ولازم الإشهاد بعد ذلك، ولما توفي الشيخ علي بن محمد الطويبي قاضي جبل المنار عشية يوم الاثنين قدّم المشير الثالث محمد الصادق باشا باي والدِي المذكور قاضياً بجبل المنار وإماماً وخطيباً بجامع سيدي أبي سعيد الباجي صبيحة يوم الأربعاء التاسع عشر من شهر ربيع الأول سنة 1299 تسع وتسعين ومائتين وألف، وقدّمه شاهداً على عموم أوقاف تلك الجهة، وقدنقش في ختمه بيتاً وهو: [الوافر]
لطيفاً في القَضَا باري النُّفوسِ ... بعونك جُدْ لعثمانَ السنوسي
وهو خامس من ولي خطة القضاء بالجبل المذكور وذلك أن أول قضاتِه هو الشريف الشيخ عثمان دمدم وليها بسعاية محمد خوجة كاهية حلق الوادي، وهوالذي أقام ته بجامع المكان منبراً. وبعد وفاة الشيخ عثمان ولي عوضه خطتي القضاء والإمامة الشريف الشيخ علي بن محمد التميمي، وبعد وفاته وليها ولده الشيخ محمد التميمي، ثم استقال، فخلفه صهره الشيخ علي الطويبي سنة 1278 ثمان وسبعين ومائتين وألف، والآن صارت إلى والدنا المذكور بسأل الله لنا وله الإعانة على ما يرضيه. وعند ولايته الخطة المذكورة كتب إليّ الأديب البارع الثقة الشيخ الحاج محمد سيالة مهنياً بما نصه: [الكامل]
الفرع مهما طاب أصلاً لم يزل ... يسعى ليحرز ما به الأصل اكتمل
فتراه ذا حزم وعزم ما نَبا ... حَدَّاهما لو كلفا صعب العمل
وبذا يسود وَلاَ يزال إذا ارتقى ... للرتبة العليا لأعلى ينتقل
إذ ذاك يحظى سلكهم بفريدة ... يزداد إشراقاً بها عند الأوَل
فيزان جيد زمانه بفضائل ال ... حَبْرِ الأجَل ابن الأجل ابن الأجل
وبذاك يصبح ثم يمسي داعياً ... لكمالهم بتسلسل لا ينفصل
الفاضل الذي جمع أشتات الفضائل والفواضل، والكامل الذي لا يدرك شأوه مناضل، خلاصة الألبأن والطلع من كنوز المعارف على المخبأ من استعبد حر الكلام بسن اليراع، وشرع حد ذكائه على جيش الفصاحة والبلاغة فأطاع، فاقتحم كل شِعب من شعوب الآداب، واقتفى أثر كل شاردة وضالة من كل فدفد، فأصبح وهو المالك لأزمّة البراعة، وضرب له بالسهم الأكبر من الغنيمة التي هي أشرف بضاعة، كيف لا وهو الذي جد فوجد، وزرع فحصد، وصال فذلّل الحرون الشَّموس، وقال فصيّر سُهَا المسائل كالشُّموس، أعني الأخ الذي طالما تنزهت في رياض آدابه، وعانقت خرائد المعاني بين سطور كتابه، واتخذت من بنات أفكاره أنسي، ولأت من سلسبيل رضا بها كؤوسي، سيدي وأخي الشيخ محمد السنوسي، لا زال بدر سعادته دائم الكمال، محفوظاً بعين عناية ذي الجلال.
أما بعد إهداء ما يليق بمقامكم الأسنى، من التحية الحسنى، فإني قد بشرت بما شنف آذاني وأفعم بالسرور جَناني، من أن الهمام الفاضل واسطة الأمجاد الأفاضل، من شرفت أقدامه قلل المعاني بالفرع، وقلد الدهر بدرر مفاخر أصله والفرع، الجامع بين تليد المجد والطريف ذا الحسب الباذخ والنسب الشريف، فرع الفضلاء الأعلام ووالد نخبة الكرام، المعني بالكلام، والدنا الشيخ سيدي عثمان السنوسي قد شرف ركابه منصب القضاء بجبل المنار، وبشرت بما سينهلّ به سحابه من العدل هاتيك الديار، حملتني كثرة السرور التي تعلمها من غير ذلك ما أبديتها من سكنى الدّر بانيها وإعطاء القوس باريها بعد أن هنات نفسي بنفسي على أن أقدم لكم التهنئة قبل أن تقدمها إليّ وإن كان هذا الفرض قد وجب عليكم قبل أن يجب عليّ، حيث إن حبل المودّة بيننا متين، وصدق المحبة جعلنا توأمين بلامين, مع أنك فزت بقرب الدار من الملاذ المشار إليه، ولكن استواء الحب حكم بسقوط التكليف على ذويه، وحينئذ فهنئتك أيّها الأخ بالرتبة السنية التي أمت رحابكم، وانتهى بها التفتيش على كفء لها إلى أن طرقت بابكم فوجدت من هنئت بقبوله لها وتشبثت بأذيال من يكسوها حلل الفخر والبها فجعلها الله مقرونة باليمين والإقبال، مبشرة بنيل الآمال فاتحة لإدراك ما حازته الأوائل من الرتب السنية والشرف الكامل ورزق من لاذت به الإعانة على الدوام حتى يتوج القضايا بالنقض والإبرام ويبلغ بحسن السيرة وصفاء السريرة المرام. ويشاهد كما شاهد حسن المبدأ حسن الختام, والسلام من ودودكم وحافظ عهودكم الحاج محمد سياله لطف الله بالجميع في ربيع الثاني 1299 تسع وتسعين ومائتين وألف.(1/321)
وبموجب ولايته خطة الإمامة والخطبة بعثني على إنشاء خطب مستجدة للأسابيع وقد جمعها ديواناً وقد سبق أنّه هو الذي اعتنى بجمع مآثر جده العلمية، جزاه الله خيراً. وقد سافر إلى بلد الكاف وبحث عن أصول شرفنا وأقام شهادة في ذلك، ضمّها إلى وفيات قديمة عندنا وجدّد بذلك شجرة أثبت فيها شرفه فكتب فيها نقيب السادة الأشراف بالحاضرة كتابة بديعة هذا الحمد لله الذي أظهر الطلعة الأحمدية نيراص أعظماً وأمدّ من نوره بمزيد عنايته به بدوراً وأنجمأن فاشرقت به ىفاق الجهل الحوالك واتضحت به الطرق والمسالك وجعله مرشداً للنجاة محذراً من المهالك وفتح به للنجاح والعلاج قلوباً وأبصارأن وجعل له من قرابته وعشيرته حماة لدينه وأنصارأن وأبرزه للخلق رحمة وشفأن وخصّه وأهل بيته الشرفا بالسؤدد مع الصدق في القول والوفا وأجزل عطيتهم وتكريمهم وأوجب على الخليقة توقيرهم وتعظيمهم على لسان نبيه المرتضى ورسوله المجتبي بقوله (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا الموّدة في القربى) والصلاة والسلام على سيدنا محمد تاج مفرق المعالم وسيّد ولد آدم، وعلى آله وصحبه وكل من اهتدى بذلك المنار وانتسب لذلك الجناب.(1/322)
أمّا بعد فإن من تعلّق بالنبي عليه الصلاة والسلام واتصّل بحبله سببه، وحرّي أن يحرز القصبات ويركب سفينة النجاة ولو كان من أولاد البنات على ما يرشد بارئ البرية وواجب العطيّة بقوله: "ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذريّة" واسم الذريّة يتناول أولاً البنات كما نقل عن الحنفية والمالكية في باب الوقف والوصية وآل بيته عليه الصلاة والسلام هم علي وفاطمة وأبناؤهما رضوان الله عليهم، كما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت خرج النبي عليه الصلاة والسلام ذات غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود فجاء الحسن فأدخله ثم جاء الحسين فأدخله ثم جاءت فاطمة فأدخلهأن ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: "يوجد آية"، وللترمذي وقال حسن صحيح عن أم سلمة أنّ النبي عليه الصلاة والسلام جللّ على الحسن والحسين وعلي وفاطمة كساء، وقال اللهم إنّ هؤلاء أهل بيتي وخاصتي أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً قالت أم سلمة وأنا معهم يا رسول الله قال: إنّك على خير، وفي رواية فجئت لأدخل معهم قال فكأنّك وأنت على خير أنت من أزواج النبي. وفي قوله إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت الآية دليل على اعتنائه تعالى بهم وإشارة إلى عليّ قدرهم حيث أنزلها في حقّهم لا تشمل غيرهم معهم كما يستفاد ذلك مما فعل عليه الصلاة والسلام بهم حيث سوى بينه وبينهم في دخوله الكساء معهم فمن اقترف من ذريّته عليه الصلاة والسلام شيئاً من الوزر يرجى أن يتدارك بسبب التطهير إمّا بإلهام المثوبات أو بأنواع المصائب ونحوها من المكفرات كعدم إنالتهم ما ناله غيرهم من الحظوظ الدنياويات، وآخرها الشفاعات النبويات. وناهيك في علو قدرهم سلام الله عليهم، فقد نقل عن جماعة من المعبرين عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى "يوجد آية" فياسين ومحمد مثل يعقوب وإسرائيل، ومن اختصار الزاهرات الوردية بالفتاوي الأجهورية ما نص: وسئل عن الشريف أفضل أم العالم فأجاب الشريف أفضل من حيث النسب ولمذا كانوا عنده بهذه المكانة أوجب على كل مسلم مبتهم وموالاتهم وحرم عليه إهانتهم وإذايتهم، فالمخلص في المحبة لجدّهم يعفو عنهم إن آذوه معاملة له كما حكي عن إمام دار الهجرة مالك بن انس رضي الله عنه لما ضربه جعفر بن سليمان العباسي وكان أميراً بالمدينة ونال منه ما نال ظلّ مغشياً عليه فلما أفاق قال أشدكم عليّ أنّي جعلت ضاربي في حل فسئل عن ذلك فقال خفت أن أموت وألقى النبي عليه الصلاة والسلام ما سمي ما أن يعذب بعض آله بسببي. وبالحقيقة لا يكون من المؤمنين من لم يجد رسول الله وذريّته إليه من نفسه أحب وأعز عليه من نفسه وأهله وولده والناس أجمعين. ومن علامة محبته عليه الصلاة والسلام محبة ذريّته وإكرامهم والإغضاء عن انتقادهم، فما انتقد ذرية محمد محب محمد قطّ، فهم قوم شرّف الله أخلاقهم, فلا تغلب عليها أفعالهم كغيرهم، فمن ترى فيه المخالفة من أهل بيته عليه الصلاة والسلام فإنّما نبغض أفعاله فقط، وأما ذاته فلا نبغض لما صح من قوله عليه الصلاة والسلام: "فاطمة بضعة منّي" ومعلوم أن أولادها بضعة منها فيكون بواسطة بضعة منه عليه الصلاة والسلام، ألا ترى قول عمر لعلي رضي الله عنهما في خطبته لأم كلثوم بنت فاطمة إنّي أحب أن يكون عندي عضو من أعضاء رسول الله عليه الصلاة والسلام فكان من يشاهد اليوم من ولدها فهو بضعة من تلك البضعة ولو تعددت الوسائط. قال الشيخ محي الدين بن العربي: لا ينبغي لمسلم أن يذمهم بما وقع منهم أصلاً لأنّ الله طهرهم وليعلم الذّامّ لهم ان ذلك راجع إليه ولو ظلموه، فذلك الظلم هو في زعمه ظلم لا في نفس الأمر وإن حكم عليه الشرع بأدائه، بل حكم ظلمهم إيان في نفس الأمر يشبه إجراء المقادير على العبد في نفسه وماله وما يحبه بالأمور المهلكة كأن يصاب في نفسه أو يحرق ماله أو يموت بعض أحبابه، وهذا كله ممّا لا يوافق غرضه، ولكن لا يجوز له أن يذّم قدر الله وقضاءه، بل ينبغي له أن يقابل ذلك بالشكر فإن نزل عن هذه المرتبة فبالرضى والتسليم، فإن نزل عن هذه المرتبة فبالصبر فإن في طي ذلك نعما لهذا المصاب هكذا ينبغي للمسلم أن يقابل جميع ما يطرأ عليه من آل البيت في ماله ونفسه وأهله، فعفونا عنهم فيما أصابوه منّا تكون لنابه عند الله اليد العظمى والمكانة الزلفى فقد طلبت منا الموّدة لهم، ومعناها(1/323)
الثبات على المحبة في كل حال، فمن اتصف بالموّدة لهم لم يؤاخذهم لما يطرأ في حقه منهم، بل يتركه محبة وإيثارأن إذ كل ما يفعل المحبوب محبوبه. وروى أن الحسن تلا قوله تعالى: "يوجد آية" ثم قال: إنّ الحسنة مودّتنا أهل البيت وقال محمد ابن الحنفية في قوله تعالى: "يوجد آية" لا يكون المؤمن إلاّ وفي قلبه ودّ لأهل البيت لقوله عليه الصلاة والسلام: لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه، وعترتي أحبّ إليه من عترته، وأهلي أحب إليه من أهله، وقال عليه الصلاة والسلام: "أدبوا أولادكم على ثلاث خصال حب نبيكم وحب أهل بيته وقراءة القرآن، وقال عليه الصلاة والسلام": حب آل محمد خير من عبادة سنة، ومن مات عليه دخل الجنة وقال عليه الصلاة والسلام: أنا شجرة وفاطمة حملها وعلي لقاحهأن والحسن والحسين ثمرهأن والمحبوبون لأهل بيتي ورقتهم في الجنة حقاً حقأن وقال عليه الصلاة والسلام: لا يحبنا أهل البيت إلاّ مؤمن تقي ولا يبغضنا إلا منافق شقي، وقال عليه الصلاة والسلام: اشتدّ غضب الله وغضب رسوله وغضب ملائكته على من آذاني في عترتي. وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنّه دخل عليه عمه العباس فقال: يا رسول الله إنّا لنخرج فنرى قريشاً يتحدثون فإذا رأيونا سكتوا فغضب رسول الله عليه الصلاة والسلام ودرّ عرق بين عينيه ثمّ قال: والله لا يدخل الجنة قلب امرئ مسلم إيمان حتى يحبكم لله وقرابتي ثم قال أيّها الناس من آذى عمّي فقد آذاني، وقال لو أنّ رجلاً صفّ أي جمع قدميه بين الركن والمقام فصلّى وقام ثم لقي الله وهو مبغض لآل نبيّه دخل النار، وقال صلّى الله عليه وسلم: من لم يعرف حق عترتي والأنصار والعرب فهو لإحدى ثلاث إمّا مريب أو منافق أو حملت به أمّه من غير طهر، وقال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده لا تزول قدم عن قدم يوم القيامة حتى يسأل الرجل عن عمره فيما أفناه وعن جسده فيما أبلاه وعن ماله مّما اكتسبه وفيما أنفقه وعن حبنا أهل البيت وروي في قوله تعالى: "يوجد آية" أي عن ولايته أهل البيت، والمعنى أنّهم يسألون هل والوهم حق الموالاة كما أوصاهم النبي عليه الصلاة والسلام أم أضاعوها وأهملوها فتكون عليهم المطالبة والمؤاخذة بذلك وعنه عليه الصلاة والسلام أنّه قال: من آذاني في عترتي فعليه لعنة الله، وقال عليه الصلاة والسلام: إنّ الله حرّم الجنة على من ظلم أهل بيتي أو قاتلهم أو أعان عليهم أو سبّهم، وقال عليه الصلاة والسلام: رأيت ليلة الإسراء مكتوباً على أبواب الجنة والنار أذذل الله من أهان أهل البيت، إلى غير ذلك من الآيات والآثار الدالّة على منقبتهم السميّة، وسمو رتبتهم العلية، ممّا لو تتبعناه لأفضى بنا إلى التطويل وحسبنا الله ونعم الوكيل. وفيما ذكرناه كفاية لمن أناب، وليتذكر أولو الألباب.
هذا ولمّا اطّلعت على هذه الشجرة الباسقة وانتظامها في سلك السادات الأشراف وعقودها المتناسقة، ثبت عندي بمقتضاها شرف الثقة الأعدل الأبر الشريف السيّد الحاج عثمان بن الأكتب النحرير الشريف السيّد محمد ابن العلاّمة العامل المؤلف الشريف السيّد محمد السنوسي قاضي الجماعة بتونس ابن العامل الفاضل الشريف السيّد عثمان المفتي ببلد الكاف ابن الناسك الأبر الشريف السيّد الحاج محمد بن الوجيه الصفوة الزكي الشريف السيّد أحمد عرف بن مهنية أحد حفدة الولي الصالح البركة الشريف السيّد عساكر دفين قلعة سنان من عمل كاف رضي الله تعالى عنه وأرضاه آمين، ولذلك أطلقت لسان الشكر على ما لأهلها من الأنتساب، إلى رفيع ذلك الجناب والله يبلغ المأمول، وبالمعاملة والقبول. قال ذلك وحرره الفقير إلى مولاه الغني به عمن سواه عبده محمد العربي البشير الإدريسي الحسني الشريف نقيب السادة الأشراف بالحاضرة التونسية وقطر إفريقيا عامله الله بألطافه الخفيّة آمين بتاريخ الثامن عشر من قعدة الحرام عام 1296 ست وتسعين ومائتين وألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل صلاة وأزكى تحية.
وكانت وفاته ليلة الأحد الرابع عشر من ربيع الأوّل عام ثلاثة وثلاثمائة والف ودفن بمقبرة القرجاني بجوار والده وجدّه قاضي الحاضرة ورثاه بما نقش على قبره العالم الماجد المدّرس الشيخ سيدي محمد جعيط بقوله: [الكامل]
طلب الحياة هدى النفوس القاصرة ... ما العيش إلاّ عيش دار الآخرة(1/324)
دار الغرور فما تدوم على صفا ... بل لا تزال على النواء بسافرةْ
إنّ التقيّ من امتطاها قاصداً ... دار الجزا ذات القصور الفاخرةْ
كالفذِّ عثمان السنوسي من له ... بالذكر في الأسحار عين ساهرةْ
قاضي لدى جبل المنار ومن غدا ... بالحقّ للأنامِ أوامرهْ
وخطيبه اللسن الذي من وعظه ... للخير قاد ذوي النفوس النافرةْ
وهو الشريف ومن سما في خطة الت ... وثيق ما في العصر شخص ناظرهْ
أبدى فتاوي جدّه في نظمه ... في لقط درٍّ في البحور الزاخرةْ
يا من يؤم ضريحه قف سائلاً ... رضوان خالقه له في الآخرةْ
وانظر إلى عبر الذين مضوا وقد ... حازوا من الذكر الحميد مفاخره
حتى ترى في خير تاريخ حوى ... (قاضي المنار جوار قاضي الحاضرة)
ورثاه العالم الماجد الأكتب الشيخ سيدي حمودة تاج بقوله: [الكامل]
فوض إلى الله الأمور وردّد ... فاجع العلا والمجد دون تردد
ياحبّذا رجل يقضّي يومه ... مستوفزاً يزداد زاداً للغد
ما أمر ذي الدنيّا ولا لذّاتها ... إلا كطيف زار مقلة أرمد
أو ما فقدت بها أبا النورين عث ... مان السنوسي ذا التقى والسؤدد!
من بعدما زان المنابر والمزا ... بر شائداً لبناء ذاك المحتّد
وقضى على جبل المنار فشاهدوا ... عدلاً جبلياً كحدِّ مهّند
والعلم والعمل الرفيع إذا هما أج ... تمعا بشخص حلّ أشرف مقعد
فأنا أرى ذا الرمس حول جنة ... منحوتة من عسجد وزبرجد
فأرى لها وأختار وقتاً صالحاً ... لرحيله لسنى النعيم السمد
وبعيد غيبته أتى تاريخه ... حضر الجنان بأمر يوم المولد
ورثاه الأديب الأبرأن والدّرّاكة الألمع الشيخ سيدي أحمد أديب المّكي بقوله: [البسيط]
أقبر عثمان فيك العلم والطيب ... ومن به ظهرت فينا الأعاجيبُ
قاضي المنار الذي باهت بمحتده ... ما في الوجود من الناس الأعاريبُ
ثوى ببطنك فاستجرى محاجرنا ... دمع له الدهر تصعيد وتصويب
وبالضمائر منا كل ما ذكرت ... أبناؤه الغرُ إضرام وتلهيب
بكاه منبره السامي ومن حسنت ... بحكمه فيهم دقت أساليب
وودَّ كلُ حبيب لوفدته به ... مخالب الحادث السود الغرابيب
وغير مجدٍ لأن الخلق أجمعهم ... في ذا السبيل لهم سير وتأويب
فيا ضريحاً به قد فاز لا برحت ... تسقيك من رحمة البار أنابيب
وترتضي ألسناً قالت مورخة ... (أقبر عثمان فيك العلم والطيب)
وورثاه الأديب الأبرع، المتفنن الأبرع الأكتب الماجد الشيخ سيدي البشير الأكودي بقوله: [الكامل]
لا تجزعنَّ فكل شىْ فان ... واصير لحكم مكون الأكوانِ
أين الفرار من الحمام وهوله ... أين الفرار ولات حين أوان
قدم لنفسك ما استطعت من التقى ... زاداً لترحل كل أتٍ دانٍ
فإذا فعلت لقيت ربك سالماً ... سكنت فضلاً جنة الرضوان
كالشيخ عثما السنوسي الذي ... من فقده دمع المنابر قانٍ
فضلاً عن الأبناء والأحباب وال ... إخوان والأعمام والجيران
قد كان ذا وعظٍ يحرك وجد من ... في قلبه حظ من الايمان
وقضاؤه بالعدل كم أجراه في ... علمِ المنارِ بمحكم التبيان
وعفافه وتقاؤه لا يمكن التع ... بير عنه بخاطر ولسان
ذاك الشريف ابن الشريف ابن الشري ... ف المعتلي شرفاً على كيوان
سحّت عليه هواطل الرحمات من ... ربٍ رحيم مشفقٍ رحمان
وله الهناء بما لديه من الرضى ... والصفح والغفران والإحسان
وكفاك فال جاء في تاريخه ... هنئتم ُعثمان بالجنّان
ورثاه العالم الماجد الأكتب ابن عمه الشيخ سيدي محمد بن إبراهيم السنوسيّ بقوله: [الطويل]
ألا في رضى الرحمن تسعى الأفاضل ... فتباً لمن عن ذلك السّعي عادلُ
وتعساً لمن لا يوقظ الوعظ قلبه ... ويزعم أنّ الرشد ماهو فاعلُ
فلا تغترر يا صاح فالموت عبرة ... وكلّ امرئ إلى الموت آيلُ
وإيّاك والدهر الخؤون فإنّه ... يزخرف للإنسان ما هو باطل(1/325)
فما المرؤ إلاّ ما تزّود في التقى ... فذا في ثياب الفوز لا شكّ رافلُ
كهذا الذي امسى ضجيعاً إلى الثرى ... وأعرض عنّا والعيون هواملُ
هو السيّد الأتقى أبو النور من له ... بهمته العلياء طابت شمائل
عنيت السنوسيّ الذي عز ندَّه ... وصار وحيداً ما له من يشاكل
فتى كان في التوثيق بهجة عصره ... ومارئ في أقرانه من يماثل
وقام على طول المنارة قاضياً ... يؤم وبالتثبيت، والعدل حافل
إذا ما أتى يملي على الناس وعظه ... به من دموع الناس سالت جداول
على ذا استمرّت حاله وهو مكثر ... لأوراد ذاك (الشاذليّ) مواصل
إلى أن دعاه للضيافة ربّه ... فلبّاه بالإقبال والعفو سائل
يرجي نوالاً من سعادة مولد ... به آب للنعماء وهي جلائل
وهذا مآل الناس يا صاح أرخن ... (فسيح جنان الله عثمان نازل)
وأرخ وفاته الصفوة الذاكر الخير الماجد حامل كتاب الله الشريف الشيخ سيدي محمود جراد بقوله من الرجز: [الكامل]
هذا التقيّ الألمعي ومن به ... أهل المكارم بالوغى تزدانُ
هذا السنوسيّ العالمُ النحرير زد ... وهو الشريف واسمه عثمان
لاقى الإله تحبباً في مولد ... ففيه أرّخ وله الغفران
وكتب من مصر في التعزية لوفاته العلاّمة النحرير الماجد الشيخ سيدي محمد بن مصطفى بيرم أحد أعضاء المحاكم المصرية بما نصّه: ابني العزيز، وصديقي الحائز من مديح البسيط من قولي والوجيز، الفاضل النحرير، والبارع في التقرير والتحرير، الشيخ سيدي محمد السنوسيّ لا زالت مراهم معارفه لجراحات الجهالى توسي. أمّا بعد سلام زكي عاطر، وإناس لبساط التعزية ناشر، فقد ساءني خبر تفجّعكم بوفاة والدكم المبرور، هيأ الله له شامخ القصور، في جنات الحبور ودار السرور، وأمّا ما خلا الدعاء له بما ذكر والدعاء له بمزيد الصبر من شرح أفانين التعزية وضرب الأمثال في التسلية، فعلومكم بحمد الله لما ورد في السنّة حاوية، وليس ورائها بقية تتطلّب لا سيّما في أمور الدار الباقية، والله نسأل أن يجعل ذلك خاتمة ما ورد عليكم من الأكدار في هته الدار لا ربّ غيره وهو أرحم الراحمين والسلام من الداعي محمد بيرم لطف الله به في 12 ربيع الثاني سنة 1303.
الزرقيّون
والدة والدي هي ابنة عم والده إذ هي خديجة بنت الشيخ أبي العباس أحمد زروق شقيق المولى الجدّ عليهما رحمة الله، وهو أحمد زروق بن عثمان بن محمد بن أحمد بن مهنية من حفدة الشريف سيدي عساكر رضي الله عنه، وقد توفيت الجدّة المذكورة أوائل سنة 1264 أربع وستين ومائتين وألف، ووالدها ولد سنة 1185 خمس وثمانين ومائة وألف ببلد الكاف، وارتحل إلى تونس في طلب العلم فقرأ على الشيخ صالح الكوّش وغيره، وولع بالمعقول فبرع فيه براعة سبق فيها من عاصره وجلس للتدريس فأفاد وطلب من الأمير حمودة باشا أن يوليه الإشهاد مدّة اعتزازه فقدم إليه القصيدة ذات القصيدتين وأنشدها بنفسه بين يديه ولمّا أتم إنشادها قال له الأمير إنّي أعرف ما أنت عليه ولكن نخشى من اشتغالك بالإشهاد أن تترك التدريس بجامع الزيتونة، فقال له معاذ الل أن نترك خدمة العلم الشريف، وإنما نرجو أن نحصل على ما يعينني عليه فأمر له كتابة الأمر بالإشهاد عند ذلك ولم يرجع إلاّ وأمر ولايته بيده وقصيدته المذكورة من غرر القصائد وهي قوله: [الكامل]
ملك الملوك كفيت كلّ معاند ... نائي المدى وبلغت كلّ مراد
وأنلت كل مؤمن متباعد ... صعباً غداً وملكت كلّ قياد
أشكو إليك ولا تزال لقاصد ... علم الهدى لمن استجارك هاد
جور الزمان ولست فيه بواجد ... لي مسعداً متحقق الإسعاد
إلاّ نداك وفيه غنية رائد ... فغدا الندى وجدا الغمام الجادي
أأضام فيه وأنت أمنع ذائد ... لمن اعتدى وغنى العديم الزاد
وعلى نداك علاك أعدل شاهد ... كم قد هدى المحتاج للإشهاد
سدّت الملوك بعزّ ملك خالد ... متأبداً وسبقت كلّ جواد
وأثرت للأعداء صولة راشد ... راع العدا أسد من الآساد
حتى أحطت بكلّ باغ مارد ... شرك الردى في كل يوم طراد
وبقيت دين الله سوء معاند ... معتمداً ودفعت كلّ فساد(1/326)
وكذا عرفت بكل عدل عاقد ... لعرى الهدى والدين حبل سداد
للعدل قد أوضحت كل معاهد ... حتى بدا في سائر الآباد
فخر علاه أنطته بعطارد ... حتى ارتدى بسنا البدور الباد
وعلا على ضوء الشهاب الواقدِ ... مسترشداً بهداه ضوء الهادي
أنت الرشيد لكلّ آوٍ قاصد ... حيث لحمال لا بغداد
يهني الأماني منك بشر مساعد ... ريث الندى وغياث كل منادي
فأنعم ودم لمفاخر ومحامد ... تحوي مداها سائر الآماد
وقد جلس للإشهاد مع التدريس فكان من ثقاة الموثقين، وأعلام المدرسين، ثم تقدم لمشيخة مدرسة بير الحجار بعد وفاة الشيخ أحمد سويسي فأقام دروسهأن وكان مواظباً على التدريس بهأن وقرأ عليه كثير من العلماء هنالك. ثم قدمه الأمير حسين باشا باي لخطّة قضاء المحلة في ربيع الثاني سنة 1243 ثلاث وأربعين ومائتين وألف بعد ارتقاء الشيخ البحري لخطة قضاء الحاضرة وسافر مع الأمير مصطفى باشا ونال من موّدته وإقباله منالاً عزيزاً.
اتفق له في محلّة باجة أن حضر إليه أعرابي يشكو إليه أحد الأضباشية في دين عليه، فأرسل له عوناً وجده بحانوت برادعي داخل باجة، فامتنع من الحضور معه وحين عاد إليه قام له قيام الزعيم، وأخذ يضربه ويشتمه، وعندما بلغ ذلك إلى الشيخ أرسل من حوله للإيتان به على أسوأ حال، وأمر بتطويفه على حمار ينادي عليه هذا جزاء من عصى الشريعة.
ولمّا بلغ خبر ذلك لأمير المحلة أرسل إلى الشيخ كاتب سره يشكره على حسن صنيعه وقال له: وقد حكم عليه الأمير بخمسمائة سوط بعد إنهاء حكمك، فدعا الشيخ للأمير وطلب أن يعفو عنه من السيّاط بشفاعته، فقبل فيه شفاعته وأعفاه.
وكان عالماً موثقاً فرضيأن ذا همّة عالية، ونفس عزيزة. أما الأدب فقد اختّص بحمل رايته في ذلك العصر حيث نسج فيه على منوال عزيز، وخلّص بدائع معانيه خلوص الإبريز، ومدح الشيخ أحمد البارودي بقصيدة فعظم عنده موقعها وكتب له شاكراً على ذلك بقوله: [الطويل]
بمدح أبي العباس أصبحت ناسياً ... أناساً يعود المدح فيهم إلى الباس
فقد ناب هذا الفرد لي عن جميعهم ... فاغنى وبعض الناس يغني عن الناس
وكان لطيف المحاضرة، حسن المفاكهة، ولوعاً باللطائف الأدبية في مجالسه ومكاتيبه، كتب ملغزاً في عين قوله: [الطويل]
أيا روض آداب رعته الهواطلُ ... ويا حكماً ما الحق عندك باطل
سألتك ما اسموهو حرف مثلث ... وعيناه ذا حال بنقص وعاطل
ومعناه مغناه احتمي فهو انما ... يلوح إذا دلت عليه دلائل
سريع متى تلفي السبيل إجابة ... بلا قدم يجري إذا سال سائل
غدت دونه الحاجات وقفاً وإنما ... تبلغك الحاجات منه الوسائل
ويكشف إن يكشف عنه غطاؤه ... وما حاجب عن كشفه الأمر حائل
وأول عيب ثم ثانيه فيه أن ... إلى منتهى حسن نما إذ يقابل
وها هو فرد إذ يعد وإنما ... يشاركه في اللفظ ما لا يشاكل
وحسبي بياناً ما ذكرت وإنما ... يعاجلُ مثلي بالإجابة عاقل
فأجابه الشيخ إبراهيم الرياحي بقوله: [الطويل]
أيا عين آداب بها الظرف سائلُ ... ومن هو منحى القصد إن سال سائل
سألت وما تعني سوى عين ما عنت ... إلى شأو معناه العيون الأفاضل
وقد صرّح التبيان منه بعينه ... فما حاجب عن كشفه الأمر حائل
وإن كان في عين جعلتَ نزوله ... فها هو في عيني لأجلك نازل
وقد حكم التصريف أن بعينه ... حلياً وجيد الفاء من ذاك عاطل
وحسبك تبياناً وقد جاء واضحاً ... ومثلك لا تخفى عليه الدلائل
فكتب إليه الشيخ أحمد زروق بقوله: [الخفيف]
بك أقسمت أنكم ليمين ... ليس في سبقك الأفاضل مينُ
قد جرى منك ما ملا العين حسناً ... صح أن الذي عنيناه عين
ليس عيب فيكشفك الغيب عنه ... كيف والعين عندك منه غين
وقد اتفق له أن سار في طريق مصاحباً للأكتب الشاعر الشيخ الحبيب الأصرم والمطر متوالية، وكانت عليهما سحبة بيد الكاتبالمذكور تقيهما المطر، فسال الماء من أحد جوانبها على صاحب الترجمة فأنشأ ما سار سير المثل في الاستخدام وهو قوله: [الكامل](1/327)
وقت السحابة صاحبي برواقها ... وهمتْ فما بلّت بمزن طوقه
فلتعجبوا أني البليل بمائها ... وهو الموقى والسحابة فوقه
وله من الشعر ديوان بديع كله عيون يدل على رسوخ قدمه على سراط الإنشاء، وكانت دروسه بجامع الزيتونة رياض البساتين، وقرأ عليه كثير من فحول العلماء ممن سبق ذكره في تراجمهم.
وقد مرض بالمحلة ورجع لتونس مريضاً فأدركته المنية ليلة السبت السادس من ربيع الثاني سنة1248 ثمان وأربعين ومائتين وألف، عليه رحمة الله.
وقد ترجم له لسان الدولة الشيخ أحمد بن أبي الضياف في تاريخه غير أنه سبق قلمه في تاريخ وفاته فقال في ترجمته ما نصه:
الشيخ أحمد زروق الكافافي
أصل هذا الكاتب من بلد الكاف ونشأ في طلب العلم مع أخيه الشيخ السنوسي واختصا بالشيخ صالح الكواش وأخذ عن غيره من أعلام عصره، وحصّل وبرع ودرّس بالجامع الأعظم، واستدر الرزق من رشح قلم الوثيقة، وشغله التكسب عن رياض العلم الأنيقة، وله في الأدب الراية المنصورة، وقلائد الدر المنثورة.
ثم تقدم لخطة القضاء بالمحلة فزانها بالعدل، وعدّ من قضاة الفضل، وكان عالماً فقيهاً فرضيلً أديباً شاعراً كاتباً ذا همة ومروءة، جميل الأخلاق حسن المحاضرة، مشكور الأقوال والأعمال، معدوداً من أهل العلم والكمال، إلى أن توفي سنة 1246 ست وأربعين ومائتين وألف.
الشابيون
جدة والدي للأم هي الست كبورة بنت الشريف الشيخ أحمد ابن الشيخ قاسم شاهد البحيرة ابن المدرس الشيخ السنوسي شهر الشابي، وإنما شهر باللقب المذكور لأنّه تربّى في حجر جده للأم الشيخ صالح بن أحمد الشابي الشهير الفضل من ذرية سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صاحب تربة الحجامين. وهو جد الولي الصالح الشيخ سيدي محمد الشابي الذي توفي سنة 1292 اثنتين وتسعين ومائتين وألف وهو محمد بن صالح بن محمد بن حسن بن أحمد بن صالح بن أحمد الشابي كل ذلك استفدته من رسوم تتضمن نحلية والد الجدة المذكورة بالشريف.
أما والدتها فإنها ثابتة الشرف لأنها هي الشريفة ساسية بنت الصفوة السيد محمد الطيب الشريف الأندلسي وقد تجاوزت جدة والي المذكورة في العمر المائة، وتوفيت بعد زوال يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من ربيع الأول سنة 1296 ست وتسعين ومائتين وألف، عليها رحمة الله.
السقاطيون
والدتي الأصلية آمنة وتدعى زليخا بنت أبي عبد الله محمد القريشي ابن أبي الحسن علي بن أبي محمد عبد الوهاب السقاط الفاسي الأندلسي. ولدتْ في رمضان سنة 1246 ست وأربعين، وزفّت إلى بيت والدي ليلة الرابع والعشرين من شعبان الأكرم سنة 1264 أربع وستين ومائتين وألف، وكان والدها أبو عبد الله محمد القريشي تاجراً خيّراً وجيهاً فيه صرامة وحزم مواظباً على الصلوات الخمس بجامع الزيتونة، ولم يتخلف عن صلاة الصبح فيه منذ أكثر من خمس عشرة سنة، وقد بلغ من العمر سبعاً وخمسين، وتوفي في شهر رمضان سنة 1257 سبع وخمسين ومائتين وألف عليه رحمة الله.
وكان أخوه الشيخ أبو عبد الله محمد السقاط عالماً فاضلاً فقيهاً موثقاً ولد في السابع والعشرين من رجب الأصب سنة 1197 سبع وتسعين ومائة وألف، وقرأ على الشيخ صالح الكواش بدهليز داره شرح الجربي على إيساغوجي وقرا على الشيخ محمد بن ملوكة والشيخ الطاهر بن مسعود والشيخ حسن الشريف والشيخ إبراهيم الرياحي وغيرهم. وتصدى للإقراء فأخذ عنه كثير من مشايخنا وتقدم لمشيخة بير الحجار عند وفاة الشيخ أحمد زروق وأقام بها درس المختصر الخليلي بشرح الخرشي، ودرس البخاري، وقد أخذ عنه أكثر مَن أدركناهم من مشايخنا. وكان فقيهاً ثبتاً محققاً فاضلاً عزيز النفس ملازماً للتدريس، وله شعر لطيف، وقد توفي ليلة الجمعة منتصف شهر رمضان المعظم سنة 1257 سبع وخمسين عليه رحمة الله.(1/328)
وقد أنجب عدة أبناء طلعوا بدوراً في آفاق العلم والفضل وهم العالم الخير الشيخ الطاهر والخير الزكي الشيخ الشاذلي والثقة الأعدل الشيخ محمد. أما الشيخ الطاهر فقد نشأ في خدمة العلم وقرأ على الشيخ محمد الشاذلي بن المؤدب والشيخ محمد معاوية والشيخ محمد البنا والشيخ محمد الخضار وغيرهم. وتقد لخطة التدريس في الرتبة الثانية بجامع الزيتونة وهو فقيه فرضي تقي نقي العرض تقدم لخطة قضاء الفريضة في بيت المال عند وفاة الشيخ محمد بن مراد الحنفي فأقام من أجلع بداره، وأناب في خطة قضاء الفريضة أخاه الشيخ محمد، ولم يزل على ذلك إلى هذا اليوم.
وأما أخوهما الشاذلي فكان رجلاً ذاكراً كثير الزيارة للأولياء وقفت على إجازة أجيز بها من شيخ الإسلام وهذا نصها: الحمد لله يقول الفقير محمد بيرم الرابع لطف الله تعالى به قد أجزت للسيد الشريف العفيف أبي عبد الله محمد الشاذلي السقاط قراءة أحزاب القطب الجامع سيدي أبي الحسن الشاذلي رضي الله تعالى عنه بحق روايتي لها بالإجازة العامة عن شيخنا العلامة أبي عبد الله محمد بن حسين الشهير بابن العنابي مفتي الحنفية بثغر الإسكندرية وذاك عند اجتيازه بحضرة تونس في سنة 1245 خمي وأربعين ومائتين وألف عن أبي الحسن علي بن عبد القادر بن الأمين عن سيدي علي بن محمد العربي السقاط عن أبي حفص عمر لوكد عن محمد بن عبد الرحمن عن الشيخ حسن العجيمي عن سيد ي يوسف بن عبد الله الجاوي عن الشيخ عبد القادر بن مصطفى الصفدي عن نور الديت العلاف عن محمد بن مصطفى البلخي عن أبي بكر بن سالم باعلوي عن روحانية ابن عطاء الله عن أبي العباس المُرسي عن أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه.
وبالسند إلى سيدي محمد بن عبد الرحمن عن شيخه أبي البركات عن الشيخ أحمد الغربي عن عمه أبي عثمان سعيد عن ابي الطيب بن علوان عن أبي الحسن البطرني عن الشيخ ماضي بن سلطان عن أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه. وأنا أوصي المجاز له المذكور بتقوى الله سبحانه وأن لا ينساني من صالح دعائه وكتب يوم السبت تاسع عشرين شعبان عام 1177 سبعة وسبعين ومائة وألف. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
فكان لهؤلاء الأبناء فضل توارثوه من والدهم، وقد كان من أجلّ علماء الحاضرة، وأخوه معدود في وجوهها الأخيار، وأما والدهما أبو الحسن علي فقد ىولد بتونس، وكان أيضاً تاجراً وجيهاً تقياً زكي النفس ملتزماً في قلنسوته وضع علامة الشرف الخضراء، وهو شرف أمه ابنة الشريف كسيبر على ما يأتي، حج بيت الله الحرام ولم يتخلف عن صلاة الصبح بجامع الزيتونة أكثر من ثلاثين سنة، وبلغ من العمر أربع وتسعين سنة، وتوفي سنة 1251 إحدى وخمسين ومائتين وألف عليه رحمة الله.
وأما والده أبو محمد عبد الوهاب فهو الرجل الكامل الباذل نفسه في خدمة أهل الله، ولد بحاضرة فاس وكان بها من ذوي الثروة، فأدرك القطب الرباني مولاي أحمد الصقلي الشريف الحسني رضي الله عنه، وكان من أكمل الأولياء المتنعمين في المأكل والملبس والمسكن، نقل عن الشيخ التجاني رضي الله عنه أنه قال: دخلت على مولاي أحمد الصقلي فوجدته متنعماً في أفخر الملابس والفرش ورخيّ العيش حتى أنهم أتوه بزبدة وأنا حاضر فأنكر خشونتها وطلب ما هو أصفى منها ولم أحسب أن من أولياء الله من يكون على ذلك الحال من التنعم في الدنيا حتى أخبرني رسول الله عليه الصلاة والسلام بمكانه في الولاية رضي الله عنهما. وقد كان عبد الوهاب السقاط من التابعين لمولاي أحمد الصقلي المحبين فيه، وكان ممن دخل في إقامة بناء زاويته الشهيرة بحاضرة فاس حماها الله، فأنفق ماله هنالك إلى غتمامها تبرعاً منه في محبة شيخه، وحين تمّ بناء الزاوية خرج لحج بيت الله الحرام وبعد فراغه من الحج قدم إلى حاضرة تونس أواسط القرت الثاني عشر فاستوطنها وتزوج بامرأة من بنات الشريف كسيبر القرشي من ذرية ولي الله الشيخ سيدي أحمد بن نعيم دفين بطحاء الصلي من حاضرة تونس رضي الله عنه.(1/329)
وقد وقفت على وفيات لفروع هذا البيت الشهير الشرف بالحاضرة كانت خلاصتها أن ولي الله سيدي أحمد بن نعيم توفي عن ولده علي وهو عن ولده الحاج محمد كسيبر القرشي وهو عن ولده عثمان وهو عن ولديه محمد وعائشة زوجة محمد بن خليل بتاريخ التاسع عشر من ربيع الثاني سنة 1195 خمس وتسعين ومائة وألف، وتوفي محمد بفتح أوله ابن عثمان عن الحاج أحمد وشلبية زوجة علي بن عمر كسيبر وتوفي الحاج أحمد عن محمد بالفتح ومحمد بالضم وحسين وعمر، وتوفي عمر عن فاطمة ومنا وعلي وأحمد ومحمد وقد سافر محمد بن عمر كسيبر القرشي صحبة مصطفى رايس القبطان وقاتل بمرسى سوسان من بلاد الإغريق فاحترقت بهم الفرقاطة من يوم الجمعة عاشر المحرم الحرام سنة1239 تسع وثلاثين ومئتين وألف، وخلف ولده عمر المتوفى عن أولاده الحطاب وعلي ومنا رضي الله عنهم جميعهم. وعلى كل حال لم نتحقق هاته الجدة ابنة من هي من هؤلاء السادة الأشراف رضي الله عنهم، لكن لا ريب عندنا في أن أم وَلَدَيْ السيد عبد الوهاب السقاط وهما الحاج علي وعبد الجليل هي من بيتهم، وقد كان الحاج علي وأبناؤه من بعده يأخذون فاضل ريع زاوية سيدي ابن نعيم كل سنة إلى عهد قريب تركوه لضعفه حيث إن منابهم صار إلى نواصر معدودة. وقد تزوج الحاج علي السقاط بين يدي والده بالشريفة حليمة المدعوة حلومةبنت الشريف الكبيدي وبعد أن زوجه بها رأى أختها صالحة فأعجبته وتزوجه وكان عمره يومئذ نحو الستة والتسعين سنة، وأوتي منها بولده الحاج عمر ولازم ما يعنيه إلى أن أدركته المنية في حال سجوده للصلاة. ولما ارتحل من فاس ترك بها أخاً له كان أصغر منه سناً واسمه المفضل كان من أتباع القطب الرباني الشيخ أحمد التجاني رضي الله عنه، روي عن الشيخ أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصاني بالمفضل السقاط وقال لا تفرط في ذلك الولد وكان فيمن بذل نفسه وماله في إقامة بناء الزاوية التجانية بحاضرة فاس التي كان الفراغ من بنائها سنة1215 خمس عشرة ومائتين وألف، وقد ذكره صاحب منية المريد في أصحاب الشيخ التجاني رضي الله عنه فقال: [الرجز]
وكالشريف العلوي الغالي ... والسيد المُضَضَّلِ المفضال
وقد ارتحل السيد المفضل إلى مصر ولقن بها الطريقة التجانية الكثير من الرجال ثم إلى قنأن وبها توفي.(1/330)
وقد ظهرت عليه كرامات منها أنه كان ينهى ولده عن الوصول إلى البحر ويحذره التمساح فاتفق لولده أن خرج إلى شاطىء البحر مع بعض الصبيان فالتقمه التمساح. وأخبرني أحد ثقلة مقدمي الطريقة التجانية أنه نزل بقنا في طريقه لحج بيت الله الحرام واجتمع هنالك بالشيخ موسى مقدم الطريقة القادرية فأخبره عن السيد المفضل السقاط أنه كان طيب السكينة واضح السر يحضر هنالك الورد القادري، ويقف لذكر الله متواجداً إلى أن يسقط طرف عمامته. وكان جميل الصورة. وأخبره أنه كان هنالك رجل ممن يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم أخبره أنه كان تأخر عن مشاهدة الحضرة النبوية ولما حصل له الاجتماع ذكر ما وجد من الشوق فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن اشتقت لرؤيتي فانظر إلى المفضل السقاط وقد كان تنقل الشيخ المفضل إلى مصر تبعاً لسلفه ولعله عمه، الذي ذكره الجبرتي في تاريخه عجائب الآثار في التراجم والأخبار في حوادث سنة ثلاث وثمانين فقال ما نصه: ومات الأستاذ العارف سيدي علي بن محمد العربي بن علي بن العربي الفاسي المصري الشهير بالسقاط ولد بفاس وقرأ على والده وعلى العلامة محمد بن أحمد العربي بن الحاج الفاسي سمع منه الإحياء جميعاً بقراءة ولد عمه النبيه الكاتب أبي عبد الله محمد بن الطيب بن محمد بن علي السقاط، وعلى ولده أبي العباس أحمد بن محمد العربي بن الحاج، وعلى سيدي محمد بن عبد السلام البناني كتب العربية والمعقول والبيان، ولما ورد مصر حاجاً لازمه فقرأ عليه بلفظه من الصحيح إلى الزكاة والشمائل بطرفيه بالجامع الأزهر وكثيراً من المسلسلات والكتب التي نظمتها فهرست ابن غازي قراءة بحث وتفهيم، وأجازه حينئذ بأواسط جمادى الثانية سنة1143 ثلاث وأربعين ومائة وألف، وجاور بمكة فسمع على البصري الصحيح كاملاً ومسلم بفوت وجميع الموطأ رواية ابن يحيى وذلك خلف المقام المالكي عند باب إبراهيم وأجازه، وعلى النخلي أوائل الكتب الستة وأجازه وعاد إلى مصر فقرأ على الشيخ إبراهيم الفيومي أوائل البخاري، وعلى أحمد بن أحمد الغرقاوي وأجازه، وعلى عمر بن عبد السلام التطاوني جميع الصحيح وقطعة من البيضاوي بجامع الغوري سنة1136 ست وثلاثين ومائة وألف وجميع المنح البادية في الأسانيد العالية، وأضافه على الأسودين وشابكه وصافحه وناوله السبحة وأجازه بسائر المسلسلات وعلى محمد القسنطيني رسالة ابن أبي زيد برواق المغاربة، وعلى محمد بن زكري شرحه على الحكم بجامع الغوري وعلى سيدي محمد الزرقاني كتاب الموطأ من باب العتق إلى آخره. وأجازه يوم ختمه وذلك من شعبان عام 1113 ثلاثة عشر ومائة وألف، وروى حديث الرحمة من سيدي مصطفى البكري في سنة 1160 ستين ومائة وألف وأجازه، وأجازه ابن الميت في العموم واجتمع به شيخنا السيد مرتضى في منزل السيد علي المقدسي، وكان قد أتى إليه لمقابلة المنح البادية على نسخته وشاركهما في المقابلة وأحبه وباسطه وشافهه بالإجازة العامة وكان إنساناً متأنساً بالوحدة، منجمعاً عن الناس محباً للانفراد غامضاً مخفيأن ولازال كذلك حتى توفي في أواخر جمادى الأولى سنة1183 ثلاث وثمانين ومائة وألف، ودفن بالزاوية بالقرب من الفحامين اه.(1/331)
وذكر في ترجمة شمس الدين الفرغني أن من مصنفاته الضوابط الجلية في الأسانيد العلية. ألفه سنة 1176 ست وسبعين ومائة وألف وذكر فيه سنده عن الشيخ نور الدين أبي الحسن سيدي علي بن الشيخ العلاّمة أبي عبد الله سيدي محمد العربي الفاسي المغربي الشهير بالسقاط، وذكر أيضاً آخر من بيتهم في حوادث سنة1209 تسع ومائتين وألف فقال: ومات العمدة الصالح الورع الصوفي الضرير الشيخ محمد السقاط الخلوتي المغربي الأصل خليفة شيخنا الشيخ محمود الكردي حضر إلى مصر وجاور بالأزهر، وحضر على الأشياخ في فقه مذهبه في المعقول، وأخذ الطريق عن الشيخ محمود الكردي ولقنه الأسماء على طريق الخلوتية والأوراد والأذكار وانسلخ من زي المغاربة وألبسه الشيخ التاج وسلك سلوكاً تاماً ولازم الشيخ ملازمة كلية بحيث إنه لايفارق منزله في غالب أوقاته ولاحت عليه الأنوار وتحلى بحلل الأبرار وأذن له الشيخ بالتلقين والتسليك. ولما انتقل شيخه إلى رحمة الله تعالى صار هو خليفته بالإجماع من غير نزاع وجلس في بيته وانقطع للعبادة واجتمع عليه الجماعة في ورد العصر والعشاء، ولقن الذكر للمريدين وسلك الطريق للطالبين وانجذبت القلوب إليه واشتهر ذكره وأقبلت الناس عليه ولم يزل على حسن حاله حتى توفي في مشهد حافل اه.
وقد بلغني عن نظم في علم الكلام أوله: [الرجز]
يقول راجي الفوز في الصراط ... محمد بن العربي السَّقَّاط
ولاأدري هل هو ناظمه أو غيره وإنما نقل لي الشيخ الطاهر السقاط قاضي الفريضة عن والده أن صاحب هذا النظم من بيتهم. كما أخبرني بالرواية عن والده وعن غير واحد من أعيان المغرب أنهم ينسبون إلى اللمطي بحيث إنهم يقال لهم أبناء السقاط اللمطي نسب إلى اللمطات وهو أخو حمير وكهلان من العرب العرباء وعليه فبنوا السقاط ذريته مشاهير قبائل العرب. ثم إن جميع بني السقاط المذكورين أصلهم من الأندلس من بيت كاتب غرناطة الوزير أبي القاسم بن السقاط أحد جلّة كتاب الأندلس ممن عاصر أبا الفتح محمد بن خاقان في أوائل المائة السادسة وقد ذكره في قلائد العقيان فقال في ترجمته:
الوزير الكاتب أبو القاسم بن السقّاط
مسْتعذب المقاطع، كأنّما صوّر من نور ساطع، أبهى من محيّا الظبي الخجل، وأحلى من الأمن عند الخائف الوجل يهبّ عطراً نشره، ولا يغبّ حيناً بشره، تجتليه بسامأن وتنتضيه حسامأن إن واخاك أبرم عقد إخائه، وأعفاك من زهوه وانتخائه، ماء صفائه وارف يكاد يقطر، وسماء احتفاءه واكفة أبداً تمطر، وله أدب لو نشر لكان برداً محبّرأن أو تنسّم لكان مسكاً وعنبرأن وأمّا الخطابة ففي يده صار عِنانهأن وعليه وقف عَنانها وقد أثبتُ من نظمه ونثره، ما ينظمه الزمان عقداً في نحره، فمن ذلك قوله يصف أيام إيناسه، وماكيّف له الشباب من أنواع الوصل وأجناسه: [المتقارب]
سقى الله أيامنا بالعذيب ... وأزماننا الغرّة صوب السحابِ
إذ الحبّ يابثنى ريحانة ... تجاذبها خطرات العتاب
وإذ أنت نوّارةٌ تجتني ... بكف الهنا من رياض التصابي
لياليَ والعيشُ سهل الجنى ... نضير الجوانب طلق الجنابِ
رميتك طيراً بدوح الصبا ... وصدتك ظبياً بوادي الشبابِ
وله يصف يوماً أطربته فيه الأماني، وهزته المثالث والمثاني وجرى الدهر به طوعاً في أزمته، وانقاد إليه الأنس برمته، وسقته الراح صفوهأن وأقطعته الأيام طربها ولهوها: [الطويل]
ويوم ظللنا والمنى تحت ظلّه ... تدور علينا بالسعادة أفلاكُ
بروض سقته الجاشرية مزنة ... لها صارم من لامع البرق فتّاك
ترشدنا الصهباء أضغاث آسه ... كأنا على خضر الآرائك أملاك
وقد نظمتنا للرضى راحة الهوى ... فنحن الللآلي والمودَّات أسلاك
تطاعننا فيه ثديّ النواهد ... نهد لحربي والسنوّر أفناك
وتجلى لنا فيه وحوه نواعم ... يخلن بدور والغدائر أحلاك
وكتب يشفع لمدل بذمام شباب صوح نوره، وبرح به غدر الزمان وجوره:(1/332)
يا سيدي الأعلى، وظهيري ومنجدي في الجلّى، ونصير المنيف في دوحة النبل فرعه، الحنيف في ملّة الفضل شرعه، ومن أبقاه الله لرحم أدب مجفوة يصلهأن وحرمة مقطوعة يلحمهأن الوفاء لمحاسن الأخلاق وقى الله جديد أنعمك من الدروس والأخلاق كالقلم والذهب والخضاب الموشى لراحة المحسب يستفيد به بهجة التكحل في العين ورونق التشبيب في مصوغ التبر واللجين وقد رتبته النّهى أشرف ترتيب، وبوبته العلى أبدعتبويب، فما أحقه بصدر النادي وأسبقه إلى المرتبة بشرف المنادي رعاية لأوامر الآداب والمحافظة على الخلّة الواشجة في أعصر الشباب وأظلاله وتذكر لربوع الصبا وأطلاله وعهود اللذات والمنثالة في بكره وآصاله وما أسحبت الليالي في ميادينه من لبوس نعيم وبوس، وأجنت الأيام في بساتينه من زهرات اتراح ومسرات، حذوا للخلق الأكمل وأخذا بقول الأول: [البسيط]
إن الكرام إذا الكرام ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن
وموصله وصل الله سراءك وأثلّ علاءك، أبو فلان ذاكر مشاهدك الغر الحسان وناشر ما تعتمد في صلته من مقاصد الحسن والإحسان أبقاه الله ما نظمني معه سمط ناد ولا احتواني وإيّاه مضمار شكر وإحماد، إلاّ وأثبت من مفاخرك خليطي الدر والمرجان، وجاء بطليعة السوابق في إحصاء مفاخرك رخي اللبب مرخي العنان ولقد فاوضني من أحاديث ائتلافكما في العصور الدارسة العافية، وانتظماكما في زهرات الأنس في ظلال العافية، واتساقكما في حبرات العيش الرقاق الضافية، وارتشافكما لسلافة النعيم المزة الصافية، بأفانين الغيطان والنجود، وزخارف الروض المجود، ومعاطف الطرر بين خيلان الخدود، ما لو لقيتْ بشاشتُه الصخر لمَنَحَ بهجة الإيراق، ولو أُلقيت عذوبته في البحر لأصبح حلو المذاق، ولو رُقي به البدر لوُقيَ آفة المحاق، ولو مرّ ببيداء لعادت كسواد العراق، وأزمع أن يسير بنواعج لواعجه، في طرقه ومناهجه، ويطير بجناح الارتياح في الدو، إلى متقاذف ذلك الجو، ليكحل بالتِمَاحك جفونه، ويجلو بأوضاحك دجونه، ويجدد بلقائك عهداً أنهج البينُ رسمه، ويشاهد بمشاهدة علائك سروراً محت يد البين وسمه، ويحطمن أفناء بشرك بالأهل العامر، ويسقط من أنواء برّك على المحافل الغامر، فخاطبت معرضاً عن التحريض، ومجتزياً بنبذ العرض ولمح التعريض، وتابعاً له بأسرارك تلك الخطرات ذكر العهود القديمة، وارتياحك للقاء مثله من أعلاق العشرة الكريمة، وأنت وليُّ ما تتلقاه به من تأنيس ينشر ميت رجائه، ويعمّر مقفر أرجائه، لا زلت عاطفاً على الأخلاء بكرم الود، قاطعاً زهر الثناء من كمام الحمد، بحول الله.
وله: [الطويل]
ويومٍ لنا بالخيف راق أصيله ... كما راق تبر للعيون مُذابُ
نعمنا به والنهر ينساب ماؤه ... كما غنساب ذعراً رِيعَ حُباب
وللموج تحت الريح منه تكسّر ... تولد فوق المتن منه حَباب
وقد نجمت قضب لدان بشطه ... حكتها قدود للحسان رطاب
وأينع مخضر النبات خلالها ... كما أقبلت نعمى وراق شباب
وكتب عن أحد الأمراء إلى قوم علية شفعوا لجناة: طاعتكم أبقاكم الله ثابتة الرسوم، واضحة الوسوم وضنانتكم بالسلطان عصمه الله ضنانة الجبان بالحياة، وإعدادكم للمكافحة عن الدولة وطدها الله إعداد المهلب للبيات، فمالكم والشفاعة لرعاع ندّوا عن عصمة الجماعة وفروأن وخاسوا بذمام الطاعة وختروأن ثم ودوا لو تكفرون كما كفروا فارفضوهم عن جماعتكم، وذودوهم عن حياض شفاعتكم، ذياد الأجرب عن المشرب، فنحن لا نُقبل على توسل مُستَخْفٍ بالنفاق مستسرّ، ولا نقبل الخدعة من ممتادٍ على الغواية مصرّ، إن شاء الله.
وله فصل من رسالة في إهداء فرس.
وقد بَعثْتُ إليك أيدّك الله بجواد يسبق الحَلْبَة وهو يرسف ويتمهل، متى ترمق العين فيه تسهل، يزحم منكب الجوزاء بك منكبه، وتنزل عنه مثله حين تركبه، إن بدا قلت ظبية ذات غرارة، تعطو إلى عزاره، أو عدا قلت انقضاض شهاب، أو اعتراض بارق ذي التهاب، فاضممه إلى آري جيادك، واتخذه ليوميْ رهانك وطرادك، إن شاء الله عزّ وجلّ.
وأصبحت يوماً منبسط النفس، معترض الأنس، فمر بي فارس يحمل كتباً إليه، وينفض للسرعة مردوديه، فحملته بيتين يضعهما في يديه وهما: [الطويل](1/333)
عسى روضة تهدي إليّ أنيقة ... تدبج أسطاراً على ظهر مهرق
أحلي بها علاء وسؤددا ... وأجعلها تاجاً بهياً بمفرقي
فكتب إليّ مراجعاً: [الطويل]
أتتني على شخص العلاء تحية ... كَرَأد الضحى في رونق وتأنّقِ
أتمِ من الريحان ينضح بالندى ... وأطرب من سجع المطوق
سُطيرَان في مغزاهما أمن خائف ... وسلوة مشغوف وأنس مشوق
نَصرْتَ أبا بها همم العُلى ... وأطلقت من آمالها كل مُوثق
وحملنا الوزير القاضي أبو الحسن بن أضحى إلى إحدى ضياعه بخارج غرناطة ومعنا الوزير أبو محمد بن مالك، وجماعة من أعيان تلك المسالك، فحللنا بضيعة لم ينحت المحل أثلهأن ولم ترمق العيون مثلهأن وجلنا بها في أكناف جنات ألفاف فما شئت من دوحة لفّاء، وغصن يميس كعطفي هيفاء، وماء ينساب في جداوله وزهر يضمخ بالمسك راحة متناوله، ولما قضينا من تلك الحدائق أَرَبأن وافتضضنا منها أتراباً عُرُبأن ملنا إلى موضع المقيل، وزلنا عن منازه تزري بمنازه جذيمة مع ملك وعقيل، وعند وصولنا بدا لي من أحد الأصحاب تقصير في المبره، عرض لي منه تكدير لتلك العين الثره، فاظهرت التثاقل أكثر ذلك اليوم، ثم عدلت عنهم إلى الاضطجاع والنوم، فما استيقظت إلا والسماء قد نسخ صحوهأن والغمام منهمل، والثرى من سُقياه ثمِل، فبسطني بتحفّيه، وأبهجني ببر لم يزل يتممه ويوفيه، وأنشدني: [البسيط]
يوم تجهم فيه الأفق وانتشرت ... مدامع الغيث في خد الثرى هَمَلا
رأى وجومك فارتدت طلاقته ... مضاهياً لك في الأخلاق ممتثلا
وكتب يستدعي إلى مجلس أنس: يومنا اعزك الله يوم قد نقبت شمشه بقناع الغمام، وذهبت كاسه بشعاع المدام، ونحن من قطار الوسميّ، في رداء هديّ، ومن نظير النوار، على نظائر النضار، ومن بواسم الزهر، في لطائم العطر، ومن غر الندمان، بين زهر البستان، ومن حركات الأوتار، خلال نغمات الأطيار، ومن سقاة الكؤوس ومعاطي المدام، بين مشرقات الشموس وعواطي الأرام، فرأيك في مصافحة الأقمار، ومنافحة الأنوار، واجتلاء غرر الضباء الجوازي، وانتقاء درر الغناء الحجازي، موفقاً إن شاء الله تعالى.
السوسيون
جدتي للأم وهي والدة والدتي فاطمة بنت أبي الثناء محمود بن محمد الشاذلي بن محمد الأوسط بن عبد الله بن محمد بن علي بن سعيد بن حمّ السكتاني السوسي المغربي المكسالي رضي الله تعالى عنه. ولدت سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف، وتوفيت في السابع والعشرين من شعبان سنة اثنتين وثلاثمائة وألف ودفنت في مقبرة والدها. وقد أدركت أخاها الشيخ الحاج محمد السنوسي منتصباً للإشهاد بالطيبين مع جليسه المدرس الشيخ محمد القرطبي وهو شيخ في حزب الأسبوع والأذان بجامع الزيتونة يلازم العمامة الخضراء علامة على شرفه، وتوفي في شعبان سنة 1288 ثمان وثمانين ومائتين وألف وكان والده أبو الثناء محمود حاملاً لكتاب الله خيراً ذاكراً توفي سنة 1239 تسع وثلاثين ومائتين وألف وهو في حدود الستين سنة وكان والده من ثقاة عدول تونس وأما والده الشيخ محمد الأوسط فكان عالماً فقيهاً متصوفاً أقرأ التفسير وأمهات الفقه والتصوف بجامع الزيتونة وولي مشيخة مدرسة حوانيت عاشور بعد وفاة والده وأقرأ بها. وفي آخر أمره لازم بيته وانقطع لربه وذهب الناس في انعزاله عنهم كل مذهب حتى قال في ذلك من شعره: [الوافر]
ولما أن رأوني ذا خمول ... طريحاً في زوايا الاجتنابِ
أجالوا فكرهم في حصر أمري ... رأوه وما هُدُوا سبل الصواب
فبعضهمُ يقول غدا ملياً ... غنيّاً لا يميل إلى اكتساب
وبعضهمُ يقول به احتراق ... أمال مزاجه نحو اكتئاب
ففي طلب المكاسب كل شر ... من أنواع التصارف والسباب
وفي وصف القناعة كل خير ... يَبِين لكم غداً يوم الحساب
كان ظهوره كالشمس يبدو ... فعنّا قد توارى بالحجاب
فقلت لهم كذبتم إن ماقد ... نسبتم لا يصح له انتسابي
ولو ملتم إلى الإنصاف قلتم ... رأى المآل إلى ذهاب
وأن مطالب الدنيا جميعاً ... تبين لذي البصيرة كالسّراب
إذا ما ظنها الظمآن ماءً ... ويممه تبين كالسحاب
فأقدم راجياً ربّا وولّى ... على عقبيه في فرط التهاب(1/334)
فأقبر نفسه لما رآها ... وزخرَفَها أفلّ من الذباب
وأصبح آخذاً بذناب عيش ... وأبرمها الشهيّ من اللباب
وكانت قبل مضجعها سرير ... فأضجعها لذاك على إهاب
وكان قرانها أبداً وطيئاً ... فوطنها على حب التراب
وأصبح بالتلاوة ذا ولوع ... يطالع بين دفات الكتاب
إذا أنهى التلاوة قال ربي ... أجرني من عقابك والعذاب
فقابلني إذا ما أبْتُ ميتاً ... بفضلٍ يقتضي حسن المآب
فهذا إن سألتم عن خمولي ... وطول تحجبي عينُ الصواب
ولكن أنتم ذا قوم دهيتم ... بدنياكم فصرتم في التهاب
وكان شاعراً صوفياً حجّ بيت الله الحرام ونفع الناس بعلمه وهو ثاني أخوته وأكبرهم الشيخ محمد السنوسي وقد قرأ مع أخويه على والدهم وعلى الشيخ محمد الغرياني ومن قد عاصهما وتضلّع كلهم بالمعقول والمنقول وكان الشيخ محمد السنوسي أجود شعراً من أخيه الأوسط ومن لطيف شعره قوله: [الكامل]
قد قلت لما أن رأيت بكفه ... منقالة والشوق حلّ بأضلعي
ذي قبة الفلك التي هي في السما ... هبطت إليك من المحل الأرفع
ومن بدائع شعره قصيدته التي هنا بها الشيخ محمد بن علي بن سعيد النجم محشي الأشموني حين ختم الشمائل تدريساً وهي قوله: [الطويل]
أرى ربع نت أهواه غير بعيدِ ... فهاهو مني مثل حبل وريدِ
فعوجا قليلاً بي لعليَ اشتفي ... بسكب دموع فوق صحن خدودِ
حكى صوبُها صوبَ الغمام إذا هـ ... مى وصوت زفير القلب صوت رعود
على أنه لم يجدني سكب عبرتي ... على طلل عاف بطول عهود
وفي كبدي نار يشب لهيبها ... لبينهمُ لم تتصف بخمود
يرى الشوقَ جثماني فصار من الضن ... ى دقاق عظام ضمنت بجلود
ولم يبقَ في جسمي سوى شبح ير ... ى دليل حياة مؤذن بوجود
ولم يثنني عن حبهم طول نأيهم ... ولم أسلهم طول الحياة بغيد
فحبهم وصفي ولي قام لازماً ... كما قام وصف العلم بابن سعيد
هو العلم السامي الإمام محمد ... سليل علي ذي الوفا بعهود
أسعد الراجين نيل علومه ... بفهم ورأي صائب وسديد
وقد قيد العمر المديد حياته ... بحل عويص أو بقيد شرود
فلا جدة أغنته عن حب نائلٍ ... ولكن لزهد في دناه شديد
ومن جغل العلم المشرف بازياً ... لصيد العطايا كان غير رشيد
وما هو إلا للنفوس مكمل ... وليس سبيل الانتقام تزيد
فمن شاء وصف العلم فَليكُ شاكراً ... وإلا فمنه الذم غير بعيد
حويت ابا عبد الإله شمائلاً ... صعدت بها العلياء خير صعود
فغادرت كل الحاسدين كأنهم ... بقايا ثمود في ديار ثمود
كختمك في يوم شمائل أحمدٍ ... فكنت بذاك الختم خير حميد
فدم ذا فخار ماشياً تحت راية ... تخفّق في دار الدنا وبنود
وتحت لواء المصطفى يوم محشر ... جزاءً لما أرضيته بمزيد
لأني بمرأى منك حقاً ومسمع ... بآونة تلقي لسمع مريد
حديثاً بإسناد صحيح رويته ... فأنت لما ترويه خير مجيد
وإنك ذو لفظ شهيّ مهذب ... إلى كل من يُصغي إليه معيد
يحاكيه لحن الموصلي ومعبد ... إذا غنيا يوماً بشعر لبيد
فكيف إذا تروي الحديث مرتلاً ... ببيت عتيق للإله مشيد
ولولا وداد منك صح مصاحباً ... لحسن وفاء بالعهود مديد
لما ملت يوماً للثناء على امرئ ... وقمت إلى الإنشاد بعد قعود
وشعريَ ذو ودٍّ لأهل مودتي ... وليس لمن لم يَهوني بودود
وودي إلى طول المدى ليس ينقضي ... وحقك إلا بانتهاء وجودي
وقد أجابه عن ذلك الشيخ محمد بن سعيد النجم بقوله: [الطويل]
لمن ظبيات في محاجر سود ... تركن أسود الحي غير أسود
وغير بعيد أن يكنّ أوانسا ... أتين إلينا من جِنَانِ خلودِ
هززن قدودا ثم قلن إلى القنا: ... تأخرن ما فيكن مثل قدودي
وأسفرن عن در يقول ابتسامته ... عقود النجوم الزهر دون عقودي
وأبرزن رايات الخدود وقلن لي ... أيا عمُّ هل في الروض مثل خدودي(1/335)
خليلي لا أخفيكما الحال إنني ... اُصبت بها في أعظمي وجلودي
وإلا فما بالي كأنَّ محاجري ... بمُرْتَمَيات الدمع واد زرود
ولم أر نيراناً عوالي تلتظي ... وفي القلب مني حر ذات وقود
على أنها لم تلقني بقطيعة ... ولا اعترضتني بُنَيّات صدود
سقى بَانَتَيها عاديات يسوقها ... تبسم برق لا بكاء رعود
وإلا دموعي الساريات كأنّها ... إذا ما أذيلت خافقات بنود
وإلا براعات تسيل مياهها ... فتنشئ روضي نرجس وورود
براعة مولانا الرئيس الذي علا ... جميع الملا من سيد ومسود
خليلي الذي لولا ضياء وجوده ... لما طاب لي بين الأنام وجودي
وحافظ عهدي حين أحجمتِ الورى ... ونادوا جميعاً لات حين عهود
محمد السوسي السنوسي الذي به ... عرفنا لسلني جرهم وثمود
أخو اللفظ أحلى من عتيق مدامة ... وأبهج من ريا الخلخل رود
إذا قال ألقى فيه شعلة قابس ... وإن قال ألقى فيه نفحة عود
من القوم لا يلقاهم زائر لهم ... سوى فرقة من ركع وسجود
على أنهم في العلم والحلم والحجا ... وبذل العطايا نيراتن سعود
أبوه الذي الحمّى تخاف لجوده ... وهل عُرفت حمّى تخاف بجود
وأغلب فخراً من يكون مفاخراً ... لديك بآباء له وجدود
أيا سيداً أدركت في خلواته ... جنود جُنيد في جنيد جنود
ويا فاضلاً شاهدت في جلواته ... صعود سعيد في سعيد صعود
تأنّى فقد غادرت من كان لاحقاً ... كأنّك قد قيدته بقيود
وصل من العليا قليلاً فإنّها ... غدت عن جميع الناس ذات برود
وقم لنقود من حبيب عهدته ... على وفق ما ترضى بخير نقود
ودود الثنى ناهى عليك تقربي ... فإنك لا تأتي لها بردود
أتبعث لي بالشمس والبدر ثم لا ... تلُقُّهما في سابغات برود؟
وترسل لي بالشهب لماعة ولا ... تُوصّي رسولاً جاءني بجحود
فَهَبْنيَ قد أنكرت فيما بعثته ... أَيُعْوِزُهم فيها قيام شهود؟
وكثرة حسّادي على أنني امرؤ ... أسَالِي حسود فوق كل حسود
على أننّي لا أستطيع لك الجزا ... وإن جئت من غير الثنا بوفود
نعم سوف نجزي من شمائل أح ... مدٍ جزاءً جليلاً في جنان خلود
فدم أنت والأحباب في خير رفعة ... وكل الأعادي في أذّل ركود
ومن شعره ما كتبه على شرح الشيخ لطف الله الأعجمي لأسماء الله الحسنى وذلك قوله: [الكامل]
بك زبدة التوحيد لاذت واحتمت ... تبغي النجاة من الحسود اللاهي
قالت وقد بسطت أكفّ تضرع: ... يارب أدركني بلطف الله
وقد وقف الشيخ علي الغراب على قطعة من شعره فقال: [مخلّع البسيط]
وقطعة حاكها أديب ... أشهى من القوت للنفوس
أعني السنوسيّ من تواطت ... لنظمه سائر الرؤوس
إنشاؤه للقريض أنشى ... عندي من خمرة الكؤوس
لها براهين منه دلّت ... على البلاغات كالشموس
ولا عجيب إذا نسبتم ... ذات البراهين للسنوسيّ(1/336)
وكان أخوهما الشيخ أحمد يلقب الشهاب. وهو إمام العربية في عصره يسكن قرب حمّام الديوان ودارهم هي التي صارت زاوية القادرية هنالك، وأكثر جلوسه في سقيف داره وهنالك يجتمع بقاصديه. وأخذ عنه أعلام منهم شيخ الإسلام الشيخ محمد البارودي. وكان الشهاب أوحد أهل زمانه جلالة وعلو همّة مع الحظ الوافر من العلم والعمل، وقد رزق القبول التام، والبس حلّة المحبة فكان كثيراً ما يراسله ملوك المغرب الأقصى والأدنى ويستجيزه علماء تلك النواحي وصلحاؤها ويصله ملوكها بالصلات العظيمة ويهدون إليه الكتب المعتبرة لما يعلمونه من شغفه بهأن وقد رأيت بخط حافظ تاريخ البلاد التونسية شيخ الإسلام البيرمي الرابع أنّه وقف على نحو مائتي رسالة ما بين مطول ووجيز ونظم ونثر غالبها من ملوك فاس ووهران والجزائر وغيرهأن ومن كتاب تلك النواحي وعلمائهأن كلّها مشحونة بالتنويه بشأنه والتملّق له والتماس الدعاء الصالح منه وطلب الانخراط في سلك أهل محبته نفعنا الله ببركاته. وفي أثنائها رسائل العالم الجليل الشيخ محمد المرتضى الحسيني الواسطي الحنفي نزيل مصر شارح إحياء علوم الدين للغزالي.
ثمّ وقفت على تاريخ الجبرتي المصري فإذا هو قد ذكره في وفيّات سنة ثلاث وتسعين ومائة وألف وأطلققلمه في ذلك وقد قال في ترجمته: إنّ والده كان يحبه ويعتمد على ما يقوله في تحرير نقله ويصرح بذلك في في أثناء درسه ويقول أخبرني أحمد بكذا وقال لي كذأن وقد بلغ من الصلاح والتقوى إلى الغاية، واشتهر أمره في بلاد إفريقية اشتهاراً كلّياص حتى أحبه الصغير والكبير وكان منفرداً عن الناس منقبضاً على مجالسهم فلا يخرج عن محله إلاّ لزيارة ولي أو وفي العيدين لزيارة والده، وكان للمرحوم علي باشا والي تونس فيه اعتقاد عظيم وعرض عليه الدنيا مراراً فلم يقبلها وعرضت عليه تولية المدارس التي كانت بيد والده فأعرض عنها وتركها لمن يتولاها وعكف نفسه على مذكرة العلوم مع خواص اصحابه ومطالعة الكتب الغربية واجتمع عنده منها شيء كثير وكان يرسل في كلّ سنة قائمة إلى شيخنا السيّد محمد مرتضى فيشتري له مطلوب وكان يكاتبه ويراسله كثيراً 1هـ.
قلت وقد وقفت على ما يقرب من ثلاثين رسالة منهأن كلّها في غاية حسن البلاغة والابتداع تدّل على كمال تحابّهما رضي الله عنه مع ما تتضمنه من تحلية الشهاب المذكور بأوصافه التي كان عليها ولذلك رأيت أن أثبت هنا بعضها فمن ذلك رسالة نصّها: بسم الله الرحمن الرحيم صلّى الله على سيّدنا محمد وآله وسلّم استمد الفيض والموّدة وشعشعان أنوار الأزل بدوام انسجام غمام الفضل الأعلى، وارتسام أرقام أقلام الفرقان الأجلى، في أدواح وألواح سيّدنا الجامع للكمال شملأن عارف وقته وإمام عصره ومقام الإمام العارف لا ينكر أصلأن ألف ألفة الحب الفائق، حاء حقيقة الحقائق ميم مرؤة الأصل الرائق، دال دوام الشهود في حضرة أم الطرائق، وهو سوسي الأصل لكن على باب مولاه الغني ساسي، حكيم الوقت ولجراح القلوب آسي، رئيس بحر الحقيقة مستاسي الأواسي ومرير المراسي، لا زالت صحائف أرقامه بأنوار البديع مرسومه، ولطائفه بزواهر جواهر الحكم مرقومه، مترقيّاً إلى ما يؤمله، والله يرعاه في كل ذلك ويكفله مهدياً إليه أنفس تحيات تفوق على النبات المصري بحلاوتها الشهيذة، وأنفاس تسليمات يمانية تنافست في توجيه هاته القضية، مخبراً أنّه وصلني وصلك الله فيمن وصله وجعل أشكال محبيك منتجة، كما أن أشكال أعاديك عقيمة مهملة كتابك الذي فضفضت ختامه، وانتشقت كمامه ووجدته على علاك علامه، فكان أكرم وافد، وأحسن وارد، وسرني مضمونه، وأبهجني مكنونه، ومددت إلى الله تعالى في الحال أيادي التضرع والابتهال بحصول الشفا لكم على أطيب أحوال، على أن العارفين بالله تعالى سرورهم ممزوج بالأكدار، ومن آياتهم النحول والاصفرار والصبر على ضيق الدار، وعدم التفاتهم إلى ما رزق غيرهم من السعة والإكثار هذا والسيل يحمل القذا وما ثم سدى: [الطويل]
ومن سرّهُ أن لا يرى ما يسوؤه ... فلا يتخذ شيئاً يخاف له فقداً(1/337)
وإن توجّه الخاطر الشريف بالسؤال عن أحوال هذا العبد الضعيف، الذي أقامه مولاه في مقام الجمال وربما يعتريه في بعض أوانه الجلال، فالحمد على كل حال جلوتي في خلوتي، وآفتي معرفتي وليتني لم أكن لأعرف فالظهور يقصم الظهور، والشهرة آفة العارف، وربما عجلت له طيبات المعارف، وإذا كان الواهب المنعم بالفيض هو الذي أراد من عبده ما أراد فلا ضير أن يجمع لمن شاء في لذّة النشأتين على المراد نعم يا مولانا أدام الله فضلك وعين غيث برك ثرّة فض لك قد عاد محبكم الحاج سيدي محمد بن كوجك علي وأخوه سيدي محمود القاضي أبو العباس صادرين من أرض الحجاز الناهلين من مكارم القبول العابرين على قنطرة الحقيقة ومجاز المجاز وقد ظهرت عليهم إمارات الإقبال، وعلامات الاتصال، وسكنوا بمصرنا ريثما قضوا مصالحهم وفرغوا من أشغالهم وقد صار لهم نبأ عظيم ارتباط، وحبّ خالص تعلق بالنياط ولا برحوا يترددون إلينا ويعولون في المذاكرة علينأن إلى أن إمتلأ لهم الوطاب وجنوا الثمار المعلومة من تلك الأغصن الرطاب، وعادت حقائبهم مملّوه وركائبهم مجلوه وحصل سيدي محمد المشار إليه في رعاه الله تعالى بعض آثارانا وإن كان بمنزلة الياسمين لا يساوي جمعة فمنها شرح حزب الشاذلي والجزء الأوّل من اآمالي الشيخونية من تجزئة عشرة التي فيها الوسائل ومن اعظمها الجواهر المنيفة في أصول أدلّة مذهب أبي حنيفة وفي الحقيقة كان هو الباعث الأعظم على تأليفه وتهذيبه على هذا النمط القريب فكان إتمامه في مدّة أربعة أشهر وهو غريب في بابه، عقيلة تتبرج للخطّاب في أعتابه فتحت فيه باب الجتهاد، وعلوت بذروة الحفّاظ والنقاد، ولا بأس أن يطلع سيدنا عليه وعلى غيره فما منكم شيء يخبأ وأنتم أهل الفضل تسترون عن محبكم العوار، وتقيلون له العثار، ومثلي معذور، وفي قريحتي القصور، وحالي عليكم غير مستور، وربّما أخبرتم عن عبض ما كنت عليه في المبادي، حين قدمت مصر وأنا أشبه الناس بأهل البوادي، وجررت لسان الغفلات، وجريت طلقاً مع الشهوات، إلى أن كان ما كان وحصلت عناية المنان، وجذبت يدي من العنان، فانتبهت من السكرة، وقد علتني الفكرة، فلم أجد معي إلاّ ما كنت حصلته سابقاً في أيام التحصيل، ولم ألحق ان ألحق بذلك السابق شيئاً من اللواحق، على حسب التتميم والتكميل فهذه قصتي وأنت طبيبي وقد أبرزت لك حالي يا حبيبي، فإن وجدتم شيئاً في شرح الإحياء أو غيره من مؤلفاتنا فاقبلوا عذري واستروا عواري، ومن أخبره عن مخبأ حاله فما قصّر، ومن تجليلات الجلال ما أفصح عنه هذا البيت: [الخفيف]
كنت مستأنساً إلى كل شخص ... لفأنا اليوم نافر من خيالي(1/338)
فأرجو من فضلكم أن لا تنسوني من الدعوات في الخلوات، وعقيب الصلوات، فإني في غاية الفتقار إلى ذلك، ولا يسع القلم أن يفصح بأكثر مما هنالك. وهذا الكتب تخصص بحمله سيد الأحباب، وفرد الأفراد من الأنجاب، والأمل أن يكون هو وأخوه مشمولين بحسن أنظاركم العلية، عائدين إلى الوطن بجبر الخاطر من طرفكم وبلوغ أقصى الأمنيه، وقد ذكرتم لي أنهم خرجوا من تونس متوسلين بسيدي محرز بن خلف قُدِّسَ سره ونفع به وهم الآن كذلك من المحرز الخلف إلى سيدي محرز بن خلف، سالمين غانمين محرزين رابحين فائقين، سهل الله عليهم الأمور الصعاب، وحاطهم بعين عنايته ورزقهم ريح الطياب. ومنا إبلاغ شريف السلام والتحية والإكرام إلى حضرات أحبابكم الكرام سيدنا العلامة مولانا الشيخ صالح بن الحسين الكواشي أدام الله النفع به وإلى أولاد شيخنا المرحوم سيدي محمد الغرياني، ومحبنا الفقيه سيدي حسونة بن خليل وكذلك سيدي حسونة بن عمر القصري، وشيخ بني رياح أصحاب الرماح، والقلانس من البيض الملاح، الحاج أبو النور وولده الحاج محمد وأولاد الخوجة، وسيدي إبراهيم بن الكاهية وسيدي محمد بن هارون، وسيدي محمد البخاري، وسيدي يونس العطار، والحاج سيدي أحمد الكافي، وسيدي علي دانة، ومن ضمتهم سقيفة بني ساعدة الأنصار، من المحبين الأخيار، والمجهز إلى حضرته الشريفة ما هو مسطور في القائمة داخل الكتاب يكون إن شاء الله تعالى مقبولاً عند لثم الأعتاب وما فيها من الرسائل فقد اتفق تصيلها على حسب الاستعجال ولم يمكن أن أنظر إليها ثانياً أو أقابلها على أصولها المنقولة إليها لما أنا عليه كم ازدحام الواردين وتحويم الحايمين على هذا المنهل الذي أكاد أن أقول هو عذب حتى يكون سبباً لهذا الازدحام فإني أدرى بما عندي من البضاعة، ولا عليّ في مدح من لم يطلع على خبيئة حالي ولكن أصبر وأقول: لولا الملهم ألقى في روعهم لما حاموا وأحبابنا القادمون سيخبرونكم عن بعض ما شاهدوه ومن منن الله عزّ وجلّ عليّ أن في يوم واحد من شهر شعبان الماضي ورد عليّ كتاب أكبر علماء بغداد ومن مفتي مدينة دمشق ومن مفتي مدينة الحلة ومن ابن مفتي الموصل ومن طالب من الحديثة ومن سلطان مدينة كوكبان، ومن أرض اليمن ومطلةب الكل الدخول في هذه الزمرة، ولولا قوله عزّ وجلّ: (وأما بنعمة ربك فحدث) لَمَا تكلمتُ وأنتم أعلم بفحوى نطقي وأعرف بما في فؤادي ولما كان لسان القلم في إدلال وطول وصورة الوقت في طول أحببت أن أختم الكلام بالحمد لله على الدوام، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأنام، وعلى آله وأصحابه الأعلام ما هطل ركام، وسبح الرعد في الغمام. من داعيكم المكنى عند أهل الظاهر بأبي الفيض وعند أهل الباطن بأبي الوقت والملقب بالمرتضى محمد بن محمد بن محمد الحسيني الواسطي العراقي الاصل ثم المصري، غفر الله زلله وأصلح حاله، آمين في ليلة الاثنين 17 جمادى الثانية سنة 1117.
ومن ذلك رسالة هذا نصها: من عبد الله الفقير إليه سبحانه الراجي عفوه وغفرانه محمّد مرتضى أبي الفيض أصلح الله بالتوفيق حاله وزان بالتسديد ما شانه وصانه -آمين- إلى شيخه الولي العارف، صاحب الفضائل والعوارف، ومحط رحال الكاملين، نتيجة العلماء الصالحين، الشاكر لما أولاه ربه في كل وقت وحين، فريد وقته ونسيج دهره، قطب عصره، الشيخ سيدي أحمد السوسي.
[الخفيف]
مقتدى السير درة الفضل بحرٌ ... زاخر فاض لجه بالنفيس
خصه الله بالكمالات طرا ... فعلى بابهم طرحت طروسي
لا بقرح قدوة لمن اقتدى، وسراجاً لمن استرشد واهتدى، يشار إليه في العلوم وفي التقى، ويومأ إلى تفضيله في المحافل، وبعد فأهدي إليه سلاماً مثل أنفاس الصبأن وولاء مثل أيام الصبأن وثناء عرفه على المسك رباً وأعرفه بوصول خطابه العالي، الفائق على حبات اللآلي، ولما قرأته حن قلبي، وازداد قلقي وكربي، وكلما تنسمت عبير القرب أراح إلى اللقاء لبي، فها أنا بين شوق منضج وتوق مزعج، ولوعة وبلبال، وألم وأوجال، والله المسؤول أن يهيْ لي مقدمات أسباب تكون منتجة للقاء الأحباب، هذا وإن متحملي هذه البطاقة إلخ، والسلام الذي يتضوع عرفاً ويوالي عرفأن وتتضاعف منحه وهباته، عليكم ورحمة الله وبركاته في 10 ربيع الأول سنة 1203.
ومن ذلك رسالة هذا نصها:(1/339)
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على من لا نبيْ بعده وسلم تسليماً (قل الله ثم ذرهم) اللهم اجعلنا ممن أقمته في مقام، فأقام وأستقام، وانقاد بحسن الاستسلام من عبد الله سبحنه الراجي عفوه وغفرانه محمد مرتضى الحسيني، رزقه الله الشهود العيني، إلى شيخه الإمام العارف معدن اللطائف وملجأ كل خائف قدوة الأيّمة، وكاشف كل غمة، الفرد الرباني والهيكل الصمداني، قطب عصره، ونسيج وحده في مصره، سيدنا ومولانا أحمدى ابن سيدنا شيخ الشيوخ المرحوم سيدي عبد الله السوسي فتح الله إليه سفراً عن كل محجوب، وكشف لبصر بصيرته مخبآت الغيوب، واستعبد له أحرار أسرار القلوب، وملكه قياد كل فرض ومندوب، حتى يرقى لدرجات المقربين، ويتضح له نهج الحق واليقين، فخالص توحيد الرب عبارة عن رضاه بما أقامه مولاه، والتسليم لما أراده منه بلا انزعاج ولا قلق وهذا هو منتهى منازل السائرين.
وبعد، حيث لا قبل ولا بعد، فإني أحمد الله عزّ وجلّ بما أنعم، وبما ألهم، وأشكره اعترافاً بما أكرم، وأصلي وأسلم على حبيبه الأعظم، واستغفره لي ولكم وللمسلمين واستنجده لرفع ما بكم بحيث لو كانت على جبل رضوى لاندكت وتلاشت، وأسأله لي ولكم الأستقامة، فإنها فوق كل كرامة، ومع هذا فمقام الاخلاص، ينادي تثبت ولاة حين مناص، ثم أني أهدي لكم سلاماً لو تمثل كان دراً وياقوتاً يقلب في اليدين، وحُبّاً خالصاً لم يمازجه دنس الرين، فمن رآني ورآكم واحداً فهو بعينين، ومن رآنا اثنين فهو بعين، هذا وإن كتابكم الكريم في أبرك الساعات وصل، وبه أنس الشهود حصل، وقوبل حامله السيد الشريف محمد الشعشعاني بالإكرام، وعومل معاملة الكرام، واستفدت من هذا الكتاب، صحة الانتساب، والرجوع إلى الحق بكمال الرضى والاستصحاب، وأنه سبحانه هو المطعم وهو الساقي وهو الشافي، ومن الغريب ما بين الساقي والشافي من الجناس الرافع للالتباس، والدخول في هذا الباب من لوامح خالص التوحيد، ويتضح لكم سر ذلك إذا تصفحتم كتابنا الذي ومصل إليكم مما يتعلق بحلّ كلام الإمام أبي حامد قدس الله سره وفي الإشارات ما يغني، وفي التلويحات ما يقني، وقد التقينا بأكبر أحبابكم إلخ والسلام الذي طابت نفحاته عليكم ورحمة الله وبركاتهِ حرر في شهر ربيع المكرم سنة 1203.
ومن ذلك رسالة هذا نصها: من العبد الفقير البائس الكسير أبي الفيض محمد مرتضى الحسيني بصره الله بعيوي نفسه، وجعل يومه خيراً من أمسه، إلى حبيبه في الله ورسوله الإمام العارف منبع العوارف مظهر أنواع اللطائف الأستاذ الأكرم الملاذ الأفخم سيدنا ومولانا شهاب الملة والدين أبي الإخلاص سيدي أحمد السوسي أمده الله بروح اليقين، ومكنه في مراتب التمكين.(1/340)
أما بعد فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو وأصلي وأسلم على حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين يُحيط علمه الكريم، بعد إهداء أشرف تحية وأكرم تسليم، أن الفقير لم يزل يتزايد فيه حبكم ويتعمر بودكم قلبه، ويستضيء بأنوار صَدَاقتكم لبه، وقد وصل مثاله العالي صحبة الجناب الأكمل سيدي مصطفى ابن قاضي تاستور فقوبل بالرعاية على ما يليق بامثاله ووجهناه إلى بندر السويس ثم وصل المثال الثاني صحبة أكمل الأحباب سيدي محمد بن اسماعيل من أهل قصر سليمان مع أخيه سيدي أحمد فقوبل بالرعاية مما يليق بأمثالهما ولازمانا مدة خمسة عشر يوماً كل يوم عندنا من الصباح إلى العشي حتى توجها مع الركب المصري والله يحملهم بالسلامة ويردهم سالمين. وقبل هذا التاريخ حررنا لكم جملة مكاتبات وفي كل منها ما يغني عن الإعادة هنا فإن في كل منها من المقاصد والإشارات ما ليس في الآخر لعل جملتها أو بعضها وصل إليكم وإلى الآن ما ظهر لنا خبر عن وصول الأمانات التي أرسلتها إليكم وهذا التعويق كله بإرادة الله وقدرته وليس لنا إلا التسليم مع كمال إخلاصنا في محبتكم وصدقنا فيها وكأنّ تاخير الجوابات هو الحامل الأكبر لحضرتكم على نسبة القصور إلينا في محبتكم، والحمد لله فقد برّأنا الله من ذلك، وجواباتنا قد تتابعت كالمطر، وتراسلت على الأثر، وتوالت مع كل متوجه إلى الجناب، قاصدٍ للرحاب، والموصل هو الله تعالى. هذا مع وفور أشغالي وتلون أحوالي مع الأجناس المختلفة والانواع المتكثرة بحيث أكون مع كلٍّ مخاطباً مجالسأن وبلسانه مؤانسأن وقد أوردت بعض أحوالي في هذه الأبيات لا بأس بالتأمل فيها: [الطويلي
لقد حمّلتي فكرتي كلّ شاغل ... تحملته في كاهليَّ ثقيلُ
كمجلس إملاء ودرس يعوده ... تواددتعليل له ودليل
وطال إسماع وحاجة نفسه ... وطال علم في البحوث سؤول
وكلّهمُ يرجو نجازَ أموره ... ويصخب إن أرجأته ويصول
وكتب جوابات إلى الروم كلّها ... بتزكية مني عليّ ثقيل
لعمرك أبناء الرسائل كلهم ... إذا عُوّقُوا نحو العقوق يميل
وشرح لإحياء ونوم وراحة ... وأكل وشرب يعتليه ذهول
وفي نَفَس ترويح نفس أجمتها ... وتأنيس أهل هزلهن هزيل
وأمر مَعادي رحت فيه مفرطاً ... وأمر معاشي قد حواه وكيل
وأما مداراة الأنام وشرح ما ... ألاقيه منها فالكلام يطول
فهل لامرئ في ذا تفاصيل أمره ... فراغ لتحرير الجواب يقول
فعذراً فما أخرت عنكم جوابكم ... لبخل ولكن ما إليه سبيل
ووقع النظر في كتابكم استدعاء الإجازة من الفقير فقدمت رجلي وأخرت أخرى وغلبتْ عليّ الهيبة واستشعرت تغير مزاجكم اللطيف إن لم أكتب فبرز الغذن الإلهي بكتابة كلمتين في أوراق في طيّ هذا الكتاب على وجه الاختصار من غير ذكر إسناد ولا تعيين كتاب وأنّى لمثلي أن أجيز لمثلكم ولكنّ المحبة تستر كل عيب فإن تشوقت الأنفس إلى معرفة بعض الأسانيد للفقير فحامل الكتاب قد كتبت له إجازة فيها بعض المقصود فلا بأس أن يطلع عليها مولانا إن تعلق غرضه بنقل نسخة وإلا فالستر على العوار هو المطلوب، وولدي السيد عبد الله أبو الفضل يرمق بطرف عينه مترقباً لورود مبشرة حجاب، يكون حرزاً له وهو يقبل الأيدي الكريمة ويطلب منكم الإجازة وممن ترون فيه الخير والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على سيدنا محمد وسلم.
ومن ذلك رسالة هذا نصها: إن أشرف ما يهدى وألطف ما يسدى سلام أطيب من نسمات الصبا حركت الأفنان وأطرب من تغاريد الأطيار أمالت الأغصان، وأحلى من عتاب حبيب مواصل، وأعطر من ربى أزهار الخمائل، إلى حضرة مولانا وسيدنا وشيخنا كعبة الآمال مطلع شمس الإقبال، حبيب أرباب القلوب وأهل الأحوال، نعمة الله على الخاص والعام، ومنته سبحانه على كافة الأنام، الإمام العارف، والهمام الواصف، خلاصة أهل الله الشيخ سيدي أحمد بن عبد الله مهديّ الزمان، المشار إليه بالبنان: [الخفيف]
للمعالي بقيت في خير حال ... بلآلي الكمال والمجد حالي
أنت والله قدوة وإمام ... عمدة في مآله والفعال(1/341)
نستمد من فيوضات الحق سبحانه لجنابكم الكريم، مزيد الفضل العميم، وامتداد آمالكم، وانتفاع المسلمين بطول حياتكم، وانسداد أبواب السوء عن حوزتكم وجهاتكم، أما أحوالي فهذه المدة التي مضت كلها وأنا مشغول باتمام شرح الأحياء وقد وصلت الآن في شرح كتاب المحبة والباقي أأربعة كتب وهانَ الأمر بمنة الله تعالى وبركة أنفاسكم الطاهرة، فهذا هو الذي يمنعني من مشاركة الناس في أحوالهم وأخبارهم، ولولا الخلوة ما كانت الجلوة، وقد فرحت بما أشرتم في كتابكم لشيْ مما يتعلق بسيدنا القطب سيدنا محرز بن خلف- قدس الله سره- فإني أعرف أنه من أكابر الأولياء المتصرفين في عالم الغيب وكنت مشتاقاً لسماع شيْ من سيرته الحسنة وإنني من المعتقدين فيه والمعترفين بفضله، حشرنا الله في زمرة محبيه، وما نقله أبو عمران الفاسي عن القاضي أبي بكر الباقلاني فإنَّه صحيح لاشكّ فيه وهو يشير إلى مقام الصديقية العظمى وله خلافة الحق المعنوية، وكمال رتبة الإنسانية التي بها تمت لهالصورة المعنوية بعد النفخ والتسوية فرضي الله عنه، وأرضاه عنا.
ثم إن المولى الشهاب الشيخ أحمد السةسي أتى عليه في آخر أمره مرض اعتكف به على العبادة في داره إلى أن أدركته المنية فتوفي في شهر رمضان المعظم سنة 1208 ثمان ومائتين وألف.
وأما والدهم العالم الشيخ عبد الله السوسي فقد ولد بمكسال من سوس المغرب الأقصى، وقرأ هنالك، وخرج منها لحج بيت الله الحرام سنة 1127 سبع وعشرين ومائة وألف، وأخذ الحديث بمكة عن الشيخ عبد الله بن سالم البصري الشافعي الذي كانت وفاته يوم الاثنين رابع رجب سنة 1134 أربع وثلاثين ومائة وألف وقد جمع ثَبت أسانيده ولده المحدث الشيخ سالم بن عبد الله البصري في كتاب سماه "الإمداد بمعرفة علو الإسناد" رضي الله عنهم أجمعين.
ثم إن صاحب الترجمة السوسي ارتحل إلى تونس وأخذ عن العالم الرباني الشيخ إبراهيم الجمني والشيخ علي بن أحمد بن الحق اليمني التميمي الأنصاري وأقام مدة بالقيروان إلى أن حاصرها الباشا علي بن محمد فقدم إلى تونس وتصدى لبث العلم. ولما أتم الباشا بناء مدرسة حوانيت عاشور عرض مشيختها على الشيخ علي سويسي فامتنع من قبولها وأشار على الباشا بتولية الشيخ عبد الله السوسي، فأولاه إياهأن فكان أول شيوخها وقد ذكر الشيخ محمد مقديش الصفاقسي في تاريخه نزهة الأنظار في عجائب التواريخوالأخبار أنه مرض مدة فأوتي براتب مشيخة المدرسة فامتنع من قبوله مدة حتى بلغ خبره إلى الباشا فأرسل إليه يقول له: إني لم نجعل لك الراتب في مقابلة الإقراء وإنما جعلته لك إعانة عليه وبمقتضى ذلك يلزم أن تقبضه فقبله رضي الله عنه.
قيل: إن الشيخ لطف الله الأعجمي لما قدم إلى تونس حضر بالمدرسة المذكورة وحين علم أن شيخها هو صاحب الترجمة أخرج تقييداً من جيبه فنظره ثم قال: إن هذا الشيخ قد أُمرنا بزيارته وعند ذلك طلب الاجتماع به فجلس بين يديه جلوس التلميذ، وإنّما يعرف الفضل ذووه.
ولما ذكَرَ الحاج حمودة بن عبد العزيز في تاريخه علماء دولة المقدس حسين باي بن علي قال وواحد المغرب علماً وديناً وورعاً أي محمد عبد الله السوسي الوافد عليها من المغرب الأقصى 1هـ. وذكره المولى حسين خوجة في تاريخه بشائر أهل الإيمان فقال فيه ما نصه: منهم العالم العلامة المحقق المدقق الشيخ سيدي عبد الله بن محمد أصله من بلاد سوس المغرب وقرا في أحواز مراكش وفاس النحو والصرف والفقه، ثم انتقل ورحل إلى مصر ومكث بالأزهر مدة وأخذ عن أجلاء الوقت وعلمائه وفي عوده مكث في جزيرة جربة واستقر بمدرستها وأخذ عن الشيخ الفاضل البركة العالم الزاهد سيدي إبراهيم الجمني ثم قدم إلى القيروان واستقر بها وتصدى للتدريس أولاً بزاوية صاحب المناقب الظاهرة والإشارات الباهرة الشيخ الولي الصالح سيدي سعيد الوحيشي نفعنا اللهبه وأقرأ بها مدة واشتهر بالعلم ' فاستدعاه الأمير حسين باي ورتبه في مدرسته بالقيروان وهو الآن شيخها ومدرسها عالم بالفقه والنحو والمنطق والبيان والأصول والفقه والحديث، فأقاد منها وأجاد، وله درس عظيم ومدحه الخاص والعام وهو رجل أسمر اللون حسن القامة مليح الوجه صاحب سكينة ووقار عفيف دين ذو مهابة وله ميل إلى الخمول اه.(1/342)
وقد عده الشيخ المختار العياضي في مفاتيح النصر في علماء العصر فترجم له بما نصه.
الفقيه أبو محمد الشيخ عبد الله السوسي
هز من العلماء الأعلام، كأنما هو ضياء في جبين الإسلام، وبدر علم لا يفارقه التمام، جيد المعرفة بالنحو والبيان وبعلم الفقه والحديث والكلام، خزانة تحقيق، ومعدن تدقيق، قدم من المغرب إلى تونس وجدَّ في القراءة على مشايخ ذلك العصر منهم الشيخ الصفار. ثم ارتحل إلى المشرق فعكف على العلم ساهرأن وقطف منه رياحين وأزاهر، ثم رجع إلى إفريقية فاستوطن القيروان ولازم بها التدريس والإقراء فمكث بها برهة من الزمان، حتى كان بها من أمر الله ما كان، فانتقل تحت الجناب العلي والفخر الجلي مولانا الباشا علي فأغمره في بحر إحسانه الزاخر، وصار معدوداً من العلماء الأكابر، وقد أثبت من شعره ما يدل على علو قدره فمن ذلك قوله يمدح النبي صلى الله عليه وسلم ويتشوق: [الوافر]
أَحنُّ وما إلى وطني اشتياقي ... ولا شوق إلى كاسات ساقي
ولا طرب لرنات المثاني ... مجاوبة بألحانٍ رقاق
ولا للغانيات ولاجياد ... يسابقن الراح لدى السباق
ولا للروض قد حفت بزهر ... بكل الطرف منها بائتلاق
ولا لسماع أسجاع القَمَاري ... على دوح تُخَالِلُها السواقي
ولكن طَيْبة المختار طه ... علت شرفاً على كل الأفاق
إلهي أوثقتْ رجلي ذنوبي ... على الحرمين فاحلل لي وثاقي
أعدني كي أموت بها إلهي ... بجاه المصطفى بدر اتساقي
على دين حنيفيّ معافى ... من الأهوال ساعة كشف ساقي
وصلى الله ما هزت سرورا ... قلوب العاشقين لدى ألاقي
على المختار خير الخلق طرا ... وأفضلهم جميعاً باتفاق
وآل ثم صحب ثم تال ... بإحسان إلى يوم المساق
قلت وقد أخذ عنه كثير من علماء جامع الزيتونة كما تقدم ذكره في تراجمهم وختموا عليه أعالي كتب المعقول والمنقول وتناشدوا بين يديه رائق الشعر عند أختامه وقد أصيب في آخر عمره بضعف بصره فكتب إليه الشيخ علي الغراب بقوله: [الطويل]
ألا أيها الحبر الذي بحر علمه ... له في الورى يبدو تلاطمُ أمواجِ
إذا سنح المعنى العويص بذهنه ... فذلك صيد لم يكن منه بالناجي
لئن حل في عينيك ضعف فقد غدا ... بفكرك في الأشياء قوة إنتاج
إذا عَرَضَ المعنى العويص مسابقاً ... ترى كلّ ما قد ضاق أوسع منهاج
وإنك بحر موجهُ متلاطمٌ ... وما البحر يوماً للعيون بمحتاج
شفاك إله العالمين بفضله ... إلى أن ترى ما دق في ظلمة الداج
وأخرج منها داخل الداء مسرعاً ... على غير إيذاء بألطف إخراج
بمن خصه المولى برؤية كلِّ ما ... غدا خلفه واختص منه بمعراج
عليك سلام يحسد المسك نفحه ... يجدد أفواجاً لكم بعد أفواج
ولم يزل في جلالته وكماله ناشراً لواء العلوم إلى أن أدركه الأجل المحتوم لما حضرته الوفاة جمع أولاده الثلاثة وقال لهم من ترك أولاداً مثلكم هل تنفذ وصيته؟ فقالوا له نعم ونحن سميعون مطيعون فقال لهم إذا مت فاغسلوني على السنة واحملوني إلى قبري من غير جهر بالذكر أمام النعش وتوفي ليلة الخميس السابع عشر من شوال الأكرم سنة 1177 سبع وسبعين ومائة وألف ونفذ بنوه وصيته وقد رثاه الشيخ محمد الغضبان بقوله: [الطويل]
أرى الكون من فقد السريّ تصدّعَا ... وركن الهدى من بعده قد تزعزعا
وذابت فحول العلم من موت ماجدٍ ... تصرف في كل الفنون وأبدعا
هو السند السوسيُّ من عَرْفِ بحثه ... نسيمٌ به روض العلوم تضوعا
فكم شنّف الأسماع جذب حديثه ... إلى أن غدا كاس البلاغة مترعا
وكم منح الطلاب مجداً مؤثلا ... ووشحهم برد البيان منوعا
وكم حل إشكالاً عليه تقاصرت ... عزائم مَن في المشكلات تضلعا
وكم برزت للفكر أجياد فكره ... فقاد بها صعب العويص وطوعا
وكم بات في دجن يسامر بحثه ... فأثر بالجميل مولعا
تعود ذكر الله في كل حالة ... إلى أن أتى الإجلال أن يتقطعا
وأبدت رياض العلم غب وفاته ... ذيولاً يرى منه أسى وتوجعا(1/343)
صلاها لهيب الوجد حتى كأنها ... هشيمٌ أمالته الرياح مقلعا
وطارت به فوق الأكفّ تكرماً ... إلى أن علافوق الؤوس مشيعا
وأضحت ربوع الأنس منه بلاقعا ... وصار كبدر بالمحاق تقنعا
ففاضت عيون الحاضرين تأسفاً ... وقامت على الأطلال تَسكبُ أدمعا
وغيّب فخر الدين في الترب بعدما ... تسربل في برد الرضى متافعا
وحفت به أنجاله فكأنهم ... بدور بها أفق المهابة رصعّا
وعهدي بهم من أمهم بملمة ... كسوه من الصبر الممدد أدرعا
ولكن ريب الدهر كدّر صفوهم ... بفقد الذي فيه الكمال تجمعا
عليه من المولى شآبيب رحمة ... وأسكنه روض الجنان ممتعا
بحق رسول أعطر الكون نشره ... ومن كفه ماء نمير تنبعا
عليه متى هب النسيم تحية ... تُقبِّلُ ترباً من سناه ترفعا
ورثاه الشيخ لطف الله الأعجمي بقوله: [البسيط]
رمى الحمام سهام البطش وابتدرا ... فقال ما يتمنى وارتضى القدرا
كشخص طيف سرى أو ظل قائلة ... أم السراب رأى الظمآن ما نكرا
أم شمس فضل عدت بالكسف أو قمر ... أوى الأفول أو البرجيس قد سترا
لله در صفي بارع ندس ... حبر شفوق رضي مبرز غِيرا
سُوسيهم مولدا أصفاهم خلدا ... في مذهب مسعد بالمالكي افتخرا
عمر تزاحم فيه المجد منسجما ... والعلم والحلم من أردانه انتشرا
والزهد غب صلاح لم يزل ثملا ... من قرقف البر لما كان مشتهرا
شرّفت بالنشر إفريقية فسمت ... شأناً على كل أرض الغرب وانتصرا
فاشتف كل غليل قدر مطلبه ... طفل وشب كهولا عمهم أثرا
هاجت زكية نفس منك سامية ... إلى حظيرة قدس فاصطفت سفرا
فحبذا موئل نعم المحيط لها ... عيش نعيم هني خالد طهرا
غطريف رهط أتيت هاهنا وكذا ... نعم العلا ودلاص العين مدّخرا
في سبسب بِهمُ فاحت شقائقه ... بالمسك كالغادة الحسناء حين تُرى
لا سيما بذريمن قد خصصت به ... نجلاً أصيلاً حفيداً بالثناء عرا
أغصان فيض إذا ماست يحاولها ... رشدو فيها جنى منها الرضى ثمرا
يُبقيهمُ بسرور ما حوى كرما ... عليك غفران ربي خالق لورى
الجراديون
والدة جدتي للام هي آمنة بنت الشريف أبي الحسن علي ابن الشيخ علي أيضاً جراد بيت شرف متصل برسول الله صلى الله عليه وسلم أما والدة آمنة المذكورة فهي شلبية بنت التاجر محمد بن الطاهر بن زاكور الفاسي، وقفت على رسم وفاتها عليها رحمة الله. وقد أضاف الشيخ علي جراد إلى شرف نسبه شرف حسبه فكان عالماص عاملاً فاضلاً تقدم لخطة التدريس وولي إمامة جامع باب الجزيرة وتقدم للتدريس بمسجد القنيطرة، وقد زيد ولده بعد وفاته فسمي باسمه. واشتغل بصناعة الشاشية وهي الصناعة التي بقيت لبنيه. وكيفية اتصال نسبي هو أن العبد الضعيف محمد السنوسي بن منا السقاطية بنت فاطمة السوسية بنت الشريفة آمنة بنت علي ابن الخطيب المدرس الشريف علي جراد، وكان أبو عبد الله محمد بن علي بن علي جراد موثقاً تقدم لخطة العدالة واسترزق بالإشهاد بتونس وكلهم يلبسون العمامة الخضراء علامة عن شرفهم المشهور، وهم فروع ثلاثة من أصل واحد بمدينة القيروان ومنهم الولي الصالح الشيخ علي جراد صاحب الكرامات المشهورة في القيروان وقد توفي في حدود الثمانين ومائة وألف، والفرع الثاني ببلد مساكن من عمل الساحل، والفرع الثالث مقيم بتونس، وقد اتصلت بسلسلة آباء الفرع المساكني فكان منهم الشريف أبو عبد الله محمد بن أحمد بن صالح بن رمضان ابن المدرس إبراهيم جراد بن علي بن علال بن محمد بن علي بن محمد بن محمد أيضاص ابن عمر بن عبد الواحد بن أحمد بن علي بن يحيى الجوطي بن القاسم بن إدريس الاصغر بن إدريس الأكبر بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المحجوزيون(1/344)
أم والد والدة جدتي للأم هي الشريفة الأصيلة منا بنت الشيخ أحمد ين سعيد بن إبراهيم المحجوز، وذلك أن والد والدة جدتي للأم هو الشيخ علي بن علي جراد على ما سبق ذكره، ووالدة الشيخ علي المذكور هي منا المحجوزية إذ أن والده سميَّه الخطيب المدرسَ الشيخ علي جراد قد تزوج بها وأوتي منها بولده سميِّه وهي إحدى الست من بنات الشيخ أحمد بن سعيد إبراهيم المحجوز توفي أحمد المذكور عنهن وعن ولده أبي النجاة سالم المحجوز، وقد وقفت على تضمين رسم وفاة الشيخ أحمد المذكور في أثناء رسم بيع تضمن أنه توفي عن زوجنه ملوكة بنت الحاج الحمامي وولدِه سالم وبناته خدوجة وفاطمة ومنا وعائشة وصالحة وكبيرة، وكان البيع المذكور أوائل شوال سنة 1152 اثنتين وخمسين ومائة وألف، وفيه تحليته بالشريف الفقيه الإمام، ولم ندر هل شرفه من قبل والده ولم نر تحليته بذلك أم من قبل أمه وهذه كيفية اتصال نسبي به إذ هذا العبد الضعيف مَحمد السنوسي بن منا السقاطية بنت فاطمة السوسية بنت آمنة بنت علي جراد بن منا بنت الشريف أحمد بن سعيد بن إبراهيم المحجوز رضي الله عنه.
وكان هذا الجد سعيد بن إبراهيم المحجوز عالماً محدثاً ورعاً صالحاً كثير الرؤيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قرأ العلم بتونس على فحول منهم الشيخ أحمد الشريف إمام مسجد دار الباشا وتضلع من المعقول والمنقول وكان حافظاً لصحاح أحاديث الرسول فتصدى لبث العلم وقرأ عليه كثير من الفحول منهم الشيخ محمد الخضراوي وقرأ عليه الصحاح الستة والشيخ محمد سعادة والشيخ عبد الكبير الصوفي والشيخ أحمد الطرودي والمفتي المالكي الشيخ محمد ابن المدروس محمد جعيط وغيرهم، وقد ذكره الشيخ محمد برناز في كتابه الشهب المحروقة في الرد على أهل الزندقة في أثناء استطراده ترجمة العالم الشيخ محمد الزاوي فقال وأنه قد ناب الخطيب المحدث والشهرة له فيه الشيخ سعيد بن ابراهيم المحجوز أحد فضلاء بلادنا وكان أمين المؤدبين وما من أحد تعاطى الحديث ببلادنا من معاصريه إلّا وله به سند وكان شديد النكير على متعاطي شرب الدخان وكان معتنياً بالحديث النبوي وكان يجلس للإقراء على وسادة لعجزه. وقد قرأ مختصر القدوري على الشيخ محمد بالفتح ابن شعبان الحنفي بالمدرسة اليوسفية وتوفي في طريق الحج قبل أن يصل إلى الإسكندرية بغير مرض وإنما أصابه ضعف يوم موته فمات راكباً على بغلته قبل العصر ودفن هنالك ولما رجع الركب إلى ذلك الموضع وجدوه كيوم وضع فحملوه بصندوق ودفن بتونس، وكانت في شهر رمضان سنة 1119 تسع عشرة ومائة وألف عليه رحمة الله.
قلت وقد بلغني من بعض ذريته أن سبب حمل الشيخ من مدفنه هو أن الركب لما وصل إلى ذلك المكان عند إيابه وكان كبيره الشيخ الغفاري فرأى الشيخ ليلة مبيته هنالك في النوم يقول له كيف يا أخي نأتي جميعاً وترجع وحدك وتتركني مدفوناً هنا فقال له شيخ الركب وأين يكون دفنك يا سيدي فقال له الشيخ بزاوية الشيخ سيدي منصور بن جردان فقال له إني لم أعلم مكان قبرك حتى أحملك منه فقال له الشيخ انظر العلامة التي تدلك عليه واحملني فلما كان من الغد خرج شيخ الركب يتقصص قبر الشيخ وبينما هو كذلك وإذا بطائر أبيض يحوم حول موضع مرتفع من التراب ونزل عليه فلم يشك في أن ذلك هو قبر الشيخ فأمر بحفره فإذا هو كما وضع فحمله ودفن بزاوية الشيخ سيدي منصور وقبره يقابل الداخل للزاوية بالبرطال وعليه تابوت يزوره زائر والزاوية رضي الله عنه.
وقد ذكره مؤرخ الدولة الحسينية المولى حسين خوجة في كتابه بشائر أهل الإيمان عند ذكر علماء الدولة فقال ومنهم العالم العلامة الفاضل الإمام الخطيب المحدث فريد عصره ووحيد دهره الشيخ سيدي سعيد بن إبراهيم المحجوز قدوة المحدثين وسند المحققين قرأعلى علماء عصره بمدينة تونس وحصل عليهم وأجازوه في كثير من العلوم وله سند عال في الكتب الستة في الحديث عالماً فاضلاً تقياً زاهداً تصدى للتدريس في أماكن متعددة ثم لازم التدريس بالجامع الأعظم جامع الزيتونة واستفاد منه خلق كثير كان شيخ عصره وزمانه في الرواية والدراية وله شرح على الموطأ غير كامل وتخرج عنه أناس كثيرة.(1/345)
وكان رحمه الله رأى النبي صلى الله عليه وسلم مراراً وكان الشيخ يروي الحديث بمسجد محل سكناه ويخرج من داره عند طلوع الفجر وكان كلب العسة يؤذيه فامتنع من الخروج أياماً قال فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقال لي قم يا سعيد اقرأ حديثي فإن الكلب قد قتل قال فقمت وقلت ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم حق فتوضأت وخرجت فوجدت الكلب نصفين وكان من قدر الله أن اجتاز من هنالك جندي فآذاه فضربه بسيف فقسمه نصفين ومناقبه كثيرة لا تحصى رحمه الله تعالى وسار إلى الحج وتوفي بمكان يقال له المطروح قريباً من الاسكندرية في اليوم السابع عشر من شهر رمضان سنة 1119 تسع عشرة ومائة وألف ودفنوه في ذلك المكان أمانة في تابوت وفي عودهم وجدوه كما كان وأتوا به إلى تونس ودفنوه بمقبرة الشيخ الولي الصالح صاحب المناقب الخارقة سيدي منصور بن جردان نفعنا الله به، وسمعت من تلميذه الشيخ سيدي أحمد الطروبي أنه كشف عليه حين دفنه في سيدي منصور فشاهده كما كان في حياته لم يتغير رحمه الله تعالى ونفعنا به آمين انتهى.
وقد ترجم له مؤرخ عصره الشيخ محمد الوزير السراج في كتابه الحلل السندسية فقال وفي هذه السنة أعني سنة1119 تسع عشرة ومائة وألف طلع مع الركب حاجاً الشيخ العالم العلامة والبحر الفهامة الأستاذ المحدث الصالح الإمام الخطيب الفاضل الذي اتخذ الحديث عزة وفخاراً ودرايته شعارأن وروايته دثارأن كم شفى بلطيف شمائله من معضل، وفصل فصول تبيانه من مشكل، وعدل كفات موازينه بين راجح ومرجوح، وداوى برقة معارفه، ومراهم عوارفه، كل ضعيف ومجروح، أزاح بري روايته عن عطاش القلوب أُوَامأن وأدار سلاف نفحاتها على لائذي أبوابها دوامأن واستقر مقيماً على ذلك الدين أعوامأن فحسن مستقراً ومقامأن وكان كثير الرؤية لسيِّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كان يتعاطى الحديث ومصطلحه ضُحىً جوفيّ الختمة بجامع الزيتونة ويروي الحديث أيضاً بزاوية الأستاذ، ومن بجاهه للائذين أعظم ملاذ، صاحب البراهين والبركات، وخوارق العادات، أبي الظَّفر، سيدي منصور بن جردان، وكان يؤمُّ بمسجد القنيطرة داخل باب الجزيرة ويخطب بجامع خارجهأن ورأيت بخطه رحمه الله في ورقة ما نصه: يقول العبد الفقير إلى الله تعالى سعيد بن إبراهيم المحجوز أذكر هنا ما ألفته من الكتب فمن ذلك كتاب في (الجمع بين الأحاديث التي ظاهرها التعارض) وكتاب (في الدعوات المستجابة) وكتاب في (الأفعال الثلاثية) هل هي من باب نصر أو من باب ضرب أو من باب علم أو من حسب؟ وكتاب (المثلث في اللغة) وكتاب (فيمن رأى الله تعالى في النوم من الأولياء) وكتاب (في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة) وكتاب (في الأضداد) وكتاب (في رقم لاإله إلا الله واسم سيدنا محمد وأحمد وغيرهما) وكتاب (في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم) اه بحروفه، غير أنه ما سمعنا بمن شاهد هذه الكتب، ولعلها اندرجت في كراريس حزمة قبل أن يسفرها وأهملت.
وكان واعظاً حرجاً في حقوق الله تعالى.
توفي رحمه الله تعالى عشية التاسع عشر من شهر رمضان من عام 1119 تسع عشرة ومائة وألف بمكان يقال له أبو مطروح قرب الاسكندرية في طلوعه. ثم لما نزل الركب نبش عليه وأخرج من قبره ووضع في تابوت ولم يجدوا فيه من التغير شيئأن مع أن تلك الأماكن أشد حرأن وكفى بعدم تعدي الأرض عليه عنوان القبول مع حرارة المكان وبعد الزمان ثم بعد تلك الحركات بالسفر إلى مدينة تونس وكشفوا عنه فوجدوه كأنه قُضي الآن، ودفن بالصحن من زاوية الشيخ الأستاذ سيدي منصور بن جردان، رحمه الله رحمة واسعة.
الحياصيون(1/346)
إن الشيخ المحجوز له اتصال بالولي الصالح سيدي سالم الحياص شهر الهياص تلميذ السيدة عائشة المنوبية رضي الله تعالى عنها ودفين القرجاني على يمين المار إلى مقامها والمتناقل عن الجدات السابقات أنهن يعتزين الشيخ من جهة الأمهات ومع إعمال البحث لم نظفر بجهة الاتصال وذلك ما يؤثره تباعد الزمان من تلاشي ما توجبه التعاريف، وغاية ما ظفرت به رسم مؤرخ سنة 975 خمس وسبعين وتسعمائة يتضمن أن الشريف عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد الحياص أصله مغربي من العراقيين أبناء سقف وأن قدومهم كان من المغرب إلى المنستير ثم تنقلوا إلى المهدية من الساحل عمل تونس ثم قدموا إلى حاضرة تونس وتوفي الشريف السيد عبد الله الحياص عن زوجته عائشة بنت محمد علي المهدوي وأولاده فرج وعبد الرحمن وبو سلامة وسالم. ثم إن سالماً المذكور قد حفت به العناية الإلهية وسلك طريق أهل أبيه ونال الفتح الرباني على يد ولية الله السيدة عائشة المنوبية رضي الله عنها. وقد توفي رضي الله عنه عن زوجته فاطمة بنت مبارك مجيد وأولاده محمد وعائشة وجودة، وقد وقفت على رسم وفاة الشريف السيد محمد بتاريخ سنة 1078 ثمان وسبعين وألف تضمن أنه توفي عن زوجته فاطمة بنت محمد الحبكي وأولاده فاطمة أيضاً وعلي وأبي القاسم، وأن السيدة عائشة بنت الشيخ سيدي سالم تزوجت بالوجيه مراد خوجة بن عبد الله التركي ووقفت على رسم حبس أوقفه مراد خوجة على زاوية الشيخ سيدي سالم لإقامة شعائرها وأحزاب ودرس بها وكان رسم التحبيس المذكور بتاريخ أواخر أشرف ربيع سنة 1158 ثمان وخمسين ومائة وألف متمم بشهادة العدلين محمد العصفوري وعلي بن طاير بإمضاء الشيخ أحمد القاضي الحنفي في ذلك العهد، وفيه جعل النظر للذرية وحيث انقرضت ذرية مراد خوجة المذكور على حين تلاشي الوقف الموقوف على الزاوية رجع الوقف إلى النظر العام ودخل لتصرف جمعية الأوقاف بعد انتصابها بقليل، ثم أقيم درس الحبس المذكور ونقل إلى جامع المقدس حمودة باشا المرادي لعسر الخروج لإقرائه بالزاوية وصدر أمر ولاية العبد الضعيف مدرساً لإقامة الدرس المذكور بجامع حمودة باشا في 21 شعبان الأكرم سنة 1301 إحدى وثلاثمائة وألف، فابتدأت هنالك شرح الدردير على المختصر الخليلي نقرأه بين العشائين نسأل الله التأييد.
ومع إعمال البحث في جامع الاتصال بين المحجوزين والهياصيين لم نجد من رسوم الوفيات ما يصح أن نعتمد عليه وذلك ما يؤثره تطاول السنين، ولم ندر أية البنات التي تضمنتها الوفيات الهياصية اتصلت بالمحجوز حتى اتصل بشرفها وإنما بحسب التاريخ والأسماء لم يبق من بنات الهياص من لم يعلم زوجها سوى فاطمة بنت محمد بن الشيخ سيدي سالم ووصف الشيخ أحمد بن سيدي سعيد المحجوز بالشرف في الرسوم دون والده يدل على شرف أمه، وتاريخ وفاة الشيخ سعيد المحجوز وتاريخ وفاة الشيخ محمد بن سالم الهياص صالحان لتزوج الشيخ سعيد المحجوز بالسيدة فاطمة بنت الشيخ محمد الهياص إذ يكون بعد وفاة والدها ووفاة زوجها إحدى وأربعونه سنة، وولدها الشيخ أحمد المحجوز الذي نتصل به وعلى هذا فأحمد المحجوز هو ابن فاطمة بنت محمد بن الشيخ سيدي سالم الهياص رضي الله عنه، وعلى كل حال فإن الاتصال في أصله ثابت وجميع أمهاتنا كن يأخذن من ريع حبس الهياص حين كان قائمأن وأما نسب الشيخ سيدي سالم فإنه ثابت متصل برسول الله صلى الله عليه وسلم إذ هو سالم بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد الحياص بن إبراهيم بن أحمد بن محمد بن مسعود بن عيسى بن عثمان بن إسماعيل بن عبد الواحد بن عبد الوهاب بن يوسف بن عيسى بن عمران بن يحيى بن عبد الله بن إدريس الأصغر بن إدريس الأكبر بن عبد الله الكامل بن محمد بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المقصد(1/347)
لما كان المقصد من الخاتمة هو إتمام التعريف بمن أخذت عنهم من الشيوخ عنونتُ هذا القسم بالمقصد، وقد أردت أن أقدم بين يدي هذا المقصد أسنة عقد نفيس فيمن ولي بجامع الزيتونة خطة التدريس، وذلك أن العلم بجامع الزيتونة قد أتت عليه أطوار من أعزها طوره اليوم أدام الله عمرانه بفحول علماء البلاد وذلك أن المقدس المشير الأول أحمد باشا بايث قد رتب بجامع الزيتونة ثلاثين مدرساً نصفهم من المالكية ومثلهم من الحنفية وجعل للواحد ستين ريالاً شهرياً يخرج من بيت مال المسلمين، واستمر بحفظ العدد المذكور من المدرسين وبذلك لم يزل سوق العلم في غاية الرواج، سالكاً أكمل منهاج، وبهذا أردت أن أجمل ذكر من ولي هذه الخطة المباركة من ذلك العهد الذي هو السابع والعشرون من شهر رمضان المعظم سنة1258 ثمان وخمسين ومائتين وألف.
وهذا بيان الشيوخ الأولين: وهم الشيخ حسين البارودي والشيخ الشاذلي بن المؤدب والشيخ محمد بيرم الثالث والشيخ محمد الخضار والشيخ علي الدرويش والشيخ محمد البنا والشيخ محمد معاوية والشيخ فرج التميمي والشيخ محمد بن مصطفى البارودي والشيخ محمد النيفر والشيخ مصطفى بيرم والشيخ محمد بن عاشور والشيخ محمد عباس والشيخ محمد القبايلي والشيخ حسن فرشيش والشيخ الشاذلي بن صالح والشيخ محمد الشابي والشيخ محمد الشنقيطي والشيخ محمد الأبي والشيخ محمد الشاهد والشيخ محمود بن بالخير والشيخ أحمد القروي والشيخ حسن بن الخوجا والشيخ الطيب الرياحي والشيخ حسن القلايجي الجزيري والشيخ علي العفيف والشيخ قسومة السراج والشيخ أحمد عاشور والشيخ محمد بن الرايس الضرير والشيخ العربي الشريف رضي اللع عنهم أجمعين. ولما توفي الشيخ فرج التميمي أواخر جمادى الأولى سنة1262 اثنتين وستين ومائتين وألف ولي مكانه مدرساً الشيخ الطاهر بن عاشور، ولما توفي الشيخ علي الدرويش خامس ذي القعدة من سنة اثنتين وستين ولي عوضه مدرساً ابنه الشيخ أحمد الدرويش حادي عشر من ذي القعدة المذكور وكانت وفاته في الرابع من شهر رمضان المعظم سنة 1263 ثلاث وستين ومائتين وألف، ولما توفي الشيخ محمد بن عاشور في صفر الخير سنة 1265 خمس وستين ومائتين وألف تقدم عوضه الشيخ علي الرياحي ولي عوضه مدرساً الشيخ أحمد بن نصر ولما توفي الشيخ محمد الشنقيطي أواخر شهر رمضان من السنة المذكورة ولي عوضه مدرساً:
الشيخ الحاج عبد الله الدراجي
وهو عالم جليل تقي نبيل، حسيب أصيل، ولد بالحضنة قرب المسيلة من عمل قسنطينة من نزلاء وادي برهون أحد أودية الحضنة المذكورة، ومقام جده سمي والده، فمحل نزلهم المشار إليه محط للوافدين والزوار، ومناخ للثقاة الأخيار، وملاذ لذوي المآرب والأوطار، يتوسلون به في قضاء الحاجات، ونزول النوائب المدلهمات، ودفع الشدائد والأزمات، والناس يجتمعون عند ضريحه ما بين قارىء وداع ومستغفر، وموقن لقضاء وطره مستبشر، وشهرة آبائه الآن بقبيلهم بأولاد الشيخ محمد الهذلي أحد أجداده الآتي ذكرهم كما وجد ذلك بخطه رحمه الله، مع مالهم في محلتهم من الحظ الوافر، من الأكابر والأصاغر، والجاه والقبول، عند كل من الفاضل والمفضول، والكلمة المطاعة، لدى الخاص والعام من الجماعة. وقرأ القرآن على والده ومبادىء النحو، وتنقل إلى قسنطينة، وقرأ بها على علماء ذلك العصر منهم الشيخ أحمد العباسي، والشيخ المكي البو طالبي، والشيخ أحمد بن المبارك، والشيخ محمد الشاذلي، وغيرهم. وأقام بها نحو العشر سنين وتزوج بها وخرج منها عند إصابة الجزائر عام 1246 ستة وأربعين ومائتين وألف. وحج بيت الله الحرام وأقام بمصر نحو السبع سنين قرأ فيها على فحول الأزهر.
ثم وفد على تونس وأكمل فيها قراءته وتصدى لبث العلم مع القناعة والثبات في الدين وتقدم للتدريس بجامع الزيتونة والإمامة والخطبة بجامع سبحان الله ومشيخة المدرسة المنتصرية وأقرأ فيهما وختم الأختام المهمة وهاجر للمدينة المنورة عام 1283 ولازم التدريس بالحرم النبوي إلى أن توفي أوائل سنة 1297 سبع وتسعين ومائتين وألف.(1/348)
وقد أدركته بتونس يلبس الصوف وجميع الناس يجله ويعظمه. وقد وقفت على تقييد بخطه على ظهر كتاب عدد فيه بعض آبائه وذلك أنه عبد الله بن أحمد بن علي بن أحمد بن محمد الهذلي بن سليمان بن خليفة بن عمر بن محمد بن خليفة بن أحمد بن محمد ساسي، وبيتهم مشهور بالشرف والعلم وأفراد العلماء منهم كثيرون رضي الله عنهم.
ولما هاجر هذا الشيخ للمدينة المنورة ولي عوضه مدرساً وخطيباً بجامع سبحان الله الشيخ الطيب السبعي.
ولما توفي الشيخ محمد بن مصطفى البارودي ولي عوضه مدرساً الشيخ محمد الأمين بن الخوجة في ذي القعدة الحرام سنة 1265 خمس وستين ومائتين وألف، ولما توفي الشيخ محمد بيرم الثالث وتقدم الشيخ محمد بن باكير قاضياً حنفياً ولي عوضه مدرساً العالم المنجم الشيخ محمد بن محمود وحيث انتهى بنا العد إلى ذكر هذا الأستاذ نذكر ترجمته إذ هي ليست أجنبية من غرض هذا الكتاب فنقول:
الشيخ محمد بن محمود
هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن حمودة بن محمد بن حمودة بن محمد بن محمود الترجمان كان محمود الترجمان على عهد استقلال الدولاتية بتونس مترجم اللغة التركية إلى العرب بين يدي الدولاتي مثل والده، وكان قدومهم من الشام وهو من بني محمود الأعوج أحد ملوك الشام، وقد قتل محمود الترجمان المذكور على عهد مراد باي بوباله قتله هو والدولاتي وباش حانبة في يوم واحد، وفر ولده محمد بفتح أوله إلى الشبخ سيدي علي عزوز بزغوان وأخذ منه مكتوباً وحين وصل به إلى الحاضرة صادف ولاية ابارهيم الشريف باي داي فأحسن قبوله وأذن له بإرجاع جميع أملاك والده من الذين اشتروها بعد بيعها فصالح جميعهم فأخذ بقية قيمة الملك حيث إنّهم أخذوه بثمن بخس وتمم بيعه لهم. وسافر إلى مصر وأقام على خدمة العلم الشريف إلى أن خرج الشيخ علي عزوز وعند عوده رجع به إلى الحاضرة ونشأ بعده ولده حمودة في خدمة العلم وأخذ عن شيخ الإسلام محمد بيرم الأوّل ومن عاصره، وتفقه وطالت يده في الفرائض حتى كان عمدة الفرضيين، وجلس للإشهاد مع إمام المالكية الشيخ محمد المحجوب، وكانت ترد إليه الفتاوي من كل جهة، وربما رجع إليه الخصوم في نوازلهم حتى تشّكى منه الشيخ محمد البارودي للأمير وأرسل له في ذلك فأجاب الرسول بقوله أو أن الناس إذا قدموا غليّ يسألوني عن أمور دينهم نقول لهم منعني الأمير ولم يمتثل ذلك النهي وتوفي بعد الثمانين والمائة والألف.
وأما ولده محمد سمي جده فكان عدلاً فرضياًوأقام على الإشهاد هو وأخوه الشيخ محمود وحج بأهله ولمّا رجع صادف انتشار الوباء فأقام بالكرنتينة بحلق الوادي مع أهله وتوفي هنالك بالوباء منتصف شعبان الأكرم سنة 1233 ثلاث وثلاثين ومائتين وألف، ودفن بتربة آبائه بالزلاج.
وكان ولده حمودة عدلاً وباش خوجة بجامع حمودة باشا كسائر آبائه وتوفي في صفر سنة 1289 تسع وثمانين ومائتين وألف.
وولد صاحب الترجمة في المحرم عام 1222 اثنين وعشرين ومائتين وألف وبشّر به والده وهو يقرأ على الشيخ أحمد بن الخوجة فقال له الشيخ إنّ ولدك هذا تاريخه "بشّرك" فنشأ بين يدي والده وجمع القرآن العظيم وقرأ على الشيخ مجمجد بن ملوكة الأجرومية والأزهرية والدرة وشرحها بطلبه وقرأ عليه رسالته المنطقية، وقرأ على لاشيخ مصطفى بو غازلي مراقي الفلاح في الفقه، وقرأ على لاشيخ محمد بن اسماعيل المكودي، وقرأ على لاشيخ أحمد بن حسين الشذور، وقرأ على لاشيخ عثمان النجار الفلك، وقرأ على لاشيخ محمود بن باكير العيني والواقعات، وجوّد القرآن على لاشيخ حسين البارودي، وطلب قراءة الخزرجية على لاشيخ محمد الخضار فأجابه لذلك بزاوية سيدي ابن عروس غير أنّه اتفق في يوم البداية أن الشيخ عرض له شغل منعه من الحضور فكتب إلى تلميذه بقوله: [الطويل]
أيا نجل محمود ومن مثل محمودِ ... إليك اعتذاري أن أخالف موعودي
سأطلب من جدواك تأخير درسنا ... لحين وإني باذل لجهودي
فكتب إليه صاحب الترجمة بقوله: [الطويل]
أيا سيّداً بالفضل والرأي يحمدُ ... لك الهمّة العليا ومجد وسؤودُ
سأصبر للتأخير حيناً لدرسنا ... ولكن إلى لقياك شوقي مجدد(1/349)
وقرأ على لاشيخ أحمد الأبي الفاكهي وقطعة من الأشموني، وقرأ على الشيخ محمد بن الخوجة السعد والمكودي والدرر، وقرأ على الشيخ محمد بيرم الثالث النصف الثاني من السعد ودروساً من الدرر، وقرأ على الشيخ عبد الرحمن الكامل السعد على العقائد النسفية.
وتصدى للتدريس فأفاد الطالبين وتقدم لخطة التدريس في الرتبة الأولى ايتداء عوض الشيخ محمود بن باكير عندما تقدم الشيخ لخطة القضاء ولازم التدريس بجامع الزيتونة.
وتضلع في العلوم الفلكية وأحكام التنجيم وصدق عمل النصية منه مع الشيخ الخضار والشيخ عثمان النجار في كثير من الوقائع ولمّا ولي المشير الثاني محمد باشا وظهر من صهريه شيخ الإسلام وأخيه المحتسب تصرف في أمور كثيرة عمل في تلك نصبة وأخبر بقرب تقشع ذلك الأمر، وبلغ ذلك إلى شيخ الإسلام الشيخ محمد بيرم الرابع وكان يومئذ قد ألزم جميع المدرسين بلبس الزمالة ولصاحب الترجمة ألم برأسه امتنع بسببه عن لبسها فأحضره في بيته وعنفه وأغلط عليه القول في شأن لبس الزمالة حتى قال له كيف لا تلبس الزمالة وأنت رجل تحكم يعني الأحكام التنجيمية إلى غير ذلك مما هو غير وعند فراغه من ذلك المجلس توجه للأمير وطلب خطة الكتابة، واستعفى من خطة التدريس، فآثره خصوصياً في بيته وذلك سنة إحدى وسبعين ونال عنده الحظوة التامة.
وبعد وفاة مخدومه أقام على الكتابة بديوان الإنشاء وتطور به لاحال إلى أن أدركه ضعف البدن فلازم جبل المنار سنين متطاولة لحسن الهواء وتعفف عن إعمال النصبة حتى أن وزير تونس مصطفى بن اسماعيل ذهب إليه وطلب منه العمل فلم يجبه، وقد رأيت منه مع ذلك محاسن أفهام مبنية على قواعد حسابية مختلفة. أدركته وهو من القناعة والظرافة واللطافة بمكان عظيم مع علو الهمة والخيرية والفضل، إلى أن توفي في جبل المنار يوم الأحد ودفن يوم الاثنين الخامس عشر من ذي الحجة الحرام سنة 1298 ثمان وتسعين ومائتين والف ودفن جوار قبر الست ميمونة قرب الناظور، عليه رحمة الله.
وممن ولي التدريس الشيخ أحمد بيرم وكانت ولادته بعد زوال يوم السبت من المحرم سنة 1235 خمس وثلاثين، وقرأ على فحول شيوخ عصره، ونبغ في الأدب والشعر وتقدم للتدريس في الرتبة الثانية في المولد النبوي سنة 1265 خمس وستين، ثم ارتقى للرتية الأولى في 18 جمادى الثانية 1271 سنة إحدى وسبعين ومائتين وألف، وولي وكالة جامع المكنين في 9 صفر عام 72 وعضواً في المجلس الأكبر في 10 شعبان سنة 1278، وله ديوان شعر رائق وغزل فائق. وتوفي في ربيع الأول سنة 1280 ثمانين ومائتين وألف.
وقد أدركت من الشيوخ المالكية الشيخ محمد النفطي والشيخ محمد المارزي، والشيخ سليمان التبرسقي كلهم مدرسون في الرتبة الأولى. ومن الشيوخ الحنفية الشيخ محمد برناز، والمجود الشيخ محمد الستاري، والشيخ حمودة قلايجي، والشيخ مصطفى بن الطيب، والشيخ محمد الأبي كلهم في الرتبة الأولى، والشيخ الحاج محمد بن حمدة بن مراد توفي بعد غروب ليلة الثلاثاء الثاني والعشرين من ربيع الثاني سنة 1301 إحدى وثلاثمائة وألف عليه رحمةالله. وممن مات في الرتبة الثانية الشيخ حسونة الشحيح المالكي، والشيخ عبد الرزاق الجزيري، والشيخ مصطفى الأبي عليهم رحمة الله.
وهكذا تنقلت خطة التدريس بجامع الزيتونة من عالم حتى كانت اليوم بيد علماء العصر وهم الثلاثون الآتي بيانهم الشيخ الأمين بن الخوجة، والشيخ محمد الشاهد، والشيخ أحمد كريم والشيخ محمد النيفر. والشيخ حسونة عباس والشيخ سالم بوحاجب، والشيخ الطيب السبعي، والشيخ محمد بن مصطفى خوجة إمام المحلة، والشيخ الحاج العربي المازوني، والشيخ مصطفى رضوان، والشيخ عثمان الشامخ، والشيخ محمد النجار، والشيخ الشاذلي بن القاضي، والشيخ الطيب النيفر، والشيخ محمد بن إسماعيل بن محمود، والشيخ البشير التواتي، والشيخ الشاذلي بن مراد، والشيخ حسين بن أحمد بن حسين، والشيخ محمود بن اسماعيل بن محمود، والشيخ الصادق الشاهد، والشيخ أحمد بن محمد بن مراد إمام مسجد حمودة باشا. وحيث إن محط نظر هذا المقصد هو التعريف بالشيوخ أساتيذي رضي الله عهم فإني نذكرهم على حسب مراتبهم في تاريخ ولاية التدريس رضي الله عنهم أجمعين.
الشيخ أحمد عاشور(1/350)
هو شيخنا أبو العباس أحمد بن محمد عاشور الصدفي الأنصاري الساحلي، ولد ببلد بو علي من عمل الساحل، وقدم إلى تونس في طلب العلم الشريف، فأخذ عن فحول منهم الشيخ أحمد بوخريص والشيخ إبراهيم الرياحي والمولى الجد الشيخ محمد السنوسيّ، والشيخ محمد بن ملوكة وغيرهم.
وتصدى للتدريس ولازمه فأفاد وتقدم لخطة التدريس في الرتبة الأولى ابتداء عند وضع الترتيب الأحمدي أواخر شهر رمضان سنة 1258 ثمان وخمسين ومائتين وألف فلازم جامع الزيتونة، وأخذ عنه علماء جلة مختلفو الطبقات، أدركت جامع الزيتونة وهو شيخ كافة شيوخه إلاّ من ندر ومع هرمه كان جميع يومه يستوعبه تدريساً وقد قرأت عليه القطر لابن هشام ونبذة من الشذور وقطعة من شرح الشيخ عبد الباقي على العزية، وشرح الشنشوري على ال رحبية بعمل الفرائض ونبذة من القلصادي، ونبذة من الدرة، ونبذة من شرح الرصاع في شرح أسمائه عليه الصلاة والسلام.
وكان عالماً عاملاً ورعاً متواضعاً قنوعاً يخدم داره بنفسه كثيراً ما نلاقيه يحمل قلة الماء إلى داره ويحمل خبزته إلى الفرن لقيه تلميذه الشيخ الطاهر بن عاشور حاملاً خبزته وكان راكباً في حاشيته فنزل عن فرسه وقبل يده وأراد أن يأخذ منه الخبزة ليعطيه من يوصله إلى الفرن فامتنع الشيخ من ذلك إلا بجهد جهيد، فكان من بقية السلف الصالح.
شرح نظم متن العشماوي في العبادات للشيخ الطيب بوخريص بشرحين كبيراً وصغيراً أبدع فيهما ما شاء في تحرير المسائل، وله تأليف لطيف في الصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، وهوامش زين بها كتبه، وفي أثناء قراءتي عليه أدركه مرض الحمّى العام لكنه عوفي منه وبعد أيام قليلة ×رج بعياله لبلده بالساحل، وكان ذلك أوائل رجب ثم في تاسع شعبان أرسل له الأمير محمد الصادق باشا باي بتولية خطة قضاء باردو المعمور فامتنع من قبولها وأقام هنالك متمارضاً فأدركته المنية ثامن عشر شوال الأكرمسنة 1285 خمس وثمانين ومائتين وألف ودفن هنالك عليه رحمة الله تعالى آمين.
الشيخ محمد بو عصيدة
هو شيخنا أبو عبد الله محمد المدعو حمدة التميمي، ولد بمنزل تميم وقدم إلى تونس في طلب العلم فأخذ عن أعلام الرجال، قرأ النحو والفرائض على الشيخ محمد بن ملوكة، وقرأ على الشيخ أحمد الأبي، والشيخ إبراهيم الرياحي والشيخ محمد بن سلامة قرأ عليه شرح التاودي على العاصمية، وغيرهم. وتضلع في المعقول سيّما في علم النحو فقد كان فيه عريض البحث، وله في المعاني والبيان قدم راسخ.
تقدم لخطة التدريس في الرتبة الثانية عند ترتيب المدرسين الصغار بجامع الزيتونة، ثم تقدم إلى الرتبة الأولى، وولي مشيخة المدرسة المغربية عند وفاة الشيخ علي الريحاوي، وواظب على دروس انتفع بها خلق كثير وتقدم عضواً في مجالسالأحكام القانونية، فكان عند الظن به في حسن الإدارة والتبصر.
وقد قرأت عليه الأزهرية وقطعة من شرح القطر لابن هشام، وكان يومئذبصدد تحرير حاشية عيه، ونبذة من أول المقدمة لابن هشام بحواشيه.
وكان عالماً محققاً دراكة غواصاً على دقائق المعاني محبّاً للمباحثة حسن الإلقاء، متواضعاً قنوعاً عالي الهمة.
كتب حاشية على مقدمة ابن هشام أبدع فيها ما شاء وكتب حاشية على قطر ابن هشام غير أنه لم يتمها.
ومرض فتوفي ضحوة يوم السبت السابع والعشرين من جمادى الثانية سنة 1284 أربع وثمانين وما~تين وألف، وقد رثاه الشيخ الطاهر بن جعفر بقوله: [الكامل]
كل لمرئ للموت حقاً يرجع ... أما البقاء فليس فيه المطمعُ
قدر جرى في الناس أمراً حاتماً ... يا صاح منه فأين أين المفزع؟
سيان في ذاك الرفيع وضدّه ... فالله يفعل ما يشاء ويصنع
فليحذر الإنسان من دنياه أن ... يغتر فيها إذ بناها بلقع
وليتعظ بمصابنا في جهبذ ... شيخي الإمام اللوذعي اليلمع
فالكون أصبح مظلماً من بعدهما ... كانت بدور العلم فينا تطلع
فبفقد أهل العلم بدء ملمة ... وبموتهم شيئاًفشيئاً
وأروع قلبي والخطوب تراكمت ... عني فهل صبر لذلك ينفع؟
سيدي أبو عبد الإله محمد ... من فكره في الفهم سيف أقطع
(كشاف) أسرار المعاني متقنٌ ... كل العلوم وللبلاغة منبع(1/351)
الحائز الآثاروالمنح التي ... ما نالها قط الأديب المصقع
نجم الدروس ومن إذا وقف الور ... ى في المعضلات فهوّ هوّ المرجع
جرعت بفرقته البرية كلها ... لا سيما البيت العتيق الأجمع
أضحى بدار جاره خير الورى ... طه البشير الهاشمي الأرفع
فعليه صلى الله ماقد انشدوا ... كل امرئ للموت حقاً يرجع
الشيخ أحمد بن نصر
هو شيخنا أبو العباس أحمد بن نصر التاستوري قدم لتونس في طلب العلم، فقرأ على أعلام الشيوخ كالشيخ إبراهيم الرياحي والشيخ محمد بن الخوجة، وحصل على ملكة مهمة فتصدى للإقراء، وواظب على التدريس بجامع الزيتونة باعتناء زائد في إيصال المبتدئين حتى أنه لا يتأخر عن درسه أحد ممن قصد التعليم. وتقدم لخطة التدريس بجامع الزيتونة فكان من فضلاء المدرسين.
وتقدم عضواً في المجالس القانونية فأنكر العامة تقدمه لما يعهدون من ديانته ونهيه عن مثل ذلك، ثم بعد بطلان المجالس رجع إلى ما عهد منه في دروسه.
وقد قرأت عليه النصف الأول من كفاية الطالب وشرح المكودي على الألفية إلى الفاعل ودروساً أخر قليلة.
ثم سافر لحج بيت الله الحرام وعاد من هنالك مريضاً مرضاً يتداول عليه بالإسهال في غالب الأحيان حتى منعه من المواظبة على الإقراء واستمر على ذلك بضع سنين وهو مهيب، أكثر شغله بالحديث.
وكان، عالماً فاضلاً مشاركاً في كثير من الفنون خيرأن حييأن محباً حسن السكينة، لا يتجاوز الجامع إلا إلى داره قرب باب الخضراء واقرأ بمسجد هنالك كثيرأ بين العشاءين وقبل صلاة الصبح سنين متطاولة فلازم التدريس إلى أدركته المنية فتوفي في ذي الحجة الحرام سنة 1291 إحدى وتسعين ومائتين وألف وقد ارخت وفاته بقولي: [المتقارب]
هل تقتدي الأمة مستبصرة ... على جيوش النصر مستنصره
كما قد رأينا ابن نصر الرضى ... أحمد ما أن عدا مفخره
قد عم بالنفع أهل النهى ... وأسدى بتعليمه انضره
فكانت دروسه بين الورى ... بتحرير أفهامه مخبره
فعمّر في خدمة العلم مع ... تقى الله في كل ما عمره
إلى أن أصيب بآلامه ... سنين بها كان ما أصبره
فريء له صبر يعقوب من ... رضاه بما الله قد قدره
ولما قضى نحبه عن رضى ... تراءت به الحور مستبشره
وسار إلى الله يرجو الجزا ... فقل إن تؤرخ "له المفغرة"
الشيخ محمد الأمين بن الخوجة
هو شيخنا أبو عبد الله محمد الأمين بن حمودة بن أحمد بن حمودة بن محمد بن الحاج علي خوجة. قرأ والده الشيخ أحمد بن الخوجة، وعلى أخيه الشيخ محمد بن الخوجة وعلى الشيخ محمد بيرم الثالث واشتغل بالتجارة في الزيتون، وكان خيرأن فاضلأنزكي النفس، توفي سنة 1258 ثمان وخمسين ومائتين وألف عليه رحمة الله، آمين. وارّخ وفاته الشيخ محمد بيرم: [الطويل]
أجل في صروف الدهر معتبراً طرفا ... فقد خطّت الأيام من معظها صحفا
وحسبك منها واعظ الموت إنّه ... لأكثرها وعظاً وأبنها كشفا
عجبت لمغرور ترامت بلبه ... أكفّ الأماني وهو ينتظر الحتفا
فما الحزم كل الحزم إلاّ لمعرض ... عن العرض الفاني وهن له خلفا
كحمودة بن الخوجة الفذ من ثوى ... بباطن هذا الرمس يرجو به الزلفى
قرين العفاف المحض من شهدت له ... بنو عصره أن لا نظير له يلفى
سليل الهمام الجهبذ الفرد أحمد ... وحبر العلا مفتي الورى المنهل الأصفى
مضى طاهر الأثواب من كل شائن ... وأبقى ثناء طاب ترديده عرفا
فحقق إلهي فيه قول مؤرخ ... (حوى من نعيم الخلد والمفخر الوصفا)
وقد ولد ولده صاحب الترجمة ليلة الثلاثاء الثامن والعشرين من ذي القعدة الحرام سنة 123 ثلاث وثلاثين ومائتين والف، فأدرك جده وقص من خبره معه أنه كان في بعض الأيام واقفاً عند باب بيتهم يخاطب اهله ويده مسندة بعارضة الباب وإذا به يسقط عقد سبحة بيده، وكان حفيده واقفاً عند رجليه فقال له على صغر سنّه كيف أنت تخاطب جدتي وأصابعك تسبّح فقال له يا ولدي غني أذكر الله بقلبي وأخاطب والدتك بلساني ثم بكى وحمله وقبّله.(1/352)
ونشأ في خدمة العم الشريف فقرأ على عمّه الشيخ محمد بن الخوجة سيدي خالد والأزهرية والقطر والمكودي والدرر وقطعة من صحيح البخاري وقرأ على الشيخ محمد بيرم الرابع شرح سيدي حسن علي منظومة ابن وهبان والدرر، وقرأ على الشيخ محمد معاوية المكودي والأشموني والعصام والكنز، وقرأ على الشيخ محمد النيفر الفاكهي واللفية والأشموني عليها والسعد وقطعة من صحيح البخاري وقرأ على الشيخ محمد بن عاشور الأشموني على الألفية، وقرأ على الشيخ مصطفى بيرم الألفية، وقرأ على الشيخ إبراهيم الرياحي نبذة من الموطأ.
وجلس للتدريس وتقدم للرتبة الثانية بجامع الزيتونة في لاثامن عشر من أشرف الربيعين سنة 1265 خمس وستين ومائتين وألف، ثم ما لبث أن ارتقى للرتبة الأولى في المحرم سنة 1266 ست وستين ومائتين والف، ولازم التدريس بجامع الزيتونة واعتنى بالفقه والنوازل حتى صار فقيهاً خبيراً بفروع المذهب الحنفي، له معرفة بتعبير الرؤيا حسن الأخلاق حسن التعبير في درسه. قرأت عليه قطعة من شرح المقدمة لابن هشام.
وتقدم للتدريس بالمدرسة الصادقية عند فتحها فرأينا تلامذته في مواكب الامتحانات كلهم محصل على جميع مارواه عن أستاذه. ولمّا توفي المدرس الشيخ محمد الستاري منسلخ ربيع الثاني سنة 1297 سبع وتسعين تقدم عوضه خطيباً وإماماً ومدرساً بجامع القصر فكانت أول خطبة خطبها به من إنشائه يوم الجمعة سابع جمادى الأولى سنة 1297 سبع وتسعين ومائتين وألف.
الشيخ عمر بن الشيخ
هو شيخنا أبو حفص عمر بن أحمد بن علي بن حسن بن علي بن قاسم زعوقة عرف ابن الشيخ. أصلهم من قرية الماتلين بمقربة رأس الجبل قرب غار الملح، وقد حج جده قاسم بيت الله الحرام وولي مشيخة الحكم على قرية الماتلين إلى أن توفي سنة 1195 خمس وتسعين ومائة وألف، فخلفه في المشيخة ولده حسن إحدى وخمسين سنة وكان فيمن دافع عن بنزرت حين ورد إليها العدو من قبل البحر وتوفي في شعبان سنة 1246 ست وأربعين ومائتين وألف وترك ولده علياً خطيباً بجامع الماتلين، وقد اشتهر عليه لقب ابن الشيخ، وكان خيراً ملازماً لقراءة القرآن يتمنى كثيراً حج بيت الله الحرام والموت هنالك، وقد أجاب الله أمنيته فقد أتم الحج والزيارة وتوفي بالينبع، ودفن هنالك في المحرم سنة 1297 سبع وتسعين ومائتين وألف وأما ولده أحمد فقد تقلّب في خدمة الدولة قدمه شاكير صاحب الطابع لخلاص أعشار غار الملح وعمله عند امتناع جده لعجزه وامتناع والده مراعاة لخطة الإمامة فقام بذلك قياماً تستحسنه الدولة حتى تيسر له بذلك أخذ خدمات كثيرة منها استلزامه لمحصول المحصولات ريع الفواكه والخضر والبقول بباب البحر.
واستمر في خدمة الدولة إلى أن ولي المقدس المشير الثاني فكان ممن لزم بيته وأقام ببلد رأس الجبل وحج بيت الله الحرام سنة 1294 أبع وتسعين ورجع إلى بلده مشتغلاً بما يعنيه.(1/353)
وأما ولده صاحب الترجمة فقد اعتنى ولده بتعليمه كباقي إخوته بحيث أنه أقام لهم مؤدباً أولاً ثم أحضر لهم الشيخ محمد بن شعبان لتجويد القرآن العظيم والشيخ أحمد بن الطاهر لقراءة العلم الشريف قرأوا عليهمأن وفي بمدإ رجولية صاحب الترجمة دخل بجامع الزيتونة في شوال سنة 59، فقرأ على الشيخ عمر القسنطيني الأجرومية، وقرأ على الشيخ محمد بن مصطفى البارودي شرح الشيخ خالد على الآجرومية والشذور، وقرأ على الشيخ حسن فرشيش الأزهرية والقطر والصغرى، وقرأ على الشيخ محمد الأبي الأزهرية والقطر ومتن الألفية والرحبية، وقرأ على الشيخ محمود قابادو متن إيساغوجي والسلم وآداب البحث والسمرقندية ونبذة من الخبيصي، وقرأ على الشيخ أحمد بن الطاهر الكفاية والأشموني ومتن التلخيص، وقرأ على الشيخ الشاذلي بن صالح الشذور والملّوي على السلم، وقرأ على الشيخ محمد الخضار غالب الأشموني وقطعة من الخرشي والبردة والقاضي علي إيساغوجي، وقرأ على الشيخ محمد بن سلامة المكودي على الألفية ونبذة من التاودي، وقرأ على الشيخ محمد البنا الدردير على المختصر الخليلي وأول الخرشي عليه ومختصر السعد والمحلي وقطعة من الأشموني، وقرأ على الشيخ محمد بن الخوجة نبذة من المكودي، وقرأ على الشيخ محمد معاوية الأشموني والمطول ونبذة من صدر الشريعةوالشفأن وقرأ على الشيخ محمد النيفر القطر وميارة والكفاية ومختصر السعد والكبرى والقطب، وقرأ على الشيخ حمودة بن عاشور الفاكهي ومختصر السعد، وقرأ على الشيخ محمد الشاهد نصف الخرشي وغالب المطول، وقرأ على الشيخ محمد بن ملوكة تأليفه النحوي، وقرأ على الشيخ إبراهيم الرياحي نبذة من الموطأن وروى قطعة من صحيح البخاري.
وبرع براعة كلية وجلس للإقراء بجامع الزيتونة في ربيع الأول سنة1266 ست وستين، وتقدم للرتبة الثانية في التدريس بجامع الزيتونة في أول ربيع سنة 1268 ثمان وستين ومائتين وألف، وتقدم للرتبة الأولى في أواسط المحرم سنة 1283 ثلاث وثمانين ومائتين وألف، فزان الخطة بعلمه. وهو آية الله في الذكاء والتحقيق وله تحصيل زائد في العلوم العقلية وعلى الخصوص علم المنطق وآداب البحث فقد أدركت جامع الزيتونة وهوالذي يشار إليه فيهمأن ومهما تصدى للفهم أتى بالعجب العجاب من التحرير والتدقيق مع حسن الإلقاء وتتبع أمهات المسائل، وقد سخر الله له حديد الصعب فلان بين يديه مع كمال براعة في تصوير المعقول محسوساً بحيث إنه له قدرة على توصيل الطالبين ليست لغيره وبذلك انتفع عليه خلق كثير، وفيه محاسن أخلاق.
وقد كان فيمن انتخب للمجالس القانونية عند وضعها سنة1277 سبع وسبعين ومائتين وألف، فولي عضواً في المجلس الأكبر وكاهية رئيس المجلس الاعتيادي، وظهرت له البراعة في التطبيق على كليات القوانين. ولما علمت الدولة منه في ذلك العهد انتخبته وكيلاً عنها في الدعوى التي أقامتها على الوزير مصطفى خزنة دار عند عزله ولما انتهت النازلة المذكورة قدمته لخطة قضاء باردو المعمور في الثامن والعشرين من ذي القعدة الحرام سنة 1290 تسعين ومائتين وألف.
وقد قرأت عليه شرح الشيخ خالد على مقدمة ابن هشام ونبذة من لامية الأفعال والمغني لابن هشام بحواشيه إلى أن بلغنا إلى الجمل التي لا محل لها من الإعراب قراءة تحقيق وبحث، ولم بلغنا فيه إلى حيث لا يتحمل المقام البحث لبساطة المسائل ورأى تلامذته كفاءة لأن يتمموا ما بقي بأنفسهم آذاننا بمطالعة ما بقي، وابتدأنا المطول على التلخيص بحواشيه مع متابعة المفتاح وشروحه في بعض المسائل ولازمنا معه الجري على ذلك النمط إلى مبحث التعريف باللام من المسند إليه، وقرأت عليه القطب على لشمسية بحواشي السيد وعبد الحكيم إلى بحث الموجهات فمنعني مانع من الحضور إلى أواخره فحضرت ختمه وابتدأنا شرح السيد على المواقف بحواشيه بطلب منا وقد خاطبته في ذلك بقولي: [الطويل]
إذا ما بدت في الموقف الصعب وقفة ... من المدره الراقي سماء المعارف
فأنت الذي ترقى به وقفة لكي ... تجاوز بعد القطب صعب المواقف
وقد حضرت الدرس المذكور إلى أن أتممنا الموقف الأول وأتينأن على غالب الموقف الثاني باعتناء الطالب والمطلوب حيث أن الكتاب المذكور منذ عصور لم يكن له حديث بين علماء تونس.(1/354)
وفي أثناء ذلك تقدم الشيخ لخطة النيابة عن مستشار الدولة في نظارة الدروس والمدرسين بجامع الزيتونة ند وضع الترتيب الصادقي وأفرغ جهده المذكورة في المحرم سنة 1293 ثلاث وتسعين ومائتين وألف.
(ثم ولي رئيساً للقسم التونسي من المجلس المختلط العقاري ثم صار مفتياً مالكياً وبقي على خطته) .
الشيخ سالم بو حاجب
هو شيخنا أبو النجاة سالم بن عمر بن سالم البنبلي من ذرية الشيخ سيدي شبشوب دفين القرية المذكورة، وجدهم الذي ينتهي إليه نسبهم هو الشيخ سيدي مهذب دفين عمل صفاقس وكانوا يلقبون بالمهذبين إلا أن أحد الذرية أصيب في بعض الفتن بضرب على حاجبه فلقب بأبي حاجب وجرى هذا اللقب على أبنائه، وكان جد صاحب الترجمة سميه بلغ من العمر إلى مائة وإحدى عشرة سنة وتوفي والده أبو حفص عمر سنة 1266 ست وستين ومائتين وألف بعد أن بلغ من العمر إلى ست وخمسين سنة.
وكانت ولادة صاحب الترجمة سنة 1244ثلاث أو أربع وأربعين ومائتين وألف وقدم إلى تونس على حين بلوغه السبع سنين فقرأ القرآن ودخل لقراءة العلم بجامع الزيتونة في شوال سنة 1259 تسع وخمسين فجود القرآن، العظيم برواية حفص على الشيخ حسين البارودي، وقرأ عليه الجحربي على إيساغوجي، وقرأ على الشيخ محمد الشنقيطي ىالأزهرية من باب نائب الفاعل وميارة على نظم ابن عاشر، وقرأ على الشيخ محمد بن مصطفى البارودي الشذور، وقرأ على الشيخ محمد بن محمود الأزهرية والمقدمة وقطعة من السوسي ونبذة من الدرة، وقرأ على الشيخ أحمد بن الطاهر الجربي على إيساغوجي ونبذة من التاودي بحواشيه وروى عن الشفأن وقرأ على الشيخ على الحاج عبد الله الدراجي نبذة من الكفاية، وقرأ تعلى الشيخ علي العفيف القطر والفاكهي والتوضيح والمحلي، وقرأ على الشيخ الطيب الرياحي نبذة من المختصر الخليلي، وقرأ على الشيخ أحمد عاشور شرح خالد للآجرومية والأزهرية والمقدمة والفاكهي والشنشوري على الرحبية والعقيدة السنوسية ونبذة من القلصادي، وقرأ على الشيخ محمد البنا المكودي على الألفية والخبيصي على الته ذيب والمحلي على جع الجوامع والدرير على المختصر الخليلي، وقرأ على الشيخ محمد الخضار الألفية بشرح ابن عقيل ثم بشرح الأشموني ولامية الأفعال والقاضي على إيساغوجي ونبذة من الهمزية بشرح ابن حجر ونبذة من البردة وقطعة من الخرشي على المختصر الخليلي، وقرأ على الشيخ محمد النيفر نحو النصف الأول ن المطول والشفا وتفسير القاضي البيضاوي إلى نهاية سورة البقرة، وقرأ على الشيخ الشاذلي بن المؤدب قطعة من الكفاية، وقرأ على الشيخ محمد بن عاشور متن الألفية وأواخر الأشموني وأول مختصر السعد، وقرأ على الشيخ محمد معاوية نحو الثلث من شرح المكودي على الألفية وشرح الأشموني عليها إلى أن وصل إلى باب الوقف فشغلته خطة الفتيا فأذن صاحب الترجمة بأن يجلس مجلسه ويتمم الكتاب المذكور لمن حضر معه فصنع ما أمره به وأت إقراءه لتلامذة آخر، وقرأ عليه قسمي البيان والبديع من المطول وقطعة من صدر الشريعة ونبذة من السعد على العقائد النسفية والشفا دراية، وقرأ على الشيخ محمد نم ملوكة شرحه الصغير على الدرة ورسالته المنطقية، وقرأ على الشيخ عمر بن سودة الفاسي عند اجتيازه بتونس لطريق الحج الممختصر الخليلي من البيوع إلى الرهن، وقرأ على الشيخ محمد بن سامة قطعة من التاودي على العاصمية، وقرأ على الشيخ إبراهيم الرياحي دروساً من الموطأ بداره.
وقد تصدى على صغر سنه للإقراء، أخبرني أن أول من قرأ عليع رجل كان له بمنزلة الشيخ ينظر دروسه بين يديه غير أنه تغيب مدة ولما رجع طل منه أن يقرئه فن البيان له درس العصام على السمرقندية بمقصورة جامع الزيتونة، وبعد ذلك تصدى للإقراء على أبده أسلوب من التحرير والتحقيق وفي سنة 1266 ست وستين ومائتين وألف طلب التقدم لخطة التدريس وتعرض للمناظرة وكتب في ذلك لشيخ الإسلام أبي عبد الله محمد بيرم الراب بقوله: [الطويل]
سماء العلا يقفو بها بدرُك الأسنى ... بنحو نجوم من مناقبك الحسنى
ومنك لرأس الفخر تاج مكلل ... بكلية في المجد لم يتلها استثنا
همام غدا في جبهة الدهر غرة ... فأضحى للفظ المجد والسؤدد له ذهنا
له همم رد الدراري سناؤها ... كما رد شهبا لو تحاكي له ذهنا(1/355)
له كلم رد الغواني جمالها ... وحكم وفكر شبها الوزن والمزنا
مضارعه المنفي جزما وأمره ... كماضي الظبا من حلمه اتخذ الفنا
تحيرت الألباب فيه فإن بدا ... بطلعته خلت السماء له مغنى
وأحسبه في الأرض طوراً وإنما ... أرى أبحر الآداب في يده اليمنى
براعته تحيي رسوم بلاغة ... بها إذا بحور النفس من مدها تقنى
مدى إن جرى في الجبح طرس مدادها ... دخاناً ترى شهد المعاني به تجنى
وتؤثر آذان الأديب صريرها ... على بلبل غنى على روضة غنا
إذا حام بازُ الفكر منه هدى إلى ... طيور بليغ القول يستفرغ الوكنا
فتنسي إذا قساً وسحبان إذا متى ... تشنف بها أذنا نهبت به الحزنا
إلى ما تحلى من سجابا كريمة ... عديد نجوم الأفق من قدرها أدنى
تحوك على تبر الوفا وتواضعا ... تحاكي يد التقوى بأخلاقه الحسنى
فلو كان في ريح الصبا لين طبعه ... لحرك من غصن النقا الناعم اللدنا
وإذْ يتهادى رافلاً في سكينة ... فأي الجبال الشم لم يستحل عهنا
فخل بمضمار الحجا قد ألمع ... ومن بيرمي المجد قد أحرز الأسنى
فشمس حجاه نسخ ظل ضلالة ... فكيف ظلام الظلم إن حوله جنا
إذا ما جرى الإنصاف في روض حكمه ... جنت المنى رغماً لمن رام دهرنا
فمهما نضا عن وجه حكم وحكمة ... لثاما نفى عن أهلها الغبن والغينا
يحرر من شهد البيان رقيعة ... لفكر غدا حر المعاني له فنا
لئن طاعني فيه القريض لقد رأى ... شيوع المزايا عن مديحي قد أغنى
وإلا فكل الميل عن منهج الهدى ... عنان الهدى يوماً إلى غيره يثنى
وأحرى بمن يثنى العنان بقرع با ... ب عدله أن لا ينثني يقرع السنا
بقيت ملاذ العلم ما قال منصف ... بإنجاز وعد خير خاتمة حسنى
قبلة هذا الخطاب، محراب جامع الآداب، وباب مدين الآداب سابي أبكار المعاني سيوف أقلامه، وساحر أفكار الدهاة بليف كلامه، عمدة قواعد المنقول، وأساسها مشكاة غوامض المعقول، الرابع في حلبة المحامد البيرمية مجلياً غذ لم يزل على منصة الصواب والإنصاف متجليأن وبسائر أصناف لكمالات متحلياً: [الخفيف]
من غدا فضله مؤملَ شملي ... ومجيري إذ لات حين مجيرُ
يا أخا العدل والبصيرة والفضل ... ألم يأن ذلك التحريرُ؟
لا أى المنع مثله المنح إلا ... منك بعد الذي إليه المصير
ثم إني لا أدعي الاستحقاق إلا بالنسبة للمنازع، ولا للمقاومة إلا للمناضل المقارع، فمن للبغاث، بالاستنسار، وللخفاش بالإبصار في النهار، هذا وإني أتحدى مناظري بأيسر شيء عندي، وهي ورقات كتبها عند النظر بالتماس بعض الإخوان، وهذا كله بتوهيمي كثرة القادحين، وإلا فمثلك لا تخفي عليه سيمات الراحمين ثم إني: [الخفيف]
خف حمل المديح مني اتكالا ... إن حمل الوداد منك ثقيل
وإذا الحب كان أهل امتداح ... فسواء كثيره والقليل
وعند بلوغ ذلك الشيخ الإسلام كتب له بقوله: [الخفيف]
يا أبا حاجب حجبت عن السو ... ء ولا شاب شمسك التكوير
قد أتتني خريدة منك تجلى ... لا يؤدي حقوقها التعبير
فأتني أفق البلاغة مصقو ... لا وزهر الألفاظ فيه تسير
من عهدنا الطروس تستخرج الد ... رو أن السلاف منها عصير
وإذا سحر بابل إذ حوته ... في فؤادي من فعله تأثير
ذكرتني معاهداً كنت أغشا ... ها وروض الشباب غض نضير
ثم إني أقول فيك ويأتي ... طبق ما قلت مني التحرير
أنت عندي ذو رتبة من حواها ... فهو بالارتقا حقيق جدير
غير أن ألأمور تأتي على ما ... خطَّ في لوحة العليم الخبير
سالمتْ سالماً صروف الليالي ... ورأينا وهو بدر منير
فأجابه الشيخ عن هذه القصيدة مقرظاً وشاكراً بقوله: [الخفيف]
أسموط الجمان هذي السطور؟ ... أحقاق الشذور هاذي السطور؟
أمن الدن حبرها أم من الد ... ر أم الندرُّ لفظها المقصور؟
أيمن الله لا يعاد لها الل ... هم إلا لنضار فهو نظير
إن تصغ من نفيس تبر بترب ... ما تعاطي استبرق وحرير(1/356)
أم دخان المداد في جبح طرس ... أري لفظ مدى اليراع تشير
تفصم الشهد ضمها لعرا الكر ... ب على القلب لاه ذا التأثير
فبإرسال ذي الكتيبة أصبح ... ت وجيش السلولي منصور
ولئن حازت البلاغة طرا ... لأبوها محقق تحرير
إن يجل باز فكره في المعاني ... فسواء بغاثها والنسور
ولمجري البها إذا ما تلاها ... سجد الفكر إذا دعاه الشمور
يا ربيع العفاة من كل فج ... لك في هالة البيارم نور
فعلى ما يتيمة أنت فيه ... حبس المجد والفخار النجور
دمت كهفاً لنا وعن كل سوء ... لك من محكم المفصل سور
وقد ناظر في طلب خطة التدريس بمبحث باب التنازع من الأشموني، وتقدم للمشيخة المدرسة المرجانية، وللرتبة الأولى من التدريس بجامع الزيتونة فزانها وصار فخراً لهأن إذ هو آية الله في الذكاء والتحصيل بلغ إلى رتبة عالية في العلوم وعلى الخصوص المعاني والبيان والنحو والصرف واللغة فإنه إمام جميعها الذي تقدم لمحرابهأن واقتدى به في كل من عاصره أما الآداب، فإنه رئيس الشعراء والكتاب، وقد نسج على منوال غريب، من أبدع الأساليب، فابتكر المعاني الغرر، وأرسل قلمه ينثر فرائد الدرر، ونظم ما يبعث بالفكر.
فهو علامة فاضل حسن الأخلاق بعيد عن التكلف كريم النفس لطيف المفاكهة المحاضرة، ودروسه ومجالسه رياض بديعة الأساليب والأعراض.
كتب حاشية على شرح الأشموني لألفي ابن مالك استدرك فيا مباح كثيرة على الصبان، وكتب أختاماً على أواخر كتب عديدة وأحاديث مهمة وزان أواخرها من بدائع إنشائه بأدعية رائقة.
وتقدم كاتباً ثانياً في الكمسيون المالي عند تنظيمه بالدولة التونسية وقد خرج مسافراً في خدمة الدولة عدة مرات، أولها خرج عضواً في الجمعية التي عينتها المجالس القانونية لتفقد المملكة التونسية فخرج مفتشاً عن أحوال الرعايا وأحكام مجالس تلك الجهات في رجب سنة 79 تسع وسبعين، ثم لما سافر إلى إسلامبول صحبة الوزير خير الدين في ربط علاقة الدولة التونسية مع الدولة العلية العثمانية، وكان سفره في جمادى الثانية سنة 1288 ثمان وثمانين ومائتين وألف، وقدم للصدر الأعظم قصيدته التي قال في مطلعها: [الطويل]
صدارة محمود بها لله قد منَّا=على دولة الإسلام فهي بها تهنا
وكان رجوعه إلى الحاضرة رابع شهر رمضان المعظم ثم سافر إلى بلد قرنة من عمل إيطاليا صحبة الوزير حسين المكلف بالمعارف العمومية في محاسبة قابض أموال الدولة التونسية، وكان خروجه أواسط جمادى الأولى سنة 1290 تسعين، فأقام هنالك خمس سنين قدم فيها لتونس مرات عديدة لعيادة أهله وبنيه وقد كتب رحلة تشد إليها الرحال، وتقصر دون الوصول إلى ما أودعه فيها أعناق الآمال، حكى فيها ما شاهده في سفره وطريقه، وما استخرجه من فكره وتحقيقه، وفي نتاج لعمران السري مما لم يصل إلى إدراكه أبو عبد الله بن خلدون والعذر له إذ أنه لم ير ما بلغ إليه العمران، في هذا الزمان، مباديه تجاوزت غايات ما كان يراه هو في تلك العصور الغابرة، وقد أدرك غايات هاته العصور صاحب الترجمة أب النجاة فأودع ذلك في رحلته الغريبة لوضع والنسج، مع ما تضمنته من اللطائف والمحاسن.
وفي أثناء سفره ولي مشيخة المدرسة المنتصرية بعد وفاة الشيخ علي العفيف، ولما رجع ختم بها على الطريقة المألوفة في شهر رمضان، ولازم دروسه التي هي رياض العلوم بجامع الزيتونة وهو أول مدرس أقرأ بجامع الزيتونة نظم ابن عاصم الأصولي وتصدى لشرحه شرحاً بديعاً أوقفني منه على قطعة فرأيت كثيراً من التحقيق والتحرير، يعجز الجهابذة النحارير، سلك فيها مسلكاً يعز على أمثاله، من أهل العلم ورجاله، بحيث يقتصر على شرح مسألة الناظم وتوجيه ما اعتمده أو ما حكاه من الخلافات بتحرير عزيز وفصاحة عبارة من غير خروج عما تكلم عليه النظام إلا ما هو من استظهاراته التي يحتاج إليها الأصولي احتياجاً كلياً جزاه الله خيراً.(1/357)
وقد قرأت عليه شرح الشيخ على مقدمة ابن هشام وشذور الذهب له وشرح الدمنهوري على السمرقندية وشرح الباجوي عليها ونبذة من شرح الباجوري على السلم وشرح الأشموني على ألفية ابن مالك إلى باب التأنيث والفن الأول وغالب الفن الثاني من المطول على التخليض حتى بلغ إلى مبحث الاستعارة التمثيلية، جميع ذلك قراءة بحث وتحقيق، كتبت عنها فيها كثيراً من استظهاراته وتحريراته التي تعز على غيره.
وقد استجزته فأجازني إجازة بديعة مطلقة هذا نصها: اللهم إنا نستجيز من فضلك الواسع مدداً نتأهل به لما نحن منه بأمكنة شواسيع، ونستقدرك على شكر شكرك، وأني لنا بذلك والشكر نفسه نعمة من عندك، ونستمطر السحب التي لا يزال ينبجس عنها ينبوع عين الرحمة، الواسطة ف إيصال كل نعمة، صلوات تتناول صحبه الهداة وآله وكل من نشج على منواله علمه وأعماله.
أما بعد فمن المعلوم البداهي، أن استفادة العلوم بالتلقي الشفاهي، هي الوسيلة الوحيدة للترقي في مراتب المكاشفة العرفانية والشفاهي، ولا جرم أن حصول العلم على هذا النوال يتضمن المأذونية في بثه بدلالة الحال، حيث أن من أعز الآمال نمو النتائج المقصودة من الأعمال، وأن تتسع دوائر مثوباتها المسترسلة، ولا يشاب اتصال البنوة، الروحية فيها بقطع سلسله، بيد أنه لحفظ النسب الروحي المشار إليه، وتعيين ن كان وصول النقول العرفانية على يديه، ترى أمثالنا من التلاميذ، يلحون في طلب الإجازة من جناب السادة الأساتيذ، وقد حصلنا بفضل الله منهم شكر الله سهيهم ورضي عنهم على الإذن بالتقدم للإفادة، غير منفطمين بذلك عن أن نرتضع من مجالسهم أخلاف الاستفادة، حسبما صدر ذلك من بعضهم بالقول وبعضهم بالكتابة، ومن بعضهم بالإعلان في مجلس درسه بأن نجلس مجلسه ونتمم كتابه، إلى غير ذلك من دائل أثمار غرسهم، لا زالت تنهل عليه غمائم رغسهم، وكان ممن انتدى درس العبد، وبذل في اقتناص فرائد وموادها غاية المواظبة والكد، الأديب الأنجب، اليلمعي المهذب، المتيقن منه بفضل الله أن يحي من معارف جده سميه ما تنوسي، الشيخ سيدي محمد ابن أبي النورسيدي عثمان ابن المنعم سيدي محمد ابن العلامة قاضي القضاة سيدي محمد السنوسي، رحم الله السلف، وسركد الخير في الخلف، فالتمس المذكور من الحقير الإجازة، يالا لما أهليته به حقيقة مجازه، ولما لم يسعني إلا إجابة مطلبه، الذي بلوغ إبانه يأبى المطل به، قلت ومن بحر ربي أغتر المقول، مقتبساً إنارة طرف الإيجاب من طرق القبول، قد أجزت للمذكور جميع منقولاتي ومحفوظاتي العلمية من أءي فن كانت إجاوىة عامة مطلقة، كما أخذت مثل ذلك عن شيخنا العلامة الفقيه لمربي أبي حفص تعمر ابن الشيخ سيدي الطالب ابن سيدي محمد المعروف بابن سودة حافظ المذهب المالكي قدس لله روحه وهو عن شيخه الشريف سيدي عبد السلام الأزمي وهو عن عم شيخنا المذكور البدر الكامل العالم العامل الشيخ سيدي محمد الاودي ذي التآلف المفيدة، والمزايا العديدة، وهو عن شيخ المشايخ سيدي أحمد بن المبارك تلميذ الشيخ سيدي عبد العزيز صاحب الإبريز رضي الله عنهم أجمعين ثم لنوص المجاز المذكور بمثل ما أوصيت به من تقوى الله سبحانه والنصح للمتعلمين، وأن يثبت في النقل ويكبح بكف الرواية والأناة زمام العل وأن لا ينسى العبد من دعواته الصالحة والله المسؤول أن يجعل مقاصد الجميع ناجحه، وموازين أعمالنا القاصرة بحسن النيات راجحة، بحرمة رحمة الأنام عليه أزكى الصلاة والسلام، كتبه خديم العلم الشريف وأهله سالم بو حاجب في صفر الخبر سنة 1290 تسعي ومائتين وألف.
الشيخ محمد بيرم
هو شيخنا أب عبد الله محمد بن مصطفى بن محمد بن محمد بن محمد بن حسين بن أحمد بن حسين بن بيرم كان والده من وجهاء البلد، فاضلأن كريمأن عزيز النفس، عالي الهمة، قدمه صهره المشير الثاني المولى محمد باشا باي لخطة الاحتساب العام وجعل له ختماً نقش عليه من شعر الشيخ قابادو قوله: [المجتث]
بالمصطفى رب وفق ... سميه لصوابه
البيرمي نجارا ... أدم ثوابَ احتسابه(1/358)
وقد زان الخطة المذكورة ونهض لها نهوض الزعيم، وهجر في خدمتها لذائذ الراحة والنعيم، وأظهر من عز شأنهأن وفخامة بنيانهأن ما عظمت بها صولتها فامتدت على أوقاف سائر جهات المملكة وتصرفات سائر حكام البلاد ومتعلقات أحوال أهاليها امتداداً بلغ العناية جميع مدة دولة المشير الثاني.
وبعد ذلك لم يساعده طبع الزمان على ما رامه وقد توفي سنة 1279 تسع وسبعين ومائتين وألف.
وأما صاحب الترجمة فقد ولد سنة 1256 سنة وخمسني ومائتين وألف وتربى في حجر المعارف والبذاخة البيرمية، وقرأ القرآن برواية حفص على الإمام المجود الشيخ محمد بن أحمد البارودي مؤلف رسالة مخارج الحروف، وقرأ على والده متن الآجرومية وشيئاً من علم الحساب، وقرأ على ابن عمه الشيخ أحمد بن محمد بن حميدة بن حسين بيرم الآجرومية وشرح الشيخ خالد عليها ومتن القطر وشرحه ومتن السمرقندية وشرح العصام عليها والمكودي على الألفية ونبذة من القدروي وغالب صدر الشريعة بشرح الوقاية والشمائل، وقرأ على الشيخ أحمد بن نصر والشيخ خالد والأزهرية والقطر والمكودي وشرحي الدمنهوري والعصام على السمرقندية والمدمة والفاكهي وإيساغوجي وشرح القاضي عليه ونبذة من الأشموني ومتن التلخيص، وقرأ على الشيخ الأمين بن الخوجة غالب الدر المختار، وقرأ على الشيخ صالح بن فرحات نبذة من الشيخ خالد ونبذة من الفاكهي، وقرأ على الشيخ محمد الشاهد العقيدة السنوسية والأشموني والسعد وقطعة من المطول ومقدمة القسطلاني وقرأ على الشيخ محمود قابادو شرح القاضي على إيساغوجي ونبذة من التلويح ودروساً من تفسير القاضي البيضاوي، وقرأ على الشيخ أحمد عاشور السلم، وقرأ على الشيخ علي العفيف القطر والتصريح والأشموني والسعد ونبذة من المحلي، وقرأ على الشيخ الشاذلي بن صالح القاضي على إيساغوجي والدمنهوري، وقرأ على عم جده الشيخ مصطفى بيرم شرح المنار البيرمي، وقرأ على الشيخ الطاهر بن عاشور نبذة من المحلي ونبذة من الأبي على مسلم، وقرأ على الشيخ محمد معاوية صدر الشريعة.
وتصدى للإقراء ببراعة كلية، وتدم لخطتي التدريس في الرتبة الثانية ثم الأولى بجامع الزيتونة في الخامس عشر من رجب سنة 1284 أربع وثمانين وتقدم لمشيخة المدرسة العنقية، وختم فيها الأختام المهمة المشتملة على تحرير عزيز المسائل، وقد حضر الأمير بعضها وقد كانت تلك الدروس مجالاً لعلماء العصر وقد اعتاد إعادة تدريس تلك الأختام في بيت ولي العهد الأمير علي باشا وهو يجل مكانته ويواصله عنها كل سنة.
وهو عالم فاضل، عالي الهمة، عزيز النفس، رفيع الحسب، شاعر ناثر ينظم رقيق الشعر، وله جيد النثر، وقلمه في الإرسال في غاية الفصاحة، فصيح اللسان، حين المحاضرة بغاية الأناة والسكينة، خبير بالسياسات الشرعية والوقتية، ثبت وقور حسن التدبير، واسع الإدارة طولب للخطة الشرعية عدة مرات فامتنع من ذلك متعللاً بضعف بدنه، مرض بأعصاب معدته وسافر لمداواتها عدة مرات لباريس وإيطاليا.
قدمه المشير محمد الصادق باشا باي لرياسة جمعية الأوقاف في صفر الخير سنة 1291 إحدى وتسعين ومائتين وألف، فأحسن تنظيمها وإجراءهأن وأجرى العمل بتراتيبهأن فنفع البلاد لحفظ الأوقاف وعندما رأت الدولة كفاءته للخدمات السياسية انتفعت بحسن تدبيره في مهمات الخدمة وأدخلته مدخل رجال السياسة، وتدم لنظارة المطبعة، وأحيا ذكرها في البلاد وتوظف عضواً في عموم الجمعيات التي انعقدت لوضع التراتيب العلمية وغيرهأن وبإشارته كان إنشاء المستشفى الصادقي فباشر إقامته وألف قانونه ورى على رأيه ولذلك واصله الأمير يوم فتحه بصندوق مرصع باسم الأمير في الموكب العام هنالك، غير أنه بعد ذلك أنكر عليه ميله للشورى وحب للمجالس وإن اضطر لتوظيفه عضواً في مجلس الدولة الشوري مه ما هو عليه من المرض الملازم له الذي يضطره في كثير من لأحيان إلى إٌقامة بداره، حتى أنه لما أعياه التداوي حضراً وسفراً ألح في طلب الإذن له بالاستعفاء من سائر الخدمات التي بين يديه لما يجده من ألم المرض ولم تسعفه الدولة بذلك.(1/359)
ثم إن في سفره الأخير كان كلفه الوزير الأكبر مصطفى بن إسماعيل بمأمورية سرية من مصالح البلاد مع دولة فرنسا لم يثبت عليها الوزير وتنكر له عند إيابه حتى خاف عاقبة ذلك وأشير عليه بعود السفر فطلب الإذن بالتوجه لبيت الله الحرام بعد قدومه من باريس بما دون الشعر فخرج لحج بيت الله الحرام في العشرين من شوال سنة 1296 ست وتسعين ومائتين وألف، وحج بيت الله الحرام وزار الروضة النبوية على صاحبها أزكى الصلاة والسلام، ثم زار بيت المقدس وقد بلغ خبر وصوله بيروت الشام يوم الأحد الثامن والعشرين من المحرم سنة 1297 سبع وتسعين.
وحيث بقيت خططه شاغرة أعطاه الدولة جميه ما بيده من الوظائف السياسية، ثم تنقل من الشام إلى دار الخلافة العثمانية إسلامبول، ونزل هنالك منزل التعظيم والتكريم، وانضم إليه كبر أبنائه فأدخله المكتب السلطاني، ثم رجع إلى إيطاليا فأقام بها مدة ومعه ولده سميه المذكور وأقام للتعليم بأحد مكاتب سويسرة، ثم ألحق به بقية أبنائه وأهله وأتباعهم، واجتمع جميعهم بالآستانة العلية وأواخر ذي الحجة الحرام سنة 1298 ثمان وتسعين، وند ذلك اسقط من وظيفة التدريس بجامع الزيتونة وتقدم لوظيفته غيره.
وقد اشتغل في سفره المذكور بتأليف رحلة جليلة استوعب فيها جميع الكرة الأرضية، وقد كان ابتدأ في تأليفها منذ رجوعه من سفر باريس وأطلعني على ما كتبه في مقدمتها غذ ذاك من التعرض لشأن السفر وحكمته وحممه البلاد الإفرنجية واستوعب المسألة بأنقال المفسرين والفقهاء، وأتي في ذلك على ما يعز على غيره وجرى على ذلكم المهيع في الاستيعاب والإطناب بما يشف عن قوة عارضته وكمال تضلعه في السياسة، ثم عند سفري الأستانة في شهر رمضان سنة 1299 تسع وتسعين ومائتين وألف أطلعني على ما أنجز من أجزائها وسماها صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار وبسط فيها القول على جغرافية جميع ممالك المعمور وتواريخهأن وشرح جميع ما وقف عليه في أسفاره شرحاً شافياً وعند ذكره لسفره من تونس بسط القول فيها على طبيعة المملكة وعمرانها وسياستها ودولها وأحوال ملوكها ووزرائها وعوائدها وجميع متعلقاتهأن وذكر في آخرها ما آل إليه أمر سياستها مما لم يبق مع تفصيله لقائل، وبذلك كان استيفاء تاريخ البلاد بما تضمنته تلك الخلاصة على أكمل وجه جزاه الله خيراً.
كما وقفت له على رسالة جليلة في أحوال بلدان الإسلام وحكم الهجرة أبدع فيها ما شاء وأقام بالأستانة إلى أن شق عليه مرضه العصبي الذي سافر به إلى باريس أولاً وأشار عليه الأطباء بالتنقل إلى البلاد الحارة فخرج بأهله وأبنائه رابع محرم من عام اثنتين وثلاثمائة وألف، وتوجه إلى مصر فاختارها للإقامة ولم يبق عليه السلطان جرايته التي أجراهأن وعوضه منها الخديوي أحسن جراية وفتح المطبعة الإعلامية ونشر صحيفة الإعلام بها إلى أن ولي حاكماً بالجالس المختلطة.
وقد كنت قرأت عليه قطعة من مختصر السعد على متن التلخيص بحواشيه كدنا به نتمم الفن الأول وقد استجزته فأجازني إجازة مطلقة عامة ثم خص فيها سنده المحمدي في صحيح البخاري وهذا نصها: الحمد لله المتفضل بالعلم تفضيلأن والمسير لسبل التعليم لينال اللاحق رتبة السابق تكميلأن المودع بعجيب حكمته في مكنون حلقته فنوناً تندهش العقول لأكثرها إجلالاً وتبجيلاً مع أنها لم تحط الإبنزرٍ منها "وما أوتيتيم من العلم إلا قليلاً" والصلاة والسلام الأكملان الأتمان على مدينة العلوم ومظهر إجلالها ومفيض بحار الشريعة حتى ارتوت الطباع بمشارع حرامها وحلالهأن سيدنا ومولانا محمد رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه.(1/360)
أما بعد فطالما انطلقت ألسن الفصحاء بما للسند من الفضيلة، ورتعت أقلامهم في رياض كمالاته الجليلة، ولعمري إنه جدير بالعناية، إذ لا وثوق بعلون من ليس له منه كفاية، وقد أحاط خبراً بكليته وعلى قدر أهميته أخي في الله ذو السجايا الحسان، الساحب لذيل براعته وبلاغته على بدائع سحبان، المتفنن في علمي المعقول والمنقول، والمحصل على الكفاية بما يؤهله إلى الوصول، الشيخ السيد محمد السنوسي، ازال بحراً لإزالة الجهالة بمراهم معارفه يوسي فلذلك كان حريصاً على ثبات سنده وحفظ سياج روايته ومعتمده، وحيث كانت لي معه سابقية محاورة في فنون عقليه، ومشاركة في مسائل نقليه، تشبه درسو العلماء في الخيال، ولتشبه بالكرام من الكمال، رام انخراطي في جميع مشائخه الأعلام بإجازته فيما لي من البضاعة التي لا تستحق إتعاب الأقلام ولما كان المفضل من الدثار العلمي اسماً بما يؤول لهاتيك المزيه، ومحرضاً على تحصيل كمالتها الجليه، لم أجد مندوحة عن إسعافه، وموافقة لكمال أوصافه، فأجزت له بمالي من الباضعة في العلوم، وما أرويه من النثور والمنظوم، بما لي فيها من السند عن مشايخي الأعلام الجامعين لعلوم فضائل الإسلام، وأخصص سندي في الحديث الشريف لاسيما جامع الإمام البخاري ذي القدر المنيف، فأقول: إني قد أجزت له روايته عني بما أرويه عن شيخي فخر الإعلام، ودرة تاج الكرام، مولانا الشيخ سيدي محمد الشريف، عن شيخه العلامة سيدي محمد بيرم الرابع، عن شيخه العلامة سيدي محمد بن الشامي، عن شيخه محمد بن عبد السلام الناصري، عن محمد بن حسن الجنوي الحسني التطوان عن محمد بن عبد العزيز الحنفي، عن محمد الباهلي، عن الواعظ محمد بن الحجار، عن النجم حمد بن محمد الغيطي، عن الإمام محمد بن محمد الدلجي، عن القطب محمد الحظيري، عن الجاد المجتهد محمد المراغي، عن فخر الأئمة، عن محمد القرنشندي عن محمد بن بليج بن كيكدي عن محمد بن مسلم الخيلي عن الشيخ محمد بن أحمد بن عبد الواحد المقدسي، عن عمه الشيخ محمد بن عبد الواحد، عن لشيخ محمد بن أبي القاسم القطان، عن الشيخ محمد بن محمد المفيد، عن محمد بن طاهر المقدسي، عن محمد بن عبد الواحد البزار، عن الزكي محمد بن محمد بن عثمان عن محمد بن مكي، عن محمد بن يوسف الفربري عن محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله تعالى ورضي الله عنه وعنهم أجمعين، وعنا بهم، ونوصي لابني في هذا المنزع العظيم بأني أذكره بأن ملاك المر كله التقوى والسلوك على الصراط المستقيم وكتب في جمادى الثانية سنة 1293 ثلاث وتسعين ومائتين وألف.
وقد توفي في حلوان من البلاد المصرية صبيحة يوم الخميس السابع والعشرين من ربيع سنة 1307 سبع وثلاثمائة وألف.
الشيخ الطبيب السبعي
هو شيخنا أبو عبد محمد الطيب السبعي، قرأ على فحول العلماء منهم الشيخ محمدج بيرم الثالث قرأ عليه البخيصي، وقرأ على الشيخ محمد النيفر والشيخ محمد بن عاشور والشيخ الشاذلي بن المؤدب والشيخ إبراهيم الرياحي، وتقدم لخطة التدريس بجامع الزيتونة في الرتبة الأولى منتصف رج سنة 1284 أربع وثمانين ومائتين وألف عوضاً عن الشيخ عبد الله الدراجي لسكناه بالمدينة المنورة وتقدم خطيباً وإماماً بجامع سبحان الله، وهو عالم موثق خير عفيف تقي مواظب على دروسه حسن الإلقاء متواضع.
حضرت له في بعض الختام بالجامع المذكور في رمضان، وقرأت عليه شرح القاضي على إيساغوجي جزاه الله عنا أحسن الجزاء آمين.
الشيخ محمد العربي المازوني(1/361)
هو شيخنا أبو عبد الله محمد العربي بن محمد بن أحمد بن محمد الخربي بن هني الصالحي شهر المازوني ولد بقرية الصوالح قرب بلدة مازونة من عمل وهران عمل الجزائر سنة 1231 ثلاثية أو إحدى وثلاثين ومائتين وألف، وقرأ هنالك القرآن العظيم وتوفي عنه والده فتركه صغيراً وكان يوصيه بقراءة العلم فرغب بعد والده في قراءته، وقرأ هنالك على علماء تلك الجهة، فقرأ على الشيخ معروف بن عبد القادر الآجرومية وشيئاً من التوحيد والمختصر الخليلي ثم استغرق وفي قراءة المختصر المذكور على الشيخ محمد بن الطيب الماوني والشيخ محمد بن هني والشيخ عيسى بن محمد والشيخ محمد بن القاضي والشيخ المدياني بن عريوش والشيخ محمد بن الصامت والشيخ الجيلاني بن المكي والشيخ عبد القادر بن محمد والشيخ الصامت بن محمد.
ولما تضلع في الفقه قدم إلى حارضة تونس في طلب المعقول سنة 1261 إحدى وستين ومائتين وألف بعد أن حج بين الله الحرام، فقرأ على الشيخ محمد بن عاشور الذور والألفية والمحلي، وقرأ على الشيخ الشاذلي بن صالح المكودي على ألألفية كما قرأه على الشيخ محمد بن الخوجة والشيخ محمد معاوية، وقرأ الأشموني على الشيخ محمد الخضار والشيخ محمد البايلي والشيخ أحمد اشور والشيخ الطاهر بن عاشور، وقرأ على الشيخ صالح النيفر مختصر السعد، وقرأ على الشيخ محمد بو عصيدة السلم، وقرأ على الشيخ محمد الشاهد إيساغوجي وقرأ على الشيخ محمد النيفر الكبرى وقطعة من تفسير القاضي البيضاوي.
وتصدى للإقراء بجامع الزيتونة إلى أن ارتقى للرتبة الأولى في خطة التدريس منتصف رجب الأصب سنة 1284 أربع وثمانين ومائتين وألف، وهو عالم فقيه محصل نقي العرض يميل إلى الخمول أعرف الناس بما أودع في المختصر الخليلي، سالك في إقرائه مسلك المغاربة بطرح الاشتغال بالماحثة مع الاقتصار على ما به الحاجة وبسبب ذلك تيسر له أن ختم المختصر وغيره عدة مرات، وانتفع به في الفقه كثير من علماء جامع الزيتونة أطال الله عمره وأدام ذكره.
وقد قرأت عليه شرح الشيخ ميرة على ابن عاشر بالشرح الصغير مع وما به الحاجة بالشرح الكبير وختمناه وقرأت عليه نبذة من الدردير، وكان ختماً شرح الشيخ ميارة في العشرين من شعبان الأكرم سنة 1284 أربه وثمانين ومائتين وألف.
الشيخ عثمان الشامخ
هو شيخنا أبو النور عثمان بن أحمد بن إبراهيم الشامخ صاحب والده في حجة سنة 1272 اثنتين ومائتين وألف، فأدى فريضة الحج، وتوفي بوادي فاطمة وبه دفن، ورجع ولده إلى تونس في طلب العلم الشريف بجامع الزيتونة، وقرأ الشيخ خالد على الآجرومية على الشيخ العربي الشريف والشيخ محمد الشنقيطي والشيخ محمد المازري بن الطاهر بن مسعود والشيخ أحمد بن نصر، وقرأ على الشيخ محمد بن خوجة الأزهرية، وقرأ على الشيخ الطاهر بن عاشور الأزهرية ونبذة من المحلي، وقرأ على الشيخ أحمد عاشور الشيخ خالد الفاكهي والدرة، وقرأ على الشيخ الحاج العربي المازوني الدرير على المختصر الخليل، وقرأ على الشيخ على العفيف الآجرومية والأزهرية والقطر والمكودي والأشموني ونبذة من الشفا والبخاري ومسلم، وقرأ على الشيخ محمد الشاهد القطر وقطعة من الخرشي، وقرأ على الشيخ صالح النيفر قطعة من الألفية، وقرأ على الشيخ الشاذلي بن صالح قطعة من التاودي على العاصمية، وقرأ على الشيخ محمد البنا من شرح الشيخ عبد الباقي على المختصر الخليلي، وقرأ على الشيخ محمد النيفر نبذة من الخرشي وقطعة من تفسير القاضي البيضاوي.
وتصدى للإقراء فأفاد بحسن نقله وتقدم لخطة التدريس في لرتبة الثانية بمناظرة مع من نازعه عد وفاة المدرس الشيخ علي السقانجي، ثم تقدم المرتبة الأولى بجامع الزيتونة منتصف رجب الأصب سنة 1284 أربع وثمانين ومائتين وألف.(1/362)
وهو عالم متواضع نقالة يحضر جميع دروسه بدون استصحاب كراس ويملي جميع ما ينظره حباً متراكباً قد قرأت عليه شرح القطر لابن هشام بحاشية الشريق قطعة وافرة من شرح الأشموني على الألفية بحاشية الصبان والنصف الأول من كفاية الطالب بحاشية الصعيدي ونبذة من ابن تركي على العشماوية بحاشية الصفتي وقطعة وافرة من شرح الدردير على المختصر الخليلي بحاشية الدسوقي من غير إغفال شيء من الحواشي المذكورة، وقد اعتاد قراءة المولد النبوي عند باب الشفا بجامع الزيتونة ليلة المولد من كل سنة، وتقدم مدرساً بالمدرسة الصادقي فانتفعت به تلامذتها وفاقوا على غيرهم في مواكب الامتحانات السنوية بسبب الجهد الذي استعمله في إيصالهم وكانت ولايته تدريس المدرسة المذكورة عند فتحها لفي ذي الحجة الحرام سنة 1291 إحدى وتسعين ومائتين وألف وقد توفي يوم السبت الثاني من المحرم سنة ست وثلاثمائة وألف عليه رحمة الله.
الشيخ مصطفى رضوان
هو شيخنا أب النخبة مصطفى بن علي بن مصطفى رضوان الحنفي السوسي ولد سنة 1245 خمس وأربعين ومائتين وألف وهشت نفسه إلى طلب العلم الشريف ببلده سوسة من عمل الشاحل فقرأ بها على الشيخ صالح الغنوشي باش مفتي بلده شرح الشيخ خالد على الآجرومية والأزهرية والقطر والمكودي وذات البراهين وابن المسبح في الفقه المالكي ورسالة الشيخ سيدي عبد الله بن أبي زيد ونبذة من تفسير المخازن وقرأ على الشيخ عبد الله العدة المفني بها المقدمة وإيساغوجي وقرأ على الشيخ الحاج علي السقا القاضي بها المقدمة والسمرقندية والحطاب على الورقات ونبذة من المخحتصر الخليل وقرأ على الشيخ عبد الصمد براوي المفتي بها المكودي على الألفية وشرح نظم ابن غانم في المواقيت وقرأ على الشيخ محمود بن الحاج علي إمام جامع الحنفية بها شرح الشيخ حسن الشرنبلالي في الفقه الحنفي قرأ على لعدل الشيخ أحمد عمار شرح السوسي في الفلك وقرا على العل الشيخ سالم المولا شرح القطر.
وقد إلى تونس لاستكمال تعلمه سنة 1260 ستين ومائتين وألف، فقرأ على الشيخ محمد بن ملوكة رسالته المنطقية، وقرأ على الشيخ محمد بن ملوكة رسالته المنطقية، وقرأ على الشيخ محمد بن عاشور الفاكهي والألفية والأشموني عليها والخبيصي، وقرأ على الشيخ محمود قابادو ونبذة من كشف لنقاب في علم الحساب، وقرا على الشيخ مصطفى بيرم القاضي على إيساغوجي وملا مسكين على الكنز ومختصر السعد، وقرأ على الشيخ الطاهر بن عاشور قطعة من المطول، وقرا على الشيخ محمد بن الخوجة قطعة من المكودي وقطعة من الدرر، وقرأ على الشيخ محمد النيفر نبذة من مختصر السعد والمطول.
وظهرت عليه براعة كلية فاستكتبه عامل بلده الوزير محمد خزنة دار سنة 1266 ست وستين فأقام في بلده في الخدمة المذكورة إلى أن عزل مخدومه من العمل المذكور، ومع ذلك توفي والده في شوال سنة 1280 ثماني ومائتين وألف فقدم إلى تونس بقصد الإقامة والاستيطان بها سنة 1281 إحدى وثمانين واسترزق برشح قلمه يجلس للإشهاد واقرأ بعض دروس بجامع الزيتونة، وتقدم للرتبة الأولى وكتب بذلك لشيخ الإسلام أبي عبد الله محمد معاوية بقوله: [الطويل]
أيا شيخ إسلام وعمدة أمة ... مقامك أعلى من مديحي وأعظمُ
معاوية الأستاذ هل أنت منصف ... فلا العلم مغبون ولا الحق يكتم
عهدناك قبل اليوم تشكو تأخراً ... وتقديم من لا يعلمون وتعلم
أعيذك من أن أشتكي منك مثلها ... فعدلك يأباها ورأيك أحزم
فلا تجعلني واو عمرو وإنني ... أنا الميم والأيام أفلح أعلم
هديتم إلى رشد فخذ قول منصف ... سلي إن جهلت الناس عني وعنهم
وإني على علياك أيثني مسلماً ... ولست لمن قدمتموه أسلم
وقد ناظر بمبحث لو ن السعد وجلي في ذلك المضمار وتقدم لخطة التدريس بجامع الزيتونة في الرتبة الأولى أواسط ربيع الثاني سنة 1286 ست وثمانين ومائتين وألف، فزان الخطة بدروسه الرائقة، وتحريراته الفائقة.
وهو عالم دراكة، ثابت الفهم، محقق، فصيح الإلقاء لطيف المحاضرة أكتب منشيء فصيح القلم نظماً ونثراً وإرسالاً حيسوبي بالإدارة، وعارف بتقلبات الأمور مهذب الأخلاق مواظب على دروسه.(1/363)
ولما رجع مخدومه إلى عمله استصحبه وسافر إلى بلده ورجع أواخر جمادى الثانية سنة 1287 سبع وثمانين، ولم يزل في بر مخدومه قائماً بحقوق نعمته عليه، وقد وقفت على قطعة شعرية من نظمه يخاطب بها مخدومه المذكورة في واقعة حال وهي قوله: [الوافر]
أمولى نعمتي وعماد مجدي ... ويا سندي يا كل المرام
لد نفشت بحرثك شاء معز ... حكمت بحبسها عند اللآم
وأحسبها أخيتي من رضاع ... وسن جميعنا دون الفطام
تنادي وهي تعرب عن شكاة ... تكاد تبين عنها بالكلام
تحنَّن صبيتي باتوا عطاشا ... ورحالا لدى ذوي التقام
حليلته تنادي باسم نوء ... ونوء المعز يفضي للحمام
وممن أوتي الأحكام طفلاً ... سليمانٌ من الرسل الكرام
قضى في الحراث أن الشاء تبقى ... زماناً في المقيل بلا دوام
فهذا ما قضاه ولم يفرق ... وإن القول ما قالت حذام
فإن تعدل فحكمك ف ماض ... وإن تحلم تفدى بالأنام
ومن عناية مخدومه به مع تأهله تقدم لرئاسة كتاب الكومسيون المالي عند تربيته لما للدولة من التوثق به وبمعارفه.
وبمباشرة ما لزمه من الأعمال اختلن مواظبته على التدريس مدة بجامع الزيتونة لكنه بعد أن أجرى الأمور التي بين يديه مجراها حضر وقت العشي للتدريس بجامع الزيتونة وواظب على ذلك بما عهد منه انتفع عليه كثيرون وقد قرأت عليه مغني اللبيب لابن هشام بحاشية الدسوقي وحواش أخر بقدر الحاجة قراءة تحقيق إلى أن كدنا نختم النصف منه فعاقنا عارض رجوعه للكتابة واشتغاله بها وقرأت عليه قبل ذلك عند بداءة إقرائه بجامع الزيتونة دروساً في آخر الجربي على إيساغوجي وشرح القطر لابن هشام وفي يوم ختمه سرد دعاءً لطيفاً نصه: اللهم إنك أجريت بتوفيقك عزيمتنا حتى استوت على جودي هذا الموضوع، وأصلحت في العمل نيتنا فاجعله من العمل الصالح المرفوع.
اللهم إن مؤلفنا قد بل غلة الصادي بسواكب قطره، فعل بالأهاصيب الثواءي مناكب بره، وقد حققت رجاءه في النفع بهذا الكتاب، وجعلت دعاءه بذلك من الدعاء المستجاب، فحقق اللهم ما أمله منك في دعائه لنفسه، واجعل أنسه بالنظر إليك وأفسح له في أنسه، واغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا وأساتذتنا ولكل من علق على هذا الموضوع حرفاً وأوضح من مسائله ما لعله يخفى، وخر لنا في استئناف العمل، وحتى نكون كالحال المرتحل، فإنك ذو الطول والقوة والحول لا يعنت من أعنته، ولا يعان من أعنته والحمد لله أولاً وآخراً.
الشيخ محمد النجار
هو شيخنا أبو عبد الله محمد بن عثمان النجار بن محمد بن علي بن أحمد الشريف الأصل، ويقال إن قدومهم إلى تونس كان من الشام، وولده والده سنة 1198 ثمان وتسعين ومائة وألف، وقرأ الفقه والفرائض على الشيخ أحمد بوحريص واشتغل بالرياضيات فبرع فيها واختص بمزية الهندسة والهيئة والفلك، واستغل بصناعة التجارة وكان موضع خدمته يأتيه الواردون لتعلم العلوم المذكورة، وقد رسم عدة رخامات للمواقيت بتونس وغيرها مشهورة الصحة وقد توفي في شعبان الأكرم سنة 1266 ست وستين ومائتين وألف.(1/364)
وكانت ولادة صاحب الترجمة ثاني عشر شعبان الأكرم سنة 1253 ثلاث وخمسين ومائتين وألف، فنشأ نشأة صالحة وتعلقت باكتساب العلوم فدخل جامع الزيتونة في طلب العلم سنة 1270 سبعين، وجود القرآن برواية قالون على الشيخ أحمد الماطري والشيخ البشير التواتي، وقرأ على الشيخ صالح رفيفة شرح الشيخ خالد على الآجرومية، وقرأ على الشيخ محمد بن مالك الجزيري قطعة من الخزرجية، وقرأ على الشيخ أحمد بن نصر شرح ميارة علي ابن عاشر، وقرأ على الشيخ محمد النفطي قطعة من الدردير ونبذة من البخاري، وقرا على الشيخ محمد بن عصيدة الملوي على السلم ونبذة من البخاري، وقرأ على الشيخ محمد بو عصيدة الملوي على السلم ونبذة من الصغرى، وقرأ على الشيخ الحاج عبد الله الدراجي نبذة من البيقونة في مصطلح الحديث ونبذة من الحطاب على الورقات وميارة على ابن عاشر ونبذة من الكفاية ونبذة من الدردير وقطعاً من الجامع الصغير والبخاري ومسلم، وقرأ على الشيخ سالم بو حاج المقدمة ولامية الأفعال والشذور والنصف الثاني من الأشموني وقطعة من الدردير ولامية الزقاق وقطعة من العضد، وقرأ على الشيخ عمر بن الشيخ نبذاً من القطر والسلم والكفاية والقطب والمطول، وقرأ على الشيخ الطاهر النيفر شرح الشيخ خالد على الآجرومية والأزهرية والملالي على السنوسية ونبذة من المكودي على الألفية، وقرأ على الشيخ صالح بن فرحات نحو النصف من الأشموني ونبذة من الخزرجية ونبذة من السعد، وقرأ على الشيخ علي العفيف نبذاً من القطر والكفاية والألفية والأشموني عليها ومختصر السعد والشيخ عبد الباقي على المختصر الخليل والموطأ والبخاري، وقرأ على الشيخ محمد الشاهد نبذاً من الأشموني وفني المعاني والبيان من مختصر السعد والمحلي إلى مسالك العلة، وقرأ على خاله الشيخ محمود قابادو لشريف القاضي على إيساغوجي ورسالة متي زاده والملوي على السمرقندية ونبذا من الدرير وعقائد العضد والمواقف والطب، وقرأ على الشيخ صالح النيفر قطعاً من الألفية والأشموني وشرح الشيخ عبد السلام على الجوهرة والدردير ومختصر السعد والموطأ والشفا وختم عليه التنقيح للقرافي، وقرأ على الشيخ أحمد بن الخوجة قطعاً من القطب وصدر الشريعة والمطول إلى الإنشاء، وقرأ على الشيخ الشاذلي بن صالح نبذاً من الشذور والتاودي وتفسير الجلالين، وقرأ على الشيخ الطاهر بن عاشور نبذاً من المحلى ومسلم، وقرأ على الشيخ محمد النيفر نبذاً من تفسير القاضي البيضاوي، وقرأ على الشيخ محمد البنا ألفية العراقي وقطعاً من مختصر السعد والخرشي والشيخ عبد الباقي والشفأن قرأ على الشيخ محمد بن مبوكة نبذة من الدرة.
وتصدى للتدريس في جامع الزيتونة في شهر رجب الأصب سنة 1284 أربع وثمانين بعد أن طل المناظرة وتهياً لها وآل الأمر إلى تسليم المنازعين له.
ثم ارتقى إلى الرتبة الأولى في التدريس بعد نزاع كادت ن تبطل به المناظرة فولي في الثاني والعشرين من رجب سنة سبع وثمانين ومائتين وألف فكان زينة لجامع الزيتونة.
وهو عالم محصل متضلع بعلوم شتى أدرك أكثرها بالمطالعة التي لازمها يحاضر بالمسائل العلمية كثيراً مواظب على التدريس يشتغل جميع اليوم بالدروس المختلفة العلوم والمراتب محب للبحث في أثناء الدرس محرر فاضل عالي الهمة لم يحمله الإقلال على ما لا يليق بشرف علمه استرزق بقلم الإشهاد وقنع بما يسر له رب العباد، استغنى بحلية العلم عن التباهي بالحلل، وعد في شرخ شبابه ممن فاز بالعلم والعمل.
كتب في العمليات كثيرأن وتقدم لمشيخة مقام الشيخ سيدي ابن عروس يروي به صحيح البخاري ويختم كل سنة في شهر رمضان أختاماً يملؤها علماً ومع ذلك يجعلها مجالاً لبحث الحاضرين.
وقد قرأت عليه نبذة من شرح الشيخ خالد الآجرومية ونبذة من الحطاب على الورقات وغالب ىالوسطى للشيخ السنوسي ودرساً من شرح القصيد في علم الكلام ونحو الثلث الأول من شرح الدردير على المختصر الخليلي بحاشية الدسوقي ومقدمة ىالتلخيص بشرح المطول وحواشيه وما يستتبعه ذلك قراءة تحقيق وبحث، جزاه الله أحسن الجزاء (وقد ولي الفتيا في المحرم 132) .
الشيخ أحمد الورتتاني(1/365)
هو شيخنا أبو العباس أحمد بن سالم بن إبراهيم الورتتاني نسبة إلى سدي ورتتان من عم الكاف، وكان جده للأب من ثقاة عدول وطنه، وجده للأم هو الشيخ محمود بن الضيف قرأ العلم بتونس وقسنطينة وتوفي بالقصير في طريق الحج.
وقد ولد صاحب الترجمة سنة 1246 ست وأربعين ومائتين وألف، وابتدأ قراءة القرآن على والده ثم قدم لتونس لقراءة العلم فنزل بزاوية الشيخ ابن ملوكة خارج باب القرجاني ثم قرأ القرآن وجوده على الشيخ محمد بم الرايس إلى نافع، وقرأ على الشيخ محمد النفطي الآجرومية والأزهرية، وقرأ على الشيخ محمد الأبي القطر والمكودي، وقرأ على الشيخ محمد الشنقيطي الشيخ خالد على الآجرومية والأزهرية والألفية، وقرأ على الشيخ صالح بن فرحات القاضي على إيساغوجي وقطعة من الأشموني ونبذة من المطول، وقرأ على الشيخ علي العفيف الكفاية، وقرأ على الشيخ محمد الشاهد السمرقندية، وقرأ على الشيخ صالح النيفر مختصر لسعد، وقرأ على الشيخ الشاذلي بن صالح الآجرومية والأزهرية والقطر والكفاية والشفأن وقرأ على الشيخ محمد عباس أواخر الأشموني، وقرأ على الشيخ الحاج عد الله الدراجي ميارة على ابن عاشر والخرشي على المخترص الخليلي، وقرأ على الشيخ أحمد القروي قطعة من الكفاية، وقرأ على الشيخ العربي الشريف شرح الشيخ خالد على الآجرومية والأزهرية والدرة وقرأ على الشيخ أحمد عاشور القطر،÷ وقرا على الشيخ الطاهر بن عاشور القطر بحاشيته عليه والشذور ودروساً من المطول، وقرأ على الشيخ أحمد بن الطاهر نبذة من الشفأن وقرأ على الشيخ فرج التميمي الآجرومية وقرأ على الشيخ محمد القبايلي السمرقندية، وقرأ على الشيخ محمد البنا قطعة من الدردير والمحلي والتاودي، وقرأ على الشيخ الشاذلي بن المؤدب نبذة من شرح الشيخ خالد والكفاية، وقرأ على الشيخ محمد بن عاشور نبذة من الفاكهي وقطعة من الهمزية، وقرأ على الشيخ محمد النيفر القطر وميارة على ابن عاشر وقطعة من الكفاية ونبذة من صحيح البخاري، وقرأ على الشيخ ابن ملوكة آجروميته والفن الأول من الدرة ورسالته المنطقية وقرأ على الشيخ محمد معاوية الصغرى والأشموني إلى الوقف والأربعين النووية الشفأن وقرأ على الشيخ محمد بن سلامة نبذة من الشفا.
وقد تضلع من المعقول والمنقول وأعمل الفكر في المطالعة وحج بيت الله الحرام سنة 1270 سبعين، واجتمع بمصر بالشيخ إبراهيم الباجوري والشيخ الأزهري واستجازهما فأجازا له إجازة مطلقة.
ثم تخيره الشيخ أبو عبد الله محمد بن ملوكة لإقراء ابناء الوزير مصطفى خزنة دار في شعبان الأكرم سنة 1271 إحدى وسبعين ومائتين وألف فأقام على تأديبهم وتعليمهم أربع عشرة سنة إلى أن استكملوا ما يحتاجون إليه.
وفي سنة خمس وثمانين ومائتين وألف تصدى للإقراء بجامع الزيتونة بغاية التحرير والتحري والمواظبة ثم تدم لخطة التدريس في الرتبة الأولى ابتداءً بجامع الزيتونة بدون مناظرة بعد أن دعي إليها وأجاب فسلم له منازعوه فوليها في أواخر رجب الأصب سنة 1287 سبع وثمانين ومائتين وألف، فزانه بعلمه وتثبته.
وهو عالم ثقة فاضل ومتثبت منصف من تلامذته محرر مواظب على دروسه في المعقول والمنقول له قدم راسخ في التاريخ واللغة مع تثبت كلي في الضبط والتحري فيه مع ما تحلى به من الصيانة والديانة والأمانة والمحافظة على مروءته والوقوف على الحدود وحسن السكينة.
وقد قرأت عليه شرح المختصر السنوسي في المنطق بحاشيته وشرح الحطاب على الورقات بحاشية الهدة وسرد جميع حاشية ابن قاسم على المحلي على الورقات وشرح العصام على السمرقندية بحاشية الصبان وشرح تنقيح الأصول للقافي وشرح المصنف على الدرة وقطعة من الشرح الصغير عليها للشيخ ابن ملوكه وشرح التاودي على العاصمية ونبذة من القاضي على الخزرجية وقطعة من المحلى على جمع الجوامع بحاشيتي البناني والكمال وما تحتاج إليه من الآيات البينات.
وتقدم عضواً في جمعية الأوقاف وخرج لتفقد أحوال الساحل والقيروان ثم صار كاهية لرئيسها وباشر الخدمة مدة سفر الرئيس بوقوفه عند الحدود والتحري ما أمكنه.
سافر إلى الآستانة صحبة حريم الوزير خير الدين بطلبه حيث سبق منه لإقراء بناته وعند وصوله بهم وجده يومئذٍ تقدم صدراً أعظم بالدولة العلية العثمانية فأقام مدة وجيزة ورجع على أحسن حالة.(1/366)
ثم قدمه المشير للرئاسة على جمعية الأوقاف ونظارة المطبعة صبيحة يوم الاثنين التاسع والعشرين من المحرم سنة 1297 سبع وتسعين ومائتين وألف، وثم خرجت من يده النظارة أواسط شهر رمضان المعظم سنة 1299 تسع وتسعين ومائتين وألف استمر على رئاسة الجمعية ووكلته الدولة على مطالبها من الوزير مصطفى بن إسماعيل.
ثم انتخبه ألأهالي في وكلائهم على مطالبهم من الدولة في 19 جمادى الثانية وبسبب ذلك أخرته لدولة من وظائفه سابع شعبان ثم ردت إليه وظيفة التدريس وظهر عليه فساد في الجم فمرض بشهدة في جبل المنار وتوفي ليلة السادس عشر من ذي الحجة ودفن بجوار الشيخ محمد بن ملوكة بالقرجاني يوم الجمعة سنة 1302 اثنتين وثلاثمائة وألف أسف لفقده جميع الناس وسمت آيات صدقه وفضله الذي اعتز به الجميع، عاملة الله برضوانه، وأسكنه فسيح جنانه.
الشيخ محمد البناني
هو شينا أب عبد الله محمد بن حسن البناني الحرايري، قرأ بجامع الزيتونة على الشيخ الشاذلي بن المؤدب والشيخ محمد البنا والشيخ أحمد عاشور علي العفيف وغيرهم، واشتغل بصناعة أبيه مع التدريس بجامع الزيتونة، وهو متفنن مواظب عى دروسه، قرأت عليه الشيخ خالد على الآجرومية والأزهرية والقطر والجربي على إيساغوجي وكفاية الطالب على الرسالة والأربعية النووية وتنبذة من الشفأن وتقدم مدرساً في الرتبة الثانية بجامع الزيتونة في رجب سنة 1284 أربع وثمانين ومائتين وألف.
الشيخ محمد التواتي
هو شيخنا أبو عبد محمد بن محمد السعيد الشريف التواتي، ولد ببجاية وقرأ بها الفقه والتوحيد ثم قدم إلى توني فقرأ على الشيخ إبراهيم الرياحي والشيخ أحمد الأبي والشيخ محمد معاوية والشيخ محمد بن ملوكة.
وتصدى لتعليم القرآن العظيم مدة مديدة قرأ عليه فيها والدي وقرأ بجمع الزيتونة وتقدم به مدرساً لإقامة درس المنعمة عزيزة عثمانة وقد أدركته يقري شرح الشيخ ميارة على ابن عاشر فقرأت عليه إلى أن ختمناه وكان مع ذلك يسرد علينا ما يحيله الشارح على الشرح الكبير وقرأت عليه نبذة من الآجرومية.
وقد بلغ من العمر إلى تسعين سنة، وتوفي أواسط ربيع الثاني سنة 1295 خمس وتسعي ومائتين وألف عليه رحمة الله آمين.
الشيخ إبراهيم السنوسي
هو عم والدي شيخنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد السنوسي ولد سنة 1236 ست وثلاثين ومائتين وألف وقرأ على والده الشيخ محمد السنوسي وعلى عمه الشيخ أحمد زروق والشيخ محمد البنا والشيخ محمد بن عاشور والشيخ محمد النيفر وغيرهم غير أنه لم يأخذ حظه من العلم واشتغل بالإشهاد وله مشاركة في النحو والفقه والمنط والبيان وله معرفة كلية بصناعة التوثيق وقد ألف في ذلك كتاباً سكاه المسلك الرائق في صفة كتب الوثائق.
وهو خير غر كريم وتصدى للإقراء بجامع الزيتونة فأقرأ كتب المبادئ وهو أول أستاذ جلست بين يديه في شوال سنة 1280 ثمانين ومائتين وألف بجامع الزيتونة فقرأت عليه الآجرومية سلكتين وشرح الشيخ خالد عليها ونبذة من كفاية الطالب على الرسالة بمسجد الفال ونبذة من شرح ابن تركي على العشماروية بحاشية الصفتي.
وقد كان زيد له مولود سما البشير فعاجلته المنية واتفق أن كانت ولادته ليلة تمام البدر فهنأه بذلك العالم الشاعر لشيخ سالم بو حاجب بقوله: [مخلع البسيط]
وليلة أقبل البشير ... كاس الهنا بيننا يدير
بها نظيرين قد رأينا ... سبحان من لا له نظير
بدران نارا معاً فقلنا ... من غير ذا ذاك لا يغير
بدا سما المجد منك إبرا ... هيم السنوسي مستنير
فأبشر ينحل شريف نجل ... تاريخه: (جاءك البشير)
الشيخ أحمد بن الطاهر الكنجي
هو مؤدبي أبو العباس أحمد بن الطاهر بن الكنجي الخياري، قرأت على والده بمكتب القريب من دريبة الدولاتلي القرآن العظيم، وكان حافظاً فاضلاً خيراً عليه سمة الصالحين، حج بيت الله حرا وتوفي في شعبان الأكرم سنة 1279 تسع وسبعين ومائتين وألف، وقام في المكتب ولده أبو العباس فختمت على يده وأعدت إلى أن تجاوزت النصف وكنت نكرر عليه جميع ما حفظته بين يديه وهو شاب فاضل عفيف جرى على طريقة والده في حسن التأديب وقد توفي عليه رحمة الله سنة 1284 أربع وثمانين ومائتين وألف.
النتيجة(1/367)
اعلم أن نتيجة الشيء ما يتولد عنه ويحصل منه ونتيجة كل شيء بحسبه فنتيجة الوالد ولده ونتيجة العلماء تآليفهم ومن يتخرج عليهم في العلوم وبمقتضى ذلك فإني نذكر هنا ما يسره لله لرب الجليل لعبده الحقير الذليل شاكراً الله على ما أنعمه به علي من شرف أصولي آبائي الكرام، وما شملني به من النعم الجسام فيما أخذته عن العلماء الأعلام مما تبصرت به وأدركت عجزي وقصوري فيما أخذته عن العلماء الأعلام مما تبصرت به وأدركن وعجزي وقصوري وضعف قوتي وجهلي مؤملاً من الرب الكريم أن يفيض علي وعلى ذريتي عوارف فتحه المبين وفضله الذي لا يختص به أحد من العالمين إنه جواد رحيم ذو فضل عظي لا إله إلا هو.
كانت ولادة العبد الضعيف قبل منتصف ليلة الأربعاء بساعة وربع ليلة الثاني والعشرين من ذي القعدة الحرام سنة 1267 سبع وستين ومائتين وألف وكانت الليلة راجعة للرابع من شهر اشتنبر الأعجمي وكان الطابع الجوزاء في الدرجة التاسعة والعشرين والصاحب عطارد.
وقرأت القرآن لعظيم إلى أن ختمه وأعدته مع ملازمة التكرار بما يقرب من الثلاثة أرباع ثم أخذت ي قراءة العلم الشريف سنة 1280 ثمانين فقرأت بجامع الزيتونة عل الشيوخ الذين سبق ذكرهم، جودت القرآن العظيم براوية حفص، وقرأت شرح القاضي على الجزرية في علم التجويد، وقرأت ن النحو والصرف الآجرومية وسيدي خالد والأزهرية والقطر والشذور والمقدمة ولامية الأفعال ونبذة من الفاكهي وزالأفية بشرح المكودي وشرح الأشموني والمغني ودروساً من التصريح الجميع بحواشيها قراءة تحقيق وبحث، وقرأت من الفقه شرح العشماوية وميارة على ابن عاشر وكفاية الطالب والدردير على المختصر الخليلي وقطعة متن الخرشي والتاودي على العاصمية، ومن الفرائض والحساب الشنشوري عل الرحبية والدرة البيضاء ونبذة من القلصادي، ومن التوحيد شرح الباجوري على الجوهرة والوسطى ودروساً من الكبرى وقطعة من السعد على العقائد النسفية وقطعة من المواقف، ومن ألأصول الحطاب على الورقات والمحلي عليها وتنقيح القرافي وقطعة من المحلي على جمع الجوامع ومن المنطق الجربي على إيساغوجي والقاضي عليه وشرح الباجوري على السلم وشرح المختصر للشيخ السنوسي والقطب على الشمسية، ومن آداب البحث والوضع نبذة من رسالتي آداب البحث والوضع شرح مسعود الروقي ومن البيان الدمنهوري على السمرقندية والباجوري والملوي والعصام بحواشيه عليها ومختصر لسعد والمطول وجميع الكتب المذكورة بحواشيها قراءة بحث وتحقيق وقرأت الحديث نبذة من الشمائل والشفا وقطعة من الموطأ وغالب صحيح البخاري الجميع دراية ومن التفسير نبذة من تفسير القاضي البيضاوي بحواشي السيلكوتي.
ومع كثرة الكتب التي يسر الله لي بمنه لم نكتب في أختامها شيئاً من الشعر في مدح المشايخ على عادة الجامع ما كنت مستغلاً به في المثابرة على القراءة خاصة غير أني لما ختمت شرح الشنشوري على الرحبية في الفرائض بحواشي الباجوري أنشأت في ذلك الختم قصيدة من التشريع لما وقع في الكتاب المذكور من الازدحام وهي قولي: [الكامل]
مسكُ الختام برحب روض قد هفا ... بتعطر وبه النسيم تلطفا
أحسن به إذا فاح في روض العلو ... م الأخضر وبكل زهر عرفا
فغدت به الأزهار مائسة بنو ... ار أنور كالرّيم حين تعطّفا
وغصونها زينت بوردٍ للمنى ... والعبهري والك فيه تألفّا
ودنا قطةفه بعدما شاكى الحمى ... عن مبسر وبدا لدينا مشرفا
وغدا به نهر البشائر هاملا ... كالكوثر وبه الجنان تزخرفا
وترنحت أطياره فوق الربا ... بالمزهر وبه الحزين قد اشتفى
وبه الظبا بين الربا كل سبا ... بتبختر فربا الحبا بعد الجفا
ماست وقد رفعت ذوائب فاحم ... عن مقمر فبدا الجمان وما اختفي
فبدا الندى من فوق ورد تحت خالٍ ... عنبري كالليل عن شفق ضفا
وبثغرها ثلج على خمر تح ... ل بسكر فلقد تسامت مرشفا
فشفى الضما ضرب اللمى مذ همى ... من جوهر ظلمٌ نما منه الشفا
وافت تهزّ معاطفا مثل الكثي ... ب الأعفر ولقد بان مهفهفا
ورمت قلوب العاشقين بسهم لح ... ظٍ أحور وبه الفؤاد تحترفا
فرأيت ما قد فات في شرح الشبا ... ب بمحجر لا القصد منه تخلفا(1/368)
فدع الملام ومن أتاك يشي لجا ... كالمنذر ودع العذول معنفا
واحضر نديمي لي بوجهٍ ضاحك ... مستبشر ولدي كن كن مسعفا
وأدر على روح المعنى راحة ... إذ يجتري عماله قد كلفا
فاقرع لنا ثغر الكؤوس وأملها ... بالمسكر وأدر علي القرقفا
وامزج بها راح امتداح الأطهر اب ... ن الأطهر الفذ الإمام أبي الصفا
الطاهر الحبر الهمام ابن الهما ... م النيفري نجل الرسول المصطفى
هو عالم الدنيا ومؤنس تونسٍ ... بتصدر مذ كلنا قد سرهفا
ذا وارث المختار خير الخلق خي ... ر مبشر مذ قد علا واستشرقا
بالفرض والتعصيب حاز مفاخراً ... وبها حري من فخر والده اقتفى
فعلاه من حسب ومن نسب نق ... ي أطهر فلذا بدا مستطرفاً
فلأنه طود العلوم وعلمه ... كالطيسر من سحيه قد أوكفا
ذو نجدة وصيانة وديانة ... لم تنكر.. يوماً طففا
ذو همة ومروءة طابت بطي ... ب العنصر وبها غدا متعففا
ذو نجدة وكياسة تكسو الحلى ... للمشتري والبدر منه قد اختفى
فلأنه شهم خضم أروعٌ ... ذو مفخر وبه الكمال تعرفا
بدرسناه بشمس والده الإما ... م الأشهر من فضله قد كفكفا
فلكم هدى من ضب في ديور عل ... م أكبر فأضاءه حين أزدفا
ولكم بكفه كف من ولى بعد ... وة قسور فأباد منه مزيفا
فهو الذي قد حاز خصل السبق غي ... ر مقصر لا للفخار تكلجفا
فبدا بتاج جلالة ومهابة ... في المنظر والقلب من ذا أرجفا
ولقد تطلع غرة في وجه هـ ... ذي الأعصر والدهر منه تشرفا
فاحضر بفيض دروسه تلقاه بح ... ر الجوهر وترى به ذا الغنيفا
فتراه في أشبال جامته إذاً ... كغضنفر بزئير علم قد هفا
يحظى الذين أتوه من فيض العطا ... ء الأوفر كم من خلائق أتحفا
ومتى تأمل في العويص يحله بالزمجر ويريك عضباً مرهفاً
ويريك من تحريره عذب السّلا ... ف المسكر وبكاسه كم أرشفا
بفصاحة قسية قد زانها ... بتدبر وبدا بها متصرفا
فقد امتطى من علمه متن الجيا ... د الضمر وبذاك أمره زهلفا
وغدا يجول بحزمه في رحب رو ... ض مثمر بفوائد وبها شفى
وبدا لنا في طلعة مثل الصبا ... ح المسفر فغدا لدينا شندقا
هذا الفخار فلا فخار بغيره ... للمخبر فبه العلا ما استحشفا
يا من فخاره عنه قد قصرت دعا ... ئم قيصر فغدا به مستشرقا
فمتى تعد ذوو العلا أنت المع ... د بخنصر مذ قد سموت تشرفا
مذا يقول شوعير في مدحكم ... إذ يجتري لو كل ليله أتلفا
وبفضلكم صار الخطيب يجول فو ... ق المنبر مذ قام يتلو المصحفا
لكنني نقحت ما لم يشتبه ... بالمفتري در المديح وقد صفا
قد فزت منك بمحض ود للفؤا ... د موفر وبدا فخارك نفنفا
فأقبل إليك فريدة ما حاكها ... من معشر لو في المدائح أسرفا
حيتك من نجل فتي فاق شع ... ر البحتري مذ مدح علياك اقتفى
خلصتها مما انتخبت بدرسكم ... من جوهر فأتى لديك مؤلفا
ولقد سحرت بها النهى فأفخر بها ... في المعشر فالأصل منكم أتحفا
وكسوتها بمديحكم حسنا ببر ... د عبقري ووشاحها قد أوصفا
فتطاولت وغدت تجر بكم ذيو ... ل المفخر تيهاً لديك بلا خفا
وأتتك رغماً للحسود وقرة ... للمذكر من أهل ود ما جفا
كميا تهنيكم بختم مثل مس ... ك أذفر في القطر ضاع معرفا
فاهنا وفز وامنح ودم وابقى بقا ... ء الأدهر تسدي حياء أوطفا
لا زلت بحراً والمديح كما السحا ... ب الممطر وثناك يملأ كل فا
ما قام يلهج مادح صلى على ... ذي المغفر خير البرايا المصطفى
صلى الإله عليه ما تم المرا ... د بمحشر حتى يؤم الموقفا
وقرظ هاته القصيدة أخوانا الشيخ محمد جعيط على شاكلتها بقوله: [الكامل]
برزت فتمنيت المدنفا ... بالمنظر وبحوزها حاز الشفا
رفعت قناع جمالها فبدت لنا ... كالمشتري أو بدرتم قد صفا
فخرت بطلعتها فصارت غرة ... للأعصر ولحسنها البدر اختفى(1/369)
سحرت بلب القول لب ذوي النهى ... من معشر وبها تبدي مدنفا
أهدت سلاف النظم في لفظ لها ... كالجوهر تحكي النسيم تلطفا
حملت لواء بلاغة وفصاحة ... بالأسطر فكمالها لن يوصفا
طابت ثنا لا بالتصنع بل بطي ... ب العنصر فنفى بذاك تكلفا
سمحت بكحل مدادها مذ قد حكى ... للعنبر لوناً وريحاً قد هفا
وسقت كؤوس رحقيها فأبيح شر ... ب المسكر ناديت هات القرقفا
أزرت بكل فريدة أعظم بها ... أن تزدري وبلفظها كن منصفاً
فضت ختام رحقيها روض قد هفا ... بتعطر وبه النسيم تلطفا
فتكت محاسنها بنا لما أتت ... في عسكر وأتت بقلبي مهدفا
سيف العيون وحاجب وفم همى ... بالكوثر تزداد منه تزخرفا
ماست لفتكي فاستجرت بربها ... في المعشر فلأن شيمته الوفا
أعني أبا عبد الإله ومن سما ... في الأعصر ولعنصر المجد اقتفى
من صار سحر القول منه سجية ... وبها حري والطبع لن يتخلفا
سحر البيان مع البديع يبثه ... بالأسطر ويزيد فيه تألفا
يأتي بسحر القول دون توقف ... وتفكر ويصوغ دراً قد صفا
فهو المقدم بالقريض وعده ... بالخنصر وبه لعمري صنفا
خذها إليك فرائداً جاءت لكم ... بتبختر وبها الجمال تكلفا
رويت فنون السحر عما صغته ... من جوهر ينفي عليه تعسفا
فلذا سمت بجمال قول عن مقا ... ل البحتري وبفضلها قد أنصفا
قد صغتها تاجاً لهامة خودكم ... في الأدهر فلحسنها البدر اختفى
فأقبل إليك من المقل قليل ها ... ذي الأسطر واصفح على ما زيفا
لا زلت ترفل في السعادة والمقا ... م لأكبر وتصوغ دراً أتحفا
وقرظها أيضاً على شاكلتها الشيخ أحمد جمال الدين بقوله: [الكامل]
نبه جفونك قد وا ساقي السلا ... فة بكر مترشفا لترى الشفا
وامزج بها ماء اللمى ما فاق طع ... م السكر واسق النديم المسعفا
ما بين أزهار الربا والعود طو ... ع منقر وبه المحب تعطفا
والغيد ترفع في بديع شمائل ... بتبختر كل البدور لها اختفى
ترنو بطرف فاتك من تحت قو ... س موتر ولها الحشاشة مهدفا
وردت ورود خدودها من تحت آ ... س عبهر والصبر مني قد عفا
يا صاح ذا زمن الخلاعة والنزا ... هة فاحضر ومن المعنف قد صفا
فاخلع عذارك واغتنم فرص اللذا ... ذة وانثر متغنياً ما شنفا
مسك الختام برحب روض قد هفا ... بتعطر وبه النسيم تلطفا
طلعت تتيه تطاولا في خير نش ... ر عنبري تذر المعنى منصفا
وتجر ذيل مطارف من سندس ... ي عبقري تلقي المحب من الشفا
سحرت عقول ذوي النهى فغدت حلي ... ف تفكر بسلاسة لن توصفا
كالراح معنى إذ تفيض جواهرا ... كالممطر أو كالعقود تألفا
وبدت تدير مدائحاً في ذي الإما ... م الأطهر نسل الرسول المصطفى
ما صاغها ذو نهية ولو الحرير ... ي الحري بل لو غدا متكلفا
ما هو إلا من سما وبكل شه ... م يزدري وأبان فضله كل فا
بحر من الآداب يبدو أنه ... كالسكر يبري السقيم المدنفا
من قد تسمى بالسنوسي كالسنوسي ... المزهر بل مثله لن يعرفا
ابدعت في نظم نضيد مثل سل ... ك الجوهر أو كالرياض تزخرفا
يشدو فيفعل بالنهي فعل الشرا ... ب المسكر لكنه لن ينزفا
وبك الأواخر قد تفاخر أيت ذك ... ر البحتري وبك الصفاء قد اختفى
وبكل فن قد بدا متقايضا ... كالأبحر وغدا ذكاؤه مرهفا
قد نلت كل حميدة من ذا الجنا ... ب الأطهر ولك الفخار بلا خفا
دم مثل ما ترضى فأنت أديب ك ... ل الأعصر وغدا زمانك مسعفا
وبقيت غيثاً واكفا ولك الفدا ... بمعشر ذي المفاخر مرشفا
متبسماً ثغر السعادة فائحاً ... كالعنبر أو مسك ختم قد هفا(1/370)
وفي شوال سنة 1287 سبع وثمانين ومائتين وألف ألزمني الشيخ أبو عبد الله محمد البارودي للإقراء بجامع الزيتونة، وأول كتاب ختمه بالإقراء بجامع الزيتونة شرح الشيخ ميرة على ابن عاشر وعند ختمه حضر كثير من مشايخي وإخواني وقد كتبت على خاتمة النظم المذكور كتابة لطيفة.
وفي جمادى الأولى سنة 1290 تسعين ومائتين وألف استدعاني شيخ الإسلام أبو عبد الله محمد معاوية للمناظرة بتذكرة فكتبت عليها قولي: [المتقارب]
أناظر لا أختشي يومها ... فعوني الإله بنصري كفيل
وأدخل في جمعهم صادحا ... بحسبي إلهي ونعم الوكيل
وتعين للمناظرة مبحث المطلق والمقيد من جمع الجوامع بشرح المحلي فكتبت على المبحث المذكور ورقات وحضرت بالجامع لإلقائها فإذا بالمنازع تأخر عن الحضور وبسبب ذلك تأخرت المناظرة.
ولما قرأت مختصر السعد بجماع الزيتونة كتبت في مبحث الملكة رسالة في المقولات العشر.
ولما قرأت علم العروض نظمت فيه أرجوزة جمعت فها فنون العروض والقوافي والقريض أحسن جمع قلت في فاتحتها: [الرجز]
بدرة الحمد نظامي نبتدي ... مصلباً على الرسول الأحمد
ولما كان مقتضى ترتيب جامع الزيتونة أن التآليف الجديدة يلزم أن تعرض على المشائخ النظار وهم شيخنا الإسلام والقاضيان عرضتها عليهم فكتبوا عليها بخط الإسلام من إنشائه ما نصه: الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وأتباعه، قد وقفت على هاته الأرجوزة الوجيزة، التي أثبتت لمنشئها براعته وتبريزه، وكانت لسلالتها ونصاعة ألفاظها وصحة معانيها واستقامة أغراضهأن سهلة التناول لمداوليها وحفاظها فأجزنا للطالبين منفعة واجتناء ثمار فوائدها من مجانيها.
كتبه أفقر العباد لربه تعالى أحمد بن الخوجة كان الله له في شهر رجب من عام 1297 سبعة وتسعين ومائتين وألف ومن الفقير إلى ربه محمد الشاذلي بن صالح أصلح الله حال الجميع آمين ومن الفقير إلى ربه محمد بيرم ومن الفقير إلى ربه محمد الطاهر النيفر كان الله به بمنه آمين.
وقرظ هاته الأرجوزة أحد تلامذة الدرش الشيخ أحمد بن الصادق بن محمد القريشي السقاط بقوله: [الكامل]
يا رائماً تهذيبه لقريضه ... خذ درة تكفيك علم عروضه
تحوي موازين الخليل وبعدما ... يخفى على الحذاق درك وميضه
سمحت بها كف السنوسي الرضى ... فاغنم هنيئاً من كنوز فيوضه
واشكر لمن أسدى لنا نفعاً وإن ... أودى فؤاد حسوده وبغيضه
نهضت عزائمه لنشر العلم في ... نفه الورى الله در نهوضه
وإذا انتقى الله امرأ لسعادة ... ظهرت بمرأى الناس حبك عروضه
فأقبل أبا عبد الإله عجالة ... شكراً وشكر العلم من مفروضه
لا زلت في العرفان طود معارف ... والعبد يرفل في حلى تقريظه
وقد نظمت متن المقدمات السنوية في علم الكلام تسهيلاً للطالبين ونظمت عدة قواعد وضوابط في فنون شتى، وفي أثناء مدة قراءتي تعلقت بالأدب وتعاطيت حفظ المقامات الحريرية وغيرها من مواده نظمت شيئاً في ذلك العهد كنت أحسبه من الشعر وليس منه في شيء إلا أنه في أواخر سنة 1286 ست وثمانين ومائتين وألف صار شعراً يرغب فيه سامعوه ولا أدع حسن بعضه وأرسلته إلى عدة جهات حتى كنت في ذلك العهد أنشد قول الشاعر: [المتقارب]
أراني ابن عشرين أو دونها ... وقد طبق الأرض شعري مسيرا
إذا قلت قافية لم تزل ... تجوب السهول وتطوي الوعورا
استغفر الله إن ذلك لمن غلط الصبا تجاوزه الله عنا آمين.
وقد اعتنيت بجمع أشعار أهل البلاد وجعلتها كتاباً سميته (شفاء النفوس السنية بجمع الدواوين لتونسية) ترجمت فيه لكافة الشعراء التونسيين في مبدأ جلة أبناء المقدس حين بن علي تركي إلى هذا العصر الأخير، جاء كتاباً يحتوي على أجزاء كثيرة أربى شعره كثرة على قلائد الأندلسيين ويتيمة العراقيين وقد قرظه كثير ممن وقف عليه ومن لطائف تقاريظه ما قرظه به أخونا الشيخ سيدي محمد بن الخوجة وهو قوله: [البسيط]
الراح تقصر عما صغت من أدب ... فلا تسل ما أصاب القلب من طرب
وأين من خمرة الآداب ما عصرت ... من دوحة الكرم الدرية الحبب
هذب حرام وتلك الشرع حللها ... فانظر لآلئها أعلى لدى الرتب(1/371)
أهدي إليك ثناء طاب عنبره ... شكراً لما قد بعثتم من حلى الأدب
لا زلت تهدي ثمار لعلم دانية ... والشكر يهدي إليكم أحسن النخب
وكتب عليه مفتي سوسة الشيخ محمد عمار مقرظاً بقوله: نحمدك يا من طلع في هذه الخضرا بدرأن فأزاح غياهب الأحلاك، وأفاض على نوادي الفصاحة بحرأن يقذف بجواهر الأسلاك، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد أفصح البلغاء وعلى آله وأصحابه أيمة الاقتداء وبدور الاهتداء.
هذا وإن محاسن الآداب وبدائع الإعجاب، أنفس ما يرغب فيه الأفاضل، ويتنافس في تحصيله الأماثل، وإن إشعار القطر التونسي بلغت أقصى غايات الاختراع، في جزالة النظم ورونق الإبداع، إلا أنها لم ينتدب لها من ينظم شملها وستنز طلها ووبلهأن لولا أعجوبة الزمان، ونادرة البيان، أوحد العصر، في النظم والنثر، فإنه أحيا أدام الله حياته ذكر أبناء قطره، ومنشئي مصره، بتأليفه شفاء النفوس السنية بمجمع الدواوين التونسية، وأبقى لهم في المعالي ذكراً يجدد لهم على تعاقب الأعصار فخرأن حيث أظهر من زوايا الخبايا دواجن أخبارهم، وجلا على منصة الظهور بنات أفكارهم، ومن نظر الأمور بعين الاعتراف، ووزنها بقسطاس الإنصاف، من جهابذة النظام وحملة الأقلام، لا ينازع في أن من ألبس أبناء الوطن أثواب الثناء الحسن لا ينبغي إهمال الثناء عليه، وإيصال المبرات إليه، على أن جزاء المحسن ضروري الاعتبار، تشهد بذلك سجايا الأحرار، ثم إن مؤلفه أطلعني على الجزء السادس منه فسرحت فيه النظر وأسمت الفكر بين خمائل الزهر، وأدوح الثمر، لأتقطف أزهار رياضه وأرتشف زلال حياضه، ولعمري أن معاطاة طروسه ورحيق كؤوسه أعذب من رشف الرضاب من الثنايا العذاب، بل أشهى من رجع الشباب، كيف لا ونفح الطيب يتأرج من سطوره، وقلائد العقيان دون منظومة ومنثوره، ولقد تبينت به أن المتأخر قد يقهر في وجه المتقدم، ولم أعول على هل غادر الشعراء من متردم، ولكنه وافاني وقد هجرت الغزل، وصحا القلب عن الوقوف في الطلل، وفترت العزائم، عن مطارحة الحمائم، وصياغة التمائم، وتوشيح المعاني، بالنسج الخسرواني، فحرك طباعي، وفتح باب الدواعي، كأنما عاطاني سلافه، أو بعثت إلى الرصافة فجريت رحب المجال وسددته شهاب لمقال لعلي أصادف الغرض، في تقريظه المفترض، ووصف كماله الذي هو جوهر لا عرض، كلا لقد جئت شيئاً إمرأن حملت نفسي إصرأن فأرهقتها عسرأن أرأيت من يصل إلى السماك، ويتعاطى ثواقب الأفلاك، فليت شعري بم نشكر فضل مساعيك.
معاشر محبيك، لا غرو أن ضاق نطاق البيان عن أياديك، فإنك بلغت الغاية في المعارف، واقتناء اللطائف، وحصلن على الذوق قبل أن تشب عن الطوق، رويداً قد اعترفنا بأياديك البيض، ولم نجاذبك ر داء القريض، لله درك ما أبرع قلمك وأعذب كلمك إن نثرت أو وشيت بالحبر أنسيت أزاهر الروضة الغناء، وشففت على زواهر الخضراء، بلاغة اليراعه، وفطانة وبراعة، اين البديع من لفظك البديع لقد أزرى بالوليد وأربى على عبد الحميد، فالله يحرس مجدك، ويديم حمدك، بمنه وطوله، كتبه أخوكم محمد عمار.
ومنه أخرجت جملة شعر شاعر تونس أبي الثناء محمود قابادو وجعلته ديواناً سبق ذكره في ترجمة صاحبه.
ثم إني جمعت ما قلته من الشعر والنثر بديوان سميته بنزهة الخواطر وكل هذه التآليف د تجملت بتقاريظ أهل الأدب مما كثرته تمنعني من استقصاء ذكره هنا.
وأما الإقراء بجامع الزيتونة وغيره فلا زلت بحمد الله معتكفاً عليه وقد أتيت بحمد الله على كثير من مهمات الكتب من التوحيد والأصول والحديث والفقه والنحو والصرف والبيان والمنطق والعروض وآداب البحث نسأل الله أن لا يحرمني لذة ملازمته إلى حضور الأجل بجاه النبي الرسول الأجل.
وقد رأيت أن أورد هنا قصيدة من نظم شاعر مجيد استظرفتها لما جرت عادة التلامذة أن يقدموه عند ختم الكتب وقد أنشدنيها أحد التلاميذ عند ختم مقدمة ابن هشام وهذا نصها: [الكامل]
ظبي الفلا بجمالك المحروس ... من ذا أحل لك اغتصاب نفوس
مهلاً بقلب في هواك حبسته ... أو لست ذا رحمى على المحبوس
كم من فتى لا زال يقطعه الهوى ... وجد فأصبح في الثرى المرموس
شوقي لرشف من لماك لعله ... يطفي لظى وجدي وحر وطيسي(1/372)
سكن الهوى في باطني فأذاعه ... دمعي عجبت لالذائع مدسوس!
ما الحب إلا النار تكوي في الحشا ... أو قتل صب في خبايا الخيس
عندي الملامة في هواك ألذ من ... شد فوا أنسي بلوم جليس
يا صاح تركك للملامة أليقٌ ... كم من يلوم فيبتلي بالبوس
من رام أن يبقى معافى قلبه ... ويفوز بالنعمى من القدوس
فليجتنب مغنى الظبا وسبيلها ... كي لا يغر بلينها المأنوس
ولينتهز فرصاً لصحبة عالم ... شيخ يعز ملقباً بسنوسي
الجهبذ الغطريف من أضحى لدى ... هيجا العلوم يحط كل خميس
يا من سما بنتائج الفكر التي ... بذت بمفخرها حلى القاموس
حتى غدت من حسنها يسلو بها=ذو الذوق عن خدن وكل أنيس
هذا ختام المسك لابن هشامهم ... قدمته كدعامة التأسيس
وسنبتني بحياتك الغرا لنا ... علو العلوم إلى ذرى البرجيس
لا زال علمك يرشد الطلاب من ... شرقي الحجاز إلى نواحي السوس
وقد تعاطيت بحمد الله عدة أشغال علمية وكتابية نذكرها هنا مه بسط الترجمة توشيحاً لهاته فنقول معتمداً على فضل الله الذي يرجى لنيل كل مأمول.
الأمير الناص باي
هو أبو عبد الله محمد الناصر ابن المشير الثاني محمد باشا ابن الباشا حسين باي ابن الباشا محمود باي ابن الباشا محمد باي الباشا حسين باي علي بن تركي قدس الله أرواحهم من ملوك تجمل بهم كرسي المملكة التونسية وقد رصعنا بجواهر مئاثرهم تاج مقدمة هذا الكتاب، وليس على الشمس حجاب.
أما شبلههم صاحب الترجمة فكانت ولادته كما سبق باكر يوم الخميس قبل الزوال بست ساعات وخمسة أدراج الموفي عشرين من شهر شوال الأكرم سنة 1271 إحدى وسبعين ومائتين وألف فأقبل على والده كالمهني بولايته الملك التونسي ولذلك كان باكورة ملك أبيه سماه الناصر وأرخ ولادته شيخ الإسلام أبو عبد الله محمد بيرم الرابع بقوله: [الكامل]
وردت على الدست الكريم بشائر ... لما بدا هذا الهلال الباهر
فتبسمت طرباً ثغور للعلا ... إذ نالها هذا السرور الوافر
لله من خبر يلذ حديثه ... لهج المقيم به وسار سائر
قالوا فحركت المعالي عطفها ... زهوا ونافحها المقال العاطر
مذ زيد في التاج المنظم درةٌ ... ونشا بغاب الملك شبل خادر
وأنظم للقوم الكرام مهذب ... في لئيم نعليه السعود تبادر
فليهن والده المشير بنيله ... وبملكه لا زال وهو الظافر
فكأنه الملك كان مواعدا ... فغدا يرافق نجله ويساير
فأسلم أباه مرفعاً في غبطة ... حتى تراه وهو ناهٍ آمر
وترى بنيه تقاد بين يديهم ... نجب وتجمع كالجدود عساكر
لما بدا أرخت هل محمد ... باكورة الملك الجديد الناصر
وقد تربى في حجر ملك والده المقدس ولما بلغ أشده اشتغل بحفظ القرآن العظيم على مربيه أبي الربيع سليمان المملوك وكان يحفظ القرآن العظيم وفيه خيرية ودين فأقيم لتربيته وتعليمه فختم عليه القرآن ثم أعاده على غيره من المماليك بعد وفاة مؤدبه ومربيه المذكور.
ثم ختنه عمه المشير الثالث صبيحة يوم الاثنين التاسع عشر من رجب سنة 1283 ثلاث وثمانين ومائتين وألف في يوم مشهود وحضره سائر آل البيت الحسيني والوزراء ورجال الدولة.
ولما بلغ ست عشرة سنة استدعاني المكلف بالمعارف العمومية الوزير حسين لإقرائه العلم الشريف ومن كان بمعيته فحضرت لذلك أواسط ذي القعدة الحرام سنة 1287 سبع وثمانين ومائتين وألف وحفظاً من العلم متوناً كثيرة منها الآجرومية والألفين ولامية الأفعال والجوزهرة والعقيدة السنوسية والسمرقندية وغالب فن المعاني من التلخيص وتحفة الملوك ومنتخبات مقامات الحريري وطعة وافرة من أحاديث القضاعي وبعض ترتيبات وحكم بين نثر ونظم.(1/373)
أما الكتب التي أقرأتها لهما تدريساً فهي متن الآجرومية ثم شرح الشيخ خالد عليه مرتين ثم شرح القطر الألفية بشرح المكودي إلى النعت والعقيدة السنوسية والمقدمات وشرح الباجوري على الجوهرة والشرح البيرمي على إيساغوجي، والدمنهوري على السمرقندية ونبذة من تلخيص المعاني إلى أحوال متعلقات الفعل وشرح الشيخ حسن الشرنبلالي في الفقه الحنفي وقطعة من العيني على الكنز وقطعة من المغني على تحفة الملوك وشرح الدر المختار على تنوير الأبصار وقد بلغنا فيه الآن إلى الخلع والأ'مال الصحيحة من علم الحساب، والشرح الخوجي على الحكم السياسة والخلاصة النقية في أمراء إفريقية وتاريخ القرماني وقطعة من مقدمة ابن خلدون جميعها تدريساً بجد واجتهاد ورواية غالب الشفا للقاضي عياض وسرد الإبريز وقراءة صحيح البخاري دراية في ليالي رمضان كل سنة، وقد كتبت عدة أختام على كثير من الأحاديث لتي ينتهي شهر رمضان بالوقوف عليهأن نسأل الله أن يجعل جميع ذلك من العمل المبرور.
وقد اشتغل أيضاً بتعلم اللغة الفرنساوية فبرع فيها كتابة وسرداً وترجمة وتكلماً بعد التروي وحساباً وجغرافية على وجه يعز عمن سواه مع ماله من الولوع بمطالعة الأخبار ومزيد الاستبصار.
فهو شاب مهذب شهم فصيح دراكة ألمعي متبصر موفق لطيف الأخلاق حسن اللقاء كيس المعاملة ظريف الشمائل محب للتراتيب يخشى الله في حقوق العباد محب للنصيحة عزيز النفس عالي الهمة حسن العهد رحب الصدر. نسأل الله لنا وله دوام نعمة التوفيق الهدية، وحسن المبدأ والنهاية، بجاه من أنزل عليه القرآن آية آية.
وقد كنت في مبدأ إقرأئه كاتبته بمكتوب نثبطه به عما ظهر به من اشتغاله، ونحثه عما يجديه بين الناس في مآله، وهو مكتوب يحسن في بابه، وتعرف قيمته عند أربابه، ولا ينبغي أن نودع عند غيره نفائس آدابه ولذلك حافظ على نفائسه فوعاه حفظأن وبعد أن استوعبه معنى ولفظأن وهذا نصه: أيها الابن الذي يريد أن يقوم لجيوش المعارف ناصرأن وقد أسلمت لك قيادها وحلت لك أبناء الملوك خناصرأن أعزك الله ما الفضل بالسباق إلا في ميادين المعارف، ولا بالصيد إلا الشوارد المسائل واللطائف، ولا بالرماية إلا في أكباد الأعادي، بإحراز سهم لعلوم ونشر رايتها في كل نادي، وعهدي بك أنك ممن سبر وعاين بعد الخبر المخبر فأءيقنت بلزوم بذل العناية في الحرص على التعلم لما تحرر عندك من نتائج سير ملوك الأقاليم، فما بالك آثرت اللهو بالصيد دون رجوع في سويعات التعليم التي إنما تكون لك ثلاثة أيام من كل أسبوع مع هجوم البرد الشديد، الذي لا تروح بسببه الطير من وكرها البعيد، فإن كنت ترى أن ذلك الملك أساسأن وقد نفع ذلك أناساً فسحبي أن أنظم لك في هذا السلك ما أنشأت نظمه في قول الحكماء في الملك: [الكامل]
الملك بين أسّه الإيمان ... والسقف تقوى الله والإحسان
ومشيد الأركان منه شرائع ... وفراشه عدل به العمران
ومناره السير الحميد فمن حوى ... ذا فلينم فالملك فيه أمان
وإن أروك أن الفروسية زينة الملوك العظام، فأيقن أن الزينة إنما تكون بعد الحصول على التستر بملابس الكرام، وملابس الملك عشر خصال، قد جمعتها لك في لطيف المقال، هو:
أرى الملك محتاجاً لتسع وعاشر ... خصال رووها عن جميع الأكابر
قيام بحفظ الدين بين أولي النهي ... وتنفيذ حكم بين أهل التشاجر
وذبٍّ على كل الحريم ومالهم ... وضبط حدود الله بين العشائر
وتحصين ثغر عن جميع عداته ... وحسن جهاد للمعاند قاهر
وحفظ جبايا المال دون تغافل ... وتقدير ما للمستحق المجاور
وتولية الأمر الأمين الذي له ... مع الحزم حلي النصح غير الظاهر
ومن باشر الأمر المهم بنفسه ... بخبرته أضحى عظيم الأكاسر
فآلة الرمي والفروسية من الأدوات التي لا يعد عدمها نقصاً في الذات بين المدبرين من ذوي الكمالات بخلاف نقصان المرء عند التكلم وإهماله حظ التعلم فتلك حسرة لا يجد لهاة مفوتها من سبيل، وإن أجري في معاملته أنهار السلسبيل: [الوافر]
وما فضل الملوك على الرعاع ... سوى بالذات في كل البقاع
وفضل الذات رحمتهم وحذق الت ... بصر بالمعارف في المراعي(1/374)
وصولتهم وحزم بالدها قد ... تأكد منه إنجاح لمساعي
وليس الفضل فهم بالمباني ... ولا بذخائر ذات انتفاع
ولا بملابس ومطاعم مع ... مراكب بالتحلي في ارتفاع
فإن فضلت فعما كان منها ... وتبقى من توخاها بقاع
ومثلك أدام الله حفظك لا يحتاج إلى مزيد لعلمي بمالك من الرأي السديد الذي يحملك الله على الرجوع إلى المطلوب، والمبادرة إلى حفظ هذا المكتوب، والسلام.
جمعية الأوقاف
لما جمعت الدولة أوقف المملكة التونسية لنظر الجمعية التي عينتها لذلك قدمني رئيسها للكتابة في صفر الخير سنة 1291 إحدى وتسعين فتوليت إنشاء ما يصدر عنها من المكاتيب والتقارير وغير 1لك، ثم خرجن لتفقد أوقاف الوطن القبلي علم الساحل والقيروان وأنهيت التفقد المذكور سادس ربيع الأول سنة 92 اثنتين وتسعين وقد اجتمعت في سفري المذكور بأرباب الخطط الشرعية في تلك الجهات وهم الشيخ محمد ماضور قاضي بلد سليمان، والشيخ أحمد المرزوقي قاضي نابل، والشيخ محمد العاصمي قاضي الحمامات، والشيخ محمد الهدة باش مفتي بلد سوسة، والشيخ حسن الريغي المفتي الثاني بهأن والعالم الشيخ عبد الصمد بواري المفتي الثالث بهأن والشيخ محمد عمار المفتي الرابع بهأن والشيخ محمد السقا القاضي بهأن ولعالم الجليل الشيخ محمد صدام باش مفتي القيروان، والفاضل الشيخ حمودة صدام المفتي بهأن والتحرير الشيخ حمودة بوهاها المفتي بهأن والفقيه الورع الشيخ صالح الجودي القاضي بها وقد استجرت جلتهم فأجازني إجازة جليلة وهي الآتية:
الإجازة الأولى
إجازة العالم الفاضل القدوة الورع المتحلي بالمروءة والأصالة والكياسة والسياسة والهمة العالية الدراكة التحرير الشيخ محمد صدام باش مفتي القيروان وهذا نصها: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين والمرسلين وعلى آله وأصحابه أجمعين والتابعين لهم إلى يوم الدين وبعد فقد التمس مني العالم البارع النحرير، حائز قصب السبق في ميدان الإجادة التحبير أبو عبد الله سيدي محمد السنوسي أحد مرسي الجامع الأعظم بمحروسة تونس صانه لله الإجازة وبيني وبين ذويها طريق غير مجتازة ولسنا حالي ومقالي بأني لست أهلاً بأن أجاز، فضلاً عن أن استجاز، ولكن لما لم يكن لي بد من الإسعاف والإنجاز أسعفته بما مني التمس، وأني أعلم أني لست ممن نوره يقتبس، فقلت: قد أجزيك أيها السيد الجليل بجميع ما يجوز مني وعني إجازة تامة مطلقة عامة سائلاً أن لا تنساني من صالح دعواتك في خلواتك وجلواتك والمرجو من فضل الله القبول إنه أكرم مسؤول كتبه العبد الفقير إلى ربه الغني محمد بن أبي بكر صدام اليمني، عامله الله بلطفه والخفي، في 8 صفر الخير سنة 1292 أتمها الله بخير آمين.
الإجازة الثانية
إجازة العالم الفاضل سلاسة الأولياء العظام النحرير الشيخ عبد الصمد بواري مفتي بلد سوسة وهذا نصها: الحمد لله العليم الحكيم، الذي خص علماء شريعته بمزيد التكريم، وجعلهم نجوماً يهتدي بهم في ظلمات ليل الجهم البهيم وقادةً إلى سلوك سبيل دار النعيم، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد النبي الكريم، والرسول العظيم، المنزل عليه في الآيات والذكر الحكيم وإنك لعلى خلق عظيم، وعلى آله الأبرار وصحابته الأخيار ومن تبعهم من أيمة الدين وهداة المسلمين.(1/375)
وبعد فإن خير ما يتزين به اللبيب، ويتزر به كل ذي عقل مصيب، بذل العلوم النافعة، والمعارف الرافعة، إذ بها تحصل السعادة الكاملة، والرحمات الشاملة، هذا وإن ممن سعى في تحصيل المراتب الرفيعة، والفنون الوسيعه هو الجهبذ الفاضل، والحجة المناضل، النحرير الأكمل، والعمدة الأجمل أبو عبد الله محمد ابن السيد عثمان السنوسي طلب مني أن أجيزه في إقراء المختصر الجليل، المنسوب للشيخ خليل، رحمه الله تعالى ظناً منه أني من أهل هذا الشأن وفرسان هذا الميدان، وإني والله لست أهلاً لذلك، ولا ممن يسلك بهاتيك المسالك، لكن أجبته راجياً من الله تعالى أن يفيض علينا من أنواره الزاهرة، وأسراره السنية الفاخرة، وأن يمدنا بالمدد الرباني والفيض الصمداني، فأقول: إني أجزته في إقراء المختصر المذكور كما أجازني أشياخي رحمهم الله تعالى وقدس أسرارهم بشرطه قال ذلك أفقر الورى، خادم نعال الفقرأن عبد الصمد بن محمد بن عبد القادر بوراي المفتي بسوسة أخذ الله بيده آمين وكتب في صفر الخير سنة 1292 اثنتين وتسعين ومائتين وألف.
الإجازة الثالثة
إجازة الفقيه الورع المحدث النقادة المتفنن الشيخ صالح الجودي قاضي مدينة القيروان وهذا نصها: نحمدك يا من أجاز قاصده من سلسبيل آلائه، وجعل سندنا إليه خاتم رسله وسيد أنبيائه، ونصلي ونسلم على من نوعت له تلقي وحيك على أنواع، فمنها ما كان بغير واسطة وخصصته مع الرواية بالسماع، ومنها ما كان بواسطة روح القدس الأمين، عن اللوح عن القلم عن مكنون علمك المقدس المتين، وعلى آله الذين تركتهم بعده للتمسك بهم وبكتابك أماناً من الضلال، وجعلت مودتهم كفيلة من أهوال يوم الرجف والزلزال، وعلى أصحابه الذين حملوا إلينا منه شرعك المتين، وحموه من التحريف حتى بلغوه باللفظ الذي تلقوه منه على المنهج الواضح المستبين، وعلى حماته أعلام الأمة الذين سلكوا مسلكهم في الرواية، حتى تلقينا بمسلسل أسانيدهم على أتنم ضبط للغاية.
وبعد فإن العلم من الشرف بمكان، شهرته تغن عن الشرح والبيان، وإن درست ربوعه، وانقرضت آحاده وجموعه، وسحبت على أبوابه عناكب الخمول، وأذنت شمسه بعد إشراقها على جميع الآفاق بالأفول قد قيض الله له طائفة من أهل هذا العصر، شمروا في دروسه على ما كانت في سالف الدهر، وكابدوا فيه مكابدة من سلف حتى حصلوا على فك خفايا رموزه، وإصابة خفايا كنوزه، فكانوا من خير الخلف، وكان ممن انتظم في سلك أولئك الأكياس، الناهلين من أصفى موارده من أكبر كاس، أخونا في الله الذكي الألمعي، الزكي المسيدعي، الممتطي بجيد قريحته صهوات جماع المعاني، والمذلل براسخ ملكته أوابد رموز المباني، وإن نثر شف بدرر منثوره الأسماع، وإن نظم حرك سحر بيانه سليم الطباع، الودود الصافي، ذو العهد الوثيق الوافي، الشيخ السيد أبو عبد الله محمد السنوسي ابن العدل الفاضل الشيخ أبي عمرو السيد عثمان السنوسي ابن المنعم الفاضل سليل الأفاضل الشيخ أبي عبد الله السيد محمد ابن الشيخ الكبير، والعالم الشهير الثبت الحجة النحرير، من أشرقت أرجاء قطره بنور عدله، واتفق الثقات على كمال فضله، وأحيا من محررات الأحكام ما تنوسي، المرحوم المقدسي قاضي الجماعة المالكية الشيخ أبو عبد الله سيدي محمد السنوسي، وقد التمس مني حين قدم لمدينتنا من الحاضرة المحروسة، واجتمعت معه في أوقات مأنوسة، أن أجيزه الإجازة التي جرت بها العادة لتحصيل الاتصال، المحصل لعود بركة مشايخ سلسلتها على مستقيمها في الحال والمآل، وحمله على ذلك حسن الظن الذي هو وصف أهل التقوى والإيمان، وإلا فما أنا من فرسان هذا الشأن، وأين للهزيل الضليع، أن يدرك شأو القوي السريع، لكنني لما رأيت قوة رغبته وأنه لا يقبل لي عذراً في التخلف عن طلبه، أجبته بعد الاستخارة لما أراد رجاء أن أرى أثر بركة دعائه يوم التناد فأقول وبالله أستعين، وما توفيقي إلا بالله القوي المتين:(1/376)
قد أجزت أخلي الملتمس المذكور، كان الله ولي وله في جميع الأمور، بمثل ما أجازني به أحد جلة مشايخي الذين عليهم اعتمادي، وإليهم فيما حصلت استنادي الشيخ العلامة الخير الثبت الفهامة نادرة وقته في الفروع والأصول وحيد عصره في المعقول والمنقول ذي النزاهة والزهادة والتبتل في العبادة الذي أرجو له من فضل الله الكريم أن يقدس سره ويهب له من الخيرات ما لا يتناهي، مولاي وأستاذي المفتي السيد الشريف أبي عبد الله سيدي محمد بوهاهأن قدس الله بروحه، ونور صريحه، وأسكنه من أعلى الجنان فسيحه، وسندي في صحيح البخاري عنه رحمه الله عن شيخه أربي المحاسن يوسف بدر الدين المدني عن شيخ المحدثين بالحرمين السيد زين باعلوي المدني الشهير بحمل الليل عن شيخه المعمر محمد بن سنة العمري الفلاني، عن العلامة أمد بن علي العباسي، عن السيد غضنفر النقشبندي، عن تاج الدين عبد الرحمن الكاروني، عن الحافظ أبي الفتوح أحمد الطاوسي عن المعمر بابا يوسف الهروي، تعن الشيخ المعمر محمد بن شاذبخت الفرغاني، عن الشيخ المعمر أبي لقمان يحيى الختلاني، عن الإمام محمد بن يوسف الفربري، عن الإمام محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله، ورحمنا به. وعلى نحو ما أذن لي شيخي في إجازته لي أذنت، وشرطي له مثل ما شرط أستاذي علي، ووصيتي بمثل ما كان منه إلي، وأسأل من أخي المجاز الصفح والإغضأن وأن ينظر بعين الرضى، فإن مثله من الكرام ممن يستر الزلات، ويتجاوز عن الهفوات وإن شغل البال، وتكاثر الأشغال، وستحمل عن ألأثقال مما يقبل به الكريم المعذرة، ولا يكلفه فوق المقدرة.
وأسأله أن يدعو لي في خلواته، وعند أدبار دروسه وصلواته، وأقول قولي هذا وأستغفر الله من الخطأ والزلل، وأسأله أن يحمل أمورنا على السداد في القول والعمل، إنه لا يخيب من سأل كتبه العبد الفقير، ذو العجز والتقصير، محمد صالح بن قاسم ابن الحاج علي الجودي التميمي قاضي مدينة القيروان وعملها غفر الله له ولوالديه وسائر المسلمين آمين، وكتب في 28 محرم الحرام سنة 1292 اثنتين وتسعين ومائتين وألف من الهجرة النبويه على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية.
لخصت عوارض هاته الرحلة في عجالة سميتها (سموط الدرر في لطائف السفر) جمعت فيها آداب السفر المذكور وهذا نصها بما احتوت عليه: بسم الله الرحمن لرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم حي الله معالم السفر إلى البدو والحضر، وإن كان سبباً للاغتراب، والتنائي عن ألأهل والأتراب، إذ به يعلم الإنسان، عجائب ما أودع الله في هذا العمران، فيرى من اختلاف الألوان والألسن والأخلاق في جنس البشر ما يفيد العبر، ويحنكه بتجارب العادات التي يرتاح بمعرفتها من الشحناء والمعاداة، ولاسيما إن كان المسافر من الدهاة، الذين يتقبلون في ملابس السفر التحيل ليحصلوا على الخبرة والنجاة، فهذا لا محالة يحصل على مزية السفر دون عنا ويبلغ بأحبولاته إلى غاية المنى، هذا إن تخلق بأخلاق أولئك الأمم، وتباعد عن العادات التي كن في سلك الناس بهذا قد انتظم، أما إن داخلهم بأخلاقه التي لم تكن عندهم مقبوله، ولو كانت ترضي الله ورسوله، فلربما يقع فيما يتجنب، ولم تنفعه عادته التي كان فيها يتقلب، لا جرم أنه يحصل له بذلك مزيد تحقيق، لما لا يعود به إلى ولوج ذلك المضيق، فغاية الاستفادة تحصل لا محالة للمسافر، مهما سفر عن التقاعد تلك المسافر بيد أن الخبير يستسقي ذلك الضرب خالص الشراب، والمختبر يتجرعه مشرباً بنطة من للضباب، وإن كان لابد من أن يحصل من التربية والتجربة على أوفر النصاب، وينال بذلك معارف صالحه، أو تجارة رابحه:
إن تجد بين البراري طائفاً ... فاحسبنه قد جنى لطائفا
يلتقي الأرباح في متجره ... أو يرى يحوي به المعارفا(1/377)
وبهذا السبب نرى المتمدنين من أمم هذا الجيل، المقتدمين في المعارف والصنائع ورواية الأناجيل يعملون الجد إلى الرحيل، ويرون أن الإقامة بالوطن كالمعنى المستحيل، فاتخذوا الأرض مغزاة وهم بتطوافها أحرى، ورأوا أن من العجز تفضيل دار على أخرى، وقد أعانهم على ذلك المساعدة بتسهيل الطرقات، التي بشرت لهم البلوغ إلى غاية الجهتين الجنوبية والشمالية في عامة الأوقات، فنسفوا أعقاب الأرض، وذللوا سبلها للمرور بالطول والعرض، واتخذوا البواخر البحرية وخرقوا سياج الجبال الشاهقة بمرور السكك الحديدية التي رأيناها قد امتدت فيما حول حاضرتنا نحوا من لعشرين ميلأن ونؤمل من الله زيادة امتدادها لتسهل لنا من الأرض، سبيلاً ثم إن هاته الوسائل التي يستعملونها لتيسر لهم الوصول إلى الأماكن التي يقصدونها حملهم عليها ما علموه، مما خلق الله عليه نوع الإنسان، من غاية احتياجه إلى الاجتماع والتعاون اللذين هما السبب الوحيد في لعمران، وإلا فأي اجتماع مع استقرار كل واحد في مقره على خيره وشره، وأي تعاون مع انفراد اجتماع أصحاب الاختراع بمخترعاتهم، وتنائي القاضري عن رؤية ما أحكموه ببراعاتهم، وهل في ذلك إلا إضافة التقاصر إلى القصور، مع أن التعاون لا يحصل مع التباعد ولتقاصر، ولابد فيه من الاجتماع والتناصر، نعم قد أضر السفر ببعض أهل الممالك، الذين استغرقوا زمانهم في سلوك تلك المسالك، فهجروا أوطانهم التي كانوا يقصدون عمرانها وحملوا معارفهم إلى غير بلادهم وعمروا ديار الأجانب بتخريب بيوت آبائهم وأجدادهم كتعمير بلاد الروسيا بأمم جرمانيا الذين حملوا إليها معارفهم وصنائعهم، وأخلوا من محاسنهم مرابعهم، وكتقدم لندرة بأفراد أمم الفرنسيس، الذين سلموا إليها من مخترعاتهم وعلومهم الجديدة ما حصلوا به على الفخر انفيس، ولا شك أن السفر الذي بهاته المثابة، ليس لمستحسنه إصابة، فهما قصد المسافر نفع بلاده، لم تكن بلاد الغير غاي مراده، وإنما عليه أن يرغب في تحصيل تلك المعراف، ويجعل في بلاده منها أهم المصارف، ليكون هذا السفر نفع وما أضر وحيث تقررت عندي محاسن الأسفار، على الوجه المختار، وصبوت إلى رؤية مآثره، والتحلي بمفاخره، حتى ساقتني مقادير رب العالمين، إلى تفقد شعائر الدين فذلك الوزير الجديد أدام الله نجاح سعيه الحميد، إذ أمر أوقاف المشاعر فيما سلف أذاب كبود المهتدين، واشمت أعداء الملة المعتدين، حيث رميت من الإهمال بما كاد أن يفضي بها إلى الاضمحلال، ووضعت بيوت أذان الله أن ترفع، وأغتدي شأنها بمضيع وهدمت صوامع وبيع، وأكلت أموالها بالباطل دن قيام بآرابهأن (ومن ظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها) إلى أن رأينا من مصانع الدولة الصادقية التي أعادت في هذا العصر شرخ شباب الملك التونسي، وخلعت عليه من محاسن دارة خير الدين ملابس الفخر السندسي، فنظرت خلد الله عزها إلى هذا المهم، وتداركت بحزمها ذلك الخطب الملم، ووضعت بجمع شمل الأوقاف محكم القوانين، وأناطت عهدة تنفيذها لرئاسة العمدة الأمين، العالم الفاضل الشيخ محمد بيرم أدام الله مجده، وقارن بالنجاح سعيه وجده، فقام لها قيام الزعيم، وهجر لتدبير مصالحها لذائد الراحة والتنعيم، مستقبلاً مرضاة ربه بهذا الخير العميم، معتضداً لذلك بجمعية جليلة، قد تخيرهم تاج المفاخر إكليله وكانت ولايته رعاه الله تعالى أوائل شهر صفر الخير من سنة 1291 إحدى وتسعين ومائتين وألف، وقد سرت البلاد باختيار أولئك الأنجاد، تحت رئاسة هذا العماد، وأملوا ما حقق الله لهم فيه الأمل، فرأوا عن أقرب وقت أعز البشائر، لاهجة في سائر الأندية بإحياء تلك الشعائر، ولذلك قلت أخاطبه: [الطويل]
بك الدين قام اليوم يجبر خلّه ... وربُّه في حصن منيع أحلّه
فقمت إلى إحياء خير معالم ... قياماً سواكم ليس بجهد قله
وأحسنت تدبيراً لذلك كل من ... تملاه أثنى بالذي كنت أهله
بها تونس قامت لشكر رياسة ... أرى تاجها ما إن سواكم أقلّه
رأت أنها ضاعت بأيدي برية ... على حين لم تلف النصيح وفضله
فذكرت البيت الذي طالما أوت ... إليه وعزت حين حلت محله
فنادت ببيت الشم من آل بيرم ... زعيماً هماماً يحمد الناس فعله(1/378)
أبياً زكياً ألمعياً علومه ... معالمها تحكى علاه وأصله
له همة عليا تسامت على السما ... فلم ترتض الجوزاء إذ ذاك نعله
وفي خلقه ما يزدري لالينه الصبا ... وفضله كالأفق الذي صب وبله
فهيهات لا يولي الأمور محلها ... إذا ما تولي عقد أمر وحله
فيهني بيوت الله والأولياء ما ... يلاقون من جبر له الله دله
ويهينه ما يلقي من الله جزا ... على صنعه المحمود حين أجله
فدم يا أبا عبد الإله مرفعاً ... يزين بك الفخر العزيز محله
وقد كنت ممن أقيم للكتابة في تلك الجمعية، فوليت وظيفتها السنية، وبذلك هنأني صديقي الأعز الأكتب الفاضل الشيخ عمر بن أبي الضياف فقال:
راحُ السرور تدار للجلاس ... بعطاء أكرم صاح ومواس
وتهز أردان الشهادة بالذي ... أضحى لأمره كالطبيب الآسي
فهي الخليقة بالهناء لأنها ... ظفرت بمالك أمرها القنعاس
ذاك الهمام الأحوذي المرتدي ... ثوب الجلالة والعفاف الكاسي
بدر تصعد في سماء معارف ... فغدا يلوح سناه كالنبراس
فرع سما من دوحة علمية ... والفرع يتبع أصل كل غراس
أعني محمداً السنوسي الذي ... قد خصه المولى بعقل إياس
وحباه فرط سياسة وكياسة ... ألقت عليه محبة الناس
منة رام حصر صفاتكم فكأنما ... قد رام حصر الرمل والأنفاس
لا زلت في درج المعالي رقاياً ... ما هب ريح في رياض الآس
أما هاتيك الأوقاف، فقد فازت من عناية الرئيس بغاية الإسعاف، بعد الرمي بالإتلاف، وعم حسن إدارتها سائر بلدان المملكة، إذ قام فيها النواب كلهم سالكاً مسلكه، ومع ذلك فقد اقتضى حزم ذلك الرئيس، الجالس بكمال بصيرته من مراقبة أعمال سائر النواب محل الجليس، أن وجه متفقدين لسائر البلدان، زيادة في الاعتناء بهذا الشأن، وكنت ممن تعين لتفقد أوقاف وطن الساحل ومدينة القيروان، والإتيان على الوطن القبلي من غير توان، وحيث كانت هاته الرحلة بالنسبة إلي هي أولى الأسفار، أحببت أن ألخص هنا جملاً أبرهن فيها عما لاقيته في تلك الديار، مع ذكر ما عسى أن يكون جره السفر من المكاتيب الرائقة والأشعار، كل ذلك حرصاً على استبقاء هاته الآثار، وسميت هاته العجالة بسموط الدرر في لطائف السفر فأقول وبالله نستعين: كان مبدأ خروجي من الحاضرة صبية السبت رابع ذي القعدة الحرام من عام 1291 أحد وتسعين ومائتين وألف، إلا أنني حين أزمعت السفر إلى هذا الوطر أنشدت إخواني ليلة الرحيل، ما أنشدته قبل قصد السبيل، من قولي: [البسيط]
استودع الله إخواناً نباعدهم ... لا عن قلى عندما الترحال قد عرضا
أسير عنهم وقلبي في مودتهم ... رهين دين بأيديهم وما انقرضا
تقاسموه فما ابقوا لصاحبه ... قسطاً ليرجو من تلقائهم عوضاً
وأنشدني من إنشائه الصديق الأصفى البارع الماجد العمدة النحرير أخونا الشيخ سيدي محمد بن الخوجة قوله: [البسيط]
صوحبت بالأمن في حل ومرتحل ... ولا حللت سوى العلياء من نزل
يا راحلاً شايعته النفس لا جسد ... وهل لمن باعدته النفس من حيل
فاسلم وعز ولا تلقى سوى ظفرٍ ... تقر عينا به من مثل ذي النقل(1/379)
فاعتمدت على الله في عمل المسير إلى بلد سوسة من وطن الساحل، واقتطعنا إليها تلك المراحل، فألفيناها بلدة طيبة المركز وهي عتيقة قبل الإسلام وكان فتحها في ولاية معاوية بن حديج على يد عبد اله بن الزبير بن العوام وهو حد بين القيروان والجزيرة القبلية، من الجهة الشرقية بالنسبة إلى الحاضرة المحمية، في عرض خمس وثلاثين درجة وإحدى وخمسين دقيقة وعشر ثوان من تونس على طول سبع وعشرين دقيقة وثمان وثلاثين، ثمانية منها على شواطئ البحر فهو يحدها من الجهة الشرقية وقد أحاط بها سورها الذي أقامه زيادة بن إبراهيم، بن الأغلب إحاطة تصون، حتى عدت حصونها لإفريقية من أضخم الحصون، وبها مضجع صاحب الأسرار، المعلن بالفخار، الشهير من كل الأقطار، وعماد الأولياء في ذلك لمحل، الولي الصالح الشيخ سيدي بوراوي الفحل، رضي الله تعالى وأرضاه وقد اجتمعت هنالك بأحد ذريته الفاضل الشيخ عبد الصمد بوراوي وهو يومئذٍ من أرباب الفتيا بها على جلالة وخيرية تامين، وكذا عماد بين الشرف الممنوحين بمزيد الرفعة والشرف السادة الذين حبهم فرض على أهل الدين وهو الفاضل الصفوة لشيخ سيدي أبو الحسن زين العابدين إلا أني وجدت أهالي هاتيك البلد، على حالة لم يتصف بها غيرهم من أحد بل وجدتهم على الحالة التي ورثوا فيها أجدادهم حيث ساقت المقادير الشيخ أبا الحسن علي الغراب فقال يصف بلادهم: [البسيط]
حللت سوسة لا حلَّ الرخاءُ بها ... بالجهل ملآنة قفرا من الأدب
والساكنون بها خشب مسندة ... تبالها أبداً من سوسة الخشب
أستغفر الله بل إن ربعهم في الأدب قد أعمره أحد مفاتيها عمارة بعد أن أجدب ممن لازمنا بالمسامرة لما عنده من الآمال، وكتبت إليه حين تخلف في بعض الليال: [البسيط]
يا مفتياً له من ذي الود إيثار ... زرنا ولا تتناءى عنكم الدار
عجبت منك وقد أفرغت منزلنا ... بالأمس من بدركم إذ أنت عمار
فكتب إلي ووافى، ولم بعد إخلافاً: [البسيط]
جاءت إلي من المفضال أشعار ... فأشرقت من سماء الطرس أنوار
رامت من الود أن نسعى بمنزلة ... وذاك فرض وإن شطت بنا الدار
فكيف والقرب قد أدنى منازلنا ... وعبقت من شذا رياه أعطار
أما مدة إقامتي بهذا البلد التي بلغت لنحو الشهر فإنها كانت علي من أعظم الأكدار، التي لا يقر لصاحبها قرار، إذ كنت حذراً من كلابهم الذين ينبحون الأضياف ويعدن وكل يوم عندي كلن مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، وإذ لا يكاد نزيلهم راحه، ولا يبيت عزيزهم أو ذليلهم يرتجي نجاحه، فالمستريح عندهم من ذوي الشأن النبيه لا يأمن من أخيه وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، وفصيلته التي تؤويه، وهذا الحلل لا زالوا منه في أوحال ولقد أعرب عن دخيلاتهم شاعر بلادهم، وأحد أجدادهم أبو عبد الله محمد المؤخر إذ قال في وصفهم وما تأخر: [مجزوء الرمل]
كل سوسي فهو سوسة ... وله نفس خسيسة
بعضهم ينهش بعضاً ... مثل كلب في فريسة
ثم إني أقول متوفياً طرائق الإنصاف: إنهم معورون فيما أودع في أصولهم من تلك الأوصاف لكنهم قد تخرقوا فخرقوا سائر السياجات أو كادوأن وبعد المحافظة على أصول آبائهم زادوأن إلا أن يقولوا إنه قد كان قائماً بآبائهم ذلك الألم، ومن يشابه ابه فما ظلم، فيتوجه حينئذٍ لهم الاعتذار، ونقول بعداً لهاتيك الديار ولقد صدق أحد جلة الشعراء يحذر من مكائدهم، بما تحققه من سوء عوائدهم، وهو الشيخ أبو عبد الله محمد بن يونس إذ قال مجيباً من سأل عنهم من أهل تونس: [الكامل]
بعداً لسوسة لا أراها منزلاً ... لذوي النباهة من بني الآداب
بلدا إذا صب السحاب قطاه ... صب الإله عليه سوط عذاب(1/380)
أما أنا هنالك فلن أستريح إلا بما عسى أن يرد علي من مكاتيب أخواني، حيث تناءى عنهم مكاني، ولولا مخاطبتهم الرائقة، ما كنت لأجد هنالك راحة لائقة، إذ لم أتعود في حاضرة تونس بشهادة الزور، ولا بقول الفجور، فكنت اقتصر في معاملتهم على ما أوجبته الخدمات، قانعاً من الغنيمة بالسلامة والنجاة، ولم أستطب هنالك غير مخاطبات ساقتها لمقادير، وقعت بيني وبين أخلائي بتونس من الجهابذة النحارير، وقد انطوت على خفيات الرموز، ولولا السفر ما مدت تلك المخدرات أعناقها للبروز وأول ذلك ما أنشأته خطابا لجنبا من تفاخرت به تلك الرئاسة، عنواناً على ما كنت أعاني في ذلك البلد مراسه: [الطويل]
على كاهل الإجلال أهدي تحية ... مضمخة في سجف ود مثمج
وأودعها مالي من الشوق كي به ... تفوح على الدنيا بطيب تأرج
وأستحمل الركبان والعيس مالها ... من الفخر والإجلال في كل منهج
عسى أن يطيقوا حملها لممجد ... أعز بني الدنيا مقيم المعوج
له حسن تدبير وعز مهابةٍ ... وفسحة علم فهو خير متوج
تراه على ما عنده من مكارم ... بلاقيك بالوجه الأغر المبلج
حيا الله خير محيأن وأفخر العلماء محيأن سراج الهدى، وغيث الندى، القاصي المدى، الداني الجد أعلن مصاقع البيارم، محرز خير المكارم، شهاب الدين وكهف الملتجئين، مقيم شعائر الملة الإسلامية، ومديم المثابرة على الحزم بنفسه العصامية العظامية، سعد السعود، والمنهل العذب الورود، صاحب الصيت الشهير، المتصرف كيف شاء بإكسير التدبير، مالئ الأرض فخارأن ومبيد الدعاة استصغاراً عين أعيان السقع التونسي، الذي ألبسه ملابس العز السندسي أستاذنا الهمام النحرير الفاضل الشيخ سيدي محمد بيرم أدام الله رعايته وحفظه.
أما بعد إهداء الإسلام لائق بتلك المكارم مصحوباً بالإجلال الإعظام بما تستوجبه تلك المعالم، فلا يعزب عن شريف علمكم ما عندنا من الاشتياق، الذي لا يكاد أن يطفي بغير التلاق: [الطويل]
وفي النفس حاجات إليك كثيرة ... أرى الشرح فيها والحديث يطول
وإنما أعلم سيدي بأني على ما تعلمون من بذل الوسع في جميع أطراف ما أنا بصدده مقتحماً شقة سياج لموانع القائمة بهاتيك البلاد، التي منعت تلك المصالح الجارية على القوانين الشرعية من النفاد، وذلك هو السبب الوحيد في صيرورة خدمة الأوقاف بهذا البلد مستأنفة من جميع جهاتها إذ لم تجد قبل قدومنا أحداً من حماتهأن حيث لم يكد أحد يخلوا من غرض في كل ما عرض نعوذ بالله تعالى ونسأله التأييد والإعانة والسلام.
وكاتبت إخواني أدام الله رعايتهم وحفظهم بما اقتضاه الحال لتراكم الأشغال بحيث إن ما كاتبهم به ليس يبلغ المرء الأمل، ولكن كما قلت لهم فيها جهد المقل خير من عذر المخل، وكاتبني عند ذلك جناب الأخ الودود والفهامة النحرير الفاضل الشيخ سيدي محمد جعيط بما نصه: كتبت وبعد سيدي لا زال محفوفاً باللطف يلقي علي ضراماً ووثوقي من الله باجتماعي بك واعتقادي عافيتك يقول لسان حالهما يا نار كوني برداً وسلاماً فها أنا أترقب صبح المسرة من أفق الرجأن لتطلع فيها شمس فضلك لأهل الفضل والحجأن وإذا ببشير العافية قد أقبل وعليه من حلل البلاغة برد فأثار مني كامن المجاراة في ميدان الإنشاء ولو كان يني وبينه عهد، كتاب قد استنشقت عرف المودة من مسك مداده واحتسبت راح العافية من منطوقه وفحوى خطابه، وسرحت النواظر في رياضه النواضر، وصرت من خلاه أحلي بحلي الفصاحة نفسي، وأسامره بذلك في مجالس أنسي، وأكرره كلما أصبح وأمسي، وأجعله في حانات المحاضرة نديمأن لما أعددتك لفض ختام رحيق المعاني أخاً زعيمأن وما احتوى عليه من خرائد المعاني، وكان أن يكون سبباً لإجحامي حتى أكون لبساط المكاتبة ثاني، فماذا يقول فيك المادح، وقد أسكتت بلاغتك كل صادح، ومن يباريك وقد ركبت غضنفراً ومن يجاريك في صفة فضل وكل الصيد في جوف الفرأن ولعمري هل يباري التوحيد بعمل، أو يجاري البراق بجمل، وهل يلحق شأو من ملك بسيف يراعه ملك الأدب، العارف بوضع الهناء موضع النقب المظهر من خدره فكره كل فتانة الطرف، عاطرة العرف، لو ضربت بيتها بالحجاز، لأقرت لها العرب العربة بالإعجاز حتى أني متى هطل من سماء فكرته صيب، تمثلت ببيت أبي الطيب: [الطويل](1/381)
إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق ... أراه غباراً ثم قال له الحق
لكن فقولك في جوابك جهد المقل خير من عذر المخل، جلت في هذا الميدان وإن لم يكن لي فيه وابل فطل، وعذراً فالعبارات في جمع أوصافك قاصره، والبراعة في أذيال الحجل متعاثرة: [الكامل] خرس اللسان وكلَّ عن أوصافكم=ماذا أقول وأنتم من أنتم؟ هذا ولما كشفت لثام الكتاب، لاح لي أن أوجه لك في طي سلامنا العتاب، فيما نسبتني إليه من البخل عن مكاتيبك وهو من التوبيخ قبل صدور الذنب من المجرم، لكن بعد قراني معك في المكاتبة لم يبق أن يقال إلا الفضل للمتقدم، ويبلغك السلام من جميع إخوانك الذين أمرتني بتبليغ السلام إليهم وكلهم يشكون مثل شكواك من فراقهم من ألم فراقك عليهم خصوصاً من على إرعاء مودتك قد نشأن وتأخيري له مع اعتقادي تقدمه في المودة تغطية لأمر قد فشأن ويبين عن تعيين قول الشاعر بحبي في الحشا والابتهال، إلى من تناخ بساحة فضله ركائب الآمال، أن تهب شمول إقبالك على أحسن حال، والسلام.
ثم اتبع هذا ببطاقة تتضمن الاعتذار عن كاتبه، الذي هو من نفائس آدابه، وإن كان الغرض منها مجرد إعادة المكاتبة التي هي أشهى إلى الأسماع، من لذة الوصل بعد الامتناع، وعند ذلك حاولت بضعفي إجابة جنابه عما ضمنه بطاقته وكتابه، فكاتبته بما نصه: جناب الأبرع الشهم، الرامي من كرته بصائب السهم، بدر دروس المطول والعضد والمواقف، المتلفع في جميعها بأفخر الأردية والمطارف، النحرير الذي تعنو له الإفهام، ومحرز السبق في ميادين الدروس مع إخوانه الأعلام، صاحب الرأي الوقاد، والمعد بالخنصر مع الجهابذة لنقاد، الحميد الأخلاق المزرية بالاصطباح والاغتباق ذا العهد الوفي، والود الصفي، شقيق روحي التي أسلمتها إليه تسليمأن ووهبت مع الثناء كليمأن لأجد دون مكاتيبه رحيمأن مخلص الوداد، في القرب والبعاد، أخي وسيدي وعماد دروس وعضدي، الفاضل الزكي، الشيخ سيدي محمد جعيط لا زالت كتبه نزهة الألباب، وفرائد إنشاءاته تتقلد بها جميع الرقاب.
أما بعد إهداء تحية تحيي رميم الوداد، الذي كاد أن يحشره البعاد، وتريك من تقلب الأحشاء، ما لا تجده من الحشاء، تحملها إليك غلمان صداقة هذا الصديق، يطوفون عليكم منها بأكواب وأباريق، فقد طلع علي برق كتابك الذي أمطرت له عيني، وتلافى ما كنت عليه من حيني، فورد كما شاء الوداد، وأوردني من موارد مودتك أعذب الإيراد، ويا الله ما ألذّ منه تلك المطارحة والعتاب، اللذين أفضي لهما تعاطي كؤوس الآداب، وحيث إن لإسهاب في وصف ما تضمنه غير محتاج إليه، رأيت أن أنازلكم في ذلك الميدان الذي عوت عليه فأقول: حفظك الله كيف عمدت إلى عتاب المودة، الذي كنت أعهدك تحكم بأنه يفوق الرضاب وبرده، فسميته باسم التوبيخ، الذي هو أمر على الأسماع من الحنظل الرضيخ، ولم يكفك ذلك حتى حكمت بالفضل للمتقدم، وما في ذلك منك إشارة إلى شيء من التندم، وما لبثت أن أتبعت ذلك ببطاقة علم الله أنها وقعت مني موقعاً لا أكاد أصفه حيث رأيت الود منها قبل فتح ختامها قد أشيدت غرفه، وإذا هي تتضمن الاعتذار في خطابك، عما نسبته لكتابك، مع براءته مما وصفت، وأي باعث لك على ذلك إذا كنت على يقين بأن موارد المودة بيننا قد عذبت وصفت، فهذه حجة قد أقمتها عليك، وفوضت الحكم فيها إليك، ويا حبذا ما وشحت به كتابك من سلام الإخوان الذين مودتهم في سويداء الجنان غير أني لم أجد دليلاً على ما ادعبت في وصف من أخرته، وزعمت هنالك في سبب التأخير أمراً ذكرته، وإلا فأين رعاية مودته التي ذكرت أنه عليها قد نشأن وأظنه بعد سفرنا رحل هو أيضاً عن تلك الرعاية ومشى، وإن كان يزعم أنه ما زال قاطناً على ذلك العهد فماله لم يسمح بقلم في قرطاس يوجه إلي من بعد اللهم إلا أن يكون يرى الود مقصوراً على أيام الاجتماع، وإن كانت منزلته كنار على يفاع، فحينئذٍ نعذره فيما يرى، ولا نعود بالسؤال عما عسى أن يكون وقع منه وجرى، والسلام.
وكاتبني جناب الأخ الودود الفهامة الأبرع، والنحرير اليلمع، الفاضل الشيخ سيدي محمد بن الخوجة بما نصه:(1/382)
الجناب الذي بمثل أخوته تبتهج النفس، وبنظير محاضرته يتمكن الأنس، جناب أعز إخواني، ومحل سري وإعلاني، شقيق روحي ومن أجد بمخاطبته راحي وروحي، واحد الزمن ابداً ولطفأن و [من أصبحت] معاطير الأثياب من شمائله قرقفاً صرفاً الندس الذي نار فكر تتوقد، وأنفاس حساده لا زالت تتصعد، الفذ الذي بز على حداثته الكهول، والندس الذي برز على القوارح في حلبتي المعقول والمنقول، طلاع أنجد المعارف، المتحلي من الكمالات العلمية والأدبية بأبهى المطارف، نخبة الأقران، بل صفوة الأعيان، فرد دوحة الأخيار العلماء، الفضاء العظماء ذاك أخي بل صديقي بل سيدي بل ساعدي، يل صارمي، الذي تصول به يدي، الشيخ الذي أحيا من مآثر بيته ما طال عليه العهد ولا أقول تنوسي الماجد الشيخ سيدي محمد السنوسي، لا زالت العين تنافس فيه الجنان، فتارة في سوادها وتارة في سواد الجلجلان.
أما بعد تحيات عطيرة تحملها أكف الاشتياق، وأطيب من حديث تلاق في مسامع العشاق، تحاكي شمائلكم عذوبة وطيباً وتهز من أريحيتكم غصناً رطيبأن فقد ورد كتابكم الكريم، ذو المحيا الوسيم، المتلقى بغاية المسرة، المتحف بنهاية المبرة، المؤدي لحقوق الصداقة، المنبئ أن الوداد فاتح لرعاية الإخوان أحداقه، المبشر بغاية الأمينة، من استقامة تلك الذات السنية، والإقامة فيا له من وافد، بل عائد بقلوب أضناها طول التباعد، دأبها استنشاق نسمات أخباركم، في وردكم إصداركم، عسى أن ترقى به جنونهأن وتكشف به شجونهأن وبهذا أصف لك ما بها من الشوق، وقد شب عمره من الطوق، ودوائر العبارات إنما تحيط بالمقدورات وحسي أن أتمثل عن الحال، بقول من قال: [الوافر]
كتبت ولو كتبت بقدر شوقي ... لأفنيت القراطس والمدادا
ولا غرو أن فر الاصطبار، لما شط المزار فإنه لم يجد أين يحل، والقلب معك يرتحل، ومن لي بمن يعيرني فؤاداً أكابد به النوى، ويكون زيارة لشخص الحبيب فأستريح من الجوى، وإن تعجبت مما فعل بنا البعد في أيام ليست بكثيرة لعدد، أقول منشداً البيت الشهير البراعة، أهذا ولم يمض للبين ساعة، فحجبتنا حينئذٍ قول المحب الصادق، وأنت بها الدري الحاذق.
[الطويل]
أأترك ليل ليس بيني وبينها ... سوى ساعة إني إذا لصبور
وليس هذا تعريضاً ةأيم الله لعدم استيفائك لحال الشوق بالتعزير، الذي يزعمه يراعك المشهود به بالتبريز في حلية التعبير، وإني نحن الموقنون بكثرة أشغالك، في حلك وترحالك، ومثلك ممن أنيطت به عظائم الأعمال، لا يقابل واجب رعايتها بالإهمال، وعظيم اشتياقك بملاقاة خاصة الإخوان، أغنت فيها ما قرره حكيم الشعراء في بيته الشهير الفصيح، هذا وإني لست ممن ينتحي بالتأنق في الفقرات، ويعجز بالتنميق في العبارات، مع علمي بأنها مهداة لمثلك، ومسوقة قطيراتها إلى سبلك، وزمن يعجب بإهداء التمر إلى هجر، والنور إلى القمر، ألقى بنفسه إلى الاستهزاء، وكان أن يعد من الحمقاء، وما هو إلا جواد يرى هزته خيلاء، وكاتبك فركض كيف شاء في حلبة مخاطبتك تطيره رياح الاشتياق، فيجمح كيف يريد في ميدان الأوراق، فلا تخل إذا طولت تطاولت، إذا لم أف بالحال ولا قاربت، وأما تبليغ تحياتك العطيرة، الإخوان المنزلين منزلة العشيرة، فقد أقرت سروراً ورنحت أعطافهم طرباً وحبورأن لاسيما الشيخ الأكبر الذي ما زرناه منذ فارقناه، إلا صبيحة ورود كتابك لتبيلغ خطابك، فسر غاية السرور بتلك الكتابة، ودعا دعوة الشيخ مستجابة، بتعجيل الإياب على أحسن الأحوال، حتى تنظم لعقدنا وسطاه فيبتهج بالكمال، والسلام من أخيكم الغريق في نسب الصداقة محمد بن أمد بن محمد بن الخوجة أخذ الله بيده آمين.
وحين ورد إلي هذا الكتاب بما اشتمل عليه من المحاسن التي انهمرت منها المودة بماء غير آسين، بادرت جنابه مجيباً بما نصه:(1/383)
العيلم الذي جواهر آدابه تبهر الألباب، والفصيح الذي عذوبة ألفاظه تزري بمعسول الرضاب، دراكة المعقول والمنقول، البارع في استنتاج الفروع من الأصول، خلاصة الأعلام وغرة جبهة الأيام، وقرة أعين الكرام، سلالة العلماء الأفاضل، المبرز في الدروس العلمية على كل مناضل، مالك أزمة البيان، وملك أيمة اللسان، فصيح القلم إن نثر أو نظم، والعالم العلم، القاصي الهمم، وشقيق روحي ونفسي، وعماد أهل مودتي وأنسي، سيدي وسندي، ووسط عقد أهل بلدي، الأخ الذي لا أجد عبارة تبرهن عن منزلته من ودادي وقصارى قصوري أن أقول: إنه عين فؤادي العمدة الشيخ سيدي محمد بن الخوجة، لا زالت مسالك السعادة له منهوجة.
أما بعد إهداء سلام ربما لا يفي بما ترومه وإن أطلت نجاد أوصافه، ولا يبرهن عما عندي من الاشتياق بذلك هزة أعطافه، وحسي أن أقول سلام خل تكاثرت أشجانه، من بعد مكانه، عمن أهواه من خاصة إخوانه، فإني وأيم الله كدت أن أذوب من الشوق، لولا تلاقي كتابك بما قلد به من الطوق فلم أفتح ختامه، إلا وقد نهلت العين مني ساكبة مثل الغمامة، حتى محيت سطوره قبل أن أستيقظ لتلقي سروره، وهذه الحال كنت أعدها في بيوت الشعراء من زخاريف المقال، ولا والله إني لعليم الآن بما يجدون، وأنهم لا يصفون ما عندهم ولو يجدون، ومثلك من يكفيه هذا العنون، عما أجده من بعد الإخوان، فماذا تحاول مني أن أستوفي تقرير الشوق بتعريضك، وكأني برفيع جنابك لا يجد، ما عندنا مما تصفه بنثرك وقريضك ولكن بين الوجدان والتوجد، ما بين من انتظم شمله بأخوتك والمتوجد، وإلا فكيف تجعل ايام البعد، ليستن بكثيرة العد، ومع تجاوزها للعشرين يوماً تطويها بما عندك من البراعة، وتستنشدني أهذا ولما يمض للبين ساعة، فأنا أحجك بمجرد وقو ذلك بخاطرك القويم، ولو أنك علقت تعجبنا من فعل البعد بالأداة التي تؤذن بما أنت به علم، ولكن قد تبين لي وأنا ممن لم ير عن الحق ميلاً أن ذلك كان منك وسيلة لإنشاد (أأترك ليلى) وهذه مطارحة حملني عليها ما تدريه من الود، والتلذذ بمفاكهتكم على البعد، وإلا فإنك أتحفتني لا زلن تحفة للإخوان بروض الدوح أريج، ذي منظر بهيج، ولم يحكه نشر أزهار، الرياض ولا غرغرة سلسبيل الحياض، كلا وأيم الله ولا تغازل الجفون المراض، ولقد اتخذت فصيح عباراته ولطائف إشاراته ورد الاغتباق والاصطباح، أغناني عن معاطاة الأقداح من أيدي، الملاح، وشنفت به آذان جلسائي من علماء هذا البلد، الشاهدين لك بكمال البراعة التي لم يبلغ إليها أحد، وقد استحسنوا تبليغ سلامنا إلى الشيخ ودعوته، مستجابة، وظنوه من الصالحين الذين لهم من الله الإنابة، وكلهم عاد يرغب أن تستمد لهم منه الدعأن فأبلغه ذلك وسيجزي من سعى، والسلام.
وكاتبني أدام الله رعايته وحفظه مجيباً عن ذلك بما نصه.
بعد إهداء أعز التحيات وأعطر التسليمات المحاكية أخلاق أخير النسيم لطفأن إلى معاطي الألباب من بدائعه قرقفاً صرفأن نخبة إخواني، وواسطة عقد أقراني، الفذ الوحيد في كمالاته، والمنقطع القرين في تدبيج محبراته، طلاع ثنايا العلوم، المشرق نير إدراكه بين نجوم الفهوم، مجلي غياهب المشكلات، إذا اضطرب الأقوام في حل المعضلات، متلقي راية المجد بيمينه، المفتون بأبكار المعجز وعونه، الساحر للأفهام ببراعة يراعه، المسترق للقلوب ببديع اصطناعه، المتولي على الغاية لافي حلبة الكمال، الأخ الصديق الذي لم يسمح له الدهر بمثال، من لقبته أندية الأدب برئيسي، عمدة خلاني وواسطة عقد إخواني الشيخ سيدي محمد السنوسي، عج الله أوبته، وأنس غربته، وحرس ساحته، مما يكدر ارتياحه هذا والذي في إيناس من صفوة الجلاس، المنشد لم لدفع الإيهام، الناشئ لكم من تابعنا والتآمنا بخاصة الإخوان الكرام، حتى عرض يراعك بالسلوان، وإيهامنا بالغفلة والشغل عنك بغيرك ن الإخوان فلتسمع ما أقول، وإن عد التنبيه على المعلوم من قبيل الفضول:
ولو صبا نحونا من أفق مطلعه ... بدر الدجى لم يكن حاشاك يصيبنا
وكأني بلسان حالي ينشد للفتى المتردد: [الطويل]
ولو سد غيري ما سددت اكتفوا به ... وما كان يغلو التبر لو نفق الصفر(1/384)
هذا وإن سيدي وأخي تتالى في مدحك المكتوب بما لا تصدقه في كل القلوب، حتى أدعي أني وصلت إلى حد، لم يبلغه أحد، وذلك الإفراط، أداه إليه الود المحكم الرباط، تجاوز الله لسيدي فيما قال، وفي اعتقاده فينا غاية لكمال، وفي قولك جلساؤنا مع علماء البلد نكت لا يخفى على كل أحد، وأما التماسك الدعاء إليكم من الشيخ الكبير وطلبك والسعي مني ودعاؤك لي بالجزاء على ذلك ففيه ما ترضاه لأخيك أيها الأستاذ النحرير والسلام.
وكاتبني جناب الودود الكاتب الأبرع الشيخ سيدي عمر بن أبي الضياف بما نصه: المقام الذي تقتبس الفضائل من أنواره، وتغترف الفوائد من تياره، مقام الفذ الذي بذ الأقران، والفرد الذي لم يسمح له الدهر بثان، واحد العصر، وضياء هذا المصر، ومن جلت مفاخره عن أن تحاط بحصر قطب رحى الآداب الآتي من بدائع أساليبه بالعجب العجاب، وجناب إنسان عين النبلاء وبحر المفاخر الذي لا تكدره الدلاء محل ودادي، ومن له المكانة الخالصة من فؤادي، الشيخ سيدي محمد السنوسي حرس الله ذكره، وأعلى على الأقدار قدره.
ما بعد إهداء سلام ألطف من الشمول وأحلى من الرضاب المعسول، وأصفى من الزلال وأضفى من سابغ الظلال يخص ذاتكم الكريمة، ومودتكم القديمة، هذا وإن الحقير ينهي إن وصف أشواقه بإطناب فقد أوجز، وإن نعت تلهفه على اللقاء واحتراقه بديع البيان وأعوز، وأني يبلغ اللسن من ذلك مغزاه، وهو لا يقف على حقيقة فحواه، غير أنه يكل ذلك إلى ما تشهد له القلوب لما يعلمه علام الغيوب: [الرمل]
لست عن ود صديقي سائلاً ... غير قلبي فهو يدري ودّه
فكما أعلم ما عندي هـ ... فكذا يعلم مالي عنده
وإلي هذا يا أخي لما فارقنا شخصك وزايلنا أنسك صرنا كدست غاب صدره، أو ليل تغيب بدره، والله المسؤول وهو المرجو المأمول أن يبلغ من اللقا السول، كتبه حليف ودكم على الدوام المهدي التحية والسلام.
وكاتبت جنابه مجيباً عن ذلك بما نصه: حرس الله بعين عنايته جناب النحرير الأبرع، والأكتب اليلمع خلاصة الأعيان، وغرة جبهة الأزمان، اللوذعي الأريب، والفهامة الأديب، المنشيء الفصيح، المعرب عما انطوى عليه من إخلاص المودة بالكناية والتصريح، أوحد الزمن لطافة وكياسة، وأعجوبة الدهر محاسن الأخلاق وسياسة، وعضد مودتي، وجناح عدتي أخينا الشيخ سيدي عمر بن أبي الشياق، حفه الله بخفي الألطاف، وأدام أجنة إنشاءاته دانية الاقتطاف.
أما بعد إهداء السلام يحكي محاسن أخلاقك، وعذوبة مفاكهة أذواقك وأني للشمول ما عندك من الشمائل، وقد قضينا بتفضيل جنة أخلاقك على أجنة الخمائل، فقد شرفني وشنفني كتابك الذي برقت أسره سطوره، بجواهر منثوة وتنفست عوابق، صداقتك الفائحة، من أجمته التي بدور إيناسها صارت في آفاق مجلسنا لائحة، ولعمر الله إنك لقد قلدتني ما لم يتأهل لها طوقي، غير أني ولك المنة قد وجدت بها إطفاء بعض شوقي وحيت وكلت إلى قلبك السؤال عن مودة الصديق، فحبذا ما يشهد به ذي الود العريق، سلوا عن مودات لرجال قلوبكم، فتلك شهود لم تكن تقبل الرشا وفي بسط هذا البساط، ما لا يدخ تحت دائرة الاحتياط، إلا أنا نتوجه إلى المطلع على الضمائر، العالم بخفيات السرائر، ونرغب الله أن يجمع بعدنا وأن لا يكدر أحداً من أحبتنا بعدنأن والسلام.
وكاتبني الأخ اليلمعي، الفاضل الزكي، سيدي محمد القصار بما نصه:(1/385)
الجناب الأكرم، والملاذ الأفخم، عمدة البلغاء والمتكلمين، وكنز النحاة والمعربين، والمتحلي كلامه بقلائد العقيان، ونظامه ببلاغة قيس وفصاحة سحبان، كيف ولا وهو البليغ الذي إن تكلم جزل وأسكت كل ذي لسان ببلاغة وإحسان بل البحر الذي جرت فيه سفن الأذهان، فلم تدرك قراره وعجز البلغاء أن يخوضوا تياره ما برز في مواطن بحث الإبراز على الأقران ولا أخبر عن فضله من رآه إلا وتمثل ب? (ليس الخبر كالعيان) ، كيف لا وهو البليغ الذي تلألأت بمعاني بيانه السطور والطروس، واهتزت ببديع براعته الأعطاف والرؤوس، الألمعي الأحظى، والأريب الأرضى أخونا الشيخ سيدي محمد السنوسي لا زال برهان فضله ساطعأن ودليل مجده قاطعأن ونجم سعده أبداً طالعأن ولا زالت أسفاره مقترنة بالسلامة والأرباح، متصلة بالغبطة والنجاح، وقضى بقرب رجعته، وجعل مسيره يزيد في رفعته، وسكن بقدومه أشواق أوليائه وأهل محبته، ولا زالت محاسنه مشكوره، ودراهم معمورة.
أما بعد إهداء تحيات تباري نسمات الصبا بلطفهأن وتزدري نشر خمائل لصبا بعزمهأن وأدعية ترفعها أكف الضراعة، وتبتهل بها إلى الله قلوب متجذبة مطواعة، فإنه لا يخفى على شريف علمكم، ولطيف فهمكم، ما بيننا من المحبة المعتيدة، والمودة الأكيدة، وإنا إليكم محافظون على الوفأن ولا نكدر من شراب المحبة ما راق صفأن والعبد منذ فارق جنابكم الرفيع المقدار، لم يذق جفنه لذيذ هجعة أو قرار، وأني يكون له قرار وهجوع، ولواعج أشواقه تتلهب بين الجوانح والضلوع، كم صبر فؤادي وهو يقسم بأنه لا يستطيع معه صبرأن ولا يخافكم من نصف قلبه ببلد ونصفه بأخرى، فنسأل الله أن يمن علينا بالتلاق، ويطوي شقة البين والفراق، والسلام.
وكاتبته مجيباً بما نصه: أدام الله حفظ الأنجب الأبرع، والفهامة اليلمع، اللوذعي اللبيب، والأوحد الأريب، الأنجد الأزكى، والأمجد الأذكى نجم الدروس، ومبيح خبيئات الطروس، المزرية من لطف أخلاقه بسلافة الكؤوس، نخبة أقرانه، وغرة جبهة زمانه، أخي وعشيري، وعماد مودتي وسميري، مشيد عالم الفخار الذي تطلعت محاسن كمالاته طلوع محاسن الأقمار أخينا الشيخ سيدي محمد القصار، لا زال يتحف إخوانه بنزهة الأبصار، ويجدد لهم حلي المودة بتجدد الأعصار، ما دام الليل والنهار.
أما بعد إهداء تحية تعرب عن ودادي، ولا أن أنها تقوم بواجبات ما قلدتنيه فقد تشرف العبد بمكتوبكم العزيز، الخالص خلوص مودتنا وأين منها خلوص الإبريز، قد سرني وأيم الله مضمونه وكادت أن تذهب على القلب شجونه، على أنني معترف بأني لست من التقصير في حقوق أودائي ببري ولكن إن مكان الواحد منهم مقسم القلب فأنا نه عري، وهذه غاية ما يقدم به الاعتذار حين شط المزار، وتناءت الديار، ولم يقر للحقير قرار، ومن تباعد الأسفار، نسأل الله تعالى أن ينظم الشمل بجنابكم، وأن لا يعدمنا التلذذ بعزيز خطابكم، والسلام.
وكاتبني حرسه الله مجيباً عن ذلك بما نصه: المقام الذي كل البيان له منقاد، والبديع يقتبس من ذهنه الوقاد، من صعد من سماء العلوم أعلى المنازل، وورد من مياه الآداب أعذب المناهل، وعلوم المعاني قد أطاعت له لفكر، وظفر منها بالثيب والبكر، فارس حلبة الإبداع والبراعة، حاوي قصبات السبق في ميادين اليراعة، حتى تعدى بالمفرد العلم، وفرسان البلاغة القولية السلم، الهمام الجليل، الراقي مراقي العز والتبجيل، أخينا الشيخ سيدي محمد السنوسي لا زال بحراً يقذف موجه الدرر، وعقداً في جيد الدهر يتلألأ بالغرر مخصوصاً بأنواع الكمالات، طالع البدر من أشرف الهالات.
أما بعد إهداؤ لسلام لأطيب من عرف النسيم، والأعذب من رحيق مختوم ختامه مسك ومزاجه من تنسيم، فإنه قد وصل كتابكم فكان وروده أشهى من الفلق لمن باب يكابد مكائد الغسق أو وصل حبيب أو مخالسة، رقيب، أو الماء العذب الزلال لمن أغواه من شدة الظمأ الآل، وليس يخفى ما يحصل للمحب عند رؤية آثار الأحبة من إثارة الأشواق، التي هي للمحبة من ثمرات الأوراق، ولقد كنا في وله وقلق أزاله كتابكم، ومحاه خطابكم.
أبقاكم الله سالمين، ووقاكم من كل أمر يشين، والسلام.
ثم إني لما أدركني عيد الأضحى، بادرت الإياب إلى الحاضرة ضارباً عن أهل الساحل صفحأن لأقضي العيد بين إخواني وأريح التجاني، باستنشاق ما تتضمخ به أرداني.(1/386)
وبعد أن أقمت تلك المواسم بين الأهل والإخوان، عاودت الرحيل إلى مدينة القيروان واستعذبت لما وجدت في طريقها من المشقة، إذا هي مدينة وأي مدينة، جمعت مفاخر ثمينة، ناهيك بها مضجع البلوي صاحب الرسول مصحوباً بالشعرات النبوية التي هي أعز المأمول، مع ما ضم ذلك التراب من التابعين وتابعيهم، والأيمة المجتهدين من أعلام الأمة وصالحيهم وعنوان ذلك ما جمعه ابن ناجي في كتابه معالم الإيمان وما استدرك به عليه بعض المتأخرين ممن اجتمعت بهم في ذلك المكان، وما زالت البركات فيها عاكفة، والخيرات على أهلها واكفه إذ ما منهم أحد، إلا وله من لفضل وحسن المعاملة ما لم يقف عند حد، فتلقونا بالترحاب، وأنزلونا منازل الأحباب، حتى حملني حسن إكرامهم وفضل مقامهم على أن أنشأت في مديحهم قصيدة بديعة، ضمنتها ما لقيته في الطريق وما أصبته في تلك الرياض المريعة، وهي قولي: [الخفيف]
طاوي البيد مبسراً غير وإني ... إن توجهت زورة القيروان
باكر السعي نحوها باجتهاد ... لاقتياد المنى بذاك العنان
قد خرجنا لها على حين اضحت ... واكفات الهتون مثل الجمان
نلتقي الريح عاصفاً مثل رعد ... قاصف لم يدع ثبات الجنان
ومحيا غزالة الصبح ورار ... هـ الحيا بالسحاب مثل المصان
فامتطينا عزائماً ذات صدق ... واعتمدنا البعاد عن كل دان
واقتطعنا صعاب ذا اليوم سيرا ... وانتجعنا المبيت عند الأوان
وارتحلنا بقطع ليل تبدى ... بدره نافراً نفور الحسان
إذ يرى في الدجى دلالاً فنلقى ... أعينا للنجوم لاحت دواني
أو يرى يزدهي بحسن فيبدو ... في ميادينه بغير امتنان
يقصد القرب رائماً وصل شمس ... قد توارت بحجيها عن عيان
وإذا ما ارتمى إليها تبدت ... من علا الشرق لا تروم التداني
تقتدي تبهر العقول وتلقي ... في البراري بساطها الخسرواني
فارتفقنا معاً إلى أن رأينا ... من حلى القيروان من خير جاني
فاستنرنا بشمس هدي تبدت ... من حلى ثراها وقال كل ذراني
حبذا حبذا بشمس هدى تبدت ... من ثراها وقال كل ذراني
حبذا حبذا معالم دين الل ... هـ لاحت مجلياً بالتهاني
هذه بلدة تأسسها أص ... حاب خير العباد في كل آن
هذه مركز لولاية والع ... لم ففيها تبدت الخصلتان
فهي مأوى أيمة الدين من أه ... ل القرون الثلاث هل من مدان؟
أهلها قد تأثل الخير فيهم ... فانجلى فضلهم بأقصى المكان
يتلقون وافديهم بيسر ... ملء أجفانهم بملء الجفان
يؤنسون الغريب بالقرب حتى ... يمتلي من ودادهم بالتفاني
إذا تحلوا من المعالي بفخر ... عاد كل بحسنه في افتتان
إن تنادوا إلى صلاة سراعا ... فتراهم في رغبة مع حنان
ورثوا الفضل عن جدود ومازا ... لوا بهم يقتدي بني الثمان
فالصير ائتسى بمن قبله في ... كل مجد فنال خير الأماني
هكذا هكذا المفاخر فيهم ... لم تزل تبتني لهم في العيان
قد تجافوا عن الأناسي حتى ... نزلوا القيروان في صحصحان
أحسنوا الصنع للإله فأضحى ... رزقهم ساعياً لهم كل آن
أرسل الله كل خير إليهم ... مع تنائهم عن البلدان
وكفاهم شرَّاً جوارٌ وهذا ... أعجب الشيء بين أهل الزمان
لن ترى في بلادهم من يهود ... ي ولا الغير من أهيل الهوان
لا ولا تلتقي بها حان خمر ... ما لهم واستقاء بنت الدنان؟
إنما بينهم مشاهد صحب ... وزوايا للأوليا في أمان
أو رجال الهدى فإن رمتهم سل ... عن علاهم معالم الإيمان
مثل سحنون والعبدلي المر ... ضي وحنشر وغيرهم كالعواني
بينهم جامع أقيم على تق ... وى من الله نير الأركان
شاده عقبة الصحابي من قد ... قام للدين ناصراً بالسنان
فاغتدى أول المحاريب في المغ ... رب محرابه فهل من يداني؟
حبذا بينهم مقام المعلّى ... صاحب المصطفى الرفيع الشان
ذا أبو زمعة الذي صحبته ... شعرات الرسول لفي ذا المكان
بلوي أتى المغازي مع الأص ... حاب ذا رام نصرة الإيمان(1/387)
قام للدين ثمك أضحى يجوب ال ... أرض في جوبه خليع العنان
كم روى عنه سادة فاستناروا ... من أحاديثه الصحاح الحسان
واجتناها غنائماً ليست تحصى ... من جميع البلاد قاص ودان
يقتدي ف الحروب دفاع إن ما ... ت بحزم فكان ثبت الجنان
ما تولى الزحاف في يوم حرب ... لا ولا كان للعزائم ثانِ
ولذا وفر الإله له الغن ... م وأولاه مسعدات الجنان
فاقتنى الحسنين فضلاً من الل ... هـ فماذا لواصف باللسان
شاهد المصطفى وتلك المغازي ... واغتدى بعده شهيد الطعان
لن ترى في مقامه غير سر ... باهر من جلاله المستبان
يملأ العين والفؤاد اجتلاء ... لا يفي وصفه وضوح البيان
من يوافيه مستجيراً يرى ما ... يرتجي من مناه لا عن توان
هكذا هكذا به قد رأينا ... إذا دخلناه راجين الأماني
آملين السداد ولنجح فيما ... قد قصدنا على مرور الزمان
نرتجي من رضاه فوزاً بما أن ... نالنا لم نرع من الحدثان
علّه أن يمدنا بالأماني ... ل وللوالدين والإخوان
والألى بالعلوم قد أرضعونا ... خير ذي به أعز اللبان
يشمل الكلَّ جاهه عند ربي ... كي نرى منه في نعيم الأمان
وقرظ هاته القصيدة شاعر القيروان السيد محمد عيسى الكناني بقوله: [الخفيف]
أيها الفاضل الزكي المعلّى ... من له في القريض خير المباني
وأيادٍ عجيبة ما لمثلي ... أن يرى آتيا بها أو يداني
أطربتنا حسناء جاءت بودٍّ ... وخلوص بذي المعاني الحسان
بنت فكر قد ازدهت في حلي ... ما حواها البديع في همذان
فلك الله يا خليل ممدّا ... بمراجيك من بلوغ الأماني
حيث تم في صحب خير البرايا ... ورجال الهدى بكل مكان
مثل باب الرفيع ثم الجناح الأخ ... ضر المحتوم على الأعيان
ولك النفع بزيارة سحنو ... ن المسجى بباب نفع المداني
وعطاء من الجناب المعلّى ... من تسامي ببيعة الرضوان
طالع السعد قد حباك بما قد ... نلته سيدي فكن في أمان
يا سليل الأفاضل الحائزين ال ... مجد بالسبق من قديم الزمان
جدك الخير السنوسي إمام ... بعلوم زكا على الأقران
فأتيتم من بعده في انتساق ... يقتدي بعلاكم النيران
فجزاك الإله خير جزاء ... ووقيت العدى وشر الهوان
ثم لا زلت لابساً ثوب عز ... وافتخار سما به الملوان
ثم إني أول: إنني بمجر وصولي إلى تلك المدينة، طلبت الاجتماع بقية صالح سلفها من ذوي المفاخر الثمينة، فاجتمعت بكبير أهل الشورى بها عماد بيته الأثيل، العالم الجليل والقدوة الذي ليس له مثيل، الدراكة الهمام، النحرير الشيخ سيدي محمد صدام، أدام الله بركته للأنام، ووجدته يومئذٍ قد أخذ منه الكبر، وله صداع يؤلمه في غالب السمر، أما ضخامة شأنه، وجلالة مكانه، فقد رأيت من ذلك مفاخر جليلة ومحاسن جميلة، مع ثبات وأناة، وخبرة بالسياسات، وكانت قراءته بالحاضرة على جلة شيوخها في ذلك العصر كشيخي الإسلام البيرمي والرياحي، وقد حصل منه بفضل الله على إجازة مطلقة أجد ببركتها سدادي وصلاحي، بعد أن فزت بمجالسته في مجالس عديدة، وأدركت خلفه صلاة الجمعة في تلك المدة المديدة، واجتمعت بتلميذه قاضيها العمدة العفيف، صاحب الفضل المنيف، الفقيه الورع الشيخ أبو الفلاح سيدي صالح الجودي رعاه اله تعالى وهو رجل غيور على الحقوق، قاك بالعدل واللسان الصدوق، يحي الليل في الدروس والنوازل، وهو الكفيل بعمران تلك المنازل، وحضرت بدروسه في الفقه والحديث، وأخذت عنه سنداً في صحيح البخاري لم نجد مثله في القديم والحديث، بحيث أه بينه وبين الإمام البخاري اثنا عشر رجلاً من رجال السند، وكتب في ذلك إجازة رائقة أعذب من الثلج والبرد، وقد رأيت أن أنظم سندها تيمناً برجاله، فقلت مصلياً على الرسول المصطفى وآله: [الرجز]
حمداً لمن أجاز من قصده ... وأبلغ الراجي بذاك قصده
وصل يا رب على من اتصل ... سنده إليك من تلك الرسل
خصوصاً المختار عز الدين ... حامله عن روحك الأمين
والآل والأصحاب والأتباع ... وتابع الكل بلا انقطاع(1/388)
وغب ذا بالقاصر المأسور ... محمد السنوسي المقرور
يقول: إني من حديث المصطفى ... قد اشتملت خير كاس قد صفا
ولاسيما بما روى البخاري ... من الأحاديث عن المختار
فهو صحيح مسند مرفوع ... والدين فيما قد حوى مجموع
وقد تنعمت به دراية ... عن الشيوخ طوراً أو رواية
فنلت من إسنادهم إيصالاً ... وقد بلغت منهم الآمالا
حيث أجازوني تفضلاً بما ... هولهم من الأسانيد انتمى
وأقرب الطرق ما أنبأتي ... به أبو الفلاح فخر الزمن
قاضي مدينة العلوم الجودي ... القيرواني ذي العلى المحمود
عن شيخه مفتيها محمد ... كنز العوم والصلاح الأمجد
أعني أباهاها جميل الدين ... عن يوسف الإمام بدر الدين
ذاك المجاز من شيوخ جمة ... نحواً من المائة فخر الأمة
إذا طاف بالمشرق في الأعجام ... فنال منهم غاية المرام
عن زين باعلوي إمام الحرمين ... ذا جمل الليل اغتدى في الثقلين
عن شيخه محمد بن سنة ... العمري الفاني محيي السنة
عن أحمد العباس عن غضنفر ... النقشبندي في سائر الفنون
عن الإمام الحافظ الطاوسي ... أبي الفتوح مهدي النفوس
عن بابا يوسف الإمام الهروي ... من اغتدى بكل فضل أحروي
عن ابن شاذبخت الفرغاني ... محمد الشيخ حلى الأعيان
عن ذلك الشيخ أبي لقمان ... يحيى أبي المفاخر الختلاني
عن أبي يوسف الزكي الفربري ... عن ذلك الحجة فخر الدهر
محمد المعظم البخاري ... محيي معاني سنة المختار
فأبصر ترى رجال هذا السند ... ثلاث عشر اغتدى في العدد
وفي الثلاثينات سبعة عشر ... بيني وبين المصطفى خير البشر
فالحمد لله على اقترابي ... في صلتي من ذلك الجناب
صلى الله والأصحاب ... ومن روى عنهم مدى الأحقاب
يقول العبد الفقير إلى ربه محمد السنوسي: أنبأني الشيخ أبو الفلاح سيدي صالح الجودي، عن شيخه سيدي محمد باهاهأن عن الشيخ سيدي يوسف بدر الدين، عن الشيخ سيدي زين باعلوي عن الشيخ سيدي محمد بن سنة الفلاني، عن الشيخ سيدي أحمد العباسي، عن الشيخ سيدي غضنفر النقشبندي، عن الشيخ سيدي تاج الدين عبد الرحمن الكازروني، عن الشيخ الحافظ أبي الفتوح سيدي الطاوسي، عن الشيخ بابا يوسف الهروي، عن الشيخ سيدي أحمد بن شاذ بخت الفرغاني عن الشيخ أبي لقمان سيدي يحيى الختلاني، عن الشيخ ابن يوسف الفربري، عن الشيخ الحافظ الحجة أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ثم الجعفي رحمه الله تعالى ورضي عنه قال: بابا كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلخ..
وكنت قبل خروجي من الحاضرة كلفني صدقي بنازلة مع الشيخ المذكور، وحيث قضيتها على الوجه المبرور، أرسى عليه الحال، وأدمجت مع ذلك شيئاً من دعابة المقال، وهذا صورة ما كاتبته به: جناب الأخ الذي تاقت النفوس إلى محاضراته، وبدائع مسامراته، لهمام الذي أحرز لواء الكمالات، التي ظهرت ظهور الشمس بالآيات البينات، فصيح اللسانين، ودراكة المعقولين، النقادة النحرير، والفهامة الولوع بتحبير أردية التحرير العالم الجليل، صاحب الخلق الجميل، عمدتي وودودي، ومن بمناهل ملاطفته استعذب ورودي، الشيخ سيدي محمد بن الخوجه، لا زالت حبال المودة بيننا موشوجه.
أما بعد إهداء تحية تسفر عن محيا الاشتياق، وتريك محاسن المودة التي لو كانت غادة لذبل منها كل من الطرف والأحداق، فإني والمنة لله على ما يسركم من العافية والسلامة، والمسؤول من الله أن يديمها على الجميع في الظعن والإقامة، لولا ما كان بيننا من البعاد، الذي لم نستنشق معه روائح أخباركم من أثر المداد، وغاية الآمال، بأن جنابكم على حالة الكمال، وما كنت أحسب أن تتناءى بنا الفروق، حتى يمون حديثكم أبعد علي من بيض الأنوق، ولولا وثوق الأسباب وطيب ما لاقيته بهذا البلد من العلماء الجلة والسادة الأقطاب، ما حظينا به ولله المنة من التنعم بمقام من ضمت إليه شعرات المصطفى من الأصحاب، إلى غير ذلك من التابعين الثاوين بهذا التراب: [البسيط]
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت ... لها المنايا إلى أرواحنا سبلا(1/389)
هذا وأما المراسلة ورسم الدين، اللذان حملاني عظيم الأين، فقد أبلغتهما إلى الشيخ الجليل، قاضي القضاة الذي ليس له مثيل، فقام في إقامة حق ربك لتلك الحقوق، التي ظعن عنها ذلك الزوج وكلفها العقوق، فما لبث أن أحضره بأحد أعوانه، وجرعه إلزام القضاة قبل النهوض من مكانه، حتى احتار مما ألزم به ذلك المسكين، وخشي لزوم النفقة على تلك السنين، فأبدى الرأفة بعياله، وزعم أنه غير راضٍ بطلاقها في حاله ومآله، وصفها بمدائح زعم أنه كان في انتعاش، حتى كاد أن يمدح فيها حسن الفراش، وذكر أنها لم تناشزه النشوز الذي أوجب به الطلاق، وأن أهلها الذين هم كلفوه الفراق، كل ذلك إظهاراً منه للتعطف، وإبداءً للمسئلة بغاية التلطف، خشية أن يظهر ما بينها من الشقاق فيشد عليه الوثاق، إلا أن جميع ما أبداه من أنواع التملق، وإظهار أنه لم فيها مع فوات بثها مزيد الرغبة والتعلق، لم يكد ذلك يجد له نفعأن ولا يقرع من آذان ذلك العمدة سمعأن وما كانت له ذلك إلا وسيلة للاعتراف بدارهم أخر كتبناها عليه، زيادة على القدر الذي دعي إليه، وألزم بإحضار رسم الطلاق الذي اعترف بإيقاعه على الوجه الموصوف، حيث لم يمسك بمعروف، (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته) ، وقطعه بجوده وعدله. أما قضاء الدين، فيرى دونه احتمال الحين، ولذلك جنح به الشيخ إلى ما هو خير، بعد أن علم أن لا طاقة له على الإلزام بما فوق السير، فاقتضى منه خمسين، وجعل عليه ماب قي مشاجرة بعد أن أخذنا عليه الكفيل الأمين، فالتزم بدفع ما بقي عن سبعة عشر شهرأن في كل شهر منها عشرأن فإن أرضتها هاته المعاملات فلتعط توصيلاً قيما يبلغكم صحبة الحامل، وتوكيلاً لمن ترضاه يتولى استخلاص البقية في الأشهر القابلة يبلغها على الوجه الكامل. وهذه غاية النتيجة بعد أن تسعرت نيران الخصام الأجيجة وها هو يصلك رسم الطلاق، عسى الله أن يبدلها زوجاً خيراً منه فتحظى بالانعتاق، والسلام. أواخر المحرم سنة 1292 اثنتين وتسعين ومائتين وألف.
واجتمعت هنالك بالشريف الفاضل، والقدوة بين الأفاضل، صاحب الفضل الذي لا يتناهى، سيدي حمودة بوهاهأن وكان يومئذٍ شيخ دروس المقام البلوي، أدام الله بيت مجده العلوي، والشيخ المفتي أبي محمد سيدي حمودة صدام. ووجدت عماد بيت الشريف الأثيل، والفضل الذي ليس له مثيل، صفوة الكرام البرره، ونخبة الخيره، الشيخ سيدي حمدة العواني، وهو نقيب الأشراف الذين فضلهم ليس بخاف وهو من العفة والهمة العالية بمكان عظيم وجدته ولوعاً بالسيرة الحلبية، وحصلت منه على دعوات نرجو بها كل أمنيه. إلى غير ذلك من الأعيان الذين ضمهم ذلك المكان كالفاضل الزكي المدرس الشيخ سيدي حمدة بوراس وهو ممن أنسنا في تلك الإقامة، جزاه الله بكل خير وكرامة.
وكان عامل المدينة المذكورة يومئذٍ الهمام الأفخم أمير الأمراء محمد المرابط، إلا أنه استخلف عليها عند ذلك أخاه العمدة الأكمل الأبر الموقر المحترم الحاج محمد فوجدنا له من حسن السيرة في معاملته أولئك الأعيان، ما لم يتمالكوا به يثنوا عليه بكل لسان، على أن فخر العامل المذكور، قد اشتهر منذ دهور، إذ هو في نسبه ينتمي إلى دفين تلك المدينة صاحب الزاوية المكينه الشيخ سيدي عبيد الغرياني رضي الله عنه ومكانته من عهد المشير الأول لا تكاد تخفى في تلك الدولة الأحمدية، حين قاد جيوش المحمدية.
أما مآثر السلف التي في ذلك البلد، فإنها لم تعقف عند حد وناهيك لجامعها الذي هو من أعظم المفاخر الإسلامية، ومحرابه أول قبلة رسمت في إفريقيه، برسم الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. ووجدنا بمستودعه من مآثر الصحابة قطعة من درع تبركنا بها مع آثار قوس وبعض ملابس آخر من واقيات الحروب وبقايا مصاحف كوفية على الرسم الأول قبل النقط المتعارف الآن والشكل، إلا أنا ألفينا الجامع المذكور قد تداعى، وكاد المسلمون أن يعدموا به انتفاعأن فبادرنا إلى شرح حاله لجناب ذلك الرئيس، وقد نجح بحمد الله في ذلك سعيه إلى الوجه النفيس، وكاتبه في ذلك كبير أهل الشورى، بمكتوب يملأ الأفئدة سرورأن غير أني لم آخذ منه بنظير، لأحلي منه هذا النزر اليسير، نعم وكاتبه في ذلك الشيخ القاضي بمكتوب، أتى به على أحسن أسلوب نصه:(1/390)
حرس الله مجد جناب الهمام الكامل، الثقة العمدة النزيه الفاضل، رضيع لباني المجد والعلم من أيمة كانوا غرة في جبهة الدهر وسليل مشايخ أعلام كانوا أيمة فقهاء عصراً بعد عصر، ألا وهو القدوة النحرير، والعلم الشهير، كريم السجايأن وحميد المزايأن الشهم الأحزم والسري الأفخم، الحبر الشيخ محمد بيرم، رئيس جمعية الأوقاف بالحاضرة المحمية، والمكلف بإدارتها وتعميرها فيها وفي سائر البلاد الإفريقية، وصل الله مجده بمجد من مضى من أسلافه، وبلغه أمانيه بخفايا ألطافه، آمين.
أما بعد إهداء التحية المرضية، المناسبة لكمالاتكم السنية، فمن المقرر المعلوم، أن جامع مدينتنا الأعظم، له فضل السبق على سائر الجوامع الإفريقية والتقدم، فقبلته أول قبلة وضعت للناس بالبلاد الإفريقية، عن الاجتهاد الصحيح بالأدلة الكشفية واليقينيه، اختطه من فضلاء الصحابة الأعيان، أكابر ممن شاهد بدراً وبايع بيعة الرضوان، وعمروه بالعبادة والذكر وتلاوة القرآن وطافوا بأرجائه متضرعين مبتهلين، بالدعاء لمن يعمره من سائر الناس في كل حين، وبسبب ذلك تنافس في تعميره من سلف من الولاة فما منهم من أحد إلا وترك فيه من مآثر كمال اعتنائه به علامات، حتى أكملوه على فخامة أبدعيه، وضخامة لم يعهد مثلها في البلاد الإفريقية، أصلوا دائرة جدرانه على أكمل بناء متين، ودعموا سقوفه بعمد رفيعة جلبوها من أقاصي مصانع القياصرة الأقدمين، يرجون أن يدوم لهم أجر من عبد الله فيه ويجري عليهم ذلك بعد الممات، وأن تعود عليهم بركة دعاء من دعا لمن يعمره من أولئك السادات، وإنه وقع الآن بسقوفه خلل إذ مضى عليها ما يفوق المائة والألف من السنين، حتى خشي سقوط بعض الأماكن منها على المصلين، فاقتضى النظر أن جعل عليه حاجز يحجر من عسى أن يمر أو يصلي تحته من الغافلين، ولم يكن في ريع أوقافه ما يقوم بتجديد بعض سقوفه على ما يليق، لضعف أوقافه عن أن تكون بمثل هذا تطيق، وقد امتلأت المسامع والآذان، وتقرر في الأذهان، حسن إدارتكم بمثل هذا الأمر، وسعيكم فيما يبقي لكم به الدعاء والذكر، ومثابرتكم على تعمير بيوت أذن الله أن ترفع، وتجديد ما دثر منها على الوجه الأرفع، ومثلكم يرجى أن يصرف وجهته إليه، حتى يعمل في ضخامته ومكانته على ما كان عليه، وعن صرف فواضل الأحباس في بعضها بعضاً قيل به حيث لا مندوحة عنه واقتضاه الحال، لا سيم إذا أقيم من صرفه في مثل هذا الجامع العديم المثال.
هذا وإن همة مولانا الوزير الأكبر، ووجهته إلى أعزاز هذا القطر وإحياء ما دثر من معالمه في سالف العصر، ومحبته لاقتفاء آثار السلف الماضين، والجري على منهاج طريقهم الواضح المبين، تقتضي أنكم إذا عرفتموه بما آل إليه أمر هذا الجامع وشرح حاله باللفظ الوجيز الجامع، توجهت وجهته إليه، وصرف قصد اعتنائه بحزمه الذي نشر راية الصيت عليه، أبقاه الله جارياً في أموره على السداد، معانا على التوفيق في كل الآماد ببقاء مجد مولانا السيد المشير، العديم المثال والنظير، محروساً جنابهما ببركة من اختلط هذه البلاد، من الصحابة والتابعين والعلماء والصلحاء والأوتاد.
هذا وإن الفاضل الزكي، اللبيب السميدعي، الحائز من قصبات كمال الأدب أعلاهأن ومن أحاسن الأخلاق أسناهأن الشيخ أبو عبد الله سيدي محمد السنوسي لما اجتمعت به أطلعته على ما شرحته لكم من حال هذا الجامع، وأريته ما ببعض سقوفه من الخلل الواقع، واطلع على أوقافه واستقصاهأن وعلم ما تحصل من فواضل ريعه وأحصاهأن فظهر له ما لي ظهر حيث تطابق الخبر والمخبر وهو الآن عندنا مشتغل بمأموراته، دائب ليله ونهاره فيما كلف به من مشغولاته، وقد دلتنا أعماله على صنائعكم المحموده، التي أحيت بها الدولة معالم الدين المشهودة، نسأل الله أن يكون في عونه، وهو ولي رعايته وصونه. وحين يرد عليكم ما شرح لكم إن شاء الله في الحال على الوجه الأتم، إذ لا يفي بالشرح في مثل هذا المنزل العلم، ومثلكم من يكتفي به لذلك والله ولي عونكم. والسلام من الفقير إلى ربه تعالى عبده محمد صالح الجودي التميمي خادم العلم الشريف والقضايا الشرعية بمدينة القيروان أحسن الله عاقبة الجميع في صفر الخير من سنة 1292 اثنتين وتسعين ومائتين وألف.(1/391)
وقد زرنا هنالك رياض الصالحين كأيمة باب نافع والجناح الأخضر وغيرهم لا سيما ضريح حفيدة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ابنة سيدي عبد الله التي أتى بها من ابنة جرجير ملك إفريقية حين قتله وأخذها رضي الله عنهم أجمعين وعند زيارتي للجناح المذكور قلت: [الكامل]
القيروان أعز طير أفخرِ ... في أرض إفريقية فكنِ الدَّري
إذ كان رأسَ فخاره (البلويُّ) من ... قد ضم شعراً للرسول الأكبر
وفؤاده سحنون ثاويها الذي ... أحيا مدارك مالك بتدبر
وأوى جناحاه مضاجع سادة ... بالعلم والأسرار مثل الأبحر
وإذا أراد الله خيراً بامرئ ... أبداه من ريش الجناح الأخضر
وقد أنعم الله علينا هنالك بالتلذذ بزيارة صاحب الفضل العلوي الصحابي المقرب سيدي عبد الله بن آدم البلوي وعندما دخلت لمقامه أول يوم أنشدت بين يديه قولي: [الكامل] ?حياك ربي أيها البلوي من=قد حاز شعر المصطفى في مضجعه
قد كنتَ من أصحابه الأنصار في ال? ... غزوات مثل الليث حلّ بمربعه
هذا نزيلك نفسه ملآنة ... بمآمل ترجى بكم في مرجعه
فاملأ حقيبته بما يقضيه جا ... هك إنه لا يكتفي من منجعه
وزيادة على الزيادة اليومية التزمت المبيت عنده في كل ليلة جمعة حتى اتفق لي أن اشتد المطرفي بعض الجمع فخرجت إليه ليلاً على حاله اشتداد الوحل، وأنشدت بين يدي ضريحه قولي: [الطويل]
أبا زمعةٍ جئناك في حالكِ الدجى ... وقد حالت الأوحال دون زيارتكْ
فحاشاك أن لا تمنحنّي مؤلا ... وهذا مفاز الأمن في قرب ساحتك
وقد ألهمني الله أن أقرئ عند ضريحه شمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم في تلك المدة فأقرأت صحيح الترمذي دراية إلى أن أدركني الرحيل وقد كدت أن أبلغ إلى النصف أتممتها رواية وأنشأت يوم الختم دعوات تلوتها في ذلك المقام لعله مما يحسن بنا أن نورده في هذا النظام، وقد كان أحد جلة العلماء هنالك كاتبني بتذكرة بها يستدعيه بعد أن سمعه في الختم على الوجه الذي يرتضيه وصورة ما كاتبني به ذلك الفاضل.
الحمد لله السلام على جليل مقامكم ورحمة الله وبركاته وبعد فالمطلوب من فضلكم إرسال الدعاء الذي ختمتم به أريد نسخه بقصد التبرك ويرجع لكم إن شاء الله ختم الله لنا ولكم بالسعادة. والسلام كاتبه حمودة بوهاها.
وهذه صورة الدعاء المذكور، بما تضمنه من المنثور حيث كان آخر ما تضمنه ذلك الصحيح المشهور.
إن هذا الحديث دين فانظروا على من تأخذون دينكم فقلت: سبحانك اللهم بك التوثيق في أخذ هذا الدين، عن الأيمة المهتدين، من الصحابة والتابعين، وعليك التوكل في القيام بأعبائه، وإليك الالتجاء في التأهل لنشر لوائه، الذي أنت الإله المنفرد بالألوهية في عالم الملكوت، المتقدس بما له من الجبروت واللاهوت، تقدست صفاتك وأسماؤك، وتعاليت عن أن تأويك أرضك وسماؤك، حيث كنت أنت الملك الجليل، ولم تزل أنت حيث كنت في أزلك ليس لك شبيه ولا مثيل، تنزهت بوصفك أنت الرحيم وعظمت آلاؤك فلا يوفي حق شكرها كل عليم، لا إله إلا أنت الرب المنعم بجلائل النعم ودقائقهن ضلت الأفهام في مفاوز شكرك وطرائقهن فنحمدك اللهم حمداً يوافي نعمك ويكافي المزيد، ونستمد من فضلك على نبيك صلاة دائمة لا تنقطع أبداً ولا تبيد، فهو الرسول الذي خصصته بالخلق الكريم والخلق العظيم، وهديت به إلى الصراط المستقيم، أبرزته لعالم الوجود، وإن لم تزل روحه الزكية في عالم القرب والشهود، وأكرمته بشمائل أعجزت الوصاف، فحاوروا في مهامه إدراكها واحتسبوا الإذعان والاعتراف، فهو درة العالم التي ليس لها ثاني، وخيرة بنيء آدم الذي أنزلت عليه سبعاً من الثماني، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.(1/392)
اللهم هذا توسلنا إليك بأعظم الوسائل، ورسولك الذي اصطفيت له أكمل الشمائل، حتى أكرمت من بها دعاك بالإجابه، فيرى البراقع من وجوه السعادة منجابه، وها نحن حظينا بمسك ختامهأن وأدرنا في حانات المسامع كؤوس مدامهأن راجين أن تفضيها علينا بالسعادة، وتمنحنا من سيب فضلك بالحسنى والزيادة، إذ عين منها مسك الختام، في هذا المقام، بين يدي صاحبه وحامل شعراته الكريمه، أحد الفايزين ببغيته الفخيمه، قائد المغرب، الصحابي المقرب، من ظهر المصطفى صلى الله عليه وسلم كما أخرج ابن سعد إذ حاز دوحة ووضع أصابعه على ختم النبوءة، ناصر الأيمان وفاتح البلدان، وشهيد الطعان، أحد أعلام الدين الذين تتجدد معالم فخرهم وإن تقادم، ضجيع مقامنا سيدنا أبو زمعة عبيد الله بن آدم، اللهم واخلع عليه جلابيب الرضوان، وأوله أضعاف ما يستحقه من الإحسان، وها نحن أمة رسولك لاجئين إليه في مقامه، فاجعل إجابتنا بمحض فضلك من توابع إكرامه، فاللهم يا من إليه الالتجاء نسألك بسيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم أن تحسن عاقبتنا. وأن لا تحرمنا من فضلك الثنأن وأن تمنحنا من فيوض رحمتك وغفرانك وتسبغ علينا أردية سترك تفضلاً وإحسانا وأن تنجح أعمالنأن وأن لا تخيب آمالنأن وأن تكسونا أفخر أكسية الهداية والتوفيق، وتيسر لنا من أبواب السعادة أقوم طريق. اللهم فيك الأمل، ومنك نسأل مواهب العلم والعمل، فاجعل ببركة هذا المقام جمعنا هذا سالماً من كدر الدنيا والآخره، وافتح علينا من بحر جودك الذي لا يدرك أحد زاخره، إنك أنت الحنان المنان بديع السموات والأرض ذو الجلال الإكرام. اللهم أجزل منح آلائك لآبائنأن وأول محاسن نعمائك جميع الغائبين والحاضرين من إخواننأن وجازعنا بفضلك بفضلك شيوخنا جزاءً أوفر، يعبق به على جميعهم في الدنيا والآخرة من رضوانك مسك أذفر، وأدم منتك التي لا تحصى على جميع المسلمين، في كل وقت وحين، واقرن بالسداد آراء الحكام، وكن الولي بمن قام بإحياء شعائر الإسلام، بجاه نبيك عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العاملين.
وعندما انتهيت من هاتيك العمال، مع ما اقترن بها من نجاح البلوغ إلى الآمال، والحمد لله على كل حال، أزمعنا على الخروج، من تلك المروج، فأمضيت ليلة رحيلنا عند الرجل الصالح البركة الفاضل الشيخ سيدي عمر العلاني، بلغه الله ممن السر إلى غاية الآماني، وقد اتخذ لنا تلك الليلة مبيتة رائقه، بالذكر والأحوال الفائقه، إلى أن تبلج علينا الصباح، فخرجنا لزيارة المقام البلوي بغاية الانشراح فزنا زيارة الوداع، ومعنا جم من أعيان تلك البقاع، وعند ذلك تممنا الزيارة وفصلت عن ذلك المكان بدموع مفضوضه، وكبد مرضوضه، أرى فرط مفارقته أشد المشقات، علي في تلك الأوقات، وقطعنا قاصدين الوطن القبلي، ونحن على يقين بالجد أمامنا ما يسلي:
كرامة(1/393)
اتفق لي مع الشيخ العلاني أمر مهم وذلك أني لما أزمعت على الرحيل من القيروان انفتحت السماء كأفواه القرب فتوالت الأمطار هنالك أياماً عديدة، ومن عادتهم أنهم إذا توالت عليهم تلك المطر لا يخرجون للسفر، لأن أرضهم مزلقة وهناك بعض تكسير في وادي البوقال فلا يأمن المسافر أن يقع فيه، وكم غمر من مسافرين. وحيث عزمت على الرحيل والحالة ما ذكر تعرض غالب أهل البلد ومنعوني من الخروج في ذلك الوقت لكن لما أتممت خدمتي رأيت أن لا وجه إلى التأخر وتوكلت على الله في قصد السبيل، لكن ليلة السفر داخلتني بعض هواجس في الرحيل، والحالة ما ذكر، فاتفق لي لما توجهت إلى موادعة السيد نقيب الأشراف وجدت عنده الشيخ العلاني، فبينما كنا جالسين وأنا أفكر في سفر غد قال لي الشيخ على البديهة يا شيخ أنت لا تخف من وادي البوقال وإنما إذا وصلت أنزل من الكروسة وخذ فرساً واركبه وافطع الوادي على الفرس واترك الكروسة تخرج من الوادي وحدهأن وحين قال لي ذلك زادني الهاجس فتوقعت وقوع مكروه، وخرجت من هنالك على تلك الحالة ففي آخر العشي بينما كنت راجعاً لمحل نزولي اعترضني الشيخ فأعاد علي الدعوة إلى المبيتة التي دعاني لها من قبل فقلت له دعني لا آتيك أبداً فضحك وقال لي: لماذا والحال أن المبيتة عملتها لأجلك فقلت له لا يتأتى لك وأنت تقول لي إذا وصلت إلى الوادي أنزل وحيث إني أتكلف الخلاص بنفسي فلا يعنيكم مني شيء فقال لي ماذا تريد فقلت له أريد أن أقطع بكروستي وأكون في أمان بعنايتكم وإذا لم نر ذلك من رجال القيروان فلا يعنيكم من شيء فضحك وقال لي توجه واقطع الوادي بكروستك ولا سوء عليك وإنما إذ نزلتم الوادي قل بسم الله، فقلت له حينئذٍ نأتيك. ولكن لما خرجنا في الصباح في مشقات الخضخاض والزلق مع ما عندي من النوم نمت داخل الكروسة واستغرقت في النوم وما استيقظت إلا بتزلزل الكروسة من الوقوع في وسط الوادي انتبهت فسمعت خوض الدواب في الماء وسمعت صوت الشيخ مع الكرارسي ضاحكاً وهوة يقول له (انده) فتذكرت قوله سم باسم الله فسميت ولكن بقيت متحيراً من وجود الشيخ معنا مع أنه لم يركب معنا ولشدة ما عندي من النوم عاودني الهجوع فبقيت نائماً إلى الزوال فاستيقظت فإذا نحن تجاوزنا السواطير فتذكرت القصة فعملت أنها كرامة للشيخ، جزاه الله خيراً.
وكان دخولي إلى أولى قرى الوطن القبلي التي هي الحمامات صبيحة يوم الخميس الثامن عشر من شهر صفر الخير فقضيت بين تلك بقية الشهر، ورأيت تلك الأيام من حسنات الدهر، إذ أن أهاليها أصحاب سكينة ولين، من العملة المساكين، لا يعنيهم غير الاشتغال بشواغلهم الزراعية، وغيرها من المهمات التي عندهم مرعيه، وأقربها إلى الحضرية نابل التي ضمت وادي السحير، الذي هو من المنازه المخصبة بكل خير، وهو وادي مرمل رحب الساحة، تحيط به البساتين التي تبيح لكل نازل ارتياحه، وبحيث إنه لو كان حول الحاضرة لكان من أعز المنازه إذ هو المنزه الذي طاب بحقيقة الهواء والماء مجازه، غير أنه لم يكن به سعد فجاء على بعد، ولذلك قلت فيه: [البيسط]
جئتك يا وادي السحير في السحر ... بواكر السعد تهمي عنك كالمطرِ
أما بواكر نسمات الصبا فترى ... مهب أعطارها في ربعك الخضرِ
على بساط فقام الأنس يزهر في ... ميامنٍ وشمال موقف الشجر
لله ساحتك الغراء ما بسطت ... فيها الرمال من الترصيع بالدرر
حاطت جوانبك الأغصان مائسة ... بما به فجرت من يانع الثمر
وفي أجنتك اهتزت معاطفها ... تحكي معاطف ذات الدل والحور
تغشي المعاطس طيباً من أزاهرها ... إذ تزدهي بالصبا في ربعك النضر
تلقى سواجعها تبدي تراجعها ... من لحنها فتوازي نغمة الوتر
عذراً لها تسامت من مياهك لا ... من خمرة تدع الألباب في خور
ففي مياهك من لطف العذوبة ما ... يبري الشجي فيغدو جامع الفكر
يا واد يا ليت شملي فيك منتظم ... بأهل ودّي على ما ندري في السمر
إذ ذاك يسقي بكاسات الوداد وقد ... فاقت فخامتها عن مائك النمر
نحيي بظلّك من إيناسنا شرفاً ... منه الرصافة أحيت سالف العصر
إذ فيك روضة أنس لا نظير لها ... فيما رأيت وما لاقيت من خبر(1/394)
لم تحك منوبة السمحا علاك بما ... أبدت بساتينها من رائق النظر
كلا ولا هاتك المرسى التي فرعت ... بشاطئ البحر والصفصاف والحبر
كلا ولا حلق وادينا وإن بهرت ... منه المحاسن في الآصال والبكر
نعم ولكنّ هاتيك الأماكن قد ... عزت بشمّ تساموا في ذوي الخصر
لطف الحضارة أضحى من شمائلهم ... وهم أسود شرى للدهر كالغرر
أعزة لا يزال السعد يتبعهم ... ينيخ رحله في مغناهم النَّضر
دامت منازلهم تسمو بهم شرفاً ... نلقى بهم بينهم إيناس ذي الوطر
وعند استقراري بالحمامات، تذكرت عهد الأحبة الذين كدت أن أتسلى عنهم بما كنت فيه من تلك المقامات، فهالني منهم تأخير المكاتيب، وإن كانت الطرق ممنوعة بما ذكرناه من توالي الشآبيبت، لكن على كل حال قد وصلني مكاتيب من غيرهم، فرأيتها من أعز ميرهم، وهي أني استفدت الإخوان على بعد الحال. وهنا ينبغي أن لا ننسى كثرة مكاتيب العالم النحرير، الفاضل البديع التحرير عالم الثبات والديانة. وحسن الأمانة والصيانة، أستاذي الشيخ سيدي الحاج أحمد الورتتاني، بلغه الله الأماني، كان أعقبني في الساحل لحل بعض العقد، التي أعجزني أمرها في هاتيكم البلد، وبسبب فيما بيننا من المسافة كنت أسترشده بعدة مكاتيب وهو يجيبني حفظه الله عن ذلك إجابة مشافهة. كما لا ننسى ما كان يمتن علي به جناب العزيز الرفيع العماد بين ذوي الألباب درة العقد الحسيني، صحصحي وقرة عيني، الدراكة البارع، والخلاصة الذي لأعلام المفاخر فارع، باذل العناية في التعلمات، المحصل على أعز الكمالات، الشهم الهمام المرفع شأنه سيدي محمد الناصر باي أبقاه الله ومما يحسن إيراده هنا ما كاتبني به بعض المكاتيب وهو أنه أسلم على يديه رجل نصراني كان بستانياً عنده حقق الله ثوابه آمين.
أما العصابة الأدبية فحين استيقظت لبعدهم كاتبتهم بما وجدت من بعدهم وهذا نص ما كاتبتهم به: [الكامل]
ما للوداد مقره في الأضلعِ ... والآن طيب رقومه لم يطلعِ
هل عاد رسمه عافياً فذوى به ... غصن اليراع ولم يقم في مربع
أم أن شخصه قد هوى بسلوه ... في هوة ناءت بذاك المنزع
أم أن نسج عناكب النسيان قد ... أغناه عن حلي النسيج الأبدع
تالله ما خلت التناءي دارساً ... لمعالم الود القديم الأرفع
كلا ولا خلت الأحبّة كلهم ... يتواطؤونا عن مزيد تمنع
صرفوا حبال الود عني وانثنوا ... ولهم بهذا البعد فخر تولّع
حتى رأيت شهود قلبي فيهم ... بمجرح الهجر الوخيم المرتع
ماكنت أحسب أن حق الود لا ... يقضي هوى بالقرب بين الأربع
إذ هذه ليست بشيمة من بهم ... نرعى من الإيناس أخضل ممرع
وهم الألى أرتضعوا أفاويق الوفا ... ق من الرفاق ذي المقام الأرفع
أهل الوداد وأنس تونس من بهم ... أبدت محاسن كل شهم أروع
دامت كواكب سعدهم من أفقها ... تبدي ازدراء بالبدور اللمع
حيهلا بجمع الإخوان، الذين نتاءوا عن العيان، حين تقاصى بنا المكان، السادات الأعيان، المتطلعين غررا فغي جبهة الزمان، الألباء الحائزين في المعقول والمنقول قصبات السبق والإحسان، المجلين على مشاهير الإيمة في كل ميدان، انتقاء روحي ومن لم أزل أدير بذكري مكارمهم كؤوس غبوقي وصبوحي، شموس المعارف الكبرى، وأعلام العلوم الذين أعلى الله لهم في الخافقين ذكرأن أدباء العصر، وبدور ذلك المصر، والشبان الذين كشفوا عن محيا النجابة والبراعة لثاماً والخلان الذين تاج بهم جليسهم إذ نال بهم التثامأن أوتاد بيوت المفاخر، وبحور الفضائل والمكارم الزواخر، وأصدقائي وأخلائي، وأحبتي وأودائي الذين ألاقي صفاء صفاء مودتهم بالتبجيل، وأنى لي بتسمية خيارهم ولم بحتج النهار إلى دليل، إذ هم الإخوان الذين تفيأت معهم ظلال المفاخرة والعرفان، واتخذت كل شهم منهم شهم منهم سهماً أرمي به أكباد الأعادي، واعتضدت منهم بكل أروع أودع عنده نفائس ودادي.(1/395)
أما بعد إهداء تحية تعبق على جميعهم بإحياء رميم الوداد، وتحرك ما سكن من الشوق في صميم الفؤاد، ترفعها إليهم أكف التكريم، في محافل التبجيل والتعظيم، وتسقيهم من سلسبيل المودة أعذب الكؤوس، فإن مكاتبهم رهين مودتهم من ألم النفوس، فيا للعجب العجاب، وللسادة الأخلاء الأحباب أدام الله حفظكم، وأجزل من العز حظكم، إذ لم أدر موجب تناسيهم الوداد، عند العباد، وعهدي أنه بذلك يزداد التضاعف، وبما أثمرت غراسته، في افئدتكم ما يدنو بكل قاطف، فتعمدتم الهجر والبخل بالكتاب، وأنتم من ذوي الألباب الخبيرين بألم الشوق، وإن شب عمره عندنا على الطوق، على أن رد السلام، واجب في شريعة الإسلام، وترك الحقوق، مؤذن بالعقوق، وأر أني لا أحتاج إلى إطناب هاتة المقالة بما تتحققونه من هاته الولاية أما إن نشرت بساط حقوق المودة، فلا أقدر أن أفي لكم بذكر ما أخللتم به من هاته المدة، على أنني على تراكم الأشغال قد تخيرت جهد لمقل عن الإخلال فأنا سائل عن جميع جموعكم أدام الله لها السلامة، وأنا والمنة لله، على ما يرضيكم من الاستقامة، إذ كادت فضائل القيروان المأمونة، أن تنسيني محاسن تونس المصونة، إذ لاقيت من برور أبنائهأن ما تأسس عليه شامخ بنائهأن ولا أظن أني وفيت حقهم لو أنصفت بما ذكرت في قصيدة رحلتي الواصلة إليكم، إذ وصفت لكم على أن الله قد امتن علي بختم شمائل المصفى في مقام صاحبه الجليل، وقد أتيت على القريب من نصفه دراية وأتممته رواية حين أدركني الرحيل، والله إني لم أنس واحداً من أحبتي في ذلك الحرم، فالحمد لله على تلك النعم، إلا أن الله جل جلاله، قضى على ل وصل بالفراق ومنع بمقتضى حكمته في هاته الدنيا بقاء التلاق، ولم يسعنا عند ذلك إلا اعتماد مفارقة تلك الروضة ففصلت عنها بكبد مرضوضة، ودموع مفضوضة، ففارقت ذلك البلد بعد أن صبرت على فراقكم وفراق أهلي، وأحلتني المقادير الآن بالوطن القبلي، نسأل الله سبحانه أن ينجح لنا الأعمال ويبلغنا بعد البعاد عنكم من القرب غاية الآمال، بمنه وكرمه والسلام، وكتب في الحمامات يوم 19 الجمعة من صفر سنة 1292 اثنتين وسبعين ومائتين وألف.
فكاتبني مجيباً عن ذلك جناب الشيخ سيدي محمد بن الخوجة بما نصه: [الكامل]
ما للعتاب هفا بريح زعزعِ ... ترك الجوانح منه ذاتَ تروّعَ
أو ما جزمت بأن ذكرك لم يزل ... طول الليالي سمير هذي الأضلع
حاشا المودة أن يهد حصونها ... ما جاء من هذا الأودّ الأبرع
فاثن العنان عن العتاب ولا تخلْ ... أنّا سلونا أنت أنت المدعي
كيف السلو عن الحبيب وشخصه ... ما أن يريم عن الفؤاد الموجع
إيه فقد أحييت عاطشَ أكبدٍ ... بزلال نظم كان أعذب مشرع
فجرّته الراح الحلال فكلنا ... مترنح الأعطاف حلف تولع
إيه أيها الأخ الثاوي بسويداء الفؤاد وإن نأى قراره، الذي ما إن قر لرهين أشواق وصريع بعاده قراره، كيف الصبر فإنه لا يطيب على الحبيب، وأنى للعين أن تسلو سلو المقصر عن إنسانها المبصر كلا والعيون الدعج والمباسم الفلج والقدود الميس والثغور اللعس وما بعدها من إليه لكل نفس ألمعية، ولا أزيد على الكلمة البيرمية:(1/396)
أيحسم لي أم بالوفاء يليق، ساوي كلامك لذاك طريق هذا وإليك تحيات تناسب أريحية تلك الشمائل، وأطيب من زهرات الخمائل، من محب جمع الأشواق، لذيذ التلاق، ولا أطيل في بنان التشوق، فتخاله من التملق والتأنق، ونغدل عن عادة المترددين في الإطالة، إلى لدعاء بجمع الشمل على أحسم حاله، حتى تجلو العين بإثمد لقياكم قذاهأن وترتع النفس في رياض مناهأن هذا وإني كاتبت جنابكم جواباً عن مكتوبكم الكريم، المتلقى بغاية المسرة والتعظيم، الوارد علي منذ أسابيع وكان جوابي تلوه بقليل أيام كما تطلع على تاريخه إذا اتصل بكم، وهو الآن بالقيروان وإن أرسلته مع الطريق الذي جاء بكتابك وقد بسطنا فيه القول، وخلطنا الجد بالهزل، وأطلنا فيه مجاد الكلام، كما هو المطلوب في مخاطبة الإخوان الكرام ومن جملة فصوله وقد وصلت الخميس للمرأة التي حركت بحسن مدحك فراشها ساكن أشواقها وأقمت قيامة خلق باقهأن هذا وقد اطلعنا على القصيدة الفريدة، المزرية بشعر أبي عبيدة، الضابرة في الإبداع بسهم مصيب، الحائزة من البلاغة المعلى والرقيب. وتلاها غلينا الأخ السيد محمد جعيط هي وتقريظها والمكتوب البديع كما تتلى المناشير فكل أثنى عليها غاية الثناء من غير نكير، والسلام من أخيكم محمد بن الوجة.
وقد أجبنه عن ذلك بما نصه: [الكامل]
إيه أعد ذكرى أولي الأحلامِ ... وأدرْ بمدحهمُ كؤوس مدامِ
واستحمل النسمات في تضخيمها ... من عابق التبجيل طيب سلام
كي تكنسي لطفاً إذا ما أهديت ... لمحمد ابن مشايخ الإسلام
حياك الله أيها المجلي في حلبة البراعة، النحرير الذي لم ينزع الألباء فيما تحكوه انتزاعه، الجهبذ الذي لم يطلع الفضل من غير أفقه، وقطرت اللطافة على يخرج من نطقه، العالم الوحيد، صاحب الرأي السديد، اليلمعي الفهامة، الذي لم يخك أحد نثره ولا نظامه، مالك أزمة الفصاحة والبلاغة، وإمام أيمة أهل النباغة، المتطلع على حداثة سنه في سائر الفنون، المستخرج بشص ذكائه فرائد جوهرها المكنون، أخي وصديقي، وهداية طريقي، عضدي الذي بإيناسه استنصر على جيوش الأشواق، وأجد بمخاطبته لذة التلاق، على طول الفراق، المر المذاق، سندي عمادي، وخلاصة أهل ودادي، الفاضل الزكي المدرس أخونا الشيخ سيدي محمد بن الخوجة، أدام الله صدور أهل وده بخالص موتده مثلوجه، وسيول آدابه في سائر الأقطار ثجوجة، ما دامت الليالي والأيام، وتناسقت جواهر البديع بغاية الانتظام.
أما بعد فقد شرفني كتابك، وراقني وأذاقني معسول البلاغة خطابك، فلله تلك السبع أبيات التي أنستني بها السبع المعلقات الشهيرة، إذ هفا ريحها على ذوي الفكرة بألطف من الشمائل العطيرة، فحركت مني ما سكن، وتداركت ما أصاب البدن، تناغث أجنتها علي بهاتيك البلايل، وكسرت جفن أعينها فلاقيت ما تفعله الدعج الذوابل: [الوافر]
لما وعيونها الدعج اللواتي ... أقامت للهدى العذري عذرا
لقد غطت على بصري وسمعي ... بملثوم حوى حبباً ودراً
فهبت علي من إيناسكم بذلك النسيم، وأذكرتني بقسمها العظيم، ما كنا نلاقي من طيب النعيم، وحين يجمع الله بيننا على الحالة المرضية لا محالة بهاتيك الألية، التي لا تخفى على مثلك من ذوي النفوس الألمعية، وأما كتابك لأول فما فزت منه بالوصال، على ما اشتمل عليه من نفائس المقال، ولقد كنا نترقبه رقبة الأعياد، حتى أيسنا أن نحظى منه بذل الإيراد، والآن رأيت من إيماض برقه ما تضاعف في شوقي إليه، ووددت التطوف حواليه، كي نرتاح بجده وهزله، ونفوز بنفائس غزله، ونرى ما وصفته به قصة المرأة عند تحريكها على أن جنابك لاقى منها ما ألصقته غرة بسرجهأن وإن بلغني فإني سأجول مع أخوتك في ذلك الميدان وأركض في مخلوع العنان، والله يديم عزكم وحفظكم والسلام، وكتب غرة ربيع الأنوار سنة 1292 اثنتين وتسعين ومائتين وألف.
وقد ظهرت بمكتوبه المشار إليه في أثناء هذا المكتوب بعد الإياب وهذا نصه: أخي الفذ الوحيد في الكمالات التي شأوها بعيد عن أعين إخواني، متعلق خاطري وملهج لساني، الواحد الذي بذ الجموع، في معقول ومسموع، الندس المتوقد ذكاؤه، الثابت في أفق المعالي سناؤه، الأخ الذي ألهج بثنائه وابتهج بإخائه الشيخ سيدي محمد السنوسي حرس الله ساحته.(1/397)
أما بعد بث ويل الأشواق، الذي لا يتحمل استقصاؤه كاهل الأوراق، ولا يبرد غلته إلا لذيذ التلاق، ضمن تحيات أبهج من محيا وسيم، وأعذب من طعم تسنيم، يحاكي سواد نقسهأن في بياض طرسهأن مقلة حوراء تترك القلب سقيماً ولا أزيد سيدي في وصف هاته التحية، والمحركة لتلك الأريحية، وإن كانت إطالة لكلام ربما تعلل بها للفؤاد، الذي أدفنه البعاد، فربما حصل بعض سلوان، من بطائق الإخوان، إذ ير بها آثار حبيبه، فتقوم رقيتها مقام طبيبه، ولا عن مرتبة الشهود، لا يحتاج لشهود، والمكاتبات، إنما هي تعللات، والأشباح فارقت أرواحهأن كيف تجد في البطائق حياتها واسترواحهأن ولا أطيل فربما يستريب الضمير، فيخالها من التأنقات في التعبير، فلنعج إلا الدعاء لك بالسلامة وبلوغ المراد حتى يتصل بروحه جسم هاته البلاد عقدا وأما نازلة المرأة التي حملت عباءها الثقيل، المرجو فيها لك الثواب الجزيل، فقد طوقت أخاك بالقيام فيها أي امتنان، وأقررت عين العجوز إذ تنوسيت في تسريح بإحسان لكن حركت ساكن اشتياقها وأقمت قيامة خان باقهأن حتى اعتقدت أن الخمسين التي وصلتها من صداقهأن ربما كانت شركاً يقتاد بها شارد حسن أخلاقهأن وهي ترغب غاية الرغبة، أن يتمم سيدي اتصال الصحبة، وهي تنش جنابكم هل الأمير يرى ذلي فيشفع لي، وتأمل في جنابكم أن يتكفل قاضي القضاة بتخليص البقية على يد أحد أعوانه بحسب ما قدر في كل شهر إلى تمام الأجل ومكانتكم منه تسوغ الاقتراح عليه في تكليف أحد أمناء أعوانه في تخليص ذلك ولذلك العون أجره عقداً وأما تبليغ السلام من جميع الإخوان فقد وفيت به ولكن عجبت من إغفالك لشيخين عظيمين الحشايشي وذلك الشيخ الشهير. والسلام من أخيكم المرتجي محمد بن الخوجة. وكتب أواسط صفر الخير.
وكاتبني أيضاً الشيخ سيدي محمد جعيط ما نصه: [الكامل]
جاءت من اللّسن الأديب الأبرع ... حسناء ترفل في حلي ترفّع
جرت ذيول التيه لما أشرقت ... منها شموس نسجُ حبر أبرع
جاءت وقد ناقت نفوس ذوي النهى ... لورود منهلك الشهي الأبدع
وأتت ولا عجبٌ بأغرب عتبها ... ياما أجلّ عتابها في مسمعي
فالعتب من طرف الحبيب محبب ... في شرعة لعشاق بعد تمنع
وقد أدعت أن الثنا ليَ دارس ... بمعالم الود القديم الأرفع
ورأت نزوح الكتب بين ذوي الوفا ... بين البعاد شهيدها إذ تدعي
كلا لعمري إن شاهد ما ادعت ... هجر بدا عندي لودي المودع
هل بعد تحقيق الحقائق عندكم ... لودادنا لمقره في الأضلع
يوريك تركي للبطائق سلوةً ... حاشا علاك سلوك هذا المهيع
بل إن لي عين اليقين بأنكم ... رمتم مطارحة الحبيب الأشجع
فأريته فتانة الألباب سا ... فرة الحجاب على وداد ممرع
وبها سررت كما تسر نفوسنا ... فوراً بيوم ظهور ذاك المطلع
وطفقت أنظر في لطيف جمالها ... حتى أزالتْ أختها للبرقع
تلك الفريدة قد أتى في طيها ... سحر البين في الطريف المودع
نظمت فضائل سادة سادوا العلا ... من كل شهم ماجد متورع
أصحابِ خلق الخير في غزواته ... حفّت معالمهم بنورٍ أسطع
بمدحكم لكم الجزا والفوز في ال ... دارين والرجعى بأربح ما سعى
لا زال يكلؤكَ الإله بحفظه ... وبعونه وهو المجيب إذا دعي
حتى تعود لهذه الخضرا على ... عجل فأنت ربيع هات الأربع
سيد إنسان عين الدهر، ومن استولى على ملك البلاغة بالباع والقهر، فهو غرة تاج المفاخر، ومصداق كم ترك الأول للآخر، ومن بز في حذق البيان على الفحول، وتحلى بحليتي المعقول والمنقول العلامة النحرير، والناقد البصير، والفاضل الذي لا يفي بمحاسنه التعبير، بدر المعارف، فأني لي أن أصرح باسمه معرفأن وأفضل من حاز التليد والطارف، فلا غرو إن لم أطل ذيل الكلام فالذي ملأ الكون من مفاخره كفى، حرس الله سناه، وأظفره بمناه.(1/398)
أما بعد فإن ودي الأصم مكما تعلم لا يعارض ساطع برهان الوداد، تروح الكتب حين البعاد، وتحقيق الحقائق، بعد مسودات البطائق، ولله در من قال: المودة بانت محاملها وتصح دلائلها بمظنات الفؤاد، لا بمزرورات المواد، وأني لي أن أسلو على الصديق الأوفى، والحبيب الأصفى، والقرين الذي أقتطف منه أدبا ولطفأن وكيف يقع السلو والنسيان، بمغيبك على العيان، ومقرك في سويداء الجلجلان، ودلائل المودة قاطعة البرهان، ومآثر السيادة ساطعة للعيان، فإني لأذكر سيدي كلما طلعت الشمس، أو هب ريح في صباح وأمس أو نجم النجم أو عرض الغيث، أو لمع البرق أو ذكر الليث، أو ضحك الروض حين ما بشر بقدوم شباب الزمان، مثل ما هنا يوم قدومك إن شاء الله على زمرة الأهل والإخوان، فأين للشمس محياه، وللريح رياه، وللنجم علاه، وللغيث ما أسداه، وللبرق سناه، لليث حماه، وللروض سجاياه، ففي كل صالحة ذكراه، وفي كل حال أراه، فكيف أنساه، وأشده شوقاه، عسى الله أن يجمعنا وإياه، إنه مجيب الدوات ومانح العنايات ودمتم في حفظ وأمان، ويبلغك سلام شيخي الجميع سيدي محمد النجار والشيخ سيدي عمر بن الشيخ والسلام، من أخيكم محمد جعيط في 27 صفر الخير سنة 1292.
وكاتبني أيضاً الشيخ سيدي عمر بن أبي الضياف بما نصه.
أدام الله عافية أخينا الأبرع الجليل، الجهبذ الدراكة الحميل، حامل لواء الآداب، الآتي من بديع أساليبه بالعذب المستطاب، ذي الفكر الشفاف، الفرد المعدود بالآلاف، الذي سارت بأحاديث فضله الركبان، وتضمخت بعبير نظامه ونثاره عرصات البلدان، وكيف وهو الناظم الذي كؤوس نظامه تزري بالشمول، الناثر المزرية فرائده بالماس المصقول، الماجد الذي كرمت منه الأجناس وطابت الأصول، تاج المفرق وفضيلة المغرب على المشرق وإكليل العصر ومن أجليت له عرائس الأدب بدون قهر، العالم الكامل، الجامع لشتات الفضائل والفواضل الحبر الحلاحل، وبحر الداب الذي ليس له ساحل، أخي وعضدي والصارم الذي تصول به يدي، أخص بلك علم الأعلام وواحد الآحاد والحجة البينة على قولهم إخوان الوداد من إخوان الولاد، من لم أزل أدير في رياض أمداحه قداحي وكؤوسي، أبي عبد الله سيدي محمد السنوسي، أسبغ الله عليه ملابس إقباله وعرفه عوارف السعد في بكر الزمان وآله.
أما بعد إهداء سلام ألطف من النسيم مسراه، وأذكى مسراه، وأذكى من العنبر شميم رياه، فقد اتصل بنا كتابكم الكريم، المرصع بذلك الدر النظيم، المصحوب بجيوش العتب، لسائر الأحبة عن بخلهم بالكتب، القصيدة الفريدة التي نظمتموها في مدح صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من رجال القيروان، المزرية بعقود الجمان، فهنيئاً لكم بامتداحكم لذلك الجناب الرحب، بإحراز السعادة وأعلاه الكعب، هذا وإني إن رمت أن أقرر ما عندي من الخلوص الذي تألق نوره، وثبت في صحف الإخلاص مسطوره، تضاق عنها واسع القرطاس، وأني لي بعد الرمل والأنفاس، ولو رمت أن أعارض عتابك بجيوش أشواقي الجرارة لعجزتم عن الدفاع، وأخذتم في الاسترجاع، كما نشكركم أن شرفتمونا بإرسال السلام في جوابكم، الموجه لخاصة أحبابكم من جر على الخضراء ذيول التيه والفخر، وبلغ في الاعتلاء إلى أن اقتعد الجوزاء وانتعل البدر، البحر الزاخر، والدر الفاخر، من لم تزل مودته على منوال الصفا منسوجه، الشيخ سيدي محمد بن الخوجه، كما تعرفت منه أن بدركم حل بهالة نابل، ورائد محبتكم قد تمتع بتلك العيون الدعج والجفون الذوابل، فكأني سيدي إذا طابت بها داره، وأماط بها تعبت به أسفاره، وواصل برياضها الصبوح بالغبوق، وأنشد لسان حاله تروع الليالي ثم بعد تروق.
[الطويل]
فما شئت من روض أريض ومنظر ... نضير ومن ظل هناك ظليل
وكأني به إذا طال له المقيل، وكيف وإلى نابل يشتاق كل نبيل، فليكن سيدي بهاته النعمة التي جاد بها الدهر متعتيأن لا زال طائر أفراخه واقفاً على تلك الأغصان والربى، والسلام العاطر رياه، الرائق محياه، من مخلص الود عمر بن أبي الضياف.
وكاتبني الفاضل الذكي السيد محمد الحشايشي بطالعتها أبيات وهذا نصها: [الخفيف]
قم خليلي مبكراً للجنان ... وأطلب الخير من وجوه حسانِ
طاب وقت الربيع فاغتنم الصَّف ... وَوبادر إليه فالعمر فانِ
طيب عيشس اللبيب بالذوق والأن ... س وخلّ موافق ودنان(1/399)
واجتل الكأس بين ورد وآسٍ ... وشقيق بدا كخدّ الغواني
واغتنم فرصة الربيع وواصل ... بنت فكر أتت من القيروان
تسلب العقل والفؤاد بوجه ... وبطوف در منضد وجمان
إن تدر كأسها تر القوم صرعى ... من سلافٍ رحيق تلك المعاني
كيف لا وهو نظم تلك المعالي ... اوحد العصر شمس هذا الزمان
ولما كان ثالث ربيع الأنور وفدت إلى الحاضرة التونسية آيبا يحدوني الشوق إلى بلادي، التي كنت عنها غائباً فرجعت راضياً من قومي وأنا أفضل عن الأمس يومي:
[البسيط]
وما أصاحبُ من قوم فأذكرهمْ ... إلا يزيدهمُ حباً أليّ همُ
وبذلك انتظم شملي بإخواني، الذين ارتضعت معهم أفاويق الأخلاق التونسية في سري وإعلاني، فاتصلت منا الأجسام، وحظي كلنا بغاية المرام، تبين لنا أن أيام السفر إلى تلك الجهات، قد أفادتنا يمن تلك الزيارات، ومعرفة أولئك المخلوقات وعرفنا به فضل الحاضرة عما سواها.
ولكن تبلغ نفسي بذلك إلى غاية مناها فإني إنما لي الأمل في الخروج إلى غير هذا العمل فيا ليت القدر يساعف بقطع الممالك الأوربية، والنظر في عوائد التمدنات التي لم نبلغ منها غلى نيل مزيه، والأمل في الله أن ييسر لنا السفر إلى جزيرة العرب للحصول على حج بيت الله الحرام، والفوز بزيارة نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام، تكون تل خاتمة الأسفار، وإنما يعنيني أن أقيم في بلادي بين هاته الديار، التي هي في نظري من أعز الأمصار، نسأل الله أن يحيطها بسياج الأمن المحيط، وأن يرقيها في مدارج الحضرية ويعز فيها محل خليط. وحين استقر بي القرار في بلادي، وبلغ بذلك إلى غاية مرادي، راسلت جناب أستاذي وعمدتي وملاذي، العلامة النحرير، الفاضل الشيخ سيدي سالم بو حاجب حيث إنه مقيم بقرنة من عمل إيطاليا في بعض مهمات الدولة وأعلمته بإيابي وأرسلت له بعض تحف ذلك السفر وكاتبته بما نصه: [لكامل]
عوجي بقلبي يا نسيمات الصَّبا ... لأفوز من حمل التحية بالحبا
إن كنت مثلي بالفؤاد عليلة ... ووددتِ أن تلقى بذاك ماربا
فاستورف الأظلال في بلد على ... زهر الخمائل أن تفتح في الربى
واستورف التضميخ كم بأريجه ... تبيح من يلقاك مسكاً مطيبا
واستقص ما أن نلت منه بغاية ... تلقى من الآمال أمراً معجبا
وابد اللطافة والظرافة عندما ... تهدي سلامي للهمام محببا
علمِ العلوم أبي النجاة المرتضى ... بمفاخرٍ ومكارمٍ لن تحسبا
فهو الذي أرواحنا تاقت له ... فتطايرت تبغي إليه المذهبا
ترجو بذاك لقيَّ مجدك سالما ... في رغد عيش بالممالك أخصبا
حيتك عوار الصدر يا أبا الروح، وضاحكتك ثغور السعود كلما تغو وتروح، وضمتك بأريج الاشتياق شذايا مودتنا التي لا تزال بحمد الله من أدواحنا تفوح، فهذا اشتياقي قد تناثرت أزهاره من طول الفراق، فهل من سبيل إلى التلاق، فإن البين أتى على أفئدتنا فطارت في أثركم، حيث لم ترض بما نتلقاه من محاسن خبركم، وأنى للنفس أن تكتفي بذلك ممن لم تستطع مزاياها أن تجلو كمالاته بحلاها ولا سبيل إلى تسلي العين عن إنسانها فإنك أدام الله عزك عين إنسان الكمالات وإنسان عينهأن أسير نفوس أبنائك على طول بنيهأن داركة المعقول والمنقول، لخبير بأغوار الفروع والأصول، كشاق دقائق العلوم، ومجلي خفيات الفهوم، إمام أيمة المعارف، المتخلي من مفاخره في أعز المطارف، محيي النفوس بدماثة الأخلاق وراض النفوس ثالث السعدين، المستظهر بمكارمه على القمرين النيرين، العالم العلامة، والحبر الفهامة، المبرز في مضمار كل مناضل، الهمام النحرير الفاضل، من له حاجب وليس له حاجب والدي الشيخ سيدي سالم بو حاجب أدام الله له الحفظ والأمن والسلامة، في الظعن والإقامة.(1/400)
أما بعد التشرف بلثم تلك الراحة، لغير مباشرة لثمها لا أجد الأمنية من الاستراحة، فإن عبد مودتك في دروسك ينهي إلى جنابك تحيات عديدة، وأن لا أمل له إلا رجاء بطلعتكم السعيدة. هذا وإني أعلم جنابكم بأني ألخ ما تضمنه وقد كاتبني أبقاه الله تعالى ببا يملأ القلب سرورأن ويرصع تاج الآداب منظوماً ومنثورأن فرأيت أن أجعل هاته المكاتبة العزيزة لرحلتي خاتمة، وهي ليس لشيء من منشئها كاتمة، فلين هاته الرحلة أن تمت بهذا الختم الحسن، حيث أحرزت مثل هاته المكاتبة التي هي من أعظم المنن، وهذا نصه: الفاضل لكي اللوذعي، والبارع الأديب اليلمعي، المحيي من بيت مجده العلمي العلمي ما تنوسي، منزلة أعز أبنائي الشيخ سيدي محمد النسوسي، أدام الله خفظه، وأزل من سائر العرفان حظه، حتى لا تزال ترى شوارد الأدب، تنسل إلى وكر فكره الثاقب من كل حدب.
أما بعد التحية، الملائمة للوصلة الروحية، فقد شرفني كريم كتابك، وشنفني النظم والنثر من نفائس آدابك، فبعد قض ختمة العاطر، والاكتحال بمداده الذي هو جلاء النواظر، حمدت الله تعالى على نعمة العافية المستدامة، ثم على رجوعكم من السفر المرغوس بكل نجح وسلامة، ولو لم يكن من ذلك سوى الزورة القيروانية الكاملة للمخلصين أمثالكم ببلوغ كل أمنية، لكان غنماً كافيأن ومن مشاق السفر شافياً مع ما أشرتم إليه من تنبهكم للمقاصد التي تقصد من السفر، الذي هو كما قيل تهذيب وظفر، من توسيع دائرة العرفان، بمخالطة صنوف الإنسان، مشاهدة الاختلاف الواقع في عادات البلدان، وبالجملة فتوسيع ظفر المكان بمثابة طول الحياة الحاصل من سعة ظرف الزمان، وإطلاق عنان القلم في هذا المجال، ربما يخرج البطاقة عن مطابقة الحال، وقد نعمت نعم الله بالك، ونفى بلبالك، قريحتي الجامدة، وفكرتي التي هي لعدم المحركات خامدة، بالقصيدتين البديعتين، بل الخريدتين الرائعتين، فلقدت منهما منوالي الجد ولهزل كل برد قشيب، وحزت بهما منم أعلام البراعة المعلى والرقيب، ولما أعدت النظر في النونية وما بها من فنون الفتون، ذكرت قسم الله سبحانه بالقلم والنون، ولم يسع الفكر بعد استكشاف كنوناتهأن إلا أتن يسجد شكراً لله في محاريب حواجب نوناتهأن أما السحير النابليه بل السحرية البادلية، فحسبي أن أتمثل فيها بما قلته في مثلها: [السريع]
يا بنية الألباب ما نابل ... منشأك الأصلي بل بابل
كما أني لما أعدت النظر في مكتوبكم المذكور، وما احتوى عليه من جيد المنظوم والمنثور، عاودني الطرب ممزوجاً بالخجل، وصرت من نسبة تزكية النفس إليكم على وجل، واستشعرت حينئذ النفس، شاة الابن لأبيه وبالعكس، فأحجمت عن جوابكم تقديماً لدرء المفاسد على جلب المصالح، ثم استرجعت أن آخذ في هذه الجزئية بقول سمير الرابح، من راقب الناس إلخ فعند ذلك أخذت القلم عاجلأن وجاريتكم في ذلك الميدان وإن كنت راجلأن فقلت: [الكامل]
ما نسمة سحرية هبت صبا ... فنشقت منها عرف أيام الصِّبا
أو عرجت نحو الجنوب فأحدثت ... بين المضاجع والجنوب تجنبا
وأتى الجنوب بنقل ريّا أرضنا ... أشهى وأنعش للفؤاد من الصِّبا
قد ضم الأردان منها الرند وال ... نسرين لما صافحت تلك الربُّى
وروت حديث أحبتي مستجمعاً ... والنفس تفهمه بلحن معربا
والبحر حاول لأن يكون مترجما ... بجميع ألسنة اعتناء بالنبا
فتزاحمتْ في الشعر أنفس موجه ... وغدا بذلك مبهماً مستعصبا
وإذا وكالاتُ المقالات تكدرت ... بالمنطق الحاليّ أصفى مشرباً
بأرق طبعاً من رقيم موجز ... أبدى به مهديه ودّاً مطنبا
قد حمّل الآداب أمضى ما على ... فرض افتراض البربري ابنٌ ابا
در نظيم منه منظوم حكى ... حسن التناسق فيه ثغرا أشنبا
يروي صدى الصادي إلى مغناه إذ ... ويثيب ماس رويه المستعذبا
ألف وباء قبلها علمتني ... كيف اصطناع السحر من ألف وبا
وكأن منشيه رأى ترك التزا ... م الوزن في مهدي لجواهر أنسبا
فغدا يجود بأجودِ المنثور من ... غير اهتبالٍ أن يقدركم حبا
قلم جرى بمجال نظم ملجما ... ثم انبرى طلق العنان فلا كبا
هذا وكم قد أخصبت أنواره ... من روض فضل طالما قد أجدبا(1/401)
إن كنت أره من ذهاب شبيبتي ... شعراً يلوح براس شعري أشيبا
فالآن ليس يسؤوني إن فاتني ... سن النجابة حيث أدعى منجبا
دم يا محمد في المعارف راقياً ... ثبتا مفيداً للأنام مهذبا
فبقلب تصحيف اسم نسبة بيتكم ... لا زال ركنا ثبت تونس مجتبى
تبه خادم العلم وأهله سالم بو حاجب في 14 جمادى الأولى سنة 1292.
وناهيك بما تضمنه هذا المكتوب بما لاح على أبدع أسلوب وكأن العبارات لا تطيق شرح مزاياه، التي يجتلي من مراياه لا سيما القلب والتصحيف، الذي ارتكبه آخراً على الوجه المنيف، حتى صير سنوسي ثبت تونس، وهذا من بدائع المعاني التي هو لها خير مونس، وهذا المعنى إنساني به ما يعجب من التصحيف، الذي استعمله في لقبي المذكور، المقدس الشيخ سيدي محمود قابادو الشريف حيث ألغز لي بهذا الشعر النبيه، وهو قوله: [السريع]
تبينوا بيتي ففي تاجه ... فريدةٌ تزهى بها الطرَّه
والفرقدان تحت أقدامه ... فهو لجبهات العلا غرّهْ
وقد أجاب عنه العالم الشاعر الشيخ الحاج محمد طريفة المفتي بصفاقس فقال: [السريع]
نعم تبينا لغزك قد ... أبان ما يبدي لنا بشره
فلم يكن إلا سنوسيّ إذ ... معارف قد ملأت صدره
لكن تعجبنا لبيتك مع ... صغرٍ به كيف احتوى بحره
فعنى بالفريدة نقطة النون، وبالطره سينه الأولى، وجعل نقطتي يائه فرقدين تحت القدمين ليزيده إيضاحاً وشمولاً. نسأل الله أن يرحم السلف ويبقي الخلف، إنه ولي ذلك وهو حسبي ونعم الوكيل.
وكانت نهاية هاته العجالة في رجب الأصب سنة 1292 اثنتين وتسعين مائتين وألف، على يد مؤلفها الفقير إلى ربه تعالى عبده محمد السنوسي خادم العلم الشريف أخذ الله بيده. آمين,
الرائد التونسي
هو صحيفة عربية تنشر كل أسبوع يوم الأربعاء عل لسان الدولة تتضمن الأخبار السياسية على وجه لا أذية فيه لإحدى الدول والأشخاص إلا أن يكون محكوماً علي من قبل الدولة، وقد نشر هذه الصحيفة في المملكة التونسية المشير الثالث محمد الصادق باشا باي في أوائل دولته سنة 1277 سبع وسبعين ومائتين وألف. وأول من تولى خطة إنشائها الشيخ محمود قابادو الشريف ثم تناقلتها الأيدي إلى أفضت تلك الخطة إلى العبد الضعيف أوائل شعبان الأكرم سنة 1293 ثلاث وتسعين ومائتين وألف. وقد التزمت فيها إنشاء فصول في التربية والتهذيب جعلتها مقدمة لكل عدد زيادة على ما يعرض من الأدبيات، وقد حسم موقع جميع ذلك عند أرباب الصحف وتناقله بعضهم ووصلني من بعضهم مكاتيب خصوصية تتضمن تقريظ ذلك الصنيع.
وأول من كاتبني في هذا الموضوع مهنياً بمباشرة خطة إنشاء الرائد هو أستاذي العالم الشيخ سيدي سالم بو حاجب وهذا نصه ما كاتبني به: الجهبذ اللوذعي، النحرير اليلمعي، ودودنا وخدننأن وإن شئت قلت ابننأن الشيخ سيدي محمد السنوسي أدام الله حفظه، وصل بعين العناية لحظه، أما بعد السلام الأتم فقد حظيت بمكتوبكم المؤرخ بالأسبوع الماضي، وسرني كثيراً مال تضمنه من إحالة إنشاء الرائد إلى أفكاركم السليمة، وقريحتكم التي لا تزال تهطل على حدائق المهارق ديمة، فالآن يحق على الرائد أن يصدق قومه، ويقدم على الأمس يومه، ويوردهم من المناهل الأدبية أعذبهأن ومن المراتع الأنسية والفواكه التونسية أخصها وأطيبهأن فالله يتولى عونكم على إنارة وجو الإعلام، وصونكم من مزالق أقدام الأقلام، والسلام، ولم يتيسر لي مكاتبته بعد ذلك إلا بعد مضي مدة.
فكاتبت جنابه بما نصه: [الوافر]
أدير عليك مترعة الكؤوس ... بخمر منه إحياء النفوس
ومل تلك التي قد عتقوها ... قرونا وهي في بيت المجوس
ولكن هذه خمر حلال ... بوصل تحية النجل السنوسي
حياك لسع والإقبال، وحباك اليمين بغاية الآمال، أيها العالم الذي جاءت فاؤه بالسين، إيذاناً باستمرار معافاته على ممر السنين، العمدة الجليل، والفاضل الذي ليس له مثيل، تاج جبهة المفاخر، ومصداق كم ترك الأول للآخر، علم العلوم، ومعدن الإبداع في المنثور والمنظوم، سيدي وأستاذي، وعمدتي وملاذي: [البسيط]
لسنا نسيمك إجلالاً وتكرمة ... وقدرك المعتلي عن ذاك يكفينا(1/402)
ويلي ذلك هو ابنكم قد ذهب به الشوق كل مذهب، ولم بجد غير مناهل المكاتبة منهلاً أعذب، بعد أن حالت بيني وبينها الأشغال التي تؤول إلا فخركم على كل حال، لا سيما وأخباركم نتلقاها في كل أسبوع وتحقيقي لإعذاركم إيانأن هو الذي سهل علي هذا التقصير، مع أن نشر المودة مع كل خافقة يسير، والسلام.
فكاتبني مجيباً عن ذلك بما نصه: [الوافر]
أدرت حميت صرف الخندريس ... كؤوسا قد نفت كرب النفوس
على فئة تعتَّقَ محتساها ... لبيت الشعر لا بيت المجوس
وتؤثر أن يكون لها مديراً ... مدير الرائد الشيخُ السنوسي
أما بعد السلام عليك أيها المدير البارع، والمستقر ببحر الآداب بلا منازع، فإن كريم كتابك قد شرف وشنف، وأزرى ببدائع من وقف واستوقف، حيت أرانا بمنظومه ومنثوره، المنخرطين في أسلاك سطوره، كيف يمزج الرحيق الحلال، بقراخ العذب الزلال، ولتشريك حاسة الشم مع السمع والبصر والذوق، أخذ يقذف ند الود فيما لدينا من مجامر الشوق، الله يشكر صنعك، ويديم للمستفيدين نفعك. أما من أشرتم إليه من الاعتذار عن تأخير المكاتبة، فهو مشترك الإلزام على فرض توجه المعاتبة، ثم إن كنتم تستفيدون أخبارنا مما نكتبه لعمدة الجميع، منحن أيضاً نتعرف أحوالكم السارة من رائدكم البديع، الذي لا يتخلف عنا في غالب الأسابيع، ولطالما نزهت حدق الفكر في حدائقه اليانعة واستعذبت موراد تهذيبه التي نرجو أن تكون بحول الله لأبناء الوطن نافعة، والله المسؤول أن يمدكم بمزيد المعونة، ويحمي من الأكدار والعوائد ساحتكم المصونة، والسلام.
ورد علي مكتوب من مدارس إحدى مدن الهند مرسل من الفاضل محمد نصر الدين محرر صحيفة شمس الأخبار الهندية وهذا نصه: الماجد الأثيل، والأديب النبيل، الشيخ محمد السنوسي، منشئ الرائد التونسي، دام لطفكم.
أما بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فقد رأيت في جريدتكم الرائد التونسي أنكم وصفتم جريدتي شمس الأخيار المدارسي بخير أعزني وأفخرني وحثني على أن أشكركم وأجري بينكم المراسلات فإن المسلمين هم إخوان أينما كانوأن وإنما تحصل زيادة الألفة والاتحاد بالمراسلات إذا كانوا بعيدين، فنعرض على جنابكم بغاية الرجاء أن تتفضلوا علينا بإرسال جريدتكم في كل أسبوع على اسمي مبادلة ومعاوضة بجريدتي شمس الأخبار المدارسي وهي من أشهر الجرنالات الهندية وأعظمها قدراً فهذا غاية لطفكم ومنكم وإن تريدوا المبادلة والمعاوضة بجريدتي فأرسلوها إلي أيضاً فإني أرسل إلى حضرتكم ثمنهأن وليكن من معلومكم أن ورود الجرنالات من تلك الممالك المحروسة إلى طرفنا ينتج فوائد كثيرة للدولة التونسية الإسلامية وللمسلمين فهذا ما لزم الآن من الاطلاع. والله ناصركم ومعينكم وحافظكم من شر الحاسدين ومكر الماكرين، والسلام ختام من المحب محمد نصر الدين مدير شمس الأخبار المدارسي في 18 محرم 1294.
فكاتبته مجيباً عن ذلك بما نصه: أيها المحب لخير أهلي ملته، وإن شسع عنهم ببلدته، أدام الله يراعك يروع أعداء الإسلام، ويحث على الوحدة التي هي سبب كل انتظام، أخص بذلك البارع الفصيح، صاحب الرأي النصيح، والحق الصريح، أخا العزائم الصادقة التي أعلامها مع شمس النهار خافقة، حضرة الفاضل الشيخ محمد نصر الدين المدارسي، أدام الله بمواصلته إيناسي، وأنجح سعيه في كل الأقطار، بما ينشره من شمس الأخبار، ما دام الليل والنهار.
أما بعد إهداء تحية السلام، إلى حضرتكم التي سعادتها من أعز المرام، فقد شرفني منك كتاب كريم، من أقصى الأقاليم، خاض في طلب مواصلتنا معظم البحور، وجابه من مهامه البراري كل موماة لا يمكن فيها العبور، طلب المواصلة للحمة الإسلامية بالخصوص، فرأينا مصداق حديث المؤمن كالبنيان المرصوص، فلا زالت بفضل الله هذه الأمة، متظاهر إلى ما يهمها من المصالح المهمه، فحيهلا بذلك الكتاب، وما احتوى عليه من فرط اللطف والاقتراب، حيانا عم وجه وسيم ولطافة تزري بعليل النسيم، إذ لاحت دواعي المودة الدينية توشيه، وتنادي بحسن سريرة منشيه: [الطويل]
كتاب أتى من شاسع الهند قاصدا ... مواصلة الدين المتين بتونس
فوافى إلى قلب خلي فأحكمت ... روابط إذ جاء من خير مونس(1/403)
فتلقيناه بالإجلال ورأينا من أعظم نتائج الأعمال، وعدت مبتهجاً بوصول هاتيك الصحيفة التي لكل ثناء مستحقه، ولذلك أنشدت لوصلها بعد بعد الشقه: [الكامل]
عجباً لها أيذوق طعمَ وصالها ... من ليس يأمل أن يمر ببالها
كلا فلا عجب لسماحة مانحها الفاضل الكريم، الذي أحرز من قلوبنا أيمن الحب الصميم: [الطويل]
وكم من محب قد أحب وما رأى ... وعشق الفتى بالسمع مرتبة أخرى
إيه أيها الماجد أعد علي ذكر إخواني، الذين تقاصى عنهم مكاني، وتالله إن تحرك الدم الإسلامي، لا يبرح يتزايد النامي، وأنى للروح، أن تصبر على هذا النزوح، مع ما أحاط به العلم خبرأن مما لن تستطيع معه النفس صبراً نسأل الله أن يقرب هذا البين تحت راية الدين ويلي هذا أيها الأخ في الله يعز علينا أن تطلبوا منا صحيفتنا على الوجه الذي ذكرتموه في كتابكم، وصرحتم به في خطابكم، من أن إرسالها يكون على وجه المبادلة، أو أنه يكون بالثمن وما في ذلك من معامله، على الله عنك لماذا لا تكون المواصله، بسسب تواصل الدين حاصله، وهذه في شريعتنا أعظم القرب لأرباب الطاعات، فهلا تسمح لنا أن نتخذ هذه المواصلة قربة لرب القربات، لعلنا نستظل بها تحت ظل عرشه في يوم الحساب. أما أنا فإن مودتي لأهل ديني تحملني على مساعدتهم على ما تقبر به عيني، وأي ثمرة في حياتنا إن لم يكن سعينا في فوائد المسلمين جاريأن وهل للمسلم أن لا يساعد أخاه إن كان داريأن فليعلم أخي في الله أني أواصل الجهد في مواصلتكم في كل أسبوع، بثلاث أعداد من رائدنا إذا كنتم تستحسنون منه ذلك الموضوع، وزيادة على ذلك فإنه تصلك أعداد من الرائد، قد انتخبتها لحضرتكم بما اشتملت عليه من الفوائد، لعل موقعنا يحسن عندكم، وإن تفضلتم عنا بعد ذلك بصحيفتكم وفق رغبتنا فتلك فضيلة قد شرفتم بها عبدكم، ثم أستمد من مزيد فضائلكم التي واصلنا بينها وبيننا إن كانت بأقطاركم صحائف عربية تواصلون بينها وبيننا فترسلونها إلينا لنشاهد عيناً كما أنا نؤمل من خصية حضرتكم أن تسمحوا لنا بمكاتبة تشرحون لنا بها حال تلك الأقطار، وحال العلوم الدينية هنالك والفنون العربية والأشعار، فإنا منها في عماية البعاد، ولا نعرف لها ما يشتفي به المراد، بل وإن سمحتم لنا بمقابلة تشرح لنا هذا الشان، فإنما ننشره في هاته الممالك بين أهل الإيمان، نسأل الله أن يجمع كلمة الإسلام بجاه النبي عليه الصلاة والسلام. حرره الداعي لحضرتكم بنجاح المساعي، وخصب المراعي، معيد السلام على جنابكم خادم العلم الشريف بجامع الزيتونة عبد الله محمد السنوسي منشي الرائد التونسي، أخذ الله بيده. وكتب في 27 صفر الخير سنة 1294.
ووردت إلي مكاتبة من البارع الشهير تادرس أفندي وهبي معلم مدرسة اللغات بمصر القاهرة، وهذا نصها:(1/404)
إلى من بلغ الآداب المراتب العالية، وتولى في دواوين الإنشاء المناصب السامية، وذاع صيته بالبراعة في جميع الأقطار، واشتهر بالفضائل الغزيرة اشتهار ضوء الشمس في رابعة النهار، حفظه الله وأبقاه، وأدام عليه نعماه، فقد كلف منذ مدة بمعاني الأدب، والوقوف على أسرار لغة العرب، حيث ثبت أنه من أجل المطالب، وأعز المآرب، بل هو أولى ما فوق اللبيب سهم فكره إليه، وأحلى ما دأب في تحصيله والانعكاف عليه، ولم أزل لهجاً بذلك مع غاية الاجتهاد، سالكاً أقوم المسالك في تحصيل المراد، ولا سيما بمطالعة الصحائف الخيرية، والجرائد النشريه، التي كثرت خصوصاً في هذا العصر، وعم نفعها الأنام في كل مصر، بما اشتملت عليه من أخبار المفيدة، والنوادر الفريدة، والنصائح الجمه، والفوائد المهمه، وغير ذلك من المنافع التي يجل إحصاؤها ويعجز قلم البليغ استقصاؤهأن حتى إذا أسعدتني المقادير في ذات يوم، بزيارة حضرة أحمد أفندي العشي مع بعض القوم، تكرم علينا من بعض إحسانه، ومزيد فضله وامتنانه، ببعض صحف الأخيار، المحتوية على محاسن الآثار، فعند المطالعة فيهأن والوقوف على حقائق ظواهرها وخوافيهأن عثرنا على صحيفة الرائد، المشحونة بفرائد الفوائد، وإذا هي روضة فضل ثمرات فنونها يانعه، وحديقة أخبار اشتملت على ما رق من الفوائد النافعة، بل هي مرآة الأحوال، ومرقاة الآمال، وفلك السياسة المشحون، وكنز الكياسة المدفون، قد رصعت من جواهر البديع بمارق وغلأن ورصفت من بدائع الترصيع بما دق وعلأن فضلاً عما زينت به من الضروب الرائقة والأساليب الفائقة كيف لا وهي للأديب الفاضل، والأريب الكامل الذي لا يجاريه في ميدان البراعة مجار، ولا يباريه في حلبة الكمال مبار، حضرة السيد محمد السنوسي حفظه الله وأدام علاه. فحمدت الله سبحان وتعالى حيث وفقني للوقوف على هاته الصحيفة، والتقاط درر ألفاظها الرائقة المنيفة، وكانت قد طالت علي شقة الانتظار مدة، وبلغ الشوق مني لرؤيته حده، فقد ثبت عندي الآن صدق المثل الذي سارت به الركبان، من قول أهل الأدب ليس الخبر كالعيان، فتقبل يا سيدي من مثلي هذه الشهاده، بلغك الله الحسنى وزياده، نعم إني لست ممن يستحق أن ينظر إليه بعين الاعتبار، كما أني لست من فرسان هذا المضمار، غير أني كلفت بأن أكون من المقربين إليك، وإن تعاليت عن أن يكون مثلي من المحسوبين عليك، فبادرت بتحرير نميقتي هذه لجنابك، رجاء أن أحظى بانتظامي في سلك أصحابك، وفقك المولى لما يحبه ويرضاه، والسلام عليك ورحمة الله.
فكاتبته مجيباً عن ذلك بما نصه: أيها البارع الذي بذ في حلبة الإنشأن وتصرف في نفائس الأدب كيف شأن الشهم الفطن، الدراكة لأسرار ما خفي وبطن، صاحب الأخلاق الجميلة، والمكارم الجليلة، الأوحد الذي أجرى من نهر المفاخر سلسبيله، فنال من الفخر كل مقصد ووسيلة، حمى الله منازك، وقارن بالسداد أفكارك.
أما بعد فبينما كنت أنظر في مروج الأدب، وأتخير إليها المدب، حتى وقفت على أزهار رياضهأن وارتشفت سلسبيل حياضهأن إذ ضمخت أرداني بنفخ الطيب، وتتبعت من أحرز من أقداحه المعلى والرقيب، فإذا مسعدات الزمان، قد أتاحت إلي فرائد الجمان، وقلائد العقيان، في طي صحيفة ذات أفنان، بها من كل فاكهة زوجان، فرأيت منها ما ملأ القلب سرورأن والسطور، حبورأن قد تنمق منها بياض الطرس، بحسن سواد النقس، بما تبتهج به النفس، فطوراً كنت أرى ذلك من بقايا الليل في طالعة النهار، وتارة نراه أشبه شيء بدعج العيون الأحوار، على أن أيقظني ما فيها من المعاني الفائقة، والمباني المتناسقة، فأيقنت أنها منحة قد ساعد القديم وتحملت من مهديها نفائس الدرر، فيا من كتاب قد تحمل بنفائس الغرر: [الطويل]
كتاب أتى من مصر يعبق نشره ... وقبل افتضاض الختم قد بان بشره
رأينا به البديع منمقاً ... وعن محض ود قد تكشف سرُّه
وناهيك به من كتاب، يغازل الألباب صاغته قريحة لسان الأمم، وفارس حلبة الطرس والقلم، مجمع الألسن واللغات، ودراكة المعاني بسائر الطرقات: [السريع]
ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد(1/405)
واهب الدر الثمين، ومجرى مناهل التعليم بالعذب المعين، الشاب الظريف، صاحب الخلق اللطيف، علي الكعب علي المتنبي، تادرس أفندي وهبي، لازال سعيه مشكورأن وبكل مزية مذكورأن فاتخذته أعظم عده، لمواصلة المودة، وأنى للبين، أن يقصر الخلة على العين، فشكراً لهاته الهبة العظيمة، التي اتخذتها فخراً وتميمه، وكفاني شهادتها التي تشهد لصاحبها بأعز شيمه، وإن كان استحسانكم لصحيفتنا التونسية، مما يؤكد أنكم إنما نظرتم لنا بالعين الرضية، وبذلك بادرت إليكم بإرسال أعداد هذا الشهر مع عدد في كل أسبوع، لعلكم تستحسنون منه ذلك الموضوع، وعلى كل حال فإنا نرجو من الله تعالى أن يحفظنا من مزالق الأقدام، ومزلات الأقلام، حرره خادم العلم الشريف بجامع الزيتونة محمد السنوسي، منشي الرائد التونسي، أخذ الله بيده تحريراً في 25 ربيع الثاني 1294 أربع وتسعين ومائتين وألف.
وقد أعاد علي المكاتبة مجيباً عن ذلك بما نصه: نخبة العلماء الأعيان، وعمدة فضلاء الزمان، العلم الشهير، والعلامة النحرير، صاحب المآثر المأثورة، والمفاخرة المشهورة، والمقالات الفريدة التي سارت بها الركبان، والرسائل المفيدة التي تشهد لجنابه بالفضل والفوقان، وأحرز قصب السبق في ميادين البيان، أدام الله إجلاله، وحرس بعين عنايته كماله.
أما بعد فبينما أنزه الطرف في رياض الأدب في بعض الأيام، مغتبطاً من أفنان فنونها ما نطفي به الأوام ويشفي من السقام، منكباً على مطالعة صحف الأخبار، المنبئة عما حدث من الوقائع في جميع الأقطار، حظيت بجريدتكم الغراء التي طالما تشوقت إليهأن وتشوفت إلى اجتلاء محاسنها والاطلاع عليهأن فاستدللت من رقة ألفاظها على أنك من أفراد فحول الرجال، السابقين في ميادين المقال، البالغين أسمى درجات الفضل والكمال، فكان ذلك باعثاً لي على تحرير نميقتي السابقة إليك، المتضمنة بعض ما يجب من الثناء عليك، وقد عددت ذلك من اعز المقاصد الجليلة، والوسائل الأدبية الجميلة، حيث إن دأبي التودد إلى كل من نبغ في الأدب، وبلغ من إحراز المعالي غاية الأرب، وإذا بكتاب منك قد تحمل نفائس الأداب، ويأخذ ما انطوى عليه من السحر الحلال بجامع الألباب، سرحت النظر في رياض ألفاظه الرائقة، معانيه الفائقة، ومبانيه المتناسقة، فأيقنت أني قصرت في الثناء عليك، بل أخطأت في إرسال مثله من التحرير إليك، لاسيما بما تضمنه من إرسال الرائد في كل أسبوع إلينأن وتضلكم بهذه المنن الكبرى والنعم العظمى علينأن ولم أعلم بأي ثناء أثني على كمالك، أم بأي لسان أشكرك على فضلك وإفضالك، وقد شاع صيتك بالبراعة وذاع، وملأ في كافة الممالك الإسلامية وغيرها الأسماع، حيث إنك القائم بالذب عن حقوق الأمة، المناضل بسنان اللسان عن مصالحها المهمة، فأطرقت خجلاً في ذلك المقام، والتمست عذراً ينفي عني الملام، فلم أجد سوى إحكام المحبة والوداد، فاعتمدت عليهما في ستر ما فرط مني على غير المراد، ثم لما كانت الهدايا أعظم عده، لمضاعفة المودة، أحببت أن أهديك بهدية فائقة، تكون بمقامك الجليل لائقة، فلم ألف افضل من العلم الشريف، الذي اشتهرت به في سائر الأقطار وقصرت همتك على درسه آناء الليل وأطراف النهار إليك برسالتي الموسومة بالخلاصة الذهبية، في علم العربية، مع اعترافي بأنها من سقط المتاع، لاتستحق أن تشتري ولا تباع، نعم غذ لحظتها الهمة العالية، وفازت بالرعاية السامية، اكتسبت شرفاً يتقيد في صحف الأخبار، ويتخلد في بطون التواريخ على ممر الإعصار، على كل حال، فالرجاء قبول هذه الهدية وتبليغ الداعي بذلك غاية المقاصد والأمنية.
كما أني أرجوك أن لا تحرمني رسائلك على الدوام، ومني إليك مزيد السلام، والتحية والإكرام الداعي تادرس أفندي وهبي معلم اللغات بمدرسة حارة السقائين بمصر القاهرة تحريراً في 27 ج الأولى سنة 1294 أربع وتسعين ومائتين وألف.
وكاتبني العالم الفاضل الشيخ ابراهيم الأحدب رئيس الكتاب بالمحكمة الشرعية ببيروت الشام ومنشيء صحيفة ثمرات الفنون بما نصه: [مجزوء الكامل]
نبهت بالحدق النواعسْ ... لهوى فواتكها الفوارسْ
وصبوت من بعد المشي? ... ?يب إلى لقا الغيد الأوانس
وهفا بلبي سالف ... أو عارض في خدّ كانس
كنست بقلبي غادة ... فتانة له في الكنائس(1/406)
غراء شمس إن بدت ... تسبي بطلعتها الشمامس
وجبينها للمشتري ... إن سام مجلاه يماكس
رومية هنديها ... عالي الهوى فالقلب قابس
والحلي راح بصدرها ... لقلوبنا يبدي وساوس
حملت بطي إزارها ... ما زاد في أوزار بائس
تخطو فيبصر ذو الهوى ... فوق الكثيب الغصن مائس
قد كان لي من وجهها ... بشر يريني الظبي آنس
فالآن أنكرني بها ... حظ لآمالي يعاكس
ضحك المشيب بعارضي ... فرأيت منها الوجه عابس
فعليّ أن اعطي هوى ال? ... ?غادات والغيد الكوانس
وأحيل أغزالي بها ... مدحاً لها الإحسان حارس
وأخص فضل محمد ... منها بسوم غير باخس
الفاضل النَّدب الذي ... آدابه تجلي عرائس
مولى بدائع علمه ... شرحت صدوراً للمجالس
قد ألبس الآداب من ... حلل الثنا أبهى ملابس
ولنشرها قد قام يج? ... ?هد نفسه رغماً لجالس
قد رادَ رائدُ فكره ... حكماً تسوس أمور سائس
تجلي فتجلو ما به ... رغمت لشانيه معاطس
جلّى بها سبقاص فلم ... يلحق خطاه جري فارسْ
بعلاه تونس آنست ... مولى لعلياها مؤانس
فزهت بآدابٍ له ... لم تبتذلها كف لامس
واستوضحت بالدروس من? ... ?هُ معالماً كانت دوارس
إنشاؤه ينشي لنا ... سكر النفوس من النفائس
أهديه ذات عصابة ... للشكر تهزأ بالقلانس
حسبتْ عقود جمالها ... فجرت عليه بشرط حابس
لولا ارتيادُ ثنائه ... بقيت بخدر الفكر عانس
فأقبل محامدها ودع ... منْ وجهه بالذم دامس
لازلت تلبس من برو ... د الحمد ما يصفو للابس
ما طاب غرسك في ريا ... ض الفضل من طيب المغارس(1/407)
وصلة الأدب، تقتضي بما تقتضيه لحمة النسب، وتحمل البعيد أن يحل بالقرب إلى صاحبه من كل حدب، وحكمة فنونه تحكم على الأديب أن يتفنن في ترسله وإنشائه، وأن يحمل يراعته أن تسجع بما تزهو به أوراقها زهو الروض بسجع ورقائه، فلهذا جنيت من طرح ثمرات الفنون، كما راد فكري أيها المولى الجليل في رائده ما قرت به عيون، وأتى بفصول وصلت بآدابها الحكم، وفصلت عقود من البادئع روائع بحلي ذات البند والعلم، فراق منثورها في ذلك الروض الأريض، ورق سجع ورقها في نواره فنظر إليه الحسن بطرف غضيض، وقد تعرف بذلك خليل ودك ابراهيم على رغم من لا يطيب له نشر، ووقف على الدقيق من جليله الذي حث أسراب المعاني فطاف نشره بالحشر، فاعترف بأنك بديع الزمان، وحسان البلاغة وسحبان البيان، حيث بعثت هؤلاء القوم بعارضة بيانك، ونشرت من محاسنهم ما زاد حسناً من إحسانك، فأنست بك تونس ولم تشك وحشة بفقد الأديب، ورأت من أنفاسك أبا الطيب فلم تبك من ذكرى الحبيب، وقد باهى الغرب بآدابك الشرق، وأدرك بك الجامع ما بين القطرين من الفرق، إذ كان لذكرك في مفرق غانية الأدب أطيب عبق، ولشكرك بكل لسان ما يسوغ في لهاة الولي فيدع العدد عاني شرق، (فإنك الفاتح لما اغلق من أنداب أبواب الفنون، والخاتم لما سبق من آيات الفضائل التي عظمت لها شؤون، ختمت بك يا محمد رسل البديع فلم تصدق بدعوى رسالة لسواك، وأتى كلامك بما هو فوق طوق البشر من معجزه الذي وصلته بكل كرامة يداك، ولا تنكر كرامات محمد عند الله ومعجزاته، وقد جاءت خوارق للعادات في دعوى الرسالة آياته، ولا عبرة بمن جحد الحق كفرأن وزاد بإصراره على الباطل إصرأن وإن ابراهيم الذي وفىّ مصدق بدعواك، ومتشوق إلى زيادة تصديق الخبر بالخبر عند رؤياك) وثناؤه متوال عليك وغن كان من أهل السنة بلامين، وهو يحب الحسن ولا ينسى ما عليه في تونس أيادي الحسين، كما لايزال يرتل آيات الشكر في صفحة لنجل اسماعيل، ويعترف أن رقيق فضله عليه في كل حين جليل، فاعرف ذلك ايها المولى الكريم، واحفظ بما يكون صنائع النشر خلة ابراهيم، وأقبل هاته الأبيات التي استوحشت من سواك وهي بك أوانس، وقد أحدق بها الحسن فتشبهت بها الحدق النواعس، والله تعالى يديم يراعك قائماً بتسطير الحسنات وإن كان يعبد الله على حرف، ويخلد عرفك في أولياء محبتك بما يصيب له على رغم معاطس الأعداء عرف، ويفتح على هذا المحب من الخير ما لايغلق له باب، ويجعل خطى قلمه غير خاطئة في ثنائك على طريق الصواب، اللهم آمين في ذي القعدة سنة 1297، الداعي كتاب محكمة بيروت الشرعية محرر ثمرات الفنون ابراهيم الأحدب والسلام.
وكتبت إليه مجيباً بقولي: [مجزوء الكامل]
بسمت لنا عن ثغرِ لاعسْ ... فسبت بكسر جفون ناعس
عربية الأعراق قد ... أزرت برائعة الكنائس
تهتز من خيلائها ... تيهاً على شم المعاطس
وتجر ذيلاً مثلما ... قد جر منه الذيل طاوس
وتميس في أردانها ... فترى جواذب قدّ مائس
وهناك تستبيء النهي ... وتبين فتكاً بالفوارس
فترى القلوب تذوب في ... أرجائها من نار قابس
لكنها كانت سلا ... ماً وهي برد في المجالس
إذ مسها إذاك اب? ... ?راهيم مصداق النفائس
المرتدي من فخره ... وكماله بحلي الملابس
من قد زهت آدابه ... فسما بها طيب المغارس
شيمت من الشام الذي ... شادت به فخر العرائس
ولمثل ذاك أنا بها ... في تونس الإيناس آنس
وردت كما جاء الشفا ... للذ من الحيوان آيس
فغدت مبتهجاً بها ... أروي حلاها للمجالس
وأرى التصابي بالمها ... لا أختشي من لوم حارس
وأقول إني للهوى ... نبِّهتَ بالحدق النواعس(1/408)
بمعيشك في رياض الهوى أيها النسيم، تحمل ما عليه الفؤاد قد انطوى مما لعلك تؤدي به تحية ابراهيم، وإن كنت قد صافحت رياض اللهو عليلأن ومررت على خمائلها بليلأن فضعفت عن حمل تحية يؤدي حملها سر التعظيم والتبجيل، ويبقى حديثها يرويه جيل بعد جيل، فإني لأستحملك من سر الوداد ما تتضمخ به الأردان، في القرب والبعاد لتتلقى من فتيق مسك المودة ما لم يزل في الفؤاد كامنأن وتدخل به مقام ابراهيم ومن دخله كان آمنأن فهذا مقام ابراهيم الذي وفى، وأبان من مفاخر بيانه آية لاتخفى، فقد رفع العوائد في شعره البديع من كل بيت، وأحيا صريع الغواني بعد أن كان أشهر ميت، فيا لله دره حيث أبدع المعاني وأحكم بيانها ترصيعاً وأفصح عن دقائق لم يحط واحد بها تعريفاً فكان فصيح اللسان والقلم، إن نثر أو نظم، بليغ الإرسال، العذب السلسال، وناهيك بماله في ثمرات الفنون، من الدر المصون، والجوهر المكنون، الذي قد قره لجميع العيون، وكم دار رائد أفكارنا تلك الثمرات، فأصبح يستظهر بالآيات البينات، ولئن جاء كما شاء الفؤاد مقبولاً لطيفاً (فإن محمداً قد اتبع ملة ابراهيم حنيفاً) . أما المودة فقد تخللت سويداء الفؤاد ولن تجد عنك تحويلأن ولا غروان كان ذلك فإني قد اتخذت ابراهيم خليلأن فدم أيها الخليل، مفخراً للوداد تحيي سنة الخليل، وتعيد بعلمك حديث سيبويه والخليل، ونحن مع ما لكم عنا من البعاد، قد رأينا مقرك في الفؤاد، ولو علمنا أن ابراهيم لايخاف حر النار، لنقلناك من الفؤاد الذي نار اشتياقه إلى لقياك لازالت ذات إشعار، ولكن فقد علمنا ما اختص به مقام ودكم العظيم، فقلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على ابراهيم، فمهلاً على محب قد أصيب من بعادكم بما يكفيه، وأرفق من فضلك بقلب تملأه الحب حتى أحلك فيه، أو لم يكفك ذلك حتى أرسلت من عسال بنانك، وأسحار بيانك، بالغادة السحاره، والكاعب المختاررة، التي غطت على السمع والبصر، واستولت على ما بقي في عقولنا من الأثر، فأصبحت تزهو بطرر منساتهأن وتبث منا بالنهي في حركاتها وسكناتهأن وتعد ذلك من حسناتهأن حتى نبهتنا بالحدق النواعس من تحت ليل طرتها البهيم، فعلمنا أنها عذراء كلمتنا بصوت رخيم، من مقام ابراهيم، مجهزة الخصر تجر من ترفيلها ما كانت به أثوابها مذالة، فكان تذيلها على نخوتها أي دلالة، وحين تحققنا أنا من بيوت ابراهيم التي رفع منها أبدع القواعد، دخلنا لها من باب السلام وطفنا حول هاتيك المشاهد، وتلقينا هاته المنة بالإجلال والترحاب، وقابلناها من بنات أفكارنا بهذا الكتاب، آملين من أبيها حسن القبول، وإدامة تواصل الوداد على وفق المأمول، والأمل في الله أن يجمع بين أشباحنأن كما جمع بين أرواحنأن والجسد مطية الروح، للتنعمات الحسية كلما تغدو أو تروح، نسأل الله أن يديم لكم الأمن والعافية ويسبل على الجميع برود لطفه الضافية وييسر تواصل مقولتي الأين بدون أين، حتى تبلغ بذلك إلى قرة العين، بجاه الحسن والحسين في 17 ذي الحجة سنة 1297. الداعي خادم العلم الشريف بجامع الزيتونة محمد السنوسي، منشيء الرائد التونسي.(1/409)
وحيث حسن موقع إنشاء الرائد عند الدولة قلدتني نيشان الافتخار من الصنف الثاني من أول وهلة في ذي القعدة الحرام سنة 1295 خمس وتسعين ومائتين وألف على يد الوزير الأكبر مصطفى بن اسماعيل آغة وقد استكملت بإعانة الله في الاعتكاف على إنشاء الرائد رغبة في خدمة الوطن مدة خمس سنين إلى أن أتت على البلاد ليلة المحاق، ووطئت من السطوة الأجنبية بكل ساق، وتباعد أهل الدين عن أن يكونوا من آلات العدو، يبدير بهم ما شاء في الحركة والعدو، وعند ذلك استعذت الله أن أكون له لسانأن نقول ما يريده البغاة أو نستعمل في ذلك بنانأن حتى اختار لتلك الخطة المهملة أخأن من تصدى لأن يكون عين العدو وأذنه في الشدة والرخأن فكان له مع ذلك لساناً وبنانأن ووسع العدو شكراً وأهل الدين امتهانأن حتى ضجت من ذلك صحف أهل الإسلام، ولازالوا يشددون التقريع لمن هم كالأنعام بل هم أضل، وكلهم مرق مروق السهم ووقع في الوحل، لكن على حال قد من الله علي وله الحمد بالعتق من تلك الربقة الخطيرة وفصلت عنها بعين قريرة، وإن أوقع ذلك حسرة في عموم أهل البلاد، وحسرتنا على ما أصاب الدين أعظم في هذا السواد، نسأل الله أن يجبر صدع الإسلام، بجاه نبيه عليه الصلاة والسلام، وقد جمعت ما أدعته في الرائد في اللطائف والترتيبات في كتاب سميته (غرر الفوائد بمحاسن الرائد) وقد كتب عليه أخونا الشيخ محمد بن الخوجة: [مجزوء الكامل]
غرر الفرائد جمَّلتْ ... جيد العلا ببدائعِ
لازلت تظهر مثله ... وتحوز شكر السامع
وهنا نتمم الفائدة بذكر نسب من صاهرت حيث كان فيهم نسب بضعتي حفظاً لحرمة النسب الذي أمر الله بحفظه.
القليبيون
والد أهلي هو أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن عبد الله بن الحاج حسين السلاوي المغربي، من ذرية الولي الصالح الشيخ عبد الله بن حسون دفين بلدسلا رضي الله عنه. وكان ميلاد ابنته المذكورة في شعبان الأكرم سنة 1279 تسع وسبعين ومائتين وألف، وكان بنائي عليها ليلة الجمعة الثاني والعشرين من شعبان الأكرم سنة 1294 أربع وتسعين ومائتين وألف.(1/410)
أما والدها فقد ولد سنة 1252 اثنين وخمسين، ونشأ بين يدي والده، وقرأ مبادئ من الفقه والعربية، واشتغل بالكتابة، فعد من بارعي الكتاب استكتب مدة في الرابطة ثم استخدم كاتباً خصوصاص مع الوزير الأكبر مصطفى خراندار بعد وفاة والده وعند عزل مخدومه ترك الخدمة ولازم داره وفاء بحسن عهد مخدومه. وولد والده محمد سنة 1236، وكان كاتباً بارعاً تقدم للكتابة في وزارة البحر وتدرج فيها إلى أن صار رئيساً وسافر مع الوزير خير الدين لباريس في محاسبة محمود بن عياد، ثم خرج لحج بيت الله الحرام فتوفي بمكة بعد أداء فريضة الحج وكانت وفاته ليلة الجمعة السابع عشر من ذي الحجة الحرام سنة 1281 إحدى وثمانين ومائتين وألف ودفن بالمعلا. وكان والده الشيخ أبو عبد الله محمد بفتح أوله جليلاً ولد بإقليبية سنة 1191 إحدى وتسعين ومائة وألف، وقدم إلى تونس في طلب العلم الشريف فقرأ على الشيخ صالح الكواش وغيره وتفقه وحصل حتى صار عالماً فاضلاً فقدمه الأمير حسين بأي لحظة الفتيا ببلد بنزرت فأقام بها إلى أن توفي ليلة الأربعاء سادس شوال سنة 1253 ثلاث وخمسين ومائتين وألف، ودفن امام ضريح سيدي عنان بنزرت عليه رحمة الله. وكان والده عبد الله ولد بإقلبية وتزوج هنالك برقية بنت محمد الزكراوي القليبي ووالدتها آمنة بنت الشريف الصالح الشيخ محمد الإمام، وأمها هي الشريفة العانس الجلازية فكان لابنه الشيخ المفتي شرف من قبل أمه حسبما نذكر نسبهأن وكان الأبر الحاج حسن السلاوي المغربي قدم من بلد سلا من عمل المغرب إلى تونس فنزل بإقلبية أواسط القرن الثاني عشر، والمتناقل عن بيتهم أنه من حفدة الولي الصالح الشيخ عبد الله بن حسون صاحب المشهد الفاخر ببلد سلا رضي الله عنه من بني حسون الأندلسيين أصحاب الذكر في مشاهير الأندلس وهو رجل من الصالحين الكمل قد تجمل به وسط القرن الحادي عشر، وقد نقل الحسن اليوسي في محاضراته عن الحاج الدلائي انه قال قدمت إلى الولي الصالح سيدي عبد الله بن حسون دفين سلا فقعدت إلى جنبه وقد مد رجليه، والأعراب متساقطون عليه يقبلون يده ورجليه، قال فخطر ببالي انه كيف أطلق هذا الرجل نفسه للناس هكذا قال: فلم يتم الخاطر وإلا وقد قال: أيها الناس رجل قيل له من مس لحمك لم تمسه النار أو لم تأكله النار أو نحو هذأن أو يبخل بنفسه على المسلمين، قال فلما سمعت كلامه وعلمت أنه على خاطري تكلم فتبت إلى الله تعالى في نفسي فجعلت إذا مد إليه أحد كاغداً وكان يكتب الحروز تلقيته من يده وناولته الشيخ وقبلت يده فإذا كتبه أخذته منه وقبلت يده فيحصل لأي في كل حرز قبلتان، قال ورأيت أموراً أشكلت علي منها أنه يؤتى بالثياب هدية وصدقة فيأمر بها فترمي في بيت وتبقى كذلك يأكلها السوس، ومنها انه في كل يوم يصبح عليه أهل الآلات فيضربون إليه. قلت أما الثياب فالذي يظهر من أمرها إما غنية حصلت للشيخ عنها وليس ذلك بمستنكر على أمثاله من المشتهرين في ذكره، وإما خارج مخرج القلنسوة التي رمي بها الإمام الشبلي في النار والمائة دينار التي رمي بها في دجلة وتأويل ذلك معروف عند أهل الطريق لا نطيل به وتأويل الآلات فإما أن يكون يستفيد من تلك الأصوات أسراراً أو معاني رضي الله عنه وعن سائر أولياء الله.
(وقد لحقت هنونة زوجتي المذكورة بالدار الآخرة يوم السبت بعد زوال خامس شوال سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة وألف، ودفنت بمقبرة السقائين من الزلاج ومن لطيف ما وصلني في شانها المكتوب الآتي نصه: المقام الذي نرجو من الله بقاء جنابه، وتعظيم أجره على عظيم مصابه، مقام الجهبذ العلامة، الذي لا يقوم غيره مقامه، قطب دائرة المعارف ومركزهأن وحائز قصبات السبق فيها ومحرزهأن قديم الود، وعديم الند، وزكي الأصل، وذكي الفصل، محرر المسائل، ومقنع السائل، ذلك الفذ الذي لا تسع كمالاته طروسي، الأمجد الأحسب والأبرع الأكتب أبو عبد الله الشيخ سيدي محمد السنوسي، أطال الله بقاءه، وأجزل على عظيم مصابه جزاءه.(1/411)
أما بعد إهداء سلام تحمله إليكم أنفاس متصاعدة، وترد به عليكم أجناس من الأشواق متعاضدة، فإنه لا يخفى على جنابكم الأجل، أن الأمر كله لله عز وجل، وإنه لا يسأل عما يفعل ولا عما فعل، وأن العلم بهذه القاعدة مما يبرد حر الأنفاس المتصاعدة، ولولا العلم بها على التفصيل، لفتك بنا مصابكم بذلك الخطب الجليل، ألا وهو فقدكم لزوجتكم المرحومة، التي هي إن شاء الله بالخير والصلاح موسومة، برد الله ثراهأن وعرفها فضله وأدراهأن وأسكنها من الجنة غرفهأن وأنالها منه طرفهأن وقد عظم علينا مصابكم بذلك الفقدان، حتى أنساني الأفراح التي كنت أختلسها من الزمان، فإني كنت مسروراً بختان ابني فما راعني إلا أن ورد نبأ مصابكم علي فأبدل بالترح، ما كان من الفرح لدي، وقال لي حي على الحزن حي، فنزعت عما كنت فيه، وعلمت أن الزمان لا يصفو لغير بنيه، ولكن حيث كان الموت فرضاً على الأعيان، وحتماً على كل إنسان، فلا أسف ولا جزع، والخير فيما وقع، على أن الجازع بعد الفوت، لا يسمع لجزعه صوت، ولا سيما مع ملاحة قوله تعالى: (يوجد آية) ، وح لا يسعنا غلا الانقياد والإذعان، لأحكام الملك الديان، الذي نرجو منه أن يخفف عنا وعنكم ما ثقل من هذه الأحزان بتحقيق ما نطق به الفال عن صميم الجنان، تاريخاً لتلك الفقيدة الفائزة إن شاء الله بأحب نفعة لها في الجنان، في قولنا على لسان الجود والفضل والإحسان، يا رضوان أنزل زوجة السنوسي بأحب الجنان، فناهيك من فال دل على ما للفقيدة عن شاء الله من حسن المال، فالزم يا أخي الصبر حتى يعظم لك الثواب، وتقع الصلاة عليك من الملك الوهاب، وأحمد الله الذي جعل في صحيفتكم ثواب مصيبتهأن ولم يجعل ثواب مصابها بكم في صحيفتهأن وقل كما قال الصابرون إنا لله وإنا إليه راجعون، والله المسؤول، بنبيه الرسول، أن يعاملها بالإحسان، وأن يخلع على الجميع خلع الرضوان، وأن يحسن فيها عزائكم، ويجزل على مصابكم بها جزاءكم، وأن لا يريكم بعدها ما تكرهونه، وأن يبلغكم من خيري الدارين ما تأملونه، وأن يحفظنا وإياكم من حوادث الليالي والأيام، وأن يبلغنا وإياكم من خيري الدارين كل مرام، بجاه سيدنا محمج عليه الصلاة والسلام، وعلى آله الكرام، وأصحابه المرجو بهم حسن الختام، حرره إليكم الداعي بدوام بقائكم في ظل عيش وريف، ودودكم الحاج محمد طريفة المفتي المالكي الشريف، في 20 شوال سنة 1312) .
الجلازيون
قد سبق أن العانس الجلازية هي جدة آباء صهري وهي العانس بنت الشريف أبي الحسن علي بن عبد الله بن عبد القادر الجلازي من الأشراف العلاليين الذين ارتحلوا من المغرب ونزلت فرقة منهم بجبل مغيتر وفرقة نزلت بمصر وارتحلت منهم فرقة إلى أرض تونس فنزلوا بماطر ومنهم الجلازيون.(1/412)
ارتحل السيد علي الجلازي من ماطر إلى دخلة المعاوين وسكن بإقليبية وتزوج هناك له العانس المذكورة كل ذلك استفدته من رسوم شرفهم التي تقتضي ثبوت اتصالهم بهلال بن سعد بن أحمد بن داود بن عباد بن عون بن عبد العزيز بن محمد بن عبد الله بن أدريس الأصغر بن أدريس الأكبر بن عبد الله الكامل بن الحسن المثني بن الحسن السبط بن علي وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلو لدي شرف من قبل أمه زيادة على ماله من قبل أمه زيادة على ماله من قبل أبيه وهو وإن تخللته بعض الأمهات إلا أن الذين أفتى به الشيخ عبد الباقي الزرقاني هو أن شرف الأم يثبت به الشرف نظراً للولادة فابن الشريفة شريف وله ولأبنائه لبس علامة الأشراف ما لم يخصها الأمير بشرف الآباء وإلا فيكون بمثابة ما إذا عينها بقرفة من الأشراف خاصة، وقد ألف في المسألة ابن مرزوق كتاباً سماه (إسماع الصم في إثبتات شرف الأم) وهي المسألة التي ختم بها الونشريسي معياره وبمقتضى ذلك فإن جد ولدي للأم هو أبو الحسن علي بن محمد بن محمد القليبي بن رقية بنت آمنة بنت العانس بنت علي بن عبد الله بن عبد القادر الجلازي من ذرية هلال بن سعد بن أحمد بن داود بن عياد بن عون بن عبد العزيز بن محمد بن عبد الله بن أدريس بن أدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت ولادة ولدي من زوجي المذكورة قبل منتصف ليلة الخميس بساعتين من عاشر شعبان الأكرم سنة 1295 خمس وتسعين ومائتين وألف الموافق للسابع والعشرين من يوليه الأعجمي وثامن أغشت الإفرنجي سنة 1878 ثمان وسبعين وثماني عشرة مائة مسيحية فسميته محمداص نسأل الله أن يجعله محموداً المبدأ والمال، بجاه رسوله والآل، فهو محمد بن محمد بن عثمان بن محمد بن محمد السنوسي بن عثمان بن محمد بن أحمد عرف بن مهنية أحد حفدة الولي الصالح الشيخ سيدي عساكر بن ضيف الله بن محمد بن منصور الشريف الحسني رضي الله عنه، أعاد الله علي وعليه فضل السلف، وجعلنا ممن بالعلم والعمل قد تحلى واتصف، بجاه من هو أصل الفضل والشرف. ولما كان هذا الولد هو باكورة أبنائي أرخ ولادته العالم الفاضل التحرير الماجد الشيخ محمد بن الخوجة بقوله: [الطويل]
ترنَّم في دوح المسرة مخبري ... هزارُ تهانٍ بالسرور الموفر
وقد شنف الأسماع بالخبر الذي ... يرنح أعطافاً ذوات توقر
ولا غرو أن هز النفوس وطيه ... لقد زيد في حزب العلا أي مفخر
أما إنّه فرع الأصول التي زكت ... ويعرف طيبُ الفرع من طيب عنصر
سلسل الكرام الغر من عرفت لهم ... مفاخر بالزهر الكواكب تزدري
أما إنه نجل السنوسيّ فذِّنا ... هو البارع المشهور والمنصف السري
هو السيد النحرير والعالم الذي ... يعاطي النهى من قوله أي مسكر
همام له حيزت مآثر جمة ... يقصِّر عنها كل من لم يقصر
وسرعان هذا النجل يصبح مثله ... فكل هلال مقمر دون منكر
وقد سرني ذاك الحبيب بنجله ... أقول له أرخ محمد ...
وأرخه أيضاً العالم الماجد الدراكة الشيخ محمد جعيط بقوله: [الطويل]
سرتْ وهناً يشفي النفوس مسيرها ... بشائر ترويها النهي وتديرها
تشيّد للعلياء ركن فخارها ... فتى زيد للفذ الصديق نصيرها
بنجلك فردوس المسرة فتحت ... أفانينه وانساب منه عبيرها
وألبست الخضراء نوراً به كما ... تبرجت الخضرا وغنّى بشيرها
وتاقت لما اعتادته من بيت أصله ... منابر مجدكي يحلّى سريرها
كأني بهذا النجل قد بذّ في العلا ... كهو لأسرار العلوم بصيرها
كأنّي به في روضة الدرس للورى ... يعاطي كؤوساً غيرُ ظامٍ سميرها
كأنّي به في موقف الفخر منشد ... ذروني فإني بالعلاء خبيرها
كأني به يوم الرهان بحلبة ال? ... ?قريض إليه السبق وهو جريرها
فراسةُ رأي غالب الظن صدقها ... إذا شاء من للكائنات يديرها
فللفرع طيب الأصل مثل نتيجة ... فمنْ أصل صدق الشكل صدقاً يسيرها
أعيد ابن خلي بالذي رفع السما ... فما أن يرى في نفسه ما يديرها
ودم يا شقيقَ الروح تهنا مهنَّأً ... بنجل الرضى والعينُ قرّ قريرها(1/413)
وعذراً لتقصير القوافي عن المدى ... فجاءك من ضعف النسيج يسيرها
فلمّا قراه البشر يوم بشارة ... وقد ضمخ الأرجاء مسكاً عبيرها
وأقبل كنز اليمن عند قدومه ... فسارعني التاريخ (كنز بشيرها)
وأرخه ايضاً العالم النحرير الخلاصة الشاعر الشيخ محمد المكي بن الشيخ الولي الصالح مصطفى بن عزوز بقوله: [الطويل]
(وفرنا بسعدٍ قد تبدَّى هلاله) ... وريء بأبصار القلوب جماله
على أننا لا نغتني عن زيادة ... من الملك القدوس جل جلاله
ولاسيما مما تروح أجوره ... أما الغيث يرجى بالربيع خماله
وقفو الفتى للأصل أقرب واقع ... بهذا انتفى للمبصرين سؤاله
ومن أسكن الأبناء صدراً إليهمُ ... وفي القلب مهد لا يكون فصاله
بأحسن ما يبقى بروزُ ابن كامل ... بأسرع ما يؤتى قراه كماله
سنوسيُّ يا ابن الأمجدين سرورنا ... سواءٌ ببابوس سترضى خلاله
وكل من الأحباب يشكر ربه ... مهِّن مهنّا حامدَ الوقت باله
كأني بهذا الشبل وهو مثابر ... على صنع ما يعنى تروقك حالهُ
وأرجو بأن يضحي قمطرَ معارفٍ ... به العلم يدري تقتفيه رجاله
قنيصاً لأصناف المعاني مدبراً ... تقياً نقي العرض يسمو جماله
حكيماً يرى بالقلب رأي مشاهد ... أعاديه قد عادت عليهم نباله
عساه بدا للمسلمين مبشراً ... بنصر وتأييد بعز مناله
محمدُ عش واسم لك اللطف حافظ ... وحسبك في الأمر النبيء وآله
فمذ جاءني الإبشار قلت مؤرخاً ... (وفرنا بسعد قد تبدّى هلاله)
وأرخه أيضاً العالم الفاضل الشيخ محمد طريفة بقوله: [الكامل]
بشرى المسرة لم تزل متزايدةْ ... لك بازدياد فتى بقيت مشاهدهْ
وسقيت من راح السُّرور بكفه ... كاساً تكون على الدوام معاوده
ومنحت ما ترجوه منه بفضل منْ ... أضحى ينيل الجيد منك قلائده
فاهنأ به يا ذا الفخار فإنه ... لمحصنِ ممَّنْ يروم مكائده
سيكون للعرفان مثلك جامعاً ... حتى ينال طريف ذاك وتالده
ويشدّ أزرك باقتناء نفيسة ... ويمد في جلب الرضا له ساعده
وبصدق هذا جاء قول مؤرخ ... (النّجل عضّد بالبلاغة والده)
وأرخه أيضاً الخير الصفوة الشيخ محمود جراد بقوله: [الكامل]
لكم البشارة والهنا بفوائد ... فاحمد إلهك فهي منه تفضل
منن زكت من ربنا موهوبة ... في كل وقت والعدى تتضاءل
يا يا أديب العصر فزت بتونس ... ما أنت إلا في العلوم حلاحل
ظهر الهلال بأفقه متهللا ... بزيادة البشرى الكواكب تحفل
فبمولد الفرع المسمى محمداً ... وهو السنوسي للأصول تجمِّل
حمل له برج أواخر يوليا ... قمر به نور السعادة يكمل
في شهر شعبان المؤرخ جاءه ... (لاح السرور وحلا سعد كامل)
وعند زيارتي مقام سيدي محيي الدين بن العربي لقبت ولدي بلقبه رجاء أن تعود عليه بركته فهو محمد محيي الدين السنوسي.
وكان ختانه في جبل المنار صبيحة يوم الاثنين الثالث من شوال سنة 1300 بعد إقامة عذيرة حافلة وممن وقف على ختنه الأمير الناصر باي والشيخ محمد الشريف إمام جامع الزيتونة وفي ليلة الخميس الموالي له كانت مبيتة القادرية وفيها فقال العالم الشيخ محمد بن الخوجة: [البسيط]
يا ليلة نلتها ما كان أهنأها ... قد عزفي الدهر أن يلفى لها مثلُ
جادت بكل سرور ما به كدر ... سعودها لم تزل تنمو وتكتمل
لا غرور أن عظمت وقعهاً فناسجها ... ذاك السنوسيُّ من للبدر ينتعل
هذا وفي صبيحة يوم الثلاثاء من ذي الحجة الحرام قبل الزوال بأربع ساعات إلا ربع من سنة 1298 ثمان وتسعين زيد لي ولد ثان سميته الشريف وأرخ ولادته الأديب أحمد السقاط بقوله: [الطويل]
هلال بأفق العز تزهو سعوده ... وشبل بغاب الفخر ترمي أسوده
وفرع علا تهتز أعطاف مجده ... ويعبق أثناء المحامد عوده
تباشرت الدنيا به وتنافستْ ... مراتبه حتى تباهت مهوده
هنيئاً لبيت الفضل إن عماده ... مقيم وإن الفخر باقٍ عميده(1/414)
عنيت به نجل السنوسيّ من غدا ... يفوق على الدر النظيم فريده
له نشأة في الجود والبأس قد سمت ... يذاب به صم الثرى بل حديده
شبيه أباه في الفخار وجدّه ... فيا لقديم قد قفاه جديده
سيعلي مباني المجد مثل جدوده ... فيا به من فخر يعود معيده
سقى الله مثوى جده كل مزنة ... تضوع به ضوع الرياض لحوده
وأبقى أباه للسيادة والعلا ... تزاد عطاياه ونحن عبيده
لقد ظهرت علياه مظهر شارق ... وهل ينكر المحسوس إلا حسوده
إذا كان علم فهو وضّاح أصله ... وغن كان رأي غامض فرشيده
فلو أننا في يوم خطب نؤمه ... سألناه شرخ العمر كاد يعيده
ولو أن أقمار السماء تحجبت ... لأغنى سري الفخر عنها وجوده
لأزكى الورى نفساً وأكرم معشراً ... وأمكنهم من مورد يستفيده
ليهنك نجل سعده لاح مشرقاً ... تسرُّ به آباؤه وجدوده
وتلك يد من نعمة الله فز بها ... وأرخ (يد نجل تبدت سعوده)
غير أن الله سبحانه اختار الآخرة والأمل في الفضل أن يكون فرطاً وذخرأن وحسنة وأجرأن إذ أنه على عقب وجودي من حج بيت الله الحرام مرض بالحصبة وتوفي بعد الزوال بنصف ساعة من يوم الأحد غرة جمادى الأولى سنة 1300 ثلاث عشرة مائة.
إلى هنا كان موقف جواد القلم، وغاية الجمع الذي في سلك الإبداع قد انتظم، فبرز إلى الوجود من العدم، فجاء نزهة المسافر، وتحفة السامع والناظر، غذ توشح من تعريف الرجال، بما يبلغ به مطالعه غاية الآمال، على حسب ما في مقدرتي من الاطلاع، لا على حسب أولئك الأعلام الذين لاحت فضائلهم كنار على يفاع، وإني وإن كتب تعاطيت في جميع مآثرهم ونشر مفاخرهم ما يتعاطاه الغيور على بلاده، المتصدي لجمع شمل مفاخر علمائها من شيوخه وأجداده، لكن قصر الباع، وحداثة السن وعدم الاطلاع، كلها أعذار أقدمها لما وقع مني من الإخلال، في التعريف بأولئك الرجال، إذ أني فاتحت بهذا التعريف من عمري مكمل الثلاثين، وأني لابنها واستقصاء غايات الشم العرانين، فهيهات هيهات الوصول إلى الغايات لكن حسن ظني بكرام العشيرة، سهل علي التجاسر على المواقع الخطيرة، فأدلجت مع اعترافي، بأني لست من ذوي القوادم أو الخوافي، راجياً رضى السادة الذين أعملت قلمي في خدمة مجدهم، فعسى الله أن يوليني أيمن رفدهم، برضاهم علي في هذا الصنيع، الذي اعملت فيه جهد المستطيع، آملاً منه سبحانه تعالى أن يحشرني في زمرة هؤلاء الأعلام، الذين تتباهى بهم الأيام، بجاه نبيه عليه الصلاة والسلام.
اللهم يا من ليس لكماله غاية، نسألك بجاه رسولك أن تحسن لنا في كل عمل البداية والنهاية، وأن تديم علينا ما عودتنا به من خفي الألطاف، التي نرجو أن تصاحبنا إلى يوم المخاف، وأن تؤمن عاقبتنا في جميع الأمور، وتحمينا من كل ذي جور وفجور، وأن ترزقنا بفضلك العلم والعمل، وتجعل فينا وفي ذريتنا من الخير ما يبلغ به الراجي إلى غاية الأمل، اللهم احفظ منا اللسان واليد والقدم، واحمنا بلطفك وحفظك من مزالق القلم، يا ذا الجود والكرم. اللهم اجمع لنا بين سعادة الدارين مع الأمن والعافية، وأسبل علينا من سرادق فضلك البرود الضافية، يا من ليس لفضله حد، ولا يعجزه مطلب أحد، واغفر لنا ولوالدينا ولمشائخنا ولمن أحسن غلينا ولإخواننا بجاه رسولك الكريم عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأزكى التسليم. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
وقد أنجزته بعون الله فيما دون الشهرين وذلك بفضل الله الذي لا يخيب من توكل عليه سبحانه وتعالى. ووافق الفراغ من جمعه الأول ليلة الأربعاء الرابع والعشرين من المحرم وتم بإعانة الله تبيضه أواخر جمادى الثانية كل ذلك سنة 1297 سبع وتسعين ومائتين وألف.
الملحق
التشريع
أنشأ الأستاذ السنوسي قصيدة طويلة مبنية على التشريع مدح بها الإمام العلامة المرحوم الشيخ محمد الطاهر النيفر قاضي الجماعة من سنة (1290 إلى 1311) لما ختم كتاب الشنشوري على الرحبية في الفرائض.
وكان درسه للشنشوري درساً حافلاً غص بالطلبة فأراد الأستاذ السنوسي تخليد هذا الختم بقصيدته ملتزماً فيها هذا النوع من البديع.(1/415)
أعني التشريع وهو نوع من أنواع البديع يبني فيه الشاعر ما ينظمه على وزنين من أوزان القريض وقافيتين فإذا أسقط من أوزان البيت شيء يخرج شعر مغاير في الوزن والقافية.
وهو نوع معروف في كلام العرب ومنه قوله: [الكامل]
وإذا الرياح مع العشي تناوحت ... هوج الرمال بكثبهن شمالاً
ألفيتنا نفري الغبيط لضيفنا ... قبل القتال ونقتل الأبطال
ومن بليغ التشريع ما جاء عن الحريري في مقامته الثالثة والعشرين الشعرية:
يا خاطب الدنيا إنها ... شرك الردى وقرارة الأكدار
دار متى ما أضحكت في يومها ... أبكت غداً بعداً لها من دار
وهي قصيدة في تسعة أبيات من الكامل تخرج منها قصيدة أخرى من: [مجزوء الكامل]
يا خاطب الدنيا الدن? ... ?ية إنها شرك الردى
دار متى أضحكت ... في يومها أبكت غدا
وقد اقتفى السنوسي الحريري في قصيدته المذكورة بقوله:
مسك الختام برحب روض قد هفا ... بتعطر وبه النسيم تلطفا
فإذا أسقطنا قوله (ولبه النسيم تلطفا) تستخرج قصيدة أخرى بغير قافية القصيدة، ومن مجزوء الكامل:
مسك الختام برحب رو ... ضٍ قد هفا بتعطر
ولبيان القصيدة المستخرجة من القصيدة الأصلية أعدت في هذا الملحق نشرها مع بيان القصيدة المستخرجة بالنقط في كل بيت وكذلك في قصيدتي التقريظ ثم أتبعت ذلك بنشر القصائد المستخرجة من القصيدة الأصلية وتقريظها.
جاء في (ص131) من هذا الجزء الرابع: أنشأت في ذلك الختم قصيدة من التشريع لما وقع في الكتاب المذكور من الازدحام وهي قولي: [الكامل]
مسك الختام برحب رو ... ض قد هفا
بتعطر
وبه النسيم تلطفا
أحسنْ به إذ فاح في ... روض العلو
م الأخضر
وبكل زهر عرّفا
فغدت به الأزهار ما ... ئسة بنو
رٍ أنور
كالريم حين تعطفا
وغصونها زينت بور ... د للمنى
والعبهري
والكل فيه تالفاً
ودنا قطوفة بعدما ... شاكى الحمى
عنْ مبسر
وبدا لدنيا مشرفا
وغدا به نهر البشا ... ئر هاملاً
كالكوثر
وبه الجنان تزخرفاً
وترنحت أطياره ... فوق الربى
بالمزهر
وبه الحزين قد اشتفى
وبه الظبا بين الربى ... كلٌّ سبا
بتبختر
فربا الحبا بعد الجفا
ماست وقد رفعت ذوا ... ئب فاحم
عن مقمر
فبدا الجمان وما اختفى
فبدا الندى من فوق ور ... د تحت خال
عنبري
كالليل عن شفق ضفا
وبثغرها ثلج على ... خمر تح
?ل بسكر
فلقد تسامت مرشفا
فشفى الضما ضربُ اللمى ... مذ قد همى
من جوهر
ظلم نما منه الشفا
وافت تهز معاطفا ... مثل الكثي?
?ب الأعفر
والقد بان مهفهفاً
ورمت قلوب العاشقي? ... ?ين بسهم لح?
?ظ أحور
وبه الفؤاد تحترفا
فرأيت ما قد فات في ... شرخ الشبا
ب بمحجر
لا القصد منه تخلفا
فداع الملام ومن أتا ... ك يشي لجا
كالمنذر
ودع العذول معنفا
واحضر نديمي لي بوج? ... ?هـ ضاحك
مستبشر
ولدي كنْ كنْ مسعفا
وأدرْ على روح المع? ... ?نى راحة
إذ يجتري
عماله قد كلفا
فاقرع لنا ثغر الكؤو ... س وأملها
بالمسكر
وأدر عليذ القرقفا
وامزج بها راح امتدا ... ح الأطهر اب?
?ن الأطهر
الفذ الإمام أبي الصفا
الطاهر الحبر الهما ... م ابن الهما
م النيفري
نجل الرسول المصطفى
هو عالم الدنيا ومؤ ... نس تونسٍ
بتصدر
مذ كلنا قد سرهفا
ذا وارث المختار خي? ... ?ير الخلق خي?
?ر مبشر
مذ قد علا واستشرفا
بالفرض والتعصيب حا ... ز مفاخرا
وبها حري
من فخر والده اقتفى
فعلاه من حسب ومن ... نسب نق?
?يّ أطهر
فلذا بدا مستطرفا
فلأنه طود العل? ... ?وم وعلمه
كالطيسر
من سحبه قد أوكفا(1/416)
ذو نجدة وصيانة ... وديانة
لم تنكر
حاشاه يوماً طففا
ذو همة ومروءة ... طابت بطي?
?ب العنصر
وبها غدا متعففا
ذو نجدة وكياسة ... تكسو الحلي
للمشتري
والبدر منه قد اختفى
فلأنه شهم خض? ... ?م أروع
ذو مفخر
وبه الكمال تعرفاً
بدر سناه بشمس وا ... لده الإمام
م الأشهر
من فضله قد كفكفا
فلكم هدى من ضل في ... ديجور عل?
?م أكبر
فأضاءه حين ازدفا
ولكم بكف بكف من ... ولي بعدو
ة قسور
فأباد عنه مزيفا
فهو الذي قد حاز خص? ... ?ل السبق غي?
?ر مقصر
لا للفخار تكلفا
فبدا بتاج جلالة ... ومهابة
في المنظر
والقلب من ذا أرجفا
ولقد تطلع غرة ... في وجه هـ?
?ذي الأعصر
والدهر منه تشرّفا
فاحضر بفيض دروسه ... تلقاه بح?
?ر الجوهر
وترى به ذا الغينفا
فتراه في اشبال جا ... مته إذا
كغضنفر
بزئير علم قد هفا
يحظي الذين أتوه من ... فيض العطا
ء الأوفر
كم من خلائق أتحفا
ومتى تأمل في العوي? ... ?ص يحله
بالزمجر
ويريك عضبا مرهفا
ويريك من تحريره ... عذب السلا
ف المسكر
وبكأسه كم أرشفا
بفصاحة قسية ... قد زانها
بتدبر
وبدا بها متصرفا
فقد امتطى من علمه ... متن الجيا
د الضمر
وبذاك أمره زهلفا
وغدا يجول بحزمه ... في رحب رو
ض مثمر
بفوائد وبها شفى
وبدا لنا في طلعة ... مثل الصبا
ح المسفر
فغدا لدينا شندفا
هذا الفخار ... ر بغيره
للمخبر
فبه العلا ما استحشفا
يا من فخاره عنه قد ... قصرت دعا
ثم قيصر
فغدا به مستشرفا
فمتى يعد ذوو العلا ... أنت المع?
?د بخنصر
مذ قد سموت تشرفا
ماذا يقول شويعر ... في مدحكم
إذ يجتري
لو كلَّ ليله أتلفا
وبفضلكم صار الخطي? ... ?ب يجول قو
ق المنبر
مذ قام يتلو المصحفا
لكنني نقّحت ما ... لم يشتبه
بالمفتري
در المديح وقد صفا
قد فزت منك بمحض و ... د للفؤا
د وبدا فخارك نفنفا
فأقبل إليك فريدة ... ما حاكها
من معشر
لو في المدائح أسرفا
حيتك من نجل ف? ... ?يّ فاق شع?
?ر البحتري
مذ مدح علياك اقتفى
خلّصتها مما انتخب? ... ?ت بدرسكم
من جوهر
فأتى لديك مؤلفا
ولقد سحرتُ بها النهي ... فافخر بها
في المعشر
فالأصل منكم أتحفا
وكسوتها بمديحكم ... حسناً ببر
د عبقري
ووشاحها قد أوصفا
فتطاولت وغدت تج? ... ?ر بكم ذيو
ل المفخر
تيهاً لديك بلا خفا
وأتتك رغماً للحسو ... د وقرة
للمذكر
من أهل ود ما جفا
كيما تهنيكم بخت? ... م مثل مس?
?ك أذفر
في القطر ضاع معرفا
فاهنأْ وفز وامنح ودم ... وابقى بقا
ء الأدهر
تسدي حياء أو طفا
لازلت بحراً والمدي? ... ?ح كما السحا
ب الممطر
وثناك يملأ كل فا
ما قام يلهج مادح ... صلى على
ذي المغفر
خير البرايا المصطفى
صلى الإله عليه ما ... تم المرا
د
بمحشر
حتى يؤم الموقفا
وقرظ هاته القصيدة أخونا الشيخ محمد جعيط على شاكلتها بقوله: [الكامل]
برزتْ فتيمتِ المع? ... ?نَّى المدنفا
بالمنظر
وبحوزها حاز الشِّفا
رفعت قناع جمالها ... فبدت لنا
كالمشتري
أو بدر تمٍّ قد صفا
فخرت بطلعتها فصا ... رت غرة
للأعصر
ولحسنها البدر اختفى
سحرت بلب القول ل? ... ?ب ذوي النهي
من معشر
وبها تبدي مدنفا(1/417)
أهدت سلاف النظم في ... لفظ لها
كالجوهر
تحكي النسيم تلطُّفا
حملت لواء بلاغةٍ ... وفصاحةٍ
بالأسطر
فكمالها لن يوصفا
طابت ثنا لا بالتص? ... ?نع بل بطي?
?ب العنصر
فنفى بذاك تكلفا
سمحت بكحل مدادها ... مذ قد حكى
للعنبر
لوناً وريحاناً قد هفا
وسقت كؤوس رحيقها ... فأبيح شر
ب المسكر
ناديت هات القرقفا
أزرت بكل فريدة ... أعظم بها
أن تزدري
وبلفظها كن منصفا
فضت ختام رحيقها ... تناديت فاش?
?مم وانظر
واقطف وطب مما وفا
مسك الختام برحب رو ... ض قد هفا
بتعطر
وبه النسيم تلطفا
فتكت محاسنها بنا ... لما أتت
في عسكر
وأتت بقلبي مهدفا
سيف العيون وحاجب ... وفم همي
بالكوثر
تزداد منه تزخرفا
ماست لفتكي فاستجر ... ت بربها
في المعشر
فلأن شيمته الوفا
أعني أبا عبد الإله? ... ?هـ ومن سما
في الأعصر
ولعنصر المجد اقتفى
من صار سحر القول من? ... ?هـ سجية
وبها حري
والطبع لن يتخلفا
سحر البيان مع البدي? ... ?ع يبثه
بالأسطر
ويزيد فيه تألفا
يأتي بسحر القول دو ... ن توقف
وتفكر
ويصوغ درا قد صفا
فهو المقدم بالقري? ... ?ض وعده
بالخنصر
وبه لعمري صنِّفا
خذها إليك فريدة ... جاءت لكم
بتبختر
وبها الجمال تكلفا
رويتْ فنون السحر ع? ... ?ما صغته
من جوهر
ينفي عليه تعسفا
فلذا سمت بجمال قو ... ل عن مقا
ل البحتري
وبفضلها قد أنصفا
قد صغتها تاجاً لها ... مةِ خودكم
في الأدهر
فلحسنها البدر اختفى
فأقبل إليك من المق? ... ?ل قليل هـ?
?ذي الأسطر
واصفح على ما زيّفا
لازلت ترفل في السعا ... دة والمقا
م الأكبر
وتصوغ درا أتحفا
وقرظها أيضاً على شاكلتها الشيخ أحمد جمال الدين بقوله: [الكامل]
نبه جفونك قد وفا ... ساقي السلا
فة بكِّر
مترشفا لترى الشفا
وامزج بها ماء اللَّمى ... ما فاق طع?
?م السكر
واسق النديم المسعفا
ما بين أزهار الربى ... والعود طو?
ع منقّر
وبه المحب تعطفا
والغيد ترفل في بدي ... ?ع شمائل
بتبختر
كل البدور لها اختفى
ترنو بطرف فاتك ... من تحت قو
س موتر
ولها الحشاشة مهدفا
وردت ورود خدودها ... من تحت آ
س عبهر
والصبر مني قد عفا
يا صاح ذا زمن الخلا ... عة والنزا
هة فاحضر
ومن المعنف قد صفا
فاخلع عذراك واغتنم ... فرص اللذا
ذة وانثر
متغنياً
ما شنفا
مسك الختام برحب ر و ... ض قد هفا
بتعطر وبه النسيم تلطفا
طلعت تتيه تطاولاً ... في خير نش?
?ر عنبري
تذر المعنَّى منصفا
وتجر ذيل مطارف ... من سندس?
?يّ عبقري
تلقي المحب من الشفا
سحرت عقول ذوي النهي ... فغدت حلي?
?ف تفكر
بسلاسة لن توصفا
كالراح معنى غذ تفي? ... ?ضُ جواهرا
كالممطر
أو كالعقود تالفا
وبدت تدير مدائحاً ... في ذي الإما
م الأطهر
نسل الرسول المصطفى
ما صاغها ذو نهية ... ولو الحري?
?ريّ
بل لو غدا متكلفا
ما هو إلا من سما ... وبكل شه?
?م يزدري
وأبان فضله كل فا
بحر من الآداب يب? ... ?دو أنه
كالسكر
يبري السقيم المدنفا
من قد تسمى بالسنوسي ... كالسنوس?
?ي المزهر
بل مثله لن يعرفا
أبدعت في نظم نضي? ... ?د مثل سل?
?ك الجوهر
أو كالرياض تزخرفا(1/418)
يشدو فيفعل بالنهي ... فعل الشرا
ب المسكر
لكنه لن ينزفا
وبك الأواخر قد تفاخ? ... ?ر أين ذك?
?ر البحتري
وبك الصفاء قد اختفى
وبكل فن قد بدا ... متفايضا
كالأبحر
وغدا ذكاؤه مرهفا
قد نلت كل حميدة ... من ذا الجنا
ب الأطهر
ولك الفخار بلا خفا
دم مثل ما ترضى فأن? ... ?ت أديب ك?
?ل الأعصر
وغدا زمانك مسعفا
وبقيت غيثاً واكفا ... ولك الفدا
ء بمعشر
ثدي المفاخر مرشفا
مبتسماً ثغر السعا ... دة فائحاً
كالعنبر
أو مسك ختم قد هفا
وهذه القصيدة المستخرجة من قصيدة المدح: [مجزوء الكامل]
مسك الختام برحب رو ... ض قد هفا بتعطرِ
أحسن به إذ فاح في ... روض العلوم الأخضر
فغدت به الأزهار ما ... ئسةً بنور أنور
وغصونها زينت بور ... د للمنى والعبهري
ودنا قطوفه بعدما ... شاكى الحمى عن مبسر
وغدا به نهر البشا ... ئر هاملاً كالكوثر
وترنحت أطياره ... فوق الرُّبى بالمزهر
وبه الظبا بين الربى ... كلٌّ سبا بتبختر
ماست وقد رفعت ذوا ... ئب فاحم عن مقمر
فبدا الندى من فوق ور ... د تحت خال عنبري
وبثغرها ثلج على ... خمر تحلُّ بسكر
فشفى الضما ضربُ اللمى ... مذ قد همى من جوهر
وافت تهز معاطفا ... مثل الكثيب الأعفر
ورمت قلوب العاشقي? ... ?ين بسهم لحظ أحور
فرأيت ما قد فات في ... شرخ الشباب بمحجر
فداع الملام ومن أتا ... ك يشي لجاً كالمنذر
واحضر نديمي لي بوج? ... ?هـ ضاحك مستبشر
وأدر على روح المع? ... ?نى راحة إذ يجتري
فاقرع لنا ثغر الكؤو ... س وأملها بالمسكر
وامزج بها راح امتدا ... ح الأطهر ابن الأطهر
الطاهر الحبر الهما ... م ابن الهمام النيفري
هو عالم الدنيا ومؤ ... نس تونسٍ بتصدر
ذا وارث المختار خي? ... ر الخلق خير مبشر
بالفرض والتعصيب حا ... ز مفاخرا وبها حري
فعلاه من حسب ومن ... نسب نقيٍّ أطهر
فلأنه طود العل? ... ?وم وعلمه كالطيسر
ذو نجدة وصيانة ... وديانة لم تنكر
ذو همة ومروءة ... طابت بطيب العنصر
ذو نجدة وكياسة ... تكسو الحلي للمشتري
فلأنه شهم خض? ... ?مّ أروعٌ ذو مفخر
بدرٌ سناه بشمس وا ... لده الإمام الأشهر
فلكم هدى من ضل في ... ديجور علم أكبر
ولكم بكفه بكفّ من ... ولَّى بعدوة قسور
فهو الذي قد حاز خص? ... ?ل السبق غي?ر مقصر
فبدا بتاج جلالة ... ومهابة في المنظر
ولقد تطلع غر ... ةً في وجه هـ?ذي الأعصر
فاحضر بفيض دروسه ... تلقاه بح?ر الجوهر
فتراه في أشبال جا ... مته إذاً كغضنفر
يحظي الذين أتوه من ... فيض العطاء الأوفر
ومتى تأمل في العوي? ... ?ص يحله بالزمجر
ويريك من تحريره ... عذب السُّلاف المسكر
بفصاحة قسية ... قد زانها بتدبر
فقد امتطى من علمه ... متن الجياد الضمَّر
وغدا يجول بحزمه ... في رحب روض مثمر
وبدا لنا في طلعة ... مثل الصباح المسفر
هذا الفخار فلا فخا ... ر بغيره للمخبر
يا من فخاره عنه قد ... قصرت دعاثم قيصر
فمتى يعد ذوو العلا ... أنت المعد بخنصر
ماذا يقول شويعر ... في مدحكم إذ يجتري
وبفضلكم صار الخطي? ... ?ب يجول فوق المنبر
لكنني نقَّحت ما ... لم يشتبه بالمفتري
قد فزت منك بمحض و ... دٍّ للفؤاد موفّر
فأقبل إليك فريدة ... ما حاكها من معشر
حيتك من نجل فت ... ?يّ فاق شعر البحتري
خلَّصتها مما انتخب? ... ?ت بدرسكم من جوهر
ولقد سحرتُ بها النهي ... فافخر بها في المعشر
وكسوتها بمديحكم ... حسناً ببرد عبقري
فتطاولت وغدت تج? ... ?ر بكم ذيول المفخر(1/419)
وأتتك رغماً للحسو ... د وقرة للمذكر
كيما تهنيكم بخت? ... م مثل مسك أذفر
فاهنأْ وفز وامنح ودم ... وابقى بقاء الأدهر
لازلت بحرأن والمدي? ... ?ح كما السحاب الممطر
ما قام يلهج مادح ... صلى على ذي المغفر
صلى الإله عليه ما ... تم المراد بمحشر
وهذه القصيدة المستخرجة من تقريظ الشيخ محمد جعيط: [مجزوء الكامل]
برزت فتيمتِ المع? ... ?نَّى المدنفا بالمنظر
رفعت قناع جمالها ... فبدت لنا كالمشتري
فخرت بطلعتها فصا ... رت غرة للأعصر
سحرت بلب القول ل? ... ?ب ذوي النهي من معشر
أهدت سلاف النظم في ... لفظ لها كالجوهر
حملت لواء بلاغة ... وفصاحة بالأسطر
طابت ثنا لا بالتص? ... ?نع بل بطيب العنصر
سمحت بكحل مدادها ... مذ قد حكى للعنبر
وسقت كؤوس رحيقها ... فأبيح شرب المسكر
أزرت بكل فريدة ... أعظم بها أن تزدري
فضت ختام رحيقها ... تناديت فاشمم وانظر
مسك الختام برحب رو ... ضٍ قد هفا بتعطر
فتكت محاسنها بنا ... لما أتت في عسكر
سيف العيون وحاجبٌ ... وفم همي بالكوثر
ماست لفتكي فاستجر ... ت بربها في المعشر
أعني أبا عبد الإل? ... ?هـ ومن سما في الأعصر
من صار سحر القول من? ... ?هـ سجية وبها حري
سحر البيان مع البدي? ... ?ع يبثه بالأسطر
يأتي بسحر القول دو ... ن توقف وتفكر
فهو المقدِّم بالقري? ... ?ض وعده بالخنصر
خذها إليك فريدةً ... جاءت لكم بتبختر
رويتْ فنون السحر ع? ... ?ما صغته من جوهر
فلذا سمت بجمال قو ... لٍ عن مقال البحتري
قد صغتها تاجاً لها ... مةِ خودكم في الأدهر
فاقبل إليك من المق? ... ?ل قليل هذي الأسطر
لازلت ترفل في السعا ... دة والمقام الأكبر
وهذه القصيدة مستخرجة من تقريظ الشيخ أحمد جمال الدين: [مجزوء الكامل]
نبه جفونك قد وفا ... ساقي السلافة بكِّرِ
وامزج بها ماء اللَّمى ... ما فاق طعمَ السكر
ما بين أزهار الربى ... والعود طو?ع منقّر
والغيد ترفل في بدي ... ?ع شمائل بتبختر
ترنو بطرف فاتك ... من تحت قوس موتر
وردت ورود خدودها ... من تحت آس عبهر
يا صاح ذا زمنُ الخلا ... عة والنزاهة فاحضر
فاخلع عذراك واغتنم ... فرص اللذاذة وانثر
مسك الختام برحب ر و ... ضٍ قد هفا
طلعت تتيه تطاولاً ... في خير نشر عنبري
وتجر ذيل مطارف ... من سندسي عبقري
سحرت عقول ذوي النهي ... فغدت حليف تفكر
كالراح معنى إذ تفي? ... ?ضُ جواهرا كالممطر
وبدت تدير مدائحاً ... في ذي الإمام الأطهر
ما صاغها ذو نهية ... ولو الحريريُّ الحري
ما هو إلا من سما ... وبكل شهم يزدري
بحر من الآداب يب? ... ?دو أنه كالسكر
من قد تسمى بالسنوسي ... كالسنوسي المزهر
أبدعت في نظم نضي? ... ?د مثل سلك الجوهر
يشدو فيفعل بالنهي ... فعل الشراب المسكر
وبك الأواخر قد تفاخ? ... ?ر أين ذكرُ البحتري
وبكل فن قد بدا ... متفايضا كالأبحر
قد نلت كل حميدة ... من ذا الجناب الأطهر
دم مثل ما ترضى فأن? ... ?ت أديب كل الأعصر
وبقيت غيثاً واكفاً ... ولك الفداء بمعشر
مبتسماً ثغر السعا ... دة فائحاً كالعنبر
وانبرت للمدى أماني نفوس ... كن أسرى حوادث الأيام
منن لم يجلن في الفكر لولا ... بركات المولى الجليل الهمام
ذلك السيد الإمام المرجَّى ... بسنا وجهه انسجام الغمام
صدر أعيان زمرة المجد حقاً ... وإمام الأيمة الأعلام
مالك العصر عالم المصر بالقص ... ر وشيخ الشيوخ بين الأنام
حائز السبق في مدى الفضل حاو ... في اقتسام العلى معلَّى السهام
عضد الدين (سعده) (ناصر الم ... لة) بالحق (حجة الإسلام)(1/420)
نور عين الزمان علماً وحلماً ... وتقى في جلالة واحترام
حافظ السنة الزكية مبدٍ ... نورَ أسرارها بغير اكتتام
عمدة الفقه غاية السؤل فيه ... وشفاء الصدور في الأحكام
وتقاريره الرياض ولكن ... تثمر الدُّرَّ في يد الأفهام
تتسامى درى المنابر منه ... ومحاريبها
بخير إمام
ليس إلا بذهنه تسمع الص ... م وتحيا بصائرُ الأغتام
ليس إلاّ بذهنه تتجلَّى ... نكتُ العلم في دجى الأوهام
ليس إلا بلفظه العذب تتلى ... سورُ الذكر في دياجي الظلام
ليس إلا به اقتناء المزايا ... واقتباس الهدى وبرءُ السقام
عالةً أصبح الأنام عليه ... طاعة النقض منه والإبرام
خضعت عنده الرقاب بما قد ... طوقتها يداه بالإنعام
منةٌ لا تزال تدري وتروى ... لولاة الطروس والأقلام
لا ترى غير مهتدٍ بهداه ... أو محبَّ أو لائذ بذمام
يا إماماً حواه بردُ المعالي ... وردا الفضل قبل عهد الفطام
يا سميَّ الخليل يا وارث الرأفة ... والحلم من حلاه العظام
قد طلبنا فلم نجد لك في السؤ ... دد والفضل والندى من مسام
ففداء لشسع نعلبيك قوم ... ولدوا في العلى لغير تمام
وهنيئاً لك المفاز يختم ... للبخاري حديث طه التهامي
جاء بشرى لكم بإقبال فتح ... ووصول إلى قصيّ المرام
ولنا منه والبرية طراً ... أي رحمى ونعمة واغتنام
ولعمري ليست بأول نعمى ... كنت مولي ظهورها للأنام
فجزاك الإله خير جزاء ... مشرق بدؤه بحسن الختام
وابق يا بدر في سماء المعالي ... مستدام السنا مصون التمام
والقصيدة الثانية من إنشاء الشاعر الماجد الفصيح الأكتب الشيخ محمد الباجي المسعودي، وهي قوله: [الكامل]
وجه التهاني اليومَ أصبحَ مسفراً ... والكونُ أشرقَ والفضاءُ تعطرا
والسعدُ حيا والمسَّرة أقبلت ... والأفق كلَّله السرورُ كما ترى
وبتونسَ الإيناسُ أسفرَ صبحه ... واهتزَّ روض الصالحات ونوَّرا
وبدا بإبراهيمَ برءُ همومنا ... شيخِ الشيوخ القطب مصباحِ الورى
ركن الشريعة فخر ملة أحمدٍ ... صدر الثقاب الكمَّل الشمَّ الذُّرى
علم الألى بثُّوا العلوم وخير من ... قدْ أمَّ محراباً ونوَّرَ منبرا
يجلو دجى الإشكال ثاقب فهمه ... فتراه بعد اليأس أصبح نيرا
ويجيلُ في النكت العويصة ذهنه ... فيشقُّ كوكبه العجاجَ الأكدرا
ويبينُ أسراراً تكاد لحسنها ... حقاً تباع بها النفوس وتشترى
أشهى على الأسماع من نيل المنى ... وألذُّ في الأجفان من سنة الكرى
كم قد لبسنا من مصوغ عقودها ... درَّا نفيساً في الرقاب وجوهرا
وكم اقتطفنا من أزاهرِ روضها ... حتى لبسنا العيش ثوباً أخضرا
وبدرستك (الجعفيَّ) كم أوضحت من ... نكتٍ تدقُّ عن العيان فما ترى
وسلكت منه مهامهاً وتنائفاً ... يضحى الخبيرُ لبعضها متحَّيرا
وسريت ذا جدَّ لحل رموزه ... والآن حان بختمه حمدُ السُّرى
فلك الهناءُ مقدماً ولنا بكم ... ولمن يخصُّك بالوداد وللورى
وجزاك ربك خير ما جازى به ... وأطال عمرك كيف شئت وأكثرا
وإليك من جهد المقلَّ محوكة ... من خاطر منع العنا أن يخطرا
وقريحة خمدت ودهر غالني ... من غوله ما صد عن أن نبصرا
بلغ الزّبى تياره فاسمح بما ... ينجي الغريق وكن أجلَّ من اشترى
فإذا مددت ودودكم بادعائكم ... أعددت منه إلى المعاند عسكرا
وبلغت آمالي لصدقِ طويتي ... فيكم، وعشتُ مملئاً لن أحذرا
لا زلت في أفق السعادة نيراً ... تجلو بهمتك المهم الأكبرا
والقصيدة الثالثة من إنشاء ولده العالم الأديب المدرس الشيخ علي الرياحي وهي قوله: [الطويل]
تبلَّج في أفق الهدى طالع السعد ... كسي حللُ الإسعاد واليمن والرشدِ
وفاح شذا مسك يفوق ختامه ... نسيم الصبا بالعطرِ أو فوحة الندَّ
أو الروض إذ يزهو بحسن ابتسامة ... فيحيا بريحان الأزاهر والرند(1/421)
وأسفرتِ الأيام عن وجه بشرها ... كما أسفر المحبوبُ عن وردة الخد
ذكرتُ بذا عهد الصَّبا وغرامه ... وما قد رشفنا في الثغور من الشهَّد
رعى الله تلك الغانيات ولا أرى ... سوى أنهنَّ الحورُ من جنةِ الخلد
لهن جبينٌ كالصباح بياضه ... يلوح سناه تحت فاحمِ مسودَّ
وحاجبهن السيفُ لكن إذا جنى ... فليس قصاص يلزمُ الحرَّ في العبد
وقد نثر الخيلان من حبر عنبرٍ ... بديع جمال لك يكنْ خطّ بالأيدي
لك الله ما أحلى التغزل في الهوى ... وأحسن منه مدحة العلمِ الفرد
إمام أغر الوجه كالشمس في الضحى ... وكالزهرة الحسناء في دوحة المجد
إمام إذا ما كنت في روض درسه ... رأيت نفيس الدرَّ ينظم في العقد
إمام لوَ أن الله يهدي بنوره ... لكن جميعُ الناس من نوره مهدي
ترى رأيه كالسيف في كل حادثٍ ... ورأى سواه لا يعيد ولا يبدي
له رتبة لو حاول البدر نيلها ... لكانت عن الإدراك في حيَّز البعد
غدا مثلاً بالحلم والعلم والتُّقى ... كمالك والبصريَّ كالأحنف السعدي
ألا يا أبا إسحاق والفاضل الذي ... مزاياه قد جلَّت عن الحصر والعدَّ
إليك من السحر الحلال قصيدةً ... تأنق في إتقان صنعتها جهدي
خدمت بها يوم الختام لعلني ... أقابلُ بالرضوان منك وبالودَّ
ودمت مناراً في الشريعة هادياً ... تبلَّغُ من كل المنى منتهى القصد
وقرظ هاته القصيدة الداركة النحرير، وعلم الفتيا الشهير، المؤلف المشكور، الشريف الشيخ محمد الطاهر بن عاشور، بقوله: [الطويل]
أحنُّ وأصبو كلما هبَّ من نجد ... نسيم برياه يفوق شذا النَّدِ
يمثل لي تلك الأباطح والربى ... وعهداً مضى يا حبذا ذاك من عهد
فهاج لي الشوق الأثيل ولم اكن ... سلوت ولكن زاد وجداً على وجد
سقى الغيث هاتيك الخيام وأهلها ... وإن أضمروا هجري ومرُّوا على الصَّدَّ
لهمْ مني الحب الصدوق ومنهمُ ... على مرّ أيام النوى كاذبُ الوعد
أيا حادياً يحدو المطيَّ مرنما ... ترفق إذا ما جئت حيَّ بني سعد
بلغت المنى بلَّغ إلى غاية المنى ... تحية صبَّ في لهيب من الصد
وناد إلى ليلى وقل صادق الهوى ... مقيم على ما تعهدين من الود
زريه ولو بالطيف في سنة الكرى ... نعم ما الكرى يستام مقلة ذي سهد
بكمتُ لساني يوم حمّ فراقها ... فلم يجر في مضمار مهل ولا عقد
وأصممتُ سمعي بعد طيب حديثها ... وليس استماعي فير ذاك من الرشد
فاسمعني بالقهر قول مبشَّرٍ ... تبلَّج في أفق العلا طالع السَّعد
تطلَّبتُ ما تحت البشارة فانجلت ... لوامعُ درَّ في بهيَّ من العقد
كؤوسٌ من الراح الحلال ياديرها ... على حانة الأسماع "نابغة الجعدي"
تضوَّع منها المسك لمّا تضمنت ... أحاديث فخرٍ عمّ من غير ما حدَّ
ختامٌ به الخضراء فازت وهكذا ... بفضل أبي إسحاق تسمو إلى الخلد
فخار بني الدنيا وذخر ذوي التقى ... وأعلمِ من تحت السماء بلا جحد
مآثره سارت سرى الشمس في الملا ... مفاخره من دونها منتهى العدّ
له الله من ختم وددت لو أنني ... بذلت له ما كان عندي من جهد
وإن فاتني ذاك الفخار فإنني ... علقت من العلياء بالجوهر الفرد
أبا الحسن الأسنى إليك خريدةً ... من السحر إلا أنها خالص النقد
خدمت بها علياك دامت بجودها ... وذلك عند الألمعي غايةُ القصد
ولما ختم شرح السعد التفتازاني على تلخيص القزويني، هنأه أحد تلامذة الدرس، وهو شيخ الإسلام الشيخ محمد بيرم الرابع، بقوله: [الكامل]
جسمي بأشواق المحبة صالِ ... متفرَّق الأعضاء والأوصالِ
والنفسُ مني قد غدت مشتاقةً ... ترجو لذيذَ مودةٍ ووصال
والوجد زاد لبارق قد بان من حي الحبة منتهى الآمال
والدمع جاد بوابلٍ من مقلة ... ليست تحل بكثرة الإرسال
يا عاذلي هوَّنْ عليَّ فإنني ... لا عذل ينفعني بكل مقال
إني شغفتُ بحب ذات فواترٍ ... تعني بما تبدي عن الجريال(1/422)
فالقد غصنُ البان غار لحسنه ... والوجه فيه بديع كل جمال
رامت تضاهي حسنها شمسُ الضحى ... فتداركت ما قدج جرى في الحال
تلك التي قد أشعلت نار الهوى ... بفؤاد صب للقا محتال
وهي التي تركت ميتم حسنها ... في حبها متراكم الأهوال
وسبتهُ نفساً ما لها ذنب سوى ... تأميلها لتآلف ووصال
عجباً لها أتسوءه ولقد غدا ... متشبثاً بحواشي الأذيال
أذيال إبراهيم من قد أعلنت ... بمديحه كل الورى بكمال
ذاك الإمام العالم العلمُ الذي ... لم يأتنا دهر له بمثال
فبه لتونس مفخرٌ ولنا به ... فخرٌ عظيم لا يقاس بحال
وبمثله الأقطار تفخر إذ غدا ... يجبني لعزٍ صالحَ الأمال
وله محال ترتجي مثلاً له ... قمر السما في العز والإجلال
كشَّاف ما خفيتْ مسالك نيله ... مغني الأنام ومعدنُ الإفضال
يلقى بثغر باسم كلَّ الورى ... وتحية تأتي بكلِ مقال
إن رمت وصف مجالس لإمامنا ... غيث العلوم ومبلغ الآمال
فأقول فيه وإنني لمقصر ... كالليث حف بمعظم الأشبال
يا سيداً قد حلّ كل عويصة ... بذكائه وبذهنه السيال
هذا الختام لقد أتاك مبشَّراً ... بدوام سعدٍ مشرقٍ متلالِ
فلقد سررت بمجلس لقدومه ... ولقد شرفت به على الأمثال
وأروم يا مولاي تجديد المنى ... تكسوه لي من حلةٍ الإفصال
وإذا القضيةُ بّينُ إنتاجها ... فلتطوها في منتج الأشكال
وإليك بكراً قد أتت لا تبتغي ... إلا الدعاءَ لنا بحسن الحال
وبقيت ترقى أوجَ آفاق العلى ... متلبَّساً بالعز والإقبال
وهناه ولده الخطيب المدرَّس الشيخ محمد الطيب الرياحي، بقوله: [الطويل]
ألا حدَّثنْ عمن به القلب مولع ... كفى طرباً ذاك الحديثُ المسجَّعُ
على ذاك حبَّست المسامع صبوة ... ولا لسواهم في فؤادي موضع
لقد ظعنوا والقلبُ يزعم كتمهم ... ولي أدمعٌ كالنهر تجري وتدفع
فلله يومٌ بان إشراق نوره ... ولله يومٌ فاض بالدمعِ مدمعُ
وأمسى كئيبَ الصدر بالبعد موحشاً ... وبات على جمر الهوى يتضجَّع
ويا نسمة سارت إلينا عشية ... مقلَّة عرف منهمُ يتضوعُ
فبالله إلا ما حملت إليهمُ ... تحية مشتاق يذلُّ ويخضع
لقد خلفوني في الوداد متيماً ... كئيباً سقيماً باكياً أتضرع
أبيتُ وأفكاري تؤمّل شخصهم ... فأصبح لهافناً وما لي مرجع
ومهما بدا ركب أبادرُ قائلاً: ... أحن إليهم بالفؤاد وأخضع
فيا عاذلي دعني فإنّ مرمكم ... هراءٌ يبق للعذَّالِ عنديَ مطمع
ففي مذهبي السلوان جاء محرماً ... فلم يبق للعذَّالِ عنديَ مطمع
وهل تختفي شمسٌ وفي الكون نورها ... وهل يختفي برق وفي الجوّ يلمع
وهل يختفي علم الهمام الذي غدا ... له موضع فوق الكواكب أرفعُ
هو الأبُ عز الله أصلي أنا به ... فطوبى لأجدادٍ أقرُّا وفرَّعوا
إمامٌ همامٌ فاضل متعفف ... شريف جليل للفواضلِ أجمع
تقيٌّ نقيُّ زاهد ذو سياسة ... حليمٌ كريمٌ للمكارم منبع
هو البحر في أيَّ العلوم أردتها ... حجاه إلى نيل الدقائق مسرع
مشارق أنوار بطلعته انجلت ... وصار لها نور يضيء ويسطع
وفي أبحر التدقيق حاز دقائقاً ... يضلُّ بها عقل سديد وألمع
فيا خير ممدوحٍ، ولست مبالغاً=بل المرءُ باللذ قد تقفاه أجمع
رعى الله طوداً جئته بمقالة ... وليس لها رد ولا فيك تمنع
ألا كل سمع غيرك باطلٌ ... وكل مديح في سواك مضيع
وهذا دليل بالسعادة ناطق ... وأنك تحت العرش تحظى وترفع
وأفضل خير قد يكون غدا به ... كتابك مختوماً وأنت مشفع
ولما ختم تدريس شرح المحلي على جمع الجوامع الأصولي هنأه بالختم المذكور أيضاً تلميذه شيخ الإسلام الشيخ محمد بيرم الرابع، بقوله: [الوافر]
مديحك لا يحيط به النظامُ ... وجودك لا يقاومه الغمامُ
وعلمك منهل للناس طرًّا ... ومجلسك الأعزُّ له احترام
بك الآفاق قد زادت سروراً ... كأنك في فم الدنيا ابتسام(1/423)
فأنت لأوج أفق الدهر بدر ... منير لا يفارقه التمام
وأنت لعز هذا الدين تاج ... وأنتَ لنصره أبداً حسام
وأنت لكل معضلةٍ ترجَّى ... وأنت لكل مشكلة غمام
جمعت من المحاسن كلَّ وصف ... وكل الناس عن هذا نيام
وآيات الفصاحة عنك تروى ... وفي كفَّ لكم منها زمام
فلو قسٌّ وسبحانٌ جميعاً ... كذا أيضاً أو الفتح الإمام
صغوا يوماً لمنطقكم لقالوا: ... يفوق الدرَّ حقاً ذا الكلام
أبا إسحاق أنت فريدُ دهر ... وأنت لقطرك العلمُ الهمام
هنيئاً يا إمام العصر يا من ... له فوق السما الأعلى مقام
بختم قد شرحتَ به علوماً ... وسرَّتْ من ضخامته الأنام
ختام قد جلا عنا ظلاماً ... وما أدراك ما هذا الختام
وهاك خريدةَ الأفكار جاءت ... يصاحبها سرورٌ وابتسام
تؤملَ حسن صفحٍ منك عما ... يقصر في مديحكمُ النظام
ويطلب ربُّها منكم دعاء ... يقيه من الحوادث إذ الحمام
ولا زالت لك العلياء داراً ... اردّد مدحكم فيها الحمام
وهنأه بالختم المذكور ابنه الشيخ محمد الطيب الرياحي، بقوله: [الوافر]
فؤاد لا يفيق من الغرامِ ... وجسم لا يبين من السقامِ
وشوق ألَّف الأشجان حولي ... وفرَّقَ بين جفني والمنامِ
ودمعٌ لا نفاد له، كأني ... أروم به مساجلة الغمامِ
وصبرٌ حاول الأسواء حتى ... علاهأن فاستعاذت، بانهزام
ألا لله نفس جشمتها ... مخامرةُ العلى همم سوامِ
وفي كف الحضائر أسلمتها ... عزائم تنبري مثل السهام
تقول أفيك للتقصير عذر ... وأنت ابن المفدَّى بالأنام
أبي إسحاق فائدة الليالي ... وبهجتها وواسطة النظام
همام أغربت فيه المعالي ... تقدّمه المعارفُ كالإمام
أغر الوجه وضاح السجايا ... بريء العرض من عيب ودام
ولو قسمت مكارمه البرايا ... فقدنا في الورى صنف اللئام
إذا استبق الكرام مدى رهان ... بدا وهو المجلّى في الكرام
أو اقتسموا على خطط المزايا ... يكون له المعلّى في السهام
غدا المثلَ الشرود تقى وعلماً ... وحلماً في وقار واحترام
تناسينا به ذكر ابن قيس ... ومعروفٍ ومالك الإمام
تسامى للعلا طفلاً معنّى ... بكسب العلم لا كسب الحطام
فأحرز في الكمالِ مقامَ صدق ... تضاءلَ دونه بدرُ التمام
وأصبحَ منه هذا الدين يسمُو ... بعزَّ حمى تاجٍ فوقَ هام
وسيفٍ بالهدى أمسى محلَّى ... وبالعرفان أضحى ذا اتسام
بهمته تزول ذرى الرواسي ... وتنهلُّ الغمائمُ في انسجام
عذيري من أعاديه إذا لم ... يهابوا سطوة اللَّيث المحامي
ألمَّا يذعنوا لما تحدَّى ... يوازون الشوامخ بالإكام
وراموا أن يدانوه فكانوا ... مكان المنسمين من السَّنام
أمولى نعمتي وعماد مجدي ... ويا سندي ويا كلَّ المرام
إليك عقود أمداح جلاها ... صناع الفكر في حسن انتظام
خدمت بها مقامك يوم ختم ... يفوقُ عبيرهُ مسكَ الختام
أدرتَ به علينا كأسَ علم ... دهاقاً جزجه سحرُ الكلام
وحلَّيت النفوس بحلي فضلٍ ... به تزدان ما بين الأنام
ألا إنّ "المحلَّي" لو رآه ... لأعجب من فوائدك الجسام
ونال كتابه عنكم وأمسى ... يفاخر منك بالشيخ الهمام
فملَّئت الهنا فيه وفيما ... يليه، وما يليه إلى القيام
تسر بما تروح به الأعادي ... وتغدو في مساورة الحمام
ودمت وأنمت في شرفٍ وأمن ... دوام الركن فينا والمقام
وقرظ هاته القصيدة أخوه الشيخ علي الرياحي، بقوله: [الوافر]
أهذا الفجرُ أم بدرُ التمام ... أم المشمسُ العديمة للغمامِ؟
أم الوجه المهلل من فتاة ... تراءت في محاسنها العظامِ؟
إذا ما أعرضت يوماً بصدَّ ... تجر العالمين إلى الحمام
إذا ما أتحفتك بريق ثغر ... يخال الريق من رشف المدام
تحاكي البان قدَّا إذ تبدت ... وتحكي السحرَ في لطف الكلام(1/424)
لعمرك ما وجدت لها سلوَّا ... سوى جمع الجواهر من إمام
سراج العلم والتقوى تناهت ... إليه المكرمات بلا اكتتام
إذا ما فكرهُ أبدى مقالاً ... فإن القول ما قالت حذام
إليك الفكر قد اهدى مديحاً ... يقابل بالقبول لدى الكرام
ويرعى الله مجدك كل حين ... دوامَ الدّهرِ من غير انفصام
وأجابه عن هذا التقريظ أخوه الممدوح الشيخ الطيب الرياحي، بقوله: [الوافر]
أناطتْ إذ أماطت باللثامِ ... بأقمار الدُّجى سمةَ احتشام
عقيلةُ فتنةِ الألباب أزرت ... بدائعها بأزهار الكمام
أعيذ جمالها من كل شوب ... معاذ كمالها من كل ذام
شهدت بأنّ منجبها عليٌّ ... عزيزُ المثل ما بين الأنام
وكيف يكون مذموم المساعي ... فتى ينميه قطبُ رحى الكرام
أدام الله طود علاه فينا ... وصانك يا هلالُ إلى التمام
وقد كتب رضي الله عنه في علم النحو حاشية على شرح الفاكهي لقطر ابن هشام، ترزي مباحثها بحسن الابتسام، في ثغور الأيام، وقد سلك فيها أغواراً دقيقة، وأبدع فيها تحقيقه، مع سهولة مأخذها الذي سهل به صعاب المسائل أي تسهيل، وأغنى بالتصريح فيها عن ارتكاب التأويل، فكان بها كشاف أسرار العربية، ورافع أستار المشكلات النحوية، تدل بما أودع فيها على ماله في العلوم من اليد الطولى، والغايات التي نال إليها وصولاً.
وشرح أيضاً الخزرجية في علم العروض، شرحاً قام لذلك بالقدر المفروض، فكان شرحاً وجيزاً بسيطأن بجميع شروح الفن محيطأن مع سهولة تقرير، ولطافة تحرير.
وأما نظمه لمتن ابن آجروم النحوي فهو وغن جمع جميع ما احتوى عليه الأصل من المسائل، وسهل حفظها لكل طالب وسائل، غير أنه فيما أظن من مبادئ نظامه، كما لا يخفى على مطالع كلامه، وإلا فإنه كان آية الله في حسن الإنشاء، يتصرف في النظم والنثر كيف يشأن قد أبدع الآداب، وسبق في حلبتها على الشعراء والكتاب، وشعره أدل دليل على قوة عارضته، التي توقف فرسان اليراعة دون الوصول إلى معارضته.
وقد تحلت ترجمته هنا بعض ببعض ما له من البدائع، المزرية بالكواعب الروائع، التي أخصب بها ربع الأدب، وتجملت بخيرنها صفحات حدود الكتب، وحسبه ما خلده بجمع ولده في ديوان الخطب، الذي يبلغ البليغ به إلى غاية الأرب.
وأما شعره الرائق، ونظامه الفائق، فأحسب أني أول من تصدى لجمعه في كتابي مجمع الدواوين التونسية، فأحصيت منه نحو خمسة كراريس تزري بالحلل السندسية، حوت نحو الألفين من أبياته الفاخرة، التي طمت بها تلك البحور الزاخرة، وهو مبلغ يصلح لأن ينفرد به ديوان شعره، الفائق في سعره، وفي ضمنه من محاضراته ما ترتاح له النفوس، ويقول مطالعه لا عطر بعد عروس.
فمن محاضراته أنه اجتمع في بعض الليالي بشاعر بلد سليمان العالم الشيخ محمد ماضور الأندلسي في بيت صديقه الكاتب محمد المسعودي واتفق في مسامرة تلك الليلية أن أدار القهوة على ذلك الجمع، وسيم لطيف الصنع، وحين دخوله يحمل فناجينها بأنامله، وطلوعه عليهم ببدر أشرق فيه بكامله، أصاب شمعة المجلس الموقودة، فانحنت انحناء من يروم سجوده، إذ رأت منه شمعة الجيد التي لا تقط، ولا تطفأ قط، وأنشد الشيخ محمد ماضور في وصف الحال من لطائف المسامرات فقال: [الرمل]
ليلةٌ قد عظمت بين الليالْ ... فهي في جيد المنى عقد الآلْ
وأرتنا عجباً إذ جمعت ... بين شمس ثم بدر وهلالْ
سعدت إذ أنزلتنا منزل المس ... عودي الشهم المفدى ذي الكمال
وبإبرهيم أبدت منظراً ... هام فيه القلب إذ عز المثال
فارتياحي بالرياحيَّ غدا ... وكذاك السعد بالمسعود (ي) طالْ
ليلة جد بنا الأنسُ بها ... طرباً بين يمين وشمالْ
وأديرت قهوة البنَّ على ... جمعنا يسعى بها بدرُ الكمال
فانحنى الشمع منيباً ساجداً ... سجدة الشكر لهاتيك الخلال
فهو والقهوة والفنجانُ في ... كفه يبدي غريباً في المثال
قمراً قد عصرَ اللّيل على ... صفحةِ الفجرِ ف مَّتْ باحتفال
مزج الحلوَ بمرَّ فكأنْ ... قد أرانا القرب والبعد المطال
يا لها من ليلة قد جمعتْ ... كل أنسٍ وبهاءٍ وكمال(1/425)
وأنشد الشيخ إبراهيم الرياحي في ذلك من شعره قوله: [الطويل]
تلقيت من أخباركم كلَّ طرفة ... أنظَّمها في جيد أسمارنا عقدا
وكنتُ بتشنيف المسامع أكتفي ... واكبر بشاراً بما قاله جهدا
ولما نما شوقي وزاد تولهي ... سريت لكم ليلاً أبثكمُ وجدا
وما كان لي هاد سوى نور حسنكم ... إليكم، فلم أعدم بقولكمُ رشدا
وحيث إلى المسعود (ي) كان انتهاؤنا ... زجرت فكان الزجر يستنتج السعدا
فبت وما ليلي سوى لمح بارق ... وإن طال من دهري تنفسه الصعدا
ومن لطائفه أنه استجار به العدل الشيخ منصور الورغمي في لبس الملوسة حين ألزمها الأمير حسين باشا باي لكافة العدول على نظر الشيخ محمد بيرم الثالث وكان دميمأن فاستهجن لبسها وخاف أن يتعاطاه الناس بسببهأن فكتب الشيخ في ذلك إلى شيخ الإسلام البيرمي الثالث مستشفعاً بقوله: [الكامل]
كبرت عليهم إنها لكبيرة ... منصوبة علما على التمييزِ
فتفرقوا أيدي سبا في فضلها ... والخلف بين الناس غير عزيز
فعلى فريق منهم هي مثلةٌ ... ولبعضهم زلفى إلى التبريز
أما "بنو ورغمة" ففقيههم ... لهم يجر مذهبه على التجويز
فلذاك رام حماك علماً أن من ... يأتيه في حرز هناك حريز
فأجره من همزٍ ومن لمزٍ بها ... ما حالة المهموز والملموز
لا زلتم كهفاً يلاذ بعزَّه ... فينال فوق القصد كل عزيز
وقد أجابه عن ذلك شيخ الإسلام المذكور بقوله:
يا أيها العلمُ الذي حسناته ... شرفتْ بطلعتها على الإبريز
وجَّهت لي درراً يقرُّ بحسنها ... أهلُ الصياغة من أولي التبريز
فعرفت مطلبهأن ونيل مرامها ... سهل يمين الله غير عزيز
فعليه تأخير العمامة برهةً ... حتى يكون القولُ في التمييز
ثم إن شيخ الإسلام المذكور اطلع المولى الجد الشيخ محمد السنوسي قاضي باردو يومئذ على الطلب والجواب، واستجلى منه في النازلة عين الصواب، فكتب إليه بقوله: [الكامل]
قل للفقيه المستجاه بجاههِ ... في رفعِ نصب حقَّ للتمييز
إنّ النحاة الَّنصب أوجبوا ... في بابه وأبوا من التجويز
واستهجن الدؤلي لحناً ساقه ... نقلاً من الأمثال للتبريز
وكذأن العموم إذا تخصص بعضه ... ضعت دلالته بنصَّ الجيز
والظن فيمن يستجرك أنه ... منصور دمت تفوق كالإبريز
واتفق أن شاع خبر فناء الخلق في هذا القرن ونسبه أهل الأهواء إلى العالم الرباني، الأستاذ المربي الشيخ أحمد التجاني رضي الله عنه مع أن ذلك مما ينبو عنه مقام أدبه وسلوكه في الشريعة التي صينت من كل نقص، وكملها الله على يد خير خلقه بمحكم النص، وقد جاء في الآيات المتلوة في القرآن الذي أتم الله إبداعه، "وعنده علم الساعة" وهكذا الاعتقاد فيه وفي كل من ماثله لا يجري واحد منهم في جميع الأقوال والعمال، إلا على ما وردت به شريعة خاتم الإرسال، ولذلك لا يجوز لنا أن نأخذ مما ينقل عنهم غير ما جرى على سنن الشرع القويم، إذ ذلك دليل صحة نسبته إليهم في حالة الصحو بالنظر لمقامهم العظيم، فهم أحفظ الناس لسياج الشريعة التي جمعت ما كان ويكون، ولا يتمسك بسواها إلا الجاهلون، وعند شيوغ ذلك الخبر سنة 1241 كتب الشيخ محمد بيرم الرابع يسأله عن صحة ذلك بقوله: [الطويل]
أيا من رقى أوج المعالي وقد غدت ... إليه مقاليدُ العلوم تسلَّمُ
لقد ظهرت رؤيا لها نسبةٌ إلى ... إمام له بين الأنام تقدُّمُ
همام على دست المعالي وقد علا ... مراتبهُ من موقع النجم أعظم
ملخَّصها أن الأنام جميعهم ... لذا القرن تفنى دون ريبٍ وتعدم
أهل هو مما صحّ عندك نقله ... عن الشيخ أم للمين فيه توسم؟
أجبنا رعاك الله عن كنه أمرها ... فأنت لها من غيرك اليوم أعلمُ
لأنك ممن خاض لجَّةَ بحرها ... وأضحى بتحقيق لها يترنَّم
بقيت لنا كهفاً وللحق ناصراً ... وللصعب من دأب البغاية تحسمُ
ويطلب رب النظم حسن دعائكم ... ألا وهو الداعي "محمد بيرم"
فأجابه الشيخ إبراهيم الرياحي مكذباً ذلك بقوله:(1/426)
أيا من سبى الألباب لطف كلامه ... كما أنه في الأذكياء المقدَّم
أتتني منْ سحر البيان قصيدةٌ ... وما هي عقدُ درذًَ منظمُ
تسائل عما شاع في الناس ذكرهُ ... أهل لهُ أصلٌ في الثبوت مسلم؟
نعم هو ريبٌ دون مكين وما له ... ثبوتُ وأمرُ الشيخ أعلى وأعظم
جزى الله خزياً مفتريه وذلةً ... ومأواه إن لم يعف عنه جهنم
فهذا جواب للذي هو طالبٌ ... حقيقة هذا الأمر والله أعلم
ويسأل إبراهيم من فضل ربه ... لك الأمن في الدارين وهم يسَّلم
وكانت له معرفة بأسرار تليق بمثله من العلماء الأخيار، قدم غليه أحد الأفاضل وقد أضغطه غريمه، واشتكى إليه ما يلاقي من شر الأفتضاح، فأذن له بذكر اسم من أسماء الله تعالى في خلوة، وانه عند نهاية الذكر يجد مقدار دينه تحت بساطه، فوجده قطعاً غير مسكوكة، ولما أعلم الشيخ سأله عن كيفية ذكره، فوجد فيه خللاً وأذن له في تداركه، فتم له المراد، ونهاه عن العود لمثل ذلك.
وأتته امرأة تشكو إصابة ولدها بالجنون، وتلظت لديه، فأسعفها ببطاقة تبلغها إلى ضريح الشيخ فتح الله العجمي، ولعلها تتضمن توسلات له، فعوفي ولدها بعد حين، وذلك من أدلة حسن اتصال علاقته بأولياء الله رضي الله عنهم أجمعين.
وكانت له سانية في سفح جبل المنار تحت زاوية الشيخ الظريف رضي الله عنه يسكنها مدة المصيف، فاتخذ منها مسكاً للزيارة ليلأن وقد نقل لي عن صهره أنه سمع له حديثاً عند الضريح، يدل على ما له من الود الصريح.
أما وصلته مع العارف بالله العالم المربي الشيخ مصطفى بن عزوز النفطي أستاذ الطريقة الرحمانية، رضى الله عنه فكان يتجاذب معه أطراف الأسرار الربانية، وله فيه مدائح شعرية، ومكاتيب نثرية، وقفت على بعضهأن وهي تدل على كمال تعلقه بأهل الله في كل ما يرجوه، وغنما يعرف الفضل من الناس ذووه، ومن لطائفها أبيات جعلها في طالعة جواب له مؤرخ بسنة خمس وستين ومائتين وألف وهي قوله: [الكامل]
جاء الكتاب من الحبيب مبشرَّاً ... بقدومه يا مرحباً يا مرحيا
قد رد لي عهدَ المسرة مثل ما ... بقميص يوسفَ ردَّ ما قد أذهبا
أهدي إليك تحيةً مسكيةً ... يا مصطفى يا منتقى يا مجتبى
مستودعاً منك الدعاء وأنت في ... حالٍ تراها للإجابة أقربا
ورأيت من مكاتبتهما كتاباً سرباً بخط الشيخ إبراهيم الرياحي يخاطب به الشيخ المذكور آثرت إثباته لما فيه من الإلماع بحال كل منهما وهذا نصه:
الحمد لله والصلاة على من صلى عليه الرحمن.
يا ليت سيدنا وحبيب الله ورسوله صرح لنا بما أشار به إلينا مرتين من قرب الأجل، المرة الأولى ونحن معك على البنك في محل الحكم والصلاة في دريبتنا من قولك لي: رأيتك كأنك مت ولم توجد وأن روحك كالذبابة، والمرة الثانية ما ذكرت لنا في جوابك المبرور من قولك: إن الجنة مشتاقة إليك، ولولا ما خفت أن يعثر على جوابي غيرك لكتبت لك كلاماً آخر فيا ليت سيدنا رضى اله عنك رحمتني بالتصريح بما تريد أن تصرح لي به، فلعل في ذلك تحريضاً على ترك المهلة، وبعثاً على التشمير لدار النقلة، أو غير ذلك مما يوجب الإعراض عن الفانية، والإقبال على الباقية، فإن المواعظ والنصائح إذا خرجت من أهلها كانت كالسهام لا تخطئ، هذا وما بشرتنا به من الحشر مع أولئك السادات أسأل الله أن لا يخيبنا ولا يدر كرمك فينا وإلا فالعبد الذليل لا تحدثه نفسه بما هو أدنى من ذلك، فضلاً عن الكون مع أولئك، بل الإنسان على نفسه بصيرة، وليست لنا طماعية في ذلك الشأن، إنما لنا طماعية في الغفران.
وإذا كان خليل الرحمن يقول: "والذي اطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين" فأين جاء طمع مثلي، فإنا لله وغنما غليه راجعون، نعم سيدي وقد غمني غماً عظيماً إرسالك لي السبولة العطرية.(1/427)
وقد كنت أخبرتك بأن التعويض عما أرسلت إليك من الأمور المكروهة غاية عندي حتى أستعزت من ذلك، وقصدت بذلك أن لا تهتم معي في مثل ذلك، فخالفتني في التعويض وإن وافقتني في تفضلك علي بالدعاء جزاك الله جزاء المحسنين، هذا ومما يغمني أيضاً ويثقل علي وصفك لي بأوصاف حميدة أكثرها ما في عبدك إلا ضدهأن فلو إنك إذا خاطبتني خاطبتني بما يناسب حالي لسررت بذلك، ولكنك رأيت كمالك في عبدك فنسبت ذلك إليه، كما إذا ارتسمت صورة جميلة في صفحة مرآة فلما رأى المرآة إنسان طهر له جمال المرآة وإنما الجمال للصورة التي انتقشت في المرآة، نعم سيدي ولا تنسني من دعائك، في وقت هجوم حالك، وطيب أجتناء الشهد من خمر وصالك، وسلم لنا على أولادك وتلامذتك وعامة المنتمين إلى شريف خدمتك وطريقك.
من الودود ومن أولادنا الطيب وعلي وسائر من هو منا وإلينأن والحمد لله رب العالمين، من الفقير إلى ربه، المشفق من سوء كسبه، إبراهيم بن عبد القادر الرياحي".
[ترجمة محمد الطيب الرياحي]
وقد امتحن في آخر أمره بفقد ولده الأكبر الشيخ محمد الطيب، وكانت ولادته سنة ست وعشرين ومائتين وألف، فنشأ بين يدي والده وقرأ معقول العلوم ومنقولها عليه، وعلى شيخ الإسلام البيرمي الثالث وغيرهمأن وتقدم للتدريس في الرتبة الأولى بجامع الزيتونة عند وضع الترتيب الأحمدي أواخر شهر رمضان المعظم سنة ثمان وخمسين ومائتين وألف، وقد كتب في أثناء إقرائه حواشي على شرح المحلي لجمع الجوامع الأصولي، وحواشي على شرح الأشموني لأفية ابن مالك، تدل على رسوخ قدمه، واتقاد ذكائه، وتقدم غماماً وخطيباً بجامع أبي محمد الحفصي وخطب فيه بعض من إنشائه، وهو محقق، أديب، شاعر، ناثر، يقذف الشعر من أبحر اللطافة، وينتجب النثر من أزاهر الظرافة، كأنما أودع في إنشاءاته، محاسن أخلاقه وبدائع توشياته، وقد جمعت منه شذوراً في كتابي مجمع الدواوين، تدل على تقدمه في الآداب على الأندلسيين، وكان عالماً حيياً جميل السمت عالي الهمة ظريف المحيا لطيف المحاضرة، وقد عذبت منه في العلم جميع موارده، وعاد عليه فخر نشأته في رياض فضل والده، إلى أن أدركته المنية بين يدي والده في غرة ربيع الثاني سنة ست وستين ومائتين وألف بمرض الكوليرة العام، ودفنه والده بالبيت الذي على يسار الداخل لبيت الذكر من زاويته التي أسهها قرب حوانيت عاشور، وتلقى مصيبة فقده بغاية الصبر.
أخبرني العالم المفتي الشيخ أحمد كريم أنه كان يحضر درس الموطأ على الشيخ بداره، فكان آخر عهده به في الدرس أنه لما أنهى القراءة وأراد التلامذة أن يقوموا أجلسهم وقال لولده المذكور وكان مدون الدرس هل رأيت شيئاً فيما يتعلق بالموت الفجائي؟ فقال له: رأيت أن رسول الله اصلى الله عليه وسلم استعاذ منه، فقال له الشيخ: قد اطلعت ولا أدري في أي كتاب على أنها ميتة حسنة وكررها وسكت، ثم نهض الجميع فلم تمض غير أيام قليلة وأصيب ولده المذكور بالمرض العام ومات، عليه رحمة الله.
وقد كاتبه المشير أحمد باشا باي في التعزية به فأجابه بأوجز مكتوب قال فيه بعد المفاتحة.
"أما بعد فقد وصلني كتابكم الكريم، المسلي عن النبأ العظيم، وقد أسلمنا طيب الولد إلى اله بقلب سليم، وقلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم، والسلام.
ولم يستكمل الشيخ بعد ولده الستة الأشهر حتى طوته الليالي طي السجل وأتاه محتوم الجل، بعد أن تجاوز في العمر الثمانين سنة.
وكان آدم بسمرة يعلوه أصفرار، رقيق البشرة، أحجب بقصر أبلج أشهل بضيق غاير، شم بانفراج، أسيلاً مأن قصير اللحية، يتخلل شبيه خيال من بقايا الشباب، ربعة لقصر، تلوح على وجههه سيماء الصالحين، قضى عمره في العلم والعمل لله رب العالمين.
[وفاة الشيخ إبراهيم الرياحي]
وتوفي بمرض الكوليرة العام يوم الثلاثاء السابع والعشرين من شهر رمضان المعظم سنة ست وستين ومائتين وألف، من الغد حضر مشهد جنازته الأمير والمأمور، وتبرك بتشييعه الجمهور، ودفن إلى جنب ولده السابق الذكر بالمقام المذكور، ضاعف الله لهما الأجور، وحباهما الفوز الكبر يوم البعث النشور.
وكانت وفاته رضي الله عنه من آخر العهد بالمرض العام وإلى ذلك أشار تلميذه ومجاوره في المدفن الشاعر الكتب الشيخ محمد الباجي المسعودي في رثائه بقوله: [الوافر](1/428)
أرى بحر الخطوب طما وأصمى ... وأصلى غالب الأكباد جمرا
فلما استعظموه اغتال فرداً ... يقوم برزء كلَّهم ومرَّا
أما في فقد إبراهيم خطب ... يعمَّ جميع أهل الأرض طرا
[الشيخ علي الرياحي]
وقد عظمت مصيبة فقده على سائر أهل الدين، وتلقاها ولده الثاني الشيخ أبو الحسن علي بالرجوع لله رب العالمين، وكان الولد المذكور أيضاً عالماً زكيأن أديباً بديع المحاضرة، محباً لأعالي الأمور، ينظم الشعر الرقيق، ويطلق من رياض إنشائه أطيب عبيق، ولد سنة ثلاث وثلاثين ومائتين وألف، ونشأ في خدمة العلم بين يدي والده، وتقدم مدرساً بجامع الزيتونة في الرتبة الأولى بعد وفاة العالم الشريف الشيخ محمد بن عاشور في صفر الخير سنة خمس وستين، وتقدم خطيباً بجامع سيدي يحيى قرب دار ابن عسال، وتوفي قبل عصر يوم الجمعة الثالث عشر من المحرم الحرام سنة ثمان وستين ومائتين وألف ودفن بالركن الثاني من بيت مدفن والده فاجتمع بالبيت المذكور ثلاثتهم، رضي الله عنهم أجمعين.
وقد أقيمت تلك الزاوية بالأحزاب والأوراد اليومية وشيد بناءها المشير الثاني محمد باشا باي لإقامة الأوراد التجانية، بذكر الله تعالى، ثم إن الوزير الأكبر خير الدين ثاني وزراء دولة المشير الثالث محمد الصادق باشا باي أراد إحياء صناعة النقش حديدة فآثر لذلك قبة الزاوية المذكورة، سيما وقد كانت إذ ذاك محتاجة إلى بعض تدارك فأتقن تشييدها بحضور بعض عملة نقش حديدة من المغرب، ونقشت قبة الزاوية نقشاً بلغ من الجودة والإتقان ما يحار فيه الناظر على مصروف الدولة، وعند إتمامها على الوجه الأبدع طلب مني ثالث أبناء الشيخ مقدم الطريقة التجانية بها يومئذ أن تؤرخ هذا الصنع فأجبته لذلك، وأرختها بقولي: [الكامل]
لمقام إبراهيم فادخلْ آمنا ... تجلو به فضلاً عظيماً كامنا
واخلع حجابك بالتجرّد للذي ... سوَّاك من طين وردَّك كائنا
واخلص إليه من المناجاة الرجا ... وأركب بعزمك وابتهالك صافنا
ومتى وصلت حمى الرياحي فخرتو ... نس فأنزلنه فلست تخشى الآحنا
والبس به من تاج تجّضان حلى ... واحمد بأحمدها السري مواطنا
وانهج له في الأرض خير طريقةً ... لله تلفه في القيامة ضامنا
ورد الزلال بورده العذب الذي ... أروى وأجرى خالصاً لا آسنا
واقنت لربك عاكفاً متبتلاً ... في خير زاوية لحفظ دعائنا
واشكر مشيدَ بنائها ومعيدها ... فيها من النقش المجيد محاسنا
ذاك المشير الصادق الباشا الذي ... لله دان فنال منهُ مآمنا
وأقامَ خيرَ مآثرٍ له فضلها ... بين البرية قاطناً أو ظاعنا
وأجلها هذا المحل وإنه ... لأعز كنز قد أعاد معادنا
فبه انجلى أمنٌ ويمنٌ ظاهرٌ ... فاسأل إلهك في تلف ميامنا
فهو الذي لمؤرخيه جوابه: ... لمقام إبراهيم فادخل آمنا
الشيخ محمود محسن
هو الشيخ أبو الثنا محمود بن علي بن احمد بن محسن بن أحمد الشريف إمام مسجد دار الباشأن شيخ العلم والعمل رضي الله عنهم أجمعين، وهلم جرأن إلى استيفاء سلسة هؤلاء الأشراف بالوصول إلى جدهم سيد الأولين والآخرين، عليه وعلى آله أفضل صلاة المصلين، وأزكى سلام المسلمين، فيا لها من سلسة فاخرة، كانت مجمع بحور الفضائل الزاخرة، وقد توسل بجواهرها الثمينة كثير من أهل الشأن، ونظموها في عقود الجمان، وقد اختص منها آباء هذا الإمام إلى الوصول إلى سيد الأنام، الشاعر الأكتب الشيخ محمد التطاوني فقال: [الطويل]
أما آن أن تستبدل الغيَّ بالرُّشد ... وتثني عنان الهزل منك إلى الجدَّ
إلى م التواني والأماني شرابها ... سراب تبدّى فوق رابيةٍ صلد
فبادر ولا ترج الأمور إلى غد ... فربَّ غدٍ يأتي بما ليس في العدَّ
وسابق إلى سبل السعادة والهدى ... وشمَّرْ لإجراز العلى ذيلَ مشتدّض
وكن واثقاً بالنجح في كل مبتغى ... مؤملهُ في فضل من جلَّ عن ندَّ
ولا سيما إن رمته بشفاعة ... من آل نبي خصّ في الذكر بالحمدِ
خصوصاً ذوي الإحسان من آل محسن ... كرام السجايا كم يد لهم عندي(1/429)
إليك بهم يا ربّض قد جئت ضارعاً ... بحقّضهمُ لا تخجلنَّي من الطرد
فمحمود الأرضى ووالده الرضا ... عليٌّ أبوه أحمدٌ نَّيرُ المجدِ
ووالده المحمود وهو محمد ... سليلٌ لمحسن بن أحمد ذي الرفد
وذا حسنٌ يدعى أبوه، وجدّه ... عليٌّ وفوز الابن بالأب والجد
وب "الحسن" الأسمى أبيه ابن احمد ... سليل الذي لازلت فضله أستجدي
أبي القاسم الميمون نجلِ محمدِ ... هو ابن قريش نجل عيس أخي الزهد
وهو ابن عبد بالعبادة قد غدا ... مضافاً إلى الرحمن أكرم بذا العبد
ومن خلف المدعو بابن علي الشَّ ... هير اقتبس نور الهداية والرشد
ومن فرج المدعو بابن علي ال ... جليل التمسْ تفريج كربك عن حد
وسل بأبيه القرم وهو محمد ... مرداك كي تحظى به دون ما ردَّ
ولا تعدُ إسماعيل والده الذي ... أبوه يسمى جعفر الصادق الوعد
وبالباقر الأتقى أبيه محمد ال ... همام الذي حاز السيادة في المهد
وهو ابن زين العابدين علي ال ... إمام الزكي الأصل ذي السؤدد العدَّ
سليل حسينٍ نجل فاطمة التي ... هي الزهرة الزهراءُ أمّ ذوي ودَّ
أبوه علي وهو صنو نبيَّنا ... عليه صلاة الله تترى بلا حد
بجدَّهمُ اللهم يا خالق الورى ... ويا ملجأ المضطر يا وجهةَ القصد
أنلني رضاكم يوم لا شيء غيره ... يقربني زلفى إلى جنة الخلد
ويا رب فاشهد أنني قد أحبُّهم ... لحبك إياهم وذا ما لهم عندي
وأستنزلُ الرضوان منك عليهم ... لترضيهم عني وذا منتهى جهدي
وصلَّ وسلَّمْ ثم بارك على الذي ... أتى رحمةً للعالمين بلا جحد
فقد توارث صاحب الترجمة مفاخر عن أبيه وجده، فبلغ بها من الفضل غاية حده، وله في غمامة الجامع من سلسة سلف، أخرجه إليها إخراج الدر من الصدف.
[الشيخ علي محسن]
فقد كان المنعم والده الشيخ أبو الحسن (علي محسن) إماماً ثالثاً بجامع الزيتونة على عهد البكريين بفضله وحسن تلاوته، وكان معظماً عند الخاصة والعامة علماً وديانة، إلى أن توفي في السادس والعشرين من ذي العقدة الحرام سنة 1209 تسع ومائتين وألف.
وكانت ولادة صاحب الترجمة سنة 1193 ثلاث وتسعين ومائة وألف، فتربى في حجر عناية والده، وقرأ القرآن العظيم على الفاضل الشيخ حسن بن عمر، يروى أن مؤدبه المذكور انتهره في بعض الأيام لأجل القراءة، فلم يتحمل ذلك لعزة نفسه، وأخذته الغصة ولازمة البكاء من ذلك الوقت إلى أن رجع إلى داره عند الزوال، واستمر عليه ذلك في قيلولة ذلك اليوم، ولما نام مؤدبه في داره رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه واضعاً ولده المذكور في حجرة وهو يأمر مؤدبه باسترضائه، فقام من نومه فزعاً وخرج من حينه، واشترى فواكه مما يرضي الصبيان، وجاءه إلى داره فوجده باكيأن فانكب عليه واخذ يقبل يده ويعطيه الفواكه، ويسترضيه إلى أن سكن جزعه، وقص رؤياه على والده، رضي الله عنهم أجمعين.
ثم بعد قراءته القرآن العظيم توجه إلى قراءة العلم الشريف فقرأ على ابني عمه الإمامين الشيخ حسن الشريف، وأخيه الشيخ محمد الشريف، والشيخ الطاهر ابن مسعود، وقرأ على غير هؤلاء، وتصدى للإشهاد فعد من ثقات العدول.
ولما توفي شيخه الشيخ الطاهر بن مسعود خليفة الجامع وقدم الأمير محمود باي الشيخ "عمر بن المؤدب" للخلافة تقدم صاحب الترجمة للنيابة إماماً ثالثاً في ربيع الثاني سنة 1234 أربع وثلاثين ومائتين وألف، وكان الإمام الأكبر يومئذ ابن عمه الشيخ حسن الشريف، فاستمر إماماً ثالثاً زينة لجامع الزيتونة، وأولاده شهادة الحرمين، وهي يومئذ من الخطط النبيهة الشأن، فقام بحقوقهأن ولازم المعاينة بنفسه، ولما علم الأمير بذلك أهدى إليه فرساً اعتناءً بشأنه، واستمر مباشراً للإشهاد والإمامة إلى أن توفي الخليفة المذكور، فقدم الأمير ولده "الشيخ الشاذلي" نائبأن وقدم صاحب الترجمة إلى الخلافة، كما هو مقتضى الاستحقاق، فتقدم خليفة لابن عمه الشيخ محمد الشريف سنة 1239 تسع وثلاثين ومائتين وألف، فعمر الجامع بمواظبته وإقامة الصلوات في أول أوقاتها.(1/430)
ولما تنقل الشيخ الشاذلي المذكور إلى خطة الفتيا أبي المشي خلفه اعتماداً على خطة الإفتاء، وعظم الخلاف بين الخليفة ونائبه بسبب ذلك، فبلغ أمرهما إلى الأمير مصطفى باشأن فأرسل قاضيه وكاتب سره للمصالحة بينهما مع المحافظة على ترتيب الجامع في تقديم الخليفة على الإمام الثالث وحسنت العلاقة بينهمأن واستمرا على ذلك إلى أن توفي الإمام الأكبر الشريف فرأى المشير الأول احمد باشا تعين تقديم عالم العصر الشيخ إبراهيم الرياحي إلى إمامة الجامع، ولم يأنف من ذلك صاحب الترجمة لحسن إنصافه وعلمه بكمال رتبة الشيخ إبراهيم، بل إن ذلك لم يزدهما إلا تآلفأن وكثيراً ما يقدمه الشيخ إبراهيم على نفسه ويرغب مع ذلك نائبه الشيخ الشاذلي في صفر الخير سنة 1263 ثلاث وستين تقدم الشيخ "محمد البنا" نائباً عن الخليفة المذكور، ثم لما توفي الشيخ إبراهيم الرياحي قدمه المشير الأول أحمد باشا إلى الإمامة الكبرى في التاسع والعشرين من شهر رمضان المعظم سنة ست وستين ومائتين وألف وأولى خليفته الشيخ أبا عبد الله محمد البنأن وقدم للنيابة شيخ الختمة العالم المجود "الشيخ احمد القروي" بعد أن كان كثير النيابة عمن قبله عند عروض الأعذار، وكان في الثلاثة الأشهر المعظمة يجلس على الختمة لتجويد القرآن بعد صلاة الظهر، وبعد الفراغ يحضر مجلس الأيمة لرواية الشفأن وأقام الصبح والعشاءين مدة مديدة من قبل ولايته النيابة بإذن من الأمير.
وقام هذا الإمام الشريف بخطة الإمامة الكبرى بجامع الزيتونة احسن قيام، وكان معتقداً للخاص والعام، فاضلاً كريمأن عزيز النفس، عالي الهمة، مهاباً معظمأن غيورأن أولاه المشير الثاني محمد باشا وكالة زاوية السيد أبي زمعة الصحابي بالقيروان، فحاسب من كان قبله وأنتخت المحاسبة نيفاً وسبعين ألفأن أستأذن فيها الأمير، فامتنع الأمير من التداخل فيها وفوض أمرها إليه يفعل بها ما شاء من أكلهأن والتصدق بهأن أو ما يظهر له، فبادر واشترى بجميعها زياتين بمرناق ودياراً بتونس، وأوقفها على الزاوية، ولما جمع المشير الثالث الزاوية على لسان الأمير، فأنكر ذلك وتغير له، وقال له: إنه إذا عزلني عن الزاوية المذكورة فإني (نخرج من البلد) وبمجرد بلوغ خبر ذلك للأمير أرسل إليه مع لسان الدولة يعلمه بان المحتسب المذكور أتاه من قبل نفسه لا بإذن، وأنه كيف يعزل شيخه الذي أخذ عنه الطريقة التجانية، وغنما يرجو رضاه، وعند ذلك سكن غضب الشيخ ودعا للأمير بخير، ومن الغد قدم إليه لسان الدولة المذكور بسبحة من عنبر وثلاثة آلاف ريال، وأمر في تمليكه هنشير الديوان قرب مرناق جلباً لخاطره، نال منه بذلك الدعاء الجميل، أدركته رضى الله عنه على هرمه لا يتخلف عن الرواية في الشهر الثلاثة مع ضعف بصره، وكان مع ذلك ينسخ صحيح البخاري بخط يده بأحرف كبيرة تساعده على القراءة، ويصلي الظهر والعصر، ويخطب في الجمعة والعيدين والناس يتبركون بأذياله إلى أن عجز، فصار إنما يحضر الجامع بحسب مقدرته، وهو الذي جعل لسائر أبواب بيت الصلاة مراتج من بلور وقاية من الريح والبرد فأحسن بذلك للمصلين والمدرسين.
ومن ورعه نعمه الله انه لما ورد ماء زغوان إلى الحاضرة ومروا به على ميضاة الجامع بعد أن ادخل إلى بعض ميضاوات غيره من الجوامع امتنع الشيخ من إدخاله إلى ميضاة الجامع كما يذكر فيه من الشبهة نظراً لاستحقاق أهل البلد الذي فيه منبع الماء.
وقد كان له ثلاثة أبناء وهم الشيخ (الطاهر) والشيخ (مصطفى) والشيخ (عبد الرحمن) توفي أولهم أولاً وتلقى الشيخ مصيبته بالصبر وتوفي ثانيهم ليلة الثلاثاء الثالث من ذي العقدة الحرام سنة 1284 أربع وثمانين ومائتين وألف، وصبر لذلك أيضاً غير أنهما خلفا له محمدين حفيدين له، رضي الله عنهم أجمعين.
ثم توالى عليه الهرم والمرض واشتاق إلى لقاء الرحمن، فأدركته المنية وله من العمر سبع وثمانون سنة وتوفي عشية الجمعة السادس عشر من رمضان المعظم سنة أربع وثمانين ومائتين وألف وتبرك الأمير والمأمور بحضور جنازته وصلى عليه الشيخ (علي العفيف) أمام باب البهور بجامع الزيتونة بوصايته عليه رحمة الله وقد رثاه الأكتب الشيخ المختار شويخة بقوله: [البسيط]
ورد المنايا على الأيام مورودُ ... وشربها المضّ بين الخلق مقصود(1/431)
سّيان منْ عزَّ أو هانت معاقله ... لا يفتدى والدٌ منها ومولود
تلك الليالي وغن جادت بما وعدت ...
غطاؤها منك مسلوبٌ ومردود
ألا لعاً للأماني فهي مرحبة ... ولا لعاً لليالي فهي تنكيد
لا يفتدي امرأً ذا عزة أسفٌ ... إنّ المجد بريب الدهر مجدود
لا تنقع الظامئ المصدور موجعة ... أو ينجع الفاقد المحزون مفقود
أظلَّ ذا الوجد من ذا الخطب مغتبطاً ... في الحي يرتاد طلقاً وهو مردود
سلِ المنايا لمن ولت عزائمها ... وسددت سهمها؟ لا كان تسديد
بالفاضل المحسن الحمود قد نشبت ... أظفارها فتولت وهو منجود
من الألى فرض الرحمن حبَّهمُ ... فودهم لأمان الأرض إقليد
شمٌّ معاطسهم زهرٌ مكارمهم ... والكل يصحبهم عزٌّ وتمجيد
فطب حديثاً وقل ما شئت من كرم ... فكل فضلٍ لأهل البيت مشهود
قد كان غيثاً هطولاً في فضائله ... ترى مزاياه عقداً وهو منضود
ثنيتين من بعد خمسين سمت حججاً ... يؤمُّ وهو على الإجلال موطود
يسدد القول عن أغراض موعظة ... لانت لموقعها الصمُّ الجلاميدُ
ففي المنابر نحبُ الآسفين وفي ... صدر المجالس تأويهٌ وتصعيدُ
فلتغمضنَّ جفون المجد عن أسف ... فإنه في جفون الأرض مغمود
سقى لمضجعه الأسنى وعادوه ... مأواك محسنُ في الفردوس محمود
الشيخ محمد محسن
هو الشيخ أبو عبد اله محمد بن عل يبن احمد بن محمد بن محسن بن احمد الشريف، إمام مسجد دار الباشأن وهم جرا إلى الوصول إلى أصل الوجود صلى الله عليه وسلم ناهيك به من صفوة مشاربه، وعزت مآربه، حفيد غمام جامع الزيتونة، وقد كان والده سميه عظيم القدر جليلاً فاضلأن يغلب عليه الصلاح، تجاوز الثمانين سنة، ولاستدعاه المشير الثاني محمد باشا في مبدأ دولته وتبرك به واخذ بيده حين وصوله إليه وشيعه حين خروجه من عنده، ونال منه الدعاء الصالح وأكرمه بمال عظيم، ثم اشترى له داراً كانت جوار داره بما أرضى صاحبهأن وتوفي بعد دولة المشير المذكور، وأعقب فحلين من أولياء الله وهما: الشيخ أبو الحسن علي وأخوه صاحب الترجمة.
الشيخ علي محسن
أما الأول فقد ولد سنة اثنتين وثلاثين ومائتين وألف في فضل بيته وقرأ القرآن إلى أن وعاه حفظأن وقرأ العلم الشريف بجامع الزيتونة على الشيخ علي العفيف، والشيخ محمد النيفر الأكبر، ثم سلك طريق أهل الله، وأخذه الجذب وكان في حدود الخمس والخمسين بعد المائتين والألف يحضر جامع الزيتونة، وينكر على المصلين السعال، وربما ضرب من أخذه السعال، فأمسكه عمه إمام جامع الزيتونة الأكبر في الدار، وقيده يوم السبت وكانت والدته تخرج في الليل فتجده يدور في وسط الدار، أو انه يتوضأ حتى إذا جاء النهار أصبح في قيده.
وفي ليلة الثلاثاء حضر لدار عمه ثلاثة أشخاص وقرعوا عليه الباب وطلبوا مقابلته في ذلك الوقت، فخرج إليهم فطلبوا من فك قيد ابن أخيه وأعلموه انه سيلازم الدار من يوم الجمعة القابل إلى أن يستكمل أربعاً وثلاثين سنة يكون فيها قطباً بأراضي السودان، ثم يخرج ويحسن سلوكه ويلازم جامع الزيتونة، وعند ذلك أرسل عمه في الحين بفك قيده، وكان الأمر كما ذكروأن فإنه لازم داره، التي قرب الجامع الحسيني، وتعاطى هدمها إلى أن خرج منها أهله، واستمر في هدم الديار المجاورة لهأن وكان كلما وصل إلى دار أرسل الأمير إلى صاحبها ودفع له ثمنها وتركها له، إلى أن عظم البراح الذي أقام فيه، وقد أدركته وهو غنما يظهر من السطوح أحياناً أو انه يخرج التراب من كوة فتحها إلى أن استكمل أمده، فخرج في أواخر عام تسعة وثمانين ولازم التردد بين داره والجامع.(1/432)
ولما توفي ولي الله الشريف الشيخ سيدي محمد الصوردي يوم عاشوراء من المحرم الحرام عام تسعين ومائتين وألف، انتشر الشيخ بعد ذلك في الترداد على كثير من جهات البلاد، ثم لازم جامع الزيتونة مدة، واكثر جلوسه ومبيته فوق دانة سيدي منصور، وتارة يبيت بمقصورة سوق القماش، وهو على أكمل حالة الزهد في الدنيأن يلبس جبة من صوف ويتردى برداء، وعلى رأسه خرقة من الصوف وفي رجله بشمق، وتارة لا نعل في رجله، وهو مع ذلك من اعظم خلق الله هيبة وكمالأن مع غاية الأدب والتفاني في الله، وقد نقل عن بعض أهل الله انه ولي غوثاً بعد القطبانية، وكراماته رضى الله عنه كفلق الصبح، ولم يزل أمر سلوكه وصحوه في تقدم وازدياد إلى أن أدركته المنية عن حال صحة آخر ليلة الثلاثاء العاشر من ربيع الأول سنة 1298 ثمان وتسعين ومائتين وألف، وتوفي على جرد حصير متوسداً حجارة، وحسبه بذلك فخراً لزهده رضي الله عنه وأخرجت جنازته من دار حفيد عمه، وصلى عليه بجامع الزيتونة عند باب البهور، وحضر مشهد جنازته الأمير وآل بيته والوزراء وجميع العلماء وكافة الأهالي حتى أن جامع الزيتونة وجميع رحابه غصت بمن لم يعهد اجتماعهم لمن سواه، ودفن بزاويته قرب الجامع الحسيني، وقد رثيته فقلت: [الكامل]
ما للمشارب صفوها لا يحسنُ ... هل فارق الدنيا عليَّ محسنُ
إيهٍ لقد تاقت له الأخرى، لذا ... أخذته كي بكماله تتيمن
علمت بأنه بضعة المختار ذو الأ ... سرار من قد طاب منه المعدنُ
فهو الذي نادته حضرةُ قدس خا ... لقه إلى إدارك ما هو ممكن
وسقاه من كأس التفاني فاحتسى ... صفو الشراب لأنَّ سكره يزمن
فغدا نديماً في خدور صيانة ... ولغير من يهواه ما أن يسكن
ورأى الجمال وشاهد الإجلال والإ ... قبال في قرب له مستوطن
وحوى جلالاً من أجلَّ تعرّفٍ ... أبدا به فضلُ المعارف احسن
لا يستفيق من الغرام ملازماً ... لتأدبٍ فيه يحار الأفطنُ
يحيى الدياجي بالمناجاة التي ... أمسى بها في سره يتفنَّنُ
ولذا تبدَّى معرضاً عن كل ما ... في هاته الدنيا وغن هو يحسن
فالزهد فيها وصفه بين الورى ... ومتاعها أبدا عليه لهيَّنُ
مع أنه ملك التصرف في القطا ... بة واغتدى بكمالها يتزين
ورقى إلى غوثيةٍ يسمو بها ... في مجمعِ التصريف وهو الأمكن
يجري الإله على يديه جميع ما ... في عالم الدنيا غدا يتكون
والأولياء جميعهم من دونه ... وبذاك أنبا منهمُ منْ يعلن
وله بذا شهدت كرامات بدت ... متكاثرات حصرها لا يمكن
فخرٌ سما به من وراثة جده ... خير البرية شامه المستيقنُ
فيه اقتدى بعلي أبيه وجده ... لكنه اعلاه سبقٌ أيمنُ
ولكم لهم في بيتهم من سيد ... في الأولياء تراه وهو يلقَّن
ولكمْ بفضلهمُ استجار ذوو الرجا ... لله في خطب فصار يهوَّن
ولكم بهم في تونس الخضراء يس ... تقى الغمامُ وما تريَّثَ يدمن
لله ما شرفٌ على شرفٍ سما ... شرفأن به الأشراف طرَّا تعلنُ
فليتَّعظ بمماته من قد درى ... بمقامه العالي، ففقدهُ محزنُ
وليعتبرْ أهل النهى بكمال من ... قد شيَّعوه متى دعاه الموطنُ
ولئن يكن دفنوه في قبر سما ... بالفخر منه ففضله لا يدفن
فليعقده المستمير منادياً ... له باسمه فله الإجابة ديدن
وليستغث به من يناجي ربَّه ... وليستجر به من تصبهُ الأعينُ
وليتخذه وسيلة لله في ... ما قد عرا فبه التوسل أعون
وليتخذ ذو النسك عنده خلوة ... فيها يرى متبتلاً لا يفتن
فهو الذي خلع الإله عليه من حلل الرضا خلعاً بها يتزين
وهو الذي قد نال سابغ رحمة ... عند الإله بها غدا يتمكن
والله مجَّدهُ فقلت مؤرخاً: ... في مجد رحمته عليَّ محسن(1/433)
وأما أخوه صاحب الترجمة فقد ولد سنة 1226 ست وعشرين ومائتين وألف، وحفظ القرآن العظيم حفظ تثبيت وجوده، وقرأ العلم الشريف على شيوخ كثيرين، منهم الشيخ أبو عبد الله محمد البنأن والشيخ محمد النيفر، ثم اشتغل بأحواله وتعاطى التجارة بسوق القماش وسوق العطارين الكبار مع ملازمته تلاوة القرآن ثم أنه تقدم لمشيخه أحزاب الأسبوع لجامع الزيتونة عند وفاة الشيخ الذي قبله وما توفي نائب الخليفة الإمام الثالث الشيخ أحمد القروي قدم المشير محمد الباشا صاحب الترجمة للنيابة غمامً ثالثأن وقدم الشيخ محمد بن سليمان إماماً للتراويح وشيخاً على الختمة، وكان خليفة الجامع يومئذ هو الشيخ محمد البنا والإمام الأكبر هو عم صاحب الترجمة الشيخ محمود محسن، فقام بالنيابة احسن قيام، في كثير من العوام، ثم عند وفاة خليفة عمه قدمه المشير الثالث محمد الصادق باشا باي خليفة لعمه في أواسط المحرم سنة 1283 ثلاث وثمانين ومائتين وألف، وصادف ذلك هرم عمه وعجزه فقام متحملاً أعباء الخطة ولازم المحراب والمنير وقام بالخمس والجمعة إلى أن توفي عمه فقدمه المشير المذكور لخطة الإمامة الكبرى بجامع الزيتونة أواسط شهر رمضان المعظم سنة 1284 أربع وثمانين ومائتين وألف، ولما توفي إمام التراويح وشيخ الختمة الشيخ محمد بن سليمان تقدم عوضه ولده الشاب الشيخ حمودة محسن، فرآه أبوه متقدماً بمحراب جامع الزيتونة، ونال مسرة ذلك، وكان عليه رحمة الله مصاباً بذات الرئة، اشتد به المرض بعد حين، ولازم الفراش في مبادئ عام تسع وثمانين حتى منعه من الحضور لعمل المولد الشريف.
وكان حسن الأخلاق حسن المحاضرة، تقياً بالله، لا تأخذه في الله لومة لائم، دخل في أعضاء المجلس الكبر مدة القوانين، فظهر منه النصح للأمة والدين، وهو معقد عند العموم تجله الخاصة والعامة، اخبرني خليطه أبو عبد الله محمد بروطه أنه في صفر الخير من عام وفاته مر على دار الشيخ علي محسن فرآه فقال له: هل تأتيني بأخي؟ فأجابه لذلك، وطلب من صاحب الترجمة الذهاب إلى أخيه، وكان يومئذ يجد ألم صدره، فأحضر له كروسة، وذهباً معاً إلى الشيخ، فلما رآه الشيخ قال له: أأنت أخي؟ فقال له: نعم، فقال له: وهل بقيت دارنا التي بها شجرة الحناء؟ فقال له: نعم، فقال له: أو إن الحناء الآن موجودة؟ فقال له: غن الشجرة قد ماتت، ثم سأله عن عمه فأخبره بوفاته، فسأل عمن تركه، فأخبره بأبنائه، فطلب إحضارهم فأحضروهم له في الحين، وبارك عليهم، وأمرهم بالرجوع من حيث أتوا ثم طلب من أخيه الإمام الكبر صاحب الترجمة أن يدخل معه إلى داخل رحابه، فدخل وأقام معه منفرداً هـ نحو الساعة، ثم خرج وصحبته قفتان مخاطتان إحداهما بالجوز والأخرى باللوز، ورجع إلى داره، وف يتلك الليلية ظهر عليه حال واختلاج واكثر التوسل لله مما لا طاقة له به، ولازم بيته على كماله وإجلاله والناس يتبركون بزيارته إلى أن توفي ثاني عشر ربيع الأول سنة تسع وثمانين ومائتين وألف وتبرك الناس بحضور جنازته، وأعقب في الجامع ولده، وكان مدفنه في تربة آبائه بالزلاج عليه رحمة الله آمين.
الشيخ صالح النفير
هو شيخنا أبو الفلاح صالح بن احمد بن قاسم بن محمد بن محمد بن أبي النور النيفر، قدم جده أبو النور إلى حاضرة تونس من بلد صفاقس، وكان مقدم آبائه إليها من مصر القاهرة في تجارة، وهم يلبسون العمامة الخضراء علامة على شرفهم، واخبرني بعض الشيوخ منهم انهم من ذرية الشيخ الرفاعي رضي الله عنه وهو مولاي أحمد بن سليمان بن احمد بن سيلمان بن احمد بن إبراهيم بن أبي المعالي بن العباس الرحبي البطايحي الرفاعي شيخ الفقراء الأحمدية إليه كثير من الفقراء الحمدية، وروى الحديث عن سبط السلفي، وحدث وكانت وفاته ليلة الاثنين سادس ذي الحجة الحرام سنة إحدى وتسعين وستمائة، ودفن برواقه المعروف به بحارة الهلالية خارج باب زويلة من مصر.
وأما آباء صاحب الترجمة الأربعة المذكورون فقد ولدوا بتونس، وتعاطوا صناعة الحرير والتجارة بسوق القوافي والعطارين، وساعدهم البخت فربحوا وأثروا مع ما فيهم من البذل والتصدق، وكلهم حج بيت اله الحرام.(1/434)
وولد شيخنا المذكور سنة 1236 ست وثلاثين ومائتين وألف، ونشأ نشأة صالحة وشد إلى التعلم عزائمه، ونتوجه لقراءة العلم الشريف بجامع الزيتونة، فقرأ على أخيه الأكبر الشيخ محمد النيفر المفتي المالكي كتب النحو من مباديها إلى أن أتى على ألفيبة ابن مالك، وقرأ عليه مصطلح الحديث ومختصر السعد، ونبذة من المطول، وتفسير القاضي البيضاوي، وقرا على الشيخ أبي عبد الله محمد بن سلامة المفتي المالكي شرح التاودي على نظم ابن عاصم بحواشيه، وشرح الشفا للقاضي عياض، وقرأ على المولى الجد الشيخ أبي عبد الله محمد السنوسي المختصر الخليلي، وقرأ على شيخ الإسلام أبي عبد الله محمد معاوية المطول، وقرأ على الشيخ أبي عبد الله محمد بن ملوكة رسالته المنطقية وغيرهأن وقرأ على غير هؤلاء من أعلام الشيوخ كالشيخ أبي أسحق إبراهيم الرياحي، وشيخ الإسلام الشيخ محمد بن الخوجة والشيخ أبي عبد الله محمد الخضار المفتي المالكي، والشيخ أبي عبد الله محمد البنأن وقد برع في المعقول والمنقول مع حسن العارضة وجلس للتدريس بجامع الزيتونة، وتقلب في خطط علمية رفيعة الشأن، فتقلد خطة التدريس من الرتبة الثانية في الثاني عشر من ربيع الأول سنة 1265 خمس وستين، ثم في سابع جمادى الثانية من السنة الموالية لها ترقى إلى الرتبة الأولى، وأفاد الطالبين وختم كتباً مهمة ولما ختم مختصر السعد هنأه أحد تلامذة الدرس، وهو الموثق الفرضي المجود، المدرس الشيخ محمد البشير التواتي بقوله: [الطويل]
أبدر تمامٍ حلّ في طالعه السعد ... أمِ البرقُ يبدو من نواحي بني سعدِ
أم ارتفع الجلباب عن وجه بثنة ... فبانت ثنايا الدر في مجمع الشَّهد
فآنستُ وجهاً أنه الشمس في الضحى ... وأن الحيا قد حاك ورداً على نجدِ
وقد سدَّدتْ نحوي سهامَ لواحظٍ ... ليفعلنَ بي فعل المواضي من الهند
فبتُّ ونار الشوق وسط حشاشتي ... ولم تذق العينان طمعاً من البرد
زكم وعدت مقتولها بحياته ... فشاب ولم يظفر بمائسة القدَّ
وإني قنوع في الوصال بنظرة ... إلى الغادة الحسنا مبرَّرة النَّهد
فإن لامني العذال فالقصد صالحٌ ... لدى الناس مثل النار ليلاً على بند
تقيٌّ نقيٌّ ناسكٌ متورع ... هو الفاضل المحمود في القرب والبعد
إمام همام لوذعي وسيد ... من الشرفاء الطاهرين أولي النجد
خلاصة أخيارٍ ومفتاحُ كنزهم ... وبحر محيط لا يغيض من الورد
كمال لنا كشفٌ لكل ملمة ... خليل لطلاب العلوم أولي الرشد
رياضُ علومٍ كأس عذبٍ رحيقها ... أساس مبانيها يصول كما الرعد
كأنّه ليس في جيوش دروسه ... وفي معرك الألباب سيف بلا غمد
إذا ما تصدّى للبيان رأيته ... يصوغُ المعاني في البديع بلا جحد
وكم لهجت أنفاسه بجواهرٍ ... منظمةٍ كاللؤلؤ الدر في العقد
يفوق الورى في كل أمر يسودهم ... وغن ذكروا مجداً تقدم في العد
أيا ماجداً قد حاز كل فضيلةٍ ... ويا سيداً دامت له سبلُ الودَّ
فدونك بنت الفكرِ قد تمّ حسنها ... أتتك تهنّي في ختامك للسعد(1/435)
وقد ولي مشيخة المدرسة المرادية في السابع عشر من ذي الحجة الحرام سنة 1271 إحدى وسبعين، وتقدم للإمامة والخطبة بجامع درب العسال في السابع من ربيع النور من السنة الموالية لهأن وتعاطى في مبدإ أمره المتجر، وكان حانوته بالعطارين الكبار يومئذ وجلس للإشهاد، وكان الولي الصالح الشيخ صالح المثلوثي كثير التردد عليه، فاتاه مرة إلى حانوته، وقال له: يا شيخ صالح هات دفترك واكتب إنك ستولى خطة كذا وخطو كذأن وذكر له عدة وظائف رفيعة يعز اجتماعهأن وكان المر كما ذكر الشيخ رضي الله عنه فقد قدمه المشير الثالث لخطة القضاء بالحاضرة منتصف ربيع الأول سنة 1277 سبع وسبعين ومائتين وألف، وتقدم في مجالس الجنايات عند وضعهأن ثم في غرة صفر الخير سنة ثمانين ترقى إلى خطة الفتيا ثم في شهر شوال استعفى من خطته في مجالس الجنايات، وخرج لحج بيت الله الحرام ثانياً غرة ذي القعدة الحرام سنة 1280 ثمانين ومائتين وألف، فحج وزار ورجع إلى الحاضرة على خطة الإفتاء، وكان مفتياً سادسأن ولما توفي الشيخ محمد البنا صار مفتياً خامسأن ولما توفي الشيخ الطاهر بن عاشور صار مفتياً رابعأن ولما توفي الشيخ احمد بن حسين ترقى إلى رئاسة المجلس الشرعي، فولي خطة باش مفتي بتقدمه على المفتي الثاني يومئذ الشيخ الشاذلي بن صالح، والمفتي الثالث الشيخ علي العفيف، وكانت ولايته الخطة المذكورة تاسع شعبان الأكرم سنة 1285 خمس وثمانين ومائتين وألف بعد أن تقلد وظيفة الحسبة والنظر على بيت المال أواخر ذي الحجة الحرام سنة 1284 أربع وثمانين ومائتين وألف.
وقد كان فقيهاً عالمأن له حسن دراية، يضرب بها المثل، مع مزيد التحصيل في الفروع والأصول، وحسن الجاه الذي لم يشاركه فيه أحد يومئذ، وله ولع بالتصوف والأذكار، وحب الصالحين والزيادة لهم، ومواسة الغرباء أينما كانوأن وله حسن محاضرة لا تمل مع اقتدار كلي على إبراز الكلام في قوالب شتى.
وقد قرأت عليه الكفاية شرح الرسالة للشيخ سيدي عبد الله بن أبي زيد القيرواني، وكانت قراءته لذلك قراءة تحقيق بعد صلاة الصبح، ولما ولي رئاسة الفتيا تأخر عن الدرس المذكور، وكانت تقاريره ومباحثه تسحر الألباب، وأذكر منها أنه لما كان يقري قول الشيخ "ومملا يجب اعتقاده أنه تعالى فوق عرشه، المجيد بذاته" وقد أورد الشارح الاستشكال على ظاهر العبارة بما هو مبسوط في محله من إشعاره بالجرمية والاستقرار بالذات نفسهأن فاستظهر رحمة الله أن الجملة مركبة من عقيدتين، وهما كونه تعالى فوق عرشه، وكونه تعالى مجيداً بذاته، بجيث يقرأ المجيد (بالرفع) خبراً ثانيأن لا بالجر على انه نعت للعرش، قال: وهذا الوجه أخذته من قراءة الوقف على ذي العرش في قوله تعالى: (يوجد آية) وهو وجه يزيدك حسناً كلما زدته نظرأن وهكذا كانت أختامه ودروسه كلها في غاية حسن التقرير والتحرير، وأدعيته لطيفة الإنشاء، يبدع في تحريرها كيف شاء، وقد كتب أختاماً كثيرة على أبواب مهمة من صحيح البخاري، وتصدى لشرح الموطأ فكتب عليها كتابة جليلة حين لازم إقراءها بجامع الزيتونة بلغ في الشرح المذكور إلى حيث بلغ في التدريس وتركه مسودة.
وأما تدرجه في مراقي إمامة جامع الزيتونة فقد تقدم للنيابة إماماً ثالثاً في الرابع عشر من صفر الخير سنة 1283 ثلاث وثمانين ومائتين وألف عند وفاة الخليفة الشيخ محمد البنأن وأقام المغرب والعشاء والصبح مدة، وكان كثيراً ما يعتكف الليالي العديدة بجامع الزيتونة لأداء صلاة العشاء والصبح، وقد استصحب في ليلة النصف من شعبان تلك السنة للمبيت معه الشيخ محمود قبادو، فارتجل قصيدته، هنالك التي يقول في مطلعها: [الطويل]
إلى بيتك اللَّهمَ بالعزم أقبلنا ... حططنا به رحل الضيافة فاقبلنا(1/436)
ولما توفي المحسني المحمودي قدمه المشير الثالث خليفة أواخر شهر رمضان المعظم سنة 1284 أربع وثمانين ومائتين وألف، وخطب بالخطب البليغة، وواظب على إقامة الصلوات في أوقاتهأن وقرأ المولد النبوي بالنيابة عن الإمام الأكبر قبيل وفاته إلى أن توفي إمام الجامع الشيخ محمد محسن فقدمه المشير الثالث إماماً أكبر بجامع الزيتونة في السادس عشر من ربيع الأول سنة 1289 تسع وثمانين ومائتين وألف، فحظي من دهره بغاية المراد، غير أن الخطة أتته على حين بلغ به ضعف البدن إلى حده، فخطب أخرى ثم أقعده الضعف، ولما حضر المولد النبوي بعد ذلك طلب الأمير أن يقتنع منه بسرد أدعية لضعفه، فأرسل له الأمير يأذنه بأن يريح نفسه وأن خليفة الجامع الشيخ محمد الشريف يقوم مقامه، فأعاد على الأمير الطلب بأنه يحضر الموكب بنفسه ويسرد المولد عوضه أخوه الأصغر المفتي الشيخ محمد النيفر، فأعفاه الأمير من ذلك وأرسل إلى خليفته الشريف بإحضار المولد النبوي، ولم يحضر الإمام الأكبر صاحب الترجمة ذلك الموكب.
وكان مع ذلك آية الله في الذكاء والتقلب في الأمور ومعرفة وضع الأشياء في مواضعهأن عالمأن لطيف الأخلاق، جميل المحاضرة، محصلاً أختامه يرغب الناس في حضورهأن لحسن ما ينتقيه ويحرره فيها من المسائل المهمة.
وقد قربه الأمير، لعلمه وحسن أخلاقه، حتى كان ذا جاه رفيع غير أن الأجل عاجله وكدر الدنيا لم يترك مشاربه صافية، فتوالى عليه المرض واشتد به الضعف حتى لازم المنساة بعد الخمسين، ولم يزل المرض مصاحباً له، يضاجعه تارة وتارة يريحه، إلى أن لازمه أخيراً وأدركته المنية وعمره نحو خمس وخمسين سنة، فتوفى أواخر ذي القعدة الحرام سنة 1290 تسعين ومائتين وألف، وقد بر به ولده فبادر لدفنه يوم وفاته عشية لك اليوم وشهد العموم جنازته، عليه رحمة الله.
وقد كتب في ترجمته حين وفاته كتابة نثرية في الرائد التونسي هذا نصها:
في ضحوة يوم الأربعاء الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة الحرام افتقد هذا القطر التونسي شيخ الإسلام المالكي والإمام الأعظم بجامع الزيتونة صاحب النسب الذي هو في بيت النبوءة عريق، والعرفان الوثيق، وهو الهمام الذي عبقت الأرجاء من الثناء عليه بمسك أذفر، أستاذنا أبو الفلاح الشيخ صالح النيفر، فهال خطب فقده على سائر الأمة وما هان، وأودع في أكباد الذين آمنوا أعظم الآلام والأحزان، إذ كان لمحاجر الشريعة نور، وملبسها من الفخر العز الموفور، فيا له من همام هم بإدراك المعالي فنالهأن وسبق في تلك الحلبة رجالهأن حتى عقدت عليه كل مكرمة سائر الخناصر، وباهت به مملكتنا سائر ممالك القياصر، فكسا أندية العلوم حلل المحاسن، وأجرى من انهار معارفه ماء غير آسن، درسه يسحر الألباب، وتقريره يزري بحسان فرائد الآداب، له في الأسلوب الحكيم الاقتدار على تقليد اللبات بالدر النظيم.
أما حقائق الدقائق، وفائق الرقائق، فلا مطلع لشموسهأن غير رياض دروسه، ولا مورد لرحيقهأن غير شفاف كؤوسه، فكم أدار على أرواحنا مكن أعجب الأساليب راحأن فأودعها من ذلك نشوة وانشراحأن فهو كشاف المعاني، والمصباح الذي يستضيء بشهابه كل معاني، له اليد الطولى في المعقول والمنقول، وأحرز السبق في ميادين الفروع والأصول، قدمه في سائر العلوم راسخة، ومعرفته الوثيقة لسائر الزيوف ناسخة، إن تكلم في المجالس أبهت الناطق والصامت، وأضحى بلواتر الفصل الصالت، إذ حنكته الفصاحة، ودرى كيف يأسو للدهر جراحة، وسبر بمسبار الألمعية أغوار الحدثان وجابه يدها تجريبه جباه الزمان، فعلم بمواقع الأمور، وجرى فيها بالسعي المشكور.(1/437)
أما معرفته بمدراك مذهب مالك بن أنس، فهي التي نصبت له المنصات فارتقاها وجلس، فقضى سنين قد انقضت كأنها سنات، وأتى فيها بالآيات البينات، أقام فيها قسطاساً لمنع الاعتساف، حيث تحلى ببدائع الأوصاف، وقام بأعباء الفتيا قياماً لم يعهد له مثيل، ورصع تاجها بمجده الأثيل، وأنار منبر تجرح الأفئدة والقلوب، ولا سيما حيث كانت من خطبه التي أبدع في تنظيمها على أفخر أسلوب، فإذا قام في منبره أو محرابه فيا فوز من وعى، فإنه يسمع الصم الدعأن فما ترى الحاضرين إلا وعيونهم تنهمر دمعأن إذ انصدعت قلوبهم من ذلك صدعأن وإذا روى عن جده خير البرية المصطفى، يلين له القلب الذي كالصفأن فكم هدى وأهدى، وأعاد من المزايا وأدى، إلى أن ألفت رئاسة الفتيا والإمامة أمرها لديه، وتوشيح كلتاهما بالانتماء إليه، بعد أن ولي الحسبة ووظائف وتنتهج بها تلك المناصب السنية.
وزيادة على ذلك فقد تحلى بكمالات لا تحصى، ومزايا لا تستقصى، فهمته قد ضربت على السماك أطنابهأن ونصبت على الجوزاء قبابهأن حتى انتعل السهأن وغدا إليه في كل مكرمة المنتهى، مع ما هو عليه من شرف الأعراق، ودماثة الأخلاق، بشاشته تملأ قلب ملاقيه حبأن وتوليه من التردد ما يختاره بعدا وقربا.
وكان كثير الميل إلى علم القوم، لا يختشى في ذلك من لوم، وله مزيد ولعٍ بمن بنتسب للشرف النبوي والصلاح، من أهل الخير والفلاح، فسلك في ذلك مسلك أستاذه شيخ الإسلام المالكي أبي إسحاق، وكرع من مناهل الطريقة التجانية أعذب الأذواق، حتى كان في خيسها ليثأن وانسجم بمعارفها غيثاً.
ولذلك نبؤه راع القلوب وفتت الكباد، وعم بالإصابة سائر العباد، فيا له من خطب أصاب أفئدة كانت لمودة هذا الهمام منسوبة، ورماها من نباله بأسهم مقشوبة، حتى عم الأسف سائر الأهالي، ونثرها عليه من الدموع وطيب الثناء أحسن اللآلي، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعامله بالرضوان، ويجعله في جوار سيد ولد عدنان، فإنا لا نقدر على إيفاء حقه فيما ننثر وإن نظمناه، ولا يطيق أحد أن يبلغ في وصفه إلى ما يتمناه، ولذلك تربصت بنظم رثائية ريثما أجمع أشتات أن يبلغ في وصفه إلى ما يتمناه، ولذلك تربصت بنظم رثائية ريثما أجمع أشتات قريحة تقرحت برزئة الجليل، وصارت تنثر مع أدمعنا أمثال هذه الأقاويل، وقد انتهز الفرصة في ذلك العالم الماجد، المبرز ببراعته على سائر الأماجد، النحرير اليلمعي، والفهامة اللوذعي، فرع مشايخ الإسلام، الثلاثة الأعلام، المتطلعين غرراً في جباه الأيام، صديقنا الذي لم تزل طريقة والده وجده له منهوجه، الشيخ أبو عبد الله محمد بن الخوجة، أحد أعيان المدرسين بالجامع الأعظم لا زالت دوحة والده به في ابتهاج ونما كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وهذا نصها: [الطويل]
إلى الله من خطبٍ تداعت له رجفا ... رواسخ أحلامٍ وقد أحكمت رصفا
تمطَّى به ليلٌ من الوجد حالكٌ ... يضل الكرى فيه فلا يعرف الطَّرفا
صلى كلَّ قلب من لظاه بمضرم ... يزيد إذا ما الدمع برَّده ضعفا
يحق له شقُّ القلوب إذا اغتدى ... يشقُ أخو الأحزان أثوابه لهفا
إلى الله نشكوه عظيم ملمةٍ ... عسى فرجٌ يولي دجنتهُ كشفا
ومنْ مارس الأيام هان به الأسى ... فكم روعت سرباً وكم رنقت صرفا
وهل سالمت من عهد آدم واحداً ... فيأمن مرتاحٌ إلى ظلها الحتفا؟
ويا ليتها ترعى ذمام ذوي العلا ... فتبقيهم لكن أبي طبعها اللطفا
وما ضر لو أبقت لنا الواحد الذي ... أعد به دين الهدى للورى كهفا
وما ضر لو أبقت لنا الواحد الذي ... يمرُّ ولا يبدي الزمان له خلفا
وما ضر لو أبقت لنا الواحد الذي ... يبيدُ به جيش الضلال إذا اصطفَّا
قضى الله في قطب الرئاسة إن قضى ... فها أدمع الإسلام وأكفة وكفا
فمن لنوادي الفضل بهجةُ صدرها ... وملبسها من فضل أقواله شنفا
فمن للقضايا المعضلات يحلُّها ... بصارم فكر لا يفل ولا يحفى
ليبكه ملهوفُ الجوانح غلَّةَّ ... إلى عذب فتيا كان منهلها الأصفى
إذا أمَّةُ المرتادُ أبصرَ جنة ... بدائعها تدني لمن رامها قطفا
ترحَّل فاقتاد القلوب وراءه ... ولا غرو إذ تقفو المعارف والظرفا(1/438)
بني نبفرٍ صبراً فهذا سبيل من ... يعيش ولو قد عاش في دهره ألفا
وما بيتكم في المجد إلا كعهده ... سنى عزّه إن شاء ربي لا يطفا
على أنه قد فاز بالفضل والرضا ... وخلف ذكراً طاب ترديده عرفا
وبلَّغ في الدنيا الذي شاء من علا ... ولم يرغم العداء من عزه أنفا
فألبسها من عدله وعلومه ... ملابسَ قد زانت لها الصدر والعطفا
عليه من الرحمن أزكى تحية ... تقر بها عيناه في جنة الزلفى
وحقق فيه الله قول مؤرخ: ... إلى خير مأوى على صالح قد زفا
وعندما أدرجت المرثية المذكورة في هذه الترجمة كتب إلي جناب منشئها الأخ العالم بقوله: [البسيط]
بوَّأتني محض فضل نزل علياء ... والحبُّ يفضي لإسهاب وإطراء
طما وادي لديكم فارتمت دررٌ ... من عذبه صعدت أنفاس أعداء
أهديت أيَّ صنيعٍ لن يوفيهُ ... شكري ولو نشرته كلُّ أعضاء
أودعته عند من يدري بقيمته ... برّ شكور فقل يا نجح أسداء
أعرتني بعض أوصاف خصصت بها ... تفضلاً وغضضتم أي إعضاء
شكراً لكم من أخ بر حبيت به ... أنزلته من فؤادي في السويداء
إبريز من أمسوا أخواني وعمدتهم ... وسيد كم رقى أوجاً لعلياء
فيا له من صديق قد ظفرت به=صينت صداقتنا عن كلّ أقذاء
الشيخ محمد الشريف
هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الكبير بن احمد بن محمد بن أحمد الشريف إمام مسجد دار الباشأن وهكذا سلسلته المنتهية إلى شجرة المنتهى محمد خير خلق الله صلى عليه وعلى آله، فهو الإمام حفيد الإمام، مفخر آل البيت السادات الكرام.
[ترجمة والده]
أما والده فقد قرأ على عمه الشيخ حسن الشريف وعلى والده، وناب عنه في الإقراء بمدرسة حوانيت عاشور، وله مشاركة في الإقراء بمدرسة حوانيت عاشور، وله مشارمة في كثير من الفنون، وكان ذاكراً شاكراً محباً في الصلاة على رسول الله، له شغف بدلائل الخيرات، يحيى الليالي بالذكر والصلاة، كثير الرؤيا لجده هـ صلى الله عليه وسلم منها مرة رأى نفسه في حجره صلى الله عليه وسلم وهو يلثم يده الشريفة ويجد من لينها وريحها ما لم يعهد، وبقي أياماً وهو يقول: إنني الآن أجد طيب ريحهأن وكان مهاباً محترمأن جميع الناس يطلبون منه الدعاء وقد اتفق لبعض الناس أن افترى عليه في نازلة فدعا عليه فمات بقرب من ذلك، ولم يزل ملحوظاً بعين الإجلال، معدوداً في الصالحين من الرجال، إلى أن بلغ من العمر ستاً وأربعين سنة، وتوفي سنة 1251 إحدى وخمسين ومائتين وألف.
وخلف والده صاحب الترجمة وكانت ولادته في العشرين من المحرم الحرام سنة 1234 أربع وثلاثين ومائتين وألف، وتربى في حجر عناية أبيه، فقرأ القرآن العظيم، وتصدى لتعلم العلم الشريف بجامع الزيتونة، فقرأ على مشايخ الإسلام البيرمي والخوجي ومعاوية، وقرأ على الشيخ محمد النيفر الأكبر، والشيخ الشاذلي بن صالح، وغيرهم من علماء الجامع، وولي في درسي جامع الزيتونة بعد وفاة عمه.
وحصل على إجازات كثيرة في الحديث، وقفت منها على سنده في صحيح البخاري: عن شيخ الإسلام محمد بن الخوجة عن المفتي المؤلف الشيخ حسن الشريف عن والده الشيخ عبد الكبير الشريف عن والده الشيخ أحمد الشريف عن الشيخ عبد الرحمن الكفيف عن الشيخ سعيد الشريف الطرابلسي عن القطب الشيخ أحمد الشريف إمام مسجد دار الباشا عن الشيخ السراوي المصري عن الشيخ سالم السنهوري عن الشيخ نجم الدين الغيطي عن الشيخ زكرياء الأنصاري عن الشيخ أحمد بن حجر شارح الصحيح عن الشيخ التنوخي عن الشيخ أحمد الحجار عن الشيخ حسين بن المبارك عن الشيخ أبي الوقت الهروي عن الشيخ الدراوردي عن السرخسي عن الشيخ محمد بن موسى الفربري عن الحافظ الشيخ محمد بن إسماعيل البخاري ثن الجعفي رحمه الله تعالى ورضي الله عنه.
ووقفت أيضاً على سنده المحمدي، وأجاز لي رواية المذكور بما له فيه من الأسانيد بعد أن رويت بين يديه نبذة منه رضي الله عنه غير أنه لم يجلس للإقراء إلا قليلأن ولازم رواية الشفا والبخاري بمسجد سيدي أبي حديد واجتمعت الجموع لأختمه، وهو ممن يظهر نعمة الله عليه، في نفسه ومن ينتمي إليه وله مع ذلك دعاء مستجاب، وخاطر ليس بينه وبين الله حجاب.(1/439)
جلس مرة في جبل المنار قرب الناظور من الجانب الشرقي، ومعه جملة من الأعيان، فمرت بهم في البحر فلوكة بها جمع من كفرة الصيادين للسمك فقال له أحد الحاضرين: إن كنت شريفاً فادع على هؤلاء ليغرقهم الله، فظهرت غيرته، ودعا عليهم بجاه جده، فلم تلبث الفلوكة أن انقلبنت بمن فيها في البحر، ومات جميعهم، وله من هذا الباب وقائع شتى.
وكان المشير الأول يتمين برقيته ودعائه، وللمشير الثاني معه مودة واعتقاد، يتقرب به إلى رب العباد، عليه جرى المشير الثالث مع ما هو عليه من التعظيم عند الخاصة والعامة.
وعند وفاة الشريف محمد ابن الوزير العربي زروق عن وكالة زاوية الشيخ سيدي أبي سعيد الباجي رضي الله عنه قدمه المشير الثالث لها مع النظر على جبل المنار في ربيع الأول سنة أربع وثمانين.
ثم لما توفي ابن عمه المحسني المحمودي قدمه المشير المذكور للنيابة إماماً ثالثاً بجامع الزيتونة في الثامن عشر من شهر رمضان المعظم سنة 1284 أربع وثمانين ومائتين وألف، ولازم الجامع للإمامة وواظب على رواية صحيح البخاري كل يوم ثم لما توفي ابن عمه المحسني المحمدي قدمه المشير الثالث خليفة في السادس عشر من ربيع الأول سنة 1289 تسع وثمانين، واستولى عند ذلك الشيخ أبو الحسن على العفيف نائباً عنه.
واستمر الخليفة المذكور قائماً بصلوات الجامع في أول الوقت، حاملاً أعباء الخطبة والإمامة مدة مرض الإمام الأكبر إلى أن توفي الإمام النيفري فقدمه المشير إماماً أكبر بجامع الزيتونة في التاسع والعشرين من ذي القعدة الحرام سنة 1290 تسعين ومائتين وألف، وجعل خليفته الشيخ أبا الحسن علي العفيف، وقدم ابن عمه الشيخ أحمد بن حمدة الشريف إماماً ثالثأن فنهض الإمام الأكبر الشريف صاحب الترجمة للجامع، وشمر على ساعد الجد في تنظيمه والبحث عن أوقافه، وأجرى الأمور على أحسن وجه، وقام بالخطبة قياماً كلياً بحيث أنه يحضر رواية البخاري كل يوم الثلاثة الأشهر، وهو مقيم في جبل المنار في حر الصيف حتى تيسر له ختم رواية صحيح البخاري في 26 شهر رمضان سنة 1296 ست وتسعين، ومهما اتفق احتباس المطر وخرج للاستسقاء إلا ورجع باليل، وإن لم يصبها وابل فطل.
[قراءة البخاري عند الأزمة]
وهو أول من جمع الناس لختم البخاري في مجلس واحد للاستغاثة ودفع الكروب وذلك أواسط جمادى الولى سنة 1298 ثمان وتسعين، فحضر بجامع الزيتونة عند باب الشفاء، واحضر نسخة من صحيح البخاري مجزأة عشرين جزءاً في غاية الضبط والصحة، وجمع معه تسعة عشر مدرساً من علماء جامع الزيتونة ليروي كل واحد جزءاً كاملاً في ذلك المجلس، فحضرنا هنالك قبل الزوال بأربع ساعات، واستمر بنا على رواية الصحيح المذكور إلى مضي ساعة من الزوال فتمت روايته في خمس ساعات من يوم الأحد الثامن عشر من جمادى الأولى سنة 1298 ثمان وتسعين، وقد واظب الشيخ مدة على ذلك مع ذكر الاسم اللطيف وأدعية مدة استمرت إلى منتصف جمادى الثانية يحضر معه في كل يوم بعض المدرسين ويتلو بينهم في آخر المجلس استغاثات مناسبة للحال.
وقد تقدم في أثناء تدرجه في مراقي الإمامة إلى خطة الإفتاء بمذهب مالك، فتقدم مفتياً سادسأن تاسع شعبان الأكرم سنة 1285 خمس وثمانين ومائتين وألف ونقش على ختمه بيتين من نظمه وهما قوله: [الرجز]
أدعوك ربي باسمك اللطيف ... ومن أتى بالشرع والتكليف
امننْ برشدِ عبدك الضعيف ... محمدِ بن أحمد الشريف
ولما توفي الشيخ محمود قابادو صار مفتياً خامسأن ولما توفي الشيخ صالح النبفر صار مفتياً رابعأن ولما توفي الشيخ علي العفيف صار مفتياً ثالثأن فهو اليوم إمام جامع الزيتونة والمفتي الثالث بالمجلس الشرعي، معتكف على القيام بوظيفته، ملازم لرواية صحيح البخاري في بيته، مع الاعتناء بتصحيحه وضبطه بشروحه، حتى ختمه مراراً كثيرة، كما ختم الشفاء كثيرأن وله مزيد تحر واعتناء بانتقاء بدائع الخطب وضبطها على الوجه الأتقن، وقد تقدم في الطريقة التجانية، ولقنها لكثير من المريدين، وقام بأورادها مع ما له من الأذكار، التي يلازمها بالليل والنهار، والتبتل للعزيز الجبار، على طريق الأخيار، من أصحاب الأسرار، رضي الله عنه.(1/440)
وخليفته اليوم في إمامة الجامع هو ابن عمه الشيخ أبو العباس احمد بن حمدة بن محمد الشريف إمام الجامع، ونائبه الإمام الثالث هو الشيخ أبو محمد حمودة بن محمد محسن إمام الجامع، وعلى عهده زيد في أيمة الجامع نائب ثان وهو الشيخ أبو عبد الله محمد بن الطاهر بن محمود محسن إمام الجامع، وإمام التراويح هو الشاب أبو عبد الله الشيخ محمد بن مصطفى بن محمود الشيخ عبد الرحمن بن محمود محسن، فخطط الجامع ولله الحمد اليوم بين آل الشريف رضي الله عنهم أجمعين، ولولا أشتراطي ذكر الأيمة لذكرت تفصيل حال هؤلاء السادات أبقى الله بركتهم أماناً لأهل الأرض، فبدر الإمام الأكبر اليوم محيطة به هالة من آل بيته، وقد تجمل به، والحالة هاته، صدر الجامع وابتهج، وافتخر المنبر بحسن خطبه التي ينتقيهأن وبجمهورية صوته وتأثيره يلقيهأن بحيث أنه اليوم أخطب الخطباء بالحاضرة فصاحة وجمهورية صوت وأداء وضبطأن وهو إمام فاضل، متفنن، نحرير دراكة، سخي النفس، غزير الدموع، سهل الجانب، رضي العيش، قدوة، محبب إلى الناس، كريم الأخلاق مهاباً معظمأن عالي الهمة، مقبول الجاه، محترم، يكرمه الأمير والمأمور، ويعتقده الخاصة والجمهور، يحضر الجامع في كروسة من كراريس الأمير، أهداها له الوزير.
وقد نفع بجاهة كثيراً من المستجيرين به رضي الله عنه، وفي هذا العهد أتاه الثقة المسن علي عباس يطلب منه الدعاء، وقراءة الفاتحة، وأخبره أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه ببيت به جمع عظيم، ولما دخل بيتهم رأى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتفعاً وإلى جانبه الشيخ متكئاً ثم إن المصطفى مسح على جنبه ووعده بالشفاء فكان صدق الرؤيا حيث غن الشيخ يشكو في هاته المدة ذلك لجنب نفسه، وقد أمل الشفاء ببركتها ولا تخفى دلالة الرؤيا على قرب اتصاله بجده عليه الصلاة والسلام.
وحيث إن مفاخره عظمت بالاشتهار، وغطت على الشمس في رابعة النهار، وكان وجوده بين أظهرنا من بركات هاته الأعصار، التي نتمتع بها آناء الليل وأطراف النهار، تقربت لجده المصطفى عليه الصلاة والسلام بقصيدة جليلة، اتخذها تاج المفاخر إكليله، صدرتها بذكر فضائل آل البيت، ووشحتها بذكر بعض مفاخره ومفاخر آبائه الكرام، إلى الوصول إلى خير الأنام وآبائه العظام، وسميتها "الجنة الدانية الاقتطاف، بمفاخر سلسلة السادة الأشراف".
وها أنا اجعلها خاتمة لهذا القسم تيمناً بفضل من ذكرتهم فيهأن وهذا نصها: [البسيط]
إنَّ المودةَ في القربي هي الأملُ ... يجري بها ويفوق الأجرُ والعملُ
قرابةِ المصطفى آل بهم شرفتْ ... مفاخر بعلاها تضرب المثل
آل الرسولِ كفاهم وصلتهم ... به وقوله: آلي إذ هو الأمل
أوصى بهم حيث قال الله أشدكم ... في أهل بيتي ثلاثاً إذ به اتصلوا
دعا بسترهمُ إذ كان جلَّلهم ... وفي ملاءته دون الورى اشتملوا
وحائط البيت والأسكفَّة ابتدار ... مؤمنين كتأمين الألى عقلوا
فمن دروا حقهم في الفضل كان لهم ... به البراءة من نار بما عملوا
ومن أحبَّهم جاز الصراط به ... كالبرق لا يعتريه البطء والثَّقلُ
ومن يواليهمُ نالَ الأمان منَ ال ... عذاب يومَ ذوات الطفل تنذهل
هم الأمان وما داموا على قنن ال ... تبجيل لم يكتنفنا في الورى ضللُ
همْ عترةٌ طهَّر المولى منازلهم ... مذ أذهب الرجس عنهم عندما كملوا
همُ الهداة وبيت الوحي بيتهم ... لا يعتريه بحول الخالق الخللُ
بيتٌ على الدين قد قامت دعائمه ... ومن مناهله كل الورى نهلوا
بيتٌ قد انتاب جبريلُ منازله ... عن إذن ربّه والأملاك كم نزلوا
بيتٌ تخيَّره الرب الجليل إلى ال ... تنزيل والوحي منه ليس ينتقلُ
ما بعد جدهم المختار من رجلٍ ... يأتي فتتبعه الأملاك والرّسلُ
لهم سمات وآيات لهم تليت ... في الذَّكر لا يعتريها النسخُ والبدلُ
فمصدر الدين هم والدين حبُّهمُ ... وهمْ سراة الورى ما مثلهم رجلُ
لا يدخل القلب إيمانٌ وحبهم ... لله لم يك حتى يولج الجمل
قوم حياتهم في الأرض مرحمةٌ ... بجاههم لم يخب في الخلق مبتهلُ(1/441)
بيضُ الوجوه لها بشرٌ تهلله ... يرى الغزالة ما إن مسها طفلُ
كريمةُ الحسن يستسقى الغمام بها ... وتشتفي من مرائيها لنا العلل
شم الأنوف ومأوى للضيوف، ومن ... يوفي بإجلالهم قد جاءه النَّفلُ
كواكبُ السَّعد لاحت في منازلهم ... إذ أقمروا في العلى والكل مكتمل
الله أكبرُ ما أسنى مقامهمُ ... فكم بهم فاز عند الله مضطئل
من ذا تمسك من أسبابهم فغدا ... بين الورى جيده من حليهم عطل
سلاسلٌ وفروع في البسيطة قد ... مدت فكانت بأصل الفضل تتصل
بيوتهم قد أبت إلاّ مفاخرهم ... حتى استطالت فلم يبلغ لها جبل
تسمو بفضل اقترابٍ من أعزَّ أبٍ ... لخير جدَّ وكلٌّ في العلى بزل
لكن أقربهم من جدهم نسباً ... لهم مزيةُ قربٍ ليس تنفصل
فالقربُ من سواهم محجوبٌ بقربهمُ ... والكل نجمهمُ في الفضل منصقل
فكلهمْ برسولُ الله متصلٌ=يرتاب في فضلهم من قاده الزلل
وكل بيتٍ لهم يسمو بكل علا ... على سواه ولا تدنو له طول
تلك البيوت التي قد زاحمت شرفاً ... كواكب الأفق لما أهلها فضلوا
أشمُّها ما دنا من أفق جده إذ ... كان السَّوى لم يصل ما ملهم وصلوا
لذا بيوت بني الأشراف قد ظهرت ... شمَّاءَ من دونها قد كلَّت المقل
ما بين قرمٍ شريف قد سما شرفا ... يزاحم الشمس حيث الفضل يشتعل
ومن غدا علما لفظ الشريف له ... حقا له هامة النسرين ينتعل
آل الشريف ومن مثل الألى شرفوا ... بجدهم وبفضل ليس ينفصل
أل الشريف أسودٌ خيسِ تونسَ قد ... أمسى بهم في أمان ليس ينقهلُ
آل الشريف عقود قد سمت نسقاً ... وسطاهمُ الجوهرُ المكنون مكتمل
لهم كراماتُ أهل الفضل قد رويت ... وفي البسيطة قد سارت بها المثل
واليوم تاجهم القرم الهمامُ (أبو ... عبدِ الإله) الذي طابت به الحللُ
إمام جامعها المفتي بها وأخو ال ... ذكر الذي ليس عنه اليوم ينعزل
فكم له من مزايا غير قاصرة ... على الورى قد غدت في القطر تنهمل
وكم له دعوات قد أجيبَ لها ... من المهميمن إن ما قام يبتهل
يجاب مهما ابتغى من جده أملا ... جدَّا وهزلا كأن من لفظه الجزل
وهو الذي اليوم يستسقى الغمامُ به ... فيغتدي بعد طول الجدب يقتبل
نشاهد السَّحب من دعواه مرسلةٌ ... إنْ لم يكن وابل تأتي له الطللُ
أما كرامة برد النار من يده ... فالورد يشهد إن لم تشهد المقل
إذ مسّ ما عدَّ للتقطير منه على ... نارٍ فكانت كأن قد مسّها بللُ
وحين طال انتظار الطبخ اعلمهم ... فاستبدلوه فلم يعرض لهم مهلُ
وهكذا الفضل معهودٌ لوالده ... الصفوة المرتضى من بره العمل
أعني بذاك (أبا العباس أحمد) من ... له بكل جميل كاهلٌ عبل
أحيا الليالي بالذكر الحميد وبال ... شكر السديد وما غن رابه عذل
تبتُّلٌ وصلاةٌ عمَّرت بهما ... أكناف خلوته إذ كان ينعزل
وبالصلاة على الهادي له شغفٌ ... لا يعتريه على تكرارها مللُ
له "الدلائل" وردٌ كل باكرة ... خمس المرار وما عن ذاك ينفصل
وقد راى يلثمها وعندها يجد ال ... عبيق واللين لينا ما له مثل
ومرة يتوضا قد رآه فكا ... ن ذاك في يده المنديل يحتمل
حتى أتمّ منكراً عنه عوائده ... في نفسه وهو لا يدري بما يصل
وافاه في النوم خير الخلق يأمره ... بأنْ يرضيه كيما يمحق الزلل
وعندما جاءه أعفاه مشترطا ... كتما إذا لم يواري حين ينتقل
وفي استجابة ما يدعو به علمٌ ... علة القبول الذي أولى له الأزل
فإنه قد دعا يوماً على رجل ... عنه افترى فاغتدى بالموت ينتبل
وقد تبدت له في الكشف لائحة ... درى بها الناس ما قد حازه الرجل
فقبلَ موته من يومين أعلمهم ... فكان ما قال إذ قد جاءه الأجل
هذا ووالده الشيخ الهمام (أب ... عبد الإله) غدا بالفضل يكتمل
قد كان شهماً هماماً عالماً وله ... فخر النقابة سيفٌ دام ينصقل(1/442)
بالجامعِ الأعظمِ المعمور كان يرى ... هو الخطيب الذي تعنو له القللُ
يرتل الذكر في محرابه، وإذا ... يعلو بمنبره الألبابُ تنذهل
كان المجابَ الدعا في غير حادثةٍ ... وأهل عصره من ذا الباب كم نقلوا
لذاك وافاه شيخٌ طالبٌ أملاً ... بدعوة منه عنها ليس ينعزل
وقال إن رسول الله أرشده ... لنجله ذاك وهو السيد الجلل
والمصطفى أمر القاضي ببرَّه في ... فصلِ القضا حيث ما في حكمه جدل
فجاءه يترضَّى وهو سامحه ... مبادراً لأداء الحق يمتثل
وذا أخو حسن المفتي الإمام ومن ... على تآليفه قد أجريَ العمل
أما أبوه وذا (عبد الكبير) فقد ... كانت له همة ما نالها الأول
نقابة السادة الأشراف قد بلغت ... به إلى حيث لا يدني له الرمل
قد كان في العلم بحراً زاخراً وبه ... توارث الناسُ علماً دام ينهمل
في مجلس العلم من بيت الأمير له ... مظاهرٌ فصلت من كشفها جملُ
له المعارف والآداب قد برعت ... ففاق منه وراق الغزلُ والغزلُ
وفضل والده المفضال (احمد) قد ... أضحى على علم كالنار تشتعل
وهو الذي شاقه إصلاح سكة مح ... راث بمطل الذي في صنعه مهل
فأفتكها وهي محماة وسار بها ... حتى جميع الورى من خلفه قفلوا
لكنها حين عادت للهيب فلم ... تمس بالنار إكراماً له يصل
فضل تملأه من آثار والده ... (محمد) الأوحد المرضي له العمل
وذا أبوه (أبو العباس أحمد) من ... له مناقب ما إن فوقها ظللُ
الحجة الحافظ المحيي لسنة خي ... ر الخلق لما جميع الناس قد ذهلوا
يروي الصَّحاحَ جميعاً عن دراية ذي ... علم وفهم ولم يعرف له كسلُ
وذا الولي "ابن خود" قال أنه قد ... نال القطابة وهو الآن مكتمل
ومن كراماته فتحٌ لباب سوي ... قةٍ بليلٍ وهذا الباب منقفل
إذ حال قفله بين ابنٍ ووالدةٍ ... كادت بفرقته في الليل تنخزل
وكان حج أمير الركب فاعترضت ... له اللصوص فحالت دونهم حول
رأوا على قومه سوراً فجاء له ... كبيرهم خاضعاً مذ حزبه جهلوا
وهو الذي امتحن الباشا كرامته ... حتى رآها كصبح ليس ينفصل
إذ رام أن يمنع الأشراف راتبهم ... أو يأخذوه من النيران إن وصلوا
لذاك ألقاه في قدر النحاس به ... محميُّ زيت على نار لها شعل
فجاء هذا النقيب المرتضى وغدا ... يعطي رواتب أشراف به دخلوا
يفضي بكفه للزيت الوقود فما ... يرى له أثر إلا بها بلل
وعندها أيقن الباشا بمفخرة ... وأنَّه عين أشرافٍ به فضلوا
فأوقف الوقف مختصاً بينهم ... ودام يكرمهم ما سارت الإبل
فذا النقيب الذي طابت مفاخره ... وسيب علمه بين الناس ينهمل
هذا الذي منه هذا الفرع طاب وكم ... طابت به من فروع ما له مثلُ
وهو الذي من بينه محسن فغدا ... جدَّا إلى المحسنين الشمّ إذ فضلوا
هذا أبو محسن هذا أبو حسن ... وذا به نسب الأشراف يتصل
لله در كرام كان أصلهمُ ... هذا الذي به فاق الحليُ والحللُ
هذا التقي ابن ذاك المرتضى (حسن) ... نجل الذكي (علي) الفاضل الجلل
نجل الرضا (حسن) ابن الفذ (احمد) ... نجل (القاسم) اللذ على مولاه يتكل
وهو الحكيمُ الذي شاعت فضائله ... وطَّبه منه كم قد زالت العللُ
نجل الإمام (أبي عبد الإله) وذا ... نجل (قريش) بن (عيس) ما لهم مثل
بهم سما (عابد الرحمن) والدهم ... نجل الرضا (خلف) السامي به الأمل
نجل (علي) وذا نجل الرضا (فرجس) ... وذلك ابن (علي) من به جملوا
نجل (محمد المكتوم) من ظهرت ... به مفاخر أبناء به اتصلوا
وذاك جد العبيديين مفخر من ... تملكوا وهو في المجد قد رفلوا
قد كان شيعته فازوا بكتمه مذ ... كانت ترى وبنو العباس تقتتل
فهو غمام جليل حيث قد مكرمت ... له أبوة (إسماعيل) مذ كملوا
أيمة كلهم طابت مناقبهم ... ما فيهم من يرى في بيتهم وغل(1/443)
عنهم فسل كل تاريخ وسل كتباً ... تلق العلا عن ذراعهم ليس ينعزل
فانظر أخيرهم طابت اخوته ... للكاظم المرتضى من فخره مثل
(وجعفر الصادق) المشهور كان له ... أبٌ وقد طاب فيه العلم والعمل
ففي الحديث روى عنه الثقاب وقد ... كانت له منقباتٌ ليس تنفصل
فخرٌ حواه من المفضال والده ... (محمد الباقر) اللذ أمرهُ جلل
ذا باقر العلم من كانت له رتب ... في الدين منها جميع الأتقيا انتحلوا
ففي الحديث وفي القرآن كان له ... فضل تدك به الأهضابُوالقللُ
وهو الذي كان أوصى بالسلام له ... خير البرية والإسناد متصل
رسالة جابر قد كان حاملها ... له بخير حياة طولها عثلُ
أما أبوه علي فهو أصبح (زي ... ن العابدين) بفضل دام يكتمل
له عبادة إخلاص إذا حضرت ... صلاته عن جميع الكون ينذهل
فمرة كان لم يشعر بفلذته ... إذ خرّ في البئر لما كان يبتهل
وقال كنت أناجي من له عظمٌ ... ينسى البنين وغن في البئر قد نزلوا
وهو الذي قد تنحَّى الطائفون ... في موقف الحج وهو الموقف الجلل
حتى تجاهل من قد كان يعرفه ... وهو الذي له فخر ليس ينجهل
وهو الذي تعرف البطحاءُ وطأته ... والبيت يعرفه إذ تترع السبل
أليس ذلك نجل الأوحد العلم ال ... سبط (الحسين) الذي ما مثله رجل؟
أعزَّ درة أهلِ الأرض قاطبةً ... وغن يكن قاتلوه عنه قد جهلوا
سماه خير الورى عن إذن خالقه=وقال "إنه مني" أين من عقلوا؟
والله جل يحبُّ المخلصين له ... حبَّا كما قد أتى عمن له نقلوا
وهو الشهيد الذي في كربلاء له ... بانت مفاخرُ صبرٍ ليس يحتمل
نجل الإمام علي وابن (فاطمة) ال ... زهرا البتول التي آياتها مثل
تلك المطهرةُ الغرا التي كرمت ... أرومة واغتدت بالفخر تكتمل
تلك التي قرن الله رضاه بما ... ترضاه حيث سما منها له العمل
أحبَّها خيرُ خلقِ الله والدها ... لزهدها ولفضلِ ليس ينفصل
لها شمائل كمشيته الغرا ونور مح ... يَّاها وتلك من المختار تنتحل
هاتي التي أخذت مهراً شفاعتها ... في المذنبين إذا أرداهمُ الوحل
هاتي التي يوم تأتي الحورُ تكنفها ... سبعون ألفاً يروا من حولها ظلل
ويأمر الله من في الحشر أجمعهم ... بخفضِ أرؤسهم أو تغضض المقل
كيما تمر على ذاك الصراط ولا ... تراه إلا كبرق خطفه عجل
مفاخرٌ ما حواها غيرها فلها ... أقيم قسطاس فخر دام يعتدل
وهي التي حفظ الله بها عقب ال ... مختار في الأرض حتى دام ينتسل
بها بدا الحسنان في سماء على ... كلَّ كواكبه بالفضل تكتمل
بها قد امتد نسل الأشرفين إلى ... أقصى المشارق حيث الفضل يتصل
بها يباهي رسول الله حيث غدت ... بنوه منها بهم يبقى له عمل
ومن يكن خيرُ خلق الله والده ... له مراقي فلاح دونها القللُ
وهاته بنته أكرمْ بها وبمن ... اضحوا لها خير أبناء با فضلوا
شمس الكمال التي بانت مفاخرها ... غداة لاحت بنورٍ دام يشتعل
لاحت من المطلعِ الميمون والدها ... أفق العلا من به قد تمّت الرسل
(محمد) المصطفى المختار من نسب ... يسمو على الدر فخراً وهو منصقل
السيد العروة الوثقى الذي كرمت ... له السجايا بفضل ما له مثل
خيار من خير الله لهم كرماً ... بين البرية عنهم ليس ينتقل
الطاهر النسب المرضُّي منذ بدا ... في الرض آدم وهو الآن متصل
هذا الرسول الذي من نوره خلق الل ... هـ العوالم، يا فوز الألى عقلوا
هذا الرسول الذي من قبل آدم قد ... حاز الرسالة حيث الفضل مقتبل
هذا الرسول جميع المرسلين به ... قد بشَّروا مذ بدت من فوقهم حلل
هذا الرسول الذي بشرت كتب ... به من الله لما جاءت المللُ
هذا الرسول الذي قد أنذرت أممٌ ... به وقد أسلفتها الأعصر الأول
هذا الرسول الذي في الجاهلية والإ ... سلام بانت له الآيات تتَّصلُ(1/444)
هذا الرسول الذي الإرهاص آذن من ... قدهاً تقدَّمه أن سوف يحتفل
هذا الرسول الذي أهل الكهانة قد ... تحققوه وما عن نجمه غفلوا
هذا الرسول الذي من معجزاته ما ... يتلى فلا يعتري قراءه المللُ
هذا الرسول الذي قد تابعته وحو ... ش والحجارة والأشجار والظُّللُ
قد عمَّم الله في الأكوان بعثته ... في الأرض أو في السما والكل ممتثل
فكان رحمةَ كل العالمين سوى ... قومٍ طغوا فغدا طغيانهم ضللُ
وكان اكرمَ خلق الله قاطبةً ... والكل من شرعه الجاري لنا نهلوا
وكان فخر بنيه الأشرفين وهم ... أمان كلَّ الورى في الأرض مذ نزلوا
يا فوز عقدٍ غدت تسمو جواهره ... بكل قرم شريف ساد من فضلوا
إذ أنَّ سلسة الأشراف فيه غدت ... لها انتساق بنظمٍ دام يكتمل
أسماؤهم نظمت فيه فكان له ... بهم أعز فخار ما له مثل
إن كان عدَّهمُ يحيى فإني قد ... أحييت من ذكرهم نظماً به اشتملوا
حرَّرتهم أيَّ تحرير سلكت به ... مشارعا طاب منها الشَّرب والعلل
أحصيتهم من تواريخٍ ومن كتبٍ ... وعن بني بيتهم لازال يحتفل
أتممت عدّهمُ بالمصطفى وبهِ ... سادت بنوه وآباء له أول
فإنَّ نوره معروف بأوجههم ... إذ كان في طاهر الأصلاب ينتقل
نورٌ بدا في محيّاهم، وكلُّهمُ ... في الجاهلية والإسلام معتدل
حتى أفاده (عبدُ الله) (آمنة) ... وقد رأته لدى الميلاد يشتعل
فقد رأت به ما قد ناء وانخفضت ... له النجومُ وعنه ارتدها الكلل
وقد تداعى له الإيوان وانخمدت ... نارٌ وغاضت جفافا دونه المسلُ
وقد أحاطت به الملاك تبصرهم ... مشمَّتين الذي في فضله رفلوا
واستبشر الكلُّ من ميلاد احمد إذ ... فازت به أمه فوز الألى كملوا
فليهنها ما رأت من يمن مولده ... وليهننا منه فضل دام ينسدل
أكرم بها وبعبد الله والده ... وما غدا لهما من فضله يصل
فخر لوالده أمسى وذاك نج ... ل (شيبة الحمد) من لله يبتهل
أجرى بزمزم نفعاً لا نظير له ... أجراه ماءً به يجري له العمل
لم لا وذاك (ابن عمر وهاشم) العلم ال ... رضى الذي عم نفعاً ربعه الخضل
نجل (المغيرة) ذا نجل (قصي) وذا ... نجل
حكيم كلاب) من به اعتدلوا
ذاك ابن (مرة) نجل الشيخ وأعظهم ... (كعب) ابن فخر (لؤي) الأكرم الجلل
نجل الرضا غالب ذا نجل جدهم ... قريش فهو الذي سادت به الأول
ذا نجل (مالك) بن (النضر) نجل (كن ... نة) الذي لقراه الأمة ارتحلوا
وأنه ابن (خزيمة) بن (مدركة) ... نجل الرضا (الياس) من قد ساد من فضلوا
من صلبه سمعوا صوت النبي وقد ... صارت إلى حرم تهدى به البزل
نجل الرضا (مضر) نجل (نزار) وذا ... نجل (معد) بن (عدنان) به كملوا
هم الألى قد غدوا آباء سيَّد منْ ... في الكون يجري لنا من فضله العسل
قد فاح من عدهم طيب يروق شذا ... ما فاز من نفحه بالجد منتضل
هم الأسود و (إسماعيل) جدهم ... ذاك الرسول الذي طابت به الملل
هذا الذبيح ابن (إبراهيم) رافع ما ... قد شاد بالحرم المحمي به الأمل
شاد القواعد للبيت العتيق وقد ... كان الخليل الذي ما شابه خلل
نجل النبيئين (شيب) نجل (آدم) من ... في الأرض قد بدئت من بعثه الرسل
صلّى عليهم جميعاً رّبنا وعلى ... آل وصحب بحفظ الدين قد وكلوا
فإنهم أصل خير الخلقِ أكرم من ... أبدى الصلاة عليه الكون والأزل
وذا أعزُّ عقود نظَّمتْ فغدت ... بأهل بيت رسول الله تكتمل
وسطاه خيرُ الورى المختار تكنفه ... أصوله وفروعٌ ما لهم مثل
نظمتهمْ مخلصاً لله نظمهمُ ... كي يغتدي منه شملي الدهر يشتمل
نظمتهم خدمةً للآل محتسباً ... فيها فحسبي منها ما اغتدى يصل
نظمتهم أرتجي من حزم غيرتهم ... ما منه ينشط من قد ريء يعتقل
عناية منهم ان يشملوا عملي ... بهأن فمني يفوز القول والعمل
وإن تكن لي فيهم ذمة فأنا ... أرجو بها الفوز مهما طاب لي أمل(1/445)
أرجو بها مخلصي يوم العماد إذا ... ضاق العباد وقد أضناهم الوجل
وإنما ليَ في الدنيا بذكرهمُ ... تبتُّلُ حيثما تستعظم العلل
نرجو بسردهم ثم الدعاءِ بما ... أملتهُ أن نرى بالفوز نغتلل
إذ أن إكرامهم منه القبول لما ... ندعو به عندما لله نبتهل
فجاههم خيرُ جاهٍ يستجار به ... عند المهيمن لا يرضى له المهل
رب بجاههمُ كن لي وعذني من ... شر الشرور إذا ما أنفق الدغل
ربّ بجاههمُ خذ بيدي فأنا ... مستضعف وعليك اليوم نتَّكلُ
بجاههم وبجاه المصطفى وبجا ... هـ الأولياء نرتجي ما منه نكتمل
نؤمل الدين والدنيا وآخرة ... بها ننال مفازاً حين ننتقل
نرى السعادة في الدارين لي ولمن ... نرى مودَّته ما شابها خلل
لا سيما منهمُ من كان لي عضدا ... في النائبات بنصري الدهر محتفل
فأسبل إلهي عليه الحفظ ما طلعت ... شمس النهار التي نارت بها السبل
وأنعم علي بما أنت الجواد به ... نعمى بها الآن يأوي شمسيَ الحمل
وكنْ وليَّي وحسبي في الحوادث لا ... أخشى لها طارقاً يعرو به كسل
واضرب علي من اللطف الخفي فسا ... طيط المعاناة حتى يذهب الوجل
لطفاً وحفظاً يعم الأقرباء وأب ... نائي وأهلَ ودادي حيثما وصلوا
وجاز عنَّي آبائي وشيعتهم ... وكلَّ أشياخنا خيراً بما عملوا
وجد لنا بمنى التوفيق حيث نرى ... مسالك الرشد لا يعرو بها زلل
وامنن علي بفتح العارفين فذا ... ورد شهي غدا من دونه العسل
وارحم بفضلك ذلي إن ذنبي قد ... أضحى عظيماً وما أن قله جبل
فتب علي وجد بالعفو عني إذ ... أصبحت ذا خطأ منه أنا خجلُ
واغفر لنا ولكل المؤمنين على ... طول الدوام، فإن الفضل منهمل
واجمع قلوب جميع المسلمين على ... مصالح الدين والدنيا إذا اعتدلوا
وانصر جيوشهم بالرعب إنهم ... إن لم يكن لهم رعب قد انخذلوا
وأرشد لنا أمراء المؤمنين إلى ... خير العباد الذي تبقى به الدول
واقرن بكل صلاح ما يدبره ... مشيرُ تونس وهو الأحزم البطل
وكن مسدَّد أعمالِ الوزير وشد ... مفاخر القطر كي تسمو به الحلل
يا رب أنت رجائي في إجابتها ... بعاجلٍ لم يشبهُ الرد والمهل
وبالصلاة على الهادي وعترته ... مع السلام دعائي اليوم يكتمل
وقرظ هاته القصيدة العالم الأديب الشيخ محمد علي اليميني الهندي الوافد على تونس في ثاني ربيعي سنة ست وتسعين ومائتين وألف فقال: [البسيط]
طلا كلامك من سقيته ثملُ ... فقل أخمرك مما مزجه العسل؟
وأنت للحمد أهل يا محمّده ... فالفضل لولاك جيد شأنه العطلُ
لو كان للشعر ميدان، تجول به ... فرسان خيل فأنتَ الفارس البطل
فعش محمد واسلم واحي وابق ودم ... وقد أحاطت بك النعماءُ والجذلُ
ثم الصلاة على طه وعترته ... فكالسوام الورى لولاهمُ هملُ
وقرظها الشاب الوارد من مشرع النجابة أعذب موارده، المتواصل الفضل بجديه ووالده، الذي اشتهر بيته النبيه، وتجملت اليوم خطتا القضاء والفتيا بعمه وعم أبيه الشيخ محمد ابن العالم الشيخ الطيب النيفر بأبيات هي أول ما رأيت من شعره وعمره نحو العشرين سنة نرجو من الله أن يرينا هلاله مقمرأن وهي: [البسيط]
بمثل نظمك هذا يضرب المثل ... ويركب الصعب كي يرواه والذُّللُ
ويرتجى كل مرمى شطَّ مطلبه ... حتى لقد تركت من عزه الحيلُ
لئن غدا الشعر قد حالت مذاهبه ... بقصدكم قد تحلى جيده العطلُ
علمت أن امتداحَ الآل غاية أد ... نى ما يجازى به في طيه الأمل
وبئسما استبدل النحريرُ عارفة ... تدوم منها بنزر دونه الأجل
فما تريثتَ أن أبرزتَ غانيةً ... في مدحهم ولها الإبداع مشتمل
يمل كل قريض ما عداها فما ... يعرو مسامعنا إن أنشدت مللُ
كأنما في قبول نسقت فبها ... عن كل مثلٍ لها أهل النهى شغلوا
لازلت في همة فوقٍ السَّماك لها ... من فخركم ومعلى قدركم ظلل
ولا تزال ترينا خردا غليت ... لمثلها ما اهتدت من قبلكم أول(1/446)
من كل عذراء لم تطمثْ يحللها ... بيان سحرك لحفا قدره جلل
تدير كأساً على أسماعنا فنرى ... كأننا من سلاف كلُّنا ثمل
وقرظها الأكتب النحرير الشاعر المؤرخ الشيخ محمد الباجي المسعودي رئيس كتبة القسم الثاني من الوزارة الكبرى المتوفى مساء الثاني عشر من شوال سنة سبع وتسعين ومائتين وألف عليه رحمة الله بما نصه: [الوافر]
نظامك أيها العلم السَّنوسي ... بفضلِ الآلِ تاجٌ للرؤوسِ
يفوقُ وحقكم عقد اللآلي ... ويعلقُ حين ينشد بالنفوس
فقد أبدعتَ إذ أودعت فيه ... مفاخر للفروع وللأسوس
وصرت وقيت حسانا وكعباً ... وهمَّامّا بذا العلق النفيس
جزاك الله احسن ما يجازى ... به من أذكر اللّذ قدْ تنوسي
سيدي الآوي من ظل البلاغة إلى وارفه، الملتحف بتلاد المجد وطارفه، الساحب على أقرانه ذيل مطارفه، سليل العلماء الأعلام، ومشايخ الإيمان والإسلام، نابغة الزمان، لا بني ذبيان، وحسان أهل البيت المشهود له بالإحسان، منشي الرائد التونسي، الشيخ سيدي محمد السنوسي، أعيذه بالواحد، من شر كل حاسد، وبعد سلام يناجيكم ل فه وإحسانه، ويناجيكم بالمبرة والمسرة لسانه، فقد وصلني من بركم المترادف الألطاف، "الأجنة الدانية الاقتطاف، بمفاخر سلسلة السادة الأشراف"، فسرحت الطرف في رياضها فسعى وطاف، واقتطف من ثمراتها الدانية القطاف، فقال وأقسم بالآل، إنها احسن من عقد اللآل، لما حوته من مناقب السادة الذين هم أمان لأهل الأرض، كما قاله سيدنا محمد المشفع يوم العرض، صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما أقيم من واجب حقهم الفرض، وهنيئاً لكم بما خطر من هذا المهيع الوحيد بالبال، ونظمه دراً نفيساً في جيد الأيام والليالي، وبقاء ذكركم به إلى بقية الأجيال، ومن علامات القبول والإقبال، ظهوره في أيام مولد سيدنا محمد سيد الإرسال، صلى الله عليه وعلى آله الذين اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً كما قال، ولو لك يكن شكر المنعم من الواجب ما أعلمت في تقريظه الرواجب، إذ حسنه واضح جلل، والشمس تكبر عن حلي وحلل، تقبل الله تعالى سعيكم، ووالي حفظكم ورعيكم، وآنس هذا القطر التونسي بكم وبمثلكم، وأحسن للجميع العقبي، وجعلنا منت أهل المودة في القربى، بمنه وفضله، حرره ودودكم محمد الباجي المسعودي في 10 ربيع الأنور سنة 1296 ست وتسعين ومائتين وألف.
الملاحق
ملحق (1) مشيخة المدينة بتونس.
ملحق (2) عهد الأمان.
ملحق (3) ثورة علي بن غذاهم.
ملحق (4) الكومسيون المالي.
ملحق (5) المجلس الشوري.
ملحق (6) تتمة للمقدمة تتضمن تاريخ تونس من 1297 إلى 1376 هـ?، ومن 1879 إلى 1957 م.
ملحق (7) تاريخ تأسيس جامع الزيتونة.
ملحق (1)
مشيخة المدينة بتونس
المجلس البلدي لما تأسس في سنة 1275 كان نظره مقتصراً على ما ضمه سور الحاضرة من المساكن والطرقات.
ثم نظمت الإدارة البلدية سنة (1302) فاتسع نظرها وشمل العقارات البلدية، ولوائح إصلاح البناء، وإحداث الشوارع العامة والخاصة ومعاليم الطرقات، والأسواق، ومحلات التفسح، والدفن، والمواليد، ومصلحة الإطفاء، إلى غير ذلك مما هو من مهمات البلد.
وكانت البلدية خاضعة للوزير الأول، وهي الآن خاضعة لوزير الداخلية.
وهذه أسماء مشايخ المدينة في العهد الحسيني وعهدنا الحاضر عهد الاستقلال.
اسم الشيخ تاريخ ولايته الشيخ حميدة الغماد 1207 الشيخ حمودة العصفوري 1239 الشيخ محمد العصفوري 1265 الشيخ الحاج عميرة ثابت 1271 الشيخ محمد الزهار 1279 الشيخ إسماعيل معاوية 1281 الشيخ الحاج حميدة سيالة 1284 الشيخ الشاذلي الدلاجي 1285 أمير اللواء محمد الدلاجي 1288 أمير اللواء محمد العصفوري 1302 أمير الأمراء محمد الصادق غيلب 1320 أمير اللواء مصطفى دنقزلي 1330 أمير الأمراء خليل بوحاجب
13331915
أمير الأمراء الشاذلي العقبي
13451926
أمير الأمراء علي السقاط
13511932
أمير الأمراء عبد الجليل الزاوش
13531934
مصطفى صفر
13541945
محمد سعد الله
13601941
العزيز الجلولي
13611942
الشاذلي حيدر(1/447)
13621943
أحمد الزاوش
13761956
علي البلهوان
13771967
أحمد الزواش ثانياً
13781958
حسيب بن عمار
13831963
فؤاد المبزغ
1389،1969
عز الدين العباسي
13931973
حسن الممي
13951975
صالح عويج
1978
زكرياء بن مصطفى
1980
وكانت رئاسة البلدية منفصلة عن مشيخة مدينة تونس حين تاسس المجلس البلدي.
وأول من تولى رئاسة المجلس البلدي الجنرال حسين 1275 1858.
محمد قارة
12821865
محمد العربي زروق
12861869
حسونة المتالي
12981880
حسونة الوزير
13001882
محمد المبزع
13011883
وبقت كذلك منفصلة إلى أن تولى محمد العصفوري مشيخة المدينة فإنها جمعت له مع رئاسة بلدية تونس.
ثم استمر الحال على أن شيخ مدينة تونس هو رئيس بلديتها.
واللواء محمد العصفوري الذي جمع بين الأمرين تولى إثر الحوادث التي آلت إلى عزل الشاذلي الدلاجي.
ملحق (2)
عهد الأمان
(1274 1277 1280) عهد الأمان اجمل القول فيه المؤلف عكس الشيخ الوزير ابن أبي الضياف فإنه تحدث عن عهد الأمان وعن سببه الذي دعا الأمير إلى إعلانه، وقد بسط فيه القول اعتناء به، ومن عنايته بعهد الأمان انه سمى كتابه: (بإتحاف أهل الزمان، بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان) .
فهذه التسمية المعنون بها الكتاب تدل دلالة واضحة على ما للشيخ الوزير ابن أبي الضياف من عناية بعهد الأمان.
ومن المتأكد أن نذكر باختصار أسباب إصدار قانون عهد الأمان لن المؤلف هنا يذكر أنه أصدره تلقائياً حيث يقول: ولما مهد السبل أصدار عهد الأمان.
وجلية الأمر في إصداره هي قضية مقتل اليهودي المسمى باطو الذي كان يخدم على كرطون ينطقها أهل تونس بفتح الكاف والراء وضم الطاء الممدودة وهي الكريطة والمتعارف الآن كريطة للقائد نسيم رئيس اليهود بسبب شتمه لمسلم وسب دينه وكان اليهودي بحال سكر، وقد اعتاد ذلك.
وكان قتله من الباي تنفيذاً لحكم المجلس الشرعي الذي حكم بقتله بدون استتابة على مقتضى المذهب المالكي وحكم عليه بالإعدام رغم تدخل القنصلية الفرنسية في القضية.
وبعد مقتل اليهودي أتاه القنصل ليون روش وحذره من مغبة استبداده بالحكم فجعل مجلساً للجنايات بدون إحداث قانون لذلك.
فلم يرض عمله هذا اليهود بباريس فهاجوا وماجوا ورفعوا أصواتهم بالشكاية.
فأنتجت دعايتهم ضد الحكومة التونسية قدوم قطع من الأسطول الفرنسي والتهديد بقدوم قطع من الأسطول الإنكليزي الذي بمالطة، وهدد القنصل الإنكليزي بقدوم الأسطول العثماني.
فاضطر الباي تحت هذا التهديد إلى إعلان قواعد عهد الأمان وهي إحدى عشرة قاعدة وتلي هذا العهد بالسراية الكبرى بباردو.
وكان ذلك في 20 من المحرم سنة (1274) الموافق للتاسع من سبتمبر سنة (1857) فهذا هو سبب إصدار عهد الأمان.
وذكر الوزير ابن أبي الضياف ما دار حول قانون عهد الأمان من (ص231 إلى ص249 من ج?4 من الإتحاف) .
المشير محمد الصادق باشا باي وعهد الأمان: أجمل المؤلف إتمام عهد الأمان في مدة المشير الثالث في فقرة من أقصر الفقر فيقول: (وأعمل الحزم في إنجاز مشروع أخيه بإتمام القوانين المبينة على عهد الأمان وجمع لها خاصة العلماء والأعيان فاستكملوا وضعها واجملوا صنعها) .
والموضوع طويل الذيل من أهم الأحداث بتونس كما ذكرنا سابقاً وقد تحدث عنه الشيخ الوزير ابن أبي الضياف.
بأن المشير الثالث محمد الصادق باي افتتح البيعة له بالإمارة بالتعهد بالتزام عهد الأمان ونصحه الوزير النصوح بأنه إذا لم يتعهد بذلك جر إليه غضب الدولة العلية وسائر الدول التي دعت إلى العمل بعهد الأمان.
وذكر نصه كما ذكره الشيخ محمد بيرم الخامس في صفوة الاعتبار ونصه: بسم الله الرحمن الرحيم: تبارك من جعل الأمان أقوى أسباب العمران، والصلاة على سيدنا محمد وأله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.(1/448)
أما بعد فيقول العبد الفقير لربه المشير محمد الصادق باشا باي وفقه الله لما يرضاه، وأعانه على ما أولاه: أني أقبل البيعة من الأعيان الحاضرين على مقتضى ما وقع الالتزام به في العشرين من محرم سنة 1274 أربع وسبعين ومائتين وألف من المرحوم المقدس أخينا المشير سيدي محمد بالفتح باشا باي، وهو عهد الأمان لسائر السكان على الأعراض والأموال والأبدان، وما حواه من القواعد اللوازم وأركان وحلفت وأحلف بالله وعهده وميثاقه على مقتضاه، وأن لا أخالفه ولا أتعداه.
وهذا الكلام صدر مني ونقله الناطق به عني وختمي وخطي فيه أقوى شاهد وأوضح إعلان، لكلمن حواه الديوان، ولسائر الرعية والسكان.
وعلى مقتضاه عليكم السمع والطاعة، ويد الله مع الجماعة.
حرر يوم السبت الخامس والعشرين من صفر سنة (1276) .
افتتح بيعته بهذا العهد يوم السبت الخامس والعشرين من صفر سنة (1276) حين اجتمع بالمجلس الشرعي ووجوه الحاضرة ورجال الدولة واعيان العسكر وخرج للبيعة في آل بيته وألقى عليهم نص العهد المذكور وبعد تلاوته بدأت البيعة، فبايعه أهل المجلس الشرعي، وهو قائم، ثم جلس وبايعه كل الحاضرين وهو جالس على كرسيه على اختلاف طبقاتهم.
الحرص على إتمام قانون عهد الأمان: تصفح المشير الثالث أعمال المجتمعين لتحرير فصول قانون عهد الأمان وترتيبه، وحرضهم على الإطلاع على قوانين الدول مع الحرص على عدم مخالفة الشريعة.
وقد انفصل العلماء عن المشاركة في التحرير المذكور، ولامهم في تاريخه الشيخ الوزير ابن أبي الضياف ملقياً عليهم تبعة عدم مشاركتهم في هذه المصلحة فقال: وليت شعري ما أعد العلماء من الجواب بين يدي الحكم العدل، العالم بخائنة العين وما تخفي الصدور عن تجنفهم وتباعدهم عن هذه المصلحة الضرورية متعللين بأنها لا تناسب خططهم الشرعية في العرف، والحال أن الشريعة جاءت لمصالح الدنيا والدين وأوقعوا بهذا التجنف وصمة في وجه البلاد ونفرة بينهم وبين أهلها (الإتحاف ج?5 ص38) .
إن حملة الشيخ الوزير ابن أبي الضياف حملة سببها بعض العلماء المتصدرين من بعض أهل المجلس الشرعي دون غيرهم، فهناك كثرة من العلماء شاركوأن ففي مجلس التحقيق شارك: الشيخ محمد الشاهد شيخ الجماعة فإنه كان من أكابر أئمة الدين.
والشيخ حميدة بن الخوجة الذي تولى مشيخة الإسلام وكان من نبغاء العلماء.
والشيخ محمد الستاري.
والشيخ محمد النيفر المفتي المالكي العلامة النحرير.
والشيخ حسونة عباس المفتي الحنفي.
وتركيب مجلس التحقيق كله من العلماء المذكورين، وغنما كان رئيسه من غيرهم وهو إسماعيل صاحب الطابع.
والسبب في ذلك أن رؤساء المجالس كان اختيارهم على قاعدة أن لا يكون من أهل البلاد لارتكاز الحكومة على غيرهم نظراً إلى أن الدولة ترتكز على صنائعها من المماليك والأصهار أما بقية الشعب وإن تقدموا علماً وتفكيراً فهم لا حظ لهم إلا إذا اضطر إليهم.
وكذلك الحال في مجلس الجنايات فإن تركيبه من العلماء ومنهم الشيخ صالح النيفر أحد أفذاذ العلماء كما يقوله الشيخ السنوسي في ترجمته.
والشيخ احمد كريم الذي تولى مشيخة الإسلام.
والشيخ محمد المازري ابن الشيخ محمد الطاهر بن مسعود.
والشيخ الجد محمد الطاهر ابن الشيخ العالم محمد النيفر القاضي العلامة النحرير أحد قضاة العدل الأفذاذ.
والشيخ محمد ابن الشيخ المفتي حسين البارودي.
والشيخ محمد الشريف أحد العلماء الوجهاء.
وكذلك انضم إلى المجلس الكبير من العلماء: الشيخ عمر بن الشيخ الذي تولى الإفتاء.
والشيخ سالم بوحاجب أحد نبغاء العلماء، وقد تولى رئاسة الإفتاء.
والشيخ الطاهر بن عاشور العلامة المؤلف والذي تولى القضاء والإفتاء.
والذي دعا الشيخ الوزير ابن أبي الضياف أن يحمل على العلماء ويقول: (ما اعد العلماء من الجواب بين يدي الحكم العدل العالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور عن تجنفهم وتباعدهم عن هذه المصلحة الضرورية متعللين بأنها لا تناسب خططهم الشرعية في العرف، والحال أن الشريعة جاءت لمصالح الدنيا والدين وأوقعوا وصمة في وجه البلاد ونفرة بينهم وبين أهلها) هو امتناع الشيخ محمد بيرم الرابع شيخ الإسلام فإنه يحمله تبعة الامتناع وكذلك المشايخ: أحمد بن حسين باش مفتي المالكية.(1/449)
ومحمد بن الخوجة المفتي الحنفي.
ومحمد البنا المفتي المالكي.
إن صاحب الإتحاف انتقد على شيخ الإسلام المذكور بأنه كان أسرع الحاضرين للإجابة مستنداً إلى الغضب الذي لا قدرة لنا على دفعه.
ثم قال: وهو المشار إليه في تعاريب مكاتيب الوزير وهو وزير الأمور الخارجية بفرنسا من الذين بمشورتهم لأمور غير صالحة، وأوقعوا له الاختبال في عقله كم مرة، (الإتحاف ج?4 ص239) .
وقد ذكر صاحب الإتحاف محاورة دارت بينه وبين شيخ الإسلام محمد بيرم الرابع: فقلت له ان القوم لم يصرحوا بالغضب، ولا آذنوا بحرب وإنما نصحوا.
فقال (أي شيخ الإسلام المذكور) : نخشى الغضب من الدولة العلية وأصول التنظيمات لا تخالف ديننا (الإتحاف ج?4 ص239) .
ثم إنه بعد ذلك يشير إلى امتناع الإسلام: (تلكأ الشيخ محمد بيرم شيخ الإسلام عن الحضور لأمر يعلمه الله فقال له الباي: قد أفتيتنا بالقبول من أول الأمر وأن التنظيمات الخيرية لا تعارض ديننا فما بالك تمتنع من الحضور الآن وألزمه الحضور.
وتحدث صاحب الإتحاف عن شيخ الإسلام كيف قبل ما جاء من تفسير القاعدة الأولى من عهد الأمان وهي: تأكيد الأمان لسائر رعيتنا وسكان إيالتنا على الأديان والأسنة والألوان في أبدانهم المكرمة وأعراضهم المحترمة إلا بحق يوجبه نظر المجلس المجلس بالشورة ويرفعه إلينا ولنا النظر في الإمضاء أو التخفيف ما أمكن، أو الإذن بإعادة النظر.
فنقل عن شيخ الإسلام أنه قال: يمكن لي أن أخطب يوم الجمعة بشرح هذه القاعدة الأولى المذكورة.
وفي هذا الجو الذي أقبل فيه أهل المجلس الشرعي على تفسير القواعد الأصولية بعهد الأمان أمر الوزير المصلح خير الدين الفقهاء الحاضرين أن يكتب كل واحد منهم على قواعد عهد الأمان ما يراه ويدين الله به، فأجابوه لمطلبه لما رأوا من توقد فكرته، وكمال فطنته، فكتبوا وتقاربوا في المرمى على قوس واحدة.
وجلى شيخ الإسلام فيما كتبه بشهادتهم ولولا الإطالة لنقلنا ذلك.
?استقالة الفقهاء من مجلس شرح قواعد عهد الأمان
بعد مشاركة أولئك الفقهاء الأربعة طلبوا الاستعفاء متعللين بأن مناصبهم الشرعية وما عليهم من مهمات يجب القيام بها لا يمكن الجمع بينها وبين علمهم في المجلس المذكور.
وآخذهم صاحب الإتحاف في قصرهم أنفسهم على وظائفهم الشرعية.
وكان الظن بهم تقديم هذه الطاعة المتعدية على غيرها من الطاعات القاصرة.
وتعللوا بأن منصبهم الشرعي لا يناسبه مباشرة الأمور السياسية إلى غير ذلك من المعاذير التي لو لم نرها ما نقلناها.
وقبل الباي عذرهم، وأرواحهم من تعب الحضور، ولسان حال المسلمين بهذه الإيالة المسكينة يقول: وما يجب اعتقاده أن الله الذي دينه النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم، ومن أوامره الواجبة على عباده تغيير المنكر ولو بالقلب، ومن شريعته المسحة ارتكاب أخف الضررين عند العجز عن السلامة منهما إلى غير ذلك من تيسير هذه الشريعة الصالحة لكل زمان، يسألهم عن ذلك يوم تبلى السرائر، ثم إن ربك من بعدها لغفور رحيم) .
لعل له عذراً وأنت تلوم
حمل الشيخ الوزير احمد بن أبي الضياف العلماء كلهم مغبة عدم المشاركة في تحرير شرح قواعد عهد الأمان مع أن الممتنعين قلة وهم الأربعة: الشيخ محمد بيرم الرابع.
والشيخ احمد بن حسين.
والشيخ محمد بن الخوجة.
والشيخ محمد البنا.
أما الكثرة من العلماء فقد شاركت لما قامت المجالس المنبثقة عن تطبيق عهد الأمان بالأخص الشيخين وهما: محمد الشاهد.
وصالح النيفر.
كما أن شيخ الإسلام الرابع كان من أعضاء مجلس الباي الذي جعله لخاصة نفسه للنظر فيما يحرره مجلس شرح قواعد عهد الأمان.
فالعلماء لم ينفضوا أيديهم من هذا المجلس، وإنما امتنع بعضهم من مجلس خاص وهو المجلس الذي يرأسه الوزير مصطفى خزنه دار.
ومن القريب جداً أن امتناع الإسلام محمد بيرم الرابع كان من أجل انه لم يوافق على أن يكون مرؤوساً للوزير مصطفى خزنة دار لأن الوضع كان في تونس أن شيخ الإسلام يقدم على الوزراء، وكذلك بقية أهل المجلس الشرعي.
ويدل على تقديم أهل المجلس على سائر رجال الدولة أن المكتوب الذي عين فيه الباي رجال المجلس المذكور قدم أعضاء المجلس الشرعي.
وهذا نصه:(1/450)
أمرنا هذا للعلماء الأعلام الفقهاء الأعيان، الجلة الفضلاء من أهل مجلسنا العلي: شيخ الإسلام سي محمد بيرم.
والشيخ سي احمد بن حسين باش مفتي المالكية.
والشيخ سي محمد بن الخوجة المفتي الحنفي.
والشيخ سي محمد البنا المفتي المالكي.
والوزراء الأعيان النصحاء الأركان أولي الرفعة والشان.
أبننا الأعز ووزير العمالة مصطفى خزنه دار.
ووزير الحرب أمير الأمراء ابننا مصطفى باش آغة.
ووزير البحر ابننا خير الدين.
والوزير الأحظى أمير الأمراء ابننا إسماعيل صاحب الطابع.
والأحظى أمير الأمراء ابننا محمد بالفتح أمير الأعراض.
وكاتب سرنا أمير اللواء محبنا الشيخ سي محمد بن أبي الضياف، حرس الله جميعهم واحسن صنيعهم.
وإننا أمرناهم بالاجتماع في دارنا بالقصبة يومين في كل أسبوع، وهما الأربعاء والخميس للتفاوض في شرح الفصول المسطرة في عهد الأمان.
وكل واحد يتكلم بما يدين الله به على مقتضى آداب البحث في الأدلة وإيضاحهأن ولا يخجل من لا تنهض حجته فالحق أحق بالاتباع.
وأمرناهم قبل ذلك بقراءة ما رتبه الدولة العلية العثمانية وغيرها من الدول ليجروا التراتيب على ما يصلح بلادنا بعد استفتاء من ذكر من العلماء فيما تتوقفون فيه من الأمور وترفعوا إلينا عمل كل اجتماع لننظره ونمضي ما عليه أكثر رأي الجماعة.
ولا يلزم الفقهاء المذكورين الحضور إلا يوم الأربعاء لاشتغالهم يوم الخميس بالمجلس الشرعي بدار الشريعة والله تعالى ولي إعانتهم وتوفيقهم على هذه المصلحة التي يعم نفعها بحول الله، والسلام.
وكتب في 16 أشرف الربيعين.
فلما رأى أهل المجلس الشرعي تقدم الوزراء عليهم أنفوا من الجلوس في مجلس يترأسه الوزراء المماليك.
وزاد الطين بلة أن هناك عداوة بين وزير العمالة صاحب النفوذ الوزير خزنه دار وبين شيخ الإسلام محمد بيرم الرابع وعداوته شبيهة بعداوة الوزير المذكور مع إسماعيل السني صاحب الطابع فوجود شيخ الإسلام في مجلس يترأسه من يتربص به الدوائر دعاه إلى أن يستعفي هو وبقية أهل المجلس الشرعي المالكية والحنفية.
وحسناً صنع شيخ الإسلام فإنه لو بقي معه في ذلك المجلس لاشتدت العداوة بينهما ولأفضت إلى ما أفضت إليه عاقبة الوزير إسماعيل السني الذي سعى أولاً إلى إصدار أمر الباي بإقامته الإقامة الجبرية، ثم سعى في قتله في بضع دقائق مع أمير المراء رشيد وزير الحرب.
فشيخ الإسلام يخشى عاقبة كعاقبة هذين الرجلين السني والرشيد.
فالعلماء المستعفون من المجلس المكلف بإرساء قواعد عهد الأمان على علم لبعد أنظارهم بأن العهد الممنوح غنما هو منح اضطراري أدت إليه حادثة قتل اليهودي المتجرئ على الإسلام بشتم دين أحد المسلمين.
فالباي الأمير والكثير من حاشيته هو أهم في عدم وجود عهد الأمان، ولذلك لما وقعت ثورة علي بن غذاهم ارتكز عليها وزير العمالة وأبطل العمل بعهد الأمان، فهم على بينة من الأمر بأن العمل به كان تحت ضغط الدول الأجنبية.
ومن أعذار الاستعفاء: أن تشكيل المجلس للنظر في إرساء قواعد عهد الأمان كان تشكيلاً غير متناسق فيما بين أعضائه إذ منهم الفقهاء الذين لهم مرانة سياسية مثل شيخ الإسلام بيرم الرابع الذي له اتصال بالأمراء واطلاع على خبايا نفوسهم فقد كانت له مصاهرة مع الباي المشير الثاني.
ومنهم فقهاء تطبعوا بطبيعة الفقهاء في التزام النصوص الفقهية مثل شيخ الإسلام المالكي أحمد بن حسين الذي هو من العلماء الفقهاء الممتلئين فقهاً ولهم محافظة شديدة على النصوص الفقهية.
وعى هذا الغرار المفتي الحنفي الشيخ محمد بن الخوجة فإنه من فقهاء الحنفية.
وأما المفتي المالكي فهو من أهل الورع الشديد والبعد عن رجال السياسة حتى أن الأمير المشير الثالث لما أراد إعانته على بناء داره امتنع من اخذ أي شيء مع الفقه البارع وهو الشيخ محمد البنا.
فهؤلاء الفقهاء كان انسحابهم من مجلس الإرساء عن روية وعن معنى خاص أدركوا به أن عملهم سوف لا يثمر لأن الاتجاه الحكومي من قبل الوزارة مراميه بدأت تظهر حين تلك الاجتماعات وهو ما جعلهم بعد أن انظموا إليه استعفوا منه.(1/451)
ثم إن الأفكار كانت غير متقاربة بل متباعدة غاية البعد لأن التشكيلة من حيث الفقهاء كما ذكرنا قابلتها تشكيلة أخرى بعيدة عنها كل البعد، وهي تشكيلة سياسية متبصرة في بعض رجالها وهو الوزير خير الدين وتشكيلة أخرى نظرها في السياسة نظر مبني على معرفة قاصرة غير متمكنة من الدين كما أنها غير متمكنة من السياسة التي ظهرت في العالم الحديث.
فالفقهاء موقفهم حرج لأنهم أمام نظريات ليست من صميم الإسلام فلهذا نزعوا أيديهم من المجلس المذكور، فلو أنهم لا يريدون خدمة المصلحة العامة لما دخلوا أول مرة وغنما بدا لهم ما كانوا متخوفين منه.
بدت لي هذه النظرية بأنها هي الداعي الأصلي للانسحاب ثم وجدت ما يؤيدها من قبل الشيخ بيرم الخامس في كتابه صفوة الاعتبار حيث ذكر: ثم عقد الوالي مجلساً رئيسه الوزير مصطفى وزير العمالة وأعضاؤه: مصطفى آغة وزير الحرب.
وخير الدين وزير البحر.
والوزير إسماعيل السني.
والوزير محمد.
وكاتب أسرار الوالي أمد بن أبي الضياف.
وأذنهم باستخراج أحكام سياسة تدور عليها أعمال الحكومة واستخراج أحكام فرعية في الحقوق الشخصية يجري بها الحكم في القطر.
وأذن أن يكون شيخ الإسلام محمد بيرم الرابع أحد أعضائه فامتنع من الحضور دون مشاركة من العلماء الحنفية والمالكية.
واستقر الرأي على إضافة: الشيخ محمد بن الخوجة المفتي الحنفي.
والشيخ احمد بن حسين رئيس الفتوى في المذهب المالكي.
والشيخ محمد البنا المفتي المالكي.
وهؤلاء الأعلام الأربعة هم أكبر علماء العصر إذ ذاك.
فحضروا أولاً ثم امتنعوا بأن كتب كل واحد منهم شرحاً منفرداً على الإحدى عشرة قاعدة المار ذكرها أبدوا فيها الأحكام الشرعية المطابقة لتلك القواعد، واقتصروا على ذلك متعللين بأن الذي بدا لهم من مغزى الجماعة هو الميل البحت للسياسة الساذجة من غير التفات إلى محاذاة الشرع بل ربما عرض ما يصادم القواطع.
وحيث كان عمل المجلس على ما يستقر عليه الرأي الغالب لم يأمنوا أن يسند إلى المجلس ما يخالف الشرع، ويحمل على عاتقهم، وهو الذي تبين لكل من الفريقين فيما بعد ولدت الليالي من أن الصواب في غير مسلكه على ما يتحرر إن شاء الله تعالى في الخاتمة.
حملة في غير موضعها: تبين بما ذكرنا وما نقلنا أن حملة الشيخ الوزير ابن أبي الضياف في غير موضعها.
أما أولاً فلما ذكرنا من أنها مقصورة على بعض أهل العلم وهم قدماء أعضاء المجلس الشرعي وأما غيرهم فانضموا إلى هذا المجلس، بل كان بعض المجلس متركباً منهم دون غيرهم غلا في رئيسه كما أسلفنا.
وأما ثانياً فإن انسحابهم من المجلس الشارح لقواعد عهد الأمان يرجع إلى انهم بدا لهم أن الأغلبية ترمي إلى جعل فصول للحكم في بعضها ما لا يمت إلى الشريعة السمحة.
فاستغلال سماحة الشرع المنيف لا تؤدي إلى تحلل من نصوصه القطعية حتى يكون الحكم بغير ما أنزل الله.
فهم لا يريدون أن يتحملوا تبعة ذلك فلذلك اكتفى رئيسهم شيخ الإسلام بأن يكون في مجلس الأمير هو الغربال لما يقنن من فصول.
عالم الأدباء وقانون عهد الأمان
لو كان العلماء متبرئين من عهد الأمان مغلبين للمصلحة القاصرة على المصلحة العامة أما أنشد العلامة الشريف محمود قابادو قصيدته الشهيرة في عهد الأمان منوهاً به، ومعرفاً بأنه من صميم الدين التي يقول في طالعها:
العدل عهدُ خلافة الإنسانِ ... ومداد ظل الأمن والعمران
وتمدُّنُ البشر اقتضى إيلافهم ... فتعاضدوا من دائن ومدان
وتطامحُ الخلطاء لاستبدادهم ... بالقتل داعيهم إلى العدوان
فتقرُّر السلطان ضربةُ لازب ... لنظامهم بالعدل والإحسان
افتتح عالم الأدباء الشيخ قابادو قصيدته هذه بهذه الأبيات الأربعة منبهاً على ما ذكر ابن خلدون في مقدمته من أن الإنسان مدني بالطبع، واشتباك المصالح مؤد إلى اعتداء البعض على البعض فلا بد من سلطة تمنع المعتدين وتكف ضراوة الضارين فهي مقدمة لرأيه في عهد الأمان.
وأشار فيها إلى أن السلطان ليس قوة قاهرة بل هو سلطة رحمة وإحسان.
فما أتى به ابن خلدون في مقدمته في الباب الأول من الكتاب الأول في العمران البشري أتى به أديب العلماء بلا منازع العلامة الشريف محمود قابادو في تلك الأبيات النزرة.(1/452)
وهذا ما يدل على أن الفقهاء من التونسين كانوا على جانب عظيم من علم الاجتماع متأثرين بسلفهم العلامة المؤرخ عبد الرحمن بن محمد المعروف بابن خلدون (-808) فكلهم من فبضه يغترف، ومن مناهله يرتشف، فعلماء تونس الفقهاء كانت معرفتهم الاجتماعية تؤهلهم للنظر البعيد وللتفقه في الدين التفقه الصحيح، فما يرميهم به الرامون غنما هو لمرض في النفوس وحسد كامن في القلوب.
وقصيدته هذه أتى بها المعروف في ديوان محمود قابادو الذي اعتنى بجمعه وطبعه سنتي (1294 و1295 هـ?) .
وقد ضمنها الكثير من إنشاء المجالس لعهد الأمان ومن أبدعها قوله:
قانون عدل صادق عال سمت ... أساسه رجبا على آسان
1277 ونقل عيونها الشيخ الوزير ابن أبي الضياف في كتابه إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان في الجزء الخامس صفحة 46.
ومن نصيحته الشيخ قابادو لأهل المجلس قوله مخاطباً أعضاء المجالس:
هذي رئاستكم وعزة مجدكم ... نيطت بكمْ يا معشر الأعيانِ
وإلى أمانتكم وحسن وفائكم ... وكلتْ وغيرتكم على الأوطان
ولتعلموا أن الوفي لنفسه ... يوفي ومن ينكث عليها جاني
والله ليس مغيراً إنعامه ... حتى يغيره ذوو الكفران
وتيقنوا أن الذي غلب الهوى ... والنفس يغلب كل ذي سلطان
هذا وإن الصادقية دولة ... خصت بتأييد من الرحمان
لما رأت مصباحَ شرعِ محمد ... بترعب الهواء ذا خفقان
جعلت له القانون يشبه زجاجة ... لتقيه هب عواصف الطغيان
فتدارسوه لما علمتم بينكم ... عودا على بدء بغير توان
والله يشملنا ويشمل جمعكم ... بالعون والتوفيق والغفران
وبعد أن ذكر الشيخ الوزير صاحب الإتحاف أبياتاً من هذه القصيدة عليها بقوله: وهذه الغانية على طولها أقصر من ليالي الوصال، وأعذب ما سمع من المقال، لو لم يأت بعدها ما ينافيهأن والحر عبد إذا طمع والعبد حر إذا قنع، ومن اعظم الذنوب تحسين العيوب، "والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون" الشعراء 124 125.
يقصد الشيخ الوزير الذي أتى بعد قصيدة الشيخ قابادو في مدح عهد الأمان قصيدته التي هنأ فيها المشير الثالث حين اخمد ثورة علي بن غذاهم.
وهي التي يقول في مطلعها:
سما للعلا يقظانُ عين حديدها ... فهيهات بعد اليوم تعدى حدودها
أضلّ عقاب الحزم أرجاءها كما ... أضل عقاب البأس فيمن يكيدها
ويقول فيها:
فيا ويحها من عصبةٍ قد تهافتت ... على نار بغي ما سواها وقودها
ولا شك انه يقصد قوله فيها:
وإن فداء الكل بالبعض سنةٌ ... تواتر من شرعٍ وطبعٍ شهودها
وقد كان جلد البعض زجراً وأهدرت ... نفوس بجلد الزجر فاد جليدها
أليس من التعزيز وهو مناهجٌ ... تناط إلى رأي الإمام حدودها
وقدماً قضى سحنون في الدين ضارباً ... مراراً قضى نحبَ المدين عديدها
وأما عقاب المال فهو موسعٌ ... إذا عودت منه بشيء يعيدها
بحيث إذا لم تمتهن باستلابه ... رأت شوكة السلطان فلَّت حدودها
على انه قد كان حط من الجبا ... وإعوازُ بيت المالِ ممَّا يعيدها
فهذه الأبيات فيها تبرير من الشيخ قابادو لأفعال الأمير في التعذيب والمطالب المالية المجحفة التي وضعت على رجال الثورة.
والشيخ قابادو لا أظن أن الحامل له الطمع كما يقال الشيخ الوزير وإنما حمله على ذلك أن هذه الثورة لو تمت لأتت على الأخضر واليابس والبلاد في حال ضنك تشتكي العجز.
فنظرته البسيطة هي التي أدته إلى أن يبرر تلك الفعال، ولو نظر نظرة عميقة مثل نظرة الشيخ الوزير لما برر تلك العمال.
ثم إن تلك الثورة تسبب فيها سوء الإدارة والإسراف المالي المجحف المؤدي إلى نضوب الخزانة المالية مع التصرف الذي لم يكن على قاعدة ومع جولان الأيدي في أموال الحكومة.
وعلى كل فالشيخ قابادو يشيد بعهد الأمان، وإنما يرى أن الفوضى مؤدية إلى الانهيار فموقفه ليس موقف طمع لأنه كان الناس بالزهاد فحياته حياة الذين لا يعتنون بالمال.
وشاركه في الإشادة بعهد الأمان علامة أديب شاعر وهو الشيخ أحمد كريم الذي تولى الإفتاء وكان من مشايخ الإسلام.(1/453)
وأشار الشيخ احمد كريم إلى أن الشرع نادى بما جاء به عهد الأمان في قوله:
تيقَّن أن العدلَ أبقى لملكه ... فأضحى لطرق الجور ينسفها نسفاً
أمولاي قد عاهدت عهداً مؤمناً ... فأوفيت في عهد الأمان ومن أوفى؟
وأمّنت أهلَ القطر من كل ضائر ... ولولا وجوب الحتف أمتنا الحتفا
جعلت أساس العدل فيهم أمانهم ... على العرض والأبدان والمال مستوفى
وسويت في الحكام بين جليلهم ... وبين ذليل كان في الحق يستخفى
وألزمت أحكاماً هي الفيصل التي ... توافقنا شرعاً ونعتادها عرفا
وتبارى الأدباء في اليوم الذي اجتمعت الهيآت لقراءته بدار المملكة حين طلبوا من الباي أن يحضر لديهم وذلك أواخر جمادى الثانية سنة 1277.
وفي ذلك اليوم انشد القصيدان المتقدم ذكر البعض منهما وهو دليل واضح على أن الهيئة العلمية عبرت عن سرورها وإكبارها لتطبيق عهد الأمان، فتونس رجالها المثقفون بالثقافة الإسلامية لم يحجموا عن مساندة القانون، فما يرميهم به الرامون هو من قبيل إلصاق تهم هم براء منها.
ومع انهم نصروه هم مقصرون في الاستفادة من هذا القانون، وتقصيرهم يبدو في كونهم لم يقوموا بواجبهم نحو بقية الأمة في تفهيمهم محاسن القانون، وأن الدين يدعوهم لإرساء قواعد العدل في غير مبالين بما ينالهم.
لكنهم لم تبرح في نفوسهم هيبة المراء أصحاب النفوذ المطلق فلذلك قصروا وأحجموا.
ملحق (3)
ثورة علي بن غذاهم
حط الشيخ السنوسي من ثورة علي بن غذاهم، ونعته بنعوت تدلي إلى الحضيض وتحشره في جملة الأدنياء الحثالة، ووصفه بأنه دعي والدعي المتهم في نسبه أو الذي يدعي إلى غير أبيه.
ووصفه بأنه جلف، والجلف الرجل الجافي والظالم، ففي نظره أن ثورة ابن غذاهم ظلم صراح، ووصفه بأنه رئيس البغاة.
ويختم تسجيله لحادثة الثورة التونسية برضاه عما وقع لأهلها فيقول: ولما تم القبض على زعماء البغاة الأشقياء جالت يد أنصار الدولة على أعضاء الثورة، ومن تشيع إليهم وهز عصا الشقاق، ونال كل واحد منهم ما ناله من القتل، وضربت تلك المغارم على الأعراض وجربة، وصفاقس وعموم بلدان الساحل عدا أهل سوسة والقلعة الكبرى لتقدم طاعتهم.
فعنده هذه المظالم المتنوعة من القتل والضرب والسجن في أشد السجون وضرب المغارم على أكثرية أهل البلاد ومعنى ضرب المغارم افتكاك أموال الناس بالقهر هي الجزاء الوفاق.
فالأمة أصبحت بسبب هذه المظالم المتراكمة لكل ما يملكه الإنسان من روحه وعرضه وماله أمة ميتة، وكل ما أصابها لم يثر في نفسه شعور الإنسانية حتى يرثي لهذا الشعب الرازح تحت السيف والسياط والسجن والتفقير ولنتبين الحق من غيره تأتي بما كتبه الشيخ محمد بيرم الخامس في صفوة الاعتبار.
وإنما أتينا بما كتبه لنزيل من الأذهان من أن للشيخ السنوسي له اتصال بالحقيقة بل هو بعيد عن الحقيقة، فالشيخ بيرم الخامس عاش تلك الأحداث فكتابته كتابة مطلع خبير.
جاء في صفوة الاعتبار.
(وخلا الجو لخزاندار أي لما استعفى الوزير خير الدين ومن معه وأخذت السيرة في طور آخر جديد ورام يضاعف أداء الجباية على الأهالي ويصيرها اثنين وسبعين ريالاً على الرأس عوضاً عن الستة والثلاثين ريالاً التي أسسها محمد باشأن وطلب المجلس الكبر أي طلب خزاندار بواسطة الأمير من المجلس الأكبر ذلك فامتنع أعضاؤه واستبد هو أي خزندار، بإمضائها مع تحديز العقلاء له فلم يلتفت إليهم مع أن الأهالي في ثورة من أثر سيرة محمد باشا تقويهم على الدفاع عن أنفسهم مع ما أستأنسوا به من تلك السيرة وسماعهم بان العدل والإنصاف قد شملهم بالقانون وأن لهم الكلام على حقوقهم فامتنعوا قاطبة وأرادوا غصبهم على ذلك، فثار القطر كله ثورة واحدة لم تعهد من قبل على غاية من الرياضة والأمن بحيث لم يتعرضوا بالأذية لأحد مع أمن السبل، وكثرة الفادي والرائح، وضبط كل جهة ببعض أهلها لردع السفهاء وحفظ الراحة والمن وكان متولي أكبر الجهة الغربية والملتف عليه أكبر قبائل الأعراب رجلاً يسمى علي بن غذاهم وذلك سنة (1280) .
وما زالت هذه الثورة تسمى ثورة غذاهم، وكاتب الجهات:(1/454)
بأنا إخوان ومطلبنا واحد، وليس المراد منه الإفساد، فالواجب حفظ الأمن والراحة، وتأمين السبيل، ولا نتعرض لأحد بشيء سوى أتباع الحكومة فإذا أرادوا غصبنا على الظلم ندافع عن أنفسنا وأنذرت القبائل عمالهم الذين كانوا بين أظهرهم فمن أراد منهم التوجه إلى الحاضرة أوصلوه بأمان ومن أراد الإقامة منكفئاً عن التداخل في أمرهم أبقوه بأمان.
ولما توجه أمير الأمراء فرحات إلى الكاف لإجبار قبائل ماجر على ذلك الأداء تعرضوا له وقتلوه فشدد النكير علي بن غذاهم وقال لهم: أصل اتفاقنا تعرضوا وقتلوه فشدد النكير عليهم علي بن غذاهم وقال لهم: أصل اتفاقنا هو الدفاع عن أنفسنا وما ضركم الرجل إلا إذا حاربكم فدافعوا عن أنفسكم.
وكاتب المذكور رئيس الفتيا الشيخ أحمد بن حسين وطلب منه التوسط في الصلح مع الحكومة.
وحاصل مطالب الجميع إبطال الأداء الجديد وعزل الوزير مصطفى خزندار ومحاسبته.
فامتنع الوالي يعبر صاحب صفوة الاعتبار عن الأمير بالوالي لنه يرى أن تونس ولاية عثمانية فلا يحق له أن يلقب بالأمير بل بالوالي، أولاً من جميع مطالبهم واشتد الكرب على الحكومة حتى لم يبق أمر الوالي نافذاً إلا في الحاضرة ونحو اثني عشر ميلاً حولهأن واشتد الخوف في الحاضرة) .
وقد فصل الشيخ الوزير ابن أبي الضياف هذه الثورة تفصيلاً مدققاً واتى بأسبابها وكيف ابتدأت وهو ما أحمله غاية الإجمال صاحب صفوة الاعتبار.
وافتتح الشيخ وزير كلامه على هذه الثورة بمقدمة دقق فيها الأسباب من فداحة الافتراض الذي تسبب فيه جلب ماء زغوان إلى الحاضرة تونس مما أدى إلى أن تكون فائدة الدين أكثر من ثلث دخل المملكة التونسية حينذاك وهو اكثر من أربعة ملايين من الفرنكات لأن دخل المملكة وقتها لا يصل إلى خمسة عشر مليوناً من الريالات.
وإثقال كاهل الميزان بمصاريف الدولة فإن مرتب الملك وحده مليون ومائتا ألف إلى غير ذلك من المصاريف الباهظة.
فلما عجز الميزان عن تحمل تلك المصاريف الباهظة كاتب الأمير أعضاء المجلس الأكبر فامتنعوا بلطف كما قال الوزير الشيخ ابن أبي الضياف ودارت مباحثات مجلس الأمير الخاص، وكان رجاله على رأيين.
منهم من يميل إلى الرفق بالرعية ومنهم من زين للأمير الزيادة في الضريبة الموضوعة على الدافعين إلى أن أفضت النوبة إلى أحدهم وهم ممن يشار إليه في مجلس الأمير الخاص فأشار برأي كان سبب اندلاع الثورة.
وهو أنا مال الإعانة يزداد عليه مثله ويكون عاماً في سائر بلدان المملكة من غير استثناء.
فقبل الأمير أن هذا الرأي وكتب إلى أعضاء المجلس الأكبر للموافقة فاعتذروا بأنهم لا رأي لهم في النازلة.
وبعد امتناع أعضاء المجلس استبد الأمير برأيه وصدرت به المناشير إلى عمال العمال.
وهي مناشير كانت لقطع الطاعة والعافية والعمران كالمناشير كما قال الشيخ الوزير.
ورغم النصائح حتى من الأجانب تمادى الأمير في فرض الزيادة في الضريبة.
اندلعت الثورة بتقرر الزيادة في الداء.
ويؤكد كلام صاحب صفوة الاعتبار الشيخ محمد بيرم الخامس المتقدم ذكره الشيخ الوزير ابن أبي الضياف.
"ولما التف عليه إغمار العامة في الجهة الغربية، أي على علي بن غذاهم، أبرم العقد معهم.
على أن القصد بهذا الاجتماع هو الاستعفاء من هذا الأداء الثقيل الذي لا قدرة عليه.
وإذا عصبنا عليه بالقتال تكون يدنا في المدافعة عن النفس والمال والحريم يداً واحدة.
ولا يتعرض منا أحد لنهب أموال الناس بالحرابة ومن تعرض تكون يدنا عليه أحدة لن كلامنا مع الدولة، وإخواننا المسلمين يعذروننا.
فإذا تعرضنا لأخذ أموال الناس صرنا حرباً على الله تعالى وعلى السلطان ولا يعذرنا أحد بل تتوفر الدواعي على قتالنا والله معهم".
أجمل صاحب الإتحاف مبادئ ثورة ابن غذاهم في أنها محصورة في الامتناع من دفع الضريبة المضاعفة.
تحقيق حول ثورة ابن غذاهم وما دار حولها
إن هذه الثورة مقصورة على غرب البلاد بقيادة علي بن محمد بن غذاهم وإنما هي عامة شملت البلاد كلها فعلاوة على غربها هناك عمل سوسة، وعمل القيروان، وعمل صفاقس، وعمل الأعراض.
لكنها كانت في هذه العمال غير مسيرة مثل ما هي في ناحية ابن غذاهم بل هي مقودة بقيادة فوضوية.(1/455)
ولولا تداخل بعض أهل العلم والصلاح لانتهى أمر الدولة الحسينية لا أمر الدولة الصادقية مع ما انضم إلى ذلك من دهاء بعض الوزراء وبعض رجال الحكومة حينذاك فإنهم أنقذوا الدولة من الانهيار.
وتحقيق النظر في هذه الثورة العارمة يحتاج إلى كتاب خاص، وإنما نقتصر في هذا الملحق على بيان مواقف ثلاثة من المؤرخين التونسيين وهم: الشيخ السنوسي في مسامرات الظريف.
والشيخ محمد بيرم الخامس في صفوة الاعتبار.
والشيخ الوزير ابن أبي الضياف.
إن موقف الأول من هذه الثورة موقف تزلف وتدل على الحط من أحد رجالها وهو علي بن محمد بن غذاهم حيث وصفه بما انتقدناه عليه.
فهو لم ينظر لها نظرة تاريخية، بل نظر إليها بغير منظار المؤرخ النزيه ولولا أن الواقف على كتابه الذي أخرجته للطبع يغتر بكرمه ما كنت أتوسع في الكلام على هذه الثورة.
وثاني المؤرخين الثلاثة هو الشيخ محمد بيرم الخامس قد كانت له إحن في نفسه على الوزير مصطفى خزنه دار حيث أدمج في أسباب الثورة أنها ترمي إلى المطالبة بعزل خزنه دار.
(وحاصل مطالب الجميع إبطال الداء الجديد وعزل الوزير مصطفى خزنه دار ومحاسبته، فامتنع الوالي أولاً من جميع مطالبهم فاشتد الكرب على الحكومة) .
وأكد هذا بما نسبه إلى الوزير خزنه دار.
ومن وقتئذ أيدي العدوان على الأهالي بسلب الأموال، والقتل والضرب بالسياط المؤدي إلى القتل لأن الوزير اشتد حنقه عليهم حتى انه دخل عليه أحد الأعيان يوماً وهو يقول: طلبوا دمي أرضى إلا بدمائهم، طلبوا مالي فلا أرضى إلا بأموالهم.
لعل مراده بطلب دمه هو طلب عزله، وقد اعتادوا في بعض الوزراء السابقين قتلهم فظن أن العزل يؤدي للقتل وإلا فنفس قتله لم يطلبه أحد.
أما المال فنعم فقد طلبوا حسابه.
أدمج صاحبة صفوة الاعتبار عزل الوزير مصطفى خزنه دار في مطالب الثورة مع أنه لم يأت بدليل يدل على ذلك إلا ما أخبره به أحد الأعيان الذي قال له إنهم طلبوا دمي أرضى إلا بدمائهم.
وثالث المؤرخين وهو أولهم في كتابة التاريخ التونسي وأقعدهم في كتبته الشيخ الوزير ابن أبي الضياف وهو أشد المؤرخين تحرياً في كتابة التاريخ فتاريخه مدعم بالوثائق التاريخية التي توقفك على عين الحقيقة.
وعين الحقيقة في هذه الثورة العارمة أنها مقصورة على طلب إلغاء الأداء الجديد دون التعرض لعزل مصطفى خزنه دار.
وقد وضح هذا صاحب الإتحاف أتم توضيح فيما كتبه قبل صاحب صفوة الاعتبار.
فبين أن قنصل فرنسا شارل دوبوفال (Charles de Beauval) اغتنم هذه الفرصة للتداخل في أمر الولاية وأحكامها فأتى إلى البي يوم الجمعة 23 من ذي القعدة (29 أفريل 1864) ومع أمير الأسطول الفرنسي والقائم مقام (كنبنو) الذي كان من معلمي الجند التونسي وتخلى عن ذلك.
وحين دخولهم على الأمير وجدوا معه مصطفى خزنه دار فطلبوا منه إخراجه فتشدد الباي في ذلك.
وابتدأت المحاورة بين الأمير والوفد الفرنسي الذي طلب إبطال عهد الأمان فبين له الأمير انه أعطى عهده على إتمام عهد الأمان وأن أخاه هو الذي أعطى ذلك.
ثم طلب الوفد تبديل المأمورين في الخدم السياسية فأجاب الباي بأن ذلك غير ممكن في وقت هذه الثورة لأن ذلك يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه.
وطال الجدال بين الأمير ومحدثيه من الفرنسيين في شأن تبديل الوزراء وفي طالعتهم مصطفى خزنه دار.
وفي هذا المجلس أساء القائم مقام (كنبنو) إساءة لا تحتمل حتى أن القنصل الفرنسي أسكته ولما بلغ الأمر مبلغه من الإهانة مرض الأمير.
ثم إن الأمير جمع رجال الدولة من وزراء وغيرهم وأخبرهم انه لا يتنازل في شان تبديل الوزراء فقال وزير مصطفى خزنه دار أنا أسلم وأصر على تسليمه الوزير خير الدين وهو مصطفى خزنه دار نفسه.
لكن تغلب الرأي الذاهب إلى عدم الرضوخ إلى مطلب القنصل الفرنسي لأن فيه تدخلاً في الشؤون التونسية وذلك مفض إلى أن تصبح تونس محكومة من طرف القنصل الفرنسي.
ولم يكتف التدخل الفرنسي بعزل الوزراء بما أرادوه من إرغام الأمير عليه فأضيف إلى ذلك مكاتيب مرسلة إلى العروش التونسية ومن نماذجها ما نقتطفه من بعضها.(1/456)
(يا أيها العروش أعلموا أن الدولة أرسلت لكم مشايخ الطريقة وذكروا لكم أن الفرنسيس غادرون بكم ومرادنا اخذ بلادكم ونحن بالعكس من ذلك وإنما مرادنا إصلاح أحوالكم ورفع المظالم عنكم وإجراء الحق على كل أحد ولكن سوف ترون ما يحل لكم من أولئك الناس وتقفون على كلامنا لأن المشايخ توسطوا بينكم وبين الدولة وباعوا ضمائرهم بثمن قليل.
وما دام الوزراء الموجودون في باردو فإنكم لا تتخلصون من الضرائب أي التي أثقلت كاهلكم والتي ثرتم من أجلها.
وما داموا لا أمان ينالكم لا في أبدانكم وزلا في أرزاقكم.
وستقفون على أحقية كلامنأن وعما قريب يظهر لكم من هو على الصواب) .
وهذا المكتوب نقلناه مع تحرير جزئي لإرجاعه عربياً سليماً نوعاً ما.
ويقول صاحب الإتحاف: وهذا المكتوب لا تاريخ فيه، ولا إمضاء، ولا طبع خاتم.
ومنه نسخ عديدة بيد بعض العربان، وخطه مغربي جميل يشبه خط بعض الأعيان من تجار الفرنسيس تعلم الخط العربي بتونس وبرع فيه، وكان هذا المكتوب إنذاراً بما وقع بعد ذلك من الشدائد والأهوال.
يتهم الشيخ الوزير ابن أبي الضياف القنصلية الفرنسية بذلك مستنداً على أن الخط فرنسي فلا بد أن مصدره منها.
ويؤيد هذا الرأي أن إنشاءه إنشاء قريب من العامية فهو محرر من بعض الفرنسيين الذين درسوا اللغة العربية ولم يتمكنوا منها فتغلب عليهم العامية إذ لا بفرقون بين الفصيح والعامي.
وكما كاتب الفرنسيون العروش كتبوا إلى زعيم الثورة في المنطقة الغربية علي بن غذاهم.
ونقتطف منه نقطاً على أن الفرنسيين بتونس مرماهم استغلال ثورة علي بن غذاهم.
جاء في طالعة الكتاب.
إلى الأعز الأكمل العالم الأمثل علي بن محمد بن غذاهم أكرمه الله آمين.
ثم فيه تذكير بثلاث رسائل أرسلوها إليه فلن تقع الإجابة من ابن غذاهم.
وفي الرسالة اتهام تركيا بأنها أرسلت بجيش لقتال العروش فوقع رده من قبل الفرنسيين دفاعاً عن المظلومين.
وختمت هذه الرسالة بهذه الفقرة: (ورأس سلطان فرنسا إذا بقي الخزنه دار في بلادكم يهلككم على بكرة أبيكم) .
وهذه مرسلة على حسب ما جاء فيها من القنصل العام لفرنسأن ومن الأميرال والكرونيل الفرنسي أي الذي كان بتونس معلماً للجيش التونسي.
إن الدلائل القاطعة تشهد إلى أن المطالبة بعزل الوزير إنما هي مطالبة فرنسية ترمي إلى التدخل السافر في سياسة تونس.
واستدل صاحب الإتحاف بأن الثورة لم تقم من أجل عزل الوزير بما جاء من المكاتيب من رئيس المتحزبين علي بن غذاهم إلى الشيخ أحمد بن حسين رئيس المفتين في استشارته في القدوم إلى تونس للمفاهمة مع الأمير من أجل دفع الشدة وما دار في شان ذلك القدوم.
يستنتج صاحب الإتحاف ما يلي: (فانظر إلى هذه المكاتيب من رئيس المتحزبين إلى الشيخ الذي اعتمده واسطة، والحادثة في عنفوان شبابها والسيوف مصلتة، وقدور الحرب في سائر الجهات تغلي، هل عرج فيها على عزل وزير، أو كره قانون، أو مجالس، أو ما يومئ إلى البغي، أو غير ذلك مما دار في برزخ هذه الإيالة دوران الرياح.
ولم ينط مطلبه إلا بالتخفيف، وهو من قواعد عهد الأمان التي عليها مدار القانون) .
كيف خمدت الثورة
لم تكن الثورة ثورة قاصرة على جهة من الجهات، وإنما هي عامة إلا في العاصمة فقط، مع أن الجند لم يقم فيها بل امتنع من إخمادها مع أنها لم تصنع شيئأن وآلت في آخر أمرها إلى الفشل وتتبع بعض المثيرين أمرها حتى نالهم الانتقام من احمد زروق.
ويتضح من أمرها أن إخمادها يعود إلى سبب قوي غير الجند.
والسبب القوي في إخمادها هو أن الشيوخ لم يكونوا راضين عن الثورة بل كانوا مهدئين للعامة من الانسياق في الفتنة وإضرام نارها.
وأبلى البلاء الحسن في إخماد هذه الفتنة التي أرادت فرنسا استغلالها لوضع يدها على تونس الشيخ الصالح مصطفى بن عزوز (1282) وهو الذي بث الطريقة الرحمانية في العروش الغربية.(1/457)
وإلى موقفه الذي حسم به الفتنة أشار صاحب الإتحاف ونحن ننقله ليتضح للعيان أن العلماء الصلحاء كانت لهم يد لا تنسى في الإبقاء على رمق الدولة فلولاهم لذهب العلم الإسلامي بتشتت عقد الأمة لأن الفتنة لا تأتي إلا بشر وبيل، وعسى أن يعرف المتحاملون على أهل العلم الإسلامي والصلاح انهم مخطئون في إساءة ظنهم بالعلماء وتحميلهم وزراً هم برآء منه.
وإلى هذا الموقف المشرف أشار المذمور: (ولم يزل الحال في اضطراب وشدة إلى أن قدم من الجريد بركة القطر المشار إليه بالبنان، المتدرج في مقامات العرفان، الولي السالك المحب لعباد الله، شيخ الطريقة الرحمانية أو النخبة مصطفى بن عزوز واجتمع بعلي بن غذاهم ووجوه جموعه وقد مسهم الملل بعد أن اخذ لهم الأمان من الباي واستوثق منه بالعهود والإيمان وقرأ للباي قوله تعالى: (يوجد آية) (91) النحل.
ثم قال الشيخ مصفى بن عزوز لجماعة علي بن غذاهم، لا جواب لكم عند الله على إراقة دماء المسلمين وقد أعطاكم الباي الأمان على يد أمير المحلة وخفف عنكم اكثر مما يظن، إلى غير ذلك مما تفضل به عليكم خشية إراقة الدماء,.
وقال لعلي بن غذاهم: (أنت لست بقائم تطلب ملكأن وزعمت انك جامع عصابة شاكية لكف عادية جهاله أن وقد زال السبب فلا بد يزول المسبب وقد عطلتم الناس على السعي في ابتغاء رزقهم) .
فانتدب ابن غذاهم وتأخر.
فأتاه فرج بن دحر وقال له أي لعلي بن غذاهم: نحن في ربط واحد ما كان ينبغي لك أن تحله وحدك ولنا مع سيدي مصطفى بن عزوز موقف بين يدي الله.
وعلى كل حال فقد حاق بنا الغدر، وسترى أنت من معك عاقبة ما فرحتم به من الأمان إلى غير ذلك وفي بعض القلوب عيون.
وحضر مع الشيخ مصطفى بن عزوز أعيان من تلاميذه وغيرهم كأبي العباس أحمد ابن الشيخ الولي عبد الملك الحمادي وأبي عبد الله محمد الصالح، والشيخ المسن الحاج مبارك صاحب الزاوية بتالة، وسيأتي له خبر، وحضر لذلك الشيخ البركة أبو العباس أحمد بن عبد الوارث وكفى الله المؤمنين القتال على يد هذا الشيخ ومن معه من هؤلاء الفضلاء جزاهم الله جزاء من أتعب نفسه في إصلاح ذات البين وحقن دماء المسلمين فالأعمال منوطة بالظاهر، والله يتولى السرائر، والمرء مجزي بعمله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
وأسقط الباي ما أجحف من الإعانة بل صيرها عشر ريالات فقط وأسقط من العشر، وترك الأداء على ما يباع في غير الأسواق وأجابهم إلى مطالب أخرى الله أعلم هل طلبوهأن أو قيلت أو تقولت عليهم فسمعوهأن أضربنا عن ذكرها لمنافاتها قضايا العقول، وكل ما نافاها يعد نقله مجازفة وقد تقدم ذلك وإلى الله تصير الأمور) .
(الإتحاف ج?5 ص168 وص169) .
وكما للشيخ مصطفى بن عزوز موقف كذلك كان للشيخ العلامة رئيس الإفتاء أحمد بن حسين في العمل بالمكاتبة على أثناء رأي ابن غذاهم عن القدوم إلى تونس لنه لو قدم لاشتعلت الفتنة في العاصمة فإنه ثنى عزمه عن ذلك، وبه بقيت العاصمة بعيدة عن الفتنة.
ويظهر أن موقف أهل العلم في تونس كان في صالح هذه البلاد، وإبقائها محافظة على كيانها دون إدخال ما يؤول بها إلى فتن تموج موج البحر.
والمواقف الرصينة هي التي حافظت على هذا الجامع جامع الزيتونة نبراساً يشع بالعلوم الدينية وهادياً للتي هي أقوم.
?الاتزان التاريخي
يعبر كلام صاحب الإتحاف في هذه الثورة التونسية العارمة بأن الشيخ الوزير ابن أبي الضياف يحمل على السياسة التونسية في مواقف كثيرة ويحملها وزراً ثقيلأن ويظهر المصلح من غيره في مواقف عديدة.
ومع مواقفه لا يرى أن في ثورة علي بن غذاهم إنقاذاً للموقف لذلك شكر وأطنب في مدح الشيخ البركة الصالح المصطفى بن عزوز حيث حقن دماء المسلمين وكفى الله بتداخله المؤمنين القتال.
وحقاً رأى لأن رأس الثورة لم تكن له المؤهلات التي تؤهله لتسلم دولة لأنه كما عرفه صاحب الإتحاف ذو معرفة جزئية.
ومع انه حمد فعل العاملين لحقن دماء المسلمين انتقد الشدة التي عومل بها الكثير بعد إخماد اللهيب.
ودعا غلى الرفق الذي لا يقتضي الحال غيره حتى لا يلتجئ المظلومون إلى الاحتماء برعايا الدولة الوافدين على المملكة.(1/458)
فالواقع يدعو إلى الرفق لا إلى ضده كما وقع لأكثر أهل المملكة بعد خمود لهيب الفتنة من الشدة والعسف والانتقام، وسلب النعمة غلى غير ذلك مما نفر القلوب المرضى.
ولله در القائل: [الكامل]
أحذر منافرة القلوب فإنها ... ورجوعها للود أمر يعسر
إن القلوب إذا تنافر ودها ... مثل الزجاجة كسرها لا يجبر
وقد تنبأ لدولة الأمير الصادق بالاضمحلال واستكانت الإيالة المسكينة ولسان حالها يقول: (للباطل جولة ثم يضمحل) %.
ملحق (4)
الكومسيون المالي
الكومسيون المالي اجمل الحديث عنه صاحب المسامرات مع انه أحدث لإنقاذ البلاد من الإفلاس لأن الحال بلغت أقصى التدلي مما يعقبه الإفلاس للدولة.
وقد تحدث عنه حديث عارف به الشيخ بيرم الخامس مبيناً أن الوزير خير الدين حين رئاسته للكومسيون بدأت تظهر إصلاحاته وتمكن من الإصلاح بسبب أنه لم يقبل رئاسة الكومسيون إلا بعد أن اشترط شروطاً.
فإنه لما شددت الجانب في طلب أموالهم وأنشئ الكومسيون المالي باتفاق الدول دعاه الوالي إلى رئاسته فامتنع وبعد إلحاح ورد وبعد توثقة من الوزير مصطفى خزندار قبل رئاسة الكومسيون المالي.
ويثبت الشيخ بيرم الخامس أنه منذ سنة 1286 كل ما هو من التصرفات هو للوزير خير الدين وشرح كيف أن الوزير خير الدين أدار كفة الكومسيون المالي.
(وذلك أن الوزير مصطفى خزندار عطل أموره مما أدي إلى تشكي قناصل الدول الممثلة في الكومسيون المالي وهي فرنسا وإيطاليا وإنكلترا فراجع الوزير خير الدين الوالي وطلب منه الإعانة على المهمة الشاقة التي أنيطت به فأمضى الوالي مطلب الكومسيون ولأجل إعطاء الكومسيون المالي نفوذاً يحفظ حقوق الحكومة مع أن الكومسيون المالي يتصل برغبته، وذلك في توظيف رئيس الكومسيون بوظيفة وزير للوالي في رتبة الوزير، الكبر، وتنقل خدمة الكومسيون إلى الوزارة ويكون مصدر جميع الأعمال واحداً) .
وقد بسط القول في ذلك في (ج?2 ص53 من صفوة الاعتبار) .
وكذلك تعرض له صاحب الإتحاف في (ج?6 من ص119 وما بعدها من إتحاف أهل الزمان) فذكر نص قانون الكومسيون المالي، وهو في أثني عشر فصلاً.
وكان ختمه بسراية الوادي في 26 من ربيع الأول سنة 1286 (6 جويلية سنة 1869) .
وأتبع ذكر القانون بالأوامر الصادرة في تعيين رئيسه وتعيين أعضائه.
وحديث ابن أبي الضايف عن الكومسيون كان مقتضياً لنه كما ذكر بقلمه أدركه الضعف.
?إبطال الكومسيون
تناولت الإدارة الفرنسية بعد الحماية أشياء متعددة بالنسخ، منها إبطال الكومسيون المالي.
وجاء إبطاله في العدد 49 من جريدة الرائد الرسمي المؤرخ في 13 ذي الحجة سنة 1301.
افتتح هذا الأمر بمخاطبة الوزير الأكبر محمد العزيز بوعتور بأن الأمير أمر بما يأتي: الفصل الأول: أبطلنا بعد اليوم 12 من أكتوبر الإفرنجي سنة 1884 مسيحية الكومسيون المالي الذي أحدث بالأمر العلي المؤرخ في 26 ربيع الأنور سنة 1286 الموافق ليوم 5 جويلية من يولية الإفرنجي سنة 1869.
وكذلك مجلس المداخيل المعطاة للدين الواقع ترتيبه عملاً بالتأويل المنعقد في 23 مارس سنة 1870 ما عدا ما يتضمنه الفصل الرابع الآتي: وبموجب ذلك على مجلس الإدارة المذكورة أن يسلم خدمته يوم 12 من أكتوبر المذكور مساء لإدارة القمارق ولإدارة الإداءات المختلفة ولقابض الدولة العام بالحاضرة وبالجهات الأخرى التي له فيها نواب.
وبناءً على ذلك فإن الموجود تحت يد المجلس المذكور من المبالغ دون كاغد التانبر، ومن الرهونات التي دفعها نوابه، واللزامة تدفع لقابض الدولة العام محلات بلدان العمالة الأخرى إن كانت المبالغ والرهونات المذكورة من علائق البلدان الأخرى.
وأما الكاغد التانبر الموجود بالحاضرة فإنه يدفع لقابض عموم الأداءات المختلفة وأن كان بغير الحاضرة فإنه يدفع لنواب الكمرك عند تسليم المبالغ والرهونات المتقدم ذكرها لهم.
ويشتمل هذا الإبطال على ثلاثة عشر فصلاً من أهمها الفصل الخامس: إدارة المال تتولى استخلاص جميع مداخيل المملكة كما أن جميع المشارعات التي يقتضيها الحال يباشرها مدير المال بدولتنا أو من ينوبه فيها.(1/459)
وإنما وقع في هذا الفصل أن إدارة المال تتولى استخلاص جميع مداخيل المملكة لأن الميزانية التونسية كانت منقسمة بين الدولة وبين الكومسيون المالي.
ومن أهم فصوله الفصل الثامن: ولاية مدير المال تصدر منا مباشرة بمقتضى طلب سفير دولة فرنسا المقيم بحاضرتنا.
وتصدر أوامر أيضاً بطلب من مدير المال لدولتنا في ولاية كل من كاهية مدير المال ومدير الداءات المختلفة، والكمارك ورؤساء الأقسام والكتابة بإدارة المال، وكذلك منفقدو الإدارة المذكورة والخدمات المالية وقابض الدولة العام، والمترجم الأول بإدارة المال، وقابض عموم الأداءات المختلفة وقابض عموم الكمارك ووكيل أملاك الدولة والمكلف بالغابة وناظر دار السكة ووكيل الرابطة.
والفصل التاسع: أعطى هذا الفصل الصلاحية لمدير المال في بقية المستخدمين.
والأمر الصادر بإبطال الكومسيون المالي انتزع كل الاختصاصات المالية من أيدي التونسيين وجعلها في يد مدير المال الفرنسي.
وقد أصبحت هذه الإدارة بعد برهة غدارة فرنسية تتصرف في حظوظ البلاد المالية.
ملحق (5)
المجلس الشوري
المجلس الشوري المتحدث عنه بالمدح وإطناب الشكر من المؤلف حتى عده من اعظم مآثر هذا الأمير الفائز بالسبق على سائر الأمجاد قلب فيه المؤلف الحقيقة رأساً على عقب.
وكان من حقه أن يأتي بالقبضة على وجهها الصحيح، فإن لهذا المجلس قضية تعد من أهم القضايا التونسية أبلى فيها أهل المجلس الشرعي وبالأخص القاضي المالكي البلاء السن.
وتفصيل هذه القضية حسبما ذكره المطلع عليها الشيخ محمد بيرم الخامس ونصه: "ومنها أن أحد الأغنياء من الأهالي توظف في الحكومة المسمى بمحمد عريف توفي رحمه الله عن غير ولد وكانت له بنات من ابنه فأوقف كسبه عليهن وعلى من يتزايد له، وبعد وفاته وضعت زوجه حملها فكان ولداً ذكراً ثم توفي في إثر ذلك.
وقد كان القاضي، وهو القاضي الجد محمد الطاهر النيفر الذي تولى القضاء من سنة 1290 إلى سنة 1311 جعل وصياً على البنات وحفظ الوقف والمنقول، فطلب التابع أن ينقل حكم النازلة من الشريعة إلى الوزارة على خلاف الديانة والعادة من تحكيم الشرع في المواريث والأوقاف.
وأرسل الوزير وهو مصطفى بن إسماعيل مكتوباً بأن يسلم رسوم الوقف إلى كاتبين أحدهما من خواص الوزير والثاني من الوزارة مع الوعد في المكتوب بأن الوزارة بعد الإطلاع على الحجج ترجعها وكان المتسلم لها أبا الزوجة وهو وكيلها مع أحد الكاتبين.
فطال الزمن أي زمن تسلم الرسوم من الوزارة فلم ترجعها حسب الوعد، وأبلغ الوصي إلى القاضي التخوف على الرسوم إذ شاع أنها سيقع فيها تغيير فأرسل إلى أبي الزوجة وإلى الكاتب اللذين اسلما الرسوم بطلب إرجاع الرسوم فأبيا فأحضرهما فامتنعأن فسجن أبا الزوجة حيث إنه المتسلم وأخبر بأن الرسوم بعلو في داخل المحكمة الشرعية هو محل اشتغال الكاتب المذكور حيث كان من شهود الأوقاف وذلك العلو هو مكان اجتماعهم فبعد أن ألح القاضي على الكاتب وامتناعه أمر بأن يمنع من دخول العلو خشية إخراج الرسوم منه وبقي القاضي بمحل حكمه على الهيبة الشرعية حسبما سبق التعريف بذلك من كون أهل الشرع بتونس لهم من التعظيم والتوقير قريباً مما كان عليه الحال في الأعصر المعظمة للديانة وشعائرها.
فما كان غير بعيد إلا وعلي بالزي المذكور قام فضرب باب العلو برجله وكسر قفله وأمر الكاتب بالصعود وإخراج الرسوم، وأخرج المسجون وأمره بالذهاب حيث شاء، وقدم على القاضي وباشره بما لا يناسب ذكره، وفشا الخبر وعظم الأمر عند العلماء والعامة إلى درجة لم تعهد، فأبطلت الدروس من الجامع الأعظم، وأغلقت دار الشريعة وكثر اللغط وسرى إلى خارج الحاضرة.
وأبلغ أمر النازلة إلى الوزير ابن إسماعيل فأراد أن يهون النازلة بمنع تابعه من القدوم إلى تونس وأرسل معلماً إلى القاضي بأنه سجنه فلم يلتفت لذلك العلماء وتقدم الشيخ احمد بن الخوجة شيخ الإسلام وجمع العلماء مراراً واظهر أشد الانتصار للشرع وكتب جميع المجلس الشرعي مكتوباً وأرسلوه إلى الوالي قصداً بلا واسطة الوزير على خلاف المعتاد وقدم به رسولهم على الوالي في مجلس الشريعة لأن رئيسهم تقرب إليه الوزير سراً فانحط حرصه وتوجهت أطماع البعض إلى المسابقة لإرضاء الوزير فأجابوه بنعم.(1/460)
ثم جمع الوالي وزراءه وأعلمهم متأسفاً من مطلب أهل الشريعة بأنه يريد أن يجعل مجلساً مركباً منهم أي من الوزراء ورؤساء الإدارة دون غيرهم من الأهالي للنظر في المصالح وجريان السياسة، فأجابوه بأن ما يظهر له حسن فهو حسن.
وكان هذا الجمع من الوزراء والمستشارين مشتملاً على جميعهم حتى أن الوزير حسيناً كان إذ ذاك قدم من إيطاليا لمصالح في مأموريته فصادف الواقعة، وكان ممن وافق الوالي على رأيه في جعل المحتسب والمحتسب عليه واحداً خلافاً للمعقول، ولما يعلم من طبعه من لزوم الاحتساب الحقيقي على تصرف المأمورين بثقاب من الأهالي إلى غير ذلك من أوجه العدل ومع هاته الموافقة فلم يسلم من القدح.
ثم إن الوالي أرسل لأهل الشريعة يعلمهم بأنه أشأ مجلساً مؤلفاً من عشرة أعضاء تحت رئاسة الوزير ابن إسماعيل، وأعضاؤه: الوزراء والمستشارون وبعض رؤساء الإدارة ولما بلغ لأهل الشريعة ذلك قالوا ليس قصدنا المتوظفين لنهم دائماً تحت الأمر، ولا خبرة لهم بما في أطراف القطر، وإنما المراد أن يكون المجلس من الموظفين والعلماء وأعيان من البلاد والعربان، ولا أقل أن يكون عددهم ثلاثين عضواً وأنهم لا يقصدون إلا مصلحة البلاد لأنهم ليس لهم غرض إلا هناء القطر وهناء الوالي، وقيل غن قنصل فرنسا صرح بأنه لا يعترف بالمجلس وانه أراد الوالي الاستعانة بعساكره لردع الطالبين فهو حاضر له حيث إن طريقة الوزير هي التي تبلغه إلى قصده كما ذكرناه في محله، ثم لما بلغ الوالي جواب العلماء أرسل إليهم بأنه يزيد اثنين من رؤساء الموظفين وان هذا المجلس ينظر فيما يقتضيه الحال من الكيفية ويجري العمل به، وكان في أثناء بلا مستند، فرضي عمدتهم بذلك، وكان سبباً في تمكن الفيض على الأجنبي بلا مستند، فرضي عمدتهم بذلك، وكان سبباً في تمكن الفيض على من زيد حيث انتهى رضا المقترحين عند ذلك وصرح الوالي بما يشف عن ذلك والله المطلع على السرائر، ثم جعل هذا المجلس في نفس الأمر إذ اجتمع يعرض عليه ما يريد الوزير والأغلب أن يكون المعروض هو بعض النوازل التي تعرض بقلة ولما كان أغلب الأعضاء يسايرون الوزير لم يظهر لوجوده من أثر غذ لا يتداخل في نصب ولا في عزل ولا سيرة عامل أو رشأن وشاهد ذلك الخارج فإنه لم يمض عليه شهران حتى وردت الرسل على شيخ الإسلام بأن يتشفع في الجاني على الشرع فلم يوافق جهرة بل أظهر زيادة الامتناع ثم سودت سراً بطاقة إلى المنفي ليكتب على نمطها مكتوباً لأهل المجلس الشرعي ولما ورد مكتوبه على نحوها إلى الوالي مستشفعين بعد أن امتنع بعضهم وقيل عندما سمع بذلك ليت شعري ما هو وجه كتبهم مع علمهم بالحقائق".
ومنها أنه شرع الوزير إثر ما تقدم في بناء دار شيخ الإسلام المذكور بتونس وكذلك داره بجيل المنار وكثر تردد تابعه الجاني المذكور عليه حتى نشأ عنه قيل وقال (صفوة الاعتبار ج?2 من ص110 إلى ص113) .
ومن الذين امتنعوا الشيخ القاضي المالكي حتى هدد بالإعدام كما جاء في بعض المذكرات لأحد أتباع الوزير مصطفى بن إسماعيل.
وهذه الحركة التي قام بها المجلس الشرعي هي أول حركة نبعت من الزيتونة لإصلاح الوضع ولإقامة نظام برلماني تتمثل فيه الأمة أتم تمثيل، فهي حركة القصد منها إعادة نظام عهد الأمان الذي ألغي بسبب ثورة علي بن غذاهم، وقوى النفوس أن الوزير خير الدين الوزير المصلح كان صدراً أعظم فوجده في صدارة الدولة العثمانية كان في حسبانهم أنه يؤيد حركتهم النابعة من رجال الشرع.
والباعث ليس اعتداء على القاضي المالكي الشيخ محمد الطاهر النيفر لما أراد إجراء الحق وإنما كانت النفوس ملأى بالحنق من أجل تصرفات الوزير مصطفى بن إسماعيل تلك التصرفات الشاذة التي ذكر الكثير منها صاحب صفوة الاعتبار، فرجال المجلس الشرعي أرادوا أن يعبروا عن رغبة الأمة في إنهاء الأعمال التعسفية التي قام بها الوزير مصطفى بن إسماعيل وأتباعه.
ولولا ألاعيب هذا الوزير بالاغراءات التي أنساق البعض القليل من رجال المجلس الشرعي إليها لكان لهذه الحركة أثرها في إنقاذ الأمة التونسية.
وما المجلس الشوري الذي نوه به صاحب مسامرات الظريف إلا ذر للرماد في العيون.
والعجب من الوزير حسين مستشار المعارف كيف وافق على هذا المجلس حتى كان أحد أعضائه فانتقاد صاحب صفوة الاعتبار عليه انتقاد وجيه.(1/461)
ملحق (6)
تتمة للمقدمة
تتضمن تاريخ تونس (من 1297 إلى 1376 هـ?) (من 1879 إلى 1957 م) أنهى المؤلف كتابة القسم السياسي من تاريخه المسامرات بفاتحة سنة 1297 وهي التي قدم فيها وفد من أعيان التونسيين إلى المشير الثالث محمد الصادق ووزيره مصطفة بن إسماعيل مصحفين مرصعين.
وهذا الوفد مدسوس إليه في تقديم ذلك لإظهار رضا الأمة بوزارة مصطفى ابن إسماعيل تلك الوزارة التي عاثت في البلاد فسادأن خصوصاً بعد الحادثة الشهيرة وهي التي أثارها القاضي المالكي المرحوم محمد الطاهر بن محمد النيفر بسبب تجزؤ علالة بالزي أحد اتباع الوزير المذكور على المحكمة الشرعية.
وهذه القضية طواها المؤلف مع أنها سابقة حدثت في سنة (1296) .
وقد بسطنا الكلام على هذا المجلس الذي أطنب المؤلف في مدحه (المتحدث عنه في الملحق الخامس) مع انه لم يرض أهل المجلس الشرعي إذ طالبوا بمجلس يضم نخبة تمثل الأمة.
إن وزارة مصطفى بن إسماعيل كانت من الأسباب المعجلة للحماية الفرنسية لأن الوزير المذكور ليست له الكفاءة المؤهلة للوزارة إذ هو خلو من التعليم حتى من التعليم الجزئي مع ما فيه من تكالب على المال ثم إن بطانته كانت بطانة سوء منهومة على المال بالأوجه غير المشروعة.
وزاد في تعكير الجو أن هناك دولتين كانتا تسعيان لاحتلال تونس أو تقوية النفوذ فيها لإحداهما دون الأخرى التي تزاحمها.
ونتج عن ذلك إعلان الحماية الفرنسية على تونس في (14 جمادى الأولى 1298) وفي (14 ماي 1881) .
وقد أرخ هذه الفترة الشيخ محمد بيرم الخامس مذيلاً بها كتابه صفوة الاعتبار وهذا لم يطبع بما ننشره كما جاء منقولاً عنه: الحمد لله تعالى: هذا الذيل الذي نبه عليه الشيخ بيرم في الباب الثاني من كتابه صفوة الاعتبار عند الكلام على سياسة تونس الداخلية والخارجية، قال:
ذيل في تسلط فرنسا على تونس
قد مر في المطلب الثامن من أحوال الإدارة الداخلية في تونس حالة وزارة وزيرها مصطفى بن إسماعيل وتصرفاته وما وقع في نازلة صانسي الفرنساوي التي كانت سبباً في خوف هذا الوزير من القنصل وروم أن تبدله دولته.
وتقدم أيضاً ما هي مقاصد فرنسا في تونس وأنها تروم نيل الدرجة العليا فيها ولما رأت سيرة الوزير المذكور لم تأمن وقوع ارتباكات مغايرة لما كانت راضية بالبقاء عليه وخشيت ضياع الفرصة من سهولة التوصل على يد ذلك الوزير إلى ما لم يمكن التوصل به على يد غيره من ذوي العرض والعقل.
فلذلك بينما كانت مساع جارية في إبدال القنصل وإذا بالسعاية إليه قد غيرت مشربه حتى طمع في ولاية العهد بأن يتولى هو الإمارة بعد سيده الوالي الحالي الصداق باشا إذا أتم إدخال تونس طوعاً تحت فرنسأن فراكن حينئذ قنصلها وأحكم معه المودة، وصارت بطانة الوزير تأتي إليه معلمة بجميع أسرار الحكومة وسائر تصرفاتها.
وأضمر ابن إسماعيل الشر لمن كان أوعز إليه بأن يتشكى من القنصل إلى دولته ثم تفطن بذلك التواطؤ السري ونصحه بأنه لا ينتج له شيئاً وعلى فرض الوفاء له بالوعد فإنه لا يلبث أن يناله ما نال الوزير العلقمي في انقراض دولة بني العباس من بغداد.
واتفق ذلك الوزير مع القنصل على شروط إدخال تونس تحت فرنسأن غير أن الوالي لم يساعف على لائحة تلك الشروط التي قدمت إليه سراً بواسطة الوزير، وخشي من الدول ومن الأهالي في البغي منه على الدولة العثمانية وفي تغيير حالة السياسة.(1/462)
وجعل الوالي يسوف العقد من وقت إلى آخر وجعل الوزير يسعى في إحداث وجه لتداخل فرنسا وإنقاذها أمرهأن فأكثر من الرسل السرية غلى الآستانة متطلباً أن يدعى هو إليها رسمياً أو يرسل بعض الأسطول العثماني إلى مرسى تونس مع إظهار زيادة التشيع إلى الدولة العثمانية حتى لا يتفطن إلى مساعيه الباطنية، فلم يساعف من السلطان في مطلبه غذ لم يكن له من داع، كما انه لم تفد في الدولة العثمانية الإيقاظات غلى دسائسه وعزمه حتى تسعى في سعة لدفع الغوائل المتوقعة إذ من المعلوم أن التدخل السياسي هو كالمرض المزمن الذي لا ينجح فيه العلاج غلا تدريجياً عند أول حدوثه سيما إذا كانت الدولة المعالجة محتاجة غلى استمالة غيرها من الدول القوية غلى معاضدتها على قرنها القوي، ومع ذلك أيضاً قد عكر الوزير ابن إسماعيل حالة الخلطة مع إيطاليا لعلها تعلن على تونس الحرب ومنح للفرنساويين منحاً لم يطلبوها مما يزيد في نفوذهم والشحناء معهم كما تقدم ذكره في المطلب الثامن من أحوال تونس، ولما لم تنجح جميع تلم المساعي التي كان يمكن لفرنسا الاستناد إليها في وضع حمايتها على تونس أحدثوا أقاويل في إهمال حقوق الفرنساويين، وأظهر الوزير المذكور الاستخفاف بقنصل فرنسأن ومال عنه كل الميل ظاهرأن ورام أن يظهر التعطيل في إجراء المنح التي أنالها إلى الفرنسيين بأوجه من الاعتذارات، حتى أغرت رعايا فرنسا بتونس على أن تكتب تقريراً للتشكي من ضياع حقوقهم وطلب دولتهم للانتصاف لهم، فلم يرع الأمم إلا أن فرنسا جلبت بخيلها ورجلها على حدود تونس معلنة بأن قصدها غنما هو حفظ حقوقها من جهة الحدود وغيرها واستندت في عملها لما تضمنته لائحة وزير خارجيتها إلى سفرائه.
وهذا نص تعريبها: "باريس في 9 ماي 1881 أيها السيد أتشرف بأن نرسل لكم جملة رسائل في شأن تونس ونريد أن نحقق لكم المقصود إجمالاً ونخبركم عن سبب إرسال العساكر الآن وعن النتيجة التي نرجو إتمامها فكم من مرة قد عرفت الدولة الجمهورية بدواعيها ومقاصدها وأنتم تتذكرون ذلك خصوصاً ما صرح به السيد رئيس الوزراء في المجلس العام وهو لا يمكن أن يكون فيه أدنى شك من جده وصدقه ومع هذا فإني أريد زيادة إيضاح لكم لينفعكم لدى الدولة التي أنتم عندها فنقول إن سياسة فرنسا في تونس ليس لها إلا مقصد واحد وهو المقصد الذي يكفي لوضوح موضوع سيرتها منذ خمسين سنة نحو المملكة هو الواجب علينا لحفظ راحة مستعمرتنا العظمى الجزائرية فمن سنة 1830 لم تأت دولة من الدول المتابعة وتركت هذه المهمة العظيمة وإنا لنعمل الواجب علينا لحفظ مستعمراتنا الإفريقية التي لا يوجد أحد من أروبا انكر علينا ذلك فيها لحفظها من جار عدو كثير الأراجيف وقد كانت القبائل التونسية مخوفين ومحاربين حتى فيما بينهم، وقد فاق على الجميع قبائل وشتاتة والفراشيش وخمير ولا تعرف كمية المحاربين ولا كمية قوتهم، فلذلك التزمنا الآن أن نرسل من العساكر عشرين ألفاً وهذا مما يدل على قوتهم أي الأعداء المتحصنين في بلاد منيعة تقريباً وكان الداعي الأول لإرسال العساكر هو قهر قبائل حدودنا الشرقية ولكن لا فائدة في تقرير الأمن والراحة وأعداؤنا ما زالوا يهددوننا ونحن لا نخاف من الهجوم الكبير لباي تونس إذ كان منه وحده لكن النظر القليل في العواقب ألزمنا التحري من اتحاد الباي مع غيره، وهذه التشويشات يمكن أن يأتي لها وقت وتقلقنا كثيراً في الجزائر وتصل حتى لفرنسأن فيلزمنا بناء على ما ذكر أن يكون لنا عند الباي محبة كبيرة واتفاق قلبي ويلزمنا جار يعوضنا المحبة التي لنا عليه ولا يسمع التشويشات الخارجية لضررنا وأستحقار قوتنا الراسخة.(1/463)
وقد وضحنا من نحو أربعين سنة بأنه يلزمنا لمحافظة فرنسا الجزائرية أن نحصل في المملكة على قاعدة راسخة ونحن نحترم بالتدقيق منافع الأجانب وهم يقدرون أن يتوسعوا بثبات مع فوائدنأن والدول يتحققون أن مقاصدنا من جهتهم لا تتغير وإلى هاته المدة الأخيرة اتحادنا مع دولة الباي المفخم مستمر إلا ما يحدث أحياناً من الاختلاف في دفع تعويضات لقبائلنا المضرورين ثم في الحين يرجع الاتحاد ويزداد ثبوتاً بعد هذه الاختلافات الصغيرة إلا هاته المدة الأخيرة يرجع الاتحاد ويزداد ثبوتاً بعد هذه الاختلافات الصغيرة إلا هاته المدة الخيرة فنه بأسباب يصعب الإطلاع عليها مذ تغير ميل الدولة التونسية علينا دفعة واحدة وكانت غذ ذاك الحرب ساكنة ثم ما زالت تزداد إلى أن وضحت وتقوت ومبناها ضد كل الامتيازات التي حصلت للفرنساويين في تونس مع شدة الإدارة الردية إلى أن وصلت إلى هذه الحال.
وهذا هو السبب الثاني لإرسال العساكر الذي كنا نود التجنب منه ولكن بسبب السيرة الردية التي طالما صبرنا عليها التزمنا بما هو واقع ولو أننا بها ضمنا للباي في المطالب الحقانية لأننا نعترف بتونس كمملكة مستقلة.
وأما الحالة في الخلطة مع الباب العالي فهي مخالطة محبة وميل طبيعي وبودنا أن لو كنا رأينا منزلة تونس في نظرة أخرى غير التي هي عليها الآن، ولكن قد بان ما يجب علينا مما ذكرناه سابقأن وإننا نقدر أن نسبتهم من الباب إذا كان باي تونس هو والياً من قبلهم فلماذا لم يمنعوا سيرته التي فعلها نحو فرنسا منذ عامين ولماذا لم يفتشوا ليمنع التحير الذي نحن مجتهدون في حصره أن ينتهي بشروط تؤمن حدودنا من الهرج المستمر والتشويش المغري لبارود إما من غيره أو من نفسه فهذان هما المقصدان لإرسال العساكر.
ولا نخفي إذا ما نقول أن لنا في أوربا الرضا العام في جميع الجهات عدا الجهات التي بها النظر الفارغ المطمس للعقول وهذه هي أيها السيد التي خيمت حول الباب وحول تونس ومن كلا الطرفين فنحن مشمولون بالمحبة وجميع ما نرجو من الباي هو أن لا يكون عدواً لنا ولو أن المملكة تنظر لفوائدها تقدر أن تحصل من اتحادها معنا فوائد لا تحصى وأكثر مما نحصله نحن منها ونقدر أن نأتي لها بكل خير من العمكران الحاصلعندنأن ففي سنة 1847 فعلنا فيها البريد وفي سنة 1859 وسنة 1862 فعلنا التلغراف وفي سنة 1878 فعلنا الشمنديفير الذي طوله 50 من حدود الجزائر إلى تونس وفس هذا الزمان نفعل لها شمنديفيرين جديدين أحدهما يربط تونس ببنزرت من جهة الشمال وطوله عشرون فرسخاً والآخر يربط تونس بسوسة من جهة الجنوب وسنبتدئ عن قريب في عمل مرسى في تونس نفسها لتدخل المركب من الشط ومن حلق الوادي إلى ذات القاعدة.
ودين تونس وغن كان رأس ماله مشتركاً بين فرنساوي وإنكليزي وطلياني لكنه إذ اعتبرت نفسه النسبة يوجد ثلاثة أخماسه لفرنسا.
وإن الحنايا الجميلة (لا دريان) التي تأتي بالمياه العذبة إلى تونس قد أصلحها أحد المهندسين الفرنساويين.
ولما ترجع الخلطة الطيبة فإنا لا نزال نفعل أشياء حسنة ومنارات على الشطوط وطرقاً داخلية توصل بين البلدان العامرة الناجحة ونسقي الأرض بالترع الكبيرة في البلاد التي بها انهر كثيرة ولكن هاته البلاد أهلها ليسوا معتنين بتلك الأنهر وكذلك الغابات، وكذلك نعمل على استخراج المقاطع الموجودة بها كل نوع من المعادن، وكذلك ترتيب الفلاحة في الأراضي الحسنة التي للأجانب في المملكة والتي للأهالي أيضأن وكذلك استعمال المياه المعدنية التي اكتشفها الرومانيون واستعملوها وبالجملة إن مملكة تونس خصبة، وغنى قرطاجنة القديمة يدل على ذلك.(1/464)
وتحت الحماية الفرنساوية يمكن أن تزال جميع الحجب عن المنافع الطبيعية في هاته البلاد وتنتشر بقوة، وبشدة الترتيب الجديد نقدر أن نزيد أشياء أخرى وهي أنه إذا كان الباي يعتمد علينا في الترتيب الداخلي في المملكة فإنا نفعل تعديلاً لازماً قارأن وهذا الخير الذي يسهل علينا عمله منه ترتيب كيفية قبض المدخول وترتيب المخروج وترتيب دفاتر الحساب على مقتضى ما نستعمله نحن في ماليتنا ومنه أيضاً خير عظيم وهو ترتيب العدلية على الأصول التي فعلتها الدول في ترتيب العدلية في مصر، وفائدة هذه التراتيب لا ترجع لفرنسا وحدها بل إن المملكة يرجع لها النفع وكذلك لجميع الدول المتمدنة التي نحن منها ومن غير فتح ولا حرب.
بل إن المملكة يرجع لها النفع وكذلك لجميع الدول المتمدنة التي نحن منها ومن غير فتح ولا حرب.
فلا شيء يمنعنا من عملنا في تونس مثل الذي فعلناه في جزايرنا والذي فعلته إنكلترا في الهند إذا نحن جعلنا باي تونس متكفلاً بمطالبنا الحقانية فهو دليل على ما نحسبه دائماً من أن تونس مملكة مستقلة من غير أن نراعي بعض آثار للتبعية بالاسم فقط لبعض أسياد قد تركوها منذ عدة قرون وقد تظهر تلك التبعية نادرأن وإن تحسب المدة التي هي فيها مستقلة لكانت اكثر من مدة التبعية ففي سنة 1534 أخذها المشهور بباربورس خير الدين أربع أو خمس مرات بانتصاره على الإسبنيول وفي العام الذي بعده أخذها شارل كان وكذلك في سنة 1553، ثم أخذها داي الجزائر سنة 1570 ثم أخذها دون جوان النمساوي سنة 1573 ثم في طول القرن السابع كانت تحت ظلم الإنكشارية من غير حكم ورؤساؤها الموسومون بالديات كانوا إذ ذاك أربعين فقسموها تقريباً كالمماليك الذين قسموا مصر.
ثم في سنة 1705 كان أحدهم المسمى بحسين بن علي الذي أصله كريكي أو كرسكي صار مسلماً وكان هو أحذقهم فعرف كيف يشدهم وقتل جميعهم واشتهر بالباي، وبعصبيات العساكر أقام العائلة الحسينية ومن ذلك الوقت لم تزل الإمارة فيهم على هيئة السيادة الإسلامية والآن 200 سنة تقريباً وهم مستقلون والرابطة الحقيقية بينهم وبين الباب العالي هي رابطة دينية وهم يعترفون بالخليفة إلا انهم ليسوا تحت السلطان.
ومما يوضح هذا انهم لا يدفعون له أداء إلا انه عند ولاية كل باي يرسل هدية غنية تعظيماً لرئيس الديانة القاطن بالقسطنطينية وفي باقي مدة الولاية فلا مسألة سياسية يمكن أن تذكر غير هاته التحية الودادية فليس لأمير المؤمنين حق آخر على الباي تونس.
والمملكة تعقد شروطاً كمملكة مستقلة مع الدول الأجانب وتعقد معهم اتفاقيات ويكون لها قوة وذلك برضا الباي فقط وعلى هذا النمط وقعت معاهدة مع فرنسا في سنة 1742 وكذلك في العام الثالث والعام العاشر في سنة 1924 وهكذا صارت المعاهدة المهمة في 8 أوت 1830 التي تمنع تملك العبيد والتلصص في البحر، ولا يلزم التكلم على المعاهدات الباقية كالتي في حق صيد المرجان وأن الباب لا يحكم على الولاية إلا حكماً وقتياً وهو راض باستقلالها.
ومما يؤيد هذا أنه في القرن الثامن عشر لم يقبل تشكي دول أوربا من التلصص البحري والسعي البربري وليس له حكم عليهم وهو ليس مولاهم وهو لم يضمن السرقات التي جعلوها مخلة بتجارة البحر المتوسط وأن دول أوربا عملوا الحرب عشرين مرة مع المملكة من غير عقد الحرب مع تركيأن وفي سنة 1918 كانت معاهدة إكس لاشبيل قد حكمت على تونس بمنع التلصص البحري من غير أن تطلب من الباب التداخل على أنه متسيد على تونس وفي سنة 1833 فمملكتا سردينيا ونابولي عملا مع تونس من غير عمله مع الباب لأنهم يرون مثل ما نرى أن تونس مستقلة.(1/465)
ثم إن علاقة تونس مع فرنسا من وقت اخذ هاته الجزائر على النحو السابق من غير واسطة تركيا ولما قد إلينا احمد باي في سنة 1843 أقتبل بكل ما يلزم من التعظيم للملوك والباب العالي لم يتوجع إذ ذاك من عملنا التعظيم الملوكي المذكور وكذلك جميع أوربا لم تلك على ذلك لأن رأيي موافق لرأي اللورد آبردين الذي يقول في تسجيله ضد أخذنا الجزائر المكتتب بتاريخ 23 مارس 1831 إن الدول الأروباوية من مدة طويلة يفعلون المعاهدات مع الدول البربرية مثل الدول المستقلة وخصوصاً تونس فإنها لا تحسب نفسها غلا حرة، والدليل الواضح الحقي الذي لا ينكره أحد هو عمل القوانين في تونس المسماة (بويود لدي) حلف عليها الباي الموجود بتونس محمد الصادق لما جلس على الكرسي في 23 أيلول سنة 1859 مثل ما حلف أسلافه فإن قانوناً واحداً منها وهو المسمى بالقانون النظامي للملكة تونس قد احتوى على مائة وأربع عشرة مادة وانتشر بالعربي والفرنساوي في تونس وفي بونه ولم يصرح فيه ولو بكلمة واحدة تقول السلطان.
ومما لا يقدر أن يشك أحد معه في الاستقلال الباي ما نشر في الصحيفة الرابعة من المقدمة في ذلك القانون ونصه أن المتوظفين الكبار التونسيين اختاروه بكلمة واحدة ليكون رئيس الدولة على مقتضى قانون الوراثة المعروف في المملكة وفي ذلك القانون فصول تامة شرحت الحقوق الواجبات للملك وحالة الأمراء من العائلة الحسينية وحقوق وواجبات الرعايا وكيفية خدمة الوزراء وترتيب خدمتهم والمجلس الكبير بالمملكة والمداخيل والحساب ولا شك أن من يطلع عليها يقدر أن يجد ذلك البيان غريباً إذا أراد أن يقيس على رأينا الأروباوي ومع هذا فهو دليل واضح على استقلال مملكة تونس وأنها ليست تحت دولة أجنبية.
وجميع المعاهدات التي بين الدول الأروباوية ومملكة تونس منذ مدة الثلاثة قرون الأخيرة لم تقل أبداً إلا مملكة تونس، ملك تونس، ومنها خمس عشرة أو عشرون معاهدة أمضيت بفرنسا فيها ذلك القول، وفي سنة 1868 المعاهدة التي وقعت مع إيطاليا مذكورة فيها الللكة تونس، وتونس أيضاً لم تسم نفسها في قانونها النظامي إلا اسم الذي أطلقته عليها جميع الدنيا وهي أرادت أن توضح المزية التي لها بالاستقلال والقدرة الموافقة له، فبناء على ما سبق من الأدلة القطعية والمتعددة فالباب العالي لا يقدر أن يتعجب من إنكار فرنسا لسيادته على تونس مهما طلب هو ذلك حتى إلى الآن ونحن نقر بأن الباب شدد في طلبه منذ خمسين سنة، وفي سنة 1835 أدخل تحت سيادته طرابلس بعدها ضبط التحيير الهائل هناك وأراد أن يعمم سيادته على تونس إلا أن قوة فرنسا المضادة له منعه من مقصده وبعد عشر سنين أي في سنة 1845 أتى (مابيخجي) السلطان إلى تونس ومعه فرمان ليقلد الباي منصب الولاية إلا انه لم يقبل منه، ثم مضت عشرون سنة من غير تجربة جديدة، ولكن في أواخر سنة 1864 رجعت التخمينات القديمة وإنما هاته المرة كانت المملكة بنفسها هي التي طلبت التقليد ولكن هذا كان من الغريب إذ وقع من الأمير الذي هو حتى لذلك الوقت بعينه وهو يظهر المدافعة عن استقلاله وهذا إنما كان من الإشارات القوية التي خوفت الباي من حالته أمام الباب فأرسل لذلك أمير الأمراء خير الدين إلى القسطنطينية ليعرض ويأتي بالفرمان.(1/466)
وهاته المرة أيضاً فرنسا عارضت في ذلك وعوضاً عن الفرمان السلطاني فالباي ومستشاره التزموا بالرضا بمكتوب وزيري متضمن لما في الفرمان، ثم اغتنموا الفرصة وقت مصيبتنا في سنة 1871 وتمموا ما كانوا ممنوعين منه سواء كان في مدة الوي فليب الذي كان غالباً أسطوله يمنع الأسطول التركي من القدوم إلى تونس أو في مدة الإمبراطور الذي لم يقلل من العزم المشار غليه، وفرمان 15 تشرين أول سنة 1871 الذي اتخذوه تحت ظل مصيبتنا اشتهر في 17 تشرين ثاني في باردو وأعلن به خير الدين باسم السلطان وقبله الباي الذي كان طلبه له مع شيء من الغضب، وفرنسا على حال سجلت بقوة، وحسب الفرمان باطلاً أو كأنه لم يقع ومن مدة عشر سنين لم تبطل شيئاً من عملها عندما يقتضي الحال ومع نجاح الباب هو بنفسه له شك في إجراء حق فرمانه بتاريخ سنة 1871 الذي ضرب استقلال مملكة تونس المتقادم وهذا الفرمان انتشر قليلاً إلا أنه عند الغالب لا يعرف ما عدا بعض الدول التي لها فوائد في ترتيب الفرمان المذكور أن تكون تونس جزءاً تحت الباب مع أن حكم باي تونس باق كما كان يعرف منذ مائتي سنة غير أن باي تونس صار والياً أي والياً عاماً على إيالة تونس وعلى موجب فالوراثة في الحقيقة لم تكن مستمرة في العائلة الحسينية خلافاً لما ذكره الفرمان بل الوالي يعزل بإرادة السلطان ومن الممكن أن يعرف الباي ضرره وضرر ملكه وحريته وحياته التي هي غلطته الكبيرة حسبما أشاروا عليه بهأن ومحمد الصادق ليس له خوف من جهة فرنسا ولو مع عمل من الشر معها ومع هذا فهي ليست بضده لا لذريته ولا لذاته ولا لدولته وأما من جهة الباب فهو بالعكس وله الخوف الكبير منه لنه يمكن أن يبدله بحسب الحال".
انتهت لائحة وزير فرنسا وإذا تأملها المتبصر وتدبر معانيها يجدها مخالفة للواقع في كثير من الأمور سيما بعض الأحوال التاريخية كما تبين من مقابلة كلامه بما ذكرناه في تاريخ تونس وسياستها وصلتها مع الدولة مع المكتيب الرسمية التي نلقاها حرفياً حتى من متوظفي فرنسأن ويؤكد ذلك ما تراه في لوائح الباب العالي الآتي بيانها فإن الحال لما بلغت إلى درجة هجوم العسكر على الحدود تظاهر والي تونس بأن أرسل إذ ذاك إلى الباب العالي مكاتيب في التشكي من فعل فرنسا وأرسل إلى نواب الدول تسجيلاً على ذلك أيضاً ولما تحقق الباب العالي الأحوال الرسمية أرسل عدة لوائح إلى سفرائه مستنجداً بالدول لمحافظتهم على معاهدة باريس التي أشرنا إليها سابقاً وعلى معاهدة برلين، ومما يفصح عن مقاصد الباب وحقوقه اللائحة التي أرسلها وزير الخارجية بالدولة العثمانية إلى سفراء الدولة ونص تعريبها:
اللائحة العثمانية(1/467)
"القسطنطينية في 10 ماي سنة 1881 إن إعلاماتي المختلفة عرفت فطانتكم الوقائع التي صارت في المسألة التونسية وقد نسبت بهجوم بعض القبائل البدويين جهة الجزائر وهذا الهجوم الحكام التونسيون أعلنوا بأنهم حاضرون ليضبطوه من غير تراخ فالدولة الفرنساوية حكمت بأنه يلزمها إرسال عدد وافر من العساكر الذين استولوا على جزء كبير من الولاية ولم يبعدوا عن المركز إلا بعض فراسخ، فمن غير التفات إلى ما كنا أكدنا به على حضرة الباشا ل] اخذ التدابير اللازمة لتمهد الراحة في المواضع الثائرة فدولة الجمهورية لا تريد أن تنظر للمخاطبة الاقترانية بتونس مع السلطنة العثمانية التي هي محسوبة جزءاً مهماً للسلطة المذكورة وأظهرت بأنها لا تقبل قولنا للاتفاق الودادي معها لقطع الاختلاف الذي وقع وترتيب حقوق الباب العالي مع منافع فرنسا في ذلك المحل وترتيب الأشياء الموجودة من زمن قديم ولا نقدر أن نزيد في إيضاحها كما يلزم وهي سيادة السلطان التي ليس فيها اختلاف على هاته الولاية وهي سيادة لا تنكرها ولا ولاية عموماً وهذا الحق بقي إلى الآن صحياً ولم ينقطع من زمن فتحها وهو إذ ذاك سنة 1534 بخير الدين باشا وفي سنة 1574 وتقليج علي باشا وسنان باشا وكانت الدولة العلية أرسلت إلى تلك المواضع قوة عظيمة براً وبحراً ومن زمن ذلك الفتح فالتأسيسات التي فعلها الباب العالي هي أن جميع ولاة تونس يتوارثون الولاية من ذرية الوالي الأول المسمى من السلطان ويتقلدون غلى الآن المنصب منه وفرمانات الولاية تبقى في خزانة الديوان وكذلك جميع المكتيب التي تأتي منهم لبا العالي فإنها تارة تكون في شان مخالطتهم مع الدول الأورباوية وتارة تكون في شأن أحوالهم الداخلية والتي لهاته المدة الأخيرة فإن الباب العالي من استحفاظه على حقوقه زيادة على كونه يسمي الوالي العام فإنه يرسل من القسطنطينية إلى تونس قاضياً وباش كاتب الولاية ولم يمكن إلا من ترحم الدولة العلية أن منحت الوالي أن يسمي هو بنفسه هذين المتوظفين وأيضاً فاتباعاً للمذهب وخصوصية سيادة السلطان فإن الخطب يذكر فيها اسم جلالته ويضرب على السكة أيضأن وفي وقت الحرب ترسل تونس الإعانة إلى التخت وعلى حسب العادة القديمة يأتي إلى القسطنطينية دائماً أناس رسميون ليقدموا تعظيمات الوالي وخضوعه لأعتاب السلطنة وليقبلوا أيضاً الأذن اللازم من الباب العالي لأمور عظيمة في الولاية ثم إن الباشا الموجود الآن والأهالي التونسيين طلبوا زيادة في التفضل وأعطى ذلك لحضرته السامية بالفرمان المؤرخ في 1871 وتعرف به جميع الدول، والآن قد استغاث الوالي بجهد سيده الحقي ليعينه على الحالة الرديئة التي وقعت فيها تونس الآن، وهاته الأشياء التحقيقية لا ينكرها أحد فل تريدون أن تعرفوا الآن تقريرها بالتاريخ وبالمكاتبات الرسمية هو سهل لكن نقتصر على المهم منها لئلا يطول الكلام في هذا التلغراف ففي المعاهدات القديمة التي بين تركيا وفرنسا تعدد ألقاب الحضرة السلطانية ويكون منها لقب سلطان تونس) فانظر مثلاُ) معاهدة 10 صفر سنة 1084 هـ? سنة 1668 م وفي هذه المعاهدات أيضاً يوجد بأن كل المعاهدات التي بين الدولتين تجري أيضاً في تونس وفي نصف القرن السابع عشر أي في 14 صفر سنة 1166 أرسل السلطان فرماناً للباي والحاكم الكبير بالولاية في رضا الباب العالي بأن قنصل فرنسا يجمع خدمات قناصل الدول الذين لم يكن لهم ذاك نواب القسطنطينية كالبرتغال وكتالوني وإسبانيا وفينسيا وفرنسا وغيرهم، والقنصل وكالته هي حماية السفن تحت الراية الفرنساوية في المراسي المشهورة بالولاية والفرمان يمنع تداخل الإنكليز والهولانديز وغيرهم من التداخل في خدمة نائب فرنسا وذلك سند منع التعدي بين الباب العالي والنمسا المؤرخ في 9 رمضان سنة 1197 هـ? المتقرر بمعاهدة ستوفا في 12 ربيع الآخر سنة 1295 فإنه يأذن حكام الجزائر وتونس وطرابلس الغرب بأن يحملوا باسم السلطان السفن التجارية لسلطنة الرومان الفخيمة وأيضاً فإن الاتفاق الذي تقدم هذا السند وتمم في 15 شوال سنة 1161 هـ? بالإذن من السلطان وكان هذا الاتفاق وقع بين الحكام المذكورين والسلطنة المذكورة فغن الوالي العام بتونس وهو غذ ذاك في رتبة بكلربيك ونال اسم علي باشا يذكر في مقدمة كل مكتوب ممضى عليه منه هاته الكلمات بعينها وهي (مولانا(1/468)
السلطان الغازي محمود) وعلى ذكر واقعات ذاك الزمان أستطرد لكم الإذن الصادر من الباب الغالي في 15 ربيع الأول سنة 1245 هـ? سنة 1827 م لحكام الجزائر وتونس وطرابلس الغرب فإنه يأمرهم أن لا يتداخلوا في الخلاف الواقع بين سلطنة النمسا ومملكة المغرب، وكذلك الإذن الصادر من القسطنطينية لوالي تونس في 14 صفر سنة 1247 هـ? سنة 1830 م فإنه يأمر بترتيب العسكر النظامي بالولاية على نمط الترتيب العسكري النظامي العثماني، وأيضاً قد أتى مكتوب معين بالطاعة من الباشا التونسي لجلالة السلطان في سنة 1860 وذلك الباشا هو الذي سماه السلطان والياً عامأن وقد اشتهر هذا المكتوب في جميع صحف أوربا من غير أن يعارض ولا من جهة واحدة ونزيدكم شيئاً آخر وهو انه في سنة 1863 في واقعة القرض التونسي الذي وقع في باريس من غير رضا الباب العالي كان مسيو دواراون دولويس وزير خارجية الإمبراطور نابليون الثالث قد أعلن رأيه بنأن على شكايات الدولة العثمانية وقال إنه يلزم غما الباشا بتونس أو الصراف الذي يريد عقد القرض معه أن يطلب رضا الباب العالي ليصبح هذا القرض للمدافعة عن حقوق الباب العالي فغن الوزير الفرنساوي أرسل يقول هذا الكلام والحق الذي للدول الممضين على معاهدة برلين وإنا لمحققون بأن فكر الدول محيط بدلائل كثيرة في الواجبات العمومية التي يقتضيها المؤتمر المحترم وانهم يريدون أن يفصلوا بالعدل قولنا الذي قدمناه وأنهم يتحفظون على حقوق الباب العالي الأخرى المحفوظة بالمعاهدة المذكورة ويصلحون الحال بين الدولتين المتممة للسلطة العثمانية والمرغوب من جنابكم أن تتكلم مع وزير الخارجية في مضمون هذا التلغراف وتشرح له ما تراه نافعاً ولكم الإذن بأن تعطوا نسخة من هذا لجناب الوزير إذا طلبكم (الإمضاء مصطفى عاصم) .(1/469)
ومن تأمل هذه اللائحة مع ما قررناه في سياسة تونس الخارجية ومقاصد فرنسا فيها لا يشك في أن فرنسا لم تكن تنازع قط في أن تونس من ممالك الدولة العثمانية، وإنما غاية دعواها هو أن تلك الإيالة لها امتيازات جارية تحافظ هي عليها لجل منافعها ويصدق ذلك تصريح وزير فرنسا دواروان دولويس في مجمع فيينا إثر حرب القريم لما سأل الوزير الروسي عن تعيين الممالك العثمانية للجهل ببعضها ومثل بتونس وأنه يتراءى فيها نزاع فأجابه الوزير الفرنساوي بأن لاشك ولا نزاع في كون تونس من الممالك الغعثمانية وإن كانت لها امتيازات تخصها وكذلك المعاهدات المعقودة بين فرنسا وتونس حتى التي وقعت بعد الاستيلاء على الجزائر بمدة طويلة يصرح فيها بأن سائر المعاهدات المعقودة مع الدولة العثمانية تكون مرعية الإجراء في تونس ولا يعزب عن عاقل أن ذلك التصريح لاتحاد تونس بالممالك العثمانية، ومع هذا كله لم يفد استصراخ الدول لأن فرنسا لم تعلن بعملها إلا بعد أن لمست أفكار الدول الكبيرة فوجدتهم غير معارضين لها لأن دولة إنكلترا متولي زمامها حزب الإطلاق الذي لا يرى نفع دولته في المحافظة على الدولة العثمانية بعد أن طال تجريبهم لها في الحث على الجريان على مقتضى نصائحهم ولكنهم لم يروا العمل دونك ما نشر في الكتاب الأزرق من المخاطبات التي وقعت من الحضرة السلطانية ورئيس وزرائها ومع سفير إنكلترا في الآستانة حسبما أهبر بها وزيره بعدة تلغرافات تنبئ بما تقدم فمنها تلغراف من مسيو غوشين (سفير إنكلترا) إلى وزير خارجيتها بتاريخ 19 نيسان سنة 1881 هاته ترجمته إني وجدت جلالته (أي السلطان) مشغول الفكر بهذه الأفعال وبناء على ما عندي من الإذن أعلنت له بأن الدولة الإنكليزية تريد بقاء الحالة الموجودة بتونس والنائب الإنكليزي له الإذن ليرشد الباي إذا استشاره بأن يعين فرنسا في تقرير راحة الحدود وغني أرجو أن جلالته يشير على الباي أيضاً بذلك فالسلطان سكت بعض دقائق ثم ظهر على وجهه الغضب وقال إنه فهم من كلامي أن الدولة البريطانية تريد إبقاء الحالة على ما هي عليه في تونس ولها نفع في ذلك وفهم أيضاً أنا أشرنا على محمد الصادق بأن يعين العساكر الفرنساوية فنبهت عظمته بأن قلت إن الدولة الإنكليزية تنتفع بإبقاء الحالة الموجودة ولكنها تظهر تمني ذلك فقط على هذه الكيفية ونحن نتأسف كثيراً من فتح مسألة جديدة في الشرق، وإنا لا نفتكر أنه توجد فوائد خصوصية لإنكلترا مربوطة بأي كيفية كانت في أحوال تونس، فعند هذا أجاب السلطان بأنه لم ير كيف يجمع بين رجائنا في إبقاء حالة تونس على ما هي عليه ومع ذلك نشير على الباي بأن يعين العساكر الفرنساوية فهذان الشيئان لا يتوافقان لنه على رأيه يكون دخول العساكر الفرنساوية إلى تونس ناقضاً للحالة الموجودة.(1/470)
وفي تلغراف آخر من مسيو غوشن أيضاً يقول فيه إن المحادثة التي وقعت بيني وبين باش وكيل كان يطلب فيها صحبة إنكلترا وقال إن الدولة الإنكليزية تقدر أن تعمل مع الدولة العثمانية المعروف وأن الباب العثماني يكون ممنوناً إذا كانت إنكلترا تريد أن تفعل معه ذلك، فقلت له إن ما كنت قلته لكم قد وقع، والذي كنت تقوله دائماً هو انه يأتي زمن تكون فيه تركيا متذكرة بأن صحبة إنكلترا لها لازمة وقد تكلم على الحاجة الأكيدة الآن وتلكم أيضاً على مودة إنكلترا فتبعته وقلت له ما هو دليل المودة الذي أظهرته تركيا لإنكلترا منذ بعض سنين وفي أي وقت اتبعتم إشارتنأن وفي أي وقت قبلت استشارتنا النافعة للسلطة التركية نعم إن الترك قد علموا غاية جهدهم ليتركوا المودة التي في رأي العموم في إنكلترا ورجوعها الآن ليس بسهل فحضرته العلية أجابت بان جميع الأشياء واستمر في طلب الإعانة وأنا شرحت له بأن نازلة تونس مثل النوازل الأخرى الشرقية ولا تقدر إنكلترا على إتمامها وحدها ومع هذا فليس لنا فائدة خصوصية وسياستنا متمسكة بالموافقة الأروباوية ولا دولة تريد قيام عسر جديد قبل أن تتم الإعسار القديمة وكل دولة تكون حازمة إذا كانت تفتش كل واسطة لحصر النازلة التونسية في حدود ضيقة لأقل ما يمكن لئلا تقوم نازلة تدخل فيها الدول برأي مختلف فجنابه يقدر أن يفهم من جملة كلامي بأن ليس لي إذن لتقرر الرجاء بأن تكون الدول العظام الأروباوية يظهرون أنفسهم مختلفين على نازلة مخلبطة بين الباب العثماني وتونس والطلب الخصوصي من إنكلترا ليس بموافق لحالة الباب العثماني منذ بعض سنين مع الدولة المشار إليها.
فهذا الخطاب كاف في بيان الحال مع إنكلترا وهي وإن أظهر بعض أهل الشورى التنديد على سياستها وطلب المحافظة على تونس وإبقائها للدولة العثمانية وبين ما نشا لإنكلترا من المضرة عند استيلاء فرنسا على مرسى ابن زرت وعلى قربها من خليج السويس ورجحان كفتها في البحر الأبيض لكنه لم ينفذ كلامه حيث كان حزب المحافظين الذي هو مغلوب حينئذ واحتجت عليه الوزارة بأن حزبه الذي فتح الباب لفرنسا فإن اللورد ملسبري الذي كان وزير الخارجية عند عقد مؤتمر برلين كما باحثه وزير فرنسا على استيلاء إنكلترا على قبرص أجابه بأنه لا يعارض فرنسا إذا أرادت الاستيلاء على تونس.
فإذا يكون استناد فرنسا على وعد إنكلترا وقد غفل المستند لذلك عن كون الوعد من ملسبري كان في سياق أن ترضى بذلك الدولة العثمانية صاحبة الملك مع الرضا العام لا اغتيالاً ومع ذلك فلإنكلترا مقاصد على تونس مخفية في مصر فرأت أن مساعدة فرنسا على تونس تلائمها في مقصدها هي في مصر عند الحاجة إذا ساعدتها فرنسا ولهذا لم تعترف بالمعاهدة الجددية مع تونس رسمياً حتى أن وزير فرنسا الأول أعلن في مجلس النواب بأن إنكلترا وافقت على معاهدة وزير فرنسا الأول أعلن في مجلس النواب بأن إنكلترا وافقت على معاهدة مايه استناداً منها لما دار بينهم من الكلام فيها فأعلن وزير خارجية إنكلترا حالاً بتكذيب ذلك الإدعاء وما ذاك إلا تحفظاً على ما يريد لدولته حتى إذا لم تساعفه فرنسا في مصر وآل بينهم الأمر إلى المشاحنة الحقيقية كان لإنكلترا وجه في نقض ما حل بتونس.
وأما دولة الروسي فلا إشكال أنه يسرها كل ما يضعف الدولة العثمانية ولا فائدة لها في مشاحنة فرنسا وذلك كان جوابها يمثل محصول جواب سابقتها.(1/471)
وأما دولة ألمانيا خصوصاً بأن الأولى للدولة العثمانية الإضراب هن هاته النازلة وأنها هي لا تتعرض لفرنسا بشيء والباعث لها على ذلك وجوه (أولها) إظهار عدم التجافي عن فرنسا التي لها عليها حقد أخذ الثأر (وثانيها) جذب أعداء ومضادين لفرنسا كالدولة العثمانية وإيطاليا حتى إذا أعلنت الحرب يوماً ما بين ألمانيا تجد ألمانيا الظهير على قوتها بما لذلك من الباعث الذاتي (وثالثها) أشغال فرنسا بفتوحات جديدة في أراض فسيحة وخلق كثير في أفريقيا ربما طال اشتغالها بهم حتى يبرد لهيب اخذ الثأر (ورابعها) إضعاف قوة فرنسا وقت الحرب إذ الأمم الذين تريد التسلط عليهم وإن لم يكونوا كفؤا لمحاربة فرنسا لخلوهم عن آلات الحرب والاستعداد لها لكنهم لما كانوا مسلمين واهل نجدة وشجاعة ومثافنة للحرب لا يلبثون دائماً أن يحدثوا عليها ثورات سيما إذا علموا بوقوع حرب بينها وبين أجنبي فتضطر فرنسا في وقت الحرب إلى أن تبقى قسماً عظيماً من جيشها محافظاً على ذلك المستعمر وذلك يفيد ألمانيا بنقصان قوة جيش خصمها في حربها (وخامساً) تمهيد السبيل إليها فيما تريد التعارض به بينها وبين النمسا لأن ألمانيا ليس لها مرسى على البحر الأبيض، وقد بقي من جنس الألمان تحت النمسا عدة ملايين حول الجهات التي قرب مرسى ترست فلو أخذت ألمانيا ذلك الباقي من الألمان مع تلك المرسى يكون ذلك غاية أمانيها ولكن ذلك لا يحصل إلا بحرب مع النمسا وقهرها أو بمعارضة ذلك لها بشيء يرضيها من ممالك الدولة العثمانية مثل أخذها ولايات مقدونيا ومرسى سلانيك الموازي ذلك لمت يؤخذ منها حسبما أشيع مراراً ولذلك كانت ألمانيا أول من بادر لأمر نائبها بتونس باتباع سياسة فرنسا فيهأن وتبعتها على ذلك أيضاً النمسا لأنها ليست لها سياسة تخصها في تونس وهي لها مع ألمانيا عقد محالفة اتحاد على الذب والإقدام، ثم إنها لما مطامح في جهة بحر الجزر لتتمكن فيه بمواقع مهمة لكي تسلم في مرسي ترست إلى ألمانيا حليفتها حيث لم يكن لها مرسى في البحر الأبيض كما تقدم ذكره فلا تعارضها فرنسا عند العمل.
وأما إيطاليا فإنها تجرعت من لك الغصص وطوت على الضغائن التي لا تزال ولكنها لما كانت غير كفء بانفرادها لمعارضة فرنسأن واتحادها مع الدولة العثمانية أيضاً لا يجدي لاحتياج كل إلى المال مع ما فيه الدولة العثمانية من الحالة الداخلية والخارجية التي أعقبتها الحرب الأخيرة، فلم يسعها إلا السكوت وتحمل عرق القربة مع عظم الضغينة في عموم الأهالي والدولة إذ هي حريصة على إبقاء ما كان في تونس وكانت عند ملاحظتها مبادي الشر عرضت بالسعي السياسي مع الدولة العلية فلم يكن من المقدر قبول الانتباه لما أراده حتى أنكر الوزير العثماني على المأمور الطلياني التكلم معه في تونس وقال له إنها تابعة لنا دخل فيها لحد وعند هجوم فرنسا صار يتملق إلى ذلك المأمور لكي يمد إيطاليا اليد فقالت له مصداق المثل "الصيف ضيعت اللبن".(1/472)
وبما تمهد عبرت عساكر فرنسا حدود تونس معلنة بأنها تريد تأديب قبيلة خمير من أعراب الجبال الشمالية عند حدود الجزائر ولم يتعرض لها أحد بالمصادمة لن حكومة تونس قد تقدمت حالتها الباطنية من التوافق مع فرنسا ومع ذلك فليس عندها تحت السلاح ألفا عسكري ولا اقتدار لها على معارضة فرنسا بالقوة واستندت ظاهراً إلى أمر الدولة العلية بارتكابها سبيل الملاينة واظهر الوزير التونسي إذ ذاك التزام العمل برأي مجلس الشوري حيث فات الإبان مع أن جميع ما يتفاوض فيه يقرره لتابعه علي بالزي ليلاً وهو يقرره إلى نائب فرنسا فكلما غزل المجلس غزلاً نقصه من هو بالمرصاد منهم حتى تعجبوا من اطلاعه على جميع احوالهم، وتمكنت عساكر فرنسا من بلد الكاف وباجة وبنزرت، وفي أثناء تلك المدة كانت الحكومة التونسية لا تزال تسجل وتتشكى وأنها مستعدة لتربية قبائلها الذين هم في نفس الأمر غنما اتخذوا وسيلة فقط، ومع ذلك فقد أوعز الوزير بواسطة تابعه المشار إليه إلى نائب فرنسا بأن لا واسطة مفيدة في الدخول تحت فرنسا إلا قدوم شرذمة من العساكر إلى قصر الوالي والإحاطة به إذ النسوة لما ترى ذلك تصعق بالخوف فيضطر الوالي إلى الإمضاء على الشروط ويجد العذر عند الأهالي، ومع ذلك أرسل خبراً بالسلك الكهربائي إلى الباب العالي يقول أنه قد علم أن فرنسا تطلب عقد شروط ولا يعلم ما هي فماذا يفعل فأجيب من الباب بأن يحيل كلما يطلب منه الباب العالي ولا يمضي شيئاً وقبل ذلك أشاع أصحاب الأخبار أن في عزم الدولة إرسال خير الدين باشا إلى تونس معتمداً في حسم النازلة لمعرفته بأحوالها وسياسة الأهالي والأجانب ولكن يكون عوناً على إبقاء الحالة المعروفة فأرسل الوالي تلغرافاً إلى الباب العالي يطلب أن يكون المرسل غير المشار إليه وتعجب كل غافل عن المقاصد الخفية من ذلك الطلب إذ تلك الحالة لا تدع مجالاً للشخصيات سيما وقد سبقت من خير الدين إلى الوالي المشار إليه المجاملة وعدم الأكتراث بما فعل معه عند حلوله بالأستانة وترقيه فيهأن لكن المطلع على الباطن زاده ذلك تيقناً في التواطؤ على تلك الأعمال لأن وجود مثل خير الدين في تونس لا يروج عليه ما يروج على غيره ممن لم يثافن طبائع الشقين، ومع مجاراة الباب العالي وتقليله لمواقع النزاع قدر الإمكان لتأمين الوالي حيث أظهر الميل إلى الدولة فإنه أي الوالي أسرع إلى إمضاء الشروط مع فرنسا والحال أن مداد الحبر من الباب العالي ينهاه عن الإمضاء لم يجف ولم يجبر الباب بعد ذلك بشيء حتى سأله عما شاع من إمضائه فأجابه بأنه مكره عليه وكل ما ورد بعد ذلك من الباب سلمه غلى نائب فرنسا مدعياً أن الشروط قاضية بلك (وهذا نص تعريب المعاهدة) : إن دولة جمهورية فرنسا ودولة باي تونس أرادوا أن يقطعوا بالمرة التحيير المخرب الذي وقع قريباً في حدود الدولتين وفي شطوط تونس، وأرادوا أن يرابطوا مخالطتهم القديمة التي هي مخالطة مودة وجوار حسن، فاعتمدوا على ذلك وعقدوا معاهدة في نفع الجهتين المهمتين فعلى موجب ذلك رئيس الجمهورية الفرنساوية سمى وكيله مسيو الجنرال برياد الذي يتفق مع حضرة الباي السامية على الشروط الآتية: أولاً: المعاهدات الصلحية والودادية والتجارية وغيرها الموجودة الآن بين الجمهورية الفرنساوية وحضرة الباي يتحتم تقريرها واستمرارها.
ثانياً: ليسهل لدولة الجمهورية إتمام الطرق للتوصل إلى المقصود الذي يعني الجهتين العظيمتين بحضرة الباي ترضى بأن الحكم العسكري الفرنساوي يضع العساكر في المواضع التي يراها لازمة لتقرر وترجع الراحة والأمان في الحدود والشطوط وخروج العساكر يكون عندما يتوافق الحكم العسكري الفرنساوي والتونسي على أن الدولة التونسية تقدر على إقرار الراحة.
ثالثاً: دولة الجمهورية تتعهد لحضرة الباي بان يستند عليها دائماً وهي تدافع عن جميع ما يتخوف منه لضرر ما في نفسه أو في عائلته أو فيما يحير دولته.
رابعاً: دولة الجمهورية الفرنساوية في إجراء المعاهدات الموجودة الآن بين دولة تونس والدول المختلفة الأروباوية.
خامساً: دولة الجمهورية الفرنساوية تحضر نحو حضرة الباي وزيراً مقيماً لينظر في إجراء هاته وهو يكون واسطة فيما يتعلق بالدولة الفرنساوية وذوي المر والنهي التونسيين وفي كل الأمور المشتركة بين المملكتين.(1/473)
سادساً: أن النواب السياسيين والقناصل الفرنساويين في الممالك الخارجية يتوكلون ليحموا أشغال تونس وأشغال رعيتها في مقابلة هذا فحضرة الباي تتعهد بأن لا تعقد معاهدة عمومية من غير أن تعلم بها دولة الجمهورية ومن غير أن يحصل على موافقتها من قبل.
سابعاً: دولة الجمهورية الفرنساوية ودولة حضرة الباي أبقوا لأنفسهم الحق في أن يؤسسوا ترتيباً في المالية التونسية ليمكن لهما دفع ما يلزم الدين التونسي العام وهذا الترتيب يضمن في حقوق أصحاب الدين التونسي.
ثامناً: إن غرامة الحرب يغضب عليها القبائل العصاة بالحدود والشطوط وتفعل دولة الجمهورية مع حضرة الباي فيما شروطاً على كميتها وكيفية دفعها ودولة حضرة الباي تضمن في ذلك.
تاسعاً: للمدافعة على منع إدخال السلاح والالات الحربية للملكة الجزائرية الفرنساوية فدولة باي تونس تتعهد بأن تمنع دخول الأشياء المشار لها من جزيرة جربة ومرسى قابس وسائر المراسي الجنوبية في المملكة.
عاشراً: إن هاته المعاهدة توضع لدى رضا الدولة الجمهورية الفرنساوية وترجع في أقرب وقت ممكن لحضرة الباي السامية.
حرر في 12 ماي 1881 بالقصر السعيد الإمضاء محمد الصادق باي والجنرال برياد.
والذي يؤكد صدق التواطؤ من قبل أن الوالي طلب ظاهراً من نواب فرنسا وهما أمير العساكر والقنصل أن يمهلاه مدة للتأمل من حالة الشروط فأجابه القنصل بأنه لا داعي إلى ذلك حيث أن الشروط عند وزيرك من مدة وتأملتها أنت وهو لم يبق إلا لإمضاء ويؤيده أيضاً أن رئيس المجلس البلدي السيد محمد العربي زروق أحد أعضاء مجلس الشورى أصر على عدم الموافقة على إمضاء الشروط وألح على الوالي بذلك عند جمعه للمجلس وأمير عسكر فرنسا منتظر لانبرامها ونصحه بأن ما يخشى منه بعدم الإمضاء سيقع لا محالة بعيد الإمضاء فالتمسك بالبراءة الأصلية أسلم وأشرف وعورض بأنه قد علم أن الوالي إذا لم يصحح يولي الفرنسيس عوضه أخاه الثالث (محمد الطيب باي) لأنهم أكدوا أن له اتفاقاً مع الفرنسيس فأجابه بأن جميع الأهالي لا تطيع الوجه المذكور وعلى فرض قهرهم يكون الوالي على شرفه وربما اضطرت الدول إلى التداخل بوجه يحسن الحال، فلم يلتفت لكلامه وعزل إثر ذلك من جميع وظائفه وجعلت عليه مراقبة في داره وحجر عليه مخالطة الناس وتحقق مزيد الإضرار به إلى أن احتمى بقنصلية إنكلترا وسافر عن وطنه وأقام بالأستانة.(1/474)
ويشهد صراحة للتواطؤ ما صرح به البارون بيانك الفرنساوي في تشرين الأول سنة 1881 بما وقع في هاته المسألة وأنه كانت أرسلته دولته حيث كان أحد مأموري الوزارة الخارجية لاستقراء أمر تونس وذلك في كانون الثاني سنة 1881 وأن الوالي أجاب إذ ذاك فرنسا بأنه يقبل الشروط إذا كان الواسطة فيها هو فرديناند لسبس لأنه كان يؤمل بواسطة المذكور الحصول على شروط أوفق له وأن الشروط إذ ذاك كانت غير التي قررت الآن ومع ذلك كله لم تعلم الدولة العلية بشيء وبه يعلم صدق الكلام في إضمار الوزير التونسي الشر للبلاد ولي بالخصوص أعمال النائب لفرنسا عند إمضاء المعاهدة أن طلب من الوالي نفي علي بالزي حالاً لكي لا يبيح بما وقع من الأسرار التي أطلع عليها فنفي إلى حصن قابس ثم توجه الوزير ابن إسماعيل إلى باريس في سفينة فرنساوية حربية شاكراً لإنعام فرنسا بتلك المعاهدة ومعلناً لها بأنه يصدق في خدمتها أزيد مما كان يبذله سابقاً كذا في عبارته الرسمية عند ملاقاته رئيس الجمهورية المنشورة في الصحيفة الرسمية فقلدته فرنسا بأكبر نيشان لها مع الشريط الأكبر ورجع إلى تونس ولم يلبث بضع أشهر حتى ورد المر على الوالي من وزير فرنسا بعزل وزيره ابن إسماعيل لأن نائب فرنسا بتونس توجه غلى باريس وتفاوض مع دولته فيما يسلكونه في تونس حيث غن الأعراب والجهات الجنوبية أعلنوا بأن الوالي لما بغى على الدولة العثمانية بدخوله تحت حماية فرنسا فهم لا يطيعونه لنهم بايعوا أمير المؤمنين سلطان الدولة العثمانية قديماً وحديثاً فلا يحل لهم الخروج عليه، وهرب على الوالي جميع عساكره فاضطرت فرنسا لتعبية الجيوش لتطويع الأعراب، وكان من جملة التدبير عزل ذلك الوزير الذي توقعوا منه أن يفعل معهم مثل ما فعل مع البلد الذي وصل فيها إلى تلك الدرجة وتحقق الوزير ما ضرب من المثل بوزارة العلقمي وغن كان هذا أي ابن إسماعيل قد امتاز بجميع خزائن أمراء تونس حتى كان آخر ما بقي للوالي من مفاخر الجواهر عقد لؤلؤ منظم سبحة بها مائة حبة مع حلية زمرد محاط بها الياقوت الأبي، فأعطاهما إليه عند سفره لباريس بعد العزل المذكور ورام بسفره إرضاء فرنسا عليه وإرجاعه إلى الوزارة وبقيت البلاد إلى الآن في حيرة واضطراب ودخلت العساكر الفرنساوية إلى قصبة الحاضرة وإلى منازل العساكر في المدينة وأمام قنصلية فرنسا وسكن رئيس العساكر الفرنساوية بدار المملكة في بطحاء القصبة وصارت الحكومة لا تتصرف في شيء إلا بأمر الوزير الفرنساوي سواء كان في الداخلية أو في الخارجية، وتفاقم الضرر بولايات غير الأهل في الوظائف بوسائل غير مرضية، وعظم الكرب على القبائل والبلدان بما حصل فيها من العساكر الذين أقاموا بالقيروان وسوسة وهدموا صفاقس وخرجوا من قابس بعد دخولها وعادوا غليهأن ونسأل الله تعالى أن يتداركنا بألطافه وبحسن العاقبة.(1/475)
ومما ينبغي التنبه إليه هنا أن الأحوال السياسية التي أشرنا إليها مع الدول سيما مقاصد ألمانيا لا يمكن أن تخفى على أمة عاقلة مثل الفرنساويين فكيف مع ذلك أقدموا على تبوؤ تونس مع كون الفائدة التي تحصل لهم منها لا توازي ما ذكر سيما إذا كان المعاهدة مع تونس التي ذكرناها تجري حقيقة على ظاهرها فالجواب أم كثيراً من عقلاء الفرنسيين قد نددوا على دولتهم وما زالوا في الاعتراض عليها لكنها بعد الوقوع في الأمر المتسبب عن تهور ممن بيدهم مقاليد السياسة حتى اتهمهم مضادوهم من نفس الفرنسيين بان لهم في ذلك أرباحاً ذاتية من التجارة في الرقاع الدولية وموهوا على العامة بالانتصار لحفظ ناموس فرنسأن فبعد ذلك صعب على الدولة إهمال سعيها ما خسرته من الأموال المتجاوزة مائة مليون ومن الرجال الذين ماتوا بالحرب مع الأعراب والأمراض المتجاوزين خمسة وثلاثين ألفاً فرأت فرنسا التحفظ على ما وقع مع السعي في حسن السلوك الذي يخفف أو يدفع عنها الغوائل المنتظرة ثم وراء ذلك أمر مهم جداً لفرنسا وهو طمعها في إحداث مملكة عظيمة في إفريقيا مثل ما للإنكليز في الهند فتريد أن تمتد من الجزائر إلى ما جاورها شيئاً فشيئاً إلى أن تصل إلى دواخل إفريقيا والسودان وتصل بين شاطئ إفريقيا الغربي في سانيغال والشرقي في الجزائر وتونس حتى رسمت جمعية فرنساوية رسماً لخط الحديد في ذلك ولو يتم هذا يكون لفرنسا شان عظيم غير أن القياس على الهند الإنكليزي هو قياس مع الفارق لا من جهة سياسة الفرنساويين في مستعمراتهم من حيث قلبها إلى عوائد الفرنسيين وإناطتها الإدارة في الكليات والجزئيات بباريس ولا من حيث أخلاق الأمم المستوطنين بإفريقيا والمتسوطنين بالهند، وغن شئت الوقوف على برهان ذلك فانظر ما حررناه في أحوال الجزائر وفي أحوال الهند وفي سياسة كل من الدولتين تتبين لك حقيقة الحال وبما ذكرناه هنا يندفع الاعتراض على ما ذكرناه في سياسة تونس الخارجية من كون فرنسا لا تريد الاستيلاء عليها مع كون أعمالها ناقضت ذلك وشرح الدفع يؤول إلى أن الحامل لدولة فرنسا على مخالفة ما سبق من مقاصدها في تونس شيئان أحدهما سياسي ظاهري والآخر خصوصي باطني، فالباطني هو المشار إليه بما وقع من التهمة في نفع الأفراد الذي يأتي له مزيد شرح في مبحث الأحكام، والظاهري هو أن الدول قد تغيرت أفكارهم بالنسبة لمحافظة الدولة العثمانية منذ عقد معاهدة برلين فدلت أعمالهم على أن من ناسبه شيء منها وكانت له قدرة على حوزه بادر إليه وغض عنه النظر بقيتهم إذا كان المحوز أكثر مناسبة بالحائز وقد علمت مقاصد فرنسا ف يتونس ورأت أن إيطاليا لها من المقاصد والمناسبات ما يزاحمها ثم رأت سيرة ابن إسماعيل وانه غير أمين فلا يبعد أن يفعل مع إيطاليا أو غيرها من الدول ما فعل معها لخوف أو طمع مع تيسر إجراء الأمور بواسطته فانتهزت الفرصة خوفاً على درجة نفوذها فبادرت قبل أن تبادر إيطاليأن ومن المعلوم أن السياسة تدور مع الأحوال الحاضرة ولله عاقبة الأمور".
إلى هنا انتهى الذيل الذي كتبه صاحب الصفوة.
ما بعد الحماية
لم يحدث في المدة التي أعقبت الحماية حوادث ذات أهمية لقصر المدة التي ما بين الاحتلال وانتقال موقع الحماية إلى الدار الآخرة.
ومن المتوقع أن معاهدة المرسى كانت مهيأة لأن يوقعها موقع معاهدة باردو وغنما عاجلته المنية أو هي مخبأة لمن يأتي بعده.
عاش المشير الثالث محمد الصادق باي بعد إعلان الحماية إلى سنة 1299.
وهذا ما جاء في الرائد الرسمي إخباراً بوفاته في العدد (50) المؤرخ يوم الأربعاء 20 ذي الحجة 1299.
قسم غير رسمي
في السبت الفارط 16 ذي الحجة (1299) فجع القطر التونسي وتزعزعت أركانه بفقد غرة جبينه، وصادقه وأمينه، المولى الجميل الذكر المشير محمد الصادق باشا باي هطلت عليه سحائب الرحمة والرضوان، وأسكنه فسيح الجنان، وقد أسفت السكان على اختلافهم من فقده وأفول بدره، برد الله ثراه وأولاده من نعيم الجنة ما أولاه.
وجاء في نفس العدد المذكور: (هذا ولما بلغ نعيه مسامع ضو الشجرة الحسينية الثابتة الأصل المباركة المولى المعظم الأرفع سيدنا علي باشا باي أقبل للجلوس علة الدست الحسيني وقبول المبايعة الخاصة حيث كان ولي عهد المقدس.(1/476)
وعندما وصل جنابه إلى سراية المرحوم انعقد موكب خاص حسب العادة المألوفة فيما بين الآل الحسيني مؤلف من جنابه أيده الله والوزير الأكبر، وبقية الوزراء الفخام، والمجلس الشرعي وبايعه الحاضرون.
وقد حضره الهمام الأفخم مسيو كامبون وزير الدولة للجمهورية الفرنسية المقيم بحاضرة تونس وتلا خطاباً بالنيابة عن دولته المحترمة وتأتي ترجمته) .
ولما لهذا الخطاب من أهمية توضح مرامي فرنسا في ابتلاع النفوذ التونسي بعنوان إجراء الإصلاحات التي خطوتها الأولى معاهدة المرسى ننشره توضيحاً لخطى الحماية الفرنسية التي أرادت ذوبان الذاتية التونسية خطوة خطوة، ولولا لطف الله تعالى بالحصول على الاستقلال لاضمحلت الأمة التونسية.
ونصه: قد جئت أنا (أي كامبون) في حق الجمهورية الفرنسوية الحبيبة الحامية للملكة التونسية نشارك حضرتكم في الحزن الذي أصابكم في أعز أوديكم كذا.
ونغتنم فرصة ولايتكم لنحقق احترام وصادقتي لحضرتكم.
ونعرف حضرتكم باليقين أنها تقدر أن تستند على فرنسا كذلك.
والدولة الفرنساوية تعتمد على العلامة المشهورة التي برهنت بها حضرتكم عند الموافقة بجوار عساكرنا.
وإحساس هذه الثقة التامة الموجودة ما بين الدولتين في بعضهم بعضاً يعجل، وهذا عندي محقق، إجراء الإصلاحات اللازمة للغاية.
وما عطل حضرة محمد الصادق على شروعها إلا حضور أجله.
وبحول الله يعود لهذه البلاد غناها وثروتها السابقة.
هذا هو الدعاء الذي ينفتح به ملك حضرتكم، وهذا هو المرغوب الذي دائماً نعين حضرتكم لاتصاله فيما يخصني، وأنا جاعل نصب عيني فائدة العامة من دون التفات إلى اختلاف الجناس لهذه الأمة التي منذ اليوم ترأسها حضرتكم والتي فرنسا تحامي عليها.
وأجاب الأمير علي باي على هذا الخطاب بما لفظه.
نستكثر خير الدولة الفخيمة الجمهورية كثيراً على ما نتحققه من وثيق صداقتهأن وخير جنابكم الذي نتحقق جميل وساطته.
وبجانب هذا الخطاب نجد فقرة أحدهم بهامش نسخة من النزهة الخيرية توضح كيف أن المتولي الأول في عهد الحماية لم يتقدم للإمارة إلا بعد أن توثق منه المقيم العام بأنه ملزم بتوقيع المعاهدة التي تعتزم عقدها فرنسا.
وهذا نص ما كتبه بعضهم في النزهة الخيرية لسنة 1299 تعليقاً على اسم الباي: توفي سيدنا محمد الصادق باشا ليلة السبت السادس عشر من ذي الحجة الموافق للسادس من أكتوبر سنة (1299) على أن عمره تسعون سنة والصواب أن عمره سبعون سنة كاملين كذا) .
وفي صبيحة السبت توجه كامبون وزير فرنسا المقيم بالحاضرة، والسيد محمد الوزير الأكبر، والشيخ العزيز بوعتور باش كاتب إلى سانية علي باي بالمرسى وعزوه في أخيه، وطلبوا منه القدوم معهم إلى باردو، فقدم مع كامبون وأولاده عوض أخيه على شرطها عليه، وقبلها منه وتركا في السراية منفردين ما يقرب من أربع ساعات منفردين للمفاوضة لقبول البيعة من الحاضرين.
ثم قبل الزوال بنصف خرج مصاحباً لكامبون عن يمينه وأجلسه على الكرسي وقبل البيعة قرأها إلياس بالنيابة عنه قبل جلوسه.
هذا التعليق لم يذكر كاتبه اسمه والظاهر انه من المتصلين بالحكومة ومن خواص الصادق باي، وتعليقه هذا يشرح لنا كيف جلس علي باي على دست الإمارة وأنه لم يجلس إلا بعد توثق كامبون من انه لا يمانع فيما يملى عليه في المستقبل.
الأمير علي باي
1299 1320 افتتح عهده باستقالة الوزير محمد بفتح الميم خزنة دار واستقالته مبنية على ما رآه من مرامي فرنسا لابتلاع الذاتية التونسية.
فبعد أسبوع من جلوس هذا الأمير قدم الوزير المذكور استقالته.
جاء في الرائد التونسي عدد 41 سنة 24 بتاريخ يوم الأربعاء 27 من ذي الحجة (1299) ونوفيمبر (1882) تحت عنوان: استعفاء جناب الوزير الأكبر سيدي محمد وبعد الإشادة بأعمال هذا الوزير جاء خبر تولي خلفه: وفي يوم السبت الفارط دعا مولانا جناب أمير الأمراء الشيخ سيدي محمد العزيز بوعتور فقلده الوزارة الكبرى.
وكانت فاتحة الأعمال معاهدة المرسى في أواخر جمادى الثانية من سنة 1300 وفي 8 ماي من سنة 1883.(1/477)
خولت هذه المعاهدة حق الحماية للدولة الفرنسية بفصلها الأول الناص على أن الغرض هو إتمام الحماية لذلك يتكفل الباي بإدخال الإصلاحات الإدارية والعدلية التي ترى حكومة فرنسا الفائدة في إدخالها.
لذلك كانت الحكومة التونسية بالباي والوزير الأكبر آلة تنفيذ لما تراه الحكومة الفرنسية من تقييد للحكومة التونسية بعنوان الإصلاحات.
ولم تمض إلا مدة وجيزة على معاهدة باردو حتى استصدرت الحكومة الفرنسية أمراً من الباي في إنشاء الكتابة العامة كما في منتخبات الرائد التونسي المبدوءة من 1299 إلى 1300 ويوافق التاريخ المذكور لإصدار أمر الكتابة العامة 4 فيفيري سنة (1883) ومن ذلك الحين والسلطة التونسية في ذوبان والسلطة الفرنسية في تركيز وتثبيت إلى أن جاءت الخطوة الحاسمة بالاستقلال.
وهذا الباي من أطول الملوك الحسينيين عمراً إذ عمره (87) سنة فقد ولد سنة (1233) وتوفي سنة (1320) .
ابنه الأمير محمد الهادي باي
1320 1324 كان فيه انكماش عن فرنسا مما أدى إلى نفار بينه وبين بعض رجال دولته.
وقد أراد هذا الأمير الأخذ بيد العلوم الإسلامية فحضر بعض أختام الحديث سنة ولايته، واعتنى بطبع بعضها وهي التي ختم بها سنة (1320) .
الأمير محمد الناصر باي
1324 1340 عاش هذا فترة من التاريخ التونسي تعد من فتراته الانتقالية سواء بالنسبة لتونس خاصة أو بالنسبة للعالم.
أما بالنسبة للعالم فقد نشبت الحرب العالمية الأولى في سنة (1914 1918) التي شاركت فيها أكثرية من دول العالم وانقسم المتحاربون فيها إلى قسمين الحلفاء ودول الوسط تتزعمهم ألمانيا.
ونتج عن هذه الحرب وود دول عربية، وبدأ العالم العربي يعتمد على نفسه دون الاتكال على الخلافة التي انتهى أمرها (1224 م) .
كما أن مبادئ ولسن الرئيس (27) الربعة عشر التي أعلنها في سنة (1918) م والتي منها تقرير المصير حركت مشاعر الحرية.
وأما بالنسبة لتونس فإن هناك نهضة نشأت من عوامل مختلفة منها: التحاك بالغرب.
والنهضة العربية التي أيقظتها الأحداث فأرادت مسايرة ركب الحضارة.
وسقوط الخلافة الذي بعث هزة في تونس حيث أدرك التونسيون أنه لا اعتماد للشعوب إلا على نفسها.
والتأثر بالحركات الوطنية في الخارج.
الحركة التونسية في الخارج التي ابتدأها الشيخ إسماعيل الصفائحي (1337) والشيخ صالح الشريف (1338) ، ومحمد باش حانبة (1336) .
ومن الأحداث في مدة هذا الأمير بدء الحركة السياسية فقد تأسس الحزب الحر الدستوري اختفاء ثم إعلاناً.
ومن بواكير أعماله وفد الأربعين الذي أعلنت فيه المطالب التونسية وأم هذا الوفد الأمير محمد الناصري باي.
وتلكم عن وفد الربعين الزعيم التونسي الجزائري احمد توفيق المدني في مذكراته حياة كفاح فقال ما ملخصه: لم يكن من المنطق السليم أن يذهب الوفد التونسي إلى باريس لعرض رغائب تونس دون أن يقع عمل مشابه لذلك لعرض القضية على سمو باي تونس وإشراكه في المسؤولية.
وتركب الوفد من مجموعة تمثل كافة طبقات الشعب التونسي.
ثم يقول: وأسندت رئاسته لعالم من أكرم العلماء ومدرس من أفضل المدرسين هو الشيخ الإمام محمد الصادق النيفر الذي أشهد أنه أبلى البلاء الحسن وناضل النضال المجيد.. في سبيل القضية التونسية.
وأعلن وفد الأربعين المطالب التونسية في 2 شوال سنة 1338 وفي 19 جوان سنة 1929.
وسافر في شهر جوان من السنة المذكورة الوفد الأول الدستوري الممثل للجنة التنفيذية.
فتشكلت الحركة بشكل حركة منظمة منبعثة للعمل في الداخل والخارج، وقد نبهت المستعمر أن الشعب التونسي ليس بالشعب النائم، إذ أخذ ينقض عنه ما تراكم من تلك القرون المظلمة فأصبح يحسب له حسابه.
الأمير محمد الحبيب باي
1340 1347 من أهم الأحداث في مدته أنه بادر إلى التوقيع على الإصلاحات التي قدمها له المقيم فيما يخص تعويض المجلس الشوري بمجلس يسمى المجلس الأكبر.
والفرق بين المجلسين غير كبير فمجلس الشورى كان يتركب من قسمين فرنسي وأهلي هكذا كانوا يعبرون عن القسم التونسي.
وبتركب القسم الفرنسي للمجلس الشوري من (36) عضواً.
والقسم التونسي المعبر عنه بالأهلي من (16) عضواً يعينون كل أربع سنوات.(1/478)
وانظر أسماء الأعضاء التونسييين في السنة الحادية عشرة من الرزنامة التونسية ص142.
وأما المجلس الأكبر فأعضاؤه الفرنسيون (44) والتونسيون (18) .
وجاء تفصيل تركيب المجلس التونسي المسمى بالأهلي في السنة الأولى للتقويم التونسي ص (47) ومكان التوقيع على هذه الإصلاحات في 13 جويلية سنة (1922) .
وثارت حول هذه الإصلاحات ضجة كبرى بسبب النظرة إليهأن وبسبب دخول بعض الوطينن في انتخابات هذا المجلس.
واسم هذا المجلس (مجلس المملكة التونسية الأكبر) .
الأمير احمد باي
1347 1361 في طالعة ما حدث في مدته تأسيس الديوان السياسي الذي كان الطريق إلى الاستقلال التام.
وابتدأت الحركة التي نتج عنها تأسيس الديوان السياسي وهي ناتجة عن حدثين هامين فيهما طعن للإسلام وطعن للوطن.
الحادث الأول المؤتمر الأفخارستي بعاصمة تونس في سنة (1348) (1930) الذي تبرأ من المشاركة فيه شيخ الإسلام الحنفي ورئيس المفتين المالكي.
والحادث الثاني هو ذكرى الاحتلال لتونس الذي لم يتم.
وفي سنة (1932) أسس الأستاذ الحبيب بورقيبة جريدة (العمل التونسي) .
وتبلورت الحركة الوطنية بتأسيس الديوان السياسي (1352) وفي مارس (1934) .
الأمير المنصف باي
1361 1362 هو أول أمير خلع حياً من الأمراء الحسينيين خلعته السلطة الفرنسية إثر دخول الحلفاء إلى تونس، ونفي إلى الخارج.
ويمتاز هذا الأمير بأنه تزعم الحركة الوطنية في مدة إمارته.
وتوفي في منفاه في (بو) سنة (1367) (1948) .
الأمير محمد الأمين باي
1362 1376 جرى في عهده كثير من الأحداث حيث إن الشعب التونسي كان شعباً ناضجاً فمن أهم هذه الأحداث.
نهضة الزيتونة
فقد تقدمت الزيتونة التي أصبحت تتمتع بمثل ما تتمتع بع بقية المؤسسات التعليمية لأنها كان منظوراً إليها بعين غير العين التي ينظر بها إلى المؤسسات المضطلعة بمهمة تعليمة كبرى.
الاستقلال الداخلي
وقامت في أيامه الثورة التونسية بالمقاومة المسلحة.
وبعد جهاد محكم نالت تونس استقلالها الداخلي إذ أعلن منداس فرانس رئيس الحكومة الفرنسية استقلال تونس الداخلي، في 30 ذي القعدة سنة (1373) وفي 31 جويلية (1954) .
وأعقب إعلان الاستقلال الداخلي تكوين وزارة تفاوضية لإرساء الاستقلال الداخلي ونجم عن ذلك الحركة اليوسفية لمقاومة الوضع الجديد، ولكنها لم تعمر طويلاً.
الاستقلال التام
وأعلن الاستقلال التام في 7 شعبان (1375) و20 مارس (1956) .
افتتاح المجلس التأسيسي
وفي 26 شعبان 1375 وفي 8 أفريل 1956 اجتمع المجلس التأسيسي لسن دستور البلاد التونسية.
وهو أول مجلس شعبي في البلاد التونسية، وكان يوم افتتاحه يوماً مشهوداً.
وانتخب الرئيس الحبيب بورقيبة رئيساً له.
وكان من مبادراته أنه أعلن في أول فصوله الأولى أن تونس دينها الإسلام ولغتها العربية.
ولكون المجلس التأسيسي أول مجلس انتخابي في هذه الديار اعتنت بذلك الصحافة اعتناء زائداً.
من ذلك أن جريدة الزيتونة استجوبت عدداً من المرشحين لإبداء آرائهم في هذا الحدث العظيم في تاريخ تونس، وفيما سيقدمه هذا المجلس.
وكان من المستجوبين المحقق لهذا الكتاب محمد الشاذلي النيفر، وقد ركز في إجابته على أن يكون الدستور التونسي كما يأتي.
(لا مناص من أن يكون الدستور التونسي متماشياً مع مقتضيات الزمن كما انه يربط قافلتنا بالعالم الإسلامي والعالم العربي، ورائده الإسلام) .
الزيتونة عدد 8 من السلسلة الجديدة.
أول وزارة العهد الاستقلالي
تشكلت أول وزارة في عهد الاستقلال برئاسة الرئيس الحبيب بورقيبة وهي أول وزارة تضم ستة عشر وزيراً.
وكان وكيل رئيس الحكومة الأستاذ الباهي الأدغم.
وكان ذلك (في 4 رمضان 1375) و (15 أفريل 1956) .
وتم على يدها في أوائل عهدها تركيز الذاتية التونسية في الديبلوماسية، والمن والجيش، والاقتصاد والمالية، مما طوى لها مراحل في أمد قصير، ولولا تلك الخطوات الجزيئة لما تم ذلك فإن الوزارة الاستقلالية استثمرت بعض المواقف فتوسعت في فهم وثيقة الاستقلال، وبذلك انقلب الوضع رأساً على عقب بالنسبة للدولة الحامية فانفلت زمام المر من يدها.(1/479)
وأصبت تونس بعد تلك الجرأة السياسية البرعة لا يقيدها قيد في استقلالها على حسب إرادتها لا إرادة الحامية السابقة وهي فرنسا.
إعلان الجمهورية
أرادت تونس استكمال نظامها السياسي المختار علاوة على حريتها التي نالتها بجهادها المتواصل.
ولم يحدث يوم إعلان الجمهورية ما يصاحب عادة الانتقال من نظام إلى نظام منم سفك دماء، وهزات شعبية، إذ جرى إعلان الجمهورية في رحاب مجلس منتخب أعلن بالإجماع الجمهورية وإلغاء الملكية.
وعبر الكثير من الأعضاء في الجلسة التي أعلنت الجمهورية عن آرائهم في الجمهورية يوم الخميس 26 ذي الحجة 1376 وفي 25 جويلية 1956.
وقد ساهم كاتبه في الجلسة التاريخية فعلان الجمهورية بكلمة لخصتها كتابة الأخبار والإرشاد في كتابها الأول: ثقف نفسك في السياسة بما يلي:
فحوى كلمة الشيخ محمد الشاذلي النيفر:
(لقد جعل الإسلام الكلمة للشعب في اختيار من يرتضيه لحراسة مصالحه، والذود عنهأن ولهذا جعل الخلافة شورى، فقد كان المسلمون أحراراً في اختيار خليفتهم.
وقد ربى الإسلام المسلمين على أن يفهموا أن الشورى جزء لا يتجزأ من الحكومة وجزء لا ينفصم من الأمة، حتى أنه قرر مبدأ الشورى في حق من عصمه الله تعالى، وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وإن هذه الأمة حين أخذت طريقها السوي وأنقذت نفسها من استعمار غاشم قد أرادت لنفسها نظاماً يضمن لها أن تكون أمة في مصاف الأمم الناهضة بحق وجدارة.
فحين نختار اليوم النظام الجمهوري لا نرمي من وراء ذلك الاختيار إلى أية غاية إلا أن نكيف الدولة ونينيها بناء لا يتسرب إليه الخلل على تعاقب الأيام) .
وفي تلك الجلسة التاريخية أصدر المجلس القومي التأسيسي برئاسة جلولي فارس رئيس المجلس القومي التأسيسي القرار التالي المتضمن لإعلان الجمهورية وانتخاب رئيس لها وهو فخامة الرئيس الحبيب بورقيبة.
بسم الله الرحمن الرحيم
نحن نواب الأمة التونسية أعضاء المجلس القومي التأسيسي بمقتضى ما لنا من نفوذ كامل مستمد من الشعب.
وتدعيماً لأركان استقلال الدولة وسيادة الشعب.
وسيراً في طريق النظام الديمقراطي الذي هو وجه المجلس في تسيطر الدستور.
نتخذ باسم الشعب القرار التالي النافذ المفعول حالاً: أولاً: نلغي النظام الملكي إلغاء تاماً.
ثانياً: نعلن أن تونس دولة جمهورية.
ثالثاُ: نكلف رئيس الحكومة السيد الحبيب بورقيبة بمهام رئاسة الدولة على حالها الحاضر ريثما يدخل الدستور في حيز التطبيق ونطلق عليه لقب رئيس الجمهورية التونسية.
رابعاً: نكلف الحكومة بتنفيذ هذا القرار وباتخاذ التدابير اللازمة لصيانة النظام الجمهوري كما نكلف كلاً من رئيس المجلس والأمين العام لمكتب المجلس والحكومة بإبلاغ هذا القرار إلى الخاص والعام.
أصدرناه في قصر المجلس بباردو يوم الخميس في 26 ذي الحجة سنة 1376 وفي 25 جويلية سنة 1957 على الساعة السادسة مساءً.
جلولي فارس رئيس المجلس التأسيسي ختمت الملكية بتونس في آخر سنة 1376 وانتقلت البلاد إلى العهد الجمهوري برئاسة فخامة الرئيس الحبيب بورقيبة رئيسها الحالي أجرى الله على يديه الخير موفقاً لما فيه رضاه بنهضة إسلامية لهذه البلاد مركز الإشعاع الإسلامي.
الوزارة التونسية
رأت البلاد التونسية تقلبات متعددة في أطوار مختلفة فبعد أن كانت عضواً في الخلافة الإسلامية سواء في الطور الأموي، أو الطور العباسي استقلت استقلالً داخلياً من الخلافة العباسية، إلى أن انفصلت عن الخلافة وأصبحت دولة تناوي الدولة العباسية وفي ذلك الطور كان هيكل الدولة مكتملاً بكل رجال الدولة.
وجاءت صنهاجة بنظامهأن وكذلك الدولة الحفصية إلى أن رزحت تونس تحت الحماية الإسبانية، ثم جاءت الدولة العثمانية فأصبحت البلاد التونسية ولاية عثمانية ففقدت المقومات التي للدولة، ومنها الوزراء.
ثم أخذت تونس تسترجع سيادتها في البوتقة العثمانية إلى أن تكونت الدولة التونسية بالإمارة والوزارة والمعروف أن الوزارة المتصلة بالعهد الحاضر ابتدأت في إمارة الأمير علي بن حسين باي الذي تولى الإمارة من سنة (1172) إلى سنة (1196) .(1/480)
ومن المفيد ذكر رؤساء الوزارات بتونس منذ عادت الوزارة في تونس إلى العصر الذي نعيشه اليوم وهو العام الأول من القرن الخامس عشر (1401) .
مدة الولاية سنة الوفاة 1 مصطفى خوجة 1172 1196 1215 2 يوسف صاحب الطابع 1196 1230 استشهد في 1230 3 العربي رزوق أول وزير في العهد التركي من أبناء البلاد 1230 1238 قتل سنة 1238 4 حسين باش مملوك 1238 1245 1274 5 شاكير صاحب الطابع 1245 1253 قتل سنة 1253 6 مصطفى صاحب الطابع 1253 1256 1277 7 مصطفى خزاندار 1256 1290 1295 8 خير الدين باشا 1290 1294 1308 9 محمد خزندار (1) 1294 1295 10 مصطفى بن إسماعيل 1295 1298 1327 11 محمد خزندار (الوزارة الثانية) 1298 1300 12 الشيخ محمد العزيز بوعتور 1300 1325 1325 13 محمد بن فرحات الجلولي 1325 1326 1327 14 يوسف جعيط 1326 1333 1333 15 الطيب بن حسين الجلولي 1333 1340 16 مصطفى دنقزلي 1340 1345 1345 17 خليل أبو حاجب 1345 1350 1948م 18 الهادي الأخوة
13501932م 1942 م
19 محمد شنيق (1)
13621943 م
20 صلاح الدين البكوش (1) 1943م 1947م 21 مصطفى الكعاك 1947 1950 22 محمد شنيق (2) 1950م 1952م 23 صلاح الدين البكوش (2) 1952م 1954م 24 محمد الصالح مزالي 1954م 1954م وفي المدة التي استقالت فيها وزارة محمد الصالح مزالي إلى المدة التي تشكلت فيها وزارة التفاوض كان هناك موظفون يباشرون المهمات الوزارية إلى أن تشكلت الوزارة التفاوضية برئاسة: 25 الطاهر بن عمار (1) 8 ذي الحجة 1373 و7 أوت 1954 م.
وهي أول وزارة تونسية صرفة تتركب من عشرة وزراء وهي التي تولت المفاوضة مع الحكومة الفرنسية في شان الاستقلال الداخلي.
وكان التفاوض المؤدي إلى حل الأزمات مع رئيس الديوان السياسي الحبيب بورقيبة.
ورجع الرئيس إلى تونس 10 شوال 1374 وفي غرة جوان 1955 م.
وفي 29 المحرم 1375 و17 سبتمبر 1955 م تألفت وزارة التفاوض الثانية من: 26 الطاهر بن عمار (2) .
وتركبت من أثني عشر وزيراً.
وسعى الديوان السياسي في إتمام خطواته الحاسمة لنيل الاستقلال التام فاستؤنفت المفاوضات إلى أن انتهت بالاستقلال التام فغي التاريخ المتقدم، وبذلك أنفسح الجو أمام العمل، فلهذا تكونت الوزارة الاستقلالية.
وقد تشكلت في 4 رمضان 1375 و14 أفريل 1956 م.
وهي تتركب على الصفة الآتية: 27 الرئيس الحبيب بورقيبة.
وزير أكبر رئيس الحكومة ووزير الدفاع والخارجية.
والأستاذ الباهي الأدغم وكيل رئيس الحكومة.
الوزارة التونسية في العهد الجمهوري
ونظمت الوزارة التونسية في العهد الجمهوري بالقانون الصادر في 30 ذي الحجة سنة 1376 وفي 29 جويلية سنة 1957 م بإثر إعلان الجمهورية.
واقتضى هذا التنظيم المعلن بإثر إعلان الجمهورية حذف أسماء الوزارات وعوضت بكتابات للدولة وأصبح المجلس تحت رئاسة فخامة رئيس الجمهورية.
وفي 20 جمادى 2 سنة 1378 و31 ديسمبر 1958 م وقع تعديل في كتابات الدولة فأصبحت اثني عشرة كتابة دولة.
وفي 7 نوفمير سنة 1969 م أرجع لقب الوزارة وكان على رأس هذه الوزارة.
28 السيد الباهي الأدغم الوزير الأول.
ثم في يوم الأحد 16 رمضان 1390 و15 نوفميبر سنة 1970 تشكلت وزارة الاستقرار وكان تأليفها برئاسة: 29 السيد الهادي نويرة الوزير الأول ثم في 8 جمادى الثانية 1400 الموافق ل?23 أفريل 1980 شكل الوزارة: 30 السيد محمد مزالي الوزير الأول.
وهذه الوزارة حققت لتونس أمنيتها الغالية في التقدم بالديمقراطية خطوة عملاقة، علاوة على ما تقدمت فيه من إنجازات تسير بالأمة التونسية إلى مصاف الأمم الراقية.
وفي 1 ذي القعدة 1406، الموافق له 8 جويلية 1986 أقال رئيس الجمهورية الحبيب بورقيبة السيد محمد مزالي من مهامه كوزير أول وأمين عام للحزب وتم تعيين: 31 السيد رشيد صفر وزيراً أول.
وأميناً عاماً للحزب.(1/481)
ثم في 9 صفر سنة 1408، الموافق له 2 أكتوبر 1987 قرر رئيس الجمهورية الحبيب بورقيبة إعفاء السيد رشيد صفر من مهامه كوزير أول، وأمين عام للحزب وتعيين: 32 السيد زين العابدين بن علي وزيراً أول.
وأميناً عاماً للحزب.
ابتدأ عهد التفتح بتخلي الرئيس الحبيب بورقيبة عن مهامه بسبب أن حالته الصحية لم تعد تسمح له بمباشرة الوظائف المنطوقة بعهدته كما أفاد ذلك البلاغ الطبي.
وبمقتضى الفصل (57) من دستور الجمهورية التونسية تولى فوراً منصب رئاسة الجمهورية الوزير الأول سيادة العابدين بن علي، وذلك في 15 ربيع الأول سنة 1408، الموافق له 7 نوفمبر 1987.
وقد قرر سيادته تشكيل الحكومة الجديدة.
33 السيد الهادي البكوش وزيراً أول وفي 26 صفر 1410، الموفق له 27 سبتمبر 1989 تم تعيين من سيادة رئيس الجمهورية.
34 السيد حامد القروي وزيراً أول.
?الملحق (7)
?تاريخ تأسيس جاع الزيتونة
بناء جامع الزيتونة وتسميته
نس بالمؤلف في كلته بناء جامع الزيتونة إلى حاسن بن نعمان الذي تولى إمارة إفريقية من سنة (78) إلى سنة (83) ، لما دخل تونس سنة (79) وعقب على تأسيس حسان بأن عبيد الله بن الحباحاب أتم بناء جامع الزيتونى سنة (141) .
وأخذ المؤلف أن إتمام البناء (141) مما رسم على أحد أقواس الجامع من لفظ (أعلم) الذي عدده بحساب الجمل (141) .
وما أتى به المؤلف هنا من تاريخ الزيتونة اختلط عيه فيه الأمر فغن حسان بن النعمان لم يدخل إفريقيا سنة (79) بل دخل إفريقيا سنة (78) .
ثم إن عبيد الله بن الحبحاب لم يبق بإفريقيا إلى سنة (141) وما أتى به لم يذكره أحد من المؤرخين فكلهم يذكر أنه بناه إما سنة (114) أو سنة (116) وهي سنة دخوله إلى إفريقيا ويدعو المقام إلى تحرير تاريخ تأسيس الزيتونة لن هذا الكتاب مبني على تاريخ أئمته وعلمائه فمن جزيل الفائدة أن نحرر متى كان تأسيسه وما يتبع ذلك.
يتراءى للمؤرخ الباحث تساؤلات عدة منها: من أسسه أولاً؟ تاريخ ابتداء تأسيسه؟ لماذا اختار ابن الحبحاب تونس لبناء مسجده؟ هل كان يسمى جامع الزيتونة منذ تأسيسه؟ 1 مؤسسه: جزم المؤلف أنه حسان بن النعمان وليس له في ذلك ما يستند إليه من شيء صحيح، فهذه كتب التاريخ التي هي الأمهات لتاريخ المغرب تذكر أن الباني هو عبيد الله بن الحبحاب والي إفريقيا.
ونجد هذا المستند التاريخي عند البكري في كتابه المسالك والممالك (- 487) ففيه: "ودور مدينة تونس أربعة وعشرون ألف ذراع، وفي سنة أربع عشرة ومائة بني عبيد الله بن الحبحاب الجامع، ودار الصناعة بمدينة تونس".
ونحو هذا المستند التاريخي في البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب لابن عذاري المراكشي من رجال القرن السابع حين يذكر ولاية عبيد الله بن الحبحاب إفريقيا والمغرب كله: "وهو مولى بني سلول، وكان رئيساً نبيلأن وأميراً جليلاً بارعاً في الفصاحة والخطابة، حافظاً لأيام العرب وأشعارها ووقائعهأن فقدم إفريقيا في ربيع الآخر من سنة (116) وهو الذي بني المسجد الجامع ودار الصناعة بتونس.
وكان أول الأمر كاتباً ثم تناهت به الحال إلى ولاية مصر وإفريقيا والأندلس والمغرب كله.
فاستخلف على مصر ابنه القاسم، واستعمل على الأندلس عقبة بن الحجاج السلولي، واستعمل على طنجة وما والاها من المغرب الأقصى ابنه إسماعيل، ثم عمر بن الله المرادي".
(المغرب ج?1 ص51) .
ومثل ما ورد عن ابن عذاري المراكشي، ورد عن ابن خلدون (-808) ونصه: "عبيد الله بن الحبحاب ثم عزل هشام عبيدة بن عبد الرحمن وولي عبيد الله بن الحبحاب مولى بن سلول، وكان والياً على مصر فأمره أن يمضي إلى إفريقيأن واستحلف على مصر ابنه القاسم، وسار إلى إفريقيا فقدمها سنة أربع عشرة ومائة (114) كذا هنا وبنى جامع تونس، واتخذ لها دار صناعة لإنشاء المراكب البحرية".
(العبر، وديوان المبتدأ والخبر) (ج?4 ص404) .
ونسب ابن الشماع في تاريخه الأدلة البينة النورانية على مفاخر الدولة الحفصية بناء الزيتونة إلى ابن الحبحاب: "وجامعها أي مدينة تونس، مليح الصنعة، حسن الوضع مطل على البحر بناه عبيد اله بن الحبحاب، هو ودار الصناعة (سنة أربع عشر ومائة) وأنفذ إليها البحر".(1/482)
وابن دينار في المؤنس (-1111) اعتمد كلام ابن الشماع وبنى عليه كلامه في الباب الأول الذي عقده في التعريف بتونس، فإنه علق على قول ابن الشماع: "وجامع تونس مليح الصنعة" إلخ..
(قلت) عبيد الله بن الحبحاب كان عاملاً لهشام بن عبد الملك بن مروان على مصر، وأرسله إلى إفريقيا سنة عشر ومائة، فلما وصل إلى القيروان أخرج المستنير من السجن وأرسله إلى تونس والياً عليهأن ولعله لم يدخل تونس.
وتقدمه البكري حيث قال ومدينة تونس دورها أربعة وعشرون ألف ذراع وذكر بناء عبيد الله بن الحبحاب.
لكن صاحب المؤنس بعدما نقل الكثير من كلام المؤرخين المتحدثين عن تونس ذكر رأياً له وهو: وإذا ثبت ما قلته، وتقرر ما نقلته، فالذي صح عندي إنها قديمة من بناء الأوائل، والذي ذكر فتحها هو أقرب من غيره، وأن حسان بن النعمان هو الذي فتحهأن وبني بها مسجدأن وعبيد الله بن الحبحاب زاد في ضخامته كما أن زيادة الله بن الأغلب زاد وضخمه وكملت في أيام بني حفص كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ذكر ابن أبي دينار هذه الخلاصة التي ضمنها رأيه في أن تونس قديمة وأن فاتحها هو حسان بن النعمان وأن جامع تونس المعروف بجامع الزيتونة بناه حسان وضخمه عبيد الله بن الحبحاب وهو الرأي الذي اعتمده صاحب مسامرات الظريف لكنه زاد على ما ذكر ابن أبي دينار شيئاً وهو أن عبيد اله بن الحبحاب زاد فيه سنة (141) كما رسم على أحد الأقواس وهو غلط تاريخي لا يغتفر.
وذكر الوزير السراج في تاريخه الحلل السندسية في الأخبار التونسية في القسم الثالث من الجزء الأول: "وأن عبيد الله بن الحبحاب هو الذي أسس جامع تونس وبناه سنة (أربع عشرة ومائة) .
ومما اتفق فيه أن مفرد (جامع) وتاريخه متفقان".
وخلط المؤلف هنا خلطاً ولم يتحر في التاريخ في هذا الموضع الذي هو أساس تاريخه وهو جامع الزيتونة لأنه أراد أن يؤرخ لأمته وعلمائه البارزين من المفاتي والقضاة كما قدمنا.
فلا بد أن نذكر ما وقع فيه من الخطأ: أولاً: أنه نسب بناءه لحسان معتمداً ذلك تاريخاً مع انه غير صحيح.
وغنما هو رأي لابن أبي دينار صاحب المونس، وإما كافة المؤرخين فإنهم لا يذكرون غلا ما نقلناه عنهم.
ثانياً: ذكره لقدوم عبيد الله بن الحبحاب والياً على تونس على عهد هشام بن عبد الملك بن مروان وأنه أتم بناء جامع الزيتونة سنة إحدى وأربعين مع أن هشام بن عبد الملك انتهت خلافته سنة (125) .
ثالثاً: أن ابن الحبحاب لم يل إفريقيا سنة (141) بل وليها إما سنة (114) أو سنة (116) .
رابعاً: أن التاريخ الذي ذكر وهو (أعلم) حسابه بالجمل (141) وليس هو إشارة إلى التأسيس إذ يبعد أن يكون مراداً به ذلك لن حساب الجمل الآخذ به متأخر.
ومن القريب جداً أن يكون المسجد الذي أسسه حسان بن النعمان غير الذي أسسه ابن الحبحاب، ويؤيد هذا أن هناك مسجداً صغيراً بالنهج المعروف بنهج الخمسة الذي بجانب المدرسة السليمانية يتناقل الناس أنه أقدم من جامع الزيتونة وأمام باب صخرة عظيمة يحكي المعرون من المشايخ أن بعض العملة الذين كانوا بصدد بناء جامع الزيتونة يقسمون أجورهم عليها كالمنضدة، والله أعلم.
وهذا المسجد به أسطوانة عظيمة عتيقة يقوم سقف المسجد عليها وعلى الجدران الأربعة.
وكان لذلك المسجد منارة هدمت قبل الاحتلال بقليل لأنها ساخ بعض جدرانها بالأرض مما أدى إلى ميلانها فأدى ذلك إلى هدمهأن وكان بابها يصعد إليه من تلك الصخرة التي أمام باب المسجد.
وإنما اتخذ حسان مسجداً صغيراً لأنه لم تكن له رغبة في إقامة مدينة بقرب قرطاجنة لأن هذه الأخيرة كانت حصناً للذين يغيرون على إفريقيا فلم تكن له رغبة في عمارتها.
2 تاريخ ابتداء تأسيسه: المشتهر والمتعارف هو أن ابتداء تأسيسه كان في سنة (114) وهو ما اختاره صاحب الحلل السندسية حتى ذهب إلى أن تاريخه بحساب الجمل (جامع) .
إذ الجيم ب?3 والألف ب?1 والميم ب?40 والعين ب?70 114 وهو ما جاء في المسالك والممالك للبكري.
والبكري عمدة الكثير من المؤرخين التونسيين وهو ما ذكره ابن خلدون في كتابه العبر.(1/483)
والتحقيق أن عبيد الله بن الحبحاب لم يدخل إلى إفريقيا سنة (114) بل دخلها سنة (116) كما جاء في فتوح إفريقيا والأندلس لابن عبد الحكم من أن هشام بن عبد الملك كتب إلى عامله على مصر بأن يسير إلى إفريقيا وكان مسيره في سنة ست عشرة ومائة، وابن عبد الحكم من رجال القرن الثالث الهجري، وهو في تاريخه يعتمد السند الذي يعتمده رجال الحديث، فكان ما يأتي به مدعماً.
وسنده هنا عن رجلين هما يحيى بن بكير، والليث بن سعد.
أما يحيى بن بكير فالصواب في اسمه أنه يحيى بن أبي بكير، وذكره ابن يونس في تاريخه بأنه: يحيى بن ابي بكير النخعي أبو زكرياء الكوفي، قدم مصر وحدث بها ومات بها في ربيع الآخر سنة ثلاثين ومائتين (من تهذيب التهذيب ج?11 ص190) .
وهو ليس من رجال الصحاح الستة لكن لم يكن في المجرحين فهو ممن يعتمد عليه في الرواية.
وأما الليث بن سعد فهو الإمام المصري أبو الحارث.
وعرف به ابن حبان في الثقاب بقوله: كان من سادات أهل زمانه فقهأن وورعأن وعلمأن وفضلأن وسخاء وعدداه في الرجال الثقاب العلماء قريب من مالك الإمام الكبير وقد ولد سنة (94) وتوفي سنة (175) .
وقد أطال ترجمته في تهذيب التهذيب في الجزء الثامن من (ص459) إلى (ص465) .
وإذا نظرنا إلى ترجمته نراه معاصراً لعبيد الله بن الحبحاب والي إفريقيا ومؤسس جامع الزيتونة، فإذا ما حدثنا أنه سار إلى إفريقيا سنة (116) وهو الرجل الثبت علمنا علم اليقين أن سنة مسيره هي (116) وبالطبع أن يكون تأسيس الزيتونة تلك السنة ويؤكد صحة ذلك أن الليث بن سعد كان إمام مصر فهو أعلم بأحوالها من غيره.
ولا يمكن أن يغلط في مسير والي مصر إلى إفريقيا إذ كان ذهابه إليها وهو في سن الشباب إذ أنه كان سنة ذهاب ابن الحبحاب ستاً وعشرين سنة مع أنه كان من احفظ أهل زمانه وأثبتهم، فالرواية عنه في هذه القضية تفيد القطع.
وما ذكره ابن عبد الحكم اعتمده المؤرخ الثبت ابن عذاري المراكشي صاحب البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، وهو أحفل الكتب المؤرخة للمغرب والأندلس من القرن الألو الهجري حين وقع الفتح للمغرب إلى نصف القرن السابع.
اعتمده المذكور مبيناً أنه قدم إفريقيا في ربيع الآخر من سنة (116) ونسب إليه كما ذكرنا بناء المسجد الجامع بتونس، وكذلك دار الصناعة والمسجد كما ذكره ابن عبد الحكم.
وعلى هذا الغرار سار ابن الأثير في تاريخه المسمى بالكامل فأتى بخبر مسيره إلى إفريقيا ضمن حوادث سنة (116) : وفيها (أي سنة 116) عزل هشام عبيد الله بن الحبحاب عن ولاية مصر واستعمله على إفريقيا فسار إليهأن وقيل بل ولي عبيد الله بن الحبحاب سنة سبع عشرة وسترد أخباره هناك، وهذا أصح.
(الكامل ج?4 ص219) .
وابن الأثير هو أبو الحسن علي بن ابي المكارم محمد عز الدين الجزري المتوفى سنة (630) ألف كتابه خلاصة لكتب التواريخ التي في مقدمتها تاريخ الطبري، وكتابه الكامل هذا له امتياز خاص، وهو أنه جمع فيه بين تواريخ المشرق والمغرب كما أشار إلى ذلك: (.. والشرقي منهم قد أدخل بذكر أخبار الغرب، والغربي قد أهمل أحوال الشرق فكان الطالب إذا أراد أن يطالع تاريخاً احتاج إلى مجلدات كثيرة وكتب متعددة مع ما فيها من الإخلال والإملال.
فلما رأيت الأمر كذلك شرعت في تأليف تاريخ جامع لأخبار ملوك الشرق، والغرب، وما بينهما ليكون تذكرة لي أراجعه خوف النسيان، وآتى فيه بالحوادث والكائنات من أول الزمان، متابعة يتلو بعضها بعضاً إلى وقتنا هذا) .
وقد انتهى ابن الأثير في تاريخه إلى حوادث سنة (628) .
ووقف تاريخه عند ابتداء دخول سنة (629) .
فهؤلاء العمد في التاريخ نواهم مطبقين على أن ابن الحبحاب كان دخوله إلى إفريقيا في سنة (116) وبذلك لا يمكن ابتداء تأسيس مسجد تونس الجامع الذي سمي بالزيتونة إلا في تلك السنة.
3 لماذا اختار ابن الحبحاب تونس لبناء مسجده؟ اعتاد المؤرخون أن يذكروا الحوادث دون أن يتعمقوا في الأسباب إلا في القليل النادر كما هنا يقتصرون على فقرة قصيرة، وهي أن ابن الحبحاب سار إلى تونس بأمر هشام بن عبد الملك في سنة (116) وأسس مسجدها الجامع وبنى دار الصناعة بها.(1/484)
ولا تنقع النفس بذلك متطلبة لماذا اختار هذه البلدة على غيرها؟ وما الداعي له لتأسيس هذا المسجد الجامع مع أن مقامه بالقيروان؟ والجواب نجده فيما ذكره مؤرخ الفتح الإفريقي عبد الرحمن بن عبد الحكم (- 257) الذي هو أقدم من وصلت إلينا مؤلفاته دون بقية مؤرخي مصر الإسلامية، كذا الفتوح الإفريقية لاتصالها بتاريخ مصر.
وننقل ما ذكره ابن عبد الحكم في مسير ابن الحبحاب، ثم نستخرج منه الجواب المطلوب.
(كان قدوم عبيدة بن عبد الرحمن من إفريقيا سنة خمس عشرة ومائة.
وفيها أمر ابن قطن على الأندلس، وكان ما خرج فيه العبيد والإماء من الجواري المتخيرة سبعمائة جارية، وغير ذلك من الخصيان، والخيل، والدواب، والذهب والفضة، والآنية.
واستخلف على إفريقيا حين خرج عقبة بن قدامة التجيبي.
فقدم على هشام [بن عبد الملك] بهدياه واستعفاه فأعفاه.
وكتب (أي هشام بن عبد الملك) إلى عبد الله (ذكا) بن الحبحاب وهو عامله على مصر يأمره بالمسير إلى إفريقيا وولاه إياها وذلك في شهر ربيع الآخر من سنة ست عشر ومائة.
فقدم عبيد الله بن الحبحاب إفريقيا فأخرج المستنير من السجن وولاه تونس، واستعمل ابنه إسماعيل بن عبيد الله على السوس، واستخلف ابنه القاسم بن عبيد الله على مصر، واستعمل على الأندلس عقبة بن الحجاج، وعزل عبد الملك بن قطن، ويقال بل كان الوالي على الأندلس يومئذ عنبسة بن سحيم الكلبي فعزله ابن الحبحاب، وولي عقبة بن الحجاج) .
يطالعنا كلام ابن عبد الحكم بأمرين هامين أولهما أن ابن الحبحاب لما حل بإفريقيا وزع وظائفها على ذويه من أبناء وأخوة وكأنه يرمي من وراء ذلك إلى أن تكون له خالصة دون غيره لأنه إذا غرس فيها امتنعت طاعتها على غيره.
فقد استعمل ابنه إسماعيل بن عبيد الله على السوس.
وستخلف ابنه القاسم بن عبيد الله على مصر.
وستعمل المستنير على تونس بعد أن أخرجه من السجن، والمستنير هذا الظاهر فيه انه أخو عبيد الله بن الحبحاب كما يفيده كلام ابن عبد الحكم حين حديثه على عبيدة بن عبد الرحمن القيسي الذي تولى إفريقيا قبل الحبحاب.
وهذا ما ذكره في ذلك: حدثنا بن أبي بكير عن الليث قال: وولي عبيدة بن عبد الرحمن إفريقيا في المحرم سنة عشر ومائة (110) .
فلما قدم عبيدة إفريقيا وجه المستنير بن الحبحاب غازياً إلى صقيلة فأصابتهم ريح فأغرقتهم ووقع المركب الذي كان فيه المستنير إلى ساحل أطرابلس.
فكتب عبيدة بن عبد الرحمن إلى عامله علىىأطرابلس يزيد بن مسلم الكندي يأمره أن يشده وثاقاً ويبعث معه ثقة فبعث به في وثاق فلما قدم على عبيدة جلده جلداً وجيعأن وطاف به القيروان على أتان ثم جعل يضربه في كل جمعة مرة حتى أبلغ إليه وذلك أن المستنير أقام بأرض الروم حتى نزل عليه الشتاء واشتدت أمواج البحر وعواصفه فلم يزل محبوساً عنده.
(فتوح إفريقا والأندلس ص92) .
أفاد ابن عبد الحكم أن المستنير بن الحبحاب، فلعله أخو عبيد الله بن الحبحاب.
فالمستنير بن الحبحاب لما ولي ولاية تونس لا نرتاب في أنه اقترح على والي إفريقيا أن يبني بها مسجداً حين رأى مدينة تونس لا تقل عظمة عن القيروان لأنها المدينة الثانية بعد الولاية الإفريقية والمغربية والأندلسية وهي القيروان وكونها المدينة الثانية في العصور الأولى الإسلامية يشير إليه ما ذكره ابن الشماع في الأدلة البينة النورانية على مفاخر الدولة الحفصية.
وكان أبو جعفر المنصور العباسي إذا قدم عليه رسول صاحب القيروان يقول له: ما فعلت إحدى القيروان يعني مدينة تونس، تعظيماً لها.
وخص أبو جعفر المنصور تونس كونها كانت كثيرة الشغب على الولاة، وهو ما أشار إليه البكري في كتابه المسالك والممالك، فبعد أن مدح أهل تونس قال: ومع هذا الفضل الذي فيها هي مخصوصة بالقيام على الأمراء والخلاف للولاة خالفت نحو عشرين مرة (المسالك والممالك ص40) .
فهذه الأهمية لهذه البلاد بعثت عبيد الله بن الحبحاب أن ينشئ مسجداً جامعاً بهأن فهو المسجد الثاني بعد مسجد عقبة بالقيروان وهو إن كان من حيث المساحة أقل من مسجد عقبة إلا انه كما قال ابن الشماع: وجامع تونس مليح الصنعة، حسن الوضع، مطل على البحر.
(الأدلة البينة النورانية ص17) .(1/485)
وثاني الأمرين اتخاذها عاصمة إذ يتجمع من توجيه العناية إلى تونس سواء في اتخاذ مسجدها الجامع أو بناء قصبتهأن أو بناء دار الصناعة بها إلى غير سواء من العنايات البالغة بهذه المدينة مع أنها لم تكن عاصمة أن الرغبة كانت أكيدة في اتخاذ تونس عاصمة للبلاد الإفريقية لأنها تجمع بين الحصانة وبين كونها مرسى من اعظم المراسي مع ما اختصت به من كونها كثيرة الخيرات مدرارة البركات التي لا توجد في غيرها كما حدثنا عن ذلك البكري إذ يصفها بأنها أشرف مدائن إفريقيا وأطيبها ثمرة وأنفسها فاكهة (المسالك والممالك ص41) .
فرغبة ابن الحبحاب في اتخاذها عاصمة يبديها هذا النص عن ابن عبد الحكم.
واستمرت هذه الرغبة في رجال الدولة الأغلبية إذ انتقل إلى سكانها واتخاذها عاصمة لبلاد الإفريقية إبراهيم بن الأغلب في سنة (281) .
وبقي بها إلى أن انتقل إلى رقادة سنة (283) ثم عاد إلى سكناها وإليها انتقل ابنه عبد الله بن إبراهيم وقتل بها.
وبها كانت بيعة ابنه وزيادة الله بن عبد الله بن إبراهيم ولم يمكث بها.
وليست رغبة بني الأغلب مقصورة فيمن ذكر منهم بل كلهم قد اتخذوا بها القصور والبساتين ينتقلون إليها وقد جعلوها منتزهاً لهم كما أفاده البكري حين حديثه على تونس وابن أبي دينار في المونس.
وإنما اتخذها الأغالبة عاصمة ثانية أو العاصمة الأولى في فترات اقتداء بابن الحبحاب الذي كانت رغبته كذلك بدليل تأسيس مسجدها الجامع فإنه لا يبنى مثله في بلد صغير وغنما في بلد له اتساع لأن إحداث مثله لا يكون إلا في العواصم الكبرى وإنما اتخذها الأغالبة كذلك لما رأوا فيها من جديرة بأن تكون عاصمة، إنما حببهم في القيروان لم يجرؤوا على مخالفة عقبة بن نافع ولعل ابن الحبحاب كان يرمي إلى اتخاذها عاصمة لأنها تجمع بين الحصانة في البر، والمكانة البحرية بمرساها الفريد في الخليج التونسي.
فنظرة الأمراء إلى إفريقية مختلفة فعقبة بن نافع يرى أن الاستقرار بإفريقيا إنما يكون في مجمع الجند في مكان يبعد عن البحر ولهذا اتخذ القيروان عاصمة لهذا الصقع الإفريقي بينما أخذت فمرة المراء تختلف عن ذلك من حسان بن نعمان إلى ابن الحبحاب إلى الأغالبة في ترددهم بين سكانها وسكنى القيروان.
وغير الفواطم الاتجاه نحو تونس بإنشاء المهدية التي كانت على البحر فهم قد حققوا أن العاصمة تكون بحرية في عاصمتهم الجديدة.
ورجعت الرغبة في تونس عند افتكاك الموحدين لشواطئ إفريقيا من يد النورمان لأسباب بسطناها في بحث لنا في بيان الأسباب الداعية للموحدين لاتخاذ تونس عاصمة معرضين عن المهدية والقيروان.
ابن الحبحاب والفكرة الاتساعية
حل ابن الحبحاب بإفريقية فانتشرت رجاله من قرابته في كل مكان تحت نظره حتى مصر والأندلس فضلاً عن إفريقيا والمغرب، وأسند هذه الولايات إلى أبنائه وصنائعه وانضاف إلى ذلك انه ركز اهتمامه على تونس في إحداثاته بها.
ومن تلك الإحداثات دار الصناعة لإنشاء أسطول تونسي غزا به في البحر بإمرة حبيب بن أبي عبدة.
واتجهت سياسته إلى سيادة العنصر العربي سيادة مطلقة حتى اعتبر البربر مسلمهم وكافرهم سواء وأنهم فيء مع أن الولاة قبله كانوا يخمسون من لم يجب إلى الإسلام وأما من أجاب إليه فهو بالإسلام قد أندمج في العائلة الإسلامية.
ومسلكه السياسي نحو البربر أوغر الصدور عليه وأدى إلى ثورة كبرى لم تعهد من قبل وكان اتجاهه هذا يقصد من ورائه إيجاد ملك عربي ممتد الأطراف يقوده هو وأهل بيته لكن إهانة البربر أدت إلى عزله حيث لم يقدر على إخماد تلك الثورة.
ونتائج تلك السياسة جعلت المسلمين في المغرب منقسمين إلى عنصرين كلما خمدت فتنتهما دهراً لسبب السياسة الحازمة عادت إلى الظهور من جديد مما تسبب في فتن عدة جرت إلى كوارث ومحن قعدت بالإسلام وأوقفت تقدمه، ثم جرت إلى ضياع الأندلس مع أشياء أخرى.
4 هل كان يسمى مسجد تونس بجامع الزيتونة: نجد قصة طريفة في سبب تسمية هذا المسجد بجامع الزيتونة ذكرها الوزير السراج وهي: وأخبرني بعض إخواني عن سيدي سعيد الشريف رحمة الله تعالى (-1113) أنه حدثهم أن نوحاً عليه السلام لما كان في السفينة على الطوفان وقفت به يوماً وسط البحر فأوحى الله إليه أن تلك بقعة يقال لها: جامع الزيتونة.(1/486)
فلما دخلها الصحابة وحدوا الرهبان في صومعتها لأن صومعة الجامع قديمة كانت للرهبان..
وكان قبلة الصومعة محل محصن بالحجارة والشوك فسأل الصحابة أولئك الرهبان عن سبب ذلك، فقالوا لهم إنا كل ليلة من ذلك المحل نوراً ساطعاً لعنان السماء فرضعنا ذلك صوناً له من الكلاب أن يقذروا في ذلك المحل واتفق أن كان ذلك المحل هو المحراب، (الحلل ج?1 ص558 ط2) .
هذا ما جاء في الحلل السندسية في الأخبار التونسية وهو لا يتصل بشيء من الحقيقة التاريخية حيث جعل تسمية هذا المسجد الجامع منذ الطوفان مع أن تسميته بجامع اليزتونة غير متعارفة في القرون الولى بل المعروف أنه مسجد تونس، ثم إن تلك القصة لا تتصل بالحقيقة بل هي من نسج الخيال.
ثم إنها كلها عليها أثواب الوضع ونشك في نقلها عن الشيخ سعيد الشريف فإنه كان محدثاً راوية والرواة من أهل الحديث لا ينقلون شيئاً إلا مسنداً وسعيد الشريف هذا توفي سنة (1113) كما في إتحاف أهل الزمان لا في سنة (1112) كما في شجرة النور الذكية.
وإذا تتبعنا كتب التاريخ ثبت لدينا أن هذا المسجد لا يسمى بجامع الزيتونة وإنما يعرف (بمسجد جامع تونس) .
ذكر أبو العرب في الجزء السابع الذي خصه بذكر علماء تونس في ترجمة زيد بن بشر فقد روى حين وصفه بأنه أكرم الناس ما يؤيد كرامة نفسه: لقد حدثني سليمان بن سالم وغيره أنه انصرف ليلة من جامع تونس فانقطع شسع نعله فوثب إليه رجل حائك من حانوته أعطاه شسعاً فأصلح نعله وكان رجل معه يحمل قنديلاً فقال لحامل القنديل: قرب القنديل إلي فقربه منه فنظر إلى وجه الحائك ليعرفه فيكافئه، فكان كلما مر إلى المسجد ومعه الجماعة مال إلى الحائك، فيسلم عليه، ويسأله عن حاله شكراً للشسع الذي أعطاه.
(طبقات علماء إفريقيا لأبي العرب التميمي ص256 ط باريس وص226 ط تونس) .
وما جاء في طبقات أبي العرب جاء مثله عن محمد بن حارث في ضمن الطبقات التي لأبي العرب عند ترجمة أبي العرب ليحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري الذي دخل تونس.
قال محمد بن حارث كنت في جامع مدينة تونس مع بعض العلماء من أهلها فقال لي: "هذا الباب وأشار إلى باب مغلق لا يفتح هو باب يحيى بن سعيد وكان يدخل منه إذا كان بها" (طبقات علماء إفريقيا لأبي العرب ج?1 ص26) .
وإذا التفتنا إلى البكري أبي عبيد عبد الله الأندلس لا يذكر إلا أن ابن الحبحاب بنى الجامع بتونس قارناً لبنائه ببناء دار الصناعة.
ولما وصف بناءه قال: وجامع تونس رفيع البناء مطل على البحر ينظر الجالس فيه إلى جميع جواريه (المسالك ص37 وص40) .
وكذلك لم يسمه ابن عذاري المراكشي في كتابه البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب إذ يقول: وهو أي عبيد الله بن الحبحاب الذي بنى المسجد الجامع، ودار الصناعة بتونس (ج?1 ص51) .
وابن عذاري المراكشي من رجال القرن السابع (-695) وكان ينقل عن الرقيق الذي كان حياً سنة (388) .
والرقيق من أهل إفريقية قيرواني عليم بأماكن تونس وتواريخها فلو كان الجامع يسمى بجامع الزيتونة لذكر أنه جامع الزيتونة.
وإذا التفتنا إلى كتب المناقب القديمة التأليف لقدماء الصلحاء بتونس نجد كتاب أبي الطاهر الفارسي حين ذكر مسجد تونس لا يذكره إلا باسم جامع تونس دون جامع الزيتونة، فإنه حين تحدث على ما أحدثه الشيخ أبو محمد محرز بن خلف الصديقي المتوفى سنة (-413) يقول: قال أبو الطاهر: وأعظم شيء أذكره من كراماته الدالة على فضله وولايته أن القرآن كل يوم يقرأ على قبره، ويختم كل جمعة منذ توفي إلى الآن ثماني عشرة سنة، لا ينقطع يوماً لعلة من العلل، لا في صيف ولا في شتاء ولا في شدة ولا في رخاء ولا غير ذلك، وهو دائم إلى الآن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ومن استنباطه رضي الله عنه بمقصورة الجامع الأعظم بتونس حزب السبع لا ينقطع في كل يوم إلى آخر الدهر.
وكان تأليف أبي الطاهر الفارسي في سنة ثلاثين وأربعمائة بعد وفاة الشيخ محرز بن خلف رحمه الله تعالى بسبعة عشر عاماً.(1/487)
وهذه المناقب ليست كالكثير من كتب المناقب التي تكون لغتها سقيمة ثم تكتب في جوانب لا تفيد الكثير من حياة صاحبها بل هي لغة سامية صحيحة التركيب والتعبير مع كونها معرفة بالمترجم له وهو الشيخ محرز بن خلف وذاكرة من مناقبه ما يدل على علمه وأخلاقه وإخلاصه وتأثيره على مخاطبيه، وهي خالية من المبالغات التي يعتني بها أصحاب كتب المناقب فلا تجد فيها شيئاً من ذلك.
تسمية المساجد
لم يسم مسجد تونس باسم جامع الزيتونة لأن المتعارف في تسمية المساجد أن تكون إما باسم البلد كما يقال مسجد الكوفة أو مسجد البصرة أو باسم مؤسسه كمسجد عقبة بالقيروان، وغنما لما تعددت المساجد في البلد الواحد اضطروا إلى تسميتها باسم خاص بسبب اتساع العمران وانتشار السكان لأجل التفرقة بين المساجد.
وهو القريب في مسجد تونس فإنه لما كان منفرداً أطلقوا عليه المسجد الجامع بتونس فحين أحدث مسجد القصبة الذي تم بناؤه سنة (633) وكان يعرف بمسجد قصبة تونس أو مسجد الموحدين سمي حينذاك بجامع الزيتونة.
التسمية ب?"جامع الزيتونة": ولم يشتهر جامع الزيتونة بهذا الاسم في القرون الولى وقصارى ما وقفنا عليه انه اشتهر بأنه جامع الزيتونة في أوائل العصر الحفصي وهو القرن السابع وفي طالعة ما وقفنا عليه (صلة السمط وصلة المرط) لابن الشباط التوزري فإنه يذكره باسم جامع الزيتونة ويعلل التسمية بما ننقله: وسمعت من يقول: إن المسلمين وجدوا بها أي تونس زيتونة، وأرى أنها التي يضاف إليها الجامع، فيقال: (جامع الزيتونة) .
فلما رأوا تلك الزيتونة قالوا: أو قال بعضهم لبعض: إن هذه الزيتونة تونس، فسميت المدينة بذلك (صلة السمط ج?3 الورقة 112 وجهاً) .
وجاءت تسمية جامع تونس بجامع الزيتونة في رحلة العبدري وكان ذلك سنة (688) حين تكلم على الحنايا المجلوب عليها الماء إلى تونس.
وأما الساقية المجلوبة من ناحية زغوان فقد استأثر بها قصر السلطان وجنانه إلا رشحاً يسيراً سرب إلى ساقية جامع الزيتونة يرتشف منها في أنابيب من رصاص، ويستقي منها الغرباء ومن ليس في داره ماء ويكثر عليها ازدحام (رحلة العبدري ص40) .
ومن هذا التاريخ وهو القرن السابع إلى عصرنا الحاضر يذكر المسجد الجامع بتونس باسم جامع الزيتونة فلا تكاد تقف على تاريخ لتونس إلا تجده ذكوراً بذلك.
ومن تلك التواريخ تاريخ ابن القنفذ القسنطيني في كتابه الفارسية في مبادئ الدولة الحفصية المتوفى سنة (809) على التحقيق، في مواضع من كتابه منها ما جاء حين حديثه على السقاية المستنصرية.
وفي هذه السنة سنة (648) بنيت السقاية بشرقي جامع الزيتونة (ص117) .
وذكره باسم جامع الزيتونة عندما تحدث على وفاة أحد أئمته: وفي شهر ربيع الأول الشريف المبارك من عام أحد وسبعمائة (701) توفي الشيخ الفقيه الخطيب الصالح أبو مروان عبد الملك بن الغرغار خطيب جامع الزيتونة (الفارسية ص153) .
واستمر على تسمية المسجد الجامع بتونس بجامع الزيتونة غير واحد منهم ابن الشماع أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد الهنتاتي وكان حياً سنة (861) .
فقد ذكر السقاية التي أحدثها المستنصر بالله الحفصي وبين أنها بشرقي جامع الزيتونة.
واستمرت التسمية على انه جامع الزيتونة فلا يعرف بغير ذلك سواء في التواريخ أو في غيرها.
والقريب في وجه هذه التسمية أنه ربما يكون راجعاً إلى أن البلاد التونسية اشتهرت بزياتينها فتبرك الناس بتسمية مسجدهم بمسجد الزيتونة.
أو أنه عرف بجامع الزيتونة في القرن السابع بدون أن يعرف وجه للتسمية يستند لشيء ثابت معروف ولذلك التمس ابن الشباط في وجه التسمية ما تقدم.(1/488)