الجزء الأول
مقدمة الكتاب
؟بسم الله الرحمن الرحيم
؟مقدمة المؤلف
" قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك من تشاء وتعز من تشاء وتذلك من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير، تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب " .
فسبحان الله من إله حكيم قادر، ومليك مقتدر قاهر، يعطي العاجز الحقير، ويمنع البطل الأيد الكبير، ويرفع الخامل الذليل، ويضع ذا العز المنيع والمجد الأثيل، ويعز المحتقر الطريد المجفو الشريد، ويذل أولى الحد الحديد، والعد العديد، وأرباب الألوية والبنود، ومالكي أزمة العساكر والجنود، ويؤتى مله من لم يكن شيئاً مذكورا، ولا عرف له أبا نبيها وجدا مشهوراً، بل نشأ كلاًّ على مولاه وخادما لسواه، تجبهه وتشنؤه الناس، ولا يرعاه سائر الأجناس، لا يقدر على نفع نفسه فضلا عن الغير، ولا يستطيع دفع ما ينزل به من مساءة وضير، عجزا وشقاء وخمولا واختفاء، وينزع نعت الملك ممن تهابه أسد الشرى في غِيلها، وتخضع لجلالته عتاة الأبطال يقظّها وقِظيظها، وتخنع لخنزوانة سلطانه حماة الكماة بجمعها وجميعها، وتذل لسطوته ملوك الجبابرة وأقيالها، ويأتمر بأوامره العساكر الكثيرة العدد، ويقتدي بعوائده الخلائق مدى الأبد.
والحمد لله على حالتي منعه وعطائه، وابتلاءه وبلائه، وسراته وضرائه، ونعمه وبأسائه، أهل الثناء والمجد، ومستحق الشكر والحمد: " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " ، " بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون " ولا إله إلا الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي " لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " والله أكبر ، " لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء " ولا تدرك من عظمته العقول إلا ما أخبر به عنه الرسل والأنبياء. وصلى الله على نبينا محمد الذي أذهب الشرك من الأكاسرة، ومحا بشريعته عظماء الروم القياصرة، وأزال بملته الأصنام والأوثان، وأحمد بظهوره بيوت النيران، وجمع له أسود العب وقد كانت في جزيرتها متفرقة، ولم ببركته شعثها بعدما غبرت زماناً وهي متمزقة، وألف قلوبها على موالاته وطاعته، وحبب إليها المبادرة إلى مبايعته على الموت ومتابعته، فتواصلوا بعد القطعية والتدابر، وتحابوا في الله كأن لم ينشئوا على البغضاء والتنافر، حتى صاروا باتباع ملته، والإقتداء بشريعته، من رعاية الشاء والبعير، إلى سياسة الجم الغفير، وبعد اقتعاد سنام الناقة والقعود، وملازمة بيت الشعر والعمود، وأكل القصوم والشيح، ونزول القفر الفسيح، إلى ارتقاء المنابر والسرير، وتوسد الأرائك على الحرير، وارتباط المسومة الجياد، واقتناء ما لا يحصى من الخدم والعتاد، بما فتح الله عليهم من غنائم ملوك الأرض، الذين أخذوهم بالقوة والقهر، وحووا ممالكهم بتأييد الله لهم والنصر، وأورثوها أبناء أبنائهم، وأحفادهم وأحفاد أحفادهم. فلما خالفوا ما جاءهم به رسولهم من الهدى، أحلهم الرزايا المجيحة والردى، وسلط عليهم من رعاع الغوغاء وآحاد الدهماء من ألحقهم بعد الملك بالهلك، وحطهم بعد الرفعة، وأذلهم بعد المنعة، وصيرهم من رتب الملوك إلى حالة العبد المملوك، جزاء بما اجترحوا من السيئات، واقترفوا من الكبائر الموبقات، واستحلوا من الحرمات، واستهواهم به الشيطان من إتباع الشهوات، وليعتبر أولو البصائر والأفهام، ويخشى أهل النهى مواقع نقم الله العزيز ذي الانتقام، لا إله إلا هو سبحانه.(1/1)
أما بعد، فإنه لما يسر الله وله الحمد، بإكمال كتاب عقد جواهر الأسفاط من أخبار مدينة الفسطاط، وكتاب اتعاظ الحنفاء بأخبار الخلفاء، وهما يشتملان على ذكر من مَلَكَ مصر من الأمراء والخلفاء، وما كان في أيامهم من الحوادث والأنباء، منذ فحت إلى أن زالت الدولة الفاطمية وانقرضت، أحببت أن أصل ذلك بذكر من ملك مصر بعدهم من الملوك الأكراد الأيوبية، والسلاطين المماليك التركية والجركسية، في كتاب يحصر أخبارهم الشائعة، ويستقصي أعلمهم الذائعة، ويحوى أكثر ما في أيامهم من الحوادث والماجريات، غير معتن فيه بالتراجم والوفيات، لأني أفردت لها تأليفاً بديع المثال بعيد المنال، فألفت هذا الديوان، وسلكت فيه التوسط بين الإكثار الممل والاختصار المخل، وسميته كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك. وبالله أستعين فهو المعين، وبه أعتضد فيما أريد وأعتمد، فإنه حسبي ونعم الوكيل.
سنة ثمان وستين وخمسمائة
فيها خرج السلطان صلاح الدين بعساكره يريد بلاد الكرك والشوبك ، فإنه كان كلما بلغه عن قافلة أنها خرجت من الشام تريد مصر خرج إليها ليحميها من الفرنج ، فأراد التوسيع في الطريق وتسهيلها، وسار إليها وحاصرها، فلم ينل منها قصدا وعاد. وفيها جهز صلاح الدين الهدية إلى السلطان نْور الدين ، وفْيها من الأمتعة والآلات الفضْية والذهبية والبلور واليشم أشياء يعز وجود مثلها، ومن الجواهر واللآلىء شيء عظيم القدر، ومن العين ستون ألف دينار، وكثير من الغرائًب المستحسنة، وفيل وحمار عتابي، وثلاث قطع بلخش فيها ما وزنه نيف وثلاثون مثقالا، وكان ذلك في شوال . وفيها خرج العبيد من بلاد النوبة لحصار أسوان ، وبها كنز الدولة، فجهز السلطان الشجاع البعلبكي في عسكر كبير فسار إلى أسوان ، وقد رحل العبيد عنها، فتبعهم ومعه كنز الدولة، وواقعهم وقتل منهم كثيرا، وعاد إلى القاهرة .
وفيها سار الملك المعظم شمس الدولة فخر الدين تورانشاه بن أيوب أخو السلطان صلاح الدين ، إلى بلاد النوبة، وفتح قلعة إبريم وسبى وغنم ، وعاد إلى أسوان ، وأقطع إبريم رجلا يعرف بإبراهيم الكردي، فسار إليها في عدة من الأكراد، وانبثوا يشنون الغارات على بلاد النوبة، حتى امتلأت أيديهم بالأموال والمواشي بعد فقر وجهد فوافى كتاب ملك النوبة إلى شمس الدولة وهو بقوص مع هدية، فأكرم رسوله وخلع عليه ، وأعطاه زوجين من نشاب ، وقال له : " قل للملك مالك عندي جواب إلا هذا " وجهز معه رسولا ليكشف له خبر البلاد، فسار إلى دمقلة وعاد إليه ، فقال : " وجدت بلادا ضيقة، ليس بها من الزرع سوى الذرة ونخل صغير منه أدامهم ، ويخرج الملك وهو عريان على فرس عرى، وقد التف في ثوب أطلس ، وليس على رأسه شعر. فلما قدمت عليه وسلمت ضحك وتغاشى، وأمر بي فكويت على يدي هيئة صليب ، وأنعم علي بنحو خمسين رطلا من دقيق وليس في دمقلة عمارة سوى دار الملك ، وباقيها أخصاص " . وفيها عظم هم السلطان نور الدين بأمر مصر، وأخذه من استيلاء صلاح الدين عليها المقيم المقعد، وأكثر من مراسلته بحمل الأموال ، ثم بعث بوزيره الصاحب موفق الدين خالد بن محمد بن نصر بن صغير القيسراني إلى مصر، لعمل حساب البلاد، وكشف أحوالها، وتقرير القطيعة على صلاح الدين في كل سنة، واختيار طاعته ، فقدم إلى القاهرة وكان من أمره ما يأتي ذ كره إن شاء الله .
وفيها مات أيوب بن شادي بن مروان بن يعقوب نجم الدين الملقب بالملك الأفضل أبي سعيد الكردي، والد السلطان صلاح الدين يوسف وذلك أنه خرج من باب النصر بالقاهرة، قألقاه الفرس إلى الأرض يوم الثلاثاء ثامن عشر ذي الحجة، فحمل إلى داره في تاسع عشره وقيل لثلاث بقين منه، فقبر عند أخيه أسد الدين شيركوه، ثم نقلا إلى المدينة النبوية في سنة ثمانين وخمسمائة.
سنة تسع وستين وخمسمائة
فيها وصل إلى القاهرة موفق الدين أبو البقاء خالد بن محمد ين نصر بن صغير المعروف بابن القيسراني من عند السلطان الملك العادل نور الدين ، مطالبا لصلاح الدين بالحساب عن جميع ما أخذ من قصور الخلفاء وحصل من الارتفاع .(1/2)
فشق ذلك عليه وقال : " إلى هذا الحد وصلنا ؟ " وأوقفه على ما تحصل له ، وعرض عليه الأجناد، وعرفه مبالغ إقطاعاتهم وجامكياتهم ، ورواتب نفقاتهم ثم قال : " وما يضبط هذا الإقليم العظيم إلا بالمال الكبير، وأنت تعرف أكابر الدولة وعظماءها، وأنهم معتادون بالنعمة والسعة، وقد تصرفوا في أماكن لا يمكن انتزاعها منهم ، ولا يسمحون بأن ينقص من ارتفاعها " ، وأخذ يجمع المال .
وفيها سار الأمير شمس الدولة تورانشاه ، أخو السلطان صلاح الدين ، إلى اليمن وذلك لشدة خوف صلاح الدين وأهله من الملك العادل نور الدين أن يدخل إلى مصر وينتزعهم منها، فأحبوا أن يكون لهم مملكة يصيرون إليها. وكان اختيارهم قد وقع على النوبة، فلما سار إليها لم تعجبه وعاد. وكان الفقيه عمارة اليماني قد انقطع الى الأمير شمس الدولة، ومدحه واختص به ، وحدثه عن بلاد اليمن وكثرة الأموال بها، وهون أمرها عنده، وأغراه بأن يستبد بملك اليمن ، وتعرض لذلك في كلمته التي أولها:
العلم مذ كان محتاج إلى العلم ... وشفرة للسيف تستغني عن القلم
ومنها :
فاخلق لنفسك ملكا لا تضاف به ... إلى سواك وأور النار في العلم
هذا ابن تومرت قد كانت بدايته ... كما يقول الورى لحما على وضم
وكان شمس الدولة مع ذلك جوادا كثير الإنفاق ، فلم يقنع بما له من الإقطاع بمصر، وأحب الوسع ، فاستأذن صلاح الدين في المسير، فأذن له واستعد لذلك ، وجمع وحشد، وسار مستهل رجب . فوصل إلى مكة فزار، ثم خرج منها يريد اليمن ، وبها يومئذ أبو الحسن علي بن مهدى ويقال له عبد النبي. فاستولى على زبيد في سابع شوال ، وقبض على عبد النبي، وأخذ ما سواها من مدائن اليمن ، وتلقب بالملك المعظم ، وخطب له بذلك بعد الخليفة المستضيء بأمر الله في جميع ما فتحه ، وبعث إلى القاهرة بذلك . فسير السلطان صلاح الدين إلى الملك العادل يعلمه بذلك ، فبعث بالخبر إلى الخليفة المستضيء ببغداد.
وفي سادس شعبان : قبض على أولاد العاضد وأقاربه ، وأخرجوا من القصر إلى دار المظفر بحارة برجوان ، في العشر الأخير من رمضان .
وفيها اجتمع طائفة من أهل القاهرة على إقامة رجل من أولاد العاضد، وأن يفتكوا بصلاح الدين ، وكاتبوا الفرنج ، منهم القاضي المفضل ضياء الدين نصر الله بن عبد الله بن كامل القاضي، والشريف الجليس ، ونجاح الحمامي، والفقيه عمارة بن علي اليماني، وعبد الصمد الكاتب ، والقاضي الأعز سلامة العوريس متولي ديوان النظر ثم القضاء، وداعي الدعاة عبد الجبار بن إسماعيل بن عبد القوى والواعظ زين الدين بن نجا، فوشى ابن نجا بخبرهم إلى السلطان ، وسأله في أن ينعم عليه بجميع ما لابن كامل الداعي من الدور والموجود كله ، فأجيب إلى ذلك ، فأحيط بهم وشنقوا في يوم السبت ثاني شهر رمضان بين القصرين ، فشنق عمارة وصلب فيما بين بابي الذهب وباب البحر، وابن كامل ش رأس الخروقيين التي تعرف اليوم بسوق أمير الجيوش ، والعوريس على درب السلسلة، وعبد الصمد وابن سلامة وابن المظبي ومصطنع الدولة والحاج ابن عبد القوي بالقاهرة، وشنق ابن كامل القاضي بالقاهرة يوم الأربعاء تاسع عشر شوال ، وشنق أيضا شبرما وأصحابه وجماعة من الأجناد والعبيد والحاشية وبعض أمراء صلاح الدين ، وقبض صلاح الدين سائر ما وجد عندهم من مال وعقار، ولم يمكن ورثتهم من شيء البتة، وتتبع من له هوى في الدولة الفاطمية، فقتل منهم كثيرا وأسر كثيرا، ونودي بأن يرحل كافة الأجناد وحاشية القصر وراجل السودان إلى أقصى بلاد الصعيد.وقبض على رجل يقال له قديد بالإسكندرية، من دعاة الفاطميين ، يوم الأحد خامس عشرى رمضان ، وقبض على كثير من السودان، وكووا بالنار في وجوههم وصدورهم .(1/3)
وفيها جهز السلطان مع الوزير ابن القيسراني ما تحصل عنده من المال ، وأصحبه هدية لنور الدين ، وهي خمس ختمات إحداها فى ثلاتين جزءا، مغشاة بأطلس أزرق ومضببة بصفائح ذهب ، وعليها أقفال من ذهب مكتوبة بخط ذهب ، وأخرى في عشرة أجزاء مغشاة بديباج فستقي، وأخرى في جلد بخط ابن البواب بقفل ذهب وثلاثة أحجار بلخش ، منها حجر زنته اثنان وعشرون مثقالا، وحجر وزنه اثنا عشر مثقالا، وآخر عشرة مثاقيل ونصف وست قصبات زمرد إحداها وزنها ثلاثة مثاقيل ، وحجر ياقوت أحمر، وزنه سبعة مثاقيل ، وحجر ياقوت أزرق وزنه ستة مثاقيل ، ومائة عقد جوهر زنتها ثمانمائة وسبعة وخمسون مثقالا، وخمسون قارورة دهن بلسان ، وعشرون قطعة بلور، وأربع عشرة قطعة جزع ما بين زبادي وسكارج ، وإبريق يشم وطشت يشم ، وسقرق مينا مذهب ، بعروة فيها حبتا لؤلؤ وفي الوسط فص ياقوت أزرق ، وصحون وزبادي وسكارج من صيني عدتها أربعون قطعة، وعود قطعتين كبارا، وعنبر منه قطعة زنتها ثلاثون رطلا، وأخرى عشرون رطلا، ومائة ثوب أطلس ، وأربعة وعشرون بقيارا مذهبا وأربعة وعشرون ثوبا وشيا حريرية بيضاء، وحلة خلفي مذهب ، وحلة مرايش اصفر مذهب ، وحلة مرايش أزرق مذهب ، وحلة مرايش بقصب أحمر وأبيض ، وحلة فستقي بقصب مذهبة، وقماش كثير، قدر قيمتها بمائتي ألف دينار وخمسة وعشرين ألف دينار. وساروا بذلك ، فبلغهم موت نور الدين ، فأعيدت وهلك بعضها.
وفيها مات السلطان العادل نور الدين محمود بن زنكي، في يوم الأربعاء حادي عشر شوال ، بعلة الخوانيق ، وكان قد تجهز لأخذ مصر من صلاح الدين يوسف بن أيوب ، وقد خطب له بالشام ومصر والحرمين واليمن . وقام من بعده ابنه الصالح إسماعيل وعمره إحدى عشرة سنة، فخطب له السلطان صلاح الدين بمصر، وضرب السكة باسمه وفيها نزل أسطول الفرنج بصقلية على ثغر الإسكندرية، لأربع بقين من ذي الحجة بغتة، وكان الذي جهز هذا الأسطول غليالم بن غليالم بن رجار متملك صقلية، ولي ملك صقلية بعد أبيه في سنة ستين وخمسمائة وهو صغير، فكفلته أمه ، وتولى التدبير خادم اسمه باتر مدة سنة، ثم فر إلى السيد أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن صاحب البلاد المغربية .
ثم استبد غليا لم بتدبير ملكه ، واحتفل في سنة إحدى وسبعين بعمارة هذا الأسطول ، فاجتمع له ما لم يجتمع لجده رجار، وحمل في الطرائد ألف فارس . وقدم على الأسطول رجلا من دولته يسمى أكيم موذقة، وقصد الإسكندرية، ومات غليالم في سنة إحدى وثمانين وخمسمائة. ولما أرسى هذا الأسطول على البر، أنزلوا من طرائدهم ألفا وخمسمائة فرس ، وكانت عدتهم ثلاثين ألف مقاتل ، ما بين فارس وراجل ، وعدة طرائدهم ستا وثلاثين طريدة تحمل الخيل ، ومائتي شيني في كل شيني مائة وخمسون رجلا، وعدة السفن التي تحمل آلات الحرب والحصار ست سفن ، وللتى تحمل الأزواد والرجال أربعين مركبا، فكانوا نحو الخمسين ألف راجل . ونزلوا على البر مما يلي المنارة، وحملوا على المسلمين حتى أوصلوهم إلى السمور، وقتل من المسلمين سبعة. وزحفت مراكب الفرنجة إلى الميناء، وكان بها مراكب المسلمين فغرقوا منها. وغلبوا على البر وخيموا بها فأصبح لهم على البر ثلاثمائة خيمة، وزحفوا لحصار البلد، ونصبوا ثلاث دبابات بكباشها، وثلاثة مجانيق كبارا تضرب بحجارة سود عظيمة .
وكان السلطان علي فاقوس فبلغه الخبر ثالث يوم نزول الفرنجة، فشرع في تجهيز العساكر، والقتال والرمي بالمجانيق مستمر. فوصلت العساكر، وفتحت الأبواب ، وهاجم المسلمون الفرنجة، وحرقوا الدبابات ، وأيدهم الله بنصره ، واستمر القتال يوم الأربعاء إلى العصر، وهو الرابع من نزول الفرنجة. ثم حملوا حملة ثانية عند اختلاط الظلام على الخيام ، فتسلموها بما فيها، وقتلوا من الرجالة عددا كثيرا ومن الفرسان . فاقتحم المسلمون البحر، وأخذوا عدة مراكب خسفوها فغرقت ، وولت بقية المراكب منهزمة، وقتل كثير من الفرنجة، وغنم المسلمون من الآلات والأمتعة والأسلحة ما لا يقدر على مثله إلا بعناء وأقلع باقي الفرنجة مستهل سنة سبعين .(1/4)
وفيها، " أعني سنة تسع وستين وخمسمائة " وقف السلطان صلاح الدين ناحية نقادة من عمل قوص بناحية الصعيد الأعلى، وثلث ناحية سندبيس من القليوبية، على أربعة وعشرين خادما لخدمة الضريح الشريف النبوي، وضمن ذلك كتابا ثابتا تاريخه ثامن عشري شهر ربيع الآخر منها، فاستمر ذلك إلى اليوم .
وكان قاع النيل ستة أذرع وعشرين أصبعا، وبلغ سبعة عشر ذراعا وعشرين أصبعا.
سنة سبعين وخمسمائة
وفيها جمع كنز الدولة والي أسوان العرب والسودان ، وقصد القاهرة يريد إعادة الدولة الفاطمية، وأنفق في جموعه أموالا جزيلة ، وانضم إليه جماعة ممن يهوى هواهم ، فقتل عدة من أمراء صلاح الدين . وخرج في قرية طود رجل يعرف بعباس بن شادي، وأخذ بلاد قوص ، وانتهب أموالها. فجهز السلطان صلاح الدين أخاه الملك العادل في جيش كثيف ، ومعه الخطير مهذب بن مماتي، فسار وأوقع بشادي وبدد جموعه وقتله ، ثم سار فلقيه كنز الدولة بناحية طود، وكانت بينهما حروب فر منها كنز الدولة، بعدما قتل أكثر عسكره. ثم قتل كنز الدولة في سابع صفر، وقدم العادل إلى القاهرة في ثامن عشريه .
وفيها ورد الخبر على السلطان بسير الملك الصالح مجير الدين إسماعيل بن نور الدين إلى حلب ، ومصالحته للسلطان سيف الدين غازي صاحب الموصل ، فأهمه وخرج يريد المسير إلى الشام فنزل ببركة الجب أول صفر، وسار منها في ثالث عشر ربيع الأول ، على صدر وأيلة، في سبعمائة فارس ، .واستخلف على ديار مصر أخاه الملك العادل . ونزل بصرى وخرج منها، فنزل الكسوة يوم الأحد تاسع عشري ربيع الأول ، وخرج الناس إلى لقائه ، فدخل إلى دمشق يوم الإثنين أول شهر ربيع الآخر، وملكها من غير مدافع . وأنفق في الناس مالا جزيلا، وأمر فنودي بإطابة النفوس وإزالة المكوس ، وإبطال ما أحدث بعد نور الدين محمود من القبائح والمنكرات والضرائب ، وأظهر أنه إنما جاء لتربية الصالح بن نور الدين ، وأنه ينوب عنه ويدبر دولته ،وكاتب الأطراف بذلك . وتسلم قلعة دمشق بعد امتناع ، فأنزل بها أخاه ظهير الإسلام طغتكين بن أيوب ، وبعث بالبشارة إلى القاهرة، وخرج مستهل جمادى الأولى، فنازل حمص حتى تسلمها في حادي عشرة ، وامتنعت عليه قلعتها، فأقام على حصارها طائفة، وسار إلى حماة فنزل عليها في ثالث عشريه ، وبها عز الدين جرديك ، فسلمها إليه .
وفى جمادى الأولى :ولي ابن عصرون القضاء بديار مصر.
وسار صلاح الدين إلى حلب ، وبعث إلى الصالح إسماعيل في الصلح مع جرديك ، فأبى أصحابه ذلك ، وقبضوا على جرديك وقيدوه ، فبلغ ذلك صلاح الدين ، وقد سار عن حماة يريد حلب ، فعاد إليها . ثم سار منها إلى حلب ، ونزل حبل جوش ثالث جمادى الآخرة، واستعد أهل حلب وخرجوا لقتاله ، وقاتلوه قتالا شديدا إلى أول رجب . فرحل صلاح الدين يريد حمص ، وقد بلغه مسير القومص ملك الفرنج بطرابلس ، بمكاتبة أهل حلب ، وأنه منازل لحمص . فلما ترب من حمص عاد القومص إلى بلاده ، فنازل صلاح الدين قلعتها، ونصب المجانيق عليها إلى أن تسلمها بالأمان ، في حادي عشري شعبان ، وسار إلى بعلبك، حتى تسلم قلعتها في رابع رمضان ، وعاد إلى حمص . وكانت بينه وبن أصحاب الصالح وقعة على قرون حماة، في يوم الأحد تاسع عشرة ، انتصر فيها صلاح الدين ، وهزمهم وغنم كل ما معهم ، ولم يقتل فيها أكتر من سبع أنفس ، وسار حتى نزل على حلب ، وقطع الخطبة للصالح، وأزال اسمه عن السكة في بلاده ، فبعث أهل الصالح إليه يلتمسون منه الصلح ، فأجاب إليه على أن يكون له ما بدهر من بلاد الشام ، ولهم ما بأيديهم منها، واستزاد منهم المعرة وكفر طاب ، وكتبت نسخة يمين وعليها خط صلاح الدين ، بعدما حلف وعاد إلى حماة.
وكان صلاح الدين قد كتب إلى بغداد يعدد فتوحاته وجهاده للفرنج ، وإعادته الخطبة العباسية بمصر واستيلاءه على بلاد كثيرة من أطراف المغرب وعلى بلاد اليمن كلها، وأنه قدم إليه في هذه السنة وفد سبعين راكبا، كلهم يطلب لسلطان بلده تقليدا. وطلب صلاح الدين من الخليفة تقليد مصر واليمن والمغرب والشام ، وكل ما يفتحه بسيفه . فوافته بحماة رسل الخليفة المستضيء بأمر الله ، بالتشريف والأعلام السود، وتوقيع بسلطنة بلاد مصر الشام وغيرها . فسار ونزل على بعرين ويقال بارين ، وحاصر حصنها حتى تسلمه في العشرين منه ، ورجع إلى حماة.(1/5)
وفيها تقرر العماد الأصفهاني نائبا في الكتابة عن القاضي الفاضل بسعاية نجم الدين محمد بن مصال . وسار صلاح الدين إلى دمشق ثم رحل عنها، فنزل مرج الصفر ووافته به رسل الفرنج في طلب الهدنة، فأجابهم إليها بشروط اشترطها. وأذن للعساكر في المسير إلى مصر لجدب الشام فساروا،ورجع هو إلى دمشق في محرم سنة إحدى وسبعين ، وفوض أمرها إلى ابن أخيه تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب .
سنة إحدى وسبعين وخمسمائة
وفيها سار شرف الدين قراقوش " أحد أصحاب تقي الدين عمر " إلى بلاد المغرب س حادي عشر محرم في جيش، فأخذ من صاحب أوجلة عشرين ألف دينار فرقها في أصحابه ، وعشرة آلاف دينار لنفسه ، وسار منها إلى غيرها، ثم بلغه موت صاحب أوجلة، فعاد إليها وحاصر أهلها، وقد امتنعوا عليه حتى أخذها عنوة، وقتل من أهلها سبعمائة رجل ، وغنم منها غنيمة عظيمة، وعاد إلى مصر.
وفيها تجهز الحلبيون لقتال صلاح الدين ، فاستدعى عساكر مصر، فلما وافته بدمشق في شعبان سار في أول رمضان ، فلقيهم في عاشر شوال . وكانت بينهما وقعة تأخر فيها السلطان سيف الدين غازي صاحب الموصل ، فظن الناس أنها هزيمة، فولت عساكرهم ، وتبعهم صلاح الدين ، مهلك منهم جماعة كثرة، وملك خيمة غازي، وأسر عالما عظيما، واحتوى على أموال وذخائر وفرش وأطعمة وتحف تجل عن الوصف . وقدم عليه أخوه الملك المعظم شمس الدولة تورانشاه بن أيوب من اليمن ، فأعطاه سرادق السلطان غازي بما فيه من الفرش والآلات ، وفرق الإسطبلات والخزائن على من معه ، وخلع على الأسرى وأطلقهم . ولحق سيف الدين غازي بمن معه ، فالتجأوا جميعا لحلب ، ثم سار إلى الموصل وهو لا يصدق أنه ينجو، وظن أن صلاح الدين يعبر الفرات ويقصده بالموصل . ورحل صلاح الدين ونزل على حلب في رابع عشر شوال ، فأقام عليها إلى تاسع عشره ، ورحل إلى بزاعة، وقاتل أهل الحصن حتى تسلمه . وسار إلى منبج ، فنزل عليها يوم الخميس رابع عشريه ، ولم يزل يحاصرها أياما حتى ملكها، واخذ من حصنها ثلاثمائة ألف دينار، ومن الفضة والآنية والأسلحة ما يناهز ألفي ألف دينار. ورحل إلى عزاز، وحاصرها من يوم السبت رابع ذي القعدة إلى حادي عشر ذي الحجة، فتسلمها وأقام فيها من يثق به ، وعاد إلى حلب .
وفي يوم الثلاثاء رابع عشرة : وثب عدة من الإسماعيلية على السلطان صلاح الدين ، فظفر بهم بعدما جرحوا عدة من الأمراء والخواص . ثم سار إلى حلب فنزل عليها في سادس عشره ، وأقطع عسكره ضياعها، ؤإمر بجباية أموالها، وضيق على أهل حلب من غير قتال ، بل كان يمنع أن يدخلها أحد أو يخرج منها.
سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة
فلما كان رابع المحرم سنة اثنتين وسبعين : ركب العسكران وكانت الحرب ، فقتل جماعة من أصحاب صلاح الدين . ثم تقرر الصلح بينه وبن الملك الصالح، على أن يكون للصالح حلب وأعمالها . ورحل صلاح الدين في عاشره ، فنازل مصياب ، وفيها راشد الدين سنان بن سلمان بن محمد، صاحب قلاع الإسماعيلية ومقدم الباطنية، وإليه تنسب الطائفة السنانية، ونصب عليها المجانيق والعرادات من ثالث عشريه إلى أيام ، ثم رحل ولم يقدر عليهم ، وقد امتلأت أيدي أصحابه بما أخذوه من القرى. وفوض صلاح الدين قضاء دمشق لشرف الدين أبي سعد عبد الله أبي عصرون ، عوضا عن كمال الدين الشهرزوري بعد وفاته. وفيه أغار الفرنج على البقاع فخرج إليهم الأمير شمس الدين محمد بن عبد الملك بن المقدم من بعلبك ، فأوقع بهم وقتل منهم وأسر. وخرج إليهم المعظم شمس الدولة من دمشق فلقيهم بعين الحر، وأوقع بهم ، ثم سار إلى حماة وبها صلاح الدين ، فوافاه فى الثاني من صفر. ثم سار السلطان منها ودخل دمشق سابع عشره ، فأقام بها إلى رابع شهر ربيع الأول ، وخرج منها إلى القاهرة، واستخلف على دمشق أخاه الملك المعظم شمس الدولة تورانشاه بن أيوب ، فوصل إليها لأربع بقين منه .(1/6)
وفيها أمر للسلطان ببناء السور على القاهرة والقلعة ومصر ،ودوره تسعة وعشرون ألف فراع وثلاثمائة وذراعان بذراع العمل . فتولى ذلك الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي، وشرع في بناء القلعة،وحفر حول السور خندقا عميقا،وحفر واديه وضيق طريقه . وكان في مكان القلعة عدة مساجد منها مسجد سعد الدولة، فدخلت في جملة القلعة، وحفر فيها بئرا ينزل لليها بدرج منحوتة في الحجر إلى الماء.
وفيها أمر السلطان ببناء المدرسة بجوار قبر الشافعي بالقرافة، وأن تعمل خزانة الأشربة التي كانت للقصر مارستانا للمرضى، فعمل ذلك . وسار السلطان إلى الإسكندرية في ثاني عشري شعبان ، ومعه ابناه الأفضل علي والعزيز عثمان ، فصام بها شهر رمضان ، وسمع الحديث علي الحافظ أبي الطاهر أحمد السلفى وأمر بتعمير الأسطول بها، ووقف صادر الفرنج على الفقهاء بالاسكندرية.ثم عاد إلى القاهرة، فصام بها بقية رمضان.
وفيها عاد شرف الدين قراقوش غلام تقي الدين إلى بلاد المغرب ، وعاد فأخذ جماعة من الجند، وخرج إلى المغرب ، فأمر العادل الأمير خطلبا بن موسى وإلى القاهرة بالقبض عليه ، فسار إلى الفيوم وأخذه محمولا إلى القاهرة .
وفيها أبطل السلطان المكس المأخوذ من الحجاج في البحر إلى مكة على طريق عيذاب وهو سبعة دنانير مصرية ونصف على كل إنسان ، وكانوا يؤدون ذلك بعيذاب أو بجدة ، ومن لم يؤد ذلك منع من الحج ، وعذب بتعليقه بأنثييه ، وعوض أمير مكة عن هذا المكس بألفي دينار، وألف أردب قمح ، سوى إقطاعات بصعيد مصر وباليمن ، وقيل إن مبلغ ذلك ثمانية آلاف أردب قمح تحمل إليه إلى جدة .
سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة
وخرج السلطان من القاهر، لثلاث مضين من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين ، لجهاد الفرنج . وسار إلى عسقلان فسبى وغنم وقتل وأسر ومضى إلى الرملة ، فاعترضه نهر تل الصافية في يوم الجمعة ثاني جمادى الآخرة، فازدحم الناس بأثقالهم عليه وأشرف الفرنج عليهم ، ومقدمهم البرنس أرناط صاحب الكرك في جموع كثيرة، فانهزم المسلمون وثبت السلطان في طائفة، فقاتل قتالا شديدا، واستشهد جماعة وأخذ الفرنج أثقال المسلمين ، فمر بهم في مسيرهم إلى القاهرة من العناء ما لا يوصف ، ومات منهم ومن دوابهم كثير، وأسر الفرنج جماعة منهم الفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري. ودخل السلطان إلى القاهرة منتصف جمادى الآخرة، لا تضرب له نوبة حتى يكسر الفرنج ، وقطع أخبار جماعة من الأكراد، من أجل أنهم كانوا السبب فى هذه الكسرة.
وفيها نزل الفرنج على حماة، فقاتلهم الناس أربعة أيام حتى رحلوا عنها، ونزلوا على حارم فحاصروها أربعة أشهر، ثم رحلوا إلى بلادهم .
وفيها أطلق شرف الدين قراقوش التقوى، وسار إلى أوجلة وغرها من بلاد المغرب . وخرج السلطان في سادس عشري شعبان سنة ثلاث وسبعين من القاهرة يريد الشام ، واستخلف بديار مصر أخاه العادل ، فلم يزل مقيما على بركة الجب إلى أن صلى صلاة عيد الفطر. فبلغه نزول الفرنج على حماة، فأسرع في المسير حتى دخل دمشق في رابع عشري شوال ، فرحل الفرنج عن حماة. ووافته بدمشق رسل الخليفة بالتشريفات .
وفيها سار الفرنج إلى قلعة صدر، وقاتلوا من بها فلم ينالوا قصدا، فساروا يريدون الغارة على ناحية فاقوس ، ثم عادوا بنية الحشد والعود. وفيها عصى شمس الدين بن المقدم بمدينة بعلبك على السلطان .
وفيها ولد الملك الزاهد مجير الدين داود، شقيق الظاهر غياث الدين غازي بن السلطان صلاح الدين ، لسبع بقين من ذي القعدة.
وفيها غلت الأسعار ببلاد الشام لكثرة الجدب ، واشتد الأمر بحلب .
وفيها سار الأمير ناصر الدين إبراهيم ، سلاح دار تقي الدين عمر في عسكر إلى بلاد المغرب ، فوصل إلى قراقوش التقوى، وسارا إلى مدينة الروحان ، فنازلاها أربعين يوما، حتى فتحت وقتل حاكمها، وقررا عليها أربعة عشر ألف دينار، وملكا مدينة غدامس بغير قتال ، وتقرر على أهلها اثنا عشر ألف دينار، وسار إبراهيم إلى جبال نفوسة، فملك عدة قلاع ، وصار إليه مال كثير ورجال ، وسار البعث من عند قراقوش إلى بلاد السودان ، فغنموا غنيمة عظيمة.
وفيها ظهر العمل في سور القاهرة ، وطلع البناء وسلكت به الطرق المودية إلى الساحل بالمقس .(1/7)
وفيها مات الأمير شهاب الدين محمود بن تكش الحارمي، خال السلطان صلاح الدين ونائب حماة، في سابع عشري جمادى الآخرة بحماة، وحمل إلى حلب فدفن بها، وكان شجاعا عاقلا سيوسا ممدحا.
سنة أربع وسبعين وخمسمائة
وفى أوائل شهر ربيع الآخر سنة أربع وسبعين ، هجم العدو من الفرنج على مدينة حماة، فنهض إليهم المسلمون وأسروا مقدمهم في جماعة، وبعثوا بهم إلى السلطان بدمشق ، فضرب أعناقهم .
وفيها جهز السلطان أخاه شمس الدولة تورانشاه إلى محاربة شمس الدين بن المقدم ببعلبك ، في جيش كثيف ، فحاصرها مدة، ثم سار إليه السلطان ، وأقام على الحصار حتى دخل الشتاء، فوقع الصلح وتسلمها السلطان ، وسلمها لأخيه تورانشاه في شوال ، فبنى الفرنج في مدة اشتغال السلطان ببعلبك حصنا على مخاضة بيت الأحزان ، وهو بيت يعقوب عليه السلام ، وبينه وبين دمشق نحو يوم ، ومنه إلى طبرية وصفد نصف يوم . فعاد السلطان إلى دمشق ، وقدم عليه من الديوان العزيز خادم اسمه فاضل فأصحبه معه للغزو، حي وقف على الحصن ، وتخطف من حوله من الفرنج ، ثم عاد إلى دمشق فتواترت الأخبار باجتماع الفرنج لغزو بلاد المسلمين ، فأخرج السلطان ابن أخيه الأمير عز الدين فرخشاه أمامه ، فواقعه الفرنج وقعة قتل فيها جماعة من مقدمي الفرنج وغيرهم ، منهم الهنفرى وصاحب الناصرة، فانهزموا وأسر منهم جماعة. فبرز السلطان من دمشق إلى الكسوة لنجدة عز الدين ، فوافته الأسرى والرءوس ، فسر بدذك وعاد إلى دمشق .
وفيها أغار أبرنس مالك الفرنج بأنطاكية على شيزر، وغدر القومص ملك طرابلس بالتركمان .
وفيها سار شمس الدولة إلى مصر بعدة من العسكر لجدب الشام فى سادس عشري ذي القعدة ، وأغار السلطان على حصن بيت الأحزان وعاد بالغنائم والأسرى، ووالى الغارة والبعث إلى بلاد الفرنج .
وفيها قوي قراقوش التقوى وإبراهيم السلاح دار ببلاد المغرب ، وأخذا عدة حصون .
ودخلت سنة خمس وسبعين وخمسمائة
والسلطان مواصل الإغارة على بلاد الفرنج ، وكان نازلا على بانياس ، وسرح العساكر ومقدمها عز الدين فرخشاه بن أيوب ، فأكثر من قتلهم وأسرهم . وفتح بيت الأحزان في رابع عشري ربيع الآخر، بعد قتال وحصار، فغنم منهم مائة ألف قطعة حديد من أنواع الأسلحة، وشيئا كثيرا من الأقوات وغيرها، وأسر عدة نحو السبعمائة، وخرب الحصن حتى سوى به الأرض ، وسد البئر التي كانت به ، وعاد بعدما أقام عليه أربعة عشر يوما، فأغار على طبرية وصور وبيروت ثم رجع إلى دمشق ، وقد مرض كثير من العسكر ومات عدة من الأمراء.(1/8)
وفي يوم الأحد ثامن المحرم : ركب السلطان ومعه صمصام الدين أجك وإلى بانياس في عسكره ، فلقيه الفرنج في ألف رمح وعشرة آلاف مقاتل ما بين فارس وراجل ، فاقتتلوا قتالا كثيرا انهزم فيه الفرنج ، وركب المسلمون أقفيتهم يقتلون ويأسرون حتى حال بينهم الليل ، وعاد السلطان إلى مخيمه ، وقد مض أكثر الليل ، وعرض الأسرى، فقدم أولهم بادين بن بارزان ، ثم أود مقدم الداوية، وابن القومصية، وأخو صاحب جبيل في آخرين ، فقيدوا بأجمعهم وهم نحو المائتين وسبعين ، وحملوا إلى دمشق فاعتقلوا بها، وعاد السلطان إلى دمشق ، ففدى ابن بارزان بعد سنة بمائة وخمسين ألف دينار وألف أسير من المسلمين ، وفدى ابن القومصية بخمسة وخمسين ألف دينار صورية، ومات أود فأخذت جيفته بأسير أفرج عنه. وقدم الخبر بان الملك المظفر تقي الدين أوقع بعسكر قلج أرسلان صاحب الروم السلجوقية فهزمهم وأسر منهم جماعة، فكتب السلطان البشائر بظفره بالفرنج على مرج عيون وبظفر أخيه بعسكر الروم وسيرها إلى الأقطار فأتته تهاني الشعراء من الأمصار، ثم اهتم السلطان بأمر بيت الأحزان ، وكتب إلى الفرنج يأمرهم بهدمه فأبوا، فراجعهم مرة ثانية فطلبوا منه ما غرموا عليه ، فبذل لهم حتى وصلهم إلى مائة ألف دنيار فلم يقبلوا. فكتب حينئذ إلى التركمان وأجناد البلاد يستدعيهم ، وحمل إليهم الأموال والخيول والتشاريف ، فقدم إليه خلق كثر، وسار الملك المظفر من حماة، فقدم دمشق أول شهر ربيع الآخر، وقد تلقاه السلطان ، ثم سار السلطان من دمشق يوم الخميس خامسه ، في عسكر عظيم ، ونزل على حصن بيت الأحزان يوم الثلاثاء حادي عشره ، وكانت قلعة صفد للداوية، فأمر بقطع كروم ضياع صفد، وحاصر الحصن ونقبه من جهات ، وحشاه بالحطب وأحرقه ، حتى سقط في رابع عشريه ، وأخذه فقتل من فيه وأسرهم ، ووجد فيه مائة أسير من المسلمين ، فقتل عدة من أسرى الفرنج ، وبعث باقيهم في الحديد إلى دمشق ، وأخرب الحصن حتى سوى به الأرض ، فكانت إقامته عليه أربعة عشر يوما وعاد إلى دمشق،فمدحه عدة من الأمراء والشعراء وهنأوه بالفتح .
وفي صفر: ظهر قدام المقياس بمصر وسط النيل الحائط الذي كان في جوفه قبر يوسف الصديق وتابوته ، ولم ينكشف قط منذ نقله موسى عليه السلام إلا حينئذ، عند نقصان الماء في قاع المقياس ، فإن الرمل انكشف عنه وظهر للناس ، وأكثر الناس ما علموا ما هو .
وفيها نافق جلدك الشهابي بالواحات ، فأخذه العادل بالأمان وسيره إلى دمشق .
وفيها أغار عز الدين فرخشاه على صفد فأكثر من القتل والسبي وأحرق الربض في رابع عشر ذي القعدة، وعاد إلى دمشق .
وفيها مات الخليفة المستضيء بأمر الله أبو المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله محمد، يوم الجمعة لاثنتي عشرة مضت من شوال ، وكانت خلافته عشر سنين غير أربعة أشهر. واستخلف من بعده ابنه الناصر لدين الله أبو العباس أحمد ، فخرج الشيخ صدر الدين شيخ الشيوخ عبد الرحيم بن إسماعيل من بغداد رسولا إلى الملوك وإلى السلطان صلاح الدين وسار معه إلى مصر شهاب الدين بشير الخاص كما يأتي ذكره .
وفيها ختن السطان ابنه الملك العزيز عثمان ، وسلمه إلى صدر الدين بن المجاور معلما له.
وفيها فشا الموت بمصر والقاهرة وعامة أعمال مصر ،وتغيرت رائحة الهواء ،ومات بالقاهرة ومصر في أيام يسيرة سبعة عشر ألف إنسان .
ودخلت سنة ست وسبعين وخمسمائة
وفيها سار السلطان إلى حرب عز الدين قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان السلجوقي صاحب قونية وعاد بغير قتال ، فدخل دمشق أول شهر رجب .(1/9)
وفيها مات السلطان سيف الدين غازي بن السلطان قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكي بن أقسنقر صاحب الموصل في ثالث صفر، وجلس أخوه عز الدين مسعود مكانه ، فكتب السلطان صلاح الدين إلى الخليفة الناصر يسأل أن يفوض إليه ، فوصل شيخ الشيوخ صدر الدين أبو القاسم عبد الرحمن وشهاب الدين بشير الخاص ، بالتفويض والتقليد والتشريف في رجب ، فتلقاهم السلطان وترجل لهم ، ونزلوا له وبلغوه سلام الخليفة، فقبل الأرض ، ودخل دمشق بالخلع ، وأعاد الجواب مع بشير، وصحبته ضياء الدين الشهرزورى. وسار السلطان إلى بلاد الأرمن لقمع ملكهم،فأوغل فيها وأطاعه ملكهم، ثم عاد بعدما وصل إلى بهسنا وأحرق حصنا وخربه ، وخرج من دمشق يريد مصر في ثامن عشر رجب ، ومعه شيخ الشيوخ صدر الدين ، فوصل إلى القاهرة ثالث عشر شعبان ، وخرج شيخ الشيوخ إلى مكة في البحر، وعاد منها إلى بغداد.
وفيها مات الحافظ أبو الطاهر أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن سلفة السلفي في يوم الجمعة خامس ربيع الآخر بالإسكندرية عن نحو مائة سنة.
ومات الملك المعظم شمس الدولة تورانشاه بن أيوب بن شادي في خامس صفر بالإسكندرية، وحمل إلى دمشق فدفن بها.
وفيها ولدت امرأة غرابا.
وفيها كان قاع النيل ثلاثة أذرع وعشرين إصبعا، وبلغت الزيادة ستة عشرة ذراعا وثلثي ذراع .
ثم دخلت سنة سبع وسبعين وخمسمائة
في محرم خرج الأمر بالحوطة على مستغلات العربان بالشرقية، وأمروا بالتعدية إلى البحيرة، ووقعت الحوطة على إقطاع جذام وثعلبة، لكثرة حملهم الغلال إلى بلاد الفرنج ، وكثر الفار بالمقاثي والغلال بعد حصادها، فأتلف شيئا كثيرا، واحترق النيل حتى صار يخاض ، وتشمر الماء عن ساحل المقس ومصر، وربى جزائر رملة خيف منها على المقياس أن يتقلص الماء عنه ، ويحتاج إلى عمل غيره ، وبعد الماء عن السور بالمقس ،وصارت قوته من بر الغرب ، وخيم السلطان في بركة الجب للصيد ولعب الأكرة، وعاد بعد ستة أيام وورد الخبر بأن الأبرنس أرناط ملك الفرنج بالكرك جمع وعزم على المسير إلى تيماء ودخول المدينة النبوية، فخرج عز الدين فرخشاه من دمشق بعساكره إلى الكرك ، ونهب وحرق ، وعاد إلى أطراف بلاد الإسلام فأقام به ، وورد الخبر من نائب قلعة أيلة بشدة الخوف من الفرنج .
وفي صفر: قدم رسول ملك القسطنطينية إلى القاهرة، فوقع الصلح مع صاحبها، وأطلق في جمادى الآخرة مائة وثمانين أسيرا من المسلمين ، وسار صارم الدين خطلبا إلى الفيوم ، وقد أضيفت إليه ولايتها، وأفردت برسمه الخاص ، ونقل عنها مقطوعها ، ثم صرف عن ولاية الفيوم بابن شمس الخلافة، وأحضر خطلبا ليسير إلى اليمن ، وكتب إلى دمياط بترتيب المقاتلة على البرجين ، وسد مراكب السلسلة وتسييرها ليقاتل عليها، ويدافع عن الدخول من بين البرجين بها.
وفي ربيع الأول : طرق الفرنج ساحل تنيس وأخذوا مركبا للتجار، ووصلت مراكب من دمياط كانت استدعيت من خمسين مركبا لتكون في ساحل مصر وكمل بناء برج بالسويس يسع عشرين فارسا، ورتب فيه الفرسان لحفظ طريق الصعيد، التي يجلب منها الشب إلى بلاد الفرنج ، وأمر بعمارة قلعة تنيس ، وورد تجار الكارم من عدن ، فطلب منهم زكاة أربع سنين . وكثرت بيوت المزر بالإسكندرية، فهدم منها مائة وعشرون بيتا .
ووصل المفرد في حادي عشرين ربيع الأول بالوفاء في سابع عشره ، فأوفى النيل بمصر في سادس عشريه الموافق يوم السادس عشر من مسرى، ولا يعرف وفاؤه بهذا التاريخ في زمن متقدم ، فركب السلطان لتخليق المقياس في غده ، وخلع على ابن أبى الرداد في سلخه ، وفتح الخليج في رابع ربيع الآخر، والماء على خمسة عشر إصبعا من سبعة عشر ذراعا، بمحضر والي القاهرة .
وفيه أنفق السلطان في الأجناد البطالين وجردهم إلى الثغور، وأنفق في رجال الشواني وجردهم للغزو، وورد الخبر بكثرة ولادة الحيوان الناطق والصامت للتوأم ، وأن ذلك خرج عن الحد في الزيادة على المعهود، وأن الغزال في البرية كله أتأم ، وكذلك النسوان أتأمن أكثر من الإفراد، وكذلك الطير فإنه كثر ظهوره كثرة ظهرت .
وفيه ماتت امرأة الصالح بن رزيك عن سن كبيرة وضعف حال وعمى، بعد الدنيا والملك الذي كانت فيه .(1/10)
وركب السلطان في أول جمادى الأولى لفتح بحر أبي المنجا، وعاد إلى قلعة الجبل ، وركب منها إلى المخيم بالبركة. وسار متسلم الأمير صارم الدين خطلبا إلى اليمن ، وانتصب السلطان ليلا ونهارا في ترتيب أحوال الأجناد، واقتطع من إقطاعات العربان الثلثين ، وعوض به مقطعو الفيوم ، وصارت أعمال الفيوم كلها للسلطان .
وفيه قرر ديوان الأسطول وفيه الفيوم والحبس الجيوشي والخراجي والنطرون، وضمن الخراج بثمانية آلاف دينار.
وفي هذه السنة: رتبت المقاتلة على البرجين بدمياط وجهزت خمسمائة دينار لعمارة سورها والنظر في السلسلة التي بين البرجين ، وعمل تقدير برسم ما يحتاج إليه سور تنيس وإعادته كما كان في القديم ، فجاء ثلاثة آلاف دينار، وكتب إلى قوص بإبطال المكوس التي تستأدي من الحجاج وتجار اليمن .
وورد كتاب إبراهيم السلاح دار من المغرب أنه فتح بلاد هوارة، وزواوة ولواتة، وجبل نفوسة، وغدامس ، وأعمالا طولها وعرضها خمسة وعشرون يوما، وأنه خطب على منابرها للسلطان وضربت السكة باسمه ، وانه إذا أنعم عليه بتقوية بلغ أغراضا بعيدة، وسير أموالا عتيدة. وأنشئت أربع حراريق بصناعة مصر برسم من تجرد إلى بلاد اليمن وجردت أمراء العسكر السائرين إلى اليمن ، وكبر في بحر تنيس تعدي العربان على المراكب ، وعمرت عليهم حراريق فيها، فلم يظفر بهم لإيوائهم إلى الهيش . وفي جمادى الآخرة : قطع الفرنج أكثر نخل العريش وحملوه إلى بلادهم ، وسيرت مراكب بالزاد والعلوفات والأسلحة إلى اليمن ، وأسند أمر الجسور إلى والي الغربية ووالي الشرقية، ليتوفرا على عمارتها، وكتب إلى الأمير فخر الدين نشر الملك بن فرحون والي البحيرة ومشارفها بذلك .
وفي رجب : استقرت عدة الأجناد ثمانية آلاف وستمائة وأربعين ، وأمراء مائة أحد عشر، وطواشية ستة آلاف وتسعمائة وستة وسبعين ، وقرا غلامية ألف وخمسمائة وثلاثة وخمسين . والمستقر لهم من المال ثلاثة آلاف وستمائة ألف وسبعون ألفا وخمسمائة دينار، خارج عن المحلولين وعن العربان المقطعين بالشرقية والبحيرة، والكنانيين والمضريين والفقهاء والقضاة والصوفية والدواوين ، ولا يقصر ما معهم عن ألف ألف دينار. ووصل الإبرنس أرناط إلى أيلة، وسار عسكره إلى تبوك .
وفي شعبان: كثر المطر بأيلة حتى تهدمت قلعتها، وشرع في بناء سور دمياط ، وذرعه أربعة آلاف وستمائة وثلاثون ذراعا، و شرع أيضا في بناء برج بها.
وفي شوال :مات منكورس الأسدي أحد الأمراء المماليك ، وأخذ إقطاعه يازكج الأسدي، وقبض على سيف الدولة مبارك بن منقذ بن كامل الكناني، نائب شمس الدولة ببلاد اليمن ، وأخذ منه ثمانون ألف دينار وأفرج عنه . وسار خطلبا والي مصر واليا على زبيد، وصحبته خمسمائة رجل ، ومعهم الأمير باخل ، وقد بلغت النفقة فيهم عشرين ألف دينار، وكتب للطواشية بنفقة عشرة دنانير لكل منهم على اليمن ، إن كان من الإقطاعية، وللبطالين والمترجلة في الشهر ثلاثة وثلاثون دينارا، وسيرت الحراريق " وهى خمس " وقد شحنت بالرماة.
وفي سابع عشره :سار السلطان إلى الإسكندرية، فدخل خامس عشري شوال ، وشرع في قراءة الموطأ يوم الخميس " ثاني يوم دخوله " على الفقيه أبي الطاهر بن عوف ، وأنشأ بها مارستانا ودارا للمغاربة، ومدرسة على ضريح المعظم توران شاه ، وشرع في عمارة الخليج ، ونقل فوهته إلى مكان أخر، وسار منها أول ذي القعدة إلى دمياط ، وعاد إلى القاهرة في سابعه .
وفي تاسعه : أمر بفتح المارستان الصلاحي ، وأفرد برسمه من أجرة الرباع الديوانية مشاهرة مبلغها مائتا دينار، وغلات جهتها الفيوم ، واستخدم له أطباء وغيرهم .
وفي جمادى الآخرة : قطع الفرنج أكثر نخل العريش وحملوه إلى بلادهم ، وسيرت مراكب بالزاد والعلوفات والأسلحة إلى اليمن ، وأسند أمر الجسور إلى والي الغربية ووالي الشرقية، ليتوفرا على عمارتها، وكتب إلى الأمير فخر الدين نشر الملك بن فرحون والي البحيرة ومشارفها بذلك .(1/11)
وفي رجب : استقرت عدة الأجناد ثمانية آلاف وستمائة وأربعين ، وأمراء مائة أحد عشر، وطواشية ستة آلاف وتسعمائة وستة وسبعين ، وقرا غلامية ألف وخمسمائة وثلاثة وخمسين . والمستقر لهم من المال ثلاثة آلاف وستمائة ألف وسبعون ألفا وخمسمائة دينار، خارج عن المحلولين وعن العربان المقطعين بالشرقية والبحيرة، والكنانيين والمضريين والفقهاء والقضاة والصوفية والدواوين ، ولا يقصر ما معهم عن ألف ألف دينار. ووصل الإبرنس أرناط إلى أيلة، وسار عسكره إلى تبوك .
وفي شعبان: كثر المطر بأيلة حتى تهدمت قلعتها، وشرع في بناء سور دمياط ، وذرعه أربعة آلاف وستمائة وثلاثون ذراعا، و شرع أيضا في بناء برج بها.
وفي شوال :مات منكورس الأسدي أحد الأمراء المماليك ، وأخذ إقطاعه يازكج الأسدي، وقبض على سيف الدولة مبارك بن منقذ بن كامل الكناني، نائب شمس الدولة ببلاد اليمن ، وأخذ منه ثمانون ألف دينار وأفرج عنه . وسار خطلبا والي مصر واليا على زبيد، وصحبته خمسمائة رجل ، ومعهم الأمير باخل ، وقد بلغت النفقة فيهم عشرين ألف دينار، وكتب للطواشية بنفقة عشرة دنانير لكل منهم على اليمن ، إن كان من الإقطاعية، وللبطالين والمترجلة في الشهر ثلاثة وثلاثون دينارا، وسيرت الحراريق " وهى خمس " وقد شحنت بالرماة.
وفي سابع عشره :سار السلطان إلى الإسكندرية، فدخل خامس عشري شوال ، وشرع في قراءة الموطأ يوم الخميس " ثاني يوم دخوله " على الفقيه أبي الطاهر بن عوف ، وأنشأ بها مارستانا ودارا للمغاربة، ومدرسة على ضريح المعظم توران شاه ، وشرع في عمارة الخليج ، ونقل فوهته إلى مكان أخر، وسار منها أول ذي القعدة إلى دمياط ، وعاد إلى القاهرة في سابعه .
وفي تاسعه : أمر بفتح المارستان الصلاحي ، وأفرد برسمه من أجرة الرباع الديوانية مشاهرة مبلغها مائتا دينار، وغلات جهتها الفيوم ، واستخدم له أطباء وغيرهم .
وفي حادي عشره : خرج السلطان إلى بركة الجب ، لتجريد العساكر والمسير إلى الشام ، وخرج الملك العادل في ثالث عشره إلى المخيم ، ونزل ناحية بركة الجب وسومح برسوم للولاة بمصر والقاهرة، ورسوم الفيوم ورسوم الصيد الأعلى، وأخرجت منجنيقات إلى الخيام برسم الغزاة.
وفي حادي عشره: سار سيف الإسلام طغتكين أخو السلطان صلاح الدين إلى أخميم ، لجباية الجوالي والنظر في أمر الشب .
وظفر والي قوص برجلين من أهل إسنا يدعوان الى مذهب الباطنية.
وفي ثالث عشريه : عقد نكاح بنات العادل على أبناء السلطان صلاح الدين ، وهم: غياث الدين غازي، ومظفر الدين خضر، ونجم الدين مسعود، وشرف الدين يعقوب ، والصداق في كل كتاب عشرون ألف دينار.
وعقد السلطان الهدنة مع رسول القومص ملك الفرنج بطرابلس ، ونودي بمنع أهل الذمة من ركوب الخيل والبغال ، من غير استثناء طبيب ولا كاتب .
ومات الملك الصالح مجير الدين إسماعيل بن العادل نور الدين محمود بن زنكي بن آقسنقر الأتابكي صاحب حلب في يوم الجمعة خامس عشري رجب ، فقام من بعده ابن عمه السلطان عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي. وكان موت الصالح هو المحرك للسلطان صلاح الدين على السفر، وكتب لابن أخيه المظفر تقي الدين عمر صاحب حماة وغيره من النواب بالتأهب ، وكاتب الخليفة الناصر يسأل ولاية حلب.
سنة ثمان وسبعين وخمسمائة
وأهلت سنة ثمان وسبعين ، والسلطان مبرز بظاهر القاهرة، فلما خرج الناس لوداعه ، وقد اجتمع عنده من العلماء والفضلاء كثير، وهم يتناشدون ما قيل في الوداع ، فأخرج بعض مؤدبي أولاد السلطان رأسه من الخيمة، وقال :
تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار
فتطير الحاضرون من ذلك ، وصحت الطيرة، فإن السلطان رحل من ظاهر القاهرة(1/12)
في خامس المحرم من هذه السنة، ولم يعد بعد ذلك إلى القاهرة، فسلك في طريقه على أيلة، فأغار على بلاد الفرنج ، وسار على سمت الكرك ، وبعث أخاه تاج الملوك بالعسكر على الدرب ، وخرج عز الدين فرخشاه من دمشق ، فأغار على طبرية وعكا، وأخذ الشقيف أرنون ، وعاد بألف أسير وعشرين ألف رأس غنم ، وأنزل فيه طائفة من المسلمين وألفى الريح بطسة للفرنج إلى بر دمياط ، فأسر منها ألف وستمائة وتسعون نفسا سوى من غرق ، فدخل السلطان إلى دمشق ، يوم الإثنين لثلاث عشرة بقيت من صفر، فأقام بها يسيرا، ثم أغار على طبرية، واشتد القتال مع الفرنج تحت قلعة كوكب ، واستشهد جماعة من المسلمين ، وعاد إلى دمشق في رابع عشر ربيع الأول ، وخيم بالفوار من عمل حوران ، وأقام به حتى رحل إلى حلب .وخرج سيف الإسلام ظهير الدين طغتكين بن أيوب بن شادي، من القاهرة إلى اليمن ، بعد مسير السلطان ، ووصل إلى زبيد فملكها، وأخذ منها ما قيمته ألف ألف دينار، واحتوى على عدن أيضا .
وخرج السلطان من دمشق يريد حلب ، فنزل عليها يوم الأحد ثامن عشر جمادى الأولى، ونازلها ثلاثة أيام ، ثم رحل إلى الفرات ، فخيم على غربي البيرة، ومد الجسر، وكاتب ملوك الأطراف ، ورحل إلى الرها فتسلمها، وسار عنها إلى حران فرتبها، وانفصل عنها إلى الرقة فملكها وما حولها، ونازل نصيبين حتى ملكها وقلعتها، فورد الخبر بقصد الفرنج دمشق ونهبهم القرى، فسار ونازل الموصل في يوم الخميس حادي عشر رجب ، وألح في القتال فلم ينل غرضا، ورحل يريد سنجار، فنازلها وضايقها من يوم الأربعاء سادس عشري شعبان .
ودخل رمضان : فكف عن القتال ، ثم تسلمها بالأمان يوم الخميس ثانيه ، وأعطاها ابن أخيه الملك المظفر تقي الدين عمر، ورحل إلى نصيبين فأقام بها لشدة البرد، وسار عنها إلى حران ، ثم رحل ونزل على آمد، لثلاث عشرة بقيت من ذي الحجة .
وفيها قصد الفرنج بلاد الحجاز، وأنشأ البرنس أرناط صاحب الكرك سفنا، وحملها على البر إلى بحر القلزم ، وأركب فيها الرجال ، وأوقف منها مركبين على حرزة قلعة القلزم ، لمنع أهلها من استقاء الماء.
وسارت البقية نحو عيذاب ، فقتلوا وأسروا، وأحرقوا في بحر القلزم نحو ست عشرة مركبا وأخذوا بعيذاب مركبا ياتي بالحجاج من جدة، وأخذوا في الأسر قافلة كبيرة من الحجاج فيما بين قوص وعيذاب ، وقتلوا الجميع ، وأخذوا مركبين فيهما بضائع جاءت من اليمن ، وأخذوا أطعمة كثيرة من الساحل كانت معدة لميرة الحرمين ، وأحدثوا حوادث لم يسمع في الإسلام بمثلها، ولا وصل قبلهم رومي إلى ذلك الموضع ، فإنه لم يبق بينهم وبين المدينة النبوية سوى مسيرة يوم واحد، ومضوا إلى الحجاز يريدون المدينة النبوية. فجهز الملك العادل ، وهو يخلف السلطان بالقاهرة، الحاجب حسام الدين لؤلؤ إلى القلزم فعمر مراكب بمصر والإسكندرية ،وسار إلى أيلة، وظفر بمراكب للفرنج ، فحرقها وأسر من فيها، وسار إلى عيذاب ، وتبع مراكب الفرنج ، فوقع بها بعد أيام واستولى عليها، وأطلق من فيها من التجار المأسورين ، ورد عليهم ما أخذ لهم ، وصعد البر، موكب خيل العرب حتى أدرك من فر من الفرنج وأخذهم ، فساق منهم اثنين إلى منى ونحرهما بها كما تنحر البدن ، وعاد إلى القاهرة بالأسرى في ذي الحجة ، فضربت أعناقهم كلهم . وعاد الأسطول من بحر الروم بعد نكاية أهل الجزائر، ومعه بطسة للفرنج كانت تريد عكا، بها أخشاب ونيف وسبعون رجلا.
ومات عز الدين فرخشاه الملقب بالملك المنصور في دمشق في أول جمادى الآخرة. ومات الشيخ الزاهد روزبهار بن أبي بكر بن محمد أبي القاسم الفارسي الصوفي، يوم الأربعاء الخامس من ذي القعدة، ودفن بقرافة مصر.
وفيها انقرضت دولة آل سبكتكين ، وكان ابتداؤها سنة ست وستين وثلاثمائة، فملكوا مائتي سنة وثلاث عشرة سنة. وأولهم محمود بن سبكتكين ، وآخرهم خسروشاه بن بهرام بن شاه بن مسعود بن مسعود بن إبراهيم بن محمود بن سبكتكين . وقام بعدهم الغورية وأولهم عز الدين حسن ، صاحب بلاد الغور.
وفيها ورد الخبر بأن الماء الذي في زقاق سبتة قل ، حتى ظهرت القنطرة التي كان يعبر الناس عليها في قديم الدهر إلى أن غلب عليها البحر وطمها، فلما قل الماء في هذه السنة عنها لم يبق عليها منه سوى قامتين ، ورأى الناس آثار بنيانها، وأن مركبا انكسر عليها.(1/13)
سنه تسع وسبعين وخمسمائة
وأهلت سنة تسع وسبعين والسلطان على آمد، فتسلمها في أوئل المحرم ، فقدمت عليه رسل ملوك الأطراف يطلبون الأمان . وخرج الفرنج إلى نواحى الداروم ينهبون ، فبرز إليهم عدة من المسلمين على طريق صدر وأيلة، فاظفرهم الله ، وقتلوا وغنموا وعادوا سالمن .
وفيه سار الأسطول من مصر، فظفر ببطسة فيها ثلاثمائة وخمسة وسبعون علجا، قدموا بهم في خامس المحرم إلى القاهرة، وتوجه سعد الدين كمشبه الأسدي وعلم الدين قيصر إلى الداروم ، فأوقعوا بالفرنج على ماء، وقتلوهم جميعا، وقدموا بالرءوس إلى القاهرة في رابع عشريه . ورحل السلطان عن آمد، وعبر الفرات يريد حلب ، فملك عين تاب وغيرها، ونزل على حلب " بكرة يوم السبت سادس عشري المحرم " وقد خرب السلطان عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي قلعته في جمادى من سنة ثمان وسبعين وخمسمائة. وتسلمها صلاح الدين بصلح ، يوم السبت ثامن عشر صفر، على أن تكون لعماد الدين منجار.
ومات تاج الملوك بوري بن أيوب بن شادي في يوم الخميس ثالث عشريه بحلب . وسار عماد الدين إلى سنجار، فولى السلطان قضاء حلب محيي الدين محمد بن الزكي علي القرشي قاضي دمشق ، فاستناب بها زين الدين ندا بن الفضل بن سليمان البانياسي، وولي يازكج قلعتها، وجعل ابنه الملك الظاهر غياث الدين غازي ملكا بها،ورحل عنها لثمان بقين من ربيع الآخر.فدخل دمشق ثالث جمادى الأولى، وأقام بها إلى سابع عشريه ، وبرز وسار إلى بيسان ، فعبر نهر الأردن في تاسع جمادى الآخرة، وأغار على بيسان فأحرقها ونهبها وفعل ذلك بعدة قلاع ، وأوقع بكثير من الفرنج واجتمع بعين جالوت من الفرنج خلق كثير، ثم رحلوا، وأسر السلطان منهم كثيرا، وخرب من الحصون حصن بيسان وحصن عفر بلا وزرعين ، ومن الأبراج والقرى عشرة، وعاد إلى دمشق لست بقين من جمادى الآخرة، ثم خرج في يوم السبت ثالث رجب يريد الكرك ، فنازله مدة ولم ينل منه عرضا، فسار إلى دمشق ، وقد وصل إليه أخوه الملك العادل من مصر في رابع شعبان . فاجتمع السلطان بأخيه الملك العادل على الكرك ، وقد خرج إليه بعسكر مصر.
وفي يوم الخميس خامس عشره : رحل الملك المظفر تقي الدين من الكرك إلى مصر عوضا عن العادل ، وارتجع عن العادل إقطاعه بمصر، وهو سبعمائة ألف دينار في كل سنة، فجهز إليها الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب ومعه القاضي الفاضل ، وأنعم على تقي الدين بالفيوم وأعمالها مع القايات وبوش وأبقى عليه مدينة حماة وجميع أعمالها.
ووصل السلطان إلى دمشق لثمان بقين من رمضان ، وبعث بالملك العادل إلى حلب في ثاني رمضان . فقدم الظاهر على أبيه بدمشق ومعه يازكج ، وقدم شيخ الشيوخ صدر الدين وشهاب الدين بشير من عند الخليفة الناصر، ليصلحا بين السلطان وبين عز الدين صاحب الموصل ، ومعهما القاضي محيي الدين أبو حامد بن كمال الدين الشهرزورى، وبهاء الدين بن شداد، فأقاموا مدة ورحلوا بغير طائل ، في سابع ذي الحجة.
وفيها ظهر بقرية بوصير بيت هرمس ، فخرج منه أشياء، منها كباش وقرود وضفادع بازهر ودهنج وأصنام من نحاس .
وفيها قتل شرف الدين برغش على الكرك في ثاني عشري رجب ، فحمل إلى زرع ودفن في تربته .
وفي سنة تسع وسبعين هذه وقعت بالوجه البحري قطع برد كبيض الأوز أخربت ما صادفته من العامر، ودمرت الزروع ، وأهلكت كثيرا من الماشية والناس.
سنة ثمانين وخمسمائة
في خامس المحرم : توجهت قافلة بغلات وسلاح وبدل مجرد إلى قلعتي أيلة وصدر، وخرج من الشرقية جماعة يخفرونها مع قيصر وإلى الشرقية، فأوصلها إلى أيلة وصدر. وعاد في خامس عشريه ، وكان العدو قد نهض إليها وعاد عنها.
وأهلت هذه السنة : والسلطان بدمشق ، فبعث إلى الأطراف يطلب العساكر، فقدم عليه ابن أخيه تقي الدين بعساكر مصر ،ومعه القاضي الفاضل .و خرج السلطان من دمشق يوم الثلاثاء النصف من ربيع الأول إلى جسر الخشب ، وقدم الملك العادل من حلب ومعه نور الدين بن قرا أرسلان إلى دمشق يوم الخميس رابع عشريه ، وخرجا إلى الكسوة، فرحل السلطان في ثاني ربيع الآخر من رأس الماء يريد الكرك ، وخرج تقي الدين في عسكر مصر، ومعهم أولاد الملك العادل وأهله ، يوم الأربعاء مستهله ، فساروا إلى أيلة، ووصلوا إلى السلطان في تاسع عشره وهو على الكرك .(1/14)
وسارت أولاد العادل في حادي عشريه ، فلقوا العادل وهو على الفوار في خامس عشريه ووصل معهم زرافة، فاجتمعوا به وساروا إلى حلب ، ومعهم بكمش بن عين الدولة الياروقي، وعلي بن سليمان بن جندر، ونزل العسكر الحلبي على عمان مدينة البلقاء في ثامن جمادى الأولى، ورحل عنها في ثاني عشره إلى الكرك ، وقدم العادل وابن قرا أرسلان إلى الكرك في سابع عشره ، وعملت المجانيق إلى ليلة الخميس حادي عشريه ثم رميت تلك الليلة، ورحل العسكر كله لخبر ورد عن اجتماع الفرنج ، وساروا إلى اللجون ، ونزل الفرنج بالواله . ثم سار العسكر إلى ناحية البلقاء، فنزلوا حسبان تجاه الفرنج ، إلى نصف نهار الإثنين سادس عشريه . فرحل الفرنج إلى الكرك ، والعسكر وراءهم إلى نابلس ، فهاجمها العسكر يوم الجمعة سلخه ، وحرقوها ونهبوها، وساروا فأخذوا أربعة حصون ، ونزلوا على جينين ونقبوا قلعتها حتى وقعت ، وقتل تحتها من النقابين عدة، وأخذت عنوة وغنم منها شيء كثير. ورحلوا في ليلتهم إلى زرعين وعين جالوت ، وأحرقوهما في الليل ، وعبروا الأردن يوم الأحد ثاني جمادى الآخرة، ونزلوا الفوار رابعه .
ودخل السلطان دمشق يوم السبت سابعه ، ومعه عساكره كلها، وقدم أخوه العادل من حلب ، وأتته العساكر المشرقية وعساكر الحصن وآمد، وسار بهم يريد الكرك لأخذها من الفرنج ، فنازلها في رابع عشر جمادى الأولى ونصب عليها تسعة مجانيق رماها بها .
وقدمت الأمداد من الفرنج ، فرحل السلطان إلى نابلس ، ونهب كل ما مر به من البلاد، وأحرق نابلس وخربها ونهبها، وقتل وسبى وأسر، واستنقذ عدة من المسلمين كانوا أسرى، وسار إلى جينين ، وعاد إلى دمشق ، فقدم عليه رسل الخليفة، وهما الشيخ صدر الدين عبد الرحيم بن إسماعيل بن أبي سعد أحمد، وشهاب الدين بشير الخادم ، ومعهما خلع السلطان والملك العادل ، فلبساها. وطلب الرسولان تقرير الصلح بين السلطان وبن عز الدين صاحب الموصل ، فلم يتقرر بينهما صلح ، وخرجا من دمشق ، فماتا قبل وصولهما إلى بغداد.
وخلع السلطان على جميع العساكر، وأذن لهم في المسير إلى بلادهم ، بعدما أعطاهم شيئا كثيرا، فساروا .
وفي نصف شعبان : سار المظفر تقي الدين بعساكر مصر يريد العود إلى القاهرة، وقرأت وصية سلطانية، تضمنت ولاية الملك العزيز عثمان ابن السلطان لمصر بكفالة ابن عمه تقي الدين عمر، وولاية الملك الأفضل أكبر أبناء السلطان على الشام بكفالة عمه العادل صاحب حلب ، وان مدة الكفالة إلى أن يعلم المسلمون باستقلال كل واحد بالأمر، ويستقر الكافلان في خبزيهما وما بأيديهما، ومن عدم من الولدين قام الأمثل من إخوته مقامه ، أو من الكافلين قام الباقي منهما مقام الآخر، واستحلف الحاضرون من الأمراء، وولى قراءة العهد بذلك القاضي المرتضى بن قريش . وسومح بهلإلي البهسنا، وهو ألف ومائتا دينار، وسومح بالأتبان ، وما تقصر عن ألفي دينار، ومنع من ضمان المزر والخمر والملاهي، وترك ما كان يؤخذ من رسم ذلك للسلطان بديار مصر.
وخرج السلطان من دمشق يريد البلاد الشرقية، فأقام بحماة بقية السنة، وكان نزوله عليها في عشري ذي القعدة.
وفي هذه السنة : أقيمت خطبة في سابع المحرم عند قبر سارية بلحف الجبل ، في غير بنيان وبغير سكان ، وتم ذلك بعصبية جماعة، ثم أحدث جامع عند قبة موسك وبقيت سنين.
وبلغ النيل ثلاث عشرة إصبعا من تسع عشرة ذراعا، فأضر ذلك بالقرى، وخرج أهلها منها لسقوط جدرانهم ، وغرقت البساتين والأقصاب ، وفاضت الآبار، وانقطعت الترع ، وكثر الضرر،كما حصل في سنة أربع وأربعين وخمسمائة .
وفي هذه السنة : مات السلطان أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن بن علي ملك المغرب ، لسبع خلون من رجب .
ومات إيلغازي بن نجم الدين بن ألبي بن تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق الأرتقي قطب الدين ، صاحب ماردين ، في جمادى الآخرة.
وفيها مات آقسنقر الساقي، صهر قراجا الهمام ، بحلب في يوم الجمعة حادي عشر وفيها رسم السلطان بتقييد أولاد الخليفة العاضد الفاطمي ومن بقي من أقاربه .
تتمة سنة ثمانين وخمسمائة
أول المحرم يوم الإثنين : فيه ابتدئ بالتدريس في المدرسة الفاضلية بدرب ملوخيا من القاهرة .
وفي خامسه : توجهت القافلة بالبدل المجرد إلى قلعتي صدر وأيلة مع قيصر والي ا لشرقية .(1/15)
وفي سابعه : أقيمت الخطبة عند قبر سارية بلحف الجبل في غير بنيان ولا سكان .
وفي ثامنه : وردت كتب السلطان من دمشق ، باستدعاء العساكر، وجمع الأموال والأسلحة والأمتعة .
وفي حادي عشره : كانت فتنة بين العرب الجذاميين ، فخرج عسكر إلى الشرقية، وعدى الملك المظفر إلى الجيزة بأولاده ، لدعوة عملها الطواشي قراقوش عند قناة طرة، وعاد من الغد.
وفي ثامن عشره : وردت كتب السلطان من دمشق ، لاستنهاض العساكر لغزاة الكرك ، وأن يستصحبوا من الراجل ما قدروا عليه ، فبرزت الخيام إلى بركة الجب في عشريه ، وخرج من الغد الملك المظفر تقي الدين النائب بمصر.
وفي ثاني عشريه: ورد الخبر من ناظر قوص بغرق أربع جلاب ، بها ألف وثلاثمائة رجل من الحجاج ، هلكوا كلهم .
وفي خامس عشريه : عاد قيصر وإلى الشرقية من صدر، بعد أن أوصل القافلة إلى أيلة، وعاد بالقافلة العائدة، وكان العدو قد نهض إليها، ثم عاد عنها.
وفي سلخه : ورد الخبر بأن المؤيد سيف الإسلام ملك بلاد اليمن ، واعتقل خطاب ابن منقذ بزبيد .
وأهل صفر: في رابعه : ورد الخبر بوصول تابوتي نجم الدين أيوب وأسد الدين شيركوه ، إلى المدينة النبوية، ودفنهما بها، وكان قد حمل بهما إلى قوص ، وعدى بهما من بحر عيذاب إلى المدينة، وكان سيرهما في أول السنة الماضية.
وفي سادسه : سار الأسطول ، وهو أحد وثلاثون شينيا وحراقة .
وقي سابعه : جرت فتنة بين الأشاعرة والحنابلة، سببها إنكار الحنابلة على الشهاب الطوسي تكلمه في مسألة من مسائل الكلام في مجلس وعظه ، وترافعوا إلى الملك المظفر بمخيمه ، فرسم برفع كراسي وعظ الفريقين ، وقد أطلق كل من الفريقين لسانه في الآخر.
وفي ثامنه : وقع مطر عظيم ، ورعد قاصف وريح عاصف ، وبرق خاطف وبرد كثير كبار، فحل بالعسكر المبرز بلاء شديد، وعطبت الثمار، وتفسخت الأشجار، وانقعر النخل ، وعمت الجائحة الثمار والزروع ، التي لم تحصد وما حصد، وتلفت المقاثي.
وفي عاشره : عقد مجلس لأصحاب الدواوين للمفاضلة ما بين ابن شكر وابن عثمان ، فتسلم ابن عثمان الدواوين ، بعد أن أخذ خطه بزيادة خمسة عشر ألف دينار على الارتفاع ، ثم صرف بابن شكر في ثالث عشره .
وأهل شهر ربيع الأول : في ثاني عشره : سار المظفر تقي الدين من بركة الجب ، يريد السلطان بدمشق ، وعاد ابن السلار إلى القاهرة نائبا عن المظفر.
وعاد ابن شكر ناظر الدواوين إلى القاهرة في خامس عشره ، ومعه ولد المظفر، فخرج الناس لتلقيه .
وأهل شهر ربيع الآخر: في عشريه : قدم المظفر على السلطان صلاح الدين بالقرب من الكرك .
و في عاشر جمادى الآخرة : أخلت أهل بلبيس بلدتهم في ليلة واحدة، وقد سمعوا بمسير الفرنج إلى فاقوس ، واضطرب الناس بالقاهرةومصر والجيزة، فسميت الهجة الكذابة .
وقدم الخبر بأن سيف الإسلام قتل خطاب بن منقذ ومثل به ، واستصفى أمواله باليمن ، وقبض على ألزامه . وكان العسكر عقيب الهجة خرج إلى بلبيس ، فنهبها الغلمان ، وأخذ الفرنج نحو مائتين وعشرين أسيرا، وساقوا أغناما لا تدخل تحت حصر.
وفي رابع عشري شعبان : قدم المظفر تقي الدين إلى القاهرة بالعسكر، بعد شدة لحقتهم في طريقهم .
وفي ذي القعدة : ورد كتاب سيف الإسلام بأنه فتح باليمن مائة وثلثتة وسبعين حصنا، وقدم أهل خطاب بن منقذ وأخوه محمد إلى مصر.وخرج تقي الدين ابن أخي صلاح الدين إلى البحيرة ليكشف أحوالها.
وكان معه كاتبه الرضى بن سلامة، فاستدفع من الدواوين حساباتهم ، وسار بها على بغل صحبة تقي الدين ، فأرسل الله صاعقة من السماء أحرقت البغل وما عليه من الحساب ، وعاد تقي الدين .
سنة إحدى وثمانين وخمسمائة(1/16)
وأهلت سنة إحدى وثمانين فسار السلطان وبلغ حران ، في يوم الجمعة ثامن عشري صفر فقبض على صاحبها مظفر الدين كوكبري، واستولى عليها. ورحل عنها في ثاني ربيع الأول فوافته رسل الملك قلج أرسلان بن مسعود السلجوقي صاحب الروم باتفاق ملوك الشرق بأجمعهم على قصده، إن لم يعد عن الموصل وماردين ، فسار يريد الموصل ، وكاتب الخليفة بما عزم عليه من حصر الموصل ، ونزل عليها وحاصر أهلها وقاتلهم. فورد الخبر بموت شاه أرمن بن سقمان الثاني ناصر الدين محمد بن إبراهيم صاحب خلاط في تاسع ربيع الأول ، فرحل صلاح الدين في آخره يريد خلاط ، ثم عاد و لم يملكها، وسار إلى ميافارقين فتسلمها، ثم عاد إلى الموصل ، ونزل على دجلة في شعبان ، وأقام إلى رمضان ، فمرض مرضا مخوفا، فرحل في آخر رمضان ، وهو لما به وقد أيس منه ، فنزل بحران ، فتقرر فيها الصلح بينه وبين المواصلة في يوم عرفة، وخطب له بجميع بلاد الموصل ، وقطعت خطبة السلجوقية، وخطب له في ديار بكر وجميع البلاد الأرتقية، وضربت السكة باسمه ، وأمر بالصدقات في جميع ممالكه .
وفي يوم الثلاثاء سابع ربيع الأول : حدثت بمصر زلزلة، وفي مثل تلك الساعة كانت زلزلة في بعلبك أيضا.
وفيه كانت بالاسكندرية فتنة بين العوام ، نهبوا فيها المراكب الرومية، فقبض على عدة منهم ومثل بهم .
ومات في هده السنة
الملك القاهر ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه صاحب حمص ، ليلة عيد الأضحى . واتهم السلطان بأنه سمه فإنه لما اشتد مرض السلطان تحدث بأنه يملك من بعده.
ومات فخر الدولة إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن أحمد بن نصر الأسواني ابن أخت الرشيد والمهذب ابني الزبير فيها. وهو أول من كتب الإنشاء للسلطان ، ثم كتب لأخيه العاد ل .
ومات سعد الدين بن مسعود بن معين الدين بآمد.
ومات الأمير مالك بن ياروق في منبج ليلة السبت مستهل رجب ، محمل إلى حلب ودفن بها.
وماتت آمنة خاتون بنت معين الدين أنار التي تزوجها السلطان صلاح الدين بعد نور الدين محمود لما ملك دمشق ، وكانت وفاتها يوم الاثنين ثالث ذي القعدة.
وفيها خرج المظفر تقي الدين عمر إلى كشف أحوال الإسكندرية، وشرع في عمل سور على مدينة مصر بالحجر، فلم يبق فقير ولا ضعيف إلا خط فيه ساحة من درب الصفا إلى المشهد النفيسي، واتصلت العمارة في خط الخليج إلى درب ملوخيا بمصر حتى بين الكومين وبجوار جامع ابن طولون والكبش، فعمر أكثر من خمسة آلاف موضع بشقاف القنز والخرشتف وتراب الأرض ، وتحول الناس لجهة جامع ابن طولون والبركة وجانب القلعة .
وفي شعبان ورمضان : وقع وباء بأرض مصر وفشا موت الفجأة، وكثر الوباء في الدجاج أيضا.
سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة
وأهلت سنة اثنتين وثمانين : وقد أبل السلطان من مرضه ،فرحل من حران ، و نزل حلب في رابع عشر المحرم ،ومر من حلب إلى حمص ، فرتب أمورها واسقط المكوس منها. ودخل إلى دمشق في ثاني ربيع الأول ، واستدعى ابنه الأفضل عليا من مصر، لمنافرة كانت بينه وبن ابن عمه المظفر تقي الدين ، فقدم عليه بأهله وحشمه ، لسبع بقين من جمادى الأولى، وصرف العادل عن حلب ، ولقرر عوضه بها الملك الظاهر غياث الدين غازي ابن السلطان ، وعوض العادل الشرقية بديار مصر.
وصرف المظفر تقي الدين عمر من ديار مصر ونيابتها، فغضب لذلك ، وعبر بأصحابه إلى الجيزة يريد اللحاق بغلامه شرف الدين قراقوش التقوى، وأخذ بلاد المغرب ، وجعل مملوكه بوري في مقدمته ، فبلغ ذلك السلطان ، فكتب إليه يأمره بالقدوم عليه، فقبح الأكابرعليه مشاقته السلطان وحذروه ، فأجاب وتوجه إلى دمشق ، فوصلها ثالث عشري شعبان ، واستمر على ما بيده من حماة والمعرة ومنبج وأضيف إليه ميافارقين، وكتب إلى أصحابه فقدموا عليه من مصر، ماخلا زين الدين بوري مملوكه ، فإنه سار إلى المغرب ، وملك هناك مواضع كنيرة. ثم قصده صاحب المغرب وأسره ، ثم أطلقه وقدمه .
ووصل الأفضل على ابن السلطان من القاهرة إلى دمشق يوم الخميس سابع عشر جمادى الأولى، وهو أول قدومه إليها، وسار الملك العزيز عثمان إلى ملك مصر، ومعه عمه العادل أتابكا.
وكان خروج العادل من حلب ليلة السبت رابع عشري صفر، فدخلا إلى القاهرة في خامس رمضان .(1/17)
ووقع الخلف بين الفرنج بطرابلس ، فالتجأ القومص إلى السلطان ، وصار يناصحه ، واستولى الإبرنس ملك الفرنج بالكرك على قافلة عظيمة، فأسر من فيها وامتنع من إجابة السلطان إلى إطلاقهم ، فتجهز السلطان لمحاربته ، وكاتب الأطراف بالمسير لقتاله .
وفيها مات بمصر عبد الله بن أبي الوحش بري بن عبد الجبار بن بري النحوي، ليلة السبت لثلاث بقين من شوال ،ومولده بدمشق في خامس رجب سنة تسع وتسعين وأربعمائة.
سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة
وأهلت سنة ثلاث وثمانين وقد برز السلطان من دمشق لجهاد الفرنج يوم السبت أول المحرم ، واقر ابنه الأفضل على رأس الماء، ونزل بصرى، فأقام لحفظ الحاج حتى قدموا في آخر صفر. فسار إلى الكرك ، في اثني عشر ألف فارس ، ونازلها وقطع أشجارها، ثم قصد الشوبك ، ففعل بها مثل ذلك . وخرج الحاجب لؤلؤ على الأسطول من مصر، وهو خمسة عشر شينيا، ليسير إلى الإسكندرية. وخرج العادل من القاهرة في سابع المحرم إلى بركة الجب ، وسار إلى الكرك ، فمر على أيلة، والتقى مع السلطان على القريتين ، وعادا إلى الكرك ، فنازلاها في ربيع الأول ، وضايق السلطان أهلها، ثم رحل عنها، ونازل طبرية، فاجتمع من الفرنج نحو الخمسين ألفا بأرض عكا، ورفعوا صليب الصلبوت ، فافتتح السلطان طبرية عنوة في ثالث عشري ربيع الآخر، وغاظ ذلك الفرنج وتجمعوا، فسار إليهم السلطان ، وكانت وقعة حطين ، التي نصر الله فيها دينه ، في يوم السبت رابع عشريه . وانهزم الفرنج بعد عدة وقائع ، وأخذ المسلمون صليب الصلبوت ، وأسروا الإبرنس أرناط صاحب الكرك والشوبك ، وعدة ملوك آخرين وقتل وأسر من سائر الفرنج ما لا يعد كثرة.
ثم قدم الإبرنس أرناط ، وضرب السلطان عنقه بيده ، وقتل جميع من عنده من الفرنج الداوية والاسبتارية ورحل السلطان إلى عكا، فنازلها سلخ ربيع الآخر، ومعه عالم عظيم .
قال العلامة عبد اللطيف بن يوسف البغدادي: كان السوق الذي في عسكر السلطان على عكا عظيما، ذا مساحة فسيحة، فيه مائة وأربعون دكان بيطار، وعددت عند طباخ واحد ثمانيا وعشرين قدرا، كل قدر تسع رأس غنم .
وكنت أحفظ عدد الدكاكين، لأنها كانت محفوظة عند شحنه السوق ، وأظنها سبعة آلاف دكان ، وليست مثل دكاكين المدينة، بل دكان واحد مثل مائة دكان ، لأن الحوائج في الأعدال والجوالقات ، ويقال إن العسكر أنتنت منزلتهم لطول المقام ، فلما ارتحلوا غير بعيد، وزن سمان أجرة نمل متاعه سبعين دينارا، وأما سوق البز العتيق والجديد، فشيء يبهر العقل . وكان في العسكر اكثر من ألف حمام ، وكان أكثر ما يتولاها المغاربة ، يجتمع متهم اثنان أو ثلاثة ويحفرون ذراعين فيطلع الماء، ويأخذون الطين فيعملون منه حوضا وحائطا، ويسترونه بحطب وحصير، ويقطعون حطبا من البساتين التي حولهم ، ويحمون الماء في قدور، وصار حماما يغسل الرجل رأسه بدرهم وأكثر.
فلم يزل صلاح الدين على محاصرة عكا إلى أن تسلمها بالأمان ، في ثاني جمادى الأولى، واستولى على ما فيها من الأموال والبضائع ، وأطلق من كان بها من المسلمين مأسورا، وكانوا أربعة آلاف نفس ، ورتب في كنيستها العظمى منبرا، وأقيم فيها الجمعة.
وأقطع عكا لابنه الأفضل على، وأعطى جميع ما للداوية من إقطاع وضياع للفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري. وسار العادل بعساكر مصر إلى مجدليابا فحصره وفتحه وغنم ما فيه . وافتتحت عدة حصون حول عكا: وهي الناصرة وقيسارية وحيفا وصفورية ومعليا والشقيف والتولع والطور ونهب ما فيها، وسبيت النساء والأطفال ، فقدموا بما سد الفضاء. وأخذت سبسطية ونابلس ، وكتب السلطان للخليفة بخبر فتح هذه البلاد. ونزل العادل على يافا، حتى ملكهاعنوة ونهبها، وسبى الحريم وأسر الرجال ، ونازل المظفر تقي الدين عمر تبنين ، وأدركه السلطان فوصل إليها في حادي عشر جمادى الأولى ومازال محاصرا لها حتى تسلمها في ثامن عشره بأمان ، وجلا أهلها عنها إلى صور، وتسلم السلطان العدد والدواب والخزائن ، وسار فأخذ صرخد بغير قتال ،ثم رحل إلى صيداء،ففر أهلها وتركوها، فتسلمها السلطان في حادي عشريه . ونازل بيروت وضايقها ثمانية أيام ، إلى أن طلب أهلها الأمان ، فأجابهم واستولى عليها في تاسع عشريه ،وأخذ جبيل فكان من استنقذ الله من المسلمين(1/18)
المأسورين عند الفرنج ، في هذه السنة، ما يزيد على عشرين ألف إنسان ، وأسر المسلمون من الفرنج مائة ألف أسير.
وهلك في هذه السنة القومص صاحب طرابلس ، وقدم المركيس " أكبر طواغيت الفرنج " إلى صور، وقد اجتمع بها أمم من الفرنج ، فتملك عليهم ، وحصن البلد، فسار السلطان بعد فتح بيروت ، وتسلم الرملة والخليل وبيت لحم ، واجتمع بأخيه العادل ،ونازلا عسقلان ،في سادس عشر جمادى الآخرة،ونصبا المجانيق عليها،ووقع الجد في القتال ، إلى أن تسلم السلطان البلد في سلخه ، وخرج منه الفرنج إلى بيت المقدس ، بعد أن ملكوه خمسا وثلاثين سنة. وتسلم السلطان حصون الداوية وهي غزة والنطرون وبيت جبريل وقدم عليه بظاهر عسقلان ابنه العزيز عثمان من مصر، ووافته الأساطيل وعليها الحاجب لؤلؤ. وكانت الشمس قد كسفت ،قبل أخذ عسقلان بيوم ،حتى أظلم الجو وظهرت الكواكب في يوم الجمعة ثامن عشريه .
وسار السلطان " وقد اجتمعت إليه العساكر " يريد فتح بيت المقدس ، فنازله يوم الأحد خامس عشر رجب ، وبه حشود الفرنج وجميعهم ، فنصب المجانيق ، واقتتل الفريقان أشد قتال ، استشهد فيه جماعة من المسلمين، وأيد الله بنصره المسلمين، حتى تمكنوا من السور ونقبوه ، وأشرفوا على أخد البلد فسأل الفرنج حينئذ الأمان ، فأعطوه بعد امتناع كثير من السلطان ، على أن يعطى كل رجل من الفرنج عن نفسه عشرة ، دنانير مصرية،سواء كان غنيا أو فقيرا،وعن المرأة خمسة دنانير،وعن كل طفل من الذكور والإناث دينارين . ئم صولح عن الفقراء بثلاثين ألف دينار وتسلم المسلمون القدس يوم الجمعة سابع عشري رجب ، وأخرج من فيه من الفرنج ، وكانوا نحو الستين ألفا،بعدما أسر منهم نحو ستة عشر ألفا،مابين رجل وامرأة وصبي،وهم من لايقدر على شراء نفسه .
وقبض السلطان من مال المفاداة ثلاثمائة ألف دينار مصرية، سوى ما أخذه الأمراء ، وما حصلت فيه الخيانة.
والتحق من كان بالقدس من الفرنج بصور، وتسامع المسلمون بفتح بيت المقدس ، فأتوه رجالا وركابنا من كل جهة لزيارته ،حتى كان من الجمع مالا ينحصر،فأقيمت فيه الجمعة يوم الرابع من شعبان ، وخطب القاضي محيي الدين بن الزاكي بالسواد خطبة بليغة، دعا فيها للخليفة الناصر والسلطان صلاح الدين ، وانتصب بعد الصلاة زين الدين بن نجا ،فوعظ الناس.
وأمر السلطان بترميم المحراب العمري القديم ، وحمل منبر مليح من حلب ، ونصب بالمسجد الأقصى، وأزيل ما هناك من آثار النصرانية، وغسلت الصخرة بعدة أحمال ماء ورد، وبخرت وفرشت ، ورتب في المسجد من يقوم بوظائفه ، وجعلت به مدرسة للفقهاء الشافعية، وغلقت كنيسة قمامة، ثم فتحت ، وقرر على من يرد إليها من الفرنج قطيعة يؤديها. وخرجت البشائر إلى الخليفة بالفتح ، وإلى سائر الأطراف . ورحل السلطان عن القدس لخمس بقين من شعبان يريد عكا، وسار العزيز عثمان إلى مصر فكان آخر العهد به . وسار العادل مع السلطان ، فنزلا على عكا أول شهر رمضان ، ثم رحل السلطان منها، ونزل على صور في تاسعه ، وكانت حصينة، وقد استعد الفرنج فيها، فتلاحقت العساكر بالسلطان ، ونصب على صور عدة من المجانيق وحاصرها، واستدعى السلطان الأسطول من مصر، فقدم عليه عشر شواني، وصار القتال في البر والبحر فأخذ الفرنج خمس شواني ووردت مكاتبة الخليفة على السلطان، وفيها غلظة وإنكار أمور، فأجاب بالإعتذار ، ورحل عن صور في آخر شوال . وعادت العساكر إلى بلادها، وأقام السلطان بعكا ، وسار العادل إلى مصر، فطرق الفرنج قلعة كوكب ، وقتلوا بها جماعة من المسلمين ، ونهبوا ما كان بها، وأتته على عكا رسل الملوك بالتهنئة من الروم والعراق وخراسان بفتح بيت المقدس .(1/19)
وفي هذه السنة : " أعني سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة " : اجتمع الشمس والقمر والمريخ والزهرة وعطارد والمشتري وزحل وأظفار الذئب ، في برج الميزان ، أربع عشره ساعة، فاجتمع المنجمون كلهم ، وحكموا بكون طوفان الريح ، وأنه كائن وواقع ولابد، فتنقلب الأرض من أولها إلى آخرها، وأنه لا يبقى من الحيوان شيء إلا مات ، ولا شجرة ولا جدار إلا سقط . وكان معظم هذه الحكومة عن بلاد الروم ، وأرجفوا بأنها هي القيامة، فاتخذ قوم الكهوف والمغائر في الجبال ، وبالغوا في الاعتداد لهول ذلك اليوم . وقال القوم : " كتب القدماء كلها أحالت على هذا الاجتماع ، وإن فيه دمار الدنيا " . وكان ذلك في مسرى، وفي جمادى الآخرة للسابع والعشرين منه ، وهو يوم الثلاثاء مع ليلة الأربعاء إلى يوم الأربعاء. فلم تهب ريح ، ولا تحرك نيل مصر، وهو في زيادته في مسرى، ومن العادة أن تهب الريح من العصر إلى العشاء في وجه الماء، ليقف بإذن الله ، فتكون فيه الأمواج ، فلم يحدث تلك الليلة، ولا ثاني يوم ولا قبلها بيوم شيء من ذلك ، وطلع الناس بالسرج الموقدة على السطوحات لاختبار الهواء، فلم تتحرك نار البتة. كان أشد الناس إرجافا بهذه الكواكب الروم ، فأكذبهم الله،و سلط عليهم السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف ،فأخذ كبارهم،وملأ الأرض من الأسرى شرقا وغربا، وأخذ القدس ، وأصاب جماعة ممن كان يرجف بهذه الريح آفات ، ما بين موت بعضهم واعتلال بعضهم .
وفيها خرج في سادس عشر جمادى الآخرة قفل شامي إلى مصر، وهو أول قفل سلك بلاد الساحل ، بلا حق يسمعه ولا مكس يوديه .
وفيها سار قراقوش التقوى، واستولى على القيروان ، وحاربه ابن عبد المؤمن سلطان المغرب على ظاهر تونس فانكسر منه ، وأقيمت الخطبة في ربيع الأول بتلك البلاد للسلطان صلاح الدين . فجمع ابن عبد المؤمن ، وواقع قراقوش وهزمه ، ففر قراقوش في البرية .
وفيها أمر السلطان بأن تبطل النقود التي وقع الاختلاف فيها وتضرر العامة بها، وأن يكون ما يضرب من الدنانير ذهبا مصريا، ومن الدراهم الفضة الخالصة، وأبطل الدراهم السود لاستثقال الناس الميزان ، فسر الناس ذلك .
سنة أربع وثمانين وخمسمائة
فيها نازل السلطان حصن كوكب أياما، و لم ينل منها شيئا، فأقام الأمر صارم الدين قايماز النجمي في خمسمائة فارس عليها، ووكل بصفد الأمير طغرل الخازندار في خمسمائة فارس ، وبعث إلى الكرك والشوبك الأمير سعد الدين كمشبه الأسدي ، واستدعى الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي من مصر، فاستخلف على عمارة سور القاهرة، وقدم والسلطان على كوكب ، فندبه لعمارة عكا، فشرع في تجديد سورها وتعلية أبراجها، بمن قدم به معه من مصر من الأسرى والأبقار والآلات والدواب ، وسار السلطان يريد دمشق ، فدخلها سادس ربيع الأول ، وقد غاب عنها سنة وشهرين وخمسة أيام ، كسر فيها الفرنج ، وفتح بيت المقدس ، فلازم الجلوس في دار العدل بحضرة القضاة، وكتب إلى الجهات باستدعاء الأجناد للجهاد، وخرج بعد خمسة أيام على بعلبك ،فوافاه عماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار على أعمال حمص ، فنزلا على بحيرة قدس. وبعث السلطان ابنه الظاهر وابن أخيه المظفر صاحب حماة لحفظ طريق أنطاكية ، وسار أول ربيع الآخر وشن الغارات على صافيتا وتلك الحصون المجاورة. وسار في رابع جمادى الأولى على تعبية لقاء العدو، فأخذ أنطرسوس ، واستولى على ما بها من المغانم ، وخرب سورها وبيعتها، وكانت من أعظم البيع ، ووضع النار في البلد فأحرق جميعه ، وسار يريد جبلة، فنازلها لاثنتي عشرة بقيت منه ، وتسلمها بغير حرب ، ثم أخذ اللاذقية بعد قتال ، وغنم الناس منها غنيمة عظيمة. وسار إلى صهيون ، فقاتل أهلها إلى أن ملكها في ثاني جمادى الآخرة، واستولى على قلعتي الشغر وبكاس وعدة حصون ، وأسر من فيها، وغنم شيئا كثيرا.
فلما فتح بغراس بعث الإبرنس ملك أنطاكية يسأل الصلح ، فأجيب إلى ذلك ، على(1/20)
شريطة أن يطلق من عنده من الأسارى المسلمين ، وهم ألف إنسان ، وعاد صاحب سنجار إلى بلده، وسار السلطان إلى حلب ، فأقام بها ثم سار عنها، ودخل إلى دمشق في آخر شعبان وما زال كمشبه محاصرا للكرك حتى تسلم قلعتها، ومعها الشوبك والسلع ، وعدة حصون هناك ، في رمضان . فلما وردت البشرى بذلك على السلطان سار من دمشق ، ونازل صفد حتى ملك قلعتها بالأمان في رابع عشر شوال ولحق من كان فيها من الفرنج بصور ثم سار إلى كوكب وضايقها حتى تسلمها، في نصف ذي القعدة بأمان ، وأرسل أهلها إلى صور. فكثر بها جموع الفرنج ، وكاتبوا إفرنج صقلية والأندلس ، وكتب السلطان إلى الخليفة الناصر بخبر هذه الفتوح ، ورحل فنزل في صحراء بيسان .
وفيها ثار بالقاهرة اثنا عشر رجلا من الشيعة في الليل ، نادوا: " يال علي. . يال علي " . وسلكوا الدروب وهم ينادون كذلك ، ظنا منهم أن رعية البلد يلبون دعوتهم ، ويقومون في إعادة الدولة الفاطمية، فيخرجون من في الحبوس ، ويملكون البلد. فلما لم يجبهم أحد تفرقوا.
وسار السلطان إلى القدس ، فحل به في ثامن ذي الحجة، وسار بعد النحر إلى عسقلان ، وجهز أخاه العادل إلى مصر لمعاضدة الملك العزيز، وعوضه بالكرك عن عسقلان ، وكان قد وهبها له ، ثم نزل بعكا.
سنة خمس وثمانين وخمسمائة
ودخلت سنة خمس وثمانين : فسار السلطان عن عكا، ودخل دمشق أول صفر، فورد عليه في ثاني عشره ضياء الدين عبد الوهاب بن سكينة، رسول الخليفة الناصر، بالخطبة لابنه ولي العهد ، عدة الدنيا والدين أبي نصر محمد، فأقيمت له . وجهز الرسول ، ومعه ضياء الدين القاسم بن يحيى الشهرزوري، وبعث معه بهدايا وتحف وأسارى من الفرنج للخليفة، ومعهم تاج ملك الفرنج والصليب الذي كان فوق صخرة بيت المقدس ، وأشياء كثيرة . فدفن الصليب تحت عتبة باب النوبى ببغداد وديس عليه ، وكان من نحاس مطلي بالنهب .
وخرج السلطان من دمشق في ثالث ربيع الأول ونازل شقيف أرنون وهو منزعج ، لانقضاء الهدنة مع صاحب أنطاكية، ولاجتماع الفرنج بصور، واتصال الأمداد بهم ، فكانت للمسلمين مع الفرنج في بلادهم الساحلية عدة وقائع ، قتل فيها من الفريقين عدة، وكثر القتل في المسلمين ، واشتدت نكاية الفرنج فيهم ، فرحل السلطان إلى عكا، وقد سبقه الفرنج ونزلوا عليها. ونزل السلطان بمرج عكا وصار محاصرا للفرنج ، والفرنج محاصرين للبلد. وتلاحقت به العساكر الإسلامية، والأمداد تصل إلى الفرنج من البحر. فلم يقدر السلطان على الوصول إلى البلد، ولا استطاع أهل عكا أن يصلوا إلى السلطان . وشرع السلطان في قتال الفرنج من أول شعبان ، إلى أن تمكن من عكا، ودخلها في ثانيه ، فما زالت الحرب قائمة إلى رابع رمضان . فتحول إلى الخروبة، وأغلق من في عكا من المسلمين أبوابها، وحفر الفرنج خندقا على معسكرهم حول عكا من البحر إلى البحر، وأداروا حولهم سورا مستورا بالستائر، ورتبوا عليه الرجال ، فامتنع وصول المسلمين إلى عكا.
وقدم العادل بعسكر مصر في نصف شوال ، وقدم الأسطول من مصر إلى عكا في خمسين قطعة، وعليه الحاجب لؤلؤ في منتصف ذي القعدة ، فبدد شمل مراكب الفرنج ، وظفر ببطستين للفرنج . فاستظهر المسلمون الذين بعكا، وقوي جأشهم بالأسطول ، وكانوا نحو العشرة آلاف .
وبعث السلطان إلى الأطراف يحث الناس على الجهاد، وأرسل إلى أخيه سيف الإسلام طغتكين باليمن ، يطلب منه الإعانة بالمال ، وإلى مظفر الدين قر أرسلان صاحب العجم ، وكتب إلى الخليفة. ووصلت الأمداد إلى الفرنج ، وورد الخبر من حلب بخروج ملك الألمان من القسطنطينية، في عدة عظيمة تتجاور الألف ألف ، يريدون البلاد الإسلامية، فاشتد الأمر على السلطان ومن معه من المسلمين .
وتوفي في هذه السنة حسام الدين سنقر الخلاطي ليلة الاثنين سابع عشري رجب ، والأمير حسام الدين طمان يوم الأربعاء ثالث عشر شعبان ، والأمير عز الدين موسك بن جكو في شعبان ، وهو ابن خال السلطان صلاح الدين.
ومات شرف الدين أبو سعد عبد الله بن أبي عصرون بدمشق ، يوم الثلاثاء حادي عشر رمضان ، ومولده أول سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة.
ومات ضياء الدين عيسى الهكاري، يوم الثلاثاء تاسع ذي القعدة بمنزلة الخروبة.
سنة ست وثمانين وخمسمائة(1/21)
ودخلت سنة ست وثمانين والسلطان بالخروبة على حصار الفرنج ، وقدمت عساكر المسلمين من الشرق ومن بقية البلاد، فرحل من الخروبة لاثنتي عشرة بقيت من ربيع الأول إلى تل كيسان وتتابع مجيء العساكر. وكملت أبراج الفرنج الثلاثة، التي بنوها تجاه عكا في مدة سبعة أشهر، حتى علت على البلد، وامتلأت بالعدد والعدة، وطموا كثيرا من الخندق ، وضايقوا البلد. واشتد خوف المسلمين ، واشتدت الحرب بين الفريقين ، حتى احترقت الأبراج الثلاثة، وخرج أهل عكا منها، فنظفوا الخندق ، وسدوا الثغر، وغنموا ما كان في الأبراج من الحديد، فتقووا به.
وكان بين أسطول المصريين وبين مراكب الفرنج عدة معارك ، فتل فيها كثير من الفرنج. ودخل ملك الألمان بجيوشه إلى حدود بلاد الإسلام ، وقد فني منهم كثير، فواقعهم الملك عز الدين قلج بن أرسلان السلجوقي، فانكسر منهم ، فلحق به الفرنج إلى قونية وهاجموها، وأحرقوا أسواقها، وساروا إلى طرسوس يريدون بيت المقدس ، واسترجاع ما أخذ منهم السلطان من البلاد والحصون ، فمات بها ملكهم . وقام من بعده ابنه ، فسار إلى أنطاكية . وندب السلطان كثيرا ممن كان معه على حرب عكا إلى جهة أنطاكية، ووقع فيمن بقي معه مرض كثير، وأمر بتخريب سور طبرية ويافا وأرسوف وقيسارية وصيدا وجبيل فخرب ذلك ، ونقل من كان فيها إلى بيروت وطمع الفرنج في السلطان لقلة من بقي معه ، فركبوا لحربه ونهبوا وطاق الملك العادل . وكانت للمسلمين معهم حرب ، انكسر فيها الفرنج إلى خيامهم ، وقتل منهم آلاف ، فوهت قواهم . غير أن المدد أتاهم ، ونصبوا المجانيق على عكا، فتحول السلطان إلى الحزوبة، فوافى كتاب ملك الروم بقسطنطينية، يخبر بوصول المنبر من عند السلطان ، وكذلك الخطيب والمؤذنين والقراء، وأن الخطبة أقيمت بالجامع القديم بالقسطنطينية للخليفة الناصر لدين الله .
وسار ابن ملك الألمان عن أنطاكية إلى طرابلس في جيوشه ، وركب منها البحر إلى عكا، فوصل إليها سادس رمضان ، فأقام عليها إلى أن هلك ثاني عشر ذي الحجة، بعدما حارب المسلمين فلم ينل منهم كبير عرض . ودخل الشتاء وقد طالت مدة البيكار، وضجرت العساكر من كثرة القتال ، فرحل صاحب سنجار وصاحب الجزيرة وصاحب الموصل .
وفيها تولى سيف الدولة أبو الميمون مبارك بن كامل بن منقذ شد الدواوين بديار مصر، وباشر الأسعد بن مماتي معه الديوان في محرم .
سنة سبع وثمانين وخمسمائة
ودخلت سنة سبع وثمانين : فسار الظاهر صاحب حلب إليها، وسار المظفر إلى حماة .
وبقي السلطان في جمع قليل ، والحرب بين أهل عكا وأمرهم بهاء الدين قراقوش وبين الفرنج . ودخل فصل الربيع ، فوافت العساكر السلطان ، ووصل إلى الفرنج مددهم ، فضايقوا عكا وجدوا في حصارها، ونصبوا عليها المجانيق . وتوالت الحروب إلى أن ملكها الفرنج ، يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة، وأسروا من فيها من المسلمين وكانوا ألوفا . وخرجوا يريدون الحرب ، فواقعهم السلطان وكسرهم ، ووقع كلامه في الصلح وإطلاق الأسرى ولم يتم .
فلما كان في سابع عشري رجب برز الفرنج بخيامهم ، وأحضروا أسارى المسلمين ، وحملوا عليهم حملة واحدة قتلوا فيها بأجمعهم في سبيل الله صبرا، واليزك الإسلامي ينظر إليهم . فحمل المسلمون عليهم ، وجرت بينهما حرب شديدة، قتل فيها عدة من الفريقين .
ولما أهل شعبان : سار الفرنج إلى عسقلان ، ورحل السلطان في أثرهم ، وواقعهم في رابع عشره بأرسوف ، فانهزم المسلمون ، وثبت السلطان إلى أن اجتمع عليه المسلمون، وعاد إلى القتال ، حتى التجأ الفرنج إلى جدران أرسوف .
ورحل السلطان في تاسع عشره ، ونزل على عسقلان يريد تخريبها، لعجزه عن حفظها، ففرق أبراجها على الأمراء ،وو قع الضجيج والبكاء في الناس أسفا وغما لخرابها، وكانت من أحسن البلاد بناء، وأحكمها أسوارا، وأطيبها سكنا، فلم يزل التخريب والحريق فيها إلى سلخ شعبان .
قال الحافظ عبد العظيم المنذري في المعجم المترجم : " سمعت الأمير الأجل أياز بن عبد الله " يعنى أبا المنصور البانياسي الناصري " يقول : لما هدمنا عسقلان أعطيت أنا برج الداوية، وهدم خطلج برجا وجدنا عليه مكتوبا عمر على يدي خطلج ، وهذا من عجيب الإتفاق . وشبيه بذلك ما أخبرني به القاضي الأجل أبو الحسن علي بن يحيى(1/22)
الكاتب قال : رأيت بعسقلان برج الدم ، وخطلج المعزى يهدمه يعني في شعبان .
ورأيت عليه مكتوبا: مما أمر بعمارته السيد الأجل أمير الجيوش يعنى بدرا الجمالي على يد عبده ووليه خطلج في شعبان فعجبت من هذا الاتفاق ،كيف عمر في شعبان على يد خطلج ، وهدم في شعبان على يد خطلج .
ثم رحل السلطان عن عسقلان وقد خربت في ثاني رمضان ، ونزل على الرملة فخرب حصنها، وسم كنيسة لد، وركب إلى الفدس جريدة، ثم عاد وهدم حصن النطرون .
وكانت بين المسلمين والفرنج عدة وقائع في البر والبحر، فعاد السلطان إلى القدس في آخر ذي القعدة . وقدم أبو الهيجاء السمين بعسكر مصر، ووقع الاهتمام في عمارة سور بيت المقدس وحفر الخندق .
وفيها مات علم الدين سليمان بن جندر في آخر ذي الحجة.
ومات الملك المظفر تقي الدين عمر بن نور الدولة شاهنشاه بن أيوب بن شادي صاحب حماة، وهو الذي أوقف منازل المعز بمصر مدرسة، في ليلة الجمعة تاسع رمضان ، ودفن بحماة .
ومات نجم الدين محمد بن الموفق بن سعيد بن علي بن حسن بن عبد ا لله الخبوشاني الفقيه الشافعي الصوفي، يوم الأربعاء ثاني عشري ذي القعدة، ودفن بالقرافة .
وفيها سلم أمر الأسطول بمصر للملك العادل ، فاستخدم فيه من قبله ، وأفرد برسمه الزكاة بمصر والحبس الجيوشي بالبرين والنطرون والخراج وما معه من ثمن القرظ وساحل السنط والمراكب الديوانية وإشنين وطنبذة فاستناب العادل في مباشرة ذلك ، واستخدم في ديوان الأسطول صفي الدين عبد ا لله بن علي بن شكر. وأحيل الورثة الجيوشية على غير الحبس الذي لهم .
وعظمت زيادة النيل وغرق النواحي، وكثر رخاء الأسعار بمصر، فأبيع القمح كل مائة أردب بثلاثين دينارا، والخبز البائت ستة أرطال بربع درهم ، والرطب الأمهات ستة أرطال بدرهم ، والموز ستة أرطال بدرهم ، والرمان الجيد مائة حبة بدرهم ، وحمل الخيار بدرهمين ، والتين ثمانية أرطال بدرهم ، والعنب ستة أرطال بدرهم في شهر بابه بعد انقضاء موسمه المعهود بشهرين ، والياسمين خمسة أرطال بدرهم ، وثمر الحناء عشرة أرطال بدرهم ، والبسر الجيد عشرة أرطال بدرهم ، وما دونه خمسة عشر رطلا بدرهم . وكثربمصر والقاهرة التجاهر بمعاصي الله ، وظفر الأسطول بمركب فيه اثنتان وعشرون ألف جبنة، كل جبنة قدر الرحى لا يقلها الراجل . وحصلت بمصر زلزلة، وهبت سموم حارة فيها إعصار ثلاثة أيام ، أتلفت الخضروات التي فضلت من الغرق . وانشقت زريبة جامع المقس لقوة الزيادة، وخيف على الجامع أن يسقط ، فأمر بعمارتها.
سنة ثمان وثمانين وخمسمائة
وأهلت سنة ثمان وثمانين : والسلطان بالقدس مجتهد في عمارته .
وفي ثالث المحرم : نزل الفرنج على ظاهر عسقلان ، لقصد عمارتها فما مكنوا، وواقعهم جماعة من الأسدية منهم يازكج وغيره ، وتوالت الوقائع بينهم .
وفي صفر: سار الملك الأفضل نور الدين علي بن السلطان إلى البلاد الشرقية، على ما كان بيد الملك المظفر تقي الدين عمر من البلاد التي هي قاطع الفرات ، وأطلق له السلطان عشرين ألف دينار سوى الخلع والتشريفات . ثم نزل الملك العادل أبو بكر عن كل ماله في الشام ، ماخلا الكرك والشوبك والصلت والبلقاء ونصف خاصة بديارمصر، وعوض البلاد الشرقية.
وسار السلطان من القدس في أوائل جمادى الأولى، وكتب بعود الملك الأفضل ،فعاد منكسر القلب إلى السلطان . ولحق العادل بحران والرها وقرر أمرهما، ثم عاد إلى السلطان في أخر جمادى الآخرة.(1/23)
وفي جمادى الآخرة : ملك الفرنج قلعة الداروم ، وخرج العسكر المصري يريدون السلطان ، فكبسهم الفرنج وأخذوا جميع ما معهم ، وتبدد الناس في البرية. وأسر الفرنج منهم خمسمائة رجل ، وأخذوا نحو ثلاثة آلاف جمل ، وعادوا إلى خيمهم وقد طمعوا،فقصدوا المسير إلى القدس ، ثم اختلفوا ونزلوا بالرملة، وبعثوا رسلهم في طلب الصلح ،فبرز السلطان من القدس في عاشر رجب ، وسار إلى يافا فحاصرها، و لم يزل يقاتل من فيها من الفرنج إلى أن أخذ البلد عنوة، وغنم الناس منها شيئا عظيما. وتسلم السلطان القلعة، وأخرج من كان فيها من الفرنج ، فقدم من الفرنج نجدة كبيرة في خمسين مركبا، فغدر أهل يافا بجماعة من المسلمين، وعاد القتال والمراكب في البحر لم تصل إلى البر، فسارع أهل المراكب إلى البر، وحملوا على السلطان، فرحل إلى يازور وأمر بتخريبها، وسار إلى الرملة ومنها إلى القدس ، وعزم على لقاء الفرنج ، فاختلف عليه أصحابه ،وأسمعه بعضهم كلاما جافيا، فانثنى عن ذلك . وقدم عسكر مصر فخرج إلى الرملة، ووقع الصلح بين السلطان والفرنج لثمان بقين من شعبان . وعقدت هدنة عامة في البر والبحر مدة ثلاث سنين وثلاثة أشهر أولها حادي عشر شعبان وهو أول شهر أيلول على أن يكون للفرنج من يافا إلى عكا إلى صور وطرابلس وأنطاكية . ونودي في الوطاقات وأسواق العسكر: ألا إن الصلح قد انتظم ، فمن شاء من بلادهم يدخل بلادنا فليفعل ، ومن شاء من بلادنا يدخل بلادهم فليفعل . وكان يوم الصلح يوما مشهودا، عم فيه الطائفتين الفرح والسرور، لما نالهم من طول الحرب . فاختلط عسكر الفرنج بعسكر المسلمين ، ورحل جماعة من المسلمين إلى يافا للتجارة، ودخل خلق عظيم من الفرنج إلى القدس بسبب الزيارة، فأكرمهم السلطان ومد لهم الأطعمة وباسطهم . ورحل ملوك الفرنج إلى ناحية عكا، ورحل السلطان إلى القدس ، وسار منها إلى دمشق ، ملقيه الأمر بهاء الدين قراقوش " وقد تخلص من الأسر " على طبرية.
ودخل السلطان إلى دمشق ، لخمس بقين من شوال ، فكانت غيبته عنها أربع سنين .
وأذن للعساكر في التفرق إلى بلادهم فساروا إليها، وبقي عند السلطان ابنه الأفضل علي والقاضي الفاضل .
وفيها انتقل سعر الفول بديار مصر من خمسة عشر دينارا إلى ثلاثين دينارا المائة أردب ، بحكم ان المشتري لعلوفة الوسية العادلية خمسون ألف أردب .
وفيها عثر على رجل اسمه عبد الأحد، من أولاد حسن ابن الخليفة الفاطمي الحافظ لدين الله، وأحضر إلى الملك العزيز بالقاهرة، فقيل له : " أنت تدعي أنك الخليفة ؟ " قال : " نعم " . فقيل له : " أين كنت في هذه المدة ؟ " فذكر أن أمه أخرجته من القصر فتاه ، ووصل إلى طنبذة فاختفى بها، ثم خرج إلى مصر، فأواه رجل وشرع يتحدث له في الخلافة، وأنه وقع بعدة بلاد وأقطع أناسا ممن بايعه ، فسجن . وعثر على بعض أقارب الوزير شاور، وقد ثار بالقاهرة ، فسجن هو وجماعته.
وفيها انعقد ارتفاع الديوان الخاص السلطاني على ثلاثمائة ألف وأربعة وخمسين ألف دينار وأربعمائة وأربعة وأربعين دينارا .
ومات فيها جمال الملك موسى بن المأمون البطائحي جامع السيرة المأمونية وهوبقية بيته في سادس عشر جمادى الأولى بالقاهرة.
وفيها وقع الشروع في حفر الخندق من باب الفتوح إلى المقس .
وكتب بنقل جماعة من أتباع الدولة الفاطمية المحبوسين في الإيوان ودار المظفر ليلا،بحيث لا يشعر بهم أحد، حتى يوصلهم المكلف بذلك إلى صرخد.
وفيها كتب بإخلاء مدينة تنيس ، ونقل أهلها إلى دمياط ، وقطع أشجار بساتين دمياط وإخراج النساء منها. فخلت تنيس إلا من المقاتلة، وحفر خندق دمياط وعمل جسر عند سلسلة البرج بها.
وفيها كثرت الأراجيف بالقاهرة ومصر، وعظمت الشناعات ، وارتفعت الأسعار.
وفيها ورد الخبر في كتاب من اليمن بأن ثلاثة أنهار بالحبشة تغيرت بعدما كانت عذبة، فصار أحدها أجاجا، والآخر لبنا، والآخر دما .(1/24)
وفيها مات قلج ارسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان صاحب قونية، وقد تغلب عليه ابنه قطب الدين " صاحب سيواس وأقصرا " وزاد في أن حجر عليه . وكان موته في شعبان، فولى تونية بعده ابنه غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان ، وبقيت أخوته على ولاياتهم من عهد أبيهم ، فاختلفوا، وثار عليه أخوه ركن الدين سليمان صاحب ووقاط وملك سيواس وأقصرا وقيسارية وهي أعمال أخيه قطب الدين ثم ملك قونية من غياث الدين ، ففر غياث الدين ونزل حلب .
سنة تسع وثمانين وخمسمائة
أهلت : والسلطان بدمشق ، فخرج العادل إلى الكرك ، وقدم من اليمن الملك المعز إسماعيل ابن سيف الإسلام ظهير الدين طغتكين في نصف صفر، فسربه السلطان .
فلما كانت ليلة السبت سادس عشره : نزل بالسلطان مرض ، فأمر يوم السبت ولده الفضل أن يجلس على الطعام ، فجلس في مرضع السلطان. وتزايد به المرض إلى اليوم الحادي عشر من مرضه ، فحلف الأفضل الناس ، واستمر السلطان في تزايد من المرض إلى ليلة الأربعاء سابع عشري صفر " وهى ليلة الثاني عشر من المرض " فاحتضر ومات بعد صلاة الصبح من يوم الأربعاء المذكور. فركب الأفضل ، ودار في الأسواق ، وطيب قلوب العامة.
وكان رحمه الله كثير التواضع ، قريبا من الناس ، كثير الاحتمال ، شديد المداراة، محبا للفقهاء وأهل الدين والخير محسنا إليهم ، مائلا إلى الفضائل ،يستحسن الشعر الجيد ويردده في مجلسه . ومدحه كثير من الشعراء، وانتجعوه من البلدان . وكان شديد التمسك بالشريعة، سمع الحديث من أبي الحسن علي بن إبراهيم بن المسلم بن بنت أبي سعد، وأبي محمد بن بري النحوي، وأبي الفتح محمود بن أحمد الصابوني، وأبي الطاهر السلفي، وابن عوف ، وجماعة غيرهم . وكان كريما: أطلق من الخيل بمرج عكا لمن معه اثني عشر ألف رأس ، سوى أثمان الخيل التي أصيبت في الجهاد. و لم يكن له فرس يركبه إلا وهو موهوب أو موعود به ، وصاحبه ملازم في طلبه ، وتأخر عنه الأمير أيوب بن كنان في بعض سفراته لدين لزمه ، فتقبل لغرمائه باثني عشر ألف دينار مصرية. وكان ورعا، رأى يوما العماد الكاتب يكتب من دواة محلاة بالفضة فأنكرها، وقال هذا حرام ، فلم يعد يكتب منها عنده . وكان لا يصلى إلا في جماعة، وله إمام راتب ملازم ، وكان يصلي قبيل الصبح ركعات إذا استيقظ ، وكان يسوي في المحاكمة بين أكبر الناس وبين خصمه . وكان شجاعا في الحروب ، يمر في الصفوف وليس معه سوى صبي . وقرىء ، عليه جزء من الحديث بين الصفين ، وهو على ظهر فرسه ، وكان ذاكرا لوقائع العرب وعجائب الدنيا، ومجلسه طاهر من المعايب، رحمه الله وغفر له .
ولما مات جلس الأفضل للعزاء، وكثر بكاء الناس عليه . وغسله الفقيه خطيب دمشق ، أخرج بعد صلاة الظهر، وصلى الناس عليه أرسالا، ودفن بداره التي مرض فيها بالقلعة، ثم نقل في يوم عاشوراء سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة إلى تربة بنيت له بجوار جامع بني أمية . وكتب بوفاته إلى العزيز بمصر، وإلى العادل بالكرك . وكان عمره يوم مات نحوا من سبع وخمسين سنة، منها مدة ملكه بعد موت العاضد اثنتان وعشرون سنة وأيام . وترك من الأولاد سبعة عشر ذكرا وبنتا واحدة صغيرة، ولم يخلف في خزائنه سوى سبعة وأربعين درهما، و لم يترك دارا ولا عقارا. وكان القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني صاحب سره ، وبمنزلة الوزير منه .
وفيها قتل طغرل بن أرسلان بن طغرل بن السلطان محمد بن ملك شاه بن ألب أرسلان بن جغري بك داود بن ميكائيل بن سلجوق في رابع عشري شهر ربيع الأول ، وهو أخر من ملك بلاد العجم من السلاطين السلجوقية، وابتداء دولتهم في سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، وأولهم طغرلبك بن ميكائيل بن سلجوق ، فتكون مدة دولتهم مائة سنة وثمانيا وخمسين سنة.(1/25)
السلطان الملك العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ، ولد بالقاهرة في ثامن جمادى الأولى سنة سبع وستين وخمسمائة، ومات أبوه بدمشق وهو على سلطنة ديار مصر مقيم بالقاهرة، وعنده جل العساكر والأمراء من الأسدية والصلاحية والأكراد . فلما بلغه موت أبيه جلس للعزاء وأخذ بالحزم ، وقرر أمور دولته ،وخلع على الأمراء وأرباب الدولة يعد انقضاء العزاء. فقام أخوه الأفضل نور الدين علي بدمشق ، وكتب إلى الخليفة الناصر يطالعه بوفاة أبيه ، من إنشاء العماد الكاتب . وبعث بذلك مع القاضي ضياء الدين أبي الفضائل القاسم بن يحيى بن عبد ا لله الشهرزوري، ومعه عدد والده وملابسه وخيله ، وهدية نفيسة. وسار العادل من الكرك إلى بلاد المشرق ، فأقام بقلعة جعبر وبعث نوابه إلى حران والرها، واستوزر الأفضل الوزير ضياء الدين نصر ا لله بن محمد بن الأئير، وفوض إليه أموره كلها، فحسن له إبعاد أمراء أبيه وأكابر أصحابه ، وأن يستجد أمراء غيرهم ، ففارقه جماعة منهم الأمر فخر الدين جهاركس، وفارس الدين ميمون القصري، وشمس الدين سنقر الكبير، وكانوا عظماء الدولة، فصاروا إلى الملك العزيز بالقاهرة فأكرمهم ، وولى فخر الدين أستاداره، وفوض إليه أمره ، وجعل فارس الدين وشمس الدين على صيداء وأعمالها، وكان ذلك لهما، وزادهما نابلس وبلادها، وسار القاضي الفاضل أيضا من دمشق ولحق بالقاهرة، فخرج العزيز إلى لقائه وأجل قدومه وأكرمه ، فشرع القوم في تقرير قواعد ملك العزيز والأفضل في شغل عنهم ، وكانت مدينة القدس مضافة للأفضل ، فكتب إلى أخيه العزيز يرغب عنها له . وكان ذلك من تدبير وزيره ابن الأثير، لأنها كانت تحتاج حينئذ إلى أموال ورجال لمدافعة الفرنج، فسر العزيز بذلك ، وجهز عشرة آلاف دينار إلى عز الدين جرديك النوري متولي القدس ، لينفقها في عسكر القدس ، فخطب له به . وخشي العزيز من نقض الهدنه بينه وبن الفرنج ، فبعث عسكرا إلى القدس احترازا من الفرنج . ثم بدا للأفضل أن يعود فيما رغب عنه لأخيه من القدس ، ورجع عن ذلك ، فتغير العزيز من هذا، وأخذ الأمراء في الإغراء بينهما، وحسنوا للعزيز الاستبداد بالملك والقيام مقام أبيه ، فبلغ ذلك الأفضل .
سنة تسعين و خمسمائة(1/26)
ودخلت سنة تسعين : وقد تنافرت القلوب ، وقويت الوحشة بين الأخوين ، واجتمعت الأمراء الصلاحية على أن يكون الأمر كله للعزيز، فاضطربت أحوال الأفضل . وخرج العزيز من القاهرة بعساكر مصر، من الصلاحية والأسدية والأكراد وغيرهم ، يريد الشام وانتزاعها من أخيه الأفضل ، من أجل أمور منها أن جبيل " وهو من جملة الفتوح الصلاحية " كان مع رجل كردي فقيه أقامه صلاح الدين مستحفظا بها، فأرغبه الفرنج بمال حتى سلمه لهم . وخرج الأفضل من دمشق ليستنقذه من الفرثج ، فتعذر عليه ، وظهر العجز عن استخلاصه ، فامتعض الأمراء لذلك ، وخوفوا العزيز من عاقبة أمر الفرنج ، فسار في صفر واستخلف أخاه الملك المؤيد نجم الدين مسعود، وترك بالقاهرة بهاء الدين قراقوش الأسدي وصيرم وسيف الدين يازكج وخطلج في تسعمائة فارس . واتفق أن الأمير صارم الدين قايماز النجمي " أحد أكابر الأمراء الصلاحية " استوحش من الأفضل لإعراضه عنه ، فخرج من دمشق يريد إقطاعه ، ولحق بالعزيز فأكرمه ورفع محله . وهم الأفضل بمراسلة أخيه العزيز واستعطافه ، فمنعه من ذلك وزيره ابن الأثير وعدة من أصحابه ، وحسنوا له محاربته ، فمال إليهم . وبعث إلى عمه العادل وهو بالشرق ، وإلى أخيه الظاهر بحلب ، وإلى المنصور بحماة، وإلى الأمجد صاحب بعلبك وإلى المجاهد شيركوه صاحب حمص ، يستنجدهم على أخيه العزيز. فوردت رسلهم في جمادى الآخرة، يعدون بالقدوم عليه . ثم إنه برز من دمشق ، ونزل برأس الماء. فلما وصل العزيز إلى القصير من الغور ضاق الأفضل ، ورجع من الفوار إلى رأس الماء، فأدركت مقدمة العزيز ساقته ، وكادوا يكبسونه فانهزم إلى دمشق ، ودخلها لخمس مضين منه . ونزل العزيز في غده على دمشق في قوة قوية، ونازل البلد. وكان الأفضل قد استعد لقتاله ، فقدم العادل والظاهر والمنصور والمجاهد والأمجد إلى دمشق . وبعث العادل إلى ابن أخيه الملك العزيز يشفع في الأفضل ، ويستأذنه في الاجتماع به ، فأذن له . وخرج العادل فاجتمع بالعزيز " وكل منهما راكب " وتحدث معه في الصلح ، وأن ينفس الخناق عن البلد، وكان قد اشتد الحصار، وقطعت الأنهار، ونهبت الثمار، والوقت زمن المشمش. فوافق العزيز عمه ، وتأخر إلى داريا ونزل على العوج ، وسير الأمير فخر الدين جهاركس الأستادار " وهو يومئذ أجل الصلاحية " إلى العادل ، فقرر الصلح على شروط ، وعاد إلى العزيز. فرحل ونزل مرج الصفر فحدث له مرض شديد، وأرجف بموته ، ثم أبل منه . وأمر بعمل نسخة اليمن ، وهى جامعة لمقترحات جميع الملوك ، وحسم مواد الخلاف ، وأن الملك الأمجد بهرام شاه بن عز الدين فرخشاه ، والملك المجاهد شيركوه ، يكونان مؤازرين للملك الأفضل وتابعين له ، وأن الملك المنصور صاحب حماة يكون في حيز الملك الظاهر صاحب حلب ومؤزرا له . وبعث كل من الملوك أميرا من أمرائه ليحضر الحلف ، فاجتمعوا يوم السبت ثاني عشر شهر رجب ، وجرت أمور آلت إلى الحلف على دخن .
وتزوج العزيز بابنة عمه العادل ، وقبل العقد عنه القاضي المرتضى محمد بن القاضي الجليس عبد العزيز السعدي. ووكل العادل القاضي محيي الدين محمد بن شرف الدين بن عصرون في تزويج ابنته من ابن عمها الملك العزيز، وعقد بينهما قاضي القضاة محيي الدين. وكتب العماد الكاتب الكتاب في ثوب أطلس ، وقرئ بين يدي الملك الظاهر، وعقد العقد عنده.
فلما كان يوم الجمعة أول شعبان : خرج الملك الظاهر غازي صاحب حلب لوداع أخيه ، فركب العزيز إلى لقائه وأنزله معه ، وأكلا ثم تفرقا، بعد ما أهدى كل منهما لأخيه هدية سنية. ثم خرج العادل لوداع العزيز في خواصه ، ثم خرج الأفضل فودعه أيضا، وهو آخر من ودعه . ورحل العزيز من مرج الصفر في ثالث شعبان يريد مصر، فلما كان ثالث عشره عمل الأفضل دعوة عظيمة لعمه وبقية الملوك ووادعهم ، ثم رحلوا من الغد إلى بلادهم إلا العادل ، فإنه أقام إلى تاسع شهر رمضان ، ثم رحل إلى بلاده بالشرق .(1/27)
وقدم العزيز إلى القاهرة في يوم وأما الأفضل فإنه هم بمكاتبة العزيز بما يؤكد أسباب الصلح ، فأماله عن ذلك خواصه ، وأغروه بأخيه ، ورموا جماعة من أمرائه بأنهم يكاتبون العزيز، فاستوحش منهم ، وفطنوا بذلك فتفرقوا عنه . وسار الأمير عز الدين أسامة صاحب كوكب وعجلون عن الأفضل ، ولحق بالعزيز فأكرمه غاية الإكرام ، وأخذ يحرضه على الفضل ، ويحثه على المسير إلى دمشق وانتزاعها منه ، ويقول له : إن الأفضل قد غلب على اختياره ، وحكم عليه وزيره الضياء ابن الأثير الجزري، وقد افسد أحوال دولته برأيه الفاسد، ويحمل أخاك على مقاطعتك ، ويحسن له نقض اليمن ، فإن من شرطها صفو الوداد وصحة النية، ولم يوجد ذلك ، فحنثهم في اليمين قد تحقق، وبرئت أنت من العهدة، فاقصد البلاد فإنها في يدك ، قبل أن يحصل في الدولة من الفساد ما لا يمكن تلافيه " ، وبينا هو في ذلك إذ فارق الأفضل الأمير شمس الدين أيدمر بن السلار، وصل إلى العزيز، فساعد الأمر أسامة على قصده ، ثم وصل أيضا إلى العزيز القاضي محيي الدين أبو حامد محمد بن الشيخ شرف الدين عبد الله بن هبة الله بق أبي عصرون ، فاحترمه وولاه قضاء الديار المصرية، وضم إليه نظر الأوقاف .
وأقبل الأفضل بدمشق على اللعب ليله ونهاره ، وتظاهر بلذاته، وفوض الأمور إلى وزيره ، ثم ترك اللعب من غير سبب ، وتاب وأزال المنكرات وأراق الخمور، وأقبل على العبادة، ولبس الخشن من الثياب ، وشرع في نسخ مصحف بخطه ، واتخذ لنفسه مسجدا يخلو فيه بعبادة ربه ، وواظب على الصيام ، وجالس الفقراء، وبالغ في التقشف ، حتى صار يصوم النهار ويقوم الليل .
وأما العزيز فإنه قطع خبز الفقيه الكمال الكردي من مصر، فأفسد جماعة على السلطان ، وخرج إلى العرب فجمع ونهب الإسكندرية ، فسار إليه العسكر فلم يظفروا به . وقطع العزيز أيضا خبز الجناح وعلكان ومجد الدين الفقيه وعز الدين صهر الفقيه ، فساروا من القاهرة إلى دمشق ، فأقطعهم الملك الأفضل الإقطاعات .
وفي شهر رمضان : كسر بحر أبي المنجا بعد عيد الصليب بسبعة أيام ، وتجاهر الناس فيه بالمنكرات من غير نكر عليهم .
وفيه وقعت الآفة في البقر والجمال والحمير، مهلك منها كثير.
وفيه كثر حمل الغلة من البحيرة إلى بلاد المغرب ، لشدة الغلاء بها، وكثرت بين الأمراء إشاعة أن إقطاعاتهم تؤخذ منهم ، فقصروا في عمارة البلاد. وارتفع السعر بالإسكندرية، ونقص ماء النيل بعدما بلغ اثنين وعشرين إصبعا من سبعة عشر ذراعا، فرفعت الأسعار، وشرقت البلاد، وبلغ القمح كل أردب بدينار، وأخذ في الزيادة وتعذر وجود الخبز، وضج الناس ، وكثرت المنكرات ، وغلا سعر العنب لكثرة من يعصره . وأقيمت طاحون لطحن الحشيش بالمحمودية، وحميت بيوت المزر، وجعل عليها ضرائب ، فمنها ما كان عليه في اليوم ستة عشر دينارا، ومنع من عمل المزر البيوتي، وتجاهر الكافة بكل قبيح ، فترقب أهل المعرفة حلول البلاء.
وفيها قدم رسول متملك القسطنطينية يطلب صليب الصلبوت، فأحضر من القدس، وكان مرصعا بالجوهر، وسلم إليه على أن يعاد ثغر جبيل من الفرنج . وتوجه الأمير شمس الدين جعفر بن شمس الخلافة بذلك .
تتمة سنة تسعين وخمسمائة
في يوم الخميس رابع محرم : عقد مجلس بحضرة السلطان ، حضره أصحاب الدواوين.
وفي عاشره : قدم الأمير حسام الدين ببشارة من عند الملك العادل وبقية الأولاد الناصرية، فتلقاه السلطان والأمراء، وحمل إليه سماط السلطنة، فطلب الموافقة بين الأهل .
وفي سادس عشره : ركب السلطان للصيد بالجيزة، ومر بباب زويلة، فأنكر بروز مصاطب الحوانيت في الأسواق ، ورسم بهدمها، فهدمت بمباشرة محتسب القاهرة . ومر بصناعة العمائر، فرسم بسد طلقات الدور المجاورة للنيل فسدت .
وفي صفر: غيرت ولاة الأعمال .
وفي عاشره : حلف العزيز لعمه العادل .
وفي ثالث عشريه :عاد العزيز من الصيد بالجيزة .
وفي هذا الشهر: غلت الأسعار، فبلغ كل مائة أردب ثمانين دينارا.
وفي خامس عشره : قدم فارس الدين ميمون القصري مقطع صيداء، وسيف الدين سنقر المشطوب ، وشمس الدين سنقر الكبير مقطع الشقيف ، مفارقين الملك الأفضل ، فدفع العزيز لميمون خمسمائة دينار، ولسنقر أربعمائة دينار، وللمشطوب ثلاثمائة دينار .(1/28)
وفي ربيع الأول : اشتد الأمر في للزحام على الخبز لقلته في الأسواق ، ووقع الحريق في عدة مراضع بالقاهرة.
وفي عاشره : أخرجت خيمة السلطان للسفر.
وفي ثالث عشره: انحل السعر قليلا، ووجد الخبز في الأسواق .
وفي نصفه : ورد كتاب علم الدين قيصر بأنه تسلم القدس من جرديك في تاسعه ، وتسلم صليب الصلبوت ، وقرر أيضا إعادة جبيل من الفرنج .
وفي سادس عشره : قدم بدر الدين لؤلؤ بكتاب الأفضل بخبر جبيل ، وسبب قدوم ميمون ورفيقيه .
وفيه نزع السعر، وبلغ كل مائة أردب إلى مائة وخمسة وسبعين دينارا، وعظم ضجيج الناس من الجوع .
وفي سابع عشريه: وصل صليب الصلبوت من القدس ، وهو خشبة مرصعة بجواهر في ذهب.
وفي ثامن عشريه : ولى زين الدين علي بن يوسف الدمشقي قضاء القضاة بديار مصر، عوضا عن صدر الدين بن درباس ، بعناية جماعة من المماليك به ، وخلع عليه .
وفي سلخه : قدم رسول الملك العادل .
وفي تاسع ربيع الآخر: هدم المحتسب حوانيت وإصطبلا كان صدر الدين بن درباس أنشأها في زيادة الجامع الأزهر بجوار داره ، ورفع صدر الدين نقض ذلك إلى داره .
وقوي عزم السلطان على السفر، وبعث بهرام يقترض له مالا من تجار الإسكندرية، وطلب من قاضي القضاة زين الدين أن يقرضه مال الأيتام ، وكان يبلغ أربعة عشر ألف دينار، فحملت إلى الخزانة. وكنب السلطان خطه بذلك وأشهد عليه ، وأحال به على بيت المال ، وقرر استخراجه منه وأمر بحمله إلى القاضي . هذا وقد تأخر القرض الذي كان السلطان صلاح الدين أقرضه في نوبة عكا، وهو ثلاثون ألف دينار، فلم يوف منه إلا يسيرا .
وفي سادس عشره : توجه جعفر بن شمس الخلافة إلى الفرنج لإعادة جبيل .
وفي يوم الخميس تاسع عشره : خرج السلطان إلى مخيمه ببركة الجب ، واستناب في غيبته بهاء الدين قراقوش ، ومعه ثلاثة عشر أميرا، ونحو سبعمائة فارس . وتوجه مع السلطان سبعة وعشرون أميرا، في ألفي فارس وألف من الحلقة.
وفي ثالث جمادى الأولى : استقل السلطان بالمسير، ونزل على دمشق في تاسع جمادى الآخرة، ورحل عنها في ثامن عشريه بشفاعة عمه الملك العادل .
وفي تاسع رجب : دخل الأفضل دمشق ، بعد أن تقرر الصلح بينه وبن أخيه الملك العزيز في سادسه .
وفي رابع شعبان : دقت البشائر بالقاهرة، فرحا بالصلح بين الأولاد الناصرية، وزينت الأسواق.
وفيه انحط السعر.
وقدم السلطان الملك العزيز إلى القاهرة سلخ شعبان .
وفي سابع رمضان: وصل الملك المعظم توران شاه وإخوته وعيالهم من دمشق ، والديوان في ضائقة شديدة، فعجزوا عن إقامة وظائفهم ومطابخهم وجراياتهم ، فنزلوا في الدار العزيزية . ونزعت الأسعار في المأكولات كلها .
وفي تاسع عشره : وصل عز الدين أسامة مفارقا للأفضل .
سنة إحدى وتسعين وخمسمائة
ودخلت سنة إحدى وتسعين ، والعزيز على عزم المسير إلى الشام ، فاستشار الأفضل أصحابه، فمنهم من أشار عليه بمكاتبة العزيز واسترضائه ، وأشار الوزير ابن الأثير عليه بالاعتصار بعمه العادل ، واستنجاده على العزيز، فأصغى إليه ، وكثرت الإشاعة بقصد العزيز إقامة الخطبة في دمشق باسمه ، وضرب السكة له . فانزعج الأفضل ، وخرج من دمشق في رابع عشر جمادى الأولى، وسار جريدة إلى عمه العادل ، فلقيه بصفين ، فلما نزلا ألحف الأفضل في المسألة له أن ينزل عنده بدمشق ، ليجيره من أخيه العزيز، فأجابه وأنزله بقلعة جعبر، ثم سار معه إلى دمشق أول جمادى الآخرة، فوصل إليها في تاسعه ، ودخل الأفضل إلى حلب على البرية، مستصرخا بأخيه الملك الظاهر، فتلقاه وحلف له على مساعدته ، ثم رحل عنه إلى حماة، فتلقاه ابن عمه الملك المنصور محمد ابن المظفر، وحلف له ، ثم سار عنه إلى دمشق ، فدخلها في ثالث عشره وبها العادل ، فأفضى إليه بأسراره . وعلم العادل اختلال أحوال الأفضل ، وسوء تدبيره وقبيح سيرته ، فانحرف عنه ونهاه فلم ينته إلا أنه مبالغ في كرامة عمه ، حتى أنه ترك له السنجق . وصار العادل يركب بالسنجق السلطاني في كل يوم، ويركب الأفضل في خدمته .(1/29)
فما هو إلا أن استقر ذلك إذ حدث بين الظاهر صاحب حلب وبين أخيه الأفضل وعمه العادل وحشة، من أجل ميل الملك المنصور صاحب حماة إلى العادل . فسير الظاهر إلى أخيه العزيز يحرضه على قصد الشام ، ووعده بالمساعدة له على الأفضل ، فوافق ذلك غرضه ، وخرج من القاهرة بعساكره .
فلما قارب العزيز دمشق كاتب الملك العادل الأمراء سرا واستمالهم ، وكان الأمراء الصلاحية قد وقع بينهم وبين الأمراء الأسدية تنافس ، لتقديم العزيز الصلاحية على الأسدية. فعملت حيل العادل حتى وقعت الوحشة بين الطائفتين ، ونفرت الأسدية من الملك العزيز. وكاتب العادل العزيز سرا يخوفه من الأسدية، ويحثه على إبعادهم عنه ، وكاتب الأسدية، يخوفهم من العزيز ويستميلهم إليه . فحاق ما مكره وتم له ما دبره ، وعزموا على مفارقة العزيز، وحسنوا للأكراد والمهرانية موافقتهم ، فانقادوا إليهم . وكان مقدم أمراء الأكراد الأمير حسام الدين أبو الهيجاء السمين ، فاجتمع بالأكراد مع الأسدية، واتفقوا بأجمعهم على مفارقة العزيز والانضمام إلى العادل والأفضل ، ومضايقة العزيز وعقدوا النية على مكاتبة من بقي منهم بمصر، أن يستقبلوا العزيز ويحولوا بينه وبين القاهرة، فيصير بذلك بين الفريقين، ويؤخذ باليد.
فلما كان في عشية الرابع من شوال : رحل الأمير أبو الهيجاء بالأكراد والمهرانية والأسدية، وهم لابسون لامة الحرب ، ولحقوا بالعادل فسر بهم ، لأنهم معظم الجيش . فلما أصبح نهار الخامس من شوال رحل العزيز يريد مصر، وهو متخوف من الأسدية المقيمين بالقاهرة . وكان نائبه بها الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي، فلم يتغير على العزيز، ووصل إلى القاهرة فاستقر بها.ثم إن العادل خرج بالأفضل من دمشق ، ومعه العساكر يريد اخذ القاهرة، لما داخله من الطمع في العزيز، واتفق مع الأفضل على أن يكون للعادل ثلث البلاد المصرية، ويكون ثلثاها للأفضل . فأجابه إلى ذلك ورحلا من دمشق ، وخرج معهم أيضا المنصور صاحب حماة، وعز الدين بن المقدم وسابق الدين عثمان بن الداية صاحب شيزر واستخلف الأفضل بدمشق أخاه الملك الظافر خضر صاحب بصرى وانضم إليهم عز الدين جرديك النوري نائب القدس ، فلما وصلوا تل العجول ، أخلع الأفضل على جميع الأسدية، وعلى الأكراد الأفضلية، وأعطاهم الكوسات . وسار الأفضل إلى القدس، وتسلمه من جرديك ، وأعطاه بيسان وكوكب والجولان والمنيحة ثم سار العسكر حتى نزل على بلبيس ، وبها، جموع الصلاحية والعزيزية، ومقدمهم فخر الدين جهاركس على الصلاحية، والأمير هكدري ابن يعلي الحميدي على طائفة الأكراد، فنازلهم العادل والأفضل.(1/30)
وكانت أيام زيادة ماء النيل ، والأسعار غالية والعلف متعذر، فبلغ العسكر الواصل الجهد، وندم أكابرهم على ما كان منهم ، هذا والعزيز يمد أهل بلبيس بالمراكب المشحونة بالرجال والعدد، فبلغ ذلك الأسدية، فركبوا إلى المراكب ، وأخذوا بعضها وغرقوا بعضها، وأسروا خلقا، وسلم ثمانية مراكب عادت إلى القاهرة، واشتد الحصارعلى بلبيس حتى كادت تؤخذ، وضاق العزيز بالقاهرة، وقلت الأموال عنده ، وكان محببا إلى الرعية، لما فيه من حسن السيرة، وكثرة الكرم والرفق ، فلما نازل العادل والأفضل بلبيس احتاج إلى استخدام الرجال ، فلم يجد عنده مالا، فبذل له الأغنياء جملة أموال ، فلم يقبلها، وكان القاضي قد تنزه عن ملابسة الدولة ومخالطة أهلها، واعتزل لما رأى من اختلال الأحوال ، وكان عبد الكريم بن علي البيساني يتولى الحكم والإشراف في البحيرة مدة طويلة، فحصل من ذلك مالا جما. ثم حدثت بينه وبين أخيه القاضي الفاضل مشاجرة اقتضت اتضاع حاله عند الناس بعد احترامهم إياه ، فصرف عن عمله . وكان متزوجا بامرأة موسرة من بنى ميسر، فسكن بها في ثغر الإسكندرية، وأساء عشرتها، لسوء خلق كان فيه ، فسار أبرها إلى الإسكندرية، وأثبت عند قاضيها ضرر ابنته ، فمضى القاضي بنفسه إلى الدار، فلم يقدر على فتح الباب الذي من داخله المرأة، فأمر بنقب الدار، وأخرج المرأة وسلمها لأبيها وأعاد بناء النقب ، فغضب عبد الكريم وسار إلى القاهرة، وبذل للأمير فخر الدين جهاركس خمسة آلاف دينار مصرية، ووعد خزانة الملك العزيز بأربعين ألف دينار على ولاية قضاء الإسكندرية، وحمل ذلك بأجمعه إلى فخر الدين جهاركس . فأحضره جهاركس إلى العزيز، وهو حينئذ في غاية الضرورة إلى المال ، وقال: " هذه خزانة مال قد أتيتك بها من غير طلب ولا تعب " ، وعرفه الخبر. فأطرق العزيز مليا، ثم رفع رأسه وقال : " أعد المال إلى صاحبه ، وقل له إياك والعود إلى مثلها، فما كل ملك يكون عادلا، وعرفه أني إذا قبلت هذا منه أكون قد بعت به أهل الإسكندرية، وهذا لا افعله أبدا " . فلما سمع هذا جهاركس وجم ، وظهر في وجهه التغير. فقال له العزيز: " أراك واجما، أظنك أخذت على الوساطة شيئا " . قال : " نعم خمسة آلاف دينار " . فأطرق العزيز، ثم قال : " أعطاك مالا تنتفع به ، وأنا أعطيك في قبالته ما تنتفع به مرات عديدة " ، ثم وقع له بخطه إطلاق جهة طنبدة، ومغلها في السنة سبعة آلاف دينار، فلامه أصحابه وألحوا عليه في الاقتراض من القاضي الفاضل ، فاستدعاه إلى مجلسه ، بمنظرة من دار الوزارة كانت تشرف على الطريق ، فعندما عاين القاضي الفاضل استحيا منه ، ومضى إلى دار الحرم ، احتراما له من مخاطبته في القرض ، فلم يزل الأمراء به حتى أخرجوه من عند الحرم . فلما اجتمع بالفاضل قال له ، بعد أن أطنب في الثناء عليه : " قد علمت أن الأمور قد ضاقت علي، وقلت الأموال عندي، وليس لي إلا حسن نظرك ، وإصلاح الأمر إما بمالك أو برأيك أو بنفسك " . فقال القاضي الفاضل : " جميع ما أنا فيه من نعمتكم ، ونحن نقدم أولا الرأي والحيلة، ومتى احتيج إلى المال فهو في يديك " .
واتفق أن العادل " لما اشتد على أصحابه الغلاء والضيق " استدعى القاضي الفاضل برسول قدم منه على العزيز، فسيره إليه . وقد قيل إن العزيز لما جرى على المراكب التي جهزها إلى بلبيس ما جرى، خاف على الملك أن يخرج من يده ، فسير إلى عمه في السر يعرفه أنه قد أخطأ، وأنه قد عزم على اللحاق ببلاد المغرب ، ويسأله الاحتفاظ بحرمه وأولاده . فرق له العادل ، واستدعى القاضي الفاضل ، فلما قرب منه ركب إلى لقائه وأكرمه ، ومازالا حتى تقرر الأمر على أن الأسدية والأكراد يرجعون إلى خدمة العزيز، من غير أن يؤاخذهم بشيء، ويرد عليهم إقطاعاتهم ، ويحلف العزيز لهم ويحلفون له ، وأن يكون العادل مقيما بمصر عند العزيز، ليقرر قواعد ملكه ، وأن العزيز والأفضل يصطلحان ، ويستقر كل منهما على ما بيده. فعاد القاضي الفاضل ، وقد تقرر الأمر على ما ذكر، وحلف كل منهم لصاحبه على الوفاء.(1/31)
وخرج العزيز من القاهرة إلى بلبيس ، فالتقاه عمه العادل وأخوه الأفضل ، ووقع الصلح التام في الظاهر. ورحل الأفضل يريد الشام ، ومعه الأمير أبو الهيجاء السمين ، وصار الساحل جميعه مع الأفضل ، وعاد العزيز إلى القاهرة، وصحبته عمه العادل ، فأنزله في القصر من القاهرة . وأخذ العادل في إصلاح أمور مصر، والنظر في ضياعها ورباعها، وأظهر من محبة العزيز شيئا زائدا، وصار إليه الأمر والنهي والحكم والتصرف في سائر أمور الدولة، جليلها وحقيرها، وصرف القاضي محيي الدين محمد بن أبي عصرون عن قضاء مصر، وولى زين الدين أبو الحسن علي بن يوسف بن عبد الله بن بندار الدمشقي .
وفيها جدد العزيز الصلح بينه وبين الفرنج .
وفيها ورد كتاب ملك الروم ، يتضمن أن كلمة الروم اجتمعت عليه ، وأنه أحسن إلى المسلمين وأمرهم بإقامة الجامع ، فأقيمت الصلاة فيه يوم الجمعة الصلاة مع الخطبة، وأنه عمر جانبا منه كان انهدم من ماله ، فتمكن من في القسطنطينية من المسلمين من إقامة الجمعة والجماعة بها. والتمس ملك الروم الوصية بالبطرك والنصارى، وأن يمكنوا من إخراج موتاهم بالشمع الموقد، وإظهار شعائرهم بكنائسهم ، وأن يفرج عن أسارى الروم بمصر .
وفيها عزل زين الدين علي بن يوسف بن بندار عن القضاء، في حادي عشر جمادى الأولى، بمحيي الدين أبي حامد محمد بن عبد الله بن هبة الله بن عصرون .
سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة
وأهلت سنة اثنتين وتسعين : ففي أولها : وصل الملك الأفضل إلى دمشق ، وتفرقت العساكر إلى بلادها، ولزم الأفضل الزهد، وأقبل على العبادة، وصارت أمور الدولة بأسرها مفوضة إلى وزيره ضياء الدين ابن الأثر، فاختلت به الأحوال غاية الاختلال ، وكثر شاكوه . وضبط العادل أمور مملكة مصر، وغير الإقطاعات، ووفر الارتفاعات وعمال الأعمال ، وثمر الأموال ، وقرب إلى العزيز الأمير عز الدين أسامة، فصار صاحب سره وحاجبه ، والواسطة بينه وبين عمه . واختص الأمير صارم الدين قايماز النجمي بالعادل ، وصار صفوته .
وفي يوم السبت ثاني عشر المحرم : رفعت يد ابن أبي عصرون وأيدي نوابه من الحكم ، وأمر أن يعتزل في بيته ، وأن يخرج عن مصر، فأغلق بابه ، وشرع في تجهيز نفسه ، وتوسل في إقامته .
وفي سابع عشريه : خلع علي زين الدين علي بن يوسف بن بندار وأعيد إلى القضاء، عوضا عن ابن أبي عصرون .
وفي أول صفر: حبس الملك العزيز ناحية الخربة من المنوفية على زاوية الإمام الشافعي بالجامع العميق بمصر، وفرض تدريسها إلى البهاء بن الجميزي.
وفي صفر وشهر ربيع الأول : كثرت الطرحى من الأموات على الطرقات ، وزادت عدتهم بمصر والقاهرة في كل يوم عن مائتي نفس ، وبقي بمصر من لم يوجد من يكفنه ، وأكثرهم يموت جوعا .
وانتهى القمح إلى مائة وثمانين دينارا المائة أردب ، والخبز إلى ثلاثة أرطال بدرهم ، وعمد الضعفاء إلى شراء الجرار، وغدوا إلى البحر وترددوا إليه ، ليستقوا منه في الجرار، ويبيعوها بثمن درهم الجرة، وقد لا يجدون من يشتريها منهم ، فيصيحون : " من يتصدق علينا بثمن هذه الجرة، ومن يشتريها منا بكسرة ؟ " . وزاد السعر، وضاق الخناق ، وهلك الضعفاء، وفشا الموت، وأكثره في الجياع . وصارت الأقفاص التي يحمل فيها الطعام يحمل فيها الأموات ، ولا يقدر على النعوش إلا بالنوبة، وامتدت الأيدي إلى خطف ألواح الخبز " ويضرب من ينهب ، ويشج رأسه ، ويسال دمه ، ولا ينتهي ولا يرمي ما في يده مما خطفه ، وعدم القمح إلا من جهة الشريف ابن ثعلب ، فإن مراكبه تتواصل وتبيع بشونه .
وورد الخبر في تاسع صفر بأن تابوت الملك الناصر صلاح الدين نقل في يوم عاشوراء، من قلعة دمشق إلى تربة عملت له ، فكان يوما مشهودا.(1/32)
وفي تاسع عشريه : قدم الملك الزاهر داود مجير الدين صاحب البيرة، وسابق الدين عثمان صاحب شيرز، وبهاء الدين بن شداد قاضي حلب ، فخرج العادل لتلقيهم ببركة الجب ، وقدم العماد الكاتب أيضا. وورد الخبر بأن عربان الغرب هبطوا إلى البحيرة، واشتروا القمح كل ويبة بدينار، وأن بلاد الغرب قد عدمت فيها الأقوات في السنة الخالية، وانقطعت عنها الأمطار السنة الحاضرة، وزاد الجراد بالشام ، وعظم خطبه ، وكثرت بمصر والقاهرة الأمراض الحادة والحميات المحرقة ، وزادت وأفرطت . وغلت الأشربة والسكر وعقاقير العطار، وبيعت بطيخة بأربعة وعشرين درهما، وصار لفروج لا يقدر عليه ، وانتهى سعر القمح إلى مائتي دينار كل مائة أردب ، وغلظ الأمر في الغلاء، وعدم القوت ، وكثر السؤال ، وكثرت الموتى بالجوع . وخطف الخبز متى ظهر، وشوهد من يستف التراب ، ومن يأكل الزبل .
وازدحم الناس على الطير الذي يرمى من مطابخ السكر. وكثرت الأموات أيضا بالإسكندرية، وتزايد وجود الطرحى بها على الطرقات ، وعدمت المواساة، وعظم هلاك الأغنياء والفقراء وانكشاف الأحوال وشوهد من يبحث المزابل القديمة على قشور الترمس ، وعلى نقاضات الموائد وكناسات الآدر، ومن يقفل بابه ويموت ، ومن عمي من الجوع ويقف على الحوانيت ويقول : أشموني رائحة الخبز. واستخدم رجل في ديوان الزكاة، وكتب خطه بمبلغ اثنين وخمسين ألف دينار، لسنة واحدة من مال الزكاة، وجعل الطواشي ببهاء الدين قراقوش الشاد في هذا المال ، وألا يتصرف فيه ، وأن يكون في صندوق مودعا للمهمات التي يؤمر بها. ووقع لابن ثعلب الشريف الجعفري بخبز مبلغه في السنة ستون ألف دينار، ودفع له كوس وعلم . وآل الأمر إلى وقوف وظيفة الدار العزيزية عليه من لحم وخبز، وإلى أن يتمحل في بعض الأوقات لا كلها، لبعض ما يتبلغ به أهلها من خبز، وكثر ضجيجهم وشكواهم ، فلم يسمع .
وفي شهر ربيع الآخر : صرف صارم الدين خطلج الغزي عن شد الأموال بالدواوين ، وسلم الشد إلى بهاء الدين قراقوش ، مضافا إلى شد الزكوات ، فكمل شد المال له .
وفيه كثر الموت ، بحيث لم تبق دار إلا وفيها جنازة أو مناحة أو مريض ، واشتد الأمر، وغلت العقاقير، وعدم الطبيب ، وصار من يوجد من الأطباء لا يخلص إليه من شدة الزحام ، وصار أمر الموتى أكئر أشغال الأحياء، وما ينقضي يوم إلا عن عدة جنائز من كل حارة. وعدم من يحفر، وإذا وجد لم يعمق الحفر، فلا يلبث الميت أن تظهر له رائحة وصارت الجبانات لا يستطاع مقالتها، ولا زيارة قبورها، وأخذت الأسعار في الانحلال .
وفي جمادى الأولى : تواترت الأخبار باختلال الحال بدمشق ، فوقع العزم على المسير إلى الشام ، ووقع الشروع في الإنفاق في الحاشية، فقبضوا شهرا واحدا، وكان قد استحق لهم أربعة عشر شهرا، فإن المادة قصرت عن نفقة ذلك لهم ، فأحيل بعضهم على جهات . وامتنع الجاندارية من قبض شهر، وأنهى ذلك إلى العزيز، فكتب إلى خطلبا بإخراجهم إلى المخيم ، ومن تقاعد عن الخروج قيده الطواشي قراقوش، واستخدمه في السور، فخرجوا بأنفس غير طيبة، وألسنة بالشكوى معلنة، وكاد المال الذي أنفق في الحاشية قد افترض من الأمراء، وأحيل به على الجوالي لسنة ثلاث وتسعين ، وخرج العزيز إلى المخيم ، وحرك الأمراء تحريكا قويا، وسير الحجات إلى البلاد تحت الأجناد، فتتابع خروج الناس ، ووقع الرحيل من بركة الجب في ثامنه ، فرحل السلطان العادل والعزيز، وجميع الأسدية والمماليك . وفشت الأمراض الحادة، فما ينقضي وقت إلا عن عدد كثير من الجنائز. وغلت الأدوية، وبلغ الفروج إلى ثلاثين درهما، والبطيخة إلى مائة درهم . وورد الخبر بأن قوص وأعمالها فيها أمراض فاشية، وأموات لا تتلاحق . وكثر الوباء والموت بالإسكندرية .
وفي آخره : انحلت الأسعار، ونزلت الغلة إلى ثمانين دينارا كل مائة أردب ، وأبيع الخبز سبعة أرطال بدرهم . وقل السؤال ، وارتفع الموتان ، بعد أن جلب من قو ص فراريج أبيع كل عشرة فراريج بسبعة دنانير، وهذا لم يسمع بمثله في مصر قبل ذلك . وفيه نودي في القاهرة ومصر بأن الشريف ابن ثعلب مقدم على الحاج ، فليتجهز أرباب النيات .(1/33)
وفي جمادى الآخرة : وقف الحال فيما ينفق في دار السلطان ، وفيما يصرف إلى عياله ، وفيما يقتات به أولاده ، وأفضى الأمر إلى أن يؤخذ من الأسواق ما لا يوزن له ثمن ، وما يغصب من أربابه ، وأفض هذا إلى غلاء أسعار المأكولات ، فإن المتعيشين من أرباب الدكاكين يزيدون في الأسعار العامة بقدر ما يؤخذ منهم للسلطان ، فاقتضى ذلك النظر في المكاسب الخبيثة. وضمن باب المزر والخمر باثني عشر ألف دينار، وفسح في إظهاره وبيعه في القاعات والحوانيت ، و لم يقدر أحد على إنكار ذلك ، وصار ما يؤخذ من هذا النيحت ينفق في طعام السلطان وما يحتاج إليه ، وصار مال الثغور والجوالي إلى من لا يبالي من أين أخذ المال .
وفيه وصل العادل والعزيز إلى الداروم وأمر بإخراب حصنها، فقسم على الأمراء والجاندارية فشق على الناس تجريبه ، لما كان به من الرفق للمسافرين ، وانتهى الملكان إلى دمشق " وقد استعد الأفضل للحرب في أول شهر رجب " فحاصراها إلى أن ملكاها في العشرين منه ، بعد عدة حروب ، خان الأفضل فيها أمراءه، فلما أخذ المدينة نزل الأفضل من القلعة إليهما، فاستحيا العادل منه ، لأنه هو الذي حمل العزيز على ذلك ، ليوطيء لنفسه ، كما يأتي . وأمره العادل أن يعود إلى القلعة، فلم يزل بها أربعة أيام ، حتى بعث إليه العزيز أيبك فطيس أمير جاندار، وصارم الدين خطلج الأستادار، فأخرجاه عياله وعيال أبيه .
وأنزل الأفضل في مكان ، وأوفي ما كان عليه من دين ، وما للحواشي من الجوامك .فبلغ ذلك نيفا وعشرين ألف دينار، بيع فيها بركه وجماله وبغاله وكتبه ومماليكه وسائر ماله ، فلم توف بما عليه ، وقسا عليه أخوه وعمه لسوء حظه ، ثم بعث إليه عمه العادل يأمره أن يسير إلى صرخد، فلم يجد عنده من يسير بأهله ، حتى بعث إليه جمال الدين محاسن عشرة أوصلوه إلى صرخد. وأخذت من الملك الظافر مظفر الدين خضر بصرى وأعطيت للملك العادل ، وأمر الظافر أن يسير إلى حلب ، فلحق بأخيه الظاهر صاحبها. ويقال إن العادل كان قد قرر مع الملك العزيز " وهو بالقاهرة " أن الملك العزيز إذا غلب أخاه الأفضل على دمشق وأخذها منه أن يقيم بها ويعود العادل إلى مصر نائبا عن العزيز فلما ملك العزيز دمشق ، وأخرجه أخاه الأفضل منها، انكشفت له مستورات مكائد عمه ، فندم على ما قرره معه ، وبعث إلى أخيه الأفضل سرا يعتذر إليه ، ويقول له : لا تنزل عن ملك دمشق . فظن الأفضل هنا من أخيه خديعة، وأعلم عمه العادل به ، فقامت قيامته ، وعتب على العزيز وأنبه . فأنكر العزيز أن يكون صدر هذا منه ، وحنق على أخيه الأفضل ، وأخرجه إلى صرخد على قبح صورة. واختفى الوزير ضياء الدين ابن الأثير الجزري خوفا من القتل ، ثم لحق بالموصل . واستقر الأمر بدمشق للعزيز في رابع عشر شعبان ، فأظهر العدل ، وأبطل عدة مكوس ، ومنع من استخدام أهل الذمة في شيء من الخدم السلطانية، وألزموا لبس الغيار، ثم رحل عنها ليلة التاسع منه يريد القاهرة، واستخلف عمه العادل على دمشق ، وسار إلى القدس ، فملكها من أبي الهيحاء السمين وسلمها إلى الأمير شمس الدين سنقر الكبير، وسار أبو الهيجاء إلى بغداد. ووصل العزيز إلى القاهرة يوم الخميس رابع شهر رمضان ، فصارت دمشق وأعمالها إقطاعا للملك العادل ، وليس للعزيز بها سوى الخطبة والسكة فقط .
وفي ثامن عشره : ركب العزيز إلى مقياس مصر وخلقه ، ونودي فيه بزيادة ثلاثة أصابع من الذراع السابعة عشرة .
وفي العشرين منه : فتح سد الخليج ، فركب العزيز لذلك ، وكثر المتفرجون وازدحم الغوغاء، وحملوا العصي وتراجموا بالحجارة، وقلعت أعين ، وخطفت مناديل . وكانت العادة جارية بأن يوقر شهر رمضان من اعتصار الخمر، وألا يجهر بشراء العنب والجرار، ولا يحدث نفسه أحد بفسخ الحرمة وهتك الستر.
وفي هذا الشهر: غلا سعر الأعناب لكثرة العصير منها، وتظاهر به أربابه لتحكير تضمينه السلطاني، واستيفاء رسمه بأيد مستخدميه ، وبلغ ضمانه سبعة عشر ألف دينار، وحصل منه شيء حمل إلى العزيز فصنع به آلات الشرب .
وفيه كثر اجتماع النساء والرجال على الخليج " لما فتح " وعلى ساحل مصر، وتلوث النيل بمعاصي قبيحة . واستمر جلوس العزيز للمظالم في يومي الاثنين والخميس .(1/34)
وفي ثاني شوال : كان النوروز، فجرى الأمر فيه على العادة من رش الماء ، واستجد فيه التراجم بالبيض والتصافع بالأنطاع. وتوالت زيادة النيل، فأفحش الناس في إظهار المنكرات ، و لم ينههم أحد .
وفيه و قفت وجوه المال ، وانقطعت جباية الديوان بمصر ، وأحيل على الجهات بأضعاف ما فيها، وبقيت وجوه قصرت الأيدي عن استخراجها، وانتمى العاملون إلى من حماهم ، فلم يجسر صاحب الديوان على ذكر من بحميهم ، فضلا عن أخذ الحق منهم ، ورفع يده عن حماية من حماه . وآل الأمر إلى أن صار ما يقام برسم طوارئ السلطان وراتب داره من ضمان الخمر والمزر.
وكانت هذه سنة ما تقدمها أفحش منها، ولا علم أن همة من الهمم القاصرة انحطت إلى مثلها.
وفي رابع عشره : خرج الشريف ابن ثعلب سائرا بالحاج ، وخيم على سقاية ريدان وكثر القتل بالقاهرة بأيدي السكارى، وأعلن المنكر بها، فلم تنسلخ ليلة إلا عن جراح وقتل بين المعربدين . وكثر ذلك حتى خطفت الأمتعة والمآكل من الأسواق ، نهارا نادرا وليلا راتبا .
واستقرت المظالم للطواشي قراقوش ، يجلس فيها بظاهر الدار السلطانية، وحماية الديوان وشد الأموال لفخرالدين جهاركس ، مع انقباضه عنها، وأستادارية الدار لصارم الدين خطلج .
وفي تاسع عشره : كسر بحر أبي المنجا، وباشر العزيز كسره ، وزاد النيل فيه إصبعا، وهي الإصبع الثامنة عشرة، من ثماني عشرة ذراعا، وهذا الحد يسمى عند أهل مصر اللجة الكبرى.
وفي ثاني عشريه : رحل الحاج ، وتجدد ما كان قد درس ذكره ونسي حكمه في مصر، منذ عهد الخليفة الحافظ لدين الله من سنة أربعين وخمسمائة، من الرفايع التي كان القبط يختلقونها، ويتوصلون بها إلى المصادرات ، وخراب البيوت ، وعمارة الحبوس ، وإساءة السمعة عن سلطان الوقت ، فأجمع ابن وهيب وكاتب نصراني وغيرهما على أوراق عملت ، وانتدب الأسعد بن مماتي والشاد للكشف والرفع إلى فخر الدين جهاركس .
وفي ذي القعدة :كثر وثوب السكارى بمن يلقونه ليلا، وضربهم إياه بالسكاكين،فلا تخلو ليلة من قتيل أو قتيلين ، ولم يؤخذ لأحد بثأر، ولا وقع كشف عن مقتول منهم ، ولا تمكن والي القاهرة من منعهم . ووجد في الخليج ستة نفر قتلى مربطين ، فلم يسأل عنهم ، ولا وقع إنكار لأمرهم .
وفي ذي الحجة : عزم العزيز على نقض الأهرام ، ونقل حجارتها إلى سور دمياط ، فقيل له إن المؤنة تعظم في هدمها، والفائدة تقل من حجرها. فانتقل رأيه من الهرمين إلى الهرم الصغير " وهو مبني بالحجارة الصوان " فشرع في هدمه .
وفيه سار العزيز إلى الإسكندرية، واستخلف بالقاهرة بهاء الدين قراقوش ، وفخر الدين جهاركس .
وتوفي في هذه السنة القاضي الأشرف أبو المكارم الحسن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن الحباب قاضي الإسكندرية، وولى عوضه الفقيه أبو القاسم شرف الدين عبد الرحمن بن سلامة في سابع عشري شوال . ومولد بن الحباب سنة سبع وثلاثين وخمسمائة، وأقام حاكما بالإسكندرية ثمانيا وعشرين سنة . وكان كريم النفس صحيح المودة، وطالت مدته في الحكم بالإسكندرية، من سنة أربع وستين إلى أن مات بها في ثالث جمادى الآخرة .
وفي خامس ذي الحجة : مات القاضي الرشيد ابن سناء الملك . قال القاضي الفاضل فيه : " ونعم الصاحب الذي لا تخلفه الأيام ، ولا يعرف له نظير من الأقوام : أمانة سمينة، وعقيدة ود متينة، ومحاسن ليست بواحدة، ومساع في نفع المعارف جاهدة. وكان حافظا لكتاب الله، مشتغلا بالعلوم الأدبية، كثير الصدقات ، نفعه الله، والأعمال الصالحات ، عرفه الله بركاتها " .
وفيها حج بالناس الشرفي ابن ثعلب ، وخرجت المراكب الحربية من مصر، فظفروا ببطس للفرنج ، وفيها أموال فغنموها.
وفيها بنى الأمير فخر الدين جهاركس قيساريته بالقاهرة.
وفيها زلزلت مصر. ومات العلم عبد الله بن علي بن عثمان بن يوسف المخزومي، يوم الجمعة حادي عشر جمادى الأولى، ومولده في شهر رمضان سنة تسع وأربعين وخمسمائة وقد قرأ علي بن بري، وله شعر.
سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة(1/35)
ودخلت سنة ثلاث وتسعين ، وفيها أقيمت الخطبة للعزيز بحلب ، وضربت السكة باسمه ، بصلح وقع بين العزيز وبن أخيه الظاهر وقد تولاه القاضي بهاء الدين أبو المحاسن بن شداد، وغرس الدين قلج ، قدما من حلب إلى العزيز بالقاهرة بهدايا، فانعقد الصلح بين الأخوين على ذلك .
وعادا إلى الظاهر، فخطب للعزيز في شهر ربيع الأول وضربت السكة باسمه .
وفيه تحرك الفرنج على بلاد الإسلام ، فخرج العادل من دمشق ، وسير جيشا إلى بيروت لهدم ربضها.
وفيها مات الملك العزيز ظهير الدين سيف الإسلام طغتكين بن نجم الدين أيوب ملك اليمن في شوال ، وقام من بعده بمملكة اليمن المعز ابنه الملك فتح الدين أبو الفداء إسماعيل .
وفيها فتح الملك العادل صاحب دمشق يافا عنوة، وغنم وأسر كثيرا، يقال إنهم سبعة آلاف نفس ، ما بين ذكر وأنثى .
وفيها سار العادل من يافا إلى صيداء وبيروت فأخربهما، ونهبت بيروت ، وفر من كان بها. وبعث العادل إلى الملك العزيز يستنجده ، فسير إليه عسكرا خرج من القاهرة أول شوال ، وسار إلى بلبيس . ثم بدا للعزيز أمر ففرق العسكر ولم يسر.
سنة أربع وتسعين وخمسمائة
ودخلت سنة أربع وتسعين ، فانتشر من وصل في البحر من الفرنج ببلاد الساحل ، وملكوا قلعة بيروت ، وقتلوا عدة من المسلمين في أطراف بلاد القدس ، وأسروا وغنموا شيئا كثيرا، فبعث الملك العادل إلى القاهرة يطلب من العزيز نجدة، فسارت إليه العساكر من مصر، ومن القدس وغيرها. ثم خرج الملك العزيز بنفسه ، ومعه سائر عساكر مصر لقتال الفرنج ، فنزل على الرملة في سادس عشري صفر، وقدم الصلاحية والأسدية، وعليهم الأمير شمس الدين سنقر الدوادار، وسرا سنقر وعلاء الدين شقير، وعدة من الأكراد، فلحقوا العادل وهو على تبنين . وسار العزيز في أثرهم ، فكانت بينهم وبين الفرنج وقائع شهيرة، آلت إلى رحيل الفرنج إلى صور، وركب العادل والعزيز أقفيتهم ، فقتلوا منهم . وترك العزيز العساكر عند العادل ، ورجع إلى القاهرة في ثامن جمادى الآخرة، قبل انفصال الحال مع الفرنج ، من أجل أن ميمون القصري، وأسامة وسرا سنقر، والحجاف ، وابن المشطوب ، كانوا قد عزموا على قتله فلما بلغه ذلك رحل إلى القاهرة فخرج الناس إلى لقائه ، وكان يوما مشهودا.
ووقعت الهدنة بين العادل وبين الفرنج سنة ثلاث سنين ، وعاد العادل إلى دمشق .
وفي رجب : تجدد للعادل والعزيز رأي في تخريب عسقلان ، وتعفية جدرانها وهدم بنيانها. فندب من القدس جماعة لتغليقها وحط أبرجة سورها، فتلفت مدينة لا مثل لها، وثغر لا نظير له في الثغور، وعمارة لا تخلف الأيام ما تلف بها، لعجز الملوك عن ممانعة الفرنج بالسلاح ، واضطرارهم إلى هدم المدن وتعفية رسومها.
وفي شعبان : ركب قاضي القضاة صدر الدين بن درباس لرقبة الهلال وكلف الشهود ما بين شمعتي كل شاهد إلى شمعة. فخرجوا بالشموع ، وقد كثر الجمع والشمع ، واحتفل الموكب ، وثقلت على الشهود الوطأة .
وفيه أمر الملك العزيز بمنع البناء في المواضع التي كان الأمراء قد شرعوا في بنائها على النيل ، واستولوا فيها على الساحل ، فخرج الجاندارية وألزموا كل من حفر أساسا بردمه ، فامتثل الأمر .
وفي شهر رمضان : أمر العزيز بقطع أشجار بستان البغدادية تجاه قصر اللؤلؤة وجعله ميدانا.
وفيه كثر التظاهر بعصير العنب واستباحة الحرمان ، وعدم المنكر لهذا الأمر، فغلا العنب حتى بلغ أربعة أرطال بدرهم.
وفيه قصر مد النيل ، وارتفعت الأسعار، وعدمت الأرزاق من جانب الديوان ، وتعذرت وجوه المال حتى عم المرتزقة الحرمات . واستبيح ما كان محظورا من فتح أبواب التأويلات ، وأخذ ما بأيدي الناس بالمصادرات : فاخذ خط شخص يعرف بابن خالد بمبلغ ألف دينار، وصودر جماعة آخرون وصار الإنفاق في السماط السلطاني في هذه الوجوه .
وفي يوم عيد الفطر: أقيمت سنة العيد بظاهر البلد، وحضر العزيز الصلاة والخطبة، وعم الأمراء وأرباب العمائم بخلعه ، وقدم سماط توسعت الهمة فيه .
وفي ثالث عشره : وفي النيل ستة عشر ذراعا، فركب العزيز في سادس عشره لتخليق المقياس ، وفتح الخليج في ثامن عشره ، وتظاهر الناس في هذه الأيام بالمنكرات من غير منكر.
وفي ثالث عشريه : كان النوروز، فجرى الرسم في لعبه على العادة .(1/36)
وفي يوم السبت سابع عشر ذي القعدة : قتل ابن مرزوق بالقاهرة ، قتله ابن المنوفي قاضي بلبيس غيلة، بدار سكنها بالفهادين ، وحفر له فيها ودفنه ، ومملوكا صغيرا معه ، وبلط فوقه ، وجعل عليه شعيرا، فشنق ابن المنوفي، بعدما طيف به على جمل مصر والقاهرة .
وفي هده السنة : توجه العادل من دمشق إلى مدينة ماردين ، ونازلها واخذ ربضها. وفيها خرج الملك الكامل محمد بن العادل من حران، وقاتل عسكر المواصلة.
وفيها أغار الفرنج ، ونهبوا وأسروا خلقا، وانتهوا إلى عكا. فعاد العادل إلى دمشق في رمضان ، ثم خرج بعد شهر إلى الشرق يريد ماردين .
وفيها ادعى معز الدين إسماعيل بن سيف الإسلام طغتكين ملك اليمن الإلهية نصف نهار، وكتب كتابا وأرخه من مقر الإلهية . ثم رجع عن ذلك ، وادعى الخلافة، وزعم أنه من بني أمية، ودعا لنفسه في سائر مملكته بالخلافة، وقطع الدعاء من الخطبة لبني العباس ، ولبس ثيابا خضرا وعمائم خضرا مذهبة، وأكره من كان في مملكته من أهل الذمة على الإسلام ، وخطب بنفسه ، وعزم على قصد مكة، وجهز من بنى له بها دارا، فأسرهم الشريف أبو عزيز قتادة.
سنة خمس وتسعين وخمسمائة
ودخلت سنة خمس وتسعن وخمسمائة والعادل مضايق مدينة ماردين، والمعز صاحب اليمن قد تجهز يريد مكة، والعزيز صاحب مصر قد سار إلى الإسكندرية ، من آخر ذي الحجة. فتصيد العزيز إلى سابع المحرم، وركض خلف ذئب فسقط عن فرسه ثم ركب وقد حم، فدخل القاهرة يوم عاشوراء فلم يزل لما به حتى مات، منتصف ليلة السابع والعشرين منه، ودفن بجوار قبر الشافعي، رحمة الله عليه. وكان عمره سبعاً وعشرين سنة وأشهراً، ومدة ملكه ست سنين تنقص شهراً وستة أيام.
وكان ملكاً كريماً، عادلاً رحيماً، حسن الأخلاق شجاعاً، سريع الانقياد مفرط السخاء. سمع الحديث من السلفي، وابن عوف، وابن برى، وحدث. وكانت الرعية تحبه محبة كثيرة، وكان يعطى العشرة آلاف دينار، ويعمل سماطاً عظيماً يجمع الناس لأكله، فإذا جلسوا للأكل كره منهم أكله، ولا يطيب له ذلك، وهذا من غرائب الأخلاق.
وفيها عظمت الفتنة في عسكر غياث الدين محمد بن بهاء الدين سام ملك الغورية، وسببها أن الإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي الفقيه الشافعي المشهور، كان قد بالغ غياث الدين في إكرامه، وبنى له مدرسة بقرب جامع هراة، ومعظم أهلها كرامية. فاجمعوا على مناظرته، وتجمعوا عند غياث الدين معه، وكبيرهم القاضي مجد الدين عبد المجيد بن عمر بن القدوة. فتكلم الإمام فخر الدين مع ابن القدوة، واستطال عليه وبالغ في شتمه، وهو لا يزجو على أن يقول : لا يفعل مولانا لا أخذك الله استغفر الله. فغضب الملك ضياء الدين له، ونسب الإمام الرازي إلى الزندقة ومذهب الفلاسفة. وقام من الغد ابن عمر بن القدوة بالجامع، وقال في خطبته. " ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول، فاكتبنا مع الشاهدين " . أيها الناس إنا لا نقول إلا ما صح عندنا عن رسول الله، وأما علم أرسطو، وكفريات ابن سينا، وفلسفة الفارابي، فلا نعلمها.
فلأي حال يشتم بالأمس شيخ من شيوخ الإسلام، يذب عن دين الله وسنة نبيه؟. وبكى وأبكى، فثار الناس من كل جانب، وامتلأت البلد فتنة، فسكتهم السلطان غياث الدين، وتقدم إلى الإمام فخر الدين بالعود إلى هراة، فخرج إليها، ثم فارق غياث الدين ملك الغورية مذهب الكرامية، وتقلد الشافعي رحمه الله.
السلطان الملك المنصور ناصر الدين
محمد ابن الملك العزيز عماد الدين عثمان ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، ولد بالقاهرة ........ جمادى الأولى، سنة خمس وثمانين وخمسمائة، ومات أبوه وعمره تسع سنين وأشهر. وقد أوصى له أبوه بالملك من بعده، وأن يكون مدبر أمره الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي. فأجلس على سرير الملك في غد وفاة أبيه، يوم الاثين حادي عشر المحرم، وجعل قراقوش أتابكاً. وحلف له الأمراء كلهم، ماخلا عماه الملك المؤيد نجم الدين مسعود والملك المعز، فانهما أرادا أن تكون الأتابكية لهما، وجرت منهما منازعة، ثم حلفا. ووقع الخلف بي أمراء الدولة، فطعن عدة منهم في قراقوش، بأنه مضطرب الرأي ضيق العطن، ولا يصلح لهذا الأمر، وتعصب جماعة معه، ورأوا أنه أطوع من غيره. وكثر النزاع في ذلك، وصاروا إلى القاضي الفاضل، ليأخذوا رأيه، فامتنع من المشورة عليهم، فزكوه.(1/37)
وأقاموا ثلاثة أيام يمحصون الرأي، حتى استقر على مكاتبة الملك الأفضل، ليحضر أتابكاً عوض قراقوش، بشرط ألا يرفع فوق رأسه السنجق، ولا يذكر له اسم في خطبة ولا سكة، وأن يدبر أمر الملك المنصور مدة سبع سنين، فإذا تم هذا الأجل سلم إليه الأمر والتدبير، وسيروا إليه القصاد بذلك، وأقيم الملك الظافر مظفر الدين خضر ابن السلطان صلاح الدين مباشر نيابة السلطنة، حتى يقدم الأفضل. فخرج الأفضل من صرخد لليلتين بقيتا من صفر، في تسعة عشرة نفساً، متنكراً، خوفاً من العادل.
وكان الأمير فخر الدين جهاركس - لما قرر أمراء مصر أمر الأفضل، وكتبوا إليه بالحضور - كره ذلك، وكتب إلى الأمير فارس الدين ميمون القصرى صاحب نابلس، ينهاه عن الموافقة على إقامة الأفضل. فوقع الأفضل على القاصد، وأخذ منه الكتاب، وعلم ما فيه، وقال له: ارجع فقد قضيت الحاجة، وسار الأفضل، ومعه ذلك القاصد، حتى وصل بلبيس، وقد خرج الأمراء إلى لقائه، في خامس شهر ربيع الآخر. فنزل في خيمة أخيه الملك المؤيد مسعود. وكان فخر الدين جهاركس يؤمل أنه ينزل في خيمته، فشق ذلك عليه من فعل الأفضل، ولم يجد بداً من المجىء إلى عنده، فأكرمه الأفضل. ثم لما فرغ الأفضل من طعام أخيه، صار إلى خيمة فخر الدين وأكل طعامه، فحانت من فخر الدين التفاتة، فرأى القاصد الذي بعثه إلى نابلس، فدهش وخاف من الأفضل، وأخذ يستأذنه في التوجه إلى العرب المخالفين ليصلح أمرهم، فأذن له. وللحال قام فخر الدين واجتمع بزين الدين قراجا وأسد الدين سراسنقر، وسار بهما مجداً إلى القدس، فإذا بشجاع الدين طغرل السلاح دار سائر إلى مصر، فألفتوه عن الأفضل، وساروا به إلى القدس، فاتفق معهم الأمر صارم الدين صالح نائب القدس، ووافقهم أيضاً الأمير عز الدين أسامة وميمون القصرى، وقدما إلى القدس، ومع ميمون سبعمائة فارس منتخبة، وكاتبوا الملك العادل، يستدعونه لأتابكية الملك المنصور.
وأما الأفضل فإنه سار من بلبيس إلى القاهرة، فخرج المنصور وتلقاه، في سابع ربيع الآخر وكانت مدته شهرين و.......وتحكم الأفضل. ولما استقرا بالقاهرة كتب الأفضل إلى عمه الملك العادل، يخبره بوصوله إلى مصر، حفظاً لدولة ابن أخيه، وأنه لا يخرج عما يأمره به، فورد جوابه بان العزيز إن كان مات عن وصية فلا يعدل عنها، وإن كان مات عن غير وصية، فيكتب الأعيان خطوطهم لك بذلك، حتى نرى الرأي. فاستولى الأفضل على أمر مصر كله و لم يبق للمنصور غير مجرد الاسم فقط. وعزم الأفضل على قبض من بقى من الأمراء الصلاحية. بمصر ففر منهم جماعة، ولحقوا بفخر الدين جهاركس بالقدس. وقبض الأفضل على جماعة : منهم الأمير علاء الدين شقير، والأمير عز الدين البكى الفارس، والأمير عز الدين أيبك فطيس، وخطلبا، ونهب أموالهم، ثم برز إلى بركة الجب، فأقام أربعة أشهر، وحلف بها الأمراء والأجناد، مبلغه عن أخيه الملك المؤيد مسعود أنه يريد الوثوب عليه، فقبضه وسجنه.(1/38)
وبعث الملك الظاهر غازي صاحب حلب إلى أخيه الأفضل يحثه على سرعة القدوم من مصر إلى دمشق، واغتنام الفرصة في أمرها والملك العادل غائب عنها في حصار ماردين. فقبض الصلاحية بالشام على القاصد، وأهانوه ثم أطلقوه، فسار إلى الأفضل، وبلغه رسالة أخيه الظاهر. فرحل الأفضل من بركة الجب ثالث شهر رجب، ومعه الملك المنصور، فأقام بالعباسة خمسة أيام. واستخلف على القاهرة سيف الدين يازكج الأسدي ثم سار إلى دمشق، فنزل عليها في ثالث عشر شعبان، وقد بلغ العادل خروجه من مصر، وهو على حصار ماردين، فرتب ابنه الكامل محمداً على حصارها، وسار في مائتي فارس إلى دمشق فقدمها في ثمانية أنفس، لكثرة ما أسرع في السير، قبل منازلة الأفضل لها بيومين وتلاحق به أصحابه وقدم الأفضل منزل الشرفين والميدان الأخضر، وهجم بعض أصحابه على البلد وأحرقوا، وصاحوا : يا أفضل يا منصور. فصاحت العامة معهم بذلك، لميلهم إلى الأفضل، فبرز إليهم العادل، وأخرجهم من البلد، وامتنع بها، ففر من أمراء الأفضل عدة، فتأخر حينئذ عن دمشق إلى نحو الكسوة. فدس العادل إلى جماعة ممن في صحبة الأفضل بكلام منه. إني أريد الرجوع إلى الشرق، وأترك الشام ومصر لأولاد أخي، ففندوا الأفضل عن الحرب. وبذل العادل لهم مالاً، فمشى ذلك من مكره عليهم، وخذلوا الأفضل، بأن أشاروا عليه بترك القتال حتى يقدم أخوه الظاهر من حلب. فأمسك الأفضل عن الحرب مدة، والعادل يكاتب الأمراء ويستميلهم شيئاً بعد شيء، وهم يأتونه فيبذل لهم المال، ويوسع عليهم، إلى أن قدم الظاهر من حلب في آخر شعبان، فقوى به الأفضل، ورحلا إلى مسجد القدم، وحاربا العادل وحاصراه، حتى غلت الأقوات بدمشق لشدة الحصار. فقدمت الصلاحية من القدس نصرة للعادل، فاشتد عضد العادل بقدومهم، وجهز إلى القدس من يمنع الميرة الواصلة من مصر إلى الأفضل، فوجدوا يازكج قد أخرج سبعمائة من عسكر مصر نجدة للأفضل، فقاتلوهم وكسروهم وغنموا ما معهم. وصارت أهل دمشق في جهد من الغلاء، واحتاج العادل إلى القرض، فأخذ مالاً من التجار. وقوي الزحف على البلد حتى أشرف على الأخذ، وهم العادل بالتسليم، فاتفق وقوع الخلف بين الظاهر وبن أخيه الأفضل.
سنة ست وتسعين وخمسمائة
وأهلت سنة ست وتسعين والأخوان على حصار عمهما العادل بدمشق، وقد خربت البساتين والدور، وقطعت الأنهار، وأحرقت الغلال، وقلت الأقوات. وعزم العادل على تسليم دمشق، لكثرة من فارقه وخرج عنه إلى الأفضل، فكتب إلى ابنه الكامل يستدعيه، وكتب إلى نائب قلعة جعبر أن يسلمه ما يستدعيه من المال، وكانت أموال العادل بها، فسار إليه الكامل في العسكر الذي معه، وأخذ من قلعة جعبر أربعمائة ألف دينار، وقدم على أبيه فقوي بقدومه قوة عظيمة، ووقع الوهن في عسكر الأفضل والظاهرة لكثرة من خامر منهم، ودس العادل مكيدة بين الأخوين، وهي أن الظاهر كان له مملوك يقال له أيبك وقد شغفه حباً، ففقده وظن أنه دخل دمشق فعلق، وبلغ ذلك العادل، فبعث إليه بكلام فيه : أن محمود بن الشكري أفسد مملوكك، وحمله إلى الفضل، فقبض الظاهر حينئذ على ابن الشكري، وظهر المملوك عنده، فما شك في صدق ما قاله عمه، ونفر من أخيه وأمتنع من لقائه، وكان البرد قد اشتد، فرحلا إلى الكسوة، وسار إلى مرج الصفر، ثم سارا إلى رأس الماء، فغلت الأسعار، وقوي البرد، فرحل الظاهر على القريتن، ورحل الأفضل بعساكره يريد مصر، وتركوا من أثقالهم ما عجزوا عن حمله فأحرقوه، وهلك لهم عدة مماليك ودواب، ودخل الأفضل إلى بلبيس في خامس عشرى شهر ربيع الأول، فأشير عليه بالإقامة بها.
وورد الخبر بأن العادل خرج من دمشق، ونزل تل العجول، وأنه كتب الإقامات للعربان، واستدعى الكنانية، فجمع الأفضل الأمراء، وركب ودار على سور بلبيس، وأمر قراقوش بحفظ قلعة الجبل، وأن يهتم بحفر ما بقي من سور مصر والقاهرة، وأنه يعمق الحفر حتى يصل إلى الصخر، ويجعل التراب داخل المدينة على حافة الحفر، ليكون مثل الباشورة، ويستعمل الأبقار فيه، ويعمل ذلك فيما بين البحر وقلعة المقس، حتى لا يبقى إلى البلد طريق إلا من أبوابها.(1/39)
وفي ثاني ربيع الآخر: نزل العادل قطية فهم الفضل بتحريق بلبيس، فنفرت القلوب منه، وقطع أرزاق المرتزقة من جانب السلطان، ومن الأحباس على مكة والمدينة والفقهاء وأرباب العمائم، ليغلق الذي للجند، فما سد المأخوذ، ولا انقطع الطلب من الأجناد، وثار الضجيج من المساكن. ووصل العادل فواقعه الأفضل، فانكسر منه وانهزم، فتبعهم العادل إلى بركة الجب، فخيم بها وأقام ثمانية أيام، ولحق الأفضل بالقاهرة، فدخلها يوم الثلاثاء سابع ربيع الآخر، وخامر جماعة عليه، وصاروا إلى العادل، وألجأت الضرورة الأفضل إلى مراسلة العادل، فطلب منه أن يعوضه عن ديار مصر بدمشق، فامتنع العادل، وقال : لا تحوجني أن أخرق ناموس القاهرة، وآخذها بالسيف، اذهب إلى صرخد، وأنت أمن على نفسك فلم يجد الأفضل بداً من التسليم، لتخاذل أصحابه عنه. فتسلم العادل القاهرة، ودخلها يوم السبت ثامن عشر ربيع الآخر، وخرج منها الفضل منهزماً في ذلك اليوم، وكان الوزير ضياء الدين ابن الأثير قد قدم إلى مصر، وتمكن من الأفضل فلما تسلم العادل القاهرة فر، ولحق بصرخد، وكانت مدة استيلاء الفضل على ديار مصر سنة واحدة وثمانية وثلاثين يوماً، وخرج إلى بلاد الشرق فأقام بدمياط، وكان مدة إقامته بالقاهرة لا يقدر أن يخلو بنفسه في ليل ولا نهار، وكان الأمراء قد حجروا عليه أن يخلو بأحد، وكانت الضرورة ملجئة إلى موافقتهم. وأقام العادل بالقاهرة على أتابكية الملك المنصور، وحلف له الأمراء على مساعدته، ليقوم بأتابكية المنصور إلى أن يتأهل للاستقلال بالقيام بأمور المملكة، فلم يستمر ذلك ......، فانتقض الأمر في الحادي والعشرين من شوال، وذلك أن الملك العادل احضر جماعة من الأمراء وقال لهم : إنه قبيح بي أن أكون أتابك صبي، مع الشيخوخة والتقدم، والملك ليس هو بالارث، وإنما هو لمن غلب، وأنه كان يجب أن أكون بعد أخي الملك الناصر صلاح الدين، غير أني تركت ذلك إكراماً لأخي، ورعاية لحقه، فلما كان من الاختلاف ما قد علمتم خفت أن يخرج الملك عن يدي ويد أولاد أخي، فسست الأمر إلى آخره، فما رأيت الحال ينصلح إلا بقيامي فيه، ونهوضي بأعبائه، فلما ملكت هذه البلاد، وطنت نفسي على أتابكية هذا الصبي، حتى يبلغ أشده، فرأيت العصبيات باقية، والفتن غير زائلة، فلم آمن أن يطرأ على ما طرأ على الملك الأفضل، ولا آمن أن يجتمع جماعة ويطلبون إقامة إنسان آخر، وما يعلم ما يكون عاقبة ذلك، والرأي أن يمضي هذا الصبي إلى الكتاب، وأقيم له من يؤدبه ويعلمه، فإذا تأهل وبلغ أشده نظرت في أمره، وقمت بمصالحه. هذا والأسدية كلهم مع العادل على هذا الرأي، فلم يجد من عداهم بداً من موافقته، فحلفوا له، وخلعوا المنصور في يوم الخميس، وخطب للعادل من الغد يوم الجمعة حادي عشرى شوال، فكانت سلطنة المنصور سنة واحدة وثمانية أشهر وعشرين يوماً.
السلطان سيف الدين أبو بكر بن أيوب
السلطان الملك العادل سيف الدين أبو بكر بن أيوب ولما حلف له الأمراء استولى على سلطنة مصر في حادي عشرى شوال، وخطب له بديار مصر وأرض الشام وحران والرها وميافارقن، واستحلف النلس بهذه البلاد، وضربت السكة باسمه واستدعى العادل ابنه الملك الكامل ناصر الدين محمداً، فحضر إلى القاهرة في يوم الخميس لثمان بقين من رمضان، ونصبه نائباً عنه بديار مصر، وجعل الأعمال الشرقية إقطاعه كما كانت إقطاعاً للعادل في أيام السلطان صلاح الدين، وجعله ولي عهده، وحلف له الأمراء.
وفيها أقيمت الخطبة للعادل بحماة وحلب، وضربت السكة باسمه.
وفيها توقفت زيادة النيل، فلم يجر إلا ثلاثة عشر ذراعاً تنقص ثلاثة أصابع، وشرق معظم أرض مصر فارتفعت الأسعار.
وفيها استناب العادل بدمشق ابنه الملك المعظم شرف الدين عيسى واستناب ببلاد الشرق ابنه الملك الفائز، وأقر بحلب ابن أخيه الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين، وبحماة الملك المنصور بن تقي الدين عمر.
وفيها أخرج الملك العادل ابن ابن أخيه الملك المنصور محمد بن العزيز عثمان بن صلاح الدين من مصر، ومعه إخوته وأخواته ووالدته فساروا إلى الشام، ثم سيرهم إلى الرها، فهربوا منها إلى حلب وبقي الملك المنصور. بمدينة الرها، حتى مات سنة عشرين وستمائة، وكان قد أصبح أميراً عند الظاهر صاحب حلب.
ومات في هذه السنة(1/40)
إبراهيم بن منصور بن المسلم أبو إسحاق المعروف بالعراقي، خطيب الجامع العتيق بمصر، في حادي عشرى جمادى الأولى، عن ست وثمانين سنة.
ومات القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي الحسن بن الحسن بن أحمد بن الفرج ابن أحمد اللخمي، العسقلاني مولداً، البيساني، أبو علي محيى الدين، فى سابع ربيع الآخر.
ومات الأثير ذو الرياستين أبو الطاهر محمد بن ذي الرياستين أبي الفضل محمد بن محمد بن بنان الأنباري في ليلة الثالث من ربيع الآخر، ومولده بالقاهرة سنة سبع وخمسمائة.
وفي هذه السنة: ولد بالقاهرة مولود له جسد واحد، ورأس فيه وجهان، فى كل وجه عينان وأذنان وأنف وحاجب.
وولد أيضاً بها مولود له غرة كغرة الفرس، ويداه ورجلاه محجلتان، وأليته ملمعة.
وولد بها أيضاً مولود أشيب الرأس ونعجة لها أربع أيادي، وأربع أرجل. ووجد في بطن نعجة ذبحت خروف صدره ووجهه صورة إنسان، وله أظافير الآدمي.
سنة سبع وتسعين وخمسمائه
فيها قبض الملك العادل على أولاد أخيه صلاح الدين وهما الملك المؤيد مسعود والملك المعز إسحاق، وسجنهما فى دار بهاء الدين قراقوش بالقاهرة، وتسلم الأمير فخر الدين جهاركس بانياس من الأمير حسام الدين بشارة بعد حصار وقتال.
وفيها حدثت الوحشة بين الملك العادل وبن الصلاحية من أجل أنه خلع المنصور ابن العزيز، وكتب الأمر فارس الدين ميمون القصرى من نابلس إلى العادل بإنكار خلع المنصور، فأجابه العادل جواباً خشناً، وتكررت المكاتبة بينهما غير مرة، فكتب ميمون إلى الصلاحية يغريهم بالعادل، فلم يجد فيهم نهضة للقيام، وفي أثناء ذلك حدثت وحشة بين الظاهر صاحب حلب وبين عمه العادل، وسير إليه وزيره علم الدين قيصر ونظام الدين، فمنعهما العادل أن يعبرا إلى القاهر، وأمرهما أن يقيما ببلبيس، ويحملا قاضي بلبيس ما معهما من الرسالة، فعادا مغضبين، واجتمعا. بميمون القصرى فى نابلس، ومازالا به حتى مال إلى الفضل وإلى أخيه الظاهر، فلما وصلا إلى حلب شق على الظاهر ما كان من عمه، وكاتب الصلاحية ورغبهم، وكاتب ميمون القصرى، وشرع الأفضل أيضاً فى مكاتبتهم وهو بصرخد، وانضوى إلى الأفضل الأمير عز الدين أسامة صاحب عجلون وكوكب، وصلت له، فبلغ ذلك العادل فتيقظ لنفسه، وكتب إلى ابنه المعظم صاحب دمشق. بمحاصرة الأفضل فى صرخد، فجمع وخرج من دمشق، فاستخلف الأفضل على صرخد أخاه الملك الظافر خضر، وسار إلى أخيه الظاهر بحلب فى عاشر جمادى الأولى، فنزل المعظم على بصرى، وكاتب فخر الدين جهاركس وميمون القصرى، يأمرهما بالمسير إليه لحصار صرخد، فلم يجيبا، وجمعا من يوافقهما، وصارا إلى الظافر بصرخد. وكتبوا إلى الظاهر بحلب يحثونه على الحركة وأخذ دمشق، فوافته الكتب وعنده الأفضل، فجمع الناس وعزم على المسير، ثم سار الظاهر، فلم يوافقه المنصور صاحب حماة، فحاصره مدة، ثم رحل عنه بغير طائل، فنازل دمشق ومعه الأفضل، وأتته الصلاحية هناك، فخرج العادل من القاهرة بعساكره، واستخلف على القاهرة ابنه الملك الكامل محمداً، وسار حتى نازل نابلس.(1/41)
وقدم العادل طائفة من العسكر، فساروا إلى دمشق، واستولوا عليها قبل نزول الأفضل والظاهر عليها، فقدما بعد ذلك، وضايقا دمشق فى رابع عشر ذي القعدة، واشتد القتال حتى كادا يأخذان البلد، فوقع بينهما الاختلاف. بمكيدة دبرها العادل، ففترت الهمة عن القتال، وذلك أن العادل كتب إلى كل من الأفضل وإلى الظاهر سراً، بأن : أخاك لا يريد دمشق إلا لنفسه، وقد اتفق معه العسكر فى الباطن على ذلك فانفعلا لهذا الخبر، وطلب كل منها من الآخر أن تكون دمشق له فامتنع، فبعث العادل فى السر إلى الأفضل يعده بالبلاد التي عينت له بالشرق، وهى رأس عين والخابور وميافارقن، وغير ذلك، وبذل له مع ذلك مالاً من مصر فى كل سنة.بمبلغ خمسين ألف دينار، فانخدع الأفضل وقال للأمراء الصلاحية ومن قدم إليه من الأجناد: لا إن كنتم جئتم إذ فقد أذنت لكم فى العود إلى الملك العادل، وإن كنتم جئتم إلى أخي فأنتم به أخبر. وكانوا يحبون الفضل من أجل أنه لين العريكة، فقالوا كلهم : لا نريد سواك، والعادل أحب إلينا من أخيك. فأذن لهم في العود إلى العادل، فسار إليه الأمير فخر الدين جهاركس، والأمير زين الدين قراجا، وعلاء الدين شقير، والحجاف، وسعد الدين بن علم الدين قيصر، فوقع الوهن والتقصير فى القتال بعدما كانوا قد أشفوا على أخذ دمشق وانقضت هذه السنة والأفضل والظاهر على منازلة دمشق.
وفيها تعذرت الأقوات بديار مصر، وتزايدت الأسعار، وعظم الغلاء حتى أكل الناس الميتات، وأكل بعضهم بعضاً، وتبع ذلك فناء عظيم، وابتدأ الغلاء من أول العام، فبلغ كل أردب قمح خمسة دنانير، وتمادى الحال ثلاث سنين متوالية، لا يمد النيل فيها إلا مداً يسيراً، حتى عدمت الأقوات، وخرج من مصر عالم كبير بأهليهم وأولادهم إلى الشام، فماتوا في الطرقات جوعاً. وشنع الموت في الأغنياء والفقراء، فبلغ من كفنه العادل من الأموات - في مدة يسيرة - نحواً من مائتي ألف إنسان وعشرين ألف إنسان، وأكلت الكلاب بأسرها، وأكل من الأطفال خلق كثير، فكان الصغير يشويه أبواه ويأكلانه بعد موته، وصار هذا الفعل لكثرته بحيث لا ينكر، ثم صار الناس يحتال بعضهم على بعض، ويؤخذ من قدر عليه فيؤكل، وإذا غلب القوي ضعيفاً ذبحه وأكله، وفقد كثير من الأطباء لكثرة من كان يستدعيهم إلى المرضى، فإذا صار الطبيب إلى داره ذبحه وأكله، واتفق أن شخصاً استدعى طبيباً، فخافه الطبيب وسار معه على تخوف، فصار ذلك الشخص يكثر فى طريقه من ذكر الله تعالى، ولا يكاد يمر بفقير إلا ويتصدق عليه، حتى وصلا إلى الدار، فإذا هي خربة. فارتاب الطبيب مما رأى، وبينا هو يريد الدخول اليها إذ خرج رجل من الخربة، وقال للشخص الذي قد أحضر الطيب: مع هذا البطء جئت لنا بصيد واحدة " . فارتاع الطبيب، وفر على وجهه هارباً. فلولا عناية الله به، وسرعة عدوه، لقبض عليه، وخلت مدينة القاهرة ومصر أكثر أهلها، وصار من يموت لا يجد من يواريه، فيصير عدة أشهر حتى يؤكل أو يبلى، واتفق أن النيل توقف عن الزيادة في سنة ست وتسعين، فخاف الناس، وقدم إلى القاهرة ومصر من أهل القرى خلق كثير، فلما حلت الشمس برج الحمل تحرك هواء أعقبه وباء، وكثر الجوع، وعدم القوت حتى أكلت صغار بنى آدم، فكان الأب يأكل ابنه مشوياً ومطبوخاً، وكذلك الأم، وظفر الحاكم منهم بجماعة، فعاقبوهم حتى أعياهم ذلك، وفشا الأمر: فكانت المرأة توجد وقد خبأت في عبها كتف الصغير أو فخذه، وكذلك الرجل، وكان بعضهم يدخل بيت جاره فيجد القدر على النار، فينتظرها حتى تنزل ليأكل منها، فإذا فيها لحم الأطفال، وأكثر ما كان يوجد ذلك فى أكابر البيوت، ويوجد النساء والرجال في الأسواق والطرقات، ومعهم لحوم الأطفال، واحرق في أقل من شهرين ثلاثون امرأة وجد معهن لحوم الأطفال، لم فشا ذلك حتى اتخذه الناس غذاء وعشاء وألفوه، وقل منعهم منه، فإنهم لم يجدوا شيئاً من القوت، لا الحبوب ولا الخضروات.(1/42)
فلما كان قبل أيام زيادة النيل - فى سنة ست وتسعين هذه - احترق الماء في برمودة، حتى صار فيما بين المقياس والجيزة بغير ماء، وتغير طعم الماء وريحه، وكان القاع ذراعين، وأخذ يزيد زيادة ضعيفة إلى سادس عشر مسرى، فزاد، إصبعاً، ثم وقف، ثم زاد زيادة قوية أكثرها ذراع حتى بلغ خمسة عشر ذراعاً وستة عشرة إصبعاً، ثم انحط من يومه فلم ينتفع به، وكان الناس قد فنوا بحيث بقي من أهل القرية الذين كانوا خمسمائة نفر إما نفران أو ثلاثة، فلم تجد الجسور من يقوم بها، ولا القرى من يعمل مصالحها، وعدمت الأبقار بحيث بيع الرأس بسبعين ديناراً، والهزيل بستين ديناراً. وجافت الطرقات بمصر والقاهرة وقراهما، ثم أكلت الدودة ما زرع، فلم يوجد من التقاوى ولا من العقر ما يمكن به رده.
ودخلت سنة سبع وتسعين وخمسمائة: والناس تأكل الأطفال، وقد صار أكلهم طبعاً وعادة، وضجر الحكام من تأديبهم، وأبيع القمح - إن وجد - بثمانية دنانير الأردب، والشعير والفول بستة دنانير، وعدم الدجاج من أرض مصر، فجلبه رجل من الشام، وباع كل فروج بمائة درهم، وكل بيضتين بدرهم. هذا وجميع الأفران إنما تقد بأخشاب المساكن، حتى دخلت سنة ثمان وتسعين، وكان كثير من المساتير يخرجون ليلاً، ويأخذون أخشاب الدور الخالية، ويبيعونها نهاراً، وكانت أزقة القاهرة ومصر لا يوجد بها إلا مساكن قليلة، ولم يبق بمصر عامر إلا شط النيل، وكانت أهل القرى تخرج للحرث فيموت الرجل وهو ماسك المحراث.
وفى هذه السنة: قدم غلام سنه نحو عشر سنين - من عرب الحوف بالشرقية - إلى القاهرة، أسمر حلو السمرة، على بطنه خطوط بيض ناصعة البياض، متساوية القسمة من أعلاه إلى أسفله، كأحسن ما يكون من الخطوط.
وفيها مات الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي، فى غرة شهر رجب بالقاهرة، ودفن بسفح المقطم.
سنة ثمان وتسعين وخمسمائة
في أول المحرم: رحل الأفضل والظاهر عن دمشق، فصار الظاهر إلى حلب ومعه جماعة من الأمراء الصلاحية، منهم فارس الدين ميمون القصرى، وسرا سنقر، والفارس البكى، فاقطعهم الاقطاعات وأكرمهم، وتوجه الأفضل إلى حمص، وبها أمه وأهله عند الملك المجاهد، وقدم العادل إلى دمشق، ونزل بالقلعة ثم سار منها إلى حماة، ونزل عليها بعساكره، فقام له الملك المنصور بجميع كلفه ونفقاته، وأظهر أنه يريد حلب، فخافه الظاهر واستعد للقائه، وراسل العادل وبعث إليه بهدايا جليلة ولاطفه، فانتظم الصلح بينهما على أن يكون للعادل مصر ودمشق والسواحل وبيت المقدس وجميع ما هو فى يده ويد أولاده من بلاد الشرق، وأن يكون للظاهر حلب وما معها، وللمنصور حماة وأعمالها، وللمجاهد حمص والرحبة وتسمر، وللأمجد بعلبك وأعمالها، وللأفضل سميساط وبلادها لا غير، وأن يكون الملك العادل سلطان البلاد جميعها، وحلفوا على ذلك. فخطب للعادل بحلب فى يوم الجمعة حادي عشر جمادى الآخرة، وأقطع الأفضل قلعة النجم مع سروج وسميساط، وجهز العادل ابنه الأشرف مظفر الدين موسى إلى الجزيرة، ليتسلم حران والرها وما معهما، ويستقر بالجزيرة ويستقر الأوحد أيوب أخوه فى ميفارقين وترتب بقلعة جعبر ابنه الحافظ نور الدين أرسلان. وأقر العادل ابنه الملك المعظم شرف الدين عيسى بدمشق، وعاد العادل من حماة إلى دمشق، وقد اتفقت كلمة بنى أيوب.(1/43)
وفيها قتل المعز إسماعيل بن سيف الإسلام ظهير الدين طغتكين بن نجم الدين أيوب، وذلك لما ملك اليمن - بعد أبيه - خرج عليه الشريف عبد الله الحسنى، ثم خرج عليه نحو ثمانمائة من ممالكيه، وحاربوه وامتنعوا منه بصنعاء، فكسرهم وجلاهم عنها، فادعى الربوبية، وأمر أن يكتب عنه ويكاتب بذلك، وكتب صدرت هذه المكاتبة من مقر الالهية. ثم خاف المعز إسماعيل من الناس، فادعى الخلافة وانتسب إلى بنى أمية، وجعل شعاره الخضرة، ولبس ثياب الخلافة، وعمل طول كل كم خمسة وعشرين شبراً في سعة ستة أشبار، وقطع من الخطبة الدعاء لبنى العباس، وخطب لنفسه على منابر اليمن، وخطب هو بنفسه يوم الجمعة، فلما بلغ ذلك عمه العادل سير بالإنكار عليه، فلم يلتفت إلى قوله، وأضاف إلى ذلك سوء السيرة وقبح العقيدة، فثار عليه مماليك أبيه لهوجه وسفكه الدماء وحاربوه وقتلوه، ونصبوا رأسه على رمح، وداروا به بلاد اليمن، ونهبوا زبيد تسعة أيام، وكان قتله في رابع عشر رجب، من سنة ثمان وتسعن، وقام من بعده أخوه الناصر أيوب - وقيل : محمد - ، وترتب سيف الدين سنقر أتابك العساكر، ثم استقل سنقر بالسلطة.
وفيها كان الغلاء بمصر، فلما طلع النيل رويت البلاد، وانحل السعر.
سنة تسع وتسعين وخمسمائة
فيها وصل الفرنج إلى عكا، وتحرك أهل صقلية لقصد ديار مصر، فقدم من حلب خمسمائة فارس ومائة راجل نجدة إلى العادل وهو بدمشق، فورد كتاب ناصر الدين منكورس بن خمارتكن، صاحب صهيون، يخبر بنزول صاحب الأرمن على جسر الحديد لحرب أنطاكية، وأن أكثر الفرنج عادوا من عكا إلى البحر، و لم يبق بها إلا من عجزعن السفر، وأن بها غلاءً عظيماً.
وفيها نازل الأشرف موسى بن العادل ماردين مدة، ومعه الأفضل، ثم تقرر الصلح على أن يحمل ناصر الدين أرسلان الأرتقي صاحب ماردين للعادل مائة ألف وخمسين ألف دينار صورية، ويخطب له بها، ويضرب السكة باسمه، فعاد الأشرف إلى حران.
وفيها جهز العادل الملك المنصور بن العزيز عثمان من صمر إلى الرها بأمه وإخوته، خوفاً من شيعته.
وفيها شرع العادل فى بناء فصيل دائر على سور دمشق بالحجر والجير، وفى تعميق، الخندق وإجراء الماء إليه، وقدم من عند العادل إلى القاهرة خلق لحفظ دمياط من الفرنج. وفيها قصد الفرنج من طرابلس، ومن حصن الأكراد وغيرها، مدينة حماة، فركب إليهم المنصور في ثالث رمضان، وقاتلهم فهزمهم، وأسر منهم وغنم، وعاد مظفراً، فورد الخبر بوصول الفرنج إلى عكا من البحر فى نحو سبعين ألفاً، وأنهم يريدون الصلح مع الأرمن على حرب المسلمين، وخرج جمع من الاسبتار من حصن الأكراد والمرقب، في شهر رمضان أيضاً، وخرج إليهم المنصور، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأسر جماعة، وانهزم من بقي.
وفيها بلغ العادل أن الملك الأفضل على ابن أخيه كاتب الأمراء، فأمر ابنه الأشرف موسى أن ينتزع منه رأس عين وسروج، وكتب إلى الظاهر أن يأخذ منه قلعة نجم، ففعلا ذلك، ولم يبق معه سوى سميساط لا غير، فسير الأفضل أمه إلى العادل لتشفع فيه، فقدمت عليه إلى دمشق، فلم يقبل شفاعتها وأعادها خائبة، وكان هذا عبرة، فإن صلاح الدين لما نازل الموصل خرجت إليه الأتابكيات، ومنهن ابنة نور الدين محمود بن زنكى، يستغثن إليه فى أن يبقى الموصل على عز الدين مسعود، فلم يجبهن وردهن خائبات، فعوقب صلاح الدين فى ولده الأفضل على بمثل ذلك، وعادت أمه خائبة من عند العادل، ولما بلغ الأفضل امتناع عمه عن إجابة سؤال أمه تطع خطبته، ودعا للسلطان ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان السلجوقي، صاحب الروم.
وفيها زاد ماء النيل زيادة كثيرة، ورخصت الأسعار.
وفيها انقضت دولة الهواشم بمكة، وقدم إليها حنظلة بن قتادة بن إدريس بن مطاعن من ينبع، فخرج منها مكثر بن عيسى بن فليتة إلى نخلة، فأقام بها ومات سنة ستمائة، ثم وصل محمد بن مكثر إلى مكة، فحاربوه وهزموه، ثم قدم قتادة أبو عزيز بن إدريس، فاستمر بمكة هو وولده من بعده أمراء إلى أعوام كثيرة.
سنة ستمائة
فيها تقرر الصلح بين العادل وبين الفرنج، وانعقدت الهدنة بينهما، وتفرقت العساكر.
وفيها نازل ابن لاون أنطاكية حتى هجم عليها، وحصر الإبرنس بقلعتها، فخرج الظاهر من حلب نجدة له، ففر ابن لاون.(1/44)
وفيها أوقع الأشرف موسى بن العادل بعسكر الموصل، وهزمهم ونازلها وبها السلطان نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن عماد الدين زنكي أتابك بن آقسنقر، ونهب الأشرف البلاد نهباً قبيحاً، وبعث إلى أبيه العادل بالبشارة، فاستعظم ذلك وما صدقه، وسر به سروراً كثيراً.
وفيها ملك الإفرنج مدينة القسطنينية من الروم.
وفيها تجمع الإفرنج بعكا من كل جهة يريدون أخذ بيت المقدس، فخرج العادل من دمشق، وكتب إلى سائر الممالك يطلب النجدات، فنزل قريباً من جبل الطور على مسافة يسيرة من عكا، وعسكر الفرنج بمرج عكا، وأغاروا على كفر كنا وأسروا من كان هناك، وسبوا ونهبوا، وانقضت هذه السنة والأمر على ذلك.
وفيها مات ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قطلوش بن بيغو أرسلان بن سلجوق صاحب الروم، فى سادس ذي القعدة، وقام من بعده ابنه عز الدين قلج أرسلان، وكان صغيراً، فلم يستتب أمره.
وفيها عاد الأشرف موسى بن العادل إلى حران بأمر أبيه، وهم العادل برحيله إلى مصر، فقدم عليه ابنه الأشرف، ثم عاد إلى حران.
وفيها خرج أسطول الفرنج إلى مصر، وعبر النيل من جهة رشيد، فوصل إلى فوة، وأقام خمسة أيام ينهب، والعسكر تجاهه ليس له إليه وصول لعدم وجود الأسطول العادلي.
وفيها أوقع الأمير شرف الدين قراقوس التقوى المظفري ببلاد المغرب، فقبض عليه وحمل إلى ابن عبد المؤمن.
وفيها كانت زلزلة عظيمة عمت أكثر أرض مصر والشام، والجزيرة وبلاد الروم، وصقلية وقبرص، والموصل والعراق وبلغت إلى سبتة ببلاد المغرب، وفيها ملك الفرنج قسطنطينية من أيدي الروم، فلم يزالوا بها حتى استعادها الروم منهم، فى سنة ستين وستمائة.
سنة إحدى وستمائة
فيها تم الصلح بين الملك العادل وبن الفرنج، وتقررت الهدنة مدة، وشرطوا أن تكون يافا لهم، مع مناصفات لد والرملة، فأجابهم العادل إلى ذلك، وتفرقت العساكر، وسار العادل إلى القاهرة، فنزل بدار الوزارة، واستمر ابنه الكامل بقلعة الجبل، وشرع فى ترتيب أمور مصر.
وفيها مات الأمير عز الدين إبراهيم بن الجويني والي القاهرة، في سلخ جمادى الأولى.
وفيها ورد الخبر بأن الفرنج أخذوا القسطنطينية من الروم.
وفيها غارت الفرنج الإسبتارية على حماة فى جمع كبير، لأن هدنتهم انقضت، فقتلوا ونهبوا، ثم عادوا.
وفيها قدم الملك المنصور صاحب حماة على عمه الملك العادل بالقاهرة، فسر به وأكرمه، ثم رجع بعد أيام.
وفيها أغار الفرنج على حمص، وقتلوا وأسروا، فخرج العادل من القاهرة إلى بركة الجب، ثم عاد.
وفيها أغار فرنج طرابلس على جبلة واللاذقية، وقتلوا عدة من المسلمين، وغنموا وسبوا شيئاً كثيراً.
وفيها أخذ الصاحب صفي الدين عبد الله بن شكر يغرى الملك العادل بأبي محمد مختار بن أبي محمد بن مختار، المعروف بابن قاضى دارا، وزير الملك الكامل، حتى نقم عليه وطلبه، فخاف عليه الكامل، وأخرجه من مصر - ومعه ابناه فخر الدين وشهاب الدين - إلى حلب، فأكرمهم الملك الظاهر، ثم ورد عليه من الكامل كتاب يستدعيه إلى مصر، فخرج ونزل بعين المباركة ظاهر حلب.
فلما كان فى ليلة الرابع والعشرين من ذي القعدة: أحاط به - نحو الخمسين فارساً في أثناء الليل، وأيقظهوه وقتلوه، ثم قالوا لغلمانه: احفظوا أموالكم، فما كان لنا غرض سواه. فبلغ ذلك الظاهر فارتاع له، وركب بنفسه حتى شاهده، وبعث الرجال فى سائر الطرقات، فلم يقف لقتله على خبر، فكانت هذه القضية من أعجب ما سمع.
سنة اثنتين وستمائة
فيها قبض على السعد أبي المكارم بن مهدي بن مماتى صاحب الديوان في جمادى الآخرة، وعلق برجليه.
وفيها قبض على الأمير عبد الكريم أخي القاضي الفاضل، وأخذ خطه بعشرين ألف دينار وأداها، وأخذ من شرف الدين إبراهيم بن عبد الرحمن بن قريش خمسة آلاف دينار.
وفيها باشر التاج.......بن الكعكي ديوان الجيش.
وفيها ضرب الصاحب صفي الدين عبد الله بن علي بن شكر الفقيه نصراً في وجهه بالدواة، فأدماه.
سنة ثلاث وستمائة(1/45)
فيها كثرت الغارات من الفرنج على البلاد، فخرج الملك العادل إلى العباسة، ثم أغذ السير إلى دمشق، ثم برز منها إلى حمص، فأتته العساكر من كل ناحية، فاجتمع عنده عشرات آلاف، وأشاع أنه يريد طرابلس، فلما انقض شهر رمضان توجه الى ناحية حصن الأكراد فنازله، وأسر خمسمائة رجل وغنم، وافتتح قلعة أخرى. ثم نازل طرابلس، وعاثت العساكر فى قراها، ولم يزل على ذلك إلى أيام من ذي الحجة، ثم عاد إلى حمص - وقد ضجرت العساكر - فبعث صاحب طرابلس يلتمس الصلح، وسير مالاً وثلاثمائة أسير وعدة هدايا، فانعقد الصلح فى آخر ذي الحجة.
وفيها حدثت وحشة بين العادل وبن ابن أخيه الملك الظاهر، صاحب حلب، فازدادت بينهما الرسل حتى زالت، وحلف كل منهما لصاحبه.
وكثر فى هذه السنة تخريب العادل لقلاع الفرنج وحصونهم.
وفيها عزل الصاحب ابن شكر البدر بن الأبيض قاضي العسكر، وقرر مكانه نجم الدين خليل بن المصمودي الحموي.
وفيها قدم مانع بن سلمان شيخ أل دعيج من غزية التي فيما بين بغداد ومكة.
ومات في هذه السنة
عبد الرحمن بن سلامة قاض الإسكندرية بها، يوم الأربعاء ثامن صفر.
وفيها نفى الأشرف .... بن عثمان الأعور، واعتقل أخوه علم الملك.
وفيها ماتت أم الملك المعظم بن العادل بدمشق، في يوم الجمعة عشرى ربيع الأول، ودفنت بسفح قاسيون.
سنة أربع وستمائة
فيها عاد الملك العادل إلى دمشق، بعد انعقاد الصلح بينه وبن ملك الفرنج بطرابلس. وفيها بعث العادل أستاداره الأمر ألذكر العادلي، وقاضي العسكر نجم الدين خليل المصمودي إلى الخليفة في طلب التشريف والتقليد بولاية مصر والشام والشرق وخلاط، فلما وصلا إلى بغداد أكرمهما الخليفة الناصر لدين الله، وأحسن إليهما وأجابهما، وسير الشيخ شهاب الدين أبا عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عمويه السهروردي ومعه التشريف الخليفتي والتقليد، وخلعة للصاحب صفي الدين بن شكر، وخلع لأولاد العادل وهم الملك المعظم والملك الأشرف، والملك الكامل، فعندما قارب بالشيخ أبو حفص حلب خرج الملك الظاهر بعساكره إلى لقائه، وأكرم نزله.
وفى ثالث يوم من قدومه أمر بكرسي فنصب له، وجلس عليه للوعظ، وجلس الظاهر ومعه الأعيان، فصدع بالوعظ حتى وجلت القلوب ودمعت العيون، وأخبر الشيخ في وعظه بأن الخليفة أطلق - في بغداد وغيرها - من المؤن والضرائب، ما مبلغه ثلاثة آلاف ألف دينار، ثم سار من حلب، ومعه القاضي بهاء الدين بن شداد، وقد دفع إليه الظاهر ثلاثة آلاف دينار، برسم النثار إذا لبس عمه العادل خلعة الخليفة، وبعث الملك المنصور من حماة أيضاً مبلغاً للنثار، وخرج العسكر من دمشق إلى لقائه، ثم خرج العادل بابنيه الأشرف موسى والمعظم عيسى، وبرز سائر الناس لمشهادة ذلك، فكان يوماً مشهوداً، ولما دخل الشيخ أبو حفص دمشق جلس العادل فى دار رضوان، وأفيضت عليه الخلع، وهى جبة أطلس أسود واسعة الكم بطراز ذهب، وعمامة سوداء بطراز ذهب، وطوق ذهب بجوهر ثقيل، وقلد العادل أيضاً بسيف محلى، جميع قرابه من ذهب، وركب حصاناً أشهب بركب ذهب، ونشر على رأسه علم أسود مكتوب فيه بالبياض ألقاب الخليفة، مركب في قصبة ذهب، وتقدم القاضي ابن شداد فنثر الذهب، وقدم له خمسين خلعة ونثرت رسل الملوك بعده، ثم لبس الأشرف والمعظم خلعتيهما، وهما عمامة سوداء، وثوب أسود واسع الكم، ثم خلع على الصاحب صفي الدين بن شكر الوزير كذلك، وركب العادل - ومعه ابناه ووزيره - بالخلع الخليفتية، وقد زينت البلد، ثم عادوا إلى القلعة، واستمرت زينة البلد ثمانية أيام، وقرأ التقليد الصاحب صفي الدين على كرسي، وخوطب العادل فيه بشاهنشاه، ملك الملوك، خليل أمير المؤمنين، وكان الوزير في حال تركض قائماً على الكرسي، والعادل وسائر الناس أيضاً قياماً، إجلالاً للخليفة، ثم سار الشهاب السهروردي إلى مصر، فأفاض على الملك الكامل الخلعة الخليفتية، وجرى من الرسم كما وقع بدمشق، ثم عاد إلى بغداد.(1/46)
وفيها أمر العادل بعمارة قلعة دمشق، وفرق أبراجها على الملوك، فعمروها من أموالهم وفيها اتسعت مملكه العادل، فلما تمهدت له الأمور قسم مملكته بين أولاده، فاعطى ابنه الملك الكامل ناصر الدين محمداً مملكة مصر، ورتب عنده القاضي الأعز فخر الدين مقدام بن شكر، وأعطى ابنه المعظم شرف الدين عيسى من العريش إلى حمص، وأدخل فى ولايته بلاد الساحل الإسلامية، وبلاد الغور وأرض فلسطين، والقدس والكرك، والشوفي وصرخد، وأعطى ابنه الملك الأشرف مظفر الدين موسى البلاد الشرقية، وهى الرها وما معها من حران وغيرها، وأعطى ابنه الملك الأوحد نجم الدين أيوب خلاط وميافارقن وتلك النواحي، وكان الأوحد قد بعث إليه أهل خلاط ليملكها، فسار من ميافارقن وملكها.
وفيها كمل الملك الكامل محمد بناء قلعة الجبل، وتحول إليها من دار الوزارة بالقاهرة، فكان أول من سكنها من ملوك مصر، ونقل إليها أولاد الخليفة العاضد الفاطمي وأقاربه فى بيت على صورة حبس، فأقاموا به إلى أن حولوا منه فى سنة إحدى وسبعن وستمائة.
وفيها توفى الأمير داود بن العاضد فى محبسه. وكانت الإسماعيلية تزعم أن العاضد عهد إليه، وأنه الإمام من بعده، فاستأذن أصحابه من الكامل أن ينوحوا عليه ويندبوه، فأذن لهم، فبرزت النساء حاسرات، والرجال فى ثياب الصوف والشعر، وأخذوا فى ندبه والنياحة عليه، واجتمع معهم من كان فى الاستتار من دعاتهم، فلما تكامل جمعهم أرسل الكامل إليهم طائفة من الأجناد نهبوا ما عليهم، وقبضوا على المعروفين منهم، فملأ بهم السجون، واستصفى أموال ذوى اليسار منهم، ففر من بقي، وزال من حينئذ أمر الإسماعيلية من ديار مصر، ولم يجسر أحد بعدها أن يتظاهر بمذهبهم.
سنة خمس وستمائة
فيها سار الكرج ونهبوا أعمال خلاط، وأسروا وغنموا فلم يجسر الأوحد أن يخرج إليهم من مدينة خلاط، فلما بلغ ذلك الملك العادل أخذ في التجهيز لحرب الكرج، وسار الأشرف من دمشق يريد بلاده بالشرق.
وفيها قتل الملك معز الدين سنجر شاه بن غازي بن مودود بن زنكي بن آقسنقر الأتابكي، صاحب الجزيزة، قتله ابنه محمود، وقام فى الملك من بعده.
وفيها بعث الأمير سيف الدين سنقر، أتابك اليمن عشرة آلاف دينار مصرية إلى الملك العادل، عليها اسمه.
وفيها مات القاضي مكين الدين مطهر بن حمدان، بقلعة بصرى في شهر رجب، ومات هلال الدولة وشاب بن رزين، والي القاهرة، وعزل الأمر سيف الدين على بن كهدان عن ولاية مصر، وعزل الأسعد بن حمدان عن الشرقية، وباشرها خشخاش الوراق.
وفيها توفى قاضي القضاة صدر الدين أبو القاسم عبد الملك بن عيسى بن درباس الماراني، يوم الأربعاء خامس رجب، وكان قد قدم مصر في رابع رجب سنة خمس وستين خمسمائة، فتكون مدة مقامه بديار مصر أربعين سنة.
سنة ست وستمائة
فيها خرج العادل من دمشق يريد محاربة الكرج ، ومعه الملوك من بني أيوب . وهم الملك المنصور صاحب حماة، والملك المجاهد صاحب حمص ، والملك الأمجد صاحب بعلبك ، وأرسل إليه الملك الظاهر غازي صاحب حلب جيشا، فنزل العادل حران ، وأتته النجدات مع ولديه الملك الأوحد صاحب خلاط وميافارقين ، والملك الأشرف موسى، وغيرهما ، فاستولى على نصيبين ، ونازل سنجار، وبها الملك قطب الدين محمد بن زنكي، فكانت بينهما عدة وقائع ، بعث في أثنائها صاحب سنجار إلى الخليفة الناصر لدين الله، وإلى الملك الظاهر غازي صاحب حلب ، وإلى كيخسرو بن قلج أرسلان صاحب الروم ، وغيرهم يستنجد بهم على العادل ، فمال إليه عدة من الملوك عونا على العادل ، ففارقه عدة ممن كان معه على حصار سنجار، ودسوا إلى جماعة من أصحابه الدسائس ، ففسدت أحواله ، وقدم عليه رسول الخليفة، وهو هبة الله بن المبارك بن الضحاك يأمره بالرحيل ، فقال له عم الإمام الخليفة الناصر: " قال لك بحياتي ياخليلي ارحل " . فعاد العادل إلى حران ، وتفرقت العساكر عنه .
وفيها حصلت بين العادل وبن وزيره الصاحب ابن شكر منافرة أوجبت غضبه وسفره في البرية فركب المنصور صاحب حماة، وفخر الدين جهاركس صاحب بانياس حتى لحقاه في رأس عين ، وقدما به على العادل فرضي عنه ، ومن حينئذ انحطت منزلته . وفيها مات الملك المؤيد نجم الدين مسعود بن صلاح الدين يوسف بن أيوب برأس عين ، وقيل إنه سم ، فحمل إلى حلب ليدفن بها.(1/47)
وفيها عاد الملك العادل إلى دمشق .
وفيها ولي الأمير المكرم بن اللمطي قوص ، في ذي القعدة.
سنة سبع وستمائة
فيها ظفر الملك الأوحد بن العادل بملك الكرج ، ففدى نفسه منه بمائة ألف دينار وخمسة آلاف أسير من المسلمين ، وأن يلتزم الصلح ثلاثين سنة، وأن يزوجه ابنته بشرط ألا تفارق دينها، فأطلقه الأوحد، وردت على المسلمين عدة قلاع. .
وفيها مات الأوحد، وملك خلاط بعده أخوه الأشرف .
وفيها تحرك الفرنج إلى الساحل ، واجتمعوا في عكا، فخرج الملك العادل من دمشق ، فوقع بينه وبينهم صلح ، وأخذ العادل في عمارة قلعة الطور بالقرب من عكا، وسار إلى الكرك ، فأقام بها أياما، ثم رحل إلى مصر، فدخل القاهرة، ونزل بدار الوزارة.
وفيها مات الأمير فخر الدين جهاركس .
وفيها تحرك الفرنج ثانيا، فتجهز العادل للسفر إلى الشام .
وفيها كفت يد الصاحب صفي الدين بن شكر عن العمل .
وفيها مات السلطان نور الدين أرسلان شاه بن السلطان مسعود الأتابكي صاحب الموصل ، في شهر رجب ، وكانت مدة ملكه سبع عشرة سنة وأحد عشر شهرا، وقام من بعده ابنه الملك القاهر عز الدين مسعود، وقام بتدبيره الأمير بدر الدين لؤلؤ الأتابك ، مملوك ابيه .
وفيها شرب ملوك الأطراف كأس الفتوة للخليفة الناصر، ولبسوا سراويل الفتوة أيضا،فوردت عليهم الرسل بذلك ، ليكون انتماؤهم له ، وأمر كل ملك أن يسقي رعيته ويلبسهم ، لتنتمي كل رعية إلى ملكها، ففعلوا ذلك ، وأحضر كل ملك قضاة مملكته وفقهاءها وأمراءها وأكابرها، وألبس كلا منهم له ، وسقاه كأس الفتوة، وكان الخليفة الناصر مغرما بهذا الأمر، وأمر الملوك أيضا ان تنتسب إليه في رمي البندق ، وتجعله قدوتها فيه .
وفيها قدم إلى القاهرة كليام الفرنجى الجنوي تاجرا، فاتصل بالملك العادل ، وأهدى إليه نفائس ، فاعجب العادل به ، وأمره بملازمته ، وكان كليام في باطن الأمر عينا للفرنج ، يطالعهم بالأحوال ، فقيل هذا للعادل ، فلم يلتفت إلى ما قيل عنه .
ومات فيها يوسف بن الأسعد بن مماتي، في الرابع من جمادى الأولى بالقاهرة .
ومات الأمر سياروخ في خامس عشر رجب .
وفيها قتل غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان السلجوقي صاحب قونية، وقد حدث ذلك في أوائل السنة، وهو يواقع الأرمن حلفاء الروم ، عند بلده خونا من أعمال أذربيجان ، وكان قد غلبه أخوه ركن الدين سليمان بن قلج أرسلان على قونية، وألجأه إلى الفرار منها سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، ثم مات ركن الدين سليمان سنه ستمائة، وقام بعده في قونية ابنه قلج أرسلان بن ركن الدين ، وعند ذلك عاد كيخسرو إلى بلاده بعد فراره إلى حلب وغيرها، وملك كيخسرو قونية ثانيا، بعد خطوب جرت له ، وقد قبض أهلها على قلج أرسلان بن ركن الدين ، ثم قتل كيخسرو بعدما استفحل أمره ، وولى ابنه عز الدين كيكاوس بن غياث الدين .
وفيها كانت وقعة بين حاج العراق وبين أهل مكة بمنى، قتل فيها عبد للشريف قتادة اسمه بلال ، فقيل لها سنة بلال .
سنة ثمان وستمائة
فيها قبض الملك العادل على الأمير عز الدين أسامة الصلاحي، نائب كوكب وعجلون واعتقله وأخذ ماله ، وسيره إلى الكرك فاعتقل فيها هو وولده ، وتسلم المعظم قلعة كوكب وعجلون ، وهدم قلعة كوكب ، وعفى أثرها.
وفيها توجه الملك العادل إلى الإسكندرية ، لكشف أحوالها.
وفيها قدم بهاء الدين بن شداد من حلب إلى القاهرة يخطب صفية خاتون ابنة العادل شقيقة الكامل ، لابن عمها الظاهر، فأجيب إلى ذلك ، وعاد مكرما .
وفيها ماتت أم الملك الكامل ، يوم الأحد خامس عشري صفر، فدفنت عند قبر الإمام الشافعي، ورتب ابنها عند قبرها القراء والصدقات ، وأجرى الماء من بركة الحبش إلى قبة الشافعي، ولم يكن قبل ذلك ، فنقل الناس أبنية القرافة الكبرى إلى هذه القرافة من حينئذ، وعمروها.
وفيها خرج العادل من القاهرة، فسار إلى دمشق وبرز منها يريد الجزيرة، فوصل إليها ورتب أحوالها، وعاد إلى دمشق ، ومعه كليام الفرنجي.
وفيها انقضى أمر الطائفة الصلاحية بانقضاء الأمير قراجا والأمير عز الدين أسامة، والأمير فخر الدين جهاركس ،وصفت حصونهم للعادل وابنه المعظم .(1/48)
وفيها نقل أولاد العاضد الفاطمي وأقاربه إلى قلعة الجبل في يوم الخميس ثاني عشري رمضان ، وتولى وضع القيود في أرجلهم الأمير فخر الدين ألطونبا أبو شعرة بن الدويك ، وإلى القاهرة، وكانت عدتهم ثلاثة وستون نفسا .
وفيها كانت بمصر زلزلة شديدة هدمت عدة دور بالقاهرة ومصر، وزلزت الكرك والشوبك ، فمات تحت الهدم خلق كثير، وسقط عدة من أبراج قلعتها، ورؤي بدمشق دخان نازل من السماء إلى الأرض ، فيما بي المغرب والعشاء عند أرض قصر عاتكة .
وفيها مات الموفق بن أبى الكرم التنيسي في يوم الأحد سابع عشر ربيع الأول .
ومات ظافر بن الأرسوفي بمصر في سلخ رجب .
وفيها اجتمع بالإسكندرية ثلاثة آلاف تاجر وملكان من الفرنج ، فسار العادل وقبض على التجار، وأخذ أموالهم ، وسجن الملكين .
وفيها " أعني سنة ثمان وستمائة " كانت فتنة بين حاج العراق وبين أهل مكة، سببها ان حشيشيا جاء لقتل الشريف قتادة، فقتل شريفا اسمه أبو هارون عزيز، ظنا منه أنه قتادة، فثارت الفتنة، وانهزم أمير الحاج ، ونهب الحاج عن أخره ، وفر من مكة من بمكة من نواب الخليفة، ومن المجاورين ، فبعث الشريف قتادة ولده راجح بن قتادة إلى الخليفة يعتذر له عما جرى، فقبل عذره وعفي عنه .
سنة تسع وستمائة
فيها نزل العادل بعساكره حول قلعة الطور، وأحضر الصناع من كل بلد، استعمل جميع أمراء العسكر في البناء ونقل الحجارة، فكان في البناء خمسمائة بناء، سوى الفعلة والنحاتين ، ومازال مقيما حتى كملت .
وفيها قدم ابن شداد من حلب إلى دمشق بمال كثير وخلع ، برسم عقد نكاح صفية خاتون ابنة العادل على ابن عمها الظاهر صاحب حلب ، فخرج إلى لقائه عامة الأمراء والأعيان ، وعقد النكاح في المحرم على مبلغ خمسين ألف دينار، ونثر النثار على من حضر بقلعة دمشق ، وذلك في المحرم ، ثم جهزت إليه بحلب في تجمل عظيم ، من جملة قماش وآلات ومصاغ يحمله خمسون بغلا، ومائة بختي، وثلاثمائة جمل ، وجواري في المحامل على مائة جمل ، منهن مائة مغنية يلعبن بأنواع الملهى، ومائة جارية يعملن أنواع الصنائع البديعة، فكان دخولها إلى حلب يوما عظيما، وقدم لها الظاهر تقادم : منها خمسة عقود جوهر بمائة وخمسين ألف درهم ، وعصابة جوهر لا نظير لها، وعشر قلأئد عنبر مذهب ، وخمس قلائد بغير ذهب ، ومائة وسبعون قطعة من ذهب وفضة،وعشرون تختا من ثياب ، وعشرون جارية، وعشرة خدام .
وفيها عزل الهمام بن هلال الدولة من ولاية القاهرة، وولى فخر الدين ألطونبا أبوشعرة مملوك المهراني في .
فيها تغير الملك العادل على الوزير صفي الدين بن شكر، ورفع يده من الوزارة،وأبقى عليه ماله وأخرجه إلى آمد، فلم يزل بها حتى مات العادل .
وفيها فوض العادل تدبير مصر، والنظر في أموالها ومصالحها إلى ولده الملك الكامل ، فرتب الكامل القاضي الأعز فخر الدين مقدام بن شكر ناظر الدولتين.
وفيها خرج العادل من الشام يريد خلاط ، فسار إليها ودخلها، وفيها ابنه الأشرف ، وقد استولى على ما بها من الأموال .
سنة عشر وستمائة
فيها تخوف الظاهر صاحب حلب من عمه العادل ، وأخذ في الاستعداد، ثم تراسلا حتى سكن الحال .
وفيها ولدت صفية ابنة العادل لابن عمها الظاهر مولودا سماه محمدا ولقبه بالملك العزيز غياث الدين ، وذلك في خامس ذي الحجة، فزينت حلب ، واحتفل الظاهر احتفالا زائدا، وأمر فصيغ له من الذهب والفضة جميع الصور والأشكال ما وزن بالقناطير، وصاغ له عشرة مهود من ذهب وفضة ، سوى ما عمل من الأبنوس والصندل والعود وغيره ، ونسج للصبي ثلاث فرجيات من لؤلؤ، في كل فرجية أربعون حبة ياقوت ولعل وزمرد، ودرعان وخوذتان وبركستوان ، كل ذلك من لؤلؤ، وثلاثة سروج مجوهرة، في كل سرج عدة قطع من جوهر رائع وياقوت وزمرد، وثلاثة سيوف علائقها وقبضاتها من ذهب مرصع بأنواع الجواهر، وعدة رماح من ذهب أسنتها جوهر .
وفيها حج الظاهر خضر بن صلاح الدين يوسف بن أيوب من حلب ، فلما قارب مكة صده قصاد الملك الكامل محمد بن العادل عن الحج ، وقالوا: " إنما جئت لأخذ بلاد اليمن " ، فقال الظاهر خضر: " ياقوم ! قيدوني، ودعوني أقضي مناسك الحج " . فقالوا : " ليس معنا مرسوم إلا بردك " . فرد إلى الشام ، من غير أن يحج ، فتألم الناس لذلك .(1/49)
وفيها مات الأمير فخر الدين إسماعيل والى مصر بها.
وفيها دخل بنو مرين إحدى قبائل زناتة من القفر، ونهبوا أعمال المغرب ، وحاربوا الموحدين وهزموهم ، وكان أمير بني مرين إذ ذاك عبد الحق بن محيو بن أبي بكر بن حمامة بن محمد بن ورصيص بن فكوس بن كوماط بن مرين .
تتمة سنة عشر وستمائة
فيها حفر خندق مدينة حلب ، فوجد فيه بلاطة صوان عليها أحرف مكتوبة بالقلم السرياني، فترجموه بالعربية، فإذا هو: " لما كان العالم محدثا دل أن له محدثا، لا كهو " ، وكتب تحت هذه الأحرف : " لخمسة آلاف من السنين خلون من الأسطوان الصغير " . فقلعت البلاطة، فوجد تحتها تسع عشرة قطعة من ذهب وفضة وصورى على هيئة اللبن ، فاعتبرت فكان الحاصل منها ذهبا ثلاثة وستين رطلا بالحلبي، وكان منها فضة أربعة وعشرين رطلا، وحلقة ذهب وزنها رطلان ونصف رطل ، وصورى عشرة أرطال ونصف ، فكان الجمع زنته قنطار واحد بالحلبي .
سنة إحدى عشر وستمائة
فيها فر الملك المنصور بن العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف من اعتقال عم أبيه الملك العادل ، ولحق بالظاهر صاحب حلب ، ولاذ به هو و إخوته ، فأكرمهم الظاهر.
وفيها تجمع فرنج قبرس وعكا وطرابلس وأنطاكية، وانضم إليهم عسكر ابن ملك الأرمن ، لقصد بلاد المسلمين ، فخافهم المسلمون ، وكان أول ما بدأوا به بلاد الإسماعيلية، فنازلوا قلعة الخوابي ، ثم ساروا عنها إلى أنطاكية.
وفيها ظفر السلطان عز الدين كيكاوس بن كيخسرو بن قلج أرسلان السلجوقي صاحب بلاد الروم بالأشكري ملك الروم .
وفيها خرج الملك العادل من الشام يريد مصر، فنزل في القاهرة بدار الوزارة، واستمر ابنه الكامل بقلعة الجبل ، وأمر العادل أن يقيم معه كليام الفرنجي الجنوي بدار الوزارة .
وفيها ورد الخبر بموت سنقر أتابك اليمن ، واستقر بعده الملك الناصر أيوب صاحب اليمن في ملكه ، وقام بأتابكيته غازي.
وفيها شرع الملك العادل في تبليط جامع بني أمية بدمشق ، وكانت أرضه حفرا وجورا، وتولى العمل الوزير صفي الدين بن شكر.
وفيها تعامل أهل دمشق وغيرها بالقراطيس السود العادلية، ثم بطلت بعد ذلك وفنيت .
وفيها تولى سهم الدين عيسى القاهرة في شوال ، وتولى جمال الدين بن أبي المنصور وكالة بيت المال بها.
ومات سعد بن سعد الدين بن كوجيا في عشر ربيع الآخر.
وفيها حج الملك المعظم عيسى بن العادل من دمشق ، وحج معه الشريف سالم بن قاسم بن مهنا الحسيني أمير المدينة النبوية، فعزم الشريف قتادة أمير مكة على مسكه فلم يتمكن منه ، فعاد الشريف سالم صحبة الملك المعظم إلى دمشق ، فبعثه المعظم على عسكر إلى مكة ،فمات في الطريق قبل وصوله مكة فقام جماز بن قاسم " وهو ابن أخيه " بتدبير الجيش،فجمع قتادة ، وسار إلى ينبع ولقيه، فهزم قتادة .
سنة اثنتي عشرة وستمائة
فيها نازل الفرنج قلعة الخوابي ، وحاربوا الباطنية، ثم صالحوهم .
وفيها سير الخليفة الناصر لدين الله كتابه الذي ألفه وسماه " روح العارفين " إلى الشام ومصر وغيرها ليسمع .
وفيها ملك الفرنج أنطالية، وقتلوا من بها من المسلمين ، وكانت بيد الملك غياث الدين كيخسرو منذ فتحها سنة اثنتين وستمائة إلى أن أجلاه الفرنج عنها سنة سبع وستمائة، ثم استردها منهم الملك الغالب عز الدين كيكاوس سنة ثلاث عشرة وستمائة، بعد أن بقيت بأيدي الفرنج تلك المدة .
وفي هذه السنة أيضا : سار عز الدين إلى بلاد الأرمن ، وحاصر قلعة جابان ، وهزم عندها جيوش الأرمن ، ورجع إلى قيصرية قبل أن يستولي على قلعة جابان ، ثم طلب الأرمن الصلح ، وأجابهم إليه عز الدين ، فأخذ في مقابل الصلح من بلاد الأرمن قلعة لؤلؤة ولوزاد .
وفيها مات الملك المعظم أبو الحسن علي ابن الخليفة الناصر لدين الله ، وهو أصغر أولاده ، فلما قدم نعيه على ملوك الأطراف جلسوا في العزاء، لابسين شعار الحزن خدمة للخليفة.(1/50)
وفيها سير الملك الكامل ابنه الملك المسعود صلاح الدين يوسف إلى اليمن ، فخرج في جيش كثيف من مصر، وسار إلى بلاد اليمن ، فاستولى على معاقلها، وظفر بصاحبها الملك سليمان شاه بن سعد الدين شاهنشاه ابن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن نجم الدين أيوب فسيره تحت الحوطة إلى مصر، فأقام بالقاهرة إلى سنة سبع وأربعين وستمائة، فخرج إلى المنصورة غازيا، فقتل شهيدا، ودانت بلاد اليمن للملك المسعود .
وفيها عاد الملك العادل من الشام إلى القاهرة، فلما قرىء عليه ما أنفق على الملك المسعود في خروجه إلى اليمن استكثره وأنكر العادل خروجه ، فإنه كان بغير أمره ، وأمر العادل بالقاضي الأعز فضرب وقيد، واعتقل بقلعة الجزيزة، ثم حمله إلى قلعة بصرى، فسجنه بها.
وفيها نقل العادل أمواله وذخائره وأولاده إلى الكرك .
وفيها أبطل الملك العادل ضمان الخمر والقيان .
وفيها مات تقي الدين اللر، شيخ الخانقاه الصلاحية، دار سعيد السعداء، في المحرم . وفيها مات ابن سوروس بن أبي غالب بطريق اليعاقبة في يوم الخميس عيد الغطاس سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة للشهداء " وهو الرابع عشر من رمضان " وله في البطركية مدة ست وعشرين سنة وأحد عشر شهرا وثلاثة عشر يوما، وكان أولا يتجر إلى بلاد اليمن ، فغرق مرة، وجاء الخبر بأن لم يسلم سوى بحشاشته ، وكان لأولاد الجباب معه مال ، فأيسوا منه فلما اجتمع بهم أعلمهم أن مالهم سلم ، فإنه كان قد عمله في مقابر من خشب ، وسمرها في المراكب ، وأحضره إليهم ، فتميز عندهم بذلك ، حتى مات البترك مرقص بن زرعة، فتحدث ابن سوروس في البتركية للقس أبي ياسر، وكان مقيما بالعدوية فحسن له بنو الجباب أن يقوم هو بأمر البتركية، فتحدث في ذلك ، وزكوه فتولى، وكان معه يومئذ سبعة عشر ألف دينار مصرية، فرقها في مدة بطركيته على الفقراء، وأبطل الديارية، ومنع الشرطونية، ولم يأكل في ولايته كلها لأحد من النصارى خبزا، ولا قبل لصغير ولا لكبير منهم هدية، وكان القس داود بن يوحنا " المعروف بابن لقلق ، من أهل الفيوم " ملازما للشيخ نشىء الخلافة أبي الفتوح بن الميقاط ، كاتب الجيوش العادلية، وكان يسافر معه ويصلى به ، فلما مات ابن سوروس سأل أبو الفتوح الملك العادل أن يولي القس داود البتركية، فأجابه وكتب له توقيعا بذلك ، من غير أن يعلم الملك الكامل ، فلم يعجب بعض النصارى ولاية داود، وقام منهم رجل يعرف بالأسعد بن صدقة، كاتب دار التفاح بمصر، وجمع كثيرا من النصارى العصارين بمصر، وطلع في الليلة التي وقع الاتفاق على تقدمة القس داود في صبيحتها، ومعه الجمع إلى تحت قلعة الجبل ، واستغاثوا بالملك الكامل ، وقالوا : " إن هذا الذي يريد أبو الفتوح يعمله بطركا بغير أمرك ما يصلح ، ونحن في شريعتنا لا يقدم البطرك إلا باتفاق الجمهور عليه " . فخرج إليهم الأمر من عند الكامل بتطييب قلوبهم ،وفي سحر النهار ركب القس داود، ومعه الأساقفة " وعالم كبير من النصارى " ليقدموه بكنيسة المعلقة بمصر، وكان ذلك يوم الأحد عيد الزيتونة. فركب الملك الكامل إلى أبيه ، وعرفه أن النصارى لم يتفقوا على بطركية داود، ولا يجوز عندهم تقدمته إلا باتفاق جمهورهم . فسير الملك العادل إلى الأساقفة ليحضرهم حتى يتحقق الأمر، فوافاهم الرسل مع القس داود، عند زقاق كنيسة الحمراء، فأحضرت الأساقفة إلى الملك العادل ، ودخل داود إلى كنيسة الحمراء، وانحل أمره ، وخلا الكرسي من بطريق تسع عشرة سنة ومائة وستين يوما.
وفي جمادى الأولى : صرف الملك العادل زكي الدين الطاهر بن محيي الدين محمد بن علي القرشي عن قضاء دمشق ، وألزم جال الدين عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل الحرستاني بولاية القضاء بها وله من العمر اثنتان وتسعون سنة .
وفيها قدم إلى القاهرة من الشرق رجل معه حمار له سنام كسنام الجمل ، يرقص ويدور، ويستجيب له إذا دعاه..
سنة ثلاث عشرة وستمائة
فيها ولي بهاء الدين بن الجميزي خطابة القاهرة في ثالث عشر المحرم .
وولي أبو الطاهر المحلي خطابة مصر في ثاني صفر.
وفيها سار الملك العادل من القاهرة إلى الإسكندرية، فرتب أمورها وعاد .(1/51)
وفيها قدم البهاء بن شداد برسالة الظاهر من حلب إلى العادل ، وهو بالقاهرة، فمرض الظاهر في خامس عشري جمادى الأول ، ومات في ليلة الثلاثاء العشرين من جمادى الآخرة عن أربع وأربعين سنة وأشهر، ومدة تملكه بحلب إحدى وثلاثون سنة، وكان قد سمع الحديث وأسمعه بحلب ، وكان سفاكا للدماء، شهما يقظا صاحب سياسة، وله شعر حسن ، وقام من بعده ابنه الملك العزيز غياث الدين محمد، وعمره يومئذ سنتان وأشهر، بعهد من أبيه ، وكان الملك العادل " عندما مرض الظاهر " رتب بريدا من مصر إلى حلب يطالعه بخبره ، فأتاه نعيه قبل كل أحد، فأحضر الملك العادل ابن شداد، وقال له : " ياقاضي! صاحبك قد مات في ساعة كذا من يوم كذا " . فعاد ابن شداد إلى حلب .
وفيها كان ابتداء خروج التتر من بلادهم الجوانية إلى بلاد العجم .
وفيها قدم الشريف قاسم من المدينة النبوية، فأغار على جدة، فخرج إليه الشريف قتادة أمير مكة، وكسره يوم عيد النحر.
سنة أربع عشرة وستمائة
فيها وصل الشيخ صدر الدين بن حمويه من بغداد، بجواب رسالة الملك العادل إلى ، الخليفة الناصر لدين الله.
وفيها تتابعت أمداد الفرنج في البحر من روما وغيرها إلى عكا، وفيهم عدة من ملوكهم " وقد نقضوا الصلح ، وعزموا على أخذ القدس وسائر بلاد الساحل وغيرها " فعظم جمعهم ، فخرج العادل من مصر بعساكره ، وسار إلى لد، فبرز الفرنج من عكا في خلق عظيم ، فرحل العادل على نابلس ، ونزل في بيسان ، فقال له ابنه المعظم لما رحل : " إلى أين يابه ؟ " . فسبه العادل بالعجمية، وقال: " بمن أقاتل ؟ أقطعت الشام مماليك ، وتركت من ينفعني من أبناء الناس الذين يرجعون إلى الأصول " وذكر كلاما في هذا المعنى .
فقصده الفرنج ، فلم يطق لقاءهم ، لقلة من معه ، فاندفع من بين أيديهم على عقبة فيق ، وكتب بتحصين دمشق ، ونقل الغلات من داريا إلى القلعة، وإرسال الماء على أراضي داريا وقصر حجاج والشاغور ففزع الناس وابتهلوا إلى الله، وكثر ضجيجهم بالجامع ، فزحف الفرنج على بيسان " وقد اطمأن أهلها بنزول العادل عليهم " فانتهبوها وسائر أعمالها، وبذلوا في أهلها السيف ، وأسروا وغنموا ما يجل وصفه ، وانبثت سراياهم فيما هنالك حتى وصلت إلى نوى ونازلوا بانياس ثلاثة أيام ، ثم عادوا إلى مرج عكا، وقد أنكوا في المسلمين أعظم نكاية، وامتلأت أيديهم بالأسر، والسبي والغنائم ، وأتلفوا بالقتل والتحريق ما يتجاوز الوصف . فلم يمكثوا بالمرج سوى قليل ، ثم أغاروا ثانيا، ونهبوا صيداء والشقيف ورجعوا، وذلك كله من نصف شهر رمضان إلى يوم عيد الفطر، ونزل العادل بمرج الصفر، ورأى في طريقه رجلا يحمل شيئا، وهو يمشي تارة ويقعد أخرى، فقال له : " ياشيخ ! لا تعجل ، ارفق بنفسك " . ففال له : " ياسلطان المسلمين ! أنت لا تعجل ، أو أنا؟ إذا رأيناك قد سرت من بلادك ، وتركتنا مع الأعداء، كيف لا نعجل ؟ " . وعندما استقر بمرج الصفر، كتب إلى ملوك الشرق ليقدموا عليه : فأول من قدم عليه أسد الدين شيركوه صاحب حمص ، وهو ابن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه ، عم السلطان صلاح الدين يوسف ، ثم إن العادل جهز ابنه المعظم عيسى صاحب دمشق ، بطائفة من العسكر إلى نابلس ، كي يمنع الفرنج من بيت المقدس ، فنازل الفرنج قلعة الطور التي أنشأها العادل ، وجدوا في قتال أهلها، حتى تمكنوا من سورها، وأشرفوا على أخذها. فقدر الله أن بعض ملوكهم قتل ، فانصرفوا عنها إلى عكا بعدما أقاموا عليها سبعة عشر يوما، وانقضت السنة والحال على ذلك ، من إقامة الفرنج بمرج عكا، والعادل بمرج الصفر.
وفيها مات القاضي الأجل قاضي قضاة الشام أبو القاسم عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل بن علي بن عبد الواحد الأنصاري الخزرجي العبادي السعدي الدمشقي الشافعي جمال الدين الحرستاني، في رابع ذي الحجة، ومولده بدمشق في أحد الربيعين، سنة عشرين وخمسمائة.
ومات الأمير الكبير بدر الدين محمد بن أبي القاسم بن محمد الهكاري قتله الفرنج على حصن الطور، فنقل إلى القدس ، ودفن بتربته .
ومات الشجاع محمود بن الدباغ ، مضحك الملك العادل ، وترك مالا جزيلا.
سنة خمس عشرة وستمائة(1/52)
فيها اجتمع رأي الفرنج على الرحيل من عكا إلى مصر، والاجتهاد في تملكها، فأقلعوا في البحر، وأرسوا على دمياط ، في يوم الثلاثاء رابع شهر ربيع الأول " الموافق لثامن حزيران " على بر جيزة دمياط ، فصار النيل بينهم وبين البلد، وكان إذ ذاك على النيل برج منيع ، في غاية القوة والامتناع ، فيه سلاسل من حديد، عظام القدر والغلظ ، تمتد في النيل لتمنع المراكب الواصلة في بحر الملح من عبور أرض مصر، وتمتد هذه السلاسل في برج آخر يقابله ، وكانا مشحونين بالمقاتلة، ويعرف اليوم مكانهما في دمياط ببين البرجين . وصار الفرنج في غربي النيل ، فأحاطوا على معسكرهم خندقا، وبنوا بدائره سورا . وأخذوا في محاربة أهل دمياط ، وعملوا آلات ومرمات ، وأبراجا متحركة يزحفون بها في المراكب إلى برج السلسة ليملكوه ، حتى يتمكنوا من البلد، فخرج الكامل بمن بقي عنده من العسكر، في ثالث يوم من سقوط الطائر، لخمس خلون من ربيع الأول ، وتقدم إلى والي الغربية بجمع سائر العربان ، وسار في جمع كثير، وخرج الأسطول ، فأقام تحت دمياط ، ونزل السلطان الكامل بناحية العادلية، قريبا من دمياط ، وسير البعوث ليمنع الفرنج من العبور، وصار يركب في كل يوم عدة مرار من العادلية إلى دمياط ، بتدبير الأمور وإعمال الحيلة في مكايدة الفرنج .
وألح الفرنج في مقاتلة أهل البرج ، فلم يظفروا بشيء، وكسرت مرماتهم وآلاتهم ، وتمادى الأمر على ذلك أربعة اشهر، هذا والملك العادل يجهز عساكر الشام شيئا بعد شيء إلى دمياط ، حتى صار عند الكامل من المقاتلة ما لا يكاد ينحصر عدده .
وفي أثناء ذلك ورد الخبر بحركة الملك الغالب عز الدين كيكاوس السلجوقي، سلطان الروم ، إلى البلاد الشامية، بموافقة الملك الصالح صاحب آمد وغيره من ملوك الشام ، وأنه وصل إلى منبج ، وأخذ تل باشر واتفق كيكاوس مع الملك الأفضل علي بن صلاح الدين صاحب سميساط أنه يسلمه ما يفتحه من البلاد، فلم يف كيكاوس بما وعد، وسلم ما فتحه لنوابه ، فتقاعد عنه كثير من الناس ، وأوقع العرب بطائفة من عسكره ، فقتلوا وأسروا منهم كثيرا، ونهبوا لهم شيئا له قدر ، فرجع إلى بلاده بغير طائل . هذا والعادل بمرج الصفر، فبينا هو في الاهتمام بأمر الفرنج ، إذ ورد عليه الخبر بأخذ الفرنج برج السلسلة بدمياط ، فتأوه تأوها شديدا، ودق بيده على صدره أسفا وحزنا ،ومرض من ساعته ، فرحل من المرج إلى عالقين ، وقد اشتد مرضه ، فمات في سابع جمادى الآخرة يوم الخميس ، فكتم أصحابه موته ، وقالوا: " قد أشار الطبيب بعبور دمشق ليتداوى، محمل في محفة، وعنده خادم ، والطبيب راكب بجانب المحفة ، والشربدار يصلح الأشربة، ويحملها إلى الخادم ليشربها السلطان ، يوهم الناس بذلك أنه حي، إلى أن دخل قلعة دمشق ، وصارت بها الخزائن والحرم وجميع البيوتات ، فأعلم بموته ، بعدما استولى ابنه الملك المعظم على جميع أمواله ، التي كانت معه ، وسائر رخته وثقله ، ودفنه بالقلعة، فاختبط الناس حتى ركب المعظم ، وسكن أمر الناس ، ونادى في البلد: " ترحموا على السلطان الملك العادل ، وادعوا لسلطانكم الملك المعظم " أبقاه الله فبكى الناس بكاء كثيرا، واشتد حزنهم لفقده .(1/53)
وكان مولده في المحرم سنة أربعين " وقيل سنة ثمان وثلاثين " وخمسمائة بدمشق ، وسمع من السلفي وابن عوف ، وعرفت مواقفه في جهاد العدو بثغر دمياط في سنة خمس وستين وخمسمائة، في أيام الخليفة العاضد، وفي مدينة عكا، وملك دمشق في سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، وكانت مدة ملكه لها ثلاثا وعشرين سنة، وملك مصر، في سنة ست وتسعين ، فكانت مدة ملكه لها تسع عشرة سنة وشهرا واحدا وتسعة عشر يوما، ورزق في أولاده سعادة قلما يتفق مثلها لملك ، فبلعوا تسعة عشر ولدا ذكرا، سوى البنات ، وهم : الملك الأوحد نجم الدين أيوب صاحب خلاط ، وكان قصيرا في الغاية، شهما مقداما سفاكا للدماء، مات في حياة أبيه ، والملك الفائز إبراهيم ، والملك المغيث عمر " وقد توفيا أيضا في حياته " وترك عمر ابنا سمي بالملك المغيث وشهاب الدين محمود، رباه عمه الملك المعظم عيسى، والملك الجواد شمس الدين مودود، ومات في حياته أيضا " وترك الملك الجواد ولدا اسمه مظفر الدين يونس بن مودود بقي عند عمه الملك الكامل بمصر، ثم ملك دمشق وغيرها، وكان جوادا شجاعا، والملك الكامل ناصر الدين محمد، صاحب مصر، والملك المعظم شرف الدين أبو العزائم عيسى صاحب دمشق ، وشقيق الملك العزيز عماد الدين عثمان صاحب بانياس " وكان جوادا شهما " والملك الأمجد مجد الدين حسن ، ومات في حياة أبيه بالقدس ، ودفن في مدرسة بنيت له ، ثم نقل إلى الكرك والملك الأشرف مظفر الدين موسى صاحب الشرق وخلاط ، بعد أخيه الملك الأوحد، والملك المظفر شهاب الدين غازي صاحب ميافارتن ، وشقيقاه الملك المعز مجير الدين يعقوب ، والملك القاهر بهاء الدين تاج الملوك إسحاق ، والملك الصا لح عماد الدين إسماعيل ، صاحب بصرى، ثم دمشق ، والملك المفضل قطب الدين أحمد، ومات بمصر في أيام أخيه الكامل بالفيوم ، ووصل في تابوت إلى القاهرة، في نصف رجب سنة ثمان عشرة وستمائة، والملك الأمجد تقي الدين عباس ، وهو أصغرهم ، ولد في سنة ثلاث وستمائة، ومات آخرهم بدمشق ، في سنة تسع وستين وستمائة، في أيام الملك الظاهر بيبرس ، والملك الحافظ نور الدين أرسلان صاحب قلعة جعبر، والملك القاهر بهاء الدين خضر، والملك المغيث شهاب الدين محمود، والملك الناصر صلاح الدين خليل .
ووزر للملك العادل صنيعة الملك أبو سعيد بن أبي اليمن بن النحال مدة يسيرة، وكان نصرانيا فأسلم على يده بعد عوده مع الأفضل علي بن صلاح الدين إلى مصر في سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة، فلما مات ابن النحال استوزر العادل الصاحب صفي الدين عبد الله بن شكر الدميري،فتجبر وسطا، وتمكن من السلطان ، واستولى عليه ، وعظم قدره . وأوقع ابن شكر بعدة من الأكابر، وصادر أكابر كتاب الدولة، واستصفى أموالهم . ففر منه القاضي الأشرف ابن القاضي الفاضل إلى بغداد، واستشفع بالخليفة الناصر لدين ا لله ، وأحضر كتاب شفاعته إلى العادل ، وفر منه علم الدين بن أبي الحجاج ، صاحب ديوان الجيش ، والأسعد بن مماتي صاحب ديوان المال ، إلى حلب ، فأكرمهما الملك الظاهر، حتى ماتا عنده ، وصادر بني حمدان وبني الجباب وبني الجليس ، وأعيان الكتاب المستوفين ، والعادل لا يعارضه في شيء، هذا وهو يتغضب على السلطان ، واستمر على هذا الحال إلى أن غضب على السلطان مرة في سنة تسع وستمائة، وحلف أنه ما بقي يخدمه ، فأخرجه السلطان العادل من مصر، بجميع أمواله وحرمه ، فكان ثقله على ثلاثين جملا، وحسن أعداؤه للسلطان أن يأخذ ماله ، فامتنع واكتفى بإخراجه إلى آمد. وسار صفي الدين إلى آمد، فأقام عند الصالح بن أرتق ، فأقام العادل من بعده القاضي فخر الدين مقدام بن شكر، ثم نقم عليه في سنة اثنتي عشرة وستمائة، وضربه وقيده ، وأخرجه من مصر، ولم يستوزر بعده أحدا .
من أعجب الاتفاقات أن الملك الأفضل علي بن صلاح الدين يوسف لم يملك مملكة إلا وأخذها عمه العادل منه : فأول ذلك أن أباه أقطعه حران والرها وميافارقن في سنة ست وثمانين وخمسمائة، فسار إليها، حتى إذا بلغ حلب رده أبوه ، وبعث الملك العادل بدله ، ثم ملك الأفضل بعد أبيه دمشق ، فأخذها العادل منه ، ثم ملك مصر بعد ذلك ، فأخذها منه العادل ، ثم ملك صرخد، فأخذها منه العادل ، وعوضه قلعة نجم وسروج ، ثم استرجعهما منه بعد ذلك .(1/54)
فلما تمهدت للملك العادل الممالك قسمها بين أولاده ، فملك هو وأولاده من خلاط إلى اليمن ، ورأى العادل في أولاده ما يحب ، من اتساع الممالك وكثرة الظفر بالأعداء، بحيث لم يسمع عن ملك أنه رأى في أولاده ما رآه العادل ، فإنه اجتمع في كل منهم من النجابة والنبل ، والكفاية والمعرفة، والفضيلة وعلو الهمة، ما لا مزيد عليه ، ودانت لهم العباد، وملكوا خيار البلاد، وكان كثيرا ما يتردد العادل في ممالك أولاده ، وأكثر أوقاته يصيف بدمشق ، ويشتي بمصر، وكان أكولا نهما، يأكل خروفا مشويا بمفرده ، وله اقتدار زائد على النكاح ، ومتع في دنياه بأرغد عيش ، وتمكن من السعادة في سائر أحواله ، وكان حميد السيرة، حسن العقيدة، كثير السياسة، صاحب معرفة بدقائق الأمور، قد حنكته التجارب ، فسعدت آراؤه ، ونجحت تدبيراته ، وكان لا يرى محاربة أعدائه ، ويستعمل في مقاصده المكائد والخدع ، فهادنته الفرنج لقوة حزمه وشدة تيقظه ، وغزارة عقله وقوة كيده ، ومكره ومداومته على المخادعة والمخاتلة، وكثرة صبره وحلمه وأناته ، بحيث إنه كان إذا سمع مايكره يغضي عنه تجاوزا وصفحا، كأنه لم يبلغه ، وكان لا يخرج المال إلا عند الاحتياج إلى إخراجه ، فيسمح حينئذ ببدل الكثير منه ، ولا يتوقف فيما ينفق ، فإذا لم يحتج إلى أخرج المال ضن به وأمسكه ، فثابت له بذلك أغراضه كما يجب ، وانقادت له الأمور مثل ما يختار، وكان يحافظ على أداء الصلوات في أوقاتها، ويحب السنة، ويكرم العلماء، مع العظمة وقوة المهابة المتمكنة في القلوب ، وله صنف الإمام فخر الدين الرازي كتاب تأسيس التقديس ، وبعث به إليه من بلاد خراسان .
ومات الملك العادل عن خمس وسبعين " وقيل ثلاث وسبعين " سنة، وترك مالا كثيرا، منه في خزائنه " التي استولى عليها ابنه المعظم " سبعمائة ألف دينار مصرية، سوى ما كان له في الكرك ، فاحتوى عليه أيضا الملك المعظم ، وكتب المعظم إلى أخوته بموت أبيه ، فجلس الملك الكامل للعزاء في معسكره بظاهر دمياط ، وارتاع لموت أبيه خوفا من الفرنج .
السلطان الملك الكامل ناصر الدين أبو المعالي محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب ، سادس ملوك مصر من الأيوبيين ، استقل بمملكة مصر بعد موت أبيه ، بعهده إليه في حياته ، وكانت سلطنته بعد السابع من جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وستمائة عندما وصل إليه نعي أبيه ، وهو بالمنزلة العادلية على محاربة الفرنج ، وقد ملكوا البر الغربي، واستولوا على برج السلسلة، وقطعوا السلاسل المتصلة به ، لتعبر مراكبهم في بحر النيل ، ويتمكنوا من أرض مصر، فنصب الملك الكامل عوضا من السلاسل جسرا عظيما، يمنع الفرنج من عبور النيل ، فقاتل الفرنج عليه قتالا كثيرا حتى قطعوه ، وكان قد أنفق على هذا البرج والجسر ما ينيف على سبعين ألف دينار، فأمر الكامل بتغريق عدة من المراكب في النيل ، منعت الفرنج من سلوكه ، فعدل الفرنج إلى خليج هناك يعرف بالأزرق ، كان النيل يجرى فيه قديما، فحفروه حفرا عميقا، وأجروا فيه الماء إلى البحر الملح ، فجرت سفنهم فيه إلى ناحية بورة على أرض جيزة دمياط ، تجاه المنزلة التي فيها الكامل ، ليقاتلوه من هناك ، فلما استقروا في بورة حاذوه ، وقاتلوه في الماء، وزحفوا إليه غير مرة، فلم ينالوا منه غرضا طائلا، و لم يضر أهل دمياط ذلك ، لتواصل الأمداد والميرة إليهم ، وكون النيل يحجز بينهم وبين الفرنج ، بحيث كانت أبواب المدينة مفتحة، وليس عليها حصر ولا ضيق ألبتة.(1/55)
هذا والعربان تخطف الفرنج في كل ليلة، بحيث منعهم ذلك من الرقاد، خوفا من غاراتهم، فتكالب العرب عليهم حتى صاروا يختطفونهم نهارا، ويأخذون الخيم بمن فيها، فأكمن لهم الفرنج عدة كمناء، وقتلوا منهم خلقا كثيرا، وأدرك الناس الشتاء، فهاج البحر على معسكر المسلمين ، وغرق الخيم ، فعظم البلاء، واشتد الكرب ، وألح الفرنج في القتال ، و لم يبق إلا أن يملكوا البلاد، فأرسل الله سبحانه ريحا قطعت مراسي مرمة كانت للفرنج من عجائب الدنيا، فمرت تلك المرمة إلى البر الذي فيه المسلمون فملكوها، فإذا هي مصفحة بالحديد، لا تعمل فيها النار، ومساحتها خمسمائة ذراع ، وفيها من المسامير ما زنة الواحد منها خمسة وعشرون رطلا، وبعث السلطان إلى الآفاق سبعين رسولا، يستنجد أهل الإسلام على قتال الفرنج ، ويستحثهم على إنقاذ المسلمين منهم واغاثتهم ، ويخوفهم من تغلب الفرنج على مصر، فإنه متى ملكوها لا يمتنع عليهم شيء من الممالك بعدها، فسارت الرسل في شوال ، فقدمت النجدات من حماة وحلب ، إلا أنه لما قدم على المعسكر موت العادل وقع الطمع في الملك الكامل ، وثار العرب بنواحي أرض مصر، وكثر خلافهم واشتد ضررهم ، واتفق مع ذلك قيام الأمير عماد الدين أحمد بن الأمير سيف الدين أبي الحسن علي بن أحمد الهكاري، والمعروف بابن المشطوب ، وكان أجل الأمراء الأكابر، وله لفيف من الأكراد الهكارية ، ينقادون إليه ويطيعونه ، مع أنه كان وافر الحرمة عند الملوك ، معدودا بينهم كواحد منهم ، معروفا بعلو الهمة وكثرة الجود، وسعة الكرم والشجاعة، تهابه الملوك ، وله وقائع مشهورة في القيام عليهم ، ولما مات أبوه ، وكانت نابلس إقطاعا له ، أرصد ثلثها السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب لمصالح القدس ، وأقطع ابنه عماد الدين هذا بقيتها، فلم يزل قائم الجاه من الأيام الصلاحية، فاتفق عماد الدين مع جماعة من الأكراد والجند على خلع الملك الكامل ، وتمليك أخيه الفائز إبراهيم ، ليصير لهم التحكم في المملكة، ووافقه على ذلك الأمير عز الدين الحميدي، والأمير أسد الدين الهكاري، والأمير مجاهد الدين ، وعدة من الأمراء، فلما بلغ الكامل ذلك دخل عليهم ، فإذا هم مجتمعون وبين أيديهم المصحف ، وهم يحلفون لأخيه الفائز، فعندما رأوه تفرقوا، فخشي على نفسه منهم ، وخرج ، فاتفق قدوم الصاحب صفي الدين بن شكر من آمد، فإنه كان قد استدعاه الكامل بعد موت أبيه ، فتلقاه الكامل وأكرمه ، وأوقفه على ما فيه جماعة الأمراء، فشجعه وضمن له تحصيل المال وتدبير الأمور، فلما كان في الليل ركب الكامل من المنزلة العادلية، في الليل جريدة، وسار إلى أشموم طناح فنزل بها، وأصبح العسكر وقد فقدوا السلطان ، فركب كل أحد هواه ، ولم يعرج واحد منهم على آخر، وتركوا أثقالهم وخيامهم وأموالهم وأسلحتهم ، و لم يأخذ كل أحد إلا ما خف حمله ، فبادر الفرنج عند ذلك ، وعبروا بر دمياط وهم آمنون ، من غير منازع ولا مدافع ، وأخذوا كل ما كان في معسكر المسلمين ، وكان شيئا لا يقدر قدره ، وذلك لبضع عشرة ليلة خلت من ذي القعدة، فكان نزول الفرنج قبالة دمياط في يوم الثلاثاء ثاني شهر ربيع الأول سنة خمس عشرة وستمائة، ونزولهم في البر الشرقي " حيث مدينة دمياط " يوم الثلاثاء سادس ذي القعدة سنة ست عشرة، فتزلزل الملك الكامل، وهم بمفارقة أرض مصر، ثم تثبت ، فتلاحق به العسكر، وبعد يومين وصل إليه أخوه الملك المعظم عيسى صاحب دمشق " وهو بأشموم " في ثامن عشر ذي القعدة ، فقويت به شوكته ، وأعلمه بما كان من أمر ابن المشطو ب ، فوعده بإزالته عنه . ثم ركب المعظم إلى خيمة ابن المشطوب ، واستدعاه للركوب معه للمسايرة، فاستمهله حتى يلبس خفيه وثيابه ، فلم يمهله وأعجله ، فركب معه وهو آمن ، وسايره حتى خرج به من المعسكر وبعد عنه ، فالتفت إليه المعظم ، وقال . " يا عماد الدين ! هذه البلاد لك ، أشتهي أن تهبها لنا " . وأعطاه نفقة، وأسلمه إلى جماعة من أصحابه يثق بهم ، كان قد أعدهم لهذا الأمر، وأمرهم أن يلازموه إلى أن يخرج من الرمل ، ويحتفظوا به إلى أن يدخل إلى الشام ، فما وجد ابن المشطوب سبيلا إلى الامتناع ، ولا قدر على المدافعة، لأنه بمفرده بينهم ، فساروا به على تلك الحالة إلى الشام ، فنزل بحماة عند الملك المنصور، وسه أربعة من خدمه ، ولما سار ابن المشطوب رجع(1/56)
المعظم إلى أخيه الكامل ، وتقدم إلى أخيه الفائز بأن يمضي إلى الملوك الأيوبية بالشام والشرق رسولا عن الملك الكامل ، بسبب إرسال عساكر الإسلام ، لاستنقاذ دمياط وأرض مصر من الفرنج ، وكتب الكامل إلى أخيه الأشرف موسى شاه أرمن ، يستحثه على سرعة الحضور، وصدر المكاتبة بهذه الأبيات :لمعظم إلى أخيه الكامل ، وتقدم إلى أخيه الفائز بأن يمضي إلى الملوك الأيوبية بالشام والشرق رسولا عن الملك الكامل ، بسبب إرسال عساكر الإسلام ، لاستنقاذ دمياط وأرض مصر من الفرنج ، وكتب الكامل إلى أخيه الأشرف موسى شاه أرمن ، يستحثه على سرعة الحضور، وصدر المكاتبة بهذه الأبيات :
يامسعدي إن كنت حقا مسعفي ... فانهض بغير تلبث وتوقف
واحثث قلوصك مرقلا أو موجفا ... بتجشم في سيرها وتعسف
واطو المنازل ما استطعت ولا تنخ ... إلا على باب المليك الأشرف
واقر السلام عليه من عبد له ... متوقع لقدومه متشوف
وإذا وصلت إلى حماة فقل له ... عني بحسن توصل وتلطف
إن تأت عبدك عن قليل تلقه ... ما بين كل مهند ومثقف
أو تبط عن إنجاده فلقاؤه ... بل في القيامة في عراص الموقف
فسار الفائز " وكان الغرض إخراجه من أرض مصر " فمضى إلى دمشق، ورحل إلى حماة، ثم سار إلى الشرق ، فانتظم أمر الكامل ، وقوى ساعده ، وترتبت قواعد ملكه ، وسار عنه المعظم ، هذا والفرنج قد أحاطوا بدمياط من البحر والبر، وأحدقوا بها وحصروها، وضيقوا على أهلها، ومنعوا الأقوات أن تصل إليهم ، وحفروا على معسكرهم المحيط بدمياط خندقا، وبنوا عليه سورا، وأهل دمياط يقاتلونهم أشد قتال ، وأنزل الله عليهم الصبر، فثبتوا مع قلة الأقوات عندهم وشدة غلاء الأسعار، وأخذ الكامل في محاربة الفرنج ، وهم قد حالوا بينه وبينها، ولم يصل إليها أحد من عنده سوى رجل من الجاندارية، وكان هذا الرجل قد قدم إلى القاهرة من بعض قرى حماة، و يسمى شمايل ، فتوصل حتى صار يخدم في الركاب السلطاني جاندار، وكان يخاطر بنفسه ، ويسبح في النيل " ومراكب الفرنج به محيطة، والنيل قد امتلأت به شواني الفرنج " فيدخل إلى مدينة دمياط ، ويأتي السلطان بأخبار أهلها، فإذا دخل إليها قوى قلوب أهلها، ووعدهم بقرب وصول النجدات ، فحظي بذلك عند الكامل ، وتقدم تقدما كثيرا، وجعله أمير جانداره وسيف نقمته ، وولاه القاهرة، وإليه تنسب خزانة شمايل ، وكان في دمياط من أهلها الأمير جمال الدين الكناني، فكتب هذه الأبيات ، وألقاها إلى الملك الكامل في سهم نشاب ، وهى :
يا مالكي دمياط ثغر هدمت ... الله ضامن أجره وكفيلهشرفاته
يقريك من أزكى السلام تحية ... كادت تجث أصوله
ويقول عن بعد وإنك سامع ... كالمسك طاب دقيقه وجليله
يأيها الملك الذي ما إن يرى ... حتى كأنك جاره ونزيله
هذا كتاب موضح من حالتي ... بي الملوك شبيهه وعديله
أشكو إليك عدو سوء أحدقت ... ما ليس يمكنني لديك أقوله
فالبر قد منعت إليه طريقه ... بجميعه فرسانه وخيوله
فخضوعه باد على أبراجه ... والبحر عز لنصره أسطوله
ولو استطاع لأم بابك لائذا ... وحنينه وبكاؤه وعويله
ورسوله في أن تجيب دعاءه ... لكنه سدت عليه سبيله
فقد انتهت أدواؤه وتحكمت ... دين الإله وخلقه ورسوله
وبقي له رمق يسيريرتجى ... علاته ونحا عليه نحوله
فاحرس حماك بعزمة تشفى بها ... أن يشتفي لما دعاك عليله
فالله أعطاك الكثير بفضله ... داء لمثلك يرتجى تعليله
فالعذر في نصر الإله ودينه ... ورضاه من هذا الكثير قليله
والثغر ناظره إليك محدق ... ما ساغ عند المسلمين قبوله
ولئن قعدت عن القيام بنصره ... ما إن يمل من الدموع هموله(1/57)
ووهت قوى القرآن فيه ورفعت ... جفت نضارته وبان ذبوله
وعلا صدى الناقوس في أرجائه ... صلبانه وتلى به إنجيله
هذا وحقك وصف صورة حاله ... وخفي على سمع الورى تهليله
وكفاك يابن الأكرمين بأنه ... حقا وجملته وذا تفصيله
حقق رجاء فيك يا من لم يخع ... أضحى عليك من الورى تعويله
واذخر ليوم البعث فعلا صالحا ... أبدا لراجي جوده تأميله
فلما وقف السلطان على هذه الأبيات أمر أهل القاهرة ومصر بالنفير للجهاد،وخرجت السنة والحال على ذلك .
وفيها استدعى الملك الغالب كيكاوس بن كيخسرو بن قلج أرسلان ، ملك الروم ، بالملك الأفضل نور الدين علي بن صلاح الدين يوسف " وكان بسميساط " ، ويخطب للملك الغالب ، فلما قدم عليه أكرمه ، وحمل إليه شيئا كثيرا من المال والخيل والسلاح وغيره ، وتحالفا على المسير إلى المملكة الحلبية وأخذها، بشرط أن يدفعها الملك الغالب ، هي وسائر ما يفتحه إلى الملك الأفضل ، ليقيم له فيها الخطبة والسكة، ويصير في طاعته ، فإذا تم ذلك سارا إلى الشرق ، وأخذا حران والرها وغيرها، فسارا يالعساكر وأخذا قلعة رعبان فتسلمها الأفضل ، ومال إليه الناس ، واجتمعوا على الملك الغالب ، لمحبتهم في الأفضل ، ثم سار إلى قلعة تل باشر، فحصراها حتى ملكاها، فلم يسلمها الملك الغالب للأفضل ، وأقام نائبا من قبله ، فنفر منه الأفضل وفترت همته ، وعلم أن هذأ أول الغدر، وأعرض أهل البلاد أيضا عن الملك الغالب ، واستعد أهل حلب ، واستدعوا الملك الأشرف من بحيرة قدس ، وكان نازلا عليها تجاه الفرنج ، فقدم إليهم بعساكره ، وحضرت عرب طيء وغيرها، إلى ظاهر حلب ، فحسن الأفضل للملك الغالب التوجه إلى منبج ، فسارا إليها، فواقع العرب مقدمة الملك الغالب ، فانهزمت ، وأسر العرب وأصحاب الأشرف كثيرا منهم ، فرجع عند ذلك الملك الغالب إلى بلاده ، وسار الأشرف ، فاستولى على رعبان وتل باشر.
وفيها مات الملك القاهر عز الدين مسعود بن أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن عماد الدين زنكي آقسنقر، صاحب الموصل ، لثلاث بقين من ربيع الأول ، وكانت مدة ملكه سبع سنين وتسعة أشهر، وقام من بعده ابنه نور الدين أرسلان شاه ، وعمره عشر سنين ، فدبر أمره الأمير بدر الدين لؤلؤ الأتابك ، فأقرهما الخليفة الناصر.
سنة ست عشرة وستمائة
فيها قدم الملك المظفر تقي الدين محمود بن المنصور محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب - صاحب حماة - إلى الملك الكامل، نجدة في عسكر كثيف، ومعه الطواشي مرشد المنصوري، فتلقاه السلطان وأعظم قدره، وأنزله على مينته، وهي المنزلة التي كانت لأبيه وجده عند السلطان صلاح الدين يوسف، ووصل الفائز إبراهيم بن العادل إلى أخيه الأشرف موسى برسالة أخيهما الكامل للاستنجاد على الفرنج، فأكرمه وأمسكه عنده، فإن الغرض إنما كان إخراجه من أرض مصر.(1/58)
وفيها اشتد قتال الفرنج، وعظمت نكايتهم لأهل دمياط، وكان فيها نحو العشرين ألف مقاتل، فنهكتهم الأمراض، وغلت عندهم الأسعار، حتى أبيعت البيضة الواحدة من بيض الدجاج بعدة دنانير، وامتلأت الطرقات من الأموات، وعدمت الأقوات، وصار السكر في عزة الياقوت، وفقدت اللحوم فلم يقدر عليها بوجه، وآلت بالناس الحال إلى أن لم يبق عندهم غير شيء يسير من القمح والشجر فقط، فتسور الفرنج السور، وملكوا منه البلد يوم الثلاثاء لخمس بقين من شعبان، فكانت مدة الحصار ستة عشر شهراً واثنين وعشرين يوماً، وعندما أخذوا دمياط وضعوا السيف في الناس، فلم يعرف عدد من قتل لكثرتهم، ورحل السلطان بعد ذلك بيومين، ونزل قبالة طلخا، على رأس بحر أكوم ورأس بحر دمياط، وخيم بالمنزلة التي عرفت بالمنصورة وحصن الفرنج أسوار في مياط، وجعلوا جامعها كنيسة، وبثوا سراياهم في القرى يقتلون ويأسرون، فعظم الخطب واشتد البلاء، وندب السلطان الناس وفرقهم في الأرض، فخرجوا إلى الآفاق يستصرخون الناس لاستنقاذ أرض مصر من أيدي الفرنج، وشرع السلطان في بناء الحور والفنادق والحمامات والأسواق بمنزلة المنصورة وجهز الفرنج من حصل في أيديهم من أسارى المسلمين في البحر إلى عكا وبرزوا من مدينة دمياط يريدون أخذ مصر والقاهرة، فنازلوا السلطان تجاه المنصورة، وصار بينهم وبين العسكر بحر أشموم وبحر دمياط، وكان الفرنج في مائتي ألف رجل وعشرة آلاف فارس، فقدم السلطان الشواني تجاه المنصورة، وهي مائة قطعة، واجتمع الناس من أهل ومصر وسائر النواحي ما بين أسوان إلى القاهرة، ووصل الأمير حسام الدين يونس، والفقيه تقي الدين طاهر المحلي، فأخرجا الناس من القاهرة ومصر، ونودي بالنفير العام، وألا يبقى أحد وذكروا أن ملك الفرنج قد أقطع ديار مصر لأصحابه.
فقال:
يهددونا بأهل عكا ... أن يملكونا وأهل يافا
ومن لنا أن يلوا علينا ... فالروم خير من الريافا
يعني أهل الريف، فإنه كان قد كثر تسلطهم، وطمعوا في أمر السلطان، واستخفوا به، لشغله بالفرنج عنهم، وخرج الأمير علاء الدين جلدك، والأمير جمال الدين بن صيرم، لجمع الناس مما بين القاهرة إلى آخر الحوف الشرقي فأجمع من المسلمين عالم لا يقع عليه حصر، وأنزل السلطان على ناحية شار مساح ألفي فارس، في آلاف من العربان، ليحولوا بين الفرنج وبين دمياط، وسارت الشواني - ومعها حراقة كبيرة - إلى رأس بحر المحلة، وعليها الأمير بدر الدين بن حسون، فانقطعت الميرة عن الفرنج من البر والبحر، وقدمت النجمات للملك الكافي من بلاد الشام، وخرجت أمم الفرنج من داخل البحر تريد مدد الفرنج على دمياط فوافى دمياط منهم طوائف لا يحصي لهم عدد فلما تكامل جمعهم بدمياط خرجوا منها، في حدهم وحديدهم، وقد زين لهم سوء عملهم أن يملكوا أرض مصر، ويستولوا منها على مماليك البسيطة كلها، فلما قدمت النجدات كان أولها قدوماً الملك الأشرف موسى بن العادل، وآخرها على السكة الملك المعظم عيسى، وفيما بينهما بقية الملوك: وهم المنصور صاحب حماة، والناصر صلاح الدين قلج أرسلان، والمجاهد صاحب حمص، والأمجد بهرام شاه صاحب بعلبك وغيرهم، فهال الفرنج ما رأوا، وكان قدوم هذه النجدات في ثالث عشري جمادى الآخرة سنة ثمان عشرة، وتتابع قدوم النجدات حتى بلغ عدد فرسان المسلمين نحو الأربعين ألفاً، فحاربوا الفرنج في البر والبحر، وأخفوا منهم ست شواني وجلاسة وبطسة، وأسروا منهم ألفين ومائتي رجل، ثم ظفروا أيضاً بثلاث قطائع فتضعضع الفرنج لذلك، وضاق بهم المقام، وبعثوا يسألون في الصلح، كما سيأتي إن شاء الله.
وفيها مات قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي بن مودود، صاحب سنجار، وقام من بعده ابنه عماد الدين شاهنشاه، ثم قتله أخوه الأمجد عمر.
ومات نور الدين أرسلان شاه، صاحب الموصل، فقام من بعده الأمير بحر الدين لؤلؤ بأمر أخيه ناصر الدين محمود بن القاهر عز الدين، وعمره ثلاث سنين.(1/59)
وفيها أمر الملك المعظم عيسى بتخريب القدس، خوفاً من استيلاء الفرنج عليها، فخربت أسوار المدينة وأبراجها كلها، إلا برج داود - وكان من غربي البلد - فإنه أبقاه، وخرج معظم من كان في القدس من الناس، ولم يبق فيه إلا نفر يسير، ونقل المعظم ما كان في القدس من الأسلحة وآلات القتال، فشق على المسلمين تخريب القدس وأخذ دمياط.
وفيها هدم المعظم أيضاً قلعة الطور التي بناها أبوه العادل، وعفى أثارها.
وفيها خرجت كتب الخليفة الناصر لدين الله إلى سائر الممالك، بإنجاد الملك الكامل بدمياط.
وفيها مات عز الدين كيكاوس بن غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان، ملك قونية، بعدما ملك أرزن الروم من عمه طغرل شاه ابن قلج شاه بن قلج أرسلان، وملك أنكورية من أخيه كيقباد، فصار سلطان الروم، وقام من بعده أخوه علاء الدين كيقباد.
وفيها ابتدأ ظهور التتار - ومساكنهم جبال طمغاج من أرض الصين، بينها وبين بلاد التركستان ما يزيد على ستة أشهر - واستولوا على كثير من بلاد الإسلام، وكانوا لا يدينون بدين، إلا أنهم يعرفون بالله تعالى، من غير اعتقاد شريعة، فملكوا الصين - وكان ملكهم يقال له جنكزخان - ثم ساروا إلى تركستان وكاشغر فملكوا تلك البلاد، وأغاروا على أطراف بلاد السلطان علاء الدين محمد بن خوارزم شاه تكش بن ألب أرسلان محمد بن جغري بك داود بن ميكائيل بن سلجوق، ثم استولوا على بخاري وغيرها من بلاد العجم.
سنة سبع عشرة وستمائة
أهلت وانقضت، والحرب قائمة بين المسلمين وبين الفرنج على دمياط، في منزلة المنصورة.
وفيها استولى التتر على سمرقند وهزموا السلطان علاء الدين، وملكوا الري وهمذان وقزوين، وحاربوا الكرج، وملكوا فرغانة والترمذ وخوارزم، وخراسان ومرو ونيسابور، وطوس وهراة وغزنة.
وفيها ملك الأشرف موسى بن العادل ماردين وسنجار.
وفيها مات الملك المنصور ناصر الدين محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب بن شادي صاحب حماة - وكان إماماً مفتياً في عدة علوم، وله شعر جيد - في ذي القعدة، عن خمسين سنة، منها مدة ملكه ثلاثون سنة، وكان ابنه الأكبر الملك المظفر تقي الدين محمود في معسكر خاله الملك الكامل، بالمنصورة على مقاتلة الفرنج، فقام بمملكة حماة الملك الناصر قلج أرسلان بن المنصور، وكان عمره سبع عشرة سنة، فشق بذلك على أخيه المظفر، واستأذن الملك الكامل في العود إلى حماة، ظناً منه أنه يملكها، فإنه كان ولي عهد أبيه، فأذن له الملك الكامل، وسار فلقى الملك المعظم في الغور، فخوفه من التعرض إلى أخيه، فأقام بدمشق، ثم رجع المظفر إلى الملك الكامل، فأقطعه إقطاعاً، وأقام في خدمته.
وفيها كثرت مصادرة الصاحب صفي الدين بن شكر أرباب الأموال بمصر والقاهرة، من التجار والكتاب: وقرر التبرع على الأملاك، وهو مال جبي من الناس، وأحدث ابن شكر حوادث كثيرة، وحصل مالاً جماً.
وفيها قوي طمع الفرنج في ملك ديار مصر، وعزموا على التقدم إلى المسلمين، ليدفعوهم عن منزلتهم، ويستولوا على البلاد، فانقضت السنة وهم تجاه المسلمين على رأس بحر أشموم ودمياط.
وفيها غلت الأسعار بأرض مصر، فبلغ القمح ثلاثة دنانير كل أردب، فكانت من أشق السنين وأشدها على أهل مصر.
وفيها مات الشريف أبو عزيز قتادة بن أبي مالك إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم ابن عيسى بن حسين بن سليمان بن على بن عبد الله بن محمد بن موسى بن عبد الله ابن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن أبي طالب رضي الله عنه، سلطان مكة، في أخر جمادى الآخرة بمكة، عن تسعين سنة، وله شعر جيد، وقدم مصر غير مرة، ومعه أخوه أبو موسى عيسى، وكانت ولادته ومرباه بالينبع. وملك مكة بعده ابنه حسن بن قتادة فسار راجح بن قتادة مغاضباً له، وقطع الطريق في الموسم بين مكة وعرفة، فقبض عليه أقباش أمير الحاج العراقي، فبعث الشريف حسن لأقباش يعده بمال ليسلمه راجحاً، فوعده راجح بأكثر من ذلك، فعزم أقباش على أن يسلمه مكة، وتقدم لمقاتلة أميرها، فقتل أقباش، وفر راجح إلى الملك المسعود باليمن.
سنة ثمان عشرة وستمائة(1/60)
فيها اشتدت قوة الفرنج، بكثرة من قدم إليهم في البحر، فتابع الملك الكامل الرسل في طلب النجدات، فقدمت عليه الملوك كما تقدم، واشتد القتال بين الفريقين براً وبحراً، وقد اجتمع من الفرنج والمسلمين ما لا يعلم عددهم إلا الله، وكانت العامة تكر على الفرنج أكثر ما يكر عليهم العسكر، وتقدم جماعة من العسكر إلى خليج من النيل في البر الغربي، يعرف ببحر المحلة، وقاتلوا الفرنج منه، وتقدمت الشواني الإسلامية في بحر النيل، لتقاتل شواني الفرنج، فأخفوا منها ثلاث قطع برحالها وأسلحتها.(1/61)
هذا والرسل تزدد من عند الفرنج في طلب الصلح بشروط: منها أخذ القدس وعسقلان وطبرية، وجبلة واللاذقية، وسائر ما فتحه السلطان صلاح الدين من بلاد الساحل، فأجابهم الملوك إلى ذلك، ماخلا الكرك والشوبك، فأبى الفرنج، وقالوا: لا نسلم دمياط حتى تسلموا ذلك كله فرضي الكامل، فامتنع الفرنج، وقالوا: لا بد أن تعطونا خمسمائة ألف دينار، لنعمر بها ما خربتم من أسوار القدس، مع أخذ ما ذكر من البلاد، وأخذ الكرك والشوبك أيضاً، فاضطر المسلمون إلى قتالهم ومصابرتهم، وعبر جماعة من المسلمين في بحر المحلة إلى الأرض التي عليها معسكر الفرنج، وفتحوا مكاناً عظيماً في النيل، وكان الوقت في قوة الزيادة، فإنه كان أول ليلة من توت، والفرنج لا معرفة لهم بحال أرض مصر، ولا بأمر النيل، فلم يشعر الفرنج إلا والماء قد غرق أكثر الأرض التي هم عليها، وصار حائلاً بينهم وبين دمياط، وأصبحوا وليس لهم جهة يسلكونها، سوي جهة واحدة ضيقة، فأمر السلطان في الحال بنصب الجسور عند بحر أشموم طناح، فتهيأ الفراغ منها، وعبرت العساكر الإسلامية عليها، وملكت الطريق التي تسلكها الفرنج إلى دمياط، فانحصروا من سائر الجهات، وقدر الله سبحانه بوصول فرقة عظيمة في البحر للفرنج، وحولها عدة حراقات تحميها، وسائرها مشحونة بالميرة والسلاح، وسائر ما يحتاج إليه، فأوقع بها شواني الإسلام، وكانت بينهما حرب، أنزل الله فيها نصره على المسلمين، فظفروا بها وبما معها من الحراقات، ففت ذلك في أعضاد الفرنج، وألقي في قلوبهم الرعب والذلة، بعدما كانوا في غاية الاستظهار والعنت على المسلمين، وعلموا أنهم مأخوذون لا محالة، وعظمت نكاية المسلمين بهم، برميهم إياهم بالسهام، وحملهم على أطرافهم، فاجمعوا أمرهم على مناهضة المسلمين، ظناً منهم أنهم يصلون إلى دمياط، فخربوا خيامهم ومجانيقهم، وعزموا على أن يحطموا حطمة واحدة. فلم يجدوا إلى ذلك سبيلاً، لكثرة الوحل والمياه التي قد ركبت الأرض من حولهم، فعجزوا عن الإقامة لقلة الأزواد عندهم، ولاذوا إلى طلب الصلح، وبعثوا يسألون الملك الكامل - وإخوته الأشرف والمعظم - الأمان لأنفسهم، وأنهم يسلمون دمياط بغير عوض، فاقتضى رأي الملك الكامل إجابتهم، واقتضى رأي غيره من إخوته مناهضتهم، واجتثاث أصلهم البتة، فخاف الملك الكامل إن فعل ذلك أن يمتنع من بقي منهم بدمياط أن يسلمها، ويحتاج الحال إلى منازلتها مدة، فإنها كانت ذات أسوار منيعة، وزاد الفرنج عندما استولوا عليها في تحصينها، ولا يؤمن في طول محاصرتها أن يفد ملوك الفرنج نجدة لمن فيها، وطلباً لثأر من قتل من أكابرهم، هذا وقد ضجرت عساكر المسلمين، وملت من طول الحرب، فإنها مقيمة في محاربة الفرنج ثلاث سنين وأشهراً، وما زال الكامل قائماً في تأمين الفرنج إلى أن وافقه بقية الملوك على أن يبعث الفرنج برهائن من ملوكهم - لا من أمرائهم - إلى أن يسلموا دمياط فطلب الفرنج أن يكون ابن الملك الكامل عندهم رهينة، إلى أن تعود إليهم رهائنهم، فتقرر الأمر على ذلك، وحلف كل من ملوك المسلمين والفرنج، في سابع شهر رجب، وبعث الفرنج بعشرين ملكاً من ملوكهم رهناً، منهم يوحنا صاحب عكا، ونائب البابا، وبعث الملك الكامل إليهم بابنه الملك الصالح نجم الدين أيوب وله من العمر يومئذ خمس عشرة سنة، ومعه جماعة من خواصه، وعندما قدم ملوك الفرنج جلس لهم الملك الكامل مجلساً عظيماً، ووقف الملوك من اخوته وأهل بيته بين يديه بظاهر البرمون، في يوم الأربعاء التاسع عشر من شهر رجب، فهال الفرنج ما شاهدوا من تلك العظمة وبهاء ذلك الناموس، وقدمت قسوس الفرنج ورهبانهم إلى دمياط، ليسلموها إلى المسلمين، فتسلمها المسلمون في يوم الأربعاء التاسع عشر من شهر رجب، فلما تسلمها المسلمون قدم في ذلك اليوم من الفرنج نجدة عظيمة، يقال أنها ألف مركب، فعد تأخرهم إلى ما بعد تسليمها من الفرنج صنعاً جميلاً من الله سبحانه، وشاهد المسلمون عندما تسلموا دمياط من تحصين الفرنج لها ما لا يمكن أخذها بقوة البتة، وبعث السلطان بمن كان عنده في الرهن من الفرنج، وقدم الملك الصالح ومن كان معه، وتقررت الهدنة بين الفرنج وبين المسلمين مدة ثماني سنين، على أن كلاً من الفريقين يطلق ما عنده من الأسرى، وحلف السلطان وإخوته، وحلف ملوك الفرنج، على ذلك، وتفرق من كان قد حضر للقتال(1/62)
فكانت مدة استيلاء الفرنج على دمياط سنة واحدة وعشرة أشهر وأربعة وعشرين يوماً، ثم دخل الملك الكامل إلى دمياط بعساكره وأهله، وكان لدخوله مسرة عظيمة وابتهاج زائد، ثم سار الفرنج إلى بلادهم وعاد السلطان إلى قلعة الجبل في يوم الجمعة ثاني عشر شهر ومضان، ودخل الوزير الصاحب صفي الدين عبد الله بن علي بن شكر في البحر، وأطلق من كان بمصر من الأسرى، وكان فيهم من أسر من الأيام الصلاحية، وأطلق الفرنج من كان في بلادهم من أسرى المسلمين، واتفق أنه لما رحل الفرنج اجتمع في ليلة عند الملك الكامل أخواه المعظم عيسى والأشرف موسى على حالة أنس، فأمر الأشرف جاريته ست الفخر فغنت على عودها:ت مدة استيلاء الفرنج على دمياط سنة واحدة وعشرة أشهر وأربعة وعشرين يوماً، ثم دخل الملك الكامل إلى دمياط بعساكره وأهله، وكان لدخوله مسرة عظيمة وابتهاج زائد، ثم سار الفرنج إلى بلادهم وعاد السلطان إلى قلعة الجبل في يوم الجمعة ثاني عشر شهر ومضان، ودخل الوزير الصاحب صفي الدين عبد الله بن علي بن شكر في البحر، وأطلق من كان بمصر من الأسرى، وكان فيهم من أسر من الأيام الصلاحية، وأطلق الفرنج من كان في بلادهم من أسرى المسلمين، واتفق أنه لما رحل الفرنج اجتمع في ليلة عند الملك الكامل أخواه المعظم عيسى والأشرف موسى على حالة أنس، فأمر الأشرف جاريته ست الفخر فغنت على عودها:
ولما طغى فرعون عكا ببغيه ... وجاء إلى مصر ليفسد في الأرض
أتى نحوهم موسى وفي يده العصا ... فأغرقهم في اليم بعضاً على بعض
فطرب الأشرف، وقال لها: كرري، فشق ذلك على الملك الكامل، وأمرها فسكتت، وقال لجاريته: غن أنت فغنت على العود:
أيا أهل دين الكفر قوموا لتنظروا ... لما قد جرى في وقتنا وتجددا
أعباد عيسى إن عيسى وقومه ... وموسى جميعاً ينصرون محمدا
فأعجب الكامل بها، وأمر لها بخمسمائة دينار، ولجارية أخيه الأشرف بخمسمائة دينار، فنهض القاضي الأجل هبة الله بن محاسن، قاضي غزة وكان في جملتهم، وانشد:
حبانا إله الخلق فتحنا لنا بدا ... مبيناً وإنعاماً وعزاً مجددا
تهلل وجه الدهر بعد قطوبه ... وأصبح وجه الشرك بالظلم أسودا
ولما طغى البحر الخصم بأهله ال ... طغاة وأضحى بالمراكب مزبدا
أقام لهذا الدين من سل عزمه ... صقيلاً كما سل الحسام المجردا
فلم تر إلا كل شلو مجدل ... ثوى منهم أو من تراه مقيدا
ونادى لسان الكون في الأرض رافعا ... عقيرته في الخافقين ومنشدا
أعباد عيسى إن عيسى وحزبه ... وموسى جميعاً ينصران محمدا
ويقال إن هذا المجلس كان بالمنصورة، ولما استقر الملك الكامل على تخت ملكه سارت الملوك إلى ممالكها، وعمت بشارة أخذ المسلمين دمياط أفاق الأرض، فإن التتار كانوا قد دمروا ممالك الشرق، وكادت مصر مع الشام يستأصل شأفة أهلها الفرنج، حتى من الله بجميل صنعه وخفي لطفه، ونصر عباده المؤمنين، وأيدهم بجنده، بعدما ابتلى المؤمنون، وزلزلوا زلزالاً شديداً، وقدمت على الملك الكامل تهاني الشعراء بها الفتح، فكان أولهم إرسالاً شرف الدين بن عنين، بكلمته التي أولها:
سلوا صهوات الخيل يوم الوغى عنا ... إذا جهلت آياتنا والقنا اللدنا
غداة التقينا دون دمياط جحفلاً ... من الروم لا يحصى يقينا ولا ظنا
قد اجتمعوا رأياً وديناً وهمة ... وعزماً وإن كانوا قد اختلفوا سنا
؟تداعوا بأنصار الصليب وأقبلت جموع كأن الموج كان لهم سفنا
وأطمعهم فينا غرور فأرقلوا ... إلينا سراعا بالجهاد وأرقلنا
فما برحت سمر الرماح تنوشهم ... بأطرافها حتى استجاروا بنا منا
سقيناهم كأساً نفت عنهم الكرى ... وكيف ينام الليل من عدم الأمنا
لقد صبروا صبراً جميلاً ودافعوا ... طويلاً فما أجدى دفاع ولا أغنى
بما الموت من زرق الأسنة أحمرا ... فألقوا بأيديهم إلينا فأحسنا(1/63)
وما برح الإحسان منا سجية ... نورثها من صيد آبائنا الإبنا
وقد جربونا قبلها في وقائع ... تعلم غمر القوم منا بها الطعنا
أسود وغى لولا وقائع سمرنا ... لما لبسوا فيما ولا سكنوا سجنا
وكم يوم حر ما وقينا هجيره ... وكم يوم قر ما طلبنا له كنا
فإن نعيم الملك في وسطه الشقا ... ينال وحلو العيش من مره يجنى
يسير بنا من آل أيوب ماجد ... أبي عزمه أن يستقر بنا مغنى
كريم الثنا عار عن العار باسل ... جميل المحيا كامل الحسن والحسنى
سرى نحو دمياط بكل سميدع ... إمام يرى حسن الثنا المغنم الأسنى
مآثر مجد خمرتها سيوفه ... طوال المدى يفني الزمان ولا تفنى
وقد عرفت أسيافنا ورقابهم ... مواقعها منا فإن عاودوا عدنا
منحناهم منا حياة جديدة ... فعاشوا بأعناق مقلدة منا
ولو ملكونا لاستباحوا دمائنا ... ولوغا ولكنا ملكنا فأسجحنا
وقال:
قسماً بما ضمت أباطح مكة ... وبمن حواه من الحجيج الموقف
لو لم يقم موسى بنصر محمد ... لرقى على درج الخطب الأسقف
لولاه ما ذل الصليب وأهله ... في ثغر دمياط وعز المصحف
ووردت أيضاً قصيدة القاضي الأجل بهاء الدين زهير بن محمد بن علي القاضي، وغيره من الشعراء. وفيها ملك التتر مراغة وهمذان وأفربيجان وتبريز.
وفيها مات الملك الصالح ناصر الدين محمود بن محمد بن قرا أرسلان بن سقمان بن أرتق الأرتقي، صاحب حصن كيفا، وقام من بعده ابنه الملك المسعود داود.
وفيها ركب الملك الكامل من قلعة الجبل إلى منظرة الصاحب صفي الدين بن شكر - التي على الخليج بمصر - في ذي القعدة، وتحدث معه في نفي الأمراء الذين وافقوا الفائز وكانوا في جيزة دمياط لعمارتها، فكتب لهم بالتوجه من أرض مصر إلى حيث شاءوا، فمضوا بأجمعهم من الجيزة إلى الشام، ولم يتعرض الملك الكامل لشيء من موجودهم، وفرق أخبازهم على مماليكه.
وفيها مات أمين الدين مرتفع بن الشعار والي مصر، في يوم الجمعة ثالث محرم. ومات متولي تونس وبلاد إفريقية الأمير أبو محمد عبد الواحد بن أبي حفص عمر بن يحيى بن أبي حفص عمر بن ونودين الهنتاتي في يوم الخميس أول المحرم، وكان قد ولي تونس من قبل الناصر أبي عبد الله محمد بن يعقوب المنصور بن يوسف العسري بن عبد المؤمن ملك الموحدين، في سنة اثنتين وستمائة، وكان أبو محمد قد قدم أكبر بنيه، الشيخ أبا زيد عبد الرحمن بن عبد الواحد فقام بأمر تونس، حتى قدم أخوه، أبو محمد عبد الله بن عبد الواحد، متولياً إفريقية من قبل العادل عبد الله بن المنصور يعقوب ملك الموحدين، في خامس رمضان منها، فاستمر أبو محمد عبد الله حتى قام أخوه أبو زكريا يحيى بن عبد الواحد.
هذا والأمير أبو محمد عبد الواحد بن أبي حفص هو أول من قام من الحفصيين بإمرة تونس، وهو جد ملوك تونس الحفصيين.
سنة تسع عشرة وستمائة
فيها قدم الأشرف موسى إلى مصر، فأقام بها عند أخيه السلطان الملك الكامل مدة، ثم عاد في رمضان. وفيها أوقع التتر بالكرج.
وفيها قدم المظفر موسى على أخيه الكامل بمصر.
وفيها قدم الملك المسعود يوسف بن الكامل من اليمن إلى مكة في ربيع الأول، وقد وحل عنها الشريف حسن بن قتادة، وقدم معه راجح بن قتادة إلى مكة، فرد الملك المسعود على أهل الحجاز أموالهم ونخلهم، وما أخذ لهم من الحور بمكة والوادي، ثم عاد إلى اليمن بعدما حج، ومنع أعلام الخليفة من التقدم، وقدم أعلام أبيه على أعلام الخليفة، وبدا منه بمكة ما لا يحمد من رمي حمام الحرم بالبندق من فوق زمزم، ونحو ذلك، فهم أهل العراق بقتاله، فلم يقدروا على ذلك عجزاً عنه، واستناب الملك المسعود بمكة الأمير نور الدين عمر بن علي بن رسول، ورتب معه ثلاثمائة فارس وكان الشريف حسن بن قتادة قد نزل ينبع، وولي الملك المسعود أيضاً راحج بن قتادة السرين وحلى ونصف المخلاف، فجمع الشريف حسن وسار إلى مكة، وكسر ابن رسول، وملك منه مكة.(1/64)
وفيها مات الأمير عماد الدين أبو العباس أحمد بن الأمير سيف الدين أبي الحسن علي بن أحمد الهكاري، المعروف بابن المشطوب، أحد الأمراء الصلاحية، في الاعتقال بحران، في ربيع الآخر.
سنة عشرين وستمائة
فيها أخذ المعظم عيسى المعرة وسليمة ونازل حماة، فشق ذلك على أخيه الأشرف - وكان بمصر - وتحدث مع الكامل في إنكار ذلك، فبعث السلطان الكامل إلى المعظم يسأله في الرحيل عن حماة، فتركها وهو حنق.
وفيها حج الملك الجواد والملك الفائز من القاهرة، وقدما علم الخليفة على علم السلطان الملك الكامل في طلوع عرفة.
وفيها خرج الأشرف من مصر إلى بلاده، ومعه خلع الملك الكامل والتقليد بسلطة حلب للعزيز ناصر الدين محمد بن الظاهر غازي، فوصل إلى حلب في شوال، وتلقاه العزيز - وعمره عشر سنين - فأفاض عليه الخلع الكاملية، وحمل الغاشية بين يديه، وأقام عنده أياماً، ثم سار إلى حران.
وفيها عم الجراد بلاد العراق والجزيرة، وديار بكر والشام. وفيها أوقع التتر بالروس.
وفيها شنق سهم الدين عيسى والي القاهرة نفسه - وهو معتقل بدار الوزارة - ليلة الخميس سادس شوال.
سنة إحدى وعشرين وستمائة
فيها ملك التتر قم وقاشان وهمذان.
وفيها اختلف الحال بين المظفر غازي، صاحب إربل وبين أخيه الأشرف، فخرج المعظم من دمشق يريد محاربة الأشرف، فبعث إليه الكامل يقول له: إن تحركت من بلدك سرت وأخذته منك. فخاف وعاد إلى دمشق.
وفيها مات الوزير الأعز أبو العباس أحمد، المعروف بفخر الدين مقدام بن شكر، في آخر شعبان بالقاهرة.
وفيها أخذ عسكر مصر ينبع من بني حسن، وكانوا قد اشتروها بأربعة آلاف مثقال، فلم تزل بيد المصريين إلى سنة ثلاثين.
سنة اثنتين وعشرين وستمائة
فيها فر الملك الجواد مظفر الدين يونس بن مودود من مصر في البحر، خوفاً من عمه الملك الكامل، ولحق بعده المعظم.
وفيها تخوف الكامل من أمرائه، لميلهم إلى أخيه الملك المعظم، فقبض على جماعة، وبعث إلى الطرقات من يحفظها، وبعث عدة رسل إلى الملوك الذين في خدمة أخيه الأشرف يأمرهم بالاتفاق وألا يخالفوه.
وفيها عاد السلطان جلال الدين بن خورازم شاه علاء الدين محمد بن تكش إلى بلاده، وقوي أمره على التتر، واستولى على عراق العجم، وسار إلى ماردين وأخذها، وسار إلى خوزستان، وشاقق جلال الدين الخليفة الناصر لدين الله، وسار حتى وصل بعقوبا، وبينها وبين بغداد سبعة فراسخ، فاستعد الخليفة للحصار، ونهب جلال الدين البلاد، وأخذ منها ما لا يقع عليه حصر، وفعل أشنع ما يفعله التتر، فكاتبه الملك المعظم، وأتفق معه معاندة لأخيه الكامل، ولأخيه الملك الأشرف، صاحب البلاد الشرقية، فسير السلطان جلال الدين بن القاضي مجد الدين - قاضي الممالك - في الرسالة إلى الملك الأشرف، ثم إلى الملك المعظم، ثم إلى الملك الكامل، فظاهر بأنواع الفسوق، وسار جلال الدين إلى عراق العجم، فملك همذان وتيريز، وأوقع بالكرج.
وفيها مات الملك الأفضل علي بن صلاح الدين يوسف، صاحب سميساط فجأة بسميساط في صفر، ومولده بمصر يوم عيد الفطر سنة خمس - وقيل ست - وستين وخمسمائة، وهو أكبر أولاد أبيه، وإليه كانت ولاية عهده، وسمع الأفضل من ابن عوف وابن بري، واستقل بمملكة دمشق بعد موت أبيه، فلم ينتظم له أمر لقلة حظه، وأخذها منه أخوه العزيز عثمان، صاحب مصر، ثم صار الأفضل أتابكاً للمنصور بن العزيز بمصر، وحصر دمشق، وبها عمه العادل، وأشرف على أخذها منه، فقطع عليه سوء الحظ، وعاد إلى مصر، وفي أثره عمه العادل، فانتزع منه مصر، ولم يبق معه سوى صرخد ثم قصد الأفضل دمشق ثانياً، مع أخيه الظاهر غازي صاحب حلب، فلم يتم أمرهما لاختلافهما، وصار بيده سميساط لا غير. فلما مات أخوه الظاهر طمع في حلب، وخرج إليها مع السلطان عز الدين كيكاوس السلجوقي ملك الروم، فلم يتم لهما أمر، وعاد الأفضل إلى سميساط، فلم يزل بها يتجرع الغصص حتى مات كمداً، وكان فاضلاً أديباً حليماً، حسن السيرة متجاوزاً، يكتب الخط المليح، جامعاً لعدة مناقب، إلا أنه كان قليل الحظ، وشعره جيلط كتب إلى الخليفة الناصر لدين الله - لما انتزع منه دمشق أخوه عثمان وعمه العادل أبو بكر - في سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة كتاباً يشكو إليه اغتصابهما ميراثه من أبيه، وأوله.(1/65)
مولاي إن أبا بكر وصاحبه ... عثمان قد أخذ بالسيف إرث علي
فانظر إلى حظ ههذا اقسم كيف لقى ... من الأواخر ما لاقي من الأول
وله أيضاً في معناه:
أما آن للسعد الذي أنا طالب ... لإدراكه يوماً يرى وهو طالبي
ترى هل يريني الدهر أيدي شيعتي ... تمكن يوماً من نواصي النواصب
فأجابه الخليفة بقوله.
وافي كتابك يا بن يوسف معلناً ... بالود يخبر أن أصلك طاهر
غصبوا علياً حقه إذ لم يكن ... بعد النبي له بيثرب ناصر
فابشر فإن غداً يكون حسابهم ... واصبر فناصرك الإمام الناصر
ومن شعره:
أيا من يسود شعره بخضابه ... لعساه من أهل الشبيبة يحصل
ها فاختضب بسواد حظي مرة ... ولك اللمان بأنه لا ينصل
وقام من بعده بسميساط أخوه الملك المفضل قطب الدين موسى شقيقه، فاختلف عليه أولاد الأفضل.
وفيها مات الخليفة الناصر لدين الله أحمد بن المستضيئ بأمر الله الحسن بن المستنجد بالله يوسف، في ثاني شوال، ومولده في العاشر من شهر رجب سنة ثلاث وخمسين وخمسائة، وله في الحلافة سبع وأربعون سنة، غير ستة وثلاثين يوماً، وكانت أمه أم ولد يقال لها زمرد، وقيل نرجس، وكان شهماً أبي النفس، حازماً متيقظاً، صاحب فكر صائب، ودهاء ومكر، وكان مهيباً، وله أصحاب أخبار - بالعراق وفي الأطراف - يطالعونه بجزئيات الأمور وكلياتها، فكان لا يخفى عليه أكثر أحوال رعيته، حتى أن أهل العراق يخاف الرجل منهم أن يتحدث مع امرأته، لما يظن أن ذلك يطلع عليه الخليقة فيعاقب عليه، وعمل شخص دعوة ببغداد، وغسل يده قبل أضيافه، فعلم الخليفة بذلك من أصحاب أخباره، فكتب في الجواب: سوء أدب من صاحب البلد، وفضول من كاتب المطالعة. وكان رديء السيرة في رعيته، ظالماً عسوفاً، خرب العراق في أيامه، وتفرق أهله في البلاد، فأخذ أملاكهم وأموالهم، وكان يحب جمع المال، ويباشر الأمور بنفسه، ويركب بين الناس ويجتمع بهم، مع سفكه للدماء، وفعله للأشياء المتضادة: فيغتصب الأموال ويتصدق، وشغف برمي الطير بالبندق، ولبس سراويلات الفتوة، وحمل أهل الأمصار على ذلك، وعمل سالم بن نصر الله بن واصل الحموي في ذلك رسالة بديعة، وصنف الناصر لدين الله كتاباً في مروياته، سماه روح العارفين، وأعده للفقهاء بمصر والشام، وله شعر، وفي خلافته خرب التتر بلاد المشرق حتى وصلوا إلى همذان، وكان هو السبب في ذلك، فإنه كتب إليهم بالعبور إلى البلاد، خوفاً من السلطان علاء الدين محمد بن خوارزم شاه لما هم بالاستيلاء على بغداد، وأن يجعلها دار ملكه، كما كانت السلجوقية، ولم يمت الخليفة الناصر لدين الله حتى عمي، وقيل كان يبصر بإحدى عينيه، وقام من بعده في الخلافة ابنه الظاهر بأمر الله أبو نصر محمد - بعهد من أبيه - يوم مات أبوه، وعمره ما ينيف على خمسين سنة، وكان يقول من يفتح دكانه العصر متى يستفتح. ولما ولي أظهر العدل، وأزال عدة مظالم، وأطلق أهل السجون، وظهر للناس، وكان من قبله من الخلفاء لا يظهرون إلا نادراً.
وفيها وصل الملك المسعود من اليمن إلى مكة، ومضى إلى القاهرة من طريق عيذاب، فقدم على أبيه الكامل بقلعة الجبل، ومعه هدايا جليلة.
وفيها مات الوزير الصاحب صفي الدين عبد الله بن أبي الحسن علي بن الحسين بن عبد الخالق بن الحسين بن الحسن بن منصور بن إبراهيم بن عمار بن منصور بن علي الشيبي، أبو محمد المعروف بابن شكر، الفقيه الدميري المالكي، في يوم الجمعة ثامن شعبان - وقيل شوال - بالقاهرة، ودفن برباطه منها، وكان مولده بدميرة إحدى قرى مصر البحرية، في تاسع صفر سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، وجمع من ابن عوف وغيره، وحدث، وكان جباراً جباها عاتياً، عانيا بتقدمة الأراذل وتأخر الأماثل، أفقر علقاً كثيراً.
وفيها قدم الشريف قاسم الحسيني أمير المدينة، بعسكر إلى مكة، وحصرها نحو شهر، وبها نواب الملك الكامل، فلم يتمكن منها، بل قتل.
سنة ثلاث وعشرين وستمائة
فيها تأكدت الوحشة بين المعظم وبين أخويه الكامل والأشرف.(1/66)
وفيها بعث الخليفة الظاهر بأمر الله التشاريف لملوك بني أيوب، على يد محيي الدين أبي المظفر بن الحافظ جمال الدين أبي الفرج بن الجوزي: فبما بالأشرف موسى صاحب البلاد الشرقية، وأفاض عليه الخلع الخليفتية، ثم بالعزيز غياث الدين محمد بن الظاهر صاحب حلب، فأفاض عليه فرجية واسعة الكم سوداء، وعمامة سوداء مذهبة، وثوباً مطرزاً بالذهب أيضاً، ثم ألبس المعظم عيسى، صاحب دمشق، بدمشق. وسار إلى القاهرة بالتقليد والخلع للملك الكامل، ولأولاده الصالح نجم الدين أيوب والملك المسعود، وللصاحب صفي الدين بن شكر، فبرز الملك الكامل إلى ظاهر القاهرة، ولبس الخلع الخليفتية هو وولداه. وكان الصاحب صفي الدين قد مات، فألبس الكامل الخلعة التي باسمه للقاضي فخر الدين سليمان بن محمود بن أبي غالب أبي الربيع الدمشقي، كاتب الإنشاء، وعبر الكامل من باب النصر، وشق القاهرة إلى أن صعد قلعة الجبل، فكان يوماً مشهوداً.
وفيها قبض الملك الكامل على أولاد الصاحب صفي الدين بن شكر، وأحاط بجميع موجوده، واعتقل ابنيه تاج الدين يوسف وعز الدين محمد في قاعة سهم الدين، بدرب الأسواني من القاهرة، ولم يستوزر الكامل بعد ابن شكر أحداً.
وفيها سافر الملك المسعود من القاهرة إلى اليمن.
وفيها كثر وهم الملك الكامل من عسكره، فإن المعظم أرسل إليه في جملة كلام: وإن قصدتني لا آخذك إلا بعسكرك،. فوقع في نفسه الخوف ممن معه، وهم آن يخرج من مصر، فلم يجسر، وخرج المعظم فنازل حمص، وخرب قراها ومزارعها، ولم ينل من قلعتها شيئاً، لامتناعها هي والمدينة عليه، فلما طال مقامه على حمص رحل عنها، لما أصاب عسكره ودوابه من الموت، وقدم عليه أخوه الأشرف جريدة، فسر به سرور عظيماً وأكرمه زائداً.
وفيها مات الخليفة الظاهر بأمر الله أبو نصر محمد بن الناصر، في رابع عشر شهر رجب، فكانت خلافته تسعة أشهر وتسعة أيام، وكان حسن السيرة كثير المعروف، واستقر في الخلافة من بعده ابنه المستنصر بالله أبو جعفر المنصور، وعمره عشرون سنة، فوردت عليه رسل ملوك الأطراف، وبعث الملك الكامل في الرسالة معين الدين حسن بن شيخ الشيوخ صدر الدين بن حمويه فلما قدم بغداد قال نيابة عن الملك الكامل، وهو بين يدي الوزير مؤيد الدين أبي الحسن محمد بن محمد القمي: عبد الدولة المقدسة المستنصرية يقبل العتبات التي يستشفي بتقبيل ثراها، ويستكفي بتمسكه من عبوديتها بأوثق عراها، ويوالي شكر الله تعالى على إماطة ليل العزاء الذي عم مصابه، بصبح الهناء الذي تم نصابه، حتى تزحزح عن شمس الهدى شفق الإشفاق، فجعل كلمتها العليا، وكلمة معاديها السفلي، وزادها شرفاً في الآخرة والأولى.
وفيها قدم رسول علاء الدين كيقباد، ملك الروم، بتقدمة جليلة إلى الملك الكامل.
سنة أربع وعشرين وستمائة
فيها سافر الأشرف إلى بلاده من دمشق، بعدما حلف للمعظم أنه يعاضده على أخيه الملك الكامل، وعلى الملك المجاهد صاحب حمص، والناصر صاحب حماة.
وفيها سافر رسول علاء الدين كيقباد ملك الروم، من مصر إلى مخدومه.(1/67)
وفيها تأكدت الوحشة بين الكامل وبين أخويه المعظم والأشرف، وخاف الكامل من انتماء أخيه المعظم إلى السلطان جلال الدين بن خوارزم شاه، فبعث الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ صدر الدين بن حمويه إلى ملك الفرنج، يريد منه أن يقدم إلى عكا، ووعده أن يعطه بعض ما بيد المسلمين من بلاد الساحل، ليشغل سر أخيه المعظم، فتجهز الإمبراطور ملك الفرنج لقصد الساحل، وبلغ ذلك المعظم، فكتب إلى السلطان جلال الدين يسأله النجدة على أخيه الكامل، ووعده أن يخطب له، ويضرب السكة بأسمه، فسير إليه جلال الدين خلعة لبسها، وشق بها دمشق، وقطع الخطبة للملك الكامل، فبلغ ذلك الكامل، فخرج من القاهرة بعساكره، ونزل بلبيس في شهر رمضان فبعث إليه المعظم: إني نذرت لله تعالى أن كل مرحلة ترحلها لقصدي أتصدق بألف دينار، فإن جميع عسكرك معي، وكتبهم عندي، وأنا آخذك بعسكرك، وكتب المعظم مكاتبة بهذا في السر، ومعها مكاتبة في الظاهر فيها: بأني مملوكك، وما خرجت عن محبتك وطاعتك، وحاشاك أن تخرج وتقابلني، وأنا أول من أنجدك وحضر إلى خدمتك من جميع ملوك الشام والشرق، فأظهر الكامل هذا بين الأمراء، ورجع من العباسة إلى قلعة الجبل، وقبض على عدة من الأمراء ومماليك أبيه، لمكاتبتهم المعظم: منهم فخر ألطبنا الحبيشي، وفخر الدين ألطن الفيومي - وكان أمير جانداره، وقبض أيضاً على عشرة أمراء من البحرية العادلية، واعتقلهم وأخذ سائر موجودهم، وأنفق في العسكر ليسير إلى دمشق.
وفيها وصل رسول ملك الفرنج بهدية سنية وتحف غريبة إلى الملك الكامل، وكان فيها عدة خيول، منها فرس الملك بمركب ذهب مرصع بجوهر فاخر، فتلقاه الكامل بالإقامات، من الإسكندرية إلى القاهرة، وتلقاه بالقرب من القاهرة بنفسه، وأكرمه إكراماً زائداً، وأنزله في دار الوزير صفي الدين بن شكر، واهتم الكامل بتجهيز هدية سنية إلى ملك الفرنج فيها من تحف الهند واليمن، والعراق والشام، ومصر والعجم ما قيمته أضعاف ما سيره، وفيها سرج من ذهب، وفيها جوهر بعشرة آلف دينار مصرية، وعين الكامل للسير بهذه الهدية جمال الدين بن منقذ الشيزري.
وفيها وصل رسول الأشكري في البحر إلى الملك الكامل، فسار المعظم من دمشق لتخريب القدس، فخرب قلاعا وعدة صهاريج بالقدس، لما بلغه من حركة ملك الفرنج. وفيها جهز الملك الكامل كمال الدين ومعين الدين، ولدى شيخ الشيوخ ابن حمويه - ومعهما الشريف شمس الدين الأرموي، قاضي العسكر - إلى المعظم، وأمر السلطان الكامل أن يسير الكمال بجواب المعظم إلى الملك المجاهد أسد الدين شركوه بحمص، ويعرفه الحال، وأن يتوجه المعين إلى بغداد، برسالة إلى الخليفة، فتوجها في شعبان. وفيها اتفق عيد الفطر يوم عيد اليهود وعيد النصارى.
وفيها ختن الملك العادل أبو بكر بن الملك الكامل في تاسع شوال.
وفيها مات الملك المعظم أبو الفتح عيسى بن الملك العادل، صاحب دمشق، يوم الجمعة سلخ ذي القعدة بدمشق، ودفن بقلعتها، ثم نقل إلى الصالحية، ومولده بدمشق، في سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وكان قد خافه الملك الكامل، فسر بموته، وكان كريماً شجاعاً، أديباً ليناً، فقيها متغالياً في التعصب لمنصب أبي حنيفة - رحمه الله - وشارك في النحو وغيره، وقال له أبوه مرة: كيف اخترت مذهب أبي حنيفة، وأهلك كلهم شافعية؟ فقال: ياخوند أما ترغبون أن يكون فيكم رجل واحد مسلم؟. وصنف كتاباً سماه السهم المصيب في الرد على الخطيب البغدادي أبي بكر أحمد بن ثابت، فيما تكلم به في حق أبي حنيفة، وفي تاريخ بغداد. وكان مقداماً، لا يفكر في عاقبة، جباراً مطرحاً للملابس، وهو الذي أطمع الخوارزمي في البلاد، وكانت مدة ملكه - بعد أبيه - ثماني سنين وسبعة أشهر غير ثمانية أيام، فقام من بعده ابنه الملك الناصر داود وعمره إحدى وعشرون سنة، وسير الناصر كتبه إلى عمه الملك الكامل، فجلس الكامل للعزاء، وشر إليه الأمير علاء الدين بن شجاع الدين جلدك المظفري التقوى بالخلعة وسنجق السلطة، وكتب معه بما طيب قلبه، فلبس الناصر خلعة الكامل، وركب بالسنجق، ثم أرسل إليه الكامل يريد منه أن يترك له قلعة الشوبك، ليجعلها خزانة له، فامتنع من ذلك، وبهذا وقعت الوحشة بينه وبين عمه الكامل.(1/68)
وفيها أمر الملك الكامل بتخريب مدينة تنيس، فخربت أركانها الحصينة وعمائرها المكينة، ولم يكن بديار مصر أحسن منها، واستمرت من حينئذ خرابا.
وفي شهر رجب من هذه السنة: دعا لنفسه بتونس الأمير أبو زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص وتلقب بالسلطان السعيد فلم ينازعه أحد في مملكة إفريقية، وكان قد ضعف أمر بني عبد المؤمن.
سنة خمس وعشرين وستمائة
فيها سير الملك الكامل شيخ الشيوخ ابن حمويه بالخلع إلى ابن أخيه الناصر داود ابن المعظم، بدمشق، فحمل الرسول الغاشية بين يديه، ثم حلها عماه: الملك العزيز عثمان صاحب بانياس والملك الصالح عماد الدين إسماعيل صاحب بصرى.
وفيها جهز الملك الكامل أيضاً الخلع للمجاهد صاحب حمص.
وفيها استوحش الملك الكامل من أخيه الناصر داود، وعزم على قصده، وأخذ دمشق منه، وعهد الكامل إلى ابنه الملك الصالح نجم الدين أيوب بالسلطنة من بعده بديار مصر، وأركبه بشعار السلطنة - وشق الصالح القاهرة، وحملت الغاشية بين يديه، تداول حملها الأمراء بالنوبة - وأنزله بدار الوزارة، وعمره يومئذ نحو اثنتين وعشرين سنة.
وفيها ظلم الأمجد بهرام شاه بن عز الدين فرخشاه - صاحب بعلبك - وتعدى، وأخذ أموال أهل بعلبك وأولادهم، فقام عدة من جنده مع العزيز فخر الدين عثمان بن العادل في تسليمه بعلبك، فسار العزيز إليها ونازلها، فقبض الأمجد على أولئك الذين قاموا معه، وقتل بعضهم، واعتقل باقيهم، ثم إن الناصر داود صاحب دمشق، بعث إليه من رحله عن بعلبك قهراً، فغضب وسار إلى الملك الكامل ملتجئاً إليه، فسر به الكامل، ووعده بانتزاع بعلبك من الأمجد وتسليمها إليه.(1/69)
وفيها ظلم الناصر داود أهل دمشق، وأخذ أموالهم، واشتغل باللهو، وأعرض عن مصالح الدولة، فشق ذلك على الكامل، وجعله سبباً يؤاخذه به، وتجهز في شهر رجب للسير لمحاربته، واستناب على مصر ابنه الملك الصالح نجم الدين أيوب، وأقام معه الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ، ليحصل الأموال ويدبر أمور المملكة، وخرج الكامل من القاهرة يوم الأحد تاسع عشر شعبان - في عساكره المتوافرة - ومعه المظفر تقي الدين محمود بن المنصور، وقد وعده أن يسلمه حماة، وكانت بيد أخيه قلج أرسلان، والملك الجواد مظفر الدين يونس بن مودود بن العادل، وكان قد رباه عمه الملك الكامل بعد موت أبيه، وأقطعه البحيرة من ديار مصر، فلما بلغ الناصر خروج عمه لم يمل إلى استعطافه، والتجأ إلى عمه الأشرف، فسار الكامل بالعسكر والعربان إلى تل العجول، وبعث منها إلى نابلس والقدس وأعمالها، وشر الكامل الأمير حسام الدين أبا علي بن محمد بن أبي علي الهذباني - أحد أصحاب المظفر تقي الدين محمود - إلى القاهرة، فاستخدمه الملك الصالح، وجعله أستاداره، فاستولت أصحاب الملك الكامل على نابلس والقدس، وبلغ ذلك الناصر، فحلف عسكره، واستعد للحرب، وقدم إليه عمه الصالح صاحب بصرى، والأمير عز الدين أيبك من صرخد، وأصله مملوك أبيه المعظم، فقويت بهما نفسه، وسير بالناصر يستدعي عمه الأشرف من لبلاد الشرقية، مع الأمير عماد الدين بن موسك، وفخر القضاة نصر الله بن بصاقة، وأردفهما بالأشرف بن القاضي الفاضل، فأجاب الأشرف إلى معاونته، واستناب في بلاده الملك الحافظ بن العادل، وسار إلى دمشق، فتلقاه قلج أرسلان صاحب حماة من سليمة بأموال وخيول، وتلقاه أسد الدين شركوه، صاحب حمص، وأولاده، وقدم لأشرف إلى دمشق، فتلقاه الناصر في أخريات شهر رمضان، وزين دمشق لقدومه، فدخل القلعة وعليه شاش علم كبير، وهو مشدود الوسط بمنديل، وقد سر الناصر به سروراً كبيراً، وحكمه في بلاده وأمواله، فأعجب الأشرف بدمشق، وعمل في الباطن على انتزاعها لنفسه من الناصر، ثم قدم إلى خدمة الأشرف بدمشق المجاهد أسد الدين شركوه بن محمد صاحب حمص، وسار العزيز بن العادل إلى خدمة الملك الكامل، وهو في الطريق، فسر بقدومه، وأعطاه شيئاً كثيراً، وسير الأشرف إلى الكامل الأمير سيف الدين علي بن قلج، يشفع في الناصر، ويطلب منه إبقاء دمشق عليه، ويقول: إنا كلنا في طاعتك، ولم نخرج عن موافقتك، فأكرم الملك الكامل الرسول، ثم سار الأشرف - ومعه الناصر - من دمشق، يريدان ملاقاة الملك الكامل والترامي عليه، ليصلح الأشرف الأمر بينهما، فلما بلغ الكامل مسيرهما شق عليه، ورحل من نابلس يريد العود إلى القاهرة فنزل الأشرف والناصر بنابلس، فأقام بها الناصر، ومضى الأشرف والمجاهد إلى الكامل، فبلغه قدوم الأشرف وهو بتل العجول، فقام إلى لقائه، وقدم به إلى معسكره، ونزلا، فكان الاتفاق بينهما على انتزاع دمشق من ابن أخيهما الناصر داود، وأن تكون للملك الأشرف وما معها إلى عقبة فيق، ويكون للكامل ما بين عقبة فيق وغزة من البلاد والحصون، وهو الفتح الصلاحي بأسره، ويكون للناصر عوضاً من دمشق - حران والرقة وسروج، رأس عين، وهي ما كان مع الأشرف، وأن تنزع بعلبك من الأمجد بهرام، وتعطى لأخيهما العزيز عثمان، وأن تنزع حماة من الملك الناصر قلج أرسلان بن المنصور، وتعطى للمظفر تقي الدين محمود بن المنصور، وأن تؤخذ من المظفر سليمة، وتضاف إلى المجاهد صاحب حمص.
وفيها مات طاغية المغل والتتر جنكزخان، بالقرب من صارو بالق، وحمل ميتاً إلى كرسي ملك الخطا. ورتب بعده ابنه الأصغر عوضه خاناً كبيراً، على كرسي مملكة الخطا، وأخذ إخوته الثلاثة بقية الأقاليم.
وفيها خرج التتار إلى بلاد الإسلام، فكانت لهم عدة حروب مع السلطان جلال الدين خوارزم شاه، كسر فيها غير مرة، ثم ظفر أخيراً بهم، وهزمهم، فلما خلا سره منهم سار إلى خلاط - من بلاد الأشرف - فنهب وسبي الحريم، واسترق الأولاد، وقتل الرجال، وخرب القرى، وفعل ما لا يفعله أهل الكفر، ثم عاد إلى بلاده، وقد زلزل بلاد حران والرها وما هنالك، ورحل أهل سروج إلى منبج، وكان قد عزم على قصد بلاد الشام، لكن صرفه الله عنها.(1/70)
وفيها قم الإمبراطور ملك الفرنج إلى عكا، باستدعاء الملك الكامل له - كما تقدم - ليشغل سر أخيه المعظم، فاتفق موت المعظم، ولما وصل ملك الفرنج إلى عكا بعث رسوله إلى الملك الكامل، وأمره أن يقول له: الملك يقول لك كان الجيد والمصلحة للمسلمين أن يبلوا كل شيء، ولا أجيء إليهم، والآن فقد كنتم بذلتم لنائبي - في زمن حصار دمياط - الساحل كله، وإطلاق الحقوق بالإسكندرية، وما فعلنا، وقد فعل الله لكم ما فعل من ظفركم، وإعادتها إليكم. ومن نائبي إن هو إلا أقل غلماني، فلا أقل من إعطائي ما كنتم بذلتموه له. فتحير الملك الكامل، ولم يمكنه دفعه ولا محاربته، لما كان تقدم بينهما من الاتفاق، فراسله ولاطفه، وسفر بينهما الأمير فخر الدين بن الشيخ، وشرع الفرنج في عمارة صيداء - وكانت مناصفة بين المسلمين والفرنج، وسورها خراب - فعمروها وأزالوا من فيها من المسلمين، وخرجت السنة والكامل على تل العجول، وملك الفرنج بعكا، والرسل تتردد بينهما.
سنة ست وعشرين وستمائة
فيها غلت الأسعار بالساحل ودمشق، ووصلت نجدة من حلب إلى الغور.(1/71)
وفيها قفز الأمير عز الدين أيدمر المعظمي إلى الملك الكامل، فأحسن إليه. ففارق الناصر داود من نابلس لما بلغه اتفاق الأشرف مع الكامل عليه، وعاد إلى دمشق، فبلغ الأشرف وهو بتل العجول ذلك، فسار ليدركه، فوافاه بقصير ابن معين الدين من الغور، تحت عقبة فيق، وأعلمه الأشرف - بحضور الملك الصالح إسماعيل، والملك المغيث، والأمير عز الدين أيبك المعظمي - أنه اجتمع بالملك الكامل للإصلاح بينهما. وأنه اجتهد وحرص على أن يرجع عنك، فامتنع وأبي إلا أن يأخذ دمشق، وأنت تعلم أنه سلطان البيت وكبيرهم، وصاحب الديار المصرية، ولا يمكن الخروج عما يأمر به وقد وقع الاتفاق على أن تسلم إليه دمشق، وتعوض عنها من الشرق كذا، وذكر ما وقع الاتفاق عليه، فلما فرغ الأشرف من كلامه قام الأمير عز الدين أيبك وهو أكبر أمير مع الناصر داود وقال: لا كيد ولا كرامة، ولا نسلم من البلاد حجراً واحداً، ونحن قادرون على دفع الجميع ومقاومتهم، ومعنا العساكر المتوافرة، وأمر الملك الناصر بالركوب فركبا، وقوضت الخيام، وسارا إلى دمشق، وتحالف على الناصر عمه الصالح، وابن عمه المغيث، ولما وصل الناصر إلى دمشق استعد للحصار، وقام معه أهل البلد، لمحبتهم في أبيه، وسار الأشرف بمن معه، وحاصر دمشق، وقطع عنها أنهارها - باناس، والقنوات، ويزيد وثورا - فخرج إليه العسكر وأهل البلد وحاربوه، وفي أثناء ذلك كثر تردد الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ، والشريف شمس الدين الأرموي قاضي العسكر، بين الإمبراطور فردريك ملك الفرنج، إلى أن وقع الاتفاق أن ملك الفرنج يأخذ القدس من المسلمين، ويبقيها على ما هي من الخراب، ولا يجدد سورها، وأن يكون سائر قوى القدس للمسلمين، لا حكم فيها للفرنج، وأن الحرم بما حواه من الصخرة والمسجد الأقصى - يكون بأيدي المسلمين، لا يدخله الفرنج إلا للزيارة فقط، ويتولاه قوام من المسلمين، ويقيمون فيه شعار الإسلام من الأذان والصلاة، وأن تكون القرى التي فيما بين عكا وبين يافا، وبين القدس، بأيدي الفرنج، دون ما عداها من قرى القدس، وذلك أن الكامل تورط مع ملك الفرنج، وخاف من غائلته، عجزا عن مقاومته، فأرضاه بذلك، وصار يقول: إنا لم بسمح للفرنج إلا بكنائس وأدر خراب، والمسجد على حاله، وشعار الإسلام قائم، ووالي المسلمين متحكم في الأعمال والضياع. فلما اتفقا على ذلك عقدت الهدنة بينهما مدة عشر سنين وخمسة أشهر وأربعين يوماً، أولها ثامن عشري شهر ربيع الأول من هذه السنة، واعتذر ملك الفرنج للأمير فخر الدين بأنه لولا يخاف انكسار جاهه، ما كلف السلطان شيئاً من ذلك، وأنه ما له غرض في القدس ولا غيره، وإنما قصد حفظ ناموسه عند الفرنج، وحلف الملك الكامل وملك الفرنج على ما تقرر، وبعث السلطان فنودي بالقدس بخروج المسلمين منه، وتسليمه إلى الفرنج، فاشتد البكاء وعظم الصراخ والعويل، وحضر الأئمة والمؤذنون من القدس إلى مخيم الكامل، وأذنوا على بابه في غير وقت الأذان، فعز عليه ذلك، وأمر بأخذ ما كان معهم من الستور والقناديل الفضة والآلات، وزجرهم. وقيل لهم: امضوا إلى حيث شئتم، فعظم على أهل الإسلام هذا البلاء، واشتد الإنكار على الملك الكامل، وكثرت الشناعات عليه في سائر الأقطار، وبعث الإمبراطور بعد ذلك يطلب تبنين وأعمالها، فسلمها الكامل له، فبعث يستأذن في دخول القدس، فأجابه الكامل إلى ما طلبه، وسير القاضي شمس الدين قاضي نابلس في خدمته، فسار معه إلى المسجد بالقدس، وطاف معه ما فيه من المزارات، واعجب الأمبراطوار بالمسجد الأقصى وبقبة الصخرة، وصعد درج المنبر، فرأى قسيساً بيده الإنجيل، وقد قصد دخول المسجد الأقصى، فزجره وأنكر مجيئه، وأقسم لئن عاد أحد من الفرنج يدخل هنا بغير إذن ليأخذن ما فيه عيناه، فإنما نحن مماليك هنا السلطان الملك الكامل وعبيده، وقد نصدق علينا وعليكم بهذه الكنائس، على سبيل الأنعام منه، فلا يتعدى أحد منكم طوره، فانصرف القس وهو يرعد خوفاً منه. ثم نزل الملك في دار، وأمر شمس الدين قاضي نابلس المؤذنين إلا يؤذنوا تلك الليلة، فلم يؤذنوا البتة، لما اصبح قال الملك للقاضي: لم لم يؤذن المؤذنون على المنابر؟ فقال له القاضي: منعهم المملوك إعظاماً لمملك واحتراماً له. فقال له الإمبراطور: أخطأت فيما فعلت، والله إنه كان أكبر غرضي في المبيت بالقدس أن أسمع أذان(1/72)
المسلمين وتسبيحهم في الليل.ن وتسبيحهم في الليل.
ثم رحل الإمبراطور إلى عكا، وكان هذا الملك عالماً متبحراً في علم الهندسة الحساب والرياضيات، وبعث إلى الملك الكامل بعدة مسائل مشكلة في الهندسة الحكمة والرياضة، فعرضها على الشيخ علم الدين قيصر الحنفي - المعروف بتعاسيف - غيره، فكتب جوابها، وعاد الإمبراطور من عكا إلى بلاده في البحر، آخر جمادى الآخرة، وسير الكامل جمال الدين الكاتب الأشرف إلى البلاد الشرقية وإلى الخليفة، في تسكين قلوب الناس وتطمين خواطرهم من انزعاجهم لأخذ الفرنج القدس.
وفي خامس جمادى الأولى - وهو يوم الأحد - : وقعت الحوطة على دار القاضي الأشرف أحمد بن القاضي الفاضل، وحملت خزائن الكتب، جميعها إلى قلعة الجبل، في سادس عشريه، وجملة الكتب ثمانية وستون ألف مجلدة، وحمل من داره - في ثالث جمادى الآخرة - خشب خزائن الكتب مفصلة، وحملها تسعة وأربعون جملاً، وكانت الجمال التي حملت الكتب تسعة وخمسون جملاً، ثلاث دفعات.
وفي يوم السبت ثاني عشري رجب منها: حملت الكتب والخزائن من القلعة إلى دار الفاضل، وقيل إن عدتها أحد عشر ألف كتاب وثمانمائة وثمانية كتب، ومن جملة الكتب المأخوذة كتاب الأيك والغصون لأبي العلاء المعري، في ستين مجلداً.
وفيها وصل ملك ملطية فكثرت غاراته وقتله وسبيه.
وفيها اشتد تشنيع الملك الناصر داود بدمشق على عمه الملك الكامل تسليمه القدس للفرنج، فنفرت قلوب الرعية، وجلس الحافظ شمس الدين سبط ابن الجوزي بجامع دمشق، وذكر فضائل بيت المقدس، وحزن الناس على استيلاء الفرنج عليه، وبشع القول في هذا الفعل، فاجتمع في ذلك المجلس ما لا يحصى عدده من الناس، وعلت أصواتهم بالصراخ، واشتد بكاؤهم، وانشد الحافظ شمس الدين قصيدة، أبياتها ثلاثمائة بيت، منها:
على قبة المعراج والصخرة التي ... تفاخر ما في الأرض من صخرات
مدارس آيات خلت من تلاوة ... ومنزل وحي مقفر العرصات
فلم ير بدمشق أكثر بكاء من ذلك اليوم، وكان الأشرف على منازلة دمشق، فبعث إلى الكامل يستحثه، فرحل الكامل من تل العجول بعد طول مقامه بها، فتلقاه في قرية يبنا أخوه العزيز عثمان، صاحب بانياس، بابنه الظاهر غازي، فوصل الكامل العزيز بخمسين ألف في ينار، وابنه غازي بعشرة آلاف دينار، وقماش وخلع سنية، وأمر الكامل فضربت له خيمة عظيمة، وحولها بيوتات، وسائر ما يحتاج إليه من الآلات والخيام، برسم أصحابه ومماليكه، ثم وصل إليه أيضاً الأمير عز الدين أيدمر المعظمي، فدفع إليه الكامل عشرة آلاف دينار - وقيل عشرين ألف دينار - وكتب له على الأعمال القوصية بعشرين ألف أردب غلة، وأعطاه أملاك الصاحب صفي الدين بن شكر، ورباعه وحمامه، وسار الكامل إلى دمشق، فنزل على ظاهرها في جمادى الأولى، وجد هو والأشرف في حصارها، حتى اشتد عطش الناس في دمشق، لانقطاع الأنهار عنهم، ومع ذلك فالحرب بينهم قائمة في كل يوم إلى آخر رجب، فغلت الأسعار ونفدت أموال الناصر، وفارقه جماعة من أصحابه، وصاروا إلى الكامل والأشرف، وأخذ الناصر في ضرب أوانيه من النصب والفضة دنانير ودراهم، وفرقها حتى نفد أكثر ما كان عنده من الذخائر، وناصحته العامة مناصحة كبيرة، وابلوا في عسكر الكامل والأشرف بلاء عظيماً.(1/73)
وفي أثناء ذلك قدم القاضي بهاء الدين بن شداد ومعه أكابر حلب وعدولها، من عند الملك العزيز محمد بن الظاهر غازي صلاح الدين، صاحب حلب، لتزويج ابنة الملك الكامل بالملك العزيز، خرج الملك الكامل من مخيمه بمسجد القدم إلى لقائه، وأنزله قريباً منه، ثم أحضره فقدم لقدمة كانت معه من الملك العزيز، وعقد العقد للملك العزيز على الخاتون فاطمة ابنة الملك الكامل الأمير عماد الدين عمر بن شيخ الشيوخ، على صداق مبلغه خمسون ألف دينار، فقبل العقد ابن شداد في سادس عشر شهر رجب، فضعف قلب الملك الناصر داود، وقلت أمواله، فخرج ليلاً من قلعة دمشق في آخر شهر رجب، ومعه نفر يسير، وألقى نفسه على مخيم الكامل، فخرج إليه الكامل، وأكرمه إكراماً زائداً، وباسطه وطيب قلبه، بعد عتب كثير، وأمره أن يعود إلى القلعة، فعاد إليها، ثم بعد يومين بعث الكامل بالأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ إلى القلعة - وكان يوم جمعة - فصلى بها الجمعة، وخرج ومعه الناصر داود إلى الملك الكامل فتحالفاً، وعوضه الكامل عن دمشق بالكرك والشوبك وأعمالهما، مع الصلت والبلقاء والأغوار جميعها، ونابلس وأعمال القدس وبيت جبريل، ثم نزل الناصر عن الشوبك للكامل فقبلها، وصار للكامل مع الشوبك بلد الخليل عليه السلام، وطبرية وغزة، وعسقلان والرملة ولد وما بأيدي المسلمين من الساحل.
وفتحت أبواب دمشق في أول يوم من شعبان، فشق ذلك على أهل دمشق، وتأسفوا على مفارقة الناصر، وكثر بكاؤهم، ثم تسلمها الملك الأشرف، وبعث الكامل قصاده لتسلم بلاد الأشرف، وهم الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ، والخادم شمس الدين صواب، وجماعة، فتسلما حران والرها وسروج، ورأس عين والرمة، وغير ذلك، وسافر الناصر داود بأهله إلى الكرك، وسار الكامل إلى حماة، وبها الناصر صلاح الدين قلج أرسلان بن المنصور محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب.
وقدم مع الكامل المظفر تقي الدين محمود بن المنصور محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب في جماعة، فنازل حماة حتى سلم صاحبها الناصر قلج أرسلان، وسبق إلى الملك الكامل وهو بسليمة، فأهانه واعتقله، وتسلم المظفر حماة، فكانت مدة الناصر بحماة تسع سنين تنقص شهرين، وبعث الكامل بالناصر صاحب حماة إلى مصر، فاعتقل بها، ثم سار الكامل يريد البلاد الشرقية، فقطع الفرات، ودخل قلعة جعبر، ثم توجه إلى الرقة، وخافه ملوك الشرق، فعيد بالرقة عيد الفطر، وسار إلى حران والرها، واستخدم بها عسكراً عدته نحو ألفي فارس، فقدمت عليه رسل ماردين وآمد، والموصل وإربل وحضر إليه أيضاً عدة ملوك، وبعث الكامل فخر الدين بن شيخ الشيوخ إلى الخليفة، وأطلق ابن أخيه الملك الناصر قلج ارسلان من اعتقاله، وخلع عليع، وأعطاه بارين، وكتب له بها توقيعاً، وأمر أن يحمل إليه ما كان في قلعة حماة - وهو أربعمائة ألف درهم - وكتب إلى المظفر تقي الدين بتسليم ذلك إليه.
فوصل الناصر إلى بارين وتسلمها، ثم ورد الخبر على الكامل بأن جلال الدين خورازم شاه نازل خلاط، ونصب عليها عشرين منجنيقاً، وكان وصوله إليها في نصف شوال، وكانت خلاط للملك الأشرف، وبها عسكره، فأرسلوا إلى الملك الكامل يسألون في نجدة، فلم يرسل الكامل إليهم أحداً، وورد الخبر بإقامة الخطبة في ماردين للملك الكامل، وضربت السكة بأحده هناك. ثم توالت الرسل من خلاط، وكلها تطلب إلى الكامل أن يبعث الأشرف لنجدة البلد فبعث الكامل يطلب عساكر حلب وحماة وحمص، فخرجت عساكر حلب إلى خلاط، ومعها الأشرف، ثم ورد الخبر بأن الفرنج قد أغارت على بارين، وأنهم نهبوا ما بها، وأسروا وسبوا.
وفيها مات الملك المسعود يوسف بن الملك الكامل بمكة، عن ست وعشرين سنة، منها مدة ملكه باليمن أربع عشرة سنة، وهو آخر ملوك بني أيوب ببلاد اليمن، وترك المسعود ابنا يقال له صلاح الدين يوسف، ولقب بالملك المسعود، ولقب أبيه، وبقي يوسف هذا حتى مات في سلطنة عمه الملك الصالح نجم الدين أيوب، صاحب مصر.(1/74)
ثم ولي ابنه موسى بن يوسف بن يوسف بن الكامل مملكة مصر، ولقب بالأشرف، شركة مع المعز أيبك، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فاشتد حزن الملك الكامل على ولده يوسف، وتسلم مماليكه وخزائنه وأولاده، ولبس لشدة حزنه البياض، وكان المسعود قد استخلف على اليمن نور الدين علي بن رسول التركماني، فتغلب عليها، وبعث إلى الملك الكامل عدة هدايا، وقال: أنا نائب السلطان على البلاد، فاستمر ملك اليمن في عقبه بعد ذلك.
سنة سبع وعشرين وستمائة
أهلت والملك الكامل بحران، والخوارزمي على خلاط، والأشرف محاصر بعلبك.
وفيها قدم الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ من بغداد.
وفيها ورد رسول الإمبراطور، ملك الفرنج، بكتابه إلى الملك الكامل بحران، ومعه أيضاً كتاب للأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ. وفيها سار الكامل من حران إلى الرقة.
وفيها استولى الأشرف بن العادل على بعلبك، بعدما أقام على حصارها عشرة أشهر، وعوض الأمجد مجد الدين بهرام شاه بن فرخشاه بن شاهنشاه بن نجم الدين أيوب بن شادي، عوضاً من بعلبك وأعمالها، قصير دمشق والزبداني، فكانت مدة ملكه بعلبك تسعاً وأربعين سنة، فبعث الكامل الأمير فخر الدين عثمان الأستادار إلى الأشرف، في مهمات تتعلق به، وولي كمال الدين بن شيخ نائباً بالجزيرة.
وفيها قدم رسول السلطان علاء الدين كيقباد السلجوقي - صاحب الروم - على الملك الكامل، وأخبره بأنه جهز خمسة وعشرين ألفا إلى أرزنجان وعشرة آلاف إلى ملطية، وأنا حيث تأمر. فطاب قلب السلطان الكامل بذلك، وكان مهتماً من أمر الخوارزمي.
وفيها سار الأشرف، صاحب دمشق، من الشام إلى جهة الشرق، فوصل إلى الكامل وهو بالرقة، ووصل أيضاً مانع بن حديثة أمير العرب.
وفيها ملك الخوارزمي مدينة خلاط بحد حصار طويل وقتال شديد في ثامن عشري جمادى الأولى فوضع السيف في الناس، وأسرف في القتل والنهب، فرحل الملك الكامل يريد مصر، لأمور منها أنه بلغه موت ولده الملك المسعود صاحب اليمن، فكتمه وكان قد ورد عليه أيضاً من أم ولده العادل كتاب تشكو فيه من ابنه الملك الصالح نجم الدين أيوب، وأنه قد عزم على التوثب على الملك، واشترى جماعة كبيرة من المماليك الأتراك، وأنه أخذ مالاً جزيلاً من التجار، وأتلف جملة من مال بيت المال، ومتى لم تتدارك البلاد وإلا غلب عليها، وأخرجني أنا وابنك الملك العادل منها، فانزعج الكامل لذلك، وغضب غضباً شديداً، ثم ورد عليه الخبر بان ابنه الصالح اشترى ألف مملوك فعزم على الرحيل إلى مصر، فرتب الطواشي شمس الدين صواب العادلي نائباً في أعمال المشرق، وأعطاه إقطاع أمير مائة فارس، زيادة على ما بيده من الديار المصرية، وهي أعمال أخميم بكمالها، وقاي والقايات ودجوة بإمرة مائتين وخمسين فارساً، فصار أمير ثلاثمائة وخمسين فارساً، ورتب الملك الكامل كمال الدين ابن شيخ الشيوخ وزيرا، وتوجه الكامل إلى مصر، فدخلها في رجب، وتغير على ابنه الملك الصالح تغيراً كثيراً، وقبض على جماعة من أصحابه وسجنهم، وألزمهم إحضار الأموال التي فرط فيها الملك الصالح، وخلع الصالح من ولاية العهد.
وفيها واقع الملك علاء الدين كيقباد السلطان جلال الدين خوارزم شاه وكسره، وقتل كثيراً ممن كان معه، وخلص جلال الدين في عدة من أصحابه إلى تبريز، وكان ذلك في سابع عشري رمضان، فملك الأشرف - صاحب دمشق - مدينة خلاط.
وفيها بلغ قاع النيل بمقياس مصر ذراعين، وانتهت زيادة ماء النيل ثلاثة عشر ذراعاً وثلاثة عشر إصبعا لا غير، فارتفعت الأسعار.
وفيها قصد الفرنج حماة، فأوقع بهم المظفر تقي الدين، وقتل عدة منهم، وأسر كثيراً، وذلك في رمضان.
وفيها مات الملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه بن فرخشاه بن شاهنشاه بن نجم الدين أيوب - صاحب بعلبك - ليلة الأربعاء ثامن عشر شوال، وكانت مدة ملكه تسعاً وأربعين سنة، وكان أديباً شاعراً. ومات الملك الظافر خضر بن صلاح الدين يوسف بن أيوب، وكان يعرف بالمشمر.
سنة ثمان وعشرين وستمائة
فيها عاد الأشرف إلى دمشق.(1/75)
وفيها انفرد العزيز صاحب حلب بالملك، وقد بلغ ثماني عشرة سنة، وتسلم الخزائن من أتابكه شهاب الدين طغريل، ففام بتدبير الملك قياماً مشكوراً، وسير القاضي بهاء الدين بن شداد إلى الملك الكامل، بسبب إحضار صفية خاتون ابنة الكامل - وهي زوجة العزيز - فأقام بالقاهرة حتى سنة تسع وعشرين وستمائة.
وفيها قدم الأشرف من دمشق على الملك الكامل ومعه الملك المعظم - صاحب الجزيرة - في عاشر جمادى الأولى، فسر السلطان بقدومهما.
وفيها سار الملك الكامل إلى الإسكندرية، وترك الأشرف بالقاهرة، واستصحب معه صاحب الجزيرة بعدما أنعم عليه إنعاماً موفوراً. وفيها تحرك التتر.
وفيها قدم الملك مجير الدين بن العادل إلى القاهرة، وكان مأسوراً عند الخوارزمي، فسر به الكامل، وأكرمه هو وأخوه تقي الدين عباس.
وفيها مات السلطان جلال الدين خوارزم شاه، بعدما هزمه التتر ببعض قرى ميافارقين قتله بعض الأكراد.
وفيها وصل التتر إلى إربل، وقتلوا من المسلمين ما لا يحصى عددهم إلا خالقهم.
وفيها شرع الملك الكامل في حفر بحر النيل، الذي فيما بين المقياس وبر مصر، وعمل فيه بنفسه، واستعمل الملوك والأمراء والجند، فلما فرغ من الحفر صار في أيام احتراق النيل يمشي من المقياس والروضة إلى بر الجيزة، واستمر الماء فيما بين مصر والروضة لا ينقطع في زمن الاحتراق البتة، وكان السلطان قد قسط حفر هذا البحر على الدور التي بالقاهرة، ومصر والروضة، بالمقياس، واستمر العمل فيه - من مستهل شعبان إلى آخر شوال - مدة ثلاثة أشهر.
وفيها قدم رسول الخليفة المستنصر بالله بالخلع والتقليد للملك الكامل، وميز بزيادات كثيرة، لم تفعل في حق غيره، من السلجوقية وغيرهم، ووردت خلع للملك الأشرف أيضاً. وفيها تسلطن عمر بن علي بن رسول باليمن، ونشر دعوته.
سنة تسع وعشرين وستمائة
فيهما تكمل استيلاء التتر على إقليم أرمينية وخلاط وسائر ما كان بيد الخوارزمي. فاهتم الخليفة المستنصر بالله غاية الاهتمام، وسير عدة رسل يستنجد الأشرف من مصر، ويستنجد العربان وغيرهم، وأخرج الخليفة الأموال، فوقع الاستخدام في جميع البلاد لحركة التتر.
وفيها خرج الملك الكامل من القاهرة في جمادى الآخرة، واستخلف على مصر ابنه الملك العادل أبا بكر، وأسكنه قلعة الجبل مع أمه، واخرج الصالح أيوب معه، وقدم الأشرف - والمعظم صاحب الجزيرة - بالعساكر، ومضى الكامل جريدة إلى الشوبك والكرك، وسار إلى دمشق، ومعه الناصر داود صاحب الكرك بعساكره، وقد زوجه بابنته عاشوراء خاتون، وعقد عقده عليها بمنزلة اللجون، وأقام الكامل بدمشق يسرح العساكر، وجعل في مقدمتها ابنه الملك الصالح أيوب، وورد الخبر بدخول التتر بلاد خلاط، فأسرع الكامل في الحركة، وخرج من دمشق، فنزل سليمة - وقد اجتمع فيها بعساكر يضيق بها الفضاء - وسار منها في أخريات رمضان على البرية، وتفرقت العساكر في عدة طرق لكثرتها، فهلك منها عدة كثيرة من الناس والدواب، لقلة الماء، وأتته رسل ملوك الأطراف، وهم عز الدين بيقرا، وفخر الدين بن الدامغاني، رسل الخليفة المستنصر بالله، وألبسوه خلعة السلطنة، فاستدعي الكامل عند ذلك رسل الخوارزمي، ورسول الكرج، ورسل حماة وحمص، ورسول الهند ورسل الفرنج، ورسل أتابك سعد صاحب شيراز، ورسل صاحب الأندلس ولم تجتمع هذه الرسل عند ملك في يوم واحد قط غيره، وقدم عليه بهاء اللين اليزدي - شيخ رباط الخلاطية - من بغداد وجماعة من النخاس، يحثونه على الغزاة.
فرحل التتر عن خلاط، بعد منازلتها عدة أيام، وجاء الخبر برحيلهم والكامل بحران، فجهز عماد الدين بن شيخ الشيوخ رسولاً إلى الخليفة، وسار إلى الرها، وقدم العساكر إلى آمد، وسار بعدهم، فنزل على آمد، ونصب عليها عدة مجانيق، فبعث إليه صاحبها يستعطفه، ويبذل له مائة ألف، وللأشرف عشرين ألف دينار، فلم يقبل، ومازال عليها حتى أخذها، في سادس عشري ذي الحجة، وحضر صاحبها إليه بأمان، فوكل به حتى سلم جميع حصونها، فاعطى السلطان حصن كيفا لابنه الملك الصالح نجم الدين أيوب - وفيها وردت هدية من ماردين.(1/76)
وفيها سار ابن شداد من القاهرة بالستر العالي الصاحبة غازية خاتون، ابنة الكامل وزوجة الملك المظفر، صاحب حماة، والستر العالي الصاحبة فاطمة، ابنة الكامل وزوجة الملك العزيز، صاحب حلب، وخرج معها أيضا الأمير فخر الدين البانياسي، والشمريف شمس الدين قاضي العسكر.
وفيها مات الأمير فخر الدين عثمان بن قزل أستادار الملك الكامل، و صاحب المدوسة الفخرية بالقاهرة، في ثامن عشر ذي الحجة بحران.
وفيها بعث الملك المنصور عمر بن علي بن رسول، صاحب اليمن، عسكراً إلى مكة، فيه الشريف راجح بن قتادة، فملكها من الأمير شجاع الدين طغتكين، نائب الملك الكامل، في ربيع الآخر. وفر شجاع الدين إلى نخلة ثم إلى ينبع، وكتب يعلم الملك الكامل بذلك، فبعث إليه الكامل عسكراً سار هم إلى مكة، فقدموها في شهر رمضان، وملكوها بعدما قتلوا جماعة، وكان مقدم العسكر الأمير فخر الدين يوسف بن الشيخ.
سنة ثلاثين وستمائة
فيها أنعم الكامل على ابنه الملك الصالح نجم الدين أيوب بحصن كيفا، وسيره إليها، وعاد هو إلى الديار المصرية، ومعه الملك المسعود، صاحب آمد، فلما وصل قلعة الجبل أفرج عنه، وأحسن إليه، وأعطاه إمرة بديار مصر.
وفيها قبض الكامل على جماعة من الأمراء المصرية.
وفيها استولى الملك المظفر، صاحب حماة على حصن بارين، وانتزعه من أخيه الناصر قلج أرسلان، فسار قلج أرسلان إلى خاله الكامل، فقبض عليه، واعتقله في قلعة الجبل حتى مات.
وفيها جهز الملك الكامل عسكراً من الغز والعربان إلى ينبع، من أرض الحجاز - عليهم علاء الدين آق سنقر الزاهدي - في شوال وعدتهم سبعمائة، وسبب ذلك ورود الخبر بمسير الشريف راجح من اليمن بعسكر إلى مكة، وأنه قدمها في صفر، وأخرج من بها من المصريين بغير قتال، فقدم الزاهدي في الموسم، وتسلم مكة، وحج بالناس، وترك بمكة ابن محلي، ومعه خمسون فارساً، ورجع إلى مصر.
وفيها توفي الفخر سليمان بن محمود بن أبي غالب الدمشقي، كاتب الإنشاء. فاستحضر الملك الكامل ناسخاً يقال له الأمين الحلبي، كان عند الأمير عز الدين أيبك - أستادار الملك المعظم - في خدمته يكتب له، فلما حضر الأمين ليكتب بين يديه خلع عليه، وأعاده إلى صاحبه، فتزهد استحياء من الناس، وبعث الكامل إلى ميافارقين، فأحضر الجلال بن نباتة ليستكنبه، فلما حضر خلع عليه، وأعاده ولم يستكتبه الأشرف صاحب دمشق.
وفي يوم الثلاثاء ثامن عشر رمضان: سلطن الملك الكامل ولده الملك العادل سيف الدين أبا بكر، وأركبه بشعار السلطنة، وشق به القاهرة، وعمره يومئذ إحدى عشرة سنة، وكان الكامل يحبه، ويحب أمه حبا زائداً.
وفي ذي القعدة: وصل محيي الدين يوسف بن الجوزي من بغداد، بالتقليد من الخليفة المستنصر بالله للملك الكامل.
وفيها أبطل السلطان المعاملة بالفلوس في القاهرة ومصر، فتلف مال كثير للناس.
وفيها مات الأمير حسام الدين مانع بن حديثة، أمير العربان من آل فضل، فأمر الأشرف بعده ابنه مهنا.
وفيها قدم الناصر داود صاحب الكرك إلى مصر، فنزل بدار الوزارة من القاهرة، وركب في خدمة عمه الملك الكامل.
وفيها مات العزيز فخر الدين عثمان بن العادل بدمشق، يوم الاثنين عاشر رمضان. فيها مات الملك المعظم مظفر الدين كوكبري بن زين الدين علي كوجك، ملك إربل، في تاسع عشري شعبان عن أربع وثمانين سنة، وكان يهتم بعمل المولد النبوي في كل سنة اهتماماً زائداً، فتسلم إربل من بعده نواب الخليفة، وصارت مضافة إلى مملكة بغداد.
سنة إحدى وثلاثين وستمائة
فيها قصد السلطان علاء الدين كيقباد بن كيخسرو السلجوقي، صاحب بلاد الروم، مدينة خلاط، فخرج الملك الكامل من القاهرة بعسكره، ليلة السبت خامس شعبان، واستناب ابنه الملك العادل، فوصل إلى دمشق، وكتب إلى ملوك بني أيوب يأمرهم بالتجصز، للمس!ر بعساكرهم إلى بلاد الروم، وخرج الكامل من دمشق، فنزل على سليمة في شهر رمضان، ورتب عساكره، وسار إلى منبج، فقدم عليه عسكر حلب، وغيره من العساكر، فسار وقد صار معه ستة عشر دهليزاً، لستة عشر ملكاً - وقيل بل كانوا ثمانية عشر ملكاً، فعرضهم الكامل على إلبيرة أطلابا بأسلحتهم، فلكثرة ما أعجب بنفسه قال: هذه العساكر لم تجتمع لأحد من ملوك الإسلام.(1/77)
وأمر بها فسارت شيئاً بعد شيء نحو الدربند، وقد جد السلطان علاء الدين في حفظ طرقاته بالمقاتله، ونزل الكامل على النهر الأزرق، وهو بأول بلد الروم، ونزل عساكر الروم فيما بينه وبين الدربند وأخفوا عليه رأس الدربند وبنوا علمه سوراً يمنع العساكر من الطلوع، وقاتلوا من اعلاه، فقلت الأقوات عند عسكر الكامل، واتفق - مع قلة الأقوات وامتناع الدربند - نفور ملوك بني أيوب من الملك الكامل، بسبب أنه حفظ عنه أنه لما أعجبته كثرة عساكره بالبيرة، قال لخواصه: إن صار لنا ملك الروم فإنا نعوض ملوك الشام والشرق مملكة الروم، بدل ما بأيديهم، ونجعل الشام والشرق مضافاً إلى ملك مصر. فحذر من ذلك المجاهد صاحب حمص، وأعلم به الأشرف موسى صاحب دمشق، فأوجس في نفسه خيفة موسى، وأحضر بني عمه وأقاربه من الملوك وأعلمهم ذلك، فاتفقوا على الملك الكامل، وكتبوا إلى السلطان علاء الدين بالميل معه وخذلان الكامل، وسيروا الكتب بذلك، فاتفق وقوعها في يد الملك الكامل، فكتمها ورحل راجعاً، فأخذ السلطان علاء الدين طيقباد - ملك الروم - قلعة خرتبرت وست قلاع أخر كانت مع الملوك الأرتقية، في ذي القعدة، فاشتد حنق الملك الكامل، لما حصل على أمرائه وعساكره من صاحب الروم في قلاع خرتبرت، ونسب ذلك إلى أهله من الملوك، فتنكر ما بينه وبينهم.
وفيها مات الملك المفضل قطب الدين موسى بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، في ذي الحجة.
وفيها بعث المنصور عمر بن على بن رسول - ملك اليمن - عسكراً، وخزانة مال إلى الشريف راجح بن قتادة، فأخرج من بمكة من المصريين.
وفيها حضر الشيخ أبو عبد الله محمد بن عمر القرطبي جماعاً، بزقاق الطباخ بمدينة مصر، في أول يوم من شهر رجب، وكان هناك الشيخ أبو عبد الله القرشي، وأبو عباس القسطلاني، وجماعة غيرهما، فلما أنشد القوال صفق أبو يوسف الدهماني بيديه، وارتفع عن الأرض متربعا، إلى أن بلغ إلى أنبدارية المجلس، ودار ثلاث دورات، ثم نزل إلى مكانه، فقام الشيخ القرطبي، وقدر ارتفاع الأنبدارية، فكان أطول من قامته رافعاً يديه.
سنة اثنتين وثلاثين وستمائة
فيها عاد الملك الكامل إلى قلعة الجبل من بلاد الشرق - في جمادى الأولى - وقد توحش ما بينه وبين أخيه الأشرف - صاحب دمشق - وغيره من الملوك.
فقبض الكامل على المسعود صاحب آمد واعتقله في برج هو وأهله، يوم الاثنين سادس عشر جمادى الأولى، لممالأته لهم، فملك صاحب الروم وحران بالسيف، وعاد إلى بلاده، بعد ما استولى على ما كان بهما من الأموال، فلما بلغ الكامل ذلك أمر العساكر أن تتجهز للمسير إلى الشرق، وأقطع ابن الأمير صلاح الدين الإربلي صنافير بالقليوبية، وجعل أقارب والده ومماليكه معه، وعدتهم سبعة عشر رجلاً.
وفيها بعث ابن رسول إلى الشريف راجح بن قتادة بخزانة مال، ليستخدم عسكراً، فلم يتمكن من ذلك، لأنه بلغه أن السلطان الملك الكامل بعث الأمير أسد الدين جغريل، أحد المماليك الكاملية، إلى مكة بسبعمائة فارس، وحضر جغريل إلى مكة، ففر منه الشريف راجح بن قتادة إلى اليمن، وملك جغريل مكة في شهر رمضان، وأقام العسكر بها.
وفيها مات الملك الزاهر أبو سليمان مجير الدين داود بن صلاح الدين يوسف بن أيوب - صاحب البيرة - في سابع صفر، فاستولى العزيز - صاحب حلب - عليها من بعده.
وفيها مات الأمير شمس الدين صواب - الطواشي الكاملي - بحران في أواخر شهر رمضان.
سنة ثالث وثلاثين وستمائة
فيها استمر وباء كثير بمصر مدة ثلاثة أشهر، فمات بالقاهرة ومصر خلق كثر، بلغت عدتهم زيادة على اثني عشر ألفاً، سوى من مات بالريف.
وفيها سار التتر إلى جهة الموصل، فقتلوا ونهبوا وسبوا.
وفيها سار الناصر داود - صاحب الكرك - إلى الخليفة المستنصر بالله، خوفاً من عمه الملك الكامل، فإنه كان قد ألزمه حتى طلق ابنة الكامل، فخشي أن ينتزع منه الكرك فوصل إلى بغداد، فأكرمه الخليفة، ومنعه من الاجتماع به، رعاية للملك الكامل، ثم اجتمع به سراً، وخلع عليه، وبعث معه رسولاً مشربشاً، من خواصه إلى الكامل، يشفع فيه، فلما وصل الرسول إلى الكامل تلقاه وقبل الشفاعة.(1/78)
وفيها سار الملك الكامل من القاهرة بعساكره يريد بلاد الشرق، فنازل الرها حتى أخذها، يوم الأربعاء ثالث عشر جمادى الأولى، وأسر منها زيادة على ثمانمائة من الأمراء، وهدم قلعتها، ونازل حران، وأخذها بعد حصار وقتال في رابع عشر جمادى الآخر، وأسر من كان بها من أجناد السلطان علاء الدين، وأمرائه ومقدميه الصوباشية، وكانوا سبعمائة وخمسة وعشرين رجلاً، فمات كثير منهم في الطرقات، ثم نزل الكامل على دنيسر وخربها. فورد عليه الخبر بأن التتر قد وصلوا إلى سنجار، في مائة طلب، كل طلب خمسمائة فارس، وأخذ الكامل قلعة السويداء عنوة، وأسر من بها في سابع عشر جمادى الآخر، وهدمها، وأخذ قطينا، وأسر من بها في رجب.
وفي تاسع عشره: بعث الكامل جميع الأسرى إلى ديار مصر، وعدتهم تزيد على الثلاثة آلاف، وعاد إلى دمشق، وسلم الشرق لابنه الملك الصالح أيوب.
وفيها هدمت دنيسر، وعدة بلاد كثيرة من بلاد صاحب ماردين.
وفيها خرج عسكر الروم، بعد عود الكامل، وحاصر آمد وأخرب داراً في خامس ذي القعدة.
وفيها استولى الفرنج على مدينة قرطبة بالأندلس.
وفيها قدم أنبا كيرلس داود بن لقلق بطركا على الإسكندرية لليعاقبة، في يوم الأحد ثالث عشري بؤونة، سنة إحدى وخمسين وتسعمائة للشهداء، الموافق لتاسع عشري رمضان، فأقام في البطركية سبع سنين وتسعة أشهر وعشرة أيام، وكان عالماً، محباً للرياسة، وجمع المال، وأخذ الشرطونية، وكانت أرض مصر قد خلت من الأساقفة، قبل اعتلائه كرسي البطركية، فقدم جماعة من الأساقفة بمال كبير، ومرت به شدائد كثيرة، فإن الراهب عماد المرشار كان قد سعى في ولايته البطركية، وشرط عليه ألا يقدم أسقفا إلا برأيه، فلم يف له، ولا التفت إليه، فانحرف عنه ورافعه، فوكل عليه وعلى عدة من أقاربه وألزامه، وقام أيضاً عليه الشيخ السني بن التعبان الراهب، وعانده وذكر مثالبه، وأنه إنما تقدم بالشوة، وأنه أخذ الشرطونية، فلا تصح له كهنوتية، على حكم القوانين، ومال معه جماعة، وعقدوا له مجلساً بحضور الصاحب - معين الدين بن شيخ الشيوخ، في أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب، وأثبتوا عليه أموراً شنعة، وعزموا على خلعه، فقام معه الكتاب المستوفون بديار مصر، وتحدثوا مع الصاحب معين الدين، فقرر مالاً حمله البطريك إلى السلطان، واستمر أنبا كيرلس على بطركيته حتى مات يوم الثلاثاء رابع عشر برمهات، سنة تسعمائة وتسع وخمسين للشهداء، الموافق لسابع رمضان سنة أربعين وستمائة وخلا الكرسي بعده سبع سنين وستة أشهر وستة وعشرين يوماً.
وفيها بعث الملك المنصور عمر بن علي بن رسول - ملك اليمن - عسكراً إلى مكة، مع الشهاب بن عبد الله، ومعه خزانة مال، فقاتله المصريون وأسروه، وحملوه إلى القاهرة مقيداً.
سنة أربع وثلاثين وستمائة
فيها سار الملك الكامل من دمشق يريد القاهرة، فوصل إليها، وصعد قلعة الجبل في ثم خرج إلى دمياط، فقدم عليه محيي الدين يوسف بن الجوزي رسولاً من الخليفة، وهو بها، وسافر محيي الدين إلى السلطان علاء الدين كيقباد بن غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان - صاحب الروم - ومعه الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنفري، رسولاً من جهة الملك الكامل.
وفيها مات الملك العزيز غياث الدين محمد بن الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب - صاحب حلب - يوم الأربعاء رابع عشري شهر ربيع الأول، عن ثلاث وعشرين سنة وأشهر، وقام من بعده ابنه الناصر صلاح الدين أبو المظفر يوسف، وعمره نحو السبع سنين، وقام بتدبير أمره الأميران لؤلؤ الأميني، وعز الدين عمر بن محلي، وبينهما وزير الدولة جمال الدين الأكرم، يراجع الستر الرفيع صفية خاتون ابنة الملك العادل، على لسان جمال الدولة إقبال، وحضر الأمير بدر الدين بدر بن أبي الهيجاء وزين الدين قاضي حلب، إلى الملك الكامل، بزردية العزيز وكزا غنده، وخوذته ومركوبه، فأظهر الكامل الألم لموته، وقصر في إكرامهما، وحلف للناصر، وشرط أشياء، وأعاد الرسولين، ثم أرسل خلعة للناصر بغير مركوب، ومعها عدة خلع للأمراء الحلبيين، وخلعة للصالح صلاح الدين أحمد بن الظاهر غازي، صاحب عينتاب، فاستوحشت أم الظاهر من أخيها الكامل، ولم توافق على لبس أحد من الأمراء الخلع، فلبس الناصر وحده خلعة الكامل، ورد الرسول الوارد إلى الصالح صلاح الدين بخلعته.(1/79)
وفيها تنكر الأشرف - صاحب دمشق - على الملك الكامل، وراسل أهل حلب، فوافقوه على منع الكامل من بلاد الشام، ومكاتبة السلطان علاء الدين، صاحب الروم، ليكون معهم، فانتظمت كلمة ملوك الشام على مخالفة الملك الكامل، فانزعج الملك الكامل، وعز ذلك عليه، وكان حيي بلغه الخبر بالإسكندرية، فخرج منها ليلاً، وسار إلى قلعة الجبل، وشرع في تدبير أمره، فاتفق موت السلطان علاء الدين كيقباد بن غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان - ملك الروم - وقيام ولده غياث الدين كيخسرو بن علاء الدين كيقباد من بعده، في سابع شوال، قبل اجتماعه بالحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري رسول السلطان فبعث ملوك الشام رسلهم إلى السلطان غياث الدين كيخسرو بن علاء الدين كيقباد بن كيخسرو بن قلج أرسلان السلجوقي - صاحب الروم - يعزونه في أبيه، ويحلفونه على ما اتفقوا عليه من مخالفة الملك الكامل، وشر الكامل أفضل الدين محمد الخونجي يعزي غياث الدين بأبيه، ومعه ذهب برسم الصدقة عنه، وثياب أطلس برسم أغشية القبر.
وفيها كان الوباء أشد من السنة الماضية. وفيها ضرب الملك الكامل الفلوس.
وفيها بعث الملك الكامل القاضي الأشرف بن القاضي الفاضل إلى الملك الناصر داود - صاحب الكرك - يدعوه إلى موافقته. فرحل الملك الناصر إلى القاهرة مع القاضي الأشرف، فسر الكامل بقدومه، وركب إلى لقائه، وأنزله بحار الوزارة، وقدم له أشياء كثيرة، وخلع عليه، وقلده الكامل دمشق، وأمر من عنده من الأمراء والملوك الأيوبية، فحملوا الغاشية بين يديه بالنوبة، فكان أول من حملها الملك العادل أبو بكر بن الكامل، ثم البقية واحداً بعد واحد، إلى أن صعد قلعة الجبل، وجدد الناصر عقده على مطلقته عاشوراء خاتون ابنة الكامل، في تاسع عشر ذي الحجة، فلما بلغ الأشرف ذلك أوقع الحوطة على نابلس، وأخذ ما كاد فيها للناصر داود.
وفيها سير الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل، صاحب حصن كيفا، يستأذن أباه في استخدام من خالف السلطان غياث الدين كيخسرو - صاحب الروم - من الخوارزمية، فأذن له في ذلك، واستخدمهم عنده بالبلاد الجزرية، فتقوى بهم.
وفيها استولى التتار على إربل، وقتلوا كل من فيها، وسبوا ونهبوا، حتى نتنت من كثرة القتلى، ثم رحلوا عنها.
وفيها قدم من جهة ملوك الشام إلى الملك الكامل رسول، فبلغه عنهم أنهم قالوا: إنا اتفقت كلمتنا عليك، فلا تخرج من مصر إلى الشام، واحلف لنا على ذلك. فاتفق مرض الأشرف بالقرب، فكان لا يستقر بباطنه طعام البتة، حتى انقضت السنة وهو مريض، من شهر رجب. وفيها قدم عسكر من اليمن إلى مكة، فحاربهم الأمير أسد الدين جغريل، وكسرهم، فقدم الملك المنصور عمر بن رسول، وملك مكة بغير قتال، وتصدق بمال، وترك بها جماعة، فقدم الشريف شيحة بن قاسم - أمير المدينة - وملك مكة منهم ونهبهم، ولم يقتل أحداً.
سنة خمس وثلاثين وستمائة(1/80)
فيها مات الأشرف موسى بن العادل أبي بكر بن أيوب - صاحب دمشق بها - يوم الخميس رابع المحرم، وعمره نحو من ستين سنة، ومدة ملكه بدمشق ثماني سنين وأشهر، ولم يترك سوى ابنة، تزوجها الملك الجواد يونس بن مودود بن الملك العادل، فقام من بعده بدمشق أخوه الملك الصالح عماد الدين إسماعيل، صاحب بصرى، بعهد من أخيه له، فاستوفى الملك الصالح عماد الدين على دمشق وبعلبك، وبعث ابنه الملك المنصور محموداً إلى الشرق، ليتسلم سنجار ونصيبين والخابور من نواب الشرق، وبعث إلى المجاهد صاحب حمص، والي المظفر صاحب حماة، وإلى الحلبيين أيضاً، ليحلفوا له ويتفقوا معه - على القاعدة التي تقررت بينهم وبين الأشرف - على مخالفة الكامل، فأجابوا إلا صاحب حماة، فإنه مال مع الكامل، وبعث إليه يعلمه بميله إليه، فسر الكامل بذلك، ثم إن الملك الصالح عماد الدين صادر جماعة من الدماشقة، الذين قيل عنهم إنهم مع الملك الكامل، منهم العلم تعاسيف، وأولاد مزهر، وحبسهم في بصرى، فتجهز الكامل، وخرج من قلعة الجبل بعساكره، بكرة يوم الخميس ثالث عشري صفر، واستناب على مصر ابنه الملك العادل، وأخذ معه الناصر داود، وهو لا يشك أن الملك الكامل يسلم إليه دمشق، لما كان قد تقرر بينهما. فكاتب الكامل نائب قلعة عجلون حتى سلمها، ونزل على دمشق بمسجد القدم، في ثالث عشري ربيع الأول، وقد تخصنت وأتتها النجدات، فحاصرها وقطع عنها المياه، وضايقها حتى غلت بها الأسعار، وأحرق العقيبة والطواحين، وألح على أهلها بالقتال، وكان الوقت شتاء فأذن الصالح إسماعيل، وسلم دمشق لأخيه الكامل، فعوضه عنها بعلبك والبقاع، وبصرى والسواد.
وكان السفير بينهما الصاحب محيي الدين أبو المظفر يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي - رسول الخليفة - الوارد ليوقع الصلح بين ملوك بني أيوب، فتسلم الكامل دمشق في عاشر جمادى الأولى، وسار الصالح إسماعيل إلى بعلبك، لإحدى عشرة بقيت من جمادى الأولى، فنزل الملك الكامل بالقلعة، وأمر بنصب الدهليز بظاهر دمشق، وسير المظفر صاحب حماة إلى حمص، وأطلق الفلك المسيري من سجن قلعة دمشق - وكان قد سجنه الملك الأشرف - ونقل الأشرف إلى تربته، وأمر الكامل في يوم الاثنين سادس جمادى الآخرة ألا يصلي أحد من أئمة الجامع المغرب، سويى الإمام الكبير فقط، لأنه كان يقع بصلاتهم تشويش كبير على المصلين، وورد الخبر باستيلاء الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل على سنجار ونصيبين والخابور، وقدم رسول الخليفة بمال إلى الملك الكامل، ليستخدم به عسكراً للخليفة، فإنه بلغه توجه التتر إلى بغداد، فقام الملك الكامل لما سلم إليه كتاب الخليفة، ووضعه على رأسه، وكان جملة ما حضر من المال مائة ألف دينار مصرية، فأمر الملك الكامل أن يخرج من بيت المال مائتا ألف دينار، ليستخدم بها العساكر، وأن يجرد من عساكر مصر والشام عشرة آلاف، نجدة للخليفة، وأن يكون مقدم العساكر الناصر داود، وألا يصرف مما حضر من المال شيء، بل يعاد بكماله إلى خزانة الخليفة، فتولى استخدام الأجناد الأميران ركن الدين الهيجاوي، وعماد الدين بن موسك، وأن يكونا مع الناصر داود في خدمته، فاستخدم الناصر العسكر، وسار إلى بغداد، وهم نحو ثلاثة آلاف فارس، وشرع الكامل يتجهز لأخذ حلب، فخاف المجاهد صاحب حمص، وبعث ابنه المنصور إبراهيم فتقرر الأمر على أن يحمل المجاهد كل سنة للملك الكامل ألفي ألف درهم، فعفا عنه.
وكان منذ دخل الكامل إلى قلعة دمشق قد حدث له زكام، فدخل في ابتدائه إلى الحمام، وصب على رأسه الماء الحار، فاندفعت المراد إلى معدته، فتورم وعرضت له حمى، فنهاه الأطباء عن القيء، وحفروه منه، فاتفق أنه تقيا لوقته، في آخر نهار الأربعاء حادي عشري شهر رجب، بقاعة الفضة من قلعة دمشق، فحفن بها بكرة الغد وعمره نحو من ستين سنة، وذلك بعد موت أخيه الأشرف بنحو ستة أشهر، فكانت مدة ملكه دمشق هذه المرة أحداً وسبعين يوماً، ومدة مملكته بمصر - بعد موت أبيه - عشرين سنة وثلاثة وأربعين يوماً - وقيل وخمسة وأربعين يوماً - وكانت في أيام أبيه نحوها فحكم مصر قريباً من أربعين سنة، ومولده في الخامس والعشرين من ربيع الأول، سنة ست وسبعين وخمسمائة.(1/81)
وكان يحب أهل العلم، ويؤثر مجالستهم، وشغف بسماع الحديث النبوي، وحدث بالإجازة من أبي محمد بن بري، وأبي القاسم البوصيري، وعدة من المصريين، وغيرهم، وتقدم عنده أبو الخطاب بن دحية، وبني له دار الحديث الكاملية بالقاهرة، وجعل عليهما أوقافاً، وكان يناظر العلماء وعنده مسائل غريبة من فقه ونحو يمتحن بها، فمن أجاب عنها قدمه وحظي عنده، وكانت تبيت عنده بالقلعة جماعة من أهل العلم: كالجمال اليمني النحوي، والفقيه عبد الظاهر، وابن دحية، والأمير صلاح الدين الإربلي - كان أحد الفضلاء - فينصب لهم أسرة ينامون عليها بجانب سريره، ليسامروه، فنفقت العلوم والآداب عنده، وقصده أرباب الفضائل، فكان يطلق لمن يأتيه منهم الأرزاق الوافرة الدارة، فممن قصده التاج بن الأرموي، وأفضل الدين الخونجي، والقاضي الشريف شمس الدين الأرموي - قاضي العسكر - وهؤلاء أئمة وقتهم في المنقول والمعقول، وكان مهيباً، حازماً سديد الآراء، حسن التدبير لمماليكه، عفيفاً عن الدماء، وبلغ من مهابته أن الرمل - فيما بين العريش ومصر - كان يمر فيه الواحد بالذهب الكثير والأحمال من الثياب، من غير خوف، وسرق مرة فيه بساط، فاحضر الكامل العربان الذين يخرون الطريق، وألزمهم بإحضاره وإحضار سارقه، فبذلوا عوضه شيئاً كثيراً، وهو يأبى إلا إحضار السارق، أو إتلاف أنفسهم وأموالهم بدله، فلم يجدوا بداً من إحضار السارق والبساط، وكان يباشر أمور الملك بنفسه، من غير اعتماد على وزير ولا غيره، واستوزر أولا الصاحب صفى الدين بن شكر ست سنين، وانكف بصره وهو يباشر الوزارة حتى مات، وكان الأمير فخر الدين عثمان الأستادار يتردد إليه في الأشغال، فلما مات الصاحب صفي الدين لم يستوزر الكامل بعده أحداً، بل كان يستنهض من يختار في تدبير الأشغال: فأقام معين الدين بن شيخ الشيوخ مدة، وسماه نائب الوزارة، ومرة أقام تاج الدين يوسف بن الصاحب صفي الدين، ومرة جمال الدين البوري، وصار يباشر أمور الدولة بنفسه، ويحضر عنده الدواوين، فيحاقهم ويحاسبهم، وإذا ابتدأت زيادة النيل خرج بنفسه وكشف الجسور، ورتب في كل جسر من الأمراء من يتولاه، ويجمع الرجال لعمله، ثم يشرف على الجسور بعد ذلك، فمتى اختل جسر عاقب متوليه أشد العقوبة، فعمرت أرض مصر في أيامه عمارة زائدة.
وأخرج الكامل من زكوات الأموال - التي كانت تجبى - سهمي الفقراء والمساكين، وجعلهما مصروفين، ورتب عليهما جامكيات الفقهاء والفقراء والصلحاء وكان يجعل في كل ليلة جمعة مجلساً لأهل العلم عنده، ويجلس معهم للمباحثة، وكانت كثير السياسة، وأقام في كل طريق خفراء تحفظ المسافرين، إلا أنه كان معري بجمع المال، مجتهداً في تحصيله وأحدث في البلاد حوادث سماها الحقوق، لم تكن في أيام من تقدمه، وله شعر، منه قوله:
إذا تحققتم ما عند صاحبكم ... من الغرام فذاك القدر يكفيه
أنتم سكنتم فؤادي وهو منزلكم ... وصاحب البيت أثري بالذي فيه
وفيه يقول البهاء زهير بن محمد، من قصيدة عند فتح دمياط:
هو الكامل المولى الذي إن ذكرته ... فيا طرب الدنيا ويا فرح العصر
به ارتجعت دمياط قهراً من العدى ... وطهر بالسيف والملة الطهر
لك الله من ملك إذا جاد أوسطا ... فناهيك من عرف وناهيك من نكر
يقصد عنه المدح من كل مادح ... ولو جاء بالشمس المنيرة والبدر
وكان أولاد الشيخ صدر الدين بن حمويه هم أكابر دولته وأعيانها، وهم الأمير فخر الدين يوسف، وعماد الدين عمر، وكمال الدين أحمد، ومعين الدين حسن، وكان فخر الدين قد ترك لبس العمامة، ولبس الطربوش والقباء ونادم السلطان، وكان فاضلاً أديباً، يشارك في فنون، وإخوته لهم فضائل، وإليهم مشيخة الخانقاه الصلاحية سعيد السعداء وتدريس المدرسة الناصرية، بجوار قبر الشافعي من القرافة، وتدريس المشهد الحسيني بالقاهرة، وما منهم إلا من تقدم على الجيوش، وباشر الحرب، وأرضعت أمهم - وهي ابنة القاضي شهاب الدين ابن عصرون - الملك الكامل، فصاروا إخوته من الرضاع.(1/82)
فلما مات السلطان الكامل اتفق أولاد الشيخ، والأمير سيف الدين علي بن قلج، وأخوه الأمير عماد الدين، والملك الناصر داود، وأرباب الدولة، على تحليف الأجناد للملك العادل أبي بكر بن الملك الكامل - وهو يومئذ يخلف أباه بقلعة الجبل - على ديار مصر، وأن يرتب الملك الجواد مظفر الدين يونس بن مودود بن العادل أبي بكر بن أيوب، في نيابة دمشق، وكتموا ذلك الأمر الثاني عن الناصر داود، وحلفوا على ذلك في يوم الخميس ثاني عشري رجب، وبعثوا الأمير نور الدين علي بن الأمير فخر الدين عثمان الأستادار إلى الناصر داود، فأخرجه من دمشق إلى الكرك، واستقر الجواد بدمشق، نائباً لابن عمه الملك العادل، وسار العسكر من دمشق إلى مصر، وتأخر بدمشق أمراء عدة - في جمع من عسكر مصر ومماليك الأشرف - لحفظها، ومقدمهم عماد الدين عمر بن شيخ الشيوخ، فبذل الجواد الأموال، وطمع في الاستبداد بملك دمشق، وألزم الخطيب بذكره في الخطبة بعد العادل.
السلطان الملك العادل الثاني
سيف الدين أبو بكر بن الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب. أمه الست السوداء، المعروفة ببنت الفقيه نصر، ومولده في سنة سبع عشرة وستمائة. استقر الأمر له بسلطنة مصر و دمشق في يوم الخميس ثاني عشري رجب، سنة خمس وثلاثين وستمائة، الموافق لسادس عشر برمهات. وخطب له بالقاهرة ومصر في رابع شعبان، وهو السلطان السابع من بني أبوب بديار مصر، فقدمت عليه القصاد من دمشق بوفاة أبيه واستقراره من بعده، فشرع الأمير سيف الدين قلج في تحليف الأمراء للملك العادل في داره، وحط الملك العادل المكوس، ووسع في العطاء وفي الرزاق على كل أحد.
وفي رابع شعبان: خطب له بمصر، وأعلن بموت الملك الكامل.
وفي رابع عشر شعبان: ضربت السكة باسمه.
وفي ثامن عشر رمضان: نقش الدينار والدرهم باسمه.
وفي عشريه: قرئ توقيعه على المنبر، بإبطال جميع المكوس.
وفي سابع عشري شوال: وصل محيي الدين أبو محمد يوسف بن الجوزي، رسولاً من بغداد، بتعزية الملك العادل، وهنأه بالملك من قبل الخليفة، وكان العادل قد بعث إلى دمشق بالخلع والسنجق، فركب الجواد بالخلع في تاسع عشر رمضان. وفيها أنفق العادل على العساكر.
وفي ثاني ذي القعدة: استحلف ابن الجوزي الملك العادل للخليفة المستنصر.
وفيه ورد الخبر بأن الناصر داود تحالف هو والجواد وقد اتفقا وخرجا عن طاعة العادل ووصل الناصر داود إلى غزة، وخطب بها لنفسه، ثم وقع بينه وبين الجواد خلف، فأظهر الجواد أنه عاد إلى طاعة الملك العادل، ولما قربت العساكر الواردة من دمشق إلى القاهرة ركب العادل إلى لقائهم وأكرمهم، وسير إليهم في منازلهم الأموال والخلع والخيول، فجددوا له الأيمان والعهود، فاستقر أمره، وأخرج العادل الأموال، وبذلها في الأجناد، وأكثر من العطاء والبذل، حتى بدد في مدة يسيرة ما جمعه أبوه في مدد متطاولة، وأخذ في إبعاد أمراء الدولة عنه، وقطع رواتب أرباب الدولة، واختص بمن أنشأه فنفرت قلوب الأكابر منه، واشتغل هو عنهم لانهماك شرب الخمر، وكثرة اللهو والفساد، وسار الناصر وأبو داود من الكرك، واستولى على غزة والسواحل، واستجد عسكراً كبيراً، وبرز عن غزة، وبعث إلى الملك العادل يريد منه المساعدة على أخذ دمشق.(1/83)
وقوي المجاهد أسد الدين صاخب حمص بعد موت الكامل، وأغار على حماة وحصرها واستعد أهل حلب، واستجدوا عسكرا من الخوارزمية، وعسكراً من الزكمان، كان قد صار إليهم عدة من أصحاب الملك الكامل، فأكرموهم، وبعثوا إلى السلطان غياث الدين كيخسرو بن كيقباد، ملك الروم، يسألونه إرسال نجدة، فأمدهم بخيار عسكره، وخرجوا فملكوا المعرة، ونازلوا حماة، وقاتلوا المظفر صاحبها، فثبت لهم، وامتنع عليهم وقاتلهم، وكان الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل على الرحبة، منازلاً لها، فلما بلغه موت أبيه الملك الكامل رحل عنها، فطمع فيها من معه من الخوارزمية، وخرجوا عن طاعته، وهموا بالقبض عليه، فقصد سنجار، وامتنع بها مدة، وترك خزائنه وأثقاله، فأنتهبها الخوارزمية، وتحكموا في البلاد الجزرية، وطمع فيه السلطان غياث الدين كيخسرو بن كيقباد - ملك الرومية - وبعث إلى الناصر صلاح الدين أبي المظفر يوسف صاحب حلب توقيعاً بالرها وسروج، وكانا مع الصالح نجم الدين أيوب، وأقطع المنصور ناصر الدين الأرتقي، صاحب ماردين، مدينة نجار ومدينة نصيبين، وهما من بلاد الصالح أيضاً، وأقطع المجاهد أسد الدين شيركوه، صاحب حمص بلدة عانة وغيرها من بلاد الخابور، وعزم السلطان غياث الدين كيخسرو على أن يأخذ لنفسه من بلاد الصالح أيضا آمد وسميساط وصار الملك الصالح محصوراً بسنجار، فطمع فيه الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ - صاحب الموصل - وحصره بسنجار في ذي القعدة، وأراد حمله إلى بغداد في قفص جديد، كراهة فيه، لما كان عنده من التجبر والظلم والمكبر، فلما أشرف بدر الدين لؤلؤ على أخذ سنجار بعث الصالح إليه القاضي بدر الدين يوسف بن الحسن الزرزاري قاضي سنجار، بعد ما حلق لحيته، ودلاه من السور.(1/84)
وكان القاضي الزرزاري متقدماً في الدولة الأشرفية، ولاه الملك الأشرف موسى قضاء بعلبك ثم بعد موت الملك الأشرف ولاه الصالح نجم الدين أيوب قضاء سنجار، وكان كثير التجمل جداً، واسع البر والمعروف، وله مماليك وغلمان وحواشي، لهم من التجمل ما ليس لغيرهم، فصار كأحد الأمراء الأكابر، وصار يقصد لسائر من يرد عليه من أهل العلم وذوي البيوتات، فتوجه القاضي في خفية إلى الخوارزمية، واستمالهم وطيب خواطرهم، بكثرة ما وعدهم به فمالوا إليه، بعد ما كانوا قد اتفقوا مع صاحب ماردين، وقصدوا بلاد الملك الصالح نجم الدين أيوب، واستولوا على العمال، ونازلوا حران وكان الملك الصالح قد ترك بها ولده المغيث فتح الدين عمر بن الصالح فخاف من الخوارزمية، وسار مختفياً حتى فرد إلى قلعة جعبر، فساروا خلفه، ونهبوا ما كان معه، وأفلت منهم في شرذمة يسيرة إلى منبج، فاستجار بعمة أبيه، الصاحبة ضيفة خاتون، أم الملك العزيز، صاحب حلب، فلم تقبله، فر إلى حران، وفيها أتاه كتاب أبيه يأمره بموافقة الخوارزمية، والوصول بهم إليه لدفع بحر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، فاجتمع المغيث عمر، والقاضي بدر الدين قاضي سنجار بالخوارزمية، والتزم لهم القاضي أن يقطعوا سنجار وحران والرها، فطابت قلوبهم، وحلفوا للملك الصالح، وقاموا في خدمة ابنه الملك المغيث، وساروا معه إلى سنجار، فأفرج عنها عسكر الموصل، يريدون بلادهم. وادركهم الخوارزمية، وأوقعوا بهم وقعة عظيمة، فر فيها بدر الدين لؤلؤ بمفرده على فرس سابق، ثم تلاحق به عسكره. واحتوت الخوارزمية على سائر ما كان معه، فاستغنوا بذلك، وقوي الملك الصالح بالخوارزمية وبها الفتح قوة زائدة، وعظم شأنه، وسير الخوارزمية إلى آمد، وعليها عسكر السلطان غياث الدين كيخسرو صاحب الروم، وبها المعظم غياث الدين تورانشاه بن الملك الصالح نجم الدين أيوب وهو محصور منهم، فأوقعوا بهم ورحلوهم عن آمد فخرج الصالح من سنجار إلى حسن كيفا، وبعث الملك العادل من مصر إلى أهل حلب يريد منهم أن يجروا معه على ما كانوا عليه مع أبيه الملك الكامل - من إقامة الخطبة له على منابر حلب، وأن تضرب له السكة - فلم يجب إلى ذلك، وقدم رسول غياث الدين كيخسرو ملك الروم، فزوج غازية خاتون ابنة العزيز السلطان غياث الدين، وأنكح الملك الناصر - صاحب حلب - أخت السلطان غياث الدين، وتولى العقد الصاحب كمال الدين بن أبي جرادة بن العديم، وخرج في الرسالة إلى بلاد الروم، وعقد للملك الناصر صاحب حلب على ملكة خاتون أخت السلطان غياث الدين، فبعث غياث الدين رسولاً إلى حلب، فأقيمت له بها الخطبة، وخرج الملك الجواد من دمشق في أول ذي الحجة، يريد محاربة الناصر داود صاحب كرك، بأذنبا بالقرب من نابلس فانكسر الناصر كسرة قبيحة، في يوم الأربعاء رابع عشر ذي الحجة، وانهزم إلى الكرك. فغنم الجواد ما كان مه، وعاد إلى دمشق، وفرق ستمائة ألف دينار وخمسة آلاف خلعة، وأبطل المكوس والخمور، ونفى المغاني. وعاد من كان في دمشق من عسكر مصر ومعهم الأمير عماد الدين بن شيخ الشيوخ إلى القاهرة، بسناجق الناصر، في سادس عشري ذي الحجة، فلم يعجب الملك العادل ذلك، وخاف من تمكن الملك الجواد. وفيها قصد التتار بغداد، فبعث إليهم الخليفة جيشاً، قتل كثيراً منه، وفر من بقي.
وفيها مات قاضي القضاة بدمشق وهو شمس الدين أبو البكرات يحيي بن هبة الله ابن الحسن بن بني الدولة الشافعي، في خامس ذي القعدة فأعيد في سابعه قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن الخليل الخويي، ورتب مراكز الشهود - وكانوا أولاً بدمشق وراقين يورقون المكاتيب وغيرها، فإذا فرغوا من الوراقة مشوا إلى بيوت العدول، فيشهدونهم على ما يريدون، واقتدى بعد ذلك أهل القاهرة ومصر بهم.
وفيها تولى الشريف شمس الدين محمد بن الحسن الأرموي قضاء العسكر ونقابة الأشراف بديار مصر، وقرئ سجله بجامع مصر، بحضرة الأمير جمال الدين موسى ابن يغمور والملك المسيري. وفيها بطلت الفلوس.(1/85)
وفيها سار الملك المنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول من اليمن يريد مكة، أحرق الأمير أسد الدين جغريل ما كان معه من الأثقال، وخرج هو رمن معه من مكة في سابع شهر رجب، قبل وصول ملك اليمن بيومين، فالتقوا بين مكة والسرين، انهزم العرب أصحاب الشريف راجح، وأسر الأمير شهاب الدين بن عدان من أمراء اليمن، فقيده الأمير جغريل، وحث به إلى القاهرة، وسار هو إلى المدينة النبوية فبلغه موت السلطان الملك الكامل، فسار بمن معه إلى القاهرة، فدخلوها أثناء شهر شعبان متفرقين، وأقام عسكر اليمن بمكة.
سنة ست وثلاثين وستمائة
فيها قبض الملك الجواد على صفي الدين بن مرزوق، وأخذ منه أربعمائة ألف دينار، وسجنه بقلعة حمص، فمكث ثلاث سنين لا يرى الضوء، وأقام الجواد بدمشق خادماً لزوجته يقال له الناصح، فصادر الناس، وأخذ منهم مالاً كثيراً، وقبض الملك الجواد على عماد الدين عمر بن شيخ الشيوخ، ثم خاف من أخيه فخر الدين، وقلق من ملك دمشق، وقال: إيش أعمل بالملك باز؟ وكلب أحب إلى من هذا، ثم خرج إلى الصيد، وكاتب الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل، على أن يعوضه عن دمشق بحصن كيفا وسنجار، فسر الصالح بذلك وتحرك للمسير إلى دمشق. وفيها قدم رسول ملك الروم إلى القاهرة بالعزاء للملك العادل.
وفيها أفرج أهل حلب عن حصار حماة، بعد ما ضاق الأمر على المظفر صاحب حماة، عنه رحلوا عناهم قلعة بارين وكانت حصينة.
وفيها استوحش الأمراء الأكابر من الملك العادل، لتقريبه الشباب والترابي، وإعطائهم الأموال والإقطاعات، والاقتداء بآرائهم، ولكثرة تحجبه، واشتغاله باللهو عن مصالح الدولة. فطمع الناصر داود صاحب الكرك في ملك مصر، فسار إليها ومعه تقادم فاخرة: ما بين جواري جنكيات، وعوديات ورقاصات، وأواني للشرب بديعة، فخرج العادل إلى لقائه في ثامن شوال، وأكرمه، وقدم له الناصر ما انتخبه من الجواري والأواني وغيرها، فصادف منه الغرض، ووضه عنه بأمثاله. ولازم الناصر القيام بخدمه العادل والإقامة في بابه: فتارة يعمل حاجب الباب، وتارة أستاداراً، وتارة دواداراً، ليدخل في كل وقت عليه، ويتوصل متى شاء إليه، وهو يظن أنه يستميل الأمراء عن العادل إلى جهته، فلما تمكن الناصر داود منه أوهمه من الأمير فخر الدين ابن شيخ الشيوخ، بأنه قد اتفق مع الملك المعز مجير الدين يعقوب، وأمال إليه عدة من الأمراء وحسن له القبض عليه، فانخدع له الملك العادل، وقبض على فخر الدين واعتقله بقلعة الجبل، وأخرج عمه الملك المعز من أرض مصر، ومعه أخوه الأمجد تقي الدين عباس، فلما تم للناصر ما أراد خيل العادل من الملك الجواد نائبه على دمشق، بأن الأمراء قد مالت إليه، وقام بأمره الأمير عماد الدين عمر بن شيخ الشيوخ، فبلغ ذلك العماد، فخاف أن يتفق عليه ما اتفق على أخيه، واجتمع بالملك العادل، والتزم له بإحضار الملك الجواد إلى طاعته عصر، فسيره العادل من القاهرة، ليحضر الملك الجواد من دمشق، فأكرمه الجواد، وأخذ العماد في التحدث معه في المسير إلى الملك العادل، فسوف به وماطله، حتى فطن العماد بامتناعه، فاحضر حينئذ الولاة والمشدين والنواب والدواوين بدمشق وأعمالها، وقال لهم: قد عزل السلطان الملك العادل الجواد عن نيابة دمشق، فلا تدفعوا إليه مالا، ولا تقبلوا له قولاً، فعز ذلك على الملك الجواد، ووكل بعماد الدين، وسجنه بقلعة دمشق، وتقرر الأمر بين الملك الجواد وبين المجاهد صاحب حمص، أن يكونا يداً واحدة، ووافقهما الأمير عماد الدين بن قلج، نائب الملك الجواد بدمشق، فرأوا أن أمرهم لا يتم إلا قتل العماد بن شيخ الشيوخ فبعثوا إلى نواب الإسماعيلية في ذلك، ودفعوا إليهم مالاً وقربة، فسيروا فدائيين قتلاه على باب الجامع، في سادس عشري جمادى الأولى، وأشيع أنهما غلطا في قتله، وإنما كانا يريدان قتل الملك الجواد، فإنه كان كثير الشبه به فبلغ ذلك الملك العادل فشق عليه.(1/86)
وفي العشرين من شوال: ورد الخبر بوصول عسكر الملك الصالح نجم الدين أيوب، صحبة ولده الملك المغيث جلال الدين عمر، إلى جينين فجمع الملك العادل والملك الناصر الأمراء وتحالفوا على قتال الصالح، وخرج الناصر داود من القاهرة، في تاسع ذي القعدة، لقتال الصالح، وجهز العادل جماعة من الأمراء، وعدة من العساكر بديار مصرة لتأخذ دمشق، وقدم الملك العادل إلى الملك الجواد رسولاً بكتاب فيه أنه يعطه قلعه الشوبك وبلادها، وثغر الإسكندرية، وأعمال البحيرة وقيلوب، وعشر قرى من بلاد الجيزة بديار مصر، لينزل عن نيابة السلطة بدمشق، ويحضر إلى قلعة الجبل، ليعمل برأيه في أمور الدولة، فلما ورفى ذلك أوهمه نائبه عماد الدين قلج من أنه متى دخل مصر، قبض عليه الملك العادل، وسلبه أولاد عماد الدين بن شيخ الشيوخ بدمه، فامتنع من تسليم دمشق، برز الملك العادل من القاهرة يريد دمشق، يوم الثلاثاء سلخ ذي الحجة، ونزل بلبيس، فخاف الجواد، وعلم عجزه عن مقاومة العادل، فبعث كمال الدين عمر بن أحمد بن هبة الله المشهور بابن العديم العقيلي، وابن طلحة خطيب جامع دمشق إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب - صاحب حصن كيفا وديار بكر وغررها من بلاد الشرق - يطلب منه أن يتسلم دمشق، ويعرضه عنها سنجار والرقة وعانة، فوقع ذلك من الملك الصالح أحسن موقع، وأجابه إليه، وزاده الجديدة، وحلف له على الوفاء، ورتب الملك الصالح ابنه الملك المعظم توران شاه على بلاد الشرق، وألزمه بحصن كيفا، وأقام نواباً بآمد وديار بكر، وسلم حران والرها وجميع البلاد للخوارزمية الذين في خدمته، وطلب نجدة من الأمير بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل وكان قد صالحه - فبعث إليه بدر الدين نجدة، وسار الملك الصالح من الشرق يريد دمشق، فقطع الجواد اسم الملك العادل من الخطة، وخطب للملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل، وضرب السكة باسمه، ودخل الصالح إلى دمشق، في مستهل جمادى الأولى، ومعه الجواد بين يديه بالناشية، وقد ندم الجواد على ما كان منه، وأراد أن يستدرك الفائت فلم يقدر، وخرج من دمشق والناس تلعنه في وجهه، لسوء أثره فيهم، وبعث الصالح إليه برد أموال الناس إليهم، فأبي وسار.
وكان قد وصل مع الصالح أيضاً الملك المظفر صاحب حماة، وقد تلقاه الجواد، فكان دخوله يوماً مشهوداً، فاستقر في قلعة دمشق، وخرج الجواد إلى بلاده، فكانت مدة نيابته دمشق عشرة أشهر وستة عشر يوماً، صرف فيها الأموال التي كانت في خزائن الملك الكامل كلها، وكانت تزيد على ستمائة ألف دينار مصرية، سوى القماش وغيره، وسوى ما ظلم فيه الناس من التجار والكتاب، وسوى ما أخذه من صفي الدين ابن مرزوق لما صادره، وكان ينيف على خمسمائة ألف دينار، فلما استقر الملك الصالح بدمشق سار المظفر إلى حماة، وقدمت الخوارزمية، فنازلوا مدينة حمص - وهو معهم - مدة ثم فارقوها بغير طائل، وعادوا إلى بلادهم بالشرق. وقد زوج الملك الصالح أخته من أمه، وأبوها الفارس قليب مملوك أبيه الملك الكامل، لمقدم الخوارزمية الأمير حسام الدين بركة خان، وفي أثناء ذلك تواترت رسل المظفر صاحب حماة إلى الملك الصالح يستحثه على قصد حمص، وكتب الأمر من مصر تستدعيه إلى القاهرة، وتعده بالقيام بتصرفه، فبرز الملك الصالح من دمشق إلى البثنية، وكانت الخوارزمية، وصاحب حماة، على حصار حمص، فأرسل المجاهد أسد الدين شيركوه مالاً كثيراً فرقه في الخوارزمية، فرحلوا عنه إلى الشرق، ورحل صاحب حماة إلى حماة، وعاد الملك الصالح إلى دمشق طالباً مصر، وخرج منها إلى الخربة وعيد بها عيد الفطر، وعسكر تحت ثنية العقاب، وقد تحير فلا يدري أيذهب إلى حمص أم إلى مصر، وما زال بمعسكره إلى أول شهر رمضان فعاد إلى دمشق وتقدم إلى الأمير حسام الدين أبي علي بن محمد بن أبي علي الهذباني، أستاداره بدمشق، أن يرحل بطائفة من العسكر إلى جينين، فرحل، ولم يزل هو تحت عقبة الكرسي، على بحيرة طبربة، إلى آخر رمضان.(1/87)
فلما وردت الأخبار بحركة الملك الصالح إلى القاهرة، خرج من أمراء مصر سبعة عشر أميراً - منهم الأمير نور الدين علي بن فخر الدين عثمان الأستادر، والأمير علاء الدين ابن شهاب أحمد، الأمير عز الدين أيبك الكربدي العادلي والأمير عز الدين بلبان والأمير حسام الدين لؤلؤ المسعودي، والأمير سيف الدين بشطر الخوارزمي، والأمير عز الدين قضيب البان العادل، والأمير شمس الدين سنقر الدنيسري - في عدة كبيرة من أتباعهم وأجنادهم، وخلق من مقدمي الحلقة والمماليك السلطانية، وساروا يريدون الملك الصالح بدمشق.
وذلك أن الملك العادل تقدم بتوجه العسكر إلى الساحل، وقدم عليه الركن الهيجاري وأنفق فيهم، فلما نزلوا بلبيس اختلفوا، وخامر جمعة من الأمراء على العادل، وعزموا على المسير إلى الملك الصالح، فبعث العادل إليهم الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ وبهاء الدين مليكيشو، ليطيب خواطرهم، فلم يجيبوا، وخرج من القاهرة عدة من الحلقة، ومعهم طائفة، ومنعوا من غلق باب النصر، وساروا طائفة بعد طائفة على حمية، فبطق العادل إلى من بقي معه من الأمراء الأكراد بمحاربة من خامر عليه ببلبيس، قبل قدوم هؤلاء عليهم، فاقتتل الأكراد مع الأتراك ببلبيس، وانكسر الأتراك المخامرون وأخذ منهم أمير، وانهزم باقيهم وهم في طلبهم إلى ناحية سنيكسة. فلحق بهم من خرج من الحلقة ومضوا جميعاً إلى تل العجول، وعادت الخزانة التي كانت معهم سالمة إلى القاهرة، ثم بعثوا يطلبون من العادل العفو، فأمنهم وحلف لهم، فلم يرجعوا، وساروا إلى الملك الصالح، فلما بلغوا غزة أمر الملك الصالح أستاداره بالعود إلى خوبة اللصوص، وخرج هو ببقية عسكره من دمشق، لليلتين بقيتا من شهر رمضان، ونزل الملك الصالح الخربة، ووصل الأمير نور الدين بن فخر الدين بمن معه، فسر بهم سروراً كثيراً، وأخذوا في تقوية عزمه على قصد مصر، فرحل واستولى على نابلس والأغوار. وأعمال القدس والسواحل، وبعث ابنه الملك المغيث فتح الدين عمر إلى دمشق، وأقطع من قدم عليه من أمراء مصر نابلس وأعمالها، ليتقووا بمغلها، فخرج الناصر داود من مصر، وصار إلى الكرك، فانزعج الملك العادل وأمه لقدوم الصالح انزعاجاً عظيماً، وخافاه خوفاً كبيراً، واضطربت مصر اضطراباً زائداً، وخرج فخر القضاة في الدين بن بصاقة في الرسالة إلى الملك الصالح من الكرك عن الناصر داود بأنه في نصرة الملك الصالح ومعاونته، ويسأله دمشق وجميع ما كان لأبيه، فلم تقع موافقة على ذلك فسار الناصر إلى الملك العادل، ونزل بدار الوزراة من القاهرة، ليعينه على محاربة أخيه الملك الصالح، فقدم في ذي الحجة الصاحب محيي الدين بن الجوزي برسالة الخليفة إلى الملك الصالح، لصالح أخاه الملك العادل فأجل الملك الصالح قدومه إجلالاً كثيراً ومع ذلك فإن كتب الأمراء - وغيرهم - ترد في كل قليل على الملك الصالح من مصر، تعده بالقيام معه، وأن البلاد في يده، لاتفاق الكلمة على سلطنته.
وفيها مات المنصور ناصر الدين أرتق بن أرسلان التركماني الأرتقي، صاحب ماردين، قتله ابنه وهو سكران، واستولى بعده على ماردين.
وفيها وقعت بين جرم وجذام وثعلبة بالشرقية حروب قتل فيها كثير منهم، وقتل شيخهم شمخ بن نجم فجرد الملك العادل إليهم الأمير بهاء الدين بن ملكيشو، ليصلح بينهم، وكان السلطان في بلبيس، قد خرج في سلخ ذي الحجة من قلعة الجبل، بعساكر مصر.
سنة سبع وثلاثين وستمائة
أهلت والملك العادل على بلبيس بعساكره يريد الشام، لمحاربة أخيه الملك الصالح، فأقام على بلبيس، فقصد الأمراء القبض عليه، وعمل بعضهم دعوة، وحضر إليه العادل، ففطن بما هم عليه، فقام و دخل الخريشته لقضاء الحاجة، وخرج من ظهر الحريشته، وركب فرساً وساق إلى القلعة فبعث إليه الأمراء يطلبونه، فأظهر أنه ما دخل القاهرة إلا لكسرة الخليج، وأنه سيعود إليهم ثم ألجاته الضرورة حتى خرج إلى العباسة في رابع عشري المحرم، وقبض على جماعة من الأمراء.(1/88)
وفي نصف صفر: توجه الناصر داود من العباسة إلى الكرك، وصحبته الأمير سيف الدين علي بن قلج، وجماعة من أمراء مصر، فبلغ العادل عن فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ أنه يكاتب الصالح، فقبض عليه واعتقله، هذا ومحيي الدين أبو المظفر يوسف بن الشيخ جمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي أخذ في الإصلاح بين الملوك على أن تكون دمشق للصالح نجم الدين أيوب، ومصر للعادل، وأن يرد إلى الناصر داود ما أخذ من بلاده، وكان محيي الدين بن الجوزي مقيماً عند الصالح، وابنه شرف الدين يتردد من نابلس إلى مصر في السفارة، حتى تقارب الأمر. ثم قدم محيي الدين إلى مصر، ومعه جمال الدين يحيى بن مطروح، ناظر ديوان الجيوش للملك الصالح، فأديا الرسالة، وأقاما عند الملك العادل، وكان قد أخذ الصالح يكاتب عمه الملك الصالح عماد الدين إسماعيل في الوصول إليه بنابلس، وبعث إليه الطيب سعد الدين الدمشقي، ومعه حمام ليسرح إليه بالبطائق على جناحها ما يتجدد فاتفق أمر عجيب: وهو أنه لما وصل سعد الدين إلى قلعة بعلبك أنزل الصالح عماد الدين إسماعيل بدار، وبدل عرض الحمام الذي في قفص سعد الدين بحمام آخر، من حمام القلعة ببعلبك وأخذ الصالح عماد الدين في التدبير على أخذ دمشق، وانتزاعها من يد ابن أخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب، وأرسل جواسيسه سراً إلى ابن أخيه الملك العادل، بما عزم عليه من أخذ دمشق، وأنه منتم إليه وفي طاعته، وإذا ملك دمشق خطب له على منابرها، وضرب السكة باسمه، وكتب الصالح عماد الدين إسماعيل أيضاً إلى المجاهد - صاحب حمص - في معاونته، وهو يواصل كتبه مع ذلك إلى الملك الصالح نجم الدين، يعده بالوصول إلى نصرته، وشرع الصالح عماد الدين في جمع الرحال، ففطن بذلك الطبيب سعد الدين، وكتب البطائق على أجنحة الحمام بهذا الأمر إلى الملك الصالح نجم الدين، فكان كلما سرح سعد الدين منها طائراً وقع في برجه بقلعة بعلبك فأتى به البراج إلى الملك الصالح عماد الدين، ثم إن الصالح عماد الدين زور بطاقة عن الطبيب سعد الدين، فيها إن المولى الملك الصالح عماد الدين في الاهتمام للمسير إلى المعسكر المنصور، وإنه باق على الطاعة وسرح هذه البطاقة المزورة على جناح طائرة من الطور التي وصلت مع الطبيب سعد الدين، فلما وقف عليها الملك الصالح نجم الدين، ظن أنها من عند رسوله، فطاب قلبه، ووالى الصالح عماد الدين إرسال البطائق المزورة، وكلما سرح الطيب طائرا ببطاقة وقع في قلعة بعلبك، فيصل إلى الصالح عماد الدين.(1/89)
واتفق مع ذلك أمر آخر من عجيب ما يجري: وهو أن المظفر صاحب حماة كان منتمياً إلى الصالح نجم الدين، ومهتما بنصرته، ويخطب له في بلاده، وكان الحلبيون والمجاهد صاحب حمص معاندين له، ومساعدين عليه فعلم المظفر صاحب حماة ما عليه خاله الصالح عماد الدين - صاحب بعلبك - من قصد دمشق، وموافقة المجاهد صاحب حمص له، وكانت عساكر دمشق مع الصالح نجم الدين أيوب على نابلس، وهم خمسة آلاف، وليس بدمشق من يحفظها، فخاف الملك المظفر صاحب حماة على دمشق، وباطن الأمير سيف الدين علي بن أبي علي الهذباني على أنه يظهر الحرد عليه وفارقه، ويوهم أكابر البلد بأن المظفر قد عزم على تسليم حماة إلى الفرنج، لما حصل عنده من الغبن من المجاورين له، وأخذ بلاده منه، وقصد المظفر بهذه الحيلة مكيدة صاحب حمص، وأن الأمير سيف الدين إذا ذهب بالعسكر وأكابر الرعية إلى دمشق أقاموا بها وحفظوها، حتى يتوجه الملك الصالح إلى مصر، أو يعود إلى دمشق، فأظهر سيف الدين الغضب على المظفر، وأخذ قطعة من العسكر، ومن أكابر حماة، وخرج فسار حتى نزل على حمص، عند بحيرة قدس فلم يخف على المجاهد صاحب حمص ما دبره المظفر من مكيدته، وخرج من حمص، وبعث إلى الأمير سيف الدين يريد الاجتماع به، فأتاه سيف الدين منفرداً، واعلمه بأنه كره مجاورة المظفر، لما هو عليه من الميل للفرنج، والعزم على تسليمهم حماة، فأظهر له الملك المجاهد البشر ولاطفه، واستدعاه إلى ضيافته بداخل حمص، فلما صار به إلى القلعة، استدعى أصحابه لينزلوا في البلد، فدخل بعضهم وامتنع بعضهم من الدخول إلى حمص، فلما تمكن المجاهد من الأمير سيف الدين قبض عليه، واعتقله هو ومن دخل من أصحابه، وفر الباقون، فعاقب المجاهد من صار في قبضته أشد العقوبة، واستصفى أموالهم، ومازال بسيف الدين حتى هلك فضعف المظفر لتلف رجال عسكره.(1/90)
وسار الصالح عماد الدين - ومعه المجاهد - إلى دمشق في جمع كبير، وأخذاها وأظهرا طاعة الملك العادل صاحب مصر، وكان ذلك في سابع عشري صفر، ثم ملكا قلعه دمشق، واعتقلا المغيث بن الصالح نجم الدين، فبلغ ذلك الصالح وهو بنابلس، فكتم الخبر، وقدم الأمير حسام الدين محمد بن أبي علي الهذاباني أستاداره في جماعة، وسار بعده يريد دمشق، فلما وصل ابن أبي علي إلى الكسوة علم بأخذ دمشق من يدهم، فرجع إلى الصالح - وقد نزل بيسان - فاعلمه الخبر، وسار معه حتى وصل القصير اللعيني من النور فاشتهر عند العسكر أخذ دمشق، فورود مكاتبات الصالح عماد الدين إليهم، باستمالتهم إليه، ففسدت نياتهم، وطمعوا في الملك الصالح نجم الدين، لتلاشي أمره، وفارقوه، فبقي الصالح نجم الدين في دون المائة من أمرائه وأجناده، وتركه من كان معه من أهل بيته وأقاربه، وتركه أيضاً بدر الدين قاضي سنجار - وكان أخص أصحابه، وصاروا كلهم إلى دمشق، وقد أيسوا من أن يقوم بعدها الصالح نجم الدين قائمة، وثبت معه الأمير حسام الدين بن أبي علي أستادراه، وزين الدين أمير جانداره، وشهاب الدين بن سعد الدين كوجبا - وكان أبوه سعد الدين ابن عمة الملك الكامل - والأمير شهاب الدين البواشقي، ونحو الثمانين من مماليكه، وثبت معه أيضاً كاتبه بهاء الدين زهير، وهرب الطواشي شهاب الدين فاخر، وأخذ معه شيئاً كثيراً من قماش الصالح، وعدة من مماليكه الصغار وغلمانه، وصار مع من لحق بدمشق، ففت في عضد الصالح مفارقة العسكر له، وأيقن بزوال أمره ورحل في الليل، فلقيه طائفة من العربان يريدون أخذه، فحاربهم بمن معه، حتى خلص منهم إلى نابلس، فنزل بظاهرها، ولما وصل العسكر المخامر على الصالح نجم الدين إلى دمشق، قبض الملك الصالح عماد الدين على أخويه الملك المعز مجير الدين يعقوب والملك الأمجد تقي الدين عباس، واعتقل الأمراء المصريين أيضاً: وهم عز الدين أيبك الكردي، وعز الدين قضيب البان، وسنقر الدينسري، وبلبان المجاهدي، وتوجه نور الدين بن عثمان إلى بغداد، واتفق تغير الملك العادل على الناصر داود، فقارقه من بلبيس - وصحبته الأمير سيف الدين علي بن قلج - وسار إلى الكرك، وكاتب الصالح نجم الدين ووعده النصرة، وكان ذلك خدعة منه ثم سار الناصر إلى نابلس بعساكره، وقبض على الملك الصالح نجم الدين، ويقال بل بعث إليه من أخذه بعد ما صار وحده، وأركبه على بلغة في إهانة، بغير مهماز ولا مقرعة، في ليلة السبت ثاني عشر ربيع الأول، وبعث الناصر به إلى الكرك ولم يزل معه غير مملوك واحد، يقال له ركن الدين بيبرس، وبعث معه جاريته شجر الدر أم ولده خليل، وأنزله بالقلعة، وقام له بجميع ما يحتاج إليه بحيث لم يحتل من حاله سوى أنه فقد الملك فقط، وأقام بهاء الدين زهير عند الناصر داود هو وجماعة الممالك، بعد ما خيرهم فاختاروا الإقامة عنده وطلب الأمير حسام الدين بن أبي علي، وزين الدين أمير جاندار من الناصر المسير إلى دمشق فسيرهما، وعندما قدما دمشق اعتقلهما الصالح عماد الدين.
وفي سابع عشر ربيع الأول: عاد الملك العادل إلى القاهرة، بعد ما بعث الركن الهبجاوي على جماعة، لحفظ الساحل، فلما بلغ الملك العادل ما جرى على أخيه - من أخذه ذليلاً، ونهب أحر، وسجنه بالكرك - سره ذلك سروراً كثيراً، وظن أنه قد أمن، ونودي بزينة القاهرة ومصر فزينتا، وعمل سماطاً عظيماً في الميدان الأسود تحت قلعة الجبل، وعمل قصوراً من حلوى، وأحواضاً من سكر وليمون، وألفاً وخمسمائة رأس شواء، ومثلها طعاماً، فكان ما عمل من السكر ألف وخمسمائة أبلوجة، ونادى الملك العادل في العامة بالحضور إلى السماط، فحضر الجليل والحقير، وبلغ ذلك الصالح نجم الدين، وهو معتقل بالكرك.(1/91)
ولم يقنع الملك العادل بسجن أخيه، حتى أنه بعث الأمير علاء الدين بن النابلس إلى الناصر داود، يطلب منه أن يبعث إليه بأخيه الصالح في قفص حديد تحت الاحتفاظ، ويبذل له في مقابلة إرساله أربعمائة ألف دينار ودمشق، وحلف على ذلك أيماناً عظيمة، فلما وصل الكاتب إلى الناصر أوقف عليه الملك الصالح، وأدخل إليه بالقاصد الذي أحضره، ثم كتب الناصر إلى الملك العادل: وصل كتاب السلطان، وهو يطلب أخاه إلى عنده في قفص حديد، وأنك تعطيني أربعمائة ألف دينار مصرية، وتأخذ دمشق ممن هي بيده، وتعطني إياها، فأما الذهب فهو عندك كثير، وأما دمشق فإذا أخذتها ممن هي معه، وسلمتها إلي، سلمت أخاك إليك، وهنا جوابي والسلام. فلما ورد هنا الجواب على الملك العادل أمر بتجهيز العساكر، ليخرج إلى الشام، وخرج محيي الدين بن الجرزي من القاهرة، ومعه جمال الدين بن مطروح رسول الصالح نجم الدين، وكان قد استجار به بعدما قبض على الصالح نجم الدين وسجن بالكرك وكتب الناصر داود إلى ابن عمه الملك الصالح نجم الدين أيوب، وهو محبوس عنده بالكرك:
وإذا مسك الزمان بضر ... عظمت عنده الخطوب وجلت
وتوالت منه نوائب أخرى ... سئمت عندها النفوس وملت
فاصطبر وانتظر بلوغ الأماني ... فالرزايا إذا توالت تولت
وهذه الأبيات لغيره، فكتب إليه الصالح نجم الدين أيوب يشكره، وكتب فيما كتب أبيات شمس المعالي قابوس وشمكير:
قل للذي بصروف الدهر عيرنا ... هل حارب الدهر إلا من له خطر
أما ترى البحر تطفو فوقه جيف ... ويستقر بأقصى قعره الدرر
وإن تكن عبثت أيدي الزمان بنا ... وما لنا من تمادى بوسه ضرر
ففي السماء نجوم لا عماد لها ... وليس يكسف إلا الشمس والقمر
وازداد فيها الرشيد النابلسي:
وكم على الأرض من خضراء مورقة ... وليس يرجم إلا ما له ثمر
وفي أثناء هذا الاختلاف بين الملوك عمر الفرنج في القدس قلعة، وجعلوا برج داود أحد أبراجها، وكان قد ترك لما خرب الملك المعظم أسوار القدس، فلما بلغ الناصر داود عمارة هذه القلعة سار إلى القدس، ورمى عليها بالمجانيق حتى أخذها، بعد أحد وعشرين يوماً - في يوم تاسع جمادى الأولى - عنوة بمن معه من عسكر مصر، وتأخر أخذ برج داود إلى خامس عشرة فأخذ من الفرنج صلحاً على أنفسهم دون أموالهم، وعمر الناصر برج داود واستولى على القدس، وأخرج منه الفرنج. فساروا إلى بلادهم، واتفق يوم فتح القدس وصول محيي الدين بن الجوزي إلى الملك الناصر داود، ومعه جمال الدين بن مطروح، فقال جمال الدين بن مطروح يمدح الملك الناصر داود، ويذكر مضاهاته لعمه الناصر صلاح الدين يوسف في فتح القدس، مع اشتاركهما في اللقب والفعل، وهو معنى لطيف مليح:
المسجد الأقصى له عادة ... سارت فصارت مثلاً سائراً
إذا غدا بالكفر مستوطنا ... أن يبعث الله له ناصرا
فناصر طهره أولا ... وناصر طهره آخرا(1/92)
وفي يوم الأحد رابع عشر ربيع الأول: ومع بين الفرنج وبين العسكر المصري المقيم بالساحل حرب، انحسر فيها الفرنج، وأخذ من الفرنج ملوكهم وأكنادهم، وثمانون فارساً، ومائتان وخمسون راجلاً - وصلوا إلى القاهرة، وقتل منهم ألف وثمانمائة، ولم يقتل من المسلمين غير عشر، ثم سار ابن الجوزي إلى دمشق، وحاول إصلاح الحال بين الصالح عماد الدين وبين الناصر داود وبن الملك العادل، فلم يتأت له ذلك، فعاد إلى القاهرة في رمضان، وقد وصل الملك ابن سنقر بخلعة الملك العادل وابنه، وأمه وامرأته وكاتبه، ونزل ابن مطروح عند المظفر بحماة، فبعثه في الرسالة إلى الخوارزمية بالشرق، يستحثهم على القيام بنصرة الملك الصالح نجم الدين، واستصحب معه أيضاً رسالة الناصر داود، ومنه: إني لم أترك الملك المصالح بالكرك إلا صيانة لمهجته، خوفاً عليه من أخيه الملك العادل، ومن عمه الملك الصالح عماد الدين، وسأخرجه وأملكه البلاد، فتحركوا على بلاد حلب، وبلاد حمص. فسار إليهم ابن مطروح وقضي الأمر معهم، وعاد إلى حماة، فاتفق موت الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بن ناصر الدين محمد بن شيركوه - صاحب حمص - يوم التاسع عشر من شهر رجب، فكانت مدة ملكه بحمص نحوا من ست وخمسين سنة، وقام من بعده ابنه الملك المنصور ناصر الدين إبراهيم، واتفق مع الصالح عماد الدين على المعاضدة، فصار الناصر داود مواحشاً للملك العادل، بسبب أنه لم يوافقه على أخذ دمشق، والملك العادل مواحشه، لأنه لم يسلمه الملك الصالح نجم الدين، والناصر أيضاً مواحش للصالح عماد الدين، ويهدده بأنه يطلق الملك الصالح نجم الدين، ويقوم معه في أخذ البلاد والمظفر صاحب حماة لا يخطب للعادل من حين قطع الخطبة للصالح نجم الدين، لميله الملك الصالح نجم الدين.(1/93)
فلما دخل شهر رمضان: سير المظفر القاضي شهاب الدين إبراهيم بن عبد الله بن عبد المنعم بن أبي الدم - قاضي حماة - رسولاً إلى الملك العادل بمصر، وحمله في الباطن رسالة إلى الناصر داود بالكرك، أن يطلق الصالح نجم الدين، ويساعده على أخذ البلاد، فبلغ القاضي شهاب الدين الملك الناصر ذلك وتوجه إلى مصر، فأفرج الناصر داود عن الملك الصالح نجم الدين، في سابع عشر من رمضان، واستدعاه إليه وهو بنابلس، فلما قدم عليه التقاه وأجله، وضرب له دهليز السلطة، واجتمع عليه مماليكه وأصحابه الذين عنوا عند الناصر: منهم الأمير شهاب الدين بن كعب كوجبا، وشهاب الدين الغرس، وكاتبه بهاء الدين زهير، وتقدم الناصر للخطيب بنابلس في يوم عيد الفطر، فدعا الملك الصالح، وأشاع ذكره، وسار الناصر داود والصالح نجم الدين إلى القدس وتحالفا على أن تكون ديار مصر للملك الصالح، والشام والشرق للناصر، وأن يعطه مائتي ألف دينار، فكانت مدة اعتقال الملك الصالح سبعة أشهر وأياماً، ثم سارا إلى غزة، فورد الخبر بذلك على الملك العادل بمصر، فانزعج وأمر بخروج الدهليز السلطاني والعساكر، وبرز إلى بلبيس في نصف ذي العقدة، وكتب إلى الصالح عماد الدين أن يخرج بعساكر دمشق، فخرج الصالح عماد الدين بعساكره إلى الغوار، فخاف الملك الصالح والملك الناصر من التقاء عساكر مصر والشام عليهما، ورجعا من غزة إلى نابلس، ليتحصنا بالكرك وكان الملك العادل قد شره في اللعب، وأكثر من تقديم الصبيان والمساخر وأهل اللهو، حتى حسبت نفقاته في هذا الوجه خاصة، فكانت ستة آلاف ألف وعشرين ألف ألف درهم، وأعطى العادل عبداً أسوداً، عمله طشت داره، يعرف بابن كرسون منشوراً بخمسين فارساً، فلما خرج به من باب القلة بقلعة الجبل وجده الأمير ركن الدين الهيجاري، أحد الأمراء الأكابر، فأراه المنشور، فحنق ومكة في وجهه، وأخذ منه المنشور، وصار بين الأمراء وبين الملك العادل وحشة شديدة، ونفرة عظيمة، واتفق ما تقدم ذكره إلى أن نزل العادل ببلبيس، فقام الأمير عز الدين أيبك الأسمر - مقدم الأشرقية - وباطن عدة من الأمراء والمماليك الأشرفية على خلع العادل والقبض عليه، ووافقهم على هذا جوهر التوبي وشمس الخواص - وهما من الخدام الكاملية، وجماعة أخر من الكاملية، وهم مسرور الكاملي، وكافور الفائزي، وركبوا ليلاً وأحاطوا بدهليز الملك العادل، ورموه وقبضوا عليه، ووكلوا به من يحفظه في خيمة، فلم يتحرك أحد لنصرته، إلا أن الأكراد هموا بالقيام له، فمال عليهم الأتراك والخدام ونهبوهم، فانهزم الأكراد إلى القاهرة، ويقال إنه بلغ أيبك الأسمر أن الملك العادل سكر مع شبابه وخواصه، وقال لهم: عن قليل تشربون من دم أيبك الأسمر وهؤلاء العبيد السوء فلان وفلان وسماهم فاجتمعوا على خلعه، لاسيما لما طلب ابن كرسون منه أن يسلمه الأمير شجعاع الدين بن بزغش - وإلى قوص - فأمكنه منه وعاقبه أشد عقوبة وتنوع في عذابه، ولم يقبل فيه شفاعة أحد من الأمراء، وكان الملك العادل قد قربه تقريباً زائداً، حتى كان يقضي عنده الحوائج الجليلة، فأنفت الأنفس من ذلك، وخلع العادل في يوم الجمعة تاسع شوال، فكانت مدة ملكه سنتين وشهرين وثمانية عشر يوماً، أولها يوم الخميس، وآخرها يوم الخميس تاسع شوال سنة سبع وثلاثين وستمائة، أسرف فيها إسرافاً أفرط فيه، بحيث أن أباه الملك الكامل ترك ما ينيف على ستة آلاف ألف دينار مصرية، وعشرين ألف ألف درهم فرقها كلها، وكان العادل يحمل المال إلى الأمراء وغيرهم على أقفاص الحمالين، ولم يبق أحد في دولته إلا وشمله إنعامه، فكانت أيامه بمصر كلها أفراح ومسرات للذين جانبه، وكثرة إحسانه، قال الأديب أبو الحسين الجزار في الملك العادل أبي بكر بن الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب:
هو الليث يخشى بأسه كل مجتر ... هو الغيث يرجوه كل مجتدي
لقد شاد ملكاً أسسه جدوده ... فأصبح ذا ملك أثيل مشيد
وصح به الإسلام حتى لقد غدت ... بسلطانه أهل الحقائق تقتدي
فقل للذي قد شك في الحق إنما ... أطعنا أبا بكر بأمر محمد(1/94)
يشير بذلك إلى أخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب، فإن أباهما الكامل محمداً أقام العادل هذا بمصر، وبعث الصالح أيوب إلى الشرق، وقال البرهان بن الفقيه نصر، لما استقر العادل في السلطنة بعد أبيه.
قل للذي خاف من مصر وقد أمنت ... ماذا يؤمله منها وخيفته
إن كان قد مات عن مصر محمدها ... فقد أقام أبا بكر خليفته
السلطان الملك الصالح
أبو الفتوح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، لما قبض على أخيه الملك العادل، كان الأمير عز الدين أيبك الأسمر يميل إلى الملك الصالح عماد الدين إسماعيل - صاحب دمشق - وكانت الخدام والمماليك الكاملية تميل إلى الملك الصالح نجم الدين - وهم الأكثر - فلم يطق عز الدين مخالفتهم، فاتفقوا كلهم، وكتبوا إلى الملك الصالح نجم الدين يستدعونه فأتته كتبهم، وقد بلغ هو والناصر داود الغاية من الخوف وزلزلاً زلزالاً شديداً، لضعفهما عن مقاومة عساكر مصر والشام، فأتاهما من الفرج ما لم يسمع بمثله، وقاما لوقتهما، وسارا إلى مصر، فلما دخلا الرمل لم ينزلا منزلة إلا وقدم عليهما من أمراء مصر طائفة، حتى نزلا بلبيس، يوم الاثنين تاسع، بعدما خطب له بالقاهرة ومصر يوم الجمعة خامس عشرة، ومنذ فارقا غزة تغير الناصر داود على الملك الصالح نجم الدين أيوب، وتحدث في قتله، فلما نزلا بلبيس، سكر الملك الناصر، ومضى إلى العادل، وقال له: كيف رأيت ما أشرت به عليك، ولم تقبل مني؟ فقال له العادل: يا خوندا التوبة، فقال الناصر: طيب قلبك، الساعة أطلقك ثم جاء الناصر، ودخل على الملك الصالح، ووقف فقال له الصالح: بسم الله اجلس، قال: ما أجلس حتى تطلق العادل، فقال له: أعد، وهو يكرر الحديث، فما زال به حتى نام، فقام من فوره الملك الصالح، وسار في الليل ومعه العادل في محفة، ودخل به إلى القاهرة، واستولى على قلعة الجبل، يوم الجمعة ثالث عشري شوال، بغير تعب، وجلس الملك الصالح نجم الدين أيوب على سرير الملك، واعتقل العادل ببعض دوره، واستحلف الأمراء، وزينت القاهرة ومصر وظواهرهما، وقلعة الجبل زينة عظيمة، وسر الناس به سروراً كثيراً، لنجابته وشهامته، ونزل الناصر داود بدار الوزارة من القاهرة، ولم يركب الملك الصالح يوم عيد النحر، لما بلغه من خلف العسكر.(1/95)
وفي ذي الحجة: أحضر الملك الصالح إليه الملك العادل، وسأله عن أشياء، ثم كشف بيت المال والخزانة السلطانية، فلم يجد سوى دينار واحد وألف درهم. وقيل له عما أتلفه أخوه، فطلب القضاة والأمراء الذين قاموا في القبض على أخيه، وقال لهم: لأي شيء قبضتم على سلطانكم؟ فقالوا: لأنه كان سفيهاً فقال: يا قضاة السفيه يجوز تصرفه في بيت مال المسلمين، قالوا: لا قال: أقسم بالله متى لم تحصروا ما أخذتم من المال، كانت أرواحكم عوضه. فخرجوا وأحضروا إليه سبعمائة ألف وخمسة وثمانين ألف دينار، وألفي ألف وثلاثمائة ألف درهم، ثم أمهلهم قليلاً، وقبض عليهم واحد بعد واحد، واستدعى الملك الصالح بالقاضي شهاب الدين إبراهيم بن عبد الله بن عبد المنعم بن علي بن محمد المعروف بابن أبي الدم - وكان بمصر منذ قام من عند المظفر صاحب حماة، وبعث به مكرماً إلى حماة وخلع علي ابن الجوزي رسول الخليفة، وكتب معه إلى الديوان العزيز يشكو منه، وكانت الخلع الخليفتية قد وصلت إلى القاهرة، فلبسهما الملك الصالح، ونصب منبراً صعد عليه ابن الجوزي، وقرأ تقليد الملك الصالح، والملك الصالح قائم بين يدي المنبر على قدميه، حتى فرغ من قراعته، وشيع الملك الصالح أيضاً الصاحب كمال الدين بن العديم رسول حلب، وتخوف السلطان من الناصر داود، لكثرة ما بلغه عنه من اجتماعه بالأمراء سراً، ولأنه سأله أن يعطه قلعة الشوبك، فامتنع السلطان من ذلك، واستوحش الناصر فطلب الأذن بالرحيل إلى الكرك، فخرج من القاهرة وهو متغيظ، وقد بلغه أن الصالح إسماعيل خرج من دمشق، ووافق الفرنج على أن يسلمهم الساحل، ووصل الفرنج إلى النابلس، وتأول السلطان أنه ما حلف للناصر بالقدس إلا مكرها، لأنه كان إذ ذاك تحت حكمه وفي طاعته، فلما وصل الناصر إلى الكرك طلب من السلطان ما التزم له به من المال، فحمله إليه، وماطله بتجريد العساكر معه لفتح دمشق، مستنداً لما تأوله، وفي أثناء ذلك تحدث الأشرفية بالوثوب على السلطان، فخافهم وامتنع من الركوب في الموكب مدة، واستوزر السلطان الصاحب معين الدين الحسن بن الشيخ، وسلم إليه أمور المملكة كلها، وهو ببركة الحاج، في يوم الخميس حادي عشر ذي القعدة قبل الظهر، فشرع الصاحب معين الدين في تدبير المملكة، والنظر في مصالح البلاد.
وولدت شجر الدر من الملك الصالح ولداً سماه خليلاً، ولقبه بالملك المنصور، وعندما نزل الملك الصالح العباسة، في يوم الحج سابع عشر ذي القعدة، قبض على الركن الهيجاري العادلي في يوم الاثنين ثامن عشره، وبعثه إلى القاهرة.
وفيها زار الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم خطابة دمشق، في يوم الأربعاء ثالث ربيع الآخر، ولاه الصالح عماد الدين إسماعيل بن العادل، وخطب لصاحب الروم.
وفيها قتل عثمان بن عبد الحق بن محيو بن أبي بكر بن حمامة، أمير بني مرين، وأول من عظم أمره منهم، وغلب على ريف المغرب، ووضع على أهله المغارم، فبايعه أكثر القبائل، وامتدت يده إلى أمصار المغرب، مثل فاس وتازا ومكناسة، وفرض عليها ضرائب تحمل إليه، وقام بعد عثمان أخوه محمد بن عبد الحق.
وفيها قدم الشريف شيحة بن قاسم أمير المدينة إلى مكة، في ألف فارس من عسكر مصر، فبعث ابن رسول ملك اليمن بالشريف راجح وعسكر، ففر شيحة من مكة، وملكها عسكر اليمن.
سنة ثمان وثلاثين وستمائة(1/96)
فيها شرع السلطان الملك الصالح أيوب في النظر في مصالح دولته، وتمهيد قواعد مملكته، ونظر في عمارة أرض مصر، وبعث زين الدين بن أبي زكري على عسكر إلى الصعيد، لقتال العرب، وتتبع من قام في قبض أخيه الملك العادل، فقبض عليهم، واستصفى أموالهم وقتل عدة منهم، وفر عدة من الأشرفية، وقبض على الأمير عز الدين أيبك الأسمر الأشرفي بالإسكندرية، ونودي بالقاهرة وظواهرها: من أخفى أحداً من الأشرفية نهب ماله. وأغلقت أبواب القاهرة كلها ثلاثة أيام، ما خلا باب زويلة. حرصاً على أخذ الأشرفية، فأخذوا وأودعوا السجون، وقبض على جوهر النوبي، وشمس الحواص مسرور بدمياط - وكان من الخدام الكاملية، وممن أعلن على خلع العادل، وقبض على شبل الدولة كافور الفائزي بالشرقية، وسجن بقلعة الجبل، وقبض على جماعة من الأتراك ومن أجناد الحلقة، وعلى عدة من الأمراء الكاملية. وصار السلطان الملك الصالح أيوب كلما قبض على أمير أعطى خبره لمملوك من مماليكة وقدمه، فبقي معظم أمراء الدولة مماليكه، لثقته بهم، واعتماده عليهم، فتمكن أمره وقوي جأشه.
وفي سلخ ربيع الآخر وهو يوم السبت: ولد للملك الصالح نجم الدين أيوب من حظيته ولد ذكر وأحب الصالح أن يبقي له ذكراً، فأمر ببناء قلعة الجزيرة - المعروفة بالروضة - قبالة مصر الفسطاط وشرع في حفر أساسها يوم الأربعاء خامس شعبان، وابتدئ ببنائها في آخر الساعة الثالثة من يوم الجمعة سادس عشره.
وفي عاشر ذي القعدة: وقع الهدم في الدور والقصور والمساجد التي كانت بجزيرة الروضة، وتحول الناس من مساكنهم التي كانت بها، وبنى الملك الصالح فيها الحور السلطانية، وشيد أسوراها، وأنفق فيها أموالاً تتجاوز الوصف، فلما تكامل بناؤها تحول السلطان من قلعة الجبل إليها، وسكنها بأهله وحرمه ومماليكه، وكان مغرى بالعمائر.
وفيها عاد العسكر الذي قصد المسير إلى اليمن في رمضان، خوفاً من المماليك الأشرفية وأتباعهم، وذلك أنهم كانوا قد عزموا على الخروج من القاهرة، ونهب العسكر ببركة الجب فبطل سفرهم، وبعث السلطان منهم ثلاثمائة مملوك إلى مكة، لأخذها من أهل اليمن وعليهم الأمير مجد الدين بن أحمد بن التركماني والأمير مبارز الدين علي بن الحسن بن برطاس، وذلك أن الخير ورد بأن ملك اليمن بعث جيشاً لأخذ مكة، فساروا آخر شهر رمضان، ودخلوا مكة في أثناء ذي القعدة، ففر من كان بها من أهل اليمن.
وفيها عاد القاضي بدر الدين قاضي سنجار من بلاد الروم، وكان قد توجه إليها برسالة الملك الصالح عماد الدين صاحب دمشق، فبلغه أن الملك الصالح نجم الدين ملك مصر، فخرج من بلاد الروم، وقد عزم ألا يدخل دمشق، فمضى إلى مصياف من بلاد الإسماعيلية، وأخذ يتحيل في الوصول إلى مصر، فبلغ ذلك الصالح إسماعيل، فأرسل إليه ليحضر، فامتنع من الحضور وأستجار بالإسماعيلية، فأجاروه ومنعوا الصالح إسماعيل منه، وأوصلوه إلى حماة فأكرمه المظفر، وأنزله عنده، وكان قد نزل عنده أيضاً جمال الدين بن مطروح، فصارت حماة ملجأ لكل من انتمى للسلطان الصالح نجم الدين، ومنها يرد إليه عصر كل ما يتجدد بالشام والشرق.
وفيها أيس الناصر داود من إعطاء الملك الصالح نجم الدين له دمشق، فانحرف عنه، ومال إلى الصالح إسماعيل والمنصور صاحب حمص، واتفقوا جميعاً على الصالح نجم الدين.(1/97)
وفيها أغار الخوارزمية على بلاد قلعة جعبر وبالس ونهبوها، وقتلوا كثيراً من الناس، ففر من بقي إلى حلب ومنبج، واستولى بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل على شجار، وأخرج منها الملك الجواد يونس بن مودود بن العادل بن نجم الدين أيوب، فسار الجواد إلى الشام، حتى صار في يد الناصر داود، فقبض عليه بغزة يوم الأحد ثامن عشر ذي الحجة، وبعث به إلى الكرك، وانضمت الخوارزمية على صاحب الموصل، فصاروا نحو الاثني عشر ألفاً، وقصدوا حلب، فخرج إليهم من حلب، فانكسر وقتل أكثره، وغنم الخوارزمية ما معهم، فامتنع الناس بمدينة حلب، وانتهبت أعمال حلب، وفعل فيها كل قبيح من السبي والقتل والتخريب، ووضعوا السيف في أهل منبج، وقتلوا فيها ما لا يحصى عدده من الناس، وخربوا وارتكبوا الفواحش بالنساء في الجامع علانية، وقتلوا الأطفال وعادوا وقد خرب ما حول حلب، وكان الخوارزمية يظهرون للناس أنهم يفعلون ما يفعلون خدمة لصاحب مصر، فإن أهل حلب وحمص ودمشق كانوا حزباً على الصالح صاحب مصر. فسار المنصور إبراهيم ابن الملك المجاهد صاحب حمص، عساكره وعساكر حلب ودمشق، وقطع الفرات إلى سروج والرها، وأوقع بالخوارزمية، وكسرهم واستولى على ما معهم، ومضوا هاربين إلى عانة.
وفيها خاف الصالح عماد الدين من الملك الصالح نجم الدين، فكاتب الفرنج، واتفق معهم على معاضدته ومساعدته، ومحاربة صاحب مصر، وأعطاهم قلعة صفد وبلادها، وقلعة الشقيف وبلادهما، ومناصفة صيداً وطبرية وأعمالها، وجبل عاملة وسائر بلاد الساحل، وعزم الصالح عماد الدين على قصد مصر لما بلغه من القبض على المماليك الأشرفية والخدام ومقدمي الحلقة وبعض الأمراء وأن من بقي من أمراء مصر خائف على نفسه من السلطان، فتجهز وبعث إلى المنصور صاحب حمص، وإلى الحلبيين وإلى الفرنج يطلب منهم النجدات، وأذن الصالح إسماعيل للفرنج في دخول دمشق وشراء السلاح، فأكثروا من ابتياع الأسلحة وآلات الحرب من أهل دمشق، فأنكر المسلمون ذلك، ومشي أهل الدين منهم إلى العلماء واستفتوهم، فأفتى الشيخ عز الدين بن عبد السلام بتحريم بيع السلاح للفرنج، وقطع من الخطبة بجامع دمشق الدعاء للصالح إسماعيل، وصار ويدعو في الخطبة بدعاء منه: اللهم أبرم لهذه الأمة إبرام رشد تعز فيه أولياءك، وتذل فيه أعداءك، ويعمل فيه بطاعتك، وينهي فيه معصيتك، والناس يضجون بالدعاء. وكان الصالح غالباً عن دمشق، فكوتب بذلك، فورد كتابه بعزل بن عبد السلام عن الخطابة، واعتقاله هو والشيخ أبي عمرو بن الحاجب، لأنه كان قد أنكر، فاعتقلا، ثم لما قدم الصالح أفرج عنهما، وألزم بن عبد السلام بملازمة داره، وألا يفتى، ولا يجتمع بأحد البتة، فاستأذنه في صلاة الجمعة، وأن يعبر إليه طبيب أو مزين إذا احتاج إليهما، وأن يعبر الحمام، فأذن له في ذلك، وولي خطابة دمشق بعد عز الدين عبد السلام، علم الدين داود بن عمر بن يوسف بن خطيب بيت الآبار، وبرز الصالح من دمشق، ومعه عساكر حمص وحلب وغيرها، وسار حتى نزل بنهر العوجاء، فبلغه أن الناصر داود قد خيم على البلقاء، فسار إليه، وأوقع به، فانكسر الناصر، وانهزم إلى الكرك وأخذ الصالح أثقاله، وأسر جماعة من أصحابه، وعاد إلى العوجاء وقد قوي ساعده واشتدت شوكته، فبعث يطلب نجدات الفرنج، على أنه يعطيهم جميع ما فتحه السلطان صلاح الدين يوسف ورحل، ونزل تل العجول فأقام أياماً، ولم يستطع عبور مصر، فعاد إلى دمشق، وذلك أن الملك الصالح نجم الدين، لما بلغه حركة الصالح إسماعيل من دمشق ومعه الفرنج، جرد العساكر إلى لقائه، فألقاهم. وعندما تقابل العسكران ساقت عساكر الشام إلى عساكر مصر طائعة، ومالوا جميعاً على الفرنج، فهزموهم وأسروا منهم خلقاً لا يحصون، وبهؤلاء الأسرى عمر السلطان الملك الصالح نجم الدين قلعة الروضة، والمدارس الصالحية بالقاهرة.
وفيها تم الصلح مع الفرنج، وأطلق الملك الصالح الأسرى بمصر من الجنود والفرسان والرجالة.
وفي ذي القعدة: كانت وقعة بين أمراء الملك الصالح أيوب المقيمين بغزة، وبين الجواد والناصر، وكسر أصحاب الملك الصالح، وكسر كمال الدين بن الشيخ. وفيها استقر الصلح بين الملك الصالح والناصر، ورحل الناصر عن غزة بعد قبضه على الجواد.(1/98)
وفي ذي القعدة: وصل الجواد إلى العباسة ومعه الصالح بن صاحب حمص، فأنعم عليهما الملك الصالح نجم الدين أيوب، ولم يمكنهما من دخول القاهرة فعاد الجواد، ولجأ إلى الناصر، فقبض عليه. وفيها عزل القاضي عبد المهيمن عن حسبة القاهرة، في تاسع المحرم، واستقر فيها القاضي شرف الدين محمد بن الفقيه عباس، خطيب القلعة.
وفي رابع عشره: شرع السلطان الملك الصالح نجم الدين في بناء القنطرة التي على الخليج الكبير، المجاور لبستان الخشاب، التي تعرف اليوم بقنطرة السد، خارج مدينة مصر.
وفي سادس عشره: أمر السلطان الملك الصالح أيوب بتجهيز زرد خاناه وشواني وحراريق إلى بحر القلزم لقصد اليمن، وجرد جماعة من الأمراء والأجناد بسبب ذلك.
وفي خامس عشريه: نزل خمس نفر في الليل من الطاقات الزجاج إلى المشهد النفيسي، وأخفوا من فوق القبر ستة عشر قنديلاً من فضة، فقبض عليهم من الفيوم، وأحضروا في رابع صفر، فاعترف أحدهم بأنه هو الذي نزل من طاقات القبة الزجاج وأخذ القناديل، وبرأ بقية أصحابه، فشنق تجاه المشهد في عاشره، وترك مدة متطاولة على الخشب، حتى صار عظاماً.
وفي سابع عشري وبيع الأول: ولي الملك الصالح الأمير بدر الدين باخل الإسكندرية، ونقله إليها من ولاية مصر.
وفي شهر ربيع الآخر: رتب السلطان نواباً عنه بدار العدل، يجلسون لإزالة المظالم. فجلس لذلك افتخار الدين ياقوت الجمالي، وشاهدان عدلان، وجماعة من الفقهاء: منهم الشريف شمس الدين الأرموي، نقيب الأشراف وقاضي العسكر ومدرس المدرسة الناصرية بمصر، والقاضي فخر الدين بن السكري، والفقيه عز الدين عباس، فهرع الناس لدار العدل من كل جانب، ورفعوا ظلاماتهم، فكشفت، واستراح السلطان من وقوف الناس إليه، واستمر هذا عصر.
وفي ذي الحجة: سار القاضي بدر الدين أبو المحاسن يوسف السنجاري على الساحل إلى مصر، فلما قدم على السلطان أكرمه غاية الإكرام، وكان قضاء ديار مصر بيد القاضي شرف الدين ابن عين الدولة الإسكندري، فصرفه السلطان عن قضاء مصر والوجه القبلي، وفوض ذلك للقاضي بدر الدين السنجاري، وأبقي مع ابن عين الدولة قضاء القاهرة والوجه البحري.
وفيها ظهر ببلاد الروم رجل ادعى النبوة، يقال له البابا، من التركمان. وصار له اتباع، وحمل اتباعه على أن يقولوا: لا اله إلا الله، البابا رسول الله، فخرج إليه جيش صاحب الروم، فقاتلهم وقتل بينه وبينهم أربعة آلاف نفر، ثم قتل البابا فانحل أمره.
وفيها وصل رسول التتار من ملكهم خاقان إلى الملك المظفر شهاب الدين غاري بن العادل، صاحب ميافارقين، ومعه كتاب إليه وإلى ملوك الإسلام، عنوانه: من نائب رب السماء، سامح وجه الأرض، ملك الشرق والغرب، قاقان. فقال الرسول لشهاب الدين صاحب مياقارفين: قد جعلك قاقان سلاح داره، وأمرك أن تخرب أسوار بلدك فقال له شهاب الدين: أنا من جملة الملوك، وبلادي حقيرة بالنسبة إلى الروم والشام ومصر، فتوجه إليهم، وما فعلوه فعلته.
وفي يوم الجمعة حادي عشر ذي القعدة: رسم الصالح إسماعيل أن يخطب على منبر دمشق للسلطان غياث الدين كيخسرو بن كيقباد بن كيخسرو، ملك الروم، فخطب له، ونثر على ذلك الدنانير والدارهم، وكان يوماً مشهوداً، وحضر رسل الروم وأعيان الدولة، وخطب الملك في جوامع البلد، وأنعم على الرسول وخلع عليه.
سنة تسع وثلاثين وستمائة
فيها شرع الملك الصالح في عمارة المدارس الصالحية بين القصرين. وفيها غلت الأسعار بمصر، وأبيع القمح كل أردب بدينارين ونصف، وقدم جمال الدين بن مطروح من طرابلس - في البحر - إلى القاهرة، وكثرت قصاد المظفر صاحب حماة إلى مصر.
وفي يوم الأحد تاسع عشري ربيع الأول: كسف جميع جرم الشمس، وأظلم الجو، وظهرت الكواكب، وشغل الناس السرح بالنهار.(1/99)
وفيها قدم الشيخ عز الدين بن عبد السلام إلى مصر، وقد أخرجه الصالح إسماعيل من دمشق، فأكرمه الملك الصالح نجم الدين، وولاه خطابة جامع عمرو بن العاص بمصر، وقلده قضاء مصر والوجه القبلي يوم عرف عوضاً عن قاضي القضاة شرف الدين ابن عين الدولة، عندما كتب السلطان بخطه إلى ابن عين الدولة، في يوم الجمعة عاشر ربيع الآخر ما نصه: إن القاهرة لما كانت دار المملكة، وأمراء الدولة وأجنادها مقيمون بها، وحاكمها مختص بحضور دار العدل، تقدمنا أن يتوفر القاضي على القاهرة وعملها لا غير. وفوض السلطان قضاء القضاة بمصر وعملها - وهو الوجه القبل - لبدر الدين أبي المحاسن يوسف السنجاري: المعروف بقاضي سنجار. فلما مات ابن عين الدولة استقر البدر السنجاري في قضاء القاهرة، وفوض قضاء مصر والوجع القبلي لابن عبد السلام.
وفيها كثر تردد الناس إلى فخر الدين يوسف ابن شيخ الشيوخ، بعدما أطلقه السلطان في السجن فكره السلطان ذلك، وأمره أن يلازم داره.
وفيها بلغ السلطان أن الناصر داود صاحب الكرك قد وافق الصالح إسماعيل صاحب دمشق، والمنصور إبراهيم صاحب حمص، وأهل حلب، على محاربته، فسير السلطان كمال الدين بن شيخ الشيوخ على عسكر إلى الشام، فخرج إليه الناصر وقاتله ببلاد القدس، وأسره في عدة من أصحابه، ثم أطلقهم، وعادوا إلى القاهرة. وكان من خبر ذلك أنه في يوم الأربعاء ثاني عشر صفر، وقع عسكر الناصر داود على الأمير عز الدين أيبك صاحب صرخد، وقد نزل على الغوار، فكسره وأخذ الأثقال، وكان معه الأمير شمس الدين شرف - المعروف بالسبع مجانين - وشمس الدين أبو العلاء الكرديان، وشرف الدين بن الصارم صاحب بنين، وكان مقدم عسكر الناصر سيف الدين بن قلج، وجماعة من الأيوبية من عسكر مصر.
وفيها سار الخوارزمية إلى الموصل، فسالمهم صاحبها بحر الدين لؤلؤ نصيبين، ووافقهم المظفر شهاب الدين غازي بن العادل، صاحب ميافارقين، ثم ساروا إلى آمد فخرج إليهم عسكر حلب، عليه المعظم فخر الدين توران شاه بن صلاح الدين، فدفعوهم عنها، ونهبوا بلاد ميافارقين، وجرت بينهم وبين الخوارزمية وقائع ثم عاد العسكر إلى حلب، فغار الخوارزمية على رساتيق الموصل.
وفيها فلج المظفر صاحب حماة في شعبان وهو جالس بغتة، فأقام أياماً ملقي لا يتحرك ولا يتكلم، ثم أفاق وبطل شقه الأيمن فسير إليه الملك الصالح نجم الدين أيوب من مصر بطبيب يعرف بالنفيس بن طليب النصراني، فلم ينجح فيه دواء، واستمر كذلك سنين وشهوراً حتى مات.
وفي خامس عشر ذي القعدة: قدم الأمير ركن الدين ألطونبا الهيجاري من القاهرة إلى دمشق، وكان الملك الصالح نجم الدين قد بعثه في شهر رمضان إلى الناصر داود، ليصلح بينه وبين الملك الجواد، حتى بقى على طاعة الصالح نجم الدين، فلما وصل إلى غزة هرب إلى دمشق، وأخذ معه جماعة من العسكر ولحق الجواد بالفرنج، وأقام عندهم.
وفيها وصل الملك المنصور نور الدين عمر بن علي رسول من اليمن في عسكر غير إلى مكة، في شهر رمضان، ففر المصريون بعدما أحرقوا دار الإمارة بمكة، حتى تلف ما كان بها من سلاح وغيره.
سنة أربعين وستمائة
في ربيع الأول: أبطلت خطة ملك الروم من دمشق، وخطب للملك الصالح نجم الدين أيوب.
وفي يوم الجمعة رابع جمادى الأولى: دخل الفرنج من عكا إلى نابلس، ونهبوا وقتلوا وأسروا، وأخذوا منبر الخطيب، وخرجوا يوم الأحد بعد ما أفسدوا أموالاً كثيرة.
وفي يوم السبت ثامن عشر المحرم: وصل إلى القاهرة الشريف علاء الدين عالم بن الأمير السيد علي.
وفيها وصل التتار إلى أرزن الروم، وأوقع الملك المظفر غازي، صاحب ميلادقين بالخوارزمية. وفيها ماتت ضيفة خاتون ابنة العادل أبي بكر بن أيوب، ليلة الجمعة لإحدى عشرة خلت من جمادى الأولى فاستبد ابن ابنها الناصر يوسف بن الظاهر غازي بمملكة حلب بعدها، وقام بتدبيره بعد جدله الأمير شمس الدين لؤلؤ الأتابك، والأمير جمال الدين العادل الأسود الحسن، الخاتون، والوزير الأكرم جمال الدين بن النفطي، وخرج إقبال من حلب بعسكر، وحارب الخوارزمية، ثم عاد.(1/100)
وفيها مات الخليفة المستنصر بالله جعفر المنصور بن الظاهر بأمر الله أبي نصر محمد ابن الناصر لدين الله أحمد العباس أمير المؤمنين بكرة يوم الجمعة لعشر خلون من جمادى الآخرة، وكاد سبب موته أنه فصد بمبضع مسموم. فكانت خلافته سبع عشرة سنة وشهر، وقيل مات في ثاني عشريه، وكانت مدته خمس عشرة سنة وأحد عشر شهراً وخمسة أيام، وله من العمر إحدى وخمسون سنة وأربعة أشهر وسبعة أيام. وكان حازماً عادلاً، وفي أيامه عمرت بغداد عمارة عظيمة، وبني بها المحرسة المستنصرية، وفي أيامه قصد التتر بغداد، فاستخدم العساكر حتى قيل إنها زادت عدتها على مائة ألف إنسان. فقام من بعده في الخلافة ابنه المستعصم بالله أبو أحمد عبد الله، وقام بأمره أهل الدولة، وحسنوا له جمع الأموال، وإسقاط أكثر الأجناد، فقطع كثيراً من العساكر، وسالم التتر، وحمل إليهم المال.
وفيها بني بعض غلمان الصاحب معين الدين ابن شيخ الشيوخ، وزير الملك الصالح نجم الدين أيوب، بناء بأمر مخدومه على سطح مسجد بمصر، وجعل فيه طبلخاناه عماد الدين ابن شيخ الشيوخ، فأنكر ذلك قاضي القضاة عز الدين بن عبد السلام، ومضى بنفسه وأولاده، حتى هدم البناء، ونقل ما على السطح، ثم أشهد قاضي القضاة على نفسه أنه قد أسقط شهادة الوزير معين الدين، وأنه قد عزل نفسه من القضاء فلما فعل ذلك ولي الملك الصالح عوضه قضاء مصر صدر الدين أبا منصور موهوب ابن عمر بن موهوب بن إبراهيم الجزري الفقيه الشافعي، وكان ينوب عن ابن عبد السلام في الحكم، في ثالث عشري ذي القعدة.
وفيها قدم مكة الحاج من بغداد، بعدما انقطع ركب العراق سبع سنين عن مكة وكان من خبر مكة - شرفها الله تعالى - أن السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بعث ألف فارس عليهم الشريف شيحة بن قاسم أمير المدينة، في سنة سبع وثلاثين، فبعث الملك المنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول من اليمن بابن النصيري، ومعه الشريف راجح، إلى مكة في عسكر كبير، ففر الشريف شيحة بمن معه، وقدم القاهرة، فجهز السلطان الملك الصالح معه عسكراً قدم بهم مكة، في سنة ثمان وثلاثين، وحجوا بالناس، فبعث ابن رسول من اليمن عسكراً كبيراً، فطلب عسكر مصر من السلطان الملك الصالح نجدة، فبعث إليهم بالأمير بارز الدين علي بن الحسين برطاس، والأمير مجد الدين أحمد بن التركماني، في مائة وخمسين فارساً، فلما بلغ ذلك عسكر اليمن أقاموا على السرين، وكتبوا إلى ابن رسول بذلك، فخرج بنفسه في جمع كبير يريد مكة، ففر المصريون على وجوههم، وأحرقوا ما في دار السلطان بمكة من سلاح وغيره، فقدم الملك المنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول مكة، وصام بها شهر رمضان، سنة تسع وثلاثين، واستناب بمكة مملوكه فخر الدين الشلاح.
سنة إحدى وأربعين وستمائة
فيها قدم التتر بلاد الروم، وأوقعوا بالسلطان غياث الدين كيخسرو بن كيقباد بن يخسرو بن قلج أرسلان، وهزموه وملكوا بلاد الروم وخلاط وآمد، فدخل غياث الدين في طاعتهم، على مال يحمله إليهم، وملكوا أيضاً سيواس وقيسارية بالسيف وقرروا على صاحبهما في كل سنة أربعمائة ألف دينار ففر غياث الدين منهم إلى القسطنطينية، وقام من بعده ركن الدين ابنه - وهو صغير - إلى أن قتل.(1/101)
وفيها تكررت المراسلة بين الصالح نجم الدين أيوب، وبين عمه الصالح إسماعيل صاحب دمشق، وبين المنصور صاحب حمص، على أن تكون دمشق وأعمالها للصالح إسماعيل، ومصر للصالح أيوب، وكل من صاحب حمص وحماة وحلب على ما هو عليه، وأن تكون الخطة والسكة في جميع هذه البلاد للملك الصالح نجم الدين أيوب وأن يطلق الصالح إسماعيل الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك الصالح نجم الدين من الاعتقال، وأن يخرج الأمير حسام الدين أبو علي بن محمد بن أبي علي باشاك الهذباني، المعروف بابن أبي علي من اعتقاله ببعلبك، وأن ينتزع الصالح إسماعيل الكرك من الملك الناصر داود، فلما تقرر هذا خرج من القاهرة الخطب أصيل الدين الإسعردي - إمام السلطان - في جماعة، وسار إلى دمشق، فخطب للسلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب بجامع دمشق وبحمص، وأفرج عن المغيث ابن السلطان، وأركب ثم أعيد إلى القلعة، حتى يتم بينهما الحلف، وأفرج عن الأمير حسام الدين، وكان قد ضيق عليه وجعل في جب مظلم فلما وصل حسام الدين إلى دمشق خلع عليه الصالح إسماعيل، وسار إلى مصر، ومعه رسول الصالح إسماعيل، ورسول صاحب حمص - وهو القاضي عماد الدين بن القطب قاضي حماة - ورسول صاحب حلب، فقدموا على الملك الصالح نجم الدين، ولم يقع اتفاق، وعادت الفتنة بين الملوك، فاتفق الناصر داود صاحب الكرك، مع الصالح إسماعيل صاحب دمشق، على محاربة الملك الصالح نجم الدين وعاد رسول حلب، وتأخر ابن القطب بالقاهرة، فبعث الناصر داود والصالح إسماعيل، ووافقا الفرنج على أنهم يكونون عوناً لهم على الملك الصالح نجم الدين، ووعداهم أن يسلما إليهم القدس وسلماهم طبرية وعسقلان أيضاً فعمر الفرنج قلعتيهما وحصونهما، وتمكن الفرنج من الصخرة بالقدس، وجلسوا فوقها بالخمر، وعلقوا الجرس على المسجد الأقصى.
فبرز الملك الصالح نجم الدين أيوب من القاهرة، ونزل بركة الجب وأقام عليها، وكتب إلى الخوارزمية يستدعيهم إلى ديار مصرة لمحاربة أهل الشام، فخرجوا من بلاد الشرق.
وفي يوم عيد النحر: صرف الملك الصالح نجم الدين قاضي القضاة صدر الدين موهوب الجزري، وقلد الأفضل الخونجي قضاء مصر والوجه القبلي.
وفيها هرب الصارم المسعودي من قلعة الجبل، وقد صبغ نفسه حتى صار أسوداً، على صورة عبد كان يدخل إليه بالطعام، فأخذ من بلبيس، وأعيد إلى معتقله. وفيها أنشأ شهاب الدين ريحان - خادم الخليفة - رباط الشرابي بمكة، وعمر بعرفة أيضاً.
سنة اثنتين وأربعين وستمائة
فيها ورد إلى دمشق كتاب بدر الدين لؤلؤ، صاحب الموصل، وفيه يقول: إني قررت على أهل الشام قطيعة التتر في كل سنة، من الغني عشرة دراهم، ومن المتوسط خمسة دراهم، ومن الفقير درهم فقرأ القاضي محيي الدين بن زكي الدين الكتاب على الناس، ووقع الشروع في جباية المال.
وفيها قطع الخوارزمية الفرات، ومقدموهم: الأمير حسام الدين بركة خان، وخان بردى، وصاروخان، وكشلوخان، وهم زيادة على عشرة آلاف مقاتل، فسارت منهم فرقة على بقاع بعلبك، وفرقة على غوطة دمشق، وهم ينهبون ويقتلون ويسبون، فانجفل الناس من بين أيديهم، وتحصن الصالح إسماعيل بدمشق، وضم عساكره إليه، بعدما كانت قد وصلت غزة وهجم الخوارزمية على القدس، وبذلوا السيف في من كان به من النصارى، حتى أفنوا الرجال، وسبوا النساء والأولاد، وهدموا المباني التي في قمامة، ونبشوا قبور النصارى، وأحرقوا رممهم، وساروا إلى غزة فنزلوها، وسيروا إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب - في صفر - يخبرونه بقدومهم، فأمرهم بالإقامة في غزة، ووعدهم ببلاد الشام، بعدما خلع على رسلهم، وسير إليهم الخلع والخيل والأموال، وتوجه في الرسالة إليهم جمال الدين أقوش النجيبي، وجمال الدين بن مطروح، وجهز الملك الصالح نجم الدين أيوب عسكراً من القاهرة عليه الأمير ركن الدين بيبرس، أحد مماليكه الأخصاء الذين كانوا معه وهو محبوس بالكرك، فسار إلى غزة، وانضم إلى الخوارزمية جماعة من القميرية، كانوا قد قدموا معهم من الشرق، ثم خرج الأمير حسام الدين أبو علي - بن محمد بن أبي علي الهذباني بعسكر، ليقيم على نابلس.(1/102)
وجهز الصالح إسماعيل عسكراً من دمشق، عليه الملك المنصور صاحب حمص، فسار المنصور جريدة إلى عكا، وأخذ الفرنج ليحاربوا معه عساكر مصر، وساروا إلى نحو غزة، وأتتهم نجدة الناصر داود صاحب الكرك مع الظهير بن سنقر الحلبي والوزيري، فالتقى القوم مع الخوارزمية بظاهر غزة، وقد رفع الفرنج الصلبان على عسكر دمشق، وفوق رأس المنصور صاحب حمص، والأقسة تصلب، وبأيديهم أواني الخمر تسقي الفرسان وكان في الميمنة الفرنج، وفي الميسرة عسكر الكرك، وفي القلب المنصور صاحب حماة، فساق الخوارزمية وعساكر مصر، ودارت بين الفريقين حرب شديدة، فانكسر الملك المنصور، وفر الوزيري، وقبض على الظهير وجرح. وأحاط الخوارزمية بالفرنج، ووضعوا فيهم السيف حتى أتوا عليهم قتلاً وأسراً، ولم يفلت منهم إلا من شرد، فكان عدة من أسر منهم ثمانمائة رجل، وقتل منهم ومن أهل الشام زيادة على ثلاثين ألفاً، وحاز الخوارزمية من الأموال ما يجل وصفه، ولحق المنصور بدمشق في نفر يسير.
وقدمت البشارة إلى الملك الصالح نجم الدين بذلك في خامس عشر جمادى الأولى، فأمر بزينة القاهرة ومصر وظواهرهما، وقلعتي الجبل والروضة، فبالغ الناس في الزينة، وضربت البشائر عدة أيام.
وقدمت أسرى الفرنج ورءوس القتلى، ومعهم الظهير بن سنقر وعدة من الأمراء والأعيان، وقد أركب الفرنج الجمال، ومن معهم من المقدمين على الخيول، وشقوا القاهرة، فكان دخولهم يوما مشهوداً، وعلقت الرءوس على أبواب القاهرة وملئت الحبوس بالأسرى، وسار الأمير بيبرس، والأمير ابن أبي علي بعساكرهما إلى عسقلان، ونازلاها فامتنعت عليهم لحصانتها فسار ابن أبي علي إلى نابلس، وأقام بيبرس على عسقلان، واستولت نواب الملك الصالح نجم الدين على غزة والسواحل، والقدس والخليل، وبيت جبريل والأغوار، ولم يبق بيد الناصر داود سوى الكرك والملقاء، والصلت وعجلون.
فورد الخير بموت الملك المظفر تقي الدين محمود بن المنصور بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب صاحب حماة، في يوم السبت ثامن جمادى الأول، فاشتد حزن الملك الصالح نجم الدين أيوب عليه، ثم ورد الخبر بموت ابنه الملك المغيث عمر بقلعة دمشق، فزاد حزنه، وقوي غضبه على عمه الصالح إسماعيل، وقدم إلى القاهرة الخطيب زين الدين أبو البركات عبد الرحمن بن موهوب من حماة، بسيف الملك المظفر، ومعه تقدمة من عند ابن الملك المنصور ناصر الدين محمد، لتسع مضين من شوال.
وخرج الصاحب معين الدين الحسن بن شيخ الشيوخ على العساكر من القاهرة، ومعه الدهليز السلطاني والخزائن، وأقامه السلطان مقام نفسه، وأذن له أن يجلس على رأس السماط ويركب كما هي عادة الملوك وأن يقف الطواشي شهاب الدين رشيد أستادار السلطان في خدمته على السماط، ويقف أمير جاندار والحجاب بين يديه، كعادتهم في خدمة السلطان، وكتب إلى الخوارزمية أن يسيروا في خدمته. فسار الصاحب معين الدين من القاهرة بالعساكر إلى غزة، وانضاف إليه الخوارزمية والعسكر إلى غزة، وانضاف إليه الخوارزمية والعسكر، وسار إلى بيسان، فأقام بها مدة، ثم سار إلى دمشق فنازلها، وقد امتنع بها الصالح إسماعيل والمنصور إبراهيم صاحب حمص، وعاثت الخوارزمية في أعمال دمشق، فبعث الصالح إسماعيل إلى ابن شيخ الشيوخ بسجادة وإبريق وعكاز، وقال له: اشتغالك بهذا أولى من اشتغالك بقتال الملوك.
فلما وصل ذلك إليه جهز إلى الصالح إسماعيل جنكا وزمراً وغلالة حرير، وقال: السجادة والإبريق والعكاز يليقون بي، وأنت أولى بالجنك والزمر والغلالة، واستمر الصاحب معين الدين على محاصرة دمشق، فبعث الخليفة بمحيي الدين بن الجوزي إلى الملك الصالح نجم الدين ومعه خلعة، وهي عمامة سوداء، وفرجية مذهبة، وثوبان ذهب، وسيف بذهب، وطوق ذهب، وعلمان حرير، وحصان وترس ذهب، فلبس الملك الصالح نجم الدين الخلعة على العادة وكانت الأقاويل بمصر قد كثرت لمجيئه، وتأخر قدومه، فقال الصلاح بن شعبان الإربلي:
قالوا الرسول أتي قالوا إنه ... ما رام يوماً عن دمشق نزوحا
ذهب الزمان وما ظفرت بمسلم ... يروي الحديث عن الرسول صحيحا
وفيها قتل أمير بني مرين محمد بن عبد الحق محيو بن أبي بكر بن حمامة، في حربه مع عسكر الموحدين وولي بعده أخوه أبوه يحيي بن عبد الحق.(1/103)
وفيها ورد كتاب بدر الدين لؤلؤ من الموصل بجباية قطعة التتر من دمشق، فقرأ كتاب القاضي محيي الدين من الزكي على العادة.
وفيها استوزر الخليفة أستاداره مؤيد الدين محمد بن العلقمي، في ثامن ربيع الأول، عوضاً عن نصير الدين أبي الأزهر أحمد بن محمد بن علي بن العاقد.
وفيها استولي التتر على شهر زور.
وفيها بلغ الأردب القمح بمصر أربعمائة درهم نقرة.
سنة ثالث وأربعين وستمائة
فيها كثرت محاربة ابن شيخ الشيوخ لأهل دمشق ومضايقته للبلد إلى أن أحرق قصر حجاج في ثاني محرم، ورمي بالمجانيق وألح بالقتال.
فأحرق الصالح إسماعيل في ثالثه عدة مواضع، ونهبت أموال الناس، وجرت شدائد إلى أن أهل شهر ربيع الأول، ففيه خرج المنصور صاحب حمص من دمشق، وتحدث معه بركة خان مقدم الخوارزمية في الصفح، وعاد إلى دمشق فأرسل الوزير أمين الدولة كمال الدين أبو الحسن بن غزال المعروف بالسامري إلى الصاحب معين الدين بن شيخ الشيوخ، يسأله الأمان ليجتمع به، فبعث إليه بقميص وفرجية وعمامة ومنديل، فلبس ذلك وخرج ليلاً، لأيام مضت من جمادى الأولى، فتحادثا ورجع إلى دمشق، ثم خرج في ليلة أخرى، وقرر أن الصالح إسماعيل يسلم دمشق، على أن يخرج منها هو والمنصور بأموالهم، ولا يعرض لأحد من أصحابهم ولا لشيء مما معهم، وأن يعوض الصالح عن دمشق ببعلبك وبصرى وأعمالها، وجميع بلاد السواد، وأن يكون للمنصور حمص وتدمر والرحبة، فأجاب أمين الدولة إلى ذلك، وحلف الصاحب معين الدين لهم، فخرج الصالح إسماعيل والمنصور من دمشق.
ودخل الصاحب معين الدين في يوم الاثنين ثامن جمادى الأولى، ومنع الخوارزمية من دخول دمشق ودبر الأمير أحسن تدبير، وأقطع الخوارزمية الساحل بمناشير كتبها لهم، ونزل في البلد، وتسلم الطواشي شهاب الدين رشيد القلعة، وخطب بها وبجامع دمشق وعامة أعمالها للملك الصالح نجم الدين، وسلم أيضاً الأمير سيف الدين علي بن قلج قلعة عجلون لأصحاب الملك الصالح، وقدم إلى دمشق، فلما وردت الأخبار بذلك على السلطان أنكر على الطواشي شهاب الدين والأمراء كيف مكنوا الصالح إسماعيل من بعلبك، وقال: إن معين الدين حلف له، وأما أنتم فما خلفتم، وأمر الملك الصالح نجم الدين أن يسير ركن الهيجاوي، والوزير أمين الدولة السامري، تحت الحوطة إلى قلعة الروضة، فسيرا من دمشق إلى مصر، واعتقلا بقلعة الجبل فاتفق مرض الصاحب معين الدين ووفاته بدمشق، في ثاني عشري شهر رمضان، فكتب السلطان إلى الأمير حسام بن أبي علي الهذباني، وهو بنابلس، أن يسير إلى دمشق ويتسلمها، فسار إليها وصار نائباً بدمشق، والطواشي رشيد بالقلعة، وأفرج السلطان عن الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ - وكان قد لزم بيته - وخلع عليه وأمره وقدمه، وبالغ في الإحسان إليه، وكان لم يبق من أولاد شيخ الشيوخ غيره.
وأما الخوارزمية، فإنهم ظنوا أن السلطان إذا انتصر على عمه الملك الصالح إسماعيل يقاسمهم البلاد، فلما منعوا من دمشق، وصاروا في الساحل وغيره من برد الشام، تغيرت نياتهم، واتفقوا على الخروج عن طاعة السلطان، وساروا إلى داريا وانتهبوها، وكاتبوا الأمير ركن الدين بيبرس وهو على غزة بعسكر جيد من عساكر مصر، وحسنوا له أن يكون معهم يداً واحدة ويزوجوه منهم، فمال إليهم، وكاتبوا الناصر داود صاحب الكرك، فوافقهم ونزل إليهم واجتمع بهم وتزوج منهم، وعاد إلى الكرك واستولى على ما كان بيد الأمير حسام الدين بن أبي علي، من نابلس والقدس والخليل، وبيت جبريل والأغوار.(1/104)
وخاف الصالح إسماعيل، فكاتب الخوارزمية وقدم إليهم، فحلفوا له على القيام بنصرته، ونازلوا دمشق، فقام الأمير حسام الدين بن أبي علي بحفظ البلد أحسن قيام، وألح الخوارزمية - ومعهم الصالح إسماعيل - في القتال ونهب الأعمال، وضايقوا دمشق، وقطعوا عنها الميرة، فاشتد الغلاء بها، وبلغت الغرارة القمح إلى ألف وثمانمائة درهم فضة، ومات كثير من الناس جوعاً، وباع شخص داراً قيمتها عشرة آلاف درهم، بألف وخمسمائة درهم اشتري بها غرارة قمح، فقامت عليه في الحقيقة بعشرة آلاف درهم، وأبيع الخبز كل أوقية وربع بدرهم، واللحم كل رطل بسبعة دراهم، ثم عدمت الأقوات بالجملة، وأكل الناس القطط والكلاب والميتات، ومات شخص بالسجن، فأكله أهل السجن، وهلك عالم عظيم من الجوع والوباء، واستمر هذا البلاء ثلاثة أشهر، وصار من يمر من الجبل يشتم ريح نتن الموتى، لعجز الناس عن مواراة موتاهم، ولم تنقطع مع هذا الخمور والفسوق من بين الناس.
وأخذ الملك الصالح نجم الدين مع ذلك في أعمال الحيل والتدبير، وما زال بالمنصور إبراهيم صاحب حمص حتى مال إليه، واتفق أيضاً مع الحلبيين على محاربة الخوارزمية، فخرج الملك الصالح نجم الدين من القاهرة بعساكر مصر، ونزل العباسة، فوافاه بها رسل الخليفة، وهما الملك محمد ابن وجه السبع، وجمال الدين عبد الرحمن بن محيي الدين أبي محمد يوسف بن الجوزي في آخر شوال، ومعهما التقليد والتشريف الأسود: وهو عمامة سوداء وجبة وطوق ذهب، وفرس بمركوب بحلية ذهب، فنصب المنبر، وصعد عليه جمال الدين عبد الرحمن محيي الدين بن الجوزي الرسول، وقرأ التقليد بالدهليز السلطاني، والسلطان قائم على قدميه، حتى فرغ من القراءة، ثم ركب السلطان بالتشريف الخليفتي، فكان يوماً مشهوداً. وكان قد حضر أيضاً من عند الخليفة تشريف باسم الصاحب معين الدين بن شيخ الشيوخ، فوجد أنه قد مات، فأمر السلطان أن يفاض على أخيه الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ، فلبسه.
فلما بلغ الخوارزمية مسير السلطان من مصر، ومسير الملك المنصور إبراهيم صاحب حمص بعساكر حلب، رحلوا عن دمشق يريدون لقاء المنصور. فوجد أهل دمشق برحيلهم فرجاً، ووصلت إليهم الميرة، وانحل السعر.
سنة أربع وأربعين وستمائة
فيها أرسل الملك الصالح نجم الدين أيوب القاضي نجم الدين محمد بن سالم النابلسي، المعروف بابن قاضي نابلس - وكان متقدماً عنده - إلى مملوكه الأمير ركن الدين بييرس، فما زال يخدعه ويمنيه، حتى فارق الخوارزمية، وقدم معه إلى ديار مصر، فاعتقل بقلعة الجبل، وكان آخر العهد به.
وفيها عظمت مضرة الخوارزمية ببلاد الشام، وكثر نهبهم للبلاد، وسفكهم للدماء وانتهاكهم للحرمات، والتقوا مع الملك المنصور إبراهيم صاحب حمص وعساكر حلب، وقد انضم إليهم عرب كثير وتركمان، نصرة للملك الصالح نجم الدين، وذلك بظاهر حمص أول يوم من المحرم، وقيل ثانيه فكانت بينهم وقعة عظيمة انهزم فيها الخوارزمية هزيمة قبيحة، تبدد منها شملهم، ولم يقم لهم بعدها قائمة وقتل مقدمهم بركة خان وهو سكران، وأسر كثير منهم واتصل من فر منهم بالتتار، وفيهم من مضى إلى البلقاي وخدم الملك الناصر داود صاحب الكرك، فتزوج الناصر منهم، واختص بهم، وقويت شوكته وسار بعضهم إلى نابلس، فاستولوا عليها، ووصل بعض من كان معهم ممن انهزم إلى حران، ولحق أيبك المعظمي بقلعة صرخد وامتنع بها، وسار الصالح إسماعيل إلى حلب في عدة من الخوارزمية، فأنزله الملك الناصر صاحب حلب وأكرمه، وقبض على من قدم معه من الخوارزمية ووردت البشرى بهذه الهزيمة إلى السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب في المحرم، فزينت القاهرة ومصر والقلعتان.(1/105)
وسار الأمير حسام الدين بن أبي علي الهذباني من دمشق، واستولى على بعلبك بغير حرب في رجب، وحمل منها الملك المنصور نور الدين محمود بن الملك الصالح إسماعيل، وأخذه الملك السعيد عبد الملك إلى الديار المصرية تحت الاحتياط، فاعتقلوا وزينت القاهرة لفتح بعلبك زينة عظيمة، هي ومصر، وكان أخذ بعلبك عند السلطان أحسن موقعاً من أخذه لدمشق، حنقا منه على عمه الصالح إسماعيل، وانصلحت الحال بين السلطان وبين المنصور صاحب حمص والناصر صاحب حلب، واتفقت الكلمة وبعث السلطان إلى حلب يطلب تسليم الصالح إسماعيل، فلم يجب إلى تسليمه وأخرج السلطان عسكراً كبيراً، قدم عليه الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ وسيره لمحاربة الكرك، فسار إلى غزة، وأوقع بالخوارزمية، ومعهم الناصر داود صاحب الكرك في ناحية الصلت، وكسرهم وبدد شمالهم، وفر الناصر إلى الكرك في عدة.
وكانت الكسرة على الصلت في سابع عشري ربيع الآخر، وسار فخر الدين عنها بعد ما حرقها واحتاط على سائر بلاد الناصر، وولي عليها النواب ونازل فخر الدين الكرك، وخرب ما حولها، واستولى على البلقاء، وأضعف الناصر حتى سأله الأمان، فبعث فخر الدين يطلب منه من عنده من الخوارزمية، فسيرهم الناصر إليه، فسار عن الكرك وهم في خدمته ثم نازل فخر الدين بصرى، حتى أشرد على أخذها، فنزل به مرض أشفى منه على الموت وحمل في محفة إلى القاهرة، وبقي العسكر حتى استولوا عليها، وقدم المنصور إبراهيم صاحب حمص إلى دمشق منتمياً إلى السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب فنزل به مرض مات به في صفر، فخزن عليه السلطان حزناً كثيراً، لأنه كان يتوقع وصوله إليه فقام من بعده بحمص ابنه الأشرف مظفر الدين موسى.
وفيها تسلم الملك الصالح نجم الدين عجلون، بوصية صاحبها سيف الدين بن قلج عند موته. وفيها سير الصاحب جمال الدين أبو الحسن يحيى بن عيسى بن إبراهيم بن مطروح إلى دمشق وزيراً وأميراً، وأنعم عليه بسبعين فارساً بدمشق، وصرف الأمير حسام الدين بن أبي علي الهذباني عن نيابة دمشق، وولى مكانه الأمير مجاهد الدين إبراهيم، وأقر الطواشي شهاب الدين بالقلعة على حاله، فلما دخل ابن مطروح إلى دمشق خرج منها الأمير حسام الدين، وسار إلى القاهرة، فلما قدم على السلطان، وهو بقلعة الجبل، أقره في نيابة السلطنة بديار مصر، وأنزله بدار الوزارة من القاهرة.
وخرج السلطان بالعساكر في شوال يريد دمشق من قلعة الجبل، واستناب بديار مصر الأمير حسام الدين بن أبي علي، فدخل إلى دمشق في سابع عشر ذي القعدة، وكان دخوله يوماً مشهوداً، فأحسن إلى الناس، وخلع على الأعيان، وتصدق على أهل المدارس والربط وأرباب البيوت بأربعين ألف درهم، وسار بعد خمسة عشر يوماً إلى بعلبك، فرتب أحوالها، وأعطى لأهل المدارس والربط وأرباب البيوت عشرين ألف درهم، وسار إلى بصرى، وقد تسلمها نواب السلطان من الأمير شهاب الدين غازي، تائب الملك الصالح إسماعيل، فتصدق على مدارس بصرى وربطها وأرباب البيوت بعشرين ألف درهم وجهز السلطان الأمير ناصر الدين القيمري، والصاحب الدين بن مطروح، إلى صلخد وبها الأمير عز الدين أيبك المعظمي، فمازالا به حتى سلم صلخد، وسار إلى مصر، وتصدق السلطان في القدس بألفي دينار مصرية، وأمر بذرع سور القدس، فكاد ذراعه ستة آلاف ذراع بالهاشمي، فأمر بصرف مغل القدس في عمارته، وإن احتاج إلى زيادة حملت من مصر. وفيها سار الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ بعسكر إلى طبرية، فنازلها حتى أخذها من يد الفرنج، وهدم الحصون.(1/106)
وفيها مات الملك العادل أبو بكر بن الكامل محمد خنقا، بقلعة الجبل. وقيل كان خنقه قبل هذه السنة، وقيل بل كان في ستة خمس وأربعين، والقول الثاني أثبت. وسبب قتله أنه كان معتقلاً في برج العافية من قلعة الجبل، فلما عزم السلطان على المسير إلى الشام، بعث يأمره أن يتوجه إلى قلعة الشوبك ليعتقل بها، فامتنع من ذلك، فبعث السلطان إليه من خنقه، وأشاع أنه مات، ثم ظهر أمره وأخرج ابنه المغيث عمر إلى الشوبك، فاعتقل بها، ولما مات العادل دفن خارج باب النصر، ولم يجسر أحد يبكي عليه ولا يذكره، وترك العادل ولداً يقال له الملك المغيث عمر، أنزل إلى القاهرة عند عماته، ثم أخرج إلى الشوبك. وكان عمر العادل يوم مات نحو ثلاثين سنة، وأقام مسجوناً نحو ثماني سنين. وفيها وقع الاختلاف بين الفرنج.
سنة خمس وأربعين وستمائة
فيها عاد السلطان الملك الصالح من دمشق إلى ديار مصر، بعد ما أخذ عسقلان وخربها في جمادى الآخرة، وبعد أن تسلم أيضاً قلعة بارزين من عمل حماة، في رمضان، وفي عوده إلى مصر عرض له - وهو بالرمل - وجع في حلقه، أشفى منه على الموت، ثم عوفي ودخل إلى قلعته سالماً، وزينت البلدان والقلعتان فرحاً به وكتب السلطان إلى الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ أن يشر من بلاد الفرنج بالساحل إلى دمشق، فسار إليهما بمن معه من العسكر،، وأنعم على من بها من الأمراء وغيرهم، وخلع عليهم، وأخذت عسقلان، يوم الخميس ثاني عشر جمادى الآخرة بعساكر السلطان.
وفيها تسلم نواب السلطان قلعة الصبيبة وحضر إلى حلب من حماة الطواشي شجاع الدين مرشد المنصوري، والأمير مجاهد الدين أمير جاندار، لإحضار سيدة الخواتين عصمة الدنيا والدين عائشة خاتون، ابنة الملك العزيز محمد بن الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب فسارت ومعها أمها الستر الرفيع فاطمة خاتون، ابنة الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، في رمضان وهي في تجمل زائد، ومحفتها ملبسة ثوب حرير بذهب مكلل بالجواهر فتلقاها زوجها الملك المنصور صاحب حماة.
وفيها حكر الناس البستان الكافوري بالقاهرة، وعمروا فيه الدور.
وفيها قبض على الأمير عز الدين أيبك المعظمي بدمشق، وحمل إلى القاهرة تحت الحوطة، فاعتقل بها في دار صواب ورافعه ولده أن الذي حمله من صلخد كان مبلغ ثمانين خرجا أودعها، فلما بلغه ذلك سقط إلى الأرض، وقال: هذا آخر العهد بالدنيا، ولم يتكلم بعدها حتى مات.
وفيها سار السلطان من قلعة الجبل، ونزل بقصره في أشموم طناح.
وفيها خنق الملك العادل أبو بكر بن محمد الكامل، في ثاني عشر شوال.
سنة ستة وأربعين وستمائة
فيها كتب السلطان من أشموم طناح إلى نائبه بديار مصر الأمير حسام الدين بن أبي علي، أن يرحل بالحلقة السلطانية والدهليز السلطاني إلى دمشق، وأقام السلطان بدله في نيابة السلطنة بالقاهرة الأمير الجواد جمال الدين، وأبا الفتح موسى بن يغمور بن جلدك. فسار الأمير حسام الدين، ونزل بالقصور التي أنشأها السلطان الملك الصالح أيوب، وجعلها مدينة بالسانح في أول الرمل، وجعل فيها سوقاً جامعاً، ليكون مركز العساكر عند خروجهم من الرمل، وسماها الصالحية. وأقام حسام الدين بالصالحية مقام السلطان، وطال مقامه بها نحو أربعة أشهر، ثم سار ليحرك الملك الأشرف صاحب حمص، فإن الأخبار وردت بمسير عساكر حلب مع الأمير شمس الدين لؤلؤ الأسيفي، والملك الصالح إسماعيل، لأخذ حمص. فلم يدركه حسام الدين، وسلم الأشرف حمص، وصارت للناصر صاحب حلب، وتعوض الأشرف عن حمص تل باشر.
فلما بلغ السلطان ذلك عاد من أكوم طناح إلى القاهرة، وخرج منها إلى عسكره بالصالحية، وسار في محفة لما به من المرض، بسبب ورم مأبضه وكان قد اشتد به حتى حصل منه ناصور. وحدث قرحة في الصدر، إلا أن همته كانت قوية، فلم يلق نفسه وسار السلطان إلى دمشق، ونزل بقلعتها.(1/107)
وبعث السلطان بالأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ، ومعه الأمراء والعساكر، وفيهم الأمير ابن أبي علي الهذباني، إلى حمص، فنازلها ورمى عليها بمنجنيق زنة حجره مائة وأربعون رطلاً، ومعه ثلاثة عشر منجنيقاً آخر، وسخر الناس في حمل هذه المجانيق من دمشق، حتى كان يحمل كل عود ثمنه نحو عشرين درهماً بألف درهم، فإن الوقت كان شتاء صعباً. وألح الأمير فخر الدين في الحصار إلى أن قدم من بغداد الشيخ نجم الدين البادرائي، رسولاً من الخليفة المستعصم بالله، بالصلح بين الحلبيين وبين السلطان، فتقرر الصلح، ورحل العساكر عن حمص، بعدما أشرف على أخذها.
وقدم من حلب الشيخ شمس الدين الخسروشاهي، فسأل السلطان على لسان الملك الناصر داود صاحب الكرك، أن يسلم الكرك إلى السلطان، ويعتاض عنها بالشوبك، فأجيب الناصر داود إلى ذلك، وتوجه من يتسلم منه الكرك، ثم رجع الناصر عن ذلك، لما بلغه من شدة مرض السلطان، وتحرك الفرنج لأخذ ديار مصر فخرج السلطان من دمشق في محفة، وسار إلى الغور، وقدم الأمير حسام الدين بن أبي علي إلى القاهرة، لينوب عنه بها، واستدعي بالأمير جمال الدين بن يغمور من القاهرة لينوب بدمشق، وعزل الصاحب جمال الدين بن مطروح عن دمشق، وعزل الطواشي شهاب الدين رشيد عن قلعة دمشق، وفوض ما كان بيدهما للأمير جمال الدين بن يغمور.
وفيها احترق المشهد الحسيني بالقاهرة، واحترقت المنارة الشرقية بجامع دمشق. وفيها مات قاضي القضاة أفضل الدين الخونجي، في شهر رمضان، فولي من بعده ابنه قاضي القضاة جمال الدين يحيى.
وفيها مات الملك المظفر شهاب الدين غازي بن العادل أبي بكر بن أيوب، صاحب الرها، وقام من بعده ابنه الكامل محمد في سلطة الرها وميافارقين.
وفيها عزل الملك المنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول صاحب اليمن الأمير فخر الدين بن الشلاح عن مكة وأعمالها، وولي عوضه محمد بن أحمد بن المسيب، على مال يقوم به، وقود عدده مائة فرس كل سنة فقدم ابن المسيب مكة، وخرج الأمير فخر الدين فسار بنفسه ابن المسيب، وأعاد الجبايات والمكوس بمكة، وأخذ الصدقة الواردة من اليمن، عن مال السلطان وبنى حصناً بنخلة يسمى العطشان وحلف هذيلا لنفسه، ومنع الجند النفقة فوثب عليه الشريف أبو سعد بن علي بن قتادة، وقيده وأخذ ماله، وقال لأهل الحرم: إنما فعلت به هذا لأني تحققت أنه يريد الفرار بالمال إلى العراق، وأنا غلام مولانا السلطان والمال عندي محفوظ والخيل والعدد، إلى أن يصل مرسومه، فلم يكن غير أيام، وورد الخبر بموت السلطان نور الدين عمر بن رسول.
سنة سبع وأربعين وستمائة
فيها قدم السلطان من دمشق، وهو مريض في محفة، لما بلغه من حركة الفرنج. فنزل بأشموم طناح في المحرم، وجمع في دمياط من الأقوات والأسلحة شيئاً كثيراً، وبعث إلى الأمير حسام الدين بن أبي على نائبه بالقاهرة، أن يجهز الشواني من صناعة مصر، فشرع في تجهيزها، وسيرها شيئاً بعد شيء. وأمر السلطان الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ أن ينزل على جيزة دمياط بالعساكر ليصير في مقابلة الفرنج إذا قدموا فتحول الأمير فخر الدين بالعساكر، فنزل بالجيزة تجاه دمياط، وصار النيل بينه وبينها، ولم يقدر السلطان على الحركة لمرضه، ونودي في مصر: من كان له على السلطان أو عنده له شيء، فليحضر ليأخذ حقه، فطلع الناس وأخذوا ما كان لهم.(1/108)
وفي الساعة الثانية من يوم الجمعة لتسع بقين من صفر: وصلت مراكب الفرنج البحرية، وفيها جموعهم العظيمة صحبة ريدافرنس - ويقال له الفرنسيس، واسمه لويس ابن لويس. وريدافرنس لقب بلغة الفرنج، معناه ملك أفرنس - وقد انضم إليهم فرنج الساحل كله، فأرسوا في البحر بازاء المسلمين. وسير ملك الفرنج إلى السلطان كتاباً، نصه بعد كلمة كفرهم: أما بعد فإنه لم يخف عنك أني أمين الأمة العيسوية، كما أني أقول أنك أمين الأمة المحمدية. وإنه غير خاف عنك أن أهل جزائر الأندلس يحملون إلينا الأموال والهدايا، ونحن نسوقهم سوق البقر ولقتل منهم الرجل ونرمل النساء، ونستأسر البنات والصبيان، ونخلي منهم الديار، وقد أبديت لك ما فيه الكفاية، ونجلت لك النصح إلى النهاية، فلو حلفت لي بكل الأيمان، ودخلت على القسوس والرهبان، وحملت قدامي الشمع طاعة للصلبان، ما ردني ذلك عن الوصول إليك وقتلك في أعز البقاع عليك، فإن كانت البلاد لي، فيا هدية حصلت في يدي، وإن كانت البلاد لك والغلبة علي، فيدك العليا ممتدة إلي. وقد عرفتك وحذرتك من عساكر قد حضرت في طاعتي، تملأ السهل والجبل، وعددهم كعدد الحصى، وهم مرسلون إليك بأسياف القضا.
فلما وصل الكتاب إلى السلطان وقرئ عليه، اغرورقت عيناه بالدموع واسترجع. فكتب الجواب بخط القاضي بهاء الدين زهير بن محمد، كاتب الإنشاء، ونسخته بعد البسملة وصلواته على سيدنا محمد رسول الله وآله وصحبه أجمعين: أما بعد فإنه وصل كتابك، وأنت تهدد فيه بكثرة جيوشك وعدد أبطالك. فنحن أرباب السيوف، وما قتل منا قرن إلا جددناه، ولا بغى علينا باغ إلا دمرناه. فلو رأت عيناك - أيها المغرور - حد سيوفنا وعظم حروبنا، وفتحنا منكم الحصون والسواحل، وأخرابنا منكم ديار الأواخر والأوائل، لكان لك أن تعض على أناملك بالندم، ولابد أن تزل بك القدم، في يوم أوله لنا و آخره عليك. فهنالك تسيء بك الظنون، " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " . فإذا قرأت كتابي هذا، فكن فيه على أول سورة النحل: " أتى أمر الله فلا تستعجلوه " ، وكن على آخر سورة ص: " ولتعلمن نبأه بعد حين " ونعود إلى قول الله تبارك وتعالى، وهو أصدق القائلين: كم من فئة قليلة غلبت فئة كبيرة بإذن الله والله مع الصابرين " ، وإلى قول الحكماء: إن الباغي له مصرع وبغيك يصرعك، وإلى البلاء يقلبك، والسلام.
وفي يوم السبت: نزل الفرنج في البر الذي عسكر المسلمين فيه، وضربت للملك ريدافرنس خيمة حمراء. فناوشهم المسلمون الحرب، واستشهد يومئذ الأمير نجم الدين ابن شيخ الإسلام وكان رجلاً صالحاً، ورتبه الملك داود مع الملك الصالح نجم الدين لما سجن بالكرك، لمؤانسته، وممن استشهد أيضاً الأمير صارم الدين أزبك الوزيري. فلما أمسى الليل رحل الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ ممن معه من عساكر المسلمين، وقطع بهم الجسر إلى الجانب الشرقي، الذي فيه مدينة دمياط. وخلا البر الغربي للفرنج، وسار فخر الدين بالعسكر يريد أشموم طناح.
فلما رأى أهل دمياط رحيل العسكر، خرجوا كإنما يسحبون على وجوههم طول الليل، ولم يبق بالمدينة أحد البتة، وصارت دمياط فارغة من الناس جملة. وفروا إلى أكوم مع العسكر، وهم حفاة عراة جياع فقراء حيارى بمن معهم من الأطفال النساء وساروا إلى القاهرة، فنهبهم الناس في الطريق، ولم يبق لهم ما يعيشون به فعدت هذه الفعلة من الأمير فخر الدين من أقبح ما يشنع به. وقد كانت دمياط في أيام لملك الكامل، لما نازلها الفرنج، أقل ذخائر وعدداً منها في هذه النوبة، ومع ذلك لم قدر الفرنج على أخذها إلا بعد سنة، عندما فني أهلها بالوباء والجوع، وكان فيها هذه المرة أيضاً جماعة من شجعان بني كنانة، فلم يغن ذلك شيئاً.
وأصبح الفرنج يوم الأحد لسبع بقين من صفر، سائرين إلى مدينة دمياط. فعندما رأوا أبوابها مفتحة ولا أحد يحميها، خشوا أن تكون مكيدة، فتمهلوا حتى ظهر أن ناس قد فروا وتركوها. فدخلوا المدينة بغير كلفة ولا مؤنة حصار، واستولوا على ما فيها من الآلات الحربية، والأسلحة العظيمة والعدد الكثيرة، والأقوات والأزواد والذخائر، والأموال والأمتعة وغير ذلك، صفواً عفواً.(1/109)
وبلغ ذلك أهل القاهرة ومصر، فأنزعج الناس انزعاجاً عظيماً، ويئسوا من بقاء كلمة الإسلام بديار مصر. لتملك الفرنج مدينة دمياط، وهزيمة العساكر، وقوة الفرنج بما صار إليهم من الأموال والأزواد والأسلحة، والحصن الجليل الذي لا يقدر على أخذه بقوة، مع شدة مرض السلطان، وعدم حركته.
وعندما وصلت العساكر إلى أشموم طناح، ومعهم أهل دمياط، اشتد حنق السلطان على الكنانيين، وأمر بشنقهم، فقالوا: وما ذنبنا إذا كانت عساكره جميعهم وأمراؤه هربوا، وأحرقوا الزردخاناه، فأي شيء لعمل نحن؟ فشنقوا لكونهم خرجوا من المدينة بغير إذن، حتى تسلمها الفرنج، فكانت عدة من شنق زيادة على خمسين أميراً من الكنانيين. وكان فيهم أمير حشيم، وله ابن جميل الصورة. فقال أبوه: بالله اشنقوني قبل ابني. فقال السلطان: لا بل اشنقوه قبل أبيه. فشنق الابن، ثم شنق الأب من بعده، بعد أن استفتى السلطان الفقهاء فأفتوا بقتلهم.
وتغير السلطان على الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ، وقال: أما قدرتم تقفون ساعة بين يدي الفرنج. هذا وما قتل منكم إلا هذا الضيف الشيخ نجم الدين. وكان الوقت لا يسع إلا الصبر والتغاضي، وقامت الشناعة من كل أحد على الأمير فخر الدين، فخاف كثير من الأمراء وغيرهم سطوة السلطان، وهموا بقتله، فأشار عليهم فخر الدين بالصبر، حتى يتبين أمر السلطان: فإنه على خطة، وإن مات كانت الراحة منه، وإلا فهو بين أيديكم.
ولما وقع ما ذكر السلطان بالرحيل إلى المنصورة، وحمل في حراقة حتى أنزل بقصر المنصورة على بحر النيل في يوم الثلاثاء لخمس بقين من صفر، فشرع كل أحد من العسكر في تجديد الأبنية للسكنى بالمنصورة، ونصبت بالأسواق، وأبراج السور الذي على البحر وستر بالستائر. وقدمت الشواني المصرية بالعدد الكاملة والرجالة، وجاءت الغزاة والرجال من عوام الناس الذين يريدون الجهاد، من كل النواحي، ووصلت عربان كثيرة جداً، وأخذوا في الغارة على الفرنج ومناوشتهم. وحصن الفرنج أسوار دمياط، وشحنوها بالمقاتلة.
فلما كان يوم الاثنين سلخ شهر ربيع الأول: وصل إلى القاهرة من أسرى الفرنج الذين تخطفهم العرب ستة وثلاثون أسيراً، منهم فارسان، وفي خامس شهر ربيع الآخر وصل سبعة وثلاثون أسيراً، وفي سابعه وصل اثنان وعشرون أسيراً، وفي سادس عشره وصل خمسة وأربعون أسيراً، منهم ثلاثة من الخيالة. ولما بلغ أهل دمشق أخذ الفرنج لمدينة دمياط ساروا منها، وأخذوا صيداء من الفرنج، بعد حصار وقتال فورد الخبر بذلك لخمس بقين من شهر ربيع الآخر، فسر الناس بذلك.
هذا والأسرى من الفرنج تصل في كل قليل إلى القاهرة، ووصل في ثامن عشر جمادى الأولى خمسون أسيراً. ومع ذلك والمرض يتزايد بالسلطان، وقواه خط، حتى وقع بأمر الأطباء من برئه وعافيته، لاجتماع مرضين عظيمين، هما الجراحة الناصورية في مأبضه والسل.
وأما الناصر داود صاحب الكرك فإنه لما ضاقت به الأمور استخلف ابنه الملك المعظم شرف الدين عيسى، وأخذ معه جواهره، وسار في البر إلى حلب مستجيراً بالملك الناصر يوسف بن الملك العزيز فأنزله وأكرمه وسير الناصر بجواهره إلى الخليفة المستعصم بالله، لتكون عنده وديعة، فقبض الخليفة ذلك، وسير إليه الخط بقبضه وأراد الناصر بذلك أن يكون الجوهر في مأمن، فإذا احتاج إليه طلبه، وكانت قيمته ما ينيف على مائة ألف دينار. فحنق ولدا الناصر - وهما الملك الظاهر شادي والملك الأمجد حسن - على أبيهما، لكونه قدم عليهما المعظم، وقبضا على المعظم، واستوليا على الكرك وأقام الملك - الظاهر شادي وهو أسن اخوته - بالكرك وسار الملك الأمجد حسن إلى الملك الصالح نجم الدين، فوصل إلى العسكر بالمنصورة، يوم السبت لتسع مضين من جمادى الآخرة، وبشره بأنه هو وأخوه الظاهر أخذا الكرك له، وسأله في خبز بديار مصر يقوم بهما. فأكرمه السلطان، وأعطاه مالاً كثيراً، وسير الطواشي بدر الدين الصوابي إلى الكرك نائباً بها وبالشوبك، فتسلمها بدر الدين، وسير أولاد الناصر داود جميعهم، وأخويه الملك القاهر عبد الملك، والملك المغيث عبد العزيز، ونساءهم وعيالاتهم كلها. إلى المعسكر بالمنصورة، فأقطعهم السلطان إقطاعاً جليلاً، ورتب لهم الرواتب، وأنزل أولاد الناصر في الجانب الغربي قبالة المنصورة.(1/110)
وكان استيلاء نائب السلطان على الكرك يوم الاثنين، لاثنتي عشرة بقيت من جمادى الآخرة، وسر السلطان بأخذ الكرك سروراً عظيماً، وأمر فزينت القاهرة ومصر، وضربت البشائر بالقلعتين، وجهز السلطان إلى الكرك ألف ألف دينار مصرية، وجواهر وذخائر وأسلحة، وشيئاً كثيراً مما يعز عليه.
وفي ثالث عشر شهر رجب: وصل إلى القاهرة سبعة وأربعون أميراً من الفرنج، وأحد عشر فارساً منهم، وظفر المسلمون بعد أيام بمسطح للفرنج في البحر، فيه مقاتلة، بالقرب من نستراوة.
فلما كان ليلة الاثنين نصف شعبان: مات السلطان الملك الصالح بالمنصورة، وهو في مقابلة الفرنج، عن أربع وأربعين سنة، بعدما عهد لولده الملك المعظم تورانشاه، وحلف له فخر الدين بن الشيخ ومحسن الطواشي، ومن يثق به، وبعدما علم قبل موته عشرة آلاف علامة. يستعان بها في المكاتبات على كتمان موته، حتى يقدم ابنه تورانشاه من حصن كيفا وكانت أم السلطان الملك الصالح أم ولد، اسمها ورد المنى. وكانت مدة ملكه بمصر عشر سنين إلا خمسين يوماً، فغسله أحد الحكماء الذين تولوا علاجه، لكي يخفى موته. وحمل في تابوت إلى قلعة الروضة، وأخفى موته، فلم يشتهر إلى ثاني عشري رمضان، ثم نقل بعد ذلك بمدة إلى تربته بجوار المدارس الصالحية بالقاهرة.
والملك الصالح هو الذي أنشأ المماليك البحرية بديار مصر: وذلك أنه لما مر به ما تقدم ذكره، في الليلة التي زال عنه ملكه، بتفرق الأكراد وغيرهم من العسكر عنه حتى لم يثبت معه سوى مماليكه، رعي لهم ذلك. فلما استولى على مملكة مصر أكثر من شراء المماليك وجعلهم معظم عسكره، وقبض على الأمراء الذين كانوا عند أبيه وأخيه، واعتقلهم وقطع أخبازهم، وأعطى مماليكه الإمريات، فصاروا بطانته والمحيطين بدهليزه، وسماهم بالبحرية لسكناهم معه في قلعة الروضة على بحر النيل.
وكان ملكا شجاعاً حازماً مهيباً، لشدة سطوته وفخامة، مع عزة النفس وعلو الهمة، وكثرة الحياء والعفة وطهارة الفيل عن الخنا، وصيانة اللسان من الفحش في القول، والإعراض عن الهزل والعبث بالكلية، وشدة الوقار ولزوم الصمت، حتى أنه كان إذا خرج من عند حرمه إلى مماليكه، أخذتهم الرعدة عندما يشاهدونه - خوفاً منه - ولا يبقى أحد منهم مع أحد. وكان إذا جلس مع ندمائه كان صامتاً، لا يستفزه الطرب ولا يتحرك، وجلساؤه كأنما على رءوسهم الطير. وإذا تكلم مع أحد من خواصه، كان ما يقوله كلمات نزرة وهو في غاية الوقار، وتلك الكلمات لا تكون إلا في مهم عظيم، من استشارة أو تقدم بأمر من الأمور المهمة، لا يعدو حديثه قط هذا النحو، ولا يجسر أحد يتكلم بين يديه إلا جواباً. وما عرف أبداً عن أحد من خواصه أن تكلم في مجلسه ابتداء البتة، ولا أنه جسر على شفاعة ولا مشورة ولا ذكر نصيحة، ما لم يكن ذلك بابتداء من السلطان، فإذا انفرد بنفسه لا يدنو منه أحد. وكانت القصص ترد إليه مع الخدام فيوقع عليها، ويخرج بها الخدام إلى كاتب الإنشاء، ولا يستقل أحد من أرباب الدولة بانفراد بأمر، بل يراجع القصص مع الخدام. ومع هذه الشهامة والمهابة لا يرفع بصره إلى من يحادثه، حياء منه وخفراً، ولم يسمع منه قط في حق أحد من خدمه لفظة فحش، وأكثر ما يقول إذا شتم أحداً: متخلف، ولا يزيد على هذه الكلمة، ولا عرف قط من النكاح سوى زوجته وجواريه.
وكانت البلاد في أيامه آمنة مطمئنة والطرق سابلة، إلا أنه كان عظيم الكبر زائد الترفع بلغ من كبره وترفعه أن ابنه الملك المغيث عمر، لما حبسه الملك الصالح إسماعيل عنده، لم يسأله فيه ولا طلبه منه، حتى مات في حبسه. وكان يحب جمع المال، بحيث أنه عاقب عليه أم أخيه الملك العادل، إلى أن أخذ منها مالاً عظيماً وجواهر نفيسة.
وقيل السلطان الملك الصالح أيوب أخاه الملك العادل، ومن حين قتله ما انتفع بالحياة لا تهنى بها: فنزل به المرض، وطرقه الفرنج، وقبض على جميع أمراء الدولة، وأخذ أموالهم وذخائرهم. ومات في حبوسه ما ينيف على خمسة آلاف نفس، سوى من قتل غرق من الأشرفية في البحر ولم يكن له مع ذلك ميل إلى العلم ولا مطالعة الكتب، إلا أنه كان يجري على أهل العلم والصلاح المعاليم والجرايات، من غير أن يخالطهم. لم يخالط غيرهم. لمحبته في العزلة ورغبته في الانفراد، وملازمته للصمت ومداومته على الوقار والسكون.(1/111)
وكان يحب العمارة ويباشر الأبنية بنفسه، وعمر بمصر ما لم يعمره أحد من ملوك بني أيوب: فأنشأ قلعة الروضة تجاه مدينة فسطاط مصر، وأنفق فيها أموالاً جمة، وهدم كنيسة كانت هناك لليعاقبة من النصارى، وأسكن بهذه القلعة ألف مملوك من الترك - وقيل ثمانمائة - سماهم البحرية وكان الماء حينئذ لا يحيط بها. فلم يزل يغرق السفن، ويرمي الحجارة فيما بين الجيزة والروضة، إلى أن صار الماء في طول السنة محيطاً الروضة وأقام جسراً من مصر إلى الروضة، يمر عليه الأمراء. وغيرهم إذا جاءوا إلى الخدمة، و لم يكن أحد يمر على هذا الجسر راكباً، احتراماً للسلطان فجاءت هذه القلعة من أجل مباني الملوك وبني أيضاً على النيل بناحية اللوق قصوراً بلغت الغاية في الحسن، جعلها إلى جانب ميدانه الذي يلعب فيه بالكرة، وكان مغرم بلعبها وبني قصراً عظيماً فيما بين القاهرة ومصر، سماه الكبش، على الجبل بجوار جامع ابن طولون. وبني قصراً بالقرب من العلاقمة في أرض السانح، وجعل حوله مدينة سماها الصالحية، فيها جامع وسوق، لتكون مركزاً للعساكر بأول الرمل الذي بين الشام ومصر.
وكان له من الأولاد الملك المغيث فتح الدين عمر، وهو أكبر أولاده، مات في سجن قلعة دمشق، والملك المعظم غياث الدين تورانشاه، وملك مصر بعده، والملك القاهر، ومات في حياته أيضاً وولد له أيضاً من شجر الدر ولد سماه خليلاً، مات صغيراً.
ولما طال مرضه من الجراحة الناصورية - وفسد مخرجه، وامتد الجرح إلى فخذه اليمين، وأكل جسمه - اجتهد في مداواتها، وحدث له مرض السل من غير أن يفطن به. فورد كتابه إلى الأمير حسام الدين بن أبي علي بالقاهرة: إن الجراحة قد صلحت وجفت رطوباتها، ولم يبق إلا ركوبي ولعبي بالصولجة، فتأخذ حظك من هذه البشرى. وفي الحقيقة لم تجف الجراحة إلا لفراغ المواد، وتزايد عليه بعد ذلك المرض حتى مات.
وقيل إنه لم يعهد إلى أحد بالملك، بل قال للأمير حسام الدين بن أبي علي: إذا مت لا تسلم البلاد إلا للخليفة المستعصم بالله، ليرى فيها رأيه، فإنه كان يعرف ما في ولده المعظم تورانشاه من الهوج فلما مات السلطان أحضرت زوجته شجر الدر الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ، والطواشي جمال الدين محسن - وكان أقرب الناس إلى السلطان، وإليه القيام بأمر مماليكه وحاشيته - وأعلمتهما بموت السلطان، ووصتهما بكتمان موته، خوفاً من الفرنج. وكان الأمير فخر الدين عاقلاً مدبراً، خليقاً بالملك، جواداً محبوباً إلى الناس، فاتفقا مع شجر الدر على القيام بتدبر المملكة، إلى أن يقدم الملك المعظم تورانشاه، فأحضرت شجر الدر الأمراء الذين بالمعسكر، وقالت لهم: إن السلطان قد رسم بأن تحلفوا له، ولابنه الملك المعظم غياث الدين تورانشاه صاحب حصن كيفا أن يكون سلطاناً بعده، وللأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ بالتقدمة على العساكر والقيام بالأتابكية وتدبير المملكة، فقالوا كلهم سمعاً وطاعة، ظناً أن السلطان حي، وحلفوا بأسرهم، وحلفوا سائر الأجناد والمماليك السلطانية.
وكتب على لسان السلطان إلى الأمير حسام الدين بن أبي علي الهذباني بالقاهرة، أن يحلف أكابر الدولة وأجنادها بالقاهرة، فحضر إلى دار الوزارة قاضي القضاء بدر الدين يوسف بن الحسن قاضي سنجار، والقاضي بهاء الدين زهير بن محمد كاتب الإنشاء - وكان الملك الصالح قد أبعده لأمر نقمه عليه - وحلفا من حضر من الأعيان على ما تقدم ذكره، وكان ذلك في يوم الخميس ثامن عشر شعبان. واستدعى القاضي بهاء الدين زهير من القاهرة إلى المعسكر بالمنصورة.
وقام الأمير فخر الدين بتدبير المملكة، واقطع البلاد بمناشيره، وأعاد إليها زهيراً إلى منصبه فكانت الكتب ترد من المعسكر وعليها علامة السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب، فقيل إنها كانت بخط خادم يقال له سهيل، ولا يشك من رآه أنه خط السلطان ومشى هذا على الأمير حسام الدين نائب السلطة محق، إلى أن أوقفه بعض أصحابه على اضطراب في العلامة، يخالف علامة السلطان ففحص عن خبر السلطان من بعض خواصه الذين بالمعسكر حتى عرف موته، فاشتد خوفه من الأمير فخر الدين، وخشي أن يتغلب على الملك، فاحتاط لنفسه.(1/112)
وأخذ الأمير فخر الدين يطلق المسجونين، ويتصرف في إطلاق الأموال والخلع علم خواص الأمراء، وأطلق السكر والكتان إلى الشام فعلم الناس بموت السلطان من حينئذ غير أن أحداً لا يجسر أن يتفوه به.
وسار من المعسكر الفارس أقطاي، وهو يومئذ رأس المماليك البحرية، لإحضار الملك المعظم من حصن كيفا، وبعث الأمير حسام الدين محمد بن أبي علي، نائب السلطنة بالقاهرة، من عنده قاصداً من قبله أيضاً. فلما كان يوم الاثنين لثمان بقين من شعبان، أمر الأمير حسام الدين الخطباء بأن يدعوا يوم الجمعة للملك المعظم، بعد الدعاء لأبيه، وأن ينقش اسمه على السكة، بعد اسم أبيه وتوهم الأمير حسام الدين من الأمير فخر الدين أن يقيم الملك المغيث عمر بن العادل أبي بكر بن الكامل، ويستولي على الأمر، فنقله من عند عمات أبيه بنات الملك العادل أبي بكر بن أيوب، من القاهرة إلى قلعة الجبل، ووكل به من يحتاط عليه، ولا يسلمه لأحد.
هذا والمكاتبات ترد من الأمير فخر الدين، وعنوانها من فخر الدين الخادم يوسف فيجيب عنها الأمير حسام الدين، ويجعل العنوان المملوك أبو علي، فيتجاملان في ظاهر الأمر، وأما في الباطن فإن الأمير فخر الدين أخذ في الاستبداد والاستقلال بالمملكة، واختص بالصاحب جمال بن مطروح، وبالقاضي بهاء الدين زهيرة وصار يركب في موكب عظيم، وجميع الأمراء في خدمته، ويترجلون له عند النزول ويحضرون سماطه.
ووصل قاصد الأمير حسام الدين إلى حصن كيفا، وطالع الملك المعظم بأن المصلحة في السرعة، ومتى تأخر فات الفوت، وتغلب الأمير فخر الدين على البلاد، ثم وصل إليه بعد ذلك قصاد فخر الدين وشجر الدر. فخرج المعظم من حصن كيفا ليلة السبت لإحدى عشرة ليلة مضت من شهر رمضان في خمسين فارساً من إلزامه. وقص عانه ليعدي الفرات، وقد أقام له بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل جماعة، وأقام له الحلبيون أيضاً جماعة، يقبضون عليه فنجاه الله منهم وعدى الفرات من عانة، وسلك البرية، فخاطر بنفسه وكاد يهلك من العطش.
هذا وشجر الدر تدبر الأمور حتى لم يتغير شيء، وصار الدهليز السلطاني على حاله، والسماط في كل يوم يمد، والأمراء تحضر الخدمة، وهي تقول: السلطان مريض، ما يصل إليه أحد.
وأما الفرنج فما هم إلا أن فهموا أن السلطان قد مات حتى خرجوا من دمياط، فارسهم وراجلهم، ونزلوا على فارسكور، وشوانيهم في بحر النيل تحاذيهم، ورحلوا من فارسكور يوم الخميس لخمس بقين من شعبان فورد في يوم الجمعة إلى القاهرة من المعسكر كتاب، فيه حض الناس على الجهاد، أوله: " انفروا خفافاً وثقالاً، وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون " ، وكان كتابا بليغاً فيه مواعظ جمة، فقرئ على الناس فوق منبر جامع القاهرة وحصل عند قراءته من البكاء والنحيب وارتفاع الأصوات بالضجيج ما لا يوصف. وارتجت القاهرة ومصر، لكثرة انزعاج الناس وحركتهم للمسير، فخرج من البلاد والنواحي لجهاد الفرنج عالم عظيم، وقد اشتد كرب الخلائق من تمكن الفرنج وقوتهم وأخذهم البلاد، مع موت السلطان.
فلما كان يوم الثلاثاء أول يوم من شهر رمضان: واقع الفرنج المسلمين، فاستشهد العلامي أمير مجلس، وجماعة من الأجناد، وقتل من الفرنج عدة ونزل الفرنج بشارمساح.
وفي يوم الاثنين سابعه: نزلوا البرمون، فاشتد الكرب وعظم الخطب، لدنوهم وقربهم من المعسكر. وفي يوم الأحد ثالث عشره وصلوا إلى طرف بر دمياط، ونزلوا تجاه المنصورة، وصار بينهم وبين المسلمين بحر أشموم. وكان معظم عسكر المسلمين في المنصورة بالبر الشرقي، وفي البر الغربي أولاد الملك الناصر داود صاحب الكرك: وهم الملك الأمجد، والملك الناصر، والملك المعظم، والملك الأوحد، وفي عدة من العسكر وكان أولاد الملك الناصر داود، الأكابر منهم والأصاغر الذين قدموا القاهرة، اثني عشر ولداً ذكراً. وكان بالبر الغربي أيضاً أخو الملك الناصر داود: وهما الملك القاهر عبد الملك، والملك المغيث عبد العزيز، فاستقر الفرنج بمنزلتهم هذه، وخندقوا عليهم خندقاً، وأداروا أسواراً وستروه بالستائر، ونصبوا المجانيق ليرموا بها على معسكر المسلمين، ونزلت شوانيهم بازائهم في بحر النيل، ووقفت شواني المسلمين بازاء المنصورة، ووقع القتال بين الفريقين براً وبحراً.(1/113)
وفي يوم الأربعاء سادس عشره: قفز إلى عند المسلمين ستة خيالة، وأخبروا بضائقة الفرنج.
وفي يوم عيد الفطر: أسر كند كبير من الفرنج، له قرابة من الملك ريدافرنس. واستمر القتال، وما من يوم إلا ويقتل من الفرنج ويؤسر، وقد لقوا من عامة المسلمين وسوالهم نكاية عظيمة، وتخطفوا منهم وقتلوا كثيراً وكانوا إذا شعروا بالفرنج ألقوا أنفسهم في الماء، وسبحوا إلى أن يصيروا في بر المسلمين. وكانوا يتحيلون في خطفهم بكل حيلة حتى أن شخصاً أخذ بطيخة أدخل فيها رأسه، وغطس في الماء إلى أن قرب من الفرنج فظنوه بطيخة، فما هو إلا أن نزل أحدهم في الماء ليتناولها إذ اختطفه المسلم، وعام به حتى قدم به إلى المسلمين.
وفي يوم الأربعاء سابع شوال: أخذ المسلمون شينيا، فيه نحو مائتي رجل من الفرنج وكند كبير.
وفي يوم الخميس النصف منه: ركب الفرنج والمسلمون، فدخل المسلمون إليهم البر الذي هم فيه، وقاتلوهم قتالاً شديداً، قتل فيه من الفرنج أربعون فارساً، وقتلت خيولهم.
وفي يوم الجمعة تاليه: وصل القاهرة سبعة وستون أسير من الفرنج، منهم ثلاثة من أكابر الداوية.
وفي يوم الخميس ثاني عشريه: أحرقت للفرنج مرمة عظيمة في البحر، واستظهر عليهم استظهاراً عظيماً.
وما زال الأمر على ذلك إلى أن كان يوم الثلاثاء خامس ذي القعدة، دل بعض منافقي أهل الإسلام الفرنج على مخاض في بحر أشمون، فلم يشعر الناس إلا والفرنج معهم في المعسكر، وكان الأمير فخر الدين في الحمام، فأتاه الصريخ بأن الفرنج قد هجموا على العسكر، فخرج مدهوشاً وركب فرسه في غير اعتداد ولا تحفظ، وساق لينظر الخبر ويأمر الناس بالركوب، وليس معه سوى بعض مماليكه وأجناده فلقيه طلب الفرنج الحاوية وحملوا عليه، ففر من كان معه وتركوه وهو يدافع عن نفسه، فطعنه واحد برمح في جنبه، واعتورته السيوف من كل ناحية. فمات رحمه الله ونزل الفرنج على جديلة، وكانوا ألفاً وأربعمائة فارس ومقدمهم أخو الملك ريدافرنس.
وما هو إلا أن قتل الأمير فخر الدين، وإذا بالفرنج اقتحموا على المنصورة فتفرق الناس وانهزموا يميناً وشمالاً، وكانت الكسرة أن تكون، فإن الملك ريدافرنس وصل بنفسه إلى باب قصر السلطان إلا أن الله تدارك بلطفه، وأخرج إلى الفرنج الطائفة التركية، التي تعرف بالبحرية والجمدارية، وفيهم ركن الدين بيبرس البندقداري الذي تسلطن بعد هذه الأيام فحملوا على الفرنج حملة زعزعوهم بها، وأزاحوهم عن باب القصر فلما ولوا أخذتهم السيوف والدبابيس، حتى قتل منهم في هذه النوبة نحو ألف وخمسمائة من أعيانهم وشجعانهم. وكانت رجالة الفرنج قد أتوا الجسر ليعدوا منه، فلولا لطف الله لكان الأمر يتم لهم بتعديتهم الجسر. وكانت المعركة بين أزقة المنصورة، فانهزموا إلى جديلة منزلتهم، وقد حال بين الفريقين الليل، وأداروا عليهم سوراً وخندقوا خندقاً. وصارت منهم طائفة في البر الشرقي، ومعظمهم في الجزيرة المتصلة بدمياط فكانت هذه الواقعة أول ابتداء النصر على الفرنج.
وعندما هجم الفرنج على المعسكر سرح الطائر بذلك إلى القاهرة، فانزعج الناس انزعاجاً عظيماً، وقدم المنهزمون من السوقة والعسكر، فلم تغلق أبواب القاهرة في ليلة الأربعاء لتوارد المنهزمين.
وفي صبيحة يوم الأربعاء: وقعت البطاقة تبشر بالنصرة على الفرنج، فزينت القاهرة وضربت البشائر بقلعة الجبل، وكثر فرح الناس وسرورهم وبقي العسكر يدبر أمره شجر الدر، فكانت مدة تدبير الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ، بعد موت الملك الصالح لمملكة مصر خمسة وسبعين يوماً، وفي يوم قتله نهب مماليكه وبعض الأمراء داره، وكسروا صناديقه وخزائنه، وأخذوا أمواله وخيوله وأحرقوا داره.
السلطان الملك المعظم غياث الدين تورانشاه
ابن الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي ابن مروان، سار من حصن كيفا إلى دمشق، لإحدى عشرة ليلة مضت من شهر رمضان، فنزل عانة في خمسين فارساً من أصحابه، يوم الخميس النصف من شهر رمضان سنة سبع وأربعين، وخرج منها يوم الأحد يريد دمشق على طريق السماوة في البرية فنزل القصير في دهليز ضربه له الأمير جمال الدين موسى بن يغمور نائب دمشق يوم الجمعة لليلتين بقيتا من شهر رمضان.(1/114)
ودخل المعظم تورانشاه من الغد - وهو يوم السبت سلخه - إلى دمشق، ونزل بقلعتها، فكان يوماً مشهوداً وقام الأمير جمال الدين بخدمته، وحلف له الأمراء، وتسلطن في يومئذ. وخلع المعظم على الأمراء وأعطاهم أموالاً جزيلة، بحيث أنه أنفق ما كان في قلعة دمشق، وهو ثلاثمائة ألف دينار. واستدعى من الكرك مالاً آخر حتى أنفقه، وأفرج عمن كان بدمشق في حبس أبيه، وأتته الرسل من حماة وحلب تهنئه بالقدوم.
ولأربع مضين من شوال: سقطت البطائق إلى العسكر والقاهرة، بوصول الملك المعظم إلى دمشق وسلطته بها فضربت البشائر بالمعسكر وبالقاهرة.
وسار السلطان من دمشق يوم الأربعاء سابع عشريه يريد مصر، بعدما خلع علي الأمير جمال الدين، وأقره على نيابة السلطة بدمشق. وقدم معه القاضي الأسعد شرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزي، وكان مقيماً بدمشق عند الأمير جمال الدين. وقدم معه أيضاً هبة الله بن أبي الزهر بن حشيش الكاتب النصراني وقد وعده السلطان بوزارة مصر، فأسلم وتلقب بالقاضي معين الدين. وسيره السلطان أول يوم من ذي القعدة إلى قلعة الكرك ليحتاط على خزائنها، فأنهى أشغاله بها ولحقه في الرمل، وأسلم على يده هناك.
وعندما تواترت الأخبار في القاهرة بقدوم السلطان، خرج قاضي القضاة بدر الدين السنجاري، فلقيه بغزة وقدم معه وخرج الأمير حسام الدين بن أبي علي نائب السلطان إلى الصالحية، فلقيه بها يوم السبت لأربع عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة، ونزل السلطان المعظم تورانشاه في قصر أبيه، ومنه يومئذ أعلن بموت الملك الصالح نجم الدين أيوب ولم يكن أحد قبل هذا اليوم ينطق بموته، بل كانت الأمور على حالها - والدهليز الصالحي والسماط ومجيء الأمراء للخدمة، على ما كان عليه الحال في أيام حياته، وشجر الدر تدبر أمور الدولة كلها، وتقول: السلطان مريض، ما إليه وصول - فلم يتغير عليها شيء، إلى أن استقر الملك المعظم بالصالحية.
فتسلم السلطان المعظم مملكة مصر، وخلع على الأمير حسام الدين بن أبي علي خلعة سنية، ومنطقة وسيفا فيهما ثلاثة آلاف دينار مصرية، وأنشده الشعراء عدة تهاني، وجرت بين يديه مباحثات ومناظرات في أنواع من العلوم وكان السلطان المعظم قد مهر في العلوم، وعرف الخلاف والفقه والأصول، وكان جده الملك الكامل يحبه لميله إلى العلم، ويلقي عليه من صغره المسائل المشكلة، ويأمره بعرضها وامتحان الفقهاء بها في مجلسه. ولازم المعظم الاشتغال إلى أن برع، إلا أنه فيه هوج وخفة، مع غرامه بمجالسة أهل العلم من الفقهاء والشعراء.
ثم إنه رحل من الصالحية ونزل تلبانة، ثم نزل بعدها منزلة ثالثة، وسار منها إلى المنصورة. وقد تلقاه الأمراء المماليك، فنزل في قصر أبيه وجده يوم الخميس لتسع بقين من ذي القعدة. فأول ما بدأ أن أخذ مماليك الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ الصغار، وكثيراً من مخلفه، بدون القيمة، ولم يعط ورثته شيئاً، وكان ذلك بنحو الخمسة عشرة ألف دينار. وأخذ يسب فخر الدين ويقول: أطلق السكر والكتان، وأنفق المال وأطلق المحابيس إيش ترك لي.
وكانت الميرة ترد إلى الفرنج في منزلتهم من دمياط في بحر النيل، فصنع المسلمون عدة مراكب، وحملوها وهي مفصلة على الجمال إلى بحر المحلة، وطرحوها فيه وشحنوها بالمقاتلة، وكانت أيام زيادة النيل، فلما جاءت مراكب الفرنج لبحر المحلة، وهذه المراكب مكمنة فيه، خرجت عليها بغتة وقاتلتها وللحال قدم أسطول المسلمين من جهة المنصورة، فأخذت مراكب الفرنج أخذاً وبيلاً، وكانت اثنتين وخمسين مركباً، وقتل منها وأسر نحو ألف إفرنجي، وغنم سائر ما فيها من الأزواد والأقوات، وحملت الأسرى على الجمال إلى العسكر. فانقطع المدد من دمياط عن الفرنج، ووقع الغلاء عندهم، وصاروا محصورين لا يطيقون المقام ولا يقدرون على الذهاب، واستضرى المسلمون عليهم وطمعوا فيهم.(1/115)
وفي أول ذي الحجة: أخذ الفرنج من المراكب التي في بحر المحلة سبع حراريق، ونجا من كان فيها من المسلمين. وفي ثاني ذي الحجة تقدم أمر السلطان إلى الأمير حسام الدين بن أبي علي بالسير إلى القاهرة، والإقامة بدار الوزارة على عادته في نيابة السلطة. وفيه وصل إلى السلطان جماعة من الفقهاء: منهم الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وبهاء الدين بن الجميزي، الشريف عماد الدين، والقاضي عماد الدين القاسم ابن إبراهيم بن هبة الله بن إسماعيل بن نبهان بن محمد بن المقنشع الحموي - قاضي مصر، وكان قد ولي القضاء بعد موت الجمال يحيى، في جمادى الأولى - ، وسراج الدين الأرموي فجلس السلطان المعظم معهم وناظرهم.
وفي يوم عرفة: وصلت مراكب فيها الميرة للفرنج، فالتقت بها شواني المسلمين عند مسجد النصر، فأخذت شواني المسلمين منها اثنتين وثلاثين مركباً، منها تسع شواني. فاشتد الغلاء عند الفرنج، وشرعوا في مراسلة السلطان يطلبون منه الهدنة، فاجتمع برسلهم الأمير زين الدين أمير جاندار، وقاضي القضاة بدر الدين السنجاري، فسألوا أن يسلموا دمياط، ويأخذوا عوضاً عنها مدينة القدس وبعض الساحل، فلم يجابوا إلى ذلك.
وفي يوم الجمعة، لثلاث بقين من ذي الحجة: أحرق الفرنج ما عندهم من الخشب، وأتلفوا مراكبهم ليفروا إلى دمياط، وخرجت السنة وهم في منزلتهم.
وفي هذه السنة: قدم إلى بغداد طائفة من التتر على حين غفلة، فقتلوا ونهبوا وجفل منهم الناس.
وفيها استولى علي بن قتادة على مكة، في ذي القعدة.
وفيها قتل الشريف شيخة أمير المدينة النبوية، وقام من بعده ابنه عيسى.
وفيها قتل المنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول صاحب اليمن، وملك بعده ابنه المنصور شمس الدين يوسف.
وفيها مات متملك تونس أبو زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص، في آخر جمادى الآخرة، عن تسع وأربعين سنة. وكان أبو زكريا يحيى قد قام وملك تونس، واستبد بأمرها ودعا لنفسه، وقد ضعف أمر ملوك الموحدين من بني عبد المؤمن بن علي. فأقام أبو زكريا يحيى على مملكة إفريقية ثلاثاً وعشرين سنة، وامتدت مملكته إلى تلمسان وسجلمامة وسبته، وبايعه أهل إشبيلية وشاطبة والمرية ومالقة وغرناطة، وخلف مالاً جماً، فبويع بعده ابنه محمد المستنصر. وأبو زكريا هذا هو أول من ملك تونس من الملوك الحفصيين، وأما من كان قبله منهم فإنما كانوا عمالاً لبني عبد المؤمن.
وفيها قبض الشريف أبو سعد بن علي بن قتادة على الأمير أحمد بن محمد بن المسيب بمكة في آخر شوال، كما تقدم في السنة الخالية، وقام هو بإمرة مكة.
سنة ثمان وأربعين وستمائة
في ليلة الأربعاء ثالث المحرم: رحل الفرنج بأسرهم من منزلتهم يريدون مدينة دمياط، وانحدرت مراكبهم في البحر قبالتهم. فركب المسلمون أقفيتهم، بعد أن عدوا برهم واتبعوهم. فطلع صباح نهار يوم الأربعاء وقد أحاط بهم المسلمون، وبلوا فيهم سيوفهم، واستولوا عليهم قتلاً وأسراً، وكان معظم الحرب في فارسكور، فبلغت عدة القتلى عشرة آلاف في قول المقل، وثلاثين ألفاً في قول المكثر. وأسر من خيالة الفرنج ورجالتهم المقاتلة، وصناعهم وسوقتهم، ما يناهز مائة ألف إنسان، وغنم المسلمون من الخيل والبغال والأموال ما لا يحصى كثرة، واستشهد من المسلمين نحو مائة رجل، وأبلت الطائفة البحرية - لاسيما بيبرس البندقداري - في هذه النوبة بلاء حسناً، وبان لهم أثر جميل.
والتجأ الملك ريدافرنس - وعدة من أكابر قومه - إلى تل المنية، وطلبوا الأمان فأمنهم الطواشي جمال الدين محسن الصالحي، ونزلوا على أمانه. وأخذوا إلى المنصورة، فقيد الملك ريدافرنس بقيد من حديد واعتقل في دار القاضي فخر الدين إبراهيم ابن لقمان كاتب الإنشاء، التي كان ينزل بها من المنصورة ووكل بحفظه الطواشي صبيح المعظمي واعتقل معه أخوه، وأجرى عليه راتب في كل يوم. وتقدم أمر الملك المعظم لسيف الدين يوسف بن الطودي - أحد من وصل معه من بلاد الشرق - بقتل الأسرى من الفرنج، وكان سيف الدين يخرج كل ليلة منهم ما بين الثلاثمائة والأربعمائة ويضرب أعناقهم ويرميهم في البحر، حتى فنوا بأجمعهم.(1/116)
ورحل السلطان من المنصورة، ونزل بفارسكور وضرب بها الدهليز السلطاني، وعمل فيه برجاً من خشب، وأقام على لهوه. وكتب إلى الأمير جمال الدين بن يغمور نائب دمشق كتاباً بخطه نصه: من ولده تورانشاه الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، " وما النصر إلا من عند الله " ، " ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله " ، " وأما بنعمة ربك فحدث " ، " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " ، نبشر المجلس السامي الجمالي، بل نبشر المسلمين كافة، بما من الله به على المسلمين من الظفر بعدو الدين، فإنه استفحل أمره واستحكم شره، ويئس العباد من البلاد والأهل والأولاد، فنودوا لا تيأسوا من روح الله. ولما كان يوم الاثنين مستهل السنة المباركة، تمم الله على الإسلام بركتها، فتحنا الخزائن وبذلنا الأموال وفرقنا السلاح، وجمعنا العربان والمطوعة وخلقاً لا يعلمهم إلا الله، فجاءوا من كل فج عميق ومكان سحيق. فلما كان ليلة الأربعاء تركوا خيامهم وأموالهم وأثقالهم، وقصدوا دمياط هاربين. وما زال السيف يعمل في أدبارهم عامة الليل، فيوحل بهم الخزي والويل. فلما أصبحنا يوم الأربعاء، قتلنا منهم ثلاثين ألفاً، غير من ألقى نفسه في اللجج، وأما الأسرى فحدث عن البحر ولا حرج. والتجأ الفرنسيس إلى المنية، وطلب الأمان فأمناه وأخذناه وأكرمناه، وتسلمنا دمياط بعون الله وقوته، وجلاله وعظمته، وذكر كلاماً طويلاً. وبعث المعظم مع الكتاب غفارة الملك الفرنسيس، فلبسها الأمير جمال الدين بن يغمور وهي أشكرلاط أحمر بفرو سنجاب، فيها بكلة ذهب فقال الشيخ نجم الدين بن إسرائيل:
إن غفارة الفرنسيس التي ... جاءت جباء لسيد الأمراء
كبياض القرطاس لوناً ولكن ... صبغتها سيوفنا بالدماء
وقال آخر:
أسيد أملاك الزمن بأسرهم ... تنجزت من نصر الإله وعوده
فلا زال مولانا يبيح حمى العدى ... ويلبس أسلاب الملوك عبيده
وأخذ الملك المعظم في أبعاد رجال الدولة، فأخرج الملك المغيث فتح الدين عمر بن العادل أبي بكر بن الكامل من قلعة الجبل إلى الشوبك، واعتقله بها. وأخرج الملك السعيد فخر الدين حسن بن الملك العزيز عثمان بن العادل أبي بكر بن أيوب من مصر إلى دمشق، فلما وصل دمشق قبض عليه ابن يغمور واعتقله.
وفي يوم الجمعة لخمس من المحرم: ورد إلى القاهرة كتاب السلطان إلى الأمير حسام الدين أبي علي نائب السلطنة بالقدوم عليه، وأقام بدله في نيابة السلطة بالقاهرة الأمير جمال الدين أقوش النجيبي ووصل الأمير أبو علي إلى المعسكر، فنزل به مطرح الجانب، بعدما كان عدة الملك الصالح وعمدته، وبعث المعظم إلى شجر الدر يتهددها، ويطالبها بمال أبيه وما تحت يدها من الجواهر فداخلها منه خوف كثير، لما بدا منه الهوج والخفة، وكاتبت المماليك البحرية بما فعلته في حقه، من تمهيد الدولة وضبط الأمور حتى حضر وتسلم المملكة، وما جازاها به من التهديد والمطالبة بما ليس عندها. فأنفوا لها، وحنقوا من أفعال السلطان. وكان السلطان المعظم قد وعد الفارس أقطاي لما أتاه في حصن كيفا بأن يؤمره، فلم يف له بذلك، فتنكر له أقطاي وكتم الشر، فحرك كتاب شجر الدر منه ساكناً.
وانضاف إلى هذه الأمور، أن السلطان المعظم أعرض عن مماليك أبيه الذين كانوا عنده لمهماته، واطرح الأمراء والأكابر أهل الحل والعقد، وأبعد غلمان أبيه، واختص بجماعته الذين قدموا معه، وولاهم الوظائف السلطانية. وقدم الأراذل: وجعل الطواشي مسروراً - هو خادمه - أستادار السلطان، وأقام صبيحاً - وكان عبداً حبشياً فحلاً - أمير جاندار، وأنعم عليه بأموال كثيرة وإقطاعات جليلة، وأمر أن يصاغ له عصا من ذهب. وأساء السلطان إلى المماليك وتوعدهم، وصار إذا سكر في الليل جمع ما بين يديه من الشمع، وضرب رءوسها بالسيف حتى تتقطع، ويقول: هكذا أفعل بالبحرية،، ويسمى كل واحد منهم باسمه. واحتجب أكثر من أبيه، مع الانهماك على الفساد بمماليك أبيه، ولم يكونوا يألفون هذا الفعل من أبيه وكذلك فعل بحظايا أبيه.(1/117)
وصار مع هذا جميع الحل والعقد، والأمر والنهي لأصحابه الذين قدموا معه، فنفرت قلوب البحرية منه، واتفقوا على قتله، وما هو إلا أن مد السماط بعد نزوله بفارسكور، في يوم الاثنين سادس عشري المحرم، وجلس السلطان على عادته، تقدم إليه واحد من البحرية - وهو بيبرس البندقداري، الذي صار إليه ملك مصر - وضربه بالسيف: فتلقاه المعظم بيده فبانت أصابعه، والتجأ إلى البرج الخشب الذي نصب له بفارسكور وهو يصيح: من جرحني. قالوا: الحشيشة، فقال: لا والله إلا البحرية! والله لا أبقيت منهم بقية، واستدعى المزين ليداوي يده. فقال البحرية بعضهم لبعض: تمموه وإلا أبادكم، فدخلوا عليه بالسيوف. ففر المعظم إلى أعلى البرج وأغلق بابه، والدم يسيل من يده، فأضرموا النار في البرج، ورموه بالنشاب فألقى نفسه من البرج، وتعلق بأذيال الفارس أقطاي، واستجار به فلم يجره، وفر المعظم هارباً إلى البحر، وهو يقول: ما أريد ملكاً، دعوني أرجع إلى الحصن يا مسلمين ما فيكم من يصطعني ويجيرني، هذا وجميع العسكر واقفون، فلم يجبه أحد والنشاب يأخذه من كل ناحية. وسبحوا خلفه في الماء، وقطعوه بالسيوف قطعاً، حتى مات جريحاً حريقاً غريقاً، وفر أصحابه واختفوا.
وترك المعظم على جانب البحر ثلاثة أيام منتفخاً، لا يقدر أحد أن يتجاسر على دفنه، إلى أن شفع فيه رسول الخليفة، فحمل إلى ذلك الجانب وفي فن، فكانت مدة ملكه أحداً وسبعين يوماً. وقيل مرة لأبيه في الإرسال إليه، ليحضر من حصن كيفا إلى مصر، فأبى، وألح عليه الأمير حسام الدين أبو علي في طلب حضوره، فقال: متى حضر إلى هنا قتلته. وكان المباشر لقتله أربعة من مماليك أبيه، وكان الملك الصالح نجم الدين لما أراد أن يقتل أخاه العادل، قال الطواشي محسن: اذهب إلى أخي العادل في الحبس، وخذ معك من المماليك من يخنقه، فعرض محسن ذلك على جماعة من المماليك، وكلهم يمتنع إلا أربعة منهم، فمضى بهم حتى خنقوا العادل. فقدر الله أن هؤلاء الأربعة هم الذين باشروا قتل ابنه المعظم أقبح قتلة. وروي في النوم الملك الصالح نجم الدين بعد قتل ابنه الملك المعظم تورانشاه، وهو يقول:
قتلوه شر قتله ... صار للعالم مثله
لم يراعوا فيه إلا ... لا ولا من كان قبله
ستراهم عن قريب ... لأقل الناس أكله
فكان ما يأتي، ذكره من الواقعة بين المصريين والشاميين، بين المعز أيبك والناصر صلاح الدين يوسف بن عبد العزيز محمد بن الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف، وهو صاحب حلب وعدم فيها عدة من الأعيان. وبقتل المعظم انقرضت دولة بني أيوب من أرض مصر، وكانت مدتهم إحدى وثمانين سنة، وعدة ملوكهم ثمانية، كما مر ذكرهم. فسبحان الباقي، وما سواه يزول.
الملكة عصمة الدين أم خليل شجر الدر
كانت تركية الجنس، وقيل بل أرمنية، اشتراها الملك الصالح نجم الدين أيوب، وحطت عنده بحيث كان لا يفارقها سفراً ولا حضراً. وولدت منه ابنا اسمه خليل، مات وهو صغير. وهذه المرأة شجر الدر، هي أول من ملك مصر من ملوك الترك المماليك، وذلك أنه لما قتل الملك المعظم غياث الدين تورانشاه ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب، كما تقدم ذكره، اجتمع الأمراء المماليك البحرية، وأعيان الدولة وأهل المشورة، بالدهليز السلطاني، واتفقوا على إقامة شجر الدر أم خليل زوجة الملك الصالح نجم الدين أيوب في مملكة مصر، وأن تكون العلامات السلطانية على التواقيع تبرز من قبلها، وأن يكون مقدم العسكر الأمير عز الدين أيبك الزكماني الصالحي أحد البحرية. وحلفوا على ذلك في عاشر صفر، وخرج عز الدين الرومي من المعسكر إلى قلعة الجبل، وأنهى إلى شجر الدر ما جرى من الاتفاق، فأعجبها، وصارت الأمور كلها معقودة بها، والتواقيع تبرز من قلعة الجبل، وعلامتها عليها والدة خليل. وخطب لها على منابر مصر والقاهرة، ونقش اسمها على السكة، ومثاله المستعصمة الصالحية، ملكة المسلمين، والدة الملك المنصور خليل أمير المؤمنين، وكان الخطباء يقولون في الدعاء: اللهم أدم سلطان الستر الرفيع، والحجاب المنيع، ملكة المسلمين، والدة الملك الخليل، وبعضهم يقول، بعد الدعاء للخليفة: واحفظ اللهم الجبة الصالحية، ملكة المسلمين، عصمة الدنيا والدين، أم خليل المستعصمية صاحبة الملك الصالح.(1/118)
ولما حلف الأمراء والأجناد واستقرت القاعدة، ندب الأمير حسام الدين - محمد بن أبي علي للكلام مع الملك ريدافرنس في تسليم في دمياط، فجرى بينه وبين الملك مفاوضات ومحاورات ومراجعات، آلت إلى أن وقع الاتفاق على تسليمها من الفرنج، وأن يخلى عنه ليذهب إلى بلاده، بعدما يؤدي نصف ما عليه من المال المقرر. فبعث الملك ريدافرذس إلى من بها من الفرنج يأمرهم بتسليمها، فأبوا وعاودهم مراراً، إلى أن دخل العلم الإسلامي إليها، في يوم الجمعة لثلاث مضين من صفر، ورفع على السور وأعلن بكلمة الإسلام وشهادة الحق. فكانت مدة استيلاء الفرنج عليها أحد عشر شهراً وتسعة أيام.
وأفرج عن الملك ريدافرنس، بعدما فدى نفسه بأربعمائة ألف دينار، وأفرج عن أخيه وزوجته ومن بقي من أصحابه، وسائر الأسرى الذين بمصر والقاهرة، ممن أسر في هذه الواقعة، ومن أيام العادل والكامل والصالح وكانت عدتهم اثني عشر ألف أسير ومائة أسير وعشر أسارى، وساروا إلى البر الغربي، ثم ركبوا البحر في يوم السبت تاليه، وأقلعوا إلى جهة عكا. فقال الصاحب جمال الدين بن مطروح في ذلك:
قل للفرنسيس إذا جئته ... مقال نصح من قؤول فصيح
آجرك الله على ما جرى ... من قتل عباد يسوع المسيح
أتيت مصراً تبتغي ملكها ... تحسب أن الزمر يا طبل ريح
فساقك الحسين إلى أدهم ... ضاق به عن ناظرتك الفسيح
وكل أصحابك أودعتهم ... بحسن تدبيرك بطن الصريح
سبعون ألفا لا يرى منهم ... إلا قتيل أو أسير جريح
ألهمك الله إلى مثلها ... لعل عيسى منكم يستريح
إن يكن الباب بذا راضياً ... فرب غش قد أتى من نصيح
فاتخذوه كاهناً إنه ... أنصح من شق لكم أو سطيح
وقل لهم إن أزمعوا عودة ... لأخذ ثأر أو لفعل قبيح
دار ابن لقمان على حالها ... والقيد باق والطواشي صبيح
واتفق أن الفرنسيس هذا بعد خلاصه من أيدي المسلمين، عزم على الحركة إلى تونس من بلاد أفريقية، لما كان فيها من المجاعة والموتان. وأرسل يستنفر ملوك النصارى، وبعث إلى البابة خليفة المسيح بزعمهم. فكتب البابة إلى ملوك النصارى بالمسير معه، وأطلق يده في أموال الكنائس يأخذ منها ما شاء. فأتاه من الملوك الإنكتار، وملك اسكوسنا، وملك ثورل، وملك برشلونة واسمه ريداركون، وجماعة أخر من ملوك النصارى، فاستعد له السلطان أبو عبد الله محمد المستنصر بالله بن الأمير أبي زكريا يحيى بن الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن الشيخ أبي حفص عمر، ملك تونس، وبعث إليه رسله في طلب الصلح، ومعهم ثمانون ألف دينار، فأخذها الفرنسيس ولم يصالحهم، وسار إلى تونس آخر ذي القعدة سنة ثمان وستين وستمائة، ونزل بساحل قرطاجنة في ستة آلاف فارس وثلاثين ألف راجل. وأقام الفرنسيس هناك ستة أشهر، فقاتله المسلمون - للنصف من محرم سنة تسع وستين - قتالاً شديداً قتل فيه من الفريقين عالم عظيمة وكاد المسلمون أن يغلبوا، فأتاهم الله بالفرج وأصبح ملك الفرنجة ميتاً، فجرت أمور آلت إلى عقد الصلح ومسير النصارى. ومن الغريب أن رجلاً من أهل تونس اسمه أحمد بن إسماعيل الزيات، قال:
يا فرنسيس هذه أخت مصر ... فتأهب لما إليه تصير
لك فيها دار ابن لقمان قبراً ... وطواشيك منكر ونكير
فكان هذا فألا عليه ومات، وكان ريدافرنس هذا عاقلاً داهياً خبيثاً مفكراً.
ولما استولى المسلمون على دمياط، سارت البشائر إلى القاهرة ومصر وسائر الأعمال، فضربت البشائر وأعلن الناس بالسرور والفرح، وعادت العساكر إلى القاهرة في يوم الخميس تاسع صفر.
فلما كان يوم الاثنين ثالث عشره: خلعت شجر الدر على الأمراء وأرباب الدولة، وأنفقت فيهم الأموال وفي سائر العسكر.(1/119)
ووصل خبر قتل الملك المعظم وإقامة شجر الدر في السلطنة إلى دمشق، بمسير الخطيب أصيل الدين محمد بن إبراهيم بن عمر الإسعردي، لاستخلاف الأمراء بها. وكان فيها الأمير جمال الدين بن يغمور نائب السلطنة، والأمراء القيمرية، فلم يجيبوه وأخذوا في مغالظته. واستولى الملك السعيد حسن بن العزيز عثمان بن العادل أبي بكر ابن أيوب على مال مدينة غزة، وصار إلى قلعة الصبيبة فملكها. فلما ورد الخبر بذلك إلى قلعة الجبل، في يوم الاثنين لثلاث ليلة خلت من صفر، أحيط بداره من القاهرة، وأخذ ما كان له بها. وثار الطواشي بدر الدين لؤلؤ الصوابي الصالحي - نائب الكرك والشوبك، وركب إلى الشوبك، وأخرج الملك المغيث عمر بن العادل بن الكامل الصغير من الحبس، وملكه الكرك والشوبك وأعمالها وحلف له الناس، وقام يدبر أمره لصغر سنه.
وكتب الأمراء القيمرية من دمشق إلى الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز محمد بن الظاهر غازي بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب حلب، يحذرونه بامتناعهم من الحلف لشجر الدر، ويحثونه على المسير إليهم حتى يملك دمشق. فخرج من حلب في عساكره مستهل شهر ربيع الآخر، ووصل إلى دمشق يوم السبت ثامنه، ونازلها إلى أن كان يوم الاثنين عاشره زحف عليها. ففتح الأمراء القيمرية له أبواب البلد وكان القائم بذلك من القيمرية الأمير ناصر الدين أبو المعالي حسين بن عزيز بن أبي الفوارس القيمري الكردي. فدخلها الناصر صلاح الدين هو وأصحابه بغير قتال، وخلع على الأمراء القيمرية، وعلي الأمير جمال الدين بن يغمور، وقبض على عدة من الأمراء المماليك الصالحية وسجنهم. وملك الناصر صلاح الدين قلعة دمشق، وكان بها مجاهد الدين إبراهيم أخو زين الدين أمير جندار، مسلمها إلى الناصر، وبها من المال مائة ألف دينار وأربعمائة ألف درهم سوى الأثاث. ففرق الناصر جميع ذلك على الملوك والأمراء، وأعطى شمس الدين لؤلؤ من خزائنه عشرة آلاف دينار، وخلعة وفرساً وثلاثمائة ثوب، فرد شمس الدين ذلك، إلا الخلعة والفرس.
وكان الخبر قد ورد إلى قلعة الجبل - في سادس ربيع الآخر - بخروج الناصر من حلب، فجمد الأمراء والمماليك وغيرهم الأيمان لشجر الدر، ولعز الدين أيبك بالتقدمة على العساكر، ودارت النقباء على الأجناد، وأمروهم بالسفر إلى الشام. وفي يوم الأربعاء ثاني عشره رسم أن يسير الأمير أبو علي بالعسكر. وفي رابع عشره ورد الخبر بمنازلة الناصر لدمشق، فوقع الحث على خروج العسكر. وفي حادي عشريه ورد الخبر بأن الناصر ملك دمشق، بتسليم القيمرية البلد له، فقبض على عدة من أمراء مصر الذين ليسوا من الترك ووقع اضطراب كثير في القاهرة، وقبض على القاضي نجم الدين ابن قاضي نابلس، وعدة ممن يتهم بالميل إلى الناصر وتزوج الأمير عز الدين أيبك بشجر الدر، في تاسع عشري شهر ربيع الآخر، وخلعت شجر الدر نفسها من مملكة مصر، ونزلت له عن الملك، فكانت مدة دولتها ثمانين يوماً.
الملك المعز عز الدين أيبك
الجاشنكير التركماني الصالحي
كان تركي الأصل والجنس، فانتقل إلى ملك السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب من بعض أولاد التركماني، فعرف بين البحرية بأيبك التركماني، وترقي عنده في الخدم، حتى صار أحد الأمراء الصالحية، وعمله جاشنكيرا، إلى أن مات الملك الصالح، وقتل بعده ابنه الملك المعظم. فصار أيبك أتابك العساكر، مع شجر الدر، ووصل الخبر بذلك إلى بغداد، فبعث الخليفة المستعصم بالله من بغداد كتاباً إلى مصر، وهو ينكر على الأمراء ويقول لهم: إن كانت الرجال قد عدمت عندكم، فأعلمونا حتى نسير إليكم رجلاً.
واتفق ورود الخبر باستيلاء الملك الناصر على دمشق، فاجتمع الأمراء والبحرية للمشور، واتفقوا على إقامة الأمير عز الدين أيبك مقدم العسكر في السلطنة، ولقوه بالملك المعزة وكان مشهوراً بينهم بدين وكرم وجودة رأي.
فأركبوه في يوم السبت آخر شهر ربيع الآخر، وحمل الأمراء بين يديه الفاشية نوباً واحداً بعد آخر إلى قلعة الجبل، وجلسوا معه على السماط، ونودي بالزينة فزينت القاهرة ومصر.(1/120)
فورد الخبر في يوم الأحد تاليه تسليم الملك المغيث عمر الكرك والشوبك، وبتسلم الملك السعيد قلعة الصبيبة فلما كان بعد ذلك تجمع الأمراء، وقالوا: لابد من إقامة شخص من بيت الملك مع المعز أيبك ليجتمع الكل على طاعته ويطيعه الملوك من أهله. فاتفقوا على إقامة الملك شرف مظفر الدين موسى بن الملك المسعود - ويقال له الناصر صلاح الدين - يوسف بن الملك المسعود يوسف - المعروف باسم القسيس - ابن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، وله من العمر نحو ست سنين، شريكاً للملك المعز أيبك، وأن يقوم الملك المعز بتدير الدولة.
فأقاموه سلطاناً في ثالث جمادى الأولى، وجلس على السماط وحصر الأمراء في خدمه يوم الخميس خامس جمادى الأولي. فكانت المراسيم والمناشير تخرج عن الملكين الأشرف والمعز، إلا أن الأشرف ليس له سوى الاسم في الشركة لا غير ذلك، وجميع الأمور بيد المعز أيبك.
وكان بغزة جماعة من العسكر، عليهم الأمير ركن الدين خاص ترك فرجعوا إلى الصالحية واتفقوا مع عدة من الأمراء على إقامة الملك المغيث عمر بن العادل الصغير، صاحب الكرك وخطوا له بالصالحية، يوم الجمعة رابع جمادى الآخرة.
فلما ورد الخبر بذلك نودي في القاهرة ومصر أن البلاد للخليفة المستعصم بالله العباسي، وأن الملك المعز عز الدين أيبك نائبه بها، وذلك في يوم الأحد سادسه.
ووقع الحث في يوم الاثنين على خروج العساكر، وجددت الأيمان للملك الأشرف موسى والملك المعز أيبك، وأن يبرز اسهما على التواقيع والمراسيم، وينقش اسهما على السكة، ويخطب لهما على المنابر، وأقيم شرف الدين أبو سعيد هبة الله بن ساعد الفائزي المنعوت بالأسعد في الوزارة.
وتسحب من الصالحية الطواشيان شهاب الدين رشيد الكبير، وشهاب الدين الصغير، وركن الدين خاص ترك، وأقش المشرف فقبض على الطواشي شهاب الدين رشيد الصغير، وأحضر إلى القاهرة فاعتقل بها، ونجا الباقون. وسارت الخلع لمن بقي بالصالحية، وعفي عنهم وأمنوا، وأرسل إليهم بنفقة.
وفي يوم الخميس عاشره: ركب الملكان الأشرف والمعز بالصناجق السلطانية، وشقا القاهرة، والمعز يحجب الأشرف، والأمراء تتناوب في حمل الغاشية واحداً بعد واحد. وقدمت عساكر الملك الناصر إلى غزة، فخرج الأمير فارس الدين أقطاي الجمدار - وكانت إليه تقدمة المماليك البحرية - من القاهرة، في يوم الخميس خامس شهر رجب، بألفي فارس وسار إلى غزة، وقاتل أصحاب الناصر وهزمهم.
وفي يوم الخميس لخمس بقين من رجب: اتفق أهل الدولة على نقل تابوت الملك الصالح نجم الدين أيوب من قلعة جزيرة الروضة، إلى تربته التي بنيت له بجوار مدارسه الصالحية من بين القصرين. فخرج الناس يوم الجمعة إلى قلعة الروضة، وحملوا السلطان منها، وصلوا عليه بعد صلاة الجمعة وجميع العسكر قد لبسوا البياض، وقطع المماليك شعورهم، وأقيم عزاؤه ودفن ليلاً. ونزل الملكان الأشرف والمعز من قلعة الجبل إلى التربة الصالحية في يوم السبت، ومعهما سائر المماليك البحرية والجمدارية، والأمراء والقضاء والأعياد. وغلقت الأسواق بالقاهرة ومصر، وأقيم المأتم بالدفوف بين القصرين، واستمر الحضور للعزاء إلى يوم الاثنين. وجعل عند القبر سناجق السلطان وبقجه وقوسه وتركاشه، وترتبت القراء يقرءون عند قبره.
وفي هذه السنة: عزل بدر الدين أبو المحاسن يوسف بن الحسن السنجاري عن قضاء القاهرة، وولي بعده عماد الدين أبو القاسم بن المقنشع بن القطب الحموي. فلما مات أفضل الدين الخونجي، ولي ابن القطب الحموي بعده قضاء مصر. ثم ولي صدر الدين موهوب الجزري قضاء مصر، عند انتقال ابن القطب إلى قضاء القاهرة.
وفي آخر شهر رجب: أعيد البدر السنجاري إلى قضاء القاهرة، وابن القطب إلى قضاء مصر. ثم جمع قضاء مصر والقاهرة للسنجاري، وصرف ابن القطب عن مصر. وعاد الفارس أقطاي من غزة إلى القاهرة، في رابع شعبان. وفي خامسه قبض على الأمير زين الدين أمير جاندار الصالحي، وعلى القاضي صدر الدين قاضي آمد - وكان من كبراء الدولة الصالحية، واعتقلا.(1/121)
ولاثنتي عشرة بقيت من شعبان: وقع الهدم في مدينة دمياط، باتفاق أهل الدولة على ذلك، وخرج الحجارون والصناع والفعلة من القاهرة، فأزيلت أسوارها ومحيت آثارها، ولم يبق منها سوى الجامع. وسكن طائفة من ضعفاء الناس في أخصاص على شاطئ النيل من قبليها، وسموها المنشية وهو موضع دمياط الآن. ولست بقين قبض على الأمير جمال الدين النجيبي واعتقل وبعده بيوم قبض على أقش العجمي.
وأخذ الملك الناصر صاحب الشام في الحركة لأخذ مصر، بتحريض الأمير شمس الدين لؤلؤ الأميني له على ذلك. وخرج الناصر من دمشق بعساكره، يوم الأحد النصف من شهر رمضان، ومعه الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن العادل أبي بكر بن أيوب والملك الأشرف موسى بن المنصور إبراهيم بن شيركوه، والملك المعظم تورانشاه بن السلطان صلاح الدين الكبير وأخوه نصرة الدين الظاهر شادي بن الناصر داود وأخوه الملك الأمجد حسن، والملك الأمجد تقي الدين عباس بن العادل، وعمه ملوك.
فلما ورد الخبر بذلك اضطربت الدولة، ورسم بجمع العربان من الصعيد وقبض على جماعة من الأمراء اتهموا بالميل مع الملك الناصر في ثاني شوال، عندما ورد الخبر بوصوله إلى غزة. وفي غده كثر الإرجاف ووقع التهيؤ للحرب، وأحضرت الخيول من الربيع.
وفي يوم الاثنين ثامنه: برز الأمير حسام الدين أبو علي من القاهرة، وكان الوقت شتاء. وفي تاسعه برز الأمير فارس الدين أقطاي الجمدار - مقدم البحرية - في جمهور العسكر من الترك. وسارت العساكر في حادي عشره، واجتمعت بالصالحية.
وفي يوم السبت ثالث عشره: استناب الملك المعز أيبك بديار مصر الأمير علاء الدين البندقدار، فواظب الجلوس بالمدارس الصالحية مع نواب دار العدل، لترتيب الأمور وكشف المظالم ونودي يوم السبت العشرين منه بإبطال الخمور، والجهة المفردة. وفيه كثر الإرجاف بوصول الناصر الداروم.
وفي تاسع عشريه: خلع الملك المعز على الملك المنصور محمود، وعلى أخيه الملك السعيد عبد الملك، ولدي الملك الصالح إسماعيل عماد الدين - وكانا في حبس الملك الصالح نجم الدين أيوب - وأركبهما في القاهرة، ليوهم الناس أن الملك الصالح أباهما مباطن له على الملك الناصر، حتى يقع بينهما.
وفي يوم الثلاثاء أول ذي القعدة: نودي بالقاهرة أن الصلح انتظم بين الملك المعز والبحرية، وبين الملك المغيث عمر بن العادل صاحب الكرك ولم يكن لما نودي به حقيقة، وإنما قصد بذلك أن يقف الملك الناصر عن الحركة.
وفي يوم الخميس ثالثه: نزل الملك المعز من قلعة الجبل فيمن بقي عنده من العساكر، وسار إلى الصالحية وبها العساكر التي خرجت قبله، وترك بقلعة الجبل الملك الأشرف موسى فاستقرت عساكر مصر بالصالحية إلى يوم الاثنين سابعه، فوصل الملك الناصر بعساكره إلى كراع - وهي قريبة من العباسية، فتقارب ما بين العسكرين وكان في ظن كل أحد أن النصرة إنما تكون للملك الناصر على البحرية، لكثرة عساكره ولميل أكثر عسكر مصر إليه. فاتفق أنه كان مع الناصر جمع غير من ممالك أبيه الملك العزيز، وهم أتراك يميلون إلى البحرية لعلة الجنسية، ولكراهتهم في الأمير شمس الدين لؤلؤ مدير المملكة.(1/122)
فعندما نزل الناصر بمنزلة الكراع، قريباً من الخشبي بالرمل، رحل المعز أيبك بعساكر مصر من الصالحية، ونزل اتجاهه بسموط إلى يوم الخميس عاشره. فركب الملك الناصر في العساكر، ورتب ميمنة وميسرة وقلباً، وركب المعز، ورتب أيضاً عساكره. وكانت الوقعة في الساعة الرابعة، فاتفق فيها أمر عجيب قل ما اتفق مثله، فإن الكرة كانت أولاً على عساكر مصر، ثم صارت على الشاميين: وذلك أن ميمنة عسكر الشام حملت هي والميسرة على من بازائها حملة شديدة، فانكسرت ميسرة المصريين وولوا منهزمين، وزحف أبطال الشاميين وراءهم، وما لهم علم بما جرى خلفهم. وانكسرت ميمنة أهل الشام، وثبت كل من القلبين واقتتلوا. ومر المنهزمون من عسكر مصر إلى بلاد الصعيد، وقد نهبت أثقالهم. وعندما مروا على القاهرة خطب بها للملك الناصر، وخطب له بقلعة الجبل ومصر، وبات الأمير جمال الدين بن يغمور بالعباسية، وأحمي الحمام للملك الناصر وجهز له الإقامة. هذا والناصر على منزلة كراع ليس عنده خبر، وإنما هو واقف بسناجقه وخزائنه وأصحابه. وأما ميمنة أهل الشام فإنها لما كسرت قتل منهم عسكر مصر خلقاً كثيراً في الرمل، وأسروا أكثر مما قتلوا.
وتعين الظفر للناصر وهو ثابت في القلب، واتجاهه المعز أيبك أيضاً في القلب فخاف أمراء الناصر منه أن لمجنيهم إذا تم له الأمر، وخامروا عليه وفروا بأطلابهم إلى الملك المعز وهم، الأمير جمال الدين أيدغدي العزيزي، والأمير جمال الدين أقوش الحامي، والأمير بدر الدين بكتوت الظاهري، والأمير سليمان العزيزي، وجماعة غيرهم. فخارت قوى الناصر من ذهاب المذكورين إلى الملك المعز، فحمل المعز بمن معه على سناجق الناصر، ظناً منه أن الناصر تحتها. وكان الناصر - لما فارقه الأمراء إلى عند المعز - قد خرج من تحت السناجق في شردمة قليلة، فخاب ما أمله المعز أيبك، وعاد إلى مركزه خائباً وقد قوى الشاميون بذلك، وتبعوه يقتلون منه وينهبون.
وسر الأمراء القيمرية بذلك وقصدوا الحملة على المعز ليأخذوه، فوجدوا أصحابهم قد تفرقوا في طلب الكسب والنهب. فحمل المعز عليهم وثبتوا له، ثم انحاز إلى جانب يريد الفرار إلى جهة الشوبك. ووقف الناصر في جمع من العزيزية وغيرهم تحت سناجقه وقد اطمأن، فخرج عليهم المعز - ومعه الفارس أقطاي - في ثلاثمائة من البحرية، وقرب منه فخامر عدة ممن كان مع الناصر عليه، ومالوا مع المعز والبحرية، فولى الناصر فاراً يريد الشام في خاصته وغلمانه. واستولى البحرية على سناجقه، وكسروا صناديقه ونهبوا أمواله.
وساق المعز يريد الأطلاب، فوقع بطلب الأمير شمس الدين لؤلؤ، والأمير حسام الدين القيمري، والأمير ضياء الدين القيمري، وتاج الملوك بن المعظم، والأمير شمس الدين الحميدي، والأمير بدر الدين الزرزاري، وجماعة غيرهم. فبدد الملك المعز كلهم، وأسر المعظم تورانشاه بن صلاح الدين، وأخاه نصرة الدين محمد، والملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن العادل، والملك الأشرف صاحب حمص، والملك الزاهر، والأمير شهاب الدين القيمري، والأمير حسام الدين طرنطاي العزيزي، والأمير ضياء الدين القيمري، والأمير شمس الدين لؤلؤ مدبر المملكة الحلبية، وأعيان الحلبيين وخلقاً كثيراً وقتل الأمير شمس الدين الحميدي، والأمير بدر الدين الزرزاري، وجماعة غيرهم.
وكان الأمير حسام الدين أبو علي الهذباني على ميسرة عسكر المصرين، فلما وقعت الكسرة على الميسرة تفرق عنه أصحابه، وتقنطر عن فرسه وكاد يؤخذ، لولا أنه وقف معه من أركبه، فلحق بالمعز أيبك، فأمر الملك بضرب عنق الأمير شمس الدين لؤلؤ، فأخذته السيوف حتى قطع، وضربت عنق الأمير ضياء الدين القيمري وأتي بالملك الصالح إسماعيل وهو راكب، فسلم عليه الملك المعز وأوقفه إلى جانبه، وقال للأمير حسام الدين أبي علي: ما تسلم على المولى الصالح، فدنا منه الأمير حسام الدين وعانقه وسلم عليه. وجرح الملك المعظم، وابنه تاج الملوك وضرب الشريف المرتضي في وجهه ضربة عظيمة، وهموا بقتله ثم تركوه.(1/123)
وتمزق أهل الشام كل ممزق، ومشوا في الرمل أياماً، وصار الملك الناصر ومعه نوفل الزبيدي وعلي السعدي إلى دمشق. وأما العسكر الشامي الذي كسر ميسرة المصريين، فإنه وصل إلى العباسية ونزل بها، وضرب الدهليز الناصري هناك، وفيهم الأمير جمال الدين بن يغمور نائب السلطنة بدمشق وعدة من أمراء الناصر، وهم لا يشكون أن أمر المصريين قد بطل وزال، وأن الملك الناصر مقدم عليهم ليسيروا في خدمته إلى القاهرة. فبينا هم كذلك إذ وصل إليهم الخبر بهروب الملك الناصر، وقتل الأمراء وأسر الملوك وغيرهم. فهم طائفة منهم أن يسيروا إلى القاهرة ويستولوا عليها، ومنهم من رأى الرجوع إلى الشام، ثم اتفقوا على الرجوع.
وأما من انهزم من عسكر مصر أولاً، فإنهم وصلوا إلى القاهرة في يوم الجمعة حادي عشره، غد يوم الوقعة، فما شك في أن الأمر تم للملك الناصر، وأن أمر البحرية قد زال. وكان بقلعة الجبل الأمير ناصر إسماعيل، بن يغمور، أستادار الملك الصالح عماد الدين إسماعيل، في جب وهو أمين الدولة أبو الحسن بن غزال - المتطبب المعروف بالسامري وزير الصالح المذكور، والأمير سيف الدين القيمري، وجماعة غيرهم أيضاً، لهم من أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب في الاعتقال. فلما بلغهم ذلك خرجوا من الجب، وأظهروا الفرح والاستبشار، وأرادوا أخذ القلعة. فلم يوافق الأمير سيف الدين القيمري على ذلك، وتركهم وقعد على باب دار الملك المعز أيبك التي فيها عياله، وحماها وصد الناس عنها. وصاح البقية: الملك الناصر يا منصور.
وخطب للناصر بالقلعة ومصر، وسائر البلاد التي بلغها خبر نصرته. وكان بجامع القاهرة الشيخ عز الدين بن عبد السلام، فقام على قدميه وخطب خطتن خفيفتين، وصلى بجماعة الجمعة، وصلى قوم صلاة الظهر. فما هو إلا أن انقضت صلاة الجمعة، حتى وردت البشارة بانتصار الملك المعز وهزيمة الناصر، فدقت البشائر. وقدم جماعة ومعهم نصرة الدين بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، فاعتقلوه بقلعة الجبل. وقبض على الأمير ناصر الدين بن يغمور، والوزير أمين الدولة أبي الحسن بن غزال، ومن كان معهما، وأعيدوا إلى الجب. ونودي آخر النهار في القاهرة ومصر بالزينة.
وأما الملك المعز فإنه ساق - بعدما تقم ذكر من قتله الأمراء - إلى العباسية، فلما رأى دهليز الملك الناصر توهم، وعرج عن الطريق على العلاقمة إلى بلبيس، ظناً أن واقعة وقعت بالقاهرة. فبلغ من كان بالدهليز الخبر فهدموه في الليل، وساروا إلى الشام. فبلغ ذلك الملك المعز وهو في بلبيس، فرحل يريد القاهرة وقد اطمأن، ودخلها يوم السبت ثاني عشر ذي القعدة بالأسرى بين يديه، وسناجقهم مقلبة وطبولهم مشققة، وخيولهم وأموالهم بين يديه، إلى أن وصل إلى بين القصرين، فلعبت المماليك بالرماح وتطاردوا، والملك المعز في الموكب، وإلى جانبه الأمير حسام الدين أبي علي، وقدامه الملك الصالح إسماعيل تحت الاحتياط، فعندما وصل إلى تربة الملك الصالح نجم الدين أحدق المماليك البحرية بالصالح إسماعيل، وصاحوا: يا خوند أين عينك ترى عدوك إسماعيل ثم ساروا إلى قلعة الجبل، واعتقل الصالح إسماعيل بها وبقية الملوك، وألقى الأسرى من الشاميين في الجباب. وعندما دخل الملك المعز إلى القلعة، تلقاه الملك الأشرف موسى وهنأه بالظفرة فقال الأمير فارس الدين أقطاي للأشرف: كلنا حصل بسعادتك، وما سعينا إلا في تقرير ملكك، وكان يؤثر بقاء الأشرف خوفاً من استبداد المعز أيبك وكان هذا اليوم من أعظم أيام القاهرة، واستمرت الزينة بالقاهرة ومصر وقلعة الجبل وقلعة الروضة عدة أيام.
وفي يوم الاثنين رابع عشره: شنق الأمير ناصر الدين إسماعيل بن يغمور، أستادار الصالح إسماعيل، وشنق بكجا ملك الخوارزمي وأمين الدولة أبو الحسن السامري الوزير، على باب قلعة الجبل، ومعهم المجير بن حمدان من أهل دمشق. وظهر لأمين الدولة من الأموال والتحف والجواهر ما لا يوجد مثله إلا عند الخلفاء، بلغت قيمة ما ظهر له سوى ما كان مودوعاً ثلاثة آلاف ألف دينار، ووجد له عشرة آلاف مجلدة، كلها بخطوط منسوبة، وكتب نفيسة.(1/124)
وفي ليلة الأحد السابع والعشرين من ذي القعدة: قتل الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب بقلعة الجبل، وعمره نحو الخمسين سنة. قال ابن واصل: من أعجب ما مر بي أن الملك الجواد مودوداً، لما كان في حبس الملك الصالح إسماعيل، سير إليه الملك الصالح إسماعيل من خنقه، وفارقه ظناً أنه قد مات، فأفاق فرأته امرأة هناك، فأخبرتهم أنه قد أفاق، فعادوا إليه وخنقوه حتى مات. وفر هذه الليلة لما أخرجوا لذلك الصالح إسماعيل بأمر المعز أيبك إلى ظاهر القلعة، وكان معهم ضوء فأطفأوه، وخنقوه وفارقوه ظناً أنه قد مات، فأفاق فرأته امرأة هناك، فأخبرتهم أنه أفاق، فعاثوا إليه وخنقوه حتى مات. فانظر ما أعجب هذه الواقعة! ودفن هناك، وكانت أمه رومية، وكان رئيس النفس نبيل القدر، مطاعاً، له حرمة وافرة، وفيه شجاعة.
وفي ثامن عشريه: أخرج الملك المعز كل من دخل القاهرة من عسكر الملك الناصر، إلى دمشق على حمير، هم وأتباعهم، ولم يمكن أحداً منهم أن يركب فرساً، إلا نحو الستة أنفس فقط، وكانوا نحو الثلاثة آلاف رجل.
وفيها وصل إلى الملك الناصر من قبل القان ملك التتر طمغا صورة أمان فصار يحملها في حياصته، وسير إلى القان هدايا كثيرة، فلما خرج هولاكو واستولى على الممالك، تغافل الناصر عنه ولم يبعث إليه شيئاً، فعز ذلك عليه، وصار في كل قليل ينكر تأخر تقديمة الناصر الهدايا والتحف إليه.
وفيها كثر ضرر المماليك البحرية بمصر، ومالوا على الناس وقتلوا ونهبوا الأموال وسبوا الحريم وبالغوا في الفساد، حتى لو ملك الفرنج ما فعلوا فعلهم.
وفي سابع عشر ذي الحجة: سار الأمير فارس الدين أقطاي من القاهرة في ثلاثة آلاف إلى عزة، واستولى عليها.
وفي هذه السنة: قدم البطرك أثنامبوس بن القس أبي المكارم، في يوم الأحد رابع شهر رحب، الموافق الخامس بابه سنة سبع وستين وتسعمائة للشهداء. فأقام في البطركية إحدى عشرة سنة وخمسة وخمسين يوماً، ومات يوم الأحد أول كيهك سنة ثمان وسبعين وتسعمائة للشهداء، الموافق لثالث المحرم سنه ستين وستمائة هجرية، وخلا الكرسي بعده خمسة وثلاثين يوماً. وفيها مات الإمبراطور ملك الفرنج الألمانية بصقلية، وقام من بعده ابنه.
وخرجت هذه السنة والناصر يوسف بدمشق، وبيده ملك الشام والشرق، ومملكة مصر بيد الملك المعز عز الدين أيبك التركماني، ويخطب معه للأشرف موسى، والمعتمد عليه في أمور الدولة من البحرية ثلاثة أمراء: وهم الأمير فارس الدين أقطاي، وركن الدين بيبرس البندقداري، وسيف الدين بلبان الرشيدي.
ومات في هذه السنة من الأعيان
الملك المعظم غياث الدين تورانشاه بن الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي، قتيلاً في يوم الاثنين تاسع عشري المحرم. ومات الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي، قتيلاً في ليلة الأحد سابع عشري ذي القعدة، عن نحو خمسين سنة، ومات الأمير شمس لؤلؤ الأميني، مقدم عسكر حلب، قتيلاً في يوم الخميس عاشر ذي القعدة وتوفي رشيد الدين أبو محمد عبد الوهاب بن طاهر بن علي بن فتوح بن رواج الإسكندري المالكي، عن أربع وتسعين سنة، في وتوفي الحافظ شمس الدين أبو الحجاج يوسف بن خليل بن قراجا بن عبد الله الدمشقي بحلب، عن ثلاث وتسعين سنة.
سنة تسع وأربعين وستمائة
فيها استولى الأمير فارس الدين أقطاي على الساحل ونابلس إلى نهر الشريعة، وعاد إلى القاهرة. فسير الملك الناصر عسكراً من دمشق إلى غزة ليكون بها، فأقاموا على تل العجول. فخرج المعز أيبك، ومعه الأشرف موسى والفارس أقطاي وسائر البحرية، ونزل بالصالحية. فأقام العسكر المصري بأرض السانح قريباً من العباسة، والعسكر الشامي قريباً من سنتين، وترددت بينهما الرسل. وأحدث الوزير الأسعد الفائزي ظلامات عديدة على الرعية.(1/125)
وفيها أمر الملك المعز أيبك بإخلاء قلعة الروضة، فتحول من كان فيها من المماليك والحرسيه وغيرهم. وفيها عزل قاضي القضاة عماد الدين أبو القاسم بن أبي إسحاق ابن المقنشع - المعروف بابن القطب الحموي، عن قضاء مصر، وأضيف ذلك إلى قاضي القضاة بدر الدين السنجاري. وسافر الأمير حسام الدين أبو على إلى الحجاز - وترك طلبه بالسانح وفيه من ينوب عنه من البحر إلى قوص، ثم ركب البحر الملح إلى مكة. وفيها أشيع وصول البادرائي رسول الخليفة، ليصلح بين الناصر والمعز. فلما أبطأ قدومه، وكثرت الأقاويل، قال الأمير شهاب الدين غازي ابن أيار المعروف بابن المعمار - أحد المجودين صحبة الأمير جمال الدين موسى بن يغمور:
يذكرنا زمان الزهد ذكرى ... زمان اللهو في تل العجول
ونطلب مسلماً يروي حديثاً ... صحيحاً من أحاديث الرسول
وفيها وقع بمكة غلاء عظيم.
ومات في هذه السنة من الأعيان
قاضي القضاة ببغداد، واسمه كمال الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن عبد السلام بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن إبراهيم اللمفاني الحنفي.
وفيها توفي بهاء الدين أبو الحسن علي بن هبة الله بن سلامة الجميزي الشافعي، خطيب القاهرة وقد انتهت إليه مشيخة العلم عن تسعين سنة، في يوم. وفيها توفي الصاحب جمال الدين أبو الحسين يحيى بن عيسى بن إبراهيم بن مطروح - الوزير بالشام، والشاعر أيضاً - عن سبع وخمسين سنة، في ..
وفيها توفي رشيد الدين أبو محمد عبد الظاهر بن نشوان بن عبد الظاهر السعدي شيخ القراءات 000 وفيها توفي علم الدين قيصر بن أبي القاسم بن عبد الغني بن مسافر - المعروف بتعاسيف، الفقيه الحنفي، بدمشق في 0000 رجب، ومولده بأصفون من صعيد مصر سنة أربع وسبعين وخمسمائة، وهو أحد الأئمة في العلوم الرياضية.
سنة خمسين وستمائة
فيها قدم الأمير حسام الدين أبو علي من الحجاز، فنزل في المعسكر من أرض السانح بالصالحية، وقدم من بغداد الشيخ نجم الدين عبد الله بن محمد بن الحسن أبي سعد البادرائي، رسولاً من الخليفة للإصلاح بين الملك المعز أيبك والملك الناصر. فتلقاه القاضي بدر الدين الخضر بن الحسن السنجاري من قطا، ومعه جماعة، وتحدث معه في ذلك. فأراد الناصر أن تقام له الخطة بديار مصر، فلم يرض الملك المعز، وزاد بأن طلب أن يكون بيده - مع مصر - من غزه إلى عقبة فيق.
وفيها وردت الأخبار بأن منكوخان ملك التتر سير أخاه هولاكو لأخذ العراق فسار وأباد أهل بلاد الإسماعيلية قتلاً ونهباً، وأسراً وسبياً، ووصلت غاراته إلى ديار بكر وميافارقين، وجاءوا إلى رأس عين وسروج، وقتلوا ما ينيف على آلاف، وأسروا مثل ذلك، وصادفوا قافلة سارت من حران تريد بغداد، فأخذوا منها أموالاً عظيمة، من جملتها ستمائة حمل سكر من عمل مصر، وستمائة ألف دينار. وقتلوا الشيوخ والعجائز، وساقوا النساء والصبيان معهم فقطع أهل الشرق الفرات، وفروا خائفين.
فعند ذلك أزال الملك المعز اسم الملك الأشرف موسى من الخطة، وانفرد باسم السلطة، وسجن الأشرف، واستولى على الخزائن، وشرع في تحصيل الأموال فأحدث الوزير الأسعد شرف الدين هبة الله بن صاعد بن وهيب الفائزي حوادث، وقرر على التجار وعلى أصحاب العقار أموالاً، ورتب مكوساً وضمانات سماها الحقوق السلطانية والمعاملات الديوانية، وأخذ الجوالي من الذمة مضاعفة، وأحدث التصقيع والتقويم وعدة أنواع من المظالم، ورتب الملك المعز مملوكه الأمير سيف الدين قطز نائب السلطة بديار مصر، وأمر عدة من مماليكه فقويت شوكة البحرية وزاد شرهم، وصار كبيرهم، الأمير فارس الدين أقطاي الجمدار الصالحي ملجأ لهم، يسألونه في حوائجهم، ويكون هو المتحدث مع الملك المعز.
وفيها أقطع الفارس أقطاي ثغر الإسكندرية، وكتب له به منشور. وتعدى شر البحرية، وكثر تمردهم وطغيانهم.
وخرجت السنة والملك المعز والعساكر بالسانح، وعساكر الشام بغزة، والملك الناصر مقيم بدمشق، والملك المغيث عمر بالكرك. وكان النيل عالياً: بلغ ثمانية عشر ذراعاً وسبعة عشر إصبعاً، وسد باب البحر عند المقس.
وفيها وقع بمدينة حلب حريق عظيم ظهر أنه من الفرنج، وتلف فيه أموال لا تحصى، واحترقت ستمائة دار. وحج في هذه السنة ركب العراق.
؟ومات في هذه السنة من الأعيان(1/126)
العلامة رضي الدين أبو الفضائل الحسن بن محمد الحسن بن حيدر العمري الهندي الصنعاني الحنفي اللغوي، مات ببغداد، ودفن بمكة عن ثلاث وسبعين سنة.
وتوفي فخر القضاة أبو الفتح نصر الله بن هبة الله بن عبد الباقي بن هبة الله بن الحسيني بن يحيى بن بصاقة الكناني، الكاتب الوزير للناصر داود، والأديب المنشئ، في 00000 وتوفي شمس الدين أبو عبد الله بن سعد الله بن عبد الله بن سعد الأنصاري القدسي، الفقيه الشافعي المحدث المقرئ، النحوي الأديب الكاتب المجودة مات بدمشق عن تسع وسبعين سنة.
وتوفي مسند العراق المؤتمن أبو القاسم يحيى بن نصر بن أبي القاسم بن الحسن بن قميرة التميمي، التاجر السفار، عن خمس وثمانين سنة، حدث بمصر وغيرها.
وتوفي نقيب الأشراف - وقاضي العسكر، ومدرس المدرسة الشريفية بمصر - الشريف شمس الدين أبو عبد الله محمد بن الحسين بن محمد العلوي الحسيني الأرموي، على ما حدثنا الأشراف، في ثالث عشر شوال خمسين وستمائة. وكان إماماً في الفقه والأصول مناظراً، تفقه على الصدر بن حمويه، وشرح المحصول، ومات عن نيف وسبعين سنة.
سنة إحدى وخمسين وستمائة
فيها تقرر الصلح بين الملك المعز أيبك وبين الملك الناصر صاحب دمشق، بسفارة نجم الدين البادرائي. وقد قدم نجم الدين إلى القاهرة، وصحبته عز الدين أزدمر، وكاتب الإنشاء بحلب نظام الدين أبو عبد الله محمد بن المولى الحلبي، لتمهيد القواعد، فلي يبرحا إلى أن انفصلت القضية: على أن يكون للمصريين إلى الأردن، وللناصر ما وراء ذلك، وأن يدخل فيها للمصريين غزة والقدس ونابلس والساحل كله، وأن المعز يطلق جميع من أسره من أصحاب الملك الناصر. وحلف كل منهما على ذلك، وكتبت به العهود، وعاد الملك المعز وعسكره إلى قلعة الجبل في يوم الثلاثاء سابع صفر، ونزل البادرائي بالقاهرة، وأطلق الملك المعز الملك المعظم تورانشاه بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، وأخاه نصرة الدين، وسائر أولاد الملوك والأمراء، وأحضرهم دار الوزارة ليشهدوا حلفه للملك الناصر. ثم قدم الملك المعز أيبك للملك المعظم تقدمة سنية، وأعطى نظام الدين بن المولى، ورفيقه عز الدين أزدمر، عشره آلاف دينار.
وفيها قويت البحرية - وكبيرهم فارس الدين أقطاي - على المعز، وكثر قبضتهم واستطالتهم وتوثبهم على الملك المعز، وهموا بقتله.
وفيها تسلم المصريون قلعة الشوبك، فلم يبق مع الملك المغيث سوى الكرك والبلقاء وبعض الغور. وفيها قطع المعز خبز الأمير حسام الدين بن أبي علي، فلزم داره، ثم خرج إلى بلاد الشام بإذن الملك المعز له، فأكرمه الملك الناصر وأقامه في خدمته بمائة فارس.
وفيها ثارت العربان ببلاد الصعيد وأرض بحري، وقطعوا الطريق براً وبحراً، فامتنع التجار وغيرهم من السفر. وقام الشريف حصن الدين ثعلب بن الأمير الكبير نجم الدين علي بن الأمير الشريف فخر الدين إسماعيل بن حصن الدولة مجد العرب ثعلب بن يعقوب بن مسلم بن أبي جميل الجمدي، وقال: نحن أصحاب البلاد، ومنع الأجناد من ناول الخراج، وصرح هم وأصحابه: بأنا أحق بالملك من المماليك وقد كفى أنا خدمنا بني أيوب، وهم خوارج خرجوا على البلاد. وأنفوا من خدمة الترك، وقالوا إنما هم عبيد للخوارج، وكتبوا إلى الملك الناصر صاحب دمشق يستحثونه على القدوم إلى مصر.(1/127)
واجتمع العرب - وهم يومئذ في كثرة من المال والخيل والرجال، إلى الأمير حصن الدين ثعلب، وهو بناحية دهروط صربان، وأتوه من أقصى الصعيد، وأطراف بلاد البحيرة والجيزة والفيوم، وحلفوا له كلهم. فبلغ عدة الفرسان اثني عشر ألف فارس، وتجاوزت عدة الرجالة الإحصاء لكثرتهم. فجهز إليهم الملك المعز أيبك الأمير فارس الدين أقطاي الجمدار، والأمير فارس الدين أقطاي المستعرب، في خمسة آلاف فارس. فساروا إلى ناحية ذروة، وبرز إليهم الأمير حصن الدين ثعلب، فاقتتل الفريقان من بكرة النهار إلى الظهر. فقدر الله أن الأمير حصن الدين تقنطر عن فرسه، فأحاط به أصحابه وأتت الأتراك إليه، فقتل حوله من العرب والعبيد أربعمائة رجل، حتى أركبوه. فوجد العرب قد تفرقوا عنه، فولى منهزماً. وركب الترك أدبارهم، يقتلون ويأسرون حتى حال بينهم الليل، فحووا من الأسلاب والنسوان والأولاد والخيول والجمال والمواشي، ما عجزوا عن ضبطه، وعادوا إلى المخيم ببلبيس. ثم عدوا إلى عرب الغربية والمنوفية من قبيلتي سنبس ولواتة، وقد تجمعوا بناحية سخا وسنهور، فأوقعوا بهم وسبوا حريمهم وقتلوا الرجال، وتبدد كل عرب مصر وحمدت جمرتهم من حينئذ.
ولحق الشريف حصن الدين من بقي من أصحابه، وبعث يطلب من الملك المعز الأمان، فأمنه ووعده بإقطاعات له ولأصحابه، ليصيروا من حملة العسكر وعوناً له على أعدائه. فانخدع الشريف حصن الدين، وظن أن الترك لا تستغني عنه في محاربة الملك الناصر، وقدم في أصحابه وهو مطمئن إلى بلبيس. فلما قرب من الدهليز نزل عن فرسه ليحضر مجلس السلطان، فقبض عليه وعلي سائر من حضر معه، وكانت عدتهم نحو ألفي فارس وستمائة راجل. وأمر الملك المعز فنصبت الأخشاب من بلبيس إلى القاهرة وشنق الجميع، وبعث بالشريف حصن إلى ثغر الإسكندرية، فحبس بها وسلم لواليها الأمير شمس الدين محمد بن باخل. وأمر المعز بزيادة القطعية على العرب، وبزيادة القود المأخوذ منهم، ومعاملتهم بالعنف والقهر. فذلوا وقلوا، حتى صار أمرهم على ما هو عليه الحال في وقتنا.
وفيه صاهر الأمير فارس الدين أقطاي الملك المظفر صاحب حماة، وشر إليه فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين علي بن حنا - قبل أن يتقلد أبوه الوزارة، وإنما كان قد ترشح لها - لإحضار ابنة المظفر من حماة، فحملها إلى دمشق في تجمل عظيم. فطلب أقطاي من الملك المعز أن يسكن قلعة الجبل بالعروس، فشق ذلك عليه وأخذ يتحيل في قتله، وكان قد ثقل عليه، وصار ليس له مع البحرية أمر ولا نهي ولا حل ولا عقد، ولا يسمع أحد منهم له قولاً فإن رسم لأحد بشيء لا يمكن من إعداده وإن أمر لأحد منهم بشيء أخذ أضعاف ما رسم له به. واجتمع الكل على باب الأمير فارس الدين أقطاي، وقد استولى على الأمور كلها. وبقيت الكتب إنما ترد من الملك الناصر وغيره إليه، ولا يقدر أحد يفتح كتاباً، ولا يتكلم بشيء ولا يبرم أمراً، إلا بحضور أقطاي لكثرة خشداشيته.
وفي هذه السنة: حج من البر والبحر عالم كبير، فإنها كانت وقفة الجمعة، وفيها أخذ الشريف جماز بن حسن مكة، وأقام بها إلى آخر ذي الحجة.
ومات في هذه السنة من الأعيان
الشريف أبو سعد الحسن بن علي بن قتادة بن إدريس الحسني أمير مكة، واستقر بعده في الإمارة ابنه أبو نمى، وأخوه إدريس بن علي.
ومات الصالح أحمد بن الظاهر غازي بن الناصر يوسف بن أيوب بن شادي بن مروان، صاحب عينتاب، عن إحدى وخمسين سنة.
وتوفي كمال الدين أبو محمد عبد الواحد بن عبد الكريم بن خلف بن نبهان الأنصاري الزملكاني الدمشقي الشافعي، بدمشق.
وتوفي جمال الدين أبو القاسم عبد الرحمن بن مكي بن عبد الرحمن الإسكندري، سبط الحافظ أبي الطاهر السلفي، وقد انتهى إليه علو الإسناد.
سنة اثنتين وخمسين وستمائة
فيها استفحل أمر الفارس أقطاي الجمدار وانحازت إليه البحرية، بحيث كان أقطاي إذا ركب من داره إلى القلعة شعل بين يديه جماعة بأمره، ولا ينكر هو ذلك منهم وكانت أصحابه تأخذ أموال الناس ونساءهم وأولادهم بأيديهم، فلا يقدر أحد على منعهم، وكانوا يدخلون الحمامات ويأخذون النساء منها غصباً، وكثر ضررهم.(1/128)
هذا والمعز يحصل الأموال، وقد ثقل عليه أقطاي، فواعد طائفة من مماليكه على قتله: وبعث المعز إليه وقت القائلة من يوم الأربعاء ثالث شعبان، ليحضر إليه بقلعة الجبل في مشور يأخذ رأيه فيه. فركب أقطاي على غير أهبة ولا اكتراث فعندما دخل من باب القلعة، وصار في قاعة العواميد، أغلق باب القلعة، ومنع مماليكه من العبور معه. فخرج عليه جماعة بالدهليز قد أعدوا لقتله: وهم قطز وبهادر وسنجر الغنمي، فهبروه بالسيوف حتى مات. فوقع الصريخ في القلعة والقاهرة بقتله، فركب في الحال من أصحابه نحو السبعمائة فارس ووقفوا تحت القلعة، وفي ظنهم أنه لم يقتل وإنما قبض عليه، وأنهم يأخذونه من المعز، وكان أعيانهم بيبرس البندقداري، وقلاوون والألفي، وسنقر الأشقر، وبيسرى، وسكز، وبرامق. فلم يشعروا إلا ورأس أقطاي قد رمي بها المعز إليهم، فسقط في أيديهم وتفرقوا بأجمعهم. وخرجوا في الليل من القاهرة وحرقوا باب القراطين فعرف بعد ذلك بالباب المحروق إلى اليوم فمنهم من قصد الملك المغيث بالكرك، ومنهم من سار إلى الملك الناصر بدمشق، ومنهم من أقام ببلاد الغور والبلقاء والكرك والشوبك والقدس، يقطع الطريق ويأكل بقائم سيفه.
واتفق أن اثني عشر من البحرية مروا في تيه بني إسرائيل، فأقام به خمسة أيام حائرين، فلاح لهم في اليوم السادس سواد على بعد فقصدوه، فإذا مدينة عظيمة، ذات أسور وأبواب حصينة، كلها من رخام أخضر. فطافوا بداخل المدينة، وقد غلب عليها الرمل في أسواقها ودورها، وصارت أوانيهم وملابسهم إذا أخذت تتفتت وتبقى هباء. فوجدوا في صواني بعض البزارين تسعة دنانير، قد نقش عليها صورة غزال حوله كتابة عبرانية. وحفروا مكاناً، فإذا بلاطة، فلما رفعوها وجدوا صهريجاً فيه ماء أبرد من الثلج، فضربوا وساروا ليلتهم. فإذا بفريق عرب فحملوهم إلى الكرج، فعرضوا تلك الدنانير على الصيارف، فقال بعضهم هذه ضربت في أيام موسى عليه السلام. وسألوا عن المدينة، فقيل هذه المدينة الخضراء، بنيت لما كان بنو إسرائيل في التيه، ولها طوفان من رمل يزيد تارة وينقص أخرى، ولا يقع عليها إلا تائه. وصرفوا كل دينار بمائة درهم.
وسار منهم قشتمر العجمي، وشارباش العجمي، وسنجر الحاووك والركن الفارقاني وسنقر الجبيلي، وسنقر المجيشي الكبير، والحبيشي الصغير الحاجب، والصقلي، والغتمي وبلبان النجمي، وبكمش المسعودي، وأبو عبية، والنميسي، وفخر الدين ماما، وأيدمر، الجمدار الرومي، وسنقر الركني، والحسام قريب سكز، وإيدغدي الفارسي، وبلبان الزهيري، وسنجر البحري، وإزدمر السيفي وإزدمر البواشقي مملوك الرشيدي الكبير، والعنتابي، والمستعربي وسنقر البديوي، وأيبك الشقاري، وإيدغدي فتنة، وسيف الدين الأشل، والخولاني، وسنجر الشكاري، والمطروحي، وأيبك الفارسي، وأياس المقري، في جماعة كبيرة من المماليك الصغار الجمدارية الصالحية. وكان الحاكم المقدم على هؤلاء الأمير علم الدين سنجر الباشقردي - وهو أعقلهم وأعرفهم - ، والأمير شمس الدين سنقر الجبلي - وهو أفرسهم وأشهرهم بالشطارة. فمضي هؤلاء إلى السلطان علاء الدين ملك السلاجقة الروم. فلما أصبح الملك المعز أيبك، وعلم بخروج الجماعة من القاهرة، قبض على من بقي منهم، وقتل بعضهم وحبس باقيهم، وأوقع الحوطة على أملاكهم وأموالهم ونسائهم وأتباعهم، واستصفى أموالهم وذخائرهم وشونهم. وظفر للفارس أقطاي بأموال عظيمة. ونودي في القاهرة ومصر بتهديد من أخفى أحد من البحرية، وتمكن عند ذلك الملك المعز، وارتجع الإسكندرية إلى الخاص السلطاني، وخفف بعض ما أحدث من المصادرات والجبايات.
فلما وصل البحرية إلى غزة، وفيهم ركن الدين بيبرس البندقداري، وسيف الدين بلبان الرشيدي وعز الدين إزدمر السيفي، وشمس الدين سنقر الأشقر، وسيف الدين سكز، وسيف الدين قلاوون، وبدر الدين بيبرس - كتبوا إلى الملك الناصر بأنهم قد وصلوا إلى خدمته، فأذن لهم وعروا على بلاد الفرنج بالساحل، فقتلوا ونهبوا حتى قاربوا دمشق. فخرج إلى لقائهم الملك الناصر، وخلع عليهم وأعطاهم. هذا وهم يحثونه على قصد مصر وهو يدافعهم.(1/129)
فخاف المعز غائلتهم، وكتب إلى الناصر يوهمه منهم، ويخوفه عاقبة شرهم وطلب منه الناصر البلاد التي كان قد أخذها بالساحل لأجل البحرية، وأنها في إقطاعتهم. فأعادها المعز إلى الملك الناصر، فأقر كل إقطاع منها بيد من كان له، وكتب مناشرها عنه للبحرية.
وكتب الملك المعز إلى سلطان الروم بأن البحرية قوم مناحيس أطراف، لا يقفون عند الأيمان، ولا يرجعون إلى كلام من هو أكبر منهم، وإن استأمنتهم خانوا، وإن استحلفتهم كذبوا، وإن وثقت بهم غدروا. فتحرر منهم على نفسك، فإنهم غدارون مكارون خوانون، ولا أمن أن يمكروا عليك،. فخاف سلطان الروم منهم، وكانوا مائة وثلاثين فارساً، فاستدعاهم وقال: يا أمراء ما لكم ولأستاذكم، فتقدم الأمير علم الدين سنجر الباشقردي، وقال: يا مولانا من هو أستاذنا، قال: الملك المعز صاحب مصر، فقال الباشقردي: يحفظ الله مولانا السلطان إن كان الملك المعز قال في كتابه أنه أستاذنا فقد أخطأ، إنما هو خوشداشنا ونحن وليناه علينا، وكان فينا من هو أكبر منه سناً وقدراً وأفرس وأحق بالمملكة، فقتل بعضنا وحبس بعضنا وغرق بعضنا، فمر بنا منه وتشتتنا في البلاد، ونحن التجأنا إليك فأعجب سلطان الروم بهم، واستخدمهم عنده.
وفيها وقع الصلح بين الملك الناصر وبين الفرنج أصحاب عكا، لمدة عشر سنين وستة أشهر وأربعين يوماً أولها مستهل الحرم، على أن يكون للفرنج من نهر الشريعة مغرباً، وحلف الفريقان على ذلك.
وفيها أقطع الملك المعز أيبك الأمير علاء الدين أيدغدي العزيزي دمياط زيادة على إقطاعه، وارتفاعها يومئذ ثلاثون ألف دينار، وفيها خرج الملك المعز من قلعة الجبل بالعساكر وخيم بالباردة قرب العباسية خوفاً من البحرية لنزولهم بالموجاء.
وفيها سفر الملك المعز أيبك الأشرف موسى بن الناصر يوسف بن الملك المسعود إلى بلاد الأشكري منفياً، وفيها درس الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام بالمدرسة الصالحية بين القصرين. وفيها وصل الشريف عز الدين أبو الفتوح مرتضى ابن أبي طالب أحمد بن محمد بن جعفر الحسيني إلى دمشق، ومعه الخونده ملكة خاتون بنت السلطان علاء الدين كيقباد ملك السلاجقة الروم، وزوجة الملك الناصر يوسف. فزفت إليه، وقد احتفل بقدومها، وبالغ في عمل الوليمة لها.
وفيها ظهرت نار بعدن روعت القلوب. وفيها ولى المنصور قضاء حماه شمس الدين إبراهيم بن هبة الله البارزي، بعد المحبي حمزة بن محمد.
وفيها مات ملك التتر طرطق خان بن دوشي خان بن جنكز خان، فكانت مدته سنة وشهوراً. فقام بعده بركة خان بن جوشي خان بن جنكز خان، وأسلم وأظهر شعائر الإسلام في مملكته واتخذ المحارس وأكرم الفقهاء. وأسلمت زوجته ججك واتخذت لها مسجداً من الخيم، وذلك على يد الشيخ نجم الدين كبرا.
وفيها توفي مجد الدين أبو البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي عن اثنتين وستين سنة.
وتوفي كمال الدين أبو سالم محمد بن أحمد بن هبة الله بن طلحة النصيبيني الشافعي خطب دمشق بحلب، وقد قدم القاهرة.
وفيها أخذ مكة الشريف راجح بن قتادة من الشريف جماز بن حسن، بغير قتال، ثم أخذها ابنه غانم بن راجح في ربيع الأول بغير قتال، فقام عليه الشريف أبو نمى بن أبي سعيد بن علي بن قتادة في شوال ومعه الشريف إدريس، وحارباه وملكا مكة. فقدم في خامس عشري ذي القعدة مبارز الدين الحسين بن علي بن برطاس من اليمن، وقاتلهما وغلبهما، وحج بالناس.
سنة ثالث وخمسين وستمائة
فيها سار الأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحي إلى بلاد الصعيد، وأظهر الخروج عن طاعة الملك المعز، وجمع العربان. فسير إليه الملك المعز الوزير الصاحب الأسعد شرف الدين الفائزي، ومعه طائفة من العسكر، حتى سكن الأمور. وأخرج الملك الناصر عسكراً إلى جهة ديار مصر، ومعهم البحرية: وهم الأمير سيف الدين بلبان الرشيد، وعز الدين أزدمر، وشمس الدين سنقر الرومي، وشمس الدين سنقر الأشقر، وبدر الدين بيسري، وسيف الدين قلاوون، وسيف الدين بلبان المسعودي، وركن الدين بيبرس البندقداري، وعدة من مماليك الفارس أقطاي.(1/130)
وفيها قتل الملك المعز الأمير علاء الدين أيدغدي العزيزي، بعدما قبض عليه، وكان قد قبض أيضاً على الفارس أقطاي العزيزي، والفارسي أقطاي الأتابك، وهرب منه أقش الركني، وأمر الملك المعز ألا تخرج امرأة من بيتها، ولا يمشي رجل بلا سراويل. فقال أبو الحسين الجزار في ذلك:
حنا الملك المعز على الرعايا ... وألزمهم قوانين المروة
وصان حريمهم من كل عار ... وألبسهم سروايل الفتوة
وفيها توجه الناصر داود بن المعظم عيسى إلى بغداد، يطلب ما أودعه عند الخليفة من الجوهر، وقيمته مائة ألف دينار. فمطل مدة، فتوجه إلى الحجاز، واستشفع إلى الخليفة في رد وداعته، وعاد إلى العراق. فعوض عن جوهره بما لا يذكر، ورد إلى الشام، وفيها قدم مكة أبو نمى وإدريس، ومعهما جماز بن شيحة أمير المدينة، فقاتلوا المبارز بن برطاس، وأخذوا مكة.
ومات في هذه السنة من الأعيان
الأمير شرف الدين يوسف بن أبي الفوارس بن موسك القيمري بنابلس، ودفن بدمشق. وتوفي نقيب الأشراف بحلب، وهو الشريف عز الدين أبو الفتوح مرتضى بن أبي طالب أحمد بن أحمد بن أبي الحسن محمد بن جعفر بن زيد بن جعفر بن إبراهيم محمد بن ممدوح أبي العلاء، عن أربع وسبعين سنة بحلب.
وتوفي نظام الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن عثمان البلخي الحنفي البغدادي، بحلب عن تسع وسبعين سنة.
وتوفي ضياء الدين أبو محمد جعفر بن يحيى بن سالم بن يحيى بن عيسى بن صقر المحلي الشافعي، عن نيف وتسعين سنة بحلب، قدم مصر وحدث بها.
سنة أربع وخمسين وستمائة
فيها ورد الشيخ نجم الدين علم عبد الله بن محمد بن الحسن البادرائي، من قبل الخليفة المستعصم بالله، ليجدد الصلح بين الأول وبين الملك الناصر والملك المعز، فبعث السلطان إلى القائد برهان الدين خضر السنجاري، فسار إلى قطبا، ومعه جماعة من أعيان الفقهاء، حتى قدم به. فقرر الصلح على أن يكون للملك المعز ما كان للملك الصالح نجم الدين أيوب من الساحل ببلاد الشام، مع ملك مصر، وأن الملك الناصر لا يأوي عنده أحداً من البحرية، فمضوا إلى المغيث بالكرك. وتولى الصلح قاضي القضاة بدر الدين السنجاري، فلما تم الصلح عاد البادرائي، ورحل الملك الناصر عن تل العجول إلى دمشق، وعاد المعز من العباسية - بعد إقامته عليها ثلاث سنين - إلى قلعة الجبل.
وسار الأمير شمس الدين سنقر الأقرع رسولاً إلى الخليفة ببغداد، وصحبه الشيخ نجم الدين البادرائي، يلتمس تشرفه بالتقلد والخلع والأولوية للملك المعز، أسوة من تقدمه من ملوك مصرة فسار إلى بغداد. وبعث الملك المعز إلى الملك المنصور بن المظفر صاحب حماة وإلى الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، يخطب ابنتيهما لنفسه. فشق ذلك على زوجته شجر الدر وتغيرت عليه، فتنكر لها وفسد ما بينهما، فأخذت تدبر في قتله.
وفي خامس جمادى الآخرة: ظهرت نار بأرض الحجاز، واستمرت شهراً في شرقي المدينة النبوية، بناحية وادي شظا تلقاء جبل أحد، حتى امتلأت تلك الأودية منها وصار يخرج منها شرر يأكل الحجارة، وزلزلت المدينة بسببها. وسمع الناس أصواتاً مزعجة قبل ظهورها بخمسة أيام، أولها يوم الاثنين أول الشهر، فلم تزل الأصوات ليلاً ونهاراً، حتى ظهرت النار يوم الجمعة. وقد انبجست الأرض عن نار عظيمة عند وادي شظا، وامتدت أربعة فراسخ في عرض أربعة أميال وعمق قامة ونصف، وسال الصخر منها، ثم صار فحماً أسود. وأضاءت بيوت المدينة منها في الليل، حتى كان في كل بيت مصباحاً، ورأى الناس سناها بمكة، فالتجأ أهل المدينة إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوا واستغفروا الله تعالى، وأعتقوا عبيدهم وتصدقوا، وقال بعضهم:
يا كاشف الضر صفحاً عن جرائمنا ... لقد أحاطت بنا يا رب بأساء
نشكو إليك خطوباً لا نطق لها ... حملاً ونحن لها حقاً أحقاء
زلازلاً تخشع الصم الصلاب لها ... وكيف لقوي على الزلزال شماء
بحراً من النار تجري فوقه سفن ... من الهضاب لها في الأرض إرساء
ترى لها شرراً كالقصر طائشة ... كأنهما ديمة تنصب هطلاء
تحدث النيرات السبع ألسنها ... بما تلاقي به تحت الثرى الماء(1/131)
منها تكاثف في الجو الدخان إلى ... أن عادت الشمس منها وهي دهماء
فيالها أية من معجزات رسول ... الله يعقلها القوم الألباء
فاسمح وهب ولفضل وامح واعف وجد ... واصفح فكل لفرط الحلم خطاء
وذكر غير واحد من الأعراب الذين كانوا بحاضرة بلدة بصرى من أرض الشام، أنهم رأوا صفحات أعناق إبلهم في ضوء هذه النار. وفي ليلة الجمعة مستهل شهر رمضان، احترق مسجد محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مسرجه القيم، وذهبت سائر صفوفه، وبعض عمده، واحترق سقف الحجرة الشريفة.
وفيها غرقت بغداد وهلك بها عالم عظيم، وسارت السفن في أزقتها. وفيها قوي أمر هولاكو بن طولو خان بن جنكز خان، وظهر اسمه، وفتح عمق قلاع بالشرق وفيها دخل مقدم من التتار إلى أرض الروم السلاجقة، ففر منه السلطان غياث الدين كيخسرو ومات في فراره، فقام من بعده أولاده الثلاثة، وأخذ التتار قيسارية وما حولها، فصار لهم من بلاد الروم مسافة شهر.
وفيها وصلت جواسيس هولاكو إلى الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي ببغداد، وتحدثوا معه ووعدوا جماعة من أمراء بغداد مواعيد، والخليفة في لهوه لا يعبأ بشيء من ذلك.
وفيها ولي تاج الدين أبو محمد عبد الوهاب بن خلف بن أبي القاسم ابن بنت الأعز قضاء القضاة، عوضاً عن بدر الدين يوسف السنجاري. وفيها سار إدريس إلى راجح، وأخذ مكة أبو نمى، فجاء راجح مع إدريس وأصلح بينه وبين أبي نمى. وفيها قدم مكة ركب الحاج من العراق، ولم يحج بعدها ركب من العراق.
ومات في هذه السنة من الأعيان
شمس الدين يوسف بن قزغلي بن عبد الله أبو المظفر - هو سبط الحافظ أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي - الفقيه الحنفي الواعظ.
وتوفي شرف الدين أبو محمد عبد العزيز بن عبد الرحمن بن هبة الله بن قرناص الخزاعي الحموي الفقيه الشافعي الأديب.
وتوفي زكي الدين أبو محمد عبد العظيم بن عبد الوحد بن ظافر بن أبي الإصبع الفقيه الشافعي النحوي الأديب، عن خمس وستين سنة.
وتوفي الشيخ أبو الروح عيسى بن أحمد بن الياس البونيني ببعلبك.
ومات ملك الروم غياث الدين كيخسرو بن علاء الدين كيقباد بن غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش، وقد ملك التتر قيصرية وميسرة معها، فقام بعده ابنه عز الدين كيقباد بن كيخسرو.
سنة خمس وخمسين وستمائة
فيها تزايدت الوحشة بين الملك المعز أيبك وبين شجر الدر، فعزم على قتلها. وكان له منجم قد أخبره أن سبب قتلته امرأة، فكانت هي شجر الدر. وذلك أنه كان قد غير عليها، وبعث يخطب ابنة صاحب الموصل.
وأتفق أن المعز قبض على عدة من البحرية، وهو على أم البادر، وسيرهم ليعتقلوا بقلعة الجبل، وفيهم أيدكين الصالحي. فلما وصلوا تحت الشباك الذي تجلس فيه شجر الدر علم أيدكين أنها هناك، فخدم برأسه وقال التركي: المملوك أيدكين بشمقدار والله يا خوند ما علمنا ذنباً يوجب مسكنا إلا أنه لما سير يخطب بنت صاحب الموصل، ما هان علينا لأجلك، فإنا تربية نعمتك ونعمة الشهيد المرحوم، فلما عتبناه تغير علينا وفعل بنا ما ترين فأومأت شجر الدر إليه بمنديل، يعني: لقد سمعت كلامك، فلما نزلوا بهم إلى الجب قال أيدكين: إن كان حبسنا فقد قتلناه.
وكانت شجر الدر قد بعثت نصراً العزيزي بهدية إلى الملك الناصر يوسف، وأعلمته أنها قد عزمت على قتل المعز، والتزوج به وممليكه مصر. فخشي الملك الناصر يوسف أن يكون هذا خديعة، فلم يجبها بشيء.
وبعث بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل يحذر الملك المعز من شجر الدر وأنها باطنت الملك الناصر يوسف، فتباعد ما بينهما، وعزم على إنزالها من القلعة إلى دار الوزارة. وكانت شجر الدر قد استبدت بأمور المملكة ولا تطلعه عليها، وتمنعه من الاجتماع بأم ابنه وألزمته بطلاقها، ولم تطلعه على ذخائر الملك الصالح.(1/132)
فأقام الملك المعز بمناظر اللوق أياماً، حتى بعثت شجر الدر من حلف عليه. فطلع القلعة وقد أعدت له شجر الدر خمسة ليقتلوه: منهم محسن الجوجري، وخادم يعرف بنصر العزيزي، ومملوك يسمى سنجر. فلما كان يوم الثلاثاء رابع عشري شهر ربيع الأول، ركب الملك المعز من الميدان بأرض اللوق، وصعد إلى قلعة الجبل آخر النهار. ودخل إلى الحمام ليلاً، فأغلق عليه الباب محسن الجوجري، وغلام كان عنده شديد القوة ومعهما جماعة. وقتلوه بأن أخذه بعضهم بأنثييه وبخناقه، فاستغاث المعز بشجرة الدر فقالت اتركوه، فأغلظ لها محسن الجوجري في القول، وقال لها: متى تركناه لا يبقي علينا ولا عليك، ثم قتلوه.
وبعثت شجر الدر في تلك الليلة إصبع المعز وخادمة إلى الأمير عز الدين أيبك الحلبي الكبير، وقالت له: قم بالأمر، فلم يجسر وأشيع أن المعز مات فجأة في الليل، وأقاموا الصائح في القلعة، فلم تصدق مماليكه بذلك: وقام الأمير لهم الدين سنجر الغتمي - وهو يومئذ شوكة البحرية وشديدهم - ، وبادر هو والمماليك إلى الدور السلطانية، وقبضوا على الخدام والحريم وعاقبوهم، فأقروا بما جرى. وعند ذلك قبضوا على شجر الدر، ومحسن الجوجري، ناصر الدين حلاوة، وصدر الباز، وفر العزيزي إلى الشام.
فأراد مماليك المعز قتل شجر الدر، فحماها الصالحية، ونقلت إلى البرج الأحمر بالقلعة ثم لما أقيم ابن المعز في السلطنة، حملت شجر الدر إلى أمه في يوم الجمعة سابع عشريه فضربها الجواري بالقباقيب إلى أن ماتت في يوم السبت. وألقوها من سور القلعة إلى الخندق، وليس عليها سراويل وقميص، فبيت في الخندق أياماً، وأخذ بعض أراذل العامة تكتة سراويلها. ثم دفنت بعد أيام - وقد نتنت، وحملت في قفة - بتربتها قريب الشهد النفيسي. وكانت من قوة نفسها، لما علمت أنها قد أحيط بها، أتلفت شيئاً كثيراً من الجواهر واللآلئ، كسرته في الهاون. وصلب محسن الجوجري على باب القلعة، ووسط تحت القلعة أربعون طواشياً وصلبوا من القلعة إلى باب زويلة. وقبض على الصاحب بهاء الدين بن حنا، لكونه وزير شجر الدر، وأخذ خطة بستين ألف دينار.
فكانت مدة سلطنة الملك المعز سبع سنين تنقص ثلاثة وثلاثين يوماً، وعمره نحو ستين سنة وكان ملكاً حازماً شجاعاً سفاكاً للدماء: قتل خلقاً كثيراً، وشنق عالماً من الناس بغير ذنب ليوقع في القلوب مهابته، وأحدث مظالم ومصادرات عمل بها من بعده ووزر له الصاحب تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز، ثم صرفه، واستوزر القاضي الأسعد شرف الدين هبة الله بن صاعد الفائزي، فتمكن منه ممكناً زائداً وأحدث القاضي الأسعد حوادث شنيعة من المظالم، واستناب في الوزارة القاضي زين الدين يعقوب بن الزبير - كان يعرف اللسان التركي - ، ليحفظ له مجالس أمراء الدولة، ويطالعه ما يقال عنه.
الملك المنصور نور الدين علي
بن الملك المعز أيبك
أقامه أمراء الدولة سلطاناً بقلعة الجبل، يوم الخميس سادس عشري شهر ربيع الأول، سنة خمس وخمسين وستمائة، وعمره خمس عشرة سنة تقريباً، وحلفوا له واستحلفوا العسكر، ماخلا الأمير عز الدين أيبك الحلبي المعروف بأبيك الكبير، فإنه توقف وأراد الأمر لنفسه، ثم وافق خوفاً على نفسه. فركب الأمير قطز - هو والأمراء - وقبض على الأمير سنجر الحلبي، يوم الجمعة عاشر ربيع الآخر، واعتقله فركب الأمير أيبك الحلبي الكبير في الأمراء الصالحية فلم توفق، وتقنطر عن فرسه خارج باب زويلة، فأدخل إلى القاهرة ميتاً. وأقيم الأمير سيف الدين قطز نائب السلطة على عادته، وصار مدبر الدولة الملك المنصور علي.(1/133)
وأقيم الأمير فارس الدين أقطاي المستعرب الصالحي أتابك العساكر، عوضاً عن الأمير علم الدين سنجر الحلبي واستمر الوزرة شرف الدين الفائزي على عادته فنقل عنه الأمير سابق الدين بوزيا الصيرفي، والأمير ناصر الدين محمد بن الأطروش الكردي أمير جاندار، أنه قال: المملكة ما تمشى بالصبيان، والرأي أن يكون الملك الناصر. فتوهمت أم المنصور من أنه يرسل إلى الملك الناصر، وقبضت عليه وأدخلته إلى الدور، وأخذ خطة بمائة ألف دينار. واستقر في الوزارة بعده قاضي القضاة بدر الدين يوسف بن الحسن السنجاري، مضافاً إلى القضاء وقد أعيد إليه. وأحيط بأموال الفائزي، وقبض على جماعة بسببه. ثم إن السنجاري استعفى من الوزارة وتركها في ربيع الآخر، فتقلد الوزارة قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن خلف العلائي، المعروف بابن بنت الأعز، بعد السنجاري.
وفي ليلة الخامس عشر من جمادى الآخرة: خسف القمر بحمرة شديدة، وأصبحت الشمس حمراء، فأقامت كذلك أياماً وهي ضعيفة اللون متغيرة.
وفيها بلغ البحرية الذين كانوا ببلاد السلاجقة الروم موت الملك المعز، فساروا في البر والبحر، ووصلوا إلى القاهرة. فلم تطل مدتهم حتى كرهوا المنصور بن المعز، لكثرة لعبه بالحمام ومناقرته بالديوك ومعالجته بالحجارة وركوبه الحمير الفرء في القلعة، ومناطحته بالكباش.وفيها دخل الصارم أحمد عينه الصالحي بجماعة، فقتلوا الوزير الفائزي في جمادى الأولى. وأخرج في نخ قال ابن واصل: حكي القاضي برهان الدين أخو الصاحب بهاء الدين بن حنا قال: دخلت على شرف الدين الفائزي وهو معتقل، فسألني أن أتحدث في إطلاقه، بحكم أنه يحمل في كل يوم ألف دينار علينا. فقلت له: وكيف تقدر على ذلك. فقال: أقدر عليه إلى تمام السنة، وإلى أن تمضي سنة يفرج الله تعالى. فلم يلتفت مماليك الملك المعز إلى ذلك وعجلوا بهلاكه وخنقوه، وحمل إلى القرافة ودفن بها.
وفيها وقعت الوحشة بين الملك الناصر وبين من عنده من البحرية، ففارقوه في شوال، وقصدوا الملك المغيث صاحب الكرك. فأخرج الأمير سيف الدين قطز العسكر الصالحية، فواقعوهم في يوم السبت خامس عشر ذي القعدة، وأسروا الأمير سيف الدين قلاوون، والأمير سيف الدين بلبان الرشيدي، وقتل الأمير سيف الدين بلغان الأشرفي. وانهزم عسكر الكرك وفيهم بيبرس البندقداري الذي ملك مصر. وعاد العسكر إلى القاهرة، فضمن الأمير شرف الدين قيران - المعزي وهو أستادار السلطان - الأمير قلاوون وأطلقه. فأقام قلاوون بالقاهرة قليلاً، ثم اختفى بالحسينية عند سيف الدين قطليجا الرومي، فزوده وسار إلى الكرك.
وفيها بعث الخليفة إلى الناصر يوسف بدمشق خلعة وتقليداً وطوقاً، وفيها حسن البحرية للملك المغيث أخذ ملك مصر، فكاتب عدة من الأمراء ووعدهم. وفيها قوي هولاكو بن طولو بن جنكزخان، وقصد بغداد وبعث يطلب الضيافة من الخليفة فكثر الإرتجاف ببغداد، وخرج الناس منها إلى الأقطار. ونزل هولاكو تجاه دار الخلافة وملك ظاهر بغداد، وقتل من الناس عالماً كبيراً.
وفيها قدم إلى دمشق الفقراء الحيدرية، وعلى رءوسهم طراطير، ولحاهم مقصوصة وشواربهم بغير قص. وذلك أن شيخهم حيدر، لما أسره الملاحدة قصوا لحيته وتركوا شاربه. فاقتدوا به في ذلك وبنوا لهم زاوية خارج دمشق، ومنها وصلوا إلى مصر.
ومات في هذه السنة من الأعيان
نجم الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن الحسن بن أبي سعد البادرائي البغدادي الشافعي، رسول الخلافة وقاضي بغداد، عن إحدى وستين سنة.
وتوفي الوزير الصاحب الأسعد شرف الدين أبو سعيد هبة الله بن صاعد الفائزي.
وتوفي عز الدين أبو حامد عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن أبي الحديد المدائني، مؤلف كتاب الفلك الدائر على المثل السائر.
ومات متملك الروم علاء الدين كيقباد بن غياث الدين كيسرو بن علاء الدين كيقباد بن غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان. وقام بعده أخوه عز الدين كيكاوس ابن غياث كيخسرو، فملك الططر قونية منه، قفز منها إلى العلايا.
سنة ست وخمسين وستمائة
فيها وقع الغلاء بسائر البلاد، وارتفعت الأسعار بدمشق وحلب وأرض مصر، وأبيع المكوك القمح بحلب بمائة درهم، والشجر بستين درهماً، والبطيخة الخضراء بثلاثين درهماً، وبقية الأسعار من هذه النسبة.(1/134)
وفي رابع شهر رمضان: سقطت إحدى مسان فرعون التي بعين شمس، فوجد فيها نحو المائتي قنطار نحاس، وأخذ من رأسها عشرة آلاف دينار.
وفيها ملك هولاكو بغداد، وقتل الخليفة المستعصم بالله عبد الله في سادس صفر، فكانت خلافته خمس عشرة سنة وسبعة أشهر وستة أيام. وانقرضت بمهلكه دولة بني العباس من بغداد، وصار الناس بغير خليفة إلى سنة تسع وخمسين وستمائة، فصح حديث حبيب بن أبي ثابت، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، أن رسول الله قام فقال: " يا معشر قريش، إن هذا الأمر لا يزال فيكم، وأنتم ولاته حتى تحدثوا أعمالاً تخرجكم منه. فإذا فعلتم ذلك سلط الله عليكم شر خلقه، فالتحوكم كما يلتحي القضيب " .
وقتل الناس ببغداد وتمزقوا في الأقطار، وخرب التتر الجوامع والمساجد والمشاهد، وسفكوا الدماء حتى جرت في الطرقات، واستمروا على ذلك أربعين يوماً. وأمر هولاكو بعد القتلى، فبلغت نحو الألفي ألف قتيل، وتلاشت الأحوال بها. وملك التتار أربل، ودخل بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل في طاعتهم.
وفيها كثر الوباء ببلاد الشام، فكان يموت من حلب في كل يوم ألف ومائتا إنسان. ومات من أهل دمشق خلق كثير، وبلغ الرطل التمر هندي ستين درهماً.
وفيها أنفذ الملك الناصر صاحب دمشق ابنه الملك العزيز إلى هولاكو، ومعه تقادم وعدة من الأمراء فلما وصل الملك العزيز إلى هولاكو قدم إليه ما معه، وسأله على لسان أبيه في نجدة ليأخذ مصر من المماليك، فأمر هولاكو أن يتوجه إليه بعسكر فيه قدر العشرين ألف فارس. فطار هذا الخبر إلى دمشق، فرحل من كان بها من المماليك البحرية، وصاروا إلى الملك المغيث عمر بالكرك وحرضوه على أخذ مصر، فجمع الملك المغيث وسار.
فتجهز الأمير قطز، وخرج من القلعة بالعساكر في..، فلما وصل الصالحية تسلل إلى الملك المغيث من كان كاتبه من الأمراء وصاروا إليه، فلقيهم قطز وقاتلهم. فانهزم الملك المغيث في شرذمة إلى الكرك، ومضى البحرية نحو الطور، واتفقوا مع الشهرزورية من الشرق. واستولى المصريون على من بقي من عساكر المغيث وأثقاله، وأسروا جماعة، وعادوا إلى قلعة الجبل. وقد تغير قطز على عدة من الأمراء، لميلهم إلى الملك المغيث: فقبض على الأمير عز الدين أيبك الرومي الصالحي، والأمير سيف الدين بلبان الكافوري الصالحي الأشرفي، والأمير بدر الدين بكتوت الأشرفي، والأمير بدر الدين بلغان الأشرفي، وجماعة غيرهم، وضرب أعناقهم في سادس عشري ربيع الأول، وأخذ أموالهم كلها.
وفيها فر طائفة حمن الأكراد من وجه عسكر هولاكو، يقال لهم الشهرزورية، وقدموا دمشق وعدتهم نحو ثلاثة آلاف، ومعهم أولادهم ونساؤهم. فسر بهم الملك الناصر واستخدمهم ليتقوى بهم، فزاد عنتهم وكثر طلبهم حتى خافهم، وأخذ يداريهم وما يزيدهم ذلك إلا تمرداً عليه، إلى أن تركوه وساروا إلى الملك المغيث بالكرك، فسر بهم وتاقت نفسه إلى أخذ دمشق، فخاف الناصر وتخيل من الأمراء القيمرية اللذين في دمشق فاضطرب وتحير.
وفمها مات أمير بني مرين أبو محيى بن عبد الحق بن محيو بن أبي بكر بن حمامة، في رجب. وقام من بعده ابنه عمر، ونازعه عمه يعقوب بن عبد الحق وأبو محيى هو الذي فتح الأمصار، وأقام رسوم المملكة، وقسم بلاد المغرب بين عشائر بني مرين، وقام بدعوة الأمير أبي زكريا بن أبي حفص صاحب تونس. وأبو يحيى أول من اتخذ الموكب الملكي منهم، وملك مدينة فاس. وقد استبد أبو يحيى بملك المغرب الأقصى، وبنو عبد الواحد بملك المغرب الأوسط، وبنو أبي حفص بإفريقية. وهذا وقد أشرفت دولة الموحدين بني عبد المؤمن على الزوال.
وفي سنة ست خمسين هذه: قدم أولاد حسن مكة، وقبضوا على إدريس وأقاموا ستة أيام، فجاء أبو نمى وأخرجهم ولم يقتل بينهم أحد.
ومات في هذه السنة من الأعيان(1/135)
الخليفة العباسي المستعصم بالله أبو أحمد عبد الله بن المستنصر بالله أبي جعفر منصور ابن الظاهر بالله أبي نصر محمد بن الناصر لدين الله أبي العباس أحمد، آخر خلائف بني العباس مقتولاً في سادس صفر، بعدما أتلف عساكر بغداد لنهمته في جمع المال فدهي الإسلام وأهله بلينه وإسناده الأمر إلى وزيره ابن العلقمي، فإنه قطع أرزاق الأجناد، واستجر التتار حتى كان ما كان ومات الملك الناصر داود بن المعظم عيسى ابن العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي، صاحب دمشق والكرك بعدما مرت به خطوب كثيرة، عن ثلاث وخمسين سنة خارج دمشق. وله شعر بديع.
وتوفي الحافظ زكي الدين أبو عبد الله عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله بن سلامة المنذري الشافعي الإمام الحجة عن خمس وسبعين سنة.
ومات محيى الدين أبو المظفر يوسف بن الحافظ جمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن ابن محمد بن علي بن محمد بن جعفر بن الجرزي البكري البغدادي الحنبلي، محتسب بغداد ورسول الخلافة، عن ست وسبعين سنة.
وتوفي الصاحب محيى الدين أبو عبد الله محمد بن نجم الدين أبي الحسن أحمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زيد بن هارون بن موسى بن عيسى ابن عبد الله بن محمد بن عامر أبي جرادة العقيلي بن العديم الحنفي، عن ست وستين سنة بحلب.
وتوفي نظام الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن عبد المجيد بن المولى الأنصاري الحلبي، صاحب الإنشاء بحلب.
وتوفي ناظر الجيش بحلب، واسمه عون الدين أو المظفر بن البهاء أبي القاسم عبد الحميد بن الحسن بن عبد الله بن الحسن بن العجمي الحلبي، عن خمسين سنة وتوفي الصاحب عز الدين أبو حامد محمد بن محمد بن خالد بن محمد نصر بن القيسراني الحلبي، ناظر الدواوين بدمشق.
وتوفي الصاحب بهاء الدين زهير بن محمد بن علي بن يحيى الأزدي المكي الكاتب الشاعر الماهر، صاحب الإنشاء بديار مصر، عن خمس وسبعين سنة.
وتوفي الأمير سيف الدين علي بن سابق الدين عمر بن قزل - المعروف بالمشد عن أربع وخمسين سنة، وشعره غاية في الجودة.
وتوفي شاعر بغداد جمال الدين أبو زكريا يحيى بن يوسف بن يحيى بن منصور الصرصري الحنبلي شهيداً، عن ثمان وستين سنة.
وتوفي الأديب شرف الدين أبو الطيب أحمد بن محمد بن أبي الوفاء بن الحلاوي الموصلي، عن ثلاث وخمسين سنة بالموصل.
وتوفي الأديب سعد الدين أبو سعد محمد بن محيى الدين محمد بن علي بن عربي، بدمشق.
وتوفي الأديب نور الدين أبو بكر محمد عبد العزيز بن عبد الرحيم بن رستم الأسعردي، بدمشق.
وتوفي الشيخ أبو الحسن علي بن عبد الله بن عبد الحق بن يوسف الشاذلي الزاهد، بصحراء عيذاب.
وتوفي أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن أحمد بن أبي الفتح، خطب مردا، التركي الحنبلي عن سبعين سنة، بمردا من عمل دمشق، وكان قد حدث بالقاهرة.
سنة سبع وخمسين وستمائة
فيها نازل التتار ماردين فلم ينالوا منها شيئاً، فرحلوا عنها إلى ميافارقين وحاصروا أهلها، حتى أكلوا من عدم الأقوات جلود النعال التي تلبس في الرجلين.
وفيها خرج الملك المغيث من الكرك بعساكره يريد دمشق، فخرج الملك الناصر من دمشق إلى محاربته، ولقيه بأريحا وحاربه، فانهزم المغيث إلى الكرك. وسار الناصر إلى القدس فأقام بعد أياماً، ثم رحل إلى زيراء فخيم على بركتها. وأقام هناك مدة ستة أشهر، والرسل تتردد بينه وبين المغيث إلى أن وقع الاتفاق بينهما، على أن الناصر يتسلم الطائفة من المغيث البحرية جميعهم، وأن المغيث يبعد عنه الشهرزورية، صارت الشهرزورية من بلاد الكرك إلى الأعمال الساحلية.(1/136)
وسير الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري إلى الملك الناصر يلتمس منه الأمان، فحلف له وحضر ركن الدين بيبرس إليه على بركة زيزاء، ومعه بدر الدين بيسري، وإيتمش المسعودي، وطيبرس الوزيري، وبلباي الرومي الدوادار، وأقوش الرومي ولاحين الدرفيل الدوادار، وكشتغدي المشرف، وأيدغمش الشيخي، وأيبك الشيخي، وبلبان المهراني، وخاص ترك الكبير، وسنجر المسعودي، وأياز الناصري، وسنجر الهمامي، وأيبك العلائي، وطمان الشقيري، ولاجين الشقيري، وسلطان الإلدكزي، وبلبان الإقسيسي، وعز الدين بيبرس. فأكرمه الملك الناصر، وأقطعه نصف نابلس وجينين وأعمالها، بمائة وعشرين فارساً. وبعث المغيث سائر البحرية إلى الملك الناصر، فرحل عن زيزاء إلى دمشق، وقبض على البحرية واعتقلهم.
وفيها قدم الملك العزيز بن الملك الناصر من عند هولاكو، وعلى يده كتابه ونصه: الذي يعلم به الملك الناصر صاحب حلب أنا نحن قد فتحنا بغداد بسيف الله تعالى، وقتلنا فرسانها وهدمنا بنيانها وأسرنا سكانها، كما قال الله تعالى في كتابه العزيز: " قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون " ، واستحضرنا خليفها وسألناه عن كلمات فكذب، فواقعه الندم واستوجب منا العدم. وكان قد جمع ذخائر نفيسة، وكانت نفسه خسيسة فجمع المال ولم يعبأ بالرجال. وكان قد نمى ذكره وعظم قدره، ونحن نعوذ بالله من التمام والكمال.
إذا تم أمر دنا نقصه ... توق زوالا إذا قيل تم
إذا كنت في نعمة فارعها ... فإن المعاصي تزيل النعم
وكم من فتى بات في نعمة ... فلم يدر بالموت حتى هجم
إذا وقفت على كتابي هذا، فسارع برجالك وأموالك وفرسانك إلى طاعة سلطان الأرض شاهنشاه روي زمين، تأمن شره وتنل خيره، كما قال الله تعالى في كتابه العزيز: " وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى " ، ولا تعوق رسلنا عندك كما عوقت رسلنا من قبل، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وقد بلغنا أن تجار الشام وغيرهم انهزموا بأموالهم وحريمهم إلى كروان سراي فإن كانوا في الجبال نسفناها، وإن كانوا في الأرض خسفناها.
أين النجاة ولا مناص لهارب ... ولى البسيطان الثرى والماء
ذلت لهيبتنا الأسود وأصبحت ... في قبضتي الأمراء والوزراء
فانزعج الناصر وسير حريمه إلى الكرك وخاف الناس بدمشق خوفاً كثيراً لعلمهم أن التتر قد قطعوا الفرات، وسار كثير منهم إلى جهة مصر، وكان الوقت شتاء فمات خلائق بالطريق، ونهب أكثرهم. وبعث الناصر، عندما بلغه توجه هولاكو نحو الشام بالصاحب كمال الدين عمر بن العديم إلى مصر، يستنجد بعسكرها.
فلما قدم ابن العديم إلى القاهرة، في يوم 000، عقد مجلس بالقلعة عند الملك المنصور، وحضر قاضي القضاة بدر الدين حسن السنجاري، والشيخ عز الدين بن عبد السلام: وسئلا في أخذ أموال العامة ونفقتها في العساكر، فقال ابن عبد السلام: إذا لم يبق في بيت المال شيء أو أنفقتم الحوائض الذهب ونحوها من الزينة، وساويتم العامة في الملابس سوى آلات الحرب، ولم يبق للجندي إلا فرسه التي يركبها، ساغ أخذ شيء من أموال الناس في دفع الأعداء. إلا أنه إذا دهم العدو، وجب على الناس كافة دفعه بأموالهم وأنفسهم، وانفضوا. فوجد الأمير سيف الدين قطز سبيلاً إلى القول، وأخذ ينكر على الملك المنصور وقال: لابد من سلطان ماهر قاهر يقاتل هذا العدو، والملك المنصور صبي صغير لا يعرف تدبر المملكة. وكانت قد كثرت مفاسد الملك المنصور علي بن المعز أيبك، واستهتر في اللعب وتحكمت أمه فاضطربت الأمور. وطمع الأمير يوسف الدين قطز في أخذ السلطنة لنفسه، وانتظر خروج الأمراء للصيد: فلما خرج الأمير علم الدين سنجر الغتمي، والأمير سيف الدين بهادر، وغيره من المعزية لرمي البندق - وكان يوم السبت رابع عشري ذي القعدة - قبض قطز على المنصور وعلى أخيه قاقان وعلى أمهما، واعتقلهم في برج بقلعة الجبل. فكانت مدة المنصور سنتين وثمانية أشهر وثلاثة أيام.
الملك المظفر سيف الدين قطز
جلس على سرير بقلعة الجبل يوم السبت، الرابع والعشرين من ذي القعدة، سنة سبع وخمسين وستمائة. وهو ثالث ملوك الترك بمصر.(1/137)
وفي خامسه: ولي الوزراء زين الدين يعقوب بن عبد الرفيع بن يزيد بن الزبير، وصرف تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز، فبلغ ذلك الأمراء فقدموا إلى قلعة الجبل، وأنكروا ما كان من قبض قطز على الملك المنصور، وتوثبه على الملك. فخافهم واعتذر إليهم بحركة التتار إلى جهة الشام ومصر، والتخوف مع هذا من الملك الناصر صاحب دمشق، وقال: وإني ما قصدت إلا أن نجتمع على قتال التتر، ولا يتأتى ذلك بغير ملك. فإذا خرجنا وكسرنا هذا العدو فالأمر لكم، أقيموا في السلطنة من شئتم، فتفرقوا عنه، وأخذ يرضيهم حتى تمكن. فبعث بالمنصور وأخيه وأمه إلى دمياط، واعتقلهم في برج عمره وسماه برج السلسلة، ثم سيرهم إلى بلاد الأشكري وقبض على الأمير علم الدين سنجر الغنمي المعظمي، والأمير عز الدين أيدمر النجيبي الصغير، والأمير شرف الدين قيران المعزي، والأمير سيف الدين بهادر، والأمير شمس الدين قراسنقر، والأمير عز الدين أيبك النجمي الصغير، والأمير سيف الدين الدود خال الملك المنصور علي بن المعز، والطواشي شقبل الدولة كافور لالا الملك المنصور، والطواشي حسام الدين بلال المغيثي الجمدار. واعتقلهم وحلف الأمراء والعسكر لنفسه، واستوزر الصاحب زين الدين يعقوب بن عبد الرفيع بن الزبير في خامس ذي القعدة، واستمر بالأمير فارس الدين أقطاي الصغير الصالحي المعروف بالمستغرب أتابكا، وفوض إليه وإلى الصاحب زين الدين. تدبير العساكر واستخدام الأجناد وسائر أمور الدولة، واحتفل باستخدام الجنود والاستعداد للجهاد.
وورد الخبر بقدوم نجدة من عند هولاكو إلى الملك الناصر بدمشق، فكتب إليه الملك المظفر قطز وقد خافه كتاباً يترقق فيه، ويقسم بالأيمان أنه لا ينازعه في الملك ولا يقاومه، وأنه نائب عنه بديار مصر، ومتى حل بها أقعده على الكرسي، وقال فيه أيضاً: وإن اخترتني خدمتك، وإن اخترت قدمت ومن معي من العسكر نجدة لك على القادم عليك، فإن كنت لا تأمن حضوري سيرت إليك العساكر صحبة من تختاره،. فلما قدم على الملك الناصر كتاب قطز اطمأن.
وفيها سار هولاكو من بغداد بنفسه إلى ديار بكر، ونزل على آمد يريد حلب، ونازل حران ونصب عليها المجانيق - وكانت في مملكة الناصر يوسف - حتى أخذها. وقطع بعض جيشه الفرات وعاثوا في البلاد، فأجمع أهل حلب على الرحلة منها، وخرجوا جافلين. فاحترز نائبها المعظم تورانشاه بن الناصر يوسف، وجمع أهل الأطراف. وتقدم التتار حتى دنوا من حلب، فقتلوا كثيراً من عسكرها الذين خرجوا إليهم، ثم رحلوا عنها عاجلاً. فاضطرب الناصر وعزم على لقاء هولاكو، وخيم على برزة. وكتب إلى الملك المغيث صاحب الكرك، وإلى الملك المظفر قطز، يطلب منهما نجدة. ومع هذا فكانت نفس الناصر قد ضعفت وخارت، وعظم خوف الأمراء والعساكر من هولاكو: فأخذ الأمير زين الدين الحافظي يعظم شأن هولاكو، ويشير بألا يقاتل وأن يداري بالدخول في طاعته. فصاح به الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري، وضربه وسبه وقال: أنتم سبب هلاك المسلمين وفارقه إلى خيمته فمضى زين الدين الحافظي إلى الملك الناصر، وشكا إليه ما كان من الأمير بيبرس. فلما كان الليل هجم طائفة من المماليك على الملك الناصر، ليقتلوه ويملكوا غيره، وكان في بستان، ففر هو وأخوه الملك الظاهر إلى قلعة دمشق. فبادر الأمراء القيمرية جمال الدين ابن يغمور والأكابر إلى القلعة، وأشاروا على الناصر بأن يخرج إلى المخيم، فخرج. وعندما خرج ركب بيبرس وسار إلى عزة، وبها الأمير نور الدين بدلان كبير الشهرزورية، فتلقاه وأنزله. وسير بيبرس إلى الملك المظفر، قطز علاء الدين طيبرس الوزيري ليحلفه، فكتب إليه الملك المظفر أن يقدم عليه. ووعده الوعود الجميلة. ففارق بيبرس الناصرية، ووصل في جماعة إلى مصر، فأنزله الملك المظفر بدار الوزارة، وأقبل عليه وأقطعه قليوب وأعمالها.
وبلغ الناصر أن هولاكو أخذ قلعة حران وسائر تلك النواحي، وأنه عزم على أخذ حلب، فاشتد جزعه وسير زوجته وولده وأمواله إلى مصر، وخرج معهم نساء الأمراء وجمهور الناس. فتفرقت العساكر، وبقي الناصر في طائفة من الأمراء. ونزل هولاكو على البيرة وأخذ قلعتها - وأخذ منها الملك السعيد بن العزيز عثمان بن العادل، وله بها تسع سنين في الاعتقال، وولاه الصبيبة وبانياس - ، ونزل على حلب.(1/138)
ففر أهل دمشق وغيرها، وباعوا أموالهم بأبخس ثمن وساروا وكان الوقت شتاء، فهلك منهم خلق كثير، وسير الملك المغيث من بقي عنده من البحرية مقيدين على الجمال، وهم نحو الخمسين: منهم الأمير سنقر الأشقر. وسار أربعة من البحرية إلى مصر. وهم قلاوون الألفي، وبكتاش الفخري أمير سلاح، وبكتاش النجمي، والحاج طيبرس الوزيري.
وفيها كثرت الزلازل بأرض مصر.
وفي ثاني عشر جمادى الآخرة: جبي التصقيع من أملاك القاهرة ومصر.
وفي شعبان: قبض على رجل يعرف بالكوراني. وضرب ضرباً مبرحاً بسبب بدع ظهرت منه، وجد إسلامه الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وأطلق من الاعتقال فأقام بالجبل الأحمر.
وفيها بني هولاكو الرصد بمدينة مراغة، بإشارة الخواجا نصير الدين محمد الطوسي، وهو دار للفقهاء والفلاسفة والأطباء، بها من كتب بغداد شيء كثير وعليها أوقاف لخدامها.
وفيها استقل يعقوب بن عبد الحق بن محيو بن أبي بكر بن حمامة، ملك بني مرين، بملك فاس وعامة المغرب الأقصى.
وفيها سار عز الدين كيكاوس وركن الدين قلج أرسلان ابنا كيخسرو بن كيقباد من قونية إلى هولاكو، فأقاما عنده مدة ثم عادا إلى بلادهما.
ومات في هذه السنة من الأعيان
الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ الأتابكي صاحب الموصل، في ثالث عشر شعبان عن ثمانين سنة، دبر فيها الموصل نحو خمسين سنة. وقام من بعده ابنه الصالح إسماعيل، وسار ابنه علاء الدين علي مفارقاً لأخيه إسماعيل إلى الشام.
وتوفي الشريف منيف بن شيحة الحسيني أمير المدينة النبوية.
وتوفي صدر الدين أبو الفتوح أسعد بن المنجا التنوخي الدمشقي الحنبلي، ناظر الجامع الأموي، عن ستين سنة بها.
وتوفي نجم الدين أبو الفتح مظفر بن محمد بن إلياس بن السيرجي الأنصاري الدمشقي الشافعي، محتسب دمشق ووكيل بيت المال بها.
وتوفي الأديب بهاء الدين أبو عبد الله محمد بن مكي بن محمد بن الحسين بن الدجاجية القرشي الدمشقي بها عن ست وستين سنة.
سنة ثمان وخمسين وستمائة
في المحرم: نزل هولاكو على مدينة حلب وراسل متوليها الملك المعظم تورانشاه بن الملك الناصر يوسف، على أن يسلمه البلد ويرمنه ورعيته، فلم يجبه إلى طلبه وأبى إلا محاربته. فحصرها التتار سبعة أيام وأخذوها بالسيف، وقتلوا خلقاً كثيراً وأسروا النساء والذرية ونهبوا الأموال مدة خمسة أيام، استباحوا فيها دماء الخلق حتى امتلأت الطرقات من القتلى. وصارت عساكر التتر تمشي على جيف من قتل، فيقال إنه أسر منها زيادة على مائة ألف من النساء والصبيان. وامتنعت قلعة حلب، فنازلها هولاكو حتى أخذها في عاشر صفر، وخربها وخرب جميع سور البلد وجوامعها ومساجدها وبساتينها، حتى عادت موحشة. وخرج إليه الملك المعظم توران شاه بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، فلم يعترضه بسوء لكبر سنه، فمات بعد أيام. ووجد هولاكو من البحرية تسعة أنفس في حبس الملك الناصر، فأطلقهم وأكرمهم. منهم سنقر الأشقر، وسيف الدين سكز، وسيف الدين يرامق، وبدر الدين بكمش المسعودي، ولاجين الجمدار الصالحي، وكندغدي الصغير.(1/139)
فلما وصل الخبر إلى دمشق بأخذ قلعة حلب اضطربت بأهلها. وكان الملك الناصر قد صادر الناس، واستخدم لقتال التتر، فاجتمع معه ما يناهز مائة ألف ما بين عرب وعجم فتمزق حينئذ الناس، وزهدوا في أمتعتهم وباعوها بأبخس الأثمان، وخرجوا على وجوههم. ورحل الملك الناصر عن برزه، يوم الجمعة منتصف صفر، عن بقي معه يريد غزة، وترك دمشق خالية، وبها عامتها قد أحاطت بالأسوار، وبلغت أجرة الجمل سبعمائة درهم فضة، وكان الوقت شتاء. فلم يثبت الناس عند خروج الناصر، ووقعت فيهم الجفلات حتى كأن القيامة قامت، وكانت مدة مملكة الناصر بحلب ودمشق ثلاثاً وعشرين سنة وسبعة أشهر، منها مدة تملكه لدمشق عشر سنين تنقص خمسين يوماً. ولحق الملك الأشرف موسى بن المنصور صاحب حمص بهولاكو، وسار الملك المنصور بن المظفر صاحب حماة إلى مصر بحريمه وأولاده، وجفل أهل حمص وحماة. وصار هولاكو إلى دمشق، بعد أخذ حلب بستة عشر يوماً، فقام الأمير زين الدين سليمان بن المؤيد بن عامر العقرباني المعروف بالزين الحافظي، وأغلق أبواب دمشق، وجمع من بقي بها وقرر معهم تسليم المدينة إلى هولاكو فتسلمها منه فخر الدين المردفائي وابن صاحب أرزن، والشريف علي، كان هؤلاء قد بعث بهم هولاكو إلى الملك الناصر وهو على برزة. فكتبوا بذلك إلى هولاكو، فسير طائفة من التتر وأوصاهم بأهل دمشق، ونهاهم أن يأخذوا لأحد درهماً فما فوقه.
فلما كان ليلة الاثنين تاسع عشر صفر: وصل رسل هولاكو صحبة القاضي محيى الدين بن الزكي، وكان قد توجه من دمشق إلى هولاكو بحلب، فخلع عليه وولاه قضاء الشام، وسيره إلى دمشق ومعه الوالي. فسكن الناس، وجمعوا من الغد بالجامع، فلبس ابن الزكي خلعة هولاكو وجمع الفقهاء وغيرهم وقرأ عليهم تقليد هولاكو. وقرئت فرمانات هولاكو بأمان أهل دمشق، فكثر اضطراب الناس واشتد خوفهم.
وفي سادس عشر ربيع الأول: وصل نواب هولاكو، في جمع من التتر صحبة كتبغا نوين فقرئ فرمان بالأمان. وورد فرمان على القاضي كمال الدين عمر التفليسي، نائب الحكم عن قاضي القضاة صدر الدين أحمد بن سني الدولة، بأن يكون قاضي القضاة بمدائن الشام والموصل وماردين وميافارقين، وفيه تفويض نظر الأوقاف إليه من جامع وغيره، فقرئ بالميدان الأخضر.
وغارت جمائع التتر على بلاد الشام، حتى وصلت أطراف بلاد غزة وبيت جبريل والخليل وبركة زيزاء والصلت، فقتلوا وسبوا وأخفوا ما قشروا عليه، وعادوا إلى دمشق فباعوا بها المواشي وغيرها.
واستطال النصارى بدمشق على المسلمين، وأحضروا فرمانا من هولاكو بالاعتناء بأمرهم وإقامة دينهم: فتظاهروا بالخمر في نهار رمضان، ورشوه على ثياب المسلمين في الطرقات، وصبوه على أبواب المساجد وألزموا أرباب الحوانيت بالقيام إذا مروا بالصليب عليهم، وأهانوا من امتنع من القيام للصليب وصاروا يمرون به في الشوارع إلى كنيسة مريم، ويقفون به ويخطبون في الثناء على دينهم، وقالوا جهراً: ظهر الدين الصحيح دين المسيح. فقلق المسلمون من ذلك، وشكوا أمرهم لنائب هولاكو وهو كتبغا فأهانهم وضرب بعضهم، وعظم قدر قسوس النصارى، ونزل إلى كنائسهم وأقام شعارهم. وجمع الزين الحافظي من الناس أموالاً جزيلة، واشترى بها ثياباً وقدمها لكتبغا نائب هولاكو، وليبيدرا وسائر الأمراء والمقدمين من التتر، وواصل حمل الضيافات إليهم كل يوم، ثم خرج كتبغا وبيدرا إلى مرج برغوث.(1/140)
ووصل الملك الأشرف صاحب حمص من عند هولاكو، وبيده مرسوم أن يكون نائب السلطة بدمشق والشام، فامتثل ذلك كتبغا، وصارت الدواوين وغيرها تحضر إلى الأشرف. ثم بعد أيام ثار الأمير بدر الدين محمد بن قرمجاه والى قلعة دمشق، هو والأمير جمال الدين بن الصيرفي، وأغلقا أبوابها. فحضر كتبغا بمن معه من عساكر التتار، وحصروا القلعة في ليلة السادس من ربيع الآخر. فبعث الله مطراً وبرداً، مع ريح شديدة ورعود وبروق وزلزلة، سقط منها عدة أماكن، وبات الناس بين خوف أرضي وخوف عالي، فلم ينالوا من القلعة شيئاً، واستمر الحصار عليها بالمجانيق - وكانت تزيد على عشرين منجنيقاً - إلى ثاني عشري جمادى الأولى. عند ذلك اشتد الرمي، وخرب من القلعة مواضع، فطلب من فيها الأمان ودخلها التتر فنهبوا سائر ما كان فيها، وحرقوا مواضع كثيرة، وهدموا من أبراجها عدة، وأتلفوا سائر ما كان فيها من الآلات والعدد. وساروا إلى بعلبك فخربوا قلعتها، وسارت طائفة منهم إلى عزة، وخربوا بانياس وأسعروا البلاد خرباً وملأوها قتلاً ونهباً.
وفي يوم السبت ثاني عشري شهر ربيع الأول: قدم الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري إلى القاهرة، فركب الملك المظفر قطز إلى لقائه، وأنزله في دار الوزارة بالقاهرة، وأقطعه قصبة قليوب الخاصة. وفيها ملك هولاكو ماردين، وقتل أمراءها وخرب أسوار قلعتها.
وفيها وصل الملك الناصر إلى قطيا، فخافه قطز وبرز بالعسكر إلى الصالحية. ففارق الناصر عدة من أمرائه ومن الشهرزورية، ولحقوا بقطز وأقاموا ببلبيس: منهم حسام الدين طرنطاي، وبدر الدين طيدمر الأخوث، وبدر الدين أيدمر الدوادار، وأيدغدي الحاجي. فعاد الناصر من قطيا وقد تمزق ملكه وتفرق الناس عنه، فنزل البلقاء.
ورجع قطز إلى قلعة الجبل، وقبض على الأمير جمال الدين موسى بن يغمور، وأعتقه بقلعة الجبل وصادر كل من وصل إليه من غلمان الملك الناصر وكتابه وأخذ أموالهم، وألزم زوجة الملك الناصر بإحضار ما عندها من الجواهر، فأخذ منها جوهراً كثيراً، وأخذ من نساء الأمراء القيمرية أموالاً جمة، وعاقب بعضهن، وأما الملك الناصر، فإن شخصاً من غلمانه - يعرف بحسين الكردي الطبرادار - قبض عليه وعلى ولده الملك العزيز، وعلى أخيه غازي، وإسماعيل بن شادي ومن معه، وبعث بهم إلى هولاكو.
وفيها رحل هولاكو عن حلب يريد الرجوع إلى الشرق، وجعل كتبغا نوين نائباً عنه بحلب، وبيدرا نائباً بدمشق. وأخذ هولاكو معه من البحرية سبعة منهم: سنقر الأشقر، وسكز، وبرامق، وبكمش المسعودي.(1/141)
وفيها وصلت رسل هولاكو إلى مصر بكتاب نصه: من ملك الملوك شرقاً وغرباً، القان الأعظم، باسمك اللهم باسط الأرض ورافع السماء يعلم الملك المظفر قطز، الذي هو من جنس المماليك الذين هربوا من سيوفنا إلى هذا الإقليم، يتنعمون بإنعامه، ويقتلون من كان بسلطانه بعد ذلك. يعلم الملك المظفر قطز، وسار أمراء دولته وأهل مملكته، بالديار المصرية وما حولها من الأعمال، أنا نحن جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه، وسلطنا على من حل به غضبه. فلكم بجميع البلاد معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم، وأسلموا إلينا أمركم، قبل أن ينكشف الغطاء، فتندموا ويعود عليكم الخطأ. فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرق لمن شكى، وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد وقتلنا معظم البلاد، فعليكم بالهرب، وعلينا بالطلب. فأي أرض تأويكم، وأي طريق تنجيكم، وأي بلاد تحميكم. فما من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص. فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال. فالحصون لدينا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ومطركم علينا لا يسمع فإنكم أكلتم الحرام، ولا تعفون عند الكلام، وخنتم العهود والأيمان، وفشا فيكم العقوق والعصيان. فأبشروا بالمذلة والهوان، " فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون " ، " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " ، فمن طلب حربنا ندم، ومن قصد أماننا سلم. فإن أنتم لشرطنا ولأمرنا أطعتم، فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن خالفتم هلكتم، فلا تهلكوا نفوسكم بأيديكم. فقد حذر من أنذر، وقد ثبت عندكم أن نحن الكفرة، وقد ثبت عندنا أنكم الفجرة، وقد سلطنا عليكم من له الأمور المقدرة والأحكام المدبرة، فكثيركم عندنا قليل، وعزيزكم عندنا ذليل، وبغير الأهنة لملوككم عندنا سبيل. فلا تطلوا الخطاب، وأسرعوا برد الجواب، قبل أن تضرم الحرب نارها، وترمى نحوكم شرارها، فلا تجدون منا جاهاً ولا عزاً، ولا كافياً ولا حرزاً. وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية. فقد أنصفنا إذ راسلناكم، وأيقظناكم إذ حذرناكم، فما بقي لنا مقصد سواكم. والسلام علينا وعليكم، وعلى من أطاع الهدى، وخشي عواقب الردى، وأطاع الملك الأعلى.
ألا قل لمصرها هلاون قد أتى ... بحد سيوف تنتضى وبواتر
يصير أعز القوم منا أذلة ... ويلحق أطفالاً لهم بالأكابر
فجمع قطز الأمراء، واتفقوا على قتل الرسل والمسير إلى الصالحية: فقبض على الرسل واعتقلوا وشرع في تحليف من تخيره من الأمراء، وأمر بالمسير، والأمراء غير راضين بالخروج كراهة في لقاء التتر.
فلما كان يوم الاثنين خامس عشر شعبان: خرج الملك المظفر بجميع عسكر مصر، ومن أنضم إليه من عساكر الشام ومن العرب والتركمان وغيرهم، من قلعة الجبل يريد الصالحية.
وفيه أحضر قطز رسل التتر، وكانوا أربعة، فوسط واحداً بسوق الخيل تحت قلعة الجبل، ووسط آخر بظاهر باب زويلة، ووسط الثالث ظاهر باب النصر، ورسط الرابع بالريدانية. وعلقت رءوسهم على باب زويلة، وهذه الرءوس أول رءوس علقت على باب زويلة من التتار. وأبقى الملك المظفر على صبي من الرسل، وجعله من جملة مماليكه.
ونودي في القاهرة ومصر، وسائر إقليم مصر، بالخروج إلى الجهاد في سبيل الله، ونصرة لدين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتقدم الملك المظفر لسائر الولاة بإزعاج الأجناد في الخروج للسفر، ومن وجد منهم قد اختفى يضرب بالمقارع. وسار حتى نزل بالصالحية وتكامل عنده العسكر، فطلب الأمراء وتكلم معهم في الرحيل، فأبوا كلهم عليه وامتنعوا من الرحيل. فقال لهم: يا أمراء المسلمين لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته. فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين. فتكلم الأمراء الذين تخيرهم وحلفهم في موافقته على المسير، فلم يسع البقية إلا الموافقة، وانفض الجمع.(1/142)
فلما كان في الليل ركب السلطان، وحرك كوساته وقال: أنا ألقى التتار بنفسي، فلما رأى الأمراء مسير السلطان ساروا على كره. وأمر الملك قطز الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري أن يتقدم في عسكر ليعرف أخبار التتر، فسار بيبرس إلى غزة وبها جموع التتر، فرحلوا عند نزوله، وملك هو غزة.
ثم نزل السلطان بالعساكر إلى غزة وأقام بها يوماً، ثم رحل من طريق الساحل على مدينة عكا وبها يومئذ الفرنج، فخرجوا إليه بتقادم وأرادوا أن يسيروا معه نجدة فشكرهم وأخلع عليهم، واستحلفهم أن يكونوا لا له ولا عليه، وأقسم لهم أنه متى تبعه منهم فارس أو راجل يريد أذى عسكر المسلمين رجع وقاتلهم قبل أن يلقى التتر.
وأمر الملك المظفر بالأمراء فجمعوا وحضهم على قتال التتر، وذكرهم بما وقع بأهل الأقاليم من القتل والسبي والحرير، وخوفهم وقوع مثل ذلك، وحثهم على استنقاذ الشام من التتر ونصرة الإسلام والمسلمين، وحذرهم عقوبة الله. فضجوا بالبكاء، وتحالفوا على الاجتهاد في قتال التتر ودفعهم عن البلاد. فأمر السلطان حينئذ أن يسير الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري بقطعة من العسكر، فسار حتى لقي طليعة التتر. فكتب إلى السلطان يعلمه بذلك. وأخذ في مناوشتهم، فتارة يقدم وتارة يحجم، إلى أن وافاه السلطان على عين جالوت وكان كتبغا وبيدرا نائبا هولاكو، لما بلغهما مسير العساكر المصرية، جمعا من تفرق من التتر في بلاد الشام، وسارا يريدان محاربة المسلمين، فالتقت طليعة عسكر المسلمين بطليعة التتر وكسرتها.
فلما كان يوم الجمعة خامس عشري شهر رمضان: التقى الجمعان، وفي قلوب المسلمين وهم عظيم من التتر، وذلك بعد طلوع الشمس. وقد امتلأ الوادي وكثر صياح أهل القرى من الفلاحين، وتتابع ضرب كوسات السلطان والأمراء، فتحيز التتر إلى الجبل، فعندما اصطدم العسكران اضطرب جناح عسكر السلطان وانتفض طرف منه، فألقى الملك المظفر عند ذلك خوذته على رأسه إلى الأرض، وصرخ بأعلى صوته: وا إسلاماه، وحمل بنفسه وبمن معه حملة صادقة، فأيده الله بنصره وقتل كتبغا مقدم التتر، وقتل بعده الملك السعيد حسن بن العزيز وكان مع التتر. وانهزم باقيهم، ومنح الله ظهورهم المسلمين يقتلون ويأسرون، وأبلى الأمير بيبرس أيضاً بلاء حسناً بين يدي السلطان.
ومما اتفق في هذه الوقعة، أن الصبي الذي أبقاه السلطان من رسل التتر وأضافه إلى مماليكه، كان راكباً وراءه حال اللقاء. فلما التحم القتال فوق سهمه نحو السلطان، فبصر به بعض من كان حوله فأمسك وقتل مكانه. وقيل بل رمى الصبي السلطان بسهمه فلم يخطئ فرسه وصرعه إلى الأرض، وصار السلطان على قدميه، فنزل إليه فخر الدين ماما وأركبه فرسه، حتى حضرت الجنائب فركب فخر الدين منها.
ومر العسكر في أثر التتر إلى قرب بيسان، فرجع التتر وصافوا مصافاً ثانياً أعظم من الأول، فهزمهم الله وقتل أكابرهم وعدة منهم. وكان قد تزلزل المسلمون زلزالاً شديداً فصرخ السلطان صرخة عظيمة، سمعه معظم العسكر وهو يقول: وا إسلاماه ثلاث مرات، يا لله انصر عبدك قطز على التتار. فلما انكسر التتار الكسرة الثانية، نزل السلطان عن فرسه ومرغ وجهه على الأرض وقبلها، وصلى ركعتين شكراً لله تعالى ثم ركب، فأقبل العسكر وقد امتلأت أيديهم بالمغانم.
فورد الخبر بانهزام التتر إلى دمشق ليلة الأحد سابع عشريه، وحملت رأس كتبغا مقدم التتار إلى القاهرة، ففر الزين الحافظي ونواب التتار من دمشق، وتبعهم أصحابهم فامتدت أيدي أهل الضياع إليهم ونهبوهم، فكانت مدة استيلاء التتر على دمشق سبعة أشهر وعشرة أيام.
وفي يوم الأحد المذكور: نزل السلطان على طبرية، وكتب إلى دمشق يبشر الناس بفتح الله له وخذلانه التتر، وهو أول كتاب ورد منه إلى دمشق، فلما ورد الكتاب سر الناس به سروراً كثيراً، وبادروا إلى دور النصارى فنهبوها وأخربوا ما قدروا على تخريبه، وهدموا كنيسة اليعاقبة وكنيسة مريم وأحرقوها حتى بقيتا كوماً، وقتلوا عدة من النصارى، واستتر باقيهم. وذلك أنهم في مدة استيلاء التتر هموا مرارا بالثورة على المسلمين، وخربوا مساجد ومآذن كانت بجوار كنائسهم، وأعلنوا بضرب الناقوس وركبوا بالصليب، وشربوا الخمر في الطرقات ورشوه على المسلمين.(1/143)
وفي ثامن عشريه: نهب المسلمون اليهود بدمشق حتى لم يتركوا لهم شيئاً، وأصبحت حوانيتهم بالأسواق دكاً، فقام طائفة من الأجناد حتى كفوا الناس عن حريق كنائسهم وبيوتهم. وفيه ثار أهل دمشق بجماعة من المسلمين كانوا من أعوان التتار وقتلوهم، وخربوا الدور المجاورة للكنائس، وقتلوا جماعة من المغل، فكان أمراً مهولاً.
وفي تاسع عشرينه: وصل بكرة النهار الأمير جمال الدين المحمدي الصالحي بمرسوم الملك المظفر قطز، منزل بدار السعادة، وأمن الناس ووطنهم.
وفي يوم الأربعاء آخر شهر رمضان: وصل الملك المظفر إلى ظاهر دمشق، فخيم هناك وأقام إلى ثاني شوال، فدخل إلى دمشق ونزل بالقلعة وجرد الأمير ركن الدين بيبرس إلى حمص، فقتل من التتر وأسر كثيراً، وعاد إلى دمشق.
واستولى الملك المظفر على سائر بلاد الشام كلها من الفرات إلى حد مصر، وأقطع الأمراء الصالحية والمعزية وأصحابه بقطاعات الشام، واستناب الأمير علم الدين سنجر الحلبي في دمشق، ومعه الأمير مجير الدين أبو الهيجاء بن عيسى بن خشتر الأزكشي الكردي. وبعث إليه الملك الأشرف موسى - صاحب حمص، ونائب هولاكو ببلاد الشام - يطلب الأمان فأمنه. وبعث السلطان أيضاً بالملك المظفر علاء الدين علي بن بدر الدين لؤلؤ صاحب سنجار إلى حلب نائباً بها، وأقطع أعمالها بمناشره. وأقر الملك المنصور على حماة وبارين، وأعاد عليه المعرة - وكانت بيد الحلبيين من سنة خمس وثلاثين وستمائة، وأخذ سليمة منه وأعطاها الأمير شرف الدين عيسى بن مهنا بن مانع أمير العرب. ورتب الأمير شمس الدين أقوش البرلي العزيزي أميراً بالساحل وغزة، ومعه عدة من العزيزية - وكان قد فارق الناصر يوسف وسار إلى القاهرة فأكرمه السلطان، وخرج معه فشهد وقعة عين جالوت، وأمر بشنق حسين الكردي الطبرادار، فشنق من أجل أنه دل على الملك الناصر.
وثار عدة من الأوشاقية مماليك السلطان بالنصارى ونهبوا دورهم، وكان معهم عدة من عوام دمشق، فشنق منهم نحو الثلاثين نفساً. وأمر السلطان أن يقرر على نصارى دمشق مائة وستون ألف درهم، فجمعوها وحملت إلى السلطان، بسفارة الأمير فارس الدين أقطاي المستعرب أتابك العسكر.
وأما التتر فإنهم لما لحقهم الطلب إلى أرض حمص، ألقوا ما كان معهم من متاع وغيره وأطلقوا الأسرى، وعرجوا نحو طريق الساحل. فتخطف المسلمون منهم وقتلوا خلقاً كثيراً، وأسروا أكثر. فلما بلغ هولاكو كسرة عسكره وقتل نائبه كتبغا عظم عليه، فإنه لم يكسر له عسكر قبل ذلك، ورحل من يومه.
وكان هولاكو لما قدم عليه الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن الملك العزيز صاحب الشام أكرمه وأجرى له راتباً، واختص به وأجلسه على كرسي قريباً منه، وشرب معه، ثم كتب له فرماناً وقلده مملكتي الشام ومصر، وأخلع عليه وأعطاه خيولاً كثيرة وأموالاً، وسيره إلى جهة الشام. فأمر هولاكو لما ورد عليه خبر الكسرة برده، فأحضر وقتل بجبال سلماس في ثامن عشر شوال، وقتل معه أخوه الملك الظاهر غازي، والملك الصالح ابن شركوه، وعدة من أولاد الملوك، وشفعت طقز خاتون زوجة هولاكو في الملك العزيز بن الناصر، فلم يسلم من القتل غيره، ورجع هولاكو إلى بلاده.
وتراجع الناس إلى دمشق، وسارت الأسعار بها غالية جداً لقلة الأقوات. وعدمت الفلوس فيها، وتضرر الناس في المعاملة بسبب الدراهم وعز كل ما كان قد هان.
فلما رتب السلطان أحوال النواب والولاة والشادين ببلاد الشام، خرج من دمشق يوم الثلاثاء سادس عشري شوال يريد مصر بعدما كان قد عزم على المسير إلى حلب، فثناه عن ذلك ما بلغه من تنكر الأمير بيبرس وغيره عليه، فإنه قد عزم على القيام بمحاربته: وسبب ذلك أن الأمير بيبرس سأل السلطان أن يوليه نيابة حلب فلم يرض فتنكر عليه، ليقضي الله أمراً كان مفعولا. فخافه السلطان وأضمر له السوء، وسار إلى جهة مصر. وبلغ بيبرس، فاحترس كل منهما من الآخر، وعمل في القبض عليه. وحدث بيبرس جماعة من الأمراء في قتل السلطان: منهم الأمير سيف الدين بلبان الرشيدي، والأمير سيف الدين بهادر المعزي، والأمير بدر الدين بكتوت الجوكندار المعزي، والأمير بيدغان الركني، والأمير بلبان الهاروني، والأمير بدر الدين أنس الأصبهاني.(1/144)
فلم يزل السلطان سائراً إلى أن خرج من الغرابي وقارب الصالحية، وانحرف في مسيره عن الدرب للصيد ومعه الأمراء. فلما فرغ من صيحه وعاد يريد الدهليز السلطاني، طلب منه الأمير بيبرس امرأة من سبي التتر، فأنعم بها عليه. فأخذ بيبرس يد السلطان ليقبلها، وكانت إشارة بينه وبين الأمراء: فبدره الأمير بدر الدين بكتوت بالسيف وضرب به عانقه، واختطفه الأمير أنس وألقاه عن فرسه، ورماه الأمير بهادر المعزي بسهم أتى على روحه، وذلك يوم السبت خامس عشر ذي القعدة، ودفن بالقصير فكانت مدة ملكه أحد عشر شهراً وسبعة عشر يوماً.
وحمل قطز بعد ذلك إلى القاهرة، فدفن بالقرب من زاوية الشيخ تقي الدين قبل أن تعمر، ثم نقله الحاج قطز الظاهري إلى القرافة ودفن قريباً من زاوية ابن عبود. ويقال إن اسمه محمود بن ممدود، وإن أمه أخت السلطان جلال الدين خوارزم شاه، وإن أباه ابن عم السلطان جلال الدين، وإنما سبي عند غلبة التتار، فبيع بدمشق ثم انتقل إلى القاهرة.
الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداوي
كان بيبرس تركي الجنس، فاشتراه الملك الصالح نجم الدين أيوب، وترقى في خدمته واستفاد من أخلاقه. فلما مات الملك الصالح، قام بيبرس في خدمة ابنه الملك المعظم تورانشاه إلى أن قتل، فلم يزل يترقى إلى أن قتل الفارس أقطاي، فخرج من القاهرة وتنقل في بلاد الشام. ثم عاد إلى مصر، وخرج مع الملك المظفر قطز إلى قتال التتر. فلما قتل قطز، سار الأمراء الذين قتلوه إلى الدهليز السلطاني بالصالحية، واتفقوا على سلطنة الأمير بيبرس. فقام الأمير أقطاي المستعرب الأتابك - وكان بالدهليز - وقال للأمراء عند حضورهم: من قتله منكم. فقال الأمير بيبرس: أنا قتلته. فقال الأمير أقطاي: يا خوندا اجلس في مرتبة السلطنة مكانه. فجلس بيبرس، وبايعه أقطاي وحلف له، ثم تلاه الأمير بلبان الرشيدي، والأمير بدر الدين بيسري، والأمير سيف الدين قلاوون، والأمير بيليك الخازندار، ثم بقية الأمراء على طبقاتهم.
وتلقب بيبرس بالملك القاهر، وذلك في يوم السبت سابع عشر ذي القعدة المذكور. فقال له الأمير أقطاي الأتابك: لا تتم السلطنة إلا بدخولك إلى قلعة الجبل. فركب بيبرس لوقته، ومعه الأمير أقطاي، والأمير قلاوون، والأمير بيسري، والأمير بلبان، والأمير بيليك، ومماليكه. وتوجه إلى قلعة الجبل، فلقيه الأمير عز الدين أيدمر الحلي نائب السلطنة بديار مصر، وكان قد خرج إلى لقاء الملك المظفر قطز. فأعلمه بيبرس بما جرى فحلف له الحلي وتقدمه إلى القلعة، ووعد من فيها من الأمراء بمواعيد جيدة عن بيبرس، فلم يخالف منهم أحد. وجلس الأمير عز الدين أيدمر الحلي على باب القلعة حتى قدم بيبرس والأمراء في الليل، فتسلم القلعة ليلة الاثنين تاسع عشر ذي القعدة سنة ثمان وسين وستمائة، وحضر إليه الصاحب الوزير زين الدين يعقوب بن الزبير، وأشار عليه أن يجر اللقب بالملك القاهر، فإنه ما تلقب به أحد فأفلح، فاستقر لقبه الملك الظاهر.
وكانت القاهرة قد زينت لقدوم الملك المظفر قطز، والناس في فرح ومسرات بقتل التتر. فلما طلع النهار نادى المنادي في الناس: ترحموا على الملك المظفر، وادعوا لسلطانكم الملك القاهر ركن الدين بيبرس. ثم في آخر النهار أمر بالدعاء للملك الظاهر. فغم الناس ذلك، وخافوا من عودة دولة الممالك البحرية، وسوء مملكتهم وجورهم.
وكان قطز قد أحدث في هذه السنة حوادث كثيرة عند حركته لقتال التتر: منها تصقيع الأملاك وتقويمها، وأخذ زكاتها من أربابها، وأخذ من كل واحد من الناس من جميع أهل إقليم مصر ديناراً، وأخذ من الترك الأهلية ثلثها. فأبطل الملك الظاهر جميع ما أحدثه قطز، وكتب به توقيعاً قرئ على المنابر، فكان حملة ما أبطله ستمائة ألف دينار. فسر الناس ذلك، وزادوا في الزينة.(1/145)
وفي يوم الاثنين: صبيحة قدوم السلطان، جلس الملك الظاهر بيبرس بالإيوان من القلعة، وحلف العساكر، واستناب الأمير بدر الدين بيليك الخازندار، واستقر الأمير فارس الدين أقطاي المستعرب أتابكاً على عادته، والأمير جمال الدين أقوش النجيبي الصالحي أستاداراً، والأمير عز الدين الأقرم الصالحي أمير جاندار، والأمير صيام الدين لاجين الدرفيل والأمير سيف الدين بلبان الرومي دوادارية، والأمير بهاء الدين أمير أخور على عادته. ورتب في الوزارة الصاحب زين الدين يعقوب ابن الزبير، والأمير ركن الدين إياجي والأمير سيف الدين بكجري حاجبين. وكتب لإحضار البحرية البطالين من البلادة وكتب إلى الملوك والنواب يخبرهم بسلطنته، فأجابوا كلهم بالسمع والطاعة، خلا الأمير سنجر الحلبي نائب دمشق، فإنه لما استقر في نيابة دمشق كان قد عمر سورها وحصنها، فورد عليه الخبر بقتل قطز وسلطنة بيبرس في أوائل ذي الحجة، فامتعض لذلك وأنف من طاعة بيبرس. ودعا لنفسه وحلف الأمراء وتلقب بالملك المجاهد، وخطب له يوم الجمعة سادس ذي الحجة، فدعا الخطيب للملك الظاهر أولاً ثم للملك المجاهد ثانياً، وضربت السكة باسمهما. ثم ارتفع المجاهد عن هذا، وركب بشعار السلطنة والغاشية بين يديه، وشرع في عمارة قلعة دمشق، وجمع لها الصناع وكبراء الدولة والناس، وعملوا فيها حتى عملت النساء أيضاً، وكان عند الناس بذلك سرور كبير. فقدم رسول الملك الظاهر بيبرس بكتابه بعد يومين، فوجد الأمير سنجر قد تسلطن، فعاد إلى مصر. فكتب الملك الظاهر إليه يعنفه ويقبح فعله، فغالطه في الجواب.
فولي دمشق في هذه السنة - من أولها إلى نصف صفر - الملك الناصر، ثم ملكها هولاكو إلى أن سار إلى الشرق، فاستناب بها كتبغا وبيدرا، فحكم فيها التتر إلى خامس عشري رمضان، ثم صارت في مملكة قطز إلى أن قتل في خامس عشري ذي القعدة، فملكها الملك المجاهد علم الدين سنجر الحلبي بقية السنة. وكان القضاء بها أولاً بيد القاضي صدر الدين أحمد بن يحيى بن هبة الله بن سني الدولة، ثم ولي التتر القاضي كمال الدين عمر بن بندار التفليسي، ثم بعده القاضي محيى الدين بن التركي، ثم القاضي صدر الدين أبو القاسم. ثم ولي القاضي صدر الدين بعلبك، فاستقل ابن التركي بالقضاء بدمشق إلى أن صرفه قطز بنجم الدين أبي بكر محمد بن صدر الدين أحمد بن سني الدولة.
وفيها ثار بحلب العزيزية والناصرية على الملك السعيد علاء الدين بن بدر الدين صاحب الموصل، وقبضوا عليه ونهبوا وطاقه، وقدموا عليهم الأمير حسام الدين لاجين العزيزي الجوكندار. وكان الأمير حسام الدين المذكور قد أخذ إذناً من الملك المظفر قطز - رحمه الله تعالى - وتوجه لاستخلاص ما بقي له من الإقطاع والودائع التي كانت له من أيام الملك الناصر. فلما أنفق ما اتفق وهو بحلب أجمع الحلبيون على تقديمه، فكتب إليه الملك المجاهد علم الدين سنجر الحلبي بأن يخطب له في حلب وأن يكون نائباً له، وأن يزيده على إقطاعه زيادات كثيرة. فامتنع لاجين من إجابة الملك المجاهد سنجر، وقال: أنا نائب ملك مصر، وأقام على طاعة الظاهر بيبرس، فبعث إليه الظاهر بالتقليد بنيابة حلب.
وفيها ثار جماعة من السودان والركبدارية والغلمان، وشنقوا بالقاهرة وهم ينادون يآل علي، وفتحوا دكاكين السيوفيين بين القصرين وأخذوا ما فيها من السلاح، واقتحموا اصطبلات الأجناد وأخذوا منها الخيول وكان الحامل لهم على هذا رجل يعرف بالكوراني، أظهر الزهد بيده سبحة وسكن قبة بالجبل، وتردد إليه الغلمان فحدثهم في القيام على أهل الدولة، وأقطعهم الإقطاعات وكتب لهم بها رقاعاً. فلما ثاروا في الليل ركب العسكر وأحاطوا بهم وربطوهم، فأصبحوا مصلبين خارج باب زويلة، وسكنت الثائرة. وخرجت السنة ولم يركب الملك الظاهر بيبرس بشعار السلطنة على العادة.
ومات في هذه السنة من الأعيان
الملك المعظم تورانشاه بن الناصر يوسف بن العزيز شادي بن الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب كبير البيت الأيوبي، ونائب حلب، عن ثمانين سنة. ومات الملك الكامل محمد بن المظفر غازي بن العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي صاحب ميافارقين، وكان عالماً عادلاً محسناً، قتله التتار وحملوا رأسه إلى دمشق.(1/146)
وتوفي الملك السعيد حسن بن العزيز عثمان بن العادل أبي بكر بن أيوب بن شادي، صاحب قلعة الصبيبة وبانياس، بعد ما أخذتا منه وسار إلى البيرة، فأعاده التتار إلى ولايتهما، وحضر معهم عين جالوت، فأسر وضرب عنقه.
ومات الملك السعيد إيلغازي بن المنصور أرتق بن إبلغازي بن ألبي بن تمرقاش بن إيلغازي بن أرتق، صاحب ماردين بها، وقام من بعده ابنه المظفر قرا أرسلان.
وتوفي قاضي القضاة بدمشق صدر الدين أبو العباس أحمد بن أبي البركات يحيى بن هبة الله بن الحسن بن يحيى بن سني الدولة التغلبي الدمشقي الشافعي ببعلبك، عن ثمان وستين سنة.
وتوفي شيخ الإسلام تقي الدين أبو عبد الله محمد بن أبي الحسين أحمد بن عبد الله ابن عيسى اليونيني الحنبلي، عن ست وثمانين سنة ببعلبك.
وتوفي الصاحب مؤيد الدين أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف بن إبراهيم القفطي الشيباني، وزير حلب، بها عن أربع وستين سنة.
وتوفي الأديب مخلص الدين أبو عبد الله المبارك يحيى بن المبارك بن فضيل الغساني الحمصي، بها في الجفلة.
وتوفي الأديب جلال الدين أبو الحسن علي بن يوسف بن محمد بن عبد الله الصفار المارديني الشاعر، بها قتيلاً عن ثلاث وثمانين سنة.
وتوفي الشيخ أبو بكر بن قوام بن علي بن قوام البالسي الصالحي الزاهد، ببلاد حلب عن أربع وسبعين سنة.
سنة تسع وخمسين وستمائة
فيها عظم الفأر في أرض حوران أيام البيادر حتى أكل معظم الغلال، فيقال إنه أكل ثلاثمائة ألف غرارة قمح.
وفيها اجتمع من التتار ستة آلاف فارس، وقاموا بحمص. فبرز إليهم الملك الأشرف موسى شيركوه صاحب حمص، والملك المنصور صاحب حماة، واجتمع إليهما قدر ألف وأربعمائة فارس. وقدم زامل بن علي أمير العرب في عدة من العربان وواقعوا التتر يوم الجمعة خامس المحرم على الرستن، فأفنوهم قتلاً وأسراً، ووردت البشارة إلى مصر بذلك. وكانت التتار في ستة آلاف، والمسلمون ألف وأربعمائة، وحملت رءوس القتلى إلى دمشق وفيها اشتد الغلاء بدمشق.
وفي يوم الاثنين سابع صفر: ركب الملك الظاهر بيبرس من قلعة الجبل بشعار السلطنة إلى خارج القاهرة، ودخل من باب النصر، فترجل الأمراء ومشوا بين يديه إلى باب زويلة، ثم ركبوا إلى القلعة، وقد زينت القاهرة، ونثرت الدنانير والدراهم على السلطان، وخلع على الأمراء والمقدمن وسائر أرباب الدولة، وكان هذا أول ركوبه، ومن حينئذ تابع الركوب إلى اللعب بالأكرة. وكتب إلى ملوك الغرب واليمن والشام والثغور بقيامه في سلطة مصر والشام.
وفيها بعث السلطان الملك الظاهر بيبرس الأمير جمال الدين المحمدي إلى دمشق، ومعه مائة ألف درهم وحوائص وخلع بألفي دينار عينا، ليستميل الناس على المجاهد سنجر.
فقدم دمشق ثالث صفر وعمل ما أمر به، فأجابه الأمراء القيمرية وخرجوا عن دمشق: ومعهم الأمير علاء الدين إيدكين البندقدار الصالحي، والأمير بهاء الدين بغدي الأشرفي، والأمير قراسنقر الوزيري، وعدة من الأمراء. ونادوا باسم الملك الظاهر بيبرس، فارتجت دمشق.
وبعث المجاهد سنجر إليهم بعسكر فانهزم، فخرج بنفسه وحمل بأصحابه، ففروا عنه ثم عادوا عليه، فخرج وقتل عدة من جماعته، والتجأ هو إلى القلعة فامتنع بها يوم السبت حادي عشر صفر. فدخل الأمير أيدكين البندقدار - أستاذ الملك الظاهر - إلى المدينة وملكها، وحلف الناس للملك الظاهر وقام بأمرها. وخاف المجاهد على نفسه ففر من قلعة دمشق إلى بعلبك، فأرسل إليه الأمير إيدكين وأحضره محتفظاً به. فلما بلغ الملك الظاهر بيبرس ذلك قرر الأمير علاء الدين طيبرس الحاج الوزيري في القلعة، وجعل إليه التحدث في الأموال، واستدعى الأمير سنجر الحلبي، وأقام إيدكين مدة شهر في نيابة دمشق، ثم صرفه عنها بالأمير طيبرس الوزيري، وسار الأمير سنجر مع الأمير بدر الدين ابن رحال، وأحضر في سادس عشر صفر وهو مقيد إلى مصر. فندب الملك الظاهر إلى لقائه الأمير بيسري، وأدخله ليلاً من باب القرافة على خفية واعتقله بالقلعة، من غير أن يعلم به أحد من الناس.(1/147)
وفيها جهز الملك الظاهر بيبرس الأموال والأصناف صحبة الأمير علم الدين اليغمري لعمارة الحرم النبوي بالمدينة، وبعث الصناع والآلات لعمارة قبة الصخرة بالقدس، وكانت هوت. وأخرج ما كان في اقطاعات الأمراء من أوقاف الخليل عليه السلام، ووقف عليه قرية تعرف باذنا. ورسم للأمير جمال الدين بن يغمور بعمارة ما تهدم من قلعة الروضة، فرم ما فسد منها ورتب بها الجندارية وأعاد لها حرمتها، وفرق أبراجها على الأمراء: وهم الأمير قلاوون، والأمير عز الدين الحلي والأمير عز الدين أوغان، والأمير بيسري، وغيرهم - لكل أمير منهم برج، وأمرهم أن تكون اصطبلاتهم وبيوتهم فيها، وسلمهم مفاتيح القلعة. وأمر بعمارة القناطر بجسر شبرامنت من الجيزية، لكثرة ما كان يشرق من الأراضي في كل سنة، فانتفعت البلاد بهذه القناطر. وأمر بعمارة أسوار الإسكندرية، ورتب لذلك جملة من المال في كل شهر. وبنى بثغر رشيد مرقباً لكشف البحر. وأمر بردم فم بحر دمياط، فخرج جماعة الحجارين وألقوا فيه القرابيص، حتى تمتنع السفن الكبار من دخوله، واستمر ذلك إلى اليوم.
وأمر السلطان بإخراج الأمير سيف الدين الرشيدي إلى بحر أشموم، فتوجه إليه وأحضر الولاة وحفر هذا البحر، وأزال منه ما تربى به من الأطيان، وغرق عدة مراكب حتى رد إليه الماء. وأمر بعمارة ما خربه التتر من قلاع الشام: وهي قلعة دمشق، وقلعة الضلت، وقلعة عجلون، وقلعة صرخد، وقلعة بصرى وقلعة شيزر، وقلعة الصبيبة، وقلعة شميميش وقلعة حمص. فعمرت كلها ونظفت خنادقها، ووسعت أبراجها وشحنت بالعدد، وجرد إليها المماليك والأجناد، وخزنت بها الغلات والأزواد وحملت كثيرة إلى دمشق، وفرقت في البلاد لتصير تقاوي الفلاحين. ورتب السلطان بدمشق بعدل، وبنى مشهداً في عين جالوت عرف بمشهد النصر.
ورتب السلطان البريد في سائر الطرقات، حتى صار الخبر يصل من قلعة الجبل إلى دمشق في أربعة أيام ويعود في مثلها. فصارت أخبار الممالك ترد إليه في كل جمعة مرتين، ويتحكم في سائر المماليك من العزل وهو مقيم بقلعة الجبل، وأنفق في ذلك مالاً عظيماً حتى تم ترتيبه. ونظر في أمر الشواني الحربية، وكان قد أهمل أمر الأسطول بمصر وأخذ الأمراء رجاله واستعملوهم في الحراريق وغيرها، فأعادهم إلى ما كانوا عليه في أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب. وأنشأ عدة شواني بثغري دمياط والإسكندرية، ونزل بنفسه إلى دار الصناعة ورتب ما يجب ترتيبه، وتكامل عنده ببر مصر ما ينيف على أربعين قطعة وعدة كثيرة من الحراريق والطرائد ونحوها.
فلما كان ذات يوم حضر إليه رجل من أجناد الأمير الصقلي، وأخبره أن أستاذه فرق مالاً على جماعة من المعزية وقرر معهم قتل السلطان: منهم الأمير علم الدين الغتمي، والأمير بهادر المعزي، والأمير شجاع الدين بكتوت، فقبض على الجميع في ثامن ربيع الأول.
وفيها قبض على الصاحب زين الدين يعقوب بن الزبير، وعوق في قاعة الوزارة، فشفع فيه الأمير سيف الدين أنس، فخلع في يومه. ولم يقم سوى أيام وقبض السلطان على الأمير أنس، فقبض على الصاحب زين الدين بن الزبير في صبيحة مسكه. ثم طلب قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ليلى الوزارة فأبى، وأقام الأمير فارس الدين أقطاي يراوده زماناً وهو لا يقبل، ثم نزل إلى داره، فطلب السلطان بهاء الدين على سديد الدين محمد بن سليم بن حنا، فولى الوزارة، وفوض إليه تدبير المملكة وأمور الدولة بأسرها، وخلع عليه. فركب معه جميع الأعيان والأكابر، وعدة من الأمراء منهم سيف الدين بلبان الرومي الدوادار.
وورد الخبر عن عكا أن سبع جزائر من جزائر الفرنج في البحر خسف بها وبأهلها، بعدما نزل عليهم دم عشرة أيام، فهلك بها خلق كثير، وصار أهل عكا في خوف واستغفار وبكاء.
وجهز السلطان الأمير بدر الدين بيليك الأيدمري في جماعة، ولم يعرف مقصده في ذلك أحد ممن جرده ولا غيرهم، فساروا إلى الشوبك وتسلموها من نواب الملك المغيث فتح الدين عمر في سادس عشري ربيع الآخر، واستقر في نيابتها الأمير سيف الدين بلبان المختصي واستخدم فيها النقباء والجنادرة، وأفرد بخاص القلعة ما كان في الأيام الصالحية. وفيه قبض على الأمير بهاء الدين بغدي، وحبس بقلعة الجبل حتى مات.(1/148)
وفي يوم الثلاثاء عاشر جمادى الأولى: فوض قضاء القضاة بديار مصر للقاضي تاج الدين عبد الوهاب بن القاضي الأعز خلف، المعروف بابن بنت الأعز، عوضاً عن بدر الدين السنجاري، بعد عدة شروط اشترطها على السلطان أغلظ فيها. وقصد القاضي تاج الدين بكثرة الشروط أن يعفى من ولاية القضاء، فأجاب السلطان إلى قبول ما اشترط عليه رغبة فيه وثقة به، وصلى بالسلطان صلاة الظهر، وحكم بعد ذلك. وقبض السلطان على البحر السنجاري وعوقه عشرة أيام، ثم أفرج عنه.
وفيها سار الأمير أبو القاسم أحمد بن الخليفة الظاهر أبي نصر محمد بن الناصر لدين الله أحمد بن المستضيئ بالله العباسي - الذي يقال له الزراتيقي لقب لقبه به العامة - مع جماعة من العرب بني مهتا، يريد دمشق. وكان قد فر من بغداد لما قتل هولاكو الخليفة المستعصم بالله، ونزل عند عرب العراق في هذه المدة، ثم أراد أن يلحق بالملك الظاهر بيبرس بمصر. فوردت مكاتبة الأمير علاء الدين أيدكين البندقدار، والأمير علاء الدين طيبرس الوزيري نائب دمشق: بأنه ورد إلى الغوطة رجل ادعى أنه أبو القاسم أحمد الأسمر بن الإمام الظاهر بن الإمام الناصر، وهو عم المستعصم وأخو المستنصر، ومعه جماعة من عرب خفاجة في قريب الخمسين فارساً، وأن الأمير سيف الدين قلج البغدادي عرف أمراء العرب المذكورين، وقال: بهؤلاء يحصل المقصود. فكتب السلطان إلى النواب بالقيام في خدمته وتعظيم حرمته، وأن يسير معه حجاب من دمشق فسار من دمشق بأوفر حرمة إلى جهة مصر. فخرج السلطان من قلعة الجبل يوم الخميس تاسع شهر رجب إلى لقائه، ومعه الوزير الصاحب بهاء الدين بن حنا، وقاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز، وسائر الأمراء وجميع العسكر، وجمهور أعيان القاهرة ومصر، ومعظم الناس من الشهود والمؤذنين. وخرجت اليهود بالتوراة، والنصارى بالإنجيل. فسار السلطان به إلى باب النصر، ودخل إلى القاهرة وقد لبس الشعار العباسي، وخرج الناس إلى رويته، وكان من أعظم أيام القاهرة. وشق القصبة إلى باب زويلة، وصعد قلعة الجبل وهو راكب، فأنزل في مكان جليل قد هيئ له بها، وبالغ السلطان في إكرامه وإقامة ناموسه.
فلما كان يوم الاثنين ثالث عشره: حضر قاضي القضاة ونواب الحكم، وعلماء البلد وفقهاؤها وأكابر المشايخ وأعيان الصوفية، والأمراء ومقدمو العساكر، والتجار ووجوه الناس، وحضر أيضا الشيخ عز الدين بن عبد السلام، فمثلوا كلهم بحضرة الأمير أحمد وجلس السلطان متأدباً بغير كرسي ولا طراحة ولا مسند. وشهد العربان وخادم من البغاددي بأن الأمير أحمد هو ابن الإمام الظاهر أمير المؤمنين بن الإمام الناصر أمير المؤمنين، وشهد بالاستفاضة القاضي جمال الدين يحيى بن عبد المنعم بن حسن المعروف بالجمال يحيى نائب الحكم بمصر، والفقيه علم الدين محمد بن الحسين ابن عيسى بن عبد الله بن رشيق، والقاضي صدر الدين موهوب الجزري، ونجيب الدين الحراني، وسديد الدين عثمان بن عبد الكريم بن أحمد بن خليفة، وأبو عمرو بن أبي محمد الصنهاجي التزمنتي، أنه أحمد بن الإمام الظاهر بن الإمام الناصر. فقبل قاضي القضاة تاج الدين شهادات القوم، وأسجل على نفسه بالثبوت، وهو قائم على قدميه في ذلك المحفل العظيم حتى ضم الإسجال والحكم.
فلما تم ذلك كان أول من بايعه القاضي تاج الدين، ثم بعده قام السلطان وبايع أمير المؤمنين المستنصر بالله أبا القاسم أحمد بن الإمام الظاهر، على العمل بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، وأخذ أموال الله بحقها وصرفها في مستحقها. ثم بايعه بعد السلطان الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ثم الأمراء وكبار الدولة. فلما تمت البيعة قلد الإمام المستنصر بالله السلطان الملك الظاهر البلاد الإسلامية وما ينضاف إليها، وما سيفتحه الله على يديه من بلاد الكفار، ثم قام الناس فبايعوا الخليفة المستنصر بالله على اختلاف طبقاتهم. وكتب في الوقت إلى الملوك والنواب بسائر الممالك أن يأخذوا البيعة على من قبلهم للخليفة المستنصر بالله أبي القاسم أحمد بن الإمام الظاهر، وأن يدعى له على المنابر ثم يدعى للسلطان بعده، وأن تنقش السكة باسمهما.(1/149)
فلما كان يوم الجمعة سابع عشرة: خطب الخليفة المستنصر بالله في جامع القلعة، فاستفتح بقراءة صدر سورة الأنعام، ثم صلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وترضى عن الصحابة وذكر شرف بني العباس، ودعا للملك الظاهر، وقضي الخطبة، فاستحسن الناس ذلك منه، واهتم السلطان بأمره، ونثر عليه جملاً مستكثرة من الذهب والفضة. فلما شرع في الخطة تلكأ فيها، ثم نزل بعد تمامها وصلى بالناس الجمعة.
وكان منصب الخلافة شاغراً ثلاث سنين ونصف سنة، منذ قتل الخليفة المستعصم في صفر سنة ست وخمسين، فكان الخليفة المستنصر بالله هو الثامن والثلاثون من خلفاء بني العباس، وبينه وبين العباس أربعة وعشرون أباً. وكان أسمر اللون وسيماً، شديد القوى عالي الهمة، له شجاعة وإقدام. واتفق له ما لم يتفق لغيره، وهو أنه لقب بالمستنصر لقب أخيه باني المدرسة المستنصرية ببغداد، ولم يقع لغيره أن الخليفة لقب بلقب أخيه سواه.
في يوم الأحد تاسع عشره: ركب الخليفة والسلطان من قلعة الجبل إلى مدينة مصر، وركبا في الحراريق وسارا في النيل إلى قلعة الجزيرة، وجلسا فيها، وأحضرت الشواني الحربية، فلعبت في النيل على هيئة محاربتها العدو في البحر، ثم ركبا إلى البر وسار إلى قلعة الجبل، وقد خرج الناس لمشاهدتهما، فكان من الأيام المشهودة.
وفيه قلد السلطان الأمير علم الدين سنجر الحلبي - الذي ثار قبلا بدمشق - نيابة حلب، وجهز معه أمراء لكل منهم وظيفة وهم: الأمير شرف الدين قيران الفخري استادار، والأمير بدر الدين جماق أمير جاندار، والأمير علاء الدين أيدكين الشهابي شاد الدواوين. وسار الأمير علم الدين من القاهرة كما تسافر الملوك، فدخل حلب في ثالث شعبان فحضر إليه جماعة من العزيزية والناصرية وسألوا الأمان كانت العزيزية والناصرية قد اختلفوا وخرجوا إلى الساحل، فأقطعهم السلطان إقطاعات، وأحضر منهم عدة إلى مصر.
وفي يوم الاثنين رابع شعبان: ركب السلطان إلى خيمة ضربت له في البستان الكبير خارج القاهرة، ومعه أهل الدولة. وحملت الخلع صحبة الأمير مظهر الدين وشاح الخفاجي، وخادم الخليفة المستنصر بالله. فدخل السلطان إلى خيمة أخرى. وأفيضت عليه الخلع الخليفتية وخرج بها وهي: عمامة سوداء مذهبة مزركشة، ودراعة بنفسجية اللون، وطوق ذهب، وقيد من ذهب عمل في رجليه، وعدة سيوف تقلد منها واحداً وحملت البقية خلفه، ولواءان منشوران على رأسه، وسهمان كبيران وترس. فقدم له فرس أشهب، في عنقه مشدة سوداء وعليه كنبوش أسود. وطلب الأمراء واحداً بعد واحد وخلع عليهم، وخلع على قاضي القضاة تاج الدين، وعلى الصاحب بهاء الدين، وعلي فخر الدين بن لقمان صاحب ديوان الإنشاء. ونصب منير، فصعد عليه ابن لقمان بعدما جلل بثوب حرير أطلس أصفر، وقرأ تقليد الخليفة للسلطان، وهو من إنشائه، ونصه بعد البسملة: الحمد لله الذي اصطفى الإسلام بملابس الشرف، وأظهر بهجة درره وكانت خافية بما استحكم عليها من الصدف، وشيدها وهي من غلائه حتى أنسى ذكر ما سلف، وقيد لنصره ملوكاً اتفق على طاعتهم من اختلف. أحمده على نعمه التي رتعت الأعين منها في الروض الأنف، وألطافه التي وقف الشكر عليها فليس عنها منصرف. وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة توجب من المخاوف أمناً، وتسهل من الأمور ما كان حزناً. وأشهد أن محمداً عبده الذي جبر من الدين وهنا، ورسوله الذي أظهر من المكارم فنوناً لا فناً، صلى الله عليه وعلى آله الذين أضحت مناقبهم باقية لا تفنى، وأصحابه الذين أحسنوا في الدنيا فاستحقوا الزيادة من الحسنى.(1/150)
وبعد فإن أولي الأولياء بتقديم ذكره، وأحقهم أن يصبح القلم راكعاً وساجداً في تسطير مناقبه وبره، من سعى فأضحى بسعيه الحميد متقدماً، ودعا إلى طاعته فأجاب من كان منجداً ومتهماً، وما بدت يد من المكرمات إلا كان لها زنداً ومعصماً، ولا استباح بسيفه حمى وغي إلا أضرمه ناراً وأجراه دماً. ولما كانت هذه المناقب الشريفة مختصة بالمقام العالي المولوي السلطاني الملكي الظاهري الركني شرفه الله وأعلاه، ذكره الديوان العزيز النبوي الإمامي المستنصري أعز الله سلطانه، تنويهاً بشريف قدره، واعترافاً بصنعه الذي تنفد العبارة المسهبة ولا تقوم بشكره. وكيف لا وقد أقام الدولة العباسية، بعد أن أقعدتها زمانة الزمان، وأذهبت ما كان من محاسن وإحسان، وأعتب دهرها المسيء لها فأعتب، وأرضي عنها زمنها وقد كان صال عليها صولة مغضب. فأعاده لها سلماً بعد أن كان عليها حرباً، وصرف إليها اهتمامه فرجع كل متضايق من أمورها واسعاً رحباً، ومنح أمير المؤمنين عند القدوم عليه حنواً وعطفاً، وأظهر من الولاء رغبة في ثواب الله ما لا يخفى، وأبدى من الاهتمام بأمر الشريعة والبيعة أمر لو رامه غيره لامتنع عليهن ولو تمسك بحبله متمسك لانقطع به قبل الوصول إليه. لكن الله تعالى ادخر هذه الحسنة ليثقل بها ميزان ثوابه، ويخفف بها يوم القيامة حسابه، والسعيد من خفف من حسابه. فهذه منقبة أبى الله إلا أن يخلدها في صحيفة صنعه، ومكرمة قضت لهذا البيت الشريف بجمعه بعد أن حصل الإياس من جمعه.
وأمير المؤمنين يشكر لك هذه الصنائع، ويعترف أنه لولا اهتمامك لاتسع الخرق على الواقع. وقد قلدك الديار المصرية والبلاد الشامية والديار البكرية والحجازية واليمنية والفراتية، وما يتجدد من الفتوحات غوراً ونجماً، وفوض أمر جندها ورعاياها إليك حين أصبحت بالمكارم فرداً، ولا جعل منها بلداً من البلاد ولا حصناً من الحصون يستثنى، ولا جهة من الجهات تعد في الأعلى ولا في الأدنى.
فلاحظ أمور الأمة فقد أصبحت لها حاملاً، وخلص نفسك من التبعات اليوم ففي غد تكون مسئولاً لا سائلاً، ودع الاغترار بأمر الدنيا فما نال أحد منها طائلاً، وما رآها أحد بعين الحق إلا رآها خيالاً زائلاً، فالسعيد من قطع منها آماله الموصولة، وقدم لنفسه زاد التقوى فتقدمة غير التقوى مردودة لا مقبولة. وابسط يدك بالإحسان والعدل، فقد أمر الله بالعدل وحث على الإحسان، وكرر ذكره في مواضع من القرآن، وكفر به عن المرء ذنوباً كتبت عليه وآثاماً، وجعل يوماً واحداً منها كعبادة العابد ستين عاماً. وما سلك أحد سبيل العدل إلا واجتنبت ثماره من أفنان، ورجح الأمر به بعد بعد تداعى أركانه وهو مشيد الأركان، وتحصن به من حوادث زمانه والسعيد من تحصن من حوادث الزمان، وكانت أيامه في الأيام أبهى من الأعياد، وأحسن في العيون من الغرر في أوجه الجياد، وأحلى من العقود إذا حلى بها عاطل الأجياد.
وهذه الأقاليم المنوطة بك محتاج إلى نواب وحكام. وأصحاب رأي من أصحاب السيوف والأقلام، فإذا استعنت بأحد منهم في أمورك فنقب عليه تنقيباً، واجعل عليه في تصرفاته رقيباً. وسل عن أحواله ففي يوم القيامة تكون عنه مسئولاً وبما أجرم مطلوباً، ولا تول إلا من تكون مساعيه حسنات لك لا ذنوباً. وأمرهم بالأناة. الأمور والرفق، ومخالفة الهوى إذا ظهرت أدلة الحق، وأن يقابلوا الضعفاء في حوائجهم بالثغر الباسم والوجه الطلق، وألا يعاملوا أحداً على الإحسان والإساءة إلا بما يستحق، وأن يكونوا لمن تحت أيديهم من الرعايا إخواناً، وأن يوسعوهم براً وإحساناً، وألا يستحلوا حرماتهم إذا استحل الزمان لهم حرماناً، فالمسلم أخو المسلم ولو كان أميراً عليه وسلطاناً. والسعيد من نسج ولاته في الخير على منواله، واستنوا بسنته في تصرفاته وأحواله، وتحملوا عنه ما تعجز قدرته عن حمل أثقاله.(1/151)
ومما تؤمرون به أن يمحى ما أحدث من سيئ السنن، وجدد من المظالم التي هي من أعظم المحن، وأن يشترى بإبطالها المحامد فإن المحامد رخيصة بأغلى ثمن. رمهما جبي منها من الأموال فإنما هي باقية في الذمم حاصلة، وأجياد الخزائن وإن أضحت بها حالية فإنما هي على الحقيقة منها عاطلة، وهل أشق ممن احتقب إثماً، واكتسب بالمساعي الذميمة ذماً، وجعل السواد الأعظم له يوم القيامة خصماً، وتحمل ظلم الناس فيما صدر عنه من أعماله وقد خاب من حمل ظلماً. وحقيق بالمقام الشريف المولوي السلطاني الملكي الظاهري الركني أن تكون ظلامات الأنام مردودة بعمله، وعزائمه تخفف ثقلاً لا طاقة لهم بحمله، فقد أضحى على الإحسان قادراً، وصنعت له الأيام ما لم تصنع لغيره ممن تقدم للملوك وإن جاء آخراً. فأحمد الله على أن وصل إلى جانبك أمام هدي أوجب لك مزية التعظيم، ونبه الخلائق على ما خصك الله به من هذا الفضل العظيم. وهذه أمور يجب أن تلاحظ وترعى، وأن توالي عليها حمد الله فإن الحمد يجب. عليه عقلاً وشرعاً، وقد تبين أنك صرت في الأمور أصلاً وصار غيرك فرعاً.
ومما يجب أيضاً تقديم ذكره أمر الجهاد الذي أضحى على الأمة فرضاً، وهو العمل الذي يرجع به مسود الصحائف مبيضاً. وقد وعد الله المجاهدين بالأجر العظيم، وأعد لهم عنده المقام الكريم، وخصهم بالجنة التي لا لغو فيها ولا تأثيم. وقد تقدمت لك في الجهاد بيضاء أسرعت في سواد الحساد، وعرفت منك عزمة هي أمضى مما تجنه ضمائر الأغماد، وأشهى إلى القلوب من الأعياد. وبك صان الله حمى الإسلام من أن يتبدل، وبعزك حفظ على المسلمين نظام هذه الدول، وسيفك أثر في قلوب الكافرين قروحا لا تندمل، وبك يرجى أن يرجع مقر الخلافة إلى ما كان عليه في الأيام الأول. فأيقظ لنصرة الإسلام جفناً ما كان غافياً ولا هاجعاً، وكن في مجاهدة أعداء الله إماماً متبوعاً لا تابعاً، وأيد كلمة التوحيد فما تجد في تأييدها إلا مطيعاً سامعاً.
ولا تخل الثغور من اهتمام بأمرها تبسم له الثغور، واحتفال يبدل ما دجى من ظلماتها بالنور. واجعل أمرها على الأمور مقدماً، وشيد منها كل ما غادره العدو منهما، فهذه حصون بها يحصل الانتفاع، وهي على العدو داعية افتراق لا اجتماع. وأولاها بالاهتمام ما كان البحر له مجاوراً، والعدو له ملتفتاً ناظراً، لاسيما الديار المصرية، فإن العدو وصل إليها رابحاً وراح خاسراً، واستأصلهم الله فيها ما أقال منهم عاثراً.
وكذلك أمر الأسطول الذي تزجي خيله كالأهلة، وركائبه سابقة بغير سائق مستقلة. وهو أخو الجيش السليماني، فإن ذاك غدت الرياح له حاملة، وهذا تكلفت بحمله المياه السائلة. وإذا لحظها جارية في البحر كانت كالأعلام، وإذا شبهها قال هذه ليال تقلع بالأيام.
وقد سني الله لك من السعادة كل مطلب، وأتاك من أصالة الرأي الذي يريك المعيب، وبسط بعد القبض منك الأمل، ونشط بالسعادة ما كان من كسل، وهداك إلى مناهج الحق وما زلت مهتدياً إليهاً، وألزمك المراشد ولا تحتاج إلى تنبيه عليها. والله يمدك بأسباب نصره، ويوزعك شكر نعمه، فإن النعمة ستتم بشكره.
ولما فرغ من قراءته، ركب السلطان بالخلعة والطوق الذهب والقيد الذهب، وكان الطالع برج السنبلة. وحمل التقليد الأمير جمال الدين التجيبي أستادار السلطان، ثم حمله الصاحب بهاء الدين وسار به بين يدي السلطان وسائر الأمراء ومن دونهم مشاة سوي الوزير. ودخل السلطان من باب النصر وشق القاهرة، وقد زينت وبسط أكثر الطريق بثياب فاخرة مشى عليها فرس السلطان. وضج الخلق بالدعاء. بإعزاز أيامه وإعزاز نصره وأن يخلعها خلع الرضى، إلى أن خرج من باب زويلة وسار إلى القلعة، فكان يوماً مشهوداً تقصر الألسنة عن وصفه.(1/152)
وشرع السلطان في تجهيز الخليفة للسفر، واستخدم له عساكر، وكتب للأمير سابق الدين بوزنا أتابك العسكر الخليفتي بألف فارس، وجعل الطواشي بهاء الدين سندل الشرابي الصالحي شرابياً بخمسمائة فارس، والأمير ناصر الدين بن صيرم خازنداراً بمائتي فارس، والأمير الشريف نجم الدين أستاداراً بخمسمائة فارس، وسيف الدين بلبان الشمسي دواداراً بخمسمائة فارس، والأمير فارس الدين أحمد بن أزدمر اليغموري دواداراً أيضاً، والقاضي كمال الدين محمد بن عز الدين السنجاري وزيراً، وشرف الدين أبا حامد كاتباً، وأقام عدة من العربان أمراء، وحمل السلطان إلى الجميع الخزائن والسلاح وغيره من الصناجق والطبلخاناه، وانفق أموالاً كثيرة واشترى مائة ملوك كباراً وصغاراً، ورتبهم سلاح دارية وجامدراية، وأعطى كلاً منهم ثلاثة أرؤس من الخيل وجلا لعدته، ورتب سائر ما يحتاج إليه الخليفة: من صاحب ديوان وكاتب إنشاء ودواوين وأئمة، وغلمان وجرائحية وحكاء وبيوتات، وكملها كلها مما تحتاج إليه، ورتب الجنائب وخيول الإصطبلات، واستخدم الأجناد، وعين لخاص الخليفة مائة فرس وعشر قطر بغال وعشر قطر جمال، وطشتخاناه وحوائج خاناه، وكتب لمن وفد معه من العراق تواقيع ومناشر بالإقطاعات.
فلما تهيأ ذلك كله برز الدهليز الخليفتي والدهليز السلطاني إلى البركة ظاهر القاهرة، وركب الخليفة والسلطان من قلعة الجبل في السادسة من نهار الأربعاء تاسع عشر شهر رمضان، وسار إلى البركة فنزل كل منهما في دهليزه، واستمرت النفقة في أجناد الخليفة، وفي يوم عيد الفطر ركب السلطان مع الخليفة تحت المظلة، وصليا صلاة العيد، وحضر الخليفة إلى خيمة السلطان بالمنزلة وألبسه سراويل الفتوة بحضرة الأكابر، ورتب السلطان الأمير عز الدين أيدمر الحلي نائب السلطنة بديار مصر، وأقام معه الصاحب بهاء الدين بن حنا.
وفي يوم السبت سادس شوال: رحل الخليفة وصحبته الملك الظاهر بجميع العساكر، فساروا إلى الكسوة ظاهر دمشق، وخرج إلى لقائهم عسكر دمشق في يوم الاثنين سابع ذي القعدة، فنزل الخليفة بالتربة الصالحية في سفح قاسيون، ونزل السلطان بقلعة دمشق.
وفي يوم الجمعة عاشره: دخل الخليفة الجامع الأموي بدمشق من باب البريد، وجاء السلطان من باب الزيادة، واجتمعا بمقصورة الجامع حتى فرغا من صلاة الجمعة، وخرجا إلى باب الزيادة فمضى الخليفة وعاد السلطان.
وكان قد قدم إلى السلطان وهو بقلعة الجبل الملك الصالح ركن الدين إسماعيل بن الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل، وولده الملك السعيد علاء الملك وأهله، في شعبان إلى القاهرة فأقبل السلطان عليه وأحسن إليه، وأمر له ولمن معه بالإقامات والأموال من دمشق إلى القاهرة، وتلقاه وأنزله بدار تليق به. ثم وصل أخوه الملك المجاهد سيف الدين إسحاق صاحب الجزيرة، فتلقاه السلطان كما تلقى أخاه. وكان أخوهما الملك السعيد علاء الدين على صاحب سنجار قد رتبه الملك المظفر قطز في نيابة حلب، فقبضه العزيزية واعتقلوه، فسأل إخوته الملك الظاهر فيه فأفرج عنه، وبالغ في إكرامهم وعطائهم. وكان السلطان لما نزل بالبركة خارج القاهرة، قد جهز إليهم خيل النوبة والعصاب والجدمارية والخلع، وكتب لهم التقاليد ببلادهم التي فوضت إليه من الخليفة، فكتب للملك الصالح بالموصل ونصيبين وعقر وشوش وداراً والقلاع العمادية، وكتب للمجاهد بالجزيرة، وكتب للمظفر بسنجار. فقبلوا الأرض عند لبس الخلع، وسير السلطان إليهم الكوسات والسناجق والأموال، وأعفوا من الحضور والخدمة. فساروا إلى دمشق، وحضروا مجلس الشام بقلعة دمشق، ولبسوا الخلع وقبلوا الأرض، وخرجوا والأتابك في خدمتهم بشعار السلطنة، وأعطاهم السلطان في لعب الكرة شيئاً كثيراً.
ووصل إلى دمشق الملك الأشرف مظفر الدين موسى صاحب حمص، والملك المنصور صاحب حماة. فوصل السلطان كلا منهما بثمانين ألف درهم وحملين من الثياب وخيول، وركب كل منهما بدمشق والأمراء مشاة في خدمته بشعائر السلطنة، وكتب السلطان لهما التقاليد باستقرارهما على ما بأيديهما وزادهما، ثم عادا إلى بلادهم.(1/153)
وكان السلطان قد عزم أن يبعث مع الخليفة عشرة آلاف فارس حتى يستقر ببغداد ويكون أولاد صاحب الموصل في خدمته. فخلا أحدهم بالسلطان وأشار عليه ألا يفعل: فإن الخليفة إذا استقر أمره ببغداد نازعك وأخرجك من مصر. فرجع إليه الوسواس، ولم يبعث مع الخليفة سوي ثلاثمائة فارس. وجرد السلطان الأمير سيف الدين بلبان الرشيدي، والأمير شمس الدين سنقر الرومي إلى حلب، وأمرهما بالمسير إلى الفرات، وإذا ورد عليهما كتاب الخليفة بأن يسير أحدهما إليه سار.
وركب السلطان لوداع الخليفة، وسافر الخليفة في ثالث عشر ذي القعدة، ومعه أولاد صاحب الموصل الثلاثة ففارقوه في أثناء الطريق وتوجه كل منهم إلى مملكته فوصل الخليفة إلى الرحبة، وأتاه الأمير علي بن حذيفة من آل فضل بأربعمائة فارس من العرب، وانضاف إليه من مماليك المواصلة نحو الستين مملوكاً، ولحق به الأمير عز الدين بركة من حماة في ثلاثين فارساً ورحل الخليفة من الرحبة إلى مشهد علي، فوجد رجلاً ادعى أنه من بني العباس قد اجتمع إليه سبعمائة فارس من التركمان، كان الأمير شمس الدين أقومش البرلي قد جهزهم من حلب. فبعث الخليفة إلى التركمان واستمالهم ففارقوه وأتوا الخليفة، فبعث إليه الخليفة يستدعيه وأمنه ورغبه في اجتماع الكلمة على إقامة الدولة العباسية، ولاطفه حتى أجاب وقدم إليه، فوفى له وأنزله معه. وسار الخليفة إلى عانة ثم إلى الحنيشة، وخرج يريد هيت، وكتب إلى الملك الظاهر بيبرس بذلك.
وأما حلب فإن الأمير سنجر الحلبي فارقها وسار إلى دمشق، فاستولى عليها الأمير شمس الدين أقوش البرلي وبعث بالطاعة إلى السلطان، فأبى إلا حضوره، فلما سار الأمير سيف الدين الرشيدي والأمير سنقر الرومي من دمشق رحل أقوش عن حلب، فدخلاها، وسارا منها إلى الفرات، وأغارا على بلاد أنطاكية، وكسب العسكر وغنم، وحرق غلال الفرنج ومراكبهم وعاد. فولى السلطان الأمير علاء الدين بندقدار نيابة حلب، فأقام بها في شدة من غلاء الأسعار وعدم القوت، ثم رحل عنها.
وقدمت الإقامات من الفرنج إلى السلطان، وسألوا الصلح فتوقف وطلب منهم أموراً لم يجيبوا إليها، فأهانهم. وكان العسكر قد خرج للغارة على بلادهم من جهة بعلبك، فسألوا رجوعه. واتفق الغلاء ببلاد الشام، فتقرر الصلح على ما كان الأمر عليه إلى آخر أيام الملك الناصر، وإطلاق الأسارى من حين انقضت الأيام الناصرية. فسارت رسل الفرنج لأخذ العهود وتقرير الهدنة لصاحب يافا ومتملك بيروت، فكاسر الفرنج في أمر الأسارى، فأمر السلطان بنقل أسرى الفرنج من نابلس إلى دمشق واستعملهم في العمائر. فتعلل الفرنج بالعوض عن زرعين، فأجيبوا: بأنكم أخذتم العوض عنها في الأيام الناصرية مرج عيون، وقايضتم صاحب تبنين والمقايضة في أيديكم. فكيف تطلبون العوض مرتين. فإن بقيتم على العهد وإلا فما لنا شغل إلا الجهاد. وخرج الأمير جمال الدين المحمدي في عسكر، وأغار على بلاد الفرنج وعاد غانماً سالماً.
وسارت عدة من العسكر فأوقعوا بعرب زبيد لكثرة فسادهم، وقتلوا منهم جماعة وعادوا غانمين. واحضر السلطان أمراء العربان، وأعطاهم وأقطعهم الإقطاعات، وسلمهم درك البلاد وألزمهم حفظ الحروب إلى حدود العراق، وكتب منشور الإمرة على جميع العربان للأمير شرف الدين عيسى بن مهنا.
وفوض السلطان إلى الأمير علاء الدين الحاج طيبرس الوزيري نيابة دمشق، وفوض قضاءها للقاضي شمس الدين أبي العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان - وكان قد خرج معه من مصر - عوضاً عن نجم الدين أبي بكر محمد بن أحمد بن يحيى ابن السني، ووكل به وسفره إلى القاهرة. وقرئ تقليد ابن خلكان يوم الجمعة تاسع ذي الحجة، وفوض إليه الحكم من العريش إلى الفرات، والنظر في جميع أوقاف الشام من الجامع والمارستان والمحارس والأحباس وتدريس سبع مدارس.
وخرج السلطان من دمشق يوم السبت سابع عشره يريد مصر. وصرف قاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز في سلخ شوال عن قضاء مصر والوجه القبلي، واستقر مكانه قاضي القضاة برهان الدين السنجاري، وبقي قضاء القاهرة والوجه البحري بيد ابن بنت الأعز. وأمر السلطان ببناء مشهد على عين جالوت.
وفيها كتب السلطان إلى الملك بركة خان يغريه بقتال هولاكو ويرغبه في ذلك، وسببه تواتر الأخبار بإسلام بركة.(1/154)
وفيها أغار التتار الذين تحلفوا على أعمال حلب وعاثوا، ونزل مقدمهم بيدرا على حلب، وضايقها حتى غلت أسعارها وتعتر وجود القوت، فلما بلغهم توجه عسكر السلطان إليهم رحلوا.
وفيها استولى الأمير شمس الدين أقوش البرلي العزيزي على حلب، وجمع معه التركمان والعرب، فأقام نحو أربعة أشهر. ثم توجه إلى البيرة وأخذها ومضى إلى حران فأقام بها، وصار يقرب من حلب ويبعد عنها خوفاً من السلطان وفيها عدى بنو مرين العدوة لقتال الفرنج فظفروا. وفيها حج الملك المظفر يوسف بن عمر رسول ملك اليمن، وكسا الكعبة وتصدق بمال.
ومات في هذه السنة من الأعيان
الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز محمد بن الظاهر غازي بن الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي، صاحب حلب ودمشق - وهو آخر ملوك بني أيوب - ، بعد أربعة وعشرين عاماً من ملكه، واثنتين وثلاثين سنة من عمره، مقتولاً بأمر هولاكو.
ومات الملك الصالح إسماعيل بن المجاهد شيركوه بن القاهر محمد بن المنصور أسد الدين شيركوه بن شادي، صاحب حمص، مقتولاً بأمر هولاكو أيضاً.
وتوفي الأديب مخلص الدين أبو العرب إسماعيل بن عمر بن يوسف بن قرناص الحموي.
سنة ستين وستمائة
في ثاني المحرم: وصل السلطان من دمشق. واشتد الغلاء بدمشق، فبلغت الغرارة القمح أربعمائة وخمسين درهماً فضة، وهلك خلق كثير من الجوع.
وفيه سار قرابغا مقدم التتار من بغداد - وكان قد استخلفه هولاكو عليها عند عوده إلى بلاد الشرق - يريد لقاء الخليفة المستنصر بالله ومحاربته، فنهب الأنبار وقتل جميع من فيها، وتلاحقت به بقية التتار من بغداد. ولقبهم الخليفة وقد رتب عسكره: فجعل التركمان والعرب جناحي العسكر، واختص جماعة جعلهم في القلب، وحمل بنفسه على التتار فكسر مقدمتهم، وخذله العرب والتركمان فلم يقاتلوا، وخرج كمين للتتار ففر العرب والتركمان، وأحاط التتار بمن بقي معه فلم يفلت منهم سوى الأمير أبي العباس أحمد الذي قدم إلى مصر وتلقب بالحاكم بالله، والأمير ناصر الدين بن مهنا، والأمير ناصر الدين بن صيرم، والأمير سابق الدين بوزبا الصيرفي، والأمير أسد الدين محمود، في نحو الخمسين من الأجناد. ولم يعرف للخليفة خبر: فيقال قتل بالمعركة في ثالث المحرم، ويقال بل نجا مجروحاً في طائفة من العرب فمات عندهم. وكانت هذه الواقعة في العشر الأول من المحرم، فكانت خلافته دون السنة، وبلغت نفقة الملك الظاهر على الخليفة والملوك المواصلة ألف ألف دينار وستين ألف دينار عيناً. واستقر الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن بدر الدين لؤلؤ في مملكته بالموصل، وسار أخواه إسحاق وعلي إلى الشام خوفاً من التتار، وقدما على السلطان بقلعة الجبل فأبر مقدمهما، وسألاه في تجهيز نجدة لأخيهما، فرسم السلطان بتجريد الأمير شمس الدين سنقر الرومي في جماعة من البحرية والحلقة، وساروا من القاهرة في رابع جمادى الأولى. وكتب إلى دمشق بخروج عسكرها صحبة الأمير علاء الدين الحاج طيبرس، فسار العسكران من دمشق في عاشر جمادى الآخرة.
وفوض السلطان وزارة دمشق لعز الدين عبد العزيز بن وداعة. وتسلم نواب السلطان قلعة البيرة. ووقع الصلح بين السلطان وبين الملك المغيث صاحب الكرك. وباشر السلطان عرض عساكر مصر بنفسه، وحلفهم لولي عهده الملك السعيد ناصر الدين خاقان بركة خان.
وفي يوم الأحد ثاني عشري صفر: وصل الأمير أبو العباس أحمد الذي تلقب بالحاكم بأمر الله إلى دمشق، وخرج يريد مصر يوم الخميس سادس عشريه فوصل إلى ظاهر القاهرة في سابع عشري شهر ربيع الأول، فاحتفل السلطان للقائه، وأنزله في البرج الكبير داخل قلعة الجبل، ورتب له ما يحتاج إليه.
وفي نصف رجب: قدم جماعة من البغاددة مماليك الخليفة المستعصم، الذين تأخروا بالعراق بعد قتل الخليفة، ومقدمهم الأمير سيف الدين سلار. فأكرمهم السلطان، وأعطى الأمير سلار إمرة خمسين في الشام ونصف مدينة نابلس، ثم نقله إلى إمرة طبلخاناه بمصر. وفيها أطلق السلطان الأمير سيف الدين قلج البغدادي المستنصري من الاعتقال، وكان قد اعتقله، فمن عليه وأذن له في لعب الكرة معه.(1/155)
وفي شعبان: قدم الأمير سيف الدين الكرزي، والقاضي أصيل الدين خواجا إمام، من عند الأنبرو ملك الفرنج بكتابه. ثم قدم رسوله بهدية ومعه نفران من البحرية، فاعتقلا بقلعة الجزيرة تجاه مصر. وقدم الأمير شرف الدين الجاكي، والشريف عماد الدين الهاكي، من عند صاحب الروم وهو السلطان عز الدين كيكاوس بن كيخسرو، ومعهما رسل المذكور وهما الأمير ناصر الدين نصر الله بن كوح رسلان أمير حاجب، والصدر صدر الدين الأخلاطي، وكتابه المتضمن أنه نزل عن نصف بلاده للسلطان، وسير دروجاً فيها علائم بما يقطع من البلاد لمن يختاره السلطان ويؤمره، وسأل أن يكتب له السلطان منشوراً قرين منشوره. فأكرمهم السلطان، وشرع في تجهيز جيش نجدة لصاحب الروم، وأمر بكتابة المناشير. وعين السلطان الأمير ناصر الدين أعلمش السلاح دار الصالحي لتقديمه العسكر ومعه ثلاثمائة فارس، وأقطعه إقطاعاً ببلاد الروم منه آمد، بلادها.
وفي شهر رجب: قدم الأمير عماد الدين بن مظفر الدين صاحب صهيون، رسولاً من جهة أخيه الأمير سيف الدين، وصحبته هدية. فأكرمه السلطان وكتب له منشوراً بإمرة ثلاثين في حلب، ومنشوراً آخر بإمرة مائة في بلاد الروم. وفي هذا التاريخ ورد كتاب ملك الروم، بأن العدو هولاكو لما بلغه اتفاق الروم مع السلطان خاف من هيبته وولى هارباً، وأنه سير إلى قونية يحاصرها ليأخذها من أخيه.
وفي هذا التاريخ قدم كتاب الملك المنصور صاحب حماة، وصحبته قصاد من التتار معهم فرمان له، فشكره السلطان على ذلك، واعتقل التتار.
وفي هذا التاريخ سار الأمير عز الدين الأقرم أمير جاندار بعسكر إلى بلاد الصعيد وأوقع بالعربان وبدد شملهم، وذلك أنهم كثر طمعهم وهموا بتغيير الممالك، ووثبوا على الأمير عز الدين الهواش والي قوص وقتلوه.
وفي شعبان: كثر قدوم العزيزية والناصرية الذين كانوا صحبة الأمير البرلي. فأكرمهم السلطان وعفا عنهم.
وفي هذه المدة وصل الأمير فارس الدين أقوش المسعودي الذي كان قد توجه رسولاً إلى الأشكري. وكان الأشكري قد بعث يطلب من السلطان بطركا النصارى الملكية، فعين الرشيد الكحال لذلك، وسيره إليه مع الأمير فارس الدين أقوش المسعودي في عدة من الأساقفة. فلما وصلوا إليه أكرمهم وأعطاهم، وواقف الأمير أقوش على جامع. بناه بالقسطنطينية ليكون في صحيفة السلطان ثوابه. وعاد الأمير، قوش وصحبته البطرك المذكور، فقدم البطرك ما ورد على يده من هدية الأشكري للسلطان، وقدم أيضاً ما حصل له من المال، فرد السلطان ذلك عليه. وجهز السلطان برسم جامع قسطنطينية الحصر العبداني، والقناديل المذهبة والستور المرقومة، والمباخر والسجادات إلى غير ذلك من البسط الرومية، والعود والعنبر والمسك وماء الورد.
وفيها أغار الأمير شمس الدين سنقر الرومي على أنطاكية، ونازل صاحبها البرنس وأحرق الميناء بما فيها من المراكب، وكان معه الملك الأشرف موسى صاحب حمص والملك المنصور صاحب حماة. ثم حاصر السويداء، واستولى عليهما وقتل وأسر وعاد موصل إلى القاهرة يوم الخميس لليلة بقيت من شهر رمضان، وصحبته من الأسرى مائتين وخمسين أسيراً. فأكرمه السلطان، وأحسن إلى الأمراء، وسير الخلع إلى الملكين المذكورين.
وفي ثالث شهر رمضان: عزل السلطان قاضي القضاة برهان الدين السنجاري عن قضاء مصر والوجه القبلي، وأعاد قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز، فصار بيده قضاء القضاة بديار مصر كلها. وكان متشدداً في أحكامه، فرسم له في ذي القعدة أن يستنيب عنه مدرسي المدرسة الصالحية من الحنفية والمالكية والحنابلة، فاستنابهم في الحكم عنه، ولم يعرف ذلك عصر قبل هذا الوقت: فجلس القاضي صدر الدين سليمان الحنفي، والقاضي شرف الدين عمر السبكي المالكي، والقاضي شمس الدين محمد بن إبراهيم الحنبلي، في أول ذي القعدة وحكموا بين الناس بمذاهبهم.
وفي رابعه: قبض على الأمير علاء الدين الحاج طيبرس الوزيري نائب الشام، وحمل إلى مصر فاعتقل بقلعة الجبل، وكانت مدة نيابته سنة وشهراً. وحكم في دمشق بعده الأمير علاء الدين أيدغدي الحاج الركني إلى أن يحضر نائب.(1/156)
وفيها كثر الإرجاف في دمشق بحركة التتار، فكتب السلطان برحيل أهل الشام بأهليهم إلى مصر. فحضر من تلك البلاد خلق كثير، بعدما كتب السلطان إلى الولاة بتخميرهم، وألا يؤخذ منهم مكس ولا زكاة، ولا يتعرض لما معهم من متجر ولا غيره، ولا تغش تجارة، فاعتمد ذلك. وكتب السلطان إلى حلب بتحريق الأعشاب، فسيرت جماعة إلى بلاد آمد وغيرها وحرقت الأعشاب التي كانت بالمروج التي جرت عادة هولاكو أن ينزلها. فعمت النار مسيرة عشرة أيام حتى صارت كلها رماداً، وهم الحريق بلاد خلاط، وقطع السنبل وهو أخضر.
وفيها خرجت الكشافة من دمشق وغيرها، فظفروا بكثير من التتار يريدون القدوم إلى مصر مستأمنين. وقد كان الملك بركة بعثهم نجدة إلى هولاكو، فلما وقع بينهما كتب يستدعيهم إليه، ويأمرهم أن تعذر عليهم اللحاق به أن يصيروا إلى عساكر مصر. وكان سبب عداوة بركة وهولاكو أن وقعه كانت بينهما، قتل فيها ولد هولاكو وكسر عسكره وتمزقوا في البلاد، وصار هولاكو إلى قلعة بوسط بحيرة أذربيجان محصورا بها. فلما بلغ ذلك السلطان سر به، وفرح الناس باشتغال هولاكو عن قصد بلاد الشام. وكتب السلطان إلى النواب بإكرام الوافدية من التتار، والإقامة لهم ما يحتاجون إليه من العليق والغنم وغيره، وسيرت إليهم الخلع والإنعامات والسكر ونحوه. وساروا إلى القاهرة، فخرج السلطان إلى لقائهم في سادس عشري ذي الحجة ولم يتأخر أحد عن مشاهدتهم، فتلقاهم وأنزلهم في دور بنت لهم في اللوق ظاهر القاهرة، وعمل لهم دعوة عظيمة هناك وبعث إليهم الخلع والخيول والأموال. وأمر السلطان أكابرهم، ونزل باقيهم في جملة البحرية، وكانوا مائتي فارس بأهاليهم، فحسنت حالهم، ودخلوا في الإسلام. وكتب السلطان إلى الملك بركة كتاباً، وسيره مع الفقيه مجد الدين والأمير سيف الدين كسريك.
وفيها سار صندغون مقدم التتار إلى الموصل، ونصب عليها خمسة وعشرين منجنيقاً، ولم يكن بها سلاح ولا قوت فاشتد الغلاء. وحاصرها صندغون حتى خرج إليه الملك الصالح إسماعيل بن الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ الأتابكي، في يوم الجمعة النصف من شعبان، فقبض عليه وعلى من معه. ووقع التخريب في سور المدينة وقد اطمأن أهلها، ثم اقتحموها ووضعوا السيف في الناس تسعة أيام، ووسطوا علاء الدين ابن الملك الصالح، ونهبوا المدينة وقتلوا الرجال وأسروا النساء والذرية، وهدموا المباني وتركوها بلاقع، ورحلوا بالملك الصالح إسماعيل، ثم قتلوه وهم في طريقهم إلى هولاكو. وفيها خرج الأمير شمس الدين أقوش البرلي من حلب نجدة للملك الصالح، فأدركه التتار بسنجار وواقعوه، فانهزم منهم إلى البيرة في رابع عشر جمادى الآخرة. ثم استأذن الأمير شمس الدين السلطان في العبور إلى مصر، فأذن له وسار إلى القاهرة فدخلها أول ذي القعدة، فأنعم عليه السلطان وأقطعه إمرة سبعين فارساً. وولى السلطان بعده نيابة حلب الأمير عز الدين أيدمر الشهابي، فواقع أهل سيس وأخذ منهم جماعة، وبعثهم إلى مصر فوسطوا.
وفيها وفد على السلطان بعيد كسرة المستنصر شيوخ عبادة وخفاجة، من هيت والأنبار إلى الحلة والكوفة، وكبيرهم خضر بن بدران بن مقلد بن سليمان بن مهارش العبادي، وشهري بن أحمد الخفاجي، ومقبل بن سالم، وعياش بن حديثة، ووشاح وغيرهم. فأنعم السلطان عليهم وكانوا له عيناً على التتار.
ومات في هذه السنة من الأعيان
الخليفة أمير المؤمنين المستنصر بالله أبو القاسم أحمد بن الظاهر بالله أبي نصر محمد ابن الناصر لدين الله أبي العباس أحمد العباسي، قتيلاً في المعركة قريباً من هيت.
وتوفي شيخ الإسلام عز الدين أبو محمد عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم ابن الحسن المهذب السلبي الشافعي، عن اثنتين وستين سنة في .....،.
وتوفي الصاحب كمال الدين أبو القاسم عمر بن نجم الدين أبي الحسن أحمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن العديم الحنفي بالقاهرة. عن نيف وستين سنة.
وتوفي الأديب محيى الدين أبو العز يوسف بن يوسف بن يوسف بن شبرمة بن زبلاق الهاشمي الموصلي الأديب الشاعر الكاتب، قتيلاً بالموصل، عن سبع وخمسين سنة.
سنة إحدى وستين وستمائة(1/157)
في الخميس ثامن المحرم: جلس الملك الظاهر مجلساً عاماً جمع فيه الناس. وحضره التتار الذين وفدوا من العراق والرسل المتوجهون إلى الملك بركة. وجاء الأمير أبو العباس أحمد بن أبي بكر علي بن أبي بكر بن أحمد بن المسترشد بالله العباسي، وهو راكب إلى الإيوان الكبير بقلعة الجبل، وجلس إلى جانب السلطان، وقرئ نسبه على الناس بعدما ثبت على قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز، ولقب بالإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين، وتولى قراءة نسبه القاضي محيى الدين بن عبد الظاهر كاتب السر. فلما ثبت ذلك مد السلطان يده وبايعه على العمل بكتاب الله وسنة رسوله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد أعداء الله وأخذ أموال الله بحقها وصرفها في مستحقها، والوفاء بالعهود وإقامة الحدود، وما يجب على الأمير فعله في أمور الدين وحراسة المسلمين. فلما تمت البيعة أقبل الخليفة على السلطان وقلده أمور البلاد والعباد، وجعل إليه تدبير الخلق، وإقامه قسيمه في القيام بالحق، وفوض إليه سائر الأمور، وعلق به صلاح الجمهور. ثم أخذ الناس على اختلاف طبقاتهم في مبايعته، فلم يبق ملك ولا أمير ولا وزير ولا قاض ولا مشير ولا جندي ولا فقيه إلا وبايعه. فلما تمت البيعة تحدث السلطان معه في إنفاذ الرسل إلى الملك بركة، وانفض الناس.
فلما كان يوم الجمعة ثاني هذا اليوم: اجتمع الناس وحضر الرسل المذكورون، وبرز الخليفة الحاكم بأمر الله وعليه سواده، وصعد المنبر لخطة الجمعة فقال: الحمد لله الذي أقام لكل العباس ركناً وظهيراً، وجعل لهم من لديه سلطاناً ونصيراً. أحمده على السراء والضراء، وأستنصره على دفع الأعداء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه نجوم الاهتداء وأئمة الاقتداء الأربعة الخلفاء، وعلى العباس عمه وكاشف غمه أبي السادة الخلفاء الراشدين، والأئمة المهتدين، وعلى بقية الصحابة التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أيها الناس اعلموا أن الإمامة فرض من فروض الإسلام، والجهاد محتوم على جميع الأنام، ولا يقوم علم الجهاد إلا باجتماع كلمة العباد، ولا سببت الحرم إلا بإنتهاك المحارم، ولا سفكت الدماء إلا بارتكاب المآثم. فلو شاهدتم أعداء الإسلام حين دخلوا دار السلام، واستباحوا الدماء والأموال، وقتلوا الرجال والأبطال والأطفال، وهتكوا حرم الخليفة والحريم، وأذاقوا من استبقوا العذاب الأليم، فارتفعت الأصوات بالبكاء والعويل، وعلت الضجات من هول ذلك اليوم الطويل. فكم من شيخ خضبت شيبته بدمائه، وكم طفل بكا فلم يرحم لبكائه. فشمروا عن ساق الاجتهاد في أحياء فرض الجهاد " واتقوا الله ما استطعتم وأسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " ، فلم تبق معذرة عن أعداء الدين، والمحاماة عن المسلمين.
وهذا السلطان الملك الظاهر، السيد الأجل العالم العادل المجاهد الرابط ركن الدنيا والدين، قد قام بنصر الإمامة عند قلة الأنصار، وشرد جيوش الكفر بعد أن جاسوا خلال الديار. فأصبحت البيعة باهتمامه منتظمة العقود، والدولة العباسية به متكاثرة الجنود. فبادروا عباد الله إلى شكر هذه النعمة، وأخلصوا نياتكم تنتصروا، وقاتلوا أولياء الشيطان تظفروا ولا يروعنكم ما جرى، فالحرب سجال والعاقبة للمتقين، والدهر يومان والأخرى للمؤمنين. جمع الله على التقوى أمركم، وأعز بالإيمان نصركم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(1/158)
وجلس الخليفة جلسة الاستراحة، ثم قام للخطة الثانية وقال: الحمد لله حمداً يقوم بشكر نعمائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عدة للقائه، وأشهد أن محمداً سيد رسله وأنبيائه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه عدد ما خلق في أرضه وسمائه. أوصيكم عباد الله بتقوى الله، إن أحسن ما وعظ به الإنسان كلام الديان: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلكم خير لكم وأحسن تأويلا " ، نفعنا الله وإياكم بكتابه، وأجزل لنا ولكم من ثوابه، وغفر لي ولكم وللمسلمين أجمعين، والحمد لله رب العالمين. ثم نزل الخليفة. وصلى بالناس صلاة الجمعة، وانصرف.
وفي هذا اليوم خطب على منابر القاهرة ومصر بالدعاء للخليفة الحاكم بأمر الله، وكتب إلى الأعمال بذلك، فخطب له بدمشق في يوم الجمعة سادس عشره. وقد قيل في نسبه أنه أبو العباس أحمد بن الأمير محمد بن الحسن بن أبي بكر بن الحسن بن علي القبي بن الحسن بن أمير المؤمنين الراشد بن المسترشد، وهو الخليفة التاسع والثلاثون من خلفاء بني العباس، وليس فيهم بعد السفاح والمنصور من ليس أبوه وجده خليفة غيره، وأما من ليس أبوه خليفة فكثير.
وتجهز الفقيه مجد الدين والأمير سيف الدين كش تك، وكتب على يدهما كتب بأحوال الإسلام ومبايعة الخليفة، واستمالة الملك بركة وحثه على الجهاد، ووصف عساكر المسلمين وكثرتهم وعدة أجناسهم، وما فيها من خيل وتركمان وعشائر وأكراد، ومن وافقها وهاداها وهادنها، وأنها كلها سامعة مطيعة لإشارته، إلى غير ذلك من الإغراء بهلاون وتهون أمره والإشلاء عليه وتقبيح فعله، ونحو ذلك. وجهز السلطان معهما أيضاً نسخة نسبة الخليفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأذهبت وكتب فيها الإسجال بثبوتها. وجمعت الأمراء والمفاردة وغيرهم وقرئت عليهم الكتب، وسلمت إلى الرسل. وسير معهما نفران من التتر أصحاب الملك بركة ليعرفاهما بالطرق، وساروا في الطرائد ومعهم زوادة أشهر. فوصلوا إلى الأشكري فقام بخدمتهم، واتفق وصول رسل الملك بركة إليه فسيرهم صحبته وعاد الفقيه مجد الدين لمرض نزل به، ومعه كتاب الأشكري بمسير الأمير سيف الدين ورفقته. وسار الأمير جمال الدين أقوش النجيبي الصالحي إلى نيابة دمشق، ومعه الصاحب عز الدين عبد العزيز بن وداعة وزير دمشق، وعلى يده تذاكر شريفة بعدما خلع عليهما.
وفي سابع ربيع الآخر: سار السلطان من قلعة الجبل إلى بلاد الشام، ونزل خارج القاهرة. ورحل في حادي عشره، ودام الصيد إلى أن دخل غزة، بعدما ضرب حلقة بثلاث آلاف فارس في العريش، فوقع فيها صيد كثير جداً، وتقنطر الأمير شمس الدين سنقر الرومي عن فرسه، فسار السلطان إليه ونزل عنده، وجعل رأسه على ركبته وأخرج من خريطته الموميا وسقاه، وأخذه معه إلى خيمته. وتقنطر الأمير سيف الدين قلاوون، فاعتمد السلطان معه مثل ذلك.
وقدم عليه في غزة جماعة منهم أم الملك المغيث عمر بن العادل أبي بكر بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب صاحب الكرك، فأنعم عليها إنعاماً كثيراً وأعطى سائر من كان معها، وحصل الحديث في حضور ولدها إلى السلطان، وعادت إلى ابنها بالكرك. من جملة ما زودها به السلطان من صيده خمسة عشر حملاً، وسار معها الأمير شرف الدين الجاكي المهمندار، برسم تجهيز الإقامات للملك المغيث إذا حضر. ونظر السلطان في أمر التركمان، وخلع على أمرائهم وعلى أمراء العربان من العابد وجرم وثعلبة، وضمنهم البلاد وألزمهم القيام بالعداد، وشرط عليهم خدمة البريد وإحضار الخيل برسمه وكتب إلى ملك شيراز وأهل تلك الديار، وإلى عرب خفاجة، يستحثهم على قتال هولاكو ملك التتار، وأن الأخبار قد وردت من البحر بكسر الملك بركة له غير مرة.(1/159)
ثم رحل السلطان من غزة إلى جهة الساحل، ونزل الطور في ثاني عشر جمادى الأولى، وقدم إليه هناك الملك الأشرف صاحب حمص في خامس عشره بإذن منه فتلقاه السلطان وأكرمه، وبعث إليه سبعين غزالاً في دفعة واحدة، وقال: هذا صيد يومنا هذا، جعلته لك،. وخرج إليه المغيث من الكرك بعدما كاتبه الملك الظاهر يستدعيه وهو يسوف به. فأظهر السلطان من الاحتفال له شيئاً كثيراً، وخدعه أعظم خديعة، وكتم أمره عن كل أحد. فلما وصل المغيث بيسان ركب السلطان إلى لقائه في سادس عشري جمادى الأولى، وافاه في أحسن زي. فعندما التقيا ساق الملك المغيث إلى جانب السلطان، فسار به إلى الدهليز السلطاني، ودخلا إلى خركاه، وللوقت قبض عليه. وأحضر السلطان الملوك والأمراء، وقاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان وكان قد استدعاه من دمشق، والشهود والأجناد ورسل الفرنج. وأخرج السلطان إليهم كتب الملك المغيث إلى التتار وكتب التتار إليه، وأخرج أيضاً فتاوى الفقهاء بقتاله، وأحضر أيضاً القصاد الذين كانوا يسفرون بينه، بين هولاكو. ثم قال الأمير الأتابك لمن حضر: السلطان الملك الظاهر يسلم عليكم، ويقول ما أخذت الملك المغيث إلا بها السبب، وقرئت الكتب المذكورة عليهم. فكتب بصورة الحال، وأثبت القضاة خطوطهم في المكتوب، وانفض الجمع. وجلس السلطان وأمر فكتب إلى من بالكرك يعدهم ويحذرهم، وسير الأمير بدر الدين بيسري، والأمير عز الدين الأستادار، بالكتب والخلع والأموال إلى الكرك. وأرسل الملك المغيث عشاء إلى مصر مع الأمير شمس الدين أقسنقر الفارقاني السلاح دار، فسار به إلى قلعة الجبل وسجنه بها، وأطلق السلطان حواشيه، وبعث بحريمه إلى مصر، وأطلق لهم الرواتب.
ولما خلا بال السلطان من هم الملك المغيث، توجه بكليته إلى الفرنج: فإنهم كانوا قد شرعوا في التعلل وطلبوا زرعين، فأجابهم السلطان بأنكم تعوضتم عنها في الأيام الناصرية ضياعاً من مرج عيون، وهم لا يزدادون إلا شكوى. وآخر الحال طلب الفرنج من والي غزة كتاباً بتمكين رسلهم إذا حضروا، فكتب لهم الكتاب، وتواصلت بعد ذلك كتبهم. ووردت كتب النواب بشكواهم، وأنهم اعتمدوا أموراً تفسخ الهدنة فلما صار السلطان في وسط بلادهم وردت عليه كتبهم، وفيها: ما عرفنا بوصول السلطان. فكتب إليهم: من يريد أن يتولى أمراً ينبغي أن يكون فيه يقظة، ومن خفي عنه خروج هذه العساكر، وجهل ما علمته الوحوش في الفلاة والحيتان في المياه، من كثرتها التي لعل بيوتكم ما فيها موضع إلا ويكنس منه التراب الذي أثارته خيل هذه العساكر، ولعل وقع سنابكها قد أصم أسماع من وراء البحر من الفرنج، ومن في موتان من التتار. فإذا كانت هذه العساكر تصل جميعها إلى أبواب بيوتكم ولا تدرون، فأي شيء تعلمون. وماذا تحطون به علماً ولم لا أعطيتم لوالي غزة الكتاب الذي كنا سيرناه لكم بتمكين رسولكم إذا حضر، قال الرسول: نسينا، وما علمنا كيف عدم. فكان الجواب: إذا نسيتم هذا فأي شيء تذكرون. وإذا ضيعتموه فأي شيء تحفظون. وانفعل الحال على هذا. ووصلت نواب يافا ونواب أرسوف بهدية، فأخذت منهم تطميناً لقلوبهم، وتسكينا لهم. هذا وقد أمر السلطان ألا ينزل أحد في زرع الفرنج ولا يسيب فرساً، ولا يؤذي لهم ورقة خضراء، ولا يتعرض إلى شيء من مواشيهم ولا إلى أحد من فلاحيهم.
وكانت كتبهم أولاً ترد بندمهم على الهدنة وطلبهم مسخها، فلما قرب السلطان منهم صارت ترد بأنهم باقون على العهد متمسكون بأذيال المواثيق.(1/160)
وفي اليوم الذي قبض فيه على الملك المغيث، أمر السلطان بإحضار بيوت الفرنجية وقال: ما تقولون؟ قالوا: نتمسك بالهدنة التي بيننا. فقال السلطان: لم لا كان هذا قبل حضورنا إلى هذا المكان، وإنفاق الأموال التي لو جرت لكانت بحاراً؟ ونحن لما حضرنا إلى ها هنا ما آذيناكم زرعاً ولا غيره، ولا نهب لكم مال ولا ماشية، ولا أسر لكم أسير. وأنتم منعتم الجلب والميرة عن العسكر، وحرمتم خروج شيء من الغلات والأغنام وغير ذلك، ومن انفرد من غلمان العسكر أسرتموه. إلينا بدمشق نسخة يمين حلفنا عليها، وسيرنا نسخة يمين من عندنا لم تحلفوا عليها، وعلمتم أنتم نسخة عفتم عليها، وشرط اليمين الأولى تتعلق بالثانية. وسيرنا الأسارى إلى نابلس ومنها إلى دمشق، وما سيرتم أنتم أحد وكل بيت يحيل على الآخر، وما سيرنا الأسارى إلا وفاء بالعهد وإقامة الحجة عليكم وسيرنا كمال الدين بن شيث رسولاً يعلمكم بوصول الأسرى، فلم تبعثوا أحداً، ولم ترحموا أهل ملتكم الأسرى وقد وصلوا إلى أبواب بيوتكم، كل ذلك حتى لا تبطل أشغالكم من أسرى المسلمين عندكم. وأموال التجار شرطتم القيام بما أخذتموه منها، ثم قلتم ما أخذت من بلادنا وإنما أخذت في أنطرسوس وحمل المال إلى خزانة بيت الديوية والأسرى في بيت الديوية، فإن كانت أنطرسوس ما هي لكم فالله يحقق ذلك. ثم إنا شرنا رسلا إلى بلاد السلاجقة الروم، وكتبنا إليكم بتسفيرهم في البحر فأشرتم عليهم بالسفر إلى قبرص فسافروا بكتابكم وأمانكم، فأخذوا وقيدوا وضيق عليهم، وأتلف أحدهم على ما ذكر. فإن كان هذا برضاكم فقبيح أن يعتمدوا هذا الاعتماد. هذا مع إحساننا إلى رسلكم وتجاركم، والوفاء أحد أركان الملك. وجرت عادة الرسل أنها لا تؤذي، وما زالت الحرب قائمة والرسل تتردد، وما القدرة على الرسول بشيء يسكن غيظاً. فإن كان هذا بغير رضاكم فإنه نقص في حرمتكم، وإذا كان صاحب جزيرة قبرص من أهل ملتكم، يخرق حرمتكم ولا يفي بعهدكم ولا يحفظ ذمامكم ولا يقبل شفاعتكم، فأي حرمة تبقى لكم وأي ذمام يوثق به منكم، وأي شفاعة تقبل عند المسلمين والفرنجية، وهل كانت الملوك الماضية تقي النفوس والرجال والأموال إلا بحفظ الحرمة. وما صاحب جزيرة قبرص ملك عظيم، ولا صاحب حصن منيع، ولا قائد جيش كثير، ولا هو خارج عنكم. بل أكثر تعلقاته في عكا والساحل، وله عندكم المراكب والتجار والأموال والرسل، وليس هو منفرد بنفسه، وعنده الديوية وجميع البيوت والنواب مقيمون عنده، وعنده كند يافا وغيره. فلو كنتم لا تؤثرون ذلك كنتم قمتم جميعكم عليه، وأحطتم على كل ما يتعلق به وأصحابه، واسترحتم من هذه الفضيحة، وكتبتم إلى ملوك الفرنجية وإلى البابا بما فعله. وإذا قلتم صاحب قبرص لا يسمع منكم ولا يعطكم، فإذا لم يسمع منكم صاحب قبرص وهو من أهل ملتكم، فمن يسمع منكم؟ وهل لهذه التقدمة إلى الأمر والنهي؟ ولاسيما أنتم تقولون أن أموركم دينية، ومن ردها عصى المعبود، ويغضب عليه المسيح. فكيف لا يعصي المعبود ويغضب المسيح على صاحب قبرص، وقد رد أمركم وأغرى بكم وقبح قولكم. وكنا لو اشتهينا أخذنا حقنا منه، وإنما الحق عندكم نحن نطلب منكم، وأنتم تطلبون منه. وأنتم في أيام الملك الصالح إسماعيل أخذتم صفد والشقيف، على أنكم تنجدونه على السلطان الشهيد الملك الصالح نجم الدين أيوب. وخرجتم جميعكم في خدمته ونجدته، وجرى ما جرى من خذلانه، وقتلكم وأسركم وأسر ملوككم وأسر مقدميكم، وكل أحد يتحقق ما جرى عليكم من ذهاب الأرواح والأموال. وقد انتقضت تلك الدولة، ولم يؤاخذكم السلطان الشهيد عن فتوحه البلاد، وأحسن إليكم فقابلتم ذلك بأن رحتم إلى الريدافرنس، وساعدتموه وأتيتم صحبته إلى مصر، حتى جرى ما جرى من القتل والأسر. فأي مرة وفيتم فيها لمملكة مصر، أم أي حركة أفلحتم فيها. وبالجملة فأنتم أخذتم هذه البلاد من الملك الصالح إسماعيل لإعانة مملكة الشام، وطاعة ملكها ونصرته والخروج في خدمته، وإنفاق الأموال في نجدته. وقد صارت بحمد الله مملكة الشام وغيرها لي، وما أنا محتاج إلى نصرتكم ولا إلى نجدتكم، ولم يبق لي عدو أخافه. فردوا ما أخذتموه من البلاد، وفكوا أسرى المسلمين جميعهم، فإني لا أقبل غير ذلك.(1/161)
فلما سمع رسل الفرنج هذه المقالة بهتوا، وقالوا: نحن لا ننقض الهدنة، وإنما نطلب مراحم السلطان في استدامتها، ونحن نزيل شكوى النواب، ونخرج من جميع الدعاوى ونفك الأسرى، ونستأنف الخدمة. فقال السلطان: كان هذا قبل خروجي من مصر، في هذا الشتاء وهذه الأمطار، ووصول العساكر إلى هنا. وانفصلوا على هذه الأمور، فأمر السلطان بإخراجهم وألا يبيتوا في الوطاق. ووجه الأمير علاء الدين طيبرس إلى كنيسة الناصرة، وكانت أجل مواطن عباداتهم ويزعمون أن دين النصرانية ظهر منها، فسار إليها وهدمها، فلم يتجاسر أحد من الفرنج أن يتحرك. ثم وجه السلطان الأمير بدر الدين الأيدمري في عسكر إلى عكا، فساروا إليها واقتحموا أبوابها وعادوا. ثم ساروا ثانياً، وأغاروا على مواشي الفرنج، وأحضروا منها شيئاً كثيراً إلى المخيم.
واستمر جلوس السلطان كل يوم على باب الدهليز بصفة عمرها، من غير احتجاب عن أحد، فمن وقف له أحضره وأخذ قصته وأنصفه وهو في أمر ونهي وعطاء وتدبير، واستجلاب قلوب أهل الكرك. وقدمت رسل دار الدعوة بالهدايا، فأحسن إليهم وعادوا. وأمر جماعة في الشام والساحل، وأعطي الأمير علاء الدين أيديكن البندقدار إقطاعا جيداً بمصر. وطلب أهل بلاد الساحل من الفلاحين، وقرر عليهم أموالاً سماها جنايات، وألزمهم بحملها إلى بيت المال، عن ديات من قتل وليس له وارث وهم ما نهبوه من مال جهل مالكه. فحملت من ذلك أموال كثيرة جداً من بلاد نابلس وبلاد الساحل، وانكسرت شوكة أهل العيث والفساد بذلك بعدما كان الضرر عظيماً بهم، من تسلطهم على الرعية ونقلهم الأخبار للفرنج. فرأى السلطان عقوبتهم بهذا الفعل أولى من قتلهم، فإنهم أصحاب زرع وضرع.
ركب السلطان وجرد من كل عشرة فارساً، واستناب الأمير شجاع الدين الشبلي المهمندار في الدهليز السلطاني، وساق من منزلة الطور نصف الليل. فصبح عكا وأطاف بها من جهة البر، وندب جماعة لحصار برج كان قريباً منه فشرعوا في نقبه، وأقام لسلطان على ذلك إلى قريب المغرب وعاد. وكان قصده بذلك كشف مدينة عكا، فإن الفرنج كانوا يزعمون أن أحداً لا يجسر أن يقرب منها، فصاروا ينظرون من أبواب المدينة ولا يستطيعون حركة. ولما عاد السلطان إلى الدهليز ركب لما أصبح، وأركب ناس معه، وساق إلى عكا. فإذا الفرنج قد حفروا خندقاً حول تل الفضول، وجعلوا معاثر في الطريق، ووقفوا صفوفاً على التل، فلما أشرف السلطان عليهم رتب العسكر بنفسه، وشرع الجميع في ذكر الله وتهليله وتكبيره، والسلطان يحثهم على ذلك حتى ارتفعت أصواتهم. وللوقت ردمت الخنادق بأيدي غلمان العساكر وبمن حضر من الفقراء المجاهدين، وصعد المسلمون فوق تل الفضول، وقد انهزم الفرنج إلى المدينة.(1/162)
وامتدت الأيدي إلى ما حول عكا من الأبراج فهدمت، وحرقت الأشجار حتى انعقد الجو من دخانها. وساق العسكر إلى أبواب عكا، وقتلوا وأسروا عدة من الفرنج ، ساعة واحدة، والسلطان قائم على رأس التل يعمل في أخذ رأي المدينة، والأمراء تحمل على الأبواب واحداً بعد واحد. ثم حملوا حملة واحدة ألقوا فيها الفرنج في الخنادق، وهلك منهم جماعة في الأبواب. فلما كان آخر النهار ساق السلطان إلى البرج الذي نقب، وقد تعلق حتى رمي بين يديه، وأخذ منه أربعة من الفرسان ونيف وثلاثون راجلاً، وبات السلطان على ذلك. فلما أصبح عاد على بلاد الفرنج وكشفها مكاناً مكاناً، وعبر على الناصرة حتى شاهد خراب كنيستها وقد سوى بها الأرض، وصار إلى الصفة التي بناها قبالة الطور، فوافاها ليلاً وجلس عليها. وأحضر الشموع التي بالمنجنيقات ونصب عليها خمسة، وأحضر الصاحب فخر الدين محمد بن حنا وزير الصحبة. وجماعة كتاب الدرج وهم سبعة: الصاحب فخر الدين بن لقمان، والصدر بدر الدين حسن الموصلي، والصدر كمال الدين أحمد بن العجمي، والصدر فتح الدين ابن القيسراني، والصدر شهاب الدين أحمد بن عبيد الله، والصدر برهان الدين. واحضر كتاب الجيش، وأمر الأمير سيف الدين الزيني أمير علم أن يجلس مع كتاب الجيش، لأجل كتابة المناشير وتجهيز الطبلخانا، وأن يكون الأتابك بين يدي السلطان. واستدعى من الجشارات بخمسمائة فرس لأجل الطبلخاناه وخيول الأمراء وأحضرت خلع كثيرة، وأمر السلاح دارية أن يستريحوا بالنوبة ويحضروا. فلم تزل المثالات والمناشير تكتب وهو يعلم، فكتب بين يديه تلك الليلة ستة وخمسون منشوراً كباراً يخطب لأمراء كبار. وظل الصاحب فخر الدين يعلم، وفتح الدين بن سناء الملك صاحب ديوان الجيش وصاحب ديوان الخزائن يعلم، والأمير بدر الدين الخازندار واقف، والمستوفي ينزل، حتى كملت بين يديه. وأصبح السلطان فخلا بنفسه، وجهز الطبلخاناه والسناجق والخيل والخلع إلى الأمراء، وجعل الأمير ناصر الدين القيمري نائب السلطة بالفتوحات الساحلية.
ورحل السلطان من الطور يوم الاثنين ثالث عشر جمادى الآخرة، وسار إلى القدس فوافاه يوم الجمعة عشره، وكشف أحوال البلد وما يحتاج إليه المسجد من العمارة، ونظر في الأوقاف وكتب بحمايتها، ورتب برسم مصالح المسجد في كل سنة خمسة آلاف درهم وأمر ببناء خان خارج البلد، ونقل إليه من القاهرة باب القصر المعروف بباب العيد، ونادى بالقدس ألا ينزل أحد في زرع.(1/163)
لم سار السلطان إلى الكرك فنزله يوم الخميس ثالث عشريه بعساكره، وأحضر السلالم الخشب من الصلت وغيره، والحجارين والبنائين والنجارين والصناع من مصر ودمشق. وكتب إلى من في الكرك فخافوا، وترددت الرسل بينهم وبينه، حتى استقر الحال على أنه يعطى الملك العزيز عثمان بن الملك المغيث إمرة مائة فارس، فأنعم بذلك. ونزل أولاد المغيث، وقاضي المدينة وخطبها وعدة من أهلها ومعهم مفاتيح المدينة والقلعة، فحلف لهم السلطان وأرضاهم، وسير الأمير عز الدين أيدمر الأستادار، والصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين علي بن محمد بن سليم بن حنا في ليلة الجمعة رابع عشريه، فتسلما القلعة. وفي بكرة الجمعة دعي للسلطان على الأسوار، ونصبت سناجقه على الأبراج، وركب في الساعة الثالثة وطلع إلى القلعة ورتب أمر جيش الكرك، وأنفق فيهم ثلاثة أشهر من خزائنه واهتم السلطان ببلادها وعين لها خاصاً، وزاد جماعة، وأنعم على أولاد الملك المغيث بجميع ما كان في القلعة من مال وقماش وأثاث. وصلى بها صلاة الجمعة، ونزل قريب المغرب، ولم يتعرض أحد من العسكر لأهلها بسوء. وأصبح السلطان فبعث إلى العزيز بن المغيث الخلع والقماش، وإلى الطواشي بهاء الدين صندل، والأمير شهاب الدين صعلوك أتابكة. كتب بالبشارة إلى مصر والشام بأخذ الكرك، وأن تحمل إليه الغلات والأصناف طلع السلطان إليها يوم الاثنين، وأحضر الدواوين ورتب الإقطاعات للعربان الأجناد، فكتب بين يديه زيادة على ثلاثمائة منشور، وسلمت لأربابها بعدما حلفوا بين يدي السلطان، وكتبت أيضاً تواقيع لأهل الكرك بمناصب دينية وديوانية. وجرد سلطان بها عدة من البحرية والظاهرية، وحلف مقدمي الكرك وأنصارها، وقال لأهل كرك: اعلموا أنكم قد أسأتم إلى في الأيام الماضية، وقد اغتفرت لكم ذلك لكونكم ما خامرتم على صاحبكم. وقد ازددت فيكم محبة فتناسوا الحقود. وأحضر الأمير عبية وغيره عن هرب من بني مهدي، وألزمهم أدراك البلاد وخفرهم إلى أرض الحجاز، وأمر بعمارة ما يحتاج إليه في السور وحصنه وحفر الخندق وأحاطه بالحصن، ولم يكن قبل ذلك كذلك. وأشحن الحصن بالأسلحة والغلال وآلات الحرب والأقوات، ووضع فيه مبلغ سبعين ألف دينار عيناً ومائة وخمسين درهم نقرة. واستناب بالكرك الأمير عز الدين أيدمر من مماليكه، وأضاف إليه الشوبك وأعطاه ثلاثين ألف درهم وكثيراً من القماش.
ورحل السلطان إلى مصر، ومعه أولاد الملك المغيث وحريمه، في يوم الأربعاء تاسع عشريه. فدخل القاهرة في سابع عشر رجب وقد زينت أحسن زينة، فشق القصبة إلى قلعة الجبل على شقق الحرير الأطلس والعتابي، وخلع على الأمراء والمفاردة والمقدمين وجميع حاشيته وغلمانه ومباشريه، وأعطى العزيز بن الملك المغيث إمرة مائة فارس وخلع عليه وأعطاه طبلخاناه، وأطلق لأخويه وحرم أبيه سائر ما يحتاجون إليه هم وغلمانمهم، وأنزلهم بدار القطبية بين القصرين من القاهرة.(1/164)
وأصبح السلطان فقبض على الأمير سيف الدين الرشيدي واعتقله. وفي تاسع عشره قبض على الأمير عز الدين أيبك الدمياطي والأمير شمس الدين أقوش البرلي واعتقلهما فكان آخر العهد بأقوش البرلي. ولما قبض السلطان عليهما أحسن إلى مماليكهما وحواشيهما، ولم يغر على أحد منهم ولا تعرض إلى بيوت الأمراء. وكان سبب تنكره على هذه الأمراء أنه كان قد فوض إلى الرشيدي أمر المملكة حتى تصرفت يده في كل شيء، وأطلق له في كل جمعة خوانين من عنده يمدان له حتى ماء الورد، ورتب له كل شهر كلونتين زركش قيمة كل منهما مبلغ خمسين ديناراً عيناً وقيمة كلبندها مبلغ أربعين ديناراً ورتب له برسم مشروبه اثني عشر ألف دينار في كل سنة. هذا سوى ما له من الاقطاعات الجليلة والمرتبات الكثيرة، وسوى الإنعامات وجوامك البزدارية والفهادة وعليق الخيل. فأقبل الرشيدي على اللهو وشرب الخمر، وحمت حواشيه عدة بلاد، وحدثت منه أمور لا تسر، فأغضى عنه السلطان. فلما كان بالطور بلغه أن الرشيدي قد فسدت نيته، فأقام عليه عيوناً تحفظ كل ما يجري منه: فبلغه عنه أنه كان يكاتب المغيث بالكرك ويحذره من القدوم على السلطان ويشير عليه ألا يسلم نفسه، وأنه كتب إلى أهل الكرك أيضاً بعد القبض على المغيث يأمرهم بألا يسلموا الكرك، فأسر السلطان ذلك في نفسه إلى أن سار إلى الكرك فبلغه عنه أنه يريد المبادرة إلى أخذ الكرك، فسارع إليه ولاطفه وركب معه إلى الكرك وأخذها. وبلغ السلطان عنه أيضاً عدة أمور من هذا النحو.
وقدمت رسل الملك بركة تطلب النجدة على هولاكو - وهم الأمير جلال الدين ابن القاضي، والشيخ نور الدين علي، في عدة - ويخبرون بإسلامه وإسلام قومه، وعلى يدهم كتاب مؤرخ بأول رجب سنة إحدى وستين وستمائة. وقدم أيضاً رسول الأشكري، ورسول مقدم الجنوية، ورسول صاحب الروم السلاجقة، فأحسن السلطان إلى الرسل وعمل لهم دعوة بأراضي اللوق، وواصل الإنعام عليهم في يومي الثلاثاء والسبت عند اللعب في الميدان.
وفي يوم الجمعة ثامن عشري شعبان: خطب الخليفة الحاكم بأمر الله بحضور رسل الملك بركة، ودعا للسلطان وللملك بركة في الخطبة، وصلى بالناس صلاة الجمعة، واجتمع بالسلطان وبالرسل في مهمات أمور الإسلام.
وفي ليلة الأربعاء ثالث شهر رمضان: سأل السلطان الملك الظاهر الخليفة الحاكم بأمر الله: هل لبس الفتوة من أحد من أهل بيته الطاهرين أو من أوليائهم المتقين، فقال: لا، والتمس من السلطان أن يصل سببه بهذا المقصود. فلم يمكن السلطان إلا طاعته المفترضة، وأن يمنحه ما كان ابن عمه رضي الله عنه قد افترضه. ولبس الخليفة في الليلة المذكورة بحضور من يعتبر حضوره في مثل ذلك، وباشر اللبس الأتابك فارس الدين أقطاي بطريق الوكالة عن السلطان، بحق لبسه عن الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين ولد الإمام الظاهر - وأبوه لجده الناصر لدين الله - والناصر لعبد الجبار، لعلي ابن دغيم لعبد الله بن القير، لعمر بن الرصاص، لأبي بكر بن الجحيش، لحسن بن الساريار، لبقاء بن الطباخ، لنفيس العلوي، لأبي هاشم بن أبي حية، لعمر بن ألبس، لأبي علي الصوفي، لمهنا العلوي، للقائد عيسى، لأمير وهران، لرؤية الفارسي، للملك أبي كاليجار، لأبي الحسن النجار، لفضل القرقاشي، للقائد شبل بن المكدم، لأبي الفضل القرشي، للأمير حسان، لجوشن الفزاري، للأمير هلال النبهاني، لأبي مسلم الخراساني، لأبي العز النقيب، لعوف الغساني، لحافظ الكندي، لأبي علي النوبي، لسلمان الفارسي، للإمام الطاهر النقي التقي علي بن أبي طالب رضي الله عنه وحمل السلطان إلى الخليفة من الملابس لأجل ذلك ما يليق بجلاله.(1/165)
وفي الليلة الثانية: حضر رسل الملك بركة إلى قلعة الجبل، وألبسهم الخليفة بتفويض الوكالة للأتابك، وحمل إليهم من الملابس ما يليق بمثلهم. وجهز السلطان هدية جليلة للملك بركة، وكتب جواب كتابه في قطع النصف في سبعين ورقة بغداية بخط محيى الدين بن عبد الظاهر، وهو الذي قرأه على السلطان بحضور الأمراء. وسلمت الهدية للأمير فارس الدين أقوش المسعودي، والشريف عماد الدين الهاشمي، فسارا في يده طريدة فيها عدة رماة وجرخية وزراقين، وأشحنت الأزودة لمدة سنة، وسارا سابع عشره. وخرجت النجابة إلى مكة والمدينة بأن يدعى للملك بركة ويعتمو عنه، وأمر الخطاء أن يدعوا له على المنابر بمكة والمدينة والقدس وبمصر والقاهرة، وبعد الدعاء للسلطان الملك الظاهر.
وفي سادس شوال: توجه السلطان إلى جهة الإسكندرية، فأقام بتروجة أيام ودخل البرية وضرب حلقة فوقع فيها كثير من الصيد. واهتم السلطان بأمر المياه وولى أمرها الأخير شجاع الدين الزاهدي أحد الحجاب، وأحضر من الإسكندرية الرجال لحفر الآبار. ثم سار السلطان من تروجة إلى الإسكندرية، وكان الصاحب بهاء الدين ابن حنا قد سبق إليها وحصل جملاً كثيرة من المال: منها حمل بلغ خمسة وتسعين لفة من القماش السكندري، ولم يعامل أحد من أهلها بغير العدل، ولم يضرب بها أحداً بمقرعة. فضرب السلطان خيامه ظاهر المدينة، ونادي ألا يقيم بالثغر جندي ولا ينزل أحد في دار.
وفي يوم الخميس مستهل ذي القعدة: دخل السلطان إلى المدينة من باب رشيد، فتلقاه الناس بالسرور والفرح والدعاء. واستدعى السلطان بالخزائن والأمتعة، وشرع في تعبئة ما يعبيه للأمراء على قدر مراتبهم، ورسم بمكتوب يرد مال السهمين وصلة أرزاق الفقراء، وسامح بما كان يؤخذ من أهل الإسكندرية وهو ربع دينار عن كل قنطار يباع من ...، ولعب بالكرة وخلع على الأمراء، وأعطي الأتابك ثلاثة آلاف دينار وأعطى الأمراء على حسب مراتبهم، وركب لزيارة الشيخ المعتقد محمد بن منصور بن يحيى أبي القاسم القباري، فلم يمكنه من الطلوع إليه ولم يكلمه إلا وهو في البستان والشيخ في عليته، ثم مضى لزيارة الشيخ الشاطبي.
وحضر إلى السلطان رجلان من أهل الثغر: أحدهما يقال له ابن البوري والآخر يعرف بالمكرم بن الزيات، ومعهما أوراق تتضمن استخراج أمول ضائعة فاستدعى السلطان في يوم الثلاثاء سادسه الأتابك والصاحب والقضاة والفقهاء وأمرت فقرئت وصار كلما ذكر له باب مظلمة سده ويعود على المذكورين بالإنكار، حتى انتهت القراءة. فقال: اعلموا أني تركت لله تعالى ستمائة ألف دينار من التصقيع والتقويم والراجل والعبد والجارية وتقويم النخل فعوضني الله من الحلال أكثر من ذلك، وطلبت جرائد الحساب فزادت بعد حط المظالم جملة، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً وأمر بإشهار ابن البوري.
وفي سابعه: قدم البريد من البيرة وحلب بأن جماعة مستأمنة وردت إلى الباب العزيز، عدتها فوق الألف وثلاثمائة فارس من المغل والبهادرية، فكتب بالإحسان إليهم.
وفي يوم الخميس ثامنه: جلس السلطان بدار العدل، وأمر بتطهير الثغر من الخواطي الفرنجيات.
وفي ثامن عشره: سار السلطان من الإسكندرية يريد القاهرة، فنزل تروجة وأمر عربانها بالسباق بين يديه، فاجتمه ألف فارس من عرب تروجة، وانضم إليها جملة من خيل العسكر. وعين السلطان لهم المدى، ووقف على تل، وأوقف الرماح وعليها الثياب الأطلس والعتابي وفيها المال. فأقبلت الخيل، وأخذ كل راكب سبق ما فرض له. ثم سار السلطان إلى قلعة الجبل، فلما وصل فوض قضاء الثغر للفقيه برهان الدين إبراهيم بن محمد علي البوشي المالكي، وكان زاهداً عابداً يأوي إلى مسجد بمصر، وفوض الخطابة للقاضي زين الدين أبي الفرج محمد بن القاضي الموفق بن أبي الفرج الإسكندري الذي كان حاكماً بالثغر.
وفي آخر ذي العقدة: نزل السلطان إلى القاهرة، وعاد الأمير سيف الدين قلاون الألفي، والأمير علاء الدين الحاج أيدغدي الركني، والأمير حسام الدين بن بركة خان.
وفي ليلة الأربعاء خامس ذي الحجة: توفي الأمير حسام الدين بن بركة خان، فحضر السلطان جنازته ومشى فيها مع الناس.(1/166)
وفي سادسه: وصلت التتار المستأمنة، وأعيانهم كرمون وأمطغية ونركيه وجبرك وقيان وناسيسة وطيشور ونبتو وصبحي وجرجلان واجقرقا وارقرق وكراي وصلاغيه ومتقدم وصراغان. فركب السلطان إلى تلقيهم فنزلوا عند مشاهدته عن خيولهم وقبلوا الأرض وهو راكب فأكرمهم وعادوا إلى القلعة.
وفي ثامنه: خلع عليهم السلطان، ونزل إلى تربة ابن بركة خان. ثم وردت الكتب بقدوم طائفة أخرى، فاحتفل بهم وركب لتلقيهم. ثم وردت طائفة ثالثة، فاعتمد معهم مثل ذلك وأمر أكابرهم، وعرض عليهم الإسلام فأسلموا وختنوا بأجمعهم.
واتفق أن الأمير بهاء الدين أمير أخور ضرب بعض دلالي سوق الخيل، فمات قلاوون واستتر عنده فدخل قلاوون على الأتابك في أمره، وأخرج لأولاد الميت من ماله خمسة آلاف درهم ومائة أردب غلة وكسوة، فأبرؤه وأقروا أن أباهم مات بقضاء الله وقدره.
ودخل الأتابك إلى السلطان وحدثه في ذلك، فاشتد غضبه، فقال له الأتابك: تغضب والشرع معنا، فإن كان قد قتله عمداً أو خطاً فقد أبرأ الأولياء. وتحدث الأمراء في العفو عنه فعفه، وأمر بعمل جامع من الثياب المفصلة بضرب على يمنة الخيمة السلطانية فعمل ونصبت وأبرأيه وعملت فيه مقصورة برسم السلطان.
وفي هذه السنة: جمدت دار العدل تحت قلعة الجبل، وجلس بها السلطان في يومي الخميس والاثنين لعرض العساكر. وفيها وردت هدية من بلاد اليمن.
وفيها أمر بتنصيب أربعة قضاه نواباً لقاضي القضاة تاج الدين. ابن بنت الأعز، فاستناب حنفياً ومالكياً وشافعياً ولم يجد من يستنيبه من الحنابلة فولى نائباً حنبلياً.
وفيها جهز السلطان عرب خفاجة بالخلع إلى أكابر أهل العراق، وكتب إلى صاحب شراز وغيره يغويهم بهولاكو، وألبس عدة من أمراء خفاجة الفتوة، وجهز معهم الأمير عز الدين إلى شراز.
وفيها جهز السلطان في البحر جماعة من البنائين والنجارين والنشارين والعتالين، وعدة أخشاب وغيرها من الآلات، برسم عمارة الحرم النبوي. وعملت كسوة الكعبة على العادة، وحملت على البغال وطيف بها في القاهرة ومصر، وركب معها الخواص وأرباب الدولة والقضاة، والفقهاء والقراء والصوفية والخطاء والأئمة. وسفرت إلى مكة في العشر الأوسط من شوال، وفوضت عمارة الحرم لزين بن البوزي.
وفيها جمع الفرنسيس ملك الفرنج عساكره يريد أخذ دمياط، فأشار عليه أصحابه يقصد تونس أولاً، ليسهل أخذ دمياط بعدها. فسار إلى تونس ونازلها حتى أشرف على أخذها، فبعث الله في عسكره وباء هلك فيه هو وعدة من أكابر أصحابه، وعاد من بقي منهم.
ومات في هذه السنة
الأمير الكبير مجير الدين أبو الهيجاء بن عيسى بن خشترين الأركسي الكردي بدمشق.
وتوفي عز الدين أبو محمد عبد الرزاق بن رزق الله بن أبي بكر بن خلف الرسغي الحنبلي، شيخ البلاد الجزرية، بسنجار عن اثنتين وسبعين.
وتوفي علم الدين أبو محمد بن أحمد بن موفق جعفر المرسي اللوري بدمشق، وقد انتهت إليه مشخية الإقراء، عن ستين سنة.
//سنة اثنتين وستين وستمائة استفتح السلطان هذه السنة بالجلوس في دار العدل فأحضرت إليه ورقة مختومة مع خادم أسود تتضمن مرافعة في شمس الدين شيخ الحنابلة، إنه يبغض السلطان ويتمني زوال دولته، لأنه ما جعل للحنابلة نصيبا في المدرسة التي أنشأها بجوار قبة الملك الصالح، ولا ولي حنبليا قاضيا، وذكر أشياء فادحة فيه. فبعث السلطان بها إلى الشيخ، فأقسم إنه ما جري منه شيء، وإنما هذا الخادم طردته من خدمتي. فقال السلطان: ولو شتمتني أنت في حل وأمر فضرب الخادم. مائة عصا.
وفي المحرم: نودي بالقاهرة ومصر أن امرأة لا تتعمم بعمامه ولا تتزيا بزي الرجال، ومن فعلت ذلك بعد ثلاثة أيام سلبت ما عليها من الكسوة وطلب الطواشي شجاع الدين مرشد الحموي إلى قلعة الجبل، وأنكر عليه السلطان اشتغال مخدومه صاحب حماة باللهو، وقرر معه إلزام الأجناد بإقامة البزك وتكميل العدد، وكتب له تقليدا وسافر إلى حماة. وقدم للأمير جلال الدين يشكر ابن الدوادار المجاهد دوادار الخليفة ببغداد وكان قد تأخر حضوره فأحسن إليه السلطان وأعطاه إمرة طبلخاناه.(1/167)
وفي يوم الأحد الخامس من صفر: اجتمع أهل العلم بالمدرسة الظاهرية بين القصرين عند تمام عمارتها، وحضر القراء وجلس أهل كل مذهب في إيوانهم. وفوض تدريس الحنفية للصدر مجد الدين عبد الرحمن بن الصاحب كمال الدين بن العديم، وتدريس الشافعية للشيخ تقي الدين محمد بن الحسن بن رزين، والتصدير لإقراء القرآن للفقيه كمال الدين المحلي، والتصدير لإفادة الحديث النبوي للشيخ شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الدمياطي. وذكروا الدروس ومدت الأسمطة، وأنشد جمال الدين أبو الحسين الجزار يومئذ:
ألا هكذا يبني المدارس من بني ... ومن يتغالى في الثواب وفي الثنا
لقد ظهرت الظاهر الملك همة ... بها اليوم في الدارين قد بلغ المني
تجمع فيها كل حسن مفرق ... فراقت قلوبا للأنام وأعينا
ومذ جاورت قبر الشهيد فنفسه ... النفيسة منها في سرور وفي هنا
وما هي إلا جنة الخلد أزلفت ... له في غد فاختار تعجيلها هنا
وأنشد عدة من الشعراء أيضاً ومنهم السراج الوراق، والشيخ جمال الدين يوسف بن الخشاب، فخلع عليهم وكان يوما مشهودا. وجعل السلطان بهذه المدرسة خزانة كتب جليلة، وبني بجانبها مكتبا للسبيل، وقرر لمن فيه من أيتام المسلمين الخبز في كل يوم والكسوة في فصل الشتاء والصيف.
وفيه ورد الخبر مع الحاج بأنه خطب للسلطان. بمكة، وأن الصدر جمال الدين حسين ابن الموصلي، كاتب الإنشاء المتوجه إلى مكة، تسلم مفتاح الكعبة وقفله بالقفل المسير صحبته، وأباح الكعبة للناس مدة ثلاثة أيام بغير شيء يؤخذ منهم. وفيه قرئ كتاب وقف الخان. بمدينة القدس في مجلس السلطان بقلعة الجبل، وحضر قاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز قراءته، وكتب به عدة نسخ. ووقف السلطان أيضاً اصطبلين تحت القلعة، يعرف أحدهما بجوهر النوبي، على وجوه البر.
وفيه ورد الخبر بأنه رتب. بمدينة الخليل السماط والرواتب للمقيمين والواردين، وكان قد بطل ذلك من مدة أعوام كثيرة.
وفيه سار السلطان إلى وسيم ومضى إلى الغربية، فصار يسير منفردا في خفية ويسال عن وإلى الغربية الأمير بن الهمام وعن سيرة نوابه وغلمانه ومباشريه، فذكرت له عنه سيرة سيئة، فقبض عليه وأدبه وأقام غيره، وشكى إليه من ظلم بعض المباشرين النصارى، فأمر به فشنق من أجل إنه تكلم. بما يوجب ذلك. ودخل السلطان دمياط، ثم عاد إلى أشموم، وسار من المنزلة إلى الشرقية. وفيه سأل الفرنج أن يؤذن لهم في زراعة ما بيدهم من بلاد الشام وتقويتها بجملة من الغلال، فتقررت الهدنة معهم إلى أيام، وأذن لهم ذلك فزرعوا.
وفي يوم الجمعة حادي عشريه: مات الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن الملك المنصور أبو إبراهيم بن الملك المجاهد شيركوه بن الأمير ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شادي بن مروان صاحب حمص، عن غير ولد ولا أخ ولا ولي عبد. فبعث السلطان إلى الأمير عز الدين بيليك العلائي أحد الأمراء، فتسلمها في سابع عشريه وحلف الناس بها للملك الظاهر، وتسلم الرحبة أيضاً، وبعث السلطان إليها عشرين ألف دينار عينا، وولي مدينة حران الأمير جمال الدين الجاكي، وولي مدينة الرقة أميرا آخر. وورد الخبر بأن متملك جزيرة دهلك ومتملك جزيرة مواكن، يتعرضان إلى أموال من مات من التجار فسير السلطان إليها أحد رجال الحلقة رسولا، ينكر عليهما.
وفي هذه السنة: بلغ ثمن القرط الذي قضمته الخيول السلطانية وجمال المناخات بأرض مصر، ما مبلغه خمسون ألف دينار.
وفي هذه السنة: ارتفعت الأسعار. بمصر، فبلغ الأردب القمح نحو المائة درهم نقرة، فأمر السلطان بالتسعير فاشتد الحال وعدم الخبز.
وبلغ القمح مائة درهم وخمسة دراهم الأردب، والشعير إلى سبعين درهما الأردب، والخبز ثلاثة أرطال بدرهم، واللحم كل رطل بدرهم وثلث، وبلغ بالإسكندرية الأردب القمح ثلاثمائة وعشرين درهما من الورق.
ثم اشتد الحال بالناس حتى أكلوا ورق اللفت والكرنب ونحوه، وخرجوا إلى الريف فأكلوا عروق الفول الأخضر.
فلما كان يوم الخميس سابع ربيع الآخر. نزل السلطان إلى دار العدل وأبطل التسعير، وكتب إلى الأهراء ببيع خمسمائة أردب كل يوم لضعفاء الناس، ويكون البيع من ويبتين إلى ما دون ذلك حتى لا يشتري من يخزن.(1/168)
ونودي للفقراء فاجتمعوا تحت القلعة، ونزل الحجاب إليهم فكتبوا أسمائهم، ومضى إلى كل جهة حاجب فكتب ما بقي في القاهرة ومصر من الفقراء، وأحضروا عدتهم فبلغت ألوفا.
فقال السلطان: والله لو كانت عندي غلة تكفي هذا العالم لفرقتها.
ثم أخذ ألوفا منهم، وأعطي لنواب ابنه الملك السعيد مثل ذلك، وأمر في ديوان الجيش فكتب باسم كل أمير جماعة على قدر عدته، وأعطي الأجناد والمفاردة من الحلقة والمقدمين والبحرية، وعزل التركمان ناحية والأكراد ناحية. وأمر أن يعطي كل فقير كفايته مدة ثلاثة أشهر، وأعطي للتجار طائفة من الفقراء، وأعطي الأغنياء على اختلاف طبقاتهم كل أحد بقدر حاله. وأمر أن يفرق من الشون السلطانية على أرباب الزوايا في كل يوم مائة أردب، بعد ما يعمل خبزا بجامع ابن طولون.
ثم قال السلطان: هؤلاء المساكين قد جمعناهم اليوم وانقضي نصف النهار، فادفعوا لكل منهم نصف درهم يتقوت به خبزا، ومن غد يتقرر الحال ففرق فيهم جملة كبيرة. وأخذ الصاحب بهاء الدين طائفة العميان، وأخذ الأتابك جماعة التركمان، فلم يبق أحد من الخواص ولا من الطاشي ولا من الحجاب، ولا من الولاة وأرباب المناصب وذوي المراتب وأصحاب المال، حتى أخذ جماعة من المساكين. وقال السلطان للأمير صارم الدين السعودي وإلى القاهرة: خذ مائة فقير أطعمهم لله. فقال الأمير: قد فعلت ذلك، وأخذتهم دائماً. فقال السلطان: ذلك فعلته ابتداء من نفسك، وهذه المائة خذها لأجلي فأخذ مائة مسكين أخرى.
وشرع الناس في فتح المخازن وتفرقة الصدقات، فانحط السعر عشرين درهما الأردب، وقلت الفقراء. واستمر الحال إلى شهر رمضان، فدخل المغل الجديد وانحل السعر في يوم واحد أربعين درهما الأردب.
وفي اليوم الذي جلس فيه السلطان بدار العدل، رفعت إليه قصة ضمان دار الضرب فيها بوقف الدراهم، وسألوا إبطال الدراهم الناصرية، وأن ضمانهم مبلغ مائتي ألف وخمسين ألف درهم، فأمر السلطان أن يحط من ضمانهم مبلغ خمسين ألف درهم، وقال: لا نؤذي الناس في أموالهم " .
وفي العشرين من ربيع الآخر: كانت زلزلة عظيمة هدمت عدة أماكن.
وفي ثالث عشريه: رسم بمسامحة بنات الأمير حسام الدين لاجين الجوكندار العزيزي. بما وجب للديوان في تركة أبيهن وكان قد مات بدمشق في رابع عشر المحرم وهو مبلغ أربعمائة ألف درهم نقرة، خارجا عن ماله من الأملاك والغلال والخيل. وكتب السلطان بذلك إلى الشام، وقصد بدلك أن يفهم أمراءه أن من مات في خدمته وحفظ يمينه، ينظر في أمر ورثته ويبقي عليهم ما يخلفه.
ومات الأمير شهاب الدين القيمري نائب السلطنة بالفتوحات الساحلية، فأعطي ابنه إقطاعه وهو مائة طواش.
ولما أسر الفرنج الأمير شجاع الدين والي سرمين أبقي السلطان إقطاعه بيد إخوته وغلمانه، كل ذلك استجلابا للقلوب.
وفيه ورد الخبر أن هيتوم ملك الأرمن جمع وسار إلى هرقلة، ونزل على قلعة صرخد. فخرج البريد من قلعة الجبل إلى حماة وحمص بالمسير إلى حلب، فخرجوا وأغاروا على عسكر الأرمن، وقتلوا منهم وأسروا. فانهزم الأرمن واستنجدوا بالتتار، فقدم منهم من كان في بلاد الروم وهم سبعمائة فارس فلما وصلوا إلى حارم رجعوا من كثرة الثلج، وقد هلك منهم كثير.
وورد الخبر بأن خليج الإسكندرية قد انسد وامتلأت فوهته بالطين، وقل الماء في ثغر الإسكندرية بهذا السبب، فسير السلطان الأمير عز الدين أمير جاندار فحفره، وبعث الأمير جمال الدين موسى بن يغمور الأستادار لحفر بحر جزيرة بني نصر عند قلة ريها.(1/169)
وفي جمادى الأول: سافر الأمير سيف الدين بلبان الزيني أمير علم إلى الشام برسم تجهيز مهمات القلاع، وعرض عساكر حماة وحلب ورجال الثغور، وإلزام الأمراء بتكميل العدد والعدة، وإزاحة الأعذار بسبب الجهاد. وكتب على يده عدة تذاكر. بما يعتمده، وأن يحمل من دمشق خزانة كبيرة إلى البيرة برسم نفقاتها. ورحلت جماعة من عرب خفاجة كانوا قد وردوا بكتب من جماعتهم بالعراق، يخبرون فيها بأنهم أغاروا على التتار حتى وصلت غاراتهم باب مدينة بغداد، ويخبرون بأحوال مدينة شيراز، فأجيبوا وأحسن إليهم. وفيه توجه قصاد إلى الملك بركة، وأسلم عالم كبير على يد السلطان من التتار الواصلين ومن الفرنج المستأمنين والأسري ومن النوبة القادمين من عند ملكها، ففرق فيهم في يوم واحد الأمير بدر الدين الخازندار مائة وثمانين فرسا.
وفي جمادى الآخرة: قبض على جاسوسين من التتار. وتنجز البرج الذي بناه السلطان في قارة، وشرع في بناء برج أكبر منه لحفظ الطرقات من عادية الفرنج. واهتم ملك الأرمن بالمسير إلى بلاد الشام، وأعد ألف قياء تتري وألف سراقوج، ألبسها الأرمن ليوهم إنهم نجدة من التتر ولما ورد الخبر بذلك خرج البريد إلى دمشق بخروج عسكرها إلى حمص، وخروج عسكر حماة، وألا يخرج عربان الشام في هذه السنة إلى البرية. فخرجت العساكر، ووالت الغارات من كل جهة، فانهزم الأرمن، ونزل العسكر على أنطاكية فقتل وأسر وغنم، وأغار العسكر أيضاً ببلاد الساحل على الفرنج حتى وصل إلى أبواب عكا.
وشرع السلطان البناء في شقيف تيرون، وكان قد خرب من سنة ثمان وخمسين وستمائة، فلما تم بناؤه حمل إليه زردخاناه وذخائر، وبعث إلى عسكر الساحل مائتي ألف درهم فرقت فيهم. وورد البريد بأن جماعة من شيراز، ومن أمراء العراق وأمراء خفاجة، وصلوا وافدين إلى الأبواب السلطانية.
وفي أول رجب: رفعت قصة بأن على باب المشهد الحسيني مسجدا إلى جانبه موضع من حقوق القصر قد بيع بستة آلاف درهم حملت إلى الديوان. فأمر السلطان بردها وعمل الجميع مسجدا، وأمر بعمارته، ووقف أحد الجند بيتيم معه ذكر إنه وصيه، فقال السلطان لقاضي القضاة. إن الأجناد إذا مات أحدهم استولي خشداشيته على موجوده، ويجعل اليتيم من الأوشاقية، فإذا مات اليتيم أخذ الوصي موجوده، أو يكبر اليتيم فلا يجد شيئا ولا تقوم له حجة على موجوده، أو يموت الوصي فيذهب مال اليتيم في ماله، والرأي أن أحدا من الأوصياء لا ينفرد بوصية، وليكن نظر الشرع شاملا، وأموال اليتامى مضبوطة، وأمناء الحكم يحاققون على المصروف. وطلب السلطان نواب الأمراء ونقباء العساكر وأمرهم بذلك، فاستمر الحال عليه.
وفي ثالثه: قدم الوافدون من شيراز، ومقدمهم الأمير سيف الدين بكلك، ومعهم سيف الدين اقتبار الخوارزمي جمدار جلال الدين خوارزم شاه، وغلمان أتابك سعد، وهم شمس الدين سنقرجاه ورفقته. ووصل صحبتهم مظهر الدين وشاح بن شهري، والأمير حسام الدين حسين بن ملاح أمير العراق، وكثير من أمراء خفاجة. فتلقاهم السلطان بنفسه، وأعطي سيف الدين بكلك إمرة طبلخاناه، وأحسن إلى سائرهم.
وفي شعبان: أمر السلطان الأمراء والأجناد والمماليك بعمل العدد الكاملة، فوقع الاهتمام من كل أحد بعمل ذلك، وكثر الازدحام بسوق السلاح، وارتفع سعر الحديد وأجر الحدادين وصناع آلات السلاح، و لم يبق لأحد شغل إلا ذلك، حتى صار العسكر لا ينفق متحصله في شيء سوي السلاح، ولا يشتغل أحد منهم إلا بنوع من أنواع الحرب كالرمح ونحوه، وتفننوا في أنواع الفروسية. وورد كتاب أمير المدينة النبوية إنه سار مع كسوة الكعبة حتى علقها في البيت.
وفي شهر رمضان: تنجزت كسوة قبر النبي صلي الله عليه وسلم، وتعين سفرها مع الطواشي جمال الدين محسن الصالحي. ووقع الشروع في تجهيز الشمع والبخور والزيت والطيب. وخرج البريد إلى الأمير ناصر الدين القيمري بالغارة على قيسارية وعثليث فساق إلى باب عثليث ونهب وقتل وأسر، ثم ساق إلى قيسارية ففعل مثل ذلك بالفرنج. وكان الفرنج قد قصدوا يافا، فخافوا ورجعوا عنها.(1/170)
وفيه جري السلطان على عادته في إجراء الصدقات مطابخ القاهرة ومصر برسم الفقراء، فكان يصرف في كل ليلة من ليالي رمضان جملة كبيرة من الخبز واللحم المطبوخ، وجري أيضاً على عادته في عتق ثلاثين نسمة على عادة ملوك الماضين، سوي من أعتقه من مماليكه. وورد الخبر بأن الفرنج أخذوا أخيذة كبيرة للمسلمين، فكتب إلى نواب الشام بالاجتهاد في ردها، فورد كتاب الأمير ناصر الدين القيسري بأن الفرنج ردوها، وكانت تشتمل على عالم كبير من الناس وجملة من المواشي. فسمع في ساعة ردها من اختلاف الأصوات بدعاء الرجال والنساء وبكاء الأطفال، ما تكاد ترق له الحجارة.
وقدم البريد من البيرة أن صارم الدين بكتاش الزاهدي أغار على باب قلعة الروم مرارا.
وورد كتاب الملك شارل أخي الفرنسيس ملك الفرنج، ومعه هدية وكتاب أستاداره: بأن مندوبه أمره أن يكون أمر الملك الظاهر نافذا في بلاده،. وأن أكون نائب الملك الظاهر كما أنا نائبه.
وفي يوم الجمعة خامس عشريه: قرئ مكتوب في جامع مصر بإبطال ما قرر على ولاية مصر من الرسوم، وهي مائة ألف درهم وأربعة آلاف درهم نقرة. وورد الخبر بأن الأشكري عوق الرسل إلى الملك بركة بالهدية عن المسير إليه، حتى هلك أكثر ما معهم من الحيوان، فأحضر السلطان البطاركة والأساقفة، وسألهم عمن خالف الأيمان وما كتب به الأشكري، فأجابوا بأنه يستحق أن يحرم من دينه، فأخذ السلطان خطوطهم بذلك، وأخرج لهم حينئذ نسخ أيمان الأشكري، وقال: إنه قد نكث بإمساك رسلي، ومال إلى جهة هولاكو. ثم جهز إليه الراهب الفيلسوف اليوناني، ومعه قسيس وأسقف، بحرمانه من دينه، وكتب له كتابا أغلظ فيه. وكتب السلطان أيضاً إلى الملك بركة كتابا وسيره إلى الأمير فارس الدين أقوش السعودي المتوجه بالهدية إلى الملك بركة. فلما وصلوا إلى الأشكري أطلقهم لوقته، فساروا إلى الملك بركة.
وقدم البريد من البلاد الشامية بأن عدة من التتار ومن الأتراك والبغاددة قد قصدوا البلاد مستأمنين، فأمر السلطان بجمع الأمراء وأعلمهم بذلك، وقال: أخشى أن يكون في مجيئهم من كل جهة ما يستراب منه، والرأي أن نخرج إليهم، فإن كانوا طائعين عاملناهم. بما ينبغي، وإلا فنكون على أهبة. ومن احتاج من العسكر إلى شيء أعطيته، وما أنا إلا كأحدكم يكفيني فرس واحد، وجميع ما عندي من خيل وجمال ومال كله لكم ولمن يجاهد في سبيل الله.
فأشار الأمراء عليه بسلطنة ولده، ليكون مقيما بديار مصر في غيبته.
فلما كان يوم الخميس ثالث عشر شوال: أركب السلطان ابنه الملك السعيد بشعار السلطنة، وخرج بنفسه في ركابه وحمل الغاشية راجلا بين يديه، فأخذها منه الأمراء، ورجع إلى مقر ملكه ولم تزل الأمراء والعساكر في خدمته إلى باب النصر، ودخلوا به من القاهرة رجالة يحملون الغاشية، وقد زينت المدينة أحسن زينة، واهتم الأمراء بنصب القباب: فسار الملك السعيد، والأمير عز الدين أيدمر الحلي راكب إلى جانبه وقد تقرر أن يكون أتابكه، والنياب الأطلس والعتابي تفرش تحت فرسه، حتى عاد إلى قلعة الجبل ولم يبق أمير حتى فرش من جهته الثياب الحرير، فاجتمع من ذلك أحمال تفرقها المماليك السلطانية. وكتب القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر تقليد الملك السعيد، بتفويض عهد السلطنة له.
وفي يوم الإثنين سابع عشره: اجتمع الأمراء والقضاة والفقهاء، وقرئ التقليد المذكور، وشرع في ختان الملك السعيد، فأمر السلطان الناس بالتأهب للعرض عليه بالأسلحة وآلات الحرب. وقدمت طائفة من جهة التتار المستأمنة، فكتب السلطان إلى أمراء خفاجة بخدمتهم. وظهر كوكب الذؤابة بالشرق وذؤابته نحو الغرب. وصار يطلع قبيل الفجر، ويتقدم قليلا قليلا حتى صار يطلع مرتفعا، وأضاء ذنبه كثيرا ولم يتغير عن منزلة الهقمة وبعده منها إلى جهة المشرق نحو رمح طويل. واستمر من آخر رمضان إلى أول ذي القعدة، وكان يظهر له قبل بروزه شعاع عظيم في الجو، وظهر أيضاً في الغرب مما يلي الشمال، بعد عشاء الآخرة في ليال عديدة من أخريات رمضان وأوائل شوال، خطوط مضيئة شبه الأصابع مرتفعة في جو السماء. واحمرت الشمس في رابع شوال قبيل الغروب، وذهب ضؤها حتى صارت كأنها منكسفة إلى أن غربت، فلما كان بعد عشاء الآخرة أصاب القمر مثل ذلك.(1/171)
وأحضر من المقس ظاهر القاهرة طفل ميت، له رأسان وأربع أعين وأربع أرجل وأربع أيدي، وجد بساحل المقس.
وفيه قتل الملك المغيث فتح الدين عمر بن الملك العادل صاحب الكرك، وورد الخبر بوصول الرسل إلى الملك بركة، وإكرامه إياهم وتجهيزه لهم.
وفي أول ذي القعدة: جلس السلطان لعرض العساكر عند طلوع الشمس، وقد ملأوا الدنيا، فساق كل أمير في طلبه وهو لابس لامة حربه، وجروا الجنائب وعليها عدد الحرب، وأمر السلطان ألا يلبس أحد في هذا اليوم إلا شعار الحرب. مما زال السلطان جالسا على الصفة التي بجانب دار العدل، والعساكر تسوق وهي لابسة، وديوان الجيش بين يديه، والعساكر تعبر خمسة، ثم عبرت عشرة عشرة. وكاد الناس يهلكون من الزحام وحمو الحديد، فعبروا بغير حساب. وهلك عدة من الناس في الزحام، منهم أيبك مملوك الأمير عز الدين أيدمر الحلي، فدفن ثم نبش ودفن في قبر آخر. فقال في ذلك القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر:
ما نقلوا أيبك من قبره ... لحادث كلا ولا عن ثبور
لكنه في يوم عرض قضى ... والعرض لابد له من نشور
وأراد السلطان بركوب العسكر في يوم واحد حتى لا يقال إن أحدا استعار شيئاً، فكان من يعرض يدخل من باب القرافة، ويخرج من جهة الجبل إلى باب النصر إلى الدهليز المضروب هناك. فلما قرب غروب الشمس ركب السلطان بقباء أبيض لا غير، وساق في وسط العساكر اللابسة ومعه يسير من سلاح داريته وخواصه إلى الدهليز، فنزل به ورتب المنازل، ثم عاد إلى القلعة وقت المغرب. ثم إن الناس اهتموا باللعب، ولبسوا خيولهم النشاهير والبرلسم البحرية، والمراوات والأهلة الذهب والفضة، والأطلس الخطابي.
ونزل السلطان وجانبه تجر، فكان منظرا يبهر العيون حسنه. وكان الذي دخل في المراوات من البنود الأطلس الأصفر قيمته عشرة آلاف دينار، وما تجدد بعد ذلك لا يحصي. وساق السلطان إلى ميدان العيد وقدامه جنائبه، وشرط لكل أمير يصيب القبق فرسا من الجنائب بما عليه من التشاهير، وخلعة لكل مفردي أو مملوك أو جندي. وساق هو والأمراء، ثم المفاردة والبحرية والظاهرية والحلقة والأجناد، ودخل الناس بالرماح بكرة النهار. ونزل السلطان وقت الصلاة للصلاة وإطعام الطعام، ثم ركب الناس ولبسوا، وركب السلطان لرمي النشاب وأعطي وخلع.
وفي هذا اليوم: حضر رسل الملك بركة، فشاهدوا من كثرة العساكر وحسن زيهم واهتمام السلطان وبهجة الخيول وجلالة الفرسان ما بهر عقولهم، ووقفوا بجانب السلطان يشاهدون حركات العساكر وإصابة رميها. واستمر ذلك أياما.
وفي تاسعه: خلع السلطان على الملوك والأمراء والبحرية والحجاب والحلقة، وأرباب العمائم والوزراء والقضاة وذوي البيوت، وحضروا بالخلع، واستمر اللعب بقية النهار. فسألت الرسل عن العساكر، هل هي عساكر مصر والشام، فقيل لهم: هذا عسكر مصر فقط، غير من في الثغور مثل إسكندرية ودمياط ورشيد وقوص، والمجردين والذين سافروا في إقطاعاتهم. فكثر تعجبهم من ذلك.
وفي عاشره: عمل السماط بقلعة الجبل، وحضر الملك السعيد وفي خدمته أولاد الملوك وأولاد الأمراء. فختن الملك السعيد، ثم ختن ابن الأمير عز الدين الحلي الأتابك، وابن الأمير شمس الدين سنقر الأشقر الرومي، وابن الأمير سيف الدين سكز، وابن حسام الدين ابن بركة خان، وابن الملك المجاهد ابن صاحب الموصل، ثم أولاد الملك المغيث صاحب الكرك الثلاثة، وابن فخر الدين الحمصي، وعدة من أولاد الأمراء.
وكان ذلك بعدما عمل لعدة من الأيتام وأبناء الفقراء بمصر والقاهرة كسوة، فاحضروا في هذا اليوم وختنوا. ومنع السلطان الأمراء والخواص من التقدمة التي جرت العادة بها للملوك في مثل هذا المهم، فلم يقدم أحد من الخاصة شيئا ألبتة.(1/172)
ولما انقضي هذا المهم خرج السلطان إلى الطرانة وسار إلى وادي هبيب ونزل الأديرة التي هناك، ومضى إلى تروجة وسار منها إلى الحمامات، وسلك إلى العقبة وضرب الحلقة برسم الصيد، وأدركه عيد النحر هناك. وجرد جماعة لأخذ عربان بلغه كثرة فسادهم، وأحضر هوارة وعرب سليم، وألزمهم بإشهاد كتب عليهم بعمارة البلاد، وألا يؤوا أحدا من أهل الفساد. ثم عاد إلى ثغر الإسكندرية، وعم المفاردة والأمراء والخواص بتفرقة المال والقماش، ولعب الكرة بالميدان، وزار الشاطبي. ثم سار إلى القاهرة، فنزل تروجة، ورسم بتقديم سيف الدين عطا الله بن عزار على عرب برقة، وألزمه بجباية زكاة المواشي وأخذ عشر الزروع والثمار بفريضة الله، فالتزم بذلك. وأنعم عليه بسنجق ونقارات، وتوجه لحفظ البلاد واستخرج الزكاة والعشور من العربان ببرقة.
ووصل السلطان إلى قلعة الجبل، فقدم شحنة تكريت بجماعة. وجهز السلطان الأمير أمين الدين موسى بن التركماني، ومعه عدة من الرماة والمقاتلة. وخزانة مال وعدة خلع، وكثير من أمراء عربان الكرك وبحريتها، ومبلغ من الغلال والذخائر. فساروا إلى خيبر واستولوا على قلعتها.
وكثر في هذه السنة قتل الناس في الخليج، وفقد جماعة، والتبس الأمر في ذلك. ثم ظهر بعد شهر أن امرأة جميلة يقال لها غازية كانت تخرج بزينتها ومعها عجوز، فإذا تعرض لها أحد قالت له العجوز: لا يمكنها المصير إلى أحد، ولكن من أرادها فليأت منزلنا، فإذا وافي الرجل إليها خرج إليه رجال فقتلوه وأخذوا ما معه. وكانت المرأة في كل قليل تنتقل من منزل إلى منزل، حتى سكنت خارج باب الشعرية على الخليج. فأتت العجوز إلى ماشطة مشهورة بالقاهرة واستدعتها إلى فرح، فسارت الماشطة معها بالحلي على العادة ومعها جاريتها، ودخلت الماشطة وانصرفت جاريتها، فقتل الجماعة الماشطة وأخذوا ما كان معها. وجاءت جاريتها إلى الدار تطلب مولاتها فأنكروها، فمضت إلى الوالي وعرفته الخبر، فركب إلى الدار وهجمها فإذا بالصبية والعجوز، فقبض عليهما وعرضهما على العذاب، فأقرتا فحبسهما. واتفق أن رجلا خارجا لفقد أحوالهما، فقبض عليه وعوقب فدل على رفيقه، فإذا هو صاحب أقمنة طوب فعوقب أيضاً. فوجد إنهم كانوا إذا قتلوا أحدا ألقوه في القمين حتى تحترق عظامه، وأظهروا من الدار حفائر قد ملئت بالقتلى، فسمروا جميعا. ثم انطلقت المرأة بعد يومين، فأقامت قليلا وماتت، ثم عملت الدار التي كانوا بها مسجدا، وهو المعروف. بمسجد الخناقة. وفي هذه السنة: وقف السلطان عدة قري بأعمال الشام والقدس، لصرف ريعها في خبز ونعال لمن يرد إلى القدس من المشاة، ومبلغ فلوس. وأنشأ خانا وفرنا وطاحونا، وجعل النظر في ذلك للأمير جمال الدين محمد بن نهار.
وفيها قبض الأشكري صاحب قسطنطينية على عز الدين كيكاوس بن كيخسرو بن كيقباد صاحب بلاد الروم. وسبب وجود عز الدين عند الأشكري هو اختلافه مع أخيه ركن الدين قلج أرسلان، حتى غلبه أخوه ففر منه، وملك أخوه ركن الدين قلج أرسلان بلاد الروم. فمضى عز الدين إلى الأشكري، فأواه وأنزله ومن معه من الأمراء، وقام بأمرهم مدة، حتى بلغه إنهم قصدوا قتله وأخذ المملكة منه، فقبض عليهم واعتقل عز الدين، وكحل أصحابه كلهم فأعماهم.
وفيها ولي محيي الدين أبو المكارم محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان بن الأستاذ الأسدي الشافعي قضاء حلب، عوضاً عن ابن عمه كمال الدين أبي بكر أحمد المتوفي.
ومات في هذه السنة من الأعيان
الملك المغيث عمر بن العادل أبي بكر بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب ابن شادي صاحب الكرك، مقتولا بقلعة الجبل، عن ثلاثين سنة.
ومات الملك الأشرف موسى بن المنصور بن إبراهيم بن المجاهد شيركوه بن القاهر محمد بن المنصور بن شيركوه بن شادي صاحب حمص، عن خمس وثلاثين سنة بها، وهو آخر من ملك حمص من أولاد شيركوه.
ومات الأمير حسام الدين لاجين العزيزي الجوكندار بدمشق، عن نحو خمسين سنة. وتوفي قاضي قضاة دمشق عماد الدين أبو الفضائل عبد الكريم بن جمال الدين أبي القاسم عبد الصمد بن محمد بن الفضل. بن الحرستاني الدمشقي الشافعي، وهو معزول وبيده خطابة الجامع وتدريس الحديث بالأشرفية، عن خمس وخمسين سنة بدمشق.(1/173)
وتوفي قاضي القضاة بحلب كمال الدين أبو بكر أحمد بن زين الدين أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن علوان الأسدي الشافعي، المعروف بابن الأستاذ، عن إحدى وخمسين سنة.
وتوفي شيخ الشيوخ بحماة شرف الدين أبو محمد عبد العزيز بن محمد بن عبد المحسن الأنصاري عن ست وسبعين سنة، في ثامن رمضان، ومولده في جمادى الأولى سنة ست وثمانين وخمسمائة.
وتوفي الرجل الصالح أبو القاسم بن منصور بن يحيي القباري بالإسكندرية، عن خمس وسبعين سنة.
سنة ثالث وستين وستمائة
في المحرم توجه الملك الظاهر من قلعة الجبل إلى الصيد فأقام برسيم، ثم صار إلى العباسية ورمي البندق، وادعي له جماعة منهم الأمير فخر الدين عثمان ابن الملك المغيث صاحب الكرك. فورد الخبر بنزول التتر على البيرة، فجهز السلطان من فوره الأمير بدر الدين الخازندار على البريد، ليخرج أربعة آلاف فارس من بلاد الشام.
وركب السلطان من موضعه وساق إلى القلعة، وكانت الخيول على الربيع، فلم يقم بقلعة الجبل بعد عوده من الصيد غير ليلة. وعين الأمير عز الدين إيغان المعروف بسم الموت لتقدمة العساكر، ومعه من الأمراء فخر الدين الحمصي، والأمير بدر الدين بيليك الأيدمري، والأمير علاء الدين كشتغاي الشمسي، وعدة من الأمراء والحلقة تبلغ أربعة آلاف فارس، فخرجوا من القاهرة جرائد في رابع شهر ربيع الأول. ثم عين الأمير جمال الدين المحمدي، والأمير جمال الدين أيدغدي الحاجي، ومعهما أربعة آلاف أخرى، فبرزوا ثاني يوم خروج الأمير عز الدين إيغان إلى ظاهر القاهرة، وساروا في عاشره.
وفي يوم السبت رابع ربيع الآخر: شرع السلطان في السفر، وخرج بنفسه في خامس شهر ربيع الآخر ومعه عساكر كثيرة، فوقع فناء في الدواب هلك منها عدد كثير، وصارت الأموال مطروحة، والسلطان لا يقصر في المسير. فلما شكي إليه قلة الظهر قال: ما أنا في قيد الجمال، أنا في قيد نصرة الإسلام.
ونزل السلطان غزة في العشرين منه، فورد الخبر بأن العدو نصب على البيرة سبعة عشر منجنيقا، فكتم ذلك ولم يعلم به سوي الأمير شمس الدين سنقر الرومي والأمير سيف الدين قلاوون فقط.
وكتب السلطان للأمير إيغان: " متى لم تدركوا قلعة البيرة وإلا سقت إليها بنفسي جريدة،، فساق الأمير إيغان العسكر، ورحل السلطان من غزة، ونزل قريبا من صيداء، فركب للصيد فتقطر عن فرسه وتهشم وجهه، فتجلد ورحل، وأتاه قسطلان يافا بتقادم.
ونزل السلطان بيبني في سادس عشريه، فورد البريد من دمشق وهو في الحمام بالدهليز، فلم يمهل وقرئ عليه الكتاب وهو عريان: فإذا هو يتضمن بأن بطاقة الملك المنصور صاحب حماة سقطت بأنه وصل إلى البيرة بالعساكر، صحبة الأمير عز الدين إيغان وجماعة الأمراء يوم الإثنين، وأن التتار عندما شاهدوهم هربوا، ورموا مجانيقهم وغرقوا مراكبهم، وكان من حين كتابتها بالبيرة إلى حين وصولها يبني أربعة أيام، ثم توالت كتب الأمراء بالبشارة، فكتب بذلك إلى القاهرة وغيرها. واستشهد على البيرة الأمير صارم الدينبكناش الزاهدي، وترك موجودا كبيرا وبنتا واحدة، فرسم السلطان أن يكون جميع الإرث لها لا يشاركها فيه أحد وكتب السلطان بعمارة ما خرب من البيرة، وحمل آلات القتال والأسلحة إليها من مصر والشام، وأن يعبأ فيها كل ما يحتاج إليه أهلها في الحصار لمدة عشر سنين. وكتب للأمراء ولصاحب حماة بالإقامة على البيرة، حتى ينظف الخندق من الحجارة التي ردمها العدو فيه، فكانت الأمراء تنقل الحجارة على أكتافها مدة. وبعثوا بخبر ذلك إلى السلطان وهو واقف على سور قيسارية ليهدمه بنفسه، وفي يده القطاعة وقد تجرحت يده. فكتب جوابهم: إنا بحمد الله ما تخصصنا عنكم براحة ولا دعة، ولا أنتم في ضيق ونحن في سعة. ما هنا إلا من هو مباشر الحروب الليل والنهار، وناقل الأحجار ومرابط الكفار. وقد تساوينا في هذه الأمور، وما ثم ما تضيق به الصدور.(1/174)
وكتب السلطان إلى القاهرة باستدعاء مائتي ألف درهم ومائتي تشريف، وإلى دمشق بتجهيز مائة ألف درهم ومائة تشريف، وحمل جميع ذلك إلى البيرة. وكتب إلى الأمير إيغان بأن يحضر أهل قلعة البيرة ويخلع على سائر من فيها من أمير ومأمور وجندي وعامي، وينفق فيهم المال. حتى الحراس وأرباب الضوء، فاعتمد ذلك كله وكتب إلى الديار المصرية بتبطيل المزر، وأن تعفي أثاره وتخرب بيوته وتكسر مواعينه، وأن يسقط ارتفاعه من الديوان، ومن كان له على هذه الجهة شيء نعوضه من مال الله الحلال، فاعتمد ذلك، وعوض المقطعون بدل ما كان لهم على جهة المزر.
ثم ركب السلطان من العوجاء بعد ركوب الأطلاب للتصيد في غابة أرسوف، ورسم للأمراء من أراد منهم الصيد فليحضر، فإن الغابة كثيرة السباع وساق إلى أرسوف وقيسارية، فشاهدهما وعاد إلى الدهليز، فوجد أخشاب المنجنيقات قد أحضرت بصحبة زرد خاناه، فأمر بنصب عدة مجانيق وعملها. وجلس السلطان مع الصناع يستحثهم، فعمل في يوم واحد أربع منجنيقات كبار سوي الصغار. وكتب إلى القلاع بطلب المجانيق والصناع والحجارين، ورسم للعسكر بعمل سلالم. ورحل السلطان إلى قريب عيون الأساور من وادي عارة وعرعرة، فلما كان بعد عشاء الآخر أمر العسكر كله فلبسوا آلة الحرب، وركب آخر الليل وساق إلى قيسارية، فوافاها بكرة نهار الخميس تاسع جمادى الأولى على حين غفلة من أهلها، وضرب عليها بعساكره. وللوقت ألقي الناس أنفسهم في خندقها، وأخذوا السكك الحديد التي برسم الخيول مع المقاود والشبح، وتعلقوا فيها من كل جانب حتى صعدوا، وقد نصبت المجانيق ورمي بها. فحرقوا أبواب المدينة واقتحموها، ففر أهلها إلى قلعتها، وكانت من أحصن القلاع وأحسنها وتعرف بالخضراء وكان قد حمل عليها الفرنج العمد الصوان، وأتقنوها بتصليب العمد في بنيانها، حتى لا تعمل فيها النقوب ولا تقع إذا علقت، فاستمر الزحف والقتال عليها بالمجانيق والدبابات والزحافات ورمي النشاب. وخرجت تجريدة من عسكر السلطان إلى بيسان مع الأمير شهاب الدين القيمري، فسير جماعة من التركمان والعربان إلى أبواب عكا، فاسروا جماعة من الفرنج. هذا والقتال ملح على قلعة قيسارية، والسلطان مقيم بأعلى كنسية تجاه القلعة ليمنع الفرنج من الصعود إلى علو القلعة، وتارة يركب في بعض الدبابات ذوات العجل التي تجري حتى يصل إلى السور ليري النقوب بنفسه. وأخذ السلطان في يده يوما من الأيام ترسا وقاتل، فلم يرجع إلا وفي ترسه عدة سهام.
فلما كان في ليلة الخميس النصف من جمادى الأولى: سلم الفرنج القلعة. بما فيها، فتسلق المسلمون من الأسوار، وحرقوا الأبواب ودخلوها من أعلاها وأسفلها، وأذن بالصبح عليها. وطلع السلطان ومعه الأمراء إليها، وقسم المدينة على الأمراء والمماليك والحلقة، وشرع في الهدم ونزل وأخذ بيده قطاعة وهدم بنفسه. فلما قارب الفراغ من هدم قيسارية بعث السلطان الأمير سنقر الرومي والأمير سيف الدين المستعرب في جماعة، فهدموا قلعة كانت للفرنج عند الملوحة قريب دمشق وكانت عاتية حتى دكوها دكا.
وفي سادس عشريه: سار السلطان جربذة إلى عثليث، وسير الأمير سنقرا السلاح دار، والأمير عز الدين الحموي، والأمير سنقرا الألفي إلى حيفا. فوصلوا إليها، ففر الفرنج إلى المراكب وتركوا قلعتها، فدخلها الأمراء بعد ما قتلوا عدة من الفرنج وبعد ما أسروا كثيرا، وخربوا المدينة والقلعة وأحرقوا أبوابها في يوم واحد، وعادوا بالأسري والرءوس والغنائم سالمين. ووصل السلطان إلى عثليث فأمر بتشعيثها وقطع أشجارها، فقطعت كلها وخربت أبنيتها في يوم واحد. وعاد إلى الدهليز بقيسارية، وكمل هدمها حتى لم يدع لها أثرا، وقدمت منجنيقات من الصبيبة وزرد خاناه من دمشق، وورد عدة من الفرنج للخدمة، فأكرمهم السلطان وأقطعهم الإقطاعات.(1/175)
وفي تاسع عشريه: رحل السلطان من قيسارية، وسار من غير أن يعرف أحد قصده فنزل على أرسوف مستهل جمادى الآخرة، ونقل إليها من الأحطاب ما صارت حول المدينة كالجبال الشاهقة وعمل منها ستائر، وحفر سربين من خندق المدينة إلى خندق القلعة وسقفه بالأخشاب. وسلم أحدهما للأمير سنقر الرومي، والأمير بدر الدين بيسري، والأمير بدر الدين الخازندار، والأمير شمس الدين الذكر الكركي، وجماعة غيرهم. وسلم الآخر للأمير سيف الدين قلاوون، والأمير علم الدين الحلبي الكبير، والأمير سيف الدين كرمون، وجماعة غيرهم. وعمل السلطان طريقا من الخندقين إلى القلعة، وردمت الأحطاب في الخندق، فتحيل الفرنج وأحرقوها كلها. فأمر السلطان بالحفر من باب السربين إلى البحر، وعمل سروبا تحت الأرض يكون حائط خندق العدو ساترا لها، وعمل في الحائط أبوابا يرمي التراب منها وينزل في السروب حتى تساوي أرضها أرض الخندق. وأحضر المهندسين حتى تقرر ذلك، وولي أمره للأمير عز الدين أيبك الفخري. فاستمر العمل، والسلطان بنفسه ملازم العمل بيده في الحفر وفي جر المنجنيقات ورمي التراب ونقل الأحجار، أسوة لغيره من الناس. وكان يمشي. بمفرده وفي يده ترس، تارة في السرب وتارة في الأبواب التي تفتح، وتارة على حافة البحر يرامي مراكب الفرنج. وكان يجر في المجانيق، ويطلع فوق الستائر يرمي من فوقها، ورمي في يوم واحد ثلاثمائة سهم بيده. وحضر في يوم إلى السرب وقد في رأسه خلف طاقة يرمي منها، فخرج الفرنج بالرماح وفيها خطاطيف ليجبذوه فقام وقاتلهم يدا بيد وكان معه الأمير سنقر الرومي، والأمير بيسري، والأمير بدر الدين الخازندار، فكان سنقر يناوله الحجارة حتى قتل فارسين من الفرنج، ورجعوا على أسوأ حال. وكان يطوف بين العساكر في الحصار بمفرده، ولا يجسر أحد ينظر إليه ولا يشر إليه بإصبعه. وحضر في هذه الغزاة جمع كبير من العباد والزهاد والفقهاء وأصناف الناس، و لم يعهد فيها حمر ولا شيء من الفواحش. بل كانت النساء الصالحات يسقين الماء في وسط القتال، ويعملن في جر المجانيق. وأطلق السلطان الرواتب من الأغنام وغيرها لجماعة من الصلحاء، وأعطي الشيخ على البكا جملة مال. ولا سمع عن أحد من خواص السلطان إنه اشتغل عن الجهاد في نوبته بشغل، ولا سير أمير غلمانه في نوبته واستراح. بل كان الناس فيها سواء في العمل، حتى أثرت المجانيق في هدم الأسوار، وفرغ من عمل الأسربة التي بجانبي الخندق، وفتحت فيها أبواب متسعة. فلما تهيأ ذلك وقع الزحف على أرسوف في يوم الخميس ثامن رجب، ففتحها الله في ذلك اليوم عندما وقعت الباشورة. فلم يشعر الفرنج إلا بالمسلمين قد تسلقوا وطلعوا القلعة، ورفعت الأعلام الإسلامية على الباشورة، وحفت بها المقاتلة وطرحت النيران في أبوابها.
هذا والفرنج تقاتل، فدفع السلطان سنجقه للأمير سنقر الرومي وأمره أن يؤمن الفرنج من القتل، فلما رآه الفرنج تركوا القتال. وسلم السنجق للأمير علم الدين سنجر المسروري المعروف بالخياط الحاجب، ودليت له الحبال من القلعة فربطها في وسطه والسنجق معه، ورفع إليها فدخلها وأخذ جميع سيوف الفرنج وربطهم بالحبال وساقهم إلى السلطان والأمراء صفوف وهم ألوف.
وأباح السلطان القلعة للناس، وكان بها من الغلال والذخائر والمال شيء كثير، وكان فيها جملة من الخيول والبغال لم يتعرض السلطان لشيء منه، إلا ما اشتراه ممن أخذه بالمال ووجد فيها عدة من أسري المسلمين في القيود فأطلقوا، وقيد الفرنج بقيودهم، وعين السلطان جماعة مع الأسري من الفرنج ليسيروا بهم، وقسم أبراج أرسوف على الأمراء، وأمر أن يكون أسري الفرنج يتولون هدم السور، فهدمت بأيديهم.
وأمر السلطان بكشف بلاد قيسارية وعمل متحصلها، فعملت بذلك أوراق، وطلب قاضي دمشق وعدوله ووكيل بيت المال، وتقدم بأن يملك الأمراء المجاهدون من البلاد التي فتحها الله عليه ما يأتي ذكره. وكتبت تواقيع كل منهم من غير أن يطلعوا على ذلك، فلما فرغت التواقيع فرقت على أربابها، وكتب بذلك مكتوب جامع بالتمليك، ونسخته:(1/176)
أما بعد حمد الله على نصرته المتناسقة العقود، وتمكينه الذي رفلت به الملة الإسلامية في أصفى البرود، وفتحه الذي إذا شاهدت العيون مواقع نفعه وعظيم وقعه علمت لأمر ما يسود من يسود، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي جاهد الكفار بالسيف البتار، وأعلمهم لمن عقبي الدار، وعلى آله وصحبه صلاة تتواصل بالعشي والإبكار، فإن خير النعمة وردت بعد اليأس، وأقبلت على فترة من تخاذل الملوك وتهاون الناس، فأكرم بها نعمة وصلت للأمة المحمدية أسبابا، وفتحت للفتوحات الإسلامية أبوابا، وهزمت من التتار والفرنج العدوين، ورابطت من الملح الأجاج والعذب الفرات بالبرين والبحرين، وجعلت عساكر الإسلام تذل الفرنج بغزوهم في عقر الدار، وتجوس من حصونهم المانعة خلال الديار والأمصار، وتقود من فضل عن شبع السيف الساغب إلى حلقات الإسار، ففرقة منها تقتلع للفرنج قلاعا وتهدم حصونا، وفرقة تبقي ما هدم للتتار بالمشرق وتعليه تحصينا، وفرقة تتسلم بالحجاز قلاعا شاهقة وتقسم هضابا سامقة. فهي بحمد الله البانية الهادمة، والقاسمة الراحمة. كل ذلك بمن أقامه الله وجرد سيفا ففري، وحملت رباح النصرة ركابه تسخيرا فسار إلى مواطن الظفر وسري، وكونته السعادة ملكا إذا رأته في دستها قالت تعظيما له ما هذا بشرا. وهو السلطان الملك الظاهر ركن الدنيا والدين أبو الفتح بيبرس، جعل الله سيوفه مفاتح البلاد، وأعلامه أعلاما من الأسنة على رأسها نار بهداية العباد، فإنه أخذ البلاد ومعطيها، وواهبها بما فيها. وإذا عامله الله بلطفه شكر، وإذا قدر عفي وأصلح فوافقه القدر، وإذا أهدت إليه النصرة فتوحات قسمها في حاضريها لديه متكرما وقال لمن حضر، وإذا خوله الله تخويلا وفتح على يديه قلاعا جعل الهدم للأسوار، والدماء للبتار، والرقاب للإسار، والبلاد المزروعة للأولياء والأنصار. ولم يجعل لنفسه إلا ما تسطره لملائكة في الصحائف لصفاحه من الأجور، وما تطوي عليه طربات السير التي غدت بما فتحه الله من الثغور باسمه باسمة الثغور.
فتي جعل البلاد من العطا ... فأعطي المدن واحتقر الضياعا
سمعنا بالكرام وقد أرانا ... عيانا ضعف ما فعلوا سماعا
إذا فعل الكرام على قياس ... جميلا كان ما فعل ابتداعا(1/177)
ولما كان بهذه المثابة، وقد فتح الفتوحات التي أجزل الله بها أجره وضاعف ثوابه، وله أولياء النجوم ضياء، وكالأقدار مضاء، وكالعقود تناسقا، وكالوبل تلاحقا إلى الطاعة وتسابقا، رأي ألا ينفرد عنهم بنعمة، ولا يتخصص ولا يستأثر. بمنحة غدت بسيوفهم تستنقذ، وبعزائمهم تستخلص، وأن يؤثرهم على نفسه، ويقسم عليهم الأشعة من أنوار شمسه، ويبقي للولد منهم وولد الولد، ما يدوم إلى آخر الدهر ويبقي على الأبد، ويعيش الأبناء في نعمته كما عاش الآباء، وخير الإحسان ما شمل وأحسنه ما خلد. فخرج العالي لا زال يشمل الأعقاب والذراري، وينير إنارة الأنجم الدراري، أن يملك أمراؤه وخواصه الذين يذكرون، وفي هذا المكتوب يسطرون، ما يعين من البلاد والضياع، على ما يشرح ويبين من الأوضاع، وهو الأتابك فارس الدين أقطاي الصالحي عتيل بكمالها، الأمير جمال الدين إيدغدي العزيزي النصف من زيتا، الأمير بدر الدين بيسري الشمسي الصالحي نصف طور كرم، الأمير بدر الدين بيليك الخازندار نصف طوركرم، الأمير شمس الدين الذكر الكركي ربع زيتا، الأمير سيف الدين قلج البغدادي ربع زيتا، الأمير ركن الدين بيبرس خاص ترك الكبير الصالحي أفراسين بكمالها، الأمير علاء الدين أيدكين البندقدار الصالحي باقة الشرقية بكمالها، الأمير عز الدين أيدمر الحلبي الصالحي نصف قلنسوة، الأمير شمس الدين سنقر الرومي نصف قلنسوة، الأمير سيف الدين قلاوون الألفي الصالحي نصف طيبة الاسم، الأمير عز الدين إيغان سم الموت نصف طيبة الاسم، الأمير جمال الدين أقوش النجيبي نائب سلطة الشام أم الفحم بكمالها من قيسارية، الأمير علم الدين سنجر الحلبي الصالحي بتان بكمالها، الأمير جمال الدين أقوش المحمدي نصف بورين، الأمير فخر الدين ألطنبا الحمصي نصف بورين، الأمير جمال الدين أيدغدي الحاجبي الناصري نصف بيزين، الأمير بدر الدين بيليك الأيدمري الصالحي نصف بيزين، الأمير فخر الدين عثمان ابن الملك المغيث ثلث حلبة، الأمير شمس الدين سلار البغدادي ثلث حلبة، الأمير صارم الدين صراغان ثلث حلبة، الأمير ناصر الدين القيمري نصف البرج الأحمر، الأمير سيف الدين بلبان الزيني الصالحي نصف البرج الأحمر، الأمير سيف الدين إبتامش السعدي نصف يما، الأمير شمس الدين آقسنقر السلاح دار نصف يما، الملك المجاهد سيف الدين إسحاق صاحب الجزيرة نصف دنابة، الملك المظفر صاحب سنجار نصف دنابة، الأمير بدر الدين محمد بن ولد الأمير حسام الدين بركة خان دير القصون بكمالها، الأمير عز الدين أيبك الأفرم أمير جاندار نصف الشويكة، الأمير سيف الدين كرمون أغا التتري نصف الشويكة، الأمير بدر الدين الوزيري نصف طبرس، الأمير ركن الدين منكورس الديداري نصف طبرس، الأمير سيف الدين قشتمر العجمي علار بكمالها، الأمير علاء الدين أخو الدويدار نصف عرعرا، الأمير سيف الدين قفجق البغدادي نصف عرعرا، الأمير سيف الدين دكجل البغدادي نصف فرعون، الأمير علم الدين سنجر الأزكشي نصف فرعون، الأمير علم الدين طرطج الأسدي أقتابة بكمالها، الأمير حسام الدين إيمتش بن أطلس خان سيدا بكمالها، الأمير علاء الدين كندغدي الظاهري أمير مجلس الصفرا بكمالها، الأمير عز الدين أيبك الحموي الظاهري نصف أرقاح، الأمير شمس الدين سنقر الألفي نصف أرقاح، الأمير علم الدين طيبرس الظاهري نصف باقة الغربية، الأمير علاء الدين التنكري نصف باقة الغربية، الأمير عز الدين الأتابك الفخري القصير بكمالها، الأمير علم الدين سنجر الصيرفي الظاهري أخصاص بكمالها، الأمير ركن الدين بيبرس المغربي نصف قفين، الأمير شجاع الدين طغربل الشبلي أمير مهمندار نصف كفر راعي، الأمير علاء الدين كندغدي الحبيشي مقدم الأمراء البحرية نصف كفر راعي، الأمير شرف الدين بن أبي القاسم نصف كسفا، الأمير بهاء الدين يعقوب الشهرزوري نصف كسفا، الأمير جمال الدين موسى بن يغمور أستادار العالية نصف برنيكية، الأمير علم الدين سنجر الحلي الغزاوي نصف برنيكية، الأمير علم الدين سنجر نائب أمير جاندار نصف حانوتا من أرسوف، الأمير سيف الدين بيدغان الركني فرديسيا بكمالها من قيسارية، الأمير عز الدين أيدمر الظاهري نائب الكرك ثلث حبلة من أرسوف، الأمير جمال الدين أقوش السلاح دار الرومي ثلث حبلة، الأمير شمس الدين سنقر جاه الظاهري ثلث حبلة، الأمير(1/178)
بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح ثلث جلجولية، الأمير علاء الدين كشتغدي الشمسي ثلث جلجولية، الأمير بدر الدين بكتوت بجكا الرومي ثلث جلجولية.ر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح ثلث جلجولية، الأمير علاء الدين كشتغدي الشمسي ثلث جلجولية، الأمير بدر الدين بكتوت بجكا الرومي ثلث جلجولية.
وكتب من كتاب التمليك الشرعي الجامع نسخ، وفرقت على كل أمير نسخة، وخلع على قاضي دمشق وعاد إلى بلده. ونقلت المنجنيقات إلى القلاع، وهي الكرك وعجلون ونحوهما.
ورحل السلطان من أرسوف بعد استكمال هدمهما في يوم الثلاثاء ثالث عشري شهر رجب إلى غزة وسار منها إلى مصر، فخرج الملك السعيد والأتابك عز الدين الحلي نائب السلطة إلى لقائه ببركة الحجاج، فلقوه هناك. ودخل السلطان من القاهرة في يوم الخميس حادي عشر شعبان والأسري بين يديه حتى خرج من باب زويلة، وصمد إلى قلعة الجبل فاستراح. وعرض ما حصله الأمير عز الدين الحلي، والصاحب بهاء الدين بن حنا من الخزائن، ولم يترك أحدا من أمير ولا وزير ولا مقدم ولا مفردي، ولا أحدا من خواصه ولا بزداريته، وبردداريته وسائر حواشيه، حتى عم الجميع بالخلع وأحسن إلى رسل الملك بركة، وكتب إلى اليمن وإلى الأنبرور بالبشارة، وأخرج جملة من الدراهم والغلة الكساوي تصدق بها على الفقراء.
وكان قد كثر الحريق بالقاهرة ومصر في مدة سفر السلطان، وأشيع أن ذلك من النصاري. ونزل بالناس من الحريق في كل مكان شدة عظيمة، ووجد في بعض المواضع التي احترقت نفط وكبريت. فأمر السلطان بجمع النصارى وإليهود، وأنكر عليهم هذه الأمور التي تفسخ عهدهم وأمر بإحراقهم. فجمع منهم عالم عظيم في القلعة، وأحضرت الأحطاب والحلفاء، وأمر بإلقائهم في النار، فلاذوا بعفوه وسألوا المن عليهم. وتقدم الأمير فارس الدين أقطاي أتابك العساكر فشفع فيهم، على أن يلتزموا بالأموال التي احترقت، وأن يحملوا إلى بيت المال خمسين ألف دينار. فأفرج عنهم السلطان، وتولي البطرك توزيع المال، والتزموا ألا يعودوا إلى شيء من المنكرات، ولا يخرجوا عما هو مرتب على أهل الذمة، وأطلقوا.
وكان الأمير زامل بن على لا تزال الفتنة بينه وبين الأمير عيسي بن مهنا بن مانع بن حديثة بن غضبة بن فضل بن ربيعة. فلما طلعت العساكر إلى الشام مع الأمير طيبرس قبضوا على زامل بالبلاد الحلبية، وحمل إلى قلعة عجلون. ثم نقل إلى القاهرة واعتقل، ثم أفرج عنه وصار يلعب مع السلطان في الميدان، وحضر الأمير شرف الدين عيسي ابن مهنا وأحمد بن حجي والأمير هارون، وأصلح السلطان بينهم وبين زامل، ورد على زامل إقطاعه وإمرته، وأذن لهم في السفر. فساروا حتى دخلوا إلى الرمل، فساق زامل وهجم على بيوت عيسي وأفسد، وقبض على قصاد السلطان المتوجهين إلى شيراز، وأخذ منهم الكتب وسار بها إلى هولاكو وأطمعه في البلاد، فأعطاه هولاكو إقطاعا بالعراق.
وسافر زامل إلى الحجاز فنهب وقتل، وعاد إلى الشام، وكان السلطان قد أعطي إقطاعه لأخيه أبي بكر، فضاقت عليه الأرض، وكتب يطلب من السلطان العفو، فقرر السلطان معه الحضور إلى مدة عينها له، وإنه متى تأخر عنها فلا عهد له ولا أيمان فلما تأخر عن المدة المعينة وحضر بعدها قبض عليه، واعتقل بقلعة الجبل.
وفي خامس عشريه: جلس السلطان بدار العدل، وطلب تاج الدين بن القرطي، فلما حضر قال السلطان له: أضجرتني مما تقول. عندي مصالح لبيت مال المسلمين، فتحدث الآن بما عندك فتكلم القرطي في حق قاضي القضاة، وفي حق صاحب سواكن، وقال: إن الأمراء الذين ماتوا أخذ ورثتهم أكثر من حقوقهم. فأمر السلطان بإحضار زيار، وأراه لمن حضر وقال: من يصبر على هذا الزيار يستكثر عليه إقطاع، أو يستكثر على ورثته موجود يخلفه لهم؟ وأنكر عليه وأمر به فحبس وتحدث السلطان في أمر الجند، وإنهم إذا كانوا في البيكار وفي مواطن الجهاد لا يصل إليهم شاهد، فيشهد أحدهم أصحابه عند موته، فإذا حضروا لا تقبل شهادتهم، وتضيع أموال الناس بهذا السبب. وقال: الرأي أن كل أمير يعين من جماعته من فيه دين وخير ليسمع قوله، وكل مقدم وكل جماعة من الجند يعين من فيها ممن هو من أهل الخير والصلاح، لتسمع أقوالهم، حتى تحفظ أموال الناس. فسر الأمراء بذلك، وشرع قاضي القضاة في اختيار الناس الجياد من الجند لذلك.(1/179)
وجلس السلطان في تاسع عشريه بدار العدل، فوقف شخص وشكا أن من سكن في شيء من الأملاك الديوانية لا يمكن من الخلو، فأنكر السلطان ذلك وأمر بتمكين الساكن من الخلو عند انقضاء الإجارة. ووردت رسل الأنبرور، ورسل الملك الأشكري، بالهدايا.
وفي سابع شهر رمضان: قدمت العساكر من البيرة، مع الأمير جمال الدين المحمدي، والأمير عز الدين إيغان. وقدمت هدية ملك الكرج. وورد الخبر باستيلاء عز الدين الكندري نائب الرحبة على قرقيسياء، وقتلوا من كان فيها من التتر والكرج، وأسروا نيفا وثمانين رجلا في نصف شهر رمضان.
وفيه رسم بتحصيل المراكب لتفرق في بحر أشموم، فلما كان ثاني شوال سار السلطان إلى أشموم بنفسه، وقسم عمل البحر على الأمراء، وعمل بنفسه وحمل القفة مملوءة بالتراب على كتفه، والناس تشاهده فوقع الاجتهاد في الحفر، واستمر السلطان على العمل بنفسه في كل يوم، وصار يركب في المراكب وتفرق المراكب قدامه. فتنجز العمل في ثمانية أيام، وتكامل الحفر في بحر أشموم، وفي الجهة التي من ناحية جوجر وسار السلطان إلى منزلة ابن حسون، وعاد إلى قلعة الجبل في حادي عشريه.
ورسم بإبطال حراسة النهار بالقاهرة ومصر وكانت جملة كبيرة، وكتب توقيع بإبطالها، وكتب أيضاً بمسامحة الأعمال الدقهلية والمرتاحية أربعة وعشرين ألف درهم نقرة عن رسوم الولاية والمال المستخرج برسم النقيدي وتوجه شجاع الدين بن الداية الحاجب إلى الملك بركة رسولا، ومعه ثلاث عمر اعتمر بها عنه بمكة، عملت في أوراق مذهبة، وشيء من ماء زمزم ودهن بلسان وغيره.
وفي آخره: نزل بالسلطان وعك، فدارى بالصدقة وأعطى الفقراء مالا جزيلا.(1/180)
وفي ذي القعدة: قدم الراهب كرنانوس بكتاب الملك الأشكري. وكان الأمير جمال الدين أيدفدي العزيزي يكره قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز ويضع من قدره ويحط عليه عند السلطان، بسبب تشدده في الأحكام وتوقفه في القضايا التي لا توافق مذهبه. فاتفق جلوس السلطان بدار العدل في يوم الإثنين ثاني عشر ذي الحجة، فرفع إليه بنات الملك الناصر قصة فيها أن ورثة الناصر اشتروا دار قاضي القضاة بدر الدين السنجاري في حياته، فلما مات ذكر ورثته إنها وقف. فعندما قرئت أخذ الأمير أيدغدي يحط على الفقهاء وينقصهم، فقال السلطان للقاضي تاج الدين: يا قاض! هكذا تكون القضاة؟ " . فقال تاج الدين: " يا مولانا! كل شاة معلقة بعرقوبها! قال " فكيف الحال في هذا؟ قال إذا ثبت الوقف يعاد الثمن من الورثة فقال السلطان. فإذا لم يكن مع الورثة شيء؟ قال القاضي: يرجع الوقف إلى أصله، ولا يستعاد الثمن. فغضب السلطان من ذلك، وما تم الكلام حتى تقدم رسول أمير المدينة النبوية وقال: يا مولانا السلطان سألت هذا القاضي أن يسلم إلى مبلغ ربع الوقف الذي تحت يده، لينفقه صاحب المدينة في فقراء أهلها، فلم يفعل. فسأل السلطان القاضي عما قاله، فقال: نعم. قال السلطان: أنا أمرته بذلك فكيف رددت أمري؟ قال: " يا مولانا هذا المال أنا متسلمه وهذا الرجل لا أعرفه، ولا يمكنني أن أسلمه لمن لا أعرفه، ولا يتسلمه إلا من أعرف إنه موثوق بدينه وأمانته، فإن كان السلطان يتسلمه مني أحضرته إليه. فقال السلطان: تنزعه من عنقك وتجعله في عنقي قال: نعم. قال السلطان: لا تدفعه إلا لمن تختاره. ثم تقدم بعض الأمراء وقال: شهدت عند القاضي فلم تسمع شهادتي في ثبوت الملك وصحته، فسأل السلطان القاضي عن ذلك فقال: ما شهد أحد عندي حتى أثبته، فقال الأمير: إذا لم تسمع قولي فمن تريد؟ قال السلطان: لم لا سمعت قوله؟ فقال: لا حاجة في ذكر ذلك. فقال الأمير أيدغدي: يا قاضي مذهب الشافعي لك، ونولي من كل مذهب قاضيا. فصغي السلطان لقول أيدغدي وانقضى المجلس، إلى أن كان يوم الإثنين تاسع عشره، ولي السلطان القاضي صدر الدين سليمان بن أبي العز بن وهيب الأذرعي الحنفي مدرس المدرسة الصالحية، والقاضي شرف الدين عمر بن عبد الله بن صالح ابن عيسي بن عبد الملك بن موسى بن خالد بن على بن عمر بن عبد الله بن إدريس ابن إدريس بن الحسن بن الحسن بن على بن أبي طالب السبكي المالكي، والقاضي شمس الدين محمد بن إبراهيم الحنبلي ليكونوا قضاة القضاة بديار مصر، وجعل السلطان لهم أن يولوا في سائر الأعمال المصرية، مضافا لقاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز، وأبقى على ابن بنت الأعز النظر في مال الأيتام والمحاكمات المختصة ببيت المال، وكتب لكل منهم تقليدا وخلع عليهم. فصار بديار مصر قضاة القضاة من حينئذ أربعة، يحكم كل منهم بمذهبه، ويلبس كل منهم الطرحات في أيام الخدمة السلطانية. ورسم السلطان أيضاً لمجد الدين عبد الرحمن بن الصاحب كمال الدين عمر ابن العديم بخطابة القاهرة.
وفي رابع عشري ذي الحجة: قبض السلطان على الأمير شمس الدين سنقر الرومي واعتقل، وتقدم إلى الخليفة الحاكم بأمر الله ألا يجتمع بأحد، فاحتجب عن الاجتماع بالناس، وفيها تولي الأمير نور الدين على بن مجلي المكاري نيابة حلب، عوضاً عن أيدكين الشهابي.
وفيها نزل السلطان من قلعة الجبل بالليل متنكرا، وطاف بالقاهرة ليعرف أحوال الناس، فرأى بعض المقدمين وقد أمسك امرأة وعراها سروالها بيده، و لم يجسر أحد ينكر عليه. فلما أصبح السلطان قطع أيدي جماعة من نواب الولاة والمقدمين، والخفراء وأصحاب الرباع بالقاهرة.
وفيها ولي السلطان إمرة عرب آل فضل لعيسى بن مهنا، فسار وطرد التتار عن البيرة وحران، وفيها هلك القان هولاكو بن طولوخان بن جنكيزخان في تاسع عشر شهر ربيع الأول بالقرب من كورة مراغة بالصرع، عن نيف وستين سنة، منها مدة سلطته عشر سنين. وقام من بعده ابنه أباغا، وجهز جيشا لحرب الملك بركة خان، فانهزم هزيمة قبيحة.
ومات في هذه السنة من الأعيان
الأمير جمال الدين موسى بن يغمور الباروقي، نائب السلطة بديار مصر ودمشق، وهو معزول بالقصير من عمل مصر، عن أربع وستين سنة.(1/181)
وتوفي قاضي القضاة بدر الدين أبو المحاسن يوسف بن الحسن بن على السنجاري الشافعي، وهو معروف، بالقاهرة عن نيف وستين سنة.
وتوفي نجم الدين أبو المظفر فتح بن موسى بن حماد القصري المغربي، قاضي سيوط بها.
سنة أربع وستين وستمائة
في المحرم: عقد الأمير سيف الدين قلاوون عنده على ابنة الأمير سيف الدين كرمون التتري الوافد. فنزل السلطان من قلعة الجبل، وضرب الدهليز بسوق الخيل، عندما دخل الأمير قلاوون عليها. وقام السلطان بكل ما يتعلق بالأسمطة، وجلس على الخوان، و لم يبق أحد من الأمراء حتى بعث إلى قلاوون الخيل وبقج الثياب، وأرسل إليه السلطان تعابى قماش وخيلا وعشرة مماليك، فقبل قلاوون المتقدمة واستعفى من المماليك، وقال: هؤلاء خوشداشيتي في خدمة السلطان فأعفي.
وفيه كتب إلى دمشق بثلاثة تقاليد: أحدها بتقليد شمس الدين عبد الله محمد بن عطا الحنفي قاضي القضاة، والآخر بتقليد زين الدين أبي محمد عبد السلام بن على بن عمر الزواوي المالكي قاضي القضاة المالكية، والثالث بتقليد شمس الدين عبد الرحمن بن الشيخ أبي عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة الحنبلي قاضي القضاة الحنابلة. فصار بدمشق أربعة قضاة، وكان قاضي القضاة الشافعي شمس الدين أحمد بن خلكان، فصار الحال كما هو بديار مصر، واستمر ذلك. واتفق إنه لما قدمت عهود القضاة الثلاثة لم يقبل المالكي ولا الحنبلي، وقبل الحنفي فورد مرسوم السلطان بإلزامهما بذلك، وأخذ ما بأياديهما من الوظائف إن لم يفعلا، فأجابا. ثم أصبح المالكي وعزل نفسه عن القضاء والوظائف، فورد المرسوم بإلزامه فأجاب، وامتنع هو والحنبلي من تناول جامكية على القضاء. وقال بعض أدباء دمشق لما رأي اجتماع قضاة كل واحد منهم لقبه شمس الدين:
أهل دمشق استرابوا ... من كثرة الحكام
إذا هم جميعا شموس ... وحالهم في ظلام
وقال الآخر:
بدمشق آية قد ظهرت ... للناس عاما
كلما ولي شمس قاضيا ... زادت ظلاما
وكان استقلالهم بالقضاء في سادس جمادى الأولى.
وفيه وردت رسل الأنبرور، ورسل الفنش، ورسل ملوك الفرنج، ورسل ملك اليمن، ومعهم هدايا إلى صاحب قلاع الإسماعيلية. فأخذت منهم الحقوق الديوانية عن الهدية، إفسادا لنواميس الإسماعيلية، وتعجيزا لمن اكتفي شرهم بالهدية.
وفي ثامن صفر. كانت وقعة بين الأمير علم الدين سنجر الباشقردي نائب حمص، وبين البرنس بيمند بن بيمند ملك الفرنج بطرابلس، انهزم فيها الفرنج. وفيه كتب إلى دمشق بعمل مراكب، فعملت وحملت إلى البيرة. وفيه توجه السلطان إلى الإسكندرية، واهتم بحفر خليجها وباشر الحفر بنفسه، فعمل فيه الأمراء وسائر الناس، حتى زالت الرمال التي كانت على الساحل بين النقيدي وفم الخليج، ثم عدى السلطان إلى بر أبيار، وغرق هناك عدة مراكب، وألقى فوقها الحجارة، ثم عاد إلى قلعة الجبل، وحفر بحر مصر بنفسه وعسكره، ما بين الروضة والمنشاة بجوار جرف الروضة، وجهز المحمل وخلع على المتوجه به إلىالحجاز، وهو الأمير جمال الدين نائب دار العدل، وسير معه مبلغ عشره آلاف درهم لعمارة حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسيرت الغلال لجرايات الصناع.
وفي جمادى الأولى: قدم فخر الدين بن جلبان من بلاد الفرنج بعدة من الأسرى، قد افتكهم. بمال الوقف المسير من جهة الأمير جمال الدين النجيبي نائب دمشق. فحضر عدة من النساء والأطفال، فسيرت النساء إلى دمشق ليزوجهن القاضي من أكفائهن. وفيه سافر الأمير جمال الدين بن نهار المهمندار الصالحي لبناء جسر على نهر الشريعة، ورسم لنائب دمشق بحمل كل ما يحتاج إليه من الأصناف. وفيه كل بناء الدار الجديدة عند باب السر المطل على سوق الخيل من قلعة الجبل، فعمل بها دعوة للأمراء.
وفي جمادى الآخرة: سار الأمير أقوش السفيري، ومعه أربعون ديوانا لاستخراج زكاة عرب بلاد المغرب، فوصل إليهم وأخذ منهم الزكاة التي فرضها الله وأخذ منهم الحقوق.
وفي ثالث رجب: اهتم السلطان بأمر الغزو، وسير إلى أعمال مصر بإحضار الجند من إقطاعاتهم، فتأخروا. فأرسل سلاح داريته إلى سائر الأعمال، فعلقوا الولاة بأيديهم ثلاثة أيام تأديبا، لكونهم ما سارعورا إلى إحضار الأجناد، فحضروا بأجمعهم.(1/182)
وخرج السلطان في مستهل شعبان، ورحل في ثالثه وسار إلى غزة. وقدم الأمير أيدغدي العزيزي، والأمير قلاوون، في عدة من العسكر إلى العوجاء. ومضى السلطان إلى الخليل ثم إلى القدس، ومنع أهل الذمة من دخول مقام الخليل، وكانوا قبل ذلك يدخلون ويؤخذ منهم مال على ذلك، فأبطله واستمر منعهم. وسار السلطان إلى عين جالوت ووصل العسكر إلى حمص، وأغاروا على الفرنج ونزلوا على حصن الأكراد، وأخذوا قلعة عرقة وحلباء والقليعات وهدموها، فلما ورد الخبر بذلك جرد السلطان الأمير علاء الدين البندقدار، والأمير عز الدين أوغان، في عدة من العسكر إلى صور فأغاروا على الفرنج، وغنموا وأسروا كثيرا. وتوجه الأمير إيتامش إلى صيداء، وصار السلطان إلى مدينة عكا، وبعث الأمير بدر الدين الأيدمري، والأمير بدر الدين بيسري إلى جهة القرن، وأرسل الأمير فخر الدين الحمصي إلى جبل عاملة. فأغارت العساكر على الفرنج من كل جهة، وكثرة المغانم بأيديهم حتى لم يوجد من يشتري البقر والجاموس وصارت الغارات من بلاد طرابلس إلى أرسوف. ونزل عسكر السلطان على صور، وأقام السلطان في جهة عكا، والأمر ناصر الدين القيمري في عثليث، فطلب أهل عكا من الأتابك التحدث في الصلح. فاهتم السلطان بأمر صفد، وأحضر العساكر المجردة، ورحل الأمير بكتاش الفخري أمير سلاح بالدهليز السلطاني ونزل على صفد، وتبعه الأمير البندقدار والأمير عز الدين أوغان في جماعة، وحاصروها.
هذا والسلطان مقيم على عكا حتى وافته العساكر، وعمل عدة مجانيق. ثم رحل والعساكر لابسة، وساق إلى قرب باب عكا، ووقف على تل الفضول. ثم سار إلى عين جالوت، ونزل على صفد يوم الإثنين ثامن شهر رمضان وحاصرها، فقدم عليه رسول متملك صور ورسل الفداوية، ورسول صاحب بيروت ورسول صاحب يافا، ورسل صاحب صهيون. وصار السلطان يباشر الحصار بنفسه، وقدمت المجانيق من دمشق إلى جسر يعقوب وهو منزلة من صفد وقد عجزت الجمال عن حملها، فسار إليها الرجال من الأجناد والأمراء، لحملها على الرقاب من جسر يعقوب، وسار السلطان بنفسه وخواصه، وجر الأخشاب مع البقر هو وخواصه، فكان غيره من الناس إذا تعب استراح ثم يعود إلى الجر، وهو لا يسأم من الجر ولا يبطله، إلى أن نصبت المجانيق رمي بها في سادس عشريه، وصار السلطان يلازم الوقوف عندها وهي ترمي.
وأتت العساكر من مصر والشام، فنزلوا على منازلهم إلى أن كانت ليلة عيد الفطر فخرج الأمير بدر الدين الأيدمري للتهنئة بالعيد، فوقع حجر على رأسه، فرسم السلطان بألا يجتمع أحد لسلام العيد، ولا يبرح أحد من مكانه خشية انتهاز العدو غرة العسكر ونودي يوم عيد الفطر في الناس. من شرب خمرا أو جلبها شنق.
وفي ثانيه: وقع الزحف على صفد، ودفع الزراقون النفط. ووعد السلطان الحجارين إنه من أخذ أول حجر كان له مائة دينار، وكذلك الثاني والثالث إلى العشرة. وأمر حاشيته بألا يشتغلوا بخدمته. فكان بين الفريقين قتال عظيم استشهد فيه جماعة، وكان الواحد من المسلمين إذا قتل جره رفيقه ووقف موضعه، وتكاثرت النقوب ودخل النقابون إليها، ودخل السلطان معهم، وبذل السلطان في هذا اليوم من المال والخلع كثيرا، ونصب خيمة فيها حكماء وجرائحية وأشربة ومآكل، فصار من يجرح من العربان والفقهاء والفقراء وغيرهم يحضر إليها.
وفي ثامنه: كانت بين الفريقين أيضاً، مقاتل.
وفي ليلة رابع عشره: اشتد الزحف من الليل إلى وقت القائلة، فتفرق الناس من شدة التعب، فغضب السلطان من ذلك وأمر خواصه بالسوق إلى الصاواوين وإقامة الأمراء والأجداد بالدبابيس، وقال. المسلمون عل هذه الصورة، وأنتم تستريحون؟، فأقيموا، وقبض السلطان على نيف وأربعين أميرا، وقيدهم وسجنهم بالزردخاناه، ثم شفع فيهم فأطلقهم وأمرهم بملازمة مواضعهم، وضربت الطبلخاناه واشتد الأمر إلى أن طلب الفرنج الأمان، فأمنهم السلطان على ألا يخرجوا بسلاح ولا لامة حرب ولا شيء من الفضيات، ولا يتلفوا شيئا من ذخائر القلعة بنار ولا هدم، وأن يفتشوا عند خروجهم، فإن وجد مع أحد منهم شيء من ذلك انتقض العهد.(1/183)
ولم تزل الرسل تتردد بينهم إلى يوم الجمعة ثامن عشره، ثم طلعت السناجق الإسلامية، وكان لطلوعها ساعة مشهودة. هذا والسلطان راكب على باب صفد حتى نزل الفرنج كلهم، ووقفوا بين يديه فرسم بتفتيشهم، فوجد معهم ما يناقض الأمان من السلاح والفضيات، ووجد معهم عدة من أسري مسلمين أخرجوهم على إنهم نصارى. فأخذ ما وجد معهم وأنزلوا عن خيولهم، وجعلوا في خيمة ومعهم من يحفظهم. وتسلم المسلمون صفد، وولي السلطان قلعتها الأمير مجد الدين الطوري، وجعل الأمير عز الدين العلائي نائب صفد، فلما أصبح حضر إليه الناس، فشكر اجتهادهم واعتذر إليهم مما كان منه إلى بعضهم، وإنه ما قصد إلا حثهم على هذا الفتح العظيم، وقال: من هذا الوقت نتحالل، وأمرهم فركبوا. وأحضرت خيالة الفرنج وجميع من صفد، فضربت أعناقهم على تل قرب صفد حتى لم يبق منهم سوي نفرين. أحدهما الرسول، فإنه اختار أن يقم عند السلطان ويسلم، فاسلم وأقطعه السلطان إقطاعا وقربه، والآخر ترك حتى يخبر الفرنج. مما شاهده. وصعد السلطان إلى قلعة صفد، وفرق على الأمراء العدد الفرنجية والجواري والمماليك، ونقل إليها زردخاناه من عنده، وحمل السلطان على كتفه من السلاح إلى داخل القلعة، فتشبه به الناس ونقلوا الزردخاناه في ساعة واحدة. واستدعى السلطان الرجال من دمشق للإقامة بصفد، وقرر نفقة رجال القلعة في الشهر مبلغ ثمانين ألف درهم نقره واستخدم على سائر بلاد صفد، وعمل بها جامعا في القلعة وجامعا بالربض ووقف على المجنون نصف وربع الحباب، وللربع الآخر على الشيخ إلياس، ووقف قرية منها على قبر خالد بن الوليد بحمص.
وفي سابع عشريه: رحل السلطان من صفد إلى دمشق، فنزل الجسورة وأمر ألا يدخل أحد من العسكر إلى دمشق، بل يبقي العسكر على حاله حتى يسير إلى سيس ودخل السلطان إلى دمشق جريدة، فبلغه أن جماعة من العسكر قد دخلوا إلى دمشق، فأخرجهم مكتفين بالحبال. وأقام الملك المنصور صاحب حماة مقدما على العساكر وسيرهم معه، وفيهم الأمير عز الدين أوغان، والأمير قلاوون، فسارو في خامس ذي القعدة إلى سيس.
وفي ثالث ذي القعدة: مات كرمون أغا.
وفي ثامنه: أنعم السلطان على أمراء دمشق وقضاتها وأرباب مناصبها بالتشاريف، ونظر في أمر جامع دمشق، ومنع الفقراء من المبيت فيه، وأخرج ما كان به من الصناديق التي كانت للناس.
وفي عاشره: جلس الأتابك هو والأمير جمال الدين النجيبي نائب دمشق لكشف ظلامات الناس والتوقيع على القصص، بدار السعادة. وخرج السلطان للصيد فضرب عدة حلق، وسار إلى جرود ثم إلى أفامية، وجهز السلطان إلى مصر شخصا كان قد حضر إلى دمشق وادعي إنه مبارك بن الإمام المستعصم وصحبته جماعة من أمراء العربان، فلم يعرفه جلال الدين بن الدوادار ولا الطواشي مختار، وتبين كذبه فسير إلى مصر تحت الاحتياط، وجهز السلطان بعده شخصا آخر أسود إلى مصر، ذكر إنه من أولاد الخلفاء، فسير إلى مصر أيضاً، وكان قد وصل إلى دمشق في ذي القعدة.
وفيه استولي السلطان على هونين وتبنين وعلى مدينة الرملة، فعمرها وصير لها عملا وولي فيها. وفيه أبطل السلطان ضمان الحشيشة الخبيثة، وأمر بتأديب من أكلها، وقدم رسول الاسبتار ملك الفرنج، يسأل استقرار الصلح على بلادهم من جهة حمص وبلاد الدعوة، فقال السلطان: لا أجيب إلا بشرط إبطال ما لكم من القطائع على مملكة حماة وهي أربعة آلاف دينار، وما لكم من القطيعة على بلاد أبي قبيس وهي ثمانمائة دينار، وقطيعتكم على بلاد الدعوة وهي ألف ومائتا دينار ومائة مد حنطة وشعير نصفين. فأجابوا إلى إبطال ذلك، وكتبت الهدنة وشرط فيها الفسخ للسلطان متى أراد، ويعلمهم قبل بمدة. وورد الخبر بأن فرنج عكا وجدوا أربعة من المسلمين في طين شيحا فشنقوهم، فرسم السلطان بالإغارة على بلاد الفرنج، فقتلت العساكر منهم فوق المائتين، وساقوا جملة من الأبقار والجواميس وعادوا. وورد كتاب والي قوص إنه وصل إلى عيذاب، وبعث عسكرا إلى سواكن، ففر صاحب سواكن، ففر صاحب سواكن، وعادوا إلى قوص وقد تمهدت البلاد، وصارت رجال السلطان بسواكن.(1/184)
وفي يوم الإثنين النصف من ذي الحجة: جلس الأمير عز الدين الحلي نائب السلطنة بديار مصر، ومعه الصاحب بهاء الدين والقضاة، بدار العدل على العادة: وإذا بإنسان يخرق الصفوف وبيده قصة حتى وقف قدام الأمير، ووثب عليه بسكين أخرجها من تحت ثيابه، وطعنه في حلقه. فأمسك الأمير بيده فجرحها، ورفسه برجله ونام على ظهره، فوقع المجرم وقصد أن يضرب الأمير ضربة أخرى، أو يضرب الصاحب، فرجعت السكين في فؤاد الأمير صارم الدين المسعودي، فمات من ساعته، فقام الأمير فخر الدين والي الجيزة وقبض عليه ورماه، فوقع على قاضي القضاة، وأخذته السيوف حتى هلك. وحمل الأمير عز الدين الحلي إلى داره بالقلعة، وحضر المزينون إليه فوجدوا الجرح بين البلعوم والمنحر، وكان الذي ضربه جندار به شعبة من جنون، وتعاطي أكل السمنة فقوي جنه وكتب بهذا الحادث إلى السلطان، فوافاه الخبر وهو راجع من أفامية، فشق عليه ذلك وقال: والله يهون على موت ولدي بركة، ولا يموت الحلي. فقال له الأتابك: يا خوند والله طيبت قلوبنا إذا كنت تشتهي لو فديت غلاما من غلمانك بولدك وولي عهدك. ثم ورد الخبر بعافية الحلي مع مملوكه، فخلع عليه السلطان وأعطاه ألف دينار، وأعطي رفيقه ثلاثة آلاف درهم نقرة، وأحسن إلى ورثة الصارم المسعودي.
وأما الملك المنصور ومن معه، فإنهم ساروا إلى حصن دير بساك ودخلوا الدربند، وقد بني التكفور هيتوم بن قسطنطين بن باساك ملك الأرمن على رءوس الجبال أبراجا وهو الذي تزهد فيما بعد، وترك الملك لولده ليفون فاستعد ووقف في عسكره، فعندما التقى الفريقان أسر ليفون ابن ملك سيس، وقتل أخوه وعمه، وانهزم عمه الآخر، وقتل ابنه الآخر، وتمزق الباقي من الملوك وكانوا اثني عضو ملكا وقتلت أبطالهم وجنودهم. وركب العسكر أقفيتهم وهو يقتل ويأسر ويحرق، وأخذ العسكر قلعة حصينة للديوية، فقتلت الرجال وسبيت النساء وفرقت على العسكر وحرقت القلعة بما فيها من الحواصل. ودخلوا سيس فأخرجوها وجعلوا عاليها سافلها، وأقاموا أياما يحرقون ويقتلون ويأسرون. وسار الأمير أوغان إلى جهة الروم، والأمير قلاوون إلى المصيصة وأذنة وأياس وطرسوس، فقتلوا وأسروا وهدموا عدة قلاع وحرقوا هذا وصاحب حماة مقيم بسيس، ثم عادوا إليه وقد اجتمع معهم من الغنائم ما لا يعد ولا يحصى، حتى أبيع رأس البقر بدرهمين و لم يوجد من يشتريه.
فورد الخبر بذلك والسلطان في الصيد بجرود، فأعطي المبشر ألف دينار وإمره طبلخاناه. ودخل السلطان إلى دمشق، وتجهز وخرج للقاء العسكر في ثالث عشر ذي الحجة فشكي إليه وهو بقارا من أهلها وهم نصارى: إنهم يتعدون على أهل الضياع، ويبيعون من يقع إليهم إلى الفرنج بحصن عكا، فأمر العسكر بنهبهم فنهبوا، وقتل كبارهم وسبي النساء والأولاد، وقدم عليه العسكر المجهز إلى سيس، وقدموا له نصيبه من الغنائم ففرق الجميع على عساكره، وأحسن إلى متملك سيس ومن معه من الأسري. وعاد السلطان إلى دمشق في رابع عشريه ومتملك سيس بين يديه وخلع على الأمراء والملوك والأجناد، فامتلأت بالمكاسب، وأبيع من الجواهر والحلي والدقيق والحرير ما لا يحصي كثرة، و لم يتعرض السلطان لشيء من ذلك، وعاد صاحب حماة إلى مملكته، بعد ما أنعم عليه السلطان بكثير من الخيول والأموال والخلع. وفيها قدمت رسل الملك أبغا بن هولاكو بهدايا وطلب الصلح وفيها أمر السلطان بجمع أصحاب العاهات، فجمعوا بخان السبيل ظاهر باب الفتوح من القاهرة، ونقلوا إلى مدينة الفيوم وأفردت لهم بلدة تغل عليهم ما يكفيهم، فلم يستقروا بها وتفرقوا ورجع كثير منهم إلى القاهرة وفيها اشتد إنكار السلطان للمنكر، وأراق الخمور وعفي آثار المنكرات، ومنع الحانات والخواطىء بجميع أقطار مملكته. بمصر والشام، فطهرت البقاع من ذلك. وقال القاضي ناصر الدين أحمد بن محمد بن منصور بن أبي بكر بن قاسم بن محتار بن المنير قاضي الإسكندرية، لما وردت إليه المراسيم بالإسكندرية وعفي متوليها أثر المحرمات:
ليس لإبليس عندنا أرب ... غير بلاد الأمير مأواه
حرمته الخمر والحشيش معا ... حرمته ماءه ومرعاه
وقال أبو الحسين الجزار:
قد عطل الكوب من حبابه ... وأخلي الثغر من رضابه
وأصبح الشيخ وهو يبكي ... على الذي فات من شبابه(1/185)
وفيها قدم على بن الخليفة المستعصم من الأسر عند التتار.
؟؟ومات في هذه السنة من الأعيان
الأمير جمال الدين أيدغدي العزيزي، بعد فتح صفد.
وتوفي الصاحب شرف الدين أبو محمد عبد الرحمن بن أمين الدين أبي الغنائم سالم بن الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن صصري التغلبي الدمشقي، ناظر الدواوين بها، عن تسع وستين سنة.
وتوفي جمال الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الجليل بن عبد الكريم الموقاني المقدسي الشافعي، المحدث الأديب.
سنة خمس وستين وستمائة
في المحرم: بعث السلطان الأمير سيف الدين بكتمر الساقي، والأمير شهاب الدين بوزيا، في عدة من العسكر ورجال جبلية فقطعوا أقصاب الفرنج، وعادوا إلى صفد. وفيه قدمت نجدة للفرنج من قبرص، وعدتها نحو ألف ومائة فارس، وأغاروا على بلد طبرية، فخرج العسكر إلى عكا، وواقع الفرنج فقتلوا منهم كثيراً، وانهزم الباقي إلى عكا وعمل فيها عزاء من قتل.
وفي ثانية: خرج السلطان من دمشق بعساكره إلى الفوار يريد الديار المصرية، وسار منه جريدة إلى الكرك ونزل ببركة زيزاء، وركب ليتصيد فتقطر عن فرسه في ثامنه، وتأخر هناك أياما حتى صلح مزاجه، وأكثر من الإنعام على جميع عساكره وأمرائه بجميع كلفهم من غلات الكرك، وعم بذلك الخواص والكتاب، وفرق فيهم جملا كثيرة من المال. واستدعى السلطان أمراء غزة وأحسن إليهم، وطلب الأمير عز الدين أيدمر نائب الكرك وأعطاه ألف دينار وخلع عليه، وسير الخلع إلى أهل الكرك ثم سار في محفة على أعناق الأمراء والخواص إلىغزة، وسار منها إلى بلبيس، فتلقاه ابنه بركة في ثالث صفر ومعه الأمير عز الدين الحلي، وزينت القاهرة، فلم يزل السلطان موعوكا إلى غرة شهر ربيع الأول، فركب الفرس وضربت البشائر لعافيته، وسار إلى باب النصر فأقام هناك إلى خامسه.
وصعد السلطان إلى القلعة، وقدم عليه رسول التكفور هيتوم صاحب سيس يشفع. في ولده للسلطان، ففك قيده في ثاني عشريه وكتب له موادعة على بلاده إلى سنة، وركب مع السلطان لرماية البندق في بركة الجب.
وفي آخر ربيع الأول: بعث السلطان الأتابك فارس الدين أقطاي المستعرب، والصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين بن حنا، لكشف مكان يعمله جامعا بالحسينية. فسارا واتفقا على مناخ الجمال السلطانية، فلما عادا قال السلطان: لا والله لا جعلت الجامع مكان الجمال، وأولى ما جعلت ميداني الذي ألعب فيه الكرة وهو نزهتي جامعً وركب السلطان في ثامن ربيع الآخر ومعه الصاحب بهاء الدين والقضاة إلى ميدان قراقوش، ورتب بناءها جامعا، وأن يكون بقية الميدان وقفا عليه. عاد إلى المدرسة التي أنشأها بين القصرين، وقد اجتمع بها الفقهاء والقراء، فقال: هذا مكان جعلته لله تعالى، فإذا مت لا تدفنوني هنا، ولا تغيروا معالم هذا المكان. وصعد إلى القلعة.
وفيه وردت مكاتبة المنصور صاحب حماة، يستأذن في الحضور إلى مصر ليشاهد عافية السلطان، فأجيب إلى ذلك وقدم في سابع عشريه. فخرج السلطان إلى لقائه بالعباسية، وبعث إليه وإلى من معه التشاريف، وعاد إلى القلعة. فسأل المنصور الإذن بالمسير إلى الإسكندرية فأذن له، وسار معه الأمير سنقرجاه الظاهري، وحملت له الإقامات حتى عاد.(1/186)
وفي يوم الجمعة ثامن عشر ربيع الآخر: أقيمت الجمعة بالجامع الأزهر من القاهرة، وكانت قد بطلت منه منذ ولي قضاء مصر صدر الدين عبد الملك بن درباس، عن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب وقد ظل كذلك إلى أن سكن الأمير عز الدين أيدمر الحلي بجواره، فانتزع كثيرا من أوقاف الجامع كانت مغصوبه بيد جماعة، وتبرع له بمال جزيل، واستطلق له من السلطان مالا، وعمر الواهي من أركانه وجدرانه وبيضه وبلطه ورم سقوفه، وفرشه واستجد به مقصورة وعمل فيه منبرا، فتنازع الناس فيه هل تصح إقامة الجمعة فيه أم لا، فأجار ذلك جماعة من الفقهاء، ومنع منه قاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز وغيره، فشكي الحلي ذلك إلى السلطان، فكلم فيه قاضي القضاة فصمم على المنع، فعمل الحلي بفتوى من أجاز ذلك وأقام فيه الجمعة. وسأل السلطان أن يحضر فامتنع من الحضور ما لم يحضر قاضي القضاة، فحضر الأتابك والصاحب بهاء الدين وعدة من الأمراء والفقهاء، ولم يحضر السلطان ولا قاضي القضاة تاج الدين. وعمل الأمير بدر الدين بيليك الخازندار بالجامع مقصورة، ورتب فيها مدرسا وجماعة من الفقهاء على مذهب الشافعي، ورتب محدثا يسمع بالحديث النبوي والرقائق، ورتب سبعة لقراءة القرآن العظيم، وعمل على ذلك أوقافا تكفيه.
وفي جمادى الآخرة: وصلت رسل الدعوة بجملة من الذهب، وقالوا: هذا المال الذي كنا نحمله قطيعة للفرنج قد حملناه لبيت مال المسلمين، لينفق في المجاهدين. وقد كان أصحاب بيت الدعوة فيما مضى من الزمان يقطعون مصانعات الملوك، ويجبون القطعة من الخلفاء، ويأخذون من مملكة مصر القطعة في كل سنة، فصاروا يحملون القطيعة لذلك الظاهر لقبامه بالجهاد في سبيل الله.
وفيه عمرت قلعة قاقون عوضاً عن قيسارية وأرسوف، وعمرت الكنيسة التي كانت للنصارى هناك جامعا. وسكن هناك جماعة فصارت بلدة عامرة بالأسواق، وفيه أمر السلطان باستخراج الزكاة من سائر الجهات: فاستخرج من بلاد المغرب زكاة مواشيهم وزكاة زروعهم، واستخرج من جهات سواكن وجزائرها الزكاة. وبعث السلطان إلى الحجاز الأمير شكال بن محمد، فطلب العداد من الأمير جماز أمير المدينة النبوية، فدافعه فمضى إلى بني خالد يستعين بهم على عرب جماز، ثم خاف وبعث إلى السلطان يطلب إرسال من يستخلفه على استخراج حقوق الله.
وفي سابع عشريه: توجه السلطان في جماعة من أمرائه إلى الشام، وترك أكثر العساكر بالديار المصرية. و كان معه المنصور صاحب حماة، فنزل السلطان غزة، ومضى صاحب حماة إلى مملكته بعد زيارة القدس فقدمت رسل الفرنج على السلطان بغزه، ومعهم الهدايا وعدة من أسري المسلمين، فكسا الأسري وأطلقهم. ورحل السلطان إلى صفد، فورد الخبر عليه هناك بتوجه التتار إلى الرحبة، فسار إلى دمشق مسرعا فدخلها في رابع عشر رجب، وجاء الخبر بقدوم التتار إلى الرحبة، وأن أهلها قتلوا وأسروا منهم كثيرا وهزموهم، فأقام بدمشق خمسة أيام، وعاد إلى صفد في رابع عشريه. ورتب السلطان أمر عمارة صفد، وقسم خندقها على الأمراء، وأخذ لنفسه نصيبا وافرا عمل فيه بنفسه، فتبعه الأمراء والناس في العمل ونقل الحجارة ورمي التراب وصاروا يتسابقون، فوردت عليه رسل الفرنج يطلبون الصلح، فرأوا الاهتمام في العمارة.
ثم إنه بلغه في بعض تلك الأيام أن جماعة من الفرنج بكما تخرج منها غدوة وتبقي ظاهرها إلى صحوة، فسري ليلة ببعض عسكره و أمر بالركوب خفية فركب وقد اطمأن الفرنج، فلم يشعروا به إلا وهو على باب عكا، ووضع السيف في الفرنج، وصارت الرءوس تحمل إليه من كل جهة، وكان الحر، فعملت عباءة على رمح ليستظل بها، وبات تلك الليلة وأصبح على حاله، ثم عاد إلى صفد، وقدمت رسل سيس بالهدية، فرأوا رسل الفرنج ورأوا رءوس القتلى على الرماح. وقدمت الأسري من هذه الغارة فضربت أعناقهم، وطلب السلطان رسل الفرنج وقال لهم: هذه الغارة في مقابلة غارتكم على بلاد الشقيف وردهم من غير إجابتهم إلى الصلح.(1/187)
ثم ركب السلطان في حادي عشري شعبان وساق من صفد إلى عكا، فلما علم به الفرنج حتى وقف على أبوابها، فقسم البنائين والحجارين والناس على البساتين والأبنية والآبار لهدمها، فاقتسموا ذلك وشرعوا في الهدم وقطع الأشجار. وعمل السلطان اليزك بنفسه على باب عكا، وصار واقفا على فرسه وبيده رمح مدة أربعة أيام، حتى تكامل الإحراق والهدم وقطع الأشجار. ثم رجع إلى صفد، فوردت رسل سيس ورسل بيروت فأجيبوا عن مقاصدهم.
وفي شهر رمضان: وردت رسل صور يطلبون استمرار الهدنة، فأجيبوا إلى الصلح، وكتبت هدنة لمدة عشر سنين لصور وبلادها وهي مائة قرية إلا قرية بعد ما أحضروا دية السابق شاهين الذي قتلوه لأولاده وهي خمسة عشر ألف دينار صورية، قاموا بنصفها وأمهلوا بالباقي وأحضروا أيضاً عدة أسري مغاربة. وقدمت رسل بيت الاسبتار من الفرنج يطلبون الصلح على حصن الأكراد والمرقب، فأجيبوا وتقررت الهدنة لعشر سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام وعشر ساعات، وبطلت القطائع عن بلاد الدعوة وعن حماة وشيزر وأفامية وعن أبي قبيس، وقد تقدم ذلك، وبطل أيضاً ما كان على عيناب، وهو خمسمائة دينار صورية وعن كل فدان مكوكان غلة وستة دراهم.
وقدم الشريف بدر الدين ملك بن منيف بن شيحة من المدينة النبوية يشكو من الشريف جماز أمير المدينة، وأن الإمرة كانت نصفين بين أبيه ووالده جماز. فكتب لجماز أن يسلمه نصف الإمرة، وكتب له تقليد بذلك وبنصف أوقاف المدينة النبوية التي بالشام ومصر وسلمت إليه، فامتثل جماز ما رسم به.
وفي ذي الحجة: نزحت بئر السقاية التي بالقدس حتى اشتد عطش الناس بها، فنزل شخص إلى البئر فإذا قناة مسدودة، فأعلم الأمير علاء الدين الحاج الركني نائب القدس، فأحضر الأمير بنائين وكشف البناء، فأفضي بهم في قناة إلى تحت الصخرة، فوجدا هناك بابا مقنطرا قد سد، ففتحوه فخرج منه ماء كاد يغرقهم، فكتب بذلك إلى السلطان، وإنه لما نقص ماء السقاية دخل الصناع فوجدوا سدا نقب فيه الحجارون قدر عشرين يوما، ووجد سقف مقلفط فنقب فيه قدر مائة وعشرين ذراعا بالعمل، فخرج الماء وملأ القناة.
وفي هذه السنة: أنشأ السلطان قنطرة على بحر أبي المنجا بناحية ببسوس وتولي عملها الأمير عز الدين أيبك الأفرم، فجاءت من أعظم القناطر. وفيها أنشأ السلطان القصر الأبلق بدمشق بالميدان الأخضر على نهر بردي، فتولي عمل ذلك الأمير أقوش النجيبي نائب دمشق، فعمره بالرخام الأبيض والأسود، وجعل جانبا عظيما منه تحف به البساتين والأنهار من كل ناحية، ولم يعمل بدمشق قبله مثله. ومازال عامرا تنزله الملوك إلى أن هدمه تيمورلنك في سنة ثلاث وثمانمائة، عند حريق دمشق وخرابها.
وفيها جلس منكوتمر بن طغان بن باتوتان بن دوشي خان بن جنكيزخان على كرسي مملكة القفجاق صراي، عوضاً عن الملك بركة خان بن دوشي خان بن جنكيزخان، بعد وفاته هذه السنة. وكان بركة خان قد مال إلى دين الإسلام، وهو أعظم ملوك التتر، وكرسي مملكته مدينة صراي.
وفيها مات قاضي القضاة تاج الدين أبو محمد عبد الوهاب بن خلف بن أبي القاسم العلامي الشافعي، المعروف بابن بنت الأعز، في سابع عشري شهر رجب، من إحدى وخمسين سنة، فولي قضاء القاهرة والوجه البحري تقي الدين محمد بن الحسين بن رزين الشافعي، وولي قضاء مصر محيي الدين عبد الله بن شرف الدين محمد بن عبد الله بن الحسن بن عبد الله بن على بن صدقة بن حفص، المعروف بابن عين الدولة، في يوم الخميس تاسع شعبان،. بمرسوم ورد عليه عقيب وفاة تاج الدين ابن بنت الأعز، بأن يتولى قضاء مصر والوجه القبلي. وفيها حج الأمير الحلي، وتصدق بمال بعثه به السلطان الملك الظاهر، وحج الصاحب محيي الدين بن الصاحب بهاء الدين بن حنا.
ومات في هذه السنة الأمير ناصر الدين حسن بن عزيز القيمري، نائب السلطنة بالساحل.
وتوفي شهاب الدين أبو القاسم عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم بن عثمان المعروف بأبي شامة المقدسي الشافعي، بدمشق عن ست وستين سنة.
؟سنة ست وستين وستمائة(1/188)
في صفر: وردت الزكاة والعشر من المدينة النبوية، وعدتها مائة وثمانون جملا ومبلغ عشرة آلاف درهم، فاستقل السلطان ذلك وأمر برده، فورد بنو صخر وبنو لام وبنو عنزة من عرب الحجاز، والتزموا بزكاة الغنم والإبل، فبعث السلطان معهم شادين لاستخراج ذلك. وفيه قسمت عمارة صفد على الأمراء، وأخذ السلطان لنفسه نصيبا وافرا، وأقيم في عمارة القلعة وأبراجها الأمير سيف الدين الزيني، وعمل لها أبواب سر إلى الخندق، فلما كملت كتب على أسوارها: " ولقد كتبنا في الزبور من الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون " " ألا إن حزب الله هم المفلحون " أمر بتجديد هذه القلعة وتحصينها، وتكميل عمارتها، وبعد ما خلصها من أسر الفرج الملاعين، وردها إلى يد المسلمين ونقلها من حوزة الدنيوية إلى حوزة المؤمنين، وأعادها إلى الإيمان كما بدا بها أول مرة، وجعلها للكفار خسارة وحسرة، واجتهد وجاهد حتى بدل الكفر بالإيمان والناقوس بالأذان والإنجيل بالقرآن، ووقف بنفسه حتى حمل تراب خنادقها وحجارتها منه بنفسه وبخواصه على الرءوس، السلطان الملك الظاهر أبو الفتح بيبرس، فمن صارت إليه هذه القلعة من ملوك الإسلام، ومن سكنها من المجاهدين، فليجعل له نصيبا من أجره، ولا يخله من الترحم في سره وجهره، فقد صار يقال عمر الله صرحها، بعد ما كان يقال عجل الله فتحها، والعاقبة للمتقين إلى يوم الدين.
وفيه كتب السلطان إلى الملك منكوتمر القائم مقام الملك بركة، بالتعزية والإغراء بولد هولاكو وفيه رسم السلطان بعمارة مسجد الخليل عليه السلام، فتوحه الأمير جمال الدين بن نهار لعمل ذلك، حتى أنهي عمارته. وفيه سار السلطان من صفد إلى القاهرة، فدخل قلعة الجبل سالما في وقدمت رسل السلطان المظفر شمس الدين يوسف بن عمر بن رسول الملك اليمني، بعشرين فرسا عليها لامة الحرب، وفيلة وحمارة وحشية عنابية اللون وعدة تحف وطرف، فجهزت له خلعة وسنجق، وهدية فيها قميص من ملابس السلطان كان قد سأل فيه ليكون له أمانا، وسير إليه أيضاً جوشن وغيره من آلة الحرب، وقيل له: قد سيرنا إليك آلة السلم وآلة الحرب مما لاصق جسدنا في مواطن الجهاد وكتب له المقام العالي المولوي السلطاني، وكتب له السلطان بخطه المملوك.
وفيه اجتاز السلطان على السدير قرب العباسية، فأعجبه فاختار منه مكانا بني فيه قرية سماها الظاهرية، وعمر بها جامعا. وبينا هو في الصيد هناك إذ بلغه حركة التتار على حلب، فعاد إلى القلعة وأمر بخروج الخيام. فلم يعجبه خيام جماعة فأدبهم وجرسهم. وخرج البريد إلى الشام بتجهيز العساكر، فلما خرجوا وساروا إلى بانياس أخرج البريدي كتبا مختومة باسم الأمير علم الدين الحصني والأمير بدر الدين الأتابكي، وفيها منازلتهم للشقيف، فلم يشعر الفرنج إلا بالعساكر على قلعة الشقيف.
وسار السلطان من مخيمه بباب النصر في ثالث جمادى الآخرة إلى غزة، فبلغه عن جماعة من الجمالين إنهم تعرضوا إلى زرع فقطع أنوفهم، وبلغه عن الأمير علم الدين سنجر الحموي إنه ساق في زرع، فأنزله عن فرسه وأعطاه بما عليه من السرج واللجام لصاحب الزرع ثم رحل السلطان إلى العوجاء.
فلما كان يوم العشرين منه: ساق السلطان من العوجاء إلى يافا، وحاصرها حتى ملكها من يومه، وأخذ قلعتها وأخرج من كان فيها، وهدمها كلها وجمع أخشابها ورخامها وحمله في البحر إلى القاهرة، فعمل من الخشب مقصورة الجامع الظاهري بالحسينية، ومن الرخام بحرابه. وأمر السلطان ببناء الجوامع بتلك البلاد، وأزال منها ومن قرية المنكرات، ورتب الخفراء على السواحل وألزمهم بدركها. ورسم أن المال المتحصل من هذه البلاد لا يخلط بغيره، وجعله لمأكله ومشربه. وأعطي الأمير علاء الدين الحاج طيبرس منها قرية، وأعطي الأمير علم الدين سنجر الحموي قرية، وملكهما إياهما وأنزل التركمان بالبلاد الساحلية لحمايتها، وقرر عليهم خيلا وعدة، فتجدد له عسكر بغير كلفة، وفيه رسم بتجديد عمارة الخليل عليه السلام، ورسم أن يكون عمل الخوان الذي يمد ناصية عن مسجد الخليل.(1/189)
وجهز السلطان عسكرا إلى الشقيف، ثم سار إليها بنفسه فنزل عليها في يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رجب، وقدم الفقهاء للجهاد، ونصب السلطان عليها ستة وعشرين منجنيقا، وألح عليها حتى أخذها يوم الأحد سلخ رجب، وأخرج منها نساء الفرنج وأولادهم إلى صور، وقيد الرجال كلهم وسلمهم للعساكر. وهدم السلطان قلعة استجدها الفرنج هناك، واستناب على القلعة الأخرى الأمير صارم الدين قايماز الكافري، ورتب بها الأجناد والرجالة، وقرر فيها قاضيا وخطيبا، وولي أمر عمارتها الأمير سيف الدين بلبان الزيني. وفيه وردت كتب من الكرج.
وفي شعبان: وصل رسول صاحب بيروت بهدية وتجار كانوا قد أخذوهم في البحر من سنين، فما زال السلطان حتى خلصهم وخلص أموالهم.
وفي عاشره: رحل السلطان من الثقيف إلى قرب بانياس، وبعث الأثقال إلى دمشق وجهز الأمير عز الدين أوغان بجماعة لجهة، وجهز الأمير بدر الدين الأيدمري في جماعة إلى جهة أخرى، فحفظت العساكر الطرقات.
ثم سار السلطان إلي، طرابلس وخيم عليها في النصف منه، وناوش أهلها القتال وأخذ برجا كان هناك، وضرب أعناق من كان من الفرنج، وأغارت العساكر على من في تلك الجبال، وغنموا شيئا كثيرا وأخذوا عدة مغاير بالسيف، وأحضروا المغانم والأسري إلى السلطان فضرب أعناق الأسري، وقطع الأشجار وهدم الكنائس، وقسم الغنائم في العسكر.
ودخل السلطان عن طرابلس في رابع عشريه، فتلقاه صاحب صافيتا وأنطرسوس بالخدمة، وأحضر ثلاثمائة أسير كانوا عنده، فشكره السلطان ولم يتعرض لبلاده، ونزل السلطان على حمص، وأمر بإبطال الخمر والمنكرات. ثم دخل إلى حماة ولا يعرف أحد أي جهة يقصد، فرتب العسكر ثلاث فرق: فرقة صحبة الأمير بدر الدين الخازندار، وفرقة مع الأمير عز الدين إيغان، وفرقة مع السلطان، فتوجه الخازندار إلى السويدية، وتوجه إيغان إلى درب بساك، فقتلوا وأسروا، ونزل السلطان أفامية، ووافاه الجميع على أنطاكية.
وأصبح أول شهر رمضان: والسلطان مغير على أنطاكية، وأطاقت العساكر بها من كل جانب، فتكملوا بخيامهم في ثالثه. وبعث السلطان إلى الفرنج يدعوهم وينذرهم بالزحف عليهم، وفاوضهم في ذلك مدة ثلاثة أيام وهم لا يجيبون، فزحف عليها وقاتل أهلها قتالا شديدا، وتسور المسلمون الأسوار من جهة الجبل بالقرب من القلعة، ونزلوا المدينة ففر أهلها إلى القلعة، ووقع النهب والقتل والأسر في المدينة، فلم يرفع السيف عن أحد من الرجال وكان بها فوق المائة ألف، وأحاط الأمراء بأبواب المدينة حتى لا يفر منها أحد، واجتمع بالقلعة من المقاتلة ثمانية آلاف سوي النساء والأولاد، فبعثوا يطلبون الأمان فأمنوا، وصعد السلطان إليهم ومعه الحبال، فكتفوا وفرقوا على الأمراء، والكتاب بين يدي السلطان ينزلون الأسماء.
وكانت أنطاكية للبرنس بيموند بن بيموند، وله معها طرابلس، وهو مقيم بطرابلس وكتبت البشائر بالفتح إلى الأقطار الشامية والمصرية والفرنجية، وفي الجملة كتاب إلى صاحب أنطاكية وهو يومئذ مقيم بطرابلس وهو من إنشاء ابن عبد الظاهر رحمه الله تعالي.
وسلم السلطان القلعة إلى الأمير بدر الدين بيليك الخازندار والأمير بدر الدين بيسري الشمسي، وأمر بإحضار المغانم لتقتسم، وركب وأبعد عن الخيام وحمل ما غنمه وما غنمته مماليكه وخواصه، وقال: والله ما خبأت شيئا مما حمل إلى ولا خليت مماليكي يخبئون شيئا، ولقد بلغني أن غلاما لأحد مماليكي خبأ شيئا لا قيمة له فأدبته الأدب البالغ، ويتبقى لكل أحد منكم أن يخلص ذمته، وأنا أحلف الأمراء والمقدمين، وهم يحلفون أجنادهم ومضافيهم. فأحضر الناس الأموال والمصاغ الذهب والفضة حتى صارت تلا بها، وقسمت في الناس، وطال الوزن فقسمت النقود بالطاسات، وقسمت الغلمان على الناس، فلم يبق غلام إلا وله غلام، وتقاسم النساء والبنات والأطفال، وأبيع الصغير باثني عشر درهما والجارية بخمسة دراهم، وأقام السلطان يومين وهو يباشر القسمة بنفسه، وقصر الناس في إحضار الغنائم فعاد السلطان مغضبا، فلم تزل الأمراء به يلتزمون بالاجتهاد والاحتراز ويعتذرون إليه، حتى وقف على فرسه وما ترك شيئا حتى قسمه.(1/190)
ثم ركب السلطان إلى القلعة وأحرقها، وعم بالحريق أنطاكية، فأخذ الناس من حديد أبوابها ورصاص كنائسها ما لا يوصف كثرة، وأقيمت الأسواق خارج المدينة، فقدم التجار من كل جهة. وكان بالقرب من أنطاكية عدة حصون، فطلب أهلها الأمان، فتوجه إليهم الأمير بيليك الأشرفي وتسلمها في حادي عشره، وأسر من فيها من الرجال.
وكان التكفور هيتوم ملك سيس لم يزل يسأل في إطلاق ولده ليفون، ويعرض في فدائه الأموال والقلاع، وكان التتر قد أسروا الأمير شمس الدين سنقر الأشقر من حلب، لما ملكوها من الملك الناصر، فاقترح السلطان على سيس إحضار سنقر عوضاً عن ولده ورد القلاع التي أخذها من مملكة حلب، وهي بهسنا ودربساك ومرزبان ورعبان وشبح الحديد، فسأل هيتوم المهلة سنة إلى أن يبعث إلى الأرذو فلما كان في هذه الأيام، بعث هيتوم إلى السلطان بأنه وجد سنقر، وأنه أجيب إلى إطلاقه، فكتب إليه بإحضاره. فأحضر هيتوم كتاب سنقر إلى السلطان بأماير، إلا إنه غير قوله في تسليم القلاع، فكتب إليه. إذا كنت تقسو على ولدك وولي عهدك، فأنا أقسو على صديق ما بيني وبينه نسب، ويكون الرجوع منك لا مني. ونحن خلف كتابنا، فمهما شئت افعل بسنقر الأشقر " فلما وصلت إليه الكتب من أنطاكية خاف، وتقرر الصلح على تسليم قلعة بهسنا ودر بساك وكل ما أخذه من بلاد الإسلام، وأن يرد الجميع بحواصلها كما تسلمها، ويطلق سنقر الأشقر، ويطلق السلطان ولده وابن أخيه وغلمانهما، وأنه يحضر رهينة حتى يتسلم السلطان القلاع، فكتبت الهدنة بأنطاكية، وتوجه الأمير بلبان الرومي للدوادار، والصدر فتح الدين بن القيسراني كاتب الدرج. لاستحلافه، وتوجه الأمير بدر الدين يحكا الرومي لإحضار الملك ليفون من مصر على البريد في ليلة الثالث عشر من رمضان، فوصل إلى القاهرة وخرج منها ثاني يوم دخوله بالملك ليفون، فوصل إلى دمشق ليلة الإثنين سادس عشريه، فكان بين خروجه من أنطاكية وعوده إلى دمشق ثلاثة عشر يوما، وحلف التكفور هيتوم صاحب سيس في سابع عشريه، فانتظم الصلح.
ورحل السلطان من أنطاكية إلى شيزر، وسار منها على البرية إلى حمص وهو يتصيد فدخل حماة في ثلاثة نفر: وهم الأمير بيسري، والأمير بدر الدين الخازندار، والأمير حسام الدين الدوادار، ونزل العسكر حماة. ثم سار السلطان من حمص إلى دمشق، فدخلها في سادس عشريه، والأسري بين يديه و ليفون ابن صاحب سيس في خدمته، فأحسن إليه، وحلف ليفون للسلطان في ثالث شوال على النسخة التي حلف عليها أبوه، وهو قائم مكشوف الرأس، وسار إلى بلاده في حادي عشره صحبة الأمير بجكا على البريد، حتى قرره في مملكته. ووصلت الرهائن فأحسن السلطان إليهم وأكرمهم، ومازالوا إلى أن تسلم نواب السلطان القلاع من أهل سيس، فأعيدت الرهائن إليهم بما أنعم عليهم، وعندما وصل ليفون إلى سيس أطلق سنقر الأشقر، وبعث به إلى السلطان فتلقاه السلطان وهو في الصيد من غير أن يعرف أحد بقدومه، وقدم به وهو مختف وأنزله عنده في الدهليز، وبات معه. فلما أصبح، واجتمع الناس في الخدمة، خرج السلطان ومعه سنقر الأشقر، فبهت الناس لرؤيته، وأخرج له السلطان المال والخلع والحوائص، والخيل والبغال والجمال والمماليك، وسائر ما يحتاج إليه، وحمل إليه الأمراء التقادم، وبالغ السلطان في الإحسان إليه، وبني له دارا بقلعة الجبل ولما حضر سنقر إلى القاهرة أعطاه السلطان إمرة، وعمله من خواصه.(1/191)
وفي ثالث عشره: تسلم الأمير شمس الدين آقسنقر الفارقاني أستادار السلطان حصن بفراس من الفرنج الداويه و كانوا قد فروا عنها وتركوا الحصن خاليا حتى لم يبق بها سوي عجوز واحد، فوجدها الأمير شمس الدين عامرة بالحواصل والذخائر، وفيه وردت رسل صاحب عكا بهدية فحصل الاتفاق على أن تكون حيفا للفرنج ولها ثلاث ضياع، وأن تكون مدينة عكا وبقية بلادها مناصفة هي وبلاد الكرمل، وأن بلاد صيدا الوطاة للفرنج والجبليات للسلطان، وأن الهدنة لعشر سنين، وأن الرهائن تطلق وبعث السلطان لصاحب عكا هدية فيها عشرون نفسا من أسري أنطاكية، وتوجه القاضي محيي الدين عبد الظاهر والأمير كمال الدين بن شيت لاستحلافه، فدخلا عكا في عشري شوال، وقد وصاهما السلطان ألا يتواضعا له في جلوس ولا مخاطبة، فلما دخلا كان الملك على كرسي، فلم يجلسا حتى وضع لهما كرستين جلسا عليهما قبالته، ومد الوزير يده ليأخذ الكتاب فلم يرضيا حتى مد الملك يده وأخذه، و لم يوافق على أشياء فتركوه ولم يحلف.
وفي ثامن عشر ذي القعدة: خرج السلطان من دمشق وسار إلى القاهرة، فخرج الملك السعيد إلى أم الباردة وهي السعيدية، وعيد مع السلطان بها. وسارا إلى قلعة الجبل في حادي عشر ذي الحجة، وحمل السلطان عن الناس كلفة الزينة. وفيها مات السلطان ركن الدين قلج أرسلان بن كيخسرو بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان قطلومش بن أرسلان بيغو بن سلجوق، ملك الروم. وقام من بعده ابنه غياث الدين كيخسرو وعمره أربع سنين، فقام بأمر المملكة معين الدين سليمان البرواناه وكان موت ركن الدين خنقا بالوتر، وذلك أن معين الدين البرواناه اتفق مع التتر المقيمين معه على قتل ركن الدين فخنقوه.
ومات في هذه السنة من الأعيان
كمال الدين أبو العباس أحمد بن عبد العزيز بن محمد بن الشهيد أبي صالح عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن الحسن بن العجمي الحلبي كاتب الإنشاء، ظاهر صور من الساحل.
وتوفي الصاحب عز الدين أبو محمد عبد العزيز بن منصور بن محمد بن وداعة الحلبي وزير دمشق، بالقاهرة.
وتوفي الأديب عفيف الدين أبو الحسن على بن عدلان بن حماد بن على الموصلي بدمشق، عن ثلاث وثمانين سنة. ومات الأمير عماد الدين أبو حفص عمر بن هبة الله ابن صديق الخلاطي الأديب الفاضل بحماة، عن ثمان وستين سنة.
وتوفي الشيخ المعتقد أبو داود مسلم السلمي شيخ الطائفة المسلمية، في يوم الجمعة ثالث شهر ربيع الأول، ودفن بالقرافة، وكان في ابتداء أمره قاطع طريق، وأخذ عن الشيخ مروان أحد أصحاب الشيخ مرزوق، وقدم القاهرة، وعني به الصاحب بهاء الدين محمد بن على بن حنا.
سنة سبع وستين وستمائة
في أول المحرم: ركب السلطان حتى شاهد جامعه بظاهر القاهرة، وسار لفتح بحر أبي المنجا، وعاد إلى القلعة. وفيه احتفل السلطان برمي النشاب وأمور الحرب، وبني مسطبة. بميدان العيد خارج باب النصر من القاهرة، وصار ينزل كل يوم من الظهر ويرمي النشاب، فلا يعود من الميدان إلى عشاء الآخرة، وأخذ السلطان يحرض الناس على الرمي والرهان، فما بقي أمير ولا مملوك إلا وهذا شغله تحريض الناس على لعب الرمح ورمي النشاب.
وفيه قدمت الرسل من جميع الأقطار تهنئ السلطان بما فتحه الله عليه.
وفي يوم الخميس تاسع صفر. جلس الملك بركة في مرتبة الملك، وحضر الأمير فقبلوا الأرض، وجلس الأمير عز الدين الحلي والأمير فارس الدين الأتابك بين يديه، والصاحب بهاء الدين وكتاب الإنشاء والقضاة والشهود، وحلف له الأمراء وسائر العساكر.
وفي ثالث عشره. ركب الملك السعيد الموكب كما يركب والده وجلس في الإيوان وقرئت عليه القصص.
وفي العشرين منه: قرئ بالإيوان تقليده بتفويض السلطة إليه، واستمر جلوسه في الإيوان مكان والده لقضاء الأشغال، وصار يوقع ويطلق ويركب في الموكب، وأقام السلطان الأمير بدر الدين بيليك الخازندار نائبا عنه، عوضاً عن الأمير عز الدين الحلي.(1/192)
وفي ثاني عشر جمادى الآخرة. خرج السلطان، ومعه الأمير عز الدين الحلي وأكابر الأمراء في عدة من العسكر يريد بلاد الشام، وترك أكثر العسكر عند الملك السعيد، فلما وصل إلى غزة أنفق في العسكر، ونزل أرسوس لكثرة مراعيها، فقدم عليه كتاب متملك سيس بأن رسول رسول أبغا بن هولاكو قدم ليحضر إلى السلطان، فبعث إليه الأمير ناصر الدين بن صيرم مشد حلب ليتسلمه من سيس، ويحترز عليه بحيث لا يمكنه أن يتحدث مع أحد فسار به إلى دمشق، و لم يحتفل به عند وصوله إلى دمشق، وأنزل في قلعتها، فورد الخبر بذلك، فركب السلطان من أرسوف وترك الأثقال بها، وأخذ معه الأمراء ودخل إلى دمشق، وأحضر الرسول إليه، فكان من جملة كتابه: إن الملك أبغا لما خرج من الشرق تملك جميع العالم وما خالفه أحد، ومن خالفه هلك وقتل. فأنت لو صعدت إلى السماء أو هبطت إلى الأرض ما تخلصت منا، فالمصلحة أن تجعل بيننا صلحا.
وكان في المشافهة: أنت مملوك وأبعت في سيواس، فكيف تشاقق الملوك ملوك الأرض؟ فأجيب وأعيد الرسول.
وفي أول شعبان: مات الأمير عز الدين الحلي بدمشق.
وفيه خرج السلطان من دمشق، وودع الأمراء كلهم وسيرهم إلى مصر، ولم يتأخر عنده من الأمراء الكبار سوي الأمير الأتابك، والمحمدي، والأيدمري، وابن أطلس خان، وأقوش الرومي. فسار بهم إلى قلعة الصبيبة ثم إلى الشقيف وصفد، وكتب بحضور الأثقال إلى خربة اللصوص من أرسوف، فأحضرها الأمير آقسنقر الفارقاني الأستادار، وقدم السلطان إليها فأقام بها أياما. وخطر للسلطان أن يتوجه إلى ديار مصر خفية، فكتم ذلك وكتب إلى النواب. بمكاتبة الملك السعيد والاعتماد على أجوبته، ورتب إنه كلما جاء بريد يقرأ عليه وتخرج علائم على بياض تكتب عليها الأجوبة.
فلما كان في رابع عشره: أظهر السلطان أنه تشوش في بدنه، واستدعى الحكماء إلى الخيمة، ووقع احتفال في الظاهر بتوعكه، وأصبح الأمراء فدخلوا عليه وشاهدوه مجتمعا على هيئة متألم، وكتب إلى دمشق باستدعاء الأشربة. وتقدم السلطان إلى الأمير بدر الدين الأيدمري، والأمير سيف الدين بكتوت جرمك الناصري، بالتوجه إلى حلب على خيل البريد وصحبتهما بريدي، فتوجهوا إليه السبت سادس عشره، و كان السلطان قد أوصاهم إنهم إذا ركبوا يأتوا خلف الدهليز، حتى يتحدث معهم مشافهة، وجهز السلطان الأمير آقسنقر الساقي على البريد إلى مصر، وأعطاه تركاشه وأمره أن يقف خلف خيمة الجمدارية من وراء الدهليز، فوقف حيث أمر، ولبس السلطان جوخة مقطعة، وتعتم بشاش دخاني عتيق، وقصد أن يخرج به الحراس، فوجد قماش نوم لبعض المماليك، فاستدعى خادما من خواصه وقال: أنا خارج بهذا القماش، احمله وامش قدامي فإن سألك أحد فقل هذا بعض معه قماش بعض الصبيان، حصل له مرض وما يقدر يحضر الخدمة الليلة، وخارج إليه بقماشه. فخرج السلطان بهذه الليلة ولم يفطن به أحد، وكان قد أسر إلى الأمير شمس الدين الفارقاني أنه يغيب مدة أيام عينها.(1/193)
ولما خرج السلطان من الدهليز مشي إلى الجهة التي واعد آقسنقر الساقي إليها، وكان قبل ذلك قد أقام هناك أربعة أرؤس من الخيل سيرها مع الأمير بهاء الدين أمير أخور، وأمره أن يقف بها في مكان فأخذ أقسنقر الخيل، وسير بهاء الدين أمير آخور إلى التل، فوجد الأيدمري ورفقته، فصار إليهم السلطان واختلط بهم في السوق وهم لا يعرفونه، فلما طال سوقهم قال السلطان للأيدمري: تعرفني فقال: إي والله، وأراد أن ينزل عن فرسه ليقبل الأرض، فمنعه. وقال السلطان لجرمك: تعرفني فقال: إيش هذا يا خوند فقال له: لا تتكلم. وكان معهم الأمير علم الدين شقير مقدم البريدية، فصارت جملتهم خمسة أنفس، ومعهم أربعة جنائب من خيل السلطان الخاص، فساقوا إلى القصير المعيني ووافوه نصف الليل، فدخل السلطان إلى الوالي ليأخذ فرسه، فقام إليه بنحو خمسين راجلا إليها وقال: الضيعة ملك السلطان، ما يقدر أحد يأخذ منها فرسا، تروحوا وإلا قتلناكم. فتركوه وساقوا إلى بيسان، وأتوا دار الوالي وقالوا: نريد خيلا للبريد، فأنزلهم وقعد السلطان عند رجلي الوالي وهو نائم، ثم التفت إلى الأيدمري وقال: الخلائق على بابي، وأنا على هذا الوالي لا يلتفت إلي، ولكن الدنيا نوبات. وطلب السلطان من الوالي كوزا، فقال: ما عندنا كوز إن كنت عطشان أخرج واشرب من برا فأحضر إليه الأيدمري كرازا شرب منه. وركبوا وصبحوا بجينين، فوجدوا بها خيلا للبريد عرجا معقرة، فركب السلطان منها فرسا لم يكد يثبت عليه من رائحة عقوره. وساروا فلما نزلوا تل العجول بقي كل منهم ماسكا فرسه، فلما وصلوا إلى العريش قام السلطان والأمير جرمك ونقيا الشعير، وقال السلطان لجرمك: ابن السلطة والأستادار وأمير جاندار، وأين الخلق الوقوف في الخدمة هكذا تخرج الملوك من ملكهم، وما يدوم إلا الله سبحانه.
ولم يبق معهم من الجنائب الأربعة إلا الذي على يد السلطان يقوده، ووصل معه إلى الصالحية، وصعدوا إلى القلعة ليلة الثلاثاء الثلث الأول من الليل، فأوقفهم الحراس حتى شاوروا الوالي، ونزل السلطان في باب الإسطبل وطلب أمير آخور، وكان قد رتب مع زمام الأمر ألا يبيت إلا خلف باب السر، فدق السلطان باب السر وذكر للزمام العلائم التي بينه وبينه، ففتح الباب ودخل السلطان ورفقته. وأقاموا يوم الثلاثاء والأربعاء، وليلة الخميس الحادي والعشرين من شعبان، ولا يعلم بالسلطان أحد إلا الزمام فقط، وصار السلطان يتفرج بالأمراء بسوق الخيل، فلما قدم الفرس للملك السعيد يوم الخميس على العادة قدم أمير آخور للسلطان فرسا آخر، وعندما خرج الملك السعيد ليركب ما أحس إلا والسلم قد خرج إليه، فرعب وقبل له الأرض، وركب السلطان وخرج على غفلة وبغلس، فأنكر الأمراء ذلك وأمسكوا قبضات سيوفهم، ونظروا في وجه السلطان حتى تحققوه، فقبلوا له الأرض، وساق السلطان إلى ميدان العيد، وعاد إلى القلعة وأقام بقية يوم الخميس ويوم الجمعة ولعب بالكرة يوم السبت. وتوجه يوم الأحد إلى مصر، ورمي الرجال بالشواني قدامه، وركب في الحراريق وعاد إلى القلعة، فلما كان ليلة الإثنين خامس عشري شعبان، ركب السلطان خيل البريد من القلعة، وعاد إلى معسكره بخربة اللصوص.(1/194)
وأما ما جري في معسكر السلطان بالخربة، فإن الأمير شمس الدين الفارقاني لما أصبح، وقد فارق السلطان الدهليز، أظهر الأمراء أن السلطان منقطع لضعف حصل له، واستدعى الأطباء وسألهم عما يصلح للمتوعك الذي يشكو صداعا وخدرا وعطشا، وأوهمهم أن السلطان يشكو دلك، فوضعوا له ما يوافق. وأمر الأمير شمس الدين الشراب دارية فاحضروا الشراب، ودخل إلى الدهليز بنفسه ليوهم العسكر صحة ذلك، إلى أن وصل ليلة الجمعة تاسع عشريه إلى قرب الدهليز، فأمر السلطان الأيدمري وجرمك بالتوجه إلى خيامهما، وأخذ على يده جراب البريد وفي كفه فوطة، ومشي على قدميه إلى جهة الحراس، فمانعه حارس وأمسك طوقه، فانجذب منه السلطان ودخل باب الدهليز. وبات السلطان، فلما أصبح أحضر الأمراء وأعلمهم أنه كان متغير المزاج، وركب فضربت البشائر لعافية السلطان، ومشي كل ما وقع على العسكر، ولم يعلم به سوي الأتابك والأستادار والدوادار وخواص الجامدارية وكانت في هذه المدة ترد المكاتبات وتكتب أجوبتها كما رتب السلطان، والأحوال جميعها ماشية كأنه حاضر لم يختل شيء من الأمور، وقصد بما فعل أن يكشف حال مملكته ويعرف أحوال ابنه الملك السعيد في مصر، فتم له ما أراد.
وكتب السلطان بإزالة الخمور وإبطال الفساد والخواطئ من القاهرة ومصر وجميع أعمال مصر فطهرت كلها من المنكر، ونهبت الحانات التي جرت عادة أهل الفساد الإقامة بها، وسلبت جميع أحوال المفسدات وحبسن حتى يتزوجن، وفي كثير من المفسدين، وكتب السلطان إلى جميع البلاد بمثل ذلك، وحط المقرر على هذه الجهة من المال، وعوض المقطعين جهات حلالا.
وورد الخبر بحصول زلزلة في بلاد سيس خرب منها قلعة سرفقد وعدة قلاع، وهلك كثير من الناس حتى سال النهر دما، وتلفت عدة جهات. وورد الخبر بأن الفرنج شنعوا. بموت السلطان، وحضر رسولهم يطلب المهادنة: وكان قد هرب من المماليك السلطانية أربعة وصاروا إلى عكا، فبعث السلطان بإحضارهم فامتنع الفرنج من إحضارهم إلا بعوض، فأنكر السلطان ذلك وأغلظ عليهم، فسيروا المماليك وقد نصروهم، فعند ذلك قبص السلطان على رسل الفرنج وقيدهم، وكتب إلى النواب بوقوع الفسخ، وأغار عليهم الأمير أقوش الشمسي وقتل وأسر منهم جماعة. وركب السلطان في العشرين من رمضان وساق إلى صور، وقتل وأسر جماعة، وعاد إلى المخيم وأمهل مدة، ثم جرد طائفة لأخذ المغل وقطع الميرة عن صور.
وفي سادس عشريه. تسلم نواب السلطان بلاطنس من عز الدين عثمان صاحب صهيون، وهي حصن عظيم، وفيه سارت العساكر من البيرة إلى كركر فأحرقوا وغنموا، وأخذوا قلعة كانت بينها وبين كختا، وقتلوا رجالها وغنموا كثيرا، وأخرجوا منه الخمس للديوان.
وفيه كان خلف في مكة بين الشريف نجم الدين أبي نمي وبين عمه الشريف بهاء الدين إدريس أميري مكة، ثم اتفقا فرتب لهما السلطان عشرين ألف درهم نقرة في كل سنة، ألا يؤخذ بمكة من أحد مشمس، ولا يمنع أحد من زيارة البيت ولا يتعرض لتاجر، وأن يخطب باسم السلطان في الحرم والشارع، وتضرب السكة باسمه، وكتب لهما تقليد بالإمارة، وسلمت أوقاف الحرم التي بمصر والشام لنوابهما.
وفيه سلم السلطان للشريف شمس الدين قاضي المدينة النبوية وخطيبها ووزيرها وقد حضر في، رسالة الأمير عز الدين، جماز أمير المدينة الجمال التي نهبها أحمد بن حجي لأشراف المدينة، وهي نحو الثلاثة آلاف جمل، وأمره أن يوصلها لأربابها وفيها قدم الطواشي جمال الدين محسن الصالحي شيخ خدام الحجرة النبوية، فأكرمه السلطان وضرب له خيمة بشقة على باب الدهليز، وناله زيادة على مائتي ألف درهم نقرة، وسافر صحبة القاضي والجمال مع الركب الشامي، وجهز من الكسوة لمكة والمدينة.
وفيه قدم رسول الفرنج من بيروت بهدية وأساري مسلمين، فأطلقوا بباب الدهليز، وكتبت لهم هدنة. وفيه وصل الأمير شرف الدين عيسي بن مهنا إلى الدهليز ومعه جماعة من أمراء العرب، فأوهمه السلطان إنه يريد الحركة إلى العراق، وأمره بالتأهب ليركب إذا دعي، وأمره فانصرف إلى بلاده، وكان السلطان في الباطن إنما يريد بحركته الحجاز.(1/195)
وفيه أعطي السلطان ناصر الدين محمد ولد الأمير عز الدين أيدمر الحلي إمرة أربعين فارسا، ورسم للأمير قلاوون والأمير أوغان والأمير بيسري والأمير بكتاش الفخري أمير سلاح أن يباشروا الحوطة على رمال الحلي لورثته، و لم يتعرض السلطان لشيء من موجوده مع كثرته.
ودخل شوال: والسلطان على عزم الحركة للحجاز، فأنفق في العساكر جميعها، وجرد عدة مع الأمير أقوش الرومي السلاح دار ليسيروا مع السلطان، وجرد البقية مع الأمير آقسنقر الفارقاني الأستادار إلى دمشق، فنزلوا بظاهرها وأقاموا بها، ثم توجه السلطان إلى الحج ومعه الأمير بدر الدين الخازندار، وقاضي القضاة صدر الدين سليمان الحنفي، وفخر الدين بن لقمان، وتاج الدين بن الأثير، ونحو ثلاثمائة مملوك وأجناد من الحلقة إلى الحجاز، وذلك أن الأمير جمال الدين ابن الداية الحاجب كتب إلى السلطان: إني أشتهي التوجه بصحبة السلطان إلى الحجاز فأمر بقطع لسانه، فما تفوه أحد بعدها بذلك.
وسار السلطان من الفوار يوم الخميس خامس عشريه، إلى الكرك مستهل ذي القعدة، وكان قد دبر أموره خفية من غير أن يطلع أحد على ذلك، حتى إنه جهز البشماط والدقيق والروايا والقرب والأشربة، والعربان المتوجهين معه والمرتبين في المنازل، ولا يشعر الناس بشيء من ذلك، فلما وصل الكرك وجد الأمور كلها مجهزة، فأعطي المجردين معه بقدر الشعير كفايتهم. وسار الثقل في رابعه، وتبعهم السلطان في سادسه ومعه المجردون، فنزل الشوبك ورسم بإخفاء خبره، وتوجه في حادي عشره، وسار البريد إلى مصر، فجهزت الكتب إليه مع العربان من جهة الكرك فكتبت أجوبتها من هناك.
ووصل السلطان إلى المدينة النبوية في خامس عشريه، فلم يقابله جماز ولا مالك أميرا المدينة وفرا منه، ورحل منها في سابع عشريه، وأحرم فدخل مكة في خامس ذي الحجة، وأعطي خواصه جملة من المال ليفرقوها سرا، وفرق كساوي على أهل الحرمين وصار كواحد من الناس، لا يحجبه أحد ولا يحرسه إلا الله، وهو منفرد يصلي ويطوف ويسعى، وغسل البيت، وصار في وسط الخلائق، وكل من رمي إليه إحرامه غسله وناوله إياه. وجلس على باب البيت، وأخذ بأيدي الناس ليطلعهم إلى البيت، فتعلق بعض العامة بإحرامه ليطلع فقطعه، وكاد يرمي السلطان إلى الأرض، وهو مستشر بجميع ذلك، وعلق كسوة البيت بيده وخواصه، وتردد إلى من بالحرمين من الصالحين. هذا وقاضي القضاة صدر الدين سليمان بن عبد الحق الحنفي مرافقه طول الطريق، يستفتيه ويتفهم منه أمر دينه، و لم يقفل السلطان مع ذلك تدبير الممالك، وكتاب الإنشاء تكتب عنه في المهمات، وكتب إلى صاحب اليمن كتابا ينكر عليه أمورا، ويقول فيه: سطرتها من مكة المشرفة، وقد أخذت طريقها في سبع عشرة خطوة يعني بالخطوة المغزلة ويقول له: الملك هو الذي يجاهد في الله حق جهاده، ويبذل نفسه في الذب عن حوزة الدين، فان كنت ملكا فأخرج التتار.
وأحسن السلطان إلى أميري مكة، وهما الأمير نجم الدين أبي نمي والأمير إدريس بن قتادة، وإلى أمير ينبع وأمير خليص وأكابر الحجاز وكتب منشورين لأميري مكة، فطلبا منه نائبا تقوي به أنفسهما، فرتب الأمير شمس الدين مروان نائب أمير جاندار بمكة، يرجع أمرهما إليه ويكون الحل والعقد على يديه، وزاد أميري مكة مالا وغلالا في كل سنة بسبب تسبيل البيت للناس، وزاد أمراء الحجاز إلا جماز ومالك أميرا المدينة، فإنهما انتزحا من بين يديه.
وقضي السلطان مناسك الحج وسار من مكة في ثالث عشره، فوصل إلى المدينة في العشرين منه، فبات بها وسار من الغد، فجد في السير ومعه عدة يسيرة حتى وصل إلى الكرك بكرة يوم الخميس سلخه، و لم يعلم أحد بوصوله إلا عند قبر جعفر الطيارة بمؤتة، فالتقوه هناك. ودخل السلطان مدينة الكرك وهو لابس عباءة، وقد ركب راحلة، فبات بها ورحل من الغد.
ومات في هذه السنة من الأعيان
الأمير عز الدين أيدمر الحلي الصالحي نائب السلطنة، عن نيف وستين سنة، بدمشق في أول شعبان. ومات الأمير أسد الدين سليمان بن داود بن موسك الهذباني، بعد ما ترك الخدمة تعففا، وله فضل ونظم جيد.
وتوفي مجد الدين أبو محمد عبد المجيد بن أبي الفرج بن محمد الروذراوري بدمشق. وتوفي نور الدين أبو الحسن على بن عبد الله بن إبراهيم، الشهير بسيبويه المغربي النحوي، عن سبع وستين سنة بالقاهرة، وله شعر جيد.(1/196)
وتوفي شيخ الأطباء بدمشق شرف الدين أبو الحسن على بن يوسف بن حيدرة الرحبي وله شعر جيد.
سنة ثمان وستين وستمائة
فيها صلي الملك الظاهر صلاة الجمعة غرة المحرم بالكرك، وركب في مائة فرس وبيد كل فارس فرس، وساق إلى دمشق. هذا والناس. بمصر والشام لا يعرفون شيئا من خبر السلطان: هل هو في الشام أو الحجاز أو غيره، ولا يستطع من مهابته والخوف منه أحد أن يتكلم، فلما قارب السلطان دمشق سير أحد خواصه على البريد بكتب إلى دمشق، وفيها البشارة بسلامته وقضاء الحج، فأحضر الأمير جمال الدين النجيبي نائب دمشق الناس لسماع كتب البشارة، فبينا هم في القراءة إذ بلغهم أن السلطان في الميدان، فساروا إليه فإذا هو بمفرده، وقد أعطي فرسه لبعض منادية سوق الخيل، فقبل النائب له الأرض وحضر الأمير آقسنقر الأستادار والأمراء المصريون، فأكل السلطان شيئا وقام يستريح، وانصرف الناس، فركب السلطان في نفر يسير وتوجه إلى حلب، وحضر أمراء دمشق للخدمة فلم يجدوا السلطان، ودخل السلطان إلى حلب والأمراء في الموكب، فساق إليهم وبقي ساعة ولا يعرفه أحد، حتى فطن به بعضهم فنزلوا وقبلوا الأرض. ودخل السلطان دار نائب السلطنة وكشف القلعة، وخرج من حلب و لم يعرف به أحد، فوصل دمشق في ثالث عشره، ولعب فيها بالكرة، وركب في الليل وسار إلى القلس، وزار الخليل وتصدق. وكان العسكر المصري قد صار به الأمير آقسنفر الفارقاني من دمشق ونزل بتل العجول، فخرج السلطان من القدس إلى تل العجول. وكل ذلك في عشرين يوما، ما غير السلطان فيها عباءته التي حج فيها.
ثم سار السلطان من تل العجول بالعساكر في حادي عشريه إلى القاهرة، فخرج الملك السعيد إلى لقائه بالصالحية، وعاد معه إلى قلعة الجبل، فأقام السلطان بها إلى ثاني عشر صفر، ثم خرج منها ومعه الأمراء والمقدمون، فركب في الحراريق إلى الطرانة، ودخل السلطان البرية وضرب حلقة، فأحضر إلى الدهليز ثلاثمائة غزال وخمس عشرة نعامة: أعطي عن كل غزال بغلطاق بسنجاب، وعن كل نعامة فرسا ثمينا بسرجه ولجامه.
ودخل السلطان إلى الإسكندرية في حادي عشريه، وكان الصاحب بهاء الدين بن حنا قد سبق إليها وحصل الأموال والقماش، فخلع السلطان على الأمراء، وحمل إليهم التعابي والنفقة، ولعب الكرة ظاهر الإسكندرية، وتوجه إلى الحمامات ونزل بالليونة وابتاعها من وكيل بيت المال، فبلغه هناك حركة التتار، وأنهم واعدوا فرنج الساحل، فعاد إلى قلعة الجبل، فورد الخبر بغارة التتار على الساجور بالقرب من حلب، فجرد السلطان الأمير علاء الدين البندقدار في جماعة من العسكر، وأمره أن يقيم في أوائل البلاد الشامية على أهبة.
وسار السلطان من قلعة الجبل في ليلة الإثنين حادي عشري ربيع الأول ومعه نفر يسير فوصل إلى غزة، ثم دخل دمشق في سابع ربيع الآخر، ولحق الناس في الطريق مشقة عظيمة من البرد، فخيم على ظاهر دمشق. ووردت الأخبار بانهزام التتار عندما بلغهم حركة السلطان، وكأن قد ألقي الله في أنفس الناس أن السلطان وحده يقوم مقام العساكر الكثيرة في هزيمة الأعداء، وأن اسمه يرد الأعداء من كل جانب، فورد الخبر بأن جماعة من الفرنج خرجوا من الغرب، وبعثوا إلى أبغا بن هولاكو بأنهم واصلون لمواعدته من جهة سيس في سفن كثيرة، فبعث الله على تلك السفن ريحا أتلفت عدة منها، ولم يسمع بعدها لمن بقي في الأخرى خبر. وورد الخبر أنه قد خرج فرنج عكا وخيموا بظاهرها، وركبوا وأعجبتهم أنفسهم بمن قدم إليهم من فرنج الغرب، وتوجهت طائفة منهم إلى عسكر جينين وعسكر صفد، فخرج السلطان من دمشق على أنه يتصيد في مرج برغوث وبعث من أحضر إليه العدد ومن أخرج العساكر كلها من الشام، فتكاملوا عنده بكرة يوم الثلاثاء حادي عشريه بمرج برغوث، وساق بهم إلى جسر يعقوب فوصل آخر النهار، وشاق بهم في الليل فأصبح في أول المرج.(1/197)
وكان السلطان قد سير إلى عساكر عين جالوت وعساكر صفد بالإغارة في ثاني عشريه، فإذا خرج إليهم الفرنج انهزموا منهم، فاعتمدوا ذلك، ودخل السلطان الكمين، فعندما خرج جماعة من الفرنج لقتال عسكر صفد تقدم إليهم الأمير إيغان، ثم بعده الأمير جمال الدين الحاجبي، ومعهما أمراء الشام. ثم ساق الأمير أيتمش السعدي، والأمير كندغدي أمير مجلس، ومعهما مقدمو الحلقة، فقاتل الأمراء الشاميون أحسن قتال، وتبع السلطان مقدمي الحلقة، فما أدركهم إلا والعدو قد انكسر، وصارت الخيالة بخيلها مطرحة في المرج. وأسر السلطان كثيرا من أكابرهم، و لم يعدم من المسلمين سوي الأمير فخر الدين ألطونبا الفائزي، فسارت البشائر إلى البلاد.
وعاد السلطان إلى صفد والرءوس بين يديه، وتوجه منها إلى دمشق فدخلها في سادس عشريه، والأسري ورءوس القتلى قدامه، وخلع على الأمراء، ثم سار إلى حماة وخرج منها إلى كفر طاب، و لم يعلم أحد قصده، وفرق العساكر وترك النقل، وأخذ خيار عسكره وساق إلى جهة المرقب فأصابته مشقة زائدة من كثرة الأمطار، فعاد إلى حماة وأقام بظاهرها تسعة عشر يوما، وتوجه على جهة المرقب، فانتهى إلى قريب بلاد الإسماعيلية، وعاقته الأمطار والثلوج فعاد.
ثم ركب السلطان في ثالث جمادى الآخرة. بمائتي فارس من غير سلاح، وأغار على حصن الأكراد وصعد الجبل الذي عليه حصن الأكراد ومعه قدر أربعين فارسا، فخرج عليه عدة من الفرنج ملبسين، فحمل عليهم وقتل منهم جماعة، وكسر باقيهم وتبعهم حتى وصل إلى خنادقهم، وقال يستخف بهم: خلوا الفرنج يخرجوا، فما نحن أكثر من أربعين فارسا بأتبية بيض، وعاد إلى مخيمه، ورعي الخيول مروجها ورعى الخيول مروجها وزروعها.
وفي أثناء ذلك حضر إلى خدمة السلطان كثير من أصحاب البلاد المجاورة، فلم يبق أحد إلا وقدم على السلطان مثل: صاحب حماة، وصاحب صهيون، إلا نجم الدين حسن بن الشعراني صاحب قلاع الإسماعيلية، فإنه لم يحضر بل بعث يطلب تنقيض القطعة التي حملوها لبيت المال، بدلا مما كانوا يحملونه إلى الفرنج. وكان صارم الدين مبارك بن الرضي صاحب العليقه قد تغير السلطان عليه من مدة، فدخل صاحب صهيون بينه وبين السلطان في الصلح، وأحضره إلى الخدمة، فقلده السلطان بلاد الدعوة استقلالا، وأعطاه طبلخاناه، وعزل نجم الدين حسن بن الشعراني وولده من نيابة الدعوة، وتوجه صارم الدين إلى مصياف كرسي بلاد الإسماعيلية في سابع عشرى جمادى الآخرة، وصحبته جماعة لتقرير أمره.
ويقال: بل الذي قام في حقه الملك المنصور صاحب حماة، وإنه شفع فيه إلى أن عفي عنه السلطان، وحضر بهدية فأكرمه السلطان، وكتب له منشورا بالحصون كلها: وهي قلعة الكهف وقلعة الخوابي والدينقه والعليقة والقدموس والرصافة ، ليكون نائبا عن السلطان، وكتب له بأملاكه التي كانت بالشام على أن تكون مصياف وبلادها خاصا للسلطان. وبعث السلطان معه نائبا بمصياف، وهو الأمير بدر الدين العديمي أحد مفاردة الشام، وجرد معه جماعة من شيزر وغيرها، فلما وصلوا إلى مصياف امتنع أهلها من تسليمها لصارم الدين، وقالوا: لا نسلمها إلا لنائب السلطان، فقال العديمي: أنا نائب السلطان. فلما فتحوا هجم صارم الدين عليهم وقتل منهم جماعة، وتسلم الحصن في نصف رجب، فلم يجد نجم الدين وولده بدا من الدخول في الطاعة، فسألا في الحضور فأجيبا، وحضر نجم الدين حسن وعمره تسعون سنة، فرق له السلطان وولاه النيابة شريكا لصارم الدين بن الرضي، وقرر عليه حمل مائة وعشرين ألف درهم نقرة في كل سنة، وتوجه نجم الدين وترك ابنه شمس الدين في الخدمة. وتقرر على صارم الدين بن مبارك بن الرضي في كل سنة ألفا دينار، فصارت الإسماعيلية يؤدون المال بعد ما كانوا يجبون من ملوك الأرض القطائع.
ثم رحل السلطان من حصن الأكراد إلى دمشق، فدخلها في ثامن عشريه وقدم الخبر بأن الفرنسيس وعدة من ملوك الفرنج قد ركبوا البحر ولا يعلم قصدهم، فاهتم السلطان بالثغور والشواني، وسار إلى مصر فدخلها في ثاني شوال. وفيه تمت عمارة الجامع الظاهري بالحسينية خارج القاهرة، فرتب السلطان أوقافه، وجعل خطيبه حنفي المذهب، ووقف عليه حكر ما بقي من الميدان. وفيه بعث السلطان عدة رسل بهدايا إلى بلاد الفرنج.(1/198)
وفي هذه السنة: قتل الشريف إدريس بن قتادة بخليص، بعد أن ولي مكة منفردا أربعين يوما، فاستبد ابن أخيه أبو نمي بإمرة مكة وحده.
وفيها مات الطواشي جمال الدين محسن الصالحي النجمي، شيخ الخدام بالمسجد النبوي.
وفيها تنكر الخان منكوتمر بن طغان، ملك التتر ببلاد الشمال، على الأشكري ملك قسطنطنية، فبعث الخان جيشا من التتر حتى أغاروا على بلاده، وحملوا عز الدين كيقباد بن كيخسرو وكان محبوسا كما تقدم في القلعة وساروا به وبأهله إلى منكوتمر، فأكرمه وزوجه وأقام معه حتى مات في سنة سبع وسبعين، فسار ابنه مسعود ابن عز الدين وملك بلاد الروم، كما سيأتي ذكره إن شاء الله.
وفيها انقرضت دولة بني عبد المؤمن بقتل الواثق أبي العلاء إدريسي المعروف بأبي دبوس بن عبد الله بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي، في محرم على يد بني مرين. وبنو مرين قبيلة من البربر يقال لهم حمامة كان مقامهم قبلي تازا، فخرجوا عن طاعة الموحدين بني عبد المؤمن، وتابعوا الغارات حتى ملكوا مدينة فاس، سنة بضع وثلاثين وستمائة: وأول من اشتهر منهم أبو بكر بن عبد الحق ابن محبو بن حمامة، ومات سنة ثلاث وخمسين. فملك بعده يعقوب بن عبد الحق، وقوي أمره وحصر مراكش وبها أبو دبوس، وملكها وأزال ملك بني عبد المؤمن في أول سنة ثمان وستين هذه، وملك مراكش.
ومات في هذه السنة من الأعيان
قاضي القضاة بدمشق محيي الدين أبو الفضل يحيي بن محيي الدين أبي المعالي محمد ابن زكي الدين أبي الحسن على بن المجد أبي المعالي محمد بن زكي الدين أبي الفضل يحيى بن على بن عبد العزيز العثماني المعروف بابن الزكي القرشي الأموي الشافعي، عن اثنتين وسبعين سنة بالقاهرة.
وتوفي الوزير الصاحب زين الدين أبو يوسف يعقوب بن عبد الرفيع بن بكر بن مالك القرشي الزبيري، عن اثنتين وثمانين سنة بالقاهرة، بعد عزله ومحنته، وله شعر جيد.
وتوفي زين الدين أبو العباس أحمد بن عبد الدائم بن نعدة المقدسي الحنبلي وقد انتهي إليه علو الإسناد، عن ثلاث وتسعين سنة بدمشق.
وتوفي الولي العارف داود الأعزب بناحية تفهنا، في ليلة الجمعة سابع عشرى جمادى الآخرة، وبها دفن، وقبره مشهور يتبرك الناس بزيارته، ومناقبه وكراماته شهيرة قد جمعت في مجلد.
وتوفي الولي العارف تقي الدين أبو المكارم عبد السلام بن سلطان بن، الماجري من هوارة، في يوم الأحد ثامن ذي الحجة، بناحية قليب. وله كرامات كثيرة، وأخذ الطريق عن الشيخ أبي الفتح الواسطي عن الشيخ أحمد بن أبي الحسن الرفاعي، وقبره يزار بقليب ويتبرك به.
سنة تسع وستين وستمائة
في المحرم: ورد كتاب بيسو نوغاي قريب الملك بركة ملك التتار، وهو أكبر مقدمي جيوشه، يخبر فيه أنه دخل في دين الإسلام، فأجيب بالشكر والثناء عليه. وفيه ورد الخبر. بمسير الفرنسيس وملوك الفرنج إلى تونس ومحاربة أهلها، فكتب السلطان إلى صاحب تونس بوصول العساكر إليه نجدة له على الفرنج، وكتب إلى عربان برقة وبلاد الغرب بالمسير إلى نجدته، وأمرهم بحفر الآبار في الطرقات برسم العساكر، وشرع في تجريد العساكر، فورد الخبر. بموت الفرنسيس وابنه وجماعة من عسكره، ووصول نجدات العربان إلى تونس وحفر الآبار، وأن الفرنج رحلوا عن تونس في خامس صفر.
وفي سابعة: توجه السلطان إلى عسقلان،ليهدم ما بقي منها خوفا من مجيء الفرنج إليها، فنزل عليها وهدم بنفسه ما تأخر من قلعتها وأسوار المدينة حتى سوي بها الأرض وعاد إلى قلعة الجبل في ثامن ربيع الأول.
وفي حادي عشريه: هلك الملك المجير هيتوم بن قنسطنطين متملك سيس.
وفي عاشر جمادى الآخرة. سار السلطان من القاهرة ومعه ابنه الملك السعيد إلى الشام، فدخل دمشق في ثامن رجب، وخرج إلى طرابلس فقتل وأسر. واتصلت الغارات إلى صافيتا وتسلم السلطان صافيتا من الفرنج الديوية وأنزلهم منها، وعدتهم سبعمائة رجل سوي النساء والأطفال، وتسلم الحصون والأبراج المجاورة لحصن الأكراد مثل تل خليفة وغيره.
وفي تاسع رجب: نازل السلطان حصن الأكراد، وقدم عليه صاحب حماة وصاحب صهيون، وصاحب دعوة الإسماعيلية الصاحب نجم الدين.(1/199)
وفي آخره: نصب السلطان عدة مجانيق على الحصن، إلى أن أخذ القلعة عنوة في سادس عشر شعبان فطلب أهلها الأمان فأمنهم السلطان على أن يتوجهوا إلى بلادهم، فخرج الفرنج منها في رابع عشريه، ورتب السلطان الأمير صارم الدين الكافري نائبا بحصن الأكراد، وأمر بعمارته.
وبعث صاحب أنطرسوس وهو مقدم بيت الداوية يطلب الصلح من السلطان، فصولح على أنطرسوس خاصة، خارجا عن صافيتا وبلادها. واسترجع السلطان منهم جميع ما أخذوه في الأيام الناصيرية، وعلى أن جميع ما لهم من المناصفات والحقوق على بلاد الإسلام يتركونه، وعلى أن تكون بلاد المرقب ووجوه أمواله مناصفة بين السلطان وبين الإسبتار، وعلى ألا تجدد عمارة في المرقب، فتم الصلح، وأخلي الفرنج عدة حصون تسلمها السلطان.
وفي سابع عشر رمضان: نازل السلطان حصن عكار ونصب عليه المجانيق، وجد أهله في المناضلة وقاتلهم السلطان قتالا شديدا، فقتل الأمير ركن الدين منكورس الدواداري وهو يصلي في خيمته بحجر منجنيق أصابه.
ولما كان في تاسع عشريه: سأل الفرنج الأمان، ورفعت السناجق السلطانية على الأبراج، وخرجوا منه في سلخه، وعيد السلطان بالحصن، ورحل إلى مخيمه بالمرج، وكتب إلى متملك طرابلس يحذره وينذره.
وفي رابع شوال: ركب السلطان بجميع عساكره جريدة من غير ثقل يريد طرابلس، وساق إليها، فبينا هو عازم على ذلك، إذ ورد عليه الخبر بأن ملك الإنكتار وصل إلى عكا في أواخر رمضان، بثلاثمائة فارس وثماني بطس وشواني ومراكب تكملة ثلاثين مركبا، غير ما سبقه صحبة أستاداره، وإنه يقصد الحج إلى القدس، فغير السلطان عزمه ونزل قريبا من طرابلس، وبعث إليهم الأتابك والأمير الدوادار فاجتمعا بصاحبها، وجرت أمور آخرها إنهم سألوا السلطان الصلح فكتبت الهدنة لمدة عشر سنين، وجهز الأمير فخر الدين بن جلبان، والقاضي شمس الدين الإخنائي شاهد الخزانة، بثلاثة آلاف دينار مصرية لفكاك الأسري، وعاد السلطان إلى مخيمه، وسار إلى حصن الأكراد فدبر أمر عمارته، ورتب أحوال تلك الجهات.
وفي حادي عشره: استولي السلطان على حصن العليقة من حصون الإسماعيلية، واستخدم به الرجال، ورحل إلى دمشق فدخلها للنصف منه، ورحل منها في رابع عشريه، فنزل صفد وحمل منها المجانيق إلى القرين وساق إليه ونازله حتى أخذه في ثاني ذي القعدة، وركب منه فما أصبح إلا على أبواب عكا مطلبا، فما تحرك أحد من الفرنج، فعاد إلى مخيمه بالقرين، وهدم القلعة في رابع عشري ذي القعدة، ورحل منه إلى قريب عكا، ونزل اللجون.
وكان السلطان قد كتب إلى مصر بتسفير الشواني لقصد قبرص، فسارت في شوال حتى قاربت قبرص، فانكسرت كلها. وشعر بهم أهل قبرص فأسروا جميع من كان فيها من الرجال، وبعث صاحب قبرص كتابا إلى السلطان يقرعه فيه بأن شواني مصر وهي أحد عشر شينيا خرجت إلى قبرص فكسرها الريح، وأخذتها وأسرت من فيها فلما قرأه السلطان قال: الحمد لله منذ ملكني الله تعالى الملك ما خذلت لي راية، وكنت أخاف من إصابة عين، فبهذا ولا بغيره وكتب إلى القاهرة بإنشاء عشرين شينيا، وإحضار خمس شواني كانت بقوص، وكتب إلى قبرص جوابا أرعد فيه وأبرق. وقدمت رسل صاحب صور تطلب الصلح، فوقع الاتفاق على أن يكون للفرنج من بلاد صور عشرة بلاد فقط، ويكون للسلطان خمسة بلاد يختارها، وبقية البلاد تكون مناصفة، ووقع الحلف على ذلك. وسار السلطان إلى القاهرة، ودخل قلعة الجبل في ثاني عشر ذي الحجة، فبلغه أن الشهرزورية قد عزموا على سلطنة الملك العزيز عثمان بن صاحب الكرك الملك المغيث عمر بن العادل أبي بكر بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، وكان السلطان قد جعله أحد أمراء مصر، فقبض عليه وعلى عدة أمراء منهم الأمير بهاء الدين يعقوبا: وقبض أيضاً على عدة أمراء كانوا قد اتفقوا على قتله وهو بالشقيف. منهم الأمير علم الدين سنجر الحلبي، والأمير أقوش المحمدي، والأمير أيدغدي الحاجبي، والأمير إيغان سم الموت، والأمير سنقر المساح، والأمير بيدغان الركني، والأمير طرطح الأمدي وسجنهم بقعلة الجبل.
و فيه جهز السلطان الأمير آقسنقر الفارقاني بعسكر إلى الشام، وفيه وردت هدية صاحب اليمن، وفيها تحف ودب أسود وفيل. وفيه أكثر السلطان من الركوب إلى مصر لمباشرة عمل الشواني، حتى كملت ضعفي ما انكسر.(1/200)
وفي سابع عشريه: أمر السلطان بإهراق الخمور، وأبطل ضمانها وكان في كل سنة ألف دينار، وكتب بذلك ترقيما قرئ على المنابر.
وفيه خلع السلطان بالميدان، وفرق على ألف وسبعمائة شخص لثمان خيل، وفرق ألف وثمانمائة فرس، كل ذلك وهو جالس حتى فرغ وفيه لازم السلطان الصناعة. بمصر عدة أيام لرمي النشاب. وفيه ورد الخبر بأن الفرنج أغاروا على جهة الشاغور، وأخذوا غلة وخربوا وأحرقوا غلالا.
وفيها عزل شمس الدين أحمد بن محمد بن خلكان عن قضاء الشافعية بدمشق، وأعيد عز الدين أبو المفاخر محمد بن عبد القادر بن عبد الباقي بن خليل بن مقلد بن جابر، الشهير بابن الصائغ.
وفيها وصل سيل عظيم إلى دمشق، فأخذ كثيرا من الناس والدواب، وقلع الأشجار وردم الأنهار، وخرب الدور وارتفع حتى نزل مرامي السور، وذلك زمن الصيف.
وفيها ولي قضاء المالكية بمصر نفيس الدين أبو البركات محمد المخلص ضياء الدين أبي الفخر هبة الله بن كمال الدين أبي السعادات أحمد بن شكر المالكي. ولم يحج أحد في هذا العام من مصر، لا في البر ولا في البحر. وهجم مكة سيل عظيم في شعبان حتى دخل الكعبة.
ومات في هذه السنة من الأعيان
الأمير علم الدين سنجر الصيرفي، في سادس صفر بدمشق.
وتوفي قاضي القضاة المالكي شرف الدين عمر بن عبد الله بن صالح بن عيسي بن عبد الملك بن موسى بن خالد بن على بن عمر بن عبد الله بن إدريس بن إدريس بن الحسن بن الحسن بن على بن أبي طالب السبكي، في ليلة الخامس والعشرين من ذي القعدة، عن أربع وثمانين سنة. وولي بعده قضاء المالكية بالقاهرة نفيس الدين أبو البركات محمد بن القاضي المخلص ضياء الدين هبة الله أبو الفخر بن كمال الدين أبي السعادات أحمد بن شكر.
وتوفي الشريف إدريس بن على بن قتادة بن إدريس الحسني أمير مكة، قتيلا بظاهر مكة، فانفرد بعده أبو نمي بن أبي سعد.
وتوفي قاضي حماة شمس الدين أبو الظاهر إبراهيم بن المسلم بن هبة الله بن حسان ابن محمد بن منصور البارزي الجهني الحموي الشافعي، عن تسع وثمانين سنة بحماة.
وتوفي الأديب تاج الدين أبو المكارم محمد بن عبد المنعم بن نصر الله بن جعفر بن شقير المغربي الحنفي بدمشق، عن ثلاث وستين سنة.
وتوفي قطب الدين أبو محمد عبد الحق بن إبراهيم بن محمد بن نصر بن سبعين المرسي الصوفي بمكة، عن نحو خمسين سنة.
سنة سبعين وستمائة
أهلت والسلطان متشدد في إراقة الخمور وإزالة المنكرات، فكان لذلك يوما مشهودا. وفيه أفرج السلطان عن الأمير سيف الدين بيدغان الركني، وأعطاه إقطاعا بالشام، ثم أحضره بعد قليل، هو وسيف الدين ملاجا الركني، واشتراهما ورتبهما سلاح دارية وورد الخبر باختلاف الحال بين عيسي بن مهنا وبين العربان، وإنه يريد التوجه إلى التتار. فخشي السلطان إنه إن استدعاهم لا يحضروا، وإن توجه إلى الشام تسحبوا، فكتم أمره.
ونزل السلطان إلى الميدان في سابعه، وفرق في خواصه مبلغ أربعمائة ألف درهم نقرة، واثني عشر ألف دينار عينا، ونيفا وستين حياضة، وأمر بتحهيز العساكر إلى عكا بعد الربيع، ولازم النزول إلى الصناعة في كل يوم حتى تنجزت الشواني، ونزل الأمير آقسنقر الفارقاني. بمن معه من العسكر على جينين.
فلما كان ليلة السابع عشر: منه توجه السلطان بعد المغرب، ومعه جماعة يسيرة من خواصه، وأخفي حركته ورسم بأن أحدا من المجردين معه لا يشتري عليقا ولا مأكولا، وقرر لهم ما يحتاجون إليه. وسار إلى الزعقة، ثم عرج منها في البرية إلى الكرك، ودخلها من غير أن يعلم به أحد في سادس صفر، ونزل قلعتها. وقرر السلطان في نيابة الكرك علاء الدين أيدكين الفخري، ونقل الأمير عز الدين أيدمر نائب الكرك إلى نيابة الشام، ولم يظهر السلطان ذلك حتى نسلم أيدكين نيابة الكرك في ثامنه، واستدعى عز الدين أيدمر وأفهمه أنه طلبه لنيابة حصن الأكراد.
وسار السلطان إلى دمشق فدخلها في ثالث عشره من غير أن يعلم أحد بحضوره، وكان قبل دخوله إلى دمشق قد كتب القاضي فتح الدين بن عبد الظاهر بين يديه ثمانين كتابا في يوم وليلة، إلى النواب والأمراء بتفويض نيابة الشام لعز الدين أيدمر الظاهري، عوضاً عن أقوش النجيبي، وسير السلطان تشريفا للنجيبي نائب دمشق، وأمره أن يتوجه إلى مصر ويسلم الأمر لعز الدين أيدمر، فاعتمد ذلك.(1/201)
وأنفق السلطان فيمن خرج معه مالا وافرا وخيولا، وركب بهم في ليلة السادس عشر منه، ونزل خارج حماة بالجوسق، ونزل صاحب حماة في خيمة. ورتب السلطان أستادارا وأمير جاندار وحاشية السلطة، فإنه كان قد خرج من مصر جريدة، وقام له صاحب حماة بالأسمطة، وقدم عليه وهو بحماة جماعة من أكابر العرب فأكرمهم، وكتم عنهم أمره وما أظهر لهم شيئا، وكتب إلى عيسى بن مهنا يطلب منه خيولا عينها له ليطمنه، وكتب إليه: إنك بعثت وأنا. بمصر تطلب الحضور، فكتبت إليك لا تحضر حتى أطلبك، وقد حضرت إلى حماة فإن أردت الحضور فاحضر. فحضر عيسي وسأله السلطان عما نقل عنه، فقال. نعم والصدق أنجي من الكذب فأحسن السلطان إليه وإلى أكابر العرب.
وفي سادس عشريه: قدم شمس الدين بن نجم الدين صاحب الدعوة الإسماعيلية، فقبض عليه وعلى أصحابه وسيروا إلى مصر، واستمرت مضايقة حصونهم حتى تسلم نواب السلطان حصن الخواني وحصن العليقة.
وفي أول شهر ربيع الأول: ركب السلطان من ظاهر حماة بعد عشاء الآخرة، من غير أن يعلم أحد قصده، وسار على طريق حلب، ثم عرج من شيزر وأصبح على حمص، وتوجه إلى حصن الأكراد وحصن عكار وكشف أمورهما، وسار إلى دمشق، وكتب إلى مصر كتابا يقول فيه لأكابر الأمراء: ولدكم - ولبقيتهم أخوكم - ووالدكم يسلم عليكم ويتشوق إليكم، وإيثاره ألا يفارقكم. وإنما قدمنا راحتكم على راحتنا،. فطالما تعبوا واسترحنا ونعلمهم بالمتجددات ليكونوا لا كالمشاهدين وكمشاركينا في أكثر المجاهدين: فمنها حديث الإسماعيلية وحديث العربان، وقد ورد الخبر بحركة التتار، ولو عدنا لجفلت أهل البلاد. وأما الفرنج فعملوا سلالم من حديد، وعزموا على مهاجمة صفد ووردوا بيروت، فلما وصلنا البلاد انعكست آمالهم ومما يدل على التمكين تارة بالسيف وتارة بالسكين، أن صاحب مرقية الذي أخذنا بلاده توجه إلى التتار مستصرخا، وسيرنا وراءه فداوية، وقد وصل أحدهم وذكر إنهم قد قفزوا عليه وقتلوه، وبلغتنا حركة التتار وأنا والله لا أبيت إلا وخيلي مشدودة، وأنا لابس قماشي حتى المهماز " .
وورد الخبر بأن التتار أغاروا على عين تاب، وتوجهوا على العمق في نصف ربيع الأول، فكتب إلى مصر بتجريد الأمير بيسري بثلاثة آلاف فارس. وخرج البريد من دمشق في الثالثة من يوم الأحد ثامن عشره، فدخل القاهرة الثالثة من ليلة الأربعاء حادي عشريه، فخرج بيسري والعسكر بكرة يوم الأربعاء المذكور. وقدم التتار إلى حارم وقتلوه جماعة، وتأخر العسكر الحلبي إلى حماة، ووصل آقسنقر بالعسكر من جينين، فجفل أهل دمشق، وبلغ ثمن الجمل ألف درهم، وأجرته إلى مصر مائتي درهم. ودخل الأمير بيسري بالعسكر المصري إلى دمشق في رابع ربيع الآخر، فخرج السلطان بالعساكر إلى حلب، وجرد الأمير آقسنقر ومعه عدة من العربان إلى مرعش، وجرد الحاج طيبرس الوزيري والأمير عيسي بن مهنا إلى حران والرها. فوصل العسكر إلى حران وقتل من فيها من التتار، وهزم باقيهم.
فورد الخبر بأن الفرنج قد أغاروا على قاقون. بمواعدة التتار، وقتل الأمير حسام الدين الأستادار، وجرح الأمير ركن الدين الجالق، ورحل يجكا العلائي والي قاقون، فخرج السلطان من حلب، ومنع أحدا أن يتقدم حتى لا يعلم الفرنج خبره، ودخل إلى دمشق وبين يديه عدة من التتار المأسورين من حران، وسار الأمير أقوش الشمسي بعسكر عين جالوت، فولي الفرنج منهزمين من قاقون، وتبعهم العسكر فاسترجعوا منهم عدة من التركمان، وقتلوا كثيرا حتى أنه عد ما تلف من خيل الفرنج وبغالهم فكان خمسمائة رأس.
وخرج السلطان من دمشق في ثالث جمادى الأولى، ومعه عساكر مصر والشام للغلوة على عكا، فتكاثرت الأمطار عليه في مرج برغوث، وزاد الأمر عن الوصف، فكاد الناس يهلكون لعدم ما يستظلون به، فرد السلطان عسكر الشام وسار إلى مصر، فدخل قلعة الجبل في ثلث عشريه.
وقدمت هدية صاحب تونس، وفي مكاتبته تقصير في المخاطبة، ففرقت هديته على الأمراء، وكتب إليه بالإنكار عليه في التظاهر بالمنكرات واستخدام الفرنج، وكونه لم يخرج لما نازلوه، وكان مستخفيا، وقيل له: مثلك لا يصلح أن يلي أمور المسلمين، وخوف وأنذر، وقدمت رسل رجار وهو يشفع في صاحب عكا، والسلطان في الصناعة جالس بين الأخشاب والصناع، والأمراء تحمل بأنفسهم آلات الشواني وهي تمد فراعهم ما شاهدوا.(1/202)
وفي رجب: خرج السلطان متصيدا بجهة الصالحية، فورد الخبر بحركة التتار فعاد إلى القلعة، وخرج في ثالث شعبان إلى الشام، وأتته رسل الفرنج بعكا - وهو بالسواد - تطلب الهدنة، فسار وبعث إليهم الأمير فخر الدين أغار القرى، والصدر فتح الدين ابن القيسراني كاتب الدرج، في حادي عشري رمضان، ونزل السلطان. بمروج قيسارية فعقد الهدنة مع الفرنج لمدة عشر سنين وعشرة أشهر وعشرة ساعات من التاريخ المذكور وخرج أهل عكا لمشاهدة العسكر، فركب السلطان ولعب هو وجميع العسكر بالرمح.
ورحل السلطان إلى دمشق فدخلها ثاني شوال، وحضرت رسل التتار في طلب الصلح. فجهز السلطان إليهم الأمير مبارز الدين الطوري أمير طبر، والأمير فخر الدين القري الحاجب، ومعهما الرسل وهدية لأبغا بن هولاكو وغيره، فساروا في خامس عشره، فلما قدما على أبغا أكرمهما وأخلع عليهما وأعادهما.
وفيه كثر اشتغال السلطان بعمل النشاب بيده، فاقتدي به جميع الأمراء والخواص، وكتب إلى الملك السعيد وسائر النواب بذلك، فلم يبق أحد إلا وهو متوفر على العمل. وعمل السلطان جملة نشاب بيده، نحتها وريشها ونصلها.
فلما صحي السلطان توجه إلى حصن الأكراد، ووصل إليه في حادي عشري ذي الحجة، وشاهد العمارة به، وأمر جميع من معه من الأمراء بنقل حجارة المنجنيق إلى داخل القلعة، ونقل معهم بنفسه، ثم نزل وعمل بيده في مرئة مكان بالخندق، وحفر بنفسه، ثم سار إلى حصن عكار، وعمل في عمارته بيده أيضاً، وأمر برمي المنجنيقات ليعرف مواضع سقوط أحجارها، وعاد إلى حصن الأكراد، وخلع على من به من الأمراء وأرباب الوظائف، وخرج يتصيد، فكان الذي خلعه خمسمائة تشريف على من أحضر إليه الصيد.
وفي هذه السنة: امتحن قاضي القضاة شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عبد الواحد ابن على بن سرور بن واقع بن حسن بن جعفر المقدسي الحنبلي: وذلك أن القضاة الأربعة الذين ولاهم السلطان الملك الظاهر بديار مصر، كان كل منهم يستنيب قضاة عنه في النواحي، وكان لتقي الدين شبيب الحراني أخ ينوب عن قاضي القضاة شمس الدين الحنبلي بالمحلة فعزله، فغضب شبيب لذلك، وكتب ورقة للسلطان بأن عند القاضي القضاة شمس الدين الحنبلي ودائع للتجار من أهل بغداد وحران والشام، بجملة كبيرة وقد ماتوا، فاستدعاه السلطان وسأله عن ذلك، فأنكر وحلف ووري في يمينه، فأمر السلطان بالهجم على داره، فوجد فيها كثير مما ادعاه شيب: بعضه قد مات أهله، وبعضه لقوم أحياء فأخذ السلطان مما وجد لمدة الزكاة سنين، وسلم لمن كان حيا وداعته وغضب السلطان عليه واعتقله، وأوقع الحوطة على داره في يوم الجمعة ثاني شعبان.
وسار السلطان إلى الشام قاضي شمس الدين الحنبلي في الاعتقال. ممصر، فتسلط شبيب عليه وادعي أنه حشوي، وأنه يقدح في السلطان، وكتب بذلك محضراً، فأمر الأمير بدر الدين بيليك نائب السلطنة بعقد مجلس، فعقد في يوم الإثنين حادي عشره، وحضر الشهود، فنكل بعضهم وأقام بعضهم على شهادته فأحرق النائب. بمن شهد وجرسهم، وذلك إنه تبين له تحامل تقي الدين شبيب على القاضي، واعتقل شبيب ووقعت الحوطة على موجوده، وأعيد القاضي إلى اعتقاله بقلعة الجبل، فأقام معتقلا سنتين، ولم يول السلطان بعده قضاء الحنابلة أحدا.
وفيها قدم الشريفان جماز وغانم بن إدريس مكة، وملكاها أربعين يوما، ثم قدم أبو نمي فملكها منهما. وفيها ولدت زرافة بقلعة الجبل في جمادى الآخرة، فأرضتها بقرة، وليها ولدت امرأة بدمشق في بطن واحد سبعة بنين وأربع بنات، وكانت مدة حملها أربعة أشهر وعشرة أيام، فماتوا كلهم وعاشت الأم.
ومات في هذه السنة من الأعيان
تاج الدين أبو القاسم عبد الرحمن بن رضي الدين أبي عبد الله محمد بن عماد الدين أبي حامد محمد بن يونس الموصل الشافعي، عن اثنتين وسبعين سنة ببغداد.
وتوفي كمال الدين أبو الفضل سلار بن الحسن بن عمر بن سعيد الإربلي الشافعي، بدمشق عن سبعين سنة.
وتوفي عماد الدين أبو عبد الله محمد بن سني الدين أبي الغنائم سالم بن الحسن بن هبة الله محفوظ بن صصرى التغلبي الدمشقي، بها عن، سبعين سنة.
وتوفي أمين الدين أبو الحسن على بن عثمان بن على بن سليمان الإربلي الأديب الشاعر، وقد ترك الجندية وتنتك، عن ثمان وستين سنة، بطريق الفيوم.(1/203)
ومات ببلد الخيل عليه السلام الشيخ على البكا، الرحل الصالح، في أول شهر رجب، وله كرامات كثيرة.
سنة إحدى وسبعين وستمائة
في خامس المحرم: دخل السلطان إلىدمشق، وقد تواترت الأخبار بحركة التتار، فركب خيل البريد من دمشق في ليلة سادسه بعد عشاء الآخرة، ومعه الأمير بيسري، والأمير أقوش الرومي، وجرمك السلاح دار، وجرمك الناصري، وسنقر الألفي السلاح دار، وعلم الدين شقير مقدم البريد. وساق فدخل قلعة الجبل في يوم السبت ثالث عشره على حين غفلة، و لم يشعر الناس إلا وقد دخل باب القلعة راكبا، ثم ركب إلى الميدان ولعب بالكرة، وأمر بتجهيز العساكر إلى الشام. وكتب السلطان إلى الأمراء المقيمين بدمشق، وذكر في الكتب أنه سطرها من البيرة بحكم أنه توجه لتدبير أمورها، وسير علائم بخطه ليكتب عليها من دمشق أجوبة البريد للأطراف، وكان الأمير سيف الدين الدوادار قد أقام بقلعة دمشق ليجهز الكتب والبريدية.
وفي يوم الإثنين خامس عشره: ركب السلطان إلى مصر، وركب في البحر ولعبت الشواني قدامه.
وفي ليلة الأربعاء سابع عشره: جهز العسكر المجرد إلى الشام.
وفي ليلة تاسع عشرة: توجه السلطان إلى الشام بمن حضر معه على البريد، فدخل قلعة دمشق ليلا.
وفي صفر: قدمت رسل الملك أبغا ورسل الروم، فلم يحتفل بهم، وأمروا أن يضربوا جوكا قدام نائب حلب وقدام صاحب حماة. وكان مجيؤهم بأن يحضر سنقر الأشقر حتى يمشي في الصلح، ثم غيروا كلامهم وقالوا: يمشي السلطان أو من يكون بعده في المنزلة إلى أبغا لأجل الصلح فقال السلطان للرسل: بل أبغا إذا قصد الصلح يمشي هو فيه أو أحد من إخوته وأمر السلطان بلبس العساكر فلبسوا عدد الحرب ولعبوا في الميدان خارج دمشق، والرسل تشاهد ذلك، ثم سفروا في رابع ربيع الأول. وفيه تسلم السلطان سهيرن من سابق للدين وفخر الدين ولدي سيف الدين أحمد بن مظفر الدين عثمان بن منكبرس بعد موته، وكان هذا بوصيته لهما بذلك، فأمرهما السلطان وأحسن إليهما، وقدم أهلهما إلى دمشق.
وفي خامس جمادى الأولى: ورد الخبر بنزول التتار على البيرة ونصبهم المجانيق عليها وإنهم قد حفظوا محاوض الفرات ونزلوا عليها، ليعوقوا من يصل إليهم. فجهز السلطان الأمير فخر الدين الحمصي بعدة من عسكر مصر والشام إلى جهة حارم، وجهز الأمير علاء الدين الحاج طيبرس الرزبري في جماعة، ورحل هو من ظاهر دمشق في ثامن عشر جمادى الأولى، ومعه مراكب مفصلة محمولة. وجد للسلطان في المسير حق وصل إلى الفرات، فوجد التتار على الشط، فألقى المراكب التي حملها معه في الفرات وأشحنها بالمقاتلة، فتراموهم والتتار. واقتحم الأمير قلاوون الألفي الصالحي الفرات، فخاض ومعه عدة وافرة، وصدم التتار صدمة فرقهم بها ومزقهم، فألقت الأطلاب أنفسها في الفرات، وساقوا فيها عوما الفارس إلى جانب الفارس، وهم متماسكون بالأعنة ومجاديفهم ورماحهم، وعليهم وعلى خيولهم الحديد، وازدحموا في الماء، فكان لقعقعة السلاح وأمواج الماء هول مفزع وطلع السلطان في أولهم، وصلي في منزلة العدو ركعتين شكراً لله تعالي، وبث العساكر يميناً وشمالا، فقتلوا وأسروا عدداً كثيراً.
وبات العسكر ليلة الإثنين، فورد الخبر بهزيمة التتار من البيرة مع مقدمهم درباي، وتركهم الأثقال والأزواد، وأن أهل البيرة أخذوا ذلك فتقووا به وأقام السلطان ينتظر من يلاقيه من التتار فلم يأت أحد، فعدي بجميع عساكره في الفرات كما فعلوا أول مرة ونزل بهم في ذلك ما لا يوصف من كثرة المشقة، وعظم الهول حتى طلعت العساكر إلى البر وسار السلطان إلى البيرة، وخلع على نائبها وأعطاه ألف دينار، وعم بالتشاريف والأنعام أهل البيرة، وفرق فيهم مائة ألف درهم فضة، وجرد هناك عدة من العسكر زيادة على من كان فيها، وسار إلى دمشق فدخلها في ثالث جمادى الآخر والأسري بين يديه. وخرج السلطان إلى مصر، فوصل قلعة الجبل في خامس عشريه، وأفرج عن الأمير عز الدين الدمياطي، وأنزله بدار الوزارة وأجري عليه الرواتب، ثم استدعاه وشرب معه القمز، وقد حضر أكابر الأمراء لذلك، فلما ناوله السلطان الهناب بيده وهو مملوء قال عز الدين: يا خوند لقد شبنا وشاب نبيذنا. وعم السلطان بالخلع الأمراء والوزراء والقضاة والمقدمين، وجهز رسل الملك منكوتمر ورسل الملك الأشكري ورسل الدعوة، فساروا في شعبان.(1/204)
وفي ثاني عشر شوال: قبض على الشيخ خضر بن أبي بكر بن موسى شيخ السلطان، وكان السلطان قد استدعاه إلى القلعة، وأحضر جماعة ليحاققوه على أشياء كبيرة بدت منه كاللواط والزنا وغيره، فأمر السلطان باعتقاله، وسجن بقلعة الجبل.
وفي ثاني عشري ذي الحجة: استولي السلطان على بقية حصون الدعوة الإسماعيلية: وهي الدينقة والقدموس والكهف، وأقيمت هناك الجمعة وترضي عن الصحابة بها، وعفيت المنكرات منها، وأظهرت شرائع الإسلام وشعائره.
وفي هذه السنة: سار والي قوص من أسوان حتى قارب دنقلة من بلاد النوبة، وقتل وأسر ثم عاد. وفيها استولي السلطان على عامة مدن برقة وحصونها. وفيها حصل الاحتفال بأمر الشواني ونصب المجانيق على أسوار الإسكندرية، فكمل هناك نصب مائة منجنيق، وذلك لكثرة الإشاعة بحركة الفرنج لقصد ثغور ديار مصر. وفيها فتحت قلعة كينوك من بلاد الأرمن، على يد الأمير حسام الدين لاجين العنتابي. وفيها تنجزت عمارة صخرة بيت المقدس. وفيها نزل السلطان يعوم في النيل وهو لابس زردية مستبلة، وعمل بسطا كبيرة، وأركب فوقها الأمير حسام الدين الدوادار، والأمير علاء الدين أيدغدي الأستادار، وجرها وجر فرسين وهو يعوم لابس الزردية من البر إلى البر.
ومات في هذه السنة من الأعيان
شهاب الدين أبو صاح عبيد الله بن الكمال أبي القاسم عمر بن الشهيد شهاب الدين أبي صالح عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن الحسن بن العجمي الحلبي، بها عن اثنتين وستين سنة.
وتوفي فخر الدين أبو محمد عبد القاهر بن عبد الغني بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني الحنبلي، عن نحو ستين سنة بدمشق.
وتوفي الأديب مخلص الدين أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن هبة الله بن قرناص الحموي.
وتوفي الشريف شرف الدين أبو عبد الله محمد بن رضوان الحسيني، الناسخ الكاتب المجود المؤرخ، عن تسع وستين سنة.
سنة اثنتين وسبعين وستمائة
في المحرم: نقض باب القصر المعروف بباب البحر تجاه المدرسة الكاملية بين القصرين لأجل نقل عمد منه لبعض العمائر السلطانية، فوجد فيه صندوق في داخله صورة من نحاس أصفر، مفرغ على كرسي شكل هرم ارتفاعه قدر شبر بأرجل نحاس، والصنم جالس عليه ويداه مرتفعتان تحملان صفحة دورها ثلاثة أشبار مكتوبة بالقبطي، وإلى جانب الكتابة في الصحيفة شكل له قرنان يشبه شكل السنبلة، وإلى الجانب شكل ثان وعلى رأسه صليب، وشكل ثالث في يده عكاز وعلى رأسه صليب. ووجد مع هذا الصنم في الصندوق لوح من ألواح الصبيان، قد تكشط أكثر ما فيه من الكتابة وبقي فيه بيبرس، فتعجب من ذلك.
وفيه وردت الأخبار بحركة الملك أبغا، فخرج السلطان من قلعة الجبل في ليلة سادس عشريه، ومعه الأمير سنقر الأشقر، والأمير بيسري، والأمير أنامش السعدي. فلما وصل السلطان عسقلان كتب إلى القاهرة بخروج العساكر جميعها والعربان من ديار مصر، صحبه الأمير بيليك الخازندار، ورسم بأن كل من في سائر مملكته له فرس فإنه يخرج إلى الغزاة، وأن تخرج كل قرية من قري الشام رجالة يركبون الخيل على قدر حالهم، ويقوم من بالقرية بكلفة من يتوجه، ودخل السلطان إلى دمشق في سابع عشر صفر.
فخرج من عساكر مصر في حادي عشره عدة أربعة آلاف فارس، صحبة مقدميهم: وهم الأمير علاء الدين طيبرس الوزيري، وجمال الدين أقوش الرومي، وعلاء الدين قطليجا، وعلم الدين ططح. ثم خرج في ثامن عشره الأمير بيليك الخازندار بطائفة، فورد مرسوم السلطان على الأمير بيليك بالنزول قريبا من يافا، وعندما قارب عسكر مصر دمشق ركب السلطان من دمشق في نحو أربعين نفسا جرائد بغير ركيدار، وقد طلب العسكر وقارب المنزلة فاعترض السلطان العسكر، وكان قد تلثم هو وجماعته، فظنهم حجاب من بعض التركمان، فأمروهم بالترجل فأبوا، وساق السلطان بمفرده، وجاء خلف سناجق وحسر لثامه عن وجهه، فعرفه السلاح دارية، ودخل السلطان وساق في ركبه، فنزل الناس وقبلوا الأرض، وسار حتى نزل ورتب العسكر. وأصبح السلطان فركب في موكبه، وقضي أشغال الناس إلى أن أمسي، ثم ركب بمن حضر معه إلى دمشق، وأصبح راكبا في موكبه. وفي مدة غيبته كان الأمير سيف الدين الدوادار يرتب الأمور بدمشق، ويكتب الأجوبة على علائم فوق أوراق بيض.(1/205)
وفيه فر الأمير شمس الدين بهادر بن الملك فرج من التتار إلى السلطان بيبرس. وكان الملك فرج في أول أمره أمير طشت السلطان جلال الدين خوارزم شاه، وكان له سميساط، وبعد وفاة جلال الدين سلك قلعة كيران وعدة قلاع بناحية تقجوان ثم وصل الملك فرج هذا إلى بلاد السلاجقة الروم، فقطع بها ناحية أفصرا. وكان بهادر قد كاتب السلطان بيبرس وراسله وتقرب إليه بإعلامه بحقيق؛ أخبار العدو فعلم به التتار فأمسكوه وحملوه إلى الأردو، فهرب وحضر إلى البيرة، ووصل إلى دمشق وبها الملك الظاهر، فأكرمه وأعطاه بمصر إمرة عشرين فارسا. وخرج السلطان من دمشق إلى مصر، فدخل قلع؛ الجبل في رابع عشري جمادى الآخرة. فتواترت الأخبار بحركة التتار، فرسم للأمير عيسي بن مهنا أمير العرب بالغارة، فأغار ووصل إلى الأنبار في ثامن عشر شعبان، فظن التتار أن السلطان قد قدم، فانهزموا إلى أبغا، فرجع إلى بلاده.
وفي نصف شعبان: أفرج عن قاضي القضاة شمس الدين الحنبلي.
وفي شهر رمضان: رسم للعسكر بالتأهب للعب القبق ورمي النشاب، فيكب من كل عشرة فارسان في أحسن زيهم وقت الحرب، وركب السلطان في مماليكه ودخلوا في الطعن بالرماح، ثم أخذ السلطان الحلقة ورمى النشاب، وجعل لمن أصاب من الأمراء فرسا من خيله الخاص بتشاهيره، وقلسلقة والبحرية بغلطاق. فاستمر ذلك أياما، تارة يكون اللعب فيها بالرمح وتارة بالنشاب وتارة بالدبابيس، وفرق السلطان فيها من الخيل والبغالطق جملة. وساق السلطان يوما عادته في اللعب، وسل سيفه فسلت مماليكه سيوفها، وحمل هو ومماليكه الخواص حملة وحمل واحد واصطدموا، فكان منظرا مهولا، وأطلق السلطان من التشاريف ما عم به سائر من في خدمته: من ملك وأمير ووزير، ومقدمي الحلقة والبحرية، ومقدمي المماليك والمفردية، ومقدمي البيوتات السلطانية، وكل صاحب شغل وجميع الكتاب والقضاة، وسائر أرباب الوظائف.
وفي يوم عيد الفطر: ختن الأمير نجم الدين خضر ابن السلطان وعده من أولاد الأمراء، وجري السلطان على عادته في عدم تكليف الناس، فلم يقبل من أحد هدية ولا تقدمة، ولم يبق من لا شمله إحسانه من سائر الطوائف، إلا المغاني وأرباب الملاهي فإنه لم تنفق لهم في طول أيامه سلع؛، ولا نالهم منه رزق ألبتة.
وفي ثاني عشر شهر رمضان: سار الملك السعيد من قلعة الجبل في عدة من الأمراء جريدة إلى الشام، من غير أن يعلم به أحد، فدخل دمشق في سادس عشريه على حين غفلة من النائب، بحيث لم يشعر به العسكر إلا وهو بينهم في سوق الخيل، فقبلوا له الأرض، ودخل الملك السعيد إلى القلعة وأراد لعب القبق خارج دمشق، فمنعته كثرة الأمطار.
وفي ليلة عيد الفطر: خلع الملك السعيد على أمراء الشام والمعكمين والمفاردة والأكابر، وخرج يتصيد بالمرج، وسار إلى الشقيف وصفد، وتوجه إلى القاهرة فوصل قلعة الجبل في حادي عشري شوال.
وفي هذه السنة: كان بمصر وأريافها وباء، هلك فيه خلق كثير أكثرهم النساء والأطفال. وحصل في بلاد الرملة وبلاد القدس مرض وحميات، فقدم رجل نصراني إلى الأمير غرس الدين بن شاور والي الرملة، وقال له: هذه الآبار قد حاضت، كما جرى في السنة التي جاء فيها التتار فيها إلى الشام. وإن الفرنج بعثوا إلى قرية عابود في الجبل، وأخذوا من مالها وصبوه في الآبار فزال الوخم، وأشار بعمل ذلك فبعث والي الرملة إلى القرية المذكورة، وأخذ من مائها وصبه في الآبار التي بيافا، وكان الماء قد كثر فيها فنقصت إلى حدها المتعارف، وكتب إلىالسلطان بذلك وقيل له: إن هذه الآبار إناث تحيض، وآبار الجبل ذكور ومنها آبار قرية عابود المذكورة.
وفيها ولي تقي الدين أبو عبد الله محمد بن يحيي الرقي قضاء الشافعية بحلب، بعد وفاة محيي الدين محمد بن الأستاذ.
ومات في هذه السنة من الأعيان
الأمير فارس الدين أقطاي الصغير المستعرب الصالحي النجمي، أتابك العساكر بديار مصر، عن سبعين سنة في تاسع جمادى الأولى.
ومات الأمير حسام الدين لاجين الأيدمري المعروف بالدرفيل، داودار السلطان.
وتوفي قاضي حلب محيي الدين أبو المكارم محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان بن الأستاذ الشافعي بها، وقدقدم القاهرة ودرس بالمسرورية.
وتوفي قاضي قضاة دمشق كمال الدين أبو الفتح عمر بن شداد بن علي التقايسي الشافعي، عن سبعين سنة بالقاهرة.(1/206)
وتوفي مؤيد الدين أبو المعالي أسعد بن المظفر بن أسعد بن حمزة بن القلانسي التميمي، خارج دمشق عن ثلاث وسبعين سنة بعد ما قدم القاهرة.
وتوفي النحوي جمال الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني بدمشق، عن بضع وسبعين سنة.
وتوفي تقي الدين أبو إسماعيل بن إبراهيم بن شاكر بن أبي اليسر التنوخي المعوي، المحدث الأديب كاتب الإنشاء، عن ثلاث وثمانين سنة بدمشق.
وتوفي المسند نجيب الدين أبو الفرج عبد اللطف بن عبد المنعم بن علي بن نصر الحراني، مدرس دار الحديث الكاملية، عن خمس وثمانين سنة بالقاهرة وتوفي جمال الدين أبو عيسي عبد الله بن عبد الواحد بن محمد بن عبد الواحد بن علاقة الأنصاري، عن ست وثمانين سنة.
وتوفي أبو عبد الله محمد بن سليمان الشاطبي بالإسكندرية، عن بضع وثمانين سنة ومات ببغداد العلامة نصير الدين محمد بن محمد بن الحسن الطوسي الإمام المشهور، في ذي الحجة. وقد خدم أولاد صاحب الألموت، ثم خدم هولاكو وحظي عنده، وعمل له رصدا. بمراغة، وصنف، كتبا عديدة. وقد توفي في جمادى الأولى سنة سبع وسبعين وخمسمائة.
سنة ثالث وسبعين وستمائة
في المحرم: قدم الملك المنصور محمد صاحب حماة إلى قلعة الجبل، ومعه أخوه الملك الأفضل علي، وولده المظفر تقي الدين محمود فأنزل بمناظر الكبش، وعندما حل بها وصل إليه الأمير آقسنقر الفارقاني الأستادار بالسماط، فمده بين يديه ووقف كما يقف بين يدي السلطان فلم يدعه الملك المنصور يقف وما زال به حتى جلس، فلما فرغ السماط قدمت الخلع والتعابي وغيرها.
وفي ثامن صفر: توجه السلطان من قلعة الجبل، وسار إلى الكرك فأقام بها ثلاثة عشر يوما، وكشف أحوال الشوبك، وعاد إلى قلعة الجبل ثاني عشري ربيع الأول. ثم توجه إلى العباسية ومعه الملك السعيد، فصرع الملك أوزة خبية. وقيل له: لمن تدعي فقال: لمن أدعو بحياته، ومن أتقرب إلى الله بدعواته، الذي حسبي افتخارا أن أقول والدي، ومن يتمرن لصرع أعدائه ساعدي، فقبله السلطان ووهبه من كل شيء.
وفيها تحيل السلطان على استخلاص رؤساء الشمواني الذين أسروا بقبرص ميناء نمسون، وكان الفرنج لما كسرت الشواني على قبرص وأسروا من فيها، السلطان الأمير فخر الدين المقري الحاجب إلى صور لابتياع الأسري، فتغالى الفرنج الرؤساء وباعوا القواد والرماة لطائفة منهم، فغادوا بهم أسرى أطلقهم السلطان، وبقي الاحتفاظ على الرؤساء وهم ستة: منهم رئيس الإسكندرية ورئيس دمياط، فحبسوهم بعكا في قلعتها. فبعث السلطان إلىالأمير سيف الدين خطابا وهو بصفد يأمره بالتحيل في سرقتهم، فأرغب الموكلين بهم بالمال حتى وصل إليهم بمبارد ومناشير، وسرقوا من جب قلعة عكا، وساروا في مركب إلى خيل قد أعدت لهم، فركبوها ووصلوا إلى القاهرة. ولم يشعر بهم الفرنج حتى قدموا على السلطان، فكانت بعكا لأجلهم فتنة بين الفرنج.
وقدم كتاب متملك الحبشة وهو الحطي يعني الخليفة، يخاطب السلطان فيه بعبارة: أقل المماليك يقبل الأرض وينهي، وسال فيه أن يجهز له مطران من عند البطرك، فأجيب. وسار السلطان إلى الإسكندرية، وأمر ببناء ما تهدم من المنار، وعاد إلى قلعته. وكتب السلطان بأن تخرج عساكر حلب للغارة، فخرجت وأغارت على بلاد سيس، وغنموا وقلعوا أبواب ربض مرعش.
وفي ثالث شعبان: توجه السلطان من قلعة الجبل إلى الشام، فدخل دمشق في سلخه، وخرج منها في سابع رمضان فدخل حماة، ثم صار منها بالعساكر والعربان. وجرد السلطان عيسي بن مهنا، والأمير حسام الدين العنتابي، بعسكر إلى البيرة، وجهز الأمير قلاوون الألفي والأمير بيليك الخازندار، بعسكر إلى بلاد سيس، فساروا وهجموا النصيصة على الأرمن، وقتلوا من بها، وكانت المراكب قد حملت معهم على البغال وهي مفصلة، ليعدوا فيها من نهر جهان والنهر الأسود، فلم يحتج إليها.(1/207)
ووصل السلطان على الأثر بعد ما قطع بعساكره النهر الأسود وقاسوا مشقة، وملكوا الجبال وغنموا عنها ما لا يحصى كثرة، ما بين أبقار وجواميس وأغنام. فدخل السلطان إلى سيس وهو مطلب في تاسع عشريه وعيد بها، وانتهبها وهدم قصور التكفور ومناظره وبساتينه، وبعث إلى دربند الروم، فاحضر إليه من سبايا التتار عدة نساء وأولاد، وسير إلى طرسوس، فأحضر إليه منها ثلاثمائة رأس من الخيل والبغال، وبعث إلى البحر عسكرا فأخذ مراكب، وقتل من كان فيها. وانبثت الغارات في الجبال، فقتلوا وأسروا وغنموا. وبعث السلطان إلى أياس بالعساكر، وكانت قد أخليت، فنهبوا وحرقوا وقتلوا جماعة، وكان قد فر من أهلها نحو الألفين ما بين فرنج وأرمن في مراكب، فغرقوا بأجمعهم في البحر، واجتمع من الغنائم ما لا يحصره قلم لكثرته، ووصلت العربان والعسكر إلى البيرة وساروا إلى عين تاب وغنموا، فانهزم التتار منهم وعادوا. فرحل السلطان من سيس إلى المصيصة من الدربند، فلما قطعه جعل الغنائم بمرج أنطاكية حتى ملأته طولا وعرضا، ووقف بنفسه حتى فرقها، و لم يترك صاحب سيف ولا قلم حتى أعطاه، ولم يأخذ لنفسه منها شيئا. فلما فرغ من القسمة سار إلى دمشق، فدخلها في النصف من ذي الحجة.
وفيها ولي قضاء الحنفية بدمشق مجد الدين أبو محمد عبد الرحمن بن الصاحب كمال الدين عمر بن العديم، بعد وفاة شمس الدين عبد الله بن محمد بن عطاء الأذرعي.
ومات فيها من الأعيان
قاضي القضاة الحنفي بدمشق شمس الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن عطاء بن الحسن بن عطاء الأذرعي، عن ثمان وسبعين سنة.
وتوفي أمين الدين أبو بكر محمد بن علي بن موسى بن عبد الرحمن الخزوجي المحلي النحوي الأديب.
وتوفي الحافظ جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن أحمد بن محمود بن أحمد الأسدي الدمشقي المعروف باليغموري، بالمحلة من أعمال القاهرة، عن نيف وسبعين سنة.
وتوفي الحافظ وجيه الدين أبو المظفر منصور بن مسلم بن منصور بن فتوح بن العماد الهمداني، الإسكندري الملكي المؤرخ، عن ست وستين سنة بالإسكندرية.
سنة أربع وسبعين وستمائة
في ثامن المحرم: وصل الأمير سيف الدين بلبان الدوادار إلى طرابلس في تجمل كبير، ومعه كتاب السلطان إلى متملكها، فما زال حتى قرر عليه في كل سنة عشرين ألف دينار صورية وعشرين أسيراً.
وفي رابع عشريه: خرج الأمير بدر الدين الخازندار من دمشق لإحضار الملك السعيد، ومعه أولاد الأمراء، فوصل إلى قلعة الجبل وخرج بالملك السعيد على خيل البريد في سلخه، فوصل إلى دمشق في سادس صفر، وتلقاه السلطان ودخل به إلى قلعة دمشق.
وفي صفر: هذا توجه السلطان أبو يوسف بن عبد الحق ملك المغرب لجهاد الفرنج، فقتل الطاغية في المعركة في نحو ستة آلاف، ولم يقتل من المسلمين إلا نحو ثلاثين رجلا وبلغت الغنائم من البقر مائة ألف وأربعة وعشرين ألفا، وبلغ الأسرى سبعة آلاف أسير، وعجزت القدرة عن إحصاء الغنم، حتى أبيعت الشاة بدرهم، وحمل الكراع على أربعة عشر ألف وستمائة جمل.
وفيها نبش عمال بني مرين قبور خلفاء الموحدين، وأخرجوا عبد المؤمن بن على وابنه يعقوب المنصور من قبريهما، وقطعت رأسهما، وضربت أعناق من كان بجبل تينتمل وصلبوا. بمراكش وأخذت أموالهم. وفيها بنيت فاس الجديد وصارت دار ملك بني مرين.
وفي ثالث عشرى جمادى الأولى: أخذ السلطان القصير حصن أنطاكية وحمل أهله إلىالجهات التي قصدوها. وقدم الخبر بورود التتار إلىالبيرة، فجمع السلطان للعساكر وأنفق، وخرج من دمشق إلى حمص، فجاء الخبر برجوع التتار فعاد إلى دمشق.
وفي هذه الأيام: اختلفت أمراء الروم على البرواناه، ففارقه جماعة من قيسارية، وقدم منهم إلى السلطان الأمير ضياء الدين محمود بن الخطير، والأمير سنان الدين موسى بن طرنطاي، ونظام الدين أخو مجد الدين الأتابك بعيالاتهم يريدون الانتماء إليه، فجهزهم السلطان إلى القاهرة، ثم إن محمود بن الخطير سعي بهم، فاعتقلوا بقلعة الجبل مدة ثم أطلقوا.(1/208)
وفي مستهل رجب: توجه السلطان من دمشق إلى مصر، فدخل قلعة الجبل في ثامن عشره، وقدمت هدية صاحب اليمن، ومن جملتها كركدن وفيل وحمار وحش عتابي، فسير السلطان إليه هدية مع رسله، وجهز السلطان هدية للملك منكوتمر مع الأمير عز الدين أيبك الفخري، وجهز رسل الأشكري، ورسل الملك الفنش ورسل جنوة.
وفيها حضر ابن أخت ملك النوبة واسمه مشكد متظلما من داود ملك النوبة، فجرد السلطان معه الأمير آقسنقر الفارقاني، بعده من العسكر وأجناد الولاة والعربان، ومعه الزراقون والرماة ورجمال الحراريق والزردخاناه، فخرج في مستهل شعبان حتى عدي أسوان، وقاتل الملك داود ومن معه من السودان، فقاتلوه على النجب، وهزمهم وأسر منهم كثيراً. وبث الأمير آقسنقر الأمير عز الدين الأفرم، فأغار على قلعة الدقم، وقتل وسبي، ثم توجه الأمير سنقر في أثره يقتل وياسر حتى وصل إلى جريرة ميكاليل وهي رأس جنادل النوبة فقتل وأسر وأقر الأمير آقسنقر قمر الدولة صاحب الجبل وبيده نصف بلاد النوبة على ما بيده، ثم واقع الملك داود حتى أفني معظم رجماله قتلا وأسرا، وفر داود بنفسه في البحر وأسر أخوه شنكو، فساق العسكر خلفه ثلاثة أيام، والسيف يعمل فيمن هناك حتى دخلوا كلهم في الطاعة، وأسرت أم الملك داود وأخته.
وأقيم مشكد في المملكة، وألبس التاج وأجلس في مكان داود، وقررت عليه القطعة في كل سنة وهي فيلة ثلاثة، وزرافات ثلاث، وفهود إناث خمس، وصهب جياد مائة، وأبقار جياد منتخبة مائة وقرر أن تكون البلاد مشاطرة، نصفها للسلطان ونصفها لعمارة البلاد وحفظها، وأن تكون بلاد العلى وبلاد الجبل للسلطان وهي قدر ربع بلاد النوبة لقربها من أسوان، وأن يحمل القطن والتمر مع الحقوق الجاري بها العادة من القديم وعرض عليهم الإسلام أو الجزية أو القتل فاختاروا الجزية، وأن يقوم كل منهم بدينار عينا في كل سنة. وعملت نسخة يمين بهذه الشروط، وحلف عليها مشكر وأكابر النوبة، وعملت أيضاً نسخة للرغبة بأنهم يطيعون نائب السلطان مادام طائعا، ويقومون بدينار عن كل بالغ. وخربت كنيسة سرس، التي كان يزعم داود أنها تحدثه بما يرديه، وأخذ ما فيها من الصلبان الذهب وغيرها، فجاءت مبلغ أربعة آلاف وستمائة وأربعين دينارا ونصف، وبلغت الأواني الفضة ثمانية آلاف وستمائة وستين دينارا. وكان داود قد عمرها على أكتاف المسلمين الذين أسرهم من عيذاب وأسوان، وقرر على أقارب داود حمل ما خلفه من رقيق وقماش إلى السلطان، وأطلقت الأسري الذين كانوا بالنوبة من أهل عيذاب وأسوان، وردوا إلى أوطانهم. من العسكر من الرقيق شيئاً كثيراً، حتى أبيع كل رأس بثلاثة دراهم، وفضل بعد القتل والبيع عشرة آلاف نفس، وأقام العسكر. بمدينة دمقلة سبعة عشر يوما، وعادوا إلى القاهرة في خامس ذي الحجة بالأسرى والغنائم، فرسم السلطان للصاحب بهاء الدين بن حنا أن يستخدم عمالا على ما يستخرج من النوبة من الخراج والجزية بدمقلة وأعمالا، فعمل لذلك ديوان.
وفي ثاني عشره: اجتمع القضاة والأمراء والأعيان بقلعة الجبل، وعقد للملك السعيد على غازية خاتون ابنه الأمير قلاوون الألفي، بوكالة الأمير بدر الدين بيليك الخازندار نائب السلطة عن الملك السعيد. فقبل العقد عن الأمير قلاوون الأمير آقسنقر الفارقاني، على صداق مبلغه خمسة آلاف دينار، المعجل منها ألفا دينار، وكتب الصداق بخط القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، وإنشائه، ومن جملته: هذا كتاب تحاسدت رماح الخط وأقلام الخط على تحريره، وتنافست مطالع الأنوار ومشارق الأنوار على تسطيره، وأضاء نوره بالجلالة وأشرق، وهطل نوره بالإحسان وأغدق، وتناسبت فيه أجناس تجنيس لفظ الفضل فقال الاعتراف هذا ما تصدق، وقال العرف هذا ما أصدق.
وفيه شنق السلطان الطواشي شجاع الدين عنبر المعروف بصدر الباز وكان قد تمكن منه تمكنا عظيما من أجل أنه شرب الخمر، وعلقه تحت قلعة الجبل.(1/209)
وعندما انقضي أمر العقد، ركب السلطان من يومه على الهجن في نفر يسير، وسار إلى الكرك فدخلها في ثالث عشريه، وهو يريد القبض على الأمير سابق الدين عبية، فلما بلغه حضور السلطان قدم عليه، فرعي له ذلك وزاد إقطاعه، ونظر السلطان في أمر أهل الكرك، وقطع أيدي ستة منهم اتهموا بأنهم قد عزموا على إثارة فتنة، ورتب رجالا بها عوضاً عمن كان فيها. وفيها أقام حجاج مصر بمكة ثمانية عشر يوما، وبالمدينة النبوية عشرة أيام، وهذا لم يعهد مثله.
ومات في هذه السنة من الأعيان
الأمير ركن الدين خاص ترك الكبير، أحد الأمراء الأكابر بدمشق، في ثالث عشر ربيع الأول.
ومات الأمير حسام الدين قيماز الكافري، نائب حصن الأكراد والسواحل والفتوحات.
وتوفي سعد الدين أبو العباس الخضر بن التاج أبي محمد عبد الله بن العماد أبي الفتح عمر بن على بن محمد بن حمويه الجويني شيخ الشيوخ بدمشق، بها عن نيف وثمانين سنة.
وتوفي تاج الدين أبو الثناء محمود بن عابدين الحسين بن محمد بن على التميمي الصرخدي الحنفي، بدمشق عن ست وتسعين سنة.
وتوفي زين الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن جبريل، الإنشاء لقلعة الجبل في000.
وتوفي كمال الدين أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحيم بن على بن إسحاق بن على شيث الأموي.
وتوفي الأديب أبو الحسن على بن أحمد بن العقيب العامري ببعلبك.
سنة خمس وسبعين وستمائة
في المحرم: سار السلطان من الكرك، فدخل إلى دمشق في رابع عشره، وقدم عليه عدة من أمراء الروم مغاضبين للبرواناه، وهو معين الدين سليمان بن على بن محمد بن حسن، وكان منهم الأمير حسام الدين بينجار الرومي، وبهادر ولده، وأحمد بن بهادر، واثنا عشر من أمراء الروم بأولادهم ونسائهم، من جملتهم قرمشي وسكتاي ابنا قراجين بن جيفان نوين، فأحسن السلطان إليهم، وبعث حريمهم إلى القاهرة، وأجري عليهم الأرزاق، ثم وصل الأمير سيف الدين جندر بك صاحب الأبلستين، والأمير مبارز الدين سوار بن الجاشنكير، في كثير من أمراء الروم، فتلقاهم السلطان بنفسه وأكرمهم ثم كتب السلطان إلى الأمراء بمصر يستشيرهم في بعث عسكر إلى الروم، وأن يحضر الأمير بيسري والأمير أقش. مما يتفق الرأي عليه، فحضرا على البريد، ووصل أيضاً الأمير سنقر الأشقر، وتتابع وصول حريم أمراء الروم، فأكرمهم السلطان وجهزهم إلى القاهرة، وسار السلطان إلى حلب، وجرد منها الأمير سيف الدين بلبان الزيني الصالحي في عسكر، فوصلوا إلى عين تاب.
وعاد السلطان من حلب إلى مصر، فدخل قلعة الجبل في رابع عشر ربيع الأول، ورسم بتجهيز مهمات العرض، فأخذ الناس في التجهيز، وغلت الخيول والأسلحة، وعدم صناع صقل العدد من القاهرة لاشتغالهم بالعمل عند الأمراء، وعز وجود صناع النشاب ومقومي الرماح.
وفي خامس جمادى الأولى: وقع العرض، فركبت العساكر بكمالها في يوم واحد وقد لبسوا أجمل العدد، وقصد السلطان بركوبهم في يوم واحد حتى لا يستعير أحد من أحد شيئا، وفرق السلطان على مماليكه العدد الجليلة، وركب الأمراء الروميون ومن حضر من الرسل، وعرض الجميع على السلطان، ونزلوا من الغد في الوطاقات للعب، وقد لبس المماليك السلطانية الجواشن والخوذ، وعملت الأبرجة الخشب على الفيلة، ودخلوا في الحلقة وساقوا. ثم نصب القبق بالميدان الأسود تحت القلعة ورموا النشاب، وأنعم السلطان على كل من أصاب القبق من الأمراء بفرس من الجنائب الخاص، بسرجه ولجامه وتشاهيره بالمراوات الفضة وغيرها، وأنعم على من أصاب من المماليك والأجناد بالخلع. كل ذلك والسلطان يسعى، وقد تنوع في لامات حربه، وصار يأخذ بقلوب الناس ويحسن إليهم وساق السلطان بالرمح أحسن سوق حتى تعجبوا من فروسيته، إلى أن انقضي النهار على هذا.
وفي اليوم الثالث: ركب السلطان، ولعب الناس ورموا في القبق، والسلطان يطاعن بالرمح. وفي الغد ترتب العسكر من جهتين، واصطدما وتطاعنت الفرسان، وكان السلطان بينا يراه الناس آخرا قد شاهدوه أولا، وهو لا يسأم من الكر والفر، وشاهد الناس منه ومن الملك السعيد ما يبهر العقول، وتواصل الطعن بغير جراح، والسلطان بين تلك الصفوف لا يخاف.(1/210)
وكان قفجاقي الأصل، طويل القامة أسمر اللون، في عينيه زرقة وبإحدى عينيه نقطة صغيرة، صوته جهوريا، وكان شجاعا عسوفا عجولا. وكان قد حضر من البلاد مع تاجر إلى حماة ومعه مملوك آخر، فلما عرضا على الملك المنصور محمد صاحب حماة لم يعجبه، وأبيع بدمشق بثمانمائة درهم، فرد مشتريه لبياض في إحدى عينيه، فاشتراه الأمير علاء الدين أيدكين البندقدار مملوك الملك الصالح نجم الدين أيوب، وهو بحماة معتقل بها، وأقام في خدمته مدة ثم أخذ منه الملك الصالح فترقي في الخلع، وتنقلت به الأحوال إلى ملك مصر والشام.
وكانت الأمراء تخافة مخافة شديدة، حتى إنه لما مرض لم يدخل أحد منهم عليه إلا بإذن. وكان مقداما خفيف الركاب طول أيامه يسير على الهجن وخيول البريد لكشف القلاع والنظر في الممالك، فركب للعب الكرة في الأسبوع يومين بمصر ويوما بدمشق، وفي ذلك يقول سيف الدولة المهمندار من أبيات يمدحه بها:
يوما بمصر ويوما بالحجاز وبالشام ... يوما ويوما في قري حلب
وكانت عدة عسكره اثني عشر ألفا، ثلثها بمصر وثلثها بدمشق وثلثها بحلب. وكان هؤلاء خاصته، فإذا غزا خرج معه أربعة آلاف يقال لهم جيش الزحف، فإن احتاج استدعى أربعة أخرى، فان اشتد به الأمر استدعى الأربعة آلاف الثالثة. وافتتح من البلاد قيسارية وأرسوف وهدمها، وفتح صفد وعمرها، وفتح طبرية ويافا والشقيف وأنطاكية وخربها. واستولي على بغراس والقصير وحصن الأكراد والقرين وحصن عكار وصافيتا ومرقية وحلبا، وناصف الفرنج المرقب وبانياس وأنطرسوس، وأخذ من متملك سيس دربساك ودركوش وتلميش وكفر دنين ورعبان ومرزبان، وملك دمشق وعجلون وبصري، وصرخد والصلت وحمص، وتدمر الرحبة وتل باشر، وصهيون وبلاطنس، وقلعة الكهف والقدموس والدينقة العليقة والخوابي والرصافة ومصياف، والكرك والشوبك وبلاد الحلب وشيزر وبلاد النوبة وبرقة، وسائر إقليم مصر والشام، وملك قيسارية من بلاد الروم. وقد قال فيه بعض الأدباء:
تدبر الملك من مصر إلى يمن ... إلى العراق وأرض الروم والنوبي
وله عدة أوقاف بمصر: منها وقف الطرحاء لتغسيل فقراء المسلمين وتكفينهم ودفنهم، وهو من أكثر الأوقاف نفعا، ومنها تربة الظاهرية بالقرافة، والمدرسة الظاهر بخط بين القصرين من القاهرة، والجامع الظاهري خارج باب الفتوح من القاهرة. وعمر السلطان بيبرس الجسر الذي يسلك عليه إلى دمياط، وأنشأ عليه ست عشرة قنطرة، وعمر قنطرة بحر انصباب السيل، ووقفوا وقفة رجل واحد. وقدم السلطان عدة من مماليكه وخواصه، فقاتلوا قتالا شديدا، ثم ردفهم بنفسه، وحمل وحملت العساكر معه حملة شديدة. فترجل التتار عن خيولهم، وقاتلوا قتال من يطلب الموت حتى عظم القتل فيهم، فولي طائفة منهم وأدركهم العسكر فأحاط بهم. ونجا معين الدين سليمان البرواناه زعيم الروم، فانهزم أصحابه، وصار هو إلى قيسارية فوصلها بكرة يوم الأحد ثاني عشر ذي القعدة، وأشار على سلطانها غياث الدين كيكاوس بن كيخسرو وجماعة الأمراء بالخروج منها، فإن التتر المنهزمين متى دخلوا قيسارية قتلوا كل من فيها حنقا على المسلمين، ثم أخذ البرواناه السلطان غياث الدين كيكاوس بن كيخسرون صاحب الروم، وجماعة من أعيان البلد، وصار بهم إلى توقات، وبينها وبين قيسارية مسيرة ثلاثة أيام.
وأما السلطان فإنه نزل بعد هزيمة التتار في منزلتهم، وأحضر إليه من أسر من أمراء المغول، فعفا عنهم وأطلقهم. وقتل في المعركة الأمير ضياء الدين بن الخطير، والأمير سيف الدين قيران العلائي أحد مقدمي الحلقة، وسيف الدين قفجاف الجاشنكير، وعدة من العسكر، وجرح جماعة. وقتل قتاوون مقدم التتار في المعركة، وأمر السلطان بقتل من أسر من التتار، وأبقي من أسر من أمراء الروم وأعيانهم معه، وفيهم أم البرواناه، وابنه مهذب الدين على وابن ابنته.
وجرد السلطان الأمير سنقر الأشقر في جماعة، لإدراك المنهزمين من التتر وللتوجه إلى قيسارية، وكتب معه كتابا إلى أهل قيسارية بالأمان وإخراج الأسواق والتعامل بالدراهم الظاهرية، فمر الأمير سنقر بفرقة من التتار معهم البيوت، فأخذ منهم جانبا، وأدركه الليل فتفرق من بقي منهم.(1/211)
ورحل السلطان في يوم السبت حادي عشره يريد قيسارية الروم، فاستولي في طريقه على عدة بلاد. وفي يوم الأربعاء خامس عشرة تلقاه أهل قيسارية من العلماء والأكابر والنساء والأطفال، واحتف به الفقراء الصوفية وتواجدوا، إلى أن قرب من دهليز السلطان غياث الدين صاحب الروم وخيامه، وقد نصبت في وطاة بالقرب من المناظر التي كانت لملوك الروم، فترجل وجوه العساكر المصرية والشامية على طبقاتهم، ومشوا بين يديه إلى أن وصلها، وارتفعت الأصوات بالتكبير والتهليل، وأقبل الروم من كل جهة، وضربت نوبة آل سلجوق على عادتها، وحضر أصحاب الملاهي كما هي عادة الروم، فنهوا عن الضرب بالآلت وعن الغناء أيضاً، وقيل لهم: هذه الهيئة لا تتفق عندنا، وما هذا موضع الغناء، بل موضع الشكر. وشرع السلطان في إنفاق المال، وعين لكل جهة شخصان وكتب إلى أولاد قرمان أمراء التركمان، وأكد عليهم في الحضور، واستمال النازحين، فما خرج البرواناخ عن المطاولة إلى أن علم السلطان منه إنه لا يحضر.
وركب السلطان في يوم الجمعة سابع عشريه وعلى رأسه جتر بني سلجوق، ودخل قيسارية دار السلطة، وعبر القصور وجلس على آل سلجوق، وأقبل الناس للهناء وقبلوا الأرض، وحضر القضاه والفقهاء والوعاظ والقراء والصوفية وأعيان قيسارية وذوو المراتب، على عادة الملوك السلجوقية في أيام الجمع، ووقف أمير المحفل - وهو عندهم ذو حرمة ومكانة، ويلبس أكبر ثوب وعمامة - فرتب المحفل على قدر الأقدار، وانتصب قائما بين يدي السلطان منتظرا ما يشير به. وقرأ القراء أحسن قراءة، ورفعوا أصواتهم بالتلحين العجيب إلى أن فرغوا، فانشد أمير المحفل بالعربية والعجمية مدائح في السلطان، ومد سماط الطعام فأكل من حضر، ثم أحضرت دراهم عليها السكة الظاهرية. وتهيأ السلطان لصلاة الجمعة، وقام السلطان إلى الجامع، وخطب الخطب بنعوته وصلي، وخطب له الخطباء بجوامع قيسارية وهي سبعة، فلما قضي السلطان صلاة الجمعة، حمل إليه ما تركته كرجي خاتون امرأة البرواناه من الأموال التي لم تقدر على حملها معها، وما خلفه سواها ممن انتزح معها، وظهر لها ولزوجها معين لدين البرواناه موجود نفيس، فأخذ السلطان ذلك.
وبعث البرواناه يهنئ السلطان بيبرس بجلوسه على تخت الملك، فكتب إليه أن يفد عليه ليقره مكانه، فبعث يسأل النظرة إلى خمسة عشر يوما. ورجا البرواناه بذلك أن يصل الملك أيضاً وكان قد أرسل يستحثه على القدوم بنفسه ليدرك الملك الظاهر وهو ببلاد الروم، فلما بلغ السلطان ذلك خرج من قيسارية في ثاني عشريه، بعد ما أعطي الأمراء والخواص الخيول والأموال. ولما وصل السلطان إلى خان كيقباد بعث إلى الأرمن بجهة الرمانة لأمير طيبرس الوزيري، فحرق وقتل وسبي من بها من الأرمن وعاد، وسبب ذلك أنهم كانوا قد أخفوا جماعة من التتر، فسار السلطان إلى الأبلستين، ومر على مكان المعركة ليري رمم القتلى من التتار، فذكر أهل الأبلستين إنهم عدوا من القتلى ستة آلاف وسبعمائة وستين، وضاع الحساب بعد ذلك، فأمر السلطان بجمع من قتل من عساكره ودفنوا، وترك منهم قليلا بغير دفن، وقصد بذلك نكاية التتار في إظهار كثرة من قتل منهم وقلة من قتل من عسكره، ثم رحل.
ودخل السلطان إلى الدربند في رابع ذي الحجة، وأصاب الناس فيه مشقة عظيمة، ونزل بحارم في سادسه وعيد هناك، فورد كتاب الأمير شمس الدين محمد بن قرمان أمير التركمان، يتضمن أنه جمع التركمان وحضر في عشرين ألف فارس وثلاثين ألف راجل متركشة للخدمة، فوجد السلطان قد عاد، وحضر أيضاً أمراء بني كلاب، ووفود التركمان، ثم رحل السلطان طالبا دمشق.(1/212)
وقدم الملك أبغا بن هولاكو بالتتار لمحاربة السلطان، فوافاه البرواناه في الطريق. وكان السلطان قد رحل فتبعه أبغا، وسار إلى الأبلستين حتى عاين القتلى بالمعركة وليس فيهم من الروم ولا من عساكر السلطان إلا القليل، مع كثرة رمم التتار التي هناك فشق عليه ذلك، وكان قد وشي إليه بالبرواناه إنه هو الذي كاتب الملك الظاهر حتى أقدمه إلى بلاد الروم، فخنق لقلة عدد قتلي الروم. وعاد أبغا إلى قيسارية، فنهبها وقتل من ببلاد الروم من المسلمين، وأغار التتار مسيرة سبعة أيام، فيقال إنه قتل من الفقهاء والقضاة والرعايا ما يزيد على مائتي ألف نفس، و لم يقتل أحدا من النصارى. وكل القتل من أرزن الروم إلى قيسارية، فيقال إن عدة القتلى كانت خمسمائة ألف، ثم سار أبغا ومعه السلطان غياث الدين صاحب الروم، ووكل بالبرواناه من يحفظه. وسار السلطان بيبرس من حارم إلى أنطاكية، ونزل بمروجها.
ومات في هذه السنة من الأعيان
الأمير عز الدين إيغان المعروف بسم الموت، أيحد أمراء مصر، وهو بقلعة الجبل مسجونا، فدفن خارج باب النصر. وفيها حج الصاحب تاج الدين حنا، وكان بمكة غلاء عظيم.
وتوفي شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الوهاب بن منصور الحراني الحنفي بدمشق، بعد ما أقام بالقاهرة عينا، وكان قد ولي قضاء بعض الأعمال.
وتوفي بدر أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن القويرة، الحنفي الفقيه الأديب، نحو أربعين سنة بدمشق.
وتوفي فخر الدين أبو الوليد محمد بن سعيد بن محمد بن هشام بن عبد الحق الكناني الشاطبي، الحنفي النحوي الأديب، عن ستين سنة بدمشق.
وتوفي قطب الدين أبو المعالي أحمد بن عبد السلام بن المطهر بن أبي سعد عبد الله ابن محمد بن هبة الله بن على بن المطهر بن أبي عصرون التميمي الموصلي الشافعي، عن ثلاث وثمانين سنة بحلب.
وتوفي الأديب شهاب الدين أبو المكارم محمد بن يوسف بن مسعود بن بركة الشيباني التلمفري، عن اثنتين وثمانين سنة بحماة.
ومات الشيخ العباس خضر بن أبي بكر بن موسى المهراني العدوي الكردي، في محبسه بقلعة الجبل، في يوم الخميس سادس المحرم عن نيف وخمسين سنة، ودفن بزاويته خارج باب الفتوح.
وماس متملك تونس أبو عبد الله محمد المستنصر بن السعيد أبي زكريا يحيي بن عبد الواحد بن أبي حفص، في عاشر ذو الحجة، فكانت مدته ثمانيا وعشرين سنة وخمسة أشهر وعشرة أيام، وبويع بعده ابنه أبو زكريا يحيي الواثق.
سنة ست وسبعين وستمائة
في خامس المحرم: دخل السلطان من أنطاكية إلى دمشق بعساكره، ونزل بالقصر الأبلق، فكثرت الأخبار بقدوم أبغا إلى الأبلستين وأنه يريد بلاد الشام، فضرب الدهليز على القصر ليخرج السلطان إلى لقائه، فورد الخبر برجوع ألبغا إلى بلاده فرد الدهليز إلى دمشق.
ولما كان في يوم الخميس رابع عشره: جلس السلطان لشرب القمز، وقد عظم سروره وفرحه وتناهي سعده، فأكثر من الشرب، وانقضي المجلس فتوعك بدنه، وأصبح يشكو فتقيأ، وركب بعد الصلاة إلى الميدان، ثم عاد إلى القصر الأبلق آخر النهار وبات فيه، فلما أصبح وهو يشكو حرارة في باطنه، استعمل دواء لم يكن عن رأي طبيب، فلم ينجح وتزايد ألمه، فاستدعى الأطباء، فانكروا استعماله الدواء، واتفقوا على أخذ مسهل وسقوه فلم يفد، فحركوه بدواء آخر فأفرط به الإسهال، وتضاعفت الحمي ورمي دما يقال إنه كبده، فعولج بجواهر ومات.(1/213)
وقال الشيخ قطب الدين اليونيني في تاريخه: إن الظاهر كان مولعا بعلم النجوم، فقيل له أنه يموت بدمشق في سنة ست وسبعين هذه ملك بالسم، فاهتم من ذلك ويقال إنه كان فيه حد، فلما دخل معه إلى بلاد الروم الملك القاهر بهاء الدين عبد الملك بن الملك المعظم عيسي بن العادل أبي بكر بن أيوب، أبلي في المصاف بلاءً عظيما أنكي به العدو، وتعجب الناس لعظم شجاعته، فأثر ذلك عند السلطان. واتفق أن السلطان كان منه ذلك اليوم فتور، وظهر عليه الخوف والندم على ما فعله من تورط نفسه وعساكره ببلاد الروم، فأنكر عليه الملك القاهر وقبح فعله، فأسر له السلطان ذلك إلى أن قدم في دمشق، فسمع السلطان الناس تلهج مما فعله الملك القاهر في وقت المصاف، فاشتد حنقه وأخذ يتحيل في سمه، ليصح فيه ما دلت عليه النجوم من موت ملك بالشام، فإنه يطلق عليه اسم الملك فعمل دعوة لشرب القمز حضرها الملك القاهر، وقد أعد السلطان سما من غير أن يشعر به أحد. وكان له ثلاث هنابات تختص به مع ثلاثة سقاة لا يشرب فيها غيره، أو من يكرمه فيناوله أحدها بيده، فلما قام الملك القاهر لقضاء حاجته، جعل السلطان السم الذي أعده في هناب وأمسكه بيده، فلما عاد الملك القاهر ناوله إياه، فقبل الأرض وشرب جميع ما فيه وقام السلطان لقضاء حاجة، وأخذ الساقي المناب من يد الملك القاهر، وملأه على العادة من غير أن يشعر بما عمله السلطان من السم فيه، وأمسكه بيده ووقف مع السقاة، فلما عاد السلطان من الخلاء تناول ذلك المناب بعينه، وشرب ما فيه وهو لا يعلم إنه المناب المسموم، فعندما شربه أحس بالتغير، وعلم إنه قد شرب بقايا السم الذي كان في المناب، فتقيا فلم يفد، وما زال به حتى مات.
وذكر ركن الدين بيبرس المنصوري المؤرخ أن القمر خسف جميع جرمه، ودل على موت رجل جليل القدر، فلما بلغ الملك الظاهر هذا خاف، وقصد صرف ذلك إلى غيره، فسم الملك القاهر في كأس قمز، وأحس الملك القاهر بالشر فقام، وغلظ الساقي فملأ الكأس وسقاه السلطان، فأحس بالنيران وأقام أياما يشكو ولا يعلم الأطباء، حتى تمكن منه ومات.
وكانت وفاته يوم الخميس سابع عشري المحرم بعد الزوال، فكانت مدة مرضه ثلاثة عشر يوما، وقد تجاوز الخمسين سنة ومدة ملكه سبع عشرة سنة وشهران واثنا عشر يوما.
وفي يوم الثلاثاء: أنعم السلطان على جميع الأمراء والمقدمين والقضاة والمتعممين بالتشاريف، ولبس السلطان تشريفا كاملا بشربوش، ثم أنعم به على الأمير سيف الدين قلاوون الألفي، ولعبوا على عادتهم. وحصل الاهتمام بأمر السماط، ونقل له من أصناف الحوائج ما لا يعد، وسيق من الأغنام ألوف كثيرة. ومدت الأسمطة، وحضر السلطان والناس في خدمته إلى أن أخذوا حاجتهم من الطعام والحلاوات، ثم نقل جميع ذلك وأخذ. وحضرت التقادم، فقبل السلطان منها اليسير مثل تقصيلة أو رمح أو شيء لطيف، وما قام من مجلسه حتى أنعم بذلك في وقته، ودخل الملك السعيد على ابنة الأمير قلاوون.
وشرع السلطان في السفر لأخذ بلاد الروم وبعث إلى الأمراء الروميين الخيول والخيام وكل ما يصلح من أمور السفر. وتقرر الأمير آقسنقر الفارقاني نائب الغيبة بقلعة الجبل، ومعه الصاحب بهاء الدين بن حنا، ليكونا في خدمة الملك السعيد. وتعين الصاحب زين الدين أحمد بن الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين لوزارة الصحبة.
وخرج السلطان من قلعة الجبل يوم الخميس العشرين من رمضان، ورحل في يوم السبت ثاني عشريه ومعه الأمراء والعساكر الإسلامية يريد البلاد الشامية، فدخل دمشق يوم الأربعاء سابع عشر شوال، وخرج منها إلى حلب في العشرين منه، فوصل إلى حلب مستهل ذي القعدة، وخرج منها يوم الخميس ثانيه إلى حيلان وجرد السلطان الأمير نور الدين على بن محلي نائب حلب ليقيم على الفرات بعسكر حلب ويحفظ معابر الفرات، لئلا يدخل أحد من التتار إلى بلاد الشام، ووصل إلى الأمير نور الدين الأمير شرف الدين عيسي بن مهنا.(1/214)
وكان السلطان منذ خرج من مصر إلى أن وصل إلى حلب، لم يمر بمملكة إلا أخذ معه عسكرها وخزائنها وأسلحتها، فترك بعض الثقل بحيلان، وصار منها يوم الجمعة ثالثه إلى عين تاب، وقطع الدربندربات في وطأة. وتوجهت العساكر جرائد على الأمر المعهود، وخففوا كل شيء وتقدم الأمير سنقر الأشقر جاليشا في عدة من العسكر، فوقع على ثلاثة آلاف فارس من التتار ومقدمهم يسمى كراي، فانهزموا قدامه وأسر منهم جماعة وكان ذلك يوم الخميس تاسع الشهر، وبلغ ذلك الملك أبغا، فجهز جماعة من عرب خفاجة لينازلوا عسكر حلب على غرة، فبلغ ذلك نائب حلب وهو على الفرات، فركب إليهم وقاتلهم وهزمهم، وأخذ منهم ألفا ومائتي جمل.
وورد الخبر على السلطان بأن عسكر التتار ومقدمهم تتاوون وعسكر الروم ومقدمهم معين الدين البرواناه، قد اتفقوا جميعا على لقائه، فرتب عساكره وتأهب للقاء، وطلع بعساكره على جبال تشرف على صحراء هوتي من بلد أبلستين. وترتب المغول أحد عشر طلبا، كل طلب يزيد على ألف فارس، وعزلوا عسكر الروم عنهم وجعلوه طلبا بمفرده لئلا يكون محاصرا عليهم، وأقبلوا فانصبت الخيول الإسلامية عليهم من جبل أبي المنجا، وهي أجل قناطر أرض مصر. وعمل قناطر السباع بين القاهرة ومصر على الخليج الكبير، وحفر خليج الإسكندرية وبحر طناح وبحر الصماصم بالقليوبية، وحفر خليج سردوس، وأصلح بحر دمياط وردم فمه بالصخور.
ومن غريب أمره إنه أول ما فتح من البلاد قيسارية من بلاد الساحل وآخر ما فتح مدينة قيسارية من بلاد الروم. وأول جلوسه على مرتبه الملك يوم الجمعة سابع عشري ذي القعدة، وآخر جلوسه على تخت الملك بسلطنة آل سلجوق في قيسارية الروم يوم الجمعة سابع عشري ذي القعدة، وأول من بني مدينة أنطاكية اسمه بالعربية الملك الظاهر، والذي أخربها الملك الظاهر. وأول من قام بدولة الترك السلجوقية ركن الدين طغرلبك، والملك الظاهر ركن الدين بيبرس هو القائم في الحقيقة بدولة الترك من يوم وقعة المنصورة. وركن الدين طغرلبك هو الذي رد الخلافة على بني العباس في نوبة البساسيري، وركن الدين بيبرس هو الذي رد الخلافة على بني العباس في نوبة هولاكو. والخطبة بديار مصر كانت بعد الخليفة الحاكم بأمر الله الفاطمي للظاهر لإعزاز دين الله وكذا وقع له، فقد كانت الخطبة بعد الخليفة الحاكم بأمر الله العباسي للملك الظاهر بيبرس.
وكان راتب مخابزة وعليقة لخاصة نفسه ومماليكه، في كل سنة مائة ألف وعشرين ألف أردب، وكان يطعم في كل ليلة من ليالي شهر رمضان خمسة آلاف نفس، ويكسو في كل سنة ستمائة كسوة خارجا عما يطلقه من يده من الكساوي، وكان له من الخبز ألفا قنطار وخمسمائة في كل يوم. إلا إنه كان كثير المصادرات للدواوين، كثير الجباية للأموال من الرعية. وأحدث وزيره ابن حنا في أيامه حوادث جليلة، وقاس أملاك الناس بمصر والقاهرة، وصادر أرباب الأموال حتى هلك كثير منهم تحت العقوبة، وأخذ جوالي الذمة مضاعفة، وأمر بإحراقهم كلهم، وجمع لهم الأحطاب وحفر لهم حفرة عظيمة قدام دار النيابة بقلعة الجبل، ثم عفي عنهم وقرر عليهم أموالا أخذت منهم بالمقارع، ومات أكثرهم في العقوبة. ولما توجه السلطان بيبرس إلى بلاد الروم كلف أهل دمشق جباية مال لإقامة الخيل، وفرض عليهم ألف ألف درهم نقرة تجبي من المدينة ومن الضياع.(1/215)
ولم يل الوزارة له سوي الصاحب بهاء الدين على بن محمد بن حنا، وقضاته بمصر قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب، بن بنت الأعز إلى أن أحدث القضاة الأربعة، واستمر ذلك من بعده. وروي السلطان بيبرس بعد موته في النوم، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: ما رأيت شيئا أشد على من ولاة قضاة أربعة،. وقيل لي فرقت الكلمة. وكان كل من ولاه بيبرس في مملكة أو عمل أبقاه، و لم يغير عليه ولا يعزله. وتزوج بيبرس من النساء وهو ببلاد غزة، قبل أن يلي الملك امرأة من طائفة الشهر زورية، ثم طلقها بالقاهرة. وتزوج ابنه حسام الدين بركة خان بن دولة خان التتري، وابنة الأمير سيف الدين نوكلي التتري، وابنة الأمير سيف الدين كراي بن تماجي التتري، وابنة الأمير سيف الدين، التتري. وولد له من الأولاد عشرة، الذكور منهم ثلاثة وهم الملك السعيد ناصر الدين محمد بركة قان، وولد في صفر سنة ثمان وخمسين وستمائة بمنزلة العش، من بنت حسام الدين بركة خان الخوارزمي، والملك العادل بدر الدين سلامش، والملك المسعود نجم الدين خضر، والإناث سبع.
ولما مات السلطان بيبرس كتم الأمير بدر الدين بيليك الخازندار نائب السلطة موته عن العساكر، وحمله في محفة من القصر الأبلق خارج دمشق إلى القلعة في الليل، وجعله في تابوت وعلقه في بيت، وأشاع إنه مريض ورتب الأطباء على العادة، ثم أخذ العساكر والخزائن، ومعه محفة محمولة وأوهم أن السلطان فيها مريض، وخرج من دمشق يريد مصر، فلم يجسر أحد أن يتفوه بموت السلطان. واستمر الحال على ذلك حتى وصلت العساكر إلى القاهرة، وصعدت الخزائن والمحفة إلى قلعة الجبل، فأشيع حينئذ موته. والجملة فلقد كان من خير ملوك الإسلام.
السلطان الملك السعيد ناصر الدين
محمد بركة قان بن الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري الصالحي النجمي. لما مات الملك الظاهر بدمشق، كتب الأمير بدر الدين بيليك الخازندار إلى الملك السعيد وهو بقلعة الجبل كتابا بموت أبيه، فأظهر الملك السعيد عند ورود الكتاب فرحا كبيرا، وأخلع على من أحضره، وأشاع أن الكتاب يتضمن البشارة بعود الملك الظاهر إلى ديار مصر، وأصبح فركب الأمراء على العادة تحت القلعة، من غير أن يظهر عليهم شيء من الحزن.
وسار الأمير بيليك بالمحنة والأطلاب، حتى قدم إلى القاهرة يوم الخميس سادس عشر صفر وهو تحت السناجق الظاهرية، وصعد قلعة الجبل. وجلس الملك السعيد بالإيوان، وسلم إليه الأمير بيليك الخزائن والعساكر ووقف بين يديه، فصاح الحجاب حينئذ. يا أمراء ترحموا على السلطان الملك الظاهر. فارتفع الضجيج والعويل، ووقع الأمراء إلى الأرض يقبلونها للملك السعيد، فجددت الأيمان، وحلف له سائر العسكر والقضاة والمدرسين والأعيان، وتولي تحليفهم الأمير بدر الدين بيليك الخازندار بحضرة القضاة. فأقر الملك السعيد الأمير بدر الدين بيليك على نيابة السلطنة، وأقر الصاحب بهاء الدين ابن حنا على وزارته، وخلع عليهما وعلى الأمراء والمقدمين والقضاة وأرباب الوظائف.
وفي يوم الجمعة سابع عشريه: دعا الخطباء على منابر الجوامع بمصر والقاهرة للملك السعيد، وصلي بها على الملك الظاهر صلاة الغائب. وخرج البريد إلى دمشق بموت الملك الظاهر، وتحليف العساكر للملك السعيد فحلفوا.
وفي يوم الأربعاء سادس عشر ربيع الأول: ركب الملك السعيد بالعصائب على عادة أبيه، ومعه الأمراء والأعيان وعليهم الخلع، وسير إلى تحت الجبل الأحمر، وعاد إلى القلعة من غير أن يشق القاهرة، وكان يوما مشهوداً.(1/216)
وفي سادس ربيع الآخر: مات الأمير بدر الدين بيليك النائب، واتهم أن الملك السعيد سمه وذلك أنه اختص بجماعة من المماليك الأحداث، فأوهموه من الأمير بيليك، وكانت جنازته حفلة، ومن بعده اضطربت أمور الملك السعيد. وأقام الملك السعيد بعده في نيابة السلطنة الأمير شمس الدين آقنسنقر الفارقاني، وكان حازما، فضم إليه جماعة منهم شمس الدين أقوش، وقطليجا الرومي، وسيف الدين قلج البغدادي، وسيف الدين بيجو البغدادي، وعز الدين ميغان أمير شكار، وسيف الدين بكتمر السلاح دار فثقل الأمير آقسنقر على خاصكية السلطان، وحدثوا السلطان في أمره، واستعانوا بالأمير سيف الدين كوندك الساقي. وكان الملك السعيد. قد قدمه وعظمه لأنه ربي معه في المكتب، فقبض على آقسنقر وهو جالس في باب القلة، وسجن وأهين ونتفت لحيته وضرب، ثم أخرج بعد أيام يسيرة ميت. فاستقر بعده في النيابة الأمير شمس الدين سنقر الألفي المظفري، فكرهه الخاصكية وقالوا. هذا ما هو من الظاهرية وخيلوا الملك السعيد منه أنه يريد أن يثور بخشداشيته مماليك الملك المظفر قطز، فعزله سريعا. وولي الأمير سيف الدين كوندك الساقي نيابة السلطة وهو شاب، فعضده الأمير سيف الدين قلاوود الألفي ومال إليه.
وكان من جملة المماليك السلطانية الخاصكية شخص يعرف بلاجين الزيني، وقد غلب على الملك السعيد في سائر أحواله، وضم إليه عدة من الخاصكية، وأخذ لاجين لهم الإقطاعات والأموال الجزيلة، وصار كلما انحل خبز أخذه لمن يختار، وتنافر النائب والمذكور، فتورغرت بينهما الصدور، ودبت بينهما عقارب الشرور، وأعمل كل منهما مكره في أذية الآخر، وضم النائب إليه جماعة من الأمراء الكبار، وصار العسكر حزبين، فآل الأمير إلى ما آل إليه من الفساد.
وتغير السلطان على الأمراء، وقبض في سابع عشره على الأمير جودي القيمري الكردي فنفرت منه قلوب الأمراء لا سيما الصالحية: مثل الأمير سيف الدين قلاوون، والأمير شمس الدين سنقر الأشقر، والأمير علم الدين سنجر الحلبي، والأمير بدر الدين، بيسري، وأقرانهم فإنهم كانوا يأنفون من تملك الملك الظاهر عليهم، ويرون أنهم أحق منه بالملك، فصار ابنه الملك السعيد يضع من أقدارهم، ويقدم عليهم مماليك الأصاغر، ويخلو بهم وكانوا صباح الوجوه، ويعطهم مع ذلك الأموال الكثيرة، ويسمع من رأيهم ويبعد الأمراء الكبار.
واستمر الحال على هذا إلى أن كان يوم الجمعة خامس عشريه، وفيه قبض السلطان على الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، والأمير بدر الدين بيسري، وسجنهما بالقلعة ثلاثة وعشرين يوما، فزادت الوحشة بينه وبين الأمراء، ودخل خاله الأمير بدر الدين محمد بركة خان إلى أخته أم السلطان، وقال لها: قد أساء ابنك التدبير بقبضه على مثل هؤلاء الأمراء الأكابر، والمصلحة أن ترديه إلى الصواب، لئلا يفسد نظامه وتقصر أيامه. فلما بلغ الملك السعيد ذلك قبض عليه. واعتقله، فلم تزل به أمه تعنفه وتتلطف به، حتى أطلقهم وخلع عليهم وأعادهم إلى ما كانوا عليه، وقد تمسكت عداوته من قلوبهم.
وتوهم منه بقية الأمراء، وخشوا أن يعاملهم كما عامل الأمير بيليك الخازندار، مع حفظة له الملك وتسليم الخزائن والعساكر إليه، فلم يكافئه إلا بأن قتله بالسم. فاجتمع الأمراء وهموا أن يخرجوا عنه إلى بلاد الشام، ثم اتفقوا وصعدوا إلى قلعة الجبل، ومعهم مماليكهم وألزامهم وأجنادهم وأتباعهم، ومن انضم إليهم من العساكر، فامتلأ منهم الإيوان ورحبة القصر، وبعثوا إلى الملك السعيد: بأنك قد أفسدت الخواطر، وتعرضت إلى أكابر الأمراء، فإما أن ترجع عما أنت عليه: وإلا كان لنا ولك شان. فلاطفهم في الجواب، وتنصل مما كان منه، وبعث إليهم التشاريف فلم يلبسوها، وترددت الأجوبة بينهم وبينه إلى أن تقرر الصلح، وحلف لهم إنه لا يريد بهم سوءا، وتولي تحليفه الأمير بدر الدين الأيدمري وفرضوا وانصرفوا.(1/217)
وكتب السلطان الملك السعيد إلى دمشق أن يدفن الملك الظاهر داخل المدينة فاشتري الأمير عز الدين أيدمر نائب الشام دار العقيقي داخل باب الفرج تجاه المدرسة العادلية بستين ألف درهم، وجعلها مدرسة وبني بها قبة، وابتدأ بالعمارة في يوم الأربعاء خامس جمادى الأولى، وفرغ منها في آخر جمادى الآخرة. وخرج من القاهرة الأمير علم الدين سنجر المعروف بأبي خرص، والطواشي صفي الدين جوهر الهندي، وسار إلى دمشق فدخلاها في ثالث رجب فلما كان في ليلة الجمعة خامسه، حمل الملك الظاهر من قلعة دمشق ليلا على أعناق الرجال، ووضع في جامع بني أمية وصلي عليه، وحمل حتى دفن بالقبة من المدرسة التي بنيت له، بحضور نائب الشام، وألحده قاضي القضاة عز الدين محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق بن خليل بن مقلد أبو المفاخر المعروف باب الصائغ، وترتب القراء من ثاني يوم، ثم وقف عز الدين بن شداد وكيل الملك السعيد هذه المدرسة، ووقف عليها قرية من شعرا بانياس، وغير ذلك.
وفي ثامن عشر ذي القعدة: صرف قاضي القضاة محيي الدين عبد الله بن عين الدولة عن قضاء مصر والوجه القبلي، وأضيف إلى قاضي القضاة تقي الدين محمد بن الحسين بن رزين، فكمل له قضاء القضاة بديار مصر، وأعيد قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان إلى قضاء دمشق في سابع عشر ذي الحجة، فكانت مدة عزله سبع سنين.
وفيها ولي شهاب الدين أبو عبد الله محمد بن شمس الدين أبي المعالي أحمد بن الخليل ابن سعادة الخوي قضاء القضاة الشافعية بحلب، بعد وفاة تقي الدين محمد بن حياة الرقي.
وفي هذه السنة عم ماء النيل أرض مصر كلها، ورخص سعر الغلة حتى أبيع الأردب القمح بخمسة دراهم، والأردب الشعير بثلاثة دراهم، والأردب من بقية الحبوب بدرهمين.
وفيها قتل الملك أبغا البرواناه في صفر، واسمه معين الدين سليمان بن على بن محمد بن حسن، ومعني البرواناه الحاجب، وكان شجاعا حازما كريما عارفا، فيه دهاء ومكر.
وفيها عزل نفسه قاضي القضاة صدر الدين سليمان بن أبي العز الحنفي من القضاء في سلخ المحرم، فشغر منصب قضاء الحنفية بعده.
ومات في هذه السنة من الأعيان
الأمير بدر الدين بيليك الخازندار نائب السلطة، في سادس شهر ربيع الآخر، وكان جوادا عارفا بالتاريخ جيد الكتابة.
وتوفي قاضي القضاة شمس الدين أبو بكر محمد بن عماد الدين أبي إسحاق إبراهيم ابن عبد الواحد بن على بن سرور المقدسي الحنبلي وهو مصروف، في يوم السبت ثاني عشري المحرم، ودفن بالقرافة، وله من العمر ثلاث وسبعون سنة.
وتوفي قاضي القضاة بحلب تقي الدين أبو عبد الله محمد بن حياة بن يحيي بن محمد الرقي الشافعي بتبوك، وهو عائد من الحج.
وتوفي الشيخ محمي الدين أبو زكريا يحيي بن شرف بن محمد بن الحسن بن الحسين بن جمعة بن حرام النووي الشافعي، عن نيف وأربعين سنة، بقرية نوي.
وتوفي الواعظ نجم الدين أبو الحسن على بن على بن أسفنديار البغدادي بدمشق، عن ستين سنة.
وتوفي الشريف شهاب الدين أحمد بن أبي محمد الحسيني الواسطي الغرافي، بالإسكندرية.
وتوفي الشيخ نظام الدين أبو عمرو عثمان بن أبي القاسم عبد الرحمن بن رشيق المالكي.
وتوفي أبو الحسن على بن عدلان بن حماد بن على الربعي الموصلي النحوي المترجم، بالقاهرة.
سنة سبع وسبعين وستمائة
في سابع عشري المحرم: عمل عزاء الملك الظاهر، عند تمام سنة من وفاته، بالأندلس من قرافة مصر، ومدت هناك الأسمطة في الخيام للقراء والفقهاء، وفرقت الأطعمة على أهل الزوايا، وكان من الأرقات العظيمة، لكثرة من اجتمع فيه من الناس على اختلاف طبقاتهم، وعمل مجمع آخر بجامع ابن طولون، وفي الجامع الظاهري، والمدرسة الظاهرية، والمدرسة الصالحية، ودار الحديث الكاملية، والخابقاه الصلاحية سعيد السعداء، والجامع الحاكي وعمل للنكارزة والفقراء خوان حضره كثير من أهل الخير.
وفي عاشر جمادى الأولى ولي قاضي القضاة صدر الدين سليمان بن أبي العز بن وهيب الحنفي قضاء الحنفية بدمشق، عوضاً عن مجد الدين عبد الرحمن بن عمر بن العديم بحكم وفاته. فلما مات صدر الدين بعد أربعة أشهر، ولي عوضاً عنه في تاسع عشري رمضان حسام الدين حسن بن أحمد بن حسن الرازي. قاضي الروم الواصل من قيسارية.(1/218)
وفي، شوال خرج الملك السعيد من قلعة الجبل يريد التفرج في دمشق، ومعه أخوه نجم الدين خضر، وأمه وأمراؤه وعساكره، فدخل إلى دمشق في خامس ذي الحجة.
وفي سلخ ذي القعدة مات الصاحب بهاء الدين على بن محمد بن سليم بن حنا، فكتب من دمشق بالحوطة على وجوده. وقبض الملك السعيد على الصاحب زين الدين أحمد بن الصاحب فخر الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين، وأخذ خطه بمائة ألف دينار، وسيره على البريد إلى مصر، ليستخرج منه ومن أخيه تاج الدين محمد وابن عمه عز الدين محمد بن أحمد بن على تكملة ثلاثمائة ألف دينار واستقر في الوزارة عوضاً عن الصاحب بهاء الدين بن حنا قاضي القضاة وعز الدين الخضر بن الحسن السنجاري، وكان بينه وبين ابن حنا عداوة ظاهرة وجفون كامنة، فبلغ من التمكن في أولاده وأمواله ما كان يؤمله. وساعده على ذلك عدة من الأمراء: منهم عز الدين الأفرم، وبدر الدين بيسري، الحاقي تقومهم من بهاء الدين بن حنا. وولي وزراة الصحبة فخر الدين بن لقمان، عوضاً عن تاج الدين محمد بن حنا.
وفي سادس عشري ذي الحجة: جلس الملك السعيد بدار العدل في دمشق، وأسقط عن أهل الشام ما كان قد قرره الملك الظاهر عند سفره إلى بلاد الروم على البساتين في كل سنة، وفيه أشار خاصكية السلطان عليه بإبعاد الأمراء الأكابر عنه، فجهز الأمير قلاوون الألفي بعسكر، وجهز الأمير بيسري بعسكر، وأنفق فيهم الأموال، فساروا إلى جهة سيس، وفي نفوسهم من ذلك إحن.
وفيها ولي الأمير علاء الدين أيدغدي الكبكي نيابة حلب، عوضاً عن الأمير نور الدين على بن مجلي الهكاري. وفيها كثر الرخاء بمصر حتى أبيع ثلاثمائة أردب فولا بمبلغ تسعمائة درهم، انصرف منها حمولة ومكوس، بحيث لم يتأخر منها غير خمسة وثمانين درهما.
وفيها مات عز الدين كيكاوس ملك الروم، بعد ما جرت له خطوب فملك أبغا ابن هولاكو من بعده ابنه مسعود بن كيكاوس سبواس وأرزن الروم وأرزنكان وفيها حصلت زحمة عظيمة بباب العمرة من المسجد الحرام بين الحجاج عند خروجهم إلى العمرة بعد صلاة الصبح، فمات منهم ستة وثلاثون إنسانا، وذلك في ثالث عشر ذي الحجة.
ومات في هذه السنة من الأعيان
الأمير جمال الدين أقوش النجيبي الصالحي نائب الشام، في خامس ربيع الأول بالقاهرة، عن نحو سبعين سنة. ومات الأمير شمس الدين آقسبقر القارقاني الصالحي قائد السلطنة، عن نحو خمسين سنة. ومات الأمير علاء الدين أيدكين الشهابي نائب حلب، وهو مصروف، عن نحو خمسين سنة بدمشق.
وتوفي قاضي القضاة الحنفية بدمشق مجد الدين أبو محمد عبد الرحمن بن الصاحب كمال الدين عمر بن أحمد بن هبة الله بن هبة الله بن أحمد بن يحيي بن العديم، عن أربع وستين سنة. ومات قاضي القضاة الحنفية بدمشق صدر الدين أبو الفضل سليمان ابن أبي العز ابن وهيب الأذرعي، بعد ثلاثة أشهر من ولايته، عن ثلاث وثمانين سنة. ومات الوزير الصاحب بهاء الدين أبو الحسن على بن محمد بن سليم بن حنا، سلخ ذي القعدة. وتوفي مجد الدين أبو عبد الله وتوفي نجم الدين أبو المعالي محمد بن سوار بن إسرائيل بن الخضر بن إسرائيل الشيباني الدمشقي الصوفي الأديب، عن أربع وسبعين سنة بدمشق.
وتوفي الأديب جمال الدين عمر بن إبراهيم بن أبي بكر الهذباني الإربلي، بالقاهرة.
وتوفي الأديب موفق الدين أبو محمد عبد الله بن عمر بن نصر الله الأنصاري البعلبكي، بالقاهرة.
سنة ثمان وسبعين وستمائة
في المحرم: قرر الخاصكية مع الملك السعيد القبض على الأمراء عند عودهم من سيس، وعينوا إقطاعتهم لأناس منهم، وكان الأمير كوندك النائب مطلع على ذلك. واستغرق السلطان في لذاته، وبسط يده بعطاء الأموال الكثيرة لخاصكيته، وخرج عن طريقة أبيه، وفي أثناء ذلك حدث بين الأمير كوندك النائب وبين الخاصكية منافرة، بسبب أن السلطان أطلق لبعض السكة ألف دينار فتوقف النائب في إطلاقها، فاجتمع الخاصكية عند النائب وقاضوه في أمر المبلغ، وأسمعوه ما يكره، وقاموا على حرد، وتكلموا مع السلطان في عزله عن النيابة، فامتنع، وأخذ الخاصكية في الإلحاح عليه بعزل كوندك، وعجز عن تلافي أمرهم معه.(1/219)
وأما الأمراء فإنهم غزوا سيس وقتلوا وسبوا، وسار الأمير بيسري إلى قلعة الروم، وعاد هو والأمراء إلى دمشق ونزلوا بالمرج، فخرج الأمير كوندك إلى لقائهم على العادة، وأخبرهم. مما وقع من الخاصكية في حقهم وحقه، فحرك قوله ما عندهم من كوامن الغضب، وتحالفوا على الاتفاق والتعاون، وبعثوا من المرج إلى السلطان يعلمونه إنهم مقيمون بالمرج، وأن الأمير كوندك شكي إليهم من لاجين الزيني شكاوى كثيرة، ولا بد لنا من الكشف عنها، وسألوا السلطان أن يحضر إليهم حتى يسمعوا كلامه وكلام كوندك.
فلما بلغ بذلك السلطان ذلك لم يعبأ بقولهم، وكتب إلى من معهم من الأمراء الظاهرية يأمرهم. بمفارقة الصالحية ودخول دمشق. فوقع القاصد الذي معه الكتب في يد أصحاب كوندك، فأحضر إلى الأمراء ووقفوا على الكتب التي معه، فرحلوا من فورهم ونزلوا على الجورة من جهة داريا، وأظهروا الخلاف، ورموا الملك السعيد بأنه قد أسرف وأفرط في سوء الرأي وأفسد التدبير.
فخاف السلطان عند ذلك سوء العاقبة، وبعث إليهم الأمير سنقر الأشقر، والأمير سنقر التكريتي الأستادار، ليلطفا بهم ويعملا الحيلة في إحضارهم، فلم يوافقوا على ذلك. وعادا إلى السلطان فزاد قلقه، وترددت الرسل بينه وبين الأمراء، فاقترحوا عليه إبعاد الخاصكية، فلم يوافق، وبعث السلطان بوالدته مع الأمير سنقر الأشقر لتسترضيهم، فحدثتهم وخضعت لهم فما أفاد فيهم ذلك شيئا، وعادت بالخيبة.
فرحل الأمراء بمن معهم من العساكر إلى مصر وتبعهم الملك السعيد ليلحقهم ويتلافى أمرهم فلم يدركهم فقاد إلى دمشق وبات بها. وأصبح الملك السعيد فجهز أمه وخزائنه إلى الكرك وجمع من بقي من عساكر مصر والشام واستدعى العربان وأنفق فيهم. وسار من دمشق بالعساكر يريد مصر فنزل بلبيس في نصف ربيع الأول وكان قد سبقه الأمير قلاوون بمن معه إلى القاهرة ونزلوا تحت الجبل الأحمر.
فبلغ ذلك الأمراء الذين بقلعة الجبل وهم الأمير عز الدين أيبك أمير جانذار والأمير أفطوان الساقي والأمير بلبان الزربقي فامتنعوا بها وحصنوها وتقدموا إلى متولي القاهرة فسد أبوابها فراسلهم قلاوون والأمراء في فتح أبواب القاهرة ليدخل العسكر إلى بيوتهم ويبصروا أولادهم فإن عهدهم بعد بهم ونزل الأمير لاجين البركخاي وأيبك الأفرم وأقطون إلى الأمراء لمعرفة الخبر فقبضوا عليهم وبعثوا إلى القاهرة ففتحت أبوابها ودخل كل أحد إلى داره وسجن الثلاثة الأمراء في دار الأمير قلاوون بالقاهرة وزحفوا إلى القلعة وحاصروها وقد امتنع بها بلبان الزريقي.
وأما السلطان فإنه لما نزل بلبيس وبلغه خبر الأمراء خامر عليه من كان معه من عسكر الشام وتركوه في بلبيس وعادوا إلى دمشق وبها الأمير عز الدين أيدمر نائب الشام فصاروا إليه ولم يبق مع السلطان إلا مماليكه ومنهم الأمير لاجين الزيني ومغلطاي الدمشقي ومغلطاي الجاكي وسنقر التكريتي وأيدغدي الحراني والبكي الساقي وبكتوت الحمصي وصلاح الدين يوسف بن بركة خان ومن يجري مجراهم ولم يبق معه من الأمراء الكبار إلا الأمير سنقر الأشقر فقط فسار السلطان من بلبيس ففارقه الأشقر من المطرية وأقام بموضعه.
وبلغ الأمراء أن السلطان جاء من خلف الجبل الأحمر فركبوا ليحولوا بينه وبين القلعة وكان الضباب كثيرا فنجا منهم واستتر عن رؤيتهم وطلع إلى المقدمة فلما انكشف الضباب بلغ الأمراء أن السلطان بالقلعة فعادوا إلى حصارها وعندما استقر السلطان بالقلعة تشاجر لاجين الزيني مع الزربقي فنزل الزربقي إلى الأمراء وصار معهم وتبعه المماليك شيئا بعد شيء. وصار السلطان يشرف من برج الرفرف المطل على الإسطبل ويصيح بهم: يا أمراء أرجع إلى رأيكم ولا أعمل إلا ما تقولونه فليجبه أحد منهم وأظهروا كتبا عنه يطلب فيها جماعة من الفداوية لقتلهم وأحاطوا بالقلعة وحصروه، وكان الأمير سنجر الحلبي معتقلا بالقلعة، فأخرجه السلطان وصار معه، فاستمر الحصار مدة أسبوع.(1/220)
وكان الذي قام في خلع السلطان جماعة كثيرة من الأمراء، وهم الأمير بيسري، والأمير قلاوون، والأمير أيتمش السعدي، والأمير أيدكين البندقدار، والأمير بكتاش الفخري أمير سلاح، والأمير بيليك الأيدمري، والأمير سنقر البكتوتي، والأمير سنجر طردج، والأمير بلبان الحبيشي، والأمير بكتاش النجمي، والأمير كشتغدي الشمسي، والأمير بلبان الهاروني، والأمير بجكا العلائي، والأمير بيبرس الرشيدي، والأمير كندغدي الوزيري، والأمير يعقوبا الشمهرزوري، والأمير أيتمش بن أطلس خان، والأمير بيدغان الركني، والأمير بكتوت بن أتابك، والأمير كندغدي أمير مجلس، والأمير بكتوت جرمك، والأمير بيبرس طقصو، والأمير كوندك النائب، والأمير أيبك الحموي، والأمير سنقر الألفي، والأمير سنقر جاه الظاهري، والأمير قلنج الظاهري، والأمير ساطلمش، والأمير قجقار الحموي، ومن انضاف إليهم من الأمراء الصغار ومقدمي الحلقة، وأعيان المفاردة والبحرية ولما طال الحصار بعث السلطان الخليفة الحاكم بأمر الله أحمد، يقول: يا أمراء إيش غرضكم؟ فقالوا: يخلع الملك السعيد نفسه من الملك ونعطيه الكرك، فأذعن السعيد لذلك، وحلف له الأمراء، وحضر الخليفة والقضاة، الأعيان، وأنزل بالملك السعيد، وأشهد عليه أنه لا يصلح للملك.
وخلع السعيد نفسه، وحلف أنه لا يتطرق إلى غير الكرك، ولا يكاتب أحدا من النواب، ولا يستميل أحد من الجند، وسفر من وقته إلى الكرك مع الأمير بيدغان الركني، وذلك في سابع شهر ربيع الآخر، فكانت مدة ملكه من حين وفاة أبيه إلى يوم خلعه سنتين وشهرين وثمانية أيام، موصل إلى الكرك وسلمها في خامس عشري جمادى الآخرة، واحتوى على ما فيها من الأموال وكانت شيئا كثيرا.
ولم يقتل في هذه الحركة سيف الدين بكتوت الخمصي، فإنه كان بينه وبين سنقرجاه الظاهري مشاجرة، فلما طلع الملك السعيد إلى قلعة الجبل يوم وصوله من بلبيس صادفه سنقر جاه وهو من حزب الأمير قلاوون ومن معه، فطعنه في حلقه فحمل إلى قبة القلندرية فمات من يومه ودفن بها، وكانت أيامه رخية الأسعار.
السلطان الملك العادل بدر الدين سلامش
وهو ابن الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري الصالحي النجمي. لما تم خلع الملك السعيد وسافر إلى الكرك، عرض الأمراء السلطنة على الأمير سيف الدين قلاوون الألفي فامتنع وقال: أنا ما خلعت الملك السعيد طمعا في السلطنة، والأولى ألا يخرج الأمر عن ذرية الملك الظاهر. فاستحسن ذلك منه، لأن الفتنة سكنت فإن الظاهريه كانوا معظم العسكر، وكانت القلاع بيد نواب الملك السعيد، وقصد قلاوون بهذا القول أن يتحكم حتى يغير النواب ويتمكن مما يريد، فمال الجميع إلى قوله وصوبوا رأيه، واستدعوا سلامش، واتفقوا أن يكون الأمير قلاوون أتابكه، وأن يكون إليه أمر العساكر وتدبير الممالك، فحضر سلامش وله من العمر سبع سنين وأشهر، وحلف العسكر جميعه على إقامته سلطانا، وإقامة الأمير قلاوون أتابك العساكر، ولقبوه الملك العادل بدر الدين، فاستقر الأمر على ذلك. وأقيم الأمير عز الدين أيبك الأفرم في نيابة السلطنة، واستقر قاضي القضاة برهان الدين خضر بن الحسن السنجاري في الوزارة.
وأما عسكر الشام فإنه لما سار من بلبيس ودخل إلى دمشق، وكان بحلب الأمير عز الدين إزدمر العلائي، والأمير قراسنقر المعزي، والأمير أقوش الشمسي، والأمير برلغو، في نحو ألفي فارس، فساروا إلى دمشق ولقوا العسكر القادم من بلبيس، فاتفقوا مع الأمراء الذين بدمشق على إقامة الأمير أقوش الشمسي مقدما على الجيوش، والقبض على الأمير عز الدين أيدمر نائب دمشق، لأنه ترك ابن أستاذه وخامر عليه ورجع من بلبيس، فأخذه الأمير أقوش إلى داره، فجاء الأمير أزدمر العلائي وركن الدين الجالق إلى دار أقوش، وأخذ الأمير أيدمر وصعدا به إلى قلعة؟ دمشق، وسلماه إلى الأمير علم الدين سنجر الدواداري نائب القلعة.
فلما تقرر الحال على إقامة الملك. العادل سلامش والأمير قلاوون كتب إلى الشام بذلك، وسار الأمير جمال الدين أقوش الباخلي وشمس الدين سنقرجاه الكنجي بنسخة الإيمان، فحلف الناس بدمشق كما وقع الحلف بمصر.(1/221)
وفي النصف من جمادى الأولى: استقر قاضي القضاة صدر الدين عمر ابن قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز، في قضاء القضاة بديار مصر، عوضاً عن قاضي القضاة تقي الدين محمد بن رزين بحكم عزله. وصرف أيضاً قاضي القضاة معز الدين النعمان الحسن بن يوسف الخطبي الحنفي، وقاضي القضاة نفيس الدين أبو البركات محمد بن مخلص الدين هبة الله بن كمال الدين أبي السعادات أحمد بن شكر المالكي، ثم أعيدا، وولي عز الدين عمر بن عبد الله بن عمر بن عوض المقدس الحنبلي قاضي القضاة الحنابلة، واستقر الأمير شمس الدين سنقر الأشقر في نيابة السلطنة بدمشق، فدخلها في ثامن جمادى الآخرة ومعه جماعة من الأمراء والعسكر، فعامله الناس معاملة الملوك، وأنزل الأمير سنجر الدواداري من القلعة لمباشرة الشد، وقرئ تقليد النيابة يوم الجمعة بمقصورة الخطابة، ولم يحضر النائب قراءته.
وفي تاسع رجب: قبض على فتح الدين عبد الله بن محمد بن القيسراني، وزير دمشق. وفيه استقر الأمير جمال الدين أقوش الشمسي في نيابة السلطنة بحلب، عوضاً عن أيدغدي الكبكي.
وشرع الأمير قلاوون في القبض على الأمراء الظاهرية، فقبض على أعيانهم وبلغهم إلى الثغور فسحنوا بها، وأمسك أيضاً كثيرا من الظاهرية وملأ الحبوس بهم، وأعطي قلاوون ومنع وقطع، ووصل واستخدم وعزل، فكان صورة أتابك وتصرفه تصرف الملوك. واشتغل الأمير بيسري باللهو والشرب، فانفرد الأتابك قلاوون بالمملكة وأجد في تدير أحواله وفرق قلاوون على المماليك واستمالهم، وقرب الصالحية وأعطاهم الإقطاعات، وكبر منهم جماعة كانوا قد نسوا وأهملوا، وسير عدة منهم إلى البلاد الشامية واستنابهم في القلاع، وتتبع ذراريهم وأخذ كثيرا منهم كانوا قد تصنفوا بالصنائع والحرف، فرتب طائفة منهم في البحرية، وقرر لجماعة منهم جامكية، فعادت لهم السعادة، وقوي بهم جانبه وتمكنت أسبابه، ثم جمع قلاوون الأمراء في العشرين من رجب وتحدث معهم في صغر سن الملك العادل، وقال لهم: قد علمتم أن المملكة لا تقوم إلا برجل كامل، إلى أن اتفقوا على خلع سلامش فخلعوه، وبعثوا به إلى الكرك وكانت مدة ملكه مائة يوم، ولم يكن حظه من الملك سوي الاسم فقط، وجميع الأمور إلى الأتابك قلاوون.
السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون
الألفي الصالحي النجمي العلائي كان من جنس القبجاق، ومن قبيلة برج أغلي، فجلب إلى مصر وهو صغير، واشتراه الأمير علاء الدين آقسنقر الساقي العادلي أحد مماليك الملك العادل أبي بكر بن أيوب بألف دينار، فعرف من أحل ذلك بالألفي.
فلما مات أستاذه الأمير علاء الدين صار إلى الملك الصالح نجم الدين أيوب في عدة من المماليك، فعرفوا بالعلائية، وذلك في سنة سبع وأربعين وستمائة وجعل الملك الصالح قلاوون من جملة المماليك البحرية، ومازال حتى كانت وفاة الملك الصالح، ثم إقامة شجر الدر بعد الملك توران شاه بن الصالح. فلما قام المعز أيبك في سلطنة مصر، وقتل الفارس أقطاي، خرج قلاوون من مصر فيمن خرج من البحرية. وتنقلت به الأحوال حتى صار أتابك العساكر بديار مصر في سلطنة الملك العادل سلامش بن الظاهر، في سابع شهر ربيع الآخر، وصار يذكر اسمه مع اسم العادل على المنابر وتصرف تصرف الملوك مدة ثلاثة أشهر، إلى أن وقع الاتفاق على خلع العادل وإقامة قلاوون.
فأجلس قلاوون على تخت الملك في يوم الأحد العشرين من رجب، وحلف له الأمراء وأرباب الدولة، وتلقب بالملك المنصور، وأمر أن يكتب في صدر المناشير والتواقيع والمكاتبات لفظ الصالحي، فكتب بذلك في كل ما يكتب عن السلطان، وجعل عن يمين البسملة تحتها بشيء لطيف جداً. وخرج البريد بالبشائر إلى الأعمال، وجهزت نسخة اليمين إلى دمشق وغيرها، وزينت القاهرة ومصر وظواهرهما وقلعة الجبل، وأقيمت له الخطبة بأعمال مصر.
وأول ما بدأ به السلطان قلاوون إبطال زكاة الدولبة، وكانت مما أجحفت بالرعية، وأبطل مقرر النصارى، وكان له منذ أحدث ثمان عشرة سنة، وانحطت الأسعار.
ووصل البريد إلى دمشق، وعليه لاجين الصغير والأمير ركن الدين بيبرس الجالق، في ثامن عشريه، بعد يومين وسبع ساعات من مفارقة قلعة الجبل، و لم يعهد مثل هذا. فحلفت عساكر دمشق، وأقيمت الخطبة بها في يوم الجمعة ثاني شعبان، وزينت المدينة سبعة أيام.(1/222)
وأفرج السلطان عن الأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحي، وأقامه في نيابة السلطة بديار مصر، وأقر الصاحب برهان الدين السنجاري على وزارته، ولازم الجلوس بدار العدل في يومي الإثنين والخميس.
وفي يوم السبت ثالث شعبان. ركب السلطان الملك المنصور قلاوون بشعار السلطنه وأبهة المملكة، وشق القاهرة وهي مزينة، فكان يوما مشهودا، لأنه أول ركوبه. وكتب السلطان إلى لأمير شمس الدين سنقر الأشقر كتابا، بخط القاضي عماد الدين إسماعيل بن تاج الدين أحمد بن سعيد بن الأثير، ويخبره فيه بركوبه، وخاطبه بالمملوك. وأعفي تقي الدين التكريتي مما عليه من البواقي، وفوض إليه نظر الخزانة بدمشق. وصام الناس شهر رمضان يوم الجمعة، على اختلاف شديد وشك كبير.
وفي ثالثه. استقر الأمير جمال الدين أقش الشريفي أمير جاندار، في نيابة السلطنة بالصلت والبقاء.
وفي ثامنه: أفرج عن فتح الدين عبد الله بن القيسراني وزير دمشق، بعد ما اعتقل بقلعة الجبل زيادة على ثلاثين يوما.
وفي عاشره: استقر الأمير فخر الدين الطنبا في نيابة السلطنة بالقصر الذي بالقرب من أنطاكية، واستقر الأمير علم الدين سنجر المنصوري في نيابة السلطنة ببلاطنس، واستقر الأمير فخر الدين أياز الملوحي في ولاية الأعمال الغربية، عوضاً عن الأمير ناصر الدين بيليك بن المحسني الجزري.
وفي رابع عشره: استقر الأمير حسام الدين طرنطاي المنصوري في نيابة السلطنة بديار مصر، عوضاً عن الأمير عز الدين أيبك الأفرم، بحكم رغبته عن ذلك وسعيه في استقرار حسام الدين طرنطاي. وذلك إنه تمارض، فلما عزم السلطان على عيادته صنع له طبيبه شيئا تهيج به وجهه واصفر، ودخل عليه السلطان فتألم له وسأله عن حوائجه، فأشار عليه أن يقدم مماليكه وأثني عليهم، ثم قال: وتعفيني من النيابة، وأظهر العجز عنها. فلم يوافقه السلطان على ذلك، فأخذ يلح عليه، فقال له السلطان: فأشر على بمن يصلح لها، فقال: طرنطاي، فوافق قوله غرض السلطان.
وفي سابع عشره: قبض على الأمير نور الدين على بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف صاحب الشام، وعلى عدة من الناصرية.
وفي سادس عشريه: صرف الصاحب برهان الدين خضر السنجاري عن الوزارة، وقبض عليه وعلى ولده شمس الدين عيسي، وأخذت خيولهما وخيول أتباعهما. وسجنا بدار الأمير علم الدين سنجر الشجاعي، وأحيط بسائر أتباعهما، وألزموا بمائتي ألف وستة وثلاثين ألفا.
وفي ثاني شوال: استقر القاضي فخر الدين إبراهيم بن لقمان صاحب ديوان الإنشاء في الوزارة، بعد ما حمل إليه الأمير علاء الدين كندغدي الشمسي الأستادار خلع الوزارة إلى بيته بقلعه الجبل، وامتنع امتناعا شديدا فلم يسمع منه وألبسه الخلع، وباشر عوضاً عن الصاحب برهان الدين السنجاري وأفرج عن السنجاري، فلزم مدرسة أخيه بالقرافة.
وفيه استقر القاضي فتح الدين محمد بن محيي الدين عبد الله بن عبد الظاهر في قراءة البريد وتلقي الأجوبة، عوضاً عن ابن لقمان.
وفيه قبض على جماعة من الأمراء. منهم الأمير علاء الدين مغلطاي الدمشقي، وسيف الدين بكتمر الأمير آخوري قرطاي المنصوري، وصارم الدين الحاجب، واعتقلوا. وفوضت وزارة دمشق لتقي الدين توبه ناظر الخزانة، وخلع عليه الوزراء وتلقب بالصاحب.
وفي تاسعه: خرج الأمير بدر الدين بيليك الأيدمري على عسكر من القاهرة إلى جهة الشوبك وكان قد بعث إليها الملك السعيد بركة قان بن الظاهر وهو بالكرك الأمير حسام الدين لاجين رأس نوبة الجمدارية السعيدية، وتغلب عليها، وبعث السعيد إلى النواب أيضاً يدعوهم إلى القيام معه، فسار الأمير بدر الدين الأيدمري ونزل على الشوبك، وضايقها حتى تسلمها في عاشر ذي القعدة، بعد ما فر منها الملك نجم الدين خضر بن الظاهر، ولحق بأخيه السعيد في الكرك.
وقدمت رسل الفونش بكتب للملك السعيد وهدية، فقبض على هديتهم وكتبهم، وأعيدوا في خامس عشر شوال.
وفي حادي عشريه: قبض على الملك الأوحد وأخيه شهاب الدين محمد، ولدي الملك الناصر صلاح الدين داود صاحب الكرك، واعتقلا.
وفيه استقر الأمير بدر الدين بيليك الطياري في نيابة السلطنة بقلعة صفد، ونقل الأمير علم الدين سنجر الكرجي إلى الولاية، ونقل الأمير سيف الدين بلبان الجوادي إلى خزندارية القلعة.(1/223)
وفي ثالث عشريه: استقر شرف الدين أبو طالب بن علاء الدين بن النابلسي ناظر النظار بديار مصر، عوضاً عن نجم الدين بن الأصفوني في الوجه القبلي، وعن تاج الدين بن السنهوري في الوجه البحري.
وفي رابع عشريه: صرف النصارى من ديوان الجيوش، وأقيم بدلهم كتاب مسلمون، فاستقر أمين الدين شاهد صندوق النفقات في كتابة الجيش، عوضاً عن الأسعد إبراهيم النصراني.
وفيه هدم دير الخندق خرج باب الفتوح من القاهرة، واجتمع لهدمه عالم كثير، وكان يوماً مشهوداً.
وفي خامس عشريه: وصل الملك المنصور ناصر الدين محمد بن محمود صاحب حماة إلى ظاهر القاهرة، فركب السلطان إلى لقائه، وأنزله بمناظر الكبش، واهتم به اهتماما زائداً. ورسم بتضمين الخمر، فظهر شرب الخمر، وكثرت السكاري وزال الاعتراض عليهم، فلم يقم ذلك غير أيام قلائل حتى رسم في سادس عشريه بإراقة الخمور وإبطال ضمانها، ومنع من التظاهر بشيء من المسكرات.
وفي يوم الجمعة سابع عشريه: كتبت تقاليد القضاة الأربعة، واستقر الحال على أن يكون قاضي القضاة صدر الدين عمر، ابن قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز الشافعي، هو الذي يولي في أعمال مصر قضاة ينوبون عنه في الأحكام، وأن قاضي القضاة معز الدين الحنفي، وقاضي القضاة المالكي، وقاضي القضاة عز الدين الحنبلي، يحكمون بالقاهرة ومصر خاصة، بغير نواب في الأعمال، فاستمر الأمر على ذلك إلى اليوم.
وأمر السلطان بإحضار الأمير عز الدين أيدمر الظاهري من دمشق تحت الحوطة، فلما وصل اعتقل بقلعة الجبل.
وفي ثاني ذي القعدة: ركب السلطان إلى الميدان ولعب بالكرة، وهو أول ما ركب إليه. وفرق السلطان فيه مائة وبضعاً وثلاثين فرسا بسروج مخلاة، وخلع على الأمراء خلعاً سنية.
وفي خامسه: حمل إلى المنصور صاحب حماة تقليد باستقراره بحماة، وسير السلطان له السناجق، وأربعة صناديق ذهبا وفضة، وأربعة صناديق ثياباً من الإسكندرية والعتابي، وعدة من الخيل، وخلع عليه وعلى من يلوذ به، وأذن له في العود فسافر في تاسعه. وخرج السلطان معه لوداعه، وأقام نهاره بناحية بهتيت، ثم عاد إلى القلعة.
وفي حادي عشره: مات الملك السعيد بركة قان بن الظاهر بيبرس بالكرك، وكان قد ركب في الميدان فتقنطر عن فرسه وهو يلعب بالكرة، فصدع وحم أياماً، ومات وعمره نيف وعشرون سنة، فاتهم أنه سم.
وورد الخبر بوفاته في العشرين منه، فعمل له السلطان عزاء بالإيوان من قلعة الجبل، وجلس كئيباً ببياض، وقد حصر العلماء والقضاة والأمراء والوعاظ والأعياد، فكان يوماً مشهوداً.
وأقام القراء شهراً يقرأون القرآن، وكتب إلى أعمال مصر والشام بأن يصلي عليه صلاة الغائب. وعندما ماد السعيد أقام الأمير علاء الدين أيدغدي الحراني نائب الكرك نجم الدين خضر بن الظاهر ملكا مكان أخيه بالكرك، ولقبه الملك المسعود فتحكم عليه مماليكه وأساءوا التدبير، وفوقوا الأموال ليستجلبوا الناس، فصار إليهم من قطع رزقه، وحضر إليهم طائفة من البطالين فساروا إلى الصلت واستولوا عليها، وبعثوا إلى صرخد فلم يتمكنوا منها، وأتتهم العربان وتقربوا إليهم بالنصيحة، وأخذوا مالا كثيرا من المسعود ثم تسللوا عنه.
ولم يزل المسعود في إنفاق المال حتى فنيت ذخائر الكرك التي كان الملك الظاهر قد أعدها لوقت الشدة، وبعث المسعود إلى الأمير سنقر الأشقر نائب دمشق يستدعيه، فجرد السلطان الأمير عز الدين أيبك الأفرم إلى الكرك.
وفيه استقر شهاب الدين غازي بن الواسطي في نظر حلب، وقرر له في الشهر أربعمائه درهم وستة مكاكي قمح ومكوكان شعير، وأضيف معه جلال الدين بن الخطير في الاستيفاء.
واستقر الطواشي افتخار الدين في خزندارية حلب، وبدر الدين بكتوت القطزي شاد الدواوين بها، واستقر جمال الدين إبراهيم بن صصرى في نظر دمشق، بعد وفاة علم الدين محمد بن العادلي. واستقر الأمير سيف الدين بلبان الطباخي في نيابة حصن الأكراد.
وفي رابع ذي الحجة: استقر الأمير عماد الدين داود بن أبي القاسم في ولاية نابلس.
وفي سابعه: سار الأمير عز الدين أيبك الأفرم بالعساكر من القاهرة إلى جهة الكرك.
وفي تاسعه: أفرج عن الأمير غرس بن شاور من الاعتقال، واستقر في ولاية الرملة.(1/224)
وثامن عشره: تسلم الأمير بدر الدين بيليك الأيدمري قلعة الشوبك من نواب الملك السعيد بالأمان، ووردت كتبه بذلك في ثالث عشريه، فسيرت الخلع لمن بها، ودقت البشائر بقلعة الجبل، وكتب بالبشارة إلى الأقطار.
وفيه استقر مجد الدين عيسي بن الخشاب محتسباً بالقاهرة.
وفيه استقر الأمير حسام الدين لاجين السلاح دار المنصوري، المعروف بلاجين الصغير، في نيابة قلعة دمشق. فلما وصل إليها كما تقدم، وحلف سنقر الأشقر وخلع عليه، تحيل منه الأمير سنقر الأشقر نائب الشام، وجمع الأمراء وأوهمهم أن السلطان قد قتل وهو يشرب القمز، ودعاهم إلى طاعته وحلفهم على موافقته. وتلقب بالملك الكامل، وركب بشعار السلطنة في يوم الجمعة رابع عشريه.
وقبض على الأمير ركن الدين بيبرس العجمي المعروف بالجالق المنصوري لامتناعه من الحلف، وقبض على الأمير حسام الدين لاجين نائب القلعة، وعلى الصاحب تقي الدين توبة التكريتي. وبعث الأمير سيف الدين بلبان الحبيشي إلى المماليك، ليحلف أهلها ويقيم في القلاع من يختاره. وكتب إلى مهنا وإلى أحمد بن حجي يعلمهما، فقدما عليه واستوزر مجد الدين إسماعيل بن كسيرات الموصلي، وأقر في وزارة الصحبة عز الدين أحمد بن ميسر المصري.
وانتقل بأهله من دار السعادة التي يسكنها النواب إلى القلعة، وأمر بغلق باب النصر، وفتح باب سر القلعة المقابل لدار السعادة بجوار باب النصر. فتطير الناس من ذلك، وقالوا: أغلق باب النصر، وانتقل من دار السعادة، واستوزر ابن كسيرات؟، فهذا أمر لا يتم، وكان كذلك.
وكان وفاء النيل بمصر ستة عشر ذراعاً، في ثالث ربيع الآخر. وحج بالناس من مصر الأمير جمال الدين أقش الباخلي، وسار الركب في سابع عشر شوال، وقاضيه فخر الدين عثمان ابن بنت أبي سعيد.
وفيها ولي نجم الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن يحيي بن هبة الله بن الحسن بن يحيي ابن سني الدولة قضاء حلب، عوضاً عن شهاب الدين محمد بن أحمد الخوي.
وفيها أنعم السلطان على أربعين من مماليكه بإمريات: منهم كتبغا، وسنجر الشجاعي، وأيبك الخازندار، وقبجق، ولاجين، وبلبان الطباخي، وكراي، وسنفر جركس، وأقوش الموصلي، وطقصوا، وأزدمر العلائي، وبهادر أص رأس نوبة، وبكتوت بكجا، وتغريل السلحدار، وسنقر السلحدار. وأنعم على جماعة من عدته أيضاً بإمريات: منهم كشكل، وأيدمر الجناحي، وقيران الشهابي، ومحمد الكوراني، وإبراهيم الجاكي وإخواته. وأنعم على عدة من المماليك الظاهرية بإمريات: منهم الحاج بهادر، وسنجر المسروري.
وفيها ترك السلطان ركوبه مدة، وسبب ذلك تغير قلوب الصالحية والظاهرية ومكاتبتهم سنقر الأشقر. فلما بلغ السلطان هذا عنهم خشي من اغتيالهم إياه، وأخذ في التدبير عليهم، فكثرت قالة العامة، وجهروا بقولهم في الليل تحت القلعة بأصوات عالية يا بو عيشه اركب وكن طيب، يا بو عيشه وصاروا يلطخون رنك السلطان في الليل بالقذر، فيتغافل عنهم، وهو يسمع صياحهم في الليل ويبلغه فعلهم برنكه. وزادوا حتى شافهوا أمراءه بالسب، وهم يعرضون عنهم.
وفيها ظهر بالقاهرة ومصر رجلان من بزدارية الأمير جمال الدين أقوش الملقب بهيطلية، عرف أحدهما بالجاموس لسواد لونه، وعرف الآخر بالمحوجب. وأفسدا فسادا كثيرا، وشغفا بشرب الخمر، وصارا يكتبان الأوراق للأعيان بطلب شيء من إحسانهم ويوصلونها إليهم، فإن لم يبعث لهم المكتوب إليه بشيء، وإلا أتوه ليلا. وشنع أمرهما، حتى إنهما ليمشيان في مواضع النزه وسيوفهما على أكتافهما فلا يجسر أحد عليهما. ورتب لهما الأمير علم الدين سنجر الخياط وإلى القاهرة جماعة لتقبض عليهما، فكانا يحملان في مائة رجل، ويحوط عنهم. وهجما القاهرة في الليل، وأخذا وإلى الطوف وعلقاه بذراعه، وقطعا أنف المقدم وأذنيه، وتتبعا كل من أرصدة الوالي لأخذهما.(1/225)
فذعر الناس منهما، إلى أن كانا ليلة ببستان في المطرية وخرجا منه يريدان القاهرة، فصدفهما مملوك الوالي وهو سائر إلى بلبيس ومعه غلامه، وقد عرفهما. فضرب بسهمه وأصاب رجلي أحدهما فسقط، وهم الآخر بصعود حائط البساتين فوقع و انكسرت رجله، ووقع الصوت في البستان. فنزل غلام المملوك وكتف الجاموس، وأخرج الناس المحوجب من البستان، وساروا بهما مربوطين إلى القاهرة. فطلع بهما الوالي إلى السلطان ومعه مملوكه، وكان زريا قصيراً لا يؤبه إليه، فعجب السلطان من ذلك، وسألهما على لسان الحاجب: " كيف مسككما هذا. بمفرده وأنتما لا تهابان رجالا كثيرة؟ أ فقالا: " إذا نزل القضاء قلت الحيلة، والله لقد كنا إذا رأينا عشرين فارساً، ومائة راجل خرجنا عنهم سالمين بعدما ننال منهم، فلما فرغ الأجل عندما وقع نظرنا على هذا ارتعدت فرائصنا حتى ما قدرنا على الحركة فرسم بتسميرهما فسمرا عند باب زويلة، وشهرا عدة أيام، وخلع على المملوك وأنعم عليه بألف درهم وإقطاع في الحلقة، وهو أول من أخذ من مماليك الأمراء إقطاعا في الحلقة.
وفيها خلع متملك تونس الأمير أبو زكريا يحيي الواثق بن أبي عبد الله محمد المستنصر بن السعيد أبي زكريا يحيي بن عبد الواحد بن أبي حفص في غرة ربيع الآخر، فكانت مدته سنتين وثلاثة أشهر وثلاثة وعشرين يوما، وقام بعده عمه أبو إسحاق إبراهيم بن يحيي بن عبد الواحد.
ومات في هذه السنة
الأمير أقش الشهابي أحد أمراء الطبلخاناه.
ومات الأمير الطنبا فخر الدين الحمصي، في سادس عشر رمضان.
ومات علم الدين إسحاق بن العادلي ناظر دمشق، في خامس عشري شوال. ومات الأمير عز الدين أيبك الشيخ، في ذي الحجة.
ومات الأمير ناصر الدين بلبان النوفلي أحد الطلخاناه.
ومات الأمير علم الدين بلبان المشرفي أحد الطلخاناه.
ومات الأمير سيف الدين جمق أحد الطلخاناه.
ومات شرف الدين أبو بكر عبد الله بن تاج الدين أبي محمد عبد السلام ابن شيخ الشيوخ عماد الدين عمر بن على بن محمد بن حمويه الحموي الجويني، شيخ الشيوخ بدمشق، في ثامن شوال، دفن بقاسيون.
ومات الأمير بدر الدين محمد بن الأمير حسام الدين بركة خان الخوارزمي، خال الملك السعيد بن الظاهر، في تاسع ربيع الأول بدمشق.
ومات الأمير نور الدين على ابن الأمير عز الدين مجلي الهكاري نائب حلب بها، عن سبع وتسعين سنة.
وتوفي قاضي القضاة محيي الدين أبو الصلاح عبد الله بن شرف الدين أبي المكارم محمد بن عين الدولة الشافعي، في خامس رجب وهو مصروف، وقد أناف على ثمانين سنة.
سنة تسع وسبعين وستمائة
في يوم الخميس أول المحرم: ركب الملك الكامل سنقر الأشقر بشعار السلطنة من قلعة دمشق إلى الميدان الأخضر، وبين يديه الأمراء مشاة بالخلع، ثم عاد.
وفي يوم الجمعة ثانيه: خطب له على منبر الجامع بدمشق، وكتب إلى الأمير عز الدين الأفرم وهو بالكرك يعتذر عن قيامه، وأتبع الكتاب بعسكر. فلما ورد كتابه جهزه الأفرم إلى السلطان بمصر، فكتب السلطان عند وروده إلى الأشقر يقبح فعله، وكتب أمراء مصر إليه بذلك، ويحثونه على الإذغان وترك الفتنة. وسار بالكتب بلبان الكريمي، فوصل دمشق في ثامنه، وخرج سنقر الأشقر إلى لقائه وأكرمه، و لم يرجع عما هو فيه.
واستقر الأفرم بغزة، فوافاه عسكر سنقر الأشقر بها، فاندفع من قدامهم إلى الرمل، وملك العسكر غزة واطمأنوا، فطرقهم الأفرم وأوقع بهم فانهزموا إلى الرملة، وأسر منهم الأمير بدر الدين كنجك الخوارزمي، الأمير بدر الدين بيليك الحلبي، وبهاء الدين يمك الناصري، وناصر الدين باشقرد الناصري، وعلم الدين سنجر التكريتي، وسنجر البدري، وسابق الدين سليمان صاحب صهيون، وغنم منهم مالا وخيولا وأثقالا كثيرة. وبعث الأفرم بالبشارة على يد ناصر الدين محمد ولد الأمير بكتاش الفخري، فقدم في خامس عشره بالأمراء المأسورين، فعفا السلطان عنهم وأحسن إليهم، وأعادهم على أخبازهم وجعلهم في العسكر.
وفي رابع عشره: مات الأمير علاء الدين كندغدي الحبيشي من ضربة بسكين، ضربه بها سنقر الغتمي الأشقر الأستادار، وقبض عليه وسمر على باب زويلة.(1/226)
ولما بلغ سنقر الأشقر كسرة عسكره، جمع وحشد وبعث إلى الأمراء بغزة يعدهم ويستميلهم، فقدم عليه شهاب الدين أحمد بن حجي أمير العربان بالبلاد القبلية، والأمير شرف الدين عيسي بن مهنا أمير العربان بالبلاد الشرقية والشمالية، وأتته النجدات من حلب وحماة ومن جبال بعلبك، واستخدم عدة كبيرة وبذل فيهم المال، وكثرت عنده بدمشق الأرجاف أن عسكر مصر قد سار إليه، فاشتد استعداده. وجرد السلطان من القاهرة الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح، ومعه الأمير بدر الدين الأيدمري والأمير حسام الدين أيتمش بن أطلس خان في أربعة آلاف فارس. فسار إلى غزه، واجتمعوا مع الأمير عز الدين الأفرم والأمير بدر الدين الأيدمري، وساروا جميعا والمقدم عليهم علم الدين سنجر الحلبي، فرحل عسكر سنقر الأشقر من الرملة إلى دمشق. فخرج سنقر الأشقر في ثاني عشر صفر بعساكره وخيم بالجسورة خارج دمشق، ونزل عسكر مصر الكسوة والعقوة في يوم الإثنين سابع عشره بالجسورة. فوقعت الحرب في تاسع عشره، وثبت سنقر الأشقر وأبلي بلاء عظيما، ثم خامر من عسكره طائفة كبيرة إلى عسكر مصر، وانهزم كثير منهم، ورجع عسكر حلب وحماة عنه إلى بلادهم، وتخاذل عنه عسكر دمشق، وحمل عليه الأمير سنجر الحلبي فانهزم منه. وهرب سنقر الأشقر وتبعه من خواصه الأمير عز الدين أزدمر الحاج، والأمير علاء الدين السبكي، والأمير شمس الدين قراسنقر المعزي، والأمير سيف الدين بلبان الحبيشي، وساروا معه هم والأمير عيسي بن مهنا إلى برية الرحبة وأقاموا بها أياما، وتوجهوا إلى الرحبة، وكان سنقر قبل ذلك قد بعث حرمه وأمواله إلى صهيون. وأسر يومئذ أحد عشر أميرا: منهم بدر الدين سنجق البغدادي، وبدر الدين بيليك الحلبي، وعلم الدين سنجر التكريتي، وبهاء الدين تملك الناصري، وباشقرد الناصري، ونوديه الناصري.
ولما انهزم سنقر الأشقر تفرق عسكره في سائر الجهات، وغلقت أبواب دمشق، وزحف عسكر مصر إليها وأحاطوا بها، ونزلوا في الخيام و لم يتعرضوا لشيء. وأقام الأمير سنجر الحلبي بالقصر الأبلق في الميدان الأخضر خارج دمشق، فلما أصبح أمر فنودي بالأمان. وكان بقلعة دمشق الأمير سيف الدين الجكندار، وهو متولها من جهة سنقر الأشقر، فأفرج عن الأمير ركن الدين بيبرس العجمي الجالق، والأمير حسام الدين لاجين المنصوري، والصاحب تقي الدين توبه، وحلفهم ألا يؤذوه إذا أطلقهم. ثم فتح باب القلعة، ونزل لاجين إلى باب الفرج فوقف عليه، ومنع العسكر من دخول المدينة.
ونودي بإطابة قلوب الناس وزينة البلد، فوقف البشائر بالقلعة. وقدم كثير ممن كان مع سنقر الأشقر فأمنهم الأمير سنجر الحلبي، وحضر أحمد بن حجي بأمان. وقتل في هذه الوقعة الأمير ناصر الدين محمد بن الأتابك وكان شجاعا، ونور الدين على بن الطوري، وكان شجاعاً، وثمانية من جند دمشق، واثنان من عسكر مصر، وجرح الأمير بكتاش الفخري، وكتب إلى السلطان بذلك على يد ناصر الدين محمد ابن الأمير بكتاش الفخري أمير سلاح، فلما قدم على السلطان في أول ربيع الأول أنعم عليه بإمرة عشرة، وهو أول من تأمر من أولاد الأمراء في الدولة المنصورية.
واستقر في نيابة الأمير بدر الدين بكتوت العلائي، واستقر الوزير تقي الدين توبه على حاله، واستقر الأمير علم الدين سنجر الباشقردي في نيابة حلب، بعد الأمير جمال الدين أقش الشمسي نائب حلب.
وفي خامس عشري أبيب وهو في صفر: أخذ قاع النيل، فكان خمسة أذرع وعشرين إصبعا.(1/227)
وفي رابع عشري صفر: سار الأمير حسام الدين أيتمش بن أطلس خان في عدة من الأمراء ومعه ثلاثة آلاف فارس من دمشق، في طلب شمس الدين سنقر الأشقر، وتبعهم في أول ربيع الأول الأمير عز الدين الأفرم على عسكر آخر. وكان سنقر الأشقر قد أقام عند الأمير شرف الدين عيسي بن مهنا، ثم فارقه وسار إلى الرحبة، وقد تركه كثير ممن كان معه، فامتنع الأمير موفق الدين خضر الرحبي نائب القلعة بالرحبة من تسليمها إلى سنقر الأشقر. فلما أيس منه سنقر كتب إلى الملك أبغا بن هولاكو يحثه على الحضور لأخذ البلاد. الشامية، وكتب معه أيضاً الأمير عيسي بمثل ذلك. فبلغهما خبر توجه العساكر من دمشق، فسار سنقر في البرية إلى صهيون فتحصن بها، ولحق به الأمير عز الدين الحاج أزدمر في طائفة، فبعثه إلى قلعة شيزر فأقام بها، وبلغ ذلك العساكر المتوجهة من دمشق فنازلت شيزر.
وفي هذه المدة أوقعت الحوطة بدمشق على الصاحب مجد الدين إسماعيل بن كسيرات وزير سنقر الأشقر، وعلى جمال الدين بن صصرى ناظر دواوين دمشق، واعتقلا على مال ألزما به.
وضرب الزين وكيل بيت المال، ورسم على قاضي القضاة شمس الدين أحمد بن خلكان، واتهم بأنه أفتي سنقر الأشقر بجواز قتال السلطان، وورد كتاب السلطان من مصر بشنقه.
ثم ورد بريد من مصر إلى الشام بأمان أهل دمشق، فقام في حق قاضي القضاة شمس الدين الأمير علم الدين الحلبي، وقال: قد ورد كتاب السلطان بأمان من سمعه من أهل دمشق، وقد سمعه ابن خلكان فهو أمن من القتل.
وصرف ابن خلكان عن قضاة دمشق في حادي عشري من صفر، وعرض القضاء على قاضي القضاة عز الدين محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق بن خليل بن مقلد بن الصائغ، فامتنع من ذلك، ففوض لنجم الدين أبي بكر بن صدر الدين بن أحمد بن يحيي ابن سني الدولة.
واعتقل ابن خلكان في رابع عشريه بالخانقاه النجيبية، ثم أفرج عنه في تاسع ربيع الأولى بكتاب السلطان. فثار عليه ابن سني الدولة، وألزمه أن يخرج من المدرسة العادلية، ورسم عليه في يوم الأربعاء تاسع عشر ربيع الأول حتى ينتقل عنها، وشدد عليه بسبب ذلك ولم يمهل، فشرع ابن خلكان في نقل كتبه وأمتعته في الرابعة من النهار، وإذا بالطلب قد أتاه فظن أنه من جهة الاستحثاث في النقلة، فأراهم الاهتمام بذلك، فقيل له قد حضر البريد من مصر، فخاف من حلول البلاء به، وتوجه إلى نائب دمشق، فإذا بكتاب السلطان يتضمن إنكار ولاية ابن سني لما به من الصمم، ويقول: إنا قد عفونا عن الخاص والعام، وما يليق أن نخص بالسخط أحدا على انفراده، وغير حاف ما يتعلق بحقوق القاضي شمس الدين بن خلكان وقديم صحبته، وأنه من بقايا الدولة الصالحية، وقد رسمنا بإعادته إلى ما كان عليه من القضاء، فخلع عليه الأمير علم الدين الحلبي، وركب ابن خلكان من ساعته إلى المدرسة العادلية، ونزلها وقت الظهر وباشر الحكم، فعد ذلك من الفرج بعد الشدة، وكانت مدة ابن سني الدولة عشرين يوماً.
وفي حادي عشر شهر ربيع الأول: فوضت نيابة دمشق إلى الأمير حسام الدين لاجين الصغير المنصوري، وقد كتب تقليده وتوجه به بكتوت العلائي، وولي الأمير بدر الدين بكتوت العلائي شد الدواوين بدمشق، والصاحب تقي الدين توبة التكريتي وزارة الشام، وأقطع الأمير فخر الدين عثمان بن مانعن بن هبة، والأمير شمس الدين محمد بن أبي بكر، إقطاع الأمير شرف الدين عيسي بن مهنا، واستقرا في إمرة آل الفضل وآل علي على أن ينزل فخر الدين من الرستن إلى الملوحة، وتكون منزلة شمس الدين من الملوحة إلى الفرات، وأعطي أيضاً الأمير حسام الدين دراج إمرة آل عامر، وتكون منزلته من الرستن إلى العقابيات.
وتوجه شمس الدين سنقر الغتمي وسيف الدين بلبان الخاص تركي من القاهرة إلى الملك منكوتمر في البحر، ومعهما كتاب السلطان إلى الملك غياث الدين كيخسرو بن ركن الدين قلج أرسلان السلجوقي. وتوجه الأمير ناصر الدين بن المحسني الجزري والبطرك أنباسيوس، في الرسالة إلى الملك الأشكري.
وفي ثالث ربيع الآخر: ورد رسول صاحب تونس بكتابه.
وفي سابعه: قدم الأمير عز الدين أزدمر العلائي إلى قلعة الجبل، فأنعم عليه بخبز الأمير قيران البندقداري، المنتقل إليه عن علم الدين سنجر الدواداري.
وفي النصف منه: قدم الأمير بدر الدين بكتوت ابن الأتابك.(1/228)
وفي ثامن عشريه: كسر الخليج الذي بظاهر المقس، وورد المفرد في ثالث عشريه.
وفي سادس عشريه وهو أول أيام النسيء: وفي النيل ستة عشر ذراعا، فركب السلطان إلى القياس وخلق العمود، ثم ركب في الحراقة وكسر الخليج الكبير، فكان يوما مشهوداً.
ونودي في نهاره إصبعان من ستة عشر ذراعا، وكتبت البشائر بالوفاء على العادة.
وفيه صرف الأمير علم الدين أقش البدري وإلى قلعة الشوبك، وقرر عرضه الأمير علم الدين سنجر الإيغاني.
وفي سابع عشريه: مات الأمير سيف الدين أبو بكر بن أسباسلار وإلى مصر، وأحيط بتركته، وقرر عوضه الأمير عز الدين أيبك الفخري.
وفي أول جمادى الأولى: كان يوم النوروز بمصر.
وفي تاسعه: وصل الأمير سيف الدين الحبيشي إلى قلعة الجبل.
وفي خامس عشريه: انتهت زيادة ماء النيل إلى ثلاثة وعشرين إصبعاً من سبعة عشر ذراعا، وأعطي الأمير بدر الدين بيليك الأيدمري تكملة مائة فارس، ورسم بإيقاع الحوطة على تقي الدين توبة وزير الشام: فقبض على موجوده وسجن.
وفي ثالث جمادى الآخرة: وصل الأمير علم الدين سنجر الحلبي من بلاد الشام، فركب السلطان إلى لقائه وخلع عليه وعلى من كان معه من الأمراء، وأنعم على كل منهم بألف دينار.
وفي سادسه: خلع على الأمير سيف الدين بلبان الرومي، وجعل دوادار العلامة لا غير، مع القاضي فتح الدين بن عبد الظاهر.
وورد الخبر بمسير التتار إلى البلاد الشامية، وأنهم قد افترقوا ثلاث فرق: فرقة سارت من جهة بلاد الروم ومقدمهم صمغار وتنجي وطرنجي، وفرقة من جهة الشرق ومقدمهم بيدو بن طوغاي بن هولاكو وصحبته صاحب ماردين، وفرقة فيها معظم العسكر وشرار المغل منكوتمر بن هولاكو. فخرج من دمشق الأمير ركن الدين إياجي على عسكر، وانضم مع العسكر المحاصر لشيزر، وخرج من القاهرة الأمير بدر الدين بكتاش النجمي على عسكر. واجتمع الجميع على حماة، وراسلوا الأمير سنقر الأشقر في إخماد الفتنة والاجتماع على قتال التتر، فبعث إليهم عسكرا من صهيون أقام حول صهيون، ونزل الحاج أذدمر من شيزر وخيم تحت قلعتها.
ووقعت الجفلة في البلاد الحلبية، فسار منها خلق كثير إلى دمشق في النصف من جمادى الآخرة، وكثر الاضطراب في دمشق وأعمالها، وعزم الناس على تركها والمسير إلى ديار مصر.
فلما كان في حادي عشريه: هجمت طوائف التتار على أعمال حلب، وملكوا عين تاب وبغراص ودربساك، ودخلوا حلب وقد خلت من العسكر، فقتلوا ونهبوا وسبوا، وأحرقوا الجامع والمدارس ودار السلطنة ودور الأمراء. وأقاموا بها يومين يكثرون الفساد بحيث لم يسلم منهم إلا من اختفي في المغائر والأسرية، ثم رحلوا عنها في يوم الأحد ثالث عشريه عائدين إلى بلادهم بما أخذوه، وتفرقوا في مشاتيهم.
وفي يوم الإثنين سابع عشريه: أركب السلطان ولده علاء الدين أبا الفتح عليا بشعار السلطنة، ولقبه بالملك الصالح وجعله ولي عهده، فشق القاهرة من باب النصر إلى قلعة الجبل. وكتب له تقليد بخط القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر من إنشائه، أجاد فيه وأبلغ، وخطب للملك الصالح بعد ذلك على منابر مصر كلها بعد والده، وكتب إلى البلاد الشامية بذلك.
وفي آخره: عزل السلطان الصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان عن وزارة الديار المصرية، فعاد إلى ديوان الإنشاء، وكتب مع كتاب الإنشاء، وتصرف بأمر صاحب ديوان الإنشاء، وفوضت الوزارة بعده إلى الصاحب برهان الدين الخضر بن الحسن السنجاري.
وتوجه السلطان من مصر بالعساكر إلى البلاد الشامية يريد لقاء التتار، بعد ما أنفق في كل أمير ألف دينار، وفي كل جندي خمسمائة درهم، واستخلف على مصر بقلعة الجبل ابنه الملك الصالح عليا. فسار السلطان إلى غزة، وقدم عليه بغزة من كان في البلاد الشامية من عساكر مصر، وقدم عليه أيضاً طائفة من أمراء سنقر الأشقر فأكرمهم. و لم ينزل السلطان بغزة إلى عاشر شعبان، فرحل منها عائداً إلى مصر، بعد أن بلغه رجوع التتر، وكانت غبيته خمسين يوماً. وولي الأمير بدر الدين درباس ولاية جينين ومرج بني عامر.
وفيها ولي الأمير نجم الدين إبراهيم بن نور الدين على بن السديد ولاية مصر، عوضاً عن الأمير عز الدين أيبك الفخري. وسفر الأمير سيف الدين باسطي نائبا بقلعة صرخد، والأمير عز الدين أيبك الفخري والياً بالقلعة المذكورة.(1/229)
وفي يوم السبت سادس عشري شهر رمضان: صرف قاضي القضاة صدر الدين عمر بن تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز عن قضاء القضاة بديار مصر، وكان قد سلك في ولايته طريق الخير والصلاح، وتحري الحق والعدل وتصلب في الأحكام، واستقر عوضاً عنه قاضي القضاة تقي الدين محمد بن الحسين بن رزين الحموي.
وفيه خرج الأمير بدر الدين بكتاش النجمي إلى حمص مجردا، وخرج الأمير علاء الدين أيدكين البندقداري الصالحي لحفظ الساحل من الفرنج. وكتب السلطان إلى الأمير سيف الدين بلبان الطباخي نائب حصن الأكراد بغزو الفرنج بالمرقب، لمساعدتهم التتار عند وصولهم حلب، فجمع التركمان وغيرهم، وحمل المجانيق والآلات، ونازل المرقب، فانهزم المسلمون ونهبهم الفرنج، وعدم من المسلمين مقدار مائتي فارس وراجل. فكبر ذلك على السلطان، وتحرك للسفر وخرج في أول ذي الحجة، واستخلف ابنه الملك الصالح، وخيم بمسجد تبر. ورتب السلطان الأمير علم الدين سنجر الشجاعي. في استخراج الأموال وتدبير أمور المملكة، وجعله في خدمة الملك الصالح مع الوزير برهان الدين السنجاري. وأقام القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر بالقاهرة لقراءة البريد وتنفيذ الأشغال، وأقر في نيابة السلطنة بديار مصر الأمير زين الدين كتبغا المنصوري.
وقدم الأمير شرف الدين عيسي بن مهنا من العراق، وترامي على السلطان، فعفا عنه وأكرمه، وركب إلى لقائه وأحسن إليه.
ومات في هذه السنة
الشيخ الصالح المعمر طير الجنة، ودفن بقرافة مصر.
ومات الأديب الشاعر جمال الدين أبو الحسن يحيي بن عبد العظيم بن يحيي بن محمد ابن على الجزار، في ثاني عشر شوال.
ومات الأمير الكبير جمال الدين أقوش الشمسي نائب حلب بها، في خامس المحرم، وهو الذي قتل كتبغا نوين مقدم التتار يوم عين جالوت، وهر الذي أمسك الأمير عز الدين أيدمر الظاهري، وولي نيابة حلب بعده علم الدين سنجر الباشقردي.
ومات الأمير على بن عمر الطوري، وقد أناف على تسعين سنة، وكان أحد أبطال المسلمين، وله شهرة عند الفرنج، وتنقل في ولايات عديدة.
ومات الأمير سيف الدين أبو بكر بن أسباسلار وإلى مصر في ربيع الأول، بعد ما ولي مصر عدة سنين، وكان خبيراً عظيم السمن.
وتوفي شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن النن البغدادي الشافعي بالإسكندرية، عن ثمانين سنة.
وتوفي الأمير ناصر الدين محمد بن بركة خان خال الملك السعيد، وهو بدمشق.
سنة ثمانين وستمائة
فيها سار السلطان قلاوون من ظاهر القاهرة، فأتته رسل الفرنج وهو بمنزلة الروحا في تقرير الهدنة، فتقررت بين مقدم بيت الإسبتار وسائر الإسبتارية بعكا، وبين السلطان وولده الملك الصالح لمدة عشر سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام وعشر ساعات، أولها يوم السبت ثاني عشري المحرم.
وتقررت الهدنة أيضاً مع متملك طرابلس الشام بيتند بن بيمند لمدة عشر سنين، أولها سابع عشري شهر ربيع الأولى. وعادت الرسل، وتوجه الأمير فخر الدين أياز المقري الحاجب لتحليف الفرنج ومقدم الإسبتار على ذلك، فخلفهم.
وفيه بلغ الأمير بدر الدين بيسري الشمسي أن الأمير سيف الدين كوندك الظاهري السعيدي قد وافق عدة من الظاهرية والسعيدية على الفتك بالسلطان عند المخاضة بنهر الشريعة، بعد الرحيل من بيسان، فأعلم السلطان بذلك. واتفق ورود كتب من عكا تتضمن أن السلطان يحترز على نفسه، فإن عنده جماعة من الأمراء قد اتفقوا على قتله، وكاتبوا الفرنج بأنهم لا يصالحون، فإن الأمر لا يبطئ، فاحترز السلطان على نفسه.
وهم كوندك بأن يغتال السلطان وهو بمنزلة الروحا، فوجده قد تحفظ واستعد ثم إن السلطان رحل من الروحا، ولاطف الأمر حتى اجتمع الأمراء عنده في حمراء بيسان، فونج كوندك ومن معه وذكر لهم ما اعتمدوه من مكاتبة الفرنج، فلم ينكروا وسألوا العفو.(1/230)
فأمر السلطان بهم فقبض عليهم وهم: كوندك، وأيدغمش الحكيمي، وبيبرس الرشيدي، وساطلمش السلاح دار الظاهري، وعلى ثلاثة وثلاثين من الأمراء البرانية والمماليك الجوانية، وفر عشرة أمراء ومائتا فارس فأخذوا من بعلبك وصرخد، وأخذ كوندك الأمير حسام الدين طرنطاي نائب السلطة، ومضى به إلى بحيرة طبرية، وضرب عنقه ثم غرقه بها هو والبقية. فركب الأمير سيف الدين أيتامش السعيدي والأمير سيف الدين بلبان الهاروني، في نحو ثلاثمائة من البحرية الظاهرية والتتار الوافدية، وتوجهوا إلى سنقر الأشقر بصهيون. فخرج الأمير بدر الدين بكتاش الفخري والأمير ركن الدين طقصوا الناصري في أثرهم، فلم يدركهم، وأوقعت الحوطة على موجود من قتل ومن هرب.
وسار السلطان إلى دمشق فدخلها في تاسع عشر المحرم، وهو أول قدومه إليها في سلطنته، فكان يوماً مشهوداً، وقد اجتمع له عسكر عدته خمسون ألفاً.
وفي ثاني عشري المحرم: صرف ابن خلجان عن قضاء دمشق، وأعيد عز الدين محمد بن الصائغ. واستقر في قضاء الحنابلة بدمشق نجم الدين أحمد بن شمس الدين عبد الرحمن الحنبلي، وكان قضاء الحنابلة قد شغر من دمشق منذ عزل نفسه قاضي القضاة شمس الدين، فاستقر ابنه نجم الدين بتعيين والده.
وفي عاشر المحرم: مات قاضي القضاة صدر الدين عمر بن تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز الشافعي بمصر، فاستقر عوضه في نظر التربة الصالحية بخط بين القصرين الطواشي حسام الدين بلال المغيثي اللالا.
واستقر في نظر المشهد الحسيني بالقاهرة القاضي برهان الدين بن الطرائفي كاتب الإنشاء، فورد مرسوم السلطان من دمشق بولاية الأمير علاء الدين كشتغدي الشمسي الأستادار نظر المشهد الحسيني، وولاية القاضي تقي الدين عبد الرحمن بن عبد الوهاب ابن بنت الأعز المدرسة الصالحية والتربة الصالحية عوضاً عن أخيه، مضافاً لما بيده من نظر الخزائن المعمورة، وأن يكتفي بمعلوم المدرسة والتربة والمناصب التي كانت بيد أخيه، وبتوفر معلومه عن نظر الخزائن.
وفي ربيع الأول: صرف الصاحب برهان الدين الخضر السنجاري عن الوزارة بمصر، وقبض عليه وعلى ولده واعتقلا بقلعة الجبل.
وفي صفر: جرد السلطان من دمشق الأمير عز الدين أيبك الأفرم والأمير علاء الدين كشتغدي الشمسي في عدة من الأجناد، فساروا إلى شيزر، فبعث سنقر الأشقر يطلب الصلح على أن يسلم شيزر، ويعوض عنها الشغر وبكاس وكانتا قد أخدتا منه ومعهما فامية وكفر طلب وأنطاكية وعدة ضياع، مع ما بيده من صهيون وبلاطنس ونرزية واللاذقية، وشرط أيضاً أن يكون أميراً بستمائة فارس، ويؤمر من عنده من الأمراء، فأجيب إلى ذلك.
وحضر في رابع ربيع الأول الأمير علم الدين سنجر الدواداري، ومعه رسول سنقر الأشقر بنسخة يمينه على ما تقرر، فحلف له السلطان وكتب له تقليدا بالبلاد المذكورة، ونعت فيه بالأمير وخوطب في مكاتباته بالمقر العالي المولوي السيدي العالي العادلي الشمسي، ونودي في دمشق باجتماع الكلمة. وجهزت رسل سنقر الأشقر، ومعهم الأمير فخر الدين أياز المقري الحاجب والأمير شمس الدين قراسنقر المنصوري، فحلفاه وعادا في ثاني عشره، فضربت البشائر.
وبعث السلطان إلى سنقر الأشقر من الأقمشة والأواني وغيرها شيئاً كثيراً، وعادت العساكر من شيزر إلى دمشق.
وفي يوم الخميس أول شهر ربيع الأول وهو خامس عشري بؤونة: كان قاع النيل بمصر ستة أذرع وثمانية عشر إصبعاً.
وقدمت رسل الملك المسعود حضر بن الظاهر صاحب الكرك في طلب الصلح والزيادة على الكرك، ليكون له ما كاد للناصر صلاح الدين داود فلم يجب السلطان إلى ذلك، فترددت الرسل بينهما إلى أن تقرر أن يكود له من حد الموجب إلى الحسا، وأن تجهز إليه إخوته الذكور والإناث، وترد عليهم الأملاك الظاهرية.
وتوجه الأمير بدر الدين بيليك المحسني السلاح دار والقاضي عماد الدين بن الأثير ليحلفاه، فانبرم الصلح في أوائل شهر ربيع الأول، وشهر النداء بذلك في دمشق.
وفي هذا الشهر: دارت الجهة المفردة بدمشق وأعمالها وضمنت بألفي ألف درهم في كل سنة.
فلما كان يوم الأحد خامس عشريه: خرج مرسوم بإراقة الخمور وإبطال هذه الجهة الخبيثة، فبطل ذلك.
وفيه عزل برهان الدين الخضر السنجاري عن الوزارة وصودر وأهين.(1/231)
وفي يوم الأربعاء تاسع عشره: وصلت أم الملك السعيد ناصر الدين محمد بن بركة قان ابن الملك الظاهر بيبرس وهو معها في تابوت إلى ظاهر دمشق، فرفع في ليلة الخميس العشرين منه بحبال إلى أعلى السور، وأرخي وحمل إلى تربة والده الملك الظاهر، وألحده مع أبيه قاضي القضاة عز الدين بن الصائغ.
فلما كمان بكرة يوم الخميس: حضر السلطان والأمراء وسائر الأعيان وكثير من القراء والوعاظ إلى القبر، فكان وقتاً مشهوداً.
وفي هذا اليوم: أوفي النيل بمصر ستة عشر ذراعا وثلاثة أصابع، ووافقه رابع عشر مسري، فكتب إلى السلطان بذلك.
وفي شهر ربيع الآخر، ولي نظر الإسكندرية كمال الدين بن سلامة، بعد وفاة رشيد الدين بن بصاقة.
وفي جمادى الأولى. شنق بالقاهرة رجلان. أحدهما مر به سقاء فزحمه بحمله حتى أتلف ثيابه فضربه بسكين قتله، فشنق، والآخر جندي طالب خياطا بمتاع له عنده، فلما مطله ضربه فمات، فشنق أيضاً.
وفيه مات رسول ملك الفرنج، فأحيط بموجوده. وفيه قبض على شخص يعرف بالكريدي في طريق مصر كان يقطع الطريق على الناس، فسمر على جمل وأقام أياماً يطاف به أسواق مصر والقاهرة، فقطع عنه الموكل به الأكل والشرب، فلما طالب بذلك قال له الموكل به: إنما أردت أن أهون عليك لتموت سريعاً، حتى تستريح مما أنت فيه، فقال له: لا تقل كذا، فإن شر الحياة خير من الموت، فناوله ما أكله وسقاه. فاتفق إنه وقعت فيه شفاعة فأطلق وسجن، فعاش أياما ثم مات في السجن.
وفي عاشر جمادى الآخرة وهو تاسع عشري توت: انتهت زيادة ماء النيل إلى ثمانية عشر ذراعا وأربعة أصابع.
وفي هذا الشهر: ثار العشير ونهبوا مدينة غزة، وقتلوا خلقا كثيرا وأفسدوا، فبعث السلطان الأمير علاء الدين أيدكين الفخري على عسكر من دمشق، وخرج من القاهرة الأمير شمس الدين سنقر البدوي على عسكر.
وفيه ورد الخبر بدخول منكوتمر أخي ابغا بن هولاكو بن طلوي بن جنكزخان إلى بلاد الروم بعساكر المغل، وأنه نزل بين قيسارية والأبلستين. فبعث السلطان الكشافة، فلقوا طائفة من التتر أسروا منهم شخصا وبعثوا به إلى السلطان، فقدم إلى دمشق في العشرين من جمادى الأولى، فآتاه السلطان و لم ينزل به حتى أعلمه أن التتر في نحو ثمانين ألفا، وإنهم يريدون بلاد الشام في أول رجب.
فشرع السلطان في عرض العساكر، واستدعى الناس، فحضر الأمير أحمد بن حجي من العراق في جماعة كبيرة من آل مراتكون زهاء أربعة آلاف فارس، شاركين في السلاح على الخيول المسومة، وعليهم القزغندات الحمر من الأطلس المعدني والديباج الرومي، وعلى رءوسهم البيض مقلدين سيوفهم وبأيديهم الرماح، وأمامهم العبيد تميل على الركائب وترقص بتراقص المهاري وبأيديهم الجناب ووراءهم الظعائن والحمول ومعهم مغنية تعرف بالحضرمية سافرة في الهودج، وهي تغني:
وكنا حسبنا كل بيضاء شحمة ... ليالي لاقينا جذام وحميرا
ولما لقينا عصبة تغلبية ... يقودون جرداً للمنية ضمرا
فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه ... ببعض أبت عيدانه أن تنكسرا
سقيناهم كأسا سقونا بمثلها ... ولكنهم كانوا على الموت أصبرا(1/232)
فقال رجل: هكذا يكون ورب الكعبة. فكان كما قال، فإن الكسرة كانت أولا على المسلمين، ثم كانت النصرة لهم، واستحر القتل بالتتار كما ستراه. وقدمت نجدة من الملك المسعود خضر، وقدمت عساكر مصر وسائر العربان والتركمان وغيرهم. فوردت الأخبار. بمسير التتر، وأنهم انقسموا فسارت فرقة مع الملك أبغا بن هولاكو إلى الرحبة ومعه صاحب ماردين، وفرقة أخرى من جانب آخر، فخرج بجكا العلائي في طائفة من الكشافة إلى جهة الرحبة. وجفل الناس من حلف إلى حماة وحمص حتى خلت من أهلها، وعظم الإرجاف. وتتابع خروج العساكر من دمشق إلى يوم الأحد سادس عشري جمادى الآخرة، فخرج السلطان إلى المرج. بمن بقي من العساكر وأقام به إلى سلخ الشهر، ثم رحل يريد حمص فنزل عليها في حادي عشر رجب ومعه سائر العساكر، وحضر الأمير سنقر الأشقر من صهيون ومعه أيتمش السعدي، وأزدمر الحاج، وسنجر الدواداري، وبيجق البغدادي، وكراي، وشمس الدين الطنطاش، ومن معهم من الظاهرية، فسر السلطان بذلك وأكرمهم وأنعم عليهم، وكان ذلك في ثاني عشره فنزل سنقر الأشقر على الميسرة، وقويت الأراجيف بقرب العدو.
وفي ثالث عشره: اجتمع الناس بأسرهم في جامع دمشق، وتضرعوا إلى الله وضجوا وبكوا، وحملوا المصحف العثماني على الرءوس، وخرجوا من الجامع إلى المصلى خارج البلد وهم يسألون الله النصر على الأعداء.
ووصل التتار إلى أطراف بلاد حلب، وقدم منكوتمر إلى عين تاب، ونازل الملك أبغا قلعة الرحبة في سادس عشرى جمادى الآخرة، ومعه نحو ثلاثة آلاف فارس. وتقدم منكوتمر قليلاً قليلا حتى وصل حماة، وأفسد نواحيها وخرب جواسق الملك المنصور صاحب حماة وبستانه فورد الخبر إلى السلطان بذلك وهو على حمص، وأن منكوتمر في خمسين ألفا من المغل وثلاثين ألفا من الكرج والروم والأرمن والفرنجة، وأنه قد قفز إليه مملوك الأمير ركن الدين بيبرس العجمي الجالق ودله على عورات المسلمين.
ثم ورد الخبر بأن منكوتمر قد عزم أن يرحل عن حماة، ويكون اللقاء في يوم الخميس رابع عشر رجب. واتفق عند رحيله أن يدخل رجل منهم إلى حماة وقال للنائب: اكتب الساعة إلى السلطان على جناح الطائر بأن القوم ثمانون ألف مقاتل، في القلب منهم أربعة وأربعون ألفا من المغل وهم طالبون القلب، وميمنتهم قوية جدا، فيقوي ميسرة المسلمين، ويحترز على السناجق. فسقط الطائر بذلك وعلم بمقتضاه، وبات المسلمون على ظهور خيولهم.
وعند إسفار الصباح من يوم الخميس رابع عشر شهر وجب: ركب السلطان ورتب العساكر: فجعل في الميمنة الملك المنصور صاحب حماة، والأمير بدر الدين بيسري، والأمير علاء الدين طيبرس الوزيري، والأمير عز الدين أيبك الأفرم، والأمير علاء الدين كشتغدي الشمسي، ومضافيهم، وجعل في رأس الميمنة الأمير شرف الدين عيسي بن مهنا، وآل فضل وآل مرا وعربان الشام، ومن انضم إليهم، وجعل في الميسرة الأمير سنقر الأشقر ومن معه من الأمراء، والأمير بدر الدين بيليك الأيدمري، والأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح، والأمير علم الدين سنجر الحلبي، والأمير بجكا العلائي، والأمير بدر الدين بكتوت العلائي، والأمير سيف الدين حيرك التتري، ومضافيهم، وجعل في رأس الميسرة التركمان بجموعهم، وعسكر حصن الأكراد، وجعل في الجاليش وهو مقدمة القلب الأمير حسام الدين طرنطاي نائب السلطنة بديار مصر، ومن معه من مضافيه والأمير ركن الدين أياجي الحاجب والأمير بدر الدين بكتاش بن كرمون، والمماليك السلطانية ووقف السلطان تحت الصناجق، ومعه خاصته وألزامه وأرباب الوظائف، فكانت عمدة حلقته أربعة آلاف فارس وهي أقوي وأشد، وعدة مماليك السلطان ثمانمائة مملوك. وكان في العسكر حشو كثير من الأمراء الأكراد والتركمان سوي أمراء مصر والشام. ثم اختار السلطان من مماليكه مائتي فارس، وانفرد عن العصائب ووقف على تل، فكان إذا رأي طلبا قد اختل أردفه بثلاثمائة من مماليكه.(1/233)
فأشرفت كراديس التتار وهم مثلا عساكر المسلمين، و لم يعتدوا منذ عشرين سنة مثل هذه العدة، ولا جمعوا مثل جمعهم هذا، فإن أبغا عرض من سيره صحبة أخيه منكوتمر فكانوا خمسة وعشرين ألف فارس منتخبة. فالتحم القتال بين الفريقين بوطاة حمص، قريبا من مشهد خالد بن الوليد، ويوم الخميس رابع عشر رجب، من ضحوة النهار إلى آخره، وقيل من الساعة الرابعة. فصدمت ميسرة التتار ميمنة المسلمين صدمة شديدة ثبتوا لها ثباتا عظيما، وحملوا على ميسرة التتار فانكسرت وانتهت إلى القلب وبه منكوتمر. وصدمت ميمنة التتر ميسرة المسلمين، فانكسرت الميسرة وانهزم من كان فيها، وانكسر جناح القلب الأيسر. وساق التتر خلف المسلمين حتى انتهو إلى تحت حمص وقد غلقت أبوابها، ووقعوا في السوقة والعامة والرجالة والمجاهدين والغلمان بظاهر حمص، فقتلوا منهم خلقا كثيرا وأشرف الناس على التلاف.
ولم يعلم المسلمون من أهل الميسرة. بما جري للمسلمين أهل الميمنة من النصر ولا علم التتار الذين ساقوا خلف المسلمون ما نزل. بميسرتهم من الكسوة، ووصل إلى بعض المنهزمين إلى صفد، وكثير منهم دخل دمشق، ومر بعضهم إلى غزة، فاضطرب الناس بهذه البلاد وانزعجوا انزعاجاً عظيما.
وأما التتر الذين ساقوا خلف المنهزمين من المسلمين أصحاب الميسرة، فإنهم نزلوا عن خيولهم وأيقنوا بالنصر، وأرسلوا خيولهم توعي في مرج حمص، وأكلوا ونهبوا الأثقال والوطاقات والخزانة وهم يحسبون أن أصحابهم ستدركهم، فلما أبطأوا عليهم بعثوا من يكشف الخبر، فعادت كشافتهم وأخبرتهم أن منكوتمر هرب، فركبوا وردوا راجعين. هذا ما كان من أمر ميمنة التتار وميسرة المسلمين.
وأما ميمنة المسلمين فإنها ثبتت وهزمت ميسرة التتار حتى انتهت إلى القلب، إلا الملك المنصور قلاوون فإنه ثبت تحت الصناجق، ولم يبق معه غير ثلاثمائة فارس، والكوسات تضرب. وتقدم سنقر الأشقر، وبيسري، وطيبرس الوزيري، وأمير سلاح، وأيتمش السعدي، ولاجين نائب دمشق، وطرنطاي نائب مصر، والدواداري، وأمثالهم من أعيان الأمراء، إلى التتار، وأتاهم عيسي بن مهنا فيمن معه، فقتلوا من التتار مقتلة عظيمة.
وكان منكوتمر مقدم التتار قائماً في جيشه، فلما أراده الله من هزيمته نزل عن فرسه ونظر من تحت أرجل الخيل، فرأي الأثقال والدواب فاعتقد أنها عساكر، و لم يكن الأمر كذلك، بل كان السلطان قد تفرقت عنه عساكره ما بين منهزم ومن تقدم القتال، حتى بقي معه نحو الثلاثمائة فارس لا غير. فنهض منكوتمر من الأرض ليركب فتقنطر عن فرسه، فنزل التتر كلهم لأجله وأخذوه. فعندما رآهم المسلمون قد ترجلوا حملوا عليهم واحدة كان الله معهم فيها، فانتصروا على التتار.
وقيل إن الأمير عز الدين أزدمر الحاج حمل في عسكر التتار وأظهر أنه من المنهزمين، فقدمهم وسال أن يوصل إلى منكوتمر، فلما قرب منه حمل عليه وألقاه عن فرسه إلى الأرض، فلما سقط نزل التتار إليه من أجل إنه وقع، فحمل المسلمون عليهم عند ذلك، فلم يثبت منكوتمر وانهزم وهو مجروح، فتبعه جيشه وقد افترقوا فرقتين: فرقة أخذت نحو سلمية والبرية، وفرقة أخذت جهة حلب والفرات.
وأما ميمنة التتار التي كسرت ميسرة المسلمين، فإنها لما رجعت من تحت حمص كان السلطان قد أمر أن تلف الصناجق ويبطل ضرب الكوسات، فإنه لم يبق معه إلا نحو الألف، فمرت به التتار و لم تعرض له، فلما تقدموه قليلا ساق عليهم، فانهزموا هزيمة قبيحة لا يلوون على شيء. وكان ذلك تمام النصر، وهو عند غروب الشمس من يوم الخميس. ومر هؤلاء المنهزمون من التتار نحو الجبل يريدون منكوتمر، فكان ذلك من تمام نعمة الله على المسلمين، وإلا لو قدر الله أنهم رجعوا على المسلمين لما وجدوا فيهم قوة، ولكن الله نصر دينه، وهزم عدوه مع قوتهم وكثرتهم. وانجلت هذه الواقعة عن قتلي كثيرة من التتر لا يحصى عددهم.
وعاد السلطان في بقية يومه إلى منزلته بعد انقضاء الحرب، وكتب البطائق بالنصرة ولم يفقد كثير شيء من ماله، فإنه كان قد فرق ما في الخزائن على مماليكه أكياسا في كل كيس ألف دينار ليحملوه على أوساطهم فسلم له المال. وبات ليلة الجمعة إلى السحر في منزلته، فثار صياح لم يشك الناس في عود التتار، فبادر السلطان وركب وسائر العساكر، فإذا العسكر الذي تبع التتار وقت الهزيمة قد عاد.(1/234)
وقتل من التتار في الهزيمة أكثر ممن قتل في المصاف، واختفي كثير منهم يجانب الفرات. فأمر السلطان أن تضرم النيران بالأزوار التي على الفرات، فاحترق منهم طائفة عظيمة، وهلك كثير منهم في الطريق التي سلكوها من سلمية.
وفي يوم الجمعة: خرج من العسكر طائفة في تتبع التتار، مقدمهم الأمير بدر الدين بيليك الأيدمري، ورحل السلطان من ظاهر حمص إلى البحيرة ليبعد عن الجيف. وقتل من التتار صمغار، وهو من أكبر مقدميهم وعظمائهم، وكانت له إلى الشام غارات عديدة.
واستشهد من المسلمين زيادة على مائتي رجل: منهم الأمير عز الدين أزدمر الحاج وهو الذي جرح منكوتمر مقدم التتار وألقاه عن فرسه وكان سبب هزيمتهم، وكان من أعيان الأمراء، وتحدثه نفسه أنه يملك فعوضه الله الشهادة، والأمير سيف الدين بلبان الرومي الدوادار الظاهري، وعلم الدين سنجر الإربلي، وبدر الدين بكتوت الخازندار، وشمس الدين سنقر العرسي، وشهاب الدين توتل الشهرزوري، وسيف الدين بلبان الحمصي، وناصر الدين محمد بن جمال الدين صبرم الكاملي، وعلاء الدين على ابن الأمير سيف الدين بكتمر الساقي العزيزي، وناصر الدين محمد بن أيبك الفخري، وبدر الدين بيليك الشرفي، وشرف الدين بن علكان، وصاحب الموصل، والقاضي شمس الدين بن قريش كاتب الدرج وقد عدم فلم يعرف له خبر، وهو آخر من مات من كتاب الملك الكامل محمد بن العادل، وكان قد كتب له ولابنيه العادل والصالح ولمن بعدهما من المملوك.
وأما أهل دمشق فإنه لما كان بعد صلاة الجمعة، في اليوم الثاني من الوقعة، سقط الطائر بالنصرة، ودقت البشائر بقلعة دمشق وسر الناس سروراً كبيراً، وزينت القلعة والمدينة. فلما كان بعد نصف الليل من ليلة السبت وصل جماعة كثيرة من المنهزمين وأخبروا. بما شاهدوا من الكسرة، و لم يكن عندهم علم. بما تجدد بعدهم من النصرة، فارتجت دمشق واضطرب الناس، وأخذوا في أسباب الرحيل، وفتحت أبواب دمشق، ولم يبق إلا خروج الناس منها على وجوههم هاربين فورد بعد ساعة البريد يخبر النصر، وكانت موافاته عند أذان الفجر، فقرئ كتابه بالجامع فاطمأن الناس.
وورد الخبر إلى مصر في يوم الخميس حادي عشري شهر رجب، على جناح الطائر في بطاقة من قاقون، بأن جماعة من ميسرة العساكر المنصورة وصلوا منهزمين من العدو المخذول، ووصل بعض الأمراء إلى قطيا منهم ابن الأيدمري.
وقد كان أهل مصر صاروا يقنتون في صلواتهم، وكثرت قراءة صحيح البخاري، وأقبل الناس على تلاوة القرآن، وتجمعوا في المشهد الحسيني وفي الجوامع والمساجد، وكثر ضجيجهم ودعاؤهم. فاشتد القلق عند ورود هذا الخبر، وجرد الملك الصالح في الحال عسكراً عليه الأمير صارم الدين أربك الفخري في كثير من العربان إلى قطيا، لرد المنهزمين وإعادتهم إلى السلطان، ومنع أحد منهم أن يعبر إلى القاهرة، فاعتمد ذلك.
ولم يستمر قلق الناس غير ساعات من النهار، وإذا بالطيور قد وقعت محلقة تحمل البطائق المخلقة، وتخبر فيها بالبشائر العظمي من كسر التتار.
وقدمت البريدية بكتب البشائر أيضاً، فدقت البشائر وزينت القاهرة ومصر وقلعة الجبل، وكتب إلى أعمال مصر بالزينة. وكتب الملك الصالح إلى السلطان والده يشفع في المنهزمين ويسأل العفو عنهم، وكتب أيضاً إلى الأمير بدر الدين بيسري يؤكد عليه في الشفاعة فيهم.
واتفق أن الأمير طرنطاي النائب وقع على جماعة من أصحاب منكوتمر، فأسرهم وفيهم حامل حرمدانة، فوجد في الحرمدار كتبا من الأمراء مثل سنقر الأشقر، وأيتمش السعدي، وغيرهم ممن كان مع سنقر الأشقر إلى التتار، يحرضونهم على دخول الشام، ويعدونهم بالمساعدة على أخذها فشاور طرنطاي السلطان عليها، فأمر بغسلها فغسلت، ولم يطلع عليها أحد.
وأما السلطان فإنه وادع الأمير سنقر الأشقر، ورده ومن حمص إلى عمله بصهيون على عادته، ورد معه من كان عنده من الأمراء. وهم أيتمش السعدي، وسنجر الدواداري، وكراي التتري، وغيرهم.
ورحل السلطان إلى دمشق، فقدمها يوم الجمعة ثاني عشري رجب، فكان يوما عظيما إلى الغاية عظم فيه سرور الناس وكثر فرحهم، وقال فيه الشعراء عدة قصائد.
وفي سابع: ورد الخبر إلى القاهرة. يعود السلطان إلى دمشق، وأنه عندما استقر بها جرد العسكر مع الأمير بدر الدين الأيدمري إلى الرحبة، ليدفع من عليها من التتار.(1/235)
وأما أبغا بن هولاكو ملك التتار فإنه لم يشعر وهو على الرحبة إلا وقد وقعت بطاقة من السلطان إلى نائب الرحبة،. بما من الله به من النصر وكسرة التتار فعندما بلغه ذلك بدق بشائر القلعة رحل إلى بغداد.
ووصل الأمير بدر الدين الأيدمري إلى حلب، وبعث في طلب التتار إلى الفرات، ففروا من الطلب وغرق منهم خلق كثير. وعبرت طائفة منهم على قلعة البيرة، فأتلهم أهلها وقتلوا منهم خمسمائة، وأسروا مائة وخمسين. وتوجه منهم ألف وخمسمائة فارس إلى بغراس، وفيهم أكابر أصحاب سيس وأقاربهم فخرج عليهم الأمير شجاع الدين السيناني بمن معه، فقتلهم وأسرهم عن آخرهم بحيث لم يفلت منهم إلا دون العشرين. وتوجه منهم على سلمية نحو أربعة آلاف، فأخذ عليهم نواب الرحبة الطرقات والمعابر، فساروا في البرية فماتوا عطشا وجوعا، و لم يسلم منهم إلا نحو ستمائة فارس.
فخرج إليهم أهل الرحبة فقتلوا أكثرهم، وأحضروا عدة منهم إلى الرحبة ضربت أعناقهم بها. وأدرك بقية التتر الملك أبغا، وفيهم أخوه منكوتمر وهو مجروح، فغضب عليه وقال: " لم لا مت أنت والجيش ولا انهزمت " وغضب أيضاً على المقدمين. فلما دخل أبغا بغداد سار منها إلى جهة همذان وتوجه منكوتمر إلى بلاد الجزيرة فنزل بجزيرة ابن عمر، وكانت الجزيرة لأمه قد أعطاها إياها أبوه هولاكو لما أخذها.
وفي يوم الإثنين حادي عشريه: قدم الأمير بدر الدين الأيدمري بمن معه من العسكر، بعدما أنكي في التتار. ورسم السلطان أن تكون البشائر إنعاماً على من ذكر. وهي القاهرة ومصر على يد الأمير حسام الدين لاجين السلاح دار الرومي، وقوض والوجه القبلي خلا الفيوم على يد الأمير بدر الدين بيدر المنصوري أمير مجلس، والفيوم على يد الأمير علم الدين سنجر أمير خور، والإسكندرية على يد الأمير علم الدين سنجر أمير جاندار، ودمياط على يد الأمير بدر الدين بيليك أبو شامة المحسني، والغربية على يد الأمير أيبك السلاح دار المنصوري، وأشموم على يد الأمير شمس محمد بن الجمقدار نائب أمير جاندار.
وورد كتاب السلطان إلى قلعة الجبل ليجهز إلى الملك المظفر شمس الدين بن رسول باليمن. بما من الله به من النصر على التتار، فكتب قريبه الملك الصالح كتابا من إنشاء محيي الدين بن عبد الظاهر، خوطب فيه: أعز الله أنصار المقام العالي المظفري الشمسي.
وفي شهر رجب: رتب السلطان غرس الدين بن شاور في ولاية لد والرملة، عوضاً عن سعد الدين بن قلج، بحكم انتقاله منها إلى ولاية بلد الخليل عليه السلام. ورتب تقي الدين توبة في نظر النظار بالشام، شريكا للقاضي تاج الدين عبد الرحيم بن تقي الدين عبد الوهاب بن الفضل بن يحيي السنهوري. ورتب الأمير علم الدين سنجر الدواداري شاداً ومدبراً من غزة إلى الفرات.
وفيه ثارت العشران ونهبوا نابلسي، وقتلوا مقتلة عظيمة، مركب الأمير علاء الدين أيدكين الفخري من غزة وقبض على جماعة منهم، وشنق اثنين وثلاثين من أكابرهم، وسجن كثيراً منهم بصفد، ورتب الأمير علاء الدين أيدغدي الصرخدي نائبا بالبلاد الغزاوية والساحلية لردع العشرين.
وفيه قرر الشيخ تفي الدين محمد بن دقيق العيد في تدريس المدرسة بجوار قبة الشافعي من قرافة مصر، على عادة القاضي تقي الدين بن رزين بعد وفاته.
واستقر الشيخ علم الدين ابن بنت العراقي في تدريس المشهد الحسيني بالقاهرة.
وفيه وصل الأمير شهاب الدين أحمد ابن وإلى القلعة أمير شكار من دمشق لتحريج الجوارح وإصلاحها.
وفيه استقر الأمير سيف الدين بازي المنصوري نائباً بحمص، ومعه الأمير صارم الدين الحمصي، مساعداً له.
واستقر الأمير جمال الدين أقش الحمصي نائبا في مدينة نابلس، عوضاً عن زين الدين قراجا البدري.
وفيه افرج عن الأمير سيف الدين قطز المنصوري، والأمير سنجر الحموي أبو خرص.
وفيه كانت وقعة في صحراء عيذاب بين عرب جهينة ورفاعة قتل فيها جماعة، فكتب إلى الشريف علم الدين صاحب سواكن بأن يوفق بينهم ولا يعين طائفة على أخرى، خوفا على فساد الطريق.
وفيه ولي زين الدين بن القماح نظر البحيرة، عوضاً عن موفق الدين بن الشماع. واستقر شمس الدين محمد بن القاضي علم الدين بن القماح في الإعادة. بمدرسة الشافعي من القرافة، بتوقيع شريف.(1/236)
وفي شعبان: افترق بنو صورة بناحية المنوفية من أعمال مصر فرقتين، وحشدوا وركبوا بآلات الحرب، فخرج إليهم عدة من أجناد الحلقة، ورسم بأخذ خيلهم وسلاحهم، فسكن ما كان بينهم.
وفي يوم الأحد ثاني شعبان: سار السلطان من دمشق، وكتب إلى مصر بتجهيز الزينة ونصب القلاع، وأن يتقدم إلى نواب الأمراء بالشروع في تقسيم المواضع لقلاعهم والاهتمام بالزينة. فرتبت الإقامات في عاشره على يد الأمير علم الدين سنجر الشجاعي، وجعل في كل منزلة من الدقيق ستين قطعة، وشعيرا أربعمائة أردب، وأغناما مائة رأس، ودجاجا مائتي طائر، وحماما خمسين طائرا، وأثبانا مائة حمل، وحطب سنطٍ مائة قنطار.
وخرج السلطان من غزة بكرة يوم الخميس ثالث عشره، ووصل قطيا يوم الإثنين سابع عشره، وقد تأخرت العساكر وراءه، ونزل غيفة يوم الخميس العشرين منه وخيم بها.
ودخل الأمير شرف الدين الجاكي المهمندار من الدهليز السلطاني لترتيب رسل الملوك الذين بالقاهرة، وخروجهم إلى لقاء السلطان.
وخرج الملك الصالح والأمير زين الدين كتبغا نائب السلطنة إلى الملتقي، واستمر الأمير علم الدين سنجر المنصوري بقلعة الجبل.
فصعد السلطان إلى قلعته في يوم السبت ثاني عشريه تحت صناجقه، وأسري التتار بين يديه، وقد حمل بعضهم الصناجق التترية وهي مكسورة. فبعث السلطان بالأسري وطبول التتار وحتر منكوتمر من جهة باب النصر حتى شقوا القاهرة إلى باب زويلة، وساروا إلى القلعة، و لم يشق السلطان القاهرة، وكان يوما مشهوداً اجتمع الناس فيه من الأقطار، وكثر فرحهم وسرورهم.
وفي يوم الأحد ثالث عشري شعبان: أفرج السلطان عن الأمير ركن الدين منكورس الناصر الفارقاني.
وفيه دخل السلطان إلى الخزانة الشريفة، ورتب الخلع لسائر الأمراء والخواص والكتاب بالدرد الذين كانوا في الخدمة.
وفي يوم الخميس سابع عشريه: جلس السلطان، وأحضرت هدية الملك المظفر شمس الدين يوسف بن عمر بن على بن رسول صاحب اليمن على يد رسله: وهم مجد الدين بن أبي القاسم، والقاضي محيي الدين يحيي بن البيلقاني. فقبل السلطان هديته، وكانت من طرائف اليمن، من العود والعنبر والصيني ورماح القنا وغير ذلك.
وفي تاسع عشريه: أعيد إقطاع الأمير سيف الدين أيتمش السعدي إليه، وهوناي وطنان وإمرة مائة فارس، وكان قد أخذه عند توجهه إلى سنقر الأشقر الأمير عز الدين أيبك الأفرم، وأعيد على الأفرم إقطاعه القديم ممن أخذه.
وفيه أقر الأمير سيف الدين قطز.
وفيه فوض قضاء الشافعية إلى وجيه الدين عبد الوهاب بن حسين المهلبي الهنسي في سابع شعبان، عوضاً عن تقي الدين محمد بن رزين بحكم وفاته.
وفيه قبض على الأمير ركن الدين بيبرس الحلبي المعروف بأياجي الحاجبي، من أجل أنه انهزم على حمص.
وفي يوم السبت سادس رمضان: حضرت رسل الملك المظفر شمس الدين يوسف ابن عمر بن على بن رسول متملك اليمن، وسألوا أن يكتب لمرسلهم أمان على قميص، وتعلم عليه العلامة السلطانية، فأجيبوا إلى ذلك. وجهزت إليه هدايا وتحف فيها قطعة زمرد، وعدة من أكاديش التتار وشيء من عددهم.
وفيه عملت نسخة حلف السلطان للملك الأشكري صاحب القسطنطنية، وكانت رسله قد وصلت بنسخة يمينه في تاريخ موافق آخر المحرم سنة ثمانين وستمائة.
وفيه ولي الأمير بهاء الدين قراقوش قوص وأخميم، عوضاً عن الأمير بيبرس مملوك علاء الدين حرب دار.
وفي شوال: سار المحمل إلى الحجاز على العادة.
وفي يوم الخميس أول ذي القعدة: استقر عز الدين أيبك الفخري والياً بقوص وأخميم، عوضاً عن قراقوش.
وفي خامسه: قبض على الأمير أيتمش السعدي وعلى عدة من الأمراء واعتقلوا، وقبض أيضاً بدمشق على الأمير سيف الدين بلبان الهاروني وسيقران الكردي وغيرهما، وذلك لأنهم كانوا ممن كان مع سنقر الأشقر.
وفيه سافر الأمير ناصر الدين محمد بن المحسني الجزري الحاجب والقاضي شرف الدين إبراهيم بن فرج كاتب الدرج، إلى اليمن من جهة عيذاب، في الرسالة عن السلطان.
وفي ذي القعدة: أخرج السلطان جميع نساء الملك الظاهر بيبرس وخدامه من القاهرة، وبعثهم إلى الكرك.(1/237)
وفي أول ذي الحجة: فوض قضاء المالكية بديار مصر إلى تقي الدين أبي على الحسين ابن الفقيه شرف الدين أبي الفضل عبد الرحيم بن الفقيه الإمام مفتي الفرق جلال الدين أبي محمد بن عبد الله بن شاس الجذامي السعدي المالكي، عوضاً عن قاضي القضاة نفيس الدين محمد بن سكر، بحكم وفاته.
ومات في هذه السنة من الأعيان
القان أبغا بن هولاكو بن طلوي بن جنكزخان بنواحي همذان عن نحو خمسين سنة، منها مدة ملكه سبع عشرة سنة، وقام في الملك بعده أخوه تكدار بن هولاكو.
ومات الأمير عز الدين أيبك الشجاعي بدمشق عن خمس وثمانين سنة.
ومات الأمير شمس الدين سنقر الألفي نائب السلطنة بديار مصر، في السجن بالإسكندرية عن نحو أربعين سنة.
وتوفي قاضي القضاة تقي الدين أبو عبد الله محمد بن الحسين بن رزين بن موسى ابن عيسي بن موسى بن نصر الله العامري الحموي الشافعي، عن سبع وسبعين سنة: وتوفي قاضي دمشق نجم الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن يحيي بن هبة الله بن الحسن بن يحيي بن سني الدولة الشافعي، عن أربع وستين سنة بدمشق.
وتوفي قاضي القضاة صدر الدين أبو حفص عمر بن تاج الدين أبي محمد عبد الوهاب بن خلف بن أبي القاسم ابن بنت الأعز العلامي الشافعي، عن خمس وخمسين سنة.
وتوفي موفق الدين أبو العباس أحمد بن يوسف بن الحسن بن رافع الشيباني الموصلي الكواشي، عن تسعين سنة بالموصل.
وتوفي الحافظ شمس الدين أبو حامد محمد بن على بن محمود بن أحمد بن على بن الصابوني المحمودي، بدمشق عن ست وسبعين سنة.
وتوفي المسند شمس الدين أبو الغنائم مسلم بن محمد بن مسلم بن مكي بن خلف بن علان القيسي الدمشقي ناظر الدواوين بدمشق، عن ست وثمانين سنة بها.
وتوفي الشريف شهاب الدين أبو جعفر أحمد بن على بن محمد بن على بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن زيد بن جعفر بن أبي إبراهيم محمد الممدوح الحسني، كاتب الإنشاء بحلب، عن خمس وثلاثين سنة بها.
وتوفي الأديب الكاتب الحاسب علاء الدين أبو الحسن على بن محمود بن الحسن بن نبهان اليشكري، عن خمس وثمانين سنة بدمشق.
وتوفي الأديب شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن مكتوم البعلبكي، في وقعة حمص شهيدا.
وتوفي الأديب بدر الدين أبو المحاسن بن يوسف بن لؤلؤ بن عبد الله الذهبي الدمشقي، عن ثلاث وسبعين سنة بدمشق.
ومات منكوتمر بن هولاكو بن طلوي بن جنكزخان، بجزيرة ابن عمر مكموداً عقب كسرته على حمص.
ومات علاء الدين عطا ملك بن محمد الجويني صاحب الديوان ببغداد، بعدما نقم عليه الملك أبغا ونسبه إلى مواطأة المسلمين، فقبض عليه وأخذ أمواله. وكان صدراً كبيراً فاضلا، وله شعر حسن، وولي بعده بغداد ابن أخيه هارون بن محمد الجويني.
سنة إحدى وثمانين وستمائة
في مستهل صفر: قبض على الأمير بدر الدين بيسري الشمسي، والأمير كشتغدي الشمسي. فأغلق باب زويلة وعامة الأسواق، وارتجت القاهرة حتى نودي: من أغلق دكانه شنق، ففتحت الأسواق.
وفي ربيع الأول: وصلت رسل الأشكري ورسل ألفونس بهدية.
وفي حادي عشر ربيع الآخر: استقر في الوزارة نجم الدين حمزة بن محمد الأصفوني.
وفي آخر جمادى الآخرة: استعفي قاضي القضاة وجيه الدين عبد الوهاب بن حسن البهنسي من قضاء القاهرة والوجه البحري، وذكر أنه يضعف عن الجمع بين قضاء المدينتين مصر والقاهرة والوجهين القبلي والبحري، فأعفي من قضاء القاهرة والوجه البحري. وفوض السلطان ذلك في أول رجب لشهاب الدين محمد الخوي، وكان يلي أولا قضاء الغربية من أعمال مصر، فنقل منها إلى قضاء القاهرة، وانفرد للبهنسي قضاء مصر والوجه القبلي.
وفي شعبان: حلف الشريف أبو نمي أمير مكة للسلطان وولده بالطاعة لهما، وأنه التزم تعليق الكسوة الواصلة من مصر على الكعبة في كل موسم، وأنه لا يعلق عليها كسوة غيرها، وأن يقدم علم الملك المنصور على كل علم في كل موسم، وألا يتقدمه علم غيره، وأن يسبل زيارة البيت الحرام أيام مواسم الحج وغيرها للزائرين والطائفين والبادين والعاكفين والآمين، وأن يحرس الحاج ويؤمنهم في سربهم، وأن يستمر بإفراد الخطبة والسكة بالاسم الشريف المنصوري، وأن يفعل الخدمة في فعل المخلص الولي للسلطان، ويمتثل مراسمه امتثال النائب للمستنيب.(1/238)
وفيه وصلت رسل الملك أحمد أغا سلطان بن هولاكو، وهم الشيخ مطب الدين محمود بن مسعود بن مصلح الشيرازي قاضي سيواس، والأمير بهاء الدين أتابك السلطان مسعود صاحب الروم، والصاحب شمس الدين محمد بن الصاحب شرف الدين بن التيتي، وزير ماردين. وكانوا عند قدومهم إلى البيرة قد سار إليهم الأمير حسام الدين لاجين الرومي والأمير سيف الدين كبك الحاجبان، وقد أمرا أن يبالغا في الاحتراز على الرسل وإخفائهم عن كل أحد. واحترزا عليهم حتى لم يشاهدهم أحد، وسارا بهم في الليل حتى قدموا قلعة الجبل بكتاب الملك أحمد: وفيه أنه مسلم، وأنه أمر ببناء المساجد والمدارس والأوقاف، وأمر بتجهيز الحجاج.
وسال اجتماع الكلمة وإخماد الفتنة والحرب، وأنه ظفر بجاسوس وعادة مثله أن يقتل فجهزه إلى الأبواب السلطانية، وقال إنه لا حاجة إلى الجواسيس ولا غيرهم بعد الاتفاق واجتماع الكلمة، وبالغ في استجلاب خاطر السلطان. وتاريخ الكتاب في جمادى الأولى، وأنه كتب بواسط.
فأجيب بتهنئته بالإسلام، والرضي بالصلح، وأعيدت الرسل وقد أكرموا من غير أن يعلم الناس بدخولهم ولا خروجهم. وساروا سراً كما قدموا سراً ليلة السبت ثاني رمضان صحبة الحاجبين، فوصلوا إلى حلب في سادس شوال وعبروا إلى بلادهم.
وفي رمضان: وصل الأمير شمس الدين سنقر الغتمي ورفقته، الذين خرجوا إلى بيت بركة في الرسالة.
وفيه قبض على الأمير بدر الدين بكتوت الشمسي وعلاء الدين أقطوان الساقي، وشهاب الدين قرطاي، واعتقلوا.
وفيه استقر الأمير شمس الدين قراسنقر الجوكندار المنصوري في نيابة السلطة بحلب، عوضاً عن علم الدين سنجر الباشقردي، وعمر جامعها وقلعتها وكانا قد خربهما التتار. وفيه قدم الشيخ على الإوبراني، وكان قد أسلم وخدم الفقراء، وسلك طريق الله وظهرت على يده كرامات، وتبعه جماعة من أولاد المغل، فسار بهم إلى الشام ومصر، ومثل بحضرة السلطان من قلعة الجبل في ثامن عشر ذي القعدة، ومعه إخوته الأقوش وعمر وطوخي وجوبان، وجماعة غيرهم. فأحسن السلطان إليه وإلى من معه، ورتب بعضهم في حملة الخاصكية، ثم نقل إلى الإمرايات منهم الأقوش وتمر وعمر وهم إخوة.
ثم ظهر من الشيخ على ما أوجب أن يسجن، فسجن هو والأقوش، ومات تمر وعمر في الخدمة.
وفي حادي عشريه: وقعت نار بدمشق أقامت ثلاثة أيام، فاحترق فيها شيء كثير، منها سوق الكتبيين، واحترق لشمس الدين إبراهيم الجزري الكتبي خمسة عشر ألف مجلد سوي الكراريس.
وفي يوم عرفة: قبض بدمشق على الأمير عز الدين أيبك كرجي أمير علم، والأمير ناصر الدين محمد بن عز الدين أيدمر النائب بدمشق، وعلى زين الدين بن الشيخ على، واعتقلوا، وفيه تزوج السلطان الملك المنصور قلاوون بخوند أشلون ابنة الأمير سكناي ابن قراجين بن جنغان نوبن القادم إلى القاهرة في الدولة الظاهرية، وهي أم الملك الناصر محمد.
وتزوج الملك الصالح على ابن السلطان بخوند منكبك ابنة الأمير سيف الدين نوكيه، وكانت تحت الأمير زين الدين كتبغا المنصوري، فرآها الملك الصالح يوم حضرت مع نساء الأمراء مهم أشلون يوم زفت إلى السلطان، ففتنه حسنها حتى كاد يهلك، فمازال السلطان بطرنطاي النائب حتى ألزم كتبغا بطلاقها فطلقها.
وأفرج السلطان عن أبيها نوكيه من سجن الإسكندرية، وأحضر إلى القاهرة وأنعم عليه بإمرة، وعقد العقد على خمسة آلاف عينا عجل منها ألف دينار.
وفيها بلغ السلطان أن ملك الكرج توماسوطا بن كلياري خرج من بلاده، ومعه رفيق له اسمه طيبغا بن انكواد يريد زيارة القدس سرا، فحفظت عليه الطرقات من كل جهة، فلم يصل إلى موضع منذ خرج من بلده إلى أن قدم القدس إلا ويصل خبره وهيئة حاله إلى السلطان. فقبض عليه بالقدس، وأحضر إلى قلعة الجبل هو ورفيقه واعتقلا.
وانتهت زيادة النيل في هذه السنة إلى سبعة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا. وخرج من القاهرة بالمحمل الأمير ناصر الدين ألطنبغا الخوارزمي، ومعه كسوة الكعبة، وسار بالسبيل حسام الدين مظفر أستادار الفارقاني. وحج الأمير علاء الدين البندقداري في ركب كبير.
وفيها ولي نجم الدين أبو حفص عمر بن العفيف أبي المظفر خصر بن منصور الشيباني قضاة الشافعية بحلب، عوضاً عن تاج الدين أبي المعالي عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن بن علوي السنجاري.(1/239)
وفيها في آخر شوال خلع متملك تونس أبو إسحاق إبراهيم بن يحيي بن عبد الواحد بن أبي حفص، وكانت مدته ثلاث سنين وسبعة أشهر. وقام من بعده الدعي أحمد بن مرزوق بن عمار المسبلي الخياط، وزعم أنه الواثق أبو زكريا يحيي بن المستنصر.
وفيها أقيم في الملك تكدار بن هولاكو، بعد موت أخيه أبغا بن هولاكو في المحرم، فاظهر أنه أسلم وتسمي أحمد سلطان. ترك أبغا ولدين هما أرغون وكيختو.
ومات في هذه السنة من الأعيان
شمس الدين أبو العباس أحمد بن بهاء الدين أبي بكر بن خلكان البرمكي الإربلي الشافعي، المؤرخ قاضي دمشق في رجب.
وتوفي قاضي المالكية بدمشق زين الدين أبو محمد عبد الكريم بن على بن عمر الزواوي المالكي، بعد ما عزل نفسه، عن اثنتين وتسعين سنة بدمشق.
وتوفي برهان الدين أبو الثناء محمود بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عمر بن عيسي المراغي الفقيه الشافعي، وقد أناف على خمس وسبعين سنة بدمشق.
ومات الصاحب علاء الدين عطا ملك ابن الصاحب بهاء الدين محمد بن محمد الجويني مدبر دول العراق، بناحية أران. وله فضل وشعر جيد.
وتوفي المسند برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن يحيي بن علوي بن الدرجي القرشي الدمشقي الحنفي، عن اثنتين وثمانين سنة.
ومات الأمير حسام الدين بشار الرومي وهو أحد من قدم في الأيام الظاهرية بيبرس من بلاد الروم بعد ما بلغ مائة وعشرين سنة، وناب وحج وترك الإمرة وعوض عنها براتب أجري عليه.
وتوفي زين الدين إدريس خطب الجامع الأزهر.
وتوفي السديد عبد الله الماعز. وقد باشر ديوان المرتجع في الأيام الظاهرية، فنقله المنصور قلاوون إلى ديوانه.
ومات أيضاً منكوتمر بن طوغان بن باطو بن دوشي خان بن جنكزخان، ملك التتر ببلاد الشمال. وملك بعده أخوه تدان منكو، وجلس على كرسي الملك. بمدينة صراي.
سنة اثنين وثمانين وستمائة
في المحرم: وصل الملك المنصور صاحب حماة، فركب السلطان إلى لقائه، وأنزله بمناظر الكبش وأقيم بواجبه.
وفيه استخرجت الجوالي من الذمة، وكانت العادة أن تستخرج في شهر رمضان، فأخر استخراجها إلى المحرم رفقا بهم، وحضر الصاحب نجم الدين الأصفوني بدار العدل تحت القلعة لاستخراجها.
وفيه رسم أن تكون جوالي الذمة بالقدس وبلد الخليل، وبيت لحم وبيت جمالا، مرصدة لعمارة بركة في بلد الخليل.
وفي سادسه: توجه السلطان، إلى بر الجيزة، وسار إلى البحيرة لحفر الخليج المعروف بالطبرية، ومعه صاحب حماة.
وأقام الأمير علم الدين سنجر الشجاعي بالقلعة، ومعه الأمير قراسنقر الجركندار، وعلاء الدين أيدغدي السلاح دار، وعز الدين أيبك الخازندار، ورتب مع الأمير علم الدين الخياط وإلى القاهرة عدة من أصحاب الأمراء، يطوفون كل ليلة من بعد العصر حول القلعة وفي ظواهر القاهرة. ونودي على الأجناد في القاهرة بالخروج لحفر الخليج، ووقع العمل فيه فكان طوله ستة آلاف وخمسمائة قصبة في عرض ثلاث قصبات وعمق أربع قصبات بالقصبة الحاكمية، وفرغ من عمله في عشرة أيام. فحصل بسببه نفع كبير، وروي منه ما لم يكن قبل ذلك يروي. وفيه وصل من الشروق تسعة عشر وافدا بأولادهم.
وفي رابع عشره: وصلت رسل صاحب بلاد سيلان من أرض الهند واسمه أبو أنكيه بكتابه. وهو صحيفة ذهب عرض ثلاثة أصابع في طول نصف ذراع بداخلها شيء أخضر يشبه الخوص، مكتوب فيه بقلم لم يوجد في القاهرة من يحسن قراءته، فسئل الرسل عنه فقالوا " إنه يتضمن السلام والمحبة وإنه ترك صحبة صاحب اليمن وتعلق بمحبة السلطان، ويريد أن يتوجه إليه رسول، وذكر أن عنده أشياء عدها من الجواهر والفيلة والتحف ونحوها، وأنه عبأ تقدمة إلى أبواب السلطان، وأن في مملكة سيلان سبعا وعشرين قلعة، وبها معادن الجواهر والياقوت، وأن خزائنه ملآنة من الجواهر " .
وفي رابع صفر: عاد المنصور صاحب حماة بلده، وخرج السلطان معه لوداعه.
وفي خامس ربيع الأول: جرت الهدنة بين السلطان وبين الفرنج بعكا مدة عشر سنين، أولها خامس المحرم من هذه السنة.
وفي عاشره: ولي الصاحب برهان الدين السنجاري تدريس المدرسة بجوار الشافعي من القرافة.(1/240)
وفي مات الصاحب نجم الدين حمزة الأصفوني، وولي شرف الدين أبو طالب بن النابلسي نظر الوجه القبلي، ونقل القاضي عز الدين بن شكر من نظر ديوان الجيش إلى نظر الوجه البحري، وخلع عليهما. وبقي الأمير علم الدين سنجر الشجاعي مدير المماليك، وهما بين يديه يصرفان المهمات.
وفيها خرجت تجريدة من قلعة كركر إلى حصار قلعة قطيبا إحدى قلاع أمد، فأخذوها من أيدي التتار، وأقيم فيها الرجال وعملت بها الأسلحة والغلال، فصارت من حصون الإسلام المنيعة.
وأخذت أيضاً قلعة كختا من النصارى بسؤال أهلها، فتسلمها أمراء السلطان. بمدينة حلب، وشحنت بالأسلحة وغيرها، وصارت مسلطة على الأرمن.
وفي جمادى الأولى: خرج أرغون بن أبغا على عمه تكدار المسمى أحمد سلطان بخراسان، فسار إليه وقتله وهزمه ثم أسره، فقامت الخواتين مع أرغون، وسألن الملك تكدار أحمد في الإفراج عنه وتوليته خراسان، فلم يرض بذلك.
وكانت المغل قد تغيرت على تكدار، لكونه دخل في دين الإسلام وإلزامه لهم بالإسلام، فثاروا وأخرجوا أرغون من الاعتقال، وطرقوا ألناق نائب تكدار ليقتلوه ففر منهم فأدركوه وقتلوا تكدار أيضاً، و أقاموا أرغون بن أبغا ملكا. فولي أرغون وزارته سعد الدولة اليهودي، وولي ولديه خرابندا وقازان خراسان، وعمل أتبكهما الأمير نوروز.
ومات الأشكري متملك قسطنطنية واسمه ميخائيل، وملك بعده ابنه الدوقش.
وفي النصف من جمادى الأولى: توجه السلطان من قلعة الجبل إلى بلاد الشام، فنزل غزة في سابع جمادى الآخرة، وقبض على غرس الدين بن شاور متولي رملة ولد، وولي عوضه الأمير علم الدين سنجر الصالحي، وعزل عماد الدين بن أبي القاسم عن القدس، بنجم الدين السونجي.
ودخل السلطان دمشق يوم الجمعة ثامن شهر رجب، فرسم أن كل من استخدم ترد جامكيته على ما كانت عليه في الدولة الظاهرية وتستعاد منه الزيادة، فاستخرج من ذلك مال كبير.
وفي يوم الجمعة حادي عشري رجب: عوق قاضي القضاة عز الدين محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق بن خليل الأنصاري المعروف بابن الصائغ، ثم صرف عن القضاء بدمشق، وطولب بثمانية آلاف دينار أودعها عنده الطواشي ريحان الخليفتي وأوصاه عيلها، وطولب بعدة ودائع أخرى، فقام في حقه الأمير حسام الدين لاجين نائب الشام والأمير حسام الدين طرنطاي نائب مصر، ومازالا حتى أفرج عنه في ثامن عشري شعبان، ولزم داره.
واستقر عوضه في قضاء دمشق بهاء الدين يوسف بن محيي الدين يحيي بن محمد بن على بن محمد بن على الزكي.
وفيه استقر شرف الدين بن مزهر في نظر الشام ثالثاً للناظرين.
واستقر قراسنقر نائباً بحلب، عوضاً عن سنجر الباشقردي وقيل بل كان ذلك في سنة إحدى وثمانين كما تقدم، وأنعم على الباشقردي بإقطاع بدر الدين الأزدمر. بمصر. واستقر بدر الدين بكتوت السعدي نائبا بحمص.
وفي ثاني رمضان: خرج السلطان من دمشق، ودخل قلعة الجبل يوم الخميس رابع عشريه، وخرج المحمل على العادة.
وفي هذه السنة: غارت العساكر على بلاد الأرمن، ووصلوا إلى مدينة أياس وقتلوا ونهبوا وحرقوا، واقتتلوا مع الأرمن عند باب إسكندرونة وهزموهم إلى تل حمدون، وعادوا سالمين ظافرين بالغنائم.
وفيها كانت وقعة ببلاد بيروت مع فرج قبرس حين قصدهم بلاد الساحل، قتل فيها عدة من الفرنج، وأسر منهم زيادة على ثمانين رجلا، وأخذت منهم غنائم كثيرة.
وفيها وصلت رسل تدان منكو بن طوغان بن باطو بن دوشي بن جنكزخان ملك القبجاق، بكتاب خطه بالقلم المغلي: يتضمن أنه أسلم، ويريد أن ينعت نعتا من نعوت أهل الإسلام، ويجهز له علم خليفتي وعلم سلطاني يقاتل بهما. أعداء الدين. فجهزت الرسل إلى الحجاز، ثم عادوا وساروا إلى بلادهم. بما سألوا فيه.
وفيها اشتريت الدار القطية بخط بين القصرين من القاهرة، من خالص مال السلطان، وعوض سكانها عنها قصر الزمرد برحبة باب العيد، في ثامن عشري شهر ربيع الأول.(1/241)
وقام الأمير علم الدين سنجر الشجاعي في عمارتها مارستاناً وقبة ومدرسة باسم السلطان الملك المنصور قلاوون، فأظهر من الاهتمام في العمارة ما لم يسمع. بمثله. وفيها قدم الشيخ عبد الرحمن في الرسالة من الملك أحمد أغا سلطان إلى البيرة، وعلى رأسه الجتر كما هي عادته في بلاد التتر، فتلقاه الأمير جمال الدين أقش الفارسي أحد أمراء حلب، ومنعه من حمل الجتر والسلاح، وعدل به عن الطريق المسلوك إلى أن أدخله حلب ثم إلى دمشق، فوصلها ليلة الثلاثاء ثاني عشر ذي الحجة، من غير أن يمكن أحداً من الاجتماع به ولا من رؤيته. ولما وصل إلى دمشق أنزل بقلعتها، فأقام بقاعة رضوان من القلعة إلى أن وصل السلطان إلى دمشق في سنة ثلاث وثمانين. وأجري عليه في كل يوم ألف درهم، ومأكل وحلوي وفاكهة بألف أخرى.
وفيها استدعى تاج الدين السنهوري من دمشق، واستقر في نظر الدواوين بديار مصر، عوضاً عن عز الدين إبراهيم بن مقلد بن أحمد بن شكر، رفيقاً لشرف الدين بن النابلسي.
وتزوج الملك الأشرف صلاح الدين خليل ابن السلطان باردكين ابنة الأمير سيف الدين نوكيه، أخت زوجة أخيه الملك الصالح على.
وفيها ولي مجد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عبد الرحمن بن مكي قضاء الحنفية بحلب، عوضاً عن نجم الدين أبي حفص عمر بن نصر بن منصور الأنصاري البيساني، مدة يسيرة ثم عزل.
وفي أوائل هذه السنة: تحرك سعر الغلة حتى بلغ الأردب القمح خمسة وثلاثين درهما، فكرة السلطان ذلك وتوجه بالعسكر إلى الشام تخفيفاً عن الناس، فلم ينحط السعر، فجمع الأمراء وأراد أن يكتب بفتح أهراء مصر أدخله حلب ثم إلى دمشق، فوصلها ليلة الثلاثاء وبيع الغلة منها بسعر خمسة وعشرين درهما الأردب، فقال له الأيدمري: قلوب الناس متعلقة. بما في الأهراء، فإنها خزانة المسلمين، كلما نظروا إليها ملآنة شبعت نفوسهم، وما يؤمن ارتفاع السعر أيضاً. والرأي أن الأمراء بأسرهم يكتبون بفتح شونهم وبيع القمح بخمسة وعشرين درهما الأردب، فإذا وقع البيع منها دفعة واحدة مع بقاء الأهراء ملآنة رجي انحطاط السعر، والأمراء لا يضرهم إذا نقصت شونهم نصف ما فيها " . فأعجب السلطان ذلك، وكتب الأمراء بفتح شونهم ففتحت، وبيع القمح منها بخمسة وعشرين درهما الأردب، فانحط السعر إلى عشرين ثم إلى ثمانية عشر، واستمر كذلك حتى قدم الجديد من المغل.
وفيها قتل متملك الروم غياث الدين كيخسرو بن ركن الدين قلج أرسلان بن كيخسرو بن كيقباد، وأقيم بعده مسعود بن عز الدين كيكاوس بن كيخسرو بن كيقباد بن كيخسرو بن قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان بن قطلومش بن أرسلان بيغو بن سلجوق، وهو آخر من سمي بالسلطان من السلجوقية ببلاد الروم، وقد افتقر وانكشف حاله ومات قريب سنة ثمان عشرة وسبعمائة.
وفيها كانت وفاة الشيخ الإمام عماد الدين بن الفضل محمد ابن قاضي القضاة شمس الدين أبي نصر محمد بن هبة الله الشيرازي، ببستانه بالمزة في يوم الإثنين سابع عشر صفر، وصلي عليه بعد صلاة العصر بجامع الجبل، ودفن بتربة فيها قبر أخيه علاء الدين، رحمهما الله تعالي. وكان شيخ الكتابة أتقن الخط المنسوب، وبلغ فيه مبلغا عظيما حتى أتقن قلم المحقق، وكتبه أجود من شيخ الصناعة ابن البواب.(1/242)
وفيها توفي الصاحب مجد الدين أبو الفداء إسماعيل بن إبراهيم بن أبي القاسم بن أبي طالب بن كسيرات الموصلي، وكانت وفاته في سابع عشري رمضان بداره بجبل الصالحية، وكان رحمه الله تعالى كثير المروءة واسع الصدر، كثير الهيبة والوقار جميل الصورة حسن المنظر والشكل، كثير التعصب لمن يقصده محافظا على مودة أصدقائه وقضاء حوائجهم، كثير التفقد لهم. وأصله من الموصل من بيت الوزارة، كان والده وزير الملك المنصور عماد الدين زنكي ابن الملك العادل نور الدين أرسلان شاه بن عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي بن آقسنقر، ثم باشر نظر الخزانة للملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ، ثم نقله إلى نظر الجزيرة العمرية لما فتحها، ووصل إلى الشام صحبة الملك المجاهد سيف الدين إسحاق لما وصل في الدولة الظاهرية، وسكن دمشق وولي نظر البر بها، ثم نقل إلى نظر نابلس، ثم أعيد إلى دمشق فباشر نظر الزكاة بها، ثم انتقل إلى صحابة الديوان بالشام إلى أن ملك سنقر الأشقر دمشق، فاستوزره كما تقدم، وبطل بعد ذلك عن المباشرة، وسكن داره التي أنشأها بجبل قاسيون جوار البيمارستان، فكان بها إلى أن مات.
قال شمس الدين الجزري: قلت له يوما وقد أضرت به البطالة: " يا مولانا لو ذكرت أحدا من أصحابك الأمراء حتى يذكر بك السلطان أو نائب السلطنة، فكاتب في أمرك، فإن لك خدما وتفضلاً على الناس، فنظر إلي وأنشد:
لذ خمولي وحلا مره ... وصانني عن كل مخلوق
نفسي معشوقي ولي غيرة ... تمنعني عن بذل معشوقي
وفيها في يوم الخميس عاشر شهر رمضان: توفي الملك العادل سيف الدين أبي بكر ابن الملك الناصر صلاح الدين دواد ابن الملك المعظم شرف الدين عيسي ابن السلطان الملك العادل سيف الدين أبي بكر محمد بن أيوب، وكانت وفاته بدمشق، وصلي عليه بعد صلاة الجمعة، ودفن بالتربة المعظمية. وكان رحمه الله تعالى قد جمع بين الرياسة والفضيلة والعقل الوافر والخصال الجميلة، وكان مجانبا الناس محبوب الصورة، رحمه الله تعالي.
وفيها في سادس عشري شعبان: توفي القاضي عز الدين إبراهيم بن الصاحب الوزير الأعز فخر الدين أبي الفوارس مقدام ابن القاضي كمال الدين أبي السعادات أحمد بن شكر. وكان قد ولي نظر الجيوش بالديار المصرية في شهر رمضان سنة خمس وسبعين وستمائة، كما تقدم. رحمه الله تعالي.
وفيها توفي الشيخ الإمام العلامة العابد الزاهد شمس الدين أبو محمد عبد الرحمن ابن شيخ الإسلام أبي عمر عمد بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر القدسي شيخ الحنابلة بالشام. وكان قد ولي قضاء القضاة على كره منه سنة أربع وستين وستمائة كما تقدم، ثم ترك الحكم وتوفر على العبادة والتدريس وأشغال الطلبة والتصنيف. ويقال إنه قطب بالشام، واستدل على ذلك. يمراء توافقت عليها جماعة تعرفه في سنة. سبع وسبعين وستمائة أنه قطب، وكان أوحد زمانه. وكانت وفاته في يوم الإثنين سلخ ربيع الآخر منها، ودفن بقاسيون بتربة والده قدس الله روحه. ومولده في السابع والعشرين من المحرم سنة سبع وتسعين وخمسمائة. ولما مات رثاه المولي الفاضل شهاب الدين محمود كاتب الإنشاء بقصيدة أولها:
ما للوجوه ومد علاه ظلام ... أعراه خطب أم عداه مرام؟
أم قد أصيب بشمسه فغدا وقد ... لبست عليه حدادها الأيام
وجاء منها.
لكم الكرامات الجليلات التي ... لا تستطيع جحودها الأقوام
وهي قصيدة تزيد على ستين بيتا. ورثاه جماعة رحمه الله تعالي.
وفيها توفي الأمير علاء الدين كندغدي المشرقي الظاهري المعروف بأمير مجلس، كان من أعيان الأمير بالديار المصرية، وظهر قبل وفاته. بمدة يسيرة أنه باق على الرق، فاشتراه السلطان الملك المنصور بجملة وأعتقه وقربه لديه، وكان شجاعا بطلا مقداما. وكانت وفاته بالقاهرة في يوم الجمعة مستهل صفر، ودفن. بمقابر بباب النصر، رحمه الله تعالي.(1/243)
وفيها توفي الأمير شهاب الدين أحمد بن حجي بن يزيد البرمكي أمير آل مرا، وكانت وفاته ببصري. وكانت غراته تنتهي إلى أقصي نجد والحجاز، وأكثرهم يؤدون إليه أتاوة في كل سنة، فمن قطعها منهم أغار عليه، وكان يدعي إنه من نسل جعفر البرمكي من العباسة أخت الرشيد، ويقول إنه تزوجها ورزق منها أولاداً، ولما جري على البرامكة ما جري هرب أولاده منها إلى البادية، فأخذهم جده، والله أعلم. وكان يقول للقاضي شمس الدين ابن خلكان " أنت ابن عمي " وكان بينهما مهاداة، وانتفع ابن خلكان به وباعتنائه عند السلطان.
وفيها في سابع عشري المحرم: كانت وفاة شمس الدين عيسي بن الصاحب برهان الخضري السنجاري، كان ينوب عن والده في الوزارة الأولى في سنة ثمان وسبعين وستمائة، وولي نظر الأحباس ونظر خانقاه سعيد السعداء، ثم ولي بعد ذلك تدريس المدرسة الصلاحية المعروفة بزين التجار، ثم قبض عليه مع والده بعد انفصاله من الوزارة الثانية كما تقدم. فلما أفرج عنه سكن المدرسة المعزية. بمصر، وكان بها إلى أن توفي، وكان حسن الصورة والشكل، رحمه الله تعالي.
وفيها في سادس شوال. توفيت زوجة السلطان الملك المنصور والدة ولده الملك الصالح علاء الدين على، رحمهما الله تعالي.
وفيها في يوم الأحد ثاني عشر جمادى الأولى: توفي الشيخ ظهير الدين جعفر بن يحيي بت جعفر القرشي التزمنتي الشافعي، مدرس المدرسة القطبية بالقاهرة، وأحد المعيدين. بمدرسة الشافعي. رحمه الله تعالي.
وفيها في يوم السبت ثاني عشري رجب: توفي الأمير علم الدين سنجر أمير جاندار أغاي أحد الأمراء بالديار المصرية، وكانت وفاته بدمشق لما كان السلطان بها، ودفن بظاهرها عند قباب التركمان. بميدان الحصا، رحمه الله تعالى.
سنة ثلاث وثمانين وستمائة
في المحرم: توجه عسكر إلى الكرك، وعليه الأمير بدر الدين بكتاش الفخري والأمير طقصوا، فضايقوا الكرك ورعت خيولهم مزارعها.
وفي ثاني عشره: ولي الشيخ معز الدين النعمان الحنفي تدريس المدرسة الصالحية بين القصرين، بعد موت عز الدين المارديني.
واستقر سيف الدين في ولاية قوص، عوضاً عن بهاء الدين قراقوش.
واستقر مجد الدين عمر بن عيسي الحرامي في ولاية سميوط، عوضاً عن سيف الدين.
استقر عز الدين أيدمري الكوجي في ولاية أخميم، عوضاً عن بلبان الفارسي.
واستقر شهاب الدين قرطاي الجاكي في ولاية قليوب، عوضاً عن حسان الدين لؤلؤ الكهاري.
وفي ثاني عشريه: استقر الأمير شمس الدين إبراهيم بن خليل الطوري في ولاية الروحا والطرق السالكة إلى الفرنج وإلى عثليث وحيفا وعكا، عوضاً عن الأمير نور الدين، وأقطع إمرة عشرة.
وفي أول صفر: توجه الأمير سيف الدين المهراني إلى ولاية البهنسا والأشمونين، عوضاً عن كيكلدي وإلى البهنسا، وعن فخر الدين بن التركماني وإلى الأشمونين.
وورد الخبر بقتل القان ثكدار ويدعي أحمد أغا سلالان بن هولاكو، وتملك أرغون ابن أبغا بن هولاكو من بعده.
وفي أول ربيع الآخر: ورد الخبر بحركة الفرنج لأخذ الشام، فتجهز السلطان للسفر وركب بعساكره في يوم الأحد ثامن جمادى الأولى، وتوجه من قلعة الجبل إلى دمشق.
وفي يوم الأربعاء حادي عشره: حضر الموفق أحمد بن الرشيد أبي حليقة إلى الدهليز السلكاني، وأسلم وتسمي بأحمد.
فخلع السلطان عليه، ورسم له بمساواة أخويه في العلوم لما أسلما، وكتب له بذلك.
وفي رابع عشره: كتب بولاية الأمير عماد الدين أحمد بن قباخل البحيرة.
وفي يوم السبت ثاني عشر جمادى الآخرة: دخل السلطان إلى دمشق، فقدم القصاد من بلاد التتار بقتل أحمد أغا وولاية أرغون.(1/244)
وفي تلك الليلة: ألبس السلطان ألفاً وخمسمائة من مماليكة أقبيه أطلس أحمر بطرز وكلفتات زركش وحوائص ذهب، وأشعل بين يديه ألفا وخمسمائة شمعة مع كل مملوك شمعة. واستدعى عبد الرحمن الموصلي في السنة الماضية من بلاد التتار، فحضر ومعه رفقته الأمير صمداغو التتري والصاحب شمس الدين محمد ابن الصاحب شرف الدين التبتي المعروف بابن الصاحب وزير ماردين. فقدموا للسلطان تحفاً منها نحو ستين حبل لؤلؤ كبارا، وحجر ياقوت أصفر زنته ما ينيف على مائتي مثقال، وحجر ياقوت أحمر، وقطعة بلخش زنتها اثنان وعشرون درهما، وأدوا رسالة الملك أحمد أغا، فلما فرغوا ردهم السلطان إلى مكانهم، ثم استدعاهم واستعادهم كلامهم، ثم ردهم إلى مكانهم، وأحضرهم مرة ثالثة وسألهم، عن أشياء، فلما علم ما عندهم أخبرهم أن مرسلهم الذي بعثهم قد قتل، وتملك بعده أرغون بن أبغا. ثم ردهم إلى قاعة بقلعة دمشق، ونقلهم من قاعة رضوان التي كانوا بها منذ وصلوا إلى دمشق، واقتصر من راتبهم على قدر الكفاية، وطولبوا. بما معهم من المال لأحمد أغا، فأنكروا أن يكون معهم مال فتوجه إليهم الأمير شمس الدين سنقر الأعسر الأستادار، وقال: " قد رسم السلطان بانتقالكم إلى غير هذا المكان، فليجمع كل أحد قماشه " فقاموا يحملون أمتعتهم وخرجوا فأوقفهم في دهليز الدار وفتشهم، وأخذ منهم جملة كبيرة من الذهب واللؤلؤ ونحوه، منها سبحة لؤلؤ كانت للشيخ عبد الرحمن قومت. بمائة ألف درهم، واعتقلوا فمات عبد الرحمن في ثامن عشري رمضان بالسجن، وضيق على البقية ثم أطلقوا، ما خلا الأمير شمسي الدين محمد ابن الصاحب فإنه نقل إلى قلعة الجبل. بمصر واعتقل بها.
وفيه عزل الأمير علم الدين سنجر الدويداري من شد الدواوين بدمشق، وأضيف إلى الأمير شمس الدين سنقر الأعسر الأستادار بدمشق.
ونقل ناصر الدين الحراني من ولاية مدينة دمشق إلى نيابة حمص، وأضيفت ولاية دمشق إلى الأمير طوغان وإلى البر.
وفيه خرج السلطان من دمشق يريد مصر، بظاهر دمشق.
فلما كانت ساعات من يوم الأربعاء حادي عشري شعبان: حطم سيل بعد مطر عظيم، فحمل أثقال الأمراء والأجناد وخيولهم وجمالهم، فعدم للأمير بدر الدين بكتاص ما تزيد قيمته على أربعمائة ألف وخمسين ألف درهم، وانتهي السيل إلى باب الفراديس، فكسر أقفاله وما خلفه من المتاريس. ودخل الماء إلى إلى المدرسة المقدمية، وبقي كذلك حتى ارتفع النهار.
ثم حدث بعد يومين: مطر شديد هدم عدة مساكن بدمشق وظواهرها، فتلف للناس ما لا يحصي، فأنعم السلطان على الأجناد كل واحد بأربعمائة درهم.
ورحل السلطان من دمشق في رابع عشريه، فوصل قلعة الجبل في يوم الثلاثاء ثامن عشر رمضان. فقدم الخبر من مكة بأن الشريف أبا نمي طرد جند اليمن واستبد بها، وكان من خبره أن مكة كانت بينه وبين قتادة، وكان يؤخذ من حاج اليمن على كل جمل مبلغ ثلاثين درهما، ومن حاج مصر على الجمل مبلغ خمسين درهما مع كثرة النهب والعسف في جباية ما ذكر، فمازال الظاهر بيبرس حتى صار يؤخذ من حاج مصر مبلغ ثلاثين درهما على كل جمل. فجرد المظفر صاحب اليمن إلى مكة عسكرا عليه أسد الدين جغريل، فملكها بعد حرب، فجمع قتادة وأبو نمي العرب لحربه، موقع الاتفاق بينهما أن تكون مكة بينهم نصفين ثم اختلفا بعد مدة، وانفرد أبو نمي وقوي وأخرج عسكر اليمن، واشتد على الحجاج في الجباية. فرسم السلطان بسفر ثلاثمائة فارس صحبة الأمير علاء الدين سنجر الباشقردي، وأنفق في كل فارس ثلاثمائة درهم، وكتب بخروج مائتي فارس من الشام فتوجهوا صحبة الحاج. فكانت بينهم وبين أبي نمي وقعة، وأخربوا الدرب. وكان الحاج كثيرا، فإنها كانت وقفة الجمعة.
وورد الخبر بموت الملك المنصور محمد ابن المظفر تقي الدين محمود ابن المنصور محمد ابن المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، صاحب حماة، وكانت وفاته في حادي عشر شوال، ففوضت حماة لولده الملك المظفر تقي الدين محمود، وجهز إليه الثقليد والتشريف صحبة الأمير جمال الدين أقش الموصي الحاجب، ومعه عدة تشاريف لجماعة من أهل بيته.
وفي ذي القعدة: قبض على الأمير علم الدين سنجر الحلبي، واعتقل بقلعة الجبل.(1/245)
وورد الخبر بوفاة الأمير شرف الدين عيسي بن مهنا بن مانع بن حديثة بن عضبة بن فضل بن ربيعة، وكانت وفاته في تاسع ربيع الأول، فاستقر في إمرة العرب ابنه حسام الدين مهنا بن عيسى.
وفي هذه السنة: نجزت عمارة المارستان الكبير المنصوري والمدرسة والقبة.
وفي النصف من ذي الحجة: توجه السلطان إلى دمشق.
وفي هذه السنة: سرح الملك الصالح على ومعه أخوه خليل إلى العباسة، ومعهما الأمير بيبرس الفارقاني وإليه يومئذ أمر رماة البندق، فأقاموا أياماً في الصيد، ومعهم جماعة كثيرة من الرماة. فصرع الصالح طيراً خطته الرماة، وصرع أخوه خليل بعده طيراً آخر. فبعث الفارقاني يبشر السلطان بذلك، ويستأذنه لمن يدعي في الرمي الملك الصاع، فرسم أن يدعي للمنصور صاحب حماة.
فسفر طير الصاع إلى حماة، ومعه هدية سنية وكتاب السلطان وكتاب ابنه الصالح. فخلع المنصور على البريدي القادم بذلك، ووضع الطير على رأسه، وبعث هدية فيها عشرة أنداب بندق ذهب كل ندب خمس بندقات، زنة كل بندقة عشرة دنانير، وعشرون ندب فضة زنة البندقة مائة درهم، وبدلة حرير غيار زركش فيها ألف دينار، وحياصة مكللة، وجراوة زركش فيها البندق المذكور، وعشرون قوسا، وعدة تحف بلغت قيمة ذلك ثلاثين ألف دينار.
وفيها كانت حرب بمكة سببها أن أبا نمي بلغه توجه العسكر، فلم يخرج إلى لقاء الحاج وبعث قواده فقط، فلم يرض الباشقردي إلا بحضوره واستعد للحرب، وقد وقف أبو نمي. بمن معه ليمنع من دخول مكة، وروموا بالحجارة فرماهم الترك بالنشاب، وأحرق الباب ودخل العسكر. فقام البرهان خضر السنجاري حتى أخمد الفتنة، وحملت خلعة أبي نمي إليه، وقضي الناس حجهم.
ومات في هذه السنة من الأعيان
صاحب حماة الملك المنصور محمد ابن المظفر محمود بن المنصور محمد ابن المظفر عمر بن شاهنشاه بن أيوب بن شادي، عن إحدى خمسين سنة.
ومات الأمير عيسي بن مهنا بن مانع بن حديثة بن عضبة بن فضل بن البيعة، بعد عشرين سنة من إمارته.
ومات القان تكدار ويدعي أحمد سلطان بن هولاكو بن طلوي بن جنكزخان، عن سبع وثلاثين سنة بالأردو، منها مدة ملكه سنة وأشهر.
وتوفي قاضي دمشق عز الدين أبو المفاخر محمد بن عبد القادر بن عبد الخالق بن خليل بن مقلد بن جابر بن الصائغ الأنصاري الشافعي، وهو معزول، عن خمس وخمسين سنة.
وتوفي قاضي حلب نجم الدين أبو حمص عمر بن العفيف أبي المظفر نصر بن منصور الأنصاري البيساني الشافعي وهو معزول، عن نيف وثمانين سنة بدمشق.
وتوفي قاضي حماة شمس الدين أبو الطاهر إبراهيم بن المسلم بن هبة الله بن حسان ابن محمد بن منصور بن أحمد بن البارزي الجهني الحموي الشافعي، قريبا من المدينة النبوية، ودفن بالبقيع، عن خمس وسبعين سنة.
وتوفي قاضي الإسكندرية ناصر الدين أحمد بن وجيه الدين أبي المعالي محمد بن منصور بن أبي بكر بن القاسم بن المنير الجذامي الإسكندرية المالكي بها، عن ثلاث وستين سنة.
وتوفي الشيخ أبو عبد الله محمد بن موسى بن النعمان التلمساني بمصر، عن سبع وسبعين سنة.
وقتل الدعي أحمد بن مرزوق بن أبي عماد المسيلي الخياط، متملك تونس، وكان قد قدم من أطرابلس، وزعم أنه الواثق أبو زكريا يحيي بن المستنصر، وقتل إبراهيم بن يحيي، فمشي أمره على الناس مدة سنة وستة أشهر.
وبويع بعده الأمير أبو حفص عمر بن يحيي بن عبد الواحد في رابع عشري ربيع الآخر.
سنة أربع وثمانين وستمائة
في يوم السبت سادس عشر المحرم: ولد الملك الناصر محمد بن قلاوون، في الساعة السابعة بطالع برج السرطان، وكان مولده بقلعة الجبل، فقدمت البشارة بذلك على أبيه وهو بمنزلة خربة اللصوص قبل قدومه إلى دمشق.
وقدم السلطان دمشق في ثاني عشريه، ثم سار منها ونازل حصن المرقب وهو حصن الإسبتار ثمانية وثلاثين يوما، حتى أخذه من الفرنج عنوة يوم الجمعة تاسع عشر ربيع الأول، وأخرج من فيه إلى طرابلس.
وبعث السلطان إلى سنقر الأشقر بتاج الدين أحمد بن سعيد بن الأثير، يلومه على مكاتبة التتار والاستنجاد بهم ويدعوه إلى الحضور، فوبخه تاج الدين ولامه حتى أناب ووعد بإرسال ولده.(1/246)
وفي ثامن ربيع الآخر: استقر الشيخ المهذب أبو الحسن بن الموفق بن النجم بن المهذب أبي الحسن بن شمويل الطيب في رئاسة اليهود، وكتب له توقيع برئاسة سائر طوائف اليهود من الربانيين والقرائين والسامرة، بالقاهرة ومصر وسائر ديار مصر.
وفي سابع جمادى الأولى: قدم السلطان إلى دمشق، وفوض وزارة دمشق للقاضي محيي محمد بن النحاس ناظر الخزانة، عوضاً عن تقي الدين توبة التكريتي.
وفي خامس عشره: عزل طوغان عن ولاية دمشق، وبقي على ولاية البر، واستقر في ولاية دمشق عز الدين محمد بن أبي الهيجاء.
وسار السلطان من دمشق يوم الإثنين ثامن عشره، فوصل قلعة الجبل يوم الثلاثاء تاسع عشري شعبان، وكان قد أقام في تل العجول مدة أيام.
وفي سابع رمضان: قدمت رسل الفرنج بتقادم من عند الأنبرور، ومن عند الجنوية، ومن عند الأشكري.
وفي حادي عشره: استقر القاضي مهذب الدين محمد بن أبي الوحش المعروف بابن أبي حليقة في رئاسة الأطباء، ومعه أخواه علم الدين إبراهيم وموفق الدين أحمد، وكتب بذلك توقيع سلطاني، واستقر مهذب الدين في تدريس الطب بالمارستان.
وفي خامس عشره: استقر القاضي تقي الدين أبي الحسن على ابن القاضي شرف الدين أبي الفضل عبد الرحيم ابن الشيخ جلال الدين أبي محمد عبد الله بن شاس المالكي السعدي، في تدريس المدرسة المنصورية.
وفي أول ذي القعدة: وصلت رسل صاحب اليمن بتقادمه: وهي ثلاثة عشر طواشياً، وعشرة أفراس وفيل وكركدن وثماني نعاج، وثمانية طيور ببغاء، وثلاث قطع عود تحمل كل قطعة على رجلين، وحمل رماح قنا، وبهار حمل سبعين جملا، وقماش حمل على مائة قفص، ومن تحف اليمن مائة طبق. فقبل ذلك، وأنعم على رسله وعليه كالعادة.
وفي سادس ذي الحجة: احترقت الخزانة السلطانية والقاعة الصالحية من قلعة الجبل.
وفيه استقر الشيخ شمس الدين محمد بن أبي بكر محمد الأيكي الفارسي في مشيخة الشيوخ بخانقاه سعيد العداء، بعد وفاة الشيخ صاين الدين حسن البخاري.
وفيها استقر شمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن بهرام الشافعي في قضاء الشافعية بحلب، عوضاً عن مجد الدين إسماعيل بن عبد الرحمن بن مكي المارديني.
ومات في هذه السنة من الأعيان
الأمير علاء الدين أيدكين البندقدار الصالحي نائب حلب، وهو من جملة أمراء مصر بالقاهرة.
وتوفي رشيد الدين أبو محمد شعبان بن على بن سعيد البصراوي الحنفي، بدمشق عن نحو ستين سنة.
وتوفي رضي الدين أبو عبد الله محمد بن على بن يوسف الشاطبي الأنصاري النحوي اللغوي الأديب المؤرخ، وقد أناف على الثمانين بالقاهرة.
وتوفي الحافظ علاء الدين أبو القاسم على بن بلبان الناصري عن اثنتين وسبعين سنة بدمشق، قدم القاهرة.
وتوفي الواعظ زين الدين أبو العباس أحمد بن الأشبيلي بالقاهرة.
وتوفي الأمير مجيد الدين أبو عبد الله محمد بن يعقوب بن تميم الدمشقي بحماة.
سنة خمس وثمانين وستمائة
في ثاني المحرم: سار الأمير حسام الدين طرنطاي نائب السلطنة بعسكر كثيف إلى الكرك، فتلقاه عسكر دمشق صحبة الأمير بدر الدين الصوابي، فتوجه معه إليها، وضايقها وقطع الميرة عنها حتى بعث الملك المسعود خضر ابن الظاهر بيبرس يطلب الأمان. فبعث إليه السلطان الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار من قلعة الجبل بالأمان فنزل الملك المسعود وأخوه بدر الدين سلامش إلى الأمير طرنطاي في خامس صفر. واستقر الأمير عز الدين أيبك الموصلي نائب الشوبك في نيابة الكرك.
ووردت البشارة بأخذ الكرك إلى قلعة الجبل في ثامنه. وقدم الأمير طرنطاي بأولاد الظاهر إلى القاهرة، فخرج السلطان إلى لقائه في ثاني عشر ربيع الأول.
وأكرم السلطان الملك المسعود وسلامش، وأمر كل منهما إمرة مائة فارس، وصارا يركبان في الموكب والميادين، ورتبا يركبان مع الملك الصالح علي.
وفيه قدم راجح وزير أبي نمي يشكو من الباشقردي، ويتعذر عن تأخر حضوره فقبل السلطان عذره وطلب منه خجرة وضربا للسلطان، ووعد بإرسال ثمنها إليه.(1/247)
وفي يوم الخميس رابع عشر صفر: حصل وقت العصر بناحية الغسولة من معاملة مدينة حمص أمر غريب: وهو أن سحابة سوداء أرعدت رعداً شديداً، وخرج منها دخان أسود اتصل بالأرض على هيئة ثعبان في ثخن العمود الكبير الذي لا يحضنه إلا عدة من الرجال، رأسه في عنان السماء وذنبه يلعب في الأرض، شبه الزوبعة الهائلة. وصار يحمل الأحجار الكبار ويرفعها في السماء مثل رمية سهم وأزيد، فتقع على الأرض وتصدم بعضها بعضا، فيسمع لها أصوات مرعبة وتبلغ من هو عنها ببعيد.
واتصل ذلك بأطراف العسكر المجرد بحمص، وعليه الأمير بدر الدين بكتوت العلائي وهم زيادة على ألفي فارس، فما مر بشيء إلا رفعه في الهواء كرمية سهم وأكثر: فحمل السروج والجواشن وآلات الحرب وسائر الثياب، وحمل خرجا من أدم فيه تطاببق ندال للخيل من حديد حتى علا رمية سهم، ورفع الجمال بأحمالها حتى ارتفعت قدر رمح عن الأرض، وحمل كثيرا من الجند والغلمان، فتلف شيء كثير جدا.
ثم غاب الثعبان وقد توجه في البرية نحو المشرق، ووقع بعده مطر.
وفي سلخه: عزل محيي الدين محمد بن يعقوب بن إبراهيم بن النحاس عن وزارة دمشق، وأعيد تقي الدين توبة.
وفي سابع رجب: توجه السلطان إلى الكرك، فوصلها وعرض حواصلها ورجالها وشحن بها ألفي غرارة قمح، وقرر بها بحرية ورتب أمورها، ونظف البركة، وجعل في نيابة الكرك الأمير ركن الدين بيبرس الدوادار، ونقل عز الدين أيبك إلى نيابة غزة، ثم نقله إلى نيابة صفد.
وانتهت زيادة ماء النيل في حادي عشري شعبان إلى سبعة عشر ذراعا وإصبعين.
وسار السلطان من الكرك وأقام في غاية أرسوف حتى وقع الشتاء وأمن حركة العدو، ثم عاد إلى مصر فوصل قلعة الجبل في رابع عشر شوال، فأفرج عن الأمير بدر الدين بكتوت الشمسي والأمير جمال الدين أقش الفارسي.
وفي يوم الأربعاء خامس عشر جمادى الأولى: استقر تقي الدين عبد الرحمن ابن بنت الأعز قضاء مصر والوجه القبلي بعد وفاة وجيه الدين البهنسي. واستمر شهاب الدين محمد الخولي على قضاء القاهرة واستقر في قضاء القضاة المالكية زين الدين على ابن مخلوف ناظر الخزانة، عوضاً عن تفي الدين حسين بن عبد الرحيم بن شاس.
وفي ذي الحجة: استقر الأمير علم الدين أبو خرص الحموي نائباً بحماة. وفيها كانت وقعة بين الأمير بلبان الطباخي نائب حصن الأكراد وبين أهل حصن المرقب، بسبب أخذهم قافلة تجارة قتلة فيها عدة من مماليكه وجرح هو في كتفه، فكتب بمنازلة، فخرج إليه عاكز الشام، و لم تزل عليه حتى أخذته بعد حروب شديدة في يوم الجمعة تاسع عشر ربيع الأول، واستقر الطباخي نائباً به.
وفيها شنع موت الأبقار بأرض مصر، حتى إن شخصاً كان له ثلاثمائة وأربعين رأساً ماتوا بأجمعهم في نحو شهر، وارتفع سعر البقر بزيادة ثلث أثمانها.
ومات في هذه السنة من الأعيان
قاضي دمشق بهاء الدين أبو الفضل يوسف بن محيي الدين يحيي بن محمد بن على ابن محمد بن على بن عبد العزيز بن الزكي الأموي الشافعي، عن ست وأربعين سنة بدمشق.
وتوفي قاضي القضاة وجيه الدين أبو محمد عبد الوهاب بن سديد الدين أبي عبد الله الحسيني المهلبي البهنسي الشافعي، في مستهل جمادى الآخرة.
وتوفي جمال الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله البكري الوائلي الشريشي المالكي بدمشق، عن أربع وثمانين سنة، قدم القاهرة.
وتوفي ناصر الدين أبو محمد عبد الله ابن إمام الدين أبي حفص عمر بن على الشيرازي البيضاوي الشافعي قاضي شيراز، بمدينة تبريز.
وتوفي قاضي القضاة تقي الدين أبو على الحسين بن شوف الدين أبي الفصل عبد الرحيم بن عبد الله شاس السعدي المالكي، عن ثمانين سنة.
وتوفي المسند بدر الدين أبو العباس أحمد بن شيبان بن تغلب بن حيدرة الشيباني الصالحي، عن ثمان وثمانين سنة بدمشق، قدم القاهرة.
وتوفي الأديب معين الدين أبو عمرو عثمان بن سعيد بن عبد الرحمن بن أحمد القهري، عن ثمانين سنة بالقاهرة.
وتوفي الأديب شهاب الدين أبو عبد الله محمد بن عبد المنعم بن محمد بن الخيمي الأنصاري، وقد أناف على الثمانين بالقاهرة.
وفيها مات ملك المغرب أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق بن محيو بن أبي بكر حمامة المريني، في آخر المحرم. وقام من بعده ابنه أبو يعقوب يوسف بن يعقوب. وكانت مدة ملكه ثمانيا وعشرين سنة.(1/248)
سنة ست وثمانين وستمائة
في يوم الأحد نصف المحرم: استقر برهان الدين خضر السنجاري في قضاء القاهرة والوجه البحري، عوضاً عن قاضي القضاة شهاب الدين محمد بن أحمد الخوبي.
ونقل الخوبي عن قضاة القاهرة إلى قضاة دمشق، عوضاً عن بهاء الدين يوسف بن محيي الدين يحيي بن محمد بن على بن الزكي. فنزل قاضي القضاة برهان الدين السنجاري من القلعة، وجلس للحكم في المدرسة المنصورية بين القصرين، ورسم له أن يجلس في دار العدل فوق قاضي القضاة تقي الدين ابن بنت الأعز. فشق ذلك على ابن الأعز، وسعي أن يعفي من حضور دار العدل، فلم يشعر إلا وقد مات البرهان السنجاري في تاسع صفر فجأة عن سبعين سنة، فكانت مدة ولايته أربعة وعشرين يوما.
فاستقر ابن بنت الأعز في قضاء القاهرة، وجمع له بين قضاء البلدين، ونزل فصلي على السنجاري وهو بالشريف.
وفي هذه السنة: توجه الأمير حسام الدين طرنطاي نائب السلطة على عسكر كثير لقتال الأمير شمس الدين سنقر الأشقر بصهيون.
وسبب ذلك أن السلطان لما نازل المرقب وهي بالقرب من صهيون، لم يحضر إليه سنقر الأشقر وبعث إليه ابنه ناصر الدين صمغار، فأسرها السلطان في نفسه، و لم يمكن صمغار من العود إلى أبيه وحمله معه إلى مصر، واستمر الحال على ذلك حتى هذه السنة فسار طرنطاي ونازل صهيون حتى بعث الأشقر يطلب الأمان فأمنه، ونزل سنقر إليه ليسلم الحصن، فخرج طرنطاي إلى لقائه ماشيا، فنزل سنقر عندما رآه وتعانقا.
وسار سنقر إلى مخيم طرنطاي، وقد خلع طرنطاي قباءه وفرشه على الأرض ليمشي عليه سنقر، فرفع سنقر القباء عن الأرض وقبله ثم لبسه، فأعظم طرنطاي ذلك من فعل سنقر وشق عليه وخجل، وأخذ يعامل سنقر من الخدمة بأتم ما يكون.
وتسلم طرنطاي حصن صهيون، ورتب فيه نائبا وواليا وأقام به رجالا، بعد ما أنفق في تلك المدة أربعمائة ألف درهم في العسكر الذي معه، فعتب عليه السلطان بسبب ثم سار طرنطاي إلى مصر ومعه سنفر الأشقر حتى قرب من القاهر فنزل السلطان من قلعة الجبل، وهو وابنه الملك الصالح على، وابنه الملك الأشرف خليل، وأولاد الملك الظاهر، في جميع العساكر إلى لقاء سنقر الأشقر. وعاد به إلى القلعة، وبعث إليه الخلع والثياب والحوائص الذهب والتحف والخيول، وأنعم عليه بإمرة مائة فارس وقدمه على ألف، فلازم سنقر الخدمة مع الأمراء إلى سابع عشري شهر رجب.
وخرج السلطان من قلعة الجبل سائرا إلى الشام، فأقام بتل العجول ظاهر غزة.
وفي ثاني عشري شعبان: انتهت زيادة ماء النيل إلى سبعة عشر ذراعا وثلاثة وعشرين إصبعا.
وفي هذه السنة: وصل من دمشق إلى القاهرة ناصر الدين محمد ابن الشيخ عبد الرحمن المقدسي، ليرافع قاضي القضاة بدمشق بهاء الدين بن الزكي، فوردت وفاته فعدل عنه إلى غيره.
واجتمع ناصر الدين بالأمير علم الدين سنجر الشجاعي مدبر الدولة، وقرر معه أن ملكة خاتون ابنة الأشرف موسى ابن العادل أبي بكر بن أيوب باعت أملاكها بدمشق، وأنه يثبت سفهها، وأن عمها الصالح عماد الدين إسماعيل كان قد حجر عليها وذلك حتى يسترجع الأملاك ممن اشتراها، ويرجع عليهم. بما أخذوه من ريعها، ثم يشتري الأملاك للخاص. فأعجب ذلك الشجاعي، وكتب يطلب سيف الدين أحمد السامري من دمشق، فإنه ابتاع قرية حرزما، فوصل إلى القاهرة في رمضان، وطولب بالقرية المذكورة فادعي أنه وقفها، فأخذ ابن الشيخ عبد الرحمن في عمل محضر بأن ابنة الأشرف حال بيع حرزما وغيرها كانت سفيهة من تاريخ كذا إلى تاريخ كذا، ثم إنها صلحت واستحقت رفع الحجر عنها من مدة كذا، ولفق بينة شهدت عند بعض القضاة، وأثبت ذلك. فبطل البيع من أصله، وألزم السامري بما استأداه من ريع حرزما عن عشرين سنة، وهو مبلغ مائتي ألف وعشرة آلاف درهم من فضة، واعتد له بنظير الثمن الذي دفعه، واشتري منه أيضاً سبعة عشرة سهماً من قرية الزنبقية. بمبلغ تسعين ألف درهم، وحمل بعد ذلك مبلغ مائة ألف وأربعين ألف درهم إلى بيت المال.(1/249)
واستقر ابن الشيخ عبد الرحمن وكيل السلطان، فشرع في فتح أبواب البلاء على أهل الشام، وعمل عيد الفطر يوم الأحد من رؤية. وإنما ثبت عند الملك الصالح على أن السلطان صام شهر رمضان في مدينة غزة يوم الجمعة على الرؤية، فأثبت القاضي المالكي أن أول شوال يوم الأحد، فأمسك كثير من الناس عن الفطر، وأفطروا يوم الإثنين. وأما السلطان فإنه عاد من تل العجول، ووصل قلعة الجبل في ثالث عشري شوال.
وفي سادس ذي الحجة: توجه الأمير علم الدين سنجر المسروري المعروف بالخياط متولي القاهرة، والأمير عز الدين الكوراني، إلى غزو بلاد النوبة. وجرد السلطان معهما طائفة من أجناد الولايات بالوجه القبلي والقراغلامية، وكتب إلى الأمير عز الدين أيدمر السيفي السلاح درا متولي قوص أن يسير معهما بعدته ومن عنده من المماليك السلطانية المركزين بالأعمال القوصية، وأجناد مركز قوص، وعربان الإقليم: وهم أولاد أبي بكر وأولاد عمر، وأولاد شيبان وأولاد الكنز وبني هلال، وغيرهم. فسار الخياط في البر الغربي بنصف العسكر، وسار أيدمر بالنصف الثاني من البر الشرقي، وهو الجانب الذي فيه مدينة دمقلة.
فلما وصل العسكر أطراف بلاد النوبة أخلي ملك النوبة سمامون البلاد، وكان صاحب مكر ودهاء وعنده بأس. وأرسل سمامون إلى نائبة بجوائز ميكائيل وعمل الدو واسمه جريس ويعرف صاحب هذه الولاية عند النوبة بصاحب الجبل يأمره بإخلاء البلاد التي تحت يده أمام الجيش الزاحف، فكانوا يرحلون والعسكر وراءهم منزلة بمنزلة حتى وصلوا إلى ملك النوبة بدمقلة، مخرج سمامون وقاتل الأمير عز الدين أيدمر قتالاً شديداً، فانهزم ملك النوبة وقتل كثير ممن معه واستشهد عدة من المسلمين. فتبع العسكر ملك النوبة مسيرة خمسة عشر يوما من رواء دمقلة إلى أن أدركوا جريس وأسروه، وأسروا أيضاً ابن خالة الملك وكان من عظمائهم، فرتب الأمير عز الدين في مملكة النوبة ابن أخت الملك، وجعل جريس نائبا عنه، وجرد معهما عسكراً، وقرر عليهما قطعة يحملانها في كل سنة، ورجع بغنائم كثيرة ما بين رقيق وخيول وجمال وأبقار وأكسية.
وفي هذه السنة: أمطرت المدينة النبوية في ليلة الرابع من المحرم مطراً عظيما فوكفت سقوف المسجد النبوي والحجرة الشريفة، وخربت عدة دور وتلف نخل كثير من السيول ثم عقب ذلك جراد عظيم صار له دوي كالرعد، فأتلف التمر وجريد النخل وغيره من المزارع، وكانت الأعين قد أتلفها السيل، وخرب عين الأزرق حتى عادت ملحاً أجاجا، فكتب بذلك إلى السلطان، وأن الحجرة الشريفة عادتها أن تشمسي في زمن الخلفاء إذا ولي الخليفة، فلا تزال حتى يقوم خليفة آخر فيشمسوها، وأن المنير والروضة يبعث بكسوتها في كل سنة، وإنهما يحتاجان إلى كسوة.
وفيها جهز السلطان هدية سنية إلى بر بركة، ومبلغ ألفي دينار برسم عمارة جامع قرم، وأن تكتب عليه ألقاب السلطان، وجهز حجار لنقش ذلك وكتابتها بالأصباغ.
وفيها نزل تدان منكو بن طغان بن باطو بن دوشي بن جنكزخان عن مملكه التتر ببلاد الشمال. وأظهر التزهد والانقطاع إلى الصلحاء، وأشار أن يملكوا ابن أخيه تلابغا ابن منكوتمر بن طغان، فملكوه عوض تدان.
ومات في هذه السنة من الأعيان
قاضي القضاة برهان الدين أبو محمد الخضر بن الحسن بن علي السنجاري الشافعي، في تاسع صفر، عن سبعين سنة.
وتوفي قطب الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن على بن محمد بن الحسن بن القسطلاني التوزري المالكي، شيخ دار الحديث الكاملية بالقاهرة، وقد أناف على السبعين.
وتوفي عز الدين أبو العز عبد العزيز بن عبد المنعم بن على بن نصر بن الصقلي الحراني المسند المعمر، وقد أناف على التسعين، بالقاهرة.
وتوفي الأديب ضياء الدين أبو الحسن على بن يوسف بن عفيف الأنصاري الغرناطي بالإسكندرية، وقد أناف على التسعين.
وتوفي أبو العباس أحمد بن عمر الأنصاري المرسي المالكي، بالإسكندرية.
وتوفي بدر الدين أبو الفضل محمد بن جمال الدين أبي عبد الله محمد بن مالك الأنصاري الجياني النحوي بدمشق، وقد أناف على الأربعين.
وتوفي الأديب شرف الدين أبو الربيع سليمان بن بنيمان بن أبي الجيش بن عبد الجبار بن سليمان الإربلي الحلبي الشاعر بدمشق، عن تسعين سنة.
وتوفي أبو الحسن فضل بن على بن نصر بن عبد الله بن الحسين بن رواحة الأنصاري الحموي ببلبيس.(1/250)
وتوفي الطيب عماد الدين أبو عبد الله محمد بن عباس بن أحمد بن عبيد الربيعي الدنيسري بدمشق، عن إحدى وثمانين سنة.
وتوفي الشيخ إبراهيم بن أبي المجد الدسوقي، بناحية دسوق من الغربية، ومولده سنة أربع وأربعين وستمائة تخمينا، وقبره إحدى المزارات التي تحمل إليها النذور ويتبرك بها.
سنة سبع وثمانين وستمائة
في المحرم: استدعى ناصر الدين محمد ابن الشيخ شمس الدين عبد الرحمن بن نوح بن محمد بن موسى أبو المكارم، المعروف بابن المقدسي، جماعة من أهل دمشق إلى القاهرة، فحضر عز الدين حمزة بن القلانسي، ونصير الدين بن سوند، وشمس الدين محمد بن يمن، والجمال بن صصرى، وقاضي القضاة حسام الدين الحنفي، والصاحب تقي الدين توبة، وشمس الدين بن غانم، وغيره.
فألزم القلانسي بمائة وخمسين ألف درهم، وابن سويد بثلاثين ألف درهم، وابن يمن عن قيمة أملاك مائة ألف درهم وتسعين ألف درهم، وابن صصرى بثلاثمائة ألف درهم، وحسام الدين بثلاثة آلاف درهم، وابن غانم بخمسة آلاف درهم.
فاعتذروا إنهم قد حضروا على البريد، وأن أموالهم بدمشق، وسألوا أن يقرر عليهم ما يحملونه. فخافه الشجاعي إنهم إذا دخلوا دمشق تشفعوا فسومحوا بما عليهم، فطلب تجار الكارم بمصر وأمرهم أن يقرضوا الدماشقة مالا، ففعلوا ذلك.
وكتب على الدماشقة مساطير بما اقترضوه من تجار الكارم، وحملوا ما أخذوه إلى بيت المال، وأذن لهم في العود إلى دمشق، فلم يجدوا بدا من وفاء التجار.
ثم استقر ابن صصرى ناظر الدواوين بدمشق، فانتدب النجيب كاتب بكجري أحد مستوفيي الدولة لمرافعة الشجاعي، وبرز له بمرافقة القاضي تقي الدين نصر الله بن فخر الدين الجوجري، وأنهى إلى السلطان عنه أموراً وحاققه بحضرته السلطان.
ومما قاله إنه باع جملة من السلاح ما بين رماح ونحوها مما كان في الذخائر السلطانية للفرنج، فلم ينكر الشجاعي ذلك، وقال: بعته بالغبطة الوافرة والمصلحة الظاهرة، فالغبطة أنني بعتهم من الرماح والسلاح ما عتق وفسد وقل الانتفاع به، وأخذت منهم أضعاف ثمنه، والمصلحة أن تعلم الفرنج أنا نبيعهم السلاح هوانا بهم، واحتقاراً بأمرهم وعدم مبالاة بشأنهم. فمال السلطان لذلك وقبله.
فقال النحيب: يا مكثل الذي خفي عنك أعظم مما لمحت هذا الكلام أنت صورته بخاطرك لتعده جوابا، وأما الفرنج وسائر الأعداء فلا يحملون بيع السلاح لهم على ما زعمت أنت، ولكنهم يشيعون فيما بينهم، ويتناقله الأعداء إلى أمثالهم، بأن صاحب مصر والشام قد احتاج حتى باع سلاحه لأعدائه.
فلم يحتمل السلطان هذا، وغضب على الشجاعي وعزله في يوم الخميس ثاني شهر ربيع الأول، وأمر. بمصادرته على جملة كثيرة من الذهب، وألزمه ألا يبيع في ذلك شيئا من خيله ولا سلاحه ولا رخته، بل يحمل المطلوب ذهباً، وعصره بالمعاصير بين يديه حتى حمل ما طلب منه.
فبلغه الناس ما اعتمده الشجاعي من الظلم في مصادرة جماعة، وأن في سجنه كثيراً من المظلومين قد مرت عليهم سنون وهم في السجن، وباعوا موجودهم حتى أعطوه في التراسيم، وفيهم من استعلى وسال بالأوراق. فرسم السلطان للأمير بهاء الدين بغدي الدوداري بالكشف عن أمر المصادرين ومطالعته بحالهم، فخرج لذلك وسأل، فكثرت القالة. بما فيه أهل السجون من الفاقة والضرورة، ففوض أمرهم إلى الأمير طرنطاي، فكشف عنهم وأفرج عن سائرهم.
وفي ليلة الاثنين سادس عشره: وقع الحريق بخزائن السلاح والمشهد الحسيني بالقاهرة. فطفئ.
وفي يوم الثلاثاء سابع عشره: استقر في الوزارة بديار مصر الأمير بدر الدين بيدرا، عوضاً عن سنجر الشجاعي، بعدما عرضت على قاضي القضاة تقي الدين عبد الرحمن ابن بنت الأعز فامتنع، وشرط على الأمير بيدرا أنه يشاور ابن بنت الأعز، ويعتمد ما يشير به. وكان ابن بنت الأعز إذا دخل على السلطان، وهو يومئذ ناظر الخزانة، ويقول له: يا قاضي إيش حال ولدك بيدرا في وزارته،؟ فيقول: يا خوند ولد صالح دخلت بولايته الجنة، وأزلت الظلم، واستجلبت لك الدعاء، والذي كان يحصل بالعسف حصل باللطف.
وصار ابن بنت الأعز كل يوم أربعاء يدخل على بيدرا ويقرر معه ما يفعل، ثم استناب بيدرا ضياء الدين عبد الله النشائي وصار يجلس معه.(1/251)
واستقر تقي الدين نصر الله في نظر الدواوين شريكا لثلاثة، وهم: تاج الدين بن السنهوري، وكمال الدين الحرابي، وفخر الدين بن الحلبي صاحب ديوان الصالح على، وخلع عليه.
وفي أول ربيع الآخر: استقر الجمال بن صصرى في نظر الدواوين بدمشق، وخلع عليه وسافر من القاهرة هو والقاضي تاج الدين بن النصيبني كاتب الدرج بحلب، بعدما أفرج عنه.
وفيه أيضاً استقر ركن الدين بيبرس أمير جاندار بدمشق، وسافر هو وشمس الدين، بن غانم، وقد سومح. بما كان قد قرر عليه.
واستقر تقي الدين توبة في نظر الدواوين بدمشق أيضاً. وتوجه ناصر الدين محمد بن الشيخ شمس الدين عبد الرحمن المقدسي إلى دمشق، متحدثا في وكالة السلطان ونظر سائر الأوقاف الشامية، ونظر الجامع الأموي والمارستان النوري وبقية المارستانات، ونظر الأشراف والأيتام والأسري والصدقات والخوانك والربط والأسود وغير ذلك.
وسافر معه شمسي الدين القشتمري، وصارم الدين الأيدمري ليكونا مشدين.
فقدم دمشق وتتبع عوارت الناس، وتصدي لإثبات سفه من باع شيئاً من الأملاك كما فعل في أمر ابنة الأشرف، فلم يوافقه القضاة بدمشق ولا النائب، وشرع في مناكدة الناس.
وفي تاسعه: أفرج عن الأمير علم الدين سنجر الشجاعي، بعد ما أخذ منه خمسة وستون ألف دينار عينا، سوي ما أخذ السلطان وغيره من موجوده.
وعزل بيدرا عن الوزارة في تاسع عشره، واستدعى قاضي القضاة تقي الدين عبد الرحمن ابن بنت الأعز، وخلعت عليه خلع الوزارة ونزل. فتعفف عن التصرف والكتابة في أشياء، وباشر الوزارة مع قضاء القضاة ونظر الخزانة، وصار يجلس في اليوم الواحد تارة في دست الوزارة وتارة في مجلس الحكم وتارة في ديوان الحكم، و لم يوف منصب الوزاره حقه لتمسكه بظاهر الأمور الشرعية. ثم ثقلت عليه الوزارة فتوفر منها، وأعيد الأمير بدر الدين بيدرا إليها في وكان حينئذ أمير مجلس، ثم نقل إلى الأستادارية مع الوزارة، واستقر كذلك إلى آخر الدولة المنصورية.
وفيه كتب إلى الأكابر ببلاد السند والهند والصين واليمن صورة أمان لمن اختار الحضور إلى ديار مصر وبلاد الشام، من إنشاء فتح الدين بن عبد الظاهر، وسير مع التجار.
وفي أول جمادى الأولى: وردت كتب الأمير علم الدين سنجر المسروري الخياط من دمقلة، بفتحها والاستيلاء عليها وأسر ملوكها، وأخذ تيجانهم ونسائهم. وكان الكتاب على يد ركن الدين منكورس الفاقاني، فخلع عليه وكتب معه الجواب بإقامة الأمير عز الدين أيدمر وإلى قوص بدمقلة، ومعه من رسم لهم من المماليك والجند والرجال، وأن يحضر الأمير علم الدين ببقية العسكر. وجهز من قلعة الجبل سعد ابن أخت داود، ليكون مع الأمير أيدمر لخبرته بالبلاد وأهلها، فسار وقد أعطي سيفا محلى، فأقام بقوص.
وفيه استقر زين الدين، بن رشيق في قضاء الإسكندرية، عوضاً عن زين الدين بن المنير.
وفي سابع عشره وهو خامس عشر بؤونة من أشهر القبط: أخذ قاع النيل بمقياس الروضة، فكان أربعة أذرع وستة وعشرين أصبعا. فيه فوضت حسبة دمشق لشرف الدين أحمد بن عيسى السيرحي.
وفي تاسع رجب: وصل الأمير علم الدين سنجر المسروري من بلاد النوبة، ببقية العسكر المخلف بدمقلة مع عز الدين أيدمر، ووصل معه ملوك النوبة ونساؤهم وتيجانهم وعدة أسري كثيرة، فكان يوما مشهودا.
وفرق السلطان الأسري على الأمراء وغيرهم، فتهاداهم الناس، وبيعوا بالثمن اليسير لكثرتهم.
وخلع على الأمير علم الدين وعمل مهمندارا عوضاً عن الأمير شرف الدين الجاكي، بحكم استقراره في ولاية الإسكندرية عوضاً عن حسام الدين بن شمس الدين ابن باخل، بحكم عزله والقبض عليه ومصادرته.
وأما النوبة فإنه عامون ملكها رجع بعد خروج العسكر إلى دمقلة، وحارب من بها وهزمهم، وفر منه الملك وجرتس والعسكر المجرد، وساروا إلى القاهرة، فغضب السلطان وأمر بتجهيز العسكر لغزو النوبة.
وفي يوم الأحد خامس عشره: خرج السلطان مبرزا بظاهر القاهرة يريد الشام، فركب معه ابنه الملك الصالح وحضر السماط، ثم عاد الصالح إلى قلعة الجبل آخر النهار، فتحرك عليه فؤاده في الليل وكثر إسهاله الدموي وأفرط، فعاد السلطان لعيادته في يوم الأربعاء ثامن عشره ولم يفد فيه العلاج، فعاد السلطان إلى الدهليز من يومه، فأتاه الخبر بشدة مرض الملك الصالح، فعاد إلى القلعة.(1/252)
وصعدت الخزائن في يوم الثلاثاء أول شعبان، وطلعت السناجق والطلب في يوم الأربعاء ثانيه. فمات الصالح بكرة يوم الجمعة رابعه من دوسنطاريا كبدية، وتحدثت طائفة بأن أخاه الملك الأشرف خليلا سمه.
فحضر الناس للصلاة عليه، وصلي عليه بالقلعة قاضي القضاة تقي الدين ابن بنت الأعز إماماً، والسلطان خلفه في بقيه الأمراء والملك الأشرف خليل. ثم حملت جنازته، وصلي عليه ثانيا قاضي القضاة معز الدين نعمان بن الحسن بن يوسف الخطبي الحنفي خارج القلعة، ودفن بتربة أمه قريباً من المشهد النفيسي.
وترك الصالح ابنا يقال له الأمير مظفر الدين موسى، من زوجته منكبك ابنة نوكاي. واشتد حزن السلطان عليه، وجلس للعزاء في يوم الأحد ثالث يوم وفاته بالإيوان الكبير. وأنشئت كتب العزاء إلى النواب بالمماليك، ورسم فيها ألا يقطع أحد شعرا ولا يلبس ثوب حداد ولا يغير زيه.
وفي مدة مرض الملك الصالح جاد السلطان بالمال وأكثر من الصدقات، واستدعى الفقراء والصالحين ليدعوا له، وبعث إلى الشيخ محمد المرجاني يدعوه فأبي أن يجتمع به، فحل إليه مع الطواشي مرشد خمسة آلاف درهم ليعمل بها وقتا للفقراء، حتى يطلبوا ولد السلطان من الله تعالي، فقال له: سلم على السلطان، وقل له متى رأيت فقيراً يطلب أحدا من الله؟ فإن فرغ أجله فالله ما ينفعه أحد، وإن كانت فيه بقية فهو يعيش. ورد المال فلم يقبل منه شيئا.
وطلع الشيخ عمر خليفة الشيخ أبي السعود إلى السلطان، وقد دعاه ليدعو للصالح، فقال له: أنت رجل بخيل ما يهون عليك شيء، ولو خرجت للفقراء عن شيء له صورة لعملوا وقتاً، وتوسلوا إلى الله أن يهبهم ولدك لكان يتعافى. فأعطاه السلطان خمسة آلاف درهم عمل بها سماعاً، ثم عاد إلى السلطان وقال: طيب خاطرك، الفقراء كلهم سألوا الله ولدك، وقد وهبه لهم. فلم يكن غير قليل حتى مات الصالح.
فرأي السلطان في صبيحته الشيخ عمر هذا، فقال له: يا شيخ عمر أنت قلت إن الفقراء طلبوا ولدي من الله ووهبه لهم، فقال على الفور: نعم الفقراء طلبوه، ووهبهم إياه ألا يدخل جهنم، ويدخله الجنة، فسكت السلطان.
وفي حادي عشر شعبان: فوض السلطان ولاية العهد لابنه الملك الأشرف صلاح الدين خليل، فركب بشعار السلطنة من قلعة الجبل إلى باب النصر، وعبر إلى القاهرة وخرج من باب زويلة، وصعد إلى القلعة وسائر الأمراء وغيرهم في خدمته، ودقت البشائر. وحلف القضاة له جميع العسكر، وخلع على سائر أهل الدولة، وخطب له بولاية العهد واستقر على قاعدة أخيه الصالح على، وكتب بذلك إلى سائر البلاد، وكتب له تقليد فتوقف السلطان من الكتابة عليه.
وفي ثاني شهر رمضان: استقر في حسبة دمشق شمس الدين محمد بن السلموس، عوضاً عن ابن السيرجي.
وفي رابع شوال: استقر بدر الدين محمد بن جماعة خطيباً بالقدس، عوضاً عن الشيخ قطب الدين عبد المنعم بن يحيي بن إبراهيم القرشي القدسي، بحكم وفاته، وكانت ذلك بعناية الأمير علم الدين سنجر الدواداري، لصحبة بينهما.
واستقر في تدريس القيمرية بدمشق عوضاً عن ابن جماعة علاء الدين أحمد بن تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز في سابع عشره.
وفي ذي الحجة: استقر علم الدين سنجر المسروري في ولاية البهنسا، وولي معه عز الدين مقدام نظرها، واستقر قاضي القضاة جمال الدين الزواوي في قضاء الملكية بدمشق.
وفي هذه السنة: ورد كتاب نائب الشام بأن الفرنج بطرابلس نقضوا الهدنة، وأخذوا جماعة من التجار وغيرهم، وصار بأيديهم عدة أسري. وكانوا لما ملك السلطان قلعة المرقب قد بعثوا إليه هدية، وصالحوه على ألا يتركوا عندهم أسيراً، و لا يتعرضوا لتاجر ولا يقطعوا الطريق على مسافر، فتجهز المسلطان لأخذ طرابلس.
وفيها قدم الشريف جماز بن شيحة من المدينة النبوية وملك مكة، فجاء الشريف أبو نمي في آخر السنة وملكها منه.
ومات في هذه السنة من الأعيان
الملك الصالح على ابن السلطان الملك المنصور قلاوون، وقد أناف على الثلاثين، في رابع شعبان.
وتوفي تقي الدين أبو إسحاق إبراهيم بن معضاد بن شداد بن ماجد الجعبري الشافعي، عن سبع وثمانين سنة بالقاهرة.
وتوفي المجد أبو المعالي محمد بن خالد بن حمدون الهذباني الحموي الزاهد المحدث، عن ثمانين سنة بحلب، قدم القاهرة.(1/253)
وتوفي خطيب القدس قطب الدين أبو الذكاء عبد المنعم بن يحيي بن إبراهيم بن على بن جعفر القرشي الزهري، وقد أناف على الثمانين.
وتوفي البرهان أبو عبد الله محمد بن محمد النسفي الحنفي، ببغداد عن نحو تسعين سنة وتوفي أمين الدين أبو اليمن عبد الصمد بن عبد الوهاب بن الحسن بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي الشافعي المحدث، عن ثلاث وسبعين سنة بالمدينة النبوية.
وتوفي الأديب الشاعر ناصر الدين أبو محمد الحسن بن شاور بن طرخان بن النقيب الكناني وقد أناف على سبعين سنة، بالقاهرة.
وتوفي الحكم علاء الدين أبو الحسن على بن أبي الحزم ابن النفيس القرشي الدمشقي وليس الأطباء، عن نحو ثمانين سنة بالقاهرة.
سنة ثمان ثمانين وستمائة
في يوم الخميس عاشر المحرم: خيم السلطان بظاهر القاهرة، ورحل في خامس عشره. واستخلف ابنه الملك الأشرف خليلا بالقلعة، والأمير بيدرا نائباً عنه ووزيرا، وكتب عند الرحيل إلى سائر ممالك الشام بتجهيز العساكر لقتال طرابلس.
وسار إلى دمش فدخلها في ثالث عشر صفر، وخرج منها في العشرين منه إلى طرابلس فنانزلها، وقد قدم لنجدة أهلها أربعة شوان من جهة متملك قبرص.
فوالى السلطان الرمي بالمجانيق عليها والزحف والنقوب في الأسوار، حتى افتتحها عنوة في السلعة السابعة من يوم الثلاثاء رابع ربيع الآخر، بعدما أقام عليها أربعة وثلاثين يوما، ونصب عليها تسعة عشر منجنيقاً، وعمل فيها ألف خمسمائة نفس من الحجارين والزرافين. وفر أهلها إلى جزيرة تجاه طرابلس فخاض الناس فرساناً ورجالاً وأسروهما وقتلوهم وغنموا ما معهم، وظفر الغلمان والأوشاقية بكثير منهم كانوا قد ركبوا البحر فألقاهم الريح بالساحل، وكثرت الأسري حتى صار إلى زردخاناه السلطان ألف ومائتا أسير.
واستشهد من المسلمين الأمير عز الدين معن، والأمير ركن الدين منكورس الفارقاني، وخمسة وخمسون من رجال الحلقة.
وأمر السلطان بمدينة طرابلس فهدمت، وكان عرض سورها يمر عليه ثلاثة فرسان بالخيل، ولأهلها سعادات جليلة منها أربعة آلاف نول قزازاة.
وأقر السلطان بلدة حبيل مع صاحبها على مال أخذه منه، وأخذ بيروت، وجبلة وما حولها من الحصون.
وعاد السلطان إلى دمشق في نصف جمادى الأولى، واستقر العسكر على عادته بحصن الأكراد مع نائبه الأمير سيف الدين بلبان الطباخي.
ونزل البزك إلى طرابلس من حصن الأكراد وأضيف إلى الطباخي، واستقر معه خمسمائة جندي وعشرة أمراء طبلخاناه، وخمسة عشر أمراء عشرات، وأقطعوا إقطاعات. ثم عمر المسلمون مدينة بجوار النهر فصارت مدينة جليلة، وهي التي تعرف اليوم بطرابلس.
وقدم على السلطان وهو بطرابلس رسل سيس يسألون مزاحمة، فطلب منهم مرعش وبهنا والقيام بالقطيعة على العادة، وأعادهم وقد خلع عليهم.
وخرج الأمير طرنطاي نائب السلطنة إلى حلب. وأقام الأمير سنجر الشجاعي متحدثا في الأموال بدمشق، فأوقع الحوطة على تقي الدين توبة، وأخذ حواصله وباعها على الناس بأغلى الأثمان حتى جمع من ذلك خمسمائة ألف درهم، فخاف منه الناس وفر كثير. منهم وعاد طرنطاي في سابع رحب.
وورد على السلطان كتاب ولده الأشرف بأن سلامش وخضرا ابني السلطان الظاهر بيبرس قد راسلا الظاهرية، وأنه يخشى عاقبة ذلك. فكتب السلطان بأن يخرجا وأمهما إلى ثغر الإسكندرية، ويحملوا في البحر إلى بلاد الأشكري، فأخرجوا ليلا.
وكان في ذلك أعظم عبرة: فإن الظاهر بيبرس أخرج قاقان وعليا ابني المعز أيبك إلى بلاد الأشكري ومعهما أمهما، فعوقب. بمثل ذلك وأخرج ولداه وأمهما ليجزي الله كل نفس بما كسبت.
وخرج السلطان من دمشق في ثاني شعبان، ومعه تقي الدين توبة مقيدا، وقد نال أهل دمشق ضرر كبير.(1/254)
فدخل السلطان قلعة الجبل في آخر شعبان، وجرد الأمير عز الدين أيبك الأفرم أمير جاندرا إلى بلاد النوبة، ومعه من الأمراء قبجاق المنصوري وبكتمر الجوكندار وأيدمر وإلى قوص، وأطلاب كثير من الأمراء، وسائر أجناد المراكز بالوجه القبلي ونواب الولاة، ومن عربان الوجهين القبلي والبحري عدة أربعين ألف راجل، ومعهم متملك النوبة وجريس فساروا في ثامن شوال، وصحبتهم خمسمائة مركب ما بين حراريق ومراكب كبار وصغار تحمل الزاد والسلاح والأثقال. فلما وصلوا ثغر أسوان مات متملك النوبة، فدفن باسوان. فطالع الأمير عز الدين الأفرم السلطان بموته، فجهز إليه من أولاد أخت الملك داود رجلا كان بالقاهرة ليملكه، فأدرك العسكر على خيل البريد بأسوان وسار معه. وقد انقسموا نصفين: أحدهما الأمير عز الدين الأفرم وقبجاق في نصف العسكر من الترك والعرب في البر الغربي، وسار الأمير أيدمر وإلى قوص والأمير بكتمر بالبقية على البر الشرقي، وتقدمهم جريش نائب ملك النوبة ومعه أولاد الكنز ليؤمن أهل البلاد ويجهز الإقامات. فكان العسكر إذا قدم إلى بلد خرج إليه المشايخ والأعيان، وقبلوا الأرض وأخذوا الأمان وعادوا، وذلك من بلد الدو إلى جزائر ميكائيل، وهي ولاية جريس وأما ما عدا ذلك من البلاد التي لم يكن لجريس عليها ولاية، من جزائر ميكائيل إلى دمقلة، فإن أهلها جلوا عنها طاعة لمتملك النوبة. فنهبها العسكر وقتلوا من وجدوه بها، ورعوا الزروع وخربوا السواقي إلى أن وصلوا مدينة دمقلة، فوجدوا الملك قد أخلاها حتى لم يسبق بها سوي شيخ واحد عجوز، فأخبرا أن الملك نزل بجزيرة في بحر النيل بعدها عن دمقلة خمسة عشر يوماً. فتتبعه وإلى قوص، ولم يقدر مركب على سلوك النيل هناك لتوعر النيل بالأحجار. وقال في ذلك الأديب ناصر الدين بن النقيب، وكان ممن جرد إليها:
يا يوم دمقلة ويوم عبيدها ... من كل ناحية وكل مكان
من كل نوبي يقول لأخته ... نوحي قد سكوا قفا السودان
ومات في هذه السنة من الأعيان
كاتب الإنشاء بحماة نجم الدين أبو محمد عبد الغفار بن محمد بن محمد بن نصر الله ابن المغيزل العبدي الحموي بها، عن أربع وستين سنة.
وتوفي العلامة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمود بن عباد الأصبهاني، عن اثنين وسبعين سنة بالقاهرة.
وتوفي الأديب شمس الدين محمد بن العفيف أبي الربيع سليمان بن على بن عبد الله ابن على بن ياسين العابدي التلمساني.
وتوفي علم الدين أبو العباس أحمد بن يوسف عبد الله بن على الشهير بابن الصاحب صفي الدين بن شكر، بعدما تغير عقله، وقد أناف على الستين.
سنة تسع وثمانين وستمائة
في المحرم: سار الأمير طرنطاي النائب إلى بلاد الصعيد ومعه عسكر كبير، فوصل إلى طوخ تجاه قوص، وقتل جماعة من العربان، وحرق كثيرا منهم بالنار، وأخذ خيولاً كثيرة وسلاحا ورهائن من أكابرهم. وعاد بمائة ألف رأس من الغنم وألف ومائتي فرس وألف جمل، وسلاح لا يقع عليه حصر.
وفيه توجه الأمير سيف الدين التقوي ومعه ستمائة فارس لينزل بطرابلس وهو أول جيش استخدم بطرابلس بعد فتحها، وكان العسكر قبل ذلك بالحصون.
وفي ربيع الأول استدعى الأمير سنقر الأعسر شاد الدواوين بدمشق إلى القاهرة على البريد، فلما حضر أكرمه السلطان وأكد عليه في تحصيل الأموال، وأضاف إليه الحصون بسائر الممالك الشامية والساحل وديوان الجيش، وخلع عليه. فعاد إلى دمشق في العشرين من ربيع الآخر، وقد زاد تجبره وكثر تعاظمه.
وفي جمادى الأولى: قبض على الأمير سيف الدين حرمك الناصري لمطاوصة جرت بينه وبين الأمير طرنطاي النائب، أغلظ عليه فيها بحضرة الأمراء.
وفي أول جمادى الآخرة: استقر شرف الدين حسن بن أحمد بن أبي عمر بن قدامه المقدسي في قضاة الحنابلة بدمشق، بعد وفاة قاضي القضاة نجم الدين أحمد بن عبد الرحمن القدسي الحنبلي، بأمر السلطان. وكتب توقيعه عن الأمير حسام الدين نائب الشام، في تاسع الشهر.
وفيه وصل وإلى قوص. ممن معه إلى تجاه الجزيرة التي بها عامون ملك النوبة، فرأوا(1/255)
بها عدة من مراكب النوبة، فبعثوا إليه في الدخول في الطاعة وأمنوه فلم يقبل. فأقام العسكر تجاهه ثلاثة أيام، فخاف من مجيء الحراريق والمراكب إليه، فانهزم إلى جهة الأبواب، وهي خارجة عن مملكته وبينها وبين الجزيرة التي كان فيها ثلاثة أيام. ففارقة السواكرة وهم الأمراء وفارقه الأسقف والقسوس، ومعهم الصليب الفضة الذي كان يحمل على رأس الملك وتاج الملك، وسألوا الأمان فأمنهم وإلى قوص وخلع على أكابرهم، وعادوا إلى مدينة دمقلة وهم جمع كبير.
فعند وصولهم عدي الأمير عز الدين الأقرم وقبجاق إلى البر الشرقي، وأقام العسكر مكانه. واجتمع الأمراء بدمقلة، ولبس العسكر آلة الحرب وطلبوا من الجانبين، وزينت الحراريق في البحر ولعب الزراقون بالنفلط. ومد الأمراء السماط في كنيسة أسوس أكبر كنائس دمقلة وأكلوا، ثم ملكوا الرجل الذي بعثه السلطان قلاوون وألبسوه التاج، وحلفوا وسائر الأكابر، وقرروا البقط المستقر أولا، وعينوا طائفة من العسكر تقيم عندهم وعليها بيبرس العزي مملوك الأمير عز الدين وإلى قوص. وعاد العسكر إلى أسوان بعدما غاب عنها ستة أشهر، وساروا إلى القاهرة في آخر جمادى الأولى بغنائم كثيرة. وأما سمامون فإنه عاد بعد رجوع العسكر إلى دمقلة مختفياً، وصار بطريق باب كل واحد من السواكرة ويستدعيه، فإذا خرج ورآه قبل له الأرض وحلف له، فما طلع الفجر حتى ركب معه سائر عسكره. وزحف عامون بعسكره على دار الملك، وأخرج بيبرس العزي ومن معه إلى قوص، وقبض على الذي تملك موضعه وعراه من ثيابه، وألبسه جلد ثور كما ذبح بعدما قده سيوراً ولفها عليه، ثم أقامه مع خشبة وتركه حتى مات، وقتل جريس أيضاً. وكتب عامون إلى السلطان يسأله العفو، وأنه يقوم بالبقط المقرر وزيادة، وبعث رقيقا وغيره تقدمة فقبل منه، وأقره السلطان بعد ذلك بالنوبة.
وفي ثاني عشري جمادى الآخرة: كتب بالكشف على ناصر الدين بن المقدسي وكيل السلطان بالشام، فظهرت له أفعال منكرة، وقبض عليه في تاسع رجب وضرب بالقارع وألزم بمال. ثم رسم بحمله إلى القاهرة، فوجد في يوم الجمعة ثالث شعبان وقد شنق نفسه فحضر أولياء والقضاء والشهود وشاهدوه على تلك الصورة، وكتبوا محضرا بذلك، ودفن واستراح الناس من شره.
وفي رابع رجب: استقر الأمير عز الدين أيبك الموصلي في تقدمة العسكر بغزة والساحل، عوضاً عن الأمير آقسنقر كرتيه.
وفي شعبان: خرج مرسوم السلطان ألا يستخدم أحد من أهل الذمة اليهود والنصارى في شيء من المباشرات الديوانية، فصرفوا عنها.
وفيه ثار أهل عكا بتجار المسلمين وقتلوهم، فغضب السلطان وكتب إلى البلاد الشامية بعمل مجانيق وتجهيز زردخاناة لحصار عكا. وذلك أن الظاهر بيبرس هادنهم، فحملوا إليه وإلى الملك المنصور هديتهم في كل سنة، ثم كثر طمعهم وفسادهم وقطعهم الطريق على التجار، فأخرج لهم السلطان الأمير شمس الدين سنقر المساح على عسكر، ونزلوا اللجون على العادة في كل سنة، فإذا بفرسان من الفرنج بعكا قد خرجت فحاربوهم، واستمرت الحرب بينهم وبين أهل عكا مدة أيام. وكتب إلى السلطان بذلك، فأخذ في الاستعداد لحربهم. فضرع الأمير شمس الدين سنقر الأعسر في عمل ذلك، وقرر على ضياع المرج وغوطة. دمشق مالاً على كل رجل ما بين ألفي درهم إلى خمسمائة درهم، وجبي أيضاً من ضياع بعلبك والبقاع. وسار إلى واد بين جبال عكا وبعلبك لقطع أخشاب المجانيق، فسقط عليه ثلج عظيم كاد أن يهلكه، فركب وساق وترك أثقاله وخيامه لينجو بنفسه، فطمها الثلج تحته إلى زمن الصيف، فتلف أكثرها. وفي سادس شوال: أفرج عن الأمير الكبير علم الدين سنجر الحلبي، فكانت مدة اعتقاله خمس سنين وتسعة أشهر وأياما.(1/256)
وفي آخر شوال: برز السلطان بظاهر القاهرة، ونزل. بمخيمه بمسجد تبر، يريد فتح عكا. فأصابه وعك في أول ليلة وأقام يومين بغير ركوب، ثم اشتد مرضه وصار الأشرف ينزل إليه كل يوم من القلعة ويقيم عنده إلى بعد العصر ويعود. فكثرت القالة وانتشرت حتى ورد الخبر بحركة العرب ببلاد الصعيد، فأخرج النائب طرنطاي قراقوش الظاهري والأمير أبا شامة لتدارك ذلك. واشتد مرض السلطان إلى أن مات بمخيمه تجاه مسجد تبر خارج القاهرة في ليلة السبت سادس ذي القعدة، فحمل إلى القلعة ليلا، وعادت الأمراء إلى بيوتها. وكانت مدة سلطنته إحدى عشرة سنة وشهرين وأربعة وعشرين يوما، وعمره نحو سبعين سنة. وترك ثلاثة أولاد ذكورا أشهر وأياماً: وهم الملك الأشرف خليل الذي ملك بعده، والملك الناصر محمد وملك أيضاً، والأمير أحمد وقد مات في سلطة أخيه الأشرف. وترك من البنات ابنتين: وهما ألتطمش وتعرف بدار مختار وأختها دار عنبر، وزوجة واحدة وهي أم الناصر محمد. وناب عنه بمصر الأمير عز الدين أيبك الأفرم ثم استعفي، فاستقر بعده حسام الدين طرنطاي حتى مات السلطان. وكان نائبة بدمشق بعد سنقر الأشقر الأمير حسام الدين لاجين السلاح دار المعروف بالصغير، ونوابه بحلب الأمير جمال الدين أقش الشمسي، فلما مات جمال الدين استقر الأمير علم الدين سنجر الباشقردي، وصرف بالأمير قراسنقر الجوكندار. وناب عنه بحصن الأكراد بلبان الطباخي، وبصفد علاء الدين الكبكي، وبالكرك أيبك الموصلي ثم بيبرس الدودار. ووزر له الصاحب برهان الدين خضر السنجاري مرتين، وفخر الدين إبراهيم بن لقمان، ونجم الدين حمزة الأصفوني، وقاضي القضاة تقي الدين عبد الرحمن ابن بنت الأعز، ثم الأمير علم الدين سنجر الشجاعي وكان يلي شد الدواوين. فإذا لم يكن في الدولة وزير تحدث في الوزارة، ثم استقل بالوزارة بعد الأصفواني، وكان جباراً عسوفاً مهيباً يجمع المال من غير وجهه، فكرهه كل أحد وتمنوا زوال دولة المنصور من أجله ثم الأمير بدر الدين بيدرا، ومات المنصور وبيدرا وزير. وبلغت عدة ممالكيه اثنا عشر ألف مملوك، وقيل سبعة آلاف وهو الصحيح. تأمر منهم كثير، وتسلطنت جماعة. وكان قد أفرد من مماليكه ثلاثة آلاف وسبعمائة من الآص والجركس، وجعلهم في أبراج القلعة وسماهم البرجية. وكان جميل الصورة مهيباً، عريض المنكبين قصير العنق، فصيحاً بلغة الترك والقبجاق، قليل المعرفة بالعربية.
السلطان صلاح الدين خليل ابن الملك المنصور
السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل ابن الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفي الصالحي النجمي جلس على تخت الملك بقلعة الجبل يوم الأحد سابع ذي القعدة سنة تسع وثمانين وستمائة، وجدد العسكر له الحلف في يوم الاثنين ثامنه.
وطلب السلطان الملك الأشرف من القاضي فتح الدين بن عبد الظاهر تقليده بولاية العهد، فأخرجه إليه مكتوبا بغير علامة الملك المنصور. وكان ابن عبد الظاهر قد قدمه إليه ليعلم عليه فلم يرض، وتكرر طلب الأشرف له، وابن عبد الظاهر يقدمه والمنصور يمتنع إلى أن قال له: يا فتح الدين أنا ما أولي خليلا على المسلمين فلما رأي الأشرف التقليد بغير علامة قال: يا فتح الدين إن السلطان امتنع أن يعطيني، وقد أعطاني الله، ورمي إليه التقليد، فما زال عند ابن عبد الظاهر.(1/257)
ثم إن الأشرف خلع على سائر أرباب الدولة، وركب بشعار السلطنة في يوم الجمعة ثاني عشره بعد الصلاة، وسير إلى الميدان الأسود تحت القلعة بالقرب من سوق الخيل والأمراء والعساكر في خدمته. وعاد إلى القلعة قبل العصر مسرعا، فإنه بلغه أن الأمير حسام الدين طرنطاي يريد الفتك به إذا قرب من باب الإصطبل. فلما سير أربعة ميادين، وقد وقف طرنطاي ومن وافقه عند باب سارية، وحاذي السلطان باب الإسطبل، وفي الظن إنه يعطف إلى نحو باب سارية ليكمل التيسير على العادة، حرك فرسه يريد القلعة وعبر من باب الإسطبل، فساق طرنطاي بمن معه سوقا حثيثا ليدركه ففاته. وبادر الأشرف بطلب طرناي، فمنعه الأمير زين الدين كتبغا أن يدخل إليه وحذره منه، فقال: والله لو كنت نائما ما جسر خليل ينبهني، وغره إعجابه بنفسه وكثرة أيام سلامته، ودخل ومعه الأمير زين الدين كتبغا. فعندما وصل إلى حضرة الأشرف قبض عليه وعلى كتبغا وسجنا، وقتل طرنطاي في يوم الإثنين خامس عشره وقيل يوم الخميس ثامن عشره بعد عقوبة شديدة، وترك بعد قتله في مجلسه ثمانية أيام، ثم أخرج ليلة الجمعة سادس عشريه في حصير على جنوية إلى القرافة، فغسل بزاوية أبي السعود وكفنه شيخنا صدقة عنه، ودفنه بظاهر الزاوية ليلا. فلما تسلطن كتبغا نقله إلى مدرسته بالقاهرة ودفنه بها، وهو إلى اليوم هناك.
وكان سبب قتله كراهة الأشرف له من أيام أبيه، فإن طرنطاي كان يطرح جانب الشرف، ويهين نوابه ومن ينسب إليه، ويرجح أخاه الملك الصالح عليه. و لم يتلاف ذلك بعد موت الصالح، بل جري على عادته في إهانة من ينسب إليه، وأغري الملك المنصور بشمس الدين السلعوس ناظر ديوان الملك الأشرف حتى ضربه وصرفه. ثم وشي به إلى الأشرف أنه يريد القبض عليه عند ركوبه إلى الميدان، ويقال إنه لما دخل عليه وجد لابساً عدة الحرب، وعندما قبض على طرنطاي نزل الشجاعي - وكان عدوه - إلى داره، وأوقع الحوطة على موجوده، فوجد له من الذهب العين ألف ألف وستمائة ألف دينار مصرية، ومن الفضة سبعة عشر ألف رطل ومائة رطل بالمصري، ومن العدد والقماش والخيول والمماليك والبغال والجمال والغلال، والآلات والأملاك والنحاس المكفت والمطعم والزردخاناه والسروج واللجم، وقماش الطشتخاناه والركاب خاناه والفراش خاناه، والحوائص والبضائع والمقارضات والودائع، والقنود والأعسال ما لا يحصر.
ولما حملت أموال طرنطاي إلى الأشرف قال: من عاش بعد عدوه يوما فقد بلغ المني، وبعد أيام من مقتل طرنطاي سئل ولده الحضور، فلما وقف بين يدي الأشرف إذا هو أعمي، فبكي ومد يده كهيئة السؤال وقال: شيء وذكر أن لأهله أياما ما عندهم ما يأكلون، فرق له السلطان، وأفرج عن أملاك طرنطاي، وقال: تبلغوا بريعها.
وفيه ولي شرف الدين الحسين بن قدامة في قضاء الحنابلة بدمشق، بعد موت نجم الدين أحمد بن قدامة، وتحدث الأمير علم الدين سنجر الشجاعي في النيابة بعد طرنطاي، من غير أن يخلع عليه، ولا كتب له تقليد النيابة، ثم استقر في نيابة السلطنة الأمير بدر الدين بيدرا، وخلع عليه.
وفي تاسع عشر ذي القعدة: طلب الأمير سنقر الأعسر شاد الدواوين بالشام، فحضر في ذي الحجة، فأمر الأشرف بضربه فعوقب مراراً. واستقر عوضه سيف الدين طوغان المنصوري، وأعيد تقي الدين توبة إلى وزارة الشام، فأوقع الحوطة على موجود سنقر الأعسر.
وفيه أحضر الأمير بدر الدين بكتوت العلائي من حمص إلى القاهرة، وتوجه الأمير حسام الدين سنقر الحسامي بتقليد الأمير حسام الدين لاجين نائب الشام واستمراره على عادته، فوصل في ثامن عشره.
وفي هذه السنة: أكثر السلطان من تفرقة الأموال، وأبطل عدة حوادث، ومنها ما كان قد تجدد على الغلة ببلاد الشام، وسامح ما تأخر من البراقي بأرض مصر والشام.
ومات فيها من الأعيان
قاضي الحنابلة بدمشق نجم الدين أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن الشيخ أبي عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، عن نحو أربعين سنة بدمشق.
وتوفي قاضي الشافعية بحلب مجد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عبد الرحمن بن مكي عن أربع وستين سنة بدمشق.
وتوفي رشيد الدين أبو حفص عمر بن إسماعيل ابن مسعود الفارقاني الشافعي، عن تسعين سنة، خارج دمشق مخنوقا.
وتوفي عز الدين أبو محمد عبد العزيز بن أحمد بن سعيد الدميري الديريني الشافعي.(1/258)
وتوفي فخر الدين أبو الطاهر إسماعيل بن على بن محمد بن عبد الواحد بن القضاة، بدمشق عن ستين سنة.
وتوفي المحدث شمس الدين محمد بن عبد الرزاق بن أبي بكر بن المحدث الرسعني الحنبلي، غريقاً بنهر الأردن، وهو عائد من مصر لدمشق، عن ثمان وستين سنة.
وفيها كانت حرب بين أمير الركب الفارقاني وبين أهل مكة عند ورود الثنية، قتل فيه رجل من بني حسن، ثم قدم أبو خرص يبشر بسلطة الأشرف خليل، فكانت وقعة أخرى بعد الحج، فبادر الحجاج إلى الرحيل وخرجوا سالمين.
سنه تسعين وستمائة
في سادس المحرم: أفرج عن الملك العزيز فخر الدين عثمان بن المغيث فتح الدين عمر بن العادل أبي بكر بن الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب، وكان قد اعتقله الملك الظاهر بيبرس في رابع عشر ربيع الأول سنة تسع وستين، فأقام في الاعتقال عشرين سنة وتسعة أشهر واثنين وعشرين يوما، ورتب الأشرف له ما يقوم بحاله، ولزم داره واشتغل بالمطالعة والنسخ، وانقطع عن السعي إلا للجمعة أو الحمام أو ضرورة لا بد منها.
وفيه كتب الأشرف إلى شمس الدين محمد بن السلعوس وهو بالحجاز كتابا، وكتب بخطه بين الأسطر: يا شقير يا وجه الخير عجل السير فقد ملكنا، فلما أتاه الكتاب وهو عائد من الحج انضم الناس إليه، وتوددوا له وبالغوا في إكرامه، حتى وصل قلعة الجبل يوم عاشوراء.
وكان الأمير سنجر الشجاعي قد تحدث في الوزارة منذ تسلطن الأشرف، من غير أن يخلع عليه ولا كتب له تقليداً، فلما كان يوم الخميس ثاني عاشره استقر ابن السلعوس في الوزارة، وخلع عليه وفوض إليه سائر أمور الدولة، وجرد معه عدة من المماليك السلطانية يركبون في خدمته ويترجلون في ركابه، ويقفون بين يديه ويمتثلون أمره فتمكن تمكنا لم يتمكنه وزير قبله في الدولة التركية، وصار إذا أراد الركوب إلى القلعة اجتمع ببابه نظار الدولة ومشد الدواوين ووالي القاهرة ومصر، ومستوفو الدولة ونظار الجهات ومشدو المعاملات، ونحوهم من الأعيان، ثم يحضر قضاة القضاة الأربعة وأتباعهم فإذا تكامل الجميع ببابه دخل إليه حاجبه وقال: أعز الله مولانا الصاحب، قد تكمل الموكب، كان علامة تكملة الموكب ببابه حضور القضاة الأربعة، فيخرج حينئذ ويركب والناس سائرون بين يديه على طبقاتهم ومقربهم إليه قاضي القضاة الشافعي وقاضي القضاة المالكي، ومسيرهما معا بين يديه أمام فرسه، وقدام المذكورين قاضي القضاة الحنفي وقاضي القضاة الحنبلي، ثم نظار الدولة ثم المستوفون بالدولة ثم نظار الجهات على قدر مراتبهم، فلا يزالون حتى يستقر بمجلسه من قلعة الجبل فينصرف القضاة، ثم يعودون عشية النهار إلى القلعة، ويركبون معه إلى أن يصل داره.
واتفق ليلة إنه تأخر في القلعة إلى عشاء الآخرة وأغلق باب القلعة، فانقلب الموكب إلى جهة باب الإسطبل، ووقف القضاة على بغلاتهم بظاهر باب الإسطبل حتى خرج وساروا في خدمته إلى داره و لم يجسر أحد أن يتأخر قط عن الركوب في موكبه، وكان مع ذلك لا ينتصب قائماً لأحد، ولما عظم موكبه وصار الأكابر يزدحمون في طول الشارع بالقاهرة، ويضيق بهم لكثرة من معه، وتزدحم الغلمان أيضاً، تحول من القاهرة وسكن بالقرافة، وتعاظم في نفسه واستخف بالناس، وتعدي طور الوزراء، فكان أكابر الأمراء يدخلون إلى مجلسه فلا يستكمل قائماً لأحد منهم، ومنهم من لا يلتفت إليه، وإذا استدعى أميراً قال: فلان أمير جاندار، أو فلان الأستادار باسمه من غير نعته، ثم ترقي حتى استخف بنائب السلطنة الأمير بيدرا، وعارضه وتحدث فيما يتحدث فيه، فلم يقدر على إظهار الغضب لما يعلم من ميل السلطان إليه.(1/259)
واتفق أنه قام يوما من مجلس الوزارة بالقلعة يريد الدخول إلى الخزانة، فصادف خروج الأمراء من الخدمة مع النائب بيدرا، فبادر الأمراء الأكابر إليه وخدموه وقبل بعضهم يده، وفسحوا بأجمعهم له وهموا بالمشي قدامه، فأشار إليهم أن ينصرفوا، فلما وطئ عتبة باب القلعة برجله وافي هناك الأمير بيدرا، وسلم كل منهما على الآخر وأومأ بالخدمة، إلا أن النائب بيدرا خدم الوزير أكثر مما خدمه الوزير، فرجع بيدرا معه و لم يكن يسامته في المشي، بل كان النائب يتقدم قليلا ويميل بوجهه إليه إذا حدثه الوزير، حتى انتهيا إلى باب الخزانة، فأمسك ابن السلعوس بيد بيدرا النائب، وأشار إليه بالرجوع، وقال: بسم الله يا أمير بدر الدين ولم يزده على ذلك.
وفي هذا الشهر: قدمت رسل عكا يسألون العفو، فلم يقبل منهم ما اعتذروا به، وقدم أمراء العربان من كل جهة: فقدم الأمير مهنا بن عيسي أمير آل فضل وسابق الدين عبية أمير بني عقبة، وقدما التقادم، فأنعم عليهم جميعاً: وأعيدوا، وقدم الملك المظفر صاحب حماة، فحمل إليه ما جرت به العادة، وكتب تقليده.
وفي يوم الجمعة سابع صفر: قبض على الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، والأمير جرمك الناصري، وعد على سنقر الأشقر إنه أفشي سر طرنطاي حتى قبض عليه، بعدما أحسن إليه طرنطاي غاية الإحسان، ومنع الملك المنصور من القبض عليه مرارا، فلم يرع له ذلك.
وفيه أفرج عن الأمير كتبغا وأعيد إلى إمرته، وأنعم عليه إنعاما زائداً.
وفي هذا الشهر: شرع السلطان في الاهتمام بفتح عكا، وبعث الأمير عز الدين أيبك الأفرم أمير جاندار إلى الشام لتجهيز أعواد المجانيق، فقدم دمشق في سلخه وجهزت أعواد المجانيق من دمشق، وبرزت في أول ربيع الأول وتكاملت في ثاني عشره، وسار بها الأمير علم الدين سنجر الدواداري أحد أمراء الشام، ثم فرقت على الأمراء مقدمي الألوف، فتوجه كل أمير ومضافيه بما أمر بنقله منها، وتوجه الأمير حسام الدين لاجين نائب الشام بالجيش من دمشق في العشرين منه، وخرج من القاهرة الأمير سيف الدين طغريل الأيغاني إلى استنفار الناس من الحصون بممالك الشام: فوصل المظفر صاحب حماة إلى دمشق في ثالث عشريه، بعسكره وبمجانيق وزردخاناه، ووصل الأمير سيف الدين بلبان الطباخي نائب الفتوحات بعساكر الحصون وطرابلس، وبالمجانيق والزردخاناه في رابع عشريه، وسار جميع النواب بالعساكر إلى عكا.
وأما السلطان الملك الأشرف، فإنه لما عزم على التوجه إلى عكا، أمر فجمع العلماء والقضاة والأعيان والقراء بالقبة المنصورية، بين القصرين من القاهرة عند قبر أبيه، في ليلة الجمعة ثامن عشري صفر، فباتوا هناك وعمل مهم عظيم، وحضر الأشرف بكرة يوم الجمعة إلى القبة المنصورية، وتصدق بجملة كبيرة من المال والكساوي، وفرق على القراء والفقراء مالاً كثيراً، وفرق في أهل المدارس والزوايا والخوانك والربط مالاً وثيابا، وعاد إلى القلعة.
وفي يوم الثلاثاء ثالث ربيع الأول: توجه السلطان بالعساكر يريد أخذ عكا، وسير حريمه إلى دمشق فوصلوا إليها في سابع ربيع الآخر، وسار السلطان فنزل عكا في يوم الخميس ثالث ربيع الآخر، ووصلت المجانيق يوم ثاني وصوله وعدتها اثنان وتسعون منجنيقاً، فتكامل نصبها في أربعة أيام، وأقيمت الستائر ووقع الحصار، وقد أتت جمائع الفرنج إلى عكا أرسالاً من البحر، صار بها عالم كبير، فاستمر الحصار إلى سادس عشر جمادى الأولى، وكثرت النقوب بأسوار عكا، فلما كان يوم الجمعة سابع عشره عزم السلطان على الزحف، فرتب كوساته على ثلاثمائة جمل، وأمر أن تضرب كلها دفعة واحدة، وركب السلطان وضربت فهال ذلك أهل عكا، وزحف بعساكره ومن اجتمع معه قبل شروق الشمس، فلم ترتفع الشمس حتى علت الصناجق الإسلامية على أسوار عكا، وهرب الفرنج في البحر وهلك منهم خلق كثير في الازدحام، والمسلمون يقتلون ويأسرون وينهبون فقتلوا ما لا يحصي عده كثرة، وأخذوا من النساء والصبيان ما يتجاوز الوصف، وكان عند فتحها أن أقبل من الفرنج نحو عشرة آلاف في هيئة مستأمنين، ففرقهم السلطان على الأمراء فقتلوهم عن آخرهم.(1/260)
وكانت مدة حصار عكا أربعة وأربعين يوما، واستشهد من المسلمين الأمير علاء الدين كشتغدي الشمسي ودفن بجلجولية، وعز الدين أيبك العزي نقيب العساكر، وسيف الدين أقمش الغتمي، وبدر الدين بيليك المسعودي، وشرف الدين قيران السكزي، وأربعة من مقدمي الحلقة وجماعة من العسكر.
وفي يوم السبت ثامن عشره: وقع الهدم في مدينة عكا، فهدمت الأسوار والكنائس وغيرها وحرقت، وحمل كثير من الأسري بها إلى الحصون الإسلامية.
وفتحت صور وحيفا وعثليث وبعض صيدا بغير قتال، وفر أهلها خوفا على أنفسهم، فتسلمها الأمير علم الدين سنجر الشجاعي في بقيه جمادى الأولى، فقدمت البشائر بتسليم مدينة صور في تاسع عشره، وبتسليم صيدا في العشرين منه، وأن طائفة من الفرنج عصوا في برج منها، فأمر السلطان بهدم صور وصيدا وعثليث وحيفا، فتوجه الأمير شمس الدين نبا الجمقدار ابن الجمقدار في حادي عشريه لهدم صور، واتفق أمر عجيب. وهو أن الفرنج لما قدموا إلى صور كان بها عز الدين نبا واليا عليها من قبل المصريين، فباع صور للفرنج بمال، وصار إلى دمشق، فقدر الله خرابها على يد الأمير شمس الدين نبا بن الجمقدار واتفق أيضاً أن الشيخ شرف الدين، البوصيري رأي في منامه قبل أن يخرج الأشرف إلى عكا قائلا ينشده:
قد أخذ المسلمون عكا ... وأشبعوا الكافرين صكا
وساق سلطاننا إليهم ... خيلا تدك الجبال دكا
وأقسم الترك منذ سارت ... لا تركوا للفرنج ملكا
فأخبر بذلك جماعة، ثم سار الأشرف بعد ذلك وفتح عكا وخربها، لم يدع في بقية الساحل أحداً من الفرنج، وقال محيي الدين بن عبد الظاهر في ذلك:
يا بني الأصفر قد حل بكم ... نقمة الله التي لا تنفصل
قد نزل الأشرف في ساحلكم ... فأبشروا منه بصفع متصل
وقد أكثر الشعراء في ذكر هذا الفتح، وقال الشهاب محمود الحلبي كاتب الإنشاء لما عاين في جوانب عكا، وقد تساقطت أركانها:
مررت بعكا بعد تخريب سورها ... وزند أوار النار في وسطها واري
وعاينتها بعد التنصر قد غدت ... مجوسية الأبراج تسجد للنار
وقال ابن ضامن الضبع بعكا:
أدمي الكنائس إن تكن عبثت بكم ... شم الأنوف جحاجح أبطال
فلطالما سجدت لكن فوارض ... الليالي أو تغير حال
فعزاء عن هذا المصاب فإنه ... يوم بيوم والحروب سجال
هذا بذاك ولا نعير دهرنا ... ولكل دهر دولة ورجال
وفي هذه المدة وشي الأمير علم الدين سنجر الحموي المعروف بأبي خرص إلى السلطان بالأمير حسام الدين لاجين نائب الشام، ثم أوهم لاجين بأن السلطان يريد القبض عليه، فركب لاجين من الوطاق بعكا ليلا يريد الفرار، فساق خلفه الأمير علم الدين سنجر الدواداري وأدركه، وقال له: بالله لا تكن السبب في هلاك المسلمين، فإن الناس قد أشرفوا على أخذ عكا، وإن بلغ الفرنج فرارك، وأن العسكر قد ركب خلفك قويت نفوسهم وفتر الحصار فرجع معه وظن أن الأمر لا يبلغ السلطان، وكان ذلك في ثامن جمادى الأولى، فلما كان في صبيحة هذه الليلة خلع السلطان عليه وطيب خاطره، ثم قبض عليه في ثاني يوم الخلعة، وبعثه إلى قلعة صفد ثم حمل إلى قلعة الجبل بمصر.
ورحل السلطان إلى دمشق، فدخلها في ثاني عشر جمادى الآخرة، وقد زينت دمشق منذ فتحت عكا فكان يوما عظيما.(1/261)
وفيه استقر الأمير علم الدين سنجر الشجاعي في نيابة دمشق، وزاد السلطان في إقطاعه وراتبه عما كان لنواب الشام، وأذن له أن يطلق من الخزائن ما أراد من غير مشاورة، وجعل له في كل يوم ثلاثمائة درهم على دار الطعم، واستقر أيضاً الأمير جمال الدين أقش الأشرفي في نيابة الكرك، عوضاً عن ركن الدين بيبرس، ونقل بيبرس إلى إمرة بمصر، وقبض أيضاً على الأمير علم الدين سنجر أرجواش نائب قلعة دمشق، وضرب بحضرة السلطان ضرباً كثيراً، وألبس عباءة واستعمل مع الأسري في العمل، وأخرق به وأهين إلى الغاية، ووقعت الحوطة على موجوده، ثم حبس بالقلعة، ثم حمل على البريد إلى مصر، ثم رد من أثناء الطريق بشفاعة بعض الأمراء وأفرج عنه، ثم أعيد لنيابة القلعة، وسبب هذا أن الأمير شرف الدين بن الخطير كان يمزح بحضرة السلطان مع الأمراء، ويومئ إليه السلطان بذلك فيحتمل منه ما يتكلم به، وكان أرجواش على النمط الأول من البعد عن المجون، فقال له ابن الخطير وهو واقف بين يدي الأشرف: يا مولانا السلطان كان عند والدك الملوك ببلاد الروم حمار أشهب أعور، أشبه شيء بهذا الأمير علم الدين أرجواش فضحك الأشرف، وغضب أرجواش وقال: هذه صبيانية فحنق منه الأشرف وعمل ما ذكر.
وفي ثامن عشره: عزل طوغان عن شد الدواوين بدمشق، وعيد إلى ولاية البر، واستقر سنقر الأعسر في شد الدواوين بدمشق.
وفي ثاني رجب: عزل تقي الدين توبة عن وزارة دمشق، واستقر فيها محيي الدين ابن النحاس، ومنع أن يقال له وزير ولكن ناظر الشام.
وفي ثامن عشره: استقر شرف الدين أحمد بن عيسي بن السيرجي في حسبة دمشق، وعزل تاج الدين بن الشيرازي.
وفي يوم الأربعاء تاسع عشره: سار السلطان من دمشق إلى مصر، فدخل إلى القاهرة من باب النصر في بكرة يوم الإثنين تاسع شعبان، وخرج من باب زويلة إلى القلعة وقد زينت قبل وصوله بأيام، فكانت زينة لم يسمع بمثلها، وكثر سرور الناس ولعبهم.
وكان الأمير سنجر الشجاعي نائب الشام قد سار في رابع رجب إلى صيدا، وحاصر البرج حتى فتحه في خامس عشره، وعاد إلى دمشق يوم رحيل السلطان منها، ثم توجه إلى بيروت، فتلقاه أهلها طائعين فنزل بقلعتها، وقبض على الرجال وقيدهم وألقاهم في الخندق، وافتتحها في ثالث عشري رجب، وعاد إلى دمشق في سابع عشري رمضان، و لم يبق في جميع الساحل من الفرنج أحد.
وفي شعبان: أوقف الملك الأشرف على القبة المنصورية بين القصرين من قري عكا الكابرة وتل الميشوح وكردانة، ومن ساحل صور معركة وصريفين، وأوقف أيضاً على المدرسة الأشرفية بجوار السيدة نفيسة قرية الفرح من عكا، وقرية شعر عمر وقرية الحمراء منها، ومن ساحل صور قرية طبرية.
وفي ثامن عشره: أفرج السلطان عن الأمير بدر الدين بيسري الشمسي الصالحي، وكان السلطان الملك المنصور قلاوون قد اعتقله في أوائل دولته كما تقدم ذكره، فأفرج الأشرف عنه، وكتب إفراجه وجعل في كيس حرير أصفر، وختم عليه بخاتم السلطان، وتوجه به إلى الجب الأمير بدر الدين بيدرا النائب والأمير زين الدين كتبغا وعدة من الأمراء، وأخرجوه وقرءوا عليه الإفراج، وأحضروا تشريفة وهموا بكسر قيده، فقال: لا يفك القيد من رجلي، ولا ألبس التشريف، إلا بعد أن أتمثل بين يدي السلطان وصمم على ذلك فأعلم السلطان به، فأمر بإحضاره بعد فك قيده وهو بملبوسه الذي عليه في الجب، فكسر حينئذ قيده ومشي إلى السلطان، فلما عاينه قام إليه وأكرمه وألبسه التشريف وأجلسه بجانبه، وأنعم عليه بالأموال وأنواع الثياب، وأعطاه في مجلسه إمرة مائة فارس، وعين له إقطاعا وافرا: منه منية بني خصيب دربستا بجواليها ومواريثها الحشرية ونزل إلى داره، فصار ينتسب إلى الملك الأشرف ويكتب بيسري الأشرفي، بعدما كان يكتب الشمسي.
وفي رابع رمضان: أفرج عن الأمير الدين شمس سنقر الأشقر، والأمير حسام الدين لاجين الصغير نائب الشام، والأمير ركن الدين بيبرس طقصوا، والأمير شمس الدين سنقر الطويل، وأمروا على عادتهم، وقبض على الأمير علم الدين سنجر الدواداري بدمشق، وحمل إلى قلعة الجبل مقيدا، فوصل في سابع عشره.
وفي هذا الشهر: عزم السلطان على صرف قاضي القضاة تقي الدين عبد الرحمن ابن بنت الأعز عن وظيفة القضاء وسائر ما بيده من المناصب، بكثرة حط الوزير ابن السلعوس عليه.(1/262)
وخرج البريد في يوم تاسع رمضان بطلب بدر الدين محمد بن إبراهيم بن سعد الله ابن جماعة خطيب القدس، ليلي القضاء بمصر وكان السبب في طلبه أن ابن بنت الأعز لما عزل استدعى السلطان أعيان الفقهاء الشافعية بمصر والقاهرة، وجعل كل واحد في مكان فلم يعلم واحد منهم بالبقية، وأحضرهم واحدا واحدا وسأله عن الجماعة من يصلح فيهم لولاية القضاء، فما منهم إلا من أساء القول في أصحابه ورماه بما لا يليق فانصرفوا وقد انكف السلطان عن ولايتهم، وأعلم وزيره ابن السلعوس بما قال بعضهم في حق بعض من الفحش، فأشار السلعوس عليه بولاية ابن جماعة خطيب القدس لصحبة تقدمت له معه، فوصل إلى القاهرة في يوم الإثنين رابع عشره، وأفطر عند الوزير وبالغ الوزير في خدمته، وسار في موكبه يوم الخميس سابع عشره إلى القلعة ودخل به على السلطان، فعزل ابن بنت الأعز، وولي ابن جماعة قضاء القضاة، وفوض إليه تدريس المدرسة الصالحية بين القصرين وخطابة الجامع الأزهر، فكتم ابن جماعة الولاية وأفطر ليلة الجمعة عند الوزير، فصار يخاطبه بقاضي القضاة، وأعلن بعزل ابن بنت الأعز فهنأ الناس ابن جماعة، وعندما خرج ابن جماعة من دار الوزير وصل إليه التقليد مع ابن عز الدين الحنبلي بالخلعة فلما أصبح يوم الجمعة ثامن، عشره لبس الخلعة، ومشي الشهود في خدمته فركب بالخلعة إلى دار الوزير وخدمه ثم سار إلى منزله وركب إلى الجامع الأزهر بالخلعة، فخطب وصلي بالناس وعاد إلى منزله، ثم تحول إلى الصالحية يوم الجمعة خامس عشريه، ودرس بالصالحية في يوم الأحد ثاني عشري شوال وكان درساً حفلا ويوماً مشهوداً.
وأما ابن الأعز فإن الأمير علم الدين سنجر الشجاعي دخل به إلى السلطان وقرر معه أن يوليه قضاء الشام، فلما شعر بذلك ابن السلعوس خشي أن يبقي له حاله فيتمكن بها في الدولة فرتب له عدة من الناس ليثوروا به. فلما جلس السلطان بدار العدل رسم لابن سعلوس أن يجهز ابن بنت الأعز قاضياً في دمشق، ويعني بتشريفه ويكتب تقليده فما انفصل مجلس دار العدل حتى أحضر الشريف ابن ثعلب وادعي على ابن بنت الأعز بما قرره معه الوزير ابن السلعوس قبل ذلك، وكان قد جهز آخر إلى أن يفتي بتعزيزه وآخر ليشهد بفسقه. فانتدب السلطان لمرافعته جماعة، ورموه بعظائم بغياً منهم وعدواناً من تحت ثيابه، وأنه نصراني وما زال، حتى رسم السلطان أن يركب حماراً ويشهر. فقبض عليه الوزير ونكل به ورسم عليه وطالبه بمال كثير وشنع في إهانته وأراد ضربه فحماه الله منه.
ومازال ابن بنت الأعز في الإهانة إلى أن أخذ يوماً بالترسيم إلى القلعة وهو ماش والأعوان تحتاطه، فرأي ثلاثة من خواص الأمراء نازلين من القلعة، فقال لهم: يا أمراء أما تنظرون في حالي وما أنا فيه من الإهانة مع هؤلاء الرسل؟ فساءهم ذلك وجردوا دبابيسهم وحطموا يريدون ضرب الرسل، وقالوا: قاضي القضاة ماش، وأنتم ركاب؟ فقالوا: الصاحب أمرنا بهذا، ما لنا ذنب ولا نريد هذا الفعل فشق عليهم ما رأوا وعادوا إلى السلطان، وألقوا سيوفهم وقالوا: يا خوند قد بلغ الأمر من حال قاضي القضاة أن يمشي والرسل ركاب وذكروا ما هو فيه من الإهانة، فقال لهم السلطان: يستأهل أكثر من هذا، لأنهم قالوا عنه إنه كافر يشهد الزنار من تحت ثيابه. فقالوا: يا خوند إن كان قاضي القضاة كافراً فابن السلعوس مسلم، إما تهبه لنا، وإما تمكنا من ابن السلعوس، وإما أن تنفينا.
وكان الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح له عناية به أيضاً، فتحدث مع الأمير بيدرا النائب، وكان بيدرا بينه وبين ابن بنت الأعز شحناء، فقال بيدرا لبكتاش: تحدث مع السلطان في أمر سنجر الحموي أبي خرص أن يطلقه، وأنا أشفع في ابن بنت الأعز! فاتفقا على ذلك، وشفع بيدرا في ابن بنت الأعز، وشفع بكتاش في أبي خرص، فأفرج السلطان عنهما معا.(1/263)
ولزم ابن بنت الأعز في داره، و لم يترك بيده شيء من الوظائف، وكان بيده سبعة عشر منصبا وهي قضاء القضاة بديار مصر كلها وخطابة الجامع الأزهر، ونظر الخزانة، ونظر الأحباس، ومشيخة الشيوخ، ونظر التركة الظاهرية بيبرس وأولاده وأوقافه وأملاكه، وعدة تداريس، وكان عندما عزل قد رسم عليه في شوال، وألزم بالإقامة في زواية الشيخ نصر المنبجي خارج القاهرة حتى قام بما قرر عليه من المال، بعدما باع ورهن واقترض، ثم انتقل إلى القرافة إلى أن تحدث له الأمير بدر الدين بيدرا في تدريس المدرسة الناصرية بجوار ضريح الإمام الشافعي، فوليه وتحول إلى المدرسة المذكورة، فكان هذا سببا لمحنته الثانية، ويقال إنه حمل من جهته مبلغ ثمانية وثلاثين ألفا.
وفي خامس عشري رمضان: أفرج السلطان عن الخليفة الحاكم بأمر الله أحمد بن الأمير أبي على الفتي بن الأمير أبي بكر بن الإمام المسترشد بالله العباسي، ورسم له أن يخطب في يوم الجمعة، فخطب يوم الجمعة رابع عشر شوال، فخرج بسواده وهو متقلد سيفا محلي، وخطب بجامع القلعة وذكر الخطبة التي خطب بها في أيام الملك الظاهر بيبرس وهي من إنشاء شرف الدين وإلا إنه ذكر فيها الملك الأشرف، وكان بين الخطتين مدة ثلاثين سنة وتسعة أشهر وثلاثة وعشرين يوما، فلما فرغ من الخطبة لم يصل بالناس، وقدم قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة فصلي بهم صلاة الجمعة، واستمر الخليفة يخطب بجامع القلعة، واستناب عنه بالجامع الأزهر صدر الدين عبد البر بن قاضي القضاة تقي الدين محمد بن رزين.
وفي تاسع شوال: قبض على الأمير سيف الدين قرا رسلان المنصوري والأمير جمال الدين أقوش الأفرم بدمشق، واعتقلا بقلعتها، وأقطع عز الدين أزدمر العلائي إقطاع قرا رسلان، وسنقر المساح إقطاع الأفرم.
وفي ليلة الاثنين رابع ذي القعدة: عمل ختم بالقبة المنصورية، حضره الأمير بيدرا النائب والوزير شمس الدين بن السلعوس، ونزل إليه السلطان والخليفة بكرة يوم الإثنين، فخطب وعليه سواده خطبة بليغة حرض فيها على أخذ العراق، وكان يوماً مشهوداً، فرقت فيه صدقات وكتب إلى نائب الشام بعمل ختم، فاجتمع الناس في ليلة الثلاثاء حادي عشره بالميدان الأخضر خارج دمشق وختموا القرآن، وحضر الوعاظ والأعيان.
وفي هذا الشهر: قبض بدمشق على الشيخ سيف الدين الرجيجي وهو من أولاد الشيخ يونس، وحمل إلى قلعة الجبل على البريد.
وفي هذه السنة: كملت عمارة قلعة حلب، وكتب عليها اسم الملك الأشرف.
وفيها أخرج بولدي الملك الظاهر بيبرس، وهما المسعود نجم الدين خضر والعادل بدر الدين سلامش من الاعتقال، ونفيا إلى ملك الفرنج فسار بهما - ومعهما والدتهما - الأمير عز الدين أيبك الموصلي الأستادار إلى الإسكندرية، وحملهم في البحر إلى القسطنطينية، فلما وصلوا أكرمهم الأشكري متملكها وأجري عليهم ما يقوم بهم، وكانت حرمهم معهم.
وفيها كملت عمارة قلعة حلب، وكان الأمير قرا سنقر نائب حلب قد شرع في عمارة حلب، فأحكم بنيانها وأدار سورها وأقام شعائر جامعها، وكان لها منذ خربها هولاكو ثلاث وثلاثين سنة خراباه ووقع الشروع في عمارة دمشق من شوال، فبنيت بها الأدر السلطانية والطارمة والقبة الزرقاء، وتوفي ذلك الأمير علم الدين سنجر الشجاعي وبالغ في تحسينها، فكانت جملة ما عمل في سقوفها أربعة آلاف مثقال ذهب.
وفيها لم يحج الشريف أبو نمي خوفاً من المصريين.
وفي شهر ربيع الأول منها: مات ملك الططر بفارس، وهو أرغون بن أبغا بن هولاكو بن طلو بن جنكزخان، وملك بعده أخوه كيختو بن أبغا، وترك أرغون ولدين وهما قازان وخربندا، وكانا بخراسان فأفحش كيختو في الفسق بنسوان المغل واللواط بولدانهم، حتى أبغضته رعيته وفيها مات قتيلا تلابغا بن منكوتمر بن طوغان، قتله نغيه بن معل بن ططر بن دوشي خان بن جنكزخان. وقام بعده في الملك طقطغا بن منكوتمر بن طوخان، وهو ابن عم تلابغا، فرتب نغيه إخوة طقطغا معه، وهم بزلك وصراي بغا وتدان.
ومات في هذه السنة من الأعيان
السلطان الملك العادل سلامش بن الظاهر بيبرس، ببلد اسطنبول عن اثنتين وعشرين سنة ومات القان أرغون بن أبغا بن هولاكو بن طلوي بن جنكزخان، ملك التتار بفارس في ربيع الأول، عن نحو سبع سنين من ملكه، وقام من بعده أخوه كيختو بن أبغا.(1/264)
وتوفي تاج الدين أبو محمد عبد الرحمن بن إبراهيم بن سباع الفزاري الشافعي فقيه الشام، عن ست وستين سنة بدمشق.
وتوفي المسند فخر الدين أبو الحسن على بن أحمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن منصور المعروف ابن البخاري المقدسي السعدي عن أربع وتسعين سنة بدمشق، وقد انفرد بعلو الإسناد.
وتوفي خطيب حلب شمس الدين أبو العباس أحمد بن عبد الله بن الزبير بن أحمد بن سليمان الشيباني الخابوري الشافعي، عن تسعين سنة بحلب.
وتوفي خطيب حماة وفقيهها بدر الدين أبو محمد عبد اللطيف بن محمد بن محمد بن نصر الله بن المغيزل العبدي الحموي بها، عن سبعين سنة، قدم القاهرة.
وتوفي علاء الدين أبو الحسن على بن الكمال أبي محمد عبد الواحد بن عبد الكريم ابن خلف بن نبهان بن الزملكاني الأنصاري الشافعي، بدمشق عن نيف وخمسين سنة.
وتوفي محيي الدين أبو يعلى محمد بن عمر بن عبد المنعم بن عبد الله بن محمد بن عبد الباقي بن أمين الدولة الرعباني الحلبي الحنفي، عن نيف وثمانين سنة بحلب.
وتوفي العفيف أبو الربيع سليمان على بن عبد الله بن على بن ياسين التلمساني العابدي عن ثمانين سنة بدمشق.
وتوفي طبيب الشام عز الدين أبو إسحاق إبراهيم بن نجم بن طرخان الأنصاري الدمشقي، عن تسعين سنة.
وتوفي الأديب شرف الدين عيسي بن فخر الدين أياز بن عبد الله الوالي.
سنة إحدى وتسعين وستمائة
في رابع عشر صفر: وقع حريق في بعض خزائن قلعه الجبل، تلف فيه كثير من الكتب وغيرها.
وفي جمادى عشر ربيع الأول: ختم بالقبة المنصورية. ونزل السلطان وتصدق بمال كثير.
وفي يوم الجمعة تاسع عشريه: خطب الخليفة الحاكم بأمر الله بجامع قلعة الجبل خطة بليغة حث فيها على الجهاد، وصلي بالناس صلاة الجمعة.
وفيه نودي بالنفير للجهاد، وخرج السلطان في الثامنة من يوم السبت ثامن ربيع الآخر بجميع عساكره فورد البريد بأن التتار أغاروا على الرحبة واستاقوا مواشي كثيرة، وخرجت إليهم تجريدة من دمشق.
وفي يوم السبت سادس جمادى الأولى: دخل السلطان إلى دمشق، وأنفق في العساكر يوم الاثنين ثامنه.
وفي نصفه: تزوج الأمير سنقر الأعسر بابنه الصاحب شمس الدين بن السلعوس، على صداق جملته ألف وخمسمائة دينار، المعجل مبلغ خمسمائة دينار.
وفيه وصل الملك المظفر صاحب حماة، وعرض السلطان عساكره، وقدم جيش الشام فسار إلى حلب.
ثم خرج السلطان من دمشق في الخامسة من يوم الإثنين سادس عشره، فدخل حلب في ثامن عشريه، وخرج منها في رابع جمادى الآخرة يريد قلعة الروم فنزل عليها يوم الثلاثاء ثامنه، ونصب عشرين منجنيقا ورمي عليها، وعملت النقوب وعمل الأمير سنجر الشجاعي نائب دمشق سلسلة وشبكها في شراريف القلعة وأوثق طرفها بالأرض، فصعد الأجناد فيها وقاتلوا قتالاً شديداً، ففتح الله القلعة يوم السبت حادي عشر رجب عنوة، وقتل من بها من المقاتلة، وسبي الحريم والصبيان، وأخذ بترك الأرمن وكان بها فأسر. وكانت مدة حصارها ثلاثة وثلاثين يوما، وقد سماها السلطان قلعة المسلمين فعرفت بذلك، وحمل إليها زردخاناه وألفا ومائتي أسير، واستشهد عليها الأمير شرف الدين بن الخطير. فلما وردت البشائر إلى دمشق بفتح قلعة الروم زينت البلد ودقت البشائر، ورتب السلطان الأمير سنجر الشجاعي نائب الشام لعمارة قلعة المسلمين، فعمر ما هدمته المجانيق والنقوب، وخرب ربضها.
وعاد السلطان راجعاً في يوم السبت ثامن عشره، فأقام بحلب إلى نصف شعبان، وعزل قرا سنقر عن نيابة حلب، وولي عوضه الأمير سيف الدين بلبان الطباخي المنصوري، ورتب بها الأمير عز الدين أيبك الموصلي شاد الدواوين ورحل السلطان إلى دمشق، فدخلها في الثانية من بوم الثلاثاء عشري شعبان، وبين يديه بترك الأرمن صاحب قلعة الروم وعدة من الأسري.(1/265)
وفيه خرج الأمير بدر الدين بيدرا نائب السلطنة بديار مصر ومعه معظم العسكر إلى جبال كسروان من جهة الساحل، فلقيهم أهل الجبال وعاد بيدرا شبه المهزوم، واضطرب العسكر اضطرابا عظيما، فطمع أهل الجبال فيهم، وتشوش الأمراء من ذلك وحقدوا على بيدرا ونسبوه أنه أخذ منهم الرشوة. فلما عاد إلى دمشق تلقاه السلطان وترحل له عند السلام عليه، وعاتبه سرا فيما كان منه، فمرض بيدرا حتى أشفي على الموت، وتحدث أنه سقي السم، ثم عوفي وتصدق في رمضان بصدقات جمة، ورد أملاكا اغتصبها لأربابها، وأطلق عدة من سجونه، وجمع الناس في عاشره بجامع بني أمية وعمل مهما لقراءة ختمة كريمة.
وفي خامس عشر شهر رمضان: توفي محيي الدين محمد بن عبد الله بن عبد الظاهر صاحب ديوان الإنشاء، وهو بدمشق، فأجري السلطان معلومه على ولده علاء الدين على، وجعله من جملة كتاب الإنشاء. وأقر السلطان في ديوان الإنشاء تاج الدين أحمد بن سعيد بن محمد بن الأثير التنوخي الحلبي، عوضاً عن ابن عبد الظاهر.
وفيه كثر موتان الجمال حتى حمل الأمراء أثقالهم على الخيل، فأذن السلطان لضعفاء العسكر في العود إلى القاهرة، فساروا من دمشق في ثاني عشريه. وحضر الأمير علم الدين سنجر الدواداري من قلعة الجبل بعدما أفرج عنه، فأنعم عليه بإمرة في ديار مصر.
وفي ليلة عيد الفطر: فر الأمير حسام الدين لاجين الصغير من داره بدمشق، خوفا من السلطان لما بلغه من أنه يريد القبض عليه، فنودي بدمشق من أظهر لاجين فله ألف دينار ومن أخفاه شنق، وركب السلطان في خاصته وترك سماط العيد، وساق في طلب لاجين وأخذ عليه الطريق، ثم عاد بعد العصر في أسوأ حال من التعب، ولم يجد له أثرا فقلق. واتفق أن لاحين نزل على طائفة من العرب، فقبضوه وأحضروه إلى السلطان فاعتقله. وقبض السلطان على الأمير ركن الدين بيبرس طقصوا حمي لاجين، وحمل هو ولاجين إلى قلعة الجبل بمصر.
وفي سادسه: استقر الأمير عز الدين أيبك الحموي في نيابة دمشق، عوضاً عن الشجاعي واستقر الأمير سيف الدين طغريل الإيغاني نائباً بالفتوحات، عوضاً عن بلبان الطباخي بحكم انتقاله إلى نيابة حلب.
وفيه قدم الشجاعي من قلعة المسلمين بعدما عمر ما هدم منها، فشق عليه عزله عن دمشق.
وفي الثلث الآخر من ليلة الثلاثاء تاسعه: خرج السلطان من دمشق عائدا إلى مصر، بعدما رسم لجميع أهل الأسواق أن يخرج كل واحد منهم وبيده شمعة موقودة عند ركوب السلطان، فخرجوا بأجمعهم ورتبوا من باب النصر إلى مسجد القدم، فعندما ركب السلطان أشعلت تلك الشموع دفعة واحدة، فسار بينها حتى نزل مخيمه. ونقل محيي الدين بن النحاس من نظر دواوين دمشق إلى نظر الخزانة، عوضاً عن أمين الدين بن هلال، وأقيم في نظر دواوين دمشق جمال الدين بن إبراهيم بن صصرى، واستقر الأمير شمس الدين قرا سنقر الجوكندار المنصوري مقدم المماليك السلطانية.
وقدم السلطان إلى القاهرة يوم الأربعاء ثاني ذي القعدة، ودخل من باب النصر، وصعد إلى القلعة من باب زويلة. وقد عمل من الزينة والقلاع والتهاني شيء كثير، وأوقد من الشموع ما يجل وصفه، فإن الناس احتفلوا لذلك احتفالا عظيما فاق جميع ما تقدم في معناه. وولي صحابه ديوان الإنشاء عماد الدين إسماعيل بن أحمد بن سعيد ابن محمد بن الأثير بعد وفاة والده، فإن والده لم يقم في كتابة السر إلا نحو شهر، ومات بغزة عند عوده من دمشق في تاسع عشر شوال.
وفي ذي القعدة: ندب الوزير ابن السلعوس العلم ابن بنت العراقي لمرافعة تقي الدين ابن بنت الأعز، وعقد له مجلس وادعي عليه العلم المذكور بعظائم، فاستمر في المحنة بقية السنة.
وفي آخر ذي الحجة: قبض على الأمير شمس الدين سنقر الأشقر، والأمير سيف الدين جرمك الناصري، والأمير سيف الدين الهاروني، والأمير بدر الدين بكتوت، واعتقلوا.
ومات فيها من الأعيان
الملك المظفر قرا أرسلان بن السعيد غازي بن المنصور أرتق بن إيلغازي بن ألبي بن تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق، صاحب ماردين بعدما ملك ثلاثا وثلاثين سنة.
ومات الأمير سنقر الأشقر عن سبعين سنة.
وتوفي كاتب السر فتح الدين أبو عبد الله محمد بن محيي الدين أبي الفضل عبد الله بن عبد الظاهر، عن أربع وخمسين سنة بدمشق.(1/266)
وتوفي كاتب السر تاج الدين أبو العباس أحمد بن. شرف الدين أبي الفضل سعيد ابن محمد بن سعيد بن الأثير الحلبي، بغزة.
ومات مجد الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الطبري المكي الشافعي بالقدس، عن اثنين وستين سنة، قدم القاهرة.
وتوفي كاتب الإنشاء بدمشق سعد الدين أبو الفضل سعد الله بن مروان أبي عبد الله الفارقي، وهو في عشر الستين.
وتوفي كمال الدين أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن عبد المنعم بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن محمد بن عبد الباقي بن أمين الدولة الحلبي بالقاهرة عن سبعين سنة.
وتوفي فخر الدين أبو عمرو عثمان بن خضر بن غزي عامر الأنصاري المصري المؤدب، في جمادى الآخرة وهو في عشر الثمانين، وقد حدث عن ابن باقا ومكرم الفارسي.
وفيها قبض الأمير بكتوت على الشريف راجح بن إدريس من ينبع وحمله إلى مصر وكانت الخطبة بمكة للأشرف خليل إلى آخر ربيع الأول، ثم انقطعت لانقطاع أخبار مصر، فلما قدم الحجاج وهم قليل حج أبو نمي، وقدم حاج الشام في ركبين وكانت جفلة بعرفة وعز الماء، فأبيعت الراوية بأربعة دنانير مكية.
سنة اثنين وتسعين وستمائة
في ليلة أول المحرم: أخرج من في الجب من الأمراء: وهم سنقر الأشقر وجرمك والهاروني وبكتوت وبيبرس وطقصوا ولاجين، وأمر بخنقهم قدام السلطان، فخنقوا بأجمعهم حتى ماتوا. وتولي خنق لاجين الأمير قرا سنقر، فلما وضع الوتر في عنقه انقطع، فقال: " يا خوند مالي ذنب إلا حميي طقصوا وقد هلك، وأنا أطلق ابنته. وكان قرا سنقر له به عناية، فتلطف به ولم يعجل عليه، لما أراد الله من أن لاجين يقتل الأشرف ويملك موضعه، وانتظر أن تقع به شفاعة. فشفع الأمير بدر الدين بيدرا في لاجين، وساعده من حضر من الأمراء، فعفي عنه ظنا أنه لا يعيش، فحمل وكان من أمره ما سيذكره إن شاء الله.
وفي أول المحرم: استقر الأمير عز الدين أيبك الخازندار المنصوري في نيابة طرابلس والحصون، عوضاً عن طغريل الإيغاني، فسار من القاهرة.
وفي رابعه: سار السلطان من قلعة الجبل إلىالصعيد، واستخلف الأمير بيدرا النائب بقلعة الجبل وهو مريض. فانتهي السلطان إلى مدينة قوص ونادي هناك بالتجهيز لغزو اليمن. وكشف الوزير السلعوس الوجه القبلي، فوجد الجاري في ديوان الأمير بيدرا من الجهات عما هو في إقطاعاته، وما اشتراه وما حماة أكثر مما هو جار في الخاص السلطاني، ووجد الشون السلطانية بالوجه القبلي خالية من الغلال وشون بيدرا مملوءة. فأبلغ ذلك إلى السلطان وأغراه ببيدرا حتى تغير عليه، فبلغ الخبر بيدرا فخاف وأخذ يتلافي الأمر، وجهز تقدمة جليلة منها خيمة أطلس أحمر بأطناب حرير وأعمدة صندل محلاة ومفصلة بفضة مذهبة وبسطها من حرير، وضربها بناحية العدوية مع ما أعده. فلما عاد السلطان نزل بها ولم يكترث بالتقدمة، وطلع إلى القلعة، فارتجع عدة من جهات بيدرا للخاص السلطاني.
وفي صفر: وقع بغزة والرملة ولد والكرك زلازل عظيمة هدمت ثلاثة أبراج من قلعة الكرك، وتوالت الأمطار والسيول حتى خربت طواحين العوجاء وتكسرت أحجارها، ووجد في السيل أحد عشر أسداً موتي، وزلزلت أيضاً البلاد الساحلية فانهدمت عدة أماكن، فلما ورد الخبر بذلك خرج الأمير علاء الدين أيدغدي الشجاعي من في دمشق لعمارة ما تهدم بمرسوم شريف. وورد كتاب الأمير عز الدين أيبك الرومي من قلعة المسلمين بطلب ثلاثين سراقوجا، حتى إذا وجه لكشف أخبار العدو لبسها من يبعثه فلا يعرف من هم.
وفيه عبي السلطان برسم الأمير حسام الدين مهنا بن عيسي ملك العرب تعبئة قماش حرير بسبب زواج ابنته، وأمر بعمل تعبئة لوالدته أيضاً، وجهز ذلك على يد حاجبه من الخزانة. ورسم السلطان ببناء بئر في العريش وأخرج لها عدة من الغواصين، فلما تم بناؤها ركب عليها ساقية.
وفيه قتل علاء الدين البريدي وإلى الأشمونين نفسه، فاستقر عوضه بكتمر الموسكي. وقبض على الأمير عز الدين أزدمر العلائي أحد أمراء دمشق، وحمل إلى القاهرة فقدم أول ربيع الأول.(1/267)
وفيه رسم بتجهيز العساكر إلى دمشق، فسار بها الأمير بيدرا، ثم سار الوزير بالخزائن. وركب السلطان على الهجن في أول جمادى الأولى ومعه جماعه من أمرائه وخواصه، وسار إلى الكرك من غير الدرب الذي يسلك منه إلى الشام، فرتب أحوالها. وتوجه إلى دمشق، فقدمها في تاسع جمادى الآخرة بعد وصول الأمير بيدرا والوزير بثلاثة أيام، فأمر بالتجهيز إلى بهسنا وأخذها من الأرمن أهل سيس. فقدم رسل سيس يطلبون العفو، فاتفق الحال معهم على تسليم بهسنا ومرعش وتل حمدون، فسار الأمير طوغان وإلى البر بدمشق معهم ليتسلما، وقدم البريد إلى دمشق بتسليمها في أول رجب، فدقت البشائر.
واستقر الأمير بدر الدين بكتاش في نيابة بهسنا، وعين لها قاض وخطيب، واستخدم لها رجال وحفظة. وقدم الأمير طوغان ومعه رسل سيس بالحمل والتقادم إلى دمشق في ثاني عشريه بعد توجه السلطان، فتبعوه.
وكان السلطان قد خرج في ثاني رجب إلى حمص ومعه جماعة من العسكر، وقد سير ضعفة العسكر إلى القاهرة، ثم سار من حمص إلى سلمية، وطرق مهنا بن عيسي بن مهنا بن مانع بن حديثة بن غضية بن فضل بن ربيعة أمير آل فضل، وقبض عليه وعلى إخواته محمد وفضل ووهبة، وبعثهم مع الأمير حسام الدين لاجين إلى دمشق، فقدمها لاجين في سابعه. وقدم السلطان في يومه أيضاً، فأقام في إمرة العرب الأمير شمس الدين محمد بن أبي بكر بن على بن حديثه بن غضية بن فضل بن ربيعة أمير آل على. وبعث السلطان الأمير عز الدين أيبك الأفرم، أمير جاندار إلى الشوبك، فهدم قلعتها و لم يبق منها إلا قلتها فقط.
وفي شهر رجب: وقع ببعلبك أمطار وسيول خارجة عن الحد، ففد من كرومها ومزارعها ومساكنها ما تزيد قيمته على مائة ألف دينار.
وفي حادي عشره: سار الأمير بيدرا بالعساكر والوزير ابن السلعوس بالخزائن من دمشق، ثم ركب السلطان في خواصه يوم السبب ثالث عشره، فقدم غزة بكرة الأربعاء سابع عشره، ودخل قلعة الجبل في ثامن عشريه، وقدم الأمير بيدرا بمن معه أول شعبان. وفيه ولي طوغان وإلى البر بدمشق نيابة قلعة المسلمين، وولي أسندمر كرجي بر دمشق.
وفي شعبان: استقر شمس الدين أحمد السروجي الحنفي في قضاء القضاة الحنفية بالقاهرة، بعد وفاة قاضي القضاة معز الدين نعمان بن الحسن بن يوسف الخطيبي الأرزنكاني.
وفي أول شهر رمضان: أفرج عن تقي الدين ابن بنت الأعز، بعدما اشتد به البلاء واعتقل في سجن الحكم وتوعد بالقتل، فعاد إلى بيته بالشافعي من القرافة، ومدح ابن السلعوس بقصدة أراد إنشادها بنفسه فحلف الوزير عليه، فأنشدها أخوه علاء الدين. ثم إنه ثبتت براءته مما رمي به، وتوجه إلى الحج مع الركب.
وفي يوم السبت ثاني شوال: قبض على الأمير عز الدين أيبك الأفرم أمير جاندار، وأحبط على جميع موجوده بمصر والشام.
و في ذي الحجة: رسم بعمل المهم لختان الأمير ناصر الدين محمد أخي السلطان، فنصب القبق تحت القلعة مما يلي باب النصر في العشرين منه، وفرقت الأموال والخلع على من أصاب في رميه، وكان قد رسم بعرض العساكر بحضور الأمير بيدرا، فأقامت في العرض أياماً، فرمي بيدرا بتغاضيه، وأن بعض العسكر يستعير العدة، فرسم بعرض الجميع جملة واحدة في الميدان، فكان يوماً مشهوداً. وممن أصاب في رمي القبق الأمير بيسري، فأنعم عليه بخمسة وثلاثين ألف دينار عيناً سوي الخلع وغيرها، وختن الأمير محمد وأولاد الأمراء في يوم الإثنين في ثاني عشريه، ونثر الأمراء الذهب حتى امتلأت الطشوت منه.
وفي آخر ذي الحجة: استقر في كتابة السر القاضي شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله العمري عوضاً عن عماد الدين إسماعيل بن الأثير.
وفي هذه السنة: خطب الشريف أبو نمي بمكة للملك الأشرف، بعدما كان يخطب فيها لصاحب اليمن، ونقش السكة أيضاً باسمه، وجهز بذلك محاضر مع، ابن القسطلاني.
وفيها قدم رسل كيختو ملك التتار بكتابه يتضمن إنه يريد الإقامة بحلب، فإنها مما فتحه أبوه هولاكو، وإن لم يسمح له بذلك أخذ بلاد الشام. فأجابه السلطان بأنه قد وافق القان ما كان فح نفسي، فإني كنت على عزم من أخذ بغداد، وقتل رجاله، فإني أرجو أن أردها دار إسلام كم كانت، وسينظر أينا يسبق إلى بلاد صاحبه وكتب إلى بلاد الشام بتجهيز الإقامات وعرض العساكر.(1/268)
وفيها وقف الحجاج يوم الإثنين والثلاثاء، ولم يصلوا الجمعة من خوف العطش لقلة الماء. وحلف أمير الركب الشريف أبا نمي يمينا إنه يتوجه إلى السلطان، وكان قد أعطاه ألف دينار عيناً، بعث بها إليه السلطان من مصر.
وفيها تلف في البحر ستة عشر مركباً من جلاب اليمن، أكثرها من عدن.
ومات في هذه السنة من الأعيان
الملك الأفضل على بن المظفر محمود بن المنصور محمد بن المظفر عمر بن شاهنشاه ابن أيوب بن شادي صاحب حماة، وهو متوجه إلى القاهرة، عن سبع وخمسين سنة.
ومات الأمير علم الدين سنجر الحلبي الثائر بدمشق، وهو من أبناء الثمانين بالقاهرة.
وتوفي قاضي القضاة الحنفي معز الدين أبو عبد الله النعمان بن الحسن بن يوسف الخطيبي، بالقاهرة.
وتوفي محيي الدين أبو الفضل عبد الله بن رشيد الدين محمد عبد الظاهر بن نشوان ابن عبد الظاهر السعدي الكاتب، لسان ديوان الإنشاء، عن اثنتين وسبعين سنة بالقاهرة.
وتوفي شهاب الدين أبو المعالي أحمد بن الحافظ جمال الدين أبو حامد محمد بن على ابن محمود بن أحمد بن على بن الصابوني المحمودي، بالقاهرة عن اثنتين وستين سنة.
وتوفي كمال الدين أبو عباس أحمد بن زيد الدين أبي عبد الله محمد بن رضي الدين أبي محمد عبد القادر بن هبة الله بن عبد القادر بن عبد الواحد بن طاهر بن يوسف بن النصيبي الحلبي بها، عن ثلاث وثمانين سنة، له رحلة.
وتوفي قدوة الشام أبو إسحاق إبراهيم بن قدوة الشام يوسف المدعو عبد الله بن يونس بن إبراهيم بن سلمان الأرموي الزاهد، عن سبع وسبعين سنة بدمشق.
وتوفي الأديب كمال الدين أبو الحسن على بن على بن محمد بن المبارك بن سالم ابن الأعمي الدمشقي بها، عن اثنتين وثمانين سنة.
سنة ثلاث وتسعين وستمائة
في ثالث المحرم: عدي السلطان النيل إلى بر الجيزة يريد البحيرة للصيد، ومعه الأمير بيدرا والوزير ابن السلعوس. واستخلف بقلعة الجبل الأمير على الدين سنجر الشجاعي، وقد اشتدت العداوة بين الأمير بيدرا وبين ابن السلعوس. فوصل السلطان إلى تروجة ونزل بها، وتوجه الوزير إلى الاسكندرية ليعبي القماش ويحصل الأموال، بعدما خلع السلطان عليه طرد وحش. فوجد الوزير أن نواب بيدرا قد استولوا على المتاجر والاستعمالات فكتب يعرف السلطان ذلك ويغريه ببيدرا، وأنه لم يجد بالثغر ما يكفي الإطلاقات على جاري العادة. فاشتد غضب السلطان، وطلب بيدرا وسبه بحضرة الأمراء، وتوعده بأنه لابد أن يمكن ابن السلعوس من ضربه بما لا يذكر. فتلطف بيدرا حتى خرج إلى مخيمه وقد اشتد خوفه، فجمع أعيان الأمراء من خشداشيته ومنهم الأمير لاجين والأمير قرا سنقر ومن يوافقه، وقرر معهم قتل السلطان، فإنه كان قد أذن للأمراء الأكابر أن يخرجوا إلى إقطاعاتهم فساروا إليها وبقي في خواصه إلى يوم تاسوعاء. فتوصل الأمير بيدرا إلى أن أشير على السلطان بتقدم العسكر إلى القاهرة، فبعث الأمير سيف الدين أبا بكر بن الجمقدار نائب أمير جاندار إلى بيدرا يأمره أن يسير تحت الصناجق بالأمراء والعسكر فلما بلغه نائب أمير جاندار الرسالة نفر فيه، ثم قال له السمع والطاعة وقد تبين الغضب في وجهه، فرجع ابن أمير جاندار وحمل الزردخاناه وسار، ورحل الدهليز والعسكر.
وأصبح السلطان يوم عاشوراء، فبلغه أن بتروجة طيراً كثيراً، فساق وضرب حلقة صيد، وعاد إلى مخيمه آخر النهار. ثم لما كان الحادي عشر توجه الناس إلى القاهرة، وحضر بيدرا ومن قرر معه قتل السلطان إلى الدهليز، فلم يخرج السلطان وأعطاهم دستوراً فتوجهوا إلى خيامهم.
وركب السلطان جريدة وليس معه سوي الأمير شهاب الدين أحمد بن الأشل أمير شكار، وأراد أن يسبق الخاصكية، فرأي طيراً فصرع منه بالبندق شيئاً كثيراً ثم التفت إلى أمير شكار وقال. أنا جيعان، فهل معك ما آكل؟ " فقال: والله ما معي غير رغيف واحد فرج في صولقي ادخرته لنفسي فقال: ناولنيه فناوله ذلك فأكله كله. ثم قال له: أمسك فرسي حتى أنزل أبول وكان الأمير شهاب الدين ينبسط مع السلطان، فقال: ما فيها حيلة، السلطان ركب حصانا وأنا راكب حجر وما يتفقان. فقال له السلطان: أنزل أنت واركب خلفي حتى أنزل أنا فنزل وناول السلطان عنان فرسه وركب خلفه، فنزل السلطان وقضي حاجته، ثم قام وركب حصانه، ومسك فرس أمير شكار حتى ركب، وأخذا يتحدثان.(1/269)
فلما كان وقت العصر: بعث بيدرا من كشف له خبر السلطان، فقيل له ليس معه أحد، كشف. بمن وافقه. فلم يشعر السلطان إلا بغبار عظيم قد ثار، فقال لأمير شكار: اكشف خبر هذا الغبار. فساق إليه فوجد الأمير بيدرا وجماعة من الأمراء، فسألهم فلم يجيبوه. ومروا في سوقهم حتى وصلوا إلى السلطان وهو وحده، فابتدرا بالسيف وضربه أبان يده، ثم ضربه ثانيا هد كتفه. فتقدم الأمير لاجين إليه وقال له: يا بيدرا من يريد ملك مصر والشام تكون هذه ضربته وضرب السلطان على كتفه حله، فسقط إلى الأرض، فجاءه بهادر رأس نوبة وأدخل السيف في دبره، واتكا عليه إلى أن أخرجه من حلقه. وتناوب الأمراء ضربه بالسيوف: وهم قرا سنقر، وآقسنقر الحسامي، ونوغاي، ومحمد خواجا، وطرنطاي الساقي، وألطنبغا رأس نوبة، وذلك في يوم الإثنين ثاني عشر المحرم.
فبقي الملك الأشرف ملقي في المكان الذي قتل به يومين، ثم جاء الأمير عز الدين أيدمر العجمي وإلى تروجة، فوجده في موضعه عريانا بادي العورة، فحمله على جمل إلى دار الولاية، وغسله في الحمام وكفنه، وجعله في بيت المال بدار الولاية إلى أن قدم الأمير سعد الدين كوجبا الناصري من القاهرة، وحمله في تابوته الذي كان فيه إلى تربته بالقرب من المشهد النفيسي ظاهر مصر، ودفنه بها سحر يوم الجمعة ثاني عشري صفر.
فكانت مدة سلطنتة ثلاث سنين وشهرين وأربعة أيام، وعمره نحو ثلاثين سنة ومات عن ابنتين، و لم يترك ولدا ذكرا. وكان ملكا كريماً شجاعاً مقداماً، سريع الحركة مظفراً في حروبه: فتح عكا وصور وبيروت وبهسنا وقلعة الروم. وكان مع ما فيه من شدة البادرة حسن النادرة، يطارح الأدباء بذهن رائق وذكاء مفرط، لا يعلم على مكتوب حتى يقرأه كله، ولابد أن يستدرج على الكتاب فيه ما يتبين لهم فيه الصواب، إلا أنه تعاظم في آخر أيامه وصار لا يكتب اسمه وإنما يكتب خ إشارة إلى أول حروف اسمه، ومنع أن يكتب لأحد الزعيمي، وقال. من زعيم الجيوش غيري؟! وأبطل من دمشق مشمسا كان يؤخذ في باب الجابية على كل حمل قمح خمسة دراهم، وكتب بخطه الذي يكتب به العلامة بين أسطر المسموح الذي كتب بإبطال ذلك ما نصه: ولنكشف عن رعايانا هذه الظلامة، ونستجلب الدعاء لنا من الخاصة والعامة،.
وأما الأمراء، فإن الأمير زين الدين كتبغا المنصوري كان قد انفرد ومعه جماعة من الأمراء عن الملك الأشرف وساروا للصيد، وبقي في الدهليز السلطاني من الأمراء سيف الدين برغلي، وركن الدين بيبرس الجاشنكير، وحسام الدين لاحين الأستادار، وبدر الدين بكتوت العلائي، وجماعة من المماليك السلطانية. فلما قتل بيدرا السلطان عاد بمن معه من الأمراء، ونزل بالدهليز وجلس في دست السلطة، وقام الأمراء فقبلوا الأرض بين يديه وحلفوا له، وتلقب بالملك الأوحد وقيل المعظم، وقيل الملك القاهر. ثم قبض بيدرا على الأمير بيسري والأمير بكتمر السلاح دار أمير جاندار، وقصد قتلهما ثم تركهما تحت الاحتياط لشفاعة الأمراء فيهما، وركب إلى الطرانة فبات بها.
وقد سار الأمراء والمماليك السلطانية ومعهم الأمير برغلي، وهم الذين كانوا بالدهليز والوطاق، وركبوا في آثار بيدرا ومن معه يريدون القبض عليه. فبلغ الأمير كتبغا ومن معه مقتل السلطان وسلطنة بيدرا، فلحق بمن معه الأمير برغلي ومن معه من الأمراء والمماليك، وجدوا بأجمعهم في طلب بيدرا ومن معه، وساقوا في تلك الليلة إلى الطرانة وقد لحق بيدرا بسيف الدين أبي بكر بن الجمقدار نائب أمير جاندار، والأمير صارم الدين الفخري، والأمير ركن الدين بيبرس أمير جاندار، ومعهم الزرد خاناه، عند المساء من يوم السبت الذي قتل فيه السلطان، فعندما أدركهم تقدم إليه بيبرس أمير جاندار وقال له: يا خوند هذا الذي فعلته كان. بمشورة الأمراء؟، فقال: نعم أنا قتلته. بمشورتهم وحضورهم، وها هم كلهم حاضرون. ثم شرع يعدد مساوئ الأشرف ومخازيه واستهتاره بالأمراء ومماليك أبيه، إهماله لأمور المسلمين، ووزارته ابن السلعوس، ونفور الأمراء منه لمسكه عز الدين الأفرم وقتل سنقر الأشقر وطقصوا وغيره، وتأميره مماليكه، وقلة دينه وشربه الخمر في شهر رمضان وفسقه بالمردان. ثم سأل بيدرا عن الأمير كتبغا فلم يره فقيل له: هل كان عند كتبغا من هذه القضية علم؟ قال: نعم هو أول من أشار بها.(1/270)
فلما كان يوم الأحد ثاني يوم قتلة الأشرف: وافي الأمير كتبغا في طلب كبير من المماليك السلطانية عدته نحو الألفي فارس، وجماعة من الحلقة والعسكر ومعهم الأمير حسام الدين لاجين لأاستادار الطرانة وبها بيدرا يريدون قتاله. وميز كتبغا أصحابه بعلائم حتى يعرفوا من جماعة بيدرا، وهم أنهم جعلوا مناديل من رقابهم إلى تحت آباطهم فأطلق بيدوا حينئذ الأميرين بيسري وبكتمر السلاح دار، ليكونا عونا له فكانا عونا عليه. ورتب كتبغا جماعة ترمي بالنشاب، وتقدم بمن معه وحملوا على بيدرا حملة منكرة، وقصد الأمير كتبغا بيدرا وقد فوق سهمه، وقال: يا بيدرا أين السلطان؟ ورماه بسهم وتبعه البقية بسهامهم، فولي بيدرا بمن معه وكتبغا في طلبه حتى أدركه. وقتل بيدرا بعدما قطعت يده ثم كتفه كما فعل بالأشرف، وحملت رأسه علىرمح وبعث بها إلى قلعة الجبل فطيف بها القاهرة ومصر. ووجد في جيب بيدرا ورقة فيها: ما يقول السادة الفقهاء في رجل يشرب الخمر في شهر رمضان، ويفسق بالمرداد ولا يصلي فهل على قاتله ذنب أو لا؟ فكتب جوابها. يقتل ولا إثم على قاتله. وعندما انهزم بيدرا هرب لاجين وقرا سنقر، ودخلا القاهرة فاختفيا.
وكان الذي وصل إلى قلعة الجبل بخبر مقتل السلطان سيف الدين سنكو الدوادار. ولما بلغ الأمير علم الدين سنجر الشجاعي قتل السلطان ضم الحراريق والمعادي وسائر المراكب إلى بر مصر والقاهرة، وأمر ألا يعدي بأحد من الأمراء والمماليك إلا بإذنه، موصل الأمير زين الدين كتبغا ومن معه مت الأمراء والمماليك، بعد قتل بيدرا وهزيمة أصحابه، ملم يجدوا مركباً يعدون به النيل. فأشار على من معه من الأمراء وهم حسام الدين لاجين الأستادار، وركن الدين بيبرس الجاشنكير، وسيف الدين برلغي وسيف الدين طغجي، وعز الدين طقطاي، وسيف الدين قطبة، وغيرهم أن ينزلوا في بر الجيزة بالخيام حتى يراسلوا الأمير سنجر الشجاعي، فوافقوه وضربوا الخيام وأقاموا بها، وبعثوا إلى الشجاعي فلم يمكنهم من التعدية. وما زالت الرسل بينهم وبينه حتى وقع الاتفاق على إقامة الملك الناصر محمد بن قلاوون، فبعث عند ذلك الحراريق والمراكب إليهم بالجيزة، وعدوا بأجمعهم وصاروا إلى قلعة الجبل في رابع عشر المحرم.
السلطان الناصر ناصر الدين
السلطان الملك الناصر ناصر الدين محمد بن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الألفي العلائي الصالحي أمه أشلون خاتون ابنة الأمير سكناي بن قراجين بن جنكاي نوين. ولد يوم السبت النصف من المحرم سنة أربع وثمانين وستمائة بقلعة الجبل من مصر، فلما قتل أخوه الملك الأشرف صلاح الدين خليل بالقرب من تروجة، وعدي الأمير زين الدين كتبغا والأمراء، اجتمع بهم الأمير علم الدين سنجر الشجاعي ومن كان بالقاهرة والقلعة من الأمراء الصالحية والمنصورية، وقرروا سلطنة الناصر محمد وأحضروه وعمره تسع سنين سوا في يوم السبت سادس عشر المحرم سنة ثلاث وتسعين وستمائة، وأجلسوه على سرير السلطنة. ورتبوا الأمير زين الدين كتبغا نائب السلطنة عوضاً عن بيدرا، والأمير علم الدين سنجر الشجاعي وزيراً ومدبراً عوضاً عن ابن السلعوس، والأمير حسام الدين لاجين الرومي الأستادار أطابك العساكر، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير أستادارا، والأمير ركن الدين بيبرس الدوادار دواداراً، وأعطي إمرة مائة فارس وتقدمة ألف، وجعل إليه أمر ديوان الإنشاء في المكاتبات والأجوبة والبريد. وأنفق في العسكر وحلفوا فصار كتبغا هو القائم بجميع أمور الدولة، وليس للملك الناصر من السلطنة إلا اسم الملك من غير زيادة على ذلك، وسكن كتبغا بدار النيابة من القلعة، وجعل الخوان يمد بين يديه.(1/271)
وأما الشام فإنه كتب إلى دمشق كتاب على لسان الملك الأشرف، ومضمونه: إنا قد استنبنا أخانا الملك الناصر محمداً، وجعلناه ولي عهدنا حتى إذا توجهنا إلى لقاء عدو يكون لنا من يخلفنا ورسم فيه بتحليف الناس للملك الناصر محمد، وأن يقرن اسمه باسم الأشرف في الخطبة. وتوجه بالكتاب الأمير سيف الدين ساطلمش وسيف الدين بهادر التتري، فدخلا دمشق يوم الجمعة رابع عشريه، وجمع الأمير عز الدين أيبك الحموي نائب دمشق الأمراء والمقدمين والقضاة والأعيان وحلفهم، وخطب باسم الملك الأشرف والملك الناصر ولي عهده، وكان ذلك من تدبير الشجاعي، فقدم من الغد البريد إلى دمشق بالحوطة على موجود بيدرا ولاجين وقرا سنقر، وطرنطاي الساقي وسنقرشاه وبهادر رأس نوبة، فظهر قتل الأشرف وإقامة أخيه الناصر بعده.
فاستمر الأمر في الخطبة بالشام على ذلك إلى حادي عشر ربيع الأول، حتى ورد مرسوم ناصري بالخطبة للملك الناصر وحده بالسلطنة، فخطب له كذلك في يوم الجمعة حادي عشر ربيع الأول، وترحم على أبيه المنصور وأخيه الأشرف.
ثم كتب إلى ووقع الطلب على الأمراء الذين كانوا مع بيدرا في قتل الأشرف، فأول من وجد منهم الأمير سيف الدين بهادر رأس نوبة، والأمير جمال الدين أقش الموصلي الحاجب، فضربت أعناقهما وأحرقت أبدانهما في المجاير ثامن يوم سلطنة الناصر. ثم أخذ بعدهما سبعة أمراء: وهم حسام الدين طرنطاي الساقي، ونوغاي السلاح دار، وسيف الدين الناق الساقي السلاح دار، وسيف الدين أروس الحسامي السلاح دار، وعلاء الدين ألطبغا الجمدار، وأقسنقر الحسامي، وناصر الدين محمد بن خوجا ثم قبض على قوش قرا السلاح دار، وذلك في العشرين من المحرم فسجنوا بخزانة البنود من القاهرة، وتولي بيبرس الجاشنكير عقوبتهم ليقروا على من كان معهم، ثم أخرجوا يوم الاثنين ثامن عشره، وقطعت أيديهم بالساطور على قرم خشب بباب القلعة، وسمروا على الجمال وأيديهم معلقة، وشقوا بهم ورأس بيدرا على رمح قدامهم القاهرة ومصر. واجتمع لرؤيتهم من العالم ما لا يمكن حصره، بحيث كادت القاهرة ومصر أن تنهبا. ومروا بهم على أبواب دورهم، فلما جازوا على دار علاء الدين الطنبغا خرجت جواريه حاسرات يلطمن، ومعهن أولاده وغلمانه قد شقوا الثياب وعظم صياحهم. وكانت زوجته بأعلى الدار، فألقت نفسها لتقع عليه فأمسكنها جواريها، وهي تقول. ليتني فداك، وقطعت شعرها ورمته عليه فتهالك الناس من كثرة البكاء رحمة لهم واستمروا على ذلك أياماً: فمنهم من مات على ظهور الجمال، ومنهم من فكت مساميره وحمل إلى أهله ثم أخذ مرة ثانية وأعيد تسميره فمات.
هذا وجواري الملك الأشرف وسيال حواشيه قد لبسن الحداد وتذرعن السخام، وطفن في الشوارع بالنواحات يقمن المأتم، فلم ير بمصر أشنع من تلك الأيام. ثم أخذ بعد ذلك الأمير سيف الدين قجقار الساقي فشنق بسوق الخيل، ولم يوقف لقراسنقر ولا للاجين على خبر ألبتة.(1/272)
وبلغ الوزير ابن السلعوس وهو بالإسكندرية مقتل الملك الأشرف، فخرج ليلا وسار إلى القاهرة فنزل بزاوية الشيخ جمال الدين أحمد بن محمد بن عبد الله الظاهري خارج القاهرة وبات عنده. ثم ركب منها بكرة بهيئته ودسته إلى داره، فأتاه القضاة والأعيان وسلموا عليه، فجري معهم على عادته من الترفع والكبر، و لم يقم لأحد ولا احتفل بكبير. فقال له بعض أصدقائه: الرأي أن تختفي حتى تسكن الفتنة فقال: هذا لا نفعله ولا نرضاه لعامل من عمالنا، فكيف نختاره لأنفسنا واستمر في بيته والناس تتردد إليه خمسة أيام، وذلك من أجل أن حرم الملك الأشرف بعثن إلى الأمير كتبغا النائب يشفعن فبه، فإنه من أحباب السلطان وأخصائه. فشق ذلك على الشجاعي وتحدث مع كتبغا وغيره من الأمراء، وحرضهم عليه وأغراهم به، فاستدعاه كتبغا في اليوم السادس وهو ثاني عشري المحرم، فركب في دسته على عادته، فعندما دخل إليه قبض عليه وأسلمه للشجاعي فأحاط به، وأنزله من القلعة ماشياً إلى داره والأعوان محيطة به، فلم يمكن من العبور إليها. وأخذه أعدي أعاديه الأمير بهاء الدين قراقوش الظاهري شاد الصحبة ليطالبه بالأموال، فضربه ضرباً شديداً بلغ في مرة واحدة ألفاً ومائة ضربة بالمقارع، فأنكر عليه الشجاعي ذلك ونقل ابن السلعوس إلى الأمير بدر الدين لؤلؤ المسعودي شاد الدواوين، فعاقبه بأنواع العقوبات وعذبه أشد عذاب، واستخرج منه مالاً كثيراًً: منه مبلغ تسعة آلاف دينار تحت يد شخص بالشام، فكتب. التذاكر إلى الشام، وأخذ المبلغ المذكور.
وكانت عقوبة ابن السلعوس في المدرسة الصاحبية بسوبقة الصاحب من القاهرة، وفي كل يوم يضربه لؤلؤ بالمقارع ويخرجه من الصاحبية إلى القلعة وهو على حمار، فيقف له أراذل الناس في طول الطريق ومعهم المداسات المقطعة ويقولون له: يا صاحب علم لنا على هذه ويسمعونه كل مكروه، فينزل به من الخزي والنكال ما لا يعبر عنه. وكان لؤلؤ هذا ممن أنشأه ابن السلعوس، فإنه كان قد طلب من دمشق لما قتل مخدومه الأمير طرنطاي النائب وكان يلي ديوانه بالشام فأحسن إليه ابن السلعوس وولاه شد الدواوين بمصر، وصار يقف في خدمته كأنه بعض النقباء، فلا يسميه إلا لؤلؤ، فقدر الله أنه وقع في يده، فبالغ في إهانته وصارت العقوبة في كل يوم تتزايد عليه والشدائد تتضاعف، ويتولى عقوبته شر الظلمة وأبعدهم من الشفقة، إلى أن مات في يوم السبت عاشر صفر، وقيل خامس عشره، وقيل سابع عشره، وضرب بعد موته ثلاث عشرة مقرعة، ودفن بالقرافة.
وفي تاسع عشر صفر: عزل قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة عن وظيفة القضاء، وأعيد قاضي القضاة تقي، الدين عبد الرحمن ابن بنت الأعز إلى سائر ما كان بيده من المناصب واستقر ابن جماعة في تدريس المدرسة الناصرية بجوار قبة الشافعي من القرافة، وتدريس المشهد الحسيني بالقاهرة.(1/273)
وفي هذه المدة: أحكم الشجاعي أمر الوزارة، فاشتدت مهابة الناس له وقويت نفسه، وأحب أن يستبد بالأمور، فشرع في إعمال التدبير على الأمير كتبغا ليقبض عليه، واستمال الأمراء البرجية والمماليك السلطانية، وفرق فيهم نحو الثمانين ألف دينار سرا، وقرر معهم أن من أتاه برأس أمير من الأمراء الذين مع كتبغا فإنه يعطيه إقطاعه، وأن الأمير علم الدين سنجر البندقداري يقبض على كتبغا إذا جلس على السماط. وكان ممن اطلع على هذا الأمير سيف الدين قنغر التتري الوافد في الدولة الظاهرية وهو من جنس كتبغا، فأعلمه الخبر، فاحترز كتبغا على نفسه وأعلم أصحابه من الأمراء وغيرهم، فلما كان يوم الخميس ثاني عشري صفر اجتمع الأمراء بمساطب باب القلة من قلعة الجبل على العادة، ينتظرون فتح باب القلعة ليركبوا في خدمة الأمير كتبغا في الموكب كما جرت به العادة، فلم يشعروا إلا برسالة قد خرجت على لسان أمير جاندار بطلب جماعة من الأمراء: وهم سيف الدين قبجق، وبدر الدين عبد الله السلاح دار حامل الجتر، وسيف الدين قبليي، وركن الدين عمر السلاح دار أخو تمر، وسيف الدين كرجي، وسيف الدين طرنجي، وقرمشي السلاح دار، وبوري السلاح دار، ولاجين جركسي، ومغلطاي المسعودي، وكرد الساقي، فدخلوا إلى الخدمة السلطانية. وقام بقية الأمراء للركوب، فبينما هم يسيرون تحت القلعة بالميدان الأسود، جاء الأمير قنغر ومعه ابنه جاورجي، فأخبرا النائب كتبغا أن الأمراء الذين استدعوا اعتقلوا، وأن الشجاعي قد دبر أنك إذا طلعت قبض عليك وعلى من معك وقت الجلوس على السماط. فعرف كتبغا الأمراء الذين معه بما قال قنغر وولده، فتوقفوا عن الطلوع إلى القلعة.
واستعجل الأمير علم الدين البندقداري، وعمل ما لا كان ينبغي، وذلك أنه كان في الموكب سيف الدين برلغي أمير مجلس، وركن الدين بيبرس الجاشنكير الأستادار، فلم يشعر بيبرس إلا وضربة دبوس جاءته في رأسه أثرت فيه أثراً بقي فيه بعد ذلك، وقبض عليه وعلى برلغي وبعث بهما إلى الإسكندرية. وعند قبضهما قال سنجر البندقداري لكتبغا النائب في جملة كلام فاوضه به: أين لاجين؟ أحضره فقال كتبغا: ما هو عندي فقال سنجر: والله هو عندك وجرد سيفه ليضرب به كتبغا، فبادره من ورائه بكتوت الأزرق مملوك كتبغا وضربه بسيف حل كتفه، ونزل إليه بقية مماليك كتبغا وذبحوه.
وساق كتبغا ومن معه من الأمراء: وهم بيسري وبكتاش الفخري أمير سلاح وبكتوت العلائي وبهاء الدين يعقوب ونوكاي وأيبك الموصلي والحاج بهادر وأقسنقر كرتيه وبلبان إلى باب المحروق وخرجوا منه، فنزلوا بظاهر السور ولبسوا عدة الحرب. وبعث كتبغا نقباء الحلقة في طلب المقدمين وأجناد الحلقة والتتر والأكراد الشمهرزورية، فحضروا إليه. وركب الشجاعي وخرج إلى باب القلعة، وحرك الكوسات ليحضر إليه الأمراء وأجناد الحلقة، فإنه كان قد صر عدة صرر من ذهب، وراسل المقدمين وأجناد الحلقة يعدهم إذا وافقوا وقاموا معه، فصار من يحضر إليه يعطيه صرة ذهب على قدره، فلم يحضر إليه هذا اليوم إلا من لا يغني ولا يجدي مجيئه شيئا. ثم إن كتبغا بعث إلى السلطان يطلب الشجاعي، وقال له: قد انفرد هذا برأيه في القبض على الأمراء ولابد من حضوره، فإنه بلغنا عنه ما أنكرناه. فأرسل السلطان يعرف الشجاعي بذلك، فامتنع أن يحضر إليه، ورجف كتبغا وأخذ يحاصر القلعة وقطع عنها الماء وباتوا على ذلك. فلما كان يوم الجمعة نزل الأمراء البرجية من القلعة على حمية، وقاتلوا كتبغا ومن معه من العساكر، وهزموهم وساقوا خلفهم إلى البئر البيضاء، ومر كتبغا إلى ناحية بلبيس.
وكان بيسري وبكتاش في عدة من الأمراء لم يركبوا مع كتبغا في هذا اليوم، فلما سمعوا بكسرته شق عليهم ذلك وركبوا إلى البرجية وقاتلوهم، وكسروهم حتى ردوا إلى القلعة. فقدم كتبغا بعد كسرته وانضم مع بيسري وبكتاش، وتلاحق بهم الناس. فجدوا في حصار القلعة حتى طلع الملك الناصر على البرج الأحمر وتراءى لهم، فنزل الأمراء عن خيولهم إلى الأرض وقبلوا له الأرض، وقالوا: نحن مماليك السلطان، و لم تخلع يدا من طاعته، وما قصدنا إلا حفظ نظام الدولة واتفاق الكلمة وإزالة الفساد.(1/274)
واستمر الحصار سبعة أيام، وفي كل يوم ينزل الشجاعي ومعه الأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار والأمير سيف الدين طغجي في عدة من المماليك السلطانية، فيكون بينه وبين كتبغا وأصحابه قتال، إلا أنه يتسلل ممن معه في كل يوم عدة ويصيرون إلى كتبغا. فلما اشتد الحصار طلعت أم السلطان على سور القلعة، وسألت الأمراء عن غرضهم حتى تعمل، فقالوا: ما لنا غرض إلا القبض على الشجاعي وإخماد الفتنة، ولو بقي من بيت أستاذنا بنت عمياء كنا مماليكها، لاسيما وولده الملك الناصر حاضر وفيه كفاية. فانخدعت لقولهم، واتفقت مع الأمراء حسام الدين الأتابك وغلقوا باب القلة من القلعة، وصار الشجاعي بداره من القلعة محصورا. فعند ذلك تفرق عنه أصحابه ونزلوا إلى كتبغا، فلم يجد بدا من طلب الأمان فلم تجبه الأمراء، فتحير وقال: " إن كنت أنا الغريم فأنا أتوجه إلى الحبس طوعا مني، وأبرأ مما قيل عني وخرج إلى باب الستارة السلطانية وحل سيفه بيده، وذهب نحو البرج ومعه الأمير بهاء الدين الأقوش والأمير سيف الدين صمغار.
وقيل إن الشجاعي لما أبي الأمراء أن يؤمنوه بعثوا آخر النهار عند العصر جماعة فيهم الأقوش إلى عند أم السلطان، وطلبوا الشجاعي ليستشيروه فيما يفعل، فلما حضر تكاثرت عليه المماليك، ووثب عليه منهم أحد مماليك الأقوش وضربه من ورائه بسيف أطار يده، وثني بأخرى أسقطت رأسه عن بدنه، ورفعت في الحال على السور. وكان عمره نحو خمسين سنة.
ويقال إنه لما حضر قال له السلطان: يا عمي لأي شيء هذا الذي أنتم فيه؟ فقال: لأجلك يا خوند فقال: خلوني أعمل شيئا تبقوا مطمئنين وأنا معكم، وهو أنك تروح يا أمير علم الدين تقعد في مكان بالقلعة وترسل ورائه الأمراء ليطلعوا، وبعد أيام نوفق بينكم، ونعطيك قلعة بالشام تروح إليها ونستريح منهم. فقام الأمراء الحاضرون وقبضوا عليه، وقيدوه وأخرجوه إلى مكان يسجن فيه، فتوجه به الأقوش نحو البرج الجواني.
فلما كان في أثناء، الطريق قتله، وقطع رأسه ويده وأخذها في ذيل قرظيته ونزل إلى سوق الخيل والبرجية والمماليك السلطانية محيطة بباب القلعة، فقالوا له: ما معك فقال: خبز سخن أرسله السلطان إلى الأمراء، ليعلموا أن عندنا الشيء بكثرة يريد بذلك النجاة منهم. فظنوه صادقاً وتركوه، ولو علموا بأنه معه رأس الشجاعي لما خلص منهم. فصار إلى الأمراء وناولهم الرأس، فبعثوا في الحال من حلف السلطان والأمراء الذين عنده.
وفتح باب القلعة، وطلع كتبغا والأمراء إلى القلعة وهم راكبون إلى باب القلة، ثاني يوم، ودقت البشائر، وذلك يوم الثلاثاء سابع عشريه. فنودي بعد ذلك بالأمان، ففتحت أبواب القاهرة وكانت كلها مغلقة إلا باب زويلة، وكذلك الأسواق كانت معطلة في هذه المدة.
ثم رفع رأس الشجاعي على رمح وطيف بها القاهرة ومصر، و لم يدعوا زقاقا حتى طافوا بالرأس فيه، وجبوا عليه مالاً كثيراً. وفي الناس من كان يضرب الرأس بالمداسات، ومنهم من يصفعه ويسبه، وصاروا يقولون: هذه رأس الملعون الشجاعي. وسر كثير من الناس لموته، فإنه أكثر من المصادرات، ونوع الظلم والعسف أنواعا.
وفيه أفرج عن الأمراء المعتقلين، وأعيدت لهم إقطاعاتهم وأموالهم، وجددت الأيمان للسلطان ولنائبه الأمير كتبغا. وأنزل من كان ساكنا في الأبراج والطباق بقلعة الجبل من المماليك السلطانية الذين رموا بأنهم أثاروا هذه الفتنة، وأسكنت طائفة منهم في مناظر الكبش بجوار الجامع الطولوني، وطائفة في دار الوزارة برحبة باب العيد من القاهرة، وطائفة في مناظر الميدان الصالحي بأرض اللوق، واعتقلت طائفة.
وفي يوم الخميس تاسع عشريه: استقر في الوزارة الصاحب تاج الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين محمد بن الصاحب بهاء الدين على بن حنا، واستقر ابن عمه عز الدين الصاحب محيي الدين بهاء الدين في وزارة الصحبة، وصارا يجلسان جميعاً في شباك الوزارة بقلعة الجبل، والصاحب تاج الدين هو الذي يوقع.
وفي سلخه: أفرج عن الأمير عز الدين أيبك الأفرم.
وفي ثالث ربيع الأول: أوقعت الحوطة بدمشق على موجود الأمير علم الدين سنجر الشجاعي، وقبض على نوابه.
وفي العشرين من رجب: حلف نائب دمشق والأمراء بها للسلطان ونائبه وولي عهده الأمير كتبغا، ودعي له معه في الخطبة.(1/275)
وفي خامس عشريه: ركب الملك الناصر في أبهة الملك، وشق القاهرة من باب النصر حتى خرج من باب زويلة عائدا إلى القلعة، وكتبغا والأمراء يمشون في ركابه، فكان يوماً مشهوداً، ودقت البشائر بالقلعة.
وفي يوم عيد الفطر: ظهر الأمير حسام الدين لاحين الصغير والأمير شمس الدين قرا سنقر المنصوريان من الاستتار: وكانا وقت فرارهما عند وقعة بيدرا قد أطلعا الأمير سيف الدين بتخاص الزيني مملوك الأمير كتبغا بحالهما، فتلطف مع أستاذه كتبغا في أمرهما حتى صار يتحدث مع السلطان إلى أن عفا عنهما، ثم تحدث كتبغا مع الأمير بكتاش في أمرهما، وانتدبه لإصلاح حالهما مع الأمراء، فركب ودار على الأمراء وأعيان المماليك، وأزال ما كان في نفوسهم من الوحشة. وقرر الحال على أنهما يصعدان إلى القلعة يوم العيد، فأتيا سرا إلى بيت الأمير كتبغا بقلعة الجبل، فأخذهما معه ودخل إلى السماط، فقبلا الأرض للسلطان على العادة، فأكرمهما وخلع عليهما وأمرهما كما كانا، ونزلا فحمل الأمراء إليهما من التقادم ما يجل وصفه. وكانت هذه الفعلة من كتبغا مع لاجين كعنز السوء بحثت عن حتفها بظلفها، كما ستراه قريباً من خبرهما إن شاء الله.
وفيه أفرج عن الأمير حسام الدين مهنا بن عيسي وأخوته وأولاده.
وفي هذه السنة: قصر مد النيل ولم يوف، بل كانت نهايته خمسة عشر ذراعاً وثلث ذراع، فغلت الأسعار.
وفيها استقر في قضاء دمشق قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، عوضاً عن قاضي القضاة شهاب الدين محمد الخويي بحكم وفاته.
وفيها سار الشريف أبو نمي أمير مكة يريد مصر حتى يلقي السلطان الملك الأشرف، لأنه حلف على ذلك، فلما نزل ينبع رد إليه الشريف راجح بن إدريس ينبع، وجاءه الخبر بقتل السلطان الملك الأشرف، فرجع من ينبغ إلى مكة.
وغلت الأسعار بمكة، فأبيع المد الملح بستة دنانير مكية، وغلت بها المياه في شعبان ورمضان. وقدم حاج اليمن في كثرة، فبلغت الراوية أربعة دنانير، وحمل الماء من عرفة إلى مكة. ثم أغاث الله بالأمطار وكانت بمني قبله في يوم الأحد، فسار الناس منها يوم الأربعاء ومضوا إلى بلادهم.
وفيها قتل الملك كيختو بن أبغا بن هولاكو. وولي بعده بيدو بن طوغاي بن هولاكو.
ومات في هذه السنة من الأعيان
قاضي قضاة الشام شهاب الدين أبو عبد الله محمد بن قاضي القضاة شمس الدين أبي العباس أحمد بن الخليل بن سعادة بن جعفر بن عيسى المهلبي الشهير بابن الخويي الشافعي بدمشق عن سبع وستين سنة، ولي قضاء حلب ودمشق ومصر، ولم يبرح مشكور السيرة.
وتوفي الوزير الصاحب فخر الدين أبو إسحاق إبراهيم بن لقمان بن أحمد بن محمد الشيباني الإسعردي عن إحدى وثمانين سنة، وزر مرتين.
وتوفي الوزير الصاحب شمس الدين أبو عبد الله محمد بن عثمان بن أبي الرجا بن السلعوس التنوخي، عن خمسين سنة مقتولا.
وتوفي الزاهد المعتقد تقي الدين أبو محمد عبد الله بن على بن محمد بن منجد السروجي بالقاهرة.
وتوفي المحدث شرف الدين أبو على الحسن بن على بن عيسي بن الحسن بن على ابن الصيرفي اللخمي عن نحو سبع وستين سنة.
ومات قبلاي خانة بن طلوي بن جنكزخان ملك الصين، وهو أكبر الخانات والحاكم على كرسي مملكة جنكزخان. وكانت مدته قد طالت، فقام في مملكة الصين بعده ابنه شبردون بن قبلاي.
سنة أربع وتسعين وستمائة
في المحرم: ورد الخبر بأن كيختو بن أبغا بن هولاكو، الذي تسلطن بعد أخيه أرغون في سنة تسعين، قتل في سنةثلاث وتسعين. وملك بعده ابن عمه بيدو، وهو ابن طرغاي بن هولاكو، فخرج عليه غازان بن أرغون بن أبغا نائب خراسان، وكسره وأخذ الملك منه، ويقال إنه أسلم على يد الشيخ صدر الدين بن حمويه الجويني.(1/276)
وفي ليلة الأربعاء حادي عشره: اجتمع المماليك الأشرفية الذين بالكبش وخرجوا إلى الإسطبلات التي تحت القلعة، وركبوا الخيول ونهبوا ما قدروا عليه. وداروا على خوشداشيتهم فأركبوهم ومضوا إلى باب سعادة من أبواب القاهرة فأحرقوه، ودخلوا إلى دار الوزارة ليخرجوا من فيها من المماليك، فلم يوافقوهم على ذلك فتركوهم، وقصدوا سوق السلاح بالقاهرة، وفتحوا الحوانيت وأخذوا السلاح، ومضوا إلى خزانة البنود وأخرجوا من فيها من المماليك، وساروا إلى إسطبل السلطان ووقفوا تحت القلعة. فركب الأمراء الذين بالقلعة وقاتلوهم، فلم يثبتوا وانهزموا وتفرقوا. فقبض عليهم من القاهرة وضواحيها و لم يفلت منهم أحد، فضربت رقاب بعضهم بباب القلعة، وقطعت أيدي جماعة وأرجلهم، وغرق غير منهم، وفيهم من أكحل، وفيهم من قطعت ألسنتهم، ومنهم من صلب على باب زويلة، ومنهم من بقي، وفرق بعضهم على الأمراء وكانوا زيادة على ثلاثمائة مملوك.
وفي يوم الأربعاء حادي عشره: خلع الملك الناصر ابن قلاوون، وكانت أيامه سنة واحدة تنقص ثلاثة أيام، لم يكن لي فيها أمر ولا نهي.
السلطان زين الدين كتبغا المنصوري
السلطان الملك العادل زين الدين كتبغا المنصوري كان في مدة سلطنة الملك الناصر هو القائم بجميع أمور الدولة، وليس للناصر معه تصرف ألبتة. ثم إنه أخذ في أسباب السلطة بعد قتل الشجاعي. ولما دخل المحرم انقطع في دار النيابة وأظهر أنه ضعيف البدن، وباطن أمره إنه يريد أن يقرر أموره في السلطنة فخرج إليه الناصر وعاده. فلما كانت فتنة المماليك جلس في صباح تلك الليلة بدار النيابة وجمع الأمراء وقال لهم: قد انخرق ناموس المملكة، والحرمة لا تتم بسلطنة الناصر لصغر سنه. فاتفقوا على خلعه وإقامة كتبغا مكانه، وحلفوا له على ذلك، وقدم إليه فرس النوبة بالرقبة الملوكية، وركب من دار النيابة قبلي أذان العصر من يوم أيامه سنة واحدة تنقض ثلاثة أيام الأربعاء حادي عشر المحرم، ودخل من باب القلة إلى الأدر السلطانية، والأمراء مشاة بين يديه حتى جلس على التخت بأهبة الملك، وتلقب بالملك العادل، فكانت أيامه شر أيام من الغلاء والوباء وكثرة الموتان.
ومن عجيب الاتفاق أن مشرف المطبخ السلطاني بالقلعة ضرب بعض المرقدارية فبلغه ركوب كتبغا بشعار السلطنة، فنهض المشرف وصبيان المطبخ لرؤية السلطان وفيهم المضروب وهو يقول: يا نهار الشوم! إن هذا نهار نحس فجري هذا الكلام في هذا اليوم على ألسنة جميع الناس.
وفيه نقل الملك الناصر محمد من القصر، وأسكن هو وأمه في بعض قاعات القلعة.
وفي ثاني عشره: مد العادل سماطا عظيماً وجلس عليه، فدخل إليه الأمراء وقبلوا يده، وهنئوه بالسلطنة وأكلوا معه. فلما انقضى الأكل خلع على الأمير حسام الدين لاجين الصغير، واستقر في نيابة السلطنة بديار مصر، وخلع على الأمير عز الدين أيبك الأفرم الصالحي، وجعل أمير جاندار، وخلع على الأمير سيف الدين الحاج بهادر، واستقر أمير جاجب.
وفي رابع عشره: خرج البريد بالكتب إلى البلاد الشامية بسلطنة العادل كتبغا، وخرجت كتب دمشق على يد الأمير ساطلمش المنصوري، فقدم دمشق في سابع عشره وحلف النائب والأمراء، ودقت البشائر.
وفي يوم الخميس تاسع عشره: خلع على سائر الأمراء وأرباب الدولة، وأنعم على المماليك المقيمين بدار الوزراة من أجل أنهم امتنعوا من إقامة الفتنة.
وفي يوم الأربعاء أول شهر ربيع الأول: ركب السلطان على عادة الملوك واللواء الخليفتي على رأسه والتقليد بين يديه، وكتبت البشائر بذلك لسائر النواب من إنشاء القاضي جمال الدين محمد بن المكرم بن أبي الحسن بن أحمد الأنصاري.
وشرع السلطان يؤمر مماليكه فأمر أربعة: وهم بتخاص وقد جعله أستادارا، وأغرلو وبكتوت الأزرق وقطلو بك، فركبوا بالإمرة في يوم واحد. وفوض السلطان وزارة دمشق للصاحب تقي الدين توبة التكريتي على عادته في أيام المنصور قلاوون وكتب له برد ما أخذ منه في الدولة الأشرفية، وسار من القاهرة.
وفي يرم الثلاثاء خامس عشري جمادى الأولى: عزل الصاحب تاج الدين محمد ابن حنا من الوزارة، واستقر بالقاضي فخر الدين عمر بن الشيخ مجد الدين عبد العزيز الخليلي الداري وكان ناظر ديوانه وناظر الدواوين في الوزارة.(1/277)
وفي هذا الشهر: استسقى الناس بدمشق لتوقف نزول الغيث، وخرج النائب وسائر الناس مشاة. وتزايد الغلاء بديار مصر بعدما أقامت خيول السلطان يؤخذ لها العلف من دكاكين العلافين، وكانت التقاوي المخلدة قد أكلت. و لم يكن بالأهراء السلطانية غلال، فإن الأشرف كان قد فرق الغلال وأطلقها للأمراء وغيرهم حتى نفد ما في الأهراء. وقصر مد النيل كما تقدم، فصار الوزير يشتري الغلال للمئونة بدور السلطان وللعليق، فتزايد الغلاء حتى بلغ تسعين درهما الأردب.
ووقع في شهر ربيع الأول من هذه السنة: بديار مصر كلها وباء، وعظم في القاهرة ومصر، وتزايد حتى كان يموت فيهما كل يوم ألوف، ويبقي الميت مطروحا في الأزقة والشوارع ملقى في الممرات والقوارع اليوم واليومين لا يوجد من يدفنه، لاشتغال الأصحاء بأمواتهم والسقماء بأمراضهم.
وفي سادس عشري رمضان: استقر نجم الدين أحمد بن صصرى في قضاء العسكر بدمشق وسافر من القاهرة، وأنعم على الملك الأوحد شادي بن الزاهر مجير الدين دوادار بن المجاهد أسد الدين شيركوه بن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه الأيوبي بإمرة في دمشق، فاستقر من جملة أمراء الطبلخاناه بها، وهو أول من أمر طبلخاناه من بني أيوب في دولة التركية. فقدم الخبر بموت الملك المظفر شمس الدين أبي المظفر يوسف بن الملك المنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول التركماني صاحب اليمن في شهر رمضان فكانت مدته نحو خمس وأربعين سنة وكانت سيرته جيدة. وملك بعده ابنه الملك الأشرف ممهد الدين عمر ولي عهد هأيون، فنازعه أخوه الملك المؤيد هزبر الدين داود وجمع لقتاله، وحاصر عدن ثلاثة عشر يوما وملكها وأخذ الأموال بغير حق، وسار يريد تعز فبعث إليه الأشرف جيشا قاتله وأسره وحمله إليه، فاعتقله.
وفيها استقر قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة من خطابة الجامع الأموي بدمشق، زيادة على ما بيده من قضائها، فخطب وصلى بالناس يوم الجمعة سادس شوال، وهو أول من جمع له بين القضاء والخطابة بدمشق.
وفيها قبض على الأمير عز الدين أيبك الخازندار المنصوري نائب البلاد الطرابلسية، وحمل إلى القاهرة، فقدمها في حادي عشر ذي القعدة واعتقل، وأقيم بدله الأمير عز الدين أيبك الموصلي المنصوري.
وفيها قصر مد النيل وبلغ ستة عشر ذراعاً وسبع عشر إصبعا، ثم هبط من ليلته ولم يعد، فتزايد الغلاء واشتد البلاء. وأجدبت بلاد برقة أيضاً، وعم الغلاء والقحط ممالك المشرق والمغرب والحجاز، وبلغ سعر الأردب القمح بمصر مائة وخمسين درهما فضة. وتزايد موت الناس حتى بلغت عدة من أطلق من الديوان في شهر ذي الحجة سبعة عشر ألفا وخمسمائة، سوى الغرباء والفقراء وهم أضعاف ذلك وأكل الناس من شدة الجوع الميتات والكلاب والقطاط والحمير، وأكل بعضهم لحم بعض. وأناف عدد من عرف بموته في كل يوم ألف نفس، سوى من لم يثبت اسمه في الديوان. فلما اشتد الأمر فرق السلطان الفقراء على أرباب الأموال بحسب حالهم.
وفيها كثرت الفلوس، فعلمت كل أوقية بسدس درهم.
وفيها مات ملك تونس الأمير أبو حفص عمر بن يحيى بن عبد الواحد لهن أبي حفص ليلة الجمعة رابع عشري ذي الحجة، فكانت مدته إحدى عشرة سنة وثمانية أشهر. وبويع أبو عبد الله محمد المعروف بأبي عصيدة بن يحيى بن محمد بن يحيى بن عبد الواحد.
ومات في هذه السنة من الأعيان
القان كيختو بن أبغا بن هولاكو بن طلو بن جنكزخان ملك التتار قتيلا، فكانت مدة ملكه نحو أربع سنين.
ومات القان بيدو بن طرغاي، بن هولاكو القائم بعد كيختو مقتولا، فكانت مدة ملكه نحو ثمانية أشهر، وقام بعده عازان بن أرغون بن أبغا بن هولاكو. ومات الملك المظفر محمد بن المنصور عمر بن علي بن رسول ملك اليمن بقلعة تعز وقد تجاوز ثمانين سنة، منها مدة ملكه نحو سبع وأربعين سنة.
ومات الملك السعيد داود بن المظفر قرا أرسلان بن السعيد غازي بن المنصور أرتق ابن إيلغازي بن ألبى تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق صاحب ماردين، وقام بعده أخوه المنصور غازي.(1/278)
وتوفي شرف الدين أبو العباس أحمد بن أحمد بن نعدة بن أحمد بن جعفر بن الحسين ابن حماد القدسي الشافعي، عن ثلاث وسبعين سنة بدمشق، وقد انتهت إليه رياسة الفتوي وولي خطابة الجامع الأموي. وتوفي عز الدين أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن عمر بن فرج بن أحمد بن سابور الفاروثي الواسطي الشافعي، عن ثمانين سنة بواسط، وكان قد ولي الخطابة بعد ابن المرحل، وكان إماماً في عدة فنون.
وتوفي محب الدين أبو العباس أحمد بن عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن إبراهيم الطبري المكي الشافعي فقيه الحجاز، بمكة عن تسع وسبعين سنة.
وتوفي شمس الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد بن الساكن الطوسي المشهدي، بالقاهرة.
سنة خمس وتسعين وستمائة
في المحرم: حدث بقرية جبة عسال من قرى دمشق أمر عجيب: وهو أن شابا من أهلها خرج بثور له يسقيه الماء، فلما فرغ الثور من شربه حمد الله، فتعجب الصبي من ذلك، وحكاه فلم يصدق. فلما كان في اليوم الثاني خرج صاحب الثور به ليسقيه، فشرب وحمد الله بعد فراغه، فمضى به، وكثر ذكر ذلك بالقرية. فخرج به في اليوم الثالث وقد حضر أهل القرية، فعندما فرغ الثور من شربه سمعه الجميع وهو يحمد الله. فتقدم بعضهم وسأله، فقال الثور بكلام سمعه من حضر: إن الله عز وجل كان قد كتب على الأمة سبع سنين جدباً، ولكن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم أبدلها الله تعال بالخصب. وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بتبليغ ذلك إلى الناس. قال الثور فقلت: يا رسول الله ما علامة صدقي عندهم؟ قال: أن تموت عقيب الإخبار ثم مضى الثور إلى موضع مرتفع وسقط ميتاً، فتقاسم أهل القرية شعره للتبرك به، وكفنوه ودفنوه وحضر إلى قلعة الجبل محضر ثابت على قاضي الولاية بهذه الحادثة.
وفي ربيع الأول: قدم البريد بوصول طائفة الأويراتية من التتار ومقدمهم طرغاي زوج بنت هولاكو، وإنهم نحو الثمانية عشر ألف بيت، وقد فروا من غازان ملك التتار وعبروا الفرات يريدون الشام. فكتب إلى نائب الشام أن يبعث إليهم الأمير علم الدين سنجر الدواداري إلى الرحبة ليلقاهم، فخرج من دمشق، ثم توجه بعده الأمير سنقر الأعسر شاد الدواوين بدمشق، وخرج الأمير قراسنقر المنصوري من القاهرة أيضاً، فوصل دمشق في ثاني عشريه، ثم تبعه الأمير سيف الدين الحاج بهادر الحلبي الحاجب، فأقام بدمشق حتى وصلت أعيان الأويراتية صحبة سنقر الأعسر في ثالث عشريه. وكانت عدتهم مائة وثلاثة عشر رجلا، ومقدمهم طرغاي، ومن أكابرهم الوص وككباي، فتلقاهم النائب والأمراء واحتفل لقدومهم احتفالاً زائداً.
ثم سار بهم الأمير قراسنقر إلى القاهرة يوم الإثنين سابع ربيع الآخر، فلما وصلوا بالغ السلطان في إكرامهم والإحسان إليهم، وأمر عدة منهم. وبقوا على كفرهم، ودخل شهر رمضان فلم يصم منهم أحد، وصاروا يأكلون الخيل من غير ذبحها، بل يربط الفرس ويضرب على وجهه حتى يموت فيؤكل. فأنف الأمراء من جلوسهم معهم بباب القلة في الخدمة، وعظم على الناس إكرامهم، وتزايد بعضهم في السلطان، وانطلقت الألسنة بذمه حتى أوجب ذلك خلع السلطان فيما بعد.
وأما بقية الأويراتية فإنه كتب إلى سنجر الدواداري أن ينزلهم ببلاد الساحل، فمر بهم على مرج دمشق، وأخرجت الأسواق إليهم فنصبت بالمرج وبمنزلة الصنمين وفي الكسوة، و لم يمكن أحد من الأويرايتة أن يدخل مدينة دمشق. وأنزلوا من أراضي عثليث ممتدين في بلاد الساحل، وأقام الأمير سنجر عندهم إلى أن حضر السلطان إلى الشام.
وقد هلك منهم عالم كبير، وأخذ الأمراء أولادهم الشباب للخدمة، وكثرت الرغبة فيهم لجمالهم، وتزوج الناس ببناتهم، وتنافس الأمراء والأجناد وغيرهم في صبيانهم وبناتهم، ثم انغمس من بقي منهم في العساكر، فتفرقوا في الممالك، ودخلوا في الإسلام واختلطوا بأهل البلاد.
وفي يوم السبت ثامن عشر جمادى الأولى: استقر في قضاء القضاة بديار مصر تقي الدين محمد بن مجد الدين علي بن وهب بن مطيع القشيري المعروف بابن دقيق العيد الشافعي، بعد وفاة قاضي القضاة ذي الرياستين تقي الدين عبد الرحمن بن قاضي القضاة ذي الرياستين تاج الدين عبد الوهاب بن خلف بن بدر العلامي المعروف بابن بنت الأعز.(1/279)
وفي هذه السنة: اشتد الغلاء، وبلغ سعر الأردب القمح المصري إلى مائة وثمانين درهما، والشعير تعدي الأردب منه مائة درهم، والفول بنحو تسعين درهما الأردب. وبلغ الترس ستين درهما الأردب بعد خمسة دراهم، وأبيع الخبز كل رطل بدرهم نقرة، وأبيع الفروج بعشرين درهما بعد ثلاثة دراهم. وذبحت فراريج للمرضى ثم وزن لحمها فوقف كل وزن درهم منها بدرهم فضة، وأبيعت بطيخة صيفية للمرضى بمائة درهم فضة، وأبيع الرطل منه بأربعة دراهم. وأبيعت سفرجلة بثلاثين درهما، وكل رطل لحم بسبعة دراهم، وكل سبع حبات من بيض الدجاح بدرهم، و لم يزد سعر القمح في بلاد الصعيد الأعلى على خمسة وسبعين درهما الأردب.
وهلك معظم الدواب لعدم العلف حتى لم توجد دابة للكراء، وهلكت الكلاب والقطاط من الجوع. وانكشف حال كثير من الناس، وشحت الأنفسي حتى صار أكابر الأمراء يمنعون من يدخل عليهم من الأعيان عند مد أسمطتهم. وكثر تعزير محتسب القاهرة ومصر لبياعي لحوم الكلاب والميتات، ثم تفاقم الأمر فأكل الناس الميتة من الكلاب والمواشي وبني آدم، وأكل النساء أولادهن الموتى. ورأي بعض الأمراء بباب داره امرأة لها هيئة حسنة وهي تستعطي، فرق لها وأدخلها داره فإذا هي جميلة، فأحضر لها رغيفا وإناء مملوءاً طعاماً أكلته كله ولم تشبع، فقدم إلها مثله فأكلته وشكت الجوع، فما زال يقدم لها وهي تأكل حتى اكتفت، ثم استندت إلى الحائط ونامت، فلما حركوها وجدت ميتة، فاخذوا من كتفيها جرابا فلفوا فيه يد إنسان صغير ورجله، فأخذ الأمير ذلك وصعد به القلعة وأراه السلطان والأمراء.
ثم إن الأسعار انحلت في شهر رجب، حتى أبيع الأردب القمح بخمسة وثلاثين درهما، والشعير بخمسة وعشرين درهما الأردب.
وأما النيل فإنه توقف، ثم وفي ستة عشر ذراعا وكسر الخليج، فنقص في يوم عيد الفطر بعد الكسر نقصا فاحشا ثم زاد. فتزايد السعر وساءت ظنون الناس، وكثر الشح وضاقت الأرزاق ووقفت الأحوال، واشتد البكاء وعظم ضجيج الناس في الأسواق من شدة الغلاء.
وتزايد الوباء بحيث كان يخرج من كل باب من أبواب القاهرة في كل يوم ما يزيد على سبعمائة ميت، ويغسل في الميضأة من الغرباء الطرحاء في كل يوم نحو المائة والخمسين ميتا، ولا يكاد يوجد باب أحد من المستورين بالقاهرة ومصر إلا ويصبح على بابه عدة أموات قد طرحوا حتى يكفنهم، فيشتغل نهاره. ثم تزايد الأمر فصارت الأموات تدفن بغير غسل ولا كفن، فإنه يدفن الواحد في ثوب ثم ساعة ما يوضع في حفرته يؤخذ ثوبه حتى يلبس لميت آخر، فيكفن في الثوب الواحد عدة أموات.
وعجز الناس عن مواراة الأموات في القبور لكثرتهم وقلة من يحفر لهم، فعملت حفائر كبار ألقيت فيها الأموات من الرجال والنساء والصبيان حتى تمتلئ الحفرة، ثم تطم بالتراب. وانتدب أناس لحمل الأموات ورميهم في الحفر، فكانوا يأخذون عن كل ميت نصف درهم، فيحمله الواحد منهم ويلقيه إما في حفرة أو في النيل إن كان قريباً منه. وصارت الولاة بالقاهرة ومصر تحمل الأموات في شباك على الجمال، ويعلقون الميت بيديه ورحليه من الجانبين، ويرمي في الحفر بالكيمان من غير غسل ولا كفن، ورمي كثير من الأموات في الآبار حتى تملأ ثم تردم.
ومات كثير من الناس بأطراف البلاد فبقي على الطرقات حتى أكلته الكلاب، وأكل كثيراً منها بنو آدم أيضاً وحصر في شهر واحد من هذه السنة عدة من مات ممن قدر على معرفته، فبلغت العدة مائة ألف وسبعة وعشرين ألف إنسان، وعظم الموتان في أعمال مصر كلها حتى خلت القرى.
وتأخر المطر ببلاد الشام حتى دخل فصل الشتاء ليلة الخميس سادس صفر وهو سادس عشر كانون الأول ولم يقع المطر، فتزايدت الأسعار في سائر بلاد الشام. وجفت المياه، فكانت الدابة تسقي بدرهم شربة واحدة، ويشرب الرجل بربع درهم شربة واحدة، و لم يبق عشب ولا مرعي. وبلغ القمح كل غرارة في دمشق بمائة وسبعين درهما، والخبز كل رطل وأوقتين بدرهم، واللحم كل رطل بأربعة دراهم ونصف ثم إن الشيخ شرف الدين أحمد بن إبراهيم بن سباع الفزاري قرأ صحيح البخاري تحت قبة النسر بالجامع الأموي بدمشق في يوم الأحد تاسع صفر، فسقط المطر في تلك الليلة واستمر عدة أيام وعقبه ثلج، فسر الناس، إلا أن الأسعار تزايدت، ثم انحطت. واشتد الغلاء بالحجاز، حتى أبيعت الغرارة القمح في مكة بألف ومائتي درهم.(1/280)
وفي رجب: وقعت صاعقة على قبة زمزم، فقتلت الشيخ علي بن محمد بن عبد السلام مؤذن الحرم وهو يؤذن على سطح القبة.
وفيها قدمت أم الملك العادل سلامش بن السلطان الملك الظاهر بيبرس من بلاد القسطنطينية إلى دمشق في حادي عشر رمضان، وسارت إلى القاهرة في ثامن عشره. وفيها مات الملك السعيد إيلغازي بن المظفر فخر الدين قرا أرسلان الأرتقي صاحب ماردين، فكانت أيامه قريباً من ثلاث سنين، وقام من بعده أخوه الملك المنصور نجم الدين عازي.
وفي يوم السبت سابع عشر شوال: خرج السلطان من قلعة الجبل بعساكر مصر يريد الشام، واستخلف الأمير شمس الدين كرتيه في نيابة السلطنة، وولده الملك المجاهد أنص. فدخل دمشق في يوم السبت خامس عشر ذي القعدة، وحمل الأمير بيسري الجتر على رأسه.
وفيه استقر تقي الدين سليمان في قضاء الحنابلة بدمشق، عوضاً عن شرف الدين حسن بن عبد الله بن محمد بن قدامة المقدسي بحكم وفاته في ثاني عشري شوال.
ولما استقر السلطان بدمشق خلع في سادس عشره على الأمراء وأهل الدولة، وشرع الصاحب فخر الدين الخليلي في مصادرات أهل دمشق من الولاة والشادين ورسم على سنقر الأعسر شاد الدواوين، وعزل أسندمر كرجي وإلى البر، وولي عوضه علاء الدين ابن الجاكي، وألزم الأعسر وسائر المباشرين بأموال جزيلة.
وفي رابع عشريه: قدم الملك المظفر صاحب حماة إلى دمشق، فتلقاه السلطان وأكرمه وخرج عسكر كبير إلى حلب.
وفي يوم الجمعة ثامن عشريه: صلى السلطان بالجامع الأموي، وخلع على خطيبه قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة.
وفي يوم الإثنين ثاني ذي الحجة: عزل الأمير عز الدين أيبك الحموي عن نيابة دمشق، ووقعت الحوطة على خيوله وأمواله، واستقر في نيابة دمشق الأمير سيف الدين أغرلو العادلي، وعمره نحو الثلاثين سنة، واستقر أيبك الحموي نائب دمشق على إقطاع أغرلو بديار مصر، وخلع عليه.
وفي ثامنه: استقر في وزارة دمشق عوضاً عن تقي الدين توبة وكيل السلطان شهاب الدين أحمد بن أحمد بن عطاء الأذرعي الحنفي محتسب دمشق.
وفي ثاني عشره: خرج السلطان إلى حمص ليتصيد، فدخلها في تاسع عشره، وحضر إليه نائب حلب وبقية النواب. وانسلخت هذه السنة والسلطان على جوسية من قرى حمص بمخيمه، وكان قد اشتراها.
وفيها ولي الشريف شمس الدين محمد بن شهاب الدين الحسين بن شمس الدين محمد قاضي العسكر نقابة الأشراف بديار مصر، بعد وفاة الشريف عز الدين أحمد بن محمد ابن عبد الرحمن الحلبي واستقر في قضاء الحنابله بدمشق تقي الدين أبو الفضل ابن عبد الرحمن الحلبي سليمان بن حمزة بعد موت شرف الدين حسن بن عبد الله بن الشيخ أبي عمر.
وفيها استقر الملك المؤيد هزبر الدين داود بن المظفر محمد بن عمر بن على مملكة اليمن، بعد موت أخيه الأشرف ممهد الدين عمر.
ومات في هذه السنة من الأعيان
الملك الأشرف عمر بن المظفر محمد بن المنصور عمر بن علي بن رسول متملك اليمن، وقد قارب سبعين سنة.
وتوفي قاضي القضاة ذو الرياستين تقي الدين أبو القاسم عبد الرحمن بن تاج الدين أبي محمد عبد الوهاب بن خلف بن أبي القاسم ابن بنت الأعز العلامي الشامي بالقاهرة عن.
وتوفي قاضي الحنابلة بدمشق شرف الدين أبو الفضائل الحسن بن عبد الله بن الشيخ أبي عمر محمد بن الحسن بن محمد بن قدامة المقدسي بدمشق، عن سبع وخمسين سنة.
وتوفي العلامة زين الدين أبو البركات المنجا بن عثمان بن أسعد بن المنجا التنوخي الدمشقي الحنبلي، عن نحو خمس وستين سنة بدمشق.
وتوفي الصاحب محيى الدين أبو عبد الله محمد بن يعقوب بن إبراهيم بن هبة الله ابن طارق بن سلامة بن النحاس الآمدي الحلبي الحنفي، بدمشق عن إحدى وثمانين سنة، وكانت قد انتهت إليه مشيخة فقه الحنفية، وولي قضاء حلب ثم وزارة دمشق.
وتوفي تاج الدين أبو عبد الله محمد بن عبد السلام بن المطهر بن أبي سعد عبد الله ابن محمد بن هبة الله بن علي بن المطهر بن أبي عصرون التميمي الموصلي الشافعي، بدمشق عن خمس وثمانين سنة.
وتوفي المقرىء الزاهد شرف الدين أبو الثناء محمد بن أحمد بن مبادر بن ضحاك التاذفي بدمشق عن إحدى وسبعين سنة.
وتوفي السراج أبو حفص عمر بن محمد بن الحسن الوراق الشاعر، عن نحو سبعين سنة.(1/281)
وتوفي أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الوهاب بن خلف بن محمود الشافعي الفقيه الأديب، بمصر.
؟سنة ست وتسعين وستمائة
في ثاني المحرم قدم السلطان من حمص إلى دمشق.
وفي يوم الجمعة رابعه: صلى صلاة الجمعة بالجامع الأموي، وأخذ قصصاً كثيرة رفعت إليه، ورأي بيد رجل قصة فتقدم إليه بنفسه ومشي عدة خطوات حتى أخذ القصة منه بيده.
وفي سابع عشره: أنعم على الملك الكامل ناصر الدين محمد بن الملك السعيد بن الصالح عماد الدين إسماعيل بن العادل أبي بكر بن أيوب بإمرة طبلخاناه بدمشق.
وفي حادي عشريه: قبض على الأمير أسندمر كرجي، واعتقل بقلعة دمشق، وعزل سنقر الأعسر عن شد الدواوين بدمشق، واستقر عوضه الأمير فتح الدين عمر بن محمد ابن صبرة.
وفي بكرة يوم الثلاثاء ثاني عشريه: رحل السلطان من دمشق بعساكره يريد القاهرة، وقد توغرت صدور الأمراء وتواعدوا على الفتك به. فسار إلى أن نزل بالعوجاء قريباً من الرملة، وحضر الأمراء عنده بالدهليز، فأمر بإحضار الأمير بيسري فطلب طلبا حثيثاً، فلما حضر لم يقم له على عادته، وأغلظ له في الكلام ونسبه إلى أنه كاتب التتار، فكانت بينهما مفاوضة، ثم نهض السلطان، وانفض الأمراء وقد حرك منهم ما كان عندهم كامناً.
فاجتمعوا عند الأمير حسام لاجين النائب وفيهم بيسري، وسألوه عما كان من السلطان في حق فقال: إن مماليك السلطان كتبوا عنك كتباً إلى التتار، وأحضروها إليه وقالوا إنك كتبتها، ونيته القبض عليك إذا وصل إلى مصر، وأن يقبض على أيضاً وعلى أكابر الأمراء، ويقدم مماليكه. فأجمعوا عند ذلك على مبادرة السلطان، فركبوا يوم الثلاثاء سابع عشري المحرم وقت الظهر: وهم لاجين بيسري وقرا سنقر وقبجاق والحاج بهادر الحاجب في آخرين، واستصحبوا معهم حمل نقارات وساقوا ملبسين إلى باب الدهليز، وحركت النقارات حربياً. فركب عدة من العادلية واقتتلوا، فتقدم تكلان العادلي فضربه الأمير لاجين في وجهه ضربة أخذت منه جانباً كبيراً، وجرح تكلان فرس لاجين وقتل الأمير بدر الدين بكتوت الأزرق العادلي في خيمته، وقتل الأمير سيف الدين بتخاص العادلي، وقد فر إلى الدهليز فأدركوه بباب الدهليز فقتلوه، وجرحوا عدة من المماليك العادلية. فلم يثبت العادل، وخرج من ظهر الدهليز، وركب فرس النوبة ببغلطاق صدر، وعبر على قنطرة العوجاء يريد دمشق من غير أن يفطن به أحد، و لم يدركه سوي خمسة من مماليكه. وهجم لاجين على الدهليز فلم يجد العادل وبلغه أنه فر، فساق خلفه فلم يدركه ورجع إلى الدهليز، فلما عاينه الأمراء ترجلوا له ومشوا في ركابه حتى نزل. فكانت مدة كتبغا، منذ جلس على التخت بقلعة الجبل في يوم الأربعاء حادي عشر المحرم سنة أربع وتسعين وستمائة، وإلى أن فارق الدهليز بمنزلة العوجاء في يوم الثلاثاء سابع عشري المحرم سنة ست وتسعين وستمائة، سنتين وسبعة عشر يوما.
السلطان حسام الدين لاجين
السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين المنصووي المعروف بالصغير(1/282)
كان أولا من جملة مماليك الملك المنصور علي بن الملك المعز أيبك، فلما خلع اشتراه الأمير سيف الدين قلاوون وهو أمير بسبعمائة وخمسين درهما، من غير مالك شرعي، فلما تبين له أنه من مماليك المنصور اشتراه مرة ثانية، بحكم بيع قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز له عن المنصور وهو غائب ببلاد الأشكري. وعرف حين بيعه بشقير، فربي عند قلاوون وقيل له لاجين الصغير، وترقى في خدمته من الأوشاقية إلى السلاح دارية. ثم أمره قلاوون واستنابه بدمشق لما ملك، وهو لا يعرف إلا بلاجين الصغير، فشكرت سيرته في النيابة، وأحبته الرعية لعفته عما في أيديهم، فلما ملك الأشرف خليل بن قلاوون قبض عليه وعزله عن نيابة دمشق، ثم أفرج عنه وولاه إمرة السلاح دار كما كان قبل استنابته على دمشق. ثم بلغه أن الأشرف يريد القبض عليه ثانياً، ففر من داره بدمشق، فقبض عليه وحمل إلى قلعة الجبل، وأمر بخنقه قدام السلطان. ثم نجا من القتل بشفاعة الأمير بدر الدين بيدرا، وأعيد إلى الخدمة على عادته، واشترك مع بيدرا في قتل الأشرف خليل، كما تقدم ذكره. ثم اختفى خبره مدة، وتنقل في المدن إلى أن تحدث الأمير زين الدين كتبغا في أمره، فعفى عنه وأعيد إلى إمرته كما كان. فلما صار زين الدين كتبغا سلطانا، استقر لاجين في نيابة السلطنة بديار مصر، إلى أن ركب على كتبغا وفر منه، فنزل بالدهليز من العوجاء وقيل من اللجون.
واجتمع الأمراء عنده، وهم بدر الدين بيسري الشمسي، وشمس الدين قراسنقر المنصوري، وسيف الدين قبجاق، وسيف الدين بهادر الحاج أمير حاجب، وسيف الدين كرد، وحسام الدين لاجين السلاح دار الرومي أستادار، وبدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح، وعز الدين أيبك الخازندار، وجمال الدين أقوش الموصلي، ومبارز الدين أمير شكار، وسيف الدين بكتمر السلاح دار، وسيف الدين سلار، وسيف الدين طغي، وسيف الدين كرجي، وعز الدين طقطاي، وسيف الدين برلطاي في آخرين، حتى حملت الخزائن على البغال ورمي الدهليز. وساروا في خدمة لاجين إلى قريب المغرب، ونزلوا قريباً من يازور وحضروا بأجمعهم بين يدي لاجين واتفقوا على سلطنته، وشرطوا عليه أن يكون معهم كأحدهم، ولا ينفرد برأي دونهم، ولا يبسط أيدي مماليك ولا يقدمهم، وحلفوه على ذلك. فلما حلف قال له الأمير قبجاق المنصوري: نخشى أنك إذا جلست في منصب السلطنة تنسى هذا الذي تقرر بيننا وبينك، وتقدم مماليك وتخول مملوكك منكوتمر علينا، فيصيبنا منه ما أصابنا من مماليك كتبغا. وكان منكوتمر مملوك لاجين، وكان يوده ويؤثره، وله عنده مكانة متمكنة من قلبه. فحلف لاجين مرة ثانية أنه لا يفعل ذلك، ولا يخرج عما التزمه وشرطوه عليه، فحلف له الأمراء وأرباب الدولة. وتلقب بالملك المنصور، وركب بشعار السلطنة في يوم الثلاثاء سابع عشرى المحرم، وبات تلك الليلة ورحل إلى سكرير ومنها إلى غزة يريد الديار المصرية، فلما دخل غزة حمل الأمير بيسري الجتر على رأسه، فخطب له بغزة والقدس وصفد والكرك ونابلس، وضربت بها البشائر.
وهذا وقد ركب البريد من غزة، وساق الأمير سيف الدين سلار البريد إلى قلعة الجبل ليحلف من بها من الأمراء. ورسم السلطان لاجين في غزة بمسامحة أهل مصر والشام بالبواقي، ثم سار منها في يوم الخميس أول صفر. ونزل ظاهر بلبيس في ثامنه، وقد خرج إليه أمراء مصر وحلفوا له، ثم سار منها ضحوة وبات مسجد تبر، وركب بكرة يوم الجمعة تاسعه إلى قلعة الجبل. ثم ركب إلى الميدان السلطاني بشعار السلطة على العادة، وشق القاهرة من باب النصر إلى باب زويلة، وعليه الخلعة الخليفتية وهي جبة سوداء بزيق وأكمام واسعة والتقليد محمول بين يديه، حتى عاد إلى القلعة والخليفة إلى جانبه، وذلك في يوم الخميس خامس عشره.
وفي يوم قدومه انحطت الأسعار إلى نصف ما هي عليه، فسر الناس به، فإن القمح كان أربعين درهما الأردب إلى ما دونها، فأبيع بعشرين، وكان الشعير بثلاثين درهما الأردب، فأبيع بعشرة، وكان الرطل اللحم بدرهم ونصف، فأبيع بدرهم وربع، ودرت الأرزاق وكثر الخير.(1/283)
وفوض السلطان لاجين نيابة السلطة بديار مصر إلى الأمير شمس الدين قراسنقر المنصوري، واستمر بالصاحب فخر الدين بن الخليلي في الوزارة، وجعل الأمير سيف الدين سلار أستادارا، والأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار أمير جاندار، والأمير سيف الدين بهادر الحاج حاجبا، والأمير سيف الدين قبجاق المنصوري نائب الشام، ومنع الوزير من الظلم وأخذ المواريث بغير حق، وألا يطرح البضائع على التجار، فكثر الدعاء له.
وأما كتبغا فإنه قدم قبله إلى دمشق أمير شكاره وهو مجروح، ليعلم الأمير أغرلو نائب دمشق بما وقع، فوصل في يوم الأربعاء سلخ المحرم، فكثر بدمشق القال والقيل، وألبس أغرلو العسكر السلاح ووقفوا خارج باب النصر. فوصل كتبغا في أربعة أنفس قبل الغروب وصعد القلعة، وحضر إليه الأمراء والقضاة وجددت له الأيمان، ثم أوقع الحوطة على أموال لاجين. وقدم في أول صفر الأمير زين الدين غلبك العادلي بطائفة من المماليك العادلية، وجلس شهاب الدين الحنفي وزير الملك العادل كتبغا في الوزارة بالقلعة، ورتب الأمور وأحوال السلطنة. فاشتهرت بدمشق سلطنة لاجين في يوم ثالث عشره، وأن البشائر دقت بصفد ونابلس والكرك. فصار كتبغا مقيماً بقلعة دمشق لا ينزل منها، وبعث الأمير سيف الدين طقصبا الناصري في جماعة لكشف الخبر، فعادوا وأخبروا بصحة سلطنة لاجين. فأمر كتبغا جماعة من دمشق، وأبطل عدة مكوس في يوم الجمعة سادس عشره، وكتب بذلك توقيعاً قرئ بالجامع.
فبعث الملك المنصور لاجين من مصر الأمير سنقر الأعسر وكان في خدمته. فوصل إلى ظاهر دمشق في رابع عشره، وأقام ثلاثة أيام، وفرق عدة كتب على الأمراء وغيرهم وأخذ الأجوبة عنها، وحلف الأمراء. وسار إلى قارا وكان بها عدة أمراء مجردين فحلفهم وحلف عدة من الناس، وكتب بذلك كله إلى مصر. وسار إلى لد، فأقام بها في جماعة كبيرة لحفظ البلاد، ولم يعلم كتبغا بشيء من ذلك.
فلما كان يوم السبت رابع عشريه: وصل الأمير سيف الدين كجكن وعدة من الأمراء كانوا مجردين بالرحبة، فلم يدخلوا دمشق، ونزلوا بميدان الحصا قريباً من مسجد القدم، فأعلنوا باسم السلطان الملك المنصور لاجين، وراسلوا الأمراء بدمشق فخرجوا إليهم طائفة بعد طائفة. وانحل أمر كتبغا، فتدارك نفسه وقال للأمراء: السلطان الملك المنصور خوشداشي، وأنا في خدمته وطاعته، وأنا أكون في بعض القاعات بالقلعة إلى أن يكاتب السلطان ويرد جوابه بما يقتضيه فيأمري فأدخله الأمير جاغان الحسامي مكاناً من القلعة. واجتمع الأمراء بباب الميدان، وحلفوا للملك المنصور وكتبوا إليه بذلك، وحفظ جاغان القلعة ورتب بها من يحفظ كتبغا، وغلقت أبواب دمشق كلها إلا باب النصر، وركب العسكر بالسلاح ظاهر دمشق، وأحاط جماعة بالقلعة خوفا من خروج كتبغا وتحيزه في جهة أخرج. وكثر كلام الناس واختلفت أقوالهم، وعظم اجتماعهم بظاهر دمشق حتى أنه سقط في الخندق جماعة لشدة الزحام فيما بين باب النصر وباب القلعة، فمات نحو العشرة.
واستمر الحال على هذا يوم السبت المذكور، ثم دقت البشائر بعد العصر على القلعة وأعلن بالدعاء للملك المنصور، ودعي له على المآذن في ليلة الأحد، وضربت البشائر على أبواب الأمراء. وفتحت الأبواب في يوم الأحد، وحضر الأمراء والقضاة بدار السعادة وحلفوا الأمراء بحضور الأمير أغرلو نائب الشام، وحلف هو وأظهر السرور. وركب أغرلو والأمير جاغان البريد إلى مصر، وبلغ ذلك الأمير سنقر الأعسر بلد، فنهض إلى دمشق ودخلها يوم الخميس تاسع عشريه، وقد تلقاه الناس وأشعلوا له الشموع، وأتاه الأعيان، ونودي من له مظلمة فعليه بباب الأمير شمس الدين سنقر الأعسر.
وفي يوم الجمعة أول شهر ربيع الأول: خطب بدمشق للملك المنصور.
فلما كان يوج الجمعة ثامنه: وصل الأمير حسام الدين الأستادار بعسكر مصر ليحلف الأمراء، فحلفوا بدار السعادة في يوم السبت تاسعه، وقرئ عليهم كتاب الملك المنصور باستقراره في الملك وجلوسه على تخت الملك بقلعة الجبل، واجتماع الكلمة عليه وركوبه بالتشاريف الخليفتية والتقليد بين يديه من أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد.(1/284)
وفي يوم الإثنين حادي عشره: وصل الأمير جاغان الحسامي من مصر، وحلف كتبغا يميناً مستوفاة مغلظة بحضرة الأمير حسام الدين الأستادار، والأمير سيف الدين كجكن، وقاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة على أنه في طاعة الملك المنصور وموافقته، وقد أخلص النية له ورضي بالمكان الذي عينه له وهو قلعة صرخد وأنه لا يكاتب ولا يشاور ولا يستفسد أحداً.
وفيه استقر تقي الدين توبة في وزارة دمشق، واستقر أمين الدين بن هلال في نظر الخزانة، عوضاً عن تقي الدين توبه، واستقر الشيخ أمين الدين يوسف الرومي في حسبة دمشق.
وفي سادس عشره: وصل الأمير سيف الدين قبجق المنصوري نائب دمشق من مصر، ونزل بدار السعادة على عادة النواب.
وفي ليلة الثلاثاء تاسع عشره: خرج كتبغا من قلعة دمشق إلى قلعة صرخد ومعه مماليكه، وجرد من دمشق معه نحو المائتي فارس ساروا به حتى عبر قلعة صرخد ثم رجعوا، فكانت مدة مفارقته الدهليز من العرجاء إلى أن خلع نفسه بدمشق في يوم السبت رابع عشري صفر أربعة وثلاثين يوما، وجهز إليه ابنه أنص وأهله.
ووصل إلى دمشق نحو ستمائة تشريف فرقت على الأمراء والقضاة والأعيان، ولبسوها يوم الإثنين ثاني شهر ربيع الآخر.
وأفرج الملك المنصور عن الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير وجعله أحد الأمراء، وعن الأمير سيف الدين برلغي وبعثه إلى دمشق على إمرة بها، وعن الأمير سيف الدين اللقماني، وعن جماعة من المماليك السلطانية الذين كانوا بدمياط والإسكندرية وبخزانة البنود من القاهرة وبخزانة شمايل. فكان لهم يوم مشهود، فإنه كان فيهم خمسة وعشرون أميراً، أنعم على جميعهم وخلع عليهم.
وفيها أمر السلطان لاجين جماعة من مماليكه، فأعطى مملوكه سيف الدين منكوتمر إمرة، ومملكوه علاء الدين أيدغدي شقير إمرة، ومملوكه سيف الدين جاغان إمرة، ومملوكه سيف بهادر المعزي إمرة.
وتقدم السلطان إلى الأمير علم الدين الدواداري بعمارة الجامع الطولوني، وعين لذلك عشرين ألف دينار عينا، فعمره وعمر أوقافه، وأوقف منية أندونة من الأعمال الجيزية عليه، ورتب فيه درس تفسير ودرس حديث نبوي، وأربعة دروس فقه على المذاهب الأربعة، ودرساً للطب وشيخ ميعاد ومكتب سبيل لقراءة الأيتام القرآن.
وسبب ذلك إنه لما هرب في وقعة بيدرا من بر الجيزة واختفى بمنارة الجامع الطولوني وكان إذ ذاك مهدوراً لا يوقد به سوى سراج واحد في الليل، ولا يؤذن أحد بمنارته، وإنما يقف شخص على بابه ويؤذن فأقام به مدة لم يظهر خبره، فأراد أن يكون من شكر نعمة الله عليه عمارة هذا الجامع فعمر، وهو الآن بحمد الله عامر بعمارته له.
وفيها كتب السلطان لاجين إلى الأشكري بالقسطنطنية أن يجهز أولاد الملك الظاهر بيبرس إلى القاهرة مكرمين، فجهز الملك المسعود نجم الدين خضر ووالدته وحرمه، وكان الملك العادل بدر الدين سلامش قد مات بالقسطنطنية سنة تسعين وستمائة، فأحضر في تابوت مصبرا، فدفن بقرافة مصر. وقدم الملك السعيد خضر إلى السلطان، وسأل الإذن بالحج، فأذن له وسافر مع الركب.
وفيها نقل الخليفة الحاكم بأمر الله من البرج بقلعة الجبل إلى مناظر الكبش بجوار الجامع الطولوني، وأجرى له ما يكفيه. وبعث إليه الملك المنصور بمال سني، وصار يركب مع السلطان في الموكب.(1/285)
وفيها قدم من قضاة دمشق وأعيانها جماعة، منهم قاضي القضاة حسام الدين أبو الفضائل الحسن بن قاضي القضاة تاج الدين أبي المفاخر أحمد بن الحسن بن أنوشروان الرازي الحنفي الرومي، فولاه السلطان قضاء القضاة الحنفية بديار مصر، عوضاً عن قاضي القضاة شمس الدين أحمد السروجي، وعامله من الإكرام. مما لم يعامل به أحدا، وأقر ولده جلال الدين أبا المفاخر على قضاء القضاة الحنفية بدمشق. وقدم أيضاً قاضي القضاة إمام الدين عمر بن عبد الرحمن بن عمر بن أحمد بن عبد الكريم القزويني الشامي - أنوشروان فعرض السلطان عليه قضاء القضاة بديار مصر، فلم يقبل واختار دمشق، فولاه قضاء القضاة بدمشق في رابع جمادى الأولى، عوضاً عن قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، واستقر ابن جماعة في خطابة جامع دمشق وتدريس القيمرية بها. وقدم أيضاً قاضي القضاة جمال الدين يوسف الزواوي المالكي، فأعيد إلى ولايته بدمشق، وخلع عليه وعلى إمام الدين القزويني، فعادا إلى دمشق في ثامن شهر رجب. وقدم أيضاً عز الدين حمزة بن القلانسي، فأكرمه السلطان وخلع عليه، واستعاد له من ورثة الملك المنصور قلاوون، ما كان قد أخذ منه، وعاد إلى دمشق في خامس عشري رمضان.
وفيها ظهر بأرض مصر فأر كثير أتلف الزروع، حتى لم يؤخذ منه إلا اليسير. وعزل الأمير فتح الدين عمر بن صبرة عن شد الدواوين بدمشق، واستقر عوضه الأمير سيف الدين جاغان الحسامي في ثامن عشر رجب.
وفي هذه السنة: طلب السلطان الأمير سنقر الأعسر من دمشق في شهر رجب، فركب البريد إلى القاهرة. ولما حضر أكرمه السلطان وجعله من أمراء مصر، ثم ولاه الوزارة بديار مصر في سادس عشريه، وسلمه الصاحب فخر الدين بن الخليلي، فألزمه بمائة ألف دينار وقبض على أتباعه. واشتدت حرمته وعظمت مهابته، فلا يراجع ولا يخاطب إلا جوابا.
وفيها توقف النيل عن الزيادة قبل الوفاء، فتزايد السعر، وبلغ في ذي القعدة الأردب القمح خمسة وأربعين درهماً، ثم انحل السعر.
وفي يوم الثلاثاء النصف من ذي القعدة: قبض على الأمير شمس الدين قراسنقر نائب السلطنة، وعلى جماعة من الأمراء واعتقلوا، وأحيط بموجود قراسنقر الذي بمصر والشام، وضرب كاتبه شرف الدين يعقوب حتى مات تحت الضرب، وضيق على نوابه ودواوينه. وأراد السلطان إقامة مملوكه الأمير سيف الدين منكوتمر الحسامي في نيابة السلطنة، فعارضه الأمراء وغضبوا من منكوتمر، فشق ذلك عليه وأراد تفريقهم، فبعث طغريل الإيغاني إلى الكشف بالشرقية. وسنقر المساح إلى كشف الغربية، وبيسري إلى كشف الجيزة، ثم قبض على قراسنقر النائب والحاج بهادر وعز الدين أيبك الحموي وسنقر شاه الظاهري والأقوش وعبد الله وكوري والشيخ علي، وقيدوا وولي منكوتمر النيابة من غد مسكهم في عشري ذي القعدة واستقر في نيابة السلطنة.
وفيه ركب السلطان إلى الميدان ولعب بالكرة، فتقنطر عن الفرس وانكسر أحد جانبي يده اليمني، وتهشم بعض أضلاعه وانصدعت رجله. وخيف عليه، فكسر المجبرون عظم الجانب الآخر من يده حتى يتم لهم الجبر، فإنه قصر عن الجانب الآخر، وكان قد توقف السلطان عن موافقتهم، فقال الوزير سنقر الأعسر: أنا حصل لي مثل هذا، فلما احتجت إلى كسر النصف الآخر ضربته بدقماق حديد، فانكسر ثم جبر وكلمه بجفاء وغلظة واستخفاف من غير أدب فاحتمل السلطان ذلك منه، وأجاب المجبرين لما قصدوه، وأسر لسنقر الأعسر في نفسه.
فلما كان في يوم السبت ثالث عشري ذي الحجة: قبض عليه، ولم يول أحدا غيره.
وفي هذه السنة: كان الأردب القمح من أربعين درهما إلى خمسين، والأردب الشعير بثلاثين، واللحم بدرهمين ونصف الرطل. فنزل القمح إلى عشرين، والشعير إلى عشرة دراهم، واللحم إلى درهم وربع.
وفيها كتب بمسامحة أهل النواحي. مما عليهم من بواقي الخراج المنكسرة.
وفي هذه السنة: منع السلطان من لبس الكلفتاه الزركش والطرز الزركش والأقبية الحرير العظيمة الثمن، واقتصد هو وخواصه في الملبس. وجلس بدار العدل يومين في الأسبوع لسماع شكوى المتظلمين، وأعرض عن اللهو جملة ومقت من يعاينه، وصام شهري رجب وشعبان، وتصدق في السر.
ومات في هذه السنة من الأعيان
قاضي القضاة الحنبلي عز الدين أبو حفص عمر بن عبد الله بن عمر بن عوض المقدسي عن خمس وستين سنة بالقاهرة في صفر.(1/286)
وتوفي قاضي الحنفية بحلب تاج الدين أبو المعالي عبد القادر بن عز الدين أبي عبد الله محمد بن أبي الكرم بن عبد الرحمن علوي، عن ثلاث وسبعين سنة بحلب، وهو معزول.
وتوفي ضياء الدين أبو المعالي محمد بن عمد بن عبد القاهر بن هبة الله بن عبد القاهر بن عبد الواحد بن هبة الله بن طاهر بن يوسف بن النصيبي الحلبي وزير حماه عن ثمان وسبعين سنة بحلب.
وتوفي جمال الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الله بن الظاهري الحلبي الحنفي شيخ الحديث، عن سبعين سنة، بزاويته خارج القاهرة في ربيع الأول.
وتوفي عفيف الدين أبو محمد عبد السلام بن محمد بن مزروع البصري الحنبلي بالمدينة النبوية عن إحدى وسبعين سنة، بعدما جاور بها خمسين سنة.
وتوفي الأديب سيف الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن جعفر السامري بدمشق عن ست وسبعين سنة، وكان هجاء.
وتوفي الشريف الحافظ عز الدين أبو القاسم أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن علي ابن محمد بن محمد الحسيني، المعروف بابن الحلبي، نقيب الأشراف بديار مصر في ومولده سنة ست وثلاثين.
سنة سبع وتسعين في ستمائة
فيها قدم الملك المسعود نجم الدين خضر بن الملك الظاهر بيبرس من بلاد الأشكري إلى القاهرة، بشفاعة أخته امرأة السلطان الملك المنصور لاجين، ومعه أمه وأخوه الملك العادل سلامش وقد مات وصبر، فدفن سلامش بالقرافة. وكان السلطان قد احتفل لقدومهم، وأخرج الأمراء إلى لقائهم وبالغ في إكرامهم، وأجرى على الملك المسعود الرواتب وجهزه للحج.
وفيه توجه الأمير سيف الدين سلار أستادار إلى الكرك، وأحضر ما كان بها من الأموال، وقدم معه الأمير جمال الدين أقش نائب الكرك، فخلع عليه وأعيد إلى نيابته.
وفي حادي عشري صفر: ركب السلطان، بعدما انقطع لما به من كسر يده نحو الشهرين، ونزل إلى الميدان، ودقت البشائر، وزينت القاهرة ومصر، وكتب بالبشائر إلى الأعمال بذلك. وكان يوم ركوبه من الأيام المشهودة، اجتمع الناس لرؤيته من كل مكان، وأخذ أصحاب الحوانيت من كل شخص أجرة جلوسه نصف درهم فضة، واستأجر الناس البيوت بأموال جزيلة فرحا به، فإنه كان محبباً إلى الناس. وعاد السلطان من الميدان، فألبس الأمراء، وفرق الصدقات في الفقراء، وأفرج عن المحابيس.
وفي هذا الشهر: استدعى السلطان قاضي القضاة زين الدين على بن مخلوف المالكي، وصي الملك الناصر محمد بن قلاوون، وقال له: الملك الناصر ابن أستاذي، وأنا قائم في السلطنة كالنائب عنه إلى أن يحسن القيام بأمرها، والرأي أن يتوجه إلى الكرك وأمره بتجهيزه. ثم قال السلطان للملك الناصر محمد بن قلاوون: لو علمت أنهم يخلوك سلطانا والله تركت الملك لك، لكنهم لا يخلونه لك وأنا مملوكك ومملوك والدك، احفظ لك الملك، وأنت الآن تروح إلى الكرك إلى أن تترعرع وترتجل وتتحرج وتجرب الأمور وتعود إلى ملكك، بشرط أنك تعطيني دمشق وأكون بها مثل صاحب حماة فيها. فقال له الناصر: فاحلف لي أن تبقي على نفسي وأنا أروح فحلف كل منهما على ما أراده الآخر. فخرج الناصر في أواخر صفر، ومعه الأمير سيف الدين سلار أمير مجلس، والأمير سيف الدين بهادر الحموي، والأمير أرغون الدوادار، وطيدمر جوباش رأس نوبة الجمدارية، فوصل إلى الكرك في رابع ربيع الأول، فقام لخدمته الأمير جمال الدين أقوش الأشرف نائب الكرك.(1/287)
وفي يوم الإثنين سادسه: قبض على الأمير بدر الدين بيسري الشمسي، وعلى الأمير شمس الدين الحاج بهادر الحلبي الحاجب، والأمير شمس الدين سنقر شاه الظاهري، وسبب ذلك أن منكوتمر في مدة ضعف السلطان كان هو الذي يعلم عنه على التواقيع والكتب، وصار يخشى أن يموت السلطان ولم يكن له ولد ذكر، فيجعل بعده في السلطنة بيسري، وكان يكره منكوتمر. فحسن منكوتمر لمن خيل السلطان من ذلك وأن يعهد لأحد، فاقتضى رأيه أن يجعل الأمير منكوتمر ولي عهده، ويقرن اسمه باسمه في الخطبة والسكة، واستشار في ذلك الأمير بيسري فرده رداً خشناً، وقال: منكوتمر لا يجيء منه جندي، وقد أمرته وجعلته نائب السلطة، ومشيت الأمراء والجيوش في خدمته فامتثلوه رضاء لك، مع ما تقدم من حلفك ألا تقدم مماليكك على الأمراء ولا تمكنهم منهم، فما قنعت بهذا حتى تريد أن تجعله سلطانا، وهذا لا يوافقك أحد عليه ونهاه أن يذكر هذا لغيره وخوفه العاقبة، وانصرف عنه، فلشدة محبة السلطان في منكوتمر أعلمه بما كان من بيسري، فأسرها في نفسه وعاداه وأخذ يدبر عليه وعلى الأمراء، ويغري السلطان به وبهم.
واتفق مجيء الخبر بالحلف بين المغل، وخروج التجريدة إلى سيس، فلما تفرق الأمراء ولم يبق من يخافه منكوتمر توجه إلى الأمير بيسري. واستمال أستاداره بهاء الدين أرسلان بن بيليك حتى صار من خواصه، ورتبه فيما يقوله. ثم حسن منكوتمر للسلطان أن ينتدب بيسري لكشف جسور الجيزة، فتقدم له بذلك مع أنها غض منه، إذ محله أجل من ذلك، فلم يأب وخرج إلى الجيزة بمماليكه وأتباعه، وصار يحضر الخدمة السلطانية بالقلعة في يومي الإثنين والخميس، ويجلس رأس الميمنة تحت الطواشي حسام الدين بلال المغيثي لأجل تقدمه، ويعود إلى الجيزة حتى أتقن عمل الجسور.
فلما تكامل إتقان الجسور استأذن بيسري السلطان في عمل ضيافة له، فإذن في ذلك، فاهتم لها اهتماماً زائداً ليحضر إليه السلطان بالجيزة. فأمكنت الفرصة منكوتمر ووجد سبيلا إلى بيسري، فخدع أرسلان استادار بيسري ورتبه في كلام يقوله السلطان، ووعده بإمرة طبلخاناه. فانخدع أرسلان ودخل مع منكوتمر إلى السلطان، وقال له بأن بيسري رتب أنه يقبض عليك إذا حضرت لضيافته فتخيل السلطان من قوله.
واتفق أن بيسري بعث إلى منكوتمر يطلب منه الدهليز السلطاني، لينصبه السلطان في مكان المهم، فبعثه إليه من غير أن يعلم السلطان. فلما مر الدهليز على الجمال من تحت القلعة ليتوجهوا به إلى الجيزة رآه السلطان، فأنكر ذلك وبعث إلى منكوتمر يسأل منه.
فأنكر أن يكون له علم به، وقال: إنما بيسري استدعى به من مقدم الفراشين، وأخذه مماليكه من الفرش خاناه بغير إذن، وشرع يحتج لصدق ما قاله أرسلان بهذا. فرد السلطان الدهليز إلى الفرش خاناه، وغلب على ظنه صدق ما نقل له عن بيسري.(1/288)
ولما وقع ذلك أطلع عليه بعض الأمراء الأكابر، فبعث أحدهم وهو الأمير سيف الدين طقجي الأشرفي يعلم بيسري بما جرى، ويعده بأنه معه هو جماعة من الأمراء، فلم يلتفت إلى قوله. فبعث أرغون أحد ممالك السلطان إلى بيسري بالخبر على جليته، وحذره من الحضور إلى خدمة السلطان، وأنه إن حضر أن يكون على استعداد. فلما أراده الله حضر بيسري يوم الإثنين المذكور إلى الخدمة على العادة، فقام له السلطان على عادته وأجلسه بجانبه. فلما قدم السماط لم يأكل بيسري واعتذر بأنه صائم، فأمر السلطان برفع مجمع من الطعام برسم فطوره فرفع له، وأخذ يحادثه حتى رفع السماط. وخرج الأمراء وقام الأمير بيسري معهم، فلما مشى عدة خطوات استدعاه السلطان إليه وحدثه طويلا، وكان الحجاب والنقباء يستحثون الأمراء على الخروج. ثم قام بيسري من عند السلطان ومشى خطوات، فاستدعاه السلطان ثانيا فعاد، وحدثه أيضاً حتى علم أن المجلس والدهاليز لم يبق بها أحد سوى مماليك السلطان فقط، فتركه. فقام بيسري ومشى، فاعترضه سيف الدين طقجي وعلاء الدين أيدغدي شقير، وعدلا به إلى جهة أخرى، وقبض أيدغدي شقير على سيفه وأخذه من وسطه، فنظر إليه طقجي وبكى، وجبذاه إلى القاعة الصالحية فاعتقل بها. فارتجت القلعة، وطار الخبر إلى القاهرة فأغلق باب زويلة وماج الناس، ثم فتح باب زويلة. ووقعت الحوطة على جميع موجوده، وقبض على جماعة من مماليكه ثم أفرج عنهم وأقام بيسري في القاعة مكرما، وحملت إليه امرأته وهي والدة أحمد بن السلطان الملك المنصور. فما زال معتقلا حتى مات. ومن العجب أن كلا من السلطان وبيسري أتى عليه في هذه من أخص أصحابه: فإن أرسلان ابن بدر الدين بيليك أمير مجلس، وكان بدر الدين هذا مملوكا للأمير بيسري، ورباه بيسري كالولد حتى كبر، وقدمه على أكابر مماليكه وعمله أستاداره، وبالغ في الإحسان إليه حتى أنه أعطاه في يوم واحد سبعين فرسا، وكان هو السبب في سلب نعمته كما ذكر. وأرغون كان أخص مماليك السلطان وأقربهم إليه، فأفشى سره إلى بيسري من حنقه لأن غيره من المماليك أخذ إمرة طبلخاناه وأعلى هو إمرة عشرة، فبقي في نفسه لذلك إحنة.
ولما قبض على بيسري والأمراء نفرت القلوب، وأكدت الوحشة موت عشرة أمراء في خمسة أيام، فاتهم السلطان بأنه سمهم.
وفي يوم الجمعة عاشر ربيع الآخر: أقيمت الخطة بالمدرسة المعظمية، بفسخ قاسيون خارج دمشق.
وفي سابع عشره: أعيد الصاحب فخر الدين عمر بن الشيخ مجد الدين عبد العزيز الخليلي إلى الوزارة بديار مصر، فتتبع ألزام الأمير سنقر الأعسر، وأحض أستاداره سيف الدين كيكلدي من دمشق وأحاط بموجوده.
وفي جمادى الأولى: قبض السلطان على جماعة من أمراء مصر. وصرف بهاء الدين الحلي عن نظر الجيش، وأخذ خطه بألف ألف درهم، واستدعى عماد الدين، بن المنذر ناظر الجيش بحلب، واستكتب إلى أن حضر أمين الدين بن الرقاقي. وسبب ذلك أن ابن الحلي كان قد استشاره السلطان في تولية منكوتمر النيابة، فقال له: إن دولة السعيد ما أخربها إلا كوندك، ودولة الأشرف أخربها بيدرا، ودولة العادل تلفت بسبب مماليكه، ومنكوتمر شاب كبير النفس لا يرجع لأحد، ويخاف من تحكمه وقوع فساد كبير. فسكت عنه السلطان وأعلم منكوتمر بذلك، فأخذ منكوتمر يعاديه حتى إنه لما ولي النيابة ودخل عليه قال له: يا قاضي! هذا ببركة وعظك للسلطان فأطرق. وأخذ منكوتمر يغري السلطان به، ويذكر سعة أمواله. بمصر والشام، وأنه كثير اللعب. وكان ابن الحلي يحب بعض المماليك الخاصكية، فترصده منكوتمر حتى علم أنه عنده فأعلم بذلك السلطان، فأرسل إليه الطواشي المقدم في عدة نقباء، فهجموا على بستانه بالقرب من الميدان وأخذوه والمملوك، فسلم إلى الأمير أقوش الرومي، وقبض على حواشيه وأحيط بموجوده مصراً وشاماً.(1/289)
وفيه قدم البريد بأن رجل من قرية جينين بالساحل ماتت امرأته، فلما دفنها وعاد إلى منزله تذكر أنه نسي في القبر منديلا فيه مبلغ دراهم، فأخذ فقيه القرية ونش القبر ليأخذ المال، والفقيه على شفير القبر، فإذا بالمرأة جالسة مكتوفة بشعرها ورجلاها أيضاً قد ربطا بشعرها، فحاول حل كتفها فلم يقدر، فأخذ يجهد نفسه في ذلك، فخسف به وبالمرأة إلى حيث لم يعلم لهما خبر فغشي على فقيه القرية مدة يوم وليلة. فبعث السلطان بخبر هذه الحادثة وما قد كتب به من الشام فيها إلى الشيخ تقي الدين محمد بن دقيق العيد، فوقف عليه وأراه الناس ليعتبروا بذلك.
وفيه قدم البريد من حلب بوقوع الخلف بين طقطاي وطائفة نغية حتى قتل منهم كثير من المغل، وانكسر الملك طقطاي، وأن غازان قتل وزيره نيروز وعدة ممن يلوذ به. فاتفق الرأي على أخذ سيس ما دام الخلف بين المغل، وأن يخرج الأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح ومعه ثلاثة أمراء وعشرة آلاف فارس وكتب لنائب الشام بتجريد الأمير بيبرس الجالق وغيره من أمراء دمشق وصفد وطرابلس، وعرض الجيش. في جمادى الأولى. فلما تجهزوا سار الأمير بدر الدين بكتاش الفخري إلى غزاة سيس، ومعه من الأمراء حسام الدين لاجين الرومي الأستادار وشمس الدين أقسنقر كرتاي ومضافيهم، فدخلوا دمشق في خامس جمادى الآخرة، وخرج معهم منها الأمير بيبرس الجالق العجمي والأمير سيف الدين كجكن والأمير بهاء الدين قرا أرسلان ومضافيهم في ثامنه، وساروا بعسكر صفد وحمص وبلاد الساحل وطرابلس والملك المظفر تقي الدين محمود صاحب حماة. فلما بلغ مسيرهم متملك سيس بعث إلى السلطان يسأله العفو، فلم يجبه.
ووصلت هذه العساكر إلى حلب، وجهز السلطان الأمير علم الدين سنجر الدواداري بمضافيه من القاهرة ليلحق بهم، فأدرك العساكر بحلب. وخرجوا منها بعسكر حلب إلى العمق، وهو عشرة آلاف فارس، فتوجه الأمير بدر الدين بكتاش في طائفة من عقبة بغراس إلى اسكندرونة، ونازلوا تل حمدون، وتوجه الملك المظفر صاحب حماة والأمير علم الدين سنجر الدوادراي والأمير شمس الدين أقسنقر كرتاي في بقية الجيش إلى نهر جهان، ودخلوا جميعاً دربند سيس في يوم الخميس رابع رحب. وهناك اختلفوا، فأشار الأمير بكتاش بالحصار ومنازلة القلاع، وأشار سنجر الدواداري بالغارة فقط، وأراد أن يكون مقدم العسكر، ومنع الأمير بكتاش من الحصار ومنازلة القلاع فلم ينازعه. فوافقه بكتاش وقطعوا نهر جهان للغارة، ونزل صاحب حماة على مدينة سيس، وسار الأمير بكتاش إلى أذنة، واجتمعت العساكر جميعها عليها بعد أن قتلوا من ظفروا به من الأرمن وساقوا الأبقار والجواميس. ثم عادوا من أذنة إلى المصيصة بعد الغارة، وأقاموا عليها ثلاثة أيام حتى نصبوا جسراً مرت عليه العساكر إلى بغراس، ونزلوا بمرج أنطاكية ثلاثة أيام، ثم رحلوا إلى جسر الحديد يريدون العود إلى مصر.
وكان الأمير بكتاش لما نازعه الدواداري في التقدمة على العساكر، ومنعه من الحصار، قد كتب إلى الأمير بلبان الطباخي نائب حلب بذلك ليطالع به السلطان، فكتب بالخبر إلى السلطان. فورد الجواب إلى الأمراء بالإنكار على الدواداري في تقدمه على الأمير بكتاش، وكونه اقتصر على الغارة، وإنه لم يخرج إلا على مضافيه، وأن التقدمة على سائر العساكر للأمير بكتاش وأن العساكر لا ترجع إلا بعد فتح تل حمدون، وإن عادت من غير فتحها فلا إقطاع لهم بالديار المصرية.(1/290)
فعادت العساكر من الروج إلى حلب وأقاموا بها ثمانية أيام، وتوجهوا إلى سيس من عقبة بغراس. وسار كجكن وقرا أرسلان إلى أياس وعادا شبه المنهزم، فإن الأرمن أكمنوا في البساتين، فأنكر عليهما الأمير بكتاش، فاعتزرا بضيق المسلك والتفاف الأشجار وعدم التمكن من العدو. ثم رحل بكتاش بجميع العساكر إلى تل حمدون، فوجدوها خالية وقد نزح من كان فيها من الأرمن إلى قلعة نجيمة فتسلمها في سابع رمضان وأقام بها من يحفظها، وسير الأمير بلبان الطباخي نائب حلب عسكرا فملكوا قلعة مرعش في رمضان أيضاً. وجاء الخبر إلى الأمير بكتاش وهو على تل حمدون بأن واديا تحت قلعة نجيمة وحميص قد امتلأ بالأرمن، وأن أهل قلعة نجيمة تحميهم، فبعث طائفة من العسكر إليهم فلم ينالوا غرضاً، فسير طائفة ثانية فعادت بغير طائل. فسار الأمراء في عدة وافرة وقاتلوا أهل نجيمة حتى ردوهم إلى القلعة، وزحفوا على الوادي وقتلوا وأسروا من فيه، ونازلوا قلعة نجيمة ليلة واحدة، وسار العسكر إلى الوطأة، وبقي الأمير بكتاش والملك المظفر في مقابلة من بالقلعة خشية أن يخرج أهل نجيمة فينالوا من أطراف العسكر، حتى صار العسكر بالوطأة، ثم اجتمعوا بها.
فقدم البريد من السلطان بمنازلة قلعة نجيمة حتى تفتح فعادوا إلى حصارها، واختلف الأمير بكتاش والأمير سنجر الدواداري على قتالها، فقال الدواداري: متى نازلها الجيش بأسره لا يعلم من قاتل ممن عجز وتخاذل، والرأي أن يقاتل كل يوم أمير بألفه. وأخذ يدل بشجاعته، ويصغر شأن القلعة، وقال: أنا آخذها في حجري فسلموا له واتفقوا على تقديمه لقتالها قبل كل أحد. فتقدم الدواداري إليها بألفه حتى لاحف السور، فأصابه حجر المنجنيق فقطع مشط رجله، وسقط عن فرسه إلى الأرض، وكاد الأرمن يأخذونه، إلا أن الجماعة بادرت وحملته على جنوبة إلى وطاقه، ولزم الفراش، فعاد إلى حلب، وسار منها إلى القاهرة، وقتل في هذه النوبة الأمير علم الدين سنجر طقصبا الناصري. وزحف في هذا اليوم الأمير كرتاي ونقب سور القلعة وخلص منه ثلاثة أحجار، واستشهد معه ثلاثة عشر رجلا. ثم زحف الأمير بكتاش وصاحب حماة ببقيه الجيش طائفة بعد طائفة، وكل منهم يردف الآخر حتى وصلوا إلى السور وعليهم الجنويات، وأخذوا في النقب وأقاموا الستائر، وتابعوا الحصار أحدا وأربعين يوماً.
وكان قد اجتمع بها من الفلاحين ونساء القرى وأولادهم خلق كثير، فلما قل الماء عندهم أخرجوا مرة مائتي رجل وثلاثمائة امرأة ومائة وخمسين صبيا، فقتل العسكر الرجال واقتسموا النساء والصبيان. ثم أخرجوا مرة أخرى مائة وخمسين رجلا ومائتي امرأة وخمسة وسبعين صبيا، ففعلوا بهم مثل ما فعلوا بمن تقدم. ثم أخرجوا مرة ثالثة طائفة أخرى، فأتوا على جميعهم بالقتل والسبي، حتى لم يتأخر بالقلعة إلا المقاتلة. وقلت المياه عندهم حتى اقتتلوا بالسيوف على الماء، فسألوا الأمان فأمنوا، وأخذت القلعة في ذي القعدة، وسار من فيها إلى حيث أراد. وأخذ أيضاً أحد عشر حصنا من الأرمن، ومنها النقير وحجر شغلان وسرقندكار وزنجفرة وحميص، وسلم ذلك كله الأمير بكتاش إلى الأمير سيف الدين أسندمر كرجي من أمراء دمشق، وعينه نائبا بها، فلم يزل أسندمر بها حتى قدم التتار، فباع ما فيها أنا آخذ عمن الحواصل ونزح عنها، فأخذها الأرمن.
ولما تم هذا الفتح عادت العساكر إلى حلب وكان الشتاء شديداً، فأقاموا بها. وبعث السلطان إليهم الأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار، والأمير عز الدين طقطاي، والأمير مبارز الدين أوليا بن قرمان، والأمير علاء الدين أيدغدي شقير الحسامي، في ثلاثة آلاف فارس من عساكر مصر، فدخلوا دمشق يوم الثلاثاء سابع عشر ذي القعدة، وساروا منها إلى حلب في عشريه، وأقاموا بها مع العسكر. وبعث متملك سيس إلى السلطان يسأل العفو.(1/291)
وفي هذه السنة: كان الروك الحسامي، وذلك أن أرض مصر قد قسمت على أربعة وعشرين قيراطا، وأفرد منها للسلطان أربعة قراريط، وجعل للأمراء وبرسم الإطلاقات والزيادات عشرة قراريط، وجعل لأجناد الحلقة عشرة قراريط، فأراد السلطان الملك المنصور تغيير ذلك، وأن يجعل للأمراء وأجناد الحلقة أحد عشر قيراطا، ويستجد عسكرا بتسعة قراريط. فندب لروك أراضي مصر الأمير بدر الدين بيليك الفارسي الحاجب، والأمير بهاء الدين قراقوش الظاهري المعروف بالبريدي، وانتصب لهذا العمل جماعة من الكتاب، وكان المشار إليه فيهم تاج الدين عبد الرحمن الطويل مستوفي الدولة، وهو من مسالمة القبط، وممن يشار إليه في معرفة صناعة الكتابة، ويعتمد على قوله ويرجع إليه. فخرج الأمراء للروك، ومعهم الكتاب وولاة الأقاليم في سادس عشر جمادى الأولى.
وتقدم الأمير منكوتمر نائب السلطنة إلى التاج الطويل بأن يفرد للأمراء والأجناد عشرة قراريط، وأن يجعل القيراط الحادي عشر برسم من يتضرر من قلة عبرة خبزه. وأفرد لخاص السلطان الأعمال الجيزية والإطفيحية والإسكندرية ودمياط ومنفلوط وكفورها، وهو والكوم الأحمر من أعمال القوصية، وغير ذلك، وأفرد للنائب منكوتمر إقطاع عظيم من جملته مرج بني هميم وكفور، وسمهود وكفورها، وحرجة قوص، ومدينة أدفو وما في هذه النواحي من الدواليب، وكان متحصلها ينيف على مائة ألف أردب وعشرة آلاف أردب من الغلة، خارجا عن المال العين والقنود والأعسال، والتمر والأغنام والأحطاب. وكان في خاصه سبعة وعشرون معصرة لقصب السكر، سوى ما له من المشتريات والمتاجر، وما له ببلاد الشام من الضياع والعقار، وما يرد إلية من التقادم.
فلما انتهي الروك في ثامن رجب فرقت مثالات الأمراء.
وفي تاسعه: فرقت مثالات مقدمي الحلقة.
وفي عاشره: فرقت مثالات أجناد الحلقة. وأقطعت البلاد للأمراء والأجناد دربستا، لم يستثن منها سوى الجوالي والمواريث الحشرية فإنها من جملة الخاص السلطاني، وسوى الرزق الأحباسية، وما عدا ذلك فإنه داخل في الإقطاع وحولت سنة ست وتسعين إلى سنة سبع وتسعين على العادة.
وتولى تفرقة المثالات على الأمراء والمقدمين السلطان، فبان له في وجوههم التغير لقلة العبرة، وهم بزيادتهم. فمنعه منكوتمر من فتح هذا الباب، وحذره أنه متى فتح باب الزيادة تعب، ولكن من تضرر من إقطاعه يحيله على منكوتمر، ففعل السلطان ذلك. وتولى تفرقة مثالات الأجناد منكوتمر، فجلس بشباك دار النيابة ووقف الحجاب بين يديه، وأعلى لكل تقدمة مثالا بها، فلم يجسر أحد أن يتكلم خوفا منه، فاستمر على ذلك أياماً.
وكانت الإقطاعات قد تناقصت عما كانت عليه في الدولة المنصورية قلاوون، فإن أقلها كان يتحصل منه عشرة آلاف درهم، وأكثرها ينيف على ثلاثين ألفا، فصار أكثرها يبلغ عشرين ألفا، فعمل في هذا الروك أكثر الإقطاعات يتحصل منه عشرة آلاف، فشق ذلك على الأجناد، وتجمعت طائفة منهم ورموا مثالاتهم، وقالوا: إنا لم نعتد بمثل هذا، فإما أن تعطونا ما يقوم بكفايتنا، وإلا فخذوا أخبازكم، وإما نخدم الأمراء، أو نقيم بطالين. فحنق منهم منكوتمر وأمر الحجاب فضربوهم، وأخذ سيوفهم وسجنهم، وبالغ في الفحش، وصار ينظر إلى الأمراء ويقول: أيما قواد يجيء يشتكي من خبزه ويقول أعرف السلطان، فإني أعرف إيش يقول السلطان، فإما أن يرضى يخدم وإلا فإلى لعنة الله. فعرف الأمراء أنه يعنيهم، فسكتوا على ضغن وبلغ السلطان ذلك عن منكوتمر فأنكر عليه، وأمره الزيادة في الإقطاعات فلم يفعل، وأقام الأجناد في السجن مدة أيام ثم أفرج عنهم. فكان هذا الروك أكبر الأسباب في زوال الدولة.
وفيها أنعم بطبلخاناه الأمير سيف الدين بلبان الفاخري نقيب الجيش بعد موته على الأمير سيف الدين بكتمر الحسامي أمير آخور، وكان السلطان قبل ذلك قد أعطاه إمرة عشرة. واستقر سيف الدين كرت أمير آخور في نيابة طرابلس، بعد وفاة عز الدين أيبك الموصلي.
وفيها عدم الثلج بدمشق، وغارت العيون، وهلك أكثر الزرع وحفت أشجار البساتين.(1/292)
وفيها بلغ سيف الدين جاغان شاد الدواوين بدمشق أن للأمير عز الدين الجناحي نائب غزة وديعة عند رحل، فاستدعى به بعد موت الجناحي وطالبه فقال: قد أخذ الوديعة قبل موته. فلما أراد عقوبته حضر إليه فخر الدين الإعزازي أحد تجار دمشق، وقال: إن هذه الوديعة أخذها الجناحي من هذا الرجل وجعلها تحت يدي وأحضر صندوقاً، فوحد الأمير جاغان فيه اثنين وثلاثين ألف دينار ومائتي وأربعة وثلاثين دينارا عينا، وحوائص وطرزا قيمتها خمسون ألف دينار.
وفيها خرج الأمير سيف الدين حمدان بن صلغاي إلى بلاد الشام في صورة أنه يستحث العساكر على أخذ سيس، وقد لقنه الأمير منكوتمر أموراً مكتومة، كان فيها زوال الدولة ومنها أنه يفرج عن الأمير كرجي من قلعة دمشق ويسفره إلى سيس، ويتفق هو وأيدغدي شقير المتوجه قبله صحبة بكتمر السلاح دار مع جماعة من خشداشيته على ما يأتي ذكره.
وفيما أنعم على صمغار بن سنقر بإمرة، وأنعم على كل من بن أيتمش السعدي وسيف الدين طقصبا الظاهري بإمرة.
وفيها قدم الأمير حسام الدين مهنا بن عيسى أمير العرب، فأكرمه السلطان وألبسه خلعة طرد وحش، وهو أول من ألبس ذلك لآل مهنا، وإنما كانت خلعهم مسمطا أو كنجيا. واستأذن مهنا السلطان في الحج فأذن له.
وفيها قوي أمر منكوتمر، وتحكم تحكمة الملوك في جميع أمور المملكة، وقصد إخراج طغجي أيضاً من مصر، ففطن طغجي لذلك، فسأل الإذن في السفر إلى الحج فأذن له، وعمل أمير الركب.
وفيها بعث منكوتمر إلى قاضي القضاة تقي الدين محمد بن دقيق العيد يعلمه أن تاجراً قد مات وترك أخا و لم يخلف غيره ممن يرثه، وأراد أن يثبت استحقاقه الإرث بمجرد هذا الإخبار عنه. فلم يوافق قاضي القضاة على ذلك، وترددت الرسل بينهما، فخرج منكوتمر من ذلك، وبعث إليه الأمير كرت الحاجب، فلما دخل كرت وقف بعدما سلم، فقام له القاضي نصف قومة ورد عليه السلام وأجلسه. وأخذ كرت يتلطف به في إثبات أخوة التاجر بشهادة منكوتمر، فقال له قاضي القضاة: وماذا ينبني على شهادة منكوتمر؟ قال له: يا سيدي ما هو عندكم عدل؟ فقال: سبحان الله ثم أنشد:
يقولون هذا عندنا غير جائز ... ومن أنتم حتى يكون لكم عند
وكرر ذلك ثلاث مرات، ثم قال: والله متى لم تقم عندي بينة شرعية ثبتت عندي، وإلا فلا حكمت له بشيء باسم الله،. فقام كرت وهو يقول: والله هذا هو الإسلام وعاد إلى منكوتمر واعتذر إليه بأن هذا الأمر لابد فيه من اجتماعك بالقاضي إذا جاء إلى دار العدل.
فلما كان يوم الخدمة، ومر القاضي على دار النيابة بالقلعة ومنكوتمر جالس في الشباك، تسارعت الحجاب واحدا بعد آخر إلى القاضي وهم يقولون: يا سيدي الأمير ولدك يختار الاجتماع بك لخدمتك. فلم يلتفت إلى أحد منهم، فلما ألحوا عليه قال لهم: قولوا له ما وحبت طاعتك علي والتفت إلى من معه من القضاة، وقال: أشهدكم أني عزلت نفسي باسم الله، قولوا له يول غيري. وعاد إلى داره وأغلق بابه، وبعث نقباءه إلى النواب في الحكم وعقاد الأنكحة يمنعهم من الحكم وعقد الأنكحة.
فلما بلغ السلطان ذلك أنكر على منكوتمر، وبعث إلى القاضي يعتذر إليه ويستدعيه، فأبى واعتذر عن طلوعه، فبعث إليه الشيخ نجم الدين حسين بن محمد بن عبود والطواشي مرشداً، فما زالا به حتى صعدا به إلى القلعة. فقام إليه السلطان وتلقاه، وعزم عليه أن يجلس في مرتبته، فبسط منديله وكان خرقة كتان خلقة فوق الحرير فبل أن يجلس، كراهة أن ينظر إليه، ولم يجلس عليه. وما برح السلطان يتلطف به حتى قبل الولاية ثم قال له: يا سيدي هذا ولدك منكوتمر خاطرك معه، ادعوا له وكان منكوتمر ممن حضر، فنظر إليه قاضي القضاة ساعة، وصار يفتح يده ويقبضها وهو يقول: منكوتمر لا يجيء منه شيء وكررها ثلاث مرات، وقام. فأخذ السلطان الخرقة التي وضعها على المرتبة تبركا بها، وتفرقها الأمراء قطعة قطعة ليدخروها عندهم رجاء بركتها.(1/293)
وأما حمدان بن صلغاي، فإنه قدم إلى دمشق وعرف الأمير جاغان ما ندب إليه من مسك الأمير بكتمر السلاح دار والأمير فارس الدين ألبكي نائب صفد وعز الدين طقطاي والأمير بزلار والأمير عزاز، وكان الأمير قبجق نائب الشام قد خرج بالعساكر، إلى مساعدة الأمراء على أخذ سيس، ثم سار حمدان إلى حمص، والتقي هناك بالأمير قبجق وهو عائد إلى دمشق، فتلقاه وأكرمه. ثم توجه إلى حلب، وأوقف النائب على ما جاء فيه من قبض الأمراء الذين عينهم منكوتمر، فبلغهم ذلك فاحترزوا على أنفسهم ولحقوا بحمص يريدون الأمير قبجق والاتفاق معه.
وفيها أفرج عن ابن الحلي، بعد أن بالغ أقوش الرومي في عقوبته، فاختفى.
وفيها استقر الأمير بكتمر الحسامي أمير آخور كبيراً، واستقر علاء الدين طيبرس الخازنداري نقيب الجيش، عوضاً عن بلبان الفاخري.
وفيها رسم بعمل استيمار يجمع أرباب الرواتب والرزق، ليحضروا بتواقيعه للعرض على منكوتمر، ويقطع من يختار منهم، فلما شرعوا في الكتابة اشتد قلق الناس، وبلغ السلطان ذلك فمنع منكوتمر منه.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
صدر الدين إبراهيم بن محيى الدين أحمد بن عقبة بن هبة الله بن عطاء البصراوي الدمشقي الفقيه الحنفي، ولد في سنة تسع وستمائة، وبرع في الفقه والنحو، وأفتى ودرس وولي قضاء حلب، وقدم بعد عزله إلى القاهرة وأقام بها، ثم ولي حلب ثانياً فمات بدمشق في رمضان. ومات شهاب الدين أحمد بن عبد الرحمن بن عبد المنعم بن نعمة المقرئ الفقيه الحنبلي عابر الرؤيا، كانت له عجائب في عبارة الرؤيا وصنف فيها، ومات آخر ذي القعدة.
ومات الأمير عز الدين أيبك الموصلي أحد المماليك المنصورية، وقد تنقلت به الخدم حتى ولي نيابة طرابلس إلى أن مات في.
ومات الأمير سيف الدين بلبان الفاخري نقيب الجيش، في رابع عشر ربيع الآخر.
ومات الأمير علم الدين سنجر طقصبا، استشهد في محاصرة قلعة نجيمة في.
ومات الأمير علم الدين سنجر أحد الأمراء الناصرية بدمشق في سابع عشري جمادى الأولى، وكان شجاعا مقداما، سمع الحديث وعرف بالخير وحدث.
وتوفي شيخ الشيوخ بحلب نجم الدين أبو محمد عبد اللطيف بن أبي الفتوح نصر بن سعيد بن سعد بن محمد بن ناصر الميهني، عن ثمان وثمانين سنة.
ومات الأمير سعد الدين كوجبا نائب دار العدل، في يوم الإثنين حادي عشر جمادى الأولى.
ومات موفق الدين محمد بن الحسين بن ثعلب الأدفوي خطيب أدفو، وله نظم ونثر، وفيه كرم وعنده إغضاء وحلم، ومات في.
ومات جمال الدين محمد بن سالم بن نصر الله بن سالم بن واصل الحموي قاضي حماة، وهو أحد الأئمة الأعلام، قدم القاهرة، ومات بحماة في ثاني عشري شوال، عن ثلاث وتسعين سنة. ومات الشيخ شمس الدين أبو المعالي محمد بن بكر بن محمد الأيكي الفارسي الشافعي، شيخ الخانكاه الصلاحية سعيد السعداء، مات بدمشق في رابع رمضان عن ست وستين سنة.
ومات الأمير شمس الدين سنفر التكريتي، أستادار الملك السعيد.
ومات الأمير علم الدين طرطج الصالحي، وهو كاتب له مكارم، وفيه غقدام وشجاعة، وله أثار حميدة.
ومات الأمير طقطاي الأشرفي أحد الأمراء والأكابر.
و مات الأمير شمس الدين سنقر التكريتي، عرف بالمساح، وكان مشهوراً بالشجاعة، يخرج كل سنة إلى عكا فتكون له وقائع مع أهلها، وكان يركب بجانب المنصور قلاوون في المواكب، وكان قلاوون يستشيره في المهمات، وكان من دون أمراء مصر يركب بالزناري، على فرسه. بمفرده، وفيه مكارم.
ومات الفقيه تقي الدين أبو العباس أحمد بن الفقيه علم الدين أبي عبد الله محمد بن رشيق، يوم الخميس رابع عشري جمادى الآخرة.
وتوفي الشيخ زين الدين أبو المحاسن يوسف بن محمد بن الحسن بن الحسن عدي بمصر وله تربة جليلة بالقرافة.
سنة ثمان وتسعين وستمائة(1/294)
في أول المحرم: قدم الخبر بأن التتر على عزم الحركة إلى الشام، فخرجت العساكر، ثم خرج الأمير أقش الأفرم. وتوجه حمدان بن صلغاي وعلاء الدين أيدغدي شقير على البريد لإخراج الأمير قبجق نائب الشام بالعسكر إلى حلب، فوصلا إلى دمشق في سابعه، فشرع قبجق في الاهتمام للسفر، وخرج بعسكرها وبالبحرية في يوم الأربعاء رابع عشره، وتأخر جاغان بدمشق. وعلم قبجق أن الأمر بخلاف ما أشيع من حركة التتار، وإنما القصد عمل مكيدة به وبغيره من الأمراء، فكان ذلك سببا لفراره إلى بلاد التتر.
وملخص ذلك أن الأمير منكوتمر نائب السلطنة ثقلت عليه وطأة الأمراء بديار مصر والشام، فأراد إزاحتهم عنه وإقامة غيرهم من مماليك السلطان ليتمكن من مراده، فما زال بالسلطان حتى قبض على أمراء مصر، ثم أخذ في التدبير على من ببلاد الشام من الأمراء، فبعث أيدغدي شقير، ثم أردفه بحمدان بن صلغاي وعلى يده ملطفات إلى بلبان الطاخي نائب حلب بالقبض على الأمير بكتمر السلاح دار وهو مجرد على حلب، وعلى الأمير فارس الدين الألبكي الساقي نائب صفد والأمير عز الدين طقطاي والأمير سيف الدين بزلار والأمير سيف الدين عزاز، ومن عجز عن القبض عليه سقاه، وأن يبحث الحسام الأستادار بمفرده على البريد إلى مصر.
وقدم حمدان دمشق وأوقف الأمير جاغان شاد الدواوين على ما جاء فيه، وأمره ألا يمكن قبجق نائب دمشق من الدخول إليها إلا بمرسوم. وخرج حمدان يريد حلب، فصادف الأمير قبجق بالقرب من حمص واجتمع به، فتخيل قبجق من قدومه، وبعث إلى بكتمر السلاح دار وغيره من الأمراء يوصيهم بالاحتراز، وبعث نجابا إلى أصحابه بمصر يستعلم منهم الخبر. فلما قدم حمدان حلب وأوقف الأمير بلبان الطباخي على أمره توقف فيه، فأخذ حمدان وأيدغدي شقير يستحثانه على قبض الأمراء. فاتفق موت الأمير طقطاي، واتهم حمدان بسقيه. فبعث حمدان وأيدغدي إلى منكوتمر بتوقف نائب حلب في مسك الأمراء، فغضب من ذلك وأراد عزل بلبان عن حلب وتولية أيدغدي شقير عوضه، فخوف من ذلك حتى كف منه. وكتب منكوتمر إلى الأمير بلبان الطباخي نائب حلب يستحثه في مسك الأمراء، وكتب إلى الأمير بكتمر بنيابة طرابلس، وكان ذلك خديعة من منكوتمر قصد بها أنه إذا حضر بكتمر بلبس الشريف يقبض عليه وعلى الأمراء، وقدم الأمير الحسام الأستاداري إلى مصر، فعزم منكوتمر على مسكه، ثم انتظر ما يرد عن الأمراء بحلب.
وبلغ بلبان الطباخي أن أيدغدي شقير قد عين لنيابه حلب، وبلغ قبجق نائب الشام أن خروجه من دمشق إنما كان حيلة عليه، وأن جاغان يستقر في نيابة دمشق عوضه، فكتما كل منهما ذلك، وأخذ الحسامية في الإلحاح على نائب حلب في قبض الأمراء عند حضورهم السماط يوم الموكب، فبعث سراً إلى الأمراء يعلمهم ذلك فاستعدوا لأنفسهم، وركبوا في يوم الموكب على العادة إلا الأمير بكتمر السلاح دار فإنه تأخر واعتذر بعارض فلم يمكن الحسامية القبض على من حضر خوفا من فوات الأمر فيمن تأخروا، واتفقوا على أن ذلك يكون في موكب الآخر، فبعث الطباخي نائب حلب يعرفهم ذلك، فكتب بكتمر السلاح دار إلى قبجق نائب دمشق وقد بلغه خروجه إلى حمص يعرفه بما هم فيه، فلما كان الموكب الثاني ركب الأمراء ليقرأ عليهم كتاب السلطان باستقرار الأمير بكتمر في نيابة طرابلس، وقد احترزوا على أنفسهم، وتأخر بكتمر أيضاً عن الركوب واعتذر بوجع فؤاده، فعزموا على مسك من حضر، ثم أخذ بكتمر من خيمته.
وكانت العادة أنهم يقفون تحت القلعة على خيولهم، فإذا قرىء الكتاب نزلوا وقبلوا الأرض، فبيت الحسامية أن الأمراء إذا نزلوا لتقبيل الأرض داسوهم وأخذوهم باليد. فعندما قرئ الكتاب ترجل نائب حلب على العادة، وتبعه بقية الأمراء وقد أوقفوا مماليكهم على خيولهم ليحموهم، ونزل كل منهم وعنان فرسه في يده ومماليكه محيطة به، وقبل الأرض ووثب سريعا على فرسه، ومضوا يداً واحدة.(1/295)
فانخرم الأمر على الحسامية، وأخذوا يلومون نائب حلب في كونه لم يقبض عليهم، وهر يهول الأمر عليهم، إلى أن اتفقوا على الإرسال إلى الأمراء ليجتمعوا بدار النيابة في الليل، وأن يبدءوا بالإرسال إلى بكتمر أمير سلاح. فلما كان بعد عشاء الآخرة توجه الحاجب إلى أمير سلاح يعلمه بأن قصادا قد قدموا من البلاد، فيحضر للمشهورة مع الأمراء، فلم يمكن الحاجب من الاجتماع به، واعتذر بوجع رجله، فمضى الحاجب إلى الأمير كرتاي وابن قرمان، وبلغهما الرسالة، فضحكا وقال كل منهما: ما أبرد ذقن الأبعد، وذقن من أرسله متى سمعت مشورة تكون ثلث الليل؟ إلى غد نحضر مع الأمراء.
ثم إن الأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار والأمير فارس الدين ألبكي والأمير سيف الدين عزاز اجتمعوا، وركبوا من ليلتهم يريدون حمص ولقاء الأمير قبجق، فخرج قبجق إلى لقائهم، واتفقوا على العبور إلى بلاد غازان، فأمهلهم قبجق حتى يرد عليه جواب الأمراء من مصر، فنزلوا معه. وقدم جواب قبجق من كرجي وطغجي أنهم عن قريب يقضون الشغل، فليقم بموضعه حتى الخبر، فلم يوافقه الأمراء على الإقامة خوفاً من مجيء العساكر إليهم، وساروا ليلة الثلاثاء من ربيع الآخر وقصدوا سلمية.
وكان الأمير قبجق لما قدم عليه الأمراء من حلب قد بعث على البريد الأمير سيف الدين بلغاق بن كونجك الخوارزمي إلى السلطان يعلمه حضور الأمراء إليه، ويسأل الأمان لهم وتطييب خواطرهم. ثم سار الأمير قبجق من حمص ليلة السبت خامس ربيع الأول، وبعث علاء الدين بن الجاكي إلى دمشق يستدعي من الأمير جاغان مالا وخلعا من الخزانة للنفقة على الأمراء وتطييب خواطرهم، فامتنع جاغان من ذلك، وكتب يلومه على إغفاله القبض عليهم، وكتب إليه أيضاً أيدغدي شقير وسيف الدين كجكن بالإنكار، وأنه إن لم يقبض عليهم ركبوا عليه وقبضوه، فزاده ذلك نفوراً. وتبين لعسكر دمشق مخالفة قبجق، فتسللوا عنه طائفة بعد طائفة، وعادوا من حمص إلى دمشق، فشكرهم جاغان على مفارقتهم إياه، فبقي قبجق في قلة من المال والرجال.
وأما أهل حلب، فإن الأمراء لما شاروا في الليل ركب من بكرة النهار أيدغدي شقير وحمدان بن طغان والأمراء الحسامية إلى نائب حلب، وبطقوا إلى الأعمال بالقبض على الأمراء، وتوجه أيدغدي شقير في عسكر إلى جهة الفرات، وسار عسكر إلى جهة حماة، ونهبت أثقال الأمراء. فورد الخبر بوصولهم إلى قبجق نائب دمشق، وأنهم ساروا على طريق سلمية، فقام العزاء والنواح بحلب. وخرج العسكر في طلبهم نحو الفرات، وأوقع جاغان الحوطة بدمشق على بيت قبجق في خامس عشره، وتكامل مجيء العسكر الذي كان مع قبجق في سابع عشره.
وانتهى سيف الدين كجكن وأيدغدي شقير إلى الفرات، فوجدا الأمراء قد قطعوا الفرات إلى رأس عين فورد الخبر إلى حلب بقتل السلطان ونائبه منكوتمر، فركب سيف الدين بلبان البريدي ولحق الأمير قبجق برأس عين وأعلمه بذلك، فظن أنها حيلة عليه ولم يرجع.
وأما السلطان فإن منكوتمر لم يزل يدبر بشؤم رأيه حتى قتل، وذلك أن الأمير طغجي قدم من الحجاز أول صفر، وقد قرر منكوتمر خروجه إلى نيابة طرابلس، فلما استراح من تعب السفر استدعاه السلطان، وتلطف به في الخروج إلى طرابلس، فاعتذر بأنه لا يصلح للنيابة. وقام الأمير طغجي فأعلم كرجي وبيبرس الجاشنكير بذلك، فاتفقوا على التحدث مع السلطان في صرفه عن تسفيره، ودخلوا عليه وما زالوا به حتى أعفاه. فشق ذلك على منكوتمر، وأنكر على كرجي وتجهم له، وتكلم فيه وفي من تحدث معه في إعفاء طغجي من السفر، وبالغ في إهانتهم، فحرك ذلك من كرجي كوامن كانت في نفسه من منكوتمر. وانقطع منكوتمر من الخدمة حنقاً من إعفاء طغجي، فداراه السلطان وبعث إليه قاضي القضاة حسام الدين الحسن بن أحمد بن الحسن الرومي ليحضره، فما زال به حتى حضر بشريطة أن يخرج طغجي من مصر ويمسك كرجي أن يخرج أيضاً.(1/296)
واتفق مع ذلك وصول قاصد الأمير قبجق نائب دمشق في السر إلى طغجي وكرجي بما تقدم ذكره، فأوقفوا بيبرس وسلار وغيره ممن يثقون به على ذلك، واتفقوا على الفتك بالسلطان. وشرعوا في السعي بين الأمراء المماليك المنصورية والأشرفية يستميلونهم، وأخذ كرجي يستميل المماليك أرباب النوب فإنه كان مقدما عليهم، حتى أحكموا أمرهم. هذا ومنكوتمر مقيم على إخراج طغجي، وبعث يأمره أن يتجهز للسفر، وتمادى الحال إلى يوم الخميس عاشر ربيع الآخر.
ففي ذلك اليوم: أصبح السلطان صائماً، وأفطر ثم جلس يلعب بالشطرنج وعنده إمامه نجم الدين بن العسال وقاضي القضاة حسام الدين، فدخل الأمير كرجي على عادته وأعلمه بأنه قد بيت البرجية وغيرهم من المماليك في أماكنهم وغلق عليهم الأبواب وكان قد رتب قبل دخوله جماعة في أماكن بالدهاليز فشكره السلطان وأثنى عليه، وقال لقاضي القضاة: لولا الأمير سيف الدين كرجي ما وصلت إلى السلطة. فقبل كرجي الأرض وجلس على عادته، ثم قام ليصلح الشمعة فأصلحها، وألقى فوطة خدمة كانت بيده على نمجاه السلطان ليسترها عنه، وكان سلاح دار النوبة تلك الليلة الأمير سيف الدين نغاي الكرموني السلاح دار قد وافق كرجي على ما هو فيه. ثم قال كرجي للسلطان: ما يصلي مولانا السلطان العشاء؟ فقال: نعم وقام يريد الصلاة، فأخذ السلاح دار النمجاه من تحت الفوطة، وعند ذلك جرد كرجي سيفه وضرب السلطان على كتفه فالتفت السلطان يريد بالنمجاه فلم يجدها فقبض على كرجي وألقاه إلى الأرض، فضرب نوغاي رجل السلطان بالمنجاه فقطع رجله. وانقلب السلطان على ظهره، فأخذته السيوف من كل جانب حتى صار كوم لحم، وفر ابن العسال إلى خزانة، وصرخ القاضي حسام الدين: لا يحل هذا لكم فهم به كرجي ثم كفه الله عنه.
وخرج كرجي وأغلق الباب على المقتول والقاضي، فإذا بالأمير طغجي قد استعد وقعد في عدة من البرجية بداركاه القلعة ينتظر ما يكون من كرجي. فعندما رآه طغجي قال: قضيت الشغل؟ قال: نعم وأعلمه الخبر. فوقع الصوت في القلعة بقتل السلطان، وطار من وقته إلى المدينة. فركب الأمير جمال الدين قتال السبع في عدة من الأمراء إلى خارج المدينة، ووقعت الصرخة تحت القلعة فركب أكثر العسكر.
وأما طغجي فإنه استدعى بقية الأمراء المقيمين بالقلعة، وبسط باب القلة. فلم يشعر منكوتمر وهو بدار النيابة إلا بالصرخة قد قامت، وباب القله قد فتح، والأمراء قد اجتمعت، والشموع توقد، والضجيج يزداد. ففطن منكوتمر بقتل السلطان، وأغلق الأبواب، وألبس مماليكه فصار في أربعمائة ضارب سيف وأزيد، ولكن الله خذله فجاءه الحسام أستادار وعرفه من تحت الشباك بقتل السلطان، وتلطف به حتى خرج إليه وسار معه إلى باب القلة، فقبل يد طغجي. فقام إليه طغجي وأجلسه، ثم أمر به أن يمضى إلى الجب فأخذ وأرخي فيه، فقام إليه الأمير شمس الدين سنقر الأعسر والأمير عز الدين أيبك الحموي نائب الشام وغيرهما ممن كان بالجب، ولما عاينوه أنكروا ذلك، فقال منكوتمر: قد غضب على السلطان وحلف أن يحبسني، وقصد بذلك دفعهم عنه لئلا يقتلوه.
فلم يكن غير بعض ساعة إلا وقد أرخيت القفة من رأس الجب، وصاحوا على منكوتمر فقام وجلس بها، وفي ظن أهل الجب أن السلطان قد رضي عنه. فعندما صار برأس الجب وجد كرجي واقعاً في طائفة من المماليك، فضربه كرجي بلت من حديد صرعه، وذبحه عند الجب وانصرف، وذلك أنه لما حضر منكوتمر إلى طغجي لم يكن كرجي حاضراً، فلما بلغه مجيئه أقبل يريده فأعلم أنه في الجب، فصاح على الأمراء، فقال: إيش عمل بي السلطان حتى قتلته؟ والله لقد أحسن إلي وكبرني وأنشأني، ولو علمت أني إذا قتلت منكوتمر يبقيني بعده والله ما قتلته. وما أحوجني أقتله إلا ما كان يقع من منكوتمر ومضى مسرعاً إلى الجب حتى قتله، ونهبت داره.
وكان منكوتمر عفيفاً عن الأموال، ضابطا لناموس المملكة متيقظاًً، وهو أول من نزل عن إقطاعات الجند التي كانت في ديوان النيابة، ومتحصلها في السنة مائة ألف أردب غلة، فتركها لله تعالى. وكان بعيداً عن اللهو مهيباً مصمما، لم يسمع منه قط أنه شتم أحدا، ولا جرى على لسانه فحش، مع كثرة التحري ورفع المظالم. إلا إنه كان صبي العقل عظيم الكبر محتقراً للأمراء، فمقتوه وعلموا أنهم لا يصلون إلى ازاحته إلا بقتل السلطان، فاجتمعوا على قتله حتى كان ما كان.(1/297)
وكان الذين اتفقوا على قتل السلطان من الأمراء سيف الدين كرجي، وسيف الدين نوغاي، وقرا طرنطاي، وحجك، وأرسلان، وأقوش، وبيليك الرسولي.
وكانت مدة سلطة لاجين منذ فارق الملك العادل كتبغا الدهليز بمنزلة العوجاء، وحلف الأمراء في يوم الإثنين ثامن عشري المحرم سنة ست وتسعين، وإلى أن قتل سنتين وشهرين وثلاثة عشر يوما، ومنذ خلع كتبغا نفسه بدمشق، واجتمعت الكلمة بمصر والشام على لاجين في يوم السبت رابع عشري صفر منها، وإلى أن قتل، سنتين وشهرين غير ثلاثة عشر يوما، وقتل السلطان لاجين وله من العمر نحو الخمسين سنة، وكان أشقر أزرق العين معرق الوجه، طوالا مهيباً شجاعا مقداما، عاقلا متديناً يحب العدل، ويميل إلى الخير ويحب أهله، جميل العشرة مع تقشف وقلة أذى. وأبطل عدة مكوس، وقال: إن عشت لا تركت مشمسا ألبتة. وكان يحب مجالسة الفقهاء والعامة ويأكل طعامهم، وكان أكولا. و لم يعب بشيء سوى انقياده إلى مملوكه ونائبه الأمير منكوتمر، ورجوعه إلى رأيه وموافقته له واتباعه لكل ما يهواه من شدة حبه له، حتى أدى ذلك إلى قتلهما، ثم إلى خراب البلاد بمجيء غازان، فإن قبجق ومن معه من الأمراء حملهم بغضهم في منكوتمر وخوفهم منه على اللحاق بغازان وتحريضه على المسير إلى الشام، حتى كان منه ما يأتي ذكره إن شاء الله.
وكان لاجين منذ قتل الملك الأشرف يستشعر أنه لابد أن يقتل، حتى أنه في يوم الخميس الذي قتل في مسائه أحضر إليه بعد العصر بندب فارس ميداني من السلاح خاناه، فجعل يفتل فردة بعد فردة وهو يقول: من قتل قتل ويكرر هذا مراراً، فكان الفأل موكلا بالمنطق، إذ قتل بعد أربع ساعات من كلامه.
ونظير هذا أن الملك الأشرف وقف في حلقة صيد، والنوبة يومئذ في حمل السلاح خلفه للاجين هذا فجاء لاجين إلى بدر الدين بكتوت العلائي وله أيضاً النوبة في حمل السلاح، وقد تقدم إلى مكانه من الحلقة وأعطاه سلاح السلطان، وأمره بالتوجه إلى السلطان فإنه أمر بذلك. فأخذ بكتوت السلاح وتوجه به إلى الخدمة، ووقف لاجين حيث كان بكتوت واقفا. فلما جاء بكتوت وجد الأشرف على فرسه، وقد جعل طرف عصاة مقرعته تحت جبهته، واتكأ برأسه عليها وهي ثابتة بحذاء سرجه، وكأنه في غيبة من شدة الفكر. ثم التفت الأشرف وقال: يا بكتوت والله لقد التفت فرأيت لاجين خلفي وهو يحمل السلاح والسيف في يده، فتخيلت أنه يضربني به، فنظرت إليه وقلت يا شقير أعط السلاح لبكتوت يحمله، وقف أنت مكانه. فقال بكتوت: أعيذ مولانا السلطان بالله أن يخطر هذا بباله، ولاجين أقل من هذا وأضعف نفساً أن يقع هذا بباله، فضلا عن أن يقدم عليه. وهو مملوك السلطان، ومملوك مولانا السلطان الشهيد وتربية بيته الشريف. فقال الأشرف: والله ما عرفتك إلا ما خطر لي وتصورته. قال بكتوت: فخشيت على لاجين كون السلطان تخيل هذا فيه وأردت نصحه، فقلت له في تلك الليلة: بالله تجنب السلطان ولا تكثر حمل السلاح ولا تنفرد معه وأخبرته الخبر، فضحك ضحكا كثيراً وتعجب. فقلت: والله هذا يبكي منه فقال: ما ضحكي إلا من إحساسه. والله لما نظر إلى وقال يا شقير، كنت على عزم من تجريد سيفه وقتله به. قال بكتوت: فعجب من ذلك غاية العجب ومن العجب أيضاً أن الضرب الذي كان في الملك الأشرف عند قتله وجد مثله سواء في لاجين لما قتل.
وكان لاجين في سلطنته كثيراً ما يقف إذا أراد أن يصلي، ويكشف رأسه ويسأل أن يمد في عمره حتى يلقي غازان، ثم يقول: لكن أنا خائف أن يدركني الأجل قبل لقائه فكان كذلك.
وكان في شبابه منهمكا على الخمر، حتى صار وهو بدمشق يعاقر أعيان أهلها وينعم في مجالس اللهو عليهم، بحيث لما أفرط في اللهو قال الشجاعي للملك المنصور قلاوون إنه قد أبخس حرمة السلطان بمعاشرته عامة دمشق وانهماكه في الشرب. فبعث إليه قلاوون على لسان الأمير طرناي نائب السلطنة ينهاه ويهدده، وكتب إليه أيضاً بذلك. وكان ألاجين كثير الحركة، بحيث يغيب في الصيد الشهر والشهرين ومعه أرباب الملاهي، فلما تسلطن أعرض عن اللهو، وسار أحسن سيرة من العدل والإنصاف والعطاء والإنعام، وأحبه الأمراء والأجناد والعامة، فأفسد ذلك مملوكه منكوتمر بسوء تدبيره.(1/298)
واتفق أن لاجين لما اختفى هو وقرا سنقر بعد قتل الملك الأشرف، رأى قرا سنقر رؤيا فبعث إلى لاجين ليحضر إليه بسببها، وكان كل منهما يعرف موضع الآخر. فجاءه لاجين في صندوق حمل إلى دار قراسنقر بحارة بهاء الدين من القاهرة حيث كان مختفياً، فتحادثا، ثم قال له قرا سنقر: يا شقير رأيت رؤيا أنا خائف أن أقصها فتطمع نفسك وتتغير نيتك وتغدر بي فحلف له أنه لا يخونه. فقال قراسنقر: رأيت كأنك قد ركبت وبين يديك خيول معقودة الأذناب مضفورة المعارف مجللة بالرقاب الذهب على عادة ركوب الملوك، ثم نزلت وجلست على منبر وأنت لابس خلعة الخلافة، واستدعتني وأجلستني على ثالث درجة من المنبر وتحدثت معي قليلا. ثم دفعتني برجلك فسقطت من المنبر، وانتبهت عند سقوطي. وهذا يدل على قربي منك ورميك لي وأنا والله يا شقير نحس قد خلفتك، وما أدري هل تصدق أو لا؟ فضحك لاجين. وكان كذلك، فإنه استناب قراسنقر لما تسلطن قليلا، ثم كان من أمره ما تقدم ذكره من سجنه له. فكان قراسنقر كل قليل يبعث إليه برسول وهو سجين، ويقول: يا أخي اجعل في نظير بشارتي بما آتاك الله أن تفرج عني وتنفيني حيث أردت فيبتسم لاجين، ويقول للرسول: سلم عليه وقل له إن شاء الله بقي القليل.
واتفق أن لاجين رأى في المنام كأنه بباب القلة من القلعة وقد جلس في موضع النائب، والنائب قدامه وقف وشد وسطه، فلما قام من مكانه صعد درجا، وإذا برجل وهو كرجي وقد طعنه برمح فصار كوم رماد. فاستدعى لاجين علاء الدين ابن الأنصاري عابر الرؤيا، وقص رؤياه عليه، فقال: تدل هذه الرؤيا على أن السلطان يستشهد على يد كرجي. فقال لاجين: الله المستعان وأوصاه بكتمان ذلك، وأعطاه خمسين دينارا وانصرف ابن الأنصاري فإذا قاصد الأمير منكوتمر ينتظره، فلما دخل عليه سأله عن رويا السلطان فكتمها عنه، وقال: شيء يتعلق بالحريم. فقال منكوتمر: قد رأيت أنا أيضاً كأني خرجت من الخدمة إلى دار النيابة، فإذا بالدهليز عمود رخام فوقه قاعدة، فجذبت سيفي وضربت رأس العمود فألقيته، ففار من العمود دم عظيم ملأ الدهليز. فعمى ابن الأنصاري عليه، وقال: قد انقطع الكلام برؤية الدم خوفاً من شره، وانصرف متعجباً من اتفاق تأويل المنامين فلما كان بعد أحد عشر يوماً من رؤياهما، حضر إليه خادم بورقة فيها أن امرأة السلطان وهي ابنة الملك الظاهر رأت السلطان جالساً، وإذا بطائر كالعقاب انقض عليه واختطف فخذه الأيسر وطار إلى أعلى الدار، فإذا غراب قد أشرف على الدار وصاح كرجي ثلاث مرات. فقال ابن النصاري: هذا منام لا يفسر حتى تمضى ثلاث جمع وأراد بذلك الدفع عن نفسه، فقتل لاجين في الجمعة الثانية من هذا المنام على يد كرجي.
وبعث الأمير علم الدين سنجر الدواداري وراء ابن الأنصاري، واستحكاه عن تأويل رؤيا لاجين، فإنه كان حاضراً عندما قصها عليه، ثم قام حتى لا يسمع تأويله. فأخبره ابن الأنصاري بما قاله له، وبمنامي منكوتمر وامرأة لاجين. فقال له الأمير علم الدين: لما قمت من عند السلطان لاجين استدعاني وأخبرني بما قال لك، وقال عرفت من الذي طعنني بالرمح؟ قلت لا، فأشار إلى كرجي. ثم استدعاني بعد أيام وذكر لي أنه أعلم منكوتمر بأن خاطره ينفر من كرجي، فقال له منكوتمر بحنق: والله لا تبرح تتهاون في أمرك حتى يقتلوك ويقتلوني وتموت مماليكك في الحبس، وما لهذا القواد إلا قتله يعني كرجي وحلف أنه كلما رأي كرجي يود لو ضربه بسيفه، ونهض وهو مصمم على قتله فحال الله بينهما وبين كرجي، حتى أمضى فيهما على يده ما قدره من قتلهما.(1/299)
وذلك أن الاتفاق كان قد وقع بين السلطان وبين منكوتمر على مسك كرجي وطغجي وشاورشي في جماعة من الأمراء وقت الخدمة يوم الإثنين، فعرف منكوتمر ثقاته بذلك. واشتد فكر السلطان واضطراب رأيه فيما قرره مع منكوتمر، فتارة يعزم على إمضائه، وتارة يرجع عنه حتى يرد عليه خبر الأمراء المجردين وهل قبض عليهم أو لا. فلما أصبح استدعى الأمير سيف الدين سلار أمير مجلس، وبعثه إلى منكوتمر يأمره ألا يفعل شيئاً مما قرره مع السلطان حتى يعرفه، فإنه خطر في نفسه شيء أوجب تأخيره فلما ذكر سلار هذا لمنكوتمر ظن أن السلطان أعلمه بالأمر على وجهه، وأخذ ينكر على السلطان تأخيره ما اتفقا عليه، وشرح له الحال كله ولم يكتمه شيئاً فسكن سلار من حنقه، وأعاد الجواب على السلطان بالسمع والطاعة، وكتم ما أطلعه منكوتمر عليه، ومضى إلى كرجي وطغجي ومن معهما، وأعلمهم بالأمر كله، فشمروا للحرب، وكان ما كان.
واتفق أيضاً أن في الليلة التي قتل فيها لاجين ظهر في السماء نجم له ذنب، يخيل لمن رآه أنه قد وصل إلى الأرض. فلما رآه لاجين تعجب منه، وتمعر وجهه، وقال لقاضي القضاة حسام الدين، وهو معه: ترى ما يدل عليه هذا النجم؟، فقال: ما يكون إلا خير. فسكت لاجين، ثم قال له: يا قاضي حديث كل قاتل مقتول صحيح وتغير تغيراً زائداً. فشرع الحسام يبسطه ويطيب خاطره، وهو يقول: " إنا لله وإنا إليه راجعون " وجلس وكررها، فقتل في مجلسه ذلك.
واتفق أيضاً أنه أحضر إليه في تلك الليلة بعض السلاح دارية سيفا من الخزانة، فقلبه وأعجب به، فأخذ كرجي يشكر منه، فقال له لاجين: كأنك تريده قال: نعم والله يا خوند فقال لاحين: هذا ما يصلح لك والتفت إلى طغاي وناوله إياه وقال: خذ هذا اقتل به عدوك فكان أول ما ضرب به لاحين بعد ساعة فأطار يده.
واتفق أيضاً أن لاجين دفن في تربة بجانب تربة العادل كتبغا من القرافة، فكان أولاد كتبغا يأتون قبره ويضربونه بالنعال ويسبونه، وأقاموا على هذا مدة يشفون أنفسهم بذلك.
وكان لاجين معظما للشرع وأهله منفذاً لأوامره، ومن ذلك أنه طلب أموال الأيتام من الأمراء وكانت تحت أيديهم، ونقلها إلى مودع حديد لمال الأيتام استجده، وكتب توقيعا بأن من مات وله ورثة صغار ينقل ميراثهم إلى مودع الحكم ويتحدث فيه قاضي القضاة الشافعي، فإن كان للميت وصي فيقيم القاضي الشافعي معه عدولا من جهته ورد لاجين عدة أملاك كانت قد أخذت بغير حق إلى ملاكها، منها قرية ضمير من عمل دمشق، وكانت وقف الملك الزاهر على أولاده. ورد على عز الدين بن القلانسي ما أخذ منه في الأيام المنصورية قلاوون من المال بغير طريق شرعي. ووضع عن أهل بلقس الأشراف ما كان عليهم من المظالم، وهو يبلغ ثلاثين ألف درهم في كل سنة، وعوض مقطعيه بدل ذلك. ورد وقف قراقوش على الفقراء، وكان قد أقطع منذ سنين، فتسلمه القاضي الشافعي وبلغه في السنة عشرة آلاف درهم، وعوض مقطعيه عنه ورد الدار القطبية إلى من وقفت عليه من جهة الملك الكامل، وكانت بيد أحد مقدمي الحلقة وورثته من نحو ستين سنة. وكانت عدة من الإقطاعات بيد الأمراء فردها إلى أربابها، وكانت العساكر من ذلك في مضرة، لأنهم لا يحصل لهم من دواوين الأمراء كبير شيء، ويبقي الإقطاع في حمي الأمير يأوي إليه كل مفسد وقاطع طريق.
وكان لاجين شجاعا مقدما على أقرانه في الفروسية وأعمالها، كثير الوفاء لمعارفه وخدامه، ومنع من لبس الكلفتاه الزركش والطرزكش وملابس الذهب، وشدد في المنع من المحرمات كلها، وحد في الخمر بعض أولاد الأمراء، وكان يصوم رجب وشعبان، ويقوم الليل، ويكثر من الصدقات، مع لين الجانب وخفض الجناح.
تدبير الأمراء بعد قتل الملك المنصور
لاجين الأمر(1/300)
ولما قتل الملك المنصور لاجين ونائبه الأمير منكوتمر اتفق من كان بالقلعة من الأمراء وهم عز الدين أيبك الخازندار المنصوري، وركن الدين بيبرس الجاشنكير وسيف الدين سلار الأستادار، وحسام الدين لاجين الرومي الأستادار الواصل من حلب، وجمال الدين أقوش الأفرم، وبدر الدين عبد الله السلاح دار، والأمير كرت الحاجب مع الأمير طغجى وكرجي على مكاتبة الملك الناصر محمد بن قلاوون واحضاره من الكرك واقامته في السلطنة، وأن يكون طغجى نائب السلطنة، وألا يقع أمر من الأمور إلا بموافقة الأمراء عليه وتحالفوا على ذلك في ليلة الجمعة. فلما طلع النهار فتح باب القلعة، وركب الأمير جمال الدين أقوشق قتال السبع وبقية الأمراء إلي القلعة، وكتبوا إلى الأمير قبجق نائب الشام والأمير بلبان الطباخي نائب حلب. مما وقع، وطلبوا منهما القبض على أيدغدي شقير و جاغان و حمدان بن صلغاي والأمراء الحسامية. وسار البريد بذلك على يد الأمير بلغاق من أمراء دمشق، وكان قد حضر بكتاب الأمير قبجق في يوم السبت ثاني عشره بعد قتل لاحين، فأخذ طغجى منه الكتاب.
وجلس طغجى مكان النيابة وبقية الأمراء يمنة ويسرة، ومد السماط السلطاني على العادة. ودار الكلام في الإرسال إلي الملك الناصر، فقام كرجي وقال: يا أمراء أنا الذي قتلت السلطان لاجين وأخذت ثأر أستاذي، والملك الناصر صغير ما يصلح، ولا يكون السلطان إلا هذا وأشار لطغجى وأنا أكون نائبه، ومن خالف فدونه فسكت الأمراء كلهم إلا كرت الحاجب فإنه قال: يا خوند الذي فعلته أنت قد علمه الأمراء، ومهما رسمت ما ثم من يخالف وانفضوا، وتأخر الإرسال إلي الملك الناصر.
فبعث طغجي إلي التاج عبد الرحمن الطويل مستوفي الدولة وسأله عن إقطاع النيابة فذكره له، فقال طغجي: هذا كثير، أنا لا أعطيه لنائب ورسم أن توفر منه جملة تستقر للخاص. فلما خرج التاج عبد الرحمن الطويل من عنده استدعاه كرجي وسأله عن إقطاع النيابة، فلما ذكره له استقله وقال: هذا ما يكفيني ولا أرضي به وعين بلادا يطلبها زيادة على إقطاع منكوتمر، فأخذ التاج يتعجب منهما في استعجمالهما بذلك قبل انعقاد الأمر لهما.
وفي ليلة الأحد: وقع الطائر بنزول الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح بيلبيس بالعسكر المجرد إلى سيس فسر الأمراء بذلك، وكتبوا إليه وإلى من معه بجميع ما وقع واتفاق طغجي وكرجي مفصلا. وصار أهل الدولة قسمين: الأمراء ورأيهم معدوق. مما يشير به الأمير بكتاش إذا حضر، وأما طغجي وكرجي وشاورشي والمماليك الأشرفية فإنهم يد واحدة على سلطنة طغجى ونيابة كرجي، وإنهم لا ينزلون إلي لقاء الأمير بكتاش، بل يقيمون مع طغجي بالقلعة حتى يحضر بكتاش. ممن معه وكان رأي الأمراء النزول إلى لقائهم.
فلما كان يوم الأحد ثالث عشره: نزل الأمير بكتاش بركة الحاج، وشرع الأمراء بالقلعة في التجهيز إلي لقائه. فامتنع كرجي من أن ينزل إليه أحد، بل أشار أن ينزل كل أحد إلي بيته، ويطلع الجميع من الغد القلعة، فيلبس طغجي خلعة السلطنة، وانفضوا على ذلك. فعلم الأمراء إنهم ما لم ينزلوا إلى لقاء الأمير بكتاش فاتهم ما دبروه، فلما اجتمعوا بعد العصر اخذوا مع طغجى وكرجي في تحسين النزول للقاء، فإن الأميربكتاش قديم هجرة وأتابك العساكر، وقد أثر في سبيل الله أثاراً جميلة وملك إحدى عشرة قلعة، وله غائب بالعسكر نحو سنة ونصف، فإن لم يتلقهم الأمراء صعب عليهم، ولو كان السلطان حياً لخرج إلي لقائهم. هذا وطغجى وكرجي يقولان: لا نزول، وأما أنتم فانزلوا إن اخترتم فلما طال تحاورهم استحيا طغحى من الأمراء وقال لكرجي: الصواب فيما قاله الأمراء، والرأي أن أركب معهم ومعي مماليك السلطان ونلقي الأمير بكتاش، وتقيم أنت بالقلعة في طائفة من المماليك، فاتفقوا على ذلك. وعرض طغحى المماليك ومعه كرجي، وعينا أربعمائة تركيب مع طغجى، وأخرجت لهم الخيول من الإسطبل، وأن يقيم مع كرجي بقيتهم بالقلعة، وباتوا على ذلك.(1/301)
وأما دمشق فان بلغاق قدم إليها يوم السبت تاسع عشره، وقد بلغه تسحب الأمير قبجق. بمن معه إلي جهة الفرات فاخفي أمره وتوجه إلي حلب وأوقف الأمير بلبان الطاخبي على الخبر، فقبض الأمير بلبان من وقته على حمدان صلغاي وسجنه بالقلعة، وبعث البريد في طلب قبجق ومن معه، وكتب يعرفه بقتل لاجين ومنكوتمر. فصدف البريدي أيدغدي شقير وكجكن وبالوج في الطائفة الحسامية، وقد خرجوا في طلب قبجق ومن معه، فأنكروا أمره وفتشوه، فإذا في الكتب التي معه شرح ما وقع بمصر، فخاف أيدغدي شقير من نائب حلب لسوء ما عامله به، ودفع الكتب إلي البريدي وخلاه لسبيله، فمضى إلي قبجق، وتحير أيدغدي في أمره، ثم قوي عليه كجكن حتى سار به إلي حلب، فلم يتعرض إليه الأمير بلبان النائب بل عزاه وتوجع له.
وقام بدمشق الأمير بهاء الدين قرا أرسلان المنصوري، وقبض على الأمير سيف الدين جاغان الحسامي الشاد، وعلى الأمير حسام الدين لاجين الحسامي وإلي البر، وقدم الأمير كجكن من حلب فقبفر عليه أيضاً، وسلمهم جميعًا لأرجواش نائب القلعة. وتحدث الأمير بهاء الدين قرا أرسلان المنصوري حديث نواب السلطة، وصار يركب بالعصائب والجاويش، ويجلس بدار السعادة وترفع له القصص على هيئة النواب، أوقع الحوطة على أبواب الأمراء المقتولين وحواصلهم، وحلف العسكر للملك الناصر. فلم تطل مدته، ومات في ثاني جمادى الأولى بقولنج وصارت دمشق بغير نائب ولا مشد ولا محتسب.
وكان خبر قيام قرا أرسلان قد ورد إلي الأمراء بمصر، فخرج البريد في سادس عشرى ربيع الآخر باستقرار سيف الدين قطوبك المنصوري في الشد عوضاً عن جاغان، فعاشر ذلك يوم الأحد خامس جمادى الأولى، عند قدوم البريد إلي دمشق.
وأما قبجق نائب دمشق، فإنه توجه ومعه الأمير بكتمر السلاح دار وفارس الدين ألبكي وسيف الدين عزاز وسيف الدين بزلار يريدون غازان، فمات بزلار قريباً من سنجار. وتسامع بهم المغل، فركب جنكلي بن البابا أمير ديار بكر من قبل غازان وبالغ في إكرامهم، وتلقاهم صاحب ماردين وقام بأمرهم. فلحقه بريد نائب حلب بها، وأوقفه على الكتب المتضمنة لقتل لاجين ومنكوتمر، فبكى قبجق والأمراء نادماً على سرعة مفارقتهم بلاد الشام، و لم يعجبهم العود، فكتبوا الجواب بالاعتذار.
وكان غازان فد بلغه مجيئهم إليه، فبعث أميراً يتلقاهم، وسار بهم إلى الأردوا فركب غازان في موكبه وتلقاهم وأكرمهم، وضرب لهم الخركاوات وأمر لهم. مما يصلح لهم. ثم استدعاهم وباسطهم، فلما انصرفوا حمل إلي قبجق عشرة آلاف دينار ولبكتمر مثلها، ولعزاز والألبكي ستة آلاف دينار لكل منهما. وأنعم غازان عليهم وعلى من معهم بالخيول وغيرها، وتقدم إلي أمرائه بأن يعمل كل منهم لهم ضيافة، فأقامت الأفراح في الأردوا بسبب ضيافتهم عدة أيام، وصار قبجق قي غاية المسمرة، فإنه أتاه طائفة من أهله وأقاربه، وأما بكتمر فإنه لم تطب نفسه بالإقامة.
ومن غريب الاتفاق أن السلطان الملك المنصور قلاوون جري مرة عنده أمر تجريد عسكر إلي حلب، فذكر له قبجق هذا أن بجرد، فقال: أعوذ بالله أن أجرد قبجق إلي نحو الشام، فإنني ما أمنه أن يدخل البلاد، ويظهر لي من وجهه الميل إلي المغل . ثم التفت قلاوون إلى سنقر المساح، وقال: إن عشت يا أمير، وخرج قبجق إلي الشام، فستذكر قولي لك فكان كذلك.
ويقال إنه كان مدة نيابته لدمشق يكاتب غازان، وعندما عزم على اللحاق به استدعى منه طمغا البريد التي يركب بها الأمراء عندهم، فبعثها غازان إليه، وصارت عنده حتى ركب من ماردين فحملها إليه، وكان هو أكبر أسباب قدوم غازان إلي دمشق، كما يأتي ذكره إن شاء الله.
سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون
ثانيًا(1/302)
وكان من خبر ذلك أن الأمير سيف الدين الحاج آل ملك الجوكندار والأمير علم الدين سنجر الجاولي قدما إلى الكرك، فوجد الملك الناصر يتصيد بالغور، فوجها إليه. ودخل الأمير جمال الدين أقوش الأفرم نائب الكرك إلي أم السلطان ليبشرها، فخافت أن تكون مكيدة من لاجين، وتوقفت في المسير وابنها إلي مصر، فما زال بها حتى أجابت. ووصل الأميران إلي الملك الناصر فقبلا الأرض بين يديه وأعلماه الخبر، فأتي إلي المدينة وأخذ في تجهيز أحواله، والبريد يتواتر من مصر باستحثاثه على القدوم إليها، إلى أن هيا له نائب الكرك ما يليق به، وسار به إلي القاهرة فخرج الأمراء والعساكر إلي لقائه، وكادت القاهرة ومصر ألا يتأخر بها أحد من الناس فرحا بقدومه، وخرجوا إليه عامة مي يوم السبت رابع جمادى الأولى.
وجلس السلطان الملك الناصر على سرير الملك في يوم الإثنين سادسه، وجددت له البيعة، وكتب شرف الدين محمد بن فتح الدين القيسراني عهده عن الخليفة الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد.
وفيه استقر الأمير سيف الدين سلار في نيابة السلطة بديار مصر، والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير أستادار، والأمير جمال الدين أقوش الأفرم الداوداري المنصوري نائب دمشق عوضاً عن الأمير قبجق المنصوري، والأمير سيف الدين كرت الحاجب في نيابة طرابلس، واستقر عوضه حاجبًا سيف الدين قطلوبك وأفرج عن الأمير قرا سنقر، والأمير عز الدين أيبك الحموي، والوزير شمس الدين سنقر الأعسر، واستقر قرا سنقر في نيابة قلعة الصبيبة، وخلع على سائر أهل الدولة، وكتب إلي الأعمال بذلك، ودقت البشائر وزينت الممالك على العادة.
وفي ثامنه: ركب السلطان بخلعة الخلافة والتقليد بين يديه، وعمره أربع عشرة سنة، وأقر الوزير فخر الدين عمر بن الخليلي في الوزارة. وسار الأمير أقش الأفرم على البريد إلي دمشق، فقدمها في ثاني عشريه، ولبس من الغد التشريف، وقبل عتبة باب القلعة على العادة، ومد السماط بدار السعادة، وأخرج الأمير سيف الدين قطلوبك إلي مصر.
وفي تاسع عشريه: افرج الأمير أقش الفرم عن جاغان الحسامي وبعثه على البريد إلي مصر، فرده السلطان من طريقه، وجعله أحد أمراء دمشق. وقدم البريد من حلببدخول قبجق ومن معه إلي بلاد المغل. ووقع بالقاهرة مطر، وسال المقطم إلي القرافة فافسد عدة ترب، ووصل الماء إلي باب النصر من القاهرة، وأفسد السيل هناك عدة ترب أيضاً.
وصار الأمراء يجتمعون بقلعة الجبل في يوم الموكب عند السلطان، ويقررون الأمور مع بيبرس وسلار فتصدر الأحوال عنهما، وشرعا في تقديم حواشيهما وألزامهما.
واستقر الأمير سيف الدين بكتمر أمير جاندار، وأنعم على أمير موسى بن الصالح على ابن قلاوون بإمرة، وعلى كل من عز الدين أيدمر الخطيري وبدر الدين بكتوت الفتاح وعلم الدين سنجر الجاولي وسيف الدين تمر وعز الدين أيدمر النقيب بإمرة. وأنعم على ناصر الدين محمد بن الشيخي وإلى القاهرة بإمرة، واستقر واليًا بالجيزة وأعمالها مع ولاية القاهرة، وأنعم على كل من لاجين أخي سلار وأقطاي الجمدار وبكتوت القرماني بإمرة وقبض على الأمير، العمري والأقوش وقراقوش الظاهري ومحمد شاه الأعرج وعد على قراقوش ومحمد شاه من الذنوب قتلهما طغجى وكرجي.
وإلي يوم الخميس خامس عشر جمادى الآخرة: ألبس الأمير أقش الأفرم نائب دمشق الأمراء والأعيان الخلع، وفيه قدم طلبه وأثقاله من مصر، فتلقاها والأمراء في خدمته وعليه التشاريف، ودخل دخولاً حسنًا.
وفيه كتب عن السلطان تقليد الملك المظفر تقي الدين محمود بنيابة حماة.
وفي شهر رجب: توجه الأمير كرت الحاجب إلي نيابة طرابلس.(1/303)
وفي ثاني عشره: قبض بدمشق على الأمير سيف الدين كجكن واعتقل بالقلعة وورد البريد من حلب بمحاربة نغاي وطقطاي، وإنه قتل بينهما من المغل خلق كثير، وأن غازان بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن طولو بن جنكزخان قتل وزيره نوروز، وأنه تأهب لعبور الشام وبعث في جمع المغل، وإنه بعث سلامش بن أفال بن بيجو التتري إلى بلاد الروم، على عسكر يبلغ نحو الخمسة وعشرين ألف فارس. فاهتم الأمراء بتجريد العسكر، واتفقوا على تجهيز الأمير سيف الدين بلبان الحبيشي، والأمير جمال الدين عبد الله السلاح دار، والأمير مبارز الدين سوارالرومى أمير شكار، ومقدمهم الأمير جمال الدين أقش قتال السبع، وصحبتهم من أمراء الطبلخاناه عشرون أميراً. وكتب إلى دمشق بتجريد أربعة أمراء مقدمين، فساروا وقدموها في سابع رجب.
وقدم البريد من دمشق بورود نحو ثلاثين بطسة في البحر إلى ساحل بيروت، في كل بطسة منها نحو سبعمائة، وقصدوا أن يطلعوا من مراكبهم إلى البر، وتحصل إغارتهم على الساحل. فاجتمع الناس لقتالهم، فبعث الله ريحًا كسرت المراكب وألقتها بالشاطئ، فأخذ أهل بيروت منها ما بقى من الغرق، وأسروا ثمانين إفرنجياً، وذلك أخريات شعبان. وقويت شوكة البرجية بديار مصر، وصارت لهم الحمايات الكبيرة، وتردد الناس إليهم في الأشغال. وقام بأمرهم الأمير بيبرس الجاشنكير وأمر منهم عدة، وصار في قبالته الأمير سيف الدين الدين سلار ومعه الصالحية والمنصورية، إلا أن البرجية أكثر وأقوى، وشرهوا جميعاً إلى أخذ الإقطاعات، ووقع الحسد بين الطائفتين، وصار بيبرس إذا أمر أحداً من البرجية وقفت أصحاب سلار وطلبت منه أن يؤمر منهم واحداً. وأخذ الأمير سيف الدين برلغي يشارك بيبرس وسلار في الأمر والنهي، وقويت شوكته والتف عليه المماليك الأشرفية.
وفي يوم الخميس ثاني عشر شعبان: وصل سلامش بن أفال نائب الروم إلى دمشق، مع الأمير عز الدين الزردكاش نائب بهسنا، في عشرين من أصحابه. فتلقاه عسكر دمشق وأهلها مع النائب وقد اهتم للقائه وبالغ في التجمل الزائد، فكان يوما بهجاً. وأنزله على الميدان وقام. مما يليق به، وأحضر في ليلة النصف ليرى الوقيد بجامع بنى أمية.
وفي ليلة الإثنين سادس عشره: أركبه البريد هو وأخوه قطقطوا، فقدما إلى قلعة الجبل ومعهما مخلص الدين الرومي فأكرمهم الأمراء وقاموا بواجبهم.
وكان من خبر سلامش أن غازان لما بعثه لأخذ بلاد الروم خرج عن طاعته، وحسن في رأيه الاستبداد. بملك الروم فاستخدم عشرة آلاف، وكاتب ابن فرمان أصر التركمان، وكتب إلى الملك المنصور لاجين سلطان مصر يطلب نجدة على قتال غازان على يد مخلص الدين الرومي. فأجيب في شهر رحب بالشكر والثناء، وكتب إلى دمشق بخروج العسكر لنصرته.
وكان غازان قد وصل إلى بغداد، فبلغه خروج سلامش عن طاعته، فأعرض عن المسير إلى الشام، وجهز العساكر إلى بلاد الروم، وأخرجهم أول جمادى الآخرة وعدتهم نحو الخمسة وثلاثين ألفاً وعليهم بولاي وعاد غازان إلى تبريز، ومعه الأمير قبجق وبكتمر السلاح دار والألبكي وبزلار، وسار بولاي إلى سنجار ونزل على رأس عين، ثم توجه إلى أمد.
وجمع سلامش نحو الستين ألفًا، وامتنع عليه أهل سيواس وهو يحاصرهم، فلما قرب منه بولاي بعساكر غازان فر عنه من كان معه من التتار إلى بولاي في أول ليلة من رجب، ثم التحق به أيضاً عسكر الروم، وفر التركمان إلى الجبال. و لم يبق مع سلامش إلا نحو الخمسمائة ، فإنهزم عن سيواس إلى جهة سيس، ووصل بهسنا آخر رجب. فورد خبره إلى دمشق في خامس شعبان والأمراء بها على عزم الخروج لنجدته، فتوقفت الحركة عن تسيير العساكر. فما كان بعض أيام إلا وسلامش قد وصل إلى دمشق، فخرج إليه عساكر دمشق والتقوه في موكب عظيم، ووصل صحبته من بهسنا الأمير بدر الدين الزردكاش نائب السلطنة بها.(1/304)
ثم توجه سلامش وأخوه قطقطوا إلى الأبواب السلطانية، في يوم الأحد خامس عشر شعبان على خيل البريد، فلما قدم إلى قلعة الجبل أنعم على أخيه قطقطوا بإقطاع، ورتب لمخلص الدين الرومي جار، وخير سلامش بين المقام بالديار المصرية أو الشام أو أن يعود إلى بلاده، فسال أن يجرد معه جيش ليعود إلى بلاده ويحضر بعياله، ويرجع إلى خدمه السلطان. فوافقه السلطان على ذلك، فركب البريد إلى حلب، ورسم أن يخرج معه الأمير بكتمر الجلمي. فقدم سلامش دمشق في حادي عشر رمضان، وخرج من الغد ومعه الأمير بدر الدين الزردكاش، ولما وصل إلى حلب جرد معه الأمير بكتمر حسب المرسوم إلى جهة سيس، بعدما مر بحلب وخرج منها بعسكر. ففطن به التتار فقاتلوه، فقتل الأمير بكتمر، وفر سلامش إلى بعض القلاع فقبض عليه وحمل إلى غازان فقتله.
وكان سلامش هذا من أكبر الأسباب في حركة غازان إلى بلاد الشام: وذلك إنه نهب بعسكر حلب ماردين في شهر رمضان حتى أخذ ما كان بجامعها، وفعل أفعالاً قبيحة، فحرك فعله ما عند غازان وجعله حجة لمسيره.
وفي شعبان: انعم على الأمير قرا سنقر بنيابة الصبيبة وبانياس، فسار إليهما وتسلمهما فيه.
وفي رمضان: قدم الأمير علاء الدين كجكن إلى القاهرة مقيداً، هو وحمدان بن صلغاي وقد وكل بهما مائة فارس من عسكر الشام. فأرسل بحمدان إلى صفد، فكان آخر العهد به. وقدمت رسل صاحب سيس و صاحب القسطنطينية بهدايا في سادسه. واستقر الأمير شمس الدين سنقر الأعسر في الوزارة عوضاً عن الصاحب فخر الدين عمر بن الخليلي، فضرب التاج بن سعيد الدولة بالمقارع فأسلم، وكان مستوفيا. واستقر شمس الدين أحمد السروجي في قضاء القضاة الحنفية بالقاهرة ومصر، عوضاً عن حسام الدين حسن بن أحمد بن الحسن الرومي، في أول ذي الحجة. ونقل الحسام إلى قضاء الحنفية بدمشق، عوضاً عن والده جلال الدين أحمد بن الحسن.
وفي آخر ذي القعدة: نقل الأمير قرا سنقر من نيابة الصبيبة إلى نيابة حماة، بعد وفاة الملك المظفر تقي الدين. واستناب الأمير بيبرس الجاشنكير في الأستادارية الأمير علم الدين سنجر الجاولي، وحكمه في سائر أمورها، فترك الملك الناصر الاستدعاء لما يريده من مأكل أو مشرب لشدة الحجر عليه، وصار ليس له من المملكة سوى الاسم. وذلك إنهم يجلسونه في يومي الخميس والإثنين، وتحضر الأمراء الأكابر ويقف الأمير سلار النائب والأمير بيبرس الأستادار، ويعرض سلار عليه ما يريده، ثم يشاور فيه الأمراء ويقول: السلطان قد رسم بكذا، فيمضى ذلك. ثم يخرج الجمع، فيجلس سلار وبيبرس ويتصرفان في سائر أمور المملكة، ويتفقان على قلة مصروف السلطان.
وقدم البريد بتحرك غازان وجمعه على السير إلى الشام، فكتب إلى الأمير كزناي والأمير قطلوبك الحاجب بالخروج واللحاق بالأمراء المجردين، فقدموا دمشق في رابع عشرى ذي الحجة. ووقع العزم على سفر السلطان والأمراء، واستدعيت الجند من بلاد مصر، وألزم الوزير سنقر الأعسر بتجهيز الأموال، فتحسن سعر الخيل والجمال والسلاح وآلات السفر. وانتظر العسكر النفقة فيهم، فاجتمع الأمراء لذلك، فلم يوافق بيبرس وسلار على النفقة خوفا من تلاف المال، وقصدا تأخيرها إلى غزة، فلم ترض بقية الأمراء بذلك، وانفضوا على غير رضى. وخرج السلطان في رابع عشرى ذي الحجة بالعساكر ونزل خارج القاهرة، واستناب في غيتبه الأمير ركن الدين بيبرس المنصوري الدوادار.
ووقع في هذه السنة بأرض مصر آفة عظيمة من الفار.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
الأمير عز الدين أيبك الموصلي نائب طرابلس، في صفر.
ومات نجم الدين أيوب ابن الملك الأفضل نور الدين على ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ، في رابع عشر ذي الحجة بدمشق.
ومات الأمير جمال الدين أقش المغيثي نائب البيرة بها. وقد أقام في نيابتها أربعين سنة ومات الأمير سيف الدين بكتمر الجلمي قتل على سيس.(1/305)
ومات الأمير بدر الدين بدر الصوافي أحد أمراء الدوادار. أصله من الغرب، فولاه المنصور لاجين دوادارا، وأقامه على تجديد عمارة جامع ابن طولون. واتفق أن شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله كاتب السر مرض، فبعث إليه السلطان بدر الدين وقال: ما بقى يجيء منه شىء، فبعد أسبوع مات بدر الدين، وطلع كاتب السر إلى الخدمة وقد عوفي، وعزى السلطان في الدوادار، فقال السلطان: لا اله إلا الله كان في ظن الدوادار إنه يعزينا في كاتب السر عزانا كاتب السر فيه.
ومات الأمير سيف الدين تمر بغا، وله مسجد بالقرب من الميدان التحتاني بين القاهرة ومصر، وكان كريما. وكان قد توجه مع الملك الناصر إلى الكرك، ثم نقل إلى طرابلس فمات بها.
ومات بحلب من المجردين الأمير سيف الدين البسطي وأحمد شاه، ومحمد بن سنقر الأقرع، وعين الغزال، وكيكلدى بن السرية ومات بناحية سمنود - وكان قد توجه إليها - الأمير سيف الدين طقطاي.
ومات شهاب الدين يوسف بن الصاحب محي الدين محمد بن يعقوب بن إبراهيم ابن هبة الله سالم بن طارق النحاس بن الأسدي الحلبي، في ثالث عشر ذي الحجة بدمشق، وقد قدم القاهرة مراراً.
ومات أمين الدين سالم بن محمد بن سالم بن الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن صصري التغلبي، ناظر الدواوين بدمشق، في ثامن عشرى ذي الحجة، وهو مصروف. ومات الأمير علم الدين سنجر المسروري والي القاهرة، وهو المعروف بالخياط.
سنة تسع وتسعين وستمائة
أهلت والسلطان متوجه بعساكر مصر إلى الشام، والإرجاف يقوى بمسير غازان إلى الشام. فرحل السلطان بالعساكر من الريدانية أول يوم من المحرم، والأمراء قد كثر تحاسدهم وتنافسوا بكثرة سعادتهم، فلما وصلوا غزة أقبلوا على الصيد والاجتماع والنزه. فاشتد حنق الطائفة الأويراتية الذين قدموا في أيام العادل كتبغا، من أجل قتلى من قتل من أمرائهم في أيام المنصور لاجين، ومن خلع كتبغا وإخراجه إلى صرخد، ومن استبداد البرجية بالأمور. وعزموا على إثارة الفتنة، وصاروا إلى الأمير علاء الدين قطلو برس العادلي وأقاموه كبيراً لهم، واتفقوا على أن برنطاي أحد المماليك السلطانية وألوص أحد كبراء الأويراتية يهجم كل منهما على الأميرين بيبرس وسلار ويقتله، ويعيدون دولة كتبغا.
فلما رحل السلطان بالعسكر من غزة ونزل تل العجول، ركب الأمراء للخدمة على العادة، وكان بيبرس يتأدب مع سلار ويركب بين يديه، فعندما ترجل الأمراء و لم يبق على فرسه سوى بيبرس وسلار، شهر برنطاى سيفه - وكان ماشيًا في ركاب بيبرس - وضربه، فوقعت الضربة على كفل الفرس فحلت ظهره، وضرب برنطاي ثانيًا، فوقعت الضربة على الكلفة فقطعتها وجرحت الوجه، فتبادرته السيوف حتى قتل.
ووقعت الصرخة في العسكر فركب الجميع، وقصد الأويراتية الدهليز السلطاني يريدون الهجمة على السلطان حتى صاروا في داخله، وقد ركب الأمراء في طلبهم، فركب الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار والمماليك السلطانية وفي ظنهم أن القصد قتل السلطان، ونشروا العصائب ووقفوا. وعاد بيبرس وسلار إلى مخيمهما، وأمرا الحجاب والنقباء بجمع العسكر إلى مخيم الأمير سلار النائب، فكان العسكر إذا أتوا ورأوا سنجق السلطان وعصائبه منشورة مضوا إليه وتركوا سلار، فيردهم الحجاب فلا يلتفت منهم أحد، ولا يعود حتى يقف تحت السنجق السلطاني.
فبعث سلار إلى أمير جاندار يقول: ما هذه الفتنة التي تريدون إثارتها في هذا الوقت ونحن على لقاء العدو وقد بلغنا أن الأويراتية قد وافقت المماليك السلطانية على قتلنا، وكان هذا برأيك ورأى السلطان، وقد دفع الله عنا. فإن كان الأمراء كذلك فنحن مماليك السلطان ومماليك أبيه الشهيد، ونحن نكون فداء المسلمين، وان لم يكن الأمر كذلك فابعثوا الينا غرماءنا.
فلما سمع السلطان هذا بكى، وحلف إنه لم يكن عنده علم. مما ذكر، وحلف أمير جاندار أيضاً وقال: ولكن لما وقع ما وقع ظنوا إنهم يريدون قتل السلطان وإقامة غيره ثم قال أمير جاندار: إنما يريد الأمراء بهذا الفول أن تقبض على مماليك السلطان طائفة بعد أخرى حتى تتمكن من مرادها، وان كان السلطان ومماليكه قد شوشوا على الأمراء فأنا أخذ السلطان ومماليكه وأسير إلى الكرك .(1/306)
فلما بلغ الأمراء ذلك عزموا أن يركبوا على أمير جاندار، ثم توقفوا حتى بعثوا إلى الأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح الأتابك. وكان على الجاليش وبينهما مرحلة، فلم يدخل في شيء من ذلك، وأوصى ألا يتعرض للسلطان بسوء. فرجع سلار إلى المداراة، وركب حتى أصلح بين أمير جندار والأمراء البرجية، وقبلوا جميعهم الأرض للسلطان وقبضوا على الأويراتية وعاقبوهم، فاقروا. مما عزموا عليه من قتل بيبرس وسلار وإعادة دولة العادل كتبغا، فزال ما كان في أنفس البرجية من موافقة السلطان وأمير جاندار للأويراتية.
وشنق من الغد نحو الخمسين من الأويراتية بثيابهم وكلفاتهم، ونودي عليهم: هذا جزاء من يقصد إقامة الفتن بين المسلمين ويتجاسر على الملوك . وطلب الأمير قطلوبرس فلم يوجد، وكان قد فر إلى غزة واختفي بها، فنهبت أثقاله كلها، وأنزل بالمصلوبين في اليوم الرابع فأخذت البرجية تغرى بيبرس، وتوحش بينه وبين سلار بأنه متفق عليه مع مماليك السلطان. فلما بلغ ذلك سلار تلطف مع بيبرس، واتفقا على إرسال طائفة من المماليك السلطانية إلى الكرك فلم يخالفهما السلطان، فأخذا منهم عدة ممن اتهماهم. بموافقة الأويراتية وحبساهم بالكرك.
ثم رحل السلطان بعد عدة أيام إلى قرتية، ورسم بالإقامة عليها حتى يعود الرسل بأخبار العدو، وبعثوا القصاد للكشف عن ذلك، وفي هذه المنزلة سالت الأودية، واتلف السيل كثيراً من أثقال العسكر، وافتقر عدة منهم لذهاب جمالهم وأثقالهم، وتشاءموا به وتطيروا منه، فكان الأمر كذلك. وعقب هذا السيل خرج جراد سد الأفق بحيث حجز الأبصار عن السماء فزاد تطير العسكر، وخشوا أن يكون منذراً بقدوم العدو وكسرة العسكر، وتحدث بذلك كل أحد حتى السوقة. ثم وقع الرحيل في أول ربيع الأول إلى جهة دمشق، فدخلها السلطان يوم الجمعة ثامنه.
ففي يوم السبت تاسعه: قدم الجفل من حلب وغيرها إلى دمشق، وقدم البريد من حلب وغيرها بنزول غازان على الفرات، وإنه في عسكر عظيم إلى الغاية، فأنفق في العساكر لكل ما بين ديناراً وأربعين ديناراً وقد كثر الإرجاف وتتابع وصول الناس في الجفلة، وشحت أنفس الجند بإخراج النفقة في شراء ما يحتاجون إليه لغلاء كل ما يباع من ذلك، ولكثرة ما أحرى الله على الألسنة بكسرة العسكر، ولتمكن بعض الجند في الأمراء البرجية.
وقدم البريد من حلب. بمسير جاليش غازان من الفرات وعبوره، وأن أهل الضياع قد جفلوا عن آخرهم، وقدم الأمير أسندمر كرجي متولي فتوحات سيس بعدما أخذ حاصل تل حمدون، وأحضر معه صاحب سيس. فخرج عسكر دمشق، وخرج السلطان بعده بعساكر مصر وقت الزوال من يوم الأحد سابع عشره، وسار إلى حمص فنزل عليها، وبعث العربان لكشف الأخبار. وقد نزل التتر بالقرب من سلمية ، ولهج كل أحد بأن العسكر مسكور، وأقام العسكر لابس السلاح ثلاثة أيام، وقد غلت الأسعار.
فلما كان سحر يوم الأربعاء ثامن عشريه: ركب السلطان بالعساكر، وجد في السير إلى الرابعة من النهار، فظهرت طوالع التتر، فنودي عند ذلك في العساكر: أن ارموا الرماح واعتمدوا على ضرب السيف والدبوس، فألقوا رماحهم كلهم على الأرض. ومشوا ساعة، ورتبوا العساكر بمجمع المروج - ويعرف اليوم بوادي الخزندار - وعدتهم بضعة وعشرون ألف فارس، والتتار في نحو مائة ألف. فوقف الأمير عيسى بن مهنا وسائر العربان رأس الميمنة، ويليهم الأمير بلبان الطباخي نائب حلب بعساكر حلب وحماة، ووقف في الميسرة الأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح والأمير أقش قتال السبع وعلم الدين سنجر وطغريل الإيغاني والحاج كرت نائب طرابلس، في عدة من الأمراء، وكان في القلب بيبرس وسلار وبرلغي وقطلوبك الحاجب وأيبك الخازندار، في عدة من الأمراء، وقد جعلوا جناحهم المماليك السلطانية، ووقف حسام الدين لاجين الأستادار مع السلطان على بعد من اللقاء حتى لا يعرف فيقصد، وقدموا خمسمائة مملوك من الزراقين في مقدمة العساكر.
وفي وقت الترتيب عرض للأمير بيبرس الجاشنكير حدة وإسهال مفرط لم يتمكن منه أن يثبت على الفرس، فركب المحفة واعتزل القتال، وأخذ الأمير سلار النائب معه الحجاب والأمراء والفقهاء، ودار على العساكر كلها والفقهاء تعظ الناس وتقوى عزائمهم على الثبات حتى كثر البكاء.(1/307)
هذا وغازان ثابت لم يتحرك، وقد تقدم إلى أصحابه كلهم ألا يتحرك أحد منهم حتى يحمل هو بنفسه، فيتحركون عند ذلك يداً واحدة، فبادر عساكر المسلمين للحركة، وأشعل الزراقون النفط ، وحملوا على غازان فلم يتحرك، وكان في الظن أن غازان أيضاً يتحرك إلى لقائهم. فمرت خيول العساكر بقوة شوطها في العدو، ثم لما طال المدى قصرت في عدوها، وخمد نار النفط. فحمل عند ذك غازان. بمن معه حملة واحدة حتى اختلط بالعساكر، بعدما قدم عشرة آلاف مشاة يرمون بالنشاب حتى أصابت سهامهم خيولاً كثيرة، وألقى الفرسان عنها. وكثرت نكاية العرب بالسهام، فولى العرب أولاً وتبعهم جيش حلب وحماة، فتمت هزيمة الميمنة من ميسرة غازان. وصدمت الميسرة ميمنة غازان صدمة فرقت جمعها وهزمتها عن آخرها، وقتلت منها نحو الخمسة آلاف، وكتب بذلك للسلطان - وهو معتزل في طائفة مع حسام الأستادار - فسر بذلك.
وكاد غازان أن يولي الإدبار، واستدعى قبجق نائب دمشق فشجعه قبجق وثبته حتى تلاحق به من انهزم وعاد له أمره، فحمل حملة واحدة على القلب فلم يثبت له، وولى سلار وبكتمر الجوكندار وبرلغى وسائر الأمراء البرجية، وركب غازان أقفيتهم حتى كانت سهامه تصيب خوذة الفارس فتقدح ناراً.
هذا والسلطان معتزل ومعه الحسام، وهو يبكى ويبتهل ويقول: يا رب لا تجعلني كعباً نحساً على المسلمين، ويهم أن يفر مع القوم، فيمنعه الحسام ويقول: ما هي كسرة، لكن المسلمين قد تأخروا، ولم يبق معه من المماليك غير اثنى عشر مملوكاً.
وعادت الميسرة الإسلامية بعد كسرة ميمنة غازان إلى حمص بعد العصر ومعهم الغنائم، فإذا الأمراء البرجية أهل القلب قد انكسروا والمغل في أعقابهم فبهتوا. وخشى غازان من الكمناء فكف عن اتباع العساكر، وكان ذلك من لطف الله بهم، فلو قد مر في طلبهم لهلكوا من عند آخرهم.
ووصل المنهزمون إلى حمص وقت الغروب، وقد غنم التتر سائر ما كان معهم مما لا يدخل تحت الحصر، وألقوا عن أنفسهم السلاح طلبا للنجاة، فاشتد صراخ أهل حمص، وصاحوا بالعسكر: الله الله في المسلمين وقد كلت الخيول، فمروا إلى بعلبك ونزلوا عليها بكرة يوم الجمعة وقد غلقت أبوابها، فامتاروا منها ومروا في سيرهم إلى دمشق فدخلوها يوم السبت أول ربيع الآخر، وقد توجه أكثرهم على الساحل إلى مصر. فما هو إلا أن دخلوا دمشق حتى وقع الصارخ بمجيء غازان، فخرجوا بعد نحو ساعة من قدومهم وتركوا سائر ما لهم، وجعل أهل دمشق فتشتتوا في سائر الجهات، ومر بالعسكر من العشير والعربان أهوال، وأخذوا أكثر ما معهم نهباً وسرقة.
وقتل في هذه الواقعة الأمير كرت نائب طرابلس، والأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير أيدمر الحلبي، وبلبان التقوى من أمراء طرابلس، وبيبرس الغتمي نائب قلعة المرقب، وأزبك نائب بلاطنس، وبيليك الطيار من أمراء دمشق، ونوكاي التتري، وأقش كرجي الحاجب، وأقش الطروحي حاجب دمشق، ونحو الألف من الأجناد والمماليك وعدم قاضي القضاة حسام الدين بن أحمد الرومي الحنفي قاضي الحنفية بدمشق، وعماد الدين إسماعيل بن احمد بن سعيد بن محمد بن سعيد بن الأثير الموقع. وقتل من التتار نحو أربعة عشر ألفا.
وأما غازان فإنه نزل بعد هزيمة العسكر إلى حمص - وقت عشاء الآخرة - و بها الخزائن السلطانية وأثقال العسكر، فأخذها من الأمير ناصر الدين محمد بن الصارم، وسار إلى دمشق بعدما امتلأت أيدي أصحابه بأموال جليلة القدر.
هذا وأهل دمشق قد وقع بينهم في وقت الظهر من يوم السبت أول ربيع الآخر ضجة عظيمة، فخرجت النساء باديات الوجوه، وترك الناس حوانيتهم وأموالهم، وخرجوا من المدينة. فمات من الزحام في الأبواب خلق كثير، وانتش الناس برءوس الجبال وفي القرى، وتوجه كثير منهم إلى جهة مصر.
وفي ليلة الأحد: خرج أرباب السجون، وامتدت الأيدي لعدم من يحمى البلد.(1/308)
وأصبح من بقى بالمدينة وقد اجتمعوا بمشهد على من الجامع الأموي وبعثوا إلى غازان يسألون الأمان لأهل البلد، فتوجه قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة وشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية والشريف زين الدين بن عدنان والصاحب فخر الدين، بن الشيرجي وعز الدين حمزة بن القلانسي في جمع كبير من الأعيان والفقهاء والقراء إلى غازان في يوم الإثنين ثالثه بعد الظهر، فلقوه بالنبك وهو سائر، فنزلوا عن دوابهم ومنهم من قبل له الأرض. فوقف غازان بفرسه لهم، ونزل جماعة من التتار عن خيولهم، ووقف الترجمان وتكلم بينهم وبين غازان، فسألوا الأمان لأهل دمشق، وقدموا له مأكل كانت معهم فلم يلتفت إليها، وقال: قد بعثت إليكم الأمان، وصرفهم، فعادوا إلى المدينة بعد العصر من الجمعة سابع الشهر، ولم يخطب بها في هذه الجمعة لأحد من الملوك.
وكان قد وصل إلى دمشق في يوم الخميس سادس الشهر أربعة من التتار من جهة غازان، ومعهم الشريف القمي، وكان قد توجه قبل توجه الجماعة هو وثلاثة من أهل دمشق إلى غازان، فعاد وبيده أمان لأهل دمشق. ثم قدم في يوم الجمعة سابعه بعد صلاة الجمعة الأمير إسماعيل التتري بجماعة من التتر، ودخل المدينة يوم السبت ليقرأ الفرمان بالجامع فاجتمع الناس، وقرأ بعض العجم الواصلين مع الأمير إسماعيل الفرمان بتأمين الكافة، وعاد إسماعيل إلى منزله بعدما صلى العصر.
وفي يوم الأحد: أخذ أهل دمشق في جمع الخيل والبغال والأموال، فنزل غازان على دمشق يوم الإثنين عاشره، وعاثت عساكره في الغوطة وظاهر المدينة تهب وتفسد، ونزل قبجق وبكتمر السلاح دار. بمن معهما في الميدان الأخضر، وامتدت التتر إلى القدس والكرك تنهب وتأسر.
وامتنع الأمير علم الدين سنجر المنصوري المعروف باسم أرجواش بقلعة دمشق، وسب قبجق وبكتمر سباً قبيحاً، وكانا قد تقدما إليه وأشارا عليه بالتسليم.
وفي بكرة يوم الثلاثاء حادي عشره: تقدم الأمير إسماعيل التتري إلى القضاة والأعيان بالحديث مع أرجواش في تسليم القلعة، وإنه إن امتنع نهب المدينة ووضع السيف في الكافة. فاجتمع عالم كبير وبعثوا إلى أرجواش في ذلك فلم يجب، وتكررت الرسل بينهم وبينه إلى أن سبهم وجبههم، وقال: قد وقعت إلى بطاقة بأن السلطان قد جمع الجيوش بغزة، وهو واصل عن قريب، فانصرفوا عنه.
وفي ثاني عشره: دخل الأمير قبجق إلى المدينة، وبعث إلى أرجواش في التسليم فلم يجب.
وفيه كتبت عدة فرمانات إلى أرجواش من قبجق، ومن مقدم من مقدمي التتار ذكر إنه رضيع الملك غازان، ومن شيخ الشيوخ نظام الدين محمود بن على الشيباني وغيره، فلم يجب، وأخذ الناس في تحصين الدروب وقد اشتد خوفهم.
وفي يوم الجمعة رابع عشره: خطب لغازان على منبر دمشق بألقابه، وهي: السلطان الأعظم سلطان الإسلام والمسلمين مظفر الدنيا والدين محمود غازان، وصلى جماعة من المغل الجمعة. فلما انقضت الجمعة صعد الأمير قبجق والأمير إسماعيل سدة المؤذنين وقرئ على الناس تقليد قبجق بلاد الشام كلها وهى مدينة دمشق وحلب وحماة وحمص وسائر الأعمال، وجعل إليه ولاية القضاة والخطباء وغيرهم. فنثرت على الناس الدنانير والدراهم، وفرحوا بذلك فرحا كثيراً وجلس شيخ الشيوخ نظام الدين بالمدرسة العادية، وعتب الناس لعدم ترددهم إليه، ووعد بالدخول في صلح أمورهم مع غازان، وطلب الأموال وتعاظم إلى الغاية، واستخف بقبجق وقال: خمسمائة من قبجق ما يكونون في خاتمي. وصار نظام الدين يضع من قلعة دمشق ويستهين بها، ويقول: لو أردنا أخذها أخذناها من أول يوم، وكان لا يزال الدبوس على كتفه، و لم يكن فيه من أخلاق المشايخ ما يمدح به، بل أخذ نحو الثلاثين ألف دينار برطيلاً، حتى قال فيه علاء الدين بن مظفر بن الكندي الوداعي:
شيخ غازان ما خلا ... أحد من تجرده
وغدا الكل لابسي ... خرقة الفقر من يده
وفي خامس عشره: بدأ التتر في نهب الصالحية، حتى أخذوا ما بالجامع والمدارس والتراب من البسط والقناديل، ونبشوا على الخبايا، فظهر لهم منها شيء كثير حتى كأنهم كانوا يعلمون أماكنها فمضى ابن تيمية في جمع كبير إلى شيخ الشيوخ وشكوا ذلك، فخرج معهم إلى حي الصالحية في ثامن عشره ليتبين حقيقة الأمر ففر التتر لما رأوه، والتجأ أهل الصالحية إلى دمشق في أسوأ حال.(1/309)
وكان سبب نهب الصالحية أن متملك سيس بذل فيها مالاً عظيماً، وكان قد " قصد خراب دمشق عوضاً عن بلاده، فتعصب الأمير قبجق ولم يمكنه من المدينة ورسم له بالصالحية، فتسلمها متملك سيس وأحرق المساجد والمدارس، وسبى وقتل وأخرب الصالحية، فبلغت عدة من قتل وأسر منها تسعة ألاف وتسعمائة نفس.
ولما فرغوا من الصالحية صار التتر إلى المزة وداريا، ونهبوهما وقتلوا جماعة من أهلهما فخرج ابن تيمية في يوم الخميس عشريه إلى غازان بتل راهط ليشكو له ما جرى من التتار بعد أمانه، فلم يمكنه الاجتماع به لشغله بالسكر، فاجتمع بالوزيرين سعد الدين ورشيد الدين، فقالا : لابد من المال، فانصرف. واشتد الطلب للمال على أهل دمشق، واستمر الحصار، وتعين نصب المنجنيق على القلعة بالجامع، وهيموا أخشابه ولم يبق إلا نصبه.
فبلغ ذلك أرجواش، فبعث طائفة هجمت على الجامع على حمية وأفسدت ما تهيأ فيه، فأقام التتر منجنيقاً آخر بالجامع واحترزوا عليه. واتخذوا الجامع حانة يزنون ويلوطون ويشربون الخمر فيه، ولم تقم به صلاة العشاء في بعض الليالي، ونهب التتر ما حول الجامع من السوق. فانتدب رجل من أهل القلعة لقتل المنجنيقي، ودخل الجامع والمنجنيقي في ترتيب المنجنيق والمغل حوله، فهجم عليه وضربه بسكين فقتله. وكان معه جماعة تفرقوا في المغل يريدون قتلهم ففروا، وخلص الرجل بمن معه إلى القلعة سالماً. وأخذ أرجواش في هدم ما حول القلعة من العمائر والبيوت، وصيروها دكا لئلا يستتر العدو في المنازلة بجدرانها، فأحرق ذلك كله وهدمه من باب النصر إلى باب الفرج، وشمل الحرق دار الحديث الأشرفية وعدة مدارس إلى العادلية، وأحرق أيضاً بظاهر البلد شيء كثير، وأحرق جامع التوبة بالعقيبة وعدة قصور وجواسق وبساتين.
واشتد الأمر في طلب المال، وغلت الأسعار حتى أبيع القمح بثلاثمائة وستين درهماً الغرارة، والشعير. بمائة وثمانين درهماً، والرطل الخبز بدرهمين، والرطل اللحم باثني عشر درهماً، والرطل الجبن باثني عشر درهماً، والرطل الزيت بستة دراهم، وكل أربع بيضات بدرهم، ووزعت الأموال، فقرر على سوق الخواصين مائة وثلاثون ألف درهم، وعلى سوق الرماحين مائة ألف درهم، وعلى سوق على مائة ألف درهم، وعلى سوق النحاسين ستون ألف درهم، وعلى قيسارية الشرب مائة ألف درهم، وعلى سوف الذهبيين ألف وخمسمائة دينار وقرر على أعيان البلد تكملة ثلاثمائة ألف دينار، جبيت من حساب أربعمائة ألف، ورسم على كل طائفة جماعة من المغل، فضربوا الناس وعصروهم، وأذاقوهم الخزي والذل. وكثر مع ذلك القتل والنهب في ضواحي دمشق، حتى يقال إنه قتل من الجند والفلاحين والعامة نحو المائة ألف إنسان، فقال في ذلك كمال الدين ابن قاضي شهبة:
رمتنا صروف الدهر منها بسبع ... فما أحد منا من السبع سالم
غلاء، وغازان، وغزو، ى غارة ... وغدر، وإغبان، وغم ملازم
وقال الشيخ كمال الدين محمد بن على الزملكاني أيضاً:
لهفي على جلق يا سوء ما لقيت ... من كل علج له في كفره فن
بالطم والرم جاءوا لا عديد لهم ... فالجن بعضهم والحن والبن
و كان ما حمل لخزانة غازان وحده على يد وجيه الدين بن المنجا مبلغ ثلاثة آلاف وستمائة ألف درهم، سوى السلاح والثياب والدواب والغلال، وسوى ما نهبته التتار، فإنه كان يخرج إليهم من باب شرقي كل يوم أربعمائة غرارة. ورسم غازان بأخذ الخيول والجمال، فأخرج من المدينة زيادة على عشرين ألف حيوان، وأخذ الأصيل بن النصير الطوسي، منجم غازان وناظر أوقاف التتار، عن أجرة النظر بدمشق مائتي ألف درهم، وأخذ الصفي السنجاري، الذي تولى الاستخراج لنفسه، مائة ألف درهم، وهذا سوى ما استخرج للأمير قبجق والأمراء المغل، وسوى المرتب لغازان في كل يوم.
فلما انتهت الجباية أقر غازان في نيابة دمشق الأمير قبجق، وفي نيابة حلب وحماة وحمص الأمير بكتمر السلاح دار، وفي نيابة صفد وطرابلس والساحل الأمير الألبكي. وجعل مع كل واحد عدة من المغل، وأقام مقدماً عليهم لحماية الشام قطلوشاه، وجرد عشرين ألفاً من عسكره مع أربعة من المغل بالأغوار.(1/310)
ورحل غازان في يوم الجمعة ثاني عشر جمادى الأولى، وترك على دمشق نائبه قطلوشاه نازلاً بالقصر، وأخذ وزيره من أعيان دمشق بدر الدين محمد بن فضل الله، وعلاء الدين على بن شرف الدين محمد بن القلانسي، وشرف الدين محمد بن شمس الدين سعيد بن محمد سعيد بن الأثير.
فلما كان يوم السبت ثالث عشره: بعد رحيل غازان، أمر التتر الذين بدمشق أن يخرج من كان في المدرسة العادلية، فكان إذا خرج أحد أخذوا منه ما يقع اختيارهم عليه بعد التفتيش، ثم دخلوا فكسروا أبواب البيوت ونهبوا ما فيها، ووقع النهب في المدينة فأخذوا نحوا مما استخرج من الأموال أولاً، وأحرقوا كثيراً من الدور والمدارس: فاحترقت دار الحديث الأشرفية وما حولها، ودار الحديث النورية، والعادلية الصغرى وما جاورها والقيمرية وما جاورها إلى دار السعادة وإلى المارستان النوري، ومن المدرسة الدماغية إلى باب الفرج. وأخذوا ما حول القلعة، وركبوا الأسطحة ليرموا بالنشاب على القلعة، فأحرق عند ذلك أرجواش ما حول القلعة وخربه كما تقدم، واستمر قطلوشاه مقدم التتار يحاصر القلعة.
وفي تاسع عشره: قرئ بالجامع كتاب تولية قبجق نيابة الشام، وكتاب بتولية الأمير ناصر الدين يحيى بن جلال الدين الختني الوزارة.
وفي حادي عشريه: احترقت المدرسة العادلية.
فلما عدى غازان الفرات أشار قبجق وبكتمر السلاح دار على قطلوشاه أن يتحول عن دمشق إلى حلب بمن معه من التتار، وجمع قبجق له مالاً من الناس، وسار قطلوشاه في يوم الإثنين ثاني عشرى جمادى الأولى، وترك طائفة من التتر بدمشق، وخرج قبجق لوداعه، وعاد في خامس عشريه ونزل بالقصر.
الأبلق ونودي في سادس عشريه ألا يخرج أحد إلى الجبل والغوطة ولا يغرر بنفسه، ثم نودي بخروج أهل الضياع إلى ضياعهم.
وفي تاسع عشريه: تحول الأمير قبجق إلى المدينة وأقام بها.
وفي يوم الثلاثاء أول جمادى الآخرة: نودي بخروج الناس إلى الصالحية وغيرها، فخرجوا إلى أماكنهم وفتحت الأسواق وأبواب المدينة.
وفي يوم الجمعة رابعه: دقت البشائر بالقلعة.
وفي سابعه: أمر قبجق جماعة من أصحابه، وأمر بإدارة الخمارة بدار ابن جرادة، فظهرت الخمور والفواحش، وضمنت في كل يوم بألف درهم.
هذا وقد نهبت التتار الأغوار حتى بلغوا إلى القدس، وعبروا غزة وقتلوا بجامعها خمسة عشر رجلاً وعادوا إلى دمشق وقد أسروا خلقاً كثيراً، فخرج إليهم ابن تيمية، ومازال يحدثهم حتى أفرجوا عن الأسرى، ورحلوا عن دمشق يريدون بلادهم في ثاني رجب.
وأما السلطان الملك الناصر، فإن العساكر تفرقت عنه وقت الهزيمة، و لم يبق معه إلا بعض خواصه والأميرين زين الدين قراجا وسيف الدين بكتمر الحسامي أمير أخور في نفر يسير. وبالغ بكتمر مدة السفر إلى مصر في خدمة السلطان بنفسه وماله، فكان يركبه وينزله، ويشد خيله ويشتري لها العليق ويسقيها، إلى غير ذلك من أنواع الخدمة، حتى قدم إلى قلعة الجبل يوم الأربعاء ثاني عشر ربيع الآخر.
ثم ترادفت العساكر إلى الديار المصرية شيئاً بعد شيء في أسوأ حال، وكان ممن قدم معهم الملك العادل كتبغا، وصار يمشي في خدمة الأمير سلار نائب السلطة، ويجلس بين يديه ويرمل عليه إذا علم على المناشير وغيرها. واتفق مع ذلك إنه لما كان كتبغا سلطاناً نودي على جوسن للبيع، فبلغ ثمنه على بيبرس الجاشنكير أربعة آلاف درهم، ثم عرض على كتبغا وقيل له إنه على بيبرس بكذا، فقال: وهذا يصلح لذاك الخرياطي وأخذ الجوسن بثمنه. فلما زالت أيامه صار الجوسن لبيبرس بعد لاجين، فأراد نكاية كتبغا وأحضر الجوسن وكتبغا عنده، ولبسه وقال له: يا أمير إيش تقول؟ يصلح هذ لي؟ فلم يفطن كتبغا لما أراد، وقال له: والله يا أمير هذا كأنه فصل لك فنظر بيبرس إلى الأمراء يشير إليهم، فاشتد عجبهم من تغير الأحوال، فلم يشاهد أعجب من ذلك. وأقيم العزاء في الناس لمن فقد وكانوا خلقاً كثيراً.(1/311)
ثم أخذ السلطان الناصر في التجهيز للمسير إلى الشام ثانياً، وشرع الأمراء في الاهتمام بأمر السفر، وجمعوا صناع السلاح للعمل. وأخذ الوزير في جمع الأموال للنفقة، وكتب إلى أعمال مصر بطلب الخيل والرماح والسيوف من سائر الوجهين القبلي والبحري، فبلغ القوس الذي كان يساوي ثلاثمائة درهم إلى ألف درهم، وأخذت خيول الطواحين وبغالها بالأثمان الغالية، وطلبت الجمال والهجن والسلاح ونحو ذلك. فأبيع ما كان. بمائة بسبعمائة وبألف، ونودي بحضور الأجناد البطالين، فحضر خلق كثير من الصنائعية، ونزلوا أسماءهم في البطالين. وفرقت أخباز المفقودين، ورسم لكل من أمراء الألوف بعشرة من البطالين يقوم بأمرهم، ولكل من الطبلخاناه بخمسة، ولكل من العشراوات برجلين. واستخدم جماعة من الأمراء الغزاة المطوعة احتساباً.
واستدعى مجدي الدين عيسى بن الخشاب نائب الحسبة ليأخذ فتوى الفقهاء بأخذ المال من الرعية للنفقة على العساكر، فأحضر فتوى الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام للملك المظفر قطز، بأن يؤخذ من كل إنسان دينار، فرسم له سلار بأخذ خط الشيخ تقي الدين محمد بن دقيق العيد، فأبي أن يكتب بذلك، فشق هذا على سلار واستدعاه وقد حضر عنده الأمراء، وشكا إليه قلة المال وأن الضرورة دعت إلى أخذ مال الرعية لأجل دفع العدو، وأراد منه أن يكتب على الفتوى بجواز ذلك فامتنع، فاحتج عليه ابن الخشاب بفتوى ابن عبد السلام، فقال: لم يكتب ابن عبد السلام للملك المظفر قطز حتى أحضر سائر الأمراء ما في ملكهم من ذهب وفضة وحلي نسائهم وأولادهم هم ورأه، وحلف كلاً منهم إنه لا يملك سوى هذا، كان ذلك غير كاف، فعند ذلك كتب بأخذ الدينار من كل واحد. وأما الآن فيبلغني أن كلاً من الأمراء له مال جزيل، وفيهم من يجهز بناته بالجواهر واللآلئ، ويعمل الإناء الذي يستنجي منه في الخلاء من فضة، ويرصع مداس زوجته بأصناف الجواهر، وقام عنهم فطلب ناصر الدين محمد بن الشيخي متولي القاهرة، ورسم له بالنظر في أموال التجار ومياسير الناس، وأخذ ما يقدر عليه من كل منهم بحسب حاله.
فما أهل جمادى الأولى حتى استجد عسكر كبير، وغصت القاهرة ومصر وما بينهما بكثرة من ورد من البلاد الشامية حتى ضاقت بهم المساكن، ونزلوا بالقرافة الخمور وشق ظروفها على يد ابن تيمية.
وعندما تكملت النفقة على العساكر نودي بالقاهرة ومصر بالسفر، ومن تأخر شنق، ورسم أن يكون سعر الدينار عشرين درهماً. وخرج السلطان في تاسع رجب فسار إلى الصالحية، وقدمت إليه كتب الأمير قبجق و بكتمر السلاح دار و الألبكي بقدومهم صحبة عز الدين حمزة بن القلانسي والشريف ابن عدنان، فأقام السلطان بالصالحية.
وسار الأميران سلار نائب السلطنة و بيبرس الجاشنكير الأستادار بالعساكر إلى دمشق في ثاني عشرى رجب، فلقوا الأمير قبجق ومن معه بين غزة وعقلان، فترجل كل منهم لصاحبه وتباركوا وأنزلوا، ورتب لهم ما يليق بهم، وأمروا بالتوجه إلى السلطان، وسار الأمراء بالعساكر إلى دمشق. فقدم قبجق بمن معه إلى الصالحية في عاشر شعبان، فركب السلطان إلى لقائهم، وبالغ في إكرامهم والإحسان إليهم، وأنزلهم، ثم سار بهم إلى قلعة الجبل فقدمها في رابع عشره.
ودخل الأمير جمال الدين أقش الأفرم إلى دمشق في يوم السبت عاشر شعبان.
وفي حادي عشره: قدم إليها الأمير قرا سنقر المنصوري نائب حلب بعساكرها، وقد استقر عوضاً عن بلبان الطباخي، واستقر الطباخي من أمراء مصر بالخدمة السلطانية على إقطاع أقسنقر كرتاي بعد موته. ودخل الأمير أسندمر كرجي نائب الفتوحات الطرابلسية بعساكرها، وقد استقر عوضاً عن الأمير قطلوبك.
وفي ثاني عشره: قدمت ميسرة العساكر المصرية، ومقدمها الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح.
وفي ثالث عشره: قدمت ميمنة العساكر المصرية، مع الأمير حسام الدين لاجين أستادار.
وفي رابع عشره: قدم الأمير سلار النائب والمماليك السلطانية، والملك العاد ل كتبغا - وقد استقر في نيابة حماة عوضاً عن قرا سنقر المنتقل لنيابة حلب - والأمير كراي المنصوري المستقر في نيابة صفد.
ونزل الأمير سلار بالميدان، وجلس في دار العدل بحضور الأمراء والقضاة، وخلع على الصاحب عز الدين حمزة بن القلانسي.(1/312)
وفي خامس عشره: ولى سلار قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة قضاء دمشق، عوضاً عن إمام الدين عمر بن سعد الدين الكرجي القزويني القونوي بعد وفاته.
وفي حادي عشريه: ولى قاضي القضاة شمس الدين محمد بن صفي الدين الحريري قضاء الحنفية، وولى الأمير سيف الدين أقبجا المنصوري شد الدواوين، وولي عز الدين أيبك النجيبي بر دمشق، وولي أمين الدين يوسف الرومي، إمام المنصور لاجين، حسبة دمشق، وولي تاج الدين، بن الشيرازي نظر الدواوين.
وسير سلار عسكراً إلى حلب، فطرقها على غفلة، وأوقع. بمن فيها من أصحاب غازان وقتلهم، فلم يفلت منهم إلا القليل، ولحقوا بغازان وعرفوه غدر قبجق بهم.
وتوجه الملك العادل كتبغا إلى حماة، بعدما كان يركب في دمشق بخدمة الأمير سلار، ويجلس بين يديه كما كان يفعل بالقاهرة، فشاهد الناس من ذلك ما فيه أعظم عبرة، وقدم كتبغا حماة في رابع عشرى شعبان، واستقر كل نائب في مملكته.
وكان السعر بدمشق غالياً فانحطت الغرارة القمح من ثلاثمائة درهم إلى مائة وخمسين، وأبيع اللحم الضأن بدرهمين الرطل الدمشقي. وتتبع الأمير جمال الدين أقش الأفرم نائب السلطنة بالشام من كان بدمشق من المفسدين، الذين تولوا استخراج المال في أيام غازان من الناس، والذين دلوا على عورات الناس. فسمر بعضهم، وشنق بعضهم وقطع أيدي جماعة وأرجلهم، ومن المفسدين من قطع لسانه وكحل فمات من يومه.
وخلع سلار على الأمير أرجواش نائب القلعة، وأنعم عليه بعشرة آلاف درهم وطلبت مشايخ قيس ويمن من العشير والعربان، وألزموا بإحضار ما أخذ من العسكر وأهل البلاد في توجههم إلى مصر وقت الجفلة.
وكان غازان لما أخذ البلاد وعاد إلى الشرق طمع الأرمن في البلاد التي افتتحها المسلمون، وأخذوا تل حمدون وغيرها.
فلما استقرت الأحوال ببلاد الشام خرج الأميران بيبرس و سلار بعسكر مصر من دمشق يوم السبت ثامن شهر رمضان يريدان مصر، فوصلا قلعة الجبل في يوم الثلاثاء ثالث شوال بعدما ركب السلطان إلى لقائهم، وكان يوما مشهودًا.
وعندما استقر الأمراء، سأل الأمير قبجق أن ينعم عليه بنيابة الشوبك، فأجيب إلى ذلك وخلع عليه. وأنعم على الأمير بكتمر السلاح دار بإمرة مائة بديار مصر، وعلى الأمير فارس الدين ألبكي الساقي بإمرة مائة بدمشق.
وفي عشرى شوال: توجه الأمير أقش الأفرم من دمشق لغزو الدرزية أهل جبال كسروان، فإن ضررهم اشتد، ونال العسكر عند إنهزامها من غازان إلى مصر منهم شدائد ولقيه نائب صفد بعسكره، ونائب حماة ونائب حمص ونائب طرابلس بعساكرهم. فاستعدوا لقتالهم، وامتنعوا بجبلهم وهو صعب المرتقى، وصاروا في نحو اثني عشر آلف رام. فزحفت العساكر السلطانية عليهم، فلم تطقهم وجرح كثير منهم، فافترقت العساكر عليهم من عدة جهات، وقاتلوهم ستة أيام قتالًا شديداً إلى الغاية، فلم يثبت أهل الجبال وانهزموا. وصعد العسكر الجبل بعدما قتل منهم وأسر خلقا كثيراً، ووضع السيف فيهم، فالقوا السلاح ونادوا الأمان، فكفوا عن قتالهم. واستدعوا مشايخهم وألزموهم بإحضار جميع ما أخذ من العسكر وقت الهزيمة، فأحضروا من السلاح والقماش شيئاً كثيراً، وحلفوا إنهم لم يخفوا شيئاً فقرر عليهم الأمير أقش الأفرم مبلغ مائة ألف درهم جبوها، وأخذ عدة من مشايخهم وأكابرهم، وعاد إلى دمشق يوم الأحد ثالث ذي القعدة، وبعث البريد بالخبر إلى السلطان.
وألزم الأمير أقش الأفرم أهل دمشق بتعليق السلاح في الحوانيت وملازمة الرمي بالنشاب، ونودي بذلك. وألزم قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة فقهاء دمشق بذلك، وجلس لعرض الناس في حادي عشريه، وعرض الكافة طائفة بعد طائفة من الأشراف والفقهاء وأهل الأسواق، وقدم على أهل الأسواق رجالاً يلي كل رجل سوقاً. وتتبع الناس بديار بكر التتر، فقتلوا منهم خلقا كثيراً.
ولم تخرج هذه السنة إلا وأهل دمشق في فقر مدقع، وفي ذلك يقول علاء الدين على ابن مظفر الوداعي:
أما دمشق فأهلها قد أصب ... بكرية جعلوا التسنن مذهبا
سراً وجهراً أنفقوا أموالهم ... حتى تجلل كل شخص بالعبا
ما لبست الصوف من عبث ... لا ولا الخلقان مجانا
إنه زي لمن هو من ... فقراء الشيخ غازنا(1/313)
وذهب لأهل مصر مال كثير في حركة غازان، إلا إنهم لسعة أحوالهم لم يبالوا بذلك.
ومات في هذه السنة ممن له ذكر
علاء الدين أحمد بن تاج الدين عبد الوهاب بن خلف بن محمود بن بدر العلامي المعروف بابن بنت الأعز الشافعي، درس بالكهارية والقطبية من القاهرة، وولي الحسبة، وكان أديباً فصيحاً جميلا فيه مكارم ومروءة، لطيف المزاج بساما شهمًا جزلا، حج ودخل اليمن مراراً، ومن شعره في مليح سبح في النيل وتلطخ بالتراب:
ومترب لولا التراب بجسمه ... لم تبصر الأبصار منه منظرا
فكأنه بدر عليه سحابة ... والتراب ليل من سناه أقمرا
وقال:
في السمر معان لاترى في البيض ... تالله لقد نصحت في تعريض
ما الشهد إذا أطعمته كاللبن ... يكفي فطنا محاسن التعريض
ومات شهاب الدين احمد بن الفرج بن أحمد اللخمي الإشبيلي، ولد سنة خمس وعشرين وستمائة. وتفقه على ابن عبد السلام بدمشق، وكان شافعياً، وله قصيدة في علم الحديث.
ومات الأمير صارم الدين أزبك نائب قلعة بلاطنس، واستشهد في نوبة غازان على حمص، في ثامن عشرى ربيع الأول.
ومات الأمير أقش كرجي المطروحي الحاجب.
ومات أقسنقر كرتاي أحد أمراء الألوف.
ومات الأمير بلبان التقوى، أحد أمراء طرابلس.
وتوفي كاتب السر عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن التاج أحمد بن سعيد بن محمد ابن الأثير الحلبي، بعدما صرف.
ومات الفقير المعتقد بدر الدين أبو على الحسن بن عضد الدولة أبي الحسن على أخي المتوكل على الله أبي عبد الله محمد بن يوسف بن هود في شعبان، ومولده بمرسية سنة ثلاث وثلاثين وستمائة. كان أبوه نائب السلطنة بها عن المتوكل، فتزهد هو وحج وسكن دمشق، وكانت له أحوال عجيبة.
ومات بيبرس الغتمي، نائب حصن المرقب.
ومات بكتاش المنصوري الطيار، أحد أمراء دمشق.
ومات ناصر الدين محمد بن أيدمر الحلبي، أحد أمراء مصر.
ومات نوكاي بن بيان التتري أبو خوند منكبك امرأة الصالح على بن قلاوون، وأبو خوند أردكين امرأة الأشرف خليل.
ومات علاء الدين على ابن الشيخ إبراهيم بن معضاد الجعبري.
ومات الأمير ناصر الدين محمد بن الحلي. وهؤلاء استشهدوا بوقعة حمص، ما بين قتيل في المعركة ومجروح مات من جراحته بعد ذلك.
ومات الطواشي حسام الدين بلال المغيثي الجلالي، . بمنزلة السوادة في تاسع ربيع الآخر، فدفن بقطيا، ثم نقل إلى تربته بالقرافة، وكان خيراً ديناً.
ومات الأمير سيف الدين جاغان الحسامي، بأرض البلقان.
ومات الأمير علم الدين سنجر الدواداري بحصن الأكراد، في ثالث رجب.
وتوفي قاضي القضاة إمام الدين عمر بن سعد الدين عبد الرحمن بن عمر بن أحمد بن محمد القزويني الشافعي، قاضي قضاة دمشق، بالقاهرة في يوم الثلاثاء خامس عشرى ربيع الآخر.
ومات تاج الدين أبو محمد عبد الوهاب بن أبي عبد الله محمد بن عبد الدائم بن منجا بن على البكري التيمي القرشي النويري، في يوم الخميس ثاني عشرى ذي الحجة، وهو والد الشهاب أحمد النويري المؤرخ الكاتب.
ومات شمس الدين محمد بن صدر الدين سليمان بن أبي العز وهيب الدمشقي الحنفي، بدمشق في.
ومات حسام الدين أبو الفضائل حسن بن تاج الدين أبي المفاخر أحمد بن حسن بن أبو شر وان الرومي، قاضي القضاة الحنفية بالقاهرة ومصر ودمشق، فقد من الصف على حمص يوم الأربعاء سابع عشرى ربيع الأول، فلم يعرف له خبر، وعمره نحو السبعين سنة.
ومات الأمير علاء الدين قطلوبرس العادلي مشنوقاً بدمشق، ظفر به بعد هروبه.
ومات شرف الدين أبو محمد الحسن بن على بن عيسى بن الحسن اللخمي، عرف بابن الصيرفي، في خامس عشرى ذي الحجة، وهو في عشر التسعين.
سنة سبعمائة(1/314)
أهلت هذه السنة وقد ورد الخبر بحركة غازان إلى بلاد الشام، فوقع الاهتمام بالسفر. واستدعى السلطان الوزير شمس الدين سنقر الأعسر والأمير ناصر الدين محمد ابن الشيخي والى القاهرة وأمرا باستخراج الأموال من الناس، وكتب إلى الشام بذلك. فشرعا في الاستخراج، وألزم أرباب العقارات، والأغنياء. بمال تقرر على كل منهم، وجلسا بدار العدل تحت القلعة حيث الطبلخاناه الآن، والناس تحمل المال أولاً بأول، حتى أخذا مائة ألف دينار جبيت من القاهرة ومصر والوجهين القبلي والبحري، فنزل بالناس ضرر عظيم. وطلب من شهود القاهرة ومصر الجالسين بالحوانيت مبلغ أربعين دينارًا من كل عائد، وعشرين ديناراً من كل شاهد، فقام في أمرهم قاضي القضاة زين الدين على بن مخلوف المالكي حتى أعفوا منه. وانطلقت الألسن بالشام ومصر في حق أهل الدولة، واستخف العامة بالأجناد، وأكثروا من قولهم للجند: بالأمس كنتم هاربين واليوم تريدون أخذ أموالنا، فإن أجابهم الجندي قالوا له: لم لا كانت هذه الحرمة في المغل الذين فعلوا بكم كيت وكيت، وهربتم منهم فلما فحش أمر العامة في تجرئهم على الأجناد، نودي في القاهرة ومصر: أي عامي تكلم مع جندي كانت روحه وماله للسلطان.
واستخرج من دمشق أجرة الأملاك والأوقاف لأربعة أشهر، فأخذ ذلك من سائر ما في المدينة وضواحيها، وأخذ من الضياع عن كل مدى ستة دراهم وثلثا درهم، والمد أربعون ذراعاً في مثلها، وتكسيره ألف وستمائة ذراع بذراع العمل، وطلب من الفلاحين نظير مغل سنة ثمان وتسعين، وأخذ من الأغنياء ثلث أموالهم.
فنزلت بالناس شدائد، وقطعوا الأشجار المثمرة وباعوها حطبًا، حتى أبيع القنطار الحطب الدمشقي بثلاثة دراهم، يخرج منها في أجرة قطعه درهم ونصف. فخربت الغوطة من ذلك، وفر كثير من الناس إلى مصر.
فلما جبيت الأموال بدمشق استخدم السلطان عدة ثمانمائة من التركمان والأكراد، ودفع لكل واحد ستمائة درهم، فهرب أكثرهم لما علموا بوصول التتار الفرات، وذهب المال ولم يجد نفعاً.
واستخدم السلطان بمصر عدة كبيرة من أهل الصنائع ونحوهم. ونزل الأمراء في الخيم. بميدان القبق لعرض العسكر بخيولهم ورماحهم حتى تعتبر أحوالهم، وعرضوا في كل يوم عشرة مقدمين من الحلقة. بمضافيهم فقطعوا يسيرا منهم، ثم أبقوا الجميع لما داجى عليهم المقدمون في أمر الجند حتى اقروا من هو دخيل فيهم. وأنهوا العرض في عشرين يوماً، ورميت الإقامات. وهذا وقد امتلأت أرض مصر بالجفلى من البلاد الشامية، ورخصت الأسعار عند قدومهم حتى أبيع القمح بعد عشرين درهماً الإردب بخمسة عشر.
وخرج السلطان من القلعة يوم السبت ثالث عشر صفر إلى الريدانية خارج القاهرة، وتلاحقت به الأمراء والعساكر، فسار إلى غزة وأقام بها يومين.
فورد الخبر. بمسير غازان بعد عبوره من الفرات إلى نحو أنطاكية، وقد جفل الناس بين يديه. وخلت بلاد حلب وفر قرا سنقر نائبها إلى حماة، وبرز كتبغا نائب حماة ظاهرها في ثاني عشرى ربيع الأول، ووصل إليهم عساكر مصر والشام فأقاموا خارج حماة. وأمر السلطان الجيوش بالمسير من غزة، فوقع الرحيل إلى العوجاء . وأصاب العسكر فيها شدائد من الأمطار التي توالت أحداً وأربعين يوماً حتى عدم فيها الواصل واشتد الغلاء. وأضعف البرد الدواب والغلمان، وبلغ الحمل التبن إلى أربعين درهما والعليقة الشعير ثلاثة دراهم، والخبز كل ثلاثة أرغفة بدرهم، واللحم كل رطل بثلاثة دراهم. وعقب المطر سيل عظيم أتلف معظم الأثقال، ومات جماعة من الغلمان وأربعة من الجند لشدة البرد. ثم وقع الرحيل في الأوحال العظيمة.
فقدم البريد من حلب بأن غازان توجه من جبال أنطاكية إلى جبال السماق وأنه عاد على قرون حماة وشيزر، فنهب وسبى عظيماً، وأخذ مالاً كبيراً من المواشي وغيرها، وأنه قصد التوجه إلى دمشق، فأرسل الله عليه ثلوجاً وأمطاراً لم يعهد مثلها، ووقع في خيول عساكره وجمالهم الموتان حتى كانت عدة جشار غازان اثنى عشر ألف فرس فلم يبق منها إلا نحو الألفي فرس، وبقي معظم عساكره بغير خيول، فرجع وأكثرهم مرتدفون بعضهم بعضا، وأن غازان خاض الفرات في حادي عشر جمادى الأولى، فسر الناس سروراً عظيماً.
وسار الأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار بمضافيه، والأمير بهاء الدين يعقوبا(1/315)
بمضافيه، إلى حلب في ألفي فارس، لتكون السمعة وتطمئن أهل البلاد، وعاد السلطان ببقية العساكر إلى مصر سلخ ربيع الآخر. واستقر الأمير سيف الذين بدخاص في نيابة صفد، عوضاً عن كراي لاستعفائه منها، وأنعم على كراي بإقطاع الأمير بلبان الطباخي بعد موته، واستقر بلبان الجوكندار حاجب دمشق شاد الدواوين بها. فقدم العسكر إلى دمشق في سابع جمادى الأولى، وقدم السلطان قلعة الجبل في يوم الإثنين حادي عشر.
وكان الناس لما بلغهم بدمشق عود السلطان إلى مصر اشتد خوفهم، وخرج معظمهم يريدون القاهرة، ونودي بدمشق في تاسع جمادى الأولى: من أقام بدمشق بعد هدا النداء فدمه في عنقه، ومن عجز عن السفر فليتحصن بقلعه دمشق، فخرج بقية الناس على وجوههم. وغلت الأسعار بدمشق حتى أبيعت الغرارة القمح بثلاثمائة درهم، والرطل اللحم بتسعة دراهم، فلما خرج الجفل نزلت الغرارة إلى مائتي درهم.
وفي جمادى الآخرة: كثر الإرجاف بعود التتر، وقد خلت البلاد الشامية من أهلها ونزحوا إلى مصر.
وفي رجب: كانت وقعة أهل الذمة: وهى أنهم كانوا قد تزايد ترفهم بالقاهرة ومصر، وتفننوا في ركوب الخيل المسومة والبغلات الرائعة بالحلي الفاخرة، ولبسوا الثياب السرية، وولوا الأعمال الجليلة. فاتفق قدوم وزير ملك المغرب يريد الحج، واجتمع بالسلطان والأمراء، وبينما هو تحت القلعة إذا برجل راكب فرساً وحوله عدة من الناس مشاة في ركابه، يتضرعون له ويسألونه ويقبلون رجليه، وهو معرض عنهم لا يعبأ بهم بل ينهرهم ويصيح في غلمانه بطردهم. فقيل للمغربي أن هذا الراكب نصراني فشق عليه، واجتمع بالأميرين بيبرس وسلار وحدثهما بما رآه، وأنكر ذلك وبكى بكاء كثيراً، وشنع في أمر النصارى وقال: كيف ترجون النصر والنصارى تركب عندكم الخيول وتلبس العمائم البيض، وتذل المسلمين وتشبههم في خدمتكم وأطال القول في الإنكار وما يلزم ولاة الأمور من إهانة أهل الذمة وتغيير زيهم. فأثر كلامه في نفوس الأمراء، فرسم أن يعقد مجلس بحضور الحكام، واستدعيت القضاة والفقهاء، وطلب بطرك النصارى، وبرز مرسوم السلطان بحمل أهل الذمة على ما يقتضيه الشرع المحمدي. فاجتمع القضاة بالمدرسة الصالحية بين القصرين، وندب لذلك من بينهم قاضي القضاة شمس الدين أحمد السروجي الحنفي، وطلب بطرك النصارى، وجماعة من أساقفتهم وأكابر قسيسيهم وأعيان ملتهم، وديان اليهود وأكابر ملتهم، وسئلوا عما أقروا عليه في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من عقد الذمة، فلم يأتوا عن ذلك بجواب. وطال الكلام معهم إلى أن استقر الحال على أن النصارى تتميز بلباس العمائم الزرق، واليهود بلبس العمائم الصفر، ومنعوا من ركوب الخيل والبغال، ومن كل ما منعهم منه الشارع صلى اله عليه وسلم، وألزموا بما شرطه عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي ا لله عنه. فالتزموا ذلك وأشهد عليه البطرك أنه حرم على جميع النصرانية مخالفة ذلك والعدول عنه، وقال رئيس اليهود ودانهم: أوقعت الكلمة على سائر اليهود في مخالفة ذلك والخروج عنه وانفض المجلس، وطولع السلطان والأمراء. مما وقع، فكتب إلى أعمال مصر والشام به.
ولما كان يوم خميس العهد وهو العشرون من شهر رجب: جمع النصارى واليهود بالقاهرة ومصر وظواهرها، ورسم ألا يستخدم أحد منهم بديوان السلطان ولا بدواوين الأمراء، وألا يركبوا خيلاً وبغالاً، وأن يلتزموا سائر ما شرط عليهم. ونودي بذلك في القاهرة ومصر، وهدد من خالفه بسفك دمه. فانحصر النصارى من دلك، وسعوا بالأموال في إبطال ما تقرر، فقام الأمير بيبرس الجاشنكير في إمضاء ما ذكر قياماً محموداً، وصمم تصميماً زائداً. فاضطر الحال بالنصارى إلى الإذعان، وأسلم أمين الملك عبد الله بن العنام مستوفي الصحبة وخلق كثير، حرصاً منهم على بقاء رياستهم، وأنفة من لبس العمائم الزرق وركوب الحمير. وخرج البريد بحمل النصارى اليهود فيما بين دمقلة من النوبة والفرات على ما تقدم ذكره.
وامتدت أيدي العامة إلى كنائس اليهود والنصارى، فهدموها بفتوى الشيخ الفقيه(1/316)
نجم الدين أحمد بن محمد بن الرفعة. فطلب الأمراء القضاة والفقهاء للنظر في أمر الكنائس، فصرح ابن الرفعة بوجوب هدمها، وامتنع من ذلك قاضي القضاة تقي الدين محمد بن دقيق العيد، واحتج بأنه إذا قامت البينة بأنها أحدثت في الإسلام تهدم، وإلا فلا يتعرض لها، ووافقه البقية على هذا وانفضوا.
وكان أهل الإسكندرية لما ورد عليهم مرسوم السلطان في أمر الذمة ثاروا بالنصارى وهدموا لهم كنيستين، وهدموا دور اليهود والنصارى التي تعلو على دور جيرانهم المسلمين، وحطوا مساطب حوانيتهم حتى صارت أسفل من حوانيت المسلمين. وهدم بالفيوم أيضاً كنيستان.
وقدم البريد في أمر الذمة إلى دمشق يوم الإثنين سابع شعبان، فاجتمع القضاة والأعيان عند الأمير أقش الأفرم وقرئ عليهم مرسوم السلطان بذلك، فنودي في خامس عشريه أن يلبس النصارى العمائم الزرق واليهود العمائم الصفر والسامرة العمائم الحمر، وهددوا على المخالفة. فالتزم النصارى واليهود بسائر مملكة مصر والشام ما أمروا به، وصبغوا عمائمهم إلا أهل الكرك، فإن الأمير جمال الدين أقش الأفرم الأشرفي النائب بها رأى إبقاءهم على حالتهم، واعتذر بأن أكثر أهل الكرك نصارى، فلم يغير أهل الكرك والشوبك من النصارى العمائم البيض.
وبقيت الكنائس بأرض مصر مدة سنة مغلقة حتى قدمت رسل الأشكري ملك الفرنج تشفع في فتحها، ففتحت كنيسة المعلقة بمدينة مصر، وكنيسة ميكائيل الملكية ثم قدمت رسل ملوك آخر، ففتحت كنيسة حارة وزويلة، وكنيسة نقولا.
وفيها فنيت أبقار أرض مصر: وذلك إنه وقع فيها وباء من أخريات السنة الماضية، وتزايد الأمر حتى تعطلت الدواليب ووقفت أحوال السواقي، وتضرر الناس من ذلك. وكان لرجل من أهل أشمون طناح ألف وأحد وعشرون رأساً من البقر، مات منها ألف وثلاثة أرؤس وبقي له ثمانية عشر رأساً لا غير. واضطر الناس لتعويض البقر بالجمال والحمير، وبلغ الثور ألف درهم.
وفيها استقر الأمير أسندمر كرجي في نيابة طرابلس، لاستعفاء الأميرة قطلوبك المنصوري.
وفيها اختلف عربان البحيرة، واقتتلت طائفتا جابر وبرديس حتى فني بينهما بشر كثير، واستظهرت برديس.
فخرج الأمير بيبرس الدوادار في عشرين أميراً من الطبلخاناه إلى تروجة، فانهزم العرب منهم، فتبعوهم إلى الليونة وأخذوا جمالهم وأغنامهم، واستدعوا أكابرهم ووفقوا بينهم وعادوا.
وفيها خرج الوزير شمس الدين سنقر الأعسر في عدة مائة من المماليك السلطانية إلى الوجه القبلي لحسم العربان، وقد كان كثر عيثهم وفسادهم، ومنع كثير منهم الخراج لما كان من الاشتغال بحركات غازان. فأوقع الوزير شمس الدين بكثير من بلاد الصعيد الكبسات، وقتل جماعات من المفسدين، وأخذ سائر الخيول التي ببلاد الصعيد، فلم يدع بها فرساً لفلاح ولا بدوي ولا قاض ولا فقيه ولا كاتب، وتتبع السلاح الذي مع الفلاحين والعربان فأخذه عن آخره، وأخذ الجمال. وعاد من قوص إلى القاهرة، ومعه ألف وستون فرساً، وثمانمائة وسبعون جملاً ، وألف وستمائة رمح، وألف ومائتا سيف، وسبعمائة درقة، وستة آلاف رأس من الغنم، فسكن ما كان بالبلاد من الشر، وذلت الفلاحون، وأعطوا الخراج.
واتفق أن بعض النصارى فتح كنيسة، فاجتمع العامة ووقفوا إلى الأمير سلار النائب، وشكوا النصارى أنهم فتحوا كنيسة بغير إذن، وأن فيهم من امتنع من لبس العمامة الزرقاء واحتمى بالأمراء. فنودي بالقاهرة ومصر أن من امتنع من النصارى من لبس العمامة الزرقاء نهب وحل ماله وحريمه، وألا يستخدم نصراني عند أمير ولا في شيء من الأشغال السلطانية ولا فيما فيه نفع. فامتدت أيدي العامة إلى اليهود والنصارى، وكادوا يقتلونهم من كثرة الصفع في رقابهم بالأكف والنعال، فامتنع الكثير منهم من المضي في الأسواق خوفاًُعلى نفسه.
وقدمت رسل غازان إلى الفرات، فورد البريد بذلك، فخرج إليهم الأمير سيف الدين كراي على البريد لإحضارهم، فقدموا دمشق يوم الثلائاء ثالث عشرى ذي القعدة، وهم نحو العشرين رجلاً، فأنزلوا بقلعتها. وحمل ثلاثة منهم إلى مصر في ثامن عشريه، وهم كمال الدين موسى بن يونس قاضي الموصل وناصر الدين على خواجا ورفيقه، فوصلوا إلى القاهرة ليلة الإثنين خامس ذي الحجة، وأكرموا غاية الإكرام.(1/317)
فلما كان وقت العصر من يوم الثلاثاء سادس عشره: واجتمع الأمراء والعسكر بقلعة الجبل، وألبست المماليك السلطانية الكلفيات الزركش والطرز الزركش على أفخر الملابس، وجلس السلطان بعد العشاء الآخرة وبين يديه ألف شمعة تعد، وقد وقفت المماليك من باب القلعة من باب الإيوان صفين. وأحضرت الرسل فسلموا وقام قاضي الموصل وعلى رأسه طرحة، فخطب خطبة بليغة وجيزة في معنى الصلح، ودعا للسلطان ولغازان وللأمراء وأخرج كتاباً من غازان مختوماً فلم يفتح.
وأخرج بالرسل إلى مكانهم إلى ليلة الخميس، ففتح الكتاب الذي من عند غازا، وهو في قطع نصف البغدادي، فإذا هو بالخط المغلي، فعرب وقرئ من الغد بحضرة أهل الدولة فإذا هو يتضمن أن عساكر مصر دخلت في العام الماضي أطراف بلاده وأفسدت، فأنف من ذلك وقدم إلى الشام وهزم العساكر، ثم عاد فلم يخرج إليه أحد، فرجع إبقاء على البلاد لئلا تخرب، وأنه مستعد للحرب، ودعا إلى الصلح، فكتب جوابه، وجهز الأمير شمس الدين محمد بن التيتي وعماد الدين على بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد العلي بن السكري خطب جامع الحاكم والأمير حسام الدين أزدمر المجيري، للسفر بالجواب مع الرسل الواصلين من عند غازان.
وكان هذا عام: سائر أقطار الأرض مشتغلة بالحرب، فكان الملك المسعود علاء الدين سنجر - عتيق شمس الدين أيتمش، عتيق السلطان غياث الدين - وهو ملك دله بالهند، قد حارب قوماً في السنة الماضية، فأتوا في هذه السنة إلى دله ونهبوا وأسروا، وخرج عليه طائفة التتر فحاربهم حروباً عظيمة وهزمهم. وقام بأرض الحبشة في السنة الماضية رجل يقال له أبو عبد الله محمد يدعو إلى الإسلام، فاجتمع عليه نحو المائتي ألف رجل. وحارب الأمحري في هذه السنة حروباً كثيرة. وكان ببلاد اليمن بين ملكها الملك المؤيد هزبر الدين وبين الزيدية عدة حروب.
وفيها ثقلت وطأة الأمير الوزير سنقر الأعسر على الأمراء، لشد تعاظمه وكثر شمعه وتزايد كبره و وفور حرمته وقوة مهابته، ولما كان من ضربه للتاج بن سعيد الدولة مستوفي الدولة بالمقارع حتى أسلم، وتغريمه مالا كبيراً، وكان من ألزام الأمير الجاشنكير وفيه حمق ورقاعة زائدة. فلما فعل به الوزير ما فعل نحلى عن المباشرة وانقطع بزاوية الشيخ نصر المنبجي خارج باب النصر، حتى تحدث الشيخ نصر مع الأمير بيبرس في إعفائه من المباشر فأجابه، وكان له فيه اعتقاد ولكلامه عنده قبول.
فأحب الأمراء إخراج الوزير من الوزارة، وكانت في الناس بقايا من حشمة، فأحبوا مراعاته والتجمل معه، وعينوه لكشف القلاع الشامية وإصلاح أمرها وترتيب سائر أحوالها وتفقد حواصلها، ، كانت حينئذ عامرة بالرجال والأموال والسلاح، فسار ذلك.
وفيها تزوج السلطان بخوند أردكين بنت نوكاي امرأة أخيه الملك الأشرف، وعمل له مهم عظيم أنعم فيه على سائر أهل الدولة بالخلع وغيرها.
وبلغ النيل في هذه السنة سبعة عشر ذراعاً وخمسة عشر أصبعاً، وكانت سنة مقبلة رخية الأسعار.
وحج فيها الأمير بكتمر الجوكندار، وأنفق في حجته خمسة وثمانين ألف دينار، وصنع معروفا كثيراً: من جملته أنه جهز سبعة مراكب في بحر القلزم قد شحنها بالغلال والدقيق وأنواع الإدام من العسل والسكر والزيت والحلوى ونحو ذلك، فوجد بالينبع أنه قد وصل منها ثلاثة مراكب، فعمل ما فيها أكواماً ونادى في الحج من كان محتاجاً إلى مئونة أو حلوى فليحضر، فأتاه المحتاجون فلم يرد منهم أحداً، وفرق ما بقي على الناس ممن لم يحضر لغناه، وأعطى أهل الينبع، ووصلت بقية المراكب إلى جدة، ففعل بمكة كذلك، وفرق على سائر أهلها والفقراء بها وعلى حاج الشام.
وفي هده السنة أيضاً كانت ملوك الأقطار كلها شباب لم يبلغوا الثلاثين سنة.
ومات في هده السنة ممن له ذكر
الأمير عز الدين أيدمر الظاهري، وهو أحد من ولى نيابة دمشق في الأيام الظاهرية، وقد استقر بها أميراً حتى مات في يوم الأربعاء ثاني ربيع الأول.
ومات الأمير عز الدين أيبك كرجي الظاهري، أحد أمراء الألوف بدمشق، في عاشر ذي القعدة.
ومات الأمير سيف الدين بلبان الطباخي، نائب حلب في غرة صفر بغزة، وهر عائد من التجريدة.
ومات الأمير جمال الدين أقوش الشريفي نائب قلعة الصلت وبر الكرك والشوبك، وكان مهيباً.(1/318)
ومات الأمير عز الدين محمد بن أبي الهيجاء الهمذاني الأربلي، متولي نظر دمشق، بطريق مصر وهو عائد منها، عن ثمانين سنة، وكان عالماً بالأدب والتاريخ مشكور السيرة.
ومات الشيخ شمس الدين محمود بن أبي بكر أبي العلاء الكلاباذي البخاري الفرضي الحنفي، في أول ربيع الأول بدمشق، وقد قدم القاهرة، وكان فاضلا.ً ومات تاج الدين محمد بن أحمد بن هبة الله بن قلس الأرمنتي، إمام المدرسة الظاهرية بين القصرين، وله شعر منه:
احفظ لسانك لا أقول فإن أقل ... فنصيحة تخفى على الجلاس
وأعيذ نفسي من هجائك فالذي ... يهجي يكون معظماً في الناس
وقال:
قد قلت إذ لج في معاتبتي ... وظن أن الملال من قبلي
خدك ذا الأشعري حنفني ... وكان من أحمد المذاهب لي
حسنك مازال شافعي ... أبداً يا مالكي كيف صرت معتزلي
وكان مقربا فاضلاً.
سنة إحدى في سبعمائة
في المحرم: عادت رسل غازان مع الرسل السلطان بجوابه.
وفي عاشره: استقر في الوزارة الأمير عز الدين أيبك البغدادي المنصوري، عوضاً عن سنقر الأعسر وهو غائب بالشام. واستقر الأمير بيبرس التاجي أحد الأمراء البرجية في ولاية القاهرة، عوضاً عن ناصر الدين محمد بن الشيخي، ونقل ابن الشيخي إلى ولاية الجيزة في عشريه.
وفيه توجه السلطان إلى الصيد في هذا اليوم.
وفيه توجه الأمير أسندمر كرجي إلى نيابة طرابلس، عوضاً عن الأمير قطلوبك بحكم استعفائه، فقدم دمشق في حادي عشر المحرم.
وفي شهر المحرم: أيضاً استقر الأمير سيف الدين بلبان الجوكندار شاد الدواوين بدمشق، عوضاً عن الأمير سيف الدين أقجبا، ونقل أقجبا إلى نيابة السلطنة بدمشق، عوضاً عن الأمير ركن الدين بيبرس الموفقي. وظهر بالقاهرة رجل ادعى أنه المهدي، فعزر ثم خلى عنه.
وفيها مات الخليفة الإمام الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد في ثامن عشر جمادى الأولى، . بمناظر الكبش، فغسله الشيخ كريم الدين عبد الكريم الأبلي شيخ الشيوخ بخانقاه سعيد السعداء، وحضر الأمراء والناس جنازته، وصلى عليه بجامع ابن طولون، ودفن بجوار المشهد النفيسي. وكانت خلافته. بمصر أربعين سنة. وترك من الأولاد أبا الربيع سليمان ولي عهده، وإبراهيم بن أبي عبد الله محمد المستمسك بن الحاكم أحمد. فأقيم بعده أبو الربيع وعمره عشرون سنة، ولقب المستكفي بالله، وكتب تقليده وقرئ بحضرة السلطان في يوم الأحد عشرى جمادى الأولى، وكان يوماً مشهوداً. وخطب له على عادة أبيه، واستمر يركب مع السلطان في اللعب بالكرة ويخرج معه للصيد، وصارا كأخوين، وكان الحاكم قد عهد بالخلافة إلى ابنه الأمير أبي عبد الله محمد ولقبه المستمسك بالله، وجعل أبا الربيع من بعده. فمات المستمسك، واشتد حزن أبيه الحاكم عليه، فعهد لابنه إبراهيم بن محمد المستمسك من بعده. فلما مات الحاكم لم يقدم بعده إلا أبا الربيع، وترك إبراهيم.
وفيها كثر فساد العربان بالوجه القبلي، وتعدى شرهم في قطع الطريق إلى أن فرضوا على التجار وأرباب المعايش بأسيوط ومنفلوط فرائض جبوها شبه الجمالية. واستخفوا بالولاة ومنعوا الخراج، وتسموا بأسماء الأمراء، وجعلوا لهم كبيرين أحدهما سموه بيبرس والآخر سلار، ولبسوا الأسلحة وأخرجوا أهل السجون بأيديهم. فاستدعى ا الأمراء القضاة والفقهاء، واستفتوهم في قتالهم، فأفتوهم بجواز ذلك. فاتفق الأمراء على الخروج لقتالهم وأخذ الطرق عليهم، لئلا يمتنعوا بالجبال والمفاوز فيفوت الغرض فيهم، فاستدعوا الأمير ناصر محمد بن الشيخي متولي الجيزية - وغيره من ولاة العمل، وتقدموا إليه بمنع الناس بأسرهم من السفر إلى الصعيد في البر والبحر، ومن ظهر أنه سافر كانت أرواح الولاة قبالة ذلك، فاشتد حرصهم.
وأشاع الأمراء إنهم يريدون السفر إلى الشام، وكتبت أوراق الأمراء المسافرين، وهم(1/319)
عشرون مقدماً بمضافيهم، وعينوا أربعة أقسام: قسم يتوجه في البر الغربي من النيل، وقسم في البر الشرقي، وقسم يركب النيل، وقسم يمضى في الطريق السالكة. وتوجه الأمير شمس الدين سنقر الأعسر - وقد قدم من الشام بعد عزله من الوزارة، واستقراره في جملة الأمراء المقدمين - إلى جهة ألواح في خمسة أمراء، وقرر أن يتأخر مع السلطان أربعة أمراء من المقدمين، وتقدم إلى كل من تعين لجهة أن يضع السيف في الكبير والصغير والجليل والحقير، ولا يبقوا شيخاً ولا صبياً، ويحتاطوا على سائر الأموال.
وسار الأمير سلار في رابع جمادى الآخرة ومعه جماعة من الأمراء في البر الغربي، وسار الأمير بيبرس بمن معه في الحاجر في البر الغربي على طريق الواحات، وسار الأمير بكتاش أمير سلاح بمن معه إلى الفيوم وسار الأمير بكتمر الجوكندار بمن معه في البر الشرقي، وسار قتال السبع وبيبرس الدوادار وبلبان الغلشي وعرب الشرقية إلى السويس والطور، وسار الأمير قبجق ومن معه إلى عقبة السيل، وسار طقصبا وإلى قوص بعرب الطاعة وأخذ عليهم المفازات.
وضرب الأمراء على الوجه القبلي حلقة كحلقة الصيد، وفد عميت أخبارهم على أهل الصعيد، فطرقوا البلاد على حين غفلة من أهلها، ووضعوا السيف في الجيزية بالبر الغربي والإطفيحية من الشرق، فلم يتركوا أحداً حتى قتلوه، ووسطوا نحو عشرة آلاف رجل، وما منهم إلا من أخذوا ماله وسبوا حريمه، فإذا ادعى أحد إنه حضري قيل له قل: دقيق، فإن قال بقاف العرب قتل.
ووقع الرعب في قلوب العربان حتى طبق عليهم الأمراء، وأخذوهم من كل جهة فروا إليها، وأخرجوهم من مخابئهم حتى قتلوا من بجانبي النيل إلى قوص، وجافت الأرض بالقتلى. واختفى كثير منهم بمغائر الجبال، فأوقدت عليهم النيران حتى هلكوا عن آخرهم، وأسر منهم نحو ألف وستمائة لهم فلاحات وزروع، وحصل من أموالهم ؟؟؟شيء عظيم جداً تفرقته الأيدي. وأحضر منه للديوان ستة عشر ألف رأس من الغنم، من جملة ثمانين ألف رأس ما بين ضأن وماعز، ونحو أربعة آلاف فرس واثنين وثلاثين ألف جمل، وثمانية آلاف رأس من البقر، غير ما أرصد في المعاصر، ومن السلاح نحو مائتين وستين حملا ما بين سيوف ورماح، ومن الأموال على بغال محملة مائتين وثمانين بغلاً. وصار لكثرة ما حصل للأجناد والغلمان والفقراء الذين اتبعوا العسكر يباع الكبش السمين من ثلاثة دراهم إلى درهمين، والمعز بدرهم الرأس، والجزة الصوف بنصف درهم، والكساء بخمسة دراهم، والرطل السمن بربع درهم، و لم يوجد من يشتري الغلال من كثرتها، فإن البلاد طرقت وأهلها آمنون، وقد كسروا الخراج.
ثم عاد العسكر في سادس عشر رجب، وقد خلت البلاد بحيث كان الرجل يمشي فلا يجد في طريقه أحداً، وينزل بالقرية فلا يرى ألا النساء والصبيان والصغار، فأفرجوا عن المأسورين وأعادوهم لحفظ البلاد. وكان الزرع في هذه السنة بالوجه القبلي عظيماً إلى الغاية، تحصل منه ما لم يقدر قدره كثرة.
وفيها قدم البريد بحضور علاء الدين بن شرف الدين محمد بن القلانسي إلى دمشق، وصحبته شرف الدين، بن الأثير، في تاسع عشرى جمادى الأولى من بلاد التتر، وكانا قد أخذا لما دخل التتر إلى بلاد الشام، ففرا ولقيا مشقة زائدة في طريقهما.
وفيها ورد البريد من حلب بأن تكفور متملك سيس منع الحمل وخرج عن الطاعة وانتمى لغازان، فرسم بخروج العسكر لمحاربته، وخرج الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح والأمير عز الدين أيبك الخازندار بمضافيهما من الأمراء والمفاردة في رمضان وساروا إلى حماة، فتوجه معهم العادل كتبغا في خامس عشرى شوال، وقدموا حلب في أول ذي القعدة ورحلوا منها في ثالثه، ودخلوا دربند بغراس في سابعه. وانتشروا في بلاد سيس، فحرقوا المزروع انتهبوا ما قدروا عليه، وحاصروا مدينة سيس وغنموا من سفح قلعتها شيثاً كثيراً من جفال الأرمن، وعادوا من الدربند إلى مرج أنطاكية. فقدموا حلب في تاسع عشره، ونزلوا حماة في سابع عشريه، وقد ابتدأ بالعادل كتبغا مرض.(1/320)
وفيها قدم البريد من طرابلس بأن الفرنج أنشئوا جزيرة تجاه طرابلس تعرف بجريرة أرواد، وعمروها بالعدد والآلات وكثر فيها جمعهم، وصاروا يركبون البحر ويأخذون المراكب، فرسم للوزير بعمارة أربعة شواني حربية، فشرع في ذلك.
وفيها ضرب عنق فتح الدين أحمد البققي الحمري على الزندقة، في يوم الإثنين رابع عشر ربيع الأول، وكانت البينة قد قامت عليه قبل ذلك. مما يوجب قتله، من النقض بالقرآن وبالرسول، وتحليل المحرمات والاستهانة بالعلماء والقدح فيهم، وغير ذلك.
وفيها أخرج الأمير بكتمر الحسامي من الأمير أخورية من حنق الأمراء عليه، فإنه أكثر الكلام مع السلطان، وكان غرضهم أن السلطان لا يتعرف به أحد. فأقام الأمير بكتمر معطلاً مدة حمى وفاة مغلطاى التقوي، أحد أمراء دمشق بها، فأخرج على إقطاعه واستقر عوضه أمير أخور علم الدين سنجر الصالحي.
وفيها قدم البريد من حماة بوقوع مطر فيما بينها وبين حصن الأكراد، عقبه قطع برد كبار في صورة الآدميين من ذكر وأنثى، وفيه شبه صورة القرود، وعمل بذلك مشروح. وكثر بدمشق الجراد، وأكل أوراق الأشجار وفواكهها.
وفيها أضيف إلى بدر الدين محمد بن جماعة قاضي القضاة بدمشق مشيخة الشيوخ بها، بعد موت الفخر يرسف بن حمويه.
وفيها حج الأمير بيبرس الجاشنكير ومعه ثلاثون أميراً ساروا ركباً بمفردهم، ومن ورائهم بقية الحاج في ركبين، وأمير الحاج الأمير بيبرس المنصوري الدوادار. وخرج بيبرس الجاشنكير من القاهرة أول ذي القعدة، فحضر إليه بمكة الشريفان عطفة وأبو الغيث من أولاد أبي نمى، وشكيا من أخيهما أسد الدين رميثة وأخيه عز الدين حميضة إنهما وثبا بعد وفاة أبيهم عليهما، واعتقلاهما ففرا من الاعتقال. فقبض على رميثة وخميضة، وحملا إلى القاهرة، واستقر عوضهما في إمارة مكة عطفة وأبو الغيث.
ومات في هذه السنة من الأعيان
مسند العصر شهاب الدين أحمد بن رفيع الدين إسحاق بن محمد المؤيد الأبرقوهي، بمكة في العشرين من ذي الحجة، عن سبع وثمانين سنة، ومولده سنة خمس عشرة وستمائة بأبرقوه من شيراز.
ومات الحافظ شرف الدين أبو الحسين على ابن الإمام عبد ا لله محمد بن أبي الحسين أحمد بن عبد الله بن عيسى بن أحمد بن اليونيني، في يوم الخميس حادي عشرى رمضان ببعلبك، ومولده في حادي عشر رجب سنة إحدى وعشرىن وستمائة ببعلبك.
ومات الأمير علم الدين سنجر أرجواش المنصوري نائب قلعة دمشق، في ثاني عشرى ذي الحجة.
ومات ضياء الدين أحمد بن الحسين بن شيخ السلامية بدمشق، في يوم الثلاثاء عشرى ذي القعدة، وهو أبو قطب الدين موسى وفخر الدين.
ومات فتح الدين أحمد بن محمد، البققي الحموي مقتولاً بسيف الشرع، في رابع عشرى ربيع الأول، ورفع رأسه على رمح، وسحب بدنه إلى باب زويلة فصلب هناك، وسبب ذلك إنه كان ذكياً حاد الخاطر له معرفة بالأدب والعلوم القديمة، فحفظت عنه سقطات: منها أنه قال: لو كان لصاحب مقامات الحريري حظ لتليت مقاماته في المحاريب، وأنه كان ينكر على من يصوم شهر رمضان ولا يصوم هو، وأنه كان إذا تناول حاجة من الرف صعد بقدميه على الربعة، وكان مع ذلك جريئاً بلسانه، مستخفاً بالقضاة يطنز بهم ويستجهلهم، حتى أنه بحث مع قاضي القضاة تقي الدين محمد بن دقيق العيد مرة وكأنه لم يجبه، فقام وهو يقول: وقف الهوى يريد قول أبي الشيص الخزاعي:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... في متأخز عنه ولا متقدم(1/321)
يعنى أن القاضي انقطع. فقال ابن دقيق العيد للفتح بن سيد الناس: يا فتح الدين عقبي هذا الرجل إلى التلف ، فلم يتأخر ذلك سوى عشرين يوماً، وقتل في الحادي والعشرين منه. ذلك أنه أكثر من الوقيعة في حق زين الدين على بن مخلوف قاضي قضاة المالكية وتنقصه وسبه، فلما بلغه ذلك عنه اشتد حنقه وقام في أمره، فتقرب الناس إليه بالشهادة على ابن البققي، فاستدعاه وأحضر الشهود فشهدوا وحكم بقتله، وأراد من ابن دقيق العيد تنفيذ ما حكم به فتوقف. وقام في مساعدة ابن البققي ناصر الدين محمد بن الشيخي وجماعة من الكتاب، وأرادوا إثبات جنه ليعفى من القتل، فصمم ابن مخلوف على قتله، واجتمع بالسلطان ومعه قاضي القضاة شمس الدين السروجي الحنفي، ومازالا به حتى أذن في قتله. فنزلا إلى المدرسة الصالحية بين القصرين ومعهما ابن الشيخي والحاجب، وأحضر ابن البققي من السجن في الحديد ليقتل، فصار يصيح ويقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ويتشهد؟، فلم يلتفتوا إلى ذلك، وضرب عنقه وطيف برأسه على رمح، وعلق جسده على باب زويلة. وفيه يقول شهاب الدين أحمد بن عبد الملك الأعزازي يحرض على قتله، وكتب بها إلى ابن دقيق العيد:
قل للإمام العادل المرتضى ... وكاشف المشكل والمبهم
لاتمهل الكافرواعمل بما ... قد جاء في الكافر عن مسلم
ومن شعر ابن البققي ما كتب به إلى القاضي المالكي من السجن، وهو من جملة حماقاته:
يا لابساً لي حلةً من مكره ... بسلاسة نعمت كلمس الأرقم
اعتد لي زرداً تضايق نسجه ... وعلى خرق عيونها بالأسهم
فلما وقف عليهما القاضي المالكي، قال: نرجو أن الله لا يمهله لذلك.
ومن شعره أيضاً:
جبلت على حبي لها وألفته ... ولابدأن ألقى به الله معلنا
ولم يخل قلبي من هواها بقدرما ... أقول وقلبي خاليا فتمكنا
ومات جمال الدين عثمان بن أحمد بن عثمان بن هبة الله بن أبي الحوافز رئيس الأطباء في مستهل صفر، ومولده سنة تسع وعشرين وستمائة.
ومات الأمير علاء الدين على التقوي، أحد أمراء دمشق بها.
ومات الشريف أبو نمى محمد بن أبي سعد حسن بن على بن قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن حسين بن سليمان بن على بن الحسن بن على بن أبي طالب، أمير مكة، في يوم الأحد رابع صفر، وقد أقام في الإمارة أربعين سنة، وقدم القاهرة مراراً، وكان يقال لولا إنه زيدي لصلح للخلافة لحسن صفاته.
ومات مجد الدين يوسف بن محمد بن على بن القباقيبي الأنصاري، موقع طرابلس، وله شعر وترسل.
ومات الأمير عز الدين النجيبي والي البر بدمشق، في سادس عشر ربيع الأول بدمشق.
ومات شمس الدين سعيد بن محمد بن سعيد بن الأثير، في سابع عشر ذي القعدة بدمشق، وكان يكتب الإنشاء بها.
ومات بدمشق شيخ الخانكاة السميساطية، وهو شيخ الشيوخ شرف الدين أبي بكر عبد الله بن تاج الدين أبي محمد ابن حمويه، في يوم الإثنين سابع عشر ربيع الأول، واستقر عوضه قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة باتفاق الصوفية.
ومات الأمير علاء الدين مغلطاى التقوي المنصوري أحد أمراء دمشق بها، في رابع عشرى رجب، فانعم بخبزه على الأمير سيف الدين بكتمر الحسامي أمير أخور.
سنة اثنتين وسبعمائة
في أول المحرم: قدم الأمير بيبرس الجاشنكير من الحجاز، ومعه الشريفان حميضة ورميثة في الحديد، فسجنا.
وفي ثامنه: قدمت رسل غازان بكتابه، فأعيدوا بالجواب. وجهز الأمير حسام الدين ازدمر المجيري، شمس الدين محمد التيتي، وعماد الدين على بن عبد العزيز بن السكري، إلى غازان في عاشر ربيع الأول. فمضوا واجتمعوا به، فمنعهم من العود بسبب الوقعة الآتى ذكرها، ولازالوا مقيمين حتى هلك غازان، فعادوا في أيام خدا بندا.
وفي محرم: تنجزت عمارة الشواني، وجهزت بالمقاتلة والآلات مع الأمير جمال الدين أقوش القاري العلائي والي البهنسا. واجتمع الناس لمشاهدة لعبهم في البحر، فركب أقوش في الشينى الكبير وانحدر تجاه المقياس، فانقلب، ممن فيه يوم السبت ثاني عشره.
وكان قد نزل السلطان والأمراء لمشاهدة ذلك، واجتمع من العالم ما لا يحصيهم إلا(1/322)
الله تعالى، وبلغ كراء المركب الذي يحمل عشرة أنفس إلى مائة درهم، امتلأ البران من بولاق إلى الصناعة بالناس، حتى لم يوجد موضع قدم خال.
ووقف العسكر على بر بستان الخشاب، وركب الأمراء الحراريق إلى الروضة. وبرزت الشواني للعب كأنها في الحرب، فلعب الأول والثاني والثالث، واعجب الناس بذلك إعجاباً زائداً، لكثرة ما كان فيها من المقاتلة والنفوط و آلالات الحرب. ثم تقدم الرابع وفيه أقوش، فما هو إلا أن خرج من منية الصناعة. بمصر وتوسط النيل، إذا بالريح حركه، فمال به ميلة واحدة انقلب وصار أعلاه أسفله، فصرخ الناس صرخة واحدة كادت تسقط منها ذات الأحمال، وتكدر ما كانوا فيه من الصفو، وتلاحق الناس بالشيني وأخرجوا ما سقط منه في الماء، فلم يعدم منه سوى أقوش، وسلم الجميع، وعاد السلطان والأمراء إلى القلعة، وانفض الجمع.
وبعد ثلاثة أيام أخرج الشيني، فإذا امرأة الرئيس وابنها وهي ترضعه في قيد الحياة، فاشتد العجب من سلامتها طول هذه الأيام، ووقع العمل في إعادته حتى تنجز، وندب الأمير سيف الدين كهرداش الزراق المنصوري للسفر عوضاً عن أقوش القاري فسار إلى طرابلس بالشواني، واستجد منها ستين مقاتلا من المماليك سوى البحرية والمطوعة.
وتوجه كهرداش إلى جزيرة أرواد، وهى بقرب أنطرسوس، وصبحهم في غفلة وأحاط بهم وقاتلهم ساعة، فنصره الله عليهم وقتل منهم كثيراً، وسألوا الأمان فأخذوا أسرى في يوم الجمعة ثامن عشرى صفر. واستولى كهرداش على سائر ما عندهم، وعاد إلى طرابلس وأخرج الخمس من الغنائم لتحمل إلى السلطان، وقسم ما بقي فكانت عدة الأسرى مائتين وثمانين. فلما قدم البريد من طرابلس بذلك دقت البشائر بالقلعة، وفي يوم دق البشائر قدم الأمير بدر الدين بكتاش من غزاة سيس.
وفي هده السنة: توفي قاضي القضاة تقي الدين أبو محمد بن على بن وهب بن مطيع ابن أبي الطاعة القشيري المنفلوطي المالكي المصري بن دقيق العيد، وكان مولده في شعبان سنة خمس وعشرين وستمائة.
ولما مات تقي الدين محمد بن دقيق العيد، خرج البريد إلى في دمشق بطلب قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة، فقدمها في سابع عشر صفر، وخرج به منها في تاسع عشره. فوصل ابن جماعة إلى القاهرة وخلع عليه يوم السبت رابع ربيع الأول، واستقر في قضاء القضاة، وولي قضاء دمشق نجم الدين أبو العباس أحمد بن ابن صصري، واستقر بلبان الجوكندار نائب قلعة دمشق، عوضاً عن أرجواش، واستقر عوضه في شد الدواوين بدمشق الأمير بيبرس التلاوي.
وفي رابع جمادى الآخرة: ظهر في النيل دابة لونها كلون الجاموس بغير شعر، وأذناها كأذن الجمل، وعيناها وفرجها مثل الناقة، ويغطى فرجها ذنب طوله شبر ونصف طرفه كذنب السمك، ورقبتها مثل ثخن التليس المحشو تبناً، وفمها وشفتاها مثل الكربال، ولها أربعة أنياب، اثنان فوق اثنين، في طول نحو شبر وعرض أصبعين، وفي فمها ثمانية وأربعون ضرساً وسناً مثل بيادق الشطرنج، وطول يديها من باطنها شبران ونصف، ومن ركبتيها إلى حافرها مثل أظافر الجمل، وعرض ظهرها قدر ذراعين ونصف، ومن فمها إلى ذنبها خمسة عشر قدماً، وفي بطنها ثلاثة كروش، ولحمها أحمر له زفرة السمك، وطعمه مثل لحم الجمل، وثخانة جلدها أربعة أصابع لا تعمل فيه السيوف، وحمل جلدها على خمسة جمال في مقدار ساعة من ثقله، فكان ينقل من الجمل إلى جمل وقد حشي تبناً حتى وصل إلى قلعة الجبل.
ومدم البريد من حلب بأن غازان على عزم الحركة إلى الشام، فوقع الاتفاق على خروج العسكر، وعين من الأمراء بيبرس الجاشنكير وطغريل الإيغاني وكراي المنصوري وبيبرس الدوادار وسنقر شاه المنصوري وحسام الدين لاجين الرومي أستادار، بمضافيهم وثلاثة آلاف من الأجناد، فساروا في ثامن عشر رجب.
وتواترت الأخبار بنزول غازان على الفرات، ووصل عسكره الرحبة وأراد منازلتها بنفسه. وكان النائب بها الأمير علم الدين سنجر الغتمي، فلاطفه وخرج إليه بالإقامات، وقال له: هذا المكان قريب المأخذ، والملك يقصد المدن الكبائر، فإذا(1/323)
ملكت البلاد التي هي أمامك فنحن لا نمتنع عليك، حتى كف عنه ورجع عابراً الفرات، بعد أن أخذ ولده ومملوكه رهناً على الوفاء. وبعث غازان قطلوشاه من أصحابه على عساكر عظيمة إلى الشام تبلغ ثمانين ألفاً، وكتب إلى الأمير عز الدين أيبك الأفرم نائب دمشق يرغبه في طاعته.
وأما العسكر السلطاني ففد دخل الأمير بيبرس الجاشنكير إلى دمشق بمن معه في نصف شعبان، وكتب يستحث السلطان على الخروج. وأقبل الناس من حلب وحماة إلى دمشق خائفين من التتر، فاستعد أهل دمشق للفرار ولم يبق إلا خروجهم، فنودي بها من خرج حل ماله ودمه. وخرج الأمير بهادرآص والأمير قطوبك المنصوري وأنص الجمدار على عسكر إلى حماة، ولحق بهم عسكر طرابلس وحمص، فاجتمعوا على حماة عند العادل كتبغا.
وبلغ التتر ذلك، فبعثوا طائفة كبيرة إلى القريتين فأوقعوا بالتركمان، فتوجه إليهم أسندمر كرجي نائب طرابلس بهادر آص وكجكن وغرلوا العادلي وتمر الساقي وأنص الجمدار ومحمد بن قرا سنقر، في ألف وخمسائة فارس. فطرقوهم بمنزلة عرض في حادي عشر شعبان على غفلة، وافترقوا عليهم أربع فرق، وقاتلوهم قتالًا شديداً من نصف النهار إلى العصر حتى أفنوهم، وكانوا فيما يقال نحو أربعة آلاف. وأنقذوا التراكمين بحريمهم وأولادهم، وهم نحو ستة آلاف أسير، ولم يفقد من العسكر إلا الأمير أنص الجمدار المنصوري، ومحمد بن باشقرد الناصري، وستة وخمسين من الأجناد. وعاد من إنهزم إلى قطلوشاه، وقد أسر العسكر مائة وثمانين من التتر. وكتب إلى السلطان بذلك، ودقت البشائر بدمشق، وكان قد خرج السلطان من قلعة الجبل ثالث شعبان، ومعه الخليفة المستكفي بالله أبو الربيع سليمان في عسكر كثير، واستناب بديار مصر عز الدين أيبك البغدادي.
وكان التتر الذين عادوا منهزمين إلى قطلوشاه قد أخبروا أن السلطان لم يخرج من الديار المصرية، وأن ليس بالشام غير العسكر الشامي، فجد قطلوشاه في السير بجموع التتر حتى نزل على قرون حماة في ثالث عشريه، فاندفعت العساكر بين يديه إلى دمشق، وركب العادل كتبغا في محفة لضعفه، فاجتمع الكل بدمشق. واختلف رأيهم في الخروج إلى لقاء العدو أو انتظار قدوم السلطان، ثم خشوا من مفاجأة العدو، فنادوا بالرحيل وركبوا أول رمضان. فاضطربت دمشق بأهلها، وأخذوا في الرحيل منها على وجوههم، واشتروا الحمار بستمائة درهم والجمل بألف درهم، وترك كثير منهم حرمه وأولاده ونجا بنفسه إلى القلعة فلم يأت الليل إلا والنوادب في سائر نواحي المدينة. وسار العسكر مخفاً إلى لقاء العدو، وبات الناس بدمشق في الجامع يضجون بالدعاء إلى الله، فلما أصبحوا رحل التتر عن دمشق بعد أن نزلوا بالغوطة.
وبلغ الأمراء قدوم السلطان فتوجهوا إليه من مرج راهط، فلقوه على عقبة شجورا في يوم السبت ثاني رمضان، وقبلوا له الأرض. فورد عند لقائهم به الخبر بوصول التتر في خمسين الفاً مع قطلوشاه نائب غازان. فلبس العسكر بأجمعه السلاح، واتفقوا على المحاربة بشقحب تحت جبل غباغب، وكان قطلوشاه قد وقف على أعلى النهر. فوقف في القلب السلطان وبجانبه الخليفة والأمير سلار النائب والأمير بيبرس الجاشنكير، وعز الدين أيبك الخازندار وسيف الدين بكتمر أمير جاندار وجمال الدين أقوش الأفرم نائب الشام وبرلغي وايبك الحموي، وبكتمر البوبكري وقطلوبك ونوغاي السلاح دار وأغرلوا الزيني، وفي الميمنة الحسام لاجين أستادار ومبارز الدين سوار أمير شكار، ويعقوبا الشهرزوري ومبارز الدين أوليا بن قرمان، وفي الجناح الأيمن الأمير قبجق بعساكر حماة والعربان، وفي الميسرة الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير السلاح والامير قرا سنفر بعساكر حلب والأمير بدخاص نائب صفد، وطغريل الإيغاني وبكتمر السلاح دار وبيبرس الدوادار، بمضافيهم.(1/324)
ومشى السلطان والخليفة بجانبه، ومعهما القراء يتلون القرآن، ويحثون على الجهاد ويشوقون إلى الجنة، وصار السلطان يقف، ويقول الخليفة: يا مجاهدون لا تنظروا لسلطانكم، قاتلوا عن حريمكم وعلى دين نبيكم صلى اله عليه وسلم، والناس في بكاء شديد، ومنهم من سقط عن فرسه إلى الأرض، وتواصى بيبرس وسلار على الثبات في الجهاد. وعاد السلطان إلى موقفه، ووقف الغلمان والجمال وراء العسكر صفاً واحداً، وقيل لهم: من خرج من الأجناد عن المصاف فاقتلوه، ولكم سلاحه وفرسه.
فلما تم الترتيب زحفت كراديس التتار كقطع الليل، بعد الظهر من يوم السبت المذكور، وأقبل قطلوشاه بمن معه من التوامين وحملوا على الميمنة وقاتلوها، فثبتت لهم وقاتلتهم قتالاً شديداً، وقتل الحسام لاجين أستادار وأوليا بن قرمان وسنقر الكافري، وأيدمر الشمسي القشاش وأقوش الشمسي الحاجب والحسام على بن باخل، نحو الألف فارس. فأدركهم الأمراء من القلب ومن الميسرة، وصاح سلار: هلك والله أهل الإسلام، وصرخ في بيبرس والبرجية فأتوه وصدم بهم قطلوشاه، وأبلى ذلك اليوم هو وبيبرس بلاء عظيماً، إلى أن كشفا التتار عن المسلمين.
وكان جوبان بن تداون وقرمجي بن الناق، وهما من توامين التتار، قد ساقا تقوية لبولاي وهو خلف المسلمين، فلما عاينا الكسرة على قطلوشاه أتياه ووقفا في وجه سلار وبيبرس. فخرج من أمراء السلطان أسندمر وقطلوبك وقبجق والمماليك السلطانية إعانة لبيبرس وسلار، فتمكنوا من العدو وهزموه، فمال التتر على برلغي حتى مزقوه واستمرت الحرب بين سلار ومن معه وبين قطلوشاه، وكل منهما ثابت لقرنه.
وكانت الأمراء لما قتلت بالميمنة إنهزم من كان معهم، ومرت التتر خلفهم، فجفل الناس وظنوا إنها كسرة. وأقبل السواد الأعظم على الخزائن السلطانية فكسروها، ونهبوا ما بها من الأموال، وجفل النساء والأطفال، وكانوا قد خرجوا من دمشق عند خروج الأمراء منها وكشف النساء عن وجوههن وأسبلن الشعور، وضج ذاك الجمع العظيم بالدعاء، وقد كادت العقول أن تطيش وتذهب عند مشاهدة الهزيمة، فلم ير شيء أعظم منظراً من ذلك الوقت إلى أن وقف كل من الطائفتين عن القتال.
ومال قطلوشاه بمن معه إلى جبل قريب منه، وصعد عليه وفي نفسه إنه انتصر، وأن بولاي في أثر المنهزمين يطلبهم. فلما صعد الجبل نظر السهل والوعر كله عساكر، والميسرة السلطانية ثابتة واعلامها تخفق، فبهت وتحير واستمر بموضعه حتى كمل معه جمعه، وأتاه من كان خلف المنهزمين من الميمنة السلطانية، ومعهم عدة من المسلمين قد أسروهم، منهم الأمير عز الدين أيدمر نقيب المماليك السلطانية. فأحضره قطلوشاه وسأله: من أين أنت؟، فقال: من أمراء مصر، وأخبره بقدوم السلطان، و لم يعلم قطلوشاه بقدوم السلطان بعساكر مصر إلا منه. فجمع قطلوشاه أصحابه وشاورهم فيما يفعل، وإذا بكوسات السلطان والأمراء والبوقات قد رجفت بحسها الأرض وأزعجت القلوب، فلم يثبت بولاي أحد مقدمي التتر، وخرج من تجاه قطلوشاه في نحو العشرين ألفاً، ونزل من الجبل بعد المغرب وفر هارباً.
وبات السلطان وسائر العساكر على ظهور خيولها والطبول تضرب، وتلاحق به من إنهزم شيئاً بعد شيء، وهم يقصدون ضرب الطبول السلطانية والكوسات الحربية. وأحاط عسكر السلطان بالجبل الذي بات عليه التتار، وصار بيبرس وسلار وقبجق والأمراء الأكابر في طول الليل دائرين على الأمراء والأجناد يرصونهم ويرتبونهم، ويكثرون من التأكيد عليهم في التيقظ وأخذ الأهبة. فما طلع الفجر يوم الأحد إلا وقد اجتمع كل عساكر السلطان، ووقف كل أحد في مصافه مع أصحابه، والجفل والأثقال قد وقفوا على بعد، وكانت رؤيتهم تذهل، وثبتوا على ذلك حتى ارتفعت الشمس.(1/325)
وشرع قطلوشاه في ترتيب من معه، ونزلوا مشاة وفرسان وقاتلوا العساكر. فبرزت المماليك السلطانية بمقدميها إلى قطلوشاه وجوبان، وعملوا فيهم عملاً عظيماً: تارة يرمونهم بالسهام، وتارة يهاجمونهم، واشتغل الأمراء بقتال من في جهتهم، وصاروا يتناولون القتال أميراً بعد أمير. وألحت المماليك السلطانية في القتال واستقتلوا، حتى أن فيهم من قتل تحته الثلاثة أرؤس من الخيل. ومازال الأمراء على ذلك حتى انتصف نهار يوم الأحد، وصعد قطلوشاه الجبل، وقد قتل منه نحو ثمانين رجلاً، وجرح الكثير واشتد عطشهم.
واتفق أن بعض من أسروه نزل إلى السلطان وعرفه أن التتار قد أجمعوا على النزول في السحر ومصادمة الجيش، وأنهم في شدة من العطش. فاقتضى الرأي أن يفرج لهم عند نزولهم، ثم يركب الجيش أقفيتهم.
فلما باتوا على ذلك وأصبح نهار يوم الإثنين، ركب التتار في الرابعة ونزلوا من الجبل، فلم يتعرض لهم أحد. وساروا إلى النهر فاقتحموه، وعند ذلك ركبهم بلاء الله من المسلمين، وأيدهم بنصره حتى حصدوا رؤوس التتار عن أبدانهم، ومروا في أثرهم إلى وقت العصر وعادوا إلى السلطان. فسرحت الطيور بالنصر إلى غزة ومنع المنهزمون من التوجه إلى مصر، وتتبع من نهب الخزائن السلطانية والاحتفاظ به. وعين الأمير بدر الدين بكتوت الفتاح للمسير بالبشارة إلى مصر، وسار من وقته، وكتب إلى دمشق وسائر القلاع بالبشارة.
ثم ركب السلطان في يوم الإثنين من مكان الواقعة، وبات ليلته بالكسوة، وأصبح يوم الثلائاء خامس الشهر وقد خرج إليه أهل دمشق، فسار إليها - ومعه الخليفة - في عالم من الفرسان والعامة والأعيان والنساء والصبيان، لا يحصيهم إلا من خلقهم سبحانه، وهم يضجون بالدعاء والهناء. وتساقطت عبرات الناس، ودقت البشائر، وكان يوما لم يشاهد مثله، إلى أن نزل السلطان بالقصر الأبلق، ونزل الخليفة بالتربة الناصرية، وقد زينت المدينة.
واستمر الأمراء في أثر التتار إلى القريتين، وقد كلت خيول التتر وضعفت نفوسهم وألقوا أسلحتهم، واستسلموا للقتل والعساكر تقتلهم بغير مدافعة، حتى أن أراذل العامة والغلمان قتلوا منهم خلقاً كثيراً، وغنموا عدة غنائم، وقتل الواحد من العسكر العشرين من التتر فما فوقها. وأدركت عربان البلاد التتار وأخذوا في كيدهم: فيجىء منهم الاثنان والثلاثة إلى العدة الكثيرة من التتار كأنهم يسيرون بهم في البر من طريق قريبة إلى الليل، ثم يدعونهم وينصرفون، فتتحير التتر في البرية وتصبح فتموت عطشاً. وفيهم من فر إلى غوطة دمشق، فتتبعتهم الناس وقتلوا منهم خلقاً كثيراً.
وخرج وإلى البر حتى جمع من استشهد من المسلمين، ودفنهم في موضع واحد بغير غسل ولا كفن، وبنى عليهم قبة. وتتبع نائب غزة من إنهزم من العسكر وأخذهم وفتشهم، فظفر منهم بجماعة معهم الأكياس المال بختمها. ووقف الأمير علم الدين سنجر الجاولي بطريق دمشق ومعه الخزان وشهود الخزانة، وأخذ الغلمان فظفر منهم بشيء كثير مما نهبوه، وعوقب جماعة بسبب ذلك. ومازال الأمر يشتد في الطلب، حتى تحصل أكثر ما نهب من الخزائن، ولم يفقد منه إلا القليل.
وشمل السلطان الأمراء بالخلع والأنعام، وحضر الأمير سيف الدين برلغي - وقد إنهزم فيمن إنهزم - فلم يأذن له السلطان في الدخول عليه، وقال: بأي وجه يدخل على أو ينظر في وجهي؟ ، فمازال به الأمراء حتى رضي عنه وأذن في دخوله، فقبل الأرض. وقبض على رجل من أمراء حلب كان قد انتمى إلى التتار وصار يد لهم على الطرقات، فسمر على جمل وشهر بدمشق وضواحيها. واستمر الناس طول شهر رمضان في مسرات تتجدد، وصلى السلطان صلاة عيد الفطر، وخرج من دمشق في ثالث شوال يريد مصر.
وأما التتار فإنه قتل أكثرهم، حتى لم يعبر قطلوشاه الفرات إلا في قليل من أصحابه.(1/326)