مبحث لدكتور محمد بن الطرهوني
لقد شهدت منطقة غرب إفريقية بعد الفتح الإسلامي تقلبات سياسية واجتماعية وفتنا خارجية وانتفاضات متعددة كان لها كبير الأثر في الحياة العلمية ، وسوف أتحدث عن ذلك بإيجاز .
أولا : عصر الولاة ( 96هـ _ 184هـ )(1)وقيام دولة الأدارسة الأولى في المغرب الأقصى :
ويطلق عصر الولاة على فترة مابين انتهاء زمن الفتح وحتى قيام الدولة الأغلبية ، وكان حكام هذه الفترة لمنطقة المغرب والأندلس يعينون من قبل الخليفة إلى أن استقل بالأندلس عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك سنة 137هـ .
__________
(1) انظر أعمال الأعلام 8-11 ، الحلة السيراء 2/335-341 ، 358 -362 ، الخلاصة النقية 12-23 ، نهاية الأرب 24/53 -99 ، تاريخ الأمم والملوك 4/254 تاريخ المغرب العربي 1/367 -371 ، خلاصة تاريخ تونس 63-75، الاستقصا 1/100-136 ، الكامل 4/222-224،278 ،5/26،31-33،85،94-96،103-105 ، تاريخ الرقيق 93-205 ، النجوم الزاهرة 1/245،294-295، فتوح مصر وأخبارها 213-225 ، العبر 4/188 -195 ، إتحاف أهل الزمان 1/87 -92، المغرب الكبير 2/288 - 314 ، 331 -365 ، القيروان 44-54 ، الشجرة 2/108 -112 ، تاريخ الإسلام 5/27-36 ، بساط العقيق 55-59 ، البيان المغرب 1/47 -90 ، حسن البيان 179-194 ، 211-220 ، معالم تاريخ المغرب 57-77، المؤنس 38 .(1/1)
وامتازت بداية هذا العصر بالترابط بين العرب وإخوانهم البربر المسلمين الذين أقبلوا في شغف على تعلم الدين الجديد ، وانضموا إلى الجيش الإسلامي وحدثت بينهم المصاهرات ، وكثر بناء المساجد والكتاتيب في سائر بلاد إفريقية ، وأخذ أهل مدنها يقلدون العاصمة الإسلامية حتى في طرازها المعماري ، وانتشرت الثقافة الإسلامية بين البربر ولا غرابة في كل هذا فإن أول الولاة وهو محمد بن يزيد القرشي (96هـ _ 99هـ ) قد استقر في إفريقية بأحسن سيرة وأعدلها ، وكان يقسم مايصيبه من غنائم على المسلمين من البربر والعرب على السواء(1).
ورحل في تلك الفترة خالد بن أبي عمران بمسائل للمسلمين الأفارقة ليسأل عنها التابعين في المشرق فدون عن سالم بن عبدالله بن عمر ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر وعن سليمان بن يسار كتابا كبيرا رواه أهل القيروان(2).
__________
(1) انظر البيان المغرب 1/47 ، المغرب الكبير 2/289 ، الاستقصا 1/100، الحضارة المغربية
عبر التاريخ ص105 .
(2) طبقات أبي العرب 235 ، 236 ، الرياض 1/163.(1/2)
ثم قدم إسماعيل بن أبي المهاجر (99هـ_101هـ) واليا من قبل الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز ، فكان خير وال لخير أمير ، ومازال حريصا على دعاء البربر إلى الإسلام فأسلم بقية البربر على يديه(1)، وكان زاهدا متواضعا من كبار العباد فأقبل عليه البربر المسلمون يسمعون منه حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويتعلمون ، وأرسل معه عمر بن عبد العزيز تسعة من ثقات التابعين وعلمائهم(2)، لتفقيه أهل إفريقية ونشر العلم في ربوعها ، وكانوا أهل علم وفضل اختط كل منهم دارا بالقيروان ، وبنى مسجدا وكتابا(3) لتعليم البربر وأبنائهم اللغة العربية ومبادىء الإسلام ، وقد وصف كل منهم بأنه انتفع به أهل إفريقية وبث فيها علما كثيرا(4).
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عموم البربر كتبا يدعوهم فيها إلى الإسلام فقرأها إسماعيل عليهم في النواحي فغلب الإسلام على المغرب(5).
__________
(1) تاريخ الرقيق 97 ، وانظر : إتحاف أهل الزمان 1/87 تاريخ ابن خلدون 4/187.
(2) وهم بكر بن سوادة وجعثل بن عاهان وحبان بن جبلة وسعد بن مسعود وطلق بن جعبان وعبد الرحمن بن رافع وعبد الله بن المغيرة وعبد الله بن يزيد وموهب بن حي .
(3) ورقات 1/87 .
(4) الرياض 1/100 ، وانظر المعالم 1/180 .
(5) فتوح البلدان ص233 .(1/3)
وقد استقر هؤلاء التابعون بالقيروان حتى عدوا من أهلها ، فقد اعتبرهم المالكي الطبقة الأولى من علماء القيروان(1) ، ومنهم من زادت إقامته بها على ثلاثين عاما(2)، وهم في كل ذلك لايفترون عن القيام بمهمة نشر العلم بإفريقية فكان المغاربة لذلك في صدر الإسلام على مذهب جمهور السلف من الأئمة واعتقادهم وهو المذهب الحق(3)، ولكن توقف هذا المد العلمي مع وفاة عمر بن عبد العزيز سنة 101هـ حيث سارع يزيد بن عبدالملك بعزل إسماعيل بن أبي المهاجر وتولية يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج وصاحب شرطته(4)، وكان ظلوما غشوما أساء السيرة في البربر ، ووضع الجزية على من أسلم من أهل الذمة متبعا سيرة الحجاج في أهل العراق ، وكان حرسه أكثرهم منهم فوسم كل امرىء منهم على يده (حرسي) كما تفعل ملوك النصارى فأنكروا ذلك وملوا سيرته فدب بعضهم إلى بعض وتضافروا على قتله وقالوا جعلنا بمنزلة النصارى فخرج ذات عشية لصلاة المغرب فقتلوه في مصلاه(5).
وتولى بعده بشر بن صفوان الكلبي ثم عبيدة بن عبدالرحمن السلمي فكان همهما الغزو ولم يؤثر عنهما اهتمامهما بالعلم إلا أن الثاني ظلم البربر وتعسف في معاملتهم فحنقوا عليه .
__________
(1) الرياض 1/99 .
(2) مثل بكر بن سوادة الجذامي توفي بها سنة 128 هـ جذوة المقتبس 196 .
(3) الاستقصا 1/136 .
(4) لما تولى عمربن عبدالعزيز الخلافة سمع أن يزيد خرج في بعض جيوش المسلمين فأمر برده وقال : لأني لأكره أن أستنصر بجيش هو منهم الاستقصاء1/102 .
(5) انظر فتوح البلدان ص233 ، البيان المغرب 1/48 ، وانظر عن سوء سيرته تاريخ ابن خلدون 4/187 ، النجوم الزاهرة 1/245 ، الاستقصا 1/102 ،103 ، إتحاف أهل الزمان 1/88 .(1/4)
ثم قدمها عبيد الله بن الحبحاب سنة 116هـ فأغزى عبدالرحمن بن حبيب ابن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع الفهرى السوس وأرض السودان فظفر ظفرا لم ير أحد مثله قط وأصاب جاريتين من النساء من هناك ليس للمرأة منهن إلا ثدى واحد وهم يسمون تراجان(1).
وأتم بناء جامع الزيتونة ودار الصناعة بتونس وغزا صقلية وجنوب الصحراء ، إلا أنه استجاب لمطامع رؤسائه بالمشرق فإنهم كانوا يستحبون طرائف المغرب ويبعثون فيها إلى عمال إفريقية فيرسلون لهم البربريات السنيات فلما أفضى الأمر إلى ابن الحبحاب مناهم بالكثير وتكلف لهم أو كلفوه أكثر مما كان فاضطر إلى التعسف وسوء السيرة(2)، فظلم البربر المسلمين وكلفهم مالا يطيقون وتعدى على أموالهم وأساء عماله السيرة وخاصة عمر بن عبدالله المرادي عامل طنجة فإنه تعدى في الصدقات والعشر وأراد تخميس البربر وزعم أنهم فيء للمسلمين ، وذلك مالم يرتكبه عامل قبله وإنما كان الولاة يخمسون من لم يجب إلى الإسلام فكان فعله الذميم هذا سببا لنقض البلاد ووقوع الفتن العظيمة(3).
__________
(1) فتوح البلدان ص233 .
(2) البيان المغرب 1/52 ، وانظر الخلافة والخوارج 60 .
(3) البيان المغرب 1/52 ، وانظر تاريخ ابن خلدون 4/189 ، الاستقصاء 1/106.(1/5)
واشتد استياء البربر المسلمين من هذه الأفعال القبيحة ، ورأوا التناقض الصارخ بين تعاليم الإسلام وبين سلوك هؤلاء العمال ، وأصبحت عندهم قابلية للتمرد في الوقت الذي فشت فيه النزعة الخارجية في إفريقية والمغرب ، ونادى أصحابها بشعارات خادعة ظاهرها فيه بعض الحق وباطنها ينطوي على شر عظيم كالمساواة بين المسلمين ووجوب الخروج على الحكام الظلمة وغيرها ، فصادف ذلك هوى في نفوس البربر وتحمس كثير منهم لما نادى به دعاة الخوارج ، إلا أنهم لم يعلنوا التمرد والعصيان إلا بعد أن يئسوا من إمكانية تبليغ صوتهم بالشكوى إلى الخليفة وفي ذلك يقول الطبري : فمازال بربر إفريقية من أسمع أهل البلدان وأطوعهم إلى زمان هشام بن عبدالملك فلما دب إليهم دعاة العراق واستثاروهم شقوا عصاهم وفرقوا بينهم إلى اليوم ، وكان من سبب تفريقهم أنهم ردوا على أهل الأهواء فقالوا: إنا لانخالف الأئمة بما تجني العمال ولا نحمل ذلك عليهم . فقالوا لهم : إنما يعمل هؤلاء بأمر أولئك فقالوا لهم: لانقبل ذلك حتى نبورهم ( أي نختبرهم ) فخرج ميسرة المطغري زعيم الصفرية في بضعة عشر إنسانا حتى يقدم على هشام فطلبوا الإذن فصعب عليهم فأتوا الأبرش وزير هشام بن عبد الملك فقالوا : أبلغ أميرالمؤمنين أن أميرنا يغزو بنا وبجنده فإذا أصاب نفلهم دوننا وقال: تقدموا وأخر جنده فقلنا : تقدموا فإنه ازدياد في الأجر ومثلكم كفى إخوانه . ثم إنهم عمدوا إلى ماشيتنا فجعلوا يبقرونها على السخال يطلبون الفراء الأبيض لأمير المؤمنين فاحتملنا ذلك ، ثم إنهم سامونا أن يأخذوا كل جميلة من بناتنا فقلنا : لم نجد هذا في كتاب ولاسنة ونحن مسلمون ، فأحببنا أن نعلم عن رأي أمير المؤمنين ألهم ذلك أم لا ؟ قال: نفعل فلما طال عليهم ونفدت نفقاتهم كان وجههم إلى إفريقية فخرجوا على عامل هشام فقتلوه واستولوا على إفريقية(1).
__________
(1) تاريخ الطبري 4/254،255 ، وانظر الكامل 3/45 .(1/6)
وقد ظهرت فرقة الخوارج إثر التحكيم بين علي ومعاوية في موقعة صفين كما تذكر ذلك المصادر المعنية وقد قاتلهم علي - رضي الله عنه - فشتت الله شملهم حتى انقسموا إلى عشرين فرقة(1).?
ولم يدخل المغرب من هذه الفرق إلا فرقتان الأولى الإباضية وتنسب إلى عبد الله بن إباض المري وأول من أدخلها إلى القيروان سلمة بن سعد الحضرمي(2) وعنه فشت في قبائل المغرب ثم تم إرسال بعثة إلى البصرة بالعراق درسوا لمدة خمس سنوات على يد مسلم بن أبي كريمة زعيم الإباضية وسموا طلبة العلم وبعد رجوعهم تفرقوا في القبائل ناشرين أفكارهم . والفرقة الثانية هي الصفرية :وتنسب على الأرجح إلى زياد بن الأصفر(3)، وقد ذكرت بعض المصادر أن أول من أدخلها إفريقية عكرمة مولى ابن عباس(4)، وبعضها لم يذكر ذلك عنه(5)، والأرجح براءته من ذلك ثم تولى زعامة الصفرية بالمغرب بعد ذلك ميسرة المطغري وسوف يأتي تحرير القول في عكرمة عند ترجمته في المفسرين .
__________
(1) انظر عن الخوارج في إفريقية وغيرها : الاستقصا 1/107-108 ، الخلافة والخوارج 20-135 ، الصراع المذهبي 194-197 ، الفرق الإسلامية 140-151 ، الخوارج في بلاد المغرب 14-95 .
(2) انظر الخوارج في بلاد المغرب 46، النظم الاجتماعية 16 .
(3) انظر الفرق بين الفرق 90، دائرة المعارف 14/229 .
(4) انظر الخوارج في بلاد المغرب 46 ، التهذيب 7/267 .
(5) انظر الرياض 1/146، طبقات أبي العرب 19 .(1/7)
وهكذا اندلعت بإفريقية والمغرب ثورات لا نهاية لها ، ابتدأت سنة 122هـ وهي أول ثورة في إفريقية في الإسلام(1) وتضافرت جهود الإباضية والصفرية للإطاحة بحكومة القيروان ، وأصبح هم الخليفة بالمشرق القضاء على هذه الثورات فكان يرسل الجيش تلو الاخر ، وقد ذكروا أن هذه الحروب منذ أن استعرت إلى أن تم القضاء عليها ، في عهد يزيد بن حاتم سنة 156هـ بلغت 375 موقعة(2) ذهب ضحيتها آلاف القتلى ، وقد شارك فيها العلماء مقاتلين وواعظين ، فقد استنجد حنظلة بن صفوان بمن تبقى من بعثة عمر بن عبدالعزيز لما ثارت عليه الخوارج(3) وقد دامت هذه الحروب أكثر من ثلاثين سنة تمكن الخوارج خلالها من الاستيلاء على القيروان مرتين حيث استولى عليها الصفرية سنة 140هـ لمدة سنة وشهرين وربطوا دوابهم في المسجد الجامع ، وقتلوا كل من كان فيها من قريش وعذبوا أهلها ثم وليها بعدهم الإباضية لمدة سنتين(4) .
__________
(1) انظر البيان المغرب 1/52 ، تاريخ الرقيق 109 .
(2) ابن خلدون 6/113 .
(3) انظر تاريخ الرقيق 120، الرياض 1/103، وقد استشهد أبو كريب قاضي القيروان وجماعة كثيرة من العلماء في قتال الصفرية سنة 139هـ (المعالم 1/229) .
(4) البيان المغرب 1/70- 71 .(1/8)
وقد تسببت هذه الحروب في تعطيل الحركة العلمية وانشغل الناس عن الطلب ، حتى قال الإمام سحنون عن هذه الفترة : كان من يحمل العلم يبقى في صدره لايسألونه عنه فيموت به مثل عبدالرحمن بن زياد بن أنعم ( ت 161هـ) بقي العلم في صدره لاينشر عنه ولايعرف(1) ومع ذلك فقد وجد من اهتم بطلب العلم من أهل إفريقية وبرع فيه منذ هذا الوقت المبكر إلا أنهم قلائل مثل : جميل بن كريب المعافري ( ت 139 )(2) وزيد بن الطفيل الذي كان يرأس في هذا العهد حلقة عظيمة بجامع عقبة(3)، وعبدالله بن فروخ الذي رحل إلى المشرق ، وبرع في الحديث والفقه ، ثم عاد إلى القيروان فأقام بها يعلم الناس العلم ، ويحدثهم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى انتفع به كثير (4)وهو أول من أدخل مذهب أبي حنيفة المغرب حيث دون عنه أكثر من عشرة آلاف مسألة(5) كما أنه سمع من الإمام مالك بن أنس ، ومن سفيان الثوري والأعمش وابن جريج وهم من أعلام المفسرين .
وكان للخوارج نشاط علمي على مذهبهم ، وقاموا بكتابة العديد من المصنفات فمن أكبر علماء الإباضية محمد بن أفلح وأبو خرز الحامي ، ولهما مؤلفات عديدة في اعتقادهم(6)، وسوف أقدم دراسة لتفسير هود بن محكم وهو من الإباضية الذين نشروا العلم بتاهرت التي أسسوا فيها دولتهم ، كما سيأتي .
__________
(1) طبقات أبي العرب 100 .
(2) انظر : الرياض 1/168، المعالم 1/224 .
(3) انظر الرياض 1/172 .
(4) انظر المعالم 1/239 ، الرياض 1/177 .
(5) الرياض 1/180 .
(6) انظر المدارس الكلامية بإفريقية 144، 146 .(1/9)
وفي أول عهد يزيد بن حاتم (155هـ _170هـ ) ركدت ريح الخوارج من البربر وتداعت بدعتهم إلى الاضمحلال(1) ، فالتفت إلى الناحية العمرانية ورتب أسواق القيروان ، وأفرد لكل صناعة مكانا وجدد بناء الجامع وانتعشت الحياة العلمية في عهده(2)لطول فترة حكمه مع الهدوء والاستقرار وقلة الحروب وكذا الحال في عهد خلفه إلا ماكان من ثورة بعض الجند وخاصة في عهد محمد بن مقاتل العكي (181هـ_184هـ ) الذي كان سيىء السيرة حتى إنه ضرب عابد القيروان البهلول بن راشد (ت183هـ) وحبسه ظلما(3)، ولما اختلت عليه الأمور عزله هارون الرشيد سنة 84 هـ ، وبذلك انتهى عصر الولاة ليبدأ العهد الأغلبي ، كما سيأتي .
وفي الحقبة الأخيرة من هذا العصر نشطت الرحلة إلى المشرق(4)، وعاد الطلاب الأفارقة بعلم مالك ( ت 179هـ) وكان أول من أدخله علي بن زياد حيث روى الموطأ لأهل إفريقية وفسر لهم قول مالك فأقبلوا عليه إقبالا منقطع النظير لاعتماده على الحديث لا سيما على رواية أهل المدينة وهم الصفوة من الصحابة والتابعين، الذين تعود أهل إفريقية على طريقتهم في العلم والتعلم بعيدا عن المسائل الكلامية التي جرت عليهم الويلات(5).
__________
(1) انظر الاستقصاء 1/133 ، العبر 6/113 .
(2) انظر تاريخ المغرب العربي 1/367 ، ورقات 1/162 .
(3) البيان المغرب 1/89 .
(4) انظر كمثال : المدارك 1/192 ، البيان المغرب 1/79 ، الشجرة 1/60 ، الرياض 1/234 .
(5) انظر الرياض 1/234، أعلام الفكر الإسلامي 383، موطأ ابن زياد 30 ، 31 .(1/10)
ثم انتشر مذهب مالك وتسارع أهل إفريقية إلى الأخذ عنه مباشرة ، حتى وصل الرواة عنه من أهل إفريقية إلى أكثر من ثلاثين تلميذا (1)، ويعتبر الإمام مالك من أوائل الذين صنفوا في تفسير القرآن ، وقد نقل ابن العربي جزءا من تفسيره في كتابه القبس (2)، وكتب عبد الله بن فروخ إلى الإمام مالك إن بلدنا كثير البدع وأنه ألف كلاما في الرد عليهم فنهاه الامام مالك عن ذلك ، خشية أن يكون ذلك سببا لإظهار طريقة الجدل بإفريقية فأراد حسم الباب(3).
وكان أسد بن الفرات مع نشاطه في رواية الحديث والفقه يلقي التفسير أيضا إذ كان يسمع الطلاب تفسير المسيب بن شريك الذي دخل به إلى إفريقية وله مجالس في ذلك(4).
ورحل موسى بن معاوية الصمادحي إلى المشرق ، وسمع بمكة من سفيان بن عيينة صاحب التفسير المشهور ، وسمع أيضا من وكيع بن الجراح بالعراق خمسة وثلاثين ألف حديث ، وأخذ عنه مصنفه ورواه في القيروان وكما هو معلوم فإن وكيعا صاحب تفسير مسند ولاشك في دخول مرويات هذا التفسير أو جزء كبير منها في هذه الروايات(5).
كما كان لعلي بن زياد شرف إدخال جامع سفيان الثوري الكبير وجامعه الأوسط إلى إفريقية(6).
__________
(1) انظر المعالم 2/83 .
(2) انظر على سبيل المثال ق131 مكرر .
(3) انظر الرياض 1/177 .
(4) الرياض 1/265 ، المدارك 1/474 .
(5) انظر التقريب 1/312 ، سير أعلام النبلاء 12/109 ، المحن 85 ، المعالم 2/52، الرياض 1/377 ، فهرس ابن عطية 64 .
(6) طبقات أبي العرب 251 ، المدارك 3/326 ، الإكمال 1/524 .(1/11)
وقد دخل في تلك الحقبة مذاهب اندثرت بعد ذلك ، وهي مذهب الأوزاعي وقد روى عنه بعض أهل القيروان(1) ومذهب الليث بن سعد ، ومذهب سفيان الثوري وقد روى عنه كثير من أهل القيروان وسمعوا منه جامعيه الكبير والصغير ، وكان بعضهم يميل إلى رأيه(2) ولايخفى اشتغال الأخير بالتفسير وتصنيفه فيه وليس ثمة شك في وصول تفسيره إلى المغرب رواية عنه .
وبذلك ازدهرت الحياة العلمية من جديد ، وفشت في القيروان رواية الحديث وكثر العلماء والفقهاء ، فعن ابن غانم (ت190هـ ) أنه انصرف يوما من جامع القيروان بعد صلاة الجمعة فسأل بعض أصحابه : حضرت اليوم الجامع ؟ قال نعم قال كيف رأيت ؟ قال رأيت أصلحك الله به سبعين قلنسوة تصلح للقضاء ، وثلاثمائة قلنسوة فقيه فترجع ابن غانم وقال مات الناس(3).
__________
(1) الرياض 1/247 .
(2) انظر الرياض 1/201، طبقات أبي العرب 52، 251، ورقات 1/73 ، الحياة الاجتماعية 72 .
(3) المعالم 183وانظر بساط العقيق 57 .(1/12)
وفي تلك الحقبة فر إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي إلى مصر بعد معركة فخ ، التي دارت بين آل البيت وبين العباسيين ومعه مولاه راشد ، ثم توجه إلى المغرب ، فدخل القيروان ثم تلمسان ثم توجه إلى طنجة ، ثم رجعا إلى أوليلي سنة 172هـ ، حيث استقبلته قبيلة أوزنة بالحفاوة والترحيب لما عرفهم بنفسه وعلى رأسها أميرها عبدالحميد الأوربي المعتزلي فبايعوا جميعا إدريس بن عبد الله وخلع عبدالحميد طاعة بني العباس ، والتفت حوله قبائل البربر من صنهاجة ولمتونة والملثمون في إقليم شنقيط وانضمت إليه قبائل زناتة وزواغة ولمايه ولواتة وسدراته وغياثه ومكناسة وغيرها ، ولما استوثق له الأمر زحف على القبائل التي لم تعترف به وعلى اليهود والنصارى والمجوس فأسلموا على يديه ثم اتجه إلى الشرق وغزا تلمسان وقبائل مغراوة فبايعته ثم عاد إلى أوليلي(1)فدبر له الرشيد مكيدة لقتله وأرسل له سليمان بن جرير الذي تمكن من التقرب إليه وسمَّه(2).
ولم يخلف إدريس إلا جاريته كنزة وهي حامل فانتظروا ولادها فأنجبت إدريس الثاني فربوه وعلموه حتى بلغ الحادية عشرة فبويع له سنة 186هـ وتم كل ذلك بمشورة راشد مولى إدريس الأول الذي عين وصيا على العرش وقد جاء الناس لمبايعته من مختلف أصقاع المغرب بل ومن إفريقية أيضا(3).
__________
(1) انظر الطبري 5/27 ، الكامل 6/90 ، المختصر في أخبار البشر 2/11 زهرة الآس ص9، الولاة والقضاة ص131 ، جذوة الاقتباس ص 8 ، أعمال الأعلام ص1900 ، موريتانيا بلاد شنقيط ص9،10 ، الدر النفيس في مناقب إدريس .
(2) انظر العبر 4/13 ، أعمال الأعلام ص 194 ، الاستبصار ص 195، صبح الأعشى 5/180 .
(3) انظر الدرر السنية ص80 .(1/13)
ثانيا : عصر الدولة الأغلبية في المغرب الأدنى (184هـ _296هـ)(1) ودولتي الخوارج (المدرارية، الرستمية ) في المغرب الأوسط ودولة الأدارسة في المغرب الأقصى :
نظرا لكثرة الفتن والانتفاضات في إفريقية كما تقدم ، لم تجد حكومة الخلافة بدا من أن تعهد بحكم البلاد لعائلة من عرب إفريقية تكفيهم مؤونة تلك الفتن التي طالما شغلتهم ، ويكون لها حرية التصرف داخل البلاد مع التبعية لدولة الخلافة فكان أن كلف الرشيد بهذه المهمة إبراهيم بن الأغلب بن سالم التميمي الذي كان يتمتع بشجاعة نادرة ، وثقافة عالية بالإضافة إلى معرفته بشؤون إفريقية فإن أباه الأغلب قد تولى حكم القيروان (148هـ _150هـ ) كما كان هو عاملا على الزاب .
لقد دامت الدولة الأغلبية(2) بإفريقية مايزيد عن قرن من الزمان ، يعتبر من أزهى عصور هذه البلاد في المجال العلمي ، وفي مجال الحضارة والعمران والأمن والاستقرار وازدهرت الحياة الاقتصادية ازدهارا كبيرا خلا ماكان في عهد إبراهيم ابن أحمد(3).
__________
(1) البيان المغرب 1/90-138 ، إتحاف أهل الزمان 1/120-119 ، خلاصة تاريخ تونس 78-91 ، العبر 4/196-206، نهاية الأرب 24/100-153 ، الشجرة 2/118-112 ، الكامل 5/204-105 ، 141، 184-186، 215 ،252 الخلاصة النقية 24-35 ، الحلة السيراء 1/613 ، 179 ، أعمال الأعلام 14-45 ، تاريخ المغرب العربي 2/27-183، تاريخ الرقيق 212-233 ، الدولة الأغلبية (كاملا) ، المجتمع التونسي على عهد الأغالبة 19-21 ، القيروان 65-80 ، مقدمة طبقات أبي العرب 7-12 ، معالم تاريخ المغرب 83 -100 ، الأغالبة وسياستهم الخارجية (كاملا) .
(2) انظر تراجم بعض رجالها في الأعلام 1/28،33،49
(3) انظر الرياض 1/411 ، البيان المغرب 1/119،120 .(1/14)
واستطاعت الدولة أن تتخلص من فتن الخوارج ، حيث أسس الصفرية دولتهم (المدرارية) بسلجماسة(1) (140هـ – 296هـ) وأسس الإباضية دولتهم (الرستمية) بتيهرت الجديدة (2) (161هـ - 297هـ) واهتمت كل من الدولتين بشؤونها الداخلية ومالتا إلى السلامة غالبا إذا استثنينا بعض المحاولات الفاشلة التي لم تشكل خطرا على الأغالبة(3).
وأما الوضع مع الأدارسة فكان أن وجه إبراهيم بن الأغلب إلى راشد من يقتله فلم يغن قتله شيئا وسرعان ماعين وصي آخر وهو أبو خالد يزيد ابن إلياس العبدي الذي أخذ بيعة جديدة للملك اليافع وانتشر صيته ، وقدمت عليه الوفود من إفريقية والأندلس فأجزل لهم العطاء واستوزر واستكتب منهم ثم عزم على بناء مدينة جديدة ، يقيم فيها هو وخاصته وجيشه فكان بناء مدينة فاس فبنى عدوة الأندلس سنة 192هـ وعدوة القرويين سنة 193هـ وبنى جامع الشرفاء بعدوة القرويين وجامع الأشياخ بعدوة الأندلس(4).
ثم تمكن إدريس من محو دعوة الخوارج وغزا بعض المناطق ، التي كانت تحت وطأة الكفار ثم توفي سنة 213هـ (5).
__________
(1) انظر البيان 1/317 ، الخوارج في بلاد المغرب 112.
(2) انظر البيان المغرب 1/317، الخوارج في بلاد المغرب 144 .
(3) الأغالبة ص99 ، 101 .
(4) الملوك الأدارسة لمؤلف مجهول ( مطبوع ضمن دولة الأدارسة ص 298) وقد حدث خلاف فيمن أسس مدينة فاس ينظر له بالتفصيل دولة الأدارسة ص 87 - 103 .
(5) انظر الحلة السيراء 531 ، العبر 4/14.(1/15)
ثم تولى محمد بن إدريس الأمر وقسم المملكة إلى ولايات وضع على رأس كل ولاية منها واحدا من إخوته واحتفظ لنفسه بفاس وحدث بينه وبين بعض إخوانه قتال انتهى بانتصاره ، وتوفي محمد بن إدريس سنة 221هـ ، وتولى بعده ولده علي بن محمد الذي توفي بدوره سنة 234هـ ، وعهد لأخيه يحيى بالأمر من بعده ، فعرف بحسن السيرة والتمسك بالدين ومقاومة البدع وازدهرت الثقافة في عصره ، وقصد الناس مدينة فاس من الأندلس وإفريقية وفي أيامه بني أهم آثار فاس والمغرب الأقصى كله جامع القرويين ومسجد الأندلس سنة 245هـ .
ولما هلك يحيى تولى الأمر من بعده ابنه يحيى بن يحيى وقد عرف بسوء السيرة والشراب والنساء وترك الحكم بفضيحة ، تولى بعدها الأمر والد زوجته علي بن عمر بن إدريس(1) وكان فقيها عارفا بالحديث وصارت بينه وبين الخوارج وقائع ، استولى بعدها عبد الرزاق الفهري على فاس حتى انتزعها منه يحيى بن القاسم ، ولم يزل ملكا على فاس وأعمالها حتى اغتاله الربيع بن سليمان سنة 292هـ ، وتولى الأمر يحيى بن إدريس بن عمر.
وكان يحيى بن إدريس رجلا صالحا حافظا للحديث وفي عهده اختط عبيد الله الباطني المهدية ، وهزم يحيى وفرض سلطانه على المغرب الأقصى _ كما سيأتي _ فكانت نهاية دولة الأدارسة الأولى(2).
__________
(1) انظر العبر 4/15 ، أعمال الأعلام 207 - 208 .
(2) انظر الاستقصاء 1/166، الدرر السنية ص56، أعمال الأعلام ص210 ، صبح الأعشى 5/182، العبر 6/134 .(1/16)
وهناك نوع آخر من الثورات عرفه العهد الأغلبي ، وقد تمثل في الثورات المتتالية التي قام بها قادة الجند الذين رأوا لأنفسهم حقا في مشاطرة الأغالبة الحكم ، وكان منبت هذه الثورات في تونس غالبا وأحيانا في طرابلس وأخطرها ثورة عمران بن مجالد الربعي سنة 194هـ وهو قائد إبراهيم بن الأغلب ووزيره ، وقد تمكن من الاستيلاء على القيروان لمدة سنة كاملة قبل أن ينجح إبراهيم في إخماد ثورته كما ثار على زيادة الله ابن إبراهيم (201هـ_223هـ) كبير قادته منصور بن نصر الطنبذي سنة 209هـ ، وتمكن من السيطرة على معظم إفريقية واستولى قادة الجيش على المدن ، ولم يتمكن زيادة الله من إعادة الأمور إلى نصابها إلا بعد أربعة أعوام (سنة 213هـ ) وأما الثورات الأخرى فلم تكن ذات بال وبذلك تمكن أمراء الأغالبة من تمهيد البلاد واهتموا بالغزو الخارجي ، ففتحوا صقلية (212هـ) ومالطة وسردانية وسرقوسة (264هـ) حتى وصلوا إلى روما(1).
كما اعتنى الأغالبة بالناحية العمرانية فأسسوا عدة مدن كالعباسية (185هـ) ورقادة (263هـ) ، وبنوا المحارس والحصون وقصور الرباط ومواجل المياه ، وعرفت في عهدهم المكتبات العامة ، وحبست فيها المصنفات على طلبة العلم(2).
__________
(1) ورقات 2/114 .
(2) المكتبة الأثرية ص8 ،14 سجل قديم 339 .(1/17)
وظهر مذهب الاعتزال بإفريقية بصورة واضحة في عهد الأغالبة والأدارسة والاعتزال تعود نشأته إلى الاختلاف الواقع بين واصل بن عطاء والحسن البصري حول مرتكب الكبيرة ، فاعتزل واصل مجلس الحسن وأظهر القول بأنه في منزلة بين منزلتي الكفر والإيمان ودعا إلى بدعته ، وكان مبعوثه إلى إفريقية عبد الله بن الحارث الذي دخلها في بداية القرن الثاني(1) ثم تبنى الفكر الاعتزالي بعض ولاة الأغالبة ، وتمكن المعتزلة من الوصول إلى القضاء مرتين بالقيروان وامتحنوا أهل السنة في مسألة القول بخلق القرآن وكانوا يدرسون نظرياتهم في جامع عقبة وسبق تبني بعض حكام الأدارسة للفكر الاعتزالي(2)، وقد قاوم الشعب الإفريقي الاعتزال أشد المقاومة ، وصدرت الفتاوى عنهم والمؤلفات في الرد عليهم ، ومازال أمرهم في تناقص حتى زال كلية من إفريقية ، بعد قيام دولة بني عبيد(3).
__________
(1) انظر المدارس الكلامية ص162 ، الصراع المذهبي ص92 .
(2) انظر المؤنس 50 .
(3) انظر طبقات الخشني 198-224، طبقات أبي العرب 91 ، حسن البيان 199، المدارك 1/11.(1/18)
وقد وصف عامة أمراء الأغالبة الأحد عشر ، بحسن السيرة ، والإحسان إلى الرعية(1)إلا ماكان من عبدالله بن إبراهيم (196هـ_201هـ) الذي فرض إخراج العشر من الحبوب مالاً ، فسخط عليه الناس ورفضه الفقهاء ، ودعوا عليه فمات بسبب دعوتهم(2)ويمثل عصر الاستبداد في العهد الأغلبي إبراهيم بن أحمد بن محمد بن الأغلب (261هـ_289هـ) ، فقد فسد فكره بعد مدة من حكمه ، وأتى بمنكرات لايفعلها عاقل منها أن قتل ابنه وبناته الست عشرة وثلاثمائة من خدمه ، كما قتل كتابه وحجابه وثمانية من إخوته وله طرق بشعة في القتل كالخنق والطرح في النار أو البناء على المعاقب حتى يهلك جوعا وعطشا ، وكان يمارس القتل شهوة وبطرا ، ويعتبر عهده بداية النهاية للدولة الأغلبية خاصة بعدما أوقع ظلما بسبعمائة من رجال قلعة بلزمة ، وكانوا أولي بأس شديد في الدفاع عن الدولة وبقتلهم انفتح الطريق أمام داعي الشيعة الإسماعيلية لدخول القيروان(3).
وثارت أطراف البلاد على ظلم إبراهيم(4)في الوقت الذي بدأت تظهر فيه دعوة الشيعة الإسماعيلية بين قبائل البربر ، فأعلن إبراهيم التوبة وتخلى عن الملك لابنه أبي العباس عبدالله (189هـ _290هـ) الذي لم يحكم إلا سنة واحدة إذ قتله بعض خدمه فتولى بعده ابنه زيادة الله الثالث (196هـ_290هـ) خاتمة أمراء الأغالبة ، وقد استهل عهده بقتل جميع أعمامه حتى عمه الزاهد الساكن بقصر سوسة ، كما استدعى أخاه أباعبد الله الأحول ، الذي كان يقاتل أبا عبد الله الشيعي الذي بدأ يتقدم نحو عاصمة الأغالبة .
__________
(1) انظر مثلا العبر 4/201، إتحاف أهل الزمان 1/104،107 ،الكامل 5/253 ، 263 .
(2) انظر العبر 4/197، البيان المغرب 1/96 .
(3) انظر أعمال الأعلام 27، العبر 4/204، تاريخ المغرب العربي 2/113.
(4) إتحاف أهل الزمان 1/115.(1/19)
ولما رأى زيادة الله الخطر محدقا به لم يجد بدا من التودد إلى العامة والاستنصار بالعلماء ، فعزل قاضيه المعتزلي الذي اضطهد أهل السنة وأبدله بحماس بن مروان الفقيه المالكي (291هـ_293هـ) ، وكتب إلى الناس إني عزلت عنكم الجافي الجلف المبتدع المتعسف ، ووليت القضاء حماس بن مروان لرأفته ورحمته وطهارته وعلمه بالكتاب والسنة ، كما أرسل إلى العلماء وقال لهم : إن هذا الصنعاني الخارج علينا مع كتامة يلعن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ويزعم أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ارتدوا بعده ، ويسمى أصحابه المؤمنين ومن يخالفه في مذهبه الكافرين ويبيح دم من خالف رأيه ، فأظهر الفقهاء لعنه والبراءة منه وحرضوا الناس على قتاله(1) لعلمهم بما ينطوي عليه مذهبه من التعطيل والإباحية والعداوة للإسلام .
وقد بذل زيادة الله أموالا طائلة لتجهيز الجيوش التي أرسلها لمحاربة أبي عبد الله ثم عكف على شهواته ، وفي حين كان الشيعي يحتل البلاد مدينة بعد مدينة كان زيادة الله قد أقبل على اللذات واللهو ومعاشرة المضحكين ، وأهمل أمور الملك(2) ولم ينتبه من غفلته إلا على نبأ سقوط مدينة الأربس وهي آخر معقل يحميه من الشيعة، فجمع ماخف من أمواله وهرب ليلا إلى مصر في خاصته ، وترك أهل إفريقية نهبا للطمع الباطني وذلك في جمادى الآخرة سنة 296هـ .
__________
(1) البيان المغرب 1/136، 137 .
(2) العبر 4/205، وانظر البيان المغرب 1/143، الكامل 6/123 .(1/20)
أما عن الحياة العلمية فإنها شهدت في عهد الأغالبة ازدهارا كبيرا لطول عمر هذه الدولة وماشهدته من الاستقرار بالإضافة إلى أن مؤسسها قد طلب العلم في أول حياته ، وسمع من الليث بن سعد وغيره(1)، وكان حافظا للقرآن يلي الصلاة في الجامع الأعظم بنفسه(2)، فكان يعرف حق العلم وأهله أما خلفه فلم يكن لهم مثل ثقافته واهتمامه إلا أنهم كانوا يفزعون إلى العلماء عند الحاجة ويعقدون في دواوينهم مجالس المناظرة والمذاكرة(3)، كما كانوا يقومون بزيارة دور العباد والعلماء والكتاتيب المناسبات المختلفة(4) ، وكان الأمراء الأغالبة يميلون إلى مذهب الحنفية لما فيه من الرخص والتسهيل لهم بالإضافة إلى أنه كان المذهب الرسمي للدولة العباسية ، وكان هذا مما أحدث نفرة شديدة بين علماء المالكية وبين الأمراء .
__________
(1) سير أعلام النبلاء 9/129، وانظر : شهيرات 38 ، ورقات 1/83 .
(2) إتحاف أهل الزمان 1/104 .
(3) انظر الرياض 1/276،287،288،489، طبقات أبي العرب 88 ، طبقات الخشني237.
(4) انظر الرياض 1/411 .(1/21)
ولما حدثت في بغداد محنة القول بخلق القرآن دعا إليها بعض أمراء القيروان وكتبوا السجلات بذلك وقرئت على المنابر(1)وامتحن بسببها كبار علماء القيروان مثل موسى بن معاوية الصمادحي ، وأحمد بن يزيد، وهما من جلة محدثي القيروان ، كما امتحن بسببها الإمام سحنون فاختفى ثم جيء به إلى ابن الأغلب فجمع له القواد والوزراء والقاضي ابن أبي الجواد (وهو حنفي أظهر الاعتزال ت234هـ) وقال له : ماتقول في القرآن ؟ فقال سحنون أصلح الله الأمير أما شيء أبدأ به من نفسي فلا ، ولكن الذي سمعت ممن تعلمت منه وأخذت ديني عنه فهم كانوا يقولون :إن القرآن كلام الله وليس بمخلوق فقال ابن أبي الجواد :إنه قد كفر فاقتله ودمه في عنقي وقال مثل ذلك نصر بن حمزة القائد وغيره ، فقال لداود بن حمزة : ماتقول ياداود ؟ فقال : أصلح الله الأمير قتله بالسيف راحة له ، ولكن اقتله قتل الحياة يؤخذ عليه الحملاء ( أي الكفلاء ) وينادى عليه بسماط القيروان أن لا يفتي ولايسمع أحداً ويلزم داره ففعل ذلك أبو جعفر وترك قول من أشار إليه بقتله وهكذا كانت محنة القول بخلق القرآن سببا في اختفاء كثير من علماء القيروان ، ومنعهم من التدريس والإفتاء(2).
وكان أكثر أمراء الأغالبة يميلون إلى تعيين القضاة الحنفية ، وهؤلاء غالبا ما ينكلون بالعلماء المدنيين مثل محمد بن عبدون الذي امتحن على يديه جماعة من الفقهاء المالكية وأهل السنة ، وضربهم ونكل ببعضهم وأطلقهم وأغرى الأمير ببعضهم فقتل منهم(3).
__________
(1) انظر المحن 454، الحلل 3/792 ، المدارك 3/222 .
(2) المحن 456 .
(3) المدارك 3/233 .(1/22)
وفي المقابل كان علماء المالكية يرفضون كل عرض وظيفي من الأمراء متأسين في ذلك بما فعله الإمام مالك من البعد عن السلطان توقيراً للعلم ورفعاً لشأنه ، ومن قبل منهم القضاء إنما قبله بعد أن أدير عليه مدة طويلة ، وبعد أن اشترط شروطا استوثق معها قيامه بالعدل ، كما فعل الإمام سحنون ، وعيسى بن مسكين وغيرهما(1).
وانتشرت المكتبات الخاصة ومنها مكتبة سحنون ، وكانت تحتوي على كتب عظيمة منها : جميع كتب عبد الله بن وهب وهو راوية للتفسير عن الإمام مالك وكان عنده سماعات عن سفيان بن عيينة ، وهو من أئمة التفسير(2)، ومكتبة محمد ابن سحنون الذي بلغت مصنفاته مائتي كتاب في جميع العلوم ومنها علوم القرآن(3).
كما أنه كان هناك بيت الحكمة القيرواني الذي كان يرأسه إبراهيم بن أحمد الشيباني ت 298هـ ، وهو صاحب مسند في الحديث وله كتاب سراج الهدى في القرآن ومشكله وإعرابه ومعانيه ، ومصنفات أخرى في الأدب(4)وتأتي ترجمته إن شاء الله تعالى ، وكثرت في ذلك الوقت قصور الرباط التي بدأ إنشاؤها بقصر المنستير على يد هرثمة بن أعين سنة 180 هـ ، وكانت مع مهمتها الجهادية مراكز تعليمية هامة(5).
كما تولى قضاء صقلية أحد تلامذة سحنون ، وهو سليمان بن سالم المحدث الفقيه المفسر وبث فيها علما كثيرا ، ونشر مذهب الإمام مالك فيها(6).
__________
(1) انظر مثلا : المعالم 2/84، المدارك 3/214 .
(2) انظر مناقب أبي إسحق الجبنياني 11.
(3) انظر الرياض 1/443 ، الديباج 234 .
(4) البيان المغرب 1/134 .
(5) انظر البيان المغرب 1/89 ، المعالم 2/196 ، ورقات 2/91 ، الفرق الإسلامية ص100.
(6) انظر طبقات الخشني 147 ، المعالم 2/206 ، الحلل السندسية 3/775 ، الشجرة 1/71.(1/23)
وتكثفت رحلة الأندلسيين إلى إفريقية ومنهم : بقي بن مخلد صاحب التفسير والمسند اللذين لانظير لهما ، وقد سمع من كبار محدثي المشرق ، كالإمام أحمد وابن معين ولا شك أنه قد استفاد من مرويات الإمام أحمد في تفسيره(1).
وكانت منازل العلماء من المراكز العلمية التي ساهمت في نشر العلم ، فكان للإمام سحنون حلقة عظيمة في داره ، وكان لمحمد بن يحيى بن سلام المفسر مثلها ، وكان عيسى بن مسكين يحدث بكتب ابن وهب في منزله(2).
ورحل يوسف بن يحيى المغامي القرطبي نزيل القيروان إلى اليمن وسمع بها من إسحق بن إبراهيم الدبري صاحب عبد الرزاق وراوي مصنفه ومعلوم أن عبد الرزاق له تفسير مسند ولا يستبعد أن يكون يوسف سمعه أيضا من إسحق(3).
وأيضا رحل محمد بن عبد الله الأنصاري ابن أبي منظور قاضي قيروان إلى صنعاء ، فسمع بها من الدبري مصنف عبد الرزاق(4).
وقد حدث سحنون بكتب ابن وهب كلها في قصر زياد ، عندما خرج إليه فرارا من محنة القول بخلق القرآن(5) .
__________
(1) انظر تاريخ ابن الفرضي 1/107 ، جذوة المقتبس 167 ، طبقات المفسرين للسيوطي 40، سير أعلام النبلاء 13/285 ، الصلة 1/116 .
(2) انظر الرياض 1/365 ، المدارك 3/335 ، المكتبة الأثرية 34 .
(3) انظر الديباج 356، الشجرة 1/76 ، الأنساب 11/418 ، تاريخ ابن الفرضي 2/201.
(4) انظر طبقات الخشني 173، الرياض 2/357 ، المدارك 3/339 ، تكملة الصلة 1/363.
(5) الرياض 1/426 .(1/24)
فلم يكن الازدهار العلمي في تلك الفترة إذن ناتجاً عن تشجيع من الأمراء الأغالبة إنما كان سببه حرص العلماء ومقدرتهم على الاستفادة من الظروف المتاحة لهم لنشر العلم ، ونحن إذا استثنينا مسألة القول بخلق القرآن نجد أن حكومة القيروان لم تكن تتدخل في الناحية العلمية بدليل أن حلقات الإباضية والصفرية والمعتزلة كانت تعقد في جامع عقبة لمدة نصف قرن في العهد الأغلبي حتى جاء الإمام سحنون فشردهم(1)، وفي عهد الأغالبة استقر المذهبان المالكي والحنفي ، ونشطت الحياة المسجدية وكثر العلماء وتكثفت الرحلة إلى المشرق ، وأقبل أهل إفريقية على التصنيف فصنف يحيى بن سلام (ت200هـ) تفسيره وجامعه في الحديث ، ورتب الإمام سحنون المدونة وذيل مسائلها بالأحاديث ، وصنف محمد بن سحنون شرحا على الموطأ ومسندا في الحديث وغير ذلك ، وصنف العلماء كثيرا من المصنفات في الرد على المعتزلة مثل كتاب الحجة على القدرية لمحمد بن سحنون وكتاب الاستواء لسعيد بن الحداد وغيرهما كما امتلأت الحصون والمحارس بالعلماء ، والعباد المرابطين ، فقد بنى الأغالبة أكثر من ثلاثين ألف معقل(2).
وقد كان موقع القيروان وبلاد المغرب في منطقة واصلة بين بلاد المشرق وبين بلاد الأندلس وهذا أدى إلى الاستفادة من العلماء الذين انطلقوا بين المنطقتين لنشر العلم والدعوة إلي الله ويتضح ذلك جليا في مجال التفسير فيما يأتي من موضوعات هذا البحث ، وبهذا تكاملت جوانب الحياة العلمية بإفريقية وأصبحت قادرة على مواجهة الخطر الباطني الذي حل بساحتها بعد ذلك كما سيأتي .
__________
(1) انظر : المؤنس 50 ، ورقات 1/73 .
(2) انظر : سير أعلام النبلاء 13/488 .(1/25)
ثالثا : عصر الشيعة الإسماعيلية (296_362هـ)(1)، وقيام دولة الأدارسة الثانية في المغرب الأقصى :
ينتمي العبيديون(2) إلى الطائفة الإسماعيلية من الرافضة ، وهم القائلون بإمامة
إسماعيل بعد أبيه جعفر الصادق رغم اتفاق أهل التاريخ على وفاة إسماعيل في حياة أبيه ، ويعتبرون أن عبيد الله صاحب إفريقية رابع أئمتهم المستورين(3).
__________
(1) انظر : البيان المغرب 1/124-215210-228 ، حسن البيان 229-233 ، المغرب الكبير 2/593-637 ، تاريخ عجائب الآثار 1/26 ، الكامل في التاريخ 6/127-135، 6/ 151 ، 160 ، 190 ، 238 ، 305 ، 311 ، المؤنس 54-65، الشجرة 2/122-123 ، معالم تاريخ المغرب 119-136 ، القيروان 83-97 ، تاريخ المغرب العربي 2/535 ، 577 ، أعلام ابن عاشور 39-44 ، الاستقصا 1/60 ، الرياض 2/41-45 ، 2/59-87 ، 292، 297-299 ، 338-339 ، الفرق الإسلامية 200-201 ، الصراع المذهبي 167-193 ، 203-211 ، أعمال الأعلام 46-65 ، الحلة السيراء 1/190-196 ، 2/387-393 ، الخلاصة النقية 35-42 ، النجوم الزاهرة 3/168-177، الإباضية بالجريد 120 ، 123-125، المدارك 1/318-321، طبقات الخشني 215 ، 225-226 ، رسالة افتتاح الدعوة 62-274 ، الفكر السامي 2/148، رحلة التجاني 266، العبر 4/28-49 ، البداية والنهاية 11/179 . 345 ، مقدمة ابن خلدون 21-23 ، اتعاظ الحنفاء 55-101 ، المغرب العربي 166-174 ، مرحلة التشيع في المغرب العربي 17-58 .
(2) نسبة إلى عبيد الله الذي لقب نفسه بالمهدي ، أول ملوك الرافضة بإفريقية .
(3) انظر العبر 4/30 .(1/26)
ويلقبون بالباطنية(1)والرافضة ويسمون الملاحدة ، لما في مقالاتهم من الإلحاد ، كما سموا بالمشارقة لقدومهم من المشرق(2) وينتسب عبيد الله أول ملوك هذه الطائفة إلى آل البيت زورا وبهتانا ، فالصحيح أنه دعي في نسبه ، وأنه من ولد عبد الله بن ميمون القداح(3) ، وقد كانت هذه الحقيقة شائعة في أول أمرهم بإفريقية ومصر والحرمين(4) بما لايدع مجالا للشك واللبس .
__________
(1) الفرق بين الفرق 63 .
(2) رسالة افتتاح الدعوة 93 .
(3) أحد كبار مؤسسي الفكر الباطني ، انظر: الفرق بين الفرق 22 .
(4) انظر : الكامل في التاريخ 7/263 ، البيان المغرب 1/282، وراجع عن بيان كذبهم في الانتساب إلى آل البيت : المنار المنيف 153، سير أعلام النبلاء 5/184، الإعلان بالتوبيخ 8، البداية والنهاية 11/179، النجوم الزاهرة 4/75، وصنف أبو بكر الباقلاني كتابا سماه ل كشف الأسرار وهتك الأستار ? فضح فيه ادعاءهم ، كما ألف في ذلك بعض الشيعة المعاصرين لهم ، انظر اتعاظ الحنفاء 22.(1/27)
أما عن دعوتهم في المغرب فإنه لما وقعت مطاردة الروافض في المشرق أخذوا يبثون دعاتهم في الأمصار البعيدة عن يد الخلافة ، فكلفوا بأمر المغرب أحد دهاتهم المسمى أبو عبدالله الحسين بن أحمد بن محمد بن زكرياء الصنعاني ، وقد تعلم طرق الدعوة في اليمن ثم اتصل بحجيج كتامة(1)، فخدعهم بالحديث عن حب آل البيت حتى ألحوا عليه في مصاحبتهم إلى بلادهم ، فأظهر التمنع أولا ثم وافقهم بعد أن علم من أوضاع بلادهم ما شجعه وفي كتامة(2)أظهر دعوته والتف الناس حوله ، ووقعت بسببه فتن كاد يهلك فيها ، ثم قوي أمره وقصدته قبائل البربر من كل فج ، فبدأ يحتل بلاد المغرب بلدا بلدا ، وفي أثناء ذلك دخل عبيدالله المغرب متخفيا وعيون الخلافة تلاحقه حتى سجن في سجلماسة ، وبعد حروب دامت أكثر من خمس سنوات تمكن أبو عبد الله من طرد الأغالبة ، ودخل القيروان سنة 296هـ ثم أخرج عبيد الله من سجنه بسجلماسة ، ودخلا معا عاصمة إفريقية سنة 297هـ ، بعد أن استطاعا القضاء على الدولة الرستمية الإباضية في المغرب الأوسط سنة 296هـ(3)، واستطاع الباطنيون القضاء على دولة الأدارسة الأولى تماما في حدود سنة 319هـ(4)، والقضاء على الدولة المدرارية الصفرية سنة 349هـ(5) .
__________
(1) كتامة : من أكبر قبائل البربر في المغرب ، وعليهم قامت دعوة الرافضة فيه ، انظر: الشجرة 2/105، البيان المغرب 1/124 .
(2) انظر : دور كتامة في تاريخ الخلافة الفاطمية .
(3) في تاريخ المغرب والأندلس ص 176 .
(4) انظر دولة الأدارسة ص 153 - 154.
(5) في تاريخ المغرب والأندلس ص177 .(1/28)
وبدأ عهد الاضطهاد الذي عاشه أهل السنة تحت الاحتلال العبيدي ، وقد استمر حكم الإسماعيلية بإفريقية والمغرب ستا وثمانين سنة كرسوا فيها كل جهودهم لإماتة السنة ونشر البدع ، ومنع العلم ، مستعملين في سبيل ذلك أخس الوسائل فتعرض الناس في عهدهم لظلم عظيم وضيق شديد ، وكان علماء السنة من قراء ومحدثين وفقهاء لهم بالمرصاد ، جاء في المعالم : جزى الله مشيخة القيروان خيرا ، هذا يموت ، وهذا يضرب ، وهذا يسجن ، وهم صابرون لايفرون ولو فروا لكفرت العامة دفعة واحدة (1).
ورغم سيطرة العبيديين العسكرية على جميع أنحاء المغرب وصقلية وحوض البحر الأبيض المتوسط فإنهم لم يحسوا بالأمن والاستقرار ، ولم تكن الثورات الكثيرة التي شهدها عهدهم(2) هي السبب الأكبر في قلقهم، وإنما مثار قلقهم هم هؤلاء العلماء المؤمنون ، ومن هنا راح الروافض يقومون بأعمال منكرة لنشر أباطيلهم وحمل الناس على اعتناق مذهبهم، إلا أنها لم تزد أهل السنة منهم إلا نفورا ، وكان عهدهم من أضيق العهود وأشدها على الناس لتبديدهم الأموال بإعطائها اليهود والنصارى وانفاقها في الخمور والملذات(3).
ويمكن أن نلخص في النقاط التالية جرائمهم في حق الإسلام عامة ، وفي حق العلم وأهله بصفة خاصة :
__________
(1) المعالم 2/292 .
(2) من أخطر هذه الثورات ثورة داعية أبي عبد الله الذي شكك في إمامة عبيد الله ، فقتله سنة 298هـ انظر النجوم الزاهرة 1/154 ، وثورة أبي يزيد الخارجي الذي استولى على كامل بلاد إفريقية حتى لم يبق للعبيديين إلا المهدية انظر العبر 4/40-44 .
(3) انظر المدارك 3/714 ، طبقات الخشني 168 .(1/29)
1- لقد ادعى عبيد الله الرسالة ، فإنه لما وصل إلى رقادة ، طلب فقيهين من فقهاء القيروان ، فدخلا عليه وهو جالس على كرسي ملكه فقال لهما بعض دعاته : اشهدا أن هذا رسول الله فقالا بلفظ واحد : لو جاء هذا والشمس عن يمينه والقمر عن يساره يقولان : إنه رسول الله ماقلنا ذلك ! فأمر بذبحهما(1)بل لقد غلا فيه أصحابه حتى ألهَّوه فقد كانت أيمانهم : وحق عالم الغيب والشهادة مولانا الذي برقادة ، وكان بعضهم يتصدى لعبيد الله ويقول له : ارق إلى السماء لم تقيم في الأرض وتمشي في الأسواق ، كما أن أميرهم الرابع معد بن إسماعيل ادعى النبوة وجعل من نادى فوق صومعة القيروان : أشهد أن معد بن إسماعيل رسول الله فارتج البلد لذلك(2).
2_ لقد مدح حكامهم بأنواع من الكفر وأقروها ، منها قول أحد شعرائهم في عبيد الله :
حل برقادة المسيح حل بها آدم ونوح
حل بها الله ذو المعالي فكل شيء سواه ريح
وقول الآخر في المعز :
ماشئت لاماشاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار(3)
3_ أظهروا سب الصحابة ، رضوان الله عليهم ، وطعنوا فيهم ، وزعموا أنهم ارتدوا بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخصصوا دعاة للنداء بذلك في الأسواق ، وعلقوا رؤوس الأكباش ، والحمير على أبواب الحوانيت ، وكتبوا عليها أسماء الصحابة(4)، وكان من ذكر الصحابة بخير أو فضل بعضهم على علي قتل أو سجن(5)فلم يكن أحد يذكرهم بالثناء إلا في دور العلماء(6).
__________
(1) سير أعلام النبلاء 14/216، الرياض 2/49 .
(2) البيان المغرب 1/160،186،282،285 .
(3) انظر : الكامل 7/46، في تاريخ المغرب والأندلس ص184.
(4) المدارك 3/318 ، الرياض 2/338،424 .
(5) المعالم 3/35، المحن 279 .
(6) المدارك 3/378 .(1/30)
4_ زادوا في الأذان حي على خير العمل ، وأسقطوا في أذان الفجر : الصلاة خير من النوم ، ومنعوا الناس من قيام رمضان ، وليس شيء أشد على بني عبيد من هذه الصلاة ، وقدموا صلاة الظهر قبل الزوال وأمروا بصلاة العصر في وقت الظهر لفتنة الناس(1)، أما خطبة الجمعة فقد أظهروا فيها سب الصحابة وضروبا من الكفر ، فتركها الناس وأقفرت المساجد في زمانهم ، وكان بعض أئمتهم يصلون إلى رقادة فلما انتقل
عبيد الله إلى المهدية صلوا إليها(2) وكثيرا مايجبرون الناس على الفطر قبل رؤية هلال شوال(3).
5_ دعوا إلى الإباحية ، وتعطيل الشرائع ، وإسقاط الفرائض عمن تبع دعوتهم(4)، وكانوا يرسلون دعاتهم إلى الأطراف لإظهار ذلك ، فإن وجدوا الناس مغضين عنه أشاعوه حتى كان الرجل يأتي حليلة جاره وهو ينظر ، فإن قبل ذلك عد عندهم من الصابرين(5).
__________
(1) مناقب أبي إسحاق 65 .
(2) انظر رحلة التجاني 266 ، المدارك 3/338، المعالم 3/5،البيان المغرب 1/186، المحن 287، الرياض 2/42 .
(3) انظر المعالم 3/49 .
(4) الرياض 2/504 .
(5) انظر البيان المغرب 1/185 .(1/31)
6_ أجبروا الناس على الدخول في دعوتهم فمن أجاب تركوه وربما ولوه بعض المناصب ، ومن رفض قتل ، كما فعلوا عقب أول جمعة خطبها عبيد الله بالقيروان ثم لما أكثر دعاتهم على أهل القيروان وقعت بين الفريقين مقتلة عظيمة فأمر الشيعي بالكف عن العوام(1) وطلب العلماء لتشريقهم أي إدخالهم في دعوتهم(2) وافتعل مناظرات صورية ، فدارت على علماء السنة مقتلة عظيمة ، وقتل منهم عدة آلاف بسبب تمسكهم بإسلامهم ومنافحتهم عن السنة قال القابسي : إن الذين ماتوا في دار البحر (سجن العبيديين ) بالمهدية من حين دخل عبيد الله إلى الآن أربعة آلاف رجل في العذاب ، مابين عالم وعابد ورجل صالح(3) هذا عدا ماكانوا يقتلون دون سجن ويمثل بهم في شوارع القيروان ، فأثر ذلك على سير الحياة العلمية ، وقد خمل ذكر كثير من العلماء الذين آثروا اعتزال الفتنة ، مثل أبي محمد الورداني(4)، ومع ذلك فإن هذه الشدة لم تزد أهل إفريقية إلا تمسكا بسنيتهم .
__________
(1) انظر الكامل 6/133،135 .
(2) انظر المعالم 3/91،المدارك 3/521، طبقات الخشني 225 .
(3) المعالم 3/34، وانظر الرياض 2/326 .
(4) انظر المدارك 4/416 .(1/32)
7_ منعوا العلماء من التدريس في المساجد ، ونشر العلم ، والاجتماع بالطلبة ، وحبسوهم في بيوتهم فكان من يأخذ عنهم ويتذاكر معهم إنما يكون سرا ، وعلى حال خوف وريبة(1) ، فكان الموطأ وغيره من كتب السنة لاتقرأ إلا في البيوت(2) وكانت السنة تعرض بالقيروان سرا(3)، وكان أبو محمد بن أبي زيد ، وأبو محمد بن التبان ، وغيرهما يأتيان إلى أبي بكر بن اللباد ، شيخ السنة بالقيروان ، في خفية ويجعلان الكتب في أوساطهما حتى تبتل بالعرق خوفا من بني عبيد(4)، وكان بعض العلماء يخرج إلى المقبرة فيستتر فيها ويقرأ على الطلبة للخوف من بني عبيد ، لأنهم منعوا من بث العلم ، وسجنوا العلماء في دورهم(5).
وبذلك خلت المساجد من حلق الذكر ومجالس العلم ، وأصبحت هذه المهمة تقع في دور العلماء ، وبعض قصور الرباط خفية وفي مقابل ذلك فسح العبيديون لدعاتهم المجال لنشر ضلالاتهم ومكنوهم من كل الوسائل في سبيل القضاء على الإسلام والسنة .
8_ حرموا على الفقهاء الفتوى بمذهب الإمام مالك ، واعتبروا ذلك جريمة يعاقب عليها بالضرب والسجن أو القتل أحيانا ، ويدار بالمقتول في الأسواق وينادى عليه هذا جزاء من يذهب مذهب مالك(6) ، ولم يبيحوا الفتوى إلا لمن تشرق وكفر(7).
__________
(1) المدارك 5/121، الفكر السامي 2/148 .
(2) انظر طبقات الخشني 195 .
(3) انظر : تاريخ ابن الفرضي 153،201 .
(4) انظر المعالم 3/25 .
(5) المعالم 3/39 .
(6) إنباه الرواة 2/54 ، وانظر الرياض 2/41،265، البيان المغرب 1/159 .
(7) الرياض 2/56 .(1/33)
9_ قاموا بمصادرة مصنفات أهل السنة وإتلافها ، ومنع الناس من تداولها ، من ذلك أن أبا محمد عبد الله بن أبي هاشم التجيبي (ت346) توفي وترك سبعة قناطير كتب كلها بخط يده ، فرفعت إلى سلطان بني عبيد فأخذها ، ومنع الناس منها كيدا للإسلام وبغضا فيه(1) وقد وجد موطأ الإمام مالك عند رجل فضربوه وطافوا به(2)، ورفعت إلى السلطان أشياء على سعدون الخولاني (ت324هـ) المتعبد بقصر الطوب فأرسل إليه بعض حرسه فقيدوه وجمعوا مافي بيته من الكتب وأخذوه إلى عبيد الله(3).
10_ منعوا التجمعات ، فقد رفع على بعض العلماء العباد أنه يجتمع إليه العامة، ويدور بهم على قصور الرباط فمنعوهم خشية الخروج عليهم ، وكانوا يفرقون الناس الذين يجتمعون على جنازة من يموت من العلماء(4) كما أنهم منعوا الجولان بالليل ، ولهم بوق يضربونه أول الليل فمن وجد بعده ضرب عنقه(5).
11- حرص العبيديون على محو آثار من سبقهم ولذلك أمر عبيد الله بإزالة أسماء الحكام الذين بنوا الحصون والمساجد وأن يكتب إسمه بدلها كما استولى على أموال الأحباس وسلاح الحصون ، وطرد العباد والمرابطين بقصر زياد وجعله مخزنا للسلاح(6).
__________
(1) الرياض 2/423، وانظر المدارك 3/341 .
(2) انظر الفكر السامي 2/71 .
(3) انظر الرياض 2/259 .
(4) انظر المدارك 3/389، الرياض 2/258 .
(5) انظر المدارك 3/384 .
(6) انظر الرياض 2/56،222 ، موقف متصوفة إفريقية 19 .(1/34)
وهكذا يتبين بكل وضوح حرص العبيديين على مصادرة الفكر السني ، وتعطيل شرائع الإسلام ، وإماتة العلم الصحيح واضطهاد أهله ، ولكن أمام ذلك كله تضامن علماء أهل السنة وعبادهم ومتصوفوهم(1)، وتضافرت جهودهم لرد كيد العبيديين ، وإخراجهم من أرض إفريقية ، ومنعهم من أن ينالوا حصن السنة بالمغرب ، والتف الشعب حول هؤلاء العلماء العاملين ، الذين عرفوا بتضحياتهم المثالية في سبيل الحق ، وتمسكهم بالسنة ، وأصبحوا هم القادة الحقيقيين لشعوبهم فأمروا بمقاطعة جميع المؤسسات الحكومية فلا يختصمون إلى قضاتهم ، ولا يصلون وراء أئمتهم ، ولا يأتون معزين ولامهنئين ، ولايناكحونهم ، ولايتوارثون معهم ، ولا يصلون على موتاهم .
وقد كان بعض العلماء يغتسل يوم الجمعة ، ويلبس ثيابه ويتطيب ، ويخرج إلى الجامع حتى إذا وصله يرفع عينيه إلى السماء ويقول : اللهم اشهد ، ويرجع إلى داره(2).
كما أفتى العلماء بكفر بني عبيد ، وأنهم ليسوا من أهل القبلة ، كما كفروا من دخل دعوتهم راضيا ، ومن خطب لهم ولم يعذروا المكره وقالوا: يختار القتل ولا يدخل دعوتهم(3) وقد شاعت هذه الفتاوى وعرفها الخاص والعام ، فكانت حاجزا منيعا بين العوام وبين التردي في دعوة الرافضة .
ودأب علماء السنة على تعرية العبيديين وفضح معتقداتهم الباطلة حتى يحذرها العامة قال أبو إسحاق السبائي(ت356هـ) لأصحابه : افتحوا باب داري نأخذ في ذمهم والتحذير منهم وكان مما ملأ به مجالسه : الإكثار من ذكر فضائل الصحابة والثناء عليهم(4) .
__________
(1) لقد امتاز متصوفة ذلك الوقت - بخلاف الفترات الزمانية التالية - بالمغرب عن غيرهم بالتزامهم بالسنة وبعدهم عن الغلو والتطرف والزيغ انظر: متصوفة إفريقية 7 .
(2) المدارك 3/526،3/719، الرياض 2/43 .
(3) انظر في هذه الفتاوى : المدارك 3/719،720،767، المعالم 3/177،الرياض 2/339 .
(4) انظر : المدارك 3/378 .(1/35)
ولم يتخل العلماء عن التدريس في هذه الفترة الحرجة ، فلما منعوا من التحديث والإقراء في المساجد فتحوا بيوتهم للطلبة فقصدوهم للتلقي ، حتى إن دار إسحاق السبائي كانت كالمسجد(1) لكثرة من يؤمه من الطلبة، وكان أحمد بن يزيد الدباغ يسمع في داره(2) ، كما كان تلاميذ أحمد بن نصر الهواري يقصدونه في بيته بعد أن منع من التدريس في مسجد رحبة القرشيين(3).
ووصل الأمر إلى التحيل في تعليم أطفالهم حتى يتربوا على السنة ، وذلك ماقام به أبو إسحاق الجبنياني وغيره ، فإنه كان يعلم أولاد الكتاميين (حملة الدعوة العبيدية ) ولايأخذ منهم أجرا فيعلمهم القرآن والسنة ولايعلمهم يكتبون ، ويقول : ليس يضرون الناس بالقرآن وإنما يضرونهم بالأقلام(4).
كما قاوم علماء السنة الرافضة بطريقة الجدل والمناظرة ، وقد أفحموا فيها دعاة بني عبيد ، وأقاموا عليهم الحجة ، ودحضوا مزاعمهم بالبراهين القاطعة ، فحفظوا للسنة مكانها وللإسلام عزه ، ومن هؤلاء : أبو بكر القمودي الذي ناظر أبا العباس الشيعي مناظرة أفحمه فيها (5)وإبراهيم ابن محمد الضبي(6)، وأبو محمد عبدالله بن التبان(7) إلا أن أقدرهم على ذلك وأشهرهم به : أبوعثمان سعيد بن محمد بن الحداد المفسر فقد كانت له مع بني عبيد مقامات كريمة ومواقف محمودة في الدفاع عن الإسلام والذب عن السنة(8).
__________
(1) المعالم 3/66 .
(2) الرياض 2/272 .
(3) المعالم 3/6 .
(4) مناقب أبي إسحاق 26 ، المدارك 3/516 .
(5) انظر طبقات الخشني 214 .
(6) انظر الرياض 2/46 .
(7) انظر المدارك 3/521 .
(8) انظر الرياض 2/58،59 ، طبقات الخشني 199 ، المعالم 2/298 ، ورقات 1/259، وقد بلغت مجالسه مع الرافضة أربعين مجلسا لم يصلنا منها إلا أربعة.وسوف تأتي ترجمته إن شاء الله تعالى .(1/36)
ووصل الأمر إلى المواجهة المسلحة فإنه لما نزل عبيد الله برقادة ترك جبلة بن حمود الصدفي (ت 297) الرباط في قصر الطوب ونزل لرقادة وقال : كنا نحرس عدواً بيننا وبين البحر ، فتركناه وأقبلنا على حراسة هذا الذي حل بساحتنا لأنه أشد علينا من الروم ، فكان يجلس طول اليوم محاذياً لرقادة ومعه سلاحه وكان يقول : أحرس عورات المسلمين من هؤلاء القوم فإن رأيت منهم شيئاً حركت المسلمين عليهم(1) ولكن جبلة لم يعش في حكم العبيديين إلا سنة واحدة .
وفي بداية الحكم العبيدي بايع أهل القيروان وكثير من قبائل أفريقية أبا عبد الله السدري على جهاد بني عبيد إلا أن خبره بلغ عبيد الله ، فخرج إلى مكة فلما عاد قبضوا عليه وقربوه للقتل ، وكان على درجة عظيمة من العبادة والتقوى فهرب العسكر كله فلم يجدوا أحداً يقتله ، فأخذوا رومياً سقوه خمراً حتى سكر فقتله ثم
صلبوه(2)، لعنهم الله تعالى وكان قتله سنة 309هـ .
__________
(1) الرياض 2/37 ، 38 .
(2) الرياض 2/169 .(1/37)
فلما ثار أبو يزيد مخلد بن كيداد الخارجي النكاري(1) واشتد أمره سنة 332هـ ، واستولى على القيروان رأى العلماء أن الخروج معه واجب لأنه من أهل القبلة أما الرافضة فهم مجوس زال عنهم اسم الإسلام وقالوا : إن ظفرنا بهم لم ندخل تحت طاعة أبي يزيد والله يسلط عليه إماماً عادلاً يخرجه عنا(2)، وخرجوا إلى المهدية سنة 333هـ بقيادة العلماء ، ولكن أبا يزيد غدر بهم فاستشهد منهم خمسة وثمانون عالماً(3)، فتنكر الناس لأبي يزيد ، ومنعوه من دخول القيروان .
وقد شهد عهد أبي يزيد نشاطاً علمياً ملحوظاً حيث عادت الحياة إلى المساجد ، وحلق العلماء للتدريس(4)، ولما استرد العبيديون نفوذهم على القيروان رجع الوضع كهيئته أولاً .
ولما لم يجد بنو عبيد استجابة من أهل إفريقية لأفكارهم ، وقابلوا تلك المقاومة انتقلوا إلى مصر سنة 362هـ تاركين لأنصارهم من بني زيري حكم إفريقية نيابة عنهم .
__________
(1) انظر عنه وعن ثورته : الكامل 6/ 302 ، اتعاظ الحنفاء 75 ، إتحاف أهل الزمان 1/124 ، العبر 4/40 ، 7/13 ، الإباضية بالجريد 120 ، البيان المغرب 1/216 ، والنكارية فرقة منشقة من الإباضية بعد وفاة عبد الرحمن بن رستم مؤسس دولتهم الرستمية خالفت في بيعة ابنه عبد الوهاب وأنكرت ذلك (انظر: في تاريخ المغرب والأندلس ص176) .
(2) انظر في مناقشتهم لمسألة الخروج مع أبي يزيد : الرياض 2/292-299 ،338 -345، المعالم 3/29 - 34 ، المدارك 3/ 318 -321 .
(3) انظر الشجرة 83 .
(4) انظر: المدارك 3/388 .(1/38)
وفي النصف الثاني من عهد العبيديين دخلت القيروان بعض المصنفات الحديثية الهامة مثل مصنف عبدالرزاق(1)، والجامع الصحيح للإمام البخاري(2)، وكان أول من أدخل الصحيح هو علي بن محمد بن خلف الفاسي ، وكان مما حدث به أيضا السنن ومسند حديث مالك وتفسير القرآن للنسائي(3).
وقام بالتصنيف في تلك الحقبة للباطنيين أبرز مفكريهم أبو حنيفة النعمان بن محمد القاضي القيرواني كتبا عدة في فقههم وكتابا في التفسير هو أساس التأويل وسيأتي الكلام عليه وعلى تفسيره في موضعه إن شاء الله تعالى .
وفي غضون تلك الحقبة قامت دولة الأدارسة الثانية تحت ظل العبيديين بعدما طورد مايسمى بابن أبي العافية بالمحالفة بينهما ، فرجع الملك إلى بني إدريس تحت قيادة إبراهيم بن محمد بن القاسم ، ولما مات آلت الرئاسة لأخيه القاسم الملقب بكنون الذي أقام دعوة العبيديين حتى توفي سنة 337هـ، فتولى مكانه ابنه أبو العيسى أحمد بن القاسم وكان فقيها ورعا حافظا للسير والأنساب ، وتحته استعاد المغرب وحدته وقدم الطاعة لعبد الرحمن الناصر الوالي الأموي وفي عهده سلمت القيادة للأمويين وخرج هو للجهاد والاستشهاد في جهاد الأفرنج سنة 348هـ ، وترك بدلا منه أخاه حسن بن كنون(4).
__________
(1) انظر : الخشني 173 ، المعالم 3/44 .
(2) انظر : المدارك 3/617، الشجرة 1/ 97 .
(3) انظر : فهرست ابن خير 59،112،145، الشجرة 1/97 .
(4) انظر : العبر 4/17، الاستقصا 1/178-182، أعمال الأعلام ص 218-219 .(1/39)
ولما بلغ المعز لدين الله بن إسماعيل العبيدي أن أهل المغرب الأقصى نقضوا إطاعة الشيعة وجه قائده جوهر الصقلي سنة 348هـ إلى المغرب ومعه زيري بن مناد الصنهاجي وغيره فاستطاع القضاء على نفوذ بني أمية خلال سنتين وتظاهر حسن بن كنون بمبايعة العبيديين ثم نكث بيعته بقفولهم ، وعاد لبني أمية ثم لما تولى بلكين بن زيري أعاد الكرة فبايع حسن بن كنون للعبيديين وساعدهم فأحفظ ذلك الخليفة الأموي ، فأرسل جيشا دارت بينه وبين حسن بن كنون معارك وجولات ومفاوضات انتهت بتخلي عائلة الأدارسة عنه بما فيها عائلته ومبايعتهم لبني أمية فاستسلم أخيرا سنة 363هـ ، وبقيت فاس بيد بني أمية حتى استولى عليها زيري ابن عطية المغراوي ، وأكرم الخليفة الأموي الأدارسة المستسلمين إكراما بالغا حتى حدث اختلاف بينه وبين الحسن بن كنون فأجلاهم جميعا إلى تونس ، فرحلوا منها إلى مصر حيث مركز سلطان العبيديين(1).
رابعا : دولة بني زيري أو الدولة الصنهاجية (362هـ_449هـ ) ودولة بني حماد بالمغرب الأوسط ودولة الأدارسة الثالثة بالمغرب الأقصى(2):
__________
(1) انظر: المقتبس 5/89-146 ، البيان 21/248 ، أعمال الأعلام ص 221-222 ، الاستقصا 1/184، بغية الرواد ص83 .
(2) انظر نهاية الأرب 24/156-217، إتحاف أهل الزمان 1/128-139 ، البيان المغرب 1/228،294 ، الكامل 7/45،46،86،87،121،331 ، 8/12،39،55، المؤنس 73-85 ، الخلاصة النقية 42-48 ، أعلام ابن عاشور 44،45، أعمال الأعلام 66-76 ، بنو هلال 93-98 ، العبر 6/155-163، المغرب العربي 188-158 ، المغرب الكبير 2/241-673 ، القيروان 98-107 ، شهيرات 8990، الصراع المذهبي 221-224 ، الفرق الإسلامية 208-216.(1/40)
لقد كان لعائلة بني زيري الصنهاجية(1)دور هام في القضاء على ثورة أبي يزيد النكاري فكافأهم العبيديون بتسليم حكم إفريقية والمغرب ، عندما انتقلوا إلى مصر، ومؤسس هذه الدولة هو أبو الفتوح بلكين بن زيري بن مناد الصنهاجي (هـ362_373هـ) الذي استهلك سنوات حكمه في تمهيد البلاد وقمع الثائرين، وخلفه ابنه المنصور (374_386هـ) وقد شهد عهده عدة ثورات رغم أنه حاول أن يأخذ الناس بالإحسان.(2)
وفي خلالها حاول الحسن بن كنون بعد أن لجأ إلى نزار بن معد العبيدي بمصر استعادة المغرب من بني أمية بجيش العبيديين ومعاونة بلكين بن زيري وفعلا تم ذلك، فأرسل الخليفة الأموي جيشا هزم الأدارسة ثم قتل الحسن بن كنون وقضى على الدولة الإدريسية الثالثة سنة 375هـ(3).
فصار ملك المغرب لأهل الأندلس (يعني بني أمية ) فولوه مغراوة وأول من ولوه منهم حرز بن حفص وبقي الملك في أيديهم يتوارثونه إلى أن قام المرابطون فغلبوهم عليه(4).
وازدادت الحياة السياسية اضطرابا في عهد باديس بن المنصور (386هـ _406هـ) الذي قضى أيامه في حروب متصلة ، حتى إن أعمامه كانوا من بين الثائرين عليه وأعلنوا فيما بعد استقلالهم بقلعة بني حماد في المغرب الأوسط . وبدأت فيه دولتهم بتولي حماد بن بلكين بن زيري سنة 398هـ الذي تبعه ولده القائد بن حماد ثم ولده محسن بن القائد إلى أن تولى آخر ملوك بني حماد وهو يحيى بن العزيز بالله سنة 515هـ(5).
__________
(1) نسبة إلى صنهاجة وهي قبيلة بربرية كبيرة كان لها دور في مناصرة دعوة الرافضة بالمغرب، وخاصة إبان ثورة أبي يزيد الخارجي انظر : الشجرة 1/105 ، المؤنس 74 .
(2) انظر إتحاف أهل الزمان 1/133، الكامل 7/121.
(3) انظر : الاستقصاء 1/185، البيان 2/181 ، بغية الرواد ص84 ، أعمال الأعلام ص221 .
(4) نظم الدرر والعقيان في بيان شرف بني زيان ص289 .
(5) انظر تاريخ المغرب وحضارته 615-617 ، المغرب العربي الكبير 455 .(1/41)
لقد كان هؤلاء الأمراء الثلاثة بلكين والمنصور وباديس محافظين على تبعيتهم للعبيديين وولائهم للمذهب الإسماعيلي ، إلا أنهم لم يتشددوا في مطالبة الناس بالتشيع ، فانفسح المجال تدريجيا أمام العلماء لنشر السنة، وبذلك بدأت الحياة العلمية تعود إلى المساجد والكتاتيب شيئا فشيئا ، غير أن تلك المظاهر الرسمية من التبعية لحكام مصر والدعوة لهم على المنابر كانت تقلق العلماء ، وأسهمت في إيجاد هوة عميقة بينهم وبين حكام بني زيري ، فاستمروا في مقاومة هؤلاء الحكام الذين لم يكونوا متحمسين للدعوة الإسماعيلية ، وخاصة مع صمود الشعب ومواصلتهم مقاطعة الدولة ، غير أنهم لايستطيعون الإعلان بذلك خوفا على سلطانهم ، وأحس أهل القيروان بذلك فراح علماؤهم يعملون جاهدين على نشر السنة وآراء السلف فعجت القيروان بالعلماء من جديد ، وكثرت المصنفات في مختلف فروع الشريعة ، فقد ألف ابن أبي زيد (ت386هـ) مصنفات عديدة في الفقه والحديث والرد على أهل البدع(1) وألف القابسي (ت 403هـ) في الحديث وأصول الدين(2) ، وغيرهما كثير وانتعشت الحياة الاقتصادية في عهد بني زيري خاصة بعد مجاعة سنة 395هـ التي خلت بسببها المساجد، ومات فيها كثير من العلماء والصلحاء(3).
__________
(1) الشجرة 1/96 .
(2) المدارك 3/618 .
(3) انظر المعالم 3/127، البيان 1/256 .(1/42)
أما التخلص النهائي من أتباع العبيديين ، وانتصار الدين على الرفض وحصول البذخ والأبهة فقد كان على عهد آخر أمراء صنهاجة بالقيروان: المعز بن باديس (407_449هـ ) فقد دام حكمه قريبا من نصف قرن ، شهدت فيها الحياة العلمية بالقيروان عصرها الذهبي ، وعادت البلاد إلى حظيرة أهل السنة والجماعة بصفة رسمية وتوفرت فيها أسباب العمران والحضارة ، ونفقت سوق العلم والأدب وحدث شيء من التقارب بين المعز وعلماء القيروان ، فإن هذا الأمير قد تربى على مذهب مالك وعلى السنة والجماعة(1)، وكان يضمر قطع دعوة العبيديين ، فلما علم أهل القيروان بذلك وضعوا السيف فيمن عندهم من الرافضة ، حتى أبادوهم في سائر أنحاء إفريقية وذلك سنة 407هـ في مطلع عهد المعز(2)، ولم يزل أمر السنة يقوى والمعز يعد العدة للتخلص من سلطان بني عبيد حتى كانت سنة 435هـ وفيها قطع دعوتهم ، ولعنهم على المنابر ، ودخل في طاعة الدولة العباسية وحمل الناس على مذهب الإمام مالك حسما للخلاف ، ولأنه مذهب معظم أهل إفريقية ، وكانت بإفريقية مذاهب منحرفة كالشيعة والصفرية والإباضية والنكارية والمعتزلة ، ومن مذاهب أهل السنة الحنفية والمالكية ، فلم يبق في أيامه إلا مذهب الإمام مالك(3)، ففرح أهل السنة بذلك ، وقضوا على مابقي من الروافض بإفريقية ولاحقوهم في كل مكان ، فعمت الفوضى حتى اضطر المعز إلى استعمال القوة للسيطرة على الوضع .
__________
(1) البيان المغرب 1/273 .
(2) انظر تفصيل ذلك في الكامل 7/294 ، نهاية الأرب 24/201-204 ، البيان المغرب 1/268 .
(3) المؤنس 82 ، وانظر الشجرة 2/129 .(1/43)
ولم يكن الحقد الباطني ليسكت على عودة إفريقية للسنة ، ونبذها علنا لطاعة بني عبيد ، فأرسلوا إليها أعراب بني هلال وبني سليم ، وكانوا ممنوعين من اجتياز نهر النيل لماعرفوا به من الإفساد في الأرض(1)، فتسابقوا إليها وجرت بين الأعراب وبين المعز حروب كثيرة كانت فيها الدائرة عليه ، وتمكنوا من دخولها سنة 443هـ ، فخربوها وأتوا على الأخضر واليابس ، وتقاسموا مدنها ، فمامن قرية إلا وقد سحقت وأكلت ، وأهلها عراة أمام حيطانها ، من رجل وامرأة وطفل ، يبكي جميعهم جوعا وبردا ، وانقطع المير عن القيروان ، وتعطلت الأسواق(2).
وأما قابس فاستطاع أن يحكمها بعض القواد العرب وذريته وأما تونس فساعدها موقعها المنيع وانفتاحها على البحر لتصبح أهم مدينة يحكمها بنو فرسان ، وأما الأمير الزيري فالتجأ إلى المهدية واتخذها عاصمة للدولة الضائعة ، التي استولى عليها النورمنديين سنة 1148م ، ثم تم الفتح الإسلامي للمهدية مرة أخرى على يد الموحدين الذين سحقوا القبائل الهلالية وطردوا النورمنديين وعينوا في سنة 1207م واليا عليها هو عبد الواحد بن أبي حفص الذي أسس فيها مملكة لمدة ثلاثة قرون(3).
__________
(1) انظر عن أصل بني هلال واشتهارهم بالتخريب والفساد ودخولهم إفريقية : العبر 6/13 ، البيان المغرب 1/288-295 ، تاريخ التمدن الإسلامي 4/324، رحلة التجاني 16 .
(2) انظر تفصيل ذلك في الكامل 8/59، العبر 4/63 ، 6/16 ، 159 ، البيان المغرب 1/291-294 ، إتحاف أهل الزمان 1/139، المعالم 1/15،20 ، 3/190 -192 ، الشجرة 2/128-131 ، وقد ألف في ذلك محمد بن سعدون القروي (ت486هـ) كتابا سماه “تعزية أهل القيروان بما جرى في البلدان من هيجان وتقلب الأزمان” ، انظر البيان المغرب 1/281 .
(3) تاريخ تونس ص 48-52 .(1/44)
وبذلك انتهت حضارة القيروان التي كانت العاصمة الدينية والعلمية والسياسية لإفريقية والمغرب ، فهي منذ الفتح إلى أن خربت دار العلم بالمغرب ، إليها ينسب أكابر علمائه وإليها كانت رحلة أهله في طلب العلم(1)، فلما خربت جلا أهلها عنها وتفرق من بقي حيا من علمائها في الأمصار(2)، ولم تعد إليها الحياة العلمية إلا بعد أكثر من قرن من الزمان وذلك بعد سنة 555هـ(3)، إلا أنها لم تعد أبدا إلى سالف عهدها ، وانتقل مشعل العلم والحضارة بإفريقية إلى المهدية ثم إلى تونس الحفصية .
خامسا : عصر المرابطين والموحدين (434هـ _668هـ) (4):
__________
(1) انظر الشجرة 2/130 ، مقدمة ابن خلدون 431 .
(2) انظر المعجب 358 .
(3) انظر المعالم 3/203 .
(4) انظر : الحلل الموشية ص17-19 ، تاريخ المغرب والأندلس ص37 ، المؤنس في أخبار إفريقية ص101-102، أعمال الأعلام ص227،231 ، تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين (كاملا) ، أخبار المهدي بن تومرت (كاملا) ، الدولة الموحدية في عهد عبد المؤمن بن علي (كاملا) ، عصر المنصور الموحدي (كاملا) ، الأنيس المطرب بروض القرطاس 2/10،11،15 ، تاريخ الجزائر في القديم والحديث 2/209 ، الاستقصا 2/9 ، البيان المغرب 4/8 ، في تاريخ المغرب والأندلس ص267 ، المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص171 ، تاريخ الشعوب الإسلامية 2/183 ، قيام دولة المرابطين (كاملا) ، دور المرابطين في نشر الإسلام في غرب إفريقيا(كاملا)،(1/45)
ينتسب الملثمون الذين عرفوا فيما بعد بالمرابطين إلى قبيلة لمتونة إحدى بطون صنهاجة أعظم قبائل البربر وسموا بالملثمين ، لأنهم يضعون اللثام على وجوههم ليلا ونهارا حضرا وسفرا ، وقد بدأت دعوة المرابطين على يد الفقيه المالكي عبد الله بن ياسين ، الذي وفد مع زعيم قبيلة جدالة الأمير يحيى بن إبراهيم الجدالي إلى بلاد جدالة ، عندما عاد من الحج سنة 429هـ ، فلم يستطع نشر دعوته في شنقيط لمعارضة الوجهاء والكبراء فانتقل إلى جزيرة منعزلة بالسنغال ومعه يحيى بن إبراهيم وبعض أتباعه ، وأسس هناك رباطا بث منه دعوته وأرسل البعوث إلى القبائل فالتف الناس حوله وسموا المرابطين بسبب ملازمتهم لهذا الرباط ، ثم أعلن لهم ضرورة خروجهم لدعوة الناس وإخراجهم مما هم فيه من الطغيان ، فبدأ الكفاح المسلح وأخضع عدة قبائل منها قبائل كدالة ولمتونة وكسوفة(1).
__________
(1) انظر تاريخ الشعوب الإسلامية 2/183 ، في تاريخ المغرب والأندلس ص268، موريتانيا بلاد شنقيط ص10،11 .(1/46)
وفي عام 447هـ توفي الأمير يحيى بن إبراهيم ، فاختار ابن ياسين يحيى بن عمر من قبيلة لمتونة لقيادة جند المرابطين الذي اتجه إلى فتح كثير من بلاد السودان الغربي ، ثم استغاث فقهاء درعة وسجلماسة بعبد الله بن ياسين وجيوشه لتخليصهم من المنكرات والفساد ، الذي تمر به البلاد فاستولوا على سجلماسة التي مالبثت أن ثار أهلها ونجحوا في استعادتها ، ثم قتل الأمير يحيى بن عمر فاختار ابن ياسين أخاه الأمير أبو بكر بن عمر سنة 448هـ ، الذي اندفع إلى الشمال فقاتل قبائل برغواطة التي اعتنقت المجوسية ومات أثناء ذلك ابن ياسين متأثرا بجراحه ، فاستمر أتباعه في نفس الطريق وترك أبو بكر بن عمر السلطة لابن عمه يوسف بن تاشفين(1)، هو القائد المظفر الذي تمكن من إحكام قبضته على المغرب الأقصى ، وبناء مراكش واعتبر هو المؤسس الحقيقي لدولة المرابطين ، ثم انطلق إلى الأندلس في مواجهة النصارى حتى توفاه الله وتولى ابنه علي بن يوسف تاشفين الذي سار سيرة والده ، وكان لانتصاراته صدى واسع في العالم الإسلامي(2).
__________
(1) انظر الأعلام 1/34
(2) انظر أعمال الأعلام ص228،230 ، قيام دولة المرابطين ص147،219،220، المؤنس
103-105 ، الأنيس 2/17-20 ، الاستقصا2/19، ، تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين 1/71،121، المعجب في تلخيص أخبار المغرب ص130-171، البيان المغرب 4/52 .(1/47)
وفي أثناء ذلك ظهر محمد بن تومرت الذي ينتسب إلى بيت النبوة ونشأ نشأة دينية ورحل في طلب العلم إلى الأندلس ، ثم إلى المشرق وكر راجعا للمغرب والتقى في عودته بالمدعو عبد المؤمن بن علي الذي صحبه وحفظ عنه تعاليمه ولما وصل مراكش سنة 515هـ قام بدوره في الوعظ والإرشاد ، حتى وصل نبؤه إلى علي بن يوسف بن تاشفين ، فجمع له مجلسا من الفقهاء تناظروا فيه حول المنكرات التي تفشت في المجتمع وتأثر الأمير بكلامه إلا أنه أمر بطرده من مراكش خشية الفتنة، فكانت تلك الشرارة لإعلانه خلع علي بن يوسف والدعوة لمبايعته ، واتخذ مدينة تينملل مركزا له ودخل في صراع مرير مع المرابطين انتهى بموته سنة 524هـ، فتحمل أعباء دعوته عبد المؤمن تلميذه المخلص ، والذي يعتبر المؤسس الحقيقي لدولة الموحدين فاستغرق سنة ونصفا في تنظيم شئون الموحدين ، ثم بدأ الكفاح المسلح ضد المرابطين ، وكانت لوفاة علي بن يوسف بن تاشفين سنة 537هـ أثر كبير في فت عضد دولته ، حتى بعد تولي اسحق بن علي بن تاشفين السلطة بعد نزاع عليها مع ابن أخيه إبراهيم بن تاشفين ، وتمكنت جيوش الموحدين من إسقاط مراكش سنة 541هـ ، وكانت تلك نهاية دولة المرابطين وبداية دولة الموحدين(1).
وفي عصر المرابطين الأنف ذكرهم كانت علاقة الود والوئام باقية بينهم وبين بني زيري بالمغرب الأدنى حفاظا على الصلات القبلية بينهما فكلاهما من قبيلة صنهاجة البربرية ، ووقف المرابطون بجوار الزيريين ضد خطر النورمنديين .
__________
(1) انظر الدولة الموحدية ص47، صبح الأعشى 5/136، المعجب ص 178-303 ، العبر 6/226، تاريخ الدولتين ص2،3 ، الأنيس 2/107، أعمال الأعلام 3/264-267، النبوغ المغربي 2/73، نظم الجمان ص93،94، عصر المرابطين والموحدين 1/225 ، موريتانيا بلاد شنقيط ص12،13 .(1/48)
أما بالنسبة لبني حماد وهم كذلك من صنهاجة فلم تكن العلاقات معهم ودية تماما، وإنما تخللها مناوشات كان العامل فيها ضعف بني حماد أمام أعراب بني هلال ، الذين خربوا القيروان وقوضوا ملك بني زيري فأدى كفاح المرابطين من أجل السيطرة على المغرب الأوسط إلى اصطدامهم ببني حماد غير أن ذلك لم يصل إلى الصدام المسلح(1).
وبعد أن أحكم عبد المؤمن الموحدي قبضته على المغرب الأقصى توجه إلى الشرق حيث توالت انتصاراته حتى وصل إلى طرابلس وبذلك نجح الموحدون في تحقيق وحدة سياسية للمغرب الإسلامي تدار شؤونها من عاصمة الخلافة مراكش ، ولم ينس أيضا واجبه نحو الأندلس فجهز حملة كبيرة لدفع النصارى سنة 556هـ إلا أنه مرض مرضا أفضى إلى موته حال دون إتمام الحملة وذلك سنة 558هـ ، وتولى خلفا له ابنه يوسف بن عبد المؤمن الذي تمكن من خمد ثورة ضده من الصناهجة ، ثم والى الحملات على الأندلس حتى أصيب في أخراها وتوفي على إثر ذلك سنة 558هـ، وتولى بعده ابنه يعقوب بن يوسف الملقب بالمنصور وفيه بلغت دولة الموحدين أوج ازدهارها وقضى أيضا على بعض الثورات الداخلية ، وحقق نصرا هائلا بالأندلس في معركة الأرك التي أوقفت زحف النصارى وزادت من هيبة الموحدين ومكانتهم ، وفي سنة 595هـ أصيب المنصور بوعكة أدت إلى وفاته(2).
__________
(1) انظر تاريخ المغرب والأندلس في عصر المرابطين ص219-232، قيام دولة المرابطين ص 328-329، 388 .
(2) انظر الأنيس 2/163،168،186،193، المعجب 230،235،256 ، نظم الجمان ص 169، تاريخ الجزائر 2/224، الاستقصا 2/147،149، البيان المغرب 4/65،72، المؤنس 114، أعمال الأعلام 2/309 ، الحلل الموشية ص156 .(1/49)
ثم تولى بعده ابنه محمد بن يعقوب الملقب بالناصر الذي استطاع أيضا إخماد ثورة بني غانية بإفريقية ، وولى عليها الشيخ أبا محمد عبدالواحد ابن أبي حفص الهنتاتي ، وكان من أشياخ الموحدين وكانت ولايته بداية لقيام الدولة الحفصية بتونس بعد ضعف دولة الموحدين ، بعد أن منيت بهزيمة قاسية في معركة العقاب سنة160هـ على أيدي النصارى راح ضحيتها الكثير من جند الموحدين وعجلت بسقوط الأندلس بعد ذلك في أيدي الفرنجة ، وأصيب الناصر بالمرض وتوفي سنة 610هـ فتصارع أبناء عبدالمؤمن على السلطة وسرى الضعف في أرجاء الدولة حتى سقطت سنة 668هـ . وفي حين كانت دولة المرابطين تابعة للخلافة العباسية ببغداد اعتبر
الموحدون أنفسهم خلفاء وأن مركز الخلافة مراكش وليس بغداد(1).
وفي تلك الحقبة ازدهرت الحياة الاقتصادية ازدهارا بالغا ، وتنوعت مصادر الدخل وشمل الازدهار الزراعة والصناعة والتجارة(2)، واتجهت الدولة للبناء والتعمير فأسست المدن ومن أهمها مراكش التي أسسها المرابطون كما تقدم ومدينة تلمسان ومدينة تاودا ومدينة رباط الفتح المعروفة الآن بالرباط ، والتي قام بتأسيسها الموحدون كما أسست المنشآت العسكرية والمنشآت العامة كالمساجد والمدارس وغيرها(3).
__________
(1) انظر البيان المغرب 4/192، تاريخ الدولتين ص147، الأنيس ص168، عصر المرابطين والموحدين ص270، تاريخ الشعوب الإسلامية 2/198، الفارسية في مبادىء الدولة الحفصية ص108، المعجب ص323، المؤنس 119، تاريخ الأندلس في عهد المرابطين 2/166.
(2) الحضارة الإسلامية في المغرب والأندلس 181-288 .
(3) الحضارة الإسلامية 372-404 .(1/50)
وأما الناحية العلمية فكانت في أوج ازدهارها ، وكرم طبقة طلاب العلم تكريما يفوق الوصف خاصة في دولة الموحدين ، أما طبقة الفقهاء والعلماء والقضاة فاحتلت منزلة رفيعة في المجتمع المغربي منذ قيام دولة المرابطين ، وظهر لهم نفوذ في مجريات الأمور وخاصة في دولة المرابطين ويرجع السبب في ذلك إلى أن الدولتين قامتا على أساس ديني ودعوة إصلاحية ، وتحقق لهم في ظل الدولتين مستوى مادي رفيع جدا كان له أبلغ الأثر على إثراء الانتاج العلمي في شتى مجالاته وفي مقدمتها مجال التفسير حيث زاد الاقبال على دراسة القرآن الكريم ، باعتباره مصدر التشريع الأول في الدولتين وممن اشتهر من العلماء في تلك الحقبة أبو الحسن علي بن محمد الغرناطي المفسر نزيل مراكش ، وكان عالما زاهدا يجتمع إليه الناس فيفسر لهم القرآن من أوله إلى آخره(1)، وأبو بكر محمد بن علي المعافري السبتي عرف بابن الجوزي ، وله تفسير في القرآن(2)، وعبدالجليل بن موسى الأنصاري الأوسي ت608هـ وله تفسير القرآن(3)،ومن التفاسير التي اعتنى بها المغاربة في تلك الفترة:
كتاب الوجيز لعبد الحق بن عطية ت541هـ(4).
وكان من شيوخ المرابطين الشيخ أبو محمد يرزجان بن محمد الجزولي الضرير الذي قدم مراكش ، وكان عالما فاضلا بصيرا بمذهب مالك صحب الإمام أبا بكر بن العربي صاحب أحكام القرآن(5).
وقد أرسل أبو بكر بن العربي رسالة إلى الخليفة المستظهر العباسي يزكي فيها الأمير يوسف بن تاشفين عنده(6).
__________
(1) التشوف ص226 .
(2) النبوغ المغربي 1/77،95 .
(3) العلوم والآداب ص440 .
(4) عصر المنصور ص247 .
(5) انظر : ترتيب المدارك 3،4/780، دور المرابطين ص143 .
(6) محققة مع كتاب دور المرابطين في نشر الإسلام في غرب إفريقيا ص182-200 .(1/51)
وأما علم الحديث فنال عناية فائقة لاسيما في عصر الموحدين فبعد أن كان التركيز في عهد المرابطين على الموطأ أصبح الاهتمام بالحديث عموما السمة السائدة في عصر الموحدين ، واهتم به الخلفاء اهتماما كبيرا ، وكان بعضهم يقوم بإملاء الأحاديث بنفسه ، وانتشرت المؤلفات فيه في ذلك العصر ، كما اعتبر عهد الموحدين عهد إحياء الاجتهاد(1).
وقد أدى ضعف الموحدين في نهاية عهدهم إلى تمزق دولتهم الشاسعة الأطراف على النحو التالي :
سقطت الأندلس في يد الأسبان والبقية الباقية التي لم تقع في أيديهم استقلت تحت إمرة بني الأحمر أصحاب غرناطة .
وأما منطقتنا فقد ظهرت فيها ثلاث دول إسلامية ظلت تتنازع السلطان وتحاول كل منها التوسع على حساب جارتها وهي :
الدولة الحفصية في المغرب الأدنى .
الدولة الزيانية في المغرب الأوسط .
الدولة المرينية في المغرب الأقصى(2).
ومنذ ذلك الحين يعتبر المغرب الإسلامي الكبير قد انقسم إلى ثلاث دول لكل منها تاريخه المستقل ، والتي آلت حاليا إلى تونس والجزائر والمغرب (ويتبعها موريتانيا) وعليه فسوف تكون دراستنا الحالية لكل منها على حدة إلى الاحتلال الفرنسي وقد حكم تونس بعد الحفصيين الأتراك وفي عهدهم فرضت الحماية الفرنسية، وحكم الجزائر بعد بني زيان الأتراك وفي عهدهم وقع الاحتلال الفرنسي ، وأما المغرب فحكمها بعد بني مرين الوطاسيون ، ثم السعديون ثم العلويون وفي عهدهم فرضت الحماية الفرنسية .
- أحوال المنطقة حتى الاحتلال الفرنسي :
أولا : تونس
__________
(1) انظر : الأنيس 2/154، الاستقصا 2/126 ، المعجب ص254، 255 ، عصر المنصور الموحدي ص256 ، الفكر السامي 3/170-173 .
(2) المغرب العربي الكبير في العصر الحديث ص26 .(1/52)
الدولة الحفصية في المغرب الأدنى (تونس) 1230م_1574 م(1):
وتنسب إلى أبي حفص عمر بن يحيى الهنتاني نسبة إلى قبيلة هنتانة البربرية وهو من خاصة ابن تومرت وأحد مريديه ، وكانت له مكانة كبيرة لديه وقد استطاع أبو محمد عبد الواحد بن أبي حفص ولد المذكور بعد أن ولاه الخليفة الموحدي الناصر على تونس أن يقضي على كثير من الاضطرابات ، فهزم ابن غانية كما تقدم ، وخلفه ابنه عبد الرحمن سنة 618هـ الذي تولى بعده أبو زكريا الحفصي سنة 627هـ واستطاع أن يعلن استقلاله بتونس والقيروان عن دولة الموحدين بعد أن دب إليها الضعف ونازعها بنو مرين السلطة على المغرب الأقصى ، وقمع ابن غانية عندما عاد للاضطرابات مرة ثانية وقتله ، وقمع ثورة قبيلة هوارة فاستتب له الأمر بتونس ، ثم توسع فاستولى على الجزائر وبايعته تلمسان وسجلماسة بل بايعته بعض بلاد المغرب الأقصى(2).
__________
(1) انظر : تاريخ إفريقية في العهد الحفصي (كاملا) ، الدولة الحفصية (كاملا) ، الفارسية في مبادىء الدولة الحفصية (كاملا) ، تاريخ إفريقية في العهد الحفصي (كاملا) ، تاريخ تونس ص60-63، ، المغرب العربي الكبير ص27 -91 .
(2) المغرب العربي الكبير ص27،28 .(1/53)
ثم واصل محمد والذي لقب بالمستنصر تلك الأعمال بنجاح أكثر وتلقب رسميا بلقب الخليفة أو أمير المؤمنين ، وأرسل له أمير مكة والحجاز بمبايعته وأراد الصليبيون ضرب قلب الإسلام فشن القديس لويس الحملة الصليبية الثامنة(1) ضد تونس سنة 1270وانتهت بمعاهدة صلح تنازل فيها الخليفة المستنصر فرضي بدفع غرامة حربية بالإضافة إلى مضاعفة ماكان يدفعه إلى ملك صقلية من أتاوة ، ثم بدأت الانتفاضات على الحكم والاضطرابات وهجوم الأرغوينيين على سواحل تونس بعد استقرارهم بصقلية .
ثم احتل بنو مرين تونس لمدة عشر سنوات من سنة 1347م _1357م حتى ظهر الأمير الحفصي أبو العباس والي مقاطعة قسنطينة الذي استطاع إعادة البلاد لوحدتها وللدولة الحفصية هيبتها بداية من سنة 1370م واستطاع هو وأبو فارس خلفه وعثمان خلف أبي فارس أن يكبحوا جماح المنشقين ، ويكسروا شوكة القبائل ، وشنوا على أوروبا المسيحية حرب القرصنة ، وعقدوا معاهدات تجارية مع إيطاليا ، وذلك خلال مدة طويلة في الحكم سنة 1370م _1488م من طرابلس إلى مدينة الجزائر .
وفي الفترة الأخيرة من العهد الحفصي ظهرت الاضطرابات من جديد ، وانحلت الدولة حتى انحصرت في مدينة تونس وما يحيط بها ، وتوالت هجمات النصارى على السواحل وتفاقم أثرها وفقدت الدولة القدرة على ردع القوى الانفصالية داخليا واحتل الأتراك ثم الأسبان على التوالي تونس سنة1534م ، 1535م ، وكانت السواحل مسرحا للصراع الأسباني التركي .
__________
(1) هي الحملة الثامنة والأخيرة في الحروب الصليبية وسبقتها سبعة الأولى لفلسطين 493هـ احتلت القدس ، الثانية 544هـ أبيدت ، الثالثة 585هـ لاسترجاع القدس بعد صلاح الدين فشلت ، الرابعة 599هـ لاسترجاع القدس فشلت ، الخامسة 614 لمصر فشلت ، السادسة 626هـ للقدس فشلت ، السابعة 646هـ مصر فشلت ( انظر الدولة الحفصية 152-158) .(1/54)
في أثناء التوسعات الأسبانية والبرتغالية ظهر على الساحة بحاران جزائريان هما الأخوان ( عروج ) ، ( خير الدين ) فقد اتخذ عروج جزيرة جربه التونسية قاعدة لنشاطه بالاتفاق مع السلطان الحفصي محمد بن الحسن ونجح هو وأخوه في إنقاذ كثير من مسلمي الأندلس ، ونقلهم منها فاستنجدت به المدن الساحلية في المغرب لتخليصهم من الأسبان فبترت ذراعه في أثناء محاولة تخليص بجاية سنة 918هـ(1).
وبعد أن خلع الأتراك السلطان الحفصي من العرش أعاده القائد الأسباني بعد أن أدخله تحت حمايته وجعله تابعا له ثم خلعه ابنه أحمد وخلفه سنة 1541م ، ولم يكن أسعد حظا منه ، واستطاع القائد التركي الاستقرار في طرابلس والاستيلاء على القطر التونسي ، وفي سنة 1569م دخلت الجيوش التركية بقيادة والي الجزائر تونس وطردت منها السلطان الحفصي، ثم استولى الأسبان على تونس من جديد سنة 1573م إثر هزيمة الأسطول العثماني أمام القائد ليبانت ، وأقاموا فيها حكما مشتركا أسبانيا حفصيا حتى قدم الأسطول العثماني بقيادة سنان باشا الذي استرجع تونس ، وأنهى حضور الأسبان والدولة الحفصية بإفريقية .
__________
(1) انظر : صفحات من تاريخ مدن الجزائر ص42 ، إتحاف أهل الزمان 2/9 ، تاريخ الجزائر الحديث ص 26 .(1/55)
واتجه خير الدين الوالي على الجزائر إلى تونس وذلك في نهاية الدولة الحفصية ، فدخلها في جيش من الأتراك فتوجه الأمير الحفصي الحسن بن أبي عبد الله إلى أسبانيا مستنجدا بملكها الذي أعد قوة ضخمة ، فدخل تونس وعاث فيها فسادا ونهب جامع الزيتونة ، وأعاد الأمير الحفصي لملكه مقابل شروط أثارت عليه الأهالي فسملوا عينيه وخلفه ابنه الذي حاول وقف التيار الأسباني فلم يستطع ، وتمكن الأسبان من الاستيلاء على موانىء صفاقس وسوسة والمنستير ، وأدى صراع الأمير الحفصي أبي العباس الثاني ووزيره إلى دخول العثمانيين في الصراع مع الأسبان ، كان من حلقاته هزيمة الأسطول التركي سنة 1571م ، وإعادة الحفصيين إلى حكم تونس سنة 1573م إلا أن القائد العثماني سنان باشا استطاع في عام 1574 القضاء نهائيا على الحفصيين في تونس .
ومن حلقاته أيضا محاولة شارل الخامس سنة 1541م توجيه ضربة قاضية للأتراك في الجزائر ففشل واستطاع الأتراك سنة 1558م ، أن يوجهوا ضربة قاضية للأسبان قرب مستغانم ثم انتزعوا ميناء طرابلس من فرسان بيت المقدس وأخذ نشاط الأسبان يضعف(1).
__________
(1) انظر المغرب العربي الكبير في العصر الحديث ص44-91 .(1/56)
وفي العهد الحفصي أنشئت الكتاتيب لتعليم القرآن وازدهر نشاط المذهب المالكي وظهر من العلماء أمثال ابن زيتون وابن عرفة ، الذي يعتبر آخر كبار المجددين في زمنه وبعده أعلن علماء بلاد المغرب غلق باب الاجتهاد فتحجر العلم وأجدبت أرضه وانطوى العلماء ولقي التصوف رواجا كبيرا وغدا الانحراف فيه كبيرا وشيدت الأضرحة ولجأ الناس إلى الخرافات والبدع ، التي أيدت من قبل الأمراء لأغراض سياسية وظهرت عبادة الأولياء والصالحين تحت حماية السلطة إلا أنه مع ذلك التدهور لم تخل المنطقة من ظهور بعض المفكرين وعلى رأسهم عبدالرحمن بن خلدون الذي ولد بتونس ورحل وتعلم وأثرى المكتبة الإسلامية بكتابات نافعة سنة 1332_1406م ، كما ظهر من علماء الحديث الحافظ ابن سيد الناس والمؤرخ أحمد بن محمد القرشي(1).
وكان التفسير يدرس بالمدارس والجوامع وسمي الدرس دولة وقد ذكر العبدري في رحلته أنه سمع دولا من التفسير عن اللبيدي وابن الغماز ، وقد ظهر من التفاسير في العصر الحفصي غير تفسير ابن عرفة المتقدم تفسير ابن بزيزة عبد العزيز بن إبراهيم بن أحمد القرشي التميمي التونسي ت674هـ الذي جمع فيه بين تفسيري ابن عطية والزمخشري ، وإعراب القرآن لأبي إسحاق برهان الدين إبراهيم بن محمد القيسي الصفاقسي سنة 752هـ ، وكانت تدرس في ذلك العصر مشاهير التفاسير مثل الزمخشري وابن عطية والفخر الرازي وأبي حيان(2).
الدولة العثمانية في تونس وحتى الاحتلال الفرنسي :
__________
(1) تاريخ تونس ص60-63، تاريخ إفريقية في العهد الحفصي 2/299-422، جامع الزيتونة ومدارس العلم في العهد الحفصي والتركي ص32 .
(2) جامع الزيتونة ص 32،33 .(1/57)
لما اشتد الخلاف بين أبي العباس الثاني الأمير الحفصي ووزيره استنجد الوزير بعلج علي والي الجزائر فخرج بجيشه واستحوذ على تونس ، فاستنجد الأمير الحفصي بالأسبان فوافقوا على أن يقتسموا معه تونس ، فرفض العرض وقبله أخوه محمد بن الحسن وتمكن من استرجاع تونس بمساعدتهم وفي عام 981هـ اتجهت قوة عثمانية كبيرة من القسطنطينية بقيادة سنان باشا معها ألف سفينة بقيادة علج علي مع قوات أخرى من الحاميات التركية ، وأتموا فتح تونس وانتهت الدولة الحفصية تماما(1).
حكم الدايات :
ولما أتم سنان باشا فتح تونس ألحقها في بداية الأمر بولاية الجزائر لكنه أوجد ديوانا اشترك فيه بعض أعيان البلاد لكن ثار بعض الجند على رؤساء الديوان ، وعينوا أحد الدايات(الداي ضابط على كل 100جندي) وهو إبراهيم ود علي حاكما على البلاد فأقرت الأستانه هذا الوضع وتتابع حكم الدايات حتى سنة 1640م(2).
حكم البايات : والباي هو المأمور بجباية المال .
ونجح أحد البايات وهو مراد باي في السيطرة على شئون تونس وظفر من الخلافة بلقب باشا ونجح في أن يورث الأمر من بعده لأبنائه ، فأسس الأسرة المرادية التي حكمت تونس حتى عام 1114هـ وكثر النزاع بين أفراد هذه الأسرة مما أدى إلى التخريب في المدن التونسية(3).
حكم الأسرة الحسينية(4):
__________
(1) الاستقصا 5/59،60،61 .
(2) انظر خلاصة تاريخ تونس ص161-165 .
(3) انظر خلاصة تاريخ تونس 165-167 .
(4) انظر خلاصة تاريخ تونس ص 167-177 ،192،195 .(1/58)
في سنة 1705م انتقلت الولاية في تونس إلى حسين بن علي الذي أسس أسرة حاكمة جديدة هي الأسرة الحسينية ، التي استمرت إلى الاستقلال وإعلان الجمهورية سنة 1957م والمؤسس الأول لها هو حسين باي الأكبر كان قد وفد أبوه من تكريت على تونس أيام الدولة المرادية ، فانخرط في الجند ونشأ ابنه حسين في كنف البايات من بني مراد وتدرج في الولايات حتى انتخب واليا وعمل عدة أعمال إصلاحية منها : إنشاء بعض المدارس واهتم بإحياء معالم القيروان بعدما تخربت في حروب بني مراد ، وأراد حسين بابي أن يجعل الحكم في الأكبر من ذريته فالأكبر فخرج عليه ابن أخيه علي بن محمد وقتل حسين باي جنوب القيروان ، ونشبت الحروب بين الأسرة حتى تدخلت الجزائر في شئون تونس ، وتولى علي بن محمد المشهور بالباشا علي الحكم ، واشتهر بتشجيعه العلم والعلماء وكان هو نفسه على قدر كبير من العلم وله كتاب في النحو هو التسهيل لابن مالك ، وأسس مكتبة عظيمة حوت الكثير من المخطوطات فقد أكثرها أثناء الحروب والاضطرابات بين أفراد الأسرة فنقل المتبقي إلى جامع الزيتونة ، واهتم بتأسيس المدارس وتزويدها بحاجتها من الكتب وغيرها والتف حوله كثير من الأدباء والعلماء ، وتولى الأمر بعده ابنه محمد باي ثم علي باي الثاني فاهتم أيضا بالمدارس والتكايا وغير ذلك .(1/59)
ثم تولى حموده باشا ابن علي باي 1783م الذي نهض بالبلاد في مجالات الفلاحة والتجارة والصناعة ، وحفلت مدته بالحروب منها ضد الثائر علي برغل وضد أطماع الجزائريين في تونس ، وكان له علاقات طيبة مع نابليون بونابرت ومعاهدات تجارية مع أسبانيا وهولنده وأمريكا ، ثم تولى السلطة محمود باي ابن عم حموده (سنة 1814_1824م) شهدت فيها البلاد كثيرا من أوجه العمران وتعددت بها الجوامع والمدارس والتكايا وغيرها وساعد على ذلك الهدوء الذي ساد البلاد عقب إنهاء الصراع على الحدود مع الجزائر بتدخل الدولة العثمانية ، ثم تولى ابنه حسن باي سنة (1824_1835م) ، وفي عهده وقعت موقعة نوارين البحرية بين العثمانيين والأوربيين ، وهزم فيها الأسطول العثماني ، وفيه أيضا هاجمت فرنسا الجزائر .
ثم تولى الحكم أخوه مصطفى باي ثم خلفه المشير أحمد باي الذي أنشأ مدرسة عسكرية واستقدم لها المدرسين ، وأصبح لتونس جيش قوي ، واهتم بتنظيم التعليم بجامع الزيتونة ودعا عددا من الأساتذة الأجانب للالتقاء بأساتذته مما أدى إلى الاحتكاك بين العقلية الإسلامية والعقلية الغربية وقام بتأسيس المكتبة الأحمدية ، وزار فرنسا بنفسه مع جماعة من رجال الدولة لتوطيد العلاقات بين الدولتين ، وقام بإلغاء الرق ومنع الاتجار فيه فحمد فعله ذلك من الدول الأوروبية ، وأرهقت الدولة في عهده بالمصروفات الكثيرة ، وأدى اشتراكها في حرب القرم إلى جانب الدولة العثمانية ضد روسيا إلى زيادة التدهور الاقتصادي(1).
ثم تولى بعده محمد باي الثاني (سنة 1855_1859م) ، فضغطت فرنسا وانجلترا عليه بإصدار مايسمى عهد الأمان ، الذي منح الأجانب مزايا عديدة(2).
__________
(1) انظر الحركة الأدبية والفكرية في تونس ص 12-23 .
(2) إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان 4/25 ، خلاصة تاريخ تونس ص 200-201 ، الاتحاف 3/96-110 ، تونس في عهد الحماية ص 153-154 .(1/60)
واهتم محمد باي بتنظيم القضاء الشرعي ، فكان المجلس الشرعي يعقد يوميا ويحضره القاضيان المالكي والحنفي ، وأدخل في عهده الطباعة العربية واشتهر في دولته كثير من رجال العلم ومنهم القاضي محمد الطاهر بن عاشور وشيخ الإسلام بيرم الرابع وغيرهما(1).
وحاول محمد باي إصلاح الوضع الاقتصادي ، ثم تولى محمد الصادق باي (سنة 1859م _1881م) الذي بدأ جهودا صادقة لإصلاح البلاد إلا أنه ضاعف الضرائب على الأهالي واقترض بأرباح فاحشة ، وكان ذلك سببا في اندلاع ثورة ابن غذاهم سنة 1864م(2) مطالبة بتخفيف ذلك ورفع الظلم إلى أن استطاعت الدولة القضاء عليها بعد أن نشرت الفرقة بين صفوف الثوار ، ثم تلاها ظهور مرض الكوليرا ثم الحمى التيفوسية ، فأدى ذلك إلى تعطيل الأوضاع ، وأصيب الناس بضيق شديد .
__________
(1) خلاصة تاريخ تونس ص 207-209
(2) ثورة علي بن غذاهم - لجام غانياج ، ثورة ابن غذاهم : ب سلامة (كاملين) .(1/61)
ولما تولى خير الدين(1) الوزارة بحكومة تونس سنة 1873م بدأ بعلاج مشاكله ، فألغى الضرائب الباهظة وأجرى حركة تطهير بين الموظفين ، وقام بعدة أعمال إصلاحية . وفي مجال التعليم أنشأ أول معهد درست فيه العلوم العصرية ، وكان هدفه التوفيق بين العلوم العصرية والتقاليد الإسلامية وتعليم اللغات ، وهي المدرسة الصادقية وفكر في إرسال الممتازين من خريجيها للدراسة في جامعات أوربا كما زاد مرتبات المدرسين بجامعة الزيتونة وأسس المكتبة الصادقية وحظيت حركة الطبع والنشر في أيامه باهتمام كبير ، وصدرت أول صحيفة عربية في تونس وهي صحيفة الرائد(2)، ثم طلب خير الدين إعفاءه بسبب الدسائس التي حاكها مصطفى إسماعيل ضده عند الباي ، وتولى مصطفى بدلا منه سنة 1877م وكان توليه بداية النكسات من جديد على تونس ، حتى سقطت في يد الاستعمار الفرنسي(3).
__________
(1) له كتاب : أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك وضعه عام 1284هـ وطبع في الإسكندرية سنة 1299هـ في مبادئه التنظيمية التي كان يؤمن بها .
(2) انظر : الحركة الأدبية في تونس ص 12.
(3) انظر : خير الدين باشا (للمنجي) ، خير الدين التونسي (لمحمد كرو) .(1/62)
وفي العهد التركي بصفة عامة . كان الفقه والإنتاج الثقافي قد غلبت عليه التبعية والتقليد نتيجة للعوامل الفكرية التي كانت تسيطر آنذاك ، وكأن البلاد أغلقت أبوابها في وجه التيارات الجديدة منذ استقرار الأندلسيين وتوقف الارتحال إلى المشرق ، وبانقطاع هذه العلاقة توقف المد الثقافي فالطالب المغربي الذي كان يبحث عن المعرفة في كل أجزاء العالم الإسلامي ويختار بنفسه مواد الدراسة ، ويتصل بالعلماء للأخذ عنهم أصبح يكتفي بماهو موجود في المساجد والزوايا ويقتصر على الأخذ عن شيوخ تقليديين . وهكذا عكف الناس على المختصرات الفقهية يشرحونها ويعلقون عليها حتى أصبحت دراسة الكتب هي الهدف وضاع العلم واختفى الاجتهاد ، وقد تأثرت وضعية علم التفسير بالركود العلمي الشامل الذي أصيبت به البلاد ، على أن اليقظة العلمية التي سجلت بعد ذلك بفضل الاستقرار واستتباب الأمن جعلت الناس يعتنون بعلم التفسير فاهتموا على الأخص بتفسير أبي السعود الذي اشتهر وضرب به المثل في الإحاطة بعلوم الشريعة والتضلع فيها ، كما اشتهر في علم التفسير الشيخ أبو عبد الله محمد زيتونة الذي وضع حاشية على تفسير أبي السعود جاوز نصفه ستة عشر جزءا(1).
ثانيا : الجزائر
الدولة الزيانية (بنو عبد الواد ) في المغرب الأوسط (الجزائر) :
__________
(1) انظر : جامع الزيتونة ص 29،32،34 .(1/63)
وأول حكامها هو يغمر إسن بن زياد بن ثابت ، وكان مطيعا للموحدين وعندما ضعفت دولتهم حملهم على التنازل له عن إمارة تلمسان وارتأى أبوالحسن السعيد خليفة الموحدين تأديب هذا الخارج عن سلطانه ، فخرج لقتاله فقتل خليفة الموحدين وتثبتت أركان دولة بني عبد الواد وكانت هذه الدولة دائمة التعرض لمطامع الحفصيين وكذا للاصطدام بالمرينيين حكام المغرب الأقصى ، حتى تمكن الحفصيون من بسط نفوذهم على المغرب الأوسط كله كما سبق وكذا تمكن المرينيون من القضاء على الدولة الزيانية باحتلالهم تلمسان كما سيأتي إلا أنها انبعثت من جديد على يد أبي حمو موسى الثاني سنة760هـ ، وظل أمرها قائما حتى كثر النزاع بين ملوكها وانتشرت الفوضى وانتهى الأمر باستيلاء الأتراك عليها عام 1554م(1).
__________
(1) ابن خلدون 7/161 .(1/64)
واستعد الأسبان لمهاجمة الجزائر فاحتلوا ميناء المرسى الكبير عند وهران ثم أسقطوا وهران ثم بجاية ثم شرشال وعنابة وذلك في أواخر الدولة الزيانية واضطر الجزائريون إلى عقد صلح مع الأسبان قضى بتسليم الأسبان جزيرة هامة بنوا فيها حصنا لهم هدد مدينة الجزائر نفسها سموه البيتون ، واضطرت عدة موانىء أخرى أن تعترف بسلطان الأسبان الذين استولوا أيضا على طرابلس سنة 1515م وانحصرت مقاومة الجزائريين في العمليات البحرية ، وأثناء تنافس اثنين من بني زيان على السلطة في آخر عهد بني زيان استنجد أحدهما بالأسبان 1518م بتلمسان ، واستنجد الآخر بـ(عروج) الذي كان قد أعلن نفسه سنة 1504م أميرا على الجزائر بعد أن استطاع تثبيت سلطانه بها ثم شرع يبسط نفوذه على المناطق المجاورة حتى نجح في الاستيلاء على تلمسان وقضى على الأسرة الزيانية ، وتخوف الأسبان من انتصاراته المتتالية وتمكنوا من قتله بعد محاصرته في مدينة شورا سنة 924هـ فتسلم أخوه خير الدين الملقب (بارباروس) أي ذي اللحية الشقراء الأمر من بعده فأعلن ولاءه للسلطان العثماني ، فأرسل له جيشا يشد من أزره ومنحه لقب (بيكلربك) ، وأصبح واليا من ولاة الأتراك واستطاع أن يطرد الأسبان من كثير من الثغور حتى من حصن البيتون ، وأصبحت الجزائر منذ ذلك الوقت ولاية عثمانية حتى سقطت في يد الفرنسيين سنة 1830م(1).
حكم العثمانيين للجزائر وينقسم إلى ثلاثة أدوار :
دور الولاة الملقبين بيكلربك (يعني أمير الأمراء بالتركية) 1518_1587م :
__________
(1) انظر : صفحات من تاريخ مدن الجزائر ص42 ومابعدها ، إتحاف أهل الزمان 2/9 ومابعدها ، تاريخ الجزائر الحديث ص26 .(1/65)
بدأ هذا الدور من ولاية خير الدين الذي حاول الأسبان التخلص منه عن طريق حملة نزلت في الجزائر ، فهزمها هزيمة منكرة واستطاع تحقيق عدة انتصارات ، وتولى بعده شئون الجزائر حسن أغا سنة1534م واستطاع رد حملة ملك أسبانيا على الجزائر ثم عين حسن باشا بن خير الدين واليا على الجزائر فحصن الجزائر واستولى على تلمسان ، ثم تولى الأمر صالح ريس الذي وجه ضربات قوية للأسبان وطردهم من بجاية ومن المهدية ، ولما توفي عاد حسن باشا لولاية الجزائر فهاجم القوات المغربية التي كانت قد استولت على تلمسان ، ووصل إلى أبواب فاس ودبر لاغتيال الأمير المغربي أبوعبد الله محمد الشيخ الملقب بالمهدي ونجح في قتله ، ثم اتجه حسن باشا إلى الأسبان فهزمهم في مستغانم واستدعاه السلطان العثماني في حصار مالطة ، وخلفه على الجزائر علج علي سنة 1568م الذي اهتم بالأسطول واستطاع بسط النفوذ العثماني على تونس(1).
دور الباشوات(1587م 1671م) :
وكان الباشوات عبارة عن ولاة غرباء عن البلاد يحملون لقب باشا ترسلهم استامبول منذ عام 1587م ويحكم الباشا لمدة ثلاث سنوات ، وكانوا يشترون المنصب بالمال ويحرصون بالتالي على جمعه ، وحدث في عهدهم أمر عظيم من الفوضى والحروب بين الجنود والقبائل أدى إلى تولي رؤساء البحرية السلطة وهو حكم الدايات .
دور الدايات 1671م_1830م : ( الداي لفظ تركي معناه الخال )
انتقلت السلطة إلى الدايات وهم رؤساء البحرية ، وقد كانت بيده السلطة الحقيقية فنصبوا واحدا منهم على أن تبقى له السلطة مدى الحياة ولما رأت السلطة العثمانية أنها عاجزة عن فرض إرادتها على الجزائر كفت عن إرسال الباشوات ، ومنحت الداي لقب باشا باعتباره ممثلا لسلطتها وبقي الأمر على ذلك حتى الاحتلال الفرنسي(2).
__________
(1) انظر : المغرب العربي الكبير في العصر الحديث ص44-91 ، الجزائر العربية ص 53-55.
(2) انظر : المغرب العربي الكبير في العصر الحديث 101-106 .(1/66)
وقد تقدم الكلام عن الحالة العلمية في العهد التركي عند حديثنا عن تونس .
ثالثا : المغرب
الدولة المرينية (دولة بني عبد الحق) في المغرب الأقصى (المغرب)668هـ _ 869هـ(1):
المرينيون فخذ من قبيلة زناتة العربية ، وكان عبد الحق الذي نسبت إليه الدولة قد قام بأمر بني مرين وجرت بينه وبين عرب رياح حروب ، وكان أصل ظهورهم بالمغرب في مدة أبي يعقوب يوسف بن الناصر من الموحدين بعد موت محيو أبي خالد والد عبد الحق متأثرا بجراحه مع أمير المؤمنين المنصور يعقوب من الموحدين في غزوة الأرك بعد أن عقد له على من في عسكره من زناته ، وقد انتهزوا فرصة ضعف وانحلال دولة الموحدين فنازعوهم الأمر في المغرب وقامت بين الأمير عبد الحق بن محيو وبين الموحدين معارك قتل الأمير في إحداها(2).
بدأت دولة بني عبد الحق باستيلاء أبي يوسف يعقوب بن عبدالحق على مراكش سنة 668هـ لما أتته البيعة من أهلها إلا أنه تحول عنها إلى فاس وصيرها دار الخلافة ، ثم زحف على تلمسان سنة 670هـ ، وأجبر ملوكها بني زيان على الصلح وغزا سجلماسة .
وولي الإمارة قبله إخوته الثلاثة أبو سعيد عثمان الذي تقدم أميرا على بني مرين ، فلما قتل اجتمع أشياخهم على أخيه أبي معرف محمد فلم يزل يحارب الموحدين حتى قتل في حرب معهم سنة 642هـ ، ثم ولي بعده أخوه أبو يحيى فجمع أشياخ بني مرين وقسم عليهم ماكان بيده من المغرب ثم مرض بفاس ومات سنة 656هـ.
__________
(1) انظر : روض القرطاس 1/278 -283 ، الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية (كاملا)، الحلل الموشية 172-175، الفكر السامي 3/173 .
(2) المغرب العربي الكبير ص29.(1/67)
ثم توالى الحكم في بني عبد الحق إلى أن تولى أبو الحسن علي بن عثمان المنصور بالله سنة 731هـ الذي استطاع أن يخضع تلمسان نهائيا وانتصر على ابن تاشفين الزياني ، وأنهى دولة بني زيان ثم نجح في دخول تونس سنة 748هـ ، وكانت تشكو آنذاك من الفوضى والاضطراب فأصبح أبو الحسن ملك المغرب على الاطلاق ولكنه اضطر إلى الجلاء عن إفريقية بسبب ثورة قامت فيها وواجه أسطوله المغربي ريح شديدة غرق فيها كثير من سفنه وماينيف عن أربعمائة من أعلام المغرب الممتازين الذين كانوا بصحبته .
وكان له في عصره سفارات مع حكام فارس وسلطان مصر والشام والحجاز محمد بن قلاوون ومع ملك مالي وغيره من ملوك السودان ، واشتهر عهده بالأعمال العمرانية ، فقد شيد عددا كبيرا من المدارس وأجرى المرتبات على الطلبة والأساتذة ثم نازعه ابنه أبو غنان السلطة فتنازل له عنهاسنة751هـ فاستعاد نفوذ دولة بني مرين على المغربين الأوسط والأدنى(1).
ثم تولى بعده ابنه أبو زيان محمد بن أبي عنان الذي خلع وخنق ، ثم أخوه أبو بكر الذي مات غريقا ثم توالى حكام الدولة المرينية ابتداء من إبراهيم بن على الذي تولى سنة 760هـ إلى عبد الحق بن أبي سعيد أخرهم الذي تولى سنة 831هـ ، فوصلوا إلى أربعة عشر حاكما خلال سبعين عاما ، منهم من كانت مدة حكمه عشرة أيام فقط ! (2). وقد نقض المرينيون ماأحياه الموحدون من الاجتهاد وأعادوا نشر المذهب المالكي . (3)
__________
(1) انظر : روض القرطاس1/ 278،279، الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية (كاملا) ، الحلل الموشية ص171 .
(2) انظر المغرب العربي الكبير 462-463 .
(3) انظر الفكر السامي 3/173(1/68)
وراجت دراسة التفسير في الصقع السوسي رواجا كبيرا وذلك لحاجتهم إلى تفهم كلام الله نظرا لأن لغتهم ليست بعربية ، ونبغ من علماء التفسير أبو يحيى الكرسفي من أهل القرن السابع وهو متخرج من الأندلس ت 683هـ . (1)
الوطاسيون 876هـ والسعديون 915هـ في المغرب(2):
في عام 854هـ ، تحركت من ميناء لشبونة قوة برتغالية ضخمة على ظهر أسطول مكونة من 240 سفينة تحمل حقدا دفينا على المسلمين ، بعد أن استطاعت إخراجهم من أرضها إلى ميناء سبتة المغربي الذي فوجىء بهذا الغزو المفاجىء فسقط صريعا إذ لم تستطع الدولة المرينية أن تواجه هذا الخطر ، لأنها كانت تحتضر ، ثم اتجهوا بعد أن ثبتوا أقدامهم في سبتة إلى طنجة سنة 1437م ، فنجح الوصي على الملك أبو زكريا يحيى الوطاسي في أواخر العهد المريني من استنفار الناس للدفاع عنها وتمكن المسلمون من هزيمتهم(3).
ولما تنازع أفراد البيت المريني السلطة ضعفت الدولة واستبد الحجاب والوزراء من بني وطاس بالأمر بعد أن استقلت جهات برمتها عن حكمهم عقب وفاة عبد الحق آخر ملوك بني مرين سنة 869هـ ، وفي عام 876هـ استولى أبو عبد الله محمد الشيخ الوطاسي على فاس وظل أميرا لها حتى خلفه ابنه أبو عبدالله الملقب بالبرتغالي سنة 910هـ .
__________
(1) انظر : سوس العالمة ص34 ، الحضارة المغربية عبر التاريخ 1/190 .
(2) انظر : تاريخ الدولة السعدية (كاملا) ، المغرب عبر التاريخ 2/221-470 .
(3) انظر المغرب العربي الكبير في العصر الحديث ص44-91 .(1/69)
وبعد أن سقطت القسطنطينية سنة 1453م في يد الأتراك العثمانيين المسلمين هاج الصليبيون في العالم بأسره وتخوفوا قوة المسلمين ، ومنهم ملك البرتغال آنذاك الفونس الخامس الذي كون جيشا للاستيلاء على ميناء القصر الصغير الواقع بين سبتة وطنجة تمهيدا لاحتلال طنجة ، ثم قام بعدة محاولات لاحتلال طنجة ففشل إلا أنه بعد ذلك وبسبب الفوضى الداخلية سقطت طنجة بعد سقوط أصيلا ، واتجهت الأنظار البرتغالية للوصول إلى مطامعها عن طريق استمالة رؤساء القبائل فاستطاعت القوات البرتغالية احتلال العديد من الموانيء المغربية ، وفرض حمايتها عليها مثل أسفر والصويرة وأكادير وماسة وأزمور ثم حاول البرتغال توجيه ضربة قوية لمراكش ولكنها فشلت فشلا ذريعا أمام السعديين ، تبعتها هزيمة أخرى في المعمورة أمام الوطاسيين في آخر دولتهم ونظرا لأطماع البرتغال في المناطق المكتشفة الجديدة في الكشوف الجغرافية وضعف الأوضاع المادية ، لم تستطع الصمود والبقاء في هذه الثغور فتم جلاؤهم منها وآلت طنجة وسبتة ومزاكان في نهاية أمرهم للأسبان(1).
ولما مات أبو عبدالله الذي خاض معارك كثيرة مع البرتغال خلفه أخوه أبو حسونة سنة 931هـ الذي حدث في عهده نزاعات مع السعديين ، وبسبب هذه الاضطرابات والنزاعات بالإضافة إلى الأطماع الأجنبية خلت تلك الحقبة من الآثار العمرانية وغيرها بل تعرضت البلاد للتخريب ، وكان قيام الدولة السعدية على يد أبي عبد الله القائم بأمر الله سنة 916هـ سببا في تخليص المغرب من الأخطار التي واجهته بسبب الأطماع الأوربية من جهة ، ومن أطماع الأتراك العثمانيين الذين استولوا على الجزائر وتونس من ناحية أخرى(2).
__________
(1) انظر : المغرب العربي الكبير في العصر الحديث 28-32 .
(2) انظر المرجع السابق .(1/70)
وقد بدأ نفوذ السعديين في بلاد درعه والسوس الأقصى ، وكان ظهورهم في وقت ضعفت فيه الدولة الوطاسية عن حماية الثغور العرضة لأطماع البرتغاليين و الأسبان فالتف الناس حول أبي عبد الله محمد السعدي وبايعوه بالإمارة سنة 915هـ ، واستعد لمقابلة البرتغال فأدركته الوفاة سنة 923هـ ، وتولى ابنه أبو العباس أحمد الأعرج الذي أحرز انتصارات عظيمة على المستعمرين وبايعه أهل مراكش فحاربه الوطاسيون خشية على فاس ودارت بينهما معارك متعددة .
وكان أبو عبد الله محمد الشيخ شقيق أبي العباس الأعرج واليا من قبل أخيه على السوس حتى دخل الوشاة بينهما فتقاتلا وانفرد أبو عبد الله بالحكم ، وأودع أخاه وأولاده السجن سنة 946هـ(1).
واستطاع أبو عبد الله محمد مواصلة الجهاد ضد البرتغال حتى اطمأن من ناحيتهم وتوجه إلى فاس ، فدخلها وقبض على الوطاسيين وأرسلهم إلى مراكش وفر أبو حسونة إلى الجزائر مستجيرا بالأتراك ، واتصل بالامبراطور الأسباني يستنجد به أيضا وازداد التوتر بين الأتراك والسعدي عندما استولى أبو عبد الله على تلمسان، فاستطاعوا أن يستعيدوها مرة ثانية ، وأمدوا أبا حسونة بجيش لمحاربة أبي عبد الله وبعد معارك طاحنة استطاع الدخول إلى فاس إلا أن أبا عبد الله الشيخ استنفر قبائل السوس ، واستطاع قتل أبي حسونة واستعادة فاس .
وبقيت العلاقات متوترة بين المغرب والخلافة العثمانية حتى تمكن السلطان العثماني من دس فرقة من الجنود الأتراك إلى جيش أبي عبد الله ، فاستطاعوا قتله وحمل رأسه إليه سنة 964هـ(2).
__________
(1) الاستقصاء 5/17، 18 .
(2) انظر : الاستقصاء 5/32،115، نزهة الحادي في أخبار ملوك القرن الحادي (بدون أرقام).(1/71)
ثم بويع لابنه محمد عبد الله الغالب بالله الذي انتصر على جيش الأتراك في محاولة للقرب من فاس ، ولما توفي الغالب بالله بويع لابنه أبي عبد الله المتوكل على الله إلا أن عمه أبا مروان عبد الملك المعتصم بالله استطاع انتزاع الملك منه بمعاونة الأتراك ودخل فاسا سنة983هـ بمعاونة الجيش التركي ، ثم دخل مراكش بعدها ، إلا أن عبد الله المتوكل حاول العودة إلى مراكش فلم يتمكن ، ففر إلى طنجة واستنجد بالأسبان فلم ينجدوه فاستنجد بالبرتغال ، فكانت موقعة وادي المخازن بين البرتغال والمسلمين المغاربة سنة 986هـ انتهت بنصر حاسم للمسلمين وقتل قائد البرتغال والخائن المتوكل ، وتوفي أبو مروان(1)، فبويع لخليفته أبي العباس أحمد المنصور الذي قام بتحسين العلاقات مع السلطان العثماني بعد أن حاول الوشاة إفسادها حتى اطمئن تماما من جانبهم وشرع في غزو السودان ، فاستولى عليها استيلاء كليا وأصبح التبر يحمل إليه بما يحير الناظرين ولهذا لقب بالذهبي .
واتسم عهده بإصلاحات عظيمة فنظم الجيش وأرسى النظم الإدارية ، وقام بإنشاءات معمارية عظيمة منها قصر البديع بمراكش وساد العدل في وقته حتى ذكر القشتالي أنه لم ير من ملوك العصر أعدل منه ، وما في الأرض مملكة تسير على قوانين الشرع ومنهاج السنة أحسن من مملكته ، وعرف المنصور بتشجيعه للفقهاء والعلماء وكان يجمعهم للمذاكرة بمراكش وفاس، فكان الحديث يدور حول أمهات الكتب في التفسير والفقه وعلم المنطق وغير ذلك من العلوم ، فقد كان هو نفسه على علم وله منظومات وأسفار رائعة(2).
__________
(1) انظر : موقعة وادي المخازن الحاسمة ص222 ، الاستقصا 5/86 .
(2) انظر : مناهل الصفا في مآثر موالينا الشرفا ص 69-301 ، الاستقصا 5/95 وما بعدها.(1/72)
ولما وافت المنية المنصور سنة 1012هـ بايع أهل فاس ولده زيدان ، وامتنع أهل مراكش من مبايعته وبايعوا أخاه أبا فارس الوالي عليهم من قبل أبيه ، فقامت سلسلة حروب بين الأخوين ودخل فيها أيضا أخوهم المأمون ، وانتهت الصراعات بقتل أبي فارس ، ثم قتل المأمون واستقل زيدان بالأمر بمراكش حتى مات سنة 1037هـ، وتوالى الحكم في ذريته بمقتل الواحد تلو الآخر حتى انقرض أمر السعديين سنة 1069هـ ، واستبد عرب الشبانات بالأمر في مراكش ، وحدث أثناء تلك الفترة استعانة المأمون بالأسبان على أخويه مقابل استيلائهم على العرائش(1)
__________
(1) الاستقصاء 6/20،21 ..(1/73)
مما أدى إلى تمادي أسبانيا في الاعتداءات على الثغور ، كما تشجع البرتغال في الظهور على الساحة مرة أخرى بسبب هذه الاضطرابات ، هذا بالإضافة إلى ظهور انقسامات داخلية منها ظهور ( الدلائيين ) على المسرح السياسي بعد أن كانوا بالزاوية الدلائية كمركز ديني للعبادة والتفقه ، وكذا ظهور حركة أبي العباس أحمد بن عبد الله السلجماسي الصوفي الذي استولى على درعة ، وقصد مراكش ففتحها وطرد زيدان لكنه قتل وانتهت حركته سنة 1022هـ ، وظهر أيضا في تلك الآونة شخصية الفقيه العالم محمد بن أبي العباس أحمد الزياني الشهير بالعياشي الذي قاد الجهاد ضد الاستعمار البرتغالي وعينه السعديون على عمالة أزمور سنة 1020هـ ، واستعمل البرتغال الوشاية للإيقاع بين العباسي والسلطان زيدان فأرسل سرية إلى مزمور للقبض عليه وقتله لكنه نجح في الهروب إلى مسقط رأسه سلا واستمر في الجهاد ضد البرتغال والأسبان حتى وافته المنية سنة 1051هـ رغم الوشايات التي كثرت حوله لايقاع السلطان به ، وذلك بقتله غيلة من أتباع الدلائيين الذين فسدت العلاقة بينه وبينهم ووصلت إلى القتال ، وبقتله خلا الجو للدلائيين فاستولوا على فاس وسلا وتطوان(1).
وكان من مزايا عصر السعديين الاعتناء بتفسير القرآن ، وتعدد المفسرين ومن بينهم الحاج محمد الشنقيطي (ت 963هـ) صاحب اللباب في حل مشكلات الكتاب ، وعبد الرحمن بن يوسف القصري العارف (ت 1036هـ) وله حاشية على تفسير الجلالين ، وعلي بن الواحد الأنصاري السجلماسي (ت 1054هـ) ، كما نسب إلى الملك زيدان ابن المنصور الذهبي (1037هـ) حاشية على تفسير الزمخشري ، ويعد من كبار المفسرين أيضا بلقاسم بن إبراهيم الدكالي المشترائي (ت978هـ) ، وهو من أئمة القراءات السبع(2).
__________
(1) انظر : الزاوية الدلائية ودورها الديني والعلمي والسياسي ، محمد العياشي وجهاده ضد الأسبان والبرتغال .
(2) انظر : سلوة الأنفاس 2/128، المغرب عبر التاريخ 2/460 .(1/74)
الدولة العلوية (من سنة 1050هـ إلى الآن) :
بدأ تأسيس هذه الدولة على يد المولى محمد بن الشريف الذي ينتسب إلى الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حين بايعه أهل سجلماسة(1)، ثم استيلائه على درعة وغيرها، ثم اصطدامه بالدلائيين في وقعة القاعة ، التي انتصر فيها الدلائيون وانتهت بالصلح بين الطرفين ، ثم نازعه أخوه المولى الرشيد وقاتله حتى قتل سنة 1075هـ، وتولى المولى الرشيد ، فدخل فاسا ودارت بينه وبين الدلائيين معركة بطن الرمان ، التي قضى فيها عليهم ودخل مراكش ، ثم بلاد السوس وحقق وحدة المغرب السياسية واتجه إلى الإصلاح ، فنظم الجيش ، وفي عهده استأنفت الحركة العلمية والأدبية سيرها وكان ذا اهتمام بالعلم ويحضر بنفسه مجالسه بالقرويين ويزور العلماء في دورهم ، وأمر ببناء مدرسة في مراكش وشرع في أخري بفاس واهتم بالعمران أيضا(2)، وبعد وفاته تولى أخوه المولى إسماعيل سنة 1082هـ ، فواجه عدة ثورات داخلية منها مع ابن أخيه ومنها مع قائد الجيش بفاس ومنها مع بعض الدلائيين ومنها مع إخوته الثلاثة حين خرجوا عليه ، واتخذ المولى إسماعيل مكناسة الزيتون عاصمة لملكه ، واهتم بالعمارة والتنسيق ، ولما استقر له الأمر اهتم بإقرار الأمن الداخلي وتأمين الحدود ونزع السلاح من الأفراد والقبائل ، وجهز جيشا قويا ضخما استغل فيه العبيد السنغال ، واستطاع تحرير بعض الثغور كطنجة والعرائش .
وكان للعلم والعلماء منزلة خاصة عنده ، فكان يكرمهم ويجزل لهم العطاء وشيد وجدد كثيرا من المساجد والمدارس(3).
__________
(1) الاستقصا 7/3،4،5 .
(2) انظر : المغرب العربي ص120، نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي ص27.
(3) انظر :روضة التعريف بمفاخر مولاي إسماعيل بن الشريف ص 47،58،59،60 ، الاستقصا 7/58-72 .(1/75)
ثم توفي سنة 1159هـ فحدث بعده اضطرابات شديدة ونهب من قوة الجيش الذي كان قد أسسه ، وتدخل الجيش في شئون الدولة حتى عام 1171هـ، ثم تولى المولى محمد بن عبدالله بعد وفاة والده فحاول إصلاح الحالة الاقتصادية ، واستطاع القضاء على مثيري الفتنة واهتم بالثغور والجيش والأسطول المغربي اهتماما عظيما ، واستطاع مجابهة الأساطيل الأوربية وهزيمتها وتخليص بعض الثغور، وعقد مع الدول الأوربية والولايات المتحدة معاهدات تجارية وكذا مع الدانمرك والسويد ، ولم يكن حاكما سياسيا وقائدا حربيا فحسب لكنه اشتهر بحبه للعلم والعلماء ، فقد كان يقربهم من مجلسه ، وطلب من المشرق الكثير من كتب الحديث التي لم تكن بالمغرب ، وكان يجلس بعد صلاة الجمعة في مقصورة الجامع بمراكش مع الفقهاء والعلماء للمذاكرة ونهى طلبة العلم عن الاشتغال بالمختصرات دون أمهات الكتب ، وطالب بالرجوع إلى الكتاب والسنة في الأحكام ، وأوقف الكثير على الحرمين وطلاب العلم قام بتحبيس الكتب العلمية كما اهتم بالمساجد والمدارس وغيرها ، وبعد وفاة المولى محمد تولى ابنه المولى يزيد سنة 1204هـ ، الذي خلع القبائل بيعته وبايعوا أخاه هشام فتقاتلا وقتل المولى يزيد ، وتفرقت الكلمة بالمغرب على أبناء المولى محمد ، حتى غلب نفوذ المولى سليمان بن محمد وتمت له البيعة العامة سنة 1206هـ ، وكان قد بايعه أهل فاس وأعمالها ، وكان مشتغلا بالتقوى والعلم ولم تتم بيعته بالطعن والقتل وإنما بضعف إخوته ، وكان مائلا للتسامح والتقشف في الحياة والزهد في الدنيا ومنها الحكم ، نكما كان يحيي ليالي رمضان بمشايخ القراء وأعيان العلماء ينتقيهم لسرد الحديث وتفهمه ، ويشاركهم بغزارة علمه ، ويعظم العلماء ويرفع مقامهم ويجري عليهم الأرزاق ، حتى تنافس الناس في أيامه على اقتناء العلم لاعتزاز أهله ، واهتم كذلك بالعمران وسلك سياسة المسالمة مع الدول المجاورة ، وكان متفقا في وجهة النظر مع الدعوة الوهابية(1/76)
بالجزيرة العربية، وتمت بينهما مراسلة ثم قامت في أواخر عهده فتنة بين قبائل البربر ، فعمت القلاقل المغرب كله واشتد المرض بالمولى سليمان فعهد لابن أخيه المولى عبد الرحمن بن هشام لما اشتهر به من العدل والأمانة ، وترك أولاده وإخوته(1).
ولما تولى المولى عبدالرحمن بن هشام سنة 1238هـ ، أخذ في التجول على القبائل واستطاع إخضاع الأقاليم التي زارها ، وتمت في عهده إصلاحات كثيرة في العمران وفي الأسطول البحري ، ولما استولى الفرنسيون على الجزائر سنة 1246هـ طلب أهل تلمسان الانضمام إلى المولى عبد الرحمن ، فقبل انضمامهم إليه إلا أنه اضطر لسحب جيوشه بعد دخول الفرنسيين وهران وتمرد بعض بقايا الأتراك عليه(2).
وتعلل الفرنسيون بأن الأمير عبد القادر الجزائري يجد الحماية له من قبل المغرب كلما فر إليها ، فاقتحموا وجدة ، ثم انتصروا على جيش المولى عبد الرحمن في وقعة أسلي التي استولوا فيها على طنجة سنة 1844 ، وأسفرت المفاوضات بعدها عن توقيع معاهدة طنجة التي ضغطوا فيها على الجانب المغربي(3).
__________
(1) انظر الاستقصا 8/86،109،111،112 .
(2) الاستقصا 9/12 .
(3) الاستقصا 9/49-53 ، وانظر : تحفة الزائر 1/290-291 .(1/77)
ثم توفي المولى عبد الرحمن سنة 1276هـ ، فتولى بعده المولى محمد بن عبد الرحمن إذ كان ينوب عن أبيه في حياته ، واشتهر بالتقوى ومراعاة الشرع في تصرفاته واستتب الأمن في عهده وهدأت الأطماع الأجنبية شيئا ما ، فاهتم بالعمران ، وبنى العديد من المساجد منها جامع السنة وجامع أهل فاس بالرباط والمسجد الجامع بالسوق بالدار البيضاء ، واهتم بإعداد الجيش الذي تبين ضعفه في وقعة أسلي ، وفي عهده هاجم الأسبان تطوان وصمد أمامهم الجيش المغربي ، إلا أنه أخيرا تقهقر فدخلوها سنة 1276هـ ، وتدخلت بريطانيا للوصول إلى اتفاق بين البلدين فتم ذلك بتنازلات أيضا من المغرب ، ثم بأخذ قرض بفوائد من بريطانيا أدى إلى فرض رقابة من قبلها على الموانىء المغربية(1).
ولما توفي المولى محمد بن عبد الرحمن بويع لابنه المولى حسن بن محمد سنة 1290هـ، فقام بعدة رحلات لزيارة ثغور المغرب وعاين التحصينات الدفاعية فيها، وتفقد بلاد السوس إلا أن أسبانيا عمدت إلى المنطقة المواجهة لجزر الكناريا ، التي سبق وأن احتلتها فرفعت عليها علمها وأطلقت عليها اسم ريودي أورو يعني نهر الذهب فاحتج المولى حسن على ذلك وعمد إلى تحصين الثغور ومراقبة سائر جهات القطر السوسي(2).
وقد شهدت فترة حكم المولى حسن تنافسا دوليا شديدا بين الدول الأجنبية حول النفوذ في المغرب والحصول على أقرب امتيازات ، وتمكنت الدول الأوربية من فرض معاهدة على المغرب سنة 1862هـ لامتيازات رعاياها طالب بعدها المولى حسن بإلغاء هذه الامتيازات التي لا مبرر لها ، فعقد مؤتمر بمدريد لدول أوربا والولايات المتحدة الأمريكية بالإضافة للمغرب وخرجوا بقرارات لصالحهم وحاول المولى حسن أن يظل المغرب محتفظا باستقلاله رغم الضغوط الشديدة عليه(3).
__________
(1) انظر الاستقصا 9/101-124 .
(2) انظر الاستقصا 9/149 وما بعدها .
(3) المغرب العربي ص 135-136 .(1/78)
ولما توفي السلطان الحسن بويع لابنه سنة 1312هـ المولى عبد العزيز الذي لم يتجاوز عمره 13سنة ، ولما أخذت البيعة له استولى الوزير أحمد علي على مقاليد الأمور، واستطاع أن يقف في وجه الأطماع الأجنبية ويحاول استرجاع سلطان المغرب ، ولما توفي سنة 1898م لم يستطع المولى عبد العزيز الوقوف في وجه التيارات الداخلية بالإضافة إلى الخارجية حيث اجتاح المغرب عدة ثورات بسبب الفوضى الاقتصادية والديون ، وبدأت فرنسا عقد اتفاقيات مع الدول الأجنبية ذات المطامع في المغرب تمهيدا لما تنويه للمغرب فعقدت إتفاقية مع إيطاليا ، ثم مع انجلترا ثم مع أسبانيا، ثم عقدت إتفاقية الجزيرة سنة 1906م بين الدول الموقعة على اتفاقية مدريد سنة 1880م ، التي دعمت نفوذ فرنسا وأسبانيا في المغرب ومنعت دخول السلاح للمغرب بحجة منع القبائل من التسلح حفاظا على استتباب الأمن ، وكان هذا الفعل تمهيدا لفرض الحماية الفرنسية على المغرب(1).
وانتشر إعراب القرآن في تلك الحقبة من ناحية الصقع السوسي وألف فيه أبو زيد الجشتيمي (ت1269هـ) كتاب إعراب القرآن في مجلدين ، وكان من عادة الطلبة أن يحلقوا حول الأستاذ ويعربوا مقدار الوقت الأول من الحزب الراتب مع الاستدلال من المتون في تطبيق القواعد(2).
__________
(1) انظر التنافس الاستعماري الأوروبي في المغرب ص 52 -109 .
(2) انظر : سوس العالمة ص34 ، الحضارة المغربية عبر التاريخ 1/190 .(1/79)