.
مات بهاء الدين بن المحلى، في خامس شعبان.
ومات الشيخ جمال الدين محمد بن المهدي المالكي بمصر.
ومات الفقيه شرف الدين بن محيي الدين بن الفقيه نجيب الدين، في تاسع رجب.
ومات الشيخ ناصر الدين أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل يوسف بن محمد بن عبد الله بن المهتار الكاتب، بدمشق في سادس عشري ذي الحجة، انفرد برواية علوم الحديث بسماعه من مؤلفه ابن الصلاح، وبرواية الزهد لأحمد بن حنبل، وشيوخه كثيرة، ومولده في رجب سنة سبع وثلاثين وستمائة.
ومات الشيخ تاج الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن الشيخ مرهف، إمام الجامع الجديد الناصري خارج مصر، ليلة الأربعاء خامس عشر رجب.
ومات الشيخ المقرئ أمين الدين بن الصواف، المتصدر بجامع عمرو، بمصر ليلة الجمعة ثاني عشري شعبان.
ومات الشيخ ابن أبي مفصلة، ليلة الأحد سادس عشر رمضان.
ومات الشيخ زين الدين المهدوي، يوم الخميس تاسع رجب.
ومات الطواشي شبل الدولة كافرر الأقطوني الصالحي، شاد الخزانة السلطانية، ليلة الاثنين رابع عشر ذي القعدة.
ومات فتح الدين بن زين الدين بن وجيه الدين بن عبد السلام، في سابع عشري ذي القعدة.
سنة ست عشر وسبعمائة
في المحرم: قدم البريد من حلب بموت خربندا، وجلوس ولده أبي سعيد بعده.
وفي يوم السبت ثالث عشريه: سمع بالقاهرة هدة عظيمة شبه الصاعقة، وتبعها رعد ومطر كثير وبرد، وغرقت بلبيس لكثرة المطر.
وفي ثامن صفر: استقر شمس الدين محمد بن مسلم بن مالك بن مزروع في قضاء الحنابلة بدمشق، وجهز له توقيعه من القاهرة، فلم يغير زيه، واستمر يحمل ما يشتريه من السوق بنفسه، ويجلس على ثوب يبسطه بيده في مجلس الحكم، ويحمل نعله بيده.
وفي أول ربيع الأول: فوضت إمرة العرب بالشام إلى الأمير شجاع الدين فضل بن عيسى بن مهنا.
وفيه قدم البريد بوقوع المطر في قارا وحمص وبعلبك، وفي بلاد حلب وإعزاز وحارم، بخلاف المعهود، وعقبه برد قدر النارنج، فيها ما زنته ثلاث أواق دمشقية، هلك بها من الناس والأَغنام والدواب شيء كثير. وخربت عدة ضياع، وتلف من التركمان وأهل الضياع خلق كثير. وعقب هذا المطر نزول سمك كثير ما بين صغار وكبار بالحياة، تناوله أهل الضياع واشتروه وأكلوه. وسقط بالمعرة وسرمين عقيب هذا المطر ضفادع كثيرة في غاية الكبر، منها ميت ومنها بالحياة ثم نزل ثلج عظيم طم القرى وسد الطرقات والأودية، وامتنع السفر حتى بعث النواب الرجال من البلاد والجبال مع الولاة بالمساحي، وعملوا فيها حتى فتحت الطرقات.
وفي سادس عشرى جمادى الأولى: استقر قاضي القضاة نجم الدين بن صصري في مشيخة الشيوخ بدمشق، عوضاً عن شهاب الدين محمد بن عبد الرحمن بن عبد اللّه البكاشغري.
فيها رأى السلطان أن يقدم برشنبو النوبي، وهو ابن أخت داود ملك النوبة، فجهز صحبته الأمير عز الدين أيبك على عسكر. فلما بلغ ذلك كرنبس ملك النوبة بعث ابن أخته كنز الدولة بن شجاع الدين نصر بن فخر الدين مالك بن الكنز يسأل السلطان في أمره، فاعتقل كنز الدولة. ووصل العسكر إلى دمقلة، وقد فر كرنبس وأخوه أبرام، فقبض عليهما وحملا إلى القاهرة، فاعتقلا. وملك عبد اللّه برشنبو دمقلة، ورجع العسكر في جمادى الأولى سنة سبع عشرة. وأفرج عن كنز الدولة، فسار إلى دمقلة وجمع الناس وحارب برشنبو، فخذله جماعته حتى قتل، وملك كنز الدولة. فلما بلغ السلطان ذلك أطلق أبرام وبعثه إلى النوبة، ووعده إن بعث إليه بكنز الدولة مقيداً أفرج عن أخيه كرنبس. فلما وصل أبرام خرج إليه كنز الدولة طائعاً، فقبض عليه ليرسله، فمات أبرام بعد ثلاثة أيام من قبضه، فاجتمع أهل النوبة على كنز الدولة وملكوه البلاد.(1/405)
وفيها أخذ عرب برية عيذاب رسل صاحب اليمن وعدة من التجار وجميع ما معهم، فبعث السلطان العسكر وهم خمسمائة فارس، عليهم الأمير علاء الدين مغلطاي بن أمير مجلس، في العشرين من شوال، فساروا إلى قوص، ومضوا منها في أوائل المحرم سنة سبع عشرة إلى صحراء عيذاب، ومضوا إلى سواكن حتى التقوا بطائفة يقال لها حي الهلبكسة، وهم نحو الألفي راكب على الهجن بحراب ومزاريق، في خلق من المشاة عرايا الأبدان، فلم يثبتوا لدق الطبول ورمى النشاب، وانهزموا بعد ما قتل منهم عدد كبير. وسار العسكر إلى ناحية الأبواب، ثم مضوا إلى دمقلة، وعادوا إلى القاهرة تاسع جمادى الآخرة سنة سبع عشرة، وكانت غيبتهم ثمانية أشهر. وكثرة الشكاية من الأمير علاء الدين مغلطاي بن أمير مجلس مقدم عسكرهم، فأخرج إلى دمشق.
وفيها أغار من الططر نحو ألف فارس على أطراف بلاد حلب، ونهبوا إلى قرب قلعة كمختا فقاتلهم التركمان وقتلوا كثيرا منهم، وأسروا ستة وخمسين من أعيانهم، وغنموا ما كان معهم، فقدمت الأسرى إلى القاهرة في صفر سنة سبع عشرة.
وفيها هبت ريح سوداء مظلمة بأرض أسوان وسود وإسنا وأرمنت، وقدحت لشدة حرها نار عظيمة أحرقت عدة أجران من الغلال. ثم أمطرت السماء، فعقب ذلك وباء هلك فيه بأسوان وغيرها عالم كبير، ودب الوباء إلى الأشمونين.
وفيها أفرج عن الأمير بكتمر الحسامي الحاجب. وخلع عليه في يوم الخميس ثالث عشر شوال بنيابة صفد واًنعم عليه بمائتي ألف درهم، فسار على البريد ودخلها في آخر ذي الحجة. وكان بكتمر في مدة اعتقاله مكرماً لم يفقد غير ركوب الخيل، وبعث إليه السلطان بجارية حبلت منه في الاعتقال، وولدت ولداً سماه ناصر الدين محمداً، فكانت مدة سجنه سنة وسبعة أشهر وأياماً.
وفيها ولي الأمير سيف الدين أرقطاي نيابة حمص في تاسع رجب، عوضاً عن شهاب الدين قرطاي بحكم انتقاله إلى نيابة طرابلس في جمادى الآخرة.
رفيها أخرجت قطيا عن الأجناد، وأضيفت إلى الخاص، وخرج إليها ناظر وشاد. وعوض الأجناد بجهات في القاهرة بعد عرضهم على السلطان، وأعطى كل منهم نظير ما كان له.
وفيها توجه الأمير بهاء الدين أرسلان الدوادار إلى الأمير مهنا وعاد.
وفيها أفرج عن الأمير كراي المنصوري والأمير سنقر الكمالي من سجن الكرك، وقدما إلى القاهرة فسجنا بالقلعة ومعهما نساؤهما.
وفيها قدمت رسل أزبك، ورسل ملك الكرج، ورسل طغاي قريب أزبك بهدايا؛ فأجيبوا وسيرت إليهم الهدايا. فاجتمع هذه السنة ثمانية رسل وهم رسل جوبان، وأبي سعيد، وأزبك، وطغاي، وصاحب برشلونة، وصاحب إسطنبول، وصاحب النوبة، وملك الكرج، وكلهم يبذل الطاعة، و لم يتفق في الدولة التركية مثل ذلك، وأكثر ما اجتمع في الأيام الظاهرية خمسة رسل.
وفيها سافر في الرسلية إلى بلاد أزبك الأمير علاء الدين أيدعدي الخوارزمي مملوك يازي، ومعه حسين بن صاروا أحد مقدمي الحلقة، بالهدية في آخر المحرم وهي مائتا عدة كاملة، ما بين جوشن وخوذة وبركستوان، وخلعة كاملة التحتاني أطلس أحمر مزركش، وشاش كافوري وبلغطاق فوقاني مفرج مقصب محقق بطرز ذهب، وكلفتاه ذهب، وحياصة ذهب، وفرس مسرجة ملجمة بذهب مرصع، وجتر، وسيف بحلية ذهب، وسار معهم بطرك الملكية.
وفيها قدمت أم الأمير بكتمر الساقي.
وفيها تغير السلطان على الأمير سيف الدين طغاي، وضربه بيده بالمقرعة على رأسه، ثم رضي عنه وخلع عليه.
وفيها صرف بهادر الإبراهيمي من نقابة المماليك، وبقي على إمرته وولى عوضه دقماق نقابة المماليك.
وفيها مرضت زوجة الأمير طغاي، فعادها السلطان مراراً، فلما ماتت نزل الأمراء كلهم للصلاة عليها، وعمل كريم الدين لها مهماً عظيماً.
وفيها سار السلطان إلى الصيد في يوم الجمعة سابع شعبان، وتوجه إلى بلاد الصعيد. وعاد إلى قلعة الجبل يوم الإثنين تاسع عشر رمضان، وأعطى الأمراء دستوراً، ونزل تحت الأهرام.
وفيها توجه كريم الدين إلى الإسكندرية وعاد وهو متوعك، فخلع السلطان عليه فرجية أطلس أبيض بطراز، وأنعم عليه بعشرة آلاف درهم.
وكان وفاء النيل يوم الأربعاء حادي عشرى جمادى الأولى - في ثامن عشر مسري(1/406)
- بعد أن بلغ في يوم الثلاثاء أربع عشرة إصبعاً من ستة عشر ذراعاً. فانقطع الجسر المجاور للقناطر الأربعين بالجيزة، فنقص عدة أصابع، وجمع لسده خلق كثير، غرق منهم نحو ثلاثين رجلاً في ساعة واحدة انطبق عليهم الجسر. ثم جمع من مصر رجال كثيرة، وكتفوا وأنزلوا في مركب وعدتهم سبعون رجلاً، فانقلبت بهم المركب فغرقوا بأجمعهم في يوم السبت سابع عشره. ثم زاد النيل حتى أوفى.
وفيها قطعت أرزاق المرتزفة من أرباب الرواتب لاستقبال المحرم، وعوضوا على جهات أجودها نسترواة، فصارت سنتهم ثمانية أشهر. وتولى ذلك الصاحب سعد الدين محمد بن عطايا، والسعيد مستوفي الرواتب. ومنع شهر المحرم، وصولح من له راتب بثلث المدة - وهي شهران وثلثا شهر - ، وأحيلوا على المطابخ، وثمنت عليهم قطارة، فحصل من كل دينار سدسه. ونزل بالناس من ذلك شدة، وحصلت ذلة للحرم والأيتام، وسماهما الناس سعد الذابح وسعد بلع، وشافهوهما بكل مكروه.
وفيها قدم الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل صاحب حماة في تاسع عشر جمادى الأولى، ونزل بمناظر الكبش، وحمل تقدمته في غده، وسار في تاسع عشر جمادى الآخرة.
وفيها لعب السلطان بالميدان الجديد تحت القلعة في يوم السبت ثامن جمادى الآخرة، وخلع على الأمراء وعلى الملك المؤيد صاحب حماة.
وفيها استقر الصاحب أمين الدين بن الغنام ناظر الدواوين بمفرده في خامس عشر رجب، بعد موت التقي أسعد كاتب برلغي.
وفيها سافر الفخر ناظر الجيش وقاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة إلى القدس، وقدم ابن جماعة في تاسع عشرى رمضان.
وفيه استقر العلم أبو شاكر بن سعيد الدولة في نظر البيوت، واستقر كريم الدين أكرم الصغير في نظر الدواوين، شريكاً لأمين الدين، في يوم الأحد أول ذي القعدة. وفيه توجه الأمير أرغون النائب إلى الحجاز.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
عز الدين أحمد بن جمال الدين محمد بن أحمد بن ميسر المصري، بدمشق في ليلة الإثنين أول رجب، ومولده بمصر في حادي عشرى رمضان سنة تسع وثلاثين وستمائة، وكان فاضلاً جليل القدر ولي نظر الدواوين بمصر، وولي نظر الشام وطرابلس وإسكندرية، ثم تغيرت حالته وانحطت رتبته، واستقر في نظر أوقاف دمشق مع الحسبة، وكان عاقلاً خبيراً بالولايات، وفيه لين وسكون ومروءة وسماح لمن تحت يده من المباشرين. ومال صدر الدين أبو الفداء إسماعيل بن يوسف بن أبي اليسر مكتوم بن أحمد القيسي السويدي الدمشقي، في ليلة السبت ثالث عشرى شوال بدمشق، كان فقيهاً مقرئاً محدثاً، درس وانفرد بالرواية عن جماعة.
ومات الأمير جمال الدين أقوش الأفرم أحد مماليك المنصور قلاوون، وكان نائب دمشق، في ثالث عشرى المحرم بهمذان.
ومات الشيخ نجم الدين سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم الطوفي البغدادي الحنبلي، في رجب ببلد الخليل عليه السلام، أقام بالقاهرة مدة، وامتحن بها.
ومات شمس الدين عبد القادر بن يوسف بن مظفر الخطيري الدمشقي، في جمادى الأولى عن إحدى وثمانين سنة، حدث، وولي نظر الخزانة بدمشق وكذلك نظر الجامع الأموي والمارستان النووي بها، وكان ديناً صيناً.
ومات الكاتب علاء الدين على بن مظفر بن إبراهيم الكندي - عرف بكاتب ابن ابن وداعة - الأديب البارع المقرئ ومات الشيخ صدر الدين محمد بن عمر بن مكي - المعروف بابن المرحل، وبابن الوكيل - في يوم الأربعاء رابع عشرى ذي الحجة بالقاهرة ومولده بدمياط في شوال سنة خمس وستين وستمائة، واستقر بعده في تدريس الزاوية بجامع عمرو شهاب الدين بن الأنصاري، وفي تدريس المجدية شمس الدين محمد بن اللبان. وقتل بالكرك من الأمراء سيف الدين أسندمر كرجي، وسيف الدين بينجار المنصوري، وبكتوت الشجاعي، وبيبرس العلمي، وبيبرس المجنون، وقطلوبك الكبير، وبكتمر الجوكندار نائب السلطنة، وبلبان طرنا خنقوا في ليلة واحدة.
ومات بطرابلس نائبها الأمير سيف الدين كستاي الناصري، في تاسع جمادى الآخرة، واستقر عوضه الأمير شهاب الدين قرطاي الصالحي نائب حمص، وولي حمص أرقطاي الجمدار.
ومات الأمير سيف الدين طقتمر الدمشقي طنبغا الشمسي، أحد أمراء مصر، وكان حشماً عاقلاً.(1/407)
ومات الصاحب ضياء الدين أبو بكر بن عبد الله بن أحمد بن منصور بن شهاب النشائي، وزير مصر، في يوم الإثنين تاسع عشرى رمضان، وكان قد ولي التدريس بالمدرسة التي بجوار الشافعي بالقرافة، ومشيخه الميعاد بالجامع الطولوني، ونظر الأحباس ونظر الخزانة، وكان مشكور السيرة، فقيهاً فاضلاً إماماً في الفرائض مشاركاً في علم الحديث، كثير الصدقة، وقال بعض الشعراء يرثيه:
إن بكى الناس بالمدامع حمرا ... فهو شيء يقال من حناء
فاختم الدست بالنشائي فإني ... لأرى الختم دائماً بالنشاء
وكان في وزارته غير نافذ الأمر، و قال فيه أحمد بن عبد الدائم الشارمساحي من أبيات:
زقوا منصب الوزارة حتى ... لزقوها وقتنا بالنشاء
وولي بعده نظر الخزانة تقي الدين أحمد بن قاضي القضاة عز الدين عمر بن عبد الله الحنبلي.
ومات تقي الدين أسعد الأحوال بن أمين الملك - المعروف بكاتب برلغي - ناظر الدواوين، في ليلة الإثنين ثامن شهر رجب، فاستقر بعده الصاحب أمين الدين بن الغنام، والتقى هذا هو الذي كان سبب الروك، بتحسينه عمل ذلك للسلطان، وهو الذي أدخل جهات المكوس في ديوان الوزارة وجعلها برسم المطبخ، وفرق جوالي الذمة في الإقطاعات بعدما كانت قلماً مفرداً، فما زال رجال الدولة بالسلطان حتى تنكر عليه وسبه ولعنه وهدده بالقتل، فأثر فيه الخوف ولزم فراشه حتى مات، وكان من الظلمة اللئام، واستسلمه الأمير برلغي، ولم يوجد له بعد موته، شيء سوى دواة وأثاث لم تبلغ قيمته مائتي درهم.
ومات ناصر الدين أبو بكر بن عمر بن السلار - بتشديد اللام بعد السين المهملة - في ليلة الثلاثاء ثاني عشر المحرم، ومولده ليلة الاثنين تاسع عشر رمضان سنة اثنتين وخمسين وستمائة بدمشق، وكان أديباً بارعاً بديع الكتابة، وتفتن في عدة فضائل، وهو من بيت إمارة، ومن شعره:
لعمرك ما مصر بمصر وإنما ... هي الجنة الدنيا لمن يتبصر
فأولادها الوالدان من نسل آدم ... وروضتها الفردوس والنيل كوثر
ومات الطواشي ظهير الدين مختار المنصوري - المعروف بالبلبيسي - الخازندار، بدمشق في عاشر شعبان، وكان يقراً القرآن، وفيه شجاعة وشهامة، وفرق ماله على عتقائه قبل موته، ووقف أملاكه على تربته.
ومات الأمير بدر الدين محمد بن كيدغدي بن الوزيري، بدمشق في سادس عشر شعبان.
وماتت المسندة المعمرة ست الوزراء أم محمد، وتدعى وزيرة، ابنة عمر بن أسعد بن المنجا التنوخية، بدمشق في ثامن عشر شعبان، ومولدها في سنة أربع وعشرين وستمائة، وحدثت بصحيح البخاري في القاهرة ومصر وقلعة الجبل، سنة خمس وسبعمائة.
ومات القاضي فخر الدين علي ابن قاضي القضاة تقي الدين محمد بن دقيق العيد، في يوم الثلاثاء عشرى رمضان. ومولده بقوص سنة تسع وخمسين وستمائة، وانقطع بعد أبيه للأشغال، ودرس بالكهاربة من القاهرة.
ومات الكاتب المجود نجم الدين موسى بن على بن محمد بن البصير الدمشقي، بها في عاشر ذي القعدة، وولد سنة إحدى وخمسين وستمائة، وكان شيخ الكتابة بدمشق.
ومات نجاد بن أحمد بن حجي أمير آل مرا، وحضر ثابت بن عساف بن أحمد بن حجي إلى القاهرة، واستقر عوضه. وقتل سيف الدين خاص بك، في يوم السبت سابع عشر جمادى الأولى، ضربت عنقه، وكان ممن فر إلى بلاد المغرب وقبض عليه.
ومات الشيخ نور الدين الكناني المقرئ، ليلة الأربعاء عشرى جمادى الأولى بروضة مصر.
مات سراج الدين عمر الأسعردي، في يوم الأربعاء ثالث رجب.
ومات الطواشي شبل الدولة كافور الطيبرسي - الشهير بالعاجي - يوم الخميس ثامن عشر رجب.
ومات جمال الدين عبد اللّه بن قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، يوم الثلاثاء رابع عشرى رجب.
ومات شهاب الدين أحمد بن العسقلاني، إمام جامع المنشاة، يوم الأربعاء سلخ رجب.
ومات شهاب الدين محمد بن عبد الحميد - المتصدر بجامع عمرو - بمصر يوم الأحد تاسع عشر شعبان، ومولده سنة أربع وعشرين وستمائة، وكان معتقداً.
سنة سبع عشر وسبعمائة(1/408)
أول المحرم: قدم طيبغا الحموي مبشراً بسلامة الحاج، ووصل القاضي كريم الدين ناظر الخاص من القدس يوم الإثنين سادسه. وقمم الأمير سيف الدين أرغون النائب من الحجاز يوم الثلاثاء سابعه.
وفيه مرضت امرأة الأمير سيف الدين طغاي وماتت، فأكثر زوجها من الصدقة، وفرق بداره التي كانت للملك المنصور قلاوون بالقاهرة مالاً على الفقراء، و هلك في الزحام اثنا عشر شخصاً وبهيمة كانت تحت أحدهم.
وفي حادي عشرى صفر: شنع الناس بموت القاضي كريم الدين، فركب في سادس عشريه وصعد إلى مصر، فزينت له وأوقدت الشموع.
وفيه قدم البريد بمحضر ثابت على قاضي بعلبك بنزول مطر في يوم الثلاثاء سابع صفر ببعلبك، عقبه سيل عظيم أتلف شيئاً كثيراً، وهدم قطعة من السور، وغرق المدينة، وتلف بها شيء كثير، ومات ألف وخمسمائة إنسان سوى من مات تحت الردم، وانهدم منه بستاناً، وثلاثة عشر جامعاً ومدرسة ومسجداً، وسبعة عشر فرناً، وأحد عشر طاحوناً، وهدم برجاً من السور ارتفاعه ثمانية وثلاثون ذراعاً ودوره من أسفله ثلاثة عشر ذراعاً، ذهب جميعه.
وفي ثالث عشر جمادى الأولى - وهو يوم السبت تاسع عشرى أبيب - : قدم المفرد إلى مصر وعلق الستر، فنقص النيل في ليلة الأحد ثلاثة أصابع، فخلق المقياس يوم الأحد، وفتح الخليج مع النقص، ثم رد النيل وزاد إصبعين نودي بهما يوم الأربعاء ثالث مسرى. واستمرت الزيادة، فكان ينادي في اليوم بتسعة أصابع وما دونها حتى بلغت الزيادة في يوم الأحد رابع عشرى توت - وهو ثالث رجب - ثمانية عشر ذراعاً وستة أصابع، وفسد من ذلك عدة مواضع لقلة الاعتناء بالجسور.
وفي بكرة يوم الخميس رابع جمادى الأولى: سار السلطان ومعه خمسون أميراً، وكريم الدين الكبير ناظر الخاص. والفخر ناظر الجيش، وعلاء الدين بن الأثير كاتب السر، بعدما فرق في كل واحد فرساً مسرجاً وهجينين، وبعضهم ثلاثة هجن. وركب السلطان إلى الأمير تنكز نائب الشام أن يلقاه بالإقامات لزيارة القدس، فتوجه إلى القدس، ودخل إلى الكرك، وعاد في رابع جمادى الآخرة، فكانت غيبته أربعين يوماً.
وفي ثامن عشره: قدم الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي ومعه الأمير سيف الدين بهادر آص، والأمير ركن الدين بيبرس الدوادار، من سجن الكرك، فخلع السلطان عليهما، وأنعم على بهادر بإمرة في دمشق، ولزم بيبرس داره، ثم أنعم عليه بتقدمه ألف على عادته.
وفيه صرف أمين الدين عبد اللّه بن الغنام من نظر الدواوين، ونزل بتربته من القرافة، واستمر التاج إسحاق بن القماط والموفق هبة الله مستوفي الأمير سلار في نظر الدواوين عوضه نقلا من استيفاء الدولة، واستقر كريم الدين أكرم الصغير في نظر الكارم ودار القند في ثالث عشريه، وخلع على الثلاثة في يوم السبت خامس عشريه.
وفي رابع رجب: تقطعت جسور منية الشيرج وقليوب، وغرقت ليلة خامسه، وفر أهلها وتلفت أموالهم وغلالهم. فركب متولي القاهرة وغلق سائر الحوانيت والأسواق، وأخذ الناس والعسكر والأمراء لتدارك ما بقي من الجسور.
وفيه قدم الأمير محمد بن عيسى ومعه ابن أخيه موسى بن مهنا، فأنعم عليهما.
وفي يوم الإثنين ثامن عشره: صرف قاضي القضاة شمس الدين الحريري الحنفي عن قضاء مصر خاصة، واستقر عوضه سراج الدين عمر بن محمود بن أبي بكر الحنفي قاضي الحسينية، فجلس سراج الدين للحكم في يوم الثلاثاء تاسع عشره، ومات ليلة الثاني والعشرين من رمضان، وعاد ابن الحريري إلى قضاء مصر. وكان سبب عزله أنه بالغ في الحط على الكتاب من النصارى والمسالمة، وأخرق بجماعة منهم وضربهم ، وكان إذا رأى نصرانياً راكباً أنزله وأهانه وإذا رأى عليه ثياباً سرية نكل به، فضاق ذرعهم به، وشكوا أمرهم إلى كريم الدين الكبير.(1/409)
فلما أخذ السلطان دار الأمير سلار ودور إخوته وقطعتة من الميدان، وأنشأ الأمير سيف الدين بكتمر الساقي المظفري قصراً في موضع ذلك على بركة الفيل. أراد السلطان أن يدخل فيه قطعة من أرض بركة الفيل، وهي في أوقاف الملك الظاهر بيبرس على أولاده، فأراد استبدال ما يحتاج إليه منها بموضع آخر، وأراد من ابن الحريري الحكم بذلك كما هو مذهبه، فابى وجرت بينه وبين السلطان مفاوضة قال فيها: لا سبيل إلى هذا، ولا يجوز الاستبدال في مذهبي، ونهض قائماً وقد اشتد حنق السلطان منه. فسعى السراج عند كريم الدين الكبير في قضاء مصر. ووعد بأنه يحكم بذلك، فأجيب وحكم بالاستبدال وصار ابن الحريري على قضاء الحنفية بالقاهرة فقط، فمرض السراج عقيبها إلى أن مات في ثالث عشرى رمضان، فعد ذلك من بركة الحريري، وأعيد إليه قضاء مصر.
وفي أواخر شعبان: عدى جماعة من الططر الفرات، وقدم دمشق في سادس رمضان منهم أمير كبير اسمه طاطاي في مائة فارس بنسائهم وأولادهم، ودخلوا القاهرة في شوال.
وفي رمضان: عادت الرسل من عند أزبك، وهم أيدغدي الخوارزمي ومن معه، وصحبته رسل إزبك.
وفيه قدم البريد بأنه ظهر في سابع عشر ذي القعدة رجل من أهل قرية قرطياوس من أعمال جبلة زعم أنه محمد بن الحسن المهدي، وأنه بينا هو قائم يحرث إذ جاءه طائر أبيض فنقب جنبه وأخرج روحه وأدخل في جسده روح محمد بن الحسن، فاجتمع عليه من النصيرية القائلين بإلهية علي بن أبي طالب نحو الخمسة آلاف، وأمرهم بالسجود له فسجدوا، وأباح لهم الخمر وترك الصلوات وصرح بأن لا إله إلا علي ولا حجاب إلا محمد، ورفع الرايات الحمر، وشمعة كبيرة تقد بالهار ويحملها شاب أمرد زعم أنه إبراهيم بن أدهم، وأنه أحياه، وسمي أخاه المقداد بن الأسود الكندي، وسمي أخر جبريل، وصار يقول له: اطلع إليه وقل كذا وكذا ، و يشير إلى الباري سبحانه وتعالى، وهو بزعمه علي بن أبي طالب، فيخرج المسمى جبريل ويغيب قليلاً، ثم يأتي ويقول: افعل رأيك. ثم جمع هذا الدعي أصحابه و هجم على جبلة يوم الجمعة العشرين منه، فقتل وسبى وأعلن بكفره، وسب أبا بكر وعمر رضي اللّه عنهما. فجرد إليه نائب طرابلس الأمير شهاب الدين قرطاي الأمير بدر الدين بيليك العثماني المنصوري على ألف فارس فقاتلهم إلى أن قتل الدعي، وكانت مدة خروجه إلى قتله خمسة أيام.
وفيه قدم كتاب المجد إسماعيل بن محمد بن ياقوت السلامي بإذعان الملك أبي سعيد ابن خربندا، ووزيره خواخا على شاه، والأمير جوبان، والأمراء أكابر المغل للصلح، ومعه هدية من جهة خواجا رشيد الدين، فجهزت إلى أبي سعيد هدية جليلة من جملتها فرس وسيف وقرفل.
وفيه أفرج عن الشريف منصور بن جماز أمير المدينة النبوية، وكان قد قبض عليه وحضر مع أمير الركب، وأعيد إلى ولايته عوضاً عن أخيه ودي بن جماز، وسار منصور إلى المدينة ومعه عز الدين أيدمر الكوندكي.
وفيه قدم البريد من حلب بخروج ريح في يوم الأربعاء ثالث عشر ربيع الأول وقت العصر سوداء مظلمة تمادت تلك الليلة، ومن الغد عقبها برق ورعد عظيم ومطر غزير وبرد كبار، وجاء سيل لم يعهد مثله، فأخذ كل ما مر به من شجر وغيره، وتكون عمود من نار متصل اقتلع كنيسة كبيرة من عهد الروم، ومشى بها رمية سهم، ثم فرقها الريح حجراً.
وفيه قدم الخبر بعود حميضة من العراق إلى مكة، ومعه نحو الخمسين من المغل، فمنعه أخوه رميثة من الدخول إلا بإذن السلطان، فكتب بمنعه من ذلك ما لم يقدم إلى مصر. وفيه قبض على الأمير أقبغا الحسني، وضرب وأخرج إلى دمشق على إمرة، من أجل أنه شرب الخمر، ووسط خازن داره، وقطعت ألسنة جماعة من أصحابه، وكحل جماعة منهم.
وفيه قدم الشريف رميثة أمير مكة فاراً من أخيه حميضة، وأنه ملك مكة وخطب لأبي سعيد بن خربندا وأخذ أموال التجار، فرسم بتجريد الأمير صارم الدين أزبك الجرمكي، والأمير سيف الدين بهادر الإبراهيمي في ثلاثمائة فارس من أجناد الأمراء، مع الركب إلى مكة.
وفيه عزل الأمير ركن الذين بيبرس أمير أخور من الحجوبية، واستقر عوضه الأمير سيف الدين ألماس، وكان ألماس تركياً غتمياً لا يعرف باللسان العربي.(1/410)
وفيها أخرج إلى الشام الأمير عز الدين أيدمر الدوادار، وعلاء الدين على الساقي، وعلاء الدين مغلطاي السنجري، وطغاي الطباخي، وشرف الدين قيران الحسامي أمير علم. وأنعم عليهم بإمريات وإقطاعات بها.
وفيه قدم مندوه الكردي الفار من أسره بملطية بعدما أمن، فأنعم عليه بأمرة في دمشق.
وفيه حاصر الأمير سنجر الجاولي غزة قلعة سلع - ومعه نحو العشرة آلاف فارس - مدة عشرين يوماً إلى أن أخذها، وقتل من أهلها ستين رجلاً من العرب المفسدين، وغنم العسكر منها شيئاً كثيراً، ورتب الجاولي بها رجالاً وعاد إلى غزة.
وفي جمادى الأول استقر فخر الدين أحمد بن تاج الدين سلامة السكندري المالكي في قضاء المالكية بدمشق، عوضاً عن جمال الدين محمد بن سليمان بن سومر الزواوي بعد موته، فسار فخر الدين إليها من القاهرة، وقدمها في عشريه.
وفيه كان روك المملكة الطرابلسية على يد شرف الدين يعقوب ناظر حلب، فاستقر أمرها لاستقبال رمضان سنة عشر وسبعمائة الهلالي، ومن الخراجى لاستقبال مغل سنة سبع عشرة. و تو بهذا الروك إقطاعات ستة أمراء طبلخاناه، وثلاثة إقطاعات أمراء عشروات، وأبطل منها رسوم الأفراح، ورسوم السجون، وغير ذلك من المكوس التي كان مبلغها في كل سنة مائة ألف درهم وعشرة آلاف درهم، وقدم شرف الدين بأوراق الروك إلى القاهرة.
وفيه قدم الأمير علاء الدين أيدغدي الخوارزمي وحسين بن صاروا وبطرك الملكية من بلاد أزبك، ومعهم عدة من رسل أزبك: وهم شرنك و بغرطاي وقرطقا وعمر القرمي، ورسل الأشكري صاحب قسطنطينية، وهم خادمه وكبير بيته ميخائيل وكاشمانوس وتادروس، ومعهم الهدايا: فدية أزبك ثلاث سناقر وستة مماليك وزردية وخوذة فولاذ وسيف، فأكرموا وأعيدوا مع الأمير سيف الدين أطرجي والأمير سيف الدين بيرم خجا، بهدية قيمتها عشرة آلاف دينار.
وفيه سافر السلطان إلى الصيد بالبحيرة، وأقام أياماً وعاد. وفيه أعطى السلطان زين الدين قراجا التركماني النازل بالبركة إمرة.
وفيه استقر الشهاب محمود بن سليمان بن فهد الحلبي في كتابة السر بدمشق، بعد موت شرف الدين عبد الوهاب بن فضل اللّه العمري. واستقر الأمير سيف الدين ألجاي دواداراً، بعد موت بهاء الدين أرسلان.
وفيه طلق السلطان زوجته خوندا أردركين ابنة الأمير سيف الدين نوكاي. وفيه أنعم على الأمير بدر الدين جنكلي بن البابا بإقطاع الأمير سيف الدين قلي السلاح دار، بعد موته. وحج بالركب الأمير سيف الدين مجليس، ومعه من الأمراء شرف الدين أمير بن جندر وعرلوا الجوكندار، وسيف الدين ألجاي الساقي، وسيف الدين طقصبا الظاهري، وشمس الدين سنقر المرزوقي، وحج أيضاً الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا وأخوه محمد في عدة من عرب آل فضل، بلغت عدتهم نحو اثنى عشر ألف راحلة. وفيه تمزقت جماعة الثائر بجبلة، وكان قد قام في النصيرية وادعى أنه المهدي، وأن دين النصيرية حق، وأن الملائكة تنصره. فركب العسكر وقاتلوه فقتل، ورسم أن يبنى بقرى النصيرية في كل قرية مسجد، وتعمل له ارض لعمل مصالحه، وأن يمنع النصيرية من الخطاب وهو أن الصبي إذا بلغ الحلم عملت له وليمة، فإذا اجتمع الناس وأكلوا وشربوا حلفوا الصبي أربعين يميناً على كتمان ما يودع من الذهب، ثم يعلمونه مذهبهم وهو إلهية علي بن أبي طالب، وأن الخمر حلال، وأن تناسخ الأرواح حق، وأن العالم قديم، والبعث بعد الموت باطل، وإنكار الجنة والنار، وأن الصلوات خمس وهي إسماعيل وحسن وحسين ومحسن وفاطمة، ولا غسل من جنابة، بل ذكر هذه الخمسة يغني عن الغسل وعن الوضوء، وأن الصيام عبارة عن ثلاثين رجلاً وثلاثين امرأة ذكروهم في كتبهم، وأن إلههم علي بن أبي طالب خلق السموات والأرض، وهو الرب، وأن محمداً هو الحجاب وسلمان هو الباب.
؟؟؟؟؟؟؟؟ومات في هذه السنة
ممن له ذكر شمس الدين أبو العباس أحمد بن يعقوب بن إبراهيم الأسدي الطيبي، بطرابلس في سادس عشرى رمضان، عن تسع وستين سنة، كان أديباً فالملا؛ باشر الإنشاء مدة، ونفل إلى طرابلس في توقيعها إلى أن مات، ومن شعره:
هجرت الخمر لما صح عندي ... بأن الخمر آفة كل طاعة
ولم تر مقلتي في الخمر شيئاً ... سوى أن تجمع الأحباب ساعة(1/411)
ومات الأمير بهاء الدين أرسلان الدوادار الناصري، يوم الثلاثاء ثالث عشرى رمضان، فوجد له مال جزيل: منه أربعون حياصة ذهباً، وأربعون كلفتاه زركش، ومبلغ ثلاثين ألف دينار، وإليه تنسب خانكاه بهاء الدين بمنشاة المهراني.
ومات شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله العمري كاتب السر، يوم الثلاثاء ثالث رمضان بدمشق، ومولده سابع ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين وستمائة، حدث عن ابن عبد السلام، وبرع في الأدب، وكان ديناً عاقلاً وقوراً، ناهضا ثقة أميناً مشكوراً. مليح الخط جيد الإنشاء، فولي بعده شهاب الدين أبو الثناء محمود بن سليمان الحلبي أحد كتاب الدرج بديار مصر، نقل إليها من القاهرة، فقدم دمشق ثامن عشرى شوال.
ومات فخر الدين عثمان بن بلبان بن مقاتل معيد المدرسة المنصورية بين القصرين، وكان فاضلاً، حدث وروى وحصل وكتب وخرج، ومات عن اثنتين وخمسين سنة. ومات علاء الدين على ن فتح الدين محمد بن محيي الدين عبد اللّه بن عبد الظاهر السعدي، أحد أعيان كتاب الإنشاء، يوم الخميس رابع رمضان، وكان عالي الهمة صاحب مكارم، وتمكن من الأمير سلار أيام نيابته، فإنه كان موقعه.
ومات زين الدين محمد بن سليمان بن أحمد ابن يوسف الصنهاجي المراكشي الإسكندارني، في أول يوم من ذي الحجة.
ومات جمال الدين أبو عبد اللّه محمد بن أبي الربيع سليمان بن سومر الزواوي المالكي قاضي دمشق، في تاسع جمادى الأولى بها، ومولده سنة تسع وعشرين وستمائة، وقدم الإسكندرية وهو شاب، وتفقه بها حتى برع في مذهب مالك، وأَكثر من سماع الحديث، فسمع من ابن رواج والسبط وأبي عبد اللّه المريني وأبي العباس القرطبي وابن عبد السلام وأبي محمد بن برطلة، وولي قضاء المالكية بدمشق ثلاثين سنة، بصرامة وقوة في الأحكام وشدة في إراقة دماء الملحدين والزنادقة والمخالفين، إلى أن اعتل بالرعشة نحو عشرين سنة، ومازال إلى يعلته أن عجز عن الكلام، فصرف. ومات بعد عزله بعشرين يوماً، وبعد أن علم بالعزل بسبعة أيام.
ومات الصدر شرف الدين محمد بن الجمال إبراهيم بن الشرف عبد الرحمن بن صصري الدمشقي، يوم الجمعة سابع ذي الحجة بمكة، وعمره خمس وثلاثون سنة، فدفن بالمعلاة، وكان حسن الأخلاق.
ومات بطرابلس عماد الدين محمد بن صفي الدين محمد بن شرف الدين يعقوب النويري، صاحب ديوان طرابلس.
ومات الأمير سيف الدين قلني السلاح دار.
ومات الأمير شمس الدين الذكر السلاح دار - صهر علم الدين سنجر الشجاعي - وهو في الحبس.
ومات الأمير سيف الدين ألكتمر - صهر الجوكندار - بالحبس أيضاً.
ومات الخطيب عماد الدين ابن بنت المخلص، في حادي عشرى المحرم.
ومات قاضي القضاة نجم الدين الحنفي الملطي، يوم الإثنين رابع ربيع الأول.
وفيه خلع نفسه الأمير أبو يحيى زكريا اللحياني بن أحمد بن محمد بن عبد الواحد بن أبي حفص ملك تونس، وولى ابنه أبا عبد اللّه محمد المعروف بأبي ضربة في آخر ربيع الآخر، وكانت مدته ست سنين.
//سنة ثمان عشرة وسبعمائة في المحرم: قدم الركب من الحجاز على العادة، وصحبته المجردون، فشكى الصارم أزبك الجرمكي من بهادر الإبراهيمي، وأنه منعه من اخذ الشريف حميضة، وأنه تعاطى الخمور، فقبض عليه وعلى رمضان المقدم وأقجبا وجماعة، وسجنوا بالإسكندرية، وأنعم على الأمير مغلطاي الجمالي بخبز الإبراهيمي.
وفيه قدم البريد من حلب بغلاء الأسعار بديار بكر والموصل وبغداد وتوريز، وكثرة الوباء والموت بها. وأن جزيرة ابن عمر خلت من الساكن، وميافارقين لم يوجد من يخطب بها في جامعها.
وفي أول صفر: توجه القاضي كريم الدين الكبير إلى دمشق، فدخلها في سابعه، وتلقاه الأمير تنكز النائب وأنزله بدار السعادة، وقدم إليه هدية سنية فلم يقبل منها غير فرس واحد ورد البقية، وأمر بإنشاء جامع خارج ميدان الحصا، وعاد إلى القاهرة بعد أربعه أيام.
وفي سابعه: استقر كريم الدين أكرم الصغير في نظر الدواوين.
وفي سادس عشره: وصل الأمير جمال الدين بكتمر الحسامي نائب صفد، وأنعم عليه بتقدمة ألف في سادس عشرة.(1/412)
وفي سابع عشرة: سافر الصاحب أمين الدين بن الغنام على البريد إلى طرابلس ناظراً. وسبب ذلك أنه لما طالت عطلته اجتمع بالأمير سيف الدين البوبكري وحط على كريم الكبير وأنه قد استولى على الأموال وأنفقها على مماليك السلطان ليصانع بها عن نفسه. فعرف البوبكري السلطان عنه ما قال، فأعلم به كريم الدين فقال هو يا خوند معذور، فأنه قد بطل، ولابد له من شغل يأكل فيه صدقة السلطان. وعينه لنظر طرابلس. فبعث السلطان إليه في الحال بخلعة وبريدي، وخرج لوقته.
وفي حادي عشريه: عزل الأمير بدر الدين محمد بن التركماني من شد الدواوين، ونزل إلى داره.
وفيه عوفي قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، وركب إلى القلعة، وترك معلوم القضاة تنزهاً عنه، فخلع عليه وباشر بغير معلوم.
وفي يوم الثلاثاء ثاني عشريه: خلع على الأمير سيف الدين طغاي الحسامي الكبير، وسفر على خيل البريد لنيابة صفد عوضاً عن بكتمر الحاحب. وسبب ذلك كثرة دالته على السلطان، وتحكمه في الأمراء والمماليك، وقوة حرمته، وتعرضه على السلطان فيما يفعله من ملاذه. وخرج معه مغلطاي الجمالي، فوصل صفد في تاسع عشر ربيع أول، وقدم الأمير بكتمر الحاجب إلى القاهرة.
وفيه قدم البريد بأنه في يوم الأربعاء ثاني صفر هبت ريح شديدة بأرض طرابلس، ومرت على أبيات مقدم التركمان بالجون فكسرتها، وصارت عموداً أغبر هيئة تنين متصل بالسحاب، ومر ذلك العمود على أبيات علاء الدين طوالي بن اليكي مقدم التركمان، وتلوى يميناً وشمالاً، فلم يترك هناك شيئاً حتى أهلكه، وطوالي يصيح: " يا رب قد أخذت الرزق، وتركت العيال بغير رزق، فإيش أطعمهم،، فعاد ذلك التنين إليه بعد ما كان خرج عنه، وأهلكه وامرأته و أولاده وثلاثة عشر نفساً. وحملت الريح جملين حتى ارتفعا في السماء قدر عشرة أرماح، وأتلفت القدور الحديد. ومرت على عربان هناك فاحتملت لهم أربعة جمال حتى غابت عنهم في اليوم، ثم نزلت مقطعة. وعقب هذا الريح مطر وبرد زنة البردة الواحدة منه ثلاث أواق دمشقية.
وفيه أجلس السلطان جماعة من مقدمي الحلقة الشيوخ في أوقات المشورة مع الأمراء، وسمع كلامهم.
وفيه سأل النصارى في رم جدران كنيسة بربارة بحارة الروم، فأذن لهم السلطان في رمها. فاجتمع لعمارتها جماعة كثيرة من النصارى، وأحضر الأقباط لهم الآلات، وأقاموا على عملها عدة من المسلمين شادين ومستحثين، فجاءت كأحسن المبانى. فشق ذلك على جيران الكنيسة من المسلمين، وشكوا أمرها إلى الأمير أرغون النائب والفخر ناظر الجيش، وأن ذلك وقع بجاه كريم الدين الكبير وكريم الدين الصغير، ورفعوا عدة قصص إلى السلطان بدار العدل. فساعد النائب والفخر عند قراءة القصص في الإنكار على بناء الكنيسة، إلى أن رسم لمتولي القاهرة على علم الدين سنجر الخازن بخراب ما جدد فيها من البناء، فنزل إليها علم الدين، واجتمع إليه من الناس عدد لا يحصيه إلا الله، وهدم ما جدد فيها، ومضى لسبيله. فقامت طائفة من المسلمين وبنوا الجانب الذي هدم محراباً، وأذنوا فيه أوقات الصلوات، وصلوا وقرأوا هناك القرآن، ولزموا الإقامة فيه. فحنق النصارى من ذلك، وشكوا أمرهم إلى كريم الدين، فرفع كريم الدين ذلك للسلطان، وأغراه ممن فعل ذلك، وأنه يريد نهب النصارى وأخذ أموالهم، وشنع القول. فرسم السلطان للخازن بهدم المحراب وإعادة البناء، وقبض أهل حارة الروم وعملهم في الحديد، فلما توجه الخازن لذلك اجتمع الناس وصاحوا به، فساس الأمير وتركهم، وأهمل ذلك الموضع حتى صار كوم تراب.
وفيه تجهز السلطان لركوب الميدان، وفرق الخيول على جميع الأمراء واستجد بركوب الأوشاقية بكوافي زركش على صفة الطاسات، وهم الذين عرفوا باسم الجفتاوات. واستجد النداء في البحر على أرباب المراكب ألا يركبوا أحداً من مماليك السلطان في مركب يوم الميدان، وشدد الإنكار على الطواشي المقدم في غفلته عن المماليك.
وفيه شدد على الأمراء المسجونين ببرج السباع من قلعة الجبل، وهم: طوغان نائب البيرة، وعلم الدين سنجر البرواني، وبيبرس المجنون، وفخر الدين أياز نائب قلعة الروم، والحاج بيليك، وسيف الدين طاجا، والشيخ على مملوك سلار، ومنع حريمهم من الإقامة عندهم.(1/413)
وفيه خرج الأمير مغلطاي الجمالي على البريد إلى صفد بتقليد الأمير طغاي نيابة حلب، وكتب إلى الأمير سيف الدين أقطاي نائب حمص بنيابة صفد عوضاً عن طغاي، واستقرار الأمير بدر الدين بكتوت القرماني في نيابة حمص. وأسر السلطان إلى الأمير مغلطاي القبض على طغاي. فتوجه مغلطاي إلى صفد للقبض على طغاي. فتوجه مغلطاي إلى صفد بعد اجتماعه بالأمير تنكز نائب الشام، وهو على طغاي، وأحضره إلى قبة النصر خارج القاهرة، فخرج إليه الأمير قجليس، وصعد إلى القلعة وهو مقيد في خامس عشر جمادى الأ ولى، وأخرج به في ليلة الأربعاء تاسع جمادى الأولى إلى الإسكندرية، فكان أخر العهد به. وأخرج بهادر أيضاً إلى سجن الإسكندرية، ووقعت الحوطة في يوم الخميس عشريه على موجوده وفرقت مماليكه على الأمراء.
وفيه توجه الأمير قجليس إلى الشام.
وفيه ابتدئ في صفر بهدم المطبخ وهدم الحوائج خاناه والطشت خاناه والفرش وجامع القلعة، وبنى الجميع جامعاً، فجاء على ما هو عليه الآن من أحسن المباني. تم بناؤه ورخامه جلس فيه السلطان، واستدعى سائر مؤذني القاهرة ومصر وقراءها وخطباءهما وعرضوا عليه، فاختار عشرين مؤذناً رتبهم فيه، وقرر به درساً وقارئ مصحح وأوقف عليه الأوقاف الكثيرة.
وفيه تجدد بدمشق ثلاثة جوامع بظاهرها: وهي جامع الأمير تنكز، والأمير كريم الدين، وجامع شمس الدين غبريال بن سعد.
وفيه غرقت مركب في بحر الملح وهي متوجهة إلى اليمن، وكان فيها لكريم الدين متجر. بمبلغ مائة ألف دينار سوى ما لغيره، فلم يسلم منها سوى سبعة أنفس، وغرق الجميع.
وفيه وقعت الفتنة بين المغل، فقتل فيها نحو الثلاثين أميراً سوى الأجناد والأتابك وقتل من الخواتين سبع نسوة مع عالم عظيم، وانتصر أبو سعيد. فسر السلطان بذلك لما فيه من وقوع الوهن في المغل.
وفيها قبض على الأمير بدر الدين ميزامير ابن الأمير نور الدين صاحب ملطية، من أنه كتب إلى جوبان القائم بدولة أبي سعيد بن خربندا بالأردو أن يطلبه من السلطان. وقبض أيضاً على مندوه الكردي بغزة.
وفيه حبس شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية، بسبب مسألة الطلاق، وكان ذلك بسعي قاضي القضاة شمس الدين بن الحريري الحنفي عليه، وإغرائه السلطان به.
وفيه أنعم على الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار المنصوري بإقطاع مغلطاي ابن أمير مجلس، بإمرة ثمانين فارساً، وخلع عليه وجلس رأس الميسرة، ونقل مغلطاي إلى الشام.
وفيه قدم صاحب خرتبرت، فأنعم بإمرية.
وفيه استقر في نيابة الكرك الأمير عز الدين أيبك الجمالي نائب قلعة دمشق، واستقر عوضه في نيابة قلعة دمشق الأمير عز الدين أيبك الدميتري.
وفيه خرج الأمير بدر الدين بن عيسى بن التركماني بطائفة من العسكر مجردين إلى الحجاز، في طلب الشريفين حميضة ورميثة.
وفيه أفرج عن الأمير سيف الدين أقبغا الحسني، وأنعم عليه بإمرة في دمشق.
وفي شعبان: قدم حمل سيس على العادة.
وفيه ولي قضاء القضاة المالكية بالقاهرة ومصر تقي الدين محمد بن أبي بكر بن عيس ابن بدران الأخنائي، بعد موت زين الدين علي بن مخلوف في ثاني عشر جمادى الآخرة.
وفيه حج بالركب المصري الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي، وقبض على الشريف رميثة، وفر حميضة، وقدم رميثة مقيداً إلى قلعة الجبل، فسجن بها.
وفيه قدمت رسل ابن قرمان بدراهم ضربت باسم السلطان، وأنه خطب هناك للسلطان، وهي أطراف بلاد الروم، فكتب له تقليد، وسيرت إليه هدية جليلة.
وفيه خلع أبو عبد ا لله محمد المعروف بأبي ضربة ابن الأمير أبي زكريا اللحياني ابن أحمد بن محمد بن عبد الواحد بن أبي حفص، في أخر شهر ربيع الآخر. وكانت مدته سنة واحدة، وقام بعده بتونس الأمير أبو بكر بن يحيى بن إبراهيم بن يحيي بن عبد الواحد بن أبي حفص.
وفي هذه السنة. انقرضت دولة بني قطلمش ملوك قونية. وذلك أن عز الدين اسيكاوس بن كيخسرو لما مات سبع وسبعين وستمائة ترك ابنه مسعوداً، فولاه أبغا بن هولاكو سيواس وغيرها. واستبد معين الدين سليمان برواناه على ركن الدين قلج أرسلان ابن كيخسرو بقيصرية ثم قتله، ونصب ابنه غياث الدين كيخسرو، فعزله أرغون بن أبغا، وولي ابن عمه مسعود بن كيكاوس، فأقام مسعود حتى انحل أمره وافتقر، وبقي الملك بالروم للتتر إلا ملك بني أرتنا، فأنه بقي بسيواس.(1/414)
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
كمال الدين أحمد بن جمال الدين أبي بكر محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن سحمان الكبري الوائلي الشريشي الفقيه الشافعي. قدم مصر وسمع بها وبالإسكندرية، وبرع في الأصول والنحو، وناب بدمشق في الحكم عن البدر محمد بن جماعة، وولى وكالة بيت المال مرتين، ومشيخة دار الحديث الأشرفية بدمشق، وعلق تعاليق، وقال الشعر. ومولده في رمضان سنة ثلاث وخمسين وستمائة بسنجار، وتوفي بمنزلة الحسا من طريق الحجاز عن ست وستين سنة، في سلخ شوال.
ومات جمال الدين أبو بكر بن إبراهيم بن حيدرة بن علي بن عقيل الفقيه الشافعي المعروف بابن القماح، في سابع عشر ذي الحجة، وهو عم القاضي شمس الدين محمد بن أحمد بن القماح .
ومات شرف الدين أبو الفتح أحمد بن سليمان بن أحمد بن أبي بكر محمد بن عبد الوهاب بن عبد الله السيرجي الأنصاري الدمشقي، في سابع عشري ربيع الأول. وهو من بيت جليل، وولي عدة مناصب، وكان ديناً صاحب مروءة وسعة، ومات يوم الإثنين سابع عشري ربيع الأول.
ومات فخر الدين أحمد بن تاج الدين بن أبي الخير سلامه بن أبي العباس أحمد بن سلامة السكندري المالكى، قاضي القضاة المالكية بدمشق، ولد سنة إحدى وأربعين وستمائة، ومات مستهل ذي الحجة، وكان مشكور السيرة، بصيراً بالعلم ماهراً في الأصول حشماً.
ومات أحمد بن المغربي الإشبيلي، كان يهودياً يقال له سليمان، فأسلم في أيام الملك الأشرف خليل بن قلاوون ، سنة تسعين وستمائه، وتسمى أحمد، ومات في ليلة العشرين من صفر. وكان بارعاً في عدة علوم، إماماً مي الفلسفة والنجامة، ولي رياسه الأطباء بديار مصر.
ومات مجد الدين أبو بكر بن محمد بن قاسم التونسي المقرئ المالكي النحوي. قدم في صباه إلى القاهرة، وأخذ بها القراءات والنحو حتى برع فيهما، وسكن دمشق وأقرأ بها، واشتغل في عدة علوم من أصول وفقه وغير ذلك، وكان ديناً رصيناً مفرط الذكاء، فيه تودد ويحب الإنفراد، وتخرج به الفضلاء. ومات يوم السبت سادس عشري ذي القعدة بدمشق، عن اثنتين وستين سنة.
ومات مسند الوقت زين الدين أبو بكر أحمد بن عبد الدايم بن نعمة المقدسي الصالحي، سمع سنة ثلاثين وستمائة على الفخر الإربلي، وسمع الصحيح كله على ابن الزبيدي، وسمع من الناصح ابن الحنبلي وسالم بن صصري وجعفر الهمذاني وجماعة، وأضر قبل موته بثلاثة أعوام، وثقل سمعه، وكان له همة وجلادة وفهم، وحدث وعاش ثلاثاً وتسعين سنة. ومات ليلة الجمعة تاسع عشري رمضان، ومولده في سنة خمس أو ست وستمائة.
ومات زين الدين أبو الحسن علي بن مخلوف بن ناهض بن مسلم بن منعم بن خلف النويري الجزولي المالكي، قاضي القضاة المالكية بالقاهرة ومصر، في ليلة الأربعاء ثاني عشر جمادي الآخرة، وأقام قاضياً نحواً من أربع وثلاثين سنة، ومولده سنة عشرين وستمائة. وكان مشكور السيرة،، خبيراً بتدبير أموره الدنيوية، كثير المداراة سيوساً، محباً لقضاء الحوائج، وولي بعده نائبه تقي الدين محمد بن أبي بكر بن عتيق الأخنائي ومات محمد بن قاضي الجماعة أبي القاسم وقيل أبي عمر أحمد ابن القاضي أبي الوليد محمد بن محمد بن الحاج وقيل أحمد بن محمد بن عبد الله ابن القاضي أبي جعفر بن الحاج أبو الوليد التجيبي الأندلسي القرطبي الإشبيلي، ولد سنة ثمان وثلاثين وستمائة، ومات أبوه وجده في سنة إحدى وأربعين وستمائة، وورث مالاً كثيراً، فصادره ابن الأحمر، وأخذ منه عشرين ألف دينار، ونشأ يتيماً في حجر أمه، ونقلته إلى شريش ثم إلى غرناطة، فلما شب قدم تونس، ثم رحل منها بإبنيه إلى القاهرة، وسكن دمشق حتى مات بها في رجب. وكان فاضلاً ديناً، أم بمحراب الجامع، وامتنع من ولاية الحكم.
ومات الأمير شمس الدين سنقر الكمالي الحاجب، بمحبسه من القلعة، في ربيع الآخر، وكان في ولايته مشكوراً حشماً صين اللسان.
ومات الأمير علاء الدين أقطوان الظاهري، بدمشق في عاشر رمضان، وقد تجاوز الثمانين سنة.
ومات الأمير سيف الدين طغاي، بمحبسه بالإسكندرية أول شعبان.
ومات الأمير شمس الدين الدكز الأشرفي، أحد المماليك المنصورية قلاوون، بمحبسه بالقلعة. ومات الأمير سيف الدين منكوتمر الطباخي.
ومات أركتمر بالجب من القلعة.
وأشيع موت الأمير موسى ابن الملك الصالح علي بن قلاوون بقوص .(1/415)
ومات الأمير عز الدين طقطاي نائب الكرك.
ومات ركن الدين بيبرس نائب عجلون.
وفيه قدم الخبر. بموت الوزير رشيد الدولة أبو الفضل فضل الله بن أبي الخير بن عالي الهمذاني الطبيب، في تاسع رمضان. وكان قد علت منزلته عند غازان، وقدم معه الشام، وتقدم في أيام خربندا. فلما مات خربندا عزل عن وظائفه، فصانع عن نفسه. بمال كبير، فلم يغنه شيئاً، واتهم أنه قتل خربندا بالسم، وشهد عليه الأطباخي، وقتل وحمل رأسه إلى تبريز، ثم قطعت أعضاؤه وحمل إلى كل بلد عضو.
ومات الأمير سيف الدين بهادر الشمسي، بقلعة دمشق في ذي الحجة.
وفيه قدم من العراق محمل إلى مكة وكسوة للكعبة، فلم يمكنوا من الكسوة، وكان القان أبو سعيد قد جهز الركب، وقدم عليهم رجلاً شجاعاً، فلم يمكن العربان أن يأخذ شيئاً من الحاج. فلما كان العام القابل خرجت العيون على الركب ونهبوه، وأخذوا من الحاج شيئاً كثيراً، فسأل أبو سعيد كم قدر ما أخذوا من الركب، فقيل له نحو الثلاثين ألف دينار، فرتب لهم ستين ألف دينار، فمات من سنته.
سنة تسع عشرة وسبعمائة
في خامس المحرم: قدم مبشر الحاج بسلامة الحاج والقبض على الشريف رميثة بن أبي نمى، وأنه استقر عوضه في إمرة مكة أخوه الشريف عطيفة. وقدم الحاج مع مغلطاي الجمالي، وصحبته الشريف رميثة، فسجن من سابع عشرة إلى أن دخل المحمل في ثاني عشريه. فشق الجمالي على الناس بكثرة عجلته في السير وكانت العادة أولاً بقدوم المحمل في ثامن عشري المحرم، ثم استقر دخوله في الأيام الناصرية يوم الخامس أو الرابع والعشرين منه، فأنكر عليه السلطان ما فعله، وجهز محمد بن الرديني. بمائتي جمل عليها الزاد والماء برسم حمل من انقطع من الحاج، فسافر من يومه.
وفيه قدم كتاب الأمير بدر الدين محمد بن عيسى بن التركماني من مكة بأنه منع العبيد من حمل السلاح. بمكة، وأنه أخرج المفسدين ونادى بالعدل، وأنه مقيم لأخد الشريف حميضة.
وفيه جهز الأمير أيتمش المحمدي على عسكر إلى برقة، ومعه فايد وسليمان أمراء العربان لجباية زكاة الأغنام على العادة، فسار في ثلاثمائة فارس من أجناد الحلقة ومعه من الأمراء بلبان الخاص تركي، وبلبان الحسني، وسنقر المرزوقي، وصمغار بن سنقر الأشقر، ومنكلي الجمدار، وغرلوا الجوكندار، ونوغاي، أخر يوم من المحرم، ونزل بالإسكندرية.
ثم سار أيتمش يريد بلاد جعفر بن عمر من برقة، ومسافتها من الإسكندرية على الجادة نحو شهرين. فدله بعض العرب على طريق مسافتها ثلاثة عشر يوماً يفضي به إلى القوم من غير أن يعلموا به، وطلب في نظير دلالته على هذه الطريق مائة دينار وإقطاعات من السلطان بعد عود العسكر إلى القاهرة، فعجل له أيتمش المائة، والتزم له بالإقطاع من السلطان، وكتب له بعشرة أرادب قمحاً لعياله، وأركبه ناقة، وكتم ذلك كله عن العسكر من الأمراء والأجناد والعربان، وسار بمسيره. فأنكر سليمان وفايد على أيتمش مسيره في غير الجادة، وخوفوه العطش وهلاك العسكر، فلم يعبأ بكلامهما، فمضيا إلى الأمراء وشنعا القول وأكثرا من الإرجاف، فاجتمعوا بأيتمش ليردوه إلى الجادة فلم يفعل ومضى، فلم يجدوا بداً من أتباعه حتى إذا مضت ثلاث عشرة ليلة أشرف على منازل جعفر بن عمر وعربانه، فدهشوا لرؤية العسكر. وأرسل إليهم أيتمش بسليمان وفايد يدعوهم إلى الطاعة، فأجابوا مع رسلهم: إنا على الطاعة ولكن ما سبب قدوم هذا العسكر على غفلة من غير أن يتقدم لنا به علم؟. فقال لهم أيتمش: حتى يحضر الأمير جعفر ويسمع مرسوم السلطان، وأعادهم. وتقدم أيتمش إلى جميع من معه ألا ينزل أحد عن فرسه طول ليلته، فباتوا على ظهور الخيل.(1/416)
فلما كان الصباح حضر أخو جعفر ليسمع المرسوم، فنهره أيتمش وقال له ولمن معه: ارجعوا إلى جعفر فإن كان طائعاً فليحضر، وإلا فليعرفني، وبعث معه ثلاثة من مقدمي الحلقة، فامتنع جعفر من الحضور. فللحال لبس العسكر السلاح وترتب، وأفرد سليمان وفايد. بمن معهما من العسكر ناحية، واستعد جعفر أيضاً وجمع قومه وحمل بهم على العسكر. فرموهم بالنشاب فلم يبالوا به، ودقوا العسكر برماحهم، وصرعوا الأمير شجاع الدين غرلوا الجوكندار بعدما جرحوه ثلات جراحات، فتداركه أصحابه وأركبوه. وحملوا على العرب فكانت بين الفريقين تسع عشرة وقعة أخرها انهزم العرب إلى بيوتهم، فقاتلهم العسكر عند البيوت ساعة وهزموهم إليها، وكانت تلك البيوت في غاية قصب. فكف العسكر عن الدخول إليهم، ومنعهم أيتمش عن التعرض إلى البيوت وحماها، وأباح لهم ما عداها، فامتدت الأيدى، وأخذت من الجمال والأغنام ما لا ينحصر عدده. وبات العسكر محترسين، وقد أسروا نحو الستمائة رجل سوى من قتل. فلما أصبح الصبح من أيتمش على الأسرى وأطلقهم، وتفقد العسكر فوجد فيه اثنى عشر جريحاً، ولم يقتل غير جندي واحد، فرحل عائداً عن البيوت بأنعام تسد الفضاء، وأبيع معهم فيما بينهم الرأس الغنم بدرهم، والجمل ما بين عشرين إلى ثلاثين درهماً، وسار أيتمش ستة أيام في الطريق التي سلكها والعسكر بالسلاح، خشية من عود العرب إليهم.
وبعث أيتمش بالبشارة إلى السلطان، فبعث الأمير سيف الدين ألجاي الساقي لتلقي العسكر بالإسكندرية وإخراج الخمس مما معهم للسلطان، وتفرقة ما بقي فيهم، فخص الجندي ما بين أربعة جمال وخمسة، ومن الغنم ما بين العشرين إلى الثلائين. وحضروا إلى القاهرة، فخلع السلطان على أيتمش، وبعد حضورهم بإسبوع قدم جعفر بن عمر إلى القاهرة، ونزل عند الأمير بكتمر الساقي مستجيراً، فأكرمه ودخل به على السلطان، فاعترف بالخطأ، وسأل العفو، وأن يقرر عليه ما يقوم به، فقبل السلطان قوله وعفا عنه، وخلع عليه ومضى، وصار يحمل القود في كل سنة.
وفي ليلة أول المحرم: هبت ريح بدمشق شديدة رمت عدة منازل وخربت كثيراً من البيوت، فهلك تحت الردم خلق كثير، وقلعت أشجار كثيرة من أصولها. ثم سكنت الريح، ثم ثارت ليلة التاسع عشر منه، و لم تبلغ شدة الأولى.
وفي صفر: استقر الأمير سيف الدين بهادر البدري نائب السلطنة بحمص، عوضاً عن بدر الدين بكتوت القرماني، فتوجه إليها في رابع ربيع الأول، واستقر القرماني من جملة أمراء دمشق. واستقر شرف الدين محمد بن معين الدين أبي بكر ظافر بن عبد الوهاب الهمذاني المالكي ابن خطب الفيوم في قضاء المالكية بدمشق، عوضاً عن فخر الدين أحمد بن سلامة، في تاسع عشري ربيع الأول. واستقر تاج الدين أحمد بن القلانسي في وكالة بيت المال بدمشق، وكتب. بمنع ابن تيمية من الفتوي بالكفارة في اليمن بالطلاق.
وفيه قل المطر ببلاد الشام حتى أيس الناس واستسقوا بدمشق فسقوا، ومر دمشق سيل عظيم قل ماعهد مثله.
وفيه استجد السلطان القيام فوق الكرسي للأميرين جمال الدين أقوش نائب الكرك وسيف الدين بكتمر البوبكري السلاح دار، إذا دخلا عليه. وكان نائب الكرك يتقدم على البوبكري عند تقبيل يد السلطان، فعتب الأمراء على البوبكري. وسئل السلطان عن تقديمه نائب الكرك وتأخيره البوبكري، فأن العادة جرت أن يتأخر الكبير في تقبيل اليد ويتقدم الصغير قبله، فقال لأنه أكبر. فكشف عن ذلك، فوجد أن نائب الكرك قد أمره الملك لمنصور قلاوون إمرة عشرة، وجعله أستادار إبنه الملك الأشرف في سنة خمس وثمانين وستمائة، ووجد أن البوبكري تأمر بعد مسك سنقر الطويل، عندما طلب من مماليك البرج هو والخطيري وسنجر الجمقدار وطشتمر الجمقدار، في سنة تسعين وستمائة.
وفي يوم الخميس عاشر ربيع الآخر: قدم شمس الدين غبريال على البريد من دمشق باستدعاء، وخلع عليه بنظر الشام.
وفي يوم الإثنين رابع عشر ربيع الآخر. فر الشريف رميثة أخر النهار، فبعث السلطان في طلبه الأمير قطلوبغا المغربي والأمير أقبغا أص الجاشنكير على الهجن السلطانية، في ليلة الخميس سابع عشره، فقبض عليه. بمنزلة حقل في يوم الإثنين حادي عشريه، وقدم في خامس عشريه، فسجن في الجب من القلعة.(1/417)
وفي يوم الخميس سابع عشر رجب: قدم الأمير بدر الدين محمد بن التركماني من مكة بكتاب الشريف عطيفة، وأخبر بأن القواد في طاعته، وأن حميضة نزح إلى اليمن، وذلك بعد أن فارقه بنو شعبة وغيرهم.
وفيه قدم الخبر بإفساد العرب بثغر عيذاب وقتلهم الشاد المقيم بها. فجرد إليهم السلطان من الأمراء آقوش المنصوري وهو المقدم، ومحمد بن الشمسي، وعلي بن قراسنقر، وطقصباي الحسامي، وبيبرس الكريمي، وآقوش العتريس، وأنعم على آقوش المنصوري بإمرة طبلخاناه، وأقطع ثغر أسوان ليقيم بعيذاب.
وفي جمادى الآخرة: قدم سليمان بن مهنا طائعاً، بعد دخوله إلى الأردو ملتجئاً إلى المغل، فأكرمه السلطان، وأنعم عليه بمائتي ألف درهم من دمشق، وأعطاه قماشاً بثلاثين ألف درهم، وعاد.
وفيه استقر في نقابة الجيوش أحمد بن آقوش العزيزي المهمندار، بعد وفاة الأمير طيبرس الخزنداري.
وفيه قدم كتاب أبي يحيى زكريا بن أحمد بن محمد اللحياني الزاهد بن عبد الواحد ابن أبي حفص المعروف باللحياني ، يسأل الإسعاف بتجريد طائفة من العسكر إليه يحضر معهم إلى مصر. فخرج إليه الأمير طقصباي الحسامي والأمير بدر الدين بيليك المحسني في طائفة من الأجناد، وأحضراه بحرمه، وفيه أنزلت خوند أردوكين بنت نوكاي من القلعة إلى القاهرة، بعدما أخذ السلطان منها كثيراً من الجواهر، ورتب لها عدة رواتب.
وفيه عمل إبرنجي خال القان أبي سعيد على قتل جوبان، وواعد قرمشي ودقماق وغيرهما من المقدمين على ذلك. فنقل الخبر لجوبان، ففر ونهبت أثقاله، وقتل له نحو ثلاثمائة رجل. ولحق جوبان بتبريز، وقدم ومعه علي شاه إلى بو سعيد، فتبرأ مما جرى عليه. وجهز له بو سعيد عسكراً وركب معه حتى لقوا إبرنجي ومن معه، فقاتلوهم وأخذوا إبرنجي وقرمشي ودقماق، فقتلوا وأمسك أمراؤهم. وتمكن جوبان من أعدائه، وقتل خلائق من المغل، واتهم القان بوسعيد بأنه كان أمر إبرنحي بقتل جوبان لكثرة تحكمه عليه.
وفيه اهتم السلطان بالحركة إلى الحجاز ليحج، وتقدم إلى كريم الدين الكبير بتجهيزه والسفر إلى الإسكندرية لعمل ثياب أطلس برسم شمسوة الكعبة. فطلب كريم الدين أكرم الصغير وغيره من المباشرين، وأمرهم بتجهيز الإقامات والمعلوات والحوائج خاناه، وكتب لنائب الشام ونائب غزة بتجهيز ما يحتاج إليه. فتوالت تقادم الأمراء والنواب من سائر البلاد الشامية. وكانت أول تقدمة وصلت من الأمير تنكز نائب الشام، وفيها الخيل والهجن بأكوار ذهب، وسلاسل ذهب وفضة، ومقاود حرير، ثم تقدمة الملك المؤيد صاحب حماة. وتولى كريم الدين بنفسه تجهيز ما يحتاج إليه، وعمل عدة قدور من ذهب وفضة ونحاس تحمل على البخاتي ويطبخ فيها، وأحضر الخولة لعمل مباقل ورياحين في أحواض من خشب تحمل على الجمال، فتصير مزوعة وتستقى ويحصد منها ما تدعو الحاجة إليه، فيها من البقل والكراث والكزبرة والنعناع والريحان وأنواع المشمومات شيء كثير، ورتب لها الخولة لتعهدها، وجهزت الأفران وصناع الكماج والجبن المقلي وغيره. ودفع كريم الدين إلى العربان أجرة الأحمال من الشعير والدقيق والبقسماط، وجهز في بحر الملح مركبين إلى ينبع ومركبين إلى جدة، وكتب أوراق العليق للسلطان والأمراء وعدتهم اثنان وخمسون أميراً، لكل أمير ما بين مائة عليقة في كل يوم إلى خمسين عليقة إلى عشرين عليقة، فكانت حملة العليق في مدة الغيبة مائة ألف وثلاثين ألف أردب من الشعير. وحمل من دمشق خمسائة حمل على الجمال، ما بين حلوى وسكردانات وفواكه، ومائة وثمانون حمل حب رمان ولوز وما يحتاج إليه من أصناف المطبخ. وجهز كريم الدين من الأوز ألف طائر، ومن الدجاج ثلاثة ألاف طائر. وعين السلطان الأمير أرغون النائب بديار مصر للإقامة بقلعة الجبل، ومعه الأمير أيتمش وغيره، ورسم لمن تأخر من الأمراء أن يتوجهوا إلى نواحي إقطاعهم، فيكون كل منهم ببلاد إقطاعه إلى حين عود السلطان، ولا يجتمع أمير بأمير في غيبته. وكتب إلى النواب بالشام أن يستقر كل نائب. بمقر مملكته، ولا يتوجه إلى صيد إلى حين عوده، فامتثلت أوامره.(1/418)
وفيه قدم الملك المؤيد من حماة، فتوجه المحمل على العادة في يوم الأحد ثامن عشر شوال، مع الأمير سيف الدين طرجي أمير مجلس. وركب السلطان من القلعة في أول ذي القعدة، وسار من بركة الحاج في سادسه، ومعه صاحب حماة والأمراء وقاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة وأهل الدولة.
وقدم السلطان مكة بتواضع وذلة، بحيث قال الأمير بدر الدين جنكلي بن البابا. لازلت أعظم نفسي إلى أن رأيت الكعبة، وذكرت بوس الناس الأرض لي، فدخلت في قلبي مهابة عظيمة مازالت حتى سجدت لله تعالى. وحسن له بدر الدين محمد بن جماعة أن طوف راكباً، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: " ومن أنا حتى أتشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم والله لا طفت إلا كما يطوف الناس. ومنع السلطان الحجاب من منع الناس أن يطوفوا معه، وصاروا يزاحمونه وهو يزاحمهم كواحد من الناس، في مدة طوافه وفي تقبيله الحجر. وبلغه أن جماعة من المغل ممن حج قد اختفي خوفاً منه، فأحضرهم وأنعم عليهم وبالغ في إكرامهم. وغسل الكعبة بيده، وأخذ أزر إحرام وغسلها لهم بنفسه. وأبطل سائر المكوس من الحرمين، وعوض أميري مكة والمدينة عنها إقطاعات. بمصر والشام. وأحسن إلى أهل الحرمين، وأكثر من الصدقات.
وفي يوم الثلاثاء ثالث ذي الحجة: ظهر بعد الظهر القمر في السماء مقارناً لكوكب، وأقاما ظاهرين إلى بعد العصر.
وفيه مهد السلطان ما كان في عقبة أيلة من الصخور، ووسع طريقها حتى أمكن سلوكها بغير مشقة.
وفيه اتفقت موعظة: وهي أن السلطان بالغ في تواضعه. بمكة، فلما أخرجت الكسوة لتعمل على البيت صعد كريم الدين الكبير إلى أعلا الكعبة بعدما صلى بجوفها، ثم جلس على العتبة ينظر إلى الخياطين، فأنكر الناس استعلاءه على الطائفتين، فبعث الله عليه نعاساً سقط منه على أم رأسه من علو البيت، فلو لم يتداركوه من تحته لهلك. وصرخ الناس في الطواف تعجباً من ظهور قدرة الله في إذلال المتكبرين، وانقطع ظفر كريم الدين، وعلم بذنبه فتصدق. بمال جزيل.
وفي هذه السنة: حشد الفرنج، وأقبلوا يريدون استئصال المسلمين من الأندلس في عدد لا يحصى، فيه خمسة وعشرون ملكاً، فقلق المسلمون بغرناطة، واستنجدوا بالمريني ملك فاس فلم ينجدهم، فلجوا إلى الله وحاربوهم وهم نحو ألف وخمسمائة فارس وأربعة ألاف راجل، فقتلوا الفرنج بأجمعهم. وأقل ما قيل أنه قتل منهم خمسون ألفاً، وأكثر ما قيل ثمانون ألفاً، ولم يقتل من المسلمين سوى ثلاثة عشر فارساً، وغنم المسلمون ما لا يدخل تحت حصر، وسلخ الملك دون بتروا وحشي قطناً، وعلق على باب غرناطة، فطلب الفرنج الهدنة فعقدت، وبقي دون بتروا معلقاً عدة سنين.
ومات في هذه السنة من الأعيان
الأمير سيف الدين كراي المنصوري، في سادس عشر المحرم بسجن القلعة، وكان مقدماً قليل السياسة.
ومات الأمير شجاع الدين أغرلوا العادلي، أحد مماليك العادل كتبغا، بدمشق سلخ جمادى الأولى، وكان شجاعاً كريماً.
ومات الأمير علاء الدين طيبرس الخزنداري، نقيب الجيش وأحد أمراء الطبلخاناه، في عشري ربيع الآخر، ودفن بمدرسته المجاورة للجامع الأزهر، وكان قد أقام في نقابة الجيش نحو أربع وعشرين سنة، لم يقبل فيها لأحد هدية، وكان ديناً صاحب مال كبير، وهو أول من عمر في أرض مصر بستان الخشاب والجامع والخانكاه على النيل، وبنى المدرسة المجاورة للجامع الأزهر، وعمل لذلك أوقافاً كثيرة، ولما كملت وجاءه مباشروه بحساب مصروفها لم ينظر فيه وغسله بالماء، وقال: " شيء خرحنا عنه الله لا نحاسسب عليه " .
ومات الأمير ملكتمر السليماني الجمدار، فجأة.
ومات الشيخ أبو الفتح نصر بن سليمان بن عمر المنبجي، ليلة السابع والعشرين من جمادى الآخرة، ومولده في سنة ثمان وثلاثين وستمائة، وكان معتقداً عارفاً بالقراءات، محدثاً فقيهاً حنفياً، وأقام عدة سنين لا يأكل اللحم، وحصل له حظ وافر في الدولة المظفرية بيبرس.
ومات القاضي فخر الدين أبو عمرو عثمان بن علي بن يحيى بن هبة الله الأنصاري الشافعي عرف بإبن بنت أبي سعد، في ليلة الرابع والعشرين من جمادى الآخرة، ومولده في حادي عشري رجب سنة تسع وعشرين وستمائة بداريا ظاهر دمشق، واستقر عوضه في تدريس الجامع الطولوني عز الدين عبد العزيز ابن قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة.(1/419)
ومات الملك المعظم شرف الدين عيسى ابن الملك الزاهر مجير الدين داود ابن المجاهد أسد الدين شيركوه ابن القاهر محمد ابن المنصور أسد الدين شيركوه بن شادي، بالقاهرة في ثاني ذي القعدة، وقد حضر من دمشق في طلب إمرة، فأنعم عليه بإمرة طبلخاناه بدمشق، فمات قبل عوده إليها. ومولده بدمشق في سنة خمس وخمسين وستمائة. ومات بدمشق شهاب الدين أحمد بن صلاح الدين محمد ابن الملك الأمجد مجد الدين حسن ابن الناصر داود ابن المعظم عيسى ابن العادل أبي بكر بن أيوب، في رجب يوم الإثنين لست بقين منه.
ومات الصدر بدر الدين محمد بن ناصر الدين منصور بن الجوهري الحلبي، بدمشق في سادس عشر جمادى الآخرة، ومولده بحلب في ثالث عشر صفر سنة اثنين وخمسين وستمائه، وكان من رؤساء الدولة العادلية كتبغا، وعرضت عليه وزارة دمشق فأبى.
سنة عشرين وسبعمائة
فيها عاد السلطان من الحجاز بعدما من بخليص، وقد جرى الماء إليها. وكان قد ذكر له وهو بمكة أن العادة كانت جارية بحمل مال إلى خليص، ليجري الماء من عين بها إلى بركة يردها الحاج، وقد انقطع ذلك منذ سنين، وصار الحاج يجد شدة من قلة الماء بخليص، فرسم بمبلغ خمسة ألاف درهم لإجراء الماء من العين إلى البركة، وجعلها مقررة في كل سنة لصاحب خليص. فأجرى صاحب خليص الماء قبل وصول السلطان إليها، واستمر حمل المال إليه في كل سنة، ووجد الماء في البركة دائماً.
ولقى السلطان في هذه السفرة جميع العربان: من بني مهدي وأمرائها، وشطى وأخيه عساف وأولاده، وأشراف مكة من الأمراء وغيرهم، وأشراف المدينة والينبع وخليص، وبني لام وعربان حوران، وأولاد مهنا موسى وسليمان وفياض، وأحمد وجبار، بعربهم، و لم يتفق اجتماع هؤلاء لملك قبله. وأكثروا من الدالة على السلطان، وجروا على عوائدهم العربية من غير مراعاة الآداب الملوكية وهو يحتملهم، بحيث أن موسى بن مهنا كان ولد صغير، فقام في بعض الأيام ومد يده إلى لحية السلطان وقال له: يا أبا علي بحياة هذي ومسك منها شعرات إلا ما أعطتني الضيعة الفلانية إنعاماً علي. فصرخ فيه الفخر ناظر الجيش وقال له: شل يدك قطع يدك والك تمد يدك إلى السلطان، فتبسم له السلطان وقال: " يا قاضي هذه عادة العرب، إذا قصدوا كبيراً في شيء فيكون عظمته عندهم مسك لحيته، يريدون أنهم قد استجاروا بذلك الشيء، فهو سنة عندهم. فغضب الفخر، وقام وهو يقول: " وا لله إن هؤلاء مناحيس، وسنتهم أنحس.
وفيها قدم الأمير ناصر الدين محمد بن أرغون النائب مبشراً إلى القاهرة، ومعه الأمير قطلوبغا المغربي. وقدم الأمير بدر الدين بدرجك إلى دمشق مبشراً.
وقدم السلطان في يوم السبت ثاني عشر المحرم، فخرج الأمراء إلى لقائه ببركة الحاج، وركب بعد انقضاء أمر السماط في موكب جليل، وقد خرج سائر الناس لرؤيته، وسار إلى القلعة، فكان يوماً مشهوداً، وزينت القاهرة ومصر زينة عظيمة.
وفي يوم الخميس خامس عشره: جلس السلطان، وخلع على سائر الأمراء والقضاة وأرباب الدولة، وعلى الأمير شطي بن عبية وحسن بن دريني، وألبس كريم الدين الكبير أطلسين، ولم يتفق ذلك لمتعمم قبله.
وفيه بعث السلطان بالجمال والزاد لتلقي المنقطعين من الحاج، فتواصل قدوم الحاج إلى أن وصل المحمل يوم الأحد سابع عشريه، وصحبته قاضي القضاة بدر الدين وغيره، فاتفق فيه مطر عظيم قل ما عهد مثله بمصر. وكانت الأسعار قد تزايدت، فانحطت منذ قدم السلطان.
وفيه خلع على الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل صاحب حماة، وركب بشعار السلطنة من المدرسة المنصورية بين القصرين، وحمل وراءه الأمير قجليس السلاح، والأمير ألجاي الدواة، ورتب معه الأمير بيبرس الأحمدي أمير جندار وأمير طبر، وسار بالغاشية والعصائب وسائر دست السلطنة وهم بالخلع معه إلى أن صعد القلعة، فكانت عدة التشاريف مائة وثلاثين تشريفاً: فيها ثلاثة عشر أطلس، والبقية كنجي وعمل الدار وطرد وحش. وجلس صاحب حماة رأس الميمنة، ولقبه السلطان بالملك المؤيد، وسافر من يومه بعدما جهزه السلطان بسائر ما يحتاج إليه.(1/420)
وفي يوم الثلاثاء ثالث عشر صفر: أفرج عن الأمير علم الدين سنجر البروانى، والأمير علاء الدين أيتغلي الشيخى، وصارم الدين العينتابي، وعز الدين أيدمر الشيخي، وعلاء الدين مغلطاي السيواسي، والحاج بدر الدين بيليك، وشمس الدين سنقر الكمالي الصغير، والشيخ علي التبريزي ، وسيف الدين منكجار، وسيف الدين طوغان، نائب البيرة ، وناصر الدين منكلي، وطاشار، وموسى وغازي أخوي حمدان بن صلغاي، وعن الشريف رميثة بن أبي نمى.
وفيه هرب من سجن الإسكندربة الأمير سيف الدين بهادر الإبراهيمي النقيب، ويقال له زيرامو، وبهادر التقوى الزراق، فأدركهما الطلب، وأخذا وحملا إلى القلعة بعد ما خرج الأمير أيتمش المحمدي والأمير أصلم للقبض عليهما فلما أحضرا كتب بعود الأميرين أيتمش المحمدي وأصلم، فرجعا ثالث يوم سفرهما، وأنزل بالأميرين الهاربين ليوسطا تحت القلعة، فشفع فيهما الأمراء، فأعفى السلطان عنهما من القتل، وكحلهما بالحديد المحمي مرتين حتى فقدا البصر.
وفيه رسم بالإفراج عمن في سجن الإسكندرية، فقدموا القاهرة وأنعم عليهم بالإقطاعات، من أجل أنهم لم يوافقوا على الهروب.
وفيه كتب بإعفاء الصاحب أمين الدين عبد الله بن الغنام من نظر طرابلس، وأن يقيم بالقدس، ورتب له في كل شهر ألف درهم، وبعث إليه كريم الدين الكبير هدية حسنة. وفي يوم الأربعاء سادس ربيع الأول: سار الأمير بيبرس الحاجب بطائفة من الأجناد إلى مكة، ليقيم بها بدل الأمير آقسنقر شاد العمائر الذي استخلفه السلطان.بمكة، ومعه عدة أجناد تخوفاً من هجوم الشريف حميضة على مكة.
وفيه كتب بخروج عساكر الشام إلى غزو بلاد متملك سيس، لمنعه الحمل.
وفيه أبطل مكس الملح بديار مصر، فأبيع الأردب الملح بثلاثة دراهم بعدما كان بعشرة، فإنه كتب إلى الأعمال ألا يمنع أحد من شيل الملح من الملاحات، وأبيحت لكل أحد، فبادر الناس إليها وجلبوا الملح.
وفيه وصلت الستر الرفيع الخاتوني طلنباي ويقال دلنبية، ويقال طولونية بنت طغاي بن هندو بن باطو بن دوشي خان بن جنكزخان. وسبب ذلك أن السلطان كان قد بعث إلى أزبك يخطب بعض الجهات الجنكزية، فاشتط به أزبك في طلب المهر وطول المدة وكثرة الشروط، فأعرض السلطان عن الخطبة وسير إليه الهدية كما تقدم. وكان أزبك قد عين المذكورة، فاستدعى التجار واقترض منهم ثلاثين ألف دينار. بمعاملتهم، صرف كل دينار ستة دراهم، وجهزها مع بعض أمرائه في مائة وخمسين رجلاً وستين جارية وقاضي سراي، ومعهم هدية سنية، فقدموا في البحر إلى الإسكندرية في عشري ربيع الأول. وخرج الأمير أقبغا عبد الواحد في عدة من الأمراء ومعه الحراريق إلى لقائها، وخرج كريم الدين الكبير ومعه عربان وبخاتي وبغال، وضرب الخيام الحرير الأطلس بالميدان. فحملت الخاتون في الحراريق إلى ساحل مصر، وركبت في العربة إلى الميدان، والحجاب تمضي قدام العربة، فأقامت بالخيام ثلاثة أيام. ثم حملت إلى القلعة ليلة السبت سلخه في عربة تجرها العجل، وهي كالقبة مغطاة بالديباج، وفي خدمتها الأمير أرغون النائب، والأمير بكتمر الساقي، والقاضي كريم الدين الكبير.(1/421)
وفي يوم الإثنين ثاني ربيع الآخر: جلس السلطان للرسل، وحضر كبيرهم باينجار، وكان مقعداً لا يقدر على القيام ولا المشي وإنما يحمل، ودخل معه إيتغلي وطقبغا، ومنغوش، وطرجي، وعثمان خجا، والشيخ برهان الدين إمام القان، ورسل الأشكري. فأجلس باينجار، وأخذ منه كتاب أزبك، فبلغ السلام وقال: أخوك أزبك، أنت سيرت طلبت من عظم القان بنتاً، فلما لم يسيرها لم يطب خاطرك، وقد سيرنا لك من بيت كبير، فإن أعجبتك خذها بحيث لا تخلي عندك أكبر منها، وإن لم تعجبك فاعمل بقول الله تعالى: " إن ا لله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " . فقال السلطان: " نحن ما نريد الحسن، وإنما نريد كبر البيت والقرب من أخي، ونكون نحن وإياه شيئاً واحداً " . وبلغه أيضاً برهان الدين مشافهة من قبل أزبك. فتولى قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة العقد على ثلاثين ألف دينار، الحال منها عشرون ألفاً، والمؤجل عشرة ألاف، وقبله السلطان بنفسه. وكتب علاء الدين على بن الأثير كاتب السر العقد بخطه، وصورته بعد البسملة: " هذا ما أصدق مولانا السلطان الأجل الملك الناصر على الخاتون الجليلة بنت أخي السلطان أزبك خان طولو ابنة طغاي بن بكر بن دوشي خان بن جنكزخان " . وخلع السلطان يومئذ خمسمائة خلعة، وكان يوماً مشهوداً. وبني عليها من ليلتها، فلم تلق بخاطره. وأصبح السلطان فتقدم إلى كريم الدين أكرم الصغير بالتوجه إلى الصعيد وتعبية الإقامات إلى قوص، وجهز الرسل بالهدايا والإنعامات وسفرهم، وركب للصيد.
وفيها توقف حال الناس بسبب الفلوس وما كثر فيها من الزغل، وكانت المعاملة بها عدداً عن كل درهم فضة عدة ثمانية وأربعين فلساً من ضرب السلطان، فعملها الزغلية، وخفوا وزنها حتى صار الفلس زنته سدس درهم. وكانت معاملة دمشق بالفلوس التي يقال لها القراطيس، والقرطاس ستة فلوس، ويعد في الدرهم الفضة أربعة وعشرون قرطاساً، فأبطل السلطان القراطيس من دمشق، وضرب بها كل فلس زنته درهم، والدرهم بثمانية وأربعين فلساً مثل معاملة مصر، فنقلت هذه الفلوس الخفاف القراطيس إلى مصر، وخلطت بفلوس المعاملة حتى كثرت، وقلت الجياد. فتعبت الناس فيها، وزادت الأسعار كلها، حتى غلقت الباعة الحوانيت عندما نودي أن يكون الفلوس بالميزان، على أن كل رطل منها بثلاثة دراهم فضة. فركب وإلى القاهرة، وضرب كثيراً من أرباب المعايش بالمقارع، وشهرهم و لم يرجعوا، فنودي أن الفلس الذي عليه بقجة من ضرب دار الضرب يؤخذ، والفلس الخفيف يرد، فلم يفد ذلك شيئاً. وعمل الزغلية فلوساً خفافاً عليها بقجة، فنودي أن يؤخذ الجميع بحساب درهمين ونصف الرطل، فمضي الحال قليلاً، واستمر عنت العامة، وكثر تعطيلهم الحوانيت وغلقها.
وكان السلطان غائباً، فلما نزل بالجيزة وخرج كريم الدين إلى لقائه صاحت به العامة وفاجأوه. مما لا يليق، وتكاثروا عليه من كل جهة، وشكوا ما بهم من أمر الفلوس ورد الباعة لها وقلة الخبز وغيره، فوعدهم بخير، وعرف كريم الدين السلطان ذلك. فاستدعى السلطان الأمراء، وأنكر عليهم رد مباشريهم الفلوس وعدم بيعهم القمح من الشون للطحانين والموانة، وقرر ضرب فلوس جدد زنة الفلس منها درهم، وعلى أحد وجهيه لا إله الا الله محمد رسول الله، وعلى الآخر اسم السلطان، فضرب منها نحو ثمانين ألف رطل. واستقر الفلوس العتق كل رطل بثلاثة دراهم إلى أن تخرج الفلوس الجدد من دار الضرب. فاستمر ذلك، ومشت الأحوال، إلا أنه صار فيها غبن زائد، وذلك أن الرطل من العتق يبلغ سبعة دراهم بالعدد.
وفيها قدمت رسل متملك اليمن بالهدية، وأحضروا بالقلعة يوم الإثنين ثالث عشر جمادى الآخرة.
وفي ليلته: خسف القمر.
وفيها بعث السلطان ثلاثين فداويا من أهل قلعة مصياب للفتك بالأمير قراسنقر، فعندما وصلوا إلى تبريز نم بعضهم لقراسنقر عليهم، فتتبعهم وقبض على جماعة منهم، وقتلهم. وانفرد به بعضهم وقد ركب من الأردو، فقفز عليه فلم يتمكن منه، وقتل.
واشتهر في الأردو خبر الفداوية، وأنهم حضروا لقتل السلطان أبي سعيد وجوبان والوزير على شاه وقراسنقر وأمراء المغل، فاحترسوا على أنفسهم، وقبضوا عدة فداوية.(1/422)
فتحيل بعضهم وعمل حمالاً، وتبع قراسنقر ليقفز عليه فلم يلحقه، ووقع على كفل الفرس فقتل، فاحتجب أبو سعيد بالخركاه أحد عشر يوماً خوفاً على نفسه. وطلب المجد إسماعيل، وأنكر عليه جوبان وأخرق به، وقال له: " والك أنت كل قليل تحضر إلينا هدية، وتريد منا أن نكون متفقين مع صاحب مصر، لتمكر بنا حتى تقتلنا الفداوية والإسماعيلية " ، وهدده أنه يقتله شر قتلة، ورسم عليه، فقام معه الوزير على شاه حتى أفرج عنه.
ثم قدم الخبر من بغداد بأن بعض الإسماعيلية قفز على النائب بها ومعه سكين فلم يتمكن منه، ووقعت الضربة في أحد أمراء المغل، وأن الإسماعيلي فر، فلما أدركه الطلب قتل نفسه. فتنكر جوبان لذلك، وجهز المجد السلامي إلى مصر ليكشف الخبر، وبعثوا في أثره رسولاً بهدية.
وفيها عادت العساكر من غارة سيس إلى أبيات مهنا، وطردوه من مكانه، وفرقوا جمعه في نواحي العراق.
وفيها كثرت كتابة الأوراق للسلطان في أمرائه وأهل دولته، وإلقائها من غير أن يعلم من أين هي، أو ربطها بجناح طائر حمام وحذفه خارج حائط الميدان تحت القلعة إلى داخله، فتأذى بذلك جماعة كثيرة. فاتفق إن السلطان ركب إلى مطعم الطيور بالمسطبة التي أنشأها قريباً من بركة الحبش، فوجد ورقة مختومة فقرأها و لم يعلم أحداً فيها، وعاد إلى القلعة وقد اشتد حنقه، ووقف عند دار النيابة وأمر بهدم المساطب والرفرف وغلق الشباك. ثم بعث السلطان أمير جاندار الأمير سيف الدين البوبكري أن يتحول من داره بالقلعة ويسكن بالقاهرة، فنزل من يومه وسكن بدار كراي المنصوري، وهدمت الدار التي كان البوبكري يسكنها، وعمرت قاعات وطباق للخاصكية. وامتنع السلطان من ركوبه إلى المطعم المذكور، وصار يركب إلى ميدان القبق. وكانت الورقة تتضمن سب السلطان وسوء تصرفه، وتسليطه الكتاب النصارى على المسلمين، وصلحه مع المغل.
واتفق أن بعض العامة أخبر عن شخص غريب، فأفضى الأمر إلى حملهما إلى الخازن وإلى القاهرة، فقال العامي: هذا الغريب قاصد ومعه فداوية " ، فقرره الوالي فاعترف أن معه أربعة من جهة قراسنقر بعثهم لقتل السلطان، فقبض منهم على رجلين، وفر الآخران. وحمل الوالي إلى السلطان، فأقرا بأنهما من جهة قراسنقر، فأمر بهما فقتلا. وأخذ السلطان يحترس على نفسه، ومنع عند ركوبه إلى الميدان المتفرجين من الجلوس في الطرقات، وألزم الناس بغلق طاقات البيوت.
وفيها قبض على الأمير علم الدين سنجر الجاولي نائب غزة، وسجن بالإسكندرية، ووقعت الحوطة على موجوده يوم الجمعة ثامن عشري رمضان. وكان ذلك لقلة اكتراثه بالأمير نائب الشام، وموافقة بعض مماليكه على ما قيل فيه أنه يريد التوجه إلى اليمن.
وفيها قدم الخبر من الأمير بيبرس الحاجب بقتل الشريف حميضة بن أبي نمى، ثم قدم الأمير بيبرس الحجاز ومعه المماليك الذين اتفقوا على قتل الشريف حميضة، فقتل السلطان قاتله.(1/423)
وفيها قدم المجد السلامي على البريد من عند الملك أبي سعيد بن خربندا في طلب الصلح، فخرج القاضي كريم الدين الكبير إلى لقائه، وصعد به إلى القلعة، فأخبر المجد السلامي برغبة جوبان وأعيان دولة أبي سعيد في الصلح، وأن الهدية تصل مع الرسل، فكتب إلى نائبي حلب ودمشق بتلقي الرسل وإكرامهم. فقدم البريد بأن سليمان بن مهنا عارض الرسل، وأخذ جميع ما معهم من الهدية، وقد خرج عن الطاعة لإخراج أبيه مهنا من البلاد وإقامة غيره في إمرة العرب. ثم قدمت الرسل بعد ذلك بالكتب، وفيها طلب الصلح بشروط: منها ألا تدخل الفداوية إليهم، وأن من حضر من مصر إليهم لا يطلب، ومن حضر منهم إلى مصر لا يعود إليهم إلا برضاه، وألا يبعث إليهم بغارة من عرب ولا تركمان، وأن تكون الطريق بين المملكتين مفسوحة تسير تجار كل مملكة إلى الأخرى، وأن يسير الركب من العراق إلى الحجاز في كل عام. بمحمل ومعه سنجق فيه اسم صاحب مصر مع سنجق أبي سعيد ليتجمل بالسنجق السلطاني، وألا يطلب الأمير قراسنقر. فجمع السلطان الأمراء، واستشارهم في ذلك، بعد ما قرأ عليهم الكتاب، فاتفق الرأي على إمضاء الصلح بهذه الشروط، وجهزت الهدايا لأبي سعيد: وفيها خلعة أطلس باولي زركش، وقباء تتري وقرقلات وغير ذلك، مما بلغت قيمته أربعين ألف دينار. وأعيد الرسل بالجواب، وفيه آلا يمكن عرب آل عيسى من الدخول إلى العراق، فإن العسكر واصل لقتالهم، وسافر السلامي على البريد يبشر بعود الرسل بالهدية.
وفيها أنشأ السلطان ميدان المهار بجوار قناطر السباع فيما بين القاهرة ومصر، ونقل إليه الطين، وزرع فيه النخل، ولعب فيه بالكرة مع الأمراء، ورتب فيه الحجورة للنتاج، فاستمر ذلك، وصار يتردد إليه، ثم أنشا السلطان بجوار جامع الأمير علاء الدين طيبرس زريبة على النيل، ليبرز بمناظر الميدان الكبير إلى قرب شاطئ النيل، وكان قد أخر عمل ذلك بسبب قرب سفره إلى الصعيد.
وفيها مرض كريم الدين الكبير نحو أسبوعين، فكان يحضر عليه في كل يوم جمدار فيخلع عليه بكرة النهار، ويعود فيأتيه أخر العصر فيخلع عليه، وكلما أتاه مملوك من جهة أحد الأمراء للسلام عليه خلع عليه، فلما عوفي وركب زينت القاهرة، وأوقدت فيها الشموع، وجلست المغاني، واجتمع الناس لرؤيته، فكان يوماً مشوداً. ولما قدم إلى المدرسة المنصورية بين القصرين بمال، فتصدق فمات في الإزدحام ستة أنفس، وصعد كريم الدين إلى القلعة، ثم ركب من الغد إلى مدينة مصر، فزينت لركوبه أيضاً، وزينت الحراريق ولعبت في النيل، فخلع على رؤساء الحراريق، وفرق في رجالها مالاً، وعمل لهم مائة خروف شواء، وكان عدة الشموع التي اشتعلت له في مصر ألفاً وستمائة شمعة، ونثر الناس على رأسه الذهب والدراهم، وعمل له الفخر ناظر الجيش ضيافة عظيمة، فكانت تلك الأيام من الأيام المشهودة.
وفيها قدم الخبر بأن أبا سعيد أراق الخمور في سائر مملكته، وأبطل منها بيوت الفواحش، وأبعد أرباب الملاهي، وأغلق الخانات، وأبطل المكوس التي تجبي من التجارة الواردة إليهم من البلاد، وهدم كنائس بالقرب من توريز، ورفع شهادة الإسلام، ونشر العدل، وعمر المساجد والجوامع، وقتل من وجد عنده الخمر بعد إراقته، فكتب السلطان سائر نواب الشام بإبطال ضمان الخمارات وإراقة الخمور، وغلق الحانات واستتابة أهل الفواحش، فعمل ذلك في سائر مدن البلاد الشامية وضياعها وجبالها، واجتهد النواب في إزالة المناكير حتى طهر الله منها ومن أهلها البلاد.
وفيها قدم مملوك المجد السلامي ورسول أبي سعيد وجوبان، وأخبروا بوصول الهدية السلطانية، وسألوا تجهيز السنجق السلطاني ليسير مع الركب إلى الحجاز، فسير سنجق حرير أصفر بطلعة ذهب، وكتب لصاحب مكة بإكرام حاج العراق.
وفيها قدم البريد من حلب بأن أبا سعيد قد نادى في مملكته بالحج، فتجهز عالم عظيم، وأن فياضاً وسليمان ابني مهنا قد كثر فسادهما وقطعهما الطريق على التجار، ويخاف على الراكب العراقي من عرب مهنا. فاقتضى رأي السلطان أن استدعي سيف ابن فضل أخي مهنا من البلاد، وقرر معه أن أباه فضلاً يمنع مهنا وأولاده من التعرض لركب العراق، فقام في ذلك فضل، وخدع أخاه مهنا حتى كف عنهم، ولم يتعرض لأحد منهم، وبعث مهنا بإبنه موسى إلى السلطان بأنه لم يتعرض للركب، فأكرمه السلطان وخلع عليه وعلى من معه.(1/424)
وفيها أخرج الأمير بدر الدين محمد بن التركماني في الشام على إمرة لتغير كريم الدين الكبير منه.
وفي ثاني عشري رجب: عقد بدار السعادة بدمشق مجلس لإبن تيمية، ومنع من الإفتاء بمسألة الطلاق، ثم اعتقل بالقلعة إلى يوم عاشوراء سنة إحدى وعشرين، فأفرج عنه.
ومات في هذه السنة من الأعيان
قاضي القضاة شمس الدين أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني بن أبي اسحاق قاضي شمس الدين أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني بن أبي إسحاق السروجي الحنفي، في يوم الخميس، ثاني عشري رجب، بعد عزله في رابع ربيع الآخر بشمس الدين محمد بن عثمان الحريري، ومولده سنة سبع وثمانين وستمائة، وكان من أئمة الحنفية، ولم يسمع عنه ما يشينه، ولا راعي صاحب جاه قط، مع السماح والجود.
ومات الشيخ أبو العباس أحمد بن أبي بكر بن عرام بن إبراهيم بن ياسين بن أبي القاسم بن محمد بن إسماعيل الشيخ بهاء الدين أبي العباس بن أبي الفضال بن أبي المجد ابن أبي إسحاق الربعي الشافعى، سبط أبي الحسن على الشاذلي، في ليلة سابع شوال، ومولده سنة أربع وستين وستمائة. سمع الحديث وقرأ النحو وتصوف، وتصدر بالإسكندرية لإقراء العربية، وولي نظر الأحباس بها، وصنف في الفقه وغيره.
ومات الصاحب قوام الدين الحسن بن محمد بن جعفر بن عبد الكريم بن أبي سعيد المعروف بابن الطراح، في أول المحرم ببغداد، ومولده في ربيع الأول سنة خمسين وستمائة، وهو من بيت علم ورياسة، وكان يعرف النحو واللغة والحساب والنجوم والأدب.
ومات الصدر فخر الدين أبو الهدى أحمد بن اسماعيل بن علي بن الحباب الكاتب، يوم الخميس تاسع رمضان، عن سبع وتسعين سنة.
وقتل إسماعيل بن سعيد الكردي على الزندقة، يوم الإثنين سادس عشري صفر، وكان عارفاً بالقراءات والفقه والنحو والتصريف، ويحفظ كثيراً من التوراة والإنجيل، ويحل في الفقه، ويحفظ العمدة في الحديث، غير أنه حفظت عنه عظائم في حق الأنبياء، وكان يتجاهر بالمعاصي، فاجتمع القضاة وضربوا عنقه بين القصرين.
ومات الحسن بن عمر بن عيسي بن الخليل الكردي الدمشقى، بناحية الجيزة تجاه مصر في ثالث ربيع الآخر، وقد أناف على التسعين، قرأ على السخاوى، وسمع الحديث.
ومات كمال الدين عبد الرحيم بن عبد المحسن بن ضرغام الكناني الحنبلي، خطيب جامع المنشاة فيما بين القاهرة ومصر، في ربيع الآخر عن ثلاث وتسعين سنة.
ومات كمال الدين أبو الحفص عمر بن عز الدين أبي البركات عبد العزيز بن محيي الدين أبي عبد الله بن محمد بن نجم الدين أبي الحسن أحمد بن جمال الدين هبة الله أبي الفضل بن مجد الدين أبي غانم محمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن أبي جرادة العقيلي الحلبي الحنفي، قاضي القضاة الحنفية بحلب، وكان مشكوراً.
ومات زين الدين أبو القاسم محمد بن العلم محمد بن الحسين بن عتيق بن رشيق الإسكندري الفقيه المعمر المالكي بمصر في ليلة الجمعة حادي عشر المحرم، عن اثنتين وتسعين سنة، ولي قضاء الإسكندرية مدة اثنتي عشرة سنة، وعرض عليه قضاء دمشق فامتنع، وله نظم.
ومات شرف الدين يعقوب بن أحمد بن الصابوني الحلبي، بالقاهرة في يوم الخميس تاسع عشري رجب، كان محدثاً عدلاً، ودرس بالمنكوتمرية من القاهرة، وتميز في كتابة السجلات.
ومات القاضي زين الدين أبو بكر بن نصر بن حسين بن حسن بن حسين الأسعردي، محتسب القاهرة ووكيل بيت المال، في يوم الإثنين سادس عشري رمضان، واستقر في الوكالة بعده قطب الدين محمد بن علي بن عبد الصمد السنباطي، وفي حسبة القاهرة ابن عمه نجم الدين محمد بن الحسين.
ومات علي بن عبد الصمد الأسعردي، في سابع شوال.
ومات الشيخ نجم الدين أبو الحسن على بن الأسيوطي المقرئ الواعظ، في يوم الجمعة سادس عشر ذي الحجة.
وقتل أقبجا مملوك ركن الدين بيبرس التاحي بدمشق، لدعواه النبوة، في خامس عشري ربيع الأول.
ومات بهاء الدين السنجاري محتسب مصر، يوم الثلاثاء حادي عشري ذي القعدة، فولي بعد نجم الدين أحمد بن محمد بن أبي الحزم القمولي خليفة الحكم، في ثامن ذي الحجة.
ومات صاحب غرناطة من بلاد الأندلس الغالب بالله أبو الوليد اسماعيل بن فرج بن إسماعبل بن يوسف بن نصر، في ذي القعدة، وأقيم بعده ابنه أبو عبد الله محمد، فكانت مدته ثلاث عشرة سنة.
سنة إحدى وعشرين وسبعمائة(1/425)
في يوم الإثنين ثالث المحرم: قدم الفخر ناظر الجيش من الحجاز، وكان قد سافر إلى مكة في مدة اثنى عشر يوماً، وغاب حتى قدم نحو شهر، وتصدق في الحرمين بإثني عشر ألف دينار.
وفي يوم الثلاثاء حادي عشره: قدم الأمير أرغون النائب من الحجاز، وكان قد سافر أول ذي القعدة، ومشى من مكة إلى عرفات على قدميه بهيئة الفقراء. ثم قدم الأمير بهاء الدين أصلم أمير الركب بالحاج، و لم ير فيما تقدم مثل كثرة الحاج في موسم الحالية. وكانت الوقفة يوم الجمعة. وكان حاج مصر سبعة ركوب: ركب في شهر رجب، وأربعة في شوال أولها رحل في يوم الإثنين سادس عشره، ورحل أخرها يوم الجمعة تاسع عشره. وسار الأمير أرغون النائب أول ذي القعدة في جماعة، ثم توجه الفخر في جماعة، وركب البحر خلائق، واجتمع بعرفة ما يزيد على ثلاثين ركباً. ووقف محمل العراق خلف محمل مصر، ومن خلفه محمل اليمن.
واعتنى أبو سعيد بأمر حاج العراق عناية تامة، وغشى المحمل بالحرير ورصعه باللؤلؤ والياقوت وأنواع الجواهر، وجعل له جتراً ينصب عليه إذا وضع. فلما مر ركب العراق بعرب البحرين خرج عليهم ألف فارس يريدون أخذهم، فتوسط الناس بينهم على أن يأخذوا من أمير الركب ثلاثة ألاف دينار، فلما قيل لهم إنما جئنا من العراق بأمر الملك الناصر صاحب مصر وكتابه إلينا بالمسير إلى الحجاز أعادوا المال، وقالوا: " لأجل الملك الناصر نخفركم بغير شيء " ، ومكنوهم من المسير. فبلغ ذلك السلطان فسر به، وبالغ في الإنعام على العربان. وكان السلطان قد بعث إلى أمراء المغل وأعيانهم الخلع، فلما انقضى الحج خلع عليهم الأمير أرغون النائب، ودعا لأبي سعيد بعد الدعاء للسلطان بمكة.
وفيه قدم كتاب نائب الشام في الشفاعة في ابن تيمية، وكان قد سجن في السنة الماضية، فأفرج عنه بعدما سجن خمسة أشهر، وشرط عليه ألا يفتي بمسألة الطلاق.
وفيه استقر كريم الدين الكبير في نظر الجامع الطولوني، فنمت أوقافه.
وفيه قدم البريد من دمشق بهدم كنيسة لليهود بدمشق، على يد العامة.
وفيها أخرج الأمير شرف الدين أمير حسين بن جندر إلى دمشق. وسببه أنه لما أنشأ جامعه المعروف بجامع أمير حسين بجوار داره في بر الخليج الغربي، وعمل القنطرة، أراد أن يفتح في سور القاهرة خوخة تنتهي إلى حارة الوزيرية، فأذن له السلطان في فتحها، فخرق باباً كبيراً وعمل عليه رنكه، فسعى به علم الدين سنجر الخياط متولي القاهرة أنه فتح باباً قدر باب زويلة وعمل عليه رنكه، فشق عليه ذلك وأخرجه من يومه على إقطاع الأمير جوبان، ونقل جوبان إلى الإمرة بديار مصر.
وفيه قدم الأمير سيف الدين طقصباي من بلاد أزبك. وقدم من الأردو الأمير باورر ابن براجوا أحد أعيان المغل، فأنعم عليه بإمرة طبلخاناه بمصر.
وفيه قدم أبو يحيى اللحياني من الغرب، ولم يمكن من البلاد، فرتب له بالإسكندرية ما يكفيه، وأقام بها. وفيه أخرج الأمير علاء الدين أيدغدي الخوارزمي حاجباً بالشام.
وفي يوم الجمعة تاسع ربيع الآخر: ثارت العامة يداً واحدة، وهدموا كنيستين متقابلتين بالزهري، وكنيسة بستان السكري وتعرف بالكنيسة الحمراء، وبعض كنيستين بمصر وكان ذلك من غرائب الاتفاق ونوادر الحوادث: والخبر عنه أن السلطان لما عزم على إنشاء الزريبة بجوار جامع الطيبرسي على النيل احتاج إلى طين كثير، فنزل بنفسه وعين مكاناً من أرض بستان الزهري قريباً من ميدان المهارة ليأخذ منه الطين، ولينشئ في هذا المكان بركة وعوض مستحقي وقفه بدله، وكتب أوراقاً بأسماء الأمراء، وأفزر لكل منهم قياساً معلوماً، فتولى قياس ذلك عدة من المهندسين مع الأمير بيبرس الحاحب. وابتدأ الأمراء في الحفر يوم الثلاثاء تاسع عشري ربيع الأول، ورفعوا الطين على بغالهم ودوابهم إلى شاطئ النيل حيث عمل الزريبة. فلم يزل الحفر مستمراً إلى أن قرب من كنيسة الزهري، وأحاط بها الحفر من دايرها وصارت في الوسط، بحيث تمنع من اتساع البركة. فعرف الأمير أقسنقر شاد العمائر السلطان بذلك، فأمره أن يبالغ في الحفر حولها حتى تتعلق، وإذا دخل الليل فيدع الأمراء تهدمها، ويشيع أنها سقطت على غفلة منهم، فاعتمد الحفر فيما حولها، وكتم ما يريده، وصارت غلمان الأمراء تصرخ وتريد هد الكنيسة، وآقسنقر يمنعهم من ذلك.(1/426)
فلما كان يوم الجمعة تاسع ربيع الآخر: بطل العمل وقت الصلاة لاشتغال الأمراء بالصلاة، فاجتمع من الغلمان والعامة طائفة كبيرة، وصرخوا صوتاً واحداً ا لله أكبر، ووقعوا في أركان الكنيسة بالمساحي والفوس حتى صارت كوماً، ووقع من فيها من النصارى، وانتهب العامة ما كان بها. والتفتوا إلى كنيسة الحمراء المجاوره لها، وكانت من أعظم كنائس النصارى، وفيها مال كبير، وعدة من النصارى ما بين رجال ونساء مترهبات فصعدت العامة فوقها، وفتحوا أبوابها ونهبوا أموالها وخمورها. وانتقلوا إلى كنيسة بومنا بجوار السبع سقايات، وكانت معبداً جليلاً من معابد النصارى، فكسروا بابها ونهبوا ما فيها، وقتلوا منها جماعة، وسبوا بنات كانوا بها تزيد عدتهن على ستين بكراً فما انقضت الصلاة حتى ماجت الأرض، فلما خرج الناس من الجامع رأوا غباراً ودخان الحريق قد ارتفعا إلى السماء، وما في العامة إلا من بيده بنت قد سباها أو جرة خمر أو ثوب أو شيء من النهب، فدهشوا وظنوا أنها الساعة قد قامت.
وانتشر الخبر من السبع سقايات إلى تحت القلعة، فأنكر السلطان ارتفاع الأصوات بالضجيج، وأمر الأمير أيدغمش بكشف لخبر. فلما بلغه ما وقع انزعج لذلك انزعاجاً زائداً، وتقدم إلى أيدغمش أمير أخور، فركب بالوشاقية ليقبض على العامة ويشهرهم. فما هو إلا أن ركب أيدغمش إذا بملوك الأمير علم الدين سنجر الخازن متولي القاهرة حضر وأخبر بأن العامة ثارت بالقاهرة، وأخربوا كنيسة بحارة الروم وكنيسة بحارة زويلة، وأنه ركب خوفاً على القاهرة من النهب. وقدم مملوك والي مصر وأخبر بأن عامتها قد تجمعت لهدم كنيسة المعلقة حيث مسكن البترك وأموال النصارى، ويطلب نجدة. فلشدة ما نزل بالسلطان من الغضب هم أن يركب بنفسه، ثم أردف أيدغمش بأربعة أمراء ساروا إلى مصر، وبعث بيبرس الحاجب، وألماس الحاجب إلى موضع الحفر، وبعث طينال إلى القاهرة، ليضعوا السيف فيمن وجدوه. فقامت القاهرة ومصر على ساق، وفرت النهابة، فلم تدرك الأمراء منهم إلا من غلب على نفسه بالسكر من الخمر. وأدرك الأمير أيدغمش والي مصر وقد هزمته العامة من زقاق المعلقة، وأنكوا مماليكه بالرمي عليهم، ولم يبق إلا أن يحرقوا أبواب الكنيسة، فجرد هو ومن معه السيوف ليفتك بهم، فرأى عالماً عظيماً لا يحصيهم إلا خالقهم، فكف عنهم خوف اتساع الخرق، ونادى من وقف فدمه حلال، فخافت العامة أيضاً وتفرقوا. ووقف أيدغمش يحرس المعلقة إلى أن أذن العصر، فصلي بجامع عمرو، وعين خمسين أوشاقيا للمبيت مع الوالي على باب الكنيسة، وعاد.
وكان كأنما نودي في إقليم مصر بهدم الكنائس، وأول ما وقع الصوت بجامع قلعة الجبل: وذلك أنه لما انقضت صلاة الجمعة صرخ رجل موله في وسط الجامع: " اهدموا الكنيسة التي في القلعة " ، وخرج في صراخه عن الحد واضطرب. فتعجب السلطان والأمراء منه، وندب نقيب الجيش والحاجب لتفتيش سائر بيوت القلعة، فوجدوا كنيسة في خرائب التتر قد أخفيت، فهدموها. وما هو إلا أن فرغوا من هدمها والسلطان يتعجب إذ وقع الصراخ تحت القلعة، وبلغه هدم العامة للكنائس كما تقدم، وطلب الرجل الموله فلم يوجد.
وعندما خرج الناس من صلاة الجمعة بالجامع الأزهر من القاهرة رأوا العامة في هرج عظيم، ومعهم الأخشاب والصلبان والثياب وغيرها، وهم يقولون: " السلطان نادى بخراب الكنائس " ، فظنوا الأمر كذلك. وكان قد خرب من كنائس القاهرة سوى كنيستي حارة الروم وحاره زويلة وكنيسة بالبندقانيين كنائس كثيرة، ثم تبين أن ذلك كان من العامة بغير أمر السلطان.
فلما كان يوم الأحد حادي عشره: سقط الطائر من الإسكندرية بأنه لما كان الناس في صلاة الجمعة تجمع العامة وصاحوا هدمت الكنائس، فركب الأمير بدر الدين المحسني متولي الثغر بعد الصلاة ليدرك الكنائس، فإذا بها قد صارت كوماً، وكانت عدتها أربع كنائس. ووقعت بطاقة من والي البحيرة بأن العامة هدمت كنيستين في مدينة دمنهور، والناس في صلاة الجمعة. ثم ورد مملوك والي قوص في يوم الجمعة سابع عشره، وأخبر بأنه لما كان يوم الجمعة هدم العامة ست كنائس بقوص في نحو نصف ساعة. وتواترت الأخبار من الوجه القبلي والوجه البحري بهدم الكنائس وقت صلاة الجمعة، فكثر التعجب من وقوع هذا الاتفاق في ساعة واحدة بسائر الأقاليم.(1/427)
وصار السلطان يشتد غضبه من العامة، والأمراء تسكن غضبه وتقول. " يا مولانا هذا إنما هو من فعل الله. وإلا فمن يقدر من الناس على هدم كنائس الإسكندرية ودمياط والقاهرة ومصر وبلاد الصعيد في ساعة واحدة " ، وهو يشتد على العامة ويزيد البطش بهم، فهرب كثير منهم.
وكان الذي هدم في هذه الساعة من الكنائس ستون كنيسة: وهي كنيسة بقلعة الجبل، وكنيسة بأرض الزهري موضع البركة الناصرية، وكنيسة بالحمراء، وكنيسة بجوار السبع سقايات، وكنيسة أبي المنا بجوارها، وكنيسة الفهادين بحارة الحكر، وكنيسة بحارة الروم من القاهرة، وكنيسة البندقانيين منها، وكنيسة بحارة زويلة، وكنيسة بخزانة البنود، وكنيسة بالخندق خارج القاهرة، وأربع كنائس بالإسكندرية، وكنيستان بدمنهور الوحش، وأربع كنائس بالغربية، وثلاث كنائس بالشرقية، وست كنائس بالبهنساوية، وبسيوط ومنفلوط ومنية بن خصيب ثماني كنائس، وقوص وأسوان إحدى عشرة كنيسة، والإطفيحية كنيستان، وبمدينة مصر بخط المصاصة وسوق وردان وقصر الشمع ثماني كنائس، ومن الأديرة شيء كثير.
وكان عقيب هدم الكنائس وقوع الحريق بالقاهرة ومصر، فابتدأ يوم السبت خامس عشر جمادى الأولى، وتواتر إلى سلخه. وكان من خبره أن الميدان الكبير المطل على النيل لما فرغ العمل فيه ركب السلطان إليه في يوم السبت المذكور، وكان أول لعبه فيه بالأكرة، فبلغه الخبر بعد عوده إلى القلعة بأن الحريق وقع في ربع من أوقاف المارستان المنصوري، بخط الشوايين من القاهرة. واشتد الأمر، والأمراء تطفئه إلى عصر يوم الأحد، فوقع الصوت قبل المغرب بالحريق في حارة الديلم بزقاق العريسة، قريب من دار كريم الدين الكبير. ودخل الليل واشتد هبوب الرياح، فسرت النار في عدة أماكن. وبعث كريم الدين بولده علم الدين عبد الله إلى السلطان يعرفه، فبعث عدة من الأمراء والمماليك لإطفائه خوفاً على الحواصل السلطانية ثم تفاقم الأمر، واحتاج أقسنقر شاد العمائر إلى جمع سائر السائقين والأمراء، ونزلت الحجاب وغيرهم، والنار تعظم طول نهار الأحد، وخرجت النساء مسبيات من دورهن. وباتوا على ذلك، وأصبحوا يوم الإثنين والنار تتلف ما تمر به، والهد واقع في الدور التي تجاور الحريق خشية من تعلق النار فيها وسريانها في جميع دور القاهرة.
فلما كانت ليلة الثلاثاء خرج أمر الحريق عن القدرة البشرية، وخرجت ريح عاصفة ألقت النخيل وغرقت المراكب، ونشرت النار، فما شك الناس في أن القيامة قد قامت. وعظم شرر النيران، وصارت تسقط في عدة مواضع بعيدة، فخرج الناس وتعلقوا بالمأذن، واجتمعوا في الجوامع والزوايا، وضجوا بالدعاء والتضرع إلى الله تعالى، وصعد السلطان إلى أعلا القصر، فهاله ما شاهد.
وأصبح الناس يوم الثلاثاء في أسوأ حال، فنزل النائب بسائر الأمراء وجميع من في القلعة وجميع أهل القاهرة، ونقل الماء على جمال الأمراء، ولحقه الأمير بكتمر الساقي وأخرجت جمال القرى السلطانية، ومنعت أبواب القاهرة أن يخرج منها سقاء، ونقلت المياه من المدارس والحمامات والآبار. وجمعت سائر البنائين والنجارين، فهدت الدور من أسفلها والنار تحرق في سقوفها. وعمل الأمراء الألوف وعدتهم أربعة وعشرون أميراً بأنفسهم في طفي الحريق، ومعهم سائر أمراء الطبلخاناه والعشراوات، وتناولوا الماء بالقرب من السقائين، بحيث صار من باب زويلة إلى حارة الروم بحراً، وحضر كريم الدين أكرم الصغير. بمائتي رجل. فكان يوماً لم ير أشنع منه، بحيث لم يبق أحد إلا وهو في شغل. ورؤى سائر الأمراء وهي تأخذ القرب من مماليكها، وتطفئ النار بأنفسها، وتدوس الوحل بأخفافها. ووقف الأمير بكتمر الساقي والأمير أرغون النائب حتى نقلت الحواصل السلطانية من بيت كريم الدين إلى بيت ولده علم الدين عبد الله بدرب الرصاصي، وهدم لأجل نقل الحواصل ستة عشر داراً. وخمدت النار وعاد الأمراء.(1/428)
فوقع الصياح في ليلة الأربعاء بربع الملك الظاهر خارج باب زويلة وبقيسارية الفقراء، وهبت الرياح مع ذلك. فركب الحجاب والوالي وعملوا في طفيها إلى بعد الظهر من يوم الأربعاء وهدموا دوراً كثيرة مما حوله. فما كاد أن يفرغ العمل من إطفاء النار حتى وقعت النار في بيت الأمير سلار بخط القصرين، فأقبلوا إليه وإذا بالنار ابتدأت من أعلا البادهنج وكان ارتفاعه من الأرض زيادة على مائة ذراع بذراع العمل ورأوا فيه نفطاً قد عمل فيه فتيلة كبيرة، فمازالوا بالنار حتى أطفئت، من غير أن يكون لها أثر كبير. ونودي بأن يعمل بجانب كل حانوت بالقاهره ومصر زير ودن ملآن ماء، وكذلك بسائر الحارات والأزقة، فبلغ ثمن كل دن من ثلاثة دراهم إلى خمسة، وكل زير إلى ثمانية دراهم لكثرة طلبها.
فلما كانت ليلة الخميس: وقع الحريق بحارة الروم وبخارج القاهرة، وتمادى الحال كذلك، ولا تخلو ساعة من وقوع الحريق بموضع من القاهرة ومصر، وامتنع والي القاهرة والأمير بيبرس الحاجب من النوم. فشاع بين الناس أن الحريق من جهة النصارى لما أنكاهم هدم الكنائس ونهبها، وصارت النيران توجد تارة في منابر الجوامع وتارة في حيطان المدارس والمساجد. ووجدت النار بالمدرسة المنصورية، فزاد قلق الناس وكثر خوفهم، وزاد استعدادهم بادخار الآلات المملوءة ماء في أسطحة الدور وغيرها. وأكثر ما كانت النار توجد في العلو، فتقع في زروب الأسطحة والبادهنجانات، ويوجد النفط قد لف في الخرق، المبللة بالزيت والقطران.
فلما كانت ليلة الجمعة حادي عشريه: قبض على راهبين خرجا من المدرسة الكهارية بالقاهرة، وقد أرميا النار، وأحضرا إلى الأمير علم الدين سنجر الخازن والي القاهرة، فشم منهما رائحة الكبريت والزيت، فأحضرهما من الغد إلى السلطان، فأمر بعقوبتهما حتى يعترفا. فلما نزل الأمير علم الدين بهما وجد العامة قد قبضت على نصراني من داخل باب جامع الظاهر بالحسينية، ومعه كعكة خرق بها نفط وقطران، وقد وضعها بجانب المنبر، فلما فاح الدخان وأنكروه وجد النصراني وهو خارج والأثر في يديه، فعوقب قبل صاحبيه. فاعترف النصراني أن جماعة من النصارى قد اجتمعوا وعملوا النفط، وفرقوه على جماعة ليدوروا به على المواضع. ثم عاقب الأمير علم الدين الراهبين، فأقرا أنهما من دير البغل، وأنهما هما اللذان أحرقا سائر الأماكن التي تقدم ذكرها. وذلك أنه لما مر بالكنائس ما كان، حنق النصارى من ذلك وأقاموا النياحة عليها، واتفقوا على نكاية المسلمين، وعملوا النفط وحشوه بالفتائل وعملوها في سهام ورموا بها، فكانت الفتيلة إذا خرجت من السهم تقع على مسافة مائة ذراع. فلما أنفقوا ذلك فرقوه في جماعة، فصاروا يدورون في القاهرة بالليل، وحيث وجدوا فرصة انتهزوها وألقوا الفتيلة، حتى كان ما كان. فطالع الأمير علم الدين السلطان بذلك.
واتفق وصول كريم الدين الكبير ناظر الخاص من الإسكندرية، فعرفه السلطان ما وقع من القبض على النصارى، فقال كريم الدين: " النصارى بطرك يرجعون إليه، وهو الذي يعرف أحوالهم " . فامر السلطان كريم الدين بطلب البطرك إفي بيته واستعلام الخبر منه، فاتاه ليلا في حماية وافي القاهرة خوفا من العامة، مبالغ كريم الدين في إجلاله، وأعلمه. مما ذكر الرهبان وأحضرهم إليه، فذكروا له كما ذكروا للوالي، فبكا وقال: " هؤلاء سفهاء قد فعلوا كما فعلوا سفهاؤكم، والحكم للسلطان. ومن أكل الحامض ضرس، والحمار العثور يلقي الأرض بأسنانه " . وأقام البطرك ساعة، وقام فركب بغلة كان قد رسم له منذ أيام بركوبها، فشق ذلك على الناس، وهموا به لولا الخوف ممن حوله من المماليك.
فلما ركب كريم الدين من الغد صاحت العامة به: " ما يحل لك يا قاضي تحامي للنصاري ، وقد أخربوا بيوت المسلمين، وتركبهم البغال، فانتكى كريم الدين منهم نكاية بالغة، وأخذ يهون من امر النصارى الممسوكين ويذكر أنهم سفهاء، وعرف السلطان ما كان من أمر البطرك، وأنه اعتنى به. فأمر السلطان الوالي بعقوبة النصارى، فأقروا على أربعة عشر راهباً بدير البغل، فقبض عليهم من الدير. وعملت حفيرة كبيرة بشارع الصليبة، وأحرق فيها أربعه منهم في يوم الجمعة، وقد اجتمع من الناس عالم عظيم. فاشتدت العامه عند ذلك على النصارى ، وأهانوهم وسلبوهم ثيابهم، وألقوهم من الدواب إلى الأرض.(1/429)
وركب السلطان إلى الميدان يوم السبت ثاني عشريه، وقد اجتمع عالم عظيم، وصاحوا: " نصر الله الإسلام، انصر دين محمد بن عبد الله " . فلما استقر السلطان بالميدان حتى أحضر له الخازن والي القاهرة نصرانيين قد قبض عليهما، فأحرقا خارج الميدان. وخرج كريم الدين الكبير من الميدان وعليه التشريف، فصاحت به العامة: " كم تحامي للنصارى " ، وسبوه ورموه بالحجارة، فعاد إلى الميدان. فشق ذلك على السلطان، واستشار الأمراء في أمر العامة، فأشار عليه الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك بعزل الكتاب النصاري، فإن الناس قد أبغضوهم، فلم يرضه ذلك. وتقدم السلطان إلى ألماس الحاجب أن يخرج في أربعة أمراء ويضع السيف في العامة حتى ينتهي إلى باب زويلة، ويمر إلى باب النصر وهو كذلك ولا يرفع السيف عن أحد، وأمر والي القاهرة أن يتوجه إلى باب اللوق والبحر، ويقبض من وجده، ويحملهم إلى القلعة، وعين لذلك مماليك تخرج من الميدان. فبادر كريم الدين وسأل السلطان العفو، فقبل شفاعته، ورسم بالقبض على العامة من غير قتلهم.
وكان الخبر قد طار، ففرت العامة حتى الغلمان، وصار الأمير لا يجد من يركبه. وانتشر ذلك، فغلقت جميع أسواق القاهرة، فما وصل الأمر إلى باب زويلة حتى لم يجدوا أحدا، وشقوا القاهرة إلى باب النصر، فكانت ساعة لم يمر بالناس أعظم منها. ومر الوالي إلى باب اللوق وبولاق وباب البحر، وقبض كثيراً من الكلابزة والنواتية وأراذل العامة، بحيث صار كل من رأه أخذه. وجفل الناس من الخوف، وعدوا في المراكب إلى بر الجيزة.
فلما عاد السلطان إلى القلعة لم يجد أحداً في طريقه، وأحضر إليه الوالي بمن قبض عليه وهم نحو المائتين، فرسم أن يصلبوا، وأفرد جماعة للشنق وجماعة للتوسيط وجماعة لقطع الأيدي. فصاحوا: " يا خوند ما يحل لك! فما نحن الغرماء " ، وتباكوا فرق لهم بكتمر الساقي، وقام معه الأمراء، ومازالوا بالسلطان حتى رسم بصلب جماعة منهم على الخشب من باب زويلة إلى سوق الخيل، وأن يعلقوا بأيديهم. فأصبحوا يوم الأحد صفاً واحداً من باب زويلة إلى سوق الخيل تحت القلعة، فتوجع لهم الناس، وكان منهم كثير من بياض الناس، ولم تفتح القاهرة.
وخاف كريم الدين على نفسه، ولم يسلك من باب زويلة، وصعد القلعة من خارج السور، فإذا السلطان قد قدم الكلابزة وأخذ في قطع أيديهم. فكشف كريم الدين رأسه وقبل الأرض، وباس رجل السلطان، وسأله العفو. فأجابه السلطان بمساعدة الأمير بكتمر، وأمر بهم فقيدوا وأخرجوا للعمل في الحفير بالجيزة. ومات ممن قطع يده رجلان، وامر بحط من علق على الخشب.
فللحال وقع الصوت بحريق أماكن بجوار جامع ابن طولون، وبوقوع الحريق في القلعة وفي بيت الأحمدي بحارة بهاء الدين من القاهرة، وبفندق طرنطاي خارج باب البحر، فدهش السلطان. وكان هذا الفندق برسم تجار الزيت الوارد من الشام، فعمت النار كل ما فيه حتى العمد الرخام، وكانت ستة عشر عموداً، طول كل منها ستة أذرع باعمل، ودوره نحو ذراعين، فصارت كلها جيراً، وتلف فيه لتاجر واحد ما قيمته تسعون ألف درهم، وقبض فيه على ثلاثة نصارى معهم فتائل النفط، اعترفوا أنهم فعلوا ذلك.
فلما كان يوم السبت تاسع عشريه: ركب السلطان إلى الميدان، فوجد نحو العشرين ألفاً من العامة قد صبغوا خرقاً بالأزرق والأصفر، وعملوا في الأزرق صلباناً بيضاء، ورفعوها على الجريد، وصاحوا عليه صيحة واحدة: " لا دين إلا دين الإسلام! نصر الله دين محمد بن عبد الله! يا ملك الناصر يا سلطان الإسلام، إنصرنا على أهل الكفر، ولا تنصر النصارى فخشح السلطان والأمراء، ومر إلى الميدان وقد اشتغل سره وركبت العامة أسوار الميدان، ورفعت الخرق وهي تصيح. " لا دين إلا دين الإسلام " . فخاف السلطان الفتنة ورجع إلى مداراتهم، وتقدم إلى الحاجب بأن يخرج وينادي: " من وجد نصرانياً فدمه وماله حلال " . فلما سمعوا النداء صرخوا صوتاً واحداً: " نصرك الله يا ناصر دين الإسلام " ، فارتجت الأرض.(1/430)
ونودي عقيب ذلك بالقاهرة ومصر: " من وجد من النصارى بعمامة بيضاء حل دمه. ومن وجد من النصارى راكباً باستواء حل دمه " . وكتب مرسوم بلبس النصارى العمائم الزرق، وألا يركبوا فرساً ولا بغلاً، وأن يركبوا الحمير عرضاً، ولا يدخلوا الحمام إلا بجرس في أعناقهم، ولا يتزيوا بزي المسلمين هم ونساؤهم وأولادهم. ورسم للأمراء بإخراج النصارى من دواوينهم ومن دواوين السلطان، وكتب بذلك إلى سائر الأعمال، وغلقت الكنائس والأديرة، وطلب السني ابن ست بهجة، والشمس بن كثير فلم يوجدا.
وتجرأت العامة على النصارى، بحيث إذا وجدوهم ضربوهم وعروهم ثيابهم، فلم يتجاسر نصراني أن يخرج من بيته. و لم يتحدث في أمر اليهود، فكان النصراني إذا طرأ له أمر يتزيا بزي اليهود، ويلبس عمامه صفراء يكتريها من يهودي ليخرج في حاجته. واتفق أن بعض كتاب النصارى حضر إلى يهودي له عليه مبلغ ألف درهم ليأخذ منه شيئاً، فأمسكه اليهودي وصاح: " أنا با للة وبالمسلمين، فخاف النصراني، وقال له: أبرأت ذمتك، وكتب له خطه بالبراءة وفر. واحتاج عدة من النصارى إلى إظهارهم الإسلام، فأسلم السني ابن ست بهجة في يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الآخرة، وخلع عليه، وأسلم كثير منهم، واعترف بعضهم على راهب بدير الخندق أنه كان ينفق المال في عمل النفط للحريق ومعه أربعة، فأخذوا وسمروا.
وانبسطت ألسنة الأمراء بسب كريم الدين أكرم الصغير، وحصلت مفاوضة بين الأمير قطلوبغا الفخري والأمير بكتمر الساقي بسبب كريم الدين الكبير، فإن بكتمر كان يعتني به وبالدواوين، والفخري يضع منه ومنهم، وصار مع كل من الأميرين جماعة، وبلغ السلطان ذلك، وأن الأمراء تترقب وقوع الفتنة.
وصار السلطان إذا ركب إلى الميدان لا يري أحداً في طريقه من العامة لكثرة خوفهم من أن يبطش بهم، فلم يعجبه ذلك، ونودي بخروج الناس للفرجة على الميدان، فخرجوا على عادتهم. فلما كانت ليلة الأحد ثاني عشريه وقع الحريق بالقلعة، وعظم أمره حتى اشتد القلق إلى أن طفي.
وفي رابع عشريه: توجه كريم الدين الكبير إلى الإسكندرية، ونادى فيها بلبس النصارى العمائم الزرق، ومنعهم من المباشرة في الديوان. فوردت مراكب تحصل منها للديوان نحو الخمسين ألف دينار، فسر كريم الدين بذلك. وعاد كريم الدين إلى القاهرة، فشفع في إطلاق المقيدين الذين فبض عليهم فأطلقوا، وأعطى كل واحد منهم عشرة دراهم فضة وعشرة فلوساً وقميصاً، وفرق ألف قميص، ثم استدعى المسجونين على الديوان، وصالح غرماءهم عنهم، وخلى سبيلهم بحيث لم يبق أحد بسجن القضاة وأغلق.
وفيها ألقيت ورقة في جناح طائر وجد بالإسطبل تتضمن الإنكار على السلطان، وأنه فرط في ملكه ومماليكه، والعسكر قد تلف، وقد باع أولاد الناس الإقطاعات التي بأسمائهم، وصاروا يسألون الناس من الحاجة. فغضب السلطان من ذلك، وتقدم إلى نقيب الجيش بكتابة أسماء من باع خبزه، وكشف حال الأجناد ومعرفة من فيهم بغير فرس، وعرض مماليك السلطان، وأخرج منهم مائة إلى الكرك.
وفيه سافر كريم الدين الكبير إلى دمشق على البريد، فتلقاه النائب على العادة، وقدم الناس إليه تقادم جليلة، فلم يقبل منها لأحد منهم شيئاً، بل عمهم بالإنعامات والصدقات، وعاد إلى القاهرة.
وفيها جلس السلطان لعرض أجناد الحلقة، فضرب جماعة وحبس جماعة، وقطع أخباز أربعة عشر من أولاد الأمراء، ثم أفرج عن المحبوسين بعد شهرين، وبعثهم إلى الشام.
وفيه قدم عرب البحرين بأربعين فرساً، فقومت بخمسمائة ألف درهم فضة، وأنعم عليهم بعشرة ألاف دينار مصرية زيادة على ذلك، وخلع على الجميع.
وفيها خرج إلأمير جمال الدين أقوش الأشرفي نائب الكرك بعسكر إلى أياس، وخرجت معه عساكر الشام وحلب بالآلات، فنازلوها ونصبوا عليها المجانيق، وقاتلوا الأرمن حتى ملكوها، وغنموا منها مالاً كثيراً وقتلوا عدة كثيرة منهم، ومر من بقي في البحر، وذلك في حادي عشرى ربيع الآخر. وعادت العساكر فأغارت على بلاد تكفور، وأخذت مالاً كبيراً، وقدم الأمير جمال الدين أقوش إلى القاهرة. فبلغ الأمير ألطنبغا نائب حلب أن أهل إياس قد عادوا إليها، فأمسك إلى أن كانت أيام عيد لهم، وركب بعسكر حلب وطرقهم على غفلة، وقتل منهم نحو ألفي رجل وأسر ثلاثمائة، وغنم مالاً جزيلاً وعاد.(1/431)
وفيه تنكرت المماليك السلطانية على كريم الدين الكبير، لتأخر جوامكهم شهرين، ثم تجمعوا في يوم الخميس ثامن عشرى صفر قبل الظهر، ووقفوا بباب القصر. وكان السلطان وقتذاك عند الحريم، فلما بلغه ذلك خشى منهم، وبعث بخروج الأمير بكتمر الساقي إليهم، فلم يرضوه، فخرج إيهم السلطان وقد صاروا ألفاً وخمسمائة، فعندما رأهم سبهم وأهانهم، وأخذ العصا من المقدم وضرب بها رءوسهم وأكتافهم، وصاح فيهم: " اطلعوا مكانكم " ، فعادوا بأجمعهم إلى الطباق، فعدت سلامته من العجائب. ثم إنه أمر النائب بعرضهم، فعرضهم في يوم السبت أخر صفر، وأخرج منهم مائة وثمانين إلى البلاد الشامية، وأخرج بعد ذلك منهم جماعة من الطباق إلى خرائب تتر، وضرب واحداً منهم بالمقارع هو وغلامه، لكونه شرب الخمر، فمات بعد يومين من ضربه، وأخرج جماعة من الخدام وقطع جوامكهم، وأنزلهم من القلعة.
وفيه قدم رسول جوبان من الأردو يسأل أن يعطى ضيعة من ضياع مصر الخراب ليعمرها ويقفها على الحرم، فأعيد رسوله بأنه يسير إليه مكاتيب ضيعة بعد ذلك.
وفيه أنعم السلطان على جماعة من المماليك بإمريات: منهم علاء الدين أيدغدي التيليلي الشمسي أحد مماليك سنقر الأشقر، وكان قد أمر في أيام المنصور لاجين، وأنعم على كل من بيبرس الكريمي، وقطلوبغا طاز الناصري، وعبد الملك المنصوري والي القلعة، وأبو بكر ابن الأمير أرغون النائب، وملكتمر السرجواني، وطيبغا القاسمي، وطقبغا، وبيدمر، وطغاي تمر من الخاصكية، يإمرة. ونزلوا إلى المدرسة المنصورية بين القصرين، وقد أشعلت لهم القاهرة، وجلس المغاني بالحوانيت في عدة أماكن، وعمل لهم كريم الدين سماطا جليلا وفواكه ومشارب بالمدرسة، فكان يوماً مشهوداً.
وفيه نزل السلطان لصيد الكراكي من بركة الحاج، وتقدم لكريم الدين الكبير أن يعمل بها احواشاً للخيل والجمال وميداناً، ويبني الأمير بكتمر الساقي مثل ذلك. فجمع كريم الدين من الرجال للعمل نحو ألفي رجل ومائة زوج من البقر حتى فرغ في أيام يسيرة، وجعل في الميدان عدة من الحجورة المستولدة، وركب السلطان لمشاهدة ذلك، واستمر يتعاهد الركوب إليها.
وفيه شكا طائفة من أجناد الحلقة من زايد القانون في البلاد، فرسم للفخر ناظر الجيش ألا يتحدث في ذلك. وزايد القانون شيء حدث في الأيام الناصرية: وذلك أن السلطان لما عمل الجسور، واتفق أمرها، وأنشا عليها القناطر، صار الماء إذا أروى بلاد البحيرة يجد ما يمنعه من الخروج إلى البحر فيتراجع، ثم حرق من موضع خرقاً كالمجراة، واتسع حتى صار خليجاً صغيراً يمر على أراض لم يكن من عادتها أن يعلوها الماء. فطالع الأمير ركن الدين القلنجقي كاشف البحيرة السلطان بأن عدة من الأراضي التي في بلاد المقطعين قد شملها الري، وسأل أن يقتطع ولده منها خبزاً بعشرة أرماح، فإنها زايدة عن قانون المقطعين. فندب السلطان الأمير أيتمش المحمدي والموفق مستوفي الدولة لكشف هذه الأراضي وقياسها، فتوجها إلى البحيرة وكشفا عنها، فبلغت خمسة وعشرين ألف فدان، فكتبت مشاريحها، و لم يذكر منها غير خمسة عشر ألف فدان فقط، فإنها كانت أراضي متفرقة في بلاد المقطعين. فكتب السلطان بها مثالات ما بين ثلاثمائة دينار وأربعمائة دينار، وفرقها على أرباب الجوامك من المماليك، فشق هذا على الأجناد، فإنها كانت من أراضي إقطاعاتهم.
وفي نصف جمادى الآخرة: ولد للسلطان من خوند طغاي ولداً أسماه آنوك.
وكانت طغاي هذه جارية تركية اشتراها تنكز نائب الشام من دمشق بتسعين ألف درهم، وبعثها إلى السلطان. فشق على سيدها ذلك لشغفه بها، وحضر إلى السلطان، فأنعم عليه بألفي دينار مصرية، وكتب له مسموحا بألفي دينار. وحظيت الخاتون طغاي عند السلطان، وكانت بارعة الجمال، فعمل السلطان عند ولادتها مهما عظيماً إلى الغاية، وأنعم لها بالسفر إلى الحجاز لتحج، فشرع كريم الدين في تجهيزها، وبعث الأمير تنكز أيضاً يستأذن في الحج، فأذن له.
وفيها قبض على الأمير صلاح الدين بن البيسري، وأرخي في الجب مقيداً، ثم أخرج بعد يومين إلى الإسكندرية. وسببه أنه كان يتورع عن الأكل من سماط السلطان، وكانت أخته تحت الحاج آل ملك، فشكا منه أنه قد أكل مالها، فقال السلطان: " متورع عن الأكل من السماط، ويأكل مال اليتيم " ، وأمر به فقيد.(1/432)
وفيها قدم البريد من حلب بمسير جوبان بعساكر المغل لحرب الملك أزبك.
وفيها أنشأ السلطان على بركة الفيل داراً بجوار دار الأمير بدر الدين جنكلي بن البابا، وأقام آقسنقر شاد العمائر على عملها، وأدخل فيها كثيراً من دور الناس وأراضي ملاكها، ورسم بنقل كريم الدين الكبير إليها.
وفيها قدمت تقادم نواب الشام برسم سفر الخاتون طغاي إلى الحجاز، وعمل الأمير أرغون النائب برسمها ثماني عربات كعاده بلاد الترك لتسافر فيها، وجرها إلى الإسطبل، فأعجب بها السلطان وخلع عليه. وعين للسفر مع الخاتون الأمير قجليسي والقاضي كريم الدين الكبير، وخرج النائب والحجاب في خدمتها إلى بركة الحاج حتى رحلت في يوم الأربعاء سابع عشرى شوال، ومعها من النقباء صاروجا وبكتاش، ورفعت عليها العصائب السلطانية، ودقت الكوسات وراءها، وحملت الخضراوات والبقول والرياحين في المحابر مزروعة في الطين، ولم يعهد سفر امرأة من نساء الملوك مثل سفرها.
وفيها خرج السلطان إلى الصيد، وقد توقف حال الناس في أمر الفلوس لكثرة الزغل فيها، وتحسنت البضائع. فلما قدم السلطان من الصيد رسم أن تكون الفلوس بالميزان، بعدما ضرب كثيراً من الباعة.
وفيها سقط نجم عظيم بعد العصر، فطبق شعاعه الأرض، ورأه كل أحد.
وفيها ولدت كلبة بالقاهرة ثلاثين جرواً، وأحضرت بجراها إلى السلطان.
وفي يوم الإثنين سادس عشرى رمضان: شكا طلبة زاوية الشافعي بجامع عمرو من مدرسهم شهاب الدين الأنصاري، وأبدوا فيه قوادح، فصرف عنهم، وولي عوضه قاضي القصاة بدر الدين محمد بن جماعة، ونزلت إليه الخلعة يوم الجمعة سلخه، فلبسها يوم العيد.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
نور الدين إبراهيم بن هبة الله بن علي الحميري الإسنائي الفقيه الشافعي، قاضي قوص، بالقاهرة يوم الثلاثاء سادس عشرى صفر، أخذ الفقه عن الشيخ بهاء الدين هبة الله بن عبد الله القفطي، والأصول عن الشيخ شمس الدين محمد بن محمود الأصبهاني، والنحو عن ابن النحاس. وبرع في ذلك وصنف.
ومات تاج الدين أبو الهدى أحمد بن محمد بن الكمال أبي الحسن علي بن شجاع القرشي العباسي، بمنشاة المهراني خارج مدينة مصر، عن تسع وسبعين سنة، في سابع جمادى الأولى.
ومات مجد الدين أحمد بن معين الدين أبي بكر الهمذاني المالكي، خطيب الفيوم، يوم الثلاثاء ثامن ربيع الأول، وكان يضرب به المثل في المكارم والسودد، وهو أخو قاضي الفضاة شرف الدين المالكي، وصهر الصاحب تاج الدين محمد بن حنا.
ومات بمكة الشيخ نجم الدين عبد الله بن محمد بن محمد الأصبهاني، في جمادى الآخرة.
ومات الأمير زين الدين كتبغا العادلي حاجب دمشق بها، في يوم الجمعة ثامن عشرى شوال، واستقر عوضه الأمير علاء الدين أيدغدي الخوارزمي، وكان شجاعاً كريماً.
ومات تقي الدين محمد بن عبد الحميد بن عبد الغفار الهمذاني الحلبي الضرير بمصر، وجد ميتاً في حادي عشر ذي الحجة، وقد أناف على السبعين، وحدث بأشياء.
ومات الملك المؤيد هزبر الدين داود ابن المظفر شمس الدين يوسف ابن المنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول التركماني ملك اليمن، في مستهل ذي الحجة، وكانت مدته خمساً وعشرين سنة، وقام من بعده ابنه الملك المجاهد سيف الدين علي.
ومات كمال الدين محمد بن عماد الدين إسماعيل بن أحمد بن سعيد بن الأثير كاتب الدست، يوم الإثنين خامس عشر ذي الحجة بالقاهرة، وكان حشماً رئيساً عاقلاً.
ومات الطواشي صفي الدين جوهر مقدم المماليك السلطانية، فاستقر بعده الطواشي صفي الدين صواب الركني، وكان صواب الركني هذا يلي تقدمة المماليك في الأيام الركنية بيبرس، فلما قدم السلطان من الكرك عزله، ثم أعاده بعد موت جوهر.
ومات حميد الدين أبو الثناء محمود بن محمد بن محمود بن نصر النيسابوري، شيخ الخانكاه الركنية بيبرس، في تاسع عشر جمادى الآخرة، ومولده سنة خمس وأربعين وستمائة.
ومات الشيخ تاج الدين يحيى بن عبد الوهاب بن عبد الرحيم الدمنهوري الشافعي، في ثالث عشر جمادى الأولى. كان يتصدر لإقراء النحو، وصنف.
ومات بمكة الإمام المقرئ عفيف الدين أبو محمد عبد الله بن عبد الحق بن عبد الله ابن عبد الأحد المخزومي الدلاصي، في ليلة رابع عشر المحرم.
سنة اثنتين وعشرين وسبعمائة
أهل المحرم يوم الأربعاء.(1/433)
ففي يوم الأربعاء خامس عشره: وصل أوائل الحجاج.
وفي يوم الثلاثاء حادي عشريه: وصل القاضي كريم الدين الكبير، والأمير قجليس صحبة الخاتون طغاي. وخرج السلطان إلى لقائها ببركة الحاج، ومد سماطاً عظيماً، وخلع على سائر الأمراء وأرباب الوظائف وجميع القهرمانات: مثل الست حدق المعروفة بالست مسكة، ونساء الأمراء، ودخل الجميع إلى منازلهم، فكان يوماً مشهوداً. ولم يسمع بمثل هذه الحجة في كثرة خيرها وسعة العطاء، ويقال إن السلطان أنفق على حجة طغاي مبلغ ثمانين ألف دينار وستمائة وثمانين ألف درهم، سوى كرى الحمول وثمن الجمال ومصروف الجوامك، وسوى ما حمل من أمراء الشام وأمراء مصر.
وفي تاسع عشريه: قدم المحمل ببقية الحاج.
وفي يوم السبت ثاني صفر: خرج الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك، والأمير علم الدين سنجر الجمقدار، والأمير سيف الدين ألماس الحاجب، والأمير سيف الدين طرجي أمير مجلس، والأمير بهاء الدين أصلم السلاح دار، بمضافيهم وطائفة من أجناد الحلقة، إلى غزو بلاد متملك سيس، لمنعه الحمل. ولم يكن الأمر كدلك، بل مسيرهم إنما كان لأجل توجه الملك أزبك إلى بلاد أبي سعيد. وكتب بخروج عساكر الشام أيضاً. وفيه هدم موضع دار العدل الذي أنشأه الملك الظاهر بيبرس، وعمل طبلخاناه، في شهر رمضان، فاستمر موضع الطلخاناه إلى اليوم، ولما هدم وجد في أساسه أربعة قبور، فلما نبشت وجد بها رمم أناس طوال عراض، وإحداها مغطاة بملاءة دبيقي ملونة اذا مس منها شي ء تطاير، وعليهم عدة القتال، وبهم جراحات، وفي وجه أحدهم ضربة سيف بين عينيه عليها قطن، فلما رفع القطن نبع من تحته دم، وشوهد الجرح كأنه جديد، فنقلوا إلى العروستين، وعمل عليهم مسجد.
وفي مستهل ربيع الآخر: قدم الأمير سيف الدين طقصبا الظاهري، ومعه رسل الملك أزبك بكتابه، فأحضروا، ولم يعبأ السلطان بهم لكثرة شكوى طقصبا من تغير أزبك عليه وإطراحه له، واعيد الرسل بالجواب.
وفيه قدم عرب البحرين بمائة وثلاثين فرساً، فقومت بأثمان غالية ما بسين عشرة ألاف درهم الفرس إلى خمسين ألفاً، فلما أخذت أثمانها أنعم السلطان عليهم بخلع وتفاصيل وغير ذلك، وسفروا إلى بلادهم.
وفيه عوض السلطان أمير مكة عن نظير ما كان يستأديه من مكس الغلال، وأقطعه ثلثي دمامين بالوجه القبلي.
وفيه قدم البريد من دمشق بحضور أخت الأمير بدر الدين جنكلي بن البابا من الشرق، وصحبتها جماعة كثيرة إلى دمشق، وأنها ماتت بعد قدومها بثلاثة أيام، فاستدعي من حضر معها إلى مصر، فلما وصلوا أنعم عليهم السلطان بالإقطاعات وغيرها.
وفي مستهل جمادى الأولى: قدم البريد بأن العسكر أغار على بلاد سيس، وأخرب وغنم وقتل جماعة، وأن أوشين متملك سيس هلك، وقام من بعده ابنه ليفون، وله من العمر نحو اثنتي عشرة سنة، وأن العساكر نازلت أياس وأخذوها عنوة بعد حصار، وقتلوا أهلها وخربوها، وعادوا على الأرمن فغنموا وأسروا منهم كثيراً، وتوجهوا عائدين. فقدم الأمير جمال الدين أقوش بالعسكر إلى القاهرة في سابع عشرى جمادى الآخرة، وخلع عليه.
وفي يوم الأربعاء تاسع رجب: قدم الأمير تنكز نائب الشام باستئذان، فأنعم عليه السلطان إنعامات جليلة بلغت قيمتها نحو ثمانين ألف دينار، ورسم لسائر الأمراء بحمل تقادمهم إليه، وأن من أحضر تقدمة يخلع على محضرها من الخزانة السلطانية، فحملت إليه تقادم جليلة، منها أربعون سلسلة ما بين ذهب وفضة، وحمل كريم الدين الكبير تقدمة بعشرة ألاف دينار. وعاد تنكز بعد إقامته خمسة أيام على البريد، في يوم الإثنين رابع عشريه، ودخل دمشق أول شعبان.
وفيه توجه الأمير سيف الدين أيتمش المحمدي إلى السلطان أبي سعيد بن خربندا لعقد الصلح، وعلى يده هدية سنية، وسفر بألفي دينار.(1/434)
وفي ثاني شعبان: عقد على الأمير أبي بكر بن الأمير أرغون النائب عقد خوند بنت السلطان، وتولى العقد قاضي القضاة شمس الدين الحريري الحنفي، على أربعة ألاف دينار. وختن السلطان أولاد ثلاثة من الأمراء: وهم بكتمر الساقي، وطشتمر حمص أخضر، ومنكلي بغا الفخري، وعمل لهم مهماً عظيماً مدة أربعة أيام. ورمى الأمراء الذهب في الطشت، فبلغ ما في طشت ابن الأمير بكتمر الساقي أربعة ألاف وثلاثمائة وثمانين ديناراً، وفي طشت ابن طشتمر حمص أخضر ثلاثة ألاف دينار ونيف، وفي طشت ابن منكلي بغا ألف دينار وثمانمائة دينار.
وفي يوم الخميس عاشر رمضان: قبض على الأمير سيف الدين بكتمر البوبكري وولديه، ثم وقعت الشفاعة في ولديه فأطلقا. وسبب ذلك كثرة معارضته للسلطان، فعينه السلطان لنيابة صفد، فاستعفى من ذلك، فبعث إليه كريم الدين الكبير بألفي دينار وتشريف نيابة صفد ومثالين بإمرتين لولديه بها، فلم يعبأ بكريم الدين وفارقه وهو متغير. فركب الأمير بكتمر وسأل السلطان الإعفاء، فغضب وقبضه وولديه، وسجنهم بالبرج إلى ليلة عيد الفطر، ثم أفرج عن الولدين.
وفيه قدم الشريف عطيفة بن أبي نمى صاحب الحجاز، وأخبر بقحط مكة لعدم المطر، وأنهم استسقوا ثلاثاً فلم يسقوا، ووصل القمح إلى مائتين وخمسين درهماً الأردب. فرسم السلطان أن يحمل إلى مكة ألفا أردب، وحمل النائب ألف أردب، والحاج آل ملك ألف أردب. فلما وصلت الغلال تصدق بها، فانحل السعر، وأبيع الأردب القمح بمائة درهم، وأغيث أهل مكة عقيب ذلك.
وفيه قدم الملك المؤيد صاحب حماة، وسار مع السلطان إلى قوص.
وفيه نقل البوبكري إلى الإسكندرية عند سفر السلطان إلى بلاد الصعيد، فسجن بها.
وفيه ورد الخبر بخلع الملك المجاهد على صاحب اليمن، وإقامة الناصر جلال الدين.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
الشيخ نجم الدين الحسين بن محمد بن عبود، ليلة الجمعة ثالث عشرى شوال وكان قد عظم قدره في الدولة المنصورية لاجين، وعمر زاويته بالقرافة، وقصده الناس لقضاء حوائجهم.
ومات الشيخ جلال الدين إبراهيم بن محمد بن أحمد بن محمود القلانسي، بالقدس في ذي القعدة. وكان قدم إلى مصر في سنة تسع وتسعين وستمائة، وأقام بها وحصل له بها رياسة، واعتقده الأمراء وأهل الدولة، وترددوا إلى زاويته على بركة الفيل، ثم أخرج إلى القدس، وكان كاتباً فاضلاً معتقداً.
ومات الشيخ حسن الجوالقي القلندري، صاحب زاوية القلندرية، خارج باب النصر من القاهرة، في يوم الثلاثاء ثاني عشر جمادى الآخرة بدمشق. وكان قد تقدم في دولة العادل كتبغا.
ومات الرئيس الكاتب زين الدين عبد الرحمن بن أبي صالح رواحة بن علي بن الحسين بن مظفر بن نصر بن رواحة الأنصاري الحموي، بسيوط من بلاد الصعيد، في ذي القعدة من أربع وتسعين سنة، ورحل إليه الناس لسماع الحديث.
ومات محي الدين عبد الرحمن بن مخلوف بن جماعة بن رجاء الربعي الإسكندراني المالكي مسند الإسكندرية، بها في يوم الثامن من ذي الحجة عن ثلاث وتسعين سنة. ومات تقي الدين عتيق بن عبد الرحمن بن أبي الفتح العمري المحدث الزاهد، في ذي الفعدة بمصر.
ومات أبو عبد الله محمد بن علي بن حريث القرشي البلنسي السبتي بمكة في جمادى الآخرة عن إحدى وثمانين سنة، وأقام بها مجاوراً سبع سنين، وكان خطيباً بسبتة ثلاثين سنة، وبرع في فنون.
ومات شمس الدين محمد بن الحسن بن سباع المعروف بابن الصائغ بدمشق، وقدم إلى مصر، وبرع في الأدب، وصنف.
ومات أمين الدين محمد بن حمزة بن عبد المؤمن الأصفوني الشافعي، بسيوط.
ومات تاج الدين محمد بن الجلال أحمد بن عبد الرحمن بن محمد الدشناوي الشافعي بقوص.
وماتت زينب بنت أحمد بن عمر بن أبي بكر بن شكر أم محمد المقدسية المعمرة الرحلة، في ذي الحجة بالقدس، عن أربع وتسعين سنة، حدثت بمصر والمدينة النبوية. ومات بدمشق الأمير غلبك العادلي، والأمير فخر الدين أياز شاد الدواوين، والأمير أيدمر الساقي المعروف بوجه الخشب.
ومات أقجبا البدري والي الفيوم.
ومات بدر الدين والي قوص.
ومات الأمير عز الدين أيبك البغدادي بمحبسه من قلعة الجبل، في سابع عشر جمادى الآخرة.
ومات بمصر القاضي شهاب الدين أحمد بن محمد بن المكين بن رابعة، في ثالث عشرى المحرم.(1/435)
ومات أقضى القضاة نور الدين أبو الحسين علي بن إسماعيل بن يعقوب الزواوي المالكي، يوم الأربعاء سابع عشرى صفر.
ومات القاضي سعد الدين مسعود بن نفيس الدين موسى بن عبد الملك القمني الشافعي، يوم الئلاثاء ثالث عشرى شعبان.
ومات أقضى القضاة قطب الدين محمد بن عبد الصمد بن عبد القادر السنباطي، خليفة الحكم الشافعي ووكيل بيت المال بالقاهرة، سحر يوم الجمعة رابع عشرى ذي الحجة.
سنة ثلاث وعشرين وسبعمائة
أهل المحرم بيوم الأحد الموافق له رابع عشر طوبة: سقط بالدقهلية والمرتاحية من بلاد الغربية بعد مطر عظيم وريح قوية جداً برد وزن الحبة منه ما ينيف على خمسين درهماً، أتلف كثيراً من الزرع ومن الغنم والبقر، ووجد فيه حجارة منها ما وزنه من سبعة أرطال إلى ثلاثين رطلاً، وتلف من البلاد أحد وسبعون بلداً بالغربية، وإثنان وثلاثون بلداً بالبحيرة.
وفيها نزل السلطان بالجيزة عائداً من بلاد الصعيد، وخلع على نائب حماة، ورسم له بالعود إلى بلده. واستدعى السلطان بالحريم من القلعة إلى عنده، وكان الوقت شتاء، فطرد سائر الناس من الطرقات، وعلقت الحوانيت، ونزلت خوند طغاي، والأمير أيدغمش أمير أخور ماش يقود عنان فرسها بيده، وحولها سائر الخدام مشاة منذ ركبت من القلعة إلى أن وصلت إلى النيل، فعدت في الحراقة. واستدعى الأمير بكتمر الساقي وغيره من الأمراء الخاصكية حريمهم، وأقاموا في أهنأ عيش وأرغده.
وفيها قدم من عند صاحب ماردين الجارية التي طلبت: وكان المجد السلامي قد بعث بأنه أراد شراء جارية جنكية من الأردوا، فبذل صاحب ماردين فيها الرغائب لصاحبها حتى اشتراها، وأن المجد سير يعلمه بأنه قد عينها للسلطان، فلم يعبأ بقوله وشغف بها. فكتب السلطان لصاحب ماردين بالإنكار عليه، وأن يحملها إلى مصر، فسير جارية غيرها من مملوكين، فلم يخف ذلك على السلطان، ورد الثلاثة، وقال لقاصده شفاهاً: متى لم يبعث بالجارية، وإلا أخربت ماردين على رأسه، فلم يجد بداً من إرسالها، فلما حضرت أنعم السلطان عليه بإنعامات جليلة.
وفيه عاد السلطان من الجيزة إلى القلعة، وقد توعك كريم الدين الكبير.
وفي خامس عشره: قدمت بوادر الحجاج، وقدم المحمل ببقية الحاج في يوم الخميس سادس عشره.
وفيه تكرر إرسال السلطان الأمراء وغيرهم لتفقد حال كريم الدين، فلم ينزل إليه أحد إلا وخلع عليه أطلس بطراز وكلفتاه زركش وحياصة ذهب، حتى استعظم الناس ذلك. وبالغ السلطان في كثرة الإنعام على الأمراء والحكماء إلى يوم الخميس ثالث ربيع الأول. ثم ركب كريم الدين إلى القلعة، وتوجه بعد اجتماعه بالسلطان إلى القرافة، فكان يوماً مشهوداً، زينت فيه القاهرة زينة عظيمة، وصفت بها المغاني، وأشعلت الشموع، واجتمع الناس بالمدرسة المنصورية بين القصرين لأخذ الصدقات، فمات في الزحمة أربعة عشر إنساناً، وتأذى أناس كثيرة، و لم يفرق فيهم شيء. وخلع على جميع الأطباء، أخرج أهل السجون، وتصدق بأموال جزيلة.
وفيه قدم الخبر باجتماع الأمير أيتمش بالسلطان أبي سعيد، وأنه أكرم غاية الإكرامة، وعاد إلى ماردين.
وفي عشريه: قتل الشيخ ضياء الدين عبد الله الدربندي الصوفي. وكان قد قدم من دمشق في أوائل هذه السنة على هيئة الفقراء اليونسية، ولايزال في يده طبر، وشهر بدين وعلم. فلما كان هذا اليوم تحزم وقال: " أنا رايح أجاهد في سبيل الله وأموت شهيداً " ، وسار من خانكاه سعيد السعداء إلى قلعة الجبل، والأمراء جلوس على باب القلة، فرأى رجلاً من المسلمين قد تبع بعض الكتاب النصارى وقبل يده والنصراني لا يعبأ به، فحنق منه وضرب النصراني بالطبر فهدل كتفه وثنى عليه فارتجت القلعة، واجتمع الناس وقبضوه، فاشتد غضب السلطان، وأمر به فضرب عنقه على باب القلعة.
وفي ثالث عشريه: قدم البريد بوفاة نجم الدين أحمد بن محمد بن صصري قاضي القضاة الشافعية بدمشق، فاستقر عوضه قاضي القضاة جمال الدين سليمان بن عمر الزرعي، واستقر عوضه في تدريس المدرسة المنصورية القاضي تقي الدين السبكي، وفي تدريس الجامع الحاكمي الشيخ شمس الدين محمد بن عدلان.(1/436)
وفيه قدم الأمير أيتمش المحمدي من عند أبي سعيد، وقد عقد الصلح بينه وبين السلطان، وخطب بذلك في يوم الجمعة بمدينة توريز على منبر الجامع، وقد حمل الأمير أيتمش معه نسخة الأيمان التي تتضمن حلف أبي سعيد وجوبان والوزير، وما أنعم به عليه أبو سعيد: وهو ما قيمته نحو المائتي ألف درهم، ولؤلؤاً اشتراه بأربعين ألف درهم قوم بمائة ألف. وقدم أيتمش ذلك كله للسلطان، وحلف ألا يدخل في ملكه، فقبله منه وأنعم عليه بمائة ألف درهم، وحمل له كريم الدين عشرين ألف درهم من عنده.
وفي يوم الخميس سلخ ربيع الأول: قبل الظهر ولد للسلطان ولد ذكر من حظيته طغاي سماه أنوك، وفيه وقف بعض بزدارية السلطان وشكا أن أحد أجناد الأمير بكتمر الحاجب تزوج بامرأته من غير أن يكون قد طلقها، وأنه رشا الشهود حتى فعلوا له ذلك. فكشف علم الدين الخازن والي القاهرة عن قوله فتبين كذبه، وأنه طلق المرأة وانقضت عدتها ثم تزوجت بالجندي فتعصب الأمير بكتمر على البازدار لظهور كذبه، فحنق السلطان وأمر الوالي بتعزير الشهود ومنعهم من تحمل الشهادة، وإلزام الجندي بطلاق المرأة وردها إلى البازدار، فكان هذا من الأمور الشنيعة.
وفيه قبض على القاضي كريم الدين عبد الكريم بن العلم بن هبة الله بن السديد ناظر الخاص ووكيل السلطان، في يوم الخميس رابع عشره ربيع الآخر، بعدما تجهز ليسافر في يوم الجمعة خامس عشره إلى الشام. فعندما طلع إلى القلعة على العادة، ووصل إلى الدركاه، منع من الدخول إلى السلطان، وعوق بدار النيابة هو وولده علم الدين عبد الله وكريم الدين أكرم الصغير ناظر الدولة. ووقعت الحوطة على دور كريم الدين الكبير خاصة التي بالقاهرة وبركة الفيل، ونزل شهود الخزانة بولده إلى داره ببركة الفيل، وحملوا ما فيها إلى القلعة. وتوالت مصادرته، فوجد له شيء كثير جًدا: من ذلك قماش وبرد وطرز وحوايص قيمتها زيادة على ستين ألف دينار، وقند وسكر زنته ثمانون ألف قنطار، وعسل عدة ثلاثة وخمسين ألف مطر، وصناديق بها مسك وزعفران وعنبر وعود ولبان وعير ذلك عدة أحد وأربعين صندوقاً. وأبيعت داره التي على بركة الفيل للأمير سيف الدين طقتمر بثلاثة عشر ألف دينار. وحمل ماله في الإسكندرية، وكان خمسين ألف دينار، ومن أصناف المتجر شيء كثير جداً، ومنه ثمانون ألف قطعة خشب، ومائة وستون ألف قنطار رصاص، وبلغت قيمة الأصناف التي له في الإسكندرية خمسمائة ألف دينار. ووجد له بدمشق ألف ألف دينار وستمائة ألف درهم، وخمسة وعشرون ألف دينار. وبلغت قيمة أوقافه ستة ألاف ألف درهم.
وفي يوم السبت سلخه: قبض على كريم الدين الصغير، وسبب أنه امتنع من أن يتحدث في الخاص والمتجر ويدبر الأمور كلها بعد القبض على خاله كريم الدين الكبير.(1/437)
وفيه نقل كريم الدين الكبير وولده علم الدين إلى البرج المرسوم للمصادرين بباب القرافة من القلعة، وطولب بالحمل. وعوق بالقلعة ناصر الدين شاد الخاص، والمهذب العامل، وغيره لعمل حساب كريم الدين. وكان سبب نكبته حسد الأمراء وغيرهم له على تمكنه من السلطان وسعة ماله وكثرة عطائه، فوشوا به إلى السلطان أنه يتلف الأموال السلطانية بتفريقها، ليقال عنه إنه كريم. واتفق مع ذلك أن كريم الدين أكرم الصغير كان له اختصاص بالأمير أرغون النائب، فأكثر من شكاية كريم الدين الكبير، وأنه يمنعه من تحصيل الأموال. وكان أكرم الصغير ظلوماً غشوماً، يريد أن يمد يده إلى ظلم الناس، فيمنعه كريم الدين. فبلغ النائب السلطان شكوى أكرم الصغير مراراً، فأثر في نفسه ذلك. وصار السلطان يرى عند الخاصكية من الملابس الفاخرة والطرز الزركش، وعند نسائهم من الملابس والحلي ما يستكثره، فإذا سأل عنه قيل له هذا من كريم الدين، فتصغر نفسه عندهم لأنه لا يعطيهم قط مثل ذلك. ولما حضر عرب البحرين بالخيل قومت بألف ألف ومائتي ألف درهم، سلمها كريم الدين إليهم بجملتها فيما بين بكرة النهار إلى الظهر، وعادوا إلى السلطان وقد دهشوا، فإنه كان أخرج إليهم شكائر ما بين ذهب وفضة. فلما قال لهم السلطان: قبضتم. قالوا: نعم، قال: لعله تأخر لكم شيء، فقالوا: وحياتك! عند كريم الدين مال في خزانة إذا أخرج منه مدة شهر ما يفرغ. فتحرك السلطان لذلك، وقال لبكتمر الساقي. سمعت قول العرب أنه دفع هذا القدر في يوم واحد، والخزانة ملآنة ذهباً وفضة؟ وأنا أطلب منه ألفي دينار فيقول ما تم حاصل. وتبين الغضب في وجه السلطان، فأخذ بكتمر يتلطف به وهو يحتد إلى أن قبض عليه.
وفي يوم السبت سابع جمادى الآخرة: نقل تاج الدين بن عماد الدين بن السكري من شهادة الخزانة إلى نظر بيت المال، وخلع عليه بطرحة.
وفيه نقل علاء الدين بن البرهان البرلسي من نظر بيت المال إلى نظر خزائن السلاح، وخلع عليه.
وفي رابع عشره: قدمت رسل أبي سعيد لتحليف السلطان على الصلح، ومعهم هدية ما بين بخاتي وأكاديش وتحف، فقرئ كتابه بوقوع الصلح، ثم سفروا بهدية سنية بعدما عمرهم إحسان السلطان في ثاني عشريه.
وفيه قدم الحمل من عند متملك سيس صحبة رسوله، ومعه جواهر ثمينة، واعتذر الرسول عما كان من متملك سيس، واستأذن في عمارة أياس، على أن يحمل في كل سنة مائة ألف درهم، فأجيب إلى ذلك.
وفيه قدم موسى بن مهنا وعمه محمد بالقود على العادة، وخيول كان السلطان استدعى بها. وسبب ذلك وقوع الصلح مع أبي سعيد، فضاقت بهم البلاد، فأكرمهما السلطان وأنعم عليهما، وأعادهما إلى بلادهما.
وفيه وقعت مرافعة بين فرج وعلي ولدي قراسنقر، بسبب دخيرة لأمهما تبلع نحو المائتي ألف ألف درهم، فأخذها السلطان منهما.
وفيه قدم المجد السلامي من الشرق، وقدم تقدمة جليلة، فرتبت له الرواتب السنية، وكتب له مسموح بمبلغ خمسين ألف درهم في السنة، ومرسوم بمسامحة نصف المكس عن تجاراته، وعاد إلى توريز.
وفيه قبض على جماعة من المماليك، وعوقوا بسبب ورقة وجدت تحت كرسي السلطان فيها سبه وتوبيخه، وأخرج منهم عدة إلى بلاد، وسجن منهم جماعة.
وفي سادس عشره: استقر الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي أستاداراً، عوضاً عن الأمير سيف الدين بكتمر العلائي، وخرج بكتمر إلى دمشق. وكان ذلك بسبب أنه استخدم طباخ كريم الدين الكبير في مطبخ السلطان، فأنكر عليه السلطان ذلك وقال له: تستخدم طباخ رجل قد عزلته وصادرته في مطبخي؟ وأخرج أيضاً الأمير سنقر السعدي نقيب المماليك إلى طرابلس.
وفيه أفرج عن كريم الدين أكرم الصغير، ورسم له أن يتحدث في الأموال السلطانية كلها بغير مشارك، فامتنع من ذلك، فعزل عن نظر الدواوين. ثم خلع عليه واستقر صاحب ديوان الجيش، عوضاً عن معين الدين بن حشيش، وخلع على معين الدين بنظر الجيش بالشام.
وفيه ولى السلطان نظر الخاص تاج الدين اسحاق أحد نظار الدواوين، وتسمى لما أسلم عبد الوهاب، ورسم ألا يتحدث في متجر. وكان سبب ولايته أن السلطان لما قبض كريم الدين الكبير بعث إليه أن يعين من يصلح لنظر الخاص، فعين التاج، وباشر التاج الخاص بسكون زائد وسياسة جيدة إلى أن مات.
وفيه طلب الصاحب أمين الدين عبد الله بن الغنام من القدس.(1/438)
وفي ليلة الثالث والعشرين من جمادى الآخرة،: سفر كريم الدين أكرم الصغير على البريد إلى صفد.
وفي يوم الأربعاء رابع عشريه: أفرج عن كريم الدين الكبير وولده، وألزم بالإقامة في تربته من القرافة، وكان له يوم عظيم جداً، وأتاه الناس من كل مكان.
وفيه استقر الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك في نظر المارستان، عوضاً عن كريم الدين الكبير، فوجد حاصله أربعمائة ألف درهم، سوي سكر وغيره قيمته مائة ألف درهم.
وفيه استقر الأمير سيف الدين قجليس في نظر جامع ابن طولون، عوضاً عن كريم الدين الكبير أيضاً.
وفيه خرج الطلب لإحضار شمس الدين غبريال من دمشق، فركب ومعه أموال كثيرة، ثم خول اموال كريم الدين الكبير، وعاد إلى دمشق مكرماً.
ثم قدم الصاحب أمين الدين يوم الأحد رابع عشرى ربيع الآخر، وقرر في الوزارة، وجلس بقلعة الصاحب من القلعة، ونزل إلى داره، فكان يوماً مشهوداً. واستقر في نظر النظار شرف الدين إبراهيم بن زنبور، واستمر عوضه في استيفاء الصحبة شمس الدين إبراهيم بن قروينة صهر الصاحب أمين الدين، فصار نظر النظار بين القاضي موفق الدين هبة الله بن سعيد الدولة إبراهيم وبين ابن زنبور. وشفى الصاحب أمين الدين نفسه من كريم الدين أكرم الناظر، وأخرق به.
وفي يوم السبت سلخ ربيع الأخر: قبض على كريم الدين الصغير، واعتقل ببرج في القلعة، فشرع في حمل المال، ثم أفرج عنه سلخ جمادى الأولى، ورسم له بنظر صفد، فتوجه إليها ليلة الإثنين رابع عشر جمادى الآخرة.
وفيه قدم شمس الدين غبريال، ومعه حمل دمشق ألف ألف وستمائة ألف درهم، ومن الذهب مبلغ خمسة وعشرين ألف دينار من حاصل كريم الدين ومتاجره.
وفي يوم السبت تاسع عشرى جمادى الآخرة: أخرج كريم الدين الكبير وولده الشوبك، بعدما أشهد عليه أن جميع ما وقفه من الأملاك وغيرها إنما اشتراه من مال السلطان دون ماله. فأبقى السلطان أوقاف الخانكاه بالقرافة، وأوقاف الجامع بدمشق، وأعيد غبريال إلى دمشق على عادته.
وفيه توجه التاج اسحاق والأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي إلى الاسكندرية، واحتاطا على أموال كريم الدين الكبير، وكانت تحت يد مكين الترجمان، وقد أخذ المكين منها ثلاثة وخمسين ألف دينار، فاستقر التاج إسحاق يتحدث في متجر الخاص. وعاد التاج إسحاق ومعه الأمير مغلطاي فأوقع الحوطة على أموال التجار، وألزم ابن المحسني متولي الثغر بخمسين ألف دينار، ورسم على سائر المباشرين، وصادر الناس، فغلقت المدينة وبلغ السلطان ذلك فأنكره، وأفرج عن ابن المحسني بعدما أخذ منه مبلغ اثني عشر ألف دينار، وعاد الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي بستين ألف دينار من المصادرات.
وفيه كان عرس أمير علي بن أرغون النائب على ابنة السلطان، في يوم الإثنين ثامن عشر شعبان. وقد اعتنى السلطان بجهازها عناية عظيمه، وعمل لها بشخاناه وستارة وداير بيت زركش بمبلغ ثمانين ألف دينار، وآلات ذهب وفضة بما ينيف على عشرة ألاف دينار. وعمر السلطان لها مناظر الكبش عمارة جديدة، ونقل الجهاز إليها، ثم نزل بنفسه حتى نصب الجهاز. وعمل المهم مدة ثلاثة أيام، حضره نساء الأمراء بتقادمهم: وهي ما بين أربعمائة دينار سوى تعابي القماش إلى مائتي دينار. وكان فيه ثماني جوق من مغاني القاهرة، وعشرون جوقة من جواري السلطان والأمراء، خص كل جوقة من جوف القاهرة خمسمائة دينار ومائة وخمسون تفصيلة حرير، ولم يحصو ما حصل لجواري السلطان والأمراء لكثرته. فلما انقضى المهم بعث السلطان لكل من نساء الأمراء تعبية قماش على قدرها، وعم جميع الأمراء بالخلع، وفضل من الشممع بعدما استعمل منه مدة العرس ألف قنطار مصري. وأنعم السلطان على الأمير أرغون النائب بمنية بني خصيب، زيادة على إقطاعه.
وفيه قبض على الأمير طشتمر حمص أخضر الساقي، وفرج بن قراسنقر، وكرت، وعدة من المماليك. ثم أفرج عن طشتمر من يومه، ونفي كرت إلى صفد، وبقي فرج ابن قراسنقر بالجب.
وفيه هبت ريح سوداء حارة بدمشق، مات منها جماعة من الناس فجأة، وفسدت الثمار وجفت المياه، فتحسن سعر الغلال. ثم وقع مثل ذلك بالقاهرة ومصر، فتغيرت أمزجة الناس، وفشت الأمراض، وكثر الموت مدة شهر، وفسدت الثمار، وتحسن السعر لهيف الغلة وقلة وقوعها.(1/439)
وفيه قدم الأمير بكتمر الحسامي من دمشق، فولي الإسكندرية وتوجه إليها، فأراق الخمور بها، ومنع من بيعها، وجعل أجرة النقيب نصف درهم، وتثبت في البينات، وحمل الناس على الأمور الشرعية. فاستخفوا به وطمعوا فيه، وكثر فسادهم، فأحدث عليهم غرامات يقومون بها إذا تبين الحق عليه، فكان الرجل إذا شكا يجبى منه من مائتي درهم إلى ما دونها، وضرب جماعة منهم فخضعوا له.
وفيه توجه قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة والأمير آل ملك إلى الحج، في سادس شوال. وتوجه الأمير بيبرس الدوادار نائب السلطنة في حادي عشره، ومعه حاج كثير، ورحل المحمل ببقية الحاج في ثامن عشره من البركة. وتوجه الفخر ناظر الجيش في ثاني عشريه إلى القدس، ليتوجه منه إلى الحج. وكانت عدة ركوب الحاج من مصر ستة ركوب، على كل ركب أمير.
وفيه استقر بلبان العتريس في ولاية البحيرة، عوضاً عن أسندمر القلنجقي.
وفيه استقر قدادار مملوك برلغي في ولاية الغربية.
وفي أول ذي الحجة: خرج الأمير علاء الدين علي بن قراسنقر، والأمير سيف الدين أيدمر الكبكي، والأمير طقصباي المرتبة فديته بقوص، وخمسمائة من أجناد الحلقه إلى بلاد النوبة، ومعهم كرنبس. فانتهوا إلى دمقلة وكان قد تغلب كنز الدولة عليها، ونزع كرنبس، ففر كنز الدولة منهم، وجلس كرنبس على سرير ملكه وعادوا، فحارب كنز الدولة كرنبس بعد عود العسكر، وملك منه البلاد.
وفيه صرف معين الدين بن حشيش عن ديوان الجيش، ونقل إلى دمشق، وأشرك بينه وبين القطب ابن شيخ السلامية في نظر الجيش بها.
وفيه ابتدأ السلطان بعمارة القصور بناحية سرياقوس في أخر ذي الحجة.
وكان قاع النيل في هذه السنة ستة أذرع ونصف، وكان الوفاء يوم الأربعاء سادس شعبان، وسابع عشر مسري ، وانتهت الزيادة في سابع عشر رمضان إلى ثمانية عشر ذراعاً وستة أصابع. وخرق الماء ناحية بستان الخشاب، ودخل إلى بولاق، وغرق بساتين. وانقطعت الطريق من جهة اللوق، وغرق الخور، وانهدمت عدة بيوت، وغرقت المنية وجزيرة الفيل، فركب السلطان بنفسه لعمل جسر. ثم قويت الزيادة، وفاض الماء على منشاة المهراني ومنشاة الكتبة، وصار ما بين بولاق ومصر بحراً واحداً. وأمر الناس برمي التراب في ناحية بولاق، وكثر الخوف من غرق القاهرة، واشتد الاحتراس. وطلب الفقراء للعمل، فبلغت أجرة الرجل في كل يوم مابين درهم إلى ثلاثة دراهم، لعزة وجود الرجال واشتغالهم عند الناس في نقل التراب. ونزت أماكن كثيرة، وغرقت الأقصاب ببلاد الصعيد، وتلف القلقاس والنيلة وعدة مطاير بها الغلال. وكتب لسائر الولاة بكسر جميع الترع والجسور وتصريفها إلى البحر الملح، فثبت الماء ثلاثة وأربعين يوماً، ثم نزل قليلاً قليلاً. فاستدعى السلطان المهندسين، ورسم بعمل جسر يحجز الماء عن القاهرة لئلا تغرق في نيل أخر، وألزم أرباب الأملاك المطلة على النيل بعمارة الزرابي، فعمل كل أحد تجاه داره زربية. واستدعى الأمراء فلاحيهم من النواحي، فحضروا بالأبقار والجراريف. وعمل الجسر من بولاف إلى منية الشيرج، ووزع بالأقصاب على الأمراء، فنصب كل أمير خيمة وخرج برجاله للعمل. ونصبت لهم الأسواق، حتى كمل الجسر في عشرين يوماً، وكان ارتفاعه أربع قصبات في عرض ثمانية.
وفيه قدم البريد بموت تكفور متملك سيس، وإقامة ولده بعده، ثم قدمت رسله بالهدية.
وفيه قدم الشريفان عطيفة أمير مكة وقتادة أمير ينبع.
ومات في هذه السنة من الأعيان
المجاهد أنص ابن العادل كتبغا، بعد ما عمي من سهم أصابه، في يوم الإثنين ثاني المحرم، وكان سمحاً ذكياً متقدماً في رمي البندق.
ومات تاج الدين أحمد بن مجد الدين علي بن وهب بن مطيع بن دقيق العيد الشافعي، في عشرى ذي الحجة، ومولده في ربيع سنة ست وثلاثين وستمائة. وكان فقيهاً فاضلاً في مذهبي الشافعي ومالك، سمع الحديث وحدث، وولي الحكم بغرب قمولا وبقوص، وكان كثير العبادة.(1/440)
ومات قاضي القضاة بدمشق نجم الدين أبو العباس أحمد بن العماد محمد ابن الأمير سالم بن الحافظ بهاء الدين الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن صصري التغلبي الدمشقي الشافعي، في ليلة السبت سادس عشرى ربيع الأول، ومولده في سابع عشرى ذي القعدة سنة خمس وخمسين وستمائة، وولي القضاء إحدى وعشرين سنة، وقدم القاهرة مراراً، وقرأ القراءات السبع، وسمع الحديث، وكتب الخط المليح، وبرع في الأدب والتاريخ، وقال الشعر، وشارك في فنون من فقه وتفسير وغيره.
ومات أحمد بن محمد بن علي بن أبي بكر بن خميس الأنصاري المغربي، في يوم الأحد سابع عشر شعبان بمصر، ومولده بالجزيرة الخضراء من الغرب، في المحرم سنة ست وأربعين وستمائة. وكان صاحب فنون وصلاح ودين وشعر جيد.
ومات نجم الدين محمد بن عثمان بن الصفي البصروي الحنفي الوزير الصاحب. ولي حسبه دمشق ثم وزارتها، ثم صار من الأمراء.
ومات كمال الدين عبد الرزاق بن أحمد بن محمد بن أحمد بن الفوطي البغدادي المؤرخ، في المحرم ببغداد.
ومات تاج الدين ناهض بن مخلوف، أخو قاضي القضاة زين الدين علي بن مخلوف المالكي، في يوم الأربعاء ثامن عشر المحرم بمصر.
ومات السني ابن ست بهجة، يوم الأحد خامس عشرى ذي الحجة، وكان من أعيان الكتاب بمصر.
ومات بهاء الدين القاسم بن مظفر بن محمود بن تاج الأمناء أحمد بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن عساكر، في خامس عشرى شوال، ومولده سنة تسع وعشرين وستمائة. سمع وحدث وصار مسند الشام.
سنة أربع وعشرين وسبعمائة
أهل المحرم يوم الجمعة ثالث شهر طوبة: فقدم الفخر ناظر الجيش من الحجاز عشية الأحد ثالثه.
وفي يوم الأربعاء سادسه: نودي على الفلوس أن يتعامل الناس بها بالرطل، على أن كل رطل منها بدرهمين، ومن عنده منها شيء يحضره إلى دار الضرب، ويأخذ عنها فضة. ورسم بضرب فلوس زنة الفلس منها درهم وثمن، فضرب منها نحو مائتي ألف درهم فرقت على الصيارف. وكان سبب ذلك كثرة ما دخل في الفلوس من الزغل، حتى صار وزن الفلس نصف درهم. فتوقف الناس عن أخذ الفلوس، وكثر ردها وعقوبة الباعة على ذلك بالضرب والتجريس إلى أن فسد الحال، وغلقت الحوانيت، وارتفعت الأسعار، وبلغ القمح بعد عشرة دراهم الأردب إلى سبعة عشر درهماً.
وفي يوم السبت تاسعه: وصل الأمير سيف الدين طشتمر حمص أخضر الساقي من الحجاز، وصحبته جماعة وكان قد سافر بعد الإفراج عنه، وأنعم عليه بألفي دينار وغلال كثيرة، وعمل له السلطان عند قدومه اثنتي عشرة بدلة وثلاثة حوائض وطرز زركش، وأنعم عليه بمال جزيل، وتتابع قدوم الحاج حتى قدم المحمل في خامس عشريه وفيه توجه الأمير أرغون النائب إلى منية بني خصيب، فشكا أهلها من مباشريهم، فلم يسمع لهم وأمر بضربهم، فرجموه بالحجارة وأنكوا في مماليكه وغلمانه. فركب عليهم أرغون ليفتك بهم، ففروا من عند الوطاق خارج البلد إلى داخل البلد، فأخذ مماليكه من عمائم الهاربين نيفاً على ثلاثمائة وستين عمامة زرقاء من عمائم النصارى، فلما استكثر ذلك قيل له إن بها كثيراً من النصارى، ولهم خمس كنائس ، فهدمها في ساعة واحدة، ورسم ألا يستخدم نصراني في ديوانه، وكان النصارى قد جددوا عمارة ما خرب من الكنائس بالصعيد، فهدمت أيضاً.
وفي يوم الجمعة: هبت ريح والناس في الصلاة، حتى ظن الناس أن الساعة قامت، واستمرت بقية النهار وطول الليل، فهدم بها دور كثيرة، وامتلأت الأرض بتراب أسود.
وخرجت ريح شديدة ببلاد قوص إلى أسوان، واقتلعت في ليلة واحدة أربعة ألاف نخلة، وخربت الديار.
وفيه قدمت رسل المجاهد سيف الدين بن علي ملك اليمن بطلب نجدة من مصر، فلم يجب إلى ذلك.
وفيها قحطت بلاد الشرق، فقدمت طوائف إلى بلاد الشام، وكان الجراد قد أتلف زروعها، فبلغت الغرارة بدمشق إلى مائتي درهم. فجهز الأمراء من مصر الغلال الكثيرة في البحر إلى بيروت وطرابلس، فكان ما حمل من جهة السلطان والأمراء نحو عشرين ألف أردب سوى ما حمله التجار، فانحط السعر حتى أبيعت الغرارة بثمانين درهماً. وكتب بإبطال مكس الغلة بالشام، وهو على كل غرارة ثلاثة دراهم، وكانث تبلغ في كل سنة ألف ألف ومائتي ألف درهم، فبطل ذلك واستمر بطلانه.(1/441)
وفيه عزل جمال الدين سليمان الزرعي عن قضاء القضاة بدمشق، واستمر عوضه جلال الدين محمد القزويني، بعد استدعائه إلى القاهرة في يوم الأحد حادي عشر جمادى الأولى، وقدومه في يوم الجمعة ثالث عشريه. فلما اجتمع القزويني بالسلطان أقبل عليه وصلى به الجمعة، ونزل إلى خانكاه سعيد السعداء، ثم ولاه قضاء القضاة بدمشق، وخلع عليه يوم الجمعة ثالث عشر جمادى الآخرة وسافر القزويني على البريد يوم الإثنين رابع عشريه، فقدم دمشق خامس رجب، وكان عليه ديون اجتمعت عليه بسبب مكارمه، وهي ألف دينار ومائة وستون ديناراً، فأعطاه السلطان ما وفى به ديونه.
وفيه كتب باستقرار كمال الدين محمد بن علي الزملكاني في قضاء حلب، عوضاً عن زين الدين عبد الله بن محمد بن عبد القادر الأنصاري.
وفيه توجه السلطان إلى الصيد بالبحيرة، فاصطاد نحو المائتي غزال بالحياة سوى ما قتل، وجرح كثيراً منها وأطلقها.
وفي يوم الأربعاء سابع عشر ربيع الأولى: توجه الأمير سيف الدين قطلوبغا المغربي، لإحضار كريم الدين الكبير وولده من المقدس، فلما كان يوم الخميس خامس عشريه حضرا على البريد تحت الحوطة، فسلما إلى الأمير قجليس، فأقاما كنده إلى يوم حادي عشر ربيع الآخر، ثم طلعا إلى قلعة الجبل، وطولبا بالمال.
وفيه تنكر الحال بين الأميرين تنكز نائب الشام والأمير ألطنبغا نائب حلب.
وفي يوم الخميس عاشر ربيع الآخر: حضر كريم الدين أكرم الصغير على خيل البريد من صفد إلى قلعه الجبل، فعوق ببرج باب القرافة.
وفي يوم الجمعة ثامن عشره: سفر كريم الدين بكتمر وولده إلى الوجه القبلي، صحبة والي قوص.
وفي يوم الإثنين ثامن عشريه: أفرج عن كريم الدين أكرم الصغير، ونزل إلى بيته.
وفي اليلة الأحد خامس عشر جمادى الأولى: طلع القمر مخسوفاً بالسواد.
وفيه قدم منسا موسى ملك التكرور يريد الحج وأقام تحت الأهرام ثلاثة أيام في الضيافة. عدى إلى بر مصر في يوم الخميس سادس عشرى رجب، وطلع إلى القلعة ليسلم على السلطان، وامتنع من تقبيل الأرض، فلم يجبر على ذلك، غير أنه لم يمكن من الجلوس في الحضرة السلطانية. وأمر السلطان بتجهيزه للحج، فنزل وأخرج ذهباً كثيراً في شراء ما يريد من الجواري والثياب وغير ذلك، حتى انحط الدينار ستة دراهم.
وفي يوم الخميس ثامن رمضان: عزل الصاحب أمين الدين عبد الله بن الغنام عن الوزارة، ولزم بيته. واستقر عوضه الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي وزيراً، مع مابيده من الأستادارية، في يوم السبت عاشره.
وفيه استقر شهاب الدين بن الأقفهسي في نظر الدواوين، عوضاً عن الموفق، وعن شرف الدين بن زنبور. وولي مجد الدين إبراهيم بن لفيتة نظر البيوت، عوضاً عن الأقفهسي المذكور. ثم قدم شمس الدين غبريال من دمشق باستدعاء في أثناء شهر رمضان، فاستقر ناظر الدواوين ووزير الصحبة ونائب الوزارة، في يوم الجمعة ثاني عشرى رمضان يوم وصوله.
واستقر في يوم الجمعة ثالث عشرى رمضان الأمير سيف الدين قدادار في ولاية القاهرة، عوضاً عن علم الدين سنجر الخازن نقل إليها من ولاية البحيرة، ففتك في العامة، ومنع من الخمور وأراقها، فعظمت مهابته.
وفيه عزل علم الدين سنجر الحمصي من شد الدواوين، وولي الجيزة نحو شهرين، ثم أخرج إلى طرابلس شاد الدواوين بها.
وفيه استقر علاء الدين أيدغدي الباشقردي بمصر، عوضاً عن علاء الدين ابن أمير حاجب.
وفيه استقر ابن زنبور في نظر خزائن السلاح، عوضاً عن علاء الدين علي بن البرهان إبراهيم أحمد بن ظافر البرلسي. واستقر ابن البرلسي في نظر بيت المال، عوضاً عن تاج الدين بن السكري، واستقر ابن السكري شاهد الخزانة الكبرى.
وفيه استقر كريم الدين أكرم الصغير في نظر الشام، عوضاً عن غبريال، في يوم السبت رابع عشرى رمضان، وخرج على البريد يوم الإثنين سابع عشرى شوال.
وفي يوم السبت ثماني عشرى شوال. فتحت الحمام بقرب رحبة الأيدمري، وقد جددها الأمير الحاج آل ملك.
وفي يوم الثلاثاء ثامن عشريه: رحل الركب من بركة الحاج إلى الحجاز.
وفي يوم الإثنين ثامن ذي القعدة: قدمت رسل أبي سعيد بسبب المصاهرة مع السلطان، فأعيدوا بعد إكرامهم.
وفيه رسم بإغلاق دكاكين النشاب، وهدم مرامي النشاب.(1/442)
وفيه فشت الأمراض في الناس بالشام ومصر والصعيد، وكثر الموت السريع، ومرض السلطان ثمانية عشر يوماً وعوفي، فعملت التهاني والأفراح سبعة أيام، وكتب بالبشاره إلى الأعمال على يد الأمير قطلوبغا المغربي، فحصل له ستة ألاف دينار وثلاثون فرساً وثلاثمائة قطعة قماش وست خلع كاملة بحوائص ذهب، فلما حضر أنعم عليه السلطان بعد ذلك بتشريف.
وفيها أخرج الأقوش المنصوري أميراً بدمشق. وسبب ذلك مرافعة ولده حتى قبض عليه يوم الجمعة سادس عشرى رجب، ثم أفرج عنه في سلخه، ورسم له بإمرة في حلب، فخرج على البريد في عشية نهاره.
وفي سادس عشرى رجب: استقر الأمير ألطنقش أستاداراً، عوضاً عن الأمير جمال الدين يغمور بعد موته، وكانت وفاة الأمير يغمور في خامس عشرى جمادى الآخرة.
وفي ثالث شعبان: قدم المجردون إلى النوبة، وقد غابوا ثمانية أشهر.
وفيه منع الأجناد من الاجتماع بسوق الخيل.
وفيه قدم الخبر بهبوب الريح في بلاد الصعيد، وأنها اقتلعت من ناحية عرب قمولة زيادة على أربعة ألاف نخلة في ساعة واحدة، وأخرحت عدة أماكن بأحميم وأسيوط وأسوان وبلاد السودان، وهلك منها كثير من الناس والدواب.
وفي ذي القعدة: طولب الصاحب أمين الدين والموفق ناظر الدولة بثمن كتان من خراج الجيزة قيمته مائة ألف درهم، خص الصاحب منها مبلغ خمسين ألفاً، وخص الموفق مبلغ خمسة وعشرين ألفاً، فاستخرج ذلك من جوامك المباشرين.
وكان قاع النيل في هذه السنة ستة أذرع وعشرين أصبعاً، وكان الوفاء في يوم الأربعاء تاسع شعبان وثامن مسرى. وانتهت الزيادة إلى ثمانيه عشر ذراعاً وتسعة عشمر أصبعاً، فغرقت الأقصاب والمعاصر وكثرة من شون الغلال، وصارت المراكب لا تجد براً تضرب فيه الوتد من قوص إلى القاهرة، وغرقت الفيوم لانقطاع جسرها، وتوجه الأمير بكتمر الحسامي لعمارته.
وفيها قرر السلطان أن تعمل له كل يوم أوراق بالحاصل والمصروف، فصارت تعرض عليه كل يوم، وتحدث في الأموال بنفسه.
ومات في هذه السنة من الأعيان
برهان الدين أبو اسحاق إبراهيم بن ظافر، يوم الخميس سادس جمادى الآخرة، كان فقيهاً شافعياً.
ومات الشيح نور الدين علي بن يعقوب بن جبريل البكري الفقيه الشافعي، في يوم الإثنين سادس ربيع الآخر.
ومات تقي الدين محمد الجمال عبد الرحيم بن عمر الباجر بقي الشافعي، في ربيع الآخر بدمشق، قدم القاهرة وأقام بها، وله الملحمة الباجر بقية، واتهم بالزندقة.
وماتت خوند أردكين بنت نوكاي الأشرفية ثم الناصرية، يوم السبت ثالث عشرى المحرم.
ومات الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح الفخري، يوم الجمعة ثامن عشرى جمادى الآخرة، وكان أحد الأمراء الألوف.
ومات الأمير سيف الدين بزلار أمير علم.
ومات الطواشي عنبر الأكبر زمام الدور، في ليلة الأربعاء رابع عشر جمادى الأولى.
ومات الأمير محمد بن عيس بن مهنا من آل فضل، يوم السبت سابع رجب، قدم القاهرة مراراً.
ومات الأمير قطليجا الزيني من أمراء مصر.
ومات الشيخ الصالح محمود الحيدري، خارج القاهرة.
ومات الأمير بدر الدين بكتمر بدرجك، أحد الأمراء بمصر.
ومات كريم الدين أبو الفضائل عبد الكريم بن العلم هبة الله بن السديد بثغر أسوان، ليلة الخميس العشرين من شوال، وعاد ابنه علم الدين عبد الله فاعتقل بالقلعة، وأخذ منه مال كثير جداً.
ومات نور الدين علي بن تقي الدين محمد بن مجد الدين حسن بن تاج الدين علي القسطلاني، خطيب جامع عمرو بمصر، في يوم الجمعة حادي عشر ربيع الآخر.
ومات ناصر الدين محمد بن علاء الدين النابلسي، يوم الجمعة سادس عشر جمادى الأولى.
ومات بهاء الدين ابن الشيخ جمال الدين بن صفي الدين بن أبي المنصور، يوم الخميس سابع عشرى جمادى الآخرة.
ومات الحسن بن علي الأسواني الفقيه الشافعي، في جمادى الأولى بالمدينة النبوية، وقد أم بها واشتغل ثماني عشرة سنة، وكان فقيهاً صالحاً.
سنة خمس وعشرين وسبعمائة
المحرم أوله الأربعاء ثالث عشرى كيهك: وفي يوم الجمعة عاشرة: قدم أوائل الحاج.
وفي يوم الخميس ثالث عشره: قدم السلطان من الوجه القبلي.
وفي يوم السبت خامس عشريه: وصل المحمل وبقية الحاج، مع الأمير أيتمش المحمدي أمير الركب.(1/443)
وفيه اجتمع بمصر من رسل الملوك ما لم يجتمع مثلهم في الدولة التركية، وهم: رسل صاحب اليمن، ورسل صاحب إسطنبول، ورسل الأشكري، ورسل متملك سيس، ورسل أبي سعيد، ورسل ماردين، ورسل ابن قرمان، ورسل ملك النوبة، وكلهم يبذلون الطاعة. وسأل الملك المجاهد صاحب اليمن إنجاده بعسكر من مصر، وأكثر من ترغيب السلطان في المال الذي باليمن، وكان قدوم رسله في مستهل صفر. فرسم السلطان بتجهيز العسكر صحبة الأمير ركن الدين بيبرس الحاجب، وهو مقدم العسكر. وكان معه من أمراء الطبلخاناه خمسة: وهم آقول الحاجب، وقجمار الجوكندار ويعرف باسم بشاس، وبلبان الصرخدي، وبكتمر العلالي أستادار، وألجاي الساقي الناصري، ومن العشراوات عز الدين أيدمر الكوندكي ، وشمس الدين إبراهيم بن التركماني، وأربعة من مقدمي الحلقة، عليها الأمير سيف الدين طينال الحاجب، ومعه خمسة أمراء طبلخاناه، وهم: الأمير ططر الناصري، وعلاء الدين بن طغريل الإيغاني، وجرباش أمير علم، وأيبك الكوندكي، وكوكاي طاز، ومن العشراوات أيضاً بلبان الدواداري، وطرنطاي الإسماعيلي والي باب القلة، وأربعة أخرون من مقدمي الحلقة، ومن المماليك السلطانية ثلاثمائة فارس، ومن أجناد الحلقة تتمة الألف فارس. وفرقت فيهم أوراق السفر يوم الإثنين خامسه. وكتب بحضور العربان من الشرقية والغربية لأجل الجمال.
وفيه خرج السلطان إلى سرياقوس، وقبض على الأمير بكتمر الحاجب وجماعة، في يوم الخميس ثاني ربيع الأول.
وفيه قدم الأمير تنكز نائب الشام في عاشره، فأقام عند السلطان أياماً وعاد إلى دمشق مكرماً.
وفيه أنفق السلطان في الأمراء المتوجهين إلى اليمن فقط، فحمل لبيبرس ألف دينار، ولطينال ثمانمائة دينار، ولكل أمير طبلخاناه عشرة ألاف درهم، وللأمير من العشراوات مبلغ ألفي درهم، ولمقدم الحلقة ألف درهم. وحضرت العربان، فاستقر كرا الجمل إلى مكة بمائة وستين درهماً، وإلى ينبع بمائة وثلاثين، ورحل كل جندي على أربعة جمال، جملين إلى مكة، وجملين إلى ينبع، وتولى الأمير عز الدين أيدمر الكبكي أمر العربان وأخذ العسكر في التجهيز، وباعوا موجودهم، فانحط سعر الدنانير من خمسة وعشرين إلى عشرين درهماً، لكثرة ما باعوا من الحلي والمصاغ. وبرزوا من القاهرة إلى بركة الحاج يوم الثلاثاء عاشر ربيع الآخر، واستقلوا بالمسير يوم الخميس ثالث عشره.
وفيه خرج السلطان إلى سرياقوس ومعه عدة من المهندسين، وعين موضعاً على نحو فرسخ من ناحية سرياقوس ليبتني فيه خانكاه بها مائة خلوة لمائة صوفي، وبجانبها جامع تقام فيه الجمعة، ومكان برسم ضيافة الواردين وحمام ومطبخ، وندب السلطان آقسنقر شاد العمائر لجمع الصناع. ورتب السلطان لها أيضاً قصوراً برسم الأمراء الخاصكية، وعاد، فوقع الإهتمام في العمل حتى كملت في أربعين يوماً.
ثم اقتضى رأي السلطان حفر خليج خارج القاهرة ينتهي إلى سرياقوس، ويرتب عليه السواقي والزراعات، وتسير فيه المراكب أيام النيل بالغلال وغيرها إلى القصور بسرياقوس، وفوض ذلك إلى الأمير أرغون النائب. فنزل الأمير أرغون بالمهندسين في النيل إلى أن وقع الاختيار على موضع بموردة البلاط من أراضي بستان الخشاب، ويقع الحفر في الميدان الظاهري الذي صار بستاناً، ويمر على بركة قرموط إلى باب البحر، ثم إلى أرض الطبالة، ويرمى في الخليج الكبير. فكتب إلى ولاة الأعمال بإحضار الرجال للحفير، وعين لكل واحد من الأمراء أقصاب يحفرها، وابتدأ الحفر مستهل جمادى الأولى إلى أن تم في سلخ جمادى الآخرة. وخربت فيه أملاك كثيرة، وأخذت قطعة من بستان الأمير أرغون النائب، وأعطى السلطان ثمن ما خرب من الأملاك لأربابها، وفيهم من هدم داره وأخذ أنقاضها. والتزم الفخر ناظر الجيش بعمارة قنطرة برأس الخليج عند فمه، والتزم قدادار والي القاهرة بعمل قنطرة تجاه البستان الذي كان ميداناً للظاهر، ورسم بعمل قنطرة الأوز وقناطر الأميرية فلما كانت أيام الزيادة في ماء النيل جرت السفن في هذا الخليج، وعمرت السواقي عليه، وأنشئت بجانبه البساتين والأملاك.(1/444)
وفي يوم الإثنين سادس جمادى الآخرة: توجه السلطان إلى الخانكاه خارج ناحية سرياقوس، وقد خرجت القضاة والمشايخ والصوفية يوم الأربعاء، وعمل لهم سماط عظيم في يوم الخميس تاسعه بالخانكاه. واستقر مجد الدين أبو حامد موسى بن أحمد بن محمود الأقصرائي وهو شيح خانكاه كريم الدين الكبير بالقرافة في مشيخة هذه الخانكاه، ورتب عنده مائة صوفي وخلع السلطان عليه، وعلى قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، وولده عز الدين عبد العزيز، وعلى قاضي القضاة تقي الدين الأخنائي المالكي، وعلى الشيخ علاء الدين القونوي شيخ خانكاه سعيد السعداء، ورسم للشيخ مجد الدين ببغلة، وأن يلقب بشيخ الشيوخ، وخلع على أرباب الوظالف، وفرق ستين ألف درهم، وخلع على الأمراء وأهل الدولة.
وفيها حبس شهاب الدين أحمد بن محمد بن مري البعلبكي الحنبلي أحد أصحاب ابن تيمية، مقيداً في سجن القاضي المالكي تقي الدين الأخنائي بالقاهرة، وضرب بالسياط ضرباً مبرحاً، وشهر في تاسع عشرى جمادى الأولى، بعدما أقام في السجن من سادس عشرى ربيع الأولى وكان قد عرض على السلطان في نصف ربيع الآخر، فأثنى عليه الأمير بدر الدين بن جنكلي بن البابا، والقاضي بدر الدين بن جماعة، وغيرهما من الأمراء، وعارضهم الأمير أيدمر الخطيري، حتى كادت تكون فتنة. ففوض السلطان الأمر لأرغون النائب، فآل الأمر إلى تمكين القاضي المالكي منه كما تقدم. ثم أعيد ابن مري إلى السجن، ثم شفع فيه، فآل أمره إلى أن أفرج عنه، وأخرج إلى القدس بعد يومين من سجنه، وكان مظلوماً. فاتفق عقيب ذلك أن الفقهاء شنعوا على تقي الدين ابن شاس بأنه كفر لتصويبه بعض أراء ابن مري، وشهدوا عليه، فدافع الأخنائي عنه وسكن القضية حتى خمدت، فقال الشيخ برهان الدين إبراهيم الرشيدي في ذلك:
يا قاضياً شاد أحكامه ... على تقى من الله وأقوى أساس
مقالة في ابن مرى لفقت ... تجاوزت في الحد حد القياس
وفى ابن شاس حققت ما أثرت ... فهل أباح الشرع كفر ابن شاس
وفيها بلغ السلطان عن دمرداش بن جوبان متملك الروم ما أغضبه، فكتب يشكوه إلى أبيه جوبان، فأنكر عليه فعله، فاعتذر عما وقع منه، وبلغ جوبان ذلك إلى السلطان، فجهز إلى دمرداش تشريفاً وهدية، وكتب إليه يستميله.
وفي آخر جمادى الآخرة: توجه الأمير الوزير مغلطاي الجمالي، ومكين الدين بن قروينة مستوفي الدولة، على البريد لكشف القلاع وحمل ما فيها من الحواصل، فراك الجمالي المملكة الحلبية، وعاد يوم الثلاثاء سادس شهر رمضان.
وفيه استقر بهادر البدري في نيابة الكرك، عوضاً عن بيليك الجمالي.
وفي يوم السبت العشرين من رمضان: قدم الأمير سيف الدين بكمش الجمدار الظاهري والأمير بدر الدين بيليك السيفي السلاري المعروف بأبي غدة من بلاد أزبك بهدية، ومعهما كتابه، وهو يسأل أن يجهز له كتاب جامع الأصول في أحاديث الرسول، وكتاب شرح السنة والبحر للروياني في الفقه، وعدة كتب طلبها، فجهزت له.
وفيه خرج السلطان إلى البحيرة، في ثالث عشر ذي الحجة، للصيد.
وفيه بعث السلطان الأمير مغلطاي الجمالي إلى الإسكندرية، فأفرج عن الأمراء المسجونين بها، وهم: طاجار المحمدي، وبلبان الشمسي، وكيتمر، وبهادر التقوى أمير جاندار، فقدموا إلى القاهرة في ثامن عشريه.
وفيها نزل سيل عظيم في النيل حتى اصفر ماؤه، وزاد ستة أصابع.
وأما العسكر المجرد لنجدة صاحب اليمن فإنه سار إلى مكة، وقد كتب السلطان إلى الشريف عقيل أمير ينبع، وإلى الشريفين عطيفة ورميثة أميري مكة، وإلى قوادهما، وإلى بني شعبة وعرب الواديين وسائر عربان الحجاز، بالقيام في خدمة العسكر. ووصل العسكر إلى مكة في السادس والعشرين من جمادى الأولى، ودخلها وأقام بها حتى قدمت المراكب بالغلال وغيرها من مصر إلى جدة، فأبيع الشعير بثلاثين درهماً الأردب، والدقيق بعشرين درهماً الويبة. وتقدم الخادم كافور الشبيلي خادم الملك المجاهد إلى زبيد ليعلم مولاه العساكر، وكتب الأمير ركن الدين بيبرس بن الحاجب، وهو مقدم العسكر إلى أهل حلى بني يعقوب بالأمان، وأن يجلبوا البضائع للعسكر.(1/445)
ورحل العسكر في خامس جمادى الآخرة من مكة، ومعه الشريف عطفة والشريف عقيل، وتأخر الشريفي رميثة. فوصل العسكر إلى حلي بني يعقوب في اثني عشر يوماً، بعد عشرين مرحلة، فتلقاهم أهلها، ودهشوا لرؤية العساكر، وقد طلبت ولبست السلاح، وهموا بالفرار. فنودي فيهم بالأمان، وألا يتعرض أحد من العسكر لشيء إلا بثمنه، فاطمأنوا وحملوا إلى كل من بيبرس وطينال مقدمي الألوف مائة رأس من الغنم وخمسمائة أردب أذرة، فرداها ولم يقبلا لأحد شيئاً. ورحل العسكر بعد ثلاثة أيام في العشرين منه.
فقدمت الأخبار باجتماع رأي أهل زبيد على الدخول في طاعة الملك المجاهد خوفاً من معرة قدوم العسكر المصري، وأنهم ثاروا بالمتملك عليهم وهو الملك الظاهر، ونهبوا أمواله ففر عنهم، وكتبوا إلى المجاهد بذلك، فقوي ونزل من قلعة تعز يريد زبيد. فكتب أمراء العسكر المصري إليه، وهم قرب حدود اليمن، بأن يكون على أهبة اللقاء. ونزل العسكر على زبيد، ووافاهم المجاهد بجنده، فسخر منهم الناس من أجل أنهم عراة، وسلاحهم الجريد والخشب، وسيوفهم مشدودة على أذرعتهم، ويقاد للأمير فرس واحد مجلل، وعلى رأس المجاهد عصابة ملونة فوق العمامة. وعندما عاين المجاهد العساكر المصرية وهي لابسة ألة الحرب رعب، وهم أن يترجل عن فرسه حتى منعه الأميران بيبرس وآقول من ذلك. ومضى العسكر صفين والأمراء في الوسط حتى قربوا منه، فألقى المجاهد نفسه ومن معه إلى الأرض، وترجل له أيضاً الأمراء وأكرموه وأركبوه في الوسط، وساروا إلى المخيم، وألبسوه تشريفاً سلطانياً وكلفتاه زركش وحياصة ذهب. وركب المجاهد والأمراء في خدمته بالعساكر إلى داخل زبيد، ففرح أهلها فرحاً شديداً.
ومد المجاهد لهم سماطاً جليلاً، فامتنع الأمراء والعسكر من أكله خوفاً من أن يكون فيه ما يخاف عاقبته، واعتذروا إليه بأن هذا لا يكفي العسكر، ولكن في غد يعمل السماط. فأحضر المجاهد إليهم ما يحتاجون إليه، وتولى طباخو الأمراء عمل السماط. وحضر المجاهد وامراؤه، وقد مد السماط بين يدي كرسي جلس عليه المجاهد، ووقف السقاة والنقباء والحجاب والجاشنكيرية على العادة، ووقف الأمير بيبرس رأس الميمنة، والأمير طينال رأس الميسرة. فلما فرغ السماط صاحت الشاويشية على أمراء المجاهد وأهل دولته فأحضروهم، وقرئ كتاب السلطان، فباسوا بأجمعهم الأرض، وقالوا سمعاً وطاعة، وكتب الأمير بيبرس لممالك أليمن بالحضور، فحضروا.
و لم يجهز الملك المجاهد للعسكر شيئاً من الإقامات، وعنفه الأمير بيبرس على ذلك، فاعتذر بخراب البلاد، وكتب لهم على البلاد بغنم وأذرة، فتوجه إليها قصاد الأمراء. وسار المجاهد إلى تعز لتجهيز الإقامات، ومعه الأميران سيف الدين ططر العفيفي السلاح الدار وسيف الدين قجمار في مائتي فارس، وتأخر العسكر بزبيد، وعادت قصاد الأمراء بغير شي ء فرحل العسكر من زبيد في نصف رجب يريدون تعز، فتلقاهم المجاهد، ونزلوا خارج البلد، وشكوا ما هم فيه من قلة الإقامات، فوعد بخير. وكتب الأمراء إلى الملك الظاهر المقيم بدملوة، وبعثوا إليه الشريف عطفة أمير مكة وعز الدين الكوندكي، وكتب إليه المجاهد أيضاً يحثه على الطاعة.
وأقام العسكر في جهد، فأغاروا على الضياع، وأخذوا ما قدروا عليه، فارتفع سعر الأذرة من ثلاثين درهماً الأردب إلى تسعين، وفقد الأكل إلا من الفاكهة فقط، لقلة الجلب، واتهم أن ذلك بمواطأة المجاهد خوفاً من العسكر أن يملك منه البلاد.
ثم إن أهل جبل صبر قطعوا الماء عن العسكر، وتخطفوا الجمال والغلمان. وزاد أمرهم إلى أن ركب العسكر في طلبهم، فامتنعوا بالجبل، ورموا بالمقاليع على العسكر، فرموهم بالنشاب. وأتاهم المجاهد فخذلهم عن الصعود إلى الجبل، فلم يعبأوا بكلامه، ونازلوا الجبل يومهم، ففقد من العسكر ثمانية من الغلمان، وبات العسكر تحته. فبلغ بيبرس أن المجاهد قرر مع أصحابه بأن العسكر إذا صعد الجبل يضرمون النار في الوطاق وينهبون ما فيه، فبادر بيبرس وقبض على بهاء الدين بهادر الصقري وأخذ موجوده، ووسطه قطعتين وعلقه على الطريق، ففرح أهل تعز بمتله، وكان بهادر قد تغلب على زبيد، وتسمى بالسلطنة، وتلقب بالملك الكامل، وظل متسلطاً عليها، حتى طرده أهلها عند قدوم العسكر.(1/446)
وقدم الشريف عطفة والكوندكي من عند الملك الظاهر صاحب دملوة، وأخبرا بأنه في طاعة السلطان. وطلب بيبرس من المجاهد ما وعد به السلطان، فأجاب بأنه لا قدرة له إلا بما في دملوة فأشهد عليه بيبرس قضاة تعز بذلك، وأنه أذن للعسكر في العود، لخراب البلاد وعجزه عما يقوم به للسلطان، وأنه امتنع بقلعة تعز.
ورحل العسكر إلى حلي بني يعفوب، فقدمها في تاسع شعبان. ورحلوا منها أول رمضان إلى مكة، فدخلوها في حادي عشره بعد مشقة زائدة. وساروا من مكة يوم عيد الفطر، وقدموا بركة الحاج أول يوم ذي القعدة.
وطلع الأمراء إلى القلعة، فخلع عليهم في يوم السبت ثالثه. وقدم الأمير بيبرس هدية، فأغرى الأمير طينال السلطان بالأمير بيبرس، وأنه أخذ مالاً من المجاهد وغيره، وأنه قصر في أخذ مملكة اليمن.
فلما كان يوم الإثنين تاسع عشره: رسم بخروجه إلى نيابة غزة، فامتنع لأنه كان قد بلغه ما قيل عنه، وأن السلطان قد تغير عليه، فقيد وسجن في البرج، وقبضت حواشيه، وعرقبوا على المال فلم يظهر شيء.
وفي ثالث ذي الحجة: قبض على إبراهيم ابن الخليفة أبي الربيع، وسجن بالبرج، لأنه تزوج بمغنية، وأشهد عليه بطلاقها.
وفي ثالث عشر ذي القعدة: قدم ألطبغا نائب حلب، وسافر أخر يوم الأحد.
وفي أول ذي الحجة: خلع على الأمير بهادر البدري السلاح دار، واستقر في لنيابة الكرك، عوضاً عن عز الدين أيبك الجمالي، ونقل الجمالي لنيابة غزة، فسار إليها في خامس عشره.
وفي ثالث عشره: توجه السلطان إلى الصيد نحو الجيزة، وأفرج عن بلبان الشمسي وبهادر التقوى وأمير جاندار، وطاجار المحمدي.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
حجاب بنت عبد الله شيخة رباط البغدادية في المحرم، وكانت صالحة خيرة، ملازمة للرباط، تعظ النساء.
ومات الأمير سيف الدين قطز عند عوده من اليمن، وحمل إلى مكة فدفن بها، وكان جواداً عفيفاً.
ومات الأمير ركن الدين بيبرس المنصور في ليلة الخميس خامس عشرى رمضان، وهو أحد مماليك المنصور قلاوون، واستنابه بالكرك، وعزله الملك الأشرف خليل بالأمير جمال الدين أقوش، ثم صار دوادار السلطان وناظر الأحباس، وولي نيابة السلطنة بديار مصر، وكان عاقلاً كثير البر، وإليه تنسب المدرسة الدوادارية بخط سويقة العزي خارج القاهرة، وله تاريخ سماه زبدة الفكرة في تاريخ الهجرة، يدخل في أحد عشر سفراً، أعانه على تأليفه كاتبه ابن كبر النصراني وكان يجلس رأس الميسرة، فأخذ إقطاعه الأمير مغلطاي الجمال وأخرج منه طبلخاناه لبلبان السناني وصار الأمير عز الدين أيدمر الخطيري بعده يجلس في رأس الميسرة.
ومات الشريف منصور بن جماز بن شيحة في حرب يوم الرابع والعشرين من رمصان، قتله حديثة ابن ابن أخيه، وكان له في الإمرة ثلاث وعشرون سنة وستة أشهر وأيام، واستقر عوضه في إمرة المدينة النبوية ابنه بدر الدين كبيشة بن منصور، وقدم منصور إلى القاهرة مراراً.
ومات الشهاب محمود بن سليمان بن فهد الحلبي كاتب السر، بدمشق في شعبان، عن إحدى وثمانين سنة، وقدم القاهرة مراراً.
ومات الشيخ تقي الدين محمد بن الجمال أحمد بن الصفي عبد الخالق الشهير بالتقي الصائغ شيخ القراء بمصر في ليلة الأحد ثامن عشر صفر.
ومات نجم الدين أبو بكر بهاء الدين محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان الشافعي بالقاهرة في ثالث ذي القعدة، وكان فاضلاً، إلا أنه رمي في عقله وعقيدته بأشياء.
ومات الأمير سيف الدين بلبان التتري المنصوري في ذي القعدة.
ومات الخطيب جمال الدين محمد بن تقي الدين محمد بن الحسن بن علي بن أحمد بن علي بن أحمد القسطلان في ليلة السبت مستهل ربيع الأول، واستقر ابن أخيه الخطيب تقي الدين بن نور الدين مكانه خطيباً بجامع القلعة، ورتب ولده زين الدين أحمد بن جمال الدين في خطابة جامع عمرو وإمامته ونظره.
ومات شرف الدين يونس بن أحمد بن صلاح القلقشندي الفقيه الشافعي في خامس عشرى ربيع الآخر.
سنة ست وعشرين وسبعمائة
أهلت والسلطان في الصيد بالوجه البحري .
وفي يوم الإثنين سادس عشر المحرم: وردت رسل ملك الحبشة بكتابه يتضمن إعادة ما خرب من كنائس النصارى ومعاملتهم بالإكرام والاحترام، ويهدد بأنه يخرب ما عنده من مساجد المسلمين، ويسد النيل حتى لا يعبر إلى مصر، فسخر السلطان منه، ورد رسله.(1/447)
وفي عشرى صفر: خلع على فخر الدين استادار ألطنبغا، واستقر والي المحلة بعد موت الشيخي.
وفي ثامن عشر صفر: صرف شمس الدين غبريال عن نظر النظار، وسفر إلى دمشق، فسار على البريد في حادي عشريه، وقدم دمشق في ثامن عشريه.
وفي يوم الإثنين سادس ربيع الأول: قدم كريم الدين أكرم الصغير من دمشق باستدعاء إلى ناحية سفط من الجيزة - والسلطان مخيم بها - ، فأنكر السلطان عليه إنكاراً شديداً، وأمره. بملازمة بيته. وكان قد سعى به الفخر ناظر الجيش وغيره، وأغروا به السلطان حتى أحضره من دمشق.
وفيه استقر شرف الدين الخطيري - المعروف بكاتب سلار، وكان قد خدم عند الأمير أرغون النائب - في نظر النظار، عوضاً عن غبريال.
وفيه رسم للوزير مغلطاي بقتل كريم الدين أكرم الصغير في خفية، فتقدم إلى والي القاهرة بذلك، فوضع له أعيناً يترقبون فرصة، إلى أن ركب من داره يريد الحمام بعد العشاء الآخرة من ليلة الإثنين رابع ربيع الآخر، فوثب عليه جماعة، وكان قد احترس على نفسه، فنجا بفرسه منهم، وقتلوا غلامه. وأصبح الناس وقد شاع خبره، وبلغ السلطان فرسم للوزير بإخراجه إلى أسوان، فقبض عليه في يوم السبت تاسعه هو وأولاده، وأحضرهم مجلس السلطان، وطولب بالمال، فلم يعترف بشي ء، فضرب ابنه سعد الدين أبو الفرج بالمقارع وسلم أكرم إلى والي القاهرة، فوجد في كمه أوراقاً فيها مرافعات في جماعة من أهل الدولة، فطلبها الوزير منه، فامتنع من ذلك حتى بعث السلطان من تسلمها منه وقرأها، فأفرج السلطان عن أولاده، ورسم بعقوبته فسعط بالخل والجير. وأخرج أكرم وابنه سعد الدين في ليلة الإثنين حادي عشره إلى جهة الصعيد، بعدما توجه الأمير بهاء الدين والي القلعة إلى الوزير يطلب له منه بساطاً ونفقة فأبى ذلك. ومضى أكرم وابنه في سلورة إلى أسوان، فقدما في ليلة الإثنين خامس عشريه، وقتل ليلة الثلاثاء سادس عشريه.
وفي يوم الخميس سابع جمادى الأولى سار الأمير أيتمش المحمدي رسولاً إلى القان بوسعيد، وصحبته هدايا جليلة، ليرغبه في مصاهرة السلطان. فبلغ أيتمش رسالته، وعاد إلى القاهرة يوم الثلاثاء ثامن عشرى شعبان.
وفي ثاني عشرى جمادى الأولى: خرجت تجريدة إلى برقة عليها من الأمراء أسندمر العمري وملكتمر الإبراهيمي وقطلوبغا الطويل، وجماعة من أجناد الأمراء. وسببها حضور فايد وسليمان أميري العربان ببرقة، وشكواهم من العرب أنهم منعوا أداء الزكاة عن الغنم.
وفي ليلة الجمعة ثامنه: وقت الغروب ركب أحمد ابن السلطان، ومعه الأمير قجليس والأمير طقتمر الخازن، ليتوجه إلى الكرك - وعمره يومئذ ثماني سنين - ، وسار معه عدة من المماليك وخزانة مال واستقر في نيابة الكرك الأمير سيف الدين بهادر البدر وتوجه معه ليقوم بأمره، ويودع المال بحزانة قلعة الكرك، ولا يمكن أحداً من التصرف، بل يمرنه على الصيد والفروسيه. فأوصله الأميران إلى الكرك، وعادوا في ثاني جمادى الآخرة.
وفيه قدم كتاب نائب الشام بأنه قبض على بكتوت القرمان لامتناعه من التوجه لإحضار حمل سيس، فأجيب بتقييده وسجنه بقلعة دمشق، وأن يستقر شهاب الدين قرطاي الصلاحي نائب طرابلس على خبزه.
وفيه رسم للأمير طينال الحاجب بنيابة طرابلس، فسار من القاهرة في يوم الخميس رابع جمادى الآخرة. وأمر السلطان بتقدمته على الأمير قوصون زيادة على إقطاعه، عقد له على إحدى بنات السلطان.
وفي يوم الثلاثاء ثامن رجب: ابتدأ جلوس الصوفية بخانقاه الأمير بكتمر الساقي بآخر القرافة مما يلي بركة الحبش.
وفي يوم الإثنين رابع عشر رجب: قدمت رسل جوبان حاكم دولة أبي سعيد، ومعهم طايربغا وابنه يحيى فخلع عليهم، وأنعم على طايربغا بإمرة طبلخاناه في سابع عشره، وعلى ابنه يحيى بإمرة عشرة، وأعيدت الرسل في رابع عشريه. وكان طايربغا هذا يلي نيابة خلاط، وبينه وبين السلطان قرابة، فكتب إلى الأمير جوبان ليستدعيه وأهله إلى مصر، فبعثهم.
وفي سابع عشره: أيضاً أنعم على أحمد بن بكتمر الساقي بإمرة.(1/448)
وفي يوم الإثنين سادس شعبان: حبس تقي الدين أحمد بن تيمية، ومعه أخوه زين الدين عبد الرحمن بقلعة دمشق. وضرب شمس الدين محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، وشهر على حمار بدمشق. وسبب ذلك أن ابن قيم الجوزية تكلم بالقدس في مسألة الشفاعة والتوسل بالأنبياء، وأنكر مجرد القصد للقبر الشريف دون قصد السمجد النبوي فأنكر المقادسة مسألة الزيارة، وكتبوا فيه إلى قاضي جلال الدين محمد القزويني وغيره من قضاة دمشق. وكان قد وقع من ابن تيمية كلام في مسألة الطلاق بالثلاث أنه لا يقع بلفظ واحد، فقام عليه فقهاء دمشق. فلما وصلت كتب المقادسة في ابن القيم، كتبوا في ابن تيمية وصاحبه ابن القيم إلى السلطان، فعرف شمس الدين الحريري قاضي القضاة الحنفية بديار مصر ذلك، فشنع على ابن تيمية تشنيعاً فاحشاً حتى كتب بحبسه، وضرب ابن القيم.
وفيه أنشأ الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك قاعة بالمارستان المنصوري ونحت جدران المارستان والمدرسة المبنيه بالحجر كلها داخلاً وخارجاً، وطر الطراز الذهب من خارج القبة والمدرسة حتى صار كأنه جديد. وعمل أقوش خيمة يزيد طولها على مائة ذراع، وركبها لتستر على مقاعد الأقفاص، وتستر أهلها من الحر، ونقل الحوض من جانب باب المارستان، لكثرة تأذي الناس برائحة النتن، وعمل موضعه سبيل ماء عذب لشرب الناس، وكان مصروف ذلك كله من ماله دون مال الوقف.
وإلى يوم الإثنين سابع عشر شعبان: أفرج عن الأمير بلبان طرنا أمير جاندار، فكانت مدة اعتقاله إحدى عشرة سنة وتسعة أشهر وسبعة أيام، فلما مثل بحضرة السلطان خلع عليه وأعطاه إمرة دمشق، وبعثه إليها.
وفيه نقل الأمير بدر الدين محمد بن التركماني من دمشق إلى شد الدواوين بطرابلس، وأنعم على أشقتمر من أمراء حلب بخبزه.
وفيه حمل بكتوت القرماني من قلعة دمشق إلى القاهرة مقيداً على البريد، وحمل منها إلى الإسكندرية هو والبوبكري والجاولي فسجنوا بها.
وفيه قدم بازان رسول جوبان حاكم بلاد أبي سعيد، وجوبان هو الذي أجرى العين من عرفة إلى مكة. فلما قدم إلى مصر واجتمع بالسلطان، وعرفه خبر العين، شق عليه ذلك، وقال له على أن النائب: " من أذن لك في هذا؟ ولم لا شاورتني؟ " ، فقال بازان للنائبء " عرف السلطان أن جوبان فعل ما فعل من الخبر، وبقي الأمر للسلطان إن شاء يخرب أو يعمر، فهذا شيء قد فعله من فعله وخرج عنه، والأمر إليكم " ، فلما بلع النائب قوله السلطان سكت.
وكان من خبر هذه العين أنه لما كثر ترداد الحاج من العراق إلى مكة في كل سنة شق عليهم قلة الماء بمكة، فإن الراوية كانت تبلغ في الموسم عشرة دراهم مسعودية، وفي غير الموسم من ستة دراهم إلى سبعة. فقصد الأمير جوبان حاكم مملكة أبي سعيد عمل خير بمكة، فدله بعض الناس على عين كانت تجري في القديم ثم تعطلت، فندب لذلك بعض ثقاته وأعطاه خمسين ألف دينار، وجهزه في موسم سنه خمس وعشرين فلما قضي حجه تأخر بمكة وشهر أمره بها، فأعلم بعين في عرفة، فنادى بمكة: " من أراد العمل في العين فله ثلاثة دراهم في كل يوم " . فهرع إليه العمال، وخرج بهم إلى العمل، فلم يشق على أحد منهم ولا استحثه، وإنما كانوا يعملون باختيارهم. أاتاه جمع كبير من العرب، وعمل حتى النساء، إلى أن جرى الماء بمكة بين الصفا والمروة، في ثامن عشرى جمادى الأولى من هذه السنة، فكانت مدة العمل أربعه أشهر وكثر النفع بهذه العين، وصرفه أهل مكة إلى مزارع الخضراوات.
وفيه قدم القاهرة الأمراء المجردون إلى برقة، وقد غابوا عنها ثلاثة أشهر وأربعة أيام.
وفيه قدم الخبر بأن الأمير تنكز نائب الشام جمع العامة بدمشق وألزمهم بإحضار الكلاب ورميها بالخندق، فأقاموا عشرة أيام في جمعها حتى امتلأ الخندق بها، وأكل بعضها بعضاً.
وفيه قدم الخبر بحصول سيل عظيم في الفرات، أعقبه مطر، وأنه حدث وخم وفناء عم الناس من الفرات إلى دمشق، فلم تبق مدينة فيما بين ذالك حتى كثر بها المرض والموت، وباع بعض عطاري دمشق في كل يوم أدوية للمرضى بنحو الألف درهم، وأبيع قدر فيه حسو شعير بزيادة على ثلاثين درهماً، وأخذ حجام في أجرة فصد وشراطة أذان في كل يوم أربعمائة درهم، فإنه كان فصلاً زموماً، وكان الموت فيه بالنسبة إلى المرض قليل.(1/449)
وفي يوم الثلاثاء خامس رمضان: قدم الملك الصالح صلاح الدين يوسف ابن الملك الكامل سيف الدين أبي بكر بن شادي ابن الملك الأوحد تقي الدين ابن الملك المعظم غياث الدين توران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل محمد ابن الملك العادل بن أيوب بن شادي صاحب حصن كيفا " فأقبل عليه السلطان وأكرمه، وخلع عليه تشريفاً طرد وحش بحياصة، ورتب له ما يليق به من اللحم والدجاج والسكر والحلوى وغير ذلك، وبعث له عشرة ألاف درهم.
وأقام الصالح صلاح الدين إلى نصف شوال، وسار بعد ما جهزه السلطان بكل ما يحتاج إليه من خيل وجمال وسلاح وتحف، وأنعم عليه بألف دينار. فلما قدم دمشق بالغ الأمير تنكز في الإحسان إليه، وبعثه إلى بلده فقدمها، وسر به أهلها. فلما صعد الحصن وتوسط الدهليز، وثب عليه أخوه الملك العادل محيي الدين وقتله. وكان من خبر الصالح صلاح الدين أنه ملك حصن كيفا من أعمامه وأخوته بالقوة، فإنه كان شجاعاً جريئاً، فلما تمكن منع الخراج عن أبي سعيد، وتعرض لقصاد الأمير تنكز نائب الشام، وإلى بعض التجار. فكتب اليه تنكز يهدده بأنه يقتله وسط حصنه، فخاف سوء العاقبة، وأجاب بالاعتذار، وأنه من اليوم في خدمة السلطان ونائبه، وأنه يمتثل ما يرسم به، وجهز لتنكز هدية. فسر السلطان بذلك، وأكد على تنكز في مهاداته. فلما قدم الأمير أيتمش المحمدي عليه تلقاه، وقدم له تقدمة حسنة، وعرفه أنه صاحب السلطان في الحسن تحت أوامره " وكتب إلى نائب الشام بذلك. فكتب تنكز يعرف السلطان بذلك، فازداد رغبة فيه، ومازال به الأمير تنكز يستميله حتى قدم إلى مصر، ذلك بعد أن استناب أخاه الملك العادل محيي الدين على الحصن مدة غيبته. فطمع محيي الدين في الحصن وقتله بعد رجوعه من مصر، وكتب إلى جوبان وأبي سعيد أنه لم يقتله إلا لمخامرته وخروجه عن طاعتهما، وبعث إليهما بالخراج، فأجاباه بالشكر والثناء واستمراره على نيابة الحصن وكتب محيي الدين أيضاً لنائب الشام بأنه لم يقتله إلا لما ثبت عليه من شرب الخمر والفسق وقتل الأنفس واستباحة الأموال والتلفظ بالكفر غير مرة، وجهز إليه وترفق إليه هدية في كتبه، وأنه مملوك السلطان ونائبه. فعرف تنكز السلطان ذلك، فأجابه بقبول عذره ومهاداته واستجلاب خاطره، ففعل ذلك.
وفي يوم الأربعاء ثالث عشر رمضان: تولى الأمير عماد الدين البحيرة، عوضاً عن بلبان العتريس.
وفي خامس شوال: توجه الأمير سيف الدين أرغون النائب، وولده ناصر الدين محمد، إلى الحجاز للحج.
وفيه أشيع أن قصاد الأمير تنكز وصلت من الشرق، وأخبرت بأن الأمير جوبان جمع من خيار عسكر الأردو عشرة ألاف فارس، وقصد الحج. فأظهر السلطان الخوف على نائبه الأمير أرغون أن يقبض عليه جوبان ويجعله إلى بلاده، وكتب إلى تنكز نائب الشمام أن يخرج بعسكر إلى جهة الكرك ليدرك الأمير أرغون. فبرز تنكز بعد أربعة أيام من قدوم البريد عليه، ونزل الصنمين. ثم كتب إليه السلطان بعوده إلى دمشق، فعاد. وباطن هذه الحركة أن السلطان بلغه أن الأمير مهنا بن عيسى يريد الحج، فندب الأمير أرغون للحج، أن يقبض عليه. فلما خرج أرغون بلغ السلطان أنه كتب إلى مهنا يحذره من الحج، فشق ذلك على السلطان، وأشاع ما تقدم ذكره، وأخرج نائب الشام بالعسكر ليقبض على أرغون، ثم بدا له فأشاع أن جوبان أبطل حركته للحج، وأعاد نائب الشام.
وفيها كثر الرخاء بمصر، فأبيع الأردب القمح بخمسة دراهم وبستة، وأبيع الشعير والفول من ثلاثة دراهم الأردب إلى أربعة.
وفي يوم الخميس تاسع عشر شوال: فرق السلطان الحوائص الذهب على الأمراء. وفيها بلغت زيادة ماء النيل تسعة عشر أصبعاً وسبعة عشر ذراعاً.
وفيها كتب مرسوم السلطان - وقرئ على المنابر - بألا يضرب أحد في ديار مصر والشام بالمقارع.
وفيها قدم بيبغا الحموي من مكة مبشراً بسلامة الحاج، في رابع عشرى ذي الحجة.
ومات فيها ممن له ذكر
شيخ الضيعة جمال الدين حسين بن يوسف بن المطهر الحلي المعتزل شارح مختصر ابن الحاجب، في المحرم، وكان رضي الخلق حليماً، عالماً بالمعقولات، وله وجاهة عند خربندا، وله عدة مصنفات، ولابن تيمية عليه رد في أربع مجلدات، وكان يسميه ابن المنجس.(1/450)
ومات شرف الدين أبو الفتح أحمد بن عز الدين أبي البركات عيسى بن مظفر بن محمد بن إلياس المعروف بابن الشيرجي - الأنصاري الدمشقي محتسب دمشق ومولده في سنة سبع وأربعين وستمائة. ومات بدر الدين حسن ابن الملك الأفضل صاحب حماة، أحد الأمراء بحماة، عن نيف وستين سنة. وكان من أهل العلم، وسعى في مملكة حماة.
ومات سراج الدين عمر بن أحمد بن خضر بن ظافر بن طراد الخزرجي الأنصاري المصري الشافعي خطيب المدينة النبوية.
ومات والي المحلة الشيخ في سابع عشرى المحرم.
سنة سبع وعشرين وسبعمائة
أهل المحرم: وقد كثر مرض الناس بحميات حادة دموية فشت حتى لم يكد يسلم منها أحد، فكان المريض يتمادى مرضه أسبوعاً ويبرأ، وربح بياعو الأدوية والأطباء والحجامون مالاً كثيراً.
وفي يوم الأحد حادي عشره: قدم الأمير أرغون النائب وولده ناصر الدين محمد من الحجاز والسلطان بناحية سرياقوس فقبض عليهما وعلى الأمير طيبغا الحموي فأخذهم الأمير بكتمر الساقي عنده وسعى في أمرهم، فأخرج السلطان الأمير أيتمش في يوم الإثنين ثاني عشره بالأمير أرغون لنيابة حلب، عوضاً عن ألطنبغا.
وقد تقدم تغير السلطان على الأمير أرغون، فلما قدم بعث السلطان الأمير أيتمش المحمدي ليقف على باب القلة من قلعة الجبل، فإذا مر به أرغون في دخوله على السلطان منع مماليكه من العبور معه. وأمر السلطان الأمير قجليس أن يتلقاه إذا صعد القلعة، ولا يمكنه من العبور إلى داره، فتلقاه قجليس من باب القلعة، ومشى معه إلى أن جازا دار النيابة، فسمع أرغون صراخ أهله، وقد ماتت ابنة زوجته. ثم مر أرغون إلى باب القلة، فإذا أيتمش وغيره فأخذوا سيفه وسيف ابنه محمد، وفرق بينهما. فبعث السلطان إليه بكتمر الساقي يعدد عليه ذنوبه، فاستسلم لأمر الله. وطال ترداد بكتمر بينه وبين السلطان إلى أن أنعم عليه بنيابة حلب، وأخرج معه أيتمش ليوصله ويعود. وبعث السلطان الأمير ألجاي الدوادار على البريد إلى حلب ليحضر ألطنبغا نائبها، وقرر مع كل من أيتمش وألجاي أن يكونا بمن معهما في دمشق يوم الجمعة ثالث عشريه. ولم يعلم أحد منهما بما توجه فيه الآخر، حتى توافيا بدمشق في يوم الجمعة المذكوره وقد خرج الأمير تنكز في الساعة الرابعة إلى ميدان الحصا للقاء الأمير أرغون، فترجل كل منهما لصاحبه، وسارا إلى جامع بني أميه، فعندما توسطاه إذا بالجاي ومعه ألطنبغا نائب حلب، فسلم عليه أرغون بالإيماء. فلما قضيت صلاة الجمعة حمل لهما الأمير تنكز سماطاً جليلاً، وركب أرغون إلى حلب، فدخلها في سلخه.
وفي يوم الثلاثاء ثالث عشره: عزل شرف الدين الخطيري من نظر الدولة بمجد الدين إبراهيم بن لفيتة، واستقر الخطيري ناظر البيوت، فألزم ابن لفيتة المباشرين بعمل الحساب، وأراد توفير جماعة منهم، فلم يتمكن من ذلك.
وفيه سار ألطبغا إلى القاهرة، فقدمها يوم السبت مستهل صفر، فأكرمه السلطان وخلع عليه، وأسكنه بقلعة الجبل، وأنعم عليه بأمرة مائة من جملة إقطاع أرغون، وكمل السلطان منه لطايربغا إمرة مائة، فزادت التقادم تقدمة، وصارت الأمراء خمسة وعشرين مقدماً واتهم الفخر ناظر الجيش بأنه كان سبب تغير السلطان أرغون، لكثرة حطه عليه وإغرائه به، حتى قال له: " يا خوند! ما رأينا سلطاناً دخل عليه الدخيل من غير نائب السلطنة " ، وذكره بما وقع للمنصور لاجين بسبب نائبه منكوتمر، وقيام لاجين وهو نائب السلطنة على العادل كتبغا، وإفساد سلار نائب السلطنة مملكة المظفر بيبرس، وأشار عليه بإبطال النيابة والاستبداد بالأمور. وسبب ذلك ما كان بين الفخر وبين الأمير أرغون من المنافرة، وأهانة أرغون له وحطه من مقدار.
ولما قدم أيتمش سأله السلطان عن أرغون، فما ذكر إلا خيراً، فقال له الفخر بحضرة السلطان: " يا أيتمش كل ما قلت صحيح، لكن والله لو قام أرغون في النيابة شهراً واحداً ما رأيت السلطان على هذا الكرسي " . فأثر هذا القول في السلطان أثراً قبيحاً، وطلب شرف الدين الخطيري كاتبه وهدده بالشنق أن أخفي شيئاً من مال أرغون، وألزمه بكتابة حواصله، فلما تنجزت الأوراق أحاط السلطان بجميع حواصله، وأخذ بعضها وأنعم بالباقي.(1/451)
وفي يوم الأربعاء ثاني عشر صفر: قدم الشريف طفيل فاراً من ابن عمه الشريف ودي ابن جماز بن شيحة، وأخبر أنه حصر المدينة النبوية سبعة أيام، ودخلها عنوة لغيبة الشريف كبيشة أمير المدينة، وأخذ غلمانه وأهله وصادرهم، وعاقب جماعة حتى ماتوا تحت العقوبة، وقتل القاضي هاشم بن علي وعبد الله بن القائد علي بن يحيى. فلما بلغ ذلك الشريف كبيشة قدم، ففر منه ودى فغضب السلطان من ذلك، وعزم على تجريد عسكر يوم الجمعة.
وفي رابع ربيع الأخر: قدم الأمير تنكز نائب الشام باستدعاء، ومعه قليل من مماليكه، فخرج الأمير بكتمر الساقي إلى لقائه بسرياقوس وقدم به، فأكرمه السلطان وأنزله بدار الأمير بكتمر الساقي. وكان قد قدم معه الأمير بدر الدين مسعود بن الخطير أحد حجاب دمشق، فشكا منه وسأل أن يكون بديار مصر، فأنعم عليه بأمرة طبلخاناه، وأن يكون حاجباً صغيراً رفيقاً للأمير ألماس الحاجب وأنعم بإقطاعه في دمشق على أخيه شرف الدين محمود بن الخطير، وسافر الأمير تنكز.
وفي يوم الأحد سادس ربيع الآخر: قبض على الأمير سيف الدين قطلوبغا الفخر والأمير سيف الدين طشتمر حمص أخضر الساقي. وأخرج قطلوبغا على إقطاع أيدغدي التليلي بدمشق، في يوم السبت ثاني عشريه. وأفرج عن طشتمر، واستمر على حاله. وسبب مسكهما أن السلطان وجد ورقة فيها أنهما اتفقا على قتله، فقام الأمراء وكذبوا هذا القول، فإنه من فعل من يريد الفتنة، ومازالوا حتى أفرج عنهما.
وفيه استقر الأمير عز الدين دقماق نقيب الجيوش، عوضاً عن شمس الدين المهمندار، مضافاً لما بيده من نقابة المماليك. واستقر المهمندار على المهمندارية.
وفي يوم الخميس مستهل جمادى الأولى : قبض على الأمير بهاء الدين أصلم، وعلى أخيه سيف الدين قرمجي وجماعة من القبجاقية. وسبب ذلك أن أصلم عرض سلاح خاناه وجلس بإصطبله، وألبس خيله عدة الحرب، وعرضها يومه كله، فوشي به إلى السلطان بعض أعدائه بأنه قد عزم هو وأخوه قرمجي وجماعة جنس القبجاق أن يهجموا على السلطان ويغيروا الدولة، وأنه أمس عرض عدده وألبس خيله ورتبهم للركوب. وكتب هذا في ورقة وألقاها أحدهم في الإصطبل السلطاني. فلما وقف السلطان عليها تغير تغيراً زائداً، وكانت عادته أنه لا يكذب في الشر خبرا، وبعث من فوره يسأل أصلم مع الحاجب ألماس عما كان يعمله أمس في إصطبله، فذكر أنه اشترى عدة أسلحة فعرضها على خيله لينظر ما يناسب كل فرس منها، فصدق السلطان ما نقل عنه، وقبض عليه وعلى أخيه وأهل جنسه، وعلى قيران صهر قرمجي وانكبار أخي آقول الحاحب، وسفروا إلى الإسكندرية مع صلاح الدين طرخان بن بدر الدين بيسري الشمسي وبرلغي قريب السلطان، وكانا مسجونين بقلعة الجبل. وأفرد أصلم في برج بالقلعة.
وفي يوم الإثنين تاسع عشره: قدم الأمير حسين بن جندر بك من الشام، فخلع عليه أطلس بطرز زركش وكلفتاه زرك!ش وحياصة مجوهرة، وأنعم عليه بإقطاع الأمير أصلم. وفيه سار الأمير حسام الدين حسين بن خربندا إلى الشام، وقد كان فر من بلاد التتار، وشمله الإنعام السلطاني وصار من جملة أمراء الطبلخاناه.
وفيه قدمت رسل اصطنبول، فأسلم منهم نفران، وهما آقسنقر وبهادر، وأنعم على آقسنقر بإمرة عشرة بديار مصر، وعلى بهادر بخبز جند وكانا أخوة.
وفي يوم الإثنين ثالث جمادى الآخرة: عقد على الأمير سيف الدين قوصون بالقلعة عقد ابنة السلطان بالقلعة، وتولى عقد النكاح قاضي القضاة شمس الدين محمد بن الحريري الحنفي.
وفيه سأل قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعي في الإعفاء من القضاء، واعتذر بنزول الماء في إحدى عينيه وانحداره إلى الأخر وقلة نظره وكبر سنه. فسأل السلطان من ابنة عز الدين عبد العزيز بن جماعة عن وظائف والده، فأخبره بها، فلما حضر بدر الدين دار العدل في يوم الإثنين عاشره أعاد السؤال في طلب الإعفاء، فأجابه السلطان من غير تصريح، وقال له: " احكم بين الأمير بكتمر الحاجب وبين غرمائه " ، فنزل إلى المدرسة الصالحية وحكم بينهما، وقال لأهل مجلسه. " هذا أخر الحكم، ومضى إلى داره بمصر، فقرر له السلطان من مال المتجر في كل شهر ألف درهم فضة.(1/452)
وفيه كتب بإحضار جلال الدين محمد القزويني قاضي دمشق، ليستقر في قضاء القضاة بمصر عوضاً عن بدر الدين بن جماعة، فقدم على البريد إلى سرياقوس يوم الجمعة ثامن عشريه، وخطب بجامع الخانكاه، وصلى بالناس صلاة الجمعة. وطلع القزويني قلعة الجبل يوم السبت تاسع عشريه، فخلع عليه في أول رجب، واستقر في قضاء القضاة، وأركب بغلة بزنار جوخ، وأضيف إليه تدريس المدرسة الصالحية، والمدرسة الناصرية، ودار الحديث الكاملية، وخطابة جامع القلعة شركة مع ابن القسطلاني وأعيد ابنه بدر الدين محمد على خطابة جامع بني أمية بدمشق. وكتب باستقرار شمس الدين أبي اليسر ابن الصائغ بتعيين الجلال القزوين فامتنع من ذلك.
وفي يوم الأربعاء رابع رجب: قدمت رسل القان أبي سعيد، ومعهم محمد بيه بن جمق قريب السلطان وابن أخت طايربغا، بهدية سنية. فأنعم السلطان على محمد بيه بإمره طبلخاناه عوضاً عن أيبك البكتوتي أمير علم، بحكم انتقاله على إقطاع فيروز بصمد.
فلما كمان يوم السبت: ركب السلطان إلى الميدان ومعه الرسل، ثم أركبهم في ثالث عشره معه إلى القاهرة، ونزل إلى زيارة قبر والده الملك المنصور، ومد سماط عظيم بإيوان المدرسة المنصورية القبلي وحضر الفقهاء بالإيوان البحري. ثم ركب السلطان بهم مرة ثانية إلى الميدان، وأعادهم في سادس عشره بهدية جليلة.
وفي يوم الخميس خامسه: كانت الفتنة بالإسكندرية: وملخصها أن بعض تجار الفرنج فاوض رجلاً من المسلمين وضربه، وذلك أن الفرنجي وقف بجانب صبي أمرد ليأخذه ويفعل به ذلك الفعل، فعناه بعض المسلمين وقال له: " هذا ما يحل " ، فضربه الفرنجي بخف على وجهه. فثار المسلمون بالإفرنج وثار الفرنج لتحميه، فوقع الشر بين الفريقين، واقتتلوا بالسلاح. فركب ركن الدين الكركي متولي الثغر، فإذا الناس قد ئعصبوا وأخرجوا السلاح، وشهدوا على الفرنجي. مما يوجب قتله، وحملوه إلى القاضي وغلقت أسواق المدينة وأبوابها.
فلما كان بعد عشاء الآخرة فتحت الأبواب ليدحل من كان خارج البلد، فمن شدة الزحام قتل عشرة أنفس، وتلفت أعضاء جماعة، وذهبت عمائم وغيرها لكثير منهم. وتبين للكركي تحامل الناس على الفرنج، فحمل بنفسه وأجناده عليهم ليدفعهم عن الفرنج، فلم يندفعوا وقاتلوه إلى أن هزموه، وقصدوا إخراج الأمراء المعتقلين بالثغر. بعد ما سفكت بينهما دماء كثيرة. فعند ذلك بادر الكركي بمطالعة السلطان بهذه الحادثة، فسرح الطائر بالبطائق يعلم السلطان، فاشتد غضبه. وخشي السلطان خروج الأمراء من السجن، وبادر إلى أخذ أولاد الأمير سيف الدين الأبو بكري الثلاثة - وهم على وأسنبغا وأحمد - في يوم الإثنين تاسعه، وجعلهم في دار الأمير ألماس الحاجب. وأخرج السلطان الوزير مغلطاي الجمال وطوغان شاد الدواوين، وسيف الدين ألدمر الركني أمير جندار، في جماعة من المماليك السلطانية، ومعهم ناظر الخاص إلى الإسكندرية، ومعهم تذاكر. مما يعمل من تتبع أهل الفساد وقتلهم، ومصادرة قوم بأعيانهم، وتغريم أهل البلد المال، والقبض على أسلحة الغزاة، ومسك القاضي والشهود، وتجهيز الأمراء المسجونين إلى قلعة الجبل؟ فساروا في عاشره، ودخلوا المدينة.(1/453)
وجلس الوزير والناظر بديوان الخمس وفرض الوزير على الناس خمسمائة ألف دينار، وقبض على جماعة من أذلهم ووسطهم، وقطع أيدي بعضهم وأرجلهم، وتطلب ابن رواحة كبير دار الطراز ووسطه، من أجل أنه وشي به أنه كان يغري العامة بالفرنج ويمدهم بالسلاح والنفقة. فحل بالناس من المصادرة بلاء عظيم، وكتب السلطان ترد شيئاً بعد شيء تتضمن الحث على سفك دماء المفسدين وأخذ الأموال، والوزير يجيب بما يصلح أمر الناس. ثم استدعى الوزير بالسلاح المعد للغزاة، فبلغ ستة ألاف عدة، وضعها كلها في حاصل وختم عليها، واستمر نحو العشرين يوماً في سفك دماء وأخذ أموال، حتى جمع ما ينيف على مائتين وستين ألف دينار، وقدم الوزير عماد الدين محمد ابن اسحاق بن محمد البلبيسي قاضي الإسكندرية ليشنق، ثم أخره، وكاتب السلطان بأنه كشف عن أمره فوجد ما نقل عنه غير صحيح. وبعث الوزير المسجونين إلى قلعة الجبل في طائفة معهم لحفظهم، فقدموا في ثامن عشره، وهم البوبكري وتمر الساقي وسنجر الجاولي وبهادر المعز وطغلق، وأمير غانم، وقطلوبك الوشاقي وأيدمر اليونسي وكجلي نائب قلعة الروم. فأخرج البوبكري وتمر الساقي إلى الكرك، وسجن الجاولي وبهادر المعزي في البرج بالقلعة، وأنزل بطغلق وأمير غانم وقطلوبك وأيدمر وبلاط وبرلغي ولاجين زيرباج وبيبرس العلمي وطشتمر أخي بتخاص المنصوري إلى الجب بالقلعة، وأفرج عن فخر الدين أياس نائب قلعة الروم، في يوم الخميس سادس عشريه.
وقدم الوزير من الإسكندرية بالمال، وجلس في سلخ رجب بالمال بقاعة الوزارة المستجدة بالقلعة، وقد سكنها، وحفر النظار والمستوفون من خارج الشباك، وحضر طوغان الشاد أيضاً، فنفذ الوزير الأمور، وصرف أحوال الدولة.
وفي أول شعبان: قدمت رسل بابا الفرنج من مدينة رومة بهدية، وكتاب فيه الوصية بالنصارى وأنه مهما عمل مهم بمصر والشام عاملوا من عندهم من المسلمين بمثله، فأجيبوا وأعيدوا.
ولم تقدم رسل من عند الباب إلى مصر منذ أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب.
وفيه قبض على أمير فرج بن قراسنقر، واعتقل بالجب في القلعه. وأخرج كجكن الساقي إلى صفد، فاعتقل بها.
وفي يوم الإثنين السادس والعشرين من شوال: استدعي الشيخ علاء الدين علي بن إسماعيل بن أبي الطلاء القونوي الشافعي شيخ خانكاه سعيد السعداء، وخلع عليه بقضاء القضاة بدمشق، ونزل فحكم بالقاهره، وأثبت كتبا تتعلق بدمشق، وسافر فقدم دمشق في خامس عشريه، وأضيف إليه مشيخة الشيوخ بها، عوضاً عن قاضي القضاة شرف الدين المالكي. واستقر في مشيخة سعيد السعداء شيخ الشيوخ مجد الدين أبو حامد موسى بن أحمد بن محمود الأقصرائي شيخ خانكاه سرياقوس، ورسم له أن يستنيب عنه بسعيد السعداء الشيخ جمال الدين الحويزاني. واستقر في مشيخة الخانكاه الركنية بيبرس افتخار الدين الخوارزمي عوضاً عن مجد الدين أبي بكر بن إسماعيل بن عبد العزيز الزنكلوني، ونقل الزنكلوني إلى مشيخة تدريس الحديث النبوي بالقبة البيبرسية. وفيه قبض على الشريف ودي بن جماز عندما حضر من المدينة النبوية، وكان قد تحاقق هو وطفيل بن منصور بن جاز بين يدي السلطان، ففلح عليه طفيل في الخصومة. وسفر الأمير علاء الدين علي بن طغريل صحبة الشريف كبيشة، ليوصله إلى المدينة النبوية، ويقبض على أصحاب ودي . فلما قدما فر أصحاب ودي وملك كبيشة ابن منصور المدينة، ودعا للسلطان عقيب كل صلاة كما يدعي له بمكة.
وفي خامس عشر في ذي القعدة: استقر مغلطاي الخازن في نيابة قلعة دمشق، عوضاً عن سنجر الدميتري. وأنعم على سنجر بإمرة في دمشق.
وفيه استقر الأمير بلبسطي في نيابة حمص، بعد وفاة بلبان البدري. واستقر في نظر القدس والخليل إبراهيم الجاكي.(1/454)
وفي ليلة الجمعة ثالث عشر ذي الحجة: دخل الأمير قوصون على ابنة السلطان، بعد ما حمل جهازها إليه، وكان شيئاً عظيماً: منه بشخاناه وداير بيت زركش، زنة البشخاناه بمفردها مائة ألف مثقال ذهباً. وعمل الفرح مدة سبعة أيام، ذبح فيه خمسة ألاف رأس من الغنم الضأن، ومائة رأس من البقر، وخمسون فرساً، ومن الدجاج، والأوز ما لا يحصى كثرة. واستعمل فيه من السكر برسم الحلاوات وتحالي الأطعمة والمشروب أحد عشر ألف أبلوجة، وبلغ وزن الشمع الذي أحضره الأمراء ثلاثمائة قنطار وأحد عشر قنطاراً. وبلغت تقادم الأمراء لقوصون خمسين ألف دينار. وعمل قجليس في القلعة برجا من بارود ونفط، غرم عليه ثمانين ألف درهم. وحصل للمغاني من النقوط عشرة ألاف دينار مصرية وقد جمع أمراء مصر والشام تقادم جليلة، منها تقدمة الملك صاحب حماة، ومن جملتها مشعل وطرطور ومخلاة مطرز ذهب بالف دينار. وفي صبيحة العرس عقد الأمير أحمد بن بكتمر الساقي علي قطلوملك بنت الأمير تنكز نائب الشام، وقد حضرت في أول ذي القعدة بجهاز عظيم، فيه داير بيت زنة زركشه ستون ألف مثقال من الذهب. وقدم الأمير تنكز عليه عليه السلطان خلعة كاملة، انصرف على القباء الفوقاني منها وحده مبلغ أربعة وخمسين ألف درهم فضة. فدخل أمير أحمد على ابنة تنكز في ليلة رابع عشره.
وفي هذه السنة: قدم إلى ميناء بيروت من سواحل الشام تجار الفرنج بمائة وأربعين من أسارى المسلمين، قد اشتروهم من الجزائر، فاشتراهم الأمير تنكز، وأفاد التجار في كل أسير مائة وعشرين درهماً على ما اشتراه به. وكسا تنكز الجميع وزودهم، وحملهم إلى مصر، فسر المسلمون بقدومهم، وجد تجار الفرنج في شراء الأسرى رغبة في الفائدة.
وفيه كتب لنائب الشام بجمع فقهاء الشام والعمل في أوقافها كلها بمقتض شروط واقفيها، وأن يجهز ضياء الدين يوسف بن أبي بكر بن محمد - المعروف بالضياء بن خطيب بيت الآبار - ، وكان قاضي القضاة جلال الدين القزويني قد عينه لنظر الأوقاف بديار مصر وأثني عليه. فلما قدم ضياء الدين خلع عليه بنظر الأوقاف، فباشرها مباشرة جيدة.
ونظر تنكز نائب الشام في أوقافها، ورسم بعمارة ما يحتاج إليه، ومنع الجوالك كلها أن يصرف منها لأحد حتى تفرغ عمارتها، فامتثل ذلك. ونظر تنكز في مقاسم المياه بدمشق التي تتصرف في دور الناس، وكسح ما فيها من الأوساخ، وفتح ما استد منها حتى صلحت كلها، فعم النفع بها. وكانت المياه قد تغيرت لما خالطها في طول السنين، وصار الوخم يعتاد أهل دمشق في كل سنة. فشكر الناس هذه الأفعال، ودعوا له، ويقال أنه بلغ المصروف في ذلك ثلاثمائة ألف درهم.
وفيها اهتم تنكز أيضاً بفتح العين بالقدس، فإن الماء قل به حتى بلغ شرب الفرس الماء مرة واحدة نصف درهم فضة، وكتب إلى ولاة الأعمال بإخراج الرجال، وندب قطلوبك بن الجاشنكير بالمال لنفقته عليها.
وفيها ندب السلطان الأمير علاء الدين علي بن هلال الدولة لعمارة حرم مكة، وقد بلغه أن سقوفه تشعثت، وتهدم فيه عدة جدر، وجهز ابن هلال الدولة بكل ما يحتاج إليه من المال والمصاغ والآلات، وكتب السلطان للشريف عطيفة بمساعدته. وحج بالناس من مصر الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك.
ومات في هذه السنة من الأعيان
نجم الدين أحمد بن محمد بن أبي الحزم مكي المخزومي ابن ياسين القمولي الشافعي محتسب مصر، في ثامن رجب.
ومات أبو يحيى زكريا بن أحمد بن محمد بن يحيى بن عبد الواحد بن أحمد بن محمد اللحياني ملك تونس، بالإسكندرية. ومات كمال الدين محمد بن علاء الدين علي بن كمال الدين عبد الواحد بن عبد الكريم بن خلف بن نبهان الزملكاني الشافعي بمدينة بلبيسي عند قدومه من حلب، في سادس شهر رمضان، ودفن بالقرافة. ومات شمس الدين محمد بن الشهاب محمود بن سليمان بن فهد الحلبي كاتب السر بدمشق، في عاشر شوال.
ومات نور الدين علي بن عمر بن أبي بكر بن عبدالله الخلاطي الواني الصوفي نزيل القاهرة، في المحرم، ومولده في سنة ست وثلاثين وستمائة، سمع من يونس بن محمود الشاوي وعبد الوهاب بن رواح وعبد الرحمن بن مكي سبط السلفي وخرج له الحافظ أبو الحسين بن أيبك جزءاً حدث به، فسمع منه قديماً البرزالي سنة خمس وثمانين وستمائة،وسمع منه شيخنا أبو الفرج بن الشيخة، وأبو علي الباصلي وعبد الوهاب البصروي.(1/455)
ومات قاضي القضاة الحنفية بدمشق صدر الدين أبو الحسن علي بن صفي الدين أبي القاسم بن محمد بن عثمان البصراوي في شعبان، بعدما حكم بدمشق عشرين سنة. ومات الملك الكامل ناصر الدين محمد بن السعيد فتح الدين عبد الملك بن الصالح عماد الدين إسماعيل بن العادل أبي بكر محمد بن نجم الدين أيوب بن شاد بدمشق في حادي عشرى جمادى الآخرة، عن أربع وسبعين سنة.
ومات الطواشي ناصر الدين نصر الشمس شيخ الخدام بالحرم النبوي وكان خيراً يحفظ القرآن، ويكثر تلاوته بصوت حسن.
ومات الضياء المجدي بمصر، وكان مطبوعاً صاحب نوادر.
ومات الأمير سيف الدين بلبان البدري نائب حمص، في ليلة عيد الفطر.
ومات الأمير ناصر الدين محمد بن أرغون النائب بحلب، في ثالث عشر شعبان.
ومات الأمير سيف الدين قطلوبغا المغربي الحاجب، بالقاهرة في ثامن رجب.
ومات الأمير سيف الدين كوجري أمير شكار بالقاهرة في تاسع عشرى ذي الحجة. وهو مملوك عز الدين أيدمر نائب دمشق في الأيام الظاهرية.
ومات بكتوت بن الصائغ، في يوم السبت رابع عشرى جمادى الأولى.
ومات الأمير شمس الدين إبراهيم ابن الأمير بدر الدين محمد بن عيسى بن التركماني في جمادى الآخرة، بدار جوار باب البحر خارج الفاهرة. وكانت له مكارم وفيه مروءة.
سنة ثمان وعشرين وسبعمائة
في ثالث المحرم: أنعم بخبز الأمير كوجري أمير شكار على الأمير بشتاك.
وفي خامس عشريه: قدم الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك من الحجاز بالحجاج.
وفي سابع عشريه: قدمت رسل القان أبي سعيد، فأكرموا وأعيدوا في رابع صفر.
وفي المحرم: هذا وشى بالأمير شمس الدين آقسنقر شاد العمائر أن جميع عمائره وأملاكه التي استجدها مما يأخذه من الأسرى وأرباب الصنائع، فرسم عليه مالاً ألزم به، فاعتنى به الأمير قوصون وشفع فيه، فأفرج عنه وأخرج إلى الشام.
وفيه وردت مكاتبة الأمير تنكز نائب الشام بالشكوى من الأمير طينال نائب طرابلس وترفعه عليه، فكتب بالإنكار عليه، وألا يكاتب في المهمات وغيرها إلا نائب الشام، ولا يجهز بعدها مطالعة إلى مصر.
وفي سابع ربيع الأول. قدم دمرداش بن جوبان بن تلك بن تداون. وسبب ذلك أن القان أبا سعيد بن خربندا لما ملك أقبل على اللهو، فتحكم الأمير جوبان بن تلك على الأردو، وقام بأمر المملكة، واستناب ولده دمشق خواجا بالأردو، وبعث ابنه دمرداش إلى مملكة الروم. فانحصر أبو سعيد إلى أن تحرك بعض أولاد كبك بجهة خراسان، وخرج عن الطاعة، فسار جوبان لحربه في عسكر كبير، فما هو إلا أن بعد عن الأردو قليلاً حتى رجع العدو عن خراسان، وقصد جوبان العود.
وكان قد قبض بوسعيد على دمشق خواجا، وقتله بظاهر مدينة السلطانية، في شوال من السنة الماضية، وأتبع به إخوته ونهب أتباعهم، وسفك أكثر دمائهم، وكتب إلى من خرج من العسكر مع جوبان بما وقع، وأمرهم بقبضه، وكتب إلى دمرداش أن يحضر إلى الأردو، وعرفه شوقه إليه، ودس مع الرسول إليه عدة ملطفات إلى أمراء الروم بالقبض عليه أو قتله، وعرفهم ما وقع.
وكان دمرداش قد ملك بلاد الروم جميعها وجبال ابن قرمان، وأقام على كل دربند جماعة تحفظه، فلا يمر أحد إلا ويعلم به خوفاً على نفسه من السلطان الملك الناصر أن يبعث إليه فداويا يقتله، بسبب ما حصل بينهما من المواحشة التي اقتضت انحصار السلطان منه، وأنه منع التجار وغيرهم من حمل المماليك إلى مصر، وإذا سمع بأحد من جهة صاحب مصر أخرق به. فشرع السلطان يخادعه على عادته، ويهاديه ويترضاه، وهو لا يلتفت إليه، فكتب إلى أبيه جوبان في أمره حتى بعث ينكر عليه، فأمسك عما كان فيه قليلاً، ولبس تشريف السلطان، وقبل هديته وبعث عوضها، وهو مع هذا شديد التحرز.(1/456)
فلما قدمت رسل أبي سعيد بطلبه فتشهم الموكلون بالدربندات، فوجدوا الملطفات، فحملوهم وما معهم إلى دمرداش. فلما وقف دمرداش عليهما لم يزل يعاقب الرسل إلى أن اعترفوا بأن أبا سعيد قتل دمشق خواجا وإخواته ومن يلوذ بهم، ونهب أموالهم، وبعث بقتل جوبان. فقتل دمرداش الرسل، وبعث إلى الأمراء أصحاب الملطفات فقتلهم أيضاً، وكتب إلى السلطان الملك الناصر يرغب في طاعته، ويستأذنه في القدوم عليه بعساكر الروم، ليكون نائباً عنه بها. فسر السلطان بذلك. وكان قد ورد على السلطان كتاب المجد السلامي من الشرق بقتل دمشق خواجا واخوته، وكتاب أبي سعيد بقتل جوبان، وطلب ابنه دمرداش، وأنه ما عاق أبا سعيد عن الحركة إلا كثرة الثلج وقوة الشتاء.
فكتب السلطان الناصر جواب دمرداش يعده بمواعيد كثيرة، ويرعبه في الحضور. فتحير دمرداش بين أن يقيم فيأتيه أبو سعيد، أو يتوجه إلى مصر فلا يدري ما يتفق له. ثم قوي عنده المسير إلى مصر، وأعلم أمراءه أن عسكر مصر سار ليأخذ بلاد الروم، وأنه قد كتب إليه الملك الناصر يأمره أن يكون نائبه، فمشى عليهم ذلك وسرهم. وأخذ دمرداش يجهز أمره، وحصن أولاده وأهله في قلعة منيعة، وبعث معهم أمواله، ثم ركب بعساكره حتى قارب بهسنا، فجمع من معه وأعلمهم أنه يريد مصر، وخيرهم بين العود إلى بلادهم وبين المسير معه، فعادوا إلا من يختص به.
وسار دمرداش إلى بهسنا في نحو ثلاثمائة فارس، فتلقاه نائبها، ومازال حتى قدم دمشق يوم الأحد خامس عشرى صفر، فركب الأمير تنكز إلى لقائه، وأنزله بالميدان، وقام له بما يجب، وجهزه إلى مصر بعد ما قدم بين يديه البريد بخبره. فبعث إليه السلطان بالأمير سيف الدين طرغاي الجاشنكير، ومعه المهمندار بجميع الآلات الملوكية من الخيام والدهليز والبيوتات كلها إلى غزة، فلقوه بها وأقام فيها يومين وسافر إلى القاهرة، فركب الأمراء إلى لقائه، وخرج السلطان إلى بر الجيزة، ورسم أن يعدي النيل إليه.
فلما قدم دمرداش إلى القاهرة في سابع ربيع الأول أتاه الأمير طايربغا وأحضره إلى السلطان بالجيزة، فقبل الأرض ثلاث مرات. فترحب السلطان به وأجلسه بالقرب منه، وباسطه وطيب خاطره، وسأله عن أحواله، وألبسه تشريفاً عظيماً، وركب معه للصيد، وعدى به النيل إلى القلعة، وأسكنه بها في بيت الجاولي ورتب له جميع ما يحتاج إليه، ورسم للأمير طوغان أن يدخل صحبة طعامه بكرة وعشيا.
وفي عاشره: قدم دمرداش مائة إكديش وثمانين بختيا وخمسة مماليك وخمس بقج فيها الثياب الفاخرة، منها بقجة بها قباء أطلس مرصع بعدة جواهر ثمينة، فلم يقبل السلطان غير القباء وإكديشاً واحداً وقطار بخات ورد البقيه إليه ليتقوى بها.
وتقدم السلطان إلى الوزير أن يرتب لدمرداش ما يليق به، وطلب إلى الحاجب أن يجلسه في الميمنة تحت الأمير سيف الدين آل ملك الجوكندار. فشق عليه ذلك، إلى أن بعث السلطان إليه الأمير بدر الدين جنكلي يعتذر إليه أنه ما جهل قدره، ولكن الشهيد والد السلطان له مماليك كبار قد ربوا السلطان، فهو يريد تعظيم قدرهم، " فلهذا أجلسك بجانبهم؟ فطاب خاطره.
واجتمع دمرداش بالسلطان وفاوضه في أمر بلاد الروم، وأن يجهز إليها عسكراً. فأشار السلطان بالمهلة حتى يرد البريد بخبر أبيه جوبان مع أبي سعيد، وكتب إلى ابن قرمان أن ينزل على القلعة التي فيها أولاد دمرداش وحواصله ويرسلهم مكرمين إلى مصر. فاستأذن دمرداش في عود من قدم معه إلى بلادهم، فأذن له في ذلك، فسار كثير منهم.
وأنعم السلطان على دمرداش بأمرة سنجر الجمقدار، بحكم إخراجه إلى الشام.
وهي يوم الإثنين حادي عشره: ركب دمرداش بالقماش الإسلامي على هيئة الأمراء.
وفي تاسع عشره: قدم الأمير شاهنشاه ابن عم جوبان، فخلع عليه، وأنزل عند دمرداش.
وفي ثامن عشريه: وصل طلب دمرداش وثقله، فأنزلوا بدار الضيافة، وهم نحو ستمائة فارس.
وفي يوم الأحد أول ربيع الآخر: عرض السلطان أصحاب دمرداش، وفرق أكثرهم على الأمراء، واختار نحو التسعين منهم العود إلى بلادهم، فعادوا.(1/457)
وفيه قدمت رسل أبي سعيد بكتابه، وفيه بعد السلام والاستيحاش وذكر الود إعلام السلطان بأمر جوبان وتحكمه وقلة امتثاله الأمر، وأنه قصد قتله والتحكم بمفرده، فلما تحقق ذلك لديه بعثه إلى خراسان، وسير بالقبض عليه، وهو يأخذ رأي السلطان في ذلك، وقد سير أبو سعيد مع رسله هدية فقبلت. وسألهم السلطان عن دمرداش، فذكروا أنهم لم يعرفوا خبره حتى قدموا دمشق، فبعثهم إليه فلم يعبأ بهم.
وفي يوم الثلاثاء عاشره: توجه السلطان إلى الوجه البحري ومعه دمرداش، وحسن له الفخر ناظر الجيش والأمير بكتمر الساقي زيارة الشيخ محمد المرشد فتوقف في زيارته ثم عزم عليها. فرسم للأمير علم الدين سنجر الخازن كاشف الغربية بطلب جميع العربان وتقديمهم الخيل والهجن، وأن يجهز الإقامات. واستناب السلطان في غيبته الأمير قجليس. وعاد السلطان في سادس عشريه، بعد ما قدم الأمير تنكز في رابع عشريه. وفي تاسع شوال: خلع على الطواشي ناصر الدين نصر الساقي. واستقر مقدم المماليك، عوضاً عن الطواشي صواب الركني.
وفيه بعث السلطان الأمير سيف الدين أروج مملوك قبجق إلى أبي سعيد يشفع في دمرداش، ومعه الرسل بهدية جليلة، فساروا في تاسع جمادى الأولى.
وفي يوم الأربعاء سادس عشر جمادى الآخرة: سار برهان الدين إبراهيم بن عبد الحق الحنفي على البريد إلى القاهرة، وقد طلب، فقدم يوم السبت خامس عشريه، واستقر في قضاء القضاة الحنفية بديار مصر، عوضاً عن شمس الدين محمد بن عثمان. محمد بن عثمان الحريري بعد وفاته.
وفي يوم السبت عاشر رجب: عاد أطوجي من بلاد أزبك ملك القبجاق بتقادم جليلة، فأنزل بالميدان، وأنعم عليه وعلى جماعته بشيء كثير.
وفي حادي عشره: حضر أطوجي إلى بين يدي السلطان فخلع عليه، وسار في عشريه.
وفي خامس عشريه: عقد نكاح ابنة السلطان على الأمير سيف الدين طغاي تمر العمري الناصر وأعفي الأمراء من حمل الشموع وغيرها، وأنعم عليه من الخزانة بأربعة ألاف دينار عوضاً عن ذلك.
وفيه عاد جواب ابن قرمان بأنه ركب إلى القلعة التي فيها أهل دمرداش، وعرفهم أنه حفر. بمرسوم السلطان، وبعث إليهم بكتاب دمرداش أنهم يقدمون عليه بمصر، فردوا جوابه: " لا حاجة لنا في مصر " . وذكر ابن قرمان أن هذا بمباطنة دمرداش لهم، وحط عليه بأنه سفك دماء كثرة، وقتل من المسلمين عالماً عظيماً، وأنه جسور وما قصد بدخوله مصر إلا طمعاً في ملكها. وبعث ابن قرمان الكتاب صحبة نجم الدين إسحاق الرومي أنطالية، وهي القلعة التي أخذها منه دمرداش وقتل والده، وأنه قدم ليطالبه بدم أبيه. فلما وقف السلطان على الكتاب تغير، وطلب دمرداش وأعلمه بما يه. وجمع السلطان بينه وبين إسحاق، فتحاققا بحضرة الأمراء، فظهر أن كلا منهما قتل لصاحبه قتيلاً، فكتب جواب ابن قرمان معه وأعيد. وقد تبين للسلطان خبث نية دمرداش، فقبضه وأمسك من معه من الأعيان، وهم محمود شاهنشاه وعدة أخر في يوم الخميس العشرين من شعبان، واعتقل دمرداش ببرج السباع من القلعة، وفرق البقية في الأبراج، وفرقت مماليكه على الأمراء، ورتب له ما يكفيه.
وكان للقبض على دمرداش أسباب: منها أنه كان له بالروم مائة ألف رأس من الغنم، فلما وصلت قطيا أطلق منها للأمير بكتمر الساقي عشرين ألفاً، ولقوصون وبقية الأمراء كل واحد شيئاً حتى فرق الجميع، فلم يعجب السلطان ذلك. ودخل دمرداش يوماً الحمام فأعطي الحمامي ألف درهم، والحارس ثلاثمائة، فزاد حنق السلطان منه. ثم أخذ دمرداش يوقع في الأمراء والخاصكية، ويقول: هذا كان كذا، وهذا كان كذا، وهذا ألماس الحاجب كان حمالاً، فما حمل السلطان هذا منه.
وفي شوال: حسن جماعة للسلطان توفير كثير من الجوامك، فعمل فيه استيمار، وفرق فيه ما قطع من جوامك المباشرين والغلمات وهي جملة، ووفر منهم عدة، ثم قرئ عليه. وأحضر الصاحب أمين الدين عبدالله بن الغنام، وخلع عليه وعلى مجد الدين إبراهيم بن لفيتة بغير طرحات، واستقرا في نظر النظار والصحبة في يوم الإثنين نصف شوال.
وفيه نقل شمس الدين إبراهيم بن قروينة إلى نظر البيوت، وخلع عليه معهما.
وفي تاسع عشريه: عقد نكاح الخاتون طلباي الواصلة من بلاد أزبك على الأمير سيف الدين منكلي بغا السلاح دار، بعدما طلقها السلطان وانقضت عدتها، وبنى عليها الأمير سيف الدين في ثامن ذي القعدة.(1/458)
وفي يوم الأربعاء ثاسع عشريه: عزل الصاحب أمين الدين بن الغنام عن نظر الدولة. وكان قد كتب قصة يطلب الإعفاء من المباشرة، فلم يجب إلى ذلك، فكتب قصة ثانية فأجيب، فكانت مدة مباشرته أربعة وأربعين يوماً تحريراً.
وفي يوم الخميس ثامن ذي الحجة: أفرج عن الأمير حسام الدين لاجين العمري الملقب زيرباج الجاشنكير، أحد المماليك المنصورية المشهورين بالشجاعة والقوة، بعدما أقام في الاعتقال من يوم الإثنين ثالث ربيع الآخر سنة ثنتى عشرة مدة ست عشرة سنة وثمانية أشهر وخمسة أيام، وهو يغزل الصوف المرعز ويعمله كوافي بديعة الزي وللناس فيها رغبة، ويتصدق بثمنها.
وفيه أفرج عن الأمير علم الدين سنجر الجاولي وكانت مدة اعتقاله ثماني سنين وثلاثة أشهر وأحد عشر يوماً، وكان فيها ينسخ القرآن وكتب الحديث ونحوه. وأفرج عن أمير فرج بن قراسنقر في يوم عرفة، ثم أعيد إلى سجنه في يومه.
وفيه سافر الأمير سيف الدين أيتمش إلى بوسعيد برسالة تتضمن ما قام به السلطان مع دمرداش بن جوبان، وكان قد وصل إلى الأبواب السلطانية في يوم الأربعاء حادي عشر شهر رمضان رسل من عند أبي سعيد، وهم ثلاثة نفر، والمشار إليه منهم أياجي أمير جندار الملك أبي سعيد. فلما مثلوا بين يدي السلطان، وكلهم الإنعام بالتشاريف على عادة أمثالهم، أرسلهم السلطان إلى دمرداش في معتقله، صحبة الأمير سيف الدين قجليس أمير سلاح، فاجتمعوا به وتحدثوا معه. وقيل كان مضمون رسالتهم طلب دمرداش من السلطان، وأنه إذا سلم إليهم أرسل الملك أبو سعيد في مقابلة ذلك الأمير شمس الدين سنقر المنصوري. فمال السلطان إلى ذلك، ورسم للأمير أيتمش المحمدي أن يتوجه إلى الملك أبي سعيد برسالة السلطان لتقرير الحال في ذلك، وتوجه طلب دمرداش في يوم الإثنين سادس عشر شهر رمضان، ثم عدل السلطان عن هذا الأمر، وترحح عنده أنه لا يرسله إلى الملك أبي سعيد.
فلما كان في ليلة الخميس رابع شوال: من هذه السنة أخرج دمرداش من معتقله بالبرج، وفتح باب السر من جهة القرافة وأخرج منه وهو مقيد مغلول، وشاهده رسل الملك أبي سعيد وهو على هذه الحال. ثم خنق دمرداش، وشاهده الرسل بعد موته، وقطع رأسه و سلخ وصبر وحشي وأرسل السلطان الرأس إلى أبي سعيد، ودفن الجسد بمكان قتله. وحضر الرسل إلى الخدمة السلطانية في يوم الخميس رابع شوال، وركبوا مع السلطان إلى الميدان في يوم السبت سادسه، ثم حضروا إلى الخدمة السلطانية في يوم الإثنين ثامنه، وكلهم الخلع والإنعام، وأعيدوا إلى مرسلهم في هذا اليوم، وتوجه معهم الأمير سيف الدين أيتمش المحمدي برسالة السلطان إلى الملك أبي سعيد، كما تقدم وفيها وقع في زروع أرض مصر أفة من الدودة عند أوان الزرع عقيب حر شديد، حتى عم ذلك أكثر الزرع، فكتب إلى الولاة بكتابة ما تلف، فوجد قد تلف في بعض البلاد نصف الزرع وما دونه في غيرها. وتحسن السعر، فبلغ القمح إلى عشرين الأردب بعد ثلاثة عشر.
وفيها هبت ريح سوداء بعدما أرعدت السماء وأبرقت، حتى كان الإنسان لا يبصر رفيقه، وحتى ردت وجوه الحيل إلى ورائها، و لم يستطع أحد أن يثبت فوق فرسه، ولا أن يقف على رجليه فوق الأرض، بل تلقيه الريح، وكان ذلك ببلاد فوة بحر الغرب وسائر الوجه البحري. وغرق بها من المراكب شي ء كثير، وتقصفت عدة من النخل، واقتلعت شجرة جميزه كبيره من أصلها بناحية فوه، ومرت بها قدر مائتي قصبة، فلما قطعت حمل خشبها تسعة أحمال جمال. ومر من ذلك في البرين الغربي والشرقي عجائب، وهدمت عدة دور ثم أمطرت بعد أيام مطراً عظيماً سال منه إلى مدينة بلبيس حتى خرب كثير منها، وجرى السيل إلى المطرية وأمطرت بالقاهرة ومصر ثلاثة أيام مطراً لم يعهد مثله، تلف منه عامة السقوف.
وفيها اشتد بأس الأمير قدادار والي القاهرة، وتسلط على العامة بكثرة سفلك الدماء.(1/459)
وكان قد رسم لجميع الولاة ألا يقتلوا أحداً ولا يقطعوا يده إلا بعد مشاورة السلطان، خلا قدادار، فإنه لا يشاور على مفسد ولا غيره. فانطلقت يده في سائر الناس، وأقام عنه نائباً من بطالي الحسينية ضمن المسطبة منه في كل يوم بثلاثمائة درهم، وأتت الطائفة المعروفة بالمستصنعين في المدينة، وعملوا أعمالاً شنيعة، وكتبوا لأرباب الأموال أوراقاً بالتهديد، فاشتد خوف أهل الرتب منه. ونادى قدادار ألا يفتح بعد عشاء الآخرة أحد دكاناً في مدة غيبة السلطان في الوجه البحري ولا يمشي أحد بالليل في الأسواق، ولا يخرج أحد من بيته بعد عشاء الآخرة، فكان من يوجد يؤخذ، فإن وجدت منه رائحة الخمر لقي شدة. فانكف الناس عن الخروج ليلاً، وصارت الشوارع موحشة. وأقام قدادار على كل حارة درباً ألزم أهلها بعمله، ورتب الخفراء تدور في الليل بطبول في جميع الحارات والخطط، فظفر أحدهم برجل قد سرق من بيت ولبس ثياب النساء، فسمره قدادار بباب زويلة.
وفيها قدم البريد من صفد، ومعه مبلغ أربعين ألف درهم حملاً للموقعين، فأخذ قريباً من بلبيس. فألزم السلطان واليها علم الدين قصير - مملوك العلائي - بها، بعدما رسم بشنقه، ثم عفا عنه وعزله.
وفيها ولي ظلظيه الشرقية، نقله السلطان إليها من البهنسا، وولي عوضه شجاع الدين قنغلي.
وفيها ولي عز الدين أيدمر السلامي المنوفية، فتفنن في إتلاف الأنفس، وأوقف رجلاً بين خشبتين ونشره من رأسه، وصلق أخر في دست، وسلخ أخر وهو حي.
وفيها عزم السلطان على أن يجري النيل تحت القلعة، ويشق له من ناحية حلوان، فبعث الصناع صحبة شاد العمائر إلى حلوان، وقاسوا منها إلى الجبل الأحمر المطل على القاهرة، وقدروا العمل في بناء الواطي حتى يرتفع، وحفر العالي ليجري الماء وينتفع به في داخل قلعة الجبل، من غير معاناة ولا كلفة. ثم عادوا وعرفوا السلطان ذلك، فركب لكشفه، وقاسوا الأرض بين يديه. فكان قياس ما يحفر اثنين وأربعين ألف قصبة حاكمية، ليبقى خليجاً فيه ماء النيل شتاءً صيفاً بسفح الجبل. وعاد السلطان وقد أعجب بمشروعه، وشاور الأمراء فيه، فلم يعارضه منهم أحد إلا الفخر ناظر الجيش، فإنه قال: بمن يحفر السلطان هذا الخليج؟ " ، فقال السلطان: " بالعسكر، فقال الفخر: " والله لو اجتمع عسكر أخر فوق عسكر السلطان، وأقام سنين، ما قدروا على حفر هذا العمل. ومع ذلك فإنه يحتاج إلى ثلاث خزائن من المال. ثم هل يصح أو لا، فالسلطان لا يسمع كلام كل أحد، ويتعب الناس ويستجلب دعاءهم " . ونحو هذا من القول حتى رجع السلطان عن عمله.
وفيها كملت العين التي أجراها الأمير تنكز بالقدس، بعد ما أقام الصناع فيها مدة سنة، وبنى لها مصنعاً سعته نحو مائتي ذراع، وركب في الجبل مجاري نقب لها في الحجر حتى دخل الماء إلى الفدس، فكان لها يوم شهود. وأنشأ تنكز بالقدس أيضاً خانكاه وحمام وفيسارية، فعمرت القدس.
وفيها أفرج عن تقي الدين أحمد بن تيمية، بشفاعة الأمير جنكلي بن البابا وغيره من الأمراء.
وفيها أجري ابن هلال الدولة عيناً بمكة تعرف بعين ثقبة، فصار بمكة عين جوبان وعين ثفبة هذه.
وانحلت الأسعار بها حتى نزل القمح من ستين درهماً الغرارة إلى أربعين، وزرع بها البطيخ والذرة والخضروات وغيرها، وامتلأت البرك وكملت عمارة الحرم. وجدد ابن هلال الدولة. بمكة عدة ميض باسم السلطان، وأجري لها ما يقوم بكلفتها.
وفيها ورد الخبر بقتل حوبان نائب أبي سعيد. وذلك أن العسكر المجهز معه لما وصل إليهم خبر قتل أولاده بأمر أبي سعيد، ووصلت إليهم كتب أبي سعيد بقتله أيضاً، ركبوا عليه، ففر ومعه ابنه جلوخان وطائفة من خواصه إلى قلعة هراة، وامتنع بها، فدس إليه أبو سعيد من قتله وابنه، وحملا إلى أبي سعيد، فكان لدخولها الأردوا يوماً عظيماً.
وفيها حج بالركب المصري شهاب الدين أحمد بن المهمندار.
وحج في هذه السنة أيضاً الأمير سيف الدين طقزدمر الناصري وست حدق، وعلمت معروفاً كبيراً.
وفيها قدم ابن هلال من مكة فخلع عليه، وأعيد إلى شد الخاص.
وفيها طلب صلاح الدين يوسف دوادار فبجق من طرابلس، وولي شد الدواوين.(1/460)
وفيها تنكر السلطان على الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي الوزير. وسببه عمل الفخر ناظر الجيش عليه بموافقة التاج إسحاق، وقد كتبت فيه مرافعة غضب السلطان بسببها عليه، وقصد الإيقاع به. فاعتني به الأمير بكتمر الساقي واعتذر عنه بأنه رجل غتنمي.
وفي يوم عرفة وهو يوم الجمعة: أفرج عن الأمير علم الدين سنجر الجاولي ومدة سجنه ثماني سنين وثلاثة أشهر وتسعة أيام.
ومات في هذه السنة من الأعيان
شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله ابن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني بدمشق ليلة الإثنين العشرين من ذي القعدة، في سجنه بالقلعة. ومولده يوم الإثنين عاشر ربيع الأول، سنة احدى وستين وستمائة. ومات الأمير سيف الدين جوبان المنصور أحد أمراء دمشق الأكابر، بها في العشرين من صفر.
ومات الأمير سيف الدين بكتمر البوبكري بسجنه من قلعة الجبل، يوم الخميس نصف شعبان.
ومات الأمير جوبان بن تلك بن تداون نائب القان أبي سعيد بن خربندا مقتولاً بهراة، وحمل إلى بغداد، فقدمها في سابع عشرى شوال، وصلي عليه وحمل إلى مكة مع ركب الحاج العراق وطيف به الكعبة، ومضي به إلى المدينة النبوية، فدفن بالبقيع. ومات الشريف كبيشة بن منصور بن جماز بن شيحة أمير المدينة، في أول شعبان قتيلاً. وكانت ولايته بعد قتل أبيه منصور في رابع عشر رمضان سنة خمس وعشرين وسبعمائة، قتله أولاد ودي وكان ودي قد حبس بقلعة الجبل، فولي بعده أخوه طفيل.
ومات الأمير جمال الدين خضر بن نوكاي أخو خوند أردوكين، في ليلة الرابع عشر من رمضان.
ومات الأمير شمس الدين قراسنقر المنصوري بالمراغة من آذربيجان، يوم السبت سابع عشرى شوال، وورد الخبر بموته في حادي عشرى ذي القعدة، فأنعم على ولده أمير علي بن قراسنقر بإمرة طلبلخاناه على عادته بدمشق، وعلى أخيه أمير فرج بن قراسنقر بأمرة عشرة، ورسم بسفرهما من القاهرة إليها.
وتوفي دمرداش بن جوبان بن تلك بن تدوان، ليلة الخميس رابع شوال، وحمل رأسه إلى بوسعيد بن خربندا.
ومات ببغداد مفتي العراق كمال الدين عبدا لله بن محمد بن علي حماد بن ثابت الواسطي العاقولي مدرس المستنصرية، في ذي القعدة. ومولده في سنة ثمان وثلاثين وستمائة.
سنة تسع وعشرين وسبعمائة
أهلت والسلطان بسرياقوس.
وفي يوم السبت ثاني المحرم: قدم الفخر ناظر الجيش من الحجاز.
وفيه قدم بدر الدين بن علاء الدين بن الأثير كاتب السر، وقد اشتد بأبيه مرض الفالج وانقطع عن الخدمة، فخلع عليه وجلس في رتبة أبيه، وباشر وفي ظنه أنه يستقر عوضه. فخرج البريد بطلب محيي الدين بن فضل الله كاتب سر دمشق، فقدم ومعه ولده شهاب الدين أحمد وشرف الدين أبو بكر بن الشهاب محمود، وخلع على محيي الدين خلعة كتابة السر بديار مصر، عوضاً عن ابن الأثير، وعلى شرف الدين بكتابة السر بدمشق، عوضاً عن محيي الدين، في يوم الأحد سابع عشره.
وفي ثالث عشره: استقر بيبرس الجمدار في ولاية إسكندربة، عوضاً عن الركن الكركي.
وفي يوم الأحد رابع عشريه: قدم الأمير أيتمش المحمدي من بلاد العراق، بجواب القان أبي سعيد.
وفيه أنعم على الأمير علم الدين سنجر الجاولي بإمرة أمير علي بن قراسنقر المنتقل إلى دمشق، وكان الجاولي منذ خرج من السجن بطالاً.
وفيه أنعم على لاحين الخاصكي بإمرة طبلخاناه، عوضاً عن محمد بيه بن جمق بحكم عوده إلى بلاد التتار.
وفي يوم السبت سابع صفر: قدمت رسل أبي سعيد، وجهزوا إلى المنوفية للقاء السلطان، فأدوا رسالتهم وعادوا إلى قلعة الجبل.
وفي يوم الأربعاء تاسع عشره: قدم السللطان من الصيد سالماً.
وفي يوم الإثنين أول شهر ربيع الأول: أعيد شمس الدين بن قزوينة إلى نظر الدواوين على عادته، وأضيف ما كان بيده من نظر البيوت إلى مجد الدين إبراهيم بن لفيتة، مع ما بيده من نظر الدواوين، وخلع عليهما.
وفيه رسم بخروج علي وفرج ولدي قراسنقر، فسارا إلى دمشق، وقدماها في ثالث ربيع الآخر.
وفي خامس ربيع الآخر: استقر صلاح الدين يوسف بن داود بن قبجق شاد الدواوين، ثم عزل في سادس عشر شعبان، واستقر في ولاية الجيزة عوضاً عن بلبان الحسني. ونقل بلبان إلى ولاية دمياط، عوضاً عن الكركي.(1/461)
وفي يوم الإثنين سابع عشر جمادى الأولى : رسم بردم الجب الذي بقلعة الجبل، لما بلغ السلطان أنه شنيع المنظر شديد الظلمة كثير الوطاويط كره الرائحة، وأنه يمر بالمحابيس فيه شدائد عظيمة، فردم وعمر فوقه طباق للمماليك، وكان عمل هذا الجب في سنة احدى وثمانين وستمائة في الأيام المنصورية قلاوون.
وفيه قدمت رسل الشيخ حسن بن الجلايري، وكان الشيخ حسن هذا قد أصبح نائب القان أبي سعيد، وهو ابن عمته وزوج بغداد خاتون بنت جوباني.
وفي يوم الثلاثاء عاشر جمادى الآخرة: قدم الأمير سيف الدين أرغون نائب حلب باستدعاء، مخرج الأمير ألمالس الحاجب وتلقاه من قبة النصر خارج القاهرة، وصعد به قلعة الجبل، فأكرمه السلطان وعزاه في ولده، وخلع عليه وأنزله في داره على الكبش. وطلب أرغون شرف الدين الخطير ناظر ديوانه، وسأله عن أمواله وغلاله وحواصله، فأسر له بأن السلطان لم يبق له منها إلا القليل، فسكت ثم استدعاه السلطان يوم الخميس سادس عشريه، وخلع عليه وأعاده إلى حلب.
وفي يوم الأحد تاسع عشريه: قدمت رسل أبي سعيد في طلب المصاهرة ومعهم اثنا عشر إكديشاً بجلال جوخ، واثنان عري.
وفي عاشر شهر رجب: قدم الأمير سيف الدين طينال الحاجب نائب طرابلس بسؤاله ليحاقق شكاته، ومعه هدية، فوقف وحاققهم، وساعده الأمراء إلى أن عاد إلى طرابلس في خامس عشريه.
وفي يوم الأحد حادي عشريه: رسم بعزل المجد بن لفيتة، فعزل من نظر الدواوين ونظر الصحبة ونظر البيوت، وعزل أيضاً ابن قروينة من نظر الدواوين. واستقر عوضهما في نظر الدولة علم الدين إبراهيم بن التاج إسحاق، وتقي الدين عمر بن الوزير شمس الدين محمد بن السلعوس وكان يلي صحابة ديوان دمشق، فأحضر منها في ثامن عشره، وخلع عليهما. واستقر في نظر خزانة تاج الدين موسى بن التاج اسحاق، عوضاً عن أخيه علم الدين. فباشر العلم وتقي الدين بن السلعوس النظر مع الأمير مغلطاي الجمالي الوزير - وكان أمره في الوزارة ضعيفاً - إلى يوم الأحد ثاني شوال، ثم رسم بتوفير الوزارة فتوفرت، واستمر الجمالي في الأستادارية على عادته. وسبب ذلك توقف حال الدول من قلة الواصل، وكثرة إغراء الفخر ناظر الجيش والتاج إسحاق بن القماط ناظر الخاص السلطان بالجمالي لكراهتهما في المجد بن لفيتة، فإنه كان قد استولى على الجمالي حين صار أمر الوزارة إليه، وكتبت فيه مرافعات أنه أخذ مالاً كثيراً وتولى الأمير أيتمش الكشف عليه. فلما ولي العلم بن التاج النظر، وباشر موسى الخاص نيابة عن أبيه، صار العلم يكتب كل يوم أوراقاً بالجاري ثم يرفعها للسلطان مما تحصل وانصرف، ويدخل بها إليه ومعه ابن السلعوس رفيقه، وابن هلال الدولة الشاد. فانحصر المباشرون، ومشت أمور الدولة بمرسوم السلطان على ما يقرره، وحمل مال الجيزة بكماله إلى خزانة الخاص، ولم يصرف منه شيء.
وفي ثاني عشريه: تولى قشتمر المحلة.
وفي خامس عشريه: أنعم على آقبرس بن علاء الدين طيبرس بإقطاع الأمير علاء الدين أيدغدي الخوارزمي الحاجب، بعد موته بدمشق، فتوجه إليها.
وفي يوم الإثنين ثالث شوال: استقر علاء الدين أيدمر العلائي عرف بالزراق وفي ولاية القاهرة، عوضاً عن قدادار عند توحهه إلى الحجاز.
وفيه أيضاً استقر علاء الدين ابن هلال الدولة شاد الدواوين، مضافاً لشد الخاص.
وفي سادسه: عزل صلاح الدين الدوادار عن الجيزة، واستقر من جملة الأمراء وولي الجيزة جمال الدين يوسف الجاكي والي الشرقية، واستقر في الشرقية عوضه الحسام طرنطاي القلنجقي.
وفي يوم الأحد نصف ذي القعدة: جلس السلطان بالميدان تحت القلعة، وعرض الكتاب بدواوين الأمراء. وطلب السلطان المجد بن لفيتة وابن قزوينة الناظرين المنفصلين، والمكين بن قزوينة مستوفي الصحبة، وأمين الدين موط مستوفي الخزانة، ورسم عليهم وسلمهم إلى الأمير الدمر حاندار ليخلص منهم ستمائة ألف درهم انساقت باقيا بالجيزة.
فحمل ألدمر من جهة قشتمر والي الجيزة مبلغ مائتي درهم، ومن ابن سقرور مستوفي الجيزة زيادة على سبعين ألف درهم. ورسم السلطان بقطع أخباز المشدين على الجهات بأسرهم، وقرر عوضهم. وأحضر السلطان مشايخ الجيزة، وكتب عليهم سجلات أراضيها بحضوره، ولم يسمع بهذا فيما سلف. ثم أفرج السلطان عن الناظرين المنفصلين والمستوفين، بعدما استخرج منهم بعض ما قرر عليهم.(1/462)
وفيها رسم للحاجب أن يتقدم بألا يباع مملوك تركي لكاتب ولا عامي ومن وجد عنده منهم مملوك فليبعه، ومن عثر عليه بعد ذلك أن عنده مملوكا طولع به السلطان، فباع الناس مماليكهم، وأخفوا بعضهم.
وفيها عرض السلطان مماليك الطاق والبرانيين، وقطع منهم مائة وخمسين وأخرجهم من يومهم، ففرقوا بقلاع الشام.
و فيها صرف شهاب الدين أحمد بن المهمندار عن نقابة الجيش، بالأمير عز الدين أيدمر دقماق.
وفيها قتل الأمير تنكز نائب الشام الكلاب بدمشق، فتجاوز عدد ما قتل منها خمسة
ومات في هذه السنة من الأعيان
الأمير سعد الدين سعيد بن أمير حسين، في ثامن عشر المحرم، وأنعم بإمرته على تكلان.
ومات الأمير غرس الدين خليل بن الإربدي أحد أمراء العشرات، في سادس صفر، وأنعم بإمرته على أياجي الساقي.
ومات الأمير الكبير شرف الدين حسين بن أبي بكر بن إسماعيل بن جندو باك الروم في سادس المحرم، قدم صحبة أبيه إلى مصر في سنة خمس وسبعين وستمائة في الأيام الظاهرية بيبرس في جملة من قدم من أهل الروم، بعد ما كان أبوه أمير جندار متملك الروم فترقى حتى نادم الأفرم نائب دمشق، فأنعم عليه بإمرة فلما قدم الناصر محمد بن قلاون دمشق من الكرك، وتحرك لأخذ السلطنة كان الأمير شرف الدين حسين ممن سار في خدمته إلى مصر، فنوه به وأعطاه أمرة، ثم قرره أمير شكار بعد وفاة كشرى وأعجب به، وإليه ينسب جامع أمير حسين وقنطرة أمير حسين على الخليج خارج القاهرة، قريباً من بستان العدة.
ومات الأمير علاء الدين علي بن الكافري والي قوص وولي عوضه غرس الدين خليل أخو طقصباي الناصري.
ومات سنجر الأيدمري أحد العشرات، في ثالث عشر ربيع الأول، وأنعم بإمرته على ساطلمش الناصري.
ومات الأمير سيف الدين بكتمر الحسامي المعروف بالحاحب، في يوم الأربعاء حادي عشريه ربيع الآخر، فأنعم على ولده ناصر الدين محمد بإمرة عشرة، وسنه يومئذ ثلاث عشرة سنة، وفرق إقطاعه بين جماعة: فكمل منه للامير طرغاي الجاشنكير تقدمة ألف. وأنعم منه على صلاح الدين يوسف بن الأسعد بناحية جوجر واستقر شاد الدواوين وأنعم منه على الأمير قوصون بمنية زفتا وكان بكتمر هذا من جملة مماليك الأمير حسام الدين طرنطاي نائب السلطنة المنصورية قلاوون، أخذه في سنة خمس وسبعين وستمائة فيما أخذ من مماليك السلطان غياث الدين كيخسرو متملك الروم، عندما دخل الظاهر بيبرس إلى مدينة قصرية الروم واستولى عليها، فصار بكتمر إلى طرنطاي وهو حينئذ مملوك الأمير سيف الدين قلاوون فرباه وأعتقه، فلما قتل طرنطاي صار بكتمر إلى الأشراف خليل بن قلاوون، فرتبه في جملة الأوشاقية بالإصطبل السلطاني، ثم نقله المنصور لاجين وعمله أمير أخور صغيراً، ثم أنعم عليه بإمرة عشرة بعد وفاة الفاخري ومازال بكتمر يترقى حتى ولي الوزارة والحجوبية ونيابة غزة ونيابة صفد في الأيام الناصرية، وإليه تنسب مدرسة الحاجب، ودار الحاجب، خارج باب النصر من القاهرة، وكان بكتمر من أغنياء الأمراء الكثري المال المعروفين بالشح.
وتوفي ضياء الدين أحمد بن إبراهيم بن فلاح بن محمد الإسكندراني المصري في يوم الأربعاء تاسع عشر شعبان، ومولده في نصف ربيع الآخر سنة ثلاث وستين وستمائة سمع من ابن عبد الدائم والمجد بن عساكر وابن أبي اليسر وجماعة.
وتوفي عز الدين أبو يعلى حمزة بن المؤيد أبي المعالي بن المظفر بن أسعد بن حمزه بن أسد بن علي بن محمد بن القلانسي، بدمشق، سمع الحديث وصار رئيس الشام، وولى وزارة دمشق.
وتوفي الأديب سعد الدين سعيد بن منصور بن إبراهيم الحراني المصري بمصر وله شعر جيد.
وتوفي الشيخ جلال الدين أبو بكر عبدا لله بن يوسف بن إسحاق بن يوسف الأنصاري الدلاصي إمام الجامع الأزهر، بالقاهرة عن بضع وثمانين سنة وكان يعتقد فيه الخير ويتبرك بدعائه.(1/463)
وتوفي قاضي القضاة بدمشق علاء الدين أبو الحسن علي بن إسماعيل بن يوسف القونوي الشافعي في يوم السبت رابع عشر ذي القعدة، ودفن بسفح قاسيون، قدم من بلاد الروم إلى دمشق في سنة ثلاث وتسعين وستمائة، فدرس بها مدة، ثم توجه إلى القاهرة فسكنها، وولي مشيخة الشيوخ بخانكاه سعيد السعداء، وتصدى للاشتغال بالعلم، وصنف شرح الحاوي في الفقه وغيره، ثم ولي قضاء دمشق فباشره حتى مات بها، وولي بعده قضاء دمشق علم الدين محمد بن أبي بكر بن عيسى الأخنائي.
وتوفي نجم الدين محمد بن عقيل بن أبي الحسن بن عقيل البالسي الشافعي بمصر، ناب في القضاء، ودرس وشرح التنبيه في الفقه، وكان معتقداً فيه الخير.
وتوفي جمال الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد الواسطي الأشموني المولد والدار عرف بالوجيزي لقراءته كتاب الوجيز في الفقه، ولي قضاء الجيزة وقليوب، ومات في رجب، وهو أحد مشايخ الفقهاء الشافعية.
وتوفي معين الدين هبة الله بن علم الدين مسعود بن عبدالله بن حشيش صاحب ديوان الجيش. بمصر يوم الإثنين سادس عشر جمادى الآخرة، كان بارعاً في الفقه والنحو واللغة والأدب، كريماً له شعر جيد، ومولده سنة ست وستمائة.
وتوفي الأمير حسام الدين لاجين الصغير، بقلعة البيرة، ولي نيابة غزة، ثم نيابة البيرة، وبها مات.
وتوفي الصاحب شرف الدين يعقوب بن عبد الكريم بن أبي المعالي المصري بحماة، تنقل في عدة ولايات، وكان جواداً كريماً كثيرا المال ممدوحاً.
وتوفي فتح الدين أبو النون يونس بن إبراهيم بن عبد القوي بن قاسم الكناني العسقلاني المعروف بالدبوسي المسند المعمر، بالقاهرة في جمادى الأولى وقد جاوز التسعين سنه حدث عن جماعة تفرد بالرواية عنهم.
وتوفي الأمير عز الدين أيبك الخطيري أمير أخور، في ثالث عشري ذي القعدة.
وتوفي الأمير غرلوا الركني بقوص في ثالث ربيع الآخر.
وتوفي الأمير ساطلمش الفاخر في ثالث ذي الحجة، وأنعم بإمرته على كوجبا الساقي.
وتوفي الأمير لاجين الإبراهيمي أمير جاندار، في تاسع عشرى ذي الحجة، وأنعم بإمرته على برسبغا.
وتوفي ناصر الدين محمد بن حنا في يوم السبت حادي عشر ذي الحجة.
وتوفي الطواشي نصر شيخ الخدام بالمدينة النبوية ومقدم المماليك السلطانية، يوم الخميس عاشر رجب واستقر عوضه في المشيخة وتقدمة المماليك الطواشي عنبر السحرتي وكانت مدة تقدمته تسعة أشهر.
ومات عز الدين القيمري في يوم السبت حادي عشرى ذي القعدة.
سنة ثلاثين وسبعمائة
أهلت بيوم الأربعاء، والسلطان بناحية سرياقوس، وكان مسيرة إليها في سابع عشرى ذي الحجة.
وفيه قدم الأمير تنكز نائب الشام، فبالغ السلطان في إكرامه ورفع منزلته على عادته وفي يوم السبت: رابعه استقر علم الدين محمد بن أبي بكر بن عيسى بن بدر بن رحمة الأخناني قاضي الإسكندرية في قضاء القضاة بدمشق، عوضاً عن علاء الدين على القونوي واستقر عوضه في قضاء الإسكندرية علم الدين الإسنوي.
وفي سادسه: استقر الأمير بكتمر العلائي الأستادار في نيابة غزة، وسار إليها، عوضاً عن عز الدين أيبك الجمالي، ونقل أيبك إلى نيابة قلعة البيرة، عوضاً عن لاجين الحسامي المنصوري بحكم وفاته. وأنعم على بهادر الدمرداش بإقطاع الأمير بكتمر نائب غزة.
وفي رابع عشره: توجه الأمير تنكز إلى دمشق، بعدما أنعم عليه السلطان بمائة ألف درهم، وكتب له على الأعمال السامية بمائة ألف أخرى.
وفي عشريه: قدم الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل صاحب حماة، فأكرمه السلطان وخلع عليه وعلى ولده.
وفي تاسع صفر: توجه السلطان إلى جهة الصعيد، وصحبته صاحب حماة، فخيم قريباً من الأهرام، وعاد في ثالث عشره، من أجل وعك بدنه، لظهور دمل في جسده. وأقام السلطان بقلعة الجبل إلى حادي عشريه، ثم سار فمر ببلاد الصعيد.
وفي يوم الأربعاء تاسع عشر ربيع الأول: جمع الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك القضاة والفقهاء، بسبب عمل منبر بالمدرسة الصالحية بين القصرين من القاهرة لإقامة الجمعة بها، فأفتوه بجواز ذلك، فرتب آقوش خطيباً قرر له في كل شهر خمسين درهماً، ورتب ستة نفر عملهم مؤذنين، لكل واحد عشرة درهم في كل شهر، ولقارئ يقرأ القرآن الكريم يوم الجمعة في مصحف أعده له مبلغاً سماه، وأقيمت الخطبة بها في يوم الجمعة حادي عشريه، فكان يوماً مشهوداً.(1/464)
وجعل آقوش المعاليم المذكورة من عقار وقفه على ذلك. وفي هذا الشهر تصدق الأمير المذكور بنحو ثلاثة ألاف أردب من الغلال.
وفي خامس ربيع الآخر: عاد السلطان إلى قلعة الجبل، بعد أن انتهى في مسيره إلى هدينة هو من الصعيد الأعلى.
وفي ثامنه: سار المؤيد صاحب حماة من ظاهر القاهرة عائداً إلى حماة.
وفي خامس عشريه: سار السلطان إلى نواحي قليوب يريد الصيد، فبينا هو في ذلك اذ تقنطر عن فرسه وانكسرت يده وغشي عليه ساعة وهو ملقى على الأرض، ثم أفاف وقد نزل إليه الأمير أيدغمش أمير أخور والأمير قماري أمير شكار وأركباه، فأقبل الأمراء بأجمعهم إلى خدمته وعاد السلطان إلى قلعة الجبل في عشية الأحد ثامن عشريه، فجمع الأطباء والمجبرين لمداواته، فتقدم رجل من المحبرين يعرف بابن بوستة وقال بجفاء وعامية طباع: " تريد تفيق سريعاً اسمع مني. فقال له السلطان: " قل ما عندك " ، فقال: " لا تخل أحداً يداويك غيري بمفردي وإلا فسد حال يدك مثل ما سلمت رجلك لابن السيسي أفسدها. وأنا ما أخلي شهراً يمضي حتى تركب وتلعب بيدك الأكرة. فأغضى السلطان عن جوابه، وسلم إليه يده، فتولى علاجه بمفرده، فبطلت الخدمة مدة سبعة وثلاثين يوماً.
ثم عوفي السلطان، فزينت القاهرة ومصر في يوم الأحد رابع جمادى الآخرة، وتفاخر الناس في الزينة بحيث لم تعهد زينة مثلها، وأقامت أسبوعاً تفنن أهل البلدين فيه بأنواع الترف. ونزلت ست حدق في عدة من الخدام والجواري حتى رأت الزينة، وقد اجتمع أرباب الملاهي في عدة أماكن بجميع آلات المغني. هذا والأفراح بالقلعة وسائر بيوت الأمراء مدة الأسبوع، ومع هذا فالبشائر من ضرب الكوسات مستمرة، وكذلك طبلخاناه الأمراء، فلم يبق أمير إلا وعمل في بيته فرحاً. وأنعم السلطان وخلع على كثيرين من أرباب الوظائف من الأمراء والمماليك السلطانية.
ثم خرج السلطان إلى القصر الأبلق، وفرق مثالات على الأيتام، وعمل سماطاً جليلاً، وخلع على جميع أرباب الوظائف. وأنعم السلطان على المجبر بعشرة ألاف درهم، ورسم له أن يدور على جميع الأمراء، فلم يتأخر أحد من الأمراء عن إفاضة الخلع عليه وإعطائه المال، فحصل له ما يجل وصفه، وكانت هذه الأيام مما يندر وقوع مثله.
وفي خامس عشره: قدمت رسل ريدافرنس في طلب القدس وبلاد الساحل، وعدتهم مائة وعشرون رجلاً، فأنكر السلطان عليهم وعلى مرسلهم وأهانهم، ثم رسم بعودهم إلى بلادهم.
وفيه: سار الأمير أقبغا عبد الواحد إلى البلاد الشامية يبشر بعافية السلطان، فدقت في جميع ممالك الشام البشائر، وعملت بها الأفراح وحصل لأقبغا من سائر أصناف المال ما يجل وصفه، بحيث بلغت قيمته نحو مائة ألف دينار.
وفيه: عزل علم الدين الإسنائي عن قضاء الإسكندرية، لمضادته الأمير ييربر الجمدار نائب الثغر.
وفي يوم الإثنين سادس عشريه: أفرج عن الأمير سيف الدين بهادر المعزى وأنعم عليه بخيل وثياب، بعدما أقام في الاعتقال خمس عشرة سنة وثلاثة أشهر وستة عشر يوماً. فلما ورد الخبر بوفاة الأمير سيف الدين بهادر آص، وأنعم بتقدمته بدمشق على الأمير علم الدين سنجر الجمقدار، وأخرج إلى دمشق، وأنعم على بهادر المعزى بإقطاع سنجر المذكور.
وفي هذه المدة وقع بدمشق اضطراب في عيار الذهب، فإنه تغير ونقص، وغرم الناس فيه جملة كثيرة. وصادر الأمير تنكز أهل دار الضرب، وأخذ منهم خمسائة ألف درهم، وتقرر سعر الدينار من تسعة عشر درهماً إلى أحد وعشرين درهماً، وأن يكون صرف الدينار الجديد بخمسة وعشرين درهماً.
وفي العشرين من شهر رجب: قدمت رسل أبي سعيد بن خربند للهناء بعافية السلطان، فأكرموا وأعيدوا في سابع عشريه. وقدمت أيضاً رسل الشيخ حسن الجلايري نائب أبي سعيد بعد رحيل المذكورين، فأدوا رسالتهم وأعيدوا في آخره.
وفي هذا الشهر: أحرقت كنيسه الممكية بمصر، حتى صارت عمدها الرخام جيراً، وكان بجانبها مسجد لم تصبه النار، فرسم للنصارى بإعادتها، فأعيدت.(1/465)
وفيها اشترى الأمير قوصون دار الأمير آقوش الموصلي الحاحب عرفت بدار آقوش نميلة ثم عرفت بدار الأمير جمال الدين آقوش قتال السبع من أربها، واشترى قوصون أيضاً ما حولها، وهدم ذلك وشرع في بناء جامع فبعث إليه السلطان بشاد العمائر والأسرى لنقل الحجارة ونحوها، فتنجزت عمارته. وجاء الجامع من أحسن المبان وهو بحارة المصامدة خارج باب زويلة، قريباً من بركة الفيل وولي بناء منارتيه رجل من أهل توريز، أحضره معه الأمير أيتمش، فعملهما على منوال مأذن توريز. ولما كمل بناء الجامع أقيمت الجمعة به في يوم الجمعة حادي عشر شهر رمضان، وخطب به يومئذ قاضي القضاة جلال الدين محمد القزويني وخلع عليه الأمير قولون بعد فراغه وأركبه بغلة، ثم استقر في خطابته فخر الدين محمد بن شكر. وفيها قصد الأمير قوصون أن يتملك حمام قتال السبع وهي الحمام المجاورة في وقتنا هذا لباب الجامع الذي يدخل إليه من الشارع، وكانت من وقف قتال السبع فاحتالوا لحل وقفها بأن هدموا جانباً منها، وأحضروا شهوداً قد بينوا معهم ذلك ليكتبوا محضراً بأن الحمام خراب لا ينتفع به، وهو يضر بالدار والمار والخط، والمصلحة في بيع أنقاضه، ليؤدي هذه الشهادة عند قاضي القضاة تقي الدين أحمد بن عمر الحنبلي حتى يحكم بيعه على مقتضي مذهبه فعندما شرع الشهود في كتابة المحضر المذكور امتنع أحدهم من وضع خطه فيه، وقال: والله ما يسعني من الله أن أدخل باكر النهار في هذا الحمام وأتطهر فيه وأخرج وهو عامر، ثم أشهد بعد ضحوة نهار أنه خراب " ، وانصرف، فاستدعي غيره، فكتب وأثبت المحضر على الحنبلي. فابتاع الأمير قوصون الحمام المذكور من ولد قتال السبع، وجدد عمارته.
وفي ذي الحجة: استقر الأمير بدر الدين بيلبك المحسني في ولاية القاهرة، عوضاً عن أيدمر الزراق.
وفي يوم الخميس سابع عشر رمضان: قدم يوسف الكيمياوي إلى مصر. وكان من خبر هذا الرجل أنه كان نصرانياً من أهل الكرك فأسلم، ومضى إلى دمشق بعدما خدع بمدينة صفد الأمير بهادر التقوى حتى انخدع له وأتلف عليه مالاً جزيلاً، فلما ظهر له أمره سجنه مدة، ثم أفرج عنه. فاتصل يوسف بالأمير تنكز نائب الشام، وقصد خديعته فلم ينخدع له، وأمر والي دمشق بشنقه، فصاح وقال: " أنا جيت للسلطان حتى أملأ خزانته ذهباً وفضة " . فلم يجد تنكز بداً من إرساله إلى السلطان، فقيده وأركبه البريد مع بعض ثقاته، وكتب بخبره وحذر منه. فلما اجتمع يوسف بالسلطان مال إلى قوله، وفك قيده، وأنزله عند الأمير بكتمر الساق وأجري عليه الرواتب السنية، وأقام له عدة من الخدم يتولون أمره، وخلع عليه، وأحضر له ما طلب من الحوائج لتدبير الصنعة، حتى تم ما أراده. فحضر يوسف بين يدي السلطان، وقد حضر الفخر ناظر الجيش والتاج اسحاق وابن هلال الدولة والأمير بكتمر الساقي في عدة من الأمراء، والشيخ إبراهيم الصائع وعدة من الصواغ، فأوقدوا النار على بوطقة قد ملئت بالنحاس والقصدير والفضة حتى ذاب الجميع، فألقي عليه يوسف شيئاً من صنعته، وساقوا بالنار عليها ساعة، ثم أفرغوا ما فيها فإذا سبيكة ذهب كأجود ما يكون، زنتها ألف مثقال فأعجب السلطان ذلك إعجاباً كثيراً، وسر سروراً زائداً، وأنعم على يوسف بهذه الألف مثقال، وخلع عليه خلعة ثانية، وأركبه فرساً مسرجاً ملجماً بكنبوش حرير، وبالغ في إكرامه، ومكنه من جميع أغراضه. فاتصل به خدام السلطان، وقدموا له أشياء كثيرة مستحسنة، فاستخف عقولهم حتى ملكها بكثرة خدعه، فبذلوا له مالاً جزيلاً. ثم سبك يوسف للسلطان سبيكة ثانية من ذهب، فكاد يطير به فرحاً، وصار يستحضره بالليل ويحادثه، فيزيده طمعاً ورغبة فيه، فأذن له أن يركب من الخيول السلطانية ويمضي حيث شاء من القاهرة ومصر، فركب وأقبل على اللهو، وأتاه عدة من الناس يسألونه في أخذ أموالهم، طمعاً في أن يفيدهم الصنعة أو يغنيهم منها، فمرت له أوقات لا يتهيأ لكل أحد مثلها من طيبتها. ثم إنه سأل أن يتوجه إلى الكرك، لإحضار نبات هناك، فأركبه السلطان البريد، وبعث معه الأمير طقطاي مقدم البريدية، بعدما كتب إلى نائب عزة ونائب الكرك بخدمته وقضاء ما يرسم به والقيام بجميع ما يحتاج إليه من ديوان الخاص، فمضى يوسف إلى الكرك وأبطأ خبره، ثم قدم وقد ظهر كذبه للسلطان، فضيق عليه.(1/466)
وفي تاسع عشر شوال: قدمت رسل الملك المجاهد على من اليمن بهدية، وفيها فيلان، فأنكر السلطان عليهم من أجل أن المجاهد قبض على رسول ملك الهند وأخذ هدية السلطان ثم قتله، وأمر بهم فسجنوا.
وفي ليلة السبت سادس عشر ذي القعدة: أخرج السلطان من في القاهرة ومصر من الجذمى والبرصان، وأمرهم بسكنى الفيوم.
وفيه: أخرب الأمير تنكز نائب الشام الحوانيت المجاورة لباب النصر خارج دمشق من ضيق الطريق، حتى وصل الهدم إلى الجسر تجاه البحر، وحفر حتى أخرج الأساسات، فصار فضاء.
وفيه: جدد الأمير قوصون خطته بالجامع بخط المصلى.
وفيه: ابتدأ الأمير ألماس الحاجب بعمارته الجامع الذي عرف باسمه، بخط حوض ابن هنس خارج باب زويلة من القاهرة.
وفيه: ابتدأ الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي في عمارة مدرسة بجوار داره، قريباً من درب ملوخيا بالقاهرة، ووقف عليها أوقافاً جليلة.
وفيه ابتدا علاء الدين طقطاي أحد مماليك السلطان في عمارة جامع بين السورين من القاهرة، وسماه جامع التوبة، لكثرة ما كان هناك من الفساد، وأقام به خطبة للجمعة.
وفي يوم الأربعاء خامس ذي الحجة: استقر ناصر الدين بن المحسني في ولاية القاهره، وقد نقل إليها من ولاية المنوفية، عوضاً عن عز الدين الزراق.
وفي يوم الجمعة رابع عشر ذي الحجة، قتل الأمير الدمر أمير جندار بمكة وكان من خبر ذلك أن أمير الركب العراقي في هذه السنة كان من أهل توريز يعرف بمحمد الحجيج، وكان يتقرب من أولاد جوبان، فترقى بهم إلى معرفة السلطان بورسعيد، فعظم أمره وجعله من ندمائه، وبعثه رسولا إلى مصر غير مرة. فأعجب به السلطان الناصر ولاق بخاطره إلى أن بلغه عنه أنه تعرض في مجلس أبي سعيد لشيء ذكر مما يكرهه السلطان فتنكر له وأسر ذلك في نفسه، فلما بلغه أنه سار أمير الركب العراقي كتب إلى الشريف عطفة بن أبي نمى سر ان يتحيل في قتله، فلم يجد عطيفة بداً من امتثال ما أمر به، وأطلع ولده مبارك بن عطيفة ومن يثق به على ذلك، وتقدم إليهم بأعمال الحيلة فيه.
فلما قضى الحاج النسك عاد منهم الأمير علم الدين سنجر الجاولي إلى مصر، ومعه جماعة، في يوم الأربعاء ثاني عشر ذي الحجة. وتأخر الأمير سيف الدين خاص ترك أمير الحاج، والأمير الدمر جاندار، والأمير أحمد ابن خالة السلطان، ليصلوا بمكة صلاة الجمعة، ومعهم بقية حجاج مصر. فلما حضروا للجمعة وصعد الخطيب المنبر، أراد الشريف عمل ما رسم له به، وأخذ العبيد في إثارة الفتنة بين الناس ليحصل الغرض بذلك. وأول ما بدأوا به أن عبثوا ببعض حاج العراق، وخطفوا شيئاً من أموالهم. وكان الشريف عطيفة جالساً إلى جانب الأمير خاص ترك أمير الركب، فصرخ الناس بالأمير ألدمر وليس عنده علم بما كتب به السلطان إلى الشريف عطيفة، وكان مع ذلك شجاعاً حاد المزاج قوي النفس، فنهض ومعه من المماليك، وقد تزايد صراخ الناس، وأتى الشريف وسبه، وقبض بعض قواده و أخرق به، فلاطفه الشريف فلم يلن. واشتد صياح الناس، فركب الشريف مبارك بن عطيفة في قواد مكة بآلة الحرب، وركب جند مصر. فبادر خليل ولد الأمير ألدمر وضرب أحد العبيد، فرماه العبد بحربة قتله، فاشتد حنق أبيه وحمل بنفسه لأخذ ثأر ولده فقتل. ويقال بل صدف الشريف مبارك بن عطيفة، وقد قصد ركب العراق وعليه آلة حربه، فقال له. " ويلك تريد أن تثير فتنة، وهم أن يضربه بالدبوس، فضربه مبارك بحربة كانت في يده أنفذها من صدره فخر صريعاً، وقتل معه رجلان من جماعته. فركب أمير الركب عند ذلك ونجا بنفسه، ورمي مبارك بن عطيفة بسهم في يده فشلت. واختبط الناس بأسرهم، وركب أهل مكة سطح الحرم، ورموا أمير أحمد ابن خالة السلطان ومن معه بالحجارة، وقد أفرغ نشابه بين يديه هو ومن معه، ورمي بها حتى خلص أيضاً، وفر أمير ركب العراق وتحير الشريف عطيفة في أمره، ومازال يداري الأمر حتى خرج الحاج بأجمعهم من مكة، وتوجهوا إلى بلادهم.
وكان من غريب الاتفاق أن في يوم الجمعة الذي قتل فيه ألدمر كأنما نودي في القاهرة ومصر وقلعة الجبل بقتل ألدمر في فتنة كانت بمكة في هذا اليوم، وتحدث الناس بذلك حديثاً فاشياً إلى أن بلغ السلطان وأمراء الدولة. فلم يعبأوا به وجعلوه من ترهات العامة.(1/467)
وأغرب من ذلك أن الأمير علم الدين سنجر كان كاشفاً بالغربية من نواحي القاهرة، فلما عاد منزله بعد صلاة عيد الأضحى وافاه أحد غلمانه وقد حضر اإيه من القاهرة، فأخبره أنه أشيع بالقاهرة أن فتنة كانت بمكة قتل فيها الأمير ألدمر أمير جندار، فسخر من قوله وقال: " هذا كلام لا يقبله عاقل، وأخذ الخبر ينتشي حتى تحدث به كل أحد.
واتفق في هذه السنة أنه وصل صحبة حاج العراق فيل من جهة الملك أبي سعيد يحمل محملهم، فتشاءم الناس به وقالوا: " هذا عام الفيل، فكان من الفتنة بمكة وقتل ألدمر ما كان. فلما قارب حاج العراق ذا الحليفة من المدينة النبوية وقف الفيل وتقهقر، فضربوه ليسير، فصار كلما أكره على أن يتقدم إلى جهة المدينة تأخر إلى ورائه. هذا وهم يضربونه وهو يتأخر إلى أن سقط ميتاً، وذلك في ثالث عشرى ذي الحجة. ويقال إنه بلغت الثفقة على هذا الفيل منذ خرج من العراق إلى أن هلك زيادة على ثلاثين ألف درهم، ولم يعرف مقصد أبي سعيد في بعثه الفيل إلى مكة.
وفيها نقل شمس الدين محمد بن أبي بكر بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن نجد بن حمدان الشهير بابن النقيب الشافعي من قصاء طرابلس إلى قضاء القضاة بحلب، عوضاً عن فخر الدين عثمان بن محمد بن عبد الرحيم بن إبراهيم بن هبة الله بن المسلم المعروف بابن البارزي بعد وفاته، واستقر في قضاء طرابلس شمس الدين محمد بن المجد. وفيها بلغت زيادة ماء النيل عشرة أصابع من ثمانية عشر ذراعاً. وكان وفاؤه يوم الأحد خامس عشرى شوال، وهو تاسع عشر مسرى.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
أحمد بن أبي طالب بن أبي النعم بن نعمة بن الحسن بن علي المعروف بابن السحنة الحجار الصالحي الدمشقي في خامس عشرى صفر، ومولده سنة ثلاث وعشرين وستمائة، وقد صار مسند الدنيا، وتفرد بالرواية عن ابن الزبيدي وابن الليثي مدة سنتين لا يشاركه فيها أحد، وسمع الناس عليه صحيح البخاري أكثر من سبعين مرة، وقدم القاهرة مرتين وحدث بها.
وتوفي الأمير سيف الدين بهادر آص أحد أمراء الألوف، بدمشق في تاسع عشر صفر، وأنعم بإقطاعه على الأمير سنجر الجمقدار، وكان شجاعاً مقداماً في الحرب، ولي نيابة صفد، وكان له أربعة أولاد، منهم اثنان أمراء، فكان يضرب على بابه ثلاث طبلخاناه.
وتوفي الأمير سيف الدين بلبان الكوندي المهمندار الدوادار بدمشق في نصف جمادى الأولى وكان أحد الأمراء العشروات.
وتوفي الأمير سيف الدين بلبان الصرخدي الظاهري أحد أمراء الطبلخاناه، بالقاهرة في العشرين من جمادى الآخرة، وقد تجاوز الثمانين، وكان خيراً.
وتوفي الأمير قلبرص بن الحاج طيبرس الوزيري بدمشق ليلة الجمعة ثامن ذي القعدة.
وتوفي الأمير سيف الدين بلبان الجمقدار المعررف بالكركند، في سابع ربيع الآخر، كان من كبار الأمراء.
وتوفي الأمير سيف الدين بلبان الكوندكي أحد أمراء دمشق، في سابع عشرى شعبان، وخرج طيبغا حاجي على إقطاعه، وكان جواداً.
وتوفي الأمير سيف الدين ألدمر أمير جندار مقتولاً، بمكة في يوم الجمعة رابع عشر ذي الحجة، وله خارج باب زويلة من القاهرة حمامات، وكانت أمواله جزيلة.
وتوفي القاضي علاء الدين علي ابن القاضي تاج الدين أحمد بن محمد بن سعيد بن الأثير كاتب السر، في يوم الأربعاء خامس عشر المحرم، بعدما أصابه مرض الفالج مدة سنة كاملة، وهو ملازم بيته، وكان ذا سعادة جليلة وحرمة وافرة وجاه عريض، ويضرب به المثل في الحشمة.
وتوفي الوزير شمس الدين أبو القاسم محمد بن سهل بن أحمد بن سهل الأسدي الغرناطي الأندلسي بالقاهرة قافلاً من الحج، وكان صاحب فنون من قراءات وفقه ونحو وأدب وتاريخ.
وتوفي ناصر الدين شافع بن محمد بن علي بن عباس بن اسماعيل الكناني العسقلاني، سبط ابن عبد الظاهر، في سابع عشري شعبان بعدما عمي، وكان أديباً مشاركاً في عدة علوم، وله عدة مصنفات ونظم جيد ونثر مليح، وهو أحد كتاب الإنشاء.
وتوفي سعد الدين محمد بن محمد بن عطايا، في يوم السبت سابع عشرى رمضان، ولي نظر البيوت ونظر الرواتب، ثم ولي الوزارة في أيام بيبرس وسلار، ثم صرفه الملك الناصر لما قدم من الكرك وصادره، فلزم بيته حتى مات.(1/468)
وتوفي الأمير سيف الدين قدادار والي القاهرة، في سادس عشر صفر وأنعم بإمرته على الأمير طاجار القبجاقي، وأصله من مماليلك الأمير برلغي وترقى إلى أن ولي ولاية الغربية وولاية البحيرة وولاية القاهرة، وتمكن فيها تمكناً زائداً، وكان جريئاً على الدماء، ثم صرف عن ولاية القاهرة بناصر الدين محمد بن المحسن وأقام في داره إلى أن خرج إلى الحج وهو ضعيف، ثم قدم فلزم الفراش حتى مات.
وتوفي الأمير بلبان الديسني في خامس عشر ربيع الأول، وأنعم بأمرته على برلغي. وتوفي الأمير كجكن الساقي في سادس صفر، وأنعم بإقطعاعه على سنقر الخازن. وتوفي الأمير ناصر الدين محمد بن ملكشاه في ثاني عشر صفر، وأنعم بإقطاعه على بكمان.
وتوفي الشيخ شمس الدين محمد بن الروم شيخ خانكاه بكتمر الساقي في يوم الأحد ثالث عشرى ذي الحجة، وولي عوضه الشيخ زاده الدوقاني.
وتوفي الشيخ زين الدين أيوب بن نعمة الكحال البالسي في ذي الحجة، وقد أناف على التسعين، حدث بمصر ودمشق عن المرسي والرشيد العراقي في آخرين، وانفرد في الرواية.
وتوفي ركن الدين عبد السلام بن قطب الدين عبد القادر بن محمد بن أبي صالح نصر بن عبد الرزاق بن الشيخ عبد القادر الكيلاني في أخر جمادى الآخرة بدمشق، قدم القاهرة مراراً، وخالط الأمراء، وكانت له مكارم.
وتوفي فخر الدين أبو عمرو عثمان بن الجمال أحمد بن محمد بن عبدالله الظاهر في رجب، ودفن بزاوية أبيه خارج باب البحر من القاهرة، ومولده سنة سبعين وستمائة سمع الحديث من جماعة كثيرة وحدث.
سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة
أهلت بيوم الإثنين: وفي ثالث المحرم: قدم مبشرو الحاج، وأخبروا بما وقع بمكة من الفتنة وقتل الأمير ألدمر أمير جندار وولده، فتعجب الناس من صحة ما أشيع بالقاهرة من قتل ألدمر في يوم قتله. فشق على السلطان ذلك، وكتب بإحضار الشريف عطفة أمير مكة وولده وقواده.
وفي ثاني عشره: خلع على الأمير عز الدين أيدمر العلائي الجمقدار المعروف بالزراق، المستقر في ولاية القاهرة، ورسم له أن يكون أمير جندار ثم خلع على الأمير سيف الدين أرنبغا السلحدار، واستقر أمير جندار عوضاً عن ألدمر.
وفي تاسع عشريه: استقر فخر الدين محمد تاج الدين محمد بن مؤتمن الدين الحارث ابن مسكين الشافعي في قضاء الإسكندرية، وتوجه إليها في عاشر ربيع الأول.
وفي المحرم هذا: قدم الحاج، وأخبروا بكثرة الفتن بمكة بين الشريفين عطيفة ورميثة وقوة رميثة على عطيفة ونهبه مكة وخروجه عن الطاعة، وأنه لم يلق ركب الحجاج، فكتب بحضوره. فلما ورد المرسوم بطلب الشريفين إلى مصر اتفقا وخرجا عن الطاعة، فشق ذلك على السلطان، وعزم على إخراج بني حسن من مكة. وتقدم السلطان إلى الأمير سيف الدين أيتمش أن يخرج بعسكر إلى مكة، وعين معه من الأمراء الأمير طيدمر الساقي والأمير أقبغا آص، والأمير أقسنقر، والأمير طرقش والأمير طقتمر الأحمد والأمير طقتمر الصلاح وأربعة عشر من مقدمي الحلقة، وعدة من أعيان أجناد الحلقة. استدعى السلطان الأمير أيتمش بدار العدل، وقال له بحضرة القضاة: " لا تدع في مكة أحداً من الأشراف ولا من القواد ولا من عبيدهم، وناد بها من أقام منهم حل دمه. ثم أحرق جميع وادي نخلة، وألق في نخلها النار حتى لا تدع شجرة مثمرة ولا دمنة عامرة، وخرب ما حول مكة من المساكن، وأخرج حرم الأشراف منها، وأقم بها بمن معك حتى يأتيك عسكر أخر " . فقام في ذلك قاضي القضاة جلال الدين محمد القزويني ووعظ السلطان وذكره بوجوب تعظيم الحرم، إلى أن استقر الأمر على أن كتب لرميثة أمان وتقليد بإمرة مكة. وسار العسكر من ظاهر القاهرة في نصف صفر، وعدتهم سبعمائة فارس.
وفي سابع ربيع الأول: توجه السلطان إلى سرياقوس، فأقام بها أياماً، ثم سار إلى البحيرة والمنوفية، ومضى على الجيزة إلى البهنساوية، وعاد إلى قلعة الجبل في حادي عشر ربيع الآخر.
وفي يوم الأربعاء سابع عشرى ربيع الأول. استقر شرف الدين أبو محمد عبدالله ابن الحسن بن عبدالله بن عبد الغني بن عبد الواحد بن علي المقدسي الحنبلي في قضاء الحنابلة بدمشق، عوضاً عن عز الدين محمد بن سليمان بن حمزة بن أحمد بن عمر بن الشيخ أبي عمر بعد وفاته.(1/469)
وفي مستهل ربيع الآخر: تولى علاء الدين الطويل المنوفية، ثم بطل ذلك، وتولى فخر الدين أياس الدواداري المنوفية في اليوم المذكور.
وفي جمادى عشريه: خلع على ركن الدين الكركر واستقر في ولاية قوص " عوضاً عن غرس الدين خليل أخي طقصبا.
وفي ثالث عشريه: سار السلطان إلى ناحية طنان، وأقام هناك أياماً، ثم عاد إلى الجيزة، فأقام بها عدة أيام. ثم توجه السلطان إلى الحمامات، ثم رجع فدخل قلعة الجبل في رابع جمادى الأولى. وقدم عليه في سفره هذا رسل الملك أبي سعيد بن خربندا.
وفي حادي عشريه أيضاً: استقر الأمير عز الدين أيدمر العلائي المعروف بأستادار ألطبغا الحاجب في ولاية الوجه البحري وكان والي أسيوط ومنفلوط.
وفي يوم الإثنين سابع عشريه: مات الأمير أرغون الدوادار نائب حلب، فخلع على الأمير علاء الدين ألطبغا الصالحي بنيابة حلب في يوم الخميس أخره، وتوجه إليها.
وفي جمادى الأولى: مرض القاضي تاج الدين إسحاق ناظر الخاص.
وتوفي يوم الإثنين أول جمادى الآخر. وترك القاضي تاج الدين من الأولاد علم إبراهيم ناظر الدولة، وشمس الدين موسى وسعد الدين ماجد، بعدما وصي بهم الفخر ناظر الجيش، فتوسط الفخر لهم مع السلطان إلى أن استدعي من الغد شمس الدين موسى وخلع عليه وقرره في نظر الخاص ووكالة السلطان عوضاً عن أبيه، وقد كان ينوب عنه في حياته، وأقر السلطان أخاه علم الدين إبراهيم في نظر الدولة، وأقر علاء الدين بن هلال الدولة في شد الدواوين وشد الخاص، وأنعم عليه بإمرة طبلخاناه.
و فيه استقر علاء الدين محمد بن نصر الله الجوحري شاهد الخزانة فيما كان بيد شمس الدين موسى قبل ولايته نظر الخاص.
و فيه استقر جمال الدين يوسف أخو قنغلي في ولاية الشرقية، بسفارة الأمير بكتمر الساقي، واستقر أخوه شجاع الدين قنغلي في ولاية البهنساوية.
وفي يوم السبت سادسه: خلع على عز الدين عبد العزيز ابن قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، واستقر في وكالة السلطان عوضاً عن التاج إسحاق ناظر الخاص بعد وفاته.
وفي سابع جمادى الآخرة: قدم الأمير أيتمش بالعسكر المجرد إلى مكة، فكانت مدة غيبتهم أربعة أشهر تنقص ثمانية أيام. وكان من خبرهم أنهم لما قدموا مكة كان الشريف رميثة قد جمع عرباً كثيرة يريد محاربتهم، فكتب إليه الأمير أيتمش يعرفه بأمان السلطان له وتقليده إمرة مكة، ويحثه على الحضور إليه ويرغبه في الطاعة، ويحذره عاقبة الخلاف ويهدده على ذلك، ويعرفه بما أمر به السلطان من إجلاء بني حسن وأتباعهم عن مكة. فلما وقف رميثة على ذلك اطمأن إلى الأمير أيتمش وأجابه بما كان قد عزم عليه من الحرب لو أن غيره قام مقامه، وطلب منه أن يحلف هو ومن معه ألا يغدره، وأن يقرضه مبلغ خمسين ألف درهم يتعوضها من إقطاعه. فتقرر الحال على أن يبعث إليه الأمير أيتمش عشرة أحمال من الدقيق والشعير والبقسماط وغيره، ومبلغ خمسة ألاف درهم، فقدم حينئذ.
فلما قارب رميثة مكة ركب الأمير أيتمش بمن معه إلى لقائه، فإذا عدة من قواده مع وزيره قد تقدموه ليحلفوا له العسكر، فعادوا بهم إلى الحرم وحلفوا له أيماناً مؤكدة، ثم ركبوا إلى لقائه وقابلوه بما يليق به من الإكرام، فلبس رميثة تشريف السلطان، وتقلد إمارة مكة، وعزم على تقدمة شي ء للأمراء، فامتنعوا أن يقبلوا منه هدية، وكتبوا إلى السلطان بعود الشريف إلى الطاعة، وخرجوا من مكة يريدون القاهرة. فلما وصلوا دخل الأمير أيتمش على السلطان، فشكره على ما كان منه.
وكان قاضي القضاة جلال الدين القزويني حاضراً، فأكثر من الثناء على أيتمش، وقال: هذا الذي فعله هو الإسلام " .(1/470)
وفيه قدم الأمير تنكز نائب الشام في يوم الإثنين سادسه، ومعه الأمير سيف الدين أرقطاي نائب صفد. فأكرم السلطان الأمير أرقطاي وقربه، وتقدم إلى جميع الأمراء أن يقدموا له التقادم، فقدم له كل أحد على قدر همته، وأنعم السلطان على أحد ولديه بإمرة طبلخاناه، وعلى الآخر بإمرة عشرة. وكان سبب قدومه من صفد أن الأمير تنكز لما توجه في السنة الخالية من دمشق يريد القدوم على السلطان على عادته، ركب الأمير أرقطاي من صفد ليلقاه من رأس اللجون، ومد له سماطاً جليلاً، وركب إلى لقائه، فلم ينصفه الأمير تنكز في السلام عليه، وسار حتى قرب من السماط فلم يلتفت إليه ولا نزل له، ومر من غير أن يأكل منه. فشق ذلك على أرقطا وقيل لتنكز إنه قد انكسر خاطره من الأمير، فقال: " ومن قال له يعمل هذا،؟ فبلغ ذلك السلطان، فعتبه عند حضوره على ما كان منه لأرقطا وقال له: وماذا كان يصيبك لو أكلت طعامه؟ وأمره ان يحضره صحبته إذا قدم في السنة الآتية، وكتب لأرقطاي أن يحضر مع الأمير تنكز فلما خرج الأمير تنكز من دمشق في هذه السنة، وتلقاه أرقطا أكرمه تنكز ومضى به إلى مصر، ثم سافرا إلى محل كفالتهما في يوم الثلاثاء سادس عشرة.
وفي يوم الثلاثاء حادي عشر شهر رجب: توجه الأمير سيف الدين طرغاي الجاشنكير، والأمير بيغرا، والأمير ملكتمر السرجواني. وقد استقر في نيابة الكرك، بإبراهيم ولد السلطان إلى مدينة الكرك ليقروه بها، فوصلوا به إليها، وعادوا منها ومعهم أحمد ابن السلطان، وكان قد توجه قبل ذلك إلى الكرك، فقدموا به قلعة الجبل في يوم السبت سادس عشر شعبان، ومعه الأمير بهادر البدري نائب الكرك. فختن الأمير أحمد ابن السلطان يوم الإثنين ثامن عشرة، بعد وصوله بيومين.
وفيه قدمت رسل ملك الهند، وكان مجيؤهم من جهة بغداد، فأكرموا وخلع عليهم، وساروا في أخره.
وفي يوم الأربعاء خامس رمضان: أفرج عن الشريف ودي أمير المدينة النبوية، وعن خرص ابن أخيه وكانا قد اعتقلا بقلعة الجبل في أول شوال سنة تسع وعشرين، فرتب لهما راتب حسن مدة، ثم أنعم عليهما بإقطاع في الشام، وسارا إليها، فمات خرص، ثم ولي ودي إمرة المدينة.
وفي هذا الشهر: فر يوسف الكيمياوي من سجنه، فنودي عليه بالقاهرة ومصر، وسرحت البطائق على أجنحة الحمام لولاة الأعمال بتحصيله.
وفي عاشره: خلع على الأمير ملكتمر السرجواني واستقر في نيابة الكرك، عوضاً عن بهادر البدر وسافر من يومه.
وفي يوم السبت خامس عشره. حمل من خزانة الخاص بالقلعة مهر آنوك ولد السلطان إلى بنت الأمير بكتمر الساقي: وهو عشرة ألاف دينار، ومائتان وخمسون تفصيلة حرير مثمنة، ومائة نافجة مسك، وألف مثقال عنبر خام، ومائة شمعة موكبية، وثلاثة أرؤس من الخيل مسرجة ملجمة، وخمسة مماليك على يد كل مملوك بقجة.
وسلم ذلك إلى الأمير أيدغمش أخور، والأمير طقتمر الخازن دوادار القاضي شمس الدين موسى ناظر الخاص، وألبس الثلاثة تشاريف جليلة، وتوجهوا بذلك إلى بيت الأمير بكتمر الساقي فكان يوماً مشهوداً. وعقد العقد، وعملت المهمات والأفراح الملوكية.
وفي يوم الإثنين نصف شوال: رسم بعزل نواب قضاة القضاة الأربعة بالقاهرة ومصر، وكانت عدتهم قد بلغت نحو الخمسين نائباً، فعزلوا بأجمعهم.
وفي أول ذي القعدة: سار الأمير صلاح الدين يوسف دوادار قبجق، رسولاً إلى أبي سعيد ملك العراق.
وفي يوم الأحد ثالث عشره: كتب كتاب الأمير ملجك ابن أخت الأمير قوصون على بنت الأمير تنكز نائب الشام. وحملت إليه من دمشق، وصحبتها أموال جزيلة وتحف جليلة، فعملت أفراح سنية مدة أيام.
وفيه أيضاً كان وفاء النيل وهو خامس عشرى مسري.
وفي سابع عشره: استقر شهاب الدين الإقفهسي في نظر الدولة، عوضاً عن تقي الدين عمر بن محمد بن السلعوس.
وفي يوج الإثنين خامس ذي الحجة: أسلم من الكتاب النصارى المهذب كاتب الأمير بكتمر الساقي والنشو مستوفي الدولة، والعلم بن فخر الدولة مستوفي الدولة أيضاً.(1/471)
وفي يوم السبت سابع عشره: ركب السلطان إلى الميدان الذي استجده، وقد كملت عمارته. وكان قد رسم في أول هذه السنة بهدم مناظر الميدان الظاهري وتجديد عمارته، وفوض ذلك إلى الأمير ناصر الدين محمد بن المحسن فهدمها وباع أخشابها بمائة ألف درهم وألفي درهم، واهتم في عمارة جديدة، فكمل البناء في مدة شهرين، وجاء كأحسن شي ء يكون. فخلع عليه السلطان، وفرق على الأمراء الخيول المسرجة الملجمة.
وفي هذا الشهر: قبض على يوسف الكيمياوي بمدينة أحميم، وحمل مقيداً، فوصل إلى قلعة الجبل في رابع عشريه. ومثل يوسف بين يدي السلطان، فسأله عن المال، فقال: عدم مني. فسأله السلطان عن صناعته فقال: كل ما كنت أفعله إنما هو خفة يد فعوقب عقوبة شديدة بالضرب، ثم حمل إلى خزانة شمائل سجن أرباب الجرائم بجوار باب زويلة من القاهرة، فمات ليلة الأحد خامس عشريه، فسمر وهو ميت وطيف به القاهرة على جمل في يوم الأحد.
وكان قد عزم السلطان على أن يؤمر ولده أحمد المحضر من الكرك، فركب الأمير بكتمر الساقي وسائر الأمراء وجميع الخاصكية إلى القبة المنصورية بين القصرين في خدمة الأمير أحمد وهو بشربوش وعلى رأسه سنجق، وأمر معه أيضاً ثلاثة أمراء عشراوات في يوم الإثنين سادس عشريه. وألزم الأمير ناصر الدين بن المحسني والي القاهرة جميع أرباب الحوانيت بالقاهرة أن يوقدوا الشموع والقناديل ويزينوا القاهرة، زينوا الأسواق وأشعلوا الشموع والقناديل، وجلس أرباب الملهى في عدة أماكن يضربون بألاتهم فرحاً بتأمير أحمد ابن السلطان.
واتفق في هذه السنة توالي الأفراح، لأجل عافية السلطان، وتزويج ولده أنوك، وتزويج ملجك ابن أخت قوصون، وتأمير أحمد بن السلطان.
وفيه ورد الخبر بإفساد العرب ببلاد الصعيد قطعهم الطريق، فاستدعي ظلظية متولي الشرقية، وخلع عليه، واستقر في كشف الوجه القبلي، فسار في تجمع كبير، وأوقع بأهل الصعيد، وقتل كثيراً من العربان، و لم يراع أحداً من الأمراء في بلاده، فعظمت مهابته، وخاف كل أحد بادرته.
وفي سابع عشره: نزل السلطان إلى الميدان تحت القلعة، وعين الأمير أرنبغا أمير جندارا، للسفر مع الأمير أحمد ابن السلطان. وخرج طلب الأمير أحمد ومعه الأمراء والحجاب، فسار إلى الكرك، وسلمه الأمير ملكتمر السرحواني نائبها، وأمر بتربيته وتأديبه.
وفيه قدمت رسل ملك البلغار بكتابه يترامى على مراحم السلطان، ويسأل أن يبعث إليه سيفاً وسنجقاً ليقهر به أعداءه. فأكرمت رسله، وجهزت له خلعة طرد وحش مقصب بفرو سنجاب، مقندس على مفرج سكندري وكلفتاه زركش وشاش بطرفين رقم وحياصة ذهب، وكلاليب ذهب، وسيف محلى وسنحق سلطاني أصفر مذهب.
وفيها كثرت الشكاية من جمال الدين عبدا لله ابن قاضي القضاة جلال الدين القزويني بكثرة لعبه، ورفعت فيه عدة قصص للسلطان. فبعث السلطان إلى أبيه على لسان الفخر ناظر الجيش يأمره بكفه عن ذلك، فلم ينته عن لعبه، فرسم بسفره من القاهرة إلى الشام، فسار على خيل البريد.
وفيها ولي عز الدين بن عبد العزيز ابن قاضي القضاه بدر الدين محمد بن جماعة وكالة بيت المال ونظر جامع أحمد بن طولون ونظر المدرسة الناصرية.
وفيها وصل إلى حلب نهر الساجور، بعد ما أنفق عليه مال كبير، فسر به أهل حلب سروراً زائداً.
وفيها ملك أبو الحسن علي بن أبي سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق المريني مدينة فاس من بلاد المغرب، بعد موت أبيه.
ومات فيها من الأعيان
شهاب الدين صمغار ابن الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، في ثالث عشر المحرم، فأنعم بإمرته وهي طبلخاناه على بهادر بن قرمان.
وفي يوم السبت ثامن عشره: توفي الشيخ صبيح التكروري بدمشق، وقد حدث بالقاهرة ودمشق مراراً عن النجيب الحراني وغيره.
وتوفي الشيخ عفيف الدين عبدالله بن محيي الدين عبدالله بن الصاحب صفي الدين إبراهيم بن هبة الله العسقلاني بطريق مكة الخميس ثاني عشره، ومولده بمصر، وكان يشهد بدمشق على الحكام وفي الأملاك بغير أجرة، ولا يقبل هدية لأحد.
وتوفي أمير علي أخو قطلوبك أحد أمراء العشراوات، في سابع عشريه، فأنعم بإمرته على أمير جمال بن طقزدمر.
وتوفي الشيخ تاج الدين أبو عبدالله محمد بن العماد محمد بن التاج أبي الحسن علي ابن أحمد بن علي القسطلاني بالقاهرة في يوم الجمعة تاسع عشريه.(1/472)
وتوفي شمس الدين عبد اللطيف بن خليفة العجمي أخو الوزير نجيب الدولة وزير قازان غريقاً ببركة الفيل خارج القاهرة، في سلخه، وكان يعرف العلوم العقلية.
وتوفي محيي الدين محمد عبد العزيز بن علي بن محمد الحراني الحنبلي ابن أخي قاضي القضاة شرف الدين الحراني بالقاهرة في حادي عشره.
وتوفي الأمير بكتمر بن كرأي في خامس صفر.
وتوفي الأمير سيف الدين منكلي بغا السلاح دار، في يوم الأحد سادسه، ودفن خارج باب النصر من القاهره، وكان أحد أمراء الألوف، وتزوج خوند دلنبية بنت طاجي مطلقة السلطان، وأنعم بإمرته على تمربغا السعدي، وكان كثير الأكل كثير النكاح.
وتوفي زين الدين محمد بن محمد بن أبي بكر محمد بن علي القسطلاني في سابعه.
وتوفي قاضي القضاة عز الدين أبو عبدالله محمد بن تقي الدين سليمان بن حمزة بن أحمد بن عمر بن الشيخ أبي عمر محمد بن أحمد بن أحمد بن قدامة الحنبلي بدمشق في يوم الأربعاء، وولي قضاء الحنابلة بدمشق بعده شرف الدين أبو محمد عبدالله بن الحسن بن عبدالله بن عبد الغني المقدسي.
وتوفي الأمير سيف الدين قجليس أمير سلاح، في يوم الثلاثاء خامس عشر صفر، وأنعم على ساطلمش الجلالي بإقطاعه.
وتوفي الأمير سيف الدين طرجي الساقي أمير مجلس، في يوم الأربعاء سادس ربيع الآخر، وأنعم بطبلخاناته على أولاجا، واستقر الأمير طقزدمر عوضه أمير مجلس. في سادس عشر ربيع الآخر.
وتوفي المسند بدر الدين المحاسن يوسف بن عمر بن حسان بن أبي بكر علي الحنفي في يوم الثلاثاء خامس عشر صفر بالقاهرة، وهو أخو من حدث عن سبط ابن السلفي.
وتوفي الأمير حسام الدين لاجين زيرباج الجاشنكير، في يوم الإثنين رابع عشر صفر.
وتوفي الأمير بغجار الساقي في رابع ربيع الأول، وأنعم بطلبخاناته على أمير عمر بن أرغون النائب.
وتوفي سنجر البرواني أحد أمراء الطبلخاناه، في الحمام فجأة يوم السبت ثامن ربيع الآخر، فأنعم بإمرته على أيدمر العلائي.
وتوفي ضياء الدين أبو الحسن علي بن سليمان بن ربيعة الأذرعي الشافعي بالرملة في ثالث عشريه، ومولده بنابلس في سنة ست وأربعين وستمائة، وكان قاضياً ستين سنة، ونظم كثاب التنبيه في الفقه، فبلغ ستة عشر ألف بيت، وله أزجال ومو شحات.
ومات الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير حسام الدين طرنطاي المنصوري يوم الأربعاء ثامن رجب، وهو أحد مقدمي الألوف.
وتوفي الآمير نور الدين محمود بن هلال الدولة الريداني أحد أمراء العشرات، بدمشق.
وتوفي الأمير أرغون الدوادار نائب حلب، بها في ليلة السبت ثامن عشر ربيع الآخر، ومات ابنه ناصر الدين محمد قبله، وقدم إلى القاهرة أربعة من أولاده.
وتوفي جمال الدين أبو عبدالله بن عبد الواحد بن الخضر المعروف بابن السابق الحلبي في ليلة الأحد رابع عشريه فجأة بحلب ومولده بالإسكندرية سنة خمس وستين وستمائة، ولي نظر بعلبك ونظر بيت المال بدمشق.
وتوفي الشيخ المسند شرف الدين أبو العباس أحمد بن فخر الدين عبد المحسن بن الرفعة بن أبي المجد العدوي في ليلة الأربعاء ثامن عشريه، ومولده سنة أربع وأربعين وستمائة، وأبوه عبد المحسن ينسب جامع ابن الرفعة بين القاهرة ومصر.
وتوفي القاضي عز الدين الخضر بن عيسى بن عمر بن الخضر الهكاري بالأشمونين في عاشره، بعد عزله من قضائها، وقد نيف على التسعين.
وتوفي القاضي تاج الدين علي بن نظام الدين يوسف ابن القاضي الموفق فخر الدين ابن علي ابن القاضي الأمين مفضل بن مقدام بن محمود بن يعقوب اللخمي في تاسع عشريه، بعدما كف بصره، ولي نظر الخزانة الكبرى ودرس بمدرسة الصاحب صفي الدين بن شكر بالقاهرة والمدرسة، وكان مقدام قاضي دمياط وناظرها أيام خلفاء القاهرة، وهو أخو شكر.
وتوفي الأمير علاء الدين علي بن آل ملك المجاهد إسحاق ابن السلطان بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل في ثامنه خارج مدينة مصر، ومولده يوم الجمعة ثامن عشرى المحرم سنة سبع وخمسين وستمائة.
وتوفي الأمير ظلظيه والي الولاة بالوجه القبلي في يوم الخميس ثاني عشر جمادى الآخرة، واستقر عوضه الأمير غرس الدين خليل أخو طقصبا الناصري.
وتوفي مجد الدين إبراهيم بن لفيتة ناظر الدولة، بعد عزله في ثامن عشره، فجأة بعدما خرج من الحمام ولبس ثيابه وشرب قدح شراب.(1/473)
وتوفي المقرئ نور الدين أبو الحسن علي بن المقرئ شرف الدين محمد بن مجاهد المعروف بابن الوارب أمام الجامع الحاكمي في سادسه، وهو أحد مشايخ القرءات السبع.
وتوفي الشيخ الزاهد موفق الدين أبو الفتح عيسى بن عبد الرحيم بن جعفر بن محمد ابن إبراهيم بن ثعلب الجعفري المالكي بمصر ليلة الأحد ثانيه، ودفن بالقرافة، وكان لا يتناول نصيبه من ديوان الأشراف.
وتوفي تاج الدين إسحاق ويدعى عبد الوهاب ناظر الخاص، في يوم الإثنين مستهل جمادى الآخرة، وولي نظر الخاص بعد القاضي كريم الدين الكبير وباشر بسكون زائد وانجماع وسياسة، وقام بمهمات عظيمة، وولي بعده وكالة بيت المال عز الدين عبد العزيز بن جماعة، وولي نظر خزانة الخاص علاء الدين محمد بن نصرالله بن محمد بن عبد الوهاب الجوهري وولي المكين بن قزوينة استيفاء الصحبة والخاص.
وتوفي الأمير سيف الدين أبو بكر بن المهراني في سادسه.
وتوفي ضياء الدين أحمد بن الشيخ قطب الدين محمد بن عبد الصمد بن عبد القادر السنباطي الشافعي في ليلة الثلاثاء تاسعه، وبيده تدريس الزاوية الخشابية بجابع مصر.
وتوفي تاج الدين أبو بكر بن معين الدين محمد بن الدماميني رئيس التجار الكارمية، في ثالث عشرى جمادى الآخرة، وقد قارب ثمانين سنة، وترك مائة ألف دينار عينا.
وتوفي الأمير حسام الدين طرنطاي دوادار كتبغا، ليلة الأحد ثامن عشريه فجأة، وكان له ثراء واسع جداً.
وتوفي نور الدين علي بن محمد بن عبد الواحد الحنفي أمين الحكم، بالحسينية ظاهر القرافة في سلخه.
وتوفي فخر الدين عثمان إبراهيم بن مصطفى التركماني الحنفي في حادي عشر شهر رجب، وهو يلي نيابة النظر بالمارستان المنصوري.
وتوفي القاضي جمال الدين أبو عبدالله محمد بن عثمان بن عبد الرزاق المالك أحد نواب القضاة المالكية، في ثامن عشريه.
وتوفي تقي الدين عمر بن السلعوس ناظر الدولة، بعد عزله في سادس عشرى ذي القعدة.
وتوفي الأمير ركن الدين عمر بن الأمير سيف الدين بهادر آص المنصوري في تاسع عشر ذي الحجة بدمشق.
وتوفي زين الدين عمر بن نجم الدين البالسي الشافعي مدرس المدرسة الطيبرسية، في سلخه، فولي عوضه أخوه نور الدين علي.
ومات بلبان المهمندار عتيق الدواداري في يوم الخميس رابع عشر ربيع الآخر.
ومات ملك المغرب صاحب فاس أبو سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق بن محيو ابن أبي بكر بن حمامة، في ذي الحجة، وقام من بعده ابنه السلطان أبو الحسن علي فكانت مدته إحدى وعشرون سنة.
سنة اثنين وثلاثين وسبعمائة
المحرم أوله الجمعة: فيه قدم مبشرو الحاج، وأخبروا برخاء الأسعار وسلامة الحجاج، وأن الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي على خطة.
وفي سابع عشرة: توفي مغلطاي المذكور عند نزوله بسطح عقبة أيله، فصبر وحمل إلى القاهرة، فوصلها ليلة الخميس حادي عشريه، ودفن من غده بمدرسته قريباً من درب ملوخيا. واستقر عوضه في الأستادارية الأمير علاء الدين أقبغا عبد الواحد وخلع عليه يوم الثلاثاء سادس عشريه، وأقر ألطقش مملوك الأفرم على نيابة الأستادارية. ثم بعد أيام أضيف إلى الأمير أقبغا تقدمة المماليك السلطانية مع الأستادارية، من أجل أنه وجد بعض المماليك وقد نزل من القلعة إلى القاهرة، إذ تنكر السلطان لما حدث من نزول بعض المماليك من القلعة إلى القاهرة، وضرب كثيراً من طواشية الطاق، وطرد جماعة منهم، وأنكر على المقدم الكبير وهو يومئذ الطواشي شجاع الدين عنبر السحرتي تهاونه حتى وقع ما وقع، وصرفه بالأمير أقبغا. فضبط أفبغا طباق المماليك بالقلعة، وضرب عدة منهم ضرباً مبرحاً، وبالغ في إهانة الخدام أيضاً، فلم يجسر أحد من المماليك أن يتجاوز طبقته.
وفيها استقر الأمير سيف الدين بهادر الدمرداشي رأس نوبة الجمدارية، عوضاً عن الأمير أقبغا عبد الواحد، بحكم انتقاله إلى الأستدارية، وكان الأمير بهادر قد حظي عند السلطان حظوة مكينة.(1/474)
وفي يوم الجمعة ثاني عشريه: دار نقيب الجيش والحاجب بجامع القلعة على الأمراء وهم ينتظرون الصلاة، وقبضوا على من معهم من مماليك دمرداش بن جوبان وسجنوهم. وذلك أن الأمير طرغاي الجاشنكير كان عنده جماعة، فبلغه من بعض مماليكه أنه سمع أحد مماليك دمرداش يقول لآخر: أقد درنا على الصبيان الجميع، واتفقنا على كلمة واحدة، فقم والبس قماشك، فميعادنا باب القلة عند خروجهم من الجامع. فنقل ذلك لمخدومه الأمير طرغاي فبادر وقبض على من عنده من مماليك دمرداش، ونهض إلى السلطان وأعلمه بالخبر، فسر بذلك. واستدعى السلطان نقيب الجيش والحاجب، وأسر إليهما أن يقبضا على من حضر من مماليك دمرداش بالجامع، ويتتبعا من غاب منهم، فقبض على الجميع قبل إقامة الصلاة. ثم جمع الأمراء بعد الصلاة عند السلطان، وعرفهم السلطان ما نقله الأمير طرغاي، وأمر السلطان أمير جندار بعقوبة من قبص عليه فعوقبوا، ثم قتل بعضهم وسجن باقيهم، فإنهم اعترفوا وهم في العقوبة بأنهم أرادوا أخذ ثأر استاذهم دمرداش وقتل الأمراء، لتصير لهم بذلك سمعة في بلاد المشرق. فخالف على نفسه الأمير بهادر الدمرداش وتحرز من السلطان.
شهر صفر أوله يوم الأحد: وفي يوم الإثنين، ثالث عشريه: استدعى السلطان الأمراء وأعلمهم أنه يريد أن يعهد إلى ولده الإمير ناصر الدين أنوك فأذعنوا لذلك كلهم، فرسم بركوبه بشعار السلطنة، وأحضرت الخلع لأرباب الوظالف. ثم انثنى عزم السلطان عن ذلك، وأبطل الجميع، ورسم أن يلبس آنوك شعار الأمراء، ولا يطلق عليه اسم السلطنة، فركب آنوك وعليه خلعة أطلس أحمر بطرز ذهب وشربوش مكلل مزركش. وخرج آنوك من باب القرافة والأمراء في خدمته حتى مر بسوق الخيل تحت القلعة، فباس الأرض، وطلع من باب الإسطبل إلى باب السر فطلع منه، ونثرت عليه الدنانير والدراهم. وخلع على الأمير ألماس الحاجب، والأمير بيبرس الأحمد والأمير أيدغمش أمير أخور خلع أطلس، وخلع أيضاً على بقية أرباب الوظائف، ومد لهم سماط عظيم، وعملت الأفراح الجليلة مدة أيام.
وكان قد رسم بعمل المهم لعقد الأمير آنوك على زوجته بنت بكتمر الساقي فعقد العقد بالقصر على صداق مبلغه من الذهب اثنا عشر ألف دينار، المقبوض منه عشرة ألاف دينار.
وفيه تقدم السلطان إلى الأمير علاء الدين بن هلال الدولة بجمع الدواوين، ليختار منهم من يستخدمه لآنوك، فإنه أنعم عليه بإقطاع الأمير مغلطاي الجمالي، فحضر من الغد عدة من الدواوين، فأخذ السلطان يسأل كلاً منهم ويتعرف خبره إلى أن وقع اختياره على شرف الدين النشو فإنه كان قد وقف بين يديه غير مرة في محاققة في خدمة الأمراء، فأعجبه كلامه ومحاققته، ورسم أن يكون من جلة المستوفين. فلما حضر النشو في هذا اليوم أشار السلطان لابن هلال الدولة أن يستخدمه بديوان الأمير آنوك، ويكون الأمير سيف الدين ألطنقش أستادارا له، وخلع عليهما ونزلا.
شهر ربيع الأول أوله يوم الإثنين: في سادسه: قدم الحاج أحمد بن سنقر رسولاً من الملك أبي سعيد، وعلى يده كتاب بسبب الخطة والمصاهرة. فأجيب بأن ذلك يحتاج إلى مهلة، وأخذ ما معه من الهدية. وهي جمال بخاتي ثلاثة قطر، وعشرة أرؤس من الخيل، وعشرة مماليك، وعشر جوار جنكيات، وعشرة دبابيس، وأعيد في ثاني عشريه.
وفيه كتب إلى الأمير تنكز نائب الشام أن يحضر ومعه نائب حماة، لحضور مهم الأمير أنوك على الأمير بكتمر الساقي، فشرع الأمراء في الاحتفال للمهم، وبعثوا إلى دمشق لعمل التحف.
شهر ربيع الآخر، أوله يوم الإثنين: في عاشره: قدم الملك الأفضل ناصر الدين محمد ابن الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل صاحب حماة بعد وفاة أبيه بها، وله من العمر نحو العشرين عاماً، فأكرمه السلطان وأقبل عليه. وكان والده لما توفي بحماة أخفى أهله موته، وسارت أم الأفضل إلى دمشق وترامت على الأمير تنكز نائب الشام، وقدمت له جوهراً رائعاً، وسألته في إقامه ولدها الأفضل مكان أبيه، فقبل تنكز هديتها، وكتب في الحال إلى السلطان بوفاة المؤيد، وتضرع إليه في إقامة ابنه مكانه. فلما قدم البريد بذلك تأسف السلطان على المؤيد، وكتب إلى الأمير تنكزلإجابة سؤاله وتجهيز ابن المؤيد إلى مصر، فجهزه تنكز إلى السلطان، فقابله من الإنعام وإدرار الأرزاق بنظير ما كان لأبيه.(1/475)
وفي يوم الخميس خامس عشريه. ركب الأفضل من المدرسة المنصورية بين القصرين، وهو بشعار السلطنة وبين يديه الغاشية، وفد نشرت على رأسه الأعلام الثلاثة، منها واحد خليفتي أسود، واثنان سلطانيان أصفران، وعليه خلعة أطلس بطرز ذهب، وعلى رأسه شربوش، وفي وسطه حياصة ذهب بثلاثة بيكارات. وسار الأفضل في موكب جليل بالقاهرة إلى باب زويلة، وصعد إلى قلعة الجبل، وقبل الأرض بين يدي السلطان بالقصر. ثم جلس الأفضل فخلع على الأمراء الذين مشوا في خدمته: وهم الأمير ألماس الحاجب، والأمير بيبرس الأحمد والأمير علاء الدين أيدغمش أمير آخور، والأمير طغجي أمير سلاح، والأمير تمر رأس نوبة، وقد لبس كل منهم أطلسين. وخلع الأفضل، على الأمير شجاع الدين عنبر مقدم المماليك طرد وحش وخلع على جميع أرباب الوظائف أيضاً، وكان يوماً مشهوداً.
ولقبه السلطان يومئذ بالملك الأفضل وجهزه إلى بلاده.
وفي يوم السبت سابع عشر جمادى الأولى: خرجت التجريدة لكبس الإطفيحية، وفيها نحو خمسة عشر أميراً.
وفي أول شعبان: قدم تنكز نائب الشام، لحضور عرس الأمير آنوك ابن السلطان.
وفيه رسم بإحضار جميع من بالقاهرة ومصر من أرباب الملهى إلى الدور السلطانية. ووقع الشروع في عمل الإخوان فأقام المهم سبعة أيام بلياليها. واستدعى السلطان حريم جميع الأمراء إليه، فكان أمراً عظيماً.
فلما كمانت ليلة السابع منه: جلس السلطان على باب القصر، وتقدم الأمراء على قدر مراتبهم واحد بعد واحد، ومعهم الشموع، فإذا قدم الواحد ما أحضره من الشمع قبل الأرض وتأخر. ومازال السلطان بمجلسه حتى انقضت تقادمهم، فكانت عدتها ثلاثة ألاف وثلاثين شمعة، زنتها ثلاثة ألاف وستون قنطاراً، فيها ما عني به ونقش نقشاً بديعاً تنوع في تحسينه، فكان أبهجها وأحسنها شمع الأمير علم الدين سنجر الجاولي فإنه اعتنى بأمرها وبعث إلى عملها بدمشق، فجاءت من أبدع شيء.
ثم جلس السلطان في ليلة الجمعة حادي عشر شعبان وهي ليلة العرس على باب القصر، وأشعلت تلك الشموع بأسرها. وجلس ابنه الأمير آنوك تجاهه، وأقبل الأمراء جميعاً وكل أمير يحمل بنفسه شمعه وخلفه مماليكه تحمل الشمع، فتقدموا على قدر رتبهم، وقبلوا الأرض واحداً بعد واحد طول ليلهم، حتى إذا كان أخر الليل نهض السلطان وعبر إلى حيث مجتمع النساء، فقامت نساء الأمراء بأسرهن، وقبلن الأرض واحدة بعد أخر وهي تقدم ما أحضرت من التحف الفاخرة والنقوط حتى انقضت تقادمهن جميعاً. ورسم السلطان برقصهن عن آخرهن، فرقصن حسن أيضاً واحدة بعد واحدة، والمغاني تضربن بدفوفهن، وأنواع المال من الذهب والفضة وشقف الحرير يلقى على المغنيات، فحصل لهن ما يحل وصفه، ثم زفت العروس.
وجلس السلطان من بكرة الغد، وخلع على جميع الأمراء وأرباب الوظائف وأكابر الأمراء، ورسم لإمرأة كل أمير من الأمراء بعبية قماش على قدر منزلة زوجها، وخلع على الأمير تنكز نائب الشام، وجهز صحبته الخلع لأمراء الشام.
فكان هذا العرس من الأعراس المذكورة، ذبح فيه الغنم والبقر والخيل والأوز والدجاج ما يزيد على عشرين ألفاً، وعمل فيه من السكر برسم الحلوى والمشروب ثمانية عشر ألف قنطار، وبلغت قيمة ما حمله الأمير بكتمر الساقي مع ابنته من الشورة ألف ألف دينار مصرية.
وفي يوم الأربعاء رابع رجب: استقر الأمير صلاح الدين يوسف دوادار قبجق مهمندار، عوضاً عن شهاب الدين أحمد بن آقوش العزيزي بعد وفاته.
وفي يوم الإثنين سابع عشره: استقر شرف الدين موسى بن التاج اسحاق في نظر الجيش، بعد وفاة الفخر محمد بن فضل الله واستقر شرف الدين عبد الوهاب النشو في نظر الخاص، عوضاً عن شرف المذكور، في يوم الخميس تاسع عشره.
وكان الفخر لما اشتد به المرض بلغه عن موسى بن التاج إسحاق أنه سعى في نظر الجيش فشق عليه ذلك، وركب وقد انتهك من شدة المرض، ودخل على السلطان وقال: " ما أزعجت نفسي إلا لنصحك، ولأوصيك بعائلتي وأولادي وعندي ذخيرة للسطان، فأما نصيحتى فهي أن أولاد التاج إسحاق تواصوا على أكل مال آل آص والدولة، والعمل على السلطان. وبالغ الفخر في الوقيعة فيهم، وعرف السلطان أنه ادخر عشرة ألاف دينار وشيئاً من الجواهر، وجميع ذلك للسلطان، فشكره السلطان، وأثر فيه كلامه في أولاد التاج إسحاق.(1/476)
ثم قام الفخر وعاد إلى داره، ثم طلب بعد ثلاثة أيام الأمير علاء الدين بن هلال الدولة، ودفع إليه ورقة مختومة وأوصاه أن يدفعها إلى السلطان بعد موته، فأوقف ابن هلال الدولة السلطان عليها وتركها عنده. فمات الفخر من الغد، فنزل ابن هلال الدولة وأولاد التاج إسحاق وعدة من الأمراء إلى بيت الفخر وأحاطوا به. فوجدا فيه عشرة ألاف دينار، وهي التي عين الفخر، وموضعها للسلطان، ووجدوا معها جواهر.
فعادوا بذلك إلى السلطان، ومعهم لؤلؤ مملوك الفخر، فأمره السلطان أن يعرفه بما لأستاذه من الأموال، وهدده تهديداً كبيرا، فالتزم أنه لا يخفي شيئاً. ونزل لؤلؤ فكتب عدة أوراق اشتملت على أصناف من البضائع للتجارة، وعلى عدد بساتين ودواليب ومعاصر بأرض مصر وضياع بالشام كدمشق وحماة وحلب وغزة والقدس وغيرها منها ما وقفه ومنها ما هو غير وقف. فأوقع السلطان الحوطة على جميع موجوده بديار مصر، وكتب إلى نواب الشام بمثل ذلك، ورسم بيع الأصناف، فبلغت قيمة ما وجد له ألف ألف درهم سوى ما تركه السلطان لأولاده.
وكان النشو في ابتداء أمره يتخدم لابن هلال الدولة شاد الدواوين، ويتردد إليه كثيراً ويبالغ في خدمته، فاستخدمه ابن هلال الدولة في الأشغال، وقدمه إلى السلطان، وشكر من كتابته، إلى أن استخدمه السلطان مستوفياً، فصار النشو يعد من إنشاء ابن هلال الدولة. ثم إنه لما أسلم تسمى بعبد الوهاب، وتلقب بشرف الدين، فعندما استقر عند الأمير آنوك ابن السلطان صار يخلو بالسلطان ويحادثه في أمر الدولة. ويكثر من الوقيعة في الدواوين، حتى أثر كلامه في نفس السلطان، وتصور في ذهنه منه أنه يحصل له مالاً كثيراً فما هو إلا أن استقر في نظر الخاص حتى أخذ يغري السلطان بأولاد التاج إسحاق حتى غيره عليهم، فعزل السلطان شرف الدين موسى من نظر الجيش في نصف شعبان بعد عشرين يوماً من توليته، وولي مكين الدين إبراهيم بن قزوينة عوضه، وأمر بالقبض على شرف الدين موسى وعلم الدين إبراهيم ولدي التاج ومصادرتهما، فقبض عليهما في يوم الخميس سابع عشر شعبان.
وذلك أنه اتفق أن السلطان. استدعى ابن هلال الدولة، وأسر إليه أن الأمراء اذا دخلو إلى الخدمة وخرجوا يمضي ومعه الشهود وناظر بيت المال، ويحاط على بيوت أولاد التاج إسحاق. فلما جلس القضاة، ووقف الأمراء وأرباب الدولة بالخدمة وشرف الدين موسى بن التاج إسحاق فيهم - التفت السلطان إلى القضاة وأخذ في الثناء على شرف الدين، وقال في أخر كلامه: " أنا ربيت هذا وعملته كاتبي " فانفض أهل الخدمة وهم يستعظمون هذا من السلطان في حق ناظر الجيش، وحل موسى في أعينهم. فما هو إلا أن جلس موسى بديوان الجيش من القلعة حتى بلغه أن الحوطة قد وقعت على بيته، وأن رسل الديوان على باب ديوان الجيش، وبلغ الخبر أيضاً إلى أخيه علم الدين إبراهيم وهو جالس والدواوين بين يديه، فنظر فإذا جماعة من الرسل قد وقفوا مرسمين عليه، فأغلق كل منهما دواته، وجلس ينتظر الموت إلى العصر. ثم صعد ابن هلال الدولة بأوراق الحوطة، وهي تشتمل على شيء كثير جداً منها لزوحة علم الدين إبراهيم أربعمائة سروال. فسلم شرف الدين موسى وعلم الدين لإبراهيم بن هلال الدولة، وأحضرت المعاصير، وسئل موسى عن صندوق ذكر أنه أخذه من تركة أبيه، فيه من الجواهر والذهب ما يبلغ مائة ألف دينار صارت إلى أبيه من جهة المكين الترجمان بعد موته، فأنكر موسى ذلك وحلف عليه. فرق له ابن هلال الدولة و لم ينله بمكروه، فأنكر عليه شرف الدين النشو عبد الوهاب ترك عقوبته، فما زال ابن هلال الدولة يدافع عنه وهو يحمل المال من قبله ومن قبل أخيه شيئاً بعد شيء.(1/477)
وفي ثاني شعبان: خلع السلطان على شرف الدين أبي بكر بن شمس الدين محمد بن الشهاب محمود، كاتب سر في كتابة السر بديار مصر، عوضاً عن القاضي محيي الدين ابن فضل الله. واستقر ابن الشهاب محمود محيي الدين في كتابة السر بدمشق، وخلع عليه بذلك بعدما طيب السلطان خاطره وأثنى عليه وشكره. وكان ابن الشهاب محمود قد قدم مع الأمير تنكز، ومثل بين يدي السلطان، فأعجب بشكله، وأخذ تنكز يثني عليه بأنه أمين مأمون الغائلة. وكان محيي الدين بن فضل الله قد ثقل سمعه، فوقع اختيار السلطان أن ينقله إلى دمشق، ويولي بين يديه عوضه ابن الشهاب محمود، فحدث السلطان الأمير تنكز في ذلك، فما وسعه إلا موافقة غرض السلطان فيما أحب.
وفيه رسم للأمير تنكز بالعود إلى دمشق، فتوجه من القاهرة يوم الثلاثاء خامس عشر شعبان.
وفي يوم الأحد عشريه: خلع السلطان على القاضي مكين الدين بن قزوينة واستقر في نظر الجيش، عوضاً عن شرف الدين موسى بن التاج ناظر الخاص، وقد نقل ابن قزوينة إليها من استيفاء الخاص ونظر ديوان ابن السلطان ونظر ديوان الأمير بشتاك.
وفيه أمر النشو ناظر الخاص وابن هلال الدولة شاد الدواوين بتجهيز السلطان إلى سفر الحجاز، فشرعا في طلب العربان وإعداد الإقامات من البقسماط والدقيق والشعير وغير ذلك.
وفيه رسم للملك الأفضل صاحب حماة بالتوجه إلى بلده صحبة الأمير تنكز.
وفي يوم الأربعاء ثاني شعبان: استدعى السلطان الأمير صلاح الدين يوسف المهمندار وخلع عليه، واستقر دوادارا عوضاً عن الأمير يوسف الجاي بعد موته، واستقر عوضه في المهمندارية الأمير سيف الدين جاريك مملوك قفجق الجوكندار.
وفيه وقع الجد في أمر السفر إلى الحجاز، وكتبت أوراق بأسماء الخواتين وبعض السراري وبعض الأمراء ليكونوا صحبة السلطان في سفره. وكتب إلى نواب الشام باستدعاء ما يحتاج إليه، فشرعوا في عمل ذلك وحملوه، وهو عدة أصناف وكثير من الهجن بسلاسل الذهب والفضة، وعدة من الخيول، وقدم أيضاً عامة أمراء مصر والشام تقادم جليلة على قدر مراتبهم وقدمت تقادم أمراء العربان من آل فضل وآل مهنا وآل عيسى وتنافسوا بأجمعهم في تقادمهم، وقصد كل أحد أن يمتاز على الآخر. واستدعى السلطان الأمير موسى بن مهنا ليسافر في الصحبة، وحشر جميع الصناع من القاهرة ومصر للعمل في هذا المهم.
وفيه نقل موسى بن التاج إسحاق وأخوه إبراهيم من عند ابن هلال الدولة إلى الأمير ناصر الدين محمد بن المحسني والي القاهرة. ورسم له بعقوبة موسى حتى يحضر الصندوق. فأمره النشو أن يبسط عليهما أنواع العذاب، ويضرب موسى بالمقارع، فاستأذن السلطان على ذلك، وعرفه ما أمره به النشو " فمنعه السلطان من ضربه بالمقارع، لكنه يهدده ويضربه تحت رجليه نحو خمس عشرة ضربة. فبعث النشو عندما نزل من القلعة من يحضر ضرب موسى بالمقارع، غير أن ابن المحسني عمل بما أشار به السلطان، فأحضر موسى وهدده، وأمر به فبطح وضرب بالعصي نحو عشرين ضربة، فتنكر عليه النشو واشتد حنقه عليه.
وفي سادس رمضان: أفرج عن الأمير مغلطاي بعدما سجن عشرين سنة وخمسة أشهر وثلاثة أيام.
وفي شوال: خرج محمل الحاج إلى البركة على العادة، مع الأمير عز الدين أيدمر الخطيري أمير الركب، ورحل في عشريه. وكان السلطان قد ركب في ثامن عشره، تزل بسرياقوس ثم استقبل بالمسير إلى الحجاز في الإثنين خامس عشريه بعدما قدم حرمه صحبة الأمير طقتمر في عدة من الأمراء. واستناب السلطان على ديار مصر سيف الدين ألماس الحاجب، ورسم له أن يقيم في داره، وجعل الأمير أقبغا عبد الواحد داخل باب القلة، برسم حفظ الدور، وجعل الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك بالقلعة وأمره ألا ينزل منها حتى يحضر، وأخرج كل أمير من الأمراء المقيمين إلى إقطاعه، وتقدم إليهم ألا يعودوا منها حتى يرجع من الحجاز.(1/478)
وتوجه مع السلطان إلى الحجاز الملك الأفضل صاحب حماة، وكان قد قدم يوم الأحد سادس عشرى شعبان ومن الأمراء جنكلي بن البابا، والحاج آل ملك وبيبرس الأحمد وبهادر المعزي وأيدغمش أمير أخور، وبكتمر الساقي وطقزدمر، وسنجر الجاولي وقوصون، وطايربغا، وطغاي تمر، وبشتاك، وأرنبغا، وطغجي وأحمد بن بكتمر الساقي وصوصون، وبهادر الناصر وجركتمر بن بهادر، وطيدمر الساقي وأقبغا آص الجاشنكير، وطقتمر الخازن، وطوغان الساقي وسوسن السلحدار، وبلك، وبيبغا الشمسي وبيغرا، وقماري وتمر الموسوي وأيدمر أمير جاندار وبيدمر البدري وطقبغا الناصري وأيتمش الساقي وأياز الساقي وألطقنش وأنس، وأيدمر ددقمان، وطبيغا المحمدي وجاريك، وقطز أمير آخور، وبنيدمر، وأيبك، وأيدمر العمري ويحيي ابن طايربغا، ومسعود الحاجب، ونوروز، وكجلي وبرلغي وبكجا ويوسف الدوادار، وقطلقتمر السلحدار، ونانق، وساطلمش وبغاتمر، ومحمد بن جنكل وعلي بن أيدغمش، وألجاي وأقسنقر الناصر وقرا، وعلاء الدين علي بن هلال الدولة، وتمربغا العقيلي وقماري الحسن وعلي بن أيدمر الخطيري وطقتمر اليوسفي وكل هؤلاء مقدمون وطبلخاناه، ومن أمراء العشرات علي بن السعيد وصاروجا النقيب، وآقسنقر الرومي وأياجي الساقي وسنقر الخازن، وأحمد بن كجكن، وأرغون العلائي وأرغون الإسماعيلي وبغا، ومحمد بن الخطير وأحمد بن أيدغمش، وطشبغا، وقليجي. وحج مع السلطان أيضاً قاضي القضاة جلال الدين محمد القزويني، وحج أيضاً عز الدين عبد العزيز بن جماعة، وموافق الدين الحنبلي وعز الدين بن الفرات الحنفي وفخر الدين النويري المالكي، وكانوا أربعتهم ينزلون في خيمة واحدة، فإذا تقدمت إليهم فتوي كتبوا عليها، وهذا من غريب الاتفاق. وقدم السلطان الأمير أيتمش إلى عقبة أيلة، ومعه مائة رجل من الحجارين حتى وسعها وأزال وعرها، ومن يومئذ سهل صعودها.
وفيها بلغ ماء النيل عشرة أصابع من تسعة عشر ذراعاً.
وفيها طلب الشيخ شمس الدين الأصفهاني من دمشق على البريد إلى القاهرة.
وفيها كملت عمارة جامع الأمير سيف الدين الحاج آل ملك، بالحسينية خارج القاهرة.
وفيها استقر علاء الدين علي بن منجا في قضاء الحنابلة بدمشق.
وفيها قبض على الصاحب شمس الدين غبريال، وأحيط بأمواله وأسبابه.
وكان وفاء النيل ستة عشر ذراعاً، وذلك في يوم الأربعاء حادي عشر ذي القعدة وهو ثاني عشر مسرى. وبلغ ثمانية عشر ذراعاً وإحدى عشر أصبعاً.
ومات فيها من الأعيان
الأمير علاء الدين مغلطاي الجمالي ويلقب خرز الوزير، عند نزوله من سطح العقبة، في يوم الأحد سابع عشر المحرم، وحمل إلى القاهرة، فدفن بخانكاته، في يوم الخميس حادي عشريه، وهو من المماليك الناصرية، نقله السلطان وهو شاب من الخاصكية إلى أمرة بهادر الإبراهيمي المعروف بربرابة نقيب المماليك، وبعثه في مهماته، ثم ولاه أستاداراً ووزيراً، وحكمه في جميع المملكة، وكان جواد عارفاً يميل إلى الخير حشماً، وانتفع به جماعة كثيرة في ولايته، لأنه كان يأخذ على ولاية المباشرات المال، فقصده الناس لذلك، وكان إذا ولي أحداً وجاء من يزيد عليه عزله وولي الذي زاد بعدما يعلم أنه قد استوفى ما قام له به من المال، ومن لم يستوف ذلك لا يعزله، ولم يصادر أحداً في مدة ولايته، ولا عرف أنه ظلم أحد، بل كانت أيامه مشكورة، وكان المستولي عليه مجد الدين إبراهيم بن لفيتة، وترك عدة أولاد من ابنة الأمير أسندمر كرجي نائب طرابلس، وإليه تنسب مدرسة الجمالية بالقرب من درب ملوخيا بالقاهرة.
وتوفي الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل بن الملك الأفضل علي بن المظفر محمود بن المنصور محمد بن المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن نجم الدين أيوب بن شادي صاحب حماة، في سابع عشرى المحرم، عن نحو ستين سنة، كان أولاً بدمشق من جملة أمرائها، ثم أعطاه السلطان مملكة حماة ولقبه بالملك الصالح، ثم لقبه بالملك المؤيد، وأركبه في القاهرة بشعار السلطنة والأمراء مشاة في خدمته حتى الأمير أرغون النائب وقام بجميع ما يحتاج إليه، وأمر نواب الشام أن يكاتبوه بتقبيل الأرض، وكتب هو إليه: " أخوه محمد بن قلاوون " ، وكان كريماً فاضلاً في الفقه والطب وغير ذلك، وله عدة مصنفات، منها تاريخ جيد، وله شعر بديع.(1/479)
وتوفي برهان الدين إبراهيم بن عمر بن إبراهيم الربيعي الجعبري شيخ القراءات في شهر رمضان.
وتوفي صدر الدين أحمد بن محمد بن عبدالله الدندري الشافعي في ليلة الجمعة ثامن جمادى الآخر. وكان من شيوخ القراءات وفضلاء الفقهاء بقوص.
وتوفي الأمير سيف الدين الجاي الدوادار، يوم الإثنين مستهل شعبان.
ومات الديستي والكنجار في يوم الأحد خامس شهر ربيع الأول.
وتوفي القاضي فخر الدين محمد بن فضل الله ناظر الجيش، يوم الأحد سادس عشر رجب.
وتوفي سونتاي نوين حاكم ديار بكر، عن نحو المائة سنة، وحكم بعده علي بادشاه خال بوسعيد.
و توفي ياقوت بن عبدالله الحسني الشاذلي تلميذ أبي العباس المرسي ليلة الثامن عشر من جمادى الآخرة، وكان شيخاً صالحاً مباركاً ذا هيئة ووقار، لم يخلف في الإسكندرية مثله.
وتوفي الشيخ عبد العال خليفة أحمد البدوي بطنطا في ذي الحجة، وله شهرة بالصلاح، ويقصد للزيادة والتبرك به.
ومات الأمير علاء الدين مغلطاي المسعودي يوم السبت سابع ذي القعدة، بعد خروجه من السجن بقليل.
سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة
في ثامن المحرم: قدم الأمير بلك الجمدار المظفري مبشراً بسلامة السلطان، فدقت البشائر، وخلعت عليه خلع كثيرة، واطمأن الناس بعدما كانت بينهم أراجيف، وعينت الإقامات للسلطان والأمراء.
وكان السلطان لما قرب في مسيره من عقبة أيلة بلغه اتفاف الأمير بكتمر الساقي على الفتك به مع عدة من المماليك، فتمارض وعزم على الرجوع إلى مصر، فوافقه الأمراء على ذلك إلا بكتمر الساقي فإنه أشار بإتمام السفر، وشنع عوده قبل الحج. فسير السلطان ابنه آنوك وأمه إلى الكرك، صحبة الأمير ملكتمر السرجواني نائب الكرك وكان قدم إلى العقبة، ومعه ابنا السلطان أبو بكر وأحمد ثم مضى السلطان في يوم هو محترز غاية التحرز، بحيث أنه ينتقل في الليل عدة مرات من مكان إلى أخر، ويخفي موضع مبيته من غير أن يظهر أحداً على ما نفسه مما بلغه، إلى أن وصل إلى ينبع. فتلقاه الأشراف من أهل المدينة بحريمهم، وقدم عليه الشريف أسد الدين رميثة من مكة ومعه قواده وحريمه، فأكرمهم السلطان وأنعم عليهم، وساروا معه إلى أن نزل خليص في ثلاثين مملوكاً إلى جهة العراق.
فلما قدم السلطان مكة أكثر بها من الإنعام على الأمراء، وأنفق في جميع من معه من الأجناد والمماليك ذهباً كثيراً وعم بصدقاته أهل الحرم. فلما قضي النسك عاد يريد مصر، فلما وصل إلى المدينة النبوية هبت بها في الليل ريح شديدة جداً ألقت الخيم كلها، وتزايد اضطراب الناس، وفر منهم عدة من المماليك، واشتدت ظلمة الجو، فكان أمراً مهولاً. فلما كان النهار سكن الريح، فظهر أمير المدينة بمن فر من المماليك، فخلع السلطان عليه، وأنعم عليه بجميع ما كان مع المماليك من مال وغيره. وبعث السلطان بالمماليك إلى الكرك، وكان أخر العهد بهم.
وقدم السلطان إلى القاهرة في يوم السبت ثامن عشر المحرم، بعدما ورد الخبر بموت بكتمر الساقي وولده وكثرت الإشاعات. وقد خرج معظم الناس في لقائه، بحيث غلقت أسواق القاهرة ومصر، وخرج شرف الدين النشو، فبسط الشقاق الحرير والزر بفت التي جباها من الأمراء المقيمين وأرباب الدولة من بين العروستين إلى باب الإصطبل. فلما توسط السلطان بين الجبلين صاحت العامة: هوإياه؟ ما هوإياه؟ بالله اكشف لثامك وأرنا وجهك. وكان السلطان قد تلثم، فحسر اللثام عن وجهه، فصاحوا بأجمعهم: " الحمد لله على السلامة " ، وبالغوا في إظهار الفرج به والدعاء له، فسره ذلك منهم. وصعد السلطان القلعة، فدقت البشائر وعملت الأفراح ثلاثة أيام. وكانت حجة السلطان هذه يضرب بها الأمثال: أبيع بمكة فيها الأردب من الشعير من عشرة دراهم إلى عشرين درهماً، وأبيع البقسمات بالعدل، فكان يقف كل رطل منه بفلس واحد، وأبيع السكر كل رطل بدرهمين، والعلبة الحلوى بثلاثة دراهم. وقدمت تنكز نائب الشام افي خليص، فعمت الناس وأنعم السلطان على جميع أهل مكة، وكان إنعامه على الشريف رميثة بخمسة ألاف دينار، وعلى زوجته بخمسمائة دينار، وذلك سوى ما أنعم به على البنات وغيرها. فقدم له رميثة مائة فرس، وألف رأس من الغنم، فرد الجميع وأخذ منها فرسين لا غير.(1/480)
وفي يوم الإثنين عشريه: جلس السلطان بدار العدل، وخلع على جميع الأمراء والمقدمين، وأنعم عليهم إنعامات كثيرة.
وفيه منع السلطان النشو من التعرض لمباشري بكتمر الساقي وسائر ألزامه، وطلب المهذب كاتب بكتمر، وألزمه بكتابة ما خلفه، فوجد له ستة وثلاثون ألف أردب غلة، ومن السلاح والجوهر وغيره ما زادت قيمته على مائة ألف دينار، واتهم موسى الصير في أنه خصه مما سرقه مباشروه خمسة وعشرون ألف دينار. ثم عرض السلطان مماليك بكتمر، وأخذلهم جماعة، وأنعم على الأمير بشتاك بإقطاع بكتمر وجميع حواصله ومغله، ثم زوجه زوجته بعد وفاء عدتها.
وفي ثالث عشريه: سافر الأفضل صاحب حماة.
وفيه قدم البريد من تنكز نائب الشام بتهنئة السلطان بقدومه سالماً، وطلب الإذن له في القدوم إلى القاهرة، وشكا تنكز من الأمير طينال نائب طرابلس، لترفعه عليه وخرق حرمته، وإعراضه عما يكاتبه فيه. فأجيب بالشكر والإذن له بالحضور، وعزل طينال واستقر الأمير قرطاي عوضه، ونقل طينال إلى نيابة غزة إهانة له. وركب الأمير يبغرا البريد لتقليد المذكورين، وقد أوصاه السلطان إلى رأي من طينال كراهة لنيابة غزة يقبضه ويحضر به مقيداً.
وفيه كتب بإضافة غزة إلى نيابة الشام، وأن نائبها يكاتب نائب الشام فيما يعن له من الأمور، ولا يكاتب السلطان.
وفي يوم الإثنين خامس صفر: قدم الصاحب أمين الدين عبدالله بن الغنام باستدعاء، وخلع عليه واستقر في نظر الشام ونظر الخاص بها وذظر الأوقاف، عوضاً عن الشمس غبريال، وكتب توقيعه من إنشاء الصلاح خليل بن أيبك الصفدي وسافر في حادي عشره.
وفيه أنعم على الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير جنكلي بن البابا بإمرة طبلخاناه، وأنعم بعشرة على أخيه.
وفي هذا الشهر: كثرت مصادرات النشو للناس: فأقام من شهد على التاج إسحاق أنه تسلم من المكين الترجمان صندوقاً فيه ذهب وزمرد وجوهر مثمن، فرسم لابن المحسني بعقوبة موسى بن التاج إسحاق حتى يحضر الصندوق. وطلب النشو ولاة الأعمال وألزمهم بحمل المال، وبعث أخاه لكشف الدواليب بالصعيد وتتبع حواشي ابن التاج إسحاق، فقدم قنغلي والي البهنسا وقتشمر والي الغربية، وفخر الدين إياس متولي المنوفية، وعدة من المباشرين، فتسلمهم ابن هلال الدولة ليستخلص منهم الأموال.
وفي يوم الثلاثاء رابع ربيع الأول: توجه الأمير سيف الدين بيغرا لتقليد الأمير شهاب الدين قرطاي نيابة طرابلس، عوضاً عن طينال، وقد نقل قرطاي إليها من أمرة بدمشق، واستقر طينال في نيابة غزة.
وفي يوم الثلاثاء تاسع عشرى جمادى الأولى : قدم الأمير تنكز نائب الشام، فأكرمه السلطان إكراماً زائداً على عادته.
وفيه تفاوض شرف الدين أبو بكر محمد بن الشهاب محمود كاتب السر والأمير صلاح الدين يوسف الدوادار، حتى توحش ما بينهما، وارتفعا إلى السلطان. فسأل كاتب السر أن يعود إلى الشام، فأجيب إلى ذلك، وكتب بطلب محيي الدين يحيى بن فضل الله كاتب السر بدمشق، ليستقر في كتابة السر.
وفيه قدم البريد بموت قطب الدين موسى ابن شيخ السلامية ناظر الجيش بدمشق، فتروى السلطان أياماً فيمن يولى عوضه، إلى أن تعين فخر الدين محمد بن بهاء الدين عبدالله بن أحمد بن علي بن الحلي، فخلع عليه في أول صفر، وسافر إليها في تاسع عشر صفر.
وفي تاسع جمادى الآخرة: خلع على الأمير تنكز خلعة السفر، وتوجه إلى دمشق، وصحبته ابن الحلي ناظر الجيش، وشرف الدين بن الشهاب محمود كاتب السر.
وفي سلخ جمادى الآخرة: قدم محيي الدين يحيى بن فصل الله العمري من دمشق بأولاده، فخلع عليه، واستقر في كتابة السر عوضاً عن ابن الشهاب محمود، وخلع على أولاده.
وفيه قدم ناظر حلب وعامة مباشريها، فتسلمهم ابن هلال الدولة لعمل الحساب وسبب ذلك أنه لما مات فندش ضامن دار الطعم وعداد الأغنام بحلب، قام بعده من ضمن الجهتين فسعى بدر الدين لؤلؤ الحلبي مملوك فندش في الضمان، فلم يجب إليه لسوء سيرته، فكتب إلى السلطان بأنه يعين في جهة مباشري حلب أموالاً عظيمة أهملوها وصالحوا عليها فطلبوا لذلك. وكان لؤلؤ قد حضر إلى القاهرة، فعينه السلطان شاد الدواوين بحلب، فسافر إليها صحبه الأمير سيف الدين جركتمر الناصر وأخذ في كشف أحوال المباشرين ومحاققتهم بناء عن أمر السلطان.(1/481)
وفيه قدم المخلص أخو النشو من كشف الدواليب والزراعات بالوجه القبلي فأغرى النشو السلطان بمباشري الوجه القبلي وأنهم فرطوا في مباشراتهم، وأتلفوا عدة أموال للسلطان. فكتب بالحوطة على جميع مباشري الوجه القبلي شاديه وعماله وشهوده والمتحدثين، وحملهم وحمل الأمير أحمر عينه وإيقاع الحوطة على موجوده كله وكان قديم المباشرة في الدواليب، وله سعادة جليلة وحمل عز الدين أيبك شاد الدواليب وكان أيضاً صاحب أموال جزيلة فأوقعت الحوطة على أموال الجميع، وحملوا إلى القاهرة.
وفيه طلب النشو تجار القاهرة ومصر، وطرح عليهم عدة أصناف من الخشب والجوخ والقماش بثلاثة أمثال قيمته، وركب إلى دار القند، واعتبر أوزان القنود الواصلة إلى الأمراء من معاصرهم وغيرها، وكانت شيئاً كثيراً. وكان السلطان قد رسم للأمراء بمسامحتهم بمما عليها للديوان، فألزم النشو مباشريهم بما عليهم للديوان عنها، و لم يمتثل ما في المراسيم السلطانية من مسامحتهم. ثم ركب النشو إلى السلطان، وعرفه بأن الذي للديوان على القنود التي اعتبرها في يومه مبلغ ستة ألاف دينار، وأنه كل قليل يرد للأمراء من القنود مثل ذلك وأكثر منه، وأن مال السلطان يذهب في هذا وأمثاله، فإن الدواوين تسرق بحجة مسامحة الأمراء شيئاً كثيراً. فأثر ذلك في نفس السلطان، ومكن النشو من عمل ما يختاره، وألا يسامح أحداً بشيء مما عليه للديوان فشق ذلك على الأمير قوصون، وحدث السلطان في إمضاء ما رسم له به من المسوح عن القند فلم يجبه السلطان إلى ذلك، ووعده أنه يعوضه عليه بأكثر منه. فانكفت الأمراء عن السؤال، وعظم النشو بهذا في أعين الناس.
واستدعى النشو ابن الأزرق ناظر الجهات وكان ظلوماً غشوماً فكتب له أسماء أرباب الأموال من التجار، وطرح عليهم قماشاً استدعي به من الإسكندرية بثلاثة أمثال قيمته، وأخرق بمن عارضه منهم، وحمل النشو للسلطان من هذا وشبهه أموالاً عظيمة.
وفيه قدم الصاحب شمس الدين عبدالله غبريال بن أبي سعيد بن أبي السرور من دمشق فألزم بحمل أربعين ألف دينار وضعها كريم الدين عنده ليتجر له بها، وحمل ما أخذه في مباشرته من مال السلطان، وكان ذلك بإغراء النشو. فقام في أمره الأمير بتشاك والأمير قوصون حتى يقرر عليه ما يحمله من غير أهنة، فحمل ألف ألف درهم.
وعمت مضرة النشو الناس جميعاً، وانتمى إليه عدة من الأشرار، ونموا على الكافة من أهل القبلي والوجه البحري ودلوه على من عنده شيء من الجواري المولدات لشغف السلطان بهن، فحملت إليه عدة منهن بطلبهن من أربابهن، وسعوا عنده بأرباب الأموال أيضاً، فدهى الناس منه بلاء عظيم.
وفى سلخ شوال: أخرج صلاح الدين الدوادار على البريد منفياً إلى صفد، وخلع على سيف الدين بغا الدوادار الصغير عوضه، وسبب ذلك أنه كان مترفعاً، يعامل رفقاءه بشمم وتكبر. وكان شهاب الدين أحمد بن محيي الدين يحيي بن فضل الله كاتب السر يباشر عن أبيه وعن جده في مزاحة وقوة نفس فسلك صلاح الدين معه مسلكه مع ابن الشهاب محمود، فلم يحتمل شهاب الدين ذلك منه، وصار بينهما شنان، إلى أن اتفق في بعض الأيام ذكر السلطان الفخر ناظر الجيش، فترحم عليه، فقال صلاح الدين: " يا خوند لا تترجم على ذلك، فإنه ما كان مسلماً. فغضب السلطان من معارضته له، وقال: " والله يا صلاح الدين هو أيضاً كان يقول عنك أنك لست بمسلم، وتبين في وجه السلطان الغضب، وانفض المجلس. فذكر بعد ذلك صلاح الدين عند السلطان فقال عنه: " ذاك ما يتحدث عن أحد بخير " ، فانتهز ابن فضل الله الفرصة في صلاح الدين، ومازال به حتى أبعده السلطان وعزله في يوم الأربعاء حادي عشر رمضان، وأقام سيف الدين بغا دوادارا عوضه، ثم أخرج صلاح الدين أميراً بصفد في سلخ شوال.(1/482)
وفي هذه السنة: أخذ الأمير قوصون دار الأمير بيسري بالقاهرة وكانت وقفاً فعمل محضر بشهود القيمة أن قيمتها مبلغ مائة وتسعين ألف درهم وتكون الغبطة للأيتام عشرة ألاف درهم، فكملت مائتان ألف فحكم القاضي شرف الدين الحراني الحنبلي ببيعها وشراء عقار بثمنها. وهذا بعد أن كان كتاب وقف بيسري لها فيه من الشهود عدة اثنين وسبعين عدلاً، منهم تقي الدين ابن دقيق العيد، وتقي الدين بن رزين، وتقي الدين ابن بنت الأعز، وذلك قبل بلوغهم درجة القضاء، فكان هذا مما شنع ذكره، فإنها دار يجل وصفها ويتعذر وجود مثلها.
وفيها عمل السلطان باب من خشب السنط الأحمر، وصفحه بفضة زنتها خمسة وثلاثون ألف درهم وثلاثمائة درهم ومضى به الأمير سيف الدين، برسبغا الساقي إلى مكة، فقلع باب الكعبة العتيق، وركب هذا الباب وأخذ بنو شيبة الباب العتيق، وكان من خشب الساسم المصفح بالفضة، فوجدوا عليه ستين رطلاً من فضة تقاسموها، وترك خشب ذلك داخل الكعبة، وعليه اسم صاحب اليمن في الفردتين، واحدة عليها: اللهم يا ولي يا علي اغفر ليوسف بن عمر بن علي.
وفي يوم الأربعاء حادي عشرى ذي القعدة وحادي عشر مسرى : كان وفاء النيل، وبلغ سبعة عشر ذراعاً وثماني أصابع.
وفيها هدمت قاعة الصاحب وقاعة الإنشاء بقلعة الجبل، ورسم أن تكون دار الوزارة وقاعة الإنشاء بدار التيابة. وكانت دار الوزارة قد عمرت في الأيام الأشرفية برسم ابن السلعوس.
وفي عشرى ذي الحجة: قبض الأمير ألماس الحاجب وأخوه قرا، وسجنا مقيدين، ثم أخرج قرا إلى الإسكندرية في رابع عشريه.
وفي حادي عشريه: خلع على الأمير بدر الدين مسعود بن خطير، واستقر حاجباً عوضاً عن ألماس.
ومات فيها من الأعيان
ناظر الجيش بدمشق قطب الدين بن موسى بن أحمد بن الحسن المعروف بابن شيخ السلامية عن اثنتين وتسعين سنة.
ومات الأمير شمس الدين سنقر المرزوقي في يوم الأربعاء ثامن عشر رمضان.
وتوفي قاضي القضاة بدر الدين محمد بن إبراهيم بن سعدالله بن جماعة الحموي الشافعي في حادي عشر جمادى الأولى وهو معزول، بعدما عمي.
وتوفي شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب بن أحمد بن عبد الوهاب بن عبادة البكري النويري الشافعي صاحب كتاب التاريخ، في الحادي والعشرين من رمضان.
ومات الأمير أحمد بن بكتمر الساقي بوادي عنتر من طريق الحجاز في المحرم، واتهم السلطان بأنه سمه، فحمل مصبراً.(1/483)
ومات الآمير بكتمر الساقي بعد موت ولده بثلاثة أيام، وكان موت ولده الأمير أحمد في ليلة الثلاثاء سابع المحرم ورحل إلى نخل فدفن بها وموت الأمير بكتمر يوم الجمعة عاشر المحرم وقد حمل إلى عيون القصب، فدفن بها ثم نقل بكتمر وولده إلى خانكاته من القرافة بالقاهرة، فدفنا بها يوم الأحد سابع ربيع الآخر واتهم السلطان بأنه سم بكتمر أيضاً، وذلك أنه كان قد عظم أمره بحيث أن السلطان في هذه الحجه كان معه ثلاثة ألاف ومائة عليقة، وكان مع بكتمر ثلاثة ألاف عليقة، وبلغت عدة خيوله مائة طوالة بمائة سايس بمائة سطل، وكان عليق خيله دائماً ألفاً ومائة عليقة كل يوم. فلما توجه مع السلطان إلى الحج وشي به أنه يريد قتل السلطان، فتحرز السلطان على نفسه غاية التحرز، وكان فيه من الدهاء والمكر ما لا يوصف، فأخذ يدبر على بكتمر ويلازمه بحيث عجز بكتمر أن ينظر إلى زوجته، فإنه كان إذا ركب أخذ يسايره بجانبه، وإذا نزل جلس معه، فإن مضى إلى خيامه بعث في طلبه، بحيث إنه استدعي به وهو يتوضأ بواحد بعد الآخر من الجمدارية، حتى كمل عنده عدة اثنى عشر جداراً. فلما ثارت الريح بالمدينة قصد السلطان في تلك الليلة اغتيال بكتمر وولده، وأعد لذلك جماعة، فهجموا على أحمد بن بكتمر فلم يتمكنوا منه، واعتذروا بأنهم رأوا حرامية وقد أخذوا لهم متاعاً، فمروا في طلبهم فداخل الصبي منهم فزع كثير غشي عليه منه. وزاد احتراز السلطان على نفسه، وتقدم بأن تنام الأمراء بمماليكهم على بابه. وسار السلطان من المدينة، فيقال إنه سقى الصبي ماء باردا في مسيره كانت فيه منيته، ثم بعد قليل سقي بكتمر بعد موت ولده مشروباً، فلحق به. واشتهر ذلك، حتى أن زوجة بكتمر لما مات صاحت، وقالت للسلطان بصوت سمعه كل من حضر: " ياظالم أين تروح من الله، ولدي وزوجي، زوجي كان مملوكك، ولدي إيش كان بينك وبينه، وكررت هذه مراراً، فلم يجبها. وقد ذكرنا ترجمته في كتابنا الكبير المقفي بما فيه كفاية، إذ هو كتاب تراجم ووفيات، كما أن هذا كتاب حوادث وماجريات.
ومات علم الدين المشطوب، يوم الأحد تاسع عشرى ذي القعده.
ومات جمال الدين أبو الحسين بن محمود بن أبي الحسين محمود بن أبي سعيد بن أبي الفضل بن أبي الرضا الربعي البالسي إمام السلطان، في سابع عشر رمضان، ومولده سابع عشر رجب سنة ست وأربعين وستمائة، واسمه كنيته، وكان فاضلا، كتب بخطه كتباً كثيرة.
ومات جدي الشيخ محيي الدين أبو محمد عبد القادر بن محمد بن إبراهيم بن محمد ابن تميم بن عبد الصمد بن أبي الحسن بن عبد الصمد بن تميم المقريزي بدمشق في ثامن عشرى ربيع الأول وكان فقيهاً حنبلياً محدثاً جليلاً، سمع بعلبك من زينب بنت كندي وبدمشق من عمر بن القواس وجماعة وحدث وكتب بخطه كثيراً وقرأ كثيراً وقدم القاهرة، وعد من أعيان الفقهاء المحدثين.
سنة أربع وثلاثين وسبعمائة(1/484)
في أول المحرم: أحيط بحواصل الأمير ألماس الحاحب، وكان قبض عليه وعلى أخيه الأمير قرا وسبب التغير على ألماس أنه كان نائب الغيبة مدة سفر السلطان بالحجاز، وسكن في دار النيابة بالقلعة، وسكن الأمير أقبغا عبد الواحد داخل باب القلة من القلعة، فحفظ أقبغا عليه أشياء غير بها قلب السلطان لوجدة كانت بينه وبين ألماس: منها أنه كان يتراسل هو والأمير جمال الدين آقوش المعروف بنائب الكرك، لميل كل منهما إلى الآخر، ومنها كثرة أفعال ألماس للأمور القبيحة، من انهماكه في الميل إلى الأحداث وإسرافه في ذلك، حتى إنه كان بجوار دار النيابة مسجد ففتح منه باباً وصار يعبر بالأحداث من ذلك إليه، واشتد شغفه بغلام يدعى عمير من أولاد الحسينية، وأكثر من النزول من القلعة وجمع الأويراتية مع المذكور للشرب، هذا مع ما حفظ عليه من الكلام السيء في وقت الإرجاف بالسلطان وهو مسافر، وكثرة ماله وتنميته من وجوه منكرة، فإنه غرس بساتين بناحيتي بهواش والنعناعية من المنوفية، وجلب عدداً كثيراً من الخنازير وسمنهم بها، وباعهم على الفرنج ببضائع، وحمل سلاحاً كثيراً إلى بلاد الشرق تعوض به أصنافاً للمتجر، فاتسعت أمواله وتكثر بها، وقال غير مرة للأمراء: " عندي الذهب والدراهم ومن فيكم مثلي، وزاد في هدا المعنى وأقبغا عبد الواحد يضبط عليه مساوئه، ويسعى به إلى السلطان حتى غيره عليه. ويقال أن السلطان وجد فيما خلفه الأمير بكتمر الساقي جزدان فيه كتب من جملتها كتاب ألماس إليه يتضمن أنني أحفظ لك القلعة حتى يرد على لك ما أعتمده فلم يصبر له السلطان على هذا.
ولما قبضه السلطان، وقبض على أخيه قرا وكان ظالماً غشوماً خماراً نزل النشو وابن هلال الدولة وشاهد الخزانة لضبط موجوده، فوجد له ستمائة ألف درهم فضة، ومائة ألف درهم فلوس، وأربعة ألاف دينار مصرية، وثلاثون حياصة ذهب كاملة بكلفتاتها الذهب وخلعها الحرير، وبعض جوهر، وعدة أشياء ثمينة، وقبض على عبد له رباه صغيراً، فعاقبه السلطان حتى اعترف على كل من كان يحضر إليه من الأحداث وغيرهم.
وفيه قدم مبشرو الحاج، وأخبروا بقتل ياسور أحد ملوك المغل وقت رمي الجمرات. وكان من خبره أن ملك الشرق أبا سعيد بن خربندا لما قتل جوبان أراد إقامة ياسور لأنه من عظماء القان، فخوف من شجاعته، وأن جوبان كان يريد إقامته في الملك، فنفر منه أبو سعيد، ثم إنه استأذنه في الحج فأذن له، وقام له بما يليق به. ثم طلب أبو سعيد المجد السلامي وكتب إلى السلطان يعرفه بأمر ياسور، ويخوفه منه أن يجتمع عليه المغل، ويسأله قتله. فدفع السلامي كتاب أبي سعيد إلى مملوكه قطلوبك السلامي فقدم على السلطان أول ذي القعدة من السنة الماضية، فأركبه السلطان النجيب في عاشره إلى مكة، ومعه كتاب إلى الأمير برسبغا الحاجب وقد حج من مصر بطلب الشريف رميثه وموافقته سراً على قتل ياسور فقدم قطلوبك مكة أول ذي الحجة، فلم يوافق رميثة على ذلك، واعتذر بالخوف. فأعد برسبغا بعض نجابته من العربان لذلك، ووعده بما ملأ عينه. فلما قضى الحاج النسك من الوقوف والنحر، وركب ياسور في ثاني يوم النحر لرمي الجمار، ركب برسبغا أيضاً فعندما قارب ياسور الجمرة وثب عليه النجاب، وضربه فألقاه إلى الأرض، وهرب نحو الجبل، فتبعه مماليك برسبغا وقتلوه أيضاً، خشية من أن يعترف عليه. فاضطرب حجاج العراق وركبت فرسانهم وأخذوا ياسور قتيل في دمائه، وساروا إلى برسبغا منكرين ما حل بصاحبهم، فتبرأ برسبغا من ذلك وأظهر الترغم له، وقرر عندهم. " أن هذا الذي قتل هو من له عليه ثأر أو أحد غرمائه، وإنكم كفيتم أمره، فإني أخذت لكم بثأره وقتل قاتله " . فانصرفوا عنه وفي نفوسهم منه شيء، ومازالو له بالمرصاد وهو منهم محترز منهم حتى افترق ركب الحاج العراقيين من المصريين بالمدينة النبوية، فأمن برسبغا على نفسه، وتقدم الحاج إلى السلطان مع المبشرين.
وفي يوم الأربعاء سابع عشرى ربيع الآخر: خلع على الأمير سيف الدين جاريك المهندار، واستقر حاجباً وترتب عوضه مهمندارا الأمير سيف الدين طقتمر الأحمدي شاد الشراب خاناه.
وفي عشرى رجب: خلع على الأمير سيف الدين محمود بن خطير أخو الأمير بدر الدين مسعود الحاجب واستقر حاجباً، وكان قد قدم من دمشق في سابع عشرى ربيع الآخر.(1/485)
وفي يوم الخميس ثامن عشرى جمادى الآخرة: قدم الأمير تنكز نائب الشام إلى غزة، وقدم مملوكه يستأذن في دخوله كما هي عادته، فرسم له بسرعة الحضور، وألا يتحدث في شيء من أمر ابن هلال الدولة، فإن السلطان قد تغير عليه، فقدم.
وفي هذه الأيام: شفع الأمير قوصون في عود جمال الدين عبدالله ابن قاضي القضاة جلال الدين من دمشق، بدخلة أبيه عليه في ذلك، فأجابه السلطان. وقدم جمال الدين إلى القاهرة على البريد، فأقبل على عادته من اللهو، وعثر داراً على النيل بجوار دار أبيه، وتجاهر بما لا يليق. فتقدم أمر السلطان إلى ابن المحسني والي القاهرة أن يتحيل في كبسه وإشهاره، وأحس عبدالله بذلك، فكف عما كان يعانيه من اللعب.
وفي يوم السبت نصف رجب: قدم بدر الدين لؤلؤ الحلبي مملوك فندش بفاء مفتوحة ونون ساكنة، ثم دال مهملة مفتوحة بعدها شين معجمة وسيف الدين الأكز من الشام. فأحضرهما السلطان، وطلب مباشري حلب وهم النقيب بدر الدين محمد بن زهرة الحسين والقاضي جمال الدين بن ريان ناظر الجيش وناصر الدين محمد بن قرناص عامل الجيش، وعمه المحبي عبد القادر عامل المحلولات، والحاج إسماعيل بن عبد الرحمن العزازي، والحاج علي بن السقا، وغيرهم. فحاققهم لؤلؤ والي في رميهم بأخذ الأموال السلطانية، وجاهرهم بالسوء من القول بين يدي السلطان، والتزم بأنه إن مكن منهم استخلص منهم مائة ألف دينار. فطلب النشو بعد إخراجه، ووقع الكلام بينه وبين السلطان في ذلك وأمثاله من تحصيل الأموال، فأخذ النشو يقرر معه أن الأمراء قد أخذوا مساميح بمتاجرهم، ويتحصل من هذا إذا ضبطت عليها في كل سنة للديوان زيادة على مائتي ألف دينار، وأنه لا يتمكن مع قيام الأمير قوصون والأمير بشتاك أن يجمع للسلطان شيئاً من ذلك المال، فإنهما وأمثالهما قد اعتادوا من المباشر للسلطان أن ينفق المباشرون عليهم نصف متحصل الديوان برطيلاً وأنه فقير ليس له مال يبرطل به له ولا هو ممن يبرطل بمال السلطان، وأنه لو سلم منهم لملأ خزانة السلطان وحواصله أموالاً، لكنه يخشاهم أن يغيروا السلطان عليه. ورمى النشو المباشرين مع ذلك بعظائم من كثرة أموالهم ونعمهم، مما أخذوه في مباشراتهم من مال السلطان. فأذن له السلطان في عمل ما يختاره، وأن يتصرف في الدولة ولا يبالي بأحد، ووعده بتقوية يده وتمكينه ومنع من يعارضه.
ثم استدعى السلطان بالمخلص أخي النشو، ورتبه مباشراً عند الأمير سيف الدين ألناق، واستخدم أخاه رزق الله عند الأمير ملكتمر الحجاز واستخدم صهره ولي الدولة عند الأمير أرغون شاه وخلع عليهم.
وانبسطت يد النشو، واشتدت وطأته، وأخذ في التدبير على ابن هلال الدولة، ورتب عليه أنه أخذ من مال السلطان جملة، وأنه أهمل في المحافظة على أمور السلطان، وأن ما ضاع بسببه من مال السلطان كثير، وأنه تواطأ مع أولاد التاج إسحاق على مال السلطان. وندب النشو لتحقق ذلك أمين الدولة بن قرموط المستوفي والشمى بن الأزرق ناظر الجهات، وقرر مع السلطان إقامة لؤلؤ لاستخلاص الأموال، وطلب المباشرين للمحاققة، فجمعهم السلطان. فبرز قرموط وواجهه ابن هلال الدولة بأنه أهمل الأمور، وبرطل بالأموال، ونحو هذا من القول، فأثر كلامه في نفس السلطان، وصرف المباشرين، وبعث إلى ابن هلال الدولة يأمره بأن يلزم بيته. وخلع على الأكز واستقر شاد الدواوين عوضاً عن ابن هلال الدولة، وخلع على بدر الدين لؤلؤ الحلبي ليكون مستخلص الأموال، وخرجا إلى دار الوزارة بالقلعة، وطلبا الضمان والكتاب والمعاملين وأرباب الوظائف. ورتبت على ابن هلال الدولة أوراق. مما أهمله وفرط فيه، وطلب وصودر هو وجميع ألزامه، وقبص على مقدم الدولة خالد بن الزراد ومن يلوذ به، فحملوا الأموال. وخلع على ابن صابر واستقر مقدم الدولة. واشتد لؤلؤ على أهل حلب وأهل مصر، وعسفهم وتجاوز المقدار في عقوبة المصادرين خصوصاً أولاد التاج إسحاق.
وفي يوم الخميس ثالث رجب: سافر الأمير تنكز نائب الشام، بعدما أنعم عليه السلطان بمائة ألف درهم، وتوجه صحبته الأمير آقول الحاجب، ليستقر حاجب الحجاب بدمشق.
وفي يوم الأحد خامس المحرم: استقر الأمير تجماس الجوكندار المنصوري الملقب بشاش في نيابة حمص، عوضاً عن بهادر السنجري بحكم وفاته.(1/486)
وفي يوم الأحد أول المحرم: أفرج عن الأمير بهاء الدين أصلم، وعن أخيه الأمير قرمجي.
وفيه أيضاً أفرج عن الأمير بكتوت القرماني. وكانت مدة اعتقال أصلم وقرمجي سته سنين وثمانية أشهر، ومدة اعتقال القرماني سبع سنين وسبعة شهور.
وفي سادس المحرم: رسم للأمير جمال الدين آقوش الأشرفي المعروف بنائب الكرك بنيابة طرابلس، بعد موت قرطاي وخلع عليه في تاسعه، وسافر في تاسع عشره. وكان ذلك لأمور: منها صحبته مع الأمير ألماس الحاجب، ومنها ثقله على السلطان، فإن السلطان كان يجله ويحترمه ويقوم له كلما دخل إلى الخدمة، ومنها معارضته للسلطان في أغراضه، لاسيما في أمر النشو، فإنه كان يبلغ السلطان كثرة ظلمه وقبح سيرته في الناس. فأراد السلطان أن يستريح منه، فخلع عليه وبعث له بألف دينار، وأخرج برسبغا مسفراً له على العادة. فلما وصل برسبغا به إلى طرابلس وعاد، خلع السلطان عليه واستقر حاجباً صغيراً. وفيه خلع على الأمير مسعود بن خطير، واستقر حاجباً كبيراً عوضاً عن الأمير ألماس.
وفي يوم الخميس ثاني شعبان: استقر أيدكين الأزكشي البريدي في ولاية القاهرة، عوضاً عن ناصر الدين محمد بن المحسني بسفارة النشو. فعظمت مهابته، وكبس عدة بيوت من بيوت الناس، صار يتنكر في الليل ويمشي في أزقة القاهرة، فإذا سمع صوت غناء أو ريح خمر في بيت كبسه وأخذ من أهله مالاً كثيراً بحسب حالهم. واعتنى به النشو، ومكنه من عمل أغراضه، فنال به مقاصد كثيرة. منها أن بعض تجار قيسارية جهاركس بالقاهرة تأخر له في الخزانة السلطانية عن ثمن مبيع نحو تسعين ألف درهم. وألح على النشو في المطالبة بها مع كثرة انهماكه في اللهو، فقبضه أيدكين وهو غير حاضر الذهن، وسجنه في دار الولاية، واستدعى بالعدول ليكتب عليه مشروحاً بأنه سكران ويشهره، فافتدى منه بأن أشهد عليه أنه أبر بيت المال مما له عليه، موقع هذا الإبراء من النشو ومن السلطان بمكان ولما شنع أمر أيدكين شكاه الأمير قوصون إلى السلطان، فتغير السلطان على قوصون وقال له: " أنتم كلما وليت أحداً ينفعني أردتم إخراجه ولو أنه من جهتكم لشكرتم منه كل وقت، وأسمعه مع ذلك ما يكره. ثم أضيفت إليه ولاية مصر في تاسع شعبان، ولم يجمع الولايتين أحد قبله.(1/487)
وفي يوم الأحد عشرى ذي الحجة: قدم الأمير مهنا بن عيسى وسبب قدومه أن السلطان كان يحرص على قدومه إليه، ويبذل لأولاده الأموال العظيمة، فيرغبونه في القدوم على السلطان، وهو يأتي ذلك عليهم. فكان إذا أعيا السلطان أمره طرده من البلاد، حتى طرده أربع مرات، وكانت تجرد له العساكر فتخرجه، ثم تحضر أولاده وتصلح أمره، فيعود إلى البلاد، ثم يأخذ السلطان في استجلابه فلا يأتي له. فيعود إلى إخراجه، و كان السلطان يبعث في طلب الخيول منه، فيرسلها إلى السلطان، فتحمل إليه أثمانها بزيادة كثيرة وما زال أمره على هذا الحال إلى أن قدم موسى وأحمد وفياض أولاده إلى القاهرة، وبالغ السلطان في الإنعام عليهم، فحلفوا له على إحضار أبيهم إليه. فلما أتوا أباهم اجتمعوا عليه مع عمومتهم، وأرادوه على الحضور إلى السلطان بجهدهم فلم يوافقهم، فكاتبوا السلطان بأمرهم معه، فكتب السلطان إلى نائب حلب بإخراجه من البلاد فسار مهنا إلى أبي سعيد بالعراق، فأكرمه وأجله عند قدومه، فتعمد وزيره مع المجد السلامي عليه حتى فارق بلادهم رعاية لخاطر السلطان، وكتبا بذلك إلى السلطان، فسره ذلك ولما عاد مهنا من العراق تلقاه ابنه موسى فوجد أنه قد أزمع أمره على القدوم على السلطان، فلم يشعر الأمير تنكز نائب الشام إلا ومهنا قد قدم عليه هو والملك الأفضل محمد صاحب حماة، فركب إلى لقائه وأنزله بالقصر الأبلق. وقدم البريدي إلى السلطان بخبر قدومه فكاد يطير فرحاً به. ثم أركبه الأمير تنكز والملك الأفضل خيل البريد، وسيرهما إلى السلطان. فحملت للأمير مهنا الإقامات، وجنبت له الخيول، وضربت له الخيم، وخرج أمير: اندار والمهمندار إلى لقائه، وركب الأمير بشتاك له إلى قبة النصر خارج القاهرة، وسار به إلى باب السر من القلعة، فإذا الأمير قوصون قد وقف به في انتظاره، فأخذ بيده حتى عبر إلى السلطان فرحب به السلطان وأكرمه، وعتبه على فراره منه، فاعتذر مهنا وذكر أن قدومه بسبب رؤياه النبي صلى الله عليه وسلم في منامه وأمره له بالقدوم. فسر السلطان بذلك وخلع عليه وعلى من معه مائة خلعة، ورد إليه أمرته، وزاد في إقطاعه. وأنزله السلطان بالميدان وأمر له بسماط جليل فسم له فيه، فلم يأكل منه شيئاً، واعتذر بأن عادته أكل لبن الجمال وقرص الملة لا غير. ثم طلع مهنا إلى السلطان في خامس يوم من قدومه، فأنعم عليه بقرية دومة من عمل دمشق، لتكون له ولأولاده من بعده واتفق موت أسندمر العمري فوجد له تسعة ألاف دينار مصرية، وطلع بها النشو فسلمها لحاجب منها إنعاماً على مهنا برسم زوادته. وكتب له القاضي شهاب الدين أحمد بن فضل الله منشوراً بدومة، ثم سافر.
وفي ذي الحجة: ركب أيدكن والي القاهرة إلى النجيلة خارج القاهرة وهي يومئذ متنزه العامة، وبدايرها أخصاص للفرجة وكبسها وقت المغرب، فما قبض على أحد إلا وسلبة ثيابه وتركه عارياً، فجمع من ذلك شيئاً كثيراً وجمع الباعة من الغد بثمنه، فبلغ خمسة عشر ألف درهم.
وفي هذه السنة: جاء بالمدينة النبوية سيل عظيم أخذ جمالاً كثيرة وعشرين فرساً، وخربت عدة دور.
وفيها استقر جمال الدين عبدالله بن كمال الدين محمد بن العماد إسماعيل بن أحمد ابن سعيد بن محمد بن سعيد بن الأثير في كتابة السر بدمشق، عوضاً عن شرف الدين أبي بكر بن محمد بن الشهاب محمود.
وفي يوم عرفة: استقر نجم الدين بن أبي الطيب في الوكالة بدمشق، واستقر عز الدين، بن منجا في نظر جامع بني أمية، واستقر في حسبة دمشق عماد الدين بن الشيراز وخلع عليهم جميعاً.
وفيها ورد الخبر من بغداد بان صاحبها ألزم النصارى ببغداد أن يلبسوا العمائم الزرق، واليهود أن يلبسوا العمائم الصفر اقتداء بالسلطان الملك الناصر بهذه السنة الحسنة.
وفيها ولى تدريس الشافعي بالقرافة شمس الدين محمد بن القماح بعد وفاة المجد حرمي، واستقر عوضه في وكالة بيت المال النجم الأسعردي المحتسب، وفي تدريس المدرسة القطبية بهاء الدين بن عقيل.
وفيه استقر علاء الدين مغلطاي في تدريس الحديث بالمدرسة الظاهرية، بعد موت فتح الدين محمد بن سيد الناس، بعناية قاضي القضاة جلال الدين محمد بن القزويني فاستعظم الناس ذلك، وقالوا: " ويه ويه تولى درس الحديث مغلطية " .
وفيه انتهت زيادة ماء النيل إلى ستة عشر ذراعاً.
ومات فيها من الأعيان(1/488)
الأمير ألماس الحاجب الناصري، كان جاشنكيرا، وتنقل حتى صار حاجب الحجاب في محل النائب، لشغور منصب النيابة بعد الأمير أرغون، وكان أكابر الأمراء يركبون معه في خدمته، ويجلس في باب القلة، ويقف الحجاب بين يديه، فلما قبض عليه وحبس، قطع عنه الطعام ثلاثة أيام، ثم خنق في ليلة الثاني عشر من صفر، حمل من الغد حتى دفن بجامعه، وكان أغتم لا يعرف بالعربية شيئاً.
وتوفي وكيل بيت المال ومدرس الشافعي مجد الدين حرمي بن هاشم بن يوسف العامري الفاقوسي الفقيه الشافعي عن محو سبعين سنة، في يوم الثلاثاء ثاني ذي الحجة، ولي وكالة بيت المال ونيابة الحكم، وبرع في الفقه والأصول، ودرس بالشافعي.
وتوفي قاضي القضاة جمال الدين سليمان بن الخطيب مجد الدين عمر بن سالم بن عمر عثمان الأذرعي المعروف بالزرعي في سادس صفر بالقاهرة، عن مرض السكتة، وهو يومئذ قاضي العسكر، مولده بأذرعات سنة خمس وأربعين وستمائة. ومات الأمير علم الدين سليمان بن مهنا بن عيسى أمير آل فضل، في خامس عشرى ربيع الأول، فرسم بعده بالإمرة لسيف بن فضل.
ومات الملك الظاهر أسد الدين عبدالله بن المنصور نجم الدين أيوب بن المظفر يوسف ابن عمر بن علي بن رسول متملك اليمن، بعدما قبض عليه الملك المجاهد بقلعة دملوه، وصار يركب في خدمته، ثم سجنه مدة شهرين، ثم خنقه بقلعة تعز.
وتوفي قاضي الحنفية بحماة نجم الدين عمر بن محمد بن عمر بن أحمد بن هبة الله ابن أحمد بن يحيى المعروف بابن العديم، عن خمسة وأربعين سنة.
ومات الأمير طغاي تمر العمري زوج ابنة السلطان، ليلة الثلاثاء ثامن عشرى ربيع الأول.
ومات الأمير صوصون أخو الأمير قوصون أحد الألوف، في ليلة الجمعة رابع جمادى الأولى.
وتوفي الحافظ فتح الدين أبو الفتح محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن سيد الناس اليعمري الأشبيلي العلامة المتقن المصنف الأديب البارع، في يوم السبت الحادي عشر من شعبان.
ومات الأمير قرطاي الأشرفي نائب طرابلس، وقد جاوز ستين سنة، بها في ثامن عشرى صفر.
ومات أمير طبر جمال الذين يوسف بن علم الدين، في ليلة السبت ثالث عشر جمادى الآخرة، وكان من أمراء العشراوات.
ومات الأمير بدر الدين بيليك أبو غدة وكان أحد أستادارية السلطان، ومن أمراء الطبلخاناه، في ليلة الأربعاء سابع عشر جمادى الآخرة.
ومات الأمير يوسف الدين خاص ترك الناصري أحمد مقدمي الألوف، في عاشر وجب بدمشق.
ومات الأمير عز الدين أيدمر دقماق العلائي نقيب الجيش، وكان أحد المماليك الأشرفية، ليلة الأحد سادس رجب، واستقر عوضه في نقابة الجيش الأمير صار وجانقيب المماليك، واستقر المماليك عوضاً عن صاروجا محمد بن لاجين المحمدي.
ومات الأمير قجماس الجوكندار المعروف بشاش نائب حمص أحد أمراء البرجية.
ومات الأمير بلبان طرنا أمير جاندار وكان نائب صفد، في حادي عشرين الأول، وهو من أمراء الألوف بدمشق. ومات القاضي صدر الدين سليمان بن إبراهيم ابن سليمان بن دواد بن عتيق بن عبد الجبار المالك قاضي الشرقية والغربية، في حادي عشرى شعبان، وبعثه السلطان رسولاً إلى بغداد.
سنة خمس وثلاثين وسبعمائة
في يوم الأحد رابع المحرم: قبض على الطواشي شجاع الدين عنبر السحرتي مقدم المماليك، بسعاية النشو، وأنعم بطبلخاناته علي الطواشي سنبل قلي واستقر نائب المقدم. وخلع على الأمير آقبغا عبد الواحد باستقراره في تقدمة المماليك، مضافاً إلى الأستادارية. فعرض آقبغا الطباق، وأخرج من كان من الأتباع الأويراتية في خدمة المماليك، وضرب جماعة من المماليك السلاح دارية والجمدارية لامتناعهم من إخراج أتباعهم، ونفوا إلى صفد.
وفي يوم الأربعاء حادي عشرى جمادى الأولى: عزل أيدكين والي القاهرة، لتغير الأمير قوصون عليه، وأخرج إلى الشام منفياً.
وفيه طلب بلبان الحسامي البريدي أحد مماليك طرنطاي النائب إلى حضرة السلطان، فلم يجد فرساً يركبه، فركب حماراً إلى القلعة، فخلع عليه واستقر والي القاهرة عوضاً عن أيدكن، وأخرج له فرس.(1/489)
و فيه أفرج عن الأمراء المعتقلين، فركب على البريد الأمير بيبرس السلاح دار إلى الإسكندرية، وقدم بهم في يوم الإثنين ثاني عشرين رجب: وهم الأمير بيبرس الحاجب، وله في السجن من سنة خمس وعشرين، والأمير طغلق التتري أحد الأمراء الأشرفية، وله في السجن ثلاث وعشرون سنة، من سنة اثنتي عشرة، فمات بعد أسبوع من قدومه، والأمير غانم بن أطلس خان، وله في السجن من سنة عشر، مدة خمس وعشرون سنة، والأمير برلغي الصغير، وله في السجن من سنة اثنتى عشره، والأمير بلاط الجوكندار، والأمير أيدمر اليونسي أحد الأمراء البرجية المظفرية، والأمير لاجين العمري والأمير طشتمر أخو بتخاص، والأمير بيبرس العلمي من أكابر الأمراء البرجية، وقطلوبك الأوجاقي والشيخ علي مملوك الأمير سلار، والأمير تمر الساقي نائب طرابلس، أحد المنصوريه، وكان قد قبض عليه سنة أربع عشرة، فكانت مدة سجنه إحدى وعشرين سنة. فأنعم على تمر الساقي بطبلخاناه في الشام، وأنعم على بيبرس الحاجب بأمرة في حلب، عوضاً عن أقسنقر شاد العمائر، فسافر في سابع شعبان وكان قد رسم بالقبض على آقسنقر، فقبض عليه وسجن بقلعة حلب، وأحيط بموجوده ورسم للأمير غانم أن يقيم بالقاهرة.
وفي هذه السنة: قدمت رسل أزبك بكتابه يعتب فيه بسبب طلاق خاتون طولبية بنت تقطاي أخي أزبك، التي قدمت من جهته، وتزويجها من بعض المماليك، وطلب أزبك عودها إليه فأجيب بأنها قد ماتت، وسير إليه بهدية. وكانت قد مات زوجها الأمير صوصون، فزوجها السلطان للأمير عمر بن أرغون النائب، في يوم الإثنين تاسع عشر المحرم، ودخل عليها ليلة الجمعة حادي عشرى صفر. وقد كانت تحت السلطان ثم طلقها، فتزوجها الأمير منكلي بغا، ثم الأمير صوصون، ثم تزوجت بعمر هذا.
وفي ثاني عشر ربيع الآخر: خلع على الأمير سيف الدين جركتمر رأس نوبة الجمدارية بنيابة غزة، عوضاً عن الأمير طينال، وسافر في عشريه.
وفيه نقل طينال لنيابة طرابلس، عوضاً عن الأمير آقوش نائب الكرك، وهي ولايته الثانية.
وفي سادس عشره: توجه الأفضل صاحب حماة إلى محل ولايته، بعدما خلع عليه، وكان قد قدم صحبة مهنا، وتأخر بسبب الصيد مع السلطان.
وفي يوم الخميس رابع ربيع الأول: أنعم السلطان على ولده أبي بكر بإمرة، فركب بالشربوش من إصطبل الأمير قوصون، وسار في الرملية إلى باب القرافة، وطلع إلى القلعة من الباب المعروف بباب القرافة، والأمراء والخاصكية بخدمته، وعمل الأمير قوصون يومئذ لهم مهما عظيماً في إصطبله.
وفي يوم الخميس نصف جمادى الآخره: قبض على الأمير جمال الدين آقوش الأشرفي المعروف بنائب الكرك، وهو يومئذ نائب طرابلس وسجن بقلعة صرخد، ثم نقل في مستهل شوال إلى الإسكندرية فسجن بها، ونزل النشو إلى بيته بالقاهرة، وأخذ موجوده كله وموجود حريمه، وعاقب أستادراه.
واستقر عوضه في نيابة طرابلس الأمير طينال على عادته، ونقل بكتمر العلائي إلى نيابة حمص، عوضاً عن بشاش المتوفي.
وسبب ذلك أنه تراءى بطرابلس مركب للفرنج في البحر، فركب العسكر إلى الميناء، فدفعت الريح المركب عن الميناء ثم أخذ الأمير آقوش في تجديد عمارة مركب هناك، وأنفق فيه من ماله أربعين ألف درهم، فقدمت مركب الفرنج، فركب العسكر في المركب المستجد، وقاتلوا الفرنج، فقتلوا منهم جماعة وغنموا مركبهم بما فيها. فادعى صاحبها أنه تاجر قدم بتجارته. فنهبت أمواله وقتلت رجاله، وذكر عنه بعض التجار أنه متحرم لا تاجر، وأنه قدم في السنة الماضية إلى ميناء طرابلس وأخذ منها مركباً. فكتب آقوش بذلك إلى السلطان، فأجيب بالشكر وحمل الفرنجي إلى السلطان، فحمله آقوش مقيداً على البريد. فأكثر الفرنجي من التظلم، وتبرأ من التحرم في البحر، وأنه قدم بتجارة وهدية للسلطان، فظلمه نائب طرابلس وأخذ ما كان معه من التحف وغيرها، فصدقه السلطان، وكتب بإعادة مركبه إليه وجميع ما أخد له، فأجاب النائب بأن المذكور حرامي يقطع الطريق على المسلمين، فلا يسمع السلطان قوله، وكتب إليه بالتأكيد في رد المركب عليه، فردها النائب عليه، وشق ذلك عليه. ثم طلب آقوش الإعفاء من نيابة طرابلس فأجيب بتخييره بين نيابة صرخد وبعلبك، وبعث السلطان إليه الأمير برسبعا الحاجب، فسار به إلى دمشق، فقبص عليه تنكز بدار السعادة، وحمله إلى صرخد.(1/490)
وفي صفر: هدم السلطان الجامع بقلعة الجبل، وهدم المطبخ أيضاً. وجدد السلطان عمارة الجامع، وصار يقف بنفسه كل يوم، وندب لذلك الأمير آقبغا عبد الواحد. فحمل إليه العمد العظيمة من الأشمونين ووسع موضعه، فأدخل فيه قطعة من حارة مختص والطشتخاناه، ورخمه جميعه، وظل العمل جارياً في هذا الجامع حتى كمل في أخر شعبان على أكمل هندام وأبدع ترتيب. ووقف عليه السلطان حوانيت القلعة وغيرها، ورتب فيه القراء والمؤذنين والقومة، وانتخبهم بنفسه بعدما عرض طوائفهم، فصلى فيه أول شهر رمضان.
وفيه جدد السلطان عمارة المطبخ بالحجر، وزاد في سعته.
وفيها خرج البريد بطلب بدر الدين محمد بن التركماني من طرابلس، ليباشر مع النشو، فأفرج عنه يوم السبت رابع عشر رجب، وكان له سنة وتسعة أيام موسم عليه بالقلعة، وهو يحمل المال.
وسبب ذلك أن الأمير تنكز نائب الشام لما قدم على عادته في عاشر رجب، وعرفه السلطان همة النشو ولؤلؤ في تحصيل الأموال التي كانت مهملة ضائعة ورطل بها، ذكر له تنكز نائب الشام ما تجدد من المظالم، وحسن له طلب ابن التركماني لضبط ما عساه يخفي عن السلطان من الأموال التي تؤخذ، ووضع من لؤلؤ بأنه مملوك ضامن وكان الأكز ولؤلؤ تسلما الولاة والمباشرين والكتاب وأولاد التاج إسحاق وابن هلال الدولة وأقاربه كما تقدم، وأخرقا بهم: فحمل قشتمر والي الغربية ثمانين ألف درهم، وأفرج عنه بعناية سنجر الخازن، فإنه صهره، وضرب قنغلي والي البهنسا عدة مرار حتى حمل خمسة وسبعين ألف درهم، وضرب فخر الدين أياس الدويداري بالمقارع، فحمل ثلاثمائة ألف درهم، وهلك تحت العقوبة أيضاً شاد سوق الغنم، بعدما أخد منه نحو مائتي ألف درهم، وأخذ من خالد المقدم مبلغ ثلاثمائة وثلانين ألف درهم، بعدما ضرب بالمقارع ضرباً مبرحاً، ثم أفرج عنه على أن يحمل كل يوم عشرة ألاف درهم، فحمل في مدة شهر مائة ألف درهم، وأخذ من بكتوت الصائغ مائة ألف درهم، ومن عبد الرزاق وولده نحو مائة ألف درهم، وأخذ من ألزام ابن هلال الدولة نحو مائة وخمسين ألف درهم. وحمل ابن خلال الدولة ثلاثماثة ألف وعشرة ألاف درهم من غير أن يضرب، واتهمه النشو بأنه أخذ من الأهراء أربعة ألاف أردب فولا، وأخذ من مخلف الأمير ألماس الحاجب حياصة، فظهرت براءته من ذلك. وشق على النشو سلامته من الضرب، وبذل جهده في ضربه، والله يدفع عنه بما كان فيه من كثرة الصدقة. فرماه النشو بعد ذلك بأنه كان يتحدث مع الأمير جمال الدين آقوش نائب الكرك بأنه يتسلطن، ويجتمع معه على ذلك، ومعه منجم قدم به من دمشق، واستخدمه في بيت السلطان، فطلب المنجم وقتل في السجن، ومنع متولي القاعة جميع الذين يجلسون بالطرقات ويضربون بالرمل من التكسب بذلك. ورسم بضرب ابن هلال الدولة حتى يقر على نائب الكرك بما قيل عنه، فرفق به الأكز وضربه مقرعه واحدة، ثم ضربه بالعصا قليلاً وهو يحلف بالطلاق الثلاث أنه ليس عنده علم بما رمي به.
ثم إن النشو تنكر على مستوفي الدولة أمين الدين قرموط، وعلى رفيقه ابن أبي الزين، من أجل أن قرموط أكثر من الاجتماع بالسلطان، فخاف عاقبته. وأغرى النشو به السلطان وقرر في دهنه أنه جمع كثيراً من مال السلطان لنفسه، وأن خالداً المقدم يحاققه ورفيقه على أنه أخذ مائة ألف دينار. فقبض عليهما في رابع ربيع الأول، وقبض معهما على الشمس ابن قزوينة، والعلم المستوفي والنشو كاتب الرواتب، والبرهان ابن البرلسي ورفيقه ابني الأقفاصي ناظر الدولة. وقام خالد المقدم بمحاققتهم، والتزم أنه يستخلص من قرموط أربعين ألف دينار، فعوقب وضرب بالمقارع. فقال خالد للأكز ولؤلؤ: " هذا جلد ما يقر، اضربوا ولده قدامه حتى يزن المال، فإنه ما يهون به ضرب ولده. فلما ضرب قرموط أمر الأكز بإحضار ولده وضربه، فضرب وهو يتحسر عليه جزاء بما تقدم منه. فلما اشتد به البلاء ضرب نفسه بسكين في حلقومه ليهلك، فبادر الأعوان وأخذوها منه وقد جرحت حلقه، فأسرف الأكز في عقوبته وعقوبة رفقائه، وضرب القصب في أظفار ابن أبي الزين. ثم خرج النشو إلى الإسكندرية.(1/491)
فقدم الأمير تنكز نائب الشام يوم الأربعاء حادي عشر رجب، وهو مقدمه العاشر، فقام في خلاص ابن هلال الدولة، وساعده الأمير قوصون حتى أفرج عنه. ثم قدم النشو من الإسكندرية، فشق عليه أن ابن هلال الدولة قد أفرج عنه، وأغرى به السلطان حتى أمر الوالي بإحضاره إلى القلعة، وخرج إليه الأكز وأخرق به، وبلغه عن السلطان أنه متى اجتمع به أحد شنقه، فنزل وأقام بالقرافة منجمعاً بها عن الناس. وأفرج عن أقاربه وألزمه وعن تجار الشرابشيين، بعدما كتب النشو عليهم إشهادات بأنهم لا حق لهم في جهة بيت المال، وكان قد تجمع لهم عن ثمن تشاريف مبلغ بخمسمائة ألف درهم على الخزانة، فذهب عليهم وصودروا مع ذلك واحتج عليهم النشو بأنهم ربحوا على السلطان فيما تقدم أموالاً جمة، وضرب منهم جماعة بالمقارع، واستأصل أموال كثير منهم.
وفيه كتب إلى نائب الشام بعد سفره في يوم السبت حادي عشر رجب بحمل علاء الدين علي بن حسن المرواني والي بر دمشق، لستقر في كشف الشرقية بتعيين الأمير مسعود بن خطير. فقدم المرواني وخلع عليه بكشف الوجه البحري، فكبس البلاد، وجمع ستين رجلاً من المفسدين، ووسطهم بمدينة بلبيس. وعلقهم على الخشب وأحدث عقوبات مشنعة: منها أنه كان ينعل الرجل في قدميه كما ينعل الفرس، ويمشيه حتى يشهره، ومنها أنه كان يعلق الرجل في خطاف من حديد يحتكه حتى يموت فأرهب الناس بالشرقية والغربية والبحيرة والمنوفية وأشوم بكثرة أثاره المهولة فيها.
وفيها صرف شرف الدين أبو بكر بن محمد بن الشهاب محمود كاتب السر بدمشق، وكتب نائب الشام يطلب غيره، فعين السلطان لكتابة السر بدمشق جمال الدين عبد الله بن كمال الدين محمد بن العماد إسماعيل بن أحمد بن سعيد بن الأثير، من حملة الموقعين بعد عرضهم، وخلع عليه ووصاه وصايا كثيرة.
وفي خامس رمضان: قدم الأمير بدر الدين محمد بن التركماني فلم يقبل عليه السلطان، وذلك بسعاية النشو عليه أنه جمع من المباشرات أموالاً جمة، وأن متاجره الآن بطرابلس تنيف على مائة ألف دينار، وأن عنده من الكتاب من يحقق في جهته مبلغ مائتي ألف وستين ألف دينار أخذها من مال السلطان، فنزل ابن التركماني ولزم بيته. وفي تاسع عشر شوال. خلع علي بالشريف عطيفة بن أبي نمي الحسني وكان قد قدم وشكا من أخيه رميثة أمير مكة، فأشرف بينهما في الإمرة.
وفيها اشتدت العقوبة على أولاد التاج إسحاق، وعلى قرموط ورفيقه، حتى أظهروا مالاً كثيراً . وأنعم على لؤلؤ بإمرة طبلخاناه، وكثرت الخلع عليه من السلطان، وعظم البلاء به.
وفيها أقام النشو رجلاً لمرافعة الأمير شهاب الدين أحمد بن المحسني والي دمياط، بأنه أخرب أساساً قديماً في البحر بين البرجين، كانت عليه طلسمات تمنع بحر الملح عن النيل، حتى تلفت طلسمات وغلب البحر على النيل، فتلفت البساتين، وأنه نال من ثمن حجارة هذا الأساس مالاً كثيراً. فأحضر وتسلمه لؤلؤ، فضرب بالمقارع واستخرج منه جملة مال.
وفيها قبض النشو على زوجة موسى بن التاج إسحاق، وعوقبت وهي حامل عقوبة شديدة على إحضار المال، حتى طرحت ما في بطنها ولداً ذكراً، وقبض أيضاً على أولاد ابن الجيعان كتاب الإسطبل. وذلك أن النشو كانت له عجائز يتجسسن في بيوت الكبار، فبلغنه عن أولاد ابن الجيعان أن نساءه يذكرن كثرة ظلمه وعسفه، وأنهن يدعون عليه، وبلغنه أيضاً أن أحد أولاد ابن الجيعان يسعى في نظر الجيش، والآخر يسعى في نظر الخاص. فطلب النشو كاتب الإسطبل منهم، وألزمه بكتابة حساب الإسطبل، فامتنع عليه وخاشنة في القول. فسعى به النشو إلى السلطان حتى قال له مشافهة من شباك القصر: " لم لا تعمل حساب الإسطل، وتعطيه الناظر؟، يعني النشو، فقال: " يا خوند بدل ما تطلب حساب العبي والمقاود، اطلب حساب الذهب الذي يدخل في خزائنك " ، وأغلظ في حق النشو حتى قال له: " ونعمة مولانا السلطان أظهر في جهتك مائتي ألف دينار " ، فقامت قيامة النشو، وانفض المجلس على ذلك. فمازال النشو بأولاد ابن الجيعان حتى سلمهم إلى لؤلؤ، فعاقبهم حتى هلكوا وأخذ موجودهم، فلم يكتف بذلك، فقبض على أقاربهم وألزامهم، وصودر جماعة بسببهم.(1/492)
وفيه خلع علي علاء الدين علي بن حسن المرواني الكاشف، واستقر في ولاية القاهرة عوضاً عن بلبان المحسني. وتولى المرواني هدم قناطر السباع التي عمرها الظاهر بيبرس على الخليح بين القاهرة ومصر وزيدت في سعتها عشرة أذرع، وأعيدت أحسن ما كانت، وركبت السباع التي كانت عليها من عهد الظاهر على حالها.
وفيها كثر شغف السلطان بمملوكه ألطنبغا المارديني شغفاً زائداً وقاه، فأحب أن ينشئ له جامعاً تجاه ربع الأمير سيف الدين طغي خارج باب زويلة، واشترى عدة دور من ملاكها برضاهم. فانتدب السلطان لذلك النشو، فطلب أرباب الأملاك وقال لهم: " الأرض للسلطان ولكم قيمة البناء ومازال بهم حتى ابتاعها منهم بنصف ما في مكاتيبهم من الثمن، وكانوا قد أنفقوا في عمارتها بعد مشتراها جملة، فلم يعتد لهم منها بشيء. وقام المارديني في عمارة الجامع حتى تم في أحسن هندام، فجاء مصرفه ثلاثمائة ألف درهم ونيف، سوى ما أنعم به عليه السلطان من الخشب والرخام وغيره. وخطب به الشيخ ركن الدين عمر بن إبراهيم الجعبري من غير أن يتناول له معلوماً. وفيها عمرت قلعة جعبر المعروفة قديماً بدوسر وكانت قد تلاشت بعد أخذ المغل لها، فلما كملت رتب في نيابتها الأمير صارم الدين بكتوت السنجري نائب الرحبة وفيها وقعت قصة بدار العدل تتضمن الوقيعة في النشو، وتذكر ظلمه وتسلط أقاربه على الناس وكثرة أموالهم، وتعشق صهره ولي الدولة لشاب تركي. وكان قبل ذلك قد ذكر الأمير قوصون للسلطان أن عميراً الذي شغف به الأمير ألماس قد ولع به أقارب النشو، وأنفقوا عليه الأموال الكثيرة، فلم يقبل السلطان فيه قول قوصون أو غيره من الأمراء لمعرفته بكراهتهم له. فلما قرئت عليه القصة قال: " أنا أعرف من كتبها وأستدعي النشو ودفعها إليه، وأعاد له ما رماه به الأمير قوصون. فحلف النشو على براءة أقاربه من هذا الشاب، وإنما هذا ومثله مما ينقله حواشي الأمير قوصون إليه، ليبلغه قوصون إلى السلطان حتى يتغير خاطره، ويوقع به وبأقاربه، وبكى وانصرف. فطلب السلطان الأمير قوصون وأنكر عليه إصغاءه لما يقال في النشو، ونقله للسلطان حتى يتغير عليه مع منفعته به، وأخبره بحلف النشو. فحلف قوصون أن النشو يكذب في حلفه، ولئن قبض على هذا الشاب وعوقب ليصدقن السلطان في تعيينه من يعاشره من أقارب النشو.
فغضب السلطان، وطلب الأمير بدر الدين مسعود بن خطير الحاجب، وأمره بطلب الشاب وضربه بالمقارع حتى يعترف بجميع من يصحبه وكتابة أسمائهم، وألزمه ألا يكتم عنه شيئاً منهم، فطلبه ابن خطير وأحضر إليه المعاصير، فأملى عليه عدة كثيرة من الأعيان، منهم ولي الدولة، فخشي مسعود على الناس من الفضيحة، وقال للسلطان: " هذا الكذاب ما ترك أحد في المدينة حتى أعترف عليه، وإنني أعتقد أنه يكذب عليهم. وكان السلطان حشم النفس يكره الفحش فقال: " يا بدر الدين من ذكر من الدوارين؟ فقال: " والله يا خوند! ما خلى من خوفه أحداً حتى ذكره. فرسم السلطان بإخراج عمير وأبيه إلى غزة وكتب إلى نائبهما أن يقطعهما خبزاً هناك.
واتفق أيضاً أن طيبغا القاسمي من المماليك الناصرية كان يسكن بجوار النشو، وله مملوك جميل الصورة، فاعتشر به ولي الدوله من إخوة النشو، فترصده أستاذه حتى هجم يوماً عليهم وهو معهم، فأخد منهم وخرج فبلغوا النشو ذلك، فبادر بالشكوى إلى السلطان بأن طيبغا القاسمي يعشق مملوكه، ويتلف عليه ماله ثم إنه هجم وهو سكران على بيتي وحريمي وقد شهر سيفه، وبالغ في السب.
وكان السلطان يمقت على السكر، فأمر في الحال باخراج طيبغا ومملوكه إلى الشام منفياً.
وفيها قدم إبراهيم ابن السلطان من الكرك، يوم الإثنين ثالث ذي الحجة.
وفيها أمر السلطان بإنشاء قناطر بناحية شيبين القصر على بحر أبي المنجا، فأنشئت تسع قناطر في شعبان، وتقدم السلطان إلى الأمراء بحمل الحجارة إليها، فحمل كل من الأمراء ما وظف عليه من ذلك وفيها وقع بالمدينة النبوية وباء، فكان يموت في كل يوم خمسه عشر بمرض الخوانيق، ولم يعهد مثل هذا بالمدينة الشريفة.
وفيها بلغت زيادة النيل ثمانية عشر ذراعاً وإحدى عشر أصبعاً، فعم نفعه عامة الأراضي، وكان الوفاء يوم الأربعاء تاسع عشر ذي الحجة، وهو سادس عشر مسرى.
ومات فيها من الأعيان(1/493)
بهاء الدين أبو بكر بن محمد بن سليمان بن حمايل المعروف بابن غانم كاتب السر بطرابلس، في ثامن صفر بها.
وتوفي الواعظ شمس الدين حسين بن أسد بن مبارك بن الأثير.بمصر يوم الخميس سادس جمادى الآخرة، عن أربع وثمانين سنة، حدث عن الحافظ عبد العظيم وغيره. ومات الأمير علم الدين سنجر الخازن والي القاهرة، وهو معزول، يوم السبت ثامن جمادى الآخرة، عن نحو تسعين سنة، أصله من الممالك المنصورية قلاوون، وترقى حتى صار خازناً ثم شاد الدواوين ثم والي، ثم استقر والي القاهرة وشاد الجهات، فأقام عدة سنين، وإليه ينسب حكر الخازن خارج القاهرة على بركة الفيل، وكان حسن السيرة، ومات عن نحو تسعين سنة، وتربته بالقرب من قبة الشافعي بالقرافة.
ومات الأمير صلاح الدين طرخان ابن الأمير بدر الدين بيسري بسجنه في الإسكندرية في جمادى الأولى بعد ما أقام به أربع عشرة سنة.
وتوفي الحافظ قطب الدين عبد الكريم بن عبد النور بن منير بن عبد الكريم الحنفي، وله تاريخ مصر مقفى وشرح البخاري وشرح السيرة النبوية للحافظ عبد الغني ومشيخة في عدة أجزاء اشتملت على ألف شيخ.
وتوفي زين الدين عبد الكافي بن الضياء علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام الأنصاري الخزرجي السبكي بالمحلة الكبرى وهو على قضائها، وهو والد التقي السبكي.
ومات الملك العزيز عثمان بن المغيث عمر ابن العادل أبي بكر ابن الكامل محمد ابن العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي بالقاهرة ومولده سنة اثنين وخمسين وستمائة.
ومات الأمير طغلق الأشرفي السلاح دار، بالقاهرة، بعد الإفراج عنه بأسبوع.
ومات الصاحب شمس الدين عبد الله واسمه غبريال أبي سعيد بن أبي السرور الأسلمي ناظر الشام، بعدما صودر اتضع حاله حتى استجدى من الأمراء ونحوهم،و كان النشو يغري به السلطان بأنه يكذب، وأن تسلمه أظهر له مالاً كبيراً، فاشتملت تركته على ألف درهم، وبسببها استطال النشو على السلطان، وصار قوله عنده لا ينقض.
وتوفي المسند أمين الدين محمد بن إبراهيم بن محمد الخلاطي الوان المؤذن بالجامع الآموي في حادي عشرى ربيع الأول بدمشق، سمع بمصر والشام والحجاز، وحدث عن جماعة.
ومات محمد بن بكتوت الظاهري القلندري بطرابلس في خامس عشر ربيع الأول، كان كاتباً مجوداً ويذكر أنه كتب على ابن الوحيد، وكان يضع المحبرة في يده اليسرى والمجلد من كتاب الكشاف للزمخشري على زنده، ويكتب منه ما شاء الله وهو يغني ولا يغلط، وكان عند المؤيد بحماة مده، ثم طرده.
وتوفي شيخ الكتابة بهاء الدين محمود بن الخطيب محيي الدين محمد بن عبد الرحيم ابن عبد الوهاب بن علي بن أحمد بن عقيل السلمي المعروف بابن خطيب بعلبك الدمشقي بها في سلخ ربيع الأول، عن سبع وأربعين سنة.
ومات الأمير مهنا بن عيسى بن مهنا، في يوم الإثنين ثامن عشر ذي القعدة بسلمية ودفن بها، عن ثمانين سنة، وترك ستة عشر ولداً وكان عفيفاً مشكور السيرة.
وتوفيت ناصرية إبنة إبراهيم بن الحسين السبكي والدة التقي بعد زوجها زين الدين عبد الكافي السبكي بأربعين يوماً، حدثت عن علي بن الصواف، ودفنت بالقرافة.
وتوفيت زينب بنت الخطيب يحيى ابن الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام، عن سبع وثمانين سنة، وقد تفردت بالرواية عن جماعة و قتل ترمشين بن دوار المغل صاحب بلخ وبخارا وسمرقند ومرو وكان قد أسلم وحسن إسلامه، وأبطل المكوس وعدل في رعيته، وملك بعده بزان.
سنة ست وثلاثين وسبعمائة(1/494)
في المحرم: قدم مملوك المجد السلامي من العراق بكتاب أستاذه وصحبته بيرم رسول بوسعيد، فنزلا بدار الضيافة، وسافرا يوم الخميس خامس عشريه. وكان الكتاب يتضمن أن بوسعيد مرض، فتصدق بمال كثير، وكتب بإسقاط المكوس من توريز وبغداد والموصل، بواسطة الوزير محمد بن الرشيد، وأن سديد الدولة ديان اليهود مر بقارئ يقرأ قوله تعالى: " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً " فوقف واستعاده قراءتها، وبكى بكاء شديدا، وقد اجتمع عليه الناس، ثم أعلن بكلمة الإسلام، فارتجت بغداد لإسلامه، وغلقت أسواقها، وخرج النساء والأولاد، فأسلم بإسلامه ستة من أعيان اليهود، وسارعت العامة ببغداد إلى كنائس اليهود، فخربوها ونهبوا ما فيها.
وفيها تم بناء خانكاه الأمير قوصون بجوار جامعه من داخل باب القرافة، وتمت عمارة حمامها أيضاً. فقرر قوصون في مشيختها الشيخ شمس الدين محمد بن محمود الأصفهاني في يوم الخميس ثاني صفر، وعمل بها سماط جليل.
وفي يوم الخميس تاسع عشر ربيع الآخر: توجه السلطان إلى الوجه القبلي حتى وصل إلى دندرا، وعاد فطلع القلعة في يوم الخميس خامس جمادى الأولى، وكانت غيبته خمسة وأربعين يوماً.
وفي يوم الأربعاء سابع عشر ربيع الأول: عزل الأمير سيف الدين بغا عن الدوادارية، واستقر عوضه سيف الدين طاجار المارديني، ثم أخرج بغا عن إمرة عشرة بصفد، في ليلة الجمعة سادس ربيع الآخر. وسببه أن بعض تجار قيسارية جهاركس طرح عليه النشو ثياباً بضعفي قيمتها كما هي عادته، فرفع قصة للسلطان على يد بغا، وأحضره بغا بين يديه فشكا حاله. فاستدعى السلطان النشو بحضور التاجر، وقال له: " كم تشكو الناس منك اسمع ما يقول هذا عنك من طرح القماش عليه بأغلى الأثمان. فقال: " يا خوندا هذا ما يشتكي من أمر القماش، لكنه عليه للسلطان مبلغ ثلاثين ألف دينار، وقد هرب مني وأنا أتطلبه. وهذا المبلغ من إرث جارية تزوجها التاجر - وهي من جواري الشهيد الملك الأشرف خليل - ماتت عنده، وخلفت نحو مائة ألف دينار وما بين جواهر وغيرها، فأخد الجميع و لم يظهر السلطان على شيء. ثم التفت النشو إلى التاجر وقال له: " بحياة رأس السلطان ما كنت متزوجاً بفلانة؟ " - يعني الجارية المذكورة - فقال: " نعم!. " فأمره السلطان أن يسلمه لابن صابر المقدم حتى يستخلص منه المال، فأخذه ابن صابر وشهره بالقاهرة، وعاقبه بالقيسارية مراراً حتى أخذ منه مبلغ خمسين ألف درهم. ثم تحول النشو على بغا وسعى به أنه يأخذ البراطيل، وكان السلطان لا يرتشي ويمقت من يرتشي ويعاقبه أشد العقوبة، فأثر كلامه عند السلطان حتى أخرجه. وسعى النشو أيضاً بطقتمر الخازن حتى غير السلطان عليه، وأخرجه إلى قلعة حلب نائباً بها في تاسع عشرى رجب. وفي يوم الجمعة عاشر جمادى الآخرة: رسم للأمير سيف الدين أيتمش المحمدي بنيابة صفد، عوضاً عن أرقطاي المرسوم بنقله إلى مصر، فخلع عليه يوم السبت حادي عشره، وودع السلطان يوم الإثنين ثاني عشر رجب. وخرج أيتمش إلى الريدانية، ثم رحل منها يوم الخميس خامس عشره، فقدم صفد يوم السبت ثامن شعبان. وقدم الأمير أرقطاي إلى قلعة الجبل يوم الأحد سادس عشرى جمادى الآخرة، وأنعم عليه بإقطاع أيتمش وتقدمته، وأكرمه السلطان.
وفيه أخرج بلبان الحسامي والي القاهرة كان - إلى ولاية دمياط ثامن عشره، واستقر عوضه في ولاية القاهرة علاء الدين بن حسن المرواني وهو والي الولاة بالوجه البحري يومئذ.
وفي ليلة ثالث عشر رجب: قبض على ابن هلال الدولة، وعلى ناصر الدين محمد ابن المحسن وأخرجا إلى الإسكندرية بسعاية النشو عليهما.(1/495)
وسببه أن الناس توقفت أحوالهم في القاهرة من جهة الفلوس، وتحسنت أسعار الغلال، وتعذر شراء الخبز إلا بمشقة. فوجد النشو سبيلاً إلى القول، ورمي ابن هلال الدولة بأنه تحول من القرافة إلى جوار ناصر الدين بن المحسني بخط البندقانيين من القاهرة، وأنهما يجتمعان ليلاً ويندبان عدة من العامة لإغلاق دكاكين القاهرة والتعنت في أمر الفلوس، وأن ناصر الدين بن المحسني قد باطن جماعة من الحرامية على الفتك بي وأن إقامة الإثنين بالقاهرة توجب فساداً كبيراً. ومازال النشو بالسلطان حتى إخرجهما بعدما قبض عليهما، وكان ابن هلال الدولة من ثالث عشر ذي الحجة سنة خمس وثلاثين في الترسيم بالقلعة، ثم أخرج بدر الدين والد ابن المحسني وإخوته إلى طرابلس.
وفي يوم الثلاثاء ثالث رمضان: دخل الأمير الشريف بدر الدين ودي بن جماز ابن شيحة الحسني أمير المدينة النبوية، شاكياً من ابن أخيه طفيل بن منصور بن جماز أنه لم يوافق على ما رسم به من شركتهما في الإمرة. وكان قد رسم في سادس عشر المحرم لودي بنصف الإمرة شركة بينه وبين ابن أخيه طفيل، وخلع عليه وكتب له توقيع بواسطة الأمير شرف الدين موسى بن مهنا عند قدومه، فقدم طفيل من المدينة في جمادى الأولى ليكون بمفرده في الإمرة، فلم يجب إلى ذلك. ثم آل الأمر إلى أن استقر ودي بمفرده في الإمرة بغير شريك، وخلع عليه في عاشر شوال، وتوجه مع الركب، ورسم لطفيل بإقطاع في بلاد حوران بالشام، فسكنها بعياله.
وفي تاسع شهر رمضان: أنعم على إبراهيم ابن السلطان بإمره، ونزل الأمير قوصون والأمير بشتاك به إلى المدرسة المنصورية بين القصرين، وعمل مهم عظيم. وألبس الأمير إبراهيم الشربوش على العادة، وشق القاهرة في موكب جليل، وقد زينت بالشموع والقناديل حتى صعد القلعة.
وفيها رافع التاج كاتب الأمير بكتوت التاج محيي الدين بن فضل الله كاتب السر وولده شهاب الدين أحمد بورقة قرأها السلطان، تتضمن أنهما عزلاه بغير علم السلطان. فطلبهما السلطان وأوقفهما عليهما، فعرفاه أن هذا كان يكتب الإنشاء بغزة، فكتب تواقيع بغيره بذلك بمقتضى قصة مشمولة بالخط الشريف، وأحضرا القصة، فأخرج الرجل، ووجد النشو طريقاً للوقوع في ابن فضل الله، فتسلط عليه بالكلام السيئ.
وفيها اشتدت وطأة النشو على الناس، وابتكر مظلمه لم يسبق إليها. وهي أنه ألزم الصاغة ودار أهل الضرب ألا يبتاع أحد منهم ذهباً، بل يحمل الذهب جميعه إلى دار الضرب، ليصك بصكة السلطان ويضرب دنانير هرجة، ثم تصرف بالدراهم، فجمع من ذلك مالاً كبيراً للديوان. ثم تتبع النشو الذهب المضروب في دار الضرب، فأخذ ما كان منه للتجار والعامه، وعوضهم عنه بضائع، وحمل ذلك كله للسلطان. وانحصر ذهب مصر بأجمعه في دار الضرب، فلم يجسر أحد على بيع شيء منه في الصاغة ولا غيرها. ثم إن السلطان استدعى منه بعشرة ألاف دينار، فاعتذر عنها فلم يقبل عذره ونهره، فنزل النشو وألزم أمين الحكم بكتابة ما تحت يده من مال الأيتام، وطلب منه عشرة ألاف دينار قرضاً في ذمته، فدله على مبلغ أربعمائة ألف درهم لأيتام الدواداري تحت ختم بهاء الدين شاهد الجمال، فأخذها منه وعوضه عنها بضائع. ثم بعث النشو إلى قاضي القضاة تقي الدين محمد بن أبي بكر بن عيسى الإخنائي المالكي في تمكينه من مال أولاد الأمير أرغون النائب، وهو ستة ألاف دينار، وكانوا تحت حجره فامتنع وقال: " السلطان ما يجل له أخذ مال الأيتام فرد عليه: بأن السلطان إنما يطلب المال الذي سرقه أخوك من خزانة الخاص حيث كان ناظرها، فإن الحساب يشهد علي بما سرقه من الخزانة،،وقام في فورة إلى السلطان، ومازال به حتى بعث إلى القاضي يلزمه يحمل المال الذي سرقه أخوه من الخزانة، ويقول له: أنت إيش كنت من مملوكي؟ فلم يجد قاضي القضاة بداً من تمكين النشو من أخذ المال.
وفيها أمر السلطان أيضاً بتشديد العقوبة على أولاد التاج إسحاق وألزامهم.(1/496)
وفيها تحركت أسعار الغلال من نصف جمادى الآخرة، وارتفع القمح من خمسة عشر درهماً الأردب إلى عشرين درهماً، ثم إلى ثلاثين درهماً، فوقفت أحوال الناس. وارتفع القمح إلى أربعين درهماً، فأمسك الأمراء وغيرهم من البيع طلباً للفائدة، فخاف السلطان عاقبة ذلك، فطلب نجم الدين محمد بن حسين بن على الأسعردي المحتسب وقد بلغ الأردب خمسين درهماً وأنكر عليه، وأقام معه والي القاهرة علاء الدين علي بن حسن المرواني وكان ظالماً غشوماً. فضرب الوالي عدة من الطحانين والخبازين بالمقارع، فاشتد الأمر، وغلقت الحوانيت بالقاهرة ومصر، وتعذر شراء الخبز إلا بمشقة عظيمة.
فكتب السلطان بحمل الغلال من غزة والكرك والشوبك وبلاد دمشق، وألا يترك بها غلة مخزونة حتى تحمل إلى القاهرة. ونودي بالقاهرة ومصر ألا يباع القمح بأكثر من ثلاثين درهماً الأردب، ومن باع بأكثر من ثلاثين نهب ماله، وتقدم السلطان إلى الأمراء بألا يخالفوا ذلك. فأمسك مباشرو الأمراء أيديهم عن البيع، وصاروا يجلسون بأبواب الشون ولا يبيعون منها شيئاً، فاشتد الأمر. وباع السماسرة الأردب بستين وبسبعين خفية، وصار الأمراء يخرجون الغلة من الشون على أنها جراية لمخاديمهم، وما هي إلا مبيع بما ذكر.
فاهتم السلطان بالغلاء، وشق عليه ما بالناس من ذلك، وعلم أن أكثر الغلال إنما هي للأمراء، فطلب ضياء الدين يوسف أبي بكر بن محمد الشهير بالضياء ابن خطيب بيت الآبار الشامي ناظر المارستان وناظر الأوقاف، وقد اشتهرت نهضته وكفايته وأمانته، وفوض إليه الحسبة بمصر بعد امتناعه منهما، وأكد عليه في القيام بما ندبه إليه، وخلع عليه في ثالث جمادى الآخرة. ونزل الضياء ومعه الأكز شاد الدواوين إلى مصر، فكان يوماً مشهوداً. وأول ما بدأ به الضياء أن ختم شون الأمراء كلها، بعد أن كتب ما فيها من عدة الأرادب، وكتب ما يحتاج إليه الأمير من الجراية لمئونته والعليق لدوابه إلى حين قدوم المغل الجديد،ثم طلب الشماسرة والأمناء والكيالين، وأشهد عليهم ألا تفتح شونة إلا بإذنه.
وصار الضياء يركب في كل يوم إلى شونة، ويخرج ما فيها، فيبدأ بتكفية الطحانين، ولا يبيع الأردب إلا بثلاثين درهماً، فلم يقدر أحد على بيعه بأكثر من ذلك. ثم بلغ الضياء أن سمساري الأميرين قوصون وبشتاك باعا بأكثر من ذلك، فاستدعي الأمير الأكز إلى مصر فضربهما بالمقارع واشهرهما. ثم عرف الضياء السلطان بأمرهما، فاشتد غضبه، وطلب الأمير قوصون حضرة الأمراء، وصرخ عليه: " ويلك أنت تريد أن تخرب على مصر؟ وتخالف مرسومي؟ وسبه ولعنه، وشهر عليه السيف وضربه على أكتافه ورأسه، وصار يقول: هاتوا أستاداره فسارع النقباء لإحضاره ومن شره غضب السلطان صار يقوم ويقعد ويقول هاتوا أستاداره، حتى خرج أمير مسعود الحاجب بنفسه إلى باب القلعة والحاجب الآخر. وارتجت القلعة بأسرها، وخاف الأمراء كلهم، فلم ينطق أحد منهم لشدة ما رأوا من غضب السلطان. فلم يكن أسرع من حضور قطلو أستادار قوصون، فأمر السلطان الأكز بضربه بالمقارع، ثم أمر به فبطح بين يديه وضرب، خوفاً عليه من إفحاش الأكز في ضربه، فلم يتجاسر أحد بعدها من الأمراء أن يفتح شونته إلا بأمر المحتسب.
ثم بلغ الضياء أن الأمير طشتمر الساقي أخرج من شونته أربعمائة أردب، فأنكر على ديوانه، وحلف أنهم إن لم يعيدوا الأربعمائة أردب إلى الشونة، وإلا عرف السلطان ذلك، فلما بلغ الأمير طشتمر هذا رد الغلة إلى الشونة.
وكتب السلطان إلى ولاة الأعمال أن يركبوا بأنفسهم إلى جميع النواح ويحملوا ما بها من الغلال، بحيث لا يدعون غلة في مطمورة ولا مخزن، ولا أحد عنده غلة حتى يحمل ذلك كله إلى مصر، وتحضر أربابها لأخذ أثمانها عن كل أردب مبلغ ثلانين درهماً ونودي بالقاهرة ومصر: من كان عنده غلة ولا يبيعها نهبت.(1/497)
وكان قد بلغ السلطان أن الأجناد عندهم غلال، وهم يبيعونها بالويبة، فباع بعضهم بعد النداء، وتهاون طائفة منهم فلم يبيعوا شيئاً. فنم عليهم جيرانهم حتى كان منهم من تهجم السوقة الحرافيش عليه وتنهبه، ومنهم من يغمز عليه فيأتيه الوالي ويخرج غلته حتى تفرق على الطحانين. وأقيم في كل فرن شاهد لحصر ما يحمل إليه من الدقيق المرتب له، وعمل معدل كفاية البلد في كل يوم، وفرق القمح فيهم على قدر كفايتهم، فسكن ما كان بين الناس من العناء في طلب الخبز، ومن ضرب الطحانين والخبازين.
فلما كان في آخر شهر رجب: قدم من الشام أربع ألاف غرارة قمح. ثم قدم في أخر شعبان أحمال كثيرة من بلاد الصعيد، وتبعها الحمل في البر والبحر من الشرقية والغربية والبحيرة. وخاف أرباب الغلال على أنفسهم، فأخرجوها للبيع، حتى إذا أهل شهر رمضان قدمت التراويج في أوائل الحصاد. ووافق ذلك النداء على النيل بالزيادة، فعبرت المراكب فيه بالغلال إلى ساحل مصر، وزفت بالمغاني ،وكان الخبز يباع ستة أرطال بدرهم، فبيع من الغد ثمانية أرطال بدرهم. فلم ينسلخ لشهر رمضان حتى فرج الله عن عباده، ونزل السعر قليلاً قليلاً، بعدما ظن كثير من الناس أنه نظير غلاء العادل كتبغا، فسلم الله بمنه.
وفي يوم الأربعاء رابع عشر شوال: قدم رسل الملك موسى الذي ملك بعد أربا كاؤن ورسول علي بادشاه. فخلع عليهما وأنعم على جماعته بمال كثير.
فلما كان يوم الجمعة: ركبوا من القلعة بعد الصلاة، ومضوا فزاروا الإمام الشافعي والسيدة نفيسة، وعادوا إلى التربة المنصورية بين القصرين، فزاروا قبر السلطان الملك المنصور قلاوون، وعدوا المارستان وطلعوا إلى القلعة، ودقت الكوسات عند نزولهم منها ثم عند عودهم إليها، وسافروا في تاسع عشريه. وملخص كتبهم الخبر بموت ملك الشرق القان بوسعيد ابن القان محمد خربندا بن أرغون أبغا ابن عدو الله هولاكو بن طلوخان ابن عدو الله جنكز خان، بالباب الحديد وهو متوجه إلى لقاء أزبك خان، وأنه قام من بعده أربا كاؤن بن صوصا بن سنجقان بن ملكتمر بن أريغبغا أخي هولاكو بمساعدة الوزير غياث الدين بن رشيد الدين. فلم يوافقه علي بادشاه حاكم بغداد في الباطن، واستمال أولاد سونتاي فلم يوافقوه، فجمع على بادشاه المغل عليه، وكتب إلى السلطان الناصر يعده بأنه يسلم بغداد ويكون نائباً عنه بها، وسأله في إعانته بنجدة على أولاد سونتا تكون مقيمة على الفرات. ففرح السلطان بذلك وأجابه بالشكر، وبعث إليه خمسة قواقل وخمسة سيوف. فقوي عزم علي بادشاه، وركب إلى أولاد سونتاي ،فاجتمعوا على الشيخ حسن بن أقبغا أيلخان سبط أرغون بن أبغا بن هولاكو المعروف بالشيخ حسن بك الكبير النوين - بالأردو، وعرفوه انتماء علي بادشاه لصاحب مصر ونصرته له. فكتب الشيخ حسن الكبير إلى السلطان يرغبه في نصرته على علي بادشاه، ويمت إليه بقرابته من أمه، فمطل بالجواب رجاء حضور خبر علي بادشاه. فقدم الخبر بأن علي بادشاه لما ركب لحرب أولاد سونتاي بلغه اجتماعهم والشيخ حسن مع عدة من الأمراء، وأن أربا كاؤن هرب لتفلل أصحابه عنه، وأشيع عنه أنه قتل. وقوي علي بادشاه بمن أنضم إليه من المغل، فسار أولاد سونتاي والشيخ حسن إلى جهة الروم، وانفرد علي بادشاه بالحكم في الأردو، وأقام موسى بن علي بن بيدو بن طرغاي بن هولاكو على تخت الملك.(1/498)
وفي يوم الأربعاء سابع شوال: تغير السلطان على الأمير الأكز شاد الدواوين، وضربه وحبسه مقيداً. وسبب ذلك أن الأمير قوصون غضب على الأكز من أجل أنه أخرق بقطلو أستاداره، عندما باع شماسرة القمح بأزيد من ثلاثين درهماً الأردب، فعندما رأه في الخدمة السلطانية سبه، فرد عليه الأكز رداً فاحشاً سبه فيه كما سبه، فاشتد حنق قوصون منه و هم أن يلكمه، فبدر إليه وهم في ذلك، وإذا بالسلطان قد جلس وسمع الجلبة، فتقدم إليه الأكز وعرف بما فعله سمسار قوصون وضربه له، وأن قوصون غضب علي بسبب ذلك، وشتمني. فكان من السلطان في حق قوصون ما تقدم ذكره، وصار يقول: " إذا كان مملوكي يفعل شيئاً بغير مرسومي ويعترض على أي حرمة تبقي لي؟ وحط على قوصون. فتأخر قوصون عن الخدمة آخر النهار، فاستدعاه السلطان بجمدار، فوجده محموماً، وأقام بالحمى ثلاثة أيام، فبعث إليه الأمير بشتاك وطيب خاطره، وهو يشكو مما جرى عليه، فما زال به حتى دخل إلى الخدمة، فأقبل السلطان عليه، ووعده بالإيقاع بالأكز. ثم طلب السلطان النشو بعد ذلك، وحدثه في أمر الأكز وغض منه، فعين النشو له لؤلؤا عوض الأكز وقام عنه، وطلب لؤلؤا وعرفه ما دار بينه وبين السلطان وكان لؤلؤ خفيفاً أحمق، فوضع من الأكز ودخل من الغد إلى السلطان مع الأكز، وأخذ يجبهه بالكلام ويرافعه وينكيه، حتى حرج منه وسبه. فغضب السلطان بسبب ذلك، وأمر به فضرب بين يديه، وقيد وسجن بالزردخاناه، وخلع على لؤلؤ عوضه في شد الدواوين، وخلع على شمس الدين إبراهيم بن قزوينة، ورسم لهما أن يمتثلا ما يرسم به النشو، ولا يعملا شيئاً إلا بمشورته، ونزلا. فأول ما بدأ به لؤلؤ أن أوقع الحوطة على موجود الأكز، وقبض على مباشريه، وعاقب موسى ابن التاج اسحاق، ونوع عذابه تقرباً لخاطر النشو، وعاقب قرموط وطالبه بحمل المال.
وفي ثاني عشر ذي القعدة: استقر علاء الدين كندغدي العمري في ولاية القلعة، عوضاً عن بيبرس الأوحدي.
وفيها سقط طائر حمام بالميدان، وعلى جناحه ورقة تضمنت الوقيعة في النشو وأقاربه، والقدح في السلطان بأنه قد أخرب دولته. فغضب السلطان من ذلك غضباً شديداً، وطلب النشو وأوقفه على الورقة، وتنمر عليه لكثرة ما يشكى منه فقال: " ياخوند الناس معذورون وحق رأسك لقد جاءني خبر هذه الورقة ليلة كتبت وهذه فعلة العلم أبي شاكر بن سعيد الدولة ناظر البيوت، كتبها في بيت الصفي كاتب الأمير قوصون، وقد اجتمع هو وأقاربه. وأخذ النشو يعرف السلطان بما كان من أمر سعيد الدولة في أيام بيبرس الجاشنكير، وأغراه به حتى طلبه، وسلمه إلى الوالي علاء الدين علي بن حسن المرواني فعاقبه عقوبة مؤلمة. وطلب السلطان الأمير قوصون وعنفه على فعل الصفي كاتبه، فطلبه قوصون وهدده، فحلف بكل يمين على براءته مما رمي به فتتبع النشو عدة من الكتاب وجماعة من الباعة، وقبص عليهم بسبب أبي شاكر، ونوع العذاب عليهم بيد الوالي وخرب دورهم وحرثها بالمحراث. وقبض النشو على الموفق هبة الله بن سعيد الدولة، ثم أفرج عنه بعناية الأمير أقبغا عبد الواحد، وعذب ابن الأزرق ناظر الجهات.
واشتدث وطأة النشو على الناس جميعاً، وأوحش ما بينه وبين الأمراء كلهم، وثلب أعراضهم عند السلطان، حتى غيره عليهم.
ثم رتب النشو ضامن دار الفاكهه في أن وقف للسلطان، وسأل أن يسامح بما تأخر عليه، فإن دار الفاكهة أوقف حاله فيها، من أجل أن الأعناب الواصلة من ناحية مرصفا وغيرها عصرت خمرا بناحية شبرا، فتعطل ما كان يؤخذ منها للديوان. فطلب السلطان النشو ولؤلؤاً، وسألهما عن ذلك وعن ناحية شبرا، فقالا: " هي للأمير بشتاك، وديوانه إبراهيم جمال الكفاة هو الذي يعصر فيها " . فرسم للوالي ولؤلؤ أن يكسرا جميع ما بشبرا من جرار الخمر، وإحضار من هي عنده، فطلب لؤلؤ أستادار بشتاك وأخرق به، فشق ذلك على، بشتاك وشكاه للسلطان، فلم يلتفت إلى شكواه، وقال: " أستادارك وديوانك يعصران الخمر ويتجوهان بك؟ ونحو هذا ومضى الوالي ولؤلؤ إلى شبرا، وكسرا فيها ألف جرة خمر، ووجدت جرار كثيرة عليها ختم المخلص أخي النشو، ووجد له أيضاً قند وستمائة جرة فيها خمر عتيق، وكان معهم أستادار الأمير بشتاك، فاشتد عليهم واستطال، فداريا الحال حتى بلغا السلطان ما أرضاه، وسكت عن ذلك.(1/499)
ثم ندب النشو بكتوت من مماليك الخازن وهو يومئذ شاد شونة الأمير بشتاك لمرافعة إسماعيل أستادار بشتاك وإبراهيم جمال الكفاة ديوانه، فخلا بكتوت ببشتاك وعرفه أن المذكورين أخذا من الخصوص خمسة ألاف أردب، ومبلغ خمسين ألف درهم، وأخذا من الشونة مائة ألف درهم عندما رسم السلطان ببيع الأردب بثلاثين درهماً، فباعوه بستين وبسبعين درهماً، وذكر به أشياء من هذا النوع. فانفعل له بشتاك وبلغ السلطان ذلك، وأحضر بكتوت معه، فطلب السلطان حمال الكفاة وإسماعيل، وطلب النشو أيضاً وذكر له ما قال بكتوت، وأثنى عليه وشكره، فاشتد بأسه وأخذ يجبه مباشري بشتاك بما رماهم به. فثبت جمال الكفاة لمحاققته، وكان مقداماً طلق العبارة، وقال للسلطان: أنا المطلوب بكل ما يقوله هذا فبدأ النشو يذكر من أوراق المرافعة ما يتعلق بالخصوص، فأجاب بأن الذي تولى قبضها الأستادار وممالكيه مع مباشري الناحية، وهذه أوراقهم مشمولة بخطوط العدول، والمقبوض منها أزيد مما كان يقبض في أيام الأمير بكتمر الساقي بكذا وكذا. ثم ذكر جمال الكفاة حديث مبيع الشونة، فقال: منذ باشرت عند الأمير ما تنزلت إلى الشونة، والذي أبيع منها كذا وكذا أردب، بحضور شاهد ديوان الأمير، ومعه شاهداً إضافة وأربعة أمناء وسماسرة من جهة المحتسب. والسلطان يحضرهم ويكشف من دفاترهم عما قلته، فإن وجده بخلاف ما قلته كان في جهة وكان جزائي الشنق. فلما فلج جمال الكفاة بالحجة، قال بكتوت: ياخوند هذا يعصر أربعة ألاف جرة خمر في شبرا فنهره السلطان وقال له. إيش صح من كلامك حتى يصح هذا، وأمر به فأخرج، وعرف بشتاك بأن النشو قد ندبه لذلك، فأسرها في نفسه.
فالتفت النشو بعد ذلك إلى جهة الأمير أقبغا عبد الواحد، ونم عليه للسلطان بأن معامل ناحيتي أبيار والنحراوية قد انكسر عليه مال نحو ثمانين ألف درهم، من جهة أن الأمير أقبغا صار يأخذ من قزازي ناحية طوخ مزيد التي في إقطاعه عن التفاصيل التي تعمل بها ما كان يؤخذ عليها إذا حملت إلى أبيار والنحراوية، وأنه عمل ختما باعه بدل ختم السلطان يختم به التفاصيل المذكورة، وذكر له عنه أشياء تشبه هذا، وأحضر بالحسام العلائي شاد أبيار والنحراوية ليحاقق آقبغا. فأمر السلطان بإحضار آقبغا وأغلظ له، وأمر الشاد بمحاققته، فجبهه بما رماه به النشو واستطال عليه، فخاف آقبغا ولم يأت بعذر يقبل، فطرده السلطان عنه، وأخذ يضع منه والأمير بشتاك يسد خلله حتى كف عن القبض عليه. فشق ذلك على الخاصكية ووقعوا في النشو، وقد علموا أن ذلك من أفعاله.
وفيها قدم كتاب الأمير تنكز نائب الشام يشكو من الأمير أيتمش نائب صفد، من أجل أنه ما يمتثل أمره، ويستبد بغير مراجعته فأجيب بمراعاته وإكرامه. فلم تطل مدة أيتمش بعد ذلك سوى اثنين وثلاثين يوماً ومات، فخلع على الأمير طشتمر الساقي واستقر في نيابة صفد، وزيد على إقطاع النيابة، وأنعم على ولديه بإمرتين.
وفيها خلع على الأمير طيبغا حاجي واستقر في نيابة غزة عوضاً عن جركتمر في سابع عشرى ذي الحجة، ونقل جركتمر إلى نيابة حمص.
وفيها أخرج الأكز على إمرة طبلخاناه بدمشق، في يوم الثلاثاء حادي عشرى ذي القعدة، فكانت مدة اعتقاله شهراً ونصف شهر.
وفيها عزل الجمال ابن الأثير من كتابة السر بدمشق إلى القاهرة، واستقر عوضه علم الدين محمد بن القطب.
وفي ثالث عشر ذي القعدة: نقل الخليفة المستكفي بالله أبو الربيع سليمان من سكنه بمناظر الكبش إلى قلعة الجبل، وأنزل حيث كان أبوه الحاكم نازلاً، فسكن برج السباع دائماً بعياله، ورسم على الباب جاندار بالنوبة، وسكن ابن عمه إبراهيم في برج بجواره ومعه عياله، ورسم عليه جاندار الباب، ومنعا من الاجتماع بالناس.
وفي ثالث عشرى ذي القعدة: استقر عز الدين أيبك الحسامي البريدي أحد مقدمي الحلقة في ولاية قطيا، عوضاً عن الأمير علاء الدين ألطبرس الدمشقي الزمردي ، واستقر ألطبرس من جملة أمراء العشرات.
وفي أول ذي الحجة: قدم الملك الأفضل صاحب حماة، وحصل من الاحتفال به أكثر من كل مرة.
وفي ثالثه: استقر الشيخ محمد القدسي في مشيخة خانكاه الأمير بشتاك، وعملت فيها وليمة عند فراغ بنائها.(1/500)
وفي يوم عيد النحر: أقيم على مملكة العراق محمد يلقطلو بن تيمور بن عنبرجي ابن منكوتمر بن هولاكو، وقام بأمره الشيخ حسن بك الكبير، فحاربه الملك موسى في رابع عشره، فانهزم موسى بعدما قتل بينهما خلائق، وقتل علي بادشاه مدبر دولة موسى وكانت هذه الوقعة قريباً من توريز عند بلدة ناوشهر على جبل الأداغ.
وفيها استقر الأمير بكتاش في نقابة الجيش، بعد وفاة صاروجا.
وفيها انتهت زيادة الميل إلى ثمانية عشر ذراعاً.
ومات فيها من الأعيان
القان بوسعيد بن القان محمد خربندا بن أرغون بن أبغا بن هولاكو المغلي ملك التتار، صاحب العراق والجزيرة وأذربيحان وخراسان والروم، في ربيع الآخر بأذربيحان، وقد أناف على الثلاثين، وكانت دولته عشرين سنة، كان جلوسه على التخت في أول جمادى الأولى سنة سبع عشر بمدينة السلطانية، وعمره إحدى عشرة سنة، وكان جميلاً كريماً، يكتب الخط المنسوب، ويجيد ضرب العود، وصنف مذاهب في النغم، وأبطل عدة مكوس، وأراق الخمور ومنع من شربها، وهدم كنائس بغداد وورث ذوي الأرحام، فإنه كان حنفياً، ولم تقم بعده للمغل قائمة.
ومات أحمد بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن يوسف المرادي القرطبي العشاب، وزير أبي يحيى زكريا اللحياني متملك تونس بالإسكندرية في شهر ربيع الأول، وقد برع في النحو، وحدث.
وتوفي عز الدين أحمد بن محمد بن أحمد القلانسي محتسب دمشق بها.
ومات الأمير شهاب الدين أحمد بن أبي بكر بن برق، والي دمشق بها.
وتوفي عماد الدين إسماعيل بن محمد بن الصاحب فتح الدين عبدالله بن محمد بن خالد بن محمد بن نصر بن القيسراني كاتب الدست بقلعة الجبل، ثم كاتب السر بحلب، في ذي القعدة، ومولده سنة إحدى وسبعين وستمائة.
ومات الأمير جمال الدين أقوش الأشرفي المعروف بنائب الكرك مسجوناً بالإسكندرية، في يوم الأحد سابع جمادى الأولى.
ومات الأمير أيتمش المحمدي نائب صفد، في ليلة الجمعة سادس عشر ذي القعدة. ومات الأمير بلبان الحسامي والي دمياط الذي كان والي القاهرة، وهو أخو بدر الدين المحسني في نصف شهر رمضان، وهو في الاعتقال.
ومات الأمير علاء الدين الشيخ علي التتري مملوك سلار، في يوم الخميس خامس ربيع الآخر.
ومات نقيب الجيش الأمير شهاب الدين أحمد بن صاروجا، فجأة وهو في الصيد فحمل إلى القاهرة، ودفن يوم الثلاثاء.
ومات الأمير سيف الدين ألناق الناصري هو أحد مقدمي الألوف، في ثامن عشرى شوال.
وتوفي الشيخ سيف الدين عبد اللطيف بلبان بن عبدالله البيسري شيخ زاوية أبي السعود، ليلة الثلاثاء سابع عشر ربيع الآخر، وكان يلي مشيخة زاوية أبي السعود، ثم عزل عنها، وهو أحد مماليك الأمير بدر الدين بيسري الشمسي الصالحي فلما قبض على بيسري أقام الشيخ سيف الدين بهذه الزاوية مدة خمس وخمسين سنة.
وتوفي علاء الدين بن نصر الله بن محمد بن عبد الوهاب بن الجوجري ناظر الخزانة، في تاسع المحرم.
وتوفي أمين الدين عبد المحسن بن أحمد بن محمد بن علي بن محمود بن أحمد بن الصابوني بمصر، وقد بلغ ثمانين سنة، وانفرد برواية أشياء.
وتوفي شيخ الكتابة عماد الدين محمد بن العفيف محمد بن الحسن بالقاهرة عن إحدى وثمانين سنة.
وتوفي نقي الدين سليمان سليمان بن موسى بن بهرام السمهودي الفقيه الشافعي الفرضي العروضي الأديب عن ثمانين سنة بناحية سمهود.
ومات الأمير سنقر النوري نائب بهسنا، وترك اثنين وعشرين ذكراً وأنثى وستين سرية.
وتوفي الشيخ الصالح المعمر الرحلة شمس الدين محمد ابن المحدث محب الدين محمد بن ممدود بن جامع البندنيجي البغدادي في سابع المحرم بدمشق، عن اثنتين وتسعين سنه.
ومات علم الدين قيصر العلائي في يوم الأربعاء رابع عشر جمادى الآخرة، وقتل أربا كاؤن سلطان العراق وأذربيجان والروم،وكان القان بوسعيد لما مات أقام الوزير غياث الدين محمد أربا كاؤن هذا لأنه من ذرية جنكز خان، وقد قتل أبوه ونشأ في غمار الناس، فقتل أربا كاؤن بغداد خاتون، وجبي الأموال، وقصد أن يأخذ بلاد الشام، فهلك دون ذلك بعد شهيرات من جلوسه على التخت، وكان يتهم بأنه كافراً، وأقيم بعده موسى بن علي بن بيدو بن طوغاي بن هولاكو.
سنة سبع وثلاثين وسبعمائة
المحرم أوله السبت:(2/1)
في سابعه: رسم بنيابة صفد للأمير طشتمر البدري أحد مقدمي الألوف، عوضاً عن أيتمش المحمدي وتوجه ومعه طاجار الدوادار في ثالث عشره.
وفي ثاني عشرة: قدم الخبر بالواقعة التي كانت قرب توريز على ما تقدم ذكره.
ثم قدم في سابع عشره: مضر بن خضر رسول الشيخ حسن بك الكبير ابن أمير حسين، وهو ابن أخت غازان، وهو القائم بأمر محمد بن يلقطون بن عنبرجي فخلع عليه، وسافر في ثالث صفر.
وفي سابع عشر المحرم: عقد عقد الأمير أبي بكر ابن السلطان على ابنة الأمير سيف الدين طقزدمر أمير مجلس، بدار الأمير قوصون.
وفي يوم الخميس عشريه: وهو يوم النوروز كان وفاء النيل. وانتهت الزيادة في سابع عشر بابه إلى سبعة عشر ذراعاً وستة عشر إصبعاً.
وفي سادس عشرى المحرم: قدم الأمير سيف الدين طينال نائب طرابلس، وأخلع عليه عند وصوله، وسافر سلخ صفر، فكانت إقامته ثلاثة وثلاثين يوماً.
وفيها كتب بأخبار آل مهنا وآل فضل لعدة من أمراء الشام تنكز والأمير نائب الشام، وذلك من أجل أن العرب قطعوا الطريق على قافلة وأخذوا ما فيها، فلما ألزم آل مهنا بذلك اعتذروا بأن الذي فعل هذا عرب زبيد، وليسوا من عرب الطاعة. وفيها كانت واقعة الشيخ شمس الدين محمد بن أحمد بن عبد المؤمن بن اللبان، في شهر المحرم، وذلك أنه نسبت إليه عظائم: منها أنه قال في ميعاده بجامع مصر إن السجود للصنم غير محرم، وأنه يفضل الشيخ ياقوت العرش شيخه على بعض الصحابة، وشهد عليه بها. واستؤذن السلطان عليه فمكن منه، فترامى على الأمير جنكلي بن البابا، والأمير الحاج آل ملك، والأمير أيدمر الخطير حتى حكم بتوبته، ومنع من الوعظ، هو والشيخ زكي الدين إبراهيم بن معضاد الجعبري وجماعة من الوعاظ.
وفيه قدم ركب الحاج على العادة، وأخبروا بأن الشريف رميثة كان قد أقام ببطن مر، وأقام أخوه الشريف عطيفة بمكة، فتسلط ولده مبارك على المجاورين، وأخذ مال التجار، فركب إليه رميثة وحاربه، فقتل بينهم جماعة، وفر رميثة، ودلك في ثامن عشرى رمضان من السنة الماضية.
وفيها قبض على الأمير بهادر البدري بدمشق، وضرب وسجن، لجرأته على الأمير قطلوبغا الفخري وعلى الأمير تنكز نائب الشام وإفحاشه لهما.
وفيها أجدبت زراعة الفول، فألزم النشو سماسرة الغلال ألا يباع الفول إلا للسلطان فقط، فتضرر أرباب الدواليب.
وفيها صادر النشو جماعة من أرباب الدواليب بالوجه القبلي وأخذ من محتسب البهنسا وأخيه مائتي ألف درهم وألف أردب غلة. فرافع ابن زعازع من أمراء الصعيد أولاد قمر الدولة عند النشو، فاقتضى رأيه فصادره ابن زعازع لكثرة ماله، وأوقع الحوطة على موجوده، وكتب إلى متولي البهنسا ليعاقبه أشد العقوبة. فلف والي البهنسا على أصابعه الخروق وغمسها في القطران، وأشعل فيها النار، ثم عراه ولوحه على النار، حتى أخذ منه ما قيمته ألف ألف وخمسمائة ألف درهم، ووجد له أربعمائة مرجية بفرو، ومائة وعشرين جارية، وستين عبداً، ثم كتب عليه حجة بعد ذلك بمبلغ مائة درهم، واحتج النشو لمصادرته بأنه وجد كنزاً.
وفيها كتب بطلب الأمير سنجر الحمصي.
وفيها ارتفع سعر اللحم لقلة حلب الأغنام حتى أبيع الرطل بدرهم وربع، وسبب ذلك أن النشو كان يأخذ الغنم بنصف قيمتها، فكتب إلى نائب الشام ونائب حلب بجلب الأغنام. ثم إن النشو أستجد للسواقي التي بالقلعة أبقاراً، وأحضر أبقارها التي قد ضعفت وعجزت مع الأبقار التي ضعفت بالدواليب، وطرحها على التجار والباعة بقياسر القاهرة ومصر وأسواقها، حتى لم يبق صاحب حانوت حتى خصه منها شيء على قدر حاله، فبلغ كل رطل منها درهمين وثلثاً، ورميت تلك الأبقار على الطواحين والحمامات كل رأس بمائة درهم، ولا تكاد تبلغ عشرين درهماً، فبلي الناس من ذلك بمشقة وخسارة كبيرة.
واتفق أن النشو أغرى السلطان بموسى بن التاج إسحاق، حتى رسم بضربه إلى أن يموت، فضرب زيادة على مائتين وخمسين شيباً حتى سقط كالميت، ثم ضرب من الغد أشد من ذلك، وحمل على أنه قد مات، فسر النشو بذلك سروراً زائداً، وذهب ليرى موسى وهو ميت، فوجد به حركة. وفي أثناء طلب السلطان إحضار الأمير لؤلؤاً، فأخبره بأن موسى قد بدأ يئن وبعد ساعة يموت، فرسم ألا يضرب بعد ذلك، فشق هذا على النشو.(2/2)
وفي سابع عشرى صفر: ابتدئ بهدم الطبقة الحسامية المجاورة لدار النيابة بالقاهرة، وكانت قد عمرت سنة ثمان وثمانين وستمائة وفي رابع عشر ربيع الأول: قدم حمزة رسول الملك محمد بن بلقطلو بن عنبرجي وصحبته عماد الدين السكري نائب علي بادشاه بالموصل، فأدوا رسالتهم وسافروا أول ربيع الآخر.
وفي ثامن عشر ربيع الأول. سافر الأفضل صاحب حماة إلى محل ولايته بحماة، وكان قد حضر في مستهل ذي الحجة من السنة الحالية.
وفي تاسع عشريه: وصلت رسل الملك موسى وسافروا في نصف ربيع الآخر.
وفي سلخ ربيع الأول: عزل بدر الدين بن التركماني عن الكشف بالوجه البحري. وفي ثالث ربيع الآخر: قدم رسول ملك الحبشة.
وفي خامس عشره: قدم الأمير سيف الدين أبو بكر البابيري وخلع عليه بولاية القاهرة عوضاً عن ابن التركماني.
وفي سادس عشره: استقر نكبيه البريدي في ولاية قطيا، عوضاً عن أيبك الحسامي بإمره عشرة.
وفي سلخ جمادى الأولى: قدم مراد قجا رسول أزبك ملك الترك، فأقام خمسة أشهر ونصف شهر، وسافر في رابع عشر ذي القعدة، ومن ثالث ربيع الآخر سنة تسع وعشرين وسبعمائة لم يحضر من عند أزبك إلا هذا.
وفي سادس عشرى جمادى الآخرة: استقر بهاء الدين قراقوش الجيشي في ولاية البهنساوية، عوضاً عن علي بن حسن المرواني.
وفيها هدمت دار النيابة بالقلعة، وهي التي عمرت في الأيام المنصورية قلاوون، سنة سبع وثمانين وستمائة، وأزيل ألشباك الذي كان يجلس فيه طرنطاي النائب، وذلك في يوم الأحد ثامن ربيع الآخر.
وفيها أغرى النشو السلطان بالصفي كاتب الأمير قوصون، بأنه يظهر في جهته للديوان عما كان يحضر إليه من أصناف المتجر أيام مباشرته بديوان الأمير قجليس، وهو جملة كثيرة، وإن بعض الكتاب يحاققه على ذلك. فطلب السلطان الأمير قوصون وأغلظ في مخاطبته، وقال: " كاتبك يأكل مالي وحقوقي وينجوه بك " ، وذكر له ما قال عنه النشو، فتخلى عنه قوصون ولم يساعده. فأمر السلطان النشو ولؤلؤاً والمستوفين أن يمضوا إلى عند الأمير قوصون، ومعهم الرجل المحاقق للصفي ويطالعوا السلطان بما يظهر، فاجتمعوا لذلك، وقام المرافع للصفي فلم يظهر لما ادعاه صحة.
وفي يوم الثلاثاء ثاني رجب: قدم الأمير تنكز نائب الشام والسلطان بسرياقوس، فطلع وهو معه في يومه إلى القلعة، وهي القدمة الحادية عشرة، وسافر في ثاني عشريه.
وفي يوم عشريه: عزل شهاب الدين بن الأقفهسي وعلاء الدين البرلسي عن نظر الدولة، وولي شمس الدين بن قزوينه النظر بمفرده، وكان بطالاً، ورسم له ألا يتصرف في شيء إلا بعد مشاورة شرف الدين النشو ناظر الخاص.
وفي تاسع عشريه: استقر علاء الدين بن الكوراني في ولاية الأشمونين، عوضاً عن أبي بكر الردادي نقل إليها من ولاية أشموم الرمان.
وفيها عدم فرو السنجاب، فلم يقدر على شيء منه لعدم جلبه. فأمر النشو بأخذ ما على التجار من الفرجيات المفراة، فكبست حوانيت التجار والبيوت، حتى أخذ ما على الفرجيات من السنجاب. فبلغ النشو وقوع التجار فيه ودعاؤهم عليه، فسعى عند السلطان عليهم، ونسب جماعة منهم إلى الربا في المقارضات، وأنهم جمعوا من ذلك ومن الفوائد على الأمراء شيئاً كثيراً وأن عنده أصناف الخشب والحديد وغيره واستأذنه في بيعها عليهم. فأذن له السلطان، فنزل وطلب تجار القاهرة ومصر وكثيراً من أرباب الآموال، ووزع عليهم من ألف دينار كل واحد إلى ثلاثة ألاف دينار، ليحضروا بها ويأخذوا عنها صنفاً من الأصناف، فبلغت الجملة خمسين ألف دينار، عاقب عليها غير واحد بالمقارع حتى أخذها.(2/3)
وقام عدة من الأمراء الأكابر في حق جماعة من التجار فلم يسمع السلطان لأحد منهم قولاً. وقامت ست حدق وأم آنوك ابن السلطان في رفع الخشب عن تاجر ألزمه النشو بألفي دينار، وعرفتاه بظلم النشو، وهو أن هذا الخشب قيمته مبلغ ألفي درهم. فطلب السلطان النشو وأنكر عليه ذلك وتجهم له، فانصرف على غير رضى ثم ندب النشو رجلاً مضى إلى ذلك التاجر وسأله في قرض مبلغ مال، فأخذ التاجر في الشكوى مما به من إلزامه بألفي دينار عن ثمن خشب طرحه عليه النشو، فقال له الرجل: " أرني الخشب فإني محتاج إليه " ، فلما رأه أعجبه واشتراه منه بفائدة ألف درهم إلى شهر، فامتلأ التاجر فرحاً، وأشهد عليه بذلك. ومضى الرجل ليأتي بثمن الخشب، فدخل على النشو وأخبره الخبر، ودفع إليه نسخة المبايعة، فقام من فوره إلى السلطان وأعلمه أنه نزل ليرفع الخشب من حاصل التاجر فوجده قد باعه بفائدة ألف درهم. فطلب السلطان التاجر وسأله عما رماه عليه النشو، فاغتر البائس وأخذ يقول: " ظلمني وأعطاني خشباً بألفي دينار يساوي ألفي درهم. فقال له السلطان: " وأين الخشب،؟ قال: بعته بالدين، فقال النشو: " قل الصحيح فإن هذه معاقدتك ببيعه فلم يجد بداً من الاعتراف. فحنق عليه السلطان، وقال " ويلك تقيم الغاثة وأنت تبيع بضاعتي بفائدة، ثم أمر النشو بضربه وأخذ الألفي دينار منه مع مثلها، وعظم النشو عند السلطان ثم عبر السلطان إلى نسائه وسبهن، وعرفهن ما جرى وقال: " مسكين النشو ما وجدت له أحداً يحبه كونه ينصحني ويحصل مالي.
وفيها ترافع يعقوب الأسلمي مستوفي الجهات والأمير بن المجاهدي والي دمياط فرسم بمصادرتهما، فعوقبا عقوبة شديدة، وغرما مالاً جزيلاً.
وفيها كثر ضبط علم الدين سنجر الجاولي لأوقاف المارستان، وتوقفه فيما يصرف منه للصدقات. فأنكر السلطان عليه ذلك، وقال له: " المارستان كله صدقة " ، و لم يقبل له عذراً.
وفيها امتنع ابن الأقفهسي ناظر الدولة من الكتابة على توقيع الضياء المحتسب، وقد عمل معلومة على الجوالي فشق ذلك على السلطان، وأمر الأمير طاجار الدوادار أن يبطحه ويضربه، ويقول له: " كيف يعلم السلطان على شي ء وتأبى أن تكتب عليه!!، فضربه ضرباً مؤلماً. وكان السلطان لا يتغاضي في خرق حرمته، ويعاقب من فعل ذلك. وفيها شكا المماليك السلطانية من تأخر كسوتهم، فطلب النشو وألزمه بحمل كسوتهم من الغد، ومعها مبلغ عشرين ألف دينار. فنزل النشو وألزم الطيبي ناظر المواريث بتحصيل خمسة ألاف دينار، وبعث المقدمين إلى الأسواق، ففتحوا حوانيت التجار، وأخذوا كسوة المماليك وحوائصهم وأخفافهم ونعالهم وغير ذلك، وأخذوا مركباً لبعض الكارم فيه عدة بضائع طرحوها على الناس بثلاثة أمثال قيمتها. وأحيط بتركة نجم الدين محمد الأسعردي - وقد مات وترك زوجة وابنة ابن - وأخذت كلها.، وأخذت وديعة من تركته لأولاد أيتام تحت حجره، مبلغها نحو خمسين ألف درهم، وأنفقت في يومها على المماليك والخدام. وفتحت قيسارية جهاركس، وأخذ منها مقاطع الشرب برسم الكسوة.
فارتجت المدينة بأهلها، وترك كثير من التجار حوانيتهم وغيبوا، فصارت مفتحة والأعوان تنهب لأنفسها ما أرادت، فلم ير يومئذ بالقاهرة ومصر إلا باك أو شاك أو صائح أو نائح، فكانا يومين شنعين. وعول أرباب الحوانيت على وقع ما فيها وخلوها، فعرف النشو السلطان ذلك، فنودي: " من أغلق حانوته أخذ ماله وشنق ففتحوها. ثم أخرج النشو من الأهراء عشرة ألاف أردب قمحاً، وطرحها على أصحاب الطواحين والأبازرة، وقبض على ابن فخر السعداء ناظر قليوب، وأخذ منه نحو ثمانين ألف درهم.(2/4)
وفي جمادى الأولى: استدعى الضياء ابن خطيب بيت الآبار محتسب مصر، وخلع عليه واستقر في حسبة القاهرة، مضافاً لما بيده من نظر الأوقاف ونظر المارستان عوضاً عن نجم الدين محمد بن حسين بن علي الأسعردي. وكان الشهاب أحمد بن الحاج علي الطباخ قد سعى في حسبة القاهرة، وقام معه الأمير بشتاك والأمير قوصون والأمير أقبغا عبد الواحد، فلما ولي السلطان الضياء رسم أن يستقر ابن الطباخ في حسبة الدخان على الطباخين والحلاويين ونحوهم، وخلع عليه وجلس في دكة الحسبة، وعرض أرباب الدخان. وأنزل الضياء الحلاويين والفكاهين ألا يشعلوا سرجهم في الليل بالزيت الحار، وألزم حواس الحمامات بعمل فوط سابغة طويلة، ورتب القبانيين في جهات معينة، بجلس كل قباني في موضع من البلد.
وفيه قدم خليل بن الطرفي من أمراء التركمان بناحية أبلستين، وقدم سبعمائة إكديش وعدة تحف وسأل أن يستقر في نيابة الأبلستين بألف فارس وعشرة أمراء، فقبلت تقدمته وخلع عليه، وكتب منشوره بذلك.
وفيه قدم من جهة بدر الدين لؤلؤ الفندشي الحلبي شاد الدواوين ثلاثة ألاف رأس من الغنم الضأن، فمشت حال الدولة، وصارت سبباً للوقيعة بين لؤلؤ وبين النشو. وتحدث لؤلؤ مع الأمير بشتاك أنه إن أسلم إليه النشو وحاشيته قام بأربعمائة ألف دينار منهم، فقامت قيامة النشو ومازال بالسلطان حتى غيره عليه. واتفق مع ذلك وصول سنجر الحمصي من حلب باستدعاء، فأجلسه السلطان وعرض عليه شد الدواوين، فقبل الأرض وطلب الإعفاء منها، وكان أميناً ناهضاً، فلم يزل السلطان به حتى خلع عليه، واستقر عوضاً عن لؤلو في رابع جمادى الآخرة. فأول ما بدأ به سنجر أن قبض على لؤلو، وأوقع الحوطة على بيته وألزمه بالحمل، وأخذت حواصله وهو يورد شيئاً بعد شيء.
وفي يوم الأربعاء جمادى عشرى ربيع الأول: أفرج عن الخليفة من سجنه بالقلعة، فكانت مدة اعتقاله خمسة أشهر وسبعة أيام. ثم أمر به فأخرج إلى قوص، ومعه أولاده وابن عمه، وكتب لوالي قوص أن يحتفظ بهم. وكان سبب ذلك أن السلطان لما نزل عن الملك في سنة ثمان وسبعمائة، وحصل الاجتماع على المظفر بيبرس وقلده المستكفي بالسلطنة، نقمها عليه السلطان الناصر وأسرها له ثم لما قام السلطان لاسترجاع ملكه، جدد المستكفي للمظفر الولاية، ونسبت في السلطان أقوال إليه حملت السلطان على التحامل عليه. فلما عاد السلطان إلى الملك في سنة تسع وسبعمائة أعرض عن المستكفي كل الإعراض، و لم يزل يكدر عليه المشارب حتى تركه في برج بالقلعة، في بيته وحرمه وخاصته، فقام الأمير قوصون في أمره، وتلطف بالسلطان إلى أن أنزله إلى داره. ثم نسب إلى ابنه صدقة أنه تعلق ببعض خاصة السلطان، وأن ذلك الغلام يتردد إليه، فنفي الغلام وبلغ السلطان أنه هو يكثر من اللهو في داره التي عمرها على النيل بخط جزيرة الفيل، وأن أحد الجمدارية يقال له أبو شامة جميل الوجه ينقطع عنده ويتأخر عن الخدمة، فقبض على الجمدار وضرب، ونفي إلى صفد، وضرب رجل من مؤذني القلعة - اتهم أنه كان السفير بين الجمدار وبين الخليفة - حتى مات، واعتقل الخليفة كما تقدم. ثم لما أفرج عنه اتهم أنه كتب على قصة رفعت إليه " يحمل مع غريمه إلى الشرع " ، فأحضره السلطان إلى القلعة ليجتمع به بحضرة القضاء، فخيله قاضي القضاة جلال الدين القزويني من حضوره أن يفرط منه كلام في غضبه يصعب تداركه. فأعجب السلطان ذلك، وأمر به أن يخرج إلى قوص، فسار صحبة الأمير سيف الدين قطلوا تمرقلي في يوم السبت تاسع عشر ذي الحجة، بجميع عياله وهم مائة شخص. وكان مرتبه في كل شهر خمسة ألاف درهم، فعمل له بقوص ثلاثة ألاف درهم، ثم استقر ألف درهم، فاحتاج حتى باع نساؤه ثيابهن.(2/5)
وفيها كتب إلى الأمير تنكز نائب الشام أن يحضر بأولاده وأهله لعمل عرس الأمير أبي بكر ابن السلطان على ابنة الأمير طقزتمر، واحتفل السلطان لقدومه احتفالاً زائداً. وكانت عادته أن يصرف عليه إذا قدم مبلغ خمسين ألف دينار، ما بين خلع وإنعام، فرسم أن يكون في هذه السنة مبلغ سبعين ألف دينار. ثم خرج السلطان لملاقاته، ونزل قصور سرياقوس حتى سقط الطائر بنزول الأمير تنكز إلى الصالحية، فركب الأمير قوصون إلى لقائه، وصحبته جميع ما يليق من الأطعمة والمشروب، فلما لقيه مد بين يديه سماطاً جليلاً إلى الغاية، وأقبل به حتى دنا من سرياقوس. فركب السلطان إليه ومعه أولاده، وقدم إليه الحاحب ليخبره بأنه لا يترجل عن فرسه حتى يرسم له، وتقدمت أولاد السلطان إليه أولاً. فلما قرب تنكز نزل السلطان عن فرسه إلى الأرض على حين غفلة من الأمراء، فألقوا أنفسهم عن خيولهم، وألقي تنكز نفسه إلى الأرض، وعدا في مشيه جهد قدرته، وهو يقبل الأرض ويقوم إلى أن قبل رجلي السلطان، وقد دهش ، فقال له السلطان: اركب فرسك. وركب السلطان والأمراء وسايره وهو يحادثه، فلم يسمع عن ملك أنه فعل مع مملوكة من التعظيم ما فعله السلطان في هذا اليوم مع الأمير تنكز. وكان العرس يوم الإثنين سلخ صفر، والدخول ليلة الثلاثاء أول ربيع الأول.
وفي خامس عشر شعبان: توجهت التجريدة إلى بلاد سيس وخراب مدينة.
وسبب ذلك وصول رسول القان موسى وعلي بادشاه بطلب النجدة على الشيخ حسن الكبير وطغاي بن سونتاي وأولاد دمرداش ليكون علي بادشاه نائب السلطنة ببغداد. فاستشار السلطان نائب الشام والأمراء، واستقر الرأي على تجريد العسكر نحو سيس فإن تكفور نقض الهدنة بقبضه على عدة مماليك وإرسالهم إلى مدينة آياس فلم يعلم خبرهم وقطع الحمل المقرر عليه، ويكون في ذلك إجابة علي بادشاه إلى ما قصده من نزول العسكر قريباً من الفرات، مع معرفة الشيخ حسن " بأنا لم نساعد علي بادشاه عليه، وإنما بعثنا العسكر لغزو سيس. وعمل مقدم العسكر الأمير أرقطاي ويكون في الساقة، ويتقدم الجاليش صحبة الأمير طوغاي الطباخ ومعهما من الأمراء قباتمر وبيدمر البدري وتمر الموساري وقطلوبغا الطويل، وجوكتمر بن بهادو وبيبغا تتر حارس الطير، ومن أمراء الشام قطلوبغا الفخري مقدم الجيش الشامي. وكتب بخروج عسكر دمشق وحماة وحلب وحمص وطرابلس إلى ناحية جعبر، فإذا وصل عسكر مصر إلى حلب عادت عساكر الشام ثم مضوا جميعاً إلى سيس، فيكون في ذلك صدق ما وعد به علي بادشاه، وبلوغ الغرص من غزو سيس فسار العسكر من القاهرة في ثاني عشر شعبان، وتوجه الأمير تنكز إلى محل ولايته.
وفيها أفرج عن طرنطاي المحمدي بعدما أقام في السجن سبعاً وعشرين سنة وأخرج إلى دمشق، وأفرج عن علاء الدين بن هلال الدولة، وأخرج إلى الشام، وأفرج عن ابن المحسني وأخرج إلى طرابلس، وذلك في يوم الجمعة ثاني رمضان. وكان ابن هلال الدولة وابن المحسني معتقلين بالإسكندرية من ثالث عشر رجب سنة ست وثلاثين، فخلع السلطان عليهما، ورسم أن يقيم ابن المحسني مع أبيه بطرابلس، ويقيم ابن هلال الدولة بدمشق، فسار كل منهما في حادي عشريه صحبة بريدي وكان هذا كله بشفاعة نائب الشام.
وفيها كتب سنجر الحمصي شاد الدواوين أوراقاً بما على السلطان من القرض للتجار، فبلغ ألفي درهم، فلم يعترف السلطان بها، وقال: " هذه أخذها الدواوين على اسمي " ، ورسم أن توزع على المباشرين فنزل بهم من ذلك شدة، وحملوا المبلغ شيئاً بعد شيء، وكان هذا من فعلات النشو بهم.
وفيها رسم ألا يضرب أحد بالمقارع، وطردت الرسل والأعوان من باب شد الدواوين، وكانوا قد كثرت مضرتهم، واشتد تسلطهم على الناس، وحصلوا من ذلك مالاً كبيراً. وكان هذا بسفارة سنجر الحمصي فكثر الثناء عليه.
وفيه توجه النشو ليتفقد ناحية فارس كور والمنزلة ودمياط، فقبض على علاء الدين بن توتل والي أشوم، وعلى أقبغا والي المحلة، وصادرهما فأخذ من والي أشوم خمسين ألف درهم، ومن والي المحلة مائة ألف درهم.(2/6)
وفيه كتب النشو بالحوطة على مباشري المعاصر والدواليب، وجميع أعمال الصيد والفيوم وألزم ابن المشنقص مدولب مطبغ الأمير قوصو بمائة ألف درهم، واحتج بأنه يعمل الزغل في السكر والعسل، فحنق من ذلك قوصون، وقام مع السلطان في أمره حتى أفرج عنه. فشق هذا على النشو، وأثبت محضراً على القاضي ابن مسكين بأن أبا الدراليب مات على غير الملة، وأن ابنه لا يستحق إرثه، بحكم أنه لبيت المال، وطلع بالمحضر إلى السلطان.، فطلب السلطان قوصون وأغلظ عليه، فاحتد قوصون وهال. " أنا ما أسلم مالي الذي عنده. فوهب السلطان قوصون ما أثبته النشو، فأوقع الحوطة على جميع موجوده، وأخذه.
وفيها وقفت العامة للسلطان في الفار ضامن المعاملات، وشكوا ما أحدثه على القصب والمقاثي وصاحوا: " يكفينا النشو، فلا تسلط علينا الفار وتحبسه وتكتب على قيده مخلد، وتضمن غيره بناقص عشرة ألاف درهم، فطلب السلطان النشو وأنكر عليه، ورسم لسنجر الحمصي أن يضرب الفار، ويحبسه ويكتب على قيده مخلد، ويضمن غيره بناقص عشرة ألاف درهم، ففعل ذلك، ومشت أحوال الناس.
وفيها طرح النشو الفدان القلقاس على القلاقسية بألف ومائتي درهم، وصادر الشماسرة، وأخذ عدة مخازن للتجار، وأخرج ما فيها من البضائع وطرحها بثلاثة أمثال قيمتها، وعوض أربابها سفانج على الخشب والبوري فكان منها مخزن فيه حديد قومه بخمسين ألف درهم على المارستان، فأبى الأمير سنجر الجاولي ناظر المارستان أن يأخذه، فألزمه السلطان بأخذه للوقف فأخذه، ووزن ثمنه.
وفي ئالث عشر شوال. قدمت مفاتيح القلاع التي كانت بيد صاحب سيس. وهي آياس الجوانية، وآياس البرانية، والهارونية، وكوارة وحميضة ونجيمة وسرفندكار، فرسم بخراب بعضها، وأقامت النواب بباقيها.
وفي تاسع ذي القعدة: أضيف شد الصيارف للأمير نجم الدين بن الزيبق عوضاً عن بهادر البكتمري ، ثم أضيف إليه مع ذلك ولاية مصر، عوضاً عن شمس الدين جنغر ابن بكجري.
وفي تاسع عشره: خلع علي شهاب الدين محمد بن علاء الدين أحمد ابن قاضي القضاه تاج الدين ابن بنت الأعز، واستقر في حسبه مصر، عوضاً عن القاضي ضياء الدين محتسب القاهرة.
وفي سادس ذي الحجة: استقر نجم الدين أيوب في ولاية الفيوم، عوضاً عن بهادر أستادار الجمالي، وكان أيوب هذا أستادر الأكز.
وفيه قدم الخبر بأن القان موسى لما كانت الواقعة بينه وبين الشيخ حسن الكبير، وانكسر هو وعلي بادشاه، صار إلى بغداد وصادر الناس بها، ثم خرج علي بادشاه إلى الموصل، فسار إليه الشيخ بمن معه ولقبه شمالي توريز، فكانت حرب شديدة فر منها القان موسى وقتل علي بادشاه وخلق كثير، فكانت دولتهما ثلاثة أشهر. ولما انكسرت عساكرهما مضى الشيخ الكبير إلى بغداد فملكها، وقد أقام سلطاناً محمد بن يلقطلو بن هلاكو بن عنبرجي وبعث الشيخ حسن إلى السلطان بهدية، فأكرم رسله وجهزهم بهدية سنية، وكتب بتهنئة.
وفيه خلع علي نجم الدين داود بن أبي بكر محمد بن الزبيق، واستقر في ولاية الصناعة والأهراء، وخلع علي صلاح الدين محمد بن علي بن صورة، واستقر في نظر الأهراء رفيقاً له.(2/7)
وفي يوم الإثنين ثاني عشر رمضان: ركب النشو على عادته في السحر، فاعترضه في طريقه فارس هو عبد المؤمن بن عبد الوهاب السلامي الذي ولي قوص وقيل أبو بكر بن الناصري محمد وضربه، فأخطأ سيفه رأس النشو، وسقطت عمامة النشو عن رأسه، وقد جرح كتفه، ثم خر إلى الأرض ونجا الفارس، وفي ظنه أن رأس النشو قد سقطت عن بدنه. فغضب السلطان من ذلك، ولم يحضر السماط، وبعث إلى النشو بعدة من الجمدارية بالجرائحية، فقطب ذراعه بست إبر وجبينه باثنتي عشرة إبرة. وألزم السلطان والي القاهرة ومصر بإحضار غريم النشو، وأغلظ على الأمراء بالكلام، ومازال يشتد ويحتد حتى عادت القصاد بسلامة النشو فسكن ما به، ثم بعث النشو مع أخيه رزق الله يخبر السلطان بأن هذا من فعل الكتاب بموافقة لؤلؤ، فطلب السلطان ابن المرواني والي القاهرة، ورسم بمعاقبة الكتاب الذين في المصادرة على الاعتراف بغريم النشو وعقوبة لؤلؤ معهم. فضرب لؤلؤ ضرباً مبرحاً، وعوقب العلم أبو شاكر وعلق والمقايرات في يديه، وعوقب قرموط وعدة من الكتاب، وحرثت بيوتهم وأخذ رخامها، وخرجت بالمحاريث لإظهار ما فيها من الخبايا. ثم أن النشو عوفي من جراحه، وطلع إلى القلعة، فخلع عليه ونزل وقد رتب السلطان المقدم إبراهيم بن أبي بكر شداد بن صابر أن يمشي في ركابه، ومعه عشرة من رجاله، وكان لا يطلع الفجر إلا وهم على بابه، فإذا ركب كانوا معه حتى يدخل القلعة، فإذا نزل مشوا في ركابه حتى يدخل بيته. وعندما نزل النشو إلى القاهرة كان أول ما بدأ به أن عاقب المقدمين وغيرهم، حتى مات عدة منهم تحت العقوبة.
وفي حادي عشرى ذي الحجة: سافر خواجا عمر وسرطقطاي مقدم البريدية بهدية إلى أزبك، ومعهما مبلغ عشرين ألف دينار لشراء مماليك وجواري من بلاد الترك. وفيها كملت عمارة جامع الأمير عز الدين أيدمر الخطيري على شاطئ النيل بمنية بولاق، وكان موضعه ساقية لشرف الدين موسى بن زنبور. وأصل بناء هذا الجامع أنه لما أنشئت العمائر ببولاق عمر الحاج محمد بن عز الفراش بجوار الساقية المذكوره داراً على النيل، ثم انتقلت تلك الدار بعد موته إلى ابن الأزرق، فعرفت بدار الفاسقين من كثرة اجتماع النصارى بها على ما لا يرضى الله، فلما صادره النشو باعها فيما باعه. فاشتراها الأمير أيدمر الخطيري بثمانية ألاف درهم، وهدمها وبنى مكانها ومكان الساقية جامعاً أنفق فيه مالاً جزيلاً، وأخذ أراضي حوله من بيت المال، وأنشأ عليها الحوانيت والرباع والفنادق، وأنعم السلطان عليه بعدة أصناف من خشب وغيره. فلما تم بناء الجامع قوي عليه النيل، فهدم جانباً منه، فأنشأ الخطيري تجاهه زريبة رمى بها ألف مركب موسوقة بالحجارة، وسماه جامع النوبة، فجاء من أحسن مباني مصر وأبدعها وأنزهها. فلما أفرج عن ابن الأزرق ادعي أنه كان مكرهاً في بيعه، فأعطاه الخطيري ثمانية ألاف درهم أخرى ، فمازال به النشو حتى قبض عليه مرة ثانية، وحبسه، فمات بعد قليل في حبسه.
وفيها فرغ بناء جامع الأمير سيف الدين بشتاك، بخلاف قبو الكرماني على بركة الفيل خارج القاهرة، وكان موضعه مساكن للفرنج والنصارى ومسالمة الكتاب. وعمر بشتاك تجاه هذا الجامع خانكاه على الخليج، ورتب فيها شيخاً وصوفية، وقرر لهن المعاليم الجارية، ونظم ما بين الجامع والخانكاه بساباط على الطريق المسلوك، فجاء من أحسن شيء بنى، وتحول كثير من النصارى من هناك.
وفيها أعيدت إلى عربان آل فضل وآل مهنا إقطاعاتها التي أقطعت للأمراء.
وفيها خلع علي عز الدين عبد العزيز ابن قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة يوم الثلاثاء تاسع شعبان، واستقر في وكالة بيت المال، عوضاً عن نجم الدين الأسعردي مضافاً لما بيده من وكالة الخاص.
وفيه استقر جمال الدين بن العديم في قضاء الحنفية بحماة، عوضاً عن التقي محمود ابن محمد بن الحكيم.
وفيها مات متملك تلمسان أبو تاشفين عبد الرحمن بن موسى بن عثمان بن يغمراسن من عبد الواد الزياني قتيلاً في محاربة سلطان المغرب أبي الحسن المريني أخر شهر رمضان، بعدما ملك نيفا وعشرين سنة.
وفيها وقع الغلاء في جمادى الأولى، وأبيع الأردب القمح بأربعين درهماً . والشعير بثمانية وعشرين درهماً ، والفول باثنين وثلاثين درهماً، والبرسيم الأخضر كل فدان بنحو مائة وسبعين درهماً، والحمص المسلوق بثلاثة دراهم القدح.(2/8)
وفيها كبست الفيوم في أخريات جمادى الأولى وأحضر منها ألف ومائتان فرس. ثم قدم والي الفيوم وأمراء العربان، وأحضروا ستين حمل سلاح، ومائة فرس وغير ذلك. وفي سابع ذي الحجة: وردت الفصاد بأن الملك موسى قدم إليه من خراسان طغاي تمر، وسارا لمحاربة محمد بن عنبرجي، فانكسرا في رابع عشر ذي القعدة، واستقل محمد بالملك، وكانت الوقعة قريبا من السلطانية بموضع يقال له صولق.
وفي رابع عشريه: استقر الجمالي عبدالله أخو ظلظية في ولاية البحيرة، عوضاً عن الغرس خليل.
ومات فيها من الأعيان
قطب الدين إبراهيم بن محمد بن علي بن مطهر بن نوفل التغلبي الأدفوي بعد كف بصره، في يوم عرفة بأدفو، وله شعر.
وتوفي شهاب الدين أحمد بن محمد بن سليمان بن حمائل بن غانم، بدمشق في ثالث عشر المحرم، وله شعر ونثر، ورحل إلى مصر وغيرها.
وتوفي شهاب الدين أحمد بن علي بن أحمد بن الخولي القوصي الشافعي بقوص. ومات الأمير سيف الدين الأكز بدمشق، في نصف رمضان.
وتوفي الشيخ الإمام القدوة أبو عبدالله محمد بن محمد بن محمد بن الحاج الفاسي المغربي العبدري الفقيه المالكي عرف بابن الحاج في العشرين من جمادى الأولى، ودفن بالقرافة وقد علت سنه، وكانت جنازته عظيمة، وحدث، وكان زاهداً صالحاً، وأخذ عن جماعة منهم الشيخ أبو عبدالله محمد بن سعيد بن أبي جمرة، وصنف كتاب المدخل، جامع في بابه.
ومات الأمير عز الدين أيدمر الخطيري أحد الأمراء مقدمي الألوف المنسوب إليه جامع الخطيري في أول رجب، كان مملوك الخطير الرومي والد الأمير مسعود بن خطير ثم انتقل إلى الملك المنصور قلاوون، فرقاه حتى صار من أجل الأمراء البرجية، وكان جواداً كبير الهمة فيه خير كثير.
ومات الأمير أزبك الحموي في يوم الأربعاء خامس عشرى ذي القعدة على أياس، وقد بلغ مائة سنة، فحمل إلى حماة ودفن بها، وكان مهاباً كثير العطاء.
ومات الأمير بغا الدوادار بصفد منفياً، وكان مشكور السيده.
وتوفي عمر بن الشيخ برهان الدين أبو اسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن محمد ابن تميم بن عبد الصمد بن أبي الحسن بن عبد الصمد بن تميم المقريزي البعلى الصوفي، ببعلبك في ذي القعدة، ومولده في ثاني عشر رمضان سنة ثمان وستين وستمائة سمع من المسلم بن عدلان، وحدث، وسمع منه الأمير الواني وابن الفخر وغيرهما. ومات الشيح حسين بن إبراهيم بن حسين خطيب جامع الحاكمي من سويقة لاريش في يوم الخميس العشرين من شوال، فكانت جنازته عظيمة جداً لكثرة صلاحه، وقبره يزار خارج باب النصر.
وتوفي المحدث محب الدين عبدالله بن أحمد بن المحب المقدسي في ربيع الأول بدمشق، حدث عن الفخر وغيره.
وتوفي شيخ الحنابلة بنابلس شمس الدين عبدالله بن العفيف محمد بن يوسف، في ربيع الآخر.
ومات أسد الدين عبد القادر بن عبد العزيز بن المعظم عيسى بن العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي في ثاني شوال برملة، فدفن بالقدس، ومولده في ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وستمائة، حدث بالسيرة النبوية عن خطيب مردا.
وتوفي علاء الدين علي بن محمد بن سليمان بن حمائل بن غانم الدمشقي المنشأ، في ثالث المحرم بتبوك، وهو عائد من الحج.
وتوفي الشيخ محمد بن عبدالله بن المجد إبراهيم المرشدي صاحب الأحوال والمكاشفات، بناحية منية المرشد في ثامن رمضان.
وتوفي ناصر الدين محمد بن إبراهيم بن معضاد بن شداد بن ماجد الجعبري الواعظ، في يوم الإثنين رابع عشرى المحرم.
وتوفي شيخ الخانكاه الناصرية سعيد السعداء كمال الدين أبو الحسين علي بن حسن بن علي الحويزاني في خامس عشر صفر، واستقر عوضه شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن النقجواني.
وتوفي محتسب القاهرة ووكيل بيت المال نجم الدين محمد بن حسين بن علي الأسعردي، في يوم الجمعة خامس عشر شعبان.
وتوفي نجم الدين أحمد بن العماد إسماعيل بن الأمير، أحد كتاب الدرج، في يوم الثلاثاء رابع عشرى المحرم.
وتوفي سعد الدين سعيد بن الشيخ محيي الدين محمد بن محمد بن عبدالله بن محمد ابن عبد الله عرف جده بابن أكنس البغدادي المنجم كاتب التقاويم، وكانت له إصابات في النجامة عجيبة، وكانت وفاته في خامس عشر صفر.
وتوفي مسند مصر شرف الدين يحيى بن يوسف المقدسي والمعروف بابن المصري عن نيف وسبعين سنة بمصر.(2/9)
سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة
أول المحرم: قدم مبشرو الحاج بسلامة الحجاج ورخاء الأسعار وحسن سيرة الأمير شمس الدين، آقسنقر السلاح دار أمير الحاج.
وفي يوم الخميس ثالث عشريه: قدمت عساكر التجريدة من بلاد سيس. وكان من خبر ذلك أنهم لما ساروا من القاهرة في ثاني عشر شعبان، وقدموا دمشق تلقاهم الأمير تنكز، ولم يعبأ تنكز بالأمير أرقطاي مقدم العسكر لما في نفسه منه. ومضوا إلى حلب. فقدموها في رابع عشرى رمضان، وأقاموا بها يومين فقدم الأمير قطلوبغا الفخري بعساكر الشام، وقد وصل إلى جعبر ثم ساروا جميعاً يوم عيد الفطر، ومعهم الأمير علاء الدين ألطبغا نائب حلب، وهو مقدم على العسكر جميعاً، حتى نزلوا على الإسكندرونة أول بلاد سيس، وقد تقدمهم الأمير مغلطاي الغزي إليها بشهرين حتى جهز المجانيق والزحافات والجسور الحديد والمراكب وغير ذلك لعبور نهر جهان. فقدم عليهم البريد من دمشق بأن تكفرر وعد بتسليم القلاع للسلطان، فلترد المجانيق وجميع ألات الحصار إلى بغراس. وليقم العسكر على مدينة أياس حتى يرد مرسوم السلطان بما يعتمد في أمرهم وكانت التراكمين قد أغاروا على بلاد سيس، ومعهم عسكر ابن فرمان فتركوها أوحش من بطن حمار، فبعث تكفور رسله في البحر إلى دمياط، فلم يأذن السلطان لهم في القدوم عليه، من أجل أنهم لم يعلموا نائب الشام بحضورهم، فعادوا إلى تكفور. فبعث تكفور بهدية إلى تنكز نائب الشام، وسأله منع العسكر من بلاده، وأنه يسلم القلاع التي من وراء نهر جهان جميعاً للسلطان. فكاتب تنكز السلطان بذلك، وبعث أوحد المهمندار إلى الأمير علاء الدين ألطبغا نائب حلب وهو المقدم على العسكر جميعاً بمنع الغارة ورد الآلات إلى بغراس، فردها ألطبغا وركب بالعسكر إلى آياس، فقدمها يوم الإثنين ثاني عشر شوال. وكانت آياس قد تحصنت، فبادر العسكر وزحف عليها بغير أمره فكان يوماً مهولاً، جرح فيه جماعة كثيرة. واستمر الحصار إلى يوم الخميس خامس عشره، وأحضر نائب حلب خمسن نجاراً وعمل زحافتين وستارتين ونادى في الناس بالركوب للزحف. فاشتد القتال حتى وصلت الزحافات والرجال إلى قريب السور، بعدما استشهد جماعة كثرة. فترجل الأمراء عن الخيول لأخذ السور، وإذا بأوحد المهمندار ورسل تكفور قد وافوا برسالة نائب الشام، فعادوا إلى مخيمهم فبلغهم أوحد المهنمدار أن يكفوا عن الغارة، فلم يوافقوه على ذلك، واستقر الحال على أن تسلموا أياس بعد ثمانية أيام.
فلما كان اليوم الثامن أرسل تكفور مفاتيح القلاع، على أن يرد ما سبي ونهب من بلاده، فنودي برد السب فأحضر كثير منه، وأخرب الجسر الذي نصب على نهر جهان. وتوجه الأمير مغلطاي الغزي فتسلم قلعة كوارة وكانت من أحصن قلاع الأرمن، ولها سور مساحته فدان وثلث وربع فدان، وارتفاعه اثنان وأربعون ذراعاً بالعمل، وأنفق تكفور على عمارته أربعمائة ألف وستين ألف دينار.
وتسلم العسكر آياس، وهدم البرج الأطلس في ثمانية أيام، بعدما عمل فيه أربعون حجاراً يومين وليلتين حتى خرج منه حجر واحد. ثم نقب البرج وعلق على الأخشاب، وأضرمت فيه النار، فسقط جميعه، وكان برجاً عظيماً، بلغ ضمانه في كل شهر لتكفور مبلغ ثلاثين ألف دينار حساباً عن كل يوم ألف دينار سوى خراج الأراضي. وكان ببلدة آياس أربعمائة خمارة وستمائة بغى وكان بها في ظاهرها ملاحة تضمن كل سنة بسبعمائة ألف درهم، ولها مائتي وستة عشر بستاناً تغرس فيها أنواع الفواكه، ودور سورها فدانان وثلثا فدان.
ثم رحل العسكر عن آياس بعدما، قاموا عليها اثنين وسبعين يوماً، فمر نائب حلب على قلعة نجيمة وقلعة سرفندكار وقد أخربهما مغلطاي الغزي حتى عبر بالعسكر إلى حلب في رابع عشرى ذي الحجة.
فعاد العسكر إلى مصر، وقد مرض كثير منهم، ومات جماعة. فأكرم السلطان الأمير أرقطاي وخلع عليه، وبعث تشريفاً إلى نائب حلب. وأقطع السلطان أراضي سيس لنائب حلب ونائب الشام وغيرهما من أمراء الشام، وأمر فيها جماعة من التركمان والأجناد، فاستعملوا الأرض في الفلاحة، وحطوا عنهم من الخراج، فعمرت ضياعها. وضمت بعض عجائز الأرمن ألف درهم كل يوم، فلم يوافق السلطان على ذلك. وعمل في كل قلعة من قلاع الأرمن نائب، ورتب فيها عسكر. ثم قدمت رسل تكفور فخلع عليهم، وكتب بترك الخراج عنهم ثلاث سنين، ومهادنتهم عشر سنين.(2/10)
وفيها كالت حرب بين خليل الطرفي وبين خليل بن دلغادر على أبلستين، انتصر فيها ابن دلغادر. فانتمى الطرفي إلى نائب الشام. ووعد على نيابة الأبلستين بألفي إكديش، وإقامة ثلاثين أمير طبلخاناه. فعني به نائب الشام حتى قدم إلى قلعة الجبل، وخلع عليه، وكتب له ثلاثون منشوراً بإمريات جماعة عينهم، وخلع على جميع من معه، وسار.
وقدم الخبر بأن القان موسى لما فر بعد قتل علي بادشاه لحق بخراسان، فقام معه طغاي تمر أميرها، وجمع له. فسار إليه الشيخ حسن الكبير وأولاد دمردادش، ولقوه بالقرب من سلطانية، فانكسر موسى وقتل من أصحابه. فاختل في هذه الفتن حال بغداد والموصل وديار بكر، وقوي أرتنا نائب المغل ببلاد الروم، لشغل المغل عنه بما هم فيه.
وفيها بعث النشو من كشف عن أرباب دواليب القند، فوجد لأولاد فضيل كثير من القند، ومنه أربعة عشر ألف قنطار قند عملت في هذه السنة، وبلغت زراعتهم في كل سنة ألف وخمسمائة فدان من القصب، كانوا فيما سلف يصالحون المباشرون على أن قندهم ألف قنطار يؤدون ما عليها للديوان. فلما علم النشو ذلك أوقع الحوطة على حواصلهم، وحمل القند إلى دار القند، وكتب عليهم حججاً بثمانية ألاف قنطار للسلطان. فلما تخلصوا منه وجدوا لهم حاصلاً لم يظفر به النشو، وفيه عشرة ألاف قنطار قند. وصادر النشو شاد دواليب الخاص بالصعيد، وأخذ منه مائة وستين ألف درهم حملها للسلطان.
وفيها أنعم السلطان في يوم واحد على أربعه من مماليكه بمائتي ألف دينار مصرية، وهم قوصون وألطنبغا وملكتمر الحجازي وبشتاك، وأنعم على موسى بن مهنا بضيعة بألف ألف درهم، وكان قد قدم له فرساً. فشق دلك على النشو، وقال: " خاطرت بروحي في تحصيل الأموال، وهو يفرقها.
وفيها قدم أمير أحمد ابن السلطان من الكرك باستدعاء، وكان قد بلغه عنه أنه يعاشر أوباش الكرك، فعقد له السلطان على ابنة الأمير سيف الدين طايربغا، وعقد لابنه يوسف على ابنة الأمير جنكلي بن البابا، وذلك في العشرين من ربيع الآخر. وسير السلطان لكل أمير بألف وخمسمائة دينار وثوب أطلس.
وفيه سعى النشو بقاضي الإسكندرية عماد الدين محمد بن إسحاق البلبيسي شيخ خانكاه بهاء الدين أرسلان، من أجل أنه عارضه في أخذ أموال الأيتام، ورماه بأنه أخذ مالاً للأيتام اشترى بها عدة جواري. فطلب البلبيسي من الإسكندرية وسلم إلى ابن المرواني والي القاهرة ليخلص منه مال الأيتام، فقام بأمره الأمير جنكلي بن البابا والحاج آل ملك والأحمدي حتى توجه الضياء المحتسب وأقوش البريدي للكشف عنه، فلم يظهر لما رمي به صحة، وأكثر ما عيب عليه أنه مطرح الاحتشام يمشي في الأسواق لشراء حاجته، فأفرج عنه.
وفيه ولد للسلطان ابنه صالح من زوجته بنت الأمير تنكز، فعمل السلطان لها بشخاناه وداير بيت ونحو ذلك بمائة ألف وأربعين ألف دينار وعمل لها الفرح مدة أسبوع، حضره نساء الأمراء، وما منهن إلا من عين لها السلطان تعبية قماش على قدر رتبة زوجها. فحصل للمغاني شيء كثير، حتى أن مغنيات القاهرة جاء قسم كل واحدة منهن عشرة ألاف درهم، سوى التفاصيل الحرير والمقانع والخلع. وقدم من الأمير تنكز نائب الشام لابنته مقنعة وطرحة بسبعة آلاف دينار. وفي هذا المهم استعمل السلطان للخركاه الواصلة إليه من بلاد الشرق ثوباً من حرير أطلس وردي ورصعه باللؤلؤ والجواهر، وأسبل عليها ستراً، فبلغ مصروف ذلك مائة ألف دينار واثني عشر ألف دينار، فنامت فيها النساء. وبلغ مصروف خمسمائة ألف دينار، فكان شيئاً لم يسمع بمثله في الدولة التركية.
وفيه اتفق عدة من أرباب الجرائم بخزانة شمائل وقتلوا السحان، وخرجوا بعد المغرب من باب زويلة شاهرين السكاكين. فركب الوالي في طلبهم، فلم يظفر منهم سوى برجل أقطع، فشنقه.(2/11)
وفيها استدعى السلطان من بلاد الصعيد بألفي رأس من الضأن، واستدعى من الوجه البحري بمثلها، وشرع في عمل حوش برسمها ويرسم الأبقار البلق، فوقع اختياره على موضع من قلعة الجبل مساحته أربعة أفدنة، قد قطعت منه بالحجارة لعمارة القاعات التي بالقلعة حتى صار غوراً عظيماً وطلب السلطان كاتب الجيش ورتب على كل من الأمراء المقدمين مائة رجل ومائة دابة لنقل التراب، وعلى كل من أمراء الطبلخاناه بحسبه، وأقام الأمير، قبغا عبد الواحد شادا، وأن يقيم معه من جهة كل أمير أستاداره بعدة من جنده، وألزم الأمراء بالعمل، ورسم لوالي القاهرة بتسخير العامة. فأقام الأمير أقبغا عبد الواحد في خيمته على جانب الموضع، واستدعى أستادارية الأمراء واشتد عليهم، فلم يمض ثلاثة أيام حتى حضرت إليه رجال الأمراء من نواحيهم، ونزل كل أستادار بخيمته ومعه دوابه ورجاله، فقسمت عليهم الأرص قطعاً معينة لكل واحد منهم، فجدا في العمل ليلاً ونهاراً. هذا وأقبغا داير بفرسه عليهم يستحثهم، ويخرق بأستادارية الأمراء، ويضرب بعضهم، ويضرب أكثر أجنادهم. ووكل المقدم عنبر السحرتي بالرجال، وكان ظالماً غشوماً بهم وكلفهم السرعة في أعمالهم، من غير أن يوجد لهم رخصة ولا مكنهم من الاستراحة. وكان الوقت صيفاً حاراً، فهلك كثير منهم في العمل لعجز قدرتهم عما كلفوه. ومع ذلك كله والولاة تسخر من تظفر به من العامة، وتسوقه إلى العمل، فيزل به البلاء ما لا قبل له به، ولا عهد له بمثله. وكان أحدهم إذا عجز وألقى بنفسه إلى الأرض، رمى أصحابه عليه التراب فمات لوقته، هذا والسلطان يحضر كل يوم حتى يرى العمل.
وكان الأمير ألطنبغا المارديني قد مرض، وأقام بالميدان على النيل أياماً حتى برئ وطلع إلى القلعة من باب القرافة. فاستغاث به الناس وسألوه أن يخلصهم من هذا العمل، فتوسط لهم عند السلطان حتى عفى السلطان الناس من السخرة، وأفرج عمن قبض عليه منهم. فأقام العمل سنة وثلاثين يوماً إلى أن فرغ منه، وأجريت إليه المياه، وأقيمت به الأغنام المذكورة والأبقار البلق. وبنيت به بيوت للأوز، فبلغ ثمن البقل المصروف من الديوان برسم أكل فراخها في كل يوم مائة وخمسين درهماً، وعند فراغ العمل من الحوش وترتيبه استدعى السلطان الأمراء وعمل لهم سماطاً جليلاً، وخلع على جماعة ممن باشر العمل وغيرهم.
وفيها وصل من متجر الخاص ستمائة قطعة قطران، طرحت على الزياتين وأصحاب المطابخ بمائتي درهم القطعة. ثم طرح النشو أيضاً ألف مقطع شرب بحساب ثلاثمائة درهم المقطع، وقيمته ما بين مائة وخمسين ومائة وستين درهماً المقطع. ثم طرح النشو ثياب المماليك الخلقة وأخفافهم العتيقة على أربابها بأغلى ثمن.
وفيها جد النشو في السعاية بالصفي كاتب قوصون عند السلطان، وأنه يلزمه في كل سنة للديوان عن متاجره وزراعاً نحو مائتي ألف درهم، حتى ألزم السلطان الأمير قوصون بمصادرته وأخذ ماله لنفسه فأوقع قوصون الحوطة على جميع ماله. وسعى النشو أيضاً بقطلو أستادار قوصون أنه لما توجه إلى الشام لزمه مال كثير بما أتلفه من مال معاصر الغور، وعما أخذه من المباشرين حتى تلفت الأقصاب، فقبض عليه قوصون، وألزمه بالحمل حتى باع داره وثيابه.
ثم بعث السلطان إلى قضاة القضاة ألا يثبت أحد منهم محضراً باستحقاق ميراث حتى يرسم لهم بذلك. وسببه أن صدر الدين الطيبي لما ولاه النشو نظر ديوان المواريث التزم له بحمل لأموال الكثيرة، وصار يحتاط على أموال التركات، ويحملها إلى النشو من غير أن يعطي الورثة منها شيئاً فإن كان للوارث جاه وكان له ولد معروف ألزمه أن يثبت نسبه من الميت واستحقاقه لميراثه، فإذا أثبت ذلك أحاله على ما يتحصل من المواريث، فيماطل بذلك مدة ولا ينال غرضه، فلما فحش الأمر في هذا بلغ السلطان، فأنكر على النشو ذلك، فدافع عن نفسه بأعذار قبلت منه، ثم رسم السلطان للقضاة ألا يثبتوا من ذلك شيئاً إلا بمرسومه، فاشتذ الأمراء على الناس، وصارت التركة تنهب بحضرة الوارث ولا يجد سبيلاً إليها فإن عجز الطيبي عن أخذ المال من التركة لقوة الوارث وشدة بأسه رماه عند النشو بأن مورثه لقي ووجد لقية مال في بيته، فيلزم الوارث بإحضار ذلك حتى يترك ميراثه.(2/12)
وفيها كتب مرسوم بمساحة ضمان جهات دمشق بما عليهم من البواقي للديوان ومبلغه مائتان ألف درهم، فأهملت من الحساب.
وفيها أنعم السلطان على الأمير تنكز نائب الشام بثلاث ضياع من فتوح سيس، وهي قلعة كوارة وقلعة نجيمة وقلعة سرفندكار، ورسم أن يحمل إليها من حماة وحمص وطرابلس عشرون ألف غرارة غلة برسم تقاويها وتخضيرها، وعين لكل ضيعة ما يكفيها، وكتب مراسيم لكل حهة بما هو مقرر عليها.
وفيها أوقع الأمير تنكز بعلم الدين محمد بن القطب كاتب السر بدمشق، وضربه وصادره بمرافعة الأمير حمزة التركماني وأخذ منه عشرين ألف دينار ومائتي ألف درهم.
وفيها أعرس أحمد ابن السلطان بابنة الأمير طايربغا من غير عمل مهم. وأعرس كذلك يوسف ابن السلطان بابنة الأمير جنكلي بن البابا.
وفيها أنعم على قطلوبرس أستادار بكتمر الساقي بإمرة طبلخاناه، وتسلم أمير أحمد ابن السلطان وتوجه به إلى الكرك، فتوجه الأمير بيغرا إلى الكرك على النجب حتى أحضر جميع ما كان بها من المال.
وفيها اتضع سعر الغلال حتى أبيع الأردب القمح الصعيدي بعشرة دراهم، والبحري بثمانية دراهم، والفول والشعير كل أردب بستة دراهم، وكسدت الغلال. فكان رزق الله أخو النشو - وهو كاتب الأمير ملكتمر الحجازي وولي الدولة صهره - وهو كاتب المجدي - يطرحان القمح بزيادة درهمين الأردب ويأخذان ثمنه بعسف وظلم، فتوقفت أحوال الجند لرخص السعر. وسعى النشو بالضياء المحتسب أن الدقيق والخبز سعرهما بالنسبة إلى القمح غال، فرسم لوالي القاهرة أن يطلب المحتسب والطحانين ويعمل معدل القمح عنده، فلم يجد في الأسعار تفاوتاً بين القمح والخبز.
وفي سابع عشر صفر: قدم من بغداد الوزير نجم الدين محمود بن على بن شروان، وحسام الدين الحسن بن محمد بن محمد الغوري محتسب بغداد وفخر الدين محمود نائب الحلة. وعدة من الأعيان في خمسمائة عليقة. فقدم الوزير للسلطان هدية سنية. فيها حجر بلخش يزن سبعة وعشرين درهماً ،فخلع عليه وعلى الغور وأنعم على محمود نائب الحلة بإمرة طبلخاناه بدمشق، وعلى وزير بغداد بإمرة طبلخاناه بديار مصر، ثم أنعم عليه بتقدمة ألف بعد وفاة طايربغا.
وكان سبب قدومهم أن نجم الدين هذا كان تمكن ببغداد وكثر ماله، فلما قدم علي بادشاه إلى بغداد ومعه القان موسى وصادر أهلها، ثم جمع العساكر وخرج بعث بشمس الدين السهروردي نائب بغداد، وقد كتب له أسماء ليأخذ مالهم، منهم نجم الدين ابن شروان، فخر الدين محمود نائب الحلة. فلما بلغهم ذلك تواطئوا على قتله والخروج إلى مصر، وخرجوا إلى لقائه، واحتفوا به وساروا معه، ثم بدره نجم الدين بسيفه فضربه ضربة حلت عاتقه، فسقط إلى الأرض، وأخذت السيوس أصحابه، فارتجت بغداد بأهلها. وفي الوقت نادى نجم الدين بالأمان، ولا يتحرك أحد فقد كان لنا غريم قتلناه ، وأخرج هو وأصحابه حريمهم وأموالهم، ومروا بهم على حمية من بغداد، وكتبوا إلى الأمير تنكز نائب الشام يستأذنونه. فبعث تنكز البريد إلى السلطان بخبرهم، فأجيب بإكرامهم إلى القاهرة، فحمل إليهم من الإقامات ما يليق بهم حتى قدموا عليه، ثم سيرهم مكرمين.
وفيها أنعم على آقسفقر بخبز طنجي السلاح دار، وأنعم على قماري أمير شكار بتقدمة ألف.
وفيه أنشأ السلطان قصراً للأمير يلبغا اليحياوي وقصراً للأمير ألطبغا المارديني تجاه حمام الملك السعيد قريبا من الرميلة تحت القلعة، وأخذ لذلك من إسطبل الأمير أيدغمش قطعة ومن إسطبل الأمير طشتمر الساقي قطعة، ومن إسطبل الأمير قوصون قطعة، ونزل بنفسه حتى مرر أمره. وتقدم السلطان إلى الأمير قوصون أن يشتري الأملاك المجاورة لإسطبله بالرميلة تحت القلعة، ويضيفها إلى إسطبله، وأمر أن يكون باب الإسطبلين اللذين أنشأهما أيضاً للأميرين يلبغا وألنبغا تجاه حمام الملك السعيد، وأقام آقبغا عبد الواحد شادا بعمارة القصرين. فاشترى قوصون عدة أملاك وسع بمواضعها في اسطبله، وطرح النشو أنقاضها بأغلى الأثمان، وجعل قوصون باب إسطبله من الرميلة تجاه القلعة. وأنفق النشو على القصرين جميع ما يحتاج إليه في عمارتها.(2/13)
وفيها قدمت عدة تجار من الشام بثياب بعلبكي كثيرة، فختم عليها وأخذ عنها ما جرت به العادة للديوان من المكس. ثم أمر النشو بأخذها جميعها بقيمة اختارها، ثم طرحها على تجار القاهرة بثلاثة أمثال قيمتها، وألزم مباشري الختم ألا يختموا قماشاً حتى يستأذنوه. فقدم قفل عقيب ذلك فيه تاجر من جهة الأمير بشتاك، فأخذ قماشه فيما أخذ، وطرح الجميع على التجار. فادعى ذلك التاجر أن قماشه إنما هو للأمير بشتاك، فضربه النشو ضرباً مبرحاً، فشق ذلك على بشتاك وشكا أمره إلى السلطان. وكان النشو قد بلغ السلطان أن تاجراً يحضر كل سنة القماش على اسم الأمير بشتاك بغير مكس، حتى وجب عليه للديوان مائة ألف درهم، وقد أكسر معاملة السلطان، وأنه قد أخذ ما أحضره من القماش ،فانفعل السلطان لكلامه.
وفيها عزل قاضي القضاة جلال الدين محمد القزويني. وسبب ذلك ولده جمال الدين عبدالله، وما كان عليه من كثرة اللهو والشره في المال، وأخذه الرشوة من القضاة ونحوهم، وتبسطه في الترف، حتى إنه قد اقتنى عدة كثيرة من الخيول ورتب لها عدة من الأجاقية والركابين وسابق بها. وكان جمال الدين شغف أيضاً بسماع الغناء ومعاشرة الأحداث من أولاد الأكابر ومماليك الأمراء، وتجاهر بالمنكرات. فرمعت فيه للسلطان تتضمن شعراً بما هو عليه، فأخرجه السلطان إلى الشام، ثم أعاده بسعي أبيه بعد مدة بسفارة الأمير بكتمر الساقي فلم يقم إلا نحو السنة، وزاد في قبح السيرة فأخرجه السلطان ثانياً، وأقام سنة. فلم يطلق أبوه غيبته عنه، وكان قد فتن به حتى أنه لشدة حبه إياه لا يكاد يصبر عنه ساعة واحدة، فسأل السلطان في عوده مشافهة، وضمن توبته، فأعاده السلطان إلى القاهرة، فأنشأ بجوار بيت أبيه على النيل داراً كلف قضاة الأعمال فيها لحمل الرخام وغيره، واستدعى لها الصناع من الشام، وبالغ في اتقانها، فبلغت النفقة عليها زيادة على خمسمائة ألف درهم. وبلغ السلطان ذلك، فحدث الأمراء. بما بلغه، وأنكر على القاضي بتمكين ولده من هذا، فبعث الأمير عز الدين أيدمر الخطيري إلى القاضي يعنفه ويشنع عليه، ويلومه على إنفاق ولده هذا المال الكبير، فاعتذر عنه بأنه اقترض ما عمر به هذه الدار فإن سكنى القاهرة لم توافقهم واحتاجوا إلى السكنى على النيل. ثم إنه أيضاً اشترى في القاهرة داراً، وجددها بما يزيد على مائتي ألف درهم، فكثر الكلام فيه. هذا مع جفائه للناس، وقوة نفسه، وسوء سيرته وسيرة إخوته أيضاً وتغافل أبيهم عنهم، وتصاممه عن الشكوى فيهم فكتب في القاضي عدة أوراق للسلطان، ونسب فيها إلى أنه لا يولي نائباً عنه في بلد حتى يجتمع بأولاده، وشنع فيها أن القضاة في أيامه إنما تلي بالبراطيل، وتتزايد في الولايات. و كان السلطان لا يرشى ويعاقب من يرتشي أشد العقوبة، فكان يراعي القضاة لما في نفسه من إجلالهم وتعظيمهم، إلى أن نعاط أمر أولاد القاضي جلال الدين القزويني وكثرت القصص فيهم وفي مملوكه. وعمل حسن الغزي الشاعر فيهم قصيدة شنيعة، وأوصلها إلى شهاب الدين أحمد بن فضل الله، فقصد نكاية القزويني وقال للسلطان عنها وقرأها عليه، فأثرت في السلطان وغيرته على القزويني ومنها، وهي طويلة:
قاض على الأيام سل صارماً ... بحده يلتقط الدراهما
وسن من أولاده لها دماً ... جردهم فانتهكوا المحارما
والشبل في المخبر مثل الأسد
وابنه البدري خطيب جلقي ... بامرأة الكامل مشغوف شقي
بادره بالعزل فليس يرتقي ... منابر الإسلام إلا متقي
متزر ثوب العفاف مرتد
يا ملك الإسلام يا ذا الهمة ... أزل عن الملة هذي الغمة
واحلل بعبد الله سيف النقمة ... فإنه حجاج هذي الأمة
واردعه ردع كل مفسد
فلما حضر القضاة إلى دار العدل على العادة لم يؤذن لهم في دخوله، وعندما نزلوا بعث السلطان إلى القزويني مع الدوادار بأن نائب الشام شكا من ابن المجد قاضي دمشق، وقد اقتضى رأية أن تسافر إلى دمشق قاضياً، كما كنت، فإنه استحى وجهه منك ومن الأمراء والناس، وكلما عرفك أن ترجع ابنك عما هو عليه لا ترجعه فإذا حضرت بدار العدل استعف من القضاء بحضرة الأمراء. واعلم أني آمر نائب الشام أنه إذا رأى أولادك على سيرة مرضية قابلهم بما يستحقونه.(2/14)
فلما كان يوم الخميس: وحضر قاضي القضاة القزويني دار العدل، سأل الحاجب أن يسأل له السلطان في تمكينه من التوجه إلى دمشق، فإن مصر لم توافقه ولا وافقت أهله، فأذن له السلطان في ذلك. ونزل القزويني فأخذ في وفاء دينه، وكان عليه لجهة وقف التربة الأشرفية المجاورة لمشهد السيدة نفيسة مبلغ مائتي ألف درهم وثلاثين ألف درهم فباع أملاكه وأملاك أولاده وأثاثهم وتحفهم بربع ثمنها، وكانت نفيسة. فباعوا من صنف الأواني الصيني بمبلغ أربعين ألف درهم، وباع عبدالله إحدى عشرة جارية ما بين ثمانية ألاف درهم الجارية إلى أربعة ألاف، وباع من اللؤلؤ والجواهر والزركش ما قيمته زيادة على مائة وعشرين ألف درهم، وباع داره بالقاهرة بخمسة وثلاثين ألف درهم وأدوا ما عليهم من الدين للأيتام وغيرهم. وسار قاضي القضاة بأهله وأولاده إلى دمشق، وصحبته ستون زوج محاير على الجمال، في كل محارة امرأة. وتأسف الناس على فراقه، لمحبتهم له مع بغضهم لأولاده، فإنه كان كريماً جواداً سخياً، له صدقات ومراعاة لأرباب البيوت، يهب الألف درهم، ولم يعرف في دولة الأتراك بمصر قاض له مثل سعادته، ولا مثل حظوته من السلطان وقوة حرمته، وكان سفره في جمادى الآخرة.
وفي يوم الأحد ثامن عشره: استدعى عز الدين عبد العزيز ابن قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة الشافعي وخلع عليه، واستقر قاضي القضاة عوضاً عن الجلال القزويني. وكان السلطان قد جمع بين يديه القضاة والفقهاء وفيهم عز الدين وحدثهم فيمن يصلح للقضاء، وقد تعين عندهم شمس الدين محمد بن عدلان. فلم يلتفت إليه السلطان، وذكر لهم عز الدين فأثنوا عليه خيراً. وكان السلطان من أيام بدر الدين محمد بن جماعة يلهج بذكر ابنه عز الدين، ويقول: " لولا أنه شاب لوليته القضاء " .
وخلع فيه أيضاً على حسام الدين الحسن بن محمد الغوري القادم من بغداد، واستقر في قضاء القضاة الحنفية، عوضاً عن برهان الدين إبراهيم بن علي بن عبد الحق، ونزلا في موكب جليل. وكان سبب عزل ابن عبد الحق أولاده، فإنهم ساروا سيرة أولاد القزويني، فكان السلطان يقول: ولينا قضاة جياداً أفسدهم، ورسم بسفر ابن عبد الحق وأولاده أيضاً إلى الشام، فسافروا. وكانت قد وقعت الشكوى في ابن القاضي الحنبلي من بيعه أوقاف الأيتام وأخذ أثمانها، وإتلافه في المحرمات، فطلب والده تقي الدين أحمد بن عز الدين عمر بن محمد المقدس وسئل عن مال الأوقاف التي باعها، فاعتذر بما لا يقبل، وسأل المهلة. فأمر السلطان متولي القاهرة بتسليمه وضربه حتى يحضر المال جميعه، فأهانه ورسم عليه. وأخذ السلطان يقول للأمراء. " انظر ماذا جرى علينا من أولاد القضاة، وذكر ابن القاضي الحنبلي وما كان منه، وهم أن يوقع به وبابنه المكروه، فتلطفوا به في أمرهما. والستر على القاضي لكبر سنه وشهرته. فعين الأمير جنكلي بن البابا لولاية الحنابلة موفق الدين عبدالله بن محمد بن عبد الملك المقدسي فطلبه السلطان وخلع عليه مع رفيقه.
وفي يوم الإثنين ثاسع عشره: طلع القضاة الأربعة وقبلوا يد السلطان، واستأذن قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة الشافعي في عزل نواب الحكم، فإنهم جيعهم إنما ولوا ببذلهم المال الجزيل لولد القزوين وأنهم قد أفسدوا في الأعمال فساداً كبيراً، فأجابه السلطان بأن يفعل ما فيه خلاصه من الله تعالى. فنزل ابن جماعة وكتب بعزل قضاة الوجه القبلي والبحري بأسرهم، وعزل فخر الدين محمد بن محمد بن مسكين من نيابة الحكم بمصر، وولي عرضه بهاء الدين عبد الله بن عقيل، وعين لقضاء الأعمال جماعة ممن وقع اختياره عليهم، فلم يجسر أحد على معارضته ولا مخالفته، واستخلف عنه في القضاء تاج الدين محمد بن إسحاق المناوي وضياء الدين محمد بن إبراهيم المناوي، وعزل الضياء المحتسب من نظر الأوقاف حتى لم يدع أحداً بالقاهرة ومصر وأعمالها ممن ولاه القزويني. فانكف عن الناس بدلك شر كبير وفساد كثير. وسار رفقاؤه الحنفي والحنبلي مثل سيرته في النزاهة والصيانة.
وفيها فوض نظر الوقف الشافعي للشيخ برهان الدين إبراهيم الصائغ.
وعقيب ذلك قدم البريد من الشام بألفين وخمسمائة دينار من وقف الأشرفية. فأخذها النشو وعرف السلطان بها، وأنه تعوض عنها لجهة الوقف فيما بعد فأخذها السلطان منه.(2/15)
وفيها جمع النشو الطحانين وعرفاء الجمالة، وطرح عليهم ما زرع بناحية قليوب من الفول الأخضر والبرسيم، بحساب ثلاثمائة درهم الفدان الفول، والبرسيم بمائتي درهم، وضرب جماعه منهم بالمقارع، لأجل شكواهم إياه للسلطان. وطرح النشو مبلغ مائتي ألف درهم فلوساً نحساً ضرب إسكندرية وتروجة وفوة وبلاد الصعيد على التجار وأرباب المعاملات، فوقفت الأحوال. وذلك أن الفلوس كانت تؤخذ بالعدد، وقد كثر فيها الزغل من الرصاص ونحوه، وصار الفلس الكبير يقص ثلاث قطع ويخرج بثلاثة فلوس، فصارت الباعة تردها، وتحسن سعر الغلة دراهم الأردب. فقام والي القاهرة في ذلك وضرب جماعة ونودي أن يرد الفلس المقصوص والرصاص، ولا يتعامل به، فمشت الأحوال.
وفيه قدم البريد من الأمير تنكز نائب الشام. ومعه مبلغ عشرين ألف دينار الذي أخذ من علم الدين بن القطب كاتب السر بدمشق، فخلع السلطان على جمال الدين عبد الله بن الكمال محمد بن العماد إسماعيل بن الأثير، واستقر في كتابة السر بدمشق عوضاً عن ابن القطب.
وفيها اتفق بدمشق أن قاضيها شهاب الدين محمد بن المجد عبد الله بن الحسين بن علي الأربلي كان غير مرضي الطريقة، فلما عزل واستقر القزويني عوضه، ركب ابن المجد قبل أن يبلغه العزل يريد مكاناً، فنقرت بغلته من كلب خرج عليها في الطريق، وألقته عن ظهرها، فاندق عنقه، وسر الناس بذلك.
وفيها عزل الضياء من حسبة القاهرة، بسعاية النشو به ورميه له بمحبة الأحداث، وخلع على الشريف شرف الدين علي بن حسين بن محمد نقيب الأشراف، واستقر عوضه، بعدما أقامت القاهرة أياماً بغير محتسب.
وفيها أفرج عن الأمير آقسنقر شاد العمائر من حبسه بحلب، وأنعم عليه بطلبخاناه في دمشق، بعناية الأمير قوصون.
وفيها قدم البريد بأن جبار بن مهنا توجه في جماعته إلى بلاد الشرق، وصار في جملة الشيخ حسن الكبير، بسبب أنه لما قدم بهديته إلى السلطان لم يجد منه إقبالاً فكتب إلا إخوته بترجيعه إلى البلاد.
وفيها قدم البريد بأن الشيخ حسن الكبير قد جمع العساكر لمحاربة أرتنا صاحب بلاد الروم، وأن جبار بن مهنا التزم له بجمع العرب، وأنه كتب له تقليداً بالإمرة على العرب. فقدم بعد ذلك كتاب أرتنا ومعه هدية، ويسأل فيه أن يكون نائب السلطان في بلاد الروم، وأنه يضرب السكة باسمه، ويقيم دعوته على منابره. فخلع على رسله وأنعم عليهم، وكتب له تقليد بنيابة الروم من انشاء الشريف شهاب الدين الحسين ابن قاضي العسكر. وكان الحامل لابن أرتنا على ذلك أنه عظم شأنه ببلاد الروم، وكثف جمعه حتى خافه الشيخ حسن الكبير أن ينفرد بمملكة الروم، فأخذ في التأهب لمحاربته. وكان ابن دلغادر قد تمكن بأراضي أبلستين، وكثرت زراعاته بها، وأخذ يتخطف من أطراف الروم، فخشى أرتنا منه أن ينازعه في مملكة الروم، أو يكون مع الشيخ حسن الكبير فرأى الاتجاه إلى السلطان أقوى له وأسلم، فإنه إما يمده بعسكر يتقوى به على أهل الشرق، أو يأوي إلى بلاده إن انهزم.
وفيها بلغ النشو أن الناس يجتمعون إلى الوعاظ بالجامع الأزهر وجامع الحاكم وغير ذلك، ويدعون الله عليه. فلم يزل النشو بالسلطان حتى منع الوعاظ بأجمعهم من الوعظ، وأخرج رجلاً كردياً كان للناس فيه اعتقاد إلى الشام.
وفيها قدم المجد السلامي من الشرق صحبة رسل الشيخ حسن الكبير باستدعاء السلطان له، وقد كلفه الشيخ أن يقوم له بالصلح بينه وبين السلطان، وجهز معه هدية جليلة.
وفيها قدم ناصر الدين خليفة بن خواجا علي شاه وزير أبي سعيد، فأكرمه السلطالن وأنعم عليه، وأخرج له راتباً بدمشق، ثم أنعم عليه بتقدمة ألف بها، عوضاً عن برسبغا العادل وأنعم على برسبغا بتقدمة آقول الحاجب بعد موته.
وفيها ندب النشو أحد مباشري العمائر السلطانية لمرافعة الأمير آقبغا عبد الواحد، فأنهى للسلطان عنه أنه عمر جميع عمائر من مال السلطان، وثبت لمحاققته، فلم يجد آقبغا جواباً.
وفيها استقر الأمير أخو ظلظية في كشف الوجه البحري عوضاً عن الأمير سيف الدين أبي بكر بن سليمان البابيري وأخرج البابيري إلى دمشق بطلب الأمير تنكز له، وكانت إقامته في كشف الوجه البحري سنة، سار فيها سيرة سيئه.(2/16)
وفي ليلة الإثنين ثاني عشرى ربيع الآخر: سقط بمصر والقاهرة مطر عظيم مدة ستة أيام، فتهدم منه عدة أماكن، وسال الجبل وأعقب المطر رياحاً عاصفة، واشتد البرد بخلاف العادة، وسقط الثلج بسبخة بردويل حتى جهلت الطريق، وسقط بمصر ثلج كثير وحصا فيه ما يزن ستة عشر درهماً وأكثر إلى ثمانية وعشرين درهماً. واشتد الريح بناحية دمياط في بحر الملح حتى غلب على النيل، ووصل الماء إلى شار مساح وفارس كور.
وفيها كثر تسخير الناس للعمل في عمائر السلطان بالقلعة، وقبض عليهم من بين القصرين وهم نيام، ومن أبواب الجوامع عند خروحهم من صلاة الصبح، فابتلي من ذلك ببلاء عظيم، وكثرت الغاثة، فلم يجسر أحد من الأمراء يكلم السلطان فيه.
وفي يوم الإثنين رابعه: خلع علي علاء الدين علي بن محيي الدين يحيى بن فضل الله، واستقر في كتابة السر عوضاً عن أبيه بعد وفاته، وركب معه الحاجب أمير مسعود والدواداو طاجار إلى داره.
وفي ثاني عشرى رمضان: قدمت الحرة بنت السلطان أبي الحسن علي بن عثمان ابن يعقوب المريني صاحب فاس تريد الحج، ومعها جمع كبير وهدية جليلة إلى الغاية، نزل لحملها من الإسطبل السلطاني ثلاثون قطاراً من بغال النقل سوى الجمال، وكان من جملتها أربعمائة فرس منها مائة حجرة ومائة فحل ومائتان بغل، وجميعها بسروج ولجم مسقطة بالذهب والفضة، وبعضها سروجها وركبها من الذهب وكذلك لجمها، وكان جملتها أيضاً أبقار عدتها اثنان وأربعون رأساً، ومنها سرجان من ذهب مرصع بجوهر، وفيها اثنان وثلاثون بازاً، وفيها سيف قرابه من ذهب مرصع، وحياصة ذهب مرصع، وفيها ستمائة كساء وغير دلك من القماش الغالي. وكان قد خرج المهمندار إلى لقائهم، وأنزلهم بالقرافة قرب مسجد الفتح، وهم جمع كبير جداً . وكان يوم طلوع الهدية من الأيام المذكورة، ففرق السلطان الهدية على الأمراء بأسرهم على قدر مراتبهم حتى نفدت كلها، سوى الجوهر واللؤلؤ، فإنه اختص به فقدرت قيمة هذه الهدية بما يزيد على مائة ألف دينار.
ثم نقلت الحرة إلى الميدان بمن معها، ورتب لها من الغنم والدجاج والسكر والحلوى والفاكهة في كل يوم بكرة وعشية ما عمهم وفضل عنهم. فكان مرتبهم في كل يوم عدة ثلاثين رأساً من الغنم، ونصف أردب أرزاً، وقنطار حب رمان، وربع قنطار سكراً، وثماني فانوسيات شمع، وتوابل الطعام وحمل إليها برسم النفقة مبلغ خمسة وسبعين ألف درهم، وكانت أجرة حمل أثقال ركبها قد بلغت ستين ألف درهم. ثم خلع على جميع من قدم مع الحرة، فكانت عدة الخلع مائتين وعشرين خلعة على قدر طبقاتهم، حتى على الرجال الذين قادوا الخيول. وحمل إلى الحرة من الكسوة ما يجل قدره، وقيل لها أن تملي ما يحتاج إليه، فقالت إنه لا يعوزها شيء، إنما تريد عناية السلطان بإكرامها وإكرام من معها حيث كانوا.
فتقدم السلطان إلى النشو والي الأمير آقبغا بتجهيزها اللائق بها، فقاما بذلك، واستخدما لها السقائين والضوية، وهيئا كل ما تحتاج إليه في سفرها من أصناف الحلوى والسكر والدقيق والبشماط، وطلبا الجمالة لحل جهازها وأزودتها. وندب السلطان معها جمال الدين متولي الجيزة، وأمره أن يرحل بها في ركب لها بمفردها قدام المحمل، ويمتثل كل ما تأمر به، وكتب لأميري مكة والمدينة بخدمتها أتم خدمة.
وفيه تجهز الأمير بشتاك، والأمير ألطنبغا المارديني وخوند طغاي زوجة السلطان وست حدق، وعدة من الدور ومن الخدام، لسفر الحجاز.(2/17)
وفيه قرر الأمير علم الدين سنجر الجاولي شهاب الدين أحمد العسجدي في تدريس الحديث بالقبه المنصورية بين القصرين، بعد وفاة زين الدين عمر بن الكتاني. فتعصب عليه القضاة وجماعة من شيوخ العلم، وطعنوا في أهليته، ورفعوا قصة للسلطان بالقدح فيه. فلما قرئت على السلطان بدار العدل سأل السلطان من القضاة عنه، فثلبه قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة، فقام الجاولي بمعارضة القاصي وأثنى عليه، فرسم السلطان أن يعقد له مجلس ويطالع بأمره. فاجتمع القضاة وكثير من الفقهاء بالمدرسه المنصورية، وجبه بعضهم الجاولي بالغض من العسجدي ورماه ركن الدين محمد بن محمد بن القوبع بأنه لحن في قراءة الفاتحة ثلاث مرات فقام قاضي القضاة حسام الدين الغوري في نصرة العسجدي وأثنى عليه، وقال: أنا أحكم بأهليته لهذه الوظيفه، فدار بينه وبين ابن جماعة مقاولة فيها فحش، وانفضوا على ذلك. فأعلم الغوري طاجار الدوادار بأن القوم تعصبوا على العسجدي وأنه يحكم بأهليته، فبلغ ا!سلطان ذلك. فلما حضرا سأل السلطان عما جرى في المجلس من ابن جماعة والجاولي فتفاوضا وعارض كل منهما الآخر،فمال السلطان إلى قول ابن جماعة، ومنع العسجدي من التدريس. فشق ذلك على الجاولي وهم بعزل نفسه من نظر المارستان، فحذره الأمراء عاقبة ذلك. وفيها عمل جسر بالنيل على حكر ابن الأثير، وسببه أن الميل قوي على ناحية بولاق خارج القاهرة، وهدم جامع الخطيري حتى احتيج إلى تجديده، وحتى احتيج إلى أن رسم السلطان للسكان على شاطئ النيل بعمل الزرابي لجميع تلك الدور، وألا يؤخذ عليها حكر. فبنى صاحب كل دار زربية تجاه داره فلم يفد ذلك شيئاً. فكتب بإحضار مهندسي البلاد القبلية وبلاد الوجه البحري، فلما تكاملوا ركب السلطان النيل وهم معه، وكشف البحر. فاتفق الرأي على أن يحفر الرمل الذي بالجزيرة حتى يصير خليجاً يجري فيه الماء، ويعمل جسر في وسط النيل يكون سداً يتصل بالجزيرة، فإذا كانت زيادة النيل جرى الماء في الخليج الذي حفر، وكان قدامه سد عال يرد الماء إليه حتى يتراجع النيل عن سد القاهرة إلى بر ناحية منبابة،وعاد السلطان إلى القلعة. وخرجت البرد من الغد إلى الأعمال بإحضار الرجال للعمل صحبة المشدين، وطلبت الحجارون بأجعهم لقطع الحجارة من الجبل - وكانت تلك الحجارة تحمل إلى الساحل وتملأ بها المراكب، وتغرق المراكب وهي ملأنة بالحجارة حيث يعمل الجسر - . فلم يمض عشرة أيام حتى قدمت الرجال من النواح فتسلمهم الأمير آقبغا عبد الواحد والأمير برسبغا الحاجب. ورسم لوالي القاهرة ووالي مصر بتسخيرهم للعمل، فركبا وقبضا على عدة كثيرة منهم، وزادا في ذلك حتى صارت الناس تؤخذ من المساجد والجوامع في السحر، ومن الأسواق، فتستر الناس ببيوتهم خوفاً من السخرة.
ووقع الاجتهاد في العمل، واشتد الاستحثاث فيه حتى إن الرجل كان يخر إلى الأرض وهو يعمل لعجزه عن الحركة، فتردم عليه الرمال، فيموت من ساعته. واتفق هذا لخلائق كثيرة جدا وآقبغا راكب في الحراقة يستعجل المراكب المشحونة بالحجارة، والسلطان ينزل إليهم ويباشرهم، ويغلظ على آقبغا ويحمله على السرعة واستنهاض العمل حتى أكمل في مدة شهرين. وغرق فيه اثنا عشر مركباً وسق كل مركب ألف أردب. وكانت عدة المراكب التي أشحنت بالحجارة المقطوعة من الجبل - ورميت في البحر حتى صار جسراً يمشي عليه ثلاثة وعشرين ألف مركب حجر، سوى ما عمل فيه من آلات الخشب والسرياقات والحلفاء ونحو ذلك.
وحفر الخليج بالجزيرة، فلما زاد النيل جرى في الخليج الذي حفر، وتراجع الماء حتى قوي على بر منبابة وبر بولاق التكرور، فسر السلطان بذلك.(2/18)
وفيها استأذن الأمير ملكتمر الحجازي والأمير يلبغا اليحياوي السلطان في المسير إلى الإسكندرية بطيور السلطان الجوارح، ليتصيدا في البرية. فرسم للنشو بتجهيزهما، فخاف من دخولهما إلى الإسكندرية أن يبلغهما عنه من أعدائه ما إذا نقلاه للسلطان تغير عليه. فعرف النشو السلطان أن مراكب التجار قد وصلت، وأنه يحتاج إلى السفر حتى يأخذ ما عليها للديوان ويقوم أيضاً بخدمة الأميرين، فأذن له في السفر، فسافر من ليلته. وبدا للسلطان أن يبعث الأمير بشتاك بالطيور - ومعه الأمير قماري أمير شكار، والأمير ألطبغا المارديني - ويعوض يلبغا والحجازي بركوب النيل في عيد الشهيد، فسافر الأمراء الثلاثة. وكان عيد الشهيد بعد يومين، فركب يلبغا والحجازي المراكب في النيل للفرجة، وخرجت مغاني القاهرة ومصر بأسرها، وتهتكوا بما كان خافياً مستوراً من أنواع اللهو، وقد حشر الناس للفرجة من كل جهة. وألقى الأمراء للناس في مراكبهم من أنواع الأشربة والحلاوات وغيرها ما يتجاوز الوصف، فمرت ثلاث ليال بأيامها كان فيها من اللذات وأنواع المسرات ما لا يمكن شرحه.
ولما قدم الأمراء بالطيور إلى ظاهر الإسكندرية أخرج النشو إلى لقائهم عامة أهلها بالعدد والآلات الحربية، وركب إليهم حتى عبروا المدينة، فكان يوماً مشهوداً. ثم خرجوا بعد يومين، وقد قدم النشو لهم من الأسمطة وأنواع القماش ما يليق بهم. وأخذ النشو في مصادرة أهل الإسكندرية، وطلب عشرة ألاف دينار من الصيارفة قرضاً في ذمته، وطلب من ثلاثة تجار عشرة ألاف دينار، ثم إنه غرم ابن الربعي المحتسب بها خمسة آلاف دينار، سوى ما ضرب عليه الحوطة من موجوده، وضربه ضرباً مبرحاً وسجنه، فمات بعد قليل في السجن، ثم عاد النشو إلى القاهرة.
وقدم الخبر من ماردين بكثرة جمع الشيخ حسن الصغير وأولاد دمرداش، وأنهم على حركة لحرب طغاي بن سونتاي بديار بكر، فإذا بلغوا مرادهم منه عدوا الفرات إلى أخذ حلب.
وفيها طلب الأمير طرغاي الطباخي واستقر في نيابة حلب عوضاً عن ألطنبغا.
وفي يوم الثلاثاء ثامن عشرى شوال: قدم موسى بن مهنا طائعاً، وقدم عدة خيول، وورد صحبته طائفة من عرب البحرين بخيول قومت بمبلغ خمسمائة ألف وستين ألف درهم وقومت خيل موسى بخمسمائة ألف درهم، سوى ما جرت العادة به من الإنعام عليه، وأنعم عليه بعشرين آلف دينار أيضاً. وقومت من جهة أهل برقة بأربعمائة ألف درهم، وقومت مماليك وجواري قدم بها التجار بستمائة ألف درهم. وكانت جملة ذلك كله، ما عدا ما أنعم به على موسى بن مهنا ألفا ألف درهم وستون ألف درهم، منها مائة ألف دينار مصرية ونيف وعشرين ألف دينار، وأحيل بذلك على النشو.
ولما كمل قصر يلبغا وقصر المارديني جاءا في أحسن هيئة، فإن السلطان كان ينزل إليهما بنفسه ويرتب عمارتهما. فعمل أساس قصر يلبغا أربعين ذراعاً وبسطه حصيراً واحداً، فجاء مصروفه أربعمائة ألف درهم. وكان جملة المصروف على هذا القصر أربعمائة ألف ألف وستين ألف درهم، من ذلك لازورد خاصة بمائة ألف د رهم. فركب السلطان إليه يوم فراغه وأعجب به، وأنعم على يلبغا بتقدمة طرغاي الطباخي نائب حلب، وفيها عشرة أزواج بسط - منها زوج بسط حرير - وعدة أواني بلور وغيره، وعدة خيول، وجمال بخاتي. وتقدم السلطان إلى الأمير آقبغا عبد الواحد بعمل سماط في قصر يلبغا، فنزل إليه ونزل النشو أيضاً حتى تهيأ ذلك، وحضر الأمراء كلهم، فأكلوا وشربوا يومهم إلى العصر. ثم خلع السلطان على أحد عشر أميراً أحد عشر تشريفاً أطلس. وأركبوا الخيول بسروج الذهب، وخلع على بقية الأمراء ما بين خلع كاملة وأقبية، وأركبوا أيضاً الخيول المثمنة بسروج الذهب والفضة على قدر مراتبهم. وتولى السلطان تعبية ذلك بنفسه، فكان مهماً عظيماً: ذبح فيه ستمائة رأس من الغنم، وأربعون رأساً من البقر، وعشرون فرساً، وعمل فيه برسم المشروب ثلاثمائة قنطار من السكر.(2/19)
وفي يوم الإثنين سابع عشرى رمضان: هبت ريح سوداء معتمة بناحية الغربية، وأظلم الجو منها، وسقطت دور كثيرة. ثم سقط برد أسود مر الطعم، حاءت به الريح من نحو البحر حتى ملأ الطرقات، ووزنت منه واحدة فكانت مائة وثمانين درهماً، ووجد فيه واحدة على قدر النارنجة، وعلى قدر بيض النعام، وما دون ذلك إلى قدر البندقة. وكان الزرع قد قرب حصاده، فرمى سنبله، وحصد كثير منه من أصله، وهلكت منه أغنام كثيرة. ورؤيت شجرة جميز في غاية الكبر وقد سقط في وسطها برده على هيئة الرغيف وهي سواء - فشقتها نصفين كما يشق المنشار، ووجدت بقرة مطروحة قد قطع ظهرها ببردة شقته نصفين. وتلفت زروع ثمانية وعشرين بلداً، فجمع زرعها وحمل إلى السلطان مع فلاحيها، واستغاثوا بالسلطان، فرسم لمتولي الغربية أن يكشف تلك النواح ويحرر ما أصابتها الجائحة منها، ويحط خراجه عن الفلاحين، فامتثل ذلك.
وفيه قدم البريد من قوص بأن السماء احمرت في شهر رمضان هذا حتى ظهرت النجوم متلونة، فكانت تحمر ساعة وتسود ساعة وتبيض ساعة، إلى أن طلع الفجر، فجاء مطر لم يعهد في تلك البلاد. وقدم البريد أيضاً بأنه هبت ريح بأسوان ألقت عامة البيوت وكثيراً من النخل، وهبت أيضاً بعرب قمولة، فألقت ألفين وخمسمائة نخلة مثمرة، وقدم بذلك محضر ثابت على قاضيها.
وخرج ببلاد منفلوط فأر عظيم جداً فحصد الزرع حصداً، وأتلف جرون الغلال، بحيث كان يذهب ربع الجرن في ليلة واحدة. فصار الناس يبيتون بالمشاعل على طول الليل، وهم يقتلون الفأر ثم يتولى أمر النهار طائفة أخر وهم لا يفترون عن قتله، ثم يحمل ما قتل منه في شباك، ويحرق بالنار على بعد، وفيهم من يلقيه إلى النيل، فأفاموا مدة شهرين يحملون في الشباك كل يرم نو مائة حمل. وشوهد منه عجب: وهو أن جمعاً عظيماً من فيران بيض خرجوا حتى ملاوا الأرض، فخرج مقابلهم فيران سود، واصطفوا صفين في أرض مساحتها فدنان، ثم تصايحوا وحمل بعضهم على بعض واقتتلوا ساعة، وانكسرت الفيران السود، وتبعهم البيض يقتلونهم حتى مزقوهم في تلك الأراضي ،وكان بمحضر عالم كبير من الناس فكتب بذلك إلى السلطان والأمراء، فانكسر للسلطان بناحية منفلوط بسبب الفأر نحو ستين ألف أردب فول.
وفيها رفعت قصة إلى السلطان تتضمن أن الأمير ملكتمر الحجازي يركب النيل ومعه أرباب الملاهي في عدة من المماليك السلطانية، وأنهم يفعلون كل فاحشة ويأخذون حرم الناس. فاشتد غضب السلطان، وطلب الحجازي وأخرق به، وهدده بالقتل إن عاد يركب النيل، وأخرج السلطان ممن كان يعاشره من المماليك ستة وثلاثين رجلاً إلى البلاد الشامية على البريد من يومهم، وأخرج من الغد أربعين مملوكاً من أصحابه بسبب شربهم الخمر، وفيها تقدم السلطان إلى ولي القلعة ألا يمكن أميراً من النزول إلا بمرسوم، وأمر نقيب الجيش فدار على الأمراء كلهم وأعلمهم ألا ينزل أحد منهم من القلعة إلا بمرسوم السلطان، ومن نزل فلا يبيت إلا بالقلعة. وركب أمير مسعود الحاجب - ومعه والي القاهرة - وهدم مرامي النشاب التي بناها الأمراء لرمي النشاب خارج القاهرة، وطلب جميع صناع النشاب ومنعهم من عمل النشاب الميداني وبيعه لسائر الناس، وأمر بدكاكين البندقانيين فغلقت، ومنع من عمل أقواس البندق وبيعها، وقصد السلطان بذلك كف أسباب اللهو، فإنه كان يكره من يلعب ويلهو عن شغله وخدمته.
وفيها شفع الأمير موسى بن مهنا في لؤلؤ وغيره من المصادرين، فرسم السلطان لشاد الدواوين بكتابة أسمائهم - وكانوا خمسة وثلاثين رجلاً، ومنهم قرموط وأولاد التاج، فأفرج عنهم، أما خلا قرموط وأولاد التاج.
وفيها أنشأ الأمير أقبغا عبد الواحد مدرسة بجوار الجامع الأزهر، وكان موضعها دار الأمير ابن الحلي وألزم الصناع بالعمائر السلطانية أن يعملوا فيها يوماً من الأسبوع بغير أجرة، فكان يجتمع في كل أسبوع بها كل صانع بالقاهرة ومصر، ويعملون نهارهم. وحمل لها أقبغا جميع ما يحتاج إليه من عمائر السلطان، وأقام بها من مماليكه شادا لم ير أظلم منه، فعسف الصناع وضربهم.(2/20)
وفيها توقفت زيادة النيل عندما قرب الوفاء، ثم نقض، فارنفع سعر الغلال حتى بلغ القمح عشرين درهماً الأردب. ثم تراجع النيل ووفي ستة عشر ذراعاً، بعدما زاد ثلاثة أيام متوالية أربعة أذرع ونصف ذراع. وتلفت بسبب ذلك غلال كثيرة في الأجران، فإنه زاد زيادة متتابعة على حين غفلة. وكانت سنة شديدة، واتفق فيها من الأمطار والفأر والمصادرات وغير ذلك عدة محن.
ومات فيها من الأعيان
مجد الدين إبراهيم بن الأجل أبي هاشم علي بن الصدر الأديب أبي طالب محمد بن محمد بن محمد الفامغار - المعروف بابن الخميمي - في سادس عشر جمادى الأولى، ومولده سنة تسع وأربعين وستمائة، وحدث عن أبيه والرشيد العطار وغيره.
ومات الأمير إبراهيم ابن السلطان في رابع عشرى ذي القعدة، ودفن بتربة عمه الصالح علي بن قلاوون، بالقرب من المشهد النفيسي.
وتوفي الطيب الأديب شهاب الدين أحمد بن يوسف بن هلال الصفدي بالفاهرة عن سبع وسبعين سنة، وله نظم حيد.
وتوفي الشيخ زين الدين عمر بن الجمالي أبي الحزم بن عبد الرحمن بن يونس المعروف بابن الكتاني الدمشقي شيخ الشافعية، بالقاهره في يوم الأربعاء سادس عشر رمضان.
وتوفي قاضي القضاة الشافعي بدمشق شهاب الدين محمد بن المجد عبدالله بن الحسين بن علي الأربلي الشافعي بعد ما ألقته بغلته بأسبوع، في جمادى الأولى بدمشق.
وتوفي الشيخ زكي الدين محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن يوسف بن عبد الرحمن ابن عبد الجليل المعروف بابن القوبع - القرشي التونسي المالك صاحب الفنون الكثيرة، بالقاهرة عن أربع وسبعين سنة.
توفي شيخ الخانكاه الصلاحية سعيد السعداء شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن النقجواني في حادي عشرى المحرم، ودفن بالقرافة.
وتوفي شيخ الإسلام شرف الدين هبة الله ابن قاضي حماة نجم الدين عبد الرحيم بن أبي الطاهر إبراهيم بن المسلم بن هبة الله بن حسان بن محمد بن منصور بن أحمد المعروف بابن البارزي الشافعي قاضي حماة، في نصف ذي القعدة، ومولده في خامس رمضان سنة خمس وأربعين وستمائة.
ومات الأمير طغجي.
ومات الأمير أقول الحاجب.
ومات الأمير ظلظية كاشف الوجه القبلي .
ومات كاتب السر محيي الدين بن يحيى ابن فضل الله بن مجلي العمري في يوم الأربعاء تاسع رمضان.
وتوفي جمال الدين يوسف بن إبراهيم بن جملة، وكان قد ولي قضاء دمشق بعد علم الدين الأخنائي ثم عزل.
سنة تسع وثلاثين وسبعمائة
في أول المحرم: قبض على امرأة خناقة، وقتلت.
وفيها قدم رسل الملك أزبك صحبة الأمير سرطقطاي مقدم البريدية بهدية وكتاب يطلب فيه مصاهرة السلطان، فجهزت إليه هدية، وأنعم على رسله وأعيدوا وكان سرطقطاي قد توجه رسولاً إلى أزبك سنة سبع وثلاثين وسبعمائة.
وفيها قدم الخبر بأن القان الكبير عزم على المسير إلى العراقين، وقدم أمامه عسكراً ليسير إذا أخذ العراق إلى الشام. فسار ثماني مراحل، وبعث الله على ذلك العسكر ريحاً سوداء، ثم صارت زرقاء تشتعل ناراً، فيسقط الفارس وفرسه ميتين عند هبوبها، وتمادى هبوبها يومين، وكانوا زيادة على مائة ألف فارس، فلم يرجع منهم إلى القان إلا نحو عشرة آلاف وهلك باقيهم. فسر السلطان بذلك.
وفيها قدم الملك الأفضل محمد بن المؤيد إسماعيل صاحب حماة باستدعاء السلطان، وقد كثرت شكاية الناس له من شغفه باللهو وأخذه أموال الرعية، وقد شفع فيه الأمير تنكز نائب الشام فقدم الأفضل للسلطان والأمراء تقادم جليلة، ثم سافر إلى بلده بعد ما وصاه السلطان بحضرة القضاة، وعدد ذنوبه، وأخبره أنه قبل فيه شفاعة نائب الشام، ثم خلع عليه وسفره.
وفيها اشترى بدر الدين أمين الحكم ملكاً لبعص الأيتام، فحضر إليه العلم القراريطي(2/21)
شاد القراريط يطلب منه موجب الديوان عن الملك المذكور، فأفضي الحال بينهما إلى مفاوضة. بمجلس قاضي القضاة عز الدين بن جماعة، أطلق فيها العلم لسانه بما أوجب تعزيره، فانصرف إلى النشو وعرفه أنه لما طالب أمين الحكم بالقراريط عزره ابن جماعة وكشف رأسه، فحرك ذلك منه كامناً كان في نفسه من ابن جماعة، وبلغ السلطان ذلك، وشنع عليه بأن أمين الحكم لما امتنع من دفع القراريط عن الملك أخرج إليه العلم مرسوم السلطان وعليه محمد بن قلاوون، فأخذه منه ورماه بالأرض عند النعال، وقال: أتجعل في مجلس الحكم الباطل حقاً لتأخذ أموال الأيتام، ثم كشف رأسه وضربه بالدرة. فغضب السلطان وطلب أمين الحكم، وأمر طاجار الدوادار بضربه، فضربه على باب القصر بالقلعة والنشو جالس ضرباً مؤلماً وقطع أكمامه، وشهره بالقلعة ونودي عليه: هذا جزاء من يمنع الحقوق السلطانية، وألزم بحمل عشرين ألف درهم، ورسم عليه، فقام بخمسة عشر ألف درهم.
وفي شهر ربيع الأول: قبض على أوحد الدين شيخ خانكاه بيبرس وهو بالروضة تجاه مصر على حال غير مرض، وأخرج إلى القدس منفياً.
وفيها قدم الخبر بأن ابن دلغادر استولى على قلعة طرندة من بلاد الروم، وأخذ ما فيها من الأموال، وأن الأمير تنكز بعث إليها الأمير علاء الدين علي بن صبح. فسر السلطان بذلك، وبعث بتشريف لابن دلغادر، وشكره وأثنى عليه.
وفيه استقر الأمير بكتمر العلائي الأستادار في نيابة حمص، بعد وفاة الأمير جركتمر.
وفيه أخرج الأمير منكلي بغا الفخري إلى دمشق، واستقر من مقدمي الألوف بها.
وفيه أنعم على كل من قطليجا الحموي وطاجار الدوادار بإمرة طبلخاناه.
وفي ربيع الآخر: قدم الأمير ألطنبغا نائب حلب، وصحبته تقدمة جليلة، وأخلع جليلة عليه عند وصوله، وعزل عن نيابة حلب، واستقر من كبار الأمراء بالديار المصرية.
وفي تاسعه: سارت الحرة المغربية عائدة إلى بلادها، بعد قضاء حجها.
وفي حادي عشر جمادى الأول: قدم الأمير تنكز نائب الشام. وذلك أن ابنته التي تحت السلطان قرب وضع حملها، فكتب السلطان يستدعيه - ومعه أهله وأولاده - لأجل مهم ابنته وتقدم السلطان إلى النشو بعمل بشخاناه وداير بيت من حرير مخمل، ويزركشهما بمائة ألف دينار، وأمره أن يجهز خمسين تشريفاً للأمراء، منها ثلاثة وعشرين تشريفاً أطلس بحوائص ذهب كاملة، وبقيتها ما بين طرد وحش ومصمط، و طلب إليه أيضاً أن يجهز ما تحتاج إليه النفساء، وما يحتاج إليه من السروج ونحوها، وما يحتاج إليه المهم مما يبلغ زيادة على ثلاثمائة ألف دينار.
فأخذ النشو في التدبير لذلك، ورتب جهاته من ثمن سكر وعسل وقندر وقماش وخشب يطرحه على الناس، وعمل أوراقاً بمظالم اقترحها بلغت جلتها خمسمائة ألف دينار ومائة ألف أردب غلة، وأعلم بها السلطان من الغد. وطرح النشو ما عنده من البضائع على الناس بمصر والقاهرة، حتى زلزلهما بكثرة العقوبة، ولم يراع أحداً فخنق من ذلك الأمير الحاج، آل ملك، وبلغ السلطان ما نزل بالرعية من الظلم، فلولا ما كان من ملاطفة الأمراء في الحال لكان له وللسلطان شأن غير مرضي.
فلما قدم البريد بتوجه الأمير تنكز من غزة إلى القاهرة، بعث السلطان بالأمير قوصون إلى لقائه ومعه المطبخ، وركب السلطان إلى قصوره بسرياقوس ومعه أولاده فنزل قوصون السعيدية، وهيأ الأسمطة الجليلة، وتلقى الأمير تنكز وترجل إليه، فنزل الأمير تنكز أيضاً، ومشيا خطوات حتى تعانقا، وركبا إلى الخيمة التي نصبها السلطان للأمير تنكز. فلما انقضى السماط ركب تنكز فتلقاه أولا أولاد السلطان، فترجل لهم، ثم سار وهم معه، فتلقاه السلطان وأكرمه غاية الكرامة. ثم سار السلطان من الغد وطلع قلعة الجبل، وخلع عليه وعلى أولاده وأمرهم، فدخلوا وأهليهم إلى الدور.
وفيه رسم بخروج الأمير ألطنبغا نائب حلب إلى نيابة غزة وخلع عليه، فاتهم الأمير تنكز بأنه حمل السلطان على ذلك.(2/22)
ونزل الأمير تنكز من القلعة إلى بيته بخط الكافوري من القاهره، وجهز به تقادم السلطان وتقادم الأمراء، وحملها من الغد، وكانت شيئاً يجل عن الوصف: فيها من صنف الجوهر ما قيمته ثلاثون ألف دينار، ومن الزركش عشرون ألف دينار، ومن أواني البلور وتعابي القماش والخيل والسروج والجمال البخاتي ما قيمته مائتان وعشرون ألف دينار. فلما انقضت نوبة التقادم أدخله السلطان إلى الدور حتى رأى ابنته، وقبلت يده. ثم أخرج السلطان إليه جميع بناته وأمرهن بتقبيل يده، وهو يقول لهن واحدة بعد واحدة: " بوسي يد عمك، ثم عين منهن اثنتين لولدي تنكز. فقبل تنكز الأرض وخرج والسلطان يحادثه.
وتقدم السلطان إلى النشو بتجهيز تنكز إلى الصعيد للصيد، ثم ركب وتوجه إلى بلاد الصعيد وتنكز معه، فكان من إكرامه له في هذه السفرة ما لا عهد من ملك مثله. فلما عاد السلطان أمر النشو بتجهيز كلفة عقد ابني تنكز على ابنتيه، وكلفة سفر تنكز إلى الشام. فأخذ النشو أموال التجار وغيرهم، وجمع أربعة عشر ألف دينار، حمل منها برسم المهر أربعة ألاف دينار وجهز تنكز باثني عشر ألف دينار. وعقد لولدي تنكز على ابنتي السلطان في بيت الأمير قوصون، بحضرة القضاة والأمراء.
ثم ولدت ابنة تنكز من السلطان بنتاً، فسجد تنكز لله شكراً بحضرة السلطان، وقال: وا لله يا خوند! كنت أتمنى أن تكون المولودة بنتاً، فإنها لو وضعت ذكراً كنت أخشى من كمال السعادة. فإن السلطان تصدق علي بما غمرني به من السعادة، فخشيت من كمالها.
وأخذ السلطان مع النشو في تجهيز تنكز على عادته، وأمره أن يضاعف له ما جرت به عادته من الخيل والتعابي، ورتب السلطان ذلك بنفسه، فكانت قيمته مائة وخمسين ألف دينار عيناً، وكان تنكز قد أقام مدة شهرين، وراتبه السلطاني في كل يوم أربعة آلاف درهم.
فلما وادع تنكز السلطان سأله في إعفاء الأمير كجكن من الخدمة، وأن ينعم عليه بسفر لؤلؤ الحلبي إلى الشام ليستقر في شد عداد الأغنام، وأن ينقل الأمير بيبرس الحاجب من حلب إلى دمشق، وأن ينعم على قرمشي بإمرة ويستقر حاجباً بدمشق عوضاً عن علاء الدين بن صبح فأجابه السلطان إلى ذلك كله، وكتب له تقليداً بتفويض الحكم في جميع المماليك الشامية بأسرها، وأن جميع نوابها تكاتبه بأحوالها، وأن تكون مكاتبته: أعزالله أنصار المقر الشريف، بعدما كانت " أعزالله أنصار الجناب، وأن يزاد في ألقابه: الزاهدي العابدي العالمي كافل الإسلامي أتابك الجيوش. وأنعم السلطان على مغنية قدمت معه من دمشق بعشرة ألاف درهم، وحصل لها من الدور ثلاث بدلات زركش وثلاثون تعبيه قماش وأربع بدلات مقانع، وخمسمائة دينار، مبلغ متحصلها نحو سبعين ألف درهم. ثم كان آخر ما قال له السلطان: " أيش بقى لك حاجة، أو في نفسك شيء أقضيه قبل سفرك؟ فقبل تنكز الأرض، وقال: والله يا خوند ما بقي شيء أطلبه الا أن أموت في أيامك، فقال السلطان: لا إن شاء الله. يا أمير تعيش أنت وأكون أنا فداك، أو أكون بعدك بقليل.
فقبل تنكز الأرض وانصرف، وقد حسده جميع الأمراء، وكثر حديثهم فيما حصل له من الكرامة والمعزة. واتفق ما قاله السلطان، فإنه لم يقم بعد موت تنكز إلا قليل، ومات كما سيأتي ذكره.
وفيها أنعم على الأمير يلبغا اليحياوي بالمنزلة من أعمال أشوم، فركب إليها النشو وحفر لها ترعة، وأخرق بمتولي أشوم، وألزم أقبغا السيفي متولي الغربية بمائة ألف درهم.
وفيه استقر علاء الدين علي بن الكوراني في ولاية الغربية عوضاً عن آفبغا السيفي واستقر شهاب الدين بن الأز كشي في ولاية الأشمونين عوضاً عن ابن الكوراني واستقر نجم الدين أيوب في ولاية الشرقية، عوضاً عن ابن الأزكشي.
وفي مستهل جمادى الأولى: صلى صلاة الغائب بمصر والقاهرة على قاضي القضاة جلال الدين محمد القزويني فاستقر عوضه الشميخ تقي الدين علي بن السبكي.
وفيه أخرج آقوش الزيني إلى حلب.
وفبه أخرج الأمير عز الدين أيدمر العمري إلى صهيون، وأنعم بإقطاعه على ولده أبي بكر، فأحاط النشو بموجوده، وأخذ له ثمانين ألف دينار.(2/23)
وفيه قدم البريد بأن التركمان ساقوا إلى دمشق عشرين ألف رأس من الغنم ليبيعوها بالقاهرة، فلما حضرت رسم ألا يؤخذ منهم المقرر وهو أربعة دراهم الرأس يؤخذ عن كل مائة درهم خمسة دراهم. وكان التركمان قد شكوا من أزدمر والي بهنسا فكشف عنه فوجد أنه كثر ظلمه وأخذه لأموال الرعية، فأحيط بضياعه وأمواله، وأنعم ببعض ضياعه على الأمير تنكز نائب الشام، ووقف بعضها على قلعة طرندة ببلاد الروم.
وفيها قدم الشريف مبارك بن عطيفة بخيله، فسجن مع أبيه، لكثرة إفساده بالحجاز وفيها اتفق موت ابنة الأمير الكبير شمس الدين إلدكز المنصوري - زوجة الأمير ناصر الدين بن المحسني بعد عودها من طرابلس، عن بنت وأخت وزوج، فأخذ النشو جميع مخلفها، وكان شيئاً كثيراً.
وفيها مات بعض الكتاب وترك بيتاً على الخليج، فلم يجسر أحد يشتريه إلى أن قلبته ابنة الأمير قطز بن الفارقاني لتشتريه فلم يعجبها، فألزمها النشو أن تشتريه بمائة ألف درهم، فمازالت به حتى صالحها على شيء حملته وتركها.
وفيها هلك بطريق النصارى الأقباط، فنزل النشو في الكنيسة وأخذ كل ما فيها كل حاصل ذهب وفضة وشمع وغيره.
وفيها ماتت امرأة ظلظية الكاشف، وقد تزوجت بعده وخلفت ولداً ذكراً، فأخذ النشو موجودها كله بحجة أن ظلظية أخذ مال السلطان وتركه بعد موته عندها.
وفيها ظفر النشو بحلي لنساء أمين الدين قرموط، فأغري به السلطان حتى سلم ولده وصهره وأهله لوالي القاهرة.
وفيها جدد النشو الطلب على أولاد التاج إسحاق، وعوقب نساءهم حتى مات بعضهن من العقوبة.
وفيها طلب النشو المال الحاصل بالمارستان المنصوري فقام الأمير سنجر الجاولي في ذلك، حتى أن ابتيع للوقف من أراضي بهتيت من الضواحي مائتان وخمسون فداناً وأربعمائة ألف درهم، وحملت إلى النشو.
وفيها قبض على شهاب الدين أحمد بن محيي الدين يحيى بن فضل الله، في رابع عشرى شعبان. وسببه أن الأمير تنكز لما سأل السلطان أن يولي علم الدين محمد ابن القطب أحمد بن مفضل كاتب السر بدمشق، وأحابه السلطان وخلع عليه، حدث شهاب الدين السلطاني في أمره، وقال: هدا رجل قبطي لا يدري هذه الصناعة، فلم يعبأ بقوله. ثم رسم السلطان أن تكثر ألقاب علم الدين ويزاد في معلومه، فامتنع شهاب الدين من ذلك واحتد خلقه، وفاجأ السلطان بقوله كيف يكون رجل أسلمى ملته كاتب السر، وتزيد في حامكيته، ما يفلح من يخدمك، وخدمتك علي حرام، ونهض من بين يدي السلطان قائماً. فما شك الأمراء في أن السلطان يضرب عنقه، فرعى فيه حق أبيه و لم يؤاخذه. ودخل شهاب الدين على أبيه محيي الدين وعرفه ما كان منه، فخاف خوفاً شديداً، وقام مع الأمراء في ترقيع هذا الخرق، ودخل إلى السلطان فقبل الأرض وطلب العفو، فعرفه السلطان أنه لأجله حلم عليه وصفح عنه، ورسم أن يدخل ابنه علاء الدين علي في المباشرة عنه، عوضاً عن شهاب الدين. فاعتذر محيي الدين بأن ابنه علاء الدين صغير لا ينهض أن يقوم بأعباء الوظيفة، فقال: السلطان: أنا أربيه كما أعرف. فباشر علاء الدين عن أبيه إلى أن مات أبوه، وشهاب الدين منقطع بداره طول تلك المدة من الغبن.
فلما كان في يده هذه السنة شكا قاضي القضاة عز الدين بن جماعة أنه كتب توقيع لابن الأنصاري برجوعه إلى مباشرته، ورماه بقوادح. فطلب السلطان الأمير طاجار وأنكر عليه، فأحال على علاء الدين بن فضل الله أنه أعطاه قصته. فطلب السلطان علاء الدين وأنكر عليه، فاعتذر بأن أخاه شهاب بعث بها إليه فاستقبح ردها عليه فقال له السلطان: لا تكن تسمع من أخيك، فإنه نحس وما يقعد حتى أفعل به وأفعل به فلم تمض إلا أيام حتى رفع شهاب الدين قصة يشكو فيها كثرة كلفه، ويطلب الإذن بالتوجه إلى دمشق، فذكر السلطان بنفسه، وأمر به فقبض عليه، وحمل إلى القلعة. ورسم السلطان لطاجار والدوادار أن يعريه في قاعة الصاحب، ويضربه حتى يلزم بحمل عشرة ألاف دينار، أو يموت تحت العقوبة، فعندما عراه طاجار رجف فؤاده وارتعدت مفاصله، فإنه كان ترفاً ذا نعمة لم تمر به شدة قط، فكتب خطه بعشرة ألاف دينار. ووقعت الحوطة على موجوده، وأخذ له نحو خمسين ألف درهم، وباع قماشه وأثاثه وأملاكه بدمشق حتى حمل مائة وأربعين ألف درهم، وسكن الطلب منه.(2/24)
وفيها وشى النشو بالأمير أقبغا عبد الواحد أن له خمسة ألاف رأس من الغنم، قدمت من بلاد الصعيد ورعت براسيم الجيزة، ومضت إلى الغربية فرعت الزرع فطلبه السلطان وأخرق به، فلولا شاء الله أن يتلطف الأمير بشتاك في أمره وألا أوقع به المكروه.
وفيها خلع على الأمير عز الدين أيدمر كاشف الوجه القبلي واستقر في كشف الوجه البحري.
وفيها أنشأ السلطان القناطر بجسر شيبين. وذلك أن بلاد الشرقية كانت لا تروى إلا من بحر أبي المنجا، وفي أكثر السنين تشرق بلاد العلو منها، مثل مرصفا وسنيت وكان للأمير بشتاك بها ناحية شرقت، فركب السلطان للنظر في ذلك وصحبته المهندسون، وكشف عدة مواضع، وكان له بصر جيد وحدس صحيح، فوقع اختياره على عمل جسر من شيبين إلى بنها العسل، وتعمر عليه قناطر لتحبس الماء، فإذا فتح بحر أبي المنجا امتلأت المخازن رجع الماء إلى هذا الجسر ووقف عليه، فوافقه المهندسون على ذلك. ورجع السلطان إلى القاهرة، فكتب إلى الأعمال بجمع اثني عشر ألف راجل وتجهيز مائتي قطعة جراريف. فلم تمض إلا أيام حتى قدم مشدو البلاد بما عليهم من الرجال، وشرعوا في العمل حتى تم في ثلاثة أشهر، وكان يصرف في كل يوم أجرة رجال وثمن كلف مبلغ أربعين ألف درهم من مال النواحي التي للأجناد. فلما كانت أيام النيل أبطل السلطان وفتح عوضه سد شيبيني، فرويت البلاد كلها، وروي ما لم يكن يروى قبل ذلك واستنجزت عدة أماكن.
وفيها قدم أمير أحمد ابن السلطان من الكرك باستدعاء، للعبه وشغفه ببعض شباب أهل الكرك، وإسرافه في العطاء لواحد منهم اسمه الشهيب، وكان جميل الصورة، وقد هام به أمير أحمد غراماً وتهتك فيه. فلم يخرج أحد من الأمراء إلى لقائه، فطلع مع بكتاش النقيب وحده، فتلقاه طاجار من باب القلة، ودخل به حتى قبل الأرض، ووقف واسعة، ثم رسم له بتقبيل اليد، ومضى إلى الدور من غير أن يقبل السلطان عليه. وأمر السلطان بعقوبة الشاب الذي كان يهواه حتى يحضر المال الذي وهبه له، فبعث أحمد إلى الأمراء بسببه حتى عفى عنه ومازال يجد في أمره إلى أن أذن له أن يدخل عليه ويقيم عنده.
وفيها أنعم السلطان على الأمير ملكتمر الحجازي بإقطاع بهادر المعزي بعد موته، وزاده النحراوية وكانت عبرتها في الشهر سبعين ألف درهم.
وفيها توجه الأمير تنكز نائب الشام من دمشق يريد بلاد سيس، لكشف البلاد التي أنعم بها عليه، فمر على حماة، ونادى بها ألا يقف أحد لملك الأمراء بقصة، ومن كانت له حاجة فعليه بصاحب حماة، وخلع على صاحب حماة. ومضى تنكز إلى حلب ودخل بلاد سيس، فأهدى إليه تكفور هدية سنية مع أخيه، فقبلها وخلع عليه، وعمر تنكز تلك الضياع بالرجال والأبقار والغلال، وعاد.
وفيها عملت أوراق بما على الدولة من الكلف، فبلغت نحو مائتين وثمانين ألف درهم في الشهر، فوفر السلطان منها ما يصرف للمباشرين والأمراء من التوابل، ووفر شيئاً من مصروف العمائر، ووفر الدجاج المرتب برسم السماط والمخافي الخاصة بالسلطان، والمخافي التي تحمل الطيور المطبوخة؟ كل يوم إلى الأمراء وعدتها سبعمائة طائر في كل يوم، فكانت جملة ما توفر في كل شهر مبلغ تسعين ألف درهم. واتفق بعد ذلك أن السلطان طلب أربعة أطيار دجاج، فكتب بها وصول من بيت المال، فاستقبح الناس ذلك، ونسب توفير ما توفر إلى النشو.(2/25)
وفيها التزم النشو بتدبير الدولة، على أن يتسلم الجهات، فأجيب إلى ذلك. فطلب السلطان الشمس نصر الله وخلع عليه، واستقر به نظر الجهات عوضاً عن، وخلع على تاج الدين أحمد بن الصاحب أمين الدين عبدالله بن الغنام، واستقر به نظر الدولة، عوضاً عن العلم بن فخر الدولة، وولي استيفاء الصحبة كريم الدين أخو تاج الدين المذكور. وجلس النشو في قاعة الصاحب بالقلعة، وضرب يعقوب مستوفي الجهات بالمقارع، وألزمه بمال كثير، وألزم جميع مباشري الدولة من الكتاب والشهود والشادين بحمل معالميهم المقررة لهم عن أربعة أشهر، واحتج عليهم بأنهم أهملوا مال السلطان، فاستعاد من الجميع جوامك أربعة أشهر وقطع عليق جميع الأمراء والدواوين وبعض الخاصكية، وطلب أرباب الأموال من أهل النواح وأوقع الحوطة على موجودهم، ولم يدع من يشار إليه بغني أو زراعة إلا وألزمه بمال. حتى مشى على والي المحلة، فإنه بلغه عنه أنه جمع مالاً كثيراً فعاقبه وأخذ منه ثلاثين ألف درهم. وكتب النشو لجميع الولاة بشراء الشعير، ودفع عنه ثلاثة دراهم الأردب، وعن الحمل التبن درهماً. فشكا الجند ذلك، فلم يلتفت السلطان إليهم.
وفيها استقر المخلص أخو النشو مباشر ديوان الأمير آنوك ابن السلطان، وخلع عليه تشريف من الخزانة بألف وستمائة درهم، وجهز له حمار بألف درهم، وعدته بخمسمائة درهم.
وفيها كانت وقعة بين ابن دلغادر نائب أبلستين وبين الروم، قتل فيها خمسمائة نفس، ونهب ابن دلغادر من أموال الروم شيئاً كثيراً رد منه بعدما اصطلحا نحو عشرين ألف رأس ما بين غنم وخيل وحمال.
وفيها كثرت مصادرة النشو للناس من أهل مصر والقاهرة والوجه القبلي والوجه البحري حتى خرج في ذلك عن الحد، وادغر الناس على اختلاف طبقاتهم.
وفيها استقر زين الدين عمر بن محمد بن عبد الحاكم البلقيائي في قضاء القضاة الشافعية بحلب، عوضاً عن فخر الدين عثمان بن علي بن عثمان المعروف بابن خطيب جبرين.
وفيها استقر شهاب الدين أحمد بن فخر الدين أحمد بن قطب الدين إسماعيل بن يحيى الأنصاري المصري في كتابه السر بحلب، عوضاً عن تاج الدين محمد بن الزين خضر.
وفيها حدثت زلزلة بطرابلس في رجب، هلك فيها ستون إنساناً.
وفيها انتهت زيادة النيل ستة عشر ذراعاً وعشر أصابع، فلم ترو الأراضي كلها، وغرق كثير منها، وتحسنت أسعار الغلال، وكانت سنة كثيرة الحوادث.
ومات فيها من الأعيان
جمال الدين أحمد بن شرف الدين هبة الله بن المكين الإسنائي الفقيه الشافعي بإسنا وقد جاوز السبعين في شوال.
وتوفي الأديب أبو المعالي خضر بن إبراهيم بن عمر بن محمد بن يحيى الرفا الخفاجي المصري عن تسع وسبعين سنة.
وتوفي خطيب القدس زين الدين عبد الرحيم ابن قاضي القضاة بدر الدين محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الشافعي.
وتوفي قاضي الشافعيه بحلب فخر الدين عثمان بن زين الدين علي بن عثمان المعروف بابن خطيب جبرين الفقيه الشافعي بالقاهرة في المحرم، وله مصنفات في الفقه والأصول.
وتوفي علاء الدين علي بن بلبان الفارسي الجندي الفقيه الحنفي بالقاهرة عن أربع وستين سنة.
ومات أمير علي بن أمير حاجب، كان والي مصر، وأحد أمراء العشرات، وكانت وفاته وهو معزول، وقد عني بجمع القصائد النبوية، حتى كمل عنده منها خمسة وسبعون مجلداً.
ومات الأمير سيف الدين بهادر المعزي أحد أمراء الألوف، في ليلة الجمعة تاسع شعبان، وبلغت تركته مائة ألف دينار، أخذها النشو.
ومات علم الدين عبدالله بن كريم الدين الكبير.
ومات ناظر الجيش بدمشق فخر الدين محمد بن بهاء الدين عبد الله بن نجم الدين أحمد بن علي المعروف بابن الحلي بالقدس، وكان قد قدم إليها، فولي عوضه نظر الجيش بدمشق جمال الدين سليمان بن ريان الحلبي .
وتوفي قاضي القضاة جلال الدين محمد بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد بن محمد ابن عبد الكريم القزويني الشافعي بدمشق في يوم الأحد خامس عشر جمادى الآخرة، ومولده بالموصل في سنة ست وستين وستمائة.
ومات الحافظ علم الدين القاسم بن محمد بن يوسف بن محمد البرزلي بخليص وهو محرم في رابع ذي الحجة، عن أربع وسبعين سنة.
ومات الأمير علم الدين بن هلال الدولة بقلعة شيزر بعدما ولي بالقاهرة شد الخاص وشد الأوقاف وشد المارستان وشد الدواوين، وصار يضاهي الوزراء.(2/26)
ومات السعيد بن الكردوش، وأخذ له النشو بعد موته خمسة عشر ألف دينار.
ومات الأمير بدر الدين بيليك المحسني بطرابلس، بعدما كان والي القاهرة.
وتوفي المؤرخ شمس الدين محمد بن إبراهيم بن أبي بكر الجزري الدمشقي عن إحدى وثمانين سنة.
وتوفي بدر الدين محمد بن عز الدين محمد بن عبد القادر ابن الصائغ الأنصاري الدمشقي الشافعي.
سنة أربعين وسبعمائة
في يوم السبت مستهل المحرم: قدم رسول الأمير يوسف بن أتابك الكردي صاحب الجبال ووطاة نصيبين يخبر بكثرة جموعه من الأكراد وأنه رغب في الانتماء إلى السلطان وضرب السكة في بلاده باسمه، وطلب نجدته بعسكر يتسلم ما بيده من البلاد ليكون نائب السلطنة بها، وأن يشرف بصناجق سلطانية عليها اسم السلطان لتعينه في غاراته، فأحيب بالشكر، وجهزت له هدية وخيول وسلاح.
وفيه: قدم الخبر بكثرة الفتن والغارات والاختلاف ببلاد المشرق، من نحو الصين وبلاد الخطا إلى ديار بكر.
وفيه: قدم مبشرو الحاج برخاء الأسعار وسلامة الحاج.
وفي يوم الأحد ثانيه: قدم الأمير بشتاك من الحج، وطلع القلعة بعد الظهر في اثني عشر رجلاً منهم أربعة نجابة وصحبته الأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير بكتمر الحاجب. وكان السلطان والأمراء أجيبوا لنواب قد قدموا له عند سفره شيئاً يجل عن الوصف، فبعث السلطان له مائتي ألف درهم ومائة هجين وأربعين بختياً وستين جملاً. فلما قدم مكة فرق في الأمراء مالاً كثيراً، فبعث إلى كل من الأمراء المقدمين ألف دينار، وإلى كل من أمراء الطبلخاناه خمسمائة دينار، وفرق في الأجناد، وبعث إلى بيوت الأمراء بمال كثير، ثم استدعى المجاورين جميعهم والأشراف وغيرهم من أهل مكة والزيالعة، وفرق فيهم المال، و لم يبق بمكة أحد حتى أسدى إليه معروفاً، فكان جملة ما فرق بشتاك ثلاثين ألف دينار وأربعمائة ألف درهم، سوى ما وصل إليه في المراكب من الغلال. فلما قدم بشتاك المدينة النبوية بعد قضاء نسكه فعل بها خيراً كثيراً ومضى منها إلى الكرك فتلقاه الأمير شطى بن عبية أمير آل عقبة في أربعمائة فارس من عربه وأضافه، ثم سار بشتاك ومعه الأمير شطى ومن معه من العرب إلى العقبة وقدم إلى القاهرة ثاني المحرم كما تقدم.
وفي رابع عشريه: قدم ركب الحاج.
وفيه انقطع مقطع بالقناطر التي أنشأها السلطان على جسر شيبين، فركب إليه الأمير برسبغا الحاحب، وجمع له من النواحي أربعة ألاف رجل، واستدعى بالأخشاب والصواري من دار الصناعة بمصر، وغرق فيه عدة مراكب. فأقام برسبغا اثنين وعشرين يوماً حتى سد المقطع، وبلغ المصروف عليه في ثمن مراكب غرقت وثمن صواري وحجارة وجير وجبس وحلفاً وأجرة رجال ثلاثين ألف دينار، غير سخر البلاد.
وفيها قدم زين الدين عمر بن محمد بن عبد الحاكم البلفيائي قاضي حلب باستدعاء، فولى عوضه برهان الدين إبراهيم بن خليل بن إبراهيم الرسعني.
وفي هذا الشهر: وضعت الست طولو قرطقا زوجة الأمير يلبغا اليحياوي وأخت خوند زاد وزوجة السلطان، فعمل لها السلطان مهما عظيماً، أقامت الأفراح سبعة أيام بلياليها، ولم يبق أحد من الأمراء إلا وبعث بزوجته، ففرق السلطان في نساء الأمراء جميعهن ما بين خمسمائة دينار إلى أربعمائة دينار إلى ثلاثمائة الواحدة. وكان السلطان قد عمل للنفساء قبل ولادتها داير بيت وبشخاناه ونحو ذلك بعشرين ألف دينار، وعمل لها عصابة مرضعة بأنواع الجواهر قومت بخمسين ألف دينار، وأنعم على زوحها بثلاثة ألاف دينار.
وفي يوم الإثنين ثاني صفر: قبض على النشو، وعلى أخيه شرف الدين رزق الله، وعلى أخيه المخلص، ورفيقه مجد الدين، وعلى صهره ولي الدولة.(2/27)
وسبب ذلك أنه لما أسرف النشو في الظلم بحيث قل الجالب للبضائع، وذهب أكثر أموال التجار لطرح الأصناف عليهم بأغلى الأثمان، وطلب السلطان منه يتزايد، خاف النشو العجز، فرجع عن ظلم العامة إلى التعرض إلى الخاصة، ورتب مع أصحابه ذلك. وكانت عادته في كل ليلة أن يجمع إخوته وصهره ومن يثق به للنظر فيما يحدثه من المظالم فيدله ظل منهم على آبدة، ثم يفترقون وقد أبرم للناس بلاء يعذبهم الله به من الغد على يده، فكان مما اقترحه أن رتب أوراقاً تشتمل على فصول يتحصل فيها ألف ألف دينار عيناً، وقرأها على السلطان: ومنها التقاوي السلطانية المخلدة بالنواحي من الدولة الظاهرية بيبرس والمنصورية قلاوون في إقطاعات الأمراء والأجناد، وجملتها مائة ألف وستون ألف أردب، سوى ما في بلاد السلطان من التقاوي ومنها الرزق الأحباسية على الجوامع والمساجد والزوايا وغير ذلك، وهي مائة ألف فدان وثلاثون آلف فدان وقرر النشو مع السلطان أن يأخذ التقاوي السلطانية المذكورة، بأن يلزم متولي كل إقليم باستخراجها وحملها، وأن يقيم شادا يختاره لكشف الرزق الأحباسية، فما كان منها على موضع عامر بذكر الله يعطه نصف ما هو وقف عليه، ويأخذ من مزارعه عن النصف الآخر بحساب مائة درهم الفدان، ويلزمه بخراج ثلاث سنين، وما كان من الرزق على موضع خراب أو على أهل الأرياف من الخطباء الجهال ونحوهم أخذ واستخرج من مزارعه خراج ثلاث سنين من حساب مائة درهم الفدان، ومنها أراضي الروضة تجاه مدينة مصر، فإنها بيد أولاد الملوك، ويستأجرها منهم الدواوين وينشئون بها سواقي الأقصاب ونحوها مما بلغ قيمة الفدان منه ألف درهم، ومنها ما باعه أولاد الملوك بأبخس الأثمان - وقرر النشو مع السلطان أخذ أراضي الروضة للخاص، وأن يقاس ما أبيع منها، ويؤخذ ممن هي بيده تفاوت قيمتها، أو تجدد عليه إجارة للسلطان بالقيمة، ومنها أرباب الرواتب السلطانية، فإن أكثرهم عبيد الدواوين وغلمانهم ونساؤهم، ويكتبونها باسم زيد وعمرو، ومنها ما هو مرتب لجماعة من النصارى والرهبان سكان الديارات - وقرر النشو مع السلطان عرض جميع أرباب الرواتب والنظر في تواقيعهم، وإبقاء أرباب البيوت ومن يستحق على ما بيده، وأخذ تواقيع من عداهم وإلزامه بحل جميع ما استأداه من تاريخ توقيعه إلى أخر وقت، ومنها ذكر حواصل الأمير أقبغا عبد الواحد، وتفصيل ماله من أملاك وأراضي ومتاجر ومرتبات ورسوم على أرباب الوظائف السلطانية وعلى صناع العمائر، وتفصيل ما حمل إليه من العمائر السلطانية من الأصناف - وذكر النشو العمائر التي عمرها أقبغا من ديوان السلطان وما له لبلاد الشام، وجملتها وحدها خمسمائة ألف دينار، سوى ما له بديار مصر، ومنها ذكر ما أخذه الأمير طاجار الدوادار من البلاد الشامية ومن أهل مصر على قضاء أشغالهم، وتفصيل أملاكه. وقرر النشو مع السلطان القبض على آقبغا وطاجار، فوافقه السلطان على ذلك.
وكان أول ما بدأ به النشو أن ندب جماعة لقياس الروضة جميعها من مذدرعها وأراضي دورها، وألزم أرباب الدور التي بها بإحضار كتب دورهم، وأن يقوموا عن أراضيها بقيمتها من تاريخ شرائها، ووكل ابن صابر باستخراج ذلك منهم، وأخذ عن البروز في الدور خاصة مائة ألف وعشرين ألف درهم.
وأمر النشو مباشري الجوالي بقطع ما عليها من المرتبات عن جوامك القضاة والشهود ومشايخ العلم ونحوهم وكتب إلى جميع الأعمال يحمل مال الجوالي إلى خزانة الخاص، ومن تعجل منها شيا يستعاد منه، فجمع من ذلك مالاً كبيراً. فانزعج الناس كلهم، ولم يتجاسرأحد من الأمراء على السلطان في الحديث معه في ذلك، حتى ذكر السلطان لهم أن له نحو آلف أردب غلة في البلاد وأنه يريد أخذها، فتلطف به الحاج آل ملك وبيبرس الأحمدي وجنكلي بن البابا حتى سمح بأن يتمهل بطلبها حتم يفرغ الحرث ويقبض المغل.
فلما فرغ النشو من قياس الروضة ألزم أرباب الرواتب أن يحضروا إلى القلعة ومعهم تواقيعهم، وألزم المباشرين بعمل الحساب وحمل ما تحت أيدهم من ذلك، وألزم جميع أرباب الرزق الأحباسية بإحضار تواقيعهم، وبعث البريد إلى الأعمال بذلك، وألزم ديوان الأحباس بكتابة الرزق كلها، فزلزل أرض مصر قبليهما وبحريها، و لم يقبل لأحد شفاعة حتى الأميرين بشتاك وقوصون، فإنهما كانا إذا بعثا إليه في شفاعة رد عليهما رداً جافياً وأغلظ على رسلهما.(2/28)
فاتفق الخاصكية جميعاً عليه، وندبوا للحديث مع السلطان الأمير يلبغا اليحياوي والأمير ملكتمر الحجازي وغيرهما، فصار كل منهم يسمع السلطان قبح سيرة النشو وهو يتغافل، إلى أن حدثه يلبغا وهو يومئذ أخص الخاصكية عنده، وقال عنه: " يا خوند والله النشو يضرك أكثر ما ينفعك فتخيل السلطان من كلامه.
واتفق وصول الأمير قرمجي الحاجب من دمشق، فأعاده السلطان سريعاً ليستشير الأمير تنكز نائب الشام في أمر النشو، وأنه قد بعضه أهل الدولة كلهم، مع كثرة نفعه لي ثم وجد السلطان عدة أوراق في حق النشو قد رميت له من غير أن يعرف رافعها، منها رقعة فيها:
أيا ملكا أصبح في نشوة ... من نشوة الظالم في نشيه
أنشيته فلتنشئن ضغائنا ... سترى غباوتها بصحبة غيه
حكمته فحكمت أمراً فاسداً ... وتوحشت كل القلوب لفحشه
سترى بوارقها إذا ما أظلمت ... وتحكمت أيدي الزمان ببطشه
ودستندمن ندامة كسعية ... يوما إذا ذبح الخروف بكبشه
فلما قرأها السلطان تغير لونه ومزقها. ووجد السلطان ورقة أخرى فيها.
أمعنت في الظلم وأكثرته ... وزدت يا نشو على العالم
ترى من الظالم فيكم لنا ... فلعنة الله على الظالم
وعن قريب عاد قرمجي في سادس عشرى المحرم، وأخبر عن نائب الشام بأنه قد استفيض ما ذكره السلطان من بغض مماليكه للنشو، وأن التجار وأرباب الأموال في خوف شديد من ظلمه، ورأى السلطان فيه أعلى. وكان يوم وصوله بالقلعة منظراً مهولاً، فإنه اجتمع بها أرباب الرواتب والصدقات، وفيهم الأرامل والأيتام والزمناء والعميان، وصاروا في بكاء ونحيب، فتقطعت القلوب حسرات رحمة لهم. وشغل الله النشو عنهم بنفسه، فحد له قولنج وهو بخزانة الخاص.
فأمر السلطالن الناس أن ينصرفوا ويحضروا أول الشهر، ومن تأخر شطب على اسمه. فنزل بعد الظهر من القلعة، وتفرقوا تلك الليلة بالجوامع في القاهرة ومصر، وهي ليلة سابع عشرى المحرم، للدعاء بسبب توقف النيل عن الزيادة، فإنه كان قد توقف توقفاً زائداً فلما قرب الوفاء نقص واستمر على نقصه أياماً، فصرفوا دعاءهم على النشو طول ليلتهم، وكانوا جموعاً كثيرة إلى الغاية. فأصبح النشو مريضاً، وانقطع بداره حتى فرغ المحرم، فحذره الفاضل شمس الدين محمد بن الأكفاني مع قطع مخوف في أول صفر، يخشى منه إراقة دمه.
فلما كان يوم الأحد أول صفر: ركب النشو إلى القلعة، وبه أثر المرض في وجهه، فقرر مع ا!سلطان إيقاع الحوطة على أقبغا عبد الواحد من الغد. فتقرر الحال على أنه يجلس على باب الخزانة، فإذا خرج الأمير بشتاك من الخدمة جلس معه على باب الخزانة ثم قاما إلى بيت آقبغا وحاطا بموجوده كله.
فلما عاد النشو إلى داره عبر إلى الحمام ليلة الإثنين، ومعه ابن الأكفان فأمر بعض عبيده السود أن يحلق رأسه ويجرحه بحيث يسيل الدم على جسمه، ليكون ذلك حظه من القطع المخوف، ففعل به ذلك، وتباشروا بما دفع الله عنهم بهذا، وباتوا ليلتهم في لذات ومسرات.
هذا وقد كان الأمير يلبغا اليحياوي قد وعك جسمه، فقلق السلطان لمرضه، وأقام عنده لكثرة شغفه به. فقال له يلبغا فيما قال: " يا خوند قد عظم إحسانك لي ووجب نصحك علي والمصلحة القبض على النشو، وإلا دخل عليك الدخيل، فإنه ما عندك أحد من مماليكك إلا وهو يترقب غفلة منك، وقد عرفتك ونصحتك قبل أن أموت، وبكى. فبكى السلطان لبكائه، وقام وهو لا يعقل لكثرة ما داخله من الوهم لثقته بيليغا وطلب بشتاك وعرفه أن الناس قد كرهوا النشو، وأنه عزم على الإيقاع به، فخاف بشتاك أن يكون ذلك امتحاناً من السلطان، فوجد عزمه قوياً في القبض. واقتضى الحال إحضار الأمير قوصون أيضاً، فقوي عزم السلطان على ذلك، ومازال به حتى قرر معهما أخذه.(2/29)
وأصبح النشو يوم الإثنين ثاني صفر وفي ذهنه أن القطع الذي خوف منه قد زال عنه بما دبره له ابن الأكفاني من إسالة الدم، فعلق عليه عدة من العقود والطلسمات والحروز، وركب إلى القلعة. وجلس النشو بين يدي السلطان على عادته وأخذ معه في القبص على أقبغا عبد الواحد كما قرره، فأمره السلطان أن يجلس على باب خزانة القصر حتى يخرج إليه الأمير بشتاك، ثم يمضيا لإيقاع الحوطة على موجوده، فقام. وطلب السلطان المقدم ابن صابر، وأسر إليه أن يقف بجماعته على باب القلعة وباب القرافة، ولا يدعوا أحداً من حواشي النشو وأقاربه وإخوته أن ينزلوا، وأن يقبضوا عليهم كلهم. وأمر السلطان الأمير بشتاك والأمير برسبغا الحاجب أن يمضيا إلى النشو، ويقبضا عليه وعلى أقاربه. فخرج بشتاك وجلس على باب الخزانة، وطلب النشو من داخلها، فظن النشو أنه جاء لميعاده مع السلطان حتى يحتاطا على موجود أقبغا عبد الواحد، فساعة ما وقع بصره عليه أمر مماليكه بأخذه إلى بيته من القلعة، وبعث إلى الأمير ملكتمر الحجازي فأخذ أخاه رزق الله وأخذ أخاه المخلص وسائر أقاربه. فطار الخبر إلى القاهرة ومصر، فخرج الناس كأنهم جراد منتشر.
وركب الأمير آقبغا عبد الواحد والأمير طيبغا المجدي والأمير بيغرا والأمير برسبغا لإيقاع الحوطة على بيوت النشو وأقاربه وحواشيه، ومعهم جمال الكفاة كاتب الأمير بشتاك، وشهود الخزانة.
وأخذ السلطان للأمراء: وكم تقولون النشو نهب أموال الناس الساعة ننظر المال الذي عنده، وكان السلطان يظن أنه يؤديه الأمانة، وأنه لا مال له. فندم الأمراء على تحسينهم مسك النشو خوفاً من أن لا يظهر له مال، سيما قوصون وبشتاك من أجل أنهما كانا قد بالغا في الحط عليه وإغراء السلطان به، فكثر قلقهما ولم يأكلا طعاماً، وبعثا في الكشف عن الخبر. فلما أوقع الأمراء الحوطة على دور الممسوكين بلغهم أن حريم النشو في بستان بجزيرة الفيل، فساروا إليه وهجموه، فوجدوا ستين جارية وأم النشو وامرأته وأخته وولديه وسائر أهله، وعندهم مائتا جنبة عنب وقند كثير ومعاصر، وهم في عصر العنب. فختموا على الدور والحواصل، ولم يتهيأ لهم نقل شيء منها.
هذا وقد غلقت أسواق القاهرة ومصر، واجتمع الناس بالرميلة تحت القلعة ومعهم النساء والأطفال، وقد أشعلوا الشموع، ورفمعوا على رءوسهم المصاحف ونشروا الأعلام، وهم يضجون ويصيحولن استبشاراً وفرحاً بقبض النشو، والأمراء تشير لهم أن يكثروا مما هم فيه، واستمروا ليلة الثلاثاء على ذلك.
فلما أصبحوا وقع الصوت داخل باب القلة من القلعة بأن رزق الله أخو النشو قد ذبح نفسه. وذلك أنه لما قبض عليه تسلمه الأمير قوصون، ووكل به أمير شكار، فسجنه أمير شكار في بعض خزائن بيته، وبات يحرسه حتى طلع الفجر، ثم قام أمير شكار للصلاة.
فاستغفله رزق الله وأخذ من حياصته سكيناً ووضعها في نحره حتى نفذت منه وقطعت وريده، فلم يشعر أمير شكار إلا وهو يشخر وقد تلف. فصاح أمير شكار حتى بلغ صياحه قوصون، فانزعج لذلك وضرب أمير شكار ضرباً مبرحاً إلى أن علم السلطان بالخبر، فلم يكترث به.
وفي يوم الإثنين: المذكور أفرج عن الصاحب شمس الدين موسى بن التاج إسحاق وأخيه، ونزلا من القلعة إلى الجامع الجديد خارج مصر، فقال الكمال جعفر الأدفوي في يوم الإثنين هذا، وفي معنى مسك النشو وغيره هذه الأبيات:
إن يوم الإثنين يوم سعيد ... فيه لاشك البرية عيد
أخذ الله فيه فرعون جهراً ... وغدا النيل في رباه يزيد
وقال شمس الدين محمد بن الصائغ المصري في معنى مسك النشو والإفراج عن شمس الدين موسى وزيادة النيل، هذه الأبيات:
لقد ظهرت في يوم الإثنين آية ... أزالت بنعماها عن العالم البوسا
تزايد بحر النيل فيه وأغرقت ... به آل فرعون وفيه نجا موسى
وفيه زاد النيل بعد توقفه، فقال في ذلك علاء الدين بن فضل الله كاتب السر:
في يوم الإثنين ثاني الشهر من صفر ... نادى البشير إلى أن أسمع الفلكا
يا أهل مصر نجا موسى ونيلكم ... طغا وفرعون وهو النشو قد هلكا
وذلك أنه كان قد نقص، فلما قبض على النشو زاد ستة أصابع ثم ثمانية أصابع.(2/30)
وفي يوم الثلاثاء ثالث صفر: نودي بالقاهرة ومصر: بيعوا واشتروا واحمدوا الله على خلاصكم من النشو.
وفيه أخرج رزق الله أخو النشو في هيئة تابوت امرأة حتى دفن في مقابر النصارى خوفاً عليه من العامة.
وفيه أدخل الأمير بشتاك على السلطان وطلب الإعفاء من تسليم النشو إليه، خشية مما جرى على أخيه. فأمره السلطان أن يهدده على إخراج المال، ثم يسلمه لابن صابر. فأوقفه بشتاك وأهانه. فالتزم أنه إن أفرج عنه جمع للسلطان من أقاربه خزانة مال، فسبه ثم سلمه لابن صابر. فأخذه ابن صابر ليمضي به إلى قاعة الصاحب، فتكاثرت العامة تؤيد رجمه حتى طردهم نقيب الجيش وأخرجه ابن صابر في زنجير بعنقه حتى أدخله قاعة الصاحب، والعامة تحمل عليه حملة بعد حملة، والنقباء تطردهم.
وفيه طلب السلطان جمال الكفاة إبراهيم كاتب الأمير بشتاك، وخلع عليه واستقر في نظر الخاص عوضاً عن شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله المعروف بالنشو، بعد تمنعه. ورسم له أن ينزل للحوطة على النشو وأقاربه، ومعه الأمير آقبغا والأمير برسبغا وشهود الخزانة. فنزل جمال الكفاة بتشريفة وركب بغلة النشو، حتى أخرج حواصله. وقد أغلق الناس الأسواق وتجمعوا من كل موصع، ومعهم الطبول والشموع وأنواع الملاهي وأرباب الخيال، بحيث لم يوجد حانوت مفتوح نهارهم كله. ثم ساروا مع الأمراء على حالهم إلى تحت القلعة، وصاحوا صيحة حتى انزعج السلطان، وأمر الأمير أيدغمش بطردهم.
ودخل الأمراء على السلطان بما وجدوه للنشو، وهو من العين خمسة عشر ألف دينار مصرية، والفان وخمسمائة حبة لؤلؤ قيمة كل حبة ما بين ألفي درهم إلى ألف درهم، وسبعون فص بلخش قيمة كل فص ما بين خمسة ألاف درهم إلى ألفين، وقطعتان زمرد فاخر زنتهما رطل ونيف، وستون حبلاً من لؤلؤ كبار زنة ذلك أربعمائة مثقال، ومائة وسبعون خاتم ذهب وفضة بفصوص مثمنة، وكف مريم مرصع بجوهر، وصليب ذهب مرصع، وعدة قطع زركش سوى حواصل لم تفتح. فخجل السلطان لما رأى ذلك، وقال للأمراء: لعن الله القبط ومن يأمنهم أو يصدقهم.
وذلك أن النشو كان يظهر الفاقة بحيث يقترض الخمسين درهماً والثلاثين درهماً حتى ينفقها. وبعث في بعض الليالي إلى جمال الدين إبراهيم بن المغربي رئيس الأطباء يطلب منه مائة درهم، ويذكر له أنه طرقه ضيف ولم يجد ما يعشيه به.
وقصد بذلك أن يكون له شاهداً بما يدعيه من الفقر. فلما كان في بعض الأيام شكا النشو للسلطان الفاقة وابن المغربي حاضر، فذكر أنه اقترص منه في ليلة كذا مائة درهم، فمشى ذلك على السلطان، وتقرر في ذهنه أنه فقير لا مال له، وصار السلطان يذكر ذلك كل قليل للأمراء.
واستمر الأمراء ينزلون كل يوم لإخراج حواصل النشو، فوجد له من الأواني الصيني والبلور والتحف السنية شيء كثير.
وفيه ولي الموفق نظر البيوت.
وفيه ولي المجد بن المعتمد ديوان الأمير ملكتمر الحجازي.
وفي يوم الخميس خامسه: زينت القاهرة ومصر زينة عظيمة مدة سبعة أيام، وعملت بها أفراح كثيرة، ونظم فيه العامة عدة أزجال وبلاليق وأظهروا من الخيال واللهو ما يجل وصفه.
ووجدت مآكل كثيرة في حواصل النشو: منها نحو مائتي مطر مملوءة ملوحة وثمانين مطر جبن، وأحمال كثيرة من سواقة الشام، ولحم كثير من لحم الخنزير، وأربعة ألاف جرة خمر، سوى ما نهب. ووجد له أربعمائة بدلة قماش جدد، وثمانون بدلة مستعملة، وزراكش ومفرجات كثيرة. ووجد له ستون بغلطاق نسائي مزركش، ومناديل زركش عدة كثيرة. ووجد له عدة صناديق بها قماش سكندري مما عمل برسم الحرة جهة ملك المغرب قد اختلسه، وكثير من قماش الأمراء الذين ماتوا والذين قبض عليهم. ووجد له مملوك تركي وكان النشو قد خصاه هو واثنين معه ماتا، وكان قد خصى أيضاً أربعة عبيد فماتوا. فطلب الذي خصاهم، وضرب بالمقارع وجرس. وتتبعت أصحاب النشو، وضرب منهم جماعة وشهروا.
وفي يوم الإثنين تاسعه: خلع على نجم الدين أيوب الكردي أستادار الأكز وهو يومئذ والي الشرقية، واستقر والي القاهرة عوضاً عن علاء الدين علي بن المروان وأحيط بموجود ابن المرواني وصودر.
وفيه خلع أيضاً على عز الدين ممدود بن علاء الدين علي بن الكوران واستقر في ولاية مصر.
وفيه خرج البريد بطلب الصاحب أمين الدين وزير الشام من دمشق.(2/31)
وفيه وجد لأخوة النشو ذخائر نفيسة: منها لصهره ولي الدولة صندوق فيه مائة وسبعون فص بلخش، وستة وثلاثون مرملة مكلة بالجواهر الرائعة، وإحدى عشر عنبرية مكللة بلؤلؤ كبار، وعشرون طراز زركش، وغير ذلك ما بين لؤلؤ منظوم وزمرد وكوافي زركش، قوم الجميع بأربعة وعشرين ألف دينار.
وفيه ضرب المخلص اخو النشو ومفلح عبده بالمقارع، فأظهر المخلص الإسلام.
وفي يوم الأربعاء رابعه وثالث عشرى مسرى: وفي وفاء النيل ستة عشر ذراعاً، وفتح الخليج من الغد على العادة.
وفي يوم الأربعاء ثامن عشره: قدم أمين الدين من دمشق على البريد وطلع إلى بين يدي السلطان من الغد. وأجلسه السلطان وحادثه، وخلع عليه خلعة الوزارة، بطرحة خبعة القدوم، فنزل أمين الدين إلى داره، وتردد الناس إليه.
وفيه أفرج عن الصفي كاتب الأمير قوصون، وأعيدوا إلى ديوان قوصون عوضاً عن علاء الدين ابن الحراني.
وفيه خلع على ابن الحران واستقر في نظر الشام، عوضاً عن أمين الدين.
وفي هذه السنة: لم يركب السلطان إلى الميدان للعب الأكرة، فإن الأمراء لما تأخرت عقوبة النشو تنكروا السلطان وتنكر لهم.
وفي يوم الثلاثاء ثاني عشرى ربيع الأول: وجدت ورقة بين فرش السلطان، فيها: المملوك بيرم الناصح للسلطان يقبل الأرض، وينهى أنني أكلت رزقك، وأنت قوام المسلمين، ويجب على كل أحد نصحك، وأن بشتاك وآقبغا قد اتفقا على قتلك مع جماعة من المماليك، فاحترس على نفسك.
وكان الأمير بشتاك في هذا اليوم قد توجه بكرة النهار إلى جهة الصعيد، فطلب السلطان الأمير قوصون والأمير آقبغا، وأوقفهما على الورقة فكان عقل آقبغا ان يختلط من شدة الرعب، وأخذ قوصون يعرف السلطان أن هذا فعل من يريد التشويش على السلطان وتغيير خاطره على مماليكه. فأخرج السلطان البريد في الحال لرد الأمير بشتاك، فأدركه بإطفيح وقد مد سماطه، فقام ولم يمد يده إلى شيء منه، وجد في سيره حتى دخل على السلطان. فأوقفه السلطان على الورقة، فتنصل مما رمي به كما تنصل آقبعا، واستسلم وقال: هذه نفسي ومالي بين يدي السلطان وإنما حمل من رماني بذلك الحسد على قربي من السلطان وعظيمم إحسانه إلي، ونحو هذا حتى رق له السلطان، وأمره أن يعود إلى طلبه ويتوجه إلى جهة قصده، فسار.
ثم طلب السلطان ديوان الجيش، ورسم له أن يكتب كل من اسمه بيرم ويحضره إلى الأمير آقبغا. فارتجت القلعة والقاهرة لطلب المذكورين وعرضهم وتهديدهم وأخذ خطوطهم، ليقابل بها كتابة الورقة. فلما أعيا آقبغا الظفر بالغريم وهو يراجع السلطان في أمرهم، اتهم النشو أنها من مكايده. واشتد قلق السلطان وكثر انزعاجه، بحيث لم يستطع أن يقر بمكان واحد.
ثم طلب السلطان والي القاهرة لالا، وأمره أن يهدم ما بالقاهرة من حوانيت صناع النشاب، وينادي: من عمل نشاباً شنق، فامتثل ذلك. وخرجت أيضاً جميع مرامي النشاب، وغلقت حوانيت القواسين. ونزل الأمير برسبغا الحاجب إلى الأمراء جميعهم، وعرفهم عن السلطان أن من رمي بالنشاب من مماليكهم أو حمل قوساً كان أستاذه عوضاً عنه في التلاف، وألا يركب احد من الأمراء بسلاح ولا تركاش نشاب.
وبينا الناس في هذا الهول الشديد، إذ دخل شخص يعرف بابن الأزرق كان أبوه ممن مات في عقوبة النشو له عند مصادرته لجمال الكفاة - وطلب الورقة ليعرفهم من كتبها. فقام والي القاهرة، إلى السلطان ومعه الرجل، فلما وقف عليها قال: يا خوند هذه خط محمد الخطاب وهو رجل عند ولي الدولة صهر النشو، يلعب معه النرد ويعاقره الخمر فطلب المذكور، وحاققه الرجل محاققة طويلة، فلم يعترف، فعوقب عقوبات مؤلمة إلى أن أقر بأن ولي الدولة أمره بكتابتها، فجمع بينه وبين ولي الدولة، فأنكر ذلك. وطلب ولي الدولة أن يرى الورقة، فلما رأها حلف جهد أيمانه أنها خط ابن الأزرق لينال عرضه من أجل أن النشو قتل أباه، وحاققه على ذلك. فاقتضى الحال عقوبة ابن الأزرق، فاعترف أنها كتابته، وأنه أراد أن يأخذ بثأر أبيه من النشو وأهله. فعفا السلطان عن ابن الأزرق، وأمر بحبس الخطابي.
ورسم السلطان لبرسبغا الحاجب وابن صابر المقدم أن يعاقبا النشو وأهله حتى يموتوا وأذن للأجناد في حمل النشاب في السفر لا غيره.(2/32)
ويقال إن سبب عقوبة النشو أن أمراء المشورة تحدثوا مع السلطان في يوم الخميس رابع عشريه في أمر النشو، فابتدأ الأمير علم الدين سنجر الجاولي وقبل الأرض وقال: حاشا مولانا السلطان من شغل الخاطر وضيق الصدر فقال السلطان: يا أمراء، هؤلاء مماليكي أنشأتهم وأعطيتهم العطاء الجزيل، وقد بلغني عنهم ما لا يليق.
فقال الجاولي: حاشا لله أن يبدو من مماليك السلطان شيء من هذا غير أن علم مولانا السلطان محيط بأن ملك الخلفاء ما زال إلا بسبب الكتاب، وغالب السلاطين ما دخل عليهم الدخيل إلا من جهة الوزراء. ومولانا السلطان ما يحتاج في هذا إلى أن يعرفه أحد بما جرى لهم، ومن المصلحة قتل هذا الكلب وإراحة الناس منه، فوافقه الجميع على ذلك. فضرب في هذا اليوم المخلص أخو النشو بالمقارع مع ليلة الجمعة حتى هلك يوم الجمعة العصر، ودفن بمقابر اليهود، ثم ماتت أمه عقيبه.
وقتل بعدها ولي الدولة عامل المتجر ورمي إلى الكلاب.
هذا والعقوبة تتنوع للنشو حتى هلك في يوم الأربعاء ثاني ربيع الآخر، فوجد بغير ختان. وكتب به محضر، ودفن في مقابر اليهود بكفن قيمته أربعة دراهم، ووكل بقبره من يحرسه مدة أسبوع خوفاً من العامة أن تخرجه وتحرقه. فكانت مدة ولايته وجوره سبع سنين وسبعة أشهر.
ثم أحضر ولي الدولة صهر النشو ليعاقب، وهو بخلاف ولي الدولة عامل المتجر الذي تقدم، فدل على ذخائر للنشو ما بين ذهب وأواني في صندوق كبير. وطلبت جماعة بسبب ودائع اتهموا بها عندهم للنشو، وشمل الضرر غير واحد منهم.
وكان موجود النشو سوى الصندوق المذكور شيئاً كثيراً وعمل لمبيعه تسع وعشرون حلقة، أخرها حلقة لا يوجد لها مثل، إذ بلغت خمساً وسبعين ألف درهم، فكان جملة ما أخذ منه سوى الصندوق نحو مائتي ألف دينار. ووجد لولي الدولة عامل المتجر ما قيمته خمسون ألف دينار، ولولي الدولة صهر النشو زيادة على ثمانين ألف دينار وبيعت للنشو دور بمائة ألف درهم ثم ركب الأمير آقبغا إلى دور أل النشو بالمصاصة من مصر ومعه الأسر وخربها كلها حتى سوى بها الأرض، وحرثها بالمحاريث في طلب الخبايا، وحملت أنقاضها ورخامها، فلم يوجد بها من الخبايا إلا القليل.
وفي ثالث عشره: أفرج عن القاضي شهاب الدين أحمد بن يحيي بن فضل الله العمري من سجنه بقلعة الجبل، بعدما أقام مسجوناً سبعة أشهر وثمانية عشر يوماً.
وسبب الإفراج عنه أنه كان في السجن كاتب قد سجن على تزوير خط السلطان وكان قد قبض عليه في أيام مباشرة شهاب الدين لوظيفة كاتب السر، ورسم السلطان بقطع يده، فمازال شهاب الدين يتلطف في أمره حتى عفي من قطع يده وسجن.
فاتفق في هذا الوقت أنه رفع قصة ينهي فيها توبته، ويسأل العفو عنه، فلم يتذكر السلطان شيئاً من خبره، فقيل له إن شهاب الدين يعرف خبره، فبعث إليه في ذلك وطالعه بأمره، فأفرج عن الكاتب وعن شهاب الدين، ونزل شهاب الدين إلى داره.
وفيه خلع على الأمير عز الدين أيدمر الزراق، واستقر في ولاية ثغر الإسكندرية عوضاً عن بيبرس الجمدار الركني.
وفيه توجه جمال الكفاة ناظر الخاص، والأمير نجم الدين وزير بغداد، والأمير بيغرا، والأمير طيبغا المجدي لإيقاع الحوطة على موجوده. وذلك أن ابن الصاوي شاد معدن الزمرد رفع فيه أن يربح في سنة من صنف الخمر وحده ثلاثين ألف دينار، وأن له بالإسكندرية عقاراً كثيراً من جملته ثلاثون بستاناً أقلها بألف دينار. فوجد أكثر ما قيل عنه صحيح، فحمل إلى القاهرة، وتعصب له عدة من الأمراء حتى تقرر عليه حمل عشرين ألف دينار، فحملها وأفرج عنه.
وفيه نودي بالقاهرة أن يكون صرف الدينار بخمسة وعشرين درهماً بعدما كان بعشرين درهماً وسبب ذلك أن جمال الكفاة ناظر الخاص عمل أوراقاً بما على السلطان للتجار، فكان مبلغ ألف ألف دينار. فأجاب السلطان بأن النشو ذكر أنه وفى التجار ما لهم، وقصد ألا يعطهم شيئاً، فأشار عليه جمال الكفاة بوفاء جماعة منهم، وأن يحسب عليهم الدينار بخمسة وعشرين درهماً وما عدا هذه الجماعة لا يدفع لهم شيء، فتوقفت أحوال الناس لزيادة سعر الذهب. ولما نزل جمال الكفاة إلى دار القند بمصر ابتهج الناس به، فطرح السكر بأقل مما كان يطرحه النشو على السكريين بعشرة دراهم القنطار.(2/33)
ووقع ببلاد البحيرة والغربية مطر عظيم فيه برد كبار، تلف به عدة مزارع وكثير من الأغنام، وهبت مع ذلك رياح عاصفة ألقت النخل.
وفيها فرغت مدرسة الأمير آقبغا عبد الواحد، بجوار الجامع الأزهر. وبلي الناس في عمارتها ببلايا كثيرة: منها أن الصناع كان قد قرر عليهم آقبغا أن يعملوا بهذه المدرسة يوماً في الأسبوع بغير أجرة، فكانوا يتناوبون بها العمل سخرة، ومنها أنه حمل لها الأصناف من الناس ومن العمائر السلطانية، فكانت ما بين غضب وسرقة. ومع ذلك فإنه ما نزلها قط إلا وضرب وفيها من الصناع عدة ضرباً ومؤلماً فيصير ذلك الضرب زيادة على شدة عسف مملوكه الذي أقامه شادا بها. فلما تمت جمع بها القضاة والفقهاء، ولم يول بها أحداً، وكان الشريف المحتسب قد عمل لها بسطا بنحو ستة آلاف درهم، على أن يلي تدريسها، فلم يتم له ذلك.
وفيه قدم رسول الشيخ حسن بن الأمير حسين بن آقبغا بن أيدكين سبط القان أرغون أبغا بن هولاكو بن طولي بن جنكزخان متولي العراق، بكتابه يتضمن طلب عسكر يتسلم بغداد والموصل وعراق العجم ليقام بها الدعوة للسلطان، وسأل أن يبعث السلطان إلى طغاي بن سونتاي في الصلح بينه وبين الشيخ حسن فأجيب إلى ذلك، ووعد بتجهيز العسكر. وركب أمير أحمد قريب السلطان إلى طغاي ومعه هدية لينظم الصلح بينه وبين الشيخ حسن.
وفيه فرغت عمارة الخان الذي أنشأه الأمير طاجار الدوادار بجينين من طريق الشام، وعمل به حوض ماء للسبيل يجري إليه الماء، وعمل به حماماً وعدة حوانيت يباع بها ما يحتاج إليه المسافر، فكثر النفع به.
وفي يوم الثلاثاء ثامن عشرى ربيع الآخر: ركب السلطان إلى قصوره بسرياقوس ومضى إلى خانكاته، وقد تقدمه إليها الشيخ شمس الدين محمد الأصفهاني والقوام الكرماني وجماعة من صوفية سعيد السعداء. فوقف السلطان على الباب بفرسه، وخرج إليه جميع صوفيتها، ووقفوا بين يديه، فسألهم من يختاروه شيخاً لهم بعد وفاة الشيخ مجد الدين موسى بن أحمد بن محمود الأقصرائي فلم يعينوا أحداً. فولى السلطان مشيخة الشيوخ بها الركن الملطى خادم المجد الأقصرائي.
وفيها قدم الخبر بأن أرتنا لم يقم الخطبة ببلاد الروم للسلطان ولا ضرب السكة، فكتب بالغارة على أطراف بلاده. فقدم رسوله بهدية فيها خركاة كسوتها من داخلها، ومن خارجها حرير أطلس، ودايرها فرو سمور، وبسطها حرير قومت بثلاثين ألف درهم، ومعها ثلاثون إكديشاً، وأربعة سناقر، وعشرة بزاة وعشرة صقور، وستون تفصيلة حرير، ومع ذلك كتاب يتضمن الشكوى من غارة التركمان على أطراف بلاده. فأجيب بأن ذلك بسبب أنه لم يقم الخطبة ولا ضرب السكة باسم السلطان في بلاده، كما أخبر به.
وفيها انقطع السلطان عن الخروج إلى دار العدل نحو عشرين يوماً، لشغل خاطره بمرض الأمير يلبغا اليحياوي وملازمته له.
وفيها ادعى صلاح الدين يوسف بن المغربي الحكيم على أولاد الملوك بمبلغ عشرة آلاف درهم عند قاضي القضاة حسام الدين الغوري تعجلوها منه عن أرض بروضة مصر. وكان النشو قد أخذها منهم وأدخلها في ديوان الخاص، فوجب حقه على أولاد الملوك فلم يوافق القاضي على سجنهم وجرت بينه وبين ابن المغربي مفاوضة جرى فيها على عادته من السفه، فلم يرخص له ابن المغربي. وآل الأمر إلى أن خرج الغوري من المدرسة الصالحية ماشياً، وجمع الحنفية ليطلعوا إلى السلطان ويشكوا من ابن المغربي. ومشى الغوري بالشارع وبيده عكاز وكان يوماً مطيراً - والعامة تنظر به وبجماعته، وقد سبقه ابن المغربي وشكاه إلى السلطان. فبعثت السلطان إليه الأمير طاجار، فوجده قد طلع إلى القلعة ماشياً ليمين حلف بها، فبلغه طاجار الرسالة، وأراده أن يرجع، فأبى أن ينصرف حتى يجتمع بالسلطان. فلم يمكنه السلطان من ذلك، وواعده إلى دار العدل، فلما لم يجد سبيلاً إلى الاجتماع به عاد، وطلع يوم الخدمة إلى دار العدل. واستدعى السلطان أولاد الملوك، وادعى عليهم ابن المغربي فألزمهم بالمال، وتسلمهم برسبغا الحاجب، حتى أدوه لابن المغربي بعد إخراق وإهانة بالغة.(2/34)
وفيه عمل سماط جليل بالميدان لعافية الأمير يلبغا اليحياوي فيه من الأطعمة والأشربة والحلاوات ومشروب السكر ما يجل وصفه. واستدعى السلطان لحضوره جميع صوفية الخوانك والزوايا وأهل الخير وسائر الطوائف، وأخرج من الخزانة السلطانية ثلاثين ألف درهم أفرج بها عن المسجونين على دين، وأخرج للأمير يلبغا ثلاث حجورة بمائة ألف درهم، وحياصة ذهب مرصعة بالجواهر، وأفرج عن شعبان قريب ألماس.
وفيه خلع على الأمير علاء الدين علي بن الكوراني والي الغربية، واستقر كاشف الوجه القبلي عوضاً عن أخي ظلظيه، لشكوى الجند منه.
واستقر أسندمر مملوك القنجقي في ولاية الغربية عوضاً عن ابن الكوراني، بتعيين الأمير برسبغا الحاجب.
وفيها جهزت التعابي من الخزانة لنائب الشام ونائب حلب ونائب حماة ونائب طرابلس، على العادة في كل سنة. ورسم بتجهيز تعبئة للأمير ألطنبغا نائب غزة وأنعم عليه من مال دمشق بخمسين ألف درهم وألف درهم وألف غرارة من غلة وحمل إليه ألف دينار وتعبئة قماش وتشريف كامل.
وفيها خلع على الأمير نكبيه البريدي متولي قطيا، واستقر في ولاية الإسكندرية عوضاً عن الزراق لاستعفائه منها.
وفيه قدم أمير أحمد من بلاد الشرق، وقد عقد الصلح بين طغاي بن سونتاي وبين الشيخ حسن الكبير.
وفيها طلبت النساء المغاني وصودرن ما بين ثلاثة ألاف درهم و ألف درهبم الواحدة، وسجن بالحجرة أياماً حتى تاب بعضهن عن الغناء، وتزوج بقيتهن. وسبب ذلك أن الأمير آنوك بن السلطان كان يركب إلى جهة بركة الحبش، وعمر له بها حوشاً لطيوره وموضعاً يتنزه به، وأحضر إليه مغنية تعرف بالزهرة، فشغف بها حتى بلغ السلطان ذلك. فأسر السلطان للأمير آقبغا عبد الواحد أن يلزم شاد المغاني والضامنة بالإنكار على المغاني حضورهن مجالس الخمر وإقامة الفتن، وإلزامهن بمال يقمن به عقوبة لهن على ذلك، وأكد عليه في أن يكون ذلك من غير أن ينسب إلى السلطان أنه أمر به رعاية لآنوك.
فلما وقع ذلك شق على آنوك امتناع الزهرة عنه عدة أيام، ومازال حتى أتته سراً، ولهى بها عن زوجته ابنة الأمير بكتمر الساقي ، حتى علمت أمه بذلك، فلشفقتها عليه ترخصت له، وأمكنته من هواه. فخاف آنوك من السلطان، ودبر هو وبعص مماليكه حيلة أشغل بال السلطان عنه، وكتب ورقة يخيله فيها من الأمير بشتاك والأمير آقبغا، وألقيت إلى السلطان. فنم بعض مماليكه للأمير آقبغا بذلك، فبلغه السلطان، فدخل إلى الدور واستدعى آنوك وهم بقتله بالسيف، فمنعته أمه وجواريه. فأرعد آنوك من الخوف، ولزم الفراش، وتغير السلطان على لالاه أرغون العلالي، وأقام طيبغا المجدي عوضه، ورسم ببيع الدار التي عمرها آنوك ببركة الحبش.
وفيه قدم أبو بكر ابن السلطان من الكرك باستدعاء، ومعه هدية قيمتها نحو مائتي ألف درهم، بعد ما أخذ أموال الناس بها على سبيل القرض، وكان يقتل من يمتنع عليه ويصادره، فمات جماعة من الناس تحت العقوبة.
وفيه توجه جمال الدين الكفاة ناظر الخاص إلى الإسكندرية وأوقع الحوطة على دور بيبرس الجمدار الركني نائب الإسكندرية بعد موته، فوجد له عدة دور وحوانيت وعشرين بستاناً باعها بخمسمائة ألف وستين ألف درهم، وعاد.
وفيها قوى الماء على الجسر الذي استجده السلطان بناحية شيبين، وصارت البلاد الواطئة تستبحر. فاقتضى رأي السلطان عمل زريبة كالجسر ترد قوة الماء، فندب لعملها الأمير بيبغا حارس الطير. وفرض السلطان لذلك على البلاد عن كل دينار ثمن درهم، فجبي نحو أربعمائة ألف درهم. وجمعت البناة والفعلة، وعملت أقمنة الجير والجبس والطوب حتى تمت الزريبة في طول زيادة على ثلاثين آلف قصبة. فعظم النفع بها، وشمل الري عدة أراض ما كانت تروى قبل ذلك إلا في الأنيال العالية، وزاد ارتفاع النواحي بري الأراضي. وبطل سد بحر أبي المنجا، وتأخر فتحه بعد أوانه بعشرة أيام، وقام مقامه سد قناطر شيبين، وبطل ما كان من ركوب الناس وفرجهم في فتح أبي المنجا، وأراح الله تعالى مما كان يعمل فيه يوم فتحه من المنكرات والفواحش.
وفيه توجه الأمير بشتاك بآنوك وأبي بكر ولدي السلطان إلى العباسة، وحضر بهما بعد أيام.(2/35)
ثم توجه الأمير يلبغا اليحياوي والأمير بشتاك بطيور السلطان إلى البحيرة، وصحبة يلبغا عشرة أمراء طبلخاناه. فدخلوا إلى الإسكندرية، وقد تقدمهم جمال الكفاة إليها وجهز لهم الإقامات والتعابي والإنعامات، فأقاموا ثلاثة أيام وعادوا. فأنعم السلطان على يلبغا يوم وصوله بناحية سوهاي من الصعيد، وعبرتها خمسة عشر ألف دينار، وكتب بتمكين أهل الاسكندرية من فتح دكاكين الرماة على العادة، والإفراج لهم عن السلاح، وذلك بشفاعة يلبغا.
وفيه قدم البريد بموت الأمير طقتمر الخازن نائب قلعة حلب، وأنه وجد له عشرة ألاف دينار ومائة وستون ألف درهم.
وفيها توقفت الأحوال بسبب صرف الذهب، وعدم وجود الفضة من بين الناس في الأسواق. فأخرج السلطان من الخزانة ألف درهم فضة فرقت مدة شهر في الصيارف، وأخذ عنها ذهب، فمشت الأحوال قليلاً ثم توقفت.
وفيها قدمت طائفة من العجم لهم زي غريب، على رءوسهم أقباع طوال جداً، من فوقها عمائم مضلعة كهيئة الطرطور، ولهم شيخ يعرف بالشيخ زاده. فاحتفل بهم الأمير قوصون وأنزلهم بخانكاته، وعمل لهم فيها عدة أوقات، ثم تحدث قوصون مع السلطان في أمرهم، فولي زاده مشيخة الخانكاه الركنية بيبرس، فباشرها وعمل بها في كل ليلة جمعة سماعاً قام به الأمير قوصون.
وفي رابع عشرى شوال: رحل ركب الحاج من بركة الحاج، صحبة الأمير بكا الخضري. وكانت العادة أن يرحل الركب في سادس عشره، فقصد السلطان ألا تطول إقامة الحاج بمكة رفقاً بالها، فأخر الرحيل في رابع عشريه، ليوافي الحجاج بمكة أول ذي الحجة، واستمر ذلك فيما بعد. وسار أيضاً الأمير أقبغا عبد الواحد إلى الحج بأهله.
وفيها تسلم الأمير زين الدين قراجا بن دلغادر قلعة طرندة وأقام بها الدعوة للسلطان. وذلك أن مرجان الخادم نائب طرندة من قبل أرتنا توجه منها إلى مخدومه في مهم له، فنزل عليها من أمراء التركمان أمير علي بن الكركري، وإبراهيم كندلكي، وقرأ خليل بن البكي، وابن قرا، في زهاء أربعين رجلاً وقد باطنهم رجل من أهل القلعة وجذب الأربعين بجبال إليها، فقتلوا من بها من جماعة أرتنا، واستولوا عليها وأسلموها لابن دلغادر.
فكتب إلى السلطان بذلك، فأنعم بها على الأمير تنكز نائب الشام، فبعث إليها تنكز وعمرها، ولم تزل قلعة طرندة بأيدي سلاطين مصر إلى أن مات الظاهر برقوق.
وفيها هبت سموم ورياح عاصفة بجبل طرابلس، وسقط نجم اتصل نوره بالأرض مع رعد قوي إلى الغاية، وعلقت منه نار في أراضي الجون أحرقت عدة أشجار ومنازل فكان ذلك آية. ونزلت من السماء نار بقرية الفيجة من عمل دمشق على قبة خشب أحرقتها، وأحرقت ثلاثة بيوت بجانبها.
وفي ليلة الثلاثاء سادس عشريه: وقع بدمشق في أول الليل حريق بالدهشة شرقي الجامع الأموي، فعظم الأمر حتى وصل إلى الجامع، وتعلق بالمنارة الشرقية وسقط على الجملون الرصاص. فبادر الناس جميعاً إليه، وأطفأوه بحضرة الأمير تنكز في مدة يومين بلياليها.
ثم وقع أيضاً في ليلة السبت أول ذي القعدة: حريق أخر بقيسارية القواسين والكفتيين وسوق الخيل من دمشق، وكان أمراً مهولاً مدة يومين بلياليها. فعدم فيها نحو خمسة وثلاثين ألف قوس، وعدمت أموالاً عظيمة، منها للتجار خاصة ما مبلغة ألف وستمائة ألف دينار، وخربت أماكن كثيرة.
فبينا الناس في ذلك إذ وجدت ورقة فيها: المملوك الناصح تتضمن أن أمر الحريق يظهر إذا أمسك يعقوب غلام المكين كاتب الجيش، فقبض على المذكور وعوقب، فاعترف على أستاذه عدة من كتاب النصارى، وأحضروا بين يدي الأمير تنكز، فأقروا جميعاً بذلك.
فأوقع تنكز الحوطة على موجودهم، وكتب عليهم محضراً ملخصه: أن الرشيد سلامة بن سليمان بن مرجا النصراني كاتب الأمير علم الدين سنجر البشمقدار أشهد عليه أنه حضر إليه منتصف شوال المكين يوسف بن مجلي كاتب الأمير بهادر آص والمكين يوسف عامل الجيش وصحبتهما راهبان أحدهما اسمه ميلاني والآخر اسمه عازر، وفدما من القسطنطينية ليجاهدا في الملة الإسلامية ومعابدها وقد باعا نفسيهما على ذلك، وأنهما يعلمان صناعة النفط.(2/36)
فاجتمعوا في بستان المكين يوسف، وأحضر لهم ما يحتاجون إليه من النفط، وعملوا كعكات، وتنكروا في لباسهم، ونزلوا إلى الدهشة وتفرقوا في جوانبها، وابتاعوا منها قماشاً ودفعوا ثمنه لصاحبه، وجعلوا القماش عنده وديعة، وقد دسوا فيه تلك الكعكات المصنوعة، فوقع منها ذلك الحريق، ثم دفعوا إلى الجرائحي النصراني الذي على باب قيسارية القواسين خمسمائة درهم وكعكة من تلك الكعكات، فرمي بها في دكان داخل القيسارية، فكان منها الحريق الثاني، وأن الراهبين المذكورين خرجا بعد ذلك بكتب الجماعة إلى بيروت حتى سيرهم العامل بها في مركب إلى قبرص وأرخ المحضر بعشرى ذي القعدة، وحمل إلى السلطان.
ثم سمر الجماعة في يوم السبت ثاني عشرى ذي القعدة، بعدما عوقبوا عقوبات عظيمة، وعددهم أحد عشر رجلاً: وهم المكين يوسف بن مجلي عامل الجيش وأخوه، والمكين جرجس كاتب الحوطات، والمكين كاتب بهادر آص، وسمعان، وأخوه بشارة، والرشيد سلامة بن سليمان كاتب سنجر البشمقدار، والعلم عامل بيروت، والجرائحي، وجزاران نصرانيان، وشخص يعرف بسبيل الله، وكان هذا الرجل بالقاهرة سنة خمس وعشرين بزي غريب يلبس جلداً، ويحمل على كتفه زيراً نحاساً أندلسياً، وبيده شربات كذلك، ويقول بلسان غتمي: سبيل الله، ويسقي الناس بغير جعل، فمن الناس من اعتقده، ومنهم من اتهم أنه جاسوس، ثم خرج هذا الرجل حاجاً، وقدم دمشق وأقام بها يسقي الماء، حتى دخل مع النصارى فيما قاموا فيه من أمر الحريق ولما سمروا وسطوا بعد يومين، ووجد لهم ما ينيف على آلف درهم، أنفق منها في عمارة منارة الجامع والدهشة.
فكتب السلطان إلى تنكز ينكر عليه قتل النصارى، وأن في ذلك إغراء لأهل القسطنطينية بمن يرد إليهم من التجار المسلمين وقتلهم، ويأمر بحمل ما وجد من الماء، وأن يجهز بناته اللاتي عقد لأولاد السلطان عليهن.
فأجاب تنكز بالاعتذار عن تجهيز بناته بما شغله من عمارة ما أحرق، وأن المال الذي وجد للنصارى قد جعله لعمارة الجامع، وجهر قرمجي بذلك فلم يرض السلطان، وتغير على قرمجي، وكتب معه إليه بأنه لابد من تجهيز بناته. تم أر كب السلطان الأمير طاجار الدوادار على البريد إلى دمشق بملطفات، في يوم الجمعة ثاني عشرى ذي الحجة، وكان طاجار قد ثقل عليه أمر تنكز، وأخذ في زواله، وجعل توجهه إنما هو لعتب تنكز على تأخيره حمل بناته.
وكان قد بلغ تنكز تغير السلطان عليه، فجهز أمواله ليحملها إلى قلعة جعبر ويخرج إليها بحجة أنه يتصيد. فقدم عليه طاجار قبل ذلك في يوم الأحد رابع عشره، وعتبه وبلغه عن السلطان ما حمله، فتغير الأمير تنكز وبدا منه ما حفظه عليه طاجار.
وعاد طاجار إلى السلطان في يوم الجمعة تاسع عشر ذي الحجة قبل الصلاة، فأغرى السلطان به، وأنه قد عزم على الخروج من دمشق. فطلب السلطان بعد الصلاة الأمير بشتاك والأمير بيبرس الأحمدي والأمير جنكلي بن البابا والأمير أرقطاي والأمير طقزدمر في آخرين، وعرفهم أن تنكز قد خرج عن الطاعة، وأنه يبعث إليه تجريدة مع الأمير جنكلي والأمير بشتاك والأمير أرقطاي والأمير أرنبغا أمير جندار والأمير قماري أمير شكار والأمير قماري أخو بكتمر الساقي والأمير برسبغا الحاجب.
ومع هذه الأمراء السبعة ثلاثون أمير طبلخاناه وعشرون أمير عشرة، ومن الطبلخاناه ملكتمر السرجواني وقباتمر الجمدار المظفري وبلك الجمدار المظفري وبكا الخصري ومحمد بن الأمير جنكلي وأمير علي بن صغريل وأمير أحمد الساقي قريب السلطان ونيررز وطقتمر قلي وبيغرا السلاح دار وقراجا السلاح دار وطيبغا المجدي وطاجار الدوادار وبغاتمر وتمربغا العقيلي وطقتمر الصلاحي وجركتمر بن بهادر وسيف الناصري وطقبغا الناصري وبيبغا حارس الطير وأيتمش الناصري وأباجي الوافد وأرلان التتري الوافد وملكتمر السعيدي وأمير محمود بن خطير وخمسون نفراً من مقدمي الحلقة، وأربعمائة من المماليك السلطانية، وجلس السلطانية، وجلس السلطان وعرضهم. ثم جمع السلطان في يوم السبت عشريه الأمراء جميعهم، وحلف المجردين والمقيمين له ولولده الأمير أبي بكر من بعده، وطلب الأجناد من النواحي للحلف، فكانت بالقاهرة حركات كثيرة.(2/37)
وحمل السلطان لكل مقدم آلف مبلغ آلف دينار ولكل أمير طبلخاناه أربعمائة دينار، ولكل مقدم حلقة آلف درهم، ولكل مملوك خمسمائة درهم وفرس وقرقل وخوذة وغير ذلك.
فاتفق قدوم الأمير موسى بن مهنا في يوم السبت هذا، فقرر معه السلطان القبض على تنكز وكتب إلى العربان بأخذ الطرقات من كل جهة على تنكز.
وبعث السلطان بهادر حلاوة من طائفة الأوجاقية على البريد إلى ألطنبغا الصالحي نائب غزة وسيف الدين طشتمر نائب صفد والي أمراء دمشق، بملطفات كثيرة، وأخرج موسى بن مهنا لتجهيز العربان وإقامته على حمص، واهتم بأمر تنكز اهتماماً زائداً، وكثر قلقه وتنغص عيشه. وخرج العسكر إلى دمشق في يوم الثلاثاء ثالث عشرى ذي الحجة، وكان حلاوة الأوجاقي قد قدم على الأمير ألطنبغا الصالحي نائب غزة بملطفه، وفيه أنه قد استقر في نيابة الشام عوضاً عن تنكز، وأن العسكر واصل إليه ليسيروا به إلى دمشق، وأن الأمير طشتمر نائب صفد قد كتب إليه بالركوب إلى دمشق، ليركب هو والأمير قطلوبغا الفخري ، ويقبضا على تنكز، فسر ألطنبغا بذلك ووجه حلاوة إلى صفد، فقدمها ليلة الإثنين ثالث عشريه أول الليل، وأوقف الأمير طشتمر على ملطفه فركب في ساعته في ثمانين فارساً، وساق إلى دمشق.
واجتمع طشتمر مع قطلوبغا الفخري وسنجر البشمقدار وبيبرس السلحدار، وكان قد قدم حلاوة إلى أمراء دمشق بكرة يوم الثلائاء وهو متنكر، وأوصل الملطفات إلى أصحابها، وقد سبقته ملطفات الأمير ألطنبغا من غزة.
فاتفق ركوب الأمير تنكز في ذلك اليوم إلى قصره فوق ميدان الحصا في خواصه للنزهة، وبينما هو في ذلك إذ بلغه قدوم الخيل من صفد فعاد إلى دار السعادة، وألبس مماليكه السلاح، فلم يكن بأسرع من أن أحاط به أمراء دمشق. ووقع الصوت بوصول طشتمر نائب صفد، فخرج العسكر إلى لقائه، وقد نزل مسجد القدم. فأمر طشتمر جماعة من الأمراء أن يعودوا إلى تنكز ويخرجوه إليه، فدخل عليه منهم تمر الساقي وطرنطاي والبشمقدار وبيبرس السلاح دار، وعرفوه مرسوم السلطان وأخذوه وأركبوه إكديشاً، وساروا به إلى نائب صفد، وهو واقف بالعسكر في ميدان الحصا، وقبض على جنغيه وطعيه مملوكي تنكز وسجنا بالقلعة. وأمر طشتمر بتنكز فأنزل عن فرسه على ثوب سرج وقيده قرمجي مملوكه، وأخده الأمير بيبرس السلاح دار، وتوجه به إلى الكسوة، فحدث له إسهال ورعدة خيف عليه منه الموت، وأقام بها يوماً وليلة، ثم مضى به بيبرس إلى القاهرة، ونزل الأمير طشتمر نائب صفد بالمدرسة النجيبية.
وتقدم بهادر حلاوة عندما قبض على تنكز ليبشر السلطان فقدم ليلاً بلبيس والعسكر نازل عليها، وعرف الأمير بشتاك ثم سار إلى السلطان، فقدم ومعه أحد مماليك السلطان ومملوك طاجار الدوادار في خامس عشريه وأخبره الخبر، فسر سرورا كثيراً. وكتب السلطان بعود العسكر من بلبيس خلا الأمير بشتاك والأمير أرقطاي والأمير برسغبا الحاجب وجماعة، فإنهم يتوجهون إلى دمشق، وأن يقيم الأمير بيغرا أمير جندار والأمير قماري أمير شكار بالصالحية إلى أن يقدم الأمير تنكز، فيدخلا به.
فعاد العسكر من بلبيس، وتوجه بشتاك ورفيقاه إلى دمشق، فركب معهم الأمير ألطنبغا من غزة، فلقوا الأمير تنكز على بيسان.(2/38)
وفيها فرغ قصر الأمير سيف الدين بشتاك الناصري، بخط بين القصرين من القاهرة. وذلك أن الأمير قوصون لما أخذ قصر بيسري وجدد عمارته، أحب الأمير بشتاك أن يعمل له قصراً تجاه قصر بيسري، فدل على دار الأمير بكناش الفخري الصالحي أمير سلاح، وهي أحد قصور الخلفاء الفاطميين التي اشتراها بكتاش من ذريتهم، وأنشأ بها دوراً وإسطبلات، وأبقى ما وجد فيها من المساجد، فشاور بشتاك السلطان على أخدها، فرسم له بذلك، فأخذها من أولاد بكتاش وأرضاهم، وأنعم له السلطان بأن كانت داخلها برسم الفراشخاناه السلطانية، وأخذ دار أقطوان الساقي بجوارها وهدم الجميع، وأنشأ قصراً مطلاً على الطريق ارتفاعه أربعون ذراعاً وأساسه أربعون ذراعاً، وأجرى إليه الماء ينزل من شادروان إلى بركة. وأخرب بشتاك في عمل هذا القصر أحد عشر مسجداً وأربعة معابد أدخلها فيه، ولم يجدد منها سوى مسجد الفجل وقد سمي هذا المسجد بذلك الاسم من أجل أن قيمه يعرف بالفجل، وأنشأ خاناً تجاه خان الزكاة، ثم باع بشتاك هذا القصر لزوجته التي كانت تحت بكتمر الساقي. وفيها خطب للخليفة الواثق بالله إبراهيم بن محمد المستمسك بن أحمد الحاكم بأمر الله.
وذلك أن الخبر قدم في يوم الجمعة ثاني عشر شعبان بموت الخليفة المستكفي بالله أبي الربيع سليمان بقوص في مستهل شعبان، بعد موت ابنه صدقة بقليل، وأنه اشتد جزعه عليه، وأنه قد عهده لولده أحمد بشهادة أربعين عدلاً وأثبت قاضي قوص ذلك. فلم يمض السلطان عهده، وطلب إبراهيم في يوم الإثنين خامس عشرى شعبان، وأجلسه بجانبه وحادثه، ثم قام إبراهيم وخرج معه الحجاب بين يديه، ثم طلع إلى السلطان في يوم الإثنين ثالث عشر رمضان، وقد اجتمع القضاة بدار العدل على العادة، فعرفهم السلطان بما أراد من إقامة إبراهيم في الخلافة وأمرهم بمبايعته، فأجابوا بعدم أهليته، وأن المستكفي عهد إلى ولده أحمد بشهادة أربعين عدلاً وحاكم قوص، ويحتاج إلى النظر في عهده. فكتب السلطان بطلب أحمد وعائلة أبيه، وأقام الخطباء بديار مصر والشام نحو أربعة أشهر لا يذكرون في خطبهم الخليفة. فلما قدم أحمد من قوص لم يمض السلطان عهده، وطلب إبراهيم وعرفه قبح سيرته، فأظهر التوبة منها والتزم بسلوك طريق الخير، فاستدعى السلطان القضاة في يوم الإثنين وعرفهم أنه أقام إبراهيم في الخلافة، فأخذ قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة يعرفه سوء أهليته للخلافة، فأجاب بأنه قد تاب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وقد وليته فاشهدوا علي بولايته.
ورتب له السلطان ما جرت به العادة، وهو ثلاثة آلاف وخمسمائة وستون درهماً وتسعة عشر أردب شعيراً في كل شهر، فلم يعارضه أحد. وخطب له في يوم الجمعة سادس ذي القعدة. ولقب بالواثق بالله أبي اسحاق، فكانت العامة تسميه المستعطي فإنه كان يستعطى من الناس ما ينفقه، وشهر بارتكاب أمور غير مرضية.
وفيها استقر في قضاء الشافعية برهان الدين إبراهيم بن الفخر خليل بن إبراهيم الرسعني، عوضاً عن زين عمر بن محمد بن عبد الحاكم البلفيائي.
وفيها استقر ناصر الدين محمد بن الصاحب شرف الدين يشوب بن عبد الكريم بن أبي المعالي الحلبي في كتابة السر بحلب، عوضاً عن شهاب الدين أحمد بن القطب المصري.
وفيها استقر الشيخ حسن الكبير بن الأمير حسين بن آقبفا بن أيدكين وهو سبط القان أرغون بن أبغا بن هولاكو، في مملكة بغداد، قدم إليها من خراسان، وكان الشيخ حسن الصغير بن دمرداش إذ ذاك حاكم توريز.
وكان قاع النيل في هذه السنة أربعة أذرع وخمسة أصابع، وانتهت زيادته إلى سبعة عشر ذراعاً وتسعة عشر أصبعاً.
ومات فيها من الأعيان شهاب الدين أحمد بن عيسى بن جعفر الأرمنتي المصري عرف بابن الكمال في جمادى الأولى، سمع من الأبرقوهي، وكان ثقة.
وتوفي الشيخ مجد الدين أبو بكر بن إسماعيل بن عبد العزيز الزنكلوني الشافعي ليلة الثلاثاء رابع ربيع الأول، وله شرح التنبيه في الفقه وغيره، وولي مشيخة خانكاه بيبرس.(2/39)
وتوفي الخليفة المستكفي بالله أبو الربيع سليمان ابن الخليفة الحاكم بأمرالله أبو العباس أحمد بن الحسن بن أبي بكر بن أبي علي بن الحسن العباسي، بمدينة قوص، عن ست وخمسين سنة وستة أشهر وأحد عشر يوماً، وفي خامس شعبان، وكانت خلافته تسعاً وثلاثين سنة وشهرين وثلاثة عشر يوماً، وكان حشماً كريماً فاضلاً.
وتوفي خطيب أحميم علم الدين علي، وكان له مال كثير وإفضال كثير. أضاف السلطان مرتين وكفاه بجميع ما يحتاج إليه، وأهدى إلى جميع الأمراء، وعمر مدرسة بمدينة أحميم ومات الأمير ركن الدين بيبرس الأوحدي والي القلعة، أحد المماليك المنصورية، في يوم السبت تاسع عشر ربيع الأول. ومات الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير عز الدين أيدمر الخطيري، وكان خيراً.
ومات بدمشق الأمير آقسنقر مشد العمارة، المنسوب إليه قنطرة آقسنقر على الخليج خارج القاهرة، والجامع بسويقة السباعين على البركة الناصرية فيما بين القاهرة ومصر ومات الأمير علم الدين علي بن حسن المرواني والي القاهرة، في ثاني عشر رجب بعد مقاساة أمراض شنيعة مدة سنة، وكان سفاكاً أفاكاً ظلوماً غشوماً، اقترح في ولايته عقوبات مهولة: منها نعل الرجل في رجليه بالحديد كما تنعل الخيل، ومنها تعليق الرجل بيديه وتعليق مقابرات العلاج في رجليه، فتنخلع أعضاؤه ويموت، وقتل خلقاً كثيراً من الكتاب وغيرهم في أيام النشو، ولما حملت جنازته وقف عالم عظيم لرجمه، فركب الوالي وابن صابر المقدم حتى طردهم.
ومات الأمير عز الدين أيدمر الدوادار الناصري بدمشق، وكان خيراً فاضلاً.
ومات الأمير بهادر البدري نائب الكرك، وهو منفي بطرابلس.
وتوفي شرف الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن عسكر بن مظفر القيراطي الشافعي، بالقاهرة عن سبعين سنة، تصدر بالجامع الأزهر، وباشر قضاء دمياط.
وتوفي جمال الدين عبد القاهر بن محمد بن عبد الواحد بن محمد بن إبراهيم التبريزي الحراني الشافعي قاضي دمياط، كان فقيهاً أديباً شاعراً خطيباً.
وتوفي الشيخ مجد الدين أبو حامد موسى بن أحمد بن محمود الأقصرائي شيخ الشيوخ، في يوم الجمعة سابع عشر ربيع الآخر وقد أناف على السبعين بخانكاه سرياقوس.
ومات الأمير ركن الدين بيبرس الركني المظفري، كاشف البحيرة ووالي ثغر الإسكندرية، عن مال كثير.
ومات شرف الدين عبد الوهاب بن التاج فضل الله المعروف بالنشو ناظر الخاص، في يوم الأربعاء ثاني ربيع الآخر، كان أبوه يكتب عند الأمير بكتمر الحاحب وهو ينوب عنه، ثم انتقل إلى مباشرة ديوان الأمير أركتمر الجمدار، ثم ولي استيفاء الدولة، ثم باشر ديوان الأمير آنوك ابن السلطان، وأكره حتى أظهر الإسلام، وولي نظر الخاص السلطاني، فبلغ ما لم يبلغه أحد من الأقباط في دولة الترك، وتقدم عند السلطان على كل أحد، وخدمه جميع أرباب الأقلام، وكان محضر سوء لم يشتهر عنه شيء من الخير، وجمع من الأموال ما لم يجمعه وزير للدولة التركية، وكان مظفراً، ما ضرب على أحد إلا ونال غرضه منه بالإيقاع به وتخريب دياره، وقتل على يديه عدة من الولاة والكتاب، واجتهد غاية جهده في قتل موسى بن التاج إسحاق، وعاقبة ستة أشهر بأنواع العقوبات، من الضرب بالمقارع والعصر في كعابه وتسعيطه بالماء والملح وبالخل والجير وغير ذلك مع نحافة بدنه ومرضه بالربو والحمى، فلم يمت، وعاش التاج موسى هذا ثلاثين سنة بعد هلاك النشو.
ومات مجد الدين رزق الله بن فضل الله أخو النشو، خدم وهو نصراني في استيفاء الخاص أيام أخيه، ثم أسلم على يد السلطان في سنة ست وثلاثين كرهاً، وخدم عند الأمير ملكتمر الحجازي، فعظم شأنه وفعل خيراً، فلما قبض على أخيه قبض عليه معه، فذبح نفسه في ثالث صفر.
سنة إحدى وأربعين وسبعمائة
في يوم الثلاثاء سابع المحرم: وصل الأمير سيف الدين تنكز نائب الشام وهو متضعف، صحبة الأمير بيبرس السلاح دار، وأنزل من القلعة بمكان ضيق حرج. وقصد السلطان ضربه بالمقارع فقام الأمير قوصون في الشفاعة له حتى أجيب إلى ذلك وبعث إليه السلطان يهدده حتى يعترف بما له من المال، ويذكر من كان موافقاً على العصيان من الأمراء.(2/40)
فأجاب تنكز بأنه لا مال له سوى ثلاثين ألف دينار وديعة عنده لأيتام بكتمر الساقي، وأنكر أن يكون خرج عن الطاعة. فأمر السلطان في الليل فأخرج مع ابن صابر المقدم وأمير جندار، وحمل في حراقة بالنيل إلى الإسكندرية، فقتله بها إبراهيم بن صابر المقدم، في يوم الثلاثاء خامس عشره.
وفي يوم الإثنين سادسه: قدم الأمير بشتاك والأمير ألطنبغا الصالحي إلى دمشق فيمن معهما من الأمراء وقد خرج الناس إلى لقائهم، فكان يوماً مشهوداً. ونزل الأمير ألطنبغا بدار السعادة، ونزل الأمير بشتاك بالميدان. ثم قبض على الأمير صاروجا المظفري ألجيبغا العادلي، وطلب من ألزام تنكز مملوكاه جنغيه وطغيه، وسلما للأمير برسبغا، فعاقبهما أشد عقوبة على المال، وقبض على أولادهما وحواشيهما، وأوقع الحوطة على موجوديهما وموجود صاروجا وألجيبغا، ثم وسط جنغيه وطغيه بسوق الخيل، وأكحل صاروجا.
وتتبعت أموال تنكز، فوجد له ما يجل وصفه، وعملت لبيع حواصلة عدة حلق، تولى البيع فيها الأمير ألطنبغا نائب الشام والأمير أرقطاي، وهما أعدى عدو له، وكان في ذلك عبرة لمن اعتبر.
وظهر له من التحف السنيه ما يعز وجود مثله. منها مائتا منديل زركش، ومائة حياصة مرصعة بالجوهر، وأربعمائة حياصة ذهب، وستمائة كلفتاه، وثمانية وستون بقجه بها بدلات ثياب زركش، وألفا ثوب أطلس ومائتا تخفيفة زركش وذهب مختوم أربعمائة ألف مثقال. واشتملت جملة ما أبيع له على مائتي ألف دينار، فكان جملة العين ستمائة ألف دينار وأربعمائة دينار.
ووجد له من الهجن والخيل والجمال البخاتي وغيرها نحو أربعة ألاف ومائتي رأس وذلك سوى ما أخذه الأمراء ومماليكهم، فإنهم كانوا ينهبون ما يخرج به نهباً. ووجد له من الثياب الصوف ومن النصافي ما لا ينحصر، وظفر الأمير بشتاك بجوهر له ثمين اختص به. وحملت حرمه وأولاده إلى مصر صحبة الأمير بيغرا، بعدما أخذ. لهم من الجوهر واللؤلؤ والزركش شيء كثير.
ووجد لألجيبغا العادلي مبلغ مائة وعشرين ألف درهم، وألف ومائتي دينار وأصناف كثيرة، فبلغت تركته ستمائة ألف درهم. ولم يؤخذ لصاروجا غير أربعين ألف درهم، وصودر جماعه من ألزام تنكز فأخذ منهم نحو الألفي ألف درهم.
ثم توجه الأمير بشتاك من دمشق، وقدم قلعه الجبل، فخلع عليه وأكرم إكراماً زائداً.
ثم قدم الأمير قطلوبغا الفخري باستدعاء، فخلع عليه، وأنعم عليه بتقدمة ألف، ثم قدم الأمير طشتمر حمص أخضر نائب صفد، فخلع عليه بنيابة حلب، عوضاً عن طرغاي الجاشنكير.
وخلع على الأمير مسعود بن خطير الحاجب بنيابة غزة، وأنعم على برسبغا بتقدمته وحجوبيته، وكتب بحضور طرغاي من حلب.
وفيها استقر الأمير أرقطاي في نيابة طرابلس عوضاً عن طينال، وأقام طينال بدمشق.
وفيها استقر الأمير أقسنقر السلاري في نيابة صفد، عوضاً عن الأمير طشتمر. ولما قدم حريم تنكز أنزلوا في داره بخط الكافوري، وكان قد أخرج جمال الكفاة ناظر الخاص منها حواصل جليلة، ما بين أواني صيني ومسك وعود وغير ذلك، أقام في بيعه مدة أربعة أشهر، وبلغت قيمتها نحو ثمانين ألف درهم وألفي دينار، سوى ما أنعم به على الأمراء.
ووجد لتنكز بقلعة جعبر مبلغ ثلاثين ألف دينار، وثلاثين حمل سلاح، ووجد له حاصل سروج ولجم وسلاسل ذهب وفضة وعدة سلاح بما ينيف على مائة ألف دينار، وقومت أملاكه بما ينيف على مائة ألف دينار.
وكان لتغير السلطان على تنكز أسباب: منها أنه كتب يستأذن في سيره إلى ناحية جعبر، فمنعه السلطان من ذلك، لما في تلك البلاد من الغلاء، وألح تنكز في الطلب والجواب يرد بمنعه حتى حنق من السلطان وقال: والله لقد تغير عقل أستاذنا، وصار يسمع من الصبيان الذين حوله ووالله لو سمع مني لكنت أشير عليه بأن يقيم أحد أولاده، وأقوم أنا بتدبير أمره، ويبقى هو مستريحاً. فكتب بذلك جركتمر للسلطان، وكان يتخيل بدون هذا، فأسر في نفسه منه شيئاً.
واتفق أن أرتنا نائب الروم بعث رسولاً إلى السلطان بكتابه، ولم يكتب معه كتاباً إلى تنكز، فخنق تنكز لعدم مكاتبته، ورد رسوله من دمشق.(2/41)
فكتب أرتنا يعرف السلطان بذلك، ويسال ألا يطلع تنكر على ما بينه وبين السلطان، ورماه بأمور أوجبت شدة تغيره عليه، واتفق أيضاً أن غضب تنكز على جماعة من مماليكه، وضربهم وسجنهم بالكرك والشوبك فكتب منهم جوبان وكان أكبر مماليكه الأمير قوصون يشفع به في الإفراج عنه من سجن الشوبك. فكلم قوصون السلطان في ذلك فكتب إلى تنكز يشفع في جوبان فلم يجب عن أمره بشيء، فكتب إليه ثانياً وثالثاً، فلم يجب، فاشتد غضب السلطان حتى قال للأمراء: ما تقولون في هذا الرجل؟ هو شفع عندي في قاتل أخي فقبلت شفاعته، وأخرجته من السجن وسيرته إليه يعني طشتمر آخا بتخاص وأنا أشفع في مملوكه ما يقبل شفاعي وكتب لنائب الشوبك بالإفراج عن جوبان فأفرج عنه.
وكان تنكز رحمه الله في نيابة دمشق قد أزال المظالم، وأقام منار الشرع وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وأزال ما كان بدمشق وأعمالها من الفواحش والخانات والخمارات، وبالغ في العقوبة على ذلك حتى قتل فيه. وأنصف العامة والتجار بخلاص حقوقهم من الأمراء، وحملهم مع أخصامهم إلى الشرع. واحتجب عن الاجتماع بالشاميين وغيرهم، وامتنع من قبول التقادم والهدايا جملة. وتتبع المدارس والمساجد والأوقاف فعمرها جميعها، ومنع مستحقيها من تناول ريعها حتى كملت عمارتها. وحدد عدة أماكن قد دثرت أوقافها، وأعاد فيها وظائف العبادات بعدما بطلت وجدد عمارة الجامع الأموي ، وعمر أوقافه، وأصلح تقاسيم المياه بعد ما كانت فاسدة ونظف مجاريها ووضح طرقها، وهدم الأملاك التي استجدها الناس وضيقوا بها الشوارع والطرقات المسلوكة. وألزم والي المدينة أن يعلمه. ممن يشرب الخمر من الأمراء وأولادهم، فتعذر وجود الخمر في أيامه، و لم يكن يوجد. واستجد ديواناً للزكاة، وصرفها للفقراء والمساكين وأرباب البيوت. وانكفت الولاة في أيامه عن الظلم، وأحبته العامة ومنع الأمراء من تسخير الفلاحين والمزارعين في أعمالهم، ومنعهم أيضاً من الاجتماع في الفرج والمتنزهات وغيرها، فصاروا إذا وكبوا في المواكب لا يقدر أحد منهم يكلم رفيقه وإذا صاروا إلى بيوتهم لا يستطيع الواحد أن يجتمع بالآخر، وإذا اخرج تنكز إلى سفر لا يتأخر منهم أحد، سواء قال له: أخرج أو لم يقل له. ومنع أكابر الأمراء أن تترجل له أو تمشي في خدمته، فأقام الله له من الحرمة ما لا حصل لأحد من نواب الدولة التركية وكتب لنواب البلاد الشامية ألا يكاتبوا السلطان إلا ويكاتبوه، وأن ترد مكاتباتهم للسطان عليه بغير ختم ليقف عليها، فإن أرضته بعث بها إلى السلطان وإلا ردها. وأضيف إليه أمر صفد وغزة وكان مغرماً بالصيد، بحيث يركب له في السنة ثلاث مرات، أخرها تعدية الفرات في الشتاء، فإذا ضرب الحلقة لشتمل على ثلاثمائة غزال ونيف، وعلى مائتي رأس من بقر ونعام، وغير ذلك.
وعمر قلعة جعبر بعد خرابها من عهد غازان، وشحنها بالرجال والسلاح والغلال وعدى الفرات مراراً، فاتفق أنه عدى مرة، فحمل إليه الشيخ حسن الكبير وابن سونتاي الهدايا الجليلة، وخافه أهل بغداد والموصل، فجلا كثير منهم، وخافته الأكراد والتركمان والعربان بأجعهم.
وكانت أولاد دمرداش في أعمال توريز، ماذا بلغهم مسيره رحلوا خوفاً منه، حتى يبلغهم عوده إلى دمشق.
فلما كانت أخر أيامه صادر جماعة كثيرة من كتاب السر وغيرهم، ومن الضمان والعرفاء. واتخذ الأملاك، وأخذ عدة أوقاف من أولاد الملوك، حتى كانت غلة أملاكه كل سنة مائة ألف درهم. وسخر الفلاحين، وقطع الزكاة. وأخرق بكثير من الأمراء، وأخرج منهم جماعة عن دمشق، وبالغ في العقوبة، وساء خلقه كثيراً. وكانت مدة نيابته ثمانياً وعشرين سنة وأشهراً.
وفيه طلب شهاب الدين أحمد بن فضل الله، وخلع عليه بكتابة السر بدمشق، بعدما خلفه السلطان عوضاً عن شهاب الدين يحيى بن إسماعيل بن محمد بن عبد الله بن محمد ابن خالد بن محمد بن نصر بن القيسراني. فقدم ابن فضل الله إلى دمشق، وقد كاد الأمير برسبغا الحاجب أن يقطع يد ابن القيسراني بمرسوم السلطان، بعدما صادره، فقام في ذلك ابن فضل الله حتى أفرج عنه.
وفيه طلب أيضاً شمس الدين موسى بن التاج إسحاق، وخلع عليه، واستقر في نظر الجيش بدشق، عوضاً عن فخر الدين محمد بن الحلي بعد موته.(2/42)
وأخرجت له بغلة النشو التي كان يركبها، وجهز من الخزانة حتى سافر، فباشر الجيش بعفة زائدة، وأبطل ما كان يستهديه من قبله.
وفيه قبض على الأمير مكين الدين إبراهيم بن قروينة ناظر الجيش، وسلم للأمير برسبغا الحاجب، وطلب جمال الكفاة ناظر الخاص، وخلع عليه لنظر الجيش مع نظر الخاص، ولم يجمعهما أحد قبله، ثم أفرج عن ابن قروينة بعدما حمل مائة وثلاثين ألف درهم، بشفاعة الأمير بشناك.
وفيه قبض على الصاحب أمين الدين أبي سعيد عبدالله بن تاج الرياسة بن الغنام وسلم إلى الأمير برسبغا، ورسم له بعقوبته من أجل أنه اتهم بأنه كان من جهة تنكز فعاقبه برسبغا، وعاقب ولده تاج الدين أحمد ناظر الدولة، وأخاه كريم الدين أبا شاكر مستوفي الصحبة، وأخذ أموالهم، ثم خنق أمين الدين.
وفي يوم الجمعة حادي عشرى ربيع الآخر: مات الأمير آنوك ابن السلطان بعد مرض طويل، فدفن بالتربة الناصرية بين القصرين، وكان يوماً مهولاً، نزل في جنازته جميع الأمراء. وباعت أمه ثيابه وتصدقت بها على الفقراء، ورتبت القراء على قبره بجار لهم في كل شهر من وقف وقفته على قبره، وأقامت سنة تعمل في كل ليلة جمعة على قبر مجتمعاً يحضره القراء لقراءة ختمة كريمة، وتمد لهم الأسمطة الجليلة.
وفيه أنعم على الأمير قطلوبغا بإقطاع آنوك.
وفي هذه السنة: كثر وقوع الحريق بالنواحي في أجران الغلال بنواحي قليوب وسنديون وبلاد الغربية والبحيرة ولم يعلم من أين هو. ثم وقع بالقاهرة في أماكن منها ربع طقزدمر بدار التفاح، فاستعد الناس لذلك.
وفي أخريات جمادى الآخرة: هبت ريح شديدة من بحر الإسكندرية، فاقتلعت نخلاً كثيراً، وهدمت دوراً عديدة، ثم أعقبها مطر غزير هلك به أغنام كثيرة وعظم اضطراب النيل حتى غرق فيه أحد وعشرون مركباً، وصار يقذف المركب إلى البر حتى يبعده نحو عشر قصبات عن الماء. وكل ذلك جميع أراضي مصر قبليها وبحريها وأرض برقة.
وفيه نقل الأمير عز الدين أزدمر الكاشف من كشف الوجه البحري إلى كشف الوجه القبلي، وفيه نقل علاء الدين علي بن الكوراني إلى ولاية الغربية.
وفيه ركب السلطان إلى جهة بركة الحبش، وصحبته عدة من المهندسين، وأمر أن يحفر خليج من البحر إلى حائط الرصد، ويحفر في وسط الشرق المعروف بالرصد عشرة أبار عمق كل بئر نحو أربعين ذراعاً يركب عليها السواقي حتى يجري الماء من النيل إلى القناطر التي تحمل الماء إلى القلعة، ليكثر بها الماء.
وأقام السلطان الأمير آقبغا عبد الواحد على هذا العمل فشق الخليج من بحري رباط الآثار، ومروا به وسط بستان الصاحب تاج الدين بن حنا المعروف بالمعشوق، وهدمت عدة بيوت كانت هناك، وجعل عمق الخليج أربع قصبات. وجمعت عدة من الحجارين للعمل فكان مهماً عظيماً.
وفيه قدم الشيخ أحمد بن موسى الزرعي، فركب الأمراء والقضاة للسلام عليه. ثم عاد الشيخ إلى الشام بعد أيام، ولم يجتمع بالسلطان.
وفيه تغير السلطان على ولده أحمد بسبب بينات عنده، وأخرجه منفياً إلى صرخد وباع خيله. فلم يزل به الأمراء حتى أمر برده، فرجع من سرياقوس.
وفيه كتب السلطان بطلب ابنه أبي بكر من الكرك، فقدم ومعه هدية بمائة ألف درهم، فتوجه الأمير طيبغا المجدي إلى الكرك، وأحضر طلب أبي بكر ومماليكه وخواصل الكرك كلها.
وفيه خلع على الأمير ملكتمر السرجواني، واستقر في نيابة الكرك، وتوجه إليها ومعه أحمد ابن السلطان، وأوصاه السلطان ألا يدع لأحمد حديثاً ولا حكماً بين اثنين. وفيه قدم البريد بأن الغلاء شديد ببلاد المشرق، وأنه ورد من أهله عالم عظيم إلى شط الفرات وبلاد حلب، فكتب إلى نائب حلب بتمكينهم من العبور إلى حيث شاءوا من البلاد وأوصاه السلطان بهم، فملأوا بلاد حلب وغيرها.
وقدم منهم إلى القاهرة صحبة قاصد نائب حلب نحو المائتي نفر، فاختار السلطان منهم طائفة نحو ثمانين شخصاً، جعل بعضهم في الطباق، وأسكن منهم عدة القلعة، وأمر منهم جماعة وفرق في الأمراء منهم جماعة.
وفيها جدد السلطان جامع راشدة، وقد تهدم أكثر جدرانه.
وفيها ابتاع الأمير قوصون من الأمير مسعود بن خطير قصر الزمرد بخط رحبة باب العيد من القاهرة، وكان سعته نحو عشر فدادين، وشرع قوصون في عمارته سبع قاعات، لكل قاعة إصطبل. وفيها قدم الخبر بخروج ابن دلغادر عن الطاعة.(2/43)
وفيها استقر ركن الدين بيبرس السلاح دار أحد أمراء الألوف بدمشق في نيابة أياس، عوضاً عن مغلطاي الغزي بعد موته.
وفيها شنعت القالة بسوء سيرة الطائفة الأقباعية بخانكاه بيبرس، فرسم السلطان بنفيهم ونفي شيخهم، فأخرجوا منها بأجمعهم. واستقر في المشيخة بها الشيخ شيرين. وفيه خرج الأمير بشتاك إلى البلاد الشامية ليتصيد، وقد كتب إلى النواب بملاقاته وتعبية الإقامات له.
وفيها توجه بكلمش المارديني على البريد بهدية لصاحب ماردين فيها عشر ألاف دينار، وعشرة رءوس من الخيل ومائتا قطعة قماش، وأربعة فهود.
وفيها قدم الخبر باختلال حال البريد، من كثرة ركوب التجار والعرب البريد، فرسم ألا يركب البريد إلا من يأذن له السلطان في ركوبه، ويكون معه ورقة بتمكينه من ذلك، وأن يفتش بقطيا كل من ورد، فمن وجد معه ورقة وكتب لغير السلطان أخذت منه وحملت إلى السلطان.
وفيها ركب أمير أحمد الساقي قريب السلطان البريد إلى بلاد الشرق لمهمات سلطانية: منها طلب رهائن طغاي سونتاي والشيخ حسن بك الكبير، وكانا قد سألا أن يجهز السلطان عسكراً ليسلماه بلاد الشرق، فأجيبا إلى ذلك على أن يبعثا بأولادهما رهناً على العسكر، فجهز ابن سونتاي ولده برهشين، وجهز الشيخ حسن ابن أخيه ابراهيم شاه إلى حلب.
وفيه استقر الأمير بهاء الدين أصلم في نيابة صفد، عوضاً عن أقسنقر السلاري، ونقل آقسنقر إلى نيابة غزة، عوضاً عن أمير مسعود بن خطير، ونقل أمير مسعود إلى دمشق، وأنعم عليه بإقطاع بيبرس السلاح دار المستقر في نيابة أياس.
وفيه أنعم على الأمير أبي بكر ابن السلطان بإقطاع الأمير أصلم، ورسم للأمير بشتاك أن يتولى أمره، فاستخدم له الوافدية من حلب وغيرهم، حتى أكمل عدته. وعمل السلطان الأمير ألطنقش مملوك الأفرم أستاداره، وزوجه بابنة الأمير ملكتمر الساقي التي كانت تحت أخيه آنوك، وبنى عليها.
وفيه رسم بطلب أجناد الحلقة من الأعمال، فلما تكامل حضورهم تقدم السلطان إلى الأمير برسبغا بعرضهم، فكتبت أوراق بعبرة كل خبز. ثم جلس السلطان بالإيوان، وعرض عليه جماعة كبيرة من المشايخ ومن المحارفين، فقطع الجميع وكتب بإقطاعاتهم مثالات المماليك السلطانية أرباب الجوامك. وعرض برسبغا بقية الأجناد بالقلعة وفتش عن ثيابهم التي هي عليهم، وقد كتبت أوراق بأرباب المرتبات الذين على مدينة بلبيس وبساتينها وحوانيتها، وأوراق بمتحصل المعادي ببولاق، وأوراق بجهات النطرون، وأوراق بأسماء الأجناد المقطعين على الحكورة. فرسم السلطان أن يوفر الجميع، وأن يؤخذ من الجند المقطعة على الحكر أخبارهم، وينعم بها على الأمير ألطنبغا المارديني، ليكون وقفاً على جامعه خارج باب زويلة، وعلى الأمير بشتاك ليكون وقفاً على جامعه المطل على بركة الفيل.
فلما تم عرض الأجناد قطع السلطان منهم الزمنى والعميان والضعفاء وأرباب العاهات، وفرق إقطاعاتهم على المماليك السلطانية، وأخرج بعضها للوافدية الذين يفدون من البلاد، فكانت مدة العرض شهرين، أولها مستهل رمضان وأخرها سلخ شوال.
وكتب إلى الأعمال بحمل ما توفر عن الأجناد من الإقطاعات لبيت المال.
وفيه كتبت أوراق بأسماء المجردين إلى بلاد الشرق: وهم الأمير برسبغا الحاجب والأمير كوكاي السلاح دار، والأمير طوغاي الجاشنكير، والأمير قماري أمير شكار، ومعهم جماعة كثيرة، ورسم أن يكون خرجهم إلى توريز في نصف ذي الحجة. فاشتد ذلك على الناس، وكثر الدعاء على السلطان بسبب قطع أرزاق الجند.
وفيه كتب بتجهيز عساكر دمشق وحلب وغيرهما للتجريدة إلى توريز، صحبة الأمير طشتمر نائب حلب، ويكون معه عامة أمراء التركمان والعربان.
فتجهز الأمراء والأجناد بمماليك الشام، وبرز نائب حلب بمخيمه إلى ظاهر المدينة وأقام ينتظر قدوم عساكر مصر. فأصبح السلطان في مستهل ذي الحجة وبه وعك من قرف حدث عنه إسهال لزم منه الفراش خمسة أيام، فتصدق بمال جزيل، وأفرج عن المسجونين بسجن القضاة والولاة بالقاهرة ومصر وسائر الأعمال.
وفي يوم الأربعاء سادسه: قدم برهشين بن طغاي بن سونتاي وإبراهيم شاه ابن أخي الشيخ حسن الكبير، في مائتي فارس، فأنزلوا بالميدان، وأجريت لهم الرواتب السنية.(2/44)
ثم أحضروا بين يدي السلطان في يوم الجمعة ثامنه وفيهم قاضي بغداد وقاضي الموصل وقاضي ديار بكر، فقدموا كتاب طغاي وكتاب الشيخ حسن الكبير، ونسخة أيمانهما وأيمان عامة أهل بلادهم من الأمراء والأجناد وأرباب المعايش بطاعة السلطان، وأنهم من جنده ومقاتلة من عاداه، وقدموا الخطبة التي خطب بها للسلطان في بغداد والموصل وديار بكر.
فقرئ ذلك كله على السلطان، فعرفهم السلطان أنه رسم بتجهيز العسكر إليهم، وبعد عشرة أيام يستقل بالسفر نحو بلادهم ثم خلع السلطان على الجميع، ورسم لنقيب الجيش باستعجال الأمراء والأجناد في الحركة للسفر، فشرعوا في تجهيز أمرهم. وكانت الأحوال متوقفة لقلة وجود الدراهم ورد الباعة من التجار والمتعيشين الذهب لغلو صرفه، فشق ذلك على الناس مشقه زائدة.
وفيه قوي الإسهال بالسلطان، ومنع الأمراء من الدخول إليه، فكانوا إذا طلعوا إلى الخدمة خرج لهم السلام من أمير جندار عن السلطان فانصرفوا.
وكثر الكلام إلى يوم الإثنين ثاني عشر، فخف عن السلطان الإسهال فجلس للخدمة وطلع للأمراء، ووجهه متغير.
فلما انقضت الخدمة نودي بزينة القاهرة ومصر، وجمعت أرباب الملاهي بالقلعه وجمع الخبز الذي بالأسواق، وعمل ألف قميص، وتصدق السلطان بذلك مع جملة مال.
وقام الأمراء بعمل الولائم والأفراح سروراً بعافية السلطان، وعمل الأمير ملكتمر الحجازي نفطاً كثيراً في سوق الخيل تحت القلعة، والسلطان قاعد لنظره، فاجتمع الناس من كل جهة لرويته.
وقدمت عربان الشرقية بخيولها وقبابها المحمولة على الجمال، ولعبوا بالرماح تحت القلعة. وخرجت الركابة والكلابزية وطائفة العتالين والحجارين إلى سوق الخيل للعب، ثم داروا على بيوت الأمراء وأخذوا الخلع هم والطبلكية فحصل لهم شيء كثير جداً، بحيث جاء نصيب مهتار الطبلخاناه ما قيمته ثمانون ألف درهم، وحصل لأرباب الملاهي مالا ينحصر.
وفيه رسم بعرض الجند المجردين في غد، فطلعوا إلى القلعة. وبينا هم في انتظار العرض إذ قدم إدريس القاصد صحبة مملوك صاحب ماردين بكتابه يتضمن أن أولاد دمرداش لما بلغهم طلب الشيخ حسن الكبير وطغاي بن سونتاي من السلطان أن يجهز لهم عسكراً ليأخذ البلاد، وأنهما حلفاً له وحلفاً أهل البلاد وخطباً باسمه على منابر بغداد والموصل، ركبوا إلى محاربتهما، فطلب منهم الشيخ حسن الكبير الصلح، وحلف لهم وسار إليها طائعاً، فأكرموه وكتبوا لطغاي بن سونتاي أماناً، واتفقوا على أن يعدوا الفرات إلى الشام.
وأشار صاحب ماردين ألا تخرج التجريدة إلى توريز، فإنه ليس لسيرها فائدة. فتفرقت الأجناد من القلعة بغير عرض، وبعث السلطان من ليلته بجواب صاحب ماردين، واقتضى رأيه أن يكشف عما ذكره، فإن برهشين بن طغاي اتهمه في ذلك.
فالما كان نصف ليلة: العيد هبت ريح عاصفة ألقت الزينة، ثم أمطرت مطراً عظيماً أتلف كثيراً من الزينة.
وكانت عامة ببلاد الشرقية والغربية والمنوفية، ونزل بتلك الأعمال برد كبار قتل من الغنم والدجاج كثيراً، وتلفت غلال كثيرة كانت بالأجران، فإنه كان في شهر بشنس.
وأصبح يوم الأحد: يوم العيد، وقد اجتمع الأمر لخروج السلطان إلى صلاة العيد، وقد قوي به الإسهال وأجمع رأيه على ألا يشهد صلاة العيد، فمازال به الأمير قوصون والأمير بشتاك حتى ركب ونزل إلى الميدان. وأمر السلطان قاضي القضاة عز الدين عز الدين عبد العزيز بن جماعة أن يوجز في خطته، مما هو إلا أن صلى السلطان وجلس لسماع الخطبة تحرك باطنه، فقام وركب إلى الفصر، وأقام يومه. ثم قدم البريد من حلب بصحة الخبر بصلح الشيخ حسن الكبير وطغاي مع أولاد دمرداش، فانزعج السلطان لذلك انزعاجاً شديداً، واضطرب مزاجه، فحدث له إسهال دموي.
وأصبح يوم الإثنين: وقد منع الناس من الاجتماع به ثم أشاع الأمير قوصون والأمير بشتاك أن السلطان قد أعفى الأجناد من التجريدة إلى توريز، ونودي بذلك في يوم الخميس رابع عشره، ففرح الناس فرحاً زائداً، إلا أنه انتشر بين الناس أن السلطان انتكس، فساءهم ذلك. وأخذ الأمراء في إنزال حرمهم وأموالهم من القلعة حيث سكنهم إلى القاهرة، فارتجت المدينة وماجت بأهلها.(2/45)
واستعد الأمراء لاسيما قوصون وبشتاك، فإن كلاً منهم أحترز من الآخر وجمع عليه أصحابه، وأكثروا من شراء الأزيار والدنان وملأوها ماء، وأخرجوا القرب والروايا والأحواض، وحملوا إليهم البشماط والرقاق والدقيق والقمح والشعير، خوفاً من وقوع الحرب ومحاصرة القلعة. فكان يوماً مهولاً، ركب فيه الأوجاقية وهجموا الطواحين لأخذ الدقيق، ونهبوا الحوانيت التي تحت القلعة وسوق صليبة جامع ابن طولون. فارتفع سعر الأردب القمح من خمسة عشر درهماً إلى ثلاثين درهماً، وغلق التجار وأرباب المعايش حوانيتهم خوفاً من وقوع الفتنة.
هذا وقد تنكر ما بين قوصون وبشتاك، واختلفا حتى كادا يقتتلان. وبلغ ذلك السلطان فزاده مرضاً على مرضه، وكثر تأوهه وتقلبه من جنب إلى أخر، وتهوس بذكر قوصون وبشتاك نهاره. ثم استدعى السلطان بهما، فتنافسا بين يديه في الكلام فأغمي عليه، وقاما من عنده على ما هما عليه.
فاجتمع في يوم الإثنين ثامن عشره الأمير جنكلي والأمير آل ملك والجاولي والأحمدي وأكابر الأمراء للمشورة فيما يدبرونه، حتى اجتمعوا على أن بعث كل منهم مملوكا إلى قوصون وبشتاك ليأخذا لهم الإذن على العبور على السلطان، فأخذوا لهم الإذن. فلما أخذ الأمراء مجالسهم قال الأمير الجاولي وآل ملك للسلطان كلاماً حاصله أن يعهد أن أحد أولاده، فأحاب إلى ذلك، وطلب ولده أبا بكر، وطلب قوصون وبشتاك، وأصلح بينهما. ثم جعل السلطان ابنه أبا بكر سلطانا بعده، وأوصاه بالأمراء، وأوصي الأمراء به، وعهد إليهم ألا يخرجوا ابنه أحمد من الكرك وحذرهم من إقامته سلطاناً، وجعل قوصون وبشتاك وصييه، وإليهما تدبير ابنه أبي بكر وحلفهما.
ثم حلف السلطان الأمراء والخاصكية، وأكد على ولده في الوصية بالأمراء، وأفرج عن الأمراء المسجونين بالشام، وهم طيبغا حاجي وألجيبغا العادلى وصاروجا، ثم قام الأمراء. فبات السلطان ليلة الثلاثاء، وأصبح وقد تخلت عنه قوته، وأخذ في النزع يوم الأربعاء، فاشتد عليه كرب الموت حتى مات أول ليلة الخميس حادى عشريه، وله من العمر سبع وخمسون سنة وأحد عشر شهراً وخمسة أيام. وأمه أشلون بنت سكناي بن قراجين بن جيغان، وقدم سكناي هو وأخوه قرمشي بن قراجين في سنة خمس وسبعين وستمائة، صحبة سنجر الرومي في أيام الظاهر بيبرس، فتزوج الأمير قلاوون بابنة سكناي، في سنة ثمانين وستمائة بعد موت أبيها. زوجه إياها عمها قرمشى، فولدت الناصر محمدا على فراش الملك المنصور قلاوون في الساعة السابعة من يوم السبت سادس عشر المحرم سنة أربع وثمانين وستمائة. وأقيم الناصر في السلطنة بعد أخيه الملك الأشرف خليل سنة ثلاث وتسعين وستمائة، وعمره تسع سنين ثم خلع في سادس عشر المحرم سنة أربع وتسعين، وجري له ما تقدم ذكره إلى أن حضر من الكرك، وأعيد إلى الملك ثانيا. فأقام في الملك إلى سنة ثمان وسبعمائة، وخرج يريد الحج، فتوحه إلى الكرك غيظاً من حجر سلار وبيبرس عليه. فقام بيبرس في السلطة ثم اضطربت أموره، وقدم الناصر من الشام إلى مصر، فملك مرة ثالثة في شوال سنة تسع وسبعمائة واستبد الناصر من حينئذ بالأمر من غير معارض مدة اثنتين وثلانين سنة وشهرين وخمسة وعشرين يوماً، كانت له فيها سير وأنباء كما تقدم. وكان الناصر أطول ملوك زمانه عمراً وأعظمهم مهابة: فإنه أول ما بدأ به بعد قدومه من الكرك القبض على الأمراء البرجية وغيرهم في يوم واحد، وعدتهم زيادة على ثلاثين أميراً.(2/46)
وأوقع مهابته في القلوب بالقتل وأخذ الأموال، فمنهم من قتله جوعاً وعطشاً، ومنهم من أتلفه بالخنق، ومنهم من غرقه، ومنهم من نفاه، ومنهم من سجنه فأقام مسجوناً العشرين سنة فما دونها. وأكثر الناصر من جلب المماليك والجواري، وطلب التجار إليه وبذل لهم المال، ووصف لهم حلي المماليك والجواري وسيرهم إلى بلاد أزبك وتوريز والروم وبغداد وغير ذلك من البلاد. فكان التاجر إذا أتاه بالجلبة من المماليك بذل له فيها أغلى القيم، وأنعم على تلك المماليك في يومهم بالملابس الفاخرة والحوائص الذهب والخيول والعطايا حتى يدهشهم. و لم تكن هذه عادة من تقدمة من الملوك، فإنهم كانوا إذا قدم لهم المملوك عرفوا جنسه، ثم أسلموه إلى الطواشي المقدم فيضيفه إلى جنسه من المماليك، ويرتبه عند الفقيه فيربيه بالآداب والحشمة والحرمة، ويمرنه في الرمي بالنشاب واللعب بالرمح وركوب الخيل وأنواع الفروسية، وتكون كسوته من الثياب القطن البعلبكي، ومن الثياب الكتان الخام المتوسط. ثم يدرج المملوك في الجامكية من ثلاثة دنانير إلى خمسة إلى سبعة إلى عشرة دنانير، فإذا التحق بالرحال أقيم ذلك الوقت في وظيفة من الوظالف اللائقة به، فيقوم بها على ما ينبغي من الأدب الذي تأدب به في صغره، ثم يترقى المملوك، فإذا وصل إلى منزلة كبيرة ورتبة عالية عرف مقدارها، وما كان فيه من الشقاء وما صار إليه من النعيم فأعرض الملك الناصر عن هذا وكان يسفه رأي الملوك فيه، ويقول إذا عرض له بشيء من ذلك وبقي يبلغ المملوك قصده من أستاذه أو أستاذه منه إذا فعل معه هذا، بل إذا رأي المملوك سعادة تملأ عينه وقلبه نسي بلاده، ورغب في أستاذه.
فأكثر التجار من جلب الممالليك إليه، فطار في البلاد فعل السلطان معهم، فأعطى المغل أولادهم وبناتهم وأقاربهم للتجار، وباعوهم منهم رغبة في سعادة مصر، فبلغ ممن المملوك على التاجر ما بين عشرين ألف درهم إلى ثلالين ألف درهم إلى أربعين ألف درهم، ففسد بذلك حال المغل فيما بينهم وقدموا إلى مصر. فكان السلطان يدفع في المملوك للتاجر المائة ألف درهم فما دونها، واقتدي به الأمراء في ذلك، حتى إن بعض أمرائه كان له مملوك حظي كان له في كل يوم ثمانون عليقة وكان لأمير أخر مملوك حظي له في كل يوم أربعون عليقة. وكان في الأمراء من يبلغ خاصة في كل سنة زيادة على مائتي ألف دينار، مثل بكتمر وقوصون وبشتاك، ومن عداهم يزيد خاصه على مائة ألف دينار في السنة، ومنهم من ينقص عن دلك.
وشغف السلطان الناصر أيضاً بالخيل، فجلبت له من البلاد، لاسيما خيول العرب آل منها وآل فضل، فإنه كان يقدمها على غيرها، ولهذا كان السلطان يكرم العرب ويبذل لهم الرغائب في خيولهم، ويتغالى في أثمانها.
وكان إذا سمع العربان بفرس عند بدوي أخدوها منه بأغلى القيم، وأخذوا من السلطان مثلى ما دفعوه فيها. وكان له في كل طائفة من طوائف العرب عين يدله على من عنده منهم الفرس السابق أو الأصيل حتى يأخذها بأكثر مما في نفس صاحبها من الثمن. فتمكنت منه بذلك العربان، ونالوا المنزلة العلية، وحظوا بأنواع السعادات في أيامه. وكان يكره خيول برقة فلا يأخذ منها إلا ما بلغ الغاية في الجودة، وما عدا ذلك منها إذا حملت إليه فرقه بخلاف خيول العرب آل مهنا وآل فضل، فإنه كان لا يسمح بها إلا للخاصكية.
وكانت له معرفة بالخيل وأنسابها وذكر من أحضرها ومبلغ ثمنها، بحيث يفوق فيها من عداه. وكان إذا استدعى بفرس يقول لأمير أخور: هات الفرس الفلانية التي أحضرها فلان واشتريناها بكذا وكذا " . ولما اشتهرت رغبته فيها بين العرب جلبت له من بلاد العراق ومن البحرين والحسا والقطيف وبلاد الحجاز، وتقرب بها إليه عامة طوائف العرب، وجلبوها له. وكان إذا جاءه شيء منها عرضه، ودفع في الفرس العشرة آلاف والعشرين ألف والثلاثين آلف درهم، سوى الإنعام على مالكها، وكان صاحب الفرس إذا اشتد عليه زاده حتى يرضيه، فإذا أخذ ثمن فرسه وأراد السفر إلى بلاده أنعم عليه بتفاصيل ثياب تصلح له ولعياله، سوى السكر ونحوه. وطالما وزن كريم الدين الكبير في أثمان خيول العربان التي جلبت للسلطان دفعة واحدة مبلغ ألف ألف درهم، ومبلغ خمسمائة ألف درهم، ودون ذلك.(2/47)
وكانت خيول مهنا وأولاده فيها ما بلغ الفرس منها إلى ستين ألف وسبعين ألف درهم وفي حجورتهم ما بلغ ثمانين ألف وتسعين ألفاً ومائة ألف درهم. وبلغ ثمن بنت الكرتا التي أحضرها محمد بن عيسى أخو الأمير مهنا للسلطان، سنة خمس عشرة وسبعمائة مائة ألف درهم وضيعة بثمانين ألف درهم. وأقطع السلطان الناصر عرب آل مهنا وآل فضل بسبب الخيل عدة ضياع بأراضي حماة وحلب، سوى أثمانها.
فكان أحدهم إذا أراد من السلطان شيئاً له قدم عليه في معنى أنه جاء ليدله على فرس عند فلان يقال إلا كذا، ويعظم أمرها عنده، فيكتب السلطان من فوره بطلب تلك الفرس، فيشتد صاحبها ويمتنع من قودها، ثم يقترح ما شاء من الضياع، ولايزال حتى يبلغ غرضه، وصار ذلك معروفاً فيما بينهم. وكان السلطان الناصر أول من اتخذ من ملوك الأتراك ديواناً للإصطبل، عمل له ناظر وشهوداً وكتاباً لضبط أسماء الخيل وشياتها وأوقات ورودها وأسماء أربابها. ومبلغ ثمنها ومعرفة سواسها، وغير ذلك من أحوالها وكان لايزال يتفقد الخيول، فإذا أصيب منها فرس أو كبر سنه بعث به مع أحد الأوجاقية إلى الجشار بعد ما يحمل عليها حصاناً يختاره، ويأمر بضبط تاريخ نزوه، فتوالدت عنده خيول كثيرة حتى أغنته عن جلب ما سواها، ومع ذلك فإنه كان يرغب في الفرس الذي يجلب إليه أكثر مما توالد عنده. فعزت العرب من آل مهنا وآل فضل وآل مرا في أيامه، وكثرت سعادتها واتسعت أحوالها بالأموال والضياع، وحملتهم الدالة حتى طلبوا من السلطان الناصر بلاد أمراء حلب وحماة ودمشق، فأنعم بها عليهم، وعوض الأمراء عنها، حتى صاروا من القوة والكثرة بحيث يخافهم من عداهم من سائر العرب. وشمل الغنى عامتهم، فكانوا إذا رحلوا إلى مشاتيهم أو مصائفهم تكون أموالهم من الذهب والفضة ملء رقاب الجمال، إلى غير ذلك من الإبل والغنم والخيل التي لا تدخل تحت حصر. ولبسوا في أيامه الحرير الأطلس المعدني بالطرز الزوكشي والشاشات المرقومة بالطرز، ولبسوا القرصيات بالطرز الزركشي والداير الباولي والإسكندري المطرز بالذهب وصاغ السلطان لنسائهم الأطواق الذهب المرصع، وعمل لهن الشنابر المشهرة بأكر الذهب، والأساور المرصعة بالجوهر واللؤلؤ، وبعث لهن القماش السكندري والشرب والشمع، وعمل لهن البراقع المزركشة والمسك وأنواع الطيب.
وذلك بعدما كان لبس أمرائهم إلى آخر الأيام المنصورية قلاوون الطراطير الحمر من تحت العمائم الشامية من القطن، وكانت خلعهم إما مسمط أو كنجي.
وأول من لبس منهم طرد وحش مهنا بن عيسى في أيام المنصور لاجين لموده بينهما، فأنكر الأمراء ذلك، فاعتذر لهم لاجين بتقدم صحبته له وأياديه عنده، وأنه أراد أد يكافئه على ذلك. وقدم مهنا وأخوه في أيام تحكم بيبرس وسلار في الدولة، فسألا أن يقطعا ضيعة من بلاد حلب، وينزلا عما بأيديهما عوضاً عنها، فغضب الأمين سلار من ذلك، وقال: يا عرب وصلتم إلى أن تأخذوا ضياع القلاع والأجناد وتعملوها لكم إقطاعا، ونهرهما، فخرجا من عنده على حالة غير مرضية. ولما عدى الظاهر بيبرس الفرات، وكسر المغل، وكان معه مهنا بن مانع بن حذيفة في ألفين من عربه وكانوا يقفون على مخائص الفرات، ويتقدمون بين يدي العسكر خوفاً من غرقهم.(2/48)
فلما قدم السلطان الظاهر بيبرس إلى حلب سأل مانع أبو مهنا الأمير قلاوون أن يكون لابنه مهنا أرض على سبيل الرزقة، ويقوم عليها أربعة أفراس وعشرة جمال. فلما تحدث قلاوون في ذلك مع السلطان بيبرس لم يجبه بشيء حتى حضر مانع في الخدمة مع الأمراء، فقال له: ويلك يا بدوي نحس وصلت أن تطلب زيادة على إقطاع ولدت، وتبرطل السلطان على ملكه، والله لئن سمعت عنكم شيئاً من هذا لأخرجنكم من البلاد خروجاً نحساً وأكثر من هذا وشبهه، فما زال به قلاوون والأمراء حتى سكن غيظه. فخالف السلطان الناصر سيرة من تقدمه من الملوك في أمر العرب حتى قال له صفرة بن سليمان بن مهنا: لقد أفسدت علينا نسواننا، يريد لكثرة ما غمرهن السلطان بالمال. وأرسل له مرة بن مهنا مع قاصده يقول له: خف الله في المسلمين وبيت المال، فإنك تفرقه على العرب ونسائهم وصغارهم. فكيف يحل لك هذا، ومتى سمعت عن بدوية أنها تلبس غير الثوب من القطن والبرقع المصبوغ وفي يدها سوار من حديد، وإن شمت طيباً فمن زاد بهذا لها؟ فو الله لقد أفسدت حال العرب وحال نسائهم وأطمعتهم في شيء لم يكونوا يطمعون فيه قبلك. ونحو ذلك من العتب.
ومات السلطان الناصر وفي الجشارات ثلاثة آلاف فرس، يعرض في كل سنة عليه فيدفعها ويسلمها للركابين من العربان لرياضتها، ثم ينعم بأكثرها على الأمراء والخاصكية، ويفرح بذلك، ويقول: هذه فلانة بنت فلانة أو فلان ابن فلانة، عمرها كذا وشراء أمها كذا، وشراء أبيها كذا وكان يتقدم إلى الأمراء أن يضمروا الخيول، ويرتب على كل أمير من أمراء الألوف أربعة أرؤس في كل سنة يضمرها، ويسير للأمير أيدغمش أمير أخور أن يضمر خيلاً من غير أن يعلم الأمراء أنها للسلطان بل يشيع أنها له، ويرسلها للسباق مع خيل الأمراء في كل سنة.
وكان عند الأمير قطلوبغا الفخري حصان أدهم سبق خيل مصر كلها ثلاث سنين متوالية. وكان السلطان يرسل إلى مهنا وأولاده أن يحضروا بالخيل السبق عندهم للسباق ثم يركب إلى ميدان القبق ظاهر القاهرة فيما بين قلعة الجبل وقبة النصر، ويرسل الخيل وعدتها دائماً ما ينيف على مائة وخمسين فرساً، إلى أن بعث، مهنا مع ولديه سليمان وموسى حجرة شهباء على أنها إن سبقت كانت للسلطان، وإن سبقت ردت عليه، بشرط ألا يركبها للسباق إلا بدويها الذي قادهاه فلما ركب السلطان والأمراء، ووقفوا على العادة ومعهم أولاد مهنا بالميدان، وأرسلت الخيل من البركة كما جرت به العادة، ركب البدوي حجرة مهنا الشهباء عريا بغير سرج، وقد لبس قميصاً ولاطية فوق رأسه. فأقبلت الخيل تتبع بعضها بعضاً، وهي قدام الجميع وبعدها على قرب منها حصان لأيدغمش يعرف بهلال. فلما وقف البدوي بالشهباء بين يدي السلطان صاح بصوت ملأ الخافقين. السعادة لك اليوم يا مهنا، لا شقيت وألقى نفسه إلى الأرض من شدة التعب، ثم قدم الحجرة للسلطان.
فكان هذا دأب السلطان الناصر في كل سنة. وترك السلطان الناصر أيضاً بالإسطبلات أربعة آلاف فرس وثمانمائة فرس، ما بين حجورة ومهارة وفحولة وأكاديش ، وترك من الهجن الأصائل والنياق خمسة ألاف ونيف، سوى أتباعها. وكان يحب الصيد، فلم يدع أرضاً تعرف بصيد الطير إلا وأقام بها صيادين مقيمين في البرية أوان الصيد.
وجلب طيور الجوارح من الصقورة والشواهين والسناقر والبزاة، حتى كثرت السناقر في أيامه، فصار كل أمير عنده منها عشرة سناقر وأقل وأكثر. وجعل لها بازدارية جوندارية وأقطع عدة منهم الإقطاعات، وأجرى لهم الرواتب من اللحم والعليق والكساوي وغير ذلك.
وترك بعد موته مائة وعشرين سنقراً لخاصه، ولم يعهد مثل هذا لملك قبله بمصر، بل كان في الأيام المنصورية سنقر واحد، فإذا ركب السلطان في الموكب كان بازداره أيضاً راكباً والسنقر على يده.
ولما توجه الأمير حسام الدين طرنطاي لحصار سنقر الأشقر بصهيون سأل أن يكون هذا السنقر في طلبه، ليتجمل به من غير أن يتصيد به ولا يرميه على صيد.
وترك من الصقورة والشواهين ونحوها ما لا ينحصر، وترك ثمانين جوقة كلاب الصيد بكلابزيتها، وكان قد اتخذ لها موضعاً بالجبل.(2/49)
وعني السلطان الناصر أيضاً بجمع الأعنام، وأقام لها خولة وكان يبعث في كل سنة الأمير آقبغا عبد الواحد في عدة من المماليك السلطانية ليكشف المراحات من قوص إلى الجزيرة، ويأخذ منها ما يتخيره من الأغنام، وكان يجرد أيضاً إلى عيذاب وبلاد النوبة لجلب الأغنام. وعمل السلطان لها حوشاً بقلعة الجبل، وأقام لها خولة نصارى من الأسرى.
وعني أيضاً بالإوز، وأقام لها عدة من الخدم والجواري، وجعل لها جايرا بحوش الغنم. فبلغت عدة الأغنام التي تركها بعد موته نحو الثلاثين ألف رأس، سوى أتباعها. فاقتدى به الأمراء وصارت لهم أغنام عظيمة جداً في عامة أرض مصر قبليها وبحريها.
وكان السلطان الناصر كثير العنايه بأرباب وظائفه وحواشيه من الأمير آخورية والأوجاقية، وغلمان الإصطبل والبزدارية، والفراشين والخولة والطباخين. فكان إذا جاء أوان تفرقة الخيول على الأمراء بعث إلى الأمير بما جرت به عادته مع أمير أخور وأوجاقي وسايس وركبدار، وترقب عودتهم حتى يعرف ما أنعم به ذلك الأمير عليهم، فإن شج الأمير عليهم في عطائه تنكر له وبكته بين الأمراء ووبخه.
وقرر أن يكون أمير أخور الكبير بينهم بقسمين، ومن عداه بقسم واحد. وكان أيضاً إذا بعث إلى أحد من الأمراء طيراً مع أمير شكار أو أحد من البزدارية يحتاج الأمير أن يلبسه خلعة كامله بحياصة ذهب وكفلتاه زركش، فيعود بها ويقبل الأرض بين يدي السلطان، فيستدنيه ويفتش خلعته.
وكانت عادته أن يبعث يوم النحر أغنام الضحايا إلى الأمراء مع الأبقار والنوق، فبعث مرة صحبة بعض الخولة النصارى إلى الأمير بيبغا حارس الطير ثلاثة كباش، فأعطاه بيبغا عشرة دراهم فلوساً، فعاد الخولي إلى السلطان فقال له: " وأين خلعتك فطرح الفلوس بين يديه وعرفه بها، فغضب وأمر بعض الخدام أن يسير بالخولي إلى بيبغا، ويقول له: قال لك السلطان: لا فتح الله عليك برزق. ويلك أما كان عندك قباء ترميه على غلامي؟. وخله يلبسه طرد وحش. فلما بلغه الخادم ذلك ندم وأخذ يعتذر، وألبس الخولي قباء طرد وحش.
وكانت حرمته ومهابته قد تجاوزت الحد، حتى إن الأمراء إذا وقفوا بالخدمة لا يجسر أحد منهم أن يتحدث منهم رفيقه بكلمة واحدة، ولا يلتفت نحوه، خوفاً من مراقبة السلطان لهم.
وكان لا يجسر أن يجتمع مع خشداشه في نزهة ولا غيرها، من رمي النشاب ونحوه، فإذا بلغه اجتماع أحد مع أخر أسر ذلك في نفسه، وأمسكه أو نفاه.
وخرب السلطان الناصر عدة مرار مرامي النشاب، ومنع المماليك من الرمي، وأغلق حوانيت البندقانيين وصناع قسي النشاب وقسي البندق، ونادى من عمل قوس بندق شنق. وخرب مرة دكاكينهم، من أجل أن مملوكاً رمي بالبندق فوقعت في عين امرأة قلعتها. ولقي غازان عهلي فرسخ من حمص، ثم كانت له وقعة شقحب المشهورة ودخل بعساكره بلاد سيس، وقرر على أهلها الخراج أربعمائة ألف درهم في السنة كما كان، بعد امتناعهم من حمله. وغزا ملطية وأخذها، وغزا بلاد سيس بعسكر مصر ثلاث مرات بعدما أمر التركمان بالغارة عليها - وخرب بلادهما حتى قرر عليهم الخراج ستمائة ألف درهم في كل سنة، ومنعوا الخراج مرة، فبعث العسكر وأخذ مدينه أياس، وخرب البرج الأطلس وسبعة حصون، وأقطع أراضيها للأمراء والأجناد. وأخذ جزيرة أرواد من الفرنج، وغزا بلاد اليمن وبلاد عانة والحديثة في طلب مهنا. وبعث العساكر في طلب الشريف حميضة نحو الحسا والقطيف وجرد إلى مكة والمدينة العساكر لتمهيدها، ومنع أهلها من حمل السلاح بها.
وعمر قلعة جعبر بعد خرابها، وأجرى نهر حلب إلى المدينة، وعمر دمشق. وولى بلاد الروم نيابة لأرتنا، وخطب له بها وبماردين وبجبال الأكراد وحصن كيفا وبغداد وغيرها من بلاد الشرق، وهو بكرسي ملك مصر. وأتته هدية ملوك المغرب والهند والصين والحبشة والتكرور والنوبة والترك والروم والفرنج.(2/50)
وكان السلطان الناصر على غاية من الحشمة ورياسة النفس وسياسة الأمور، فلم يضبط عليه أحد أنه أطلق لسانه بكلام فاحش في شدة غضبه ولا في انبساطه وكان يدعو الأمراء وأرباب الولايات وأصحاب الأشغال بأحسن أسمائهم وأجل ألقابهم، وإذا غضب على أحد لا يذكر له ذلك. وكان يقتصد في لباسه، فيلبس كثيراً البعلبكي والنصافي المتوسط، ويعمل حياصته فضة نحو مائة درهم بغير ذهب ولا جوهر، ويركب بالسرج المسقط بالفضة التي زنتها دون المائة درهم، وعباءة فرسه إما تدمري أو شامي ليس فيها حرير.
وكان مفرط الذكاء، يعرف جميع مماليك أبيه وأولادهم بأسمائهم، ويعرف بهم الأمراء، وكذلك مماليكه لا يغيب عنه اسم أحد منهم ولا شغله عنده ولا مبلغ جامكيته.
وكان يعرف أيضاً غلمانه وحاشيته على كثرة عددهم، ولا يفوته معرفة أحد من الكتاب، فإذا أرد أن يولي أحداً مكاناً أو يرتبه في وظيفة استدعى جميع الكتاب إلى بين يديه، واختار منهم واحد أو أكثر من غير أن يرجع فيهم إلى أحد، ثم يقيمه فيما يريد من الوظائف.
وكان فيه تؤدة، فإذا غضب على أحد من أمرائه أو كتابه أسر ذلك في نفسه، وتروى فيه مدة طويلة، وهو ينتظر له ذنباً يأخذه به، كما وقع له في أمر كريم الدين الكبير والأمير أرغون النائب والأمير طغيه وغيرهم، فإنه أقام عدة سنين يريد القبض عليهم وهو يتأنى ولا يعجل، إلى أن عثر لهم على ذنوب توجب له أخذهم بها، حتى لا ينسب إلى ظلم ولا حيف، فإنه كان يعظم عليه أن يذكر عنه أنه ظالم أو جائر أو فيه حيف أو وقع في أيامه خراب أو خلل، ويحرص على حسن القالة فيه وذكره بالجميل.
وكان يستبد بأمور مملكته، ويتفرد بالأحكام، حتى أنه أبطل نيابة السلطنة ليشتغل بأعباء الدولة وحده. وكان يكره أن يقتدي بمن تقدمه من الملوك، ولا يحتمل أن يذكر عنده ملك. وكان يكره شرب الخمر ويعاقب عليه، ويبعد من يشربه من الأمراء عنه.
وبلغ السلطان الناصر من الكرم والجود والأفضال وسعة العطاء غاية تخرج عن الحد، فوهب في يوم واحد ما يزيد على مائة ألف دينار ذهباً، ولم يزل مستمر العطاء لخاصكيته ما بين عشرة ألاف دينار ونحوها.
وسئل النشو: هل أطلق السلطان يوماً ألف ألف درهم؟ قال: نعم كثيراً. وأنعم في يوم على بشتاك بألف ألف درهم في ثمن قرية، وأنعم على موسى بن مهنا بألف ألف درهم في ثمن القريتين. واشترى من الرقيق في مدة أولها شعبان سنة اثنين وثلاثين إلى سنة سبع وثلاثين بأربعمائة ألف دينار وسبعين ألف دينار.
وكان ينعم على تنكز في كل سنة يتوجه إليه بما يزيد على ألف ألف درهم، وأنعم يوماً على قوصون بزردخاناه بكتمر الساقي، وقيمة ما فيها ستمائة ألف دينار، أخذ السلطان من الجميع سرجاً واحداً وسيفاً واحداً.
ولما تزوج قوصون بابنته حمل إليه الأمراء شيئاً كثيراً، ثم بعد ذلك زوج ابنته الأخرى بطغاي تمر وقال: ما نعمل له عرساً، لأن الأمراء يقولون هذه مصاردة بحسن عبارة، ونظر إلى طغاي تمر فرأه وقد تغير. فقال للقاضي تاج الدين إسحاق ناظر الخاص: يا قاضي اعمل لي ورقة بمكارمة الأمراء في عرس قوصون، فعمل ورقة وأحضرها، فقال: كم الجملة؟، فقال: خمسون ألف دينار، فقال: أعط نظيرها من الخزانة لطغاي تمر، وهذا سوى ما دخل مع الزوجة من الجهاز.
وجرى يوماً عند السلطان ذكر عشرين ألف دينار، فقال يلبغا اليحياوي: يا خوند أنا والله عمري ما رأيت عشرين ألف دينار، فلما راح من عنده طلب النشو وقال له. احمل الساعة إلى يلبغا عشرين ألف دينار، وجهزها مع الخازندارية، وجهز خمسة تشاريف أحمر أطلس بكلفات زركش وطرز زركش وحوائص ذهب ليخلع ذلك عليهم.
وكان راتب مطبخه، ورواتب الأمراء والكتاب الذين هم على مطبخه، في كل يوم ستة وثلاثين ألف رطل لحم. وكانت نفقات العمائر الراتب لها في كل يوم ألفا درهم، سوى ما يطرأ.
وبالغ السلطان الناصر أخيراً في مشترى المماليك: فاشترى صرغتمس بخمسة وثمانين ألف درهم، سوى تشريف أستاذه، وغير ما كتب له من المسامحة، وأما العشرة والعشرين والثلاثين فكثير. وغلا الجواهر واللؤلؤ في أيامه. وبذل في أثمان الخيل ما لم يسمع بمثله. وجمع من المال والجواهر واللؤلؤ ما لم يجمعه ملك من ملوك الترك قبله.(2/51)
وعرفت رغبته في الجواهر، فجلبها إليها التجار من الأقطار، وشغف بالسراري، فحاز منهن كل بديعة الجمال. وجهز إحدى عشرة ابنة له بالجهاز العظيم، فكان أقلهن جهازا بثمانمائة ألف دينار: منها قيمة بشخاناه وداير بيت وما يتعلق به بمائة ألف دينار، وبقية ذلك ما بين جواهر ولألئ وأواني ونحو ذلك. ثم إنه زوجهن من مماليكه: مثل الأمير قوصون، والأمير بشتاك، والأمير ألطنبغا المارديني، والأمير طغاي تمر، والأمير عمر بن النائب وغيرهم، وجهز سراريه وجواريه ومن يحسن بخاطره من النساء كل واحدة بنحو ذلك وبأكثر منه. واستجد النساء في أيامه المقنعة والطرحة بنحو عشرة ألاف دينار، وبما دون ذلك إلى خمسة، ألاف درهم، والفرجيات بمثل ذلك. واستجد أيضاً في أيامه للنساء الخلاخيل الذهب، والأطواق المرصعة بالجواهر الثمينة، والقباقيب الذهب المرصعة بالجواهر، والأوطية المرصعة، والأزر الحرير، فكانت قيمة إزار المرأة من أحاد النساء ألف درهم، عنها نحو الخمسين ديناراً مصرية.
وكان السلطان الناصر يحمل إلى ملوك الشرق من المال ما لا ينحصر، وبذلك كان ينال مقاصده منهم ويبلغ أغراضه فيهم، فإنه كان يعم نواب الملك والخواتين بما يبهرهم به من المصاغ والجواهر والقماش الإسكندري المناسب لهم.
واتفق أنه جهز مرة لأبي سعيد بن خربندا صحبة الأمير أيتمش المحمدي هدية عظيمة جداً، فقال له الفخر ناظر الجيش: قد اغنى الله السلطان عن هؤلاء فإنهم في طاعته عن أن يبعث لهم بهذا المال. فقال له: اسكت يا قاضي فخر الدين والله لو علمت الذي أعلمه ما قلت هذا. اعلم يا قاضي أن المال الذي أسيره إليه ما يجي ء قدر ثمن الروايا وكلف السقايين الذين يذهبون معي في البيكار، وأكون قد وفرت نفسي وعسكري.
ولم يعهد في أيام ملك قبله ما عهد في أيامه من مسالمة الأيام له، وعدم حركة الأعداء براً وبحراً وخضوع جميع الملوك له ومهاداتهم إياه وكان يصل إلى قتل من يريد قتله بالفداوية، لكثرة بذله لهم الأموال.
وكان يحب العمارة، فلم يزل من حين قدم من الكرك إلى أن مات مستمر العمارة، فجاء تقدير مصروفه كل يوم مدة هذه السنين ثمانية آلاف درهم. وكان ينفق على العمارة المائة ألف درهم، فإذا رأى فيها ما لا يعحبه هدمها كلها وجددها على ما يختار.
و لم يكن من قبله من الملوك في الإنفاق على العمارة كذلك، بل أراد المنصور قلاوون مرة أن يبني مصطبة عليها رفرف يقيه حر الشمس ليجلس عليها، فكتب له الشجاعي على تقدير مصروفها أربعة ألاف درهم، فتناول الورقة من يد الشجاعي ومزقها وقال: أقعد في مقعد بأربعة ألاف انصبوا لي صيواناً إذا نزلت، ولا أخرج من بيت المال لمثل هذا شيئاً. وكذلك كان الظاهر بيبرس ومن قبله لا يستهون بالمال، وإنما يدخرونه صيانة وخوفاً، و لم يعرف لآحد منهم أنه أنعم بألف دينار جملة واحدة.
وراك السلطان الناصر أرض مصر والشام، وأبطل عدة مظالم من المكوس والضمانات: مثل ساحل الغلة، وكان عليه ستمائة جندي، ما منهم إلا من له في كل سنة ما بين ثمانية ألاف درهم إلى ستة ألاف درهم، سوى ما عليه للأمراء، ومثل الحقوق التي كانت على الأسربة إذا كسحت، وعليها أيضاً عدة أجناد فرتب لهم في كل سنة جملة لكل منهم، ومثل جهات ابن البطوني، وكان هذا الرجل يأخذ على رد العبيد والجواري الآبقين ضريبة، ويقيم من تحت يده رجالاً على الطرقات لرد الهاربين، ويقوم للديوان في كل سنة بمال. وأبطل السلطان غير ذلك من المكوس، كما تقدم عند عمل الروك.
وكان السلطان الناصر متسع الحال. بلغ راتبه من اللحم في كل يوم لمطبخه ومرتب مماليكه ستة وثلاثين ألف رطل لحم.(2/52)
واستجد في أيامه عمائر كثيرة: منها حفر خليج الإسكندية من بحر فوة في مدة أربعين يوماً، عمل فيه فوق المائة ألف رجل من أهل النواحي، فاستجد عليه عدة سواقي، وبساتين في أراضي كانت سباخا، فصارت مزارع قصب السكر والسمسم، وعمرت هناك الناصرية، ونقل إليها مقداد بن شماس بأولاده وعدتهم مائة ولد ذكر، واستمر الماء طول السنة بخليج الإسكندرية. وأنشأ الميدان تحت القلعة، وأجرى له المياه، وغرس فيه النخل والأشجار، ولعب فيه بالكرة في كل يوم ثلاثاء مع الأمراء والخاصكية، وعمر فوقه القصر الأبلق. وأخرب البرج الذي عمره أخوه الأشرف خليل على الإصطبل، وجعل فوقه رفرفا، وترك أصله من أسفله، وعمر بجانبه برجاً نقل إليه المماليك. وغير باب النحاس بالقلعه، ووسع دهليزه. وعمر في الساحة قدام الإيوان طباقاً للأمراء والخاصكية، وغير الإيوان مرتين، وفي المرة الثالثة أقره على ما هو عليه الآن، وحمل إليه العمد الكبار من بلاد الصعيد، فجاء من أعظم المباني الملوكية. وعمر بالقلعة دوراً للأمراء الذين زوجهم ببناته، وأجرى إليها المياه، وعمل بها الحمامات، وزاد في باب القلة من القلعة باباً ثانياً. وعمر حارة مختص، وعمر الجامع بالقلعة والقاعات السبع التي تشرف على الميدان وباب القرافة لأجل سكنى سراريه. وعمر المطبخ، وجعل عمائره كلها بالحجارة خوفاً من الحريق. وعزم أن يغير باب القلعة المعروف بالمدرج، ويعمل له دركاه، فمات قبل ذلك. وعمل في القلعة حوش الغنم وحوش البقر وحوش المعزى وجاير الأوز، وغير ذلك، فأوسع فيها نحو خمسين فداناً. وعمر الخانكاه بناحية سرياقوس ورتب بها مائة صوفي لكل منهم الخبز واللحم والطعام والحلوى وسائر ما يحتاج إليه. وعمر القصور بالقرب منها، وعمل لها بستاناً حمل إليها الأشجار من دمشق وغيرها، فصار به عامة فواكه الشام. وحفر الخليج الناصري خارج القاهرة حتى أوصله إلى سرياقوس، فعمر على هذا الخليج عدة قناطر: منها قنطرة بفمه عند الميدان أنشأها الفخر ناظر الجيش، وقنطرة قدادار والي القاهرة، وغير ذلك، فصار بجانبي الخليج عدة بساتين، وعمرت به أرض الطبالة بعد خرابها من أيام العادل كتبغا. وعمرت في أيام السلطان الناصر جزيرة الفيل وناحية بولاق بعدما كانت رمالاً ترمي بها المماليك النشاب، وتلعب الأمراء فيها بالكرة، فصارت كلها دوراً وقصوراً وجوامع وأسواق وبساتين.
وبلغت البساتين بجزيرة الفيل زيادة على مائة وخمسين بستاناً، بعدما كانت نحو العشرين بستاناً. واتصلت العمارة على ساحل النيل من منية الشيرج إلى جامع الخطيري، إلى حكر ابن الأثير وزريبة قوصون، إلى منشأة الكتبة ومنشأه المهراني، إلى بركة الحبش، حتى كان الإنسان يتعجب لذلك، فإنه كان يعهد هذا كله تلال رمل وحلفاء، فصار لا يرى فيه قدر ذراع إلا وفيه بناء.
وعمرت في أيامه أيضاً القطعة التي فيما بين قبة الإمام الشافعي إلى باب القرافة، بعدما كانت فضاء لسباق خيل الأمراء والأجناد والخدام، فتحصل به اجتماعات جليلة للتفرج عليهم، إلى أن أنشأ السلطان تربة الأمير بيبغا التركماني.
فعمر ذلك كله ترباً وخوانك، حتى صارت العمائر متصلة من باب القرافة إلى بركة الحبش، لا يوجد بها قدر ذراع بغير عمارة، وتنافس الأمراء في ذلك حتى بلغوا في عمارته مبلغاً عظيماً إلى الغاية وعمر في أيامه أيضاً الصحراء التي فيما بين القلعة وخارج باب المحروق إلى قبة النصر وكان هناك ميدان القبق من عهد الظاهر بيبرس، برسم ركوب السلطان وعمل الموكب به، وبرسم سباق الخيل.
وأول من عمر فيه الأمراء قراسنقر تربة، وعمل لها حوض ماء للسبيل يعلو مسجد، ثم اقتدى به الأمراء والأجناد وغيرهم حتى امتلأ الميدان من كثيرة العمائر.
وعمر السلطان لمماليكه عدة قصور: منها قصر الأمير طقتمر الدمشقي بحدرة البقر، وبلغ مصروفه ثمانمائة ألف درهم، فلما مات طقتمر أنعم به السلطان على الأمير طشتمر حمص أخضر، فزاد فيه.(2/53)
ومنها قصر الأمير بكتمر الساقي على بركة الفيل، فعمل أساسه أربعين ذراعاً، وارتفاعه عن الأساس مثلها، فزاد مصروفه على ألف ألف درهم. ومنها الكبش حيث كانت عمارة الملك الصالح نجم الدين أيوب فعمله السلطان سبع قاعات برسم نزول بناته وسراريه فيها للتفرج على ركوب السلطان إلى الميدان الكبير، ولم ينحصر ما أنفق فيها لكثرته. ومنها إصطبل الأمير قوصون بسوق الخيل تحت القلعة، حيث كان إصطبل الأمير سنجر البشمقدار، وإصطبل سنقر الطويل. ومنها قصر بهادر الجوباني، بجوار زاوية البرهان الصائغ بالجسر الأعظم تجاه الكبش. ومنها قصر قطلوبغا الفخري، وقصر ألطنبغا المارديني وقصر يلبغا اليحياوي وهو أجل ما عمره من القصور، انصرف على أساسه خاصة عن ثمن جير وحجر وأجرة مائة وثلاثين ألف درهم، وعمل نزوله في الأرص ثلاثين ذراعاً، واحتيج فيه إلى زنة عشرة آلاف درهم لازورد لدهان سقوفه، ثمنها مائة ألف درهم.
وعمر الأمراء في أيام السلطان الناصر عدة دور: منها دار الأمير أيدغمش أمير آخور، ودار آقبغا، ودار طقزدمر، ودار بشتاك على النيل وهي تشتمل على ربع كبير فوق زريبة بجوار جامع طيبرس، وقصر بشتاك بالقاهرة، وقد ذكرت هذه القصور والدور في كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والأمطار ذكراً مستوعباً لأخبارها.
وكانت للسلطان عناية كبيرة ببلاد الجيزة، وعمل على كل بلد بها جسراً أو قنطرة وكانت أكثر بلادها تشرق لعلوها، فعمل جسر أم دينار في ارتفاع اثنتي عشرة قصبة، أقام العمل فيه مدة شهرين، فحبس الماء حتى رويت تلك الأراضي كلها، وعم النفع بها. وقوي بسبب هذا الجسر الماء حتى حفر بحراً يتصل بالجيزة وخرج في أراضيها عدة مواضع زرعت بعدما كانت شاسعة، أخذ منها قوصون وبشتاك وغيرهما عدة أراضي عمروها ووقفوها، واستجد السلطان على بقيتها ثلاثمائة جندي.
واستجدت في أيامه عدة أراضي بنواحي الشرقية وفوة وشباس، أقطعت لعدة أجناد وعمل أيضاً جسر شيبين، فزاد بسببه خراج الشرقية. وعمل جسراً خارج القاهرة حتى رد النيل على منية الشيرج وغيرها، وعمرت بسببه بساتين جزيرة الفيل، وكثر عددها. وأحكم السلطان عامة أرض مصر قبليها وبحريها بالترع والجسور، حتى أتقن أمرها، وكان يوكب إليها برسم الصيد في كل قليل، ويتفقد أحوالها، وينظر في جسورها وتراعها وقناطرها بنفسه، بحيث أنه لم يدع في أيامه موضعاً منها حتى عمل فيه ما يحتاج إليه. وكان له سعد في جميع أعماله، فكان يقترح المنافع من قبله بعد أن كان يزهده فيما يأمر به حذاق المهندسين، ويقول بعضهم.يا خوند الدين جاءوا من قبلنا لو علموا أن هذا يصح لفعلوه، فلا يلتفت إلى قولهم، ويفعل ما بدا له من مصالح البلاد، فتأتيه أغراضه على ما يحب ويختار، فزاد في أيامه خراج مصر زيادة هائلة في سائر الأقاليم.
وكان إذا سممع بشراقي بلد أو قرية من القرى أهمه ذلك، وسأل المقطع بها عن أحوال القرية المذكورة غير مرة، بل كلما وقع بصره عليه، ولا يزال يفحص عن ذلك حتى يتوصل إلى ريها بكل ما تصل قدرته إليه. كل ذلك وصاحبها لا يسأله في شيء من أمرها، فيكلمه بعض الأمراء في ذلك فيقول: هذه قريتي، وأنا الملزوم بها والمسؤل عنها، فكان هذا دأبه، وكان يفرح إذا سأله بعض الأجناد في عمل مصلحة بلده بسبب عمل جسر أو تقاوي أو غير ذلك، وينبل ذلك الرجل في عينه، ويفعل له ما طلبه من غير توقف ولا ملل في إخراج المال، فإن كلمه أحد في ذلك فيقول: فلم نجمع المال في بيت المسلمين إلا لهذا المعنى وغيره، فهذه كانت عوائده.
وكذلك فعل بالبلاد الشامية، حتى إن مدينة غزة هو الذي مصرها وجعلها على هذه الهيئة، وكانت قبل كآحاد قرى البلاد الشامية، وجعل له نائباً، وسمي بملك الأمراء، و لم تكن قبل ذلك إلا ضيعة من ضياع الرملة، ومثلها فكثير من قرى الشام وحلب والساحل يطول الشرح في ذكر ذلك.
وأنشأ السلطان الناصر الميدان الكبير على النيل وخرب ميدان اللوق الذي أنشأه الظاهر بيبرس، وعمله بستاناً حملت إليه الأشجار من دمشق وغيرها، فكانت فواكه تحمل إلى الشراب خاناه السلطانية. ثم أنعم به على الأمير قوصون، فبنى تجاهه على الزريبة المعروفة بزريبة قوصون، ووقفهما. واقتدى به الأمراء في العمارة، فأخذ قوصون بستان بهادر رأس نوبة ومساحته خمسة عشر فداناً وحكر للناس، فبنوه دوراً، وعرف بحكر قوصون.(2/54)
وحكر السلطان حول البركة الناصرية أراضي البستان، فعمره الناس وسكنوا فيه. وحكر الأمير طقزدمر بجوار الخليج بستاناً مساحته ثلاثون فدانا، وبني له قنطرة عرفت به وعمل هناك حماماً وحوانيت، فصار حكراً عظيماً للمساكين. وحكر الأمير آقبغا عبد الواحد بستاناً بجوار بركة الفيل، فعمر عمارة محميرة بعدما كان مقطع طريق، فصار قدر مدينة كبيرة، وأخذ بقية الأمراء جميع ما كان من البساتين والجنينات ظاهر القاهرة وحكروها. وحكرت الدادة حدق - وهي المعروفة باسم ست مسكة القهرمانة - حكرين عرفاً بها، فجاءا من أحسن الأحكار، وأنشات لكل واحد منهما جامعاً تقام به الجمعة. فأنافت الأحكار التي استجدت في أيامه على ستين حكراً، حتى لم يوجد موضع بحكر، واتصلت العمارات من خارج القاهرة إلى جامع ابن طولون والمشاهد، وقد ذكرنا أيضاً هذه الأحكار في كتاب المواعظ والاعتبار ذكراً شافياً.
وفي أيامه عمر الأمير قوصون بالقاهرة وكالة حيث كانت دار تعويل البوغاني .
وعمر الأمير طشتمر حمص أخضر ربعاً بجوار حدرة البقر، وهو الذي عمر قيسارية الحريريين بجوار الوراقين من القاهرة.
وعمر الأمير بكتمر الساقي . بمدينة مصر ربعين وحوانيت على النيل ودار وكالة ومطابخ سكر. وعمر الأمير طقزدمر دار التفاح خارج باب زويلة، والربع الذي فوقه. وتجددت عدة جوامع في أيامه أنافت على ثلاثين جامعاً، منها الجامع الناصري بقلعة الجبل جدده السلطان الناصر وأوسعه، والجامع الجديد الناصري ظاهر من على النيل، وجامع المشهد النفيسي، وجامع الأمير كراي المنصوري بآخر الحسينية، وجامع الأمير طيبرس نقيب الجيش على النيل بجوار خانكاته، - وهو الذي عمر أيضاً مدرسة بجوار الجامع الأزهر بالقاهرة، وجامع الأمير بدر الدين محمد بن التركماني بالقرب من باب البحر وجامع الفخر ناظر الجيش على النيل فيما بين بولاق وجزيرة الفيل، وهو الذي عمر جامعاً آخر خلف خص الكيالة ببولاق، وجامعاً ثالثاً بالروضة، وجامع كريم الدين خلف الميدان، وجامع شرف الدين الجاكي بسويقة الريش، وجامع أمير حسين بالحكر، - وقد بني له قنطرة على الخليج - وجامع الأمير قيدان الرومي بقناطر الوز، وجامع دولت شاه مملوك العلائى بكوم الريش، وجامع الأمير جمال الدين أقوش نائب الكرك بطرف الحسينية، وجامع ناصر الدين الحراني الشرابيشي بالقرافة، وجامع الأمير آقسنقر شاد العمائر قريباً من الميدان، وجامعاً خارج باب القرافة عمره جماعة من العجم، وجامع النوبة بباب البرقية - عمره مغلطاي أخو الأمير ألماس، وجامع بنت الملك الظاهر بيبرس بالجزيرة المستجدة وعمر ما حوله أملاكاً كثيرة - ، وجامع الأمير ألماس بالقرب من حوض ابن هنس، وجامع الأمير قوصون خارج القاهرة، وجامعه خارج باب القرافة، وجامع الأمير عز الدين أيدمر الخطيري على النيل ببولاق، وجامع أخي صاروجا بشون القصب، و جامع الحاج آل ملك بالحسينية، وجامع الأمير بشتاك على بركة الفيل تجاه خانكاته، وجامع ست حدق فيما بين قنطرة السد وقناطر السباع، وجامع ست مسكة قريباً من قنطرة آقسنقر، وجامع الأمير ألطبغا المارديني خارج باب زويلة، وجامع مظفر الدين بن الفلك بسويقة الجميزة من الحسينية وجامع جوهر السحرتي قريباً من باب الشعرية، وجامع فتح الدين محمد بن عبد الظاهر بالقرافة.
واستجد بدمشق في أيام السلطان الناصر أيضاً جامع كريم الدين وجامع شمس الدين غبريال، وجامع الأفرم، وجامع تنكز، وجامع يلبغا.
وجددت الخطب في أيامه بعدة مواضع: فجدد نائب الكرك خطبة بالمدرسة الصالحية، وجدد طقزدمر خطة بالمعزية بمصر. وتجددت خطة بزاوية فخر الدين بن جوشن خارج باب النصر، وجدد نجم الدين أبو بكر بن غازي دلال المماليك خطبة بمسجد فيما بين باب البحر وبولاق، وجددت خطة بجامع محمود بالقرافة بعدما كان تربة. وأخر ما عمره السلطان السواقي بالرصد، فمات و لم يكمل عملها، إلا أنه في أخر أيامه أقام النشو، فأفرط في الظلم.
وشغف السلطان الناصر أيضاً بحب الجواري ، فكتب إلى أعمال مصر ببيع الجواري(2/55)
المولدات وحملهن إليه، وأخذهن حتى من المغنيات، فزادت عدتهن عنده على ألف ومائتي وصيفة. وكان يكره ممالك أبيه وأخيه، ومازال بهم حتى فنوا في أيامه. وكان لا يمكن مماليكه بالاجتماع بالفقهاء، وتعنت على أجناد الحلقة وعرضهم وقطع منهم جماعة، فمات عقيب ذلك. ورسم بعد موته بغلق حوانيت بين القصرين، وطردت الناس بأجعهم من هناك. وحمل في محفة، وأخرج من القلعة، ومروا به من وراء السور إلى باب النصر، ومعه من الأمراء بشتاك وملكتمر الحجازي وأيدغمش وعدة من الخاصكية.
ثم شقوا به من باب النصر إلى المدرسة المنصورية، وقدامه بعض الحراس تضيء عليه بمسرجة زيت حار، ثم لحقه فانوس فشيعه إلى المدرسة المنصورية. وحمل إلى القبة بها وغسل وحنط، وكفن من المارستان، وقد اجتمع الفقهاء والقراء، ثم دفن على أبيه.
وترك السلطان الناصر من الأولاد محمداً وابراهيم، وعليا، وأحمد، وأبا بكر، وكجك، ويوسف، و شعبان، ورمضان، وإسماعيل، وحاجي وحسيناً، وحسناً وصالحاً، وسبع بنات، فولي السلطة من أولاده ثمانية: وهم أبو بكر، وكجك، وأحمد، وإسماعيل، وشعبان، وحاجي ، وصالح و حسن.
وكانت نوابه بديار مصر كتبغا وسلار، وبيبرس الدوادار، وبكتمر الجوكندار وأرغون الدوادار، و لم يستنب بعد أرغون أحد.
وكانت وزراؤه سنجر الشجاعي، وتاج الدين محمد بن حنا، وفخر الدين عمر بن الخليلي، وسنقر الأعسر، وعز الدين أيبك البغدادي، ومحمد بن الشيخي ، وأيبك الأشقر - وسمي المدبر، وسعد الدين محمد بن عطايا، وضياء الدين أبو بكر بن عبد الله النشائي ، وبدر الدين محمد بن التركماني وأمين الدين عبد الله بن الغنام، وبكتمر الحاجب، ومغلطاي الجمالي. و لم يستوزر بعد الجمالي أحداً.
وكانت قضاته تقي الدين محمد بن دقيق العيد وبدر الدين محمد بن جماعة وجمال الدين سليمان الزرعي وجلال الدين محمد بن القزويني وعز الدين عيد العزيز بن جماعة.
وكان كتاب سره شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله، وعلاء الدين علي بن الأثير، ومحي الدين يحيى بن فضل الله، وعلاء الدين علي بن فصل الله.
كان دواداريته عز الدين أيدمر، وأرغون، وأرسلان، وألجاي، ويوسف بن الأسعد، وبغا، وطاجار.
وكان نظار جيشه بهاء الدين عبد الله بن أحمد الحلي، والفخر محمد بن فضل الله القبطي، وقطب الدين مرسي بن شيخ السلامية، وشمس الدين موسى بن التاج إسحاق، والمكين إبراهيم بن قروينة، وجمال الكفاة إبراهيم. تم ذلك.
السلطان أبو بكر بن الملك الناصر
السلطان الملك المنصور أبو بكر بن الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاوون جلس على تخت السلطنة بالإيوان من قلعة الجبل بعهد أبيه له صبيحة توفي والده، من يوم الخميس حادي عشرى ذي الحجة، سنة إحدى وأربعين وسبعمائة. ولقبه الأمراء الأكابر بالملك المنصور، وجلسوا حوله، واتفقوا على إقامة الأمير سيف الدين طقزدمر الحموي - زوج أمه - نائب السلطة بديار مصر، وأن يكون الأمير قوصون مدبر الدولة ورأس المشورة، ويشاركه في الرأي الأمير بشتاك.
ورسم بتجهيز التشاريف والخلع، وعين الأمير قطلو بغا الفخري لتعزية نواب الشام بالسلطان الناصر محمد، والبشارة بسلطنة ابنه وتحليفهم. ويكون صحبته تقاليدهم فتوجه من يومه.
وفيه نودي بالقاهرة ومصر أن يتعامل الناس بالفضة والذهب بسعر الله، فسر الناس ذلك، فإنهم كانوا منعوا من المعاملة بالفضة، وألا يكون معاملتهم إلا بالذهب.
وفيه أفرج عن بركة الحبش وقف الأشراف، وكان النشو قد أخذها منهم، وصار ينفق فيهم من بيت المال.
وفيه كتب إلى ولاة الأعمال برفع المظالم، وألا يرمي على بلاد الأجناد شعير ولا تبن.
وفي يوم الخميس ثامن عاشريه: أنعم على عشرة بإمريات طبلخاناة.
وفي يوم السبت سلخه: جمع القضاة بجامع القلعة للنظر في أمر الخليفة الحاكم بأمر الله أحمد بن أبي الربيع سليمان وإعادته إلى الخلافة، وحضر معهم الأمير طاجار الدوادار وغيره.
فاتفقوا على إعادته، لعهد أبيه إليه بالخلافة،. بمقتضي مكتوب ثابت على قاضي قوص.
وفيه، فرقت التشاريف والخلع على الأمراء. ليلبسوها في يوم الخدمة من العام المقبل. وفيه أقيم الأمير قرصون في تدبير أمور الدولة.
ومات في هذه السنة من الأعيان(2/56)
الأمير سيف الدين الحاج قطز الظاهري ، أحد أمراء الطبلخاناة، وقد أناف على مائة سنة وهو أخر من بقي من المماليك الظاهرية بيبرس وكان مشكوراً.
ومات الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير بدر الدين حنكلي بن البابا، في يوم الرابع والعشرين من رجب. وكان فقيهاً أديباً شاعراً جواداً.
وتوفي الصاحب أمين الدين أمين الملك أبو سعيد عبد الله بن تاج الرياسة بن الغنام تحت العقوبة مخنوقا، يوم الجمعة رابع جمادى الأولى. ووزر الصاحب أمين الدين ثلاث مرات، وباشر نظر الدولة واستيفاء الصحبة والدولة، وخدم من الأيام الأشرفية فولي. بمصر ودمشق وطرابلس، وحسن إسلامه وكان رضي الخلق.
ومات الأمير علاء الدين مغلطاي العزي نائب أياس والفتوحات الأندلسية بها وكان مشكور السيرة.
ومات طوغان الشمسي سنقر الطويل وإلى الأشمونين وشاد الدواوين بمصر والشام، وهو منفي بالشام وكان ظالماً غشوماً مذموم السيرة.
ومات الأمير آنوك ابن السلطان الناصر محمد، في يوم الجمعة سابع ربيع الأول، فاشتد حزن والده السلطان عليه.
وتوفي الشيخ المعتقد عز الدين عبد المؤمن بن قطب الدين أبي طالب عبد الرحمن بن محمد بن الكمالي أبي القاسم عمر بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن الحسن المعروف بابن العجمي الحلبي الشافعي بمصر. تزهد بعد الرياسة والاشتغال بالعلم وكتابة الخط المنسوب، وحج ماشياً من دمشق، وجاور بمكة مراراً، وقدم مصر سنة اثنتين وثلاثين، وأقام بها حتى مات. وكان لا يقبل لأحد شيئاً، ويقيم حاله من وقف أبيه بحلب، وتزيا بزي الصوفية، وكان فيه مروءة، وله مكارم وصدقات، وله شعر جيد.
وتوفي افتخار الدين جابر بن محمد بن محمد الخوارزمي الحنفي شيخ المدرسة الجاولية بالكبش، في يوم الخميس السادس عشر المحرم. وكان بارعاً في النحو شاعراً.
وتوفي عز الدين عبد الرحيم بن نور الدين علي بن الحسن بن محمد بن عبد العزيز ابن محمد بن الفرات، أحد نواب القضاة الحنفية، في ليلة الجمعة ثاني عشرى ذي الحجة.
وتوفي أوحد الدين بالقدس في رابع عشرى شعبان.
ومات الأمير شمس الدين قراسنقر المنصوري نائب حلب، ببلاد المراغة، وقد أقطعه إياها ابو سعيد بن خربندا. وكان موته بمرض الإسهال وقد أعيا الملك الناصر قتله، وبعث إليه كثيراً من الفداوية، فصانه الله منهم، بحيث قتل من الفداوية بسببه نحو مائة وأربعة وعشرين فداوياً. ولما بلغ السلطان الناصر محمد موته قال: وا لله ما كنت أشتهي موته إلا من تحت سيفي، وأكون قد قدرت عليه وبلغت مقصودي ولكن الأجل حصين.
وكانت له مع الفداوية أخبار طويلة: منها أن السلطان الناصر محمد أعطى يونس التاجر مالاً كثيراً، وبعثه إلى توريز ليتخذ له بها أصحاباً يثق بهم حتى يرد إليه الفداوية فيأووا عنده، وعرف يونس بمقاصده. ثم إن السلطان تلطف مع صاحب مصياف، وبذل له مالاً كثيراً حتى ندب له من الفداوية طائفة. فبعثهم السلطان إلى يونس فأواهم وأعلمهم بالغرض، فانتظروا وقتاً يصلح للوثوب مدة أيام إلى أن ركب النوين الكبير جوبان يريد مدينة توريز، وركب آقوش الأفرم وقراسنقر إلى جانبيه. فخرج اثنان من الفداوية، أحدهما للأفرم والآخر لقراسنقر، فبدر أحدهما وضرب آقوش الأفرم، فاتقى الضربة بيده، وكان عليه قرضية، فانشق كمه وجرحت يده، وجبن الآخر عن قراسنقر، لقتل الفدواي. ووقع الحذر، وكبست الفنادق والخانات بتوريز، وقبض على يونس، فقام الوزير ناصر الدين خليفة بن خواجا علي شاه معه حتى تخلص من القتل. ولم يصب قراسنقر بسوء، وعولج الأفرم حتى برئ من جراحته واحترسا على أنفسهما(2/57)
ومن غرائب الاتفاق فيما سبق أنه كان لقراسنقر فراش من العليقة، وله معرفة بأهل مصياف، فتتبع نواحي توريز حتى ظفر بفداوي رسله السلطان الناصر محصد لقتل قراسنقر، فإذا هو أخوه، فاستماله وقربه من قراسنقر. فأعطاه قراسنقر مائة دينار ورتب له في كل شهر ثلاثمائة درهم، وخدم عنده فراشاً رفيقاً لأخيه، وزاد في الإنعام عليه حتى بلغت عطيته له خمسمائة دينار. فأعلم هذ الفداوي قراسنق بما ندب إليه من قتله، وضمن له أنه يعرفه بجميع من يرد من الفداوية. فسر قراسنقر بذلك وأعلم جوبان والوزير ناصر الدين خليفة، فكبسوا على جماعة ممن دلهم عليهم، فظفروا، بواحد، وفر بعضهم، وقتل بعضهم نفسه، وجيء بالفداوي المقبوض عليه، فعوقب حتى مات ولم يعترف بشيء.
واشتد الأمر بتوريز وغيرها على الغرباء، وقصاد السلطان تطالعه بذلك في كل وقت، إلى أن كتبوا إليه نائب بغداد بلغه عن تاجر أنه اشترى مملوكين للسلطان بمائة وعشرين ألف درهم، فأحضر نائب بغداد التاجر وألزمه بإحضارهما، فافتدى بأربعمائة دينار حتى تركه، وأخرجه من بغداد. فبعث التاجر بطائفة من الفداوية لقتله، وقتل قراسنقر، فتفرقوا بالأردو وتوريز وبغداد، وأقاموا في الانتظار لانتهاز الفرصة. فبينا نائب بغداد يوماً وقد مر في الشارع، إذا وثب عليه أحد الفداوية وصاح. ياللملك الناصر، وضربه بالخنجر في صدره، ومر يعدو فلم يقدر عليه. وعاد الفداوي إلى مصياف، وكتب إلى السلطان الناصر محمد بما جرى وقتل نائب بغداد. فلما بلغ ذلك قراسنقر وجوبان اشتد حذرهما، وألزم قراسنقر فراشه وأخاه الفداوي حتى دلاه على أربعة من الفداوية، فقبض عليهم، فاعترف أحدهم، وحكى له المنبر بنصه فقتلوا وشهروا. وأقام رجال جوبان مدة في طلب الفداوية، فلم يدخل منهم أحد إلا ظفر به. فلما قدم المجد السلامي إلى القاهرة وصحب كريم الدين الكبير، واتصل بالسلطان، أقامه السلطان عيناً له ببلاد الشرق، وبعثه بالهدايا والتحف. فصحب المجد السلامي جوبان والوزير، ولزمهما، وطالع السلطان بالأحوال. ثم بعث السلطان إليه بعدة من الفداوية، وكان من لطف الله به أنه يوم قدم المجد السلامي توريز قبض بها على ثلاثة من أربعة من الفداوية، وفر الرابع الذي معه كتاب السلطان إليه. فعوقب الثلاثة حتى ماتوا، ولم يعترفوا بشيء ووصل الذي فر إلى مصياف وكتب إلى السلطان بما جرى. فمازال السلامي يقرر الصلح بين الوزير خواجاً علي شاه وجوبان وبين السلطان إلى أن تم، وشرطوا فيه ألا يدخل إليهم فداوي.
ثم حدث أنه بينما قراسنقر في عدة من أمراء الساحل يتصيد إذ وثب عليه من خلفه فداوي وضربه، فوقعت الضربة في خاصرة الفرس، ألقى قراسنقر نفسه إلى الأرض فسلم، وقتل أصحابه الفداوي. ثم لما توجه الأمير أيتمش بن عبدالله المحمدي الناصري في المرة الثانية إلى أبي سعيد بعث السلطان الناصر في أثره فداويين قبض على أحدهما، وقتل الأخر نفسه، فلم يعترف المقبوض عليه بشيء حتى مات قتلاً بحضور أيتمش. وعتب جوبان على أيتمش بسبب ذلك، وأنه وقع الصلح على ألا يدخل أحد من هؤلاء إلينا، فاعتذر أيتمش بأن هؤلاء إلينا كانوا فداوية فقد كانوا في البلاد من قبل تقرير الصلح، وضمن أن السلطان لا يعود إلى إرسال أحد منهم فمشى ذلك على جوبان، وأعيد أيتمش إلى مصر.(2/58)
فلما عاد المجد السلامي أيضاً بعث السلطان إلى مصياف بالإنكار على الفداوية في تأخر قضاء شغله، فأرسلوا إليه رجلاً منهم ليقوم بما يؤمر به، فخلا به السلطان وعرفه مقاصده، وأنزله عند كريم الدين بحيث لا يراه أحد، فكان راتبه في كل يوم خروفاً يأكله كله في كشك من أول النهار، ثم يأكل في وسط النهار دجاجاً أو أوزاً أو لحماً مشوياً، ثم يتعشى بثلاثة ألوان من الطعام، ويشرب في كل يوم ستين رطلاً من الخمر. فأقام الرجل الفداوي على ذلك أربعة وثلاثين يوماً، ثم سافر لقصده. وتسلم القاصد الذي يدله على الغريم السكين ليعطها للرجل الفداوي، وقد ختمت. وتوجه السلامي أيضاً بهدية جليلة، فوصل الجميع إلى البلاد. وخفي أمر الفداوي حتى كان يوم عيد الفطر، ودخل الناس يهنؤن أبا سعيد وجوبان، وفيهم قراسنقر، ثم انصرفوا بعد أكلهم إلى الوزير خواجا علي شاه، وأكلوا طعامه. ثم بعث السلامي إلى الفداوي فأحضره، وأوقفه بطريق قراسنقر، ودخل رفيقه حتى ينظر وقت فراغ قراسنقر من الطعام ليعرف به الفداوي. فاتفق أن قراسنقر قام ومشى إلى أثنا الدهاليز، وقد سبقه القاصد وعرف به الفداوي، وأعطاه السكين ووصف له شكله وزي ثيابه، وقال له هو أول من يركب. فعندما وضع قراسنقر رجله في الركاب استدعاه الوزير، فعاد، وقد قام دمرداش نائب الروم من المجلس، وكان فيه شبه من قراسنقر وخلعته التي عليه حمراء مثل خلعة قراسنقر فعندما ركب دمرداش وتوسط الطريق مر بالفداوي، فظنه قراسنقر، فألقى نفسه من سطح كان فوقه، فصار على كفل الفرس وصاح بسعادة السلطان الملك الناصر محمد، وضربه في رقبته ألقاه عن فرسه قتيلاً. وقام الفداوي يعدو، فأدركه القوم وأحضروه إلى جوبان، فاتهم بأنه كان مع السلامي، فلولا لطف الله به وعناية الوزير لقتل السلامي شر قتلة وقتل الفداوي بعد ما عوقب أشد العقوبة، ولم يعترف بشيء.
ومما حدث كذلك أنه بينا قراسنقر في بعض الأعياد، وقد خرج مع أمراء المغل من حضرة أبي سعيد إلى عند جوبان، إذ وثب عليه فداوي، فألقى قراسنقر نفسه إلى الأرض فوقع الفداوي عليه وضربه بالسكين فأخطأه، ووقعت السكين في الأرض. فقطع الفداوي فوق صدر قراسنقر قطعاً، وأقيم قراسنقر وقد خرب شاشه، وطاحت الكلفتاه عن رأسه، وكان عقله أن يذهب.
وكان قراسنقر أحد مماليك المنصور قلاوون، عمله كوكندار، ثم ترقى حتى ولي نيابة حلب، ونيابة دمشق. وكان كبير القدر، بشوش الوجه، صاحب رأي وتدبير ومعرفة، وبلغت عدة مماليكه ستمائة مملوك. وكان كثير العطاء لا يستكثر على أحد شيئاً، وكان مهاباً كثير المال، وترك ولدين هما أمير علي، وأمير فرج، وإليه تنسب المدرسة القراسنقرية بخط رحبة باب العيد من القاهرة، ودار قراسنقر بحارة بها الدين.
ومات الأمير تنكز نائب الشام، يوم الثلاثاء نصف المحرم.
سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة
أهل المحرم بيوم الأحد: ففي يوم الإثنين ثانيه: خلع على جميع الأمراء والمقدمين في الموكب بدار العدل، وذلك أن الأمراء طلعوا بخلعهم التي فرقت عليهم كما تقدم، وطلع القضاة فاجتمعوا بدار العدل. وجلس الخليفة الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد بن أبي الربيع سليمان على الدرجة الثالثة من تحت السلطنة، وعليه خلعة خضراء وفوق عمامته سوداء مرقومة. ثم خرج السلطان من باب السر على العادة، فقام الخليفة والقضاة ومن كان جالساً هناك من الأمراء. وجلس السلطان على الدرجة الأولى دون الخليفة، فقام الخليفة وافتتح الخطة بقوله تعالى: إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربي، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون وأوفوا بعهد الله إذا عاهد ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما ثفعلون. ثم أوصى السلطان بالرفق بالرعية، وإقامة الحق وتعظيم شعائر الإسلام ونصرة الدين، ثم قال: " فوضت إليك جميع أحكام المسلمين، قلدتك ما تقلدته من أمور الدين، ثم تلا قوله تعالى: إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً.(2/59)
وجلس الخليفة فجيء في الحال بخلعة سوداء فألبسها الخليفة للسلطان بيده، وقلده سيفاً عربياً. وأخذ علاء الدين علي بن فضل الله كاتب السر في قراءة عهد الخليفة للسلطان حتى فرع منه، ثم قدمه للخليفة، فكتب عليه، ثم كتب بعده القضاة بالشهادة عليه. ثم قدم السماط، فأكل الأمراء وانفضت الخدمة.
وفي يوم الأربعاء رابعه: كان ابتداء زيادة النيل.
وفي يوم الخميس خامسه: قدم الأمير بيغرا من عند أمير أحمد بن الناصر محمد بن قلاوون وقد حلف بمدينة الكرك لأخيه السلطان الملك المنصور.
وفيه أنعم على الأمير بيلك العلالي الساقي بإمرة البرواني، وأنعم بعشرته على مغلطاي أمير شكار، وأنعم على بزلار الساقي بطبلخاناة أمير حاج ملك بن أيدغمش.
وفي عصر يوم الأحد ثامنه: قبض على أمير بشتاك الناصري وذلك أنه طلب أن يستقر في نيابة الشام، ودخل على الأمير قوصون وسأله في ذلك، وأعلمه أن السلطان الناصر محمد كان قبل موته وعده بها وألح بشتاك في سؤاله، وقوصون يدافعه ويحتج عليه أنه قد كتب إلى ألطنبغا الصالحي نائب الشام تقليداً باستقراره في نيابة الشام على عادته، فلا يليق عزله سريعاً. فقام بشتاك عنه وهو غير راض، فإنه كان قد توهم من قوصون، وخشي منه لما كان بينهما قديماً من المنافرة، ولأنه قد صار المتحكم في الدولة، فطلب أن يخرج من مصر، ويبعد عنه. فلما لم يوافقه قوصون على ذلك سعى فيه بخاصكية السلطان، وحمل إليهم مالاً كثيراً في السر، وبعث إلى الأمراء الكبار يطلب منهم المساعدة على قصده، فمازالوا بالسلطان حتى أنعم له بنيابة الشام. وطلب السلطان الأمير قوصون وأعلمه بذلك، فلم يوافقه وغض من بشتاك، وأخر ما قرره مع، السلطان أنه يحدث الأمراء في ذلك، ويعده بأنه يولي بشتاك إذا قدم الأمير قطلوبغا الفخري بنسخة اليمين من الشام. فلما دخل الأمراء عرفهم السلطان طلب بشتاك نيابة الشام، فأخذوا في الثناء عليه والشكر، فاستدعاه السلطان وطيب خاطره، ووعده بها عند قدوم قطلوبغا، وتقدم إليه بان يتجهز للسفر.
فظن بشتاك أن ذلك صحيح، وقام مع الأمراء من الخدمة، وأخذ في عرض خيوله، وبعث لكل من أكابر الأمراء المقدمين ما بين ثلاثة أرؤس إلى رأسين من الخيل بالقماش. الفاخر، وبعث معها أيضاً الهجن المهرية.
ثم بعث بشتاك إلى الأمراء الخاصكية، مثل ملكتمر الحجازي، وطاجار بن عبدالله الناصري الدوادار، ويلبغا اليحياوي، وألطبغا المارداني، وتنكز بغا بن عبد الله المارديني، شيئاً كثيراً من الذهب والجوهر واللؤلؤ والتحف، وفرق عدة من الجواري في الأمراء، بحيث لم يبق أحد من الأمراء إلا وأرسل إليه، ثم فرق بشتاك على مماليكه وأجناده وأخرج ثمانين جاريه من جواريه أعتقهن وزوجهن من مماليكه، بعد ما شورهن باللؤلؤ والزركش، وغير ذلك مما له قيمة كبيرة جداً. وفرق بشتاك من شونته على الأمراء اثني عشر ألف أردب غلة، وزاد حتى وقع الإنكار عليه، واتهمه السلطان والأمير قوصون بأنه يريد التوثب على الملك وعملوا هذا من فعله حجة للقبض عليه وكان ما خص الأمير قوصون من تفرقته هذه حجرين من حجارة معاصر قصب السكر، بما فيها من القنود والأعمال والأبقار والأغلال والآلات، وخمسمائة فدان من القصب مزروعة في أرض ملك له، فأدهش الأمراء بكثرة عطائه، واستغنى منه جماعة من مماليكه.
ولما كثرت القالة فيه بأنه يريد إفساد الدولة خلا به بعض خواصه وعرفه ذلك، وأشار عليه بإمساك يده عن العطاء، فقال لهم: إذا قبضوا على أخدوا مالي، وأنا أحق به منهم أن أفرقه وأسر به إذا بذلته، ويبقى لي مكارم على الناس أذكر بها، وإذا سلمت فالمال كثير. هذا وقد قام قوصون في أمر بشتاك، ومازال بالسلطان حتى قرر معه القبض عليه عند قدوم قطلوبغا الفخري. وأشاع قوصون أن بشتاك يريد القبض على قطلوبغا، فبلغ ذلك بعض خواص قطلوبغا، فبعث إليه من تلقاه وعرفه ما وقع من تجهيز بشتاك، وأنه على عزم من أن يلقاك في طريقك ويقتلك، فكن على حذر، فأخذ قطلوبغا من الصالحية يحترز على نفسه حتى نزل سرياقوس.(2/60)
واتفق من الأمر العجيب أن بشتاك خرج إلى حوشه بالريدانية خارج القاهرة، ليعرض هجنه وجماله، فطار الخبر إلى قطلوبغا الفخري بأن بشتاك قد خرج إلى الريدانية " في انتطارك، فاستعد ولبس السلاح من تحت ثيابه، وسار وقد تلقاه عدة من مماليكه وهو على أهبة الحرب. وعرج قطلوبغا عن الطريق، وسلك من تحت الجبل لينجو من بشتاك، وكان عند بشتاك علم من قدومه. فلما قرب قطلوبغا من الموضع الذي فيه بشتاك لاحت له غبرة خيله، فحدس أنه قطلوبغا قد قدم، فبعث إليه أحد مماليكه يبلغه السلام، ويعرفه أن يقف حتى يأتيه ليجتمع به. فلما بلغ قطلوبغا ذلك زاد خوفه من بشتاك، وقوي عنده صحة ما بلغه عنه، فقال للمملوك: سلم على الأمير، وقل له لا يكن اجتماعي به ولا بأحد حتى أقف قدام السلطان، ثم بعد ذلك اجتمع به. فمضى مملوك بشتاك، وفي ظن قطلوبغا أنه إذا بلغه مملوكه الجواب ركب إليه، فأمر مماليكه أن يسيروا قليلاً قليلاً، وساق بمفرده مشواراً واحداً إلى القلعة. ودخل قطلوبغا على السلطان وبلغه طاعة النواب وفرحهم بأيامه. ثم أخذ يعرف السلطان والأمير قوصون وسائر الأمراء ما اتفق له مع بشتاك، وأنه كان يريد معارضته في طريقه وقتله، فأعلمه السلطان وقوصون بما اتفقا عليه من القبض على بشتاك.
فلما كان عصر هذا اليوم، دخل الأمراء إلى الخدمة على العادة بالقصر، وفيهم الأمير بشتاك، وأكلوا السماط، تقدم الأمير قطلوبغا الفخري والأمير طقزدمر الناصري الساقي إلى بشتاك، وأخذا سيفه وكتفاه. وقبض معه على أخيه أيوان وعلى طولوتمر ومملوكين من المماليك السلطانية كانا يلوذان به. وقيدوا جميعاً. وسفروا إلى الإسكندرية في الليل صحبة الأمير أسندمر العمري. وقبض على جميع مماليكه، وأوقعت الحوطة على دوره وإصطبلاته، وتتبعت غلمانه وحاشيته.
وأنعم من إقطاع بشتاك على الأمير قوصون بخصوص الشرق زيادة على إقطاعه، وأخذ السلطان المطرية ومنية ابن خصيب وشبرا. وفرق السلطان بقية إقطاع بشتاك على ملكتمر الحجازي وغيره من الأمراء.
فلما أصبحوا يوم الإثنين تاسعه قبض على المجد السلامي، واتهم بأن لبشتاك عنده جواهر مودعة.
وفيه حملت حواصل بشتاك، وهي من الذهب مائتا ألف دينار مصرية، ومن اللؤلؤ والجواهر والحوائص الذهب والكلفتاه الزركش شيء كثير جداً. ومن الغلال أحد عشر ألف أردب، سوى ما تقدم ذكره مما أنعم به شتاك وفرقه.
وفيه أخرج أحمد شاد الشراب خاناه إلى طرابلس، لنقله كلاماً بين الأمراء، ولميلة مع شتاك.
وفي الخميس ثاني عشره أنعم على كل من شعبان ورمضان أخوي السلطان بإمرة وفيه قبض على الأمير ناصر الدين محمد بن بكتمر الحاجب وأنعم من الغد بإمرته على أخيه جمال الدين عبد الله بن الحاجب.
وفي يوم الإثنين ثالث عشريه: خلع على الأمير طقزدمر، واستقر في نيابة السلطانة، فجلس في دست النيابة، وحكم وسرف الأمور.
وفيه أيضاً خلع على الأمير نجم الدين محمود بن علي بن شروين المعروف بوزير بغداد، واستقر في الوزارة.
وفي يوم الثلاثاء رابع عشريه: قدم محمل الحاج من الحجاز، صحبة ملكتمر الحجازي وفيه أيضاً قدم الأمير ناصر الدين محمد بن بيلبك الحسني من دمشق على البريد بالاستدعاء.
وفيه أنعم الأمير ناصر الدين محمد بن الأمير بكتمر الساقي أحد العشرات، بإمرة طبلخاناة وقدم البريد من حلب بأن الأمير بن فياض وسليمان بن مهنا وأخوتهما قطعوا الطريق على التجار، عندما بلغهم أن أميرهم موسى بن مهنا قد قبض عليه، بعد موت السلطان الناصر محمد، وكان موسى قد خلع عليه وسافر.(2/61)
وفي يوم الإثنين سلخه: قبض على الأمير أقبغا عبد الواحد وأولاده، وخلع على الأمير طقتمر الأحمدي، وأستقر أستادار عوضه. وسبب ذلك أنه في أيام السلطان الملك الناصر قد ولي الأستادارية وتقدمة المماليك وشد العمائر، وتحكم في سائر الأمور وأرباب الأشغال، وعظمت مهابته. فاتفق أنه غضب على فراش له، وضرباً مبرحا كما هي عادته. فخدم الفراش عند أبي بكر ابن السلطان، ليحميه من آقبغا، فبعث آقبغا في طلبه، فمنعه أبو بكر، وأرسل مع مملوكه يقول له: أريد أن تهبني هدا الفراش فأغلظ آقبغا على المملوك وسبه، وقال قل له يرسل الفراش وهو جيد له وكان أبو بكر قبل ذلك خرج من الخدمة السلطانية إلى بيته، وآقبغا يضرب مملوكاً، فوقف وشفع فيه، فلم يعبأ به آقبغا، ولا قبل شفاعته، وسار واقفاً وآقبغا قاعد، فانصرف أبو بكر وقد خجل. فلما أعاد مملوكه جواب آقبغا غضب وحلف لئن صار سلطاناً ليصادرنه وليضربنه بالمقارع، وحمى الفراش من آقبغا. فلما أفضت السلطة إليه بعد موت أبيه، عرف الأمير قوصون والأمير طقزدمر النائب بيمينه، فأجابه قوصون إلى مصادرته أولاً قبل ضربه، وأراد بذلك مدافعة عنه، فقبض عليه ورسم للأمير طيبغا المجدي والأمير نحم الدين بلبان الحسامي البريدي والي القاهرة بإيقاع الحوطة على موجوده، وسلم ولده الكبير للمقدم إبراهيم بن صابر. فبات آقبغا ليلته بغير أكل وأصبح يوم الثلاثاء أول صفر، فتحدث له الأمراء أن ينزل في ترسيم طيبغا المجدي ليتصرف في أموره، فنزل صحبته، وأخذ في بيع موجوده. وكان مما أبيع له سراويل لزوجته بمائتي ألف درهم فضه، وقبقاب وخف نسائي وسرموجة لامرأته بخمسة وسبعين ألف درهم فثار به جماعة ممن ظلمهم في أيام تحكمه، وطلبوا حقوقهم منه، وشكوه. فأقسم السلطان لمن لم يرضهم ليسمرنه على جمل ويشهره بالقاهرة، ففرق فيهم مائتي الف درهم حتى سكتوا عنه.
وفي يوم الأحد سادسه: خلع على الأمير ناصر الدين محمد بن المحسني، واستقر في ولاية القاهرة، عوضاً عن نجم الدين بلبان الحسامي البريدي لقلة حرمته. وخلع على نجم الدين واستقر في ولاية مصر.
وفيه قدم الأمير بدر الدين أمير مسعود بن خطير من الشام على البريد، باستدعاء.
وفيه رسم لابن المحسني والي القاهرة أن يستخلص من خالد وابن معين مقدمي دار الوالي مالاً، من أجل طمعهما وكثرة تحكمهما.
وفيه أيضاً قبض على الصدر الطيبي ناظر المواريث، وسلم إلى الوالي على مال يحمله، فعاقبه الوالي حتى حمل مالاً جزيلاً.
وفي يوم الإثنين سابعه: خلع على الأمير بدر أمير مسعود، واستقر حاجبا عوض عن الأمير برسبغا على إمرته بغير وظيفة.
وفي يوم الأربعاء تاسعه: قبض على مقدم الدولة إبراهيم بن صابر، وسلم لمحمد بن شمس الدين المقدم، وأحيط بأمواله. فوجد له نحو تسعين حجرة في الجشار، ومائة وعشرين بقرة في الزرايب، ومائتي كبش، وجوقتين كلاب سلوقية، وعدة طيور جوارح مع بزدارية، ووجد له من الغلال وغيرها شيء كثير، فعوقب وحمل المال شيئاً بعد شيء.
وفيه جهز ابن طغيه وقريب الشيخ حسن كجك، وسفرا وكتب إلى نواب الشام بإكرامهما.
وفيه وقع بين قاضي القضاة حسام الدين الغوري الحنفي وبين موفق الدين ناظر الدولة، بسبب معلومه، وقد توقف صرفه، فكتب قاضي القضاة حسام الدين إليه ورقة يذكر فيها مساوئ الكتاب، وأفحش القول فيهم. فشق ذلك على موفق الدولة وعلى بقية الكتاب، وبلغوا السلطان عنه تسلطه على أعراض الناس وسفه قوله.
فلما كان الغد يوم الخميس عاشره: وحضر القضاة بدار العدل على العادة تكلم القاضي الغوري مع السلطان بالتركي في الكتاب بقوادح، وطعن في إسلامهم. فغضب السلطان منه، واستدعى الوزير بعد الخدمة، وأنكر عليه ما وقع من الغوري، وقال: لولا أنه من بلدك وإلا كنت ضربته بالمقارع، لكن إكرامه لك، فاطلبه وحذره ألا يعود لمثلها. فطلبه الوزير وعتبه عتباً شديداً.
وفيه قدم البريد من الأمير طشتمر حمص أخضر الساقي نائب حلب بخروج زين الدين قراجا بن دلغادر عن الطاعة، وموافقته لأرتنا متملك الروم على المسير لأخذ حلب، وأنه قد قوي بالأبلستين وجمع جمعاً كثيراً، وسأل الأمير طشتمر أن ينجد بعسكر من مصر.
وفيه رسم السلطان بضرب أقبغا عبد الواحد بالمقارع، فلم يمكنه الأمير قوصون من ذلك فاشتد حنقه، وأطلق لسانه بحضرة خاصكيته.(2/62)
وفيه شفع الأمير ملكتمر الحجازي في ولي الدولة أبي الفرج بن الخطير صهر النشو، فأفرج عنه، واستسلمه الحجازي، وخلع عليه، وجعله صاحب ديوانه.
وفيه عقد السلطان نكاحه على جاريتين من المولدات اللاتي في بيت السلطان، وكتب علاء الدين كاتب السر صداقهما، فخلع عليه وأنعم عليه بعشرة ألاف درهم. ورسم السلطان لجمال الكفاة ناظرات أن يجهزهما بمائة ألف دينار، وشرع في عمل المهم للعرس.
وفي يوم السبت تاسع عشره: ركب الأمير قوصون والأمراء على الملك المنصور أبي بكر، وخلعوه من الملك في يوم الأحد عشريه، وأخرج أبو بكر هو وإخوته إلى قوص صحبة الأمير بهادر بن جركتمر.
وسبب ذلك أن السلطان قرب الأمير يلبغا اليحياوي، وشغف به شغفاً كثيراً، ونادم الأمير ملكتمر الحجازي، واختص به وبالأمير طاجار الدوادار وبالشهابي شاد العمائر وبالأمير قطليجا الحموي، وجماعة من الخاصكية، وعكف على اللهو وشرب الخمور وسماع الملاهي. فشق ذلك على الأمير قوصون وغيره، لأنه لم يعهد من ملك قبله شرب حمر. فحملوا الأمير طقزدمر النائب على محادثته في ذلك وكفه عنه، فزاده لومه إغراء، وأفحش في التجاهر باللهو حتى تحدث به كل أحد من الأمراء والأجناد والعامة. وصار السلطان يطلب الغلمان في الليل، ويبعثهم لإحضار المغاني، فغلب عليه الشراب في بعض لياليه، فصاح من الشباك على الأمير أيدغمش يا أمير آخور هات لي ابن عطعط فقال أيدغمش: يا خوند ما عندي فرس بهذا الاسم فنقل ذلك السراخورية والركابية، فتداولته الألسنة. فطلب قوصون الأمير طاجار والشهابي شاد العمائر، وعنفهما وقال: سلطان الإسلام يليق به أن يعمل مقامات، ويحضر إليها البغايا والمغاني، وعرفهم أن الأمراء قد بلغهم هذا. فبلغوا السلطان كلام قوصون، وزادوا في القول، فأخذ جلساؤه من الأمراء في الوقيعة في قوصون والتحدث في القبض عليه، وعلى الأمير قطلوبغا الفخري والأمير بيبرس الأحمدي والأمير طقزدمر النائب. فنم عليهم الأمر يلبغا اليحياوي لقوصون وكان قد استماله بكثرة العطاء فيمن استمال من المماليك السلطانية، وعرفه أن الاتفاق قد تقرر على القبض عليه في يوم الجمعة وقت الصلاة.
فانقطع قوصون عن الصلاة، وأظهر أن برجله وجعاً، وبعث في ليلة السبت يعرف الأمير بيبرس الأحمدي بالخبر، ويحثه على الركوب معه. وطلب قوصون المماليك السلطانية، وواعدهم على الركوب صحبته، وملأهم بكثرة مواعيده إياهم، وبعث إلى الأمير الحاج آل ملك، والأمير جنكلي بن البابا. فلم يطلع الفجر حتى ركب قوصون من القلعة من باب السر في مماليكه ومماليك السلطان، وسار نحو الثغرة، وبث مماليكه في طلب الأمراء. فأتاه جركتمر بن بهادر في إخوته، وبرسبغا بيبرس، والأحمدي، وقطلوبغا الفخري. وأخذوا أقبغا عبد الواحد من ترسيم طيبغا المجدي، فسار معه المجدي أيضاً. ووقفوا بأجمعهم عند قبة النصر، ودقوا طبلخاناتهم، فلم يبق أحد من الأمراء حتى أتاهم.(2/63)
هذا والسلطان وندماؤه في غفلة الوهم وغيبة سكرهم، إلى أن دخل عليهم أرباب الوظائف وأيقظوهم من نومهم، وعرفوهم ما دهوا به. فبعث السلطان طاجار إلى طقزدمر النائب يسأله عن الخبر، ويستدعيه، فوجد عنده جنكلي بن البابا والوزير وعدة من الأمراء المقيمين بالقلعة. فامتنع طقزدمر من الدخول إلى السلطان، وقال: أنا مع الأمراء حتى أنظر عاقبة هذا الأمر، وقال لطاجار: أنت وغيرك سبب هذا حتى أفسدتم السلطان بفسادكم ولعبكم، قل للسلطان يجمع مماليكه ومماليك أبيه حوله فعاد طاجار وبلغ السلطان ذلك، فخرج السلطان إلى الإيوان وطلب المماليك، فصارت كل طائفة تخرج على أنها تدخل إليه فتخرج إلى باب القلة حتى صاروا نحو الأربعمائة مملوك، وصاروا يداً واحدة من باب القلة إلى باب القلعة، فإذا هو قد أغلق فرجعوا إلى النائب طقزدمر بعد ما أخرقوا بوالي باب القلعة، وأنكروا عليه وعلى من عنده من الأمراء. فقال لهم طقزدمر: السلطان ابن أستاذكم جالس على الكرسي وأنتم تطلبون غيره، فقالوا. ما لنا أستاذ إلا قوصون. ابن أستاذنا مشغول عنا لا يعرفنا، ومضوا إلى باب القرافة، وهدموا منه جانباً وخرجوا، فإذا خيول بعضهم واقفة. فركب بعضهم، وأردف عدة منهم، ومشى باقيهم إلى قبة النصر. ففرح بهم قوصون والأمراء، وأمر لهم بالخيول والأسلحة، واوقفهم مع أصحابه. وبعث الأمير مسعود بن خطير الحاجب إلى السلطان يطلب منه ملكتمر الحجازي ويلبغا اليحياوي وطاجار وغيره، ويعرفه أنه أستاذهم وابن استاذهم، وأنهم على طاعته، وأنهم إنما يريدون هؤلاء، لما صدر عنهم من الفساد ورمي الفتن وطلع الأمير مسعود إلى القلعه، فوجد السلطان في الإيوان، وهؤلاء الأمراء حوله في طائفة من المماليك، فقبل الأرض، وبلغه الرسالة. فقال السلطان: لا كيد ولا كرامة لهم، ولا أسير مماليكي ومماليك أبي لهم، وقد كذبوا فيما نقلوه عنهم، ومهما قدروا عليه يفعلوه. فما هو إلا أن خرج عنه أمير مسعود حتى اقتضى رأيه أن يركب بمن معه، وينزل من القلعة ويطلب النائب طقزدمو ومن عنده من الأمراء، ويدق كوساته. فتوجه إلى الشباك وأمر أيدغمش أمير آخور أن يشد الخيل للحرب، فأعلمه أنه لم يبق بالإصطبل غلام ولا سايس ولا سراخوري يشد فرساً واحداً فبعث إلى النائب طقزدمو يستدعيه، فامتنع عليه.
ثم بعث قوصون الأمير بلك الجمدار والأمير برسبغا إلى النائب طقزدمر يعلمانه بأنه متى لم يحضر الغرماء إليه وإلا زحف على القلعة وأخذهم غصبا. فبعث طقزدمر إلى السلطان يشير عليه بإلرسالهم، فعلم السلطان أن النائب وأمير أخور قد خذلاه، فقام ودخل على أمه. فلم يجد الغرماء بداً من الإذغان، وخرجوا إلى النائب طقزدمر، وهم ملكتمر الحجازي وآلطنبغا المارديني ويلبغا اليحياوي وطاجار الدوادار والشهابي شاد العمائر وبكلمش المارديني وقطليجا الحموي، فبعثهم طقزدمر النائب إلى قوصور صحبة بلك وبرسبغا. فلما رأهم قوصون صاح في الحاجب أن يرجلهم عن خيولهم من بعيد، فأنزلوا منزلاً قبيحاً، وأخذوا حتى وقفوا بين يديه، فعنفهم ووبخهم، وأمر بهم فقيدوا، وعملت الزناجير في رقابهم والخشب في أيديهم.
ثم نزل قوصون والأمراء في خيم ضربت لهم عند قبة النصر، واستدعى طقزدمر النائب، والأمير جنكلي بن البابا، وأيدغمش أمير أخور، والوزير، والأمراء المقيمين بالقلعة. واتففوا على خلع الملك المنصور وإخراجه وإخوته من القلعة، فتوحه برسبغا في جماعة إلى القلعة، وأخرج المنصور وأخوته، وهو سابع سبعة، ومع كل منهم مملوك صغير وخادم وفرس وبقجة قماش. وأركبهم برسبغا إلى شاطئ النيل، وأنزلهم في الحراقة، وسافر بهم جركتمر بن بهادر إلى قوص، و لم يترك برسبغا في القلعة من أولاد السلطان إلا كجك. وسلم قوصون الأمراء المقيدين إلى والي القاهرة، فمضى بهم إلى خزانة شمايل بالقاهرة، وسجنهم بها إلا يلبغا اليحياوي، فإنه أفرج عنه.
وكان يوماً عظيماً بالقلعة والقاهرة، من تألم الناس على أولاد السلطان والأمراء وكثرة البكاء والعويل.
وبات قوصون ومن معه ليلة الأحد بخيامهم عند قبة النصر، وركبوا بكرة يوم الأحد عشريه إلى القلعة، واتفقوا على إقامة كجك. فكانت مدة سلطنة المنصور أبي بكر تسعة وخمسين يوماً ومن حين قلده الخليفة أربعين يوماً.(2/64)
ومن الاتفاق العجيب أن الملك الناصر أخرج الخليفة أبا الربيع سليمان وأولاده إلى قوص مرسماً عليهم، فقوصص بمثل ذلك، وأخرج الله أولاده مرسماً عليهم إلى قوص على يد أقرب الناس إليه، وهو قوصون مملوكه وثقته ووصيه على أولاده، فليعتبر العاقل ويتجنب أفعال السوء.
السلطان علاء الدين كجك
السلطان الملك الأشرف علاء الدين كجك بن الناصر محمد بن قلاوون أقيم سلطاناً في يوم الإثنين حادي عشرى صفر، سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة، ولم يكمل له من العمر خمس سنين، وأمه أم ولد اسمها أردو، تترية الجنس. ولقب كجك بالملك الأشرف، وعرضت نيابة السلطنة على الأمير أيدغمش أمير أخور فامتنع وامتنع منها، فوقع الاتفاق على إقامة الأمير قوصون في النيابة، فأجاب وشرط على الأمراء أن يقيم على حاله بالأشرفية من القلعة، ولا يخرج منها إلى دار النيابة خارج باب القلعة. فأجابوه إلى ذلك، فاستقر من يومه نائب السلطان، وتصرف في أمور الدولة فقال في ذلك بعض الشعراء:
سلطاننا اليوم طفل والأكابر في ... خلف وبينهم الشيطان قد نزغا
فكيف يطمع من مسته مظلمة ... ان تبلغ السؤل والسلطان مابلغا
وفي يومه: أفرج عن الأمير ألطنبغا المارديني، وخلع على الأمير مسعود بن خطير واستمر حاجباً على عادته.
وفي ليلة الأربعاء: أخرج بالأمير طاجار، والأمير قطلوبغا الحموي، والأمير ملكتمر الحجازي، والشهابي شاد العمائر، من خزانة شمايل، جملوا إلى ثغر الإسكندرية، فستجنوا بها وتوجه الأمير بلك الجمدار على البريد إلى حلب، لتحليف النائب والأمراء والأجناد وتوجه الأمير بيغرا إلى دمشق بسبب ذلك، والأمير جركتمر بن بهادر إلى طرابلس وجماه لتحليف من فيها، وكتب إلى الأعمال بإعفاء الجند من المغارم.
وفي يوم الخميس رابع عشريه: ركب الأمير قوصون في دست النيابة، وترجل له الأمراء، فكان موكباً عظيماً.
وفيه أنفق الأمير قوصون في العسكر لكل مقدم ألف من الأمراء ألف دينار، ولكل أمير طبلخاناة خمسمائة دينار، ولكل أمير عشرة مائتي دينار، ولكل مقدم حلقة خمسين دينار، ولكل جندي خمسة عشر دينار.
وفي يوم السبت سادسه عشرية: سمر والي الدولة أبو الفرج بن الخطير صهر النشو. وسببه أنه لما أفرج عنه كثرت الإشاعة بأن الأمير ملكتمر الحجازي يستقر به في نظر الخاص، وأنه ينهض بما ينهض به النشو، وأنه صار يخلو بالسلطان المنصور أبي بكر ويحادثه في أمور الدولة، وأنه كثر نزول ملكتمر الحجازي وغيره من الأمراء إلى بيته ليلاً، وحضوره عنده إلى مجالس اللهو. واتهم الملك المنصور أبي بكر بأنه نزل إليه أيضاً. فنقل ذلك أعداؤه من الكتاب إلى الأمير قوصون، وأغروه به إلى أن كان من قيامه على السلطان ما كان، فقبض على والي الدولة وسجنه، فقام الكتاب في قتله حتى أجابهم قوصون إلى ذلك، فطلب ابن المحسني والي القاهرة. طوائف من العامة وألزمهم ان يشعلوا الشموع من بعد صلاة الصبح خارج باب زويلة، وأخرج وإلى الدولة من خزانة شمايل، وسمره على جمل تسميراً فاحش بمسامير خافية، وأمر فنودي عليه: هذا جزاء من يرمي الفتن ويتحدث فيما لا يعنيه ويفسد عقول الملوك. وشهر والي الدولة والشموع بين يديه بالقاهرة ومصر، فطافوا به الأزقة والشوارع وهو ساكت يتجلد، فإذا مر بالشهود في الحوانيت أو بجمع من القضاة صاح: يا جماعة اشهدوا لي أنني مسلم، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنا أموت عليها فكان يوماً مشهوداً. ولم يزل والي الدولة على ذلك أياماً حتى مات وقال فيه بعصهم.
قد أخلف النسو صهر سوء ... قبيح فعل كما رأوه
أراد للشر فتح باب ... فأغلقوه وسمروه
وكانت عدة الشموع التي أشعلت يوم تسميره ألفا وخمسمائة شمعة.
وفي يوم الخميس مستهل ربيع الأول: أنعم الأمير قوصون على أحد وعشرين رجلاً من المماليك السلطانية بإمريات، منهم ستة طبلخاناة والبقية عشرات.
وفي يوم الجمعة تاسعه ويوافقه أ ول أيام النسيء: وفي النيل ستة عشر ذراعاً، وفتح سد الخليج بكرة يوم السبت. فنقص الماء أربعة أصابع، ثم رد النقص وزاد أصبعاً من سبعة عشر ذراعاً في يوم الخميس خامس عشره، فسر الناس بذلك سروراً زائداً.(2/65)
وفي يوم الأربعاء رابع عشره: توجه الأمير طوغان لإحضار أحمد ابن السلطان الناصر محمد من الكرك محتفظاً به، لينفى إلى أسوان وسبب ذلك ورود كتاب ملكتمر السرجواني نائب الكرك يتضمن أن أحمد قد خرج عن طوعه، وكثر شغفه بشباب أهل الكرك وانهماكه في معاقرة الخمر، وأنه يخاف على نفسه منه أن يوافق الكركيين على قتله، وطلب الإعفاء من نيابة الكرك.
وفي يوم السبت سابع عشره: خلع على الأمير طقزدمر النائب، واستقر في نيابة حماة عوضاً عن الملك الأفضل ابن الملك المؤيد الأيوبي، وأنعم على الأفضل بإمرة ألف في دمشق.
وفيه أنعم الأمير أقبغا عبد الواحد بإمرة في دمشق، ورسم بسفره إليها.
وفي يوم الخميس ثاني عشريه: خلع على جميع الأمراء وأهل الدولة بدار العدل وقد أجلس السلطان على التخت، وقبل الأمراء الأرص بين يديه، ثم تقدموا إليه على قدر مراتبهم، وقبلوا يده. فكانت عدة الخلع يومئذ ألف خلعة ومائتي خلعة، وكان يوماً مشهوداً.
وفيه توجه جركتمر بن بهادر إلى أسوان، للاحتفاظ على المنصور أبي بكر وإخوته وكان قد حضر إلى القاهرة هو وغيره ممن توجه لتحليف نواب الشام بنسخ حلفهم.
وفي تاسع عشريه: ورد البريد من الكرك بكتاب أحمد ابن السلطان يتضمن أنه لا يحضر حتى يأتيه الأمراء الأكابر إلى الكرك ويحلفهم، ثم تحضر إخوته من بلاد الصعيد إلى قلعة الكرك، ويحضر هو بعد ذلك وينتصب سلطاناً. فأجيب من الغد بأنه لم يطلب إلا لشكوى النائب منه، وجهزت له هدية سنية، وأنه يحضر إلى القاهرة حتى تعمل المصلحه وفيه أفرج عن الشريف مبارك بن عطيفة.
وفيه أنعم على عشرة من مماليك السلطان بإمريات، ونودي بالقاهرة بألا يرمى على أحد من التجار والباعة شيء من البضائع.
وفيه قبض على بدوي معه كتاب أمير يحيى بن ظهير بغا المغلي لأحمد ابن السلطان الناصر محمد يحذره من دخول مصر، وأنه متى دخل إليها قتل، فأنكر قوصون على أمير يحيى ذلك، فزعم أنه كتاب أخته زوجة أحمد.
وفيه ورد كتاب عبد المؤمن والي قوص يخبر بوصول المنصور أبي بكر وإخوته، وأنه ركب في خدمته. فلما عاد عبد المؤمن من خدمته بعث إليه المنصور بخمسمائة دينار، فكتب الأمير قوصون جوابه بالاحتراس عليه.
وفيه أخذت أمور قوصون تضطرب. وذلك أنه ألزم المماليك السلطانية بالمشي في خدمته، كما كانوا في الأيام الناصرية يمشون في خدمة السلطان الناصر محمد، فلم يوافقوه على ذلك، وكان قوصون مع كثرة إحسانه قد ألقى الله بغضته في قلوب الناس جميعاً حتى صاروا يلهجون بها.
وفي يوم الخميس رابع عشر ربيع الآخر: قدم من الكرك الأمير شرف الدين ملكتمر السرجواني نائبها، والأمير طرغاي الطباخي، وأخبرا بامتناع أحمد من الحضور، وأنه أقام على الخلاف.
وفي يوم الجمعة خامس عشره: اجتمع الأمراء للمشورة في أمر أحمد ابن السلطان حتى تقرر الأمر على تجريد العسكر لأخذه.(2/66)
وفي يوم السبت سادس عشره: ابتدأت الفتنة بين الأمير قوصون وبين المماليك السلطانية. وذلك أنه أرسل يستدعي من الطواشي مقدم المماليك مملوكاً من طبقة الزمردية جميل الصورة، فمنعه خشداشيته أن يخرج من عندهم. فتلطف بهم الطواشي المقدم حتى أخذه، ومضى به إلى قوصون وبات عنده. وطلب قوصون من الغد نحو أربعة أو خمسة مماليك، ومنهم شيخو وصرغمتش وأيتمش عبد الغني فامتن خشداشيتهم من ذلك، وقام منهم نحو المائة مملوك، وقالوا: نحن مماليك السلطان ما نحن مماليك قوصون. وأخرجوا الطواشي المقدم على أقبح صورة. فمضى الطواشي المقدم إلى قوصون وعرفه ذلك، فأخرج إليهم الأمير برسبعا الحاجب وشاورشي دواداره في عدة من مماليكه ليأتوه بهم، فإذا بالمماليك السلطانية قد تعصبوا مع كبارهم، وخرجوا على حمية إلى باب القلة يريدون الأمير بيبرس الأحمدي، فإذا به راكب. فمضوا إلى بيت الأمير جنكلي بن البابا، فلقوه في طريقهم، فتقدموا إليه وقالوا له. نحن مماليك السلطان مشتري ماله، كيف نترك ابن أستاذنا ونخدم غيره، فينال غرضه منا، ويفضحنا بين الناس؟ وجهروا بالكلام الفاحش. فتلطف بهم جنكلي فلم يرجعوا عما هم عليه، فحنق منهم وقال لهم: أنتم الظالمون بالأمس لما خرجتم قلت لكم أنا ونائب السلطان طقزدمر ارجعوا إلى خدمة أستاذكم، قلتم ما لنا أستاذ غير قوصون، والآن تشكون منه فاعتذروا ومضوا، وقد حضر الأمير بيبرس الأحمدي فاجتمعوا به، وتوجهوا إلى منكلي بغا الفخري، فإذا قد وافاه برسبغا من عند قوصون، فأرادوا أن يوقعوا به، فكفهم الفحري عنه، ومازال يتلطف بهم.
هدا وقوصون قد بلغه خبرهم، فأراد أن يخرج ويجمع الأمراء، فمازال به من عنده من الأمراء حتى سكن إلى بكرة النهار، فكانت ليلة مهولة بالقلعة. ثم طلب قوصون جنكلي والأحمدي والفخري وبقية الأمراء إليه، وأغراهم بالمماليك السلطانية. فبعثوا بأمير مسعود إليهم ليحضرهم، فإدا جمعهم قد كثف وكثر، فلم يلتفتوا إليه، فعاد. وخرج إليهم ألطنبغا المارداني وقطلوبغا الفخري وهما أكبر الناصرية - ومازالا بهم حتى أخذا من وقع عليه الطلب، ودخلا بهم إلى قوصون، فقبلوا يده، فقام لهم وقبل رءوسهم وطيب خاطرهم ووعدهم بكل خير، وانصرفوا وفي الظن أنه قد حصل الصلح، وذلك يوم السبت المذكور.
فلما كانت ليلة الإثنين: وقت الغروب تحالف المماليك السلطانية على قتل قوصون وبعثوا إلى من بالقاهرة منهم، فبات قوصون وقد بلغه ذلك على حذر. وركب قوصون يوم الإثنين ثامن عشره الموكب مع الأمراء تحت القلعة، وطلب أيدغمتش أمير أخور وأخذ يلوم الأمراء على إقامته في نيابة السلطنة، وهم يترضونه ويعدونه بالقيام معه. فأدركه الأمير بيبرس الأحمدي، وأعلمه بان المماليك السلطانية قد اتفقوا على قتله، فمضى بالموكب مع الأمراء إلى جهة قبة النصر. فارتجت القلعة، وغلقت أبوابها، ولبست المماليك السلطانية السلاح بالقلعة، وكسروا الزردخاناه. وقد امتلأت الرميلة بالعامة، وصاحوا: يا ناصرية، فأجابهم المماليك من القلعة. ثم رجعوا إلى باب إصطبل قوصون وهجموا عليه، وكسروا من كان يرجمهم من أعلاه. فبلغ ذلك قوصون، فعاد بمن معه من الأمراء، فأوقعوا بالعامة حتى وصلوا إلى سور القلعة، فرماهم المماليك السلطانية بالنشاب لحماية العامة. فقتل أمير محمود صهر الأمير جنكلي بن البابا بسهم، وقتل معه أخر. ووصل الأمراء إلى إصطبل قوصون، وقد بدأ النهب فيه، فقتلوا من العامة جماعة كبيرة، وقبضوا على جماعة. فلم تطق المماليك السلطانية مقاومة الأمراء، وكفوا عن الحرب، وفتحوا باب القلعة. فطلع إليها الأمير برسبغا الحاجب، وأنزل ثمانية من أعيان المماليك إلى قوصون، وقد وقف بجانب زاوية تقي الدين رجب تحت القلعة. فوسط قوصون واحداً منهم اسمه صربغا، فإنه هو الذي فتح خزائن السلاح وألبس المماليك، وأمر به قوصون فعلق على باب زويلة وشفع الأمراء في البقية، فسجنوا بخزانة شمايل مقيدين. ورسم بتسمير عدة من العامة، فسمر منهم تسعة على باب زويلة، وأمر بالركوب على العامة وقبضهم، ففروا حتى لم يقبض منهم على حرفوش واحد. ثم طلع الأمير قوصون إلى القلعة قريب العصر، ومد له وللأمراء سماط، فأكلوا. وبقيت الأطلاب وأجناد الحلقة تحت القلعة إلى أخر النهار، فكان يوما مشهوداً، وكانت جملة من قتل فيه من الفئتين ثمانية وخمسين رجلاً.(2/67)
وفي ليلة الثلاثاء: طلع الأمير برسبغا في جماعة إلى طباق المماليك بالقلعة، وقبضوا على مائة مملوك منهم، وعملوا في الحديد، وسجنوا بخزانة شمايل، فمنهم من قتل، ومنهم من نفي من مصر.
وفي يوم الثلاثاء تاسع عشره: سمر تسعة من العوام.
وفي يوم الأربعاء عشريه: سمر ثلاثة من الطواشية على باب زويلة، في عدة من الحرافيش. وسبب ذلك أن قوصون لما نزل من القلعة ومضى إلى قبة النصر، وقابلته المماليك أخذت الطواشية في الصياح على نسائه، وأفحشوا في سبهن. فمات أحدهم تحت العقوبة وأفرج عن الإثنين.
وفيه عرضت مماليك الطباق، وأنعم على مائتي مملوك منهم بإقطاعات كثيرة المتحصل، وعين جماعة منهم للإمريات. وأكثر قوصون من الإحسان إليهم، والإنعام عليهم.
وفيه قدم البريد من دمشق بكتب أحمد ابن السلطان إلى نائب الشام، وهي مختومة لم تفك، فإذا فيها أنه كاتب الأمير طشتمر حمص أخضر نائب حلب وغيره من النواب، وأنهم قد اتفقوا معه، وأكثر أحمد من الشكوى من قوصون. فأوقف قوصون الأمراء عليهما، ومازال بهم حتى وافقوه على تجريد العسكر إلى الكرك.
وفيه فرقت المماليك التي كانت الفتنة بسببهم على خشداشيتهم، فسلم صرغتمش إلى الأمير ألطنبغا المارداني، وسلم أيتمش لأيدغمش أمير آخور، وسلم شيخو إلى أرنبغا السلاح داره وفي يوم الجمعة ثاني عشريه: قدم البريد من الكرك بأن أحمد ابن السلطان لم يوافق طرغاي الطباخي على القدوم معه، وأن طرغاي توجه من الكرك عائداً بغير طائل. وكانت الإشاعة قد قويت بالقاهرة أن أحمد عزم على السير إلى مصر، وطلب السلطنة. فكثر الاضطراب، ووقع الشروع في تجهيز العساكر صحبة الأمير قطلوبغا الفخري، واستحلفه قوصون، وبعث إليه عشرة ألاف دينار، وعين معه الأمير قماري أخو بكتمر الساقي، ومعهما أربعة وعشرون أميراً، ما بين طبلخاناة وعشرات، وأنفق عليهم جميعاً ثم بعث قوصون إلى قطلوبغا الفخري بخمسة ألاف دينار عند سفره، وركب لوداعه صحبة الأمراء حتى أناخ بالريدانية في يوم الثلاثاء خامس عشريه.
ولم يكن الأمراء راضين بسفرهم، بل أشار الأمير آل ملك والأمير جنكلي بن البابا على قوصون بألا يحرك ساكناً فلم يقبل، فأشارا عليه بأن يكتب إلى أحمد يعتبه على مكاتبته نائب الشام، فكتب إليه بذلك، فأجاب بأن طرغاي الطباخي أسمعه كلاماً فاحشاً وأغلظ عليه في القول، فحمله على مكاتبة نائب الشام، وأن الأمير قوصون والده بعد والده، ونحو هذا من القول.
وفيه قدم الأمير أزدمر الكاشف، ومعه ابن حرجا خولي الأغنام السلطانية تحت الاحتفاظ، فأخذ منه ألف ألف درهم من غير أن يضرب، لكثرة أمواله وسعادته.
وفيه قدم الخبر من شطي بن عبية أمير العرب بأن أحمد ابن السلطان الناصر قد اختلفت عليه مماليكه، وقتلوا الشاب الذي كان يهواه ويعرف بشهيب، من أجل أنه كان يهينهم.
وفيه أفرج عن مماليك دمرداش الذين بعثهم السلطان الملك الناصر محمد إلى صفد ورسم بتفرقتهم على الأمراء.
وفي يوم الثلاثاء ثالث جمادى الأول: ركب الأمير نائب قوصون نائب السلطنة إلى سرياقوس وصحبته الأمراء على جاري العادة.
وفيه خلع على ضياء الدين يوسف. بن خطب بيت الآبار، وأعيد إلى حسبة القاهرة.
وفي هذا الشهر: ظهر لقوصون مخالفة الأمير طشتمر حمص أخضر نائب حلب عليه، وسببه أنه شق عليه إخراج أولاً السلطان الملك الناصر إلى الصعيد، ويجهز العسكر لقتال أحمد ابن السلطان. وكان قد بعث إليه أحمد يشكو من قوصون، وأنه يريد القبض عليه، ويطلب منه النصرة عليه. فكتب طشتمر حمص أخضر إلى الأمراء وإلى قوصون بالعتب، فقبض على قاصده بقطيا، وسجن. وكتب قوصون إلى الأمير ألطنبغا الصالحي نائب الشام بأن نائب حلب قد شرع يتكلم في الفتنة، وأنه لا يصغي إلى قوله، وحمل إليه أنعاماً كثيراً، فأجاب بالسمع والطاعة والشكر والثناء.(2/68)
وفيه أيضاً تنكرت الأحوال بين الأمير قوصون وبين الأمير أيدغمش أمير أخور، وكادت الفتنة تقع بينهما. وذلك أن بعض مماليك أمير علي بن أيدغمش وشى إليه بأن قوصون قدر مع برسبغا أنه يبيت بالقاهرة، ويكبس في عدة من مماليك قوصون على أيدغمش. فأخذ أيدغمش في الاحتراز، وامتنع من طلوع القلعة أياماً بحجة أنه متوعك الجسم. وصار إذا سير قوصون في سوق الخيل يغلق أيدغمش باب الإصطبل، ويوقف طائفة الأوجاقية عليه. فاشتهر الخبر بين الناس، وكثرت القالة. وبلغ قوصون تغير أيدغمش عليه، فحلف للأمراء أنه لا يعرف لتغيره سبباً، فمازالت الأمراء بأيدغمش حتى طلع إلى القلعه، وعرف قوصون بحضرتهم ما بلغه، فحلف قوصون على المصحف أن هذا لم يقع منه ولا عنده منه خبر، وتصالحا. فبعث إليه أيدغمش بعد نزوله إلى الإصطبل بالناقل له، فرده إليه ولم يعاقبه.
وفيه قدم الخبر من الإسكندرية بوفاة الأمير بشتاك بحبسه، فاتهم قوصون بقتله.
وفيه قدم الخبر من جركتمر بن بهادر بأنه وصل إلى الملك المنصور أبي بكر، وشكى من ترفعه وتعاظمه عليه، فكتب بطلب عبد المؤمن والي قوص على البريد، فلما قدم خلع عليه قوصون، وأكثر من الإنعام عليه، وقرر معه ما يعمله، وأعاده على البريد وكتب إلى جركتمر بن بهاد بمساعدته على ما هو بصدده.
وفيه أنشأ الأمير قوصون قاعة لجلوس مع الأمراء من داخل باب القلعة، وفتح إلا شباكاً يطل على الدركاه، وجلس فيه مع أكابر الأمراء ومد السماط بها، وصار يدخل إليه الأمراء والمقدمون والأجناد. وزاد قوصون في راتب سماطه كثيراً من الحلوى والدجاج ونحو ذلك، وأكثر من الخلع والإنعامات إلى الغاية، بحيث لم يمنع أحداً من خير يصل إليه منه. وكان قوصون قبل ذلك يجلس بباب القلعة موضع النيابة، في موضع صنعه وأدار عليه درابزين يحجبه عن الزحمة من كثرة الناس.
وفيه قدم الخبر من عبد المؤمن والي قوص بأن المنصور أبا بكر وجد في نفسه تغيراً، وفي جسمه توعكاً، لزم الفراش منه أياماً، ومات. ثم قدم جركتمر بن بهادر وأخبر بذلك، فاتهم قوصون بأنه أمر بقتله.
وفيه قدم الخبر من العسكر المجرد إلى الكرك بغلاء السعر عندهم، وأن التبن بلغ أربعين درهماً الحمل. ثم قدم الخبر بنزول العسكر مع قطلوبغا الفخري على الكرك، وقد امتنعت واستعد أهلها للقتال، وكان الوقت شتاء، فأقام العسكر نحو العشرين يوماً في شدة من البرد والأمطار والثلوج وموت الدواب، وتسلط أهل الكرك عليهم بالسب واللعن، وكثرت غاراتهم في الليل عليهم، وتقطيع قربهم ورواياهم.
هذا وقوصون يمد قطلوبغا الفخري بالأموال، ويحرضه على لزوم الحصار.
وفيه قدم البريد من عند ألطبغا الصالحي نائب دمشق بأن تمر الموساوي قدم من حلب، واستمال جماعة من الأمراء إلى طشتمر حمص أخضر نائب حلب.
فكتب قوصون بالقبض عليه، وحمل تشريف لنائب حلب. وكتب قوصون إلى ألطبغا الصالحي نائب دمشق أن يطالع بالأخبار، وأعلم القاصد بأنه إنما أرسل لكشف أخباره. فلم يرض نائب حلب بالتشريف، وعابه، وكتب إلى قوصون يعتبه على إخراج أولاد السلطان، فأجابه بأعذار غير مقبولة.
ثم قدم الخبر من شطي بن عبية أمير العرب بأن قطلوبغا الفخري قد خامر بالكرك على قوصون، وحلف لأحمد هو ومن معه من الأمراء، وأنهم أقاموه سلطاناً ولقبوه بالملك الناصر، وذلك بمكاتبة طشتمر حمص أخضر نائب حلب له يعتبه على موافقة قوصون، وقد فعل بأولاد السلطان ما فعل، ويعزم عليه أن يدخل في طاعة أحمد، ويقوم معه بنصرته. فصادف ذلك من قطلوبغا الفخري ضجره من طول الإقامة على حصار الكرك، وشدة البرد وكثرة الغلاء، فجمع من معه وكتب إلى أحمد وخاطبه بالسلطنة وقرر الصلح معه، وكتب إلى طشتمر حمص أخضر نائب حلب بذلك، فأعاد جوابه بالشكر والثناء، وأعلمه بان الأمير طقزدمر نائب حماة وأمراء دمشق قد وافقوه على القيام بأمر أحمد.(2/69)
وكان الأمير ألطنبغا الصالحي نائب الشام قد أحس بشيء من هذا، فاحترس على الطرقات حتى ظفر بقاصد طشتمر حمص أخضر نائب حلب على طريق بعلبك، ومعه كتب من هؤلاء الأمراء إلى أحمد، فبعث ألطنبغا بهذه الكتب إلى قوصون فقدمت ثاني يوم ورود كتاب شطي بمخامرة قطلوبغا الفخري، فإذا فيها لملكي الناصري فاضطرب قوصون وجمع الأمراء وعرفهم بما وقع وأوقفهم على الكتب، وذكر لهم أنه وصل منه إلى قطلوبغا الفخري في هذه السفرة أربعين ألف دينار، سوى الخيل والقماش والتحف.
وفيه رسم قوصون بإيقاع الحوطة على دور الأمراء المجردين إلى الكرك، فمازال به الأمراء حتى كف عن ذلك. وألزم مباشريهم بحمل حواصلهم وصار في أمر مريج. ثم كتب قوصون إلى ألطنبغا الصالحي نائب الشام بخروجه لقتال طشتمر حمص أخضر نائب حلب، ومعه نائب حمص، ونائب صفد، ونائب طرابلس، وكتب إليهم بالسمع والطاعة له، وحمل قوصون النفقات إلى العساكر الشامية. فخرج الأمير ألطنبغا الصالحي نائب الشام من دمشق بالعسكر في جمادى الآخرة، فتلقاه الأمير أرقطاي نائب طرابلس على حمص، وصار من جملته، وأخبره بكتاب طشتمر حمص أخضر نائب حلب يدعوه لموافقته، وأنه أبى عليه. ثم كتب الأمير ألطنبغا نائب الشام إلى الأمير طقزدمر نائب حماة ليحضر معه، فاعتذر بأنه من وجع رجله ما يقدر على الركوب، وكان قد وافق نائب حلب فبعث إليه نائب الشام بقبول عذه، وحلفه على طاعة السلطان الأشرف كجك، وألا يوافق طشتمر حمص أخضر نائب حلب ولا قطلوبغا الفخري، ولا يخرج من حماة حتى يعود ألطنبغا من حلب، فحلف الأمير طقزدمر على ذلك.
وعندما بلغ طشتمر حمص أخضر نائب حلب مسير ألطنبغا نائب الشام إليه بالعساكر، استدعى ابن دلغادر، فقدم عليه حلب، واتفق معه على الخروج إلى الأبلستين، وسار به ومعه ما خف من أمواله، وأخذ أولاده ومماليكه. فأدركه عسكر حلب، وقد وصل إليهم كتاب ألطنبغا نائب الشام بالاحتراس عليه ومنعه من الخروج عن حلب، وقاتلوه عدة وجوه، فلم ينالوا منه غرضاً، وقتل من الفريقين خمسة نفر، وعادوا وأكثرهم جرحى. فلما وصل طشتمر حمص أخضر إلى الأبلستين كتب إلى أرتنا يستأذنه في العبور إلى الروم، فبعث إليه أرتنا بقاضيه وعدة من ألزامه، وجهز له الإقامات. فمضى طشتمر حمص أخضر إلى قيصرية، وتوجه أرتنا لمحاربة دمرداش بعد أن رتب للأمير طشتمر في كل يوم ألفي درهم.
وأما الطنبغا الصالحي نائب الشام، فإنه قدم إلى حلب، وكتب إلى قوصون يعلمه بتسحب طشتمر حمص أخضر، وأنه استولى على حلب. فقدم كتابه في يوم الأربعاء ثاني رجب، صحبة أطلمش الكريمي، فأخرجه قوصون في رابعه إلى الشام لكشف الأخبار.
وفي خامسه: خلع على جميع الأمراء المقدمين والطبلخاناة والعشرات، ولبس معهم الأمير قوصون تشريف النيابة، وخلع على ثلاثمائة من المماليك السلطانية، فان يوماًمشهوداً.
وفي يوم الإثنين ثامنه: فرق قوصون إقطاعات الأمراء المجردين صحبة قطلوبغا الفخري، وعدتهم اثنان وثلاثون أميراً، منهم أمراء طبلخاناة ستة عشر، وأمراء عشرات سته عشر، وأميران مقدمان. وأعطى قوصون إمرياتهم لأربعة وثلاثين أميراً، عوضاً عن أولئك.
وفي يوم الأربعاء عاشره: نزل الوزير نجم الدين وناظر الخاص جمال الكفاة إلى بيوت الأمراء المجردين، وأخذوا ما قدروا عليه من أموالهم وخيولهم، ففرقها قوصون على الأمراء المستجدين. وأخرج قوصون أيضاً إقطاعات أولاد الأمراء المجردين، ومماليكهم ومن يلوذ بهم من أجناد الحلقة، لجماعة سواهم.
وفي يوم الثلاثاء تاسع عشريه: قدم الأمير الشيخ علي بن دلنجي القازاني أحد الأمراء العشرات المجردين، وأخبر بمسير قطلوبغا الفخري من الكرك إلى دمشق، ومواقعته مع ألطنبغا نائب الشام، وأنه فر منه في ليلة الوقعة، فخلع عليه قوصون خلعة كاملة بكلفتاه زركش وحياصة ذهب.(2/70)
وكان من خبر ذلك أن ألطنبغا الصالحي نائب الشام لما دخل حلب استولى على حواصل طشتمر حمص أخضر وأسلحته وخيوله وجماله، وباع ذلك على أهل حلب. وبينا هو في ذلك إذ بلغه دخول قطلوبغا الفخري إلى دمشق بمن معه من العسكر، وأنه دعا للناصر أحمد، وقد وافقه أقسنقر السلاي نائب غزة، وأصلم نائب صفد، ومن تأخر بدمشق من الأمراء، وهم شيخو البشمقدار وتمر الساقي، وأن آقسنقر نائب غزة وقف لحفظ الطرقات حتى لا يصل أحد من مصر، واستولى على القصر المعيني بلد قوصون بالغور، وأخذ ما فيها من القند والسكر وغير ذلك، وقبض على نوابه وأمواله وغلاله وأن قطلوبغا الفخري أخذ في تحصيل الأموال من دمشق للنفقة على الأمراء والأجناد، وأن الأمير طقزدمر نائب حماة قدم عليه في غد دخوله، فركب وتلقاه وقوي به. واستخدم قطلوبغا الفخري جنداً كبيراً، ونادى بدمشق: من أراد الإقطاع والنفقة فليحضر، وأخذ مالاً كثيراً من التجار وأرباب الأموال، وأكره قاضي القضاة تقي الدين ابن السبكي حتى أخذ مال الأيتام، وأخذ أجر الأملاك والأوقاف لثلاث سنين، فلم يبق أحد بدمشق إلا وغرم المال على قدر حاله. فجمع قطلوبغا الفخري مالاً عظيماً، وأتته جماعات من الجند والتركمان أوراقاً من ديوان الجيش بأسماء الأجناد والبطالين لإقطاعات بالحلقة، فتجهزوا جميعهم بالخيل والأسلحة. وحلف قطلوبغا الجميع للسلطان الملك الناصر أحمد، وعمل برسمه العصائب السلطانية والسناجق الخليفتية ورقاب الخيل والكنابيش والسروج والغاشية والقبة والطير، وسائر ما يحتاج إليه من أبهة السلطنة وجهز الكوسات والبغال. وكتب قطلوبغا إلى الناصر أحمد يعرفه بذلك فأجابه بالشكر والثناء، وبعث إليه موسى بن التاج إسحاق بمال، وسأل أن يكون ناظر الخاص على ما كان عليه أبوه في أيام أبيه السلطان الملك الناصر محمد. فأحابه قطلوبغا إلى ذلك، وأقام بدمشق يدبر أمره، وطلب ابن صبح نائب صفد، وبعثه لجمع العشير والجبلية من بلاد صفد وطرابلس وغيرها، فأتاه منهم جمع كثير. وكتب قطلوبغا إلى سليمان بن مهنا أن يعرف بسير ألطنبغا الصالحي من حلب، فكتب الأمير ألطنبغا يعرف الأمير قوصون بذلك فازداد اضطرابه، وجمع الأمراء. فاتفق الرأي على تجريد أمراء إلى غزة، فتوجه برسبغا الحاحب وأمير محمود الحاجب وعلاء الدين علي بن طغريل في جماعة وأجيب الأمير ألطنبغا نائب الشام على يد أطلمش الكريمي بأن يسير من حلب إلى قتال قطلوبغا الفخري بدمشق، فتوجه أطلمش على البريد من البرية لانقطاع الدرب، ووصل إلى حلب، وعرف ألطنبغا الخبر، فسار ألطنبغا منها حتى قدم حمص، وقد خرج قطلوبغا الفخري من دمشق إلى خان لاجين وأمسك المضيق، وأقام الجبلية والعشير على الجبلين، ووقف هو بالعسكر في وسط الطريق.
وأما ألطنبغا الصالحي فإنه حلف من معه، وسار من حمص حتى قرب من قطلوبغا، وعدة الجمعين نحو ثلاثة عشر ألف فارس. فتمهل ألطنبغا كراهة لسفك الدماء، وراسل قطلوبغا مدة ثلاثة أيام، فلم يتم بينهما أمر، وبعث قطلوبغا إلى جماعة من أصحاب ألطنبغا يعدهم ويستميلهم حتى وافقوه.
فلما تعبت الرسل وملت العساكر من شدة البرد، بعث ألطنبغا في الليل عدة ممن معه على طريق المرج ليهجموا على قطلوبغا من ورائه، ويلقاهم هو من أمامه. وركب ألطنبغا من الغد، فمال كل أمير ممن معه إلى جهة قطلوبغا، وصاروا من جملته. فلم يبق مع ألطنبغا سوى أرقطاي نائب طرابلس، وأسنبغا بن بكتمر البوبكري وأيدمر المرقبي من أمراء دمشق، فانتهزوا على طرلق صفد إلى جهة غزة، والقوم في أثرهم، بعد أن كانت بينهم وقبة هائلة انهزم فيها ألطنبغا نائب الشام، وهرب فيها من معهم، وخلصوا هم بأنفسهم. وعاد قطلوبغا الفخري إلى دمشق منصوراً. وكتب مع البريد إلى الأمير طشتمر حمص أخضر يعرفه بنصرته ويدعوه إلى الحضور، وأنه في انتظاره بدمشق، وحلف قطلوبغا الفخري من معه للملك الناصر أحمد. وأمر الخطاء فدعوا له على منابر دمشق وضرب السكة باسمه وكتب يعرفه بذلك. وبعث قطلوبغا إليه تقدمة جليلة، واستحثه على المسير إلى دمشق ليسير في خدمته إلى مصر، وبعث بخطوط الأمراء إليه.(2/71)
وأما ألطنبغا الصالحي نائب دمشق فإنه وصل إلى غزة ومعه أرقطاي وطرنطاي البشمقدار فيمن معهم، فتلقاهم الأمير برسبغا ومن معه. وكتب ألطنبغا إلى قوصون بذلك، فقامت، وقبض على أخوة أحمد شاد الشرابخاناة، وعلي قرطاي أستادار قطلوبغا الفخري.
ثم قدم على قوصون كتاب قطلوبغا الفخري يعنفه على إخراج أولاد السلطان الناصر محمد وقتل المنصور أبي بكر، وأن الاتفاق وقع على سلطنة الناصر أحمد، ويشير عليه بأن يختار بلداً يقيم بها حتى يسأل له السلطان الملك الناصر أحمد في تقليده إياها. فقام قوصون وقعد، وجمع الأمراء، فوقع الاتفاق على تجهيز التقادم للأمراء بغزة. فجهز قوصون لكل من ألطنبغا الصالحي نائب الشام وأرقطاي نائب طرابلس ثلاثين بدلة وثلاثين قباء مسنجبة بطرازات زركش، ومائتي خف ومائتي كلفتاه، وكسوة لجميع مماليكهما وغلمانهما وحواشيهما، وجهز لكل من الأمراء الذين معهما ثلاث بدلات وأقبية بسنجاب، وكسوة لمماليكهم وأتباعهم. وأخذ قوصون في الإنعام على المماليك السلطانية، وأخرج ثلاثمائة ألف دينار من الذخيرة لتجهيز أمره حتى يخرج بالعساكر إلى الشام. وأخرج أربعمائة قرقل وزرديات وخوذ وغيرها، وأنعم على جماعة من المماليك بإمريات، وغير إقطاعات جماعة منهم بإقطاعات المجردين، وكتب إلى الأمراء بمسيرهم من غزة، وهيأ لهم الإقامات والخيول، وبعث إليهم بالحلاوات والفواكه وسائر ما يليق بهم.
فبينا قوصون في ذلك إذ ركب الأمراء عليه، في ليلة الثلاثاء تاسع عشرى رجب وقت عشاء الآخرة. وسبب ذلك تنكر قلوب أكابر الأمراء عليه، لأمور بدت منه، منها قتل الأمير بشتاك، ثم قتل الملك المنصور أبي بكر، ثم وقوع الوحشة بينه وبين أيدغمش، فأخذ أيدغمش في التدبير عليه. ثم كان من انتصار قطلوبغا الفخري على ألطنبغا الصالحي نائب الشام ما كان، فكتب قطلربغا إلى أيدغمش سراً بأنه سلطن أحمد، وحرضه على الركوب إلى الكرك بمن قدر على استمالته.
وكان قوصون قد احتفل لقدوم ألطنبغا الصالحي نائب الشام ومن معه، وفتح ذخيرة السلطنة، وأكثر من النفقات والإنعامات حتى بلغت إنعاماته على الأمراء والخاصكية وما فرقه فيهم وفي العسكر ستمائة ألف دينار. فشاع بأنه يريد أن يتسلطن، فخاف أيدغمش وغيره من تحكمه في السلطنة، وحرض الخاصكية حتى وافقه الأمير ألطنبغا المارداني ويلبغا اليحياوي، في عدة من المماليك السلطانية، وعدة من أكابر الأمراء منهم الحاج آل ملك وجنكلي بن البابا، أنهم يسيرون جميعاً إلى الكرك عند قدوم ألطنبغا الصالحي نائب الشام وخروجهم إلى لقائه.
فلما كان يوم الإثنين: ركب قوصون في المركب تحت القلعة على العادة، وطلب الأمير يلجك ابن أخته، وأخرج إلى لقاء نائب الشام - وقد ورد الخبر بنزوله على بلبيس - ليأتي به سريعاً. فوافى يلجك الأمير ألطنبغا الصالحي ومن معه على بلبيس، فلم يوافقه على السرعة، وقصد أن يكون حضوره في يوم الخميس أول شعبان. وبات ألطنبغا ليلة الثلاثاء على بلبيس وركب من الغد ونزل سرياقوس، فبلغه ركوب الأمراء على قوصون وأنه محصور بالقلعة، فركب بمن معه إلى بركة الحاج، وإذا بطلب قوصون وصنجقه في نحو مائة مملوك قد وافوه، وأعلموه أن في نصف الليل ركب الأمراء وأحاطت بإصطبل قوصون، وحصروه في القلعة، فخرجوا هم على حمية حتى وصلوا إليهم.(2/72)
وكان من خبر ذلك أن قوصون لما بعث يلجك ليأتيه بنائب الشام سريعاً، تواعد أيدغمش ومن وافقه على أن يركبوا في الليل إلى الكوك. فجهز كل منهم حاله، حتى كان ثلث الليل فتح الأمراء باب السر، ونزلوا إلى أيدغمش بالإصطبل. ومضى كل واحد إلى إصطبله فلم ينتصف الليل إلا وعامة الأمراء بأطلابهم في سوق الخيل تحت القلعة، وهم ألطنبغا المارداني ويلبغا اليحياوي وبهادر الدمرداشي والحاج آل ملك والجاولي وقماري الحسني أمير شكار وأرنبغا وآقسنقر السلاري. وبعثوا إلى إصطبلات الأمراء مثل جنكلي بن البابا وبيبرس الأحمدي وطرغاي الطاخي وقياتمر وغيرهم، فأخرجوا أطلاب الجميع إليهم. وخرج لهم أيدغمش بماليكه ومن عنده من الأوجاقية، فوقفوا جميعاً ينتظرون نزول قوصون إليهم، حتى يمضوا إلى الكرك. فأحسن قوصون بهم، وقد انتبه، فطلب الأمراء المقيمين بالقلعة، فأتاه منهم اثني عشر أميراً منهم جنكلي ابن البابا والأحمدي وطرغيه وقباتمر والوزير. ولبست ممالكيه التي كانت عنده بالقلعة، وسألته أن ينزل ويدرك إصطبله، ويجتمع بمن فيه من مماليكه وكان يعتز بهم، فإنهم كانوا سبعمائة مملوك، وطالما كان يقول: إيش أبالي بالأمراء وغيرهم عندي سبعمائة مملوك ألقى بهم كل من في الأرض، فلم يوافقهم قوصون لما أراد الله به، وأقام إلى أن طلع النهار. فلما لم تظهر له حركة أمر أيدغمش أن يطلع الأوجاقية إلى الطلخاناة السلطانية وأخرج لهم الكوسات. ودق أيدغمش حربياً، ونادى: معاشر أجناد الحلقة ومماليك السلطان وأجناد الأمراء والبطالين يحضروا، ومن ليس له لبس ولا فرس ولا سلاح يحضر يأخذ له الفرس والسلاح ويركب معنا فأتاه جماعة كثرة من أجناد الحلقة والمماليك، ما بين لابس السلاح راكب وبين ماش أو على حمار، وأقبلت العامة كالجراد المنتشر. فنادى أيدغمش: " ياكسابة عليكم بإصطبل قوصون، اتهبوه فأحاطوا به ومماليك قوصون من أعلاه ترميهم بالنشاب حتى أتلفوا منهم عدة كثرة. فركب مماليك يلبغا اليحياوي أعلا بيت يلبغا حيث مدرسة السلطان حسن الآن، ورموا مماليك قوصون بالنشاب مساعدة للعوام، وجرحوا منهم جماعة، وحالوا بينهم وبين العامة. فهجم العامة عند ذلك على إصطبل قوصون، ونهبوا ركب خاناته وحواصله، وكسروا باب قصره بالفئوس بعد مكايدة شديدة، وطلعوا إليه. فخرجت مماليك قوصون على حمية، وشقوا القاهرة، وصاروا إلى ألطنبغا الصالحي نائب الشام. فبعث أيدغمش في أثرهم إلى ألطنبغا نائب الشام ومن معه من الأمراء بالسلام عليهم، وأن يمنعوا مماليك قوصون من الاختلاط بهم، فإن الأمير يلبغا اليحياوي والأمير آقسنقر قادمان في جميع كبير لأخذ مماليك قوصون وحاشيه. فأمر ألطنبغا نائب الشام مماليك قوصون ويلجك وبرسبغا أن يكونوا على حدة. ولبس الجميع، وأخذ برسبغا وجماعته نحو الجبل، فلقيهم يلبغا اليحياوي ومن معه، وكان ذلك بعدما أمسك قوصون، فسار خلفهم إلى قرب إطفيح، وهم في جمع كبير.
ولم تمض إلا ساعات من النهار حتى نهب جميع ما في إصطبل قوصون من الخيل والسروج وألات الخيل والذهب وغير ذلك، وقوصون ينظر ويضرب يداً على يد، ويقول يا أمراء هذا تصرف جند؟ ينهب هذا المال جميعه؟ وكان أيدغمش قصد بذلك أن يقطع قلب قوصون. فبعث قوصون إلى أيدغمش بأن هذا المال عظيم، وهو ينفع المسلمين والسلطان، فكيف تفعل هذا وتنادي بنهبه؟ فرد جوابه: نحن قصدنا أنت، ولو راح هذا المال وأضعافه. هذا والقلعة مغلقة الأبواب، وجماعة قوصون يرمون الأشرفية بالنشاب إلى قرب العصر، والعامة تجمع نشابهم وتعطيه لأجناد الأمراء المحاصرين للقلعة. فألقى حينئذ قوصون بيديه، واستسلم ودخل عليه مماليكه وقد خذلوا، فدخل عليه بلك الجمدار وملكتمر السرجواني يأمرانه أن يقيم في موضع حتى يحضر ابن أستاذه من الكرك، فيتصرف فيه كما يختار، فلم يجد بداً من الإذعان، وأخذ يوصي الأمير جنكلي على أولاده. وأخذ قوصون وقيد، ومضوا به إلى البرج الذي كان به بشتاك، ورسم عليه جماعة من الأمراء. وكان الذي تولى مسكه وحبسه أرنبغا أمير جندار وجنكلي بن البابا وأمير مسعود حاجب الحجاب.(2/73)
وأما ألطنبغا الصالحي نائب الشام ومن معه، فإن برسبغا ويلجك والقوصونية لما فارقوه سار هو وأرقطاي نائب طرابلس والأمراء يريدون القلعة. فأشار الأمير ألطنبغا نائب الشام على الأمير أرقطاي نائب طرابلس أن يرد برسبغا ويلجك والقوصونيه وبقالل أيدغمش، فإنه ينضم إليهم جميع حواشي قوصون ويأخذون أيدغمش، ويخرجون قوصون ويقيمونه كبيراً لهم ويخرجونه إلى حيث يختار، ويقيمون سلطاناً أو ينتظرون قدوم أحمد، فلم يرافقه أرقطاي لعفته عن سفك الدماء. فلما وافيا تحت القلعة وأيدغمش واقف في أصحابه، أقبل إليها أيدغمش وعانقهما، وأمرهما أن يطلعا إلى القلعة، فطلعا. وأمر أيدغمش فقبض على ابن المحسني والي القاهرة، وأحضره والأمراء واقفون تحت القلعة، فأنزله عن فرسه وسجنه بالقلعة، بعدما كادت العامة أن تقتله لكونه من جهة قوصون، ثم أرسل أيدغمش الأمير آقسنقر والأمير قازان في عدة مماليك وراء برسبغا ويلجك ومن معهما. وجلس أيدغمش مع ثقاته من الأمراء، وقرر معهم تسفير قوصون في الليل إلى الإسكندرية، والقبض على ألطنبغا الصالحي نائب الشام وأرقطاي نائب طرابلس ومن يلوذ بهما من الغد، وتسفير الأمير بيبرس الأحمدي والأمير جنكلي بن البابا لإحضار السلطان من الكرك.
وفي يوم الأربعاء، سلخه: خرج الحصني بواب المدرسة الصالحية تجاه باب المارستان وقت الصبح، بإعلام خليفتية ومصحف على رأسه، وهو ينادي بصوت عال: يا مسلمين قاض يفعل كذا بنساء المسلمين من غير كناية، ويأكل الحشيش، هذا لا يحل. فاجتمع الناس عليه، ومضى بهم إلى بيت قاضي القضاة حسام الدين الغوري الحنفي بالمدرسة الصالحية، وكسروا بابه ودخلوا عليه. ففر منهم حسام الدين إلى السطح وهو في أثره، وقد نهبوا جميع ما عنده حتى خشب الرفوف حتى وجدوه، فضربوه ونتفوا لحيته، وهو يعدو إلى أن خرج من البيت. واستجار حسام الدين بقاضي القضاة موفق الدين الحنبلي، فأجاره وأدخله داره، وأقام الحنابلة على بابه لمنع العامة منه وقد اقتحموا بابه، فقال لهم قاضي القضاة موفق الدين الحنبلي. معكم مرسوم بنهبي قالوا: لا لكن سلمنا الغوري فقيل لهم: هذا غريم السلطان قد صار عندي، وأنتم قد أخذتم ماله، ومازال بهم حتى انفضوا عنه وشنع الحال في النهب، وكان ذلك من سوء تدبير أيدغمش، فإنه جرأ العامة على نهب إصطبل قوصون لغرضه، فوجدوا فيه ما لا يكاد يوصف. وبلغ ذلك مماليك الأمراء والأجناد فأتوهم ووقفوا لانتظار من يخرج بشيء حتى يأخذوه، فإن امتنع من دفعه إليهم قتلوه. فوحد لقوصون أربع سراري نهب جميع مالهن، وحملت أكياس الذهب والفضة ونثرت بالدهليز والطرق. فأخذ مماليك أيدغمش وغيره شيئاً كثيراً من المال ونزلت مماليك يلبغا اليحياوي من سور إصطبله وقووا على الناس، واقتسموا الذهب وأخرجت النهابة من البسط الرومية والآمدية وعمل الشريف شيئاً كثير، قطعوها قطعاً وتقاسموها، وكسروا أواني البلور والصيني وسلاسل الخيل الفضة والذهب، ومن السروج واللحم ما لا يحد، وقطعوا الخيم وثياب الخركاوات ما بين حرير وزرنيب بحاصله.(2/74)
وكان بحاصل قوصون لما نهب ما ينيف على أربعمائة ألف دينار ذهباً في أكياس، ومن الحوايص والزركش والأواني ما بين أطباق وخونجات زيادة على مائة ألف، ومن حلي النساء ما لا ينحصر، وثلاثة أكياس أطلس فيها جواهر بما ينيف على مائة ألف دينار، ومائة وثلاثين زوج بسط، منها ما طوله أربعون ذراعاً وثلاثون ذراعاً، كلها من عمل الروم وآمد وشيراز وستة عشر زوجاً من عمل الشريف بمصر، قيمة كل زوج اثنا عشر ألف درهم، وأربعة أزواج بسط حرير لا يقوم عليها، ونوبة خام جميعها أطلس معدني قص. فانحط لذلك سعر الذهب حتى كان صرفه بأحد عشر درهماً الدينار، من كثرة ما صار في الأيدي، بعدما كان الدينار بعشرين درهماً، ولأن أيدغمش نادى في القاهرة ومصر أن من أحضر من العامة ذهباً لتاجر أو صيرفي أو متعيش يقبض عليه ويحضر به إليه، فكان من معه منهم ذهب يأخذ فيه ما يدفع إليه من غير توقف. وكثرت مرافعة الناس بعضهم لبعض فيما نهب، فجمع أيدغمش شيئاً كثيراً من ذلك. ثم إن العامة بعد نهب إصطبل قوصون وقصره، حتى أخذوا سقوفه ورخامه وأبوابه، وتركوه خراباً مضوا إلى خانكاته بباب القرافة، فمنعهم أهلها من النهب، فمازالوا حتى فتحوها ونهبوها، وسلبوا الرجال والنساء ثيابهم، فلم يدعوا لأحد شيئاً، وقطعوا بسطها، وكسروا رخامها، وخربوا بركتها، وأخذو الشبابيك وخشب السقوف والمصاحف وشعثوا الجدر. ثم مضوا إلى بيوت مماليك قوصون، وهم حشد عظيم، فنهبوها وأحرقوها وما حولها حتى بيعت الغلة بستة دراهم كل أردب من القمح وتتبعوا حواشي قوصون بالقاهرة والحكورة وبولاق والزريبة وبركة قرموط وغير ذلك، وباعوا الأمتعة والأواني والثياب بأبخس ثمن، وصاروا إذا رأوا نهب أحد قالوا هو قوصوني فللحال يذهب جيع ماله. وزادت الأوباش حتى خرجوا عن الحد، وشمل الخوف كل أحد، فقام الأمراء على أيدغمش وأنكروا عليه تمكين العامة من النهب، فأمر بسبعة من الأمراء، فنزلوا إلى القاهره والعامة مجتمعة على باب الصالحية في نهب بيت قاضي القضاة حسام الدين الغوري، فقبضوا على عدة منهم، وضربوهم بالمقارع. وأشهروهم، فانكفوا عن النهب.
وفي ليلة الخميس: أخرج الأمير قوصون من سجنه بالقلعة، في مائة فارس حتى ركب النيل، ومضى إلى الإسكندرية.
وكان قوصون في أول أمره على حاله، وفي أوسطه وأخره من أعاجيب الزمان ومما قيل فيه:
قوصون قد كانت له رتبة ... تسمو على بدر السما الزاهر
فحطه في القيد أيدغمش ... من شاهق عال على الطائر
ولم يجد من ذلة صاحباً ... فأين عين الملك الناصر
صار عجيباً أمره كله ... في أول الأمر وفي الآخر
وفي يوم الخميس أول شعبان: خلع السلطان الملك الأشرف كجك من السلطة، وكانت مدته خمسة أشهر وعشرة أيام لم يكن له فيها أمر ولا نهي، وتدبير أمور الدولة كلها إلى قوصون. وكان إذا حضرت العلامة أعطى قلماً في يده، وجاء فقيهه الذي يقرئ أولاد السلطان، فكيف العلامة والقلم في يد السلطان.
السلطان شهاب الدين أحمد
السلطان الملك الناصر شهاب الدين أحمد بن الناصر محمد بن قلاوون الصالحي أمه اسمها بياض، كانت تجيد الغناء، وكانت من عتقاء الأمير بهادر آص رأس نوبة. وكانت شهرتها قوية، ولها بالناس اجتماعات في مجالس أنسهم. فلما بلغ السلطان الناصر محمد خبرها اختص بها، وحطت عنده، فولدت أحمد هذا على فراشه. ثم تزوجها الأمير ملكتمر السرجواني، وقد مضى من أخباره جملة. فلما استولى الأمير أيدغمش على الدولة بعد قوصون، وقرر مع الأمراء خلع الأشرف كجك في يوم الخميسي أول شعبان، بعث الأمير جنكلي بن البابا والأمير بيبرس الأحمدي والأمير قماري أمير شكار إلى السلطان أحمد بالكرك بكتب الأمراء يخبرونه بما وقع، ويستدعونه إلى تحت ملكه، وضربوا اسمه على أملاك قوصون جميعها، وأعلن بالدعاء له في خانكاه سعيد السعداء.
وفيه جلس أيدغمش وألطنبغا المارداني ويلبغا اليحياوي وبهادر الدمرداش واستدعوا بقية الأمراء.(2/75)
وفيه قبض على ألطنبغا الصالحي نائب الشام وعلى أرقطاي نائب طرابلس ومضى بهما أمير جندار إلى قاعة سجنهما. وأخذوا بعدهما سبعة عشر أمير طبلخاناة وقياتمر أحد مقدمي الألوف وجركتمر بن بهادر وغيره، حتى كانت عدة من قبض عليه في هذا اليوم خمسة وعشرين أميراً.
وفيه قبض على مزين مغربي كان حاقق جركتمر بن بهادر بأنه هو الذي قتل الملك المنصور، وكتب بذلك أيضاً إلى الأمير قطلوبغا الفخري.
وفيه طلب أيدغمش جال الدين يوسف والي الجيزة، وخلع عليه بولاية القاهرة، فنزل إلى القاهرة، فإذا بالعامة في نهب بيت بعض مماليك قوصون، فقبض على عشرين منهم، وضربهم بالمقارع وسجنهم، بعدما أشهرهم. فاجتمعت الغوغاء ووقفوا لأيدغمش، وصاحوا عليه: وليت على الناس قوصوني ما يخلي منا أحد، وعرفوه ما وقع. فبعث أيدغمش الأوجاقية إليه في طلبه، فوجدوه بالصليبة يريد القلعة، فصاحت عليه الغوغاء، قوصوني يا غيرية على الملك الناصر ورجموه من كل جهة. فقامت الجبلية والأوجاقية في ردهم، فلم يطيقوا ذلك، وجرت بينهم الدماء. فهرب الوالي إلى إصطبل ألطنبغا المارداني، وحمته مماليك ألطنبغا من العامة. فطلب أيدغمش الغوغاء، وخيرهم فيمن يلي، فقالوا نجم الدين الذي كان قبل ابن المحسني، فطلبه وخلع عليه، فصاحوا: بحياة الملك الناصر عزل عنا ابن رخيمة المقدم وحمامص رفيقه، ومكنا منهما. فأذن لهم في نهبهما، فشرع نحو الألف منهم إلى دار ابن رخيمة بجانب بيت الأمير كوكاي بالقاهرة، فنهبوه ونهبوا بيت رفيقه.
وفي يوم الجمعة ثانيه: دعي على منابر مصر والقاهرة للسلطان الملك الناصر أحمد.
وفي يوم الإثنين خامسه: تجمعت الغوغاء بسوق الخيل، ومعهم الرايات الصفر، وتصايحوا بأيدغمش: زودنا لنروح إلى أستاذنا الملك الناصر، ونجيء صحبته، فكتب لهم مرسوماً بالإقامة والراتب في كل منزلة، وتوجهوا مسافرين من الغد.
وفي يوم الأربعاء سابعه: وصل الأمراء الذين كان سجنهم قوصون من سجن الإسكندرية، وهم ملكتمر الحجازي وقطليجا الحموي، وأربعة وخمسون نفراً من المماليك السلطانية. ومن الغريب أن الحراقة التي سارت بهؤلاء الأمراء إلى الإسكندرية، لما قبض عليهم قوصون، هي الحراقة التي سار فيها قوصون إلى الإسكندرية حتى سجن بها. وكان قوصون لما دخل إلى الإسكندرية مقيداً خرج والي الثغر ليتسلمه وقد ركب بالأمراء عندما أفرج عنهم ليتوجهوا إلى القاهرة، فسلموا على قوصون، فبكى واعتذر لهم مما صدر منه في حقهم. وعندما قدموا إلى ساحل مصر ركب الأمراء إلى لقائهم، وخرجت العامة لرؤيتهم، بحيث غلقت الأسواق يومئذ حتى طلعوا إلى القلعة. فتلقت خوند الحجازية زوجها الأمير ملكتمر الحجازي بجواريها وخدامها، ومغانيها تضرب بالدفوف والشبابات فرحاً به، وجارتها أختها امرأة قوصون في عويل وبكاء وصياح هي وجواريها وخدامها، كما كان بالأمس لما انتصر قوصون على الحجازي والأمراء، في بيته الأفراح والتهاني، وفي بيت الحجازي البكاء والعويل، وكان في ذلك عبرة للمعتبر.
وفيه قدم كتاب الأمراء المتوجين إلى الكرك، وهم جنكلي بن البابا وبيبرس الأحمدي وقماري، بأنهم لما وصلوا إلى الكرك نزلوا بظاهرها، وبعث كل منه بملوكه يعرف السلطان أحمد بقدومه. فبعث إليهم السلطان رجلاً من نصارى الكرك فقال: يا أمراء، السلطان يقول لكم إن كان معكم كتب فهاتهوا، أو مشافهة قولوها: وفي الحال عادت مماليكهم، ولم يمكنوا من الاجتماع بالسلطان، وقيل لهم إن السلطان قد سير كتابه إلى الأمراء. فدفعت الكتب إلى النصراني فمضى بها، ثم عاد من أخر النهار بكتاب مختوم، وقال عن السلطان إنه قال: سلم على الأمراء، وعرفهم أن يقيموا بغزة إلى أن يرد لهم ما يعتمدوه كذا.
وحضر مملوك من قبل السلطان يأمر الأمير قماري بالإقامة على ناحية الصافية، وبعث إليه بخاتم.(2/76)
وجاء في كتاب الأمراء المتوجهين إلى الكرك أنهم وجدوا الكتاب يتضمن إقامتهم على غزة، والاعتذار عن لقائهم، فعاد الأميران جنكلي بن البابا وبيبرس الأحمدي إلى غزة. فلما وقف الأمير أيدغمش على ذلك كتب من وقته إلى الأمير قطلوبغا الفخري يسأله أن يستحث السلطان في قدومه إلى تخت ملكه، وكتب إلى الأمراء بانتظار السلطان، وعرفه بمكاتبته للفخري. وأخذ أيدغمش في تجهيز أمور السلطنة، وأشاع قدوم السلطان خوفاً من إشاعة ما عامل به الأمراء، فيفسد عليه ما دبره.
فلما قدم البريد إلى دمشق بكتاب أيدغمش وافى قدوم كتاب السلطان أيضاً من الكرك يتضمن القبض على الأمير طرنطاي البشمقدار والأمير طينال، وحمل مالهم إلى الكرك.
وكان الأمير قطلوبغا الفخري قد ولى طينال نيابة طرابلس، وطرنطاي نيابة حمص فاعتذر في جوابه طينال في شغل بحركة الفرنج، وأشار بألا يحرك ساكن في هذا الوقت، وسأل سرعة حضور السلطان ليسير بالعسكر في ركابه إلى مصر، وأكثر الأمير فطلوبغا الفخري من مصادرة الناس بدمشق.
وفي يوم السبت حادي عشرة: كان حضور يلجك ابن أخت قوصون، وبرسبغا الحاجب صحبة آقسنقر الناصري من الصعيد.
وفي خامس عشره: استقر شمس الدين موسى بن التاج إسحاق في نظر الخاص.
وفيه أخرج الأمير قطلوبغا الفخري الإقطاعات بأسماء الأجناد، وعزل وولي، وكان دواداره يعلم عنه.
وفي هذه الأيام: قدم الأمير طشتمر حمص أخضر نائب حلب من بلاد أرتنا إلى دمشق، فتلقاه الأمير قطلوبغا الفخري وأنزله في مكان يليق به، وبعث قطلوبغا من يومه بالأمير آقسنقر السلاري نائب غزة ليتلقى الأمراء.
وفيه قدم كتاب السلطان من الكرك إلى قطلوبغا الفخري يتضمن قدوم الأمراء من مصر، وأنه لم يجتمع بهم، وأنه في انتظار قدوم الأمير طشتمر حمص أخضر من بلاد أرتنا إلى حلب، وأنه لا يخرج من الكرك قبل ذلك. فكتب قطلوبغا الفخري الجواب بقدوم طشتمر، وأشار على السلطان بسرعة الحركة إلى دمشق. وأخذ الفخري في تجهيز جميع ما يحتاج إليه السلطان، وفي ظنه أن السلطان يسير إليه بدمشق، فيركب في خدمته بالعساكر إلى مصر، فلم يشعر إلا وكتاب السلطان قد ورد عليه مع بعض الكركيين يتضمن أنه يركب من دمشق ليجتمح مع السلطان على غزة. فشق ذلك عليه، وسار من دمشق بعساكرها، وبمن استجده من أهل الطاعة حتى قدم غزة في عدد كبير، فلتقاه جنكلي بن البابا والأمير بيبرس الأحمدي والأمير قماري.
وكان قدوم قاصد السلطان من الكرك لكشف من في السجون من الأمراء، فمضى إلى الإسكندرية بسبب ذلك، وورد كتابه على الأمير أيدغمش بالشكر على ما فعله، وجعل له أن يحكم حتى يحضر السلطان.
وفيه قبض على خمسة وثمانين من مماليك قوصون، فقيدوا وسجنوا بخزانة شمايل.
وفي يوم الثلاثاء عشريه: قبض على ولد الأمير جركتمر بن بهادر وعمره نحو اثنتي عشرة سنة، إرضاء لأم المنصور أبي بكر.
وفي الخميس سلخه: وصل عبد المؤمن والي قوص مقيداً، صحبة شجاع الدين قنغلي المتوجه إلى قوص، وكان قد توجه لإحضاره، وكتب إلى الوافدية أجناد قوص، والي العربان بأخذ الطرقات عليه. فلما قدم قنغلي إلى قوص ركب ليلاً بالوافدية، وأحاط بدار الولاية، فلبس عبد المؤمن سلاحه، وألبس جماعته، وقاتل قنغلي ورجاله حتى نجا منهم، وهم في أثره يومين وليلتين، يأخدون من انقطع من أصحابه، حتى أمسكوه وقيدوه. وعندما وصل ابن المؤمن إلى القاهرة خرجت العامة إلى رؤيته، وقصدوا قتله، فأركب إليه الأمير أيدغمش جماعة حتى حموه، وأتوا به إلى القلعة، فلما طلعها أقامت أم المنصور أبي بكر العزاء، وأمر به فسجن.
وفي ليلة الجمعة أول شهر رمضان: نزلت أم المنصور أبي بكر من القلعة، ومعها مائة خادم ومائة جارية لعمل العزاء: فدخلت بيت جركتمر بن بهادر ونهبت ما فيه، وألقته إلى من تبعها من العامة، ففرت حرم جركتمر منها حتى نجت من القتل.
وفي يوم الثلاثاء خامسه: تفاوض الأميران ملكتمر الحجازي ويلبغا اليحياوي حتى خرجا إلى المخاصمة، وصار لكل منها طائفة، ولبسوا آلة الحرب. فتجمعت الغوغاء تحت القلعة لنهب بيوت من ينكسر من الفريقين، فلم يزل الأمير أيدغمش بهم حتى كفوا عن القتال، وبعث إلى العامة جماعة من الأوجاقية، فقبضوا على جماعة منهم، وأودعهم السجن.
وفي سادسه: قبض على جماعة من القوصونية.(2/77)
وفي يوم الخميس سابعه: قدم أولاد السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون من قوص، وعدتهم ستة. فركب الأمراء إلى لقائهم، وهرعت العامة إليهم. فساروا من الحراقة على القرافة حتى حاذوا تربة جركتمر، فصاحت العامة: " هذه تربة الذي قتل أستاذنا الملك المنصور، وهجموها، وأخذوا ما فيها وخربوها حتى صارت كوم تراب. فلما وصل أولاد السلطان تحت القلعة أتاهم الأمير جمال الدين يوسف والي الجيزة الذي تولى القاهرة، وقتل ركبة رمضان ابن السلطان، فرفسه برجله وسبه، وقال: أتنسى ونحن في الحراقة عند توجهنا لقوص، وقد طلبنا مأكلاً من الجيزة، فقلت خذوهم وروحوا إلى لعنة الله، ما عندنا شيء؟ فصاحت به العامة: لله مكنا من نهبه، هذا قوصوني، فأشار بيده أن انهبوا بيته، فتسارعوا في الحال إلى بيته المجاور للجامع الظاهري من الحسينية، حتى صاروا منه إلى باب الفتوح. فقامت إخوته ومن يلوذ به في دفع العامة بالسلاح، وبعث الأمير أيدغمش أيضاً بجماعة ليردهم عن النهب، وخرج إليهم نجم الدين والي القاهرة، وكان أمراً مهولاً قتل فيه من العامة عشرة رجال، وجرح خلق كثير، ولم ينتهب شيء.
وفي يوم الأحد عاشره: قدم مملوك الأمير قطلوبغا الفخري ومملوك الأمير طقزدمر بوصول العساكر إلى غزة في انتظار قدوم السلالان إليهم من الكرك، وأن يحلف جميع أمراء مصر وعساكرها على العادة. فجمعوا بالميدان، وأخرجت نسخة اليمين المحضرة، فإذا هي تتضمن الحلف للسلطان، ثم للأمير قطلوبغا الفخري. فتوقف الأمراء عن الحلف لقطلوبغا حتى ابتدأ الأمير أيدغمش وحلف، فتبعه الجميع خوفاً من وقوع الفتنة، وجهزت نسخة اليمين إلى قطلوبغا.
وفيه قبض على عدة من العامة نهبوا بعض كنائس النصارى، وصلبوا تحت القلعة، ثم أطلقوا.
وأما العسكر الشامي فإنه أقام بغزة، وقد جمع لهم نائبها آقسنقر الإقامات من بلاد الشوبك وغيرها، حتى صار عنده ثلاثة آلاف غرارة من الشعير وأربعة ألاف رأس من الغنم، غير ذلك مما يحتاج عليه. وكتب الأمراء إلى السلطان بقدومهم صحبة مماليكهم مع الأمير قماري أمير شكار، فساروا إلى الكرك، وقد قدمها أيضاً الأمير يحيى بن طايربغا صهر السلطان برسالة الأمير أيدغمش يستحثه على المسير إلى مصر، فأقاموا جميعاً ثلاثة أيام لم يؤذن لهم في دخول المدينة. ثم أتاهم كاتب نصراني وبازدار يقال له أبو بكر ويوسف بن البصال، وهؤلاء الثلاثة هم خاصة السلطان من أهل الكرك، فسلموا عليهم وطلبوا ما معهم من الكتب. فشق ذلك على الأمير قماري، وقال لهم: معنا مشافهات من الأمراء للسلطان، ولابد من الاجتماع به. فقالوا: لا يمكن الاجتماع به، وقد رسم إن كان معكم كتاب أو مشافهة أن تعلمونا بها. فلم يجدوا بداً من دفع الكتب إليهم، وأقاموا إلى غد. فجاءتهم كتب مختومه، وقيل للأمير يحيى.اذهب إلى عند الأمراء بغزة، فساروا جميعاً عائدين إلى غزه، فإذا في الكتب الثناء على الأمراء، وأن يتوجهوا إلى مصر، فإن السلطان يقصد مصر بمفرده، ويسبقهم. فتغيرت خواطرهم، وقالوا وطالوا، وخرج قطلوبغا الفخري عن الحد وأفرط به الغضب، وعزم على الخلاف. فركب إليه الأمير طشتمر حمص أخضر نائب حلب والأمير جنكلي بن البابا والأمير بيبرس الأحمدي، ومازالوا به حتى كف عما عزم عليه، ووافق على المسير، وكتبو بما كان من ذلك إلى الأمير أيدغمش، وتوجهوا جميعاً من غزة يريدون مصر.
وكان أيدغمش قد بعث ولده بالخيل الخاص إلى السلطان، فلما وصل الكرك أرسل السلطان من أخذ منه الخيل، ورسم بعوده إلى أبيه. وأخرج السلطان من الكرك رجلاً يعرف بأبي بكر البزدار ومعه رجلان ليبشروا بقدومه، فوصلوا إلى الأمير أيدغمش في يوم الإثنين خامس عشريه، بلغوه السلام من السلطان، وعرفوه أنه قد ركب الهجن وسار على البرية صحبة العرب، وأنه يصابح أو يماسي، فخلع عليهم أيدغمش، وبعثهم إلى الأمراء فأعطاهم كل من الأمراء المقدمين خمسة ألاف درهم وأعطاهم بقية الأمراء على قدر حالهم، وخرج العامة إلى لقاء السلطان.(2/78)
فلما كان يوم الأربعاء سابع عشريه: قدم قاصد السلطان إلى الأمير أيدغمش بأن السلطان يأتي ليلاً من باب القرافة، وأمره أن يفتح له باب السر حتى يعبر منه، ففتحه. وجلس أيدغمش وألطنبغا المارداني حتى مضى جانب من ليلة الخميس ثامن عشريه، أقبل السلطان في نحو العشرة رجال من أهل الكرك، وقد تلثم وعليه ثياب مفرجة، فتلقوه وسلموا عليه، فلم يقف معهم، وأخذ جماعته ودخل بهم. ورجع الأمراء وهم يتعجبون من أمره، وأصبحوا فدقت البشائر بالقلعة، وزينت القاهرة ومصر.
واستدعى السلطان الأمير أيدغمش في بكرة يوم الجمعة، فدخل إليه وقبل له الأرض فاستدناه السلطان وطيب خاطره، وقال له: أنا ما كنت أتطلع إلى الملك، وكنت قانعاً بذلك المكان، فلما سيرتم في طلبي ما أمكنني إلا أن أحضر كما رسمتم، فقام أيدغمش وقبل الأرض ثانياً.
ثم كتب أيدغمش عن السلطان إلى الأمراء الشاميين يعرفهم بقدومه إلى مصر، وأنه في انتظارهم، وكتب علامته بين الأسطر المملوك أحمد بن محمد، وكتب إليهم أيدغمش أيضاً. وخرج مملوكه بذلك على البريد، فلقيهم على الورادة، فلم يعجبهم هيئة عبور السلطان، وكتبوا إلى أيدغمش بأن يخرج إليهم هو والأمراء إلى سرياقوس، ليتفقوا على ما يفعلونه.
فلما كان يوم عيد الفطر منع السلطان السماط، ومنع الأمراء من طلوع القلعة، ورسم أن يعمل كل أمير سماطه في داره، و لم ينزل لصلاة العيد، وأمر الطواشي عنبر المسحرتي مقدم المماليك ونائبه الطواشي الإسماعيلي أن يجلسا على باب القلعة، ويمنعا من يدخل عليه. وخلا السلطان بنفسه مع الكركيين، فكان الحاج علي إخوان سلار إذا أتى مع الطعام على عادته خرج إليه يوسف وأبو بكر البزدار، وأطعماه ششني، وتسلما منه السماط، وعبرا به إلى السلطان، ووقف خوان سلار ومن معه حتى يخرج إليهم الماعون.
وحدث جمال الدين بن المغربي رئيس الأطباء أن السلطان استدعاه وقد عرض له وجع في رأسه، فوجده جالساً وإلى جانبه شاب من أهل الكرك جالس، وبقية الكركيين قيام، فوصف له ما يناسبه، وتردد إليه يومين وهو على هذه الهيئة.
وفي يوم الأحد تاسع شوال: قدم الأمير قطلوبغا الفخري والأمير طشتمر حمص أخضر، وجميع أمراء الشام وقضاتها، والوزراء ونواب القلاع، في عالم كبير حتى سدوا الأفق، ونزل كثير منهم تحت القلعة في الخيم. وكان قد خرج إلى لقائهم الأمير أيدغمش والحاج آل ملك والجاولي وألطنبغا المارداني، وأخذ قطلوبغا الفخري يتحدث مع أيدغمش فيما عمله السلطان من قدومه في زي العربان، واختصاصه بالكركيين، وإقامة أبي بكر البزدار حاجباً. وأنكر أيدغمش ذلك على السلطان غاية الإنكار، وطلب من الأمراء موافقته على خلعه ورده إلى مكانه، فلم يمكنه الأمير طشتمر حمص أخضر من ذلك، وساعده الأمراء أيضاً، ومازالوا به إلى أن أعرض عما هم به.(2/79)
فلما كان يوم الإثنين عاشره: ألبس السلطان، وجلس على تخت الملك، وقد حضر الخليفة الحاكم بأمر الله وقضاة مصر الأربعة، وقضاة دمشق الأربعة، وجيع الأمراء والمقدمين. وعهد إليه الخليفة، وقبل الأمراء الأرض على العادة، ثم قام العالمان على قدميه، فتقدم الأمراء وباسوا يده واحداً بعد واحد، على مراتبهم، وجاء الخليفة بعدهم، وقضاة القضاة ما عدا الحسام حسن بن محمد الغوري، فإنه لما طلع مع القضاة وجلسوا بجامع القلعة حتى يؤذن لهم على العادة، جمع عليه صبي من صبيان المطبخ السلطاني جمعاً كبيراً من الأوباش، لحقد كان في نفسه عليه عندما تحاكم هو وزوجته عنده، فإنه أهانه، وضربه وهجم هذا الصبي على القضاة بأوباشه، ومد يده إلى الغوري من بينهم، فأقامه الأوباش وحرقوا عمامته، وقطعوا ثيابه، وهم يسحبونه ويصيحون عليه: يا قوصوني ثم ضربوه بالنعال ضرباً مؤلماً، وقالوا له: يا كافر يا فاسق فارتجت القلعة، وأقبل علم دار حتى خلصه منهم، وهو يستغيث: يا مسلمين! كيف يجري هذا على قاض من قضاة المسلمين. فأخذ المماليك جماعة من تلك الأوباش، وجروهم إلى الأمير أيدغمش فضربهم، وبعث طائفة من الأوجاقية فساروا بالغوري إلى منزله، ولم يحضر الموكب. فثارت العامة على بيته بالمدرسة الصالحية ونهبوه، وكان يوماً شنيعاً. وفي يوم الخميس ثالث عشره: خلع على جميع الأمراء الكبار والصغار ومقدمي الحلقة، وأنعم على الأمير طشتمر حمص أخضر بعشرة ألاف دينار، وعلى الأمير قطلوبغا الفخر بما حضر صحبته من الشام، وهو أربعة ألاف دينار ومائة ألف درهم فضة، ونزل في موكب عظيم. وكان قد قدم معه من أمراء الشام سنجر الجمقدار وتمر الساقي وطرنطاي البشمقدار وأقبغا عبد الواحد، وتمر الموساوي والجلالي وابن قراسنقر وأسنبغا ابن البو بكري، وبكتمر العلائي وأصلم نائب صفد.
وفيه طلب السلطان الوزير نجم الدين، ورسم له أن يكون يوسف البزدار ورفيقه مقدمي البزدارية ومقدمي الدولة، وخلع السلطان عليهما كلفتاه زركش وأقبية طرد وحش بحوائص ذهب فحكما في الدولة وتكبرا على الناس، وصارا فيهم بحمق زائد، وصارا لا يأتمران بأمر الوزير، ويمضيان ما أحبا. وصحبهما كثير من الأشرار، وعرفوهما بأرباب الأموال، فشملت مضرتهما كثيراً من الناس، وانهمكا في اللهو، فثقل أمرهما على الكافة.
وفي عصر يوم السبت خامس عشره: خلع على الأمير طشتمر حمص أخضر، واستقر في نيابة السلطنة بديار مصر، فجلس والحجاب قيام بين يديه، والأمراء في خدمته. فكان أول ما بدأ به أن قلع الشباك الذي كان يجلس فيه قوصون، وخلع الخشب الذي عمله في باب القلعة، وباشر النيابة بحرمة وافرة.
وفي يوم الخميس سابع عشره: أخرج السلطان محمل الحاج.
وفيه أخرج السلطان عبد المؤمن بن عبد الوهاب السلامي والي قوص من السجن، وسمر على باب المارستان المنصوري من القاهرة بمسامير جافية شنعة، وطيف به مدة ستة أيام، وهو يحادث الناس في الليل بأخباره. فمما حدثهم به أنه هو الذي ركب حتى ضرب النشو كما تقدم ذكره، وأنه لما سقطت عمامته ظنها رأسه. وكان إذا قيل له اصبر يا عبد المؤمن يقول أسأل الصبر، وينشد كثيراً.
يبكى علينا ولا نبكي على أحد ... ونحن أغلظ أكباداً من الإبل
فلما كان يوم السبت ثاني عشريه: شنق عبد المؤمن على قنطرة السد ظاهر مدينة مصر عند الكيمان، وترك حتى ورم وأكلته الكلاب.
وكان عبد المؤمن من السلامية بالعراق، فبعثه المجد السلامي إلى السلطان الناصر محمد مرارا حتى عرف عنده. ثم تنكر عبد المؤمن علي المجد السلامي ورافعه إلى السلطان حتى تغير عليه، وكتب إلى أبي سعيد بإحضاره. فأثبت المجد السلامي محضراً على عبد المؤمن بأنه رافضي كافر قتال الأنفس، وقدم به على السلطان وتحاقق معه. فتعصب قوصون لعبد المؤمن حتى بطلت حجة المجد السلامي عليه مع ظهورها، فاختص عبد المؤمن بقوصون، ولبس الكلفتاه، ثم ولي قوصون. وكان شجاعاً فاتكاً، يتجاهر بالرفض، ويقول إذا حلف على شيء: وحياة مولاي علي.(2/80)
وفي هذه الأيام: أخرج بأحد وعشرين أميراً إلى الإسكندرية، صحبه الأمير طشتمر طلليه، منهم أرقطاي نائب طرابلس، وجركتمر بن بهادر، وابن المحسني والي القاهرة، وأسنبغا بن البوبكري، ويلجك ابن أخت قوصون، وبرسبغا الحاجب. فلما وصلوا إلى الثغر وسجنوا به، قتل قوصون وألطنبغا الصالحي نائب الشام، وجركتمر بن بهادر، وبرسبغا الحاجب.
وفيه رسم للأجناد الذين استخدمهم قطلوبغا الفخري بعودهم إلى دمشق بطالين، فكثر تشكيهم، ووقفوا للنائب فلم تسمع لهم شكوى.
وفيه أكثر السلطان من الإنعام على أهل الكرك حتى خرج عن الحد، وعزم على مسك بيبرس الأحمدي وغيره من الأمراء، فاحترزوا على أنفسهم إلى أن وقع الكلام مع السلطان في شيء من ذلك فاجتمع عنده الأمراء، وابتدأ الحاج آل ملك في طلب بلد يتوجه إليه، وسأل نيابة حماة، فخلع عليه في يوم الخميس عشريه واستقر في نيابة حماة، عوضاً عن طقزدمر. وخلع السلطان على بيبرس الأحمدي، واستقر في نيابة صفد، وعلى أقسنقر واستقر في نيابة غزة.
وفي يوم الإثنين مستهل ذي القعدة: سار الأمير الحاج آل ملك إلى نيابة حماة.
وفيه خلع السلطان على الأمير قطلوبغا الفخري، واستقر في نيابة الشام، وعلي الأمير أيدغمش بنيابة حلب.
وفي يوم الثلاثاء: استقر قماري أمير أخور، عوضاً عن أيدغمش أحمد شاد الشرابخاناه أمير شكار، عوضاً عن قماري، واستقر أقبغا عبد الواحد في نيابة حمص. وفيه رسم السلطان أن يستقر سنجر البشمقدار وتمر الساقي من جملة أمراء مصر.
وفيه أنعم السلطان على قراجا بن دلغادر، وقد قدم إلى مصر بإنعامات كثيرة، وكتب له بالأمرية على التركمان، وتوجه إلى نيابة الإبلستين.
وفي يوم الأحد سابعه: خرج الأمير أيدغمش متوجهاً إلى نيابة حلب.
وفي يوم الإثنين خامس عشره: خرج الأمير قطلوبغا الفخري متوجهاً إلى دمشق، ومعه من تأخر من عسكر الشام. وخرج الأمير طشتمر حمص أخضر النائب ومعه جميع الأمراء لوداعه، ومد له سماطاً عظيماً.
وفي يوم السبت عشريه: قبض على الأمير طشتمر حمص أخضر نائب السلطنة، وسبب ذلك أنه أكثر من معارضة السلطان بحيث تغلب عليه ورد مراسيمه، وصار يتعاظم ويظهر من الترفع على الأمراء والأجناد ما لا يحتمل مثله، وإذا شفع إليه أحد من الأمراء رد شفاعته ولم يقبلها، ولا يقف لأمير إذا دخل إليه، واذا أتته قصة عليها علامة السلطان بإقطاع أو غيره أخذ ذلك وطرد من هي باسمه، وأخرق به. وقرر طشتمر مع السلطان أنه لا يمضي من المراسيم السلطانية إلا ما يختاره، وتقدم إلى الحاجب بألا يقدم أحد قصة إلى السلطان حتى يكون حاضراً، ومنع ذلك، فلم يتجاسر أحد أن يقدم قصة للسلطان في غيبته وتقدم جماعة من المماليك لطلب ما يزيد في مراتبهم، فرسم طشتمر أن كل من خرج عن خبزه يعود إليه، ولم يمكن المماليك السلطانية من أخذ شيء. وأخذ طشتمر إقطاع الأمير بيبرس الأحمدي وتقدمته لولده، فكرهته الناس. وصارت أرباب الدولة وأصحاب الأشغال كلها في بابه، وتقربوا إليه بالهدايا والتحف. وانفرد طشتمر بأمور الدولة، وحط على الكركيين، وقصد منعهم من الدخول على السلطان، فلم يتهيأ له ذلك. وكان ناصر الدين المعروف بفأر السقوف قد توصل بالكركيين حتى استقر بفضل توصيتهم في وظيفة إمام السلطان يصلي به، وصار كذلك ناظر المشهد النفيسي، عوضاً عن تقي الدين علي بن القسطلاني خطيب جامع عمرو وجامع القلعة.
وخلع السلطان علي ناصر الدين بغير علم النائب طشتمر، فبعث إليه طشتمر عدة نقباء ونزع عنه الخلعة، وسلمه إلى المقدم إبراهيم بن صابر، وأمر بضربه وإلزامه بحمل مائة ألف درهم. فضربه ابن صابر عرياناً ضرباً مبرحاً، واستخرج منه أربعين ألف درهم، ثم أفرج عنه بشفاعة أيدغمش وقطلوبغا الفخري، بعد ما أشهد عليه أنه لا يطلع إلى القلعة.(2/81)
وأخذ طشتمر قصر معين بالغور من مباشري قوصون، وأحاط بما فيه من القند والعسل والسكر، وغير ذلك. فكثر حنق السلطان منه وتغيره عليه، إلى أن قرر مع المقدم عنبر السحرتي والأمير أقسنقر السلاري في القبض عليه وعلى قطلوبغا الفخري، وأن يستدعي مماليك بشتاك وقوصون وينزلهم بالأطباق من القلعة، ويقطعهم إقطاعات بالحلقة، ليصيروا من جملة المماليك السلطانية، خوفاً من حركة طشتمر النائب فعارض طشتمر السلطان فيهم، فرتب السلطان عدة مماليك بداخل القصر للقبض عليه.
وكان مما جدد طشتمر في نيابته أن منع الأمراء أن تدخل إلى القصر بمماليكها، وبسط من باب القصر بسطاً إلى داخله، فكان الأمير لا يدخل القصر وقت الخدمة إلى مبفرده، فدخل هو أيضاً بمفرده ومعه ولداه إلى القصر، وجلس على السماط على العادة. فعندما رفع السماط قبض كشلي السلاح دار أحد المماليك وكان معروفاً بالقوة على كتفيه من خلف ظهره قبضاً عنيفاً، وبدر إليه جماعة فأخذوا سيفه، وقيدوه وقيدوا ولديه. ونزل أمير مسعود الحاحب في عدة من المماليك السلطانية، فأوقع الحوطة على بيته، وأخذ مماليكه جميعهم فسجنهم.
وخرج في الحال ساعة القبص على طشتمر الأمير ألطنبغا المارداني والأمير أروم بغا السلاح دار، ومعهما من أمراء الطبلخاناة والعشرات نحو من خمسة عشر أميراً، ومعهم من المماليك السلطانية وغيرهم ألف فارس، ليقبضوا على قطلوبغا الفخري نائب الشام. وكتب السلطان إلى الأمير أقسنقر الناصري نائب غزة بالركوب معهم بعسكره، فجمع من عنده ومن في معاملته من الجبلية. وكان قطلوبغا الفخري قد ركب من الصالحية فبلغه مسك طشتمر ومسير العسكر إليه من هجان بعث به إليه بعض ثقاته، فساق إلى قطيا وأكل بها شيئاً، ورحل وقد استعد حتى تعدى للعريش، فإذا أقسنقر بعسكر غزة في انتظاره على الزعقة. وكان ذلك وقت الغروب، فوقف كل منهما تجاه أصحابه حتى أظلم الليل فسار الفخر بمن معه وهم ستون فارساً على البرية. فلما أصبح آقسنقر علم أن الفخري فاته، فمال أصحابه على أثقال الفخري فنهبوها، وعادوا إلى غزة.
واستمر الفخري ليلته ومن الغد حتى انتصف النهار وهو سائق، فلم يتأخر معه إلا سبعة فرسان ومبلغ أربعة ألاف دينار، وقد وصل بيسان وعليها الأمير أيدغمش نازل. فترامى عليه الفخري وعرفه بما جرى، وأنه قطع خمسة عشر بريداً في مسير واحد. فطيب أيدغمش خاطره، وأنزله في خام ضرب له، وقام له بما يليق به، فلما جنه الليل أمر به فقيد وهو نائم، وكتب بذلك إلى السلطان مع بكا الخضري.
وكان السلطان لما بلغه هروب قطلوبغا الفخري تنكر على الأمراء، واتهمهم بالمخامرة عليه، وهم أن يمسكهم في يوم الإثنين تاسع عشريه، فتأخر عن الخدمة الجاولي وجماعة، فلما كان وقت الظهر بعث السلطان لكل أمير أربعين طائر أوز، وسأل عنهم، ثم بعث أخر النهار إليهم، بأمرهم أن يطلعوا من الغد. فقدم بكا عشية يوم الثلاثاء مستهل ذي الحجة ومعه سيف قطلوبغا الفخري فسر السلطان بذلك، وكتب بحمله إلى الكرك. فلما طلع الأمراء إلى الخدمة في يوم الثلاثاء ترضاهم، وبشرهم بمسك قطلوبغا الفخري، ثم أخبرهم أنه متوجه إلى الكرك، وأنه يعود بعد شهر. وكان السلطان قد تجهز إلى الكرك، فأخرج في ليلة الأربعاء طشتمر حمص أخضر في محارة بقيده، ومعه جماعة من المماليك السلطانية موكلون بحفظه، وعين مع المقدم عنبر السحرتي عدة من المماليك.
وتقدم السلطان إلى الخليفة بعدما ولاه نظر المشهد النفيسي، عوضاً عن ابن القسطلاني، أن يسافر معه إلى الكرك. ورسم لجمال الكفاة ناظر الخاص والجيش، ولعلاء الدين على بن فضل الله كاتب السر، أن يتوجها معه إلى الكرك، وركب معه الأمراء من قلعة الجبل يوم الأربعاء ثانيه، بعدما ألبس ثمانية من المماليك خلع الإمريات على باب الخزانة. وخلع السلطان على آقسنقر السلاري، وقرره نائب الغيبة، وخلع على شمس الدين محمد بن عدلان، واستقر قاضي العسكر، وخلع علي زين الدين عمر بن كمال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر البسطامي، واستقر به قاضي القضاة الحنفية، عوضاً عن حسام الدين الغوري.(2/82)
فلما قارب السلطان قبة النصر خارج القاهرة وقف حتى قبل الأمراء يده على مراتبهم، ورجعوا عنه. فنزل عن فرسه، ولبس ثياب العربان، وهي كاملية مفرجة وعمامة بلثامين، وساير الكركيين، وترك الأمراء الذين معه وهم قماري والحجازي وأبو بكر بن أرغون النائب مع المماليك السلطانية والطلب. وتوجه السلطان على البرية إلى الكرك، ولبس معه إلا الكركيين ومملوكين، وهم في أثره، فقاسوا مشقة كبيرة من العطش وغيره، حتى وصلوا ظاهر الكرك، وقد سبقهم السلطان إليها، وقدمها في يوم الثلاثاء ثامنه، فكتب السلطان إلى الأمراء بمصر يعرفهم ذلك، ويسلم عليهم، فقدم كتابه يوم الخميس سابع عشره.
ولما دخل الملك الناصر أحمد إلى الكرك لم يمكن أحداً من العسكر أن يدخل المدينة سوى علاء الدين علي بن فضل الله كاتب السر، وجمال الكفاة ناظر الخاص والجيش، فقط. ورسم السلطان أن يسير الأمير المقدم عنبر السحرتي بالمماليك إلى قرية الخليل عليه السلام، وأن يسير قماري وعمر ابن النائب أرغون والخليفة إلى القدس. ثم رسم السلطان أن ينتقل المقدم بالمماليك إلى غزة، لغلاء السعر بالخليل.
وفي أثناء ذلك وصل أمير علي بن أيدغمش بالأمير قطلوبغا الفخري مقيداً إلى غزة، وبها العسكر المجهز من مصر، ومضى به إلى الكرك. فبعث السلطان إليه من تسلم الفخري منه، وأعاده إلى أبيه، ولم يجتمع به فسجن قطلوبغا الفخري وطشتمر حمص أخضر بقلعة الكرك، بعد ما أهين الفخري من العامة إهانة بالغة ونكل به نكالاً فاحشاً. وفيه كتب السلطان لآقسنقر نائب غزة بإرسال حريم قطلوبغا الفخري إلى الكرك، وكانوا قد ساروا من القاهرة بعد مسيره بيوم، فجهزهن آقسنقر إليه، فأخذ أهل الكرك جميع ما معهن حتى ثيابهن، وبالغوا في الفحش والإساءة.
وفيه كتب السلطان لآقسنقر السلاري نائب الغيبة بمصر أن يوقع الحوطة على موجود طشتمر حمص أخضر، وقطلوبغا الفخري، ويحمل ذلك إليه بالكرك.
وكان السلطان إذا رسم بشيء جاء كاتب كركي لكاتب السر وعرفه عن السلطان بما يريد، فيكتب ذلك ويناوله للكاتب، فيأخذ عليه علامة السلطان. ويبعثه حيث رسم وأما العسكر المتوجه من القاهرة إلى غزة، فإن ابن أيدغمش لما قدم عليهم غزة ومعه قطلوبغا الفخري، أراد الأمير ألطنبغا المارداني أن يؤخره عنده بغزة، حتى يراجع فيه السلطان. فلم يوافقه ابن أيدغمش، وتوجه إلى الكرك، فرحل المارداني وبقية العسكر عائدين إلى القاهرة، فقدموها يوم السبت خامس ذي الحجة.
وفيه أخذ السلطان في تحصين الكرك وشحنها بالغلال والأقوات وأخرج بكتمر العلائي منها إلى طرابلس ومحمد أبوه إلى صفد.
وفي هده السنة: أخرج حسام الدين حسن الغوري من مصر بعد عزله من قضاء القضاة الحنفية، فتوجه إلى العراق. وسبب ذلك أنه كان قد توحش ما بينه وبين القضاة الثلاثة، لقبح أفعاله. وكان إذا جلس مع السلطان احتوى عليه وخاطبه باللسان التركي، ونكب على القضاة. وكان يتجرأ على الناس ويضع منهم، ولا يزال ينصر المرأة على زوجها إذا شكته إليه حتى يخرج في ذلك عن الحد. فادعت امرأة عنده على زوجها بما استحق من صداقها وكسوتها، وأظهرت صداقها عليه فإذا فيه أن المنجم في كل سنة دينار. فاستدناها منه، وأمرها فكشف عن وجهها وأعجبته، وقال لأبيها وكان قد حضر معها: يا مدمغ! مثل هذه تزوحها بدينار كل سنة؟ والله يا مدمغ يساوي مبيتها كل ليلة مائة درهم! والتفت القاضي إلى زوجها: وقال. يا تيس! تستغلي هذه بهذا القدر؟ والله أنت أدمغ من أبيها، هذه يساوي مبيتها كل ليلة مائة درهم.
وحكى القاضي الغوري عن نفسه في مجلس الأمير قوصون بحضرة الأمراء، أنه لما كان محتسباً ببغداد وقف على حانوت حلواني قد حل صاحبه تمرا وقصره حتى أبيض فسأل عنه، فقال هذه قسب وقصرته بالبيض، فقال له: ويلك! مجنون أنت؟ أنا عندي جارية سوداء، لي عشر سنين أقصرها بالبيض، وما ابيضت. وادعت امرأة على زوجها عنده بحق وجب عليه، فكتب بحبسه، فقال له الزوج: " والمرأة أيضاً تكون برواق البغدادية حتى أحصل لها حقها، فقال له الغوري ويلك! أنت مجنون؟ أنا أكون أحق من البغدادية بهذي، وتكون عندي أحفظها، وأشار لنقيبه فأخذ المرأة إلى طبقته، وأقامت عنده مدة حتى أصلح أمرها مع زوجها.(2/83)
وكان القاضي الغوري إذا تداعى عنده اثنان يأمر موقعه فيكتب ما يقول أحدهما في غيبة الآخر، فإذا انتهى كلامه أخرجه، وأحضر خصمه فيكتب أيضاً ما يقول. وكذلك إذا شهد عنده جماعة فرق بينهم، وكتب ما يقول كل واحد على انفراد، فكانت المحاكمة لا تنتهي عنده إلا بعد مدة. وكان من الغي على جانب كبير. ودعى مرة إلى عقد نكاح أولاد الأمراء هو والقضاة الثلاثة، فلما دخل معهم وقد فرش البيت بالحرير والزركش تجنب القضاة الجلوس على ذلك، وتنجوا عنه. فجلس هو على مقعد حرير مزركش، وقال: يا جماعة الجند أتبصروا كذا فعل هؤلاء يدعوا كذا الجلوس على هذا الحرير، وأقسم با لله لو قدروا عليه باعوه في الأسواق، وأكلوا ثمنه فضحك من في المجلس، ونزل بالقضاة من الخجل ما لا يعبر عنه، وتقدم إليه مرة مديون وضامنه في الدين ضمان إحضار، فادعى عليه غريمه، فاعترف بما عليه، وأقر الضامن له بضمانه. وكان المديون رث الهيئة زري الحال، فصاح القاضي: أخرجوا هذا المعثر من قدامي، ونظر إلى ضامنه وقال. أعط هذا ماله. فقال: يا مولانا هذا غريمه أحضرته إليه، فقال: هاتوا الجحش - يعني الفلقة - ، واقتلوا هدا حتى يعطي المال وأنت تلبس المسنجب والفرجيات واللباس الرفيع حتى أحوج هذا أن يعطي ماله لمعثر " ، فلم يجد الضامن بداً من التزامه بالمال خوفاً من الإخراق.
ورأى القاضي الغوري مرة رجلاً بيده فروجين، قد مسك أرجلهما بيده، وصارت رأسهما إلى أسفل، فأمر به أن يصلب، فمازال به الناس حتى ضربه ضرباً مؤلماً، وتركه. وألزم القاضي الغوري الشهود أن يكون في كل مسطور شهادة أربعة، وأن يكتبوا سكن المديون، ومجونه وجنونه كثير، له فيه نوادر مستقبحة وقبائح شنيعة. فلما رسم بعزله أثبتت عليه محاضر توجب إراقة دمه، فقام بعض الأمراء معه، ومازال ببعض قضاة الشافعية حتى حكم بحقن دمه وتسفيره من مصر.
وفي هده السنة: اتفقت واقعة غريبة، وهي أن رجلاً بواردياً يقال له محمد بن خلف - بخط السيوفيين من القاهرة - قبض عليه في يوم السبت سادس عشر رمضان، وأحضر إلى المحتسب، فوجد بخزنه من فراخ الحمام والزرازير المملوحة عدة أربعة وثلاثين ألف ومائة وسته وتسعين، من دلك فراخ حمام عدة ألف ومائة وستة وتسعين فرخاً، وزرازير عدة ثلاثة وثلاثين ألف زرزور، وجميعها قد نتنت وتغيرات ألوانها. فأدب وشهر، وأتلفت كلها.
وفيها قدم الأمير بيبرس الأحمدي نائب صفد بمن معه إلى دمشق، وليس بها نائب. فجاء مرسوم السلطان من الكرك بمكة، فقبض عليه أمراؤها، وأنزلوه بقصر تنكز.
ومات في هذه السنة من الأعيان
جمال الدين إبراهيم بن أيبك الصفدي، أخو الصلاح الصفدي، في رابع جمادى الآخرة بدمشق. وكان يتقن عدة صنائع، وسمع بالقاهرة والشام، وشد أطرافاً من الحساب والفرائض، وغير ذلك.
ومات السلطان الملك المنصور سيف الدين أبو بكر ابن الملك الناصر محمد ابن الملك المنصور قلاوون الألفي الصالحي، مقتولاً بقوص، وحمل رأسه إلى قوصون.
ومات الأمير علاء الدين ألطنبغا الصالحي نائب دمشق، وهو أحد المماليك المنصورية قلاوون، وربي عند السلطان الناصر محمد، وتوجه معه إلى الكرك.
فلما عاد الناصر إلى السلطنة أنعم عليه بإمرة، وعمله جاشنكيره، ثم ولاه حاجباً، ونقله من الحجوبية إلى نيابة حلب، بعد موت أرغون النائب، فسار سيرة مشكورة. ثم عزله السلطان الناصر في سبيل رضى الأمير تنكز، وأقدمه إلى مصر، ثم ولاه غزة. ثم ولاه قوصون نيابة الشام، وآل أمره إلى أن مات مسجوناً بالإسكندرية.
ومات القان أزبك بن طغرلجا بن منكوتمر بن طغان بن باطو بن دوشي خان بن جنكز خان، ملك الططر بالمملكة الشمالية، بعدما حكم بها مدة ثمان وعشرين سنة، وقام بعده ابنه جاني بك خان. وكان أزبك قد أسلم وحسن إسلامه.
وتوفي قاضي القضاة الشافعية بحلب برهان الدين إبراهيم بن الفخر خليل بن إبراهيم الرسعني.
ومات الأمير بشتاك الناصري مقتولاً بالإسكندرية، في ربيع الآخر. وكان إقطاعه سبع عشرة إمرة طبلخاناة، تعمل مائتي ألف دينار كل سنة. وأنعم عليه الناصر محمد في يوم بألف ألف درهم، وكان راتب سماطه كل يوم خمسين رأس غنم وفرساً، لابد من ذلك، وكان كثير التيه، لا يحدث مباشريه إلا بترجمان، ويعرف بالعربي ولا يتكلم به.
ومات الأمير طاجار الدوادار، قتلاً.(2/84)
ومات الأمير جركتمر بن بهادر رأس نوبة، قتلاً.
ومات أمير علي ابن الأمير سلار، يوم الجمعة ثالث عشر ربيع الآخر.
ومات الأمير سيف الدين قوصون مقتولاً بسجن الإسكندرية. رقاه السلطان الناصر محمد حتى صار أكبر الأمراء، يركب في ثلاثمائة فارس صفين، قدام كل صف رجل يضرب بالقبز كما يركب ملوك المغل، وكان يفرق كل سنة ثلاثين حياصة ذهب ومائة قباء بسنجاب، ويفرق في عيد الأضحى ألف رأس غنم وثلاثمائة رأس بقر.
وتوفي خطيب الجامع الأموي بدمشق بدر الدين محمد ابن قاضي القضاة جلال الدين محمد القزويني.
ومات وكيل بيت المال بدمشق نجم الدين محمد بن عمر بن أبي القاسم بن عبد المنعم بن أبي الطيب الدمشقي.
وتوفي الملك الأفضل محمد بن المؤيد إسماعيل بن الأفصل علي ابن المظفر محمود ابن المنصور محمد ابن المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن نجم الدين أيوب بن شادي بن مروان صاحب حماة، وكان باشرها عشر سنين، ثم نقل إلى إمرة مائة بدمشق، فمات بها في ليلة الثلاثاء حادي عشر ربيع الآخر عن ثلاثين سنة.
ومات الأمير موسى بن مهنا بن عيسى بن مهنا بن مانع بن حديثة بن عصية بن فضل ابن ربيعة أمير آل فضل، بتدمر.
ومات الأمير بيبرس السلاح دار الناصري نائب الفتوحات، بأياس.
ومات شرف الدين ابن الملك المغيث صاحب الكرك، بالقاهرة.
ومات عز الدين أيبك، يوم الإثنين تاسع المحرم.
ومات الحافظ جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن الزكي أبو محمد عبد الرحمن بن يوسف القضاعي المزي الدمشقي بها، عن ثمان وثلاثين سنة.
ومات الأمير عز الدين الكبكي، يوم الأربعاء، ثامن عشر المحرم.
ومات الأمير تمر الساقي، يوم الأحد ثامن عشرى ذي العقدة.
وتوفي تاج الدين بن الفكهاني المالكي، يوم الإثنين سابع ذي الحجة.
ومات مسمراً والي الدولة أبو الفتوح بن الخطير، وكان قد تزوج وهو نصراني بابنة شرف الدين عبد الوهاب النشو ناظر الخاص، قبل اتصاله بالسلطان الناصر محمد، فلما تولى النشو نظر الخاص عظم والي الدولة، وتقدم على أخوة النشو، وباشر عند عدة من الأمراء، فلما أمسك النشو أمسك معه، وصودر هو وأخوه الشيخ الأكرم، ومازالا في الحبس حتى أفرج عنهما في مرض السلطان الناصر محمد الذي مات فيه، وفي جملة من أفرج عنه. وخدم أبو الفتوح عند ملكتمر الحجازي إلى أن نكب، وسمر في يوم السبت سادس عشرى صفر. وكان جميل الوجه حسن الخلق، يذوق الأدب، ويحفظ الأشعار والوقائع، ويعرف الأحاجي والتصحيف.
ومات الأمير بدر الدين لؤلؤ الحلبي. وكان ضامن حلب، وقدم القاهرة غير مرة ورافع أهلها إلى أن سلمهم السلطان له، فعاقبهم وأخذ أموالهم. ثم ولي شد الدواوين بحلب، فكثر شاكوه، فتسلمه الأكز مشد الجهات بديار مصر، ثم نقل إلى شد الدواوين بالقاهرة، وعزل وأخرج بعد محنة إلى حلب شاد الدواوين. ثم ضرب بالمقارع حتى مات، قال ابن الوردي:
أشكو إلى الرحمن لؤلؤاً الذي ... أضحى يصادر سادةً وصدورا
نثر الجنوب بل القلوب بسوطه ... فمتى أشاهد لؤلؤاً منثورا
سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة
أهلت والناس في أمر مريج لغيبة السلطان بالكرك، وعند الأمراء تشوش كبير، لما بلغهم من مصاب قطلوبغا الفخري. وصار الأمير أقسنقر نائب الغيبة في تخوف، فإنه بلغه أن جماعة من مماليك الأمراء الذين قبض عليهم قد باطنوا بعض الأمراء على الركوب عليه، فترك الركوب للموكب أياماً حتى اجتمعوا عنده، وحلفوا له. ثم اتفق رأيهم على أن كتبوا للسلطان كتاباً في خامس المحرم، بأن الأمور ضائعة لغيبة السلطان، وقد نافق عربان الصعيد، وطمع الناس، وفسدت الأحوال كلها، وسألوه الحضور. وبعثوا به الأمير طقتمر الصلاحي، فعاد جوابه في حادي عشره: " بأنني قاعد في موضع أشتهي، وأي وقت أردت أحضر إليكم. وذكر طقتمر أن السلطان لم يمكنه من الاجتماع به، وأنه بعث من أخذ منه الكتاب، ثم أرسل إليه الجواب.(2/85)
وفيه قدم الخبر بأن السلطان قتل الأمير طشتمر حمص أخضر والأمير قطلوبغا الفخري، وذلك أنه قصد أن يقتلهما بالجوع، فأقام يومين بلياليهما لا يطعمان طعاماً. فكسرا قيدهما، وقد ركب السلطان للصيد، وخلعا باب السجن ليلاً، وخرجا إلى الحارس وأخذ سيفه وهو نائم، فأحس بهما وقام يصيح حتى لحقه أصحابه، فأخذوهما. وبعثوا إلى السلطان بخبرهما، فقدم في زي العربان، ووقف على الخندق وبيده حربة، وأحضرهما وقد كثرت بهما الجراحات. فأمر السلطان يوسف بن البصارة ورفيقه بضرب أعناقهما، وأخذ يسبهما ويلعنهما، فردا عليه رداً قبيحاً، وضرب رقابهما، فاشتد قلق الأمراء.
وفيه قدم كتاب السلطان إلى الأمراء يطيب خواطرهم، ويعرفهم أن مصر والشام والكرك له، وأنه حيث شاء أقام، ورسم أن تجهز له الأغنام من بلاد الصعيد، وأكد في ذلك، وأوصى آقسنقر بأن يكون متفقاً مع الأمراء على ما يكون من المصالح.
فتنكرت قلوب الأمراء ونفرت خواطرهم، واتفقوا على خلع السلطان وإقامة أخيه إسماعيل، في يوم الأربعاء حادي عشريه، فكانت مدة ولايته ثلاثة أشهر وثلاثة عشر يوماً، منها مدة إقامته بالكرك ومراسيمه نافذة بمصر أحد وخمسون، وإقامته بمصر مدة شهرين وأيام.
وكانت سيرته سيئة، نقم الأمراء عليه فيها أموراً، منها أن رسله التي كانت ترد من قبله إلى الأمراء برسائله وأسراره أوباش أهل الكرك، فلما قدموا معه إلى مصر أكثروا من أخذ البراطيل وولاية المناصب غير أهلها، ومنها تحكمهم على الوزير وغيره، وحجبهم السلطان حتى عن الأمراء والمماليك وأرباب الدولة، فلا يمكن أحداً من رؤيته سوى يومي الخميس والإثنين نحو ساعة. ومع ذلك فإنه جمع الأغنام التي كانت لأبيه، والأغنام التي كانت لفوصون، وعدتها أربعة ألاف رأس وأربعماية من البقر التي استحسنها أبوه. وأخذ الطيور التي كانت بالأحواش على اختلاف أنواعها، وحملها على رءوس الحمالين إلى الكرك. وساق الأغنام والأبقار إليها، ومعهم عدة سقائين وسائر ما يحتاج إليه.وعرض الخيول والهجن، وأخذ ما اختاره منها، ومن البخاتي وحمر الوحش والزراف والسباع، وسيرها إلى الكرك. وفتح الذخيرة، وأخذ ما فيها من الذهب والفضة، وهو ستمائة ألف دينار وصندوق فيه الجواهر التي جمعها أبوه في مدة سلطنته. وتتبع جواري أبيه حتى عرف المتمولات منهن، فكان يبعث إلى الواحدة منهن يعرفها أنه يدخل عليها الليلة، فإذا تجملت بحليها وجواهرها أرسل من يحضرها إليه، فإذا خرجت من موضعها ندب من يأخذ جميع ما عندها، ثم يأخذ جميع ما عليها حتى سلب أكثرهن ما بأيديهن، وعرض الركاب خاناه، وأخذ جميع ما فيها من السروج واللجم والسلاسل الذهب والفضة، ونزع ما عليها من الذهب والفضة. وأخذ الطائر الذهب الذي على القبة، وأخذ الغاشيه الذهب وطلعات الصناجق، وما ترك بالقلعة مالاً حتى أخده. وشنع في قتل أمراء أبيه، وأتلف موجودهم، وأحضر حريم طشتمر حمص أخضر من حلب وقد تجهزن للمسير، فأخذ سائر ما معهن، حتى لم يترك عليهن سوى قميص وسروال لكل واحدة. وأخذ أيضاً جميع ما مع حريم قطلوبغا الفخري، حتى لم تجد زوجته سرية تنكز ما تتقوت به، إلى أن بعث لهم جمال الكفاة شيئاً تجملوا به إلى القاهرة.
السلطان عماد الدين أبو إسماعيل
السلطان الملك الصالح عماد الدين أبو إسماعيل ابن الملك الناصر محمد ابن الملك المنصور قلاوون الألفي الصالحي.
جلس على تخت الملك يوم الخميس ثاني عشرى المحرم سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة، بعد خلع أخيه باتفاق الأمراء على ذلك، لأنه بلغهم عنه أنه لما أخرجه الأمير قوصون فيمن أخرج إلى قوص أنه كان يصوم يومي الإثنين والخميس، ويشغل أوقاته بالصلاة وقراءة القرآن، مع العفة والصيانة عما يرمي به الشباب من اللهو واللعب. وحلف له الأمراء والعساكر، وحلف لهم السلطان ألا يؤذي أحداً، ولا يقبض عليه بغير ذنب يجمع على صحته. ودقت البشائر، ولقب بالملك الصالح عماد الدين، ونودي بالزينة.
وفيه فرق السلطان أخباز الأمراء البطالين ورسم بالإفراج عن المسجونين، وكتب بذلك إلى الوجه القبلي والوجه البحري، وألا يترك بالسجون إلا من وجب عليه القتل. وفيه أخرج السلطان عدداً كبيراً من سجون القاهرة ومصر، وتوجه القصاد للإفراج عن الأمراء من الإسكندرية.(2/86)
وفيه استقر الأمير أرغون العلائي زوج أم السلطان الصالح رأس نوبة ويكون رأس المشورة ومدبر الدولة وكافل السلطان. واستقر الأمير آقسنقر السلاري نائب السلطنة. وفي يوم الجمعة ثالث عشريه: دعي للسلطان على منابر مصر والقاهرة، وكتب إلى الأمراء ببلاد الشام بالأمان والاطمئنان، وتوجه بذلك طقتمر الصلاحي.
وفيه كتب تقليد الأمير أيدغمش نيابة الشام، واستقر عوضه في نيابة حلب الأمير طقزدمر الحموي نائب حماة. واستقر في نيابة حماه الأمير علم الدين سنجر الجمولي.
وفيه كتب السلطان بحضور الحاج آل ملك، وحضور الأمير بيبرس الأحمدي إلى القاهرة.
وفيه كتب السلطان الملك الصالح إلى أخيه الناصر أحمد بالسلام، وإعلامه بأن الأمراء أقاموه في السلطنة، لأنهم علموا أن الملك الناصر أحمد ليس له رغبة في ملك مصر، وأنه يحب بلاد الكرك والشوبك، فهي بحكمك وملكك ورغب إليه في أن يبعث القبة والطير والغاشية والنمجاة، وتوجه بكتاب السلطان الأمير قبلاي.
وفيه خرج الأمير بيغرا ومعه عدة أمراء وأوجاقية، لجر الخيول السلطانية من الكرك.
وفي يوم الأربعاء ثامن عشريه: قدم الأمراء والمسجونون بالإسكندرية، وعدتهم ستة وعشرون أميراً، منهم قياقر، والمرقبي، وطيبغا المحمدي، وابن طوغان جق، ودقماق وأسنبغا بن البوبكري، وابن سوسون، وناصر الدين محمد بن المحسني والي القاهرة، وأمير علي بن بهادر، والحاج أرقطاي نائب طرابلس.
في يوم الخميس تاسع عشريه: وقفوا بين يدي السلطان، فرسم أن يجلس أرقطاي مكان الجاولي وأن يتوجه البقية على أمريات ببلاد الشام.
وفي يوم السبت أول صفر: قدم من غزة الأمير قماري، والأمير أبو بكر بن أرغون النائب، والأمير ملكتمر الحجازي، وصحبتهم الخليفة الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد والمقدم عنبر السحرتي، والمماليك السلطانية، مفارقين للناصر أحمد.
وفيه توجه الأمير طقزدمر الحموي لنيابة حلب.
وفي يوم الإثنين ثالثه: خلع على الأمير علم الدين سنجر الجاولي نائب حماة خلعة السفر، وخلع على أمير مسعود بن خطير خلعة السفر لنيابة غزة.
وفيه خلع على بدر الدين محمد بن محيي الدين بن يحيى بن فضل الله، واستقر في كتابة السر بدمشق، عوضاً عن أخيه شهاب الدين أحمد.
وفيه رسم بسفر مماليك قوصون ومماليك بشتاك إلى البلاد الشامية متفرقين، وكتب للنواب بإقطاعهم الأخباز شيئاً فشيئاً.
وفيه استقر الأمير جنكلي بن البابا في نظر المارستان، عوضاً عن الجاولي.
وفيه جلس الأمير آقسنقر السلاري النائب بدار النيابة، بعد ما عمرها وفتح بها شباكاً، ورسم له أن يعطي الأخباز من ثلاثمائة إلى أربعمائة دينار، ويشاور فيما فوق ذلك.
وفيه استقر المكين إبراهيم بن قروينة في نظر الجيش، وعين ابن التاج إسحاق لنظر الخاص، عوضاً عن جمال الكفاة، ناظر الجيش والخاص، لغيبته بالكرك، فقام الأمير جنكلي في ابقاء الخاص علي جمال الكفاة حتى يحضر.
وفي يوم الخميس سادسه: توجه الأمير سنجر الجاولي وأمير مسعود بن خطير، إلى محل ولايتهما.
وفيه أنعم السلطان على أخيه شعبان بإمرة طبلخاناة، وعلى خليل بن خاص ترك بإمرة طبلخاناة، ونودي بأن أجناد الحلقة، ومماليك السلطان وأجناد الأمراء، لا يركب أحد منهم فرساً بعد عشاء الآخرة، ولا يقعدوا جماعة يتحدثون.
وفي يوم الإثنين رابع عشريه: خلع على جميع الأمراء، كبيرهم وصغيرهم.
وفي يوم الثلاثاء خامس عشريه: قدم علاء الدين علي بن فصل الله كاتب السر، ومعه جمال الكفاة والشريف شهاب الدين بن أبي الركب، ومن الكرك، مفارقين للناصر أحمد. بحيلة دبرها جمال الكفاة. وكان قد بلغه عن الناصر أنه يريد قتلهم خوفاً من حضورهم إلى مصر، ونقلهم ما هو عليه من سوء السيرة، فبذل جمال الكفاة مالاً جزيلاً ليوسف بن البصارة حتى مكنهم من الخروج من المدينة. وأسر إليه السلطان الناصر أنه يبعث من يقتلهم ويأخذ ما معهم، فعرجوا في مسيرهم عن الطريق صحبة بدوي من عربان شطي إلى أن قدموا غزة، فخلصوا ممن خرج في طلبهم. فأقبل عليهم الأمراء والسلطان، وخلع عليهم بالاستمرار على وظائفهم.(2/87)
وفي يوم الخميس سابع عشريه: نهب سوق خزانة البنود بالقاهرة، حتى عم النهب حوانيته كلها من النهب في الجانبين، وكسرت عدة جرار خمر من خزانة البنود، وهتكت نساء الفرنج. وبلغ ذلك الوالي، فركب نائبه لرد العامة عن الفرنج، فرجموه وردوه رداً قبيحاً إلى أن احتمى بالمدرسة الجمالية المجاورة لخزانة البنود، وأساءوا الأدب على الفقهاء المجاورين بها، فخرجوا يحملون المصاحف، ووقفوا للسلطان. فرسم السلطان بضرب الوالي على باب الجمالية، ونودي من الغد ألا يتعرض أحد لأسير من الفرنج وهدد من أخذ لهم شيئاً بالشنق.
وفيه قدم الخبر من حلب بأنه قد وقع في بلاد الموصل وبغداد وأصفهان وعامة بلاد الشرق غلاء شديد، حتى بلغ الرطل الخبز بالمصري إلى ثمانية دراهم نقرة، وأكلت الجيف. وصار من مات يلقى في العراء عجزاً عن مواراته، وفنيت الدواب عندهم.
ثم عقب هذا الغلاء جراد عظيم سد الأفق، ومنع الناس من كثرته رؤية السماء وأكل جميع الأشجار حتى خشبها. وانتشر الجراد إلى حلب ودمشق والقدس وغزة، فاض بما هناك ضرراً شديداً بالغاً، وأفسد الثمار كلها. فلما دخل الجراد الرمل هلك بأجمعه حتى ملأ الطرقات، وتحسنت أسعار بلاد الشام.
وفي هذا الشهر: عقد السلطان على بنت الأمير أحمد ابن الأمير بكتمر الساقي من بنت تنكز، وأصدقها عشرة ألاف دينار. وخلع السلطان على الأمير قماري وجميع أقاربها، وعمل مهماً عظيماً، ورسم أن يعمل لها بشخاناه وداير بيت زركش بثمانين ألف دينار.
وفيه أنعم السلطان على الأمير أرقطاي بتقدمة ألف، فطلب ناظر طرابلس بسبب تقرير ما نهب لأرقطاي أيام نيابته، فذكر أنه نهب له شيء كثير، من ذلك زردخاناه ضمن ثلاثين صندوقاً، وفيها نحو اثني عشر جوشنا، وفيها بركصطوانات حرير قيمة الواحدة منها زيادة على عشرين ألف درهم، ومن السروج والخيول والخيام والجمال وغيرها شيء كثير. فكتب إلى نواب الشام يتتبع من معه شيء من ذلك، وحمله إليه. وفيه أخرج الأمير قرمجي الحاجب إلى صفد حاجباً، بسؤاله.
وفيه خلع علي قراجا وأخيه أولاجا، واستقرا حاجبين.
وفيه سأل الأمير آقسنقر السلاري الإعفاء من النيابة، فلم يعف.
وفي يوم الخميس حادي عشر ربيع الأول: قدم الأمير الحاج آل ملك، من حماة.
وفيه قبض على فياض بن مهنا، لشكوى الأمير الحاج آل ملك منه، وسجن بالقلعة.
وفيه رسم للأمير طقتمر الأحمدي بنيابة طرابلس، بحكم وفاة الأمير طينال.
وفيه وقعت منازعة بين الأمير جنكلي بن البابا وبين الضياء المحتسب، بسبب وقف الملك المنصور أبي بكر على القبة المنصورية، فإنه أراد إضافته إلى المارستان وصرف متحصله في مصرف المارستان. فلم يوافقه الضياء، واحتج بأن لهذا مصرفاً عينه واقفه لقراء وخدام، ووافقه القضاة على ذلك. فاستقر وقف المنصور أبي بكر على ما شرطه لطلبة العلم والفقراء والأيتام، وقرر فيه نحو ستين نفر بمعاليم ما بين خبز ودراهم، فعم النفع به ويعرف اليوم هذا الوقف بالسيفي.
وفيه وشى الخدام للسلطان بقاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة، بأنه قد استولى على الأوقاف هو وأقاربه، ولم يوصلوا أربابها استحقاقهم. فرسم للطواشي محسن الشهابي والطواشي كافور الهندي بأن يتحدثا في المدرسة الأشرفية المجاورة للمشهد النفيسي، وكتب لهما توقيع بذلك، ورسم لعلم دار بنظر المدرسة الناصرية بين القصرين، وبنظر جامع القلعة. فشق ذلك على ابن جماعة، وسعى عند الأمير أرغون العلائي، فلم ينجح سعيه.
وفيه استقر سيمف الدين وأخوه، من آل فضل على أخباز آل مهنا، لسليمان بن مهنا وأخوته، بعد ما توفر منها جملة أقطعت للأجناد وأمراء الشام.
وفي يوم الثلاثاء ثالث عشريه: رسم للأمير ألطنبغا المارداني بنيابة حماة، عوضاً عن الأمير علم الدين سنجر الجاولي، وخلع عليه وركب البريد من يومه، وسار في خمسة من مماليكه، وسبب ذلك ترفعه على الأمير أرغون العلائي.
وفيه كتب بحضور الأمير سنجر الجاولي إلى نيابة غزة، عوضاً عن أمير مسعود بن خطير، ونقل أمير مسعود إلى إمرة طبلخاناة بدمشق.
وفيه قدم خبر من شطي بأن الناصر أحمد قرر مع بعض الكركيين أن يدخل إلى مصر ويقتل السلطان، فتشوش الأمراء من ذلك، ووقع الاتفاق على تجريد العسكر لقتاله.(2/88)
وفي يوم الأربعاء رابع عشريه: خلع علي شجاع الدين عزلوا والي الأشمون، واستقر في ولاية القاهرة، عوضاً عن نجم الدين، واستمر نجم الدين على إمرته.
وفي يوم الخميس ثالث ربيع الآخر: توجهت التجريدة إلى الكرك صحبة بيغرا، وهي أول، التجاريد. وعقيب ذلك حدث بالسلطان رعاف مستمر، فاتهمت أمه أردو أم الأشرف كجك بأنها سحرته، وهجمت عليها، وأوقعت الحوطة على جميع موجودها، وضربت عدة من جواريها ليعترفوا عليها. فلم يكن غير قليل حتى عوفي السلطان، فرسم بزينة القاهرة ومصر، وحملت أم السلطان إلى مشهد السيدة نفيسة قنديل ذهب زنته رطلان وسبع أواق ونصف أوقية.
وفي يوم الجمعة خامس عشريه وهو آخر توت: انتهت زيادة النيل إلى ثمانية ذراعاً وتسعة أصابع.
وفيه قامت الزينة لعافية السلطان، ثم انتكس السلطان وعوفي.
وفي يوم الثلاثاء سادس جمادى الأولى: قدم الأمير بيبرس الأحمدي نائب صفد. وكان من خبره أن الناصر أحمد لما كان بالكرك قبل خلعه كتب لآقسنقر نائب غزة أن يركب إلى صفد ويقبض عليه، وأنه كتب لأمراء صفد بالاحتفاظ عليه. فبلغ ذلك الأحمدي من عيونه، فركب ليلاً بمن معه وهو مستعد، وخرج من صفد. فتبعه عسكرها، فمال عليهم وقتل منهم خمسة، وجرح جماعة وهو منهم. فبلغ ذلك آقسنقر نائب غزة، وقد قرب من صفد، فكر راجعاً إلى غزة، وكتب بالخبر إلى السلطان الناصر أحمد. ومر الأحمدي سائراً إلى دمشق، وفيها الأمير بيبرس الحاجب وطرنطاي الحاجب. فنزل الأحمدي ميدان الحصا، وخرج الأميران المذكوران في عدة من العسكر إليه فسلموا عليه وتوجعوا له، ثم عادوا. فقدم في ثاني يوم قدومه كتاب السلطان الناصر أحمد على نائب دمشق بإكرامه واحترامه، ثم قدم من الغد يوسف بن البصارة بكتاب السلطان الناصر أحمد إلى أمراء دمشق، بأنه قد طلب بيبرس الأحمدي إلى الكرك فعصى، وخرج من صفد بعد ما قتل جماعة منها، وأمرهم بأخذ الطرقات عليه ومسكه وحمله إلى الكرك. فأخدوا في أهبة الحرب، وركبوا لقتاله في يوم الخميس ثامن المحرم، وبعثوا إليه سراً يعرفونه بما ورد عليهم. فركب الأحمدي إلى لقائهم حتى تراءى الفريقان، فبعث إليه الأمراء بعض الحجاب يعلمه بمرسوم السلطان فيه، فأعاد الجواب باني طالع للسلطان إذا كان على كرسي ملكه بمصر، وأسير إليه وفي عنقي منديل، ليعاقبني أو يعفو عني. وأما سلطان يقيم بالكرك، ويضرب رقاب الأمراء، ويهتك حريمهم ويخرجهم بحيث يتصدق الناس عليهم، ثم يطلبني إليه، فلا سمع ولا طاعة. وهأنا لا أسلم نفسي حتى أموت على فرسي، ومن كان في نفسه مني فليأت إلى قتالي.
فلما سمعوا جوابه أمرهم ابن البصارة بأن يهجموا عليه ويمسكوه، فاحتجوا عليه بأن المرسوم لا يتضمن قتاله، وهذا الذي قلته يحتاج إلى قتال شديد. ولكنا نكتب إلى السلطان بما اتفق، ونستأذنه في قتاله، ونمتثل ما يرسم به، وتكفلوا له بحفظه حتى يعود بالجواب، فمشى ذلك عليه، وسار بكتبهم. واجتمع الأمراء بالأحمدي، وكتبوا إلى أمراء مصر بما اتفق، وكتبوا لأيدغمش نائب حلب وللحاج آل ملك بحماة، وعرفوا الجميع أن هذا الأمر إن تمادى بهم ركبوا جميعهم وعبروا لبلاد العدو، فكان هذا أكبر الأسباب في خلع الناصر أحمد. و لم يزل بيبرس الأحمدي بدمشق حتى كتب إليه الملك الصالح أن يقدم إلى مصر، فقدمها واستقر على إقطاعه.
وفي هذا الشهر: عزل أقبغا عبد الواحد من نيابة حمص، وأنعم عليه بإمرة مائة بدمشق.
وفي يوم الأحد عاشر جمادى الآخرة: خرج أروم بغا السلاح دار لنيابة طرابلس، غضباً عليه لمكاتبته الناصر أحمد له.
وفيه كتب بقدوم طقتمر الأحمدي إلى القاهرة.
وفيه قبض على جمال الكفاة ناظر الجيش والخاص، والموفق ناظر الدولة، والصفي ناظر البيوت، وزجماعة من الكتاب، وسلموا لشاد الدواوين.
وفيه قبض على ابن رخيمة مقدم الوالي وسبب القبض على جمال الكفاة كراهة آقسنقر السلاري النائب له، لنقله للسلطان أخباره، مع توقف الدولة على الوزير، وكثرة شكوى المماليك والخدام.(2/89)
وكان السلطان قد كثر إنعامه على الخدام وحواشيهم، وعلى جواريه، ورتب لهم رواتب كبيرة، وأنعم عليهم بعدة رزق. وصار كثير من الناس يحملون إلى الخدام الهدايا، لتستقر لهم الرواتب والمباشرات وغيرها. فكثرت كلف الوزير وطلب الإعفاء، فرسم له ألا يمضي إلى بما كان بمرسوم الشهيد الملك الناصر محمد، فوفر ألفاص وأربعمائة دينار في كل شهر. وأخذ النائب يغري الأمير أرغون العلائي بجمال الكفاة، فتعين موسى بن التاج إسحاق لنظر الخاص بسعي الخدام، وتعين أمين الدين إبراهيم بن يوسف المعروف بكاتب طشتمر لنظر الجيش. وإبراهيم بن يوسف هذا كان من سامرة دمشق، كتب عند الأمير بكتمر الحاجب فأسلم، ثم كتب بعد مسك بكتمر عند بهاء الدين أرسلان الدوادار، ثم بعد موته عند الأمير طشتمر حمص أخضر، ومن بعد موته كتب عند الأمير قماري أستادار. ثم طلب هو وموسى بن التاج في يوم الإثنين حادي عشرة ليخلع عليهما، فقام الأمير جنكلي بن البابا والحاج آل ملك وأرقطاي في مساعدة جمال الكفاة، وتلطفوا بالنائب حتى كف عنه، على أن يحمل مالاً هو ورفيقه. فالتزم جمال الكفاة. بمائة ألف دينار، وخلع عليه وعلى بقية الممسوكين، فحمل المال شيئاً بعد شيء، ثم أعفى عما بقي منه.
وفيه قدم أياز الساقي على البريد بموت أيدغمش نائب الشام فجأة، فوقع الاختيار على استقرار الأمير طقزدمر الحموي في نيابة الشام، ويستقر عوضه في نيابة حلب ألطنبغا المارداني، ويستقر يلبغا اليحياوي عوضه في نيابة حماة. فكتب بذلك في يوم الخميس رابع عشره، وخرج يلبغا اليحياوي إلى نيابته بحماة، ومعه كل من يلوذ به.
وفيه قدم كتاب سليمان بن مهنا يسأل في الإفراج عن أخيه فياض، ورد ما أخرج عن آل مهنا من الإقطاعات، وإلا سار بعربه إلى الشرق. فأعيدت الإقطاعات إلى مهنا وأولاده، وأوقف إفراج فياض على ضمانه إياه.
وفيه أنعم على الأمير أرغون العلائي بعشرين ألف دينار ومائتي ألف درهم.
وفيه أنعم على الأمير بهادر الدمرداشي بثلاثة بلاد، زيادة على ما بيده.
وفيه قدم الخبر بأن قاضي القضاة الشافعي بدمشق تقي الدين السبكي لما أراد أن يخطب بالجامع الأموي لم يرض به أهل دمشق خطيباً، وكرهوا خطته، ولم يؤمنوا على دعائه، وصاحوا عليه صياحاً منكراً، وترك جماعة الصلاة، وقالوا ما نصلي خلفك، فثارت عليه العامة. فلما كانت الجمعة الثانية جرى أفحش ما جرى في الأولى، فآل الأمر إلى أن أشهد على نفسه أنه ترك الخطابة.
وفيه قدم الخبر بأن شطي وثب عليه رجل وهو مع العسكر على الكرك، فضربه بحربة أرداه عن فرسه فحمل إلى بيوته، وأن العسكر في شدة من الأمطار وقلة الواصل إليهم، وأن الناصر أحمد رد جواب كتاب السلطان إليه بما لا يليق. فكتب السلطان لأحمد بتعداد مساوئه، وتهديده بتخريب الكرك حجراً حجراً، وكتب بمسير عسكر غزة وصفد إلى نجدة الأمير بيغرا، وحمل الغلال والإقامات، وحشد العربان معهم، ومحاصرة الكرك.
وفيه أفرج عن فياض بن مهنا بمساعدة الأمير الحاج آل ملك، وسلم إلى الأمير أقسنقر السلاري النائب حتى يحضر كتاب أخيه سليمان بن مهنا.
وفيه أنعم على أرغون العلائي بإقطاع قماري بعد موته، واستقر تمر الموساوي أمير شكار عوضاً عن قماري.
وفيه خرج السلطان إلى سرياقوس على العادة، فقدم عليه التقي السبكي قاضي دمشق، فأقبل عليه السلطان والأمراء. فلما عاد السلطان من سرحة سرياقوس مرض أياماً حتى استرخت أعضاؤه، وصار العلائي وآقسنقر النائب يدبران أمور الدولة.
وفيه ورد الخبر بعافية شطي، وأنه ركب مع العسكر على الكرك، وقاتلوا أهلها وهزموهم إلى القلعة. فأذعن الناصر أحمد، وسأل أن يمهل حتى يكاتب السلطان، ليرسل من يتسلم منه القلعة، فرجعوا عنه. فلم يكن غير قليل حتى استعد، وقاتل بمن معه، فخرج جركتمر المارداني ليجهز ألفي راجل من غزة وصفد.
وفيه أنعم على فياض بالعود إلى بلاده، فتوجه إليها بعدما حلف على التزام الطاعة، وألا يتعرض لأمور التجار.
وفي رابع عشره: أخرج جماعة من الأمراء إلى الشام، منهم ملكتمر السرجواني وبكا الخضري، وقطلقتمر، وأباجي، ويحيى بن ظهير الدين بغا وأخيه، ثم أعيد ملكتمر من يومه.(2/90)
وفيه قدمت رسل متملك الخطا، وقد خرجوا من بلادهم سنة تسع وثلاثين وسبعمائة، ومعهم كتاب للسلطان الملك الناصر محمد، يتضمن أن بعض الفقراء قدم عليهم وأقام عندهم مدة، وهم يسجدون للشمس عند طلوعها، فمازال ينكر عليهم ذلك ويدعوهم إلى الإسلام حتى عرف به الملك، فأحضره إليه وسمع كلامه، ودعاه إلى الإسلام وهداه الله إليه وأسلم، فبعث رسله إلى مصر في طلب كتب العلم وإرسال رجل عارف يعلمهم شرائع الإسلام، فإن الرجل الذي هداهم به مات. فأقبل السلطان الملك الصالح إسماعيل عليهم، وخلع عليهم، ورسم بتجهيز الكتب العلمية لهم.
وفي يوم الإثنين ثاني رجب: أنعم على أربعة بإمريات طبلخاناة، منهم أمير حاجي ابن الناصر محمد.
وفيه أنعم على خمسة بإمريات عشرة، ونزلوا إلى المدرسة المنصورية على العادة بالقاهرة، فكان يوماً مشهوداً.
وفيه خلع على الأمير ملكتمر السرجواني، واستقر في الوزارة عوضاً عن نجم الدين محمود بن علي بن شروان وزير بغداد، لتوقف أحوال الدولة وشكوى المماليك السلطانية من تأخر جوامكهم.
وفي يوم الأربعاء رابعه: كانت فتنة رمضان أخى السلطان، وذلك أنه كان قد أنعم عليه بتقدمة ألف، فلما خرج السلطان إلى سرحة سرياقوس تأخر عنه بالقلعة، وتحدث مع جماعة من المماليك في إقامته سلطاناً. فلما مرض السلطان بالاسترخاء قوي أمره، وأشاع ذلك، وراسل بكا الخضري ومن خرج معه من الأمراء، وواعد من وافقه على الركوب بقبة النصر. فبلغ ذلك السلطان ومدبر دولته الأمير أرغون العلائي، فلم يعبأ به إلى أن أهل رجب جهز الأمير رمضان خيله وهجنه بناحية بركة الحبش، وواعد أصحابه على يوم الأربعاء. فبلغ الأمير أقسنقر أمير أخور عند الغروب من ليلة الأربعاء ما هم فيه من الحركة، فركب بمن معه، وندب عدة من العربان ليأتوه بخبر القوم إذا ركبوا. فلما أتاه خبرهم ركب وسار إليهم، وأخذهم عن أخرهم من خلف القلعة ليلاً، وساقهم إلى الإصطبل. وعرف أقسنقر أمير أخور السلطان وأرغون العلائي من باب السر بما فعله إليهما، فصعد بما ظفر به من أسلحة القوم. واتفقوا على طلب إخوة السلطان إلى عنده، والاحتفاظ بهم. فلما طلع الفجر خرج أرغون العلائي من بين يدي السلطان، وطلب الإخوة، ووكل ببيت رمضان حتى طلعت الشمس وصعد الأمراء الأكابر باستدعاء، وأعلمو بما وقع، فطلبوا رمضان إليهم فامتنع من الحضور، وهم يلحون في طلبه إلى أن خرجت أمه وصاحت عليهم، فعادوا عنه إلى أرغون العلائي.
فبعث أرغون عدة من الخدام والمماليك لإحضاره. فخرج رمضان في عشرين مملوكاً إلى خارج باب القلة، وسأل عن النائب أقسنقر السلاري، فقيل له أنه عند السلطان مع الأمراء، فمضى إلى باب القلعة، وسيوف أصحابه مصلتة، وركب من خيول الأمراء، ومر بمن معه إلى سوق الخيل تحت القلعة، فلم يجد أحداً من الأمراء، فتوجه جهة قبة النصر. ثم وقف رمضان ومعه بكا الخضري، وقد اجتمع الناس عليه.
وبلغ السلطان والأمراء خبره، فأخرج بالسلطان محمولاً بين أربعة لما به من الاسترخاء، وركب النائب وآقسنقر أمير أخور وقماري أخو بكتمر. وأقام أكابر الأمراء عند السلطان، ووقفت أطلابهم تحت القلعة، وضربت الكوسات حربيا، ونزل النقباء في طلب الأجناد. فوقف النائب بمن معه تجاه رمضان وقد كثر جمعه من أجناد الحسينية ومن مماليك بكا ومن العامة، وبعث يخبر السلطان بذلك، فمن شدة انزعاحه نهضت قوته، وقام على قدميه يريد الركوب بنفسه، فقام الأمراء وهنؤه بالعافية، وقبلوا له الأرض، وهونوا عليه أمر أخيه. فأقام السلطان إلى بعد الظهر، والنائب يراسل رمضان ويعده الجميل، ويخوفه العاقبة، وهو لا يلتفت إلى قوله. فعزم النائب على الحملة عليه بمن معه، وسار فلم يثبت العامه والمتجمعه من الأجناد مع رمضان، وانفلوا عنه، فانهزم رمضان هو وبكا الخضري في عدة من المماليك، وتوجهوا نحو البرية، والأمراء في طلبه، ثم عاد النائب إلى السلطان فلما كان بعد عشاء الآخرة من ليلة الخميس أحضر برمضان وبكا، وقد أدركوهما بعد المغرب عند البويب، ورموا بكا بالنشاب حتى ألقوه عن فرسه، وقد وقف فرس رمضان من شدة السوق، فوكل برمضان من يحفظه، وأذن للأمراء بنزولهم بيوتهم، فنزلوا وطلعوا بكرة يوم الخميس إلى الخدمة على العادة.(2/91)
وجلس السلطان وطلب مماليك رمصان، فأحضروا. وأمر السلطان بحبسهم، وحبسوا أياماً، ثم فرقوا على الأمراء.
وفيه رسم لجمال الكفاة بتجهيز التشاريف للأمراء الأكابر، فحمل إلى كل من الأمير جنكلي بن البابا، والأمير بيبرس الأحمدي والأمير بيبرس الحاج آل ملك، والأمير قماري، والأمير أرقطاي، تشريف كامل وألف دينار، وللنائب أقسنقر السلاري تشريف وألفا دينار وفرسان، ولمقدمي الحلقة تشاريف بأقبية ساذجة مروزي، لأجل إعادتهم، فإنها كانت بغاليطق ملونة.
وفي يوم الخميس ثاني عشر: أمر السلطان ستة أمراء.
وفي يوم الإثنين سادس عشره: قدم الأمير بيغرا ومن معه من العسكر المجرد لقتال الناصر أحمد، بعد ما حاربوه. وكان قد جرح منهم جماعة، وقلت أزوادهم، فكتب السلطان بإحضارهم إلى الديار المصرية، ولما مثلوا بالخدمة خلع عليهم.
وفيه كتب السلطان باستقرار طرنطاي البشممقدار في نيابة غزة، عوضاً عن الجاولي، وقدم الجاولي إلى مصر.
وفي يوم الثلاثاء رابع عشريه: وسط الأمير بكا الخضري، ومعه مملوكان من المماليك السلطانية، بسوق الخيل تحت القلعة.
وفي هذا الشهر: استجد السلطان بالقلعة عمارة جليلة، وأقام أقجبا الحموي شاد العمائر، وقرر على أرباب الدواوين رخاماً يحملونه إليها. وقصد بذلك محاكاة عمارة الملك المؤيد بحماة المعروفة بالدهشية. فتوجه أقجبا وأبجيج المهندس إلى حماة حتى عرفا ترتيبها. وكتب السلطان إلى حلب بطلب ألفي حجر أبيض، وألفي حجر أحمر من دمشق فحملت وسخر لها الجمال. فبلغت أجرة الحجر منها ثمانية دراهم من دمشق واثني عشر درهماً من حلب. ووقع الاهتمام في العمل، فكان المصروف في العمارة كل يوم عشرة ألاف درهم.
وفي هذا الشهر: أيضاً وقف السلطان الملك الصالح ثلثي ناحية سندبيس، من القليوبية، على ستة عشر خادماً لخدمة الضريح الشريف النبوي، فتمت عدة خدام الضريح الشريف أربعون خادماً.
وفي يوم الخميس رابع شعبان: قدم الأمير علم الدين سنجر الجاولي من غزة.
وفيه قدم البريد بموت الأمير أرنبغا نائب طرابلس، فعملت عليه أوراق بحقوق سلطانية مبلغها ألفا ألف درهم.
وفيه قدمت أولاد الأمير أيدغمش من دمشق، فألزموا بتفاوت الإقطاعات التي انتقلت إلى أبيهم من مصر وحلب ودمشق، فبلغت جملة كثيرة باعوا فيها خيولاً وعصابة مرصعة لأمهم بلغت مائة ألف درهم. وباعوا حمام أيدغمش أبيهم خارج باب زويلة إلى خوند طغاي، وعدة أملاك أيضاً.
وفي يوم السبت ثالث شوال: توفي الأمير بهادر الجوباني.
وفي عاشره: توجه الأمير بيبرس الأحمدي والأمير كوكاي في ألفي فارس تجريدة لقتال الناصر أحمد بالكرك، وهي ثاني تجريدة. وكتب بخروج تجريدة من دمشق، وحمل المنجنيق ونصبه على الكرك.
وفي يوم الإثنين ثاني عشريه: صار نقل الأير يلبغا اليحياوي إلى حماة مع طلبه، فركب الأمير أرغون العلائي في عدة من الأمراء حتى زين خيله زينة عظيمة، ورتبها بنفسه، وشقوا القاهرة، وكتب لهم بالإقامات في الطرقات.
وفيه أيضاً أعيد نجم الدين محمود وزير بغداد إلى الوزارة، وأعفي ملكتمر السرجواني منها لتوقف أحوال الدولة. وخلع علي جمال الكفاة، واستقر مشير الدولة، بسؤال وزير بغداد في ذلك، فنزلا معاً بتشاريفهما. وصار جمال الكفاة يطلع بكرة النهار إلى باب القلعة ومعه الوزير، فيصرفان الأشغال. وطلب جمال الكفاة ضمان جميع الجهات وزاد في كل جهة نحو العشرين ألف درهم ومنع أن يحمل شيء من مال الجيزة، ولا يصرف منها إلا بمرسوم السلطان، فمشمت أحوال الدولة.
وفي يوم الأربعاء خامس ذي القعدة: استقر لاجين أمير أخور، عوضاً عن الأمير آقسنقر الناصري. وسبب ذلك أنه سأل أن يتزوج بخوند أردو أم الأشرف كجك، فأجيب إلى ذلك وتزوج بها، وكانت جميلة الصورة. ثم بعد زواجها بأيام سأل الأمير أقسنقر أن يمشي صرغتمش الناصري في خدمته، وكان قد اشتراه السلطان الناصر محمد بنحو مائة ألف درهم، دفع عنها السلطان قريباً من نحو خمسة ألاف دينار مصرية، لجماله، وبسببه كانت فتنة الأمير قوصون مع المماليك السلطانية، لما طلبه بالليل. وكان آقسنقر يهواه وهو يترفع عليه، فاستشار السلطان الأمير أرغون العلائي(2/92)
في إرسال صرغتمش إلى آقسنقر، فأنكر ذلك. ثم طلب السلطان صرغتمش، وعرفه بطلب أقسنقر له، فامتنع أشد امتناع، وقال: أقتل نفسي، ولا أمضي إليه وأمشي في خدمته فبعث السلطان إلى قماري والحجازي والنائب آقسنقر السلاري وعرفهم بذلك كله، فكلهم أنكر على آقسنقر الناصري طلبه صرغتمش وصابه، وأخذ الحجازي يتلطف بآقسنقر الناصري حتى كف عن طلبه على كره.
ثم رسم السلطان لآقسنقر الناصري أن يتوجه مع التجريدة إلى الكرك، وحمل إليه عشرة ألاف دينار وخسمائة جمل. وأخذ الأمراء في حمل التقادم إليه على حسب هممهم حتى لم يبق إلا سفره. ثم تخيل الأمير أرغون العلائي من سفره أن يخامر مع الناصر أحمد، فبعث إليه يمنعه من السفر، فشق عليه ذلك ولم يوافق، فأرسل إليه السلطان الأمير قماري أستادار، فتلطف به حتى وافق بشرط الإعفاء من الأمير أخورية فأعفي، وسكن الحجازي بالأشرفية من القلعة، وتحول آقسنقر إلى دار الحجازي.
وفي هذه السنة: بعث أرتنا صاحب الروم بهدية جليلة صحبة قاضي الروم، وسأل أن تجري على ما كان عليه الأمر في أيام الشهيد السلطان الناصر محمد من تجهيز التقليد بنيابة الروم.
وفيها رتب السلطان دروساً للمذاهب الأربعة بالقبة المنصورية، ووقف عليها وعلى قراء وخدام وغير ذلك ناحية دهمشا من الشرقية، فاستقر ذلك، وعرف بوقف الصالح. وفيها استقر علاء الدين علي بن عثمان بن أحمد بن عمرو بن محمد الزرعي في قضاء القضاة الشافعية بحلب، عوضاً عن البرهان إبراهيم الرسعني. ثم صرف الزرعي ببدر الدين إبراهيم بن الصد، أحمد بن عيسى بن عمر بن خالد بن عبد المحسن بن الخشاب المصري.
وفيها ولدت امرأة بدمشق مولوداً، برأسين وأربعة أيدي.
وفيها كان بعرفة يوم عرفة فتنة بين العرب والحجاج من قبل الظهر إلى غروب الشمس قتل فيها جماعة. وسببها أن الشريف رميثة بن أبي نمى أمير مكة شكا من بني حسن إلى أمير الحاج. فركب أمير الحاج في يوم عرفة بعرفة لحربهم، وقاتلهم وقتل من الترك ستة عشر فارساً، وقتل من جماعة بني حسن عدة، وانهزم بقيتهم، فنفر الناس من عرفة على تخوف، ولم ينهب لأحد شيء، ولا تزال بنو حسن بمنى. ثم رحل الحاج بأجمعهم يوم النفر الأول، ونزلوا الزاهر خارج مكة، وساروا منه ليلاً إلى بطن مرو. وفي يوم الخميس ثاني عشر ذي الحجة: رسم بتجريد الأمير أبي بكر بن أرغون النائب والأمير أصلم، والأمير أرنبغا.
وبلغت زيادة النيل في هذه السنة ثمانية عشر ذراعاً وتسعة أصابع.
ومات فيها من الأعيان
برهان الدين إبراهيم بن محمد السفاقسي المالكي في ذي الحجة، وله إعراب القرأن، وشرح ابن الحاجب في الفقه.
ومات الأمير أرنبغا الناصري، نائب طرابلس.
ومات الأمير أيدغمش الناصري، نائب الشام.
ومات الأمير بيبرس الأحمدي الحاجب وهو بدمشق، في رجب. وهو أحد المماليك الناصرية، ترقى في الخدم حتى صار أمير أخور، ثم عزل بأيدغمش، واستقر حاجباً. وتجرد إلى اليمن، ثم لما عاد سجن في العشرين من ذي القعدة سنة خمس وعشرين، وأقام معتقلاً تسع سنين وثمانية أشهر إلى أن أفرج عنه في ثاني عشرى رجب سنة خمس وثلاثين. وأخرج إلى حلب أميراً بها، ثم نقل إلى إمرة بدمشق، في سنة تسع وثلاثين، فمازال بها حتى مات. وله دار بالقاهرة داخل باب الزهومة بحارة العدوية، وحفيده أمير علي بن أمير أحمد بن الحاجب المقرئ.
ومات الأمير بكا الخطيري مقتولاً، في رابع عشرى رجب.
ومات الأمير بهادر الجوباني رأس نوبة.
ومات الأمير قماري أمير شكار، يوم الإثنين خامس جمادى الأولى.
ومات الأمير طشتمر حمص أخضر نائب صفد وحلب، مقتولاً بالكرك.
ومات الأمير سليمان بن مهنا بن عيسى بن مهنا بن مانع بن حديثة بن غضية بن فضل أمير آل فضل، بظاهر سلمية.
ومات الأمير طينال نائب صفد ونائب غزة ونائب طرابلس، وهو بصفد، في يوم الجمعة رابع ربيع الأول.
وتوفي تاج الدين أبو المحاسن عبد القادر بن عبد المجيد بن عبد الله بن متى اليماني المخزومي الشافعي الأديب الكاتب، بالقدس عن ثلاث وستين سنة. قدم القاهرة وأقام بها، وله شعر جيد.
ومات الحاجب صلاح الدين محمد بن إبراهيم، المعروف بابن البرهان.
وتوفي فخر الدين محمد بن يحيى بن عبد الله بن شكر المالكي، بمصر عن سبعين سنة.(2/93)
وتوفي المقرئ بدر الدين محمد بن أحمد بن نصحان الدمشقي، شيخ القراء بها، عن خمس وسبعين سنة.
ومات الأمير قطلوبغا الفخري نائب الشام، مقتولاً بالكرك.
ومات سعد الملك مطرف، في حادي عشرين جمادى الأولى.
سنة أربع وأربعين وسبعمائة
يوم الإثنين مستهل المحرم: قدم مبشر الحاج، وأخبر بكثرة ما كان في هذه الحجة من المشقات. وذلك أنه لما كان يوم عرفة تنافر أشراف مكة مع الأجناد من مصر، فركبوا لحرابهم بكرة النهار، ووقفوا للحرب صفين. فمشى الشريف عجلان بينهم، فلم تطعه الأشراف، وحملوا على الأجناد وقاتلوهم، فقتل منهم ومن العامة جماعة. وأبلى الشريف عجلان بن عقيل وأبلى كذلك الأمير أيدمر بلاء عظيماً، فعاتبه بعض مماليك الأمير بشتاك، ورماه بسهم في صدره ألقاه عن فرسه، وقتل معه أيضاً جماعة، وآل الأمر. إلى نهب شيء كثير، ثم تراجع عنهم الأشراف.
وفيه قدم عيسى بن فضل بقود أخيه سيف بن فضل على عادته. وكان سليمان بن مهنا قد سافر إلى بلاده فأكرمه السلطان وأنعم عليه، وأنزله منزلة حسنة.
وفي يوم السبت سادسه: قدم من الكرك الطواشي صفي الدين جوهر ورفيقه مختار، فارين من الناصر أحمد.
وفي يوم الأحد سابعه: خرج المجردين إلى الكرك من القاهرة، صحبة الأمير أصلم والأمير بيبغا حارس الطير.
وفي يوم الأربعاء عاشره: قبض السلطان على أربعة أمراء، وهم الأمير أقسنقر السلاري نائب السلطنة، والأمير بيغرا أمير جاندار صهره، والأمير قراجا الحاجب، وأخيه أولاجا، وقيدوا ورسم بسجنهم في الإسكندرية.
وفيه خرج الأمير بلك على البريد إلى المجردين إلى الكرك، فأدركهم على السعيدية، فطيب خواطرهم، وأعلمهم بالقبض على الأمراء، وعاد سريعاً، فقدم قلعة الجبل طلوع الشمس من يوم الخميس حادي عشره، وبعد وصوله قبض السلطان على الأمير طيبغا الدوادار الصغير. وسبب قبض السلطان على هؤلاء الأمراء أن الأمير أقسنقر السلاري كان في نيابته لا يرد قصة ترفع إليه فقصده الناس من الأقطار، وسألوه الرزق والأراضي التي أنهوا أنها لم تكن بيد أحد، وكذلك نيابات القلاع وولايات الأعمال والرواتب وإقطاعات الحلقة. فلم يرد أحد سأله شيئاً من ذلك، سواء كان ما أنهاه صحيحاً أم باطلاً. فإذا قيل له هذا الذي أنهاه يحتاج إلى كشف تغير وجهه، وقال: " ليش تقطع رزق الناس؟. فإذا كتب بالإقطاع لأحد، وحضر صاحبه من سفره أو تعافى من مرضه وسأله في إعادته، قال له: رح خذ إقطاعك، أو يقول له: نحن نعوضك. ففسدت الأحوال، ولاسيما بالمملكة الشامية، فكتب النواب بذلك للسلطان، فكلمه السلطان فلم يرجع، وقال: " أنا أي من طلب مني شيئاً أعطيته، وما أرد قلمي عن أحد. بحيث أنه كانت تقدم له القصة وهو يأكل فيترك أكله ويكتب عليها من غير أن يعرف ما فيها، فأغلظ له بسبب ذلك آقسنقر الناصري أمير أخور. واتفق مع ذلك أنه وشى به أنه يباطن للناصر أحمد، ويواصل كتبه إليه، فقرر أرغون العلائي مع السلطان مسكه، فمسك هو وحاشيته.
وفي يوم الجمعة ثاني عشره: خلع السلطان علي الأمير الحاج آل ملك، واستقر في نيابة السلطنة، عوضاً عن آقسنقر السلاري. وكان العلائي قد قرر مع السلطان أن يعرض على الأمراء نيابة السلطنة، فأول من عرضت عليه الأمير بدر الدين جنكلي بن البابا فامتنع، فقالوا بعده للأمير الحاج آل ملك، فأظهر البشر وأجاب لها إن قبلت شروطه. فلما طلع الأمير الحاج آل ملك لصلاة الجمعة على العادة، اشترط على السلطان ألا يفعل شيئاً في المملكة إلا برأيه، وأنه يمنع الخمر من البيع، ويقيم منار الشرع، وأنه لا يعارض فيما يفعله. فقبل السلطان شروطه، ولبس الأمير الحاج آل ملك تشريف النيابة بجامع القلعة، بعد صلاة الجمعة. وأنعم عليه السلطان زيادة على إقطاع النيابة بناحيتي المطرية والخصوص، ومتحصلهما اربعمائة ألف وخمسين ألف درهم.
وفي يوم السبت ثالث عشره: خلع السلطان علي منكلي بغا الفخري، واستقر أمير جندار، عوضاً عن بيغرا.(2/94)
وفيه فتح شباك النيابة، وجلس فيه الأمير الحاج آل ملك للمحاكمات. فأول ما بدأ به أن أمر والي القاهرة بأن ينزل إلى خزانة البنود بالقاهرة، ويحتاط على ما بها من الخمر والبغايا، ويخرج من فيها من النصارى الأسرى، ويريق ما هناك من الخمور، ويخربها حتى يجعلها دكاً وسبب ذلك أن خزانة البنود كانت يومئذ حانة، بعد ما كانت سجناً يسجن فيه الأمراء والجند والمماليك، كما أن خزانة شمائل سجن لآرباب الجرائم من اللصوص وقطاع الطريق. فلما كانت دولة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون بعد عوده من الكرك، وشغف بكثرة العمارات، اتخذ الأسرى وجلبهم إلى مصر من بلاد الأرمن وغيرها، وأنزل عدة كثيرة منهم بقلعة الجبل، وجماعة كثيرة بخزانة البنود. فملأ أولئك الأرمن خزانة البنود حتى بطل السجن بها، وعمرها السلطان الناصر مساكنا له، وتوالدوا بها، وعصروا الخمور بحيث أنهم عصروا في سنة واحدة اثنتين وثلاثين ألف جرة، باعوها جهاراً وكان لحم الخنزير يعلق عندهم على الوضم، ويباع من غير احتشام. واتخذوا عندهم أماكن لاجتماع الناس على المحرمات، فيأتيهم الفساق ويظلون عندهم الأيام على شرب الخمور ومعاشرة الفواجر والأحداث ففسدت حرم كثيرة من الناس وكثير من أولادهم وجماعة من مماليك الأمراء فساداً شنيعاً، حتى إن المرأة إذا تركت أهلها أو زوجها، أو الجارية إذا تركت مواليها، أو الشاب إذا ترك أباه، ودخل عند الأرمن بخزانه البنود لا يقدر أن يأخده منهم، ولو كان من كان.
فقام الأمير الحاج آل ملك في أمرهم، وفاوض السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون في فسادهم غير مرة، فلم يجبه إلى أن أكثر عليه فغضب السلطان عليه، وقال له: يا حاج! كم تشتكي من هؤلاء، إن كان ما يعجبك مجاورتهم انتقل عنهم فشق ذلك عليه، وركب إلى ظاهر الحسينية واختار مكاناً، وعمره داراً، وأنشأ بجانبها جامعاً، وحماماً وربعاً وحوانيت. وبقيت في نفسه حزازات حتى أمكنته القدرة منهم، وانبسطت يده فيهم بكونه نائب السلطان، فنزل والي القاهرة ومعه الحاجب وعدة من أصحاب النائب وهجموا خزانة البنود، وأخرجوا جميع سكانها، وكسروا أواني الخمر، فكانت شيئاً يجل وصفه كثرة، وهدموها واشترى أرضها الأمير قماري من بيت المال، وتقدم إلى الضياء المحتسب أن ينادي بتحكيرها، فرغب الناس في أرضها واحتكروها، وبنوها دوراً وطواحين وغيرها.
وقد ذكرنا أخبار خزانة البنود في كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار ذكراً شافياً، فكان يوم هدم خزانة البنود يوماً مشهوداً من الأيام المشهورة المذكورة، عدل هدمها فتح طرابلس وعكا، لكثرة ما كان يعمل فيه بمعاصي الله.
ثم طلب النائب والي القلعة، وألزمه أن يفعل ذلك ببيوت الأسرى من القلعة، فمضى إليها وكسر جرار الخمر التي بها، وأنزلهم من القلعة، وجعلهم مع نصارى خزانة البنود في موضع بجوار الكوم. فيما بين جامع ابن طولون ومصر، فنزلوه واتخذوا به مساكنهم، واستمروا بها إلى اليوم.
وكانت الأسرى التي بالقلعة من خواص الأسرى، وعليهم كان يعتمد السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون في أمر عمائره، وكانوا في فساد كبير مع المماليك وحرم القلعة فأراح الله منهم.
ثم رسم الأمير الحاج آل ملك النائب بتتبع أهل الفساد، فمنع الناس من ضرب الخيم على شاطئ النيل بالجزيرة وغيرها للنزهة، وكانت محل فساد كبير لاختلاط الرجال فيها بالنساء، وتعاطيهم المنكرات.
واقترح الأمير الحاج آل ملك في نيابة اقتراحات كثرة، منها أنه منع من مكاتبة ولاة الأعمال إلا بعد أن يبعث الوالي أن كان للشاكي حق شرعي، وجعل عوض المكاتبة له كتابة الشكوى خلف قصة المشتكي، وكثيراً ما كان يرد الشكاة إلى الولاة والكشاف، وصار يكنب لجميع الولاة يعتمد.
ورسم الأمير الحاج آل ملك لأولي نيابته بإبطال جميع الملعوب، وهي جهة سلطانية كان يتحصل منها مال كثير، ولها ضامن يقال له كمجتي. له ضرائب مقررة على أرباب الملعوب، من المناطحين بالكباش والمناقرين بالديوك، وعلى المعالجين والمصارعين والمثاقفين والملاكمين والمشابكين، وعلى المقامرين على اختلاف أنواع القمار، وعلى القرادة والدبابة الذين يلعبون بالقرود والدب وغير ذلك من أنواع اللعب، فبطل ذلك كله.(2/95)
وأبطل الأمير الحاج آل ملك أيضاً جهة ابن البطوني، وهي جهة سلطانية لها ضامن عليه مال مقرر يأخذه من كل من رد عليه عبده أو أمته، إذا أبقوا فكان يتعدى حتى يأخذ من يجده من العبيد والإماء قد مضى لمولاه في حاحة، ويحبسه عنده حتى يصالحه مولاه على مال يدفعه إليه، فبطل ذلك.
وأبطل الأمير الحاج آل ملك النزول عن الإقطاعات والمقايضات بهذه بعد أن فشى ذلك بين الأجناد، حتى إن جندياً قايض أخر بإقطاعه ومبلغ ألفين وخمسمائة درهم أقبضه منها ألفين، فألزمه الأمير الحاج آل ملك بحمل الألفين لبيت المال، فانكف الأجناد عن المقايضات.
ومقت الأمير الحاج آل ملك من يرفع إليه قصة بطلب زيادة، فرفع له علاء الدين بن القلنجقي أحد الأمراء العشرات قصة يسأل فيها زيادة على إقطاعه، فوقع له عليه بمائتي فدان من الجبل الأحمر، زيادة على ما بيده.
ومنع الأمير الحاج آل ملك من مكاتبة نواب الشام وكتابة التواقيع السلطانية لأهل الشام، وكتب مرسوم السلطان إلى الممالك الشامية بإبطال العمل بما كتب به من بعد وفاة السلطان الملك الناصر محمد، ولا يعتمد إلا على المراسيم المستقرة إلى حين وفاته، ليبطل بذلك ما كان في نيابة أقسنقر السلاري فبطلت جماعة كثيرة بأيديهم مراسيم سلطانية منصورية وأشرفية وصالحية تجددت بعد السلطان الناصر محمد، وأخذت منهم.
وفي يوم الخميس ثامن عشره: قدم محمل الحاج.
وفي يوم الأربعاء رابع عشريه: نودي بتحكير خزانة البنود، فشرع الناس في تحكيرها.
وفي يوم الخميس خامس عشريه: رسم السلطان أن يعاد على ناصر الدين المعروف بفأر السقوف ما أخذ له في نيابة الأمير طشتمر حمص أخضر، وخلع عليه بحسبة مصر، عوضاً عن ابن بنت الأعز، بشفاعة الأمير ملكتمر الحجازي، فأعيد له مبلغ أربعين ألف درهم من بيت المال.
وفيه قدم شهاب الدين أحمد بن فضل الله كاتب السر بدمشق بطلب، لكثرة شعاته فقام أخوه علاء الدين علي بن فضل الله في أمره حتى أعيد إلى دمشق معزولاً، من غير مصادرة، ورتب له ما يكفيه.
وفيه أنعم على عدة من المماليك السلطانية بإمريات، منهم شيخو العمري، وألطنبغا برناق.
وفي هذا الشهر: كثر تخوف الناس من منسر انعقد بالقاهرة، وذلك أن رجال هذا المنسر كبسوا عدة بيوت، وكتبوا أوراقاً يطلبون فيها مالاً من الأغنياء، ومتى لم يبعث لنا ذلك كنا ضيوفك وأعيا الوالي أمرهم فاتفق أنهم كبسوا بيتاً ببولاق، وكان أهله قد أنذروا بهم، فاستعدوا لهم وتركوا أبوابهم مفتوحة، فدخلوا نصف الليل، وإذا بالنشاب قد وقع في صدورهم، فأصاب منهم ثلاثة، ورجع باقيهم منهزمين. فخرج منهم أيضاً اثنان والطلب في أثرهما، فقتل منهما واحد وقبضوا منهم على ثلاثة، وأتوا بهم الوالي، فأقروا على جماعة بالجزيرة وغيرها، فتتبعوا إلى أن ظفر بجماعة سمروا وشهروا.
وفيه قدم الرجل الصالح أحمد الزرعي، فأكرمه الأمير جنكلي بن البابا، وجمع بينه وبين السلطان. فسأل الزرعي أن تعفى بلده زرع من المغارم والسحر، وأقام أياماً ثم عاد إلى الشام.
وفيه قدم الأمير سيف بن فضل، فأكرمه السلطان، وكتب له ببلدة زرع حسب سؤاله، وسافر فمات قبل أن يستغلها.
وفيه قدم أيضاً أحمد بن مهنا وسيف بن فضل، بقود.
وفيه وصلت رسل متملك الهند بهدية فيها فصان ياقوت، ومعهم كتاب يتضمن السلام والمودة، وأنهم لم يكونوا يعرفون الإسلام حتى أتاهم رجل عرفهم ذلك، وذكر لهم أن ولاية الملك لابد أن تكون من الخليفة. وسأل متملك الهند أن يكتب له تقليد من جهة الخليفة بولاية مملكة الهند ليكون نائباً عن السلطان بتلك البلاد، وأن يبعث السلطان إليهم رجلاً يعلمهم شرائع الإسلام من الصلاة والصيام ونحو ذلك. فأكرمت الرسل، وطلب من الخليفة أن يكتب تقليداً لمرسلهم بسلطنة الهند، فكتب له تقليد جليل، ورسم بسفر ركن الدين الملطي شيخ الخانكاه الناصرية بسرياقوس مع الرسل. وفيه قدم البريد من حلب بطلب ناصر الدين محمد بن صغير الطبيب، ليعاج الأمير ألطنبغا المارداني، فأخرج على البريد، وقدم حلب يوم الثلاثاء سلخه، وقد احتضر الأمير ألطنبغا، فمات من الغد، فعاد ابن صغير بعد يومين من حلب.
وفي تاسع عشريه: رسم بتجريد الأمير جنكلي بن البابا، والأمير آقسنقر الناصري، والأمير أبي بكر بن أرغون النائب، والأمير طيبغا المجدي إلى الكرك.(2/96)
وفي ثاني عشر صفر: قدم الخبر بوفاة الأمير ألطنبغا المارداني نائب حلب، فصلي عليه صلاة الغائب بجامعه، وقرئت له ختمة شريفة.
وفيه عقد مشور عند السلطان فيمن يلي حلب، فأشار الأمير أرغون العلائي باستقرار الأمير يلبغا اليحياوي في نيابة حلب، وأن يستقر عوضه في نيابة حماة الأمير طقتمر الأحمدي، وأن يستقر بلك الجمدار في نيابة صفد، عوضاً عن طقتمر الأحمدي. وعين أرغون شاه للسفر بتقليد الأمير يلبغا، وأن يتوجه الأمير أحمد لإحضار حريم المارداني وأمواله من حلب.
وفي رابع عشريه: توجه الأمير ألطنبغا برناق، بتقليد طقتمر نائب حماة.
وفي يوم السبت خامس عشريه: قدم الأمير بيبرس الأحمدي والأمير كوكاي ومن معهما من المجردين التجريدة الثانية إلى الكرك، فركب الأمراء إلى لقائهم. وكان قبل ذلك بيومين ورد كتاب الأمير أصلم بأنه قدم إلى الكرك بمن معه، وخرج الأمير بيبرس الأحمد بمن معه، وطلب أن يقوى بعسكر. فكتب إلى ولاة الأقاليم للخروج إلى الكرك بطلبهم، ونزل النقباء إلى الأمراء المعينين للسفر بخروجهم.
وفي يوم الخميس سلخه: خرج الأمير بلك الجمدر من القاهرة، لنيابة صفد.
وفي يوم الإثنين رابع ربيع الأول: خرج الأمير جنكلي بن البابا والأمير أقسنقر الناصري وملكتمر السرجواني وأمير عمر بن أرغون النائب، في أربعة ألاف فارس، تقوية للأمير أصلم، وهي التجريدة الرابعة للكرك. وتوجه صحبتهم عدة حجارين ونقابين ونفطية، وتوجه السلطان بعد سفرهم إلى سرياقوس على العادة.
وفيه اشتد الأمير الحاج آل ملك النائب على والي القاهرة ومصر في منع الخمر وغيره من المحرمات، وتتبع أهل الفساد وإحضارهم إليه. ونودي بالقاهرة ومصر من أحضر سكراناً أو أحداً معه جرة خمر خلع عليه. فقعد العامة لشربة الخمر بكل طريق، وأتوه مرة بجندي قد سكر، فضربه وقطع خبزه، وخلع على من أحضره. وقبض العامة أيضاً على بعض مماليك الأمراء، وقد أحضر جرة خمر في مركب، فضربه وقطع خبزه. وأخذ النائب كثيرا من شربة الخمر وباعته بناحية شبرا الخيم ومنية السيرج، ومن المراكب، ومن البيوت، فضربهم عرايا، وكشف رءوسهم، وصب عليهم الخمر وشهرهم. ونادى من اشترى عنباً بالقنطار قبض عليه، ويؤتي به إليه. فعرفه شاد الدواوين أن متحصل الديوان من معاملة العنب مائة ألف درهم، وقد بطلت، فلم يلتفت إليه، وتنجز مرسوم السلطان بالمساجة بذلك. وبعث النائب في خفية من اشترى له عنباً بدرهمين، فجاءه عشرة أرطال فطلب المحتسب، وأنكر عليه كيف يكون العنب بهذا السعر وقد منعنا من اعتصاره.
ومنع الأمير الحاج ملك النائب أن يحمل الفرنج إلى الإسكندرية خمراً، فقام في ذلك جمال الكفاة، وذكر أنه يتحصل من ذلك في السنة نحو الأربعين ألف دينار، ومتى منع الفرنج من حمل الخمر فسد حال الإسكندرية، ومازال بالسلطان حتى منع النائب من ذلك.
وأبطل الأمير الحاج آل ملك النوايح من القاهرة ومصر، فقامت الضامنة عند الأمير قماري الأستادار في إعادة النوايح، وخوفت أن جهته تبطل، وكان مرصده للحاشية، فمازال الأمير قماري يكلم الأمير الحاج آل ملك حتى أعادها.
وفي هذا الشهر: قام قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة على إمام الجامع الأزهر، وحبسه. وسبب ذلك أنه كان يلي نظر الجامع، فأخرجه عنه قاضي القضاة وولاه للقاضي الحنبلي، فتعصب جماعة للإمام حتى أعاده آقسنقر السلاري النائب إلى نظر الجامع. فشق ذلك على القضاة، وتنكروا له، فقام رجل وأنهى إليهم أن الإمام من خمس وعشرين سنة وقع في حق النبي صلى الله عليه وسلم بأن زعم أنه صلى الله عليه وسلم انهزم في بعض غزواته، وكتب بذلك محضراً وأثبته. وشنعوا بذلك عليه، وأخذوه من الجامع إلى الحبس، فقام الشيخ خليل المالكي والقوام الكرماني قياماً زايداً حتى وصل إلى السلطان والأمراء أن بين القضاة وبينه عداوة، بسبب نظر الجمع، من قديم. فطلب القضاة إلى القلعة بحضرة السلطان، وحدثهم السلطان في أمره، فوقعوا فيه وقيعة قبيحة، وأنه قد وجب قتله، وقد حكم بعزله من الإمامة. فمازال السلطان بهم حتى حكم الحنفي بتعزيره، فعزر واستمر على وظيفته. وكثرت القالة في ابن جماعة بسببه، فإنه كانت له سمعة عند الخدام، وتتردد إليه أم السلطان.(2/97)
وفيه خلع علي نجم الدين أيوب، وأعيد لولاية القاهرة، عوضاً عن شجاع الدين غرلو، وأخرج غرلو إلى الشوبك، عوضاً عن ألطنقش.
وفي يوم الخميس عشر: قدم الخبر بوصول المنجنيق من صفد إلى الكرك، وأنه هرب من خدام أحمد ومماليكه نحو ستة وأربعين نفراً، ثم قدموا في حادي عشريه، فخلع عليهم.
وفي رابع عشر ربيع الآخر: قدم الخبر بوصول جنكلي بن البابا وأقسنقر الناصري إلى الكرك بمن معهما، في يوم السبت سابعه، فزحفوا من غدهم، وقاتلوا قتالاً شديداً جرح فيه بالغ وجماعة، وعدة قتلوا، وجرح كثير. فانكسر أهل الكرك كسرة قبيحة، فسر السلطان بذلك، وبعث إلى الأمراء المجردين خمسين حجاراً.
وفيه قدم رسول حسن بن دمرداش بن جوبان بهدية، وسأل أن يبعث إليه برمة أبيه، فاعتذر السلطان عن ذلك بأنه لم يعرف له قبراً.
واتفق في زيادة النيل أنه كان وفاؤه يوم الأحد سابع عشر ربيع الأول وهو سابع عشر مسرى فزاد زيادة كبيرة بعد الوفاء حتى فاض من جهة قرموط من الخليج، وطلع من الأسربة. فركب الوالي إلى بولاق، وركب النائب إلى جسر بركة الحبش في عدة من الأمراء، وأقام ثلاثة أيام حتى أتقن بعض الجسور.
وفاض النيل من جهة قناطر الأوز، فكتب لوالي الشرقية على أجنحة الحمام أن يقطع اللؤلؤة فكثر تقطع الجسور، وتعبت الولاة في سدها حتى تقطعت جميعها بالوجه القبلي والوجه البحري. وفسدت الأقصاب، والنيلة والقلقاس، وسائر الزراعات الصيفية، والمخا زن.
وفيه قدم الخبر بكثرة الفساد والمجاهرة بالخمور وأنواع الفسوق بدمشق، وقلة حرمة نائبها الأمير طقزدمر الحموي، وتغلب مماليكه وتهكمهم عليه وسوء سيرتهم، فكتب بالإنكار عليه. واتفق بظاهر القاهرة أمر اعتني بضبطه، وهو أنه كان بناحية اللوق كوم يعرف بكوم الزل يأوي إليه أهل الفسوق من أوباش العامة، فأخذ بعضهم منه موضعاً ليبني له فيه بيتاً، فشرع في نقل التراب منه، فبينا هو يحفر إذ ظهر له إناء فخار فيه مكاتيب دار كانت في هذا البقعة، وتدل على أنه كان به أيضاً مسجد، ورأى أثار البنيان. فأشاع بعض شياطين العامة - وكان يقال له شعيب، أنه رأى في نومه أن هذا البنيان على قبر بعض الصحابة رضي الله عنهم، وأن من كراماته أنه يقيم المقعد ويرد بصر الأعمى، وصار يصيح ويهلل ويظهر اختلال عقله. فاجتمعت عليه الغوغاء، وأكثروا من الصياح، وتناولوا تلك الأرض بالحفر حتى نزلوا فيها نحو قامتين، فإذا مسجد له محراب. فزاد نشاطهم، وفرحوا فرحاً كبيراً، وباتوا في ذكر وتسبيح. وأصبحوا وجمعهم نحو الألف إنسان، فشالوا ذلك الكوم، وساعدهم النساء، حتى إن المرأة كانت تشيل التراب في مقنعها، وأتاهم الناس من كل أوب، ورفعوا معهم التراب في أقبيتهم وعمائمهم، وألقوه في الكيمان، بحيث تهيأ لهم في يوم واحد ما لا تفي مدة شهر بنقله.
وحفر شعيب حفرة كبيرة، وزعم أنها موضع الصحابي، فخرج إليه أهل القاهرة ومصر أفواجاً، وركب إليه نساء الأمراء والأعيان، فيأخذهن شعيب وينزلهن تلك الحفرة لزيارتها، وما منهن إلا من تدفع الدنانير والدراهم.
وأشاع شعيب أنه أقام الزمنى، وعافى المرضى، ورد أبصار العميان، في هذه الحفرة، وصار يأخذ جماعة ممن يظهر أنه من أهل هذه العاهات، وينزل بهم إلى الحفرة، ثم يخرجهم وهم يسبحون الله أكبر الله أكبر، ويزعمون أنهم قد زال ما كان بهم.
فافتتن الناس لتلك الحفرة، ونزلت أم السلطان لزيارتها، و لم تبق أمرأة مشهورة حتى أتتها وصار للناس هناك مجتمع عظيم، بحيث يسرج به كل ليلة نحو مائتي قنديل، ومن الشموع الموكبية شيء كثير. فقامت القضاة في ذلك مع الأمير أرغون العلائي والأمير الحاج آل ملك النائب، وقبحوا هذا الفعل، وخوفوا عاقبته، حتى رسم لوالي القاهرة أن يتوجه إلى مكان الحفره ويكشف أمرها، فإن كان فيها مقبور يحمل إلى مقابر المسلمين ويدفن به سراً، ثم يعفى الموضع. فلما مضى إليه ثارت به العامة تريد رجمه، وصاحوا عليه بالإنكار الشنيع حتى رماهم الجند بالنشاب، فتفرفوا، وهرب شعيب ورفيقه العجوي، ومازال الحفارون يعملون في ذلك المكان إلى أن انتهوا فيه إلى سراب حمام، و لم يجدوا هناك قبراً ولا مقبوراً، فطموه بالتراب، وانصرفوا. وفد انحلت عزائم الناس عنه، بعدما فتنوا به، وضلوا ضلالاً بعيداً، وجمع شعيب ورفيقه كثيراً من المال والثياب شيئاً طائلاً.(2/98)
وفيه توجه أيدمر الشمسي لكشف أحوال الكرك.
وفي يوم الأحد سابع عشرى جمادى الأولى: قدم الأمير أصلم، وأبو بكر بن أرغون النائب، وأروم بغا، من تجريدة الكرك بغير إذن، واعتذروا بضعف أبدانهم وكثرة الجراحات في أصحابهم وقلة الزاد عندهم. فقبل السلطان عذرهم، ورسم الأمير طقتمر الصلاحي وتمر الموساوي، في عشرين مقدماً من الحلقة وألفي فارس، فساروا خلقه، وهي التجريدة الخامسة.
وفيه قدم البريد من حلب أنه خرجت عساكر حلب وحماة وطرابلس صحبة سنقر وصلاح الدين الدوادار إلى جهة سيس لحرب أهلها من الأرمن، لمنعهم الخراج.
تركمان الطاعة، وأغاروا معهم، وأثروا في أهل سيس آثار قبيحة.
وفيه نودي من قبل الأمير الحاج آل ملك نائب السلطان بأن أهل الأسواق كلها إذ أذن الصلاة يصلون قدام دكاكينهم بإمام يصلي بهم، فعملوا أنخاخاً وحصروا برسم فرشها للصلاة في الأسواق.
وتوجه السلطان في هذه الأيام إلى سرياقوس على العادة، ورسم بلعب الرمح بين يديه. فاجتمع غواة لعب الرمح، وحضر طيدمر الملكي وابن الطرابلسي الرماح وقطز الشمسي، ومن ضاهاهم، وتكافحوا. فظهر ابن الطرابلسي يومئذ على سائرهم، وأنعم عليه.
وفيها ترك الأمير طقبغا الناصري إمريته، وتزيا بزي الفقراء، فلزمه بحكم الديوان أربعمائة ألف درهم، حمل منها مباشروه ثلاثمائة ألف.
وفيها رسم باستقرار الأمير سيف الدين بن فضل أمير الأمراء في الإمرية، عوضاً عن سليمان بن مهنا، بعد موته.
وفيها كتب بمنع أحمد بن مهنا من القدوم إلى مصر، فرده نائب الشام من دمشق وعاد إلى أهله. فاتفق أحمد بن مهنا مع فياض على إقامة فتنة.
وفيها تزوج السلطان ابنة الأمير طقزدمر الحموي نائب الشام، بعد ما جهز الأمير ملكتمر الحجازي بالمهر إلى دمشق، فقدمها في سادس عشر جمادى الآخرة، وقد تلقاه الأمير طقزدمر، فدفع إليه المهر وهو مائة ألف درهم. وعاد الأمير ملكتمر الحجازي من دمشق من غير أن يأخذ لأحد شيئاً هدية، فبعث له الأمير طقزدمر الحموي ألفي دينار، ومائة قطعة قماش، وأربعة أرؤس خيل. وأنعم عليه السلطان بألفي دينار، وخيول وغيرها. وفيه قدم الخبر بخروج فياض وآل مهنا عن الطاعة، وإغارتهم على عرب سيف بن فضل، وأخذهم قفلاً من بغداد إلى نواحي الرحبة، كان فيه لرجل واحد ما قيمته نحو مائتي ألف دينار، سوى ما لغيره من التجار.
وفيه قدم الخبر بأن سليمان شاه حاكم الأردو جرت بينه وبين أرتنا ملك الروم حرب انتصر فيها أرتنا، وقتل عدة من أصحاب سليمان شاه، وغنم ما معهم، وهزم باقيهم. وفي مستهل رجب: عاد الأمير جنكلي بن البابا والأمير آقسنقر الناصري من تجريدة الكرك إلى القاهرة، فأكرمهما السلطان لكثرة بلائهما في الكرك، وخلع عليهما.
وفيه قدم البري بمحضر ثابت على قضاة حلب يتضمن أنه لما كان يوم السبت سادس شعبان إذا برعد وبرق أعقبته زلزلة عظيمة، سمع حسها من نصف ميل عن حلب، وهو حس مزعج يرجف القلوب. فهدم من القلعة اثنا وثلاثون برجاً سوى البيوت، وهدم من قلعة البيرة أكثر من نصفها، وكذلك من قلعة عين تاب وقلعة الراوند وبهسنا وبلاد منبج وقلعة المسلمين. فخرج أهل حلب إلى ظاهرها، وضربوا الخيم، وغلقت سائر أسواقها، وفي كل ساعة يسمع دوي جديد. ثم إنهم تجمعوا عن أخرهم، وكشفوا رءوسهم ومعهم أطفالهم والمصاحف مرفوعة، وهم يضجون بالدعاء والابتهال إلى الله برفع هدا المقت. فأفاموا على ذلك أياماً إلى خامس عشريه حتى رفع الله ذلك عنهم، بعدما هلكت بتلك البلاد تحت الردم خلائق لا يحصيها إلا خالقها، فكتب بتجديد عمارة ما هدم من القلاع من الأموال الديوانية. وقدم الخبر من الكرك بأن العساكر أخذت على طرقها كلها بالاحتفاظ وأخدت أغناماً كثيرة لأهلها، وقتلت جماعة من الكركيين. فرسم بتجهيز الأمير علم الدين سنجر الجاولي، والأمير أرقطاي، والأمير قماري أستادار، وعشرين أمير طبلخاناه وعشرات، وثلاثين مقدم حلقة، وأنفق السلطان فيهم. فساروا يوم الثلاثاء خامس عشر شوال في ألفي فارس، وهي التجريدة السادسة، وتوجه معهم عدة حجارين ونفطية.
وفيه خلع على الأمير طرغاي الطباخي، واستقر في نيابة طرابلس بعد موت رسغاي السلاح دار، وكتبت أوراق ديوانية بما يلزم رسغاي بحكم الديوان، ويشتمل على ألفي ألف درهم.(2/99)
وفيه استقر علاء الدين علي بن محمد بن الأطروش السقطي في حسبة دمشق، بعناية الأمير أرغون العلائي، فشنع الناس بسبب ولايته، لجهله بالأمور الشرعية.
وفي أول شعبان: ورد كتاب الناصر أحمد من الكرك وهو يترفق ويعتذر عن قتل الأمير قطلوبغا الفخري والأمير طشتمر حمص أخضر، وأنه إن رسم بحضوره حضر، وإن رسم بإقامته بالكرك أقام تحت الطاعة، وأنه لا رغبة له في الملك. وعقيب ذلك ورد كتاب نائب الشام وكتاب نائب حلب، وفي ضمنهما كتب الناصر أحمد إليهما بختمها، وهي تشتمل على معنى ما ذكر في كتابه. فتوجه إليه الأمير طشتمر طلليه بجواب يتضمن أنه إن أراد الإقامة بالكرك مطمئناً فليسير ما أخده من المال والخيل وغير ذلك، ويبعث يوسف بن البصارة أيضاً، وإلا هدمت عليه الكرك حجراً حجراً، وأسر إلى طلليه أن يتحيل في القبض على أحمد.
وفي مستهل رمضان: فرغت عمارة القاعة المعروفة بالدهيشة من القلعة، وفرشت بأنواع البسط والمقاعد الزركش، وجلس فيها السلطان وبين يديه جواريه. فأكثر من الإنعام والعطاء، وكان قد اختص بالمملوك بيبغا الصالحي، وأمره وخوله في نعم جليلة، وزوجه بابنة الأمير أرغون العلائي، وهي أخت السلطان لأمه، وعمر له حوانيت خارج باب القرافة. وكثر استيلاء الجواري والخدام على الدولة وعارضوا النائب، وأبطلوا ما أحبوا إبطاله مما يرسم به، حتى صار يقول لمن يطلب شيئاً: رح إلى الطواشية ينقضي شغلك، فإذا بلغهم ذلك أهدروا مكانته وردوا أفعاله.
وفي سابعه: توجه الأمير آقسنقر الناصري لنيابة طرابلس، بعد موت الأمير طوغاي الطباخي، وقد تنكر السلطان له وتغير عليه.
وفي عشريه: رحل محمل الحاج من البركة، وقد قدم من حجاج المغاربة زيادة على عشره ألاف إنسان، ومن حجاج بلاد التكرور نحو خمسة ألاف نفر، وحج الطواشي عنبر السحرتي لالا السلطان، في تجمل كثير.
وفيه أعاد الناصر أحمد الأمير طشتمر طلليه بجواب غير طائل، ومن غير أن يجتمع به. وقدم معه وبعده من الكركيين عدة أشخاص، فمرروا مع السلطان مخامرتهم على الناصر أحمد، وطلبوا إقطاعات عديدة لهم ولأصحابهم. فكتب لهم السلطان بها، وأعيدوا بإنعامات جليلة. فقدم الخبر بأن يوسف بن البصارة بعثه الناصر أحمد من الكرك ليحضر إلى مصر، فوجد قتيلاً في أثناء طريقه، واتهم الناصر أحمد أنه بعث من قتله خوفاً منه أن ينم عليه لأخيه، وأحاط الناصر أحمد بموجوده، فوجد له أربعة وعشرين ألف دينار، وثلاثين حياصة ذهب، وثلاثين كلفتاه زركش، سوى لؤلؤ وقماش وغير ذلك. فوقع الاتفاق على أن يجرد السلطان إلى الكرك عدة عساكر من مصر والشام.
وفي يوم الإثنين ثامن ذي القعدة: قدم بالغ ومشايخ الكرك طائعين، فأنعم السلطان عليهم وعادوا في حادي عشره، ومعهم عدة من المماليك السلطانية ليسلموهم قلعة الكرك.
وفيه رسم بتجريدة سابعة فيها الأمير ركن الدين بيبرس الأحمدي، والأمير كوكاي، وعشرون أمير طبلخاناة، وسته عشر أميراً. وكتب بخروج عسكر من دمشق، ومعهم منجنيق وزحافات. وحمل السلطان إلى الأمير بيبرس الأحمدي ألفي دينار، وإلى كوكاي ألف دينار، ولكل أمير طبلخاناة أربعمائة دينار، ولكل أمير عشره مائتا دينار. وأرسل السلطان أيضاً مع الآمير بيبرس الأحمدي أربعة ألاف دينار لأجل من عساه ينزل من الكرك، وجهزت تشاريف كثيرة. وأقام الأمراء في طريقهم نحو شهرين، وخرج معهم ستة ألاف رأس من البقر والغنم، ومائتا رأس جاموس ونحو ألفي راجل. فاستعد لهم الناصر أحمد، وجمع الرجال، وأنفق فيهم مالاً كثيراً وجمع الأسلحة المرصدة بقلعة الكرك، وركب المنجنيق الذي كان بها.
وفيه قدم سليمان ابن مهنا بقوده، فخلع عليه.
وفي مستهل ذي الحجة: عرض السلطان الخيل ليختار فرساً يركبه يوم العيد، وأحضر عشرة من النقاراتية، فدقوا كوساتهم عند العرض. فظن العسكر أنها حربية، فركبوا تحت القلعة، وتجمعت العامة على عادتهم، وغلقت الأسواق. فركب إليهم نقيب الجيش ولامهم على ركوبهم، وردهم.(2/100)
وأخذت القالة تكثر حتى تنكرت قلوب الأمراء، وادخروا الأقوات خوفاً من الفتنة. ولهجت العامة بقولهم: يا ولد خرا للعيد وغنوا به في الأسواق. فتوهم السلطان من فتنة تكون يوم العيد، وهم ألا يصلي يوم العيد خوفاً من طائفة تهجم عليه في الصلاة من جهة أخيه رمضان واستعد لذلك. ثم بعث السلطان إلى أخيه رمضان، فقتله ليلة العيد، وصلى العيد وهو متحرز.
وفي هذه الأيام: أعيد ضمان الملعوب من العلاج والصراع واللكلم والسعاة، ونحو ذلك. وأعيد ضمان ابن البطوني، وضمن بزيادة عشرة ألاف درهم.
وفيها قبض بدمشق على الأمير آقبغا عبد الواحد في عدة من الأمراء وسجنوا، لميلهم إلى الناصر أحمد.
وفيها اختلت مراكز البريد، فجمع لها ثمانمائة فرس، بعث السلطان منها مائتي فرس، وأخذ من كل أمير مائة أربعة أرؤس، ومن كل أمير طبلخاناة فرسين، ومن كل أمير عشرة فرساً واحداً، وأخذ من الموقعين عدة أفراس.
وفيها نهبت منية السيرج، وذلك أن جماعة من الفقراء المتعبدين بها أنكروا على النصارى بيعهم الخمر، وهم معظم أهل المنية، وبالغوا في الإنكار حتى ضرب أحد الفقراء نصرانياً أسال دمه، ودخل إلى صلاة الجمعة بالجامع. فتجمع النصارى، وأتوا الفقراء بالجامع بعد الصلاة، وضربوهم، فثار المسلمون بهم، فأثخنهم ضرباً، ومالوا على بيوتهم فنهبوها. وتعدى النهب إلى بيوت المسلمين حتى بلغ الخبر إلى الأمير الحاج آل ملك النائب، فبعث الحجاب والوالي، فقبضوا على جماعة كثيرة، وردوا كثيراً مما نهب، وحملوا الذين قبض عليهم، وفيهم عدة من الأجناد، فضربوا وسجنوا وقطعت أخبازهم. وأقامت المنية خراباً وبيوتها مهدمة نحو الشهرين، حتى عاد أهلها إليها.
وفي هذه السنة: نافق عربان الصعيد، واقتتلوا وقطعوا الطريق، فقتل بينهم نحو الألفي رجل. فركب الأمير علاء الدين علي بن الكوراني، وقد استمال معه طائفة من أعدائهم يريد حربهم، فلم يثبتوا له وفروا منه، فأخذ لهم عدة جمال وخيول وسلاح. وفيها احتربت الدعاجية والسعديون، فقتل بينهم خلق كثير جداً، فركب إليهم الأمير أزدمر كاشف الوجه البحري، وقتل منهم أعداداً كثيرة.
وفيها كثر فساد فياض وقطعه الطرقات، فلم يطق الأمير سيف بن فضل رده ومنعه، لعجزه عن آل مهنا.
وفيها اشتد الحصار على الكرك، وضاقت على الناصر أحمد ومن معه لقلة القوت عندهم وتخلى عنه أهل الكرك، ووعدوا الأمراء بالمساعدة عليه، فحملت إليهم الخلع ومبلغ ثمانين ألف درهم.
وفيها اشتد الغلاء ببغداد وعامة بلاد العراق، وبلغ الرغيف ببغداد ديناراً عراقياً، عنه ستة دراهم، والرطل اللحم بدينار ونصف.
وفيها استقر بيبغا ططر في نيابة غزة، عوضاً عن طرنطاي البشمقدار.
وفيها استقر طرنطاي حاجباً بالقاهرة.
وفيها جرد الأمير يلبغا اليحياوي نائب حلب عسكره لقتال ابن دلغادر، فلقيهم ابن دلغادر وكسرهم كسرة قبيحة. فركب يلبغا بعساكر حلب وسار إليه، ففر منه ابن دلغادر إلى جبل، وترك أثقاله فنهبها العسكر، وقتلوا كثيراً من تركمانه، وظفروا ببعض حرمه، وتبعوه إلى الجبل، وصعدوه. فقاتلهم ابن دلغادر، وجرح أكثرهم. وأصيب فرس الأمير يلبغا بسهم قتله، وتقنطر عنه يلبغا وأخذ صنجقه ومن أسروه من حريم ابن دلغادر وما نهبوه له، وتمت الكسرة على العسكر فكتب السلطان بالإنكار على نائب حلب، وتعنيفه على ما فعله.
وفيها استقر المكين إبراهيم بن مزونية في نظر دمشق، عوضاً عن التاج ابن الصاحب أمين الملك. واستقر موسى بن التاج إسحاق في نظر حلب، وأستقر زين الدين محمد ابن محمد بن محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق بن خليل بن مقلة بن جابر المعروف بابن الصائغ الأنصاري الدمشقي، في قضاء الشافعية بحلب، عوضاً عن بدر الدين بن الخشاب، وعاد ابن الخشاب إلى القاهرة.
وكانت هذه السنة من أنكد السنين وأشدها، لكثرة الفتن وسفك الدماء ببلاد الصعيد ونواحي الشرقية وبلاد عرب الشام وبلاد الروم والكرك، وغلاء الأسعار بالعراق وكثرة الموتى عندهم، وزيادة النيل التي فسد بها الأقصاب والزراعات الصيفية. فلما أدرك الشعير هاف من السموم، وهاف كثير من الفول أيضاً وبعض القمح، وتحسن السعر حتى بلغ الأردب درهماً، بعد ما كان بعشرة دراهم.
وفيها بلغت زيادة النيل عشرين ذراعاً وخمسة عشر أصبعاً.
ومات فيها من الأعيان(2/101)
زين الدين إبراهيم بن عرفات بن صالح بن أبي المنا القناوي الشافعي، وقاضي قنا، وكان يتصدق في السنة بألف دينار في يوم واحد.
وتوفي برهان الدين إبراهيم بن علي بن أحمد بن علي بن عبد الحق، قاضي القضاة الحنفية بديار مصر، وهو مقيم بدمشق.
ومات إبراهيم بن صابر المقدم.
وتوفي المحدث شهاب الدين أحمد بن علي بن أيوب بن علوي المستولي، وقد جاوز الثمانين، حدث عن الأبرقوهي، وكان ورعاً خيراً.
وتوفي شهاب الدين أحمد بن أبي الفرج الحلبي، بالقاهرة، حدث عن النجيب، والأبرقوهي، والرشيد بن علان وغيره، ومولده في رمضان سنة خمس وستين وستمائة. وتوفي المسند شهاب الدين أحمد بن كشتغدي المعزي.
ومات الأمير أقسنقر السلاري قتلاً بحبس الإسكندرية، تنقل في الخدم إلى أن ولي نيابة صفد ونيابة غزة، ثم نيابة السلطنة بديار مصر.
ومات الأمير ألطنبغا المارداني وهو في نيابة حلب، وهو الذي أنشأ جامع المارداني خارج باب زويلة.
ومات الأمير ألطنبغا العلمي الجاولي، الفقيه الشافعي، الأديب الشاعر، أصله مملوك ابن باخل، ثم صار إلى الأمير علم الدين سنجر الجاولي، فعرف به، وعمله دواداره وهو نائب غزة، ثم تقلبت به الأحوال حتى مات بدمشق في ربيع الأول، وشعره جيد.
وتوفي شرف الدين أبو بكر بن محمد بن الشهاب محمود كاتب السر بدمشق ومصر، في ربيع الأول.
وتوفي علم الدين سليمان بن إبراهيم بن سليمان المعروف بابن المستوفي المصري ناظر الخاص بدمشق، سابع عشرى جمادى الآخرة، عن سبعين سنة بها، وكان كاتب قراسنقر، وله شعر.
ومات الأمير طوغاي الطباخي نائب حلب وطرابلس، في شهر رمضان.
وتوفي شهاب الدين عبد اللطيف بن عز الدين عبد العزيز بن يوسف بن أبي العز، المعروف بابن المرحل، الحراني الأصل، النحوي، بالقاهرة، وقد جاوز الستين.
وتوفي الشيخ المعتقد عبد الكريم في ربيع الأول، ودفن بالقرافة.
وتوفي المسند المحدث علاء الدين علي بن قيران السكري، ومولده في سنة ثمان وخمسين وستمائة.
ومات الأمير عيسى بن فضل الله بن أخي مهنا، ولي إمرة العرب بعد موسى بن مهنا، ثم عزل بسليمان بن مهنا، ومات بالقريتين، ودفن بحمص.
وتوفي تقي الدين محمد بن القطب عبد اللطيف بن الصدر يحيى بن أبي الحسن علي ابن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام السبكي، وهو أحد الفقهاء النحاة للقراء.
وتوفي الإمام شمس الدين محمد بن العماد أحمد بن عبد الهادي بن عبد المجيد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي، في جمادى الأولى بدمشق، عن تسع وثلاثين سنة.
ومات طغاي بن سوناي بالمشرق، قتلاً.
ومات الأمير أقبغا عبد الواحد الأستادار، في محبسه بالإسكندرية، وإليه تنسب المدرسة الآقبغاوية بجوار الجامع الأزهر.
وقتل الشيخ حسن بن دمرداش بن جوبان بن بلك، بتوريز في رجب، وكان داهية صاحب حيل ومكر، وأفتى عدة كثيرة من المغل.
ومات طغاي بن سوناي. ومن أخباره أنه لما مات أبوه، ووثب بعده علي باشا خان بوسعيد، حاربه طغاي حتى قتله، فقتله إبراهيم شاه بن بارنباي، يوم عاشوراء.
سنة خمس وأربعين وسبعمائة
أهلت والعسكر في حركة اهتمام بالسفر إلى الكرك، وقد تعين الأمير بغا الفخري، والأمير قماري، والأمير طشتمر طلليه، للتوجه بهم. وألزم السلطان كل أمير مائة مقدم ألف بإخراج عشرة مماليك، ولم يوجد في بيت المال ولا الخزانة ما ينفق عليهم منه، فأخذ مالاً من تجار العجم ومن بيت الأمير بكتمر وجماعة أخرين على سبيل القرض، وأنفق فيهم.
وفي يوم السبت مستهل المحرم: قدم مبشر الحاج.
وفي يوم الثلاثاء حادي عشره: خرج المجردون إلى الكرك.
وفي رابع عشريه: قدم محمل الحاج، وقد قاسى الحاج في سفرهم مشقات كبيرة من قلة الماء وغلاء الأسعار، بحيث أبيعت الويبة من الشعير بأربعين درهماً عنها ديناران، والويبة الدقيق بخمسون درهماً، والرطل البشماط بثلاثة دراهم. وأبيع الأردب القمح في مكة بمائتي درهم، وبلغ الجمل بمنى إلى أربعمائة وخمسين درهماً، لقلة الجمال. وكان من أسباب ذلك أن الشريف عجلان بن رميثة خرج إلى جدة، ومنع تجار اليمن من عبور مكة، فعز بها صنف المتجر، وهلك كثير من مشاة الحاج.(2/102)
وفيه أقامت العساكر على محاصرة الكرك وقطع الميرة عنها، وكانت أموال الناصر أحمد قد نفذت من كثرة نفقاته، فوقع الطمع فيه. وأخذ بالغ - وهو أجل ثقاته من الكركيين - في العمل عليه، وكاتب الأمراء ووعدهم أنه يسلم إليهم الكرك، وسأل الأمان. فكتب إليه عن السلطان أمان، وقدم إلى القاهرة كما تقدم في السنة الخالية، ومعه مسعود وابن آبي الليث، وهؤلاء أعيان مشايخ الكرك، فأكرمهم السلطان وأنعم عليهم، وكتب لهم مناشير بجميع ما طلبوه من الإقطاعات والأراضي، وكانت جملة ما طلبه بالغ بمفرده نحو أربعمائة وخمسين ألف درهم في السنة، وكذلك أصحابه، ثم أعيدوا بعد ما حلفوا، وقد بلغ الناصر أحمد خبرهم، فتحصن بالقلعة، ورفع جسرها، وصاروا هم بالمدينة ومكاتباتهم ترد على العسكر. فلما ركب العسكر للحرب وخرج الكركيون، لم يكن غير ساعة حتى انهزموا منهم إلى داخل المدينة، فدخلها العسكر أفواجاً واستوطنوها، وجدوا في قتال أهل القلعة عدة أيام، والناس تنزل منها شيئاً بعد شيء، حتى لم يبق مع الناصر أحمد عشرة أنفس، فأقام يرمي بهم على العسكر. وكان الناصر أحمد قوي الرمي شجاعاً، إلى أن جرح في ثلاثة مواضع. وتمكنت النقابة من البرج، وعلقوه وأضرموا النار تحته حتى وقع. وكان الأمير سنجر الجاولي قد بالغ أشد مبالغة في الحصار، وبذل فيه مالاً كثيراً، فلما هجم العسكر على الناصر أحمد، في يوم الإثنين ثاني عشرى صفر، وجدوه قد خرج من موضع وعليه زردية، وقد تنكب قوسه وشهر سيفه. فوقفوا وسلموا عليه، فرد عليهم السلام وهو متجهم، وفي وجهه جرح وكتفه يسيل دماً. فتقدم إليه الأمير أرقطاي والأمير قماري في آخرين، فأخذوه ومضوا به إلى دهليز الموضع الذي كان به، وأجلسوه وطيبوا خاطره، وهو ساكت لا يجيبهم، فقيدوه ووكلوا بحفظه جماعة، ورتبوا له طعاماً، فأقام يومه وليلته، ومن باكر الغد تقدم إليه الطعام فلا يتناول منه شيئاً إلى أن سألوه في أن يأكل، فأبى أن يأكل حتى يأتوه بشاب كان يهواه يقال له عثمان، فأتوه به فأكل عند ذلك.
وخرج ابن الأمير بيبغا الشمسي حارس الطير بالبشارة، وعلى يده كتب الأمراء فقدم قلعة الجبل يوم السبت ثامن عشريه، فدقت البشائر سبعة أيام. ثم قدم أيضاً ابن الأمير قماري، ثم بعده أرلان ومعه النمجاه.
ثم أخرج الأمير منجك السلاح دار ليلاً من القاهرة على النجب، لقتل الناصر أحمد من غير مشاورة الأمراء، فوصل إلى الكرك. وأدخل منجك إليه من أخرج الشاب من عنده، وخنقه في ليلة رابع ربيع الأول، وقطع رأسه. وسار منجك من ليلته و لم يعلم الأمراء ولا العسكر بشيء من ذلك، حتى أصبحوا وقد قطع منجك مسافة بعيدة فقدم منجك بعد ثلاث إلى القلعة ليلاً، وقدم الرأس بين يدي السلطان، وكان ضخماً مهولاً له شعر طويل، فاقشعر السلطان عند رؤيته، وبات مرجوفاً.
وفيه طلب الأمير قبلاي الحاجب، ورسم بتوجهه لحفظ الكرك إلى أن ياتيه نائب لها، وكتب بعود الأمراء والعساكر، وكانت مدة حصار الناصر أحمد بالكرك سنتين وشهراً وثمانية أيام.
وكان جمال الكفاة قد تقدم في الدولة تقدماً زائداً، فإنه ولي الخاص ثم نظر الجيش، فباشرهما جميعاً. وتمكن في أيام السلطان الملك الصالح تمكناً عظيماً، سببه أن السلطان اشتد شغفه بجارية مولدة يقال لها اتفاق، كانت تجيد ضرب العود، وأخذته عن عبد علي العواد العجمي، فرتبه جمال الكفاة عند السلطان حتى صار يجلس معها عند السلطان.(2/103)
وكان السلطان يخشى من الأمير أرغون العلائي، ولا يتجاسر أن يبسط يده بالعطا لاتفاق، فأسر ذلك لجمال الكفاة، فصار يأتيه بكل نفيس من الجواهر وغيرها سراً، فينعم به على اتفاق. وكذلك كان السلطان قد أسر للوزير نجم الدين هواه في اتفاق، فكان أيضاً يحمل إليه في الباطن الأشياء النفيسة، ولا كما يحمله جمال الكفاة. فعلت رتبة جمال الكفاة، بحيث أن الوزير نجم الدين امتنع عن مباشرة الوزارة ما لم يكن جمال الكفاة يلاحظه. ثم رسم السلطان لجمال الكفاة أن يكون مشير الدولة، وكتب له في توقيعه الجناب العالي، بعدما امتنع علاء الدين علي بن فضل الله كاتب السر من ذلك، وتوحش ما بينهما بسببه. فرسم السلطان أن يكتب له ذلك، فعظمت رتبته، وارتفعت مكانته إلى أن تعدى طوره، وأراد أن ينخلع من زي الكتاب إلى هيئة الأمراء، وأن يكون أمير مائة مقدم ألف، ولم يبق إلا ذلك فشق على الأمراء هذا الأمر.
وكان جمال الكفاة قد تنكر عليه الأمير أرغون العلائي، بسبب إقطاع عينه لبعض أصحابه، فأجاب بأن السلطان قد أخرجه، فغضب العلائي وبعث إليه دواداره ومعه حياصة من ذهب، وأمره أن يقول له عنه: أنت ما بقيت تعطي شيئاً إلا ببرطيل، وهذه الحياطة برطيلك، خذها واقض شغل هذا الرجل فلم يسمح جمال الكفاة له بالإقطاع، وقام مع السلطان حتى عرف العلائي مشافهة بأنه هو الذي أخرج الإقطاع فأسرها العلائي في نفسه، وأخذ يغري به النائب الحاج آل ملك والأمراء، فمال معهم الوزير، وصاروا جميعهم واحداً عليه ورتبوا له مهالك ليقتلوه بها، منها أنه يباطن الناصر أحمد ويكاتبه، ويتصرف في أموال الدولة باختياره، وقد ضيعها كلها، فإنه كان ناظر الجيش ومشير الدولة، وأنه يتحدث مع السلطان في الأمراء، ويقع فيهم ويثلب أعراضهم عنده. وأخذ الوزير يعلم السلطان والعلائي بأن سائر ما يخبره السلطان به من محبته لاتفاق يخبر به الوزير، ونقل عنه من ذلك أشياء تبين للسلطان صحته. فانحطت بذلك مكانته عند السلطان، ورسم بقتله بعد أخذ ماله، فقبض عليه في يوم الأربعاء ثاني عشر صفر، وعلى أولاده وزوجته. وقبض معه على الصفي الحلي موسى كاتب قوصون وناظر البيوت، وعلى الموفق عبد الله بن إبراهيم ناظر الدولة.
ونزل المجدي إلى بيت جمال الكفاة، وأوقع الحوطة عليه بما فيه، ونزل تمر الموساوي فأوقع الحوطة على بيت الصفي، وعني الوزير بالموفق فلم يعاقب. ونوعت العقوبات لجمال الكفاة والصفي، وضربت أولاد جمال الكفاة وهو يراهم ضرباً مبرحاً بالمقارع، وعصرت نساؤه ونساء الصفي وأخذت أموالهم. فرفع خالد المقدم قصة للسلطان ذكر فيها أنه إن شد وسطه، وأقيم في التقدمة، أظهر لهم مالاً كثيراً من مال جمال الكفاة.. فطلب ورسم بشد وسطه، ونزل إليهم، فأظهر لجمال الكفاة بتهديده إياه صندوقاً فيه ما قيمته نحو عشرين ألف دينار خالد، وكان مودعاً بعض جيرانه بالمنشية، ولم يظهر له بعد ذلك شيء.
وفيه خلع على الضياء المحتسب، واستقر في نظر الدولة عوضاً عن الموافق، على كره منه لذلك.
وفيه قدم الأمراء من تجريدة الكرك، فاشتدت العقوبة على جمال الكفاة خشية من الشفاعة فيه، وضرب مائة وعشرين شيباً، وسلم لخالد المقدم فخنقه في ليلة الأحد سادس ربيع الأول، ودفن في يوم الأحد بجوار تربة ابن عبود. فكانت مدة مصادرته أحداً وعشرين يوماً، ومدة مباشرته خمس سنين وشهراً وأيام. وعوقب الصفي موسى عقوبة عظيمة، وعصر في أصداغه، وضرب بالمقارع حتى أنتن بدنه كله، فلم يمت. وأفرج عن الموفق بواسطة الوزير، وخلع عليه في اليوم المذكور، واستقر في نظر الخاص، بعد ما عين العلائي علم الدين عبد الله بن تاج الدين أحمد بن إبراهيم بن زنبور مستوفي الصحبة لنظر الخاص، فلم يتهيأ له لسفره ببلاد الشام.
وفيه خلع على أمين الدين إبراهيم بن يوسف السامري كاتب طشتمر، واستقر في نظرالجيش.
وفيه خلع على علم الدين بن مهلول، واستقر في نظر الدولة عوضاً عن الضياء المحتسب، لاستعفائه وعدم تناوله معلوم النظر، وأعيد الضياء المحتسب إلى نظر المارستان.
وفي يوم الخميس سابع عشره: كان وفاء النيل ستة عشر ذراعاً.(2/104)
وفيه قدم البريد من حلب باتفاق فياض وابن دلغادر أمير الأبلستين بمحاصرة قلعة طرنده، وأخذها من أرتنا وبها أمواله، ثم سيرهما إلى حلب. وطلب نائب حلب تجريد العسكر إليه، فرسم بتوجه الأمير مكتمر الحجازي، والوزير نجم الدين محمود، والأمير طرنطاي الحاجب، وخمسين مقدماً من مقدمي الحلقة، بألف فارس من أجناد الحلقة، وجهزت نفقاتهم، ثم بطلت التجريدة.
وتوقفت أحوال الدولة من كثرة الإنعامات والإطلاقات للخدام والجواري، ومن يلوذ بهم ومن يعنون به، فكثرت شكاية الوزير من ذلك. وكتب أوراق بكلف الدولة ومتحصلها، فكانت الكلف ثلاثين ألف ألف درهم في السنة، والمتحصل خمسة عشر ألف ألف درهم. وقرئت الأوراق على السلطان والأمراء، فرسم أن يستقر الحال على ما كان عليه إلى حين وفاة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، وبطل ما استجد بعده، وأن تقطع توابل الأمراء والكتاب حتى الكماج السميذ. فعمل بدلك شهر واحد، وعادت الرواتب على ما كانت عليه حتى بلغ مصروف الحوائج خاناه في كل يوم إثنين وعشرين ألف درهم، بعد ما كانت في الأيام الناصرية ثلاثة عشر ألف درهم.
وبينا النائب جالس يوماً إذ قدم له مرسوم عليه علامة السلطان، براتب لحم وتوابل وكماجتين عيد، باسم ابن علم الدين. فقال النائب لصاحب المرسوم: ويلك، أنا نائب السلطان قد قطعت الكماجة التي لي، فعسى بجاهك تخلص لي كماجة، وتزايد الأمر في ذلك، فلم يمكن أحد رفعه وفيه خلع على الأمير ملكتمر السرجواني، واستقر في نيابة الكرك، وجهز معه عدة صناع لعمارة ما انهدم من قلعتها، وإعادة البرج إلى ما كان عليه. ورسم أن يخرج معه مائة من مماليك قوصون وبشتاك الذين كان الناصر أحمد أسكنهم بالقلعة بالقاهرة، ورتب لهم الرواتب، وأن يخرج منهم مائتان إلى دمشق وحمص وحماة وطرابلس وصفد وحلب. فأخرجوا جميعاً في يوم واحد، ونساؤهم وأولادهم في بكاء وعويل، وسخروا لهم خيول الطواحين ليركبوا عليها، فكان يوماً شنيعاً.
وقدم الخبر من ماردين بأن فياض بن مهنا فارق ابن دلغادر، وقصد بلاد الشرق ليقوي عزم المغل على أخذ بلاد الشام. فمنعه صاحب ماردين من ذلك، وشفع إلى السلطان فيه أن يرد إليه إقطاعه الذي كان بيده قبل الإمرية، فقبلت شفاعته، وكتب برد إقطاعه المذكور.
وفيه كتب بطلب الأمير سيف بن فضل على البريد.
وفيه قام الأمير ملكتمر الحجازي في خلاص الصفي موسى كتاب قوصون حتى أفرج عنه، وخلع عليه واستقر في ديوانه، بعدما أشرف على الهلاك.
وفيه أفرج أيضاً عن أهل الأمير سيف الدين أيتمش الناصري واستقر في الوزارة عوضاً عن جمال الكفاة.
وفي خامس عشر ربيع الآخر: خلع على الأمير نجم الدين محمود وزير بغداد، بطلبه الإعفاء لتوقف الحال.
وفيه قدم الخبر بوفاة حديثة بن مهنا، وأن أخاه فياض بن مهنا سار عن ماردين وكبس سيف بن فضل أمير الملا، فقتل جماعة من أصحابه، ونهب أمواله، وأسر أخاه.
وفيه تنكر الأمير أرغون العلائي والأمير ملكتمر الحجازي على الأمير آل ملك النائب، بسبب أنه كان إذا قدم إليه منشور أو مرسوم بمرتب ليكتب عليه بالاعتماد ينكره من ذلك، وإذا سأله أحد إقطاعاً أو مرتباً قال له: يا ولدي رح إلى باب الستارة أبصر طواشي، أو توصل لبعض المغاني تقضي حاجتك ودله بعض العامة على موضع تباع فيه الخمر والحشيش، فأحضر أولئك الذين يبيعونهما، وضربهم في دار النيابة بالقلعة بالمقارع، وشهرهم، وخلع على ذلك العامي، وأقامه عنه في إزالة المنكر، فصار يهجم البيوت لأخذ الخمور منها.
فلما كان يوم الإثنين ثامن عشرى ربيع الآخر. خلع على شجاع الدين غرلو، واستقر في ولاية القاهرة، عوضاً عن نجم الدين. فمنع شجاع الدين ذلك الرجل العامي من التعرض للناس، وأدبه. فطلبه الأمير الحاج آل الملك النائب، وأنكر عليه منعه له فأحضر ذلك الرجل من الغد رجلاً معه جرة خمر، فكشف النائب رأسه وصبها عليه، وحلق لحيته على باب القلعة بحضرة الأمراء، فعابوا عليه ذلك. وأخذ الأمير أرقطاي يلوم الأمير الحاج آل ملك النائب، وينكر عليه، فتفاوضا في الكلام، وافترقا على غير رضى.(2/105)
واتفق أن الأمير ملكتمر الحجازي كان مولعاً بالخمر، ويحمل إليه الخمر على الجمال إلى القلعة. فمرت الجمال بالنائب وهو بشباك النيابة، فبعث نقيباً لينظر أين تدخل، ويأتيه بالجمال. فلما دخلت الجمال بيت الحجازي، وتسلم الشربدار ما عليها، وقد فطن الجمال بالنقيب، تغيب في داخل البيت، وعرف الأمير ملكتمر الحجازي الخبر فأحضر الأمير ملكتمر النقيب، وضربه ضرباً مؤلماً، فقامت قيامة الأمير الحاج آل ملك النائب، وتحدث مع الأمير أرغون العلائي في الخدمة، وأنكر على الحجازي تعاطيه الخمر. فأتاه الحجازي وفاوضه مفاوضة كثيرة، وقام مغضباً، والأمير أرغون العلائي ساكت، فلم يعجب النائب من العلائي سكوته، وانفضوا على غير رضى، فطلب النائب الإذن في سفره إلى الحجاز، فرسم له بذلك ثم منع منه، وترضاه السلطان حتى رضي وأبطل حركته للحج.
واتفق أن حسن بن الرديني الهجان قتل ليلاً في بيته بسوق الخيل من منسر كبس عليه، وقد خرج السلطان إلى سرحة سرياقوس، فاتهم ولده بذلك عيسى بن حسن الهجان وبالغاً الأعرج، لعداوة بينهما وبين أبيه، فقبض عليهما إلى النائب، فعراهما وأ!راد أن يضربهما بالمقارع فمازالا به حتى أمهلهما أياماً عينها، ليكشفوا عن القاتل، فسعيا بالأمراء حتى أفرج عنهما معارضة للنائب، ومنع من طلبهما. وأنعم على ولد حسن بإقطاع أبيه ووظيفته، فاشتد حنق النائب، وأطلق لسانه بالكلام.
وفيه قدم سيف بن فضل، فأكرمه السلطان، وكتب إلى نائب الشام بالقبض على أحمد بن مهنا إذا قدم عليه. وكان فياض قد بعثه ليأخذ له الأمان من السلطان، فيوم قدم دمشق أمسك هو وابن أخيه، وحبسا بالقلعة ترضية للأمير سيف. فجمع فياض عربه يريد أخذ دمشق، فجرد النائب له عشرة أمراء، فرجع عن مقصده. وبلغ ذلك الأمير أقسنفر الناصري نائب طرابلس، فشق عليه سجن أحمد بن مهنا، فإنه كتب فيه للسلطان، وأنه ضمن دركه ودرك فياض. فأجيب أقسنقر بقبول شفاعته، ورسم بحضورهما إلى مصر، فاتفق من مكة ما اتفق.
وقدم الخبر بنفاق عربان الوجه القبلي، وقطعهم الطرقات على الناس، وامتداد الفتن بينهم نحو شهرين قتل فيها خلق عظيم، وأن عرب الفيوم أغار بعضهم على بعض، وذبحوا الأطفال على صدور أمهاتهم، فقتل بينهم قتلى كثيره. وأخربوا ذات الصفا، ومنعوا الخراج في الجبال، وقطعوا المياه حتى شرق أكثر بلاد الفيوم، فلم يلتفت أمراء الدولة لذلك، لشغلهم بالصيد ونحوه.
وفيه نقل غرلو من ولاية القاهرة إلى سد الدواوين، والدولة في غاية التوقف. فاستجد غرلوا من الحوادث أن من طلب ولاية، أو شد جهة، يحمل مالاً بحسب وظيفته إلى بيت المال. وعرف غرلو السلطان أن هذا المال كان يحمل للناظر والمباشرين، وأنه تنزه عن ذلك، وأظهر نهضة وأمانة.
وفيه قدم الخبر بكثرة فساد العشير ببلاد الشام، وقطعهم الطرقات، لقلة حرمة الأمير طقزدمر نائب الشام. فانقطعت طرقات طرابلس وبعلبك، ونهبت بلادهما. وامتدت الفتنة بين العشير زياده على شهر، قتل فيها خلق كثير. ونحروا الأطفال على صدور أمهاتهم، وأضرموا النار على موضع احترق فيه زيادة على عشرين امرأة.(2/106)
وفيه توقفت أحوال القاهرة من جهة الفلوس، وتحسن سعر أكثر المبيعات. وذلك أن المعاملة بالفلوس كانت بالعدد، فكثر فيها الفلوس الخفاق وانتدب جماعة لشراء النحاس الخلق بدرهمين الرطل، وقصه فلوسا خفافاً، فبلغ الرطل منها عشرين درهماً. وصار الرصاص يقطع على هيئة الفلوس، ويخلط بها. وجلب كثير من فلوس الشام وهي واسعة، فكانت تقطع ست قطع كل منها فلس، إلى أن أفحش ذلك، وكثر التعنت فيها. فطلب السلطان المحتسب والوالي وأنكر عليهما، فقبضا على كثير من الباعة، وضربوا عدة منهم بالمقارع وشهروهم، فتحسنت الأسعار كلها. فألزم المحتسب سماسرة الغلال ألا يزيدوا في سعر الغلة شيئاً، فلم يتجاسر أحد منهم أن يزيد شيئاً في السعر. ثم نودي ألا يؤخذ من الفلوس إلا ما عليه سكة السلطان، وما عدا ذلك يؤخذ بحساب كل رطل درهمين، ولا يقبل فيه نحاس ولا رصاص. فشريت الفلوس، وأخذ منها ما عليه السكة السلطانية، وتعامل الناس بها عدداً، ووزنوا في المعاملة الفلوس الخفاف بالرطل على حساب درهمين كل رطل، ففقدت بعد قليل. ثم ألزم الناس بحمل ما عندهم من الفلوس إلى دار الضرب، فضربت فلوساً جدداً. و لم يكن في الدولة حاصل يحمل لدار الضرب، كما هي العادة، لتوقف أمرها.
وفيه قدم الأمير جركتمر الحاجب من كشف الغلال، وقد حصل من متوفر غلال العربان ببلاد الشام أربعمائة ألف وخمسين ألف درهم.
وفيه توجه السلطان إلى سرياقوس على العادة.
وفيه قبض على المقدم خالد، ووقعت الحوطة على موجوده، وأخذ لسوء سيرته.
وفيه قدم رسول ابن دلغادر، وأخوه وابن عمه، بكتابه، وأنعم عليه بزيادة من أراضي حلب.
وفي نصف شعبان: قدمت الحرة، أخت صاحب الغرب في جماعة كثيرة، وعلى يدها كتاب السلطان أبي الحسن يتضمن السلام، وأن يدعوا لها الخطباء في يوم الجمعة في خطبهم، ومشايخ الصلاح وأهل الخير، بالنصر على عدوهم، وأن يكتسب لأهل الحرمين بذلك. وذلك أن في السنة الخالية كانت بينه وبين الفرنج وقعة عظيمة، قتل فيها ولده، ونصره الله بمنه على العدو، وقتل كثيراً منهم، وملك منهم الجزيرة الخضراء. فعمر الفرنج مائتي شيني، وجمعوا طوائفهم وقصدوا المسلمين بالجزيرة، وأوقعوا بهم عي حين غفلة. فاستشهد عالم كبير، ونجا أبو الحسن في طائفة من ألزامه بعد شدائد. وملك الفرنج الجزيرة، وأسروا وسبوا وغنموا شيئاً يجل وصفه، ثم مضوا إلى جهة غرناطة، ونصبوا عليها مائة منجنيق، حتى صالحهم أهلها على قطيعة يقومون بها، وتهادنوا مدة عشر سنين.
وقدمت رسل البنادقة من الفرنج بهدية، وسألوا الرفق بهم والمنع من ظلمهم، وألا يؤخذ منهم إلا ما جرت به عادتهم، وأن يمكنوا من بيع بضائعهم على من يختارونه.
فرسم لناظر الخاص ألا يتعرض لبضائعهم ولا يأخذ منها شيئاً إلا بقيمته ولا يلزمهم بشراء ما لا يختارون شراءه وأن يأخذ منهم على كل مائة دينار ديناران وكانوا يؤدون عن المائة أربعة دنانير ونصف دينار ليكثر الفرنج من بلادهم جلب البضائع.
وفي مستهل شهر رمضان: توقفت أحوال الدولة في كل شيء، وعجز الوزير عن لحم المعاملين وجوامك المماليك وسكرهم الجاري به العادة في شهر رمضان. وكان السكر الجاري في الأيام الناصرية محمد بن قلاوون ألف قنطار فبلغ في هذا الشهر ثلاثة آلاف قنطار ونيف، ولم يوجد في بيت المال شيء لكثرة الزيادات في الرواتب. وعز وجود السكر لتلاف القصب فيما مضى فرسم بقطع راتب الأمراء والمماليك وأرباب الوظائف كلهم ولم يصرف سكر إلا لنساء السلطان فقط وكتبت أوراق بكلف الدولة فمنع جميع ما استجد بعد السلطان الناصر محمد وكتب بذلك مرسوم سلطاني، فتوفر في كل يوم أربعة آلاف رطل لحم، وستمائة كماج سميذ، وثلاثمائة أردب شعير، وفي كل شهر مبلغ ألف درهم، وفي السنة عدة كساوى. وأضيف سوق الخيل والجمال والحمير إلى الدولة، وعوض مقطوعها بأرض سيلا من أعمال الفيوم، وبناحية سمنديون من القليوبية، وبناحية فيشة من الغربية خلا ماهو فيها لقضاة القضاة، عوضاً عما كان لهم على الجوالي.
وفي هذا الشهر: خلع علي تقي الدين سليمان بن علي بن عبد الرحيم بن سالم بن مراحل، واستقر في نظر دمشق وكان قد طلب إلى مصر عوضاً، عن المكين إبراهيم ابن قروينة باستعفائه.(2/107)
وفيه كتب بنقل ناصر الدين محمد بن المحسني من طرابلس إلى دمشق، واستقراره في وظيفة الشد رفيقاً لابن مراحل. فضبطا الجهات ضبطاً كبيراً، وقطعا من موقعي دمشق نحو العشرين قد استجدوا ومنهم ابن الزملكاني وابن غانم وابن الشهاب محمود وأولاده وجمال الدين بن نباتة المصري وقطعا كثيراً من البريدية، وحملا كسوة المماليك على العادة، وهي ألفا ثوب بعلبكي سوى البطائن وغيرها.
وفيه مات بدوه الططري، ففرق إقطاعه على ثمانين من المماليك السلطانية ووفرت جوامكهم ورواتبهم، وأخرج عدة منهم إلى الكرك.
وفيه رسم بعرض أجناد الحلقة على النائب، ليوفر منهم إقطاع الشيخ العاجز والجندي المستجد. فطلب الأجناد من الأقاليم، ونودي من تأخر عن العرض قطع خبزه، فقام الأمراء في ذلك حتى بطل.
وفي يوم الخميس تاسع عشريه: أفرج عن الأمير بيغرا، وعن الأمير قراجا والأمير أولاجا، من سجن الإسكندرية، وتوجهوا إلى دمشق. ثم رسم لبيغرا بالإقامة بالقاهرة، وأنعم عليه بتقدمة ألف.
وفيه رسم أن تكون نفقة المماليك والأوجاقية والأيتام بين يدي الطواشي المقدم فوفر منهم عدة.
وفيه أنعم على الأمير طرنطاي البشمقدار بإقطاع الأمير علم الدين سنجر الجاولي، بعد موته.
وفيه أنعم بإقطاع طرنطاي على الأمير بيبغا ططر نائب غزة، ورسم بحضوره.
وفيه خلع على الأمير علم الدين أيدمر الزراق، واستقر في نيابة غزة، وأنعم بإقطاعه على ابن بكتمر الساقي.
وفيه أنعم بإقطاع الأمير ألطنقش، بعد موته، على أرغون الصغير صهر أرغون العلائي.
وفيه توجه ركب الحاج على العادة، صحبة الأمير طيبغا المجدي.
وفي مستهل ذي القعدة: قدمت خوند بنت الأمير طقزدمر نائب الشام، وزوجة السلطان الصالح إسماعيل، فدخل عليها.
وفي يوم الإثنين حادي عشريه: عزل الضياء أبو المحاسن يوسف بن أبي بكر بن محمد ابن خطيب بيت الآبار الشامي، من نظر المارستان المنصوري، واستقر عوضه علاء الدين بن الأطروش.
وفي يوم السابع من ذي الحجة: انفرد العلم بن سهلول بوظيفة نظر الدولة، بعد ما التزم بحمل ألف دينار لبيت المال.
وفيه عزل موسي بن التاج إسحاق، لتوقف حال الدولة، وكثرة تقلقه وكراهة الناس له، لظلمه وتغييره قواعد كثيرة.
وفيه قدم كتاب التاج محمد بن محمد بن عبد المنعم البارنباي موقع طرابلس بحدوث سيل عظيم، لم يعهد مثله فيما تقدم.
وفيها كثر سقوط الثلج بدمشق حتى خرج عن العادة، وأنفقوا على شيله من الأسطحة ما ينيف على ثمانين ألف درهم، فإنه أقام يسقط أسبوعين.
وفيها زاد عاصفة حتى خرب عدة بيوت وفيها تواتر سقوط البرد بأرض مصر، مع ريح سوداء، وشعث عظيم، وبرق ورعد سهول. ثم أعقب ذلك عالم شديدة الحر، بحيث تطاير منها شرر أحرق رءوس الأشجار، وزريعة الباذنجان وبعض الكتان، حتى اشتد خوف الناس، وضجوا إلى الله تعالى. وجاء مطر غزير، ثم برد فيه يبس لم يعهد مثله، فكانت أراضي النواحي تصبح بيضاء من كثرة الجليد، وهلك من شدة البرد جماعة من بلاد الصعيد وغيرها. وأمطرت السماء خمسة أيام متوالية حتى ارتفع الماء في مزارع القصب قدر ذراع، وعم ذلك أرض مصر قبليها وبحريها، ففسدت بالريح والمطر مواضع كثيرة، وقلت أسماك بحيرة نستراوة وبحيرة دمياط، والخلجان وبركة الفيل وغيرها، لموتها من البرد.
فتلفت في هذه السنة بعامة أرض مصر وجميع بلاد الشام بالأمطار والثلوج والبرد، وهبوب السمائم وشدة البرد، من الزروع والأشجار، والبائهم والأنعام والدور، ما لا يدخل تحت حصر، مع ما ابتلي به أهل الشام من تجريد عساكرها وتسخير أهل الضياع وتسلط العربان والعشير، وقلة حرمة السلطنة مصراً وشاماً، وقطع الأرزاق وظلم الرعية. وبلغت زيادة النيل في هذه السنة ثمانية عشر ذراعاً وسبعة عشر إصبعاً.
وفيه قدم سيف الدين بلطوا مبشراً بسلامة الحجاج، في خامس عشرى ذي الحجة.
ومات فيها من الأعيان
إبراهيم بن أحمد بن إبراهيم بن الزبير الغرناطي في شعبان، ببرشانة من الأندلس، قدم القاهرة، وأخذ عن جماعة، وولي ببلده قضاء عدة مواضع.
وتوفي قاضي القضاة الحنفية بدمشق جلال الدين أحمد بن الحمام أبي الفضائل الحسن بن أحمد بن الحسن بن أنوشروان الرازي، عن بضع وسبعين سنة بدمشق.(2/108)
ومات الأمير بدر الدين بكتاش نقيب الجيش، في يوم الخميس سابع عشرى جمادى الآخرة، وكان مشكوراً.
ومات الأمير علم الدين سنجر الجاولي الفقيه الشافعي، في يوم الخميس ثامن رمضان، ودفن بمدرسته فوق جبل الكبش، أصله من مماليك جاول أحد أمراء السلطان الظاهر بيبرس، ثم انتقل بعده إلى بيت السلطان المنصور قلاوون. وأخرج في أيام الأشرف خليل إلى الكرك، فاستقر في بحريتها. وقدم في أيام السلطان العادل كتبغا إلى مصر بحال زري، فسلمه كتبغا إلى مملوكه بتخاص، ليكون نائبه بالحوائج خاناه، وتنقل حتى قدمه الأمير سلار وقربه، ثم ولي نيابة غزة، وصار من أكبر أمراء مصر. وله مدرسة على جبل الكبش بجوار جامع ابن طولون، وجامع بقرية الخليل عليه السلام، وجامع بغزة، ومارستان وخان ببيان، وخان بقاقون، وله مصنفات وفضائل كثيرة.
ومات الأمير طقصبا الظاهري، وقد أناف على مائة وعشرين سنة.
ومات الأمير ألطنقش أستادار السلطان الناصر محمد، وهو من مماليك الأفرم. فلما توجه الأفرم إلى بلاد التتار قدم هو إلى القاهرة، فقبض عليه وسجن، ثم أفرج عنه، وأنعم عليه بإمرية طبلخاناه. ثم عمل أستاداراً صغيراً، مع أستادارية آنوك ابن السلطان الناصر محمد.
ومات الأمير أرغون عبد الله.
ومات الأمير صلاح الدين يوسف بن أسعد الدوادار الناصري، بطرابلس، ولي نيابة الإسكندريه، وكشفت الجيزة، ثم دوادارية السلطان الناصر محمد، وكان كاتباً شاعراً ضابطاً.
ومات الأمير سنجر الجقدار أحد المماليك المنصورية، وقد أسن.
ومات محمد شرف الدين الرديني الهجان، قتلاً.
ومات الأمير طرنطاي المحمدي بدمشق، وهو أحد المماليك المنصورية قلاوون، ومن جملة من وافق على قتل الأشرف خليل. وسجن سبعاً وعشرين سنة، ثم أخرج إلى طرابلس أمير عشرة، ثم نقل إلى دمشق.
ومات الأمير بكتمر العلائي أحد المنصورية أيضاً، بعدما ولي أستاداراً ونائب حمص، ونائب غزة، ثم نائب حمص، وبها مات.
ومات الأمير كندغدي الزراق المنصوري بحلب، وهو رأس الميسرة، ومقدم العساكر المجردة إلى سيس.
ومات الأمير بلبان الشمسي أحد المنصورية، بحلب.
ومات فتح الدين صدقة الشرابيني، عن مال ومعروف كثير، في يوم الأحد ثاني شوال.
ومات جمال الكفاة إبراهيم مشير الدولة وناظر الخاص والجيش، تحت العقوبة في ليلة الأحد سادس ربيع الأول. وكان أولاً يباشر في بعض البساتين على بيع ثمرته، وتنقل في خدمة ابن هلال الدولة. ثم خدم بيدمر البدري وهو خاصكي خبزه في محلة منوف يكتب على باب إلى أن تأمر، فباشر عنده ثم قرره السلطان الملك الناصر محمد في الاستيفاء، ثم أقامه في ديوان الأمير بشتاك بعد موت المهذب إلى أن قتل النشو، فولاه نظر الخاص بعده. ثم أضاف إليه السلطان الناصر محمد نظر الجيش، عوضاً عن المكين إبراهيم، فنهض بهما. ولاحظته السعود حتى انتقضت أيامه، فزال سعده، وعوقب حتى هلك. وكان يتحدث بالتركي والنوبي والتكروري وله مكارم كثيرة.
ومات خالد بن الزراد المقدم، في يوم الجمعة ثامن عشرى جمادى الآخرة، تحت العقوبة، وكان ظالماً.
وتوفي شمس الدين محمد بن أبي بكر بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن نجدة بن حمدان المعروف بابن النقيب الشافعي، قاضي القضاة بحلب، وهو معزول بدمشق، عن نيف وثمانين سنة.
وتوفي الشيخ أثر الدين أبو حيان محمد بن يوسف بن علي بن حيان الأندلسي، إمام وقته في النحو والقراءات والآداب في ثامن عشرى صفر.
وفيه توجه طلب الأمير أرغون الكاملي إلى حلب.
وفيه قدم طلب الأمير أرقطاي مع ولده.
وفي يوم الخميس مستهل شعبان: خرج الأمير قبلاي الحاجب بمضافيه من الطبلخاناه والعشرات إلى غزة، لأحد شيوخ العشير.
وفي هذا الشهر: غير الوزير ولاة الوجه القبلي، وكتب بطلبهم، وعزل مازان من الغربية بابن الدواداري.
وفيه أضيف كشف الجسور إلى ولاة الأقاليم.(2/109)
وفيه أعيد فأر السقوف إلى ضماد جهات القاهرة ومصر بأجمعها، وكان قد سجن في الأيام الناصرية محمد بن قلاوون، وكتب على قيده مخلد، بعد ما صودر وضرب بالمقارع لقبح سيرته. فلم يزل مسجوناً إلى أن أفرج عن المحابيس في أيام الصالح إسماعيل، فأفرج عنه في جملتهم، وانقطع إلى أن اتصل بالوزير منجك واستماله، فسلمه الجهات بأسرها، وخلع عليه، ومنع مقدمي الدولة من مشاركته في التكلم في الجهات، ونودي له في القاهرة ومصر، فزاد في المعاملات ثلاثمائة ألف درهم في السنة.
وفيه قدم الأمير قبلاي غزة، فاحتال على أدي حتى قدم عليه، فأكرمه وأنزله، ثم رده بزوادة إلى أهله فاطمأنت العشرات والعربان لذلك، وبقوا على ذلك إلى أن أهل رمضان. حضر أدي في بني عمه لتهنئة قبلاي بشهر الصوم فساعة وصوله إليه قبض عليه وعلى بني عمه الأربعة، وقيدهم وسجنهم، وكتب إلى علي بن سنجر. بأني قد قبضت على عدوك ليكون لي عندك يد بيضاء فسر سنجر بذلك، وركب إلى قبلاي، فتلقاه وأكرمه، فضمن له سنجر درك البلاد. ورحل قبلاي من غده ومعه أدي وبنو عمه يريد القاهرة، فقدم في يوم الإثنين حادي عشره، فضربوا على باب القلة بالمقارع ضرباً مبرحاً وألزم أدي بألف جمل ومائتي ألف درهم، فبعث إلى قومه بإحضارها، فلما أخذت سمر هو وبنو عمه في يوم الإثنين خامس عشريه وقت العصر، وسيروا إلى غزة صحبة جماعة من أجناد الحلقة، فوسطوا بها. فثار أخو أدي، وقصد كبس غزة، فخرج إليه الأمير دلنجي ولقيه على ميل من غزة، وحاربه ثلاثة أيام، وقتله في اليوم الرابع بسهم أصابه، وبعث دلنجي بذلك إلى الفاهرة، فكتب بخروج نائب صفد ونائب الكرك لنجدته.
وفي مستهل شوال: توجه السلطان إلى الأهرام على العادة.
وفيه كثر الإنكار على الوزير منجك، فإنه أبطل سماط العيد، واحتج بأنه يقوم بجملة كبيرة تبلغ خمسين ألف درهم، وتنهبه الغلمان، وكان أيضاً قد أبطل سماط شهر رمضان.
وفي هذا الشهر: فرغت القيسارية التي أنشأها تاج الدين المناوي، بجوار الجامع الطولوني، من مال وقفه، وتشتمل على ثلاثين حانوتاً.
وفيه خرج ركب الحاج على العادة، صحبة الأمير فارس الدين، ومعه عدة من مماليك الأمراء. وحمل الأمير فارس الدين معه مالاً من بيت المال، ومن مودع الحكم، لعمارة عين جوبا بمكة، ومبلغ عشرة ألاف درهم للعرب بسبب العين المذكورة، ورسم أن تكون مقررة لهم في كل سنة. وخرج معه حاج كثير جداً، وحمل الأمراء من الغلال في البحر إلى مكة عدة ألاف أردب.
وفي مستهل ذي القعدة: قدم كتاب الأمير دلنجي نائب غزة بتفرق العربان، ونزول أكثرهم بالشرقية والغربية من أرض مصر، لربط إبلهم على البرسيم. فكبست البلاد عليهم، وقبض على ثلاثمائة رجل، وأخذ لهم ثلاثة ألاف جمل. ووجد عندهم كثير من ثياب الأجناد وسلاحهم وحوائصهم، فاستعمل الرجال في العمائر حتى هلك أكثرهم.
وفي نصفه: خرج الأمراء لكشف الجسور، فتوجه الأمير أرنان للوجه القبلي، وتوجه أمير أحمد قريب السلطان للغربية، وتوجه الأمير أقجبا للمنوفية، وتوجه أراي أمير أخور للشرقية، وتوجه أحد أمراء العشرات لأشمون.
وفيه توقف حال الدولة، فكثر الكلام من الأمراء والمماليك السلطانية والمعاملين والخوشكاشية وفيه طلب الأمير مغلطاي أمير أخور زيادة على إقطاعه، فكشف عن بلاد الخاص، فدل ديوان الجيش على أنه لم يتأخر منها سوى الإسكندرية ودمياط وقوة وفارس كور، وخرج باقيها للأمراء، وخرج أيضاً من الجيزة ما كان لديوان الخاص للأمراء. وشكا الوزير من كثرة الكلف والإنعامات، وأن الحوائج خاناه في الأيام الناصرية محمد ابن قلاوون مرتبها في كل يوم ثلاثة عشر ألف درهم، وهو اليوم اثنان وعشرون ألف درهم. فرسم بكتابة أوراق بمتحصل الدولة ومصروفها، فبلغ المتحصل في السنة عشرة ألاف ألف درهم، والمصروف بديوان الوزارة وديوان الخاص أربعة عشر ألف ألف درهم وستمائة ألف درهم، وأن الذي خرج من بلاد الجيزة على سبيل الإنعام زيادة على إقطاعات الأمراء نحو ستين ألف دينار. فتغاضى الأمراء عند سماع ذلك إلا مغلطاي أمير آخور، فإنه غضب وقال: من يحاقق الدواوين على قولهم؟.
وفيه قدم طلب الأمير قطليجا الحموي من حلب، فوضع الوزير منجك يده عليه، وتصرف بحكم أنه وصي.(2/110)
وفيه قدم الأمير عز الدين أزدمر الزراق من حلب، باستدعائه، بعد ما أقام بها مدة سنة من جملة أمراء الألوف، فأجلس مع الأمراء الكبار في الخدمة.
وفيه أخرج ابن طقزدمر إلى حلب، لكثرة فساده وسوء تصرفه.
وفيه خرج الأمير طاز لسرحة البحيرة، وأنعم عليه من مال الإسكندرية بألفي دينار.
وخرج الأمير صرغتمش أيضاً، فأنعم عليه منها بألف دينار.
ثم توجه الأمير بيبغا روس النائب للسرحة، وأنعم عليه بثلاثة ألاف دينار. وتوجه الأمير شيخو أيضاً، ورسم له بثلاثة ألاف دينار.
وفيه أنعم على الأمير مغلطاي أمير أخور إرضاء لخاطره بناحية صهرجت زيادة على إقطاعه، وعبرتها عشرون ألف دينار في السنة.
فدخل الأمير شيخو في سرحته إلى الإسكندرية، فتلقته الغزاة بآلات السلاح، ورموا بالجرخ بين يديه، ونصبوا المنجنيق ورموا به. ثم شكوا له ما عندهم من المظلمة، وهي أن التاج إسحاق ضمن دكاكين العطر، وأفرد دكاناً لبيع النشا فلا تباع بغيرها، وأفرد دكاناً لبيع الأشربة فلا تباع بغيرها، وجعل ذلك وقفا على الخانكاه الناصرية بسرياقوس. فرسم بإبطال ذلك، وأطلق للناس البيع حيث أحبوا، وكتب مرسوم بإبطال ذلك.
وفي مستهل ذي الحجة: عوفي علم الدين عبد الله بن زنبور، وخلع عليه، بعد ما أقام أربعين يوماً مريضاً، تصدق فيها بثلاثين ألف درهم، وأفرج عن جماعة من المسجونين.
وفيه كتب الموفق ناظر الدولة أوراق بما استجد على الدولة، من وفاة السلطان الناصر محمد بن قلاوون إلى المحرم سنة خمسين وسبعمائة، فكانت جملة ما أنعم به وأقطع من بلاد الصعيد وبلاد الوجه البحري وبلاد الفيوم، وبلاد الملك، وأراضي الرزق - للخدام والجواري وغيرهن سبعمائة ألف ألف أردب، وألف ألف وستمائة ألف درهم، معينة بأسماء أربابها من الأمراء والخدام والنساء، وعبرة البلد ومتحصلها، وجملة عملها وقرئت على الأمراء، ومعظم ذلك بأسمائهم، فلم ينطق أحد منهم بشيء.
وفيه أبطل الوزير منجك سماط عيد النحر أيضاً.
وفيها أبطل ما أحدثه النساء من ملابسهن. وذلك أن الخواتين نساء السلطان وجواريهن أحدثن قمصاناً طوالاً تخب أذيالها على الأرض، بأكمام سعة الكم منها ثلاثة أذرع، فإذا أرخته الواحدة منهن غطى رجلها، وعرف القميص منها فيما بينهن بالبهطلة، ومبلغ مصروفه ألف درهم مما فوقها. وتشبه نساء القاهرة بهن في ذلك، حتى لم يبق امرأة إلا وقميصها كذلك. فقام الوزير منجك في إبطالها، وطلب والي القاهرة ورسم له بقطع أكمام النساء، وأخذ ما عليهن.
ثم تحدث منجك مع قضاة القضاة بدار العدل يوم الخدمة بحضرة السلطان والأمراء فيما أحدثه النساء من القمصان المذكورة، وأن القميص منها مبلغ مصروفه ألف درهم، وأنهن أبطلن لبس الإزار البغدادي، وأحدثن الإزار الحرير بألف درهم، وأن خف المرأة وسرموزتها بخمسمائة درهم. فأفتوه جميعهم بأن هذا من الأمور المحرمة التي يجب منعها، فقوي بفتواهم، ونزل إلى بيته، وبعث أعوانه إلى بيوت أرباب الملهى، حيث كان كثير من النساء، فهجموا عليهن، وأخذوا ما عندهن من ذلك.
وكبسوا مناشر الغسالين ودكاكين البابية، وأخذوا ما فيها من قمصان النساء، وقطعها الوزير منجك. ووكل الوزير مماليكه بالشوارع والطرقات، فقطعوا أكمام النساء، ونادى في القاهرة ومصر بمنع النساء من لبس ما تقدم ذكره، وأنه متى وجدت امرأة عليها شيء مما منع أخرق بها وأخذ ما عليها.
واشتد الأمر على النساء، وقبض على عدة منهن، وأخذت أقمصتهن. ونصبت أخشاب على سور القاهرة بباب زويلة وباب النصر وباب الفتوح، وعلق عليها تماثيل معمولة على سور النساء، وعليهن القمصان الطوال، إرهاباً لهن وتخويفاً.
وطلبت الأساكفة، ومنعوا من بيع الأخفاف والسراميز المذكورة، وأن تعمل كما كانت أولاً تعمل، ونودي من باع أزاراً حريراً أخذ جميع ماله للسلطان. فانقطع خروج النساء إلى الأسواق، وركوبهن حمير المكارية، وإذا وجدت امرأة كشف عن ثيابها. وامتنع الأساكفة من عمل أخفاف النساء وسراميزهن المحدثة، وأنكف التجار عن بيع الأزر الحرير وشرائها، حتى أنه نودي على إزار حرير بثمانين درهماً فلم يلتفت له أحد، فكان هذا من خير ما عمل.
وفيه استقر جمال الدين يوسف المرداوي في قضاء الحنابلة بدمشق، بعد وفاة علاء الدين علي بن أبي البركات بن عثمان بن أسعد بن المنجا.(2/111)
وفيه استقر نجم الدين محمد الزرعي في قضاء الشافعية بحلب، بعد وفاة نجم الدين عبد القاهر بن أبي السفاح.
وفيه توقف النيل، ثم زاد حتى كان الوفاء في جمادى الآخرة. ثم نقص نحو ثلثي ذراع، وبقي على النقص إلى النوروز، وهو ستة عشر ذراعاً وإحدى وعشرين أصبعاً. ثم رد النقص وزاد إصبعين، فبلغ ستة عشر ذراعاً وثلاثة وعشرين إصبعاً في يوم عيد الصليب.
وفيه أضاع الولاة عمل الجسور، وباعوا الجراريف حتى غرق كثير من البلاد.
ومع ذلك امتدت أيديهم إلى الفلاحين، وغرموهم ما لم تجر به عادة، فشكي من الولاة للوزير، فلم يلتفت لمن شكاهم.
ومات فيها من الأعيان شيخ الإقراء شهاب الدين أحمد بن موسى بن موسك بن جكو الهكاري بالقاهرة، عن ست وسبعين سنة، في ثاني عشر جمادى الأولى. وكتب بخطه كثيراً، ودرس القراءات والحديث ومات النحوي شهاب الدين أحمد بن سعد بن محمد بن أحمد النسائي الأندرشي بدمشق، وله شرح سيبويه في أربعة أسفار.
ومات مكين الدين إبراهيم بن قروينة بعدما ولي استيفاء الصحبة ونظر البيوت، ثم ولي نظر الجيش مرتين، وصودر ثلاث مرات، وأقام بطالاً حتى مات.
ومات الأمير أرغون شاه الناصري نائب الشام، مذبوحاً، في ليلة الخميس رابع عشرى ربيع الأول رباه السلطان الناصر محمد بن قلاوون حتى عمله أمير طبلخاناه رأس نوبة الجمدارية، ثم استمر بعد وفاته أستاداراً أمير مائة مقدم ألف، فتحكم على المظفر شعبان حتى أخرجه لنيابة صفد، وولي بعدها نيابة حلب، ثم نيابة الشام. وكان جفيفاً قوي النفس شرس الأخلاق، مهاباً جائراً في أحكامه، سفاكاً للدماء غليظاً فحاشاً كثير المال. وأصله من بلاد الصين، حمل إلى أبو سعيد بن خربندا، فأخذه دمشق خواجا بن جوبان، ثم ارتجعه أبو سعيد بعد قتل جربان، وبعث به إلى مصر هدية، ومعه ملكتمر السعيدي.
ومات الأمير أرقطاي المنصوري، بظاهر حلب، وهو متوجه إلى دمشق، عن نحو ثمانين سنة، في يوم الأربعاء خامس جمادى الأولى. وأصله من مماليك المنصور قلاوون، رباه الطواشي فاخر أحسن تربية، إلى أن توجه الناصر محمد بن قلاوون إلى الكرك كان معه. فلما عاد إليه ملكه جعله من جملة الأمراء، ثم سيره صحبة الأمير تنكز نائب الشام، وأوصاه ألا يخرج عن رأيه، وأقام عنده مدة. ثم تنكر عليه السلطان الناصر محمد، فولاه نيابة حمص مدة سنتين ونصف، ثم نقله لنيابة صفد، فأقام بها ثماني عشر سنة. وقدم مصر، فأقام بها عدة سنين، وجرد إلى أياس. ثم ولي نيابة طرابلس، ومات الناصر محمد وهو بها. ثم قدم مصر، وقبض عليه، ثم أفرج عنه، وأقام مدة. ثم ولي نيابة حلب، ثم طلب إلى مصر، فصار رأس الميمنة. ثم ولي نيابة السلطنة نحو سنتين، ثم أخرج لنيابة حلب، فأقام بها مدة. ثم نقل لنيابة الشام، فمات في طريقه لدمشق، فدفن بحلب، وكان مشكور السيرة.
ومات الأمير ألجيبغا المظفري نائب طرابلس، موسطاً بدمشق، في يوم الإثنين ثامن عشر ربيع الآخر.
وقتل معه أيضاً الأمير أياس، وأصله من الأرمن، أسلم على يد الناصر محمد ابن قلاون، فرقاه حتى عمله شاد العمائر، ثم أخرجه إلى الشام، ثم أحضره غرلو، وتنقل إلى أن صار شاد الدواوين. ثم صار حاجباً بدمشق، ثم نائباً بصفد، ثم نائباً بحلب، ثم أميراً بدمشق، حتى كان من أمره ما تقدم ذكره.
ومات بدمشق الأمير طقتمر الشريفي، بعد ما عمي.
ومات قاضي الشافعية بحلب نجم الدين عبد القاهر بن عبد الله بن يوسف بن أبي السفاح.
وتوفي نجم الدين عبد الرحمن بن يوسف بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن علي القرشي الأصفوني الشافعي، بمنى في ثالث عشر ذي الحجة. ودفن بالعلاء، وله مختصر الروضة وغيره .
وتوفي قاضي القضاة علاء الدين علي بن الفخر عثمان بن إبراهيم بن مصطفى المارديني، المعروف بابن التركماني الحنفي، في يوم الثلاثاء عاشر المحرم بالقاهرة.
وله كتاب الرد النقي في الرد على البيهقي وغيره، وله شعر، وكان الناصر محمد بن قلاوون يكره منه اجتماعه بالأمراء، وكان يغلو في مذهبه غلواً زائداً.
وتوفي قاضي الحنابلة بدمشق، علاء الدين علي بن الزين أبي البركات بن عثمان بن أسعد بن المنجا التنوخي، عن ثلاث وسبعين سنة.(2/112)
ومات الأمير قطليجا الحموي أصله المملوك المؤيد صاحب حماة، فبعثه إلى الناصر محمد بن قلاوون، وترقى صار من جملة الأمراء. ثم ولي نيابة حماة، ونقل إلى نيابة حلب، فأقام بها أياماً ومات، وكان سيء السيرة.
وتوفي قاضي القضاة تقي الدين محمد بن أبي بكر بن عيسى بن بدران السعدي الأخنائي المالكي، في ليلة الثالث من صفر.
ومات الأمير نوغيه البدري والي الفيوم.
وماتت خوند بنت الملك الناصر محمد بن قلاوون، وهي زوجة الأمير طاز. وتركت مالاً عظيماً، أبيع موجودها بباب القلة من القلعة بخمسمائة ألف درهم، من جملته قبقاب مرصع بأربعين ألف درهم، ثمنها ألف دينار مصرية.
ومات علم الدين بن سهلول. كان أبوه كاتباً عند بعض الأمراء، فخدم بعده أمير حسين بن جندر، ثم ولي الاستيفاء ونظر الدولة، شركة للموفق. ثم صودر ولزم بيته، وعمر داراً جليلة بحارة زويلة من القاهرة.
وفيها قام بتونس أبو العباس الفضل بن أبي بكر بن يحيى بن إبراهيم بن عبد الواحد ابن أبي حفص في ذي القعدة، وكان قد قدم إلى تونس السلطان أبو الحسن علي بن أبي سعيد عثمان بن يعقوب بن عبد الحق ملك بني مرين صاحب فاس، وملك تونس وإفريقية، ثم سار منها للنصف من شوال، واستخلف ابنه أبا العباس الفضل، فقام أبو العباس المذكور وملك تونس ملك أبيه.
//سنة ست وأربعين وسبعمائة في المحرم: قدم كتاب أرتنا يتضمن اتضاع أمر أولاد دمرادش، ويغض من نائب حلب على ما فعله مع ابن دلغادر.
وفي عشريه: قدم محمل الحاج، فتحرك عزم السلطان للحج، وكتب إلى بلاد الشامية بابتياع ستة آلاف جمل وألفي رأس غنم، وجميع ما يحتاج إليه من العبي والأقتاب ونحو ذلك. وتوجه الأمير طقتمر الصلاحي بسبب ذلك، وكتب إلى الكرك والبلقاء بحضور العربان بجمالهم، وأن يحمل إلى عقبة أيلة ألفا غرارة شعير، وما يناسب ذلك من الأصناف.
فقدمت طائفة من العربان، وقبضوا مالاً ليجهزوا جمالهم، إلى أن أهل ربيع الآخر تغير مزاج السلطان، ولزم الفراش؛ فلم يخرج للخدمة أياما. وكثرت القالة، وتعنت العامة في الفلوس، وتحسن السعر.
وأرجف بالسلطان، فغلقت الأسواق، حتى ركب الوالي والمحتسب وضربوا جماعة وشهروهم. فاجتمع الأمراء، ودخلوا على السلطان، وتلطفوا به حتى أبطل الحركة للحج؛ وكتب بعود طقتمر من الشام، واستعادة المال من العربان. وما زال السلطان يتعلل إلى أن تحرك أخوه شعبان، واتفق مع عدة من المماليك، وقد أنقطع خبر السلطان عن الأمراء. فكتب بالإفراج عن المسجونين بالأعمال، وفرقت صدقات كثيرة ورتب جماعة لقراءة صحيح البخارى، فقوى أمر شعبان، وعزم أن يقبض على الأمير الحاج آل ملك النائب، فتحرز منه.
وأخذ الأمراء والأكابر في توزيع أموالهم وحرمهم في عدة مواضع، ودخلوا على السلطان، وسألوه أن يعهد إلى أحد من إخوته. فطلب الأمير الحاج آل ملك النائب وبقية الأمراء، فلم يحضر إليه أحد منهم.
وقد اتفق الأمير أرغون العلائي مع جماعة على إقامة شعبان، فرق فيهم مالاً كثيراً، فأنه كان ربيبه، أي ابن زوجته، وشقيق السلطان الصالح إسماعيل. وقام مع الأمير أرغون من الأمراء غرلو، وتمر الموساوى؛ وامتنع الأمير الحاج آل ملك النائب من إقامة شعبان. وصار الأمراء حزبين، فقام النائب في الإنكار على الكلام في هذا، وقد اجتمع مع الأمراء بباب القلعة، وقبض على غرلو وسجنه، وتحالف هو والأمير أرغون العلائي وبقية الأمراء على عمل مصالح المسلمين.
وتوفي السلطان في ليلة الخميس رابع ربيع الآخر، فكتم موته. وقام شعبان إلى أمه، ومنع من إشاعة موت أخيه، وخرج إلى أصحابه وقرر معهم أمره. فخرج طشتمر ورسلان بصل إلى منكلى بغا، ليسعوا عند الأمير أرقطاى والأمير أصلم.
وكان الأمير الحاج آل ملك النائب والأمراء قد علموا من بعد العصر أن السلطان في النزع، فاتفقوا على النزول من القلعة إلى بيوتهم بالمدينة. فدخل الجماعة على أرقطاى ليستميلوه لشعبان، فوعدهم بذلك، ثم دخلوا على أصلم أجابهم، وعادوا إلى شعبان وقد ظنوا أن أمرهم قد تم.(2/113)
فلما أصبح يوم الخميس خرج الأمير أرغون العلائي، والأمير ملكتمر الحجازي، والأمير تمر الموساوي، والأمير طشتمر طلليه، والأمير منكلى بغا الفخري، والأمير أسندمر. وجلسوا بباب القلة، فأتاهم الأميران أرقطاى وأصلم، والوزير نجم الدين محمود، والأمير قمارى استادر؛ وطلبوا الأمير الحاج آل ملك النائب، فلم يحضر إليهم، فمضوا كلهم إلى عنده، واستدعوا الأمير جنكلى بن البابا، واشتوروا فيمن يولونه السلطة فأشار جنكلى بأن يرسل إلى المماليك السلطانية، ويسألهم من يختارونه، " فأن من اختاروه رضيناه " فعاد جوابهم مع الحاجب أنهم رضوا بشعبان سلطانا، فقاموا جميعاً ومعهم الأمير الحاج آل ملك النائب إلى داخل باب القلة.
وكان شعبان قد تخيل من في دخولهم عليه، وجمع المماليك، وقال: " من دخل قتلته بسيفي هذا، وأنا أجلس على الكرسي حتى أبصر من يقيمني عنه " فسير الأمير أرغون العلائي إليه، وبشره وطيب خاطره. ودخل الأمراء عليه، وسلطنوه انقضت أيام الصالح.
وكان السلطان الصالح في ابتداء دولته على دين وعفاف، إلا أنه كان في أيامه ما ذكر من قطع الأرزاق، وكثرة حركة عساكر مصر والشام في التجاريد. وشغف السلطان الصالح مع ذلك بالجواري السود، وأفرط في حب اتفاق، وأسرف في العطاء لها وقرب أرباب الملاهي، وأعرض عن تدبير الملك بإقباله على النساء والمطربين،. حتى أنه إذا ركب إلى سرحة سرياقوس أو سرحة الأهرام ركبت أمه في مائتي امرأة الأكاديش، بثياب الأطلس الملون، وعلى رءوسهن الطراطير الجلد البلغاري المرصع بالجواهر واللآلى، وبن أيديهن الخدام الطواشية، من القلعة إلى السرحة. ثم يركب حظاياه الخيول العربية، ويتسابقن؛ ويركبن تارة بالكامليات الحرير، ويلعبن بالكرة، وكانت لهن في المواسم والأعياد وأوقات النزه والفرح أعمال يمكن حكايتها، وأكثرن من النزول إلى بيوت الكتاب ونحوهم.
واستولى الخدام الطواشية في أيامه على أحوال الدولة، وعظم قدرهم بتحكم كبيرهم عنبر السحرتي اللالا في السلطان، وركبوا الخيول الرائعة، ولبسوا الثياب الفاخرة، وأخذوا من الأراضي عدة رزق. واقتنى السحرتي البزاة والسناقر ونحوها من الطيور والجوارح، وصار يركب إلى المطعم، ويتصيد بثياب الحرير المزركشة، واتخذ له كفاً مرصعاً بالجوهر، وعمل له خاصكية وخداما ومماليك تركب في خدمته، حتى ثقل أمره، فأنه أكثر من شراء الأملاك، والتجارة في البضائع، وأفرد له ميداناً يلعب فيه بالكرة، وتصدى لقضاء الأشغال. فصارت الإقطاعات والرزق لا تقضى إلا بالخدام والنساء، ولا يزال الأمير الحاج آل ملك النائب يشنع بذلك، وإذا أتاه أحد يطلب منه خبزاً أو رزقة يقول له: " النائب ما له حكم، رح إلى باب الستارة، واسأل عن الطواشي فلأن الدين والطواشي فلأن الدين يقضوا لك حاجتك " .
وكان متحصل الدولة مع هذا كله في أيام السلطان الصالح إسماعيل قليلا، ومصروف العمارة لا يزآل جملة مستكثرة في كل يوم فأنفق السلطان على الدهيشة بالقلعة خمسمائة ألف درهم، سوى ما حمل إليه من بلاد الشام وغيرها، ثم عمل فيها من أوأني الذهب وألفضة ومن ألفرش ما يجل وصفه؛ ومنذ فرغت عمارتها لم ينتفع بها أحد، لشغفه بالغناء والجواري، سيما اتفاق. ولما ولدت منه اتفاق ولدا ذكرا عمل لها مهما تناهى فيه، حتى بلغ الغاية التي لا توصف عظمة.
وكانت حياته منغصة وعيشته نكدة، لم يتم سروره بالدهيشة سوى ساعة واحدة.ثم قدم عليه منجك برأس أخيه أحمد من الكرك بعد قتله بها، فلما قدم بين يديه ورآه بعد غسله، اهتز وتغير لونه وذعر، حتى أنه بات ليلته يراه في نومه، ويفرغ فزعاً شديداً.
وتعلل السلطان الصالح إسماعيل من رؤية رأس أحمد، وما برح يعتريه الأرق ورؤية الأحلام المفزعة، وتمادى مرضه وكثر إرجافه، وكثرت أفزاعه حتى اعتراه القولنج، ومات كما تقدم ذكره يوم الخميس، ودفن عند أبيه وجده بالقبة المنصورية، في ليلة الجمعة.
وكان السلطان الصالح إسماعيل رقيق القلب، زائد الرأفة والشفقة، كريماً جواداً، مائلاً إلى الخير. وبلغ من العمر نحو العشرين سنة، منها مدة سلطته ثلاث سنين وشهرأن وأحد عشر يوماً.
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟السلطان الملك الكامل سيف الدين شعبان بن الناصر محمد بن قلاوون الألفي الصالحي(2/114)
لما اشتد مرض أخيه شقيقه السلطاد الملك الصالح عماد الدين، ودخل، عليه الأمير أرغون العلائي في عدة من الأمراء، ليعهد بالسلطنة من بعده إلى أحد، كان الأمير أرغون العلائي غرضه في أن يعهد لشعبان، من أجل أن أمه كانت زوجته. فلم يحب الأمير آل ملك النائب وجماعة من الأمراء إلى الدخول على السلطان الصالح إسماعيل كراهة منهم في شعبان، لما كان قد اشتهر عنه من المظالم. فقآل الصالح إسماعيل بعدما بكى وأبكى الأمراء: " سلموا على النائب والأمراء، وعرفوهم أنى أن مت يولوا أخي شعبان " فلما مات الصالح، واقتضى رأى الأمراء أن يعرفوا رأى المماليك السلطانية، وكان جوابهم إقامة شعبان، حضر الأمراء إلى باب القلة، واستدعوا شعبان، وأركبوه بشعار السلطنة، ومشوا في ركابه، والجاويشية تصيح على العادة، حتى إذا قرب من الإيوأن لعب ألفرس تحته وجفل من تصايح الناس، فنزل عنه ومشى خطوات بسرعة إلى أن طلع الإيوأن، فتفاءل الناس عن فرسه أنه لا يقيم في السلطة الا يسيرا.
ولما طلع السلطان شعبان الإيوأن والأمراء بين يديه، جلس على كرسى السلطنة وباس الأمراء له الأرض، وأحضروا المصحف ليحلفوا، فحلف لهم أولاً أنه لا يؤذيهم، ثم حلفوا بعده، وذلك في يوم الخميس رابع ربيع الآخر، سنة ست وأربعين وسبعمائة.
ولقب بالملك الكامل، ودقت البشائر، ونودى بسلطنته في القاهرة ومصر، وخطب له في الغد على منابر ديار مصر، وكتب بذلك إلى الأقطار مصرا وشاما.
وفي يوم الإثنين ثامنه: جلس السلطان شعبان بدار العدل من القلعة، وجدد له العهد من الخليفة، بحضرة القضاة والأمراء، وخلع على الخليفة والأمراء والقضاة.
وفيه كتب بطلب الأمير آقسنقر الناصرى من طرابلس، فسآل الأمير قمارى الأستادار أن يستقر عوضه في نيابة طرابلس، وتشفع بالأمير أرغون العلائي والأمير ملكتمر الحجازي. فأجيب إلى ذلك، وخلع عليه في يوم الخميس حادي عشرة، وخرج من فوره على البريد.
وفيه خلع على الأمير أرقطاى، واستقر في نيابة حلب عوضاً عن يلبغا اليحياوي، وخرج على البريد.
وفيه طلب الأمير الحاج آل ملك النائب الإعفاء من نيابة السلطنة، وقبل الأرض، وسآل نيابة الشام، عوضاً عن الأمير طقزدمر، وأن ينقل طقزدمر إلى مصر فأجيب ذلك، وكتب بإحضار طقزدمر.
وفي يوم السبت ثالث عشره: خلع على الأمير الحاج آل ملك النائب، واستقر في نيابة الشام عوضاً عن طقزدمر. وأخرج من يومه على البريد، فلم يدخل غزة حتى لحقه البريد بتقليده نيابة صفد، وأن يكون ولده وابن أخيه ألفارس بحلب. وسبب ذلك أن الأمير أرغون العلائي لما قام في سلطنة شعبان هذا، قآل له الأمير الحاج آل ملك: " بشرط ألا يلعب بالحمام " ، فلما بلغ السلطان شعبان ذلك نقم عليه.
وفيه رسم بطلب شجاع الدين غرلو من دمياط، فقدم في يومه. وخلع عليه شاد الدواوين. فنزل غرلو إلى دار الولاية، وقبض بيده على أطواق الأمير جمآل الدين يوسف وإلى القاهرة، وأقامه من مجلس حكمه، وأخرجه من داره، وأركبه حمارا إلى القلعة. وسبب ذلك أنه لما قبض على غرلو تقدم يوسف هذا وأمسك سيفه، وقطعه من وسطه، فكافأه غرلو على ذلك. وقبض غرلو معه على ابن أخيه وإلى الجيزة، فما زالا يحملأن المآل حتى بلغ حملها خمسين ألف درهم، سوى عدد سلاح وغير ذلك، فأفرج عنهما بعد أيام، وبعد شفاعة جماعة من الأمراء.
وفيه كتب بنقل الأمير يلبغا اليحياوي من نيابة حلب إلى ليابة دمشق، فدخلها يوم السبت ثأني عشر جمادى الأولى، وباشر نيابتها.
وفيه رسم السلطان الكامل شعبان بعرض أحوآل الدولة للنظر في تدبيرها فترك ما استجد من المصروف في العمائر بالقلعة والقاهرة، ورسم أن تسلم الأغنام التي استجدها أخوه الملك الصالح لجماعة المتعاملين في اللحم وبتثمينها عليهم، فكانت عدتها تسعة عشر ألف رأس ونيف؛ وضبط السلطان أحوال المملكة.
وفيه رسم بسفر الأمير طرنطاى البشمقدار نائباً بحمص، وأنعم بتقدمته على بيبغا ططر.وفيه أنعم بإقطاع الأمير أرقطاى المستقر في نيابة حلب على أرغون شاه، وخلع عليه، واستقر أستادار عوضاً عن قمارى المستقر في نيابة طرابلس.
وفيه أخرج أحمد شاد الشراب خأناه هو وإخوته إلى صفد، من أجل أنهم كانوا ممن نام مع الأمير الحاج آل ملك النائب وقمارى الأستادار في منع شعبان من السلطنة.(2/115)
وفيه خلع على علم الدين عبد الله بن أحمد بن ابراهيم بن زنبور، واستقر في نظر الخاص عوضاً عن الموفق عبد الله بن إبراهيم وخلع على كاتبه فخر الدين بن السعيد، واستقر عوضه في استيفاء الصحبة؛ وعنى الأمير أرغون العلائى بالموفق حتى ترك بغير مصادرة وفيه قدم الأمير طقتمر الصلاحي من الشام بالمال الذي فرق على العرب، وبسبب حمل الغلال إلى مكة، وهو مبلغ مائتى ألف درهم.
وفيه رسم بعزل تقى الدين سليمان بن على بن عبد الرحيم بن سالم بن مراجل من نظر درهم، واستقر عوضه بهاء الدين بن أبو بكر بن شكر.
وفيه قدم الأمير آقسنقر الناصري من طرابلس، وخلع عليه؛ وسئل نيابة السلطنة بديار مصر،فامتنع أشد الإمتناع، وحلف أيمأناً مغلظة ألا يليها.
وفيه خطب السلطان الكامل شعبان ابنة الأمر بكتمر الساقى، فامتنعت أمها من إجابته، واحتجت عليه بأن أختها تحته، ولا يجمع بين أختين، وأنه بتقدير أن يفارقها، فأنه شغف باتفاق حظية أخيه الصالح إسماعيل شغفاً زائداً. ثم قالت أمها: " ومع ذلك فقد تغير حال المخطوبة من شدة الحزن، فأن أول من أعرس عليها أنوك بن السلطان الناصر محمد، فمات عنها وهى بكر لم يمسها؛ فتزوجها بعده أخوه السلطان المنصور أبو بكر، وقتل؛ ثم تزوجها بعد المنصور أبو بكر أخوه السلطان الملك الصالح إسماعيل، ومات عنها أيضاً، فحصل لها حزن شديد من كونه تغير عليها عدة أزوج في مدة يسيرة. " فلم يلتفت السلطان الكامل شعبان إلى هذه الكلام، وطلق أختها، وأخرج جميع ما كان لها في ليلته، ثم عقد عليها ودخل بها.
وفيه كتب بالإفراج عن أحمد بن مهنا، وعن أبن أخيه سليمان من قلعة دمشق.
وفيه أنعم السلطان على ابن طشتمر حمص أخضر بتقدمة ألف، وعلى ابن أصلم بإمرية طبلخأناه.
وفي مستهل جمادى الأولى: خلع السلطان الكامل شعبان على الأمراء المقدمين والطبلخأناه، وأنعم على ستين مملوك بستين قباء بطرز زركش وستين حياصة ذهب، وفرق الخيول على الأمراء برسم الميدأن.
وفيه قدم أحمد بن مهنا وابن أخيه، مخلع عليهما، وأعيد أحمد إلى إمرية العرب فقدم حاجب سيف بن فضل يخبر بأنه وصل إلى غزة بقوده؛ فكتب بقدومه سريعا، فقدم ومعه مائة فرس مثمنة سوى الهجن وغيرها. فخلع عليه، و لم ينعم له بالإمرية، ولا أنصف في أثمأن خيوله.
وفيه رسم السلطان الكامل شعبان أن يتوفر إقطاع النيابة للخاص.
وفيه خلع السلطان على الأمير بيغرا، واستقر حاجباً كبيراً ليحكم بين الناس. ورسم له السلطان أن يجلس بين يديه موقعين لكتابة الكتب للولاة، وهما رضى الدين بن الموصلى وابن عبد الظاهر.
وفيه قبض على جمال الدين يوسف وإلى القاهرة، وعلى أبن أخيه ونائبه حمود، بسعاية غرلو شاد الدواوين. وكشف غرلو رءوسهم، وضرب حمودا بالمقارع ضربا مبرحا، فوعد بأن يحضر له مالًا قد دفنه بالجيزة، فسيره صحبة أعوأنه ليأتيه بالمال فلما ركب حمود النيل وتوسطه، والقى بنفسه فيه، فغرق. فرسم بالإفراج عن جمال الدين وابن أخيه، بعناية الأمراء به.
وفي يوم السبت: نزل السلطان إلى الميدأن على العادة في كل سنة، فكان يوما مشهودا.وفيه خلع السلطان على الشريف عجلأن بن رميثة بن أبي نفي الحسني، واستقر أمير مكه.
وفيه عاد السلطان من آخر النهار على العادة إلى القلعة.
واستدعى السلطان في يوم الإثنين غرلو شاد الدواوين، بحضرة الأمراء والوزير، ورسم له أن يرتب بلاد الخاص، ويخرج من إقطاع النيابة وغيره بلاد المماليك السلطانية أرباب الجوامك الكبار، لتتوافر جوامكهم. فأفردت خمس نواح أقطعت لمائة مملوك، وطلبوا حتى فرقت عليهم المثالات، فردوها من الغد على السلطان، وقد وقفوا جميعاً فاشتد غضبه، وطلب الطواشي المقدم وأهأنه، ورسم له بضربهم وطردهم؛ فما زال به الأمراء حتى رسم أن الطواشي يضرب منهم جماعة، وأن يفرق النواحى على ثمأنين منهم، وأنعم على العشرين بإقطاعات أخر. فأقاموا مدة على الإمتناع حتى ضرب منهم جماعة كثيرة، وأنزلوا من القلعة إلى القاهرة، وقطع جميع راتبهم من لحم وغيره.(2/116)
ورفع غرلو على الحاج على الطباخ المعروف بإخوأن سلار أنه يأكل كثيراً مما في المطبخ السلطانى، وأن له في كل يوم على المسلمين خمسمائة درهم، ولولده أحمد ثلاثمائة درهم، سوى الأطعمة وغيرها. فرسم السلطان للأمير أرغون شاه أستادار بمصادرته، فأوقع الحوطة على موجوده، وأهأنه. وكان المذكور قد خدم السلطان الناصر محمد في الكرك، فلما عاد إلى السلطنة أقامه إخوأن سلار، وسلم له المطبخ، فنال سعادة جليلة، لاسيما في المهمات والأفراح التي كان السلطان الناصر محمد يعملها لأولاده ومماليكه وحواشيه، طول تلك المدة. فكان أقل ما يحصل له في كل مهم ما ينيف على عشرة آلاف درهم، مع كثرت تلك المهمات. ولما عمل مهم ابن بكتمر الساقى على بنت تنكز نائب الشام، طلب السلطان الناصر محمد الحاج على هذا في آخر المهم، وقال له: " يا حاج على رح الساعة اعمل لى خروف رميس في لون كذا " ، فولى عنه وهو متنكر قد عبس وجهه. فصاح به السلطان ليرجع، وقال له: " مالك معبس الوجه؛ " فقال: " كيف ما أعبس وقد أحرمتنى الساعة عشرين ألف درهم؛ " قال: " كيف أحرمتك؛ " قال: " عندي رءوس وأكارع وكروش وأعضاد، وكل ما سرقته من هذا المهم، أريد أن أقعد أبيعه. فقلت لي: رح اطبخ، فيتلفوا الجميع " . فتبسم له السلطان، وقال. " لا رح اطبخ، وضمأنهم على " . فلما ذهب الحاج على طلب السلطان وإلى مصر ووالي القاهرة، وأمرهما بطلب الزفورية إلى القلعة، وتفرقة تلك الأسقاط فيهم، فبلغ ثمنها ثلاثة وعشرين ألف درهم. فهذا أعزك الله متحصل مهم واحد من آلاف، سوى ما له في كل يوم من جهة المطبخ، وهو خمسمائة درهم، في مدة بضع وثلاثين سنة، كم أراد النشو أن يتمكن منه، والسلطان الناصر محمد يمنعه.
ولما قبض عليه وجد له خمسة وعشرون ملكا؛ فاخذت أم السلطان داره التي على البحر، وكانت من الدور العظيمة، وأخذت اتفاق داره التي بالمحمودية من القاهرة وإليه ينسب جامع الطباخ، على بركة السقاف بخط باب اللوق؛ فتعطل الجامع أياماً مدة القبض عليه، فأنه كان يقوم به من غير أن يفرد له وقفاً وأخذت أملاكه كلها، وضرب ابنه أحمد، وألزم ببيع موجوده، وحمل وهو وأبوه مالهم إلى بيت المال، ثم شفع فيه الأمير ملكتمر الحجازي، فأفرج عنه ولزم بيته بطالا.
وفي هذا الشهر صودر جماعة من أهل قوص اتهموا بأنهم وجدوا خبية مال، وأخذت أملاكهم وغيرها وصودر الجماعة الذين كتبوا في محضر وفاة السلطان المنصور أبي بكر أنه مات بقضاء الله وقدره، وأخذ جميع موجودهم، فأقروا أن المحضر زور، وأنهم أكرهوا حتى كتبوا ما لم يعاينوه.
وفيه وشى بابنة الملك المظفر بيبرس الجاشنكير أن في دارها بالقاهرة خبية مال، فحفر فيها نحو قامة، فلم يوجد شيء.
وفي يوم السبت خامس عشريه: قدم الأمير طقزدمر من دمشق في محفة وهو مريض، بعدما خرج الأمير أرغون العلائي إلى القائه، فوجده غير واع، ودخل عليه الأمراء وهو قد أشفي على الموت. ولما دخل طقزدمر القاهرة على تلك الحال أخذ أولاده في تجهيز تقدمة جليلة للسلطان، تشتمل على خيول وتحف وجواهر؛ فقبلها السلطان، ووعدهم بخير.
وفيه أنعم السلطان الكامل شعبان على الأمير أرغون الصالحي بتقدمة ألف، ورسم أن يقال له أرغون الكاملي، ووهب له في أسبوع واحد ثلاثمائة ألف درهم وعشرة آلاف أردب من الأهراء. ورسم له بدر شاد الشرابخأناه، وأن يعمر له من مال السلطان بجواره قصر على بركة ألفيل، ويطل على الشارع، وأقام السلطان الأمير آقجبا شاد العمائر على عمارته وفي هذا الشهر: شرع الأمير غرلو شاد الدواوين يستخدم الولاة والكتاب على مال يحمل لبيت المال، فلم يل أحد بعد ذلك الا.بمال. واستجد غرلو أيضاً مالا في المقأيضاًت والنزولات عن الإقطاعات، يحمل لبيت المال. وجعل على عبرة الدينار دينارا، فاذا كان الإقطاع عبرة مائة دينار حمل عنه لبيت المال مائة دينار، ولم يلتفت السلطان لقول الأمراء، وأجابهم بأن هذا كان يأخذه ديوأن الجيش.
وفي يوم الخميس مستهل جمادى الآ؟خر: ركب السلطان إلى السرحة بسرياقوس، ومعه حريمه. فنصبت لهن الخيم في البساتين، وأخليت المناظر التي للأمراء حتى نزل أكثرهن بها.(2/117)
وفي يوم الجمعة: قدم أولاد الأمير طقزدمر إلى سرياقوس بخبر وفاة أبيهم، فلم يمكن السلطان الأمراء من العود إلى القاهرة للصلاة عليه، فدفن بخأنكاته بالقرافة. وأخذت خيله وجماله وهجنه إلى الإصطبل السلطاني، وقيدت إلى سرياقوس على العادة. ورسم السلطان أن تعمل أوراق بمتوفر إقطاع طقزدمر وما عليه من حقوق القنود، وسائر ما سومح به مما عليه للديوأن في حياته من جميع الأصناف، فلم تزل أولاده تقدم التقادم الجليلة حتى وعدوا بتقدمة سلطانية.
وفيه خلع على الأمير رسلأن بصل، واستقر حاجباً ثأنياً مع بيغرا، ورسم له أن يحكم بين الناس.
وفيه خلع على الأمير ملكتمر السرجوأني، واستقر في نيابة الكرك؛ وأنعم بإقطاعه على الأمير طشتمر طلليه، وأنعم بإقطاع طشتمر على الأمير قبلاي.
وفيه طلب السلطان العربأن الذين اتهموا بقتل ابن الرديني، وأخذ منهم مائة ألف درهم مصادرة.
وفيه مات الأشرف كجك، عن اثنتي عشرة سنة. واتهم السلطان أنه بعث من سرياقوس من قتله في مضجعه، على يد أربعة خدام طواشية.
وفيه قدم طلب الأمير آقسنقر طرابلس، فسار السلطان من سرياقوس حتى لقيه على بلبيس، ومنع الخدام أن تعرف زوجته أم كجك بوفاته. واختار الأمير آقسنقر من طلبه عدة خيول وجمال بخاتى وهجن، وقدمها للسلطان مع جواهر سنية وتحف بديعة، فخلع عليه السلطان، وأنعم على ولد ابن اخيه بطبلخأناه أبيه، وعمره أربع سنين.
وفيه عاد السلطان من سرياقوس إلى القلعة، بعدما تهتكت المماليك السلطانية بشرب الخمر والإعلأن بألفواحش، وركبوا في الليل وقطعوا الطريق على المسافرين، واغتصبوا حريم الناس، وصارت سرياقوس حأنة.
وفيه عزل تاج الدين ابن الصاحب أمين الدين بن الغنام، من نظر البيوت. وذلك أنه علم باجتهاد السلطان في تحصيل المال فضبط البيوت، ووفر فيها عشرين ألف درهم، وأعلم السلطان بها من غير علم أرغون شاه الأستادار. فتنكر عليه أرغون شاه فضربه، فسعى عليه أفلاطون كاتب سنجر الجمقدار عند غرلو بألفي دينار، فولاه عوضه، وولى أيضاً ابن وجه الطوبة نظر الأوقاف الصالحية إسماعيل، بعدما حمل لبيت المال خمسمائة دينار، وفيه طولب الموفق عبد الله بن إبراهيم بحمل مائة ألف درهم. وسبب ذلك أنه عثر على أنه باع من أراضي الخاص إلى طغيتمر الدوادار.بمائة ألف درهم، فباعها طغيتمر لابن زعازع بالبهنساوية، وألزم كل من طغيتمر وابن زعازم أيضاً بحمل مائة ألف درهم. وفيه عقد لابنة بكتمر مطلقة السلطان شعبان على أرغون شاه أستادار، وعقد لزوجة أرغون شاه ابنة آقبغا - وقد بأنت منه من مدة - على بيبغا روس.
وفيه رسم بإبطال المقأيضاًت والنزولات عن الإقطاعات، بقيام الأمراء في ذلك مع السلطان، لكرة ما فيه من المفاسد. وكتب إلى البلاد الشامية أن من مات من الأجناد أو أرباب المراتب يطالع بوفاته، ليخرج السلطان إقطاعه أو مرتبه، فامتثل ذلك.
وفيه ألزم من بيده رزقه من أرض مصر، أو أرض استأجرها، أن يقوم عن كل فدان.بمائة وخمسين درهماً.فأخذ من ذلك مال كثير، قام غرلو باستخراجه. فازدادت مكانته عند السلطان، وعظم قدره بين الناس، وأنتمى إليه جماعة، وصاروا يغرونه بأرباب الأموال، ويفتحون له أبواب المظالم. واستدعى غرلو طغيتمر متولى البهنسي، وألزمه بحمل أربعمالة ألف درهم، وأخرق به.
وقدم جمال الدين سليمان بن ريان من حلب، وبذل في نظر الجيش بها ألف دينار حملت إلى بيت المال، ووعد بمائتي إكديش. فخلع عليه، وتوجه معه بريد لإحضار الخيل.
وفيه رسم بقطع جميع ما هو مرتب على الحوائج خاناه من التوابل للأمراء والكتاب وغيرهم. وطلب عدة من مباشري الوجه القبلي والوجه البحري، سلموا إلى غرلو فصادرهم.
وفيه قدم البريد من حلب بوقوع الحرب بين الشيخ حسن صاحب بغداد وبين سلطان شاه وأولاد دمرداش، انتصر فيها الشيخ حسن. والتجأ سلطان شاه إلى ماردين، فحصره الشيخ حسن بها أياما، وأفسد ضياعها، ثم سار عنها بغير طائل.
وفيه هم السلطان أن ينعم على غرلو بإمرة مائة، وتولية الوزارة ونيابة دار العدل فلم يوافقه الأمير أرغون العلائي على ذلك، وأبطل أمره.
وفيه عمل السلطان داير بيت حرير مزركش، عمل فيه مبلغ أربعين ألف دينار وعمل أيضاً لحريمه عشرين بغلوطاق صدر، في كل بغلوطاق ألف دينار زركش.(2/118)
وفي عشري رجب: خلع على فخر الدين بن السعيد، واستقر في نظر الخاص، عوضاً عن علم الدين بن زنبور. وخلع على ابن زنبور، واستقر كما كان في استيفاء الصحبة فكانت مدة مباشرة ابن زنبور نظر الخاص نيفاً وثمانين يوماً.
وفيه عزم على إنشاء مدرسة موضع خان الزكاة، ونزل الأمير أرغون العلائي والوزير لنظره. وكان الناصر محمد قد وقفه، فلم يوافق القضاة على حله.
وفي مستهل شعبان: استقر تاج الدين محمد بن المزين خضر بن عبد الرحمن في كتابة السر بدمشق، عوضاً عن بدر الدين محمد بن فضل الله.
وفيه كان عرس السلطان على بنت طقزدمر، وعمل لها مهماً مدة سبعة أيام بليإليها، اجتمع فيه نساء الأمراء جميعاً. وكانت فيه عدة جوق مغانى، حصل لهن من الذهب والفضة وتفاصيل الحرير شىء يجل وصفه؛ وبلغ نصيب ضامنة المغاني. بمفردها ثمانين ألف درهم، سوى بقية المغاني.
وفيه استقر تقي الدين سليمان بن مراجل ناظر دمشق، عوضاً عن بهاء الدين أبي بكر ابن سكرة، بعد موته. وكان ذلك بعناية الأمير أرغون العلائي، فأنه كان بعد عزله من نظر الدولة ولاه نظر الخاص بدمشق، ثم انتقض أمره.
وفي مستهل شهر رمضان: خلع على قشتمر وإلى الجيزة، واستقر شاد الدواوين رفيقا للأمير غرلو.
وفيه خلع على نجم الدين داود بن أبي بكر بن محمد بن الزيبق، بولاية الجيزة.وفيه استقر الشيخ شمس الدين محمد بن اللبان في تدريس المدرسة الناصرية، بجوار قبة الشافعي بالقرافة، عوضاً عن ضياء الدين محمد بن إبراهيم المناوى، بعد وفاته. وكان ذلك بعناية الأمير جنكلى بن البابا، والأمير آقسنقر، بعدما استقر فيه تاج الدين محمد بن إسحاق المناوي بسفارة قاضى القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة فنزل ابن اللبان ودرس، ومعه الأمير أرغون الكاملي وعدة أمراء، وجماعة القضاة والفقهاء. وكان ناصر الدين فاز السقوف محتسب مصر مقيماً بقاعة التدريس، فأخرجه ابن اللبان منها، وطالبه باجرتها مدة سكنه. فرتب ناصر الدين على ابن اللبان فتيا نسبه فيها إلى قوادح، وأراد الدعوى عليه، فلم يتمكن من ذلك.
وفيه قدم الشريف من مكة يريد أن يستقر شريكا لأخيه عجلان في إمرة مكة. وأحضر ثقبة قودا فيه عدة خيول، فوعد بخير.
وفيه قدمت رسل خليل بن دلغادر بتقدمته وكتابه، وقد عاد إلى الطاعة بحسن سياسة الأمير أرقطاى نائب حلب؛ فخلع على رسله، وجهز له تشريف.
وفيه أخذت أم السلطان من أولاد الأمير طقزدمر خمسمائة فدان بناحية بوتيج ودولابها.
وفيه قدمت الحرة من بلاد الغرب بهدية سنية تريد الحج، فرسم بتجهيزها.
وفيه أخذ السلطان من وزير بغداد دولابين، جعلهما باسم اتفاق، وعوضه عنهما ما ابتاعهما به، وهو مبلغ ثمانية وعشرين ألف درهم. وتبرع وزير بغداد للسلطان.مما أنفقه عليهما، وهو مائة ألف درهم.
وفيه قدم الخبر من حلب بوقعة كانت بين ابن دلغادر وبين أمير يقال له طرفوش، أقامه الأمير يلبغا اليحياوي ضدا لابن دلغادر، وأغراه به ووعده بإمرته على التركمان واقتتل طرفوش وابن دلغادر، فانتصر ابن دلغادر بعد عدة وقائع قتل فيها من الفريقين. خلائق. فلما قدم الأمير أرقطاى إلى حلب تلطف بابن دلغادر حتى أعاده إلى الطاعة، وما زال يجهد حتى أصلح بينه وبين طرفوش.
ثم التفت الأمير أرقطاي إلى جهة الأمير فياض بن مهنا، وقد كثر عبثه وفساده وأخذه قفول التجار. وبذل الأمير أرقطاى جهده حتى قدم عليه فياض بن مهنا بظاهر حلب فتلقاه وأنزله، وبالغ في إكرامه، وأخذ عليه العهود والمواثيق بالإقامة على الطاعة، ثم جهزه إلى بلاده. وكتب الأمير أرقطاي بذلك إلى السلطان، فسر به سروراً زائداً، فأنه كان في قلق من أخبار فياض، وعلى عزم أن يجرد العسكر إليه ويورى بقصد سيس. وأخذ فياض في تجهيز القود إلى السلطان، وسيره، فقدم وفيه سبعون فرسا قامت عليه بألف ألف درهم، وخمسون هجينا وعشر مهريات، وعبي وغير ذلك. ثم قدم فياض عقيب قوده، فأكرمه السلطان وأحسن إليه، وأنزله.
وفي هذا الشهر: أمسكت امرأة حرامية من حمام الأيدمرى، في يوم السبت سابع عشريه. فضربها الأمير نجم الدين أيوب أستادار الأكر ووالي القاهرة بالمقارع على ساقيها، ثم قطع يدها في باب زويلة.(2/119)
وفي مستهل شوال: رسم للأمير أرغون الكاملي بزيارة القدس، وأنعم عليه.بمائة ألف درهم. وكتب إلى نواب الشام بالركوب إلى خدمته، وحمل التقادم له، وتجهيز الإقامات في المنازل إلى حين عوده. ورسم أن ينادي.بمدينة بلبيس وأعمالها أنه من قال عنه أرغون الصغير شنق، وألا يقال إلا أرغون الكاملي. فشهر النداء بذلك في الأعمال الشرقية، فامتثل الناس ذلك؛ وتوجه الأمير علاء الدين علي بن ملغريل في خدمته.
وفيه ركب حريم السلطان إلى ناحية الجيزة للنزهة، وصحبتهم الأمير آقسنقر فأقام بهم حتى خرج محمل الحاج صحبة مغلطاي أمير شكار، ثم عادوا.
وحج في هذه السنة عدة من نساء الأمراء، وبالغن في زينة محفاتهن ومحايرهن وألبسوا جمالهن الحرير والقلائد المرصعة والمقاود الحرير المزركشه، وفي أيدهن خلاخل الذهب، وعليهن العبي الحرير والأجلة الزركش، حتى خرجن في ذلك عن الحد. وتفاخرن فيما أبدعن، وتناظرن، وصارت كل واحدة تريد أن تفوق على صاحبتها، وتشبه بهن غيرهن من النساء. ولم يعهد أن عمل مثل هذا ولا قريب منه فيما تقدم، فأنهن خلعن على الهجانة والسقائين الأقبية الطرد وحش، فأنكر فعلهن الناس، وذكره قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة في خطبة العيد بالقلعة وصرح بالإنكار، وصدع بالوعظ.
وفيه قدم تقي الدين سليمان بن مراجل من دمشق، وابن قرناص من حلب فبذل ابن قرناص في نظر حلب نحو ألفي دينار حتى رسم له به، عوضاً عن ابن الموصلي. فبعث ابن الموصلي ابنه بهديه سنية فيها جوارى حسان، وزوج بسط حرير، فقام غرلو معه وأوصله بالسلطان، فقبل هديته، وبسط الحرير بالدهيشة، وأقر ابن الموصلي على حاله؛ فكانت مدة ابن قرناص عشرين يوما بألفي دينار.
وقام الأمير أرغون العلائي في حق ابن مراجل حتى خلع عليه، واستقر في نظر الدولة، وأجلسه السلطان بين يديه، وغرلو قائم على يديه. فتفاوضا في الكلام، بحيث قال الأمير أرغون العلائي لغرلو: " أنت شاد بعصاتك، إذا عينت لك سالا للسلطان تستخرجه " وانصرفا من المجلس، وكل منهما يترفع على الآخر.
فاشتد ابن مراجل على الكتاب، وألزمهم بعمل الحساب، ورسم عليهم؛ وكتب بطلب مباشر الشام. فلما كان بعد ثلاثة أيام تكاشف هو غرلو، وترافعا إلى السلطان؛ فأخرق السلطان بغرلو، وألزمه أن يمتثل ما يرسم له به ابن مراجل، ولا يتعداه.
وفيه قدم من دمشق علاء الدين الفرع وتوصل إلى السلطان، وقدم له تقديمة جليلة، وسأله في قضاء دمشق، عوضاً عن تقي الدين السبكي، فرسم له به، ففام الأمير جنكلى ابن البابا مع السلطان في استقرار السبكي على عادته حتى أجابه، وعوق توقيع الفرع، وعوض عن تقدمته الأوقاف بدمشق.
وفيه قدم الخبر بأن قاصد نائب حلب توجه إلى سيس بطلب الحمل، وقد كان تكفور كتب في الأيام الصالحية بأن بلاده خربت، فسومح بنصف الخراج. فلما وصل إليه قاصد نائب حلب جهز الحمل، وحضر كبير دولته ليحلفوه أنه ما بقى أسير من المسلمين في مملكته، كما جرت العادة في كل سنة بتحليفه على ذلك. وكان في أيديهم عدة من المسلمين أسرى، فبيت مع أصحابه قتلهم في الليلة التي تكون خلفه في صحبيتها، فقتل كل أحد أسيره في أول الليل. فما هو إلا أن مضى ثلثا الليل خرجت في الثلث الأخير من تلك الليلة ريح سوادء، معها رعد وبرق أرعب القلوب. وكان من جملة الأسرى عجوز من أهل حلب في أسر المنجنيقي، ذبحها عند المنجنيق، وهي تقول: " اللهم خذ الحق منهم " فقام المنجنيقي يشرب الخمر مع أهله بعد ذبحها، حتى غلبهم السكر وغابوا عن حسهم. فسقطت الشمعة وأحرقت ما حولها، حتى هبت الريح تطاير شرر ما احترق من البيت حتى اشتعل.بما فيه، وتعلقت النيران مما حوله حتى بلغت موضع تكفور، ففر بنفسه. واستمرت النار مدة اثني عشر يوماً، فاحترق أكثر القلعة؛ وتلف المنجنيق كله بالنار، وكان هو حصن سيس، ولم يعمل مثله واحترق المنجنيقي وأولاده الستة وزوجته، واثني عشر رجلاً من أقاربه. وخربت سيس، وهدم سورها ومساكنها، وهلك كثير من أهلها، وعجز تكفور عن بنائها.
وفيه نافقت العربان بالوجه القبلي والفيوم، وكثرت حروبهم وقطعهم الطرقات، فلم يمكن خروج العسكر إليهم، فأنه كان اوأن المغل، خوفاً عليه.(2/120)
وفي مستهل ذي القعدة: قدم علاء الدين الحراني من دمشق باستدعاء، وخلع عليه بنظر الشام. وفيه قدم الخبر بأنه ثارث ريح زرقاء شديدة في بلاد برقة، وأعقبها مطر عظيم جداً يوماً كاملاً. ثم نزل برد قدر بيص الحمام مجوف وبعضه مثقوب من وسطه. وتمادى حتى وصل إلى الإسكندرية والبحيرة والغربية والمنوفية والشرقية، وأفسد من الدور والزروع شيئاً كثيراً سيما الفول، فأنه تلف عن آخره؛ ونزلت صاعقة فأحرقت نخلة في دار.
وقدم الخبر أن الأمير أرغون الكاملي لعب بالكرة في ميدان غزة وتوجه بعد أيام إلى القدس. فقدم عليه نائب الشام بتقدمته، ثم تواردت تقادم النواب من حلب إلى عزة ثم خرج الأمير أرغون الكاملي من القدس، فكتب بسرعة قدومه، فلما وصل قطيا خرج السلطان إلى لقائه بسرياقوس، ولعب معه في الميدان بالكرة، وقد سر بقدومه؛ ثم سار به السلطان إلى القلعة.
وفيه خلع على الأمير قبلاي، واستقر في نيابة الكرك، عوضاً عن ملكتمر السرجواني لشدة مرضه، وكتب بإحضاره.
وفيه كثر لعب الناس بالحمام، وكثر جري السعاة، وتظاهر أرباب الملعوب بفنون لعبهم. وتزايد شلاق الزعر، وسلط عبيد الخدام الطواشية وغلمأنهم وعبيد الكتاب على الناس، وصاروا كل يوم يقفون للضراب، فتسفك بينهم دماء كثيرة، وتنهب الحوانيت بالصليبة خارج القاهرة وإذا ركب إليهم وإلى القاهرة لا يعبئون به، فإن قبض على أحد منهم أخذ من يده سريعاً؛ فاشتد قلق الناس من ذلك، ولم يجسر أحد ينكر شيئاً من هذا.
وفيه أعرس بعض الطواشية ببعص سرارى السلطان بعد عقده عليها، فعمل له السلطان مهما حضره جميع جواري بيت السلطان. وجلبت العروس على الطواشي، ونثر السلطان عليها وقت الجلا الذهب بيده، فكان أمراً شنيعاً.
وفي مستهل ذي الحجة: قدم البريد من دمشق بوفاة الأمير ألماس الحاجب، وعلاء الدين بن سعيد فكتب باستقرار الأمير بدر الدين الأمير مسعود بن خطير حاجبا عوضاً عن ألماس، وأنعم على مملوك ابن سعيد بطبلخاناه، بعد بذل نحو ستة آلاف دينار.
وفيه اشتهر أخذ البراطيل للسلطان، فقصده كل أحد لطلب الإقطاعات والرزق والرواتب.
وفيه قدم ابن سالم قاضي القدس، وقد عزله السبكي وأثبت عليه محصرا أنه باع أيتاما من يتامى المسلمين الأحرار للنصارى. وما زال ابن سالم يسعى بالخدام حتى كتب له توقيع بقضاء القدس، على ألف وخمسمائة دينار حملها للسلطان، ومثلها لمن سعى له. وفيه كثرت الإشاعة باتفاق الحاج الأمير آل ملك نائب صفد مع الأمير يلبغا نائب الشام على المخامرة، فجهز الأمير الحاج آل ملك محضراً ثابتاً على قاضي صفد بالبراءة مما رمى به، فأنكر السلطان عليه هذا. وجهز منجك السلاح دار للكشف عما ذكره فاتفق قدوم بعض مماليك الأمير الحاج آل ملك فاراً منه، خوفاً أن يضربه على شربه الخمر، وذكر عنه للسلطان أنه يريد التوجه إلى بلاد العدو. فزاد هذا السلطان كراهة فيه، وأخرج منجك على البريد إليه. فلما قدم عليه حلف أنه برىء مما قيل عنه وأنعم على منجك بألفي دينار سوى الخيل والقماش.
وفيه نودي بالقاهرة ومصر الا يعارض أحد من لعاب الحمام وأرباب الملاعيب والسعاة، فتزايد الفساد وشنع الحال.
وفيه ركب الأمير طقتمر الصلاحي البريد، ليوقع الحوطة على جميع أرباب المعاملات وأصحاب الرزق والرواتب بالبلاد الشامية من الفرات إلى غزة، وألا يصرف لأحد منهم شيئا، وأن يستخرج منهم ومن الأوقاف وأرباب الجوامك ألف ألف درهم، برسم سفر السلطان للحجاز، ويشتري بذلك الجمال ونحوها، مما يحتاج إليه السلطان في سفره فمنعت الرواتب من الفقراء وغيرهم لم يصرف لأحد منهم الدرهم الفرد، فكثر ابتهالهم وتضرعهم إلى الله تعالى في الدعاء على من قطع أرزاقهم.
وفيه كتب بعد موت الأمير جنكلى بن البابا بقدوم الأمير آل ملك إلى القاهرة من صفد، ليستقر على إقطاع جنكلى، وتوجه إليه منجك لإحضاره.
وفي يوم السبت تاسع عشريه: أمسك الأمير أينبك أخو قمارى، ثم أفرج عنه من يومه.
وفيه استقر نجم الدين إبراهيم بن العماد علي بن أحمد بن عبد الواحد الطرسوسى في قضاء الحنفية بدمشق، عوضاً عن أبيه.
وفيه كتب باستقرار الأمير سيف الدين أراق الفتاح نائب غزة في نيابة صفد، عوضاً عن الأمير الحاج آل ملك.
ومات فيها من الأعيان فخر الدين أحمد بن الحسن بن الجار بردى، شارح البيضاوى.(2/121)
ومات الأمير ألماس الناصري الحاجب، بدمشق.
ومات بهاء الدين أبو بكر بن موسى بن سكرة ناظر الدواوين بدمشق، في عاشر شعبان بها، عن ستين سنة.
وتوفي الملك الأشرف كجك بن محمد بن قلاوون.
ومات الأمير طقزدمر الحموى، وأصله من مماليك المؤيد إسماعيل بن علي صاحب حماة، بعثه للناصر محمد وهو شاب، فخطى عنه ورقاه حتى صار أمير مجلس، وزوجه بابنته. ثم ولي نيابة السلطنة في أيام المنصور أبي بكر، وولي نيابة حلب ودمشق، ثم قدم إلى القاهرة، ومات بها مستهل جمادى الآخرة؛ وله تنسب خانكاه طقزدمر بالقرافة وتوفي بدر الدين محمد بن محيي الدين بن فضل الله العمري الدمشقي كاتب السر، بدمشق في سادس عشري رجب.
وتوفي تاج الدين أبو الحسن علي بن عبد الله بن أبي بكر الأردبيلي الشافعي، مدرس المدرسة الحسامية طرنطاي بالقرافة. وكان إماما في الفقه والعربية والأصول، والجدول والحساب والمنطق؛ وقد اشتد صمه، وأنتفع بالقراة عليه جماعة.
وتوفي القاضى ضياء الدين محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن المناوي الشافعي؟؟؟، أحد نواب الحكم عند قاضي القضاة الشافعية، بالقاهرة في يوم السبت سادس رمضان، وتجاوز تسعين سنة.
ومات الأمير بيبرس الأحمدي أحد المماليك المنصورية البرجيه، في يوم الثلاثاء ثالث عشري المحرم، وهو في عشر الثمانين. وكان جركسي الجنس، تنقل حتى صار من أمراء الألوف في وظيفة أمير جاندار، ثم ولى نيابة صفد وطرابلس؛ وكان كريماً شجاعاً قوي النفس دينا، لم يركب قط فرسا إلا فحلاً ولم يركب حجرة قط.
ومات الأمير بدر الدين جنكلى بن البابا العجلى، أتابك العساكر، في يوم الإثنين سابع عشري ذي الحجة. قدم القاهرة سنة ثلاث وسبعمائة، وتنقل حتى صار رأس الميمنة. وله حفدة كبيرة، و لم ير أعف منه في الأمراء، مع الصدق في الديانة والحلم، والوقار وكثرة الصدقات فكان يخرج كل سنة ثمانية آلاف أردب من القمح، ومبلغ ثمانين ألف درهم، في وجوه البر، سوى زكاة ماله.
وتوفي تقي الدين محمد بن همام بن راجي الشافعي، إمام جامع الصالح خارج باب زويلة، وهو مصنف كتاب سلاح المؤمن وغيره.
وفيه ضربت عنق ششملم وعنق رفيقه، وفي يوم الإثنين عاشر رجب.
ومات الشريف رميثة بن أبي نمى بن أبي سعد حسن بن علي بن قتادة أمير مكة، يوم الجمعة ثامن ذي القعدة.بمكه
سنة سبع وأربعين وسبعمائة
يوم الإثنين أول المحرم: قدم منجك مدينة صفد، بكتاب السلطان يستدعي الأمير الحاج آل ملك، فسار معه إلى غزة، فقبض عليه بها وقيد. وقيل كان القبض عليه يوم الخميس عشري ذي الحجة، بغزة.
وفي أوله أيضاً قدم الأمير ملكتمر السرجواني من الكرك وهو مريض، فمات عند مسجد تبر ظاهر القاهرة؛ ودخل إليها ميتاً، فدفن بتربته.
وفيه أيضاً قدم الأمير شهاب الدين أحمد بن الأمير الحاج آل ملك من صفد؛ فأمسك من ساعته، وسجن.
وفيه أيضاً خلع على الأمير أسندمر العمري، واستقر في نيابة طرابلس.
وفي يوم السبت سادسه: قدم الأمير الحاج آل ملك نائب صفد، والأمير قمارة نائب طرابلس، مقيدين إلى قليوب. وركبا النيل إلى الإسكندرية، واعتقلا بها. وكان الأمير طقتمر الصلاح قد قبض على قمارى بطرابلس، وقيده وبعثه على البريد، وأوقع الحوطة على موجوده وفيه قبض على آينبك أخي قمارى، وعلى نصرات وغلبك وحواشيهم، وأحيط بموجودهم.
وفيه ركب مغلطاي الأستادار إلى صفد لإيقاع الحوطة على موجود الأمير الحاج آل ملك، وركب الطواشي مقبل التقوى لإحضار موجود قمارى من طرابلس وألزم مباشروهما بحمل جميع أمولهما، فوجد لآل ملك قريب ثلاثين ألف أردب غلة وألزم ولده.بمائة ألف درهم، وأخذ لزوجته خبية غمز عليها فيها أشياء جليلة وأخذ لزوجة قمارى صندوق فيه مال جزيل.
وفيه استقر الأمير رسلان بصل في نيابة حماة عوضاً عن طقتمر الصلاحي، ونقل طقتمر من نيابة حماة إلى نيابة حلب، عوضاً عن الأمير أرقطاي. وكتب بقدوم أرقطاى، وتوجه في ذلك الأمير قطلوبغا الكركي، ومعه التقليد فأنعم عليه أرقطاى بمائة ألف درهم، وأنعم عليه طقتمر بألف وخسمائة دينار، وعشرة آلاف درهم، ومائتي قطعة قماش، وعشرة أرؤس من الخيل، وخلعة السلطان، وخمسمائة أردب غلة من مصر، قيمتها مائة ألف درهم(2/122)
وفي عشريه: قدم الأمير ارقطاي من حلب، فخلع عليه، واستقر عوضًا عن الأمير جنكلى بن البابا رأس الميمنة.
وفيه خلع السلطان على أرغون العلائي زوج أمه، واستقر في نظر المارستان المنصوري، عوضاً عن الأمير جنكلى بن البابا. فنزل إليه أرغون، وأعاد جماعة ممن قطعهم ابن الأطروش بعد موت الأمير جنكلى. وأنشأ أرغون بجوار باب المارستان سبيل ماء ومكتب سبيل لقراءة أيتام المسلمين القرآن الكريم، ووقف عليه وقفا بناحية من الضواحي وفيه أنعم السلطان على طغريل بتقدمة ألف، وعزل تقي الدين سليمان بن مراجل من نظر الدولة، وقد كرهه الناس.
وفيه خلع على الأمير نجم الدين محمود بن شروين وزير بغداد، وأعيد إلى الوزارة، وكانت شاغرة.
وفيه خلع على علم الدين عبد الله بن زنبور، واستقر في نظر الدولة، عوضاً عن ابن مراجل. وعزل جميع من ولاه ابن مراجل من الشاميين وغيرهم، وأهينوا، وألزموا بحمل ما أخذوا من المعاليم، ونزعت أخفافهم. وألزم ابن مراجل بحمل جميع ما استأده من المعلوم، وبثمن الخلعة والبغلة والدواة، وقومت عليه بأزيد قيمة، وأرادوا أهانته بكل طريق وفيه استقر ابن سهلول في الاستيفاء، كما كان أولاً. واستقر النشو بن ريشة مستوفيا.
وفيه قدم الأمير مغلطاى.مما وجد للأمير الحاج آل ملك، وهو مبلغ خمسة وسبعون ألف درهم، وأربعة آلاف دينار. ووجد له أيضاً ثمن غلة مبتاعة. بمكة نحو مائة ألف وثلاثين ألف أردب، ونحو عشرين ألف جلد حبشي. ووجد له عشرون فرسا، سوى ما أرصده للتقدمة، وعدتها سبعون فرساً، سوى الهجن والبخاتى، ونحو عشرين بقجة قماش. ووجد له أربعة عشر قطار بخاتى، أنعم بها على أربعة عشر خادماً فشق ذلك على الأمراء.
وفيه قدم مقبل من طرابلس بجميع قماش نساء الأمير قمارى، وما وجده له، وفيه زنة سبعين مثقال من الجواهر، فرقه السلطان على اتفاق وغيرها، وفيه مبلغ أربعين ألف درهم وثلاثة آلاف دينار، وزركش بنحو مائتي ألف درهم.
وفي مستهل صفر: قدم ابن زعازع من البهنسا، وسعى ببعض الكتاب حتى سلم إليه على مائة ألف درهم، فعاقبه حتى مات. فاتهم ابن زعازع بأنه أخذ له مالاً كبيراً، وخرج الأمير مغلطاي إلى البهنسا وقبض عليه، وأخذ منه ألفي ألف ومائة وستين ألف درهم، ومائتي جارية، وستين عبداً وستين فرساً، وألفا وثمانمائة فدان على سبيل الرزق، سوى القنود والأعمال والمعاصر؛ ثم سمره مغلطاي وشهره في النواحي.
وفيه قدم طلب الأمير الحاج آل ملك؛ ففرقت مماليكه على الأمراء، ونزل بعصهم في البحرية.
وفيه أخرج مماليك قمارى من الحلقة.
وفيه انتهت عمارة قصر الأمير أرغون الكاملي وإصطبله الأعظم، وأنفق فيه مال عظيم، وأخد فيه من بركة النيل نحو العشرين ذراعا. فلما عزم أرغون الكاملي على النزول إليه مرض، فقلق السلطان لمرضه، فبعث له فرساً وثلاثين ألف درهم تصدق بها عنه. وأخرج الأمير أرغون العلائي أيضاً عشرة آلاف درهم تصدق بها عنه، وأفرج عن أهل السجون، وركب السلطان لعيادته بالميدان.
وفيه اهتم السلطان بالسفر إلى الحجاز، ورسم بحمل مائة ألف وخمسين ألف أردب شعير وندب لها الأمير عز الدين أزدمر الكاشف فألزم الأمير عز الدين أزدمر الفلاحين بالوجه البحري عن آخرهم بحمل شعير على حساب كل أردب بسبعة دراهم، وكتب لآل مهنا بالشام أن يسيروا الهجن المخبورة، فقدم حيار بن مهنا ومعه قود جليل، فقبل منه، وقومت خيوله بمائتي ألف درهم. ثم قدم أحمد بن مهنا أيضاً، بقود غير طائل.
وفي يوم الجمعة رابع عشريه: ولد للسلطان ولد ذكر من ابنة الأمير بكتمر الساقى.
وفي يوم السبت خامس عشريه: أفرج عن الأمير شهاب الدين أحمد بن الأمير الحاج آل ملك، وعن أخيه قمارى، وألزما بيوتهما.
وفي مستهل ربيع الأول: قدم البريد بانتشار الجراد بأعمل دمشق والبلقاء، ورعيه زروعهم وقد أدرك الشجر، وأنه عم البلد حتى وصل إلى الرمل وقرب من الصالحية؛ فهلك الشعر عن آخره.
وفيه تحسن سعر الغلة، حتى أبيع الأردب القمح بثلاثين درهما.(2/123)
وفيه توجه السلطان إلى سرياقوس، وأحضر عنده، الأوباش، فلعبوا باللبخة، وهي عصى كبار حدث اللعب في هذه الدولة، وقتل في اللعب بها جماعة. فلعبوا بها بين يديه، وقتل رجل رفيقه، فخلع على بعضهم، وأنعم على كبيرهم بخبز في الحلقة واستمر السلطان بلعب الكرة في كل يوم، وأعرض عن تدبير الأمور. فتمردت المماليك، وأخذوا حرم الناس، وقطعوا الطريق، وفسدت عدة من الجواري. وكثرت الفتن بسبب ذلك حتى بلغ السلطان، فلم يعبأ بهذا، وقال: " خلوا كل أحد يعمل ما يريد " .
فلما فحش الأمر قام الأمير أرغون العلائي فيه مع السلطان، حتى عاد إلى القلعه وقد تظاهر الناس بكل قبيح، ونصبوا أخصاصا في جزيرة بولاق والجزيرة الوسطانية التي سوها حليمة، بلغ مصروف كل خص فيها من ألفين إلى ثلاثة آلاف درهم. وعمل كل خص بالرخام والدهان البديع، وزرع حوله المقائي والرياحين، وأقام بها معظم الناس من الباعة والتجارة وغيرهم، وكشفوا ستر الحياء، وبالغوا في التهتك.مما تهوى أنفسهم في حليمة، وفي الطمية وتنافسوا في أرضها حتى كانت كل قصبة قياس تؤجر بعشرين درهماً، فيبلغ الفدان الواحد منها بثمانية آلاف درهم، ويعمل فيها ضامن يستأجر منها الأخصاص. فأقاموا على ذلك ستة أشهر حتى زاد الماء، وغرقت الجزيرة فاجتمع فيها من البغايا والأحدا وأنواع المسكرات ما لا يمكن حكايته، وأنفق الناس بها أموالا تخرج عن الحد في الكثرة. وكانت الأمراء والأعيان تسير إليها ليلا، إلى أن قام الأمير أرغون العلائي في أمرها قياماً عظيماً، وأحرق الأخصاص على حين غفلة، وضرب جماعة وشهرهم، فتلف بها مال عظيم جداً وفي هده الأيام: قل ماء النيل حتى صار ما بين المقياس ومصر يخاض، وصار من بولاق إلى منشاة المهراني ومن جزيرة الفيل إلى بولاق ومنها إلى المنية طريقاً واحداً. وبعد على السقائين طريق الماء، فأنهم صاروا يأخذون الماء من قريب ناحية منبابة وبلغت الراوية الماء إلى درهمين، بعد نصف وربع درهم؛ فشكا الناس ذلك إلى الأمير أرغون العلائي. فبلغ السلطان غلاء الماء بالمدينة، وانكشاف ما تحت بيوت البحر من الماء، فركب ومعه الأمراء وكثير من أرباب الهندسة حتى كشف ذلك، فوجد الوقت فيه قد فات بزيادة النيل واقتضى الرأى أن ينقل التراب والشقف من مطابخ السكر بمدينة مصر، ويرمي من بر الجيزة إلى المقياس، حتى يصير جسرا يعمل عليه، ويدفع الماء إلى الجهة التي أنحسر عنها. فنقلت الأتربة في المراكب، والقيت هناك إلى أن بقي جسراً ظاهراً، وتراجع الماء قليلا إلى بر مصر؛ فلما قويت الزيادة علا الماء على هذا الجسر.
وفيه لعب السلطان مع الأمراء بالكرة في الميدان من القلعة، فاصطدم الأمير بيبغا الصلاحي مع آخر سقطا معاً عن فرسيهما إلى الأرض. ووقع فرس بيبغا على صدره، فانقطع نخاعه، ومات لوقته، فأنعم بإقطاعه على قطلوبغا الكركى.
وفيه قدم الشريف عجلان بن رميثة من مكة وصحبته القود، فمنع من الأنعام عليه بعادته عند قدومه بقوده، وهى أربعة آلاف درهم. وكتب إلى أخيه ثقبة ألا يعارض وأن يحضر إلى القاهرة.
وفيه كتب إلى نائب حماة بإيقاع الحوطة على الأملاك والأراضي التي تقدم بيعها من الملك المؤيد إسماعيل ومن ولده، فأنها أبيعت بدون القيمة، فقام أربابها بقيمة المثل وحصل منهم ثلاثمائة ألف درهم.
وفيه قدم علاء الدين بن الحراني ناظر دمشق، وشكا من قطع طقتمر الصلاحي مرتبات الناس ببلاد الشام. فلم تسمع شكواه، ورسم له ألا يصرف لأحد مرتبا ولا حوالة يحال بها على مال الشام، بل يوفر الجميع لمهم السفر للحجاز. ثم عاد علاء الدين بن الحراني إلى دمشق، وتوجه صحبته تقي الدين سليمان بن مراجل، بشفاعته له في السفر.
وفيه قدمت رسل ابن دلغادر بكتاب يتضمن أنه أخذ قلعة كانت بيد الأرمن، إحتوى على ما فيها وقتل أهلها، فأنعم عليه بها.
وفيه أخرج الأمير ايتمش عبد الغني أحد الطلبخاناه على البريد، منفيا إلى الشام.(2/124)
وفيه ولد السلطان ولد ذكر من ابنة الأمير تنكز، فدقت البشائر. ونزل الأمير قطلوبغا الكركي إلى الأمراء يبشرهم، فلبس من أربعة وعشرين أميراً مقدماً أربعة وعشرين تشريفاً أطلس بحوائصها، سوى الذهب والفضة والخيل والتفاصيل. وأعفى قطلوبغا مقدمين من الأخذ منهما، وهما علاء الدين علي بن طغريل وبهادر العقيلي، من أجل أنهما أخذا الإمرة عن قريب. وأنعم عليه السلطان مع ذلك من الأهراء بخمسة عشر ألف أردب غلة، فاشتد حد المماليك له على ما ناله من السعادة فلم يطل عمر هذا المولود، ومات.
وفيه اشتدت المطالبة على أهل النواحي بالجمال والشعير والأعدال والأخراج والعبي، بسبب سفر السلطان للحجاز. وكثرت مغارم أهل النواحي للولاة والرقاصين، وشكا أرباب الإقطاعات ضرر بلادهم للسلطان، فلم يلتفت لهم. وقام في ذلك الأمير أرغون شاه أستادار مع الأمير أرغون العلائي، في التحدث مع السلطان في إبطال حركة السفر، حتى تفاوضا بسببه وتنافرا. فحدث الأمير أرغون العلائي السلطان في تركه السفر، فلم يصغ لقوله، وكتب باستعجال العرب بالجمال، واستحثاث طقتمر الصلاحي فيما هو بصدده من ذلك.
وفيه أوقع السلطان الحوطة.على أموال الطواشي عرفات، وأخرج إلى الشام. وقصد السلطان أخذ أموال الطواشي كافور الهندي، فشفعت فيه خوند طغاى، فأخرج إلى القدس. وكان عرفات وكافور من خواص السلطان الملك الناصر محمد ونالا سعادة عظيمة؛ وبنى كافور تربة عظيمة بالقرافة.
وفيه نفي أيضاً ياقوت الكبير، وكافور المحرم، وسرور الدمامينى.
وفي ثامن عشره: نفي أيضاً من الطواشية دينار الصواف، ومختص الخطائي.
وأهل ربيع الآخر: ففيه قدم الخبر.بموت تاج الدين محمد بن الزين خضر بن محمد ابن عبد الرحمن كاتب السر بدمشق، فرسم أن يستقر عوضه في كتابة السر بدمشق ناصر الدين محمد بن يعقوب عبد الكريم بن أبي المعالي، وأن يستقر جمال الدين إبراهيم ابن الشهاب محمود كاتب السر بحلب، على عادته.
وفيه اشتد فساد العربان بالصعيد والفيوم والإطفيحية، فأخرج الأمير غرلو إلى إطفيح فأمن غرلو شيخ العربان مغنى، وأخذ في التحيل على نمي حتى قبض عليه، وسلمه لمغنى، فعذبه عذاباً شديداً. فثارت أصحابه، وكبسوا الحي وتلك النواحي، وكسروا عرب المغنى، قتلوا منهم ثلاثمائة رجل وستين امرأة، وذبحوا الأطفال، ونهبوا الأجران وهدموا البيوت، ولحقوا بعربان الصعيد والفيوم فكانت عدة من قتل منهم في هذه السنة نحو الألفي انسان، لم يفكر أحد في أمرهم، ولا فيما أفسدوه.
وفيه مات ولد السلطان من ابنة الأمير تنكز، فولد له في يومه ولد ذكر من حظيته اتفاق سماه شاهنشاه، وسر به سروراً زائداً، وقصد أن يعمل له مهما وتدق البشائر فمنعه الأمير أرغون العلائي من ذلك، فعمل فرحا مدة سبعة أيام. وكان السلطان قد عمل لاتفاق على ولادتها بشخاناه وداير بيت، وغشاء مهد الولد وقماطه، عمل فيهم مبلغ ستة وثمانين ألف دينار. وحصل لآرباب الملهى أيام ألفرح من خلع الخوانين عليهم البغالطيق بداير زركش، وباولى وطرازات زركش وغير ذلك، ما يعظم قدره. ومع ذلك مات الولد يوم سابعه.
وفيه مات يوسف بن السلطان الناصر محمد، واتهم السلطان بقتله.
وفيه قدم الأمير طقتمر الصلاحي من الشام، ومعه مبلغ ألف ألف درهم، لتتمة جملة ما حمل من الشام ألف ألف وستمائة ألف درهم، مما توفر من المرتبات التي اقتطعت وجيء من الأعمال بالصنف، وذلك سوى الأصناف المستعملة برسم السفر.
وفيه ورد كتاب الأمير يلبغا اليحياوي نائب الشام يتضمن خراب بلاد الشام، مما اتفق بها من أخذ الأموال وانقطاع الجالب إليها، وأن الرأي تأخير السفر إلى الحجاز في هذه السنة فقام الأمير أرغون العلائي والأمير ملكتمر الحجازة في تصويب رأي نائب الشام، وذكرا ما حدث ببلاد مصر من نفاق العربان، وضرر الزرع، وكثرة مغارم البلاد. وما زالا حتى رجع السلطان عن السفر، وكتب لنائب الشام بقبول رأيه في ذلك، وكتب إلى الأعمال باسترجاع ما قبضه العرب من كرى الجمال ورمى البشماط الذي عمل على الباعة.(2/125)
فلم يوافق هذا غرض نساء الساطان ووالدته؛ وأخذت والدته في تقوية عزمه على السفر حتى قوي، وكتب لنائب الشام وحلب وغيرهما أنه لابد من السفر للحجاز، وأمرهم بحمل ما يحتاج إليه. واشترى السلطان الجمال، وطلب الكاشف، ورسم له عربان مصر وتفرقة المال عليهم، لكرى أحمال الشعير والدقيق والبشماط.
فتجدد الطلب على الناس، وحملت الغلال إلى الطحانين لعمل البشماط والدقيق، واستعيد ما رمي من دلك. فتحسن سعر الغلة، واختلت النواحي من العنف في الطلب، ورفعت أجرة الجمل إلى العقبة عشرة دراهم وإلى ينبع ثلاثين درهما، وإلى مكة خمسين درهماً واشتغل الناس بهذا المهم، وتوقفت أحوال أرباب المعايش، وقل الواصل من كل شىء.
وأخذ الأمراء في أهبة السفر، وقلقوا لذك، وسألوا الأمير أرغون العلائي والأمير ملكتمر الحجازي في الكلام مع السلطان في إبطال سفره، وتعريفه رقة حالهم من حين تجاريدهم إلى الكرك في نوبة الناصر أإحمد، ومن خراب بلادهم لطلب الكشاف والولاة فلاحيها بالشعير وغيره فكلما السلطان بذلك، فاشتد غضبه وأطلق لسانه؛ فما زالا به حتى سكن غضبه؛ فرسم من الغد الحج لجميع الأمراء بالتأهب للسفر، ومن عجز عن السفر يقيم بالقاهرة. فاشتد الأمر على الناس بديار مصر وبلاد الشام، وكثر دعاؤهم لماهم فيه من السخر والمغارم. وتنكرت قلوب الأمراء، وكثرت الإشاعة بتنكر السلطان على الأمير يلبغا اليحياوي نائب الشام، وأنه يريد مسكه حتى بلغه ذلك فاحترز على نفسه وبلغ الأمير يلبغا اليحياوي قتل يوسف أخي السلطان، وقوة عزم السلطان على سفر الحجاز موافق لأغراض نسائه، فجمع أمراء دمشق، وحلفهم على القيام معه، وبرز إلى ظاهر دمشق في نصف جمادى الأولى وأقام هناك وحضر إليه الأمير طرنطاي البشمقدار نائب حمص، والأمير أراق الفتاح نائب صفد، والأمير أستدمر نائب حماة، والأمير بيدمر البدري نائب طرابلس. فاجتمعوا جميعاً ظاهر دمشق مع عسكرها، وكتبوا بخلع الملك الكامل، وظاهروا بالخروج عن طاعته. وكتب الامير يلبغا اليحياوي نائب الشام إلى السلطان: " إني أحد الأوصياء عليك، وإن مما قاله الشهيد رحمه الله لي وللأمراء في وصيته، إذا أقمتم أحداً من أولادي و لم ترتضوا سيرته جروه برجله، وأخرجوه، وأقيموا غيره. وأنت أفسدت المملكة، وأفقرت الأمراء والأجناد، وقتلت أخاك، وقبضت على أكابر أمراء السلطان الشهيد. واشتغلت عن الملك، والتهيت بالنساء وشرب الخمر: وصرت تبيع أخبار الأجناد بالفضة " وذكر الأمير يلبغا اليحياوي له أموراً فاحشة عملها، فقدم كتابه في يوم الجمعة العشرين من جمادى الأولى. فلما قرأه السلطان الكامل تغير تغيراً زائداً، وأوقف عليه الأمير أرغون العلائي. بمفرده، فقال له: " والله لقد كنت أحسب هذا، وقلت لك فلم تسمع قولى " ، وأشار عليه بكتمان هذا. وكتب الكامل الجواب يتضمن التلطف في القول، وأخرج الأمير منجك على البريد إلى الأمير يلبغا اليحياوي في ثاني عشريه، ليرجعه عما عزم عليه، ويكشف أحوال الأمراء؛ وكتب السلطان إلى أعمال مصر بإطال السفر.
فكثرت القالة بين الناس بخروج نائب الشام عن الطاعة حتى بلغ الأمراء، والمماليك، فأشار الأمير أرغون العلائي على السلطان بإعلام الأمراء الخبر. فطلبوا إلى القلعة، وأخذ رأيهم، فوقع الاتفاق على خروج العسكر إلى الشام مع الأمير أرقطاي، ومعه من الأمراء منكلى بغا الفخري أمير جاندار، وآقسنقر الناصري، وطيبغا المجدي، وأرغون الكاملي، وأمير علي بن طغريل النوغاي، وابن طقزدمر، وابن طشتمر، وأربعين أمير طبلخاناه، وعشرين أمير عشرة، وأربعين مقدم حلقة. وحملت النفقة إليهم: لكل مقدم ألف دينار، ماعدا ثلاثة مقدمين لكل مقدم ثلاثة آلاف دينار؛ وكتب بإحضار الأجناد من البلاد فقدم كتب منجك من الغور.بموافقة النواب لنائب الشام، وأن التجريدة إليه لا تفيد فأنه يقول أن أمراء مصر معه. وقدم كتاب نائب الشام أيضاً - وفيه خط أمير مسعود بن خطير، وأمير علي بن قراسنقر، وقلاوون، وحسام الدين البقشمدار - يتضمن: " أنك لا تصلح للملك، وأنك أنما أخذته بالغلبة من غير رضى الأمراء " ، وعدد ما فعله.
ثم قال: " ونحن ما بقينا نصلح لك، وأنت فما تصلح لنا. والمصلحة أن تعزل نفسك " .(2/126)
فاستدعى السلطان الكامل الأمراء، وحلفهم على طاعته، ثم أمرهم بالسفر إلى ، فخرجوا من الغد، وخرج طلب منكلى بغا الفخري، وبعده أرغون الكاملي.
وعندما وصل أرغون الكاملي تحت القلعة خرجت ريح شديدة ألقت شاليشه إلى الأرض، فصاحت العامة: " راحت عليكم ياكاملية " ، وتطيروا بأنهم غير منصورين. وأخذ المجردون في الخروج شيئاً بعد شيء، وتقدم حلاوة الأوجاقي يوم الخميس عشريه، وأخبر بأن منجك ساعة وصوله دمشق قبض عليه يلبغا اليحياوي نائب الشام، وسجنه بالقلعة. فبعث السلطان الطواشي سرور الزينى لإحضار أخويه أمير حاجي وأمير حسين؛ فاعتذر بوعكهما، وبعثت أمهاتهما إلى الأمير أرغون العلائي والأمير الحجازي يسالأنهما في التلطف مع السلطان في أمرهما.
فبلغت الأمير أرغون بعض جواري زوجته، أم السلطان الكامل، أنها سمعت السلطان وقد سكر وكشف رأسه وقال: " إلهي أعطيتني الملك، ومكنتني من آل ملك وقمارى، وبقي العلائي والحجازي، فمكنى منهما حتى أبلغ غرضى فيهما " ؛ فأقلقه ذلك. ثم دخل الأمير أرغون العلائي على السلطان في خلوة، فإذا هو متغير الوجه مفكر. فبدره السلطان بأن قال له: " من جاءك من جهة إخوتي أنت والحجازي " ؛ فعرفه أن النساء دخلن عليهما، وطلبت أن يكون السلطان طيب الخاطر على أخويه ويؤمنهما فأنهما خائفان. فرد عليه السلطان جواباً جافياً، ووضع يده في السيف ليضربه به، فقام عنه لينجو بنفسه.
وعرف الأمير أرغون العلائي والأمير ملكتمر الحجازي بما جرى له، وشكا من فساد السلطنة. فتوحش خاطر كل منهما، وأنقطع العلائي عن الخدمة وتعلل. وأخذت المماليك أيضاً في التنكر على السلطان، وكاتب بعضهم الأمير يبلغا اليحياوي نائب الشام، واتفقوا بأجمعهم حتى اشتهر أمرهم وتحدثت به العامة؛ ووافقهم الأمير قراسنقر.
فألح السلطان في طلب أخويه، وبعث قطلوبغا الكركي في جماعة حتى هجموا عليهما ليلاً؛ فقامت النساء ومنعوهما منهم. فهم السلطان أن يقوم بنفسه حتى يأخذهما، فجيء بهما إليه وقت الظهر من يوم السبت تاسع عشريه، فأدخل بهما إلى موضع، ووكل بهما، وقام العزاء في الدور عليهما. وهمت المماليك بالثورة والركوب للحرب.
وفي يوم الاثنين مستهل جمادى الآخر: خرج الأمير أرقطاى بطلبه، حتى وصل طلبه إلى باب زويله، ووقف مع الأمراء في الموكب تحت القلعة، وإذا بالناس قد اضطربوا. ونزل الأمير ملكتمر الحجازي سائقاً يريد إصطبله، وتبعه الأمير أرغون شاه أيضاً إلى جهة إصطبله. وسبب ذلك أن السلطان جلس بالإيوان على العادة، وقد بيت مع ثقاته القبض على الأمير ملكتمر الحجازي والأمير أرغون شاه إذا دخلا، وكانا جالسين ينتظران الإذن على العادة. فخرج طغيتمر الدوادار ليأذن لهما، فأشار لهما بعينه أن يذهبا وكان قد بلغهما التنكر عليهما، فقاما من فورهما ونزلا إلى خيولهما، فلبسا وسارا إلى قبة النصر، وبعث الأمير ملكتمر الحجازي يستدعي آقسنقر من سرياقوس، فما تضحى النهار حتى اجتمعت أطلاب الأمراء بقبة النصر.
وطلب السلطان الأمير أرغون العلائي واستشاره، فأشار عليه بأن يركب بنفسه إليهم، فركب ومعه الأمير أرغون العلائي وقطلوبغا الكركي وتمر الموساوي، وعدة من المماليك. وأمر السلطان فدقت الكوسات حربيا، ودارت النقباء على أجناد الحلقه والمماليك ليركبوا، فركب بعضهم.
هذا وقد قدم آقسنقر إلى قبة النصر، وصار السلطان في جميع كبير من العامة، وهو يسألهم الدعاء، فنظروا إليه وأسمعوه ما لا يليق. وسار السلطان في ألف فارس حتى قابل الأمراء، فأنسل عنه أصحابه، وبقي في أربعمائة فارس. فبز له آقسنقر ووقف معه، وأشار عليه أن ينخلع من السلطنة، فاجابه إلى ذلك وبكى. فتركه آقسنقر وعاد إلى الأمراء، وعرفهم ذلك. فلم يرض أرغون شاه، وبدر ومعه قرابغا وصمغار وبزلار وغرلو في أصحابهم حتى وصلوا إلى السلطان، وسيروا إلى الأمير أرغون العلائي أن. يأتيهم، ليأخذوه إلى عند الأمراء. فلم يوافق الأمير أرغون العلائي على ذلك، فهجموا عليه، وفرقوا من معه، وضربوه بدبوس حتى سقط إلى الأرص؛ فضربه يلبغا أروس بسيف قطع خده، وأخذ أسيراً، فسجن في خزانة شمايل وفر السلطان الكامل شعبان إلى القلعة، واختفى عند أمه زوجة الأمير أرغون العلائي.(2/127)
وسار الأمراء إلى القلعة، وأخرجوا أمير حاجي وأمير حسين من سجنهما، وقبلوا يد أمير حاجي، وخاطبوه بالسلطة. وطلبوا الكامل شعبان وسجنوه، حيث كان أخويه مسجونين؛ ووكل به قرابغا القاسمي وصمغار.
ومن غرائب الاتفاق أنه كان قد عمل طعام لأمير حاجي وأمير حسين حتى كان غداءهما، وعمل سماط السلطان على العادة. فوقعت الضجة، وقد مد السماط فركب السلطان شعبان من غير أكل. فلما انهزم شعبان وقبض عليه، وأقيم أخوه أمير حاجي بدله، مد السماط بعينه له فأكل معه حاجي؛ وأدخل بطعامه وطعام أمير حسين إلى شعبان الكامل، فأكله في السجن ثم قتل شعبان في يوم الأربعاء ثالثه وقت الظهر، ودفن عند أخيه يوسف، ليلة الخميس فكانت مدته سنة وثمانية وخمسين يوماً، وكثر التظاهر فيها بالمنكرات، لشغفه باللهو، وعكوفه على معاقرة الخمر، وسماع الأغاني واللعب، وبيعه الإقطاعات والولايات حتى إن الإقطاع كان يخرج عن صاحبه وهو حي.بمال الآخر، فإذا وقف من أخرج إقطاعه قيل له: " نعوض عليك " وأخذ الأمراء على شعبان تمكينه الخدام والنساء من التصرف في المملكة، والتهتك في النزه والصيد، واللعب بالكرة بالهيئات الجميلة، وركوب الخيل المسومة، وعدم الاحتشام من فعل المنكرات، حتى أن حريمه إذا نزلن إلى نزهة تبلغ عندهن الجرة الخمر إلى ثلاثين درهماً وشره حريم شعبان فيما في أيدي الناس من الدواليب والأحجار، والبساتين والدور، ونحوها. فأخذت أمه معصرة وزير بغداد، وأخذت إتفاق أربعة أحجار وأخدت أمه أيضاً من وزير بغداد منظرة على بركة الفيل.
وحدث في أيامه أخذ خراج الرزق، وزيادة القانون، ونقص الأجاير؛ وأعيد ضمان أرباب الملاعيب. و لم يوجد له من المال سوى مبلغ ثمانين ألف دينار، وخمسمائة ألف درهم. وكان مع ذلك مهاباً سيوساً، متفقداً لأحوال المملكة، لا يشغله لهوه عن الجلوس للخدمة؛ وكان حازماً ذا رأي واحتياط ومحبة لجمع المال، وفيه قيل:
بيت قلاوون سعاداته ... في عاجل كانت بلا آجل
حل على أملاكه للردى ... دين قد استوفاه بالكامل
السلطان الملك المظفر زين الدين حاجي بن الناصر محمد بن قلاوون الصالحي الألفي سجنه أخوه شعبان الكامل كما تقدم، ومعه أخوه حسين. فلما انهزم شعبان من الأمراء مر وهو سائق في أربعة مماليك إلى باب السر، فوجده مغلقا والمماليك بأعلاه، فتلطف بهم حتى فتح له أحدهم، ودخل ليقتل أخويه، فلم يفتح الخدام له الباب، فمضى إلى أمه.
وصعد الأمراء إلى القلعة، وقد قبضوا على الأمير أرغون العلائي، وعلى الطواشي جوهر السحرتى اللالا، وأسندمر الكاملي، وقطلوبغا الكركى، وجماعة ودخل بزلار وصمغار راكبين إلى باب الستارة، وطلبا أمير حاجي، فادخلهما الخدام إلى الدهيشة حتى أخرجوه وأخاه من سجنهما. وبشرا حاجي بالظفر. ثم دخل الأمير أرغون شاه إلى حاجي، وقبل له الأرض، وقال له: " باسم الله، اخرج أنت سلطاننا " ، وسار به وبحسين إلى الرحبة، وأجلسه على باب الستارة.
ثم طلب الأمير أرغون شاه شعبان الكامل حتى وحده قائما بين الأزيار، وقد اتسخت ثيابه؛ فأخرجه إلى الرحبة، وأدخله إلى الدهيشة حتى سجنه بها، حيث كان حاجي.
وطلب الأمير أرغون شاه الخليفة والقضاة، وأركب حاجي من باب الستارة إلى الإيوان وحمل المماليك أمير حسين على أكتافهم حتى جلس حاجي على سرير الملك، في يوم الإثنين مستهل جمادى الآخرة. ولقب حاجي بالملك المظفر، له من العمر خمس عشرة سنة. وقبل الأمراء الأرض بين يديه، وحلف لهم أولا أنه لا يؤذي أحداً منهم، ولا يخرب بيت أحد، وحلفوا له على طاعته. وركب الأمير بيغرا البريد ليبشر الأمير يلبغا اليحياوي نائب الشام، ويحلفه وأمراء الشام.
وفيه كتب إلى ولاة الأعمال بإعفاء النواحي من المغارم، ورماية الشعير والبرسيم.
وفيه حمل الأمير أرغون العلائي إلى الإسكندرية.
وفي يوم الأربعاء ثالثه: قبض على الشيخ علي الدوادار، وعلى عشرة من الخدام الكاملية، وسلموا إلى شاد الدواوين. وسلم له أيضاً الطواشي جوهر السحرتى وقطلوبغا الكركي ومقبل الرومي، وألزموا بحمل الأموال التي أخذوها من الناس على قضاء الأشغال، فعذبوا بأنواع العذاب، ووقعت الحوطة على موجودهم.
وفيه قبض على الأمير تمر الموساوي، وأخرج إلى الشام(2/128)
وفيه أمر بأم الكامل وزوجاته، فأنزلن من القلعة إلى القاهرة وعرضت جواري دار السلطان، فبلغت عدتهن خمسمائة جارية، فرقن على الأمراء.
وفيه أحيط بموجود إتفاق، وأنزلت من القلعة. وكانت سوداء حالكة السواد اشترتها ضامنة المغالي بدون الأربعمائة درهم من ضامنة المغاني.بمدينة بلبيس، وعلمتها الضرب بالعود على عبد علي العواد، فمهرت فيه. وكات إتفاق حسنة الصوت جيدة الغناء، قدمتها ضامنة المغاني لبيت السلطان، فاشتهرت فيه، حتى شغف بها الصالح إسماعيل وتزوج بها. ثم لما تسلطن شعبان الكامل باتت عنده من ليلته، لما كان في نفسه منها أيام أخيه، ونالت من الحظوة والسعادة ما لا عرف في زمانها لامرأة غيرها، حتى أنه عمل لها داير بيت طوله اثنان وأربعون ذراعا، وعرضه ستة أذرع، فيه خمسة وتسعون ألف دينار مصرية سوى البشخاناه والمخاد والمساند. وكان لها أربعون بذلة ثياب مرصعة بالجوهر، وست عشرة بدلة بداير زركش وثمانون مقنعة فيها ما قيمته عشرون ألف درهم، وأقلها بخمسة آلاف درهم، إلى غير ذلك مما يجل وصفه.
وفيه وفر من مصروف الحوائج خاناه في كل يوم أربعة آلاف درهم.
وفيه رسم بإعادة الأملاك التي أخذها حريم الكامل لأربابها؛ فاستعاد الوزير نجم الدين معصرته، وأخذ من اتفاق وغيرها ما أخذته من الناس.
وفيه نودي في القاهرة ومصر برفع الظلامات، ومنع أرباب الملاعيب جميعهم.
وفي عاشره: وجد صندوق مفتاحه تحت يد الشيخ علي الدوادار،. فيه براني فضة مختومة، وأحقاق فتحت بحضرة الأطباء، فإذا هي سموم قاتلة. فعرض العذاب على الشيخ علي حتى اعترف أن المزين المغربي الذي أقامه الكامل رئيس الجرائحية ركب ذلك. فاحترق بالنار قدام الايوان وكان هذا المغربى تعرف بأولاد السلطان وهم بقوص، وقدم معهم؛ فلما تسلطن شعبان الكامل تقرب إليه بعمل السموم وصناعة الكيمياء.
وكان قد قدم في الأيام الناصيرية محمد بن قلاوون تاجر فرنجى بهدية إلى ملكتمر، الحجازي فأعجبته مصر وأسلم، وعرف بآقسنقر الرومي. وأنعم عليه السلطان الناصر محمد بن قلاوون بإمرة عشرة، وما زال.بمصر إلى أيام شعبان الكامل فتقرب إليه آقسنقر الرومي بعمل الفلك والشعبذة، واختص به، وقام مع المغربي في عمل السموم؛ وخرج على البريد مرارا لإحضار الحشائش القاتلة من بلاد الشام، حتى ركبت بين يدى الكامل وفيه نقل علم الدين عبد الله بن زنبور من نظر الدولة إلى نظر الخاص، عوضاً عن فخر الدين بن السعيد.
وفيه قبض على ابن السعيد، وألزم بحمل مال.
وفيه خلع على موفق الدين عبد الله بن إبراهيم، واستقر في نظر الدولة وخلع على سعد الدين بن جرباش، واستقر في الاستيفاء، عوضاً عن ابن ريشة.
وفيه قبض على أقطوان متولي الأهراء، والصناعة، وشد الأوقاف الصلاحية، ونظر الحرمين، وسلم لشاد الدواوين، فأنه كان تجاه أستاذه الطواشي شجاع الدين اللالا، واجتمع له خمس عشرة وظيفة، وبعد صيته واشتدت حرمته.
وفيه قدم بيغرا من الشام، وقد لقى الأمير يلبغا اليحياوي نائب الشام، وقد برز خارج دمشق يريد المسير إلى مصر بالعساكر فسر الأمير يلبغا اليحياوي سروراً زائداً بإزالة الكامل وإقامة أخيه المظفر حاجي، وعاد إلى دمشق، وحلف الأمراء على العادة.
وأقام يلبغا اليحياوي الخطبة، وضرب السكة باسم السلطان حاجي وسير دنانير ودراهم منها وكتب يهنئ السلطان حاجي بجلوسه على تخت الملك.
وشكا الأمير يلبغا اليحياوي من نائب حلب، ونائب غزة ونائب قلعة دمشق مغلطاي المرتيني، ومن نائب قلعه صفد قرمجي، من أجل أنهم لم يوافقوه على خروجه في طاعة شعبان الكامل. فرسم بعزل طقتمر الأحمدي نائب حلب، وقدومه إلى مصر، واستقرار الأمير بيدمر البدرى نائب طرابلس عوضه في نيابة حلب، واستقرار الأمير أسندمر العمري نائب حماة في نيابة طرابلس، والقبض على مغلطاي المرتيني نائب قلعة دمشق، وعلى قرمجي نائب قلعة صفد، وعزل نائب غزة، وأن يحضر الأمير أيتمش عبد الغني وقطليجا الحموي إلى مصر، واستقرار أمير مسعود بن خطير في نيابة غزة، واستقرار طقتمر الصلاحي في نيابة حمص.
وكان الأمير يلبغا اليحياوي نائب الشام لما عاد إلى دمشق، عمر قبة عند مسجد القدم حيث كان قد برز، وسماها قبة النصر؛ وهي التي تعرف بقبة يلبغا.(2/129)
وفي رابع عشره: خلع علي بمنبر السحرتى، واستقر مقدم المماليك، عوضاً عن محسن الشهابي.
خلع على مختص الرسولى، واستقر زمام الدور، فأنعم عليه بإمرة طبلخاناه.
وفيه قبض على ممدود بن الكوراني أمير طبر، وعلى أخيه علاء الدين علي بن الكوراني واستقر جمال الدين يوسف وإلى الجيزة عوضه أمير طبر، وعزل علاء الدين الكوراني من كشف الوجه القبلي.
وفيه أنعم بإقطاع الأمير أرغون العلائي على الأمير أرغون شاه.
وفيه أنعم على كل من الأمير أصلم والأمير أرقطاي بزيادة اقطاعه.
وفيه استقر علاء الدين بن الأطروش في حسبة دمشق، وتدريس الخاتونية.
وفيه أنعم على ابن الأمير تنكز بإمرة طبلخاناه، وعلى أخيه بإمرة عشرة.
وفيه أنعم على ابن الأمير ألطنبغا نائب حلب، بإمرة عشرة في دمشق.
وفي يوم الإثنين خامس عشره: أمر السلطان ثمانية عشر أميراً، فكان يوماً مشهوداً كثر فيه جميع الناس عند نزولهم إلى القبة المنصورية على العادة.
وفي سابع عشرة: أخرج آقجباي إلى حماة.
وفي يوم الخميس ثالث شهر رجب: خلع على الأمير أرقطاى، واستقر نائب السلطان باتفاق الأمراء عليه، بعدما تمنع من ذلك تمنعاً كثيراً، حتى قام الحجازي بنفسه وأخذ السيف، وأخذ أرغون شاه الخلعة، ودارت الأمراء حوله وألبسوه على كره منه. فخرج الأمير أرقطاى في موكب عظيم حتى جلس في شباك دار النيابة، وحكم بين الناس فرسم له بزيادة ناحيتي المطرية والخصوص لأجل سماط النيابة.
وفيه توجه السلطان إلى سرحة سرياقوس على العادة.
وفيه خرج الأمير بيدمر البدرى إلى نيابة حلب.
وفي يوم الإثنين ثامن عشريه. خلع على الأمير قطليجا، واستقر في ولاية القاهرة، وفيه نقل من تسليم شاد الدواوين إلى تسليم والي القاهره ستة خدام، وهم نصر الهندي، وأنس، وفاتن الصالحي، وسرور الزيني، وعنبر سيغا، وجوهر السحرتى اللالا، ومعهم المزين المغربي، ونصراني راهب. ورسم بتسميرهم جميعاً، فأخرجوا من الغد ليسمروا بسوق الخيل تحت القلعة، وأقعدوا على الجمل وربطوا. فشفع فيهم الأمراء فأنزلوا ومضوا بهم ماشين إلى خزانة شمايل؛ ثم أفرج عنهم في يقية يومهم، ونفوا من مصر وكان القمح قد تحسن في الدولة الكاملية من أول السنة، هو وجميع الغلال، وبلغ خمسة وخمسين درهماً الأردب، وبلغ الشعير اثنين وعشرين درهماً الأردب، والفول عشرين درهما. فانحط سعر القمح في الأيام المظفرية إلى خمسة وثلاثين درهماً، ونقص من بقية الغلال ثلث سعرها، فتيامن الناس به.
وفيه أخذت الباعة تتعنت في الفلوس، وترد الصالحية والكاملية حتى توقفت الأحوال، وعاد سعر الغلال إلى ما كان عليه، فنودي برد القصوص من الفلوس، ورد الرصاص والنحاس الأصفر منها، وألا يؤخذ إلا ما عليه سكة. وترافقوا بالناس، و يضرب أحد منهم بسبب ذلك، فمشت الأحوال.
وفيه قدم الأمير أيتمش عبد الغني، والأمير قطليجا الحموي. فرسم لأرغون الكاملي بلزوم بيته، وأخرجت تقدمته، وعوض عنها بطبلخاناه يأكلها وهو في بيته.
وفي مستهل شعبان: ابتدأ مرض الأمير بهاء الدين أصلم، فأقام أياماً ومات؛ فأنعم بإمرته على طغيتمر النجمي الدوادار. وأخذ إقطاعه - وهو عبرة مائة ألف وأربعين ألف دينار فسلخ منه مبلغ أربعين ألف دينار، وأضيفت لديوان الخاص.
وفيه قدم الأمير سيف بن فضل، فخلع عليه، ووعد بإمرة العرب، وقبلت خيوله التي صار للسلطان به أنس.
وفيه خلع على الأمير تمربغا العقيلي، واستقر في نيابة الكرك عوضاً عن الأمير قبلاي باستعفائه.
وفيه قدم نغيه مملوك المحسني، من برقة فاراً. وكان قد ورد في الأيام الكاملية أن قايد شيخ برقة مات، بعدما خالف عليه أقاربه. فسمي نغيه في إقطاعه وأن يكون أمير برقة ويأخذ العداد على العادة، ويقوم بخمسين فرساً. فأنعم عليه بذلك، وتوجه إلى عداد الأغنام بالعسف، حتى جمع منها شيئاً كثيراً، واقتنى الجمال والخيل.فلما بلغ أهل برقة قتل الملك الكامل شعبان ثاروا به، وقتلوا من أجناده ثلاثين رجلاً، وفر بنفسه إلى القاهرة.
وفيه رسم بإزالة ما أحدثه غرلو والي القاهرة على باب زويلة. وذلك أنه نصب خشبتين وعمل فيهما بكرتين، وأرخى فيهما سلباً، ليرتفع فيهما المجرمين حتى يهلكا، فأزيلتا. ورسم أن يكون توسيط من يوسط أو شنقه على كيمان البرقية خارج سور القاهرة.(2/130)
وفيه أخرج الأمير بيغرا لكشف الجسور بالوجه القبلي، والأمير أرلان لكشف الجسور بالوجه البحري.
وفي يوم الإثنين خامس عشري: خرج الأمير أرغون شاه أستادار على البريد، لنيابة صفد وسبب ذلك تكبره وتعاظمه في نفسه، وتحكمه على السلطان فيما يرسم به، ومعارضته، وفحشه في مخاطبة السلطان والأمراء، حتى كرهته النفوس وعزم السلطان على مسكة، فتلطف به النائب الأمير أرقطاى حتى تركه، وخلع عليه بنيابة صفد وأخرجه من وقته خشية من فتنة يثيرها، فإنه كان قد اتفق مع عدة من المماليك على المقامرة وأنعم بإقطاعه على الأمير ملكتمر الحجازي، وأعطى ناحية بوتيج زيادة عليه.
وفيه استقر الصاحب تقي الدين أحمد بن الجمال سليمان بن محمد بن هلال في الشام عن ابن الحراني، وكان بمصر من الأيام الكاملية شعبان.
وفيه قدم أحمد بن مهنا في طلب إمرة العرب، فلم يقبل السلطان عليه.
وفي يوم الأحد أول شوال:.تزوج السلطان بابنة الأمير تنكز زوجة أخيه.
وفي آخره طلبت إتفاق إلى القلعة، فطلعت بجواريها مع الخدام، وتزوج بها السلطان خفية، وعقد له عليها شهاب الدين أحمد بن يحيى الجوجري شاهد الخزانة. وبنى السلطان عليها من ليلته، بعدما جليت عليه، وفرش تحت رجليها ستون شقة أطلس، ونثر عليها الذهب. ثم ضربت بعودها وغنت، فأنعم عليها السلطان بأربعة فصوص وست لؤلؤات، ثمنها أربعمائة ألف درهم.
وفي ثامنه: أنعم السلطان على طنيرق أحد مماليك أخيه يوسف بتقدمة ألف، ونقله من الجندية إلى التقدمة لجماله وحسنه؛ فكثر كلام المماليك بسبب ذلك وفيه رسم بإعادة ما خرج عن إتفاق وخدامها وجواريها من الرواتب، وطلب عبد على العواد معلم إتفاق إلى القلعة، فغنى للسلطان، فأنعم عليه بإقطاع في الحلقة زيادة على ما بيده، وأعطاه مائتي دينار وكاملية حرير بفرو سمور.
وأنهمك السلطان في اللهو، وشغف باتفاق حتى أشغلة عن غيرها، وملكت قلبه بفرط حبه لها. فشق ذلك على الأمراء والمماليك، وأكثروا من الكلام حتى بلغ السلطان، وعزم على مسك جماعة منهم، فمازال به الأمير أرقطاى النائب حتى رجع عن دلك ورسم السلطان في يوم الجمعة سادسه بعد الصلاة أن يخلع على قطليجا الحموي، واستقراره في نيابة حماة، عوضاً عن طيبغا المجدي، وخلع أيضاً على أيتمش عبد الغني، فاستقر في نيابة غزة؛ وخرجا من وقتها على البريد.
وفيها جلس السلطان والأمير أرقطاي النائب لعرض المماليك، وانتقى من كل عشرة اثنين وزاد إقطاعاتهم وأكرمهم، وقدم منهم جماعة. وقصد السلطان عرض أجناد الحلقة، فتلطف به الأمير أرقطاى النائب حتى كف عن عرضهم.
وفيه قدم الخبر بغلاء الأسعار بدمشق، حتى أبيع الخبز كل رطلين بدرهم، والقمح كل غرارة.بمائة وسبعين، وفيه تأخر المطر بعامة بلاد الشام.
وتوقفت أحوال الدولة، من كثرة رواتب الخدام والقهرمانات والعبيد والغلمان، وزيادتها عما كانت عليه في الأيام الكاملية. فأشار غرلو بأن توزع على المباشرين جامكية شهرين يقبضها المعاملون، فوزعت عليهم، واحتال بها المعاملون فمشت الأحوال قليلاً. وكان غرلو قد تمكن من السلطان، وصار يدخل مع الخاصكية، فإذا أشار بشيء قبل قوله.
وفيه قدم رسول ابن دلغادر بهديته، فخلع عليه؛ وجهزت له خلعة مع بريدي فأخذها نائب الشام، ومنع من حملها إليه، فأنه كان يكرهه، ويريد إقامة غيره والقبض عليه.
وفي ذي القعدة: توجه أحمد بن مهنا عائدا إلى بلاده، من غير طائل وفيه دخل السلطان على زوجته بنت تنكز، وعمل المهم سبعة أيام جمعت سائر أرباب الملهى، فخص كل جوقة خمسة آلاف درهم. ونثر السلطان على العروس عند جلائها الذهب، وصبحها من الغد بألفي دينار، بعدما زاد لها في جهازها.بمبلغ ستين ألف دينار.
وفيه خلع على سيف بن فضل بإمرة العرب، وأنعم عليه بزيادة ثلاثمائة ألف درهم في السنة من إقطاع أحمد بن مهنا، وأعيد إلى بلاده، فسار إليها.
وفي مستهل ذي الحجة: توجه الأمير ملكتمر الحجازي للصيد، وصحبته خمسة عشر أميرا.
وفيه تقدم الأمير طقتمر الصلاحي من حلب، فلم تطل إقامته حتى مات.
وفيه قتل قرمجي بن أقطوان نائب قلعة صفد، بدمشق في شعبان؛ وأخذ ماله.
وفيه قدم حمل سيس، بحق النصف.(2/131)
وخرجت هذه السنة وقد مر بالناس فيها شدائد من غلاء الأسعار لغلال مصر والشام ونفاق العربان، وتوقف النيل، واختلاف الدولة.
ومات فيها من الأعيان الأمير بهاء الدين بن أصلم، أحد المماليك المنصورية قلاوون، في يوم السبت عاشر شعبان؛ وإليه ينسب جامع أصلم خارج القاهرة.
ومات الأمير بيدمر الأشرفي، أحد أمراء دمشق.
ومات الأمير الحاج آل ملك الجوكندار، مقتولاً بالاسكندرية في الأيام الكاملية؛ وأحضر ميتا إلى القاهرة، في يوم الجمعة تاسع عشرى جمادى الآخر. وأصله من كسب الأبلستين في الأيام الظاهرية بيبرس، سنة ست وسبعين وستمائة، فاشتراه قلاوون وهو أمير، ومعه سلار. وأهدى قلاوون سلاراً لولده علي، وآل ملك للسعيد بركة بن الظاهر زوج ابنته. فأعطاه الملك السعيد لكوندك، ثم سار بعده لعلي بن قلاوون، وترقى حتى صار نائب السلطنة زمن السلطان عماد الدين إسماعيل بن الناصر محمد. وله تنسب مدرسة آل ملك بالقاهرة، وجامع آل ملك بالحسينية؛ وكان خيراً ديناً.
وتوفي تاج الدين محمد بن الخضر بن عبد الرحمن بن سليمان بن أحمد بن علي المصري كاتب السر بدمشق، في ليلة الجمعة تاسع ربيع الآخر، وقد أناف على الستين.
ومات الأمير قمارى أخو بكتمر الساقي مقتولاً، وقد ولى أستادارا، وعمل نائب طرابلس، وذكر أنه كان في بلاده راعي غنم.
ومات الأمير ملكتمر السرجواني نائب الكرك، في يوم الإثنين مستهل المحرم خارج القاهرة، وقد قدم مريضاً.
وتوفي الشيخ شمس الدين محمد بن محمد بن نمير بن السراج المقرئ الكاتب، في يوم الخميس نصف شعبان.
ومات الشيخ ركن الدين عمر بن الشيخ إبراهيم الجعبري، يوم الخميس سلخ ذي الحجة ومات الشيخ عبد الله بن علي بن سليمان بن فلاح عفيف الدين بن عبد الرحمن اليافعي اليمني الشافعي، في ليلة الأحد العشرين من جمادى الآخرة بمكة.
ومات ملك تونس أبو بكر بن محمد بن عبد الواحد بن أبي حفص، في ليلة الأربعاء ثاني رجب، بعد ما ملك ثلاثين سنة تنقص شهراً وسبعة أيام، وأقيم بعده ابنه أبو حفص عمر.
ومات الأمير طقتمر الصلاحي أحد خواص شعبان الكاملي؛ وكان من أعين أمراء مصر، ثم أخرج لنيابة حمص، فمات بها.
سنة ثمان وأربعين وسبعمائة
يوم الثلاثاء أول المحرم: ركب السلطان في أمرائه الخاصكية، ولعب بالكرة في الميدان تحت القلعة، فغلب الأمير ملكتمر الحجازي، فلزم بعمل وليمة في سرياقوس للسلطان، ذبح فيها خمسمائة رأس غنم، وعشرة أفراس، وعمل أحواضاً مملوءة بالسكر المذاب، وجمع سائر أرباب الملهى؛ وحضر إليه السلطان والأمراء.
وفيه قدم كتاب أسندمر العمرى نائب طرابلس يسأل الإعفاء، فأجيب إلى ذلك. وخلع على الأمير منكلى بغا الفخري أمير جاندار، واستقر في نيابة طرابلس، وسار في يوم الإثنين حادي عشريه.
وفي هذا الشهر: وقف جماعة للسلطان، وشكوا من بعد الماء وانحساره عن بر مصر والقاهرة حتى غلت روايا الماء. فرسم بنزول المهندسين لكشف ذلك، فكتب تقدير ما يصرف على الجسر مبلغ مائة ألف وعشرين ألف درهم، جبيت من أرباب الأملاك المطلة على النيل، حسابا عن كل دراع خمسة عشر درهماً، فبلغ قياسها سبعة آلاف ذراع وستمائة ذراع. وقام باستخراج ذلك وقياسه محتسب القاهرة ضياء الدين يوسف ابن.خطيب بيت الآبار.
وفيه توقفت أحوال الدولة من كثرة رواتب الخدام والعجائز والجواري، وأخذهم بأرض بهيتت من الضواحي، وبأرض الجيزة وغيرها، بحيث أخذ مقبل الرومي عشرة آلاف فدان من شاسع البحيرة، قام السلطان والأجناد بكلفة جسورها.
وفيه فرق السلطان نصف إقطاع منكلى بغا الفخري، وتأخر نصفه.
وفيه قدم الأمير بيغرا من كشف الجسور؛ فخلع عليه، واستقر أمير جاندار عوضاً عن منكلى بغا الفخري.
وفيه قدم الأمير أسندمر العمري من طرابلس، فأنعم عليه ببقية إقطاع مكلى بغا الفخري وفي خامس عشريه: قدم الحاج، وأخبروا برخاء أسعار مكة، وحسن سيرة الشريف عجلان.
وفيه قدم تجار اليمن والهند، وكان الفلفل قد عز وجوده بالقاهرة حتى بلغ الرطل ستة وأربعين درهما، ولم يعهد مثل ذلك فيما سلف، فأبيع عند قدوم الحاج بخمسة دراهم الرطل.(2/132)
ووقع اختلاف في أمر الوقوف بعرفة، فإن الوقفة كانت عند أهل مكة يوم الجمعة، على ما ثبت.بمكة على قاضيها، بحضور قاضي القضاة عز الدين عبد العزيز بن جماعة، وغيره من حجاج مصر والشام والعراق. وكان يوم عرفة.بمصر والإسكندرية يوم الخميس، فقام الشيخ علاء الدين علي بن عثمان التركماني الحنفي في الإنكار على ابن جماعة، وأفتى أن حج الناس فاسد، ويلزم من وقف بالناس يوم الجمعة بعرفة جميع ما أنفقه الحجاج من الأموال، وأنه يجب على الحجاج كلهم أن يقيموا محرمين لا يطئوا نسائهم ولا يمسوا طيبا حتى يقفوا بعرفة مرة أخرى. وشنع بذلك عند الأمراء، وأظهر الحزن على الناس، والأسف على ما أنفقوه من أموالهم. فشق ذلك على الأمير طغيتمر الدوادار، من أجل أن زوجته حجت فيمن حج، وأخذ خط ابن التركمان.بما تقدم ذكره. فغضب الشافعية، وأنكروا مقالته وردوها. وقصد ابن جماعة أن يعقد مجلساً في ذلك، ويطلب ابن التركماني ويدعى عليه.بما أفتى به، مما لا يوجد في كتب الحنفية، فراجعه الناس عن ذلك مخافة الشناعة.
وفيه رسم لمقبل الرومي أن يخرج إتفاقا وسلمى والكركية حظايا السلطان من القلعة،.بما عليهن من الثياب، من غير أن يحملن شيئاً من الجوهر والزركش، وأن يقلع عصابة اتفاق عن رأسها ويدعها عنده. وكانت هذه العصابة قد اشتهرت عند الأمراء وشنعت قالتها، فإنه قام بعملها ثلاثة ملوك: الصالح إسماعيل، والكامل شعبان والمظفر حاجي، وتنافسوا فيها، واعتنوا بجواهرها، حتى بلغت قيمتها زيادة على مائة ألف دينار مصرية وسبب ذلك أن الأمراء الخاصكية قرابغا وصمغار وغيرهما بلغهم إنكار الأمراء الكبار والمماليك على السلطان شدة شغفه بالنسوة الثلاث المذكورات، وأنهماكه على اللهو بهن، وانقطاعه إليهن بالدهيشة عن الأمراء، وإتلافه الأموال العظيمة في العطاء لهن ولأمثالهن، فعرفا السلطان إنكار الأمراء عليه إعراضه عن تدبير الملك، وخوفوه عاقبة ذلك؛ فتلطف به، وصوب ما أشاروا به عليه من الإقلاع عن اللهو بالنساء وأخرجهن وفي نفسه حزازات لفراقهن، تمنعه من الهدوء والصبر عنهم؛ فأحب أن يتعوض عنهن. بما يلهيه ويسليه واختار صنف الحمام، وأنشأ حضيراً بأعلى الدهيشة، ركبه على صوار وأخشاب عالية، وملأه بأنواع الحمام؛ فبلغ مصروف الحضير خاصة سبعين ألف درهم.
وقدم البريد من حلب بأن صاحب سيس جهز مائتي أرمني إلى ناحية أياس، فلما قربوا من كوار ليهجموا على قلعتها قاتلهم أربعون من المسلمين؛ فنصرهم الله على الأرمن، وقتلوا منهم خمسين، وأسروا ثلاثين، وهزموا باقيهم. فقتل بكوار عدة ممن أسر، وحمل بقيتهم إلى حلب؛ فكتب بالإحسان إلى أهل كوار والإنعام عليهم.
واتفق بمدينة حلب أن الأمير بيدمر البدري لما قدمها ترفع على الأمراء، وعزل الولاة والمباشرين، بعدما أخذ تقادمهم، واستبدل بهم غيرهم.بمال قاموا له به؛ واشتدت وطأة حاشيته.
على الناس بظلمهم وسوء معاملتهم. ثم بلغه أن رجلاً من الأعيان مات عن ابنة وترك مالا جزيلا، وأوصى أن تتزوج ابنته بابن عمها. فرغب بعض الناس في زواجها، وبذل لأوليائها مالا كثيراً حتى زوجوها منه بغير رضاها فلم ترض به وكرهته كراهة زائدة، حتى قالت لأهلها: " أن لم تطلقوني منه وإلا كفرت " ؛ فأحضروها إلى بعض القضاة، وجددوا إسلامها. فطلب الأمير بيدمر ابن عمها، وضربه بالمقارع ضرباً مبرحاً، وضرب المرأة أيضاً ضربا شنيعاً، وقطع أنفها وأذنيها، وشهرها بحلب؛ فتألم الناس لها ألماً كبيراً، ووصل خبرها إلى أمراء مصر، فقام صمغار وقرابغا وأصحابهما قياما كبيراً في الإنكار على بيدمر.(2/133)
وصادف مع ذلك ورود كتاب الأمير أرغون شاه نائب صفد، يتضمن أن ابن طشتمر كاتب أرتنا نائب الروم بأن يتوجه إليه، وأن يقيم عنده.فظفر الأمير أرغون شاه بقاصده، وأخذ منه الكتاب، وقبض على ابن طشتمر وسجنه بالقلعة، فأجيب بالشكر والثناء وكتب إليه أصحابه بأن يبعث تقدمة للسلطان حتى يتهيأ نقلته إلى غير صفد، فبعث سبعة أفراس وعقد جوهر. بمائة ألف درهم، وغير ذلك من الأصناف؛ فأعجبت السلطان، وشكره. فأخذ صمغار وقرابغا وأصحابهما في ذكر بيدمر نائب حلب وكراهة الناس له، وما فعله بالمرأة وابن عمها، وتحسين ولاية أرغون شاه عوضه؛ فإنه سار في أهل صفد سيرة جميلة، ولم يقبل لأحد تقدمة، وجلس للحكم بين الناس، وأنصف في حكمه حتى أحبه أهل صفد. فرسم بقدوم أرغون شاه ليستقر في نيابة حلب، وحضور الأمير بيدمر من حلب فقدم أرغون شاه صحبة طنيرق، فأكرمه السلطان، وخلع عليه يوم الإثنين تاسع عشرى صفر بنيابة حلب، عوضاً عن بيدمر البدري؛ ورسم ألا يكون لنائب الشام عليه حكم، وأن تكون مكاتباته للسلطان، وكنب لنائب الشام بذلك.
وتوجه الأمير أرغون شاه إلى حلب في يوم الخميس ثالث ربيع الأول، فقدم دمشق على البريد في سادس عشره، ونزل مصر معين الدين حتى قدم طلبه من صفد في أبهة زائدة، وخيوله بسروج ذهب مرصعة وكنابيش ذهب، وقلائد مرصعة.
وكان بيدمر قد رأى في منامه المرأة التي فعل بها ما فعل، وهى تقوله له: " أخرج عنا " ، وكررت ذلك ثلاث مرات، وقالت له: " قد شكوتك إلى الله تعالى، فعزلك " فأنتبه مرعوباً، وبعث إليها لتحالله، وبذل لها مالا فلم تقبله، وامتنعت من محاللته. فقدم خبر عزله بعد ثلاثة أيام من رؤياه، وقدم إلى القاهرة صحبة طنيرق؛ وقد أوصل طنيرق الأمير أرغون شاه إلى حلب، وسر به أهل حلب سروراً كبيراً.
وفيه ارتفعت الأسعار بالشام، فبلغت الغرارة بدمشق مائتين وخمسين درهماً؛ وذلك أن الجراد انتشر من بعلبك إلى البلقاء، ورعى الزروع.
وفيه كثر عبث العربان بأرض مصر، وكثر سفكهم للدماء، ونهب الغلال من الأجران، مع هيف الغلة.
وفيه اشتد احتراق النيل، وقل ماؤه حتى تأخر حمل الغلال في المراكب فارتفع السعر من ثلاثين درهماً الأردب من القمح إلى خمسة وخمسين، وبلغ الشعير خمسة وعشرين درهماً الأردب، والفول عشرين درهماً.
وفيه استقر أمير علي بن طغربل حاجبا بدمشق عوضاً عن أياس؛ واستقر أياس في نيابة صفد.
وفيه ورد الخبر باختلال مراكز البريد بطريق الشام، فأخذ من كل أمير مقدم ألف أربعة أفراس، ومن كل أمير طبلخاناه فرسان، ومن كل أمير عشرة فرس واحد وكشف عن البلاد المرصدة برسم البريد، فوجدت ثلاث بلاد منها وقف إسماعيل بعضها، وأخرج باقيها إقطاعات، فأخرج السلطان عن عيسى بن حسن الهجان بلداً تعمل في كل سنة عشرين ألف درهم، وثلاثة آلاف أردب غلة، وجعلها مرصدة لمراكز البريد.
وفيه قدم الخبر بأن أرتنا نائب الروم بعث يستدعي أحمد بن مهنا، وأرسل إليه هدية، فأبى أن يجيب.
واتفق أن أخا سيف بن فضل قصد فياض بن مهنا، وقد سار إليه من دمشق بمبلغ ثمانين ألف درهم ثمن خيول قدمها للسلطان، فأخذه منه وقصد قتله. فركب فياض لما بلغه ذلك وأغار على جمال سيف وآل فضل وساقها، وهي نحو خمسة عشر ألف بعير.فبعث سيف يطلب من نائبي دمشق وحلب عسكراً يقاتل آل مهنا فلم ينجداه.
وفيه كتب الأمير أرغون شاه نائب حلب في حق سيف، فإنه لا طاقة له بآل مهنا.فرسم بقدوم سيف وآل مرا، وقدوم أحمد بن مهنا؛ ووعد أحمد بالإمرة، وخرج الأمير قطلوبغا الذهبي لذلك.
وفيه قدم ابن الأطروش من دمشق، وقد عزل من الحسبة، وكتب نائب الشام يذم فيه وفي عصر يوم الأحد تاسع عشر ربيع الآخر: قتل الأمير آقسنقر الناصري، والأمير ملكتمر الحجازي؛ وأمسك الأمير، بزلار، والأمير صغار، والأمير أيتمش عبد الغني.(2/134)
وسبب ذلك أن السلطان لما أخرج إتفاق وغيرها من عنده، وتشاغل عنهن بالحمام، صار يحضر إلى الدهيشة والأوباش، وتلعب بالعصا لعب صباح، ويحضر الشيخ علي بن الكسيح مع حظاياه، فيسخر له، وينقل إليه أخبار الناس. فشق ذلك على الأمراء، حدثوا ألجيبغا وطينرق، وكانا عمدة السلطان وخاصكيته فيما يفعله السلطان، وأن الحال قد فسد فعرفا السلطان ذلك، فاشتد حنقه وأطلق لسانه، وقام إلى السطح وذبح الحمام بحضرتهما، وقال: " والله لأذبحنكم كما ذبحت هذه الطيور " ، وأغلق باب الدهيشة؛ وأقام غضبانا يومه وليلته. وكان الأمير غرلو قد تمكن منه، فأعلمه.بما وقع، فوقع في الأمراء وهونهم عليه، وجسره على الفتك بهم، والقبض على الأمير آقسنقر الناصري النائب. فأخذ السلطان في تدبير ما يفعله، وقرر ذلك مع غرلو. ثم بعث السلطان بعد أيام طنيرق إلى الأمير آقسنقر الناصري النائب، في يوم الأربعاء خامس ربيع الآخر، ويعرفه أن قرابغا القاسمي وصمغار وبزلار وأيتمش عبد الغني قد اتفقوا على الفتنة، " وعزمي أن أقبض عليهم " ، فوعد برد الجواب غداً على السلطان في الخدمة وأشار عليه من الغد بالتثبت في أمرهم حتى يصح له ما قيل عنهم فعرفه السلطان من الغد يوم الجمعة بأنه صح له بإخبار بيبغاروس، وبين له أنهم تحالفوا على قتله فأشار عليه أن يجمع بينهم وبين بيبغاروس، حتى يحاققهم بحضرة الأمراء يوم الأحد.
وكان الأمر على خلاف هذا، فإنه اتفق مع غرلو، وعنبر السحرتى مقدم المماليك، على مسك الأمير آقسنقر الناصري، والأمير ملكتمر الحجازي يوم الأحد، وأظهر للنائب أنه يريد القبض على قرابغا وصمغار، وبزلار وأيتمش.
فلما كان يوم الأحد تاسع عشره: حضر الأمراء والنائب إلى الخدمة بعد العصر، ومد السماط، وإذا بالقصر قد ملئ بسيوف مسللة من خلف آقسنقر والحجازي، وأحيط بهما وبقرابغا، وأخذوا إلى قاعة هناك فضرب الحجازي بالسيوف، وبضع هو وآقسنقر وفر صمغار وأيتمش عبد الغنى، فركب صمغار فرسه من باب القلعة ومر، واختفى أيتمش عند زوجته. فخرجت الخيل وراء صمغار، حتى أدركوه خارج القاهرة وأخذ أيتمش من داره فارتجت القاهرة، وغلقت الأسواق وأبواب القلعة. وكثر الإرجاف إلى أن خرج النائب أرقطاى والوزير نجم الدين محمود بن شروين قريب المغرب، فاشتهر ما جرى.
وفيه رسم بالقبض على مرزه علي، وعلى محمد بن بكتمر الحاجب وأخيه، وأولاد أيدغمش، وأولاد قمارى. وأخرجوا إلى الإسكندرية، وهم وبزلار وأيتمش وصمغار، لأنهم من ألزام الحجازي ومعاشريه، فسجنوا بها.
وفيه أخرج آقسنقر والحجازي في ليلة الإثنينعشريه على جنويات، فدفنا بالقرافة وأصبح الأمير شجاع الدين غرلو وقد جلس في دست عظيم، ثم ركب وأوقع الحوطة على بيوت الأمراء المقتولين والممسوكين وأموالهم، وطلع بجميع خيولهم إلى الإصطبل السلطاني، ونزل ومعه ناظر الخاص حتى أخرج حواصلهم. وضرب غرلو عبد العزيز الجوهري صاحب آقسنقر، وعبد المؤمن أستاداره بالمقارع، وأخذ منهما مالاً جزيلا. فخلع عليه السلطان قباء من ملابسي آقسنقر بطراز زركش عريض، وأركبه حصان الججازي بسرج ذهب وخلا به يأخذ رأيه فيما. يفعله. فأشار عليه بأن يكتب إلى نوابي، الشام.بما جرى، ويعدد لهم ذنوبا كثيرة على الأمراء الذين قبض عليهم. فكتب السلطان إلى الأمير يلبغا اليحياوي نائب الشام، على يد الأمير آقسنقر المظفري أمير جاندار. وقدم آقسنقر المظفر على الأمير يلبغا اليحياوي في ثامن عشريه، فكتب يلبغا بتصويب رأي السلطان فيما فعله، وهو في الباطن غير ذلك. وعظم على الأمير يلبغا قتل ملكتمر الحجازي وآقسنقر الناصري، وتوحش خاطره، وجمع الأمراء بعد يومين بدار السعادة، وأعلمهم.بما ورد عليه. وكتب يلبغا إلى النواب بذلك، فبعث الأمير ملك آص إلى حمص وحلب، وبعث الأمير طيبغا القاسمي إلى طرابلس؛ فجاءه ليلة الجمعة مستهل جمادى الأولى من زاده وحشه، فلم يصبح له بدار السعادة أثر غير نسائه. وانتقل يلبغا يوم الجمعة إلى القصر، فنزل به، وشرع في الاستعداد للخروج عن طاعة السلطان، ونزل إلزامه حوله بالميدان.
وأخذ السلطان المظفر حاجي يستميل المماليك بتفرقة المال فيهم، وأمر جماعة وأنعم على غرلو بإقطاع أيتمش عبد الغني وتقدمته، وأصبح هو المشار إليه في الدولة، وعظمت نفسه إلى الغاية.(2/135)
وفيه أخرج ابن طقزدمر على إمرة طبلخاناه بحلب، لكثرة لعبه؛ وأنعم بتقدمته على الأمير طاز.
وفيه تولى غرلو مبيع قمش الأمراء وسائر موجودهم.
وفيه قدم الخير بكثرة حشود العربان بالصعيد وبلاد الفيوم، وشدة فسادهم، وتعذر السفر من قطعهم الطرقات على المسافرين. فلم يعبأ السلطان بذلك، لاشتغاله بلهوه، وتلفته إلى أخبار نواب الشام، لتخوفه من خروجهم عن طاعته للقبض على الأمراء وقتلهم فقدمت أجوبتهم. بما يظهر منه تصويب رأي السلطان فيما فعله، فلم يطمئن ورسم بخروج العسكر إليه.
وفيه رسم السلطان بخروج العسكر إلى البلاد الشامية ورسم في عاشر جمادى الأولى بسفر سبعة أمراء مقدمين، وهم طيبغا المجدي، وملك الجمدار، والوزير نجم محمود بن شروين، وطنغرا، وأيتمش الناصري الحاجب، وكوكاي، والزراق، ومعهم مضافوهم من الأجناد. وكتب بطلب الأجناد من النواحي، وكان وقت إدراك المغل؛ فصعب ذلك على الأمراء، وارتجت القاهرة بأهلها لطلب السلاح وآلات للسفر.
وكتب السلطان إلى أمراء دمشق ملطفات على أيدي النجابة بالتيقظ لحركات الأمير يلبغا اليحياوي، فأشار الأمير أرقطاى؛ النائب بطلب يلبغا ليكون. بمصر، فإن أجاب وإلا أعلم بأنه قد عزل من نيابة الشام بأرغون شاه نائب حلب. فكتب بطلبه على يد الأمير سيف الدين أراى أمير آخور؛ وعند سفر أراي قدمت كتب نائب حماة ونائب طرابلس ونائب صفد بأن يلبغا دعاهم للقيام معه على السلطان لقتله الأمراء، وبعثوا للسلطان بكتبه إليهم. فكتب السلطان لأرغون شاه نائب حلب أن يتقدم لعرب آل مهنا بمسك الطرقات على يلبغا، وأعلمه أنه ولاه نيابة الشام؛ فقام أرغون شاه في ذلك أتم قيام، وأظهر ليلبغا أنه معه.
ولما وصل الأمير سيف الدين أراى إلى الأمير يلبغا اليحياوي، في يوم الأربعاء سادس جمادى الأولى، إذا في كتاب السلطان طلب يلبغا ليكون رأس أمراء المشورة، وأن نيابة الشام أنعم بها على أرغون شاه نائب حلب وظن الأمير يلبغا اليحياوي أن استدعاءه حقيقة، وقرأ كتاب السلطان، فأجاب بالسمع والطاعة، وأنه إذا وصل الأمير أرغون شاه إلى دمشق توجه منها إلى مصر، وكتب الجواب بذلك، وأعاد الأمير سيف الدين أراى سريعا. فأتت قصاد أمراء دمشق إلى الأمير سيف الدين أراى في عوده، لتعرف فيما جاء به عليهم، فأعلمهم بعزل يلبغا بأرغون شاه، فتحللت عزائم الأمراء عن يلبغا. وتجهز يلبغا وبزر إلى الجسورة ظاهر دمشق، في خامس عشره وكانت ملطفات السلطان وردت إلى الأمراء في عشية يوم الخميس بإمساكه فركبوا وقصدوه، ففر منهم بمماليكه وأهله، وهم في أثره إلى خلف ضمير.
وأما الأمير سيف الدين أراى فأنه قدم إلى السلطان، فقدم الخبر في غد قدومه بأن يلبغا جمع ثقاته من أمراء الشام وأغراهم بالسلطان، وأنه إن مضى إليه قتله كما قتل الأمراء، وأنه جمع أمره على التوجه إلى أولاد دمرداش ببلاد الشرق.
وركب الأمير يلبغا في يوم الجمعة خامس عشره، ومعه الأمير قلاوون، والأمير سيفه، والأمير محمد بن بك بن جمق، في مماليكهم؛ وخرجوا بآلة الحرب، فاضطرب الناس بدمشق. وركب العسكر في طلبه، وقد سار نحو القريتين ودخل البرية حتى وصل حماة، بعد أربعة أيام وخمس ليالي. فركب الأمير قطليجا نائب حماة بعسكره، وتلقاه ودخل به إلى المدينة، وقبض عليه وعلى من معه؛ وكتب بذلك إلى السلطان فسر به سروراً كبيراً وأمر بإبطال التجريدة؛ وكتب بحمله إلى مصر.
ثم خرج الأمير منجك السلاح دار لقتله، فلقى آقجبا الحموي وصحبته يلبغا اليحياوي وأبوه، وقد نزل بقاقون. فصعد منجك مع يلبغا إلى قلعتها، وقتله في يوم الجمعة عشريه وجهز رأسه إلى السلطان. وتوجه منجك إلى حماة، وجهز الأمير قراكر والأمير أسندمر أخوى يلبغا اليحياوي، والأمير طقطاى دواداره، والأمير جوبان مملوكه، إلى السلطان مقيدين؛ وكان أبوه الأمير طابطا حمل مقيداً من فاقون إلى السلطان.(2/136)
وفيه قدم الخبر بأن أحمد بن مهنا وفياضاً وفوازاً وقمارى كانوا بحلب لما قبض على يلبغا بحماة، فركبوا بجمعهم يريدون آل مرا، وقد نزلوا قريباً من سيف بن فضل فركب سيف بآل مرا وآل علي إلى لقائهم، فلم يطقهم وفر، فنهبوا أبياته، وأخذوا منها خمسمائة حمل دقيق، وساقوا خمسة عشر ألف بعير. ومر سيف على وجهه إلى القاهرة، فطلع إلى السلطان وبكى بين يديه بكاء كثيراً، فتنكر السلطان على أولاد مهنا. فقدم كتاب الأمير أرغون بالثناء عليهم، لخدمتهم السلطان في أمر يلبغا أتم الخدمة، وقدم أحمد بن مهنا عقيب ذلك، فلم ير من السلطان إقبالاً.
وفي يوم الأحد خامس عشريه: أخرج بالوزير نجم الدين محمود، والأمير بيدمر البدري نائب حلب كان، والأمير طغيتمر الفخري الدوادار، إلى الشام وسببه أن غرلو لما كان شاد الدواوين حقد على الوزير نجم الدين وعلى طغيتمر الدوادار، فحسن للسلطان أخذ أموالهما. فذكر السلطان للنائب أرقطاى عنهما وعن بيدمر أنهم كانوا يكاتبون يلبغا اليحياوي، فأشار عليه بإبعادهم عنه، وأن يكون الوزير نائب غزة، وبيدمر نائب حمص، وطغيتمر بطرابلس؛ فأخرجهم أرقطاى على البريد. فلم يعجب غرلو ذلك، وأكثر من الوقيعة في الأمير أرقطاى النائب حتى غير السلطان عليه، ومازال به حتى بعث أرغون الإسماعيلي نائب غزة بقتلهم. فدخل أرغون الإسماعيلي معهم إليها وقت العصر، فقتلوا ليلاً؛ وتمكن غرلو من أموالهم.
وتزايد أمر غرلو، واشتدت وطأته؛ وكتر إنعام السلطان عليه حتى لم يكن يوم إلا وينعم عليه وأخذ غرلو في العمل على علم الدين بن زنبور ناظر الخاص وعلى علاء الدين علي بن فضل الله كاتب السر، وحسن للسلطان القبض عليهما وأخذ أموالهما؛ فتلطف الأمير أرقطاى النائب في أمرهما حتى كف عنهما. فلم يبق أحد من أهل الدولة حتى خاف غرلو، ورجع يصانعه بالمال.
وفيه توجه مقبل الرومي لقتل المسجونين بالإسكندرية بإشارة غرلو، فقتل أرغون العلائي وقرابغا القاسمي، وتمر الموساوى، وصمغار، وأيتمش عبد الغني.
وفيه أفرج عن أولاد قمارى وأولاد أيدغمش؛ وأخرجوا إلى الشام.
وفيه قدم الأمير منكلى بغا الفخري من طرابلس، وأنعم عليه بتقدمة ألف واستمر السلطان على الأنهماك في لهوه، وصار يلعب في الميدان تحت القلعة بالكرة في يومي الأحد والثلاثاء، ويركب إلى الميدان على النيل في يوم السبت. فلما كان آخر ركوبه الميدان رسم بركوب الأمرء المقدمين. بمضافيهم، ووقوفهم صفين من الصليبة إلى فوق الإصطبل، ليرى العسكر. فضاق الموضع عنهم، فوقف كل مقدم بخمسة من مضافيه وجمعت أرباب الملهى ورتبوا في عدة أماكن بالميدان؛ ونزلت أم السلطان في جمعها، وأقبل الناس من كل جهة. فبلغ كراء كل طبقة في ذلك اليوم مائة درهم، وكل بيت كبير لنساء الأمراء مائتي درهم وكل حانوت خمسين درهما، وكل موضع إنسان بدرهمين، فكان يوماً لم يعهد في ركوب الميدان.
وفيه أخرج سيف بن فضل من القاهرة مرسماً عليه، لكلام نقله عن الأمير أرقطاى النائب وفي يوم الخميس سابع جمادى الآخر: وصل رأس يلبغا اليحياوي.(2/137)
وفي يوم الجمعة خامس عشره: قبض على غرلو، وقتل. وسبب ذلك شدة كراهة الأمراء أرباب الدولة لسوء أثره فيهم، فأنه كان يخلو بالسلطان ويشر عليه بما يمضيه، فلا يخالفه في شيء وعمله السلطان أمير سلاح، فخرج عن الحد في التعاظم، وجسر السلطان على قتل الأمراء، وقام في حق الأمير أرقطاى النائب يريد القبض عليه وقتله، وأخذ المماليك الناصرية والصالحية والكاملية بكمالهم، واستمالهم لتجديد دولة مظفرية. وقرر مع السلطان أن يفوض إليه أمور المملكة، ليقوم عنه بتديرها، ويتوفر السلطان على لذاته. وأغراه أيضاً بالجيبغا وطنيرق، وهما أخص الناس بالسلطان، حتى تغير عليهما. وبلغ ذلك ألجيبغا، وتناقله المماليك، فتعصبوا عليه، وراسلوا الأمراء الكبار حتى حدثوا السلطان في أمره، وخوفوه عاقبته، فلم يعبا السلطان بقولهم، فتنكروا بأجمعهم على السلطان، وصاروا إلباً عليه بسبب غرلو، إلى أن بلغه ذلك عنهم من بعض ثقاته. فاستشار الأمير أرقطاى النائب في أمر غرلو، وعرفه ما يخاف من غائلته، فلم يشر عليه بشيء، وقال له: " لعل الرجل قد كثرت حساده على تقريب السلطان له، والمصلحة التثبت في أمره " كان الأمير أرقطاي النائب عاقلا سيوسا، يخشى من معارضة غرض السلطان فيه. فاجتهد ألجيبغا وعدة من الخاصكية في التدبير على غرلو، وتخويف السلطان منه ومن عواقبه، حتى أثر قولهم في نفسه. وأقاموا أحمد شاد الشرابخاناه - وكان مزاحا - للوقيعة فيه فأخذ في خلوته مع السلطان بذكر كراهة الأمراء لغرلو وموافقة المماليك لهم وأنه يريد أن يدبر الدولة ويكون نائب السلطان، وليتوثب بذلك على المملكة ويصير سلطاناً، ويخرج قوله هذا في صورة السخرية والضحك. وبالغ في ذلك على عدة فنون من الهزؤ إلى أن قال: " وإن خلاه السلطان رحنا كلنا الحبوسات من بعده " فانفعل السلطان لكلامه، وقال: " أنا الساعة أخرجه وأعمله أمير آخور " ثم مضى أحمد إلى الأمير أرقطاى النائب، وعرفه ما كان منه، وما قاله السلطان، وجسره على الوقيعة في غرلو. فاستشار السلطان الأمير أرقطاى النائب في غرلو ثانيا، فأثنى عليه وشكره، فعرفه وقوع الخاصكية فيه، وأنه قصد أن يعمله أمير آخور، فقال أرقطاي " غرلو شجاع جسور، لا يليق أن يكون أمير آخور " فكأنه أيقظ السلطان من رقدته، وأخذ معه فيما يوليه، فأشار بولايته غزة، فقبل السلطان ذلك وقام عنه فاصبح السلطان بكرة يوم الجمعة، وقد بعث طنيرق إلى الأمير أرقطاى النائب بأن يخرج غرلو إلى غزة. فلم يكن غير قليل حتى طلع غرلو على عادته إلى القلعة، وجلس على باب القلة، فبعث الأمير أرقطاي النائب بطلبه فقال: " مالي عند النائب شغل وما لأحد معي حديث غير أستاذي السلطان " وأرسل النائب يعرف السلطان جواب غرلو له بطلبه، فغضب السلطان، وقال لمغلطاى أمير شكار والأمراء أن يعرفوه عن السلطان بتوجهه إلى غزة، وإن امتنع يمسكوه. فلما صار غرلو داخل القصر لم يحدثوه بشيء، وقبضوا عليه وقيدوه، وسلموه لألجيبغا، فأدخله إلى بيته بالأشرفية فلما خرج السلطان لصلاة الجمعة على العادة قتلوا غرلو، وهو في الصلاة واخذ السلطان بعد عوده من الصلاة يسأل عنه، فقالوا عنه أنه قال: " ما أروح مكاناً " فأراد سل سيفه وضرب الأمراء به، وأنهم تكاثروا عليه فلما سلم نفسه حتى قتل. فعز قتله على السلطان، وحقد عليهم قتله، ولم يظهره لهم وتقدم السلطان بإيقاع الحوطة على حواصله، فكان يوما عظيماً بالقلعة والمدينة، معظم الناس إلى تحت القلعة، فشوهد يومئذ من اجتماعهم أمر مهول. وأخرج غرلو حتى دفن بباب القرافة، فأصبح وقد خرجت يده من الأرض، فأتاه الناس أفواجاً ليروه ونبشوا عليه، وجروه بحبل في رجله إلى تحت القلعة. وأتوا بنار ليحرقوه، وصار لهم ضجيج عظيم. فبعث السلطان عدة من الأوجاقية قبضوا على كثير منهم، فضربهم الوالي بالمقارع، وأخذ منهم غرلو ودفن؛ و لم يظهر له كبير مال.(2/138)
وفيه قدم الخبر بدخول الأمير أرغون شاه إلى دمشق، في يوم الثلاثاء سابع عشره صحبة متسفرة الأمير آقسنقر جاندار فعرض يوم دخوله أهل السجون، ووسط وسمر منهم عدة من أرباب الجرائم، وألزم جميع من له إقطاع بحلب أو حماة أو طرابلس أو غيرها من البلاد الشامية أن يتوجه إلى محل خدمته، ولا يقيم بغيره، وأنعم الأمير أرغون شاه على متسفره بخمسة عشر فرساً، منها خمس عربيات مسرجات ملجمات، وأحد عشر إكديش، وجارية بخمسة آلاف درهم وأربعين ألف درهم، ومائة قطعة قماش وتشريف النيابة بكماله وسيفه المحلى، وكتب له بألف أردب غلة من مصر، وكان الأمير أرغون شاه أعطاء بحلب ألف وخمسمائة دينار. فأقام آقسنقر بدمشق نحو ثلاثة أشهر ولم يسأله في ولاية ولا عزل إلا أجابه، فرجع بمال عظيم.
وفيه أفرج عن ابن طشتمر من صفد، وأنعم عليه بإمرة في دمشق.
وفيه نقل أمير مسعود بن خطير من نيابة غزة إلى نيابة طرابلس عوضاً عن الأمير منكلى بغا الفخري.
وفيه استقر الأمير فخر الدين أياس حاجب دمشق في نيابة حلب، عوضاً عن الأمير أرغون شاه.
وفيه خرج السلطان إلى سرياقوس على العادة، فأقام أياما وعاد.
وفي يوم الإثنين سادس عشر رجب: أخرج لاجين أمير آخور إلى دمشق، على إقطاع قلاوون.
وفيه أخرج منجك السلاح دار واستقر حاجباً بدمشق، عوضاً عن أمير علي بن طغربل وفيه أنعم على اثني عشر من المماليك بإمرات، ما بين طبلخاناه وعشرات بمصر والشام.
وفيه أعيد الأطروش إلى الحسبة، عوضاً عن الضياء، ورتب للضياء ما يقوم به.
وفيه عمل الإستيمار بما على الدولة من الكلف، وما يتحصل. فوجدت الكلف ثلاثة أمثال ما كانت في الأيام الناصرية محمد بن قلاوون، ومرتب الحوائج خاناه في كل يوم مقدار اثنين وعشرين ألف رطل لحم، ونفقات المماليك مبلغ مائتين وعشرين ألف درهم، بعدما كانت تسعين ألف درهم. فرسم السلطان بقطع ما استجد من الرواتب بعد موت السلطان الناصر محمد، فمازال به الأمير أرقطاى النائب يخوفه سوء عاقبة قطع الأرزاق، ويعرفه أن أحداً من الملوك ما قرئ عليه الإستيمار وقطع شيئاً إلا وأصابه ما يكره في دولته، حتى رسم باستمرار الرواتب على حالها.
وفيه وزع على مباشري الجهات مبلغ ستمائة ألف درهم، خص مقدمي الدولة منها مائة ألف درهم.
وفيه رسم أن يكون في كل معاملة شاهد وكاتب؛ واستقر قطلوابغا شاد الجهات بالقاهرة، وابن المزوالي شادا بجهات مصر.
وفيه قدم على بن طغربل من دمشق.
وفيه أنعم على الأمير بيبغا روس عند قدومه من سرحة العباسة بألفي دينار، ومائة قطعة قماش، وأربعة أرؤس خيل بسروج ذهب.
وفي مستهل شعبان: خرج الأمير طيبغا المجدي، والأمير أسندمر العمري، والأمير أرغون الكاملي، والأمير بيبغا روس، والأمير بيبغا ططر، إلى الصيد، ثم خرج الأمير أرقطاى النائب بعدهم إلى الوجه القبلي بطور السلطان. ورسم السلطان لهم ألا يحضروا إلى العشر الأخير من رمضان.
فخلا الجو للسلطان، وأعاد حضير الحمام، وأحضر إليه عدة من عبيده، وأعاد أرباب الملاعيب من الصراع، والثقاف، والشباك وجرى السعاة، والنطاح بالكباش، ومناقرة الديوك والقمارى وغير ذلك من أنواع الفساد، ونودي بإطلاق اللعب بذلك في القاهرة ومصر. فصار للسلطان اجتماعات بالأوباش وأراذل الطوائف، من الفراشين والبابية، ومطيري الحمام؛ فكان يقف معهم ويراهن على الطير الفلاني والطيرة الفلانية.
وبينا هو ذات يوم معهم عند حضير الحمام وقد سيبها، إذ أذن العصر بالقلعة والقرافة فجفلت الحمام على مقاصرها وتطايرت. فجرد السلطان، وبعث إلى المؤذنين يأمرهم أنهم إذا رأوا الحمام لا يرفعون أصواتهم.
وكان السلطان أيضاً يلعب مع العوام، ويلبس تبان جلد، ويتعرى من ثيابه كلها ثم يلعب معهم بالعصى، ويلعب بالرمح وبالكرة. فيظل نهاره مع الغلمان والعبيد الدهيشة، ويحضر في الليل على العواد، ويأخذ عنه الضرب بالعود، ويتجاهر بما لا يحمد.(2/139)
وشغف السلطان بكيدا حتى كان لا يكاد يفارقها، واشترى لها أملاك النشو وأخيه رزق الله وصهره المخلص بخط الزربية، فاشتراها لها بمائة ألف درهم. وكانت هذه الزريبة في غاية الحسن، قد أنفق عليها النشو أموالاً عظيمة، وصارت بعد النشو إلى إمرأة الأمير بكتمر الساقي، اشتراها لها الأمير بشتاك بنحو الألف درهم، إلى أن طلبتها كيدا فأرسل السلطان إليها يستوهبها منها، فتركتها له، فرسم لها بمائة ألف درهم، وكاتبها على الأملاك باسم كيدا فلم يهن بها، ووقعت نار في دار رزق الله جعلتها دكاً.
وفيها ارتفع سعر القمح من أربعين درهماً للأردب إلى خمسين، وغلا اللحم وعامة الأصناف المأكولة حتى بلغت مثلى ثمنها. وتوقفت الأحوال، وقلت الغلال، وكثر ة قدوم أهل النواحي إلى القاهرة حتى ضاقت بهم فكانوا كذلك مدة سنة، مع كثرة المناسر في البلاد والقاهرة، وقوة المفسدين وقطاع الطريق بأرض مصر وبلاد القدس ونابلس، وفتنة العشير بعضهم مع بعض.
وفي نصفه: توجه ألجيبغا وأحمد شاد الشرابخاناه إلى الصيد، فأخذ السلطان في التدبير على أخيه حسين ليقتله، وأرصد له عدة خدام ليهجموا عليه عند إمكان الفرصة ويغتالوه، فتمارض واحترس على نفسه، فلم يجدوا منه غفلة.
وفي سابع عشره: استقر في الخلافة أبو بكر بن أبي الربيع سليمان، ونعت بالمتعصم بالله أبي الفتح، بعد موت أبيه.
وفي أخريات شعبان: قدم الأمراء والأمير أرقطاى النائب قبل أوانهم من الصيد شيئاً بعد شيء، وقد بلغهم ما كان من أفعال السلطان في غيبتهم.
وفي يوم السبت رابع رمضان: زلزلت القاهرة مرتين في ساعة واحدة.
وفيه قدم ابن الحراني من دمشق بمال يلبغا اليحياوي، فتسلمه الخدام وأنعم السلطان من ليلته على كيدا حظته بعشرين ألف منه سوى الجواهر واللآلى، ونثر الذهب على الخدام والجواري، فاختطفوه، وهو يضحك منهم، وفرق السلطان على لعاب الحمام والفراشين والعبيد الذهب واللؤلؤ، وصار يحذفه لهم، وهم يترامون عليه ويأخذونه، بحيث لم يدع منه شيئاً سوى القماش والتفاصيل والآنية والعدد، فإنها صارت إلى الخزانة. فكانت جملة ما فرقه السلطان ثلاثين ألف دينار وثلاثمائة ألف درهم، وجواهر وحلياً، وزركشاً ومصاغاً، قيمته زيادة على ثمانين ألف دينار.
فعظم ذلك على الأمراء، وأخذ ألجيبغا وطنيرق يعرفان السلطان ما ينكره عليه الأمراء من اللعب بالحمام وتقريب الأوباش، وخوفاه فساد الأمر. فغضب السلطان، وأمر آقجبا شاد العمائر بخراب حضير الحمام، وأحضر الحمام وذبحها واحداً واحداً بيده، وقال لألجيبغا وطنيرق: والله لأذبحنكم كلكم كما ذبحت هذا الحمام، وتركهم وقام. فبات ليلته وأصبح ففرق جماعة من خشداشية ألجيبغا وطنيرق في البلاد الشامية واستمر على إعراضه عن الجميع وقال لحظاياه وعنده معهن الشيخ على الكسيح: والله ما بقى هنا لي عيش وهذان الكذا وكذا بالحياة، يعنى ألجيبغا وطنيرق، فقد أفسدا على ما كان فيه سرور، واتفقا على، ولابد من ذبحهما. فنقل ذلك الشيخ على الكسيح لألجيبغا، فإنه الذي كان أوصله بالسلطان، وقال له مع ذلك: خذ لنفسك، فوالله لايرجع عنك ولاعن طنيرق. فطلب ألجيبغا صاحبه طنيرق حتى عرفه ذلك، فأخذا في التدبير على السلطان، وأخذ السلطان في التدبير عليهما.
وفيه أخرج السلطان الأمير بيبغا روس للصيد بالعباسة، فإنه كان صديقاً لألجيبغا وتنمر السلطان على طنيرق واشتد عليه، وبالغ في تهديده. فبعث طنيرق وألجيبغا إلى طشتمر طلليه، وما زالا به حتى وافقهما. ودار طنيرق على الأمراء، وما منهم إلا من نفرت نفسه من السلطان، وتوقع منه أن يفتك به. وأغراهم طنيرق بالسلطان، فصاروا معه يداً واحدة، وكلموا الأمير أرقطاى النائب في موافقتهم، وأعلموه أنه يريد القبض عليه، وأكثروا من تشجيعه إلى أن أجابهم وتواكدوا جميعاً في يوم الخميس تاسع رمضان على الركوب في يوم الأحد ثاني عشره.(2/140)
فبعث السلطان في يوم السبت يطلب الأمير بيبغا روس من العباسة، وقرر مع الطواشي عنبر مقدم المماليك أن يعرف المماليك السلاح دارية أن يقفوا متأهبين، فإذا دخل بيبغا روس وقبل الأرض ضربوه بسيوفهم، وقطعوه قطعاً. فعلم بذلك ألجيبغا، فبعث إلى بيبغا يعلمه بما دبره السلطان من قتله، ويعرفه بما وقع من اتفاق الأمراء عليه، بكرة يوم الأحد على قبة النصر. واستعدوا ليلتهم، ونزل ألجيبغا أولهم من القلعة وتلاه بقية الأمراء فكان آخرهم ركوباً الأمير أرقطاى النائب. وتوافوا بأجمهم عند مطعم الطير، وإذا بيبغا قد وصل إليهم، فأحضروا مماليكهم وأطلابهم، وبعثوا في طلب بقية الأمراء، فما ارتفع النهار حتى وقفوا بأجمعهم لابسين آلة الحرب، عند قبة النصر.
فأمر السلطان بدق الكوسات، وبعث الأوجاقية في طلب الأمراء، وجمع عليه طنيرق وشيخو وأرغون الكاملي وطاز، ونحوهم من الخاصكية فحضر إليه أجناد الحلقة ومقدموها، وعدة من الأمراء. وأرسل السلطان يعتب الأمير أرقطاي النائب على ركوبه، فرد جوابه بأن مملوكك الذي ربيته ركب عليك، وأعلمنا فساد نيتك، وقد قتلت مماليك أبيك، وأخذت أموالهم، وهتكت حريمهم بغير موجب، وعزمت على الفتك بمن بقي، وأنت أول من حلف ألا تخون الأمراء، ولا تخرب بيت أحد فرد السلطان الرسول إليه يستخبره عما يريدونه منه حتى يفعله لهم، فأعادوا جوابه أنهم لابد أن يسلطنوا غيره، فقال: ما أموت إلا على ظهر فرسي، فقبضوا على رسوله، وهموا بالزحف إليه، فمنعهم الأمير أرقطاي النائب.
فبادر السلطان بالركوب إليهم، وأقام أرغون الكاملي وشيخو في الميسرة، وأقام عدة أمراء في الميمنة، وسار بمماليكه حتى وصل إلى قريب قبة النصر. فكان أول من تركه الأمير أرغون الكاملي و الأمير ملكتمر السعيدي، ثم الأمير شيخو. وأتوا الأمير أرقطاي النائب والأمراء، وتلاهم بقيتهم، حتى جاء الأمير طنيرق، والأمير لاجين أمير جاندار صهر السلطان آخرهم.
وبقي السلطان في نحو عشرين فارساً، فبرز له الأمير بيبغا روس والأمير ألجيبغا، فولى فرسه وأنهزم عنهم، فأدركوه وأحاطوا به. فتقدم إليه بيبغا روس، فضربه السلطان بطير، فأخذ الضربة بترسه، وحمل عليه بالرمح. وتكاثروا عليه حتى قلعوه من سرجه فكان بيبغا روس هو الذي أرداه، وضربه طنيرق جرح وجهه وأصابعه. وساروا به على فرس إلى تربة آقسنقر الرومي تحت الجبل، وذبحوه من ساعته قبل العصر. ولما أنزلوه وأرادوا ذبحه توسل إلى الأمراء، وهو يقول: بالله لا تستعجلوا على قتلي، وخلوني ساعة، فقالوا: فكيف استعجلت على قتل الناس، لو صبرت عليهم صبرنا عليك.
وصعد الأمراء إلى القلعة في يومهم، ونادوا في القاهرة بالأمان والاطمئنان، وباتوا بها ليلة الإثنين، وقد اتفقوا على مكاتبة الأمير أرغون شاه نائب الشام بما وقع، وأن يأخذوا رأيه فيمن يقيمونه سلطاناً. فأصبحوا وقد اجتمع المماليك على إقامة حسين بن الناصر محمد بن قلاوون في السلطة، ووقعت بينه وبينهم مراسلات. فقبض الأمراء على عدة من المماليك، ووكلوا الأمير طاز بباب حسين، حتى لا يجتمع به أحد، وغلقوا باب القلعة، وهم بآلة الحرب يومهم وليلة الثلاثاء. وقصد المماليك إقامة الفتنة فخاف الأمراء تأخير السلطة حتى يستشيروا نائب الشام أن يقع من المماليك ما لا يدرك فارطه، فوقع اتفاقهم عند ذلك على حسن بن الناصر محد بن قلاوون، فتم أمره.
فكانت مدة المظفر حاجي سنة وثلاثة أشهر واثني عشر يوماً، وعمره نحو عشرين سنة وكان شجاعاً جريئاً على الدنيا، منهمكاً في الفساد، كثير الإتلاف للمال.
السلطان الملك الناصر بدر الدين أبو المعالي الحسن بن محمد بن قلاوون الألفي أمه أمة تدعى كدا، ماتت وهو صغير، فربته خوند أردو، ودعوه قماري حتى كان من أمر أخيه حاجي ما كان. وطلب المماليك إقامة حسين في السلطة، وبات ليلة أكثرهم بالمدينة ليخرجوا إلى قبة النصر فقام الأمراء بسلطة حسن هذا وأركبوه بشعار السلطنة، في يوم الثلاثاء، رابع عشرى رمضان، سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، وأجلسوه على تخت الملك بالإيوان، لقبوه بالملك الناصر سيف الدين قمارى.(2/141)
فقال السلطان للأمير أرقطاى نائب السلطة: يا بة! ما اسمي قمارى، إنما اسمي حسن، فقال أرقطاى: يا خوند! والله إن هذا اسم حسن على خيرة الله فاستقرت سلطنته وحلف له الأمراء على العادة، وعمره يومئذ إحدى عشرة سنة.
وفي يوم الأربعاء خامس عشره: اجتمع الأمراء، وأخرج لهم دينار الشبلي المال، فنقل إلى الخزانة.
وفيه طلب خدام المظفر وعبيده، ومن كان يعاشره من الفراشين ومطيري الحمام، وسلموا لشاد الدواوين على حمل ما أخذوه من المال. فأقر الخدام أن الذي خص كيدا في مدة شهرين نحو خمسة وثلاثين ألف دينار، ومائتين وعشرين ألف درهم وخص، العواد نحو ستين ألف درهم، وخفي الإسكندر بن كتيلة الجنكي نحو الأربعين ألف درهم، وخص العبيد والفراشين ومطيري الحمام نحو مائة ألف درهم. وأظهر بعض الخدام حاصلاً تحت يده، فيه لؤلؤ وجوهر قيمته زيادة على مائة ألف دينار، وفيه تحف وتفاصيل وزركش وبدلات ثياب بنحو مائة ألف دينار.
وفي يوم الخميس سادس عشره: قبض على الأمير أيدمر الرزاق، والأمير قطز أمير آخور، والأمير ملك، وأخرج قطز لنيابة صفد، وفيه قطعت أخباز عشرين خادماً، وخبز عبد على العواد، وإسكندر بن كتيلة الجنكي.
وفيه طلبت دبيقة مغنية عرب الجيزة، وكانت تخايل بالقلعة، وطلبت ضامنة المغاني أيضاً، وألزمتا بمال في نظير ما حصل لهما من بيت المال.
وفي يوم الأحد تاسع عشره: عرضت جميع الجواري اللاتي بالقلعة، ورسم بتزوج من أعتق منهن، وفرق باقيهن.
وفيه قبض على الطواشي عنبر السحرتي، وعلى الأمير آقسنقر أمير جاندار زوج أم المظفر. وفيه عرضت المماليك أرباب الوظائف، وأخرج منهم جماعة.
وفيه أحيط بأموال كيدا، وأموال بقية الحظايا، وأنزلن من القلعة.
وفيه كتبت أوراق. بمرتبات الخدام والعبيد والجواري، وقطعت كلها.
وكان أمراء المشورة والتدبير تسعة، وهم بيبغا روس القاسمي، بألجيبغا المظفري، ومنكلى بغا الفخري، وطشتمر طلليه، وأرقطاى النائب، وطاز، وأحمد شاد الشرابخاناه، وأرغون الإسماعيلي فاستقر شيخو العمري رأس نوبة كبير وشارك الأمراء في تدبير أمور المملكة.
وفيه استقر مغلطاي أمير آخور، عوضاً عن قطز.
وفيه أفرج عن بزلار.
وفيه أنعم على فارس الدين قريب آل ملك بإمرة طبلخاناه.
وفيه جهزت التشاريف لنواب الشام، وكتب إليهم بما وقع.
وفيه وقع الاتفاق على تخفيف الكلف السلطانية، وتقليل المصروف بسائر الجهات، وكتبت أوراق. بما على الدولة من الكلف.
وفيه أخذ الأمراء في تتبع طائفة الجراكسية من المماليك، وقد كان المظفر قربهم إليه بسفارة غرلو، فأنه كان جركسي الجنس. وجلبهم المظفر من كل مكان حتى عرفوا بين الأمراء، وقوى أمرهم، وصار منهم أمراء وأصحاب أخباز وتميزوا بكبر عمائمهم، وعملوا كلفتاه خارجة عن الحد. فطلبوا الجميع، وأخرجوهم منفيين خروجاً فاحشاً. وفي يوم الإثنين ثاني شوال: ركب الأمراء وأهل الدولة إلى الخدمة، وكتبت أوراق من ديوان الجيش بأسماء الذين اشتروا الإقطاعات في الحلقة من أرباب الصنائع، ورسم بقطع أخبازهم فشفع الأمراء في كثير منهم، ولم يقطع غير عشرين جندياً.
وفيه قدم جواب الأمير أرغون شاه نائب الشام بموافقته، ورضاه بما وقع، وغض من فخر الدين أياس نائب حلب. وكان الأمير أرقطاى نائب السلطة قد أراد من الأمراء أن يعفوه من النيابة، ويولوه بلداً من البلاد، فلم يوافقوا على ذلك. فلما ورد كتاب الأمير أرغون شاه نائب الشام يذكر فيه أن أياس يصغر عن نيابة حلب، فأنه لا يصلح لها إلا رجل شيخ كبير القدر له ذكر وشهرة، وطلب الأمير أرقطاى نيابة حلب فأجال الأمراء الرأي في ذلك إلى أن اتفقوا عليه. فلما كان يوم الخميس خامسه واجتمعوا لخدمة، خلع الأمير بيبغا روس القاسمي واستقر في نيابة السلطنة، عوضاً عن أرقطاي.وخلع على أمير أرقطاي، واستقر في نيابة حلب عوضاً عن فخر الدين أياس ، وخرج بتشريفهما.فجلس بيبغا روس في دست النيابة، وبيبغا جالس دونه.
وفي يوم السبت سابعه: قدم أمير منجك اليوسفي السلحدار أخو النائب بيبغا روس من الشام فرسم له بتقدمة ألف، وخلع عليه، واستقر وزيراً وأستادارا. وخرج في موكب عظيم والأمراء في خدمته، فصار حكم مصر للأخوين بيبغا روس ومنجك السلاح دار.(2/142)
وفي يوم الثلاثاء عاشره: سار أرقطاى متوجها إلى حلب، وصحبته الأمير كشلي الأدريسي متسفرا.
وكان قد رسم بنقل الأمراء المقتولين بالإسكندرية، فنقلوا إلى القاهرة. ودفن الأمير قمار أخيه الأمير بكتمر الساقى، قبلى القرافة. ودفن الأمير أرغون العلائي بخانكاته من القرافة. ودفن الأمير قوصون بخانكاته داخل باب القرافة. ودفن الأمير بشتاك الجاولي، فوق جبل الكبش. ودفن الأمير ملكتمر الحجازي في يوم الإثنين سابع عشري رمضان،.بموضع من قصر الزمرد عند رحبة باب العيد من القاهرة، أنشأته له زوجته ثم عملته مدرسة تعرف اليوم بالحجازية ودفن الملك الأشرف كجك بجماع آقسنقر من التبانة قريباً من القلعة، بجوار قبر زوج أمه آقسنقر. وأخرج يوسف وشعبان ورمضان الناصر محمد، ودفنوا.بمواضع أخرى. وسلم الأمير تمر الموساوى لأهله، فدفنوه بتربتهم. ونقل جماعة كثير سواهم، و لم يعهد مثل ذلك في الدولة التركية.
وفيه خلع على الشيخ علاء الدين علي بن الفخر عثمان بن إبراهيم المارديني، المعروف بابن التركماني الحنفي، واستقر في قضاء القضاة الحنفية.بمصر، عوضاً عن زين الدين عمر بن عبد الرحمن البسطائي.
وفيه رسم بكتابة أوراق بكلف الدولة، وفر منها مبلغ ستين ألف درهم في كل شهر من جامكية المماليك. وقطعت جوامك الخدم والجواري والبيوتات، ووفر كثير من رواتب لزوجات السلطان وكيدا واتفاق، وقطعت رواتب المغاني. وقطع من الإصطبل السلطاني جماعة،ما بين أمير آخورية وسر آخورية وسياس وغلمان، ووفر من رواتب عليق الخيول نحو خمسين أردبا في اليوم. وقطعت الكلابزية، وكانوا خمسين جوقة كلاب، فاستقروا جوقتين. وقطعت رواتب كثير من الأسرى والعتالين والمستخدمين في العمائر، وأبطلوا العمائر من بيت السلطان.، واستقر مصروف الحوائج خاناه في كل يوم ثمانية عشر ألف درهم، بعدما كان أحداً وعشرين ألف درهم فتوفر منه ثلاثة آلاف درهم.
وفيه رسم ألا يستقر في كل جهة إلا شاد وعامل وشاهد واحد.
واشتد الوزير منجك على أرباب الدواوين، وتكلم فيهم حتى خافوه بأسرهم، وقاموا له بتقادم تليق به؛ فلم يمضى شهر حتى أنس بهم، واعتمد عليهم في أموره كلها.
واستدعى الوزير منجك أيضاً ولاة الأقاليم، والزم آقبغا والي المحلة.بمائة ألف درهم، وولى أسندمر القلنجيقى الغربية، ثم عزله وولى قطليجا مملوك بكتمر؛ وولي أسندمر القاهرة، وأضاف له الجهات يتحدث فيها.
وفيه أنعم على أمير أرغون الكاملي بتقدمة ألف، وأنعم بإقطاعه على يلجك ابن أخت قوصون.
وفيه قدم سيف فخر الدين أياس نائب حلب على يد عمر شاه. وقد قبض عمر شاه على أياس، وأحضره إلى القاهرة، فحمل إلى الإسكندرية.
وفيه قدم الخبر بكثرة فساد العربان بالصعيد والفيوم، فخرج ابن طقزدمر ومعه خمسة أمراء طبلخاناه إلى الوجه القبلي، وخرج بكلمش أمير شكار في عده أمراء إلى الفيوم.
وفيه استقر طغيه في ولاية قوص، عوضاً عن إسماعيل الوافدي وقد فر بأمواله من قوص. ثم نقل طغيه إلى كاشف الوجه القبلي، عوضاً عن علاء الدين على بن الكوارنى؛ واستقر ابن المزوق في ولاية قوص. واستقر مجد الدين موسى الهذباني في ولاية الأشمونين، عوضاً عن ابن الزركشي. واستقر قطلومش في ولاية الجيزة.
فتسامع الناس بولاية الوزير منجك الأعمال بالمال، وأنه قد انفتح باب الأخذ والعطاء، فهرعوا إليه من حلب ودمشق وسائر النواحي، ورتب الوزير ببابه جماعة لاستقضاء الناس وقضاء أشغالهم - وفي أول ذي القعدة: قدم الخبر بأن الأمراء المجردين أوقعوا بالعرب، وقتلوا منهم جماعة، ونهبوا ما وجدوه، فانهزم باقيهم إلى جهة الواحات.
وفيه توقفت أحوال الدولة وتحسن السعر، فاتفق الأمراء ورتبوا لنفقة السلطان في كل يوم مائة درهم تكون بيده. فكان خادمه يحضر في كل يوم إلى علم الدين بن زنبور ناظر الخزانة، وهو جالس بخزانة الخاص من القلعة، يطالبه. بمائة درهم، فيكتب لمباشري الخزانة بصرف جامكية السلطان وصلا يأخذه صيرفي الخزانة عنده، ويزن للخادم المائة درهم، فيدخل بها إلى السلطان ليتوسع بها فيما يعن له. وكان هذا راتبه كل يوم ولم يسمع.بمثل ذلك أن يكون ملك يجلس على تخت الملك، ويصرف الأمور بالعزل والولاية، وتحمل إليه أموال مصر والشام، ولا يتصرف منها في شيء.(2/143)
وذلك أن الأمراء تحالفوا - بعد خروج الأمير أرقطاى النائب إلى حلب - أن يكونوا يدا واحدة وكلمتهم واحدة، ولا يدخل بينهم غريب، وأن يكون الأمير شيخو إليه أمر خزانة الخاص، ويراجعه علي الدين عبد الله بن زنبور ناظر الخاص ويتصرف بأمره، وأن يكون الأمير بيبغا روس يتحدث في المملكة، فيخرج الإقطاعات للأجناد والإمرات للأمراء.بمصر والشام، وإليه يرجع أمر نواب الشام أيضاً، وأنهم يجتمعون للمشورة بين يدي السلطان فيما يتجدد، وألا يدعوا السلطان يتصرف في المال، ولا ينعم على أحد، ولا يمكن من شيء يطلبه، فمشت الأمور على هذا.
وفيه وقف نحو المائتين ممن كان بخدمة الأمراء للنائب بيبغا روس يشكون البطالة ففرقوا على كل أمير مائة ثلاثة نفر، وعلى كل أمير طبلخاناه اثنين، وعلى كل أمير عشرة واحدا، ومن لم يكن من الأمراء عنده إقطاع محلول يرتب للواحد منهم مائة درهم وأردبين غلة في الشهر. فمن الأمراء من قبل، ومنهم من أبى أن يقبل منهم أحداً وفيه تراسل المماليك الجراكسة والأمير حسين بن الناصر محمد على أن يقيموه سلطانا، فقبض على أربعين من الجراكسة، وأخرجوا على الهجن مفرقين إلى البلاد الشامية ثم قبض على ستة، وضربوا قدام الإيوان بالقلعة ضرباً مبرحاً، وقيدوا وحبسوا بخزانة شمايل.
ثم عملت الخدمة بالإيوان، وتم الاتفاق على أن الأمراء إذا أنفضوا من خدمة الإيوان دخل أمراء المشورة المقدمين إلى القصر، دون من عداهم من بقية الأمراء، ونفذوا الأمور على اختيارهم، من غير أن يشاركهم أحد من الأمراء في ذلك. وكانوا إذا حضروا الخدمة بالإيوان خرج الأمير منكلى بغا الفخري، والأمير بيغرا، والأمير بيبغا ططر، والأمير طيبغا المجدى، والأمير أرلان، وسائر الأمراء، فيمضون لحالهم إلا أمراء المشورة والتدبير، وهم الأمير بيبغا النائب والأمير شيخو العمري، والوزير منجك، والأمير ألجيبغا المظفري، والأمير طاز، والأمير طنيرق، فإنهم يدخلون إلى القصر وينفذون أحوال الدولة بين يدي السلطان، بمقتضى علمهم وحسب اختيارهم، فتمضي الأمور على ذلك، ولا يشاركهم أحد في شيء من أحوال الدولة.
وفيه قدم الأمير كشلى الإدريسي من حلب، في تاسع عشره، بكتاب الأمير أرقطاى نائب حلب أنه قدمها في ثانيه؛ فكانت جملة ما أنعم به عليه من ذهب وخيل وقماش نحو مائة ألف درهم.
وفيه كتب لنائب الشام أرغون شاه أن يعمل برأيه في نيابة دمشق، ويتحكم في جميع الأحوال من غير مشاورة.
وفي مستهل ذي الحجة: قدم الأمراء المجردون الوجه القبلي، وقد أثروا آثارا قبيحة من سفك الدماء ونهب الأموال بغير حق، فإن أرباب الجرائم فروا في البرية فأوقعوا بأصحاب الزروع.
وفيه كتب لطغيه كاشف الوجه القبلي برمي الشعير على بلاد الأمراء والأجناد، وجباية عشرة آلاف أردب منها بسعر عشرة دراهم الأردب؛ فطلب طغيه مقطعي البلاد، وفرق فيهم المال، و لم يعف أحدا.
واتفق في هذه السنة حدوث حر شديد لم يعهد مثل بأرض مصر مدة أيام، ثم أعقب الحر ريح من جهة برقه مرت ببلاد البحيرة والغربية تحمل ترابا أصفر بلون الزعفران لبس الزرع لبساً حتى أيس الناس منه. فبعث الله مطراً مدة يوم وليلة غسلت ذلك التراب كله فأصبح من غد يوم المطر وقد جاء تراب أصفر أشد من الأول والزرع مبتل، فلصق بالزروع واستمر عليها. وقد خامر اليأس من الزروع قلوب الناس، وتيقنوا الهلاك، فتدارك الله الناس بلطفه، وبعث نداً كثيراً في الأسحار، فأنحل التراب عن أخره، ولما أدركت الغلال لحقها بعض الهيف.
وفيه قدم كثير من أهل دمشق للسعي من باب الوزير منجك في المباشرات، منهم ابن السلعوس، وصلاح الدين بن المؤيد وابن الأجل، وابن عبد الحق، فولى ابن الأجل نظر الشام وتوجه إلى دمشق، فضربه الأمير أرغون شاه نائب الشام ضرباً مؤلماً، وأخذ خلعته، وكتب بسببه إلى مصر يغض منه؛ فرسم أن من طلب وظيفة بغير كتاب نائب الشام شنق وأخذ ماله.
وفيه استقر جمال الدين محمد بن زين الدين عبد الرحيم المسلاتي في قضاء المالكية بدمشق، عوضاً عن شرف الدين محمد بن أبي بكر بن ظافر بعد وفاته.(2/144)
وفي هذه السنة: استجد.بمدينة حلب قاض مالكي وقاض حنبلي، فولى قضاء المالكية بها شهاب الدين أحمد بن ياسين الرباحي، وولي قضاء الحنابلة بها شرف الدين أبو البركات موسى بن فياض ولم يكن بها قبل ذلك مالكي ولا حنبلي، فاكتمل بها أربعة قضاة.
وفيها كان الغلاء بأرض مصر والشام، حتى بيعت غرارة القمح في دمشق بثلاثمائة درهم؛ ثم أنحط السعر.
وفيها توقف النيل في أوائل أيام الزيادة، فارتفع سعر الغلال. ثم توالت الزيادة حتى كان الوفاء في رابع جمادى الأولى، وهو تاسع مسرى، وانتهت الزيادة إلى ستة عشر ذراعاً واثنين وعشرين إصبعاً. ثم تناقص النيل نحو سبع أصابع إلى عيد الصليب، فرد نقصه وزاد حتى بلغ سبعة عشر وخمس أصابع. هذا وسعر الغلة يتزايد إلى أن بلغ الأردب ستين درهم، ثم تناقص حتى بيع بعشرين درهما.
ومات فيها من الأعيان تقي الدين أحمد بن الجمال سليمان بن محمد بن هلال الدمشقي، بها في ليلة الجمعة سادس رجب. وقد ولي بدمشق وكالة بيت المال والحسبة وتوقيع الدست، ثم نظر النظار؛ وقدم القاهرة غير مرة.
ومات الأمير آقسنقر الناصرى مقتولا، في يوم الأحد تاسع عشر ربيع الآخر وكان السلطان الناصر محمد قد اختص به، وزوجه ابنته، وجعله أمير شكار، ثم نائب غزة.وأعيد بعده في أيام الصالح إسماعيل في مصر، وعمل أمير آخور. ثم استقر في نيابة طرابلس مدة، وأحضر إلى مصر في أيام شعبان الكاملي، وعظم قدره ودبر الدولة في أيام المظفر حاجي حتى قتله. وكان كريماً شجاعاً، وإليه ينسب جامع آقسنقر بخط التبانة قريباً مكن القلعة.
ومات الأمير بيدمر البدري مقتولا بغزة، في أوائل جمادى الآخر. وهو أحد المماليك الناصرية، وولي نيابة حلب، واليه تنسب المدرسة الأيدمرية بالقاهرة قريباً من المشهد الحسيني.
وتوفي قاضى الحنفية بدمشق عماد الدين على بن محيى الدين أحمد بن عبد الواحد ابن عبد المنعم بن عبد الصمد الطرسوسي، عن تسع وسبعين سنة، بعدما ترك القضاء لولده وانقطع بداره.
ومات أمير علي بن الأمير قراسنقر.
وتوفي قاضى المالكية وشيخ الشيوخ بدمشق شرف الدين محمد بن أبي بكر بن ظافر عبد الوهاب الهمداني، في ثالث الحرم عن ثلاث وسبعين سنة.
وتوفي الحافظ شمس الدين بن أحمد بن عثمان بن قايماز الذهبي صاحب التصانيف الكثيرة في الحديث والتاريخ وغير ذلك، في ثالث ذي القعدة ومولده في ربيع الآخر سنة ثلاث وسبعين وستمائة.
ومات الأمير الوزير نجم الدين بن علي بن شروين، المعروف بوزير بغداد، مقتولا بغزة في أوائل جمادى الآخر. قدم من بغداد إلى القاهرة، وولي الوزارة ثلاث مرات فشكرت سيرته، وعرف بالمكارم. وله خانكاه بالقرافة، بجوار تربة كافور الهندي.
ومات قوام الدين مسعود بن محمد بن سهل، الكرماني الحنفي بدمشق، وقد جاوز الثمانين سنة؛ وكان بارعاً في الفقه والنحو والأصول، وله شعر.
ومات الأمير نجم الدين داود بن أبي بكر بن محمد بن الزيبق، بدمشق في سادس رجب؛ وتنقل في ولايات مصر والشام.
ومات أمير بني عقبة بدر الدين شطي بن عبية، ليلة عيد الأضحى؛ وأنعم على ولديه أحمد ونصير بإمرته.
ومات الأمير طرنطاى البشمقدار، في شعبان.
ومات الأمير ملكتمر الحجازي مقتولا، في تاسع عشر ربيع الآخر. وكان من مماليك شمس الدين أحمد بن يحيى بن محمد بن عمر الشهرزوري، فبذل له فيه السلطان الناصر محمد زيادة على مائة ألف درهم، حتى ابتاعه له منه المجد السلامي.بمكة، لما حج ابن الشهرزورى. وقدم به المجد السلامي إلى السلطان الناصر محمد فلم ير.بمصر أحسن منه ولا أظرف، فعرف بالحجازي، وحظى عند السلطان حتى زوجه بابنته، وكان مدمن الخمر مرتبه منه في كل يوم زنة خمسين رطلاً. لم تسمع منه كلمة فحش قط،، ولا توسط بسوء أبدا، مع سخاء النفس وعدم الشر.
ومات الأمير طغيتمر النجمي الدوادار، صاحب الخانكاه النجمية خارج باب المحروق.
ومات الأمير يلبغا اليحياوي نائب الشام قتلا، بقاقون وهو من المماليك الناصرية الذين شغف بهم السلطان الناصر محمد، وعمر له الدار العظيمة التي موضعها الآن مدرسة السلطان حسن، وولي نيابة حلب، ثم نيابة دمشق، وعمر بها الجامع المعروف بجامع يلبغا بسوق الخيل، و لم يكمله، فكمل بعد موته. وكان كريما، يبلغ إنعامه في كل سنة على مماليكه مائة وعشرين فرسا وثمانين حياصة ذهب(2/145)