صفوة متميزة من أبناء المجتمع سموا بأهل الحل والعقد،وهم جميعا يتميزون بالماضي المشرف في خدمة الدين والعمل به وله،وبرجحان العقل.
وكانت سلطة الخليفة محدودة بحدود الشرع،ولم يكن لأحد سلطان عليه مادام محافظا على هذه الحدود،وصائنا لها،ومع ذلك تلقى الخلفاء نصح الناس لهم بصدور رحبة على كل حال. وظهر بجوار الخليفة شكل من أشكال الوزارة التى تسانده،وتكون موضع استشارته،ويشركها معه في القيام ببعض مسئوليات الدولة .
مع وفاة رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ غطت نفوس الصحابة سحب كثيفة من الحزن،لكن شيوخ الصحابة المهاجرين لما بلغهم أن الأنصار اجتمعوا بسقيفة بنى ساعدة ليختاروا منهم خليفة لرسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ سارعوا قبل دفنه ـ عليه السلام ـ لإنقاذ الموقف واختيار الخليفة الأكثر مناسبة .. لقد أدركوا أن اختيار إمام للأمة واحد من أوجب الواجبات،التي يصان بها المجتمع من التفكك والانهيار،وتحفظ بها السفينة من الغرق والانحراف،وأيقنوا أن كون هذا الإمام من قريش أجمع للشمل،وأضمن لاستجابة الناس ..
واختير أبو بكر أول خليفة لرسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ في أحداث السقيفة التي كانت اختبارا عصيبا لقدرة هذه الأمة على إدارة شأنها بنفسها بعد رحيل نبيها ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ثم اختير عمر بن الخطاب أميرا للمؤمنين بعد أن رشحه أبو بكر وزكاه لهم،وجاء عثمان بن عفان ثالثا ونال الإمارة من بين ستة من كبار الصحابة وفضلائهم،وفي فلك الخلافة الراشدة مع هذه الأقمار وتلك النجوم دار علي بن أبي طالب،فكان خاتمة هذه السلسلة الطاهرة من الخلفاء الراشدين من أصحاب محمد ـ - صلى الله عليه وسلم - .
ومع هؤلاء وفي ظل ما تعلموا من دينهم ونبيهم،صارت الخلافة الراشدة نموذجا من نماذج الحكم،له نمطه الخاص،وللحاكم فيه خصائص معينة وسلطات محددة.
إن إعطاء الخلافة لرجل قرشي مبدأ استقر منذ الخلفاء الراشدين،وظلت الأجيال حريصة على ذلك إلى أن زال بصورة تلقائية مع اتساع سلطة العثمانيين في مصر والجزيرة والشام سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة للهجرة.
ولا شك أن اشتراط قرشية الخليفة كان مبدأ أملاه ظرف تاريخي واجتماعي في فترة مبكرة من صدر هذا الدين،إذ كان ولاء الناس للقوم والقبيلة عظيما،فجاء الإسلام وصنع لهم ولاء جديدا أوسع إطارا من القبيلة،وهو ولاء الدين،غير أن شخص الرسول ذاته ظل واسطة العقد في هذا الولاء،فالناس قد كسروا الولاء القبلي والعائلي الجبار المتمكن من نفوسهم لأجل ما جاء به هذا النبي،ولأجل ما نزل عليه من القرآن .(1/362)
لكن الرسول غير خالد ولا دائم الحياة على هذه الأرض،ومن الضروري واللازم أن يظل التماسك والترابط بين أبناء أمته ويبقى،وأنسب الناس للقيام بذلك هو رجل من قوم الرسول أنفسهم: من قريش .. وهذا توظيف دقيق للعصبية في خدمة المبدأ .
وقد ثبتت أهمية هذا الشرط في اختيار الخليفة حينئذ في حوادث الردة،إذ جمعت شوكة قريش الممثلة في المهاجرين الأولين ـ جمعت حولها كل من ثبت على الإسلام،حتى أعادت للدين في جزيرة العرب هيبته وسلطانه .
كان من اليسير أن يعين الرسول ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ خليفة له قبل موته،ويحدده باسمه،ولن يكون في وسع أحد من الناس بعد ذلك أن يخالف،وإلا خرج من الدين،لكن القائد المعلم ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ أراد أن يعلم أمته الشورى في هذه الموقف الخطير،أراد منها أن تختار لنفسها وهى مستضيئة بمبادئ التربية التى تربوا عليها في ظل الإسلام .. فمات دون أن يوصي لأحد بخلافته ..
لكن كانت هناك تصريحات وإشارات نبوية لطيفة تجعل لأبي بكر فضيلة وتقدما على بقية الصحابة،هي التي حسمت اختيار الصديق ومبايعته بالخلافة بعد رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ يوم اجتمعت الأنصار في سقيفة بنى ساعدة لتختار خليفة منها،لكن علم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة أن الناس لن تدين ولن تخضع لسلطان أحد من غير قوم النبى ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ فسارعوا إلى السقيفة وأدركوا الأنصار وقد أوشكوا أن يبايعوا رجلا منهم،هو سعد بن عبادة،فخطب أبو بكر في الأنصار،وذكرهم بفضل المهاجرين الأولين وأن الناس لا تدين إلا لهم،كما ذكر فضل الأنصار وتأييدهم لرسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ فهم يأتون في الدرجة الأولى بعد المهاجرين الأولين مباشرة .
ورشح لهم أبو بكر أن يختاروا بين عمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح،فقالا للصديق: لا والله لا نتولى هذا الأمر عليك،فإنك أفضل المهاجرين،وثاني اثنين إذ هما في الغار،وخليفة رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ على الصلاة،والصلاة أفضل دين المسلمين". فقام بشير بن سعد الأنصاري،فبايع أبا بكر ثم تابعه عمر وأبو عبيدة،ثم تتابع الناس على البيعة حتى أتت القبائل الثابتة على دينها فبايعت. وفي اليوم التالي قام عمر في الناس وزكى اختيار أبي بكر،فبايعه الناس البيعة العامة.
لم يكن أول الرجال إيمانا فحسب،بل كان الشاهد الأول للمواقف الحاسمة في تاريخ هذا الدين،فأعطى في الإسراء والمعراج قاعدة تختصر العلاقة بين النبي والمؤمنين به يوم قال:" إن كان قاله فقد صدق"،فما دام الرسول هو القائل فهو صادق،مهما تكن غرابة القول،ولو أخبر الناس أنه سافر إلى بيت المقدس ورجع في جزء من الليل .
وفي الهجرة كان أبو بكر ثاني اثنين أولهما رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ في غار ثور،يحتضنهما الغار احتضان الأم ولديها،وأبو بكر يرجف قلبه خوفا على النبي والدين،ولكن النبي يرش على نفس أبي بكر من(1/363)
يقين المؤمن وثقته في الله تعالى:"ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!" فثبت الصديق مع الرسول ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ وخرجا في طريق الهجرة حتى بلغا المدينة رفيقين في سفر صعب وطويل ..
وما أكثر ما أثنى النبي على صاحبه،واستشاره وقربه من نفسه،حتى كان مرض موته ـ عليه السلام ـ فأصر على أن يؤم الناس أبو بكر،وأمر بأن تقفل أبواب البيوت المؤدية إلى مسجده إلا باب بيت أبي بكر،وقال:" إن أمنَّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر،ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا،ولكن أخوة الإسلام ".
رجل شديد قوي في رأيه وجسده،رآه أبو بكر وهو في مرض موته أكثر الناس مناسبة لتولي الخلافة من بعده،لكن الناس لم يتحملوا شدة عمر وهو بعيد عن الإمارة العامة،فكيف يطيقونها وهو أمير ممكن ؟!
كان أبو بكر أعلم الناس بعمر،فراح يستشير فيه كبار الصحابة وشيوخهم،فأثنوا عليه،وقالوا خيرا،ودافع أبو بكر عن شدة عمر بأنه يبدي الشدة حين يرى لينا في أمر الله،ويبدي لينا إذا رأى شدة أكثر مما ينبغي.
ولم يوص أبو بكر الأمة باختيار عمر من بعده إلا بعد أن اطمأن إلى أنه ليس هو وحده الذي يرى في عمر خيرا كثيرا،وقدرة على سياسة أمور الناس،بل إن كبار الصحابة يرون ذلك أيضا.. لقد علم أبو بكر أن المسلمين قد استأمنوه على أنفسهم،ورأى أن من صيانة الأمانة والنصح لأمته أن يوصي بعمر خليفة من بعده،ويقترحه لشغل هذا المنصب الخطير الذي يحتاج إلى إمكانات خاصة .
وراح الخليفة الجليل وهو على سرير الموت يملي وصيته على عثمان بن عفان،وعثمان يكتب،والخليفة يغمى عليه،ثم يعاود الإملاء بعد الإفاقة،حتى أوصى باستخلاف عمر دون أن يفرضه على الناس،فبويع بالخلافة في جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة .
لقد كانت بيعة عثمان بن عفان شكلا جديدا من أشكال تطبيق الشورى في اختيار الخلفاء الراشدين،إذ أوصى عمر بن الخطاب لما أشرف على الموت بأن تكون الخلافة من بعده في واحد من ستة بشرهم رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ بالجنة،ومات راضيا عنهم،وهم:عثمان،وعلي،وعبد الرحمن،وسعد،وطلحة،والزبير،واستبعد سعيد بن زيد لقرابته منه،وأبي أن يضم إلى الستة ابنه عبد الله بن عمر،وجعله حكما بينهم ومستشارا،وأمهلهم ثلاثة أيام بعد موته حتى يختاروا منهم رجلا ...
وبعد وفاة عمر ظلت المشاورات ثلاثة أيام،يقودها عبد الرحمن بن عوف الذى خلع نفسه،وتنازل عن حقه في الاختيار،وأخذ يشاور عثمان وعليا وسعدا والزبير،وكان طلحة غائبا "ودار عبد الرحمن لياليه يلقى أصحاب رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ومن وافي المدينة من أمراء الأجناد وأشراف الناس يشاورهم،ولا يخلو برجل إلا أمره بعثمان". ومع أن الكفة في بعض المشاورات العلنية مالت في اليوم التالي إلى جانب علي،إلا أن عبد الرحمن بن عوف لم ينخدع بذلك،ورأى عثمان أرفق بالناس،فبايعه أمام الناس(1/364)
في مسجد رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ وقعد عثمان على المنبر،وازدحم عليه الناس يبايعونه بالخلافة وإمارة المؤمنين،حتى بايعه على بن أبي طالب نفسه. وذلك في اليوم الأخير من سنة ثلاث وعشرين من الهجرة.
كان الحسن والحسين ابنا علي بن أبي طالب من أبناء الصحابة الذين وجههم آباؤهم لحراسة الخليفة الجليل عثمان بن عفان وحمايته من الأشقياء الذين تجمعوا يريدون قتله .. وود حراس الخليفة لو أُذن لهم في قتال البغاة وردهم،وتحرقت أنفسهم شوقا إلى ذلك،لكن الخليفة الرفيق اللين أبى أن يُسال دم بسببه،حتى تجرأ عليه المجرمون وقتلوه ..
أصبح المسلمون في وسط هذه الفتنة التى اشتعلت حيارى،وراح الناس يبحثون عمن يتولى الخلافة من علي وطلحة والزبير،فكانوا يهربون منها ويختبئون،واجتمع الأنصار والمهاجرون فيهم طلحة والزبير حتى أتوا علي بن أبي طالب في داره،وألحوا عليه في قبول إمارة المؤمنين،وألح هو في رفضها،وفضل أن يكون وزيرا لأحدهم عن أن يكون أميرا للمؤمنين .
لكن ماذا يفعلون وليس فيهم خير منه،وقد أوشكت السفينة أن تغرق بالمسلمين،إذ علا صوت الثوار الأشقياء الذين تجرأوا على الخليفة الطاهر عثمان؟!
قبل علي إمارة المؤمنين وسط هذه الأمواج العاتية،وخرج مع الناس إلى المسجد حتى تكون البيعة علانية،فبايعه المهاجرون والأنصار عند منبر رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ في ذي الحجة من سنة خمس وثلاثين من الهجرة .
"ستكون نبوة ما شاء الله لها أن تكون،ثم يرفعها الله،ثم تكون خلافة راشدة..". (حديث شريف).
الخلافة الراشدة.. إنها نموذج من نماذج الحكم وسياسة الخلق،وهو النموذج الذى يرضاه الإسلام كله .. وقد أهدت إلينا ثلاثون عاما من حكم الخلفاء الراشدين سمات مميزة له،وفارقة بينه وبين غيره مما طبقه البشر ويطبقونه في كل زمان ..
يقول لنا هذا النموذج: إن نصب الخليفة وإقامة الإمام واجب ومفروض على الأمة،تشهد بذلك أحداث سقيفة بنى ساعدة واجتماع الأنصار والمهاجرين فيها،وحرص كل خليفة من الراشدين على سلامة اختيار من يخلفه من أبناء الأمة.
وعلى الشورى يقوم اختيار الخليفة الراشد،الذى يرى منصبه مسئولية هائلة تلقى على كاهله،فهو يخشى الله أن يضيعها،وتتحدد سلطاته بحدود الشرع،وتجب على الامة طاعته مادام حافظا لهذه الحدود .
وتعلو في سماء الإنسانية الرفيعة،فترى في الخليفة الراشد صاحب إمكانات عالية في دينه وعقله وجسده تؤهله للقيام بمسئولياته،ومع ذلك فهو متواضع لله غير مستكبر على خلقه .. قد يكون لينا وقد(1/365)
يكون شديدا،قد يكون غنيا وقد يكون فقيرا،لكنه دائما يلزم نفسه بحدود الله وشرعه وحراسة الدين وحفظه.
وتبحر مع الخليفة الراشد في سفن الخير،فتراه نهرا واسعا لكل خير،تبصره بين الناس كواحد منهم،لا يتميز عنهم بثوب أو أكل إلا حسب الحاجة إلى ذلك.. قد يكون له راتب من خزانة المسلمين،وقد يستغنى بما لديه من مال،ولا يشغل نفسه بتجارة ولا بيع ولا شراء؛ لأن مصالح الأمة لن تعطيه فرصة لذلك.. قد تكون له شارات مميزة - مثل العصا التى كانت تلازم عمر - وقد لا تكون ..
إنه ليس إلها ولا نصف إله،وليس نبيا ولا نصف نبي،بل واحدا من خلق الله يجتهد في خدمة الدين والخلق.. ليس ظلا لله على أرضه،ولا كلامه وحيا .. ومهما تكن صفاته مثالية فإنه لا يستغنى أبدا عن معونة الأمة ومؤازرتها له بالنصح والإعانة والطاعة في المعروف.
لا يخلو مجتمع من صفوة مختارة ذات خبرة بمداخل الأمور ومخارجها،وصاحبة دراية بمن يصلح لهذه المهمة ومن يصلح لتلك .. ويتزين ذلك بأمانة معهودة فيهم وديانه اشتهروا بها،فيخرج لدينا أهل الحل والعقد،الذين يعقدون للخليفة ولايته،ولا يَحُلونها إلا إذا خالف الميثاق الذي يجمعه ورعيته،وهو حراسة الدين والوطن ورعاية مصالح الناس ..
ولا يدخل تحت أهل الحل والعقد عامة الناس،لقلة بصرهم بالأصلح لحمل الأمانة وتولي الإمارة،ولضعف فطانتهم الذي قد يؤدي بهم إلى الانخداع بالمظاهر وعدم إدراك الحقائق ...
والمرأة لا تعتاد ممارسة الحياة العامة،وتميل بها عاطفتها إلى اللين وقلة القدرة على حسم الأمور،لذا فقليلات منهن يصلحن للانضواء والدخول تحت أهل الحل والعقد ..
لقد شهد عصر الراشدين كثيرا من الأسماء الكبيرة التى ضمها أهل الحل والعقد،واختاروا للأمة خلفاءها،ثم بايعت الأمة استضاءة برأيهم،ومن هذه الأسماء:عبد الرحمن بن عوف،وأبو عبيدة بن الجراح،وعبد الله بن عمر،وسعد بن أبي وقاص.
نجوم مضيئة،وأقمار منيرة،كونوا أهل الحل والعقد بصورة تلقائية،لحرصهم على مصالح أمتهم،ولم يصدر قرار رسمي ولا غير رسمي بتكوينهم،وإنما كان في المجتمع حراك طبيعي نحو تيسير حركته،استضاءة بتعاليم الشريعة وسيرا على مبادئ الدين الحنيف،فأداهم ذلك إلى تصدر الميدان لاختيار الحاكم،ومساعدته في مهامه،وكان بعضهم قريبا من الخليفة بدرجة أشبه بالوزير.
لذيذ طعم الماء العذب،ورائع منظر تلاطم أمواج النهر .. ولكن لابد للنهر من شوطئ لمجراه تحفظ مسيره،وتنقله ليسقي البلاد والعباد .. كذلك الخليفة والأمير في صورته الراشدة حين يُختار يلتمس صاحب الخير،ويبحث عن القوي الأمين،وبعد ذلك لا تكون السلطة في يده مطلقة،ولكنها تعيش في مجراها بين شاطئين من الشريعة السمحة،ففي يد الأمير الراشد أن يعين الولاة على أقاليم الدولة،ومن(1/366)
سلطته أن يختار أمراء الجيوش،ويعزلهم ويجبى الخراج والزكاة،ويقيم الحدود ..لكن ذلك كله يبقى مرتبطا بالعمل في ضوء الشرع الحكيم وعلى نوره..
وقد أضاف الراشدون إلى ذلك آدابا عظيمة،مثل التدقيق في اختيار عمالهم ونوابهم على أقاليم الدولة،واستشارة أولي الرأي فيمن يصلح لهذه المهمة أو تلك،ومتابعة من يتولى للمسلمين ولاية للتأكد من سلامة مسيرتهم،وحسن سيرتهم في خلق الله .
لقد استوعب الصدر النبوي الشريف كل السائرين مقتدين به على درب الهدى،لكن تميز بعض الصحابة عن بعض في الإيمان والعلم جعل رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ يدني ويقرب فريقا منهم أكثر من الآخرين،وأولهم أبو بكر وعمر،فكان يستشيرهما ويسألهما الرأي في مسائل كثيرة عرضت له،وعبر عن هذا القرب بقوله ـ - صلى الله عليه وسلم - :" أبو بكر وعمر وزيراي" .
وفي فترة حكم الراشدين لم تختف هذه الصورة،بل كان الخليفة يتخذ ممن حوله رجالا أو رجلا أمينا راسخا في دينه،يقربه ويستشيره ويستعين برأيه،فكان عمر وزير أبي بكر،وعبد الرحمن بن عوف والعباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وزراء لعمر بن الخطاب ..
ولم تكن الوزارة لهذا العهد منصبا رسميا،ولا درجة من درجات الحكم في أثناء حكم الخلفاء الراشدين،وإنما كانت دورا فرضته حاجة الخليفة إلى اصطفاء البعض وتقريبهم إليه كبطانة تحضه على الخير،وتذكّره به.
وفي نفس هذه الفترة كان اتخاذ الوزراء عند دولة قديمة كالفرس نظاما معمولا به وله تقاليده الراسخة،وينال صاحبه لدى قومه منزلة رفيعة تلي منزلة كسرى .
ترك رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ رقعة واسعة من الأرض دخلها الإسلام أمانة في أعناق أصحابه،فكانوا نعم الحافظون للأمانة الصائنون لها،حتى اتسعت الدولة الإسلامية في عهد الراشدين اتساعا هائلا،وارتفع صوت القرآن والأذان في رقعة كبيرة من الأرض المعمورة حينئذ.
وكان لابد لهذه الدولة الواسعة من إدارة محكمة،تحكم تسيير شؤونها،وتجيد القيام على أحوال الرعية،فكان الخليفة يرسل نوابه أو عماله لإدارة ولايات الدولة أو قيادة الجيوش،كما عيّن للقضاء رجالا ذوى بصر دقيق وعلم غزير وفطانة واسعة. ودوّن عمر الدواوين لتنظيم العديد من الأعمال الإدارية المتعلقة بالجنود والعطاء وغيرهما،كما ضمن البريد في هذه الفترة المبكرة توفير وسيلة فعالة للاتصال بين أجزاء الدولة الإسلامية ..
وفي مرحلة متاخرة من حكم الراشدين الأربعة ظهرت نواة للشرطة التى تتولى الأمن الداخلي في البلاد .(1/367)
لم يستحدث الصحابة إرسال الولاة والعمال إلى ولايات دولتهم،فقد كان ذلك موجودا لدى الفرس والروم وغيرهم من الأمم،ولكن الخلفاء الراشدين استحدثوا في هذه الأمر الورع الشديد في اختيار من يولونه على الناس،حتى لا يتسلط أحد على رقاب الخلق،ولا يستبد أحد بأموال الناس،وحرصوا على أن يكون الوالي أو العامل صاحب قدرة على القيام بمهام منصبه،مع تدينه وورعه،وخضع العمال للمحاسبة والعقوبة أحيانا.
وقد كان مبدأ أبي بكر أن يقر عمال رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ في مواضعهم،واتسعت الدولة في عهد عمر بن الخطاب فزادت أهمية توظيف العمال على الولايات المختلفة،وجاء عثمان فأقر النظام الإداري الذى كان على عهد عمر،وبمرور الوقت قام بتبديل بعض الوجوه من الولاة،ووسع سلطان بعضهم،وفي فترة حكم علي بن أبي طالب عمل أمير المؤمنين على تغيير العديد من الولاة الذين رأى أنهم يسيرون على غير سيرة الأولين،من الزهد وقلة التوسع والاستكثار من الدنيا،فوقعت الأزمة الشهيرة بين علي بن أبي طالب ووالي الشام القوي معاوية بن أبي سفيان .
- يا خليفة رسول الله،ألا تستعمل أهل بدر ؟
- إني أرى مكانهم أعلم منزلتهم ومكانتهم ولكني أكره أن أدنسهم بالدنيا".
هكذا رأى أبو بكر أن الوالي والأمير على خطر أن تدنسه الدنيا وتلوثه،ولو كان من أهل بدر،لذلك فضل أن يكونوا جنودا على أن يكونوا أمراء،وكأنه خاف أن تضيّع مغريات الإمارة ما حققوه من السبق والفضيلة بشهودهم غزوة بدر.
كان أبو بكر يولي من يراه مناسبا،ويستشير في ذلك من حوله من أصحاب الرأي والفقه،ولا يكره أحدا على الإمارة. وكثيرا ما كان يتحول أمير الحرب الذي يرسله أبو بكر لمحاربة المرتدين إلى أمير سلم يتولى أمر البلد الذي فتحه،كما حدث مع العلاء بن الحضرمي في البحرين،والمهاجر بن أبي أمية في حضرموت .
ولما لم يكن شيء من فتح فارس والروم قد استقر في عهد أبي بكر،فقد كانت الدولة الإسلامية في أيامه مقصورة على جزيرة العرب،وولاياتها هي: مكة والمدينة والطائف وصنعاء وحضرموت وخولان وزبيد ورمع والجند ونجران وجرش والبحرين.
وفي بداية ولايته أقر أبو بكر عمال رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ على هذه الأنحاء،وكان التغيير الذي جرى على الولاة في عهده قليلا لانشغاله بمحاربة المرتدين،وابتداء المواجهة مع الفرس والروم.
كان يكره أن يخطئ اليوم فيحاسَب على ذلك غدا،وكان يكره أكثر أن يخطئ ولاته فيحاسب هو على خطئهم بين يدي الله تعالى،لذا حرص عمر كل الحرص على إحسان اختيار الولاة،وكان يستشير في ذلك من حوله من أولي الرأي والفقه،ولم يعرف في أحد من أصحاب الدين موهبة إلا وجهه إلى العمل الذي يناسبه .. وكان أمير المؤمنين الفاروق لا يولي صاحب الدين إلا إذا كان قويا قادرا على(1/368)
القيام بتبعات منصبه ومسئولياته،وإذا أحس في أحد ضعفا مع تدينه وأمانته عزله،ووضع مكانه من هو أنسب للولاية والإمارة منه. وتجنب تماما أن يعين أحدا من أقاربه.
وقد بسط الإسلام جناحيه على الدنيا في ولاية عمر،واتسعت بلاده،فقسم أمير المؤمنين الدولة إلى أقسام إدارية كبيرة ليسهل حكمها والإشراف على مواردها. وبالرغم من بعد المسافات بين أمير المؤمنين في المدينة وبين الولايات الكثيرة التى تتبع دولته،إلا أنه كان حريصا تماما على محاسبة ولاته،وتلقي تظلمات الرعية من هؤلاء الولاة.
وكان عمر بن الخطاب يرى أن مهمة الولاة أولا هي تعليم الناس أمر دينهم،وقسمة الفيء بين المجاهدين. وجعل لكل واحد من الولاة من المال والعطاء ما يصلحه ويكفيه حاجته وحاجة أهله. ولم يكن يرى أن الخطأ الفادح وحده هو الذي يستحق الوالي أن يعزل لأجله،بل ربما عزل واليا لضياع الانسجام بينه وبين من يتولى عليهم،وإن كان الوالي محقا،كما فعل مع سعد بن أبي وقاص.
ابتدع أمير المؤمنين عمر طرقا لمراقبة ولاته تعد من معالم عبقريته،وتقطع بأن المؤمن حينما يجمع إلى عمق الإيمان فطانة العقل وسعة الفهم يكون آية من آيات الله .. فهذا أمير المؤمنين قبل أن يولي رجلا يحصي عليه ماله ويعد نقوده،حتى إذا أراد أن يحاسبه كان على علم برأس ماله الذى كان يملكه قبل الولاية،وهذا هو الفاروق يأمر الولاة بأن يحضروا موسم الحج حتى إذا كانت لأحد عندهم مظلمة تقدم بها ليأخذ حقه إن ثبت أن له حقا ..
وهذا عمر لم يكن يجعل بينه وبين الناس حجابا،فمن أراد أن يتظلم من شيء وجد الأبواب أمامه مفتحة إلى الأمير الجليل .. وبث رجاله وعيونه ليأتوه بأخبار الولاة ضمانا لاستقامتهم وحفظهم للأمانة التى وضعت بين أيديهم،وكان يأمر ولاته بدخول المدينة عند عودتهم من السفر نهارا،حتى يتبين له ما حملوه .
لقد عزل أمير المؤمنين عدة ولاة ليضمن استقرار الأمور فيما تحت أيديهم من البلاد،وعاقب ولاة آخرين على أخطاء ارتكبوها،وسأل فريقا ثالثا من الولاة: من أين لك هذا ؟ لما رأى من كثرة أموالهم عما كانوا عليه قبل توليهم الإمارة،وقاسمهم ما يملكون،مع أنهم كسبوه من التجارة الحلال .
كاد العرب في حروب الردة يثبتون أنه لا يمكن أن يوحدهم أحد،ولا يمكن أن يجمع صفهم زعيم،إلا أن صحابة محمد ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ وخلفاءه من بعده لم يكتفوا بأن يحولوا حلم الوحدة إلى حقيقة،بل خرجوا بالإسلام من جزيرة العرب ونقلوه ونشروه في العالم،وأخضعوا لسلطانه فارس والعراق والشام ومصر والجزيرة وإفريقية وأرمينية ..
لقد أصبح هذا وضعا جديدا على الحاكم الصالح في المدينة،وعليه أن يواكب هذا الجديد،ويعيد ترتيب دولته الواسعة،فجعل عمر بن الخطاب الأهواز والبحرين ولاية،وسجستان ومكران وكرمان ولاية،وكذا طبرستان ولاية،ومثلها خراسان،وقسم العراق قسمين: أحدهما حاضرته الكوفة،والبصرة(1/369)
حاضرة الآخر،وجعل الشام ولايتين: إحداهما في حمص والأخرى في دمشق.. بينما كانت فلسطين ولاية وحدها،وما فتح من مصر وإفريقية ثلاث ولايات هي: مصر العليا ومصر السفلى،وغرب مصر وصحراء ليبيا .
كان عثمان بن عفان واحدا من الرجال الذين قربهم عمر بن الخطاب إليه،وجمعهم حوله،وبخل بهم أن ينتشروا في الأرض،فعرف عثمان من خبرة إدارة الدولة الكثير والكثير،غير أنه لما تولى الأمر استبدل بشدة عمر لينا،ولخص سيرته في إدارة ولايات الدولة حين كتب إلى أمراء الأنحاء يقول :" قد وضع لكم عمر ما لم يغب عنا،بل كان على ملأ منا،ولا يبلغني عن أحد منكم تغيير ولا تبديل،فيغير الله ما بكم،ويستبدل بكم غيركم". وأمر ولاته ومن يشكونهم أن يوافوه في موسم الحج.
وكان أمير المؤمنين يحرص كل الحرص على رضى الرعية بمن يوليه عليهم من الأمراء،ويكره أن يدخل ولاته في نزاع مع الناس فتقل هيبتهم .
وكان لرفق عثمان ولينه أثر طيب في رعيته وولاته،إلا فريقا من المنحرفين الذين أبطرتهم النعمة،وملأت قلوبهم الدنيا بعد فقر وفراغ منها،فراحوا يحتجون على الخليفة وولاته،وكان أمير المؤمنين قد تولى الإمارة وبعض أقاربه أمراء على الأنحاء،كمعاوية بن أبي سفيان في الشام،والوليد بن عقبة في عرب الجزيرة،وجاء هو بعبد الله بن سعد بن أبي السرح أميرا على مصر بعد أن كان قائدا على مقدمة جيش عمرو بن العاص،وولى سعيد بن العاص الكوفة،وكان عمر قد قربه وجعله من رجال الناس ... ورأي عثمان في ذلك هو اختيار الرجل المناسب للولاية،ولو كان من أقاربه.
أراد علي بن أبي طالب أن يرجع بولاته إلى الصورة التى كانوا عليها في عهد عمر وأبي بكر من الزهد،والتقلل من الدنيا والبعد عن التكسب والتجارة أثناء ولايتهم،لكن فترة حكم عثمان بن عفان التى استمرت اثنتي عشرة سنة كانت قد غيرت المجتمع الإسلامي تغييرا عميقا في ظل الرفق واللين الذي حكم به أمير المؤمنين العظيم عثمان،حتى صارت الإمارة على الولايات عملا مرتبطا بالغنى وسعة الجاه ..
راح أمير المؤمنين علي يتخير ممن حوله أمراء جددا يحلون محل أمراء عثمان بن عفان،لا يهتم في ذلك بعزل أمير قديم له جهوده وأعماله الضخمة كمعاوية بن أبي سفيان،فكل ما كان يهم علي بن أبي طالب هو أن يعيد صورة الوالي إلى سيرتها الأولى،وكأنه كان يرى أن هؤلاء الولاة هم الآفة التي أضرت بسلفه الجليل عثمان بن عفان،فألبت عليه الناس.
ولم يكن علي بن أبي طالب يمتنع عن تولية أقاربه إن رأى فيهم كفاية وقدرة،كما فعل حينما وجه عبد الله بن عباس لولاية البصرة.(1/370)
جدول الماء ولد صغير من أولاد النهر،يجري بنفس مائة،ويتلون بنفس لونه،كأنه كوب في الأرض يسعى إلى الشاربين البعيدين عن أصل النهر حتى بيوتهم .. وكأنه ينوب عن النهر الذي لا يحسن الجريان إلا في المجرى الواسع العظيم .
على مثل ذلك كان الولاة ينوبون عن الخلفاء في أقاليم الدولة الإسلامية أيام الراشدين،وتحكمهم حدود الشرع ورقابة الخليفة عليهم،ومحاسبته لهم،وكان لجماهير الناس دور كبير في عزل عدد من الولاة لاعتراضهم عليهم لدى الخليفة .
وربما كانت سلطة الوالي عامة تشمل الجانب السياسي والجانب المالي،فيجهز الجيش،ويقيم الحدود،ويؤم الناس في الصلاة،ويقسم الفيء،ويجمع الزكاة والجزية ويفرقها في أهلها،كما كان الحال لدى معاوية بن أبي سفيان في الشام.
وقد تقتصر سلطة الوالي على الجانب السياسي وحده،ويوظَّف للجانبين المالي والقضائي شخص أو اثنان آخران،كما كان الحال في مصر أيام عمر بن الخطاب.
إن الحاجة ليست أم الاختراع وحده،ولكنها أم الاقتباس أيضا،فقد كثرت في عهد عمر بن الخطاب الرسائل التى يتلقاها من البلاد والأنحاء كثرة كبيرة،وزادت الأموال التى تأتيه من الجزية والخراج والغنائم زيادة هائلة،وأصبحت الحاجة ماسة لتنظيم كل ذلك،وتنظيم عطايا الجند،فأشار عليه من له علم بترتيبات فارس والروم ونظمهم فوضع الدواوين،وهى مواضع "لحفظ ما يتعلق بحقوق السلطنة من الأعمال والأموال ومن يقوم بها من الجيوش والعمال".
أما ديوان الرسائل فكان لحفظ الرسائل والمكاتبات الرسمية التى توجهها الخلافة أو تستقبلها. وديوان الجند فيه الدفاتر والسجلات الحاوية لأسماء الجند وما يخص كلا منهم من العطاء. وديوان الخراج أو الجباية لتدوين ما يرد إلى بيت المال،وديوان العطاء لتسجيل ما يفرض لكل مسلم من العطاء.
ورتب عمر أعطيات الناس بادئا بقرابة رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ وآل بيته،ثم رتب الناس بعدهم على درجات في السبق إلى الإسلام وحسن البلاء في سبيل الله .
لقد كان عمر يرى أن درجات الناس في دينهم هي نفسها التى ينبغي أن تحدد في ضوئها درجاتهم في عطايا الدنيا،وفعل عثمان مثله،وأما أبو بكر فكان يسوي بينهم ويكل جزاءهم إلى الله تعالى في الآخرة،وفعل علي مثله..
وكان عمر يعطي كل نفس صغرت أو كبرت درهما كل يوم في رمضان،ويعطي أزواج رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ درهمين درهمين،فجاء عثمان وأقر ذلك كله،غير أنه صنع طعاما في شهر القرآن لأبناء السبيل والفقير ومن يتخلف في المسجد للعبادة.
قد تظهر وظيفة ما في زمن دون أن تأخذ اسمها الذى تعرف به إلا بعد فترة،وهذا هو شأن الشرطة في زمن الراشدين،وقد كان النبى ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ يقوم بنفسه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،وسار أبو(1/371)
بكر على ذلك،وجاء عمر فأدخل نظام العسس،وهو الطواف بالليل لحراسة الناس وكشف أهل الريبة،فكان يتجول في المدينة ليلا في صحبة عبد الرحمن بن عوف أو غيره لمعرفة حاجة المسلمين وقضاياهم،فربما وجد شيخا أعانه،أو أطفالا جلب لهم الطعام من بيت المال،أو امرأة تتحدث عن زوجها الغائب في الجهاد منذ زمن،فرتب لعودته إلى بيته كل فترة من الزمن.
إلا أن الخليفة الرابع علي بن أبي طالب هو صاحب الفضل في تنظيم أمور الشرطة،وتوظيف الناس للقيام بذلك،و سمى متولي الشرطة بـ " صاحب الليل " أو " صاحب المدينة".
منذ زمن بعيد عرف الإنسان تبادل الرسائل،وكانت تقل أهمية ذلك بطبيعة الحال في الشعوب الأمية،ومع أن رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ كان أميا من أمة أمية،إلا أن الرسائل كانت لها أهمية كبيرة لديه في حمل صوت دعوته إلى الملوك والرؤساء في الدنيا من حوله،وجاء أبو بكر فسار على نفس النهج.
إلا أن عمر بن الخطاب خطا بالبريد خطوات كبيرة إلى الأمام،فنظم حركته،وطوعه ليخدم أغراض الخليفة في دوام الاتصال بعماله وقادة جيوشه،وليخدم الرعية باستمرار اتصالهم بذويهم في جبهات القتال. وكان البريد الرسمى الذى تبعث به الخلافة غير محدد بموعد؛ لتجدد حاجة الخليفة والقادة والولاة إلى تبادل الاتصال ببعضهم البعض،وأما البريد الذى يخدم الرعية فكان له وقت يقدُم فيه ووقت ينصرف فيه.
وراعى الراشدون عنصر الزمن في تبادل الرسائل،فكان القائم على البريد يقطع مسافة معينة،ثم يتسلم البريد شخص آخر مستريح يركب دابة مستريحة لضمان السرعة في وصول البريد،خاصة في المواقف الحاسمة،وهكذا حتى يصل البريد إلى صاحبه.
واستمر حال البريد في عهد عثمان بن عفان على هذه الحال،إلا أنه استغل في مرحلة من المراحل استغلالا سيئا،حينما كُتب كتاب باسم أمير المؤمنين إلى والي مصر ليؤدب بعض الثائرين،فقبضوا على صاحب البريد،مما كان سببا في زيادة الثورة على عثمان حتى قتل مظلوما .
وفي عهد علي بن أبي طالب ضمر الدور الكبير للبريد بسبب الأزمات الداخلية التي أعقبت استشهاد أمير المؤمنين الثالث عثمان،وإن كان المؤرخون ينقلون كثيرا من الرسائل المتبادلة بين علي ومعاوية.
أحس أبو بكر بعد مبايعته مباشرة كخليفة لرسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ بأن حملا ثقيلا قد ألقى على عاتقه،وقد كان يشعر بذلك في لحظات السقيفة الصعبة،لكنه بعد أن أصبح خليفة بالفعل صار هذا الإحساس يملأ صدره.. عرف الصحابة ذلك في وجهه،فقال له أبو عبيدة: أنا أكفيك بيت المال،وقال له عمر: أنا أكفيك القضاء،فمكث عمر سنة لا يأتيه رجلان!
لقد كان القضاء من الوظائف الداخلة تحت سلطان الخلافة في عهد الراشدين،فكان الخليفة يقوم بالفصل بين الخصوم بنفسه،وربما وكل ذلك إلى بعض خاصته من كبار صحابة رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - .(1/372)
وقد مست الحاجة إلى فصل القضاء عن مهام الخلافة في عهد عمر بن الخطاب،واحتاج الأمر كذلك إلى فصل القضاء عن الولاية على الأمصار،فقفد اتسعت الدولة اتساعا كبيرا،وازدادت المسئوليات التى يحملها الخليفة والولاة،وأصبح من الضروري أن يتفرغ للفصل في الخصومات شخص بعينه،يستقل بهذه المسئولية،فجعل عمر أبا الدرداء قاضيا على المدينة،وولى شريحا قضاء البصرة،وأبا موسى الأشعري قضاء الكوفة،وقيس بن أبي العاص قضاء مصر،وكثيرا ما كان عمر يستعين بعلي بن أبي طالب في القضاء،خاصة في المسائل الغامضة،وكان يضرب به المثل في ذلك فيقول: "مسألة ولا أبا حسن لها". ومن مآثر أمير المؤمنين الفاروق أنه استقى من روح الإسلام وتشريعاته السمحة دستورا للقضاء لخصه في كتاب بعث به إلى أبي موسى الأشعري في البصرة.
وقد استمرت الأمور على هذه الصورة في عهد عثمان بن عفان،ثم جاء الخليفة الرابع علي فاشتهر بالنظر في المظالم،وهى القضايا التي لا يتبين فيها وجه الحق بيسر،ولا يريد أحد الطرفين أن يعطي الحق من نفسه،وكذلك القضايا التي يكون الولاة والمسئولون طرفا فيها،وقد سبق عمر إلى النظر في هذا النوع من القضايا. وبلغ إنصاف القضاء وعدله في أيام أمير المؤمنين علي أن حكم القاضي على الخليفة نفسه لصالح خصم له من أهل الكتاب حين لم يأت الخليفة - وهو صاحب الحق - ببينة على دعواه!
القلب الطاهر الزكي والعقل الفطن الذكي،لابد لهما من ذراع قوية تحمى وتحفظ وتُرهب وتخوّف،وقد نهض الجيش في عهد الخلفاء الراشدين بدور عظيم في حفظ هيبة الدين والدفاع عنه وتبليغ الدعوة إلى الناس..
وكان العنصر العربي هو الغالب على تكوينات الجيش حينئذ،وشارك من أسلم من الفرس والروم في بعض الحروب،كما حدث في فتح السوس وفتح تستر.
لقد كان الجيش في عهد الراشدين مجتمعا كاملا،فيه العالم والعامل،وسيد قومه وعبيدهم،ولذلك كانت هذه الجيوش نواة لسكان المدن والمعسكرات التى أمر الراشدون بتشييدها،مثل الكوفة والبصرة والفسطاط.
وتولى الخليفة بنفسه تسيير الجيوش وتوجيهها إلى الجهات،واستعان في حشد قواته بعماله وولاته على أقاليم الجزيرة العربية خاصة،كما فعل أبو بكر عند إرساله لجيوش الشام،وفعل عمر عند الإعداد للقادسية. وتولى الخليفة أيضا اختيار قادة الجيوش،وإن خضع ذلك لاستشارة أولي الرأي والفقه،وفي بعض الأحيان كان القائد العام يجرد من جيشه الكبير جيشا صغيرا يؤدي مهمة من مهمات الفتح،ويختار له قائدا دون الرجوع إلى الخليفة. وقد اشتهر في عهد الراشدين عدد كبير من أشهر قادة الحرب في التاريخ.(1/373)
وكان للجيش في ذلك العهد المبارك تكويناته وأسلحته وخططه المحكمة التي شاء الله أن تفتح بها على المسلمين الدنيا،مما ضخم من حجم الجيش وقدراته لهذه الفترة،فكان إنشاء ديوان الجند في عهد عمر ـ رضي الله عنه.
كما يقال لك: هذا ذهب،وهذا لؤلؤ،وذاك در،وذانك ياقوت أو زبرجد،يقال لك: هذا خالد بن الوليد،وهذا المثنى بن حارثة،وذاك عمرو بن العاص،وذانك سعد بن أبي وقاص .
بعض أسماء القادة الكبار الذين قادوا الجيوش في حكم الخلفاء الراشدين،وفتحوا الدنيا أمام الإسلام،رنت أسماؤهم في أذن الزمان فاستمع إليها وأنصت وسجلها لديه بين أعظم قادة الحروب في تاريخ الإنسانية.
لقد كان القائد هو المسئول الأول عن الجيش أمام الخليفة،لذا حرص الراشدون على اختيار الرجل المناسب،الذي يملك إمكانات كبيرة وقدرات عاليه في الفروسية،وعنده سعة في الحيلة،مع قاعدة من الإيمان والديانة.
واختلف أبو بكر عن عمر في أن الصدّيق كان يرى تفويت الهفوات والأخطاء غير المقصودة للقادة،أما عمر فلم يكن يرى ذلك.
وكان بعض الراشدين لا يميل إلى اختيار القائد صاحب الجراءة الكبيرة للقيادة العامة إلا في نطاق ضيق،بل ينتفع به في قيادة داخلية في الجيش،كما كان الحال مع القعقاع بن عمرو.
وقد قاد أبو بكر وعلي بن أبي طالب الحرب بنفسيهما أثناء الخلافة،وهمّ عمر بن الخطاب أن يفعل ذلك أكثر من مرة،إلا أن كبار الصحابة رأوا أن المصلحة في غير ذلك.
ومن التقاليد التي كانت راسخة في عهد الراشدين توديع أمير المؤمنين لجيشه،وإمداد القائد والجنود بالوصايا والعهود،وتذكيرهم بالآداب التى يلتزمها المسلم في ميادين القتال.
لم تكن الحرب في جيوش الراشدين ارتجالا،ولا كانت الجيوش جموعا محتشدة لا يجمع خرزاتها عقد،بل كان للجيش نظامه المعتاد في هذا الزمن،والمعروف لدى العديد من الأمم،فتكوّن من المقدمة والقلب والميمنة والميسرة والساقة ـ أو المؤخرة ـ والمقدمة هى أهم أجزاء هذا الجيش وأقواها،وكان يختار لها أحد القادة الموهوبين،ويعد هو القائد الثاني للجيش،ومن أشهرهم القعقاع بن عمرو،والمثنى بن حارثة في حروب خالد بن الوليد في العراق.
وجاءت الميمنة والميسرة أو المجنبتان في الدرجة التالية من الأهمية في جيش الراشدين،وكان يختار لكل واحدة منهما قائد مميز،وتواجه ميمنة المسلمين ميسرة العدو،بينما تلاقي ميسرتهم ميمنة العدو أثناء القتال .(1/374)
والمهمة التى توكل إلى قلب الجيش هى توجيه القوات؛ إذ كانت تضم القائد الذى بدا في كثير من الأحيان حر الحركة. ودعم المقدمة مهمة أخرى من مهمات القلب. كما كان دعم المجنبتين وحماية ظهر الجيش هى المهمة المنوطة بالساقة.
وقد يقسم الجيش داخليا إلى كراديس أو كتائب،كما جرى في معركة اليرموك،ويضم الكردوس الواحد بضع مئات من الجنود عليهم قائد خاص.
وكانت للجيش مكونات فرعية أخرى مثل: طليعة الجند التي تضم عددا صغيرا من الجنود يتقدمون الجيش لمعرفة أخبار العدو،وجريدة الخيل التى هى مجموعة مختارة من الفرسان يجردها القائد من جيشه للقيام بمهمة صعبة.
وقد ضمت جيوش الراشدين عنصري الفرسان والمشاة،واستخدمت الإبل في الحرب في مواقف غير قليلة كما جرى في قتال عبس وذبيان أيام الردة. ومع أن الفرسان مثلوا القوة الضاربة في هذه الجيوش إلا أن المشاة قاموا في المعارك التى شاركت فيها الفيلة ـ مثل القادسية والجسر ـ بما عجز عنه الفرسان.
وكان المدد وسيلة رئيسية لتدعيم الجيوش وتقويتها،إذ تجتمع القوات في أغلب الأحيان لدى الخليفة في المدينة،ثم يوجهها إلى جبهة القتال. وقد يتحرك المدد من جبهة إلى أخرى تبعا للتوازنات القائمة،كما جرى عندما حاول الروم استرداد حمص سنة سبع عشرة من الهجرة .
ولم تكن قوات الجيوش في عهد الراشدين قاصرة على القوات البرية،بل كانت هناك قوات بحرية،فالعلاء بن الحضرمي حينما غزا فارس من البحر،كان أول مستعمل لقوات بحرية إسلامية،ثم كان إنشاء الأسطول في عهد عثمان بن عفان تثبيتا لقدرات المسلمين في البحر.
علم النبى ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ أمته من بعده أن الحرب ليست غارة همجية،ولكنها قدم ثابتة تتحرك بخطة واعية نحو هدف واضح،ووعى الراشدون ذلك فطبقوه وطبقة قادة جيوشهم.
كانت الخطة المبدأية للحرب من اختصاصات الخليفة،وأما الخطة العملية التى يفرضها واقع الجبهة،فكانت تختلف من قائد إلى قائد،فخالد بن الوليد والمثنى بن حارثة وعمرو بن العاص وأمثالهم حددوا هذه الخطة بأنفسهم،وسعد بن أبي وقاص،وأبو عبيدة وأمثالهما،اعتمدوا على الرجوع إلى رأي الخليفة بعد تقديم وصف تفصيلي لبيئة المواجهة وقوات العدو.
ولم تقم أي خطة للحرب في عهد الراشدين على التضحية بالجنود في مقابل تحقيق هدف معين،بل كانت المحافظة على الجندى لدى الخلفاء والقادة أهم من الفتح والغنائم .
وأهم القواعد العامة التى طبقتها الجيوش الإسلامة في معاركها أيام الراشدين:
ـ ضمان سهولة الاتصال بعاصمة الدولة،ليسهل تقديم المدد عند الحاجة إليه.(1/375)
ـ وعدم إعطاء العدو الفرصة ليحدد هو موقع المعركة،ليضمن المسلمون وراءهم مساحة للتراجع عند الحاجة.
ـ والاستفادة من العامل القبلي في خدمة الدين بتحميل كل قبيلة المسئولية عن شيء.
ـ والاعتماد على الصفوة المقاتلة من الجنود كالمهاجرين والأنصار والكتيبة الخرساء بقيادة القعقاع بن عمرو وكتيبة الأهوال بقيادة عاصم بن عمرو التميمي.
ـ والتركيز على مراكز القوة في جيش العدو للقضاء عليها.
ـ واعتماد عنصر المفاجأة الذى لا يعطي العدو فرصة للتفكير.
وقد واجه المسلمون في عهد الراشدين تكتيكات مختلفة للحرب لدى أعدائهم،فاستخدموا بعضها،كحفر الخنادق،والتحصن في داخل المدن عند الحصار،ولم يستخدموا البعض الآخر،كحرب الفيلة وربط الجنود بالسلاسل.
وأما المبارزة فقد استخدمت بصورة واسعة في حروب الراشدين،وكانت عنصرا مهما: إما لبدء القتال،أو لحسمه حين تكون المبارزة بين القادة.
رأى الفرس والروم وغيرهم جنود المسلمين،فرأوا تواضعا في الثياب وعزة في القلوب،ورأوا ضعفا في السلاح والعتاد وقوة في العزيمة والهمة،ورأوا خشونة في الطعام والشراب ورقة وسماحة في الخلق والعمل .
كان السيف والقوس والرمح هى الأسلحة الأساسية التى قاتلت بها الجيوش الإسلامية أيام الراشدين،وزادت عليها عند الحاجة المجانيق والعرادات التى تقذف بالحجارة والدبابات التى تستعمل في نقب الحصون،وفي غالب أحوالها كانت هذه الأسلحة ممتلكات شخصية للجنود اشتروها أو غنموها،وإن كانت الخلافة تشارك أحيانا في تجهيز المقاتلين الذين لا يملكون أدوات القتال .
وأما ملابس الجيش الإسلامي في عهد الراشدين،فهي ملابس العربي المعتادة،توضع عليها بعض أدوات الحماية من الدروع واللأمات،وكان المقاتلون الفرس المسلمون يحاربون بملابسهم القومية.
وأما الطعام،فقد كان اعتماد الجيش الأساسي على التموينات الخاصة به،واهتم القواد باختيار المكان المناسب للجيش حيث يتوافر له التموين بالطعام والشراب،وربما اعتمدوا على الإغارة على المواضع الخصيبة والغنية بالثروات لتوفير طعامهم. وفي أحيان عديدة كان الطعام أحد ألوان الغنائم التى يحرزها المقاتلون المسلمون بعد المعركة،أو في أثنائها،كما حدث في معركة أليس.
مع ازدياد نشاط الفتوح في عهد الراشدين أقبلت الدنيا بذهبها وفضتها وكنوز كسرى وقيصر،ورمت بنفسها بين يدى الخلفاء،وأصبحت موارد الدولة المالية غير مقصورة على الزكاة التي يدفعها المسلمون والجزية القليلة التى يدفعها أهل الكتاب على أطراف الجزيرة،وإنما تدفقت الأموال على عاصمة الخلافة(1/376)
تدفقا،حتى قال عمر بن الخطاب للناس: "أيها الناس،قد جاءنا مال كثير،فإن شئتم كلنا لكم كيلا،وإن شئتم عددنا لكم عدا " !!
فإضافة إلى الزكاة التى كانت فريضة على المسلمين قاتل أبو بكر كثيرا من القبائل على منعها - اتسعت دائرة أهل الذمة الذين دخلوا تحت حكم المسلمين وعهدهم،فلزمتهم الجزية،كما كانت غنائم الحروب بابا عظيما لموارد الدولة المالية في عهد الراشدين،ومثلها خراج الأرض،والعشور التي تؤخذ من التجار الأجانب،وكل ذلك يصب في بيت المال الذى مثل الخزانة العامة للدولة.
لقد كان بحرا انفتح على المسلمين من كل أصناف المال،ولم يقف وراء ذلك ظلم ولا نهب ولا سرقة ولا تخريب،بل إن منهج الراشدين في ذلك هو الميل إلى الرفق بالناس،وإن كانوا من أهل الكتاب. وقد زين الخلفاءَ الأربعة خوف من هذه الأمانات التي وضعت بين أيديهم،فابتدأ عمر بن الخطاب وضع الدواوين التي تنظم توزيع هذه الأموال على المسلمين.
رزق الله تعالى مائدة بسطها لخلقه،فمنهم من نال قليلا،ومنهم من نال كثيرا وفيرا،والكل خلق الله وعياله الذين يعولهم ويرزقهم .. ومن الأنانية وحب النفس البغيض أن يحتضن صاحب الرزق رزقه في صدره،ويغلق عليه خزائنه،ويبخل أن يمنح خلق الله شيئا من رزق الله الذي لديه،فأمر الله كل جالس على مائدة رزقه عنده فضل وزيادة أن يمنح منه المحتاج من الخلق.
ولو شاء الله لأغنى خلقه جميعا بعضهم عن بعض،ولكنه جعل الزكاة والصدقة بابا لتقوية التفاعل الاجتماعي لدى المؤمنين،وتعزيز الصبغة الاجتماعية لدى الإنسان المسلم،بما في ذلك من تطهير صاحب المال من أمراض البخل والحرص والعيش من أجل حراسة المال،ودفعه إلى استثمار ماله وتنميته في وجوه التجارة المختلفة،وتطهير نفس الفقير والمحتاج من حسد الناس على ما آتاهم الله من فضله،ومن الطمع فيما في أيدي الخلق.
لقد أدرك أبو بكر الصديق منزلة الزكاة من الدين،وأهميتها للفقراء وخزانة الدولة،فقاتل مانعي الزكاة كما قاتل المرتدين،وجاء عمر بن الخطاب فكثرت ثروات الناس وازدادت معها الزكاة،وفي عهد عثمان بن عفان عم الثراء حتى اغتنى كبار الصحابة وجمعوا ثروات ضخمة من التجارة والغنائم،وظل المسلمون في هذا العهد وفي عهد علي بن أبي طالب حريصين على أن يطهروا أموالهم،ويدفعوا زكاتها.
ليست ضريبة تستذل بها رقاب الناس،وليست غرامة تؤكل بها أموالهم،وإنما هي حق المال الذي أوجبه الله المنعم،وجعله فريضة ماضية إلى يوم القيامة - هكذا أدرك أبو بكر معنى الزكاة،ورفض أن يهادن مانعيها،وقاتلهم كما قاتل المرتدين ..
ولم يكن أبو بكر حينما وقف وقفته الصلبة في وجه مانعي الزكاة،لم يكن يدافع عن الزكاة وحدها،بل كان يدافع عن الدين كله،فلو ترك الناس اليوم يجترئون على فريضة من فرائض(1/377)
الإسلام،وينتقصون منه شيئا،فسيأتون غدا وينتقصون شيئا آخر،وهكذا حتى يخلو الدين من مضمونه ومعناه .
وقف أبو بكر في هذه المحنة أسدا يزأر في وجه الفتنة حتى أدخلها إلى ضلوع أصحابها،ودفنت هناك معهم،فوقى الله الدين شرورا كثيرة بثبات هذا الرجل وقوة يقينه.
وراح أبو بكر يقبض الزكاة من أصحابها نقودا وإبلا وبقرا وغنما ويوزعها في وجوهها،و إذا جاءه من يقبض منه عطاء الدولة وعليه زكاة أنقص من هذا العطاء بقدر الزكاة.
وحرص كل الحرص على صون مال الزكاة وتنميته،فكان يرسل إبل الصدقة إذا كانت نحيفة ضعيفة إلى الربذة لكى ترعى.
ومن هذه الأموال أطعم الفقراء،وكسا المساكين،وقبض جامعو الزكاة رواتبهم،وتألف أبو بكر قلوب بعض الناس،ومنح بعض الأشراف،وأنفقها في سبيل الله،وجهز منها بعض المقاتلين الذين حارب بهم المرتدين والفرس والروم.
مع قوة عمر في الحق،فإنه رأى مهادنة مانعي الزكاة خيرا من قتالهم،ليتفرغ أبو بكر والمسلمون لحرب المرتدين ومدعي النبوة،فلما رأى عمر ثبات أبي بكر ورفضه التام للمناورة أو المهادنة مع من منع الزكاة وبخل على عباد الله بها - انشرح صدر الفاروق لرأي أبي بكر،ووقف قريبا منه يقاتل معه بسيفه من منع الزكاة،حتى خضعوا جميعا،وجاءوا إلى المدينة صاغرين يؤدون حق الله في أموالهم ..
وقد ورث عمر الخلافة من أبي بكر،وبايعه المسلمون بعده،فكانت قضية الزكاة ووجوبها من الأمور الثابتة،فكان أمير المؤمنين يرسل عماله إلى التجار وإلى البلاد لقبض الزكاة منهم،فإذا اشتد أحد في جمع الصدقات لامه عمر،وأمره بالتخفيف على الناس والرفق بهم. وكان لا يأخذ من العبيد زكاة،ولا يأخذ الصدقة على الخيول والرقيق،إلا إذا تطوع بها أصحابها،وأخذها من أموال اليتامى،وأمر ولي اليتيم بالتجارة في مال اليتيم حتى لا تأكله الزكاة،وفعل هو ذلك.
وكان مبدأ أمير المؤمنين أن تفرق الزكاة على أهل البلد الذين أخرجوها،إلا إذا دعت الضرورة إلى نقلها من بلد إلى بلد،مثل ألا يوجد من يأخذها في بلد المزكين.
لقد كانت زكاة أموال المسلمين أحد موارد الدولة المالية في عهد عمر بن الخطاب،إلا أن الغنائم الهائلة التى أقبلت من الفتوح كانت أكثر منها بكثير،وضمنت هذه الغنائم نفسها تنشيط أعمال الزكاة،للثراء الذي حققه الكثير من المسلمين من ورائها.
لقد كان أمير المؤمنين عثمان أوسع الخلفاء الراشدين ثراء،وأكثرهم مالا،وهو ذو خبرة عملية بأمر الزكاة،ولابد أنه رأى بنفسه بركة أداء هذه الفريضة العظيمة،ولحظ أنها لا تنقص المال شيئا،بل تبارك فيما بقي،ويفتح الله بها على عبده أبواب رزق كانت من قبل مغلقة.. لذلك راح عثمان يدفع لعمر الزكاة عن شيء لا تجب فيه الزكاة،وهي الخيل.(1/378)
ولما تولى عثمان الخلافة لم يأمر الناس بزكاة الخيل ولم ينههم عنها،وزاد في الرفق بالناس حين رأى الأموال قد كثرت،وأن في تتبعها إضرارا بأصحابها،ففوض إلى كل صاحب مال أن يؤدي زكاته بنفسه.
وبذلك تحولت الزكاة إلى عمل تقوم به الرعية بينها وبين نفسها،ولم يعد عملا منظما ترعاه الدولة،فتأخذ الزكاة من أهلها وتوزعها في أهلها،وذلك لا يعني أن الدولة في عهد عثمان بن عفان فقدت أحد مواردها المالية المهمة،ولكن الذي حدث حقيقة هو أن المجتمع حمل مع الدولة عبئا من أعبائها وواحدة من مسئولياتها،حيث صار صاحب كل مال وكيلا لأمير المؤمنين على زكاة هذا المال.
وفي عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب اشترك الراعي والرعية في القيام على أمر الزكاة،فأمر علي ولاته بجمعها والرفق بالناس،وتجنب ظلمهم،وحض أصحاب الأموال على تزكية أموالهم،وألا يحرموا الفقراء حقوقهم .
لو أراد الإسلام أن يخرج أهل الكتاب من كل بلد يدخلها لفعل،ولو شاء أن يحولهم إلى جزر معزولة يحرم على المسلمين التعامل معهم لفعل،ولكن هذا الدين السمح فتح قنوات التعامل مع هؤلاء،وجعل إحسان معاملتهم أمرا واجبا،فأجاز الزواج من نسائهم،وأكل طعامهم،وإطعامهم مما نأكل،والتصدق على فقرائهم،والشراء منهم،والبيع لهم،بل زاد على ذلك فأشركهم في خدمة الوطن الذي يعيشون على ترابه،ففرض على القادرين منهم ضريبة من المال تسمى بالجزية،تسقط عنهم إذا عجزوا عن دفعها بسبب الفقر،و إذا أسلموا،ولا يؤديها سوى الذكور البالغين العاقلين القادرين عليها. وفوق ذلك تسقط الجزية عن أهل الذمة إذا عجز المسلمون عن حمايتهم،وهذا ما دعا أبا عبيدة بن الجراح أن يعيد الجزية إلى أهل حمص حين أحس بعجز المسلمين عن حمايتهم من الروم..
لقد كانت الجزية بابا رائعا من أبواب التعامل مع أهل الكتاب وأشباههم من المجوس،ليروا سماحة الإسلام حينما يتحرك الناس بأوامره ويعملون بشرائعة،فكان الرفق هو الذي يحكم الراشدين في تحصيل الجزية من أهل الكتاب. ولا شك أن هذا باب جليل من الأبواب التى دخل منها أهل الكتاب في دين الله أفواجا،إذ رأوا الفاتحين المنتصرين الأقوياء أرق ما يكونون معهم في جمع الجزية والخراج،وإذا استعمل أحد المسلمين شريعة القسوة والعنف،رده أميره إلى شريعة السماحة والرفق.
والجزية واحدة من الخيارات الثلاثة التى حملها الفاتحون إلى من وقف في طريقهم وهم ينشرون أشعة الدين في أرجاء الأرض.
إن الحرب تسير بغير مبادئ،وتقبل استعمال جميع الأساليب القذرة من أجل الانتصار،هذا لدى غير المسلمين،أما أهل الدين الحنيف فإن المبادئ عندهم لا تنفك عن أي نشاط يقوم به الإنسان.. والأخلاق لديهم قاعدة قائمة على العقيدة السليمة،تبنى عليها أعمالهم.(1/379)
وعلى تلك الأسس خرجت جيوش الإسلام،وساحت في كثير من الأنحاء المعمورة من الأرض،فكانت الجيوش قبل أن تقاتل تعرض على الخصم أن يُسْلم فيصير مع المسلمين إخوة أصحاب دين واحد،وإن لم يقبل العدو ذلك فالجزية فرض عليه،تعلن خضوعه للمسلمين ودخوله تحت سلطانهم،ويبقى في مأمن من المسلمين أنفسهم ومن أى عدو آخر يريدهم بسوء،وإن لم يقبلوا ذلك أيضا فالثالثة،وهي الحرب ..
فعل المسلمون ذلك في كثير من المعارك،كاليرموك والقادسية. وفي معارك المدن والحصارات المضروبة عليها كان العدو أحيانا يبادر إلى طلب الصلح مقابل جزية معينة على عموم أهل البلد،كما حدث في فتح طبرية وفتح حلب،وأما إذا فتح المسلمون البلد بالقهر والقوة فإنهم يفرضون على المهزوم جزية أعلى من جزية المصالحين بلا حرب أو مساوية لها،حسب أهمية المدينة،كما حدث في فتح دمشق. وإذا نقض أهل الصلح عهدهم،وغلبهم المسلمون ثانية زادوا عليهم الجزية أو صالحوهم على نفس الجزية،كما حدث في فتح أنطاكية.
وقد كان المسلمون يسقطون الجزية أحيانا عن بعض البلاد مقابل دور ما يقومون به في خدمة المسلمين،كما حدث في فتح الجرجومة،التي قام أهلها على الحدود بين المسلمين والروم،يخبرونهم بتحركات الروم،ويحرسون الثغر من جهتهم.
سيرة الأمم الكبرى في التاريخ سيرة تسلط من القويّ على الضعيف،يهين كرامته،ويذل بشريته،ويأكل ماله،ويستولي على أرضه،كذا فعل الفرس،وكذا فعل الروم،وكذا فعل ويفعل غيرهم في طول التاريخ وعرضه..
أما المسلمون في أزمان الرشد،وأوقات العمل بدينهم فلا ترى في حقيبتهم إلا الخير يحملونه للناس من حولهم،وإن خالفوهم في العقيدة،بل إنهم يحملون الخير للحيوان الأعجم،إذ يحرم الإسلام إيذاءه بغير حاجة.
والجزية علامة مميزة على رفق الخلفاء الراشدين ورقتهم،فلم يرهقوا أهل الذمة بما يعجزون عنه،مع أن الشرع قد فوضهم في تحديد قيمة هذه الجزية،ففرضوا على الغني ثمانية وأربعين درهما في العام،وعلى المتوسط أربعة وعشرين،وعلى الفقير اثني عشر درهما،فإن عجز عوفي منها وسقطت عنه.
وكان الخليفة الراشد يوصي جامعي الجزية بالرفق في جمعها،وأن يأخذوا من أهل الذمة ما تيسر لهم دفعه من الأشياء بما يساوي قيمة الجزية،فأهل العراق مشهورون بالفضة فدفعوا جزيتهم فضة،بينما أداها أهل مصر والشام ذهبا لشهرة بلادهم بعملات الذهب. بل كان من الخلفاء الراشدين من لا يشترط أن تؤدى الجزية نقودا،ويأخذ من بائع القمح قمحا،ومن بائع الحبال حبالا.
خاض المسلمون في فتح الشام ومصر والعراق وفي جزيرة العرب وإفريقية عشرات المعارك،وانتصروا في الغالبية العظمى منها،وكان النصر يعني دائما الحصول على غنائم ضخمة،خاصة في المعارك الكبيرة(1/380)
كالقادسية،وفتوح المدن المهمة كدمشق والمدائن وحمص والإسكندرية. وقد كان عهد عمر بن الخطاب هو الأكثر غنيمة بين عهود الراشدين،لكثرة المعارك التى خاضها المسلمون في ولايته،وكثرة الفتوح التي فتحت في زمنه.
وحرص الراشدون جميعا على موافقة الشرع في التعامل مع الغنائم،فجعلوا أربعة أخماسها من نصيب المحاربين الذين خاضوا المعركة،فيحصل الفارس على سهمين أو ثلاثة أسهم،بينما يحصل المقاتل من المشاة على سهم واحد،والخمس الباقي من الغنائم أنفقه الراشدون على اليتامى والمساكين وأبناء السبيل،واشتروا منه لجيوشهم خيولا وأسلحة يشاركون بها في القتال.
وقد قسم عمر بن الخطاب كل ما غنمه المسلمون من المال والسبايا والسلاح،وأبى أن يقسم الأرض،وفرض على أهلها الخراج فحسب.
إن عبقرية سن القوانين التي تتفق وروح الشريعة،وتواكب ما يجدّ من الحوادث،أمر مشهود لدى الخلفاء الراشدين،خاصة عمر بن الخطاب الذي فُتحت بلاد الدنيا في عهده،وأصبحت تحت يد المسلمين وسيطرتهم مساحات شاسعة واسعة من الأرض المزروعة،فراح الصحابة يلحون على عمر أن يقسم هذه الأرض على المقاتلين،لكن نظر أمير المؤمنين الثاقب أبى عليه أن يفعل ذلك،فلو قسم الأرض لحرم الأجيال التالية من المسلمين من أحد موارد الدولة المالية الكبرى،ولانشغل الجنود بزراعة الأرض عن الجهاد،وهم لا خبرة لهم بالزرع ولا الحصاد،ولأصبح أصحاب الأرض عبئا اجتماعيا هائلا على المسلمين ..
لقد رفض عمر أن يقسم هذه الأرض مع أنها أُخذت بالقوة والمغالبة،ورأى أن يفرض عليها ضريبة أسماها "الخراج"،ينتفع بها الفاتحون والأجيال التى ستجيء من بعدهم،فبقيت الأرض في أيدى أصحابها،يزرعونها ويحصدونها،ويتملكون محاصيلها،وليس عليهم إلا أن يؤدوا قدرا ضئيلا من إنتاجها أو ما يساويه من المال إلى الدولة التي تحكمهم.
والتزم الراشدون جانب الرفق في جمع خراج الأرض،ولم يحولوا هذ الأمر إلى استعباد للخلق،ومنعوا الجباة من أن يحمّلوا الأرض ما لا تطيق من الإنتاج،واختاروا لجمع الخراج من ظنوا فيه الاستقامة ومتانة الدين،ومع ذلك كان الخليفة يراجعهم ويحلفهم ويشهد عليهم كي لا يظلموا الناس،ولم يفرض الخراج إلا على الأرض المنتجة.
اختلطت الشعوب في عهد أمير المؤمنين عمر بالمسلمين،ودخل التجار من أمم مختلفة وملل متعددة إلى بلاد المسلمين،فكان هذا نوعا من التجارة الدولية التي لها قواعدها المميزة لها عن المبادلات التجارية بين أبناء الوطن الواحد. واطلع عمر على بعض هذه القواعد،وأن المسلمين إذا دخلوا أرض غيرهم تجارا أُخذ منهم عشر ما معهم،فأمر عمر بن الخطاب بمثل ذلك مع من يأتي من تجار أرض(1/381)
الحرب،فيؤخذ منهم العشر،ومن تجار أهل الذمة نصف العشر،ومن تجار المسلمين ربع العشر زكاة على مالهم إن بلغ النصاب..
ومن وجوه الرفق في هذا العمل أن الراشدين كانوا لا يأخذون العشور إلا مرة واحدة في العام،فمن دخل بلاد المسلمين من تجار البلاد أخذ منه العشر،فإذا دخلها مرة أو مرات أخرى في نفس العام فلا يؤخذ منه شيء.
كما كان الخلفاء ينهون من يتولى جباية العشور عن تفتيش التجار،فيكتفي بأخذ العشر من المال الظاهر وحده.
إنه مؤسسة اقتصادية أحوجت إليها الحال،فالمال يأتي إلى الخليفة ولا يدري أين يضعه،فاتخذ أبو بكر بيتا للمال حيث يسكن،ووضع عليه قفلا ليؤمنه. ولم يكن المال يمكث هنالك طويلا،بل كان يذهب إلى مستحقيه أولا بأول ..
وكانت المنابع التى يأتى منها المال إلى بيت مال المسلمين هي الزكاة،وخمس الغنائم،وخراج الأرض،وجزية المعاهدين. وجرى العمل لدى الراشدين على التمييز بين الزكاة وبين غيرها،إذ توضع وحدها لتنفق في مصارفها.
وكان عمر بن الخطاب هو أول من جعل لبيت المال مكانا مستقلا عن بيته الذي يعيش فيه،وسار عثمان وعلي على هذه الطريقة،فكان هذا البيت هو الذي ينفق منه على ذوي الحاجة من الفقراء والمساكين،والموظفين الذين يجمعون الزكاة والخراج وغيرهما،والإعانة في إعتاق الرقاب،وإعانة المدينين،والإنفاق في سبيل الله،ومعاونة ابن السبيل،وإعطاء قرابة رسول الله الذين حرمت عليهم الزكاة،ودفع دية القتيل الذي لم يثبت على أحد قتله،ونفقة من لا منفق عليه،ونفقة اللقيط والسجين.
- - - - - - - - - - - - - -(1/382)
المبحث السادس
حياة الناس في عهد الخلفاء الراشدين
نحن أمام تجربة بشرية ضخمة.. بإزاء مجتمع مترامي الأطراف،لم يتجمد في مواقعه الأولى،بل تحرك داخل إطار زمني ضيق في مساحة من الأرض واسعة جدا،فصال وجال في ميادين ومجالات عدة،وكانت الصورة مبهرةً ساطعة الضوء،وإن بدت فيها ظلال سوداء في بعض الأحيان،ومن بعض طوائف المجتمع،كشأن أي مجتمع بشري..
لقد كانت الحركة العلمية في عصر الراشدين قويةً جدًا،برغم قيامها على النقل الشفوي أساسًا،وشارك فيها الرجل والمرأة والطفل. كذلك شاركت المرأة الرجل في الحياة الأدبية لهذا العصر،والتي اتجه كثير من نشاطها الشعري والخطابي أساسًا إلى الحديث عن الحروب والفتوح.
وجرب المجتمع المسلم منذ هذا الزمن الأول التعامل مع غير المسلمين،فقدم صورة طيبة لرعاية الحقوق وحفظ الذمة.
وراعى الخلفاء الراشدون أن يصاحب الامتداد الجغرافي للمجتمع امتدادٌ آخر عمراني،كان كثير منه متعلقًا ببناء المساجد وعمارتها،واختُص بعضه بعمارة الأسواق التي كانت تمثل الجانب الأبرز في حياة الناس الاقتصادية لهذا العصر.
ولم تكن الأحوال العامة والحياة اليومية لمجتمع الراشدين تستبعد الرقيق أو تحذفهم من صفحتها،بل كانوا مكونًا رئيسًا في مجتمع هذا العصر،ونالوا الفرصة كاملة للنبوغ والتفوق بالعلم وحسن السيرة.
مات النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ يوم مات ولم يكن مكتوبا من العلم سوى القرآن وبعض السنة،لكنه ترك خلفه عشرات الآلاف من أصحابه يحفظون كل صغيرة وكبيرة لها صلة بالإسلام،كما زرع في أصحابه حب العلم والتعليم وإعمال العقل في فهم الدين والكون...
ويوم تولى أبو بكر الخلافة كانت الصدور وذاكرة المجتمع تتحرك حاملة هذا الميراث النبوي الغزير،وكان لابد من إدارة هذا الميراث الهائل في الناحية التي تضمن صيانته وحفظه،حتى تتسلمه الأجيال المتتالية صحيحا سالما من التحريف والزيف،فكان من أعظم إنجازات عصر الراشدين جمعُ القرآن مدونًا في مصحف واحد،كما حرص الراشدون وعلماء عصرهم على الدقة في تعليم سنة رسول الله وتلقيها.. لقد عاش في هذه الفترة أعلم الناس بدين الله وكتابه،وجاء الراشدون الأربعة أنفسهم على رأس هذه القائمة من العلماء،وكان للعالم في هذه الفترة الدور البارز في خدمة دينه ومجتمعه.(1/383)
وإن يكن المسجد والمنبر مكان التعليم الأول،فإن كل موضع في الحياة قد صلح أن يكون موضعا لتلقي العلم حينئذ،إذ كان العلم يدور بالأساس حول الدين،فكانت مواقف الحياة تثير العلم الذي في صدور الصحابة وغيرهم ليذكروا رأي الدين في هذه المواقف.
وإذا كان الإسلام قد تسلم المجتمع العربي أميا منذ جاهليته،فقد ارتفعت نسبة القادرين على القراءة والكتابة في فترة الراشدين وأعد الإسلام أصحابه لتلقي النافع من العلم الدنيوي والرقيِّ به،وظهر شكل جديد من أشكال تلقي العلم وهو الرحلة إلى العالم لأخذ العلم عنه.إنه واحد من أكبر الإنجازات التي تمت في عهد الخلفاء الراشدين،فالقرآن - رسالة الله الخاتمة إلى خلقه - لم يُجمَعْ في كتاب واحد في حياة رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ إذ كان متوقَّعا أن يتجدد الوحي،وينزل من القرآن جديدٌ،فلما توفى رسول الله أصبح القرآن تاما لا يُنْتَظَرُ أن يزيد عليه شيء،أو يُنْسَخَ منه شيء.
لقد كان القرآن محفوظا ـ كله أو شيء منه ـ في صدر كل واحد من الصحابة،وكان أيضا مكتوبا كله على رقاع من الجلد وصفائح من الحجارة وقطعٍ عراض من الخشب والعظام،وعُرض ما فيها على رسول الله فأقره،وكان البعض يَكتب الوحي بأمر الرسول له،والبعض الآخر يكتبه لنفسه بغير أمر.
وقبل انتهاء العام الذي توفي فيه رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ اشتد قتال الصحابة للمرتدين،وخاصة في معركة اليمامة التي استُشهد فيها سبعون من حفاظ القرآن،فقلق عمر ابن الخطاب لهذا الأمر،وراح يشير على أبي بكر بجمع كتاب الله تعالى،فاليمامة قد أكلت اليوم سبعين من قراء القرآن،فما يؤّمِّنُنا أن تأكل الحروب غدا غيرهم؟ وأبو بكر يستمع إلى عمر،ولا يرتاح إلى قوله،إذ كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ؟ فراح عمر وقد سكنت نفسه إلى أن هذا الأمر فيه خير كثير - راح يقنع أبا بكر به حتى انشرح صدره لهذا الأمر،واقتنع بالفكرة،ثم راح الخليفة يفكر في الرجل الذي يولِّيه هذه المهمة الجليلة ويكلفه بها،فلم يجد أنسب لها من زيد بن ثابت؛ فهو شاب نشط،وممن كتبوا الوحي لرسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ وقد شهد العرضة الأخيرة للقرآن على رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ وحمل زيد المهمة الجليلة التي كلفه بها الخليفة،وراح ينفذها في دقة وإحكام.
نفر زيد بن ثابت من الاقتراح الذي ألقاه عليه أبو بكر بجمع القرآن نفورا شديدا،إذ كان شيئا لم يفعله رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ فأخذ الخليفة يُسَكِّنُ نفس العالم الشاب،ويطمئنه إلى الخير الكثير في هذا الأمر،حتى اقتنع زيد وانشرح صدره،وكم أحس زيد بثقل المسئولية،حتى ظهر نقلُ جبلٍ حجرًا حجرًا أهونَ عنده من جمع القرآن،لكن بقدر هذه المشقة سيكون الجزاء عند الله.
وبهمة عالية يحركها إيمان عميق راح زيد بن ثابت يُعِدُّ أدواته من الصحف والأقلام،ويعرف قَدْرَ المكثرين من حفظ كتاب الله تعالى،والذين تولَّوا كتابة الوحي لرسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ فجمع كتاب(1/384)
الله - تعالى - معتمدا على الحفظ والكتابة معا،فلم يكن يكتب آية إلا إذا وجد عددا كبيرا من الصحابة يحفظونها،ووجد اثنين منهم على الأقل يشهدان بأنها كُتبت على عهد رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - .
كان الزمن الذي مر على وفاة رسول الله حينها قليلا قليلا،فهي أشهر معدودة،فكان القرآن غضا طريا على ألسنة الصحابة وفي صدورهم،ومكتوبا بوضوح وبيان على الأوراق والجلود والأحجار وغيرها،فسال الخير والبركة،حتى اكتمل جمع القرآن في كتاب واحد سماه أبو بكر بـ " المصحف " ورآه الخليفة وكبار الرجال من حوله،وشهدوا بدقته وضبطه،وظل المصحف لدى أبي بكر،حتى انتقل من بعده إلى عمر في خلافته،ثم إلى ابنته حفصة من بعد،حتى أمر عثمان بنسخ المصاحف التي أرسل بها إلى الأمصار اعتمادا على ما جمعه زيد بن ثابت،فكان من أعظم أعمال الخليفة الراشد الثالث ـ رضي الله عنه.
مرة أخرى يُسْتَدْعَى زيد بن ثابت لأمر يخص القرآن وجَمْعَه،ولكن معه هذه المرة عبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام،استدعاهم أمير المؤمنين عثمان وأمرهم أن يكتبوا من المصحف الذي جمع في خلافة أبي بكر عدة نسخ،فلماذا ؟
لقد ارتفعت أصوات الصحابة الكبار بالشكوى،وجاء حذيفة بن اليمان إلى أمير المؤمنين عثمان فزعا من أن الناس قد اختلفوا في كتاب الله - تعالى،إذ غزا المسلمون أرمينية وأذربيجان،فالتقى الكوفيون والبصريون والشاميون،فوجد كل فريق لدى الآخر طرقا لا يعلمها من قراءة القرآن،فأنكر كلٌّ على الآخر ما لديه،وكاد الشر ينشب بينهم،فطار حذيفة بن اليمان إلى وليّ أمر الأمة عثمان،ورجاه أن ينقذ الأمة من الخلاف ويجمعها على نسخة واحدة من القرآن،فاستدعى الخليفة زيد بن ثابت وأصحابه،وأمرهم بكتابة عدة نسخ من المصحف الذي جمعه زيد أيام أبي بكر،وراح زيد ومن معه ينجزون المهمة الجديدة في جد وإخلاص ودقة وإحكام حتى انتهوا منها،ونظر الخليفة عثمان ـ وهو ممن كتب الوحي لرسول الله ـ فيما أنجزوه،فأعجبه،وأثنى عليهم خيرا،وجعل من هذه المصاحف واحدا لأهل المدينة،ومصحفا لأهل مكة،ومصحفا لأهل البصرة،ومصفحا لأهل الكوفة،ومصحفا لأهل الشام،وواحدا لأهل اليمن،وآخر لأهل البحرين،وظل مصحف عثمان هو الأصل المعتمد عليه،فنسخ الناس منه وكتبوا عنه،واختفى كل ما يخالفه،ويسير على غير طريقته.
كان الخلفاء الراشدون الأربعة ألصقَ الناس برسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ وكانوا من المصدِّقين الأولين بالإسلام وشريعته،وما من أحد منهم إلا وقد تزوج رسول الله ابنته أو زوجه من بناته،وما من أحد منهم إلا شهد له رسول الله بالإيمان وبشره بالجنة،ولا يخلو واحد منهم من موهبة بارزة جعلت رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ يقربه ويولّيه مهماتٍ حساسةً في الدولة الإسلامية الوليدة.
لقد كان القرب من رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ورجاحة العقل عاملَيْن مؤثرَيْن في علم الراشدين بكتاب الله تعالى،فكانوا جميعا يحفظون القرآن كله،وكان الخليفة يصعد المنبر فيضمن خطبته آيات من(1/385)
القرآن،أو يفتي بشيء فيجعل كتاب الله أول مصدر لفتواه،أو يصوِّب للناس تفسير آية من القرآن أساءوا فهمها وأخطأوا في تفسيرها،غير أنهم كانوا يهابون الكلام في كتاب الله،ويخشون الوقوع في الخطأ كما كان حال أبي بكر وعمر،وكان عليّ يدعو الناس إلى سؤاله عما لا يعلمون من كتاب الله تعالى،يخشى عليهم أن يذهبوا إلى من لا يعلم فيفتيهم بغير الصواب فيضلوا.
أما في جانب الفتوى،فقد كانت الحياة تقذف كل يوم بجديد يحتاج إلى من يفتي الناس فيه،فكان الخلفاء الأربعة على رأس المفتين في دولتهم.
"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي.." هكذا زكى رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ طريقة الخلفاء الراشدين وسنتهم،وجعلها تابعة لطريقته وسنته،وكان الأربعة ـ رضي الله عنهم ـ أوعية مملوءة بالعلم والفقه،تعرض عليهم الفتوى فإذا وجدوها في كتاب الله - تعالى - قالوا به،وإن لم يجدوها فيه التمسوها في سنة رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ وكان أبو بكر يسأل الصحابة في المسألة وما سمعوه فيها من رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ فإن لم يجد عندهم سنة فيها استشارهم،فإن اجتمعوا على شيء أخذ به،وإلا اجتهد هو بنفسه للوصول إلى الصواب غير مُقصِّر.. وكان عمر يقدم فتوى أبي بكر بعد الكتاب والسنة،فإن لم يجد استشار الصحابة،فإذا اجتمعوا على أمر قضى به،وإلا اجتهد وقاس المسائل على أشباهها ونظائرها،وحرص عثمان على إشراك الصحابة فيما يعرض له من فتاوى وقضايا.. وكان عليّ مقرَّبًا من عمر وعثمان،ومخصوصا بكثرة استشارتهما له في مسائل تعرض لهما،فلما تولى عليّ الخلافة،لم يغير كثيرا فيما اعتمده الثلاثة قبله،وإن ازداد اعتماده على نفسه في هذا الميدان،لكثرة علمه،وموت الكثير من علماء الصحابة وكبارهم قبل خلافته،مثل عبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب...
تركز الاهتمام بالتدوين والكتابة في عهد الراشدين على القرآن الكريم،ولم يكن في طاقة فترة قصيرة كتلك التي حكم فيها أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ أن تتحمل تدوين القرآن والسنة معا،وقد أفاد عدم تدوين السنة في هذه الفترة المبكرة إفادات جليلة،على رأسها أن القرآن بقي له تميزه وتفرده،وبقيت له طرق روايته القصيرة الكثيرة المباشرة،فهو برواية آلاف من الصحابة عن رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم -
وتروي عائشة أن أباها الصديق جمع بعض أحاديث رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ثم عاد وأحرقها مخافة أن يكون رواتها قد أخطأوا،وعزم عمر الفاروق على تدوين السنة وجمعها،لكنه رجع عن ذلك خشية أن يختلط بالقرآن غيره.
وبقيت أحاديث رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ متداولة تداولا شفاهيا طوال هذه الفترة،غير أن الراشدين حرصوا كل الحرص على الدقة التامة في هذا التداول،فكان أبو بكر وعمر يطلبان من الراوي أن يأتي بشاهد يشهد أن رسول الله قال هذا أو فعله،وخشي عثمان أن يخطئ أو يسهو في الحديث،فمال إلى(1/386)
التقليل من نسبة القول أو الفعل إلى رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ وكان عليّ بن أبي طالب يطلب من الصحابي الذي يحدثه عن رسول الله أن يُقْسِمَ أنه رأى هذا أو سمعه.
لقد ثبت لدى الخلفاء الراشدين وعلماء وقتهم أن من كذب على رسول الله متعمدا فالنار مضمونة له،فحرصوا جميعا على ألا ينسبوا القول أو الفعل إلى النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ إلا إذا اطمأنوا إلى دقة حفظهم له،لذا فإن كثيرا من سنة رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ وردت على ألسنة الخلفاء الراشدين المهديين غير مسندة إلى النبي الكريم.
وكان صهيب الرومي لا يحب أن يقول قال رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ كذا،ويكتفي برواية ما شاهد من الأحداث والغزوات،وتمر السنة على ابن مسعود لا يحدِّث فيها عن رسول الله،فإذا حدَّث عنه ظهر عليه الخوف،وتحدَّر من جبينه العرق.
أما أبو هريرة،فكان نموذجا لسعة الحفظ والرواية عن رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ حتى لامه البعض لكثرة روايته،فذكَّرهم بانشغال الناس ببيوتهم وبيعهم وشرائهم،وتفرغه هو لصحبة رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ الذي دعا له بسعة الحفظ فلم ينس شيئا.
وأما عبد الله بن عمرو،فكان يُحَدِّثُ من صحيفته الصادقة التي كتبها من أيام النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - .
منذ لحظة الوحي الأولى والعلاقة بين الإسلام والقراءة متينة قوية،حيث نزل القرآن على النبي الأمي يأمره بالقراءة باسم ربه الذي خلق.. وقد حفز موقفُ الإسلام من العلم واحترامُه لأهله ـ حفز المسلمين وشجعهم على تعلُّم القراءة،ونشأ أول جيل من الصحابة واعيا بأهمية هذه القضية،وأن طريق المعرفة يتيسَّر أمام الناس بمعرفتهم القراءة والكتابة..
وفي بداية الإسلام كان القادرون على القراءة والكتابة بين العرب قلة قليلة،انتفع رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ بمن أسلم منهم في كتابة الوحي وتسجيله... وفي عهد الراشدين اتسعت قاعدة القادرين على القراءة والكتابة بسبب الوعي الكبير الذي زود به الإسلام أتباعَه،والفتوحِ التي وسعت مجال حركة المسلمين في العالم،وأعطتهم السيطرة على شعوب أعرق من العرب في معرفة القراءة والكتابة...
وإذا كان بعض الأميين قد سعى إلى إزالة أميته،مثل أم المؤمنين حفصة بنت عمر،فإن جيل أبناء الصحابة وأقرانهم قد نال حظا أوفر من الاهتمام بتعلم القراءة والكتابة في السياق العام لتعلم الدين والفقه بأحكامه،كما نرى عبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعروة بن الزبير وغيرهم.
وقد نال القراء والكتاب احتراما خاصا من المجتمع في عهد الخلفاء الراشدين،حتى استعملهم الخلفاء في كتابة رسائل الدولة،فكان زيد بن ثابت من كُتَّابِ أبي بكر،وكتب لعمر على ديوان الكوفة أبو جَبيرة بن الضحاك،ولعثمان على ديوان المدينة عبد الملك بن مروان،وكتب سعيد ابن نمران الهمداني لعلي بن أبي طالب.(1/387)
تركز الاهتمام بالتدوين والكتابة في عهد الراشدين على القرآن الكريم،ولم يكن في طاقة فترة قصيرة كتلك التي حكم فيها أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ أن تتحمل تدوين القرآن والسنة معا،وقد أفاد عدم تدوين السنة في هذه الفترة المبكرة إفادات جليلة،على رأسها أن القرآن بقي له تميزه وتفرده،وبقيت له طرق روايته القصيرة الكثيرة المباشرة،فهو برواية آلاف من الصحابة عن رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - .
وتروي عائشة أن أباها الصديق جمع بعض أحاديث رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ثم عاد وأحرقها مخافة أن يكون رواتها قد أخطأوا،وعزم عمر الفاروق على تدوين السنة وجمعها،لكنه رجع عن ذلك خشية أن يختلط بالقرآن غيره.
وبقيت أحاديث رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ متداولة تداولا شفاهيا طوال هذه الفترة،غير أن الراشدين حرصوا كل الحرص على الدقة التامة في هذا التداول،فكان أبو بكر وعمر يطلبان من الراوي أن يأتي بشاهد يشهد أن رسول الله قال هذا أو فعله،وخشي عثمان أن يخطئ أو يسهو في الحديث،فمال إلى التقليل من نسبة القول أو الفعل إلى رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ وكان عليّ بن أبي طالب يطلب من الصحابي الذي يحدثه عن رسول الله أن يُقْسِمَ أنه رأى هذا أو سمعه.
لقد ثبت لدى الخلفاء الراشدين وعلماء وقتهم أن من كذب على رسول الله متعمدا فالنار مضمونة له،فحرصوا جميعا على ألا ينسبوا القول أو الفعل إلى النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ إلا إذا اطمأنوا إلى دقة حفظهم له،لذا فإن كثيرا من سنة رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ وردت على ألسنة الخلفاء الراشدين المهديين غير مسندة إلى النبي الكريم.
وكان صهيب الرومي لا يحب أن يقول قال رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ كذا،ويكتفي برواية ما شاهد من الأحداث والغزوات،وتمر السنة على ابن مسعود لا يحدِّث فيها عن رسول الله،فإذا حدَّث عنه ظهر عليه الخوف،وتحدَّر من جبينه العرق.
أما أبو هريرة،فكان نموذجا لسعة الحفظ والرواية عن رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ حتى لامه البعض لكثرة روايته،فذكَّرهم بانشغال الناس ببيوتهم وبيعهم وشرائهم،وتفرغه هو لصحبة رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ الذي دعا له بسعة الحفظ فلم ينس شيئا.
وأما عبد الله بن عمرو،فكان يُحَدِّثُ من صحيفته الصادقة التي كتبها من أيام النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - .
منذ لحظة الوحي الأولى والعلاقة بين الإسلام والقراءة متينة قوية،حيث نزل القرآن على النبي الأمي يأمره بالقراءة باسم ربه الذي خلق.. وقد حفز موقفُ الإسلام من العلم واحترامُه لأهله ـ حفز المسلمين وشجعهم على تعلُّم القراءة،ونشأ أول جيل من الصحابة واعيا بأهمية هذه القضية،وأن طريق المعرفة يتيسَّر أمام الناس بمعرفتهم القراءة والكتابة..(1/388)
وفي بداية الإسلام كان القادرون على القراءة والكتابة بين العرب قلة قليلة،انتفع رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ بمن أسلم منهم في كتابة الوحي وتسجيله... وفي عهد الراشدين اتسعت قاعدة القادرين على القراءة والكتابة بسبب الوعي الكبير الذي زود به الإسلام أتباعَه،والفتوحِ التي وسعت مجال حركة المسلمين في العالم،وأعطتهم السيطرة على شعوب أعرق من العرب في معرفة القراءة والكتابة...
وإذا كان بعض الأميين قد سعى إلى إزالة أميته،مثل أم المؤمنين حفصة بنت عمر،فإن جيل أبناء الصحابة وأقرانهم قد نال حظا أوفر من الاهتمام بتعلم القراءة والكتابة في السياق العام لتعلم الدين والفقه بأحكامه،كما نرى عبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعروة بن الزبير وغيرهم.
وقد نال القراء والكتاب احتراما خاصا من المجتمع في عهد الخلفاء الراشدين،حتى استعملهم الخلفاء في كتابة رسائل الدولة،فكان زيد بن ثابت من كُتَّابِ أبي بكر،وكتب لعمر على ديوان الكوفة أبو جَبيرة بن الضحاك،ولعثمان على ديوان المدينة عبد الملك بن مروان،وكتب سعيد ابن نمران الهمداني لعلي بن أبي طالب.
ظلت العلوم التي تدور حول الإسلام هي سيدة الموقف في الحياة العلمية للمسلمين أيام الخلفاء الراشدين،فقد جاء الإسلام إلى أمة أمِّيَّة ليس عندها من العلم إلا ما دار حول الفصاحة في القول والبلاغة في العبارة،فمنحهم الإسلام علمَ الدين الصحيح،وفتح عقولهم وأعدها للإبحار في علوم الدنيا..
ولما كان علم الدين هو سيد الموقف،وكان هذا الدين داخلا في كل ناحية من نواحي الحياة،ومعالجًا كل القضايا البشرية الكبرى: من أين أتيت؟ ولم جئت؟ وإلى أين المصير؟ - لما كان الأمر هكذا،فقد تحولت كل ميادين الحياة إلى أماكن لتلقي العلم،ويقف المسجد على رأس هذه الميادين،فقد كان الخلفاء والأمراء والخطباء والوعاظ يتخذون من المنابر نافذة لإلقاء العلم على الناس.. ولم يكن صعود المنبر مرتبطا بخطبة الجمعة وحدها،بل كان موضعا لكل ما يلقى في المسجد من خطب مهمة،كما شهدت المساجد مجالس القراءة التي يتعلم الناس فيها القرآن،فترنَّمَ أبو موسى الأشعري وتغنى بالقرآن في جنبات مسجد البصرة يعلم الناس ويُقْرِئهم،وفعل مثله آخرون بمساجد المدينة والكوفة ومصر والشام وغيرها،وشهدت المساجد حلقات العلم التي يتحلق فيها المستمعون أو يتراصُّون أمام عالم من علماء الصحابة يستمعون إليه،كما كان حال أبيّ بن كعب في المدينة المنورة،أو أمام قاصٍّ يقص عليهم من سيرة السابقين كما كان في مصر والكوفة والبصرة وغيرها.
وكثيرا ما كان بيت العالم موضعا لتلقي العلم،كما كان حال ابن مسعود،وكان ابن عباس يذهب إلى كبار الصحابة في بيوتهم ليسألهم عن العلم والسنة.
ووُجدت أيضا مكاتب يتلقى الغلمان فيها العلم،ويحفظون كتاب الله فيها وفي المساجد.(1/389)
وتحولت معسكرات الجيوش الإسلامية في كثير من الأحيان إلى مدارس واسعة لتدارس معاني الجهاد في سبيل الله،كما حدث في القادسية حينما راح جيش المسلمين يحفظ سورة الأنفال ويتدارَسُ معانيها.
وفرضت مواقف الحياة النشيطة حينئذ طَرْح قضايا كثيرة ناقشها الصحابة وعالجوها بما عندهم من العلم في الموضع الذي طرحت فيه،فقد اختلف الصحابة وهم على مشارف الشام في دخولها أو عدم دخولها حين أصابها الطاعون،فأخبرهم عبد الرحمن بن عوف بنهي الرسول ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ عن دخول الموضع الذي يضربه الطاعون لمن هو خارجه...
وظهرت الرحلة والانتقال من بلدٍ إلى بلدٍ طلبًا للعلم،فسافر جابر بن عبد الله إلى الشام ليسمع من عبد الله بن أُنيس حديثًا لم يكن سمعه من رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - .
بُعث رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ في أمة تجهل أمر دينها،وتعلم القليل من أمر دنياها،فتعلمت على يديه الدين الحق،ولم يكن من مهمات هذا الدين أن يعلّم الناسَ الطبَّ والهندسةَ والجغرافيا،ومع ذلك فقد كان من عظمته أن يُعِدَّ العقلَ البشريَّ للنبوغ في هذه العلوم،بالأخذ عن الآخرين،وإفساح المجال أمام العقل ليفكر ويبدع ويضيف إلى ما أنتجه الآخرون،وأورد القرآن والسنة إشاراتٍ عن هذه العلوم التي لم يكن للعرب قبل الإسلام أي معرفة بها إلا في حدودِ القشورِ أو أقل،إثباتا لإعجاز القرآن ولفتا للأنظار إلى أهمية هذه المعارف والعلوم.
لقد كان في عهد الراشدين علماءُ بالأنسابِ،وهو علم قريبٌ من التاريخ،يدور حول معرفة نسب القبائل والرجال،وكان أبو بكر بارزا في هذا الأمر،وتعلمتْه منه السيدة عائشةُ ابنتُه،وجبير بن مطعم،كما كان هناك أطباء،وقد حاول البعض أن يستدعي لأبي بكر طبيبا وهو في مرض موته،لكنه كان يُحِسُّ بدنوِّ أجله فرفض ذلك،ولما طُعِن عمر بن الخطاب جاءوا إليه بطبيب من العرب ثم طبيب آخر من الأنصار فأخبرهم بأن الطعنة قاتلة.
ولما جاءت موجة الفتوح التي حققتْ عالميةَ دولة الإسلامِ دخلت في الإسلام أممٌ لها حظ من علوم الدنيا،كما اطلع العرب المسلمون على ذلك وعقولُهم مستعِدَّةٌ لتلَقِّي كلِّ نافعٍ،والأخذِ بكل مفيد،لذا كان النتاج العلمي للحضارة الإسلامية فيما بعد شيئًا رائعًا.
ظلت العلوم التي تدور حول الإسلام هي سيدة الموقف في الحياة العلمية للمسلمين أيام الخلفاء الراشدين،فقد جاء الإسلام إلى أمة أمِّيَّة ليس عندها من العلم إلا ما دار حول الفصاحة في القول والبلاغة في العبارة،فمنحهم الإسلام علمَ الدين الصحيح،وفتح عقولهم وأعدها للإبحار في علوم الدنيا..
ولما كان علم الدين هو سيد الموقف،وكان هذا الدين داخلا في كل ناحية من نواحي الحياة،ومعالجًا كل القضايا البشرية الكبرى: من أين أتيت؟ ولم جئت؟ وإلى أين المصير؟ - لما كان الأمر هكذا،فقد(1/390)
تحولت كل ميادين الحياة إلى أماكن لتلقي العلم،ويقف المسجد على رأس هذه الميادين،فقد كان الخلفاء والأمراء والخطباء والوعاظ يتخذون من المنابر نافذة لإلقاء العلم على الناس.. ولم يكن صعود المنبر مرتبطا بخطبة الجمعة وحدها،بل كان موضعا لكل ما يلقى في المسجد من خطب مهمة،كما شهدت المساجد مجالس القراءة التي يتعلم الناس فيها القرآن،فترنَّمَ أبو موسى الأشعري وتغنى بالقرآن في جنبات مسجد البصرة يعلم الناس ويُقْرِئهم،وفعل مثله آخرون بمساجد المدينة والكوفة ومصر والشام وغيرها،وشهدت المساجد حلقات العلم التي يتحلق فيها المستمعون أو يتراصُّون أمام عالم من علماء الصحابة يستمعون إليه،كما كان حال أبيّ بن كعب في المدينة المنورة،أو أمام قاصٍّ يقص عليهم من سيرة السابقين كما كان في مصر والكوفة والبصرة وغيرها.
وكثيرا ما كان بيت العالم موضعا لتلقي العلم،كما كان حال ابن مسعود،وكان ابن عباس يذهب إلى كبار الصحابة في بيوتهم ليسألهم عن العلم والسنة.
ووُجدت أيضا مكاتب يتلقى الغلمان فيها العلم،ويحفظون كتاب الله فيها وفي المساجد.
وتحولت معسكرات الجيوش الإسلامية في كثير من الأحيان إلى مدارس واسعة لتدارس معاني الجهاد في سبيل الله،كما حدث في القادسية حينما راح جيش المسلمين يحفظ سورة الأنفال ويتدارَسُ معانيها.
وفرضت مواقف الحياة النشيطة حينئذ طَرْح قضايا كثيرة ناقشها الصحابة وعالجوها بما عندهم من العلم في الموضع الذي طرحت فيه،فقد اختلف الصحابة وهم على مشارف الشام في دخولها أو عدم دخولها حين أصابها الطاعون،فأخبرهم عبد الرحمن بن عوف بنهي الرسول ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ عن دخول الموضع الذي يضربه الطاعون لمن هو خارجه...
وظهرت الرحلة والانتقال من بلدٍ إلى بلدٍ طلبًا للعلم،فسافر جابر بن عبد الله إلى الشام ليسمع من عبد الله بن أُنيس حديثًا لم يكن سمعه من رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - .
بُعث رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ في أمة تجهل أمر دينها،وتعلم القليل من أمر دنياها،فتعلمت على يديه الدين الحق،ولم يكن من مهمات هذا الدين أن يعلّم الناسَ الطبَّ والهندسةَ والجغرافيا،ومع ذلك فقد كان من عظمته أن يُعِدَّ العقلَ البشريَّ للنبوغ في هذه العلوم،بالأخذ عن الآخرين،وإفساح المجال أمام العقل ليفكر ويبدع ويضيف إلى ما أنتجه الآخرون،وأورد القرآن والسنة إشاراتٍ عن هذه العلوم التي لم يكن للعرب قبل الإسلام أي معرفة بها إلا في حدودِ القشورِ أو أقل،إثباتا لإعجاز القرآن ولفتا للأنظار إلى أهمية هذه المعارف والعلوم.
لقد كان في عهد الراشدين علماءُ بالأنسابِ،وهو علم قريبٌ من التاريخ،يدور حول معرفة نسب القبائل والرجال،وكان أبو بكر بارزا في هذا الأمر،وتعلمتْه منه السيدة عائشةُ ابنتُه،وجبير بن مطعم،كما كان هناك أطباء،وقد حاول البعض أن يستدعي لأبي بكر طبيبا وهو في مرض موته،لكنه(1/391)
كان يُحِسُّ بدنوِّ أجله فرفض ذلك،ولما طُعِن عمر بن الخطاب جاءوا إليه بطبيب من العرب ثم طبيب آخر من الأنصار فأخبرهم بأن الطعنة قاتلة.
ولما جاءت موجة الفتوح التي حققتْ عالميةَ دولة الإسلامِ دخلت في الإسلام أممٌ لها حظ من علوم الدنيا،كما اطلع العرب المسلمون على ذلك وعقولُهم مستعِدَّةٌ لتلَقِّي كلِّ نافعٍ،والأخذِ بكل مفيد،لذا كان النتاج العلمي للحضارة الإسلامية فيما بعد شيئًا رائعًا.
وقفت الخلافة الراشدة منذ أول يوم لها تحرس الدين والمجتمع من الأفكار الهدَّامة والآراءِ المنحرفة،بالقوة والشدة أحيانا،وباللين والحوار أحيانا،وأيقن الخلفاء أن هذا الأمر من أهم مهماتهم،ولو لم يقم الإمام به فلن يصبح لوجوده أهمية...
لقد وقف أبو بكر يحمي حِمَى الدين ضد محاولات الانتقاص منه التي قام بها مانعو الزكاة،وضد محاولات اللعب بالإسلام التي تبناها المرتدون ومدعو النبوة،ولم يهدأ الخليفة ومن حوله حتى دفنوا هذه الأفكار تحت أطباق الثرى...
ورفض المهاجرون فكرة بعض الأنصار " منا أمير ومنكم أمير " إذ أحسوا بأن في ذلك هدما محققا للكيان السياسي للأمة،وإن لم يقصد الأنصار ذلك.
وجاء الفاروق عمر سيلا يجرف كل بدعة ويقتل كل فتنة،فحارب بقوة كلَّ الأفكار التي تحيد عن الصواب،وتخالف الحق،فعاقب رجلا تكلم في المتشابه من القرآن حتى أقلع عن بدعته،ومنع من قراءة كتاب قديم وجده بعض الجنود عند فتح المدائن مخافة أن يشغله عن القرآن...
وفي عهد عثمان أطلت الفتنة برأسها،وبرزت خلافات سياسية واعتراضات صارخة ظالمة على الخليفة،وقفت خلفها المطامع والأهواء وسوء الفهم،ولم يكن للخلاف الفكري فيها نصيب.
أما في عهد عليّ بن أبي طالب،فقد واجه أمير المؤمنين وأنصاره الكثير من الأفكار المنحرفة،خاصة من الخوارج الذين أرسل إليهم الخليفةُ عبد الله بن عباس ليحاججهم ويحاورهم،فساق إليهم البراهين الواضحة والأدلة البينة على خطأ موقفهم من عليّ وخطأ تكفيرهم إياه،حتى تاب منهم ألفان،وقتل أكثر الباقين في النهروان.
بل عانى أمير المؤمنين أشد المعاناة من شطحات بعض أنصاره وأشياعه،فقتل من غالى فيه حتى وصفوه بالألوهية ثم أحرقهم.
وناقش قَدَريا لم يفهم معنى مشيئة الله تعالى،فأخذ يجلو له المسألة حتى تبينت الحقائق وظهرت.
ظلت المدينة المنورة مقرا للخلفاء الراشدين إلى أن انتقل عليّ بن أبي طالب إلى الكوفة،ولم ينس الخلفاء أن المسلمين في كل موطن لا يستغنون عن وجود علماء الصحابة بينهم،يعلمونهم دينهم،ويرشدونهم إلى ما فيه نفعهم،ويفتونهم فيما يجدّ لهم من المسائل والفتاوى؛ لذا حرص الراشدون(1/392)
على اختيار وُلاتهم من أهل العلم،وجعلوا تفقيه الناس في دينهم من مهمات الولاة الأساسية،كما ترك الجزيرة كثير من علماء الصحابة في صحبة المجاهدين والفاتحين،فانتفع بهم الناس وأخذوا عنهم العلم.
لقد تحول العلماء في هذا العصر إلى نجوم هدى تضيء في سماء الدنيا،فزيادةً على الخلفاء الأربعة أضاء في سماء العلم كثير من المهاجرين والأنصار،فكان زيد بن ثابت وأبي بن كعب وعبد الرحمن بن عوف في المدينة،وعبد الله بن عمرو في مصر،وعبد الله بن مسعود وأبو موسى الأشعري في العراق،ومعاذ بن جبل وأبو عبيدة بن الجراح وأبو الدرداء في الشام ...
ولم يقتصر مقام العالم في عهد الراشدين على كبار الصحابة وذوي السابقة والتاريخ الطويل في خدمة الدين والعمل له،بل شمل أيضا ذوي المواهب من الشباب،كعبد الله بن عمر،وعبد الله بن عباس الذي كان عمر بن الخطاب يُدْنيه ويقرّبه،ويسأله عن معاني القرآن،وقد تكونت القاعدة العلمية لابن عباس في أيام الخلفاء الراشدين،فتلقى العلم عن كبار الصحابة،وخاصة من الأنصار،ثم سطع نجمه وبزغ بصورة أكبر بعد الراشدين.
وفي نفس هذه الفترة تربَّى كبار التابعين الذين أخذوا العلم عن كبار الصحابة وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون.
ومن الجوانب العلمية لهذا العصر مقاومة الأفكار الهدامة،والحيلولة دون انتشارها وإضرارها بدين الناس ومعاشهم.
لم يدون الصحابة إلا القرآن الكريم وقليلا من السنة،وبقيَ أغلب حديث رسول الله،واجتهادات الصحابة في فهم كتاب الله تعالى،واستنباطاتهم في المسائل التي لا يجدونها في قرآن ولا سنة ـ بقيَ كل ذلك محفوظا في الصدور وفى ذاكرة رجال لهم مؤهلات خاصة لحفظ هذا التراث الضخم وصيانة هذه الكنوز الثمينة،وهذا الجيل الذي تلقى العلم على يد الصحابة هم التابعون،وكبارهم هم الذين تعلَّموا ورووا عن كبار الصحابة،وعلى رأسهم الخلفاء الأربعة ومن مات في خلافتهم من أصحاب رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - .
ولقد كان كبار التابعين خير خلف لخير سلف،فوعوا العلم وحفظوا الحكمة التي سمعوها من أفواه الصحابة،وكانوا أمناء على ذلك لا يكذبون ولا يبدلون،وإن كانت لهم اجتهاداتهم الخاصة،وأول هؤلاء سعيد بن المسيب الذي تزوج ابنة أبي هريرة،وروى عنه علما كثيرًا وسمع عمر بن الخطاب وهو يخطب،وسمع عثمان وزيد بن ثابت وعائشة وسعد بن أبي وقاص،وكان أعلم الناس بقضاء رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ وأبي بكر وعمر وعثمان ... ومن كبار التابعين أيضا الحسن بن يسار البصري كان أبوه من أسرى عين التمر،ونشأ الحسن بالمدينة وحفظ القرآن في خلافة عثمان،وسمعه يخطب مراتٍ،وحدَّث عنه وعن عمران بن حصين والمغيرة بن شعبة.(1/393)
وأما علقمة بن قيس فكان من شيوخ التابعين،سمع من الخلفاء الأربعة وسعد وحذيفة بن اليمان وأبي موسى الأشعري،ولازم ابن مسعود،وجوَّد عليه القرآن وتفقه على يديه،وكان واحدا من ستة تلاميذ لابن مسعود كانوا يفتون ويقرءون،ومنهم الأسود بن يزيد ابن أخي علقمة،وقد روى عن أبي بكر وعمر ومعاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وبلال..
وكان هؤلاء العلماء الشباب يتلقون العلم في عهد الراشدين بطرق عديدة،أهمها مصاحبة الصحابي وملازمته كما كان شأن تلاميذ ابن مسعود. وغلب عليهم العنصر العربي،وكان الموالي كالحسنِ البصريِّ ـ قلةً،عكس الحال في دولة بني أمية التي برز فيها الكثير من العلماء الأجلاَّء من غير العرب،وارتفع عند الناس شأنهم بعلمهم وزهدهم.
لقد ساح المسلمون في العالم وفتحوا منه مساحات واسعة في عهد الخلفاء الراشدين،وكان سكان الكثير من البلاد المفتوحة أهل حضارة ومدنية،لديهم علوم ومعارف قد لا يكون للعرب منها شيء،أوْ لَهُمْ منها شيء قليل،مثل الطب والفلسفة والهندسة والفلك،كما كان من بين المدن المفتوحة مدن اشتهرت بالنشاط العلمي والفكري،كالإسكندرية وجنديسابور وحران،وشهدت الشام ومصر حتى قبيل الفتح وفي أثنائه خلافات مذهبية عنيفة بين فرق النصارى الذين اختلفوا في طبيعة المسيح،ودار النقاش بينهم هادئا أحيانا وعنيفًا في أغلب الأحيان.
وورث الإسلام حكم هذه البلاد في عهد الراشدين وفيها هذا الميراث المختلط،وازداد التداخل حينما اعتنقت الإسلام جموع كبيرة من الفرس والروم وأهل مصر وعرب العراق والشام والجزيرة،وهؤلاء إذا لم يكونوا دخلوا في الإسلام ومعهم علومهم وفلسفاتهم فقد دخلوه ولهم طرق تفكيرهم ومعاشهم الخاصة...
كان من الممكن أن يتأثر المسلمون بهذا تأثرًا شديدًا منذ عهد الراشدين،لكن حال دون ذلك قصر فترة حكمهم التي لم تتجاوز ثلاثين عاما،ومَنْعُ الراشدين من تعلم علوم الآخرين خشية أن تكون تعاليم دينية تشغل عن القرآن وتخالفه،كما أن عمر بن الخطاب ومن بعده من الراشدين كانوا يجعلون لجيوشهم مدنا ومعسكرات منفصلة عن سكان البلاد الأصليين كما كان الحال في البصرة والكوفة والفسطاط،وبذلك تكون فترة الراشدين قد مرت دون أي تأثُّرٍ علمي أو ثقافي بأهل البلاد التي فتحوها.
فقط يمكن ملاحظة أن بعض الصحابة أتقنوا بعض اللغات كما هو حال زيد بن ثابت الذي كان يقرأ اللسان العبري،وبعضهم اطَّلع على كتب السابقين الدينية،كعبد الله بن عمرو بن العاص الذي كان على معرفة بشيء من التوراة،وذكر صفة النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ فيها كما روى البخاري عنه.
وانفتح الباب واسعا للرواية من كتب أهل الكتاب بدخول من دخل منهم في الإسلام،وإن كان الصحابة منهم كأبيّ بن كعب وتميم الداري وعبد الله بن سلام يتورعون في هذه الناحية ـ فإن من(1/394)
جاء بعدهم ـ ككعب الأحبار ووهب بن منبه ـ كانوا أقل حرصًا على اختيار ما يروونه من كتب أهل الكتاب.
في الإسلام: لا معني للعلم بلا عمل،ولا فائدة لقول بلا سعى،وفى كل عصر تبدو الصورة الحقيقة للعالم المسلم على أنه رجل فِعْلٍ قبل أن يكون رجل كلام،وإذا كان يصعد المنابر فيهزها ويحرك مشاعر الناس،فإنه يأسر الخلق بحسن خلقه وجهاده وتمام ورعه وحرصه على الحلال الطيب،وبعده عن الشبهات ودواعي الشهوات.
والعلماء في مجتمع الخلفاء الراشدين مثلوا القطاع الأبرز في خدمة الدين وأهله،فمنهم من ضحى بنفسه،ومنهم من شارك في الجهاد والقتال،ومنهم من شغل نفسه بتعليم الناس أمر دينهم.
ويكفى أن الخلفاء الراشدين أنفهسم هم من علماء زمنهم الكبار،وقد حَمَوْا الإسلام،وحرسوا حدود الدين،وفتحوا البلاد وقلوب العباد أمامه،ورَعَوْا مصالح المسلمين...
كذلك كان من خدمة العلماء لدينهم وأمتهم أنهم عاونوا الخلفاء كمستشارين مقربين أمناء،وكولاةٍ على البلاد والأمصار،وقادةٍ للجيوش وقضاة على البلاد،ويكفى أن نسمع أسماء أبي عبيدة وأبي موسى الأشعري وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود لكي نعلم ذلك.
وكان العالم في الجيش هو قلبه وروحه التي يتحرك بها نحو هدفه،يذكر الناس بالآخرة،ويحثهم على الصبر في وجه العدو،فإذا ثار الغبار وحمي القتال كان العالِم في قلب المعركة.. وقد كان العلماء بالقرآن ـ على سبيل المثال ـ هم أداة النصر الكبرى في معركة اليمامة،حين كاد المسلمون أن يهلكوا تحت سنابك خيل مسيلمة الكذاب.
والمهمة الثابتة ذات الأثر البعيد التي قدمها علماء فترة الخلافة الراشدة لأمتهم ـ هي تبصير الناس بدينهم،ونقل ميراث العلم النبوي إلى الأجيال التالية.
لقد ساح المسلمون في العالم وفتحوا منه مساحات واسعة في عهد الخلفاء الراشدين،وكان سكان الكثير من البلاد المفتوحة أهل حضارة ومدنية،لديهم علوم ومعارف قد لا يكون للعرب منها شيء،أوْ لَهُمْ منها شيء قليل،مثل الطب والفلسفة والهندسة والفلك،كما كان من بين المدن المفتوحة مدن اشتهرت بالنشاط العلمي والفكري،كالإسكندرية وجنديسابور وحران،وشهدت الشام ومصر حتى قبيل الفتح وفي أثنائه خلافات مذهبية عنيفة بين فرق النصارى الذين اختلفوا في طبيعة المسيح،ودار النقاش بينهم هادئا أحيانا وعنيفًا في أغلب الأحيان.
وورث الإسلام حكم هذه البلاد في عهد الراشدين وفيها هذا الميراث المختلط،وازداد التداخل حينما اعتنقت الإسلام جموع كبيرة من الفرس والروم وأهل مصر وعرب العراق والشام والجزيرة،وهؤلاء إذا لم يكونوا دخلوا في الإسلام ومعهم علومهم وفلسفاتهم فقد دخلوه ولهم طرق تفكيرهم ومعاشهم الخاصة...(1/395)
كان من الممكن أن يتأثر المسلمون بهذا تأثرًا شديدًا منذ عهد الراشدين،لكن حال دون ذلك قصر فترة حكمهم التي لم تتجاوز ثلاثين عاما،ومَنْعُ الراشدين من تعلم علوم الآخرين خشية أن تكون تعاليم دينية تشغل عن القرآن وتخالفه،كما أن عمر بن الخطاب ومن بعده من الراشدين كانوا يجعلون لجيوشهم مدنا ومعسكرات منفصلة عن سكان البلاد الأصليين كما كان الحال في البصرة والكوفة والفسطاط،وبذلك تكون فترة الراشدين قد مرت دون أي تأثُّرٍ علمي أو ثقافي بأهل البلاد التي فتحوها.
فقط يمكن ملاحظة أن بعض الصحابة أتقنوا بعض اللغات كما هو حال زيد بن ثابت الذي كان يقرأ اللسان العبري،وبعضهم اطَّلع على كتب السابقين الدينية،كعبد الله بن عمرو بن العاص الذي كان على معرفة بشيء من التوراة،وذكر صفة النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ فيها كما روى البخاري عنه.
وانفتح الباب واسعا للرواية من كتب أهل الكتاب بدخول من دخل منهم في الإسلام،وإن كان الصحابة منهم كأبيّ بن كعب وتميم الداري وعبد الله بن سلام يتورعون في هذه الناحية ـ فإن من جاء بعدهم ـ ككعب الأحبار ووهب بن منبه ـ كانوا أقل حرصًا على اختيار ما يروونه من كتب أهل الكتاب.
في الإسلام: لا معني للعلم بلا عمل،ولا فائدة لقول بلا سعى،وفى كل عصر تبدو الصورة الحقيقة للعالم المسلم على أنه رجل فِعْلٍ قبل أن يكون رجل كلام،وإذا كان يصعد المنابر فيهزها ويحرك مشاعر الناس،فإنه يأسر الخلق بحسن خلقه وجهاده وتمام ورعه وحرصه على الحلال الطيب،وبعده عن الشبهات ودواعي الشهوات.
والعلماء في مجتمع الخلفاء الراشدين مثلوا القطاع الأبرز في خدمة الدين وأهله،فمنهم من ضحى بنفسه،ومنهم من شارك في الجهاد والقتال،ومنهم من شغل نفسه بتعليم الناس أمر دينهم.
ويكفى أن الخلفاء الراشدين أنفهسم هم من علماء زمنهم الكبار،وقد حَمَوْا الإسلام،وحرسوا حدود الدين،وفتحوا البلاد وقلوب العباد أمامه،ورَعَوْا مصالح المسلمين...
كذلك كان من خدمة العلماء لدينهم وأمتهم أنهم عاونوا الخلفاء كمستشارين مقربين أمناء،وكولاةٍ على البلاد والأمصار،وقادةٍ للجيوش وقضاة على البلاد،ويكفى أن نسمع أسماء أبي عبيدة وأبي موسى الأشعري وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود لكي نعلم ذلك.
وكان العالم في الجيش هو قلبه وروحه التي يتحرك بها نحو هدفه،يذكر الناس بالآخرة،ويحثهم على الصبر في وجه العدو،فإذا ثار الغبار وحمي القتال كان العالِم في قلب المعركة.. وقد كان العلماء بالقرآن ـ على سبيل المثال ـ هم أداة النصر الكبرى في معركة اليمامة،حين كاد المسلمون أن يهلكوا تحت سنابك خيل مسيلمة الكذاب.(1/396)
والمهمة الثابتة ذات الأثر البعيد التي قدمها علماء فترة الخلافة الراشدة لأمتهم ـ هي تبصير الناس بدينهم،ونقل ميراث العلم النبوي إلى الأجيال التالية.
إن الأحداث الكبيرة لَتَتْرك في المجتمعات البشرية تغييراتٍ عميقة بقدر ضخامة هذه الأحداث،وقد تسلم الخلفاء الراشدون قيادة المجتمع الإسلامي بعد أن أحدثت فيه فترة الرسالة أعمق التغييرات: في المفاهيم والأهداف والمُنْطَلقات.. وانطلق المجتمع من باب الحرص على تحقيق خلافة الله في أرضه بالعبادة والعمران،وهَدَفَ إلى التمكين لدين الله في أرضه وفى نفوس البشر.
أمواجٌ من البشر تتابع: تَسْلم المسيرة بسلامتها،وتختل باضطرابها،فالمجتمع من حول الخليفة يحرك التاريخ بإذن الله،والحركة تكون إلى الإمام إذا كان الخليفة راشدا والمجتمع راشدا،وتصبح انتكاسة إذا فقد المجتمع رشده.
والمجتمع في دولة الخلافة الراشدة اختلفت حالته العامة من خليفة إلى آخر،فتركز مجهود المسلمين في إمارة أبي بكر في أن يعيدوا إلى المجتمع توازنه الذي اختل بوفاة النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ وعهد عمر سخَّر فيه المجتمع كل قدراته وجهوده لخدمة الفتوحات،وعهد عثمان جنى الناس في أوله ثمرةَ الفتوحاتِ الطيبةَ في ظل رفق الخليفة، ثم أضاع الشاذون من أبناء المجتمع بهجة هذه الثمرة،وشهد عهد علي بن أبي طالب انقساما داخليا في المجتمع المسلم،وتفرقت الكلمة بسبب الشر الذي دخل على الأمة من مقتل أمير المؤمنين عثمان،ثم مقتل أمير المؤمنين عليّ.
فروق وفروق،لكن دائما كان أمير المؤمنين يبحث عن تثبيت الحق وإشاعة المعروف،ودفع الباطل ورد المنكر،وكان مدار النجاح والفشل هم صفوة المجتمع وموقفهم،والصفوة في مجتمع الخلافة الراشدة هم كبار صحابة النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ الذين كانت وفاة الواحد منهم كارثة للمجتمع لا يعوِّضها شيء سوى دوام حراسة الدين مثلما كانوا يحرسون.
عانت الشعوب في فارس والعراق والشام ومصر من استبداد حكامهم وتسلُّطِهم على رقابِ الخَلْقِ،إذ ضيق الحكام على العباد بلادَهم،وسلبوهم أرزاقهم وثروات أوطانهم،فلما أتى الفاتحون المسلمون لم تكن هذه الشعوب تدري شيئا عما يخبئه القدر خلف سيوف المسلمين،أهو ظلم كظلم كسرى وقيصر أم أقل ؟ ! لذلك كان أكثر هذه الشعوب يقاتل مع جنود الرومان والفرس أو يقفون موقف الحياد.. ومع تطاول المواجهات وتعددها بدأت الشعوب ترى في المسلمين نمطا جديدا من الغزاة،لا يرغمون أحدا على تغيير عقيدته،ولا يقاتلون إلا الجنود،ولا يحرقون بيوت الناس ولا زروعهم،وزاد المسلمون على ذلك أنهم لم يسلبوا الأرض المفتوحة من أصحابها،بل تركوها في أيديهم،على أن يؤدوا الخراج عنها،وهو أقل بكثير مما كان يأخذه منهم الجُبَاةُ من الفرس والروم الذين كانوا يستعبدون الفلاح ويعتبرونه أجيرا في أرضه التي ورثها عن آبائه...(1/397)
ذاقت الشعوب نسيم الحرية في ظل حكامهم المسلمين،وعاينوا سماحتهم وحسن معاملتهم للناس،ورأوا فيهم رقة وذوقا رفيعا،فوثقت الشعوب في المسلمين،وأقبل كثيرون على الإسلام يعتنقونه،وبقى آخرون على دينهم،إلا أنهم ظلوا على احترامهم للفاتحين واعتبارهم نعمة نجاهم الله بها من ظلم الفرس والرومان.
إن شعبا كالشعب الفارسي انجذب إلى الإسلام في قوة وسرعة،وقد وقف إلى جانب حسن معاملة المسلمين لهم مصاهرةُ بعض السادة من المسلمين لأمراء الفرس،فقد تزوج الحسين بن علي وعبد الله بن عمر،ومحمد بن أبي بكر ثلاث أخوات من بنات أمراء الفرس،فتوثقت علاقة المسلمين بالفرس،وصاروا أصهارا لهم،وأخوالا لأولاد الصحابة.
مجتمع راشد وخليفة راشد،تسلم معهما المسيرة،وتُعَالج الأزمات بل والنكبات،وتظل السلامة العامة للأمة محفوظة.. وقد تعرض المجتمع الإسلامي بعد النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ لأزمتين كبيرتين كادتا تعصفان به،واهتز من الأعماق بسببها،وهما: وفاة النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ،وارتداد الكثير من العرب،ولولا الطاقات النفسية والروحية والجسدية التي ملكها المسلمون حينئذ لتوقفت مسيرتهم عند هذا الحد.
وقد عولجت الصدمة الهائلة التي أصيب بها المجتمع بوفاة الرسول الكريم قبل أن يصبح للمسلمين أمير،إذ وقف أحد أبناء هذا المجتمع ـ وهو أبو بكر الصديق ـ يذكِّر الناس بحديث القرآن عن رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ وأنه بشر يدركه ما يدرك البشر من الموت والمرض والتعب،حتى رجع الناس إلى رشدهم.
وكان الموقع الاجتماعي الذي أدى أبوبكر من خلاله أعظم الأدوار في خدمة دينه وأمته حتى سبق رجال الفروع القرشية الأبرز والأشهر ـ كان هذا الموقع كفيلا بأن يرفعه إلى درجة الإمارة،فوُلِّي الخلافة،وقاد المجتمعَ المسلم إلى مقاومة الردة وسحقها،حتى عادت الطمأنينة والاستقرار،وبقى الدين مهابا محترما.
وكان من النتائج الاجتماعية لحروب الردة كثرة الأرامل،وتحوَّل من ارتد ولم يمت في الحرب إلى أناس منبوذين يكره الخليفةُ أن يشركَهم في أي عمل من أعمال الدولة ولا يحب الناس مخالطَتَهم أو معايشتَهم. ونال من ثبت على دينه من أبناء القبائل المرتدة احترامَ الأمة وتقدير أميرها.
ووسط هذه الصورة المزدحمة لم يكن الخليفة ينسى الطبقات الضعيفة في المجتمع،فشارك بنفسه في معاونة الضعفاء وذوي الحاجة،فكان الصديق يتعهد امرأةً عمياءَ ويقضي لها حاجاتها،كما كان يرعى ويحلب غنما لبعض ضعفاء المسلمين،ونافسه الكثيرون من أبناء شعبه في ذلك.
ثقيل هو الظلم على النفس،وهو أثقل ما يكون حين يتصل بالدين،حين ترى الرجل يُضْطَهد من أجل عقيدته،ويحاول ظالمُه أن يصرفَه بالقوة عنها،وقد كان العديد من البلاد قبل الفتح الإسلامي لها خاضعا لأنواع عديدة من الظلم،فهنا ظلم سياسي وهنا ظلم اقتصادي،وهنا اضطهاد ديني،وهناك كل هذه(1/398)
الأنواع من الظلم مجتمعة،فيستولي أصحاب السلطة على كل شيء،ويسخرون ثروات البلاد لخدمة أغراضهم،ويذيقون الناس أنواع الهوان والعذاب لأنهم يخالفونهم لا في الدين ولكن في المذهب...
وجاء الإسلام في هذه الأجواء على النقيض من ذلك،فحمل السماحة والرأفة في قلوب أصحابه،والإيمان التام بوجوب إعطاء الناس حريتهم الدينية،بحيث لا يُرْغَمُون على شيء،إذ لا خير في دين ولا مذهب يتبعه المرء مكرها.
كما وازن المسلمون في تحصيل أموال الخراج والجزية والعشور،بحيث لا يرهقون الناس،ولا يفقدون هذه المصادر المالية المهمة للدولة...
لذا رأى سكان البلاد المفتوحة أن المسلمين جاءوا نسائم رحمة لا سيوف نقمة،فكان بعضهم يساند المسلمين ضد الرومان والفرس كما جرى في مِصْرَ وحِمْصَ وغيرهما،وبدلا من أن يتحول الفتح مع الزمان إلى احتلال آخر يمتص دماء الناس ـ أخذت قاعدة الإسلام البشرية تتسع،وازداد أتباعه ومعتنقوه،بينما تحلل كثير من الأديان والملل الأخرى أو قلَّ أتباعها.. وصارت البلاد لا بلاد المصريين وحدهم،ولا الشاميين وحدهم،ولا الفرس وحدهم،وإنما صارت بلاد المسلمين أجمعهم،من كل الأشكال والألوان.
لا يستطيع الأمير وحده أن يقوم على حماية الدين وحراسة الشرع،بل لابد من مشاركة المجتمع ومعونته،ومع قوة شخصية الفاروق عمر وعبقريته إلا أن نجاح مسيرة المجتمع في عصره لا ترجع إليه وحده،فلولا المستشارون الذين صَدَقُوهُ المشورةَ،وأحسنوا مساندته والوقوف بجانبه،ولولا الطاقة الهائلة التي بذلها القادة والجنود ـ وهم أكثر المجتمع ـ لولا هذا كله ما كان هذا النجاح.
لقد خرج في هذا الزمن عشرات الآلاف من أهل الجزيرة العربية إلى ما طالته أيديهم وأقدامهم من البلاد،يجاهدون في سبيل الله،ويفتحون الأفق أمام دعوة الإسلام،وتبع ذلك حِرَاكٌ اجتماعي ضخم خلت فيه الجزيرة من كثير من المواهب التي انتشرت شرقا وغربا،وراحت تنشر الإسلام هنا وهناك: في العراق وفارس،وفى الشام ومصر وغيرها.
وكان من عبقريات أمير المؤمنين عمر حرصه على بقاء كبار الصحابة حوله،ومنعهم من السياحة في البلاد والاستقرار بعيدا عن المدينة؛ إذ ضمن الخليفة بذلك ألا تشغلهم الدنيا ببريقها،ووجد بطانة يستشيرها وتسانده،كما مثلت هذه المجموعة البشرية جدارا صُلبًا يحمي تحركات الخلافة وقراراتها،ويصون المجتمع المسلم من التفكك والتشرذم.
ومع حرص عمر بن الخطاب على صيانة مجتمعه وحفظه من العادات والتقاليد الغريبة،وحرصه على الفصل بين المسلمين وغيرهم من أهل البلاد المفتوحة،ومنعه من تدفق الموالي إلى المجتمع الإسلامي في مكة والمدينة - مع ذلك كله فإنه لم يمنع من التفاعل بين المسلمين وبين أهل الأنحاء والبلاد(1/399)
المفتوحة،ليستعد المجتمع لتغيير عميق على المدى البعيد،يتبادل فيه التأثير والتأثر،فيعطي اللغة والدين،ويأخذ كثيرا من التقاليد والمواريث الحضارية.
بدت ثمرة الفتوح ناضجة كل النضج،ومعَدَّة تماما لينتفع الناس بها في عهد عثمان بن عفان،فقد وسَّعت الفتوح الدولة الإسلامية وجلبت ثروات طائلة،وجاء الخليفة أكثر ميلا إلى الرفق واللين،وترك كبار الصحابة ينتشرون في الآفاق،ويسيحون في البلاد،وكان الخليفة لين الطعام،فياضا بالخير على الناس.
وانتشرت الرفاهية والغنى بين الناس،وظهر أبو ذر في صورة المحتج على مخالفةِ نهج الزهد والتقلل من الدنيا،وعلى الاهتمامِ بجمع الثروات وتكديس الأموال،حتى أمره الخليفة بأن يقيم بالربذة بعيدا عن هذه الحياة التي لا يرضى عنها.
ومع مرور الزمن مات بعض كبار الصحابة كعبد الرحمن بن عوف والعباس بن عبد المطلب،وافتقد الخليفة مؤازرة بعضهم الآخر حين تركهم يسيحون في الأرض،واتسعت الثروات في أيدي البدو الذين شاركوا في الفتح،ورفع من عفا عنهم عثمان من المرتدين أعناقَهم وعلَتْ أصواتهم بالاحتجاج على سياساته،إذ أحسوا ـ ومثلهم البدو ـ بأن لهم رصيدا كبيرا في خدمة الإسلام بمشاركتهم في الجهاد والفتح.. وأدت الاعتراضات على الخليفة والانتقادات العنيفة الموجهة إليه إلى تأجيج الموقف ضده،حيث شق المعترضون صفوف المجتمع،وأحدثوا فيه انقساما وخلخلة شديدة بلغت ذروتها بقتل الخليفة العظيم.
وفى هذه الأجواء ظهر نمط جديد من الفعل الاجتماعي بين المسلمين،وهو " الاعتزال "وتجنب الفتنة،إذ شعر فريق من الناس ـ كسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر ـ بوطأة الفتنة وظلمتها حتى لم يبن المحق فيها من المخطئ بعد استشهاد الخليفة المظلوم.
لِمَ لا تكون مثل عمر ؟ !
لأن عمر تولَّى على مثلي،وأنا توليت على مثلك !!
بهذا أسكت علي بن أبي طالب هذا الصوت المنكر،فقد كانت رعية عمر تقف بجانبه وتؤيد خطاه وتتجاوب مع إصلاحاته،فسلمت المسيرة،وأما رعية علي فقد انقسموا عليه: فريق يؤيده وفريق يعارضه،وحتى مؤيدوه لا يطيعونه ويعترضون عليه،بل انقسموا بعد ذلك وخرج فريق منهم عليه،وغالى فريق من أتباعه فيه ووصفه بالألوهية مع حربه لهم وقتاله إياهم.
لقد كان المجتمع يعيش في فتنة اعتزلها البعض ـ كسعد بن أبى وقاص وعبد الله بن عمر ـ وأشعل المنافقون واليهود نيرانها،وكشفت الكثير من بُنَي المجتمع المسلم عن وجود ضعف مميت فيها،حيث غاب الحرص على المصلحة العامة،وظلت روح القبلية عالقة في نفوس البعض،فَسَرَتْ فيهم دسائسُ أعداء المجتمع ومؤامراتُهم بسهولة،واستجابوا لدواعي الفتنة،وغاب أدب الخلاف مع ضعف الصحابة(1/400)
الكبار،لموت كثير منهم،واتساع رقعة المجتمع الذي عاش طفرة من الغنى المفاجئ،ودخل كثير من أهل الكتاب في الإسلام وأبطنوا الكفرـ كعبد الله بن سبأ ـ فأججوا نيران الخلافات وأشعار لهيب الفتن التي اغتالت العديد من الصحابة الكبار كعلي وطلحة والزبير.
لقد كان من علو مقامه ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ أن صارت صحبته منزلةً من منازل الناس،ومقاما رفيعا من مقاماتهم،وكلما كان الرجل أوثق علاقة به،وأكثر مصاحبة له وشهودا للمواقف معه ـ كان أعلى درجة وأرفع مقاما بين أفراد المجتمع،لا ببراءة أوْ صَكٍّ حصل عليه،ولكن للأثر العميق الذي تركه ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ في صحابته،كل حسب قربه منه وصحبته له.
لذا كان كبار الصحابة هم القمة الأولى في هذا المجتمع،وجاء بعدهم شباب الصحابة،وغلمانهم ـ كعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير ـ ومن تأخر إسلامه إلى ما بعد الفتح ـ كمعاوية بن أبي سفيان وعدي بن حاتم ـ ثم مَنْ حَسُنَ إسلامُه ممن لم يروا رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ككبار التابعين،ثم عموم أهل القبائل وسكان الحواضر من غير الصحابة.
وفى مجتمع الراشدين انقسم مسلمو ما بعد الفتح من الصحابة فريقين: أحدهما ثبت على دينه،ولم يتزعزع إيمانه،بل بقى في خندق الإسلام إلى أن وافاه أجله،كعدي بن حاتم الطائي الذي أنقذ الله به قومه من الهلاك في الردة،وثمامة بن أثال الحنفي الذي ثبت على دينه في وجه ردة مسيلمة الطاغية،وقاتل قومه تحت راية القرآن حتى زالت فتنته وكان لبعض هؤلاء الصحابة أثر كبير في مسيرة الدولة الإسلامية،إذ استعان بهم الخلفاء في مهمات كبيرة،كمعاوية بن أبي سفيان الذي ولاه عمر بعض الشام ثم وسع عثمان سلطاته حتى حكم الشام كله،وعبد الله بن أبي السرح الذي ولاه عثمان مصر.
وأما الفريق الثاني من مسلمي ما بعد الفتح الذين رأوا رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ فقد اهتزوا مع الردة ورجوا أن يجنوا من ورائها نفعًا،فارتدوا مع من ارتد،لما كان من ضعف إيمانهم،وقلة سعيهم في خدمة دينهم وعقيدتهم،ومع أن هؤلاء كانوا قلة،إلا أن أكثرهم راجعوا أنفسهم مع اندحار الردة،ودخلوا فيما خرجوا منه من الإسلام،وراحوا يشاركون في الجهاد في سبيل الله في شراسة وشجاعة نادرة،ليعوِّضوا ما فاتهم بالردة،وأبرز هؤلاء عمرو بن معدي كرب وطليحة بن خويلد وقيس بن المكشوح.
بقدر الطاقة المختزنة في مجتمع ما تكون قدرته على مواصلة المسيرة وإنجاح المسعى،وقد توافر لمجتمع الراشدين نوعٌ من الطاقة فريدٌ كل الفَرَادَةِ،وهي طاقة الإيمان بالله والتزام تشريعاته،والتي تدرج الناس في المجتمع تبعا لها،فأكثرهم إيمانًا أعلاهم مقاما وأرفعهم درجة،وتأتى ترجمة هذا الإيمان في أعمال عظيمة يقدمها المؤمن،وصنائع جليلة تظهر منه.(1/401)
وقد مثل كبارُ الصحابة ـ الذين كانوا يعدون بالمئات ـ قمةَ هذا المجتمع وطبقته الأولى،وعلى رأسهم العشرة المبشرون بالجنة وأهل بدر وشهود بيعة الرضوان.. هؤلاء كان منهم الخلفاء،ومستشاروهم ـ كعبد الرحمن بن عوف ـ وكثير من قادة الجيوش ـ كأبي عبيدة وحذيفة بن اليمان ـ ومن أمراء الأمصار ـ كسعد بن أبى وقاص ـ ومثلوا سند الجيوش الفاتحة في كثير من المعارك الشرسة ـ مثل اليمامة والقادسية واليرموك ـ وكان أعظم القادة ـ كخالد بن الوليد والمثنى بن حارثة ـ يحبون قتال كبار المهاجرين والأنصار إلى جوارهم...
وكان أبو بكر لا يولى أهل بدر إمارة ـ إلا فيما ندر ـ ضنا بهم أن تشغلهم الدنيا،كما لم يسمح عمر بخروج أحد من كبار المهاجرين من المدينة إلا إذا شعر بحاجة المسلمين خارجها إلى مثله،كما فعل حينما أرسل عبد الله بن مسعود إلى الكوفة معلما ووزيرا،وغرضه من ذلك الاعتماد عليهم واستشارتهم في أمور الأمة.
وقد احتل هؤلاء الصحابة موضعا متميزا في ضمير مجتمعهم،لسابقتهم في خدمة الدين،وثباتهم عليه في أشد الظروف وأضيقها،وزهدهم في الدنيا ومتاعها،كما كان لذكر القرآن لهم،وثناء النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ عليهم الأثر الأكبر في تثبيت مكانة هؤلاء الصحابة عند مجتمعهم.
وهذا لا يلغى الدور الاجتماعي البارز لبقية الصحابة كبارا وشبابا،بل لا يلغى دور كثير من المؤمنين في مجتمع الراشدين لم يصحبوا رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - .
كانت القدرة على الأداء المتميز هي مناط التكليف بالعمل في دولة الراشدين،ولم يكن أحد يؤخَّر لصغر سِنّه أو كبره،بل ربما قُدِّم الصغير على الكبير في شيء ما؛ لأن الصغير أبصر بهذا الأمر،فقد قاد أسامة بن زيد في صدر ولاية أبي بكر جيش المسلمين المعدَّ لغزو أطراف الشام ومعه تحت إمرته كثير من الصحابة الكبار،وبرز عبد الله بن عباس في مجالس عمر بن الخطاب في محضرٍ من كبار الصحابة وولاه على إمارة الكوفة،وامتاز عبد الله بن عمر بسعة العلم وشدة الورع والزهد،وجعله أبوه أحد المستشارين في اختيار الخليفة بعده،وكان لعبد الله بن الزبير دور بارز في فتح إفريقية حتى نفذ من بين الصفوف،وقتل ملك البربر،وقام الحسن والحسين وغيرهما من شباب الصحابة بحراسة أمير المؤمنين عثمان من الثائرين ضده،وانتظروا إذن الخليفة لهم ليقاتلوا أعداءه،لكنه لم يأذن لهم،ولم يقصروا هم في واجبهم نحوه.
لقد بسطت دولة الراشدين يدها إلى كل من له قدرة على العطاء من الصحابة وغيرهم،ومن الشباب ومن سواهم ـ ليشارك الجميع في العطاء،وظل النتاج الاجتماعي العام إيجابيا في ظل انشغال الرعية بالعمل والراعي بالعدل،فلما راحت العامة تعترض على وليّ الأمر بغير بينة ولا دليل انتقضت الأمور وساد الاضطراب حياة الأمة.(1/402)
وبعد أن رفع الله الخلافة الراشدة،وتحول الأمر إلى مُلْكٍ عَضُوضٍ يتوارثه الولد عن والده والفرع عن أصله ـ كان كبار الصحابة قد ماتوا جميعا،وصار شبابهم شيوخا،واعتبر الناس فيهم شرف صحبتهم لرسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ فكانوا بمنزلة الموجِّه الروحي للأمة.
مع المقام الرفيع الذي احتله من نال شرف صحبة الرسول ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ إلا أن مجتمع الراشدين لم يكن عنصريا يَقْصُرُ باب التميُّزِ على طائفة بعينها،بل انفتح هذا الباب أمام الناس،فمن قدم لدينه وعمل له خيرا انفتح أمامه باب التميز والفضل،لذا برز في عصر الراشدين كثير من الموهوبين،وقُدِّمَ بعض هؤلاء على الصحابة،كما فعل عمر حينما ولَّى قيادة الجيش أبا عبيد الثقفي،وفى الجيش بعض كبار الصحابة ممن شهدوا بدرا وغيرها؛ إذ كان أبو عبيد أول المتطوعين لقتال الفرس بعد أن انتدب عمر الناس لحربهم.
ولم يكن الجهاد وحده كفيلا برفع مقام صاحبه ولو لم يكن له شرف الصحبة،بل كان العلم بابا آخر لتقديم الناس وبروزهم،فعلقمة بن قيس النخعي قدمه عبد الله بن مسعود ليقرأ القرآن ويفتي الناس.
كذلك كان الثبات على الإسلام في المواقف الصعبة ضامنا لرفع مقام صاحبه لدى المجتمع المسلم،وعند الخليفة الراشد،مثلما كان من فيروز الديلمي الذي قتل الأَسْوَدَ العَنْسِيَّ،والسِّمط الكِنْدِي الذي ثبت على الإسلام وقاتل المرتدين من قومه وهو ابن ثمانية عشر عاما.
وأما بقية أبناء المجتمع من غير الصحابة فهم عامة الناس وأبناء القبائل،وكانت روح القبلية والعصبية راسخةً فيهم،وكان عمر يكره اجتماعهم ويرى أنهم لا يجتمعون إلا في شر،وقد وجد بعضهم عند الردة من يثبته على دينه كما كان حال عثمان بن أبي العاص مع ثقيف وعدي بن حاتم مع طيئ،في حين لم يجد كثير من هذه القبائل مثل هذه الشخصية العظيمة ... وفى أعقاب الردة ظل المرتدون ممن رجعوا إلى دينهم بعد الهزيمة منبوذين لا يشركهم الخليفة في شيء،حتى سمح عمر لمن حَسُنَ إسلامُه منهم بالمشاركة في الجهاد،دون أن يكون أميرا على شيء،ثم أكمل عثمان العفو عنهم،وكانوا من عناصر التحريض والثورة ضده.
وأما القبائل التي ثبتت على دينها عند الردة،فقد كانوا هم جمهرة الجيوش الإسلامية،وتحملوا الكثير من صعاب الحروب ـ كما حدث لبَجِيلة وبني أسد في القادسية ـ إلا أنهم لم يملكوا القدرة على حسم المعارك في غياب كبار الصحابة،ونجوم المهاجرين والأنصار.
امتازت الحياة في عهد الراشدين بـ " بساطة " العيش،وتلقائية الأداء الاجتماعي،ظهر ذلك في ملابس الناس،كما ظهر في طعامهم،وكذلك في بيوتهم وبناياتهم.
ويوم الناس في هذا الزمن كان متناسقا كل التناسق مع الظواهر الكونية المحيطة،متناغما مع الفرائض التي افترضها الله على عباده،فمع ضوء الفجر وصلاته يبدأ نشاط المسلم: عبادةً وطلبًا للرزق،ويستمر حتى تزول الشمس من كبد السماء،ويصلِّىَ الناس الظهر خلف الأمير أو مَن ينوب عنه،فإذا صلوا(1/403)
أراحوا الجسد في ساعات الظهيرة الحارة،ثم واصلوا يومهم مع صلاة العصر إلى العشاء،حيث كره الخلفاء السمر بعد ذلك،وأحبوا الانشغال بالعبادة ورعاية مصالح الناس،أو الخلود إلى النوم لبدء يوم جديد في نشاط.
وكان من دأب الصالحين ـ والصحابة على رأسهم ـ أن يجعلوا لصلاة الليل نصيبا من وقتهم،يتساوى في ذلك غنيهم وفقيرهم،أميرهم ورعيتهم.
وكان أكثر مركوب الناس الإبل،إلا أن الخيول كانت هي صاحبة اليد العليا في البلاد المفتوحة؛ لنشاط الجهاد ولطبيعة هذه البلاد التي تمتلئ بالمدن والحواضر. وإلى جانب الإبل والخيل شاركت البغال في السلم والحرب،ولكن بصورة أقل منهما. وركب المسلمون البرذون ـ وهو نوع من الحمير الكبيرة ـ إلا أن عمر بن الخطاب كره ركوبه،ومنع نوابه من ركوبه لما في مشيته من الكبر والخيلاء...
وكانت المرأة كالرجل في ركوب هذه الدواب،فركبت الحصان كما فعلت أم حرام في فتح قبرص،وركبت الجمل كما فعلت السيدة عائشة في حرب الجمل.
ومع شيوع روح الجد والورع بين الصحابة،فإنهم كانوا يتمازحون،فكانوا يترامَوْن بالبِطِّيخ،ويلقون بعض المُلح الخفيفة المهذبة الصادقة، "فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال".
وكانت رعاية الواجب الاجتماعي سمتا واضحا للمجتمع الإسلامي في هذا الزمن.
" الإنسانية " التي تلبس ثياب الإيمان هي الصفة الأولى التي تُميِّز المجتمع المسلم،حيث تصير رعاية الواجبات الاجتماعية لا عرفا تَعَارَفَ الناس عليه أو ذوقا يبحثون عن " الوجاهة " من خلاله ـ بل خلقا شرعيا وأدبا دينيا يجب الحرص عليه.
وقد ترك النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ كثيرا من الواجبات الاجتماعية ميراثا لأمته،وأوصى المسلمين بالحرص عليها،كصلة الأرحام،وعيادة المرضى،واتباع الجنائز،وتعزية أهل المتوفى،وغيرها.
ومجتمع الخلافة الراشدة هو أول من تسلم هذا الميراث،وعمل على صيانته وتطبيقه،فكان أبو بكر وعمر وعثمان يشيعون الجنائز مع الناس ويسيرون أمامها،وكان على يشيعها حافيا ويسير خلفها،وعزى الخلفاءُ مع الناس أهلَ المتوفى،وكان أبو بكر إذا عزى رجلا يقول: " ... اذكروا فَقْدَ رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ تصغر مصيبتكم،وأعظم الله أجركم ".
كما عاد المسلمون في مجتمع الراشدين مرضاهم،لا يُسْتَثْنَى من ذلك الخلفاء أنفسهم،وكان العائد يشارك في تهوين المصيبة على أخيه المريض،ويذكره بثواب الله ـ عز وجل ـ ووصل الناس أرحامهم،خاصة في جو الالتحام العائلي المعروف حينئذ،وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري: "مُرْ ذوي القرابات أن يتزاوروا ولا يتجاوروا".(1/404)
ومن السنة الحسنة التي شاعت في مجتمع الراشدين الحرص على مناداة الناس بأحب الأسماء إليهم،وتغيير الأسماء السيئة كما فعل عمر مع مسروق بن الأجدع،حيث سماه مسروق بن عبد الرحمن،وكذلك إلقاء المسلم السلامَ على مَنْ يلقاه،حتى كان أبو بكر وعمر يلقيان السلام على النساء.
من حكمة التشريع الإسلامي البالغة أنه لم يفرض على الناس طرازا معينا من الثياب،ولا شكلا محددا من الملابس،وإنما ترك العباد يلبسون ما يشاءون في ضوء شروط معينة تجعل الملابس تحقق الغرض منها كاملا،فثوب الرجل يجب أن يستر عورته من سرته إلى ركبته على ألا يكون من الحرير وألا يكون معبرا عن أهل دين آخرين بحيث يمثل طقسا من طقوسهم،وثوب المرأة ينبغي ألا يحدد جسدها،وألا يشِفَّ عما تحته وأن يعم جسدها بالحجب عدا وجهها وكفيها،وألا يكون زينة في نفسه،وألا يكون كزِيّ الكافرات.
وفى أيام الخلافة الراشدة كان الناس يلبسون أنواعًا شتى من الثياب،منها المصنوع من القطن،ومنها المصنوع من الكتان،ومنها المصنوع من الصوف وغيرها،فمن الملابس التي تُلبس في الرأس العمامة والقلنسوة،وكانت العمامة يُجْعَلُ لها طرف يُرْخَى من الظهر،وكان عمر يحب إمرارَها من أسفل الحنك قرب الرقبة،ومن غطاء الرأس للنساء الخمار والغِفارة التي تغطي الرأس من الأمام والخلف دون الوسط،وجلباب المرأة وهو ثوب أوسع من الخمار تغطي به صدرها ورأسها.
وأما الثياب التي تكسو البدن فمنها إزار أو سروال،يستر أسفله،ورداء يستر أعلاه،وشعار يلامس الجسم والشعر مباشرة،وما فوق الشعار يسمى دثارا. وأما الثياب التي من أعلى فقد كانت متعددة،فمنها القطيفة وهو كساء جيد له بطانة،والخميصة وهو كساء أسود له عَلَم أي رسم،والقُبطية ثياب كتان بيض رقاق تُعْمل بمصر،وأما النطاق فهو ثوب تشد به المرأة وسطها.
وكان عمر يحرص على نصح المسلمين بتجنب تقليد الكافرين في ثيابهم بلبس الحرير أو تزيين الملابس بالذهب.
حين خلق الله البشرَ لم يُرِدْ أن يخلق ملائكة ذوي لحم ودم،كما لم يرد أن يخلق جِنَّاً ومَرَدَةً تختبئ في جلود جديدة،وإنما أثبت الباري قدرته المطلقة،فخلق الإنسان كائنا جديدا،اجتمعت فيه نوازع الخير ودوافع الشر،فبقى من لوازم المجتمع البشري أن يصطرع فيه الخير والشر،فإذا غلب الشر والباطل فهو مجتمع فاشل ساقط،وأما إذا غلب الخير والحق فهو مجتمع صالح ناجح...
والمجتمع الإسلامي في عهد الخلفاء الراشدين لا يخرج عن هذه القاعدة،ولذلك لا يعاب عليه أنه لم يخل من مخالفات لما ينبغي،بل انحرافاتٍ عن الحدود الشرعية التي وضعها الإسلام لتحرس الفضيلة وتدفع الرذيلة.(1/405)
وقد حرص الخلفاء الراشدون ونوابهم وكثير من أبناء المجتمع المسلم على علاج المخالفات ومقاومة الانحرافات التي بدت في مجتمعهم،إذ إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهم خصائص هذه الأمة.. واعتمد العلاج والمقاومة على سياسات واضحة،أهمها: الحِسْبة،والتعزير،وإقامة الحدود.
إن ضبط مسير السفينة في بحرها هي مسئولية جميع من يركبها،ولو راح كل واحد يتصرف في نصيبه من السفينة كما يحلو له،بخرقها أو كَسْرِ خَشبها،دون أن يجد من يُرشِّد فعلَه ويقوِّمه فإن الغرق هو المصير المحتوم الذي ينتظر الجميع.
لهذا حرص الخلفاء وأهل الدين في مجتمع الراشدين على نُصْحِ الناس وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر،للحيلولة دون تضخم المخالفات وتحولها إلى آثام اجتماعية وأمراض خلقية تخالف الدين وتناقضه وتزلزل المجتمع وتسعى في هدمه.
ومن أشهر الناصحين من رعية الخلفاء الراشدين الصحابي أبو ذر الغفاري،الذي كره للناس أن يتركوا نهج الزهد والورع الكامل،ويخالطوا الدنيا ويجمعوا من زخرفها ومتاعها الزائل،واصطدم لذلك بأمير الشام القوي معاوية بن أبي سفيان.
وشارك الخلفاءُ أنفسُهم في نصحِ الناس وأمرِهم بالمعروف ونهيِهم عن المنكر،كما فعل الصديقُ حينما نصح امرأةً نذرت أن تحج صامتةً بأن تتكلم؛ لأن هذا من أفعال الجاهلية،وكما فعل الفاروق حينما نهى امرأة مصابةً بالجذام عن مخالطة الناس،فسمعت لأمير المؤمنين وأطاعت،وكما كان يفعل علي في مروره على السوق يأمر التجار بإيفاء الكيل والميزان.
وربما ولَّى الخليفةُ بعضَ المسلمين مسئولية الحسبة،كما فعل عثمان حينما ولَّى رجلا من بني ليث قَصَّ أجنحة الحمام حين شاع وانتشر في خلافته اللعب بالحمام وتطييره،وما ترتب عليه من انشغال عن أداء الواجبات،وضياع الوقت في غير فائدة،والاطلاع على عورات الناس بارتقاء الأسطح لتطيير الحمام وولَّى عمرُ من قبله أمرَ الإشراف على السوق امرأةً من المسلمين.
التعزير " عقوبة يقدِّرها القاضي لجريمة لم يأت الشرع بعقوبة محددة لها "،وهو باب من أبواب عظمة هذا الدين وخلوده،وسرٌّ من أسرار بقائه مناسبا لحياة الناس في كل زمان ومكان،فهناك جرائم وانحرافات تجدّ بين حين وآخر،وهناك جرائم لا يناسبها أن تحدَّد لها عقوبة معينة؛ لأن آثارها تختلف من مكان إلى آخر ومن زمن إلى زمن،فتُرِكَ للقاضي تقدير العقوبة بما يكون فيه حفظ مصالح المسلمين وصيانتها،فقد يناسب هذه المخالفة مجرد اللوم أو التهديد،وقد يناسبها الجَلْدُ أو القتل أو النفي أو غيرها،فينظر القاضي بعين من يراعي مصالح المسلمين ويصون مجتمعهم من الآثار السلبية للجريمة.
وقد طبق الخلفاءُ الراشدون وعمالُهم التعزيرَ بصورة واسعة لمقاومة الجرائم والمخالفات التي تظهر في المجتمع،خاصة مع اتساع الدولة واختلاط المسلمين بأمم أخرى من غير العرب.(1/406)
وقد عزَّر أبو بكر بالتهديد والسب وبحلق الرأس واللحية وبالجلد،كما عزَّر عمرُ بالنفي والتشهير والحبس والجلد وأخذ المال،وعزَّر عثمان بإتلاف أداة الجريمة وبالجلد والنفي والتهديد،وعزر عليٌّ بالغمس في الأقذار والتشهير والقتل.
وكان ذلك كله خاضعًا لاجتهاد القاضي،وغرضُه اختيار العقوبة التي يحدث بها الارتداع عن ارتكاب الجريمة.
وكان الخلفاء الراشدون ربما جمعوا بين الحد والتعزير،كما فعل عثمان بن عفان حين ضرب مدمنا على شرب الخمر ثمانين جلدةً: أربعين لشرب الخمر،وأربعين تعزيرًا لإصراره على شربها.
قالوا: إن الوردة لابد لها من شوكة تحمي بها نفسها من عبث العابثين،والحديقة الجميلة لا تستغني عن أسلاك الشوك التي تحمي شجرها وثمارها وزهراتها وتحرسها من تعدي اللصوص والسَّرقة... وصدقوا حين قالوا ذلك،وما الدين إلا حديقة جميلة المنظر،ثرية غنية في تربتها وشجرتها وثمارها،والناس ليسوا ملائكة،بل قد تميل بهم نفوسهم إلى أن يدوسوا حدود الشرع،ففرض الله - جل وعلا - حدودا وعقوبات على الجرائم الأمِّ،منعا لتدنس المجتمع بقاذورات سوء الأخلاق،ونجس العادات،وحماية للدين من تهجم المتهجمين،فكان حدُّ السرقة قطعَ اليدِ،وحد الزنا في حال المتزوج الرجمَ وفى العزب الجلد مائةً ـ وتغريب سنةٍ،وحدُّ الحرابة القتلَ والتنكيلَ،وحدُّ القذف الجلدَ ثمانين،وحدُّ الردة القتل،وحد الخمر الجلد.
وقد حرص الخلفاء الراشدون على تطبيق هذه الحدود تطبيقا صارما،مع دفع الحد عن المتهم بالشبهات والاحتمالات التي يمكن أن تبرئه،فطبقوا هذه الحدودَ على الحُرِّ والعبدِ وعلى الأمير والرعية وعلى المسلم وغير المسلم،ومن أشهر الحوادث في ذلك تطبيق حد الخمر على من شربها في الشام قبيل طاعون عمواس،وحدُّ عثمانَ للوليد بن عقبة حين شهد عليه البعض بشربها،وهو والٍ على الكوفة،وتسليم عثمان عبيد الله بن عمر إلى ابن الهرمزان ليقتله بدل أبيه،وتطبيق عليّ حد الزنا على شراحة الهمدانية حين اعترفت به،وقبلهم تطبيق أبي بكر حد الردة على من لم يرجع إلى دينه بعد التمكن منه...
وكان الخلفاء لا يقيمون الحد على غير العاقل ولا على الصغير الذي لم يبلغ الحُلُم ولا على المكره.
الحياة صفحة بيضاء يخط الإنسان فيها بقلمه،والإنسان ذكر وأنثى،رجل وامرأة،ولا تأخذ الحياة البشرية طابعها إلا بهما جميعا.. إنها شركة يمثل الرجل طرفا فيها،ويقوم بدور يتناسب مع قدرته وفطرته،وتمثل المرأة طرفا آخر،وتقوم بدور يتناسب مع قدرتها وفطرتها،ولا تستغني الشركة عن أي من طرفيها،وإلا تلاشت وانْمحت.(1/407)
لقد أقام الإسلام العلاقة بين الرجل وزوجته على الوئام النفسي والمودة القلبية والتراحم الإنساني،وجعل الصلة بين الإنسان وأمه على أعمدة من البر وحفظ الجميل،وأقام الرابطة بين الأبوين وابنتهما على الرحمة والرفق وحسن الرعاية.
وفى مجتمع الخلفاء الراشدين ـ أول مجتمع إسلامي بعد وفاة الرسول ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ كانت الخطوات جادة،والمحاولة رائعة لتحقيق المطابقة بين تشريعات الإسلام عن المرأة وبين واقعها،ووقف الخلفاء بأنفسهم يحرسون تلك التشريعات ويجتهدون على نورٍ منها لحل ما يجدّ من قضايا ومشكلات،فظهرت المرأة في هذا العهد المبارك مجاهدة تشارك في الحروب،وعالمة ومتعلمة تروي العلم ويروى عنها،وصاحبة رأى تنصح ذوي الشأن وتوجههم،وشاركت باقتدار كبير في بعض المواقف الصعبة،وتولت بعض الوظائف العامة،ولم تنمح صورتها كزوجة في شخصية زوجها. وظهرت في وسط اللوحة صورة مضيئة باهرة لأمهات المؤمنين،وصورة أخرى للمرأة عموما تبرزها كمكوِّن فاعل في الحياة اليومية المتدفقة للمجتمع المسلم.
ما كانت المرأة المسلمة في عهد الراشدين ضيفا طارئا على الحياة،بل شريكا رئيسا يصنع الأحداث مع الرجل،حتى دخلت معه في أخص الميادين به،وهو ميدان القتال والجهاد،فقاتلت بالسيوف وبأعمدة الخيام،كما فعلت نُسَيْبَةُ بنت كعب في معركة اليمامة،وأم حكيم بنت الحارث في اليرموك،وخولة بنت الأزور في حروب الشام،وداوَتْ جرحى المسلمين،وقتلت جرحى المشركين كما فعلت النساء في وقعة القادسية،وغزت في البحر مع زوجها كما صنعت أم حَرَام بنت ملحان زوج عبادة بن الصامت في غزو قبرص. وخلف خطوط القتال كثيرا ما كانت المرأة تقف لترد رجال المسلمين وتمنعهم من الهرب كما جرى في اليرموك.
وأعدت المرأة أولادها وأعانت زوجها ليشاركوا في الجهاد في سبيل الله،كما فعل الكثير من النسوة،كالخنساء التي استشهد أربعة من أولادها في القادسية. وشاركت المسلمة في عهد الخلفاء الراشدين في الجهاد في سبيل الله بالرأي السديد والحيلة البارعة،فأردة بنت الحارث بن كَلَدة تتخلف مع النساء في إحدى معارك فارس في انتظار عودة الرجال من ساحة القتال،لكن أردة تستشعر الخطر،وتحس بدنو خطواته،وتخشى أن ينهزمَ المسلمون لقلة عددهم،ويخلصَ الأعداء إلى النساء،فتصنعُ من خمارها راية وتفعل رفيقاتُها مثل ذلك،ويتقدمن على هيئة جيش يرفع الكثير من الرايات،وما نزلن أرض المعركة إلا وملأ الرعبُ قلوبَ الفرس،وظنوا أن مددًا كبيرًا قد جاء إلى المسلمين،فتراجعوا وتمكن المسلمون منهم حتى هزموهم.
هذا،وقد ظهرت في عهد الراشدين العديد من المشكلات الخاصة بالمرأة بسبب كثرة الحروب واتساعها،وسعى الراشدون للتغلب على هذه المشكلات وحلها.(1/408)
الحربُ،مهما كانت أهدافُ أصحابِها،ودوافعُهم،ذاتُ أنياب ومخالب،وكلما كان مداها أوسع والقتال فيها أشرس،كان ما تخلّفه من المشكلات أكبر وأكثر،وربما حملت هذه المشكلات في أحشائها هلاكاً مدمرًا للمجتمع،أو عَرَّضَتْه لخطر شديد ...
وقد أولى الخلفاء الراشدون هذا النوع من المشكلات اهتماما كبيرا،تأمينا لمجتمعهم،وصونا لسلامة أمتهم،وساندتهم في هذا الخير صفوة المجتمع المسلم،التي لم تر الخليفة مسئولا وحده عن كل شيء.
ومما ألقت به الحروب من مشكلات للمجتمع المسلم في هذا الزمن،كثرة الأرامل اللاتي قُتِلَ أزواجُهن في الحروب والنزاعات وعولج ذلك بزواج الصالحين منهن،ولم ير أحد منهم عيبا في الزواج من امرأة سبق لها الزواج،بل كانوا يتسابقون للفوز بالمتميزات منهن،فتزوج عمر بن الخطاب من عاتكة بنت زيد بعد موت زوجها عبد الله بن أبي بكر عن سهم أصابه وتزوج سعد بن أبي وقاص سلمى بنت خَصَفة بعد موت زوجها المثنى بن حارثة من أثر جراح يوم الجسر،وكذا تزوج طلحة بن عبيد الله أمَّ أبان بنت عتبة بن ربيعة بعد موت زوجها أبان بن سعيد بن العاص في أجنادين.
وطفت على سطح الحياة مشكلة أخرى،إذ كان الجندي يخرج من بيته إلى جبهة القتال،فربما طال بعده عن أهله وولده،ولسعت الفرقةُ القلوبَ بلهيبها،فشدد الخلفاء في منع دخول الرجال غير المحارم على من غاب عنها زوجها،أمنا للفتنة،وعلم عمر بن الخطاب بما يمكن أن ينتج عن طول الفراق بين المرأة وزوجها من آثار سيئة،فعقَّب بين جنوده،وجعل الزوج لا يغيب عن بيته أكثر من أربعة أشهر.
وزيادة على ذلك كان المسلم الذي يفرض عليه واجبه في العراق أو فارس أو مصر أن يطيل البقاء هناك ـ كان ينتقل بأهله حيث المهمة الطويلة،كما صنع أبو عبيدة بن الجراح،وأبو عبيد الثقفي،ويزيد بن أبي سفيان،وخالد بن الوليد،وكثير غيرهم.
الحربُ،مهما كانت أهدافُ أصحابِها،ودوافعُهم،ذاتُ أنياب ومخالب،وكلما كان مداها أوسع والقتال فيها أشرس،كان ما تخلّفه من المشكلات أكبر وأكثر،وربما حملت هذه المشكلات في أحشائها هلاكاً مدمرًا للمجتمع،أو عَرَّضَتْه لخطر شديد ...
وقد أولى الخلفاء الراشدون هذا النوع من المشكلات اهتماما كبيرا،تأمينا لمجتمعهم،وصونا لسلامة أمتهم،وساندتهم في هذا الخير صفوة المجتمع المسلم،التي لم تر الخليفة مسئولا وحده عن كل شيء.
ومما ألقت به الحروب من مشكلات للمجتمع المسلم في هذا الزمن،كثرة الأرامل اللاتي قُتِلَ أزواجُهن في الحروب والنزاعات وعولج ذلك بزواج الصالحين منهن،ولم ير أحد منهم عيبا في الزواج من امرأة سبق لها الزواج،بل كانوا يتسابقون للفوز بالمتميزات منهن،فتزوج عمر بن الخطاب من عاتكة بنت زيد بعد موت زوجها عبد الله بن أبي بكر عن سهم أصابه وتزوج سعد بن أبي وقاص سلمى بنت خَصَفة بعد موت زوجها المثنى بن حارثة من أثر جراح يوم الجسر،وكذا تزوج طلحة بن عبيد الله أمَّ أبان بنت عتبة بن ربيعة بعد موت زوجها أبان بن سعيد بن العاص في أجنادين.(1/409)
وطفت على سطح الحياة مشكلة أخرى،إذ كان الجندي يخرج من بيته إلى جبهة القتال،فربما طال بعده عن أهله وولده،ولسعت الفرقةُ القلوبَ بلهيبها،فشدد الخلفاء في منع دخول الرجال غير المحارم على من غاب عنها زوجها،أمنا للفتنة،وعلم عمر بن الخطاب بما يمكن أن ينتج عن طول الفراق بين المرأة وزوجها من آثار سيئة،فعقَّب بين جنوده،وجعل الزوج لا يغيب عن بيته أكثر من أربعة أشهر.
وزيادة على ذلك كان المسلم الذي يفرض عليه واجبه في العراق أو فارس أو مصر أن يطيل البقاء هناك ـ كان ينتقل بأهله حيث المهمة الطويلة،كما صنع أبو عبيدة بن الجراح،وأبو عبيد الثقفي،ويزيد بن أبي سفيان،وخالد بن الوليد،وكثير غيرهم.
نعم،المرأة تغلب عليها العاطفة،إلا أن الله - تعالى - لم يَحْرِمْهَا العقلَ،بل إن بعض النساء في كل عصر يكنَّ أسدَّ وأرجحَ عقلا من كثير من الرجال،وإذا كان الراشدون قد حرصوا على سماع النصيحة والموعظة من الآخرين،فقد كانوا لا يبالون أن يكون الناصح رجلا أو يكون امرأة،فتقف امرأة على عمر بن الخطاب - وهو أمير المؤمنين الذي فتح الله له الأرض مشرقا ومغربا - تنصحه وتحضه على تقوى الله والعمل للآخرة،حتى تَضَايق رجل يرافق عمر،فقال أمير المؤمنين: دعها فإذا هى خولة بنت ثعلبة التي أنزل الله فيها سورة المجادلة.
ويقف الفاروق على المنبر يحض الناس على ترك المبالغة في المهور ليتيسر على الشباب الزواج،فتقوم له امرأة من بين الجمع،لم يقم منهم سواها،وترد على أمير المؤمنين بأن الله لم يحدد هذا،فقال عمر: كل إنسان أفقه من عمر!
وحينما كثر الكلام عن أمير المؤمنين عثمان،وظهر الثوار الساخطون،قامت أم سلمة تنصح أمير المؤمنين،وهو يستمع إليها استماع الابن إلى أمه،حتى انتهت من كلامها،فأظهر لها أنهم يزعمون أنهم على الحق،لكنهم أهل باطل غَرَّهم لِينُ الأمير ورفقه،فعلمت أن هؤلاء أهل فتنة وهَرَج.
ونعم الناصحة الرفيقة كانت نائلة بنت الفرافصة،حينما كانت تنصح زوجها الطاهر عثمان بن عفان وقت الأزمة بأن يستمع إلى مَنْ يَصْدُقُه النصحَ،لا إلى من يغشه وليس له رأي.
كان الدور الرئيس للمرأة في دولة الخلفاء الراشدين داخلَ بيتها،إلا أنها لم تكن حبيسة في دارها،ولا معزولة عن مجتمعها،بل كانت تشهد صلوات الجماعة،حتى صلاة الفجر،وتسمع بأخبار المسلمين،وتعرف ما يجري في الدنيا من حولها،إما عن طريق من تلقاه في المسجد،أو ما تسمعه من خطب الأمراء فوق المنابر،أو عن طريق رجال بيتها من الأبناء والآباء والأزواج.
والتحمت المرأة المسلمة في عهد الخلفاء الراشدين بمجتمعها أكثر،فشاركت في صنع بعض أحداثه،فسلمى بنت خصفة فكت أبا محجن الأسير يوم القادسية حينما شعرت بحاجة المسلمين إليه،فأبلى بلاء حسنا،وبذل مجهودا رائعا في القتال ضد الفرس،وصفية أم المؤمنين جاءت إلى عثمان(1/410)
عندما حوصر لتردَّ عنه الباغين،ولما لم تستطعْ تولَّتْ إرسالَ الطعام والشراب من بيتها إلى الإمام المحاصَر.
وأما نائلة بنت الفرافصة،فقد كانت تشير على زوجها عثمان بالصواب وقت الحصار والثورة ضده،ودافعت عنه بقدر استطاعتها،وقُطِعت أصابعها وهي تدفع سيوف المجرمين عنه،وقتل على مَرْأَى منها ومشهد،فألقت بنفسها على جسده الطاهر ومنعت القاتلين من حز رقبته... وخرجت عائشة أم المؤمنين لتحض على القصاص من قتلة عثمان بن عفان،وأرادت بذلك الصلاح والإصلاح،لكن المنافقين أوقعوا الفتنة بين الصحابة،فَجَرَتْ معركة الجمل التي شهدتها عائشة،ثم رُدَّتْ بعدها إلى بيتها معزَّزة مكرمة.
وفي وسط الخلاف كانت المرأة تختار المواقف لنفسها،وترجِّح رأيَ فريق على آخر،وقد اشتُهر كثير من النسوة شاركن عليَّ بن أبي طالب القتالَ يوم صفين،كأم الخير بنت الحُرَيش وعكرشة بنت الأطرش.
إذا انشغل الإنسان بشهواته استعبدتْه وساقتْه إلى حياة مضطربة،ومصير سيئ،وشُغِل عن الغاية من حياته،وهي عبادة مولاه والإعمار في أرض الله،وقد حرص الخلفاء الراشدون على وضع شهوات الناس في سبيلها الحلال،وأغلقوا أمامها طرق الحرام والانحراف من مسافات بعيدة،فمنعوا الاختلاط والاحتكاك بين النساء والرجال،وخصص للنساء في المسجد بابٌ يدخلن منه ويخرجن،وأماكن يتوضأن فيها ويتطهرن. وكان للمرأة أن تحضر صلاة الجماعة في المسجد متى شاءت،وتخرج لتشهد صلاة العيدين مع الرجال،ولها أن تزور أبويها وإخوتها،ومحارمها بعد استئذان زوجها...
ونصح الراشدون المرأة بأن تجعل زينتها في بيتها،وأن تلبس ثيابا متواضعة إذا خرجت زائرة أباها أو أخاها... وميَّزَ عمر بن الخطاب زيَّ الحرائر عن زي الإماء،حتى لا يتعرض أحد للحرائر بسوء،وأمر نساء أهل الكتاب بالحجاب ووضْع علامة مميِّزة لهن،حتى يُعرفن ولا يكنَّ مصدرا للفتنة.
وفي البيت،منع الخلفاء الراشدون أن يدخل على امرأة غير ذوي رحم لها ما دام زوجها غائبا عن البيت،وربما دخلت المرأة من أهل الكتاب بيوت المؤمنات فلا تُمنع،بل تقدم لها المعونة من العلاج والمال.
ولم يكن فضلاء الناس يخلون من شدة مع زوجاتهم،كما بدا من عمر بن الخطاب والزبير بن العوام،لكنها كانت شدة مع صلاح وتقوى يمنعان الزوج من الظلم،وكانت المرأة ربما رفعت صوتها على زوجها فيمنعه صلاحه وإدراكه طبيعةَ المرأة من زيادة النزاع والخلاف معها.
وفي عهد الراشدين خرجت المرأة من بيتها لتشكو إلى الخليفة بأدبٍ تقصيرَ زوجها في حقها،ووقفت على باب دارها لتشاهد الأشياء العجيبة وغير المألوفة في مجتمعها،خاصة غنائم الفتح،كما حدث بعد معركة ذات السلاسل،إذ غنم المسلمون فيلا،فأرسل به خالد بن الوليد إلى أبي بكر،فأمر بالطواف به(1/411)
في شوارع المدينة ليشاهده الناس،فكانت عجائز النساء والضعيفات ينظرن إليه ظنا منهن أنه لعبة مصنوعة!
وكان الخليفة يمر بالناس فيلقي عليهم السلام،رجالا كانوا أم نساء.
وكان يومُ الناس يسير على صورة معينة،وشاركت فيه المرأة كما شارك فيه الرجل.
كان الدور الرئيس للمرأة في دولة الخلفاء الراشدين داخلَ بيتها،إلا أنها لم تكن حبيسة في دارها،ولا معزولة عن مجتمعها،بل كانت تشهد صلوات الجماعة،حتى صلاة الفجر،وتسمع بأخبار المسلمين،وتعرف ما يجري في الدنيا من حولها،إما عن طريق من تلقاه في المسجد،أو ما تسمعه من خطب الأمراء فوق المنابر،أو عن طريق رجال بيتها من الأبناء والآباء والأزواج.
والتحمت المرأة المسلمة في عهد الخلفاء الراشدين بمجتمعها أكثر،فشاركت في صنع بعض أحداثه،فسلمى بنت خصفة فكت أبا محجن الأسير يوم القادسية حينما شعرت بحاجة المسلمين إليه،فأبلى بلاء حسنا،وبذل مجهودا رائعا في القتال ضد الفرس،وصفية أم المؤمنين جاءت إلى عثمان عندما حوصر لتردَّ عنه الباغين،ولما لم تستطعْ تولَّتْ إرسالَ الطعام والشراب من بيتها إلى الإمام المحاصَر.
وأما نائلة بنت الفرافصة،فقد كانت تشير على زوجها عثمان بالصواب وقت الحصار والثورة ضده،ودافعت عنه بقدر استطاعتها،وقُطِعت أصابعها وهي تدفع سيوف المجرمين عنه،وقتل على مَرْأَى منها ومشهد،فألقت بنفسها على جسده الطاهر ومنعت القاتلين من حز رقبته... وخرجت عائشة أم المؤمنين لتحض على القصاص من قتلة عثمان بن عفان،وأرادت بذلك الصلاح والإصلاح،لكن المنافقين أوقعوا الفتنة بين الصحابة،فَجَرَتْ معركة الجمل التي شهدتها عائشة،ثم رُدَّتْ بعدها إلى بيتها معزَّزة مكرمة.
وفي وسط الخلاف كانت المرأة تختار المواقف لنفسها،وترجِّح رأيَ فريق على آخر،وقد اشتُهر كثير من النسوة شاركن عليَّ بن أبي طالب القتالَ يوم صفين،كأم الخير بنت الحُرَيش وعكرشة بنت الأطرش.
إذا انشغل الإنسان بشهواته استعبدتْه وساقتْه إلى حياة مضطربة،ومصير سيئ،وشُغِل عن الغاية من حياته،وهي عبادة مولاه والإعمار في أرض الله،وقد حرص الخلفاء الراشدون على وضع شهوات الناس في سبيلها الحلال،وأغلقوا أمامها طرق الحرام والانحراف من مسافات بعيدة،فمنعوا الاختلاط والاحتكاك بين النساء والرجال،وخصص للنساء في المسجد بابٌ يدخلن منه ويخرجن،وأماكن يتوضأن فيها ويتطهرن. وكان للمرأة أن تحضر صلاة الجماعة في المسجد متى شاءت،وتخرج لتشهد صلاة العيدين مع الرجال،ولها أن تزور أبويها وإخوتها،ومحارمها بعد استئذان زوجها...(1/412)
ونصح الراشدون المرأة بأن تجعل زينتها في بيتها،وأن تلبس ثيابا متواضعة إذا خرجت زائرة أباها أو أخاها... وميَّزَ عمر بن الخطاب زيَّ الحرائر عن زي الإماء،حتى لا يتعرض أحد للحرائر بسوء،وأمر نساء أهل الكتاب بالحجاب ووضْع علامة مميِّزة لهن،حتى يُعرفن ولا يكنَّ مصدرا للفتنة.
وفي البيت،منع الخلفاء الراشدون أن يدخل على امرأة غير ذوي رحم لها ما دام زوجها غائبا عن البيت،وربما دخلت المرأة من أهل الكتاب بيوت المؤمنات فلا تُمنع،بل تقدم لها المعونة من العلاج والمال.
ولم يكن فضلاء الناس يخلون من شدة مع زوجاتهم،كما بدا من عمر بن الخطاب والزبير بن العوام،لكنها كانت شدة مع صلاح وتقوى يمنعان الزوج من الظلم،وكانت المرأة ربما رفعت صوتها على زوجها فيمنعه صلاحه وإدراكه طبيعةَ المرأة من زيادة النزاع والخلاف معها.
وفي عهد الراشدين خرجت المرأة من بيتها لتشكو إلى الخليفة بأدبٍ تقصيرَ زوجها في حقها،ووقفت على باب دارها لتشاهد الأشياء العجيبة وغير المألوفة في مجتمعها،خاصة غنائم الفتح،كما حدث بعد معركة ذات السلاسل،إذ غنم المسلمون فيلا،فأرسل به خالد بن الوليد إلى أبي بكر،فأمر بالطواف به في شوارع المدينة ليشاهده الناس،فكانت عجائز النساء والضعيفات ينظرن إليه ظنا منهن أنه لعبة مصنوعة!
وكان الخليفة يمر بالناس فيلقي عليهم السلام،رجالا كانوا أم نساء.
وكان يومُ الناس يسير على صورة معينة،وشاركت فيه المرأة كما شارك فيه الرجل.
ذاع في دولة الراشدين التزوُّجُ بأكثر من واحدة،ولم يكن تحوُّل المرأة إلى أرملة يعني أن سوقها قد كسدت عند الرجال،بل كثيرا ما كان فضلاء الرجال يتنافسون للزواج من الأرامل النجيبات،كما حدث مع عاتكة بنت زيد وأم أبان بنت عتبة،وقد ظهرت في ذلك عظمة التشريع في إباحة تعدد الزوجات. كما تزوج كثير من المسلمين من نساء أهل الكتاب.
وآمن الراشدون ومجتمعهم تماما بحق المرأة في اختيار زوجها،وبأنه ليس لِوَلِيِّها ولا لغيره أن يكرهها على الزواج ممن لا تريده،وركزوا على الكفاءة في اختيار الزوج،وأبوا أن يزوجوا من وقع في الفاحشة من امرأة شريفة. وكان عمر يوصي بأن يتزوج الرجل في غير أقاربه لكي لا يَضْعُفَ نسله.
ونصح عمر وعلي بعدم المغالاة في المهور،وإن لم يفرضا ذلك على الناس فرضا،وقد بلغ انتشار المغالاة في المهور في هذا الزمن أن رجلا تزوج في عهد عمر بن الخطاب على مهر قليل،فأخفى زواجَه عن الناس حياءً منهم.
وأما عن سن الفتاة عند الزواج،فلم يكن الخلفاء الراشدون يطلقون إباحة الزواج من الصغيرات،وقضى علي بن أبي طالب بأن من دخل بفتاة أقل من تسع سنوات أُخذت منه غرامة ضمان كبيرة.(1/413)
وأوصى عمر بإظهار البنات الصغيرات ليتعرف عليهن بنو أعمامهن،فلعله يكون لهم فيهن رغبة الزواج فيما بعد.
وأما الطلاق فلم يكن قضية كبيرة في مجتمع الخلفاء الراشدين الذين حرصوا على صيانة التشريعات الخاصة بذلك،فاشتد عمر بن الخطاب على المتلاعبين بألفاظ الطلاق..
كما حارب الراشدون نظام المحلل الذي يحلل المرأة لزوجها بعد طلاقه لها ثلاثا،وكان عمر يهدد المحلل إذا طلق المرأة بأن يُحدَّ كما يحد الزاني.
ووقف الخلفاء يدافعون عن حقوق المرأة،فأبطلوا الطلاق الذي يوقعه الزوج عند مرض موته،فقد يكون فعل ذلك للإضرار بالزوجة.
إن دولة الخلفاء الراشدين اعتبرت المرأة عنصرا رئيسا من عناصر مجتمعها،وإذا لم تكن لدى المرأة إمكانات تولِّي الخلافة العامة وتسيير شؤون الأمة كلها ـ وهي مهمة لا يصلح لها إلا قليل جدا من الرجال أصلا ـ فإنها تستطيع القيام بمسئوليات عامة أخرى.
وعلى هذا الأساس ولَّى عمر بن الخطاب الشفاء بنت عبد الله العدوية السوق،فكانت تمر بها،وتراقب السلع،وتنهى عن الغش،كما كانت سمراء بنت نهيك تمر في الأسواق،وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر،وتضرب الناس على ذلك بسوط كان معها.
وحرص الراشدون في ذلك على أن تكون المرأة في سن لا تجعلها موضعا للفتنة.
كما ولى عمر بن الخطاب ابنته حفصة النظر في أرض له بخيبر،وقفها على منفعة السائل والمحروم وذوي القربى،وكان لأم المؤمنين حفصة منزلة وثقة عند أبيها،حتى كلفها بمسئولية أخرى أكبر من النظر في الوقف،إذ أودع عندها نسخة المصحف الذي جمع في عهد أبي بكر الصديق،وفى عهد عثمان أخذت هذه النسخة،وكتبت منها المصاحف التي اعتمدها الخليفة الثالث،ثم رُدَّ الأصل إلى أم المؤمنين حفصة،بل إن الخلفاء الراشدين أجازوا أن تتولى المرأة الوصاية على مال أبيها وأولاده،وضرب عمر المثل في ذلك فأوصى إلى ابنته حفصة أن تنظر في أمر أمواله ونكاح بناته بعد موته.
مات رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ عن تسع نسوة،امتد العمر بأكثرهن حتى انتهى عهد الراشدين،فماتت زينب بنت جحش وسودة بنت زمعة في خلافة عمر،وماتت حفصة وأم حبيبة وصفية وميمونة وجويرية وعائشة في خلافة معاوية،وامتد العمر بأم سلمة حتى أيام يزيد بن معاوية. وعاش هؤلاء الطاهرات في عهد الراشدين كجزء متميز من المجتمع المسلم،فلهن حق الأمومة العامة لجميع المسلمين صغارا وكبارا،وهو الحق الذي أعطاهن إياه القرآن الكريم،ولهن حق القرابة من رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ولا يحل لأحد أن يتزوج بهن.
وقد حفظ الخلفاء الراشدون ومجتمعهم هذه المنزلة لأمهات المؤمنين،وجعل الخليفة حفظَهن وحمايتَهن أحدَ مهمات خلافته،وكان عمر وعثمان يميزونهن في عطاء بيت المال عن الآخرين،والخليفة أو أحد(1/414)
كبار الصحابة يرافقون أمهات المؤمنين كل عام إلى الحج... بل كان من أبناء المجتمع أغنياء ـ كعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان ـ يَصِلُونَ أمهاتِ المؤمنين بصلاتٍ وهدايا من أموالهم الخاصة.
وفي هذا الجو من الاحترام والتوقير لم تكن أمهات المؤمنين على هامش حياة المجتمع،بل كن في القلب منه،يشاركن في الحياة العلمية،ويروين من حياة رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ما لا يعلمه غيرهن،ويسعين لإحقاق الحق ورد الباطل،فقد حاولت صفية ردَّ العدوان عن عثمان،وكانت ترسل إليه الطعام والشراب من بيتها،ووقفت عائشة مطالبة بقتل من قتل أمير المؤمنين عثمان،ورأت أن هذا هو الموقف الصواب.
وإدراكا لحرمة أمهات المؤمنين وقف علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس في وجه من أراد أن يقسِّم أسرى وسبايا وقعة الجمل،فقال علي وابن عباس لهم (وهم الخوارج): من منكم يرضى أن تكون أم المؤمنين في نصيبه؟! فبُهت المطالبون وسكتوا!
لقد كان الخليفة الراشد الأول أبا لإحدى أمهات المؤمنين ( عائشة بنت أبي بكر ) وكان الخليفة الثاني أبا لأخرى من أمهات المؤمنين ( حفصة بنت عمر ) فكان برهما بأمهات المؤمنين صلةَ رحمٍ وحفظًا لحق النبي وحرمته.
مع أن الله ـ تعالى ـ يبغض الشرك وأهله،ولا يرضى لعباده الكفر،إلا أنه نهى عن إكراه الناس على ترك أديانهم ومللهم،كما أمر بالعدل والقسط في معاملة المسالمين من غير المسلمين،وخاصة أهلَ الكتاب ومَنْ لحق بهم من المجوس والصابئة،وسماهم الإسلام "أهل الذمة" أي أصحاب العهد والاتفاق على المسالة مع المسلمين ماداموا محافظين على التزامات معينة.
ولم يشأ الإسلام أن يأمر بقتل هؤلاء قتلاً ماديا ولا معنويا،والقتل المعنوي يكون باعتزالهم ونبذهم وقطع كل قنوات الاتصال معهم،بل فتح أمام المسلمين أبواب الزواج من نسائهم،والبيع لهم والشراء منهم،وأشركهم في تدعيم الوطن وبنائه بالجزية التي يدفعونها " لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا "،كما أحلَّ أكل المسلم من طعامهم،وأكلهم من طعامه...
ولم يكن ذلك أفكارا نظريةً وردت في القرآن والسنة فحسب،بل إنها مبادئ راسخة طبقت في أغلب فترات التاريخ الإسلامي،بما لا مثيل له في تاريخ أمة من الأمم،ويمثل عصر الراشدين أحد النماذج على ذلك،سواء في جانب حماية عقائد الناس،أم الرفق بأهل الذمة،وحتى حينما أجلى الخلفاء بعض أهل الكتاب من اليهود والنصارى عن الجزيرة لم يكن في ذلك ظلم ولا تحامل،وحينما تحاشى الخلفاء إسناد وظائف الدولة العامة إلى أهل الكتاب فإنما فعلوا ذلك رعاية للمصلحة.
ولم تكن معاملة أسرى الحرب من غير المسلمين قسوة مطلقة،وإنما ارتبطت أيضا بالمصلحة العامة للمسلمين،فربما عفا الخليفة عن الأسير،وربما أخذ فيه الفدية.. إلخ.(1/415)
ونتيجة لهذا كله كان موقف سكان البلاد المفتوحة من المسلمين موقف المرحِّب المُعِين في أحيان غير قليلة،وهو ما ازداد مع ازدياد معرفتهم بالمسلمين وعدلهم الذي أزاح الاضطهاد الشديد الذي أنزله الرومان والفرس بالناس.
إن أغلى شيء لدى الإنسان هو عقيدته التي يؤمن بها،مهما يكن شكل هذه العقيدة،ولو كانت طقوسًا وطلاسم غريبةً لا تقنع عقلا ولا تُشبعُ روحًا،وقد تمكن المسلمون بفتوحاتهم في عهد الراشدين من السيطرة على ملايين من البشر يخالفونهم في العقيدة والدين،ما بين يهودي ونصراني ومجوسي وصابئي ومشرك،وفى كل دين مذاهب وطرق عديدة تختلف فيما بينها اختلاف النقيض غالبا ـ وبالرغم من أن الأجواء التي سبقت الفتح كانت مملوءة بالاضطهاد الديني لأهل البلاد المفتوحة،فإن المسلمين حملوا راية القرآن مكتوبًا عليها: ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي )،فالحق المستقيم واضحٌ والباطل المعوجُّ ظاهرٌ،ولايحتاج إلى إكراه أو إرغام،لذا لم يشهد عصر الخلفاء الراشدين حالة واحدة لإخراج إنسان من دينه بالقوة،نعم حارب أبو بكر المرتدين الذين اختاروا دينا غير الإسلام،لكن ذلك لأن الردة لعب بالدين يجرح قداسته،وأيضا صالح عمر قبيلة تغلب واشترط عليهم ألا يُنَصِّرُوا أولادهم،وألا يربُّوهم على دينهم،ولم يفعل ذلك إلا لِكبْرِهِمْ وعنادهم،كما أنه لم يُكره الكبار على ترك نصرانِيَّتهم.
لقد كانت الدعوة إلى الإسلام تتوقف عند حدود النصح وإرشاد العباد،ولا تتعدى ذلك إلى الضغط أو الإكراه مهما كان مقام الداعي،فأمير المؤمنين عمر يدعو عبدًا نصرانيًا لديه وامرأةً مشركةً قصدته في حاجة ـ يدعوهما إلى الإسلام برفق ولين،ولا يفرض سلطته على العبد النصراني ولا يستغل حاجة المرأة المشركة إليه ليدخلها في الإسلام،فلما رفضا الاستجابة له قال: " اللهم إني أرشدت ولم أُكْرِهْ " كأنه يعتذر إلى ربه ومولاه من أن يكون في دعوته لهما أيُّ ضغط أو إكراه.
وقد ترك الراشدون لأهل الذمة إقامة شعائر دينهم،على ألا يعلنوا ذلك وسط المسلمين،وألا يَدْعُوا مسلما إلى دينهم،وبقي لكل طائفة رئيس،يرجعون إليه،ويتحاكمون في المشكلات القائمة بينهم.
ولم يكن حرص الخلفاء ونوابهم على حماية عقائد الناس قاصرا على المواقف الحياتية السريعة،بل كانت الوثائق وعهود الصلح المبرمة بين المسلمين وبين غيرهم تُضَمَّنُ حرية الناس في الاحتفاظ بدينهم،وصيانة أماكن عبادتهم ـ كما تُضَمَّنُ حفظ دمائهم وممتلكاتهم.
يمثل الزواج أقوى صورة للتداخل الاجتماعي بين الغرباء،فبين لحظة وأخرى يتحول البعيد إلى قريب،والغريب إلى صِهْر ونسيب،وقد أباح الإسلام الزواج من الكتابية،وضمن لها في ظل زوجها المسلم أن تحتفظ بدينها متى شاءت البقاء عليه،وكان الزواج من الكتابيات إحدى صور النكاح الشرعي الذي وجد في عهد الخلفاء الراشدين،حتى إن عثمان بن عفان نفسه صاهر رجلاً نصرانيا من(1/416)
أهل العراق بزواجه من نائلة بنت الفَرَافِصَةِ وهي نصرانية،ثم أسلمت على يدي أمير المؤمنين،وكانت من أرفع نسائه منزلةً عنده.
وقبل ذلك تزوج المهاجرون والأنصار من أهل البلاد المفتوحة دون أن تُغَيِّر الزوجة دينها،وجرى ذلك وقت الحرب حينما قلَّت المسلمات،وبعد أن هدأ صوت الحرب: منهم من ظل محتفظا بزوجته،ومنهم من طلق.
لكن الخلفاء كانوا يقدرون في ذلك المنافع والمفاسد،فالرجل صاحب المنصب الرسمي في الدولة يخشى عليه من الزواج بالكتابية؛ مخافة أن يكون ذلك بابا للإضرار بمصالح المسلمين،والاتساع في الزواج من الكتابيات قد يضر بالمسلمة،ويضيِّق فرصتها في الزواج،ولذلك أمر عمر بن الخطاب حذيفة بن اليمان بعدما ولاه أميرًا على المدائن بتطليق كتابية تزوَّجها من أهل المدائن.
كان من وصايا رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ألا يبقى في جزيرة العرب دينان،فتلك الجزيرة بِنْتُ الإسلام وحده،ولا يحق لأحد أن يشاركه فيها،خاصة أن جميع الطوائف قد ناصبت الإسلام العداوة في هذا الصقع من العالم،والذي يقع فيه بيت الله الحرام وكعبته المشرفة،وشهد كلَّ خطوات الدعوة ومراحلها،وكافح الإسلام في هذا المكان حتى صارت له اليد العليا فيه،ويكفي أنه لم يُصْدِرْ حكما بالإعدام على من حاربوه وعادَوْه كل المعاداة حين تمكَّن منهم،أفلا يكون من حقه أن يخرجهم من حزام الجزيرة إلى خارجها..؟ !
لقد شهد عهد الخلفاء الراشدين إجلاء فريقين من أهل الكتاب عن جزيرة العرب،وهما: أهل نجران،واليهود،وجاء ذلك في بعدين: أحدهما تنفيذ الوصية النبوية،والثاني استغلال المسلمين لحقوقهم في الشروط التي شرطوها لأنفسهم عند مصالحة هؤلاء،فقد صالح المسلمون هاتين الطائفتين على أن يكون من حقهم إجلاؤهم متى شاءوا،أو في حال مخالفتهم للشروط التي أخذوها على أنفسهم.
مع أن الوصية النبوية بألا يبقى في جزيرة العرب دينان،واضحة كل الوضوح،إلا أن الخلفاء الراشدين لم يُجْلُوا أحدًا من اليهود والنصارى عنها إلا بسبب وظلم منهم،فقد عقد رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ سنة عشرٍ من الهجرة صلحا مع أهل نجران على ألا " يُفْتَنَ أسقف عن أسقفيته ولا راهب عن رهبانيته " وكان من بنود الصلح ألا يأكلوا الربا،وجاء أبو بكر فكتب لهم كتابا مثل ذلك،واشترط عليهم ما اشترطه رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ قبل ذلك وبقي القوم في أمان ما داموا حافظين للعهد،صائنين لشروطه.
ومر الزمن وتغيرت الأيام،فاشتاق القوم إلى آثامهم القديمة،واستجابوا لرغبات أنفسهم وأهوائها،فأكلوا الربا وباعوا به واشتروا،وزاد عددهم حتى بلغوا أربعين ألفًا،فدب الحسد بينهم وتنازعوا،وبلغهم الثراءُ الكبيرُ الذي استفاده المسلمون في البلاد المفتوحة فرغبوا في سُكْنَى الشام،والعراق،فلبى لهم عمر أمير المؤمنين طلبَهم،على حُبّ منه لإجلائهم عن الجزيرة إلى ناحية أخرى،وكتب لهم كتابا بذلك كان عثمان بن عفان أحد شهوده،وأوصى عمر بهم خيرا،وأعطاهم(1/417)
أرضا بدلا من أرضهم التي تركوها باليمن،وحين شعروا بالغربة في الأرض الجديدة رجوا عمر أن يعيدهم من حيث أتوا،لكنه رفض ذلك ... وفى خلافة عثمان بن عفان نالهم نصيب من رفق أمير المؤمنين،إذ خفف عنهم الجزية حين رأى حالهم قد تغيرت.
في سنة سبعٍ من الهجرة حقق المسلمون نصرًا حاسمًا على اليهود في غزوة خيبر،حيث حطموا سيطرة اليهود وأَنْهَوا نفوذهم في الحجاز،وأمر رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ هؤلاء اليهود بالجلاء عن الحجاز،أمْنًا لمكرهم،ودفعًا لشرِّهم،إذ كانوا بين الحين والآخر يدبِّرون مكيدة أو أخرى للإسلام وأتباعه،ويجمعون أعداء الإسلام في الجزيرة لِكَسْرِ جناحِه والقضاءِ على قوَّته...
لكنهم راحوا يلتمسون من رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ وقد أمرهم بالجلاء ـ أن يبقيهم في أرض خيبر يزرعونها له،فهم أعرف بها،فوافقهم الرسول على ذلك مقابل أن يأخذوا نصف ما تخرجه الأرض من الزرع والثمر،واشترط عليهم أن يُجليهم متى شاء...
ومع أن هؤلاء اليهود قد قص النبي أجنحتهم،وجرَّدهم من سلاحهم،إلا أن الحقد ظل حيا في صدورهم،فقتلوا مسلما من الأنصار،وتركهم رسول الله لما لم يتيقن من أنهم أصحاب الجريمة،ودفع هو دِية القتيل.. وفي عهد عمر بن الخطاب جددوا أعمالهم الخبيثةَ،فأعانوا على قتل مسلم،وهاجموا عبد الله بن عمر تحت ظلمة الليل وأصابوه في يده،فعلم أمير المؤمنين أنهم مدبرو هذه الحوادث كلها،فليس للمسلمين عدو في هذه الجهة سواهم،فعزم على إخراجهم إلا من كان لديه عهد من رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ بالبقاء،ووافق المهاجرون والأنصار عمر على رأيه،وأجمعوا عليه،فأخرج اليهود من خيبر وفدك إلى تيماء وأريحا،بظلم منهم وعدوان.
إنها سحب خير أمطرت حتى عم نفعُها المسلم وغير المسلم،إذ كان عدلُ الخلفاء ورحمتُهم ورفقُهم أخلاقًا عامةً يتعاملون بها مع الجميع،ما لم يعتدوا على حرمة،أو يستهينوا بمقدَّس،فهذا أبو بكر ينهى جيوشه عن التعرض لمن لا شأن لهم بالحرب من الأطفال والنساء والشيوخ،والرهبان الذين فرغوا أنفسهم للعبادة،وهذا عمر يسقط الجزية عن يهودي طاعن في السن حين يراه يسأل الناس،بل يأمر له بصدقة من بيت المال،ويأمر بصدقة أخرى لقوم من النصارى أصابهم الجذام،ويوفِّرُ لهم القوت،وامتنع الفاروق عن الصلاة في كنيسة القيامة مخافة أن يتخذها المسلمون مصلَّى من بعده،ويغصبوها من أهلها،وخفف عثمان الجزية عن أهل نجران حينما ضعفت مراكزهم المالية ...
لقد كان نهجا ساروا عليه،اتسم بالرفق والرحمة،وبَعُدَ عن العنف والشدة،سواء في ناحية الجزية وأدائها،أم حفظ الممتلكات وصيانتها،أم منح الحرية العقائدية والبعد عن الاضطهاد الديني.
وتعدى هذا الرفق من الخلفاء إلى رجالهم ونوابهم،بل إلى الرعية نفسها،فعمرو بن العاص يحسن إلى راهب القبط الأكبر،ويرده إلى منصبه بعد الاضطهاد الكبير الذي لقيه من الرومان،ويمنح نصارى مصر(1/418)
حريتهم الدينية،ويتولى أحد المسلمين قسمة البيوت بين الفاتحين وبين أهل دمشق بناء على شروط الصلح،فيترك الدور العلوي للرومي،ويترك للمسلم الدور السفلي لئلا يضر بالذمي...
بل كان هناك رفق خفي من الخلفاء بأهل الذمة،إذ منعوهم من مخالفات الفطرة الصريحة،مثلما فعل عمر بن الخطاب من الأمر بالتفريق بين الزوجين المجوسيين إذا كانا محارم.
ولم يكن عتق الرقاب وقفًا على الرقيق المسلمين،بل ربما أعتق المسلم عبدًا أو أمةً من أهل الكتاب،كما فعل عمر وعليّ.
ثقيل هو الظلم على النفس،وهو أثقل ما يكون حين يتصل بالدين،حين ترى الرجل يُضْطَهد من أجل عقيدته،ويحاول ظالمُه أن يصرفَه بالقوة عنها،وقد كان العديد من البلاد قبل الفتح الإسلامي لها خاضعا لأنواع عديدة من الظلم،فهنا ظلم سياسي وهنا ظلم اقتصادي،وهنا اضطهاد ديني،وهناك كل هذه الأنواع من الظلم مجتمعة،فيستولي أصحاب السلطة على كل شيء،ويسخرون ثروات البلاد لخدمة أغراضهم،ويذيقون الناس أنواع الهوان والعذاب لأنهم يخالفونهم لا في الدين ولكن في المذهب...
وجاء الإسلام في هذه الأجواء على النقيض من ذلك،فحمل السماحة والرأفة في قلوب أصحابه،والإيمان التام بوجوب إعطاء الناس حريتهم الدينية،بحيث لا يُرْغَمُون على شيء،إذ لا خير في دين ولا مذهب يتبعه المرء مكرها.
كما وازن المسلمون في تحصيل أموال الخراج والجزية والعشور،بحيث لا يرهقون الناس،ولا يفقدون هذه المصادر المالية المهمة للدولة...
لذا رأى سكان البلاد المفتوحة أن المسلمين جاءوا نسائم رحمة لا سيوف نقمة،فكان بعضهم يساند المسلمين ضد الرومان والفرس كما جرى في مِصْرَ وحِمْصَ وغيرهما،وبدلا من أن يتحول الفتح مع الزمان إلى احتلال آخر يمتص دماء الناس ـ أخذت قاعدة الإسلام البشرية تتسع،وازداد أتباعه ومعتنقوه،بينما تحلل كثير من الأديان والملل الأخرى أو قلَّ أتباعها.. وصارت البلاد لا بلاد المصريين وحدهم،ولا الشاميين وحدهم،ولا الفرس وحدهم،وإنما صارت بلاد المسلمين أجمعهم،من كل الأشكال والألوان.
" كنت عبدا نصرانيا لعمر فقال: أَسْلِمْ حتى نستعين بك على بعض أمور المسلمين؛ لأنه لا ينبغي لنا أن نستعين على أمورِهم بمن ليس منهم،فأبيت،فقال: لا إكراه في الدين.." هكذا يحكي أحدُ الروم عن الخليفة القوي المهيب عمر بن الخطاب،فدولة الخلفاء الراشدين لا تولّي غير المسلمين سلطةً فيها إلا عند الحاجة والضرورة،لذا اعتمدت الدواوين عليهم لانعدام الخبرة الخاصة بذلك لدى المسلمين.
إن المسألة هنا لها قاعدة أعم وأشمل من الواقع،فإمام المسلمين العادل الحريص على مصلحة رعيته يُوكَلُ إليه تقدير المصلحة والمفسدة في تولية غير المسلمين بعض المسئوليات،وبالنظر إلى دولة الخلفاء الراشدين سنجد أنهم اعتمدوا على غير المسلمين في الأمور التي لا قدرة للمسلمين عليها،أما إذا(1/419)
استغنوا بالمسلمين فهذا أولى من تولية غيرهم،خاصة أن الدولة قد دخلت في حروب واسعة ضد الكثير من الأمم،فليس من المأمون أن نضع السلطة في يد غير المسلمين وقومهم في حرب وصراعٍ مع المسلمين.
إلا أن المسلمين حرصوا تماما على أن يتولى الشؤون الخاصة بأهل الذمة رجلٌ منهم،فاليهود لهم رأس الجالوت يرجعون إليه،والنصارى لهم البطرك الأكبر،ولم يكن الخلفاء يفرضون واحدا معينا لزعامة أهل الذمة،ولو كان من بينهم،بل اختار كل فريق رئيسه بحريته التامة.
وإذا كان للوليد بن عقبة جليسٌ نصرانيٌّ دعاه إلى الله حتى أسلم،فقد كان عمر بن الخطاب يحذر من مجالسة المشركين.
إن مما ضمن للإسلام الخلود ودوام الصلاح في كل زمان،أنه ترك بعض الأمور بلا حل قاطع،وجعل اختيار الأنفع فيها تبعا للمصلحة،ومن هذه الأمور معاملة أسرى الحرب من غير المسلمين،فإن شاء إمام المسلمين مَنَّ عليهم بالحرية بغير مقابل،وإن شاء فداهم بالمال،وإن شاء قتل رجالهم وسبى النساء والأطفال،وإن شاء اتخذ الجميع رقيقًا.
وقد عمل الخلفاء الراشدون بهذه القاعدة فنظروا إلى المصلحة فيما يعملون،وراعوها وحفظوها،حتى لا يكون لموضوع الأسرى الذين بلغوا أعدادًا هائلة أيُّ آثار جانبية تضر بالمجتمع المسلم،فمال أبو بكر إلى قتل الرجال من الأسرى منعا لتقوِّي العدو بهم في تلك الفترة الحساسة التي حكم فيها الصديق،والتي شهدت الردة وحروبها الكثيرة،وأما عمر بن الخطاب فكان يفرق بين أسرى العرب وأسرى غيرهم،فكان لا يفرض على العرب رِقَّاً،وإنما يفديهم أو يقتلهم أو يعفو عنهم بغير فداء،في حين كان أسرى العجم يتعرضون للرق،لذلك امتلأت بلاد المسلمين بالرقيق من العجم،وفتح هذا بابا للخير وبابا للشر،فأما باب الخير فقد خالطوا المسلمين ورأوا عاداتهم وأخلاقهم فأسلم كثير منهم،ونشأ من ذرياتهم علماء وزهاد كثيرون،كالحسن البصري ومحمد بن سيرين،وأما باب الشر،فقد انتقل كثير من هؤلاء الرقيق إلى المجتمع المسلم بعاداتهم وتقاليدهم وعقائدهم،فكانوا عوامل سلبية فيه،وأما عثمان بن عفان فقد كان كثيرا ما يسترِقُّ الأسرى.
كان لابد من ضبط العلاقة بين المسلمين وبين غيرهم في داخل حدود الدولة الإسلامية،حتى يعرف كل طرف حقوقه وواجباته،ومن هذه الحقوق وتلك الواجبات تُعْرَفُ صحة التصرفات وخطؤها،وقد عقد المسلمون عشرات من عقود الصلح وعهود الذمة،كان بعضها بناء على طلب من غير المسلمين كما حدث عند فتح بيت المقدس،وبعضها الآخر،عقد في أعقاب انتصار المسلمين على أعدائهم،حيث تصان دماؤهم،ويفرض عليهم الصلح،كما حدث عند فتح حمص ...(1/420)
وقد دارت حقوق أهل الذمة في هذه العهود عموما حول تأمين أرواحهم وممتلكاتهم ودور عبادتهم،في مقابل دفعهم الجزية وعدم مساسهم بدين المسلمين ولا أعراضهم،وإذا خالف الذمي ذلك فقد نقض العهد.
وقد رعى المسلمون هذه العهود في مجملها،حتى كان عقد الذمة لدى الفرق المتشددة - كالخوارج - أقوى من الرابطة التي تربطهم بالمسلم المخالف لهم في بعض الأفكار،لذلك مرَّ بالخوارج رجل نصراني فتركوه حفظًا لعهد الذمة،ومر بهم عبدالله بن خباب بن الأرت فقتلوه وقتلوا زوجته معه،فحاربهم أمير المؤمنين علي في النهروان لاستحلالهم دمَ مسلمٍ بغير حق.
لقد حاولت الإمبراطوريات الكبرى قبل الإسلام السيطرة على كل شيء في حياة الناس،فلم يكتف الملوك وأعوانهم بحيازة جل المنافع الاقتصادية لأنفسهم،وتركيز السلطة في أيديهم،وإقصاء الشعوب وإزاحتها إلى هوامش الحياة ـ بل تعدوا ذلك إلى الاضطهاد الديني،ومحاولة خلع الناس من عقائدهم،فاضطهد الفرس الأقليات الدينية الموجودة لديهم،ونشروا دين زاردشت وما فيه من شهوانية طاغية ليقتلوا روح الأخلاق والتدين لدى الناس،وأصر الرومان على توحيد مذهب سكان الإمبراطورية الرومانية ومعتقدهم في المسيح عليه السلام،ليكون الجميع تابعين لمذهب كنيسة القسطنطينية،ونال المخالفين كثير من العنت والاضطهاد،وكان قسط الأقباط في مصر من هذا الاضطهاد هو الأكبر،فقد تبنت كنيسة الإسكندرية عقيدة في المسيح تخالف ما ذهب إليه رجال الدين في القسطنطينية،ونشب الشر بين الفريقين،حتى لحق بالمصريين كثير من التنكيل والتعذيب،وقبيل مقدم الإسلام إلى مصر كان القبط يعيشون مأساة كبيرة في مواجهة مذهب الدولة الذي تبناه المقوقس،فَقُتِل رجال الدين،فضلا عن عامة الناس،وفر بنيامين كبير القبط من وجه الرومان...
وجاء الفتح الإسلامي بسماحة أهله وعدلهم كما يأتي الماء البارد للرجل شديد العطش،فأنقذهم من قبضة الاضطهاد،وأعطاهم حريتهم الدينية،لذلك وثق أهل البلاد المفتوحة في المسلمين،وساعدوهم في بعض المواقف.
إن مقارنة سريعة بين أوضاع مصر والشام والعراق وفارس قبل الفتح وبين أوضاعها بعد فتح المسلمين لها تكشف الحقيقة جلية،فقد كان الرومان في مصر ـ مثلا ـ يأخذون من القبط ضريبة حتى على الموتى حينما يُشيَّعون إلى قبورهم،أما المسلمون فقد تركوا لأهل الذمة حرية تشييع جنائزهم علانية وفي جمهرة منهم،بل كان المسلم إذا رأى ميتا ـ مهما يكن دينه ـ قد حُمِل على الأعناق قام احتراما لهذه النفس ـ كما فعل رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ حين مرت به جنازة ليهودي.
جاء الإسلام والرق نظام اجتماعي ثابت ومعمول به،ولم يكن ممكنا أبدا إلغاء هذا النظام مرة واحدة،إلا أن الجاهلية كانت تفتح أبواب زيادة الرقيق وتغلق أبواب عتقهم،فقد يصبح الرجل عبدا لأنه عجز عن دفع دين عليه،أو لأن اللصوص اختطفوه وباعوه،أو لأن قبيلة أغارت على أخرى(1/421)
فاختطفت من رجالها ونسائها،وقد يفقد الحر حريته بسبب احتلال أجنبي لبلاده وأرضه،فجاء الإسلام وجعل عتق الرقاب قُربةً يتقرب بها العبدُ إلى ربه - سبحانه وتعالى،وأغلق جميع أبواب استرقاق الأحرار وجرَّمها،سوى من يرى الأمير استرقاقهم من أسرى الحرب.
ومن ظلم الجاهلية للرقيق أيضا أنها كانت تعطي السادة حرية التصرف التام في عبيدهم لا بالبيع والشراء فحسب،ولكن بالقتل والإحياء أيضا.
أما الإسلام في سموه ورفعته فقد غير اسم العبد إلى المولى وجعله أخا لمالكه،وفرض الإحسان إليهم،وإطعامَهم مما يَطعَم السادة وإلباسَهم مما يَلْبَسُون.
وقد امتاز حال الرقيق في عصر الخلفاء الراشدين بأشياء،أهمها: ازدياد عدد الرقيق بصورة هائلة،وفتح باب المكاتبة أو شراء الرقيق نفسه من السيد،كما شاع أمر الخلفاء والصحابة بالرفق بهم وإحسان معاملتهم موافقة لروح الدين وتشريعاته الصريحة،وقد كان لهؤلاء الرقيق تأثيرهم في حياة المسلمين بما يحملون من عادات وتقاليد ومهارات.
حارب المسلمون في الفتوحات جيوشا كبيرة العدد،وافتتحوا مدنا مأهولة بالسكان،وانتصروا في أكثرية المعارك التي خاضوها،فوقع في أيديهم آلاف وآلاف من أسرى العدو.. وحُكم الدين في هؤلاء أن يحكم وليّ أمر المسلمين فيهم بما يناسب مصلحة الأمة،من العفو أو أخذ الفدية أو القتل أو الرق،وفضل أغلب الخلفاء الاسترقاق على القتل،ميلا إلى الرفق،وحبا لانتفاع المسلمين بهؤلاء الأسرى.
وإذا كان عدد الرقيق ونسبتهم قد ازدادت في المجتمع المسلم عما كانت في المجتمع الجاهلي،فإن ظروف الحروب الكبيرة والمتواصلة هي التي أدت إلى ذلك،في الوقت الذي نجح فيه الإسلام في إغلاق أبواب الاسترقاق وروافده الأخرى،كما أن تحبيب عتق الرقيق إلى المسلمين والأمر بالرفق بهم ـ قد غيرا معالم حياة الرقيق تماما.
لقد أصبح اتخاذ الرقيق في هذا المجتمع أمرا عاديا يفعله كل مسلم تقريبا،واتخذ الصحابة أنفسهم رقيقا من أسرى الحروب،كالمغيرة بن شعبة والزبير بن العوام،وأنس بن مالك وغيرهم.
بل إن من الصحابة من تزوج من الرقيق،كعلي بن أبي طالب الذي تزوج امرأة من بني حنيفة أُسرت في وقعة اليمامة،والحسين بن علي وعبد الله بن عمر ومحمد بن أبي بكر الذين تزوجوا بعض بنات أشراف الفرس.
ومن العلامات التي يعرف بها زيادة عدد الرقيق زيادة كبيرة في هذه الفترة - أن الرجل الواحد ربما كان له ألف من الأرقاء،كما كان حال عثمان بن عفان والزبير بن العوام.(1/422)
المكاتبة ـ أو شراءُ العبدِ حريتَه من سيده ـ تشريع قرآني حكيم،فتح أمام الرقيق بابا واسعا من الخير،ينالون بعده حريتهم كاملة،فيتفق العبد مع سيده على أن يعتقه مقابل قدر ما من المال أو غيره،وليس للسيد أن يرفض ذلك إن كان في المملوك خير أو استقامة.
ومن حكمة هذا التشريع أن المُكَاتَبَ أثناء بحثه عن المال الذي كاتب عليه،يثبت لمجتمعه أنه قادر على الكسب،ولو عاش حرا فلن يتحول إلى عالة يتحملها الآخرون.
وقد كان عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب يريان وجوب مكاتبة الرقيق إذا طلب ذلك،حتى رفع عمر بن الخطاب دِرَّتَه على أنس بن مالك حين طلب منه والد محمد بن سيرين المكاتبةَ فلم يرضَ أنس،وقرأ عليه عمرُ قول الله - تعالى: (... والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا...) [سورة النور]،وكان الفاروق يجبر سادات العبيد على مكاتبتهم بالضرب إذا طلب العبد المكاتبة.
وكان علي بن أبي طالب يوجب إعانة السيد لعبده الذي يكاتبه،فيسقط عنه بعض المال الذي كاتبه عليه.
وحفظا لحق المالك حرص الخلفاء على إعادة المُكاتَب إلى الرق،إن عجز عن دفع ما كاتب عليه سيدَه. ومع ما في المكاتبة من ربح وفير للسيد في غالب الأحيان،إلا أن كثيرا من أبناء المجتمع أحبوا إعتاق الرقاب في سبيل الله،طلبا للثواب والأجر في الآخرة.
يتحاشى المسلم الحقيقي إهانةَ بشريةِ الإنسان ولو كان عبدا رقيقا،سواء بتسخيره في أعمال تشق عليه،أم باحتقاره وعَدِّه أقلَّ آدميةً من الأحرار.. وقد راعى الراشدون وأكثريةُ المسلمين في عهدهم إحسانَ معاملة الرقيق،إيمانا منهم بأن ذلك باب من أبواب رضا الله تعالى عن خلقه،وبأنه - سبحانه - لو شاء أن يجعل المالك هو العبد لفَعَلَ.
لقد ارتفعت إنسانية الإنسان حينئذ فلم يغرق في بحر الهوان مع وقوعه في الرق،بل كان يعامل معاملة حسنة،ويتأثر بدين سادته،حتى قَلَّ أن يبقى العبد على دينه إن كان سيده مسلما.. وكم ثار السيد وغضب لأخطاء رقيقه،فكَفَّر عن هذا الغضب بالعتق،كما فعل أبو هريرة وعلي بن أبي طالب وامرأةٌ من نساء عمرو بن العاص،وفى وقت الرضا كان عتق الرقاب قربة يتقرب بها المسلم إلى ربه،حتى أعتق حكيم بن حزام مائة رقبة،كما كان الرفق بالموالي قربةً أخرى يبحث بها المسلم عن ثواب الله تعالى،حتى كان عثمان بن عفان ـ وهو شيخ كبير ـ يستيقظ بالليل للصلاة،ويُعد ماء الوضوء بنفسه،فقيل له: لو أمرت الخَدَم لكَفَوْكَ؟ فقال: لا،إن الليل لهم يستريحون فيه!
ومع حق السيد في بيع مواليه ورقيقه،إلا أنه كان حراما عليه أن يفرق بين الرقيق وأمه وأبيه،ورأى أبو بكر جواز ذلك إن كان كبيرا مستغنيا عنهما.(1/423)
ومن التشريعات التي امتازت بالرفق بالعبيد،وطُبِّقت في عهد الراشدين،تنصيف الحد عليه إن وقع في جريمة تستحق الحد،ومعاقبة السيد وتغريمُه إن كان هو السبب في هذه الجريمة،وكان عمر بن الخطاب يعتق العبد إن عاقبه سيده عقوبة خارجة عن حد الشرع،أو ألحقت به ضررا كبيرا،وكان في إمكان الرقيق أن يأتوا إلى أولياء الأمور ليشكوا إليهم ظلم السادة.
مثَّل الموالي في مجتمع الراشدين قوةً اقتصاديةً ضاربة،ولكن لصالح سادتهم،فقد كانت قيمة هؤلاء الموالي هي أنهم يتقنون صناعاتٍ غيرَ موجودةٍ لدى العرب،أو توجد في دائرة ضيقة جدا،وبالتالي كان السادة ينتفعون بهؤلاء الرقيق،فيعطونهم حرية العمل في مقابل خراج يدفعونه إليهم،وقد كان لأبي بكر غلام يدفع له خراجا،وكان للزبير ألف مملوك يؤدون إليه الخراج،وكان أبو لؤلؤة يعمل ويعطي سيده المغيرة بن شعبة درهمين كل يوم.
كذلك كان بيع الموالي أنفسِهم مما ينعش حركة المجتمع الاقتصاديةَ،وقد تفاوتت أثمانهم من واحد إلى آخر تبعًا لقدراته ومواهبه،وتبعا لهذه المواهب كان يتحدد خراج المولى لسيده،ولذلك رفض عمرُ بن الخطاب خفضَ خراجِ أبي لؤلؤة للمغيرة بن شعبة،فأبو لؤلؤة يجيد صناعات عديدة.
كذلك كانت المكاتبة بين السيد والمولى تُدِرُّ على المالك مالا كثيرا،فقد كَاتَبَ والد محمد بن سيرين سيدَه أنس بن مالك على عشرين ألف درهم،وكَاتَبَ أبو سعيد المقبري سيدته على أربعين ألف درهم،وكانت اشترته من سوق ذي المجاز بسبعمائة درهم فحسب.
وخوفا من الضغط على الرقيق ليكسبوا المال لسادتهم،كان عثمان بن عفان ينهى عن تكليف الرقيق الذي لا يجيد صنعة بدفع الخراج،حتى لا يسلك طرقا منحرفة للحصول على المال.
قبل أن ينزل الإسلام بساحة العرب لم يكن لهم علم ولا فن سوى بلاغة اللسان وجودة البيان،فبلغ القرآن منهم كل مبلغ حينما تحداهم فيما يُجيدون،ونزل بلسانهم وعجزوا أن يأتوا بمثله،فكان البيان القرآني بابا لتسليم قوم وإيمانهم،وبابا لجحود قوم وإنكارهم،فاتهموا رسول الله بالسحر حين وجدوا لفظا عربيا وتركيبا عربيا،لكن لا طاقة لهم بأن يأتوا بمثله !!
لقد غَذَّى القرآنُ لدى العرب عمقَ الإحساس بجودة الكلام وحلاوته،وبعد أن كان الشعر شاغلهم الشاغل،أخذ القرآن يحتل الساحة شيئا فشيئا،حتى اعتزل بعض الشعراء قول الشعر،وانشغلوا بكتاب الله - تعالى..
وكان الشعر في عهد رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ جنديا قذف به في وجه الكفر،ووجَّهه توجيها واحدا في خدمة الدعوة ومهاجمة الكفر وأهله.. ولم تكن له مثل هذه المكانة في فترة الراشدين،إلا أنه بقي وسيلة قوية للتأثير،وخلص أغلبه للحديث عن الحرب ورثاء الكبار،واهتم بعضه بالهجاء والهجوم على الخصوم.(1/424)
وكانت هناك مساحة واسعة في هذا العصر للاستشهاد بشعر السابقين،واشتهر الخلفاء الراشدون بذلك.
وكانت الخطابة ـ كلوْنٍ من البلاغة الرفيعة ـ ميدانا خصبا طوال عهد الراشدين لمناقشة قضايا الأمة في أسلوب رفيع وبلاغة رصينة. وينافسها في هذا الميدان الرسائل التي كثر تبادلها في هذه الفترة المملوءة بالأحداث الكبيرة.
الشعر أحد المستويات الرفيعة من التعبير،والشاعر لا يستطيع أن ينخلع من واقعه الذي يحياه،فلابد أن يمسّ في نظمه ما يجرى حوله وما يدور في بيئته،وقد كانت بيئة الأحداث في عهد الراشدين مملوءة بالحروب والملاحم،ولذلك كان للشعر صوته في التعبير عما يجري في هذه الحروب.
وفى الجاهلية كان صوت الشعر في الحروب والصراعات القبلية أعلى مما كان في حروب الراشدين وفتوحاتهم،وحروب الجاهلية كانت بين العرب وبعضهم البعض،كان صوت الشاعر المهاجم لعدوه،والمدافع عن قومه يخترق الحدودَ ليصلَ إلى مسامع القبيلة المعادية فتدرك معناه،وأما الفتوحات فقد كانت في مواجهة العجم الذين لاحظ لهم من لسان العرب،فمهما قيل من الشعر فلن يكون له أثر.
وينقسم شعر الحرب الذي ظهر في عهد الراشدين إلى: شعر الحماسة الذي ينشده الأبطال عند المبارزة والقتال،وشعر الاحتفال بالنصر والفخر به،وشعر رثاء الأبطال والحديث عن الهزيمة.
كما شكا البعض من الحرب وثمنها الغالي،وهي الفرقة بين الأحباب،فجاء رجل إلى عمر بن الخطاب يشكو له شعرا خروج ابنه إلى قتال الفرس وتَرْكَه والديْه الكبيرَيْن بلا رعاية،فَرَقَّ عمر للرجل وتأثر بشعره وكلماته الصادقة،فأمر برد الجندي إلى والديه،ولامت النابغةَ الجعديَّ امرأته لخروجه إلى القتال وتعريضه نفسه للخطر،فنظم أبياتا يذكر فيها أن هذا أمر وفرض قد كتبه الله عليه.
وهكذا تفاعل الشعر مع أحداث الحرب،فتناولها في أحداثها الكبيرة،وفى أعمالها الصغيرة.
صوت النشيد الذي يرتفع في ساحات الحرب يفعل نفس سامعه ومنشده فعل السحر،يَحْفِزُ الهممَ،ويُقَوِّي النفس على الثبات.. وقد كان العربي يدخل المعركة،ويشارك في المبارزة،فتنطلق حنجرته بالشعر مفتخرا بنفسه أو بقومه،ليهز معنوياتِ خصمه،وتَثْبُتَ قدمُه في وجه عدوه،وانتقل العرب إلى الإسلام،ومعهم هذه العادة.. حتى ارتجز النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ في حنين ليجمع المسلمين حوله،وارتجز أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في خيبر في مواجهة خصم عنيد من اليهود.
وقد ضغطت الحرب على المسلمين يوم اليمامة،وعضَّتْهم بأنيابها،فعاود خالد بن الوليد الهجومَ بجندِه على عدوِّه الكافر وهو ينشد الشعر ويتغنى به حتى انتصر المسلمون.
وعندما انتقلت المواجهات إلى ساحات أخرى في فارس والشام والعراق،لم يختف شعر الحماسة الذي ينشده الجندي أثناء القتال،مع أن العدو في الغالب لم يكن يعلم معنى هذا الشعر،فرأينا عكرمة بن أبي(1/425)
جهل والقعقاع بن عمرو يوم اليرموك يشعلان الحرب وهما ينشدان الشعر،وفى يوم أرماث من القادسية انطلق صوت غالب بن عبد الله الأسدي وعاصم بن عمرو التميمي بشعر حماسي قوي... بل إن القائد الفارسي مهران راح يوم البويب ينشد الشعر العربي مفتخرا بقدرته وقوته،ومقلدا في ذلك العرب الذين تربى بينهم في اليمن...
هذا،وقد قيل شعر الحماسة بكثرة في المعارك والمبارزات التي نجمت عن الخلافات الداخلية بين المسلمين في عهد عثمان وعهد عليّ ـ رضي الله عنهما.
بعد أن تسحب الحرب ذيولها،وتبذل النَّفَسَ الأخير منها،ويسكن التراب المتطاير ويرجع إلى أمِّه الأرض ـ تنكشف الحقائق،وتظهر النتائج،والنفس البشرية يُسعدها النصر،ويحزنها الانكسار والهزيمة،وقد تجاوب الشعراء المسلمون مع الانتصارات الكثيرة التي حققها الفاتحون،وعبروا عن سعادتهم بهذه الانتصارات،وطار كل شاعر فرحا مفتخرا بما قدمه قومه،أو قدمه هو من جُهْد في مقاومة العدو وكسر شكوته ...
لقد كان العربي في جاهليته يفخر بانتصاره على قبيلة قد تكون ضعيفة غير خبيرة بأمر الحرب،ويفخر حينما يفلح في الإغارة المفاجئة على قوم،أما اليوم فالمسلمون قد انتصروا على أقوى الأمم في زمن الراشدين انتصارات غيَّرت وجهَ العالم،حتى زال حكم الفرس ودولة بني ساسان تماما،وفقد الرومان جزءا كبيرا من دولتهم،وخاصة شرق بحر الروم وجنوبه،أفلا يحق للمسلمين ولشعرائهم أن يفخروا بذلك المجد الشامخ؟!
لقد فخروا ونظموا الشعر يحكون انتصارات الفاتحين،ففي القادسية رفع القعقاع بن عمرو صوته بالشعر يفخر بقتله الفِيَلَةَ وجنودَ العدو،وفخر بطل من قبيلة قيس حين قاتل أرطبون الروم في البحر فقتله وانهزم الروم،وفخر عِياض بن غَنْم بجموع المسلمين التي فتحت الجزيرة بيسر وسهولة...
إن الشهيد البطل هو الثمن الذي تُقْطَفُ به ثمار النصر،ولولا قوة قلب هذا الشهيد،وشدة ضربه في العدو لكان النصر حلما صعبا،وأمنية بعيدة ... وقد عز على المسلمين أن يفقدوا أبطالهم الشهداء،فحزنوا لفقدهم،وبكوا لفراقهم،وكان الشاعر لسان القوم الذي يعبر عن ذلك.. وإن كان المسلمون قد خفف حزنَهم على قتلاهم احتسابُهم شهداء عند الله،فقد كان حزن المشركين على قتلاهم لا يجد ما يخفف منه،فرثوا هم أيضا قتلاهم الذين لقوا مصارعهم على يد المسلمين...
بل انطلق الشعراء يرثون الشهداء المسلمين الذين قُتِلوا في الصراع الداخلي حين وقعت الفتنة.
وقد قام الشعر هنا بدور المؤرخ الذي يسجل بعض الأحداث التاريخية المهمة،كما امتاز في كثير من الأحيان بشحنة عاطفية كبيرة بثها الحزن وسط العبارات وملأ بها الكلمات،مثل قول كثير بن الغريزة التميمي يرثي شهداء المسلمين في معارك الجوزجان والطالَقان:
سقى مُزْنُ السحاب إذا استهلَّت(1/426)
مصارع فتية بالجُوزجانِ
وما بي أن أكون جَزِعت إلا
حنينُ القلب للبرق اليماني
وربَّ أخٍ أصابَ الموتُ قبلي
بكيتُ ولو نُعيت له بكاني
وكان الزبير بن العوام أشهر الأبطال الذين رثاهم الشعراء من قتلى أحداث الفتنة.
يا لَلرِّجَال لِلُبِّك المخطوفِ
ولدَمْعك المترقرق المنزوفِ
ويحٌ لأمر قد أتاني رائعٍ
هَدَّ الجبال فأنقضَتْ بِرُجُوفِ
هكذا انطلق الشعراء يرثون الخلفاء الراشدين في شعر يُعتصر الحزنُ من كلماته،ويفيض الأسى من عباراته،وكيف لا والراشدون الأربعة هم السابقون لمن حولهم في الفضل والمنزلة ؟ وكيف لا ـ أيضا ـ وقد كان موت ثلاثة منهم بقتلٍ مؤلمٍ،تجرَّأ فيه الأشقياء على عمر وعثمان وعلي؟!
راح الشعراء يرثون الأربعة ويودِّعونهم،معبِّرين عن المُصاب الجلل برحيل كل واحد منهم،ومنوِّهين بفضلهم ومكانتهم،فهم أئمة عدل،وفرسان حرب،ورعاة لليتامى،تالون لكتاب الله،لا يخالف قولَهم فعلُهم ...
عينُ جودي بعَبْرةٍ ونحيبِ
ـ لا تَملِّي ـ علي الإمام النجيبِ
فجعَتْني المنونُ بالفارس المُعْـ
ـلِمِ يومَ الهياج والتلبيبِ
ومن أشهر المرثيات في ذلك رثاء خِفاف بن ندبة أبا بكر الصديق،ورثاء عاتكة بنت زيد زوجَها عمر بن الخطاب،ورثاء حسان بن ثابت وكعب بن مالك لعثمان بن عفان،وأبي الأسود الدؤلي لعلي بن أبي طالب.
إن الإسلام الذي لا يحب مَدْح الناس في وجوههم،إلا بما يدفعهم إلى المزيد من الخيرـ يكره كُلَّ الكراهية ويبغض كل البعض تَهَجُّمَ الألسن على الحرمات،واجتراءها على أعراض الناس وانشغالها بذم الخَلْق وشتمهم...
والشعر كلام من الكلام،يمكن أن يكون حسنا.. ويمكن أن يكون سيئا.. وفى جوِّ الخلاف الديني والسياسي لابد أن يخرج الهجاء برأسه،ويعلوَ صوته كسيف قوي يضرب في وجوه الخصوم،وقد كانت أحداث الردة حالة من حالات الخلاف الديني والصراع السياسي،وكانت الفتنة أيضا حالة(1/427)
أخرى للخلاف السياسي بين أطراف مسلمة،ولذلك ارتفع صوت الشعراء هاجيا للخصوم،حتى قام بعض مانعي الزكاة يعتب على أبي بكر أن يطالب القبائل بدفع زكاة أموالهم حتى كاد يهجوه،ناظما قوله على صورة الشعر،وتبادل الشعراء في جيش علي بن أبي طالب وجيش معاوية بن أبي سفيان الكثير من الهجاء،حينما احتد الخلاف واشتدت الفتنة بين الفريقين...
وقبل أن تنفلت الأمور كان الخليفة الراشد يحرص على حماية المجتمع من ألسنة الشعراء الهجائين،فسجن عمر بن الخطاب الحُطَيْئَة بسبب هجائه للناس،ثم اشترى منه أعراض المسلمين بالمال ليصمت عن التعرض لهم بالقدح والذم،ونهى النجاشي الشاعر عن التعرض لأحد بالذم حين هجا بني العجلان،وهدَّد من يتغزل في امرأة بالجلد،ومنع عثمانُ بن عفان زياد بن لبيد البيَّاضيّ من التعرض لعبيد الله بن عمر ثانية حين هجاه بالشعر بعد قتل عبيد الله للهرمزان...
دار الشعر على ألسنة العرب،وتناقلوه فيما بينهم،حبا في هذا القول المملوء بالموسيقى،والمتميز بالتعبير الجميل والتصوير الدقيق،وزادت خبرة بعض الناس بالشعر حتى صاروا يوردونه في المواقف التي تناسبه بدقة واضحة استشهادا وتمثلا به في هذه المواقف...
وكان الصحابة كثيرا ما يستشهدون بشعر الشاعر في الموقف المناسب له،مثل: سعد بن أبي وقاص،وطلحة،والزبير،ومعاوية بن أبي سفيان،وغيرهم.
وتُظْهِر حياة الخلفاء الراشدين أنهم أصحاب ثقافة ومعرفة واسعة بشعر العرب،وإن لم يكن لهم شعر نظموه بأنفسهم،إلا أبياتا قليلة تصح نسبتها إلى علي بن أبي طالب..
بعد نصر أُليَّس بعث خالد بن الوليد برسول إلى أبي بكر بالبشرى،فاختبر أبو بكر الرسولَ،فلما وجده ثابتا صارما قال أبو بكر:
نفسُ عصامٍ سوَّدت عصاما
وعوَّدته الكرَّ والإقداما
وكذا فعل الفاروق عمر حينما " ورد ودايا كان يرعى فيه الغنم وهو صغير،ثم صار اليوم أميرا للمؤمنين،فقال:
لا شيء فيما ترى تبقى بشاشته يبقى الإله ويودى المال والولد.
وأما عثمان،" فكان أروى الناس للبيت والبيتين والثلاثة إلى الخمسة "،وحين اشتد انتقاد من أحسن إليهم عثمان بن عفان مع دخولهم في الردة ثم عودتهم إلى الإسلام،تمثل أمير المؤمنين بقول الشاعر:
وكنت وعمرًا كالمُسَمِّنِ كلبه
فخدَّشه أنيابُه وأظافرُه
وإذا كان أمير المؤمنين عليّ ينسب إليه القليل من الشعر،فإنه أيضا كان يتمثل بشعرِ غيرِه في مواقفَ عديدةٍ مثل قول الشاعر:(1/428)
ومن لا يصانع في أمور كثيرة
يُضَرَّس بأنياب ويوطأ بمنسِمِ
كان للعرب حينما أتاهم الإسلام لسان فصيح وقول بليغ،وجاءهم القرآن وبلاغة العبارة التي لا تُطَال إحدى معجزاته،فبهرهم وأخذ بألبابهم،لكن بقيت عبارتهم هم قويةً وبليغةً،وتميز الخاصةُ منهم بجمال القول حتى في مواقف الحياة اليومية،إلا أن المواقف المتميزة ـ كموقف الخطابة ـ كانت أصلح لإظهار بلاغة المتكلم وقدرته على رصف الكلام وترتيبه،مع بعدهم عن التكلُّف والادعاء الذي حذرهم منه رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - .
لقد مثلت الخطابة في عهد الخلفاء الراشدين طريقة يعرِّف فيها الخليفة أمته بدستوره وطريقته في الحكم،وبابًا يفقههم العالِم من خلاله في دينهم،وينبئهم الأمير بأخبار إخوانهم على جبهات القتال،ويحضهم على معونة المجاهدين هنا وهناك ويشجعهم على القتال...
وكان المسجد ومنبره هو المكان الأول الذي يشهد خطبة الخطيب،كما جرى عندما ألقى أبو بكر أول خطبة له في الخلافة،وكذلك فعل عمر،كما صعد عثمان المنبر يدافع عن نفسه ويرد التهم الموجهة إليه.. ومثلت ساحاتُ القتال ومواضعُ تجمُّع الناس ميدانًا آخر يخطب فيه الخطيب في الناس،وقد أدى الخطباء مهمة جليلة في معركة اليرموك ووقعة القادسية،حينما تولَّوا تحميس المسلمين وتشجيعهم على مواجهة أعدائهم،والصبر في وجوههم،وطلب ثواب الله عز وجل.
ولم تكن الخطابة مرتبطة بالجمعة وحدها،بل كلما احتاج أمر إليها قام الخطيب إليها.
لم تكن الأمية الفاشية بين الناس في هذا الزمن لتقلل من أهمية الرسائل المتداولة فيه،إلا أنها جعلت رسائل العصر تقتصر غالبا على المكاتبات الرسمية المتبادلة بين الخليفة والأمراء،أو بين الأمراء وبعضهم البعض،ذلك أن العارفين بالقراءة والكتابة كانوا غالبا من نجباء القوم وأمرائهم،فلا نجد رسالة تَبادلها رجل عادي من بين أفراد الرعية مع مثله في عهد الخلفاء الراشدين.
لقد كانت الرسائل والمكاتبات المتبادلة بين الخليفة ورجاله هي وسيلة الاتصال الأولى التي حركت الكثير من الأحداث الجارية في ساحات الحرب والقتال،وبها تكيف أهل العصر مع إمكانات زمانهم،وتغلبوا على الصعوبات الجمة التي وقفت في طريقهم،لذلك كان انتظام هذه الرسائل واهتمام الخلفاء بها بابا مهما لنجاح حركة الفتوح،وانتظام أمور الدولة في يد الخليفة،وحينما اختُرقت هذه الوسيلة وكُتبت رسالة أمير المؤمنين عثمان بدون علمه تَأْمُرَ أميرَ مصر بقتل بعض المعترضين عليه،ثارت الفتنة،وتفاقم أمرها،حتى ذهب الخليفة لأجلها شهيدا...
إن أهم رسائل هذه العصر كانت من الخليفة أو إليه،وقلة منها كانت بين الأمراء وبعضهم البعض،وبعضها كان يأتي إلى الخليفة من رؤساء العجم،كتلك التي كتب بها ملك الروم إلى عمر بن الخطاب.(1/429)
ورسائل العصر قِطَعٌ بلاغية رفيعة،تخلو من التكلف والادعاء،وإنما هي سليقة القوم وطبيعتهم،ومن أهمها وأشهرها رسالة أبي بكر إلى المرتدين والتي يدعوهم فيها إلى معاودة الصواب والرجوع إلى الدين،ورسالة عمر بن الخطاب بعزل خالد بن الوليد عن قيادة جيوش الشام،ورسالته إلى أبي موسى في القضاء.
فإنك كالليل الذي هو مدركي
وإن خِلْتُ أن المنتأى عنك واسعُ
تحدث عمر بن الخطاب مع وفد غطفان،وسألهم عن صاحب هذا الشعر،فقالوا: النابغة،فقال: " هذا أشعر شعرائكم ".. ستظل قدرة الإنسان على تذوُّق الأدب والفن وجها من وجوه تميُّزِه عن الكائنات الأخرى،فالتشبيه الرائع يسحره،والصورة الدقيقة تدهشه،والموسيقى الظاهرة تطربه،فإذا أضاف إلى ذلك جمال المعنى انسجمت نفس المتذوِّق مع ما يرى أو يسمع.
والإنسان في كل عصر هو الإنسان،لا تتطور إلا أدواته،وتنمو في العمق مواهبه،أما أساس الملكات النفسية والميول الطبيعية فواحدة،ما لم تُمْسَخْ أو تُحوَّلْ إلى مجرى غير مجراها الطبيعي.
وقد كان العرب يتذوقون الشعر،ويحبون دقاته ورناته،ويعيشون مع معانية،وجاءهم الإسلام وهم كذلك،فلم يلغ الذوق ولا التذوق،بل جعل رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ المسجد واحدا من الأماكن التي يسمع فيها الشعر ويلقى واستلم الخلفاء الراشدون الراية من بعده،فما منعهم ثقل المسئولية من إلقاء أشعار الشعراء،والاستماع إليها،والاستشهاد بها،ونَمَّ ما كانوا يفضلونه من الشعر عن قدرة رفيعة على التذوق،لا يفصلون في ذلك بين جمال الشكل وجمال المعنى،بل لابد عندهم أن يكون المعنى الطيب في ثوب لفظي جميل،كما أن اللفظ الطيب لابد له من معنى طيب.
وكان عمر بن الخطاب صاحب رأى في الشعراء العرب،فيفضل بعضهم على بعض،ويقدم فريقا على غيره،فزُهَيْر بن أبي سلمى عنده هو " شاعر الشعراء "،والنابغة الجعدي هو أشعر شعراء غطفان.. وليس تقديم زهير إلا لسهولة عبارته،وبُعْده عن الألفاظ الغريبة،ولا يمدح أحدا إلا بما فيه.
لا يعنَى الإسلام بعمارة القلوب وحدها،ولا بتنظيم أمور الروح فحسب،بل يأخذ دنيا الإنسان من طرفيها ـ البداية والنهاية ـ ليشملها بأحكامه،ويعمها بتشريعاته يفصِّل في ذلك حينا،ويُجْمِلُ أحيانا.. لذا وجد المسلم في عمارة الأرض وإنبات الخير فيها مجالا واسعا للعبادة والتقرب إلى الله - تعالى.
وللعمران ثلاثة جوانب بارزة: أولها ـ قدرته على تأدية الغرض المباشر منه بخدمة ضروريات الناس وحاجاتهم،وثانيها ـ اعتماده على إمكانات البيئة المحيطة بقدر المستطاع،وثالثها ـ خدمته للحس الجمالي بالزخرفة،والتجميل...(1/430)
وقد ظهر الجانبان الأوَّلان في العمارة الإسلامية في عصر الراشدين بصورة واضحة في حين بدا الجانب الثالث حينئذ على استحياء،إلا أنه نما وتطور في العصور الإسلامية التالية،حتى وصل إلى قمة الجمال الذي يُبهر ويسحر،كما يبدو في آثارنا الإسلامية التي يمتلئ بها العالم ...
وقد شهد عصر الراشدين ـ وخاصة عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان ـ حركة عمرانية واسعة،تنوعت بين بناء المساجد وتجديدها،وبناء المدن وتمصيرها،وخدمة الزراعة والتجارة بشق الترع والطرق،وكان السائد على مواد البناء حينئذ سهولة الحصول عليها،وتواضعها.
المسجد.. قطعة من أرض الدنيا،لكنه روح من الجنة،وعطر من الفردوس،عندعتبته تنتهي حياة وتبدأ حياة،تنتهي ضجةُ الدنيا وتبدأ تسبيحاتُ القلوبِ والألسنةِ والجوارحِ.
وقد أَوْلَى المسلمون المسجدَ اهتمامهم الكبير طوال تاريخهم،وبقيت العلاقة بالمسجد دليلا على سلامة الأمة ـ إذا كانت قوية ـ أو مؤشرا على ضعفها ـ إذا كانت ضعيفة،فهَجْر المسجد وقلة الإقبال عليه وتحويله إلى موضع للاختلاف والتنازع ـ نذير سوء يحذر الأمة من خطر يحيط بها،في حين أن اعتياد المساجد وتعلق قلوب المؤمنين بها وأداءها لدور توحيد الأمة - مبشر بخير كثير وفضل كبير للأمة المسلمة.
وليس ذلك كثيرا على بيوت الله (المساجد)،فهي مواضع للصلة بين العبد وربه،وحول هذه الصلة تدور كل أسباب الفلاح وجميع عوامل النجاح.
لهذا كله عُنِي الراشدون بالمساجد،وعني الناس في عصرهم ببنائها وتشييدها،وقد تمثل العمران المسجدي في عهد الخلفاء الراشدين في أمرين:
أولهما: تجديد المساجد القديمة كالمسجد الحرام والمسجد النبوي.
ثانيهما: بناء مساجد جديدة،كمسجد دمشق ومسجد عمرو بن العاص بالفسطاط.
إن عمران المساجد يكون أساسا بكثرة الساجدين فيها والراكعين،وبتزيينها بالخشوع لله وتلاوة كتابه وبترانيم الدعاء والذكر إلا أنه " لا ينبغي أن يتخلف المسجد في عمارته ومنشآته عما اتخذه المسلمون في بيوتهم ومنازلهم من مواد البناء،وفنون إقامتها،وجمال هندستها،ووفائها بمهامها،واستحداث ما استُحدث من أنواع الفُرُش دون سَرَفٍ أو ترف".. وقد اهتم الخلفاء الراشدون بتجديد ما يحتاج إلى تجديد من المساجد،وخاصة المسجدين الحرام والنبوي،ولم يكن همهم في ذلك النقشَ والزخرفةَ والتلوينَ،بل كان التجديدُ لأهداف عملية واضحة،فعُنُوا بتوسعة المساجد لتضم عددا أكبر من المصلين واهتموا باستعمال مواد للبناء أكثر صلابةً وأقدر صبرا مع الزمن حتى لا تتقوض سُقُفُ المسجد وجدرانه،ومثال ذلك المسجد الحرام،إذ كان عمر بن الخطاب هو أول من زاد فيه " اشترى دورا فزادها فيه،واتخذ للمسجد جدارا قصيرا دون القامة،وكان عمر أول من اتخذ له الجدار،ثم وسَّعه عثمان،واتخذ له الأروقة،وهو أول من اتخذها". وأما المسجد النبوي فقد " كان على عهد رسول الله(1/431)
ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ مبنيا باللَّبِنِ وسقفُه الجريد،وعُمُدُه خشب النخل،فلم يزد فيه أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ شيئا،وزاد فيه عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وبناه على بنائه في عهد رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ باللَّبِنِ والجريد،وأعاد عُمُده خشبا،ثم غيره عثمان ـ رضي الله عنه ـ فزاد فيه زيادة كبيرة،وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والجَصِّ،وجعل عمده من حجارة منقوشة،وسقفه بـ ( خشب الساج ) الذي يمتاز بالقوة والصلابة.
ولم يكتف الخلفاء بذلك،فوضع عمر القناديل في المسجد لتضيء للناس،وفتح فيه ستة أبواب،ولما جدد عثمان المسجد بعده أبقى الأبواب الستة،وزاد في ارتفاع الجدران،وفتح نوافذ في أعلاها للتهوية والإضاءة بالنهارـ وذلك سنة تسع وعشرين من الهجرة.
مع الفتوحات الإسلامية انتشر الإسلام واللغة العربية والمساجد،وإذا كانت الصلاة علامة الإيمان فإن المساجد رمزُ المؤمنين،وهي المِرْفق الأول في المجتمع المسلم،لذلك أقيمت المساجد أينما حل المسلمون وأينما أقاموا،وشُيِّدت حيث انتشر الإسلام وكثر تابعوه،وبقى بناء المساجد رفيقا دائما لفتح المدن،كما حدث عند فتح دمشق وفتح اللاذقية وحلب ...
لقد أدرك الخلفاء الراشدون أن ظهور الإسلام في مجتمع ما أو انتقال مجتمع مسلم إلى موضع جديد ـ يجب أن يرافقهما تشييد بيوت لله - تعالى،يقيم فيها عباده الصلاة ويذكرون ربهم،لذا كتب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبى وقاص بالكوفة،وأبي موسى الأشعري بالبصرة وعمرو بن العاص بمصر أن يتخذ كل واحد منهم مسجدا جامعا للمسلمين،"ويتخذ للقبائل مسجدا،فإذا كان يوم الجمعة انضموا إلى مسجد الجماعة فشهدوا الجمعة"،وكتب إلى أمراء الأجناد أن ينزلوا المدن،ويتخذوا في كل مدينة مسجدًا واحدًا.
وكما تنتشر النجوم في سماء الدنيا،انتشرت المساجد في أرضها،وقام على بنائها وضبط قبلتها صحابة النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ،كالذي جرى عند بناء مسجد عمرو بن العاص بالفسطاط،ومسجد دمشق،ومسجد قبة الصخرة الذي أمر ببنائه عمر بن الخطاب في رحلة تَسَلُّمِه بيت المقدس.
" ما هي إلا معاقل لتوكيد الفتح،وحاميةٌ لتغذية جبهات القتال بالرجال والمؤن،ونقاطُ ارتكاز لحركة الفتح،ودُورُ هجرة،ومنازل جهاد،ومعالم لنشر الدين،وبذورُ بعثٍ جديد للحضارة الإنسانية باختيار الزمان والمكان" ـ هذا هو شأن المدن الجديدة التي شَيَّدَتْها سواعد المسلمين هنا وهناك،وبدأت كمعسكرات للجيوش،ومقرَّات لنُوَّاب أمير المؤمنين،على البلاد،فبدأت متواضعةً أشبه بالخيام البدوية،ثم تطورت حتى استقرت في مواضعها،وصاحبتْ مسيرة الزمن الطويلة،وذاك تشهده بيِّنا وتراه ظاهرا في بناء البصرة والكوفة والفسطاط.(1/432)
وقد راعى المسلمون في بناء ذلك حُسْنَ الموقع،ومعاونته على أداء الغرض المطلوب منه،فحرص أمير المؤمنين عمر على ألا يفصل بينه وبين جنده في المدن والمعسكرات الجديدة لا جبل ولا بحر،حتى يسرع النجدة إليهم بلا عائق إذا احتاجوا إليها.
ليس هذا فحسب،بل اتسع الخير وعمَّ حتى عَمَّر المسلمون بعض المدن الخربة،وأعادوا تشييدها لتخدم مسيرة الإنسان المسلم،ومثال ذلك مدينة جبلة بالشام،إذ كانت حصنا للروم تعرض للتخريب،وجلا أهله عنه عند فتح حمص،ثم أعاد المسلمون إعمارها،وبناها معاوية في زمن عمر بن الخطاب،وشحنها بالرجال،وأسكن المسلمين بها.
سنة أربع عشرة للهجرة كُلِّف عتبة بن غزوان صاحب رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ بأن يلتمس لجنوده موطنا للإقامة والسُّكْنَى،فقد نصرهم الله في مواطن كثيرة،وأورثهم أرضا وديارا واسعة،ولم يعد مناسبا لهم أن يتنقلوا بين الجهات والنواحي،فأمر عمر بن الخطاب قائده عتبة بأن يختار لجنوده موضعا لا يفصل بينه وبين المدينة المنورة ماءٌ ولا جبلٌ،فاختار موضع البصرة،وساق إليه الماء من نهر دجلة عذبا فراتا،وبدأ البناء فاختط المسجد ودار الإمارة،وأمر الناس بالبناء فأقاموا دورهم ومنازلهم بأعواد القصب ذات الكعوب المجوَّفة...
وكانت المدينة تشبه المسافر،إذا أقام أهلها بقيت قائمة،وإذا خرجوا للجهاد والقتال طووا قصبَها ووضعوه جانبًا،فإذا رجعوا أعادوا البناء اليسير ثانية...
وكانت البصرة في سنة سبع عشرة على موعد مع العمران الحقيقي الأول لها،إذ التهم حريق كبير منازل البصريين حتى أتى عليها،فتولى أمير المدينة أبو موسى الأشعري إعادة بنائها،وشُيِّدت بالطين واللَّبِن بعد استئذان عمر بن الخطاب،وتولى تخطيطها أبو الجرباء عاصم بن الدلف.
وفى ولاية عبد الله بن عامر على البصرة ـ أيام عثمان بن عفان ـ امتدت حركة العمران بها،واشترى ابن عامر عددا من البيوت أقام مكانها سوقا جديدة للمدينة.
مدينة أخرى بعد البصرة بناها أصحاب محمد ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ في مسيرتهم لملء الأرض بالإيمان والعمران،فقد أسسها سعد بن أبى وقاص سنة سبع عشرة من الهجرة،فشيد المسجدَ في قلبِها ليكون قلبَ مجتمع المدينةِ،وأقام بجواره دار الإمارة،ومن المركز امتدت الطرق والشوارع فخرجت خمسة منها في اتجاه الشمال،وأربعة إلى الجنوب،وثلاثة إلى ناحية الشرق،وثلاثة في اتجاه الغرب ... وكانت هناك شوارع رئيسة وأخرى ثانوية،ثم شوارع فرعية تربط المحلات السكنية بالشوارع الرئيسة والثانوية...
وبالرغم من تواضع المواد التي استُعملت أول مرة في تشييد الكوفة،إلا أن المسلمين عنوا بتنظيم شوارعها وتمهيد طرقها،فكان اتساع شارعها الرئيس أربعين ذراعا،والشوارع الثانوية ثلاثون ذراعا،والتي تليها عشرون ذراعا،وبلغ اتساع الأزقة والسكك الفرعية سبعة أذرع.(1/433)
وقد كانت الكوفة بديلا عن المدائن أراد المسلمون اتخاذها عاصمة،لكن هواءها لم يكن مناسبا،فأمرهم عمر بالتحول عنها إلى مكان يناسبهم،وتولى اختيار هذا المكان حذيفة بن اليمان وسلمان الفارسي،ودَعَوَا اللهَ أن يضع بركته في هذا المكان الذي وقعا عليه،وأقيمت فيه المدينة الجديدة.
وكان للمدينة موعد مع التجديد في نفس عام بنائها،إذ أصابها حريق أتى عليها،فاستأذن أهلها أمير المؤمنين في بنائها باللَّبِن،فأذن لهم،وأرسل إليهم أبا الهياج بن مالك لتخطيطها من جديد،فبدأ بالمسجد ثم دار الإمارة،وأقيمت المَحِلاَّت السكنيةُ على مرمى سهم من المسجد جهة اليمين والأمام والخلف.
فتحت الإسكندرية أمام المسلمين أبْوَابَها،فإذا بها مدينة ساحرة،تكسوها أثواب الجمال والنظافة،فأخذت بقلوبهم،واندهشوا لبهائها وجمالها،وأراد عمرو بن العاص،أن يتخذها عاصمة وحاضرة لمصر،لكن أمير المؤمنين عمر لا يحب أن يقطع بينه وبين جنوده شيءٌ،ونهر النيل بحركته وجريانه وفيضانه يقطع ما بين الإسكندرية وطريق أمير المؤمنين إليها،لذا أمر عمر نائبه على مصر عمرو بن العاص أن يتخذ للناس مدينة ليس بينها وبين عاصمة الخلافة سوى أرض تستطيع أن تسلكها الخيول والإبل.
وعلى الشاطئ الشرقي للنيل كان المكان،وفى العام الحادي والعشرين للهجرة كان الزمان،وفى وسط المدينة وقف ثمانون صحابيا لضبط قبلة المسجد الجامع وتشييده،ثم بنى عمرو دار الإمارة عند باب المسجد فاصلا بين الدار والمسجد بطريق،وإلى جانب دار الإمارة شيد الزبير بن العوام دارا لنفسه،وتولى الزبير تخطيط المدينة،فجاءت القبائل لتخط لنفسها مَحِلاَّتٍ سكنيةً،ومع كل مَحِلَّةٍ بنوا مسجدا صغيرا تُقَام فيه الصلوات،عدا الجمعة التي يصلونها في مسجد المدينة الجامع.
وأشرف على البناء أربعة من المسلمين منعا للنزاع والاختلاف،وهم: معاوية بن خديج التجيبى،وشريك بن سَمِيّ الغطيفى،وجبريل بن ناشرة المعافرى،وعمرو بن قحزم الخولاني.
وقد امتدت الخِطط والمَحِلاَّتُ السكنيةُ التي نزلت فيها القبائل،ولا ترتفع أكثر من طابق واحد ـ امتدت من النيل في الغرب إلى عين الصيرة في الشرق،ومن جبل يشكر من الشمال حتى جبل الرصد في الجنوب.
إن من عبقرية المسلم الفاتح في عهد الراشدين أن الفروق الكثيرة بين بيئته وبين البيئة الجديدة التي فتحها،لم تُصِبْ مسيرتَه بالعطب ولا بالاضطراب،بل استمر في طريقه يغترف من الحياة بقدر حاجته وضرورته،ولذلك كان يستخدم المسموح به من مواد البناء في تشييد مؤسساته وإقامة بناياته.
وأهم مواد البناء التي استخدمها المسلمون في عصر الراشدين لإقامة مساجدهم وبيوتهم وأسواقهم هي:
القصب،وهو نبات مجوف ذو كعوب،كالغاب،أقيمت به البصرة والكوفة أول مرة.(1/434)
الطين واللَّبِن،فاستخدم الطين كملاط أو " مونة "،واللَّبِن يُوَصَّل بعضه ببعض بهذا الطين،كما حدث عند إعادة بناء البصرة والكوفة.
الجريد،وهو من النخل،وقد استُخدم في سقوف المساجد والمنازل،وكان تجديد عمر للمسجد النبوي يتضمن سَقْفَه بجريدٍ جديدٍ.
الأحجار،وهي من مواد البناء المتميزة،وقد تكون منقوشة كتلك التي استعملها عثمان بن عفان عند تجديد المسجد النبوي.
الجِصّ،ويستخدم في الطلاء.
الآجُرّ،ويُسْتَعْمَلُ كملاط.
وقد عُدَّ استخدامُ الجِصّ والآجُرّ في هذا الزمن نوعا من الترف.
الساج،وهو نوع من الخشب القويّ،استخدمه أمير المؤمنين عثمان في سقف المسجد النبوي عند تجديده له.
إنه ذلك العمران الذي يفتح طريقا للتجارة،أو يجري ماء للزراعة،ولسُقْيا الناس،وقد نشط مع استقرار المسلمين في البلاد المفتوحة،فعُنِي الأمراء بتوصيل الماء الصالح للشرب والزراعة إلى المدن الجديدة التي أنشأها المسلمون،كما فعل عتبة بن غزوان عند بناء البصرة،وأبو موسى الأشعري عند ولايته على الكوفة في عهد عمر بن الخطاب.
وقد نشط في العراق عموما حَفْرُ الترع وتنظيم مجاري الماء ليصل إلى كل بقعة صالحة للزراعة هناك،كما أُصلحت القناطر والجسور،وعُمِّر ما خربته الحرب،وأعان المسلمين على ذلك مهندسون من الفرس كانوا يسكنون في تلك الأنحاء.
وفى مصر أنفق عمرو بن العاص خراج مصر وجزية أهلها لتعمير البلاد بحفر الترع وإقامة الجسور وبناء القناطر. ووقعت إصلاحات مماثلة في الشام.
ومن أهم وجوه العمران الزراعي في عهد الراشدين تطبيق المبدأ الإسلامي الشهير: " من أحيا أرضا فهي له "،أي مَنْ زرع أرضا غير مزروعة صارت ملكا له،وقد شجع ذلك بقوة على زيادة رقعة الأرض المزروعة.
وعُنِى الراشدون ـ وخاصة عمر نن بالخطاب ـ بتعبيد الطرق وإصلاحها أمام المسافرين والتجار،وكان عمر يقول: " لو أن بغلة عثرت بالعراق لسئل عمر عنها: لِمَ لَمْ تمهِّدْ لها الطريق ؟ ". وكانت الأسواق وخليج أمير المؤمنين الذي وصل النيل بالبحر الأحمر أهم عمران تجاري نُفِّذ في عهد الراشدين - رضوان الله عليهم.(1/435)
لما هاجر رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ إلى المدينة كان إنشاء سوق للمسلمين من الأعمال الأولى التي قام بها،ليُحدث توازنًا اقتصاديًا بين العناصر البشرية المقيمة في المدينة،ولينتزع من يد اليهود التحكم التام في النشاط التجاري.
ومنذ ذلك الزمن ظلت السوق مرفقا رئيسا من مرافق المدينة الإسلامية،وتنوعت بين أسواق صغيرة تخص جزءا من المدينة،وأسواق كبيرة للمدينة كلها،وللتبادل التجاري مع المدن الأخرى.
ولليسر والتلقائية التي تميزت بها الحياة عموما في عصر الراشدين،كانت الأسواق في مدن الأمصار أرضا فضاء لا بناء فيها ولا سُقُف،سوى ظلال متواضعة يضعها الباعة لتظلهم من الشمس والحر في الأماكن التي يختارونها للبيع والشراء.
ولم يكن للتجار أماكن ثابتة يشغلها الواحد منهم،فتبقى تحت يده دائما،ولكن كان من سبق إلى مكان فهو أحق به " حتى يقوم إلى بيته أو يفرغ من بيعه".
وقد كان الخليفة يتابع حركة البيع والشراء في السوق،وينهى عن الغش،وربما كلف بذلك نائبا عنه ـ رجلا كان أو امرأة.
وقد بقى تطوير الأسواق وتوسيعها مرافقا لتطوير المدن عموما،فحين اتسعت حركة العمران في البصرة زمن ولاية عبد الله بن عامر عليها،اشترى عددا من البيوت وأقام مكانَها سوقَ البصرةِ الجديدةَ.
ما بين الرعْي والتجارة كانت أعمال العرب في الجاهلية،وأضاف العبيد صنائع أخرى تعلموها من المواطن التي جُلبوا منها،فكان خباب بن الأرت يتقن صناعة السيوف،وتعلم بعض العرب صناعات راقية من الأمم المجاورة،كالطب الذي تعلمه الحارث بن كلدة في فارس... كذلك كان هناك نشاط زراعي محدود في بعض نواحي الجزيرة،فكان أهل المدينة من أهم منتجي التمر،وقاموا بتصديره إلى القبائل المجاورة،واشتهر يهود خيبر بالزراعة.
ومع مجيء الإسلام لم يتغير الحال كثيرا،إلا في انفتاح باب كبير من أبواب الدخل المادي للمسلمين،وهي غنائم الحرب،التي زادت زيادة كبيرة في أيام الخلفاء الراشدين،حيث ربحوا في الجولات الفاصلة مع أغنى الأمم وأكثرها ثروة حينئذ.
وكان إقطاع الأرض وإعطاؤها لبعض الناس نظاما معمولا به في تلك الفترة،حتى صار كثير من المسلمين ذوي ملكية كبيرة من الأرض،لكنهم كانوا في غالب أمرهم يستعينون بذوي الخبرة ـ من العبيد وأهل البلاد المفتوحة ـ لزراعة هذه الأرض.
ومع كثرة الموالي الذين ساقتهم الحرب إلى جزيرة العرب انتعشت وقويت صناعات عديدة،فأحد الموالي ـ أبو لؤلؤة ـ كان نجارا ونقاشا وحدادا. وكان لهؤلاء الموالي أنفسهم ولحركة تنقلهم أثر اقتصادي مهم في حياة المجتمع الإسلامي في دولة الراشدين.(1/436)
وقد كانت للصحابة أنفسهم صناعات يقومون بها،وإن كانت الحروب طويلةُ الأمد قد قللت من اعتنائهم بهذا الأمر.
وقد ذم الراشدون القعود وترك السعي على الأرزاق.
وشهد عهد عثمان بن عفان رواجا اقتصاديا كبيرا،حتى بلغ ثمن النخلة ألف درهم.
واشتهر موسم الحج بالنسبة لأهل الحجاز كوقتٍ مميَّزٍ للتجارة وكسب الأرزاق.
وكان الكثير من رجال المجتمع الكبار على علم بالسلعة الأفضل ومواصفاتها.
لما هاجر رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ إلى المدينة كان إنشاء سوق للمسلمين من الأعمال الأولى التي قام بها،ليُحدث توازنًا اقتصاديًا بين العناصر البشرية المقيمة في المدينة،ولينتزع من يد اليهود التحكم التام في النشاط التجاري.
ومنذ ذلك الزمن ظلت السوق مرفقا رئيسا من مرافق المدينة الإسلامية،وتنوعت بين أسواق صغيرة تخص جزءا من المدينة،وأسواق كبيرة للمدينة كلها،وللتبادل التجاري مع المدن الأخرى.
ولليسر والتلقائية التي تميزت بها الحياة عموما في عصر الراشدين،كانت الأسواق في مدن الأمصار أرضا فضاء لا بناء فيها ولا سُقُف،سوى ظلال متواضعة يضعها الباعة لتظلهم من الشمس والحر في الأماكن التي يختارونها للبيع والشراء.
ولم يكن للتجار أماكن ثابتة يشغلها الواحد منهم،فتبقى تحت يده دائما،ولكن كان من سبق إلى مكان فهو أحق به " حتى يقوم إلى بيته أو يفرغ من بيعه".
وقد كان الخليفة يتابع حركة البيع والشراء في السوق،وينهى عن الغش،وربما كلف بذلك نائبا عنه ـ رجلا كان أو امرأة.
وقد بقى تطوير الأسواق وتوسيعها مرافقا لتطوير المدن عموما،فحين اتسعت حركة العمران في البصرة زمن ولاية عبد الله بن عامر عليها،اشترى عددا من البيوت وأقام مكانَها سوقَ البصرةِ الجديدةَ.
يأكل الإنسان من عمل يده،فتتعود نفسُه العِفَّةَ،وتألف الصبر ويعرف قدر نعمة الله تعالى عليه .. وقد كانت للصحابة أعمال وصناعات استجلبوا بها رزق الله تعالى،فكان أبوبكر وعمر وطلحة بن عبيد الله بزازين يبيعون الأقمشة والحرير،وكان عبد الرحمن بن عوف تُجْلَبُ له تجارتُه الضخمةُ تحملها الإبل ليوزعها على صغار التجار،وكان عثمان بن عفان مثله،وأما سعد بن أبى وقاص فكان مع مهارته في رمي السهام يعمل في بريها وإعدادها لتصيب كبد الخصم وقلبه،وأما الزبير بن العوام،وعمرو بن العاص فكانا جزَّارَيْن،وزاد عمرو على ذلك فكان يبيع الطعام والطيب،كما كان أبو سفيان تاجرا كبيرا يقود تجارة قريش ويعمل في بيع الزيت،واشتغل عثمان بن طلحة بخياطة ثياب الناس.(1/437)
وامتلك محمد بن مسلمة بستانا أدرَّ عليه رزقا وفيرا،وكان كثيرٌ من الأنصار على هذه الحال،يملكون أرضا أو بستانا،فيزرعونها،وينتفعون بثمارها أكلا وبيعا.
كما كان شراء الأرض وبيعها بعد ذلك بثمن أكبر بابًا من أبواب زيادة الثروة لدى كثير من الصحابة،فقد اشترى الزبير بن العوام أرض " الغابة " قرب المدينة بسبعين ومائة ألف درهم،وباعها ابنه عبد الله بعد موته بحوالي عشرة أضعاف هذا الثمن.
هذا وقد شاركت الحرب في إضعاف قدرات المسلمين العرب في الصناعات،وفتحت المجال واسعا أمام الموالي لشغل هذا الفراغ الكبير.
مثَّل الموالي في مجتمع الراشدين قوةً اقتصاديةً ضاربة،ولكن لصالح سادتهم،فقد كانت قيمة هؤلاء الموالي هي أنهم يتقنون صناعاتٍ غيرَ موجودةٍ لدى العرب،أو توجد في دائرة ضيقة جدا،وبالتالي كان السادة ينتفعون بهؤلاء الرقيق،فيعطونهم حرية العمل في مقابل خراج يدفعونه إليهم،وقد كان لأبي بكر غلام يدفع له خراجا،وكان للزبير ألف مملوك يؤدون إليه الخراج،وكان أبو لؤلؤة يعمل ويعطي سيده المغيرة بن شعبة درهمين كل يوم.
كذلك كان بيع الموالي أنفسِهم مما ينعش حركة المجتمع الاقتصاديةَ،وقد تفاوتت أثمانهم من واحد إلى آخر تبعًا لقدراته ومواهبه،وتبعا لهذه المواهب كان يتحدد خراج المولى لسيده،ولذلك رفض عمرُ بن الخطاب خفضَ خراجِ أبي لؤلؤة للمغيرة بن شعبة،فأبو لؤلؤة يجيد صناعات عديدة.
كذلك كانت المكاتبة بين السيد والمولى تُدِرُّ على المالك مالا كثيرا،فقد كَاتَبَ والد محمد بن سيرين سيدَه أنس بن مالك على عشرين ألف درهم،وكَاتَبَ أبو سعيد المقبري سيدته على أربعين ألف درهم،وكانت اشترته من سوق ذي المجاز بسبعمائة درهم فحسب.
وخوفا من الضغط على الرقيق ليكسبوا المال لسادتهم،كان عثمان بن عفان ينهى عن تكليف الرقيق الذي لا يجيد صنعة بدفع الخراج،حتى لا يسلك طرقا منحرفة للحصول على المال.
التَّوَكُّلُ خُلُقٌ للقلب الواثق بالله،والأخذُ بالأسباب قانونٌ لابد منه للبشر،ولا اصطدام بينهما عند المسلم.. فَهِمَ الخلفاء الراشدون هذا فحرصوا على مقاومة روح التواكل وانتظار الرزق حتى يصل إلى صاحبه بغير سعي،فكان أبو بكر نفسُه وهو في الخلافة يجمع بين التجارة ورعاية مصالح المسلمين،حتى فرض المسلمون له راتبا من بيت المال،ليتفرغ لرعاية مصالحهم.
وكره الراشدون أن يقعد المسلم عن الكسب،ويصير عالة على غيره،حتى قال عمر كلمته الشهيرة في ذلك: " إن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة " وسمى الكسول الذي يمتنع عن السعي في الأرض طلبا لرزق الله،وهو يقدر على السعى ـ سماه " المتواكل " وقال للقراء الذين ينتظرون عطاء الناس: " التمسوا الرزق ولا تكونوا عالة على الناس ".(1/438)
وترتب على ذلك أن كره الخلفاء سؤال الناس وطلب العطاء منهم،خاصة في الأوقات والأماكن الشريفة،فقد رأى علي بن أبي طالب رجلا يسأل الناس في عرفات،فأثار هذا المشهد أمير المؤمنين،وانطلق نحو الرجل وضربه بالسوط وقال له: " ويلك ! في مثل هذا تسأل أحدا غير الله ". تختلف أشكال قطاعات الحياة وهيآتها من زمن إلى آخر،وأما قواعدها وقوانينها العامة فهي واحدة،وقد ضبط الإسلام حياة الناس التجارية بقواعد كلية تضمن لهذا الجانب المهم من حياة البشر انضباطَه ودوامَ سريان الدم في عروقه.
وقد حفظ المسلمون في مجتمع الراشدين هذه القواعد وصانوها،حتى ظهرت الأمانةُ في البيع والشراء،والصدقُ في المعاملات التجارية،وتَجنُّبُ كلِّ مصادرِ الحرام والشبهات ـ ظهرت كمعالم بارزة يُعرف بها المسلم،وينجذب الناس إلى دينه بسببها.
وقد كان من أدب التجارة لدى الراشدين معرفة التاجر بقواعد الدين حتى يضبط بيعه وشراءه،فلا يخوض في الحرام،أو تشتبه عليه السبل فيدخل في الشبهات،فكان علي بن أبي طالب يسأل التاجر عن فقهه في الدين قبل خوضه في التجارة.
وحارب مجتمعُ الراشدين الطرقَ المنحرفة في التجارة،فشددوا في أمر الربا كما شدد القرآن ورسول الإسلام ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ وكان عثمان يذكر أن " الربا سبعون بابا،أهونُهاـ ذنبًا ـ مثلُ نكاحِ الرَّجُلِ أُمَّهُ ". كذلك قاوموا احتكار السلع الذي يضيق على الخلق أرزاقهم،وكان عمر وعثمان يريان أن حجب أي سلعة عن الناس احتكار،وعاقب على الاحتكار بإحراق السلع المحتكرة.
ومن قواعد التجارة التي طبقت في هذا الزمن أن التشجيع على البيع والشراء والتماس الرزق ـ لا يعني أن يتاجر الإنسان في أي شيء بل لابد من أن تكون السلعة حلالا أصلا،فلا يجوز للمسلم بيع الخمر والتجارة فيها،ولو لمن لا تحرم في دينهم كالنصارى.
وكانوا يرون أن المال إنما وُجِدَ لا مِنْ أجل ادخاره،ولكن من أجل تحريكه والتجارة فيه،ليرزق اللهُ الناسَ بعضهم ببعض،وإن كانت هناك وجهات نظر في ذلك،فكان عثمان يجيز الادخار لأن أمر العباد لا يصلح بدونه،وخالفه أبو ذر ورأى أنه لا يجوز ادخار شيء أزيد من القوت،ونهى علي بن أبي طالب عن ادخار أربعة آلاف درهم فما فوقها،حتى لا يحبس خيرها عن الناس.
تجود أرض الجزيرة العربية بالزرع في قليل من أنحائها،ويبقى الجَدْب واللون الأصفر أوسع سيطرة عليها،فلا نهر ثَمَّةَ ولا مطرَ تجود به الزراعة وتكثر الخضرة.. ولما كان الإسلام دينا لا يرتبط بمدى زماني ولا يُحْبَسُ في إطار مكاني،فقد كانت تشريعاته أوسع من جزيرة العرب وأشملَ لها ولغيرها،فحبب إلى النفس كل ما فيه خير ونفع للناس،وحض على العمل النافع والصدقة الجارية،وأخبر رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ أن من أصلح أرضا وزرعها وأحياها بعد موتها فهي ملك له،وعلى هذا الأساس نشأ المسلمون بعد إسلامهم،وتكونت لديهم استعدادات عميقة للتعمير ونشر(1/439)
الخير،غير أن جزيرة العرب بلاد بلا نهر ولا زرع إلا في قليل من جهاتها،وقد اعتنى المسلمون في عهد الراشدين بما لديهم من الأرض المزروعة،وخاصة في خيبر،وأجروا الماء لسقيها ورعايتها،غير أن الفتوحات شغلتهم،وأخذت بكل اهتماماتهم،حتى إذا فتحت العراق والشام ومصر،وبها أرض واسعة تقبل الزرع اهتم الراشدون بخدمتها،وفى هذه الحال كان الشرع الإسلامي جاهزا لمناسبة أي وضع،فاجتهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب،ورأى المصلحة في عدم توزيع هذه الأرض على الفاتحين،بل تبقى في يد أصحابها ويدفعون خراجها،ومع حرص الخلفاء على ألا ينشغل الناس بالزراعة عن الجهاد،فقد حرصوا أيضا على استصلاح الأرض التي يُقْطِعونها لبعض الأفراد،بل كان القانون السائد هو: من أحيا أرضا بزراعتها صارت له،ومن تركها بلا إحياء نزعت منه... وبالبصرة موضع يسمى شط عثمان وهي أرض كانت سباخا ومواتا،فأحياها عثمان بن أبي العاص وكان ذلك سبب إقطاع عثمان بن عفان له ما أقطعه من الأرض.
- - - - - - - - - - - - -(1/440)
المبحث السابع
الفتوحات الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين
الإسلام أرحب من المكان،وأوسع مدى من الزمان،لا يُحبْس في قُطْر،ولا يعجز عن مجاراة عصر،نزلت أحكامه وتشريعاته مرنة متجاوبة مع ما يفرضه تغير الزمان واختلاف المكان من زيادة ونقصان،وهذا التغير والاختلاف قانونٌ إلهيٌّ في حياة البشر،ولابد أن يتناغم معه دين الله لهداية الخلق.
إن الإسلام ليس قوالب مصبوبة لا تقبل على الدوام سوى تفسير أحادي،بل إن آيات الكتاب العزيز ـ الذي يمثل مصدر التشريع الإسلامي الأول ـ حمّالة أوجه كما قال تلميذ الإسلام العظيم عبد الله بن عباس.
وليس ذلك لأن الإسلام يُحلّ شيئًا في مكان أو زمان،ثم يعود فيُحرّمه في زمان أو مكان آخرين،أو يهتم بجانب من الحياة،كالجانب الاجتماعي مثلاً ـ ويترك الخلق في جانب آخر يفعلون ما يشاءون،وإنما لأن الله ـ عز وجل ـ يعلم الثابت في حياة خلقه فيثبت له تشريعاته،ويعلم المتغير في حياتهم فيعمم المبادئ والقواعد حوله؛ لذا لن تصطدم حياة بشرية مستقيمة ـ مهما كانت قسماتها وملامحها ـ بشيء شرعه الإسلام.
وقد تحدث القرآن عن الجهاد في سبيل الله كثيرًا،كما تحدث عنه الرسول ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ووُضعت هذه الفريضة في الإسلام في موضع رفيع عالٍ،حيث يبذل المسلم أغلى ما يملك وأثمنه لنصرة دينه؛ معلنًا بوضوح عمق إيمانه بهذا الدين وثقته التامة به.
ومع ذلك فإن الجهاد في الإسلام وسيلة من الوسائل،هدفها حفظ الدين وإيصال صوته إلى الناس،ودائما الوسيلة يُستغنى عنها إذا ظل الهدف محققًا،ودائمًا ـ أيضًا ـ تنتظم الوسائل المتعددة للهدف الواحد في رتب متتابعة،وأيها ناسب موقفًا قُدّم على غيره.
وحتى عند الحاجة إلى الجهاد والحرب كوسيلة تبقى لها في الإسلام آداب وأخلاق تقلم أظفارها،وتحول دون تحولها إلى شهوة لسفك الدماء.
وإذا كان أهل الإسلام يرون أن كلمة دينهم هي كلمة الله - تعالى - ومعهم الأدلة المؤكدة لذلك،فإنهم يرون كذلك أن هذه الكلمة لابد أن يسمعها كل أحد في العالم خالية من التحريف والتبديل،ولكل واحدٍ بعد ذلك أن يختار ما يشاء من الديانات غير مجبر ولا مكره؛ لكي لا يكون للخلق حجة: لا على الله،ولا على رسوله،ولا على المؤمنين.
وهذا يتفق تمامًا مع الحقوق المقررة والثابتة للناس في كل مكان وزمان،كحق المعرفة وحق الاختيار،وإذا حال شيء دون حصول الناس على هذين الحقين فمن الواجب حينئذ إزالته،ولو بالقوة والشدة.(1/441)
إن علاقة المسلم بالكتاب والسنة هي الاجتهاد في تطبيق منهجهما وسلوك سبيلهما،وهذا واجب على المسلم في كل زمان ومكان؛ إذ السلطان المطلق في دينه لكتاب الله تعالى وسنة نبيه ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ وما سوى ذلك فهو نماذج للتطبيق،وليست نصوصًا ثابتة يجب تطبيقها دائمًا كما هي بحذافيرها،وتجربة الفتوح الإسلامية في عهد الصحابة ـ الذين هم أعظم جيل فهم الإسلام مطبقًا على واقعهم وأفضل جيل خدم هذا الدين ـ هي نفسها نموذج للتطبيق،وليست نصوصًا شرعية تأخذ قداسة الكتاب والسنة .
ليست مرونة الإسلام هي المرونة التي تشتري رضا البشر،ولا التي تلبي رغبات الأهواء،وإنما هي تجاوب قوانين الله - عز وجل - التشريعية مع قوانينه سبحانه في حركة المجتمع البشري.
إن الشجرة تبدأ فسيلةً صغيرة،ثم تنمو ويستغلظ عودها،وتورق فروعها،وبعد تقلبات عديدة تُزهر وتُخرج ثمارها،وهي في كل دور من هذه الأدوار تأخذ ما يناسب حالها من الغذاء والماء.
والمجتمع الإنساني تتراكم في حياته الخبرات أو تتراكم في حقيبته الأخطاء والتقصير،فيتقدم أو يتخلف،ويتعود عوائد وترسخ لديه تقاليد تختلف من مكان إلى آخر،لذا لا ترى لهذا المجتمع شكلاً واحدًا في كل مكان،ولا هيئة ثابتة في كل زمان،بل تختلف الحياة من بلد إلى آخر،بل ربما من مدينة إلى أخرى داخل القطر الواحد،وكذا من عصر إلى آخر.
وإذا كانت درجة الحرارة في جسم كثير من أنواع الحيوان متغيرة تتكيف مع حرارة البيئة،بينما حياتها ثابتة تسير على نمط محدد لا يختلف في النوع الواحد - فإن ثبات حرارة جسم الإنسان يقابله تغير وتطور دائم في نظام حياته الاجتماعية.
وهذه قوانين إلهية منضبطة كل الانضباط،منتظمة تمام الانتظام،وجاءت رسالة الله لهداية البشر متناسقة مع هذه القوانين؛ وذلك لمرونة هذه الرسالة العالمية.
وعوامل هذه المرونة هي: عدم التحديد الدقيق والشديد لكل كبيرة وصغيرة في حياة الإنسان،ووجود نصوص شرعية كثيرة جدًا ليست قطعية الدلالة،واحترام الإسلام للعقل البشري مع وضعه في مجاله الطبيعي.
إن القيم الكبرى والغايات والأهداف العامة في حياة الناس أمور ثوابت لا تتبدل بين يوم ويوم ولا قرن وقرن،ولا تتغير من شعب إلى شعب،فالكل يريد الجواب عن هذه الأسئلة: من أين أتيت ؟ ولم جئت ؟ وإلى أين المصير ؟
هذه الأسئلة الثلاثة هي محاور التفكير ومدار اهتمام الأديان والأيديولوجيات والنظريات الفكرية العامة.
وقد أجاب الإسلام عنها أوضح جواب وأبينه،بحيث يفهمه الذكي ويغوص في أعماقه فيجد قناعته العقلية ورضاه النفسي،كما يفهمه العامي أيضًا دون أن يتوه في تفاصيل دقيقة أو أفكار معقدة ...(1/442)
فالإنسان والكون كله خلقا خلقًا أولاً بيد إله قادر لابد من وجوده تبعًا لقانون العلل والأسباب،فكل موجود ـ وما أكثر ما نرى ونحس من الموجودات ـ لابد له من موجد،والإبداع والتنظيم في خلق هذه الموجودات يؤكد أنها خلقت بحكمة واقتدار.
وأما سبب المجيء فحدده الذي خلق،وهو السعي لتطبيق منهجه،والإبداع في إطار من الإرشاد الإلهي العام.
وأما المصير فمن حيث كان الابتداء؛ إذ من الطبيعي أن يترتب على رحلة الاختبار جزاءٌ،ويبقى الموت هنا: لا فناءً ولكن بداية لحياة جديدة تحكمها قوانين غير تلك التي تحكم الحياة الأرضية الأولى.
إن الإجابة عن هذه الأسئلة هي العقائد الثابتة في الدين،والتي لا يقبل الإسلام الحياد عنها بأية حال،بل لابد من التزامها بصورة دقيقة.
كما ثبّتَ الإسلام في حياة الناس أيضًا مجموعة من الأعمال تسمى بـ "الشعائر" وفصَّل القول فيها تفصيلاً،ولم يترك فيها للإبداع البشري مجالاً للإضافة؛ إذ لا مجال فيها للإضافة الإبداعية أصلاً؛ إذ إن ترك المجال للإبداع البشري في هذا المجال مدعاة للفرقة والنزاع بين الناس.
إن هذه الشعائر تنظيم وترتيب للعلاقة العملية بين العبد وربه سبحانه وتعالى،والأولى باختيار طريقتها هو الله تعالى .
كما أن القيم الأخلاقية في الإسلام هي من الثوابت،بل إن هذا الثبات يعطيها الفرصة لتمثل مظلة تحكم كثيرًا من المجالات المتغيرة،كحياة التجارة والاقتصاد مثلاً ... فلا يعرف الإسلام القيم النسبية التي تجعل الشيء خيرًا في يوم وشرًّا في يوم آخر،وتجعل الأمر حقًّا في مكان وباطلاً في مكان آخر .. بل إن ذلك في عرف الإسلام نفاق وخداع يأباه الدين والفطرة السوية.
ميز الله - جل وعلا - المخلوق البشرى بالقدرة على الاختيار بين الخير والشر،وترك له مساحات فضاء في الكون يمارس خلالها إبداع الاختيار،فيبدع وهو يلقي البذور في أحضان الأرض ويتابع نموها بالسقيا والري،ويبدع وهو يصنع خيوطًا ينسج منها ثوبه،ويبدع وهو يكتشف في الكون سرًّا مكنونًا،وهكذا.
وكل تلك قوانين الله - تعالى - الذي أحسن الترتيب وأحكمه،فقوى علاقة الإنسان بالكون من حوله بشدة المفاعلة بينهما،فالإنسان لا يستغني عما حوله من خلق الله،بل إن أسباب بقائه مودعة في هذا الكون ومغطاة بغطاء شفاف يحتاج إلى شيء من التدبر والتفكر لمعرفة المخبوء.ولابد لحياة كهذه أن تكون سريعة الخطا سريعة التغير في أنماط الاجتماع والسياسة والاقتصاد والتربية والتعليم،فوضع الإسلام لهذه المناشط أحكامًا عامة تفتح المجال أمام العقل البشري؛ ليبدع فيها ويضيف ويخترع؛ وفى نفس الوقت تمنع الفساد أن يدب إلى جنباتها،ففي حياة السياسة - مثلاً - وضع الإسلام مبادئ عامة كالعدالة والشورى،وفتح المجال أمام الأشكال المختلفة للتطبيق،وفى(1/443)
الاقتصاد حرم الغش والربا والتدليس والاحتكار،وحد حدودا تمنع الظلم والتعدي،ثم فتح المجال أمام إبداع المؤسسات الاقتصادية وترتيب حركة التجارة.
هذا الطفل وضع ثوبه فوق الشماعة،وهو يفكر كيف يأتي به لكي يلبسه ويخرج للعب،والشماعة عالية وبعيدة عن متناول يده،يفكر في أن ينادي أمه لكي تخرجه من هذا المأزق،لكنها ـ ويا للأسف ـ خرجت إلى السوق لكي تشتري بعض الأطعمة،وأما الخادمة فهي كسولة ومنشغلة ببعض أعمال المطبخ.
ماذا يفعل ؟ لقد بدأ الملل يتسرب إلى أصحابه المنتظرين خارج المنزل،ها هو يُبصر الحل قريبًا جدًا،إنه يرى كرسيًّا،فيجره ناحية الشماعة حتى يحاذيها،ثم يصعد عليه بقدميه الصغيرتين وقامته القصيرة،ثم يخطف ثوبه بفرحة عارمة ... اليوم صار الطفل شابًّا،والشماعة في نفس موضعها،ولن يحتاج إلى الكرسي ليأخذ ثيابه من فوق الشماعة فقد طالت قامته،لكنه قد يحتاج إليه ليستبدل بالمصباح المحترق مصباحًا جديدًا،بل قد يحتاج إلى سلم كبير لدهان سقف حجرته العالي بلون البنفسج ...
هكذا الوسائل دائمًا،ضرورية هي،لكن العمق البعيد لها لا يرفعها فوق كونها وسائل،ولو تحققت الأهداف بدونها فلن تكون هنالك حاجة إليها.
والإسلام ـ برغم احترامه للجهاد ووضعه إياه في مكانة رفيعة بين أعمال الدين ـ فإنه يضعه في موضع الوسائل التي يُحفظ بها الدين،وبالتالي يمكن القول:إن الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم ليست هي الحرب الدائمة التي تبغي إهلاكهم والاستيلاء على أوطانهم،وليس الأصل في هذه العلاقة أيضًا هو السلم الجبان الذي يضرب صاحبه ثم يصمت مدعيًا الميل إلى الرفق واللين ـ وإنما الأصل في علاقة المسلمين بالدول الأخرى هو الدعوة إلى الله،فإن كان الطريق أمامها بغير عوائق ولا عقبات فلا حاجة إلى القتال،وأما إن ضُيِّق عليها،وأوذي أهلها،وحُرم الناس من حق المعرفة لاختيار ما يشاءون ـ فإن الحرب تبرز لا في ثوب من الهمجية ولكن في ثياب من الأخلاق والقيم الرفيعة .
هل حد السيف له خُلُق يحكمه ؟ وهل صوت المدفع له قيم تضبطه ؟
الإسلام يقول: نعم،فلا شيء في الدنيا يعمل بعيدًا عن الأخلاق القويمة والقيم الرفيعة. وللجهاد والحرب في الإسلام أخلاق وقيم لا مثيل لها في عالم الناس.
وأول خُلُق إسلامي من أخلاق الجهاد أن يكون بذل الجهد والاستعداد للتضحية بالنفس مقصودًا بها وجه الله تعالى؛ لأن الطمع في ثروات الآخرين وحب الاستيلاء على البلاد والسيطرة على العباد ـ يفتح شهوات الانتقام،ويضع القيم والأخلاق تحت أقدام المحاربين،ويجعل الطامع يستهين بالحرمات.
أما حين يكون العمل في سبيل الله - تعالى - فإن النفس المسلمة المجاهدة تجد بين الحين والآخر حواجز تحجزها عن الظلم،وتمنعها من المبالغة في التعدي،ومن هذه الحواجز: ألا يقتل الجندي المسلم(1/444)
من لا يشارك في القتال من العدو،كالنساء والأطفال والشيوخ والعجائز والمتعبدين،وألا يقطع نخلة ولا يقتل حيوانًا إلا لمنفعة،وألا يهدم دارًا إلا إذا كان في ذلك نفع كبير.
ومن أخلاق الحرب في الإسلام وجوب استيفاء الوسائل الأسهل قبل اللجوء إلى الحرب والقتال وذلك بعرض الإسلام على الخصم،ومحاولة إقناعه به،وإن لم يقبل ذلك يعرض عليه دفع الجزية كمشاركة مالية .
ولا يجوز في الإسلام أن يوهم أي جندي مسلم خصمه بأنه يؤمنه ثم يعود فيقتله؛ فذاك غدر وخيانة يتنزه عنها المسلم.
وإذا صالح المسلمون أحدًا فلابد من الالتزام بالشروط التي أخذوها على أنفسهم أولاً،ولا يجوز لهم نقض هذا الصلح إلا إذا خافوا خيانة العدو،ولابد لهم حينئذ من إعلام الخصم بنقض هذا الصلح الذي لم يحترمه الطرف الآخر.
كثيرون يقولون: إن كلمتنا هي كلمة الله الحقة،لم يدخلها زيف،ولم يطرأ عليها نقصان،فهل كلهم صادقون؟
إن بينهم وبين بعضهم البعض من الاختلاف ما يصل إلى درجة التناقض. والإسلام هنا يطرح نفسه على أنه كلمة الله الحقة،ويسوق الأدلة على ذلك،ويقول في نفس الوقت:إن كلمة الله نزلت على أمم كثيرة قبل ذلك،لكن كَمًّا غير قليل من التحريف والتبديل قد دخلها.
الإسلام كلمة الله؛ لأن النبي الذي جاء به لم يكن في حياته ما يُنبئ عن قدرة على صوغ مثل هذا القرآن بشحناته العالية من النظم المعجز والمعاني الغزيرة،وكان من الأفكار الأساسية لهذا النبي أن ما يتلوه من آيات القرآن ليس فيه شيء من عنده،بل هو من عند الله تعالى،وقد كان شرفًا كبيرًا له أن يقف هذا الرجل بين الناس ورصيده فيهم أنه أبدع هذا القرآن ونظمه،لكنه كان يرفض تماما أن ينسب إليه شيء من القرآن على أنه كلامه هو.
إن القرآن لو نُسب إلى رجل عُلِمَ أنه عَلَمٌ على البلاغة في قومه،وصاحب معارف واسعة وعلوم غزيرة،ـ لظُنّ أن صياغته ومعانيه تطور طبيعي لما قبله،لكن الرجل الذي نزل عليه القرآن كان أميًّا،له كرامة عالية وسمعة طيبة من الصدق والأمانة في قومه،أفيكون ممكنًا أن يكون القرآن من اختراعه ؟!
وفى القرآن ذاته ما يؤكد أنه كلمة الله تعالى -،فتشريعاته دقيقة كل الدقة محكمة كل الإحكام،ومن ذلك تشريع المواريث وتحريم الربا،ووردت في هذا الكتاب إشارات إلى مسائل علمية متخصصة لم يكن للناس علم بها حتى سنوات قليلة،كحركة الأرض بمثل السرعة التي نرى السحب تتحرك بها،وكالأطوار التي يمر بها الجنين حتى يستوي إنسانًا سويًا.(1/445)
وقد تحدى القرآن الخلق أجمعين أن يأتوا بمثله أو آيات من مثله،ولو كان بشريًّا لما عجزوا جميعًا وفى كل عصر عن صياغة مثله.
إن الناظر إلى الإسلام نظرة كلية يدرك كمال منهجه واستيفاءه التام لأركانه،ما بين عقائد تحدد هوية الإنسان وعلاقته بالكون من حوله،وتشريعات تضبط معاملاته وشعائر تضبط علاقته بالله تعالى .. كل ذلك في شكل بعيد عن الطقوس الغامضة والأعمال غير المفهومة،وحتى في التشريعات التي لا يفهم الإنسان حكمتها لن تجد مناقضة للعقل السوي ولا الفطرة السليمة.
إن الإسلام كلمة الله تعالى؛ لأنه يطمئن النفس،ويقنع العقل،ويستجيب لدواعي الشوق البشري الباحثة عن اليقين.
التنافس بين الأفكار في عالم البشر مسألة طبيعية،تدل على حركة حياة الناس وفاعليتها،والصدام بين الأفكار شيء محتمل،خاصة وأن أصحاب كل فكرة يعتقدون فيها القداسة ويظنونها الأولى بالسيادة والانتشار.
إلا أن هذا الاعتقاد لا يعطي أحدًا الوصاية على أحد،ويعطيه فقط حق السعي لنشر فكرته وحق توصيل صوتها إلى الناس.
وإذا كان الباري - سبحانه وتعالى - قد ميز الإنسان بكونه مختارًا،يختار بين الخير والشر،فمن واجب البشر أن يصون بعضهم لبعض حق الاختيار هذا،فلا يكره أحد على أن يغير فكره ومعتقده ...
لكن حق الاختيار هذا يفقد قيمته عند حبس المعرفة عن الناس،والحيلولة بينهم وبين مطالعة الأفكار والمذاهب والأيديولوجيات،لذا لابد من صيانة حق المعرفة للناس جيدًا،كي يختاروا بعد ذلك ما يشاءون على هدى ونور.
والإسلام لا يأمر المسلمين بمعرفة الحق وحده،بل لابد لهم من معرفة الباطل والمنكر أيضًا؛ حتى يتجنبوا الوقوع فيهما،وحتى تقوى صلتهم بالحق ومعرفتهم بفضله.
خرج المسلمون من الجزيرة بعد القضاء على الردة في موجات متتابعة،عشرات الآلاف من البشر ينتشرون مشرقًا ومغربًا،يسيحون في أرض الله الواسعة،والعنوان العريض على سعيهم وجهادهم: " إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد،ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام،ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.. ".
هكذا نطق بها ضمير ربعي بن عامر وفطرته،فهدف هذه الجموع المحتشدة الكبيرة هو تحرير البشرية من الخرافات،وتحريرها من الاستبداد،وكسب الناس إلى صف الإسلام،وتحقيق عالمية الدين الحنيف..
ويُضاف إلى ذلك أن الفتوح كانت امتدادًا طبيعيًّا للأعمال الحربية التي سبقتها مباشرة،كحروب الردة التي مست الحدود مع فارس،وبعث أسامة بن زيد الذي غزا عند حدود دولة الروم.(1/446)
لكنها جموع غفيرة،ولا يُشترط فيها أن تكون كلها خارجة من أجل خدمة أهداف سامية،أو متفقة على طلب ما عند الله من جهادهم،بل إن منهم من خرج بحثًا عن الغنيمة والثروة،ومنهم من خرج مجاراة للأحداث.
إلا أن شراسة الحروب وشدة الأعداء الذين واجههم المسلمون في معارك الفتوح تثبتان أن أكثر المجاهدين إنما جاهدوا من أجل خدمة المبادئ السامية لدينهم وعقيدتهم،وهذا هو العامل الأكبر الذي وقف وراء نجاح الفتوح.
تاه العقل وفقد أهميته وسط زحام كبير من الخرافات،وبدا في رتبة متأخرة من الأهمية،تسبقه العقائد الدينية مهما بدت متهافتة،وتتفوق عليه العوائد الاجتماعية ولو لم يكن لها منطق سليم تقوم عليه،وتتقدم عليه توصيات الملوك وآراؤهم وميولهم وإن أنكرتها الفطرة.
لقد كان من المهام المقدسة للمسلمين أن يزيحوا هذا الركام الهائل من الخرافات،ولم يكن هذا في بالهم كفكرة واضحة مباشرة،لكنهم في سعيهم إلى نشر عقيدة الإسلام ومبادئه كانوا يقومون بعملية إحلال يجري فيها استبعاد الخرافات وما تعلق بها من الطقوس الغامضة،وتوضع مكانها أفكار متزنة تحترم العقل وتجله،وتجعله أداة لاكتشاف كون الله تعالى،بما يقوي إيمان المؤمن ويفتح أمامه آفاق اكتشاف الوسائل الأفضل لخدمة الإنسان.
كانت الأديان قبل الإسلام تبدو في خلاف ونزاع دائم مع العقل،فجاء الإسلام وعقد مصالحة بين الدين والعقل،لا تجعل أيهما - ما دام صحيحا مفهوما على وجهه - في صدام أو خلاف مع الآخر. إلا أنه جعل ميدان النشاط العقلي أضيق من الدين نفسه،فالأنف تستطيع أن تشم الروائح،إلا أنها تعجز عن شم الألوان وعن رؤية الأشكال،وكذا العقل ينشط في مجال واسع يناسب ملكاته وقدراته إلا أن ميدانًا كعالم الغيب لا يستطيع العقل أن يخضعه لمقاييسه وقواعده.
دخل الإسلام بهذه المنظومة على أهل البلاد المفتوحة غالبًا منتصرًا،فتهيأ الميدان للصراع بين أفكار المنتصر ومواريث المغلوب،والقوة تميل إلى جانب المسلمين ماديًّا ومعنويًّا،فالأفكار التي يطرحونها قوية منظمة،وهم أصحاب السيادة والسيطرة في عالم السياسة.
جاء الإسلام فوجد الملوك والسلاطين قد أعطوا أنفسهم حقوقًا إلهية لا ينازعهم فيها أحد،فهذا سلطان يسري في عروقه دم إلهي،وذاك ملك نُصِّب بمعرفة الإله فهو ظله على الأرض،ومن هنا فليس لأحد أن يعترض على وراثة الابن للمُلْك عن أبيه،أو يحتج على استبداد الملوك وظلمهم للعباد واستئثارهم بخيرات البلاد..
وكانت الفكرة النظرية للإسلام أن الملوك - بل الأنبياء أنفسهم - بشر من البشر،ولا حق لأحد أن يرتفع فوق الناس بجنس أو نسب،بل إن الإمارة حمل ثقيل يعرض صاحبه لحساب صعب وشديد من الله تعالى،ومن جار في حكمه عرض نفسه لسخط شديد من الله سبحانه.(1/447)
اصطدم موقف الإسلام هذا بما كان قائمًا في البلاد المفتوحة،وبدا موقف الإسلام مفاجأة لأهل هذه البلاد بعدما تعرفوا عليه وفهموه جيدًا.
لقد سعى الفاتحون إلى تحطيم الأصنام المستبدة التي تسلطت على رقاب الخلق،وكان طبيعيًا ألا يستبدلوا أصنامًا بأصنام،وكان الولاة من المسلمين في عهد الخلفاء الراشدين كبقية الناس،بل كان عموم الناس أكثر حرية منهم في التجارة والبيع والشراء،وراقب الخلفاء ولاتهم وعزلوهم عن مناصبهم في أحيان كثيرة.
لا شك أن إزالة السلطات القائمة في البلاد المفتوحة كان هدفًا سعى الفاتحون إلى تحقيقه،ونتج عن ذلك حرية اتباع الناس للدين،وزوال السلطات المستبدة التي ظلمت العباد،واستولت على نِعَم البلاد.
إن الإسلام ـ دين الله تعالى ـ ليس مشروعًا للسيطرة على العالم،ولا خُطة لتحقيق رفاهية قوم على حساب آخرين،بل هو رسالة الله ـ تعالى ـ وكلمته إلى البشر لدلالتهم على ربهم،وتقديم المنهج التام المرشد لهم إلى الخير...
ولا يريد الإسلام من إيمان الناس به أن يقوى بهم من ضعف،أو يزداد بهم من نقص،أو ينتقص من قوة خصومه،وإنما يريد إنقاذهم من الضلالة والكفر الذي لا يرضاه الله لعباده،ووضع أيديهم على الرشاد والإيمان.
لقد كان الفاتحون المسلمون الذين ساحوا في الأرض زمن الخلفاء الراشدين مدفوعين بدافع تجلية الإسلام وتوضيح مبادئه للبشرية،وكلهم ثقة أن الإسلام يملك من القوة الذاتية والتكامل والتمام ما يؤهله لغزو النفوس إذا فهمته،وجُلِّيت لها حقائقه.
وكان الفاتح المسلم يشعر بالانتصار إذا أسلم خصمه أكثر مما يشعر به إذا أسر هذا الخصم أو قتله؛ لأن إسلام الخصم يعني الانتصار على الشر البشري الباطن،وخلعه من نفس صاحبه تمامًا،وذاك خير من الخلاص من الجسد وموت صاحبه وفكرته لم تبارح مواقعها.
ولقد نجح المسلمون بعد أن استقروا في البلاد المفتوحة في جذب أعداد غفيرة من الناس إلى الإسلام بفضل جلال هذا الدين،وإضفائه بهاءً وجلالاً على من يلتزم به.
ما دام الإسلام هو الكلمة الأخيرة من الله إلى خلقه،فقد كان لابد له من العمومية والخلود،بحيث لا يكون خاصًّا بشعب أو قبيلة،ولا مقصورًا على زمان دون زمان،وقد استلزمت هذه العمومية عالمية الإسلام،فخرج من بيت إلى بيت ومن بلد إلى بلد،حتى عم الجزيرة في أواخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - بل خطا في هذه الحياة المباركة خطوات نحو العالمية بهذه الكتب التي بعث بها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ملوك زمانه..
وقد كان لزامًا على الصحابة الأجلاء أن يواصلوا مسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تحقيق عالمية الإسلام وإسماع صوته للعالم كله،فخطوا خطوات الفتوح المباركة. ولم يكن مقصودًا بهذه العالمية أن يكون(1/448)
الناس كلهم مسلمين،بل قُصد بها إتاحة الفرصة أمام الناس في العالم كله - بقدر المستطاع - ليتعرفوا على الإسلام،ومن شاء بعد ذلك أن يؤمن فله ذلك،ومن شاء أن يكفر فله ذلك.
وقد نجح الصحابة في سعيهم نحو تحقيق عالمية الإسلام بصورة واقعية،حيث أسمعوا صوت الدين للأبيض والأسود والأحمر والأصفر،ونقلوا رسالته إلى الناس في آسيا وأفريقيا وأوربا،وأظهروا مبادئه فيما استطاعوا الوصول إليه من البلاد والأوطان،وتركوا لمن بعدهم كي يكمل الطريق الذي قطعوا فيه شوطًا بعيدًا.
وجد المسلمون أنفسهم - بعد اندحار المرتدين ونجاح مهمة أسامة على حدود الشام - في مواجهة أمتين كبيرتين قويتين،وهما: الفرس والروم،فأما الفرس فقد أعانوا المرتدين على المسلمين في أوقات حرجة من المواجهة الشرسة بينهما،ولا يؤمَن أن يأتي الشر من جهتهم..
لكن الفرس كانت الرهبة والخوف ملتصقين باسمهم،فقد سمع العرب في الجزيرة وشاهد بعضهم مجدهم وعز الملك في دولتهم،فجاء المثنى بن حارثة الذي قاتل المرتدين على حدود الفرس وهوّن على أبي بكر والمسلمين شأن الفرس وقوتهم؛ لتبدأ المعارك في هذه الجبهة كامتداد لحروب الردة في البحرين وما جاورها..
وأما الروم،فقد غزا أسامة بن زيد تخوم دولتهم،وأدب مَنْ هناك من الأمراء،وحشد الروم للمسلمين الجيوش عدة مرات ولم يقاتلوهم،وكانوا في ذلك الوقت منشغلين باحتفالات صاخبة باسترجاع مصر والشام وبيت المقدس من يد الفرس،وبعد قليل سيكونون في سعة من الوقت وفراغ من الزمن،وسيلتفتون حينئذ إلى الجبهة الجنوبية لهم لتأديب المسلمين،فحشد أبو بكر كتائبه لمصادمة الروم،فبدت معارك الفتوح في هذه الجبهة امتدادًا طبيعيًّا للصدامات الإسلامية السابقة مع الروم وأنصارهم من العرب.
حينما انطلقت جموع الفاتحين المسلمين من المدينة المنورة كانت النفوس متفاوتة في تعلقها بالدنيا وطلبها لنعيمها وزخرفها،غير أنه يندر أن تجد في كتائب المجاهدين الأولى طامعًا في غنيمة،إذ كانت هذه الجهات ميدانًا للراغبين في الشهادة والتضحية لا للطامعين في الغنائم والثروات..
فلما رأى الناس ثمار الفتوح،وأبصروا ذهب الفرس وفضة الروم وكنوزهما،أو سمعوا عن ذلك،بدءوا يتطلعون إلى المشاركة في الحرب مع الجيوش الفاتحة.. وهؤلاء المتطلعون هم - في الغالب - أبناء الصحراء القاحلة والخيام المضروبة وسط بحر من الرمال،تستهويهم مثل هذه الأشياء،وتأخذ بألبابهم.
وقد أدرك عمر بن الخطاب ميل النفوس إلى الفوز بالغنائم؛ فكان يشجع الناس ويحثهم على المشاركة في الجهاد،ويعدهم بغنيمة كبيرة.
ولا يعني حُبُّ الجندي النيل من الغنائم أنه يقاتل من أجلها،بل النفس دائما راغبة في الخير،والغنائم إنما تأتي مع النصر الذي يتمناه كل جندي،ويسعى إلى تحقيقه.(1/449)
انطلقت جموع كبيرة جدًّا من أنحاء جزيرة العرب لفتح البلاد،فهؤلاء خرجوا من اليمن،وأولئك من المدينة،وهؤلاء من عمان،وأولئك من الطائف...
فكانت هذه الحركة الواسعة باتجاه الشمال لافتة لأنظار المقيمين في بلادهم من العرب،إذ يبصرون ويشهدون بأنفسهم حراكًا اجتماعيًّا كبيرًا،تنتقل فيه أعداد غفيرة من الناس إلى بلاد أخرى كثير منها مشهور بالخصب والثروة.. وفي نفس الوقت ليس هناك ما يمنع هؤلاء المقيمين من المشاركة في هذا العمل الكبير،بل إن عدم مشاركتهم ربما أثارت حولهم سحبًا من الشك في شجاعتهم وإخلاصهم لدينهم،وربما فوتت عليهم غنائم كثيرة ينالها غيرهم من المشاركين في الفتوح..
لأجل كل ذلك خرج البعض ليشارك في الحروب مع الجيوش الفاتحة،مجاراة لغيرهم،وسلوكًا لنفس طريقهم.
إن الفهم الجيد للعوامل التي تقف وراء نجاح حركة الفتوح الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين؛ ليُبصّر بالعوامل التي تقف وراء نجاح أي عمل كبير كهذا..
ويمكننا منذ البدء أن نقول: إن نجاح الفتوحات لم يكن مصادفة أبدًا،ولا كان عملاً عشوائيًّا يخلو من التدبير والاستعداد المحكم،ولو كان الأمر على هذه الشاكلة لما استطاع المسلمون أن ينتصروا - لو انتصروا - إلا في معركة أو اثنتين.. لكن الفتوح والانتصار الإسلامي فيها كان شيئًا آخر،فهي عمل طويل النفس واسع المدى،شمل عشرات المعارك،من بينها معارك كبيرة جدًّا كالقادسية واليرموك وأجنادين ونهاوند وفتح الإسكندرية،وغيرها.. وفي الغالبية العظمى من هذه المعارك الشرسة الحامية الوطيس كان النصر في جانب الجيوش الإسلامية بصورة ما زالت مدهشة ومحيرة للتفكير.
وأبرز العوامل التي تحققت لأجلها انتصارات الفتوح هي:
- إيمان غالبية الجنود المسلمين بالله تعالى إيمانًا ثابتًا قويًّا.
- واعتياد العرب الشدة والبأس.
- ورعاية الخلفاء الكبيرة للجيوش وسير المعارك.
- ووجود مجموعة من القادة الأفذاذ على رأس الجيوش الإسلامية.
- وإنهاك قوى الفرس والروم في الحروب التي جرت بينهما قبيل معارك الفتوح.
لا تقوم الحرب والانتصار فيها على العوامل المادية وحدها،بل إن الحالة المعنوية للعساكر والجنود والقادة والجيوش لتمثل عاملاً فاصلاً يجلب النصر أو يوقع الهزيمة.
ولا شيء يمكنه أن يرفع معنويات الجندي المقاتل مثل الإيمان بالله تعالى؛ لأن هذا الإيمان يقلل من قيمة الدنيا في عينيه،ويجعل الموت في سبيل الله أمنية يتمناها،ورجاءً يرجوه من الله تعالى.(1/450)
وقد تحلَّى الكثيرون من المسلمين المشاركين في معارك الفتوح بعمق الإيمان ورسوخ اليقين في الله تعالى،خاصة المهاجرين والأنصار الذين سبق لهم القتال مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلّمهم الثبات والإقدام،والشوق إلى الشهادة في سبيل الله تعالى.
وقد كان شيئًا فارقًا بوضوح بين المسلمين وبين خصومهم - حرص الجندي المسلم على الموت والشهادة وحرص خصمه على الحياة والبقاء،مما أثار دهشة قادة الفرس والروم وغيرهم ممن واجهوا المسلمين،لكنهم لم يدركوا أن السبب في هذه الروح التي تمتع بها المقاتل المسلم هي تعاليم دينه وإيمانه الراسخ الثابت بالله تعالى.
شاء الله - جل وعلا - أن تكون الكثرة الكاثرة من جنود الإسلام الأُول من العرب،تلك الأمة التي عاشت في غالب أحوالها في الصحاري والبوادي،وسط بيئات صعبة قليلة العطاء شحيحة بالماء والزرع،فعلمتها الحياة في هذه الأجواء شدة البأس وصلابة البِنية وخفة الحركة المرتبطة بنحافة الجسد.
لقد كان واضحًا في حروب المسلمين مع الأمم ذات المراس العسكري الطويل أن قوة الإيمان ومعها صلابة البنية وقوتها يمكن أن يعوضا كثيرًا من فارق الخبرة العسكرية.
وعندما فوجئ الفرس والروم بخروج المسلمين إليهم من جزيرة العرب،استهان الكثير منهم بقوة هذه الأمة الصاعدة،ووصفوها بالضعف والذل،ونسوا أن الصلابة التي تعلمها العرب من البيئة قد أصبح لها معنى كبير في ظل تبني هذه الأمة لعقيدة سامية ومبادئ رفيعة عالية.
لقد كانت ميادين الحرب التي خاضها الفاتحون واسعة،وكان الكثير من خصومهم ذوي شراسة في القتال وعدد كبير وعتاد،فلا تستغني مواجهتهم عن شدة البأس وقوة الصبر.
وليست البيئة وحدها هى التي صنعت صلابة العربي،بل إن كثرة الخصومات والحروب قد عوَّدت القوم أجواء الحرب،حتى كان الكثيرون منهم خبراء في القتال،وهذا ما قاله البراء بن معرور للرسول - صلى الله عليه وسلم - في بيعة العقبة الثانية: " بايعنا يا رسول الله،فنحن والله أهل الحروب،وأهل الحلقة،ورثناها كابرًا عن كابر ".
نالت الفتوح اهتمامًا كبيرًا من الخلفاء الراشدين،فكان الخليفة يشرف بنفسه على حركة الفتوح،ويوليها اهتمامًا كبيراً.
وتعددت صور هذا الاهتمام،إذ رعى الخلفاء تغذية الجهات بالجنود وتوفير الأمداد المطلوبة منهم،واختيار القادة المناسبين للجيوش،بل همّ بعض الخلفاء بقيادة الجيوش الفاتحة بأنفسهم.
وحرص الخلفاء على أن يكونوا موضع استشارة قادتهم،حتى تسير حركة القوات المسلمة في خطوط صحيحة. لذا كان خليفة كعمر بن الخطاب يحرص كل الحرص على معرفة كل كبيرة وصغيرة عن أماكن العدو ومواقع القتال.(1/451)
وكان من اهتمام عمر بحركة الفتوح أن أعد قوات احتياطية للاستفادة منها في الحوادث الطارئة،ومنهم أربعة آلاف مقاتل كانوا بالكوفة،وقد استفاد منهم في فك الحصار عن "حمص" حينما حاول الرومان استرجاعها سنة سبع عشرة للهجرة.
إن الجندية شيء والقيادة شيء آخر،فقد يكون الرجل جنديًّا مقدامًا ومقاتلاً فَذًّا لكنه لا يصلح للقيادة؛ لأنه لا يملك مؤهلاتها.
إن الجندية ما هي إلا مهارة في القتال وصبر في وجه العدو،وأما القيادة فهي إضافة إلى ذلك رجاحة في عقل القائد،واتزان في اتخاذ القرار،وإدراك عام لأحوال الجبهة التي يقاتل فيها... إن الجندي في الدرجة الأولى يفكر وينفذ لنفسه،وأما القائد فيفكر لجيشه ويشاركه في تنفيذ المطلوب.
وقد اعتنى الخلفاء الراشدون بالدقة في اختيار قادة جيوشهم،فكان ذلك أحد العوامل المهمة التي تحقق بها النصر للمسلمين،ومن أهم الشروط التي راعوها في قادتهم:
- اتصافهم بالتدين والتمسك بالإسلام.
- ومعرفتهم بالناحية العسكرية،وقد كان هذا الأمر يتسبب كثيرًا في تقديم رجلٍ على آخر أقدم منه إيمانًا وأكثر إنجازًا في خدمة الدين،كما فعل أبو بكر الصديق حين جعل خالد بن الوليد أميراً على جيش فيه أبو عبيدة بن الجراح.
- ومن الشروط التي راعاها الخلفاء في اختيار قادة جيوشهم رجاحة العقل وذكاء الفكرة؛ لأن الحرب ليست صراعًا بالسيف وحده،ولكنها أيضا صراع في الأفكار بين القادة،من حيث اختيار الموقع الأفضل للجيش،ومفاجأة العدو بكمائن وخدع لم يكن يتوقعها.
حينما وقعت الصدامات الكبيرة بين المسلمين وخصومهم من الفرس والروم،أثبت هؤلاء الخصوم أنهم ما زالوا يحتفظون بالكثير من قدرتهم وقوتهم،وأن هيبة الدولة الكبيرة والإمبراطورية الواسعة ما زالت ميزة تميزهم.
إلا أن الحروب الطويلة الشرسة التي وقعت بين الفرس والروم قبيل الفتوح كانت قد أنهكت الكثير من قوى الطرفين،وعرَّضت جنودهما للهلاك وثرواتهما للاستنزاف وكثيرًا من المدن للخراب والدمار،مما جعل مهمة الفتح أهون من ذي قبل.
ويبدو أن طول هذه الحروب بين الإمبراطوريتين الكبيرتين وشراستها قد أثرت على ولاء الجندي الفارسي والروماني لقيادته،فاحتاج إلى أن يُقيَّد بالسلاسل في أحيان كثيرة لكي يثبت في وجه كتائب المسلمين الزاحفة،وشعر الجندي بأنه لا يقاتل من أجل مصلحته ولا مصلحة وطنه،وإنما من أجل أهواء السادة ورغباتهم،فلم يُؤثِّر فيه أي عمل صناعي لكي يثبت في وجه الفاتحين.(1/452)
لأسباب عديدة بدأ بعض العرب في أواخر حياة النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ردة جماعية عن الإسلام،افتتحها الأسْوَدُ العَنْسِيُّ الكاهنُ باليمن،وتلاه باليمامة مسيلمةُ الكذاب في بني حنيفة،وطليحةُ بن خويلد في بني أسد.
ومع أن الأسْود هلك وماتت فتنته قبل وفاة النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ بيوم واحد،إلا أن وفاة الرسول ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ في ربيع الأول من السنة الهجرية الحادية عشرة فتحت بابَ الردة والامتناع عن أداء الزكاة على مصراعيْه،حتى لم يبق في العرب قبيلة إلا ارتدت: بعضها أو كلها،عدا أهل المدينة ومكة والطائف،والعديد من قبائل الحجاز،مثل: أسلم وغفار وغيرهما..
فوقف أبو بكر الصديق بلينه ورقّته في وجه هذا الخطر الداهم وقوف الجبال الشُّمّ الرواسخ،وجمَع الصحابة والصادقين من أهل الإسلام حوله،حتى قتل هذه الردة وقضى عليها تماما،وأذلَّ المرتدين ومانعي الزكاة،فحفظ الله به الدين،وصان به الأمانة التي تركها رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ فيهم..
وقد تمثل مجهود أبي بكر في هذه الناحية في المواجهات التي قادها بنفسه ضد القبائل التي تجمعت حول المدينة وأرادت غزوَها،من عبس وذبيان وكنانة ومن اجتمع إليهم،رافضا أن يتنازل لهم عن أي شيئ من الإسلام،كما أعد الصديق ألوية وجهها لقتال المرتدين في كل ناحية من جزيرة العرب،حتى عادت الألويةُ منتصرةً،والدينُ عزيزًا لا يجرؤ أحد أن يدوس له على طَرَفٍ،ووقفت وراء هذا النجاح عوامل كثيرة،كما ترتب عليه نتائج تؤكد أن الأزمات مهما تكن شديدة فإنها قد تحمل للمسلم الكثير من الخير.
والله يا أبا الفضل لقد أصبح مُلك ابنِ أخيك اليومَ عظيمًا!
يا أبا سفيان،إنها النبوة. هكذا دار الحوار بين أبي سفيان والعباس بن عبد المطلب حينما مر بهما رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ في الجيش الكبير الذي فتح مكة،ورسول الله في كتيبته الخضراء فيها المهاجرون والأنصار،لا يرى منهم إلا حدقة العين من الحديد.
وهذا المُلك هو نفسه الذي سال له لعاب الكثير من كُهان العرب،فراحوا يلتمسون الشهرة والمجد والسلطان بإدعاء النبوة،وتبعهم على ذلك أقوامُهم الذين لم يكن الإسلام قد استقر في نفوسهم،كما عودتهم الجاهلية على العيش في إطار من السلطة لا يتجاوز حدود القبيلة وزعامتها،وهم يستكثرون إعطاء الطاعة لغير هؤلاء الزعماء،ولو كانت على شكل ضريبة مالية تسمى بالزكاة...!
كانت هذه أسبابا مهمة بعثت حركة الردة ومنع الزكاة،وأشعلت نيرانهما،غير أن وفاة الرسول ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ قد زادت من أثر هذه الأسباب فتشجع الجبان،وأقدم المتردد،وظنوا أن الدين مات بموت الرسول ـ - صلى الله عليه وسلم - ،وأن الحزن الذي اجتاح أنفس الصحابة عليه كفيل بأن يشغلهم عن مقاتلة العرب التي ارتد الكثير من قبائلها وامتنع عن دفع الزكاة آخرون.(1/453)
لم تكن الجريمة الوحيدة للأسود العنسي هي أنه أدعى النبوة،بل الجريمة الأكبر منها هي أنه سن هذه السنة في العرب،فقلده كل طامع،وادعى النبوة العديدُ من الكهان والمشعوذين من أمثاله.
في صدر السنة الحادية عشرة من الهجرة طار في الآفاق خبرُ مرض رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ،فخرج الأسود العنسي من كهف خبان الذي كان يتخذه دارا ووُلد به ونشأ،فتعودت نفسُه الظلمةَ،وألِفَتْ الخداعَ والخيانة.. فكتب إلى قبيلة مَذْحِج وكتبت إليه ليثوروا ضد الإسلام والمسملين،ولم يكن كافيا أن يتحول الأسود إلى زعيم سياسى بعد أن رأى تأثير الزعامة الروحية على الناس،فأعلن بين الناس أنه نبى يوحى إليه،وأسر أتباعه وخدعهم ببيانه وأعمال الكهانة والشعوذة التي تربى وترعرع في ظلالها.
ولم يمر وقت طويل حتى نشب الصراع بين الأسْود وأتباعه وبين من ثبت على دينه من أهل اليمن ومن عمال رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ هناك ورجحت الكِفَّة في البداية للمرتدّين،حتى صَفَا لهم مُلك اليمن.. لكن الرسول الأكرم ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ لم ينشغل عن هذه الفتنة بماهو فيه من المرض،بل راح يحارب الأسودَ وأعوانَه بالكتب والرسل ويرتب لمن بقي على الإسلام من أهل اليمن مقاومةَ الأسْود حتى قتلوه،وقضوا على فتنته.. إلا أن أتباعه عادوا ثانية إلى إثارة الفتنة في اليمن بعد وفاة النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - .
بوفاة باذان عامل رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ على اليمن،مات أحد ولاة الإسلام الأقوياء،فراح النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ يوزع السلطات هناك في عدد من الرجال،فولَّى شهرَ بنَ باذانَ على صنعاء،وعمرو بن حزم على نجران،وأبا موسى الأشعرى على مَأرِب،وبعث معاذ بن جبل يقضى بين الناس ويعلمهم أمر الدين..
وهؤلاء الولاة هم الشوكة التي تقف في حَلق الأسود العنسي،والعقبة الكبرى التي تمنعه من تحقيق أهدافه الخبيثة بتكوين مملكة تحت مظلة نبوته الكاذبة،وتبدأ أعمال المرتدين في نجران بالثورة على واليها عمرو بن حزم حتى أخرجوه،وسار بهم الأسود جنوبا فاستولى على هَمْدان،وقاتلهم شهرُ بنُ باذان على أبواب صنعاء حتى قتل.. وقَوِيَت الثقةُ في نفوس المرتدين،وازدادوا طمعا،فاقتطعوا الأرض من المسلمين جزءًا جزءًا،واستولوا على عدن والساحل والجَنَد،وما يقع بينهم وبين ولاية الطائف،وما يسقط في الطريق بين اليمن وبين ولاية البحرين،فصفَتْ اليمنُ للأسود،وقوى أمره،واستطار شره،وأصبح الناس باليمن بين مرتدٍّ معه كأكثر أهل اليمن،وهاربٍ من وجهه كخالد بن سعيد بن العاص،وعمرو بن حزم،ومُظْهِرٍ للكفر مبطنٍ للإيمان كفيروز الديلمى،الذي تزوج الأسودُ ابنةَ عمه بعد أن قتل زوجها شهر بن باذان والى صنعاء
وكان الأسلوب الذي اتبعه النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ في القضاء على هذه الفتنة هو أمهر وأسرع ما يمكن اتباعه من أساليبَ في مقاومة مثل هذه الفتن،فماتت في مكانها،وإن بقي تحت الرماد شيئ ظهر في الردة الثانية لأهل اليمن.
مثلت اليمن رصيدا مهما للدولة الإسلامية الوليدة من جنوبها،لذلك اهتم بها النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ،فكان يرسل إليها المعلمين والقضاة،ويُولِّى عليها الولاة بما يضمن استقرارها،فلما بلغتْه أنباء الردة وإخراج نوابه(1/454)
من اليمن شغله هذا الأمر حتى وهو مريض،ولم يشغله ما كان فيه من الوجع عن أمر الله ـ عز وجل ـ والذبِّ عن دينه
كان الرسول ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ يعلم أن للإسلام رصيدا مهما من الرجال في اليمن وغيرها من أنحاء الجزيرة،ممن لا يرضون بدين الحق بديلا،وهم على استعداد إذ حملوا مسئولية القضاء على هذه الفتنة أن يحملوها بكفاءة عالية،وعلى رأس هؤلاء: المسلمون الفرسُ الذين آمنوا بالله ورسوله يوم آمن باذان،فكتب إليهم رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ،وكأنه يدرب أمته في آخر حياته على الدفاع عن الدين بالسير على هَديه دون أن تكون هناك ضرورة لوجود شخصه ـ كتب إلى فيروز الديلمي،وداذويه،وجُشنس بن الديلمى يأمرهم بالقيام على الدين،والنهوض في الحرب،والعمل على القضاء على الأسود بحربه وقتاله هو ومن معه،أو تدبير حيلة لقتله وإهلاكه هو لتموت معه فتنته.. وأمرهم القائد العظيم ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ أن يستنجدوا بمن يرون أن عنده نجدة ودينا وحمل النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ مسئوليةَ حفظ الدين في هذه الناحية كلَّ مَنْ هناك من المسملين،فكتب إلى معاذ بن جبل وغيره من نوابه على اليمن ليقوموا في وجه الفتنة،ويبلغوا أمر رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ إلى كل من يرجى فيه خير ودين...
أحس المسلمون في اليمن بمدى الخطر الذي يهدد الإسلام هناك،وشعروا بأن عليهم مسئولية كبيرةً حمَّلهم إياها رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ،فتزوج معاذ بن جبل امرأة من السَّكون،فضمن ولاءهم وتأييدهم،وخرج عامر بن شهر وذو الكَلاع،وذو ظليم وغيرُهم لحرب المرتدين مع الأسود،وكتبوا يبذلون النصر والمعونة لفيروز وجُشنس وداذويه،وكانوا مع الأسْود يخفون إسلامهم،فرد عليهم فيروز وأصحابه بأن لا يحركوا شيئا حتى يجربوا خطة ما..
وراح فيروز ومن معه يدبرون حيلة للخلاص من الأسْود،فاتصلوا بقيس بن يغوث فانضم إليهم،وبآذاد ابنة عم فيروز وزوج الأسود،فانضمت إليهم أيضا. واتفقوا على قتله،وأمروا أتباعهم من أهل صنعاء بالاستعداد والتأهب،واتفقوا بينهم على شعار..
وفي ليلة مقمرةٍ خفيفةِ الضوء نحوَ قصرِ الأسْود اتجه فيروزُ وأصحابه يقصدون ناحية بعيدة من القصر ليس عليها حرس،وترددت الأنفاس في الصدر وقد خالطها الخوف من منظر الليل والقصر والحرس والمهمة الصعبة،لكنهم تشجعوا وتقدموا حتى نقبوا الجدار ودخلوا ووجدوا آذاد في انتظارهم،فتوقفوا وتقدم فيروز وحده،وكان أشدَّهم وأجرأَهم،حتى إذا كان على بُعد خطوات من الكاهن الأسْود فوجئ بعدو الله جالسًا له صوت النائم وغطيطه العالى،وعلم فيروز أن شيطان الكاهن يريد أن يوقظة فتقدم إلى الأسود وقتله،ووضع ركبته في ظهره حتى كسره،وجلس أصحاب فيروز على صدر الكاذب وأمسكت آذاد بشعره فقطع فيروز رقبته..(1/455)
مهمة شاقة استغرقت وقتا من الليل،لكن النجاح لم يكتمل بعد،فلابد من حيلة جديدة لإخراج أتباع الأسود من صنعاء،فآذن ذلك بموت فتنة العنسي وهلاكه قبل وفاة النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ بيوم واحد،حيث أخبره الوحي بالخبر،فراح يبشر أصحابه في المدينة: "قتل العنسي البارحة،قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين" قيل: ومن هو؟ قال: "فيروز،فاز فيروز"!
هدأ النفَس في صدر فيروز وأصحابه بعد أن قتلوا العنسي،وراحوا يفكرون فيما يفعلون لتكتمل المهمة،ويقضوا على هذه الردة،واستغرقهم الحديث حتى اهتدوا إلى رأى مع مقدم الفجر بأشعته الفضية،فصعدوا إلى سطح القصر،ولم يكن هنالك وقت للاستمتاع بمنظر السماء البديع،فكل ما يهم في هذه اللحظة هو التنفيذ الدقيق والشجاع لما تبقى من المهمة.
انطلق داذويه ليخترق الصمت الذي لم تكن ضحكات الحراس وأصواتهم المنخفضة تقلل منه،فخرج المسلمون والمرتدّون للشعار الذي نطق به داذويه،وتجمع الحراس،فعاجلهم جُنشس بالأذان وشهد أن محمدًا رسول الله وأن الأسود كذاب،وألقى فيروز وأصحابه برأس الأسود بين الناس وقد انفصل عن جسده،ففرح المسلمون واستولى الرعب على المرتدّين فركب من استطاع منهم فرسه وولوا هاربين جهةَ الشمال،ولم تُنسِهم همجيتُهم أن يختطفوا من وجدوه من أطفال المسلمين ليعوضوا هزيمتهم وخيبتهم،لكن المسلمين كانوا أفطنَ منهم وأعقلَ فاختطفوا من المرتدين سبعين رجلا،ثم تراسلوا وتبادلوا معهم الأسرى: الأطفالَ بالرجال...!
"وأعز الله الإسلام وأهله" واصطلح المسلمون على معاذ بن جبل يصلى بهم،وهرب المرتدون بين صنعاء ونجران لم يظفروا بشيئ،حتى مات النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ،وكانوا من وقود الردة الثانية الى وقعت في اليمن.
تحولت ردة العنسي في اليمن بمقتله إلى رماد،لكنه رماد يخفي تحته بعض الجمرات التي لو نفخ فيها الهواء لأشعلها،وما أن توفي رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ حتى "انتفضت اليمن،وارتدَّ أهلها في جميع النواحي" وتحركت في الوُجَهَاءِ الشهوةُ إلى الإمارة والرئاسة،فوثب قيس بن المكْشُوح،وارتد عن الإسلام،وتابعه عمرو بن مَعْدِيكَرِب،وعوامُّ أهل اليمن ومن بقي من أتباع العنسي الفارِّين من صنعاء.
وبعد محاولة للخلاص من المسلمين الفرس باليمن،استولى قيس وأتباعه على صنعاء،وفرَّ فيروز من بين يديه،ليقود الحرب ضد المرتدين،وكتب الصديق من المدينة إلى الأمراء والرؤساء من أهل اليمن ليكونوا أعوانا لفيروز ومن معه على قيس حتى تأتيهم الجنود سريعا.... وفي مبادرة حربية سريعة جمع فيروز حوله المسلمين من خولان وبني عُقيل وعك،وصادم بهم المرتدين وسرعان ما غلت الحرب كما يغلي القدر فوق النار،ووقع القتال شديدا،ولانت مقاومة المرتدين،فأحاط بهم المسلمون يقتلونهم حتى فروا من صنعاء يترددون بينها وبين نجران ولا يجدون موضعًا يحملهم.(1/456)
ومن جهة عُمَان أقبل عكرمة بن أبي جهل إلى اليمن يَمسح الأرض من المرتدين مسحا،ويضم إليه مَنْ ثبت على دينه من القبائل،حتى امتلأت الأرضُ بقواته،وأقبل على السمع والطاعة مَنْ هناك من القبائل.... وفي ذات الوقت كان المهاجرُ بنُ أبي أمية آخرَ مَنْ تسلم من أبي بكر لواءَ الحرب ضد المرتدين،يفعل فعلَ عكرمة،يمسح الأرض بين المدينة واليمن من المرتدين مسحا،ويضم إليه مَنْ ثبت على إسلامه من الناس حتى أَسَرَ قيسَ بنَ المكْشُوح،وعمرَو بنَ مَعْدِيكَرِب،وبعث بهما إلى أبي بكر،ثم انطلق من نجران إلى اللحْجية،وهم أُسُّ الردة،وأَبَى أنْ يصالحهم،بل اشتد في قتالهم وحربهم حتى أفْناهم...
وفي جولة أخيرة ضد الردة باليمن تحرك عكرمة بقواته من أبين يريد كِنْدَةَ بحضْرَمَوْت،وسار المهاجر من صنعاء بقواته لنفس الهدف،حتى التقيا بمأرِب،وقطعا الصحراء منها إلى حضْرَمَوْت،ونهضوا لقتال كِنْدةَ،بمحجر الزُّرْقان،فوقعت الحرب،ودارت الدائرةُ على المرتدّين،حتى هرب مَنْ نجا منهم من القتل،وفي النُّجَيْر تجددت الحرب ولبست كِنْدَةُ ثوب الهزيمة ثانية،وكثر فيهم القتل،حتى أدركوا حين رأوا الدنيا قد اجتمعتْ عليهم والمددَ لا ينقطع عن المسلمين ـ أنه لا فائدة من المقاومة،فخرج الأشعث الكِنْدِيُّ وصالح على أمان أهله وماله وتسعةٍ ممن أحب،فقَتَل المسلمون مَنْ بقي من محاربيهم،وسَبَوا النساء والذرية،لإلحاحهم على الردة،وشدتهم في مواجهة المسلمين.
هل رأيتَ قطراتِ ماءٍ عذبٍ في كوبٍ تتحول إلى بحر متلاطم الأمواج يُخْشَى غضبُه؟! هكذا تحول أبو بكر الرجلُ الحليمُ اللينُ إلى الشدة والقوة والثبات في وجه الردة الزاحفة على الإسلام بكل قوة،ورفض أن يقبل من أي أحد تَرْكَ أيِّ جزءٍ من الدين،وأقسم أن يقاتل من فرق بين الصلاة والزكاة،ورفض آراء بعض الصحابة الكبار في مُسالمة مانعي الزكاة،أو تأجيل مسير جيش أسامة بن زيد نحو الشام،فانتظر حتى أصبحت أنباء الردةِ والانتفاضِ في العرب مؤكَّدة لا شك فيها،ثم أنفذ بَعْثَ أسامة وأخذ يحارب الردة بإرسال الرسل والكتب انتظارا لرجوع أسامة وجيشه،فكتب إلى القبائل كتابا واحدا يدعوهم فيه إلى التمسك بالدين والاعتصام بالإسلام...
وبينما أبو بكر يخوض حرب الكتب والرسل انتظارا لرجوع أسامة بن زيد فرض عليه مانعو الزكاة من عبس وذبيان وغيرهم القتالَ،فحاربهم بنفسه وألحق بهم هزيمة منكرة،ثم كانت عودة أسامة بداية للمجهود الحربى الواسع والمنظم في قتال المرتدين،فأعد الصدّيق أحد عشر لواءً وجهها إلى المرتدين في مَوَاطِنِهِمْ،وزوَّدَ كلَّ قائد بعهده إليه بقيادة مَنْ معه لحرب المرتدّين،فتحركت الجيوش في جمادى الآخرة،وعادت بعد أشهر بالظَّفْرِ والنصر،وقَمْعِ فِتَنِ المرتدِّين.
اهتم الصديق ببعث الرسل والكتب إلى مثيري الفتنة ومُتَزعِّمي الردة لِيَشْغَلَهم عن الحرب انتظارا لعودة جيش أسامة لِيَدْعَمَ به نفسَه،ويَقْوَى به على مواجهة عدوِّه إذا ثارت الحربُ،ولكن قبائل الأعراب القريبة من المدينة أعجلتْه واضطرتْه إلى خوض الحرب اضطرارًا.(1/457)
ها هم أولاءِ يجمعون جموعَهم من عبس وذبيان وكنانة،وينضم إليهم آخرون من بني أسد ومُدْلِج وغيرهم،حتى ضاقت بهم الأرض،فانقسموا فريقَيْنِ،عسكر أحدهما بالأبرق،والآخر بذي القَصَّةِ.. وفي خُطوة مملوءة باستعراض القوة جاء وفد القبائل يساوم أبا بكر على ترك الزكاة والاكتفاء بالصلاة،فرفض ذلك بكل قوة،وهو يعلم جيدا أن هذا معناه إعلان الحرب ضد المدينة،فراح الصدّيق يضع على مداخلِ المدينة مَنْ يحميها ويعرف الداخل إليها،وأمر الناس بدوام البقاء في مسجد رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ استعدادا لحرب لا يَدري أتأتي ليلا أم تجهر نهارًا؟!
وتحت قِطَعِ الليل المُظلم جاء الأعراب في الليلة الثالثة بعد لقاء المدينة يشنّون الغارة على أبي بكر ومَنْ معه،فانطلق الخليفة إليهم بالمسلمين من مسجد رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ يركبون الإبل،وصدَمُوا الأعراب صدمةً مُذهلة حتى هزموهم وفرقوهم وتَتَبَّعوهم حتى ذي حُسَى،وهناك لَقُوا فريقا آخر من الأعراب نَفَّروا إبلَ المسلمين حتى رجعت بهم إلى المدينة.
وانخدع الأعراب بما فعلوا،وحَسِبُوا أن المسلمين ضَعُفُوا عن المواجهة،فشجعوا حلفاءهم بذي القَصَّةِ على مهاجمة المدينة،ولم يَدْرُوا أن أبا بكر يعبّئ لهم قوته الضاربة ليكسر شوكتهم قبل أن تشتدّ،فقد عاد الصدّيق إلى المدينة،ليتجهَّز للحرب من جديد،في جهدٍ متواصلٍ بالنهار والليل،وجعل على ميمنة الجيش النُّعْمَانَ بنَ مُقَرِّن،وعلى ميسرته عبدَ اللهِ بنَ مُقَرِّنٍ،وعلى المؤخرة سُوَيْدَ بنَ مُقَرِّن... وبدأ الليل يودع الأرض،ونور الفجر يبزغ شيئا فشيئا والعدو لاهٍ لا ينتبه،"فما سمعوا للمسلمين همسا ولا حسا"،وإنما سمعوا صوتَ سيوفِهم وهجومِهم المفاجئ،واشتعل القتال،ومع إشراق الشمس كان العدو قد انهزم،وهرب مع هروب الظلام أمام زحف الضوء،وتقدم أبو بكر حتى نزل بذي القَصَّةِ،وامتد به السير حتى قاتل باقي الأعراب في الأبرق وفرَّق جماعتَهم.. وإن كان هذا الفتح قد غاظ الأعراب حتى وثبوا على مَنْ بينَهم من المسلمين وقتلوهم،فقد كان عِزًا للمسلمين،وخيبة لمساعي المشاكسين والمرتدين.
لقد اهتزت السفينة بالإسلام في جزيرة العرب اهتزازا هائلا عقب وفاة النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ،حتى بدا هذا الدينُ العظيمُ مهددًا بسبب سفاهات أقوام ومطامع آخرين،وظهرت المدينة في هذا الموقف وفيها الصحابة من المهاجرين والأنصار وكأنها وسط نيران مشتعلة تأتيها من الشمال والجنوب ومن الشرق،بل من قبائل تسكن حول المدينة على أبعاد قليلة من مسجد رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ وقبرِه الشريف..!
حاول أبو بكر أن يردَّ هؤلاء إلى الدين بالنُّصح والحسنى،فكتب إليهم محترِما آدميتَهم،لكن ذلك لم يُفِدْ معهم شيئا،فقد كانت على عقولهم وقلوبهم أقفالُها،فافتتح أبو بكر القتال بعبس وذبيان ومَنْ حالفهم،وخرج إليهم بنفسه حينما حاولوا غزو المدينة ... ثم كانت عودة أسامة بن زيد من الشام(1/458)
إذنًا بسياحة الجيوش الإسلامية وغَزْوِهَا في كل ناحية ظهرت بها الردةُ،فرمَى أبو بكر العربَ بجيوشه حتى خَفَتَ صوتُ الردة،وماتت أحلام المرتدين.
أما ردة بني حنيفة ومسيلمة،فقد كلف بها عكرمة بنَ أبي جهل،وسار شُرَحْبيلُ بنُ حَسَنة بعده لينضم إليه،وردَّةُ بني أسدٍ وطليحةَ رماها أبو بكر بسيفِ اللهِ المسلولِ خالدِ بنِ الوليدِ،الذي كان عليه أيضا أن يتابع المسير ليقاتل المرتدّين في البُطاح من بني تميم،وامتد به السير حتى واجه مسيلمة في اليمامة.
وأما ردَّة اليمن الثانية،فقد تولى حربَها المهاجرُ بنُ أبي أمية،بينما ردَّة البحرين تَكَفَّل بها العلاءُ بنُ الحضرميِّ،واتجه عَرْفَجَةُ بنُ هَرْثَمَةَ وحذيفةُ بنُ مِحْصَنٍ لقتال المرتدّين في عُمَان وفي مَهْرة،وانضم إليهم عكرمة في قواته ثم اتجه غربا لإعانة المهاجر باليمن.
وأمر الخليفة كل أمير من هؤلاء أن يدعو مَنْ يمر به من المسلمين إلى مشاركته في الجهاد في سبيل الله،وأنْ يَتَبَيَّنَ ردَّةَ مَنْ يلقاه من العدو ويتأكدَ منها.
قام مسيلمة بن حبيب يشعل نار الردة في اليمامة كما أوقدها الأسود العنسي قبله في اليمن،لكن مسيلمة كان أقلَّ بصرًا ومعرفة بأمور الشعوذة والكهانة إلا أنه كان أدهى في مسائل السياسة،فراح يلتمس لنفسه مايقنع من خلاله الناس بنبوته،فكتب إلى رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ في المدينة،زاعما أنه أُشرك معه في النبوة،وحَشَرَ في خطابه عباراتِ اعترافٍ بنبوة محمد ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ليستميله ويكسب تأييده،فجاءه الجواب رسالة شديدة من نبى الصدق ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ يلقبه فيها بالكذاب،ويشهد أن المُلك لله وحده يُورِثُه مَنْ يشاء..
إلى هنا كانت الردة في اليمامة ضعيفة،لكنها كانت مقلقة،ثم قدم نهار الرَّجَّال على بني حنيفة بفتنته بعد أن توفي النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ فَعَلا واشتد صوتُ الردة بين بني حنيفة وأهل اليمامة،حتى أصبحوا الأكبر خطرا بين جميع من ارتد من العرب...
وحينما عقد أبو بكر الصديقُ ألوية الجيوش لقتال المرتدين،وجَّه عكرمةَ بنَ أبي جهل لقتال بني حنيفة،وبعث في أثره جيشا آخر يقوده شُرَحْبِيلُ بنُ حَسَنة،لكن هذه القواتِ كلَّها لم تكن بحجم ردة بني حنيفة،ولا بحجم التكتل الذي التف حوله مسيلمة الكذاب في عصبية قومية ظاهرة،لذا لم تنجح هذه القوات المسلمة في القضاء على فتنة مسيلمة وقومه...
وجاءت خطوة أبي بكر التاليةُ بعد أن استوفي أخبار الموقف على الجبهة مع بني حنيفة،ناجحة كلَّ النجاح في القضاء على ردتهم،وذلك حين أرسل إليهم جيشا كبيرا يقوده خالد بن الوليد الذي خاض ضد مسيلمة معركة اليمامة الشرسة،وكانت نهايتها هزيمة فادحة لبني حنيفة،وقُتِلَ فيها مسيلمةُ،وانتهت فتنته.
لم تكن المعلومات عن حجم الردة في بني حنيفة لدى الخليفة كافية،فقدّر أنها ككل رِدَّاتِ العرب: يمكن أن يقضى عليها جيش فيه بضعة آلاف مقاتل،لذا سير أبو بكر نحو اليمامة جيشا عاديا يقوده(1/459)
عكرمة بن أبي جهل،وخوفا من أن يكون شر أهل اليمامة أكبر من ذلك،بعث أبو بكر بقوات أخرى يقودها شُرَحْبِيلُ بنُ حَسَنة لتنضم إلى قوات عكرمة وكانت أنياب الشر ونيران الردة أكبرَ من هذه القوات وتلك،فقد جند مسيلمة معه أربعين ألف مقاتل،وخرج بهم يتحدى سلطة المدينة.. ومن لم يكن منهم مستعدا للدفاع عن مسيلمة ونبوته الكاذبة،فقد كان مستعدا للدخول في صراع مرير من أجل شرف قومه وقبيلته.
كانت الجبهة ساخنة تنبئ عن قتال ساخن وحرب طاحنة،فاستعجل عكرمة مصادمة المشركين بقواته قبل أن تنضم إليه قواتُ شُرَحْبيل،فلحقت به هزيمة سريعة أغضبت عليه أبا بكر.. ازداد مسيلمة وأتباعه بهذا النصر السريع انتفاخا وغرورا ورأوه مقدمة لما بعده من الانتصارات التي يسودون بها عربَ الجزيرةِ كلَّهم،وتطايرت الأنباء عن جيش المدينة الجديد الذي يقوده خالد بن الوليد وينتظر شُرَحْبيل الانضام إليه بقواته،ووصلت الأخبار إلى بني حنيفة فهابوا مقدم خالد،إلا أنهم كانوا أكثر ثقة في قواتهم... ويدنو ابن الوليد بجيشه من اليمامة ويوزع بعض قواته لتأمين ظهور المسلمين،ويظن شُرَحْبيل أن هذا إعلانٌ لبدء الحرب فيستعجل مصادمة المشركين ويبادر بقتالهم قبل أن يلقى خالدا،فانهزمت قوات شرحبيل أيضا،ليقضى الله في معركة اليمامة أمرًا كان مفعولا.
مات رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ،نعم،لكن هل سيموت الإسلام؟!! هلى سيقى أصحابه غريقين في الحزن على نبيهم الذي ودَّع الدنيا وترك الدين أمانة بين يدى أتباعه؟! إنهم يشعرون بالخطر يزحف على الدين،يهدد القرآن،ويهدد السنة،هل يصمتون؟!
لقد خلع جميع الصحابة ثياب الراحة،ولبسوا ثياب الجد والحرب،وتركوا الأغطية وسُقُفَ البيوتِ،وتغطَّوا بالسماء،وناموا فوق الخيول،فلا وقت للراحة إذا تَهَدَّدَ الدينَ شيئ.. وشهدت اليمامة أكبرَ مواجهات حروب الردة وأعظمَها دلالة على حب الصحابة لدينهم واستعدادهم للتضحية في سبيله،جَدَّ خالدُ بنُ الوليد وجيشُه في مسيرهم نحو اليمامة،لا يخشون إلا أن يَخْفُتَ صوتُ الإسلام إذا هُزموا،فلما بلغوا ثنية اليمامة أسَرُوا مَجَّاعة بنَ مُرَارة سيد بني حنيفة،وبَلَغَتْ مسيلمةَ هذه الأنباءُ فخرج وعسكر بعقرَباء في أربعين ألفا من قومه،ووضع على مقدمته الرَّجَّالَ بنَ عُنْفُوة،وجعل مُحَكَّم بنَ الطفيل من قادة حربه،وعسكر خالدُ بنُ الوليدِ بجيشه قريبا من المشركين في موضع يشرف على اليمامة،وراية المهاجرين مع سالم مولى أبي حذيفة،وراية الأنصار مع ثابت بن قيس،وعلى الميمنة والميسرة زيد بن الخطاب،وأبو حذيفة،وعلى المقدمة خالد بن فلان المخزومي.. وضرب خالدُ بنُ الوليد خيمةً جعل فيها زوجتَه أمَّ تيمم ومَجَّاعةَ مقيدا بالحديد.. وصوَّبَ خالد بصره إلى معسكر عدوِّه فرأى السيوف قد ارتفعت لامعة في أشعة الشمس،وثارت ريح الجنوب ومعها غبار،ثم وقعت الحرب واصطدم الجيشان،وكان قَتْلُ الرَّجَّالِ في صدر المعركة بشرى خير،غير أن بني حنيفة ضغطوا بكل قوة،وبحمية قبلية هائلة حتى دفعوا المسلمين عنهم،ووصلوا إلى خيمة خالد وحرروا مَجَّاعةَ من(1/460)
الأسر،وأعاد المسلمون ترتيب أنفسهم وتنظيم قواتهم،وظهرت البطولات الفردية الرائعة من الصحابة حفَّاظِ القرآن،حتى هزموا المشركين،واضطروا مسيلمة ومَنْ بقي معه إلى اللجوء إلى حديقةٍ دارَ فيها القتال أشرسَ ما يكون حتى قُتِلَ مسيلمة،وانكسرت شوكة بني حنيفة،ولم يجد مَجَّاعة بنُ مرارةَ بُدَّا من مصالحة المسلمين والرجوع عن الردة.
بلغ من قوة اندفاع بني حنيفة في بداية المعركة أنْ زعزعوا صفوف المسلمين،وتقدموا حتى دخلوا خيمة خالد بن الوليد،وكأنهم سيل كاسح يأخذ ما يجده في طريقة،ولا يصبر في وجه السيل إلا جبل شامخ يصده،أو أخدود عظيم يبتلعه.
وراح الصحابة يلوم بعضهم بعضا على التراجع أمام المشركين،ويحث بعضهم بعضا على القتال والصبر في وجه العدو،ونادى خالد في جنوده أن يَتَمَايَزَ أهلُ كلِّ حىٍّ وحدَهم،حتى يَحْرِصَ كلُّ قوم على أن لا تأتى الهزيمة من ناحيتهم،"فامتاز أهل القرى والبوادى،وامتازت القبائل من أهل البادية وأهل الحضر،فوقف بنو كلِّ أبٍ على رايتِهم فقاتلوا جميعًا" ...
وقاد أهلُ القرآن تلك الزحوفَ الراجعة،ومهَّدوا لإخوانهم الطريقَ،وانقضُّوا على عدوهم انقضاضَ العُقَاب على فريسته،ووقع أشرس قتال خاضه المسلمون ضد العرب،وقاد خالد بن الوليد الملحمة،وتقدم نحوَ المشركين يُنْشِد الشعر،وينادى بشعار جيشه في هذا اليوم: وَامُحَمَّدَاهُ،وَامُحَمَّدَاهُ.. فاهتزت قلوب المسلمين لنغمته كما تهتز الزهرة لمداعبة النسائم لها،واهتزت الأرض من تحت أقدام العدو،وراحت سيوف المسلمين تحصد أرواح المشركين حصدا،وخالد يقصد مسيلمة ليُنْهي هذا الصراعَ الدامىَ دون أن يصل إليه،حتى لجأ المشركون إلى الحديقة التي شَهِدَتْ هلاكَهم وهلاكَ نبيِّهم الكذابِ!!
للحروب رجال يصنعون النصر ولا يرونه،يملأون الوردَ والرياحين بالعطر الزاكي ولا يَشَمُّونه،وهؤلاء هم الشهداء.. ومَنْ أوْلَى بهذه الدرجة من أهل القرآن،إن القرآن لن يشفع لهم إنْ لم يعملوا به...
لم يدخر أبو بكر في المدينة أحدا من لآلئ الرجال الذين رباهم محمد ـ - صلى الله عليه وسلم - ،بل قذف بهم جميعا في وجه المرتدين،واختار لأهل القرآن أخطر المهمات وأجلَّها؛ لأنهم أهل للمواقف الصعبة والمواجهات الخطرة...
وكان جيش ابن الوليد في اليمامة معمورا بحُفَّاظ القرآن،فلما رأوا المسلمين تراجعوا أمام عدوهم في اليمامة حطموا جدران الخوف،وصرخوا في المسلمين،فمنهم مَنْ نادى: يا أهلَ القرآنِ زيِّنوا القرآنَ بالفعال،ثم قاتل حتى استُشهد،ومنهم مَنْ حمل الراية وقال: بئس والله حامل القرآن أنا إن لم أَثْبُتْ،وقاتل حتى استُشهد،ومنهم من قال: بئسما عوَّدتم أنفسكم يا معشر المسلمين،هكذا عني حتى أريَكم الجِلادَ والقِتال،فقاتل حتى استشهد،ومنهم من أقسم لا يتكلم اليوم حتى نهزمهم،أو يَلقى اللهَ فيكلِّمَه بحُجَّتِه،وأمر المسلمين أن يَعَضُّوا على أسنانهم،ويضربوا في عدوهم،ويَمضوا قُدُما لا(1/461)
يتراجعون،ففعلوا،فانتصروا،ونال الشهادة.. هكذا قال وفعل أبو حذيفة،وسالم مولاه،وثابت بن قيس،وزيد بن الخطاب وغيرُهم،وهكذا استُشْهدوا... وعَمَّتْ بركةُ استشهادهم جميعَ أجيالِ أمةِ الإسلام بجمع أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ للقرآن.
اشتد الكَرب ببني حنيفة وتخطفهم الموت،فذهبوا إلى نبيهم الكذاب يسألونه عما وعدهم من السيادة والعزة،وهو لا يكاد يعقل شيئا من الغيظ،وقد اسْوَدَّ الأُفُقُ أمام عينيه،وامتلأت الأرض حوله بالقتلى من قومه،فما سمع محكَّمَ بنَ الطفيل ينادى قومه أن يدخلوا الحديقة،حتى وجد ثقبا للنجاة،فأسرع وبنو حنيفة من ورائه يحتمون بالحديقة،ووقف محكَّم أمام باب الحديقة،بجسمه الضخم يقاتل قتالا شرسا حتى رماه عبدُ الرحمن بن أبي بكر بسهم في نحره فقتله.. وفَصَلَتْ جدارنُ الحديقة وبابُها بين المشركين وبين المسلمين،وقد غَصَّت الحديقة وامتلأت بالمقاتلين من بني حنيفة وفيهم رأس الفتنة مسيلمةُ،وبينما المسلمون يفكرون كيف يقتحمون الحديقة دون أن يُعطوا العدوَّ فرصة للفرار،صرخ فيهم البراءُ بنُ مالك كي يحملوه،ويقتحم على العدو الحديقة،فلما وضعوه على السور هبط على المشركين هبوط الصاعقة فقاتلهم عند الباب حتى فتحه أمام المسلمين،ودخل المسلمون وأغلقوا الباب.. وبين جدران الحديقة اقتتل الفريقان قتالا لم يروا مثله شراسة وشدة،ولم يجد أحد أمامه فرصة للفرار،حتى أُبِيدَ العدو،وبقي مسيلمة قد أَزْبَدَ فمُهُ واستند إلى جدار موقنا بأن نهايته وشيكةٌ،ورفع وحشي نفس الحربة التي قَتَلَ بها حمزة عم رسول الله بالأمس،ليُكَفِّر بها عن ذنبه العظيم،فلما أطمأن إلى دقة التوجيه صوَّبها فاخترقت جسم مسيلمة،وصرخ صارخ في الناس: قتله العبد الأسود.. قتله العبد الأسود!! لتموت فتنة مسيلمة،ويلتصق ببني حنيفة عارُ أنهم اتبعوا رجلا سفيها وأهلكوا أنفسهم من أجله،واستغلوا وفاة النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ فرجعوا عن دين الحق إلى شَعْوَذَاتِ مسيلمة.
سبق طليحةُ بن خويلد الأسَدي إلى الشر ـ مثلَ الأسْوَدِ ومسيلمةَ فادَّعى النبوة قبل وفاة الرسول ـ - صلى الله عليه وسلم - ،وبعدها تفاقم شره وازداد،وتعصبت له بنو أسد والتفوا حوله،وانضم إليهم مالكُ بنُ نويرةَ في سبعمائة من بني فزارة،وتألَّمتْ غطفانُ لهزيمتها في ذي القَصَّةِ فحالفتْ بني أسد واجتمعت معهم في بزَاخَةَ،وفعلتْ طَيِّئُ مثلهم وإن بقيت على حدود أرضها ... وأما هوازنُ وبنو عامر فقد انتظروا ما تُسْفِرُ عنه المعركة المرتقبة بين المسلمين وبين عدوهم،وراحوا يقدِّمون رِجْلا ويؤخرون أخرى وتحرك لواء خالد بن الوليد من ذي القَصَّةِ بعد أن صافحَتْ عيناه وَجْهَ أبي بكر الأبيضَ النحيفَ،وبدأ خالد يدعو مَنْ يمر به من المسلمين للانضمام إلى كتائب الحق المجاهدة،ليتقوَّى بهم على عدوه،وينفتح لهم باب للخير والعمل الصالح.. لكنه بدلا من أن ينزل على عدوِّه ببزَاخَةَ مباشرةً راح يخادعُهم ويناورُهم،فجنح عنها ومال إلى أجَأ،وأظهر أنه خارجٌ إلى خيبرَ،ليهبط من هناك على طليحة وجنوده،فاطمأنت طيِّئ إلى أن موعد المعركة بعيد،وتأخرت عن مناصرة بني أسد.. كل هذا ولا يعلم أحدٌ بِنِيَّةِ خالد وقصدِه،فلوَى عُنَقَ فرسِه متجها إلى ديار طيِّئ ليبدأ بهم،وبعث عُكَّاشة بنَ مِحْصَن(1/462)
وثابتَ بنَ أقرم طليعة يتعرفون أخبار بني أسد،فأما طيِّئ فقد جاء عدي بن حاتم الطائي بإسلامهم وإسلام جَدِيلةَ،وأما عكَّاشة وثابت فقد قتلهما طليحة وأخوه سلمة،لتقع المعركة الساخنة في بزَاخَةَ،حيث هُزِم بنو أسد وحلفاؤهم،وفر طليحة ناجيا بنفسه وأهله وتيقن أنصارُه من كذب ما يدّعيه من النبوة ورأى بنو عامر وهوازنُ وسُليْم ذلك،فدخلوا فيما خرجوا منه،وأعلنوا الإسلام،ونزلوا على حكم الله ورسولِه في وجوب إخراج الزكاة،كما يوجبون إقامَ الصلاة.
جاءت الأخبار إلى خالد بن الوليد سارَّةً ومحزنة معًا وهو في طريقه لمواجهة ردة بني أسد،فقد مثَّل قتلُ عكَّاشة،وثابتِ بنِ أقرمَ صدمةً كبيرة للمسلمين،إذْ كانت الفجيعة في سَيِّدَيْنِ من سادات المسلمين،وفارسيْن من فرسانهم،فاجتاح الحزنُ نفوسَ الجيش،غير أن القائد راح يبشر إخوانه بثبات طيِّئ بجناحيها الغوثِ وجَدِيلة على الإسلام،فزحفوا نحوَ بزاخة وهبطوا على العدو،وطليحة ملتفٌّ في ثياب له بفِناء بيت من شَعْرٍ،قد أعد لنفسه فرسًا يستعمله عند الحاجة إلى الفِرار.
وقواته مستعدة للحرب والنِّزَال،وقوته الضاربة يقودها مالكُ بنُ نويرةَ في سبعمائة من بني فزارة،فدارت الحرب والمسلمون عازمون على الثأر للشهيديْنِ عُكَّاشةَ وثابتٍ،حتى اهتزّت صفوف المعاندين،واضطربت قواتهم،وعضتْهم الحربُ بأنيابها،فذهب عيينة إلى طليحة عدة مرات يسأله عما نزل عليه من الوحي فلم يجدْ شيئا،حتى أيقن بأن الحرب ستأكلهم،وأن طليحة كذاب،فنادى عيينة في بني فزارة أن ينسحبوا فنبيُّ بني أسدٍ كذابٌ،وما هي إلا سويعات حتى حلّت الهزيمة ببني أسد ومَنْ بقي معهم،فأتوا إلى طليحة يسألونه الحَلَّ،فوثب على فرسه،وحمل معه امرأته،وأمر من استطاع أن يفعل مثلَ ذلك،وينجوَ بنفسه وأهله أن يفعل... وعلى طريق الحوشية كان الجواد يسرع بطليحة وزوجته هاربا حتى لحق بالشام،وانْفَضَّ جمعُه.
إنه "خيرُ مولودٍ وُلد في أرض طيِّئ،وأعظمُه عليهم بركةً" عدي بنُ حاتمٍ الطائي الذي أنقذ قومه من ناري الدنيا والآخرة،رجل مبارك أحب النبيَّ وأحبه النبيُّ،ودخل نورُ الإسلام أعماق نفسه وقلبه وتشرَّب منه وجدانُه،وأقسم أن يجاهد أسرتَه القريبة لو ترَكَتْ هذا الدينَ...!
هاهو الآن يرى قومَه يتذكرون الحلفَ مع بني أسد في الجاهلية،ويريدون إحياءه في الإسلام،فجاء إليهم ليُدْرِكَهم قبل أن تأكلهم الحرب فيخسروا الدنيا بالهزيمة أمام جيش خالد بن الوليد،ويخسروا الآخرة بترك الدين الحق.... أتى عدي قومَه يدعوهم إلى مبايعة خالد بن الوليد والانضمام إلى قواته،لكنهم رفضوا ذلك،فقام فيهم عدي يهدِّدُهم ـ وهو سيدُهم الذي يثقون تماما في حبه لهم،وبحثه عما ينفعهم ـ وسُرعان ما استجابوا له حين رأوا صوتَه قد ارتفع فيهم حزينا يُنْذِرُهم الخسرانَ والبوارَ،وكأنه ينذر قدميْه ويديْه وعينيْه.
وفي السُّنْحِ يستقبل عدي خالدَ بنَ الوليدِ وجيشَه بالبشرى،غير أنه يطلب مهلة ثلاثة أيام ليستخرج قومُه إخوانَهم الذين انضموا إلى قوات طليحة ببزَاخَةَ،وتمر الأيام الثلاثة ويأتى عدي في موعده بإسلام(1/463)
قومِه جميعًا وخروجِهم من بزَاخَةَ.... وكما يَفيض البحرُ بالخير فاضَ به عدي على قومه،فذهب إلى جَدِيلة الجناحِ الآخرِ من طيِّئ،حتى بايعوا على الإسلام،وثَبَتوا على الدين فأقبل مِنْ أرضِ قومه بألف فارسٍ مسلمٍ،فكان بحق "خيرَ مولود وُلد في أرض طيِّئ،وأعظمَه عليهم بركة" نفعهم بالدين،ونفع بهم الدين،فقاتلوا مع إخوانهم في معركة بزاخة ضد طليحة وأتباعه.
على مقربة من اليمامة أقام بنو تميم،فكانوا رصيدًا لمن ثبت على الإسلام من بني حنيفة في مواجهة مسيلمة الكذاب،حتى توفي رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ فنبت الشر في بني تميم،فمنهم من ارتد ومنع الزكاة،ومنهم مَنْ ثبت على دينه وأخرج الصدقاتِ،ومنهم من لم يَدْرِ ماذا يصنع؟!
وبينما هُمْ كذلك،لا تجتمع لهم كلمة أَتَتْهم سَجَاحُ بنتُ الحارثِ تقود قومَها لغزو المدينة ومَنْ يعرض لها من قبائل العرب،فلما هبطت على بني تميم خافوها،وتابعها العديد من أمرائهم،ومنهم مالكُ بنُ نويرةَ.
إن ضعف العقل وسفاهتَه لا تكتفي بأن تُوقع صاحبَها في عمل واحدٍ مُخْجِلٍ،بل إنها تجدد له ذلك كلما سنَحَتْ الفرصة،وقد افترقت كلمة بني تميم،وجاءهم العدو وهم كذلك،فاضطرُّوا إلى الخضوع لامرأة! وعقب الانتهاء من معركة بزَاخَة تابع خالدُ بنُ الوليد سيرَه نحوَ البُطاح لمواجهة مَن ارتد من بني تميم،فشق نحوهم الصحراء شقا،وكانت الأنباء كافية لتعود سَجَاحُ وقومُها من حيث أتَوْا،وينفردَ المسلمون بمواجهة التميميين...
وراح ابن الوليد ينشر سرايا جيشِه في ديار بني تميم كلها،فاستُقبِلوا بالسمع والطاعة وإخراج الزكاة،إلا مالكَ بنَ نويرةَ،فإنه تحيَّرَ ولم يَدْر ما يفعل،وفرق أتباعه من بني يربوع في أموالهم،وقَبْلَ أن يَحْسِمَ أمرَه جاءتْه سرية من المسلمين فأسرتْه ومعه بعضُ أصحابه... وفي ليلة باردةٍ وُضِعَ مالك وأصحابه في القيود،وجعلت الليلة تزداد برودةً فأمر خالد بتدفئة الأسرى،لكن الحرس فهموا أنه يريد قتلهم فقتلوهم،وتزوج خالد امرأةَ مالكٍ أمَّ تميمٍ ابنةَ المنهالِ بنِ عصمة،لينتهي أمر الردة في بني تميم.
ومع أن أبا بكر غضب غضبًا شديدًا لمقتل مالكٍ وزواج خالدٍ من امرأته،إلا أنه اكتفي بلوم خالد ووجهه لقتال بني حنيفة،ولم يسمع لكلام عمر الذي ألح على الخليفة ليعزل خالدًا.
امرأة ادعت النبوة،واسْتَخَفَّتْ بعقول قومها فاتبعوها،وساروا معها في جيش لغزو المدينة يقطعون آلافَ الأميال،فلما نزلت بهم ديارَ بني تميم كسبت تأييد الكثيرين منهم،غير أن مالكَ بنَ نويرةَ صرفها عن غزو المدينة إلى محاربة بعض فروع بني تميم.
وامتدت مطامعُ سَجَاح وآمالُها لكي تستولي على اليمامة،فزحفت نحوَها وبها مسيلمة في بني حنيفة.. وبرغم قوةِ مسيلمة وأتباعه إلا أنه خافها،وأراد أن يتَّقِيَها ويدفع عنه شرَّها بغير قتال،فحَمَلَ إليها من الهدايا ما يَسيل له لُعَابُ النساء،ثم وعدها أن يأخذ هو نصفَ الأرض الذي بِيَدِ المسلمين،وتأخذَ هي(1/464)
نصفَها الآخرَ،وعرض عليها الزواجَ فتزوجتْه،وأعطاها مهرَها صلاتَي الفجر والعشاء أسقطهما عن الناس...!
وكانت هذه هزيمة نفسية للمتنبئة وقومِها من بني تغلِب والنَّمِر وغيرهم،منعتْها من أن تستولي على بلاد اليمامة،غلبها الكذابُ الداهية بمكره وحيلته.. وبينما الباطل يتزوج من الباطل هكذا،حَمَلَت الرياحُ أخبار خالد بن الوليد الذي أجهد الصحراء وأجهدته،حتى قاربَ ديارَ بني حنيفة باليمامة،وامتلأت آذانُ سجاح وقومِها بهذه الأخبار فانسحبت بهم إلى الجزيرة بشمال العراق حيث المجاوَرَةِ للفرس والوقوع تحت سلطانهم،الذي يرجِّح أن سجاح وقومها جاءوا لغزو المدينة بتحريض من الفرس.
هذه الأرض تَعرف العلاءَ بنَ الحَضرمِيِّ ويعرفها،فقد جاءها من قبلُ يحمل كتاب الدعوة من رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ إلى المنذر بن ساوى ملك البحرين،ورجع العلاء يومها بإسلام ملك البحرين والكثير من رعيته،واليوم يحمل العلاء بن الحضرمي لواءً ويقود جيشا إلى البحرين لقتال المرتدين هناك.
لقد كان المنذر بن ساوي على موعد لكي يكون أولَ أمير مسلم ينتقل إلى جوار ربه بعد رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ حيث اهتز الناس في البحرين بعدها،وارتدت بكر وربيعة،وهمَّتْ عبد القيس بالكفر،حتى وقف لهم الرجلُ المباركُ الجارودُ بنُ المُعَلَّى فردهم إلى الحق والصواب. وتَزَعَّمَ الردةَ الحُطَمُ بنُ ضُبَيْعَةَ،ونزل بأتباعه القطيفَ وهَجَر،ووضع يده على دارِينَ وجُؤاثَى،فحوصر المسلمون من بني عبد القيس،حتى اشتد بهم الجوعُ وكادوا أن يَهلِكوا ... وأقبل العلاء من الحجاز في جيش يخترق الصحراء،ويتحدى بإيمانه قسوتها،فلما اقترب من اليمامة انضم إليه ثُمامةُ بنُ أُثَال في مسلمي بني حنيفة،ثم قواتٌ أخرى من مسلمي بني تميم،فزاده الله بهم قوة وعزما.. واستمر جيش العلاء في مسيره لا يقطعون صحراءَ إلا بدت لهم غيرها،حتى سلكوا صحراء الدهناء نحو هجر،وأراهم الله من الآيات ما أثْلَجَ الصدورَ،وثَبَّتَ الإيمانَ في القلوب. ووقفوا على أبواب هَجَر،وقد اجتمعت فيها قوات الحُطَم المرتدةُ عدا أهل دارِين الذين كانت لهم جَولة وحدهم مع العلاء...
وبدأت خُطا الحرب تقترب،فحرك العلاءُ الجارودَ ومن معه من مسلمي عبد القيس إلى الغرب من هجر،ونزل هو بجنده في شمالها وشرقها،وخندقَ المشركون على أنفسهم،وخندق المسلمون،فكانوا يتبادلون القتال ثم يرجعون للاحتماء بالخنادق يوما بعد يوم والحرب عَطْشَى تدور ببطء،حتى انقضى شهرٌ وهم على ذلك،وفي ليل ساكن إلا من عبادة وصلاة في معسكر المسلمين،اخترقت الصمتَ قهقهاتٌ سَكْرَى من معسكر المرتدّين،وعلا صوت الضوضاء شيئا فشيئا،حتى عجِب المسلمون وبعثوا مَنْ يأتيهم بخبر القوم،فإذا قوارير الخمر وكؤوسها قد هزمتْهم قبل أن يَنزل فيهم المسلمون بسيوفهم،فاقتحم العلاء ومَنْ معه خنادق المشركين،ووضعوا فيهم السيوف حيث شاءوا،وقُتل الحُطَمُ ذليلا،وأتباعه ما بين قتيل وأسير وهارب ومتردٍّ في الخندق،ومندهشٍ لا يدري ماذا يجرى!!(1/465)
اطمأن العلاء إلى أن المسلمين في البحرين قد أَضْحَوْا في أمان بعد أن خاب مسعى المرتدين،وهُزموا في هَجَر هزيمة منكرة،ولكن تبقى دارِين بركانا للردة يقبل الانفجار في أي وقت،فسار إليهم العلاء بجنوده،وهو يعلم أن عدة البشر لا تكفي وحدها لتأتي بالنصر،إذْ لابد أن تسبقها مشيئة الله ـ تعالى ـ وعونُه..
لقد كانت الصحراء في المرة السابقة قاسية،وهذه المرة في الطريق إلى دارِين ما هو أشق من الصحراء وأشد،إنه البحر بأمواجه،وهناك لا حل أمام البشر وأقدامهم.. وقف القائد العلاءُ بجنوده أمام الساحل،استحضروا كل ما يمكن أن يحمله القلبُ البشري من الإيمان،والوجدانُ الإنساني من الإحساس بِمَعِيَّةِ الرحمن،ومنهم من يركب جواده،ومنهم من يركب جَمَلَه،ومنهم مَنْ يمتطي بغلا،بل منهم من يركب حمارًا أو يمشي على قدميه،وراحت الألْسُنُ تبتهل إلى الله،تذكره في أنشودة جمعت الإنس والحيوان والبحر والسماء فعبر المسلمون الخليجَ في رحلة تقطعها السفينة في يوم وليلة،وطاوعَهم الماء فساروا عليه كما يسيرون على الأرض السهلة لا جبل فيها ولا مُنْحَدَر..
وكانت هذه الآيةُ كفيلةً بأن ترفع أرواح الجنود إلى سماء الطمأنينة واليقين،فساروا إلى عدوهم واقتتلوا معه قتالا شديدا،حتى أستأصلوهم،وسَبَوْا ذرياتِهم،وغَنِمُوا غنائمَ عظيمة.
لم تكن المسافة الكبيرة بين عُمَان والمدينة لتَثْنِيَ أبا بكر عن العمل على إخماد الردة فيها،فقد طغى فيها ذو التاج لقيطُ بنُ مالك،وادَّعى النبوةَ،وتبعه خلق كثير من أهل عُمان،حتى ألجأوا ملِكَيْها المسلمَيْن جَيْفَرًا وعَبَّادًا إلى الجبل والبحر... وما كان لأبي بكر أن يتأخر عن نجدة مسلم،ولو كان في أقاصي الأرض،وقد أتاه كتاب من جَيْفر يخبره بالحال،ويطلب مددًا وجيشًا..
واختص أبو بكر حذيفةَ بنَ مِحْصَن بغزو عُمَان،وأمر عَرْفجَة بنَ هَرْثَمَة المتجهَ لغزو المرتدين في مَهْرَةَ بإعانته،وأمر عكرمة بنَ أبي جهل بمثل ذلك... وجَدَّت الجيوشُ في سيرها والقصد عُمان،حتى إذا قاربوها كتبوا إلى جَيْفر وعَبَّاد،وصارت القيادة إلى عكرمة،وخرج جَيْفَر وأخوه فعسكرا بصُحَار،بينما بلغت الأنباءُ زعماءَ المرتدين فعسكروا بدَبَا... وتقاطرت جيوش المدينة على صُحَار،وبدأوا بالسلم حتى لا يبقى للمرتدين عُذرٌ ولاحُجة،فكتب المسلمون إلى لَقِيطٍ ومَنْ معه من الرؤساء ليراجعوا أنفسَهم،ويرجعوا إلى الدين،فانفضَّ البعض عن مدعي النبوة،لكنه بقي في قوة كبيرة من أتباعه... وزحف المسلمون جهة دَبَا،وصادموا المشركين هناك،فقاتل المرتدون قتالا شرسا؛ إذْ جمع لهم لَقِيط أطفالَهم ونساءَهم خلف الصفوف،فكان الواحد منهم يرى صورةَ ابنِه ووجهَ زوجتِه على صفحة السيف فيزداد ثباتا ورسوخا،حتى اهتزت صفوف المسلمين،ووقع فيها الخلل،وداعب النصر أحلامَ المرتدين،وبعد أن كادت المعركة تعلن نتيجتها لصالح العدو،جاء إلى المسلمين مددٌ من بني ناجِية وعبدِ القيس،فقوَّى اللهُ بهم أهلَ الإسلام،وأضعف بهم أهل الشرك حتى ولَّوْا هاربين،وركِبتْهم سيوف المسلمين،حتى قتلوا منهم عددا كبيرا،وغنموا وسَبَوْا شيئا كثيرا.(1/466)
تَتَّكِئُ مَهْرَةُ في وسط الجزيرة تماما على شاطئ البحر من الجنوب،وقد زحف إليها عكرمة في جيشه بعد أن فتح اللهُ للمسلمين عُمَانَ،وعاد عَرْفَجَة بن هَرْثَمَة بخُمس السَّبْي والغنائم إلى أبي بكر،وبقي حذيفة بنُ مِحْصَنٍ في عُمَان لتسكين الناس..
وما كان لعكرمة أن ينسى استنصارَ المسلمين في عُمَان وما حولها،حيث جاءوه من كل ناحية،واقتحم على أهل مَهْرة بلادَهم،فوجدهم جَمْعَيْنِ،ولم يَدْر بأيهما يبدأ: أَبمَنْ تجمَّعَ له بجيرُوت وهم الأقل،أم بمَنْ احتشد بالنَّجْد وهم الأكثرون؟!
وراح عكرمة يفعل فعلَ قادة المسلمين كما أوصاهم أبو بكر،فدعا الجَمْعَيْن من المرتدين إلى الإسلام،لا سياسة ولا مناورة،وإنما حب في اهتداء الناس إلى الله،فأجابه شِخْرِيت قائد أهل جيروت،واغتر المُصَبَّح قائدُ النَّجْد بمن تَحَلَّق حوله من المرتدين.
وما هو إلا أنْ وقعت الحرب،فكان المُصَبَّحُ شؤمًا على نفسه وقومه،فأدركتْهم هزيمة ساحِقة،وقتَلَ فيهم المسلمون كيف شاءوا،وقُتِل المُصَبَّحُ نفسُه.
وراح الأمير عكرمة بعدها يجمع الناس في عُمَان ومَهْرة ليبايعوا على الإسلام،فبايعوا وخلعوا ثياب الردة والتردد،واتجه هو لإعانة المسلمين في قتال المرتدين في اليمن.
تكاد تختنق ثم يتسع المدى أمام صدرك ليتنفس كلَّ هواءِ العالمِ النقي،هكذا بدأ الإسلام عند بداية الردة ولدى نهايتها،ضاقتْ عليه السُّبُلُ،واشتدتْ بأهله المِحَنُ،حتى أيَّدَ اللهُ الثابتين من عباده،وحقق المعجزة على أيديهم،فكسروا كل شوكة لمرتدٍّ أو مانعٍ للزكاة في بضعة أشهر...
و إذا كان النصر قَدَرًا من قَدَرِ الله ـ تعالى ـ وتأييده لمن نصر دينه،فإن ذلك لا يُلغي من الصورة عوامل أخرى قام النصر على أكتافها؛ من رسوخ عقيدة الإسلام في نفوس الصحابة رسوخًا جعلهم يُضَحُّون بكل ما يملكون،وكذلك صدق عزيمة أبي بكر وتصميمه على مقاومة أي أحد يحاول أن يَنْتَقِصَ من الإسلام شيئا،وفساد المبادئ التي قامت عليها الردة،ومهاجمة العدو في عُقْر دارِه،وحُسْن بلاء أولي السابقة في الإسلام،وحبّ المسلمين للشهادة،وبطولة قادة الحروب،وخاصة خالد بن الوليد.
لقد كان الصدّيق ـ رضي الله عنه ـ حريصا كل الحرص على حسن القيام على رعاية الأمانة التي تركها رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ملتزما في ذلك بسنة النبي ووصاياه مهما كان الوضع خطيرا،فأيده الله ووفر لديه الرجال الذين يؤدون له الدورَ المطلوب،فقد حرص مثلا على إِنْفَاذِ بَعْثِ أسامة إلى الشام تنفيذا لوصية رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ مع حاجته الشديدة لكل جندي من هؤلاء،ففهم المرتدّون أن أبا بكر لم يفعلْ ذلك إلا لما لديه من القوة وإلامكانات الكبيرة.
لقد كانت حروب الردة واحدًا من الأحداث الكبيرة في تاريخ هذا الدين،وبالرغم من أنها ظهرت في البداية كارثةً ضخمةً،فإنها قد بَدَتْ في النهاية كقَدَرٍ رائع خُدِمَ به الإسلامُ في منبعه الذي ظهر(1/467)
فيه،وقد رَبَّتْ هذه الحروبُ بأحداثها الشديدة أهلَ الجزيرة،وعلمتْهم أن الإسلام قدَرُهُم وهُمْ قدَرُهُ،وأن التفريط فيه إنما هو تفريط في الذات والهويّة والكيْنُونة الخاصة...
لقد ثَبَّتَتْ هذه الحروبُ كثيرا من العرب على دينهم،ورسَّخَتْ أركان الدولة الإسلامية في جزيرة العرب،وهيأتْ لحروب أخرى أشدَّ وأشرسَ مع الفرس والروم،وإن كان عددٌ كبير من الصحابة قد استُشهد في هذه الحروب،فقد نَتَجَ عن ذلك الدعوةُ إلى جمع القرآن والقيامُ بهذه المهمة بالفعل.
العراق والشام هما جناحا الطائر لجزيرة العرب للانطلاق إلى العالم.. ورسالة الإسلام لم تأتِ لتُحبَس في هذه الجزيرة،أو تتوارى في رمالها،وإنما جاءت شمسا مضيئة تبدأ من هناك ثم تَمُدُّ أشعتَها إلى كل موضع يبلغه الليل والنهار..
وهذه كتائب الإسلام تخرج من أنحاء الجزيرة لتحقق هذا الهدف حاملة المبدأ قبل السيف،والدعوة إلى الله وحبَّ الشهادة قبل البحث عن الغنائم وكان لابد للفاتحين من جناحى الطائر: العراق والشام.
ولم يكن للمسلمين صلة بالعراق أيام النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ سوى دعوته الفرسَ إلى الإسلام،وتبشيرِه بفتح بلادهم.
ومع أبى بكر تأتى فتوح العراق الأولى سيلا من الانتصارات،حيث لم يُكْسَرْ للمسلمين سيفٌ،ولم تُنَكَّسْ لهم رايةٌ،إلا أن أيَّا من هذه الفتوح لم يكن بالحجم الذي يكسر شوكة الفرس تماما. وفي صدر إمارة عمر بن الخطاب يصاب مُنحنى الانتصارات بانتكاسةٍ خطيرةٍ في يوم الجِسر،إلا أنه سرعان ما يتصاعد حتى يصل قمته بدخول المسلمين المدائنَ عاصمةَ الساسانيين. ويأتى الخليفة الثالث عثمان متابعا خُطا سلفَيْه،حتى ينتهى في عهده ملك بنى ساسان إلى الأبد بمقتل كسرى يَزْدَجِرْد الثالث.
كما ينزل المطر على الأرض الميتة فيحييها،جاءت بعثة محمد ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ بلسما أنقذ البشرية من الموت،وأحيا الله به قلوبَ مَنْ آمن بالله ورسوله،ووجَّه طاقاتِهم ومواهبَهم لخدمة الحق والصواب.. لقد كانت البشرية قبيل الإسلام مشرفةً على موت محقَّق،إذ كانت حركة التاريخ حينَها عملا رتيبا من المظالم المتراكمة في الحياة الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية للإنسان،ففي السياسات الداخلية استبدت الأسر الحاكمة ورؤساء القبائل بالحكم والسيادة،وفي السياسة الخارجية استولت الإمبراطوريات القوية على أرض الشعوب الضعيفة،وأكلت أرزاقها،وتصارع الأقوياء فيما بينهم في حروب طاحنة ملأت السهول والأودية بالدماء والقتلى..
وفي الحياة الاجتماعية ظُلمت المرأة،وهُضمت حقوقها،وانتشرت الفواحش وشُرْبُ الخمرِ،وتعدى مَنْ له حول وقوة على الضعفاء الذين لا سند لهم،وعمَّ التفاوت الاجتماعى الهائل بين طبقات كل شعب وبين بعضها البعض. وفي دنيا الاقتصاد فاز بفرص الربح التجاري من له قوة تحمي تجارته،واستبد السادة بأموال الجماهير الكادحة،وعاشت أقلية في ترف شديد وأكثرية في فقر أشد.(1/468)
وفي عالم الدين عاشت جميع الأمم في وثنية حقيقية أو مُقَنَّعَةٍ،فلم يكن على الدين الصحيح إلا عدد قليل جدًا من الناس في الأرض كلها.
إن نبي الصدق يبشر بالخير وربما لا يكون هناك أمل في ظهوره،ويبشر بالنور ولا يكاد أحد يُبصر يديه من الظلام،أي حينما لا يتوقع العقل شيئا من ذلك عند قراءته للواقع.. كما يعلن النبي الصادق مبادئه العامة من أول يوم لدعوته،ولا يتراجع عنها: خَدَمَتْه الظروفُ أم خذلتْه..
ولقد أعلن محمد ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ من أول دعوته أنه رسول الله إلى قومه خاصة وإلى الناس عامة،وتحركت دعوته حتى وفاته تخدم هذا المبدأ،وتصب في قناته،وفي هذه الدائرة كان كتاب الدعوة إلى الإسلام من رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ إلى كسرى أَبَرْوَيْز،والذي كان من نتائج إرساله إسلام بَاذَانَ عاملِ كسرى على اليمن،في خطوة مهمة على طريق إقصاء الشرك عن جزيرة العرب.
كما بشر رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ أصحابَه وهم محاصَرون في مكة تضطهدهم قريش،وبشرهم وهم خائفون في المدينة قد حاصرتهم الأحزاب ـ بنصرة ملتهم،وانتشار شريعتهم،وخضوع الأمم والمدن لهم وكانت البشرى بفتح فارس إحدى هذه الآيات.
"كان النبيُّ يُبعث إلى قومه خاصة،وبُعِثْتُ إلى الناس عامة".. هكذا عبَّر رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ عن واحد من قوانين الله ـ تعالى ـ في إرسال الرسل،وهو اختصاص كل نبي بدعوة قومه وحدهم،فهذا النبي أرسل إلى كفرة عاد،وهذا إلى مشركي ثمود،وذاك إلى خِراف بني إسرائيل الضالة،وهكذا...
ولكنْ لأن النبوات قد خُتمت ببعثة محمد ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ورسالته،فقد كان لابد أن يتغير هذا القانون،فتكون دعوة خاتم النبيين عامة إلى جميع الناس في كل مكان وفي كل زمان،وهذا ما لم يتركْه القرآن للتخمين ولا الظن،بل حسمه في قول الله تعالى عن النبي محمد: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمةً لِلْعالَمِينَ )[ الأنبياء: 107].
لقد كانت،وستظل دعوة الإسلام تدور حول ثلاثةِ محاورَ هى: عالميتها وختمها لدعوات الأنبياء،وصلاحها الشامل الذي يستوعب الطبائع البشرية والاختلافات الزمانية والتفاوتات المكانية...
ولم تكن فكرة عالمية الدعوة الإسلامية في حياة الرسول ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ مبدأً أطلقه وتركه يتحقق مع الزمن الطويل،بل كان يسعى إلى تطبيقه في مواقفَ عديدةٍ،من أشهرها الكتب التي وجهها إلى الملوك والرؤساء والأمراء ذوي الشأن في عصره...
ظل تجديد النبوات قانونا إلهيًا يعالج الانحراف العقائدي والخلقي لدى الأمم،حتى ختم الله تعالى الأنبياء بمحمد ـ - صلى الله عليه وسلم - ،فوافق من سبقه من الأنبياء في عقيدته،غير أن شريعته كانت أكملَ وأتمَّ من شرائعهم،وهذا شيء طبيعي؛ لأن كل نبي كان مرحلة من مراحل النبوة قبل تمامها،وأما رسالة محمد ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ فقد كانت هى التمام والكمال والختام لما سبقها من الرسالات والنبوات..(1/469)
والشائع هو أن الرسالة الخاتمة جاءت مع تمام رشد البشرية،غير أن الصواب هو أنها جاءت لإتمام هذا الرشد وتحقيقه،فالحال قبيل بعثة محمد ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ تؤكد أن الرشد حينَها كان عملةً نادرةَ الوجود،فجاء هَدْيُ خاتم الأنبياء ليُلغِيَ الوصاياتِ الكاذبةَ على روح الإنسان وعقله،فليس هناك رجال دين يفرضون كلمتَهم في الصغيرة والكبيرة،وليس هناك كهنوت يختصر الحياة بتعقيداتها وتنوعاتها المختلفة في تفسير واحد جامد...
ولكي لا يحتاج الناس إلى نبوة جديدة تكفَّل الله تعالى بإيجاد بدائل تُغني الخلق عنها،ومن ذلك ضمان حفظ ما يقوم عليه الدين من النصوص الشرعية،وبدلا من الصلاح المرحلي في النبوات السابقة أصبحت الرسالة الخاتمة صالحة لكل زمان ومكان،كما أنه لابد من وجود طائفة من المؤمنين قائمةٍ على الحق لا يضرهم مَنْ خالفهم.
الناس موزَّعون بين الأزمان والأماكن،فلا يجمعهم زمان واحد،ولا يضمهم مكان واحد،وقد ترتب على ذلك أن اختلفت العادات والوسائل التي تُستخدم في العيش،وشيء رائع جدًا،بل معجزة إلهية كُبرى أن ينزل الوحي ليلائم الناس جميعا...
ولقد ضمن للإسلام استمرارَ صلاحِه في الزمان والمكان أن الله ـ جل وعلا ـ فصَّل ما لا يختلف من زمان إلى زمان ولا من مكان إلى مكان،مثل أمور العبادة الشعائرية والأصول العقائدية،وأَجْمَلَ واختَصَرَ فيما تقبل وسائلُه التجديدَ والتطوير،فالشورى مثلا مبدأ إسلامي واجب،لكن وسائله قد تختلف من عصر إلى عصر بل من مكان إلى مكان،لذلك لم يفرض الإسلام شكلا معينا لتطبيق هذه الشورى،وتَرَكَ الناسَ يجتهدون ويُطَوِّرون في ذلك...
"إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقَتَهم عربَهم وعجمَهم،إلا بقايا من أهل الكتاب"،هكذا عبر رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ عن حال الناس قبل بعثته،إذ مقتهم الجليلُ ـ سبحانه ـ وأبغضهم؛ لما ركبوه من ذنوب الكفر،والظلمِ الشائع بينهم.. ولقد كان الصراع على السيطرة بين الفرس والروم وجها كبيرا من وجوه ظلم العباد بعضهم بعضا،فقد نشأ بينهما صراعٌ مميتٌ وتنافسٌ مهلكٌ،كانت الضحايا فيه تعدُّ بمئات الآلاف من البشر لا بعشراتها،هذا غير المدن التى خُرِّبَتْ والقصور والقلاع والحصون التى هُدِّمَتْ..
وقد علت يد الفرس على الروم فى بدايات بعثة النبى ـ - صلى الله عليه وسلم - ،فحققوا انتصارا كبيرا عليهم عند أَنْطَاكِيَّة سنة ستمائة وثلاث عشرة من الميلاد،وسيطروا على فِلَسْطِين،وقبضوا على بيت المقدس،وامتد جبروتهم حتى خضعت لهم الإسكندرية.. وتجاوب مشركو مكة مع الأحداث وفرحوا لانتصار الوثنية على أهل الكتاب،ورأوا فى ذلك صورة مبكرةً للصراع بينهم وبين الإسلام،وأن النهاية فى الحالين ستكون واحدة: انتصار الوثنية وارتفاع شأن الأصنام،وخمودُ صوتِ الرسل...!(1/470)
وخرج هرقلُ القيصرُ الجديدُ من رحم الآمال الرومانية،بل من رحم الأحزان والمدن المهدمة،وظل ينظم دولته ويقوى جيشه المنهار،ويكافح الفرس حتى ألحق بهم هزيمة ساحقة قرب نِينَوَى سنة سبع وعشرين وستمائة،فقصم ظهورَهم،واسترد منهم أرض الدولة البيزنطية فى أرْمينِيَّة والشام وفلسطين ومصر،واستعاد منهم بيت المقدس سنة ثلاثين وستمائة من الميلاد.
فتحت اليمن التي كانت خاضعة للتاج الفارسي أيام النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ حين أسلم بَاذَانُ عاملُ كسرى عليها،فلم يجرد لها النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ في هذا الحين جيشا،ولا خاض لأجلها حربا.. وكان هذا الفتح جزءا من بشارة رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ بخضوع البلاد والأنحاء لسلطان الدين الجديد..
ولكن إذا كانت اليمن عربية تضمها أرض شبه الجزيرة،فإن فارس والروم أعجميتان بعيدتان عن أحلام المسلمين،فهل يمكن أن يبشر محمد أصحابه بفتح فارس والشام واستخلاصهما من أنياب الفرس والروم،بل يبشرهم بكَسْرِ هذه الأنياب نفسها؟ نعم،لقد فعل،ولم يكن هذا بدافع نشوة نصر حققه،ولا رفعا لمعنويات أصحابه المستضعفين المضطهدين،بل كان حقا،في حكم ما وقع بالفعل،فإنها النبوة الملهمة المعلمة..
لقد بشر رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ أصحابه بالنصر وفتح الشام وفارس واليمن وهو يحفر معهم الخندق لكي يحتموا به في مدينتهم الصغيرة من الأحزاب القادمة لسحقهم،فقد اعترضَتْ طريقَ الناس صخرةٌ في الخندق عجزوا عن تحطيمها أو رفعها،فذهبوا إلى نبيهم يشتكون إليه،فأخذ المعول وسمى الله،ثم ضرب الصخرة فكسر ثلثها،وقال: "الله أكبر أُعْطِيتُ مفاتيح الشام،والله إنى لأبصر قصورها الحُمْر الساعة " وفي الضربة الثانية قطع ثلثا آخر من الصخرة وقال: " الله أكبر أُعْطِيتُ مفاتيح فارس،والله إنى لأبصر قصر المدائن الأبيض" ثم حطم بقية الصخرة وقال: "الله أكبر،أُعْطِيتُ مفاتيح اليمن،والله إنى لأبصر أبواب صنعاء من مكانى هذا الساعةَ"!
لبس أكثر ملوك فارس تيجان الكِبْر والتجبر،فكان الناس عبيدا عندهم،وكانت الشعوب أحذية لأقدامهم.. وبرز في ذلك كسرى أبرويز،فكان من أعظمهم كِبْرا،وأشدهم جبروتا،فأتاه من جزيرة العرب ما صدم كبرياءه،وهزَّ تَجَبُّرَه،فقد شق عبد الله بن حذافة السهمى الصحارَى،وانطلق من المدينة كما ينطلق السهم من الوتر،متوجها إلى مدائن كسرى،يحمل كتابا من رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ إلى "عظيم الفرس"،يدعوه وقومَه إلى الإسلام،فما أعطى كسرى نفسَه فرصةً لِيَعِىَ ويفهم ما حواه الكتاب من خير الدنيا والآخرة،بل غطى الكِبْرُ بصيرتَه،وطمس على قلبه،ولم يره إلا كتابا من " عبد " إلى " سيده "،وذلك في عرفه لا يجوز!!
فمزق كتاب النبوة الشريف،فنالتْه دعوة رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - :" مزق الله ملكه " إذ تمزق هو أولا فقتله ابنه شيرويه،ثم تمزق ملكه فحاز المسلمون ما تحت قدميه من البلاد.(1/471)
ها هو البيت الحرام مهوى أفئدة العرب،ومقصدُ حجهم وطوافهم.. وموسمُ الحج حينئذٍ وسيلة إعلامية رائعة،فالحجيج يسمعون أخبار بني فلان، وأنباء قبيلة فلان،ويسمعون عن شاعر ظهر،أو فارس برز،فينقلون هذه الأخبار وتلك الأنباء إلى بلادهم والبلاد التي يزورونها أو يمرُّون بها. وها هم اليوم يسمعون،بل يرون بأنفسهم رجلا بمكة يقول إنه نبي،ويدعوهم إلى نصره... ولكن ما أبعد عهد هذه البلاد بالنبوة،لقد طال الزمن ولم يسمعوا أحدا يقول بهذا!!
وتصل الأنباء إلى مسامع كسرى،فيطفح الغرور من ألفاظه وأفعاله،ولا يرى هذا الرجل الذي يدعو الناس إلى الله سوى عبدٍ متمردٍ سينتهى تمردُه بعد قليل.. ولكن نور الدين الجديد وقوة أصحابه ظلت تتسع،وانحسر الشرك أمامها،حتى بعث رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ بكتاب يدعو فيه كسرى إلى الإسلام،فدارت الدنيا بكسرى،وكان حديثَ عهدٍ بهزيمة ساحقة لحقتْه أمام الروم،فركبه الغضب،وكتب إلى عامله على اليمن باذان أن يأتيه بمحمدٍ هذا!!
وتأتى رسل باذن إلى رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ فيكرمُهم كما يكرم الرسل،فلما ذكروا له أن كسرى يريده ما هزَّه اسمُ كسرى،ولا زعزع من يقينه شيئا،بل كلم الرسُلَ في رسوخ شهدت عليه السماء والأرض،وأبصره البشر بعيونهم،وأمرهم بأن يرجعوا إلى باذان ويخبروه بأن كسرى قد قتله ابنُه،وكان جبريل قد أخبر رسول الله بالخبر قبل أن يعلمه أهل فارس حول قصر كسرى نفسِه ... ويرجع الرسل إلى باذان فلا يملك حين صدَّق قول النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ إلا أن يؤمن وقومُه بالله ورسوله،ليحكم اليمن،لا تحت تاج كسرى،بل تحت سماء النبوة!
إذا جاء النور ينبغى أن تنقشع الظُّلْمة،وتسحب جنودَها.. وقد أقبل الإسلام بنوره فينبغى أن ينسحب الشرك بظلامه،ويلقى بأوثانه وأصنامه وطقوسه في متاهات النسيان... ولقد أتى يومٌ على جزيرة العرب وهى غارقة في الوثنية،حتى كبَّلت الأصنام والأوثان أقدس مقدسات هذه الأرض،وهى الكعبة،فمنعت عنها أنفاسَ التوحيد والموحدين،أما وقد بعث محمد ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ خاتمُ المرسلين من هذه الجزيرة،فيجب أن يُرْفَعَ التناقض،فلا يكون في الموضع الذي فجَّ النور منه،وابتدأ انطلاقته من ربوعه ـ لا تكون فيه مساحة للشرك ولا للظلام..وقد أوصى النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ أصحابه في مرض موته "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب"،ولما أجلى أبو بكر أهل نجران لشركهم قال: "نجليهم بأمر الله ورسوله،ألا يُتْرَكَ بجزيرة العرب دينان".
كما يتصل مجرى النهر بمنابعه اتصلت فتوحات الصحابة بغزوات النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ وسراياه ووصاياه،وكان ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ قد أوصى قبيل وفاته بإقصاء الشرك والمشركين عن جزيرة العرب،فجدَّ الصحابة في ذلك،وخاضوا حروب الردة الشرسة،وعلى رأسها حرب اليمامة قريبا من ديار الفرس،الذين شجعوا الردة،وساندوا أصحابها..(1/472)
وكان المثنى بن حارثة أحدَ الشجعان الذين كسروا شوكة المرتدين،وهو نفسه الذي أطمع أبا بكر والمسلمين في الفرس،وهوَّن من شأن أهل فارس عليهم،فأمدَّه أبو بكر بخالد بن الوليد قائدا عاما،لتتحرك كتائبُ الحق،وتخوض غمار خمس عشرة معركة ضد الفرس،حيث دارت الدائرة فيها جميعا على عَبَدَةِ النار وأهل الأوثان،فاصطلوا بنيران الهزيمة،وما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله شيئا..
وتدخل جبهة الشام في موقف حرج للمسلمين أمام الروم،فيرسل إليهم أبو بكر نصف جنود العراق عليهم خالد بن الوليد،لينفرد المثنى بعزف ألحان النصر أمام الفرس،حيث قاتلهم على أطلال بابل.. لكن القائد يشعر بأن يده ليست بالقوة التي تستطيع فتح بقية العراق،فيأتى إلى المدينة يطلب مددا من خليفة رسول الله،فلا يجد المثنى بن حارثة إلا رسالة مرئية حزينة تنتظره،فأبو بكر قد أرقده المرض،وهو يوصي الناس وصية مَنْ يودع الدنيا،فأوصى الخليفة الجديدَ عمرَ بنَ الخطاب بأن يندب الناس ليخرجوا للقتال مع المثنى،ثم أسلم الخليفة الصدّيق الروح إلى بارئها.
أي بطل هذا الخارج من رحم الجزيرة ليتجرأ على فارس: أهل الحرب والقتال،وأصحاب الجند والعتاد؟! هو لم يكن يسكن في جنوب الجزيرة،ولا وسطها ولا غربها حتى تكون جرأتُه تهورًا ممن لا يعرف مَنْ الفرس؟ بل كان المثنى بن حارثة رجلا من شيبان التي تُجاور ديارُها فارس وممتلكاتها عند النهرين: دجلة والفرات... فهو يعرف الفرس كما يعرف قبيلته!
غزا المثنى ضد أهل الردة،وشارك في قهرهم ثم امتد به الأمر ليشتبك مع مَنْ أعان أهل الردة من الفرس،فقضى على عمالهم بالبحرين،وأسرعت به الخيل حتى وضع يده على القطيف وهَجَر،وبلغ مصب دجلة والفرات.. وعلم وتيقن أن الفرس ليسوا أسطورة غير قابلة للهزيمة،بل إن قوتهم وهْمٌ،وانتفاخَهم ورمٌ خبيثٌ..
ويحضر المثنى إلى المدينة وقد خَزَنَ في عقله هذه المعلومات،وراح يقنع أبا بكر والمسلمين بصحتها،لكن الهيبة القديمة من الفرس لم تكن قد ذهبت كلها من النفوس.. فراح المثنى يتكلم حتى استعمله أبو بكر على قومه ليقاتلوا الفرس،الذين طمع المسلمون وأبو بكر في فتح بلادهم لمَّا هوَّنَ المثنى من شأنهم.
ولما سارالمثنى ناحية العراق،كتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد أن سِرْ إلى العراق أيضا.
"ما ليلة يُهْدَى إليَّ فيها عروسٌ أنا لها محب،أو أُبَشَّرُ فيها بغلام ـ أحب إليَّ من ليلةٍ شديدة الجليد،في سَرِيَّةٍ من المهاجرين،أُصَبِّحُ بهم العدوَّ.." ـ هذا هو خالد بن الوليد الذي اختاره أبو بكر ليقود الزحف على الفرس،فتحركت به الخيل من المدينة نحو العراق،في ألف رجل،وظلت تلتحق بهم مواكب المجاهدين من البلاد التي يمرون بها حتى قارَبَ الجيشُ عشرة آلاف مقاتل،تهزُّ أرواحَهم بشائرُ النبوة بفتح فارس وقصر المدائن الأبيض...(1/473)
ودخل خالد العراق من جنوبها،ليهزَّ التاريخ من هناك هزًا عنيفا،معلنا أن مرحلة جديدة فيه قد أوشكت أن تأتيَ،لتتهاوَى تيجان وتسقط عروش بُنيت على الظلم والشرك،وقامت أركانها على استعباد الخلق وعبادة غير الله تعالى ...
وينزل ابن الوليد بالجيش بالنِّباج،بينما كان المثنى معسكِرًا بِخَفَّان،فيرسل خالد إلى المثنى بكتابٍ من أبى بكر يأمر فيه المثنى بطاعة خالد،فما غلبت المثنى أنفة الجاهلية ولا كبرياؤها الكاذب،ولا قال لنفسه: أفي بلادنا ويولَّى علينا غَيْرُنَا؟! بل أسرع بجنده إلى خالد معلنا الطاعة،ليتلاعب سيف خالد وسيف المثنى بعبدة النار،وتبدأ جهود الفتح على الجبهة الفارسية بقيادة خالد بن الوليد،والتي استمرت عاما وشهرين.
ما أقصر الحياةَ فلْتملأْها بالعمل،ولا تركن إلى الراحة ساعة... كأن هذا هو المبدأ الذي نأخذه من فتوح خالد بن الوليد على جبهة فارس،فقد ظل جيشه منذ وصل إلى العراق في نشاطٍ عسكرى دائم وحركة قتالية مستمرة،كأنه يسابق الزمن،فينتقل من صلح إلى معركة،ويفتح الموقعَ مرةً فإذا احتاج إلى حرب أخرى خاضها،وإذا قضى على جمع من جموع الفرس ووجد غيره يستعد للقتال أسرع إليهم ليلقاهم...
بدأ خالد أعماله في العراق بمعركة ذات السلاسل،ثم المذار،وفتح الولجة وأُلَّيس وأمغيشيا،وانتصر على الفرس في الحيرة،ثم فتح الأنبار وعين التمر ودُومة الجندل،وخاض غمار الحرب في وقائع حصيد والخنافس ومصيَّخ والثنيّ،ثم ختم عمله الحربى على هذه الجبهة بوقعة الفراض،ومن هناك انطلق خالد إلى مكة ليحج دون أن يستأذن أبا بكر،فصرفه الخليفة للقتال على جبهة الروم.
سمع هرمز القائد الفارسي أن جيشا للمسلمين تحرك قاصدا الحفير،فكتب إلى سيده كسرى أردشير بالخبر،وأسرع هو ليسبق المسلمين وينزل الحفير بجنده قبلهم.. وهناك يفكر هرمز فيما يصنع ليصدم العرب صدمةً لا يقومون بعدها،فتنهدم محاولات غزوهم لفارس منذ البداية.. إذن فليضعْ أمامهم جبالا من البشر لا تفرُّ من السيف،ولا تنحنى للرمح.. ولكن هذه فكرة خائبة،فهو يعلم جيدا قلوب جنوده،الذين باتوا يشعرون بأنهم مجردُ وقودٍ للحروب التي يخوضها سادتهم.. إذن لا حل إلا في السلاسل يُربط بها الجبانُ مع الشجاع حتى يثبت الجميع. وبدا منظر الجنود المربوطين بالسلاسل في عين هرمز جميلا متناسقا،وحقا كان المنظر جميلا ومتناسقا،ولكنه ليس منظرا لبشر لهم كرامتُهم،أو يدافعون عن مبدأ أو وطن،وإنما هو لعبيد يقادون إلى السوق للبيع،أو خراف تساق إلى الذبح...!
ويأتى جنود الحق قد وزعهم خالد بن الوليد ثلاثَ فرقٍ؛ على المقدمة المثنى بن حارثة،وبعده عدى بن حاتم،ثم نفسه،الذي وجد الفرس في الحفير فمال إلى كاظمة،لكن هرمز سبقه إليها أيضا،وأصبح القتال شيئا واقعا لا محالة،فدنا الجيش من الجيش،واقتربت الصفوف من الصفوف،وخرج هرمز يهز سيفه،ويختال بفرسه،يُظْهِر بطولة وشجاعة،ولكنه يخفي شرا وخيانة،فيطلب مبارزة قائد(1/474)
المسلمين،فيخرج إليه خالد على قدميه غيرَ خائفٍ ولا متردِّدٍ،وينزل هرمز عن فرسه كذلك،ويدنو القائد من القائد،وكل العيون ترقب هذا المشهد المثير،حتى اصطدم السيف بالسيف،فخرج بعض الجنود من الفرس لقتل خالد،وحملوا عليه،فتنبهت عينا الصقر القعقاع بنِ عمرو،فخرج لتوِّه،وطار إليهم طيرانا،فاحتضن خالد بن الوليد هرمزَ،،ولم ينشغل عن قتله،وزاحم القعقاع الخائنين يضرب هنا وهنا،حتى دارت رحى الحرب تطحن الفرس طحنا،وراح المسلمون يقتلون فيهم إلى الليل.
وكان ذلك في المحرم من العام الهجري الثاني عشر.
جد المثنى ـ كما أمره خالد ـ في مطاردة المنهزمين في ذات السلاسل،وها هى ذى الخيل تعدو به وبأصحابه حتى لا يعطي للعدو فرصة للتجمع مرة أخرى،لكن المثنى يتوقف فجأة،فماذا جرى؟ لقد بلغتْه أنباء بأن جيشا كبيرا للفرس يقوده قارن بن قريانس يعسكر في المذار،فعسكر المثنى قريبا منهم في انتظار خالد بن الوليد.
ولم يكن جيش الفرس هذا سوى المدد الذي بعث به كسرى إلى هرمز،فبلغتْهم هزيمةُ ذات السلاسل وهم قرب المذار فنزلوها،وانضم إليهم الفارّون من الهزيمة،وكان الغيظ والغضب لما أصابهم يملأ صدورهم،فقد أوجعتهم لطمة المسلمين وآلمتهم أيّما إيلام! وأقبل خالد فجمع جنده،وأرضاهم من غنائم ذات السلاسل،وراح الصحابة يُثَبِّتُون الناسَ،ويبثون في نفوسهم طلب الشهادة في سبيل الله،ونصرة دينه ـ سبحانه وتعالى ... فنزل المسلمون على جموع الفرس،وكل فريق قد عبأ جنده واستعد للقتال. ودعا قائدُ الفرس إلى المبارزة فخرج إليه خالد بن الوليد ومعقل بن الأعشى بن النبَّاش،فسبق معقلٌ إلى قتله.. وكان هذا كالصاعقة نزلت على معنويات الفرس فأحرقتها،فنالتْهم سيوفُ المسلمين من كل ناحية،وكاد الفناء يلحق بجيش الفرس،لولا أنهم هربوا في سفنهم،فحال الماء بين المسلمين وبينهم،وقتل من الفرس يوم المذار ثلاثون ألفا سوى من غرق.
وكان ذلك في شهر صفر الخير من سنة اثنتي عشرة للهجرة.
قامت قيامة الفرس،واستشاط قادتُهم في المدائن غضبا للهزيمة الفادحة التي لحقتهم في المذار،ورأوا أن انتصار المسلمين لم يكن صدفةً،لذلك لابد أن نستعد لهم أكثر،ونحشد لهم جيوشا أكبر ...
وفي طريق المدائن ـ كسكر ـ الولَجة مرَّ الجيش الأول تحت قيادة الأَنَدَرْزَغَر،وتبعه جيش آخر إلى الولَجة يقوده بَهْمَن جاذويه مارًا بوسط سواد العراق،هذا غير من انضم إليهم من العرب (من بكر بن وائل) بين الحيرة وكسكر.. ونظر الأَنَدَرْزَغَر فيما اجتمع لديه من الجنود،فأعجبه ذلك،واطمأنت نفسه إلى النصر،ووثقت من الظفر.. وها هو ذا يفكر فيما سيمنحه كسرى من المكافآت والجوائز حينما ينكِّل بهؤلاء العرب،ويأتى برءوس قادتهم..!
وأما المسلمون فصلَّوا صلاتهم،وسجدوا لربهم وركعوا،وتضرعوا إليه أن يُمِدَّهم بمدد من عنده،ويؤيدهم بجند من جنده.. وأَمَّنَ خالد بن الوليد ظهرَه،فخلَّف سويد بن مقرّن على الحفير،وأمره(1/475)
بلزومها،وأَمَرَ مَنْ تركهم بأسفل دجلة بالتنبه والحذر وترك الاغترار.. وسار المسلمون إلى الفرس قبل أن يسير الفرس إليهم،وفي جراب خالد بن الوليد مفاجأة يُعِدُّها للجيش الفارسي الجرار بالولَجة واصطدم الجيشان بقوة،واقتتل الناس قتالا أعظم مما قبله،فطارت الهام،وطُعنت الأفئدة،وصال الأبطال وجالوا،حتى كلَّت الأيادي وتعبت من الضرب والرمي والطعن و" حتى ظن الفريقان أن الصبر قد فرغ " فجاءت مفاجأة خالد كمينًا خرج من ناحيتين فأثار الفزع في صفوف الفرس،فلم يدروا هل يأخذهم الموت من خلفهم أو من أمامهم،فلحقتْهم هزيمة هائلة،وقَتل العطشُ قائدَهم الهاربَ الأَنَدَرْزَغَر ونال العربَ المحالفين للفرس نصيبٌ كبيرٌ من الهزيمة. وكانت هذه المعركة في شهر صفر من العام الهجري الثاني عشر.
حينما يتحكم الغباء في موقف تكون العاقبة معروفة مقدَّما!! وقد حدث هذا حينما حالف نصارى بكر بن وائل الفرسَ،فحالفوا مَنْ لا يوافقهم في دين ولا يشبههم في قومية،فهُزموا جميعا في معركة الولَجة،ثم حرَّك الغضبُ والسعى للثأر هؤلاء النصارى من العرب،وكاتبوا الفرس من جديد،واتفقوا على الاجتماع بأُلَّيس،يقود العربَ عبدُ الأسودِ العجلي،ويرأس جيشَ فارس قائدهم جابان... ونهض المسلمون يقصدون تجمع العرب،وليس لهم هدف سواه،فوجدوا جابانَ وقد أعد جنودُه الطعامَ،ودعا بعضهم بعضا إلى الأكل وقبل أن يهنأوا به رأوا جيش المسلمين على مرمى البصر،فاهتز جابان وتشاءم،ورأى الحرمان من الطعام في هذه الساعة حرمانًا من النصر في ساعة قادمة... وراح يدعو جنودَه إلى وضع السُّمِّ في الطعام،حتى لا ينتفع به المسلمون إن انتصروا،إلا أن الجنود عصوه وخالفوا أمره،ثقةً منهم في النصر،وأن المعركة ليست إلا جولة سريعة سيعودون بعدها ليلتهموا هذا الطعام المُعَدَّ،ويشربوا عليه خمور النصر!
ويخرج خالد بن الوليد للمبارزة،ويوصي جنوده بحماية ظهره،وينادى زعماء العرب ليخرجوا إليه،لكنهم رأوا الموت لا السيف في يد خالد،فجبنوا عن الخروج إليه إلا مالك بن قيس الذي لم يصبر على مبارزة خالد وضرباته فقُتِل في لمح البصر.. وكان هذا إيذانا باشتعال القتال بين المسلمين وبين التحالف الفارسي العربي،بين قوم يقاتلون ثأرا وحمية جاهلية،وقوم يقاتلون في سبيل ربهم ... وصبر العدو صبرا شديدا،طمعا في أن يأتيهم مدد من قِبَل المدائن،فنذر خالد بن الوليد إن أمكنه الله منهم أن يجري النهر بدمائهم،وحمل هو وجنوده في هجمة شديدة على العدو،وبعد ساعة من الصياح والضرب والطعن أمكن الله المسلمين من عدوهم،وأجرى خالد النهر بدمائهم حين أرسل عليها الماء ... وجلس المسلمون على الطعام الذي أعده الفرس لأنفسهم فتعشَّوْا به!
قامت قيامة الفرس،واستشاط قادتُهم في المدائن غضبا للهزيمة الفادحة التي لحقتهم في المذار،ورأوا أن انتصار المسلمين لم يكن صدفةً،لذلك لابد أن نستعد لهم أكثر،ونحشد لهم جيوشا أكبر ...(1/476)
وفي طريق المدائن ـ كسكر ـ الولَجة مرَّ الجيش الأول تحت قيادة الأَنَدَرْزَغَر،وتبعه جيش آخر إلى الولَجة يقوده بَهْمَن جاذويه مارًا بوسط سواد العراق،هذا غير من انضم إليهم من العرب (من بكر بن وائل) بين الحيرة وكسكر.. ونظر الأَنَدَرْزَغَر فيما اجتمع لديه من الجنود،فأعجبه ذلك،واطمأنت نفسه إلى النصر،ووثقت من الظفر.. وها هو ذا يفكر فيما سيمنحه كسرى من المكافآت والجوائز حينما ينكِّل بهؤلاء العرب،ويأتى برءوس قادتهم..!
وأما المسلمون فصلَّوا صلاتهم،وسجدوا لربهم وركعوا،وتضرعوا إليه أن يُمِدَّهم بمدد من عنده،ويؤيدهم بجند من جنده.. وأَمَّنَ خالد بن الوليد ظهرَه،فخلَّف سويد بن مقرّن على الحفير،وأمره بلزومها،وأَمَرَ مَنْ تركهم بأسفل دجلة بالتنبه والحذر وترك الاغترار.. وسار المسلمون إلى الفرس قبل أن يسير الفرس إليهم،وفي جراب خالد بن الوليد مفاجأة يُعِدُّها للجيش الفارسي الجرار بالولَجة واصطدم الجيشان بقوة،واقتتل الناس قتالا أعظم مما قبله،فطارت الهام،وطُعنت الأفئدة،وصال الأبطال وجالوا،حتى كلَّت الأيادي وتعبت من الضرب والرمي والطعن و" حتى ظن الفريقان أن الصبر قد فرغ " فجاءت مفاجأة خالد كمينًا خرج من ناحيتين فأثار الفزع في صفوف الفرس،فلم يدروا هل يأخذهم الموت من خلفهم أو من أمامهم،فلحقتْهم هزيمة هائلة،وقَتل العطشُ قائدَهم الهاربَ الأَنَدَرْزَغَر ونال العربَ المحالفين للفرس نصيبٌ كبيرٌ من الهزيمة. وكانت هذه المعركة في شهر صفر من العام الهجري الثاني عشر.
حينما يتحكم الغباء في موقف تكون العاقبة معروفة مقدَّما!! وقد حدث هذا حينما حالف نصارى بكر بن وائل الفرسَ،فحالفوا مَنْ لا يوافقهم في دين ولا يشبههم في قومية،فهُزموا جميعا في معركة الولَجة،ثم حرَّك الغضبُ والسعى للثأر هؤلاء النصارى من العرب،وكاتبوا الفرس من جديد،واتفقوا على الاجتماع بأُلَّيس،يقود العربَ عبدُ الأسودِ العجلي،ويرأس جيشَ فارس قائدهم جابان... ونهض المسلمون يقصدون تجمع العرب،وليس لهم هدف سواه،فوجدوا جابانَ وقد أعد جنودُه الطعامَ،ودعا بعضهم بعضا إلى الأكل وقبل أن يهنأوا به رأوا جيش المسلمين على مرمى البصر،فاهتز جابان وتشاءم،ورأى الحرمان من الطعام في هذه الساعة حرمانًا من النصر في ساعة قادمة... وراح يدعو جنودَه إلى وضع السُّمِّ في الطعام،حتى لا ينتفع به المسلمون إن انتصروا،إلا أن الجنود عصوه وخالفوا أمره،ثقةً منهم في النصر،وأن المعركة ليست إلا جولة سريعة سيعودون بعدها ليلتهموا هذا الطعام المُعَدَّ،ويشربوا عليه خمور النصر!
ويخرج خالد بن الوليد للمبارزة،ويوصي جنوده بحماية ظهره،وينادى زعماء العرب ليخرجوا إليه،لكنهم رأوا الموت لا السيف في يد خالد،فجبنوا عن الخروج إليه إلا مالك بن قيس الذي لم يصبر على مبارزة خالد وضرباته فقُتِل في لمح البصر.. وكان هذا إيذانا باشتعال القتال بين المسلمين وبين التحالف الفارسي العربي،بين قوم يقاتلون ثأرا وحمية جاهلية،وقوم يقاتلون في سبيل ربهم ... وصبر(1/477)
العدو صبرا شديدا،طمعا في أن يأتيهم مدد من قِبَل المدائن،فنذر خالد بن الوليد إن أمكنه الله منهم أن يجري النهر بدمائهم،وحمل هو وجنوده في هجمة شديدة على العدو،وبعد ساعة من الصياح والضرب والطعن أمكن الله المسلمين من عدوهم،وأجرى خالد النهر بدمائهم حين أرسل عليها الماء ... وجلس المسلمون على الطعام الذي أعده الفرس لأنفسهم فتعشَّوْا به!
أكلت الحرب يوم أُلَّيس عددا كبيرا من جنود فارس،وكان أكثر هؤلاء من أحد أمصار العراق الكبيرة،وهو أمغيشيا،وقد خرجوا إلى القتال في أُلَّيس ليمنعوا نيران الحرب من أن تصل إلى بلدهم المعروف بالثراء والغنى الواسع،وفي ظن هؤلاء أنهم سيَلْقَوْنَ جيشا ككل الجيوش،إن انهزم ـ وهذا هو الأرجح عندهم ـ فقد كُفُوا شرَّه،وإن انتصر اكتفي بما أخذه من أُلَّيس.
وفي ساعة الحرب في أُلَّيس رأى جنود أمغيشيا وزملاؤهم ما أدهشهم،وكاد يذهب بعقولهم،فقد رأوا جنود المسلمين ينقَضُّون على عدوهم انقضاضَ الأسد على فريسته،ويُقْبِلون على القتال وكأنهم حريصون على الموت لا على الحياة...
أَرْعَبَ هذا مَنْ بقي من أهل أمغيشيا،فلم يرجعوا إلى بلدهم،بل تفرقوا في سَوَادِ العراق،وهرب بقية سكان المدينة المقيمين،وشغلهم البحث عن النجاة عن أخذ أمتعتهم وممتلكاتهم معهم،فدخل المسلمون أمغيشيا وهدموها حتى لا ينتفع بها العدو،وربحوا فيها من الغنائم ما لا يُحْصَى.
لم تكن الانتصارات التي حققها المسلمون في ذات السلاسل والمذار والولَجة وأُلَّيس وأمغيشيا إلا مقدمة لمداهمة العدو في مراكز سيطرته الأساسية،وعلى رأسها الحيرة والمدائن ... فركب خالد بن الوليد وجنوده السفن لعبور الفرات،لكن الآزاذبة أمير الحيرة لم يقف مكتوف الأيدى،بل سعى بكل قوة لمنع المسلمين من العبور،فوجه ابنه في جيش لتحويل مياه النهر عن مسارها،وخرج الآزاذبة نفسه في جيش آخر للقتال..
وظلت السفن تشق ماء النهر بالمسلمين،حتى فوجئوا بها قد جنحت وتوقفت عن المسير تماما،وبسرعة كبيرة يخرج خالد في كتيبة من فرسانه لإنقاذ الموقف،وينجح في إعادة مياه النهر إلى مجراها الطبيعى،ويقاتل ابنَ أميرِ الحيرة حتى يَفِرَّ من أمامه مهزوما... وتجدد السفن حركتها،وتستأنف العبور بالمسلمين،حتى تسلِّمَهم إلى الضفة الأخرى... وسرعان ما تصل الأنباء إلى الآزاذبة بهزيمة ابنه وموت كسرى أردشير،فيفر هاربا لينجو بنفسه ومن معه...
وفي الخورنق يجتمع جيش خالد بن الوليد،ويعسكر في موقع جيش الآزاذبة بين الغريين والقصر الأبيض،بينما كان أهل الحيرة قد أغلقوا عليهم أبوابهم وتحصنوا،فأدخل عليهم خالد فرسانه ووزعهم على أنحائها،وأمر قواده بمحاصرة القصور،وتخيير أهل الحيرة بين الإسلام والجزية والحرب،فاختاروا الحرب والقتال،لتبدأ سهام المسلمين الانطلاق من كل ناحية،وتُشن عليهم الغارات من كل جهة،حتى فتح المسلمون المنازل والأديرة،فقَبِلَ أهل الحيرة الصلح،فصالحهم خالد،وكتب لهم كتابا بذلك.(1/478)
بعد كل هذه الوقائع والمعارك في المذار وأليس والحيرة وغيرها،أصبح الحديث عن خالد بن الوليد وجنده يملأ العراق وفارس،ويشغل العامة والخاصة،حتى النساء في بيوتهن،تصحب ذلك رهبة هائلة وخوف شديد،عبَّر عنهما أهل الأنبار حينما رأوا المسلمين عند حصونهم فقالوا: صَبَّحَ الأنبارَ شرٌّ!
بل صبحهم كل خير لو فهموا وفقهوا،فالفاتحون ليسوا همجا همُّهم التخريب والقتل،وليسوا مغامرين همّهم جمع المغانم،وتسجيل بطولات يتحدث عنها الناس.. بل هُمْ قوم جاءوا ليكشفوا عن القلوب غِشاوتَها،وعن العقول أغطيتَها،ويرشدوا الناس إلى الدين الحق... جاءوا ليرفعوا العبودية عن المستعبَدين،ولينشروا العدل بين المضطهدين..
ونشب القتال حول الأنبار،ونظر خالد إلى القوم بعينيه فوزنهم،فإذا بهم ليسوا أهل حرب،فأمر رماته،بأن يضربوا الأعداء في عيونهم.. وراسل قائدُ الفرس يومئذ شيرزاذُ ـ وكان رجلا عاقلا ـ خالد بن الوليد يطلب الصلح،ولكن على شروط لم يقبلْها المسلمون،فاستمرت الحرب،وأراد المسلمون أن يقتحموا خندق القوم،ويدخلوا عليهم بلدهم،فأمر القائد خالد بذبح كل ناقة ضعيفة هزيلة معه ووضْعِها في مكان ضيق من الخندق،حتى يعبره المسلمون.. ولم يجد أهل الأنبار حينئذ سوى حصونهم فطاروا إليها يحملهم الفرار من الموت حملا... وأعاد شيرزاذ مراسلة المسلمين فصالحوه،وصالحوا ما حول الأنبار..
وفي هذه الوقعة فُقئت ألف عين من أهل الأنبار،فسميت المعركة بـ " ذات العيون ".
ما زال الفرس يتقون لقاء خالد بن الوليد وجندِه ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً،بعدما رأوا منه في اللقاءات السابقة،ويستغلون كل فرصة سانحة إلى ذلك،وهذا عقَّة بن أبي عقَّة في جمع كبير من العرب النصارى يعطي مهران الفارسي وجنوده بعين التمر بابا للهروب من لقاء المسلمين فيقول: إن العرب أعلم بقتال العرب،فدعْنا وخالدا! وما علم أن العرب الذين يقفون أمامه ليسوا هم العرب الذين كانوا في الجاهلية،بل تغيرت النفوس فأصبح سعيها لله،وتغيرت العقول فاستقامت فكرتها عن الكون والممات والحياة ...
وبينما عَقَّة ينظم صفوفه،فيقدم هذا،ويؤخر هذا،وينظر في سيف هذا،ودرع هذا،إذا بأسد يخطفه من بين جنوده خطفا،ويأخذه إلى المسلمين أسيرا،ولم يكن هذا الأسد سوى القائد العظيم خالد بن الوليد ... !
كان هذا كافيا لتحديد مسار المعركة،فقد وصل النبأ إلى القائد مهران وهو في حصنه،فحمل متاعه وجنوده وهرب،وأما العرب فقد انهزموا أمام المسلمين بدون قتال،ولجأوا إلى الحصن،فأتبعهم المسلمون يحملون أسرى من أعدائهم،وظن أهل الحصن أنها غارة من غارات العرب التي كانت في الجاهلية،تأخذ الهدف القريب وتدع الصعب البعيد،ولكن المسلمين لم يدَعُوا هدفا صعبا ولا سهلا إلا وحاولوا الوصول إليه،فسأل أهلُ الحصن الأمان،فأبَى خالد إلا النزول على شروطه،فلما نزلوا على(1/479)
شروطه أسرهم وقتلهم،حتى لا يرجع العرب إلى معاونة الفرس ثانية.هذه المرة لن يوغل خالد في العراق أكثر،ولن يخترق حاجزا فارسيا جديدا،بل سيرجع ناحية الغرب مائلا إلى الجنوب،والكتاب الذي يمسكه بين يديه ويقرأ فيه الآن هو الذي فرض عليه هذا التحرك،فماذا في الكتاب؟ إنه من عياض بن غَنم يطلب عونا على قتال المشركين بدُومة الجندل فقد حاصرهم وحاصروه وقطعوا عليه الطريق،وما كان لخالد أن يتأخر عن نجدة إخوانه فما أسرع ما كتب كتابا إلى عياض يطمئنه بقدوم المسلمين لنجدته،وما أسرع ما أعد جنده لغزو دُومة الجندل التي بلغ أهلَها أخبارُ المسلمين القادمين فاختلفوا بين المصالحة والحرب،وانتصر رأى المؤيدين للحرب،ووصلتهم أمداد من نصارى العرب حتى ضاقت عنهم حصون المدينة...
وينزل خالد بحيث يجعل إلى باب الحصن ينظر إليه ويتملى فيه باحثا عن موضع ضعف،ولم يتركه حتى اقتلعه وأزاله من مكانه وفتح الطريق أمام المسلمين،فقتلوا المحاربين من المشركين وسَبَوْا نساءهم.
تولى القعقاع بن عمرو تدبير أمر الحيرة أثناء فتح دُومة الجندل،ويا لها من مهمة شاقة،فالأعداء حول الحيرة عربًا وفرسًا قد كثُروا بعد انكساراتهم وهزائمهم المتتابعة.. واليوم يداعبهم أمل في أن يذوقوا طعم النصر أو يشموا له رائحة،أطمعهم في ذلك إقامةُ خالد بدُومة الجندل بعد فتحها،فتلك فرصة سانحة لاسترجاع البلاد التي خرجت من تحت سلطانهم،واستعادة الهيبة التي أذهبتها سيوف المسلمين.
ويخرج الأعداء من كل ناحية،وكأنهم حيَّاتٌ خارجة من جحورها،بعد أن اختبأت زمنا خوفا من الصقور والسباع... جَيْشان من الفرس يقودهما زَرْمهر ورُوزبه،وجيشان من نصارى العرب الغاضبين لمقتل عَقَّةَ بن أبي عقة بعين التمر. فشغل القعقاع الفرسَ ببعض جنوده،ومنعهم من دخول الريف،وانتظر الفرسُ قدومَ حلفائهم من العرب،فساقت الأقدار إليهم خالد بن الوليد،الذي كتب إليه أعوانه بأن نصارى العرب قد عسكروا بالمصيّخ والثّنيّ يريدون الاجتماع بحلفائهم الفرس.. ويسبق القعقاع وأعْبَدُ بنُ فَدَكي خالدا إلى عين التمر،فيتحرك خالد خلفهما،ومن هناك يرسل بالقعقاع ليلاقى جيش روزبه ومَنْ معه من العرب،وابن فدكي لقتال جيش زرمهر..
ويرى روزبه السباعَ يقودهم القعقاع وهى تَحُومُ حوله،فيطلب القائد الفارسيّ مددا،فيقبل إليه زرْمهر بنفسه،ويترك على قيادة جيشه المهبوذان.. وظنُّوا أن خالدا غائب،وأن المعركة ستكون لذلك في صالحهم،فوقعت الحرب في حُصيد حامية،وحصدت أرواح المشركين حصدا،حتى قُتل القائدان الفارسيان ... وفر المنهزمون نحو الخنافِس لينضموا إلى جيش المهبوذان،الذي ما وصلته أخبار انكسار قومه وقدوم أعبد بن فَدَكي إليه إلا وأسرع بالهرب إلى المصيّخ لينضم إلى جيش الهذيل بن عمران المعسكِر هناك.(1/480)
في حُصيد والخنافِس قُضِى على الجانب الفارسي من التحالف بين الفرس ونصارى العرب الذين استغلوا غيابَ خالد بن الوليد بدُومة الجندل،وأما الجانب العربى،فقد عسكر الهُذَيْلُ بنُ عمران ومعه الهاربون من الخنافس بالمصيَّخ،بينما نزل ربيعة بن بجير التغلبي بالثنيّ والبشر..
فأما المصيَّخ،فتواعد خالد مع قادته: القعقاع وابن فدكي وعروة بن الجعد البارقي على ليلة معينة يلتقون فيها للغارة عليها،وفي الموعد المحدد أغار المسلمون على الهذيل وجنوده من ثلاث نواحٍ غارةً مفاجئةً وهم يغطّون في نوم عميق،فكان السيف فوقهم أحلاما مزعجة أزهقت أرواحهم،غير أن الهذيل فر في عدد قليل من أصحابه إلى الزُّميل،فتبعهم خالد بعد الانتهاء من الثنيّ،فأغار عليهم مثل الغارة الأولى،حتى قضى عليهم وأفناهم.
وأما الثني فقد باغتهم خالد بمثل ذلك،إذ ارتحل القعقاع وابنُ فدكي أمامه،وخرج خالد من المصيَّخ فنزل حوران،ثم الرَّنْق ثم الحماة،ثم الزُّميل،ومال إلى الثنيّ ففاجأهم ليلا من ثلاثة أوجه،فلم يفلت من أنياب الموت أحد من العدو،ثم مال إلى الزميل ففعل بهم مثل ذلك،وسبى بنات الأشراف.
وينتهى خالد بن الوليد من مشهد الثني والزُّميل،فيميل في مشهد آخر سريع إلى الرضاب،فلا يجد هناك أحدا يقاتله،إذ اختطف الرعبُ والخوفُ قلوبَ أهله ففروا يطلبون النجاة لما سمعوا بقرب خالد وجنوده منهم.. وعلى الحدود المشتركة بين العراق والجزيرة والشام يُعْقَدُ زواجٌ غير شرعى بين الخصوم وبعضهم البعض،إذ يجتمع العدو مع عدوِّه اللدود ضد الإسلام والمسلمين.. قل ما أشبه الليلة بالبارحة،فبالأمس سنة خمس من الهجرة اجتمعت الأحزاب المتعادية والمتخاصمة من اليهود ومشركي قريش ومشركي غطفان وغيرِهم لاكتساح المسلمين في المدينة،واليوم سنة اثنتي عشرة من الهجرة يلتقى الروم مع أعدى أعدائهم من الفرس في تحالف ينضم إليه نصارى القبائل العربية من تغلب وإياد والنمر.. وينسى كلٌّ منهم ثأره وعداوته للآخر في وجه عدو مشترك،هو الإسلام...!
وسارت الأحزاب إلى الفراض وقد زين لهم الشيطانُ أعمالَهم،وأوهمهم بأنهم لا غالب لهم.. ساروا والأرض التي تدوسها أقدامهم لا تحمد خطواتهم،بل ودت لو ابتلعتهم،والسماء تظلهم وودت لو خسفت بهم وأهلكتهم،حتى وصلوا إلى شاطئ الفرات،والماء يود لو أُذن له فأغرقهم.. لكن اللهَ الرحمنَ الرحيمَ لم يأذن لخلقه بذلك،وأراد أن يمتحن المؤمنين ويمحِّصهم بالكافرين.
وانتظر المسلمون أعداءهم حتى عبروا إليهم الفرات،وقد أتم كل فريق استعداده،فدار القتال بين الفريقين شديدا وشرسا،وكل يصبر على عدوه رجاء أن يدركه الوهن والضعف،فكان المسلمون أعظم صبرا،حتى كسروا مقاومة عدوهم،وحاقت به الهزيمة فراح يتراجع إلى الوراء حتى فرَّ مَنْ لم يدركه السيف منهم،فأمر خالد بن الوليد رجالَه بتتبُّع العدو،وعدم تركه يفرّ،حتى لا يعودوا لمثل هذا التحالف أبدا فهلك منه مائة ألف.. وكان ذلك في شهر ذي القعدة من العام الثاني عشر،فترك خالد(1/481)
الجيش سرا،وذهب للحج دون إذن من أبي بكر،الذي عاتبه على ذلك،وصرفه بعدها إلى الشام،لتبدأ جهود المثنى بن حارثة في قيادة الفتوح على الجبهة الفارسية.
اشتاقت نفس خالد بن الوليد إلى الحج والمغامرة معًا،ولم يكن بقي على يوم الحج الأكبرِ سوى أسبوعين،ففرَغَ من قتال المشركين في وقْعة الفراض،ثم توجه في مجموعة من أصحابه نحو مكة كاتمًا الخبرَ عن الناس،ولم يجد وقتا يستأذن فيه خليفةَ رسول الله،"فسار طريقا من طرق أهل الجزيرة،لم يُرَ طريقٌ أعجب منه،ولا أشد على صعوبته منه"،يعتمد على حسه الشخصى ـ لا خبرته ـ في معرفة أقصر طريق،فسار من الفراض إلى ماء العنبري،ثم أتى مِثْقبا حتى انتهى إلى ذات عِرْق،وهناك لبس وأصحابُه ملابسَ الإحرامِ،وراحوا يُلَبُّونَ،حتى أسلمهم الطريق إلى عرفات،وراحت عيونهم تصافح عرفات والمواضع التي وقفوا فيها مع رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ منذ عامين فقط،حتى قضى خالد وصحبه المناسك،دون أن يعرفهم أحد،ثم انصرف بهم راجعا إلى جنوده في العراق،يقاوم شدة الطريق،ويسابق الزمن المتسارع،حتى أدرك مؤخرة جنده وهم يدخلون الحيرة قبل أن يكتمل نموُّ شَعرِه الذي حلقه في المناسك...
ويعتب الصِدِّيقُ على خالد بعد علمه بتلك المغامرة الكبيرة،ويصرفه للقتال مع إخوانه المجاهدين في الجبهة الرومية...
ليس من سنة الله تعالى أن ينتصر أهل الحق دائما،وإلا لَظَنُّوا أنهم ينصرون أنفسهم،ولَقَلَّ أحباب الله من الشهداء،ولَغابت عن المسلمين دروس عظيمة يتعلمها الإنسان من الهزيمة ولا يتعلمها من النصر!!
هكذا تبدأ فتوح العراق على عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بانتصارات محدودة،تليها هزيمةٌ مدويةٌ ومفاجئة يوم الجسر،علَّمت المسلمين دروسا كثيرة للمعارك واللقاءات التالية مع العدو،فعادت الانتصارات الإسلامية الرائعة،وكان النصر في البويب،والفتح في القادسية،وجللت الهزيمةُ الفرسَ في جلولاء،وانتصر الشهداء في نهاوند.... لتبدأ بعدها مرحلة فتوح المدن والأمصار المتناثرة في أنحاء الإمبراطورية الساسانية،تلك المدن والأمصار التي كانت عامرة بالناس،خاوية من الدين،وخرجت منها بعد ذلك جيوش من العلماء والزهاد والعُبَّاد والقادة،كمدن خراسان القوية،وأذربيجان،وأرمينِيَّة،وجرجان،وسجستان،والرَّي،وغيرها كثير.
وكان المسلمون حينئذٍ في زحفهم وفتحهم هنا وهناك يطاردون كسرى يَزْدَجِرْد،ومات أمير المؤمنين عمر بخنجر فارسي وحالُ المطاردة مستمر.
تعوَّد المثنى ألا يخالف أمر قائده خالد بن الوليد،لكنه اليوم يخالفه ويغضب منه أيضا،وليس ذلك صراعا على دينار ولا درهم،ولا منافسة على ذهب ولا فضة،وإنما أمر أبو بكر خالدا بالسير إلى الشام في نصف جنود العراق،وأن يدع النصف الآخر مع المثنى،على ألا يأخذ شجاعا ذا نجدة إلا ترك للمُثَنَّى مثلَه،لكن خالدا حشد الصحابة وجمعهم في جيشه،فغضب المثنى واعترض على ذلك،وقال: " والله لا(1/482)
أقيم إلا على إنفاذ أمر أبى بكر،وبالله ما أرجو النصر إلا بأصحاب النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - "،فلما رأى خالد ذلك أرضاه!
والمثنى ليس فقط هو أول من شجع المسلمين على غزو فارس،وهوَّن من شأن الفرس على المسلمين بل هو أيضا صاحب جهود هائلة في قيادة الفتوح والترتيب لها،فقد قاد المسلمين بعد مسير خالد إلى الشام إلى النصر فوق أطلال بابل التاريخية،كما تولى قيادة المسلمين يوم الجسر بعد استشهاد القائد أبي عبيد الثقفي،ويومَ البويب الذي ذاق الفرسُ فيه هزيمةً مريرةً.
وكان المثنى يتابع حركة الفتح في فارس،ويطلب المدد من الخلافة حين يجد ميزان القوى مختلا اختلالا كبيرا ضد المسلمين،فقد استمد الخلافةَ مرةً فأمدَّتْه بخالد بن الوليد،وفي الثانية أمدته بأبي عبيد الثقفي،وفي الثالثة أمدته بجند كثيف قاتل بهم يوم البويب،ثم أمدتْه بسعد بن أبي وقاص،وعلى يد هؤلاء سقطت دولة الفرس.
لم يغمض للفرس جَفْنُ راحة منذ طرق المسلمون بابهم،فكان الخوف يطاردهم في نومهم ويقظتهم،ولولا أن الأمل يجدد أَسْمالَه وأثوابَه لدى الناس كلما قطعوا من الحياة مرحلة،لرأينا الفرس يعطون المسلمين مفاتيح عاصمتهم المدائن بلا قتال منذ جالت خيول خالد بن الوليد في العراق،ومزقت جموعهم تمزيقا..
وفي أثناء رحيل خالد بن الوليد إلى الشام،كان القصر الفارسي الحاكم يمر باضطرابات خطيرة،حيث قُتل كسرى أردشير،وقفز على كرسى المُلك رجل من خارج الأسرة المالكة،وهو كسرى شهربراز..
واحتشد من الفرس عشرة آلاف مقاتل يقودهم هرمز جاذويه لقتال المسلمين،فسار إليهم المثنى بن حارثة في كتائبه حتى نزل بابل،وهناك جاءته رسالة تهديد مغرور من كسرى،فكان جواب المثنى عليها أمهر من ضَرْبِهِ بالسيف!
كان الفرس يحاولون دائما تسكين خوف قلوبهم بكل الوسائل وها هم اليوم يسوقون لقتال المسلمين في بابل فيلا ضخما،لكنه ليس أضخم من جبنهم وخوفهم،ولا أضخم من سفاهتهم التي جعلتْهم يعبدون النار،ويُحلُّون نكاحَ الرَّجُلِ أمَّه وأختَه وابنتَه...!
ويتصادم الجيشان فوق أطلال بابل ومرتفعاتها،فيشق الفيل الصفوف،وينفِّر الخيول،ويوقع الاضطراب وسط تشكيلات جيش المسلمين.. ويتكفل القائد المثنى بنفسه ومعه نفر من أصحابه بالمهمة الصعبة،وهى قتل الفيل،فظلوا يتقدمون منه،يهزمون خوف قلوبهم من هذا الجبل الحيِّ،حتى أصابوا منه مقتلا،فخر الفيل صريعا،وعادت الحرب معركة طبيعية بين بشر وبشر،جرى فيها القتال شديدا،حتى هزم الفرس،وطاردهم المثنى حتى أبواب المدائن.
تأثر عمر بن الخطاب لوفاة صديقِه ووزير النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ الأول أبي بكر الصديق،وعرضت لذاكرة عمر كثير من الصفحات البيضاء التي سجلها الراحل العظيم في خدمة دينه.. لكن ظلت وصية أبي(1/483)
بكر لعمر بالمثنى بن حارثة وحشد الجند معه هى الهَمّ الشاغل للخليفة الجديد،فاستنفر المسلمين وشجعهم على الخروج لقتال الفرس في الليلة التي مات فيها أبو بكر،ثم جاء الصباح فبايع الناسُ عمرَ على الخلافة وعاهدهم على الحفظ والصيانة وحسنِ السير في رعيته،ثم عاد يدعوهم لجهاد الفرس وقتالهم ويمرّ يومٌ ويومٌ ويومٌ،ولا أحد يجيب،فقد كانت سيرة الفرس تثير الرعب في نفوس الناس،وكأن خالدا والمثنى والقعقاع لم يلعبوا بالفرس كما يلعب الأطفال بالكرة! فقام المثنى ليخترق الصمتَ الذي خيَّم على الناس،وحتى لا يكون صدى صوت عمر هو الذي يرد عليه حين يدعو الناس إلى الجهاد في سبيل الله... قام المثنى وخطب في الناس يعرِّفهم حقيقة الفرس،وأنهم وحوش بغير أسنان،وتلاه أمير المؤمنين يتساءل: أين عباد الله الصالحون؟! يتساءل عن الذين باعوا لله ما أعطاهم من المال والنفس،واشتروا رضاه وجنته...
وراحت الكلمات تكسر حاجز الخوف،وتتحول إلى مصباح أمام من ظن أن الفرس ليل بهيم،وإلى شبكة صياد محكمة في عيني مَنْ حسب أن أهل فارس وحشٌ كاسرٌ،وإلى جنود يملأون أوديةَ الدنيا أمام مَنْ رأى الفرسَ جيوشًا جرارةً لا نهاية لها. وارتفعت في سماء المدينة نسماتٌ نزلت على النفوس بردا وسلاما،فتقاطر الناس كما يتقاطر المطر،بعد أن بدأ بالإجابة أبو عبيد بن مسعود الثقفي فولاه عمر بن الخطاب قيادة جيش المسلمين المتوجِّه إلى العراق.
وقف المثنى مع نفسه بعد مسير خالد إلى الشام يزن قواته إلى الهدف الذي يريده،فهو يريد إتمام فتح العراق،والنفاذ إلى فارس والمدائن لتُنْصَبَ هناك راية التوحيد بدلا من رايات الشرك.. ولكن هذا هدف كبير،ولابد له من جنود.. وقرر المثنى أن يفد بنفسه إلى المدينة،طالبًا المدد،وملتمسا من أبي بكر السماح بمشاركة مَنْ حَسُنَتْ توبتُهم بعد الردة في الجهاد ضد الفرس ...
ويدخل المثنى المدينةَ يتذكر حين وطئها في وفد قومه،وأسلم بين يدى رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ وكيف أن هذا اليوم كان يوم الفصل في حياته،إذ صنع منه إنسانا جديدا،ليس عبدَ صنمٍ ولا كوكب،ولكنه عبدٌ لله وحده.. وكما أحب المثنى رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ فقد أحب صاحبه اللين الرقيق أبا بكر،وها هو قد اقترب من باب داره ليصافحه ويقبِّله.. ويدخل المثنى على الخليفة العظيم،فيفاجأ بأنه طريح الفراش،يحس بدنو أجله،حتى أنه كتب للناس كتابا بأن يتولى عمرُ من بعده إن رضوا.. لكن أبا بكر لا يشغله الموت وهو يزحف نحوه عن سؤال المثنى عن أحوال المسلمين بالعراق،فيخبره بما يسره،ويرجو منه الصفحَ عمن حَسُنَ إسلامُهم من المرتدين،فيوافق أبو بكر،ويطلب المثنى منه مددا،فيوصي الصديق خليفته عمر بن الخطاب بأن يدعو الناس للخروج إلى الجهاد مع المثنى وكان أول ما قام به عمر من أمر الخلافة أن ندب الناس للخروج مع المثنى،فألَّف جيشا عليه أبو عبيد بن مسعود الثقفي،ووجهه إلى العراق،وكانت لأبى عبيد جهود في الفتح شهدتها جبهة فارس.(1/484)
لما قُتل القادة السبعة أراد عبد الله بن مرثد الثقفي أن يفقد المسلمين كلَّ أملٍ في العبور ليقاتلوا قتال المستميت،فإما أن ينتصروا،وإما أن يلحقوا بقادتِهم شهداءَ،فذاك عنده خير من الفرار من أمام العدو،فذهب عبد الله بن مرثد إلى الجسر فقطعه...
وهنا يتسلم المثنى بن حارثة اللواءَ في وضع شديد الصعوبة،فالمسلمون يفرون أمام الفرس،والفرس يتبعونهم،والجسر الذي يمكن أن يعبرعليه هو وجنوده مقطوع،وكثير ممن معه يرمون بأنفسهم في النهر ولا علم لهم بالسباحة فيغرقون.. فماذا يصنع؟
لقد أمر المثنى بن حارثة بعضَ رجاله بوصل السفينة التي قطعت من الجسر،وراح في كتيبة من أبطاله يوقف زحفَ الفرس،ومطاردتَهم للفارِّين من المسلمين،في بطولة نادرة،وقدرة هائلة على الضرب والطعن في كل اتجاه،وصَدِّ الضربات التي تأتى من هنا وهناك.. و نادى القائد في جنده ألا يتسرعوا في العبور حتى لا يغرِّقوا أنفسهم،وظل هو وكتيبة الأبطال التي معه يمنعون الفرس من تَتَبُّع المسلمين الذين يعبرون الجسر،حتى عبروا جميعا،وكان رجل ممن شهدوا غزوة بدر بدر هو سَليط بن قيس آخر من مات عند الجسر وهو يوسع طريق العبور أمام المسلمين ويرد عنهم الفرس.. وبعد أن عبر المثنى قطع الجسر حتى لا يتبعه الفرس،وبلغت إصابات المسلمين في هذا اليوم أربعة آلاف شهيد،مات كثير منهم غرقًا،وفرَّ ألفان،وأصيب المثنى نفسه إصابة كان لها ما بعدها.
حزن عمر بن الخطاب على أبى عبيد وشهداء يوم الجسر حزنا شديدا،وكان قد بلغه قبلها بقليلٍ انتصار المسلمين على الروم في اليرموك،فلم يدر أيفرح لهؤلاء أم يحزن لأولئك؟! كل ما هو متأكد منه هو أنه يجب عليه أن يدرك المسلمين بالعراق،ويرسل إليهم مددا بأقصى سرعة،فراح أمير المؤمنين يشجع الناسَ على الخروج للجهاد في سبيل الله،فجمع جريرُ بن عبد الله قبيلتَه بَجيلة وجاء بها،وتجهز هلال بن عُلَّفَة التميمي فيما اجتمع إليه من قومه الرِّباب،واستعد ابن المثنى الجُشَمي في رجال من قومه بني سعد،وأقبل ربعي بن عامر في أناس من بني عمرو،وغالب بن عبد الله في رجال من بني كنانة،وعَرْفَجَةُ بنُ هَرْثَمَةَ في الأزد،وتتالتْ فرق المجاهدين وكتائبهم من بني ضبة وعبد القيس وبني حنظلة،وغيرهم،فأرسلهم عمر بن الخطاب جهة العراق ليقاتلوا مع المثنى...
وكتب أميرالمؤمنين إلى مَنْ حَسُنَ إسلامُه من أهل الردة،فلم يأته منهم أحد إلا أمره بالمسير إلى العراق.
إن الأمير يقرأ عليكم السلام،ويقول لكم: "لا تفضحوا المسلمين" ... رسالة شفوية قصيرة وسريعة بعث بها المثنى إلى فرقة من فرق جيش المسلمين اختل صفها أمام هجوم الفرس الكاسح يوم البُوَيب وفعلت كلماتُ المثنى في جنده فعل السحر فثبتوا في وجه الطوفان الفارسي،حتى ردُّوه...
لقد أفاق المسلمون بسرعة من لطمة يوم الجسر،برغم جراحاتها العميقة،فبعث المثنى بن حارثة إلى من جاوره من المسلمين يطلب منهم مددا،وبعث إلى أمير المؤمنين عمر يطلب منه مثل ذلك.. فجاءه(1/485)
الناس من حوله في جمع عظيم،بل جاءته بعض القبائل النصرانية من العرب متطوعةً للقتال في صفِّه.. ودعا عمر بن الخطاب الناسَ وأرسل إلى القبائل يحثهم ويشجعهم على الجهاد،وأمدَّ المثنى بمدد كبير منهم...
وقبل أن يصل مدد عمر بن الخطاب بلغت كل هذه الأنباء أهلَ فارس،فأمَّروا مهران الهمذانى على جيش من جيوش الإمبراطورية الكبرى،وصلت أنباؤه المثنى وهو معسكِر بمرج السباخ،فكتب إلى قادة مدد المدينة ليسرعوا في تحركهم ويلاقوه في البُوَيب ... إنه سباق مع الزمن فإما أن يصل مهران أولا،وإما أن يصل المدد،والفرق كبير بين الحالين ... ويصل مهران متأخرًا عن مدد المسلمين فينزل بسوسيا من جهة الفرات المقابلة للمسلمين،ويكتب إلى المثنى " إما أن تعبروا إلينا،وإما أن نعبر إليكم" فيختارالمثنى الثانية،ولم ينس ما جرى يوم الجسر. فعبر الفرس ونزلوا شُوميا،وعبأ مهران قواته،فأقبلوا نحو المسلمين في ثلاثة صفوف مع كل صف فيل ضخم يتقدمه المشاة.. وراح المثنى ينظم رجاله،ويثبت أهل كل راية ويوصيهم،ويعطيهم إشارة بدء القتال بأربع تكبيرات،لكنه ما أطلق أول تكبيرة حتى اندفع الفرس بقوة،وصدموا صفوف المسلمين،فاختل بعضها،وبعث المثنى إليهم برسالته السابقة:" لا تفضحوا المسلمين"،فثبتوا لعدوهم كما تثبت الجبال للرياح الهوجاء حتى ردوهم،واستغل المثنى شهامة العرب حتى كسر صفوف الفرس،فتراجعوا يبحثون عن وجه للهرب بعد مقتل قائدهم مهران وقائد خيلهم شهربراز،فما وجدوا سوى الجسر ليعبروه إلى الضفة الأخرى،لكن المثنى سبقهم إليه وقطعه،فتفرقت بقايا العدو هنا وهناك،وخيول المسلمين تتعقبهم حتى قتلوهم،فبلغ قتلى الفرس في هذا اليوم المجيد مائة ألف ...
ومات في جراحهم بعض أعلام المسلمين،ومنهم مسعود بن حارثة الشيباني،وخالد بن هلال،فصلى عليهم المثنى ورتبهم حسب السن وما يحفظون من القرآن،وكان الفارُّون يوم الجسر أكثر الناس قتالا وثباتا في هذا اليوم.
وجرى هذا المشهد بتفاصيله في شهر رمضان من سنة ثلاث عشرة للهجرة.
في البُوَيب راحت شهامة بعض القبائل من نصارى العرب تمسح سفاهة إخوانهم الذين حالفوا الفرس ضد المسلمين العرب في وقعة أُلَّيس ووقْعة عين التمر وغيرهما،فقدِموا على المثنى في جنود من تَغْلِب والنمر وقالوا: نقاتل مع قومنا.. نقاتل العجم مع العرب..
وقد أراد القائد المثنى أن ينتفع بهؤلاء في تحطيم صفوف الفرس،وكسر شوكتهم الصُّلْبة،فأثار فيهم حمية العروبة التي أخرجتهم للقتال مع المسلمين،على الرغم من مخالفتهم لهم في الدين،واتفق معهم أن يهجموا على قلب العدو وقائده مهران،إذا رأوا المثنى يهجم،فحملوا بجملتهم على قلب العدو،وارتفع الغبار،وتحته جرى القتال نيرانا حامية،ولم يمنع الغبار الكثيف سيوفَ جنود المثنى،من رؤية رقاب العدو،بل ظفروا بقائده مهران،وشهربراز قائد جنود الخيالة،وظل القتال محتدما حتى فني قلب الجيش(1/486)
الفارسي،فلما رأت ميمنة المسلمين وميسرتهم ذلك تشجعوا وقووا على القتال،وكانت الحرب بينهم وبين عدوهم قبلها متكافئةً برغم شراستها،فراحوا يضربون العدو في مَقَاتِلِه،حتى حُسمت المعركةُ لصالح المسلمين...
قبل أن يبدأ القتالُ في معركة البُوَيب وجد المثنى،وهو يمر بالصفوف رجلا يتهيأ ويتقدم قبل أن يشير إليهم المثنى ببدء الالتحام مع العدو،فسأل المثنى الناس عنه،فقالوا: هو ممن فر من الزحف يوم الجسر!!
هكذا راح الفارُّون من يوم الجسر يلومون أنفسهم على الفرار ويوبخونها على ترك الميدان،ويحاولون تعويض ما فاتهم ... وكان فيهم رجال من المهاجرين والأنصار أهل الثبات والرسوخ،تركوا الميدان،فرجع بعضهم إلى المدينة،وسار بعضهم في البلاد حياءً من الله والناس ... وقد حزن عمر بن الخطاب لهؤلاء وتألم،وعذرهم لفظاعة ما لقوا من العدو..
ويوم البُوَيب عاد الكثير من هؤلاء للمشاركة في القتال،وكان المثنى يلاحظ قبل المعركة عدم استكانتهم في مواضعهم،وشوقهم إلى خوض القتال،لكنه كان مُصِرَّا على مراعاة النظام في مصادمة العدو،حتى التحم الجيشان،وانتحر العدو بسيوف المسلمين،فكانت سيوف المنهزمين يوم الجسر من أشد السيوف على الفرس يوم البويب... فلما انتهت المعركة شجَّع المثنى الناسَ في اليوم التالي على تتبُّع الفارِّين من جنود العدو،فكان أولَ من خرج وراءهم الفارُّون يوم الجسر،واتبعتهم بَجيلةُ وبعضُ خيالة المسلمين يعبرون الجسر بعد أن قطعه المثنى،فساروا في طلب العدو حتى بلغوا السِّيب،فأصابوا مغانم كثيرة،وظلوا يتقدمون لا يجدون بعد هلاك جيش مهران أحدا يعوق حركتهم،حتى فتحوا حصن ساباط..
في البُوَيب راحت شهامة بعض القبائل من نصارى العرب تمسح سفاهة إخوانهم الذين حالفوا الفرس ضد المسلمين العرب في وقعة أُلَّيس ووقْعة عين التمر وغيرهما،فقدِموا على المثنى في جنود من تَغْلِب والنمر وقالوا: نقاتل مع قومنا.. نقاتل العجم مع العرب..
وقد أراد القائد المثنى أن ينتفع بهؤلاء في تحطيم صفوف الفرس،وكسر شوكتهم الصُّلْبة،فأثار فيهم حمية العروبة التي أخرجتهم للقتال مع المسلمين،على الرغم من مخالفتهم لهم في الدين،واتفق معهم أن يهجموا على قلب العدو وقائده مهران،إذا رأوا المثنى يهجم،فحملوا بجملتهم على قلب العدو،وارتفع الغبار،وتحته جرى القتال نيرانا حامية،ولم يمنع الغبار الكثيف سيوفَ جنود المثنى،من رؤية رقاب العدو،بل ظفروا بقائده مهران،وشهربراز قائد جنود الخيالة،وظل القتال محتدما حتى فني قلب الجيش الفارسي،فلما رأت ميمنة المسلمين وميسرتهم ذلك تشجعوا وقووا على القتال،وكانت الحرب بينهم وبين عدوهم قبلها متكافئةً برغم شراستها،فراحوا يضربون العدو في مَقَاتِلِه،حتى حُسمت المعركةُ لصالح المسلمين...(1/487)
قبل أن يبدأ القتالُ في معركة البُوَيب وجد المثنى،وهو يمر بالصفوف رجلا يتهيأ ويتقدم قبل أن يشير إليهم المثنى ببدء الالتحام مع العدو،فسأل المثنى الناس عنه،فقالوا: هو ممن فر من الزحف يوم الجسر!!
هكذا راح الفارُّون من يوم الجسر يلومون أنفسهم على الفرار ويوبخونها على ترك الميدان،ويحاولون تعويض ما فاتهم ... وكان فيهم رجال من المهاجرين والأنصار أهل الثبات والرسوخ،تركوا الميدان،فرجع بعضهم إلى المدينة،وسار بعضهم في البلاد حياءً من الله والناس ... وقد حزن عمر بن الخطاب لهؤلاء وتألم،وعذرهم لفظاعة ما لقوا من العدو..
ويوم البُوَيب عاد الكثير من هؤلاء للمشاركة في القتال،وكان المثنى يلاحظ قبل المعركة عدم استكانتهم في مواضعهم،وشوقهم إلى خوض القتال،لكنه كان مُصِرَّا على مراعاة النظام في مصادمة العدو،حتى التحم الجيشان،وانتحر العدو بسيوف المسلمين،فكانت سيوف المنهزمين يوم الجسر من أشد السيوف على الفرس يوم البويب... فلما انتهت المعركة شجَّع المثنى الناسَ في اليوم التالي على تتبُّع الفارِّين من جنود العدو،فكان أولَ من خرج وراءهم الفارُّون يوم الجسر،واتبعتهم بَجيلةُ وبعضُ خيالة المسلمين يعبرون الجسر بعد أن قطعه المثنى،فساروا في طلب العدو حتى بلغوا السِّيب،فأصابوا مغانم كثيرة،وظلوا يتقدمون لا يجدون بعد هلاك جيش مهران أحدا يعوق حركتهم،حتى فتحوا حصن ساباط..
اندفع المثنى بقواته بعد نصر البُوَيب لا يجد عائقا أمامه،فبث قواده في مختلف النواحى حتى غزوا الخنافِس والأنبار،وبلغت قوات المسلمين قرية بغداد ومدينة تكريت. وتصل هذه الأنباء إلى قادة الفرس،فتثور ثورتهم،ويرون أن الأمر يحتاج إلى ترتيب جديد في القصر الحاكم،فعزلوا بوران،واتفقوا على تولية يَزْدَجِرْدَ بنِ شهريار المُلْكَ..
وهنا ثار أهل السواد بالمسلمين،مَنْ كان له عهد منهم،ومن لم يكن له عهد فانسحب المثنى بجنوده إلى ذي قار وكتب إلى أمير المؤمنين يُعْلِمُه بالحال ويطلب منه مددا..
علم عمر بن الخطاب لما بلغتْه هذه الأنباء كلها أن فارس ستلقى المسلمين هذه المرة بكل ما لديها من قوة،خاصة أن المسلمين في زحفهم اقتربوا من شاطئ دجلة الغربى،وكانت بينهم وبين المدائن خطوات لو عبروها لسقطت درة البلاد في أيديهم،ولدخلت خيولُهم قصر كسرى وحجرةَ نومه...
هنا كتب عمر إلى عُمَّالِه ليرسلوا إليه كل صاحب سلاح يصلح للقتال،وعزم أن يقود الناس بنفسه لحرب الفرس،وقال: " والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب "،فلم يَدَعْ رئيسًا ولا صاحب رأى وشرفٍ إلا ضمَّه إلى هذا الجيش... لكن كبار الصحابة رأوا ألا يخرج أمير المؤمنين بنفسه،حتى يبقي ظهرًا للمسلمين إن أصابهم ضرر،وأشاروا عليه بسعد بن أبي وقاص،الذي كانت له أكبر الجهود في قيادة الجيوش وتحريك القوات وبثها في أنحاء الإمبراطورية الفارسية،التي تهاوتْ وسقطت تحت أرجل خيول سعد ورجاله.(1/488)
أيُّ نفسٍ هذه التي يحملها المثنى بين جنبيه،رجل ابتدأ أمر الجهاد ضد الفرس وعلم أن الفرس منتفخون على ورمٍ لا قوةٍ ولا صحةٍ وعافيةٍ،فأخبر المسلمين بذلك،وهوَّن من شأن الفرس عندهم،فحطم جدار الخوف الذي صنعته الجاهلية في نفوس العرب،الذين إن كان من حقهم بالأمس أن يخافوا فليس من حقهم اليوم أن يخشوا في ذات الله أحدا،فبالأمس كانوا يطلبون القوة والمدد من الأوثان والأصنام العاجزة الصماء،واليوم يطلبون ذلك كله من الله القدير السميع العليم...
ومع ذلك كان أبو بكر ومِنْ بعده عمر يؤخران المثنى عن القيادة فتولاها مرةً خالد بن الوليد،ومرة أبو عبيد بن مسعود الثقفي،ومرة سعد بن أبي وقاص ... كل ذلك والمثنى جنديٌ مطيع،تفرض مواهبه أن يكون قائدا في كثير من الأوقات ...
وسعد اليوم قد جاء ينتظر أن ينضم إليه المثنى بقواته،لكنه ما وجده في انتظاره،ولا رآه فوق صهوة جواده يطيل رقبته ليرى مَنْ القادم.. وتأتى قوات المثنى تحمل وصية القائد البطل الذي دوَّخ الفرس،وأطاح بأحلامهم بعيدا،ووصيته هى: قاتلوا الفرس على حدود أرضهم،ولا تقاتلوهم في قعر دارهم ... فأين المثنى؟ لِمَ لَمْ يأت ليبلغ هذه الوصية العظيمة بنفسه؟ لقد اشتدت به جراحُ يوم الجسر،حتى ذهب إلى ربه شهيدًا حميدًا،ودفن الجسد النحيل الذي أنحلته كثرة الحروب والجهاد في سبيل لله بتُستر،وأصبحت اليد التي طالما حملت السيف مجاهدةً حبيسةَ الترابِ.. ويكفيه أنه حى عند ربه يرزقه..
قبل أن يتم حشد الجنود تحت لواء أبي عبيد الثقفي،ركب المثنى بن حارثة فرسه وأسرع نحو العراق مُجِدَّا في سيره ليرقب أحوال الحرب وتحركات الفرس من قريب،فلما نزل الحيرة كان القصر الحاكم في المدائن قد مرَّ باضطرابات كبيرة حتى قُتل كسرى شهربراز،وتولَّتْ مكانَه بوران بنتُ كسرى أبرويز،وولَّتْ أمرَ الحرب لقائدها الكبير رُسْتَم ...
واستفتح رُسْتَم أيامه مع المسلمين بأن أثار أهل السواد ـ وهو ريف العراق ـ ضدهم.. حتى انسحب المثنى بجنوده من الحيرة كي لا يُؤْتَى من خلفه،ونزل خَفَّانَ منتظرا مقدم أبى عبيد...
ويخرج أبو عبيد من المدينة في ألف من أهلها وحدهم،بعد أن أوصاه أمير المؤمنين بأن يسمع من أصحاب النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ويستشيرهم ويشركهم في أمره،كما أمره بأن يصحب معه إلى الجهاد مَنْ حَسُنَ إسلامُه من أهل الردة ... ويسير أبو عبيد في كتائبه مودعا المدينة ومن بقي فيها من المسلمين وهو لا يدرى أيرجع إليها أم لا؟ ويصل إلى العراق بعد شهر من وصول المثنى إليها،وبعد استراحة أبي عبيد وجنده بدأت ملاحمه في مواجهة الفرس قائدا عاما للمسلمين في العراق فقاتل أهل فارس،وخاض ضدهم معركة في النمارق،ووقعة السقاطية،والجالينوس،وختمها بالجسر حيث مات شهيدا.(1/489)
ها هو رُسْتَم يرتب أمر الحرب في رأسه قبل أن يرتبها على الأرض،فيهديه شيطانه إلى إشعال الأرض من تحت أقدام المسلمين نارا،بتفجير الثورة ضدهم،في الريف والقرى،ويبعث إلى كل جهة رجلا يتزعم هذه الثورة لتتحول إلى مجهود حربي منظم،ووعد من يثير الناس أولاً بأن يكون أميرا عليهم جميعًا.. ويختبئ رجال رستم تحت ظلمة الليل،يتحركون من مكان إلى مكان في خفاء،لا يثيرون ضجة،ولا يُشْعِرون بهم أحدا،حتى وصلوا إلى مواقعهم المحدَّدة لهم،وراحوا يتصلون بفلان وفلان من أتباعهم،ويجمعون أنصارهم،حتى صار السرُّ علانيةً،وبدأت الثورة تنطلق من قعر البيوت إلى الساحات الواسعة،حيث تتجمع تكتلات كبيرة من قوات الفرس ...
وكان جابان هو أول من نجح في إشعال الثورة في فرات بَادَقْلَى.. ومن هنا بدأ المثنى يتحرك بقواته إلى خَفَّان حتى قدم عليه أبو عبيد،وينزل جابان النمارق بقوته لتكون ميقاتا مكانيا لجولة جديدة بين المسلمين ـ يقودهم أبو عبيد وعلى خيلهم المثنى،وعلى ميمنتهم والق بن حيدارة،وعلى ميسرتهم عمرو بن الهيثم بن الصلت ـ وبين الفرس ـ يسوقهم جابان وعلى ميمنتهم وميسرتهم جشنس ماه ومردانشاه..
وتشتعل الحرب،ويشتد القتال،ويجد الفرس أماهم ما لا قبل ولا طاقة لهم به من الرجال،صلابة وصبرًا وشدة؛ فتلين قوتهم وتضعف حميتهم،حتى صرع من الفرس كثيرون،وأسر مردانشاه وقتل؛ بل أسر قائدهم الأكبر جابان،لكن القائد أبا عبيد تركه حين أمنه رجل عادي من وسط جيش المسلمين.. وتتبع المسلمون الفارين من عدوهم حتى قتلوا منهم،ولجأ من نجا إلى نرسى وقواته،وكان الميقات الزمانى لهذه المعركة هو سنة ثلاث عشرة من الهجرة.
"كن رجلاً" .. هذه هي الوصية التى أوصت بها بوران ورُسْتَم القائدَ نَرْسى ابنَ خالة كسرى وهو متوجّه لقتال المسلمين ... ولكن كيف ذلك والإمبراطورية الفارسية كلُّها لم تجد رجلا يتولى المُلك عليها؟! تُرى كيف فهموا الرجولة؟ أَطُولٌ هي في الجسم وعرضٌ،أم مالٌ وفيرٌ وغنى واسعٌ؟! إن الرجولة هى بَسْطَةٌ في العلم والجسم وشجاعةٌ في القلب ومبادئُ رفيعةٌ في العقل ...
ينزل نَرْسى وجندُه بكسكر،وينزل معهم الفارُّون من هزيمة يوم النمارق،وبدلا من أن يكونوا قوة تنضاف إلى قوة نَرْسى،كانت رائحة الهزيمة التي ذاقوها تبعث جوا من التشاؤم في سماء المعسكر،حتى تفتَّح الأمل في نفس الفرس ثانية حين بلغهم أن رُسْتَم بعث لهم مددا يقودُه الجالينوس،لكن أبا عبيد أسرع إليهم بجنده ليقطف هذا الأمل قبل أن يشتد عوده ويقوى،فتقاتل المسلمون والفرس جنوب كسكر بالسقاطية،واتسع ميدان الحرب،فشهدت صحارى مُلْس قتالا شديدا حتى نصر الله جنده،وفر قائد الفرس ناجيا بنفسه،فخرَّبَ أبو عبيد ما كان حول معسكر العدو من مناطق كسكر،لكي لا يعسكر الفرس فيها مرة أخرى.. كما أرسل أبو عبيد قادتَه ليفضُّوا جموع الفرس التي ثارت في القرى والأرياف،وتجمعت في أماكن أخرى عديدة،فأدوا ذلك بنجاح تام.(1/490)
وأما الجالينوس فقد وصل إلى مواضع القتال بعد أن نزلت الهزيمة المدوِّية بقومه،فنزل باقُسْيَاثا،فنهض إليه أبو عبيد في جيشه وهو على تعبئته واستعداده،لم يمهلْه ولم يعطه فرصة للتفكير،فلقيه في موضعه الذي نزل به فحاقت هزيمة جديدة بالفرس،وفر الجالينوس هاربا!
ها هي فارس ترمي المسلمين من جديد بفلذات أكبادها،فيختار رستم من قادته أشدَّهم على العرب،وأعرفهم بقدراتهم العسكرية وطرقهم القتالية،فيُسَيِّرُ إليهم بهمن جاذويه في جيش جرار تتقدمه الفيلة،وينضم إليه الجالينوس ... وتضع الإمبراطورية في عنق هذا الجيش أمانةً،هى إعادة هيبة فارس الضائعة،فتزوِّده براية كسرى نفسِها وقد صنعوها من جلد النمر ...
أقبل بهمن جاذويه يرفع حاجبيه كِبْرًا حتى نزل قَس الناطف،فعسكر أبو عبيد أمامه على ضفة الفرات الأخرى بالمَرْوَحة،ويدعو الفرسُ أبا عبيد إلى أن يعبر إليهم أو يعبروا هم إليه،فيعاملهم بشوق الشهيد إلى الشهادة،لا بترتيب القائد لساحة المعركة،فاختار أن يعبر إليهم مخالفا رأى ذوي الخبرة والعارفين بقتال الفرس ...
وعلى الضفة الأخرى كان المكان ضيقا،فامتلأت الأرض بالناس،ونظر أبو عبيد إلى عدوه فاستهان به وبالموت،ورتب مَنْ يخلفه إذا مات؛ لرؤيا رأتْها زوجتُه.
ويلتحم الجيشان وسيوف المسلمين مشتاقة إلى هذه الرقاب المتكبرة،ولكن الفيلة وقفت مانعا دون تقدم خيل المسلمين،فالفَرَسُ لا يرى فيلاً إلا نفر وتراجع.. كما أعطت الأفيال للعدو فرصة أن يطعنوا المسلمين بالنشاشيب،فأصابوا فيهم جراحات كثيرة ... فينزل القائد أبو عبيد والمسلمون معه عن ظهور الخيل ليصلوا إلى مقاتل العدو على أقدامهم فقتلوا في العدو قتلا ذريعا،لكن تظل الفيلة عقبة هائلة أمام المسلمين،فيأمر القائد بقتلها،لتقع مواجهةٌ شرسةٌ مع الفيلة غيَّرت مسار المعركة لصالح الفرس،حيث استُشهد القائد البطل أبو عبيد،وسبعة من قومه استلموا اللواء بعده،فأحبط المسلمون،وتَمكَّن منهم الفرس،ففر المسلمون نحو الجسر،ليعبروه فوجدوه قد قطع والفرس تتبعهم وغرق في الفرات كثير من المسلمين،حتى استلم اللواء المثنى بن حارثة،فأنقذ الله به مَنْ بقي من المسلمين يوم الجسر،حتى انسحب بمن بقي معه إلى الحيرة،ثم إلى أُلَّيس جنوبا ليُفلت من مطاردة الفرس.
وكان يوم الجسر في شعبان سنة ثلاث عشرة للهجرة.
ملأت الحرب على أبي عبيد حياته،حتى اصطحب معه إلى العراق أهله وأولاده،فكانت الحرب وأعمالها هى شاغلهم في يقظتهم،وصاحبةَ أحلامِهم في نومهم،وها هى دَومة زوج أبي عبيد تنام من الليل وقد دنا موعد حرب جديدة للمسلمين مع أهل فارس،وكم رَجَتْ في لحظات اليقظة الأخيرة أن ينتصر المسلمون ويرجع زوجها وابنها... وهنا تُغمِض عينيها وتُسلمهما للنوم قبل أن تكتمل الأمنية ...(1/491)
وترى دَومة فيما يرى النائم أن رجلا نزل من السماء،يضيء وجهه ويشرق، وفي يده إناء به شراب أحست أنه من الجنة.... فلعل دَومة أرادت أن تشرب،لكن الرجل السماوي لم يناولْها الإناء،بل أعطاه أبا عبيد زوجَها،ثم جبرًا ابنَهما،ثم رجلا آخر من ثقيف،حتى بلغوا سبعة ... ويرتفع غطاء النوم عن دَومة،فتشعر براحة نفس واطمئنان قلب إلى ما رأت،فتذهب إلى زوجها بالبشرى،ويستمع أبو عبيد إلى زوجته وثغرُه مبتسم،ووجهه مستبشر ناضر،فلما انتهت قال لها: "هذه ـ إن شاء الله ـ الشهادةُ"...
فتدمع عينا الزوجة المُحبة الوفية،فيربت أبو عبيد على كتفها،ويحتضنها في حنان ليخفف عنها.
الشهيد وهو يسير على الأرض قد لا يتفق مع قوانينها،لكنه لا يقدِّم رقبتَه لسيف العدو ويقول لهم خذوني،بل يضع نفسه في مواضع الخطر،ويُطعِم سيفه رقاب عدوِّه حتى ينثني السيف دون أن ينثني هو،فإذا سال دمُه تعطر منه الجو،وقالت له حور الجنة: مرحبا...!
منطق خاصٌّ لا نستطيع معه أن نلوم أبا عبيد لأنه خالف أصحابه،مع أنهم كانوا على صواب،أو قل: كان رأيهم أصوب من رأيه،لكن إن كان يريد الشهادة لنفسه فإنه لم يكن يريد الهزيمة للمسلمين ... قَدَرٌ قدَّره الله تعالى،انتفع به قوم فاستُشهدوا،وانتفع به الفاتحون المسلمون في هذه المنطقة فيما بعد فدقَّقوا اختيارَ المواضع التي يَلْقَوْنَ فيها عدوَّهم ...
وقد تزعم القول بعدم العبور إلى العدو يوم الجسر سَليط بن قيس،والمثنى بن حارثة،ومسلمة بن أسلم،ورأوا أن العبور سيضيِّق عليهم الفرصة للحركة إذا تراجعوا،فلم يملكوا حين أصر القائد أبو عبيد على رأيه إلا طاعته...
تيقنت نفس أبي عبيد بن مسعود الثقفي من نيل الشهادة يوم الجسر بعد رؤيا زوجته،فأخذ يرتب مَنْ يخلُفه إذا هو مات،فرتبهم تبعا لترتيبهم في الشرب من الإناء الذي رأته زوجته في الرؤيا،فبدأ بابنه جبر بن أبي عبيد،ثم رجل آخر من ثقيف،ثم رجل ثالث.. إلى أن عد سبعة،ثم قال:" فإن قُتل،فعلى الناس المثنى".
ولما اشتد منعُ الفيلة للمسلمين من الوصول إلى العدو،وتفريقُها لصفوف أبي عبيد وأصحابه،أمر القائد المسلم بقتل الفيلة ومَنْ يقودها،فكان الرجل يأتى إلى الفيل ويقطع الأحزمة المحيطة به ثم يقلب عنه من يقوده ويقتلهم... وراح أبو عبيد بنفسه يقفز ويثب أمام الفيل الأكبر ذي اللون الأبيض،بحثا عن مقتل يصيبه فيه.. منظر عجيب: رجل يقاتل فيلا!! ويرفع أبو عبيد سيفه ليهوي به على خرطوم الفيل،لكنه يصيب قدمه بدلا من ذلك،فتتحرك ثورة الفيل،ويقذف بأبي عبيد ثم يدوسه بقدمه ليسلم القائد الروح إلى بارئها،فيسارع جبر بن أبي عبيد ويأخذ اللواء،ويقاتل الفيل حتى يتنحى عن أبى عبيد،فأخذ جسده ثم رده إلى المسلمين،وظل جبر يقاتل حتى لحق بأبيه،وتناول اللواءَ بعده رجل من ثقيف،وراءه(1/492)
رجل حتى استُشهد منهم سبعةُ نفر،فأخذ اللواءَ المثنى بن حارثة ليرد هجوم الفرس،ويعبر الجسر بمن بقي من المسلمين.
لما قُتل القادة السبعة أراد عبد الله بن مرثد الثقفي أن يفقد المسلمين كلَّ أملٍ في العبور ليقاتلوا قتال المستميت،فإما أن ينتصروا،وإما أن يلحقوا بقادتِهم شهداءَ،فذاك عنده خير من الفرار من أمام العدو،فذهب عبد الله بن مرثد إلى الجسر فقطعه...
وهنا يتسلم المثنى بن حارثة اللواءَ في وضع شديد الصعوبة،فالمسلمون يفرون أمام الفرس،والفرس يتبعونهم،والجسر الذي يمكن أن يعبرعليه هو وجنوده مقطوع،وكثير ممن معه يرمون بأنفسهم في النهر ولا علم لهم بالسباحة فيغرقون.. فماذا يصنع؟
لقد أمر المثنى بن حارثة بعضَ رجاله بوصل السفينة التي قطعت من الجسر،وراح في كتيبة من أبطاله يوقف زحفَ الفرس،ومطاردتَهم للفارِّين من المسلمين،في بطولة نادرة،وقدرة هائلة على الضرب والطعن في كل اتجاه،وصَدِّ الضربات التي تأتى من هنا وهناك.. و نادى القائد في جنده ألا يتسرعوا في العبور حتى لا يغرِّقوا أنفسهم،وظل هو وكتيبة الأبطال التي معه يمنعون الفرس من تَتَبُّع المسلمين الذين يعبرون الجسر،حتى عبروا جميعا،وكان رجل ممن شهدوا غزوة بدر بدر هو سَليط بن قيس آخر من مات عند الجسر وهو يوسع طريق العبور أمام المسلمين ويرد عنهم الفرس.. وبعد أن عبر المثنى قطع الجسر حتى لا يتبعه الفرس،وبلغت إصابات المسلمين في هذا اليوم أربعة آلاف شهيد،مات كثير منهم غرقًا،وفرَّ ألفان،وأصيب المثنى نفسه إصابة كان لها ما بعدها.
ها هو الفاتح الجديد سعد بن أبي وقاص يسير من المدينة في أربعة آلاف جندى قاصدا العراق،والمدد يتتابع خلفه من أمير المؤمين ليقوِّي ظهرَه،ويَدْعَمَ صفَّه،ولعل سعدا أثناء سيره راح يسترجع شريط الذكريات التي عاشها في صحبة هذا الدين منذ أول لحظة،حيث كان سابع سبعة آمنوا بالله ورسوله،وكيف أن الأمور انتقلت من مرحلة إلى مرحلة،فخرج المسلمون من الاستضعاف والاضطهاد في مكة إلى دولة المدينة الصغيرة،والتي كَبُرَتْ واتسعت حتى عمت الجزيرة كلها،ثم خرج رجالها يفتحون الآفاق ويقهرون القوى العاتية ويدخلون القصور والمدن العامرة....
وينتظر سعد أن ينضم إليه المثنى بالقوة الضاربة التي معه،وبما يمثله المثنى نفسُه من خبرة عسكرية مخلصة لله ورسوله والمؤمنين... ولكن منع المثنى من الانضمام إلى قوات سعد مانعٌ قهريٌ ... ويحمل سعد بن أبي وقاص الأمانة الثقيلة،فإن كان أسلافه من القادة قد فتحوا له الطريق إلى المدائن،وقضوا على العديد من عتاة القادة الفرس،فإنهم حفَزوا عدوهم ليضرب بكل قوة،فقاد سعد المواجهات بنفسه في معركة القادسية،وفي فتح المدائن ووجه قادته للغزو بعد أن اتسعت مساحات المواجهة مع العدو،وعلى رأسهم هاشمُ بن عتبة،والقعقاع بن عمرو،والنعمان بن مقرِّن،وانتصر المسلمون في جلولاء،وفتحوا برس وبابل وكوثى وحلوان وخانقين وقصر شيرين وتَكريت وماسبذان وقَرْقيسياء(1/493)
والجزيرة والأهواز ورامَهرمز وتُستر والسُّوس وجنديسابور ونهاوند. وفُتحت الأُبُلَّة بأمر مباشر من أمير المؤمنين عمر لعتبة بن غزوان.
للتاريخ بناتٌ يزوجهن من الأمم والشعوب،وكم زوَّج التاريخُ المسلمين من بناته.. والقادسية بمعركتها الساخنة ونصرها الحاسم واحدة من هؤلاء البنات،بل من أكثرهن حسنًا،وأحبهن إلى القلوب ... ولكن أَبِكُلِّ هذه الضخامة تأتى التجربة الحقيقية الأولى لسعد بن أبي وقاص في القيادة؟! لقد خرج إليه الرجل الثانى في مملكة فارس بنفسه في مائة وعشرين ألفا تساندهم الفيلة كعادتهم،خرج رستم بنفسه وهو متشائم من هذا الخروج تشاؤما لم تقللْ منه كل هذه القوة الهائلة التي خرجت في صحبته ...
وأما سعد بن أبي وقاص فقد نزل بجيشه زرودَ في صدر الشتاء،وظلت القوات والأمداد تلتحق به لتزيد قوة جيشه،فأرسل المغيرة بن شعبة في خمسمائة جندي لحماية المسلمين من أي زحف من الجنوب جهة الأُبُلَّة،ثم أخذ سعد بن أبي وقاص في تنظيم جيشه،وتوزيع الأدوار على رجاله،وسار نحو القادسية مارا بشَراف فعُذَيب الهِجَانات،ونشر الغارات فيما حوله،وبعث الطلائع،ليعرف أخبار العدو،ويقضى على الجيوب المعادية ليمنع شرها ويكفي نفسه خطرها ... وأما رستم فقد توجه إلى القادسية: ساحة المواجهة مارًا بساباط والنجف ومخترقا الحيرة،فجاءته وفود المسلمين تدعوه إلى واحدة من ثلاث الإسلام أو الجزية أو الحرب.. ويستكمل المسلمون استعدادهم للحرب التي اختارها الفرس،فينشر سعد وسط جنوده قُرَّاءَ القرآن والشعراء والخطباء ليقوموا بدور إعلامى رائع يرفع الهمم،ويقوِّي العزائم،ليبدأ القتال بعدها ويستمر ثلاثة أيام وليلة: يوم أرماث،ويوم أغواث،ويوم عماس،وليلة الهرير التي قطع فيها دابر الفرس،وتشتت شملهم،حتى لقى قائدُهم الكبير رستم مصرعه،وكتب سعد إلى أمير المؤمنين عمر بالفتح العظيم.
بضعة وسبعون رجلا من أهل بدر،وأكثر من ثلثمائة آمنوا قبل بيعة الرضوان،وثلثمائة ممن شهدوا فتح مكة مع رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ... هذه هى القوة الضاربة في جيش المسلمين في القادسية،والروحُ السارية في أنحائه،ولم يزد عدد هذا الجيش في أيٍّ من مراحل المعركة على ثلاثين ألفا...
وقف سعد بن أبي وقاص على جنده بشَراف،بعد أن عاد المغيرةُ بن شعبةَ وانضم إليهم،وراح القائد يرتبهم وينظم صفوفهم،فوزعهم عشرةً عشرةً،وجعل على كل عشرةٍ عريفًا،وأخذت عينه تقع على أهل الفضل والسابقة إلى الإسلام ليولِّيَهم قيادة تكوينات الجيش،فها هو الصحابي زُهرة بنُ الحَوِيَّة على مقدمة الجيش،والصحابي عبد الله بن المُعْتَمِّ على الميمنة وعلى الميسرة شُرَحْبِيل بن السِّمط الكِنْدِيّ الشاب الذي قاتل المرتدين وهو دون الثامنة عشرة،وعاصم بن عمرو التميمي على المؤخرة،وعلى الطلائع سواد بن مالك التميمي،وحمَّال بن مالك الأسدي على المشاة،وعلى الركبان عبد الله بن ذي السهمين الخثعمي كما جعل سعد خالد بن عُرْفُطة خليفة له...(1/494)
راح سعد يوزع الناس هكذا،وكأنه يريد أن يضع في كل جزء وكل قطعة صغيرة من جيشه واحدا أو أكثر من أهل الإسلام الأولين،ورجالِه الذين حَمَوْهُ في الظروف الصعبة.. إن قطعة الجيش التي تخلو من هؤلاء هى قطعة ميِّتة لا فائدة فيها،والأمير لا يريد أن يقاتل ميتا بميت،بل يريد القتال بجيش حي بروح الإيمان،مشبَّع بأنفاس التقى والشوق إلى الجهاد في سبيل الله تعالى،ونيل الشهادة لأجله.
تَرَى العين عدوَّها الضخم فتهاب كثرة عَدده وعُدَّته،فتلقي العين على اليدين والرجلين وسائر الجوارح ثوبا من الارتباك والخوف والتردد،فإذا ذكَّرْتَ القلبَ بمبادئه عادت إليه يقظته وراح يرش من يقينه على الجوارح،ليندفع صاحبها كالسهم لا يبالى بمن أمامه ...
لقد أراد سعد بن أبي وقاص أن يُذهِب هيبة المسلمين لعدوهم من النفوس،أراد أن يصور لهم الجنة والنار،وجهاد المؤمنين وسكينة نفوسهم،أراد سعد أن يرش من يقين القلوب على الأجساد لتقاتل صابرة مقبلة،غير عاجزة ولا مدبرة،لترى العدو عددا وعتادا لا قيمة لهما...
فراح القارئ يمر على المسلمين كتيبةً كتيبةً،يقرأ عليهم سورة الجهاد،سورة الأنفال،بل راح المسلمون يتعلمون هذه السورة المباركة،فتحولت ساحةُ الحرب إلى مدرسة كبيرة يتعلم المسلمون فيها مبادئ الجهاد من كلام الله تعالى،" فهَشَّتْ قلوبُ الناس وعيونُهم،وعرفوا السكينة مع قراءتها". ثم قام ذوو الرأي والنجدة والشعراءُ في الناس يذكِّرونهم بالله ووعده للمجاهدين،وبالرسول وبشارته بالفتح المبين،ويحرضونهم على قتال العدو والصبر في مواجهته،فاشتعلت الحماسة في النفوس،ورش القلب من يقينه وثباته على الجوارح والأعضاء..
ما جاء بكم؟
اللهُ ابتعثنا،واللهُ جاء بنا لنخرج مَنْ شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد،ومن ضيق الدنيا إلى سَعَتِها،ومن جَوْرِ الأديان إلى عدل الإسلام ...
إنه جزء من الحوار الذي دار بين مبعوث المسلمين إلى الفرس رِبْعِيِّ بنِ عامر وبين رستم قائد المشركين في القادسية ... وقد طلب رستم بنفسه أن يرسل المسلمون إليه أحدا يكلمه،إنه يريد أن يعرف ماذا جاء بهؤلاء؟ فإن كان أخرجهم الجوع زوَّدهم بما يكفيهم من الطعام،وإن كان أخرجهم الطمعُ أعطاهم من المال ما يملأ عيونهم.. فاختار له سعدُ بن أبي وقاص أدهى الرجال وأذكاهم،وأعد رستم أبهى المجالس وأكثرها فخامة،وأبرزوا الذهب والحرير في ملابسهم ومفارشهم،حتى يُرُوا هؤلاء الخارجين من عالم النسيان عظمة فارس،وشدة بأسها،واتساع غناها وثرائها!
ويأتى أول وافد من المسلمين رِبْعِيُّ بنُ عامر،مستهينا بكل هذا،حتى لم يصر عنده فرق بين حريرهم وبين ألياف الحبال،ولا بين ذهبهم وحصا الأرض،فأذلَّهم باستهانته،واحتقرهم في احتقاره لزينتهم،وغلبهم قبل المعركة،وعلَّمهم أنه لم يُخْرِج المسلمين من جزيرتهم جوع ولا طمع،ولكنه تحرير العباد،وتوصيل صوت الدين الخاتم إلى العالم.. وعرض رِبْعِىٌّ على القوم الإسلام أو الجزية أو(1/495)
الحرب،فطلب رستم مهلة،فأملهه رِبْعِيّ ثلاثة أيام ... وظن القائد الفارسي أنه لو طلب وافدا آخر من المسلمين فربما كان ألينَ كلامًا وأكثر عرضةً للإغراء من صاحبه،فبعث إليه سعد بن أبي وقاص حذيفة بن محصن،ثم المغيرة بن شعبة،فما وجد عندهما إلا ماوجده عند رِبْعِيّ: الإسلام أو الجزية أو الحرب،فاستشاط رستم غضبا،ثم حلف بالشمس لا يرتفع لكم الصبح غدا حتى أقتلكم جميعا "! وكتب إلى سعد: إما أن تعبروا إلينا أو نعبر إليكم،ورد عليه أمير جيش المسلمين: بل اعبروا،لتبدأ معركة طويلة حامية.
قبل أن يقع الاشتباك بين المسلمين وعدوِّهم،أمر سعد جنوده بأن لا يفعلوا شيئا حتى يُصَلُّوا الظهر،فقام الجنود يصلون صلاة الخوفِ والحربِ التي صلاها النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ في العديد من غزواته،فشعر الجنود بثلج الصدر،ويقين النفس وثباتها.. ثم بدأت إشارات التحرك والزحف فكبَّر سعد تكبيرةً ردَّدَها الجنود فاهتزت منها أركان الدنيا،وأخذ الجنود استعدادهم،وفي التكبيرة الثانية أتم المسلمون الاستعداد،وفي الثالثة برز أهل النجدة والشجاعة والقوة يطلبون المبارزة،وبعد التكبيرة الرابعة من سعد زحف المسلمون وهم يقولون: لاحول ولا قوة إلا بالله!
ورجع القائد ابن أبي وقاص يدير المعركة من حصن قريب،ومنعه المرض من مباشرة الحرب،فظل من فوق الحصن يرقب الوضع،ويرسل إلى جنوده بما ينبغى فعله...
وفي أول الزحف تركز ضغط العدو على الناحية التي فيها قبيلة بَجيلة،حتى هجموا عليها بثلاثة عشر فيلا من ثلاثين كانت معهم يومئذ،هذا غير أمواج متتابعة من الجنود التي أقبلت كالعواصف القاصفة،فتفرقت كتائب المسلمين من هذه الناحية،ونفرت الخيل من الفيلة،حتى " كادت بَجيلة أن تُؤكل " فأمر القائد بتحريك بعض القطع من جيشه لتساند في هذا الجانب،فتحرك بنو أسد بحماسة هائلة فحملوا كثيرا من العبء عن بَجيلة،غير أن الفرس كانوا مُصِرِّين على اختراق المسلمين من هذه الناحية فضاعفوا من قواتهم فيها،حتى طَحنت الحربُ بني أسد،واستُشهد منهم كثيرون،فأرسل سعد إلى بني تميم ليبحثواعن حل لهذه الأفيال،فراح الأبطال منهم يرشقون الفيلة بالنبال ويقطعون أحزمتها،ويقتلون مَنْ يقودها فخف الضغط عن بني أسد واستمر القتال حتى غربت الشمس،وقد حقق الفرس تقدما في القتال غير حاسم.
قبل أن تستأنف الحرب نشاطها في اليوم الثانى من القادسية،أمر القائد سعد بنقل الشهداء لِيُدْفَنُوا والجرحى ليُمَرَّضوا،وخرج الفرس وقد نفخهم تقدم اليوم الأول،غير أنهم جُرِّدُوا هذه المرة من أهم أسلحتهم وأقوها،وهى الفيلة،التي قطِّعت أحزمتها بالأمس،ولم تكن مُعَدَّةً للمشاركة في قتال اليوم..
وبينما الناس متأهِّبون لجولة أخرى حامية من جولات القتال،إذ أقبلتْ أوائلُ جيش العراق الذي ذهب يساند المسلمين في الشام،يقوده هاشم بن عتبة بن أبي وقاص،وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو التميمي،الذي وصل أولا ووزع جنودَه الألفَ عشرةً عشرةً،وجعل بين كل عشرة والأخرى(1/496)
مسافة،فكانوا يأتون إلى أرض المعركة متتابعين كما يأتى المطر،فألقى القعقاع ومَنْ معه على إخوانه السلام،وأخرج لعدوه السيف البتار،وراح يطلب المبارزة،فخرج إليه بَهْمن جاذويه،فلما رآه القعقاع وعرفه،صرخ: يا لثارات أبي عبيد وسَلِيط وأصحاب يوم الجسر! وراح يبادله الضربات القوية حتى خرَّ القائد الفارسي صريعا،فامتلأت نفوس المسلمين حماسة وفرحا،وراحوا يزحفون من كل ناحية،واشتدت الحرب والضرب الطعان،وهجم القعقاع وبنو عمه على العدو وقد بَرْقَعُوا الخيولَ وغَطَّوا وجوهَها،حتى أخافوا خيول العدو ونفَّروها،وظل المسلمون يتقدمون على عدوهم ويعوضون تراجع الأمس،حتى اعتدل النهار،فتجدد زحف الجيوش على بعضها البعض،وخرج أبو مِحْجن الثقفي من مَحْبِسه يركب البلقاءَ فرسَ القائد سعد،ويلعب برمحه وسلاحه،ثم كبَّر وهجَمَ على العدو،وكرَّ عليهم من الميمنة والميسرة،وراح يضربهم ويقصفهم قصفا هائلا....
وغربت شمس اليوم الثانى بتقدم واضح للمسلمين،حتى كاد رستم نفسُه أن يقتل،إلا أن المعركة لم تحسم تمامًا.
يا لعظمة الرجولة المزيَّنةِ بالإيمان حين تُضَحِّى،إنها تعطي وتعطي وتعطي،لا تفرق بين ميدان وميدان مادام الكل طاعةً لله،وقد انتقل خالد بن الوليد بنصف قوات المسلمين بالعراق إلى الشام بعد أن كسر بهم الفرس عدة مرات،ودَوَّخَ قواتِهم فى معاركَ كثيرةٍ. وفى الشام سجل هؤلاء الأبطال آية كبيرة من آيات النصر يوم اليرموك،حين شاركوا إخوانهم هناك فى تشتيت شمل الروم،وسقَوْهم كئوسَ الهزيمة المُرَّةِ.
وقد آن الأوان لكى ترجع هذه الصقور مرة أخرى إلى العراق،فالجبهة هناك تناديهم،جبهة الجموع الغفيرة،والقادة الخبراء،والإمبراطورية المجوسية الشرسة التى حشدت قواتها فى القادسية..
ولما وصلت بشارات النصر فى اليرموك إلى المدينة،كتب عمر بن الخطاب إلى صديقه الحبيب أبى عبيدة يأمره بصرف جنود العراق إلى العراق،ويأمرهم بالحث والإسراع إلى سعد بن أبى وقاص هناك.. وخرج الآلاف العشرة الذين قَدِمَ بهم خالد بن الوليد من قبل،وقد وُضع مكان كل شهيد منهم رجلٌ آخرُمن غيرهم،يقودهم هاشم بن عتبة،وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو،وعلى الميمنة والميسرة عمرو بن مالك الزُّهْرِى،وربعي بن عامر..
وكما يأتى كوب الماء لينقذ العطشان من الهلاك،جاء هؤلاء نجدة لإخوانهم فى معركة القادسية،فانقلب الميزان لصالح المسلمين،وحققوا نصرا كبيرا. وبقي خالد بن الوليد إلى جانب أبى عبيدة يجاهد ضد الروم فى الشام،حتى توفاه الله هناك.
مع تباشير هذا اليوم ظهر أن شهداء المسلمين ألفان،وقتلى المشركين عشرة آلاف.. وهذا حصاد يومين من القتال،فماذا يخبئ الغيب في اليوم الثالث؟ لقد عاد الفرس هذه المرة وقد خسروا العديد من قادتهم الكبار،لكنهم أعادوا تجهيز الفيلة لتخوض المعركة الساخنة...(1/497)
وبدأت الشمس تُسرِّب أشعتها إلى أرض القادسية على استحياء،فإذا بمائة جندي مسلم قد أقبلوا من جهة الشام،فكبر القعقاع وكبر المسلمون معه،ليوهموا العدو أن مددا قد أقبل،ولم يكن هؤلاء إلا أصحاب القعقاع الذين جاءوا بالأمس في مقدمة جيش هاشم بن عتبة القادم من الشام،والذي تأخرتْ ساعةُ وصولِه بباقي القوات في هذه المرحلة الحرجة من المعركة،فمتى يقبل هاشم ببقية الجيش،لتترجح به كفة المسلمين؟ متى؟
ينشب القتال حاميا،وأصحاب القعقاع يتتابعون مائة مائة،وكسرى يَزْدَجِرْد يتابع أخبار جنوده،ويتابعهم بالمدد تلو المدد،والأفيال تتقدم لتقوم بدورها،يتقدمها المشاة لحمايتها من سيوف المسلمين وسهامهم،وراكبو الخيول يحمون المشاة من سيوف المسلمين،فطلعت أول مجموعة من جيش هاشم،وظلوا يتوافدون سبعين سبعين،والمسلمون يكبرون قد غمرتهم الفرحة،فحميت الحرب،وراح القتال يشتعل،فلا يبلغ فريق من الآخر شيئا ولا يتقدم عليه إلا رجع الآخر ليصيبه بمثل ذلك.. ثم انفسح الطريق أمام الفيلة لتقوم بدورها في تنفير خيول المسلمين وتفريق كتائبهم،وكان يقودها فيلان: أحدهما أبيض والآخر أجرب،فكلف سعد بالأول اثنين من تميم وبالثانى اثنين من بنى أسد،فمنهم من قتل الفيل ومنهم من أصابه،لتخرج الفيلة من المعركة،وتعود الحرب بين البشر وبعضهم البعض.. كل هذا وكِفَّتا الطرفين لا تَرْجَحُ إحداهما على الأخرى.
جرّب الفرس الأفيال في حروبهم،فحملت عن الجنود عبئا كبيرا،وفعلت ما لم تفعله السيوف أو الخيول،لكن المسلمين في اليوم الأول من أيام القادسية قطَّعوا أحزمتها،فحرموا الفرس من الانتفاع بها في اليوم الثانى حتى مالت كِفَّة الحرب جهة المسلمين... وها هى الأفيال في اليوم الثالث من الحرب ترجع،وقد وكّل الفرس بها من يحرسها من المشاة والخيالة،ومع اشتداد القتال انفتح الطريق أمام الأفيال لتعبث بصفوف المسلمين،فكان لابد من إيقافها،ومنع العدو من الاستفادة بها.. ويرسل سعد إلى ذوى الخبرة يسألهم،فبعث إلى من أسلم وانضم إليه من الفرس وسألهم عن مَقاتِل الفيلة التي إذا أصيبت فيها عادت بلا فائدة،فأخبروه أنها العيون والخراطيم.. وينظر القائد من فوق قلعته إلى ساحة الحرب،فيرى ثلاثين فيلا ضخما،ويصوب بصره فيرى من بينها اثنين لا يسيران إلا سارت وراءهما بقية الأفيال،فكلف القعقاع بن عمرو وأخاه عاصما بقتل الفيل الأبيض،وحمَّال بن مالك والربِّيل بن عمرو من بني أسد بالفيل الأجرب،فذهب القعقاع وعاصم على فرسين وفي يد كل واحد منهما رمح،وقام بعض مشاة المسلمين بمشاغلة الفيل،فانطلق الرمحان معا وبسرعة هائلة،ليستقرا في عيني الفيل الأبيض الذي سقط إلى الأرض،وقتل المسلمون من يقوده،وهجم حمّال والربِّيل على الفيل الأجرب فأصابه أحدهما في عينه وقطع الآخر خرطومه،فولى هاربا حتى عبر النهر،وتبعته بقية الفيلة لتخرج من المعركة الساخنة مهزومة،ويهلك مَنْ فوقها...(1/498)
مع قدوم الليل بعد قتال يوم عماس يهدأ الموقف قليلا،بينما القمر يتدلى من السماء،ويرسل على ساحة القادسية أشعة خافتة تلمع لها صفحات السيوف.. لقد تعبت الأصوات من طول الصراخ بالنهار،فلما جاء الليل هدأت تماما.. ثم استؤنف القتال،وصارت لغة السيوف هى المسموعة،وترجل كثير من المسلمين عن خيولهم،ولم ينتظروا أميرهم سعد بن أبي وقاص حتى يكمل تكبيراته الثلاث ليزحفوا من جديد على عدوهم،فمنهم من زحف قبلها،ومنهم من زحف قبل اكتمالها ثلاثا،ثم دخلوا جميعا حومة القتال مع تكبيرة سعد الثالثة...
وكان الليل غطاء شفافا من الظلمة اختبأت الحرب تحته،حتى اختلط الجيشان،وتداخلت الصفوف،واحتجبت الأخبارعن القائدَيْن،وراح سعد يبتهل إلى ربه ويدعوه في ذلة وضراعة.. وظل القتال ساخنا يغالب برودة الليل والشتاء والكِفَّةُ تميل بقوة ناحية المسلمين،حتى طلع النهار،فهبت ريح عاصف حملت جهة العدو ترابا كثيفا،دخل عيونهم وأنوفهم وآذانهم،وراح المسلمون يخترقون صفوف عدوهم ويشقونها كما تشق السفينة الماء،حتى وصلوا إلى سرير رستم،الذي أراد الفرار،فكان هلال بن عُلَّفة له بالمرصاد حيث قتله،ونادى في المسلمين بذلك،فشدوا على قلب العدو،حتى فرغت قوته وهلك تحت الضربات الفاتكة،ولم يجد الفرس في قوس الصبر بقية،فهرب أكثرهم،فمنهم من أراد أن يعبر النهر وراء الجالينوس،ومنهم من توجه شمالا،ومنهم من هرب جنوبا،فأمر سعد رجاله بتتبع الفارين،فسار زهرة بن الحَوية وراء الجالينوس حتى قتله،وتتبع القعقاع وعاصم وشُرَحْبيل بن السِّمط بقية الفارين فقتلوهم في كل قرية ومخبأ وشاطئ نهر،ثم أدركوا صلاة الظهر مع إخوانهم بالقادسية ... وغنم المسلمون ما لا يُحْصَى كثرةً،بعد أن استشهد منهم ثمانية آلاف وخمسمائة،وقُتِلَ من العدو حوالى ثمانين ألفا..
وكتب سعد بن أبي وقاص إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يخبره بالنصر والفتح المبين.
وكانت القادسية بأيامها جميعا في شهر المحرم من سنة أربع عشرة من الهجرة.
جميل هذا المنظر لو رأيتَه من فوق ربوة عالية،أو أبصرتَه راكبا سفينة تعبر النهر،دجلة يشق الأرض ويحتضن المدن من حوله،كاحتضان الأم بناتها الصغيرات،وها هو ذا يشق أفخم مدن الدنيا وأملأها بالقصور،يشق مدينة كسرى الكبرى: المدائن،فبعضها يرتمي على الشاطئ الغربي لدجلة كأنه يستريح على الضفاف،وبعضها يجلس جلسة الأسد على الشاطئ الشرقى منه حيث يقيم كسرى،ويحيط نفسه بأكبر مظاهر الترف،يلبس الحرير،ويدوس على الحرير،ويَجلس على الذهب،ويأكل فيه.. بينما الكثير من رعيته يتخذ تراب الأرض فراشا،والسماء من فوقه لحافا وغطاء،ومن الخبز الجاف طعاما،والماء العكر شرابا.. بؤس وترف،ما اجتمعا في قرية إلا هلكت،وذهب الله بالنعمة من أهلها..
ويرسل عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص بعد فتح القادسية العظيم يأمره بأن يطلق سهامه جهة عاصمة كسرى: المدائن.. سعد الذي ضرب أبا جهل بالأمس بعظم جمل مطلوبٌ منه اليوم أن(1/499)
يضرب كسرى بعسكره الضخم،سعد الذي كان رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ يناوله السهام في بدر ليرمي بها المشركين ويقول له فداك أبي وأمي،قد أصبح اليوم سهما وضعه خليفة خليفة رسول الله في قوسه ورمى به أهل فارس في عقر دارهم وعاصمة مُلْكهم..
يسير سعد بجنوده ولا حديث لهم إلا نعمة النصر التي أفاض الله بها على عباده في القادسية،وإلا أمل في أن تتم النعمة وتفتح أبواب المدائن لهم،فسيَّر سعد بن أبي وقاص زُهْرَةَ بنَ الحَوية إلى بُرس وبابل ليلقى الفرس فيهما،ثم سار سعد بعد النصر في جيشه كله ليفتح المدائن من جهتها الغربية،ويعبر دجلة بعدها،ويفتح المدائن الشرقية،ويدخل القائد وجنوده القصر الأبيض الذي رآه النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ حينما ضرب الصخرة في الخندق،فبشر المسلمين بالفتح الذي يرونه اليوم بأعينهم.. وراح القائد يتلو في خشوع تلك الآيات التي كان يتلوها بمكة،ويتحدى بها النبي والمسلمون عَنَتَ قريش وعنادها.. ( كَمْ تَرَكُوا مِنْ جنَّاتٍ وعُيونٍ. وزروعٍ ومَقامٍ كريمٍ. ونَعْمَةٍ كانوا فيها فاكِهين. كذلكَ وأوْرَثْناها قومًا آخرينَ )[ الدخان: 25 - 28 ]. وفَعَلَ فِعْلَ حبيبِه محمدٍ ـ - صلى الله عليه وسلم - ،فصلى صلاة الفتح ثمانى ركعات في غير جماعة..
ها هى الطريق تنفتح نحو المدائن،وتنزاح العقبات من أمام جيش المسلمين واحدة بعد الأخرى،والقائد سعد يقدر لكل عقبة ما يناسبها من الجنود حتى لا تعطِّل مسيرةَ جيشِه المنطلق نحو المدائن.. أخذ سعد يحرِّك جيشه قطعةً قطعةً،وعلى كل واحدة منها قائد كبير من رجاله،فكان في المقدمة زُهْرة بن الحَوية،الذي اتجه إلى برس فلحقه عبدالله بن المعتمّ وشُرَحْبِيل بن السِّمط وانضما إليه،لتكون الذراع أقوى،والضربة أوجع.. وفي جولة جديدة،ولكنها قصيرة الزمن ضيقة الميدان،يقاتل المسلمون الفرس يقودهم بُصْبُهْرى،ويطعن زُهْرةُ قائدَ العدو،فكانت نصيبَه الذي مات منه بعد انتهاء المعركة،كما طعن المسلمون جنود عدوهم حتى قتلوهم،واضطروا من بقي إلى الفرار نحو بابلَ،المدينةِ التاريخيةِ التي راحت تشهد الأنفاس الأخيرة المتلاحقة لدولة شاخت،حيث اجتمع فيها الفارُّون من معركة القادسية والمهزومون يوم برس،وكثير من قادة الفرس وزعمائهم الكبار كالفيرزان ومِهران الرازي والهرمزان،لا ليثبتوا في وجه المسلمين،ولكن ليجددوا فرارا وهربا بعد فرار وهرب،فقد صدمهم المسلمون بقوة فلم يصبروا ولم يثبتوا،وهرب كل واحد منهم إلى ناحية.. وتتسع خطا زُهْرةَ وجنودِه بأمر من القائد سعد،فيَصِلُ إلى كُوثَى حيث تجمع بها للفرس جمع يقوده شهريار،وكانت مبارزةُ أحدِ المسلمين وقتلُه للقائد الفارسي كفيلةً بأن تنهى المعركة قبل بدئها،حيث تشتت جمع الفرس،وذهبوا في البلاد يطلبون النجاة.
لقد ضحى ملوك الفرس بهذه المئات الآلاف من جنودهم الذين حاربوا المسلمين،حتى تبقي قصورهم وعروشهم في أمان،ويظلَّ مُلْكهم قائما محروسا من الزوال،وها هو كسرى يَزْدَجِرد يبصر بعينيه حصادَ هذه الجهود كلِّها خيبةَ أملٍ وضياعًا،فالجيوش التي كانت تمثل حصونا ودروعا لمُلكه قد انهارت(1/500)
وتمزقت،وداستها خيول المسلمين،وقطفت السيوفُ زهرةَ قادتِها،ووقف المسلمون بجيوشهم على حصون بَهُرسير وخنادقها،والتي إذا سقطت في أيديهم فلن يصبح بينهم وبين القصر الأبيض الذي ينام فيه كسرى سوى نهر دجلة..! نزل المسلمون على خنادق المدينة وحصونها فخنقوها وحاصروها شهرين،ومنعوا الفرس من الحركة إلى الأمام،وقاتلوهم بكل ما يستطيعون: فقذفتهم المجانيق والعرَّادات بالحجارة،وراح الرجال يفتحون في الحصون ثغرات ليهدموها،ويضربون مَنْ خرج إليهم بالسيوف والحِراب،حتى مات الأمل في نفوس الفرس،فبعث مَلِكُهم إلى المسلمين يطلب الصلح بكلمات تقطر غيظا مخلوطا بكبرياء كاذبة،فأبى المسلمون الصلح ورفضوه،فراح الفرس يتسربون من المدينة إلى شرقي المدائن وقد ملأهم الرعب حتى خَلَتْ منهم بَهُرسير،ولما علم القائد سعد بن أبي وقاص بذلك دخلها وجنودُه في جوف الليل حتى بدا قصر كسرى الأبيضُ لعيونهم على الضفة الأخرى كأنه لؤلؤة تتراقص في نواحيها أضواء القمر،فنادى ضرارُ بن الخطاب وهتف من أعماقه: "الله أكبر،أبيضُ كسرى،هذا ما وعد الله ورسوله"،وكبَّر المسلمون،ورفعوا صوتَهم بشعارهم هذا،شعارِ العزة،حتى طلع الصباح مبتسما،ونادى المؤذن للصلاة..
ها هى السكينة تكسو سعد بن أبي وقاص ثوبا واسعا منها،قد زيَّنه الإيمان،وجمله حب الله ورسوله،فقد عرض عليه سكان القرى الجالسة على شواطئ دجلة وحوله أن يعبر النهر من موضع هين سهل،لكنه تردد في قبول ذلك،خوفا من أن يصيب المسلمين ضرر أو مكروه،ثم حملته قدماه إلى النوم ورأسه مشغول بدجلة وعبوره،فرأى في نومه أن المسلمين قد عبروا النهر بخيولهم ورجعوا بخير كثير،فما انكشف عنه النوم حتى راح يأمر جنوده بالاستعداد للعبور..
ولم يكن القائد يفهم أن العبور مغامرة غير محسوبة يقوم بها لتحقيق رؤياه،بل كان يرى أن قدر الله المكتوب لا يمنع من التخطيط والترتيب،فخرجت كتيبة الأهوال يقودها عاصم بن عمرو،ليكونوا أول من يعبر النهر ويؤمِّن عبور بقية الجيش،فرأى الفرس ذلك فاقتحمت كتيبة منهم النهر لتواجه كتيبة الأهوال،وراح الموج المتلاطم يشهد تلاطم الكتيبتين وتصادمهما،ورأى النهر المسلمين يخرجون حرابهم يضربون بها عيون أعدائهم وينخسون بها خيولهم،حتى فروا وتبعهم المسلمون فلم يفلت من الموت إلا قليل من الفارين.. ووقفت كتيبة الأهوال تؤمن عبور المسلمين كما تقف الجبال،ويتحرك سعد بجنوده،يعلم أن الحُكم لله والحول والقوة والسلطان لله،ويذكّر المسلمين بذلك..
وكان العبور آية من آيات الله وكرامةً لأوليائه الذين ضمهم هذا الجيش،فقد كان دجلة هائجا هياج دلال لا هياج غضب،يقلب ماءه حتى اسود لونه،فاقتحمه المسلمون حتى امتلأ بالخيل والناس،واختفي الماء فصار الواقف على الشاطئ لا يرى إلا خيلا وبشرا،ونظر سلمان الفارسي إلى الوطن الذي هاجر منه،ورأى المسلمين وقائدُهم يبتهل إلى الله ويدعوه فقال سلمان: "ذُلِّلت لهم والله البحار كما ذُلل لهم البر"! فعبروا وما فقدوا في الماء شيئا سوى قدح قذف به النهر إليهم بعدها!!(1/501)
لم يبق سوى النهر حاجزًا بين المسلمين وبين كسرى بعد نصر القادسية وفتح بَهُرسير،وأناشيدُ التكبير لازالت ترفعها حناجر المسلمين فتتصاعد إلى السماء وتعطر الأنحاء،وترسم سعادة المسلمين وفرحتهم بنعمة الفتح والنصر.. وينظر سعد إلى جنوده يبادلهم التهانى ويبادلونه،ولكنه يريد أن يؤجل الفرحة حتى تتم المهمة بفتح المدائن القصوى التي فيها منزل كسرى،فيسرع بالخيل نحو النهر ليعبره،ولكن العدو كان قد هدم الجسر،وضم السفن إليه،فيا لَها من فرصة ضاعت! وتحوَّل المسلمون إلى الصبر سلاحا أقوى من السيوف والرماح،حتى يأذن الله بالفتح..
تُرَى،هل يعجز المؤمنون حقا ويتركهم ربهم الذي يتوكلون عليه دون أن ينصرهم؟! لا.. إنه يفتح لهم أبواب النصر واسعة.. كان الصيف هادئا لطيفَ الحرارة،قد تسلطت شمسه على ماء النهر وأرض الشاطئ،غير أنها لا تلسع ولا تحرق،فجاء إلى سعد بن أبي وقاص أهل الدراية والعلم بدجلة،ممن تربَّوْا على شواطئه منذ طفولتهم،فأكلوا منه وشربوا،فدلُّوا القائدَ على موضع يمكن أن تخوض منه خيول المسلمين إلى الضفة الشرقية،فتأنى سعد وتمهَّل حتى اطمأن قلبه،فكان عبورا رائعا من المسلمين ذلك الذي قامت به الخيول والجنود،فدخلوا المدينة وقد خلَّفوا النهر وراءهم،فوجدوا كسرى وأتباعه قد فروا هاربين إلى حلوان وغيرها،ولم يلاقوا من العدو إلا مقاومة ضئيلة عند القصر الأبيض،انتهت بالتسليم وقبول شروط المسلمين بدفع الجزية.
أنصِتْ،فإن التاريخ يروى لك واحدا من مشاهده المهمة يقول: في صدر سنة ست عشرة من الهجرة خضعت المدائن كلها لسلطان أهل التوحيد المسلمين،فراحوا يطوفون بشوارعها وطرقها،يشاهدون النعمة التي انتزعها الله من قوم ومنحها آخرين،راحوا يتعجبون من المبانى الضخمة والطرق الممهدة المعدة كيف لم تنفع أصحابها،ولم ترد الهزيمة عنهم؟! لكنهم علموا أن ذلك كله لا يغنى شيئا إذا كانت النفوس مخربة،والأخلاق منحرفة..
يقول التاريخ: ثم بلغ القائدَ الجليلَ سعدَ بنَ أبي وقاص أن الفرس قد اجتمع لهم جمعٌ كبير بجلولاء،وأحاطوا أنفسهم بالخنادق تحت قيادة مهران الرازي،كما عسكر أهل الموصل بتكريت،فأرسل سعدٌ هاشمَ بنَ عتبة في اثني عشر ألفا تزينهم مصابيح من المهاجرين والأنصار وأعلام العرب،وكان من مكر أهل فارس أن وضعوا في طرق المسلمين قطعا من الحديد ذات أسنان لتصاب فيها خيل المسلمين وجنودهم..
يقول التاريخ: ونزل هاشم بجنوده على خنادق العدو،فظل يتلقى المدد من سعد بن أبي وقاص،كما كان المدد والتشجيع والأموال الطائلة تأتي من كسرى بحلوان إلى جنوده ليثبتوا... ولم يكن المسلمون يحبون أبدا الجمود في ساحات القتال،فإما تسليم وإما قتال،فظلوا يزحفون على عدوهم،ويصدون الزحف عنهم ثمانين يوما،ثم خرج الأعداء خروجا عاما،فامتلأت آذان المسلمين بصرخات قائدهم هاشم: أبلوا الله بلاء حسنا.. اعملوا لله.. فاختلط الجيش بالجيش في قتال مرير وصراع فظيع،فبعث(1/502)
الله ريحا أظلمت منها البلاد واسودّت الآفاق ولم يكن هم الفرس إلا العودة إلى حصونهم،والإيواء إلى منازلهم،فسقط فرسانهم في الخندق،ومهدوا في حصنهم طرقا للخيل حتى أفسدوه،فنهض المسلمون وراءهم ليقع قتال لم يقتتلوا مثله إلا ليلة القادسية الأخيرة،إلا أنه كان أضيق وأسرع.. وشق القعقاع ورجاله الطرق حتى وقفوا في مواجهة باب الخندق،وتبعهم باقي المسلمين فتشتت شمل العدو،وتمزقوا يمنة ويسرة،وعقرت خيولهم في الحديد الذي أعدوه للمسلمين،وعادوا مشاة تتخطفهم سيوف هاشم ورجاله،حتى قتل منهم قرابة مائة ألف.
وكان ذلك في السنة السادسة عشرة للهجرة.
"إن فتح الله عليكم جَلُولاء فسرِّح القعقاع بن عمرو في آثار القوم حتى ينزل بحلوان.."،أراد أمير المؤمنين عمر بهذه الرسالة إلى سعد بن أبي وقاص،أن يواصل المسلمون الزحف وراء العدو ليستولوا على آخر خط من الأرض قبل الجبل،ويمنعوا كسرى من جمع الجيوش والاستعداد للقتال من جديد.
والقعقاع بعد ذلك رجل يحب المهماتِ الصعبةَ،أما السهلة فالكل يقدر عليها!! وسار القعقاع برجاله وبالكتيبة الخرساء التي عودت الناس صمت اللسان وضجة السيوف والرماح،وراح يتتبع العدو،ويمسح الأرض منهم مسحا،فمال إلى خانَقين فأدرك مهران الرازي فقتله وفتحها،وانثنى إلى قصر شيرين على مقربة من حلوان فوجد كسرى قد حمل حريمه وعياله وفر إلى الري،فقاتلت الكتيبة الخرساء الفرس في قصر شيرين،طعنا وضربا حتى هُزم الأعداء وقُتِل دهقان حلوان،فانفتحت الطريق أمام المسلمين نحو حلوان،فدخلها القعقاع ورجاله فاتحين.
ما زال حاضرا في ذهنه ذلك الوجه المشرقُ: وجه النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ لم يكن يطمع في غنيمة أو يشتاق إلى سفك الدماء،وإنما خَيْرُ ما طمحت إليه نفسه أن يؤْمن الناسُ بالله ورسوله.. ذاك هو عبد الله بن المعتمّ الذي وجهه سعد بن أبي وقاص في صيف سنة ست عشرة للهجرة لقتال الروم وحلفائهم من العرب المجتمعين في تكريت.. هناك تختلط الألسن والألوان والملابس الفارسية والعربية والرومية.. وهناك أيضا يتحالف الأعداء ويضع كل منهم يده في يد الآخر لحرب المسلمين،الروم والفرس ونصارى العرب.. وتأتى خيول المسلمين يقودها عبد الله تطوي الأرض طيا،وتقطع المسافات قطعا،حتى تنزل وتحط رحالها على أبواب تكريت التي تحصن أهلها وخندقوا على أنفسهم.. ولكن يا لها من متعة يحبها المسلم،حيث يرابط في وجه عدوه،لا أحد يمنعه من الصلاة ولا من ذكر الله تعالى،ويقف موقفا يغيظ الكفار،ويأخذعلى كل لحظة من ذلك أجرا من الله تعالى..
ومرت أربعون يوما على حصار المسلمين لتكريت،مرت على العدو دهرا طويلا،حتى أيقنوا أن ما لحق بإخوانهم في دمشق بعد الحصار الشديد سوف يلحق بهم أيضا،فأخذ اليأس بنفوسهم،وسيطر عليهم الخوف والرعب ونظروا حولهم فوجدوا أُسُودًا تقف أمام حصونهم وخنادقهم تتحيَّن فرصة للدخول،فراح الروم يعصون أمر قادتهم،ونقلوا متاعهم إلى السفن استعدادا للفرار.. وهنا يكتب(1/503)
حلفاؤهم من العرب إلى عبد الله بن المعتمّ بما يجرى أملا في النجاة،ووجدها عبد الله فرصة ما أعظمها،وبابا من الخير قد انفتح واسعا،فدعا هؤلاء العرب إلى الإسلام فأسلموا لله رب العالمين.
ويبدأ دور المسلمين الجدد من أول لحظة،فقد أمرهم القائد عبد الله بن المعتمّ أن يكون صوتُهم صدى لصوته،فإذا سمعوا تكبيره كبَّروا وزحفوا نحو عدوهم وقتلوا مَن استطاعوا منهم.. وما هى إلا لحظات حتى دوّى صوت التكبير من أمام الروم ومن خلفهم،فظنوا أن المسلمين داروا من خلفهم وسيهاجمونهم من ظهورهم،ففروا إلى الأمام ليلاقيهم عبد الله بن المعتمّ وجنوده ووقع قتال شرس فني فيه العدو..
وتقدمت فرقة من جيش عبد الله نحو حصني نينوى والموصل،فاقتحمتهما،حتى صالحوا مَنْ هناك،وصاروا أهل ذمة.
سقطت دولة الفرس يوم فتح المسلمون المدائنَ كما يسقط الجسد ميتا،لكن قوة هذه الدولةِ الماديةَ الهائلةَ جعلتْها تمكث زمنا كالمتردد بين الحياة والموت،فقد كانت مملوءة بالأمراء وذوي السلطان والجبروت،الذين لن يسرهم أن يذهب ملكهم أمام عيونهم وهم يتفرجون،فكم من صاحب سلطان جمع قواته،وكم أمير لملم أوصالا من دولته ليقاتل بها المسلمين.
وهاهو سعد بن أبي وقاص يوجه ضرار بن الخطاب ليقاتل آذين بن الهرمزان الذي جمع جمعا،وخرج بهم إلى أرض سهلة منبسطة حول ماسَبَذان،وكأنه يمهد للمسلمين أن ينتصروا عليه انتصارا سهلا منبسطا! وينحدر آذين بقواته،ويزحف المسلمون نحوهم،حتى التقوا عند بهندف،وفي مشهد حربي سريع عجزت سيوف المشركين أمام ضربات المسلمين السريعة القوية التي اقترنت بها صيحات التكبير والتهليل،حتى انهزم العدو،وأَسَرَ ضرارُ بنُ الخطاب آذينَ بنَ الهرمزان،ثم قدَّمه وضرب عنقَه،ليفر من بقي من الفرس على غير هدى.
وامتد زحف المسلمين حتى نزلوا ماسبذان فأخذوها عَنْوةً وقهرا،" فتطايرأهلها إلى الجبال "،ودعاهم المسلمون إلى العودة ليصالحوهم،فاستجابوا لهم.
من أول يوم تولى فيه عمر بن الخطاب إمارةَ المؤمنين كان يشعر من أعماقه بأهمية جبهة القتال مع الفرس وخطورتها،وكان المسلمون قد ورِثوا من أيام الجاهلية الخوفَ من الفرس وسطوتِهم وسلطانِهم الكاسح؛ لذا ركَّز أمير المؤمين على تطعيم جبهة فارس بالجنود،وترغيب المسلمين في الجهاد هناك،وعمل على إزالة الخوف من نفوسهم.. ومع تقلب الأيام ومرّها،وبعد أن سالت دماء الكثير من الشهداء في أيام الجسر والبويب والقادسية وجَلُولاء وغيرها،أصبحت يد المسلمين هناك هى العالية،ووجد أمير المؤمنين في جند العراق تحت إمارة سعد بن أبي وقاص ما يستعين به لتأديب المشركين أو إعانة المسلمين في جبهات أخرى للقتال..(1/504)
وها هم أهل الجزيرة التي يحتضنها دجلة والفرات بين شاطئيْهما يحرضون هرقلَ ويُقوُّون ساعدَه بالجنود لحصار المسلمين في حمص.. وتأتى الرسالة من المدينة سريعة إلى القائد سعد بن أبي وقاص أن يطلق سهامه بكل اتجاه يصيبُ العدو ويشتتُ قدراته وقواته،فأرسل جيشا يقوده القعقاع بن عمرو لنجدة المسلمين في حمص،وبعث عِياضَ بنَ غَنْم قائدا لفتح الجزيرة،ووجه عمر بن مالك لمصادمة العدو في هِيت وقَرْقيسياء..
ويغرس عمر بن مالك وجنوده حرابهم على أبواب هِيت التي تحصن أهلها واحتموا بالخنادق،ففاض الشوق بعمر إلى تحقيق النصر وفتْح هذا الموطن،لكن امتناع أهله طال،فانفصل عمر بنصف جيشه،وترك النصف الآخر تحت إمارة الحارث بن يزيد العامري،وانطلق نحو قَرْقيسياء فداهمها وأخذها بالقوة والقهر،وصالح أهلَها على الجزية،وفتَّ ذلك في عضد أهل هِيت فاستجابوا لدعوة الحارث للاستسلام وأمَّنهم حتى خرج الأعاجم إلى أهل بلادهم،وانضم جيش المسلمين إلى بعضهم بعضا.
جزيرة يأتيها الماء العذب من يمينها وشمالها،وتجود ثمار أرضها في شرقها وغربها،لكنها كفرت بنعم الله،وعبدت غيره،وحرضت الرومان ضد أهل الحق،وأعانتهم على حصار المسلمين في حمص.. هل تستكثر عليها بعد ذلك أن يذهب سلطانها،وتزول دولتها بسهولة متناهية بعد أن وجه إليها سعد بن أبي وقاص مواكب الفاتحين؟
انطلق عِياضُ بنُ غَنْم بقواته يسابق الزمن،رجاله رجال عقيدة ودين وليسوا سفاحين ولا مصاصي دماء،برغم أنها الحرب وما تحمل من أهوال وشدائد.. ولما وصل عِياض إلى أرض الجزيرة راح يوزع القادة على نواحيها لتخضع كلها لأهل التوحيد،فأرسل سهل بن عدي إلى الرقة،واتجه عبد الله بن عتبان إلى نصيبين،واختُص الوليدُ بن عقبة بحرب عرب الجزيرة..
وَعَدَتْ خيول كلِّ قائد في الناحية المخصَّصة لها،والجنود يملأ جوانبَهم الجِدُّ والإخلاص وحب الجهاد في سبيل الله تعالى،والاستعداد لمقابلة معاناة الحرب وشدائدها بالصبر والثبات،فما وصل قائد إلى ناحية إلا سلَّمت له وصالحها على الجزية بلا حرب ولا قتال،إلا طائفة من عرب الجزيرة فرّت إلى أرض الروم،وفتح المسلمون الرقة ونصيبين والرها وحران،" فكانت الجزيرة أسهل البلدان فتحا ".. وذلك في سنة سبع عشرة من الهجرة.
بعد أن وضعت الحرب في القادسية أوزارها فرَّ مَنْ بقي من قادة الفُرس إلى الجهات التي أقبلوا منها،فهرب الهُرْمُزَانُ إلى الأهواز حيث قومُه وأهلُ بيتِه،ومِنْ هناك تزعَّم الحربَ ضد المسلمين والدفاع عما بقي من كرامة أهل فارس،وراح يغزو بقواته،ويشنّ الغارة على مَنْ حوله،فيرجع ظافرا منتصرا،حتى أقلق ذلك عتبةَ بن غزوان،فكتب إلى سعد بن أبي وقاص ليقوِّى ظهرَه بالجنود،فبعث إليه قوما تزينهم كوكبة من المهاجرين..(1/505)
نظر عتبة بن غزوان إلى الرقعة الجغرافية التي تضمه وتضم عدوه،وراح يفكر ويتدبر الأمر،ويرتب خطة مناسبة للحرب.. وعند التنفيذ حرّك قطعة من جيشه فأتت مَيْسان وعسكرت بينها وبين نهر تيرى،وقطعةً أخرى عسكرت بين ميسان ومناذر.. ورأى المسلمون كثافة عدوهم فدعوا مَنْ هناك من العرب إلى النُّصرة،فاستجاب لهم بنو العم بن مالك..
وبين نهر تيرى ودُلُث التقى المسلمون بالهرمزان وقواته،فاشتعل القتال بينهما واشتد،وراح كل قائد يقذف عدوه بماعنده من القوات،حتى جاء المسلمين مدد من بني العم بن مالك،وأتى الهرمزانَ الخبرُ بفتح المسلمين لمناذر ونهر تيرى،فانكسرت معنوياته ومعنويات جنوده،حتى قاتلوا بروح يائسة،وتمكن المسلمون من رقابهم فقتلوا منهم وأصابوا الكثيرين.. وأمام هذا الاندفاع من المسلمين والضغط الحربي الهائل فر الهرمزان بجنوده حتى عبروا الفرات إلى الضفة الأخرى،وصار الماء يفصل بين المعسكرين،والساحة المنتظرة للقتال هي الأهواز نفسها.. ويحدِّق الهرمزان فيمن يقف أمامه على الشاطئ الآخر فلا يرى إلا أُسُودًا متطلعة لقتاله،وينظر إلى من معه فلا يجدهم أكْفِاء لقتال المسلمين فتقدم إلى المسلمين للصلح،وصالحه عتبةُ على الأهواز ومهرجان قذق،وأما نهر تيرى ومناذر فقد فتحتا قبل ذلك بالقوة والقهر.
وكان الهرمزان مرغَما على هذا الصلح لذا لم يمر سوى القليل من الوقت حتى اختلف مع المسلمين في حدود الأرض التي نالها بالصلح،ولم يكن ذلك إلا فوهةَ بركانٍ ينفس بها عن غيظه،وينقض من خلالها العهد،حتى جمع جندا كثيفا واستعان بالأكراد لتُجَدِّدَ الحربُ سيرتها من جديد في سوق الأهواز،فعبر الهرمزان إلى المسلمين وقاتلهم وقاتلوه،حتى انهارت دفاعاته وخارت قواه وقوى جنوده فانهزموا،وفر إلى رامَهرمز وافتتح المسلمون سوق الأهواز،وامتد زحفهم حتى أطراف تُستر.
نحو مرو اتجه يَزْدَجِرد حاملا أهلَه وزينتَه فحط رحاله هناك،وراح في تفكير عميق فيما آل إليه حاله،وأخذ يقلب كفيه ندما على ما ضاع منه من المُلك الذي عجزت سطوة خصومه من الرومان عن إزالته،وظل كسرى منشغلا ليل نهار بالتفكير فيما يفعله ليسترجع مُلك آبائه،ويوقف زحف المسلمين نحوه،فأعجزته الحيل،وتعب عقله من كثرة التفكير،حتى رأى أن يكتب إلى مَنْ بقي من أهل فارس في مراكز قوة يحرضهم على قتال المسلمين وجمع الجنود والمناصرين من هنا وهناك،فاجتمع منهم عدد كبير يقودهم القائد المشاكس الهرمزان..
ويكتب عمر بن الخطاب بعد أن بلغتْه أنباء الجبهة يأمر سعد بن أبي وقاص: "ابعث إلى الأهواز جيشا كثيفا مع النعمان بن مقرِّن،وعجِّل وابعث سويد بن مقرن وعبد الله بن ذي السهمين وجرير بن عبد الله الحميري وجرير بن عبد الله البجلي،فلينزلوا بإزاء الهرمزان حتى يتبينوا أمرَه ".... ويكتب الخليفة إلى أبي موسى الأشعري أمير البصرة ليسيِّر جيشا آخر كثيفا منها يقوده سهل بن عدي،فإن اجتمع(1/506)
الجيشان قادهما أبو سَبْرة بن أبي رُهم.. كانت هذه الأوامر السريعة والحشود الكبيرة التي أمر عمر بتحريكها كفيلة بتصوير خطورة الموقف..
وتقدم النعمان بجيشه من الكوفة،فسار في وسط السواد حتى بلغ مَيْسان فعبر دجلة،ثم أتى الأهواز على ظهور البغال وأراح الخيولَ في انتظار معركة حامية،فمر من هناك إلى نهر تيرى،فعبره حتى تخطى مناذر وسوق الأهواز،وفي أربُك صار المسلمون وجها لوجه أمام جيش الهرمزان الذي لم يمهل المسلمين وبادرهم بهجوم كاسح،فصبر المسلمون صبرا شديدا،وجرى قتال هائل بين الفريقين،فكان النصر من نصيب أكثرهم صبرا،ففر الهرمزان منهزما،ولجأ إلى تُستر في انتظار معركة جديدة،وافتتح المسلمون رامَهرمز،فضلا من الله ونعمة.
أخفى الهرمزانُ وراء جدران نفسه شعورا عميقا بخيبة الأمل،فهو لا يلقى المسلمين في ميدان إلا غلبوه واضطروه إلى الفرار،فَعَلَ ذلك في القادسية،وعند فتح الأهواز ولدى هزيمته قرب رامَهرمز،ولكن ماذا يفعل وهم في طريقهم إليه في تُستر يسابقون أشعة الشمس وتسابقهم؟! ماذا يفعل وقد كتب عليه أن يقاتلهم من جديد؟! إن الفرار قبل الحرب عار غير مستعد هو لتحمله..
فلم يكن بد أمام الهرمزان من أن يحفر الخنادق حول تُستر،ويحتمى بها من المسلمين..
وسار جيش البصرة يقوده سهل بن عدي فوصلتْهم الأنباء بفتح رامَهرمز وهم بسوق الأهواز،فمالوا من هناك نحو تُستر،ليلتقي بهم النعمان بن مقرِّن في جيش الكوفة،ويقود الجميعَ أبو سَبْرة بن أبي رُهم،وانضمت إليهم قوات جديدة يقودها أبو موسى الأشعري..
وينزل المسلمون على خنادق تُستر،ويضربون حولها الحصار شهورا،والحال كل يوم بين زحف ومبارزة،فتنافس فرسان المسلمين كالبراء بن مالك ومَجْزأة بن ثور ورِبعي بن عامر في إثبات مهاراتهم في المبارزة،فكم من فارس مسلم قتل من المشركين مائة في المبارزات.. وزحف المشركون على المسلمين ثمانين زحفا،فمرة ترتفع يد هؤلاء ومرة ترتفع يد أولئك... لقد عجزت الأسباب عن حسم هذه المعركة،ولكن رب الأسباب لم يعجز،فرفع البراء بن مالك إلى الله صوته ويديه: "اللهم اهزمْهم لنا واستَشْهِدْني".. وفي زحف جديد وأخير ظنه العدو ككل زحفٍ،ترتفع روح المسلمين بهذا الدعاء الصادق،ويقاتلون المشركين عند الخندق قتالا مريرا حتى اقتحموا خنادق المدينة،وراح أبطال المبارزة يضربون رءوس العدو وأكباده حتى صرع منه كثيرون،وتقدموا نحو الحصون فوزع المسلمون قواتهم،وعرفوا مدخلا يفاجئون منه العدو،ولم ينتبه المشركون إلا والمسلمون يكبِّرون فوق رءوسهم،فخارت قواهم،وانهدمت قدرتهم على المقاومة،وقبل أن يكمل الهرمزان فراره من جديد أخذه المسلمون أسيرا من إحدى القلاع... واستجاب الله دعاء البراء بن مالك،فأنزل نصره على عباده،ونال البراء الشهادةَ ومعه كثير من إخوانه....(1/507)
تحول غيظ كسرى إلى بركان يقذف المسلمين بكل ما يستطيع من حممه،فنزل إصطخر،وضم إليه خزائنه،وأعان الهرمزان في تُستر ووجَّه سياه إلى السوس ومعه ثلاثمائة من عظماء أهل فارس،وأمرهم أن يضموا إليهم من شاءوا من الجنود الذين يمرون ببلادهم..
وفي طريقه إلى السوس راح سياهُ يفكر فيما يفعله هو وقومه،ويسأل نفسه: هل نحن على صواب أو أننا كمن ينطح صخرة برأسه فلا يرجع من ذلك إلا بالألم؟! هل من العقل إذا تبيَّن لنا أن الحق مع خصمنا أن نظل على العناد والمكابرة؟!
ولم يمنعه ذلك من الاتجاه إلى السُّوس التي كان أبو موسى الأشعري قد حاصرها،فلمَّا بلغ أهلَها انتصارُ المسلمين في جَلُولاء رفعوا رايات الاستسلام وطلبوا الصلح فصالحهم أبو موسى..
وامتد المسير بسياه وأصحابه حتى نزل الكلبانية،وقد عَظُمَ أمر المسلمين ومكانتُهم عنده،ومع تحرك أبي موسى إلى تُستر تحرك سياه حتى نزل بين رامَهرمز وتُستر،وهناك راح يشاور أصحابه حتى انتهى بهم الأمر إلى الدخول في دين الله تعالى،وترك الجحود الذي كسرته آيات الفتح والنصر المتتابعة للمسلمين،والتي لم يعوِّق حركتَها جيش ضخم ولا أفيال ولا نهر ولا جبل..
برغم شراسة القتال وشدته في الصراع الدائر بين المسلمين والفرس،فإن الأعداء قد عرفوا عن المسلمين حفظ العهود والوفاء بالوعود.. وقد سار المسلمون بعد فتح السُّوس إلى جُنْدَيْسابور فنزلوا بها،وحطُّوا رحالهم حولها،فضربوا عليها حصارا شديدا،وبينما هم على استعداد لجولة طويلة من الحصار والقتال وصد زحف العدو،والرد عليه بزحف أقوى منه ـ إذا بأهل جُنْدَيْسابور يفتحون أبواب حصونهم،ويعيدون الحركة في المدينة العريقة إلى طبيعتها ما بين بيع وشراء،وتحرك هنا وتحرك هناك.. فلما رأى المسلمون ذلك تعجبوا وسألوا أهل المدينة وهم يتحسبون خوفا من أن تكون هناك خدعة ما،فقال الفارسيون: "رمَيْتُم إلينا بالأمان فقبلناه.. ودُهش المسلمون من ذلك وأنكروه،وفتشوا فيما بينهم من الجنود،فإذا بعبدٍ مسلمٍ أصله من جُنْدَيْسابور هو الذي كتب لهم بالأمان،فقال المسلمون: هو عبدٌ،فجاءهم الرد من أهل جُنْدَيْسابور دليلا على ثقتهم في أن المسلمين قوم لا يغدرون ولا يخونون: "إنَّا لا نعرف حُرَّكم من عبدكم،قد جاء أمان فنحن عليه قد قبلناه،ولم نبدِّل،فإن شئتم فاغْدِروا"،فامتنع المسلمون عنهم مع تمكنهم منهم،واستشاروا عمر بن الخطاب في ذلك فأَمضَى الصلح ووافق عليه.
تجمعت خيوط القدر من هنا وهناك حتى نسجت أحداث هذه المعركة،فكانت فريدة في أحداثها ووقائعها،وكانت إحدى المواجهات الكبرى بين المسلمين ومشركي الفرس.. فأميرالمؤمنين عمرُ لا يريد أن يخاطر بجنوده فيعبر بهم الجبل لقتال الفرس،فرجل واحد مجهول من بين صفوف المسلمين أحبُّ إلى قلبه من مائة ألف دينار.. لكنَّ الفرس قد اجتمع لهم جمع كبير في نهاوند يقوده الفيرزان(1/508)
ويؤيده كسرى،ولو لم يَسِرْ المسلمون إليهم اليوم فسيسيرون هم إلى المسلمين غدا.. إنها معركة لابد منها..
وقرر أمير المؤمنين أن يخرج بنفسه على رأس جيش جرار،يقلِّم به أظافر الفرس،ويخلع أسنانهم الأخيرة،ولكن كبار الصحابة اعترضوا على خروج عمر بنفسه ورأوا في ذلك خطرا على المسلمين جميعا،ووكَّلوا إلى أمير المؤمنين اختيارَ قائد يتولى حرب أهل فارس في نهاوند..
ويأتي خيط آخر في نسيج الحرب على شكل رسالة من النعمان بن مقرِّن صاحب رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ يشكو فيها إلى عمر بن الخطاب سعدَ بن أبي وقاص الذي ولاه جمعَ خراجِ الأرض،وحرمه من الجهاد الذي يحبه.. وأمير المؤمنين رجل يذوب حبا في هذا النوع من البشر،فكتب إلى سعد يأمره بأن يوجِّه النعمانَ إلى أهم جبهة له مع الفرس،إلى نهاوند.. وكما اجتمع أهل فارس من حلوان وما حواليها حتى خراسان والباب وسجستان فأتموا مائة وخمسين ألفا،فقد أقبلت قوات المسلمين من المدينة والكوفة ومن جنود العراق حتى اكتملوا عند النعمان ثلاثين ألفا..
ولما وصل المسلمون إلى نهاوند ووقعت عينُ القائد النعمان على العدو بحده وحديده وسلاحه وجنوده كبَّر النعمان وكبَّر المسلمون،فرنَّ صوتهم في آفاق المكان،ورددت الجبال صداه فانخلع قلب الفرس،وارتجفوا من داخلهم.. وهز النعمان رايتَه ثلاثا وكبَّر اللهَ ثلاثًا،ثم هجمت فيالقُ المسلمين واشتعلت الحرب ساخنةً وطالت حتى ملَّ الفرس القتال،فدخلوا إلى حصونهم،واحتمَوا بخنادقهم،وتحكموا من هناك في سير القتال،فإذا أرادوا الخروج إلى الحرب خرجوا،وإذا أرادوا أن تَصْمُتَ الحرب احتمَوا بخنادقهم وحصونهم،فاحتال المسلمون حتى استدرجوهم بعيدا عن الحصون والخنادق،وأذاقوهم هزيمة مريرة،فُتِحَتْ بعدها نهاوند،واستُشهد القائد النعمان.. وذلك في سنة إحدى وعشرين من الهجرة،وسميت المعركة بفتح الفتوح.
وقف النعمان بن مقرِّن في نهاوند يرسم أمنيته بكلمات رائعة: " اللهم إنى أسألك أن تقر عينى اليوم بفتح يكون فيه عز الإسلام،وذلٌّ يُذَلُّ به الكفار،ثم اقبضني إليك على الشهادة.."،تلك هى معادلة الشهداء: النصر لدينهم والشهادة لأنفسهم.
وهزت كلمات القائد مشاعر جنوده،فامتلأت عيونهم بالدموع،وأرواحُهم بالشوق،واندفعوا نحو العدو،يتمنى كل واحد منهم ألا يرجع إلى أهله إلا بالنصر أو الشهادة لا ينوون بديلا عن ذلك.. وعلا صوت الحرب،وهجم كل مسلم على مَنْ في طريقه من العدو،وعلا الصياح والضجيج،حتى لان صبر العدو فلجئوا إلى حصونهم وخنادقهم،فاغتاظ المسلمون لذلك ورأوا العدو يتحكم في سير المعركة فشاور النعمان رجاله،واتفقوا على أن يتولى القعقاع بن عمرو وكتيبتُه استدراج العدو إلى خارج الحصون،وراح القعقاع كالوحش المشاكس يهاجم العدو برجاله،ويتقهقر أمامهم،وهم يطمعون في اللحاق به،وكلما تقهقر طمعوا أكثر حتى بعدوا شيئا ما عن حصونهم وراح النعمان يَعِظُ(1/509)
كتائبه ورجاله ويذكِّرهم بوعد الله تعالى،فاندفعوا نحو عدوهم اندفاع السهم من القوس،والنعمان يحمل رايته وينقضُّ على عدوه انقضاض العُقاب على فريسته،فاقتتلوا بالسيوف كأشد ما يكون القتال،وكانت الشمس قد تركت كبدَ السماء فاستمر القتال إلى ما بعد الغروب،فحجب الليل قتلى العدو الذين امتلأت بهم ساحة المعركة،وزلقت الأرض من دمائهم،حتى انزلق فرس النعمان به في الدماء وسقط من فوقه شهيدا شجاعا مقبلا،وقبل أن تسقط الراية تناولها نُعيم بن مقرِّن،وغطى أخاه النعمان بثوبه،وسلم القيادة إلى حذيفة بن اليمان الذي كتم خبر استشهاد القائد عن الجنود.. ومع الليل تدحرج اليأسُ حتى سكن نفوسَ الفرس،وراحوا يتلفتون حولهم بحثا عن وجه للهرب،والظلام لا يسمح لهم برؤية الجهات حولهم،فانطلقوا فارِّين وقد سُحقت قوتُهم وهرب الفيرزان نحو همذان فكان ذلك سببا لفتحها هى أيضا،وابتداء فتوح المدن المتناثرة في نواحي مملكة فارس الشرقية.
كان هناك سباق في الخير بين العلاء بن الحضرمي وسعد بن أبي وقاص تقدم فيه العلاء في حروب الردة وسبق سعدا،ثم جاءت القادسية بانتصارها الساحق لترفع أسهم سعد عاليا،فحاول العلاء أن يقدم شيئا يساوى أو يقارب ما فعل صاحبه،فدعا أهل البحرين إلى قتال فارس،وعبر بهم البحر بغير إذن عمر،وكان أمير المؤمنين يكره الغزو في البحر وتعريض المسلمين للخطر.. ونهض الهربذ من إصطخر في أهل فارس،فحرم المسلمين من سفنهم وأغرقها،ولم يجد المسلمون مفرا من القتال،فدارت الحرب شديدة عند طاوس،ووقعت في أهل فارس مقتلة عظيمة،وأدركتهم هزيمة فادحة،وقُتِل عدد من أبطال المسلمين.. وفي طريقهم للعودة لم يجد المسلمون وسيلة لعبور البحر،وطلع عليهم القائد الفارسي شهرك في جمع كبير من أهل فارس،أكثرهم من أهل إصطخر،واعترض طريق المسلمين.. وتصل الصورة إلى أمير المؤمنين عمر،فيمتلئ غضبا على العلاء،ويعزله،ويكتب إلى عتبة بن غزوان لنجدة المسلمين،وبعد قراءة آخر كلمة من خطاب أمير المؤمنين راح عتبة يدعو الناس ويشجعهم على إدراك المسلمين المحصورين مع العلاء ونجدتهم،فخرج اثنا عشر ألفا،فيهم كثير من أبطال المسلمين ويقودهم أبو سَبْرة بن أبي رُهم.. وفي سباق مع الزمن سلك الجيش طريق الساحل،والجنود يركبون البغال والخيول تعدو بجوارهم في استعداد لمعركة حامية ستخوضها.. وأخذ أهل إصطخر يستصرخون أهل فارس كلهم لينضموا إليهم،وجاء المدد إلى المسلمين،وأقبلت أمداد أخرى إلى المشركين فوقعت الحرب،وانهزمت جموع المشركين هزيمة منكرة.
"يا عتبة،إن إخوانك من المسلمين قد غَلَبوا على الحيرة وما يليها،وعبرت خيلهم الفرات حتى وطئت بابل ـ مدينة هاروت وماروت ومنازل الجبارين ـ وإن خيلهم اليوم لتغير حتى تشارف المدائن،وقد بعثتك في هذا الجيش،فاقصد قصد أهل الأهواز،فاشغل أهل تلك الناحية أن يمدوا أصحابهم بناحية السواد على إخوانكم الذين هناك،وقاتِلْهم مما يلى الأبلة" ـ هكذا شرح عمر بن الخطاب لقائده عتبة بن غزوان المازني المهمة التى أرسله لأدائها،فالمسلمون قد أوغلوا في نواحي بلاد الفرس،غير أن بالأبلة(1/510)
وما حولها من قوات فارس ما يقلقهم،ويعرّض جيوش المسلمين الفاتحة للخطر،وما على عتبة وجيشه سوى القضاء على قوات الفرس بالأُبُلَّة وما حولها.
وعتبة ليس رجلا غريبا على الإسلام،ولا رجلا جديدًا فيه،بل هو من أصحاب محمد ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ الذين تعلموا منه حب الآخرة والرغبة في رضا الله تعالى...
فخرج من المدينة،وضم إليه ألفي رجل من المسلمين،وزحف بهم وكلما تقدم جهة الأُبُلَّة اتسع جيشه وانضم إليه متطوعون جدد من المسلمين،ثم نزل بهم جميعًا موضع البصرة،وكانت مكانا خربا سيشهد بعد ذلك إقامة المدينة العتيقة على يد عتبة بن غزوان نفسه.
وأعد المسلمون أنفسهم لجولة شرسة في مواجهة قوات الفرس ونقاط الحراسة المسلحة المنتشرة في المنطقة،وزحف عتبة بجيشه،وقد زالت من نفوس المسلمين تلك الهيبة الشديدة للفرس،فنازلوهم وقاتلوهم بأقدام ثابتة،ووجوه مقبلة،والفرس لا يبخلون باستعمال كل طاقتهم في القتال،وما يعرفونه من فنون الحرب،حتى لانت قوتهم،وارتفعت يد المسلمين عليهم.. وكتب عتبة إلى أمير المؤمنين عمر يهنئه بالنصر الذي تحقق،وبفتح الأُبُلَّة التى كانت صرة المنطقة المحيطة بها،إذ هي "مرقى سفن البحر من عمان والبحرين وفارس والهند والصين ".
لم يجد الفرس بعد نهاوند قوة كبيرة أخرى كتلك التي كانوا يرمون بها المسلمين،غير أن أمير المؤمنين عمر رأى أن يَزْدَجِرد يبعث عليه في كل عام حربا،وعلم عمر أن هذا سيبقى عادته حتى يخرج من مملكته تماما،فأذن أمير المؤمنين لجيوشه في العراق في الانسياح فيما بقي من أرض مملكة فارس،حتى يأخذوا ما في يد يَزْدَجِرد،ويلتقطوا تلك المدن المتناثرة هنا وهناك كما يُلتَقط اللؤلؤ والجوهر،فتوجهت الجيوش من البصرة والكوفة تفتح هنا وهناك،وصارت هاتان المدينتان كالنهر الكبير المتدفق بالماء الغزير تتفرع عنه جداول تشَرِّق وتغرِّب حاملةً ماء الحياة..
وفتحت هذه الجيوش فيما بقي من عهد عمر بن الخطاب ـ رضى الله عنه ـ همذان،وأصبهان،والري،وأذربيجان،والباب وأرمينية،وتوَّج،وإصطخر،وفَسا،وكَرمان ومُكران،وسِجِسْتان،وقومِس وجرجان وطبرستان،وخراسان،وطَخارستان،وغيرها.
وفي أثناء هذه الفتوح وقعت بعض المواجهات مع الترك،ومواجهات أخرى مع الأكراد.
إذا انفصل من الحية ذيلها فلا خوف منه،وأما إذا انفصل منها رأسها فإنه يوشك أن ينمو حتى يصير حية كاملة سمُّها قاتل،لذا كان المسلمون يحرصون بقوة على تَتَبُّع القادة الفارين من المعارك؛ ليَحُولوا بينهم وبين حشد قوات جديدة يقاتلون بها المسلمين،وقد فرَّ الفيرزان بعد الهزيمة الفادحة التي تعرض لها جيشه في نهاوند نحو همذان،ولم ينس نعيم بن مقرِّن في زحمة الأحداث أن يزحف خلفه،فقدم أمامه القعقاع بن عمرو الذي سابق الريح حتى أدرك الفيرزان عند ثنية العسل فقتله،وتتابع زحف المسلمين خلف الفارِّين من نهاوند،حتى هبطوا عند همذان الحصينة،ففتحوا ما حولها من القرى(1/511)
والحصون،وتجولت خيولهم فيما أحاط بها من المواضع،فخرج أهل همذان يطلبون الأمان،وصالحهم المسلمون وسالموهم،ورجع إلى المدينة كلُّ من كان هرب لهذا الصلح.
وبلغت هذه الأنباءُ أهلَ الماهَين،فراسلوا حذيفة بن اليمان طالبين الصلح،فأعطاهم ذلك،لتقع هذه المنطقة في يد المسلمين كما يقع العقد الثمين في يد من يستحقه،إلا أن خرزة واحدة،أو قُل قلعة واحدة راحت تقاوم المسلمين في غرور،فتوجه إليها النسير بن ثور فجاهد أهلها حتى خضعت للفاتحين،وقد نقض أهل همذان عهدهم مع المسلمين،فرجع إليهم نعيم بن مقرِّن،وقاتلهم حتى أخضعهم،وذلك في سنة اثنتين وعشرين من الهجرة.
راح أمير المؤمنين عمر يوزِّع القواد بنفسه على الأنحاء ليأخذ ما في يد كسرى من البلاد،فأمر عبدَ الله بنَ عبد الله بنِ عِتبان أن يسير إلى أصبهان،وبعث إليه أبا موسى الأشعري في مدد،وانضم إليه بعض جنود المسلمين من نهاوند،فسالت قوات المسلمين وقوات الفرس إلى موضع خارج أصبهان،ووقع الصدام بينهم شديدا وسقطت الضحايا من هنا وهناك،ونظر شهربراز جاذويه قائد مقدمة العدو إلى الموقف فأحب أن يحسمه بالمبارزة،فخرج وهو شيخ كبير صاحب خبرة وتجارب في الحرب والقتال،لم تُضعف الشيخوخة من قوة ضربته،ولا حدة رؤيته لمواضع الضعف من عدوه،فبرز له قائد مقدمة المسلمين عبد الله بن ورقاء الرياحي،وراحت العيون ترقب الموقف،وتنظر إلى سيف يرتفع من هذا وسيف يرتفع من هذا،ولم يكن شهربراز خصما هينا وكذلك لم يكن عبد الله بن ورقاء،حتى جاءت ضربة الحسم من عبد الله لعدوه فأرداه قتيلا،فانهزم الفرس لذلك وتمكن منهم المسلمون،حتى طلب العدوُّ الصلحَ فصالحهم المسلمون،وامتد الزحف نحو أصبهان نفسِها وملِكُها هو الفاذوسفان،فنزل المسلمون حول المدينة وزحفوا مرة ومرة دون فتح،حتى خرج لهم أهل أصبهان وفيهم مَلِكُهم فتقدم من عبد الله بن عبد الله يطلب المبارزة وكله ثقة من أنه سيكون الغالب فيها،وقال لعبد الله: إن قتلتُك رجع أصحابك وإن قتلتَنى سالمك أصحابي".. وبدأت مبارزة حامية بين القائدين،وعبد الله يعلم أنه الرابح في كلا الحالين،غير أنه لا يريد أن يخذل المسلمين،وكل ما يشغل ذهن القائد الفارسي هو خبرته الطويلة مع الحرب والقتالِ والمبارزةِ،والتي يثق أن الجنود المسلمين لا يملك واحد منهم خبرةً مثلها.. وحمل القائد الفارسي على قائد المسلمين بكل قوة وطعن في ناحية عبد الله طعنةً قويةً حطمت كل ما فوق ظهر الحصان سوى عبد الله الذي قفز نحو الأرض قائما على قدميه،ثم عاد وركب الحصان وليس على ظهره شيء.. هنا يقف القائد الفارسي مندهشا من عبقرية المقاتل المسلم،ويمتنع عن القتال طالبا الصلح،فأعطاه المسلمون ذلك،ففتحوا المدينة،وأخذوا الجزية.
بعد فتح أصبهان تحرك عبد الله بنُ عبد الله بنِ عِتبان حتى لحق بسهل بن عدي وهو متوجِّه لفتح كَرمان،فاجتمعوا هناك في أرض قريبة منها،فوجدوا أهل كرمان قد حشدوا قواتهم،وجمعوا صفوفهم،واستعانوا بما يستطيعون من أهل القوة والحرب،فوقع القتال هناك حتى انفضَّ جمعُ العدو(1/512)
وتفرقوا فقطع المسلمون طرق النجاة عليهم حتى لا يعودوا ثانية إلى التجمُّع وقتال المسلمين،وطاردوهم حتى قَتَلَ النسيرُ بن عمرو العجلي أميرَ كَرمان،ودخل سهل بن عدي المدينة من ناحية،وفتحها عبد الله بن عبد الله من ناحية أخرى،فربحوا هناك وغنموا غنائم عظيمة.
وامتد زحف سهل وعبد الله حتى انضمَّا إلى قوات الحَكم بن عمرو التغلبي المتوجِّه لفتح مُكْران،فقَوِيَ عزمُ جنود الحكم،وفرحوا بانضمام إخوانهم إليهم،وعسكر أهل مُكران على شاطئ نهر،وعاونهم ملك السند وقوَّى شوكتَهم،وكان اللقاء على بعد أميال من الشاطئ فدارت رحى الحرب حتى طَحنت الفرس ومن ساندهم طحنا شديدا،وتتبعهم المسلمون يقتلون فيهم أياما حتى بلغوا الشاطئ،إمعانا في كف الآخرين عن محاولة الكيد للمسلمين.
وكان ذلك في سنة ثلاث وعشرين من الهجرة،وبعدها بثمانى سنوات نقض أهل كَرمان العهدَ وغدروا،فوجَّه عبدُ الله بن عامر إليهم مجاشعَ بنَ مسعود فانتزع هَمِيد بالقوة والقهر،ثم أمَّن أهلها،وأتى كَرمان نفسَها فدوَّخ أهلَها،وقاتلهم قتالا شديدا،حتى أذلهم بالهزيمة فجلا كثير من أهل كَرمان عنها،فأعطيت بيوتهم للمسلمين،جزاء لبغى الكافرين وغدرهم..
قبل أن يصل نعيم بن مقرن إلى الريّ التي خرج لفتحها لقيه الزينبي طالبا المسالمة والمصالحة بعد أن ملأت أذنيه فتوح المسلمين،وجاء فعل الزينبي على غير ما يهوى سياوَخش بن مهران ملك الرّيّ الذي احتشدت له القوات من طبرستان وقومِس وجرجان وغيرها،فالتقى بالمسلمين في معركة حامية تحت سفح جبل إلى جنب الري،والمسلمون قلة وعدوهم في كثرة من العدد والعتاد،فجاء الزينبي إلى المسلمين ناصحا،وقد رأى المعركة لا تنحسم لأي من الفريقين،فأرشد المسلمين إلى طريق يمكن أن يدخلوا منه المدينة.. وانتخب نعيم بن مقرِّن صفوةً من جنوده وفرسانه،وانتظر حتى أسدل الليل ستائر ظلامه،فراح يشغل العدو بالقتال،ويشعل الحرب في وجوههم،حتى شغلهم عن مدينتهم،فتسللت إليها خيول المسلمين مع الزينبي،وقد حَسَبَتْ لكل خطوة حسابها،وارتدَتْ من الليل سكونَه وسرِّيتَه،حتى داست حوافرُ الخيول أرضَ المدينة،ورأت عيونُ الفرسان مبانيها وطرقها،فانطلقت حناجرهم بالتكبير الذي صعد إلى عنان السماء،وملأ ما بينها وبين الأرض،فانفجر الخوف في قلوب العدو الذي جاءه التكبير من خلفه،وراحوا يفرُّون هنا وهناك،فتمكن منهم المسلمون وهزموهم هزيمةً كبيرةً،وصالح نعيمٌ الزينبيَّ،وأهلَ الري،وولاه عليهم وفيما جرى هذا كتب أهل دُنباوند إلى نعيم يطلبون الصلح على فدية يدفعونها للمسلمين،معتذرين لعدم قدرتهم على نصرة المسلمين على عدوهم،فقبل نعيم منهم ذلك،وصالحهم عليه.
سار سويد بن مقرِّن بجزء من جيش أخيه نعيم عقب فتح الري،وشرَّق به مائلا إلى الشمال يقصد قومِس ومَنْ بها من الفرس وأعوانهم،ولما لم يجد مقاومة،صالح أهلَها على الجزية،ونُصْحِ المسلمين،ثم عسكر بها،فلما لم يناسبهم ماء نهرٍ بها عسكروا ببسطام،ثم راسل سويدٌ ملكَ جُرجان الذي لم ير(1/513)
فائدةً في مقاومة المسلمين وقتالهم،فبادر بطلب الصلح على دفع الجزية وترك حرب المسلمين،فدخل سويدٌ جُرجان في صحبة ملِكِها،وعسكر هناك حتى جُمع له الخراج،وحدد الثغور والمداخل المهمة لها،ووفَّر لها حمايةً من تُرك دِهِسْتان الذين أسقط عنهم سويد الجزية.
وتصل الأنباء إلى ملك طَبَرستان فيكتب بسرعة إلى سويد قبل أن يتوجه إليه فاتحا،يطلب الصلح والأمان،معتذرا لعدم قدرته على نصرة المسلمين،فصالحه سويد على ذلك،وفُتحت طَبَرستان.
وفي سنة ثلاثين تجددت الحرب مع أهل طَبَرستان لمخالفتهم الصلحَ الذي عقدوه مع المسلمين،فغزاهم سعيد بن العاص،واشتد القتال بينه وبينهم حتى صلى المسلمون صلاة الخوف،ولجأ العدو تحت ضغط المسلمين عليه إلى حصن طَمِيَّةَ،فحاصرهم المسلمون فيه حصارا شديدا،حتى طلبوا الأمان على "ألا يقتل منهم رجل واحد"،فأمَّنهم سعيد ثم قتلهم إلا رجلاً واحدًا،جزاء بغيهم وخيانتهم.
لما رأى أمير المؤمنين عمرُ أن كسرى يجمع له كل سنة جيشا أمر جيوش العراق بطلب جيوش فارس حيث كانت،فكانت أذربيجان من نصيب بُكير بن عبد الله وعتبةَ بن فرقد،فسار إليها أحدهما من شرقها من ناحية حلوان،وقصدها الآخر من غربها من جهة الموصل،وانضم سماكُ بن خرشة الأنصاري بقوة من جيش نعيم بن مقرِّن إلى جيش بُكير بن عبد الله..
وفي جولتين سريعتين التقى بُكير عند جَرْميذان بجيش فارسي يقوده إسفندياذ الفرُّخزاذ،وواجه عتبةُ بن فرقد جيشا آخر عليه بَهرام بن الفرُّخْزاذ،فنصر الله المسلمين في الجولتين،وفرَّ بَهرام،وأُسِر إسفندياذ،وصالح المسلمون أهلَ أذربيجان على الجزية،وتحرك بُكير بن عبد الله بقواته منضما إلى جيوش المسلمين المتوجهة لفتح الباب،وتولى عتبة بن فرقد على أذربيجان كلها.
وقد نقض أهل أذربيجان العهدَ في صدر ولاية عثمان ـ رضى الله عنه،فقصدهم الوليدُ بن عقبة بجيشٍ،فلما رأوا ذلك عادوا خاضعين،وصالحهم المسلمون على ثمانمائة ألف درهم،وذلك في سنة أربع وعشرين من الهجرة.
كان العرب وهم محبوسون في جزيرتهم أيام الجاهلية يعرفون جيدا أن الفرس أقوياء بالعقل والحكمة والعلم،فلما وقعت الحرب بين المسلمين والفرس،ووفدت رسل المسلمين إلى كسرى وقادة جيوشه ورأوا استعبادَ الفرس لبعضهم البعض وتمسكَهم بمظاهر الترف البالغ ـ عَدُّوا ذلك من مظاهر الحمق وضياع الحكمة..
غير أن بقايا من حكمة الفرس القديمة ظلت تلازم بعضَ رجالهم في كثير من أعمالهم،فقد طلعت جيوش المسلمين على الباب ومَلِكُها يومئذ شهربراز،فلما رأى عبدَ الرحمن بن ربيعة قائدَ مقدمة المسلمين راح يعرض عليه الصلح،مذكِّرا بأن من ورائه أمما من الترك والقُبْج والأرمن لا شأن لهم ولانسب،لكنهم أهل شراسة وعنف في عداوتهم،ولا ينبغى لصاحب العقل والحسب أن يعين هؤلاء أو(1/514)
يستعين بهم على صاحب العقل والحسب،والعقل يوجب ألا تفرض الجزية علينا حتى لا تضعفنا عن مواجهتهم..
استمع عبد الرحمن إلى هذه الكلمات من فم شهربراز نفسه،فأعجبه ذلك،وبعث به إلى قائد المسلمين سراقة بن عمرو،فصالحه على ذلك،إلا أنه لم يسقط الجزية عمن أقام في بيته ولم ينهض للحرب،وكتب بذلك كتابا لشهربراز وقومه،فأجاز عمرُ ذلك واستحسنه.
وكان سراقة بن عمرو قد وُلِّي قيادة الجيش الفاتح للباب،وجاءه بُكير بن عبد الله في مدد بعد فتحه أذربيجان،وقدم عليه حبيب بن مسلمة من الجزيرة في مدد آخر.
وبعد مصالحة شهربراز وقومه وجه سراقة قادته إلى أهل الجبال المحيطة بأرمينية،وكان أهل فارس يتَّقونهم ويخافونهم لهمجيتهم وشراستهم،ففتح بُكير بن عبد الله مُوقان وفض جمع المشركين فيها،بينما فشل القادة الآخرون في فتح تفليس واللان.. ثم تقدم عبد الرحمن بن ربيعة بعساكره بعد موت سراقة ففتح بلنجر بجيش يضم العديد من صحابة رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - .
وفي سنة أربع وعشرين من الهجرة نقض أهل أرمينِيَّةَ العهد،فأخضعهم سلمان بن ربيعة الباهلي وأدَّبهم.
جَمْع القوات وتفريقُها فنٌّ من فنون الحرب لا يجيده إلا أهلها ورجالها،وقد اجتمع الفرس في تَوَّج مقبلين من مواضع عديدة،لتكون شوكتهم على المسلمين أقوى،فانطلق نحوهم جيش يقوده سارية بن زنيم،وراح سارية هناك يجمع معلوماته،ويدرس جغرافية المكان،حتى تبين له أن يرسل قادته،ويوزع قواته على النواحي التي أقبلت منها قوات الفرس.. وتَطِيرُ الأنباء بسرعة إلى جموع الفرس،فيقع الاضطراب بينهم وينسحب العديد من ألويتهم ليحمي قراه وحصونه،ويدرك بيوته قبل أن تطأها خيل المسلمين.. وبعد الفرقة يتشاءم المشركون مما صاروا إليه من تمزق الشمل وتشتت الأمر...
وفي تَوَّج دارت المعركة،واشتعلت نيرانها،حتى مكن الله المسلمين من عدوهم وسلطهم عليه،ففعلوا بهم ما شاءوا،وانكسرت بعدها شوكةُ القوم،فدعا المسلمون مَنْ بقي منهم إلى الجزية والذمة،فرجعوا على ذلك.
كانت الفتوح مدرسة واسعة بزغت فيها نجومُ كثيرٍ من قادة الحروب،وأعان على ذلك اتساع الجبهات،والقوة الهائلة التي يملكها العدو.. وقد فتح هذا مجالا رائعا للتنافس بين القادة والجيوش،فكل يريد أن يسبق الآخر إلى مجد ونصر كبير،يريد به الدنيا أحيانا ويريد به الآخرة في أحيان أكثر..
وقد سعى العلاء بن الحضرمي وهو أمير على البحرين إلى غزو فارس عن طريق البحر،فكان ذلك سببا في وقوع معركة طاحنة بين المسلمين والفرس في إصطخر سنة سبع عشرة من الهجرة.. غير أن فتح هذه المدينة التاريخية تأخر إلى سنة ثلاث وعشرين،حيث زحف إليها عثمان بن أبي العاص في جيش من المسلمين،والتقى بالمشركين في جور حتى أخمد نيرانهم،وهدَّ سلطانهم وامتد القتال حتى(1/515)
سمعت إصطخر أصوات السيوف وصهيل الخيول،وشهدت صراعا هائلا بين الجيشين،انتهى بانتصار المسلمين وفتح إصطخر.. وكعادتهم عَفَّ جنود المسلمين عن النهب،وحفظوا الأمانة الصغيرة والكبيرة،ثم إن عثمان بن أبي العاص دعا المشركين إلى الجزية والأمان،فأجابه الهربذ ومَنْ فرَّ معه أو هرب من المعركة.. وفي ختام عهد عمر بن الخطاب وأول عهد عثمان بن عفان نقض أهل إصطخر العهد،وتزعم ذلك شهرك،وشجع أهلَ فارس على اتباعه،فسار إليهم عثمان بن أبي العاص ثانية،وهو العارف بهم،والخبير بقتالهم،فاقتتلوا قتالا شديدا،انتصر فيه أعرف الفريقين بالله،وأكثرهم صبرا في ذات الله،ولحقت بالفرس هزيمة كبيرة،حتى تمكن الحكم بن أبي العاص من قَتْل قائد الفرس شهرك.
يا ساريةُ الجبلَ الجبلَ.. يا ساريةَ بن زُنيم،الجبلَ الجبلَ!
كان هذا هو النداء الذي ارتفع في ساحة القتال يطالب سارية بن زُنيم قائد المسلمين أن يحمي ظهر جيشه بالجبل،فقد تكاثر العدو من حوله،وانضم أكراد فارس إلى الفرس،وتغير وضع الجيوش.. فبعد أن كان المسلمون يحاصرون عدوهم،تكاثرت أعداد المشركين،وأصبح موقف المسلمين حرجا،حتى ألجأهم أعداؤهم إلى الصحراء،وأصبحوا عُرضةً لحصار يضربه المشركون عليهم من كل جهة،فإذا برحمة الله تتنزل بهذا الصوت الذي نادى: يا ساريةُ الجبلَ الجبلَ..
ويتحرك ساريةُ بن زُنَيْم بجيشه،ويجعل الجبل في ظهره وظهر جيشه،وكان الجبل أمينا على هذه الظهور المؤمنة،فقاتلوا أعداءهم قتالا مريرًا،مكَّن اللهُ للمؤمنين فيه،فرجع المسلمون بنصر عظيم،وغنائم هائلة.. وفُتحت فَسا ودارابِجَرْد..
كل هذا ولم يدر المسلمون من أين أتاهم هذا الصوت الذي نادى القائدَ بأن يجعل ظهر الجيش إلى الجبل،فلما قدم رسولٌ من قِبَلِ ساريةَ يحمل أخبار النصر والفتح،راح أهل المدينة يَلْقَوْنه بالبشر،ويسألونه عن الفتح،وهل سمع جيش المسلمين شيئا يوم الفتح،فأخبرهم بذلك الصوت الذي فتح الله به على المسلمين،فأجابوه بأن أمير المؤمنين عمر كان على المنبر في تلك الساعة،وأخبر بحال المسلمين وحال المشركين،فنادى وهو بالمدينة المنورة: "يا ساريةُ،الجبلَ الجبلَ "،فسمعها المسلمون المقاتلون هناك في فَسا،وعملوا بها،ففتح الله عليهم ونصرهم.
مدينة من كبرى بنات التاريخ،سار إليها فارس من أكبر فرسان الجهاد في سبيل الله تعالى وهو عاصم بن عمرو التميمي قائد كتيبة الأهوال،ولحق به عبد الله بن عمير،ووقع الصدام الرهيب بين المسلمين والفرس،في صراع على سِجِسْتان في أدنى أرضها،فانهزم الفرس،وتبعهم المسلمون حتى حصروهم بِزَرَنْج،ومرُّوا بأرض سِجِسْتان كيف شاءوا،وتأكد العدو من أنه لا فائدة في مقاومة هؤلاء القوم الذين يندفعون إلى القتال وكأنهم يريدون الموت لا الحياة،فطلب أهل سِجِسْتان الصلح،فأعطاهم المسلمون ما طلبوا،ووفَّوا إليهم حقوقهم.(1/516)
وفي سنة إحدى وثلاثين نقض أهل سِجِسْتان العهدَ،فسيَّر إليهم عبدُ الله بن عامر جيشًا يقوده الربيع بن زياد الحارثي،فراح ينتزعها من المشركين بلدةً بلدةً بعد أن عبر الصحراء من كَرمان إلى سِجِسْتان،فأتى حصن زالق فأغار على أهله في يوم عيد لهم وأسر رئيسهم،ثم أتى كَرْكُويَه،فبادره أهلُها بطلب الصلح فصالَحَهم،وامتد الزحف إلى رُدشت فقاتل جيشُ الربيع أهلَها،فانهزم المشركون وقُتِل منهم مقتلة عظيمة،وغلب المسلمون على ناشِروذ وشَرْوَاذ،وساروا إلى زَرَنْج فهزموا أهلَها وحاصروهم،ثم صالحهم رئيسها على فدية كبيرة فصالحوه،حتى اكتمل للمسلمين فتح سِجِسْتان وما يتبعها من البلدان..
ودارت دورة الفلك،وانقضى عام،فعاد أهل زَرَنْج إلى نقض العهود،فبعث إليهم
عبدُ الله بن عامر أميرًا قويا هو عبدُ الرحمنِ بنُ سَمُرةَ بنِ حبيبٍ الذي أخضعهم وصالحهم على ألف درهم،وزحف جهة المشرق حتى فتح كابل وزابلستان..
بعث عمر بن الخطاب مع سهل بن عدي بالألوية التي ستتجه إلى النواحي المختلفة مما تبقي من بلاد فارس،فكان لواء فتح خراسان من نصيب الأحنف بن قيس،فسلَّمه سهلٌ اللواءَ،وتمنى له التوفيق في هذه المهمة العسيرة،فخراسان ليست قرية ولا مدينة واحدة،بل هى عِقْدٌ من المدن الكبيرة القوية،مثل: هراة،ونيسابور،وبيهق،ومرو،وسَرَخس،وغيرها...
وفي سنة اثنتين وعشرين تحرك الأحنف بقواته مشرِّقا حتى دخل خراسان من بابها: الطبسين،فصدم أهل هراة بجيشه كله،فاهتزت المدينة بين يديه ثم سقطت في يد المسلمين،ومن هناك راح الأحنف يوزِّع قادته على نواحى خراسان ومدنها الكبيرة،فأرسل إلى نيسابور مطرّفَ بنَ عبدِ الله بنِ الشخير،وبعث الحارثَ بن حسان إلى سَرخس،وتوجه الأحنف نفسُه إلى مرو مطارِدًا كسرى يَزْدَجِرْد،فاستولى عليها،وفرَّ كسرى من وجهه إلى مَرْو الرُّوذ،فتبعته قوات المسلمين حتى هزموه في معركة سريعة،وفتحوا مَرْو الرُّوذ،وهرب كسرى في سرعة إلى بلخ التي شهدت معركة جديدة انتصر فيها المسلمون أيضا،وعبر يَزْدَجِرْدُ النهرَ مستنجدا بمَلِكِ الصين ومِلِكِ التُّرْك،وفي سلسلة من الأحداث انتهت بقتل آخر كسرى،وذهاب مُلْكِ الفرس تماما... وعاد جميع القادة بالنصر والظفر،ودخل أهل خراسان في الصلح ما بين نيسابور غربا إلى طخارستان شرقا..
وقد أعاد عبدُ اللهِ بنُ عامر فتحَ خراسان بعد أن غدر أهلُها ونقضوا العهد في سنة إحدى وثلاثين.
كما يواصل النهر جريانه،واصلت حركة الفتوح في فارس مسيرتها في خلافة عثمان بن عفان،وإن كان أكثرها مقاومةً للانتفاضات ونقض العهود في المناطق التي سبق فتحها،كما حدث في خراسان وسجستان وإصطخر وأرمينية وأذربيجان وطبرستان وكرمان.(1/517)
وفتحت في خلافة عثمان مناطق جديدة لم تفتح من قبل؛ وذلك عند فتح الأحنف بن قيس لطخارستان،وحلت المساجد هناك محل بيوت الأصنام ومعابد النار،وأقيمت الصلاة بدلا من طقوس غامضة لا يدري أهلها معناها!!
وشهد عهد أمير المؤمنين عثمان بن عفان أيضا حادثا له أهميته الخاصة،وهو نهاية الدولة الساسانية بمقتل كسرى يَزْدَجِرْد سنة إحدى وثلاثين للهجرة.
لقد أنقذت الأقدار يَزْدَجِرْدَ وهو طفل صغير من الموت،فحينما قام كسرى شيرويه بقتلِ أبيه،وجميع إخوته الذكور راحت أمُّ يَزْدَجِرْدَ تبحث له عن سبل الحياة،وحملتْه بقلب يرتجف إلى من يربيه ويرعاه بعيدا عن سطوة شيرويه،فلما اهتز بيتُ المُلك في فارس بعد شيرويه عثروا على هذا الشاب يَزْدَجِرْد فوضعوه على كرسي المُلك.. وشهدت دولةُ فارس في عهد كسراها الأخير نكساتٍ كبيرةً،وهزائمَ ضخمةً في فتح القادسية،وانتصار جلولاء،ويوم نهاوند،وغيرها...
وكان دخول المسلمين المدائنَ غربَها وشرقَها هى قاصمة الظهر التي أخرجت كسرى من عاصمته ومدينته الكبرى،فهرب منها إلى حلوان،ثم إلى الري،بعد أن فتح القعقاع حلوانَ..
ولا يَفِرُّ كسرى إلى بلد إلا ويُلقِي بالمعونة والمساعدة إلى أتباعه ليثيروا الحرب في وجه المسلمين،وفي كل مرة يذهب كيده وتدبيره في الهواء،بل إنه بذلك شجع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على الجِدِّ في إرسال قواده لإتمام فتح فارس ونواحيها الشرقية والشمالية..
وعقب معركة جلولاء،وبعد أن أصبحت الري قريبة من سهام المسلمين فَرَّ كسرى منها إلى مرو في أقصى الشمال الشرقى من دولته،فداهمه الأحنف بن قيس بقواته في فتح خراسان،فهرب نحو مَرْو الرُّوذ،وخيول المسلمين تطارده وتهزمه،فينطلق نحو بلخ،ليُهْزَمَ هناك أيضا،ويالها من أيام نَحِسَاتٍ في حياة كسرى،زادها نحسا عليه سوءُ تدبيرِه،فقد عبر النهر بعد بلخ،واستنجد بخاقان مَلِكِ التُّركِ،فتشاءم خاقان أن يقاتل المسلمين بعد أن استعد لهم قرب مَرْو الرُّوذ،وتراجع التُّرْكُ إلى بلخ،فعزم كسرى على جمع خزائنه وكنوزه واللحاق بالتُّرْكِ،ولكن قومه حذَّروه من ذلك،وحسَّنوا له مصالحةَ المسلمين،فهم أوْفَى ذمةً من التُّرْكِ،لكنه ركب رأسه وأصر على رأيه فقاتله قومه وغلبوه واستولوا على خزائنه،ففر إلى خاقان الترك،وصار الأمراء من الترك والفرس ينظرون إلى كسرى نظرةَ الطامع في مقايضة المسلمين عليه،ونظرة الخائف من مَكْرِه،فاستنجد ماهويه مرزبان مرو ورئيسها بالتُّرْك،فاجتمعوا على كسرى وقتلوا أصحابه،وفر كسرى نفسُه هاربا على قدميه بلا حارس ولا حاجب،وسار على شط المرغاب حتى أوى إلى بيت طحان طَمِعَ في زينة يَزْدَجِرْد فقَتلَه،لينتهي مُلْكُ بني ساسان في هذا المكان المتواضع،بعيدا عن زينة القصور وزخارفها.. وذلك سنة إحدى وثلاثين من الهجرة.
لم يكن نقضُ خراسان للعهد كنقض غيرها،ولا غدرُها كغدر الآخرين،وهل ثورة القط كثورة الدب؟! فخراسان جسد ضخم يحتاج إلى قوات كبيرة لإخضاعه،وقد نقضت العهد وغدرت بعد(1/518)
فتحها،وظنت أن المسلمين بعد عمر بن الخطاب قد فقدوا قدرتهم على السيطرة عليهم،فقاد عبد الله بن عامر والي البصرة الجيوش بنفسه ليعيد فتح مدن خراسان،ووزع بعض قواته لتقضي على تمرد أهل كَرمان،وأرسل بعضها الآخر إلى سِجِسْتان لإعادة السيطرة فيها إلى المسلمين..
ومن باب خراسان الذي دخله الأحنف بقواته في الفتح الأول ـ دخل ابن عامر بقواته،فعبر حصني الطبسين فصالحه مَنْ هناك من العدو،فامتد السير إلى قوهستان،واشتعلت الحرب هناك بين المسلمين والفرس الذين تراجعوا حتى دخلوا حصونهم،فصالحهم ابن عامر على ستمائة ألف درهم،وراح عبد الله بن عامر يسير إلى العدو بنفسه ويوجه إليهم سراياه وأمراء الحرب،حتى شق خراسان شقا،وعبرها من شرقها إلى غربها،ومن شمالها إلى جنوبها،ففتح نيسابور،وتوجهت قواته منها لفتح نَسا وأبيورد وسَرَخس،كما سير ابن عامر قواتٍ لفتح بيهق،ففتحها المسلمون بعد استشهاد عدد منهم.. كانت هذه الانتصارات كفيلةً بأن تهزم بقية أمراء خراسان نفسيًا،فجاء أمير طوس يطلب الصلح،وفعل مثله أمير هراة بعد قتال قصير،فصالحه المسلمون على ألف ألف درهم،كما صالحوا أهل مرو على ألفي ألف درهم ومائتى ألف درهم..
وبعد أن استقر الأمر في خراسان للمسلمين سيَّر عبدُ الله بن عامر جيشا يقوده الأحنف بن قيس لفتح طخارستان.
لم يوجه عبد الله بن عامر سهامه إلى نيسابور مباشرةً،بل أخذ يجردها من القرى والحصون التابعة لها ويستولي على المناطق التي يحكمها أمير نيسابور الفارسي حول المدينة،فبعث سرية فتحت رستاق زام بالقوة،وأخضع باخَرز وجُوَين وبشت،حتى بقيت مدينة نيسابور وحدها،كالنخلة المنفردة في أرض خلاء،فنهض إليها ابن عامر في جيشه،وحاصرها حصارا شديدا،وأنَّتْ المدينة تحت الحصار وتألمت،لكنها لم تُسلِّم،ولم ينصرف عنها المسلمون.. ومرت أشهر كانت كفيلة بأن ترمي باليأس في قلوب أحد الفريقين،وكان ذلك من نصيب الفرس،فقد كان على نيسابور عدةُ أمراء منهم،فطلب أحدهم من المسلمين الأمان على أن يدخلهم من جهته،وتحت ستار من ظلام الليل ركب المسلمون خيولهم ثم دخلوا إلى نيسابور الجميلة،ولم يكن أمام أميرها الأكبر الذي احتمى بحصن له إلا أن يطلب الصلح والأمان،فصالحه المسلمون على ألف ألف درهم..
ومن نيسابور أطلق واليها الجديد قيس بن الهيثم السلمي جيوشه إلى نسا وأبيورد ففُتحتا صلحا،وإلى سَرَخس فوقع فيها قتال بين المسلمين وبين الفرس،وفتحت بالقوة ...
وإلى بيهق طارت روح القائد الشهيد الأسود بن كلثوم العدوي،تقصد المدينة العتيقة في جيش من الشجعان أعده عبد الله بن عامر،فخاضوا قتالا طاحنا،فتحت له المدينة،واستشهد قائد جيش المسلمين الأسود بن كلثوم.(1/519)
صوت الأذان نغْمةٌ سماوية ترتفع من الأرض فتسمو بها،وقد سكنت في نفس هؤلاء الجنود الذين ساحوا للفتح في مشرق الأرض ومغربها كلُّ كلمةٍ من كلمات النداء للصلاة وانطلقوا لتسمع الدنيا ما سمعوا،وتؤمن كما آمنوا..
وقد خرج الأحنف بن قيس في جيشه لفتح طخارستان وما بقي من خراسان بتكليف من عبد الله بن عامر،فسار حتى نزل على سوانجرد وحاصرها وشدَّد عليهم الحصار،فأسرعوا يطلبون الصلح،فوافقهم عليه واشترط أن يؤذن المسلمون من داخل قصرهم..
ارتفع صوت الأذان،وعطَّر الأنحاء هناك،ثم انطلق الأحنف بقواته إلى مَرْو الرُّوذ،فقاتلهم وحاصرهم حتى صالحوه..
وزحف المسلمون إلى المشرق،فوجدوا طخارستان قد جمعت لهم جمعا كبيرا،وأقبل العدو من الجُوزْجَان والطَّالقان والفارياب في خلق كثيرين،فواجههم الأحنف ولقيهم بجيشه،وتقدم ملك الصغانيان برمحه نحو الأحنف،فلمحتْه عينا قائد المسلمين،فتقدم نحوه يعاركه حتى انتزع الرمح من يده،وراح الأحنف وجنوده يقاتلون ببسالة هائلة وصبر عجيب،حتى انهارت قوة المشركين وقتل فيهم المسلمون كيف شاءوا.. ويعود الأحنف في رجاله إلى مَرْو الرُّوذ،فيجتمع للمشركين جمع جديد في الجُوزْجَان،يقدم الأحنف إليهم بعض كتائب جيشه من بني تميم يقودهم الأقرع بن حابس.. ويشعر بنو تميم وقائدهم بالمسئولية الثقيلة التي حملوها عن المسلمين،فيقاتلون عدوهم بحماسة وقوة،لكن الجولة الأولى لم تكن في صالح المسلمين،فعادوا يهاجمون قلب العدو حتى سحقوهم وانتزعوا منهم النصر،لتُفتح الجُوزْجَان بالقوة والقهر.
واكتملت أعمال الفتوح هناك بفتح الطَّالقان والفارياب بلا قتال،ومصالحة أهل بلخ على سبعمائة ألف درهم.
كان ذهاب مُلْكِ فارس مُؤْذنا باصطدام المسلمين بأمم أخرى،فدولة الأكاسرة متسعة الأطراف والحدود،وتلامس أمما أخرى من الترك والصين والهند،وكان الترك من بين هؤلاء جميعا أشرسَ وأعنفَ،وقد استنجد كسرى بملك الصين فنصحه بمسالمة المسلمين بعد أنْ علم صفاتِهم وأخلاقَهم،كما استنجد بملك الترك فخرج إليه في عدد كبير من جنوده،وتجهَّز الأحنف بن قيس في عشرين ألفا من المسلمين يلاقي بهم التُّرك عند سفح جبلٍ بمَرْو الرُّوذ،وخندق كل فريق على نفسه،وتقاتلوا أياما،ثم خرج فارس من التُّرك يضرب بطبلة له،فبارزه الأحنف فقتله،وخرج غيره على نفس الهيئة،فقتله الأحنف،وخرج ثالث فقتله الأحنف أيضا.. ومر خاقان الترك بجنوده فرآهم صرعى فتشاءم لذلك ورجع إلى بلخ بلا قتال..
ساحت الجيوش الإسلامية في أنحاء إمبراطورية فارس،فشرَّقت وغرَّبت،لكن أمير المؤمنين عمر كان يخشى على جنوده من أن يُغْدَرَ بهم،أو يُهاجَمُوا من ظهورهم من قِبَلِ بعض جيوب العدو وتجمعاته..(1/520)
لذا كان يكلف أمراء الكوفة والبصرة بمسح الطرق والممرات التي تسير فيها الجيوش،وقد قام بهذه المهمة من جهة البصرة أبو موسى الأشعري فاجتمع له في رمضان من سنة ثلاث وعشرين جمع عظيم من الأكراد وغيرهم ليكيدوا المسلمين،ويصيبوا منهم عورة،وكان اللقاء بين نهر تيرى ومناذر،وأقسم القائد أبو موسى على جنوده أن يفطروا ففعلوا،وأقبل المهاجر بن زياد على القتال،وعَزَمَ على أن يقاتل حتى الموت،وراح القتال يشتد بين الفريقين،والشهداء الأحياء يقاتلون عدوهم بشراسة هائلة،حتى ضعفت مقاومة العدو،وفني كثير منهم وتحصن من بقي في قلة وذلة..
وفي جولة أخرى مع الأكراد أرسل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب جيشا يقوده رجل من أهل العلم والفقه،وهو سَلَمَةُ بن قيس الأشجعي،وزوَّده بوصية،وسار سلمة بالجيش،فلقي تجمُّعًا من الأكراد،دعاهم إلى الإسلام فأَبَوْا،ثم دعاهم إلى الجزية والخراج فلم يقبلوا،فقاتلهم المسلمون فنصرهم الله عليهم،حتى قتلوا المقاتلين منهم وسَبَوا الذُّرِّيةَ،وجمعوا غنائم كثيرة.
لم يكن هِرَقْلُ يدري أن الشام التى استردها لِتوِّه من يد الفرس،بعد حرب طاحنة،لن تمكث فى يده طويلا،حتى تقع فى حِجْرِ جيرانِه العربِ.. حقا،لك أن تتعجب،فلم يكن لهؤلاء العرب شأن قبل ذلك،ولكن الكوكب الدُّرِّي والسراجَ المنيرَ قد ظهر فى سمائهم،وأنار قُدَّامَهم الطريقَ إلى أنفسهم وإلى العالم.
ولم يكن هذا السراجُ وذاك الكوكب سوى محمدٍ رسولِ اللهِ ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ورسالته،والذى فى حياته الشريفة بدأت علاقة المسلمين بالشام،فدعا ملكَ الرومِ وقومَه إلى الخير الذى بُعث به،ووقعت بينه وبينهم عدة صداماتٌ عسكرية بعد عدوانهم على المسلمين،ولكن دون أن يُحْسَم الموقفُ لأي من الطرفين.
وجاء أبو بكر وفى صحبته مواجهاتٌ أكبرُ ضد الروم،ولكن سرعان ما اخْتَرَمَهُ الموتُ حميدًا،فقام بالأمر عمرُ بنُ الخطاب،وقامت معه الحرب تجري على قدم وساق،لا يلاحق التاريخ أنفاسَها المتسارعة،فاتسع مدى الغزو ضد الروم،حتى دالتْ دولتُهم من الشام وزالتْ.. ثم قام بالأمر عثمانُ بنُ عفان،فقام المسلمون فى الشام بجهود رائعة لحفظِ طفرةِ الفتوحِ السابقةِ،وغَزَوْا فى البحر مراتٍ.
يَا لَهُ من بشرٍ كَكُلِّ البشر،لكن شجرةَ الخيرِ كلِّه والبركةِ كلِّها،كأنها زُرِعت فى قلبه ونفسه،وامتدت أغصانُها فى المكان والزمان لتشمل كلَّ تابع له بحق بَعُدَ زمانُه عنه أو قَرُبَ. دنا مكانُه منه أو بَعُدَ.
افتتح رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ العلاقة المباشرة بين المسلمين والروم فى صدر العام الهجرى السابع،حين كتب إلى قيصرَ يدعوه وقومَه إلى الإسلام،فجَناح الدعوة يتسع ليضم تحته المشارق والمغارب،ويشملَ أهلَ البادية وسكانَ الحواضرِ،ويحتوي العربَ والأعاجمَ.
وبعث الرسول ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ بكتاب مماثل إلى أمير بُصْرَى التابعِ لقيصرَ،فكان الردُّ السيئُ على هذا الكتاب سببًا هاجتْ لأجله الحرب بين المسلمين والروم،ووقفت على قدميها،فجهز النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ(1/521)
جيشا قاتل الروم فى مُؤْتَةَ عام ثمانيةٍ من الهجرة،فى أول صِدَامٍ مسلح معهم،وفى العام التالى خرج النبى ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ بنفسه على رأس ثلاثين ألفًا من أصحابه لقتال الروم،فكانت غزوةُ العُسْرَةِ،حيث بلغ المسلمون تَبُوكَ وجَبُنَ الرومُ عن القتال،وأتى أميرُ أيْلَةَ وأميرُ جَرْباءَ وأَذْرُح وأعطيا رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ الجزية. وقَبْلَ أن تصعد روحه إلى الرفيق الأعلى كان النبى ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ يوصي بإنفاذ بعث أسامة بن زيد العسكرى نحو الشام،وقبض ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ وإنفاذُ هذا البعث وصيةٌ فى أعناق أتباعه،بعد أن وضع لهم أسس التعامل مع هذا العدو القوي: الدعوة إلى الله،فإن اعتدوا واجهوهم بالقوة والحرب.
انظر هذا الوجه الملائكي الذي أقبل يطوي به فرسُه الصحراءَ بين المدينة والشام،إنه دِحْيةُ بنُ خليفةَ الكَلْبِى،أتى يعلن مبدأ من مبادئ الإسلام الكبرى،وهو عالمية دعوته.. يحمل كتاب الهداية من رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ إلى هرقلَ وقومِه...
وشق الصحراءَ نفسَها أحدُ العظماء من أصحاب النبي الخاتم،وهو الحارث بن عمير الأزدي،يحمل كتاب الدعوة من رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ إلى حليف الروم وأمير بُصْرَى الحارث بن أبى شَمَّر الغَسَّانى .
أما هرقل فكان يجيد أعمال السياسة،فرد على كتاب رسول الله ردا لينا،بينما غلبت الجلافة الآخرين،فقتل أعرأبى من غَسَّانَ رسولَ المسلمين إلى أمير بُصْرَى،قتله باسم هرقلَ. وارتفعت دماء الحماقة إلى رأس الحارث بن أبى شَمَّر،فبعث إلى هرقلَ يستأذنه فى غزو المدينة المنوَّرة،إلا أن هرقلَ رغب فى ألا يعكر كؤوس انتصاره على الفرس أى شيء،وفضل أن يكون الحارثُ من الخدم الحاضرين معه احتفالَ الروم فى بيت المقدس باسترجاع الصليب الأكبر من الفرس.
" إن الله اطلع على الناس فمقَتَهم عربَهم وعجمَهم،إلا فريقا من أهل الكتاب "،هكذا عبر رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ عن حال الناس قبل بعثته،إذ مقتهم الجليلُ ـ سبحانه ـ وأبغضهم؛ لما ركبوه من ذنوب الكفر،والظلمِ الشائع بينهم.. ولقد كان الصراع على السيطرة بين الفرس والروم وجها كبيرا من وجوه ظلم العباد بعضهم بعضا،فقد نشأ بينهما صراعٌ مميتٌ وتنافسٌ مهلكٌ،كانت الضحايا فيه تعدُّ بمئات الآلاف من البشر لا بعشراتها،هذا غير المدن التى خُرِّبَتْ والقصور والقلاع والحصون التى هُدِّمَتْ..
وقد علت يد الفرس على الروم فى بدايات بعثة النبى ـ - صلى الله عليه وسلم - ،فحققوا انتصارا كبيرا عليهم عند أَنْطَاكِيَّة سنة ستمائة وثلاث عشرة من الميلاد،وسيطروا على فِلَسْطِين،وقبضوا على بيت المقدس،وامتد جبروتهم حتى خضعت لهم الإسكندرية.. وتجاوب مشركو مكة مع الأحداث وفرحوا لانتصار الوثنية على أهل الكتاب،ورأوا فى ذلك صورة مبكرةً للصراع بينهم وبين الإسلام،وأن النهاية فى الحالين ستكون واحدة: انتصار الوثنية وارتفاع شأن الأصنام،وخمودُ صوتِ الرسل...!
وخرج هرقلُ القيصرُ الجديدُ من رحم الآمال الرومانية،بل من رحم الأحزان والمدن المهدمة،وظل ينظم دولته ويقوى جيشه المنهار،ويكافح الفرس حتى ألحق بهم هزيمة ساحقة قرب نِينَوَى سنة سبع(1/522)
وعشرين وستمائة،فقصم ظهورَهم،واسترد منهم أرض الدولة البيزنطية فى أرْمينِيَّة والشام وفلسطين ومصر،واستعاد منهم بيت المقدس سنة ثلاثين وستمائة من الميلاد.
هو ما أحبه بلسانه وحده،ولكنه أحبه قبل ذلك بقلبه وعمله.. نعم،أحبَّ أبو بكر رسولَ الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ بعمله قبل أن يحبه بقوله،فكان أحرصَ الناسِ على الاقتداء به وحِفظ وصاياه،وأولُ ما ابتدأ به الصِّدِّيقُ من أمر الشام هو إنفاذُ بَعْثِ أسامةَ بنِ زيدٍ ... إلا أنه لم يكن يومَها يُعطِى فتحَ الشام شيئًا كبيرًا من اهتمامه،فقد أكلت الردةُ وحروبُها كلَّ جهودِه. ومِثْلُها مِثْلُ بقيةِ الأنحاء والجهات يُوَلِّى أبو بكر الأمراءَ،ويعقد الألويةَ فيوجه إلى أطراف الشام خالدَ بنَ سعيدٍ بنِ العاص وقد عقد له لواءً،ثم أردف به مددًا فيه البطل عكرمةُ بنُ أبى جهلٍ.. واصطدم خالدُ بنُ سعيدٍ بالروم لكنه هُزِمَ فى مَرْجِ الصُّفَّرِ.
ومن هنا يمنح الخليفةُ فتحَ الشام الكثيرَ من اهتمامه،فيُجَرِّدُ لها أربعةَ جيوشٍ،رجالُها تلاميذُ محمدٍ ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ وتلاميذُهم الذين أصبحوا أساتذةَ الدنيا بأسرِها.. على قيادة الجيش الأولِ أبو عبيدة أمينُ الأمةِ،وهدفه حِمْصُ،وعلى الثانى شُرَحْبِيلُ بنُ حَسَنةَ قاصدًا الأُرْدُنَّ،وقائد الجيش الثالث عمرو بن العاص،وغرضه فِلَسْطِينُ،وأما الجيش الرابع فوجهتُه دمشق وعليه فارسُ بنى أميةَ يزيدُ بنُ أبى سفيانَ. وطلعت شموس المسلمين على ربوع الشام،واشتَمُّوا رائحةَ الشهادةِ وأبصروا ألوان النصر عند مدنها وحصونها،لكنهم رأوا أن الوضع هناك أكبر من فرقتهم،فكتبوا إلى أبي بكر يستشيرونه ويستمدّونه،فأمدهم بخالد بن الوليد فى نصف جنود العراق،واجتمع المسلمون للروم فى الْيَرْمُوكِ،واصطفَّ الفريقان صفوفا،وقبل أن يصطدم الطوفانُ بالطوفانِ بأيام توفى خليفةُ رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ العظيمُ.
أتُراه خرج يثأر لأبيه ثأرَ الجاهلية،ليكون دمٌ بدمٍ وانتهت القضية؟ لقد رأى رسولُ اللهِ ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ فى زيد بنِ حارثةَ وابنِه أسامةَ إيمانا وفروسية وحبا لله ورسوله،تجعلهما جديرَيْنِ بالقيادة،ولو كان أسامةُ ابنَ سبع عشرة سنة،وفى جيشه مَنْ هو أسَنُّ منه.. فأسامةُ كحسنٍ وحسينٍ،تَرَبَّى فى حجر النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ونال أبوه الشهادة فى مواجهة الروم فى مُؤْتَةَ.
يُنْفِذُ أبو بكر بعثَ أسامةَ لا ليثأر لأبيه الشهيد ثأرَ الجاهلية،ولكن ليُعَلِّمَ الرومَ وحلفاءهم من متنصِّرة العرب غلاءَ دمِ المسلم،وليؤمِّن حدود دولة الإسلام الفَتِيَّةِ من الشمال.
وخرج الخليفة العظيم يودع قائده الشاب وجندَه،وزوَّده بوصاياه،وأمره بأن ينفذ أوامر رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ،فأوقع أسامة بقبائلَ من قُضاعةَ،وأغار على آبِل،وعاد وقد سَلِم وغَنِمَ.
لم يكن تأخرُه عن بيعة أبي بكر سوى وسوسةِ نفسٍ استغفَرَ اللهَ منها بعد ذلك،وعلم أن الله يختار لدينه،فقد عاد خالد بن سعيد من اليمن إلى المدينة،فوجد الناسَ قد بايعوا أبا بكر بخلافة رسول الله ـ(1/523)
- صلى الله عليه وسلم - ـ فتلكَّأ خالد في بيعته وتأخر،ثم بايع،وإذا كان أبو بكر قد غفرها له ولم يهتم بها،فإن عمر بن الخطاب قد اغتاظ من موقف خالد،وادَّخره له.
ويختار أبو بكر قادةَ الألوية وأمراءَ الجنود،فيعطي الرجل الذى تكاسل عن بيعته لواءَ الشام،لكن عمر ألحَّ على الخليفة أن يعزله،فاكتفى أبو بكر بأن يوليَه تَيْمَاءَ،ليحمي المسلمين من أن يأتيهم شر من هذه الناحية: ناحيةِ الشام.. وأمر أبو بكر خالدَ بنَ سعيدٍ بأن يدعو الناس إليه،فَيَقْبَلَ منهم مَنْ أقبل عليه،إلا من باع دينَه عند الردة.
حمل خالد بن سعيد متاعه على ظهره،وأقبل إلى تَيْمَاءَ يدعو الناس للالتفاف حوله،كما أمره الخليفة،فجاءته القبائل من بيوتها،منهم من ركب الإبل،ومنهم من امتطى الخيل،ومنهم من جر رجليه حتى حملته إلى نائب الخليفة فى هذه الديار.. حتى صاروا عند خالد جمعا كبيرا،تمتلئ منه العينُ،وتهابُه النفس..
وبسرعة كبيرة تصل أنباء هذا الجمع من المسلمين إلى أسماع الروم،فيحشُدون أولياءَهم من قبائل العرب المُتَنَصِّرة مع جنود من الروم فى جمعٍ كبيرٍ..
ويسير خالد بن سعيد بجنده إلى عدوه،فيداخل سيفُ الرعب قلوبَ الروم وحلفائهم،ويتفرق جمعُهم بهذا السيف الذى لا يُسيلُ دمًا،ولكنه يهزم جيوشا وجيوشا..
ويَكْسِبُ المسلمون الجولةَ،ويتركون الحلْبة وقد كسِبوا عددا كبيرا من القبائل العربية التى تجمعت لهم،ودخلوا فى دين الله أفواجًا.
ويطير كتاب خالد بجناحى الفرحة إلى أبي بكر يبشره بالفتح منتظرًا أمر الخليفة،وأتاه الأمر بأن يتقدمَ وألا يُحْجِمَ،بحيث لا يؤتَى من خلفه.. وسار جيش المسلمين حتى نزلوا فيما بين آبِل وزِيزَاء والقَسْطَل،فصدمهم باهانُ الرومي،وهز صفوفهم بقوة،وقتل من المسلمين وبلغت الصرخةُ أذنَ أبي بكر من خالد بن سعيد تطلب مددا،فعاجله أبو بكر بجيش فيه بعضُ أولي العزم من المجاهدين كعكرمةَ بنِ أبى جهل وذي الكَلاعِ الحِمْيَرِى.. ومن هنا بدأ أبو بكر يهتم بفتح الشام.
جاء المدد إلى خالد بن سعيد فقَوِيَ به ظَهرُه،وأحب أن يفوز بالسبْق إلى الجهاد في هذه النواحى،فلما بلغه تَحَرُّكُ بقيةِ أمراء الجيوش إلى الشام،استعجل لقاءَ العدو،فاقتحم الشام المملوءةَ بالمخاطر ومعه عكرمةُ وذو الكَلاع والوليدُ بن عقبة كلٌّ على جُنْدِه،حتى نزلوا مَرْجَ الصُّفَّر قريبا من عرين الأسد فى دمشق..
ظهر لهم باهانُ ثم تقهقر وتراجع أمامهم بجيش الروم إلى دمشق يخدعهم بذلك،فانْخدع المسلمون،وتقدموا نحوَه،وفجأة قَطعت الطريقَ أمامَهم قواتُ الحراسة المسلحةِ التى وضعها باهانُ فى طريقهم،فلما أحس قائد الروم باهتزاز صفوف المسلمين،زحف إليهم فى مَرْجِ الصُّفَّر،يجر معه عشرات الآلاف من الرومان الذين اشتبكوا مع المسلمين،وقتلوا منهم،حتى فرَّ خالدُ بن سعيد في بعض(1/524)
جنده،وانتهوا إلى ذِي المَرْوَةِ قرب المدينة،فسيطر الروم على الموقف وعلى جيش المسلمين،إلا مَنْ فَرّ على الخيل..
وكان عكرمة بن أبى جهل رجلَ الموقفِ وفارسَ الموقعةِ،إذْ تقهقر عن الشام قريبا منها،وبَقِي يَحمي ظهور المسلمين الذين فروا،حتى ردَّ عنهم الرومان.
وقع فرار خالد بن سعيد أمام الروم على أبي بكر والمسلمين وقوعَ الصاعقةِ،فما من عادة القوم أنْ يَفِرُّوا ولا أنْ يَهْرُبوا من وجه عدوِّهم.. وكتب أبو بكر إلى خالد وهو بذي المَرْوَةِ يلومُه لومًا شديدًا على ذلك،ويأمره بالبقاء فى موضعه.. كان أبو بكر يَخشى على رجاله الذين يُعِدُّهم للحرب أن يروا وَجْهَ منهزمٍ،فاحتفظ بخالد خارج المدينة،ثم أَذِنَ له بدخولها،وقسم جنوده على أمراء الجيوش المتجهة إلى الشام.. وفى لقائه مع الخليفة شَعَرَ خالد بن سعيد بالندم،واعتذر عما فعله،وأعلن استعدادَه للعودة إلى قتال الروم كجندي فى صفوف المسلمين يَحتسب أجره عند الله ـ تعالى ـ فسار مع جيش شُرَحْبِيلَ بنِ حَسَنَةَ،وراح أبو بكر يُوصِي شُرَحْبيلَ بهذا الجندي العزيز الذى أحس بالذل لفراره أمام الروم! ومات خالد شهيدا فى حروب الشام،ومسح بدمه ذنبَ الفرارِ من الزحف!
اقترن ذِكْرُ فارسَ والرومِ فى نفس العربي بالخوف والرهبة،وجاء الإسلام لِيَكْسِرَ من حدّة هذا الخوف وتلك الرهبة،فشجّع أهلَه على عدم الصمت فى وجه أي اعتداء على الإسلام والمسلمين مهما كانت قوة المعتدي،وكتب رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ إلى كسرى وقيصرَ يدعوهما إلى دينه فى غير خوف ولا تردد..
وقد آن لخليفته الأولِ أبي بكر أن يجمع الناس تحت لواء الجهاد فى سبيل الله،ليشاركَ مَنْ تأخر إسلامُه أهلَ السابقةِ فى خدمة الدين ورفْعِ رايته،ويتحولَ الدينُ فى حياتهم ـ بحق ـ إلى عَصَبٍ مركزي تدور الحياة حولَه وتُدَارُ به..
وكتب الصديق إلى أهل مكةَ والطائفِ واليمن،وإلى جميع العرب بنجد والحجاز،يستنفرهم للجهاد فى سبيل الله ونشرِ الدين فى أرجاء المعمورة،ويرغِّبُهم فى غنائم الروم.. كما كتب إلى نائِبَيْهِ على القبائل عمرِو بن العاص والوليدِ بن عقبة،وأمَرَهُمَا بجمع العرب،فعلما أن الجِدَّ قد جَدَّ،وأن شيئا كبيرا ستقوم به الخلافة،فقام كلاهما فيمن عنده يدعوهم للخروج من البلد والولد؛ جهادًا فى سبيل الله...
ومن الجموع التى احتشدت لديه ألَّفَ أبو بكر جيوشَ الشام الأربعةَ،التى قاد أحدَها الوليد بن عقبة أوَّلَ الأمر،فكان أولَ مددٍ من هذه الحشود يصل إلى خالد بن سعيد بالشام حيث خاضا معا معركةَ مَرْجِ الصُّفَّر.
لم يكن عمرو بن العاص يدرى وهو يتولى جَمْعَ الصدقات من بعض القبائل أن القَدَرَ يُخبئُه لدورٍ أكبرَ من هذا،إذْ كتب إليه أبو بكر يُخيِّره بين الاستمرار فى القيام على جمع الصدقات من قبائل سعد هُذَيم وعُذْرةَ وغيرهم،وبين القيام بعملٍ سيكون خيرًا له فى دنياه و آخرتِه..(1/525)
فأجاب عمرو إجابة الجندى قد سَلَّمَ قِيادَهُ إلى أميرِهِ،بأنْ يأمره خليفةُ رسولِ الله بما شاء،فهو طَوْعٌ لأمره.. ارتاحت نفس الصديق لرد عمرو وأدبه الرفيع،وطلب منه أن يستنفر الناس الذين يقيم بينهم للجهاد فى الشام،وأن يَقْدُمَ المدينة لنفس السبب. وكتب أبو بكر بمثل ذلك إلى الوليد بن عقبة،فكان كعمرو نِعْمَ الجندي مع أميره.
لما أقبلت العربُ على أبي بكرمن كل حَدَبٍ وصَوْبٍ تريد الخروج للجهاد فى الشام،جمعهم تحت قيادة ذوي الدين والكفاءة،فوزعهم على أربعة جيوش،على كل واحد منها أميرٌ قوى أمينٌ..
فأبو عبيدة أمينُ الأمةِ على جيش...
وعمرو بن العاص القائدُ المُحَنَّكُ على جيش...
وشُرَحْبِيلُ بن حَسَنةَ الأميرُ التَّقِى على جيش...
ويزيدُ بنُ أبى سفيانَ القائدُ الصُّلْبُ على جيش...
وكانت عِدَّةُ الجنودِ فى هذه الجيوش حوالي ثمانية وعشرين ألفا،مقسمة بين القادة الأربعة. وأراد أبو بكر بهذا التقسيم أن ينفرد كل واحد من هؤلاء الأمراء بفتح ناحية من نواحى الشام،إلا أن ساحة الحرب هناك وواقع التواجد الروماني الضخم بالبلاد سيفرض على المسلمين شيئا آخر،بالرغم من فزع الروم واهتزازهم أمام هذه المفاجأة الكبيرة..
لم يكن أبو بكر عظيمًا وسط أقْزَام،فهذه عظمةٌ مزيفة،ولكنه كان عظيما تحيط به كوكبة من العظماء،وجد فيهم ضالَّتَه من القادة والجنود الذين وجههم لفتح فارس والروم،وكان أبو عبيدة بن الجراح أحد هذه الكواكب النّيّرة،فولاه أبو بكر قيادة أحد جيوش الشام،ووضعَ فى يده الإمارةَ العامة على جُنْدِ الشام.
مهمةٌ ما أثقلها على نفس المؤمن التقي،فهو إنْ أحسن خَشِي على نفسه الفتنةَ،وإن أساء أضر بإخوانه فى الدين والعقيدة.. فهو بين مخافَتَيْن!
وتحركت خيل أبي عبيدة فيها الكثير من المهاجرين والأنصار،والأرض تُقَبِّلُ أقدامَهم وحوافرَ خيولِهم،وسحبُ السماء تُقَبِّلُ رءوسَهم ووجوهَم التى بيَّضَها الوضوءُ وجمَّلَها السجود لرب الوجود.
وسلك أبو عبيدة بجنده طريق المُعْرِقَةِ،وهدفه مدينةُ حِمْصَ العريقة الحصينة،ومركز قيادته الجابِيَةُ وفى صدر هذا الشتاء مال جيش أبي عبيدة فى مسيره قريبا من البلقاء،فقاتله قوم على باب منها،ثم صالحوه،فكان أولَ صلح للمسلمين فى الشام.
في سبعة آلاف مقاتل،ما بين مُتَهَيِّبٍ من بني الأصفر يكتم الخوف فى صدره،ومتلهِّفٍ يبحث عن نصر دينه أو الشهادة،كان يزيد بن أبى سفيان أولَ خارجٍ بجيشه من بين جيوش الشام الأربعة.. وهدفه الذى يرمي إليه هو حصن الشام "دمشق" وكان يزيد قد ولاه أبو بكر عملَ خالد بن سعيد،وألحق(1/526)
بيزيدَ أخاه معاويةَ،معه جنود من جنود خالد بن سعيد الذين قَدِمُوا معه إلى ذي المروة بعد الهزيمة في مَرْجِ الصُّفَّرِ.
وينساب جيش يزيد بين الصحراء الواسعة كالموج المشتاق إلى شاطئه،فيمر بوادي القُرى،ثم تبوك،فالْجَابِيَة،منتظرًا دوره للمسير إلى شاطئه،وهو فتح دمشق... ولكنْ بينه وبين هذا الشاطئ أهوالٌ وأهوالٌ!
وكان من قَدَرِ هذا الجيش أن تُحقق قطعةٌ منه أولَ نصر للمسلمين على الرومان منذ وصول جيوش أبي بكر إلى الشام،وذلك فى موقعة الْعَرَبَةِ بأرض فِلَسْطِينَ.
لقد تناطحت الفرس والروم تناطُحَ جَبَلَيْنِ لا عَنْزَيْن،فانْهدمت الفرس،ووهن أمرُها.. فهل الرومُ أعلمُ بالحرب من الفرس؟ لا،لا.. ليس بهذا وحده تقاس الأمور،إن فارسَ أشدُّ بأسًا،وأفْتَكُ بالعدو،والروم أوْفَرُ عُدَّةً،وأصْبَرُ على الخَصم،لعل هذا هو ما كان يدور فى ذهن شُرَحْبيل بن حَسَنَةَ وهو يطوي الأرض بجيشه بين المدينة وتبوك،وعينُه على الهدف الذى حدده له أبو بكر الصدّيق: الأردنّ.
لقد قَدِمَ شُرَحْبيل من جبهة فارس وافدًا على الصدّيق،فأمَّرَهُ أبو بكر على جيش من جيوش الشام،ونَدَبَ معه الناسَ،واستعمله على عَمَلِ الوليد بن عقبة،وأخذ من ذي المروة بعضَ أصحاب خالد بن سعيد.
أي مهمة جليلة أُنِيطتْ بك يا ابن العاص،حين تذهب باسم الأمة كلها لتأتي بمفاتيح أرض الأنبياء ومسرى حبيب الله ـ - صلى الله عليه وسلم - .. أنت لن تَسرِقَها،ولن تَغصِبَها أهلَها،بل ستُعطيها إلى أهلها الحقيقيين،الذين ما حادوا عن منهج الأنبياء،ما زيفوا رسالاتِ السماء..
فَتْحُ فِلَسْطينَ هى مهمة ذلك الجيش الذى وُضِعَ على رأسه عمرو بن العاص،وقد خرج معه من المدينة ثلاثة آلاف،فيهم كثيرٌ من المهاجرين والأنصار،وظل أبو بكر يُتْبِعُه بالأمداد حتى بلغوا سبعة آلاف وخمسمائة جندى. كما أمَّرَهُ الخليفةُ على مَنْ يتطوع معه من بَلِيّ وعُذْرة وسائر قُضاعةَ وما جاورها. وسلك عمرو بجيشه طريق المعْرقَةِ،مارًا على أيْلةَ،عامدا إلى فِلَسطين بعد أنْ ودعه الخليفة الصالح وأوصاه.
لم تعرف الرومُ لعرب الجزيرة علاقةً بالشام قبل الإسلام أنْ يأتوها أفرادا أو قوافلَ صغيرةً تبيع وتشترى،وتستبدل تجارة بتجارة،ثم تحمل متاعها وترجع إلى ديارها وها هم بعد أن جمع الإسلام شاردهم،وألف بين جماعاتهم،يرمون الروم بعشرات الآلاف من المقاتلين.. فأي سحر يحمله هذا الدين حتى جمع هذا الشتات،وجعل منه هذه القوة؟!
لقد فَزِعَ الروم،ودبَّ الخوف إلى قلوبهم المُغَلَّفَةِ بدروع الحديد،فكتبوا إلى هرقلَ على جناح السرعة بما يدور،وكان في بيت المقدس،فنصحهم بما ينفعهم: أن يصالحوا المسلمين على نصف خراج(1/527)
الشام،لكنهم رفضوا ذلك كِبْرًا وأنَفَةً،وتفرقوا عنه وعَصَوْهُ،ثم عاد فجمعهم كما يجمع الراعي غنمَه الشاردة،ونزل بهم حِمْصَ،وبدأ يعبّئ جيوشه وقادته لحرب المسلمين.
حملت "الْعَرَبَةُ" أولَ مفاجأةٍ غيرِ سارَّةٍ للروم،فقد اجتمع فيها جمْعٌ منهم لقتال المسلمين،وظنوها جولةً ونزهةً حربيةً سريعةً،فبعث إليهم يزيدُ بن أبي سفيان،وهو بالبَلْقاء رسالة لا من الورق،ولكن من الجنود المسلمين يقودُهم أبو أُمامةَ الباهليّ،فلقي من الرومان ثلاثة ألاف جندي،عليهم ستة من القواد،واقتتل الخَصمان،وصبَّ المسلمون الموت من فوق رءوس الرومان،وقطّعوا لهم ثيابا من الهزيمة،حتى انفض جمع الروم،وقُتل أحدُ قادتِهم،ولم يجدوا بُدَّاً من التحول إلى الداثن قرب البحر الميت،فكان الموت ينتظرهم هناك أيضًا،إذ زحف أبو أمامةَ خلفَهم،وهزمهم فى جولة أخرى،وغَنِمَ المسلمون غُنْمَا حسنا.
وكانت هذه أولَ وقعة بين المسلمين والرومان منذ وصول جيوش أبي بكر الأربعةِ إلى الشام.
حملت "الْعَرَبَةُ" أولَ مفاجأةٍ غيرِ سارَّةٍ للروم،فقد اجتمع فيها جمْعٌ منهم لقتال المسلمين،وظنوها جولةً ونزهةً حربيةً سريعةً،فبعث إليهم يزيدُ بن أبي سفيان،وهو بالبَلْقاء رسالة لا من الورق،ولكن من الجنود المسلمين يقودُهم أبو أُمامةَ الباهليّ،فلقي من الرومان ثلاثة ألاف جندي،عليهم ستة من القواد،واقتتل الخَصمان،وصبَّ المسلمون الموت من فوق رءوس الرومان،وقطّعوا لهم ثيابا من الهزيمة،حتى انفض جمع الروم،وقُتل أحدُ قادتِهم،ولم يجدوا بُدَّاً من التحول إلى الداثن قرب البحر الميت،فكان الموت ينتظرهم هناك أيضًا،إذ زحف أبو أمامةَ خلفَهم،وهزمهم فى جولة أخرى،وغَنِمَ المسلمون غُنْمَا حسنا.
وكانت هذه أولَ وقعة بين المسلمين والرومان منذ وصول جيوش أبي بكر الأربعةِ إلى الشام.
"والله لأُسَكِّنَنَّ وساوسَ الروم بخالد بن الوليد". كانت هذه هي العبارة التى نطق بها أبو بكر حين وصلتْه كتب أمرائه بالشام يستشيرونه فى أمر الروم وجموعهم الكثيفة بالأردنّ.
وكتب الخليفة إلى خالد بن الوليد بالعراق،ليسارع إلى الشام بنصف مَنْ معه من الجنود،ويستخلف المُثَنَّى بن حارثةَ على النصف الآخر،ولا يأخذ معه صاحبَ فروسية ونجدة إلا ترك عند المثنى مثلَه.. فالخليفة يخشى أن يُرَقِّعَ فى ناحية فيَخرِقَ فى الأخرى!
وطارت الكتب فى كل جهة،تتحدى ضعف وسائل الاتصال فى هذا الزمن،فهذه كتب أمراء الشام تستشير الخليفة بالمدينة فيما تصنع إزاء اجتماع الروم الضخم لهم،وهذا كتاب الصدّيق إلى خالد بن الوليد بالعراق يأمره بالتوجه إلى الشام،وذاك كتاب أبي بكر إلى عمرو بن العاص يُعْلِمُه بمسير خالد إليهم ويأمر المسلمين بالاجتماع جُنْدًا واحدًا،وذلك كتاب ابن الوليد إلى أبي عبيدة يخبره بمسير جند العراق نحوه.(1/528)
ورسمت حركة هذه الكتب شكل المعركة،إذْ أخذ كل من وصل إليه كتاب فى تنفيذ ما أمر به على وجه السرعة،حتى سار خالد بن الوليد بجيشه فى طريق من أصعب الطرق التى مرت بها الجيوش فى التاريخ.
لله رجالٌ حببهم فى أشياءَ فسخروها لطاعته،والتحببِ إليه،والتقربِ منه،وقد أحب خالد بن الوليد الحرب والجهاد فى سبيل الله،حتى صار "سيفَ اللهِ" الذى يَنْعَمُ بالزحف على العدو،ويستريح للكَرِّ والفرِّ فى ساحِ الوغَى .
ها هو الآن يحمل كتابَ أبي بكر إليه بالتوجه إلى الشام،فما أسرع ما ينتقى جنده،ويختار للمثنى مثلَهم،والبطولة عند خالد ليست تهورًا،ولا اندفاعًا أحمقَ،لذلك قرر أن يسلك طريقا يتلاشى الاصطدام فيه بالروم حتى يلتقى بإخوانه فى الشام،فتكون يدهم على عدوهم أقوى ...
ولكن ما هذا الذى يريده خالد؟ أيريد أن يُهلك نفسه وجنده؟! إن الطريق التى اختارها سيتحرك فيها مسيرةَ خمسةِ أيام دون أن تجود عليه صحراؤها بنقطة ماء.
وبدأ قلب الوجود يرتجف خوفا على خالد وجندِه المؤمنين من هذا الهلاك ولكن خالدا يطمئنه بالحجة فيقول: "لابد لي من ذلك لأخرج من وراء جموع الروم؛ لئلا تحبسني عن غياث المسلمين" نعم إنه يريد إغاثة المسلمين ونَجْدَتَهم،لذلك عزم هو وجنودُه،فتوكلوا على الله،واحتاطوا للرحلة الصعبة بكل ما يستطيعون بدأ خالد رحلته من الحيرة فاتجه شمالاً إلى قراقِرَ،فسُوَى،ثم مال وانعطف جنوبًا إلى تَدْمُر فالقريتَيْن كل ذلك ولا يخلو أمره من مناوشات وقتال محدود،حتى أتى ثَنِيَّةَ العُقاب،فنشر رايته السوداء رايةَ العزة التي كانت لرسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ،فاجتمعت له غسان بمَرْجِ راهطٍ فأغار عليهم وقتل منهم وسَبَى،واتجه صوب بُصْرَى،فوجد شُرَحْبِيل بنَ حَسَنَةَ على أبوابها،ففتحاها معا،ولما وصل خالد بجيشه إلى اليرموك أمطرت على المسلمين سُحُبُ الفرح والاستبشار.
لقد غُلبت القوميةُ المتعصبة أمام الدين منذ القِدَمِ،فها هى قبائل العرب المتنصِّرة بِتُخُوم الشام تعمل خدمًا وحارس بوابة للرومان،وتقف معهم يدا واحدة على المسلمين العرب ... وقرر خالد في مسيره إلى اليرموك أن يكسر شوكة هذه القبائل الصُّلبة،وهى غَسّان،فاتجه إلى قاعدتهم ومدينتهم الأمِّ بُصْرَى،فوجد شُرَحْبِيل بنَ حَسَنَةَ قد سبقه إلى هناك فى أربعة آلاف جندى ..
فقَوِيَ الزِّنْدُ،واشتد العَضُدُ،فقاتلوا القبائل وحلفاءَهم من الرومان خارج المدينة،فلجأت الفئران إلى جحورها من شدة الحرب،ودخلت الرومان وحلفاؤها تتحصن بالمدينة،وتحمي ظهورها ووجوهها من موتٍ مَرير،وعزموا أن يكتبوا إلى هرقل بالمدد.
وأتَى اللهُ أهلَ بُصْرَى من حيث لم يَحتسبوا،فخرج رجل منهم ودل المسلمين على ثغرة يقتحمون منها المدينة،فاقتحموها،وفتحوا أبواب الحصون المُحْكمة،فجَبُنَ الأعداء،وسألوا الأمان،فصالحهم خالد بن(1/529)
الوليد،وكان فتح بُصْرَى فى صيف سنة ثلاث عشرة من الهجرة،وهى أول مدينة يفتحها المسلمون بالشام،بعد وصول مدد خالد بن الوليد من العراق.
يا لعظمة الرجولة المزيَّنةِ بالإيمان حين تُضَحِّى،إنها تعطى وتعطى وتعطى،لاتفرق بين ميدان وميدان مادام الكل طاعةً لله،وقد انتقل خالد بن الوليد بنصف قوات المسلمين بالعراق إلى الشام بعد أن كسر بهم الفرس عدة مرات،ودَوَّخَ قواتِهم فى معاركَ كثيرةٍ،وفى الشام سجل هؤلاء الأبطال آية كبيرة من آيات النصر يوم اليرموك حين شاركوا إخوانهم هناك فى تشتيت شمل الروم،وسقَوْهم كؤوسَ الهزيمة المُرَّةِ.
وقد آن الأوان لكى ترجع هذه الصقور مرة أخرى إلى العراق،فالجبهة هناك تناديهم،جبهة الجموع الغفيرة،والقادة الخبراء،والإمبراطورية المجوسية الشرسة التى حشدت قواتها فى القادسية..
ولما وصلت بشارات النصر فى اليرموك إلى المدينة،كتب عمر بن الخطاب إلى صديقه الحبيب أبي عبيدة يأمره بصرف جنود العراق إلى العراق،ويأمرهم بالحث والإسراع إلى سعد بن أبى وقاص هناك.. وخرج الآلاف العشرة الذين قَدِمَ بهم خالد بن الوليد من قبل،وقد وُضع مكان كل شهيد منهم رجلٌ آخرُمن غيرهم،يقودهم هاشم بن عتبة،وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو،وعلى الميمنة والميسرة عمرو بن مالك الزُّهْرِى،وربعي بن عامر.. وكما يأتى كوب الماء لينقذ العطشان من الهلاك،جاء هؤلاء نجدة لإخوانهم فى معركة القادسية،فانقلب الميزان لصالح المسلمين،وحققوا نصرا كبيرا وبقى خالد بن الوليد إلى جانب أبي عبيدة يجاهد ضد الروم فى الشام،حتى توفاه الله هناك.
رتبت الأقدار موعدَها،واختارت ساحتَها،وموقعَها،تلك المعركة الأم فى صراع المسلمين مع الروم،وحقا لم تكن صراعا على مدينة عتيقة كدمشق أو حِمْصَ،إلا أنها شهدت حشودا عظيمة من الفريقين والمنتصر اليوم سيكون الأقربَ للاستيلاء على مدن الشام ووديانها وحواضرها اجتمع الرومان ونزلوا الواقوصة على ضفاف نهر اليرموك،وعسكر المسلمون بمحاذاتهم فى انتظار قوات خالد بن الوليد القادمة من العراق،وبوصولهم بدأ خالد ينظم جيشه ويوزع الأدوار على رجاله،ولم يستعجل الاصطدام بالعدو عند بدء مواجهته فى ساحة القتال،بل راح يعدِّل فى خطته لتتواءم مع ما رأى من قوات العدو فوزع خيلَه فرقتين لتأخذَ الرومَ من ظهورها إن اشتد ضغطُها على المسلمين... وفى وسط هذا الزحام واللقاء المرتقب لم ينس المسلمون التوجُّهَ إلى الروم بدعوتهم إلى دين الله،وتركِ ماهم عليه من الزَّيْغ والضلال،لكن القلوب كانت فى أغلفة من الغفلة والضلالة.
وراح عكرمةُ بن أبى جهل والقَعْقَاعُ بن عمرو يشعلان فتيلَ الحرب ليشتد وقودُها ويرتفع لهيبها،ما بين تقدمٍ وتراجعٍ،حتى نجحت خطة خالد بن الوليد فى تمزيق شمل الروم والدخول بين صفوفهم.. ومع أن البريد جاء من المدينة يخبر بوفاة أبي بكر وتولية عمر بن الخطاب وعزلِ خالد بن الوليد عن(1/530)
القيادة العامة ـ إلا أن القتال استمر حتى أعطت السيوف والقلوب كل ما لديها،وتحقق للمسلمين نصر مبين،وذلك فى جمادى الآخرة من السنة الثالثة عشرة للهجرة النبوية.
كأن هرقلَ أراد أن يبرئ ذمته من ذهاب مُلْكِ قومِه على يدِ هذه السهام المنطلقةِ من الجزيرة العربية،فلم يكتف بأن نصح الرومان بمصالحة المسلمين،بل راح يحشد كلَّ ما عنده من قوة.. وبلغه أن المسلمين قد تفرقوا ألويةً: على كل لواء أميرٌ،فقرر هرقل أن يرسل إلى كل طائفة من المسلمين ما لا طاقة لها به من الجنود،فلا يطيق المسلمون صبرا فى وجه ما يلاقون من جيوش الرومان الجرارة.. إنه يأخذ بالأسباب،ولكن فى وجه قَدَرٍ يعلم أنه لن يُدفع!
أما جيش عمرو بن العاص فقد توجه إليه تذارق أخو هرقل فى تسعين ألفا من قومه نزلوا بثنية جِلِّق بأعلى فلسطين وجاء الفيقار بن نسطوس يجرّ ستين ألفا نحو أبي عبيدة وبإزاء يزيد عسكر جَرَجَةُ بنُ تَوْذَرَا.. وأما شُرَحْبِيل فعسكر قبالته الدُّرَاقِص.
مشهد ليس غريبًا على التاريخ،فكم وقفت الكثرةُ بخُيَلائِها وزَهْوِها تُحادُّ اللهَ ورسلَه،فى وجه القلّة المؤمنة،فلم تكن كثرة العدد ولا قوة العُدة هى الحاسمة للموقف،مائتان وأربعون ألفا من الرومان فى وجه ستة وثلاثين ألفا من المسلمين.
وإذا كانت الروم قد أخذت بما لديها من الأسباب،فالمسلمون،أولى بذلك منهم،فدينُهم دين الله الحق،والأسباب هى قوانين الله الحق فى كونه وخلقه.. فكتب القادة المسلمون إلى أبي بكر وعمرو بن العاص يَستشيرُونَهُمَا فيما يفعلون إزاءَ هذا الموقف الخطير؟
خرجت الكتب وانطلقت الرسل بسرعة من القادة إلى عمرو بن العاص وأبي بكر الصديق،يستشيرونهما فى هذا الموقف الدقيق،فاتفق الرجُلان على أن الرأي هو الاجتماع،وقال عمرو: إن مِثلَنا إذا اجتمع لم يُغلبْ من قلة"...
إن نقطة الماء إلى نقطة الماء إلى نقطة الماء تخرق حجرا وتصنع بحرا،والحصاة مع الحصاة مع الحصاة تصنع جبلا وتبني سدا.. وأما الحديد فإذا تسلط عليه المِبْرَدُ لم يَعُدْ لذراته حولٌ ولاطَوْلٌ...!
وكتب خليفة رسول الله إلى خالد بن الوليد ليعبر من العراق إلى الشام مددًا لإخوانه هناك.
اتفق رأي المسلمين على الاجتماع فى عسكرٍ واحدٍ،ليُفَوِّتوا الفرصةَ على العدو الذى يريد أن يلتهمهم واحدا واحدا،وتواعدوا أن يجتمعوا عند اليرموك...
وبلغت الأنباء هرقلَ،فأرسل إلى قادته أن يجتمعوا هم أيضا،وأمَّرَ عليهم أخاه تَذَارق وأمدهم بباهانَ الذى قاتل المسلمين من قبلُ فى معركة مَرْجِ الصُّفَّر..
وتحركت جموع الروم الهائلةُ لهم جَلَبَةٌ وصوتٌ كالرعود القاصفة،حتى نزلوا بالواقوصة على ضفة اليرموك،واتخذوا وادي النهر خندقا يحتمون به،وهو فُرْجَةٌ صعبة بين جبلَيْن،فحطَّ المسلمون رحالَهم(1/531)
بمحاذاتهم على طريقهم الذي ليس لهم مخرج سواه،فقال عمرو بن العاص: "أبشِروا أيها الناس،فقد حُصِرَتْ ـ واللهِ ـ الرومُ،وقلّما جاء محصورٌ بخير".
أقام كل فريق بمنزله الذى نزل فيه صَفَرًا وربيعًا الأولَ من سنة ثلاث عشرة،لا يقدر أي منهما من الآخر على شيء،ولا يصل بعضهم إلى بعض،لكن الروم لا يخرجون خرجة إلا لحقت بهم الهزيمة،حتى وافى خالد بن الوليد المسلمين فى ربيع الآخر.
كانت نفوس الكثير من المسلمين فى اليرموك قلقةً مرتبكةَ الخُطَا خاصة حينما أتى الرومانَ مدد بإمرة باهان معه القساوسة والشمامسة والرهبان يصدون عن سبيل الله،ويحضون قومَهم ويحرضونهم على نَصر باطلهم.. فتكامل عدد الرومان بهذا المدد مائتين وأربعين ألفا: ثمانون ألف فارس،وثمانون ألف راجل،وثمانون ألفا رُبِطوا بالحديد والحبال؛ ليجبروا أنفسهم على القتال،وليُثبِّت الشجاعُ منهم الجبانَ،وما علموا أن سرعة الجبان عند الفرار أقوى من إقبال الشجاع على القتال!
فلما رأى المسلمون خالدا وجنده ذهب عنهم القلقُ،وفرحوا واستبشروا. ووجد قائد الشام الجديدُ خالد بن الوليد أن المسلمين قد اجتمعوا بمكان واحد ولكن صفوفهم لم تَتَّحِدْ بعدُ،فوحّد قلوبَهم أولاً،وحضّهم على الإخلاص لله ـ تعالى ـ وألا تُفرق الدنيا قلوبهم،ثم قام فنظم جيشه تنظيما عسكريا رائعا،ابتدأت بعده مواجهة العدو فى ساحة القتال.
العِقد ليس فقط أحفظَ للخَرَزِ من التشتت،ولكنه أيضا أجملُ هيئةً وأرضَى للنفس منظرا.. هذا ما صنعه خالد فى جنده باليرموك،فلم يكتف بجمعهم على قائد واحد،بل راح يوزع عليهم الأدوار،ويؤلف منهم الكتائب،فكانوا أهيبَ فى نفس العدو،وأحفظ لقوتهم من الشتات والضياع فى مقابلة الطوفان الروماني.
وها هو جيش خالد وعِقْده الرائع الذى نَظَمَه فى اليرموك؛ ستة وثلاثون فرقة،أو حتى أربعون،كل واحدة تضم ألف جندى عليهم أمير.. وكل جندى يَشعر بالدفء بجوار أخيه،بعد أن كاد صقيع الفرقة يَصْرَعُهُمْ بين يدي الرومان.
وجُعِل قلبُ المسلمين النابض أبو عبيدة على قلب الجيش،وعمرو بن العاص وشُرَحْبِيل بنُ حَسَنَةَ على الميمنة،ويزيد بن أبي سفيان على الميسرة،وعلى المشاة هاشم بن عتبة بن أبي وقاص،وعلى الخيالة خالد بن الوليد،وراية الميمنة فى يد معاذ بن جبل،وراية الميسرة مع نفاثة بن أسامة الكناني،وكان أعظمُ الناس مكانةً وأرفعُهم منزلةً أكثرَهم حَمْلا للمسئولية ومشاركةً فى الإعداد للنصر وتحقيقه،فكان أبو الدرداء قاضِيَ الجيش،وأبو سفيان بن حرب قاصَّهم الذي يَعِظُهم ويحضّهم على القتال،والمقدادُ بن عمرو قارئَهم الذى يدور على الناس فيقرأ سورة الأنفال وآياتِ الجهاد،وعبدُ الله بن مسعود على الغنائم،وقباثُ بن أشْيَم على الطلائع..(1/532)
وتزين جيش اليرموك بألف من صحابة محمد ـ - صلى الله عليه وسلم - ،بينهم مائة من أهل بدر،وخرجوا جميعا فى تعبئة لم تعبّئ العربُ مثلَها قَطّ.
صمت كل شيء،وجاء دور السيوف والرماح والسهام لكي تقول رأيها.. فأقبلت الروم فى خُيَلائها وفخرها،وقد ملأوا البُقعةَ؛ سهلَها ووعْرَها،كأنهم غَمامة سوداء،يرفعون الصليب ولهم أصوات كالرعد،والقساوسة والبطارقة يُحرضونهم على القتال،ويَتْلون الإنجيل.
وخرج المسلمون،والمائة من أهل بدر يسترجعون ذكرياتِ لقائهم الأول مع الكفر،يومَ غَلَبُوا الفئةَ الكثيرة المشركةَ بإذن الله،وبقيةُ المسلمين يسترجعون ما ذُكر ورُوي لهم من أحداث بدر،وخاصة حينما يسمعون المقداد يقرأعليهم سورة الأنفال.
وكان الصحابة جبالَ صبرٍ ويقينٍ يرون كلَّ هذه الجموع من الرومان جبالا من الرماد،أو ظلا لرجل ميت،لكن شيوخ الصحابة،رأوا بعضَ مَنْ حولهم من المسلمين وقد هزهم منظر الرومان حينما صاروا معهم وجها لوجه،فراحوا يُثَبّتون الناس،ويشجعونهم على الجهاد،ويحضونهم على التضحية فى سبيل الله ـ تعالى ـ وتكلم خالد بأن الكثرة تَقِلّ بالخُذلان،وأن القلة تَكْثُرُ بالصبر.
فلما تَرَاءَى الجمعان،وأصبحت السيوف مستعدة للحديث،رأى الأميرُ خالد بن الوليد أن يعدّل فى خطته.
أجال خالدُ بصرَه فيما حوله وفيمن حوله،فرأى أن في الصدمة الأولى خطرا على جيشه؛ لأن الروم ستحاول أن تضرب ضربتَها الكبرى مع هذه الصدمة.. فذهب القائد إلى أبي عبيدة يستشيره في أن يفرق الخيل فرقتين،تتحرك إحداهما وراء الميمنة،والأخرى وراء الميسرة،فإذا ضربت الرومُ ضربتها جالَتْ خيلُ المسلمين وأخذت الرومَ من ورائهم. فامتدح أبو عبيدة هذا الرأى.
وتوزعت خيل المسلمين كجزيرتين وسط هذا البحر الواسع من الرمال والناس،وذهب بإحداهما خالد وراء ميمنة المسلمين،وذهب بالأخرى قيس بن هبيرة وراء الميسرة.. وإتمامًا لهذه الخطة تأخر أبو عبيدة عن القلب إلى وراء الجيش كله،حتى إذا رآه المنهزم استحْيَا ورجع إلى القتال،وقام سعيد بن زيد مكان أبي عبيدة فى قلب الجيش..
حتى النسوة ذهبت منهن الرهبةُ،ووقفن جُدُرًا وراء جيش المسلمين يحملْنَ السيوف لردع مَنْ يريد تَرْكَ الميدان من المسلمين.
وهنا نُنْصِتُ لكي نسمع صوت السيوف وصيحاتِ الأبطال،ولكن حتى فى هذه المرة يتأخر الأمر حتى يَعْرِضَ المسلمون على الروم أن يختاروا واحدة من ثلاث: الإسلام أو الجزية أو الحرب.
ذهبت الرهبة والتّحَسُّبُ من نفوس المسلمين،وحملوا إلى الروم رايةً تبين غرض خروجهم،فما أخرجهم جَدْبُ بلادِهم ولا فقرُها،وما حملهم إلى الشام غناها ولا ثراءُ أهلِها،وإنما (.. حتى لا تكونَ فتنةٌ(1/533)
ويكونَ الدينُ كلُّه لله.. )،حتى يصل صوت دعوة الله إلى الناس جميعا،فلا يكون لأحد على الله حجةٌ بعد البلاغ.
فلما تقارب الخَصْمان تقدم أبو عبيدة فى نفرٍ من المسلمين،ونادَوْا بأنهم يريدون أميرَ جيوش الروم،فلما دخلوا عليه وجدوه عبدَ دنيا: خيمتُه من حرير وبُسطُه التى يدوسها بأقدامه ويقعد عليها من حرير،فأبَوْا إلا جلوسَ المؤمنِ المتواضعِ بعيدًا عن هذا الزخرف...
ويقعد أمير جيش الروم تلميذا بين يد أساتذة الدنيا وتلاميذ محمد ـ - صلى الله عليه وسلم - ،يعرضون عليه الإسلام عزَّ الدنيا والآخرةِ،فإن كان يعجبه دينه فالجزية،وإلا فالحرب حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا.
قالوا ذلك فى غير رهبة،فثقتُهم فى الله أقوى من جيوش الروم وعتادهم،وقالوه فى غيرِ كِبْرٍ؛ لأن حبهم لإيمان عدوهم أكبر من حبهم لذهب كسرى وقيصر.
وكان الكبر والتعنت سيدَ الموقف الرومانى،فأبوا إلا الحرب...
الحرب صامتة،لكن هناك فارسين يتلاعبان فوق الخيول ويتقدمان لإزالة هذا الصمت،عكرمة بن أبى جهل والقعقاع بن عمرو،والحرب عندهما أنشودة يغنيها السيف،وراحا مع ذلك ينشدان بالفم،حتى ابتدأت المبارزات الفردية وكأنها إحماء الأبطال بين يدى المعركة..
وسرعان مادنت صفوف المسلمين من صفوف الروم حتى التحم الجيشان وعض كل فريق على أسنانه،وقاتلوا قتالا شديدا،ما بين ضرب بالسيف وطعن بالرمح ورمى بالسهم،وحضر الموت يتخطف الناس من هنا وهنا...
وحملتْ ميسرةُ الروم على ميمنة المسلمين حملةً شديدة،حتى زاغت الأبصار،وتردد النفَس الخائف فى صدور الناس،ثم عادت العافية إلى جنود الله وثبتوا ثباتا عجيبا فى وجه عدوهم،وأعاد الروم المحاولة مرة أخرى،فأقبلوا،كأنهم جبال من البشر،يزحفون نحو ميمنة المسلمين،والغبار يرتفع فى سماء المعركة.. ويتراجع المسلمون وفيهم الكثيرمن الأبطال أمام الزحف الرومى الكاسح،وكادت الحرب تأكلهم،لولا أن أفاقت زَبِيدُ بعد التراجع والانهزام،وراح رجالها ينادى بعضهم بعضا بميثاق الدين ثم ميثاق الدم،حتى رجعوا فحملوا على الروم حملةً شديدةً بعمق إيمانهم وحماستهم،حتى هزوا أعداء الله وردوهم عن تتبع من فر من المسلمين.
وجاء دور خَيَّالة القائد خالد بن الوليد،حيث هاجموا الروم حتى دخلوا بين صفوفهم،وأروهم الموت الأحمر،ففزعوا وامتلأت قلوبهم رعبا،ولم ينفعهم عدد ولاعتاد،وظلوا ينهزمون ويتراجعون بين يدى المسلمين حتى دخل خالد بن الوليد خيمةَ قائدِهم الأكبرِ،وأكمل فيها الليل.
وبينما الحرب متقدةٌ،والقتال على أشُدِّه جاء البريد من المدينة بأخبار رأى القائد الحكيم خالدُ أن يؤجل إعلانَها حتى تضع الحرب أوزارها.(1/534)
وقف خالد بن الوليد فى المعركة وعيناه كعينى الصقر،يرقب الموقف،ويتابع سير الحرب،ويدبر أمر القتال ببراعة،ويبعث إلى قومٍ من أصحابه بما ينبغى أن يفعلوه،فلما رأى ميمنة المسلمين تنهار مقاومتها أمام ميسرة الروم،حمل بالخيالة على الروم،وكل بطل معه يحمل الموت لعدوه فى حد سيفه،فنفد صبر الروم ومقاومتهم أمام هؤلاء الذين أقبلوا لا يخشون الموت ولا يهابون سيفا ولا رمحا،فتراجع العدو،وأوسع فيهم المسلمون قتلا،وأطعموا الأرض ستة آلاف قتيل من الرومان.
ويشد خالد من أزر رجاله ويقسم لمن حوله بالذى خلق السموات والأرض: " والذى نفسى بيده،لم يبق عندهم من الصبر والجلَد غير ما رأيتم،وإنى لأرجو أن يمنحكم الله أكتافهم " ثم حمل بمائة فارس على جمع كبير من الروم،فكثرت القلة بالإيمان،وقلت الكثرة بالشرك والكفران..وطمع خالد فى الروم أكثر من ذلك،حتى فوجئ به العدو يقف بين صفوفهم،فسيطر عليهم الخوف،وهزمهم الرعب من داخلهم،فكان راكبو الخيول منهم أكثر قدرة على الفرار والنجاة بأنفسهم،وتركوا زملاءهم من المشاة لتحصدهم السيوف حصدا،ويحل ظلام الليل وأرواح جنود الروم تسيل على سيوف المسلمين سيلا،حتى قُتل منهم مائة وعشرون ألفا،من بينهم القائدُ العامُّ شقيقُ هرقلَ تَذَارقُ الذى أكمل خالد الليل فى خيمته.
ونال أعظم الحسنيين " الشهادة " ثلاثةُ آلافٍ من المسلمين،فيهم عدد من الصحابة.
في وسط الضجة العالية للسيوف،وصيحات القتل والموت،يأتى مَنْ يتحدث فى أذن خالد بن الوليد بأنه يحمل بريدا من المدينة،ويفتح خالد الكتاب ليقرأ كلماتِ أبي بكر،وتمر عيناه بسطور الكتاب فإذا هو ليس من أبي بكر،بل هو يَنْعِى الصديق ويخبر بوفاته،وأن عمر بن الخطاب،قد تولى بعده،وأمر الخليفة الجديد بتولية أبي عبيدة القيادةَ العامةَ لجيوش الشام.
اجتاحت نفسَ خالد حيرةٌ وحزنٌ،لكنه قرر سريعا ألا يُعلِم المسلمين بما انطوت عليه رسالة المدينة،حتى لا يتسرب إليهم الضعف والوهَن،حزنا على صاحب رسول الله ورفيقه العظيم.
واشتغل ابن الوليد بما كان فيه من تدبير أمور الحرب،وأوقف الرسول الذى جاء بالكتاب إلى جانبه.
في لوحة خالد بن الوليد النفسيةِ عَظُمَتْ قيمةُ المبادئ التي يؤمن بها،والعقيدةِ التي يعتنقها وصَغُرَ عنده وزن نفسِه،حتى تراه بعد أن هدأت الحرب،وأسلم الرومان أنفسهم للموت أو الهرب ـ مقبلاً يخبر المسلمين بما حمله البريد إليهم من وفاة أبي بكر ـ رضى الله عنه،وتولية عمر،وجاء إلى أبي عبيدة يسلمه قيادة المسلمين بالشام،راضِى النفسِ،بعد هذا النصر الذى تحقق بإذن الله تحت قيادته.
ويالَها من أنفسٍ ذابت حبا لدينها،فلم تنجح الدنيا فى التفريق بينها،فما انشغلوا بالنزاع على القيادة بل انشغلوا بالحزن على هذا الرجل الذى ودع: أبي بكر،حتى لم يكن حزنهم عليه أقل من فرحهم بالنصر على عدوِّهم!(1/535)
كانت دعوات الشيوخ والعجائز والنساء من المسلمين بالمدينة المنورة تصل إلى إخوانهم بالشام فتمطر عليهم فى وقعة اليرموك نصرًا لا تصنعه السيوف وحدها.. ومن المدينة أيضا وبينما المسلمون يكتبون سطرًا من سطور التاريخ المجيدة جاء كتابٌ حزينٌ يخبر بوفاة الصِّدِّيقِ،وتَوَلِّى عمر بن الخطاب الذى سلَّم القيادة العامة لجيوش الشام إلى أبي عبيدة بدلا من خالد بن الوليد.
وفى زمن الخليفة الثانى سقطتْ دُرَرُ الشام ولآلِئُها فى يد المسلمين،ففتحوا دمشق عاصمةَ المجد وما يتبعها من المدن والشواطئ،كما وطِئَتْ خيولُهم حِمْصَ وقِنَّسْرِينَ وما حولها،وأسلمت الأُردنُّ إلى المسلمين قلائدَها الذهبية،وفَتحت فِلَسْطِينُ أمامهم أبوابَها السماويةَ..
وأصاب المسلمين بلاءٌ عظيم بطاعون عَمَواس،الذى ماتت فيه كوكبة من الصحابة المجاهدين وغيرهم،وبقى المسلمون بعدها فى الشام يثبتون أقدامهم،ويكافحون الانتفاضاتِ ومحاولاتِ الاسترجاع الرومانيةَ حتى توفي أمير المؤمنين عمر بعد أن زار الشام ليمسحَ عن رعيته الآلام النفسية التى أصابتهم مع الطاعون ونظمَ شؤون البلاد.
لم تكن اليرموك بموقعها وأثرها الخطير فى فتوح الشام سوى واحدةٍ من معارك فتح الأردنّ،وجاءت بعدها عدة معارك خضعت الأردنّ كلها على أثرها للمسلمين،وسلَّمت إليهم قيادَها،وعلى رأس هذه المعارك موقعة فحل التى تجمع فيها المنهزمون من أهل اليرموك إلى قوات أخرى من الروم،وقاد الحرب شُرَحْبِيلُ بنُ حَسَنَةَ الموَكَّل به وبجيشه فتح الأردنّ،وبعد النصر استعان شُرَحْبِيلُ بقوات عمرو بن العاص حتى فتح بَيْسَان،وفتح أبو الأعور السلمى طَبَرِيَّةَ صلحًا،وتم خضوع الأردنِّ لجيش شُرَحْبيل ففتح سوسِيَّةَ وجَرَشَ والجَوْلان وغلب على سواد الأردنِّ وجميعِ أرضها.
كره المسلمون بعد فتحهم دمشق أن يواجهوا هرقل فى حمص وخلفهم ثمانون ألفا من الروم فى فحل،ولذا قرروا أن يلتفتوا إلى هؤلاء أولا،فتحرك المسلمون يقودهم شُرَحْبِيل بنُ حَسَنَة جهةَ فحل،يشغل بالَهم ذلك الطين والوحل الهائل الذى صنعه الروم ليمنعوا وصول المسلمين إليهم،إن هذا الوحل لا تثبت فيه أقدام بشر ولا حوافر فرس،فأى كيدٍ جبانٍ صنعه الأعداء.. ويسلم المسلمون أمرَهم إلى الله ويزحفون نحو فحل حتى التقوا بأبى الأعور السلمى المحاصِر لفحل،فيوجهه أبو عبيدة لفتح طَبَرِيَّة،ويتواصل الزحف نحو فحل فإذا بأهلها قد هجروها ونزلوا بَيْسانَ،فنزل شُرَحْبِيل بجنده أمامهم فى فحل.
وبينما كان الروم يمكرون،ويبيتون فى الظلام خدعةً للمسلمين حرص القائد شُرَحْبيل على أن يكون المسلمون على تعبئة واستعداد ليل نهار،حتى يأتيهم رأى أمير المؤمنين من المدينة. وجاء مكر الروم وخدعتهم فى هيئة هجوم ليلى مباغت على المسلمين،لكنهم فوجئوا هم أيضا بيقظةِ المسلمين وانتباههم لهم فنهض المسلمون للروم كما ينهض الأسد للذئب،وقاتلوهم قتالا شديدا حتى طلع الصباح دون أن يكشف عن نصر لأى من الفريقين فلما جاء الليل أُنهِك الروم،وسيطر عليهم التعب(1/536)
والإعياء،وحاروا وسط الظلام،فأخذتْهم سيوف المسلمين حتى هزموا وقُتل قائدهم فى هذه الواقعة سقلار بن مخراق،وفرَّ مَنْ بقى من الرومان لا يدرون إلى أين يتجهون،فأسلمتهم الهزيمةُ والفرارُ إلى الوحل الذى صنعوه بأيديهم كيدا للمسلمين،فوخزهم المسلمون بأطراف الرماح فحاقت بهم هزيمة فادحة،ولم ينج منهم إلا الشريد الهارب.
بعد الانتصار فى فحل انفتح الطريق أمام المسلمين إلى بَيْسان،وأصبح سقوطها مسألةَ وقتٍ،فنهض إليها شُرَحْبِيل بن حَسَنَةَ ومعه عمرو بن العاص،وكانت أنباء فتح دمشق وما لقى الروم فى فحل قد سبقت المسلمين مدوية فى كل أنحاء الأرض،واختطف الخوف والرعب قلوبَ أهل بيسان،فهم إن تحصنوا فى مدنهم حوصروا وقهروا،وإن خرجوا للقتال حوربوا وغُلبوا..
فلما نزل المسلمون بَيْسان،وجدوها قد اختبأت فى جلدها،وتحصنت بكل شيء لديها ولكن هل تبلغ تحصيناتُها ما بلغتْه دمشق؟! هذا أمر صعب وبعيد،ولذلك خرج الرومان وأعوانهم للقتال،فشربوا كئوسَ الهزيمة مملوءة،ولم يكن لهم ملجأ سوى طلب الصلح،فقبل المسلمون منهم ذلك،ولم يتعنتوا معهم،وصالحوهم على مثل صلح دمشق.
الكلام أسرع انتشارا من الجيوش،وأسبق أثرا منها،وقد سعت أخبار فتوحات المسلمين وانتصاراتهم إلى أنحاء الشام على غير قدمين،فكان ذلك جنديا يقف فى صف المسلمين،ويقنع الأعداء بأنه لا فائدة من مقاومة كتائب الشهداء الأحياء من المسلمين..
وصل أبو الأعور السلمى إلى طَبَرِيَّة فى فريق من جيش المسلمين يسبقهم الرعب والخوف إلى الأعداء،فطلب أهل طَبَرِيَّةَ الصلح،وقبل المسلمون على شروط صلح دمشق.
وتولى شُرَحْبِيلُ إتمام ما كلفته الخلافة به من فتح الأردنّ،فمال إلى سُوسِيَّةَ ففتحها،وأخذ يلتقط مدن الأردنّ وقراها من الروم واحدة تلو الأخرى،كما يلتقط الطائر الحبَّ،ففتح أَفِيقَ،وجَرَشَ،وبَيْتَ رَأْس،وقَدَسَ،والجَوْلانَ،وغلب على سواد الأردنّ وجميعِ أرضها.
وبهذا أصبح المسلمون على أبواب فِلَسْطِينَ لتبدأ ملاحمها وفتوحاتها العظيمة عقب الانتهاء من فتح حمص وما يلحقها.
هنا وجوه فرحة مستبشرة بنصر الله،وهناك وجوه عابسةٌ متشائمةٌ قد ركبها الحزن،فأما هنا ففى المدينة المنورة وحول مسجد رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - حيث يهنئى المسلمون بعضهم بعضا بالنصر فى اليرموك،وأما هناك ففى الشام قرب المسجد الأقصى حيث تصل هذه الأنباء إلى هرقلَ وأتباعِه فيُصْعَقون.
ويأمر أميرُ المؤمنين الجديد بتنفيذ وصية أبي بكر وإعادة جند العراق إلى جبهة القتال مع فارس،بينما ينسحب هرقلُ إلى الوراء والكآبة تكاد تقتله،ويجعل حِمْصَ بينه وبين المسلمين،ويقوِّى دفاعاتِه بها وبدمشق،ويترك على كل مدينة أميرا يتولاها.(1/537)
وينطلق جيش اليرموك المنتصر يقوده أبو عبيدة بن الجراح،وهو يريد أمرين: اتباعَ المنهزمين من الروم يوم اليرموك،وفتحَ دمشق،وبينما هو على هذه الحال تأتيه الأنباء بأن منهزمى الرومان قد لملموا أشتاتهم،وتجمعوا فى عدد كبير بفحل من الأردنّ،وأن أهل دمشق قد جاءهم مدد كبير من حمص فحار أبو عبيدة بأيهما يبدأ: أبقتال أهل فحل أم بحرب أهل دمشق؟ وبعد استشارة أمير المؤمنين استقر الرأى على البدء بدمشق،وشَغْلِ أهل فحل عن القتال ببعض خيالة المسلمين..
ويؤَمِّن القائد أبو عبيدة سير جنوده إلى دمشق،فيرسل فرقه العسكرية بين المدينة وما جاورها من المدن والأنحاء المكدسة بقوات الروم وأنصارِهم،ثم يضرب حصارَه حول دمشق من كل جهاتها..
ومرت أشهر: فلا المسلمون رحلوا،ولا أهل دمشق سلَّموا،وفى شهر رجب من سنة أربع عشرة من الهجرة اقتحم خالد بن الوليد المدينةَ من بابها الشرقى بالقوة،ودخلها المسلمون من بقية الأبواب صلحًا،وأقر المسلمون الصلحَ مع أهل دمشق،فكان الفتح نصرًا عزيزًا للمسلمين،وهزيمة جديدة وثقيلة للرومان فى بلاد الشام،وقد حاولوا فيما بعدُ استردادَ دمشق ولكنهم فشلوا،لتبقى فى أحضان المسلمين وحوزتهم،بل اتسع سلطان المسلمين هناك بما فتحه يزيد بن أبى سفيان من مدن الساحل المقابلِ لدمشق.
النصر لا يعرف الغفلة مهما تكن قوة الإعداد وكثرة الأعداد،ودمشق تحيط بها مدن مكدسة بجموع الروم،فى حِمْصَ وفلسطين وفحل،فكيف تلتقط هذه الجوهرة الغالية من بين أنياب المتحفزين؟!
أيقن أبو عبيدة أن دمشق لن تفتح مادامت ظهور المسلمين فى خطر،وليست دمشق مدينة سهلة الفتح حتى يقاتل المسلمون مَنْ فيها ويردوا مَنْ يأتيهم من الخلف.
لذا بعث أبو عبيدة بفرق المقاتلين لتعسكر بين دمشق وما أحاط بها،فسارت فرقة من جنود الخيالة إلى فحل لتشاغل جيش الروم هناك،وسار ذو الكَلاع فى فرقة أخرى لترابط بين دمشق وحمص،وتحُول دون وصول إمدادات إلى دمشق من الشمال،وأما يزيد بن أبى سفيان فقد بعثه أبو عبيدة ليرابط بين دمشق وفلسطين،فى حين رابط أبو الدرداء فى برزة على مقربة من دمشق حماية عامة لجيش الفتح الإسلامى .
هنا وجوه فرحة مستبشرة بنصر الله،وهناك وجوه عابسةٌ متشائمةٌ قد ركبها الحزن،فأما هنا ففى المدينة المنورة وحول مسجد رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - حيث يهنئى المسلمون بعضهم بعضا بالنصر فى اليرموك،وأما هناك ففى الشام قرب المسجد الأقصى حيث تصل هذه الأنباء إلى هرقلَ وأتباعِه فيُصْعَقون.
ويأمر أميرُ المؤمنين الجديد بتنفيذ وصية أبي بكر وإعادة جند العراق إلى جبهة القتال مع فارس،بينما ينسحب هرقلُ إلى الوراء والكآبة تكاد تقتله،ويجعل حِمْصَ بينه وبين المسلمين،ويقوِّى دفاعاتِه بها وبدمشق،ويترك على كل مدينة أميرا يتولاها.(1/538)
وينطلق جيش اليرموك المنتصر يقوده أبو عبيدة بن الجراح،وهو يريد أمرين: اتباعَ المنهزمين من الروم يوم اليرموك،وفتحَ دمشق،وبينما هو على هذه الحال تأتيه الأنباء بأن منهزمى الرومان قد لملموا أشتاتهم،وتجمعوا فى عدد كبير بفحل من الأردنّ،وأن أهل دمشق قد جاءهم مدد كبير من حمص فحار أبو عبيدة بأيهما يبدأ: أبقتال أهل فحل أم بحرب أهل دمشق؟ وبعد استشارة أمير المؤمنين استقر الرأى على البدء بدمشق،وشَغْلِ أهل فحل عن القتال ببعض خيالة المسلمين..
ويؤَمِّن القائد أبو عبيدة سير جنوده إلى دمشق،فيرسل فرقه العسكرية بين المدينة وما جاورها من المدن والأنحاء المكدسة بقوات الروم وأنصارِهم،ثم يضرب حصارَه حول دمشق من كل جهاتها..
ومرت أشهر: فلا المسلمون رحلوا،ولا أهل دمشق سلَّموا،وفى شهر رجب من سنة أربع عشرة من الهجرة اقتحم خالد بن الوليد المدينةَ من بابها الشرقى بالقوة،ودخلها المسلمون من بقية الأبواب صلحًا،وأقر المسلمون الصلحَ مع أهل دمشق،فكان الفتح نصرًا عزيزًا للمسلمين،وهزيمة جديدة وثقيلة للرومان فى بلاد الشام،وقد حاولوا فيما بعدُ استردادَ دمشق ولكنهم فشلوا،لتبقى فى أحضان المسلمين وحوزتهم،بل اتسع سلطان المسلمين هناك بما فتحه يزيد بن أبى سفيان من مدن الساحل المقابلِ لدمشق.
النصر لا يعرف الغفلة مهما تكن قوة الإعداد وكثرة الأعداد،ودمشق تحيط بها مدن مكدسة بجموع الروم،فى حِمْصَ وفلسطين وفحل،فكيف تلتقط هذه الجوهرة الغالية من بين أنياب المتحفزين؟!
أيقن أبو عبيدة أن دمشق لن تفتح مادامت ظهور المسلمين فى خطر،وليست دمشق مدينة سهلة الفتح حتى يقاتل المسلمون مَنْ فيها ويردوا مَنْ يأتيهم من الخلف.
لذا بعث أبو عبيدة بفرق المقاتلين لتعسكر بين دمشق وما أحاط بها،فسارت فرقة من جنود الخيالة إلى فحل لتشاغل جيش الروم هناك،وسار ذو الكَلاع فى فرقة أخرى لترابط بين دمشق وحمص،وتحُول دون وصول إمدادات إلى دمشق من الشمال،وأما يزيد بن أبى سفيان فقد بعثه أبو عبيدة ليرابط بين دمشق وفلسطين،فى حين رابط أبو الدرداء فى برزة على مقربة من دمشق حماية عامة لجيش الفتح الإسلامى .
كان جُرح اليرموك فى نفوس الروم عميقا،فاجتمع الفارُّون منهم بفحل،يراودهم أمل فى النصر،لكنه محاط بغيوم من الشك والخوف،فبعث إليهم أبو عبيدة فرقة من عساكره تقطع عنهم الأمل إذا وسوست لهم أنفسهم أن يهاجموا ظهور المسلمين المتجهين إلى دمشق..
وسارت هذه الفرقة من مَرْجِ الصُّفَّر التى نزلها المسلمون بعد انتصار اليرموك،إلى موضع قريب من فحل،فقطعت وساوسَ الروم عن مهاجمة المسلمين على أبواب دمشق،بل خافوا على أنفسهم فأوحى إليهم الجُبْن أن يُغرقوا الأرض بينهم وبين المسلمين بالماء،فصارت وحلا صعبا،حزن المسلمون له،لأنه(1/539)
حالَ بينهم وبين عدوهم،لكن أهل فحل حُصِروا،فكانوا أولَ محصورٍ فى الشام فى فتوح المسلمين لها ... وقد فرغت يدا أبي عبيدة من فتح دمشق ثم اتجه إلى فحل ليصفي الوجود الرومى هناك.
وقفت دمشق حائرة بين فريقين: أحدهما حرَّفَ شريعة نبيه واخترع فى ملَّتِه ما ليس منها،والآخر نجم سطع فجأة بالشريعة المستقيمة التى نسخت ما سبقها،وسرُّ حيرة دمشق أنها ترجو أن ترفع فى سمائها راية الحق وحدها مكتوبا عليها:لا إله إلا الله محمد رسول الله....
لكن كيف ذلك والحصون والأسوار تخنقها من كل جهة فما من نقطة حول المدينة إلا وعليها حصن أو باب حصن أو سور،وتحت السور خندق مملوء بالماء،ووراء كل ذلك حرس يقظان ليل نهار؟!
لكن متى كان عدد العدو وعتاده أو جنوده وحصونه سببا فى هزيمة المسلمين؟ إنهم يعلمون أن أكبر ثغرة يمكن أن ينتصر العدو من خلالها هى الذنوب والمعاصى،لأنها توقع خصاما بين العبد وبين السماء،فلا يرتفع منه إلى الله نداء،ولا يصعد منه إلى مولاه دعاء،لذلك كان قادة المسلمين يحذرون رجالَهم دائما من الذنوب،وخاصة أبا عبيدة الذى تحرك بجنودة من مَرْجِ الصُّفَّر إلى دمشق،فكان أول ما بدأ به منها أن احتل الغُوطَةَ،كى يقطع عن دمشق أى مساعدات من جهتها..
ويتقدم جيش المسلمين ليضرب حصارًا حديديًا حول دمشق،فينزل كل قائد منهم بجنوده على باب من أبواب المدينة الحصينة منتظرين فرصة لاقتحامها،ناصبين المجانيق والدبابات... وصبر المحصورون على ذلك صبرا شديدا،رجاء أن يصلهم مدد من هرقل.
مازال هرقل يخط فى صفحات التاريخ محاولاتٍ يائسةً لدفع قدر الله،فيرسل إلى دمشق مددا،خشية أن تسقط،فيأتى الدور على حمص،ويرث المسلمون كلَّ ما تحت قدميه من المدن..
ويخرج هذا المدد،فلا يجد إلا خيل ذى الكَلاع الحِمْيَرى التى بين دمشق وحِمْصَ فى انتظاره،فانشغل بها المدد عن إغاثة أهل دمشق،وفكِّ الحصار عنهم،فعسكر فى مقابل خيل المسلمين،وتجمد الموقف تحت صقيع الخوف والتحسب..
وبقيت دمشق تحت الحصار،يتراكم اليأس على نفوس أهلها،حتى لم يعد لهم شيء يثقون فيه ويعتمدون عليه سوى قوة تحصينات المدينة والشتاء المنتظر بصقيعه الشديد بينما قَوِى الأملُ فى نفوس جنود الحق،ورأوا وعود الإسلام بفتح هذه الأماكن تتحقق أمام عيونهم.
دخل الشتاء ومازال المحاصرون مقيمين حول دمشق،فانتفخ الأمل لدى الرومان مع اشتداد البرد كما ينتفخ الورم،وظنوا أن المسلمين مثلُ كلِّ مَنْ حاصر دمشق من قبل،سيحملون أمتعتهم ويرحلون حين يَعَضُّهم البرد والشتاء.
ولكن المسلمين ظلوا يلبسون ثياب الصبر والمصابرة،حتى تبخر الأمل فى رحيلهم من نفوس الرومان،ورأوا الشتاء يزيد المسلمين صلابة،وتلك هى روح الإيمان التى تجعل صاحبها فى مواقف القوة أصلب من الصخور،وفى مواضع اللين أرق من نسمة الهواء وقطرة الندى .(1/540)
وشاء الله الذى بيده الأمر كله أن يجد المسلمون من الرومان لحظة غفلة،فوجد خالد بن الوليد وجندُه أن هذه فرصة سانحة لاقتحام المدينة الرائعة دمشق،فالهدوء يسود الأسوار،وصوت الحراسة ليس واضحا ككل ليلة،فصعد المسلمون أسوار المدينة،حتى فتحوا الباب الشرقى منها،فدخلها خالد ومن معه عَنْوة وقهرا بعد جهد حربى عظيم..
ووجد خالد وجنوده فرق جيش المسلمين الأخرى قد دخلت المدينة من جهاتها المختلفة بعد أن سلمت لهم حامياتُها،فعقد صلح دمشق.
وكان الفتح فى شهر رجب من سنة أربع عشرة من الهجرة،أى بعد بسنة كاملة وأكثر قليلا.
تعلموا من رسولهم أن يُغلِّبوا الرحمة على القسوة،ويقدِّموا العفو على العقوبة،وألا يُخيَّروا بين أمرين إلا اختاروا أيسرهما وأرفقهما ما لم يكن إثما،وقد رأى فريق من الصحابة الذين شَرُفت دمشق بالفتح على أيديهم أنها فتحت بالقوة والقهر،ورأى فريق آخر منهم أنها فتحت صلحا،ولو دققوا لوجدوا أن المصالحين من الروم لم يطلبوا الصلح إلا حين قهرهم خالد بن الوليد واقتحم عليهم المدينة من بابها الشرقى .. لكن صحابة رسول الله اتفقوا فيما بينهم على أن يجعلوا نصف دمشق صلحا ونصفها فتحا بالقوة،فملك أهلها نصف ما كان بأيديهم،وأخذ المسلمون النصف الآخر.
كما أخذ منهم المسلمون الجزية دينارا فى السنة على كل رأس،وأخذوا خراج الأرض جريبا من الكيل عن كل جريب من الأرض.. وأما ما كان لأمراء الروم ومَنْ حارب معهم فقد أخذه المسلمون فَيْئًا.
وكتب خالد بن الوليد لأهل دمشق كتابا بهذا الصلح،وشهد عليه قادة المسلمين وأمراء جيوشهم.
لقد تحقق بفتح دمشق الهدفُ الذى خُصِّص له جيش يزيد بن أبى سفيان،لذا تركه أبو عبيدة هناك يكمل فتح مدن الشاطئ الدمشقى،فراح جيش يزيد وعلى مقدمته أخوه معاوية يجول على الشاطئ،حتى فتح الله عليه صَيْدا وصُور وطرابُلس وبيْروت فتحا يسيرا،كما تسقط الثمرة الناضجة بسهولة فى يد جانيها،وجلا كثير من أهل هذه المدن عنها،آملين أن يعودوا إليها منتصرين فى صحبة إخوانهم فى الدين من الرومان..
وفى نفس هذه الفترة قام معاوية بن أبى سفيان بفتح عَرْقَةَ فى ولاية أخيه يزيد ليكتمل فتح مدن الشاطئ القريبة من دمشق.
تحرك توذرا بخيله نحو دمشق،ونفسُه تحدثه بإعادة مجد الروم فى الشام،وردِّ هؤلاء القوم الذين عكَّروا على الروم صفوَ انتصاراتهم على الفرس،مع أنهم لم يكن أحد يحسب لهم أى حساب،وحدثته نفسه بأن القوم إما مشغولون فى حمص بقتال شُنش وجنْده الكثيف الذى يصعب هزيمته،وإما نيام فى دمشق الجميلة بين زروعها وأنهارها.(1/541)
وبلغ يزيدَ بن أبى سفيان الموجودَ فى دمشق زحفُ الروم نحوه،فخرج لقتالهم دون أن يدرى هو ولا الروم أن خالد بن الوليد قد انفصل بقطعة من الجيش وسار فى ذيل توذرا ومن معه وما بين أحلام كاذبة وخططٍ فاشلةٍ وقع الروم بين فكى الأسد،فلاقاهم يزيد من ناحية،وحصرهم خالد من ناحية،وحصد الموت كثيرا من الرومان حتى نفذ إلى قائدهم،ولم يفلت منهم إلا الشارد الهارب.. وغنم المسلمون منهم أموالا عظيمة،قسَّمها يزيد فى جنده وجند ابن الوليد...
كانت بعلبك إحدى المدن التى تعددت فيها معادن الناس،ما بين عربى ورومى وفارسى،فبدت اللوحة الاجتماعية لأهلها عجيبةً متدرجة فى ألوان الناس وعُجْمَةِ ألسنتهم وعروبتها،واختار أبو عبيدة فى تحركه لفتح حِمْصَ أن يمر بالطريق الذى تقع عليه بعلبك،فهبط عليها يريد فتحها،وهو يعلم أن شأنها بالقياس إلى مدن الشام العريقة وحواضرها الكبيرة ـ ليس كبيرًا،وقبل أن يعاجلها بطلب التسليم أو القتال،كان أهل المدينة قد عرفوا أقدارَهم،وأنهم لا طاقة لهم بالمسلمين،خاصة بعد الانتصارات الكبيرة التى حققوها فى اليرموكِ ودمشق وفحل...
خرج وفد من بعلبك يَلْقَوْنَ أبا عبيدة بعلامات الاستسلام،طالبين منه الصلحَ،فصالحهم،وأمَّنهم على أموالهم وأنفسهم وكنائسهم،وكتب لهم كتابا بذلك.
بعد النَّصْرَيْنِ فى دمشق وفحل جاء الدورعلى حِمص التى كُلف بها جيشُ أبي عبيدة منذ انطلق من المدينة،وحمصُ لو سقطت فى يد المسلمين فلن يبقى لهرقلَ بعدها شيء يبقى لأجله فى سوريةَ والشام،لذا أعد عدته،وجَيَّش جيوشه فبعث توذرا فى جيش نزل غربى دمشق،وسَيَّر شُنش فى عسكر كثيف ليمضى إلى حِمْصَ نفسِها ويحميَها من السقوط فى يد المسلمين.. هذا بينما كان أبو عبيدة يطوى الأرض طيا ماضيا إلى الشمال نحو المدينة العريقة حِمْصَ،وفَتَحَ بعلبك وهو فى طريقه إليها وصالح أهلها..
وفى مَرْجِ الروم كان افتتاح القتال والصراع حول حمص،حيث قاتل أبو عبيدة بقواته جيش شُنش فى معركة شرسة،وأما توذرا فغرَّتْه نفسُه،وطمع فى استرداد دمشق،فتوجه إليها يتبعه خالد بن الوليد،لتقع معركة أخرى حامية تحقق فيها النصر للمسلمين أيضا..
وخلا طريق المسلمين إلى حمص فحاصروها حصارا شديدا،لم يخفف منه بردُ الشتاء ولا صقيعُه،وكان صبر المحاصِرين أشدَّ من صبر المحصورين حتى انسلخ الشتاءُ الذى خيب أمل الروم،فزاد حصار المسلمين لهم.. ورغب بعض أهل المدينة العتيقة فى الصلح،لكن بقية القوم رفضوا ذلك،واغترُّوا بقرب هرقل منهم..
وبينما الموقف متجمد بهذه الطريقة،فلا المسلمون قادرون على فتح المدينة،ولا أهلها قادرون على رفع الحصار عنهم ـ كبَّر المسلمون فى صوت واحد ارتجَّت له المدينة،حتى أصاب الرعبُ أهلَها،وظنوا أن(1/542)
المسلمين دخلوا عليهم بيوتهم فقبلوا الصلح على شروط صلح دمشق فى ربيع الآخر من سنة خمس عشرة للهجرة.
وقد وسع فتح حِمْصَ مجال الحركة أمام جيش أبي عبيدة،فصال وجال،حتى فتح قِنَّسْرِينَ وما يتبع حمص من المدن.
وأما هرقلُ فقد تبخرت آمالُه فى الاحتفاظ بالشام بعد طرد قواته من حِمْصَ،وقد حاول الروم فيما بعد استرداد حمص لكن الفشل حالفهم أيضا..
بعد أن صالح أبو عبيدة أهل حمص،وجد أمامه متسعا فى الحركة بقواته دون أن يرى أمامه تهديدا كبيرا،فأرسل خالد بن الوليد إلى قِنَّسْرينَ ففتحها،وترك عبادة بن الصامت على حِمص،فمال إلى اللاذقية حتى افتتحها. وأما أبو عبيدة نفسه فسار بقوة إلى حَمَاة،فأذعن له أهلها وصالحهم على الجزية وخراج أرضهم،وصالح أهل شَيْزَر على مثل ذلك،وبلغت خيله الزَّرَّاعة والقَسْطَلَ،وتحرك إلى المَعَرَّة فصالحتْه على ما صالح عليه أهل حمص،وكذلك فعلت فامِيَة،فاستتمَّ فتحَ حِمْصَ بهذه الفتوح وبفتح حَلَب وأَنْطَاكِيَّة وفتحِ قِنَّسْرِين الذى كان إذنا برحيل هرقلَ ومغادرته الشام نهائيا.
جاء شُنش فى جيشه الضخم لينقذ حمص من السقوط،دون أن يدرى أن الموت يختبئ له فى هذه المدينة،فلقيه المسلمون الزاحفون بقيادة أبي عبيدة بن الجراح،فأخذوه فى طريقهم عند مَرْجِ الروم واقتلعوه كما يأخذ السيل شجرة ضعيفة ويقتلعها،حتى امتلأت الأرض من قتلى الروم وأنتنت منهم،وكان من صرعاهم القائد شُنش نفسُه..
وقد اهتز هرقلُ من الأعماق عقب هذا الفتح،فترك حِمْصَ وسار إلى الرُّهَا،وأمر قائدَ حِمْصَ الرومي بالمسير إليها لحمايتها.
كان حلما مفزعا هذا الذى أخرج الشام من يد الروم،فَلِمَ لا يحاولون استرجاع مجدهم الضائع،وقد جاءهم أهل الجزيرة يحرضونهم ويَعِدُونَهم بالمساعدة؟ فزحَفَ الرومان كما تزحف الحيَّة ليطوِّقوا حِمْص بعد أن رجع الأمراء من المسلمين إلى مواضعهم عقب فتح بيت المقدس.
وتصل الأخبار إلى أبي عبيدة أميرِ حِمْصَ،فيجمع جندَه يستشيرهم،فكلهم أشار عليه بالتحصن بالمدينة ومكاتبة أمير المؤمنين إلا خالد بن الوليد الذى أشار بالخروج إلى القوم وقتالهم فاختار أبو عبيدة الرأي الأولَ.. واشتد الحصار حول حِمْصَ... فلما وصل كتاب أبي عبيدة إلى عمر كتب لتوِّه إلى سعد بن أبى وقاص بالعراق يأمره أن يسيِّر مع القَعْقَاع بن عمرو جيشا لنجدة المسلمين فى حمص،ومع سهل بن عدى جيشا إلى الرَّقَّة لقتال أهل الجزيرة.. وخرج عمر بنفسه نجدةً للرجل الذى أحبَّه: أبي عبيدة وكانت الأنباء وحدها كافيةً لتحطِّم تحالفَ أهلِ الجزيرة مع الرومان،فقد فر أهل الجزيرة نحو بلادهم لينقذوها من السقوط،وبقي الروم وحدهم،حتى انهارت معنوياتهم لما بلغهم مسير أمير المؤمنين بنفسه نجدةً للمحصورين بحِمْصَ.(1/543)
وحينئذ استجاب أبو عبيدة لشوق خالد بن الوليد إلى القتال،فخرج المسلمون إلى عدوهم،ففتح الله عليهم قبل وصول القَعْقَاع بجيشه من العراق،وكان ذلك فى سنة سبع عشرة من الهجرة.
الحرب عندهم ليست خيانة،ولكنها خُدْعةٌ وتخطيط مُحْكَمٌ،وهذا ما أظهره القائد عبادة بن الصامت حين سار إلى اللاذقية فوجدها محصنة،ولها باب يتحدى الجيوش أن تفتحه.. ذلك أنه أخذ يفكر ويحتال للأمر،ويُقلِّب المسألة فى رأسه،حتى رأى أن يعسكر برجاله على بُعد من المدينة،ثم أمر أن تُحفر حفائرُ تكفى الواحدة منها الرجل وفرسه،وأوهموا أهل اللاذقية أنهم فقدوا الأمل من فتح بلدهم،وأنهم ماضون عنها الآن،فلما كسا الليل سماءهم عاد المسلمون واختبأوا فى الحفر التى صنعوها،حتى سحب الليل ذيله،وقعد النهار مكانه،وخرج أهل اللاذقية مطمئنين وقد فتحوا بابهم ظانِّين أن المسلمين قد انصرفوا عنهم،فإذا بالمسلمين بينهم،لا يدرون أَنَزَلُوا عليهم من السماء أم خَرَجوا لهم من الأرض؟! فدخل جند الله المدينة عَنْوة وقهرا،وعلا القائدُ عبادةُ حائط الحصن مناديا بالشعار الخالد الله أكبر الله أكبر،فسمعت الدنيا،وخضع أهل اللاذقية،وطلبوا الصلح،فصالحهم المسلمون على الجزية وخراجِ الأرضِ وتركوا لهم كنيستهم،وبنوا لله فى هذه المدينة مسجدا لأول مرة فى تاريخها.
ثم أمَّنَ عبادة هذا الفتح،وورد الساحل ففتح مدينة بَيْلَدَة،وحصن أنْطَرْطُوس،وسَلَمِيَّة.
" رحم الله أبا بكر،كان أعلمَ بالرجال منى " ـ إنها من عبارات أمير المؤمنين العظيم عمر بن الخطاب،قالها لما رأى خالدا يلحق الهزائم بالروم،موقعةً بعد موقعةٍ،بالرغم من عزله عن قيادة المسلمين بالشام.
لما وقف خالد بأبواب قِنَّسْرِين،زحفت إليه الروم وعليها قائد من أكبر قادتهم وأعلمهم بالحرب،وهو ميناس،تشد من أزره وتقاتل معه قبائل من نصارى العرب،ولولا أملٌ فى نفوسهم بالنصر لما خرجوا،فاقتتل الخصمان حتى أُبيد الروم وقُتل قائدُهم.
وجاء الأعرب إلى خالد يلتمسون لديه العفو عنهم،معتذرين إليه بأنهم أُكرهوا على القتال وأجبروا،فقبل منهم خالد اعتذارهم،ثم عادوا ليتحصنوا بالمدينة يمنعون المسلمين من دخولها نوبة أخرى،فعاد خالد إلى مهاجمتهم حتى فُتحت له المدينة ثانية.
وكان القوم أهلَ شغب ومشاكسة،ولذلك لما سار المسلمون بقيادة أبي عبيدة لفتح حَلَب،وفتح أَنْطَاكِيَّة،بلغه أن أهل قِنَّسْرين نقضوا العهد وغدروا،فبعث إليهم السِّمْطَ الكِنْدِى فحاصرهم،حتى فتح المدينة مرة أخرى وأصاب منها غنائم.
كان هرقل ينظر إلى الشام مفتخرا بأنها جزء من مملكته،بما فيها من المدن العامرة كبيت المقدس ودمشق وحمص وأَنْطَاكِيَّة وغيرها،وقد ذاب هذا الفخر مع فتح المسلمين لذلك الجزء من العالم،وتحول إلى حسرة بل حسرات نزلت على رأس هرقل متتابعة،ويالها من حسرات لا ترد ضائعا،ولا تعيد مفقودا!(1/544)
وكانت الأرض تضيق بهرقل كلما فتح المسلمون من الشام شبرا،فيتراجع إلى الشمال،فلما بلغه ما صنع خالدُ بِقِنَّسْرين خرج إلى الرُّهَا،واتجه منها إلى شِمْشَاط فنزلها،ثم تحول عنها بسرعة إلى عاصمته القسطنطينية،وودع سوريَّةَ والشام كلَّه وداعا أبديًا كله حسرة وحزن على ما ضاع منه من الملك.
مثلما فتحت قِنَّسْرِين جاء الدور بعدها على حلب،فسار إليها أبو عبيدة وعلى مقدمته عِيَاضُ بنُ غَنْم،وللناس صوت كصوت النحل من الذكر وتلاوةِ آى القرآنِ،فقد أبوا أن يسبِّح كلُّ شيء ربه وهم خُرْسٌ لا ينطقون.
فلما دنَوْا من حلب خاف أهلها وارتعبوا،وودُّوا لو خبأتهم الأرض عن أعين المسلمين أو غطتْهم السماء عن أبصارهم،لكن هذا بعيد وصعب،فاحتموا بحصون حلب وأغلقوا أبوابها فى وجه أبي عبيدة وجنده.
وكان المسلمون قد تعلموا من مواجهاتهم السالفة مع الروم،أن الحصون لا يهزمها مثلُ الصبر،فحاصروا حلب،وعلم أهلُها أن المسلمين لن يرحلوا حتى يفتحوا بلدَهم،فبادروا بطلب الصلح والأمان على أنفسهم وأولادهم ومدينتهم وكنائسِهم وحصونهم فأعطاهم المسلمون ذلك،واستثنوا موضعًا بنوا فيه أول مسجد فى تاريخ حلب.
وعاد القوم إلى نقض العهود أثناء فتح القُرى والنواحى حول حلب،وحاولوا أن يرجعوا إلى التحصن بالمدينة،لكن أبا عبيدة وأَدَ محاولتهم،وفتح المدينة مرة أخرى أمام المسلمين.
لم يكن المسلمون يحاربون فى الشام عدوا طارئا نزل البلاد بالأمس،لكنهم كانوا يقاتلون عدوا أتى إلى هناك منذ زمن ليقيم أبدا،لذلك دخل فى أحشاء الشام،وأقام بكل موضع حَضَرِى فيها،وبنى لنفسه من الأسباب ما يضمن بقاءه،وقد بلغ أبا عبيدة بعد فتح حلب أن الروم قد جمعوا لهم جَمْعا بين معرة مصرين وحلب،وينوون شرا،فزحف إليهم حتى قاتلهم وهزمهم وافتتح مَعَرَّة مصْرِين وصالحهم على مثل صلح حَلب.
وجالت خيول المسلمين وعَدَتْ حتى بلغت بوقا،وفتحت قرى:الجومة،وسرمين،وبِيرِين،وغلبوا على جميع أرض قِنَّسْرِين وأَنْطَاكِية.
ووضع أبو عبيدة عِياضَ بن غَنْم على مقدمة جيش توجه به نحو قورس،فصالحهم على صلح أنطاكية ونشر خيله حتى غلب على جميع أرض قُورس،وفتح تل عزاز.
وسبق عياضٌ أبا عبيدة فصالح أهلَ مَنْبِج على مثل صلح أَنْطاكِية فوافقة أبو عبيدة،وعلى ذلك صالح عياضُ أهلَ دلوك ورعبان،واشترط عليهم أن يخبروا المسلمين بتحركات الروم وأخبارهم.
وظلت قوات المسلمين تتحرك فى هذه النواحى،حتى فتحوا الشام من البحر
( المتوسط ) إلى النهر (الفرات ) ففتحوا بالس وقاصرين،وشحن أبو عبيدة النواحى الخَطِرَةَ بالجنود.(1/545)
سقط الكثير من دُرَرِ الشام فى الشمال،مثل حِمْص وقِنَّسْرِين وحَلَب،فى يد المسلمين فأصبحت أَنْطاكِيَّة ملجأ تفر إليه فلولُ المهزومين فى غيرها،ولزم أن يكسِر المسلمون هذه الشوكة قبل أن تقوَى وتزدادَ حدَّتُها،فأتاها أبو عبيدة فى جنده،وضرب عليها الحصار،فطاردتهم هواجس الهزيمة فى صحوهم ونومهم،والتمسوا منه أن يصالحهم على الجلاء أو الجزية،فجلا بعضهم،وأمَّنَ المسلمون مَنْ بقى منهم.
ودون أن يتعظوا بمن سبقهم،نقض أهل أَنْطَاكِيَّةَ العهدَ،فأتاهم عِيَاضُ بنُ غَنْم وحبيبُ بنُ مَسْلَمَةَ الفِهْرِى من قِبَلِ أبي عبيدة حتى فتحوا المدينة على الصلح الأول،وأصبح حبيب بن مسلمة أميرًا عليها،فتوجه لغزو الجُرجُومة التى كان يتولى أمرها والى أَنْطَاكِيَّة،وبادره أهل الجرجومة بطلب الأمان،فقَبِل منهم ذلك،وصالحهم.
"أَجْنادِين" الأمُّ الثانية لمعارك الشام التى أذنت بغروب شمس الروم عن البلاد،وإشراق شمس المسلمين فوق رُبَاهَا وفى مدنها وعلى شواطئها وبِوَادِيهَا،وهى من معارك الفتح فى فلسطين،التى كانت مهمةُ فَتْحِها موكولةً إلى عمرو بن العاص وجيشه.
وقد كانت معارك الفتح فى فِلَسْطِين صراعا بين رأسَيْن كبيريْن فى عالم الدهاء،وهما عمرو بن العاص والأمير الرومانى الأَرْطِبون،وانتهت وقائعه بانتصار عمرو بن العاص وجنوده.
كما كانت هذه المعارك صراعا على بلاد امتلأت بالقداسة،وزاحم هواءها عبيرُ النبوة التى عاشت هنا من قبل..
اتجه عمرو بن العاص بعد "أَجْنَادِين" لفتح بيت المقدس،ففتح أولا ما حولها من المدن ليمنع عنها المددَ والمساعدة،وبعد حصار طويل،سلَّم أهلُ المدينة،وطلبوا الصلحَ على أن يأتى أمير المؤمنين بنفسه ليتسلم مفاتيحَها،وفى الجابيةِ التقى عمر بن الخطاب مع قادته فى الشام،وتلقَّوْه بالاحترام والإجلال،ثم تسلم بيت المقدس من الأساقفة وكلف عمرُ بنُ الخطاب معاويةَ بن أبى سفيان بفتح قَيْسَارِيَّةَ وعَسْقَلانَ،ليكتمل فتح فلسطين حتى الشواطئ الغربية المالحة.
أيكون لعمرو بن العاص سيفان،أحدهما فى يده والآخر فى عقله،فلا يضرب بالذى فى يده حتى يُعْمِلَ الذى فى عقله؟! وصل عمرو بجيشه إلى أجنادين فوجد أَرْطِبونَ مرابطا بقواته هناك قد قسَّم جندَه ونظم عساكره فقطع عمرو طرق المساعدة الرومانية عنه،وأقام المسلمون فى أَجْنَادِين يأتيهم المددُ،ولا يأتى العدوَّ لكن عمرا لم يجد لخَصْمِه ثغرة،ولم يعرف له خطة،فبعث بالرسل بينه وبينهم لعلهم يكشفون من الروم عن شيء مفيد،أو يطَّلِعون على خططِهم وترتيباتهم للحرب.
لقد أدرك عمرو جيدا أن معرفة العدو شيء ضرورى للانتصار عليه،لكن الرسل الذين بعث بهم إلى قائد الروم لم يسعفوه بشيء،فذهب عمرو بنفسه إلى أَرْطِبُون فى عرينه متخفيا فى صورة رسول من المسلمين،فدخل عليه وكلَّمه،وعرف مداخلَه ومخارجَه،وأوقع قائدَ الروم فى حبائل دهائه الرهيبة.(1/546)
وكانت عودة عمرو إيذانا ببدء القتال فى أَجْنَادِين،والذى حَمِى واسْتَعَرَ،وكان الناس وقودا رخيصا لهذا الحرب،ولكن دون أن تميل الكِفَّة إلى أى من الجانبين.. ويمر الوقت ويدُ كلِّ فريق بين أسنان الآخر،فكان المسلمون أكثرَ صبرا،كما قوَّت انتصارات إخوانهم فى الشمال من عزائمهم ومعنوياتهم... وقلَّب أَرْطِبُونُ بصره فى الصفوف فوجد رجاله قد سيطر عليهم إعياء شديد،واضطربت صفوفهم،وأن المسلمين يحصدونهم بأسيافهم حصدا،ففضل أن ينسحب بجيشه إلى موقع يستطيع فيه المقاومة أكثر،فانسحب كما تنسحب الحيَّةُ إلى جحرها،ودخل مدينة بيت المقدس الحصينة محتميا بها فى النصف الثانى من سنة خمس عشرة للهجرة.
طار كتاب أمير المؤمنين عمر إلى الأمير الشابِّ معاويةَ بن أبى سفيان بأن يفتح للمسلمين قَيْسَارِيَّةَ،فسار إليها بروحِه الوثَّابةِ،وحاصرها،فكانوا يزحفون إليه ويزحف إليهم مرات دون أن يفتحها أو يرجعَ عنها،وثبت المسلمون فى مواضعهم،فإذا بالقدر الإلهى يمهد لفتح المدينة من باب لطفٍ إلهى خفي،لقد جاء يهودى إلى المسلمين ليلا،وأرشدهم إلى طريقٍ يدخلون منه المدينة على أن يؤمِّنوه وأهلَه،فدخل المسلمون قَيْسَارِيَّة ليلا وكبروا فيها،فتزلزلت الأرض بالروم،وظنوا أن المسلمين قد جاءوهم من كل ناحية،ففروا لا يفكرون فى شيء إلا النجاة بأنفسهم،فوقع قتال شديد انجلى عن نصر باهر للمسلمين ثم كتب عمر إلى معاويةَ بفتح ما بقى من فِلَسْطِين بعد أن فتح بيت المقدس والرَّمْلة،فمال معاوية بجنده إلى عَسْقَلانَ،ففتحها صلحا.
هاهي الخُطَا قد أسرعت،واليوم الخالد قد جاء،فتحٌ يُذَكِّر بفتح مكة،فالمسلمون يحاصرون بيت المقدس،بل إنهم يعانقون هذه المدينة ومسجدَها المباركَ،تلك التى لازمتْها القداسة حتى فى اسمها.. يسترجعون من المدينة ذكريات أنبيائها وصالحيها،فهذا الخليل وابنه إسحاق،وهذا يعقوب وبنوه،وهذه مريم وابنها،وزكريا ويحيى،وكثير وكثير ممن ملأوا هذه الأرض بنور السجود وضياء التسبيح والركوع..
وقد حرص عمرو قبل أن يأتى إلى القدس والرَّمْلة أن يفتح ما حولهما من المدن،ليمنع عن الروم أى مدد،فحرر رَفَحَ وغَزَّةَ وسَبَسْطِيَّةَ ونابْلُس ولُدَّ وتُبنى وعَمَوَاسَ وبيتَ جَبْرِين ويافا ومَرْجَ عُيون.. فكان بذلك يحفظ قداسة بيت المقدس أن يسفك فيها دم،أو أن تتلطخ بقتال شرس ينتهك حرمتها.
ونظر أَرْطِبُون ورجالُه المحصورون فى كتبهم ونبوءاتهم،فوجدوا أن فاتح إِيلْياء أو بيت المقدس رجلٌ طويلٌ أسمرُ يلبس المرقَّع من الثياب،وهذه ليست صفة القائد الذى دوخهم عمرو بن العاص فبعث إليه أَرْطِبُون بثقة أنك لن تفتح شيئا آخر من فلسطين.. وتصيب الدهشة عمرا وهو الذى سقطت بسيفه أكثرُ مدن فلسطين،وليس يوم أَجْنَادِين عن الروم ببعيد،فلما علم بنبوءة أهل الكتاب أرسل إلى الرجل الطويل الذى يلبس المرقَّع من الثياب ويميل لونُه إلى السُّمْرة،وهو عمر بن الخطاب لكى يأتى إلى(1/547)
الشام.. ويَقْدُم أمير المؤمنين بنفسه ليصالحَ أهل المدينتين: بيت المقدس والرَّمْلة،ويتسلمَ من أسقف القدس مفاتيح المدينة المباركة.
هاهي الخُطَا قد أسرعت،واليوم الخالد قد جاء،فتحٌ يُذَكِّر بفتح مكة،فالمسلمون يحاصرون بيت المقدس،بل إنهم يعانقون هذه المدينة ومسجدَها المباركَ،تلك التى لازمتْها القداسة حتى فى اسمها.. يسترجعون من المدينة ذكريات أنبيائها وصالحيها،فهذا الخليل وابنه إسحاق،وهذا يعقوب وبنوه،وهذه مريم وابنها،وزكريا ويحيى،وكثير وكثير ممن ملأوا هذه الأرض بنور السجود وضياء التسبيح والركوع..
وقد حرص عمرو قبل أن يأتى إلى القدس والرَّمْلة أن يفتح ما حولهما من المدن،ليمنع عن الروم أى مدد،فحرر رَفَحَ وغَزَّةَ وسَبَسْطِيَّةَ ونابْلُس ولُدَّ وتُبنى وعَمَوَاسَ وبيتَ جَبْرِين ويافا ومَرْجَ عُيون.. فكان بذلك يحفظ قداسة بيت المقدس أن يسفك فيها دم،أو أن تتلطخ بقتال شرس ينتهك حرمتها.
ونظر أَرْطِبُون ورجالُه المحصورون فى كتبهم ونبوءاتهم،فوجدوا أن فاتح إِيلْياء أو بيت المقدس رجلٌ طويلٌ أسمرُ يلبس المرقَّع من الثياب،وهذه ليست صفة القائد الذى دوخهم عمرو بن العاص فبعث إليه أَرْطِبُون بثقة أنك لن تفتح شيئا آخر من فلسطين.. وتصيب الدهشة عمرا وهو الذى سقطت بسيفه أكثرُ مدن فلسطين،وليس يوم أَجْنَادِين عن الروم ببعيد،فلما علم بنبوءة أهل الكتاب أرسل إلى الرجل الطويل الذى يلبس المرقَّع من الثياب ويميل لونُه إلى السُّمْرة،وهو عمر بن الخطاب لكى يأتى إلى الشام.. ويَقْدُم أمير المؤمنين بنفسه ليصالحَ أهل المدينتين: بيت المقدس والرَّمْلة،ويتسلمَ من أسقف القدس مفاتيح المدينة المباركة.
قبل أن يغادر عمر الجابيةَ أتاه وفد من أهل بيت المقدس يلتمسون عنده الصلح فبذله لهم،وكتب لهم بذلك كتابا فرجعوا وقد علموا أن هذا الكتاب وهذا الصلح نصر تحقق لهم،فقد جاءهم أمير عادل وقوم منصفون،وذهب عنهم بطش الرومان وظلمُهم واضطهادُهم.
وفرح أهل المدينة بهذا الصلح،وسُرَّ به أسقفُهم،وانتظروا قدوم الأمير المهيب عمر لتتحقق النبوءة على يديه،ويتسلم مفاتيح بيت المقدس.
ومضى أمير المؤمنين إلى بيت المقدس،والنفْسُ تقول: هذا ما وعدنا الله ورسوله،والقلب يردد وصدق الله ورسوله،والتواضع لله وحده يكسو نفس عمر وأصحابه هيبة ووقارًا،مع تواضع ثيابهم ودوابهم.. ودخل الفاروق المسجد الأقصى من الباب الذى دخله منه رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ليلة الإسراء،ونظف بنفسه الصخرة التى بدأ منها المعراج،وتسلم مفاتيح المدينة الطاهرة فى لحظةٍ تاريخيةٍ من أعز لحظات الزمن.
سبحان من يربط مشيئته بقوانينه الكونية،فقد خلفت حروب الشام الكثير من الجثث التى لم تُدْفَنْ حتى أَنْتنتْ،وقد قام نفر من المسلمين فشربوا الخمر،وتأوَّلوا كلامَ الله ـ تعالى ـ فيها،فحذرهم أبو(1/548)
عبيدة من شر سيقع،فكان طاعون كاسح،نتج بقدر الله عن الوخَم والفساد الذى أصاب الهواءَ بسبب القتلى .
لقد ابتدأ الطاعون رحلته المؤلمة من عَمَوَاس بفلسطين،ثم امتد إلى الشام،فجعل يفتك بالناس فتكًا مروعًا،وبقى على ذلك شهورا،حتى فَنِى من المسلمين خمسةٌ وعشرون ألفا،فيهم جماعة من كبار الصحابة وأشراف الناس،كأبي عبيدة بن الجراح،ومعاذ بن جبل،ويزيد بن أبى سفيان،والحارث بن هشام،وسهيل بن عمرو،والفضل بن العباس،وأبى مالك الأشعرى،وغيرهم ـ رضى الله عنهم ـ قوم نجوا من سيوف الروم ورماحهم،وما قتلتهم شجاعتُهم فى الحرب،ولاجُرْءتُهم فى القتال،وإنما شاء الله ـ جل وعلا ـ أن تكون شهادتهم بطريقة أخرى اختارها بمشيئته.
ويقف الروم يتفرجون من بعيد،مخافة أن يصيبهم الوباء،لا يعلمون أن الله يبتلى أحبابه ولا يبتلى أعداءه،وإنما يأخذهم بذنوبهم أخذا.. ثم خرج عمرو بن العاص بالناس إلى الجبال فتفرقوا،فرفع الله عنهم البلاء ... وقَدِمَ عمر بعدها إلى الشام ـ وكان قد رجع عنها عند اشتداد الطاعون ـ لينظم شؤونها ويؤمِّنها ضد الروم.
أراد عمر بن الخطاب أن يأتي الشام لينظم شؤونها بعد الفتح،فلما كان بسَرْغ لقِيَه أمراءُ الأجناد فأخبروه بالوباء وشدَّته،وكان قد خرج غازيا معه المهاجرون والأنصار،فاستشارهم: أيرجع عن الشام أم يدخلها؟ فاختلفوا ولم يتفقوا فى ذلك على رأى .
فاستشار مهاجِرِى قريشٍ الذين شاركوا فى فتح مكة،فاتفقوا على العودة،بل قالوا: " ارجع بالناس فإنه بلاء وفناء "،وأمر عمر عبد الله بن عباس،فنادى فى الناس لِيُعِدُّوا للسفر،فلما صلَّوا الصبح،التفت عمر إليهم وقال: "إنى راجع فارجعوا ". وأخذ أبو عبيدة يجادل عمر،بأن هذا من قدر الله ولا ينبغى الفرار منه،فقال عمر: " نعم،نفر من قدر الله إلى قدر الله " وجاء عبد الرحمن بن عوف ليصدِّق على كلام عمر،فقال عبد الرحمن: سمعت رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ يقول: " إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد،فلا تَقْدَمُوا عليه،وإذا وقع ببلد وأنتم به،فلا تخرجوا فرارًا منه " فرجع عمر بالناس إلى المدينة.
شعر المسلمون بعد عَمَوَاس بجرحٍ عميقٍ لهذا الطاعون الذى نزل بهم،ولهؤلاء الرجال الذين فقدوهم،وأحسَّ أميرُ المؤمنين فى المدينة بذلك،فقدم إلى الشام فى زيارة جديدة يواسى الناس ويطمئِنُهم،ويُنْهى مطامعَ الروم فى العودة إلى الشام.
تَفَقَّدَ أمير المؤمنين أحوالَ المسلمين،وزار بلاد سوريَّة جميعها،وأعانهم من بيت مال المسلمين،ورتب منازلهم بدمشق وحِمْصَ وسائر المدن،وسَدَّ ثغورَ الشام،وأمَّن مداخلها ومخارجها.. وولَّى معاويةَ مكان أخيه يزيد،واستعمل عبدالله بن قيس على الساحل،وأمَر الولاة بتحصين السواحل وحمايتها،وإتمام فتح ما لم يفتحْ منها.(1/549)
ووقف أمير المؤمنين العادلُ بقامته الطويلة يرقُبُ أوضاع الناس فى الشام،فوجد الأمور قد عادت إلى نظامها،وأن الناس قد اطمأنُّوا بعد فزع،وأن الروم قد قُطعت آمالهم فى العودة إلى الشام،وإن كان يمكنهم الغارة على السواحل،فرجع عمر بن الخطاب إلى المدينة،وقلوب المسلمين تحمل له الشكر وتدعو له بالخير..
" رحم الله أبا بكر،كان أعلمَ بالرجال منى " ـ إنها من عبارات أمير المؤمنين العظيم عمر بن الخطاب،قالها لما رأى خالدا يلحق الهزائم بالروم،موقعةً بعد موقعةٍ،بالرغم من عزله عن قيادة المسلمين بالشام.
لما وقف خالد بأبواب قِنَّسْرِين،زحفت إليه الروم وعليها قائد من أكبر قادتهم وأعلمهم بالحرب،وهو ميناس،تشد من أزره وتقاتل معه قبائل من نصارى العرب،ولولا أملٌ فى نفوسهم بالنصر لما خرجوا،فاقتتل الخصمان حتى أُبيد الروم وقُتل قائدُهم.
وجاء الأعرب إلى خالد يلتمسون لديه العفو عنهم،معتذرين إليه بأنهم أُكرهوا على القتال وأجبروا،فقبل منهم خالد اعتذارهم،ثم عادوا ليتحصنوا بالمدينة يمنعون المسلمين من دخولها نوبة أخرى،فعاد خالد إلى مهاجمتهم حتى فُتحت له المدينة ثانية.
وكان القوم أهلَ شغب ومشاكسة،ولذلك لما سار المسلمون بقيادة أبي عبيدة لفتح حَلَب،وفتح أَنْطَاكِيَّة،بلغه أن أهل قِنَّسْرين نقضوا العهد وغدروا،فبعث إليهم السِّمْطَ الكِنْدِى فحاصرهم،حتى فتح المدينة مرة أخرى وأصاب منها غنائم.
لقد تحققت السيادةُ الإسلامية على اليابسة فى الشام والعراق وفارس ومصر،لكن البحر صار يهدد هذا الإنجاز الكبير،وخاصة من جانب الرومان الذين دانَتْ لهم السيطرة على بحر الروم دون منازع،حتى أغاروا على الشواطئ الإسلامية فى مصر والشام غاراتٍ شديدةً كلفت المسلمين الكثير والكثير.. أفلا يكون التفكير فى ركوب البحر أمرا مهما للمسلمين لمعادلة قوةِ الرومان وردِّ عدوانِهم البحرى ؟ لقد أدرك معاوية بن أبى سفيان ضرورة هذا الأمر؛ لأن العجز فى البحر يجعل الإنجازات والانتصارات التى تحققت فى البر مهددةً بالسقوط والانهيار.
وحمل معاوية قضيته إلى أمير المؤمنين عمر الذى رأى أن الوقت لم يحن لذلك،فأعاد معاويةُ المحاولةَ عندما تولى عثمانُ بن عفان إمارةَ المؤمنين،وحصل منه على موافقةٍ صعبةٍ،راح أمير الشام بمقتضاها يتعاون مع عبد الله بن أبى السرح أمير مصر في بناء أسطول استفاد من خبرة مصر ودُورِ صناعةِ السفن الموجودةِ بها،وراح العربى يتعلم من أهل الشواطئ كيفيةَ تشييد السفن،حتى ظهر فى البحر أسطولٌ شابٌ يقول: " باسم الله مجراها ومرساها " حقق به المسلمون انتصارات كبيرة على عدوهم وخاصة فى ذاتِ الصَّوَارِي،ونَمَا مع الزمن حتى أصبحت السيادةُ على البحار بِيَدِهِ.(1/550)
كأنها قطعة من اليابسة قضمها البحر من شاطئ الشام،ثم لعب بها الموج حتى تركها فى موضعها وسط أرض من الماء الأزرق المالح... كتب معاوية بن أبى سفيان يستأذن الأمير عمر بن الخطاب فى فتح قبرص،هذه الجزيرة ذات الشواطئ الساحرة،وراح معاوية يصف الجزيرة وقربَها،ويُرَغِّب عمرَ فى فتحها،فهى لؤلؤةٌ طافية على وجه الماء يهدد الرومانُ منها شواطئ الشام ومصرَ،لكن عمر خشى أن يُعَرِّضَ جنودَه للخطر،فرفض الإذن بالغزو. وتغير الزمن،فجاء بعثمان خليفة جديدا واتسعت صلاحيات معاوية فصار أميرًا على الشام كله،فراح يبذل جهده ليسمح عثمانُ ذو النفس الهادئة والروح الحيية بغزو قبرص،لكنه أبى هو الآخر،فلم يزل ابن أبى سفيان يُلِحُّ عليه،ويحبب إليه الفتحَ،ويسهله أمامه،حتى وافق عثمان على أن يُخَيَّر الناسُ،ولا يُؤْمَرُوا بالغزو..
وفى أول غزوة بحرية للأسطول الإسلامى الجديد قاد عبد الله بن قيس الجاسى قوات المسلمين وشق بهم البحر جهة الغرب كما أمره أمير الشام معاوية،وكان فى الجيش بعض السادة من الصحابة كأبى ذر الغفارى،وشداد بن أوس،وعبادة بن الصامت وزوجِه أم حرام بنت ملحان وغيرهم ففتح الله عليهم الجزيرةَ،وصالحوا أهلها على الجزية،وأن يُعْلِمُوا المسلمين بتحركات الروم العدوانية..
كان هذا سنة ثمانية وعشرين من الهجرة،وبعد خمس سنوات أعاد معاوية فتح قبرص التى نقض أهلها العهد وضمَّها إلى دولة الخلافة الراشدة،ونقل إليها اثنى عشر ألفا من مسلمى الشام،وأسكنهم أرضها،وبنى لهم البيوت والمساجد هناك.
وغزا حصن المرأة من أرض الروم من ناحية مَلَطْية فى نفس العام.
فرض الرومان وصايتهم على التاريخ والجغرافيا،فحسبوا أنهم يحركون الأحداث كيف شاءوا،وأطلقواعلى الأماكن أسماءهم،حتى دعوا البحر المتوسط ببحر الروم?،لِمَا فرضتْه أساطيلُهم عليه من السيطرة،ولِمَا ملكتْه جيوشُهم من البلاد الواقعة على شواطئه.
لكن شيئا جديدا يحدث اليوم،لقد ظهر فوق صفحة ماء البحر العملاقة أسطول شاب ينازع الرومانَ سيطرتَهم على البحر،ويُلغى وصايتَهم على الجغرافيا كما أُلْغِيَتْ من قبلُ على التاريخ والأحداث...! إنه الخطر الشديد إذن يهدد الرومان وشواطئهم،لذا خرج الإمبراطور قسطنطين الثانى بنفسه يقود قومه فى خمسمائة سفينة،والمسلمون فى مائتى سفينة من الشام ومصر،يقودهم عبدالله بن سعد أمير مصر وذلك سنة إحدى وثلاثين،وفى تَحَدٍّ هائلٍ التقى الخَصمان عند كيليكيا واتفقا على أن يصنعا من السفن ساحةَ حربٍ تفصل وتحسم الموقف لصالح أحدهما،فرُبطت سفنُ الرومان بسفن المسلمين،وشُدت الحبالُ بينهما،وبعد أول ضربة بالسيف اشتعل القتال واشتدت نيرانه ووثب الرجال وأُخرجت الخناجر من مخابئها،وتدفقت الدماء من أجساد المصابين وجثث القتلى الذين تقاذفهم موج البحر حتى بدت الدماء الحمراء على صفحة الماء،وصبر المسلمون صبرًا شديدًا فى وجه عدوِّهم الشرس،حتى استشهد منهم كثير،وهلك من الروم ما لا يحصَى وتسلل رجل من المسلمين جهة(1/551)
قسطنطين وسط زحام القتال الرهيب حتى أصابه،وحين رأى قسطنطين الدم يسيل من جسده،والجراح قد آلمتْه أَمَرَ جنوده بالانسحاب والإبحار بعيدا عن هؤلاء المسلمين الذين لا يفيد معهم شيء،لا جيش برى ولا أسطول بحرى !!
لقد أَطْمَعَ خنجرُ أبى لؤلؤة النجس الذى قُتل به أمير المؤمنين الطاهرُ عمرُ بنُ الخطاب ـ أَطْمَعَ الرومَ فى استرداد الشام ومصر،فراحوا يشنونها حملة شرسة فى البر والبحر وما علموا أن موت الخليفة الراشد القوى لا يعنى موت الإسلام ولا وفاةَ أهلِه..
سمع معاوية بن أبى سفيان صوت جحافلِ الرومِ المقبلة من آسيا الصغرى تَزْأَرُ زئيرًا عاليا،وفى خطتها أن تكتسح الشام كلَّه وتعيدَه إلى الحظيرة الرومانية،فكتب معاوية إلى عثمان بن عفان فى سنة أربع وعشرين بعد قليل من تولى عثمان إمارة المؤمنين يطلب المددَ،فأسرع عثمان النجدةَ،وكتب إلى واليه على الكوفة الوليد بن عقبة،الذى طَيَّرَ من عنده ثمانية آلاف مقاتل يقودهم سلمان بن ربيعة الباهلى،وخرج جيش المسلمين من أهل الشام يقودهم حبيب بن مسلمة الفِهرى،فما كان أجمل الوحدة وأقواها حينما التقى المسلمون بالروم،وشنوا الغارات على أرضهم،وأصابوا ما شاءوا من السَّبْى،وملأوا أيديهم من الغنائم،وافتتحوا من أرض الروم حصونا كثيرة..
منذ فجر الزمان البشرى،وقف الإنسان فوق أرض مصر يبني ويشيِّد ويفكر ويبتكر حتى وَلدت هذه الأرض أقدمَ الحضارات،وبقيت آثارُها على ظهرها وفي عقول الأمم ثابتةً لا تنمحي... كانت مصر بهذا الثِّقَلِ وذلك الموقع وتلك القيمة... على موعد مع الإسلام،لتقف إلى يوم القيامة تحت راية محمد ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ مجاهدةً مرابطةً،فكتب الرسول الكريم إلى أميرها المُقَوْقِسِ فيمن كتب إليه داعيا إلى الإسلام،وأوصى المسلمين بأهلها خيرًا إذا فتحها الله عليهم...
وكانت هذه الوصية بشارةً بالفتح راح عمرو بن العاص يعمل لتحقيقها،وبعد إذنٍ طال انتظارُه من أمير المؤمنين عمر تحرك عمرو في المهمة الصعبة: فتحِ مصرَ،فسار بقواته على ساحل بحر الروم،ودخل مصر من العريش،وظل يلتزم الشاطئ حتى اصطدم بعَدُوِّهِ في الفَرَمَا وانتصر عليهم،وفي بِلْبَيْس هَزَمَ أَرْطِبُونَ والرومانَ وفتح حِصْنَ أُمِّ دُنَيْن بعد معركةٍ حاميةٍ،ثم عَبَرَ النيلَ وسلك في الصحراء إلى الفَيُّوم فالتقتْه بعض قوات الروم هناك فجَلَّلَهم بالهزيمة أيضًا...
وفي مرحلة جديدة من الفتح وصل إلى عمرو مددٌ من المدينة المنورة عِدَّتُهُ أربعة آلاف جندى،تحرك بهم في أرجاء مصر حتى دوَّخ عدوَّه،وخاض ضده حروبا كبيرة في عَيْنِ شَمْسٍ وعند فتح حصنِ بَابِلْيُون وفتح الإسكندرية ومدن الساحل،فدانَتْ الأمور للمسلمين،وانتشرت قواتهم في شمال مصر وجنوبها حتى صَفَتْ لهم البلاد.. وصارت تحت جناح الإسلام العادل بعد أن كان أهلها يعيشون أحوالا غاية في السوء والذلة...(1/552)
وامتد الفتح بعمرو بن العاص غربا حتى فتح بَرْقَةَ وطرابُلس في سنة اثنتين وعشرين من الهجرة. وفي خلافة أمير المؤمنين عثمان امتد الفتح إلى إفريقية أو تونس،وجَرَّدَ المسلمون حملةً لفتح بلاد النوبة في جنوب مصر،وإن لم تكن قد أَخضعت النوبةَ تماما،فإنها أمَّنت البلاد من الجنوب،كما حاول الروم استرداد الإسكندرية ولكنهم فشلوا.
بينما العام السادس يودِّع وهدنة الحديبية لم يجف الحبر الذي كُتبت به بعدُ،راح النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ يختار بعضَ أصحابه لمهمةٍ صعبةٍ،وسفرٍ طويلٍ،ورحلة تُوَسِّع المدى أمام عالمية الدعوة؛ كي تبدو كمبدأ عملي لا مجرد كلمات نظرية.. اختار النبي الكريم نفرًا من أصحابه لهم كفاية خاصة في تحمل المشاق،وحسن القول،وسرعة البديهة،وإتقان المحاورة والمخاطبة،ليوجهَهم إلى الملوك والأمراء في فارس والروم ومصر والحبشة وغيرها دعاةً إلى الإسلام،وكان حاطب بن أبي بلتعة هو صاحب هذه المهمة في مصر،فانطلق يركب فرسه،ويشق طريقة جهة الشمال،والبحر إلى يساره،والصحراء تملأ الأرض تحت قدميه ومِنْ حوله،فلما بلغ مشارفَ الشام ثَنَى عنق فرسه جهة الغرب إلى سيناء،ولعل الذكرياتِ تزاحمت على رأسه،فتَذَكَّر كلامَ اللهِ ـ عز وجل ـ لموسى،ومناجاةَ الكليمِ لربه ـ تعالى... وبدأت الصحراء تختفي من تحت أقدام ابن أبي بلتعة،لتحل محلها خُضْرةٌ ونضارةٌ،ولتبدو صفحةُ النيلِ لِعَيْنَي الصحابي الجليل،فيعجب من خلق الله ونعمته،ويوقن أن الأرض لله يورثها من يشاء،وقد كانت بالأمس بِيَدِ فرعون،وهى اليوم مع المُقَوْقِس،وقد تصير غدا إلى غيره.. وفي جولة جديدة من المشاهد الجميلة يرى حاطبٌ الإسكندريةَ بِبِناياتِها الرائعة وطرقها الممهَّدة،فيتذكر الأقوامَ الذين أنعم الله عليهم بمثل هذا وأكثر فكفروا،فأهلكهم الله.. وبعد حوار قصير مع المُقَوْقِس قرأ حاطب كتاب رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ إليه،فعرف المُقَوْقِسُ فيه علاماتِ الصدق،لكنه خاف على مُلكه،وظن أنه إن آمن بالله ورسوله ضاع منه سلطانه وثار عليه قومه،فاكتفي بالرد الجميل الحسن،وبهدايا بعث بها إلى رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - .
لم يكن العربي القابعُ في صحراء الجزيرة الواسعة يجهل مصرَ ونيلَها وأرضها الخصبة،فلما أسلم هذا العربي،وحمل سيف الجهاد ضد الفرس والروم زادت معرفته بأحوال مصر وظروفها الداخلية.
لقد كانت مصر جائعةً إلى العدل والحرية،عَطْشَى إلى الدين الصحيح والعقيدة السوية،إذْ كان وقوعها تحت حكم البيزنطيين منذ سنة مائتين وأربع وثمانين من الميلاد كارثةً هائلةً كبَّلت البلاد سياسيا،فلم يكن للمصري أيُّ دخلٍ في إدارة بلاده،كما كبَّلتها اقتصاديا،فأصبحت ثرواتُ مصر الضخمةُ نهبًا مُسْتباحًا من البيزنطيين وصارت الضرائب تُجْبَى من المصري على كل البضائع،وتعدَّت الأحياءَ وطالت الأمواتَ،فلم يكن يسمح بدفن الميت إلا بعد دفع ضريبة على هذا الدفن..!
بحارٌ متلاطمة من الظلم عاش بينها المصريون،وأيامٌ نَحِسَاتٌ مَرَّتْ بهم تحت ظلال الحكم الأوروبي الغريب عن البلاد في عاداته وهيئاته وتقاليده،وزاد على ذلك اضطهادُ المصري في أعز ما لديه،وهى(1/553)
عقيدته الدينية،فقد اختار المسيحية التي جاء بها بولس دينًا له،فاضطهده المحتلون،وأذاقوه ألوانا من العذاب،ولما تحول البيزنطيون أنفسهم إلى المسيحية لم يسكت صوت اضطهادهم للمصريين،بل علا أكثر؛ لاتِّباعهم مذهبًا في طبيعة المسيح ـ عليه السلام ـ يختلف عما سار عليه المصريون...
ولم يكن غريبا في هذه الأجواء أن تضطرب الأحوال بمصر،حتى صارت مسرحًا للشغب وإثارة الفتن،وكان التنكيل يزداد،ويتضاعف الاضطهاد مع هذه الموجات من الاعتراض والهياج،حتى فَرَّ بنيامين بطرك الأقباط المصريين قُبَيْل مَقْدم عمرو بن العاص،وعُذِّبَ أخو بنيامين حتى الموت على يد المحتلين القساة.
هو ما قال لهم ولا لغيرهم كذبا قط،وهم ما سمعوا منه شيئا ولا بشَّرهم بأمرٍ إلا صار لديهم يقينا كأنهم يرونه.. ها هو ذا رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ في جَمْعٍ من أصحابه يبشرهم: "ستُفْتَحُ عليكم بعدي مصرُ"،فعلموا أنه قَدَرُ اللهِ المقدورُ،مهما بَدَا لغيرهم حُلْما بعيدا أو أملا مستحيلا...
ستُفْتَحُ مصرُ ولو كانت بينها وبين المدينة بحار وصحارى،ولو وقفت في طريق ذلك فارسُ والرومُ..
ظلت هذه البشارة تعيش في نفوس مَنْ سمعها من الصحابة حتى الْتَقَى عمرُ بن الخطاب في الجابية بقادة فتوح الشام في السنة السادسة عشرة من الهجرة،حيث راح عمرو بن العاص يعرض على أمير المؤمنين المَهِيبِ أن يَمُدَّ خطواتِه،بعد أن فتَحَتْ بيتُ المقدسِ للمسلمين أبوابَها،ليفتح مصر التي هرب إليها أَرْطِبُون في جمع من الروم.. وتذكر عمر بشارة النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ،وداعبت روحَه الأمنيةُ،لكنه خاف أن يكون كالمغامر بجنوده يعرضهم للخطر،خاصة أنه لا يستطيع أن يُعِدَّ للفتح جيشا كبيرا،فقد ابتلعت جبهات القتال في فارس والروم والجزيرة أكثرَ ما لديه من الجنود.. وأخذ عمرو يُطَمْئِنُ أمير المؤمنين،ويزيل تخوُّفَه،ويهوِّن عليه فتحَ مصرَ،حتى مال عمر إلى رأيه،غير أنه طلب منه ألا يبدأ بالغزو حتى يكتب إليه من المدينة بعد عودته إليها...
وفي المدينة يجمع عمر بين الاستخارة والاستشارة،فيصلي لربه مبتهلا،داعيا الله أن يختار له وللمسلمين الأنفعَ والأفضلَ،ويستشير كبار الصحابة،حتى يستريح الرأي إلى الموافقة على السير لفتح مصر،ولكن وقع ما عطَّل المسير،وشَغل المسلمين جميعا عن التوجه إلى مصر،فقد حاصر الرومُ حِمْصَ وحاولوا استردادها،فأصبح إتمامُ فتوحات الشام من الشمال أَوْلَى من فتح مصر،كما وقع في الحجاز قحطٌ وجفافٌ سُمِّىَ العامُ لأجله عامَ الرَّمَادَةِ،وأصيب عدد كبير من المسلمين في طاعون عَمَوَاس.
وبعد أن أفاق المسلمون من كل ذلك كتب عمر إلى عمرو بن العاص يأمره بالسير إلى مصر لفتحها،فتحرك إليها في ذي الحجة من سنة ثماني عشرة من الهجرة ووطأت أقدامه مصر في صدر السنة التالية.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله.. الله أكبر الله أكبر ولله الحمد... أصوات ترتفع،ونداء ينتشر في الآفاق،لم تسمع هذه الأرض بمثل معانيه منذ زمن طويل،وها هي اليوم تسمعه فيَهزها(1/554)
الطرب،ولكنها لا تدري مَنْ صاحب هذا الصوت أهو إبراهيم أم موسى أم عيسى الذين مَرُّوا من هنا مِنْ قَبْلُ؟
لقد كان الصوت صوتَ أصحاب النبي الخاتم،الذين قادهم عمرو بن العاص منطلقا من قَيْسَارِيَّةَ على رأس أربعة آلاف مقاتل،ملازما ساحل بحر الروم،حتى اجتازوا رفَحَ،وهبطوا إلى أرض سيناء،وسمعت البلاد عندما فتحوا العريش بلا مقاومة صوتَ التكبير والتحميد مبكرا حين أدرك المسلمين فيهاعيدُ الأضحى،فأحياه عمرو والجنود على أرض مصر لأول مرة..
واستأنف الجيشُ المسيرَ،فمرَّ بالبقارة،ثم الواردة وسط تلال الرمال،ثم الْفَرَمَا.. طريقٌ يعرفه التاريخ جيدا،فهو الذي يسلكه المهاجرون والفاتحون والحجاجُ والسائحون بين فِلَسْطِينَ ومِصْرَ منذ أقدم العصور.. اخترقه المسلمون بلا عائق ولا مقاومة،حتى وجدوا الرومان في الْفَرَمَا قد أعدُّوا للحرب عُدَّتَها من حصون وأسوار وأسلحة وأدوات قتال،وكلها أشياء عرفها المسلمون في حروب الشام،فما حالتْ بينهم وبين النصر،فنزلوا حول أسوار الْفَرَمَا،وقد احتمى بها الأعداء،وراحوا يشنون هجماتٍ محدودةً على المسلمين من وقت إلى آخر،والمسلمون صابرون يواجهون ذلك في ثبات،والقائد عمرو يبعث بكتائب صغيرة تُغِيرُ على ماحوله من البلاد لتوفر أقواتَ الجيشِ.
مرَّ شهرٌ أو أكثر ولازالت هجمات الروم متقطعةً،لكنهم صبروا في انتظار مددٍ يأتيهم من المُقَوْقِسِ،فلما طال الوقت،ولم تصلْهم نجدة،اتخذ أمير الْفَرَمَا أصعب قرار في حياته،لقد رأى أن يغامر ويخرج إلى المسلمين بجيشه،ويقاتلَهم وجها لوجه.. وفي ساعة الحرب وقع القتال شديدا،وصبر المسلمون لعدوِّهم صبرا أشدَّ،حتى يئس العدو،وأمر القائد جنودَه بالانسحاب من أرض المعركة والاحتماءِ بالأسوار والحصون من هذه الأُسُودِ الكاسرة،وفي سباق نحوَ المدينة مَلَكَ المسلمون بابَ الحصن حتى اقتحموه،ودخلوا الْفَرَمَا فكان الفتح،ولم يبق للرومان إلا التسليم،وهدم عمرو الحصون،واتخذ الْفَرَمَا معقلا يؤمِّن الطريق إلى فلسطين وبلاد العرب.
كان للنصر في الْفَرَمَا ردُّ فعلٍ كبير،إذ رفع الروح المعنوية للمسلمين،فلم تُقْلِقْهم قلةُ عددِهم ولا كثرةُ عدوِّهم،وأصاب الإحباطُ جموعَ الروم في مصر،وسيطر عليهم شعور بأنهم ينحدرون إلى نفس مصير إخوانهم بالشام..
ومن الْفَرَمَا تقدم عمرو جهة الغرب،فهبط أرضا مغطاةً بقشور الصدف الأبيض،ثم اتجه جنوبا متخطيا مدينة مَجْدَل،وأعاد دَفَّةَ السيرِ ثانية إلى الغرب حتى مر بالقصاصين ووادى الطليمات قرب التَّلِّ الكبير،وما هى إلا أميال قليلة حتى أصبح المسلمون على مقربة من مدينة بِلْبَيْس.
وكشَّر الأَرْطِبُون عن أنيابه،ورأي الفرصة سانحة ليوقع بالمسلمين في بِلْبَيْس،ويأخذ بثأره من عمرو وجنوده،بعدما رأي منهم ما رأي في حروب الشام. وتضخمت الأمنيات في نفس القائد الرومي حين رأي المسلمين قليلي العدد لا يصلهم مدد،وحين رآهم منقطعين عن بلادهم وإخوانهم.. وفي خطوة(1/555)
معتادة في مثل هذه المواقف جرت مفاوضات بين المسلمين وعدوِّهم،فعرض عمرو على وفدٍ من الأساقفة الاختيارَ بين الإسلام والجزية والحرب،وأجَّلهم أيامًا ليتشاروا مع قومهم،فإذا بالأَرْطِبُون وقد اجتاحت نفسَه ثورةٌ من الغضب،وأبى إلا الحرب،فجهز اثني عشر ألفا في عُدَّةِ القتال،عازماعلى مفاجأة المسلمين وقتالهم بلا سابق إنذار.. ولم يكن عمرو غافلاعن طبيعة عدوه الماكر المخادع،فكان جنوده دائماعلى إستعداد للحرب والقتال،وعلى الرغم من ذلك حمل هجومُ الروم قدرا كبيرا من المفاجأة التي اهتزت لها صفوفُ المسلمين،لكنهم تماسكوا،وقاوموا السقوط والهزيمة وداسوا على أسنانهم،وظلُّوا يقاومون حتى اعتدل الميزان لصالحهم،وانهارت صفوف الروم أمام صبرهم وإقدامهم،وعَلَتْ سيوفُ عمرو وأصحابه تقتل وتصيب،حتى فَقَدَ الرومُ قائدَهم وألْفَ قتيلٍ معه،وثلاثةَ آلاف أسيرٍ،وظل الصراع مع الروم حول بِلْبَيْس شهرا كاملا حتى خلصت للمسلمين.
أقيمت الحصون حول مدينة مصر كأنها بيوت الأُسُود التي تدافع عن العاصمة الأولى لمصر قبل الإسكندرية،وما كان لأحد أن يقتحم هذه الحصون إلا بقوة هائلة وعتاد ضخم،وحين نزل المسلمون على حصن أُمِّ دُنَيْن لم يكونوا يملكون قوة مادية هائلة ولا عتادا أو آلات حرب ضخمة،ومع ذلك قاتلوا عدوهم قتالا شديدا،وحاولوا اختراق الحصن من عدة جهات،إلا أن النصر ظل حبيسا لا يأتيهم،بطيئا لا يسرع،فكتب عمرو إلى أمير المؤمنين يطلب مددا،وظل يشغل الروم بالقتال حتى ملَّ بعضُ جنود المسلمين،فنادى عمرو أصحاب رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ ليُرُوا الدنيا ما رأت منهم من آيات الشجاعة والبطولة في جزيرة العرب وبلاد فارس والروم،فلازمهم توفيق الله حتى غلبوا الروم على حصنهم المنيع،واقتحموه بالقوة.
وكان فتح أمِّ دُنَيْن تمكينا كبيرا لجيش عمرو على جبهات القتال،فعبر النيل إلى ضفته الغربية،وظل يقاتل الروم قرب الفيوم قتالا متقطعا،ولقي كتيبة رومية تولت الدفاع عن الفيوم فاستدرجها في الصحراء حتى أفناها تماما، فبث الرعب في الروم،واتجه جنوبا حتى لقيهم عند البهنسا فقاتلهم وانتصر عليهم،وإن خسر بعضَ رجاله..
وبينما كان عمرو وجيشه منشغلين بهذا النوع من القتال الخفيف المراوغ،جاءته الأنباء بوصول المدد من أمير المؤمنين،فعبر إليهم النيل حتى لا يقطع الرومانُ الطريقَ بينه وبين المدد الذي يقوده الزبير بن العوام.
التقى عمرو بن العاص بمدد المدينة على رأسه الزبير بن العوام،فامتلأت النفوس بالرضى،واستبشروا خيرا،وسار بهم عمرو حتى عسكر فوق أطلال عين شمس،والأعداء مترددون بين البقاء داخل حصن بابليون وبين الخروج للقتال في العراء،وخوفا من أن يُوصَفُوا بالجبن خرج تيودور أمير جند الروم في عدد كبير من أصحابه قاصدا معسكر المسلمين،بينما راح عمرو بن العاص،يُعِد خطته للقتال،فسَيَّر(1/556)
خمسمائة من جنوده ناحية جبل المقطم،في ظلمة الليل،وفي إشراقة الصباح بعث خمسمائة آخرين إلى أم دُنَيْن،وأمرهم أن يتدخلوا بالقتال إذا اشتدت المعركة مع الروم..
ولم يطل بالحرب وقت الصمت،إذ أقبلت جحافل الروم من حصن بابليون تثير حولها الغبار،وتقدم عمرو جهة موضع العباسية مع الصباح الباكر لِلِّقَاءِ الكبير،والْتَحَمَ الفريقان واشتعل القتال كأشد مايكون في صحراء العباسية،وظل الروم يطمعون في النصر،ويأملون في القضاء على هذا العدو العنيد الذي يقاتل في أرض غريبة دون أن تلحق به أي هزيمة،حتى أقبلت الكتيبة المسلمة الأولى من قِبَلِ الجبل فاجتاحت مؤخرةَ الروم،وأشاعت فيهم الفزع،فتقهقروا جهة أم دُنَيْن لينظِّموا صفهم،ولكن الكتيبة الأخرى خرجت من مخبئها وعاجلتهم بقتال مرير،ظن معه الروم أنهم لو صعدوا إلى السماء لوجدوا المسلمين في مواجهتهم،فتمزقوا كل ممزق،وتاهوا وسط جموع المسلمين المنظمة،وكان الانتصار باهرا،تمكن المسلمون بعده من بسط أيديهم على المنطقة،فبث عمرو عساكره حتى فتحوا أم دُنَيْن ثانية،وسيطروا على الفيوم بعد أن فرَّتْ حاميتُها الرومية،وبسطوا سلطانهم على جنوب الدلتا،ولم يبق للروم بمصر بعد ذلك قوة حقيقية سوى حصن بابليون والإسكندرية.
في حصن بابليون اجتمعت قوات كبيرة من الرومان،فيهم المُقَوْقِس وقادة الروم وأشرافهم،والحصن قوي الأسوار شديد الامتناع،وفيه زاد وذخائر من كل نوع،ويصله بجزيرة الروضة جسر من السفن،وكان الوقت وقت فيضان في سنة عشرين من الهجرة،ولا أحد يجرؤ على الاقتراب من الحصن،ومع ذلك فإن سقوطه،يعني أنه لم يبق للروم بمصر سوى الإسكندرية وبعض الحاميات والحصون. وأقبل عمرو بن العاص بجنوده بعد أن اتخذ من عين شمس مركزا لقيادته،وهو يعلم جيدا أنه وجنوده يقاتلون في ظروف لم يعهدوها من قبل،فإن كانوا نزلوا على حصون من قبل،وعبروا أنهارا،فإنهم لم يقاتلوا أهل حصن متدرع بالماء مثل أهل بابليون.
وراحت شواطئ النهر العتيق تستضيف المسلمين حيث وقفوا،وحالوا دون التحرك الحر للعدو،وضيقوا عليه وبادلوه الرمي والقتال المحدود،فلما انقضى شهرعلى ذلك اجتمع المُقَوْقِس بكبار أصحابه وشاورهم في مصالحة المسلمين،وبعد مفاوضات اختلف الروم بشأنها،تجدد القتال وخرجت أعداد كبيرة من الرومان تاركة الحصن للقاء المسلمين،فقاتلوهم قتالا شديدا،واستبسل الروم،وألح المسلمون بالقتال وصبروا عليه،حتى كسروا عدوَّهم،وقتلوا منهم وأسروا كثيرين،وفر من بقي إلى الحصن.. وانخفضت روح الروم المعنوية،وأصابهم إحباط مميت،وانتظروا أن تأتيهم نجدة من الإسكندرية دون فائدة،ومرت سبعة أشهر حتى انخفض ماء النيل كثيرا،وأصبح غزو الحصن هدفا ممكنا،لكن الروم أسرعوا وملأوا الخنادق بالحديد الشائك..(1/557)
ومع أن الأنباء جاءت من القسطنطينية بموت هرقل فزادت الروم داخل حصن بابليون إحباطا،إلا أنهم ظلوا مستميتين في الدفاع عن حصنهم،حتى خرج الزبير بن العوام وفتح أمام المسلمين الطريق ليدخلوا الحصن،ويكملوا الاستيلاء على مصر فيما عدا الإسكندرية.
ظن المقوقِس أن "المغامرة" التي يقودها عمرو وجنوده في مصر ستختم بالفشل حتما،فراح يستدرجهم إلى الداخل أملاً في أن يكسرهم في موضع لا يمكنهم الرجوع منه،ويصيروا فريسةً بين أنياب الذئاب الرومية الشرسة.. ومَنْ عمرو هذا ومَنْ جنوده؟ إنهم لدى المُقَوْقِس أبناء الصحراء القاسية العارية،ولا تصلح لهم بيئة يشقها نهر،وتتناثر على أرضها الحصون،ليقاتلوا فيها...
لكنهم في الحقيقة أخذوا من الصحراء صلابتَها،وعلَّمتهم صفاءَ النفوس،وجاء الإسلام فهذبهم وأدبهم،ووصلهم بغايات رفيعة ومطالب عالية جليلة،لذلك هزم إيمانُهم وصلابتهم بيئةَ القتال الجديدةَ،فانتصروا فيها هي أيضا،حتى أذهلوا المقوقِس ومَنْ معه جميعا،فأراد المقوقِس أن يعرف من أي معدن هؤلاء الناس،فبعث بالرسل إلى عمرو بن العاص ليبعث بعض رجاله يفاوضون المقوقِس. وبدهائه راح عمرو يؤخر عودة الرسل،حتى يَرَوْا طبيعة الإنسان المسلم الذي جاء مع عمرو من قلب الصحراء لكنه تأدب بأدب السماء،وعاد رسل المُقَوْقِس إليه مذهولين يَحْكون له عن قوم أميرُهم كواحد منهم،إذ حضرت الصلاة لم يتخلف عنها أحد،والموت أحب إلى أحدهم من الحياة...
وجاء إلى المقوقِس وفد المسلمين عليهم عبادة بن الصامت الأنصاري بطولِه الفارع وسواد بشرته،فهابه المقوقِس وتحرك الخوف في نفسه،ودخل معه في حوار طويل زاده هيبةً وإجلالاً لهؤلاء القوم الذين يقدِّمون رؤساءهم بكفايتهم وقدرتهم لا بألوانهم ولا هيئاتهم،ونصح المقوقِس قومه بمصالحة المسلمين،إلا أنهم خالفوه،وكتب يستشير هرقل،فأبى هو أيضا إلا الحرب،وسفَّه رأي المقوقِس.
رجع هرقل إلى القسطنطينية تاركا الشامَ كلَّها،ولهيبُ الحزن يملأ قلبَه على سوريَّةَ ودمشقَ وحِمْصَ وبيتِ المقدسِ،ولا يدرى على أيِّها يحزن أكثر،أَعَلَى دمشق الفيحاء،أم بيت المقدس منزل الأنبياء،أم غيرها من المدن الرائعة؟! ومرت أربع سنوات وهو في سجن كئيب من الحزن،لا يحاول أن يسترد شيئا أَخَذَه منه المسلمون إلا فشل وخابت جهودُه،حتى أتاه كتاب من المقوقِس في مصر سنة عشرين من الهجرة،وأمسك بالكتاب مضطربا متشائمًا،فكَمْ أتَتْه كتبٌ مثلُه تحمل أخبار الهزائم التي حاقت بالروم في مصر والشام والجزيرة،وهرقلُ رجل قد كَبِرَتْ سِنُّهُ ويَوَدُّ لو أنقذ الإمبراطورية المتهاوية أمام ضربات المسلمين،كما أنقذها من قبل من أنياب الفرس،ولكنه يرى ذلك أملا بعيدا ... ولما فتح كتاب المقوقِس تضاعف عليه الحزن والأسى،فالكتاب يدعوه إلى مصالحة المسلمين،ومعنى هذه المصالحة هو الاستسلام لهم،وهذا ما لا يرضاه هرقل ولا يرغب فيه،أَبَدَلاً من أن يأخذ ثأر دمشق وحلب وثأرَ القدس وثأر أنطاكية وحمص يُسالم المسلمين ويصالحهم على جزية يدفعها لهم؟!(1/558)
غضب هرقل لرسالة المقوقِس بشدة،وكتب إليه رسالةً في لهجة شديدة تصفه بالعجز برغم القوة الكبيرة التي في حوزته،وأمره بألا يختار رأيًا غيرَ الحرب والقتال.
لم يكن الزبير رجلا عاديا بين أتباع محمد ـ - صلى الله عليه وسلم - ،بل كان من أوائل الذين خالفوا قومهم واتبعوه،وهو ابن عمته،والحواري القريب إلى قلبه،وعاشق البطولة والشجاعة الذي عَدَّه عمر بن الخطاب بألف مقاتل. ها هو الزبير اليوم قد ملَّ الانتظار أمام حصن بابليون،سبعة أشهر من الحرب ولا فتح،فليفعلْ شيئا يحرك به الموقف الساكن،ولو كانت نفسُه ثمنَ النصر الصعب.
خرج الزبير يهَب نفسَه لله رجاء الفتح على إخوانه،وخرجت معه جماعة من المسلمين معهم سُلَّم يصعدون به فوق الحصن،فلما وصل الفريق المجاهد وضع الزبير السُّلَّم في ناحيةٍ من الحصن وراح يصعد درجة درجة،ذاكرا ربه العزيز القهار،ووراءه محمد بن مسلمة،ووراءهما مالك بن أبي سلسلة،وفلان وفلان،والليل قد كسا الدنيا ظلاما لم يقلل من أضواء الحصن،فلما استوى الزبير على رأس الحصن امتلأت جوانب نفسه بالعزة،وملأ الأجواء من حوله بصوت كالرعد ينادي الله أكبر،فجاوبه المسلمون بالتكبير،حتى وقع العجز في قلوب الروم،وحسبوا أن المسلمين قد دخلوا عليهم الحصن،فأسرعوا إلى عمرو يفتحون له الباب ليصالحهم على ما شاء،بينما هبط الزبير وأصحابه إلى أرض الحصن وفتحوا الباب الآخر واخترقوا الطرق حتى خرجوا من الباب الذي عليه عمرو فأمضوا الصلح،وكتب لهم عمرو كتاب الأمان.
دُرَّةٌ على شاطئ بحر الروم،يَكثر المرمر في أرضها وبنائها وعُمُدها،تبدوا بيضاء لامعة في الليل والنهار،عروس هى يداعب الشاطئ أطراف ثوبها،وينثر الموج على وجهها رذاذ الماء... إنها الإسكندرية التي اتجه إليها جيش عمرو بن العاص بعد تأمين الأوضاع في حصن بابليون،ولم يكن الوصول إليها سهلا،وهل رأيتَ مثلَها يَسْهُلُ أن تجيب الخُطَّابَ؟!
قبل أن ينقضي العام العشرون من الهجرة كانت الخيول تعدو بالمسلمين جهة الإسكندرية،حيث سار عمرو بن العاص بجنوده على الضفة الغربية للنهر من ناحية الصحراء،حتى بلغ ترنوط فلقي فيها جمعا للروم ففضَّهم بعد قتال خفيف،ثم عبر النهر إلى شاطئه الشرقي ليفتح مدينة نقيوس وحصنها المنيع،ويفرق السفن الرومانية التي كانت في النيل هناك.
وامتدت الخطا بالمسلمين وتابعوا السير مع فرع النيل الكانوبي المؤدي إلى الإسكندرية،واشتبكوا مع الرومان من جديد عند سلطيس،حيث وقع قتال شديد فرَّ بعده الروم نحو حصن كريون انتظارا لِلِقَاءٍ آخر شديد الشراسة مع المسلمين...
أقبل الروم على الحصن من كل حَدَبٍ وصَوْب،كما خرج إليه تيودور بنفسه في جند كثيف،وحَصَّنَ الموضع أكثر،ورمَّم ما احتاج إلى ترميم منه،وشارك بعضُ المصريين عَمْرًا وقد رأوا النصر يسير في ركابه،فحرسوا الطرق وعَبَّدُوها وجهزوا الجيش بحاجته من الطعام والزاد،حتى إذا وقعت الحرب(1/559)
كانت أشد مما سبق،وصلى المسلمون صلاةَ الخوف،ودار القتال أياما،حتى تغلب إيمان المسلمين وصبرهم وشدةُ بأسِهم على الروم بعددهم وعدتهم،وقتلوا منهم مقتلةً عظيمة.
وبعد استراحة واستجمام قصير،واصل عمرو مسيرَه نحو الإسكندرية،وعسكر برجاله بين الحلوة وقصر فاروس،وراح يفكر كيف يقتحم هذه المدينة الرائعة العتيقة؟!
ها هم أولاء أبناء الإسلام يكملون تحقيق البشارة النبوية بفتح مصر،ويقفون على أبواب عاصمتها الإسكندرية،تدهشهم عجائب المقادير الإلهية أكثر مما تدهشهم عظمة المدينة الفخمة الباديةِ من خلف الأسوار وكأنها ترتدي ثوبا من البهاء والقوة... فسبحان من ينزع الملك من قوم ويؤتيه آخرين! لقد أقبل عمرو في الاثني عشر ألفا من جنوده يحط الرحال حول حصون الإسكندرية،وهو واثق من أن الفتح لن يكون سهلا،فالمدينة شديدة التحصين،بها خمسون ألفا من الرومان،تأتيهم الأقوات وفيرة عن طريق البحر،ولديهم أحدث آلات القتال والدفاع..
وتتصاعد الأحداث بعد شهور من الحصار،فتأتي من المدينة المنورة أخبار،ومن القسطنطينية أخبار،فقد دبَّ الخلاف والنزاع داخل بيت هرقل بعد وفاته،وكتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى قائد جند المسلمين بمصر يَعْجَبُ من بطء عمرو ومَنْ معه عن الفتح بعد عامين من دخولهم أرضَ مصر،ويأمره بتقديم الزبير بن العوام وبعضِ أولي العزم من المجاهدين في وجه العدو،وتذكير الناس بالصبر والنية،والإلحاح على الله بالدعاء،ففعل عمرو ذلك،وعقد راية الحرب لفارس الأنصار الكبير عبادة بن الصامت،ومضى المسلمون حتى صدموا عدوهم صدمة رجل واحد،وتسللوا إلى داخل أسوار المدينة،وبثوا الذعر في نفوس عدوهم فقُتل من الروم مَنْ قُتل وفَرَّ مَنْ فَرَّ،وأذعن سكان المدينة للمسلمين،فجعلهم عمرو أهلَ ذمةٍ وعاملهم معاملة مَنْ فتحت بلادهم صلحا،وذلك في سنة إحدى وعشرين من الهجرة النبوية.
لم يكن سهلا أن تخرج الإسكندرية من يد الروم،ولم يكن سهلا أيضا أن يسكتوا على خروجها من أيديهم،وهل ترضى أن تسقط منك لؤلؤة أو دُرَّةٌ نفيسة وسط الرمال دون أن تبحث عنها أو حتى تعطي نفسك فرصة للحزن عليها؟!.
لذلك لما أحس الروم ببعض العافية كتب زعماؤهم بالإسكندرية إلى الإمبراطور قسطنطين بن هرقل يشجعونه على غزو الإسكندرية.
وكانت فرصة أمام الإمبراطور الجديد ليصنع لنفسه بعض المجد،فبعث أسطولا ضخما في ثلاثمائة سفينة شقت البحر من القسطنطينية إلى الإسكندرية وحطت على الشاطئ في أوائل سنة خمس وعشرين من الهجرة،واستولوا على الإسكندرية بسهولة،ثم راحوا يتجهون جنوبا ينهبون ويقتلون وينضم إليهم مَنْ ينضم،وانتظر عمرو حتى يتوغلوا في مصر فينفرد بهم بعيدا عن الشاطئ...(1/560)
وفي نقيوس كان اللقاء الملتهب،حيث دار القتال شديدا،وحارب عمرو في صفوف الناس،فأصاب فرسَه سهمٌ،فنزل عنه وقاتل على رجليه لا يبالي بما يرى من شراسة العدو الذي هزم المسلمين في بعض أجزاء الحرب،لكن المسلمين عادوا فشدوا وحملوا حملةً قويةً انخرم أمامها نظام العدو،ففروا والمسلمون في ذيولهم حتى دخلوا الإسكندرية،وتحصنوا وراء أسوارها،وأقسم عمرو أن يهدم هذه الأسوار إذا أظهره الله على عدوه،وقاتل المسلمون بحماسة حتى اخترقوا دفاعاتِ المدينة وسيطروا على الموقف تماما،وقتلوا في الروم مقتلةً كبيرة حتى بلغت سيوفُهم قائدَ الروم فلقي حتفه.
أثناء حصار الإسكندرية،وعقب فتحها،كان عمرو بن العاص يبث سراياه في أنحاء مصر لإخضاع مَنْ بقي بها من الرومان،وما كان لمن بقي بعد الإسكندرية أن يكون عقبة كبيرة في وجه جيش الفتح.. سيَّر عمرو بن العاص سراياه إلى إخنا القريبة من الإسكندرية وبلهيب ففتحوها،وصالح حاكِمَىْ رشيد والبرلس،وتقدم عمير بن وهب الجمحي إلى دمياط وتنيس وتونة ودميرة وشطا ودقهلة وبوصير،فصالحوها جميعا.
وسار المسلمون نحو الجنوب يفتحون ما يجدونه في طريقهم من المدن والقرى حتى بلغوا طوخ،وساروا منها إلى دمسيس وما حولها..
واتجه قيس بن الحارث على رأس سرية جهة بلاد الصعيد،قطعت مسافات طويلة حتى بلغت حدود إقليم طيبة،دون أن تلقى مشقة كبيرة في فتح بلاد الصعيد التي أصبح عبد الله بن سعد بن أبي السرح أميرا عليها بناءً على أوامر الخليفة.
كانت بلاد النوبة صخرة قوية في جوار مصر الجنوبي،حاول عمرو بن العاص فتحَها سنة إحدى وعشرين،لكن عبد الله بن سعد بن أبي السرح الذي كلفه عمرو بذلك لم يستطع عمل شيء في مواجهة المقاومة النوبية الشرسة.
ومضت عشر سنوات وقد بدا أن المسلمين نسُوا هذه الجهة،فجرد أمير مصر الثاني عبد الله بن أبي السرح جيشًا قاده بنفسه،فيه نفر من صحابة رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ،ووصل الجيش في حملته إلى دنقلة حيث دارت الحرب بين الجانبين واشتد سَعِيرُها،وأتقن رماة النوبة إصابةَ عيونِ المسلمين،حتى اضطر ابن أبي السرح إلى مهادنتهم،وصالحهم على ألا يغزوا المسلمين ولا يغزوهم المسلمون،على أن يؤدي النوبيون للمسلمين عددا من السبي كل عام،ويؤدي المسلمون إليهم شيئا من الطعام والكسوة.
ملأت السعادةُ نفسَ عمرو وقد دخلت مصرُ كلُّها تحت جناح الإسلام،لكنه نظر إلى الغرب من مصر فوجد أنحاء أخرى قريبةً تحتاج إلى أن تُرفع في سمائها راية الدين الحنيف،فانطلق من الإسكندرية إلى بَرْقةَ وفي الطريق بينهما سلسلة من المدن والمنازل.
ولما قدم بَرْقَةَ صالحه أهلُها على ثلاثة عشر ألف دينار يؤدونها جزيةً،فكان أهل بَرْقَةَ يبعثون بالجزية إلى المسلمين دون حاجة إلى إرسال مَنْ يجمعها منهم.(1/561)
وأطلق عمرو بن العاص عقبةَ بنَ نافع سهمًا فانطلق حتى بلغ زويلة،وصار ما بينها وبين بَرْقَةَ تحت سيطرة المسلمين.
وفي نفس هذه السنة،أي اثنتين وعشرين من الهجرة،سار عمرو بقواته إلى طرابُلس،وكانت بها حامية روميةٌ قوية،ولها حصون منيعة،فحاصرها المسلمون شهرا دون أن يتغلبوا عليها.. وفكر المسلمون في وسيلة يقتحمون بها المدينة فاهتدوا إلى التَّسلُّل إليها من ناحية البحر التي لم يكن فيها سور يحمي المدينة.. وفي غفلة من الرومان تسللت جماعة من المسلمين إلى المدينة عن طريق البحر،ولم ينتبه الروم إلا لصوت التكبير يرتفع من داخل المدينة،فهربوا نحو السفن بما خف معهم،وتركوا المدينة وما فيها غنيمة للمسلمين.
وعلى مقربة من طرابُلس كان أهل سيرت قد أَمِنُوا،وظنوا أن لا طاقة للمسلمين بفتح طرابلس،وسيقيمون حول حصونها زمنا طويلا دون أن يتمكنوا منها،وفي ليلةِ فَتْحِه لطرابُلس لم يتمهلْ عمرو وجرد عددا كبيرا من جنود الخيالة أتوا أهل سيرت مع طلوع الصباح فجأة،وقد فتحوا أبوابهم لتسرح ماشيتهم،فدخل المسلمون المدينة فلم ينجُ منها أحد،واحتووا ما فيها.
حاول عمرو بن العاص أن يحصل من عمر بن الخطاب على إذن تاريخي آخر يغزو بمقتضاه إِفْرِيقِيَّةَ،كما فعل حينما غزا مصرَ وفَتَحَها،إلا أن الخليفة كان شديد الخوف على المسلمين ويخشى أن يعطي إذنا بالغزو في ميادينَ واسعةٍ تُشتِّت جنودَه،وتعرضهم للخطر والموت فإذا لقي الله ـ تعالى ـ حاسبه على هذا الإذن؛ لذلك رفض أمير المؤمنين عمر أن يمنح عَمْرًا إذنًا بغزو إِفْرِيقِيَّةَ.
وتغيرت الوجوه،فصارت إمارة المؤمنين عند عثمان بن عفان،وإمارة مصر بيد عبد الله بن أبي السرح،فكان عبد الله يبعث فرسانه للإغارة على أطراف إِفْرِيقِيَّةَ فيرجعون بالغنيمة.. وأحس عبدالله في نفسه أن هذه الناحية قابلة للفتح،فقط تحتاج إلى إذن أمير المؤمنين فكتب إلى عثمان بذلك،والخليفة رجل عاقل لا يريد أن يتحمل مسئوليةَ أمرٍ لم يُقْدِمْ عليه سلفُه العظيم عمر،فراح يستشير وُجُوهَ الناس مِنْ حوله،فرأوا ذلك خيرا لا ينبغي أن يمر،واتخذ الخليفة بسرعة خطوةً جديدةً،إذْ راح يشجع الناس على الغزو،ويدعوهم إلى ترك الراحة في البيوت،وإلى الجهاد في الأرض مشرقا ومغربا لإعلاء كلمة الله ـ تعالى.. وخرج من المدينة في سنة سبع وعشرين من الهجرة جيشٌ يقوده الحارث بن الحكم،تحرك بهم ابن أبي السرح.. في عشرين ألفا متجها إلى الغرب،فلقي المشركين عليهم جرجير،واقتتلوا قتالا عنيفا،حتى هلك جرجير في المعركة،وانتشرت سرايا المسلمين هنا وهناك،تسيطر على المواقع،وتحصل على الغنائم،حتى أيقن رؤساءُ أهلِ إِفْرِيقِيَّةَ أنه لابد من التسليم لإنقاذ ما يمكن إنقاذه،ففاوضوا المسلمين على أن يخرجوا من بلادهم مقابل مالٍ يأخذونه،ورأى ابن أبي السرح أن هذا أفضل من البقاء في بلاد إِفْرِيقِيَّةَ الخطيرة التي يسيطر عليها الرومان وقبائل البربر،ويصعب السيطرة عليها بهذا العدد من الجنود.(1/562)
وبعد سبع سنوات من ذلك غزا الصحابي معاويةُ بنُ حُديج إِفْرِيقِيَّةَ وفي جيشه جماعة من المهاجرين والأنصار،فافتتح قصورا،وغنم غنائم عظيمة،وبنى هناك معسكرا لجنوده عند جبل القرن.
- - - - - - - - - - - - - -(1/563)
المبحث الثامن
معالم هامة من تاريخ الخلفاء الراشدين
الخلفاء الراشدون هم الأئمة الأربعة،أبو بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم أجمعين-،وهم الذين خلفوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قيادة الأمة،ومدة خلافتهم من انتقاله - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى في 12 ربيع الأول سنة 11هـ إلى مقتل علي بن أي طالب في 17 رمضان سنة 40 هـ (1) : تسع وعشرون سنة وستة أشهر وخمسة أيام.
وإذا أضيفت لها خلافة الحسن بن علي (من مقتل أبيه عن تنازله لمعاوية بن أبي سفيان 25 ربيع الأول سنة41هـ) (2) تكون ثلاثين سنة بالتمام،وقد اختصوا بوصف الراشدين لصفات تميزوا بها في سلوكهم الذاتي وفي إدارتهم لشؤون الأمة ورعايتهم لدينها وعقيدتها وحفاظهم على النهج الذي جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الدعوة،والجهاد،وإقامة العدل،والأمر بالمعروف،والنهي عن المنكر.
والرشد ضد الغي والهوى وهو الاستقامة الكاملة على المنهاج النبوي،وقد جاء وصفهم بهذه الصفة في حديث العرباض بن سارية -رضي الله عنه-: فعَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ،أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلَاةَ الصُّبْحِ،ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ وَوَعَظَنَا بِمَوْعِظَةٍ بَلِيغَةٍ ذَرَفَتْ مِنْهَا الْأَعْيُنُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ،فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ،كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدَّعٍ فَأَوْصِنَا،قَالَ: " أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ،وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ،وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا،فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا،فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ،وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ،وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ،فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ " " (3) .
كما جاء وصف خلافتهم في بعض الأحاديث النبوية: فعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ،قَالَ:كُنَّا قُعُودًا فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَكَانَ بَشِيرٌ رَجُلاً يَكُفُّ حَدِيثَهُ،فَجَاءَ أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ،فَقَالَ:يَا بَشِيرُ بْنَ سَعْدٍ أَتَحْفَظُ حَدِيثَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فِي الأُمَرَاءِ ؟ فَقَالَ حُذَيْفَةُ:أَنَا أَحْفَظُ خُطْبَتَهُ،فَجَلَسَ أَبُو ثَعْلَبَةَ،فَقَالَ حُذَيْفَةُ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ،ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا،ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ،فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ،ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَهَا،ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا،فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ،ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا،ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا
__________
(1) - تاريخ الطبري 3/217 ، 5/143 ، ويذكر قولاً للمدائني في تاريخ قتل علي مقارب لهذا.
(2) - تاريخ الطبري 5/163 ويذكر ذلك عن بن شبة عن المدائني قال: سلم الحسن بن علي الكوفة إلى معاوية، ودخلها معاوية لخمس بقين من ربيع الأول، ويقال: من جماد الأول.
(3) - شعب الإيمان - (10 / 22) (7110 ) صحيح(1/564)
جَبْرِيَّةً،فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ،ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا،ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةً عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةٍ ثُمَّ سَكَتَ (1) ..
وعَنْ سَفِينَةَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:خِلافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلاثُونَ سَنَةً قَالَ سَعِيدٌ:أَمْسَكَ أَبُو بَكْرٍ سَنَتَيْنِ،وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَشْرَ سِنِينَ،وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً،وَعَلِيٌّ سِتَّ سِنِينَ " (2)
وقد تميز عصرهم من بين سائر عصور الدول الإسلامية بجملة من المميزات التي تميزه عن غيره،وصار العصر الراشدي مع عصر النبوة معلماً بارزاً ونموذجاً مكتملاً،تسعى الأمة الإسلامية وكل مصلح إلى محاولة الوصول إلى ذلك المستوى السامق الرفيع،ويجعله كل داعية نصب عينيه فيحاول في دعوته رفع الأمة إلى مستوى ذلك العصر أو قريباً منه،ويجعله معلماً من معالم التأسي والقدوة للأجيال الإسلامية،ومن ثم صار كل مصلح وكل حاكم عادل وكل إمام مجتهد يقاس بهذا العصر ويوزن بميزانه،حتى لقب كثير من العلماء الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز (خامس الخلفاء الراشدين) (3) ،ونسبوه إليهم،وذلك لأنه سار بسيرتهم،وسلك طريقهم،وأعاد في خلافته رغم قصرها (99-101هـ) معالم نهجهم،وأحيا طريقتهم في الحكم والإدارة وسياسة الرعية.
وسوف نتعرف على بعض معالم عصر الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم-؛ لتكون مثالاً يحتذى وصدىً يهتدى بها في طريق الدعوة إلى الله.
1- توحيد مصدر التلقي:
ومصدر التلقي هو الكتاب والسنة المطهرة،وهذه قضية مهمة جداً،فما وقع التفرق والاختلاف إلا عندما قصَّرَ المسلمون في فهم الكتاب والسنة وزاحموهما بمصادر ومقررات خارجية من فلسفات الأمم وأهواء النفوس،والبشرية لا يمكن لها أن تتقارب وتتوحد إلا إذا وحدت مصادر فهمها وتلقيها،فإن الناظر في الفلسفات البشرية والمذاهب الفكرية والسياسات العملية يجد بينها بوناً شاسعاً واختلافاً كبيراً يصل إلى التضاد والتناقض،ولذلك فإنه لا سبيل لوحدتها وإزالة ما بينها من اختلاف وتناقض،ويبرأ من النقص والهوى ويخضع له الجميع سوى وحي الله المنزل في كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ،لأنه من تشريع الله الخالق لكل شيء،الحكيم الخبير الذي أحاط علمه بكل شيء،قال تعالى: ((ومَا كَانَ رَبُّكَ نَسِياً)) [مريم:64]،وقال تعالى: ((لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ)) [البقرة:255 ]،وقال: ((وكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)) [النساء:26 ]،وقال تعالى: ((الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ولَمْ
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 285)(18406) 18596- صحيح
(2) - المستدرك للحاكم (4697) صحيح
(3) - انظر سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي (باب في أنه من الخلفاء الراشدين المهديين) ،والنووي تهذيب الأسماء واللغات 2/17، والذهبي سير أعلام النبلاء 5/120.(1/565)
يَتَّخِذْ ولَداً ولَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً)) [الفرقان:2 ]،وقال تعالى: ((ولَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى ورَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)) [الأعراف:52 ]،وقال تعالى: ((واللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ واللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) [الحجرات:16].
فما كان الخلفاء الراشدون يتلقون أو يأخذون نظمهم ولا سياستهم ولا مناهج علمهم وكافة أمورهم إلا من الكتاب المنزل من الله والسنة الموحى بها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،ولم يكن الاقتصار منهم على الوحي الرباني عن فقر في العلوم والثقافة في عصرهم ولكنه عن علم وقصد واتباع لأمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - ،قال تعالى: ((ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا ولا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَذِينَ لا يَعْلَمُونَ)) [الجاثية:18].
فكل ما خالف الوحي فهو هوى وجهل وعمى،وقال تعالى:((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ))[الروم:30 ]
ولقد غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما رأى في يد عمر بن الخطاب صحيفة من التوراة ،فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ،أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ،أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ،فَقَرَأَهُ عَلَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَغَضِبَ وَقَالَ:أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ،وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً،لاَ تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ،أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ،وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا،مَا وَسِعَهُ إِلاَّ أَنْ يَتَّبِعَنِي. (1)
وأقوال الخلفاء الراشدين بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومواقفهم توضح ذلك وتبينه.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُكَيْمٍ ؛ قَالَ:لَمَّا بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ صَعَدَ الْمِنْبَرَ،فَنَزَلَ مِرْقَاةً مِنْ مَقْعَدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَحَمَدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ،ثُمَّ قَالَ:اعْلَمُوا أَيُّهَا النَّاسُ أَنَّ أَكْيَسَ الْكَيْسِ التُّقَى،وأن أَحْمَقَ الْحُمْقِ الْفُجُورُ،وَإِنَّ أَقْوَاكُمْ عِنْدِي الضَّعِيفُ حَتَّى آخُذَ لَهُ بِحَقِّهِ،وَإِنَّ أَضْعَفَكُمْ عِنْدِي الْقَوِيُّ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُ،إِنَّمَا أَنَا مُتَّبِعٌ وَلَسْتُ بِمُبْتَدِعٍ،فَإِنْ أَحْسَنْتُ ؛ فَأَعِينُونِي،وَإِنْ زِغْتُ ؛ فَقَوِّمُونِي،وَحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا،وَلا يَدَعُ قَوْمٌ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ ؛ إِلَّا ضَرَبَهُمُ اللهُ بِالْفَقْرِ،وَلا ظَهَرَتِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ ؛ إِلَّا عَمَّهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْبَلاءِ ؛ فَأَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللهَ وَرَسُولَهُ،فَإِذَا عَصَيْتُ اللهَ وَرَسُولَهُ ؛ فَلا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ،أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ). (2)
وعن أَنَسَ بْنِ مَالِكٍ،قَالَ لَمّا بُويِعَ أَبُو بَكْر ٍ فِي السّقِيفَةِ وَكَانَ الْغَدُ جَلَسَ أَبُو بَكْر ٍ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَامَ عُمَرُ فَتَكَلّمَ قَبْلَ أَبِي بَكْرٍ فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمّ قَالَ أَيّهَا النّاسُ إنّي كُنْت قُلْت لَكُمْ بِالْأَمْسِ مَقَالَةً مَا كَانَتْ مِمّا وَجَدْتهَا فِي كِتَابِ اللّهِ وَلَا كَانَتْ عَهْدًا عَهِدَ إلَيّ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَكِنّي قَدْ كُنْت أَرَى أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَيُدَبّرُ أَمَرْنَا ؛ يَقُولُ يَكُونُ آخِرُنَا وَإِنّ اللّهَ قَدْ أَبْقَى فِيكُمْ كِتَابَهُ الّذِي
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 243)(15156) 15223- حسن
(2) - المجالسة وجواهر العلم - (4 / 113)(1290 ) حسن(1/566)
بِهِ - صلى الله عليه وسلم - فَإِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ هَدَاكُمْ اللّهُ لِمَا كَانَ هَدَاهُ لَهُ وَإِنّ اللّهَ قَدْ جَمَعَ أَمْرَكُمْ عَلَى خَيْرِكُمْ صَاحِبِ رَسُولِ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَانِي اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الْغَارِ فَقُومُوا فَبَايِعُوهُ فَبَايَعَ النّاسُ أَبَا بَكْرٍ بَيْعَةَ الْعَامّةِ بَعْدَ بَيْعَةِ السّقِيفَة فَتَكَلّمَ أَبُو بَكْر ٍ فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِاَلّذِي هُوَ أَهْلُهُ ثُمّ قَالَ أَمّا بَعْدُ أَيّهَا النّاسُ فَإِنّي قَدْ وُلّيت عَلَيْكُمْ وَلَسْت بِخَيْرِكُمْ فَإِنْ أَحْسَنْت فَأَعِينُونِي ؛ وَإِنْ أَسَأْت فَقَوّمُونِي ؛ الصّدْقُ أَمَانَةٌ وَالْكَذِبُ خِيَانَةٌ وَالضّعِيفُ فِيكُمْ قَوِيّ عِنْدِي حَتّى أُرِيحَ عَلَيْهِ حَقّهُ إنْ شَاءَ اللّهُ وَالْقَوِيّ فِيكُمْ ضَعِيفٌ عِنْدِي حَتّى آخُذَ الْحَقّ مِنْهُ إنْ شَاءَ اللّهُ لَا يَدَعُ قَوْمٌ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللّهِ إلّا ضَرَبَهُمْ اللّهُ بِالذّلّ وَلَا تَشِيعُ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطّ إلّا عَمّهُمْ اللّهُ بِالْبَلَاءِ أَطِيعُونِي مَا أَطَعْت اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِذَا عَصَيْتُ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ . قُومُوا إلَى صَلَاتِكُمْ يَرْحَمُكُمْ اللّهُ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ:وَحَدّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ عَنْ عِكْرِمَةَ،عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ،قَالَ وَاَللّهِ إنّي لَأَمْشِي مَعَ عُمَرَ فِي خِلَافَتِهِ وَهُوَ عَامِدٌ إلَى حَاجَةٍ لَهُ وَفِي يَدِهِ الدّرّةُ وَمَا مَعَهُ غَيْرِي،قَالَ وَهُوَ يُحَدّثُ نَفْسَهُ وَيَضْرِبُ وَحْشِيّ قَدَمهُ بِدِرّتِهِ . قَالَ إذْ الْتَفَتَ إلَيّ فَقَالَ يَا بْنَ عَبّاسٍ هَلْ تَدْرِي مَا كَانَ حَمَلَنِي عَلَى مَقَالَتِي الّتِي قُلْتُ حِينَ تُوُفّيَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ قَالَ قُلْت:لَا أَدْرِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْتَ أَعْلَمُ قَالَ فَإِنّهُ وَاَللّهِ إنْ كَانَ الّذِي حَمَلَنِي عَلَى ذَلِكَ إلّا أَنّي كُنْت أَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }،فَوَاَللّهِ إنْ كُنْت لَأَظُنّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَيَبْقَى فِي أُمّتِهِ حَتّى يَشْهَدَ عَلَيْهَا بِآخِرِ أَعْمَالِهَا،فَإِنّهُ لِلّذِي حَمَلَنِي عَلَى أَنْ قُلْت مَا قُلْت " (1)
وعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ،قَالَ:خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى الشَّامِ وَمَعَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فَأَتَوْا عَلَى مَخَاضَةٍ وَعُمَرُ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ فَنَزَلَ عَنْهَا وَخَلَعَ خُفَّيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَلَى عَاتِقِهِ،وَأَخَذَ بِزِمَامِ نَاقَتِهِ فَخَاضَ بِهَا الْمَخَاضَةَ،فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْتَ تَفْعَلُ هَذَا،تَخْلَعُ خُفَّيْكَ وَتَضَعُهُمَا عَلَى عَاتِقِكَ،وَتَأْخُذُ بِزِمَامِ نَاقَتِكَ،وَتَخُوضُ بِهَا الْمَخَاضَةَ ؟ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ اسْتَشْرَفُوكَ،فَقَالَ عُمَرُ:" أَوَّهْ لَمْ يَقُلْ ذَا غَيْرُكَ أَبَا عُبَيْدَةَ جَعَلْتُهُ نَكَالًا لَأُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّا كُنَّا أَذَلَّ قَوْمٍ فَأَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ فَمَهْمَا نَطْلُبُ الْعِزَّةَ بِغَيْرِ مَا أَعَزَّنَا اللَّهُ بِهِ أَذَلَّنَا اللَّهُ " (2) .
فالاعتصام بالكتاب والسنة والتلقي منهما قضية مسلمة لا تقبل النقاش،ولقد استمرت الأمة على هذا الفهم قروناً،ولكنها أصيبت في الأعْصُر المتأخرة بالانحرافات حتى جُهلت المسلَّمات ووجد من أبناء المسلمين من يجادل في هذا،بل وربما وجد فيمن ينتسبون إلى الدعوة،فلا حول ولا قوة إلا بالله.
2- حماية جانب العقيدة:
لقد جاءت الشريعة بسد باب الذرائع المؤدية إلى الشرك ومحاربة البدع والمحدثات في الدين،ولهذا لم يكن الخلفاء الراشدون وظيفتهم تقف عند حفظ الأمن والحكم بين الناس،بل إنها تتعدى ذلك لتشمل
__________
(1) - سيرة ابن هشام - (2 / 660) صحيح
(2) - الْمُسْتَدْرَكُ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ لِلْحَاكِمِ (194 ) صحيح(1/567)
كافة مصالح الأمة الدنيوية والأخروية،ومن ثم قاموا على نشر العقيدة الصحيحة وسدوا كافة المنافذ المؤدية إلى الابتداع في الدين أو النقص منه أو الانحراف في فهمه،وقاوموا كل مبتدع أو مشكك في الدين،فعَنْ عَائِشَةَ،قَالَتْ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ،فَهُوَ رَدٌّ. (1) .
والوقائع التاريخية والمواقف المنقولة عنهم في هذا المعنى،كثيرة نذكر نماذج منها:
- موقف الصديق -رضي الله عنه-في الردة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ،فقد واجه المرتدين بكل قوة وصلابة وحزم وشجاعة،ورفض مهادنة مانعي الزكاة رغم قلة الجند الإسلامي ومشورة كثير من الصحابة له بذلك منهم عمر بن الخطاب .
عَنِ الزُّهْرِيِّ،حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ،أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ،قَالَ:لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَهُ،وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ،قَالَ عُمَرُ:يَا أَبَا بَكْرٍ،كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا:لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ،فَمَنْ قَالَ:لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ،عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ،وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ،فَإِنَّ الزَّكَاةَ مِنْ حَقِّ الْمَالِ،وَوَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا قَالَ عُمَرُ:فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ رَأَيْتُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ عَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ (2) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ،قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لأَبِي بَكْرٍ:كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا:لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ،فَمَنْ قَالَ:لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ،عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ،وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ،فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ،وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالاً كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ. قَالَ عُمَرُ:فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ عَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ. (3)
وقال ابن كثير:" وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَمَّا وَقَعَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ أَشَارَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عَلَى الصِّدِّيقِ أَنْ لَا يُنْفِذَ جَيْشَ أُسَامَةَ لِاحْتِيَاجِهِ إِلَيْهِ فِيمَا هُوَ أَهَمُّ الْآنَ مِمَّا جُهِّزَ بِسَبَبِهِ فِي حَالِ السَّلَامَةِ،وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ أَشَارَ بِذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ،فَامْتَنَعَ الصِّدِّيقُ مِنْ ذَلِكَ،وَأَبَى أَشَدَّ الْإِبَاءِ إِلَّا أَنْ يُنْفِذَ جَيْشَ أُسَامَةَ،وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَحُلُّ عُقْدَةً عَقَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَوْ أَنَّ الطَّيْرَ تَخَطَفُنَا،وَالسِّبَاعَ مِنْ حَوْلِ الْمَدِينَةِ،وَلَوْ أَنَّ الْكِلَابَ جَرَّتْ بِأَرْجُلِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ،لَأُجَهِّزَنَّ جَيْشَ أُسَامَةَ. فَجَهَّزَهُ وَأَمَرَ الْحَرَسَ يَكُونُونَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ،فَكَانَ خُرُوجُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ أَكْبَرِ الْمَصَالِحِ،وَالْحَالَةُ تِلْكَ،فَسَارُوا لَا يَمُرُّونَ بِحَيٍّ مِنْ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (2697 ) وصحيح ابن حبان - (1 / 209)(27)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (1399و1400) وصحيح مسلم- المكنز - (133) وصحيح ابن حبان - (1 / 449) (216)
(3) - صحيح ابن حبان - (1 / 450) (217) صحيح(1/568)
أَحْيَاءِ الْعَرَبِ إِلَّا أُرْعِبُوا مِنْهُمْ،وَقَالُوا: مَا خَرَجَ هَؤُلَاءِ مِنْ قَوْمٍ إِلَّا وَبِهِمْ مَنَعَةٌ شَدِيدَةٌ. فَغَابُوا أَرْبَعِينَ يَوْمًا،وَيُقَالُ: سَبْعِينَ يَوْمًا. ثُمَّ آبُوا سَالِمِينَ غَانِمِينَ،ثُمَّ رَجَعُوا فَجَهَّزَهُمْ حِينَئِذٍ مَعَ الْأَحْيَاءِ الَّذِينَ أَخْرَجَهُمْ لِقِتَالِ الْمُرْتَدَّةِ،وَمَانِعِي الزَّكَاةِ،عَلَى مَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.
قَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ،عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ،وَجَمَعَ الْأَنْصَارَ فِي الْأَمْرِ الَّذِي افْتَرَقُوا فِيهِ قَالَ: لِيَتِمَّ بَعْثُ أُسَامَةَ. وَقَدِ ارْتَدَتِ الْعَرَبُ إِمَّا عَامَّةً وَإِمَّا خَاصَّةً فِي كُلِّ قَبِيلَةٍ،وَنَجَمَ النِّفَاقُ وَاشْرَأَبَّتِ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ،وَالْمُسْلِمُونَ كَالْغَنَمِ الْمَطِيرَةِ فِي اللَّيْلَةِ الشَّاتِيَةِ؛ لِفَقْدِ نَبِيِّهِمْ - صلى الله عليه وسلم - وَقِلَّتِهِمْ،وَكَثْرَةِ عَدُوِّهِمْ،فَقَالَ لَهُ النَّاسُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ جُلُّ الْمُسْلِمِينَ،وَالْعَرَبُ عَلَى مَا تَرَى قَدِ انْتَقَضَتْ بِكَ،وَلَيْسَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تُفَرِّقَ عَنْكَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ. فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي بَكْرٍ بِيَدِهِ،لَوْ ظَنَنْتُ أَنَّ السِّبَاعَ تَخْطَفُنِي لَأَنْفَذْتُ بَعْثَ أُسَامَةَ كَمَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَوْ لَمْ يَبْقَ فِي الْقُرَى غَيْرِي لَأَنْفَذْتُهُ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ،عَنْ أَبِيهِ،عَنْ عَائِشَةَ،وَمِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ وَعَمْرَةَ،عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ (1) : " لَمَّا قُبِضَ - تَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ارْتَدَّتِ الْعَرَبُ قَاطِبَةً،وَاشْرَأَبَّ النِّفَاقُ،وَصَارَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - كَأَنَّهُمْ مِعْزًى مَطِيرَةٌ فِي حِفْشٍ،فَوَاللَّهِ مَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ نُقْطَةٍ إِلَّا طَارَ أَبِي بِعَلْيَائِهَا وَغَنَائِهَا،ثُمَّ ذَكَرَتْ عُمَرَ،فَقَالَتْ:مَنْ رَأَى عُمَرَ عَلِمَ أَنَّمَا خُلِقَ غَنَاءً لِلْإِسْلَامِ،قَالَتْ:كَانَ وَاللَّهِ أَحْوَزِيًّا،نَسِيجَ وَحْدَهُ قَدْ أَعَدَّ لِلْأُمُورِ أَقْرَانَهَا "." (2)
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا،قَالَتْ:" قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَارْتَدَّتِ الْعَرَبُ،وَاشْرَأَبَّ النِّفَاقُ بِالْمَدِينَةِ،فَلَوْ نَزَلَ بِالْجِبَالِ الرَّاسِياتِ مَا نَزَلَ بِأَبِي لَهَاضَهَا،فَوَاللَّهِ مَا اخْتَلَفُوا فِي نُقْطَةٍ إِلَّا طَارَ أَبِي بِحَظِّهَا وَغَنَائِهَا فِي الْإِسْلَامِ،وَكَانَتْ تَقُولُ مَعَ هَذَا:وَمَنْ رَأَى ابْنَ الْخَطَّابِ عَرَفَ أَنَّهُ خُلِقَ غَنَاءَ الْإِسْلَامِ،كَانَ وَاللَّهِ أَحْوَذِيًّا نَسِيجَ وَحْدَهُ،قَدْ أَعَدَّ لِلْأُمُورِ أَقْرَانَهَا " (3)
- مواقف عمر بن الخطاب كثيرة:
فقد كان -رضي الله عنه-شديداً على أهل الأهواء والبدع،فعَنْ نَافِعٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ:أَنَّ صَبِيغاً الْعِرَاقِىَّ جَعَلَ يَسْأَلُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنَ الْقُرْآنِ فِى أَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى قَدِمَ مِصْرَ،فَبَعَثَ بِهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ،فَلَمَّا أَتَاهُ الرَّسُولُ بِالْكِتَابِ فَقَرَأَهُ فَقَالَ:أَيْنَ الرَّجُلُ؟ قَالَ:فِى الرَّحْلِ. قَالَ عُمَرُ:أَبْصِرْ أَيَكُونُ ذَهَبَ فَتُصِيبَكَ مِنِّى بِهِ الْعُقُوبَةُ الْمُوجِعَةُ. فَأَتَاهُ بِهِ فَقَالَ عُمَرُ:تَسْأَلُ مُحْدَثَةً. فَأَرْسَلَ عُمَرُ إِلَى رَطَائِبَ مِنْ جَرِيدٍ فَضَرَبَهُ بِهَا حَتَّى تَرَكَ ظَهْرَهُ دَبِرَةً،ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى بَرَأَ،ثُمَّ عَادَ لَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى بَرَأَ،فَدَعَا بِهِ لِيَعُودَ لَهُ،قَالَ فَقَالَ صَبِيغٌ:إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ قَتْلِى فَاقْتُلْنِى قَتْلاً جَمِيلاً،وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُدَاوِيَنِى فَقَدْ وَاللَّهِ بَرَأْتُ. فَأَذِنَ لَهُ إِلَى أَرْضِهِ وَكَتَبَ إِلَى أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ:أَنْ لاَ يُجَالِسَهُ أَحَدٌ مِنَ
__________
(1) - الْفَوَائِدِ الشَّهِيرُ بِالْغَيْلَانِيَّاتِ لِأَبِي بَكْرٍ الشَّافِعِيِّ ( 862 ) صحيح
(2) - البداية والنهاية لابن كثير محقق - موافق للمطبوع - (6 / 335)
(3) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلْبَيْهقِيِّ (15439 ) صحيح(1/569)
الْمُسْلِمِينَ. فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ،فَكَتَبَ أَبُو مُوسَى إِلَى عُمَرَ:أَنْ قَدْ حَسُنَتْ هَيْئَتُهُ. فَكَتَبَ عُمَرُ أَنِ ائْذَنْ لِلنَّاسِ بِمُجَالَسَتِهِ. (1)
وعَنْ عُمَرَ - رضى الله عنه - أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الْحَجَرِ الأَسْوَدِ فَقَبَّلَهُ،فَقَالَ إِنِّى أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ،وَلَوْلاَ أَنِّى رَأَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ . (2)
فهذا دليل واضح على المتابعة الدقيقة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإبعاد لأي اعتقاد ينشأ عند بعض الناس بأن الحجر ينفع أو يضر بذاته.
وقال مُحَمَّدُ بْنُ وَضَّاحٍ قَالَ:سَمِعْتُ عِيسَى بْنَ يُونُسَ مُفْتِي أَهْلِ طَرَسُوسَ يَقُولُ:" أَمَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِقَطْعِ الشَّجَرَةِ الَّتِي بُويِعَ تَحْتَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - , فَقَطَعَهَا لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَذْهَبُونَ فَيُصَلُّونَ تَحْتَهَا , فَخَافَ عَلَيْهِمُ الْفِتْنَةَ " قَالَ عِيسَى بْنُ يُونُسَ:وَهُوَ عِنْدَنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَوْنٍ , عَنْ نَافِعٍ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَأْتُونَ الشَّجَرَةَ , فَقَطَعَهَا عُمَرُ . (3)
وعَنْ نَافِعٍ،قَالَ:" كَانَ النَّاسُ يَأْتُونَ الشَّجَرَةَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا شَجَرَةُ الرِّضْوَانِ فَيُصَلُّونَ عِنْدَهَا قَالَ:فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَأَوْعَدَهُمْ فِيهَا وَأَمَرَ بِهَا فَقُطِعَتْ " (4)
- موقف عثمان -رضي الله عنه- في سد باب الفتنة والاختلاف في القرآن الكريم:
عن أَنَسَ بْنِ مَالِكٍ ،: أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ اليَمَانِ،قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّأْمِ فِي فَتْحِ أَرْمِينِيَةَ،وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ العِرَاقِ،فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلاَفُهُمْ فِي القِرَاءَةِ،فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ:يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ،أَدْرِكْ هَذِهِ الأُمَّةَ،قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الكِتَابِ اخْتِلاَفَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى،فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ:" أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي المَصَاحِفِ،ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ "،فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ،فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ،وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ،وَسَعِيدَ بْنَ العَاصِ،وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِي المَصَاحِفِ "،وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ القُرَشِيِّينَ الثَّلاَثَةِ:" إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ القُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ،فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ " فَفَعَلُوا حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي المَصَاحِفِ،رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ،وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا،وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنَ القُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ،أَنْ يُحْرَقَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ:وَأَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ،سَمِعَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ:" فَقَدْتُ آيَةً مِنَ الأَحْزَابِ حِينَ نَسَخْنَا المُصْحَفَ،قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ
__________
(1) - سنن الدارمى- المكنز - (150) صحيح لغيره
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (1597 )
(3) - الْبِدَعُ لِابْنِ وَضَّاحٍ (100 ) صحيح مرسل
(4) - الطَّبَقَاتُ الْكُبْرَى لِابْنِ سَعْدٍ(1548 ) صحيح مرسل(1/570)
رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ بِهَا،فَالْتَمَسْنَاهَا فَوَجَدْنَاهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيِّ:مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَأَلْحَقْنَاهَا فِي سُورَتِهَا فِي المُصْحَفِ " (1) .
وعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ،قَالَ:أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رِضْوَانُ اللَّهُ عَلَيْهِ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ،فَإِذَا عُمَرُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ جَالِسٌ عِنْدَهُ،فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:إِنَّ عُمَرَ جَاءَنِي،فَقَالَ:إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ،وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ فِي الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا فَيَذْهَبُ مِنَ الْقُرْآنِ كَثِيرٌ،وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ،قَالَ:قُلْتُ:كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ فَقَالَ عُمَرُ:هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ،فَلَمْ يَزَلْ يُرَاجِعُنِي فِي ذَلِكَ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ عُمَرَ،وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى،فَقَالَ لِي أَبُو بَكْرٍ:إِنَّكَ شَابٌّ عَاقِلٌ،لاَ نَتَّهِمُكَ،وَقَدْ كُنْتَ تُكْتَبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ.
قَالَ زَيْدٌ:فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ،قُلْتُ:فَكَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ،فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ،قَالَ:فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الرِّقَاعِ،وَاللِّخَافِ،وَالْعُسُبِ،وَصُدُورِ الرِّجَالِ حَتَّى،وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة]،خَاتِمَةُ بَرَاءَةَ،قَالَ:فَكَانَتِ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ،ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ،ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ.
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ:وَحَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ،عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،أَنَّ حُذَيْفَةَ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّامِ،وَأَهْلَ الْعِرَاقِ،وَفَتَحَ أَرْمِينِيَةَ،وَأَذْرَبِيجَانَ،فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةُ اخْتِلاَفُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ،فَقَالَ:يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،أَدْرِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ كَمَا اخْتَلَفَ الْيَهُودُ،وَالنَّصَارَى،فَبَعَثَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ:أَنْ أَرْسِلِي الصُّحُفَ لِنَنْسَخَهَا فِي الْمَصَاحِفِ،ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ،فَبَعَثَتْ بِهَا إِلَيْهِ،فَدَعَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ،وَعَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ،وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ،وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَنْسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ،وَقَالَ لَهُمْ:مَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ،فَإِنَّهُ نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ،وَكَتَبَ الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ،وَبَعَثَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا،وَأَمَرَ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُمْحَى أَوْ يُحْرِقَ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ:فَأَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ،أَنَّهُ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ يَقُولُ:فَقَدْتُ آيَةً مِنْ سُورَةِ الأَحْزَابِ حِينَ نَسَخْتُ الْمُصْحَفَ،كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَؤُهَا،فَالْتَمَسْتُهَا فَوَجَدْتُهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنَ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيِّ:{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب]،فَأَلْحَقْتُهَا فِي
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (4987 )(1/571)
سُورَتِهَا فِي الْمُصْحَفِ،قَالَ ابْنُ شِهَابٍ:اخْتَلَفُوا يَوْمَئِذٍ فِي التَّابُوتِ،فَقَالَ زَيْدٌ:التَّابُوهُ،وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ:التَّابُوتُ،فَرُفِعَ اخْتِلاَفُهُمْ إِلَى عُثْمَانَ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ،فَقَالَ:اكْتُبُوهُ التَّابُوتُ،فَإِنَّهُ لِسَانُ قُرَيْشٍ. (1)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ،قَالَ:أَخْبَرَنِي ابْنُ السَّبَّاقِ،أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ حَدَّثَهُ،قَالَ:أَرْسَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ إِلَيَّ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ،فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ عِنْدَهُ،فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:إِنَّ عُمَرَ جَاءَنِي فَقَالَ لِي:إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ بِأَهْلِ الْيَمَامَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ،وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ فِي الْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبُ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ لاَ يُوعَى،وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ،قَالَ:قُلْتُ:كَيْفَ تَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ فَقَالَ عُمَرُ:هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ،فَلَمْ يَزَلْ يُرَاجِعُنِي بِذَلِكَ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ لِذَلِكَ صَدْرِي وَرَأَيْتُ فِيهِ الَّذِي رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ،وَعُمَرُ جَالِسٌ عِنْدَهُ لاَ يَتَكَلَّمُ ،فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لاَ نَتَّهِمُكَ،وَكُنْتَ تُكْتَبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاتَّبِعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ،قَالَ:قَالَ زَيْدٌ:فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ بِأَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ،قَالَ:فَقُلْتُ:وَكَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ،فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ،قَالَ:فَقُمْتُ أَتَتَبَّعُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الرِّقَاعِ،وَالأَكْتَافِ،وَالْعُسُبِ،وَصُدُورِ الرِّجَالِ،حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ غَيْرِهِ:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ} [التوبة]،وَكَانَتِ الصُّحُفُ الَّتِي جَمَعْتُ فِيهَا الْقُرْآنَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَيَاتَهُ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ،ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ،ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ. ...
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ،وَأَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ اجْتَمَعَ لِغَزْوَةِ أَذْرِبِيجَانَ،وَأَرْمِينِيَةَ أَهْلِ الشَّامِ،وَأَهْلِ الْعِرَاقِ،فَتَذَاكَرُوا الْقُرْآنَ،فَاخْتَلَفُوا فِيهِ حَتَّى كَادَ يَكُونُ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ،قَالَ:فَرَكِبَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ لَمَّا رَأَى اخْتِلاَفَهُمْ فِي الْقُرْآنِ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ،فَقَالَ:إِنَّ النَّاسَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْقُرْآنِ،حَتَّى إِنِّي وَاللَّهِ لَأَخْشَى أَنْ يُصِيبَهُمْ مَا أَصَابَ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنَ الاِخْتِلاَفِ،فَفَزِعَ لِذَلِكَ عُثْمَانُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ فَزِعًا شَدِيدًا،وَأَرْسَلَ إِلَى حَفْصَةَ فَاسْتَخْرَجَ الصُّحُفَ الَّتِي كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَمَرَ زَيْدًا بِجَمْعِهَا،فَنَسَخَ مِنْهَا الْمَصَاحِفَ،فَبَعَثَ بِهَا إِلَى الآفَاقِ،ثُمَّ لَمَّا كَانَ مَرْوَانُ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ أَرْسَلَ إِلَى حَفْصَةَ يَسْأَلُهَا عَنِ الصُّحُفِ لِيُمَزِّقَهَا وَخَشِيَ أَنْ يُخَالِفَ بَعْضُ الْعَامِ بَعْضًا،فَمَنَعْتُهُ إِيَّاهَا.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ:فَحَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ:لَمَّا تُوُفِّيَتْ حَفْصَةُ أَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بِعَزِيمَةٍ لِيُرْسِلَ بِهَا،فَسَاعَةَ رَجَعُوا مِنْ جَنَازَةِ حَفْصَةَ أَرْسَلَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى مَرْوَانَ فَحَرَقَهَا مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ اخْتِلاَفٌ لَمَّا نَسْخَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. (2) ...
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (10 / 360)(4506) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (10 / 363) (4507) صحيح(1/572)
فجمع الناس على مصحف واحد،وقطع الله بعمله هذا دابر الفتنة،وحقق الله على يديه صيانة كتابه وحفظه من الزيادة والنقصان
- قتال علي -رضي الله عنه- للخوارج وللشيعة الذين غلوا فيه حتى ألَّهوه -رضي الله عنه- فنصحهم عن ذلك،ثم لمَّا لم ينتهوا أمر بإحراقهم بالنار،فعن عِكْرِمَةَ:أَنَّ عَلِيًّا رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِىَ بِقَوْمٍ مِنَ الزَّنَادِقَةِ فَحَرَّقَهُمْ بِالنَّارِ فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ:أَمَّا أَنَا فَلَوْ كُنْتُ لَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمَا حَرَقْتُهُمْ لِنَهْىِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ ». وَقَالَ « لاَ تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ » (1)
وعَنْ عِكْرِمَةَ،أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُتِيَ بِقَوْمٍ مِنَ الزَّنَادِقَةِ فَحَرَّقَهُمْ،فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،فَقَالَ:أَمَّا أَنَا فَلَوُ كُنْتُ لَقَتَلْتُهُمْ،لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَلَمَا حَرَّقْتُهُمْ،لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ " وَقَالَ:" لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ " وَزَادَ سُلَيْمَانُ فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ:قَالَ:فَبَلَغَ عَلِيًّا مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،فَقَالَ:وَيْحَ ابْنِ أُمِّ الْفَضْلِ،إِنَّهُ لَغَوَّاصٌ عَلَى الْهَنَاتِ" (2)
وعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ،قَالَ:أُتِيَ عَلِيٌّ بِقَوْمٍ زَنَادِقَةٍ،فَقَالُوا:أَنْتَ هُوَ،قَالَ:مَنْ أَنَا ؟ قَالُوا:أَنْتَ هُوَ،قَالَ:وَيْلَكُمْ مَنْ أَنَا ؟ قَالُوا:أَنْتَ رَبُّهُمْ،فَقَالَ عَلِيٌّ:إِنَّ قَوْمَ إِبْرَاهِيمَ غَضِبُوا لِآلِهَتِهِمْ فَأَرَادُوا أَنْ يُحَرِّقُوا إِبْرَاهِيمَ بِالنَّارِ،فَنَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نَغْضَبَ لِرَبِّنَا،ثُمَّ قَالَ:يَا قَنْبَرُ،دُونَكَهُمْ،فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ،ثُمَّ حَفَرَ لَهُمْ حُفَرَ النَّارِ،وَأَلْقَاهُمْ فِيهَا،فَأَنْشَأَ النَّجَاشِيُّ الْحَارِثِيُّ يَقُولُ :
لِتَرْمِ بِيَ الْمَنَايَا حَيْثُ شَاءَتْ إِذَا لَمْ تَرْمِ بِي فِي الْحُفْرَتَيْنِ
إِذَا مَا قَرَّبُوا حَطَبًا،وَنَارًا فَذَاكَ الْهُلْكُ نَقْدًا غَيْرَ دَيْنٍ (3)
3- سيادة العدل والمساواة بمفهومها الإسلامي الصحيح :
وذلك أن التفاضل بين البشر قوامه الميزان الذي قرره الله في كتابه. قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (13) سورة الحجرات.
يا أيها الناس. يا أيها المختلفون أجناسا وألوانا،المتفرقون شعوبا وقبائل. إنكم من أصل واحد. فلا تختلفوا ولا تتفرقوا ولا تتخاصموا ولا تذهبوا بددا.
يا أيها الناس. والذي يناديكم هذا النداء هو الذي خلقكم .. من ذكر وأنثى .. وهو يطلعكم على الغاية من جعلكم شعوبا وقبائل. إنها ليست التناحر والخصام. إنما هي التعارف والوئام. فأما اختلاف
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (8 / 202) (17310) صحيح
(2) - الرَّدُّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ لِلدَّارِمِيِّ (194 ) صحيح
(3) - تَهْذِيبُ الْآثَارِ لِلطَّبَرِيِّ (1388 ) حسن(1/573)
الألسنة والألوان،واختلاف الطباع والأخلاق،واختلاف المواهب والاستعدادات،فتنوع لا يقتضي النزاع والشقاق،بل يقتضي التعاون للنهوض بجميع التكاليف والوفاء بجميع الحاجات. وليس للون والجنس واللغة والوطن وسائر هذه المعاني من حساب في ميزان اللّه. إنما هنالك ميزان واحد تتحدد به القيم،ويعرف به فضل الناس:«إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» .. والكريم حقا هو الكريم عند اللّه. وهو يزنكم عن علم وعن خبرة بالقيم والموازين:«إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» ..
وهكذا تسقط جميع الفوارق،وتسقط جميع القيم،ويرتفع ميزان واحد بقيمة واحدة،وإلى هذا الميزان يتحاكم البشر،وإلى هذه القيمة يرجع اختلاف البشر في الميزان.
وهكذا تتوارى جميع أسباب النزاع والخصومات في الأرض وترخص جميع القيم التي يتكالب عليها الناس. ويظهر سبب ضخم واضح للألفة والتعاون:ألوهية اللّه للجميع،وخلقهم من أصل واحد. كما يرتفع لواء واحد يتسابق الجميع ليقفوا تحته:لواء التقوى في ظل اللّه. وهذا هو اللواء الذي رفعه الإسلام لينقذ البشرية من عقابيل العصبية للجنس،والعصبية للأرض،والعصبية للقبيلة،والعصبية للبيت. وكلها من الجاهلية وإليها،تتزيا بشتى الأزياء،وتسمى بشتى الأسماء. وكلها جاهلية عارية من الإسلام! وقد حارب الإسلام هذه العصبية الجاهلية في كل صورها وأشكالها،ليقيم نظامه الإنساني العالمي في ظل راية واحدة:راية اللّه .. لا راية الوطنية. ولا راية القومية. ولا راية البيت. ولا راية الجنس. فكلها رايات زائفة لا يعرفها الإسلام.
وهذه هي القاعدة التي يقوم عليها المجتمع الإسلامي. المجتمع الإنساني العالمي،الذي تحاول البشرية في خيالها المحلق أن تحقق لونا من ألوانه فتخفق،لأنها لا تسلك إليه الطريق الواحد الواصل المستقيم .. الطريق إلى اللّه .. ولأنها لا تقف تحت الراية الواحدة المجمعة .. راية اللّه .. (1)
وعَنْ أَبِى نَضْرَةَ،قَالَ: حَدَّثَنِى مَنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ،فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ،أَلاَ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ،وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ،أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِىٍّ عَلَى أَعْجَمِىٍّ،وَلاَ لِعَجَمِىٍّ عَلَى عَرَبِىٍّ،وَلاَ لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ،وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ،إِلاَّ بِالتَّقْوَى،أَبَلَّغْتُ؟ قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَالَ: "أَىُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ،ثُمَّ قَالَ: "أَىُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ،قَالَ: ثُمَّ قَالَ: "أى بلد هذا؟ قَالُوا: بَلَدٌ حَرَامٌ،قَالَ: "فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ بَيْنَكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ - قَالَ: وَلاَ أَدْرِى،قَالَ: أَوْ أَعْرَاضَكُمْ،أَمْ لا - "كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا،فِى شَهْرِكُمْ هَذَا،فِى بَلَدِكُمْ هَذَا،أَبَلَّغْتُ؟ قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ.. (2)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3348)
(2) - غاية المقصد فى زوائد المسند 1 - (2 / 69) (1665 ) صحيح(1/574)
والأدلة الواقعية والتاريخية على سيادة هذا المبدأ في عصر الخلفاء الراشدين أكثر من أن تحصى،فهذا الخليفة الأول أبي بكر الصديق يطلب في أول خطبة له من الرعية أن تقوّم ما ترى فيه من خطاً أو اعوجاج .
عن أَنَسَ بْنِ مَالِكٍ،قَالَ لَمّا بُويِعَ أَبُو بَكْر ٍ فِي السّقِيفَةِ وَكَانَ الْغَدُ جَلَسَ أَبُو بَكْر ٍ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَامَ عُمَرُ فَتَكَلّمَ قَبْلَ أَبِي بَكْرٍ فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمّ قَالَ أَيّهَا النّاسُ إنّي كُنْت قُلْت لَكُمْ بِالْأَمْسِ مَقَالَةً مَا كَانَتْ مِمّا وَجَدْتهَا فِي كِتَابِ اللّهِ وَلَا كَانَتْ عَهْدًا عَهِدَ إلَيّ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَكِنّي قَدْ كُنْت أَرَى أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَيُدَبّرُ أَمَرْنَا ؛ يَقُولُ يَكُونُ آخِرُنَا وَإِنّ اللّهَ قَدْ أَبْقَى فِيكُمْ كِتَابَهُ الّذِي بِهِ - صلى الله عليه وسلم - فَإِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ هَدَاكُمْ اللّهُ لِمَا كَانَ هَدَاهُ لَهُ وَإِنّ اللّهَ قَدْ جَمَعَ أَمْرَكُمْ عَلَى خَيْرِكُمْ صَاحِبِ رَسُولِ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَانِي اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الْغَارِ فَقُومُوا فَبَايِعُوهُ فَبَايَعَ النّاسُ أَبَا بَكْرٍ بَيْعَةَ الْعَامّةِ بَعْدَ بَيْعَةِ السّقِيفَة فَتَكَلّمَ أَبُو بَكْر ٍ فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِاَلّذِي هُوَ أَهْلُهُ ثُمّ قَالَ أَمّا بَعْدُ أَيّهَا النّاسُ فَإِنّي قَدْ وُلّيت عَلَيْكُمْ وَلَسْت بِخَيْرِكُمْ فَإِنْ أَحْسَنْت فَأَعِينُونِي ؛ وَإِنْ أَسَأْت فَقَوّمُونِي ؛ الصّدْقُ أَمَانَةٌ وَالْكَذِبُ خِيَانَةٌ وَالضّعِيفُ فِيكُمْ قَوِيّ عِنْدِي حَتّى أُرِيحَ عَلَيْهِ حَقّهُ إنْ شَاءَ اللّهُ وَالْقَوِيّ فِيكُمْ ضَعِيفٌ عِنْدِي حَتّى آخُذَ الْحَقّ مِنْهُ إنْ شَاءَ اللّهُ لَا يَدَعُ قَوْمٌ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللّهِ إلّا ضَرَبَهُمْ اللّهُ بِالذّلّ وَلَا تَشِيعُ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطّ إلّا عَمّهُمْ اللّهُ بِالْبَلَاءِ أَطِيعُونِي مَا أَطَعْت اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِذَا عَصَيْتُ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ . قُومُوا إلَى صَلَاتِكُمْ يَرْحَمُكُمْ اللّهُ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ:وَحَدّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ عَنْ عِكْرِمَةَ،عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ،قَالَ وَاَللّهِ إنّي لَأَمْشِي مَعَ عُمَرَ فِي خِلَافَتِهِ وَهُوَ عَامِدٌ إلَى حَاجَةٍ لَهُ وَفِي يَدِهِ الدّرّةُ وَمَا مَعَهُ غَيْرِي،قَالَ وَهُوَ يُحَدّثُ نَفْسَهُ وَيَضْرِبُ وَحْشِيّ قَدَمهُ بِدِرّتِهِ . قَالَ إذْ الْتَفَتَ إلَيّ فَقَالَ يَا بْنَ عَبّاسٍ هَلْ تَدْرِي مَا كَانَ حَمَلَنِي عَلَى مَقَالَتِي الّتِي قُلْتُ حِينَ تُوُفّيَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ قَالَ قُلْت:لَا أَدْرِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْتَ أَعْلَمُ قَالَ فَإِنّهُ وَاَللّهِ إنْ كَانَ الّذِي حَمَلَنِي عَلَى ذَلِكَ إلّا أَنّي كُنْت أَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا }،فَوَاَللّهِ إنْ كُنْت لَأَظُنّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَيَبْقَى فِي أُمّتِهِ حَتّى يَشْهَدَ عَلَيْهَا بِآخِرِ أَعْمَالِهَا،فَإِنّهُ لِلّذِي حَمَلَنِي عَلَى أَنْ قُلْت مَا قُلْت " (1)
وعَنْ مَعْمَرٍ،قَالَ:وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ،قَالَ:خَطَبَنَا أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ،فَإِنْ ضَعُفْتُ فَقَوِّمُونِي،وَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي،الصِّدْقُ أَمَانَةٌ،وَالْكَذِبُ خِيَانَةٌ،الضَّعِيفُ فِيكُمُ الْقَوِيُّ عِنْدِي حَتَّى أُزِيحَ عَلَيْهِ حَقَّهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ،وَالْقَوِيُّ فِيكُمُ الضَّعِيفُ عِنْدِي حَتَّى آخُذَ مِنْهُ الْحَقَّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ،لَا يَدَعُ قَوْمٌ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا ضَرَبَهُمُ اللَّهُ بِالْفَقْرِ،وَلَا ظَهَرَتْ
__________
(1) - سيرة ابن هشام - (2 / 660) صحيح(1/575)
- أَوْ قَالَ:شَاعَتِ - الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ إِلَّا عَمَّمَهُمُ الْبَلَاءُ،أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ،فَإِذَا عَصَيْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلَا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ،قُومُوا إِلَى صَلَاتِكُمْ يَرْحَمْكُمُ اللَّهُ " (1)
عَنْ أَبِي فِرَاسٍ،قَالَ:شَهِدْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ،وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ،قَالَ:فَقَالَ:يَا أَيُّهَا النَّاسُ،إِنَّهُ قَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَأَنَا أَرَى أَنَّ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ يُرِيدُ اللَّهَ وَمَا عِنْدَهُ،فَيُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنَّ قَوْمًا قَرَءُوهُ يُرِيدُونَ بِهِ النَّاسَ وَيُرِيدُونَ بِهِ الدُّنْيَا،أَلَا فَأَرِيدُوا اللَّهَ بِأَعْمَالِكُمْ،أَلَا إِنَّا إِنَّمَا كُنَّا نَعْرِفُكُمْ إِذْ يَنْزِلُ الْوَحْيُ،وَإِذِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ أَظْهُرِنَا،وَإِذْ يُنَبِّئُنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ،فَقَدِ انْقَطَعَ الْوَحْيُ،وَذَهَبَ نَبِيُّ اللَّهِ،فَإِنَّمَا نَعْرِفُكُمْ بِمَا نَقُولُ لَكُمْ،أَلَا مَنْ رَأَيْنَا مِنْهُ خَيْرًا ظَنَنَّا بِهِ خَيْرًا وَأَحْبَبْنَاهُ عَلَيْهِ،وَمَنْ رَأَيْنَا بِهِ شَرًّا ظَنَنَّا بِهِ شَرًّا وَأَبْغَضْنَاهُ عَلَيْهِ،سَرَائِرُكُمْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمْ،أَلَا إِنِّي إِنَّمَا أَبْعَثُ عُمَّالِي لِيُعَلِّمُوكُمْ دِينَكُمْ،وَلِيُعَلِّمُوكُمْ سُنَنَكُمْ،وَلَا أَبْعَثُهُمْ لِيَضْرِبُوا ظُهُورَكُمْ،وَلَا لِيَأْخُذُوا أَمْوَالَكُمْ،أَلَا فَمَنْ رَابَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَرْفَعْهُ إِلَيَّ،فَوَالَّذِي نَفْسُ عُمَرَ بِيَدِهِ لَأُقِصَّنَّكُمْ مِنْهُ . قَالَ:فَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَقَالَ:يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،أَرَأَيْتَ إِنْ بَعَثْتَ عَامِلًا مِنْ عُمَّالِكَ فَأَدَّبَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ رَعِيَّتِهِ فَضَرَبَهُ،إِنَّكَ لَمُقِصَّهُ مِنْهُ ؟ قَالَ:فَقَالَ:نَعَمْ،وَالَّذِي نَفْسُ عُمَرَ بِيَدِهِ لَأُقِصَّنَّ مِنْهُ،أَلَا أُقِصُّ وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " يُقِصُّ مِنْ نَفْسِهِ ؟ " أَلَا لَا تَضْرِبُوا الْمُسْلِمِينَ فَتُذِلُّوهُمْ،وَلَا تَمْنَعُوهُمْ حُقُوقَهُمْ فَتُكَفِّرُوهُمْ،وَلَا تُجَمِّرُوهُمْ فَتَفْتِنُوهُمْ،وَلَا تُنْزِلُوهُمُ الْغِيَاضَ فَتُضَيِّعُوهُمْ " (2)
وعن الشَّعْبِيِّ،قَالَ:كَانَ بَيْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَبَيْنَ أُبِيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا تَدَارٍ فِي شَيْءٍ , وَادَّعَى أُبَيٌّ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا , فَأَنْكَرَ ذَلِكَ , فَجَعَلَا بَيْنَهُمَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ , فَأَتَيَاهُ فِي مَنْزِلِهِ , فَلَمَّا دَخَلَا عَلَيْهِ قَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:أَتَيْنَاكَ لِتَحْكُمَ بَيْنَنَا , وَفِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ , فَوَسَّعَ لَهُ زَيْدٌ عَنْ صَدْرِ فِرَاشِهِ , فَقَالَ:" هَهُنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ , فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:لَقَدْ جُرْتَ فِي الْفُتْيَا , وَلَكِنْ أَجْلِسُ مَعَ خَصْمِي , فَجَلَسَا بَيْنَ يَدَيْهِ , فَادَّعَى أُبَيٌّ وَأَنْكَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا , فَقَالَ زَيْدٌ لِأُبَيٍّ:أَعْفِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْيَمِينِ , وَمَا كُنْتُ لِأَسْأَلَهَا لِأَحَدٍ غَيْرِهِ , فَحَلَفَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , ثُمَّ أَقْسَمَ:لَا يُدْرِكُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ الْقَضَاءَ حَتَّى يَكُونَ عُمَرُ وَرَجُلٌ مِنْ عُرْضِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَهُ سَوَاءً " (3)
وعَنْ سَيَّارٍ،قَالَ:سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ،قَالَ:كَانَ بَيْنَ عُمَرَ وَأُبَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا خُصُومَةٌ , فَقَالَ عُمَرُ:" اجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ رَجُلًا " , قَالَ:فَجَعَلَا بَيْنَهُمَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ , قَالَ:فَأَتَوْهُ , قَالَ:فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:" أَتَيْنَاكَ لِتَحْكُمَ بَيْنَنَا , وَفِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ " , قَالَ:فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ أَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى صَدْرِ فِرَاشِهِ , قَالَ:فَقَالَ:هَذَا أَوَّلُ جَوْرٍ جُرْتَ فِي حُكْمِكَ , أَجْلِسْنِي وَخَصْمِي مَجْلِسًا " , قَالَ:فَقَصَّا عَلَيْهِ
__________
(1) - جَامِعُ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ (1311 ) صحيح لغيره
(2) - مُسْنَدُ أَبِي يَعْلَى الْمَوْصِلِيِّ (182 ) حسن
(3) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (10 / 144) (21014) صحيح مرسل(1/576)
الْقِصَّةَ , قَالَ:فَقَالَ زَيْدٌ لِأُبَيٍّ:الْيَمِينُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ , فَإِنْ شِئْتَ أَعْفَيْتَهُ , قَالَ:فَأَقْسَمَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى ذَلِكَ , ثُمَّ أَقْسَمَ لَهُ:" لَا تُدْرِكْ بَابَ الْقَضَاءِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِي عِنْدَكَ عَلَى أَحَدٍ فَضِيلَةٌ " (1)
وعَنْ سيارٍ قَالَ:سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ قَالَ:كَانَ بَيْنَ عُمَرَ وَأُبَيٍّ خُصُومَةٌ فَقَالَ أُبَيٌّ لِعُمَرَ:اجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ رَجُلًا،فَجَعَلَ بَيْنَهُمَا زَيْدًا فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:أَتَيْنَاكَ لِتَحْكُمَ بَيْنَنَا،وَفِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ،فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ أَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى صَدْرِ فِرَاشِهِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:هَذَا أَوَّلُ جَوْرِكَ،جُرْتَ فِي حُكْمِكَ،أَجْلِسْنِي وَخَصْمِي،فَجَلَسَا فَقَصَّا عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ زَيْدٌ:الْيَمِينُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ،وَلَوْ شِئْتَ أَعْفَيْتَهُ قَالَ:فَأَقْسَمَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى ذَلِكَ،ثُمَّ أَقْسَمَ لَهُ:لَا تُدْرِكُ بَابَ الْقَضَاءِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِي عَلَى أَحَدٍ عِنْدَكَ فَضِيلَةٌ " (2)
وعَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ:سَاوَمَ عُمَرُ رَجُلًا بِفَرَسٍ فَرَكِبَهُ يَشُورُهُ فَعَطِبَ , فَقَالَ لِلرَّجُلِ:خُذْ فَرَسَكَ , فَقَالَ الرَّجُلُ:لَا , قَالَ عُمَرُ:اجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ حَكَمًا , فَقَالَ الرَّجُلُ , شُرَيْحٌ , فَتَحَاكَمَا إِلَيْهِ , فَقَالَ شُرَيْحٌ:يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ , خُذْ بِمَا ابْتَعْتَ أَوْ رُدَّ كَمَا أَخَذْتَ , قَالَ عُمَرُ:وَهَلِ الْقَضَاءُ إِلَّا عَلَى هَذَا , فَصَيَّرَهُ إِلَى الْكُوفَةِ , فَبَعَثَهُ قَاضِيًا , فَإِنَّهُ لَأَوَّلُ يَوْمٍ عَرَفَهُ "
وقَالَ مُحَمَّدٌ:" كَانَ بَيْنَ عُمَرَ وَابْنِ مُعَاذِ ابْنِ عَفْرَاءَ خُصُومَةٌ،فَجَعَلَا بَيْنَهُمَا أُبَيًّا،فَقَصَّ ابْنُ مُعَاذٍ عَلَى أُبَيٍّ:أَعْفِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،أَعْفِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:لَا تُعْفِنِي إِنْ كَانَتْ عَلَيَّ قَالَ:فَإِنَّهَا عَلَيْكَ قَالَ:فَحَلَفَ،ثُمَّ قَالَ:إِنِّي وَإِنِ اسْتَحْقَقْتُهَا بِيَمِينِي اذْهَبْ فَهِيَ لَكَ " (3) (4)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَابِطٍ الْقُرَشِيِّ،قَالَ: " لَمَّا حَضَرَ أَبَا بَكْرٍ الْمَوْتُ،ذَكَرَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عُمَرَ عَلَى النَّاسِ،فَأَتَاهُ نَاسٌ مِنَ النَّاسِ،فَقَالَ،فَقَالُوا لَهُ: يَا أَبَا بَكْرٍ مَا تَقُولُ لِرَبِّكَ غَدًا إِذَا لَقِيتَهُ وَقَدِ اسْتَخْلَفْتَ عَلَيْنَا عُمَرَ،وَقَدْ عَرَفْتَ شِدَّتَهُ وَغِلْظَتَهُ وَفَظَاظَتَهُ،فَقَالَ: أَبِاللهِ تُخَوِّفُونِي ؟ أَقُولُ يَارَبُّ،اسْتَخْلَفْتُ عَلَيْهِمْ خَيْرَ أَهْلِكَ،قَالَ: ثُمَّ دَعَا عُمَرَ،فَقَالَ لَهُ: اتَّقِ اللهَ يَا عُمَرُ،إِنْ وُلِّيتَ عَلَى النَّاسِ غَدًا،فَاعْلَمْ أَنَّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَمَلًا بِالنَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ بِاللَّيْلِ وَعَمَلًا بِاللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ بِالنَّهَارِ،وَأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ نَافِلَةً حَتَّى تُؤَدَّى الْفَرِيضَةُ،وَإِنَّمَا ثَقُلَتْ مَوَازِينُ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمُ الْحَقَّ فِي الدُّنْيَا وَثِقَلِهِ عَلَيْهِمْ وَحَقٌّ لِمِيزَانٍ يُوضَعُ فِيهِ الْحَقُّ غَدًا أَنْ يَكُونَ ثَقِيلًا،وَإِنَّمَا خَفَّتْ مَوَازِينُ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِاتِّبَاعِهِمُ الْبَاطِلَ فِي الدُّنْيَا وَخِفَّتِهِ عَلَيْهِمْ،وَحَقٌّ لِمِيزَانٍ يُوضَعُ فِيهِ الْبَاطِلُ أَنْ يَكُونَ خَفِيفًا،وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى ذَكَرَ أَهْلَ الْجَنَّةِ فَذَكَرَهُمْ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ،وَتَجَاوَزَ عَنْ سَيِّئِهِمْ،فَإِذَا ذَكَرْتَهُمْ،قُلْتَ: إِنِّي
__________
(1) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلْبَيْهقِيِّ (18849 ) صحيح مرسل
المُساومَة : المُجاذَبَة بين البائِع والمشترى على السّلْعةِ وفَصلُ ثَمنِها
حمل عليه : هجم عليه واشتد ...
(2) - تَارِيخُ الْمَدِينَةِ لِابْنِ شَبَّةَ(1186 ) صحيح مرسل
(3) - تَارِيخُ الْمَدِينَةِ لِابْنِ شَبَّةَ (1187) صحيح مرسل
(4) - مُصَنَّفُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ (35354 ) صحيح مرسل(1/577)
لَأَخَافُ أَنْ لَا أَلْحَقَ بِهِمْ،وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى ذَكَرَ أَهْلَ النَّارِ،فَذَكَرَهُمْ بِأَسْوَأِ أَعْمَالِهِمْ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ أَحْسَنَهُ،فَإِذَا ذَكَرْتَهُمْ قُلْتَ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا أَكُونَ مَعَ هَؤُلَاءِ لِيَكُونَ الْعَبْدُ رَاغِبًا رَاهِبًا لَا يَتَمَنَّى عَلَى اللهِ وَلَا يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَتِهِ،فَإِنْ أَنْتَ حَفِظْتَ وَصِيَّتِي فَلَا يَكُ غَائِبٌ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنَ الْمَوْتِ،وَهُوَ آتِيَكَ،وَإِنْ أَنْتَ ضَيَّعَتْ وَصِيَّتِي فَلَا يَكُ غَائِبٌ أَبْغَضَ إِلَيْكَ مِنَ الْمَوْتِ وَلَسْتَ بِمُعْجِزِهِ " (1)
ومن مظاهر المساواة والعدل توزيع الفيء وأخماس الغنائم على كافة المسلمين فإن عمر رضي الله عنه لما دون ديوان العطاء جعل لكل مسلم حق في ذلك العطاء حتى المواليد،فبمجرد ولادة طفل لأحد المسلمين يسجل أسمه في الديوان ويفرض له عطاؤه،فعَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ،قَالَ:كَانَ عُمَرُ يَحْلِفُ عَلَى أَيْمَانٍ ثَلاثٍ يَقُولُ:وَاللَّهِ مَا أَحَدٌ أَحَقَّ بِهَذَا الْمَالِ مِنْ أَحَدٍ،وَمَا أَنَا بِأَحَقَّ بِهِ مِنْ أَحَدٍ،وَاللَّهِ مَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ إِلاَّ وَلَهُ فِي هَذَا الْمَالِ نَصِيبٌ إِلاَّ عَبْدًا مَمْلُوكًا،وَلَكِنَّا عَلَى مَنَازِلِنَا مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى،وَقَسْمِنَا مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَالرَّجُلُ وَبَلاؤُهُ فِي الإِِسْلامِ،وَالرَّجُلُ وَقَدَمُهُ فِي الإِِسْلامِ،وَالرَّجُلُ وَغَنَاؤُهُ فِي الإِِسْلامِ،وَالرَّجُلُ وَحَاجَتُهُ،وَوَاللَّهِ لَئِنْ بَقِيتُ لَهُمْ،لَيَأْتِيَنَّ الرَّاعِيَ بِجَبَلِ صَنْعَاءَ حَظُّهُ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَهُوَ يَرْعَى مَكَانَهُ. (2)
وعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ:سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ،يَقُولُ:" وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ،ثَلَاثًا،مَا مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ إِلَّا لَهُ فِي هَذَا الْمَالِ حَقٌّ أُعْطِيَهُ أَوْ مُنِعَهُ وَمَا أَحَدٌ بِأَحَقَّ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا عَبْدٌ مَمْلُوكٌ،وَمَا أَنَا فِيهِ إِلَّا كَأَحَدِكُمْ،وَلَكِنَّا عَلَى مَنَازِلِنَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ،وَقِسْمِنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَالرَّجُلُ وَبَلَاؤُهُ فِي الْإِسْلَامِ،وَالرَّجُلُ وَقِدَمُهُ فِي الْإِسْلَامِ،وَالرَّجُلُ وَغَنَاؤُهُ فِي الْإِسْلَامِ،وَالرَّجُلُ وَحَاجَتُهُ،وَاللَّهِ لَئِنْ بَقِيتُ لَيَأْتِيَنَّ الرَّاعِيَ بِجَبَلِ صَنْعَاءَ حَظُّهُ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَهُوَ مَكَانُهُ " (3)
وقد واسى رضي الله عنه الناس بنفسه في عام الرمادة فامتنع عن أكل اللحم والسمن حتى توفر ذلك لعامة الناس ومضت أزمة المجاعة وجاءهم الفرج من الله.
وعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:غَلَا الطَّعَامُ بِالْمَدِينَةِ فَجَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَأْكُلُ الشَّعِيرَ،فَجَعَلَ بَطْنُهُ يُصَوِّتُ،فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى بَطْنِهِ وَقَالَ:" وَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا مَا تَرَى حَتَّى يُوَسِّعَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ " (4)
وقَالَ أَنَسٌ:" غَلَا الشَّعِيرُ غَلَا الطَّعَامُ بِالْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ " , فَجَعَلَ يَأْكُلُ الشَّعِيرَ فَاسْتَنْكَرَهُ بَطْنُهُ , فَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى بَطْنِهِ فَقَالَ:" وَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا مَا تَرَى حَتَّى يُوَسِّعَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ " (5)
__________
(1) - معرفة الصحابة لأبي نعيم - (1 / 35)(114 ) صحيح لغيره
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 165) (292) ضعيف
(3) - الطَّبَقَاتُ الْكُبْرَى لِابْنِ سَعْدٍ (3604 ) ضعيف
(4) - تَارِيخُ الْمَدِينَةِ لِابْنِ شَبَّةَ (1154 ) صحيح
(5) - مُصَنَّفُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ (33837 ) صحيح(1/578)
وعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ:قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:" لَئِنْ أَصَابَ النَّاسَ سَنَةٌ لَأُنْفِقَنَّ عَلَيْهِمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ مَا وَجَدْتُ دِرْهَمًا،فَإِنْ لَمْ أَجِدْ أَلْزَمْتُ كُلَّ رَجُلٍ رَجُلًا " (1)
وعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:غَلَا الطَّعَامُ بِالْمَدِينَةِ فَجَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَأْكُلُ الشَّعِيرَ،فَجَعَلَ بَطْنُهُ يُصَوِّتُ،فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى بَطْنِهِ وَقَالَ:" وَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا مَا تَرَى حَتَّى يُوَسِّعَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ " (2)
وعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:" لَوْ لَمْ أَجِدْ لِلنَّاسِ مِنَ الْمَالِ مَا يَسَعُهُمْ إِلَّا أَنْ أُدْخِلَ عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ عِدَّتَهُمْ فَيُقَاسِمُونَهُ أَنْصَافَ بُطُونِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِخَيْرٍ لَفَعَلْتُ ؛ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْلِكُوا عَلَى أَنْصَافِ بُطُونِهِمْ " (3)
وعَنِ ابْنِ قِلَابَةَ،أَوْ غَيْرِهِ،أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ عَامَ الرَّمَادَةِ إِلَى يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ،وَإِلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ:وَاغَوْثَاهُ،هَلَكَتِ الْعَرَبُ . فَأَمَّا يَزِيدُ فَكَتَبَ:لَبَّيْتُ لَبَّيْتُ لَبَّيْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،أَتَاكَ الْغَوْثُ،بَعَثْتُ إِلَيْكَ عِيرًا أَوَّلُهَا بِالْمَدِينَةِ وَآخِرُهَا بِالشَّامِ . وَأَمَّا أَبُو مُوسَى فَكَتَبَ إِلَيْهِ:يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،إِنَّ الْخَلْقَ لَا يَسَعُهُمْ إِلَّا الْخَالِقُ،فَلَوْ أَنَّكَ كَتَبْتَ فِي الْأَمْصَارِ وَوَاعَدْتَهُمْ يَوْمًا،فَأَمَرْتَهُمْ فَخَرَجُوا،فَاسْتَسْقَوْا وَدَعَوْا،فَلَمَّا أَتَاهُ كِتَابُهُ قَالَ:وَاللَّهِ مَا أَرَى أَبَا مُوسَى إِلَّا قَدْ أَشَارَ بِرَأْيٍ،فَكَتَبَ،فَخَرَجَ النَّاسُ فَاسْتَسْقَوْا فَسُقُوا " (4)
وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ،عَنْ أَبِيهِ قَالَ:لَمَّا دَفَّتِ الْعَرَبُ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْمَدِينَةِ كَتَبَ إِلَى الْعُمَّالِ:إِلَى سَعْدٍ بِالْكُوفَةِ،وَأَبِي مُوسَى بِالْبَصْرَةِ،وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بِمِصْرَ،وَمُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ:مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ،أَمَّا بَعْدُ،فَإِنَّ الْعَرَبَ قَدْ دَفَّتْ إِلَيْنَا وَلَمْ تَحْتَمِلْهُمْ بِلَادُهُمْ،وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ الْغَوْثِ الْغَوْثِ،حَتَّى مَلَأَ الصَّحِيفَةَ قَالَ:فَرُبَّمَا كَانَ فِي الصَّحِيفَةِ مِائَتَا مَرَّةٍ . وَكَتَبَ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ...،قَالَ:فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو مُوسَى:أَمَّا بَعْدُ،فَإِنِّي قَدْ وَجَّهْتُ إِلَيْكَ عِيرًا تَحْمِلُ الدَّقِيقَ وَالزَّيْتَ وَالسَّمْنَ وَالشَّحْمَ وَالْمَالَ،وَكَتَبَ إِلَيْهِ سَعْدٌ وَمُعَاوِيَةُ بِمِثْلِ ذَلِكَ،وَكَتَبَ إِلَيْهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ:قَدْ وَجَّهْتُ السَّفِينَ تَتْرَى بَعْضُهَا فِي إِثْرِ بَعْضٍ،فَقَدِمَ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَقَالَ:الْحَمْدُ لِلَّهِ،مَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ هَؤُلَاءِ،ثُمَّ دَعَا مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ،وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْأَرْقَمِ،فَوَجَّهَ ابْنَ الْأَرْقَمِ إِلَى قَيْسٍ وَتَمِيمٍ وَطَيِّئٍ وَأَسَدٍ بِنَجْدٍ،وَوَجَّهَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ إِلَى طَرِيقِ الشَّامِ إِلَى غَطَفَانَ وَأَدْنَى قُضَاعَةَ وَلَخْمٍ وَجُذَامٍ،ثُمَّ قَالَ لَهُمَا:افْهَمَا،إِيَّاكُمَا أَنْ تُعْطِيَا الْعَرَبَ الْإِبِلَ ؛ فَإِنَّهَا لَا تَنْحَرُهَا،انْحَرَا الْبَعِيرَ فَأَطْعِمَاهُمْ مُخَّهُ وَعِظَامَهُ،وَاجْعَلَا لَحْمَهُ وَشِيقَةً،وَاجْعَلَا الْفُرَارَةَ بَيْنَ عَشْرَةٍ،سِيرَا فِي كَنَفِ اللَّهِ،ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ
__________
(1) - تَارِيخُ الْمَدِينَةِ لِابْنِ شَبَّةَ (1155 ) صحيح مرسل
(2) - تَارِيخُ الْمَدِينَةِ لِابْنِ شَبَّةَ (1154 ) صحيح
(3) - تَارِيخُ الْمَدِينَةِ لِابْنِ شَبَّةَ(1156 ) حسن
(4) - تَارِيخُ الْمَدِينَةِ لِابْنِ شَبَّةَ(1157 ) صحيح مرسل(1/579)
يَتَعَهَّدُهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ كَأَنَّهُ رَاعٍ مِنَ الرُّعَاةِ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَصًا وَيُرَدِّدُ:رَبَذٌ،وَاهًا وَلَا خُبْزًا . رَبَذٌ،وَاهًا وَلَا لَحْمًا . رَبَذٌ،وَاهًا وَلَا مَرَقًا " (1)
وعَنْ أَسْلَمَ،أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَذِنَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَمْلِ الطَّعَامِ وَالْمِيرَةِ مِنْ مِصْرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي بَحْرِ أَيْلَةَ عَامَ الرَّمَادَةِ " (2)
وعَنِ ابْنِ أَبِي ذُبَابٍ،أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَرَكَ النَّاسَ عَامَ الرَّمَادَةِ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُمُ الصَّدَقَةَ،فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَأَخَذَ عِقَالَيْنِ،فَقَسَمَ فِيهِمْ عِقَالًا وَحَطَّ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِقَالًا " (3)
وعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ:خَرَجْنَا مَعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حُجَّاجًا،فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ أُتِيَ بِمَالٍ،فَقَسَمَهُ بَيْنَ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ ثُمَّ قَالَ:إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِالْجَنَّةِ،فَأَعْطَاهُمُ الشُّفْعَتَيْنِ كِلْتَيْهِمَا،وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَغْنَاكُمْ بِخَزَائِنَ مِنْ عِنْدِهِ لَجَعَلْتُ آتِيَ الرَّجُلَ فَآخُذَ فَضْلَ مَالِهِ مِنْ عِنْدِهِ فَأَقْسِمَهُ بَيْنَ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ " (4)
وعَنِ ابْنِ طَاوُسٍ،عَنْ أَبِيهِ قَالَ:أَجْدَبَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَمَا أَكَلَ سَمْنًا وَلَا سَمِينًا حَتَّى أَكَلَ النَّاسُ،وَقَالَ:أَخْصَبَ النَّاسُ " (5)
4 - سيادة مبدأ الشورى قاعدة للتعامل بين الحاكم والمحكوم :
مبدأ الشورى من المبادئ الإسلامية الهامة التي توفر الأمن والطمأنينة للأفراد والاستقرار السياسي للدولة،ويؤدي إلى إشاعة ء المحبة وبث روح التعاون والتناصح بين الحاكم والرعية،وهو ضروري حتى لا ينفرد الحاكم بالأمر والرأي الذي قد لا يكون صواباً فإن رأي الجماعة خير من رأي الواحد لأنه يأتي بعد نظر ودراسة وتفكر في الأمر وعواقبه. ومن ثم تضمن الأمة أكبر قدر من إصابة الحق،
وقال العلامة ابن عاشور :
وقد دلّت الآية على أن الشُّورى مأمور بها الرسُول - صلى الله عليه وسلم - فيما عبّر عنه بـ ( الأمر ) وهو مُهمّات اللأمّة ومصالحها في الحرب وغيره،وذلك في غير أمر التَّشريع لأنّ أمر التَّشريع إن كان فيه وحي فلا محيد عنه،وإن لم يكن فيه وحي وقلنا بجواز الاجتهاد للنَّبيء - صلى الله عليه وسلم - في التَّشريع فلا تدخل فيه الشورى لأنّ شأن الاجتهاد أن يستند إلى الأدلّة لا للآراء،والمجتهد لا يستشير غيره إلاّ عند القضاء باجتهاده.
كما فعل عُمر وعُثمان.
__________
(1) - تَارِيخُ الْمَدِينَةِ لِابْنِ شَبَّةَ (1158 ) ضعيف وفهي زيادة منكرة حذفتها
(2) - تَارِيخُ الْمَدِينَةِ لِابْنِ شَبَّةَ (1159 ) ضعيف
(3) - تَارِيخُ الْمَدِينَةِ لِابْنِ شَبَّةَ (1161 ) حسن
(4) - تَارِيخُ الْمَدِينَةِ لِابْنِ شَبَّةَ(1162 ) حسن
(5) - تَارِيخُ الْمَدِينَةِ لِابْنِ شَبَّةَ (1153 ) صحيح مرسل(1/580)
فتعيّن أنّ المشاورة المأمور بها هنا هي المشاورة في شؤون الأمَّة ومصالحها،وقد أمر الله بها هنا ومدحها في ذكر الأنصار في قوله تعالى:{ وأمرهم شورى بينهم } [ الشورى:38 ] واشترطها في أمر العائلة فقال:{ فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما } [ البقرة:233 ].
فشرع بهاته الآيات المشاورة في مراتب المصالح كلّها:وهي مصالح العائلة ومصالح القبيلة أو البلد،ومصالح الأمَّة.
واختلف العلماء في مدلول قوله:{ وشاورهم } هل هو للوجوب أو للندب،وهل هو خاصّ بالرسول عليه الصلاة السَّلام،أو عامّ له ولولاة أمور الأمَّة كلّهم.
فَذهب المالكية إلى الوجوب والعموم،قال ابن خُوَيْز منداد:واجب على الولاة المشاورة،فيُشاورون العلماء فيما يشكل من أمور الدّين،ويشاورون وجوه الجيش فيما يتعلّق بالحرب،ويشاورون وجوه النَّاس فيما يتعلَّق بمصالحهم ويشاورون وجوه الكتّاب والعمّال والوزراء فيما يتعلّق بمصالح البلاد وعمارتها.
وأشار ابن العربي إلى وجوبها بأنَّها سبب للصّواب فقالَ:والشورى مِسبار العقل وسبب الصّواب.
يشير إلى أنَّنا مأمورون بتحرّي الصّواب في مصالح الأمَّة،وما يتوقّف عليه الواجب فهو واجب.
وقال ابن عطية:الشورى من قواعد الشَّريعة وعزائم الأحكام،ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب،وهذا ما لا اختلاف فيه.
واعتراض عليه ابن عرفة قوله:فعزله واجب ولم يعترض كونَها واجبة،إلاّ أنّ ابن عطية ذكر ذلك جازماً به وابن عرفة اعترضه بالقياس على قول علماء الكلام بعدم عزل الأمير إذا ظهر فسقه،يعني ولا يزيد تركُ الشورى على كونه تركَ واجب فهو فسق.
وقلت:من حفظ حجَّة على من لم يحفظ،وإنّ القياس فيه فارق معتبر فإنّ الفسق مضرّته قاصرة على النفس وترك التشاور تعريض بمصالح المسلمين للخطر والفوات،ومحمل الأمر عند المالكية للوجوب والأصل عندهم عدم الخصوصية في التَّشريع إلاّ لدليل.
وعن الشافعي أنّ هذا الأمر للاستحباب،ولتقتدي به الأمّة،وهو عامّ للرسول وغيره،تطييباً لنفوس أصحابه ورفعاً لأقدارهم،وروى مثله عن قتادة،والرّبيع،وابن إسحاق.
وردّ هذا أبو بكر أحمدُ بن عليّ الرازي الحنفي المشهور بالجَصّاص بقوله:لو كان معلوماً عندهم أنَّهم إذا استَفرغوا جهدهم في استنباط الصّواب عمَّا سُئِلُوا عنه،ثُمّ لم يكن معمولاً به،لم يكن في ذلك تطييب لنفوسهم ولا رفع لأقدارهم،بل فيه إيحاشُهم فالمشاورة لم تفد شيئاً فهذا تأويل ساقط.
وقال النووي،في صدر كتاب الصلاة من "شرح مسلم":الصحيح عندهم وجوبها وهو المختار.
وقال الفخر:ظاهر الأمر أنَّه للوجوب.(1/581)
ولم ينسب العلماء للحنفية قولاً في هذا الأمر إلا أنّ الجَصّاص قال في كتابه أحكام القرآن عند قوله تعالى:{ وأمرهم شورى بينهم } ):هذا يدلّ على جلالة وقع المَشُورة لذكرها مع الإيمان وإقامة الصّلاة ويدلّ على أنَّنا مأمورون بها.
ومجموع كلامي الجصّاص يدلّ أن مذهب أبي حنيفة وجوبها.
ومن السلف من ذهب إلى اختصاص الوجوب بالنَّبيء - صلى الله عليه وسلم - قاله الحسن وسفيان،قالا:وإنَّما أمر بها ليقتدى به غيره وتشيع في أمَّته وذلك فيما لا وحي فيه.
وقد استشار النَّبيء - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في الخروج لبدر،وفي الخروج إلى أحُد،وفي شأن الأسرى يوم بدر،واستشار عموم الجيش في رَدِّ سبي هوازن.
والظاهر أنَّها لا تكون في الأحكام الشرعية لأنّ الأحكام إن كانت بوحي فظاهر،وإن كانت اجتهادية،بناء على جواز الاجتهاد للنَّبيء - صلى الله عليه وسلم - في الأمور الشرعية،فالاجتهاد إنَّما يستند للأدلَّة لا للآراء وإذا كان المجتهد من أمَّته لا يستشير في اجتهاده،فكيف تجب الاستشارة على النَّبيء - صلى الله عليه وسلم - مع أنَّه لو اجتهد وقلنا بجواز الخطأ عليه فإنَّه لا يُقرّ على خطأ باتّفاق العلماء.
ولم يزل من سنّة خلفاء العدل استشارة أهل الرأي في مصالح المسلمين،قال البخاري في كتاب الاعتصام من "صحيحه":"وكانت الأئمة بعد النَّبيء - صلى الله عليه وسلم - يستشيرون الأمناء من أهل العلم،وكان القُرّاء أصحابَ مشُورة عمَرَ:كُهولاً كانوا أو شُبَّاناً،وكان وقّافاً عند كتاب الله".
وأخرج الخطيب عن عليّ قال:"قلت:يا رسول الله الأمر ينزل بعدَك لم يَنزل فيه قرآن ولم يسْمع منك فيه شيء قال:اجمعوا له العابِد من أمّتي واجعلوه بينكم شُورى ولا تقضوه برأي واحد" واستشار أبو بكر في قتال أهل الردّة،وتشاور الصّحابةُ في أمر الخليفة بعد وفاة النَّبيء - صلى الله عليه وسلم - وجعل عمر رضي الله عنه الأمر شورى بعده في ستَّة عيّنهم،وجعل مراقبة الشورى لِخمسين من الأنصار،وكان عمر يكتب لعمّاله يأمرهم بالتَّشاور،ويتمثّل لهم في كتابه بقول الشاعر ( لم أقف على اسمه ):
خَلِيلَيّ ليسَ الرأيُ في صَدرِ واحد... أشِيرا عَلَيّ بالَّذِي تَرَيَانِ
هذا والشورى ممَّا جبل لله عليه الإنسان في فطرته السليمة أي فطره على محبّة الصلاح وتطلّب النجاح في المساعي،ولذلك قرن الله تعالى خلق أصل البشر بالتَّشاور في شأنه إذ قال للملائكة:{ إني جاعل في الأرض خليفة } [ البقرة:30 ]،إذ قد غَنِي الله عن إعانة المخلوقات في الرأي ولكنَّه عرض على الملائكة مراده ليكون التَّشاور سنّة في البشر ضرورة أنّه مقترن بتكوينه،فإنّ مقارنة الشيء للشيء في أصل التكوين يوجب إلفه وتعارفه،ولمَّا كانت الشورى معنى من المعاني لا ذات لها في الوجود جعل الله إلفها للبشر بطريقة المقارنة في وقت التكوين.
ولم تزل الشورى في أطوار التاريخ رائجة في البشر فقد استشار فرعون في شأن موسى عليه السَّلام فيما حكى الله عنه بقوله:{ فماذا تأمرون } [ الأعراف:110 ].(1/582)
واستشارت بلقيس في شأن سليمان عليه السلام فيما حكى الله عنها بقوله:{ قالت يأيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون وإنَّما يلهي النَّاس عنها حبّ الاستبداد،وكراهية سماع ما يخالف الهوى،وذلك من انحراف الطبائع وليس من أصل الفطرة،ولذلك يهرع المستبدّ إلى الشورى عند المضائق.
قال ابن عبد البرّ في بهجة المجالس:الشورى محمودة عند عامّة العلماء ولا أعلم أحداً رضِي الاستبداد إلاّ رجل مفتون مخادع لمن يطلب عنده فائدة،أو رجل فاتك يحاول حين الغفلة،وكلا الرجلين فاسق.
ومثَل أوّلهما قول عمر بن أبي ربيعة :
واستَبَدّت مَرّة واحِدة... إنَّمَا العَاجِز مَن لا يستبدّ
ومَثل ثانيهما قول سَعْد بن نَاشِب :
إذا هَمّ ألقَى بين عينيه عزمه...ونَكَّب عن ذِكْر العواقب جانباً
ولم يستَشِرْ في أمره غَير نفسه...ولم يَرْضَ إلا قَائم السيف صاحباً
ومن أحسن ما قيل في الشورى قول بشار بن برد :
إذا بَلغ الرأيُ المَشُورة فاستَعن...بحزم نصيح أو نصيحة حازم
ولا تحسب الشُورى عليك غضاضة...مَكانُ الخَوافي قُوّة للقَوادِم
وهي أبيات كثيرة مثبتة في كتب الأدب. أ هـ (1)
وقد قال تعالى مثنياً على المؤمنين ومعدداً بعض صفاتهم:((والَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وأَقَامُوا الصَّلاةَ وأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ومِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)) [الشورى/38].
قال القرطبي عند تفسير هذه الآية: كانت الأنصار قبل قدوم النبيّ - صلى الله عليه وسلم - إليهم إذا أرادوا أمراً تشاوروا فيه ثم عملوا عليه؛ فمدحهم الله تعالى به؛ قاله النقاش . وقال الحسن:أي إنهم لانقيادهم إلى الرأي في أمورهم متفقون لا يختلفون؛ فمدِحوا باتفاق كلمتهم .. (2)
وقال تعالى مخاطبا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :((فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِرْ لَهُمْ وشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ)) [آل عمران:159].
وعَنِ الْحَسَنِ،فِي قَوْلِهِ: " " وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ " قَالَ: قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِهِ إِلَيْهِمْ حَاجَةٌ،وَرُبَّمَا قَالَ: لَيْسَ لَهُ إِلَيْهِمْ حَاجَةٌ،وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَنَّ بِهِ مَنْ بَعْدَهُ". (3) .
__________
(1) - البحر المحيط ـ نسخة محققة - (3 / 409) والتحرير والتنوير ـ الطبعة التونسية - (4 / 148) و جامع لطائف التفسير1-28 - (17 / 416)
(2) - النكت والعيون للماوردي - (4 / 72) والجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (1 / 4966)
(3) - تفسير ابن أبي حاتم - (3 / 241) (4465)صحيح(1/583)
فالشورى مشاركة في المسئولية وضمانة من الانحراف ولهذا بوب البخاري رحمه الله في صحيحه بهاتين الآيتين باباً في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (1) .
وهذا فقه عميق ونظر دقيق من البخاري رحمه الله لأهمية الشورى وكون العمل بها اعتصام بالكتاب والسنة وبعد عن الانحراف والبدعة،مما أحوج دعاة الإسلام اليوم إلى تدبره وتفهمه لتسلم دعوتهم من القرارات العشوائية،والاتجاهات الفردية. وقد وردت الآثار عن الأئمة في مدح الشورى وبيان فضائلها. وعن الْحَسَنَ،قَالَ:" مَا تَشَاوَرَ قَوْمٌ إِلَّا هُدُوا لِأَرْشَدِ أَمَرِهِمْ " (2)
وعَنِ الْحَسَنِ،قَالَ:سَمِعْتُهُ قَرَأَ،هَذِهِ الْآيَةَ:" وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ "،فَقَالَ:" وَاللَّهِ مَا تَشَاوَرَ قَطُّ قَوْمٌ إِلَّا هَدَاهُمُ اللَّهُ لِأَفْضَلِ مَا بِحَضْرَتِهِمْ " (3)
وعَنِ الْحَسَنِ،فِي قَوْلِهِ:وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ قَالَ:وَاللَّهِ مَا تُشَاوَرَ قَطُّ إِلَّا عَزَمَ اللَّهُ لَهُمْ بِالرُّشْدِ وَالَّذِي يَنْفَعُ " (4)
وقال بعض العقلاء:ما أخطأت قط إذا حَزَبَني أمر شاورت قومي ففعلت الذي يرون؛ فإن أصبت فهم المصيبون،وإن أخطأت فهم المخطئون (5) .
وقال البخاري: كان الأئمة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - "يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره" (6) .
وقال ابن العربي:الشُّورَى أُلْفَةٌ لِلْجَمَاعَةِ،وَمِسْبَارٌ لِلْعُقُولِ،وَسَبَبٌ إلَى الصَّوَابِ،وَمَا تَشَاوَرَ قَوْمٌ إلَّا هُدُو (7) .
ولقد كانت سيرة رسول - صلى الله عليه وسلم - وخلافة الخلفاء الراشدين من بعده تطبيق واقعي لمبدأ الشورى،فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يأتيه الوحي من الله يسدده ،عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ مَشُورَةً لِأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " (8) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:" مَا رَأَيْتُ أَحَدًا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَكْثَرَ اسْتِشَارَةً لِلرِّجَالِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " (9)
__________
(1) - - انظر صحيح البخاري ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب(28).
(2) - الْأَدَبُ لِابْنِ أَبِي شَيْبَةَ >(45 ) صحيح
(3) - الْجَامِعُ فِي الْحَدِيثِ لِابْنِ وَهْبٍ (281 ) صحيح
(4) - تَفْسِيرُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ (4462 ) صحيح
(5) - الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - (1 / 4966)
(6) - صحيح البخارى- المكنز - 28 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) . ( 29 )
(7) - أحكام القرآن لابن العربي - (7 / 126)
(8) - تَفْسِيرُ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ (4461 ) صحيح لغيره
(9) - مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ (728 ) صحيح(1/584)
وقد شاور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في الأمور العامة كما في القتال يوم بدر،وفي أسرى بدر وفى أحد والخندق والحديبية بل حتى في الأمور الخاصة،كما في قصة حادثة الإفك.
أما الخلفاء الراشدون رضى الله عنهم جميعاً فقد وقعت منهم في خلافتهم أمور كثيرة توضح التزامهم بهذا المنهج الشوري منها:تشاورهم في اختيار الخليفة،ومنها استشارة أبى بكر رض الله عنه في قتال أهل الردة،فعَنْ شُرَيْحٍ،أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَتَبَ إِلَيْهِ:" إِنْ جَاءَكَ شَيْءٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ،فَاقْضِ بِهِ وَلَا تَلْفِتْكَ عَنْهُ الرِّجَالُ،فَإِنْ جَاءَكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَانْظُرْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَاقْضِ بِهَا،فَإِنْ جَاءَكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَانْظُرْ مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ فَخُذْ بِهِ،فَإِنْ جَاءَكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ أَحَدٌ قَبْلَكَ . فَاخْتَرْ أَيَّ الْأَمْرَيْنِ شِئْتَ:إِنْ شِئْتَ أَنْ تَجْتَهِدَ برأْيكَ ثُمَّ تَقَدَّمَ فَتَقَدَّمْ،وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تتأخَّرَ،فَتَأَخَّرْ،وَلَا أَرَى التَّأَخُّرَ إِلَّا خَيْرًا لَكَ " (1)
وعَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ،قَالَ:" كَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ خَصْمٌ نَظَرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ , فَإِنْ وَجَدَ فِيهِ مَا يَقْضِي بِهِ قَضَى بِهِ بَيْنَهُمْ , فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِي الْكِتَابِ , نَظَرَ:هَلْ كَانَتْ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِيهِ سُنَّةٌ ؟ فَإِنْ عَلَمِهَا قَضَى بِهَا , وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ خَرَجَ فَسَأَلَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ:" أَتَانِي كَذَا وَكَذَا , فَنَظَرْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ , وَفِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , فَلَمْ أَجِدْ فِي ذَلِكَ شَيْئًا , فَهَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى فِي ذَلِكَ بِقَضَاءٍ ؟ " , فَرُبَّمَا قَامَ إِلَيْهِ الرَّهْطُ فَقَالُوا:" نَعَمْ , قَضَى فِيهِ بِكَذَا وَكَذَا " , فَيَأْخُذُ بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " . قَالَ جَعْفَرٌ وَحَدَّثَنِي غَيْرُ مَيْمُونٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ:" الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِينَا مَنْ يَحْفَظُ عَنْ نَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - "،وَإِنْ أَعْيَاهُ ذَلِكَ دَعَا رُءُوسَ الْمُسْلِمِينَ وَعَلَمَاءَهُمْ , فَاسْتَشَارَهُمْ , فَإِذَا اجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى الْأَمْرِ قَضَى بِهِ "،قَالَ جَعْفَرٌ:وَحَدَّثَنِي مَيْمُونٌ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ , فَإِنْ أَعْيَا أَنْ يَجِدَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ , نَظَرَ:هَلْ كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ قَضَاءٌ ؟ فَإِنْ وَجَدَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ قَضَى فِيهِ بِقَضَاءٍ قَضَى بِهِ , وَإِلَّا دَعَا رُءُوسَ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَاءَهُمْ , فَاسْتَشَارَهُمْ , فَإِذَا اجْتَمَعُوا عَلَى الْأَمْرِ قَضَى بَيْنَهُمْ " (2)
وعَنْ شُرَيْحٍ،أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَيْهِ:" إِذَا جَاءَكُمْ أَمْرٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَاقْضِ بِهِ , وَلَا يَلْفِتَنَّكَ عَنْهُ الرِّجَالُ , فَإِنْ أَتَاكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ،فَانْظُرْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , فَاقْضِ بِهَا،فَإِنْ جَاءَكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ , وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , فَانْظُرْ مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ فَخُذْ بِهِ , فَإِنْ جَاءَكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ , وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ سُنَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - , وَلَمْ
__________
(1) - سنن الدارمي (172 ) صحيح
(2) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلْبَيْهقِيِّ ( 18679) صحيح(1/585)
يَتَكَلَّمْ فِيهِ أَحَدٌ قَبْلَكَ , فَاخْتَرْ أِيَّ الْأَمْرَيْنِ شِئْتَ , إِنْ شِئْتَ أَنْ تَجْتَهِدَ بِرَأْيِكَ , ثُمَّ تُقَدِّمَ فَتُقَدِّمَ , وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُأَخِّرَ فَتُأَخِّرَ , وَلَا أَرَى التَّأَخُّرَ إِلَّا خَيْرًا لَكَ " . (1)
وعَنْ شُرَيْحٍ،أَنَّ عُمَرَ،كَتَبَ إِلَيْهِ:" إِذَا أَتَاكَ أَمْرٌ فَاقْضِ فِيهِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ أَتَاكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَاقْضِ بِمَا سَنَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ،فَإِنْ أَتَاكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابٍ وَلَمْ يَسُنَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاقْضِ بِمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ،وَإِنْ أَتَاكَ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَسُنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ أَحَدٌ فَأَيَّ الْأَمْرَيْنِ شِئْتَ فَخُذْ بِهِ " (2)
وقال عَامِرٌ الشَّعْبِيُّ:كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،إِلَى شُرَيْحٍ " إِذَا وَجَدْتَ شَيْئًا فِي كِتَابِ اللَّهِ فَاقْضِ بِهِ وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى غَيْرِهِ،وَإِذَا أَتَى شَيْءٌ،أَرَاهُ قَالَ:لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَيْسَ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ،وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ أَحَدٌ قَبْلَكَ فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَجْتَهِدَ رَأْيَكَ فَتَقَدَّمْ،وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَتَأَخَّرَ فَتَأَخَّرْ وَمَا أَرَى التَّأَخُّرَ إِلَّا خَيْرًا لَكَ " (3)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ:أَكْثَرَ النَّاسُ يَوْمًا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَلُونَهُ فَقَالَ:" أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ قَدْ أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ وَلَسْنَا نَقْضِي وَلَسْنَا هُنَاكَ فَمَنِ ابْتُلِيَ بِقَضَاءٍ بَعْدَ الْيَوْمِ فَلْيَقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ،فَإِنْ أَتَاهُ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ فِيهِ نَبِيُّهُ - صلى الله عليه وسلم - فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ الصَّالِحُونَ،فَإِنْ أَتَاهُ أَمْرٌ لَمْ يَقْضِ بِهِ الصَّالِحُونَ وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَقْضِ بِهِ نَبِيُّهُ - صلى الله عليه وسلم - ،فَلْيَجْتَهِدْ رَأْيَهُ،وَلَا يَقُولَنَّ:إِنِّي أَرَى وَأَخَافُ فَإِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ فَدَعُوا مَا يَرِيبُكُمْ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكُمْ " (4)
وعَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ:لَمَّا بَعَثَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،شُرَيْحًا عَلَى قَضَاءِ الْكُوفَةِ قَالَ لَهُ:" انْظُرْ مَا تَبَيَّنَ لَكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلَا تَسْأَلْ عَنْهُ أَحَدًا،وَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَابْتِغِ فِيهِ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَكَ فِي السُّنَّةِ فَاجْتَهَدَ رَأْيَكَ " (5)
وعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ قَالَ:سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ،" إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ فَإِنْ كَانَ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَالَ بِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَكَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ بِهِ،فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ بِهِ،فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ،وَلَا عَنْ عُمَرَ اجْتَهَدَ رَأْيَهُ "
__________
(1) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلْبَيْهقِيِّ (18680 ) صحيح
(2) - جَامِعُ بَيَانِ الْعِلْمِ- بَابُ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ عَلَى الْأُصُولِ عِنْدَ عَدَمِ النُّصُوصِ فِي حِينِ نُزُولِ (1011 ) صحيح
(3) - جَامِعُ بَيَانِ الْعِلْمِ- بَابُ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ عَلَى الْأُصُولِ عِنْدَ عَدَمِ النُّصُوصِ فِي حِينِ نُزُولِ (1012 ) صحيح لغيره
(4) - جَامِعُ بَيَانِ الْعِلْمِ- بَابُ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ عَلَى الْأُصُولِ عِنْدَ عَدَمِ النُّصُوصِ فِي حِينِ نُزُولِ (1013 ) صحيح
(5) - النُّصُوصِ فِي حِينِ نُزُولِ (1014 ) صحيح(1/586)
وعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ قَالَ:رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ،" إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَالَ بِهِ،فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَقَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ بِهِ،فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَقَالَهُ أَبُو بَكْرٍ أَوْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ بِهِ،وَإِلَّا اجْتَهَدَ رَأْيَهُ " (1)
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ،عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ:قُلْتُ:يَا رَسُولَ اللَّهِ،الْأَمْرُ يَنْزِلُ بِنَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ قُرْآنٌ وَلَمْ تَمْضِ فِيهِ مِنْكَ سُنَّةٌ قَالَ:" اجْمَعُوا لَهُ الْعَالِمِينَ " أَوْ قَالَ:" الْعَابِدِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاجْعَلُوهُ شُورَى بَيْنَكُمْ وَلَا تَقْضُوا فِيهِ بِرَأْيٍ وَاحِدٍ " (2)
قَالَ أَبُو عُمَرَ:وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،أَنَّهُ قَالَ لِعَلِيٍّ وَزَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:" لَوْلَا رَأْيُكُمَا اجْتَمَعَ رَأْيِي وَرَأْيُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَيْفَ يَكُونُ ابْنِي وَلَا أَكُونُ أَبَاهُ ؟ يَعْنِي الْجَدَّ " وَعَنْ عُمَرَ:" أَنَّهُ لَقِيَ رَجُلًا فَقَالَ:مَا صَنَعْتَ ؟ فَقَالَ:قَضَى عَلِيٌّ وَزَيْدٌ بِكَذَا،قَالَ:لَوْ كُنْتُ أَنَا لَقَضَيْتُ بِكَذَا،قَالَ:فَمَا يَمْنَعُكَ وَالْأَمْرُ إِلَيْكَ ؟ فَقَالَ:لَوْ كُنْتُ أَرُدُّكَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ إِلَى سُنَّةِ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَفَعَلْتُ وَلَكِنِّي أَرُدُّكَ إِلَى رَأْيِي،وَالرَّأْيُ مُشْتَرَكٌ قَالَ أَبُو عُمَرَ:وَلَمْ يَنْقُضْ مَا قَالَ عَلِيٌّ وَزَيْدٌ " وَهُوَ يَرَى خِلَافَ مَا ذَهَبَا إِلَيْهِ فَهَذَا كَثِيرٌ لَا يُحْصَى " (3)
وعَنْ عُبَيْدَةَ قَالَ:قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " اجْتَمَعَ رَأْيِي وَرَأْيُ عُمَرَ عَلَى عِتْقِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ ثُمَّ رَأَيْتُ بَعْدُ أَنْ أُرِقَّهُنَّ فَقُلْتُ لَهُ:إِنَّ رَأْيَكَ وَرَأْيَ عُمَرَ فِي الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ رَأْيِكَ وَحْدَكَ فِي الْفُرْقَةِ " (4)
وعَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ،وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ،وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولاً كَانُوا أَوْ شُبَّانًا . فَقَالَ عُيَيْنَةُ لاِبْنِ أَخِيهِ يَا ابْنَ أَخِى،لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأَمِيرِ فَاسْتَأْذِنْ لِى عَلَيْهِ . قَالَ سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَاسْتَأْذَنَ الْحُرُّ لِعُيَيْنَةَ فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ،فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ هِىْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ،فَوَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ،وَلاَ تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ . فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ بِهِ،فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (199) سورة الأعراف وَإِنَّ هَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ . وَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا عَلَيْهِ،وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ (5) .
وعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنْ إِمْلاَصِ الْمَرْأَةِ - هِىَ الَّتِى يُضْرَبُ بَطْنُهَا فَتُلْقِى جَنِينًا - فَقَالَ أَيُّكُمْ سَمِعَ مِنَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِيهِ شَيْئًا فَقُلْتُ أَنَا . فَقَالَ مَا هُوَ قُلْتُ سَمِعْتُ النَّبِىَّ -
__________
(1) - جَامِعُ بَيَانِ الْعِلْمِ- بَابُ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ عَلَى الْأُصُولِ عِنْدَ عَدَمِ النُّصُوصِ فِي حِينِ نُزُولِ (1016و1017 ) صحيح
(2) - جَامِعُ بَيَانِ الْعِلْمِ- بَابُ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ عَلَى الْأُصُولِ عِنْدَ عَدَمِ النُّصُوصِ فِي حِينِ نُزُولِ (1021 ) فيه ضعف
(3) - جَامِعُ بَيَانِ الْعِلْمِ- بَابُ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ عَلَى الْأُصُولِ عِنْدَ عَدَمِ النُّصُوصِ فِي حِينِ نُزُولِ (1022 )
(4) - جَامِعُ بَيَانِ الْعِلْمِ- بَابُ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ عَلَى الْأُصُولِ عِنْدَ عَدَمِ النُّصُوصِ فِي حِينِ نُزُولِ (1024 ) صحيح
(5) - صحيح البخارى- المكنز - (4642)(1/587)
- صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « فِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ » . فَقَالَ لاَ تَبْرَحْ حَتَّى تَجِيئَنِى بِالْمَخْرَجِ فِيمَا قُلْتَ .فَخَرَجْتُ فَوَجَدْتُ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فَجِئْتُ بِهِ،فَشَهِدَ مَعِى أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « فِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ » (1)
وعَنْ أَنَسٍ،قَالَ: جَلَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْخَمْرِ أَرْبَعِينَ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ،وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ،فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ دَنَا النَّاسُ مِنَ الرِّيفِ وَالْقُرَى،قَالَ: مَا تَرَوْنَ فِي جَلْدِ الْخَمْرِ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: نَرَى أَنْ تَجْعَلَهُ كَأَخَفِّ الْحُدُودِ،قَالَ: فَجَلَدَ عُمَرُ ثَمَانِينَ.
وفي رواية عَنْ أَنَسٍ،أَنّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَلَدَ فِي الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ،ثُمَّ جَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ،فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ دَعَا النَّاسَ،فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ دَنَوْا مِنَ الرِّيفِ،فَمَا تَرَوْنَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ،فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: نَرَى أَنْ تَجْعَلَهُ كَأَخَفِّ الْحُدُودِ فَجَعَلَهُ ثَمَانِينَ . (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ،حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ،لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الأَجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةُ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ،فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ،قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:فَقَالَ عُمَرُ:ادْعُ لِيَ الْمُهَاجِرِينَ الأَوْلِينَ،فَدَعَوْتُهُمْ،فَاسْتَشَارَهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ فَاخْتَلَفُوا،فَقَالَ بَعْضُهُمْ:خَرَجْتَ لأَمْرٍ فَلاَ نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ،وَقَالَ بَعْضُهُمْ:مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَلاَ نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ،فَقَالَ:ارْتَفِعُوا عَنِّي،ثُمَّ قَالَ:ادْعُ لِيَ الأَنْصَارَ فَدَعَوْتُهُمْ،فَاسْتَشَارَهُمْ فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلاَفِهِمْ،فَقَالَ:ارْتَفِعُوا عَنِّي،ثُمَّ قَالَ:ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ،فَدَعَوْتُهُمْ،فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ رَجُلاَنِ،وَقَالُوا:نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلاَ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ،فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ إِنِّي مُصْبِحٌ عَلَى ظَهْرٍ،فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ،فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ:أَفِرَارًا مِنْ قَدْرِ اللهِ ؟ فَقَالَ عُمَرُ:لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ وَكَانَ عُمَرُ يَكْرَهُ خِلاَفَهُ نَفِرُ مِنْ قَدَرِ اللهِ إِلَى قَدَرِ اللهِ،أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ فَهَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ إِحْدَاهُمَا خِصِبَةٌ،وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ،أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخِصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللهِ،وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللهِ،قَالَ:نَعَمْ. قَالَ:فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ،وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ،فَقَالَ:إِنَّ عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْمًا،سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدُمُوا عَلَيْهِ،وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ قَالَ:فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ثُمَّ انْصَرَفَ. (3)
وعَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ:جَاءَ رَجُلٌ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَسَأَلَهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ،فَقَالَ:سَلْ عَنْهَا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ،فَهُوَ أَعْلَمُ،فَقَالَ:يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،جَوَابُكَ فِيهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ جَوَابِ عَلِيٍّ،فَقَالَ:بِئْسَ مَا قُلْتَ،وَلُؤْمَ مَا جِئْتَ بِهِ،لَقَدْ كَرِهْتَ رَجُلًا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَغُرُّهُ الْعِلْمَ غَرًّا،وَلَقَدْ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (7317 و 7318)
(2) - مسند أبي عوانة (5100و5101) صحيح
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (5729 ) وصحيح مسلم- المكنز - (5915) وصحيح ابن حبان - (7 / 218) (2953)(1/588)
- صلى الله عليه وسلم - : " أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي "،وَكَانَ عُمَرُ إِذَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ يَأْخُذُ مِنْهُ،وَلَقَدْ شَهِدْتُ عُمَرَ وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَقَالَ:هَا هُنَا عَلِيٌّ،قُمْ لَا أَقَامَ اللَّهُ رِجْلَيْكَ . (1)
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ:كَانَ عُمَرُ يَتَعَوَّذُ بِاللهِ مِنْ مُعْضِلَةٍ لَيْسَ لَهَا أَبُو حَسَنٍ . (2)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ،أَنَّ عُمَرَ قَالَ:إِنْ أَسْتَخْلِفْ فَقَدِ اسْتَخْلَفَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي أَبُو بَكْرٍ،وَإِنْ أَتْرُكْكُمْ فَقَدْ تَرَكَكُمْ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَالأَمْرُ فِي هَؤُلاَءِ السِّتَّةِ الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ. (3)
قَالَ الزُّهْرِيُّ:أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ - وَلَمْ نُجَرِّبْ عَلَيْهِ كِذْبَةً قَطُّ - قَالَ:حِينَ قُتِلَ عُمَرُ انْتَهَيْتُ إِلَى الْهُرْمُزَانِ وَجُفَيْنَةَ وَأَبِي لُؤْلُؤَةَ وَهُمْ نَجِيٌّ،فَبَغَتُّهُمْ فَثَارُوا وَسَقَطَ مِنْ بَيْنَهُمْ خِنْجَرٌ لَهُ رَأْسَانِ،نِصَابُهُ فِي وَسَطِهِ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ:فَانْظُرُوا بِمَا قُتِلَ عُمَرُ ؟ فَنَظَرُوا فَوَجَدُوهُ خِنْجَرًا عَلَى النَّعْتِ الَّذِي نَعَتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ:فَخَرَجَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مُشْتَمِلًا عَلَى السَّيْفِ حَتَّى أُتِي الْهُرْمُزَانَ فَقَالَ:اصْحَبْنِي حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى فَرَسٍ لِي - وَكَانَ الْهُرْمُزَانُ بَصِيرًا بِالْخَيْلِ - فَخَرَجَ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ،فَعَلَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بِالسَّيْفِ فَلَمَّا وَجَدَ حَرَّ السَّيْفِ قَالَ:لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ،فَقَتَلَهُ،ثُمَّ أَتَى جُفَيْنَةَ - وَكَانَ نَصْرَانِيًّا - فَدَعَاهُ فَلَمَّا أَشْرَفَ لَهُ عَلَاهُ بِالسَّيْفِ فَصُلِبَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ،ثُمَّ أَتَى ابْنَةَ أَبِي لُؤْلُؤَةَ جَارِيَةٌ صَغِيرَةٌ تَدَّعِي الْإِسْلَامَ - فَقَتَلَهَا،فَأَظْلَمَتِ الْمَدِينَةُ يَوْمَئِذٍ عَلَى أَهْلِهَا،ثُمَّ أَقْبَلَ بِالسَّيْفِ صَلْتًا فِي يَدَهِ وَهُوَ يَقُولُ:وَاللَّهِ لَا أَتْرُكُ فِي الْمَدِينَةِ سَبْيًا إِلَّا قَتَلْتُهُ وَغَيْرَهُمْ - وَكَأَنَّهُ يُعَرِّضُ بِنَاسٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ - فَجَعَلُوا يَقُولُونَ لَهُ:أَلْقِ السَّيْفَ،وَيَأْبَى وَيَهَابُونَهُ أَنْ يَقْرَبُوا مِنْهُ،حَتَّى أَتَاهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَقَالَ:أَعْطِنِي السَّيْفَ يَا ابْنَ أَخِي،فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ،ثُمَّ ثَارَ إِلَيْهِ عُثْمَانُ فَأَخَذَ بِرَأْسِهِ فَتَنَاصَيَا حَتَّى حَجَزَ النَّاسُ بَيْنَهُمَا،فَلَمَّا وُلِّيَ عُثْمَانُ قَالَ:أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي فَتَقَ فِي الْإِسْلَامِ مَا فَتَقَ - يَعْنِي عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ - فَأَشَارَ عَلَيْهِ الْمُهَاجِرُونَ أَنْ يَقْتُلَهُ،وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ:أَقُتِلَ عُمَرُ أَمْسَ وَتُرِيدُونَ أَنْ تُتْبِعُوهُ ابْنَهُ الْيَوْمَ ؟ أَبْعَدَ اللَّهُ الْهُرْمُزَانَ وَجُفَيْنَهَ قَالَ:فَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَقَالَ:يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْفَاكَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْأَمْرُ وَلَكَ عَلَى النَّاسِ مِنْ سُلْطَانٍ،إِنَّمَا كَانَ هَذَا الْأَمْرُ وَلَا سُلْطَانَ لَكَ،فَاصْفَحْ عَنْهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ:فَتَفَرَّقَ النَّاسُ عَلَى خُطْبَةِ عَمْرٍو،وَوَدَى عُثْمَانُ الرَّجُلَيْنِ وَالْجَارِيَةَ " قَالَ الزُّهْرِيُّ:وَأَخْبَرَنِي حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ:يَرْحَمُ اللَّهُ حَفْصَةَ إِنْ كَانَتْ لَمِمَّنْ شَجَّعَ عُبَيْدَ اللَّهِ عَلَى قَتْلِ الْهُرْمُزَانِ وَجُفَيْنَةَ قَالَ الزُّهْرِيُّ:وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ - أَوْ قَالَ:ابْنُ خَلِيفَةَ الْخُزَاعِيُّ قَالَ:رَأَيْتُ الْهُرْمُزَانَ رَفَعَ يَدَهُ
__________
(1) - فَضَائِلُ الصِّحَابَةِ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (1117 ) فيه ضعف
(2) - فضائل الصحابة (1100) صحيح
(3) - مسند البزار ( المطبوع باسم البحر الزخار - (1 / 257)(153) صحيح(1/589)
يُصَلِّي خَلْفَ عُمَرَ،قَالَ مَعْمَرٌ:وَقَالَ غَيْرُ الزُّهْرِيِّ:فَقَالَ عُثْمَانُ:أَنَا وَلِيُّ الْهُرْمُزَانِ وَجُفَيْنَةَ وَالْجَارِيَةِ،وَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُهُمْ دِيَةً " (1)
وعن عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ،قَالَ:سَمِعْتُ الْعَيْزَارَ بْنَ جَرْوَلٍ الْحَضْرَمِيَّ،يَقُولُ:لَمَّا خَرَجَ الْمُخْتَارُ كُنَّا هَذَا الْحَيَّ مِنْ حَضْرَمَوْتَ أَوَّلُ مَنْ مَعَهُ،فَأَتَانَا سُوَيْدُ بْنُ غَفَلَةَ فَقَالَ:إِنَّ لَكُمْ عَلَيْنَا حَقًّا،وَإِنَّ لَكُمْ جِوَارًا،وَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تَسَرَّعْتُمْ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فَوَاللَّهِ لَا أُحَدِّثُكُمْ إِلَّا بِشَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْهُ:أَقْبَلْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فَغَمَزَنِي غَامِزٌ مِنْ خَلْفِي فَالْتَفَتُّ فَإِذَا الْمُخْتَارُ،فَقَالَ:أَيُّهَا الشَّيْخُ،مَا بَقِيَ فِي قَلْبِكَ مِنْ حُبِّ ذَاكَ الرَّجُلِ - يَعْنِي عَلِيًّا - قُلْتُ:إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ أَنِّي أُحِبُّهُ بِقَلْبِي وَسَمْعِي وَبَصَرِي وَلِسَانِي،قَالَ:وَلَكِنِّي أَشْهَدُ اللَّهَ أَنِّي أُبْغِضُهُ بِقَلْبِي وَبَصَرِي وَسَمْعِي - وَأَحْسَبُهُ قَالَ وَبِلِسَانِي - فَقُلْتُ:أَبَيْتَ وَاللَّهِ إِلَّا تَثْبِيطًا عَنْ آلِ مُحَمَّدٍ وَتَرْتِيبًا لِنَقْبَلَ حَرَّاقَ - أَوْ إِحْرَاقَ - الْمَصَاحِفِ،قَالَ:فَوَاللَّهِ لَا أُحَدِّثُكُمُ إِلَّا بِشَيْءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ عَلِيٍّ:سَمِعْتُهُ يَقُولُ:" اتَّقُوا اللَّهَ فِي عُثْمَانَ وَلَا تَغْلُوا فِيهِ،وَلَا تَقُولُوا حَرَّاقَ الْمَصَاحِفِ،فَوَاللَّهِ مَا فَعَلَ إِلَّا عَنْ مَلَأٍ مِنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ،دَعَانَا فَقَالَ:مَا تَقُولُونَ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ ؟ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَكُمْ يَقُولُ:قِرَاءَتِي خَيْرٌ مِنْ قِرَاءَتِكَ،وَهَذَا يَكَادُ يَكُونُ كُفْرًا،وَإِنَّكُمْ إِنِ اخْتَلَفْتُمُ الْيَوْمَ كَانَ لَمَنْ بَعْدَكُمْ أَشَدَّ اخْتِلَافًا "،قُلْنَا:فَمَا تَرَى ؟ قَالَ:" أَنْ أَجْمَعَ النَّاسَ عَلَى مُصْحَفٍ وَاحِدٍ فَلَا تَكُونُ فُرْقَةٌ وَلَا اخْتِلَافٌ "،قُلْنَا:فَنِعْمَ مَا رَأَيْتَ،قَالَ:" فَأَيُّ النَّاسِ أَقْرَأُ ؟ " قَالُوا:زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ،قَالَ:" فَأَيُّ النَّاسِ أَفْصَحُ وَأَعْرَبُ ؟ " قَالُوا:سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ،قَالَ:" فَلْيَكْتُبْ سَعِيدٌ وَلْيُمْلِ زَيْدٌ "،قَالَ:فَكَانَتْ مَصَاحِفُ بَعَثَ بِهَا إِلَى الْأَمْصَارِ،قَالَ عَلِيٌّ:" وَاللَّهِ لَوْ وُلِّيتُ لَفَعَلْتُ مِثْلَ الَّذِي فَعَلَ " (2)
وعَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ،قَالَ:سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ:" اللَّهَ اللَّهَ أَيُّهَا النَّاسُ،وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي عُثْمَانَ وَقَوْلَكُمْ:حَرَّاقُ الْمَصَاحِفِ،فَوَاللَّهِ مَا حَرَقَهَا إِلَّا عَنْ مَلَأٍ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ،جَمَعَنَا فَقَالَ:مَا تَقُولُونَ فِي الْقِرَاءَةِ ؟ يَلْقَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَيَقُولُ:قِرَاءَتِي خَيْرٌ مِنْ قِرَاءَتِكَ،وَيَلْقَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَيَقُولُ:قِرَاءَتِي أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَتِكَ،وَهَذَا شَبِيهٌ بِالْكُفْرِ "،قَالَ:فَقُلْنَا:فَالرَّأْيُ رَأْيُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،قَالَ:" فَإِنِّي أَرَى أَنْ أَجْمَعَ النَّاسَ عَلَى مُصْحَفٍ وَاحِدٍ لَا يَخْتَلِفُونَ بَعْدِي،فَإِنَّكُمْ إِنِ اخْتَلَفْتُمُ الْيَوْمَ كَانَ النَّاسُ بَعْدَكُمْ أَشَدَّ اخْتِلَافًا "،قُلْنَا:فَالرَّأْيُ رَأْيُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،فَبَعَثَ إِلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ:" لِيَكْتُبْ أَحَدُكُمَا وَيُمْلِ الْآخَرُ،فَإِنِ اخْتَلَفْتُمَا فَارْفَعَاهُ إِلَيَّ "،قَالَ:فَمَا اخْتَلَفَا إِلَّا فِي التَّابُوتِ،فَقَالَ أَحَدُهُمَا:التَّابُوتُ وَقَالَ الْآخَرُ:التَّابُوهُ فَرَفَعَاهُ إِلَيْهِ فَقَالَ:" إِنَّهَا التَّابُوتُ،وَقَالَ عَلِيٌّ:" وَاللَّهِ لَوْ وُلِّيتُ الَّذِي وُلِّيَ لَصَنَعْتُ مِثْلَ الَّذِي صَنَعَ " . حَدَّثَنَا عَفَّانُ،قَالَ:حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ،قَالَ:حَدَّثَنَا عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ،عَنِ الْعَيْزَارِ بْنِ جَرْوَلٍ السُّلَمِيِّ،أَنَّهُ سَمِعَ سُوَيْدَ بْنَ غَفَلَةَ،ذَكَرَ نَحْوَهُ،وَلَمْ يَذْكُرْ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ
__________
(1) - مُصَنَّفُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الصَّنْعَانِيِّ (9491 ) صحيح
(2) - تَارِيخُ الْمَدِينَةِ لِابْنِ شَبَّةَ(1597 ) حسن(1/590)
وَلَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَلَا مَا اخْتَلَفَا فِيهِ،وَزَادَ:فَقَالَ الْقَوْمُ لِسُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ:آللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَسَمِعْتَ هَذَا مِنْ عَلِيٍّ ؟ فَقَالَ:آللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَسَمِعْتُ هَذَا مِنْ عَلِيٍّ " (1) ...
وعَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْقُرَشِيِّ:أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى الْأَمْصَارِ:" أَمَّا بَعْدُ،فَإِنَّ نَفَرًا مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ اجْتَمَعُوا عِنْدِي فَتَدَارَسُوا الْقُرْآنَ،فَاخْتَلَفُوا اخْتِلَافًا شَدِيدًا،فَقَالَ بَعْضُهُمْ:قَرَأْتُ عَلَى أَبِي الدَّرْدَاءِ،وَقَالَ بَعْضُهُمْ:قَرَأْتُ عَلَى حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ،وَقَالَ بَعْضُهُمْ:قَرَأْتُ عَلَى حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ،فَلَمَّا سَمِعْتُ اخْتِلَافَهُمْ فِي الْقُرْآنِ - وَالْعَهْدُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدِيثٌ - وَرَأَيْتُ أَمْرًا مُنْكَرًا فَأَشْفَقْتُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْقُرْآنِ،وَخَشِيتُ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي دِينِهِمْ بَعْدَ ذَهَابِ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الَّذِينَ قَرَأُوا الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِهِ وَسَمِعُوهُ مِنْ فِيهِ،كَمَا اخْتَلَفَتِ النَّصَارَى فِي الْإِنْجِيلِ بَعْدَ ذَهَابِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ،وَأَحْبَبْتُ أَنْ نَدَّارَكَ مِنْ ذَلِكَ،فَأَرْسَلْتُ إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنْ تُرْسِلَ إِلَيَّ بَالْأَدَمِ الَّذِي فِيهِ الْقُرْآنُ الَّذِي كُتِبَ عَنْ فَمِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَى جِبْرِيلَ،وَأَوْحَاهُ جِبْرِيلُ إِلَى مُحَمَّدٍ،وَأَنْزَلَهُ عَلَيْهِ،وَإِذِ الْقُرْآنُ غَضٌّ،فَأَمَرْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ أَنْ يَقُومَ عَلَى ذَلِكَ،وَلَمْ أَفْرَغْ لِذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أُمُورِ النَّاسِ وَالْقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ،وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ أَحْفَظَنَا لِلْقُرْآنِ،ثُمَّ دَعَوْتُ نَفَرًا مِنْ كُتَّابِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَذَوِي عُقُولِهِمْ،مِنْهُمْ نَافِعُ بْنُ طَرِيفٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ الْخُزَاعِيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لُبَابَةَ فَأَمَرْتُهُمْ أَنْ يَنْسَخُوا مِنْ ذَلِكَ الْأَدَمِ أَرْبَعَةَ مَصَاحِفَ وَأَنْ يَتَحَفَّظُوا " (2)
فهذه الوقائع من تاريخ الخلفاء الراشدين توضح بما لا مزيد عليه التزامهم بمنهج الشورى في كافة الأعمال المحتاجة إلى ذلك مثل بعث الجيوش واختيار القادة وحكام الأقاليم والولايات والاجتهاد في الأحكام الشرعية التي لا نص فيها بخصوصها.
وقد كانت الشورى طريقاً ومنهجاً في اختيار الخلفاء الأربعة للإمامة العظمى،وإن اختلفت صور المشاورة،فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:كُنْتُ أُقْرِئُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ فِي آخِرِ خِلاَفَةِ عُمَرَ آخِرِ حَجَّةٍ حَجَّهَا وَنَحْنُ بِمِنًى أَتَانَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَقَالَ:لَوْ شَهِدْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمَ وَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ:إِنِّي سَمِعْتُ فُلاَنًا يَقُولُ:لَوْ مَاتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَبَايَعْنَا فُلاَنًا،فَقَالَ عُمَرُ:لأَقُومَنَّ الْعَشِيَّةَ فِي النَّاسِ فَلأُحَذِّرَنَّهُمْ هَؤُلاَءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْتَصِبُوا النَّاسَ أُمُورَهُمْ،فَقُلْتُ:يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ وَهُمُ الَّذِينَ يَغْلِبُونَ عَلَى مَجْلِسِكَ فَلَوْ أَخَّرْتَ ذَلِكَ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ فَتَقُولَ مَا تَقُولُ وَأَنْتَ مُتَمَكِّنًا فَيَعُونَهَا عَنْكَ وَيَضَعُونَهَا مَوْضِعَهَا،قَالَ:فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَجَاءَتِ الْجُمُعَةُ وَذَكَرْتُ مَا حَدَّثَنِي بِهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَهَجَرْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَوَجَدْتُ سَعِيدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَدْ سَبَقَنِي بِالتَّهْجِيرِ فَجَلَسْتُ إِلَى جَنْبِهِ تَمَسُّ رُكْبَتِي رُكْبَتَهُ فَلَمَّا زَالَتِ الشَّمْسُ وَدَخَلَ عُمَرُ قُلْتُ لِسَعِيدِ
__________
(1) - تَارِيخُ الْمَدِينَةِ لِابْنِ شَبَّةَ (1598 ) حسن
(2) - تَارِيخُ الْمَدِينَةِ لِابْنِ شَبَّةَ (1599 ) فيه جهالة(1/591)
بْنِ زَيْدٍ:لَيَقُولَنَّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمَ مَقَالَةً لَمْ تُقَلْ قَبْلَهُ،فَغَضِبَ سَعِيدٌ وَقَالَ:وَأَيُّ مَقَالَةٍ يَقُولُهَا لَمْ يقَلْ قَبْلَهُ ؟ فَلَمَّا صَعِدَ عُمَرُ الْمِنْبَرَ أَخَذَ الْمُؤَذِّنُ فِي أَذَانِهِ فَلَمَّا فَرَغَ قَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَالَ:أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَقُولَ مَقَالَةً قَدْ قُدِّرَ لِي أَنْ أَقُولَهَا وَلاَ أَدْرِي لَعَلَّهَا بَيْنَ يَدَيْ أَجَلِي،فَمَنْ حَفِظَهَا وَوَعَاهَا فَلْيَتَحَدَّثْ بِهَا حَيْثُ انْتَهَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ،وَمَنْ لَمْ يَحْفَظْهَا وَلَمْ يَعِهَا فَإِنِّي لاَ أُحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَكْذِبَ عَلَيَّ،إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ آيَةَ الرَّجْمِ أَلاَ وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ رَجَمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ،أَلاَ وَإِنِّي قَدْ خَشِيتُ أَنْ يَطُولَ بِالنَّاسِ الزَّمَانُ فَيَقُولُونَ:لاَ نَعْرِفُ آيَةَ الرَّجْمِ فَيَضِلُّونَ بِتَرْكِ فَرِيضَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ،أَلاَ وَإِنَّ الرَّجْمَ حَقٌّ عَلَى مَنْ زَنَى وَكَانَ مُحْصَنًا وقَامَتْ بَيِّنَةٌ أَوْ كَانَ حَمْلاً أَوِ اعْتِرَافًا،أَلاَ وَإِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ لاَ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِكُمْ أَنْ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ،وَلَكِنْ قُولُوا:عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،أَلاَ وَإِنَّهُ قَدْ كَانَ مِنْ خَبَرِنَا لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تَخَلَّفَ عَنَّا عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ،وَمَنْ مَعَهُمْ فِي بَيْتِ فَاطِمَةَ فَاجْتَمَعَتِ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَاجْتَمَعَتِ الأَنْصَارُ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ فَقُلْتُ لأَبِي بَكْرٍ:انْطَلِقْ بِنَا إِلَى إِخْوَانِنَا مِنَ الأَنْصَارِ فَخَرَجْنَا فَلَقِيَنَا مِنْهُمْ رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ.
ـ قَالَ الزُّهْرِيُّ:هُمَا عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ وَمَعْنُ بْنُ عَدِيٍّ،فَقَالاَ:أَيْنَ تُرِيدُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ؟ فَقُلْنَا:نُرِيدُ إِخْوَانَنَا مِنَ الأَنْصَارِ،فَقَالَ:أَمْهِلُوا حَتَّى تَقْضُوا أَمَرَكُمْ بَيْنَكُمْ فَقُلْنَا لَنَأْتِيَنَّهُمْ،فَأَتَيْنَاهُمْ وَإِذَا هُمْ مُجْتَمِعُونَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ،وَإِذَا رَجُلٌ مُزَمَّلٌ فَقُلْتُ:مَنْ هَذَا ؟ قَالُوا:هَذَا سَعْدٌ،قُلْتُ:وَمَا شَأْنُهُ ؟ قَالُوا:وُعِكَ،وَقَامَ خَطِيبًا لِلأَنْصَارِ فَقَالَ:إِنَّهُ قَدْ دَفَّ إِلَيْنَا مِنْكُمْ دَافَّةٌ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ وَأَنْتُمْ إِخْوَانُنَا وَنَحْنُ كَتِيبَةُ الإِسْلاَمِ تُرِيدُونَ أَنْ تَخْتَزِلُونَا وَتَخْتَصِمُونَ بِالأَمْرِ أَوْ تَسْتَأْثِرُونَ بِالأَمْرِ دُونَنَا،وَقَدْ كُنْتُ رُوِّيتُ مَقَالَةً أَقُولُهَا بَيْنَ يَدَيْ كَلاَمِ أَبِي بَكْرٍ فَلَمَّا ذَهَبْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ بِهَا قَالَ لِي:عَلَى رِسْلِكَ فَوَاللَّهِ مَا تَرَكَ شَيْئًا مِمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ بِهِ إِلاَّ جَاءَ بِهِ وَبِأَحْسَنَ مِنْهُ،فَقَالَ:يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ مَهْمَا قُلْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فِيكُمْ فَأَنْتُمْ لَهُ أَهْلٌ وَلَكِنَّ الْعَرَبَ لاَ تَعْرِفُ هَذَا الأَمْرَ إِلاَّ لِهَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ،وَقَدْ رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ فَبَايِعُوا أَيَّهُمَا شِئْتُمْ،وَأَخَذَ بِيَدِي وَبِيَدِ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ فَكُنْتُ لأَنْ أُقَدَّمَ فَتُضْرَبَ عُنُقِي لاَ يُقَرِّبُنِي ذَلِكَ مِنْ إِثْمٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَتَأَمَّرَ،أَوْ أَتَوَلَّى عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ،فَقَامَ حُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ فَقَالَ:أَنَا جُذَيْلُهَا الْمُحَكَّكُ،وَعُذَيْقُهَا الْمُرَجَّبُ،مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ وَإِلاَّ أَعَدْنَا الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ جَذَعَةً،فَقُلْتُ:إِنَّهُ لاَ يَصْلُحُ سَيْفَانِ فِي غِمْدٍ وَاحِدٍ وَلَكِنْ مِنَّا الأُمَرَاءُ وَمِنْكُمُ الْوُزَرَاءُ،ابْسُطْ يَدَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ أُبَايِعْكَ،فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعْتُهُ وَبَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ وَارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ وَكَثُرَ اللَّغَطُ وَنَزَوْا عَلَى سَعْدٍ فَقَالُوا:قَتَلْتُمْ سَعْدًا،فَقُلْتُ:قَتَلَ اللَّهُ سَعْدًا فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ بَيْعَةَ أَبِي بَكْرٍ كَانَتْ فَلْتَةً فَقَدْ كَانَتْ(1/592)
فَلْتَةً،وَلَكِنْ وَقَى اللَّهُ شَرَّهَا،فَمَنْ كَانَ فِيكُمْ تُمَدُّ الأَعْنَاقُ إِلَيْهِ مِثْلُ أَبِي بَكْرٍ،رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،إِلاَّ مَنْ بَايَعَ رَجُلاً مِنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ لاَ يُبَايَعُ لاَ هُوَ وَلاَ مَنْ بُويِعَ لَهُ تَغِرَّةَ أَنْ يُقْتَلَ." (1)
هذه الأمثلة وغيرها مما يدل على التزام الشورى في البيعة والخلافة.
5- قيام الجهاد والعلاقات الدولية في عهدهم على مقتضى الشرعية :
من المعلوم أن الدولة الإسلامية دولة متميزة في منهجها وتصورها وسياستها لأنها تأخذ أحكامها ونظمها من النصوص الشرعية في الكتاب والسنة ولذا فإن علاقتها مع غير المسلمين محكومة بتلك النصوص والأحكام.
ولقد أقام الخلفاء الراشدون علاقاتهم مع غير المسلمين على موجب تلك الأحكام. فالأرض إما.
1- دار إسلام:وتطبق فيها أحكام الشريعة على كافة المقيمين فيها سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين،لأن غير المسلم لابد أن يدفع الجزية للأحكام الإسلامية التي شرعها الله في حق أهل الذمة،وللشروط التي وضعها الخلفاء،وهي مفصلة في كتب الفقه ومنها أن يلتزموا بآداب المسلمين الظاهرة ولا يرفعوا صليبا ولا يشربوا خمرا ولا يؤذوا مسلما ولا يبنوا كنيسة ولا يدعوا أحدا إلى دينهم ولا يرفعوا دورهم فوق دور المسلمين،ولا يحتفلوا بأعيادهم ظاهراً ولا ينشروا شيئاً من كتبهم بين المسلمين (2) .
ب - أو دار كفر،وتنقسم هذه الدار إلى قسمين:دار صلح وعهد،ودار حرب.
فأهل الصلح والعهد يوفى لهم بعهدهم إذا حصل منهم الوفاء،والعهد والصلح لا يكون مستمراً إلى الأبد بل لابد من توقيته بأجل،ومن العلماء من جعل أطول مدة للعهد والصلح عشر سنين أخذاً من أطول مدة صالح بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشركين في صلح الحديبية (3) .
أما أهل الحرب فلا علاقة بينهم وبين المسلمين إلا السيف والقتال والأخذ بكل طريق ومرصد -إذا أقيمت عليهم الحجة وكان بالمسلمين قوة واستطاعة- لإرغامهم على الخضوع لله ولدينه وليكون الدين كله لله،قال تعالى :((فَإذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدتُّمُوهُمْ وخُذُوهُمْ واحْصُرُوهُمْ واقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإن تَابُوا وأَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) [التوبة /5].
قال العلامة ابن القيم رحمه الله:فَصْلٌ فِي تَرْتِيبِ سِيَاقِ هَدْيِهِ مَعَ الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ حِينِ بُعِثَ إلَى حِينِ لَقِيَ اللّهَ عَزّ وَجَل :
__________
(1) - مسند البزار ( المطبوع باسم البحر الزخار - (1 / 299)(194) صحيح
(2) - انظر ذلك مفصلاً في كتاب أحكام أهل الذمة للحافظ بن القيم. ، وفي كتابي (( الخلاصة في أحكام أهل الذمة ))
(3) - حكى الطبري في كتاب اختلاف الفقهاء (ص 14) الإجماع على أن الصلح بين المسلمين والكفار لا يكون إلى الأبد. وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (20 / 217)(1/593)
" أَوّلَ مَا أَوْحَى إلَيْهِ رَبّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:أَنْ يَقْرَأَ بِاسْمِ رَبّهِ الّذِي خَلَقَ وَذَلِكَ أَوّلَ نُبُوّتِهِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يَأْمُرْهُ إذْ ذَاكَ بِتَبْلِيغٍ ثُمّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ { يَا أَيّهَا الْمُدّثّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ } [ الْمُدّثّرُ 1،2 ] فَنَبّأَهُ بِقَوْلِهِ { اقْرَأْ } وَأَرْسَلَهُ ب { يَا أَيّهَا الْمُدّثّرُ } ثُمّ أَمَرَهُ أَنْ يُنْذِرَ عَشِيرَتَهُ الْأَقْرَبِينَ ثُمّ أَنْذَرَ قَوْمَهُ ثُمّ أَنْذَرَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ الْعَرَبِ،ثُمّ أَنْذَرَ الْعَرَبَ قَاطِبَةً ثُمّ أَنْذَرَ الْعَالَمِينَ فَأَقَامَ بِضْعَ عَشْرَةَ سَنَةً بَعْدَ نُبُوّتِهِ يُنْذِرُ بِالدّعْوَةِ بِغَيْرِ قِتَالٍ وَلَا جِزْيَةٍ وَيُؤْمَرُ بِالْكَفّ وَالصّبْرِ وَالصّفْحِ . ثُمّ أُذِنَ لَهُ فِي الْهِجْرَةِ وَأُذِنَ لَهُ فِي الْقِتَالِ ثُمّ أَمَرَهُ أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ قَاتَلَهُ وَيَكُفّ عَمّنْ اعْتَزَلَهُ وَلَمْ يُقَاتِلْهُ ثُمّ أَمَرَهُ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ حَتّى يَكُونَ الدّينُ كُلّهُ لِلّهِ ثُمّ كَانَ الْكُفّارُ مَعَهُ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ أَهْلُ صُلْحٍ وَهُدْنَةٍ وَأَهْلُ حَرْبٍ وَأَهْلُ ذِمّةٍ فَأُمِرَ بِأَنْ يُتِمّ لِأَهْلِ الْعَهْدِ وَالصّلْحِ عَهْدَهُمْ وَأَنْ يُوفِيَ لَهُمْ بِهِ مَا اسْتَقَامُوا عَلَى الْعَهْدِ فَإِنْ خَافَ مِنْهُمْ خِيَانَةً نَبَذَ إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ وَلَمْ يُقَاتِلْهُمْ حَتّى يُعْلِمَهُمْ بِنَقْضِ الْعَهْدِ وَأُمِرَ أَنْ يُقَاتِلَ مَنْ نَقَضَ عَهْدَهُ . وَلَمّا نَزَلَتْ ( سُورَةُ بَرَاءَةٌ ) نَزَلَتْ بِبَيَانِ حُكْمِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ كُلّهَا،فَأَمَرَهُ فِيهَا أَنْ " يُقَاتِلَ عَدُوّهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ أَوْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَأَمَرَهُ فِيهَا بِجِهَادِ الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَالْغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ فَجَاهَدَ الْكُفّارَ بِالسّيْفِ وَالسّنَانِ وَالْمُنَافِقِينَ بِالْحُجّةِ وَاللّسَانِ .
وَأَمَرَهُ فِيهَا بِالْبَرَاءَةِ مِنْ عُهُودِ الْكُفّارِ وَنَبْذِ عُهُودِهِمْ إلَيْهِمْ وَجَعَلَ أَهْلَ الْعَهْدِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ قِسْمًا أَمَرَهُ بِقِتَالِهِمْ وَهُمْ الّذِينَ نَقَضُوا عَهْدَهُ وَلَمْ يَسْتَقِيمُوا لَهُ فَحَارَبَهُمْ وَظَهَرَ عَلَيْهِمْ . وَقِسْمًا لَهُمْ عَهْدٌ مُؤَقّتٌ لَمْ يَنْقُضُوهُ وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْهِ فَأَمَرَهُ أَنْ يُتِمّ لَهُمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدّتِهِمْ . وَقِسْمًا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَهْدٌ وَلَمْ يُحَارِبُوهُ أَوْ كَانَ لَهُمْ عَهْدٌ مُطْلَقٌ فَأُمِرَ أَنْ يُؤَجّلَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ فَإِذَا انْسَلَخَتْ قَاتَلَهُمْ وَهِيَ الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } [ التّوْبَةُ 2 ] وَهِيَ الْحُرُمُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } [ التّوْبَةُ 5 ] فَالْحُرُمُ هَا هُنَا:هِيَ أَشْهُرُ التّسْيِيرِ أَوّلُهَا يَوْمُ الْأَذَانِ وَهُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنْ ذِي الْحِجّةِ وَهُوَ يَوْمُ الْحَجّ الْأَكْبَرِ الّذِي وَقَعَ فِيهِ التّأْذِينُ بِذَلِكَ وَآخِرُهَا الْعَاشِرُ مِنْ رَبِيعٍ الْآخَرِ وَلَيْسَتْ هِيَ الْأَرْبَعَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ { إِنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } [ التّوْبَةُ 36 ] فَإِنّ تِلْكَ وَاحِدٌ فَرْدٌ وَثَلَاثَةٌ سَرْدٌ رَجَبٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجّةِ وَالْمُحَرّمُ . وَلَمْ يُسَيّرْ الْمُشْرِكِينَ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ فَإِنّ هَذَا لَا يُمْكِنُ لِأَنّهَا غَيْرُ مُتَوَالِيَةٍ وَهُوَ إنّمَا أَجّلَهُمْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ثُمّ أَمَرَهُ بَعْدَ انْسِلَاخِهَا أَنْ يُقَاتِلَهُمْ فَقَتَلَ النّاقِضَ لِعَهْدِهِ وَأَجّلَ مَنْ لَا عَهْدَ لَهُ أَوْ لَهُ عَهْدٌ مُطْلَقٌ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يُتِمّ لِلْمُوفِي بِعَهْدِهِ عَهْدَهُ إلَى مُدّتِهِ فَأَسْلَمَ هَؤُلَاءِ كُلّهُمْ وَلَمْ يُقِيمُوا عَلَى كُفْرِهِمْ إلَى مُدّتِهِمْ وَضَرَبَ عَلَى أَهْلِ الذّمّةِ الْجِزْيَةَ . فَاسْتَقَرّ أَمْرُ الْكُفّارِ مَعَهُ بَعْدَ نُزُولِ بَرَاءَةٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مُحَارِبِينَ لَهُ وَأَهْلِ عَهْدٍ وَأَهْلِ ذِمّةٍ ثُمّ آلَتْ حَالُ أَهْلِ الْعَهْدِ وَالصّلْحِ إلَى الْإِسْلَامِ فَصَارُوا مَعَهُ قِسْمَيْنِ مُحَارِبِينَ وَأَهْلَ ذِمّةٍ وَالْمُحَارِبُونَ لَهُ خَائِفُونَ مِنْهُ فَصَارَ أَهْلُ الْأَرْضِ مَعَهُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ مُسْلِمٌ مُؤْمِنٌ بِهِ وَمُسَالِمٌ لَهُ آمِنٌ وَخَائِفٌ مُحَارِبٌ . وَأَمّا سِيرَتُهُ فِي الْمُنَافِقِينَ فَإِنّهُ أُمِرَ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُمْ عَلَانِيَتَهُمْ وَيَكِلَ سَرَائِرَهُمْ إلَى اللّهِ وَأَنْ يُجَاهِدَهُمْ(1/594)
بِالْعِلْمِ وَالْحُجّةِ وَأَمَرَهُ أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُمْ وَيُغْلِظَ عَلَيْهِمْ وَأَنْ يُبَلّغَ بِالْقَوْلِ الْبَلِيغِ إلَى نُفُوسِهِمْ وَنَهَاهُ أَنْ يُصَلّيَ عَلَيْهِمْ وَأَنْ يَقُومَ عَلَى قُبُورِهِمْ وَأَخْبَرَ أَنّهُ إنْ اسْتَغْفَرَ لَهُمْ فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ فَهَذِهِ سِيرَتُهُ فِي أَعْدَائِهِ مِنْ الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِينَ .
وَأَمّا سِيرَتُهُ فِي أَوْلِيَائِهِ وَحِزْبِهِ،فَأَمَرَهُ أَنْ يَصْبِرَ نَفْسَهُ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَأَلّا تَعْدُوَ عَيْنَاهُ عَنْهُمْ وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ وَيُشَاوِرَهُمْ فِي الْأَمْرِ وَأَنْ يُصَلّيَ عَلَيْهِمْ . وَأَمَرَهُ بِهَجْرِ مَنْ عَصَاهُ وَتَخَلّفَ عَنْهُ حَتّى يَتُوبَ وَيُرَاجِعَ طَاعَتَهُ كَمَا هَجَرَ الثّلَاثَةَ الّذِينَ . خُلّفُوا . وَأَمَرَهُ أَنْ يُقِيمَ الْحُدُودَ عَلَى مَنْ أَتَى مُوجِبَاتِهَا مِنْهُمْ وَأَنْ يَكُونُوا عِنْدَهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ شَرِيفُهُمْ وَدَنِيئُهُمْ .
وَأَمَرَهُ فِي دَفْعِ عَدُوّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ بِأَنْ يَدْفَعَ بِاَلّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَيُقَابِلَ إسَاءَةَ مَنْ أَسَاءَ إلَيْهِ بِالْإِحْسَانِ وَجَهْلَهُ بِالْحِلْمِ وَظُلْمَهُ بِالْعَفْوِ وَقَطِيعَتَهُ بِالصّلَةِ وَأَخْبَرَهُ أَنّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَادَ عَدُوّهُ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ . وَأَمَرَهُ فِي دَفْعِهِ عَدُوّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنّ بِالِاسْتِعَاذَةِ بِاَللّهِ مِنْهُمْ وَجَمَعَ لَهُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي ( سُورَةِ الْأَعْرَافِ ) و ( الْمُؤْمِنُونَ ) فَقَالَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمّا يَنْزَغَنّكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ الْأَعْرَافِ 199 - 200 ] فَأَمَرَهُ بِاتّقَاءِ شَرّ الْجَاهِلِينَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ وَبِاتّقَاءِ شَرّ الشّيْطَانِ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْهُ وَجَمَعَ لَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ وَالشّيَمَ كُلّهَا،فَإِنّ وَلِيّ الْأَمْرِ لَهُ مَعَ الرّعِيّةِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ فَإِنّهُ لَا بُدّ لَهُ مِنْ حَقّ عَلَيْهِمْ يَلْزَمُهُمْ الْقِيَامُ بِهِ وَأَمْرٍ يَأْمُرُهُمْ بِهِ وَلَا بُدّ مِنْ تَفْرِيطٍ وَعُدْوَانٍ يَقَعُ مِنْهُمْ فِي حَقّهِ فَأُمِرَ بِأَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْحَقّ الّذِي عَلَيْهِمْ مَا طَوّعَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ وَسَمَحَتْ بِهِ وَسَهُلَ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يَشُقّ وَهُوَ الْعَفْوُ الّذِي لَا يَلْحَقُهُمْ بِبَذْلِهِ ضَرَرٌ وَلَا مَشَقّةٌ وَأُمِرَ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِالْعُرْفِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ الّذِي تَعْرِفُهُ الْعُقُولُ السّلِيمَةُ وَالْفِطَرُ الْمُسْتَقِيمَةُ وَتُقِرّ بِحُسْنِهِ وَنَفْعِهِ وَإِذَا أَمَرَ بِهِ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ أَيْضًا لَا بِالْعُنْفِ وَالْغِلْظَةِ . وَأَمَرَهُ أَنْ يُقَابِلَ جَهْلَ الْجَاهِلِينَ مِنْهُمْ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ دُونَ أَنْ يُقَابِلَهُ بِمِثْلِهِ فَبِذَلِكَ يَكْتَفِي شَرّهُمْ . وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ { قُلْ رَبّ إِمّا تُرِيَنّي مَا يُوعَدُونَ رَبّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظّالِمِينَ وَإِنّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ السّيّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رَبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَنْ يَحْضُرُونِ } [ الْمُؤْمِنُونَ 93 - 97 ] وَقَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ حم فُصّلَتْ { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السّيّئَةُ ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقّاهَا إِلّا الّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقّاهَا إِلّا ذُو حَظّ عَظِيمٍ وَإِمّا يَنْزَغَنّكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ هُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ } [ فُصّلَتْ 134 ] فَهَذِهِ سِيرَتُهُ مَعَ أَهْلِ الْأَرْضِ إنْسِهِمْ وَجِنّهِمْ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ . (1)
__________
(1) - زاد المعاد - (ج 3 / ص 143)(1/595)
وقد طبق الخلفاء الراشدون هذه الأحكام بأعلى وأتم ما يكون التطبيق وكسرت في عهدهم أكبر دولتين في العالم في ذلك الزمن الدولة الفارسية والدولة الرومانية وأورث الله المسلمين أرضهم وأموالهم وأنفقت كنوزهما في سبيل الله وخضعت أراضيهم لحكم المسلمين وأصبحت دار إسلام،ومن لم يسلم من أهل تلك المناطق طبقت عليه أحكام أهل الذمة وأخذت منه الجزية مقرونة بالذل والصغار كما أمر الله تعالى :((قَاتِلُوا الَذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولا بِالْيَوْمِ الآخِرِ ولا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ورَسُولُهُ ولا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وهُمْ صَاغِرُونَ)) [التوبة:29].
كما ضربوا العشور على تجار غير المسلمين إذا مروا بأرض الإسلام أما المسلمون فلا يؤخذ منهم عشور ولا ضرائب وإنما تؤخذ منهم الزكاة المفروضة،ووضع الخلفاء الراشدون الخراج على الأرض حسب التفصيلات المقررة في مواطنها. (1)
أما جزيرة العرب فقد أخرجوا منها اليهود والنصارى ولم يبق فيها إلا مسلماً تنفيذاً لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووصيته في آخر حياته،فعَنْ عُمَرَ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:لَئِنْ عِشْتُ إِنْ شَاءَ اللهِ لَأُخْرِجَنَّ الْيَهُودَ،وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَّى لاَ يَبْقَى فِيهَا إِلاَّ مُسْلِمٌ (2) .،وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوْصَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِثَلَاثٍ , فَقَالَ: " أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ , وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ " وَسَكَتَ عَنِ الثَّالِثَةِ , فَمَا أَدْرِي قَالَهَا , فَنَسِيتُهَا أَمْ سَكَتَ عَنْهَا عَمْدًا " (3)
6- الحماس في نشر الإسلام:
وظيفة الدولة الإسلامية هي نشر الدين حتى يعبد الله وحده، ولهذا عرف ابن خلدون الخلافة بقوله: هي نيابة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا.
والدولة تنفذ هذه الوظيفة بالجهاد وفتح البلدان وبالدعوة والتعليم لأوامر الدين ونواهيه وكافة أحكامه الشرعية. فحركة الجهاد والفتح العسكري لا بد أن يصحبها ويتبعها الدعاة والمعلمون ليفقهوا الناس في دينهم وهذا التلازم بين الفتح العسكري والتعليم أمر ضروري لابد منه لاستقرار الدعوة والدولة ولابد من ملاحظة التوازن المطلوب في هذا الجانب، فبقدر التوسع في الأرض يكون التوسع في الدعوة والتعليم حتى لا يختلَّ ميزان التربية وتحدث الخلخلة في الصف الإسلامي وتتوسع الفجوة بين الفاتحين وسكان الأراضي المفتوحة مما يتسبب في حدوث ظواهر سلبية تؤثر في تماسك الصف الإسلامي ووحدته السياسية والفكرية.
وقد بذل الخلفاء الراشدون ما استطاعوا في سبيل حدوث هذا التوازن بين حركة التوسع الأفقي في فتح البلدان وبين التوسع الرأسي في تعليم الناس وتفقيههم في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
ولكن رغم وجود البذل والحماس في ميدان التقليم والتربية على تعاليم هذا الدين إلا أن الملاحظ أن التوسع في الأرض كان سريعا وواسعا، فقد فتحت العراق وما وراءها والشام ومصر في سنوات قليلة معدودة فلم يكن في مقدرة الطاقة البشرية في ميدان التربية والتعليم استيعاب الأعداد الهائلة من سكان تلك المناطق وتعليمها ،كما لم يكن الزمن كافيا لرسوخ التعاليم الإسلامية في نفوس كثير منهم مما ساعد ـ مع غيره من العوامل ـ فيما بعد على وجود خلخلة فكرية وظواهر سلبية دخيلة على النهج الإسلامي مما سبب ظهور الفرق والأهواء المتشعبة.
ولكنه أمرٌ قدَّره اللهُ تعالى ، ولا رادَّ لما قدَّر الله تعالى ، فعَنْ أَبِي عَامِرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لُحَيٍّ ، قَالَ : حَجَجْنَا مَعَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ ، أُخْبِرَ بِقَاصٍّ يَقُصُّ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ مَوْلًى لِبَنِي فَرُّوخٍ ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ فَقَالَ : أُمِرْتَ بِهَذِهِ الْقِصَصِ ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : فَمَا حَمَلَكَ عَلَى أَنْ تَقُصَّ بِغَيْرِ إِذْنٍ ، قَالَ : نُنْشِئُ عِلْمًا عَلَمَنَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ : لَوْ كُنْتُ تَقَدَّمْتُ إِلَيْكَ لَقَطَعْتُ مِنْكَ طَائِفَةً ، ثُمَّ قَامَ حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ بِمَكَّةَ ، فَقَالَ : قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ تَفَرَّقُوا فِي دِينِهِمْ عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً ، وَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً وَهِيَ الْجَمَاعَةُ ، وَيَخْرُجُ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ تَتَجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ ، فَلَا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلَا مَفْصِلٌ إِلَّا دَخَلَهُ ، وَاللَّهِ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ لَئِنْ لَمْ تَقُومُوا بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - لَغَيْرُ ذَلِكَ أَحْرَى أَنْ لَا تَقُومُوا بِهِ " المستدرك للحاكم(4)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ مِثْلا بِمِثْلٍ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ ، حَتَّى لَوْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ نَكَحَ أُمَّهُ عَلانِيَةً كَانَ فِي أُمَّتِي مِثْلَهُ ، إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرَقُوا عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ مِلَّةً ، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلاَّ مِلَّةً وَاحِدَةً ، فَقِيلَ لَهُ : مَا الْوَاحِدَةُ ؟ قَالَ : مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي"المستدرك للحاكم(5)
وبعد فهذه جملة من أهم المعالم البارزة في تاريخ الخلافة الراشدة أردنا بالتنبيه إليها توجيه أنظار دعاة الإسلام إلى الاستفادة من هذا التاريخ المشرق والسير على منوالهم فإنهم القوم بهم يقتدى وبهديهم وسنتهم يسلك ويتبع، والله الموفق والهادي.(6)
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - انظر بحث الفتوحات الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (4693 ) وصحيح ابن حبان - (9 / 69)(3753)
(3) - شرح مشكل الآثار - (7 / 191) (2766 ) صحيح
(4)- المستدرك للحاكم (443) صحيح لغيره
وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ كَابْنِ حَزْمٍ يُضَعِّفُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ فَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَبِلُوهَا وَصَدَّقُوهَا .مجموع الفتاوى لابن تيمية - (16 / 491)
(5)- المستدرك للحاكم(444) وسنن الترمذى- المكنز (2853) صحيح لغيره
(6)- انظر Cd مجلة البيان(1/596)
المبحث التاسع
فضل الخلفاء الراشدين
الخلفاء الراشدون هم:أبو بكر الصديق،وعمر بن الخطاب (الفاروق)،وذو النورين عثمان بن عفان،وأبو السبطين علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وأرضاهم .
الخلفاء الراشدون هم أفضل الصحابة،وهم الخلفاء الراشدون المهديون الذين أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - باتباعهم،والتمسك بهديهم . عَنْ عِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ،قَالَ:صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْفَجْرَ،ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا،فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً،ذَرَفَتْ لَهَا الأَعْيُنُ،وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ،قُلْنَا،أَوْ قَالُوا:يَا رَسُولَ اللهِ،كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ،فَأَوْصِنَا . قَالَ:أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا،فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى بَعْدِي اخْتِلاَفًا كَثِيرًا،فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ،وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ،وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ،فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ،وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ. (1)
أجمع أهل السنة والجماعة على أن التفضيل بين الخلفاء بحسب ترتيبهم في الخلافة:أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي .
قال الإمام الباقلاني:" ويجب أن يعلم أن خير الأمة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،وأفضل الصحابة العشرة الخلفاء الراشدون الأربعة رضى الله عن الجميع وأرضاهم،ونقر بفضل أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،وكذلك نعترف بفضل أزواجه رضي الله عنهن،وأنهن أمهات المؤمنين،كما وصفهن الله تعالى ورسوله،ونقول في الجميع: خيراً،ونبدع،ونضلل،ونفسق من طعن فيهن أو في واحدة منهن،لنصوص الكتاب والسنة في فضلهم ومدحهم والثناء عليهم،فمن ذكر خلاف ذلك كان فاسقاً مخالفاً للكتاب والسنة نعوذ بالله من ذلك. (2)
وفي القول السديد :" ويؤمنون بأن أفضل الأمم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ،وأفضلهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خصوصا الخلفاء الراشدون والعشرة المشهود لهم بالجنة وأهل بدر،وبيعة الرضوان والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار . فيحبون الصحابة ويدينون لله بذلك .
وينشرون محاسنهم ويسكتون عما قيل عن مساوئهم ." (3)
وفي الوجيز:" يعتقدون بأن الصحابة الأَربعة:أَبا بكر،وعمر،وعثمان،وعليا - رضي الله عنهم- هم خير هذه الأمة بعد نبيِّها - صلى الله عليه وسلم - وهم الخلفاء الراشدون المهديّون على الترتيب،وهم مبشرون بالجنة،وفيهم كانت خلافة النبوة ثلاثين عاما مع خلافة الحسن بن علي رضي الله عنهم" (4)
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 841)(17144) 17274- صحيح
(2) - الإنصاف للباقلاني - (1 / 22)
(3) - القول السديد شرح كتاب التوحيد - (1 / 7)
(4) - الوجيز في عقيدة السلف الصالح أهل السنة والجماعة - (1 / 137) وانظر الدرر السنية كاملة - (1 / 372) ولمعة الاعتقاد - (1 / 28)(1/597)
وقد ورد في فضل كل واحد منهم أحاديث كثيرة نورد حديثًا واحدًا منها لكل واحد منهم :
فمما جاء في فضل أبي بكر رضي الله عنه ما ثبت عَنْ عَبْدِ اللهِ،عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللهِ " (1)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَطَبَ،فَقَالَ:إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَيْنَ لِقَائِهِ،فَاخْتَارَ لِقَاءَ رَبِّهِ،فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ،وَقَالَ:بَلْ نَفْدِيكَ بِآبَائِنَا وَأَبْنَائِنَا،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : اسْكُتْ يَا أَبَا بَكْرٍ. ثُمَّ قَالَ:إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ،وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً مِنَ النَّاسِ لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ،وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلاَمِ وَمَوَدَّتُهُ،أَلاَ لاَ يَبْقِيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إِلاَّ سُدَّتْ إِلاَّ خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ،فَقُلْتُ:الْعَجَبُ يُخْبِرُنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ،وَهَذَا يَبْكِي،وَإِذَا الْمُخَيَّرُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَإِذَا الْبَاكِي أَبُو بَكْرٍ،وَإِذَا أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمُنَا بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - . (2)
ومما جاء في فضل عثمان رضي الله عنه،عَنْ عَطَاءٍ،وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ،وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا،قَالَتْ:كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُضْطَجِعًا فِي بَيْتِهِ كَاشِفًا عَنْ فَخِذَيْهِ،فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ،فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ،فَتَحَدَّثَ،ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ،فَأَذِنَ لَهُ،وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ،فَتَحَدَّثَ،ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ،فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَسَوَّى ثِيَابَهُ،فَدَخَلَ فَتَحَدَّثَ،فَلَمَّا خَرَجَ،قَالَتْ عَائِشَةُ:يَا رَسُولَ اللهِ،دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ،فَلَمْ تَهَشَّ لَهُ،وَلَمْ تُبَالِ بِهِ،ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ،فَلَمْ تَهَشَّ لَهُ،وَلَمْ تُبَالِ بِهِ،ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ،فَجَلَسْتَ فَسَوَّيْتَ ثِيَابَكَ،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :أَلاَ أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلاَئِكَةُ. (3)
المحدث:الصادق الظن الملهم الذى يلقَى فى نفسه الشىء فيخبر به فراسة
ومما جاء في فضل علي رضي الله عنه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ يَفْتَحُ اللهُ عَلَيْهِ " . قَالَ سُهَيْلٌ: أَحْسَبُهُ خَيْبَرَ،قَالَ عُمَرُ: فَمَا أَحْبَبْتُ الْإِمَارَةَ قَطُّ حَتَّى يَوْمَئِذٍ،فَدَعَا عَلِيًّا فَبَعَثَهُ،ثُمَّ قَالَ: " اذْهَبْ فَقَاتِلْ حَتَّى يَفْتَحَ اللهُ عَلَيْكَ،وَلَا تَلْتَفِتْ " . قَالَ: عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى مَاذَا أُقَاتِلُ النَّاسَ ؟ قَالَ: " قَاتِلْهُمْ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ،وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ منعوا مِنْكُمْ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " (4)
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6326 ) وشرح مشكل الآثار - (3 / 40)(1008)
(2) - صحيح ابن حبان - (14 / 559)(6594) صحيح
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (6362 ) وصحيح ابن حبان - (15 / 336) (6907)
(4) - شعب الإيمان - (1 / 171)(77 ) صحيح وبنحوه صحيح البخاري برقم (3702) . ومسلم برقم (2405) .(1/598)
وفي شرح الاقتصاد في الاعتقاد: " ونعتقد أن خير هذه الأمة وأفضلها بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاحبه الأخص،وأخوه في الإسلام ورفيقه في الهجرة والغار،أبو بكر الصديق،وزيره في حياته،وخليفته بعد وفاته،عبد الله بن عثمان عتيق بن أبي قحافة،ثم بعده الفاروق أبو حفص عمر بن الخطاب،الذي أعز الله به الإسلام وأظهر الدين،ثم بعده ذو النورين أبو عبد الله عثمان بن عفان،الذي جمع القرآن وأظهر العدل والإحسان،ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخَتَنُه علي بن أبي طالب -رضوان الله عليهم- فهؤلاء الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون.
نعم،انتقل المؤلف -رحمه الله- من بيان فضائل النبي - صلى الله عليه وسلم - وخصائصه إلى فضائل الخلفاء،فضائل الصحابة،وبدأ بالخلفاء الراشدين الأربعة،قال: "ونعتقد" -يعني معشر أهل السنة والجماعة - أن خير هذه الأمة وأفضلها بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر،ثم عمر،ثم عثمان،ثم علي،هذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة،يعتقدون أن خير الصحابة وأفضل الناس بعد الأنبياء أبو بكر،ثم يليه في الفضيلة عمر،ثم يليه عثمان،ثم يليه علي،وترتيبهم في الفضيلة كترتيبهم في الخلافة.
ومن أنكر فضلهم فهو من أهل الزيغ والضلال،أو تكلم فيهم أو تنقصهم أو سبهم فهو من أهل الزيغ والانحراف والضلال،وهذا مجمع عليه بين أهل العلم في ترتيب الخلفاء،الخليفتين أبو بكر وعمر،وأما عثمان وعلي ففيهما خلاف في الفضل،أما الخلافة فقد اتفق العلماء،اتفق أهل السنة والجماعة على تقديم عثمان على علي في الخلافة،ومن قدم عليا على عثمان في الخلافة فهو أضل من حمار أهله،كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في ( العقيدة الواسطية )،وهو من أهل الزيغ.
أما من قدم عليا على عثمان في الفضيلة دون الخلافة فهذا قول في مذهب الإمام أبي حنيفة،والجمهور على تقديم عثمان أيضا على علي في الفضيلة كالخلافة،وروي عن أبي حنيفة أنه رجع وأنه وافق الجمهور،فعلى هذا يكون إجماع تقديم عثمان على علي في الفضيلة هذا هو قول الجماهير،وفي رواية عن أبي حنيفة تقديم علي على عثمان في الفضيلة دون الخلافة،وروي عنه أنه رجع،أما الخلافة فهو إجماع،من قدم عليا على عثمان في الخلافة فهو أضل من حمار أهله.
ولهذا قال المؤلف -رحمه الله-: "نعتقد أن خير هذه الأمة وأفضلها بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاحبه الأخص"؛ لأن له صحبة خاصة وأخوة في الإسلام،ورفيقة في الهجرة والغار،له خصوصية وله صحبة خاصة؛ حيث إنه ملازم للنبي - صلى الله عليه وسلم - ،وحيث إنه أول من آمن به،وحيث إنه أول من صدقه،وكل أحد دعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام يكون عنده توقف إلا أبا بكر فإنه لم يتوقف،آمن في الحال،فهذه صحبة خاصة؛ ولذا قال: "صاحبه الأخص وأخوه في الإسلام ورفيقه في الهجرة" هو الذي رافقه في الهجرة من مكة إلى المدينة والغار،أنزل الله -تعالى- فيهما: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا صاحبه أبو بكر.(1/599)
ولما خاف أبو بكر على النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان المشركون يبحثون عنهم قال: لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لأبصرنا،قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ "؛ ولهذا قال المؤلف: "ورفيقه في الهجرة والغار أبو بكر الصديق" هذا أبو بكر،هذه كنية،والصديق لقب،والصديق فعيل صيغة مبالغة من قوة تصديقه،وهو الصديق الأكبر.
"ووزيره في حياته" يعني: ملازمته له ومشاورته له،"وخليفته بعد وفاته" هو عبد الله بن عثمان،اسمه عبد الله بن عثمان عتيق بن أبي قحافة،"ثم بعده -في الفضيلة والخلافة- الفاروق أبو حفص عمر بن الخطاب" الفاروق لقب له،وأبو حفص كنية،واسمه عمر بن الخطاب،اسمه عمر،ولقبه الفاروق،وكنيته أبو حفص،"الذي أعز الله به الإسلام،وأظهر به الدين"،"أعز الله به الإسلام" لما أسلم قوي المسلمون،صار لهم قوة بإسلامه،أعز الله به الإسلام وأظهر به الدين،وفتحت في أيامه الفتوح ومصرت الأمصار.
"ثم بعده -الثالث- ذو النورين،أبو عبد الله عثمان بن عفان،الذي جمع القرآن" ذو النورين عثمان؛ لأنه تزوج ابنتين من بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - ،تزوج واحدة ثم توفيت،ثم تزوج الأخرى،فيقال له ذو النورين،تزوج رقية وأم كلثوم -رضي الله عنهم-.
عثمان بن عفان الذي جمع القرآن،وأظهر العدل والإحسان،هذه من خصائصه من فضائله أنه جمع القرآن،الله أنزل القرآن على سبعة أحرف رحمة بالأمة وتسهيلا عليهم،ثم بعد ذلك حصل اختلاف في بعض الغزوات،وكان حذيفة في مغازي أرمينية وأذربيجان ورأى اختلاف الناس في القراءة،وسمع بعضهم يقول: قراءتي أحسن من قراءتك. فجاء إلى عثمان -رضي الله عنه- وقال: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن تختلف في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى. فجمع الصحابة وشاورهم فأجمعوا على جمع الناس على حرف واحد هو حرف قريش.
وهذا الحرف تدخل فيه القراءات السبع كلها،بل العشر داخلة في حرف واحد،وهو الحرف الذي درس فيه جبرائيل النبي - صلى الله عليه وسلم - في السنة الأخيرة التي توفي فيها،فهذا من فضائله -رضي الله عنه- فجمع الناس على مصحف،على هذا الحرف،وكتب في ذلك سبعة مصاحف،تسمى هذه المصاحف الأئمة،أرسل لكل مِصْرٍ مصحفا: أرسل لأهل مكة مصحفا،وإلى أهل الكوفة مصحفا،ولأهل الشام مصحفا،ولأهل مصر مصحفا،وأحرق بقية المصاحف.
ذكر الحافظ ابن كثير هذه الفضيلة في ( البداية والنهاية ) وقال: إن من مناقبه الكبار وحسناته العظيمة -رضي الله عنه- أن جمع الناس على قراءة واحدة،وكتب المصحف على العرضة الأخيرة التي درسها جبريل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آخر سِنِي حياته،وذكر أن سبب ذلك ما وقع من خلاف بين القراء في بعض الغزوات،وكان معهم حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه-،فركب إلى عثمان وأخبره بما كان وقال: أدرك هذه الأمة قبل أن تختلف في كتابها كاختلاف اليهود والنصارى في كتبهم.(1/600)
عند ذلك جمع عثمان الصحابة وشاورهم في ذلك،ورأى أن يكتب المصحف على حرف واحد،وأن يجمع الناس في سائر الأقاليم على القراءة به دون سواه،فاستدعى بالصحف التي كان الصديق أمر زيد بن ثابت بجمعها وأمر زيد بن ثابت أن يكتب وأن يملي عليه سعيد بن العاص الأموي،بحضرة عبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن حارث المخزومي،وأمرهم إذا اختلفوا في شيء أن يكتبوه بلغة قريش،فكتب سبعة مصاحف بعث بها عثمان إلى الأمصار،ويقال لهذه المصاحف الأئمة،ثم عمد إلى بقية المصاحف التي بأيدي الناس فحرقها لئلا يقع بسببها اختلاف.
ثم الخليفة الرابع ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خَتَنُه،"خَتَنُه" يعني: زوج ابنته فاطمة،خَتَنُه علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم،"فهؤلاء الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون" من عقيدة أهل السنة والجماعة الإيمان بأن الخلافة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر ثم لعمر ثم لعثمان ثم لعلي،وأن الطعن في خلافة واحد من هؤلاء ضلال وزيغ،من عقيدة أهل السنة والجماعة أن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة،نعم.
ولم يزل أهل السنة والجماعة يترضون على الصحابة ويوالونهم وينزلونهم منازلهم التي يستحقونها بالعدل والإنصاف لا بالهوى والتعصب،والله -تعالى- أثنى عليهم وعدلهم وزكاهم ووعدهم بالجنة ولهذا قال: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى قال: { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} [الحشر:8،9]
أثنى على المهاجرين وأثنى على الأنصار،وأما من سبهم أو تنقصهم أو طعن فيهم فهذا لمرض في قلبه ولنفاق،إنما يصدر من أهل النفاق والزيغ والانحراف كالرافضة وأشباههم،وقد نزلوا إلى هوة سحيقة فزادوا بها على اليهود والنصارى،الرافضة،فإن اليهود والنصارى..،قيل لليهود: من خير أهل ملتكم؟ قالوا أصحاب موسى. وقيل للنصارى: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب عيسى. وقيل للرافضة: من شر أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب محمد. نسأل الله السلامة والعافية،فزادوا في هذه الخصلة على اليهود والنصارى،صاروا أسوأ حالا منهم،نعوذ بالله،نعم. (1)
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - http://www.taimiah.org/Display.asp?ID=71&t=book60&pid=2&f=kc9120800013.htm&printer=on
انظر التفاصيل في كتابي (( المهذب في فضائل الخلفاء الراشدين ))(1/601)
الفهرس العام
المبحث الأول ... 4
أبو بكر الصديق رضي الله عنه ... 4
المبحث الثاني ... 69
عمر بن الخطاب رضي الله عنه ... 69
المبحث الثالث ... 181
عثمان بن عفان رضي الله عنه ... 181
أولا الكلام عن الفتنة : ... 181
1- ... كيف بدأت الفتنة ... 181
2- ... أسباب الفتنة الحقيقية ... 183
3- طبيعة المجتمع في عهد أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ... 184
3- ... طبيعة المجتمع في عهد أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ... 185
4- ... بداية الفتنة في عهد عثمان رضي الله عنه وأسبابها الخفية ... 187
5- اغتيال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ... 189
6 - مؤامرة قتل الخليفة الراشدي عثمان رضي الله عنه ... 190
7- شخصية معاوية رضي الله عنه ... 196
8- محاولة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه رأب الصدع ... 197
9- اعتراضات مردودة : ... 199
10- حصار الخليفة عثمان رضي الله عنه واستشهاده ... 213
11- الفتنة في عهد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ... 220
11- معركة الجمل واسبابها ... 228
12 - معركة صفين وأسبابها ... 236
13- ظهور فتنة الخوارج في أواخر عهد علي رضي الله عنه ... 243
14- استشهاد علي رضي الله عنه ... 250
15- تنازل الحسن بالخلافة لمعاوية رضي الله عنهما ... 251
ثانيا- ترجمة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ... 254
المبحث الرابع ... 278(1/602)
علي بن أبي طالب رضي الله عنه ... 278
المبحث الخامس ... 361
النظم الإدارية والسياسية في عهد الخلفاء الراشدين ... 361
المبحث السادس ... 383
حياة الناس في عهد الخلفاء الراشدين ... 383
المبحث السابع ... 441
الفتوحات الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين ... 441
المبحث الثامن ... 564
معالم هامة من تاريخ الخلفاء الراشدين ... 564
1- توحيد مصدر التلقي: ... 565
2- حماية جانب العقيدة: ... 567
3- سيادة العدل والمساواة بمفهومها الإسلامي الصحيح : ... 573
4 - سيادة مبدأ الشورى قاعدة للتعامل بين الحاكم والمحكوم : ... 580
5- قيام الجهاد والعلاقات الدولية في عهدهم على مقتضى الشرعية : ... 593
المبحث التاسع ... 597
فضل الخلفاء الراشدين ... 597(1/603)