(الغلاف)
الجامعة العربية..
كيف تكون جامعة..
وكيف تصبح عربية(1/1)
الجامعة العربية
كيف تكون جامعة ... وكيف تصبح عربية
الطبعة الإلكترونية الأولى
1426 هـ
2005 م(1/3)
? الجامعة العربية ...كيف تكون جامعة وكيف تصبح عربية
? أحمد الشقيري
? الطبعة الإلكترونية الأولى 2005 م
التنقيح والتدقيق الفني واللغوي
عبد العزيز السيد أحمد
أ.د. عزمي الصالحي
تدقيق التنضيد والإخراج :-
المؤسسة العربية الدولية للنشر والتوزيع
هاتف: 5650630-6-962+ فاكس: 5668860-6-962+
ب.إ: arab_book@hotmail.com
جميع الحقوق محفوظة All rights reserved(1/4)
المحتويات
- المقدمة والخلاصة.............................................. ... 7
- الكيان العربي الأول مع الملك عبد العزيز والشريف حسين...... ... 17
- بريطانيا العظمى أعطت إشارة البدء ............................ ... 31
- مشاورات الوحدة العربية مع العراق وشرق الأردن والسعودية ... 47
- مشاورات الوحدة العربية مع سوريا ولبنان واليمن ........... ... 65
- بروتوكول الإسكندرية.. خفاياه وأسراره ...................... ... 83
- وجاء دور أمريكا في الوقت المناسب .......................... ... 103
- السيادة .. هي المصيبة ........................................ ... 121
- جامعة بلا شخصية وميثاق بلا أخلاق .......................... ... 139
- الجامعة تسقط بعد شهرين من مولدها ......................... ... 153
- الجامعة العربية سقطت بين يدي فاروق ........................ ... 173
- الجامعة العربية سقطت في إنشاص وبلودان ................... ... 193
- الجامعة العربية سقطت في صوفر وعالية ...................... ... 215
- الجامعة العربية أضاعت خمس فرص ذهبية ................... ... 245
- الجامعة العربية من غير وازع ولا رادع ....................... ... 281
- الجامعة الاتحادية والجامعة الانفصالية ......................... ... 307
- تغير كل شيء من المحيط إلى الخليج إلا الجامعة العربية....... ... 331
- جامعة عربية جديدة – الخطوة الأولى على طريق الهدف الكبير ... 351
- الجامعة العربية ..كيف تكون جامعة.. وكيف تصبح عربية ..... ... 373(1/5)
الملاحق ........................................ ... 403
- بروتوكول الإسكندرية .......................................... ... 405
- ميثاق الجامعة العربية ......................................... ... 411
- بيان الجامعة العربية باستنكار التقسيم ......................... ... 421
- بيان الجامعة العربية بقبول الهدنة الأولى ...................... ... 425(1/6)
دراسة شاملة عن تطوير جامعة الدول العربية
المقدمة والخلاصة
في 29 مايو1941 أدلى المستر أنطوني إيدن وزير خارجية بريطانيا بتصريح في مجلس العموم البريطاني يجد القارئ نصه الكامل في متن هذا الكتاب مع سرد حوافزه ودواعيه. وكان لهذا التصريح أثر هام في حياة العرب السياسية فقد نتج عنه إنشاء جامعة الدولة العربية.
وقد تلقف قادة العرب ذلك التصريح البريطاني فبدأوا التشاور فيما بينهم لإنشاء الجامعة العربية وكان زمام المبادرة بيد مصر في هذا الشأن فتولت دعوة الدول العربية إلى اجتماعات ومشاورات أفضت في النهاية إلى إنشاء منظمة عربية عرفت باسم "جامعة الدول العربية" وضع لها ميثاق تم إقراره بعد سلسلة من الاجتماعات. وفي ربيع عام 1945 انعقد في القاهرة المؤتمر التأسيسي الذي تم فيه توقيع ميثاق الجامعة العربية بصيغته النهائية من قبل سبع دول عربية.
وتوالى بعد ذلك قيام دول عربية مستقلة حتى أصبحت الجامعة العربية مؤلفة من ثلاث عشرة دولة عربية في عام 1967. وانضمت فيما بعد دول عربية أخرى، كل واحدة منها عند استكمال استقلالها حتى أصبحت الجامعة العربية مؤلفة كما هي الآن من اثنتين وعشرين دولة.(1/7)
تلك هي سيرة نشوء الجامعة العربية في كلمات قليلة، بعد أن مضى على تأسيسها خمسة وثلاثون عاماً.
وقد باشرت الجامعة العربية نشاطها خلال هذه المدة الطويلة فعقدت عدة اجتماعات عادية وغير عادية ومارست شؤوناً عربية متعددة سياسية واقتصادية واجتماعية سردنا بعض تفاصيلها في هذه الدراسة.
وقد واجهت الجامعة العربية، أول ما واجهت، حرب فلسطين عام 1948 وكان للهزيمة العربية في تلك السنة أثر خطير على مصير الجامعة وفاعليتها وثقة الرأي العام العربي والدولي بها.
ثم توالت الأحداث على الجامعة العربية فكشفت في جملة ما كشفت عن ضعف الجامعة ميثاقا وهيكلا وسلوكا.
كما ظهر بصورة واضحة أن الدول العربية الأعضاء لم تمنح الجامعة الاختصاص الكامل لمعالجة القضايا العربية وخاصة الاقتصادية منها.
وعلى العموم فإن الدول العربية قد أولت الأمم المتحدة من المساندة والتأييد ما لم تمنحه لمنظمتها التي هي أولى بالثقة والرغبة في توفير أسباب النجاح، بل إنه حدث غير مرة أن لجأت بعض الدول العربية إلى المنظمة الدولية وتجنبت المنظمة العربية. وكان مقدراً في بعض الحالات أن تتولى المنظمة الدولية حل الخلافات العربية في معزل عن الجامعة العربية.
وكانت الحصيلة النهائية للمقارنة بين الجامعة العربية والأمم المتحدة أن المنظمة الدولية قد حققت في الوطن العربي نشاطات وإنجازات لم تستطع الجامعة العربية أن تقوم بمثلها في وطنها وكان وجه الغرابة في هذا المجال أن الدول العربية قد يسرت للأمم المتحدة القيام بأنشطة لم تسمح بمثلها(1/8)
للجامعة العربية وهي منظمتها، ولا يتسع المجال لذكر الأمثلة على ذلك فإنها معروفة ويكفي أن نعلم أنه ما من عاصمة عربية إلا وفيها مؤسسات للأمم المتحدة تؤدي دورها كاملا من غير قيود ولا عوائق، على حين أن الجامعة العربية لا تملك مثل هذه المؤسسات في عواصم أقطارها، ومكاتب الأمم المتحدة الإعلامية إنما هي مثل واحد على ذلك.
وقد أصيب الرأي العام العربي بخيبة أمل كبيرة إزاء منظمته وشارك عدد من المسئولين العرب في الحملة على الجامعة العربية والتنديد بسلوكها وعجزها عن تحقيق طموحات الأمة العربية حتى بدا لأول وهلة بأن للجامعة العربية شخصية مستقلة عن شخصية الدول العربية وسيادتها وأنها تملك إرادة منفصلة عن إرادة الدول العربية، ثم إن الخلافات التي نشبت بين الدول العربية قد كانت سبباً آخر في الحملة على الجامعة العربية والتهوين من أمرها وتضافرت كل هذه الأسباب في استهانة المواطن العربي بالجامعة العربية والتقليل من شأنها، ولا يغيب عن البال أن قادة العرب الذين عملوا على إنشاء الجامعة العربية قد قادوا حملة إعلامية كبرى في الأصل فأدخلوا في روع المواطن العربي أن الجامعة العربية ستكون قادرة على تحقيق آمال العرب الكبرى في الوحدة وقد سميت المشاورات التي جرت في الإسكندرية لتأسيس الجامعة العربية باسم "مشاورات الوحدة العربية" ولكن ما أن اطلع المواطن العربي على الميثاق الذي صاغه قادة العرب حتى رأوه بعيداً عن تحقيق الوحدة العربية، ولو في خطوات تمهيدية، ذلك أن الميثاق قد قام على أساس التعاون والتنسيق بين الدول العربية في حدود الرضا والإمكان.(1/9)
وقد جرت محاولات متعددة لإعادة النظر في ميثاق الجامعة عبر الأعوام الخمسة والثلاثين الماضية ولكن هذه المحاولات لم تكن جادة ولا عميقة.
وبدلاً من معالجة أمور الجامعة معالجة جذرية فقد لجأت الدول العربية إلى وسائل خاطئة لتصحيح أوضاع الجامعة العربية وكان من أهم هذه الوسائل الخاطئة أن اتجهت الدول العربية إلى تقليد الأمم المتحدة فراحت تنشئ العديد من المؤسسات والمنظمات على نحو ما هو جار في الأمم المتحدة وقد فات الدول العربية أن الأمم المتحدة منظمة عالمية لا إقليمية وأنها تتحمل مسؤوليات عالمية تتطلب منظمات متعددة ووكالات متخصصة وهذا لا ينطبق على الجامعة العربية.
ومما يجب توكيده أن أبرز مظاهر الضعف والعجز في الجامعة العربية قد تمثل في النواحي الاجتماعية والاقتصادية وإذا كانت الجوانب الاقتصادية لم تلق العناية الكافية في ميثاق الجامعة بسبب أن الدول العربية المؤسسة للجامعة كانت دولا فقيرة تعتمد على العون الأجنبي فإن الثروات العربية الكبرى التي امتلكتها الدول العربية بعد تأسيس الجامعة ـ هذه الثروات كان يجب أن تجد مجالاً لنشاطها في إطار الجامعة العربية بما يجعل الوطن العربي سوقاً عربية واحدة وساحة متكاملة للنشاط الاقتصادي العربي بحيث تصبح الدول العربية منفردة أو في مجموعها قوة اقتصادية لخير الأمة العربية وعزتها وقوتها، وهنا وقعت الدول العربية في خطأ آخر أصاب الجانب الاقتصادي وبدلاً من أن يكون عمل الجامعة العربية قائماً على خطة اقتصادية واحدة تتناول الوطن العربي بأسره والثورة العربية بكاملها فقد(1/10)
تعددت الأجهزة والمنظمات الاقتصادية وبذلك تبددت الجهود وقل الانتفاع بالثروة العربية.
وكان من نتائج هذا التعدد أن أصبح في داخل الجامعة العربية بضع عشرة منظمة ومؤسسة قليلة الجدوى والفائدة، كما تعددت صناديق التنمية في البلاد العربية، وكان الأجدر أن تتجمع كل أموال التنمية العربية في مؤسسة واحدة في إطار الجامعة العربية ويكون الوطن العربي هو الساحة الواحدة للثروة العربية.
وفي هذا المجال فإننا لا نستطيع أن نقاوم الاستشهاد بالإنجازات التي حققتها جماعة السوق الأوروبية وهي أقصر عمراً من الجامعة العربية. فقد استطاعت المنظمة الأوروبية عبر العشرين سنة الماضية أن تجعل من أوروبا الغربية ساحة اقتصادية واحدة ومن الإنسان الأوروبي مواطناً أوروبياً واحداً فضلاً عن أن الأشهر الأخيرة قد شهدت برلماناً أوروبياً واحداً ـ كل ذلك وراء الأمل الأكبر في إقامة أوروبا المتحدة بين دول لا تملك ما نملك من مقومات الوحدة في اللغة الواحدة والتاريخ الواحد والمصير المشترك.
ولمناسبة انتقال الجامعة العربية إلى تونس فقد تصاعدت الأصوات في المحافل العربية الرسمية وغير الرسمية بأن الظروف كلها تلح على إعادة النظر في الجامعة العربية بصورة جدية، حتى تستطيع أن تؤدي رسالتها لخير الأمة العربية. ومما يضاعف في هذا الإلحاح والإصرار أن الظروف التي كانت تسود الأمة العربية يوم نشوء الجامعة العربية قد تبدلت تبدلاً أساسياً في كثير من الأمور الهامة.
من هذه الأمور أن الوطن العربي كانت معظم أجزائه تحت الاحتلال الأجنبي يوم نشوء الجامعة العربية سواء كان هذا الاحتلال فرنسيا أو إيطاليا(1/11)
أو بريطانيا أما الآن فقد بلغت الدول العربية كلها حريتها وسيادتها في المشرق العربي والمغرب العربي على السواء.
ومنها أنه اكتشفت للأمة العربية ثروات طبيعية ضخمة، وفي مقدمتها البترول بعد أن كانت الدول العربية في عداد الدول الفقيرة بل أنها كانت إلى عهد قريب عالة على المعونات الأجنبية وما يستتبع ذلك من سيطرة سياسية. أما الآن فقد أصبح عدد من دول الجامعة يملك ثروة ضخمة لها تأثير كبير على الاقتصاد العالمي، دون أن تؤدي هذه الثروة العربية دورها الكامل في بناء اقتصاد عربي مزدهر وفي دفع الأقطار العربية إلى تنمية اقتصادية تصل بالعالم العربي إلى الاكتفاء الذاتي في الغذاء وهو أول متطلبات الحياة القومية السليمة. وكذلك فإن هذه الثروة العربية كفيلة بأن تبني للأمة العربية قوة عسكرية ذاتية تستطيع بها أن تواجه العدوان بصورة جماعية في إطار خطة متكاملة لبناء القدرة العربية وهذا ما تخلفت الدول العربية عن القيام به في إطار الجامعة العربية، وبقي هذا الجهد إفراديا لا جماعياً.
وفي هذا المجال لا بد من التوكيد بأنه بدلاً من أن تبني الدول العربية الاثنتان والعشرون قوى عسكرية متعددة وتقتني أسلحة متنوعة فإنه ليس صعب المنال على الجامعة العربية في إطار خطة شاملة متكاملة أن تبني قوة عربية ذاتية واحدة يكمل بعضها بعضاً ويكون الوطن العربي ميدانها وساحتها، ولسنا نريد أن نمضي طويلاً في سرد ما تخلفت الجامعة العربية عن إنجازه ولا في تفصيل الإنجازات الكبرى التي كانت تستطيع الجامعة العربية تحقيقها وبلوغها وخاصة أن الأمة العربية لا تعدم وسائل تحقيقها.(1/12)
ويكفينا القول بعد هذه المقدمة الوجيزة أن نقرر بكل صدق وأمانة أن الحاجة تلح على تطوير الجامعة العربية تطويراً جذرياً وأساسياً، سواء فيما يتعلق بميثاقها أو مؤسساتها أو بالاتفاقات أو المعاهدات التي انبثقت عنها.
ويكفينا توكيداً لهذا المعنى أن نشير إلى حقيقة أساسية أنه منذ أنشئت الجامعة العربية قد تغير كل شيء في الوطن العربي إلا الجامعة العربية فقد بقيت على حالها الذي نشأت فيه يوم كانت الأمة العربية فاقدة السيادة الوطنية يسودها الفقر والتخلف والغياب عن الساحة الدولية. وإذا كانت كل الظروف العربية والدولية تدعو إلى تغيير جذري شامل وكامل للجامعة العربية فإن الواجب يلح بأن يكون هذا التغيير مدروساً دراسة علمية حتى تصبح الجامعة العربية أداة أفضل وأقدر على تحقيق آمال العرب في هذه المرحلة الخطيرة التي تمر بها الأمة العربية وخاصة أن الأمة العربية تواجه هذه الأيام أخطاراً أشد مما كان قائماً في الوطن العربي في المرحلة التي تأسست في غضونها الجامعة العربية في أواسط الأربعينات.
ومن أجل جامعة أفضل وأفعل، فقد أعددنا هذه الدراسة الكاملة.. وأنه من حسن حظ صاحب هذه الدراسة أنه واكب الجامعة العربية منذ نشوئها، فقد كان الممثل الشخصي للرئيس السوري الراحل شكري القوتلي طيب الله ثراه، وبهذه الصفة فقد شارك في مشاورات الوحدة العربية التي انعقدت في قصر أنطونيادسي في الإسكندرية لإنشاء الجامعة العربية، وقد واكب مراحل العمل التأسيسي الذي أدى في النهاية إلى توقيع الميثاق... ثم شاءت الظروف فيما بعد، أن يصبح صاحب هذه الدراسة الأمين العام المساعد في الجامعة في عهد أمينها المرحوم عبد الرحمن عزام باشا، واستمر في هذه الصفة في عهد أمينها اللاحق عبد الخالق حسونة باشا.. ثم شاءت الظروف كذلك، فساهم(1/13)
صاحب هذه الدراسة في العديد من اجتماعات مجلس الجامعة حينما كان وزير دولة في المملكة العربية السعودية لشئون الأمم المتحدة.
وتوالت هذه المساهمة في مسيرة الجامعة العربية حينما أصبح صاحب هذه الدراسة ممثلا لفلسطين في مجلس الجامعة وفي مؤتمرات القمة في القاهرة والإسكندرية والدار البيضاء والخرطوم بعد أن مارس صاحب الدراسة واجباته كرئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية.
والقصد من هذا السرد الذي يبدو في ظاهره شخصياً التوكيد بأن هذه الدراسة ليست قائمة على التقييم النظري العلمي فحسب، ولكنها تعتمد على الخبرة والممارسة الطويلة...
وكما يرى القارئ فإن هذه الدراسة التي تبلغ قرابة أربعمائة وخمسين صفحة باستثناء الملاحق تقع في ثمانية عشر فصلاً. وتتألف هذه الفصول من ثمانية أقسام:
القسم الأول: لمحة عن أهداف العرب في إنشاء كيان عربي واحد.
القسم الثاني: المشاورات العربية بين رؤساء الحكومات لاستطلاع الرأي بشأن إقامة جامعة عربية.
القسم الثالث: الصياغات والاقتراحات المتعددة لإنشاء الجامعة وإقرار ميثاقها.
القسم الرابع: تحليل وتقييم ميثاق الجامعة وبيان مواضع الضعف والنقص فيه.
القسم الخامس: الممارسات الفعلية التي كشفت عن عجز الجامعة وتصورها.
القسم السادس: الخلافات العربية وكيف قصرت الجامعة العربية في تسويتها.(1/14)
القسم السابع: دراسة مقارنة بين الجامعة العربية والجماعة الأوروبية.
القسم الثامن: المبادئ التي يجب أن يقوم عليها تغيير الجامعة واستبدال ميثاقها.
وبانتهاء هذه الأقسام الثمانية سنرى دراسة شاملة للجامعة العربية منذ نشوئها إلى يومنا هذا مع بيان الأساس والمبادئ التي يجب أن تقوم عليها الجامعة العربية الجديدة.
ولا يزعم صاحب هذه الدراسة أنها مثالية ولكنها تصلح أساساً لأن تكون ورقة عمل تدور حولها الدراسة والمناقشة.
ولا تخلو هذه الدراسة من جوانب قاسية ومريرة يفتقر لها التردي الذي وصلت إليه حالة القضية العربية من فرقة واضطراب وإخفاق حتى على تحقيق ميثاق الجامعة الذي ليس هو المثل الأعلى ولا ينكر صاحب هذه الدراسة أن الملامح الوحدوية بارزة في هذه الدراسة وإن كانت كالملح في الطعام.
وهذه النظرة الوحدوية كان لا بد منها، ولا يعتذر عنها صاحب الدراسة، ذلك أنه بعد خمسة وثلاثين عاماً من عمر الجامعة أصبح لا بد من مسحة وحدوية تأخذ بها الجامعة العربية.
فإن لم تفعل الجامعة ذلك في هذه الأيام فمتى تفعل؟ ومتى تبدأ الأمة العربية خطوة وحدوية إن لم تبدأها اليوم، ما دام قادة العرب أنفسهم لا يفترون عن إعلان الوحدة هدفاً مقدساً للأمة العربية يجب تحقيقه عاجلاً أو آجلاً.(1/15)
فهذه هي الفرصة وهذه هي الخطوة الأولى. ونرجو أن تستطيع الجامعة العربية اغتنامها. وكل ما نطمح فيه أن تكون هذه المرحلة المقترحة وحدة كونفيدرالية على الأقل إذا تعذر أن تكون فدرالية. مع أن كل مقوماتها قائمة والدعوة إليها صارخة.(1/16)
الفصل الأول
الكيان العربي الواحد..
مع الملك عبد العزيز والشريف حسين
... في الثاني والعشرين من شهر مارس آذار من عام 1945، انعقد في قصر الزعفران في القاهرة مؤتمر عربي برئاسة رئيس مجلس وزراء المملكة المصرية، إيذاناً بقيام أول كيان عربي رسمي، منذ أن سقط الحكم العربي، وسمي هذا الكيان، شأن أي مولود جديد، باسم "جامعة الدول العربية".
والجامعة العربية، وهي تدخل عامها الخامس والثلاثين، لا تعدو أن يكون "وجودها" في هذه الأيام أمراً مألوفاً على الصعيدين العربي والدولي.. ولكن الواقع التاريخي، أن مجرد قيام جامعة الدول العربية، مهما قيل في خلفيات نشوئها ونشاطاتها وإنجازاتها، سلباً أو إيجاباً، يعتبر أكبر حدث في التاريخ العربي المعاصر، يأتي بعده بلوغ الدول العربية مرحلة الحرية والاستقلال، دولة بعد دولة.. ذلك أن مرحلة الاستقلال، ولا انتقاص لقدرها وخطرها، إنما تتصل مباشرة بحياة هذا القطر أو ذاك، ولكن قيام جامعة الدول العربية، يتصل بالأقطار العربية كلها، وبالأمة العربية بأسرها، لا لهذا الشعب أو ذاك، وباعتبارها مسئولة عن الوطن العربي أجمع لا عن هذا القطر أو ذاك، يفرض نفسه كأكبر الإنجازات العربية في العصر الحديث.(1/17)
وربما كان إدراك هذه الحقيقة قد أصبح اليوم فاتراً بمرور الزمن ولكن حين نستذكر أن قيام الجامعة العربية يعبر بذاته عن الشخصية العربية السياسية التي احتجبت قرابة أربعمائة عام بعد إلحاق الأقطار العربية بدولة الخلافة الإسلامية، تتجسد أمامنا أهمية وجود الجامعة العربية تعبيراً عن الكيان السياسي والقومي والحضاري للأمة العربية، رغماً عن أن الجامعة لم تحقق الكثير من طموحات الأمة العربية ولم ترق إلى مستوى الطاقات والقدرات الهائلة التي أصبحت تملكها الأمة العربية وخاصة منذ بدء السبعينات إلى يومنا هذا.
وإبراز هذه الحقيقة، لا يقصد به التمجيد والثناء، ولكنه يتصل اتصالاً وثيقاً بالتطلع إلى المستقبل بالنسبة إلى الجامعة العربية، فإن مستقبلها هو مستقبل الأمة العربية سواء بسواء.. هذا إذا استقرت عزيمة الدول العربية على الاضطلاع بمسئولياتها القومية بكل جد وصدق وإخلاص.
والجامعة العربية، وإن كانت قد ولدت في ربيع عام 1945، إلا أنه من الثابت أن تطلع الأمة العربية لقيام كيان سياسي عربي، يمثل الأمة العربية بأسرها، يعود إلى ما قبل ذلك التاريخ بزمن طويل.
ولسنا بصدد استعراض الحركة العربية الحديثة وأهدافها في الحرية والاستقلال والوحدة، وقيام الأحزاب والمنظمات العربية منذ أوائل هذا القرن، لتحقيق هذه الأهداف؛ فذلك خارج عن نطاق هذا الكتاب باعتباره موضوعا قوميا شعبيا، إلا إن الكفاح من أجل قيام كيان سياسي عربي موحد، كان هدفا رسميا كذلك، عمل له قادة "رسميون" عرب، لهم صفة دولية، وكانت لهم مع الدول الأجنبية صلات وعلاقات تستهدف قيام هذا الكيان العربي الواحد.. ومن هنا أصبح من الواجب استعراض تلك المرحلة، ولو بصورة موجزة،(1/18)
ذلك أننا نجد فيها البذور الأولى لقيام الجامعة العربية، باعتبارها منظمة دولية لها شخصية مستقلة عن شخصية أعضائها.
والتقرير لا يتناول هذه المرحلة، مدفوعاً برغبة أكاديمية تستهدف الدرس والبحث، ولكن أية دراسة لنشوء الجامعة، والصيغة التي رست عليها كما هي في الميثاق، والحاجة الماسة إلى تطويرها، بحيث تحقق آمال الأمة العربية وتستجيب لأهدافها، في الأمن الجماعي والتقدم الاقتصادي والاجتماعي، وتحرير كامل ترابها الوطني في فلسطين من الاحتلال الأجنبي، كل ذلك يفرض أن نلقي نظرة سريعة على المرحلة الأنفة الذكر، لنسرد وقائعها حسب ترتيبها الزمني.
ولعل أول تصور عربي لقيام كيان عربي دولي واحد، له طابع رسمي، نلاحظ معالمه قبيل الحرب العالمية الأولى بقليل.
في عام 1912 اتصلت الحكومة العثمانية عن طريق واليها بالبصرة شفيق كمالي باشا بالأمير (الملك) عبد العزيز آل سعود، تستطلع رأيه في أوضاع البلاد العربية ومستقبلها، وذلك في محاولة للتقرب من العرب، وللتصدي للدول الغربية الطامعة في البلاد العربية الواقعة في قبضة الدولة العثمانية.. فكتب الأمير عبد العزيز إلى الوالي العثماني يقول "إني أرى أن تدعو رؤساء العرب كلهم، كبيرهم وصغيرهم، إلى مؤتمر يعقد في بلد لا سيادة ولا نفوذ فيه للحكومة العثمانية، لتكون لهم حرية المذاكرة، والغرض من هذا المؤتمر التعاون والتآلف، ثم تقرير أحد أمرين، إما أن تكون البلاد العربية كتلة سياسية واحدة، يرأسها حاكم واحد، وإما أن تقسموها إلى ولايات تحددون حدودها، وتقيمون على رأس كل ولاية رجلاً كفؤاً من كل الوجوه، وتربطونها بعضها ببعض برباط مشترك من المصالح والمؤسسات، وينبغي(1/19)
أن تكون هذه الولايات مستقلة، استقلالاً إدارياً، وتكونون أنتم المشرفين عليها؛ فإذا تم ذلك، فعلى كل أمير عربي، أو رئيس ولاية أن يتعهد بأن يعضد زملاءه ويكون وإياهم يداً واحدة على كل من تجاوز حدوده إن أخل بما هو متفق عليه بيننا وبينكم".
وختم الأمير عبد العزيز رسالته قائلا: "هذه هي الطريقة التي تستقيم فيها مصالحكم ومصالح العرب، وتكون فيها الضربة القاضية على أعدائكم".
وواضح من ذلك أن الأمير العربي قد استهدف ما يلي:
1- الدعوة إلى عقد مؤتمر عربي وذلك هو مؤتمر القمة الحالي.
2- قيام كتلة سياسية واحدة يرأسها حاكم واحد، وذلك هو الدولة العربية الواحدة.
3- أو قيام ولايات مستقلة استقلالاً إدارياً، وعلى كل ولاية رئيسها، مترابطة فيما بينها. وذلك هو نوع من أنواع الاتحاد.
4- وعقد ميثاق التضامن وهذا هو معاهدة الدفاع المشترك.
وبالمقارنة البسيطة، يتضح جلياً أن الأسس التي تصورها الأمير عبد العزيز في مفاوضاته أثناء الحرب العالمية الأولى مع الدولة العثمانية لقيام الكيان العربية الواحد، هي أوسع مدى مما نص عليه ميثاق جامعة الدول العربية بعد أربعين عاماً من ذلك التاريخ.
وبديهي، أنه من غير رغبة في التمجيد والمديح، يبدو لنا أن تلك الشخصية العربية الضخمة، المتوغلة في البداوة والمجردة من وسائل القدرة، إلا البطولة الذاتية، قد تطلعت إلى قيام دولة عربية واحدة، أو فيدرالية عربية مترابطة بالمصالح المشتركة والتضامن القومي، دون أن يعرف ذلك البدوي(1/20)
العظيم شيئاً عن مفهوم الدولة الواحدة، أو عن الاتحاد الفدرالي، أو عن سائر المعاني الأخرى التي يخوض فيها الساسة والمفكرون في هذه الأيام.
ثم جاءت الحرب العالمية الأولى 1914 – 1918 بمقدمتها وتطوراتها ونتائجها، وكان لا بد أن يكون لمصير الأمة العربية دور بارز في توجيه دفة الحرب في اتجاه النصر لهذا الفريق، أو الهزيمة للفريق الآخر.. والوطن العربي يمثل موقعاً استراتيجياً عالمياً فريداً في تاريخ الحروب على مر العصور، وانطلاقاً من هذه الحقيقة قام كل من الفريقين المتحاربين بمبادرات مكثفة لكسب ود العالم العربي ولجره إلى هذا المعسكر أو ذاك.
وشهدت تلك الحقبة نشاطاً دولياً بارزاً تجسد في مفاوضات واتصالات سياسية لحمل الأمة العربية على تحديد موقعها وموقفها من الحرب، وبذل الفريقان المتحاربان وعوداً مغرية تضمنتها تصريحات ومراسلات رسمية، تؤكد حق الأمة العربية في حريتها واستقلالها وسيادتها، والسعي لإقامة كيان عربي دولي واحد، بعد أن تضع الحرب أوزارها.
وانقسم قادة العرب، إلى مدرستين سياسيتين، أحداهما انحازت إلى الاحتفاظ بولائها للخلافة العثمانية خوفاً من الدول الأوروبية التي كانت طامعة في اقتسام مخلفات الدولة العثمانية، والثانية انحازت إلى معسكر الحلفاء وعلى رأسهم بريطانيا العظمى، خوفاً من أن يعمل العثمانيون في حالة انتصارهم على "تتريك" الأمة العربية وطمس وجودها القومي.
والواقع أن الخلاف العربي حول تحديد الموقف من الحرب العالمية الأولى كان يشمل كل مواطن من الوطن العربي، مسئولاً كان أو غير مسئول، فإن الشريف حسين وأولاده، مثلاً، وهم الذين اختاروا السير في معسكر الحلفاء، كانوا في بداية الأمر مختلفين فيما بينهم: أين يكون موقعهم(1/21)
من الحلفاء، وكان الأمير (الملك) فيصل، والأمير (الملك) عبد الله، ولدا الشريف حسين، يقفان على طرفي نقيض في هذا الخيار؛ وكان والدهما الشريف حسين، حائراً بينهما؛ ذلك أن الأمير فيصل كان يبدي مخاوفه من الانضمام إلى الحلفاء، على حين كان الأمير عبد الله يخالف هذا الاتجاه، ويرى أن الفرصة مواتية للانحياز إلى جانب الحلفاء طمعا في إقامة الدولة العربية بعد انتهاء الحرب.
وفي إطار هذا الخلاف العميق بين هاتين المدرستين أصبحت إقامة الكيان العربي الدولي محور مفاوضات رسمية، عربية عثمانية، وعربية بريطانية؛ وعلى امتداد السنوات الأربع التي مرت في عمر تلك الحرب، كانت الدبلوماسيات الدولية مشغولة في إصدار التصريحات التي تدعو إلى تحرير الأمة العربية وتمكينها من تقرير مصيرها بنفسها.
فعلى صعيد الدولة العثمانية، وضعت اتفاقية رسمية بين الجانب العربي والدولة العثمانية تمنح الأقطار العربية درجة عالية من الحكم الذاتي، وقد وقع على هذا الاتفاق عن الجانب العربي "السيد عبد الكريم الخليل رئيس المنتدى العربي ومعتمد الشبيبة العربية" وعن الجانب العثماني طلعت باشا وزير الداخلية العثماني، ومن كبار رجال الحزب يوم ذاك، وهو حزب الاتحاد والترقي.
ثم تطورت المفاوضات العربية التركية إلى مرحلة أرقى، في اتجاه الفدرالية العربية التركية، تقوم بموجبها ملكية مزدوجة تركية عربية، ويكون مركز الحكومة العربية مدينة حلب.. واقترح آنذاك أن تسمى "الدولة العربية التركية" وتتألف من اتحاد بين دولتين مستقلتين هما الأناضول التركي "وعربستان" وهو الاسم السائد يوم ذاك عن الأقطار العربية.(1/22)
وكذلك فقد تناولت المفاوضات التركية شكل الحكم في الدولة الاتحادية الجديدة، وأن تكون على غرار الاتحاد بين النمسا والمجر.. وكان من المفاوضين العرب في تلك الحقبة.. محمود شوكت باشا العراقي العربي، الذي اشترك بقواته العسكرية في خلع السلطان عبد الحميد، وعزيز علي باشا المصري أحد القادة العسكريين بين الكبار في الجيش العثماني.. وقد عرف القادة العرب الذين عملوا في هذه المفاوضات، بالفدراليين العرب، حسب التعبير الشائع يوم ذاك في الأدب السياسي القومي.
أما على صعيد الحلفاء فقد كان الكيان العربي، كذلك، محور المفاوضات بين القيادات العربية في الشام والعراق والحجاز، ممثلة في الشريف حسين أمير مكة من جانب، ودول الحلفاء من الجانب الآخر.. وقد وردت تفاصيل المفاوضات في الوثائق التالية:
1- مراسلات حسين – مكماهون، وقد بلغت عشر رسائل ابتداء من 14 يوليو (تموز) 1915 إلى 10 مارس (آذار) 1916 وهي رسائل مفصلة مطولة، تؤلف في مجموعها من ناحية دولية تحالفاً عسكرياً وسياسياً بين طرفين: العرب والحلفاء.
2- إيضاحات الكوماندر هوجارت باسم الحكومة البريطانية (يناير 1918).
3- التصريح البريطاني إلى قادة العرب السبعة (يونيه 1918).
4- تصريح الجنرال اللنبي قائد الحملة البريطانية في البلاد العربية، إلى الأمير فيصل بن الشريف حسين (أكتوبر 1918).
5- التصريح البريطاني الفرنسي (نوفمبر 1918).(1/23)
ومجمل هذه التصريحات والوثائق الرسمية يؤكد حق العرب في الحرية والاستقلال، وتقرير المصير، وتمكين الأقطار العربية الواقعة تحت السيطرة العثمانية من إقامة الكيان الذي تختاره.
هذه بالإضافة إلى آلاف المنشورات التي كانت تلقيها الطائرات البريطانية، تدعو فيها الأمة العربية إلى الثورة على الدولة العثمانية، وتناشد الضباط والجنود العرب "هلموا للانضمام إلينا، نحن الذين نجاهد لأجل الدين وحرية العرب حتى تصبح المملكة العربية كما كانت في عهد أسلافكم" (يناير 1917).
واعتماداً على ذلك كله، ورغبة في التحرر من السيطرة العثمانية، وتطلعاً إلى قيام الدولة العربية الواحدة، أعلن الشريف حسين الثورة على الدولة العثمانية، وانضم إليه عدد كبير من الضباط والجنود العرب من سائر أرجاء الوطن العربي.
واشتد أوار الحرب، وخاصة في جبهات القتال في الوطن العربي، بانضمام القوات العربية بقيادة الأمير فيصل بن الحسين إلى جانب الحلفاء، مما أدى في النهاية إلى هزيمة الدولة العثمانية، وانتصار دول الحلفاء.. والمراجع الدولية متوافرة في التوكيد بأن الثورة العربية كانت عاملاً حاسماً في انتصار دول الحلفاء في تلك المعركة المصيرية.
وكان الشريف حسين من جانبه، قد أعلن نفسه ملكاً على البلاد العربية، بناء على مبايعة أداها عدد كبير من قادة العرب، واعتماداً على وعود الحلفاء الأنفة الذكر.. وقد جرى تبليغ ذلك إلى ممثلي دول الحلفاء في مكة. وقام بهذا التبليغ بصورة رسمية الأمير (الملك) عبد الله الذي كان يومئذ وزيراً لخارجية المملكة العربية.(1/24)
وفي اليوم التالي جاء الرد من المستر ستورمر وزير خارجية روسيا القيصرية، متضمناً اعتراف روسيا القيصرية باستقلال البلاد العربية، والحسين بن علي ملكاً عليها "مع تحيات جلالة القيصر نيقولا الثاني إلى جلالة الشريف حسين وإلى حكومته".. ولكن الحليفين، بريطانيا وفرنسا، لم يبعثا برد.. واكتفى الكولونيل المعتمد البريطاني في مكة بتقديم التهنئة "الشخصية" إلى الأمير عبد الله ريثما يأتي الاعتراف الرسمي من الحكومة البريطانية، وهو الاعتراف الذي لم يصدر؛ أما الكولونيل بريمون المعتمد الفرنسي، فإنه لم يهنئ لا شخصياً ولا رسمياً.
ولكن الشريف حسين ظل يتصرف بوصفه ملكاً على البلاد العربية؛ من ذلك أنه وجه في آخر مارس 1916 كتاباً إلى "سلالة الأماجد الشهم الهمام الأمير الخطير عبد العزيز بن عبد الرحمن السعود (المغفور له الملك عبد العزيز) بصدد أمر من أمور البلاد، وكان توقيعه "الحسين – شريف مكة وأميرها وملك البلاد العربية"؛ وفي مناسبة أخرى لاحقة في 10 نوفمبر 1916، وجه فيصل بن الحسين كتاباً إلى "جناب المكرم العز الأشم الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن"، وكان التوقيع "بين شريف مكة وملك العرب، فيصل بن الحسين" (1) .
ولكن ذمة التاريخ قد دفعت السفينة العربية إلى اتجاه آخر، فقد انتهى حكم الشريف حسين فيما بعد، وأصبح ملك المملكة العربية أميراً في قبرص، وانطلق الأمير عبد العزيز آل سعود محقق الانتصارات المتوالية واحداً بعد الآخر، حتى أصبح ملك المملكة العربية السعودية تقع تحت سلطاته نظم أقاليم
__________
(1) *كتاب الأستاذ خير الدين الزركلي عن حياة الملك عبد العزيز آل سعود.(1/25)
الجزيرة العربية لتكون متحدة في دولة واحدة لأول مرة، بعد أن سقطت الخلافة العامة في بغداد.
وكان أن توالت أحداث الحرب العالمية الأولى، والثورة العربية تعمل إلى جانب الحلفاء، وانهزمت الدولة العثمانية وتم جلاء القوات العثمانية عن البلاد العربية، وكان الأمير فيصل بن الشريف حسين، بوصفه قائداً للثورة العربية، نيابة عن والده، قد دخل دمشق وسط احتفالات ومباهج تجاوبت أصداؤها في الوطن العربي بأسره، فأصدر منشوراً (5 أكتوبر – تشرين الأول) أعلن فيه "قيام حكومة عربية دستورية مستقلة استقلالاً مطلقاً، شاملة جميع البلاد السورية بحدودها الطبيعية" فيما يعرف اليوم بفلسطين وشرق الأردن وسوريا ولبنان.. وأعلن المنشور أن الحكومة العربية قد تأسست على قاعدة العدالة والمساواة.. "لا تفرق في الحقوق بين المسلم والمسيحي والموسوي"، وتجسد معنى الوحدة العربية على أساس قومي بعيداً عن الطائفية والمذهبية.
وفي السابع من شهر آذار 1919 انعقد المؤتمر السوري بحضور ممثلين عن فلسطين ولبنان وشرق الأردن وسوريا أعلنوا فيه موافقتهم على إقامة "اتحاد سياسي واقتصادي بين سوريا والعراق، لما بين القطرين من صلات وروابط عضوية وتاريخية واقتصادية وطبيعية وجنسية".
وفي اليوم الثاني اجتمع قادة العرب في مؤتمر قومي، أعلنوا فيه تأييدهم وموافقتهم على "إقامة اتحاد مع سوريا سياسياً واقتصادياً" وقد تلاه من شرفة دار البلدية في دمشق السيد توفيق السويدي، من رؤساء الوزارات العراقية فيما بعد، بوصفه سكرتيراً للمؤتمر العراقي.(1/26)
وتألفت أول وزارة للدولة العربية، وكان رئيسها من دمشق، ووزير الداخلية من لبنان، ووزير الخارجية من بيت المقدس، ومدير العدل من لبنان، ومدير المال لبناني متمصر، ومدير المعارف من حلب، ومدير الشرطة من نابلس، ومدير الصحة والإسعاف من زحلة، ورئيس الأركان من العراق، ورئيس ديوان الشورى من دمشق، ومدير الداخلية من بيروت. وكان رأس هذه الدولة حجازياً، هو الملك فيصل بن الشريف حسين من أبناء مكة.
ومارست الدولة سيادتها على شرق الأردن فأقامت فيها حكومة عسكرية، كان من أبرز رجالها جعفر باشا العسكري ورشيد المدفعي من العراق، بالإضافة إلى رجالات البلاد نفسها، ولم يكن الأمير (الملك) عبد الله قد وصل إلى ما يسمى فيما بعد بإمارة شرق الأردن.
ومارست الدولة العربية الجديدة سلطتها على سوريا الداخلية، وكذلك على بيروت، وبعض المناطق في لبنان لمدة محدودة.. أما في فلسطين فقد كانت السلطة العسكرية البريطانية تدير شئون البلاد تحت اسم "إدارة شئون بلاد العدو المحتلة"..
غير أن الحلفاء لم يكونوا صادقين في وعودهم، فقد نكثوا التزاماتهم. وفي 24 يوليو (تموز) عام 1920 زحفت القوات الفرنسية على دمشق وخرج الملك فيصل وحكومته من عاصمة المملكة العربية، ولم يكن مقدراً لها إلا أن تعيش عمر الربيع في الغوطة الفيحاء.
وتوالت المؤتمرات الدولية في سان ريمو وفرساي ولوزان، وتقاسم الحلفاء غنائم الحرب، تحت مظلة الانتداب، فكان نصيب فرنسا سوريا ولبنان، ونصيب بريطانيا شرق الأردن والعراق، أما فلسطين فقد كانت من نصيب بريطانيا، لتصبح فيما بعد نصيب الصهيونية العالمية.(1/27)
وما أن وضعت الحرب غبارها حتى كان الوطن العربي باستثناء اليمن ونجد والحجاز من المحيط إلى الخليج في قبضة الدول الأجنبية: بريطانيا في مصر والسودان وفلسطين وشرق الأردن والعراق وعدن والحزام الشرقي للجزيرة العربية.. وفرنسا في سوريا ولبنان وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا. وإيطاليا في برقة وطرابلس وفزان.
وهكذا نكث الحلفاء بوعودهم وتقاسموا أخيراً تركة الرجل المريض فيما بينهم، كانت التركة هي الوطن العربي في المشرق.. ولم يبق من المملكة العربية وجود إلا رمزها الشريف حسين، الذي كان يعيش في ميناء العقبة.. وعزمت بريطانيا أن تزيل هذا الرمز من الوجود كذلك.
وفي السابع عشر من شهر يونيو "حزيران" 1925 احتجزت السلطات البريطانية الشريف حسين "ملك المملكة العربية"وأبعدته إلى قبرص ليقضي أيامه الأخيرة، ويموت فيها، ثم ينقل جثمانه إلى بيت المقدس ليدفن في جوار الحرم الشريف.
تلك كانت سيرة الكيان العربي في غضون الحرب العالمية الأولى، عاش أملاً كبيراً في ضمير الأمة العربية ثم اغتاله الحلفاء.
ولكن الأمل الكبير ظل كامناً في تراب الوطن العربي قرابة خمسة وعشرين عاماً حتى عاد إلى الحياة من جديد، وتجسد في قيام الجامعة العربية.. وتشاء الأقدار أن يتم ذلك في غمرة الحرب العالمية الثانية.. بعد أن احتجب الأمل في الحرب العالمية الأولى.
وعلى مدى أربعة أعوام (1939 – 1945)، مليئة بالأحداث حافلة بالمفاجآت، سنرى كيف تعامل قادة الحلفاء، ودولتا المحور، مع الأمة العربية، وكيف أفضى الأمر في النهاية إلى قيام بريطانيا بالدعوة للوحدة(1/28)
العربية، السياسية والاقتصادية والثقافية، تجسدت في جامعة عربية، حظها من الوحدة كحظ العطاش في السراب.
والأعراب أكثر الأمم معرفة بالسراب، كم تعللوا ببريقه، وكم لهثوا في طلبه، ويا ويح الذين لم يتعلموا من الأعراب ومن السراب!!(1/29)
الفصل الثاني
بريطانيا العظمى أصدرت إشارة البدء..
وتبعتها أمريكا
حينما كانت الحرب العالمية الثانية تتأرجح سجالاً بين دول الحلفاء من جهة، ودولتي المحور من جهة ثانية، بادرت بريطانيا بإعطاء إشارة البدء بإنشاء الجامعة العربية، وتلقفت الدول العربية هذه الإشارة المفاجئة للعمل في هذا الاتجاه، ولم تكد الحرب العالمية تضع أوزارها حتى أصبحت جامعة الدول العربية قائمة، ميثاقاً وهيكلاً وعملاً، فكيف كان ذلك..
وليس السؤال بحثاً عن التاريخ، ولا سرداً للماضي ، بقدر ما هو استعراض للحاضر وتطلع للمستقبل..
فذلك الماضي لا يزال يعيش بآثاره الباقية في الحاضر، وسيعيش في المستقبل، ما بقيت آثاره الماضية قائمة.
ومن هنا أصبح لا بد أن نعود إلى نشوء الجامعة العربية منذ كانت إشارة البدء..
وقد انطلقت إشارة البدء في أحلك ساعات تلك الحرب الطاحنة حينما كان السؤال الكبير في الوطن العربي، على كل شفة ولسان: وما هو مصيرنا بعد نهاية الحرب.. تماماً السؤال نفسه الذي كان يتردد في ضمير الأمة العربية في الحرب العالمية الأولى.(1/31)
ولعل هذا السؤال كان أشد عمقاً وبعداً في الحرب العالمية الثانية مما كان عليه الأمر في الماضي، ففي الحرب الأولى، لم تستطع الأمة العربية أن تحقق حريتها واستقلالها، ولا إقامة الدولة العربية المرجوة.. بل انتهى أمر البلاد العربية إلى حالة بالغة من السوء والخطورة.. فأضيف إلى التمزق والتجزئة، احتلال هنا، وانتداب هناك، وحماية هنالك.
وقد تجسد ذلك في تمزيق الوطن العربي في المشرق، بعد انفصاله عن دولة الخلافة العثمانية، وفرضت دول الحلفاء الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان، والانتداب البريطاني على إمارة شرق الأردن والعراق.. ووضعت فلسطين تحت الانتداب البريطاني تمهيداً لإنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين يكون مقدمة لقيام الدولة اليهودية. أما باقي الأقطار العربية، باستثناء نجد والحجاز واليمن، فقد كانت واقعة في قبضة الاستعمار الأجنبي، فرنسا في المغرب والجزائر وتونس وموريتانيا. وإيطاليا في طرابلس، وبريطانيا في عدن، وفي السواحل الشرقية للجزيرة العربية.
كان هذا هو حال الأمة العربية حينما نشبت الحرب العالمية الثانية.. تجزئة واحتلالاً.. والأقطار العربية تكافح من أجل حريتها وسيادتها واستقلالها انتظاراً إلى مرحلة أخرى تحقق فيها وحدتها، متمثلة في كيان عربي واحد.. وبكلمة بسيطة واضحة، في دولة عربية واحدة.
وسعياً وراء هذه الطموحات العربية، كان لا بد لقادة الأمة العربية أن يحددوا موقفهم من هذه الحرب العالمية الثانية، هل يقفون إلى جانب دول الحلفاء، أم إلى جانب دولتي المحور ألمانيا وإيطاليا.(1/32)
وكما كان الحال في الحرب العالمية الأولى، فقد انقسم العرب إلى معسكرين: الأول يتجه بعواطفه وتمنياته وآماله نحو دولتي المحور، والثاني يرى الوقوف إلى جانب دول الحلفاء.
وكان المعسكر الأول مؤلفاً من جماهير الأمة العربية وعلى رأسهم عدد وافر من الزعماء والوطنيين والمفكرين الأحرار، وهؤلاء قد أفجعتهم الغزوة الصهيونية في فلسطين، ووطأة الاستعمار في الأقطار العربية الأخرى، وباتوا لا يرون خلاصاً إلا باندحار وانتصار دولتي المحور؛ أما المعسكر الثاني فكان مؤلفاً من عدد من الحكام والمسئولين، يرون أن الغلبة في النهاية ستكون لدول الحلفاء، وأن الوقوف إلى جانبهم في هذه الحرب المصيرية سيجعل لهم اليد الطولى في انتزاع الحق العربي من الحلفاء والوصول بالقضية الفلسطينية إلى تسوية معقولة مقبولة.
وكانت الحرب في مراحلها الأولى حالكة على الحلفاء، فقد استطاع هتلر أن يحقق انتصارات تشبه الأساطير، وأصبحت الجماهير العربية متعلقة بدولتي المحور، وتترقب لهما النصر بين لحظة وأخرى.. وكان عدد من قادة العرب قد لجأ إلى دولتي المحور هارباً من وجه الاستعمار وطامعاً في تحقيق مكاسب قومية لصالح الأمة العربية.
وكانت لدولتي المحور دعوة إعلامية صارخة تصل إلى آذان الجماهير العربية كالبرق الخاطف، على حين كانت الدعوة الإعلامية لدول الحلفاء لا تلقى آذاناً صاغية في قليل أو كثير.
وكانت الوحدة العربية هي المعزوفة الكبرى التي ترددها أجهزة الإعلام الألمانية والإيطالية.. شعوراً منها بأن شعار الوحدة العربية له فعل السحر في نفوس الجماهير العربية.(1/33)
ففي صيف 1940 استمعت الجماهير العربية في المشرق العربي إلى راديو باري الإيطالي وهو يعلن أن من أهداف دولتي المحور السعي لتحقيق الوحدة السورية، ورأى أهل ديار الشام في هذا الكلام حلمهم في أن يعودوا إلى وحدتهم التي عاشوا تحت ظلالها قرونا عديدة..
ولكن "الهجمة" الإعلامية الكبرى جاءت في الثاني من شهر نوفمبر 1943، حين وجه كل من وزير خارجية ألمانيا "رينتروب" ووزير داخليتها "هملر" رسالة إلى قادة العرب المجتمعين في قصر الطيران الكبير، لمناسبة ذكرى وعد بلفور، يستنكران فيها ذلك الوعد المشئوم، ويعلنان "اعترافهما باستقلال العالم العربي ووحدته حسب رغبة سكانه"، وقد وصلت هاتان الرسالتان إلى مسامع الأمة العربية، في يومها، فاجتاحت الوطن العربي موجة عارمة من الابتهاج والتقدير، وانطلقت ألسنة الأئمة والخطباء في كثير من المساجد، بالدعاء لدولتي المحور بالنصر.. خلاصاً من الحركة الصهيونية وتطلعاً لقيام الوحدة العربية متمثلة في الدولة العربية الواحدة.
وكان على دول الحلفاء أن يلقوا بجهدهم الإعلامي في الميدان ليصرفوا الجماهير العربية عن تأييد دولتي المحور، ويعملوا على كسب صداقتهم وتأييدهم كما تم الأمر في الحرب العالمية الأولى، فانبرى المستر أنطوني إيدن وزير الخارجية البريطاني، وكانت بريطانيا يومئذ "العظمى" حقا، فأعلن في 29 مايو 1941 تأييده لقيام وحدة عربية بقوله: "إن لبريطانيا تقاليد طويلة من الصداقة مع العرب، وهي صداقة قد أثبتتها الأعمال وليس الأقوال وحدها، ولنا بين العرب عدد لا يحصى ممن يرجون لنا الخير. كما أن لهم هنا أصدقاء كثيرين.. وقد قلت منذ أيام في مجلس العموم أن حكومة جلالته تعطف على أماني سوريا في الاستقلال، وأود أن أكرر ذلك الآن،(1/34)
ولكني سأذهب إلى أبعد من ذلك فأقول إن العالم العربي قد خطا خطوات عظيمة منذ التسوية التي تمت عقب الحرب العالمية الماضية، ويرجو كثير من مفكري العرب للشعوب العربية درجة من الوحدة أكبر ما تتمتع به الآن، وأن العرب يتطلعون لنيل تأييدها في مساعيهم نحو هذا الهدف، ولا ينبغي أن نغفل الرد على هذا الطلب من جانب أصدقائنا.. ويبدو أنه من الطبيعي ومن الحق وجوب تقوية الروابط الثقافية والاقتصادية بين البلاد العربية، وكذلك الروابط السياسية أيضاً.. وحكومة جلالته سوف تبذل تأييدها التام لأية خطة تلقى موافقة عامة".
وهذا التصريح "الرائع"، حقاً، لا يقل خطورة عن مراسلات حسين – مكماهون التي صدرت عن بريطانيا أثناء الحرب العالمية الأولى، متعهدة بالحرية والاستقلال للبلاد العربية الواقعة في قبضة الدولة العثمانية، وها قد جاءت بريطانيا في الحرب العالمية الثانية لتقدم تصريحاً خطيراً يدعو إلى الوحدة العربية التي كانت تجتازها دول الحلفاء في تلك الفترة المبكرة من الحرب.. فإن هذا التصريح هو تصريح حرب على كل حال.
لقد كانت بريطانيا تجتاز ظروفاً عسكرية رهيبة، ففي الجبهة الأوروبية انهارت فرنسا واستسلمت للقوات الألمانية، بلا قيد ولا شرط، ودول البلقان في شرق أوروبا أصبحت تتساقط واحدة بعد الأخرى تحت أقدام الجيش الألماني بقيادة الجنرال رومل تتجه إلى العلمين، وأصبحت تقرع أبواب القاهرة والإسكندرية، وفي المشرق العربي كانت حركة رشيد عالي في العراق تقض مضاجع بريطانيا، وفي سوريا ولبنان كانت القوات الفرنسية الموالية لدولتي المحور تساند الدعاية الألمانية الإيطالية، وتعطل المجهود الحربي لدول الحلفاء، وفي فلسطين وشرق الأردن كان أهل البلاد ينتظرون(1/35)
اللحظة الأولى للانقضاض على خطوط الحلفاء للخلاص منهم ومن الصهيونية على السواء (1) .
وحينما نعود بالذاكرة إلى تلك الحقبة الرهيبة وأحداثها نجد أن الرأي العام العربي قد "شطب" على دول الحلفاء، وخاصة بعد أن اكتسح هتلر دول أوروبا الشرقية ووصل إلى يوغسلافيا واليونان، وأصبحت قعقعة دباباته تسمع في الوطن العربي، مؤذنة بالخلاص من الاستعمار والصهيونية معاً؛ ويصف الجنرال جلوب باشا قائد الجيش الأردني، في رسالته عن تلك الأيام السوداء "مشاعر العرب التي كانت ترى أن بريطانيا قد انتهت إلى الأبد، وان ألمانيا ستصل خلال أسابيع إلى البلاد العربية.. وحتى القوات الأردنية أصبحت ترى "أن بريطانيا سائرة إلى الزوال وأن ألمانيا ستحل محلنا قريباً".. وفي الدليل العام الذي وزعته القيادة البريطانية على القوات البريطانية، وردت قائمة، طويلة بأسماء الأحزاب والهيئات والنوادي والصحف العربية التي تتعاطف مع ألمانيا، وتترقب انتصار هتلر ساعة بعد ساعة، وأن انتصار ألمانيا معناه تصفية القضية الصهيونية، وتمضي التقارير الرسمية عن تلك الفترة تشير إلى حالة الرعب التي أصابت الجاليات البريطانية في الإسكندرية والقاهرة وفلسطين، حينما كانت الأنباء تحمل أخبار تحركات الجيش الألماني نحو الصحراء الغربية المصرية، وأن البريطانيين أنفسهم لم يعودوا يقفون
__________
(1) * حركة رشيد عالي الكيلاني كانت ثورة على بريطانيا قادها معه عدد من كبار الضباط القوميين. وأسقطت الحكم العراقي برئاسة الأمير عبد الإله الوصي على العرش وأدت إلى هروبه من العراق ومعه الملك الصبي فيصل الثاني، وكان لها أثر كبير في الرأي العام العربي والدولي.(1/36)
بأن جيشهم قادر على زحف المارشال رومل في زحفه الخاطف نحو المشرق العربي.
وقد بلغ من عمق المشاعر العربية في التهليل لانتصارات دولتي المحور والتطلع إلى هزيمة الحلفاء، أن أحداً من المسئولين العرب لم يكن يجرؤ أن يقول كلمة "خير" علنا عن بريطانيا العظمى، فإن التعاطف معها كان ينزل منزلة الخيانة العظمى، تماماً كالتعاطف مع الحركة الصهيونية سواء بسواء (1) ..
كان هذا هو الجو الذي عاشته دول الحلفاء في تلك الحقبة الحالكة، وكان لا بد لبريطانيا أن تبحث عن الكلمة السحرية التي ترفع عنها ذلك الكابوس الرهيب الذي تنوء تحته.. فلم تجد غير "الوحدة العربية" تخرجها من "جراب" السياسة البريطانية لتلوح به للأمة العربية، فالوحدة عندها، هي كلمة السحر، التي تلهب مشاعرها وتؤجج أحاسيسها.
وثمة عاملان مباشران كانا حافزين ساخنين وراء تصريح الوزير البريطاني، أولهما أن ثورة رشيد عالي في العراق والتي استقطبت مشاعر الأمة العربية في كل أقطارها، كانت قد سحقتها القوات البريطانية والأردنية والإسرائيلية، قبل يوم واحد من ذلك التصريح، وكان الهدف المباشر من إصداره هو التخفيف من حزن الجماهير لما أصاب الثورة العراقية التي كانت تتعلق بها الآمال العربية الكبرى، وثانيهما: أن قيادة الشرق الأوسط كانت قد خططت لاحتلال سوريا ولبنان والسيطرة على القوات الفرنسية المرابطة فيها، وهذه كانت موالية لدولتي المحور، وتنفيذاً لهذه الخطة فقد تحركت
__________
(1) * The Seven Fallen Pillars, by gon Kimshi Page36.(1/37)
قوات أردنية وبريطانية وإسرائيلية، كما جرى في الحملة على العراق، إلى سوريا لإخضاع القوات الفرنسية.
وكان أن خطب الأمير عبد الله في القوات الأردنية، في المفرق في الأردن،وهي تتأهب للزحف على سوريا قائلاً لهم: "إن ساعة تحرير سوريا قد دنت، وكان المخلصون من العرب يتوقعون أن يصلح الإنجليز أخطاءهم السابقة، وأن يساعدوا الأجزاء السورية على الاتحاد بعد أن حالت دونها صداقتهم مع فرنسا منذ الحرب العالمية الأولى".
وهكذا فقد انضم موضوع تحرير الأجزاء السورية واتحادها، إلى موضوع الوحدة العربية الذي أعلنه الوزير البريطاني، في محاولة جادة لتعبئة المشاعر العربية إلى جانب قضية الحلفاء.
ولكن التصريح البريطاني لم يثر اهتماما بارزاً في الوطن العرب وبقيت المشاعر العربية إلى جانب دولتي المحور، ويكفي للتدليل على ذلك أن نشير إلى أن عالماً كبيراً وقوراً هو شيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي، كان قد أرسل عبارته الشهيرة التي قال فيها أنه ليس على مصر أن تخوض حرباً لا ناقة لها فيها ولا جمل.
وبعد أسبوع من التصريح البريطاني وبالتحديد في 8 حزيران 1941 اندفعت القوات البريطانية إلى الأراضي السورية اللبنانية فأخضعت القوات الفرنسية التي كانت موالية لحكومة فيشي والتي كانت موالية بدورها لدولتي المحور، فتنفست البلاد الشامية الصعداء وأحست أن الخلاص من الانتداب الفرنسي قد أصبح قريباً، وأخذت المشاعر العربية في سوريا ولبنان تتجه بالعطف نحو دول الحلفاء.(1/38)
ومما تجدر الإشارة إليه، استكمالاً للصورة، أن الجنرال موشي ديان وزير دفاع العدو السابق، قد فقد عينه في الحملتين المذكورتين، على العراق وسوريا، مما جعله يزهو على الدوام في صوره الصحافية، بالضمادة السوداء التي يشدها على عينه المقلوعة (1) .
وكان أن تصاعدت العواطف الوطنية في سوريا حينما أصدر الجنرال كاترو نيابة عن الجنرال ديجول، قائد حركة فرنسا الحرة يومئذ، بياناً أعلن فيه عزم فرنسا على إنهاء الانتداب الفرنسي عن سوريا ولبنان والاعتراف بحقهما في الحرية والاستقلال.. وتبعه في اليوم نفسه بيان صادر من السير مايلر مبسون السفير البريطاني في القاهرة يؤكد فيه باسم الحكومة البريطانية حق سوريا ولبنان بالحرية والاستقلال.
واغتنم زعماء البلاد في سوريا ولبنان الفرصة فأعلنوا قيام الجمهوريتين السورية واللبنانية في خريف 1941.. وفي شتاء 1942 شهدت دمشق وبيروت أول بعثات دبلوماسية على أرضها.
ولكن الاستقلال في سوريا ولبنان قد فتح ملف الوحدة العربية من جديد، وبرزت في الساحة العربية قضية الكيان العربي متمثلاً في دولة عربية واحدة.. وراحت عمان وبغداد تأخذان زمام المبادرة في تقديم الاقتراحات والمشروعات، كما راحت بريطانيا بدورها تتابع مسيرة الوحدة، تحاول أن تحتويها، أو توجهها إلى الوجهة التي تحقق مصالحها.
ففي عمان خرجت الصيحة الأولى لإنشاء سوريا الكبرى (تموز 1940) مبتدئة بحملة إعلامية واسعة، تبعتها دعوة رسمية من قبل الأمير
__________
(1) * وكان من الذين قتلوا في الحملة على العراق أحد مؤسسي عصابة شترن الإرهابية واسمه رازيل ومعه عدد من أفراد العصابة.(1/39)
(الملك) عبد الله نفسه، وتتلخص هذه الدعوة في تأليف دولة واحدة من سوريا ولبنان وشرق الأردن وفلسطين.. وأن يكون نظامها متراوحاً بين الوحدة والاتحاد، على أن يكون للبنان وضع خاص نظراً لظروفه الطائفية، وكذلك الحال بالنسبية لفلسطين لحفظ حقوق الأقلية اليهودية في فلسطين، وأن تكون دمشق عاصمة الدولة، وأن يكون اختصاص الدولة الاتحادية متضمناً شئون الدفاع والمواصلات والاقتصاد والوطني والثقافة العامة والقضاء الاتحادي، مع بقاء الاستقلال الذاتي لكل من الحكومات المحلية.. وقد نص المشروع أن يتولى الأمير عبد الله السلطة في الدولة، بأن يكون ملكاً للدولة المركزية أو رئيساً للدولة الاتحادية.
وفي 16 تموز 1941 وجه الأمير عبد الله دعوة رسمية للمستر ليتلتون عضو وزارة الحرب البريطانية المقيم في القاهرة لزيارة عمان وتبادل الرأي. ورد الوزير البريطاني مبدياً استعداده لزيارة عمان في أقرب فرصة ممكنة، وأعرب في جوابه عن عطف حكومته على النشاط القائم تحقيقاً للوحدة العربية كاملة أو جزئية.. وفي عبارة تتسم بالتحفظ قال: "إن ظروف الحرب القائمة تدعو إلى التريث والتمهل قبل الإقدام على أي عمل خطير من هذا النوع".
وفي أوائل شهر أيلول 1941 قام المستر ليتلتون بزيارة عمان حيث أجرى مباحثات مع الحكومة الأردنية، صدر على أثرها (13-9-1941) بلاغ رسمي أشار إلى المباحثات التي جرت بينه وبين الحكومة الأردنية "حول قضية البلاد الأردنية بصورة خاصة، والقضية العربية بصورة عامة.. وتبين من هذه الأبحاث أنه لا شيء يحول دون تنفيذ الوعود (البريطانية) وإيصال العرب إلى أمانيهم القومية وأن الأمور تتمشى مع مراحلها الزمنية،(1/40)
وأن الخطوة الأولى في هذا السبيل يجب أن تقوم بها الدول العربية نفسها، وأن بريطانيا العظمى ستساعد العرب فعلاً، وبكل واسطة ممكنة للوصول إلى ما يصبون إليه. وأن مصلحتها ومصلحتهم واحدة في هذا الجهاد ضد قوات الظلم والطغيان "والإشارة هنا إلى النازية الألمانية، والفاشية الإيطالية".
وتابع الأمير عبد الله مشروع سوريا الكبرى مع بريطانيا، فكتب إلى المستر ليتلتون مذكرة في موضوع "وحدة سوريا الطبيعية" مستفسراً عما أنتجته زيارته لعمان، وعن رأي المسئولين في لندن، فأجابه المستر ليتلتون في 5-12-1941 جواباً يتسم بالغموض البريطاني قال فيه "ليطمئن سموكم إلى أن الأمور السياسية التي تشيرون إليها هي على الدوام موضع دراسة جدية من قبل حكومة جلالته" ولم يزد الوزير البريطاني على "الدراسة" شيئاً.
وظل الأمير عبد الله يتابع مشروعه بشأن سورية الكبرى، يخاطب بريطانيا تارة، ويخاطب الشعب السوري تارة أخرى.. ومر المشروع في مراحل متعددة تخرج عن نطاق هذا الكتاب.
ورفضت سوريا ولبنان المشروع جملة وتفصيلاً، وانتقل الخلاف إلى المجالس النيابية في بيرون ودمشق، وإلى الدول العربية الأخرى، وخاضت فيه الصحافة العربية سنوات عدة.. وشهد مجلس الجامعة مناقشات ساخنة بشأنه حتى عام 1946 حين أصدرت جامعة الدول العربية بياناً (30 نوفمبر) تعلن فيه تمسك الجامعة العربية بالميثاق، واعتبار مشروع سوريا الكبرى مسألة منتهية.
أما بغداد فقد سلكت سبيلاً آخر.. ذلك أنه بعد أن أخفقت ثورة رشيد عالي، وعاد الأمير عبد الإله على العرش العراقي إلى بغداد، وقامت حكومة عراقية جديدة، أخذ نوري السعيد زمام المبادرة بالدعوة إلى مشروع عرف(1/41)
فيما بعد بمشروع الهلال الخصيب، ففي أوائل عام 1942 زار نوري السعيد القاهرة واتصل بوزير الدولة البريطاني "ريتشارد كيزي" وعرض عليه مشروعه فطلب إليه الوزير البريطاني أن يضعه كتابة، وعاد نوري السعيد إلى بغداد ووضع وثيقة عرفت بالكتاب الأزرق.
وهذا التعبير تقليد بريطاني تستخدمه الدبلوماسية البريطانية، في تسميتها لبياناتها السياسية، ولم يسبق للدول العربية أن أخذت بهذا التقليد.
وكائناً ما كان الأمر فإن مشروع الكتاب الأزرق يتلخص في مرحلتين: الأولى: إنشاء دولة واحدة من سورية ولبنان وفلسطين وشرق الأردن على أن يقرر الأهالي أنفسهم نظام الحكم ملكياً أو جمهورياً، اتحادياً أو فدرالياً، مع شيء من الضمانات للأقلية اليهودية في فلسطين، والحماية للمسيحيين في لبنان.
وفي المرحلة الثانية، يتحد العراق مع دولة سوريا الكبرى، في دولة جديدة – الهلال الخصيب - وهذه تنضم إلى "جامعة دول عربية" تدخل إليها الدول العربية الراغبة في ذلك.. ويكون للجامعة العربية مجلس يدبر شئونها، ويرأسه أحد رؤساء الدول الأعضاء باتفاق بقية الدول المعنية، ويكون المجلس مسئولا عن شئون الدفاع والشئون الخارجية والمالية والمواصلات والجمارك وحماية الأقليات.
ولا يفوت المواطن العربي أن يلاحظ أن هذا المشروع قد أشار إلى "الجامعة العربية" وإلى "مجلس الجامعة واختصاصاته" قبل ثلاثة أعوام من قيام الجامعة العربية، وقبل المشاورات التي سبقت قيام الجامعة، كما سنعرض لها في الفصول المقبلة..(1/42)
ولكن هذين المشروعين، مشروع سوريا الكبرى، ومشروع الهلال الخصيب، لقيا معارضة شديدة لدى الرأي العام العربي، واندفعت الصحافة العربية تندد بالمشروعين وتتهم الداعين إليهما بالخروج والمروق، وشاركت العواصم العربية في هذه المعارضة مشاركة مكشوفة بالتصريحات الرسمية والاتصالات الدولية، وكانت كل من لبنان وسوريا في طليعة المعارضة، تشرحان مساوئ المشروعين وخطرهما على البلدين وهما على عتبة الاستقلال.
وتصدت القيادات الوطنية في سوريا إلى المشروعين من الزاوية القومية فأعلنت أنها مع الوحدة العربية الشاملة، ولكن وحدة الأحرار مع الأحرار، متهمة الأردن والعراق بأنهما لم يبلغا مرحلة السيادة الكاملة، وأنهما لا يزالان تحت النفوذ البريطاني، وأن أي اتحاد معهما من شأنه أن يدخل النفوذ البريطاني على سوريا، بعد أن تخلصت من الانتداب الفرنسي.
وفي غمرة هذا الجدل الساخن حول هذين المشروعين، أدركت بريطانيا أن "الوحدة" التي دعت إليها قد أوجدت انقساماً عميقاً بين الحكومات العربية، وأن المصالح البريطانية لا تتحقق في أي من هذين المشروعين، وأن السير مع عمان وبغداد وحدهما، وترك العواصم العربية الأخرى، يلحق أشد الضرر بالسياسة البريطانية.
وانطلاقاً من هذا الاستنتاج "المنطقي"، رأت الحكومة البريطانية أنه أصبح لا بد من التذكير بموضوع الوحدة العربية من جديد، ولكن في إطار جماعي لا في إطار إقليمي يتجسد في سوريا الكبرى أو الهلال الخصيب.. وتحركت السياسة البريطانية للمرة الثانية. وجاء التحرك البريطاني هذه المرة في وقت ملائم، في أوائل عام 1943، حينما كانت كفة الحرب تميل إلى(1/43)
جانب دول الحلفاء، ففي الرابع والعشرين من شهر فبراير من عام 1943 أثير موضوع الوحدة العربية في مجلس العموم البريطاني فوجه أحد الأعضاء سؤالاً إلى وزير الخارجية البريطاني أنطوني إيدن يتساءل فيه "إذا كانت تتخذ تدابير لزيادة التعاون السياسي بين البلدان العربية في الشرق الأوسط قصد إنشاء حلف عربي في النهاية" وأغلب الظن أن تقديم هذا السؤال كان موحى به من قبل وزارة الخارجية البريطانية كما هي عادة السياسة البريطانية في الأمور الهامة.
وأجاب الوزير البريطاني عن السؤال قائلا "إن الحكومة البريطانية تنظر بعين العطف إلى كل حركة بين العرب لتعزيز الوحدة الاقتصادية والثقافية والسياسية بينهم، ولكن من الجلي أن الخطوة الأولى لتحقيق أي مشروع يجب أن تأتي من جانب العرب أنفسهم، والذي أعرفه أنه لم يوضع حتى الآن مثل هذا المشروع الذي ينال استحساناً عاماً".
وواضح من هذا التصريح، أن الحكومة البريطانية ترى أن مشروعي سوريا الكبرى والهلال الخصيب لم ينالا استحساناً عاماً، وأن الوحدة المطلوبة يجب أن تأتي من العرب أنفسهم وأن تحظى بموافقة العرب الجماعية.
ولم تكن أمريكا في معزل عن الوحدة العربية كما كانت تدعو إليها الحكومة البريطانية، فقد كان ممثلو الولايات المتحدة في البلاد العربية يؤيدون الموقف البريطاني، وفي مرحلة لاحقة، حينما بدأت المباحثات بصورة جدية فيما بين الحكومات العربية لإنشاء جامعة الدول العربية، بعثت الولايات المتحدة إلى الدول العربية بمذكرات رسمية (أكتوبر 1943 – أغسطس 1944) تعرب فيها وزارة الخارجية الأمريكية عن العطف على أماني العرب(1/44)
بالاستقلال، وتبدي الرغبة بأن ترى تدعيم الروابط الاقتصادية والاجتماعية بين البلدان العربية، كما أنها تنظر بعطف إلى التحرك نحو الوحدة، ما دام أي عمل يتفق مع مبادئ ميثاق الأطلنطي، ولكنها تشعر أن الخطوات الأولى نحو الوحدة يجب أن تؤكد تقوية الروابط في الميادين الاقتصادية والثقافية والاجتماعية" وبقيت هذه المذكرات غير معلنة أمام الرأي العام العربي، فقد كان الدور العلني والحقيقي متروكاً لبريطانيا نظراً لخبرتها الواسعة في الشئون العربية.
وقد جاءت هذه التحيات الأمريكية لتدعم التصريح البريطاني، ورأت الدول العربية في السياسة الانجلو – أمريكية إشارة واضحة للبدء في العمل. ورأت القاهرة، بصورة خاصة أن الدور هو دورها وأن عليها أن تأخذ بزمام المبادرة..
ولم تمض إلا ثلاثة أسابيع على التصريح البريطاني، حتى ألقى مصطفى النحاس باشا، رئيس الوزارة المصرية بياناً في مجلس الشيوخ قال فيه: "إنني معني من قديم، بأحوال الأمة العربية والمعاونة على تحقيق آمالها في الحرية والاستقلال، سواء في ذلك أكنت في الحكم أم خارج الحكم وقد خطوت خطوات واسعة صادفها التوفيق، فاتجه الحكم في بعض الأقطار العربية الاتجاه الشعبي الصحيح".
وبعد هذه المقدمة، تابع النحاس باشا بيانه قائلا: "ومنذ أعلن مستر إيدن، تصريحه فكرت طويلا، ورأيت أن الطريق المثلى التي يمكن التوصل بها إلى غاية مرضية هي أن نتناول هذا الموضوع الحكومات العربية الرسمية، وانتهيت من دراستي إلى الآن أنه يحسن بالحكومة (المصرية) أن تبادر باتخاذ خطوات في هذا السبيل، فتبدأ باستطلاع آراء الحكومات العربية(1/45)
المختلفة فيما ترمي إليه من آمال، كل على حدتها، ثم تبذل الجهود للتوفيق بين آرائها ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، ثم ندعوهم بعد ذلك إلى مصر معا في اجتماع ودي لهذا الغرض حتى يبدأ السعي للوحدة العربية بجبهة متحدة بالفعل، فإذا تم التفاهم أو كاد، وجب أن يعقد في مصر مؤتمر لإكمال بحث الموضوع، واتخاذ ما يراه من القرارات، محققا للأغراض التي تنشدها الأمة العربية".
وقد عدد هذا البيان الموجز في عباراته، الدقيق في صياغته، والحريص على اختيار عباراته وكلماته، مراحل العمل لقيام "الوحدة العربية" كما دعا إليها الوزير البريطاني، وكما رآها الرئيس المصري..
وسنرى في الفصول التالية أن بيان النحاس باشا ظل هو دليل العمل للوحدة العربية من 20 مارس 1943، وهو يوم إلقاء البيان، إلى 22 مارس 1945، وهو اليوم الذي تم فيه توقيع ميثاق جامعة الدول العربية.. قرابة عامين كاملين شهدت الأمة العربية خلالهما مشاورات واجتماعات ومؤتمرات، أدت في النهاية إلى قيام أول كيان عربي دولي في العصر الحديث يحمل اسم "جامعة الدول العربية".
ولكننا سنرى في الفصول التالية أن الجامعة العربية قد واجهت، خلال جيل واحد، أربع حروب، فانهزمت في الأولى (1948)، وغابت عن الثانية (1956)، وتفرجت على الثالثة (1967)، وابتعدت عن الرابعة (1973).. وإلى جانب ذلك كله، سنرى أن الجامعة العربية، سارت خطوات، واسعة جيدة، على طريق التجزئة والانفصال، وألقت بالوحدة العربية في سلة المهملات، مع الفضلات..وبديلا عن الوحدة، فقد أصبحت الجامعة العربية "جامعة" حقاً ولكن لقادة التجزئة وحكام الانفصال.(1/46)
الفصل الثالث
مشاورات الوحدة العربية مع العراق ..
وشرق الأردن ..والسعودية
هذا العنوان "مشاورات الوحدة العربية" ليس من صنع قلمي، ولكنه هو التعبير الرسمي الذي ورد في المحاضر الرسمية للمداولات العربية التي سبقت قيام الجامعة العربية ومهدت لتأسيسها (1) .
وفي الخطاب الذي ألقاه النحاس باشا في مجلس الشيوخ في 20 مارس 1943 ردا على تصريح المستر إيدن بإقامة الوحدة العربية، حدد مراحل العمل لتحقيق هذه الغاية، وهي فيما يلي كما وردت في عباراته:
1- أن تتشاور مصر مع الحكومات العربية، كل على حدتها، للتوفيق بين آرائها فيما ترمي إليه من آمال.
2- دعوة الحكومات العربية، فيما بعد، لاجتماع ودي حتى يبدأ السعي لتحقيق الوحدة العربية بجبهة متحدة.
3- عقد مؤتمر عربي عام لإكمال بحث الموضوع، واتخاذ القرارات المحققة للأغراض التي تنشدها الأمة العربية.
وقد بادر النحاس باشا إلى إرسال الدعوات إلى الحكومات العربية، لعقد هذه المشاورات الثنائية بين مصر من جانب والحكومات العربية من جانب آخر، كل بمفردها.
__________
(1) محاضر المشاورات ، الوحدة العربية ، المطبعة الأميرية بالقاهرة.(1/47)
وكان الوقت صيفاً من عام 1943 فاختير قصر انطونيادس في الإسكندرية مقراً لهذه المداولات وبدأت الجولة الأولى من المشاورات بين وفد مصر برئاسة مصطفى النحاس باشا رئيس وزراء مصر، ووفد العراق برئاسة نوري باشا السعيد رئيس وزراء العراق.. استمرت المشاورات على مدى أربع جلسات من 31 تموز (يوليو) – 16 آب (أغسطس) 1943.
وفي الجلسة الأولى تحددت الأسس التي تقوم عليها المشاورات بين النحاس باشا ونوري باشا، وكانت الصيغة كما جاءت في المحضر الرسمي:
"فأرتئي أن يكون التعاون العربي في النواحي المختلفة على الوجه التالي:
أولاً: التعاون السياسي ويشمل الدفاع والشئون الخارجية ويلحق بذلك حماية الأقليات.
ثانياً: التعاون الاقتصادي ويشمل العملة والمواصلات والجمارك والتبادل التجاري بوجه عام.
ثالثاً: التعاون الثقافي والاجتماعي ويشمل التعليم وما يتصل به والتقنين.
وبدأت المداولة بعد ذلك في "الإدارة" التي تحقق هذا التعاون.. وهل تكون إلى جانب الحكومات العربية، حكومة مركزية يعهد إليها بالمسائل المهمة الكبرى، وماذا تكون سلطة هذه الحكومة المركزية وعلاقتها بالحكومات الإقليمية.. أم هل يكون مجلس تنفيذي مكون من مندوبين عن البلاد العربية.. يتفق على إنشائه ومدى اختصاصاته، ويوضع له نظام أساسي، ويكون لقراراته الصادرة في دائرة اختصاصاته قوة تنفيذية..
وتشير محاضر المشاورات أن قضية "الوحدة العربية" قد طرحت على بساط البحث بصورة رسمية في الجلسة الأولى من المشاورات، وان الحوار بين الرئيس المصري والعراقي كان يدور حول ماهية الكيان الذي(1/48)
تتجسد فيه هذه الوحدة، هل يكون على أساس التعاون والتنسيق، أم على أساس "الوحدة" ممثلاً بسلطة قانونية نافذة، واسعة أو ضيقة، حسبما يتم الاتفاق عليه بين الدول العربية.
وتطورت المشاورات في الجلسات الثلاث الأخرى إلى تفاصيل أدق وأشمل.. وكان موقف الوفد المصري موقف الاستطلاع والاستجلاء.. دون أن يبدي رأياً محددا في اتجاه الوحدة أو التعاون..
ولكن الوفد العراقي، والحديث لنوري باشا، قال: "إن اتحاد البلاد العربية بإيجاد حكومة مركزية لا يمكن تحقيقه في الظروف الحاضرة.. بسب الصعوبات الخارجية، وما بين البلاد العربية من تفاوت في الأحوال والاقتصاديات والثقافة.. وإنه لا يمكن تصور حكومة مركزية واحدة للجميع، والبحث وراء هذا ضياع للوقت.
وعند هذه المرحلة من الكلام، نجد محضر المشاورات يقول: "ولهذا رؤي بموافقة الهيئتين (المصرية والعراقية) استبعاد فكرة حكومة مركزية للجميع.. وهذا معناه استبعاد للوحدة الفورية الاندماجية.. وكان هذا أول "قرار"اتخذ على صعيد المشاورات من بدايتها، ومضت المشاورات على أساس هذا القرار إلى نهايتها.
ثم انتقل نوري باشا إلى تقديم اقتراحين يدوران على "الاتحاد" لا "الوحدة".
ويقول الاقتراح الأول: بإقامة اتحاد له سلطة تنفيذية، تحدد في نظام أساسي تقبله الدول العربية التي تريد الدخول في الاتحاد.. ويكون للاتحاد جمعية تمثل فيها الدول العربية، وله رئيس منتخب أو معين، تعاونه لجنة تنفيذية لمعالجة الشئون السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.(1/49)
ولقراراتها قوة تنفيذية على الدول الداخلة في الاتحاد، وتلتزم كل دولة بتنفيذ القرارات ولو كانت مخالفة لرأي مندوبها..
ويقول الاقتراح الثاني بإقامة اتحاد على أساس أن قراراته لا تكون ملزمة إلا لمن يقبلها.
وقدم نوري باشا إلى النحاس باشا نموذجا لكل من الاقتراحين . يبين النموذج الأول هيكل الاقتراح المتعلق بالمجلس التنفيذي الاتحادي (الملحق رقم 1) والنموذج الثاني يبين هيكل الاقتراح المتعلق بالمجلس الاتحادي غير التنفيذي (الملحق رقم 2).
وناقش النحاس باشا الاقتراحين مناقشة مستوفية، وأبدى رأيه في أن الاقتراح الثاني الذي قدمه نوري باشا قريب الشبه بنظام جامعة الاتحاد الأمريكي المعقود بين الولايات المتحدة الأمريكية ودول الأمريكيتين الوسطى والجنوبية.. وأضاف النحاس باشا إلى ذلك قوله أنه إذا استقر الرأي علي تكوين اتحاد بين الأمة العربية سواء على أساس الاقتراح الأول أو الثاني فان النظام الأمريكي يمكن الانتفاع به في قواعد تنظيم الاتحاد العربي..
وواضح من روح هذه المشاورات بين الفريقين العراقي والمصري أن الاتجاه السائد قد استبعد فكرة الوحدة المركزية، ومال إلى ناحية الاتحاد من غير تحديد لمداه و اختصاصاته، وقد ترك لرفعة النحاس باشا كما يقول المحضر أن يستطلع رغبات الدول العربية في هذا الصدد.. وبهذا انتهت المشاورات المصرية العراقية.
وليس سراً، أن نوري باشا كان أثناء هذه المشاورات يزور كلا من اللورد "كيلرن" السفير البريطاني في القاهرة، واللورد "موين" وزير الدولة البريطاني للشرق الأوسط ويطلعهما على هذه المباحثات أولا بأول.. كما كان(1/50)
ينشر ذلك في الصحف المصرية.. وقد كان الأمر طبيعياً يومئذ، لأن بريطانيا هي صاحبة الدعوة الأولى لهذه المشاورات..
ثم ابتدأت المشاورات المصرية الأردنية.. وكان يمثل الجانب الأردني توفيق أبو الهدى رئيس وزراء الأردن وقد استغرقت مشاوراته مع النحاس باشا ثلاث جلسات ( 28 آب (أغسطس) – أيلول ( سبتمبر) 1943) ويمكن تقسيم المشاورات المصرية الأردنية إلى قسمين بارزين: الأول يتصل بموضوع سوريا الكبرى، والثاني يتعلق بموضوع "الوحدة" العربية بصورة عامة.
ففي صدد القسم الأول من المناورات بدا واضحاً أن رئيس وزراء الأردن جاء ليبذل جهده الأقصى لإقناع الرئيس المصري بمشروع سوريا الكبرى من حيث المبدأ، ثم ليناشده أن يوافق على هذا المشروع ويعمل على تحقيقه "بما لمصر من مركز وبما لرفعته من نفوذ شخصي بصفته صاحب الزعامتين في المملكة المصرية" لأنه في حالة اتحاد الأقطار الأربعة سوريا وشرق الأردن وفلسطين ولبنان سيكون بإمكان سوريا الكبرى أن تشترك في الأمور المطروحة للبحث، أما إذا بقيت هذه الأقطار مجزأة فإن الفائدة من التعاون مع البلاد العربية الأخرى تكون قليلة الجدوى".
وراح توفيق أبو الهدى باشا، وكأنه بترافع أمام محكمة قضائية يلتمس منها الحكم إلى جانبه، راح يشرح قضية سوريا الكبرى قائلاً: "إن أقطار سوريا الأربعة: شرق الأردن، وسوريا ولبنان، وفلسطين، تطالب بالاستقلال، وجميع هذه الأقطار ترمي إلى الاتحاد فيما بينها بعد التخلص من قيودها.. ويجب إعادة الوحدة السورية إلى سابق عهدها بحيث تصبح هذه الأقطار الأربعة دولة واحدة أو متحدة ثم تدخل هذه المجموعة في الاتحاد العربي(1/51)
الذي يتألف من مصر والعراق وغيرهما من الدول العربية".. وخلص الرئيس الأردني إلى القول: "وإني أرى كما يرى نوري باشا أن من المهم جداً السعي لإيجاد سوريا الكبرى على أن تشترك بعد تكوينها في التعاون مع الدول العربية الأخرى".. وأضفى الرئيس الأردني على مشروعه رداء براقاً حين قال: "إن الفلسطيني يرغب في هذه الوحدة ليخلص من الخطر اليهودي، والسوري لتتسع مملكته ويقوى كيانه، والأردني حتى لا يبقى بلده كما هو الآن صغيراً فقيراً يعتمد في نفقاته على معونة الإنجليز.. وإن الأقطار السورية الأربعة تركن في تحقيق هذه الأمنية إلى رفعة النحاس باشا بصفته زعيم الأمة العربية"..
ولم يفت الرئيس الأردني وهو ينهي القسم الأول من المشاورات، أن يقول للرئيس المصري، لإثبات "سهولة إقامة الاتحاد السوري": "ولقد فهمت من مباحثاتي مع بعض الإنجليز أن هذه الأقطار الربعة إذا اتفقت على أمر فلن تقوم دونه موانع، إلا فيما يختص بتأمين وضع مناسب لليهود في فلسطين، وقد يسهل التغلب على هذه القضية بفضل إرشادات رفعتكم، وعلى كل حال فليس هناك ما يمنع من اتحاد شرق الأردن وسوريا فوراً لعدم وجود أي صعوبة خارجية".
وجاء دور الرئيس المصري ليسأل، كما يفعل القاضي وهو يناقش المحامي المترافع.. وقال الرئيس المصري: "وماذا ترون في كيفية تحقيق الوحدة والاتحاد بين شرق الأردن وسوريا ولبنان وفلسطين، هل كل واحدة منها مستقلة عن الأخرى ويجمع بينها اتحاد يتفق على نظامه"..(1/52)
فأجاب الرئيس الأردني قائلاً: يمكن تكوين وحدة من سوريا وشرق الأردن فوراً، ثم يدعى كل من لبنان وفلسطين إلى الاتحاد معها، فيكون الاتحاد ثلاثياً بين (1) سوريا وشرق الأردن، (2) فلسطين، (3) لبنان.
وسأل الرئيس المصري: وكيف تكون الوحدة بين سوريا وشرق الأردن؟ فأجاب الرئيس الأردني: تكون هذه الوحدة على أساس النظام الذي ترضاه الأغلبية.. ورأيي أن يكون النظام ملكياً.
وقاطعه الرئيس المصري قائلاً: ولكن سوريا جمهورية.
وقال الرئيس الأردني: يمكن استبدال النظام الملكي بالنظام الجمهوري، وأعتقد أن الكثيرين من السوريين ميالون إلى النظام الملكي، ويقيني أن القائمين بالأمر في سوريا من الوطنيين المخلصين يأبى إخلاصهم أن يجعل من قضية الملكية والجمهورية حائلاً دون تحقيق مصالح البلاد، فإذا وجدوا المصلحة في تغيير شكل الحكم، لم يكن لديهم مانع من ذلك..
وتابع الرئيس المصري تساؤله حول كيفية إنشاء الاتحاد الثلاثي بين (1) سوريا وشرق الأردن (2) فلسطين (3) لبنان، وتابع الرئيس الأردني جوابه قائلاً: إن أحسن ترتيب عملي هو تكوين الوحدة من الأقطار الأربعة، فإذا اعترضت سبيل ذلك قضية فلسطين أمكن إعطاء اليهود في فلسطين استقلالاً إدارياً.. وإذا قامت موانع دون الوحدة الشاملة أمكن تحقيق الوحدة بين سوريا الصغيرة (الداخلية) وشرق الأردن، ثم يكون اتحاد بينهما وبين القطرين الآخرين وأن يكون ذلك على طراز الولايات المتحدة أو على طراز الاتحاد السويسري.
وفي محاولة إيضاحية للإقناع والتيسير، راح الرئيس الأردني يشرح للرئيس المصري، موقف الحكومة البريطانية من الوحدة السورية، فقال: "في(1/53)
سنة 1941 جاء مستر لتلتون وزير الدولة البريطاني في الشرق الأوسط إلى عمان وجرى بيني وبينه حديث بشأن موضوع الوحدة السورية، فأفضيت إليه بآمالنا وأن تساعدنا بريطانيا العظمى على السير في هذا السبيل.. ولفت نظره إلى أن الأقطار العربية الأربعة كانت في زمن الحكومة العثمانية مديرية وجزءاً من مديرية أخرى، وأن مصالحها مشتركة، وأنها في مجموعها تؤلف وحدة جغرافية.. ووعد الوزير البريطاني بأن يبلغ هذه الأمنية إلى حكومته.
وتابع الرئيس الأردني حديثه قائلاً: وجاء رد الحكومة البريطانية مشتملاً على أمور ثلاثة:
أولاً: إن المثل الأعلى للوحدة العربية والاستقلال مما ينال العطف التام من الحكومة البريطانية، على أن هذه القضية مما يرجع أمره إلى تبصر العرب أنفسهم عندما يكون الميدان أشد جلاء (يعني عند انتهاء الحرب).
ثانياً: إن بريطانيا ترى أن كل تقرب من الحكومة السورية أو من أية حكومة أخرى ينبغي إرجاؤه ريثما تبدو الحالة أكثر استقراراً.
ثالثاً: إن بريطانيا سوف تصون المصالح المشروعة لسمو أمير شرق الأردن وحكومته في الوقت المناسب.
ومضى الرئيس الأردني يقول: وبعد اتصالات لاحقة مع لندن أعتقد أن الإنجليز اقتنعوا بأن لا بأس من أن يعمل شرق الأردن للاتحاد مع سوريا. ولكننا اختلفنا في شيء واحد هو الوقت المناسب لهذا العمل. فهم يرون أن لا يكون قبل نهاية الحرب، ونحن نرى أن الحرب لا تحول دون عمل كهذا.
كان ذلك هو القسم الأول من المشاورات بين الرئيس المصري والأردني. أما القسم الثاني فقد تناول "وجوه التعاون التي يرغب شرق الأردن(1/54)
في أن يشترك فيها مع الأمم العربية الأخرى" حسب تعبير محضر المشاورات.. والمحضر مليء بتعبير "الأمم العربية"..
ففي مجال التعاون السياسي في الشئون الخارجية قال الرئيس الأردني: "إن شرق الأردن يرغب في التعاون مع الأمة العربية بقدر ما يستطيع أن يتخلص من قيود المعاهدة البريطانية، فإذا نال استقلاله فإنه يتعاون في الأمور الخارجية تعاوناً تاماً.
وفي المجالات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، فإن حكومة شرق الأردن تتمتع بكامل الحرية للاتفاق مع الدول العربية في المجالات المذكورة.
أما عن "إدارة" التعاون بين البلاد العربية المختلفة، فقد قال الرئيس الأردني، إنه يوافق نوري باشا على استبعاد فكرة الحكومة المركزية ويفضل الوجه الأول (نموذج رقم 1).. فإذا لم يرض الآخرون بهذا الوجه فلا مانع من الأخذ بالوجه الثاني (نموذج رقم 2).
وانتهت المشاورات الأردنية المصرية، وصدر البيان المشترك، مشيداً بالمشاورات التي تمت بشأن وحدة الأمة العربية وتعاونها، وبخاصة من حيث الوضع الحالي في شرق الأردن ووضعه المأمول سواء فيما يتعلق بعلاقته بسوريا ولبنان وفلسطين أو بعلاقته بسائر الأمة العربية.
وتعبير "وضعه المأمول" بالنسبة إلى شرق الأردن كان مقصوداُ به الاقتراب بعض الشيء من آراء إمارة شرق الأردن، فقد كانت المملكة العراقية والإمارة الأردنية تناشدان المملكة المصرية في شخص الملك فاروق الموافقة على إنشاء سوريا الكبرى، في إطار الهلال الخصيب، ليكون كلاهما في إطار اتحاد عربي تنضم إليه الدول العربية الأخرى تحت زعامة مصر.. كما كشفت عن ذلك مذكرات سرية أعلنت فيما بعد.. من جملتها التعليمات(1/55)
الصادرة إلى الوفد الأردني في مشاورات الوحدة العربية من قبل الأمير عبد الله نفسه، والتي تقول: "إن البلاد الفلسطينية والسورية ساحلاً وداخلاً هي التي يجب الخروج منها بوحدة شاملة أو باتحاد تعاهدي، وإن الاتحاد المرتكز على العراق ومصر لا يكون ممكناً قبل أن تتحد البلاد الشامية أو أن توحد، وإذا بقيت هذه البلاد منقوصة السيادة تحت انتدابات أجنبية أو تشتت محلي، فأمر تمشيتها مع مصر والعراق يكون من الضعف وعدم التماسك بصورة تجعلها تعجز عن القيام بما يجب عليها في هذا المضمار".
بل إن في هذه التعليمات التي أصدرها الأمير عبد الله كتابه إلى الوفد الأردني ما يكشف عن جوانب متعددة تشير إلى الأوضاع التي كانت سائدة في الوطن العربي كما كان يراها الأمير عبد الله، وكما أراد أن يستخدمها لتحقيق مشروع سوريا الكبرى، فنراه يقول بالنسبة لموقف بريطانيا: "ومن المعتقد أن بريطانيا، ونتيجة ما أثبتته الحرب الحاضرة، لا بد وأن تكون قد عزمت على تصحيح غلطات الحرب السابقة مما يجعل الأمة الشرقية واصلة إلى الكفاءة الجديرة بالاعتماد عليها لحفظ السلام العام على طول الساحل الشمالي لإفريقيا والساحل الغربي لفلسطين وسوريا، ولذلك فالمعتقد أن أمر الوحدة متى عولج بطريقة صحيحة متساندة من العراق ومصر، بعد الإصرار الكلي على وحدة سوريا أو اتحادها سوف يجعل هناك مصاعب يواجهها العاملون على الاتحاد العربي إزاء انجلترا وأمريكا.. أما الانتداب الفرنسي فموقف فرنسا الحاضر هو نفسه يقرر قيام فرنسا بأمر كهذا مرة أخرى ليس من الممكنات، وأن عرب سوريا الكبرى مصممون على وصولهم إلى حقوقهم في بلادهم وتلك الحقوق هي الاستقلال والوحدة والاتحاد، وإن هذه النتيجة ضرورة حيوية عسكرية للعراق وتركيا ولمصر في آن واحد.. وأما لبنان فلا(1/56)
مانع من جعل الخيار له في الوحدة أو الاتحاد.. واحتفاظه بما يريد من شكل وكيفية.. وأما السودان فهي مسألة مصرية بريطانية.. وأما شمال إفريقية فمن المستحسن التوصل للتفاهم مع جلالة سلطان مراكش ومع عظمة باي تونس.. أما ليبيا وطرابلس فأمرهما حتى يحين الحين، وأن الأمل في أن يكون لليبيا كيان عربي فمشكوك فيه.." ولا يشير الأمير عبد الله في تعليماته إلى الجزائر فقد كانت أسوأ حالاً من ليبيا التي يشك في أن يكون لها كيان عربي.
ولم يكتف الأمير عبد الله بهذه التعليمات السياسية الإستراتيجية ولكنه زود الوفد الأردني بتعليمات تكتيكية "نفسه" فقد ذكر في تعليماته "إغراءات" لمصر، منها قوله: أما مصر فمع كون اسمها مصر، فهي من أمهات البلاد العربية وهي الكنانة، وهي التي لها من الصلات القديمة والروابط القومية ما لا يمكن التبرؤ منه والعياذ بالله، فالبلاد العربية ترحب بالاتحاد بين القطر العزيز بكل قواها، وتشيد بذكر الساعي إليه وعلى الأخص زعيمها المحترم (يقصد النحاس باشا).. وإن أمير شرق الأردن يؤيد بكل جهده مساعي مصر والعراق، ويصر أن عليهما السعي لوحدة سوريا أو اتحادها قبل أي اتحاد عربي آخر، فلتكن مذكرات فخامتكم (يشير إلى رئيس الوفد الأردني) مع رفعته (النحاس باشا) على هذا الأساس".
ولم يفت الأمير عبد الله، وهو صاحب العبارات البارعة، أن يداعب المشاعر العائلية في نفس الملك فاروق، ملك مصر يومئذ، فقال في تعليماته: "إن حركة محمد علي باشا – جد فاروق الأعلى – الذي وصل بحيويته إلى قونيا هي الحركة العربية الأولى التي جاءت بعدها ثورة الشريف حسين والأغراض فيهما واحدة.. وأن الأمر دقيق وخطير ولكن نعتقد بحسن النية في الجميع، فالبيت الهاشمي الذي تزعم الحركة العربية التي لها صلة بتاريخ(1/57)
محمد على باشا الكبير يضع نصب العيون المسئوليات في تحقيق المرامي.. ونلفت الأنظار إلى حالة التقسيمات الحاضرة لتنظروا إليها بعين حقيقتها.. فإذا رأينا ما لمصر من إدارة وتشكيلات، وما للعراق من وحدة وتهيئة، لا نرى هذا في الحجاز ولا في سوريا بأجمعها، وإن لمصر في المعلومات والأخبار عن حالة الأمة الحجازية ما يغنينا عن الشرح" وختم الأمير عبد الله تعليماته وغمزاته بقوله: "لذلك تتقدمون إلى المؤتمر – المشاورات - وأنت على علم من هذا لنقله إلى رئاسة الوزارة ووزارة الخارجية بمصر، وأن الاعتقاد في أن مصر تقف موقف الأخ المحايد، الجامع للناس على الخير، وهذه فكرة العراق الشقيق والسلام عليكم"..
هذه هي تعليمات الأمير عبد الله إلى الوفد الأردني، وهي تتناول كثيراً من جوانب الموقف العربي في الوطن العربي، بالإضافة إلى موقف بريطانيا، كما يراه الأمير عبد الله، وبطبيعة الحال فإننا لا نرى لكثير منها ذكراً في محاضر الجلسات الرسمية، ومن المرجح أن الوفد الأردني قد ناقشها مع الوفد المصري في جلسات خاصة، وكذلك فإن ما تعلق منها بالملك فاروق، قد وصل إليه بطريقة أو بأخرى.
ويلاحظ في هذه التعليمات التركيز على دور مصر والعراق، وتجاهل البلاد العربية الأخرى وخاصة المملكة العربية السعودية، مع تجريح خفي لأحوالها..
ويتضح من ذلك كله أن الوفد الأردني جاء لتحقيق هدف واحد وهو إنشاء سوريا الكبرى، ومناشدة الحكومة المصرية المعاونة على تحقيق هذا الهدف..وأن أي مشروع للعمل العربي المشترك سيكون قليل الجدوى إذا كانت "بلاد الشام" ستدخله مجزأة بأقطارها الأربعة كما ورد في المحاضر(1/58)
غير مرة.. يضاف إلى ذلك الإشارة في أكثر من مناسبة بأن بريطانيا موافقة على هذا المشروع وعلى الأقل فإنها لا تعارضه.. وكانت تلك الإشارة غير "خارجة عن الصدد"، فإن بريطانيا هي التي أصدرت إشارة البدء في موضوع الوحدة العربية المرة بعد المرة..
وموجز القول إن حديث الوفد الأردني عن الاتحاد السوري قد حظي بالجانب الأكبر من المشاورات على حين أن الوحدة العربية لم تلق إلا حديثاً عابراً، وكانت هي المعبر لتوكيد الحاجة القصوى لإقامة الوحدة السورية..
وبعد المشاورات الأردنية جاء دور المشاورات المصرية السعودية، وجاء الشيخ يوسف ياسين ممثلاً للملكة العربية السعودية وبدأت المشاورات في 26 أكتوبر 1943 واستغرقت خمس جلسات.. كانت محاضرها في غاية الإيجاز والتعميم.. وورد عن الجلسة الثانية بشأنها أنه "استعرضت وجهات النظر في التعاون، وبحث في الموضوع بحثاً استيضاحياً"، وفي الجلسة الثانية ذكر المحضر "أنه بحث فيها شفوياُ عن وجوه التعاون" أما الجلسات الأولى والرابعة والخامسة فلم يتعد الكلام فيها صفحة واحدة في مجموعها.
وقد اتسم موقف الوفد السعودي في تلك المرحلة من المشاورات بالتحفظ والحذر، وعدم الالتزام بموقف واضح محدد، ومن هنا كانت عباراته تتحدث عن موقف اللاموقف..
من ذلك قول الوفد السعودي: "بالعمل لما فيه تأييد الصلات بين المملكة العربية السعودية ومصر بصورة خاصة، والبحث في كل ما من شأنه أن يؤدي إلى خير الأمة العربية.. وأن نتقي المخاطر والحبائل التي تضر بالمصلحة العربية.. وتأجيل البحث في موضوع التعاون السياسي في الوقت الحاضر إلى أن تتغير الظروف القائمة.. والرغبة في تنمية التعاون الثقافي(1/59)
والزراعي مع مصر وسائر البلدان العربية.. وإبداء أمنية البلاد العربية بأن تصل البلدان العربية لما تتمناه من الهناء والسعادة".
والدارس لأحوال البلاد العربية في أواسط الأربعينات أثناء الحرب العالمية الثانية، يستطيع أن يفهم لماذا كان موقف الملك عبد العزيز يتسم بالحذر، بل بالقلق، إزاء مشاورات الوحدة العربية.. هنالك أكثر من سبب..
أولاً: إن الملك عبد العزيز، علمته الصحراء، الحذر والشك، فهو لا يقدم إلا على وضوح ويقين، وحينما تستبين له الأمور بصورة جلية.
ثانياً: كان يخشى الإنجليز على الدوام، رغماً عن الصداقة التي كانت بينهما، ومنذ أن أعلن المستر إيدن في عام 1940 موضوع الوحدة العربية بات يخشى أن يدبر الإنجليز للعرب أمراً.
ثالثاً: وازدادت مخاوفه بعد أن أعلن الأمير عبد الله مشروع سوريا الكبرى، ونوري باشا مشروع الهلال الخصيب.. ورأى الملك عبد العزيز فيهما "خططاً هاشمية" للاستيلاء على المشرق العربي..
والواقع أن الملك عبد العزيز كان أميل إلى رفض الاشتراك في مشاورات الوحدة العربية، وحينما جاءته دعوة النحاس لإرسال وفد إلى الإسكندرية، كتب إليه الملك عبد العزيز، والكلام هنا للأستاذ خير الدين الزركلي عضو الوفد السعودي: "بأنه لا يرغب الدخول في مباحثات لم يكن له اطلاع على بواعثها".. ويضيف الأستاذ الزركلي إلى ذلك قوله: "بأن النحاس باشا بعث إلى الملك عبد العزيز رسالة ثانية يرجوه فيها الموافقة على الاشتراك، فقبلت الدعوة، وتألف الوفد السعودي من الشيخ يوسف ياسين والأستاذ الزركلي.. وفي أول اجتماع عقد بين الوفد السعودي والنحاس باشا،(1/60)
قال له الشيخ يوسف ياسين: "إن جلالة الملك لا يميل إلى العمل في جو تشتم فيه رائحة الدسائس" (1) .
ثم إن هذه المخاوف قد بدت حقيقة قائمة. فإن محاضر المشاورات التي تضمنت آراء العراق وشرق الأردن قد وصلت إلى المملكة العربية السعودية، وكانت في حوزة الشيخ يوسف ياسين حينما جاء إلى قصر انطونيادس في الإسكندرية، حيث كانت تجري مباحثات الوحدة العربية.
وقد أعرب الشيخ يوسف ياسين عن تلك المخاوف في عبارات هادئة ناعمة، ولكنها مفهومة وواضحة فنحن نقرأ في محاضر المشاورات قوله: "يجب أن يكون هدفنا العمل لمصلحة الأمة العربية جمعاء دون النظر لمجرد مغنم دون البعض الآخر أو على حساب البعض الآخر.. وأن تستمر المساعي بحيث لا تحدث مضار بمصلحة العرب وأصدقاء العرب".
وكان أبرز موقف للسعودية يتجسد في قول الشيخ يوسف: "إن شعور جلالة الملك عبد العزيز هو نحو البلاد الشامية جمعاء وما يتمناه لها من عز واستقلال في حكمها الجمهوري القائم في كل من سوريا ولبنان".
وهذه العبارات الموجزة لا تحتاج إلى إيضاح فهي تهدم بصورة كاملة الموقف العراقي والأردني برمتهما، بِشأن سوريا الكبرى والهلال الخصيب، مع التوكيد في عبارة أخرى أنه "يجب أن يكون اشتراك الأقطار العربية على قدم المساواة التامة مع بعضها البعض".
أما بشأن "الوحدة العربية" وهي محور المشاورات، فقد أكد الشيخ يوسف أنه "يجب أن يكون سيرنا في قضيتنا مبنياً على دراسة دقيقة لأوضاع الأمة العربية حتى نستطيع أن نصف لها العلاج الناجع إذ أننا لو أردنا مثلاً
__________
(1) كتاب الملك عبد العزيز آل سعود ،خير الدين الزركلي، فصل الجامعة العربية.(1/61)
أن نجمع الأمة العربية كلها في دولة واحدة لتعارض ذلك مع الأوضاع القائمة وقد ينشأ عنه اصطدام ليس لأحد مصلحة فيه".
أما بصد التعاون السياسي، وهو السؤال الذي كان يطرحه دوماً النحاس باشا على الوفود العربية، فقد أجاب الشيخ يوسف ياسين بأنه "يرى تأجيل البحث في موضوع التعاون السياسي في الوقت الحاضر إلى أن تتيسر الظروف القائمة.. أما موضوع التعاون بين البلاد العربية في المسائل الاقتصادية والثقافية أو أي تعاون ممكن، فالمملكة العربية السعودية لا تمانع فيه عندما يكون ذلك في الإمكان ويكون الوقت ملائماً".
كان ذلك هو موقف المملكة العربية السعودية من مشاورات الوحدة العربية.. متسماً بالخوف من بريطانيا، ومن مشروعي سوريا الكبرى والهلال الخصيب.. ومحوطاً بالشك والريبة في هذه "الوحدة العربية" التي دعت إليها بريطانيا.
وعاد الشيخ يوسف ياسين ليقدم تقريراً إلى الملك عبد العزيز، دون أن يصدر بيان مشترك حول المداولات التي تمت بين الوفدين السعودي والمصري، ولتكون المملكة العربية السعودية طليقة اليدين، تقرر موقفها كما تشاء، حينما تشاء.
وبهذا انتهت مشاورات الوحدة العربية مع ثلاثة وفود عربية: العراق والأردن والسعودية وبقيت ثلاثة وفود أخرى هي سوريا ولبنان واليمن.. سنعرض لآرائها في الفصل التالي حتى تكون الصورة كاملة شاملة.
فهذا الفصل، والفصل الذي يليه يعودان بنا إلى ثلث قرن من الزمان، نتبين من خلالهما الحالة السياسية للأمة العربية، يومئذ، ويوضحان لماذا قامت الجامعة العربية بالصورة التي قامت عليها، ولماذا جاء ميثاقها(1/62)
بالنصوص التي وردت فيه، ولماذا تخلفت الجامعة عن تحقيق الأهداف المعلنة التي رددها آباؤها المؤسسون عند تأسيسها..
وأخيراً، وهذا الأهم، كيف السبيل للخروج من حالة التردي التي بلغتها الجامعة العربية إلى مرحلة جديرة بالأمة العربية، تجدد ماضيها المجيد، وترقى بها من حاضرها الراكد إلى مستقبل حافل بالقوة والمنعة، والحرية والكرامة في جميع أرجاء الوطن العربي الكبير.
كل ذلك تحت راية الوحدة العربية ولا راية سواها.(1/63)
الفصل الرابع
مشاورات الوحدة العربية مع..
سوريا ولبنان واليمن(1/64)
خلال الأشهر الثلاثة التي استغرقتها مشاورات الوحدة العربية في الإسكندرية (31 يوليو (تموز) – إلى نوفمبر (تشرين الثاني) 1943) كانت المشكلة الكبرى التي تدور حولها مداولات الحكومات العربية هي ما كان يسمى بموضوع "سوريا الكبرى" فقد انتهى مفتاح الموقف بالنسبة إلى قيام كيان سياسي عربي، يكون أو لا يكون، سواء كان (وحدة) أو (اتحاداً) أو (تعاوناً) أو أي صيغة أخرى يمكن أن تتفق عليها الدول العربية.
وما أن تمت المشاورات بين مصر من جانب، والعراق وشرق الأردن والمملكة العربية السعودية من جانب آخر، حتى قدم الوفد السوري إلى الإسكندرية برئاسة السيد سعد الله الجابري رئيس مجلس وزراء الجمهورية السورية على رأس وفد سوري يضم السيد جميل مردم بك وزير الخارجية، وبدأت المداولات بينه وبين الوفد المصري برئاسة النحاس باشا واستغرقت أربع جلسات ابتدأت في 26 أكتوبر (تشرين الأول)، وانتهت في نوفمبر (تشرين الثاني) 1943.
وقد بدأ النحاس باشا كلامه في الجلسة الأولى بتوجيهه تحية حارة إلى الوفد السوري مليئة بالتقدير والإعجاب، ذلك أن الأمة العربية كانت مشدودة في تلك الفترة إلى الصراع الحاد الذي كان قائما بين السلطات الفرنسية والشعب السوري حول استكمال الاستقلال وإجلاء القوات الفرنسية عن الأرض السورية، لتصبح الجمهورية السورية، البلد العربي الأول غير المرتبط بأية معاهدة مع أية دولة أجنبية، وأرضه خالية من القواعد العسكرية الأجنبية أو أي من آثار الاحتلال.
ولم تكد تنتهي التحية المصرية، والتحية السورية بأحسن منها، حتى بادر النحاس باشا إلى فتح موضوع سوريا الكبرى على مصراعيه، وكأنما(1/65)
المؤتمر معقود من أجل هذا الموضوع ولا سواه.. وكأنما جدول الأعمال قاصراً على بحث مصير "سوريا" هل تتحد أقطارها الأربعة أم تبقى مجزأة، وكيف يكون الاتحاد، شكله ونظامه واختصاصه، إذا انتهى الأمر إلى الموافقة على الاتحاد.
وبدأ النحاس باشا حديثه مستعرضاً ما تجمع لديه من الآراء بشان "تحقيق الوحدة بين الأقطار الأربعة التي كانت تتألف منها سوريا، وهي سوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردن.. وأكد أن المشاورات تدخل اليوم، والكلام للنحاس باشا: "في دور هام يتوقف عليه الكثير مما نتوجه إليه في خطواتنا التالية"، وبهذا ارتبط مصير الوحدة بمصير سوريا الكبرى.
وهنا أخذ النحاس باشا، يلخص مختلف الآراء التي أبديت حول "اندماج الأقطار الأربعة المشار إليها اندماجاً تاماً".. ثم بادر إلى إبداء رأيه حاسماً قاطعاً، قبل أن يسمع الجواب من الوفد السوري فقال: "لست أخفي عليكم أنني أحسست أن هناك صعوبات تعترض تحقيق هذه الغاية، وصارحت بها من تحدثوا إلي في هذا الشأن، فإن لكن قطر من الأقطار كيانه ونظامه ومكانته ودرجة تقدمه، وحكومة بعضها جمهورية، وعلى رأس حكومة البعض الآخر أمير، فكيف يكون شكل الحكومة الموحدة في حالة الاندماج.. وكيف تتغلب على الصعوبة الناشئة عن امتيازات الموارنة في لبنان، وعن مركز اليهود في فلسطين".
وتابع النحاس باشا شرح آرائه واستنتاجاته قائلاً: "وهناك رأي بأن يقتصر الاندماج على سوريا وشرق الأردن، ثم يدعى كل من لبنان وفلسطين إلى الاتحاد مع سوريا وشرق الأردن المندمجين، وبذلك يكون الاتحاد ثلاثياً بين (1) سوريا وشرق الأردن المندمجين (2) فلسطين (3) لبنان، ولكن(1/66)
امتيازات الموارنة في لبنان ومركز اليهود في فلسطين قد تعترض سبيل الاتحاد كما تعترض سبيل الاندماج".
وبعد المشكلة الكبرى "سوريا الكبرى" انتقل النحاس باشا إلى موضوع مشاورات الوحدة العربية فراح يمطر الوفد السوري بالأسئلة المتعاقبة المتعددة وهو يقول: " نريد أن نعرف كيف يكون مركز سوريا بالنسبة للعراق، وهو القطر المجاور الذي يريد أن يكون له منفذ على البحر الأبيض المتوسط بقصد تناول المنافع الاقتصادية ونريد أن نعرف مركز سوريا بالنسبة للمملكة العربية السعودية، ومركز هؤلاء في المجموعة العربية، وكيف يتم التعاون المنشود بين الجميع.. وهل يقتصر على التعاون الاقتصادي والثقافي والاجتماعي، أم يمتد إلى التعاون السياسي أيضاً.. وهذه المسائل وغيرها نريد أن نتبين آراءكم فيها".
كان ذلك موقف مصر، يلخصه النحاس باشا، لأول مرة، فهو يستبعد مشروعي سوريا الكبرى والهلال الخصيب، ولكنه يترك الباب مفتوحاً للبحث عن صيغة للتعاون العربي في المجالات والنشاطات المختلفة، وعن "أداة" للتعاون، تقبلها الدول العربية جميعاً..
وكان ذلك واضحاً تماماً، حين ختم النحاس باشا حديثه إلى الوفد السوري قائلاً: "فإذا بلغت المشاورات بإذن الله حدا يقرب وجهات النظر المختلفة، أمكن تأليف لجنة تمثل فيها البلاد العربية صاحبة الشأن لإتمام الأبحاث وتنسيق الأعمال، والتمهيد لعقد المؤتمر العربي الذي نفكر في الدعوة إليه، وهذا هو اتجاهنا".. وبذلك يكون النحاس قد وضع دليل العمل، من مرحلة المشاورات، إلى التحضير للعمل، وفي النهاية الإخراج النهائي "للأداة" المقبولة في الصيغة المقبولة.(1/67)
ودخل الرئيس السوري هذه "الغابة" من المشاورات والتساؤلات حول موضوع الوحدة العربية، يتحدث عن كل جوانبها واحدة بعد الأخرى، ولم يفته في صدر حديثه أن يؤكد للنحاس باشا بصدد الوحدة العربية "أن هذه المسالة كانت موضع اهتمامنا ونصب أعيننا منذ الصبا ونحن الآن أكثر حرصاً على نجاحها" وكان ذلك في الواقع تعبيراً صادقاً عن أماني الرعيل الأول من قادة الحركة العربية منذ فجر النهضة.
ثم بدأ الرئيس السوري حديث وكأنه يلقي محاضرة تاريخية وجغرافية عن بلاد الشام، فقال: "تؤلف بلاد الشام وحدة جغرافية، وهذه البلاد لم تكن مجزأة فيما مضى، وكانت حدودها تمتد من كيلكيلية إلى رفح ومعان (1) ، ومن البحر الأبيض المتوسط إلى داخل الصحراء، وكانت تؤلف مجموعة عربية متماسكة، وكانت منقسمة إلى ولايات متعددة من الوجهة الإدارية.. ولما احتلت جيوش الحلفاء بلاد الشام تمت تجزئتها فكانت سوريا ولبنان وشرق الأردن وفلسطين، على حين أنه كان ينتظر أن تكون هذه البلاد دولة واحدة تتحد مع العراق والحجاز واليمن".
وبعد هذا التلخيص الموجز عن ديار الشام في مجموعها انتقل الرئيس السوري إلى موضوع لبنان فذكر أن لبنان لم يكن له وجود مستقل في شكله الحالي.. وأنه لا يمكن القول بأن لبنان كان مستقلاً بالمعنى الصحيح في يوم من الأيام.. "وكل ما في الأمر أنه على أثر حوادث طائفية كان وراءها التدخل الأوروبي، أنشأت الدولة العثمانية متصرفية (مديرية) لبنان..
__________
(1) * هذا التحديد يدخل فيه لواء الإسكندرونة، وهو تحت يد الأتراك اليوم وقصته طويلة، كما يستثني العقبة الواقعة اليوم في المملكة الأردنية الهاشمية، وكانت تعتبر يومئذ تابعة للحجاز.(1/68)
ومنحته امتيازات خاصة في ظل حكم لا مركزي، وبعد الحرب العالمية الثانية فصلت فرنسا جبل لبنان عن سوريا وضمت إليه بعض المناطق السورية، وهي بعلبك والبقاع وطرابلس وصيدا وصور ومرجعيون، وعلى هذا لبنان الكبير الحالي خلقه الفرنسيون بالقوة "وهذه المناطق السورية هي المعروفة باسم مشكلة الأقضية الأربعة".
وفي هذا القسم من حديث الرئيس السوري تبين للرئيس المصري أنه بالإضافة إلى موضوع الأقطار الأربعة التي تتألف منها مشكلة سوريا الكبرى، برزت "مشكلة الأقضية الأربعة" باعتبارها قضية سورية جديدة تدخل في خضم مشاورات الوحدة العربية..
وانتقل الرئيس السوري من موضوع لبنان إلى فلسطين "وهي القسم الجنوبي من سوريا" فتناول مشكلتها بشيء من التفضيل ابتداء من وعد بلفور الذي صدر في 2 نوفمبر 1917، إلى عهد الانتداب وما تم خلاله من هجرة اليهود إلى فلسطين حتى أصبحوا ثلث سكان البلاد، واستعرض ثورات الشعب الفلسطيني للحفاظ على وطنه إلى ما رسا عليه الأمر بإعلان الكتاب الأبيض الذي أصدرته الحكومة البريطانية في عام 1939 واقترحت فيه حلا للمشكلة الفلسطينية.. ثم خلص إلى القول: "بأن هناك نقطة خطيرة يجب التفكير فيها لمعرفة معناها ومداها، وهي إمكان انتشار اليهود من فلسطين إلى الأقطار العربية المختلفة، وذلك إذا وافقت على الانضمام إلى الوحدة، وهذا الانتشار لا ترضى به سوريا ولا توافق عليه".
وبعد هذا التنبيه إلى الخطر اليهودي، انتقل الرئيس السوري إلى مناقشة موضوع شرق الأردن، فعاد إلى المعالجة الجغرافية التاريخية موضحاً أن شرق الأردن كانت في العهد العثماني مقاطعة تابعة لدمشق لكنها(1/69)
نتيجة لاتفاقية سايكس بيكو بين فرنسا وبريطانيا دخلت في نطاق النفوذ الإنجليزي ثم عرج بعد ذلك إلى ذكر واقعة تاريخية، أراد أن يثير من خلالها اهتمام الرئيس المصري، فقال: "إن المؤتمر الذي عقد في فندق سميراميس في القاهرة، برئاسة المستر تشرشل قرر فصل شرق الأردن نهائياً عن سوريا، وإعلان الأمير عبد الله أميرا عليها، وتم ذلك بالفعل ورضي به الأمير، ووافقت فرنسا على التخلي عن تلك المقاطعة الصورية، إلى الإنجليز" وقد أراد السوري أن يعرف النحاس بهذه الواقعة، أو يذكره بها إن كان يعرفها..
وكانت الخلاصة النهائية التي وضعها الرئيس أمام النحاس باشا، أن التجزئة لبلاد الشام إلى الأقطار الأربعة لم تكن نتيجة طبيعة البلاد السياسية والجغرافية، ولكنها كانت وليدة اتفاقات ومصالح أجنبية سرية وعلنية، فرضت على أهل البلاد بالقوة.
والدارس لمحاضر المشاورات يستطيع أن يلمح أن حديث الرئيس السوري، في السطور أو بين السطور، كان تعبيراً شاملاً عن وجهة نظر بلاد الشام في مقاطعاتها الأربع، وخاصة أن التجزئة في الأربعينات لم يكن قد مضى عليها إلا عشرون عاماً وكانت الأجيال السورية قد "ترعرعت"في عهد ما قبل التجزئة بكل شرورها ومصاعبها.
وهكذا استوفى الرئيس السوري عرضه عن بلاد الشام، وكان هذا الموضوع في الواقع الشغل الشاغل للأمة العربية في ذلك الوقت كما كان على رأس جدول مشاورات الوحدة العربية، ولم يسع الرئيس السوري إلا أن يعترف بنفسه أن المشكلة السورية "تحتل المكان الأول بين القضايا العربية" ثم وجه حديثه إلى النحاس باشا وقال له توكيداً لهذا المعنى "لقد تفضلتم(1/70)
فخصصتم للمشكلة السورية ثمانية أسئلة، بينما أفردتم لباقي القضايا العربية أربعة أسئلة"..
وانتقل الرئيس السوري بعد العرض التاريخي، إلى تحديد الموقف السياسي من "المشكلة الكبرى" فقال في عبارات واضحة حاسمة ومحددة: "إن الجيل الذي نشأنا فيه هو الذي حمل أعباء الدعوة العربية، وكانت دمشق مبعثها، فلا تستطيع عمان أو القدس أو حلب (وهذه بلد الرئيس السوري) أن تحل محلها.. وكل قضية عربية تولد في دمشق وتنتشر منها.. ودمشق لا تستطيع أن تتنازل عن مركزها.. وهي جمهورية وقدرها أن تحافظ على نظامها هذا لأنها تعتقد فيه الخير لها وللعرب ولأنه عنصر سلام بين البلاد العربية.. ودمشق لا ترضى عن نظامها الجمهوري بديلاً"..
وأضاف الرئيس السوري إلى هذا التحديد الواضح مزيداً من الوضوح فأكد العوامل الأساسية التي تدعو إلى توحيد الأقطار السورية الأربعة ثم استدرك ليقول: "غير أنه بعد مرور عشرين سنة تعود فيها كل قطر على حياته الخاصة وطابعه الخاص ومع هذا فإننا نصر على التوحيد استناداً لرغبة البلاد، هذا مع الاحتفاظ على دمشق كعاصمة، والنظام الجمهوري كأساس".
وهذا الشطر الأخير من الحديث قد أسقط الاتحاد مع شرق الأردن، فإن أولي الأمر في عمان كانوا يريدون وحدة ملكية وهاشمية، وكانوا يعلنون ذلك في بيانات رسمية موجهة إلى أهل سوريا.
وأسقط الرئيس السوري بعد ذلك الاتحاد مع لبنان، فبعد أن أكد أن الأكثرية الساحقة في لبنان بما فيهم الكثيرون من المسيحيين يرغبون في الانضمام إلى سورية، قال: "إننا نخاف أن يعود قادة الرأي في لبنان إلى(1/71)
الارتماء في أحضان فرنسا فتصبح لهم قدرة راسخة من جديد، ولذلك اعترفنا باستقلال لبنان.. على شرط أن يظل محتفظاً بوجهه العربي.. وقد كان من نتيجة ذلك أن أعلن رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء في لبنان بأنهم لن يسمحوا بأن يجعلوا لبنان مقراً للاستعمار ولا ممراً".
وهكذا فقد ألمح الرئيس السوري أن توحيد الأقطار العربية ليس له حظ من النجاح، ففلسطين تحت الحكم البريطاني وفيها المشكلة اليهودية، وشرق الأردن لا ترضى أن تصبح تابعة لدمشق على أساس النظام الجمهوري، ولبنان له ظروفه الخاصة بالنسبة إلى طائفة الموارنة وأطماع فرنسا القديمة..
وعلى الرغم من هذه العقبات القائمة في طريق الوحدة، فقد أعلن الرئيس السوري تمسكه بالوحدة حين قال: "إننا نلح على التوحيد، ولكن لا عن طريق إكراه باقي الأجزاء السورية.. وفي غمزة هادئة لبريطانيا قال الرئيس السوري: "إن تصريح إيدن المعروف وموقف انجلترا من اتحاد العرب مشجع، وعساها أن تخطو خطوة جديدة نافعة، بأن تسمح للأجزاء الواقعة تحت سيطرتها في سوريا بالإفصاح عن رغبتها بحرية".
والمقصود بهذه الأجزاء السورية "هي فلسطين وشرق الأردن".. وفي الواقع الأكيد أنه لو كانت بريطانيا جادة في موضوع الوحدة وأطلقت الحرية الكاملة لأهل فلسطين وشرق الأردن، يومئذ، لجاءت نتيجة الاستفتاء إقامة دولة عربية تتألف من بلاد الشام عاصمتها دمشق وعلى أساس النظام الجمهوري.
وبعد هذه "الأطروحة" عن حل المشكلة الكبرى، المشكلة السورية، انتقل الرئيس السوري إلى تحديد موقف سوريا من موضوع "الوحدة العربية"(1/72)
وهو العنوان الكبير الذي تنعقد تحته المشاورات العربية، فأعلن بعبارات محددة واضحة أن سوريا توافق، من غير قيد ولا شرط "بل برغبة وإيثار جميع أوجه التعاون العربي، فهي ترضى بالتعاون السياسي الذي يشمل الدفاع والشئون الخارجية وحماية الأقليات.. وترضى بالتعاون الاقتصادي الذي يشمل النقود والمواصلات والجمارك والتبادل التجاري وإلغاء الجوازات وما يتصل بذلك.. وترضى أيضاً بالتعاون الثقافي والاجتماعي الذي يشمل التعليم والتشريع".
أما بالنسبة لموضوع "أداة" التعاون، فقد أوضح الرئيس السوري "أن سورية تؤثر أقوى أداة وهي الحكومة المركزية، وان كانت لا تجهل ما يقوم في سبيل ذلك من عقبات، فإذا تعذر ذلك فانه يصار إلى إقامة نظام آخر من الاتحاد أو الاتفاق أو الحلف تستمد قواعده ونظمه من أوضاع متشابهة عند غيرنا من الأمم.. ومن رأينا أن يشمل الاتحاد مصر والشام والعراق والمملكة العربية واليمن، وكذلك الأقطار التي ينبغي أن تؤلف سوريا الكبرى – لبنان، فلسطين، شرق الأردن، أما الأقطار العربية المحمية أو بعض الأقطار في شمال أفريقيا فينبغي أن تمد لها يد المعونة على طريقة يتفق عليها فيما بعد".
وختم الرئيس السوري حديثه بالتوكيد على الحاجة القصوى إلى قيام الاتحاد بين البلاد العربية وضرورة القيام بكل ما يستطيع في سبيله، وعدم القناعة باليسير من الجهود أو الاكتفاء بآمال ضعيفة متضائلة مقتصرة على الحدود الصغيرة، والانطلاق بدلاً عن ذلك، إلى إنشاء عالم كبير حافل بالآمال الجسام التي يحققها الاتحاد ويفرزها التعاون، ذلك هو العالم العربي.. وكان ذلك هو نهاية كلام الرئيس السوري.(1/73)
وشكر النحاس باشا بعبارات حارة للوفد السوري أراءه وإيضاحاته حول مختلف القضايا التي تناولتها المشاورات وصدر بلاغ مشترك تحدث عن المحبة الصادقة وعلاقات الود القديم المتصل بين القطرين الشقيقين، وأنه سادت مباحثات الجانبين ميول متبادلة ووجهة نظر مشتركة بوجوب ربط البلاد العربية برباط متين من التكافل والتعاون لخيرها جميعاً ولخير العالم بأسره".
وبانتهاء المباحثات مع الوفد السوري، جاء دور الوفد اللبناني، ولم تكن المشاورات معه بأسلوب الحوار أو الإيضاح، فقد كان موقف لبنان يومئذ، حساساً ودقيقاً، وهو على عتبة الحكم الوطني الجديد، وعلى رأسه الشيخ بشارة الخوري رئيس الجمهورية والسيد رياض الصلح رئيس الوزراء، وقد أقاما بينهما قواعد فكرية مشتركة من التوازن السياسي، وكان لسوريا فضل كبير في إرساء هذا التوازن باعترافها باستقلال لبنان بحدوده التي وضعها الفرنسيون، ومعنى ذلك تنازل سوريا "عن الأقضية الأربعة" التي كانت ترى دمشق أنها اقتطعت من الأراضي السورية.
وحفاظاً على هذا التوازن الدقيق الذي قام في لبنان في أوائل حكمه الوطني، رأى الوفد اللبناني أن يحدد موفقه من مشاورات الوحدة العربية في بيان مكتوب يقدم إلى النحاس باشا، من غير زيادة ولا نقصان، فقد كانت الكلمة الواحدة في هذا الاتجاه أو ذاك، كافية لإخلال هذا التوازن.
وقد برز في صدر هذا البيان أن لبنان لا يألو جهداً للعمل في سبيل التعاون والتكاتف بين البلدان العربية لما في ذلك من الخير للجميع، وبعد هذه الديباجة أكد البيان أن هناك عوامل ثلاثة جعلته يقترب من القضية العربية(1/74)
ويقبل على المشاركة فيها.. ولم يذكر البيان مدى هذا الاقتراب بين لبنان والقضية العربية، وسرد البيان العوامل الثلاثة كما يلي:
1- ضعف المؤثرات الأجنبية التي كانت تسيطر عليه خلال الخمس والعشرين سنة الأخيرة، وتلك هي فترة الانتداب الفرنسي.
2- تفهم شقيقاته العربية لموقفه المتحفظ من الوحدة العربية، تفهماً جعلها تعترف بكيانه وحدوده الحالية، دولة مستقلة ذات سيادة تامة وهو بذلك يشير إلى موقف سوريا بالذات بالإضافة إلى تأييد السعودية ومصر لكيان لبنان وجوداً وحدوداً ونظاماً.
3- تفهم لبنان لضرورات التعاون مع البلدان الشقيقة والمجاورة لمصلحة كيانه السياسي والاقتصادي..
وبعد سرد هذه العوامل الثلاثة أعلن البيان اللبناني، تطميناً للدول العربية وخاصة سوريا، التزام لبنان بأن لا يكون أداة للأجنبي يستعملها بما يضر مصلحة البلدان العربية، وهو ما تعهدت به أول حكومة دستورية في لبنان بعد استقلاله في بيانه الوزاري الذي أقره المجلس اللبناني بالإجماع في أكتوبر تشرين الأول 1943 وكان هذا البيان الوزاري أشبه بالمدخل السياسي الذي يعبر منه لبنان إلى اجتماعات ومشاورات الوحدة العربية الدائرة في الإسكندرية.
وانتقل البيان اللبناني بعد ذلك ليؤكد أن لبنان لا يقل اقتناعاً ورغبة عن بقية الأقطار العربية بفوائد التعاون المشترك، وأن موقفه من القضية العربية سيكون مماثلاً لموقف مصر منها، وهو يرغب أن يكون تعاونه وجميع الأقطار العربية على أساس السيادة والمساواة.(1/75)
وبالنسبة لفلسطين، فقد أعرب البيان اللبناني أن القضية الفلسطينية تشغل خواطر اللبنانيين كغيرهم من أبناء الأقطار العربية إن لم يكن أكثر وذاك لمتاخمتها لحدود لبنان.
وقد برر البيان اللبناني نظرته إلى التعاون العربي على اعتبار أن الأقطار المستقلة أقدر على التعاون وتبادل المنافع بحرية.. وأن هذه الفوائد يجب أن لا تحرم منها الأقطار المحمية أو غير المستكملة لسيادتها، يقصد مناطق الخليج والشمال الإفريقي، بل يجب مد يد المساعدة إلى هذه الأقطار، ولم يفت واضع البيان اللبناني أن يوضح أن التحفظ الذي أبداه لبنان في الماضي "ويبديه اليوم" ما هو إلا نتيجة للنفوذ الأجنبي الذي عمل لإبعاد ما بين لبنان وسوريا، "أما الآن وقد تضاءل هذا النفوذ وسيزول غداً فستخف وطأة هذا التحفظ وتزول"..
كانت تلك خلاصة وجيزة للموقف اللبناني، وقد سلم البيان اللبناني إلى النحاس باشا ووضع في ملف مشاورات الوحدة العربية، ولم يصدر عنه بيان مشترك.. كما جرى مع الوفود العربية الأخرى.
وكان اليمن أو المملكة المتوكلية اليمنية، هو آخر ما ورد ذكره في محاضر المشاورات.. ولم تسجل في المحاضر الأحاديث التي جرت مع وفد اليمن، بل اكتفى بتلخيص الأحاديث السابقة "بأن اليمن يرحب بفكرة التعاون الثقافي والاقتصادي بين البلدان العربية على أن تحتفظ كل دولة بكامل سيادتها وحقوقها، ويكون هذا التعاون قائماً على أساس التساوي بين جميع الدول في الحقوق والمصالح المتبادلة".
أما بشأن أداة التعاون، فلم يلتزم ممثل اليمن بشيء، بل اكتفى بقوله "وعدت بأن أعرض على جلالة مولانا أمير المؤمنين ملك اليمن أيده الله فكرة(1/76)
تأليف هيئة من جميع البلدان المتعاونة لتتولى الإشراف على ذلك والمراجعة فيما يلزم لتنفيذ كل ما نتفق على لزومه".
وكانت هذه "الصياغة" اليمنية التقليدية في ذلك العهد المتوكلي "المراجعة فيما يلزم لتنفيذ كل ما نتفق على لزومه" المخرج والمدخل لمواقف اليمن العربية والدولية على السواء.
والآن، وبعد هذا السرد لمشاورات الوحدة العربية، التي استغرقت قرابة أشهر الصيف من عام 1943، وكما أوجزناها في هذين الفصلين، نستطيع أن نستخلص منها الحقائق الأساسية الآتية:
أولاً: إن "الوحدة العربية" أمر متفق عليه كهدف قومي، ويجب السعي لتحقيقه مهما كانت الظروف والمصاعب..
ثانيا: إن إقامة حكومة مركزية واحدة للأمة العربية فكرة مقبولة من حيث الأساس، ولكن الأحوال السائدة – 1943- في الدول العربية لا تسمح بتحقيقها.
ثالثاً: وبديلاً عن ذلك، فإن إقامة اتحاد تنفيذي أو غير تنفيذي، يمكن تحقيقه في أول فرصة مقبلة عند زوال الظروف الحاضرة.
رابعاً: إن وحدة سوريا الكبرى فكرة مقبولة من حيث المبدأ ولكن تعترضها ثلاث صعوبات: اختلاف النظم القائمة في أقطارها المختلفة، ومشكلة فلسطين، ولبنان، بالإضافة إلى عدم الارتياح لهذه الفكرة من قبل أكثر من دولة عربية واحدة.
خامساً: لم تكن مصر، وهي التي تولت الدعوة إلى مشاورات الوحدة وأمسكت بزمامها، قانعة بمشروع الهلال الخصيب الذي نادى به نوري باشا؛ ولا بمشروع سوريا الكبرى الذي دعا إليه الأمير عبد الله، وكذلك لم يكن سراً(1/77)
أن المملكة العربية السعودية كانت تعارض هذين المشروعين معارضة علنية.
سادساً: كانت السياسة البريطانية المعلنة تدعو إلى خطة "للوحدة العربية"تكون مقبولة لدى جميع الدول العربية، كما صرح بذلك المستر إيدن غير مرة، ورغماً عن أنها كانت متعاطفة مع الآراء السياسية التي تدعو إليها عمان وبغداد، ولكن بريطانيا كانت حريصة أكثر من ذلك أن تكون علاقتها حسنة مع جميع الدول العربية.. وكان اتجاه بريطانيا في السياسة العامة لما بعد الحرب، بالنسبة إلى الوطن العربي، تقوم لا على أساس "فرق تسد" ولكن على أساس أن التعامل مع الجميع أجدى وأنفع، ومن هنا كانت دعوة بريطانيا إلى "الوحدة العربية" اقتصاديا وثقافياً، وسياسياً كذلك، ولكنها "وحدة" على طريقة الكومنولث البريطاني، في أيام مجده.
سابعاً: لقد كان جو العلاقات بين الدول العربية مشوباً بالحذر والريبة.. فالرأي العام العربي منقسم بين المعسكرين العالميين المتحاربين، ومصير الوطن العربي في عالم ما بعد الحرب كانت تكتنفه احتمالات عن مشروعات جديدة للتجزئة والضم.. ولم يكن الرئيس السوري بعيداً عن الواقع حين ذكر أن بقاء النظام الجمهوري في سوريا هو عنصر سلام بين الدول العربية..
ولكن مصر، هي أكثر الدول العربية عراقة في العمل الدبلوماسي والسياسي، وأوسعها صلة بالعالم الدولي كانت تنظر إلى مشاورات الوحدة العربية من جوانب أخرى.. كانت مصر في تلك الحقبة، ومنذ أوائل العشرينات، مشغولة بوحدة أخرى، هي وحدة وادي النيل بالإضافة إلى موضوع الجلاء البريطاني عن مصر، وهذان الموضوعان كانا محور المفاوضات بين مصر وبريطانيا لسنين طويلة، وكانت الوزارات المصرية(1/78)
تقوم وتسقط على أساس هذين الموضوعين وخاصة موضوع وحدة وادي النيل.
يضاف إلى ذلك أن مصر لم تشأ أن تنحاز إلى أي جانب في المشرق العربي حول قضايا الوحدة أو الاتحاد، أو الهلال الخصيب ، أو سوريا الكبرى، فضلا عن أن المشاورات قد أوضحت أن رؤساء الوفود العربية لم يكن كلامهم بلغة مشتركة، فالوحدة لدى العراق يختلف معناها عند عمان، وكلاهما تربطهما سياسة مشتركة.. والوحدة عند سوريا معناها انضمام شرق الأردن إلى سوريا، وعند عمان معناها اتحاد عمان ودمشق تحت نظام ملكي.. والسعودية لا تريد أن تبحث في أمور لا تعرف بواعثها ولا أن تعمل في جو محاط بالدسائس "ولبنان" يقترب "من القضية العربية بكل تؤدة وحذر، ويرغب في توكيد الاستقلال والسيادة قبل الدخول في أي تعاون.. وأما اليمن المتوكلي فإنه يلتزم بما يختار أن يلتزم به.
هذه الأسباب جعلت مصر والدول العربية الأخرى، تترك المشاورات حيث انتهت.. تتركها إلى عام مقبل، إلى صيف 1944، ففي التأجيل فوائد شتى.
منها أن التأجيل لبضعة أشهر يعطي فرصة لمزيد من الاتصالات العربية، فذلك أدعى إلى تصور أوضح "للوحدة العربية" كيف يجب أن تقوم، وما هي "الأداة" التي يجب أن تعبر عنها، وما هي الاختصاصات التي يجب أن تمارسها.
ومنها أن الحرب العالمية الثانية لم تكن قد انتهت بعد، ففي صيف 1943 لم تكن انتصارات الحلفاء قد تأكدت، وإن كانت انتصارات دول المحور قد نزلت عن ذروتها، أضف إلى ذلك أن الدعاية النازية ، الواسعة(1/79)
الانتشار، كانت ما تزال تتحدث عن "الأسلحة السرية"التي سيستخدمها الجيش الألماني عند الحاجة، وكان من نتيجة ذلك أن انقسم الرأي العام العربي بين "الوحدة العربية" كما أعلنها الزعيمان الألمانيان هملر وروبنترون في فبراير 1943 أو "الوحدة العربية"كما أعلن عنها وزير الخارجية البريطاني المستر إيدن في عامي 1940 و1943.
ومنها أن معظم الحكومات العربية كانت قد أعلنت الحرب على دولتي المحور، واحدة بعد الأخرى، وأصبحت بريطانيا حليفة للعرب، رسمياً على الأقل ولم يفت الرئيس المصري في مشاورات الوحدة العربية أن يشير "أن هناك دولة بريطانيا وهي حليفتنا، وهناك الولايات المتحدة الأمريكية شريكتها الكبيرة في مسير الحرب ولكل منهما تصريحات كثيرة في مصلحة الأمم الصغيرة"، فكان هذا العامل سبباً يدعو إلى التعرف على رأي "الدولة الحليفة" في شأن "الوحدة العربية" شكلاً ومضموناً.
ذلك كله، كان السبب في إنهاء المشاورات عند الحد الذي وصلت إليه، ثم الانتقال إلى مرحلة التحضير للعمل.. وذلك كما ورد في عبارات النحاس باشا "بتأليف لجنة تمثل فيها البلاد العربية صاحبة الشأن لإتمام الأبحاث وتنسيق الأعمال لعقد المؤتمر العربي العام الذي نفكر في الدعوة إليه".
وهذا ما جرى فعلا، ففي شهر أغسطس من عام 1944 وجه النحاس باشا الدعوة إلى اجتماع اللجنة التحضيرية للمؤتمر العربي العام.
وهكذا انتقلت الوحدة العربية من مرحلة المشاورات إلى مرحلة المشروعات، وكانت الوفود العربية على موعد اللقاء، مرة ثانية، في الإسكندرية، وفي قصر انطونيادس.(1/80)
وكانت مفارقة غريبة حقاً أن مشاورات "الوحدة العربية" قد تمت في قصر انطونيادس لصاحبه اليوناني، وأن تقوم دار الجامعة العربية بعد سنين، مكان مبنى كان يعرف باسم قشلاق الإنجليز، وكان مقراً للقوات البريطانية في القاهرة، ثم تم تحريره وعودته إلى السيادة المصرية، بفضل بطولة الشعب المصري وجهاده..
ويبقى السؤال التاريخي، وهل يتم تحرير الجامعة العربية من الأغلال التي كبلت يديها والأصفاد التي قيدت قدميها، يوم نشأت قبل خمسة وثلاثين عاماً..
سؤال.. ونرجو أن يكون الجواب في هذا الكتاب.(1/81)
الفصل الخامس
بروتوكول الإسكندرية..
خفاياه وأسراره
في عام 1944 حينما كانت رحى الحرب تميل إلى جانب الحلفاء، كان المخططون السياسيون في كل من أمريكا وبريطانيا ينشرون الخرائط السياسية على جدران مكاتبهم، يدرسون ويبحثون، ويجمعون ويطرحون،(1/82)
ليضعوا تصوراً عاماً شاملاً لعالم ما بعد الحرب، ومصير دوله الكبرى والصغرى على السواء..
وبدأت التصريحات السياسية تتعاقب من الأربعة الكبار، أمريكا وبريطانيا، روسيا والصين، كل يتحدث عن المستقبل المشرق المرتقب بعد أن تضع الحرب أوزارها، ولم تكن فرنسا مع الأربعة الكبار فهي قد انهزمت في بداية الحرب واستسلمت، وبذلك تحطمت كدولة عظمى.
وكانت تلك التصريحات تتحدث عن عالم أفضل، عالم يسوده السلام والحق والعدل والحرية، وعلى رأسه منظمة عالمية تنقذ العالم من ويلات الحرب، وتكفل السلام العالمي، وتحقق للشعوب آمالها بالحياة الكريمة.. وكانت المنظمة العالمية المتصورة ، هي التي تجسدت بعد ذلك بقيام الأمم المتحدة، بدلاً من عصبة الأمم البائدة.
ولكن الكبار وخاصة الثلاثة منهم، وهم روسيا وبريطانيا وأمريكا، كانوا يوقنون أن الحرب الساخنة التي توشك أن تنتهي بانتصارهم وانكسار دولتي المحور، لا بد أن تتحول إلى حرب باردة، ولكن بين الحلفاء أنفسهم وهم الثلاثة الكبار إياهم.. لقد كانوا حلفاء لتحقيق النصر على ألمانيا وإيطاليا ولكن هذا الحلف الواحد سينتهي ليصبح كتلتين عالميتين متصارعتين، الكتلة الشرقية وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي، وكتلة الدول الغربية، أو ما سمي بالعالم الحر، مؤلف من الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا وبريطانيا.. وكانت بريطانيا، يومئذ "العظمى" حقاً.
وبدأت كل من الكتلتين في محاضر الحرب الباردة المقبلة تبحثان عن الأعوان والأنصار، والمواقع الإستراتيجية، وخطط النفوذ والسيطرة هنا وهناك.(1/83)
وفي ظل هذه الحسابات السياسية والعسكرية اتجهت الجهود إلى الإعداد لإنشاء الأمم المتحدة، ميثاقها ونظامها وسلطاتها، فعقدت الاجتماعات بين الكبار للتشاور والاتفاق على طبيعة النظام الدولي الجديد.
وكان الكبار يفكرون، كذلك، كل بدوره في أوضاع الأقاليم الحساسة في العالم ذات القيمة الإستراتيجية ومكانها في ظل النظام الدولي الجديد.. وقد أبرزت أحداث الحرب العالمية أهمية هذه المواقع متمثلة في أوروبا الغربية، وأوروبا الشرقية، والشرق الأوسط، وغيرها من المناطق.. وكان هنالك توافق غير مكتوب بين الكبار أن هذه المواقع هي مناطق نفوذ، موزعة بين الكبار.. هذه لتلك الدولة، وتلك لهذه الدولة.
وكان مفهوماً أن منطقة الشرق الأوسط منطقة حيوية تعتبر تابعة لنفوذ "العالم الحر" وبصورة خاصة بريطانيا، فقد كانت جيوش الحلفاء تحتل الوطن العربي من المحيط إلى الخليج وخاصة بعد أن اندحرت نهائياً قوات الجنرال رومل من الشمال الإفريقي وأصبحت الغلبة فيها لدول الحلفاء.
وكانت الصبغة الدولية لتغطية مناطق النفوذ هذه، أن تنشأ منظمات إقليمية تكون تحت مظلة الأمم المتحدة وتتعاون معها، في حفظ السلام والأمن كلٌّ في منطقته.
ومن هنا تبلورت فكرة إنشاء المنظمات الإقليمية، كهيئات دولية معترف بها، لها مواثيقها ونشاطاتها وصلاتها بالأمم المتحدة.. وذلك ما نص عليه ميثاق الأمم المتحدة كما وضع في صيغته النهائية في سان فرانسيسكو في ربيع عام 1945.. فقد أفرد الميثاق فصلاً خاصاً تحت عنوان المنظمات الإقليمية، بين فيه ماهيتها واختصاصها وعلاقتها بالأمم المتحدة بوصفها المنظمة الأم.(1/84)
هذه المقدمة البسيطة، لم يكن القصد منها دراسة المنظمات الدولية ونشوئها، ولكن أردنا أن نصل منها إلى عام 1944 حينما رأت بريطانيا أن خير وسيلة للتعامل مع الدول العربية هي أن تحملهم على إنشاء "منظمة إقليمية" تحت شعار "الوحدة العربية" وذلك بقصد أن تكون هذه "المنظمة الإقليمية" العربية في خدمة السياسة الغربية عامة والبريطانية بوجه خاص.
وقد رأت بريطانيا عن طريق الممارسة والتجربة فوائد مثل هذا التنظيم في ظروف الحرب، ذلك أن بريطانيا قد أنشأت في أوائل مراحل الحرب تنظيماً اقتصادياً أسمته "مركز تموين الشرق الأوسط" وكان مقره القاهرة، والغرض منه هو تشجيع الإنتاج في الوطن العربي، وتقليل الاستيراد بحيث يصبح قادراً على الاكتفاء الذاتي ما أمكن، وبذلك تكون موارد الأقطار العربية في خدمة المجهود الحربي، وقد شجع هذا المركز فعلاً على إنشاء صناعات محلية وتوسيع التبادل التجاري، وعقد اجتماعات اقتصادية للتشاور والتعاون والتنسيق بحيث أصبح المشرق العربي كله بمثابة سوق عربية مشتركة.
وهذه التجربة في إنشاء مركز "تموين الشرق الأوسط" في زمن الحرب هي التي جعلت بريطانيا تقدر قيمة الشرق الأوسط في زمن السلم كذلك، إذا أمكن "جمعه" في منظمة إقليمية تحت شعار الوحدة العربية.
ومع تطور الحرب لصالح دول الحلفاء، يوماً بعد يوم، أصبحت الدول الكبرى، تضع في تصورها السياسي الخطط العامة، كل فيما يخصها من مناطق النفوذ، السعي لإنشاء المنظمات الإقليمية التي تخدم مصالحها.. ومن هنا انطلق صانعو السياسة البريطانية في الوطن العربي يقومون باتصالات مكثفة في العواصم العربية من أجل أن "يبيعوا" حسب التعبير(1/85)
الأمريكي، فكرة إنشاء منظمة إقليمية إلى الأمة العربية، تكون شاملة للدول العربية..
والدارس لنشاط بريطانيا في تلك الحقبة يلاحظ بصورة واضحة أنه ما أن انتهت مشاورات الوحدة العربية في صيف عام 1943 حتى اندفع سفراء بريطانيا في الدول العربية يقومون بحملة إقناع كبرى لدفع قادة العرب إلى أن يجمعوا صفوفهم في منطقة إقليمية.. ويقع الباحث في تلك الحملة على أسماء شهيرة من الدبلوماسيين البريطانيين الذين اكتسبوا خبرة واسعة في شئون البلاد العربية وأصبحت لهم صداقات وطيدة مع عدد من زعماء العرب، تذكر منهم: كاهان كورنواليس سفير بريطانيا في العراق، والجنرال جلوب باشا قائد الجيش الأردني في عمان، والسير والترسمارت السكرتير الشرفي في السفارة البريطانية، وريتشارد كيسي وزير الدولة البريطاني لشئون الشرق الأوسط في القاهرة، وخلفه اللورد مويني الذي اغتاله الصهيونيون قرب منزله في أبرز أحياء القاهرة، ولا ننسى الجنرال سبيرز رئيس البعثة البريطانية في سوريا ولبنان الذي كاد أن يصبح أسطورة مثل لورنس في "حماسته" للقضية العربية، ومواقفه السياسية في دعم الحركة الوطنية السورية اللبنانية والعمل على إجلاء القوات الفرنسية عن سوريا ولبنان والمناداة باستقلالهما.
كل هؤلاء، "وأصدقاؤهم" من العرب قد أقاموا صالونات سياسية في الوطن العربية تبحث موضوع إقامة منظمة إقليمية عربية تظفر باعتراف الأمم المتحدة يوم تقوم تلك المنظمة العالمية.
ولقد كان هذا هو الجو السياسي في البلاد العربية في صيف 1944 حينما وجه النحاس باشا الدعوة إلى الحكومات العربية اختيار "لجنة تحضيرية(1/86)
لمؤتمر عربي" تكون مهمتها الانتقال من مرحلة المشاورات إلى مرحلة المشروعات لتحقيق "الوحدة العربية".
ولا بد من القول هنا أن الرأي العام العربي لم يكن غائباً عن الساحة، فقد كانت الصحافة العربية في الوطن العربي، وكانت يومئذ ملكاً لأصحابها وأحزابها، تدعو إلى إقامة وحدة عربية حقيقية وتحذر الدول العربية من أن تكون "الوحدة العربية" مطية لتحقيق الأهداف الاستعمارية البريطانية، كما كان "الاستقلال العربي"شعاراً بريطانياً في الحرب العالمية الأولى، لاقتسام البلاد العربية وتجزئتها بعد سقوط الدولة العثمانية.. والكلام في إيضاح زخم الرأي القومي بصدد الوحدة العربية أوسع من أن يتسع له هذا الفصل، والمهم أن نؤكد أنه كان جارفاً وعالياً يعم الوطن العربي كله، وخارج حدود الدول العربية السبع.
وفي مثل هذا الجو العربي الرسمي، والبريطاني من جانب، والعربي القومي من جانب آخر، انعقد في 25 سبتمبر 1944 أول اجتماع للجنة التحضيرية للمؤتمر العربي العام سبقته حفلة شاي أقامها النحاس باشا على شرف رؤساء الوفود العربية، وعزف فيها النشيد الوطني للدول العربية المشتركة وتبودلت فيها الخطب الرسمية.
وقد برز في الخطب الاتجاهان إياهما، العربي الرسمي، والعربي القومي، في السطور وما بين السطور، في تلك الخطب حتى قبل أن تبدأ اللجنة التحضيرية أعمالها، ويدلي الوفود بآرائهم..
ففي الكلمة التي ألقاها النحاس باشا، وكانت مكتوبة بلغة الدواوين المشرقة التي ألفناها أيام الصبا في بيانات حزب الوفد المصري، فقد أعلن النحاس باشا أنه "علينا أن نعمل على ما فيه صلاح حالنا وحسن مآلنا.. وذلك(1/87)
هو في الواقع ما أردناه بمشروع الوحدة العربية الذي نادينا له اليوم بهذا الاجتماع السعيد".
ومن هذا المفهوم القاصد لمعنى الوحدة العربية عن "صلاح الحال وحسن المآل" انتقل النحاس باشا إلى التوكيد بأن المشرق العربي ديمقراطي بطبيعته وأنه برهن في الحربين العالميتين على "ديمقراطيته وساهم في فوز قضية الحق والعدل" والإشارة هنا واضحة تضع المشرق العربي في معسكر الحلفاء.
ولم يفت الرئيس المصري كذلك أن يشير إلى أن نهضة المشرق العربي ستصبح من أقوى دعائم الأمن "وعوامل السلام في العالم" وهذه إشارة واضحة إلى الأهداف الرئيسية "للمنظمات الإقليمية" كما كانت محددة في مشروعات دول الحلفاء.. وكانت خلاصة هذه المشروعات قد حملها السفراء البريطانيون إلى العواصم العربية للاطلاع عليها ودراستها..
وإذا كانت خطبة الرئيس المصري تعكس الفكر العربي الرسمي، فإنه على النقيض من ذلك جاءت خطبة الوفد السوري لتعكس الفكر العربي القومي، فقد تحدث الرئيس السوري عن "تحقيق الغاية العظمى التي تسعى وراءها الأقطار العربية الأربعة لتؤلف وحدة قوية، من أجزاء متماسكة في السلم والحرب. وهي وحدة نعتبرها لنا ضرورة من ضرورات الحياة وسبباً من أسباب البقاء"..
ثم عاد الرئيس السوري وأكد معنى الوحدة مرة ثانية في ختام كلمته فقال: "إن أحسن تعبير للمهمة التي نتهيأ للقيام بها هو ما قاله رئيس جمهوريتنا، وهو أن البلاد السورية تأبى أن يرتفع في سمائها لواء يعلو على(1/88)
لوائها، إلا لواء الوحدة العربية.. وهذه الكلمة هي عنوان السياسة التي أوصى بها إلينا رئيسنا وحملتنا إياها أمتنا".
واكتفى رئيس وفد الأردن أبو الهدى باشا بتوجيه كلمة شكر موجزة مثنياً على مصر على "ما أظهرت من عطف وتأييد للمشروع العظيم الذي دعوتم إليه بصدق وإخلاص، ووصفتموه لنا الآن أحسن وصف بأوضح أسلوب" وبذلك يكون الرئيس الأردني متفقاً مع النحاس باشا في أن أوضح أسلوب لمفهوم الوحدة العربية يجب أن يكون خالياً من الوضوح.. وألقى كلمة العراق رئيس الوزراء السيد حمدي الباجة جي، فقد كان نوري باشا هو العضو الثالث في الوفد العراقي، وكان آنذاك قد خرج من الحكم، ليحكم من الخارج أكثر مما يحكم من الداخل، وقد بدا واضحاً أن كلمة العراق خالية من أي كلام عن الوحدة العربية، ولا عن الدولة الاتحادية في أي شكل من أشكالها مقتصراً على القول "إن الأفكار في الحرب العالمية الأولى كانت متجهة نحو إحياء تراث الماضي وتأسيس كيان سليم وصالح من أجزاء البلاد العربية المشتتة والعمل على توطيد الصلات الأخوية وترسيخها كما نوهتم رفعتكم عن ذلك في خطابكم البليغ.. ونحن العرب أولى من غيرنا بضرورة التعاون والتآزر. وتأييد العمل بمثل هذه الفكرة وتحقيقها"..
وأكدت خطبة لبنان اعتزاز ممثليه بوجودهم بين ممثلي "الأمم العربية" وهو تعبير النحاس الذي كان يردده دوماً كلما أراد التحدث عن الأمة العربية فيشير بلفظ الجمع إلى "الأمة العربية".. وأوضح المندوب اللبناني أن المهمة الملقاة على عاتق اللجنة التحضيرية تدعو إلى جمع الشمل للتعاون الوثيق، وختم كلامه بأن لبنان أخذ على نفسه عهداً أن لا يكون للاستعمار مقراً، ولا لاستعمار إخوانه البلدان العربية "ممراً" وأن يكون ويبقى سيداً عزيزاً مستقلاً(1/89)
حراً.. وأنه سيظل أبداً في الرعيل الأول عاملاً على تأليف القلوب وتوحيد الصفوف.
أما وفداً المملكة العربية السعودية والمملكة المتوكلية اليمنية فلم يتحدثا لأنهما لم يحضرا جلسة الافتتاح، وكان أن أبرق النحاس باشا بصفته رئيساً للجنة التحضيرية إلى كل من الملك عبد العزيز آل سعود، والإمام يحيى حميد الدين ملك اليمن، يرجوهما إيفاد من يمثلهما في الاجتماعات.. فحضر السيد حسين الكيسي مندوباً عن الإمام يحيى "بصفته مستمعاً ولسد الفراغ الذي أشرتم إليه" كما ذكرت البرقية الجوابية من رئيس الديوان الملكي في اليمن، وكان طبيعياً أن لا يكون في كلمة مندوب اليمن ما هو جدير بالتسجيل فإنه قد حضر لسد الفراغ، وإن كان الفراغ قد بقي على حاله.
وفي الجلسة الثالثة حضر الشيخ يوسف ياسين والسيد خيري الدين الزركلي عن المملكة العربية السعودية، وخطب الشيخ يوسف خطبة منبرية، حيا فيها "جلالة العاهل الأكبر مجدد نهضة مصر ورافع لواء العمران والعرفان فيها صاحب الجلالة الملك فاروق الأول حفظه الله.. كما حيا مصطفى مصر الذي كان له الفضل الأوفر في الاجتماع بهذا البلد "وبعد عبارات مشرقة عن العروبة وموقع الجزيرة العربية، حدد الغرض من الاجتماع بأنه لإعادة عهد من الإخاء والتعاون يشعر الجميع بالحاجة إليه..
وابتدأ العمل في اللجنة التحضيرية، بحضور الوفود السبعة، وأخذت كثير من ملامح المولود المرتقب تبدو شيئاً فشيئاً.. ذلك أنه بعد انتهاء المشاورات العامة، والخطب العلنية، أصبح لا بد من تسمية الأشياء بأسمائها، ولا بد من تحديد "هيكل" العمل العربي، شكلاً وهدفاً، واسما وموضوعاً..(1/90)
ولا بد أن نلاحظ في هذا المجال أن اللجنة التحضيرية، وهي في الواقع تمثل جميع الوفود، برؤسائها وأعضائها، قد عقدت ثماني جلسات متوالية تقريباً، وفي الأيام السبعة من شهر أكتوبر انعقدت يومياً باستثناء يوم الجمعة، وكان العمل يمضي بسرعة كأنما كان هنالك "سوط" يلهب ظهر اللجنة للفراغ من عملها في أقرب وقت، وكانت كأنها في سباق مع الزمن، وسيظهر السبب بعد نهاية أعمال اللجنة.
وفي الجلسة الثانية ذكر النحاس باشا أنه يجب المضي في التنفيذ بأسرع ما يستطاع، ونحن نريد نتائج محققة".. ولم يكن أحد من الوفود العربية يدري السبب في هذا السباق.
وفي الجلسات الأولى فتح ملف "الوحدة العربية"من جديد، فقد كانت المشاورات حول هذا الموضوع في الصيف الماضي ثنائية بين النحاس باشا والوفود العربية.. واحداً بعد الآخر، أما في هذه المرحلة فإن الوفود العربية السبعة تلتقي لأول مرة متجمعة، وتناقش مواضيع الوحدة، الاتحاد، التعاون، وأداة التعاون وما إلى ذلك.
وعرض النحاس باشا أن يبدأ بمناقشة أداة التعاون لأن الاتفاق عليها يبين مدى التعاون؛ وهنا تساءل الوفد العراقي عن رأي مصر في هذا الموضوع، فأجاب النحاس باشا بأن مصر كونت رأيها فعلاً وهي تفضل إبداءه على ضوء المناقشات.
وهنا توقف المجتمعون عن المناقشة، ينظر بعضهم إلى بعض، وهم في حالة صمت وتردد، ينتظرون أحداً أن يفتح الموضوع، الذي أصبح "حساساً"كما وصفه الوفد العراقي.(1/91)
وانبرى السيد رياض الصلح رئيس وزراء لبنان للكلام: "ما دامت الهيأة تتردد في مناقشة الموضوع"، على حد تعبيره، ثم أوضح في كلام طويل أنه يتعين أولاً أن يقوم العمل العربي على أساس احترام استقلال كل بلد وسيادته، وقضية التعاون وأداته يهون أمرها، وخلص بعد ذلك إلى القول إنه إذا كان المقصود من الوحدة هو الانقضاض من الاستقلال لقُضِيَ على التعاون، وأنه ما دامت فكرة الحكومة المركزية قد استبعدت فينبغي الاقتصار على التعاون.. ولم يكن غريباً هذا الكلام من رئيس الوزراء اللبناني فإن انضمام لبنان إلى هذه الاجتماعات كان شرطه الأول والأخير الاحتفاظ بالاستقلال والسيادة كاملين غير منقوصين.
وتدخل الرئيس السوري ليقول بنبرة حاسمة بأن سوريا لا ترى عن الوحدة بديلاً، وأنها مستعدة للتنازل عن كل سيادتها لتحقيق هذه الغاية.. ثم أضاف إلى ذلك أنه ما دامت الظروف والحوادث قد قضت بأن تكون هنالك دول عربية متعددة لشعب عربي واحد فإن سوريا مضطرة أن تبحث الأمور على هذا الضوء ولكن ذلك لا يمنع أن يكون للبلاد العربية اتجاه سياسي واحد لأن مصلحة الجميع تقضي بأن تكون السياسة الخارجية موحدة فلا يستطيع عضو من أعضاء الدول العربية الخروج عنها.
وعاد الرئيس اللبناني إلى الكلام مرة أخرى، وهو من قادة الحركة العربية الوحدوية الأوائل، فقال إن سوريا تريد الوحدة العربية بكل ما تعنيه هذه الكلمة،وأنه لو كان ممثلاً عن سوريا لقال الكلام الذي قاله الرئيس السوري ثم استطرد يشرح ظروف لبنان الداخلية والخارجية وأكد أنه يجب أن يبدأ بقضية الاستقلال والعمل على احترامه أولاً.. واستشهد بما قاله(1/92)
ممثلون "لدول أعرق عروبة" (يقصد السعودية) بأنهم يؤثرون تأجيل النظر في التعاون السياسي إلى أن تتغير الظروف.
وعند هذا الكلام الحاسم عن الاستقلال تدخل النحاس باشا ليقول بأن استقلال الدول العربية جميعاً هو أساس وجودها في هذه الاجتماعات، وانضم إلى هذا الموقف نوري باشا السعيد وأبو الهدى باشا على اعتبار أن الدول العربية ترغب في زيادة التعاون والتضامن فيما بينها، ولكن على أساس الاحتفاظ بكامل سيادتها واستقلالها.. وذهب نوري باشا إلى أبعد من ذلك، وهو صاحب مشروع الهلال الخصيب، فطلب إلى الوفد السوري أن يقنعه بإمكان تأليف حكومة مركزية للبلاد العربية كلها، "وإلا فليوافق معنا على استبعادها ليكون هناك إجماع في الموضوع"..
وبطبيعة الحال فقد كان "الإجماع" مطلوباً حول هذا الموضوع من أجل الرأي العام العربي الذي كان يطالب خارج الاجتماع بالوحدة العربية بأي شكل من أشكالها.. وقد ظل "الإجماع" مصيبة الجامعة العربية طوال حياتها..
وتدخل وزير الخارجية السورية السيد جميل مردم وطلب أن يتعرف على رأي مصر في الموضوع، فأجابه النحاس باشا بأن مصر ترى استبعاد موضوع الحكومة المركزية.. ونص المحضر بعد ذلك "أنه تقرر بالإجماع، بما في ذلك رأي مصر، استبعاد تاليف حكومة مركزية للبلاد العربية كلها لتعذر ذلك، ولمساسه باستقلال البلدان العربية وهي جميعاً تريد المحافظة على هذا الاستقلال.
وبعد استبعاد الوحدة على شكل حكومة مركزية انتقل البحث إلى الاتحاد، على الوجهين: التنفيذي وغير التنفيذي.(1/93)
وهنا أخذت مصر تكشف عن رأيها شيئاً فشيئاً لتقود المناقشة إلى حيث تريد، فتكلم الوفد المصري (الهلالي باشا) وقال ملخصاً المشاورات حول هذا الموضوع: الخلاصة أن الإجماع منعقد على تكوين هيئة للأمم العربية والخلاف هل يكون رأي هذه الهيئة ملزما أو غير ملزم.. ولا بد من وجود هيئة والموضوع المطروح للمناقشة هو هل يكون رأيها ملزماً للجميع أوملزماً لمن يقبله.
وكانت هذه أول مرة تفصح فيها مصر عن قيام هيئة عربية وعما إذا كانت قراراتها ملزمة أو غير ملزمة وسنرى في هذا الكلام "بذور" الجامعة العربية وميثاقها واختصاصها.
وعقب السيد جميل مردم، وزير الخارجية السورية على كلام الهلالي باشا، بأن الإلزام في الأمور الداخلية قد استبعدناه، أما في الأمور الخارجية فلا بد من الإلزام إذا وحدنا السياسة الخارجية..
ورأى نوري باشا أن تكون القرارات ملزمة في المسائل التي يمكن أن تضر بأي من الدول العربية، أما في غير ذلك فيمكن التساهل ويكون القرار غير ملزم.. "وعلى سبيل المثال فإنه لا يصح أن تتوجه بعض الدول العربية إلى اتجاه سياسي يضر بالدول العربية الأخرى".
وتدخل النحاس باشا ليحسم الأمور في موضوع الإلزام وعدم الإلزام، فأكد أن فكرة اتحاد عربي له سلطة تنفيذية وقراراته ملزمة أمر يستبعده الجميع للأسباب نفسها التي أدت إلى استبعاد فكرة الحكومة المركزية، وأنه لا يبقى بعد ذلك إلا الرأي الأخير وهو تكوين اتحاد لا تكون قراراته ملزمة إلا لمن يقبلها.(1/94)
وطلب الوفد السوري تأليف لجنة فرعية لبحث الموضوع من جميع نواحيه.. ولكن النحاس باشا رأى أن في ذلك ضياعاً للوقت وأنه يرغب أن يتلو على الوفود صيغته التي وضعها .. وراح النحاس باشا يقرأ من ملفه اقتراحه كما يلي:
"تؤلف جامعة الدول العربية من الدول العربية المستقلة التي تقبل الانضمام إليها، ويكون لهذه الجامعة مجلس يسمى مجلس جامعة الدول العربية تمثل فيه الدول المشتركة في الجامعة على قدم المساواة وتكون مهمته مراعاة تنفيذ ما تبرمه هذه الدول فيما بينها من الاتفاقات وعقد اجتماعات دورية للنظر بصفة عامة في شئون البلاد العربية ومصالحها وتوثيق الصلات بينها وتنسيق خططها السياسية تحقيقاً للتعاون فيها.. وتكون قرارات هذا "المجلس" ملزمة لمن يقبلها، فيما عدا الأحوال التي يقع فيها خلاف بين دولة عربية وأخرى ففي هذه الأحوال تكون قرارات مجلس الجامعة نافذة ملزمة"، وسنرى هذه المعاني في "ميثاق الجامعة" في الفصول اللاحقة.
ولم يتسع الوقت لتعليقات مستفيضة سوى ما قاله الرئيسان اللبناني والسوري إن حكم المجلس يكون ملزماً بصدد الخلافات بين الدول العربية إلا فيما يتعلق بالاستقلال والحدود.
وقد وضح من الصيغة التي قرأها النحاس باشا، أن "الهيئة" التي كان يتحدث عنها الهلالي باشا هي "الجامعة العربية" وأن ملف الوفد المصري كان يحتوي مشروعاً كاملاً عن "الجامعة العربية" وأن الخبراء والدبلوماسيين المصريين كانوا يتجهون في صياغتهم نحو إنشاء "منظمة إقليمية" تقوم على أساس التعاون والتنسيق وقد أعطى لهذه المنظمة الإقليمية اسم "جامعة" و(1/95)
"عربية" ولتكون عند الرأي العام العربي الذي كان يلح على الوحدة، كذلك، وهذا هو الأهم، لتحمى الوفود العربية الرسمية من غضبة الجماهير العربية.
والواقع أن لفظ جامعة قد أثار جدلاً كبيراً.. فقد تساءل السيد أرشد العمري، عضو وفد العراق، لماذا استعملنا كلمة "الجامعة" ولم نقل الحلف والاتحاد..
وأصر الوفد السوري على استعمال لفظة "حلف" لأن كلمة "جامعة" تستعمل في الدلالة على شعوب غريبة عن بعض.
وتدخل الهلالي باشا من الوفد المصري، ودافع عن لفظ "الجامعة" بأنها تؤدي معاني الارتباط الوثيق استئناساً بالقول المعروف "الصلاة جامعة" و"يد الله مع الجماعة".
ثم جرت مناقشات عامة حول الصيغة التي تلاها النحاس باشا، عبارة عبارة، وكلمة كلمة، وانتهى الأمر إلى تأليف لجنة فرعية لتنظر في الصياغة على ضوء الملاحظات التي أبدتها الوفود العربية، ولم تدخل اللجنة الفرعية إضافات أساسية على صيغة الوفد المصري سوى عبارة واحدة وهي: "لا يجوز في أية حال إتباع سياسة خارجية تضر بسياسة جامعة الدول العربية أو أية دولة منها".
والواقع أن الدارس لمحاضر المداولات يستطيع أن يلاحظ فوراً أن الوفد المصري كان يعرف ما يريد على الضبط، وأن خبراءه والقانونيين والدبلوماسيين قد ملئوا ملفاتهم بمختلف الصياغات والدراسات، وأنهم كانوا حاضرين للإجابة عن كل سؤال، والخروج من كل مأزق بأكثر من مخرج.. على حين كانت الوفود العربية الأخرى لا تحمل معها إلا آمالاً وأفكاراً عامة ليست لها قوالب جاهزة ولا صياغات يمكن الاعتماد عليها، ولذلك فقد كان(1/96)
طبيعياً أن تفوز مقترحات مصر "بالقبول" العام قبلت الوفود العربية أو لم تقبل.
ثم إن السيد جميل مردم وزير الخارجية السورية أراد أن يضيف عبارة تتصل بموضوع استقلال لبنان ليقفل هذا الباب بعد أن اتفقت الكلمة حسب صيغة النحاس باشا أن "الجامعة العربية" قائمة على أساس احترام السيادة والاستقلال لكل دولة عربية، فاقترح أن يصدر تصريح ينص على "أن الدول العربية تؤيد مجتمعة احترامها لاستقلال لبنان وسيادته بحدوده الحاضرة وهو ما سبق لحكومات هذه الدول إن اعترفت به بعد أن انتهج سياسة استقلالية أعلنتها حكومته في بيانها الوزاري الذي نالت عليه موافقة المجلس النيابي بالإجماع في 7 أكتوبر 1947".
ووافقت الوفود العربية على هذا التصريح وأن يكون جزءاً من الوثيقة التي تصدر عن الهيئة التحضيرية.. وأسقطت سوريا تحفظاتها الإقليمية على لبنان.
وبعد أن انتهت قضية لبنان بهذا التصريح، انتقل البحث إلى القضية الفلسطينية، وطلب النحاس باشا إلى السيد موسى العلمي ممثل عرب فلسطين، يومئذ، أن يدلي ببيان عن القضية من جميع وجوهها.
وتحدث السيد العلمي مفصلاً عن القضية الفلسطينية منذ وعد بلفور إلى عهد الانتداب البريطاني، مستعرضاً نضال الشعب الفلسطيني وثوراته المتعاقبة لمقاومة الهجرة اليهودية وإنشاء الوطن القومي اليهودي، ووضع أمام الوفود العربية جميع الأرقام والوقائع التي مرت بها القضية الفلسطينية حتى الأربعينات، والحلول المختلفة، التي اقترحتها بريطانيا لتسوية المشكلة، والأوضاع الخطيرة التي يواجهها الشعب الفلسطيني وهو يتصدى بمفرده(1/97)
للصهيونية والاستعمار البريطاني معاً، وتطرق كذلك إلى موضوع الأراضي وضرورة الحفاظ على عروبتها ومساندة الشعب الفلسطيني بكل وسائل الدعم الاقتصادي والسياسي، وفي نهاية بيانه تقدم باقتراحات سياسية وإعلامية واقتصادية لدعم نضال الشعب الفلسطيني. وبعد أن أنهى السيد العلمي بيانه الوافي قال النحاس باشا: "الحقيقة إن هذا الكلام أزعجني جداً وما كنت أظن أن المسألة خطيرة إلى هذا المدى" وثنى على كلامه رئيس وزراء العراق بقوله "الحقيقة أننا تأثرنا" ثم عاد النحاس باشا إلى ملفه فقرأ منه اقتراحاً عن فلسطين بالنص التالي:
"ترى اللجنة أن فلسطين ركن مهم من أركان البلاد العربية وأن حقوق العرب لا يمكن المساس بها من غير إصرار بالسلم والاستقرار في العالم العربي، كما ترى اللجنة أن التعهدات التي ارتبطت بها الدولة البريطانية والتي تقضي بوقف الهجرة اليهودية والمحافظة على الأراضي العربية والوصول إلى استقلال فلسطين هي من حقوق العرب الثابتة التي تكون المبادرة إلى تنفيذها خطوة نحو الهدف المطلوب ونحو استتباب السلم وتحقيق الاستقرار. وتعلن اللجنة تأييدها لقضية عرب فلسطين بالعمل على تحقيق أمانيهم المشروعة وحقوقهم العادلة وتصرح اللجنة بأنها ليست أقل تألماً من أحد لما أصاب اليهود في أوروبا من الويلات والآلام على يد بعض الدول الأوروبية الديكتاتورية، ولكن يجب ألا نخلط بين مسالة هؤلاء اليهود وبين الصهيونية، إذ ليس أشد ظلماً من أن تحل مسألة يهود أوروبا بظلم آخر يقع على عرب فلسطين على اختلاف أديانهم ومذاهبهم"..
وقد وضع هذه الصياغة البارعة عن القضية الفلسطينية، التي جمعت بين الدبلوماسية والحفاظ على الأسس الوطنية للقضية الفلسطينية، أن مصر قد(1/98)
جاءت إلى المباحثات وهي على أتم الاستعداد في عرض مواقفها وإعداد وثائقها..
وفي الجلسة النهائية (7 أكتوبر (تشرين الأول) 1944) التي عقدت للاستماع إلى الصيغة النهائية لما جرى عليه الاتفاق بشأن الجامعة العربية ولبنان وفلسطين، افتتح النحاس باشا الجلسة "ببشرى إلى الزملاء المحترمين بأن الزميل السيد حسين الكيسي تلقى برقية من الإمام يحيى يأذن له فيها بالاشتراك في أعمال اللجنة" وهي موجهة من "الإمام يحيى إلى الولد حسين الكيسي تأمره بالاشتراك في اللجنة التحضيرية بشرط عدم التعهد بشيء إلا بعد العرض علينا لنوافق على ما نرى" وقد جاءت هذه البرقية عند نهاية النهاية.
لقد كان عمل اللجنة الفرعية منتهياً، وهو مؤلف من بيان صادر عن اللجنة التحضيرية، بروتوكول مرافق (ملحق رقم 3).
وقد وقع رؤساء الوفود على الوثيقتين باستثناء الوفدين السعودي واليمني فقد أرجآ إبداء الرأي بعد عرضها على ملكي الدولتين، وقد وقعاهما فيما بعد بتاريخ 3 يناير (كانون الثاني) 1945 و5 فبراير (شباط) 1945.
وقد أعلنت اللجنة في البيان: "أن تلك الفرصة السعيدة التي هي بحق من أعظم الصفحات وأمجدها في تاريخ العرب فتزف إلى البلاد العربية قاصيها ودانيها أطيب تهانيها وأصدق أمانيها".
وأما البروتوكول، وهو الذي اشتهر فيما بعد ببروتوكول الإسكندرية فقد نص على إنشاء جامعة الدول العربية، وعلى أوجه التعاون في الشئون الاقتصادية والثقافية والاجتماعية وغيرها، وعلى قرار خاص باستقلال لبنان، وعلى قرار خاص باستقلال فلسطين.. وعلى تأليف لجنة لإعداد مشروع(1/99)
لنظام "مجلس الجامعة" ولبحث المسائل السياسية التي يمكن إبرام اتفاقات فيها بين الدول العربية. وبعد يومين من صدور البيان والبروتوكول، أعفي النحاس باشا من الحكم، وأصدر الملك فاروق أمراً بتعيين حكومة جديدة برئاسة أحمد ماهر باشا.
وكانت أزمة الحكم قد بدأت قبل ذلك بقليل، هل يبقى النحاس باشا في الحكم أو لا يبقى، لأسباب خارجة عن الصدد، وكان هذا هو "السوط" الذي أشرنا إليه في العمل، والاتفاق، والتوقيع، والإعلان حتى من غير موافقة السعودية واليمن..
وكان مقدراً أن تأتي إلى الميدان حكومة مصرية أخرى، ولكن البروتوكول ظل هو العمود الفقري لهيكل "الوحدة العربية" التي بقي اسمها عنواناً للعمل العربي.
وسنرى فيما بعد كيف أصبح البروتوكول، في معظم معانيه ونصوصه، هو ميثاق جامعة الدول العربية توقعه الدول العربية بعد خمسة أشهر من تاريخ البروتوكول..
وكلاهما: البروتوكول والميثاق، يعنيان "منظمة إقليمية" اسمها "جامعة الدول العربية".
وسنرى بالتفصيل، والدراسة المقارنة، أن هذه "الجامعة" وهذا "الميثاق" بعد أن تشطب منهما لفظة (عربية) يمكن أن تنضم إليه أية مجموعة من الدول الأجنبية. والغريبة بعضها عن بعض.. بل وفي أية قارة من قارات العالم.(1/100)
الفصل السادس
وجاء دور أمريكا في الوقت المناسب
كان مقدراً، لحكومة النحاس باشا، أن تتلقف من فم المستر إيدن وزير الخارجية البريطانية تصريحه الشهير بشأن الوحدة العربية، وتبدأ العمل على طريقة المشاورات الثنائية مع وفود الحكومات العربية، ثم الاتفاق على صيغة بروتوكول الإسكندرية، وتوقيعه، وإعلانه على الرأي العام العربي.
وبعد أن أقيلت حكومة النحاس باشا من الحكم، انتقلت تركة "الوحدة العربية" إلى حكومة أحمد ماهر باشا لتبدأ العمل من حيث انتهى في خريف 1944، واستؤنفت الاتصالات مع الحكومات العربية لعقد اللجنة الفرعية التي(1/102)
عهد إليها بوضع مشروع ميثاق جامعة الدول العربية.وقد انعقد الاجتماع الأول للجنة في منتصف شهر فبراير (شباط) 1945 بدار وزارة الخارجية المصرية، فقد كان الوقت شتاء، ولم يعد من داع لعقده في قصر انطونيادس في الإسكندرية..
ولم يكن التغيير قاصراً على مكان الاجتماع وموعده، ولكن التغيير أصاب الحكومات العربية السابقة التي شاركت في مشاورات الوحدة العربية، فقد سقطت مع النحاس باشا، والأسباب مختلفة من غير شك، ولكن القاسم المشترك الأعظم الذي ساهم في إسقاطها أن الرأي العام العربي لم يكن راضياً عما انتهى إليه الأمر في نصوص بروتوكول الإسكندرية، مستبعداً الوحدة العربية، ولو في خطوة أولى على الطريق..
وهكذا، بالإضافة إلى استبدال النحاس باشا بأحمد ماهر باشا لرئاسة الوزارة المصرية، فقد استبدل رياض الصلح بالسيد عبد الحميد كرامي رئيساً لوزراء لبنان، واستبدل توفيق باشا أبو الهدى بسمير باشا الرفاعي رئيساً لوزراء شرق الأردن، واستبدل السيد سعد الله الجابري بالسيد فارس الخوري رئيساً لوزراء سوريا، واستبدل السيد حمدي الباجة جي بنوري باشا السعيد رئيس وزراء العراق؛ ولم يكن ذلك محض صدفة، ولكنها قوة الرأي العام العربي في الإصرار على الوحدة العربية، وهي أيام كان فيها الرأي العام العربي، حراً سيداً مستقلاً، ولم يكن قد وقع تحت "احتلال"السلسلة الطويلة من الحكم العربي المعاصر، وتحت سيطرة مخابراته وصحافته، وزبانيته..
وقد وضح الاهتمام بالرأي العام العربي في خطبة الافتتاح التي ألقاها محمود فهمي باشا النقراشي وزير الخارجية المصرية، فبعد أن أشار إلى مهمة اللجنة الفرعية في إتمام الدور النهائي لإقامة بناء جامعة الدول العربية(1/103)
أعرب عن تمنياته في تحقيق "رغبات الشعوب العربية كلها" التي بقيت أجيالاً عديدة تتطلع إلى اتحادها ومجدها".. وأشار في موضع آخر إلى هدف الاجتماع بقصد إقامة "السلام والاتحاد والتعاون في ساحة الشعوب العربية.. وأن العالم سيعلم أن الدول العربية المتحدة في الجامعة العربية ليست أداة للاعتداء أو السيطرة على الغير، بل وسيلة للتعاون مع من يريد التعاون معها على أساس العدل والحرية للجميع"..
ولقد كانت مخاطبة الرأي العام العربي بارزة في خطاب مصر، بالإضافة إلى الإشارات المتكررة إلى "الاتحاد".. تطميناً وتهدئة للجماهير العربية التي لم تكن راضية عن حكوماتها..
ولقد امتازت الاجتماعات في هذه المرحلة بالعمل المتواصل، يوماً بعد يوم، فقد عقدت ستة عشر اجتماعاً استمرت من 14 فبراير (شباط) 1945 إلى 3 مارس (آذار) 1945 للاتفاق على مشروع ميثاق جامعة الدول العربية، وكانت الجلسة الأولى مخصصة للبحث في أمر حضور السيد موسى العلمي مندوباً عن فلسطين، كما جرى في الاجتماعات السابقة في الإسكندرية.. وقد طال الجدل بين وزير الخارجية اللبنانية السيد هنري فرعون، وبقية الوفود العربية بصدد الصفة التي يحضر فيها مندوب فلسطين، وما إذا كان له حق الاشتراك في المناقشات العامة وحق التصويت، أو أن مشاركته قاصرة على بحث القضية الفلسطينية وإبداء الرأي بشأنها.
وكانت اعتراضات الوزير اللبناني منبثقة من موضوع السيادة والاستقلال، فقد كان لبنان كما أسلفنا في الفصول السابقة، موافقاً على الانضمام إلى الجامعة ولكن باعتباره دولة مستقلة ذات سيادة ومعترفاً بها،(1/104)
ومن هنا فإنه لا يرى مبرراً قانونياً لاشتراك فلسطين في مباحثات الجامعة العربية وهي ليست دولة ذات سيادة.
وقد طال الأخذ والرد في الأمر وانتهى بالموافقة على إصدار بيان رسمي يعلن "دعوة السيد موسى العلمي لحضور جلساتها".. هكذا من غير تعليل ولا تبرير، ولا صفة ولا اختصاص.
وفي هذه الجلسة أعلن الرئيس أن السعودية قد وقعت في 3 يناير (كانون الثاني) 1945 بروتوكول الإسكندرية استناداً إلى ملاحظات تضمنتها مذكرة سعودية قدمت إلى رئيس وزراء مصر ماهر باشا بوصفه رئيساً للجنة التحضيرية، وقد نصت المذكرة السعودية على أنه ينبغي أن يعقد "حلف بين الدول العربية يرمي إلى تكافلها وتعاونها وسلامة كل منها وسلامة مجموعها ويضمن حسن الجوار بينهم.. وأن لكل دولة عربية أن تعقد مباشرة اتفاقات لسلامتها مع أية دولة عربية أخرى من غير أن تكون ضارة بإحدى الدول العربية.. وأنه اجتناباً للمشاكل بين الدول العربية يجب أن يكون مفهوماً من البداية أن نظام سوريا ولبنان كجمهوريتين سيستمر كما هو مفهوم وأن استقلالهما التام متفق عليه"..
وهذه إشارة واضحة أن السعودية لا توافق على مشروع الهلال الخصيب الذي اقترحه نوري باشا السعيد، ولا على مشروع سوريا الكبرى الذي اقترحه الأمير (الملك عبد الله) وأن السعودية تؤثر أن تكون العلاقات بين الدول العربية قائمة على أساس الحلف. وقد سبق للسعودية والعراق واليمن أن تعاقدوا على حلف بينهم لينظم العلاقات والمصالح فيما بينهم.
ولم يقدم أي من الوفود العربية ملاحظة على هذه الملاحظات السعودية.. وأرفقت المذكرة السعودية كوثيقة رسمية في محاضر الجلسات.(1/105)
وفي هذه الجلسة، كذلك، أعلن الرئيس أنه جاءه خطاب من وزير أمريكا المفوض أرسل معه نسخاً بالعربية لوثائق مؤتمر دميارتون أوكس "للإفادة منها واعتقد أنكم تشاركوني في تقديم الشكر لجنابه على ما أبداه من اهتمام في إرسال هذه النسخ في الوقت المناسب".
وكانت فراسة الوزير المصري صادقة حقاً، فقد وصلت هذه الوثائق في الوقت المناسب، حينما كانت الحكومات العربية تتهيأ لتضع مشروع ميثاق جامعة الدول العربية، كما كانت الولايات المتحدة الأمريكية حريصة أن تعطي إشارة البدء في الوقت المناسب.. تماماً كما فعلت بريطانيا في إعطاء إشارة البدء إلى الدول العربية لإعداد مشروعه للوحدة العربية يكون مقبولاً عند الجميع".
ومقترحات دمبارتون أوكس هذه، نسبة إلى اسم مقر الاجتماع الكبير الذي انعقد في مدينة جورج تاون في ضواحي واشنطن وحضره ممثلون عن الاتحاد السوفييتي والصين وبريطانيا وأمريكا، من 21 أغسطس (آب) 1944 إلى 7 أكتوبر (تشرين الأول)، قد وضعت الأسس العامة لميثاق المنظمة العالمية التي عرفت فيما بعد بالأمم المتحدة، وكذلك المبادئ الأساسية للمنظمات الإقليمية.
والمبادرة الأمريكية هذه لم يكن لها إلا معنى واحد، وهو أنه على الوفود العربية أن تقيم "منظمة إقليمية" ويكون اسمها "الجامعة العربية".. المهم أن موضوع الوحدة العربية على شكل اتحاد تنفيذي أو غير تنفيذي أمر غير وارد ولا مجال لتحقيقه، وأن الطريقة المثلى التي يتعين على الدول العربية إتباعها، هي أن تهتدي بمقترحات دمبارتون اوكس وتؤسس منظمة إقليمية، وكفى..(1/106)
ومقابل مقترحات دمبارتون اوكس التي دسها وزير أمريكا المفوض إلى اجتماعات اللجنة الفرعية، كانت البرقيات تنهال بالآلاف على رئاسة اللجنة من جميع أرجاء الوطن العربي، ومن المهجر، وكلها تطالب بالوحدة وتناشد الدول العربية العمل على تحقيقها، وكانت هذه البرقيات تتلى في بداية الجلسات وتثبت في المحضر أسماء مرسليها، ولكنها أصبحت من الكثرة بحيث لم تعد تجد متسعاً لقراءتها ولا لذكرها في المحاضر. ومن هذه الرسائل على سبيل المثال، برقيات من غزة، ومن كلية معهد الحقوق بالقدس، ومن وكيل الحزب العربي الفلسطيني بالقدس، ومن رئيس مؤتمر بلديات فلسطين، ومن المركز العام لجمعيات الشبان المسلمين بالقاهرة، ومن البرازيل، ومن جمعية الشبيبة السورية اللبنانية في المهجر، ومن طلبة كلية بير زيت، ومن القاهرة، ومن طرابلس الغرب، ومن الدكتور فيليب حتى من أمريكا (المؤرخ اللبناني الأمريكي المعروف) وبرقية من جامعة الصداقة العربية الكندية تتوقع "نتائج عظيمة من اتحاد الدول الناطقة باللغة العربية" ورسالة من السيد محمد إدريس المهدي السنوسي "ملك ليبيا فيما بعد" يقول فيها: "إنه يتعشم من أن لا تحرم ليبيا من أن تمثل بجامعة الوحدة العربية".
ومن الرسائل الهامة التي تلقتها اللجنة، رسالة من علماء الأزهر وطلابه، ومن اللجنة العليا للدفاع عن الجزائر، ورابطة الدفاع عن مراكش، ورابطة الدفاع عن تونس، وجبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية، وكل هذه الرسائل تؤكد على قيام اتحاد بين الدول العربية، إلى جانب قيام هذا الاتحاد بالدفاع عن القضايا العربية التحريرية في شمال إفريقيا، ولم تكن هذه الأقطار قد استقلت بعد.(1/107)
وكل هذه البرقيات والرسائل، وإن اختلفت صياغتها، ولكنها تلتقي عند المعنى الكبير وهو الوحدة العربية الحقيقية، والمناشدة لإقامتها تحقيقاً لأهداف الأمة العربية.
وعلى هذا فقد كان يهب على اللجنة الفرعية تياران شديدان من الريح العاصفة، التيار البريطاني الأمريكي على إنشاء منظمة إقليمية يكون شأنها المنظمات الإقليمية الأخرى التي ستنشأ في العالم، والتيار العربي القومي الذي يلح على إقامة منظمة عربية تستهدف الوحدة العربية.. وسيرى المواطن العربي في النهاية لمن كانت الغلبة بين هذين التيارين، وأي الطريقين اختارت الحكومات العربية في عملها.
وبدأت اللجنة دراستها لوضع نظام للجامعة العربية، وأمامها مشروعان عربيان، أحدهما المشروع العراقي، والثاني المشروع اللبناني.. وكان متفقاً عليه من البداية أن بروتوكول الإسكندرية هو الأصل، وأنه هو الأساس الذي يجب أن يبنى عليه نظام الجامعة.
وقد كرر المشروع العراقي الصياغات الواردة في بروتوكول الإسكندرية، وأضاف بنوداً جديدة كانت لا تخلو من خطورة بالغة في زمانها، ولعلها اليوم تبدو موفقة إلى أبعد الحدود، ويجب الالتزام بها.. فهي اليوم معزولة عن الظروف والملابسات المحيطة بأوضاع الدول العربية.
ومن ذلك ما نص عليه المشروع العراقي من أن مجلس الجامعة "يكفل تنفيذ ما تبرمه الدول أعضاء الجامعة فيما بينها من الاتفاقات"، وهذا النص بريء في ظاهره، ولكن كانت الخشية أن تبرم اتفاقات عربية تخلق محاور عربية، وكان هذا الوضع محتملاً في الظروف الواقعية التي كانت تسود أكثر الدول العربية في الأربعينات.(1/108)
من ذلك "أن تتعهد كل دولة من أعضاء الجامعة بضمان استقلال الدول العربية الأخرى وسيادتها" وهذا النص من المحتمل أن يبرر تدخل دولة عربية في شئون دولة عربية أخرى، "لحماية استقلالها وسيادتها"، والباب يتسع لسوء التصرف بشتى الصور وتحت مختلف الظروف، وأن يصبح حاميها حراميها.
ومن ذلك أن "التدابير التي يتخذها مجلس الجامعة لدفع الاعتداء الخارجي على أية دولة من دول الجامعة يجب أن تتخذ بالإجماع". ومعنى ذلك أن الدولة العربية المعتدى عليها تظل تحت رحمة الاعتداء الخارجي إذا امتنعت دولة عربية واحدة عن الموافقة.. وهذا ما يشبه الإجماع في مجلس الأمن أو الفيتو.
ومنها أن لا تتبع الدول أعضاء الجامعة "سياسة خارجية تضر بسياسة الجامعة أو بسياسة أية دولة من الأعضاء الداخلة فيها".. وبهذا أصبحت سياسة الدول الأعضاء مربوطة بسياسة إحدى الدول، وما العمل إذا كانت سياسة هذه الدولة الواحدة خطيرة وخطرة..
ومنها توحيد النظم والأسلحة ما بين الجيوش البرية والبحرية والجوية التابعة للدول الأعضاء" وهذا نص رائع اليوم، ولكنه في أواسط الأربعينات معناه ربط الجيوش العربية ببريطانيا، فقد كانت القيادات والخبراء في الجيوش العربية من كبار البريطانيين، فضلاً عن أن السياسة البريطانية كانت صاحبة الكلمة الأولى في سياسات عدد من الدول العربية، وذلك استناداً إلى معاهدات والتزامات واضحة.. وعلى سبيل المثال فإن واحداً مثل الجنرال جلوب باشا قائد الجيش الأردني يجب أن يشارك في الشئون العسكرية العربية، وعلى الأقل أن يكون عارفاً بتفاصيلها وأسرارها،وخططها.(1/109)
أما المشروع اللبناني فأكثر نصوصه عادية مستمدة من مواد البروتوكول، ولكن تغلب عليه عقدة "الاستقلال والسيادة" فقد تأكدت وتكررت هذه المعاني عند كل موقف من المواقف، وأبرز ما جاء في بهذا الصدد قوله: "إن الجامعة العربية تعتبر بمثابة مؤتمر دائم للدول العربية يرمي إلى القيام بمهمة خاصة محددة في هذا الميثاق، وليس لهذه الجامعة شخصية دولية مستقلة عن الحكومات الممثلة في مجلسها، وسنرى في ميثاق الجامعة، فيما بعد، وفي ممارستها عبر ثلاثين عاماً ويزيد، أن الجامعة العربية لم تكن لها شخصية مستقلة، وأنها قاصرة على التعاون والتنسيق حيثما أمكن وبقدر ما أمكن.
وصحيح أن هذا التعريف اللبناني للجامعة العربية لم يرد في نصوص الميثاق فيما بعد، بتلك الألفاظ والعبارات ولكن أحداً من الوفود العربية لم يجادل في هذا التعريف اللبناني، وسنرى أن نصوص الميثاق قد أخذت بالتعريف اللبناني ولكن من غير عباراته..
ومضت اللجنة في دراسة المشروعين العراقي واللبناني على ضوء بروتوكول الإسكندرية وتناول النقاش جميع النصوص، من اختصاص الجامعة ولجانها، وتسوية النزاعات العربية، والأمانة العامة؛ ولم تنج عبارة من النقاش والحوار، حتى الكلمة الواحدة كانت محل نقاش، ومن ذلك أن نوري باشا مثلاً قال" "سمعت من جملة علماء ومنهم السنهوري بك أن كلمة "إثبات" غير "تثبيت" ورد الرئيس على ذلك بقوله: "إثبات معناها إثبات بالبرهان، أما تثبيت فمعناها تمكين".. وهكذا أقحم فقه اللغة والقانون على المناقشات..(1/110)
وبعد أن قطعت اللجنة الفرعية ست عشرة جلسة متعاقبة، انتهت إلى وضع مشروع لميثاق الجامعة يتألف من ديباجة، واثنتين وعشرين مادة، وقرار خاص بفلسطين، وقرار خاص بالبلاد العربية.. ولا يخرج ذلك كله عن بروتوكول الإسكندرية من ناحية موضوعية..
وأعلن رئيس اللجنة في ختام الجلسة أن المشروع سيرفع إلى اللجنة التحضيرية لتنظر فيه، وتقره بالصيغة التي تتفق عليها، ولم يفت الرئيس في كلمته الختامية أن يرضي التيارين إياهما: الوحدة أو التعاون، فقد أكد "أن التفاني في سبيل الوحدة العزيزة وبالتعاون الدائم بين الدول العربية ستصل إن شاء الله تعالى إلى تحقيق أمانينا جميعاً".. وكان "الغيب" وحده هو الذي يعلم إذا كانت الوحدة "عزيزة"حقاً، وأن التعاون سيكون "دائماً" حقاً..
وانعقدت اللجنة التحضيرية بكامل هيئتها في الموعد المحدد في 17 مارس 1945 في قصر الزعفران بالقاهرة لتدرس مشروع الميثاق بصورة نهائية وتقرره بالصيغة التي يتم الاتفاق عليها.
وكان الجو العربي خارج الاجتماع مشدداً على ضرورة قيام الوحدة، ومستنكراً للصيغة الرخوة التي وضع فيها مشروع الميثاق، وأحس رئيس اللجنة أن عليه أن يخاطب الرأي العام العربي ليطمئنه على الوحدة، فألقى خطاباً في جلسة الافتتاح تجسدت فيه هذه المعاني.
فقد أعلن النقراشي باشا في مقدمة كلمته أنه تبين له في جلسات متعددة طويلة عقدتها اللجنة الفرعية "مقدار رغبة الأقطار العربية في وصل ما بينها من إخوة بميثاق هو الخطوة الأولى من خطواتها الموفقة من سبيل تعاون أكمل واتحاد وثيق".(1/111)
وفي كلام أكثر وضوحاً وصراحة استطرد النقراشي باشا قائلاً: "نعم، قد يكون لبعض الناس رأي في أن هذا المشروع قد لا يصل إلى مدى الارتباطات الوثيقة والتكامل المتين الذي يرجوه الرأي العام العربي وتشرئب إليه أعناق أنصار الوحدة في الأقطار العربية كلها.. ولكن مهما قيل في ذلك فإن الجميع متفقون على أنه أساس صالح لبناء مستقبل سعيد للأمة العربية كلها وأنه أداة تسمح بما يطمح إليه الجميع من تعاون واتحاد".
وهذا اعتراف واضح عن التقصير والقصور في مشروع ميثاق الجامعة، واعتراف برغبة الرأي العام العربي كله في وحدة عربية، وأخيراً فإنه اعتراف بأن مشروع الميثاق لا يعبر عن مشيئة الأمة العربية، ومن هنا راح النقراشي باشا يزاوج بين "الاتحاد والتعاون" وهو يصف مشروع الميثاق، وقد جاء بلفظ الاتحاد على غير الواقع والحقيقة، لاسترضاء الرأي العام العربي.. لأن الاتحاد ليس له ظل في مشروع الميثاق.. لا باللفظ ولا بالمعنى.
ولم يسع النقراشي باشا، في مجال الدفاع عن مشروع الميثاق، إلا أن يقول: "لقد أدت اللجنة الفرعية عملها الشاق وهي آخذة دائماً في نظر الاعتبار الظروف المحلية في كل دولة من دول الجامعة والظروف الاستثنائية والجامعية المحيطة بكل منها وبمجموعها".
وسيبقى أن ننظر فيما بعد إذا كانت تلك الظروف الاستثنائية قائمة في الوطن العربي، اليوم، وأن "حالة" الاستثناء تلك لا تزال تعيش معنا بعد خمسة وثلاثين عاماً.(1/112)
وبعد هذا الخطاب الافتتاحي الذي دافع فيه النقراشي باشا عن مشروع الميثاق، وبالتالي عن مصر وعن الدول العربية الأخرى، بدأت اللجنة التحضيرية للمؤتمر العام أعمالها.
ولم يكن أمام اللجنة صعوبات كبيرة، فإن مشروع الميثاق كان قد درس درساً مستوفياً ولم يبق للموافقة عليه إلا النظرة الأخيرة والقراءة الأخيرة.
وكان عمل اللجنة ميسراً بفضل الاقتراحات والصياغات التي تقدم بها عبد الحميد بدوي باشا عضو الوفد المصري، وأحد أعلام القانون عل الصعيد الدولي، لإخراج الميثاق على شكل وثيقة دولية كاملة، وقد قدم الرئيس لهذه التعديلات بقوله: "إنها ستقع موقع القبول لأنها وضعت في شكل معاهدة بيد معالي عبد الحميد بدوي باشا عضو الوفد المصري الذي وضع جميع التشريعات في مصر خلال ربع القرن الأخير وقد راعى في صياغة الميثاق أن يكون متناسقاً إذا ترجم إلى لغة أجنبية".
وراح بدوي باشا يتلو مشروع الميثاق، بصياغته الأخيرة، مادة مادة، وتتم الموافقة عليها، بعد ملاحظات بسيطة.. وقد أجازتها اللجنة بالإجماع في مجموعها في جلستين متعاقبتين في 17-19 مارس (آذار) 1945.
والجدل الوحيد الذي أثار اهتمام اللجنة، واستغرق بعض الوقت، واشترك فيه معظم الأعضاء كان حول موضوع طرحه الأستاذ فارس الخوري رئيس الوفد السوري بشأن توحيد التشريعات العربية.
ففي الجلسة الأولى لاحظ الأستاذ الخوري أن الميثاق ليس فيه أي إشارة إلى الشئون التشريعية، وطالب بإنشاء لجنة خاصة تعمل إلى جانب لجان الجامعة الأخرى تكون مهمتها اقتراح القوانين وعرضها على مجلس(1/113)
الجامعة حتى إذا أقرها تعرض على البرلمانات العربية للتصديق عليها، وقال إن توحيد القوانين يعتبر من الخطط الرشيدة التي من شأنها توطيد الصلات بين الدول العربية أكثر من أي شيء آخر، كما يجعل بين الدول العربية وحدة وألفة وتقارباً.. وبهذا فتح الوفد السوري ملف "الوحدة" من جديد..
وخالف عبد الحميد باشا هذا الرأي، وأبدى تخوفه من أن يفتح هذا الموضوع باباً واسعاً من المناقشة وقال إنه قد تأتي ظروف تفتح الطريق للتفكير في الموضوع دون أن نرسم الخطة لذلك من الآن.
وتدخل عبد الرحمن عزام بك وكان عضواً في وفد مصر، معارضاً بدوي باشا وموافقاً الأستاذ الخوري فقال: "حقيقة أن الرأي العام في البلاد العربية يحن إلى فكرة توحيد التشريع حنيناً قوياً.. ونحن أمة واحدة، والظروف السياسية في العصر الأخير هي التي قضت أن يسيطر علينا أقوام ليسوا منا ففرقوا التشريع بيننا، وأظن أن من أغراض الجامعة التي نريدها هي أن ننشئ حالة جديدة ونتخلص من الماضي الذي فرق بيننا في التشريع حسب مزاج الترك أو الفرنسيين أو البريطانيين أو الإيطاليين.."
وتناول الكلام مكرم عبيد باشا، عضو في الوفد المصري، توفيقاً بين الآراء واقترح الاكتفاء بما ورد في هذا الموضوع في المحضر، واعتبر أن الكل متفقون على توحيد التشريع في بعض النواحي وأنه شخصياً يرى أن يكون في جميع النواحي.
وانبرى علم آخر من أعلام القانون وهو عبد الرازق السنهوري معقباً على رأي مكرم باشا، ومؤيداً للأستاذ فارس الخوري فاقترح أن يثبت في المحضر أن "لجنة الثقافة وهي إحدى لجان الجامعة تشمل مهمتها شئون(1/114)
التشريع مادمنا لا نجد حاجة إلى خلق لجنة جديدة في الوقت الحاضر وأعتقد أن هذا كافٍ".. وانتهى الجدل على هذه الصيغة ووافق عليها الجميع..
وبهذا فرغت اللجنة التحضيرية من مشروع الميثاق بصيغته النهائية، وهو يقع بعد الديباجة في عشرين مادة وبه ملحق خاص بفلسطين، وملحق خاص بالتعاون مع البلاد العربية غير المشتركة في مجلس الجامعة، وملحق خاص بتعيين الأمين العام للجامعة (ملحق 4).
وقبل أن تنتهي الجلسة قال النقراشي باشا بوصفه رئيساً للجنة: "إني أبيح لنفسي أن أعبر عن رغبتكم الاجتماعية في أن يكون سعادة عبد الرحمن عزام بك أول أمين عام للجامعة وهو منكم وليس غريباً عنكم" وأعرب الجميع عن الموافقة بالتصفيق.
والواقع أن عبد الرحمن عزام، كما قال النقراشي باشا، هو من العرب، وليس غريباً عنهم، فهو من حملة الفكرة العربية الأوائل في مصر، ومن أكثرهم معرفة بالبلاد العربية، ورجالها وشئونها..
وفي اليوم الثاني والعشرين من شهر مارس (آذار) 1945 اجتمع في قصر الزعفران في القاهرة، رؤساء الوفود العربية وأعضاؤها، وافتتح الاجتماع رئيس وفد مصر محمود فهمي باشا النقراشي بكلمة أعلن فيها "ميلاد جامعة الأمم العربية" مؤكداً أن الجامعة ضرورة تدعو لها الظروف الدولية.. وتبعه في الكلام رؤساء الوفود الآخرون، سوريا، شرق الأردن، العراق، المملكة العربية السعودية، لبنان، وأخيراً كلمة السيد عبد الرحمن عزام، الأمين العام لجامعة الدول العربية.. وكانت كلماتهم، كأنها تعتذر عن "البداءة المتواضعة" التي انتهى إليها ميثاق الجامعة، كما عبر عن ذلك رئيس الوفد السوري.(1/115)
وبعد ذلك تعاقب رؤساء الوفود على توقيع ميثاق جامعة الدول العربية حسب الترتيب الأبجدي: سوريا، شرق الأردن، العراق، لبنان، مصر، ولم توقع المملكة العربية السعودية في يومها، فلم يكن وفدها مفوضاً بالتوقيع، ولكنها وقعت فيما بعد على النسخة الأصلية ممن الميثاق، ووضع التاريخ 22 مارس (آذار) سنة 1945.
وكذلك فإن الوفد اليمني لم يكن مفوضاً بالتوقيع، ووقعت اليمن على صورة طبق الأصل من الميثاق، وبتاريخ 5 مايو (أيار) 1945 تم التوقيع بصنعاء عاصمة اليمن.
أما مندوب فلسطين السيد موسى العلمي، فقد شارك في الاحتفال دون أن يوقع لأنه يمثل شعباً ولا يمثل دولة.
وهكذا انتهت مشاورات "الوحدة العربية"التي أطلق الرصاصة الأولى فيها المستر أيدن وزير الخارجية البريطانية في أوائل الأربعينات، ودعمتها فيما بعد الولايات المتحدة، ورسا الأمر على إقامة منظمة إقليمية عرفت بجامعة الدول العربية وعلى أساس معاهدة دولية سميت بميثاق جامعة الدول العربية.
وسنرى ما هو هذا الميثاق وما هي هذه الجامعة التي أملتها "ظروف دولية" كما أعلن عن ذلك صاحب الدولة محمود فهمي النقراشي باشا رئيس وزراء مصر، ورئيس المؤتمر العربي العام لجامعة الدول العربية.. وعلى مسمع من أصحاب الفخامة والدولة والمعالي رؤساء الوفود العربية الآخرين.
وفي ختام هذا الفصل، لا بد لنا من القول، تلخيصاً للسرد التاريخي الذي واكبناه في الفصول السابقة، إن إشارة البدء لإنشاء الجامعة العربية قد صدرت فعلاً من بريطانيا مدعومة بالولايات المتحدة، ولم يكن القصد من(1/116)
العودة إلى تلك التفاصيل هو مجرد السرد التاريخي لنشوء الجامعة العربية، وذلك أمر هام بذاته، ولكن لنوضح جانباً أهم من ذلك كله، كما سنراه في الفصول التالية، وهو أن الرغبات البريطانية والتمنيات الأمريكية قد تسللت عن قصد أو غير قصد، إلى الجامعة العربية في هيكلها وميثاقها ومنهجها، وأن الوحدة العربية التي دعت إليها بريطانيا قد صرفت جانباً لتحل محلها "جامعة عربية" كرست التجزئة والانفصال وأسبغت عليها رداء الشرعية من قمة الرأس حتى أخمص القدمين.
ونحن لو عدنا إلى أوضاع الدول العربية قبل خمسة وثلاثين عاماً وما كانت عليه من تخلف سياسي واجتماعي واقتصادي، وما كانت ترزح تحته من نفوذ استعماري في هذا القطر أو ذاك.. ربما حملنا الإنصاف والإشفاق إلى القول إن "الجامعة العربية" كما أنشئت يومئذ، هي حصيلة القدرة العربية في مجموعها وإن قيام وحدة عربية بين "تلك" الدول كما هي على حقيقتها، لم يكن له حظ من النجاح إلا قليل جد قليل.
ولا بد لنا من القول كذلك، في هذا المجال، إن الدور البريطاني الأمريكي في إنشاء الجامعة العربية وتشجيع هذه الحكومة العربية أو تلك في السير على ذلك الطريق. كان صفحة غير مشرفة في تاريخنا الحديث، إلا أن التاريخ يمدنا بسوابق كثيرة استطاعت خلالها دول كبرى أن تسوق شعوباً مستضعفة إلى إنشاء نظم سياسية بل وإلى إقامة اتحادات دولية، ما كان لها أن تقوم لولا تدخل تلك الدول، ولكن تلك السوابق الدولية لم تعمر، كما أرادتها لها الدول الكبرى، مثلما عمرت الجامعة.. ذلك أن الكفاح القومي قد أوجد للشعوب نظماً سياسية أشد وأقوى، وأكثر تعبيراً عن آمالها ومصالحها.(1/117)
وفي التاريخ السياسي الحديث ثلاثة أمثلة حافلة بالعبرة للدول العربية، لعلها تجد فيها حافزاً يخرجها من أسار الجامعة العربية إلى آفاق رحبة من العمل العربي الخلاق.
والمثل الأول نراه في "مجموعة" الشعوب التي اشتقت من القوميات المجاورة: الألمانية والفرنسية الإيطالية، والتي تعرف اليوم بدولة سويسرا الاتحادية.. ففي أعقاب الثورة الفرنسية، حدث أن احتلت فرنسا الأراضي السويسرية كما كانت البلاد العربية تحت الاحتلال الأجنبي في الحرب العالمية الثانية، وكانت سويسرا يومئذ مقاطعات منفصلة بعضها عن بعض، فعمل نابليون على توحيدها تحت دستور كونفدرالي، وقال في رسالة إلى المقاطعات السويسرية بتاريخ 10 كانون أول ديسمبر 1802: "إن سويسرا لا تشبه أية دولة أخرى، لا من حيث الحوادث التي توالت عليها منذ قرون عديدة، ولا من حيث موقعها الجغرافي والطبوغرافي، ولا من حيث اللغات والديانات المختلفة، ولا من حيث التفاوت الشديد في العادات التي تفرق أجزاءها المتنوعة.. ولكن الطبيعة قد جعلت من دولتكم دولة اتحادية وليس من الحكمة في شيء مقاومة الطبيعة" وهكذا قامت الدولة الكونفدرالية في سويسرا، وعلى يدي نابليون والثورة الفرنسية.
أما المثل الثاني فقد تجسد كذلك على يد نابليون، ومع ألمانيا العدو التقليدي لفرنسا، ذلك أن ألمانيا كانت قبل القرن الثامن عشر مؤلفة من 1800 وحدة سياسية منفصلة بعضها عن بعض، ولما اكتسح نابليون ألمانيا، أعاد تنظيم مقاطعاتها، فعمل على "تصغير" بعضها وتكبير بعضها الآخر، وأنشأ منها كونفدرالية الراين لتكون حاجزاً وحصناً لفرنسا، وكان ذلك بداية لتجارب اتحادية متعاقبة، واعتبر نابليون، لدى المؤرخين، بأنه صانع ألمانيا الحديثة..(1/118)
أما المثل الثالث فقد تجسد مرة أخرى في ألمانيا نفسها.. ففي أعقاب الحرب الثانية حينما انهزمت إمبراطورية ألمانيا تلك الهزيمة الكبرى، وقعت ألمانيا الغربية تحت الاحتلال الفرنسي والبريطاني والأمريكي، وقامت هذه الدول الثلاث، كما فعل نابليون بالماضي، بتكبير بعض مقاطعاتها وتصغير مقاطعات أخرى، وفرضت عليها سياسة عامة محددة، ودستوراً اتحادياً معيناً، بحيث يكفل بقاء ألمانيا غير قادرة أن تجر العالم إلى حرب عالمية ثالثة كما فعلت في الحربين العالميتين السابقتين.
ووجه العبرة في هذه الأمثلة الثلاثة.. أن الشعب السويسري لم يقنع "بالاتحاد"كما وضعه له نابليون، بل أصبحت سويسرا اليوم أروع مثل للنظام الاتحادي في العصر الحديث.
وكذلك فإن الشعب الألماني لم يبق في حياته القومية في الحدود الضيقة التي رسمها له نابليون ولا الحلفاء من بعد، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بل انطلق يبني وطنه من جديد ويؤسس حياته القومية من جديد في ظل دولة اتحادية فدرالية رائعة، جعلت من ألمانيا الحديثة دولة صناعية كبرى أصبحت دائنة لدول الحلفاء جميعاً، وهم الذين حطموها وهدموها، وعلى رأسهم الولايات المتحدة بالذات.
هذه الأمثلة الصارخة يثور معها السؤال الخطير الكبير.. وهل تبقى الدول العربية العشرون، في عام 1977 حبيسة الجامعة العربية بكل قيودها، أسيرة لكل أغلالها، كما وضعت في عام 1945.
وهل على الأمة العربية في هذه الأيام أن تبقى مبددة القدرات وما أكثرها، معطلة الطاقات وما أعظمها، في ظل جامعة قام بتأسيسها سبع من(1/119)
الدول العربية حين كانت أو كان أكثرهم تحت الاحتلال الأجنبي.. وحين كانوا جميعاً يرزحون تحت الفاقة الاقتصادية والتخلف الاجتماعي والثقافي.
لقد حدثت في الأعوام الخمسة والثلاثين التي مرت من عمر الجامعة العربية متغيرات كبرى في الأمة العربية.. ولكن شيئاً واحداً لم يتغير.
إن الذي لم يتغير هو الجامعة العربية.. وأصبح واجباً أن تتغير.. أما كيف تتغير، وفي أي اتجاه تتغير، فذلك ما يعالجه هذا الكتاب في الفصول التالية.
الفصل السابع
السيادة .. السيادة ..
هي هي المصيبة(1/120)
مر علي خمسة وثلاثون عاماً وأنا أواكب الجامعة العربية منذ نشوئها إلى يومنا هذا، ولقد عاصرتها في مولدها حين كنت مبعوث الرئيس شكري القوتلي إلى مشاورات الوحدة العربية المنعقدة في قصر انطونيادس في الإسكندرية، لأكون على صلة بالوفود العربية وأتعرف على آرائهم واتجاهاتهم؛ وها أنا أعاصرها اليوم في كهولتي أستعرض أيامها معي، وأيامي معها، فقد كنت أميناً عاماً مساعداً للجامعة العربية في عهد أمينها الأول عبد الرحمن عزام، ثم مع أمينها الثاني عبد الخالق حسونة؛ واستقلت منها بعد سبع سنوات من العمل المتصل، ولكني عدت إليها رئيساً للوفد السوري، ثم رئيساً للوفد السعودي، وصعدت معها إلى الذروة فشاركت في مؤتمرات القمة الأربعة: في القاهرة، والإسكندرية، والدار البيضاء، الخرطوم، وفي هذه العاصمة الأخيرة كانت نهاية المطاف الرسمي مع الجامعة العربية، لأصبح بعد ذلك كله دارساً وباحثاً، وها هي الجامعة العربية شغلي الشاغل مرة ثانية، أستعرض رحلتي الطويلة معها، ورحلتها الطويلة مع الأمة العربية.
والجيل الناشئ، الذي لم يشهد ما شهدت، و سمع ما سمعت، يتساءل اليوم بعد أن سلخت الجامعة العربية خمسة وثلاثين عاماً من عمرها الشقي التعيس، ما هي هذه الجامعة العربية، ماذا فعلت وأنجزت إلى يومنا هذا، وإلى أين هي تسير، وإلى أين المصير.
ولعلي الآن أكشف عن دفين في نفسي، كان يجول في خاطري على الدوام، كلما ذكرت الجامعة في خير أو شر، وذلك أني كنت أرى الجامعة العربية، في ذهني، وكأنها ذلك السجين اليمني الذي رأيته في إحدى زياراتي لمدينة تعز في اليمن.. وهي صورة موجعة لا تبرح خيالي.. كان ذلك(1/121)
السجين اليمني، جثة ضخمة، عريض المنكبين، عالي الكتفين، يتوسطه بطن عريض، من تحته ردفان ثقيلان، ومن تحتهما ساقان متورمان، وتحتهما قدمان حافيتان، وتحتهما راحتان مشققتان..
ولم تكن "الراحتان" هاتان، مرتاحتين، شأن كل إنسان، فقد كانتا تحملان فوق أثقال ذلك السجين، أثقالاً أخرى ينوء في حملها حاملو الأثقال.. فلقد كان موثوق اليدين والساعدين بأغلال ضخمة، مشدودة إلى أغلال تعصر بطنه الكبيرة وأغلال بطنه هذه مشدودة إلى أغلال في عنقه، وأغلال أخرى مدلاة إلى ساقيه وقدميه، وبهذا أصبح هذا السجين اليمني هيكلاً من الأغلال.. لا من اللحم و لا من العظام..
والواقع أني لم أر السجين اليمني بلحمه ودمه حين كنت أحدق فيه، ولكني كنت أرى إنساناً من الأغلال يسير في الشارع، يرفع ساقيه إلى أعلى حتى يخطو خطوة أو اثنتين، ثم يستريح قليلاً قبل أن يعاود سيره الثقيل.
ولقد سمتعه في الشارع قبل أن أراه، فقد كانت قعقعة الحديد من حول جثمانه الضخم هي التي أنبأت سمعي بوجوده، وقد خيل إلي أول الأمر، والأولاد يصيحون من حوله، إنه إنسان الكرنفال.. ولكن عدت إلى نفسي وتذكرت أني في تعز، وأن الكرنفال لم يصل بعد إلى اليمن السعيد وسألت، وقال لي الأصدقاء الذي كانوا في رفقتي، وكانت زيارتي تلك في عهد الإمام أحمد: "هذا سجين محكوم عليه بالسجن المؤبد، لشقاوته وجرائمه وهو يخرج كل صباح من السجن تشهيراً له، وعبرة للناس، ثم يعود إلى السجن عند الظهيرة، وهكذا دواليك..
تلك هي الجامعة العربية سجينة الميثاق؛ وذلك هو الميثاق أسير الأغلال والأصفاد؛ والجامعة والميثاق، يسيران بالقيود الأغلال كلما انعقدت(1/122)
دورة من دورات الجامعة، وبعد انتهائها لا تلبث حتى تعود إلى السجن المعتم الخانق لتقضي العمر مكبلة مصفدة، ولتقضي الأمة العربية أيامها بالعناء والعذاب.
تلك هي صورة الجامعة العربية، أراها على الدوام في صورة السجين اليمني الذي لا يبرح ذهني، ولكم تمنيت أن يخرج لنا فنان عربي هذه الصورة بألوانها وظلالها، وقعقعة قيودها وأغلالها.. إذا أمكن..
وليست هذه الصورة في الخيال أو المبالغة.. فهي دون الحقيقة، بل إن الحقيقة أشد وجيعة وفجيعة من الرمز الموجع، والخيال المفجع.. ويكفي أن نستذكر أن اليمني السجين هو إنسان واحد، ولكن "الجامعة العربية" هي ملايين البشر من الأمة العربية، في حياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، يقضون العمر في السلاسل والأغلال، والقيود والأصفاد..
ويتساءلون متى ينجاب الظلام ويتفق الصباح..
وهذه الصورة كذلك، ليست رمزية، ولكنها واقعية تعيشها الأمة العربية، ليلاً ونهاراً.. أليست الأمة العربية في عشرين قطراً عربياً ويزيد؛ وفي كل قطر القوانين والشرائع، والحدود والمخافر، قائمة بين هذا القطر وذاك، فلا سفر إلا بتصريح، ولا إقامة إلا لأيام معدودات، ولا عمل بأجر أو من غير أجر، ولا تجارة، ولا زراعة ولا صناعة ولا عمل إلا لأبناء القطر الواحد.. بحيث أصبحت الأمة العربية غريبة في وطنها العربي، والوطن العربي حرام على المواطن العربي..
وهل هنالك من صورة أبشع وأوجع وأفجع من هذه الصورة الراجفة الواجفة، والسلاسل والأغلال تزداد كل يوم في عنق الأمة، وحكام الأمة هم الذين يزيدون هذه الأغلال أثقالاً وأوزاناً..(1/123)
وذروة الفاجعة أن الأجيال العربية التي نشأت بعد الاستقلال، وبعد الحكم الوطني العربي، قد فتحت عيونها على هذه الحدود والقيود، وهذه الشرائع والقوانين، وهذه الأوامر والنواهي، فكان عليها أن تتعايش معها، وتخضع لها، وتألف شرها وترى أنها شر لا بد منه، ولا بد من تكييف حياتها اليومية تحت ظل هذا الطغيان.
أما الأجيال السابقة وأنا منها، فإن لفجيعتها سبباً آخر، ذلك السبب هو أنها عاشت حياتها الماضية من غير هذه الحدود أو القيود.. فكان الوطن العربي كله للأمة العربية كلها، إقامة وارتحالاً.. وقدر لنا أن نقضي بقية العمر في عذاب مقيم بعد أن تقطعت أوصال الوطن الواحد، والأمة العربية الواحدة..
ولا نريد أن نسرد تفاصيل هذا العناء الأكبر، والعذاب الأحمر، الذي يلاقيه المواطن العربي حينما ينتقل من قطر عربي إلى قطر عربي، ثم يقارن ذلك بما يراه من اليسر والترحاب حينما ينتقل بجواز سفره إياه في أوروبا الغربية بأكملها، من تركيا إلى إنجلترا وأسبانيا، ومن فنلندا إلى إيطاليا إلى اليونان، أو ما هو أيسر، حين ينتقل من نيويورك على شاطئ الأطلنطي، إلى سان فرانسيسكو على شاطئ المحيط الهادي.. وهذه المسافات كلها تزيد على الوطن العربي طولاً وعرضاً.. حيث الأمة الواحدة واللغة الواحدة، والتاريخ الواحد والمصير الواحد.. كما يحلو للحكم العربي المعاصر أن يردد مرات ومرات.
و"الكتاب العربي" لا يقل شقاء عن الإنسان العربي في عهد الجامعة العربية، فكما تقوم المخافر والحدود أمام الإنسان العربي، فإن الفكر العربي يعاني المشاكل إياها، فالكتاب العربي لا ينقل من قطر إلى قطر إلا والرقابة(1/124)
تطارده، والأنظمة المالية تلاحقه، وأصبح الكاتب العربي مظلوماً، والقارئ العربي محروماً، والفكر العربي، كالإنسان الفلسطيني شريداً طريداً!!
وفي أوائل عهد الجامعة أصدر مجلس الجامعة قراراً رقم 86 في دورتها الخامسة بتاريخ 20-11-1946 يدعو الأمين العام للجامعة أن يتوسط لاتخاذ التدابير اللازمة "لتسهيل تصدير الكتب بين البلاد العربية وتشجيع الحكومات العربية على ذلك"ولكن الحكومات العربية لم تلق بالاً إلى قرار الجامعة العربية وكان نصيبه الإهمال، وقد أبت سلة المهملات أن تستوعبه فلفظته بعيداً عنها، ذلك أن القرار عجيب غريب، فهو صادر من الحكومات العربية ليتوسط الأمين العام لدى الحكومات العربية!!
واستفحلت مشكلة الكتاب العربي بعد ذلك، حتى أصبح مثله مثل المهربات والمخدرات؛ وفي معارض الكتاب العربي التي تقام في العواصم العربية من عام إلى عام، مهازل ومآس ينوء عن حملها هذا الكتاب. ولكن يحسن بنا أن نورد ثلاثة أمثلة بارزة على ما تعانيه الأمة العربية من شقاء وعناء في الوطن العربي الكبير، الذي يتحكم فه ما يزيد على عشرين دولة عربية، تنظمها جامعة الدول العربية، ويحكم سياستها العربية ميثاق جامعة الدول العربية..
أولى هذه الأمثلة أن عدداً غير قليل من شبابنا الجامعيين المقيمين مع زوجاتهم في إنجلترا أو أمريكا لإتمام دراساتهم العالية، ينجبون أولاً خارج الوطن العربي، على التراب الأمريكي، أو البريطاني.. وما يمر أسبوعان على ولادة هؤلاء الأطفال حتى تصل إليهم بالبريد العادي جوازات سفر، بريطانية أو أمريكية حسب مقتضى الحال؛ على حين أنه في الوطن العربي، وفي ظل جامعة الدول العربية، لا يستطيع أمثال هؤلاء الأطفال أن يحصلوا(1/125)
على جنسية القطر العربي الذي يولدون فيه.. والسبب في ذلك أن القانون في بريطانيا وأمريكا يجعل الجنسية لأرض المولد، حتى لو ولد بالباخرة أو الطائرة، أما في الوطن العربي فلا عبرة للوطن وإنما العبرة لجنسية الوالد، جنسيته القطرية، وكأنما "الوطن ليس وعاء الأمة كلها، وكأنما أولادنا أكبادنا الذين يولدون فيه هم لقطاء وأبناء لقطاء.
وثاني هذه الأمثلة، أن المواطن العربي، يسمح له بزيارة غير قطره كمجرد سائح، وإذا تخلف بضعة أيام عن الخروج من ذلك القطر فعليه أن يدفع غرامة قبل أن يغادر أرض المطار؛ غرامة تفرض على العربي لأنه تجاوز الإقامة لبضعة أيام في وطنه العربي؟ وقد يكون المبلغ صغيراً، ولكن المأساة كبرى.
وثالث هذه الأمثلة أن الألوف والألوف من العقول العربية المهاجرة، الراغبة في العودة إلى الوطن العربي، حنيناً إليه، وعزماً على خدمته؛ وبين هؤلاء عدد وافر من العباقرة والكفاءات الممتازة في مختلف فروع العلوم المتقدمة، لا يجدون في الوطن العربي تقديراً لكفاءاتهم ولا تسهيلاً لحياتهم، فيؤثرون البقاء في مهاجرهم حيث المجتمع الديمقراطي، حيث يعيش الناس أحراراً، وحيث، وهذا هو الأنكى، يستطيعون أن يكتبوا ويخطبوا من غير رقيب ولا حسيب ولكنهم يمزقهم العذاب بين نوازع الحنين ودوافع الهجرة، ويؤثرون في النهاية الحرية على الحنين، أنوفهم راغمة في التراب القريب..
وهنالك أمثلة كثيرة تنبئ عن عمق العذاب الذي يعيشه المواطن العربي في وطنه أو في مهاجره؛ والسؤال يطرح نفسه، ولماذا كل هذا وقد بلغت الأمة العربية حريتها واستقلالها، وأصبحت لهم عشرون دولة عربية(1/126)
ويزيد، وأصبحت لهم قوة اقتصادية عالمية، ولهم كيان عربي واحد يتمثل في جامعة الدول العربية.
ذلك هو السؤال الكبير، والجواب هنا لا بد أن يدور حول الجامعة العربية، والجواب لا بد أن يكون صريحاً وشجاعاً، لا لأنه يتناول حوارا دستوريا أو سياسياً، أو نقاشاً علمياً أكاديمياً، بل لأنه يتناول حاضر الأمة العربية في حياتها اليومية، ويتناول مستقبلها ومستقبل أجيالها الصاعدة.
إن علة العلل في هذه الصورة الرهيبة التي تعيشها الأمة العربية هي أن الجامعة العربية قد قامت في الأصل على إنكار وجود الأمة العربية الواحدة، وإنكار وجود الوطن العربي الواحد.. فليس في ميثاق جامعة الدول عبارة واحدة تتحدث عن الأمة العربية، ولا عن الوطن العربي، بالوضوح الكافي، وبالتحديد الوافي.
والمقارنة محزنة حين تدعونا المقارنة، فنرى في ميثاق عصبة الأمم المتحدة ذكراً للأمم والشعوب، وسميت" عصبة الأمم" لا عصبة الدول.. وكذلك بشأن الأمم المتحدة، فهي منظمة "أمم" و"متحدة" لا منظمة دول.. وإن كانت الدول هي الأعضاء في الحالتين.
أما ميثاق الجامعة العربية فليس في ديباجته ذكر للأمة ولا للوطن، والإشارة على الدوام تتعلق "بالدول"، ويرد ذكر "البلاد" للضرورة ولتعريف الموضوع.. وكان يجب النص الصريح على الأمة العربية باعتبار أن الدول السبع المؤسسة للجامعة العربية تنتمي إلى الأمة العربية، وهذا أقل تعريف للدول العربية.
ثم إن قضية "الوحدة العربية" وهي الشعار الذي طرحته بريطانيا أولاً، ودعمته أمريكا ثانياً، ليس لها ذكر في ميثاق الجامعة، لا من قريب أو(1/127)
بعيد، ولا حتى "واحداً" من أهداف الأمة العربية.. على حين أن الدول الإفريقية، وليسوا أكثر منا حضارة، ولا هم أمة واحدة، قد أسموا منظمتهم، منظمة الوحدة الإفريقية وأعلنوا في أكثر من موضع في ميثاقها أن الهدف هو وحدة إفريقيا، وحدة لما يزيد على خمس وأربعين دولة، ليس فيما بينها، ما بين الأمة العربية من الوشائج والروابط ووحدة الآمال واللغة والتاريخ.
ونحن لو تجاوزنا ذلك، وتجاوزه لا يغتفر، نجد أن الجامعة العربية قد أقامت هيكلها على أرض رخوة تغوص فيها كلما أرادت النهوض والسير إلى الأمام، ولو لخطوات محدودة..
وهذه الأرض الرخوة هي فكرة "الاستقلال المطلق والسيادة التامة" لكل دولة من دول الجامعة.. سيادة تامة على شعبها وعلى قطرها وضمن حدودها.. وليكن التعاون العربي على هذا الأساس وضمن هذه الحدود.
ونحن لو قرأنا ميثاق الجامعة بنداً بنداً، بل عبارة عبارة (الملحق رقم 2) لرأينا أن السيادة الشاملة هي القيد الثقيل في عنق الجامعة، وفي يديها، وساقيها، تماماً كحال السجين اليمني الذي رأيته في تعز، بل ربما كان السجين اليمني أسعد حالاً، لأنه يستطيع السير إلى الأمام بضع خطوات، ويستطيع أن يلفت إليه نظر الأطفال وهم يستمعون إلى قعقعة الحديد حول جثمانه الثقيل.
فالسيادة المطلقة هذه تجعل من الجامعة العربية نادياً سياسياً تجتمع فيه الدول العربية، للحوار والمناقشة، وإصدار القرارات إذا أمكن.. ولكن في النهاية فإن هذه القرارات "لا تلزم إلا من يقبلها" كما ينص على ذلك الميثاق، ولم يكن من داع لهذا النص لأنه أمر طبيعي أن الالتزام رهن بالقبول، وبهذا(1/128)
يصبح النص لغواً، أو غير ذي موضوع كما يقولون، أو من باب لزوم ما يلزم، كما يقول أبو العلاء المعري، في عنوانه ديوانه الشهير.
والمواطن العربي، حتى ولو لم يكن على ثقافة قانونية، فإن القراءة العادية لميثاق الجامعة تظهر بوضوح أن موضوع "السيادة المطلقة" يطوق ميثاق الجامعة من العنق إلى أخمص القدمين، ومن الديباجة إلى المادة العشرين التي هي آخر مواد الميثاق.
ففي الديباجة، وبعد أن سردت أسماء الملوك الأربعة: ملك العراق والعربية السعودية ومصر واليمن، ورئيس الجمهورية السورية واللبنانية، وأمير شرق الأردن، نجد أن تثبيت ودعم وتوطيد "العلاقات الوثيقة والروابط العديدة بين الدول العربية" يقوم على أساس احترام استقلال تلك الدول وسيادتها، وبذلك تصبح الروابط والعلاقات بين الدول العربية، تحت "رحمة" سيادة تلك الدول، مرهونة بها، لا تتحرك إلا في نطاق رغبتها وموافقتها... والضحية في النهاية هي الأمة العربية، التي يجب أن تعلو سيادتها على كل سيادة إقليمية..
وثمة ملاحظة هامة، هنا، يجب الوقوف عندها قليلاً، تلك هي الفارق الواضح بين الديباجة في بروتوكول الإسكندرية، وشقيقتها ديباجة ميثاق الجامعة، ففي البروتوكول تتصدر عبارة "الصلات الوثيقة والروابط العديدة التي تربط بين البلاد العربية جمعاء" على حين أن ميثاق الجامعة قد استبدل "البلاد العربية جمعاء" "بالدول العربية".
وقد يمكن التجاوز عن الفارق بين التعبيرين، ومجال الكلام يتسع في هذا الموضوع، ولكن ميثاق الجامعة قد ذهب إلى أبعد من ذلك، ففي ديباجته التي هي نقطة البحث نجد أن دعم هذه الروابط وتوطيدها، يقوم، "على أساس(1/129)
احترام استقلال تلك الدول وسيادتها" وهذه العبارة غير واردة أصلاً في ديباجة البروتوكول، وليست واردة في أي موضع آخر من البروتوكول إلا في صدد صيانة الاستقلال والسيادة من كل اعتداء.
ومعنى ذلك أن بروتوكول الإسكندرية، في عهد النحاس باشا، كان أكثر رحمة من ميثاق الجامعة، في عهد النقراشي باشا، فإن الأول لم يشر إلى "الاستقلال والسيادة" على حين أن الثاني قد جعل العلاقات العربية مرهونة "بالاستقلال والسيادة" مع أن الإنصاف يقضي أن تكون "السيادة" في طاعة العلاقات والروابط العربية، وفي خدمتها.. يضاف إلى ذلك أن هنالك مقارنة أخرى بين البروتوكول والميثاق، فالأول أكثر وحدوية، والثاني أكثر إقليمية.. فنحن نجد في البروتوكول نصاً هاماً يقول: "ولكن دولة أن تعقد مع دولة أخرى من دول الجامعة أو غيرها اتفاقات خاصة لا تتعارض مع نصوص هذه الأحكام أو روحها.. ولا يجوز في أية حال إتباع سياسة خارجية تضر بسياسة جامعة الدول العربية أو أية دولة منها".
وهذه العبارة التي تتضمن التزاماً هاماً يقيد "سيادة" الدول العربية، قد شطبت من ميثاق الجامعة، ولا نرى لها أثراً فيه من قريب أو بعيد.
وميثاق الجامعة، في مجموعه، تمييزاً له عن بروتوكول الإسكندرية يؤكد موضوع "السيادة" بصدد الكلام عن الغرض من الجامعة، بأنه يستهدف "توثيق الصلات بين الدول المشتركة فيها وتنسيق خططها السياسية، تحقيقاً للتعاون بينها وصيانة لاستقلالها وسيادتها" (1) ، وبهذا لم يكتف الميثاق بأن اختصاص الجامعة يقع في إطار التنسيق والتعاون بل ربطه "بالسيادة" وهذه
__________
(1) المادة الثانية من الميثاق.(1/130)
لها الكلمة الأخيرة في أي موضوع تتناوله الجامعة؛ "والسيادة" عن أية دولة تستطيع أن تلغي التعاون والتنسيق.
ثم يذهب الميثاق، في الموضوع نفسه، ليؤكد "السيادة" من جديد وبصورة أوضح، فيقول بصورة قاطعة حاسمة أن تعاون الدول المشتركة في الجامعة يكون "بحسب نظم كل دولة منها وأحوالها".. ويسرد بعد ذلك مجالات التعاون كما يلي:
أ ) الشئون الاقتصادية والمالية، ويدخل في ذلك التبادل التجاري والجمارك والعملة وأمور الزراعة والصناعة.
ب ) شئون المواصلات، ويدخل في ذلك السكك الحديدية والطرق والطيران والبرق والبريد.
ج) شئون الثقافة.
د) شئون الجنسية والجوازات والتأشيرات، وتنفيذ الأحكام وتسليم المجرمين.
هـ) الشئون الاجتماعية.
و) الشئون الصحية.
وهذه المجالات"التي سردها ميثاق الجامعة، تشمل مختلف نواحي الحياة العربية، بل هي الحياة العربية كلها، إذا استثنينا الأمور العسكرية، التي لم يجرؤ واضعو الميثاق أن يتطرقوا لها من قريب أو بعيد.
والمواطن العربي، ومن غير ثقافة قانونية، يستطيع أن يرى أن حياة الأمة العربية في مجموعها قد أصبحت في يد كل دولة بمفردها، "بحسب نظمها وأحوالها" فإذا كانت دولة عربية ترى أن أي موضوع مطروح على الجامعة العربية لا يتفق مع "نظمها وأحوالها" تعطلت مسيرة الموضوع(1/131)
بصورة كاملة، هذا فضلاً عن أن "أحوالها" بالنسبة لدولة ما قد تكون هي "أوحالها" ترديا وتخلفا.
وحتى في موضوع النزاع المسلح بين الدول العربية، نجد أن "السيادة" تطل برأسها القبيح فإن دور المجلس قاصر على الوساطة، والوسيط لا يملك إلا المساعي الحميدة بين الفريقين المتنازعين، ورأيه غير ملزم.. ومن هنا فإنه لا يصدر قرارات.. فليس ذلك من مهمة الوساطة وطبيعتها.. ولذلك فإن قرارات مجلس الجامعة في هذا الصدد ليست ملزمة.
بل إن اختصاص المجلس بشأن النزاع فيما بين الدول العربية، قاصر على مسألة إجرائية فقط، هل يتوسط أو لا يتوسط.. وهو يتوسط إذا اتفقت الأغلبية على ذلك، ولكن "نتيجة" هذه الوساطة مرهونة بموافقة الدولتين المتنازعتين. وفي هذا الصدد قال السنهوري باشا أثناء مناقشة الميثاق ما يلي: وهو في غاية الطرافة..
"لنفرض أن هناك خلافاً بين دولتين، فأول ما يعرض هو تحديد هذا الخلاف وهل هو من النوع الذي يجوز التوسط فيه لأنه يخشى منه وقوع حرب أم لا، وفي هذا الشأن يتخذ القرار بأغلبية الآراء.. وإذا ما انتهى المجلس من هذا الموضوع، يرى ما إذا كان التوسط مناسباً أو غير مناسب، فإذا ما حلت هذه المسألة بأغلبية الآراء أيضاً، لا يبقى أمام المجلس غير التوسط، وليس فيه قرار ملزم لأن من طبيعته عدم الإلزام" (1) .
والسنهوري من أعلام العرب، ومن كبار رجال القانون، وهو هنا لا يعبر عن رأي قومي، ولكنه يفسر الميثاق، تفسيراً قانونياً، قدر ما تتحمل العبارات.
__________
(1) محضر اللجنة التحضيرية لمؤتمر العربي العام ص 13.(1/132)
أما التحكيم كوسيلة لفض المنازعات، فإن "السيادة" ترفضه تماما، ولا يكون إلا اختيارياً برضاء الفريقين، بل أن الميثاق قد ذهب إلى أبعد من ذلك واعتبر أن التحكيم غير وارد إطلاقاً، "إذا كان الخلاف يتعلق بسيادة الدولة أو استقلالها أو سلامة أراضيها" وهذه هي ألفاظ الميثاق (1) ونعوذ بالله أن تكون هذه هي ألفاظ المواطن العربي.
ومعنى ذلك أنه في حالة قيام حرب بين دولة عربية وأخرى، متصلة بالاستقلال والسيادة أو سلامة الأراضي، فإن مجلس الجامعة ليس له اختصاص مطلق، حتى ولو بأغلبية الأصوات؛ التحكيم غير وارد، والوساطة قاصرة على المساعي الحميدة، تقبل أو ترفض، والدماء العربية تروي الصحارى العربية الظامئة.
وإزاء هذا الموقف الرهيب لا يبقى إلا الالتجاء إلى مجلس الأمن الدولي، الذي يملك وحده، حسب نصوص ميثاقه أن يوقف الاقتتال العربي، ويحقن الدماء العربية، ويصون الكرامة العربية.. والمفارقة المحزنة أننا نخضع لسلطان الأمم المتحدة، ولا نعطي مثل هذا السلطان للجامعة العربية.
ذلك هو ميثاق الجامعة العربية، كما وضعته الدول العربية، وذلك هو ميثاق الأمم المتحدة الذي التزمت به الدول العربية.. ولا نملك إلا أن نردد، وامصيبتاه، واعرباه..
وتعود "السيادة" لتطل بكامل حجمها في نص الميثاق، لتشمل كل شيء في الحرب وفي السلام، وفي السياسة وفي الاقتصاد، وفي كل نواحي الحياة العربية، ليعلن الميثاق بأن "ما يقرره المجلس بالإجماع يكون ملزما لجميع الدول المشتركة في الجامعة، وما يقرره المجلس بالأكثرية يكون ملزما لمن
__________
(1) المادة الخامسة من الميثاق.(1/133)
يقبله (1) وهذا الكلام كله لغو سواء ماتعلق بالإجماع أو الأغلبية، لأن الإجماع قائم على قبول الجميع، والأغلبية قائمة على قبول أصحاب الأغلبية، والأقلية رافضة.. والقابلون لا يحتاجون إلى ميثاق أما الرافضون فإنهم هم الذي يجب أن يلزمهم الميثاق.
ويمضي الميثاق ليؤكد "السيادة" ويعمق غورها فنراه يعلن أن تنفيذ قرارات المجلس، سواء بالإجماع أوالأغلبية يعود إلى "كل دولة وفقاً لنظمها الأساسية" ومعنى ذلك أن لكل دولة حتى بعد صدور قرار مجلس الجامعة أن ترفض القرار الذي وافقت عليه في مجلس الجامعة.
وهذه النتيجة مضحكة فعلا، ولكنها طبيعة لأنها نابعة من طبيعة "السيادة" ولكن أموراً أخرى مدعاة للضحك كذلك، تكون فيها قرارات المجلس نافذة بأغلبية الآراء، من غير حاجة إلى موافقة "الدول" حسب نظمها، وهي أمور إدارية، تتصل بشئون الموظفين في الأمانة العامة، وميزانية الجامعة، والأنظمة الداخلية وتقرير فض أدوار الاجتماع.
وحمدا لله أن الدول العربية قد تنازلت عن السيادة في هذه الأمور "الخطيرة"!!
ولكن هذه الأمور، رغما عن النص باستثنائها، وينطبق عليها نظام التصويت بالأكثرية لم تنج من شبهة السيادة، ذلك أنه لمناسبة استقالة السيد أسعد داغر مدير إدارة النشر والإعلام بالأمانة العامة، أصدر المجلس قرار (رقم 799 تاريخ 30-6-1956) عبر فيه عن شكره للخدمات الجليلة التي أداها للجامعة وقضية العروبة، وقرر كذلك رفع المكافأة المستحقة لسيادته وقدرها 1090 جنيهاً إلى مبلغ ألفي جنيه تصرف من الاحتياطي العام، "وقد
__________
(1) المادة السابعة من الميثاق.(1/134)
تحفظ في هذا الصدد كل من حضرات ممثلي المملكة العراقية والمملكة الليبية المتحدة والجمهورية اللبنانية على أن لا تصرف هذه الزيادة إلا بعد ورود آراء الدول المتحفظة". وتلك هي عبارة القرار..
وهذا قرار يبعث على السخرية لأن الأكثرية وافقت، والأقلية عارضت، وتعطل تنفيذ القرار إلى أن توافق الدول المتحفظة، ولا أظن أن جلسات النوادي الاجتماعية والرياضية تصل إلى مثل هذا المستوى، ومع هذا فإني أحسب أن الكلام حول موضوع السيادة في ميثاق الجامعة يحتاج إلى أكثر من نموذج واحد ليرى المواطن بأم عينه، ويسمع بأذنيه، ويقف على فداحة المأساة العربية الكامنة في ميثاق الجامعة العربية، فإن وقائع الحياة أبلغ من الجدل السياسي والتحليل القانوني.
وقد اخترت النموذج "الأول" من محاضر مجلس الجامعة وقراراته، وأعود هنا إلى عام 1946 إلى الدورة غير العادية التي عقدها مجلس الجامعة (8 إلى 12 يونيو) فأصدر فيها توصية إلى الحكومات العربية "أن تأخذ بالقياس المتري وأن تعمل فيها على ربط المقاييس والأوزان بذلك المقياس" وتحفظ مندوب اليمن بأن "دولته ترغب في الاحتفاظ بالأسماء الحالية التي تستعملها المقاييس" وهكذا لم تستطع الجامعة أن تقود اليمن إلى مقياس واحد، في موضوع هو من أبسط الأمور وأيسرها لا يخل باستقلالها وسيادتها، بل يدفعها قيراطا واحدا إلى ميدان الحضارة العالمية..
وفي هذه الدورة بالذات، نرى "النموذج الثاني"، فقد اتخذ مجلس الجامعة قرارا موجها فقط إلى الدول العربية التي تستعمل للشهور الشمسية أسماء إفرنجية مثل فبراير ويناير، بأن "تستخدم الألفاظ العربية مثل كانون الثاني، شباط، آذار، نيسان.. إلى آخره" وهذا هو قرار الجامعة بالنص.(1/135)
وقد مضى على هذا القرار ما يزيد على ثلاثين عاما من غير تنفيذ، وربما تمضي عليه قرون ويبقى حبرا على ورق.. ويا ضيعة الحبر والورق.
أما الدول العربية التي تستعمل الشهور القمرية، فلم يجرؤ مجلس الجامعة أن يخاطبها لأن القرار كان قاصراً بالنص على الدول التي تستخدم الأشهر الشمسية (1) ..
وهنا ترسو الوحدة العربية على الصفوة النهائية.. الوحدة العربية التي أطلقها إيدن، وتنادت لها الحكومات العربية، فأقامت الجامعة ووضعت الميثاق، وانتهى بها الأمر أنها لم تستطع توحيد الموازين والمكاييل والمقاييس، ولا أسماء الشهور..
إنه امتحان صغير حقا، أصغر من امتحانات رياض الأطفال، ولكن سقط فيه الرجال، لأن أعناقهم مكبلة بالأغلال.
وبعد فهذا هو الميثاق، وهذه هي الجامعة.. وهذه هي دول الجامعة.. أنّى لها أن تقود الأمة العربية إلى غير الهزائم والمآسي والكوارث.
ولو كانت هذه الكوارث قاصرة على الحكم العربي، بأشخاصه وأنفاسه، لهان الأمر، ولكنها كوارث عارمة تستنزف طاقات الأمة العربية، وكرامتها القومية، ثم تمتد إلى المستقبل لتصيبه بالضمور والهزال..
__________
(1) الجزء الأول من قرارات مجلس جامعة الدول العربية ص 24.(1/136)
الفصل الثامن
جامعة بلا شخصية..
وميثاق من غير أخلاق
ليس هذا العنوان متعسفاً ولا ظالما.. إنه ينطوي على حقيقة سياسية وقانونية معا، والقول الفصل في الموضوع يعود إلى نص الميثاق نفسه، وإلى(1/138)
إرادة الدول العربية السبع التي وضعت الميثاق وأنشأت الجامعة على أساس ذلك الميثاق.
والبحث عن شخصية الجامعة وهويتها لا يحتاج إلى عناء كبير، ذلك أن الجامعة قد أسقطت عن نفسها منذ البداية عددا من الصفات.. فهي ليست دولة وحدوية تقوم على رأسها حكومة مركزية، وهي ليست دولة اتحادية من أي نوع من أنواع الاتحاد لا كونفدرالي ولا فدرالي.. ولكنها "جمعية" دولية أسستها مجموعة من الدول بموجب "ميثاق"، اسمه في القانون الدولي "معاهدة".. وهذه المعاهدة هي من نوع الاتفاقات التي تعقد بين الدول الأجنبية لتنظيم علاقاتها فيما بينها.. شكلا وموضوعاً..
وقد أعلنت المادة الأخيرة من الميثاق، من غير خفاء ولا مواربة، أن التصديق على الميثاق وملاحقه يتم وفقاً للنظم الأساسية المرعية في كل من الدول المتعاقدة، وأن وثائق التصديق تودع لدى الأمانة العامة.
وهذا هو الوضع السائد بين الدول الأجنبية، في علاقاتها الدولية، وليس لأي عربي أن يفاخر بأن ميثاق جامعة الدول العربية، أرقى مستوى من أي اتفاق دولي، فإن مكانه القانوني هو بين مجموعة المعاهدات الدولية التي تزدحم بها المكتبات العامة.. فلا فخر ولا تفاخر، بل خجل من الأمة العربية، واستحياء من التاريخ العربي.
بل إننا لو أردنا أن نتوغل بعض الشيء في دهليز القانون الدولي، لجاز أن نقول من غير ظلم ولا إسراف، إن التزاماتنا تجاه الأمم المتحدة هي أرفع مستوى وأعلى مرتبة من التزاماتنا في الجامعة العربية، ذلك أن ميثاق الأمم المتحدة قد نص بصراحة واضحة أنه إذا تعارضت الالتزامات التي يرتبط بها أعضاء الأمم المتحدة مع أي التزام دولي، آخر، فإن العبرة هي(1/139)
للالتزامات العائدة للأمم المتحدة (1) .. ومعنى ذلك أنه في حالة التعارض بين الميثاقين فإن الذي يسقط هو ميثاق الجامعة العربية، ويبقى ميثاق الأمم المتحدة وهو صاحب الكلمة العليا!!
وليس لنا أن نشكو من هذا الموقف العجيب، فقد اختارت الدول العربية أن تؤسس الجامعة على أساس معاهدة دولية، لا على أساس وثيقة قومية.. تجعل الالتزام القومي يعلو على كل التزام آخر.
وقد ترتب على ذلك كله أن الجامعة العربية، لا تشبه أيا من "الجماعات الدولية" فهي ليست اتحادا، ولا حلفا، وهي ليست اتحادا تعاهديا كونفدراليا، كما يحلو لبعض رجال القانون العرب أن يصفوها.
ولسنا في حاجة أن ندخل في "غابة"القانون الدولي ومعه القانون الدستوري لننفي عن الجامعة العربية صفة "الكونفدرالية" فإن أمريكا هي صاحبة النموذج المثالي في ذلك النظام الذي عاش قرابة سبعة أعوام بعد 1781، وكان الأساس الذي قام عليه النظام الفدرالي الأمريكي الحاضر.
ويكفي أن نقرأ بترو وإمعان مواد الكونفدرالية الأمريكية التي ينص على "اتحاد دائم للولايات المتحدة الأمريكية، يقوم على رأسه الكونجرس بسلطات محدودة، تشمل موضوع الحرب والسلام، والتمثيل الدبلوماسي، وانتخاب لجنة تتولى الحكم أثناء غياب الكونجرس، ووجود وزير خارجية واحدة هو السياسي الأمريكي المعروف المستر جاي فأين ذلك كله من الجامعة العربية (2) التي ليست لها بعوضة من هذه السلطات والاختصاصات!!
__________
(1) المادة 103 من ميثاق الأمم المتحدة.
(2) نوبل غيرسون، ترجمة أساتذة جامعيين، وطن حر مستقل ، ص 145(1/140)
ولذلك فإن جامعة الدول هي هيئة دولية، وميثاقها معاهدة دولية، والقانون الذي يحكم وجودها واختصاصها، هو القانون الدولي العام، وأكثر من ذلك فإن تفسير نصوص الميثاق، إذا وقع اختلاف بين دول الجامعة على مفهومه، يعود إلى كل دولة بمفردها، لا إلى مجلس الجامعة، لأن المجلس، بحكم ميثاقه، لا يخرج عن كونه هيئة سياسية وليس له الاختصاص بالنظر في المسائل القانونية (1) .
ويترتب على ذلك أن الخلاف على تفسير ميثاق الجامعة ليس له مرجع عربي، في الوقت الحاضر، ولا يبقى أمام الدول العربية المتنازعة إلا أن تلجأ إلى محكمة العدل الدولية لتحكم فيما شجر بينها، وذلك لأن محكمة العدل العربية التي نص ميثاق الجامعة العربية على إنشائها قد فشلت كل الجهود العربية في إنشائها، على حين أن الجامعة العربية قد سلخت من عمرها خمسة وثلاثين عاما، كلها منازعات وخلافات، والأمة العربية لا ناقة لها ولا جمل في هذه الخلافات، والحمد لله، ولكنه خلاف بين الحكام بأنوفهم.
وهذا الوضع غريب عجيب من غير شك، من الناحية القومية لاتصاله بالأمة العربية الواحدة.. ولكنه هو الوضع القانوني النابع من ميثاق الجامعة كما أراد له واضعوه.
هذا ويعود السبب في ذلك إلى جذور الميثاق فهذه متأصلة إلى غور عميق في السيادة المطلقة للدول الأعضاء، كل بمفردها، وبمجموعها، فقد أرادوا أن يدخلوا هذه الجمعية الدولية لا مع الاحتفاظ الكامل "بالسيادة" المطلقة فحسب، ولكن دون التنازل لهذه الجمعية عن "حبة قمح" من السيادة لتمدها بالغذاء والنماء.
__________
(1) محضر اللجنة السياسية للمؤتمر العربي العام، ص 71.(1/141)
والإصرار على "السيادة" كان واضحاً منذ البداية، رغماً عن أن شعار "الوحدة العربية" الذي كانت تدور تحت سقفه المشاورات والمداولات.. قد استخدم لاستبعاد الوحدة، بأية صورة من الصور، بل إنه استخدم لتكريس التجزئة والانفصال، ومن هنا جاء الميثاق ليردد التوكيد على "الاستقلال والسيادة والحدود، ونظام كل دولة وأحوالها.. والنظم الدستورية لكل بلد" ثم بعد ذلك ثالثة الأثافي في أن قرارات الجامعة ملزمة لمن يقبلها.. وللغير أن يرفضها، من غير سبب ولا عجب!!
وكان الوفد اللبناني على رأس المنادين بهذه السيادة "المطلقة" فقد كان منذ البداية يعلن من غير خفاء أنه يشترك في الجامعة على هذا الأساس، وأنه لا يشترك على غير هذا الأساس، وذهب إلى أبعد من ذلك حين أكد أن الجامعة ليست لها سلطة سياسية، وأنها لا تعدو أن تكون مؤتمراً دوليا يرمي إلى القيام بمهام خاصة محددة في الميثاق، وأنه ليس لهذه الجامعة شخصية دولية مستقلة عن الحكومات الممثلة في مجلسها، فكل دولة من دول الجامعة تحتفظ بحقوقها الكاملة في السيادة والاستقلال في الداخل والخارج" (1) ولم يبق للوفد اللبناني إلا أن يضيف "ومن الظاهر والباطن".
وعلى الجملة فإن الوفد اللبناني قد أراد الجامعة العربية أن تكون جمعية تعاونية ينسحب منها أي عضو حين يشاء، ولا قيد على ذلك إلا أن يبلغ الأمانة العامة قبل عام من الانسحاب كما نصت المادة الثامنة عشرة من الميثاق.
ولقد كان الرأي اللبناني صوابا من ناحية قانونية محضة، وخطأ فادحا من ناحية قومية.. ولكن أكثر الدول العربية الأخرى لم تكن كارهة
__________
(1) محاضر اللجنة الفرعية السياسية للمؤتمر العربي العام، ص 22.(1/142)
للموقف اللبناني، فقد رأت فيه حجة تدافع فيه عن نفسها أمام الجماهير العربية التي كانت تريد جامعة قومية تتسم بأبسط سمات الوحدة، على الأقل.
وهكذا سارت الدول العربية معها بسير أضعفها، بل أنها اختارت هذا الطريق هربا من الوحدة، واختارته معها كل من بريطانيا وأمريكا، وكانت لها اليد الطولى من شئون الوطن العربي.
ولعلي أخشى أن أقول أن الدول العربية اختارت أقل مما أرادت لها بريطانيا وأمريكا، فالدارس للميثاق لا يرى نصا واضحا صريحا يصف هوية الجامعة العربية وشخصيتها القانونية، حتى في التعامل مع دولها، وقد كتب رجال القانون العرب ما يشتهون ويتمنون، في المواد التي تشير أن الأمين العام بدرجة سفير، وأن الأمانة العامة لها بعض الحصانات الدبلوماسية، كل ذلك ليخلعوا على الجامعة العربية شخصية دولية مستقلة لا يشير إليها الميثاق من قريب أو بعيد.
وكائنا ما كان الجدل القانوني حول هذا الموضوع، فإن الدول العربية قد اعترفت للأمم المتحدة بشخصية دولية مستقلة بصورة واضحة وأكيدة، فقد نص ميثاق الأمم المتحدة على أن "تتمتع هيئة الأمم المتحدة في بلاد كل عضو من أعضائها بالأهلية التي يتطلبها قيامها بأعباء وظائفها وتحقيق مقاصدها" (1) .
وليس في ميثاق الجامعة العربية مثل هذا النص بالنسبة للجامعة نفسها ويتبع ذلك أن الجامعة العربية لا تملك عند دولها "الأهلية" التي تملكها الأمم المتحدة في الدول العربية..
__________
(1) المادة 104 من ميثاق الأمم المتحدة.(1/143)
وموضوع الأهلية ليس كاملا تجريديا أو نظريا.. فإن له ترجمة واقعية، تتمثل في النشاطات والإنجازات.. ويكفي أن نعلم أن الأمم المتحدة لها في الوطن العربي وجود سياسي وإعلامي، ونشاطات في جميع المجالات، ولا تملك الجامعة العربية واحدة منها في وطنها وعند أمتها.. وآية ذلك، وهذا دليل صغير، أن الجامعة العربية ليس لها مكتب واحد لدى الدول العربية لمتابعة تنفيذ قراراتها، وهذا أضعف الإيمان، على حين أن الأمم المتحدة لها العديد من المكاتب والمؤسسات في الوطن العربي من المحيط إلى الخليج.
والسبب في ذلك أن الدول العربية ترفض أن تمنح الجامعة العربية هذا "الامتياز" على حين أنها تمنحه للأمم المتحدة بكل مؤسساتها وتنظيماتها.. وعلى هذا بقيت الجامعة العربية غريبة عند دولها، ودولها هذه أصبحت قريبة ونسيبة للأمم المتحدة؛ وهذا هو العجب العجاب، كما يقول العرب الأوائل، ولا يشفي الغليل مثل تعابيرهم ثم لماذا تعترف بها المنظمة العالمية، والجامعة العربية لا تعترف بها دولهم، فهي لا تستطيع أن تتصل مع الدول العربية إلا عن طريق وزارات الخارجية، تماما كما تفعل الدول الأجنبية.. ومن الطرائف البروتوكولية حول هذا الموضوع أن مجلس الجامعة العربية كان قد تعرض لطريقة إبلاغ القرارات الثقافية إلى دول الجامعة، فأصدر قرارا " خطيرا"، يقول فيه بأن القرارات "تبلغ لوزارات الخارجية، ويجوز لرئيس اللجنة الثقافية أو من ينوب منابه أن يرسل صورا من هذه المراسلات إلى وزارات المعارف" (1) وكان قرارا جريئا حقا أن يسمح بإرسال صور المراسلات رأسا إلى وزارة المعارف عن غير طريق وزارة الخارجية.
__________
(1) قرار 85 ، الدورة الخامسة، صفحة 23.(1/144)
وهكذا يتعامل العرب مع العرب، أو على الأصح هكذا يتعامل حكام العرب فيما بينهم!
ولكن الغريب العجيب، أن الجامعة العربية هذه، الغريبة عند دولها أولئك، قد حاولت أن تقنع بريطانيا بالاعتراف بها، فقد أوصى مجلس الجامعة بأن تبادر الحكومات العربية بمطالبة الحكومة البريطانية بالاعتراف بالجامعة العربية وأن تعتبر ما يصدر إليها من الأمين العام ضمن حدود الميثاق صادرا عن الجامعة" (1) .
وصادف في تلك الحقبة، أن كان الأستاذ أحمد لطفي السيد، وزير خارجية المملكة المصرية، وهو من أعلام الجيل العربي بلا منازع، فقام باتصالات متلاحقة مع الحكومة البريطانية، وكان موقف بريطانيا، صاحبة الدعوة "للوحدة العربية"معارضا كل المعارضة، فأعربت عن رأيها بأن الجامعة ليست دولة ولا منظمة دولية معترفاً بها من الأمم المتحدة كما أن "بريطانيا ليست من دولها الأعضاء".. وكانت هذه العبارة سخرية بريطانية لاذعة..
وقد كتب الوزير العالم أحمد لطفي السيد، إلى السيد رونالد كامبل، سفير بريطانيا في القاهرة رسالة في 4 مايو (أيار) 1946، يؤكد فيها "أن الحكومة المصرية ترى أن الجامعة هيئة دولية تتمتع بشخصية مستقلة عن الدول الأعضاء.. وأن الجامعة قد اتخذت من جهتها الإجراءات التي جرى عليها العرف الدولي لتأكيد شخصيتها وكيانها النظامي المستقل.. وأن الحكومة الملكية المصرية يسرها أن تنشأ بين حكومة صاحب الجلالة
__________
(1) قرار 76 ، الدورة الرابعة، صفحة 21.(1/145)
البريطانية والجامعة علاقات دبلوماسية مباشرة في حدود الاختصاصات المحددة في الميثاق".
ولم تكترث الحكومة البريطانية للرسالة المصرية، فقد بعث السفير البريطاني برد دبلوماسي بتاريخ 16 أكتوبر (تشرين الأول) 1946 أشار فيه إلى مواقف الدول العربية المختلفة بصدد المسألة شكلا وموضوعا، ويختم بالقول أنه "متى لاحت فرصة لحكومة جلالة الملك توجيه خطاب سياسي إلى حكومات الدول العربية، فإن نسخة مطابقة من تلك المخاطبة سترسل إلى سعادة الأمين العام لجامعة الدول العربية لعلمه شخصيا"، وانتهى الموقف البريطاني عند حدود اللاموقف.
وكن طبيعيا أن يكون الموقف البريطاني على هذه الصورة، ما دامت الدول العربية مختلفة فيما بينها في الأمر شكلا وموضوعا، وكل ما تكرمت به بريطانيا أن ترسل نسخة من مخاطباتها إلى الأمين العام لمعلوماته الخاصة.
وهذا "اللاموقف" كان هو نفسه موقف الأمم المتحدة، فالمنظمة الدولية لم تعترف بالجامعة العربية كمنظمة إقليمية، هذا مع العلم أن مجلس جامعة الدول العربية كان بقضه وقضيضه، وبهيئته الكاملة وبالإجماع قد أصدر قرار (رقم 290 الدورة 12 بتاريخ 1-4-1950) يطلب إلى الحكومات العربية أن تسعى لدى الأمم المتحدة للموافقة على اعتبار الجامعة العربة منظمة إقليمية بالمعنى الوارد في الباب الثامن من ميثاق الأمم المتحدة، ولكن الأمم المتحدة لم تصدر أي قرار بهذا المعنى، وكل ما تكرمت به الأمم المتحدة أنها توجه دعوة إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية لحضور جلسات الجمعية العامة، حضور مراقب، لا يشارك في شيء إلا الاستماع،(1/146)
شأنه في ذلك شأن السائحين الذين يزورون الأمم المتحدة في برنامج سياحي للتعرف على معالم مدينة نيويورك.
واستمرت جهود الجامعة العربية متواصلة من غير كلل أو ملل "تناضل وتجاهد" في سبيل الحصول على اعتراف الأمم المتحدة، كما تناضل الشعوب المكافحة في سبيل حريتها، ولم تفلح الجامعة إلا بالوصول إلى "تسوية"هزيلة، تستر ماء الوجه، ولا تزيد؛ فبعد مراسلات متصلة واجتماعات مطولة بعث المستر داج همرشلد السكرتير العام الراحل للأمم المتحدة برسالة إلى الأمين العام للجامعة العربية يجعل حدود التعاون قاصرة على "الأمانتين.. أمانة الأمم المتحدة وأمانة الجامعة العربية" وعلى صعيد المعلومات المتبادلة فقط".. لأن أي تعاون يتجاوز هذه الحدود لا بد له من قرار الجمعية العامة أو مجلس الأمن، ومثل هذا القرار لم يصدر بشأن الجامعة العربية"، كما قال السكرتير العام للمنظمة الدولية في رسالته.
وذلك يوضح بكل جلاء أن الجامعة العربية، كما تأسست في ربيع 1945، لم تكن تملك شخصية ذات قيمة، وهي تعيش إلى يومنا هذا بعد خمس وثلاثين عاما دون أن تكتسب الشخصية التي تؤهلها لتحقيق الأغراض التعاونية ناهيك عن الأهداف القومية التي تصبو لها الأمة العربية. وقد نبه أحرار العرب ورجال القانون العرب والأجانب على السواء إلى حالة "انعدام الوزن" التي تكتنف الجامعة العربية، أو إلى "الفراغ الأرضي" الذي قامت عليه الجامعة العربية، يوم إنشائها، ولكن لم يجد التنبيه، ولا التقريع والتأنيب.
ومن ذلك أن واحدا من كبار رجال القانون في فرنسا، وهو الأستاذ جورج سل، قد قرر بكل وضوح أنه "يصعب تمييز الاختصاصات الذاتية الممنوحة لهيئة الجامعة العربية، ويظهر أن الدول الأعضاء لم تتنازل لها(1/147)
فعليا عن أي من اختصاصاتها، سواء في العلاقات بين الدول العربية، أو بينها وبين الدول الأجنبية"، ثم تساءل مستغربا "وكيف يجوز في هذه الأحوال حصول اعتراف دولي بها".
ولعل الأستاذ جورج سل، قد خجل أن يتساءل كذلك "وكيف يجوز الحصول على الاعتراف الدولي، إذا لم تكن الجامعة العربية متمتعة بالاعتراف العربي".
أما الجانب العربي، فقد كتب الكثيرون يشيرون إلى مواضع الوهن في ميثاق الجامعة، ويكفي في هذا المجال أن نشير إلى مؤلف واحد، تلتقي فيه صفات متعددة، فهو أستاذ جامعي، ورجل قانون، وتحمل المسئولية العامة كوزير (1) ولا يمكن القول أنه يرسل الكلام لغوا، ويصدر الحكم عفوا.
لقد لخص ذلك المفكر العربي أسباب الوهن في الجامعة العربية فيما يلي:
أ ) عدم وجود نظام إلزامي لحل المنازعات بين الدول الأعضاء.
ب ) ضعف نظام قمع العدوان.
ج) صعوبة اتخاذ قرارات ملزمة للدول الأعضاء سواء في السياسة الخارجية، أو في الأمن، أو في المسائل المتعلقة بالتعاون الثقافي والاقتصادي والاجتماعي.
وتساءل هنا، وماذا بقي للجامعة من شئون غير الشجون..
ثم إن هناك جانبا لم يعالجه الكثيرون من الذين درسوا ميثاق الجامعة ذلك أن الجامعة بالإضافة إلى أنها من غير شخصية كافية، فإن شخصيتها هذه على وهنها وهوانها، تكون غائبة أحد عشر شهرا في العام.. فإن وجودها
__________
(1) الدكتور حافظ غانم في كتابه الجامعة العربية.(1/148)
لا يتعدى شهرا واحدا في العام حينما تكون منعقدة في الدورتين القانونيتين في شهري مارس وسبتمبر من كل عام..
وواضح أنه في غير الدورتين لا يكون للجامعة العربية وجود إلا في شخص الأمين العام، وهذا إنسان مظلوم لم يعطه الميثاق شيئا من الاختصاصات الهامة؛ إنه رجل إداري بحكم نصوص الميثاق يرأس جهازا إداريا، وما يفعله غير ذلك، إنما هو تجاوز، إنها مبادرات خاصة.
ولو أننا عدنا إلى ما فعلته دول أمريكا اللاتينية، وما أحسبهم أكثر حضارة منا، لوجدنا أنهم كانوا أكثر منا عقلا وأشد حرصا عل مصالح شعوبهم، فقد نصت المادة الرابعة من منظمة الدول الأمريكية على إنشاء رئاسة ووكالة لمجلس المنظمة، تتم بالانتخاب لمدة سنة واحدة، ولا يجوز تجديد مدة الرئيس أو وكيله لفترة ثانية بصورة متتالية.. ولهذا تكون رئاسة المجلس قائمة بواجباتها حين لا تكون المنظمة في حالة الانعقاد.
أما الجامعة العربية فإنها غير موجودة على مدار السنة، إلا شهرا واحدا، حين تكون منعقدة، ويبدو أنها تمارس "الإجازة" بصورة مقلوبة.. فالناس يستحقون إجازتهم شهرا واحدا في العام، أما الجامعة فإن إجازتها تمتد أحد عشر شهرا، ولا تعمل إلا شهرا واحدا، ومع ذلك فإن هذا "العمل" لا يكاد أن يحرك كفة الميزان.
تلك هي الجامعة من غير شخصية.. وهذه نتيجة محزنة حقا، ولكن مما يضاعف الحزن أن الميثاق من غير أخلاق.. وليس هذا سجعا مرسلا، ولكنه الحقيقة الصارخة، يجدها المواطن العربي في يسر وسهولة، وفي قراءة سريعة للميثاق.(1/149)
ليس في الميثاق من ديباجته إلى مواده إلى ملاحقه كلمة واحدة عن المواطن الإنسان.. كما أن المواطن العربي لا يستحق أن يكون له مكان ما بين أهداف الجامعة ومبادئها، وكذلك ذكر، ولو يسير، عن الأمة العربية كجماعة إنسانية، كأن الأمة ليست جديرة بأن تتصدر أغراض الجامعة، بصفة أو بأخرى.
ولو أننا عدنا إلى ميثاق الأمم المتحدة، لوجدنا أن ديباجته المشرقة ترسلها عالية، حين تقول: "إننا نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان، وبكرامة الفرد وقدره، وبما للرجال والنساء، والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية".
ثم تؤكد الديباجة، وترسلها عالية، مرة أخرى، حين تتحدث "عن تحقيق العدالة.. وأن ندفع بالرقي الاجتماعي قدما، وأن نرفع مستوى الحياة في جو من الحرية أفسح، مع العمل على ترقية الشئون الاقتصادية والاجتماعية".
وما أن تنهي الديباجة، حتى تنص المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة، أجل المادة الأولى، "على تقرير احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية"..
كل هذه المعاني غير موجودة في الميثاق العربي، مع أن الوزير الأمريكي المفوض في القاهرة، قد حمل ميثاق الأمم المتحدة يوم كان مشروعا، إلى المؤتمر العربي العام لتنسج على منواله، ولكن الدول العربية أخذت مساوئه وتجنبت محاسنه. وكل ما فعلته الدول العربية حين قرأت مشروع الأمم المتحدة أنها وجدت المادة السابعة منه تقول: "ليس في هذا الميثاق ما يسوغ للأمم المتحدة أن تتدخل في الشئون التي تكون من صميم(1/150)
السلطان الداخلي لدولة ما"،فأسرعت الدول العربية إلى وضع مادة في ميثاقها تقول "تحترم كل دولة من الدول المشتركة في الجامعة نظام الحكم القائم في دول الجامعة الأخرى، وتعتبره حقا من حقوق تلك الدول، وتتعهد بأن لا تقوم بعمل يرمي إلى تغيير ذلك النظام" (المادة الثامنة).
والمادتان هاتان، الأممية والعربية قد اخترقتا عبر السنين.. ذلك أن الأمم المتحدة قد عالجت كل قضايا الحرية وحقوق الإنسان رغما عن النهي القائل بأنها من صميم السلطان الداخلي.. أما المادة العربية فإنها لم تمنع قيام أربعين انقلابا في الوطن العربي وكان أعظمها زوال المملكة المتوكلية اليمنية، مملكة الرهائن الآدمية وكفى.
أما انتهاكات حقوق الإنسان العربي، وإهدار الحريات الأساسية للأمة العربية في هذه الحقبة من تاريخها الحديث فإنها وحدها تتسع لكتاب، وأي كتاب؛ وأنا لا أحب أن أشارك في هذا الكتاب، إشفاقا وحياء، وأرجو أن يتولاه من هو أشد عودا وأثبت جنانا، وأصلب وجها..
وهكذا فإن الأمة العربية تعيش اليوم في ظل جامعة عربية بلا شخصية، وميثاق بلا أخلاق..
ونتساءل بعد ذلك، لم هذه الهزائم المتلاحقة، منذ أن أنشئت الجامعة إلى يومنا هذا.
هزائمنا في حروب ثلاث، وهزائمنا السياسية بعد الحرب الرابعة.. ويا فجيعة الشهداء..(1/151)
الفصل التاسع
الجامعة العربية تسقط..
بعد شهرين من مولدها
كان ميلاد جامعة الدول العربية في الثاني والعشرين من شهر مارس (آذار) 1945، وبعد شهرين اثنين، وقعت أحداث رهيبة في سوريا، وفجأة دخلت الجامعة قاعة الامتحان، وعند الامتحان تكرم الجامعة أو تهان..(1/152)
ويومئذ، كان الجدال ما يزال ساخنا في أوساط الأمة العربية حلول الجامعة العربية وميثاقها ومؤسساتها واختصاصاتها، والصحافة العربية تقود حملة واسعة على الحكومات العربية تتهمها أنها جعلت الجامعة العربية "أداة رسمية" بيد الحلفاء، وأنها خالفت قضية الوحدة العربية، وأنها لن تستطيع أن تحمل أعباء القضية العربية، في عالم ما بعد الحرب، وما ستنتهي إليه مطامع الدول الكبار.
وفي خضم هذا الحوار الذي شغل الرأي العام العربي زمنا غير قليل، جاء يوم الحساب، وكأن الجامعة العربية على موعد مع الأحداث.. ولم يكن قد جف المداد الذي كتب به الميثاق، ولا أنزلت الأعلام العربية عن سواريها في قصر الزعفران، حيث التقى رؤساء الحكومات العربية ليعلنوا قيام جامعة الدول العربية.
ففي أوائل شهر يونيو حزيران من عام 1945، ولم يكد يستقر رؤساء الحكومات العربية في عواصمهم، بعد عودتهم من القاهرة، حتى قامت القوات الفرنسية بعدوان مسلح على الجمهورية العربية السورية، منتهكة بذلك حرية الدولة الفتية واستقلالها وسيادتها على أرضها.
ولم يكن العدوان الفرنسي وليد الساعة فقد سبقته مقدمات خطرة ومثيرة في أوائل الأربعينات حينما سقطت فرنسا من الضربة الأولى في الحرب العالمية الثانية، واستسلمت للقوات النازية، ولم يبق لها إلا "جيوش المشرق" حسب التعبير الفرنسي يومذاك، وهي القوات الفرنسية في سوريا ولبنان.
ومن غير دخول في التفاصيل فقد قامت في فرنسا حكومة عرفت بحكومة فيشي كانت موالية لدولتي المحور، وقد أصبحت "جيوش الشرق"(1/153)
بطبيعة الحال تابعة لسياسة دولتي المحور وبهذا أصبحت شوكة في ظهر الحلفاء تهدد إستراتيجيتهم العسكرية في منطقة الشرق الأوسط.
وكان من أعظم ما أقلق دول الحلفاء، من هذا الوضع "المحوري" في سوريا، أن طائرة ألمانية عسكرية قد هبطت في أحد المطارات السورية وتزودت بالوقود، وكانت محملة بالذخائر والأسلحة إلى العراق لمساندة ثورة رشيد عالي الكيلاني، هذا بالإضافة إلى أن دمشق قد غدت في ذلك الوقت موالية بعواطفها القومية نحو دولتي المحور، وأصبحت مركزا إعلاميا واسعا للتنديد بدول الحلفاء والإشادة بدولتي المحور وانتصاراتهم في جميع الجبهات في أوروبا وفي الشمال الإفريقي..
وحينما أخذ نجم دولتي المحور في الأفول، قامت القوات البريطانية في 8 حزيران (يونيو) 1941 باحتلال سوريا ولبنان وأخضعت "جيوش الشرق" الفرنسية، وتبع ذك أن دخلت قوات فرنسية تابعة لحكومة فرنسا الحرة التي كان يرأسها الجنرال ديجول، وكانت متحالفة مع الحلفاء، وصدرت البلاغات العسكرية من القيادة البريطانية في الشرق الأوسط بأنه تم "تحرير" سوريا من سيطرة حكومة فيشي الفرنسية!!
ولم يسع فرنسا، وهي المنهزمة، إلا أن تعترف باستقلال سوريا ولبنان، ولكنها كانت مصرة على عقد معاهدة معها يكون لها وضع الدولة الممتازة، مع المحافظة على "حقوقها ومصالحها".. وقد رفضت كل من سوريا ولبنان عقد أي اتفاق مع فرنسا، وأصرتا على ضرورة جلاء القوات الفرنسية عن الأراضي اللبنانية والسورية.
وهاج الشعب في كل من القطرين، مطالبا بجلاء القوات الفرنسية؛ وفي نوفمبر 1943 اعتقلت السلطات الفرنسية رئيس الجمهورية اللبنانية(1/154)
الشيخ بشارة الخوري وحكومته، ولم تطلق سراحهم إلا بعد توتر الموقف في البلاد العربية، وتدخل الدول العظمى.. وبقيت الجمهوريتان السورية واللبنانية، على إصرارهما في المطالبة بالجلاء وعدم التعاقد مع فرنسا.
ثم جاء شهر يونيو (حزيران) من عام 1945، فقامت القوات الفرنسية بالعدوان على سوريا، في العاصمة وفي جميع البلدان السورية، فقصفت منشآت الدولة والمراكز الحيوية في البلاد، بالمدافع والطائرات، وانتقلت أنباء هذا العدوان إلى جميع أرجاء العالم.. وخاصة، وتلك مفارقة عجيبة، أن العالم كان يشهد انعقاد المؤتمر الدولي في سان فرانسيسكو لإنشاء الأمم المتحدة التي سيناط بها الحفاظ على الأمن والسلم في العالم أجمع.. وكانت وفود سوريا ولبنان وفرنسا مشتركة في هذا المؤتمر.. وتوالت التصريحات العالمية باستنكار العدوان الفرنسي وتأييد الشعبين السوري واللبناني في حقهما الكامل بالاستقلال والسيادة.
وكان من أبلغ هذه التصريحات وأكثرها إيجازا، البيان الذي أصدرته "كوميسارية الشعب للشئون الخارجية في الاتحاد السوفييتي" ولخص فيه العدوان الفرنسي بقوله تلقت الحكومة السوفيتية أنباء تثبت أن المعارك تدور على أرض سوريا ولبنان، وأن الجنود الفرنسيين المرابطين هناك اصطدموا بالسوريين واللبنانيين، وأنهم استعملوا المدافع ومدافع الهاون، كما صبت الطائرات الفرنسية نيرانها على دمشق، ويدور القتال أيضا في مدن أخرى في سوريا ولبنان، ويرتفع كل يوم عدد القتلى والجرحى، ويزيد الموقف خطورة أن الدول الثلاث وهي فرنسا وسوريا ولبنان مشتركة مع الأمم المتحدة في المؤتمر المعقود الآن في سان فرانسيسكو، والحكومة السوفييتية ترى أن حوادث سوريا ولبنان لا تتفق وأهداف مؤتمر الأمم المتحدة المنعقد الآن(1/155)
لإنشاء نظام يحقق الأمن والسلام، وترى الحكومة السوفييتية كذلك أنه لا بد من المبادرة إلى اتخاذ التدابير لوقف القتال الناشب في سوريا ولبنان، والالتجاء إلى الطرق السلمية لفض النزاع القائم؛ والحكومة السوفييتية توجه هذا الاقتراح إلى الحكومة الفرنسية المؤقتة وإلى بريطانيا العظمى والولايات المتحدة الأمريكية والصين لأنها هي الحكومات التي شرعت في إنشاء نظام ما بعد الحرب لتحقيق الأمن والسلام بين الدول".
تلك هي الخلاصة الموجزة للصراع بين فرنسا من جانب وسوريا ولبنان من جانب آخر.. وكان مقدرا على مجلس الجامعة أن يعقد دورته الأولى لمعالجة أول قضية عربية وأول امتحان للجامعة، وأول اختبار للميثاق.. بعد أن أصبحت الجامعة مسئولة عن الشئون العربية في الوطن العربي.
وباستثناء الوفد اليمني، الذي لم يستطع اللحاق باجتماع مجلس الجامعة، فقد لبت حكومات الجامعة الدعوة وتألفت وفودها على مستوى رؤساء الحكومات وكثير من هؤلاء شاركوا في مشاورات الوحدة العربية في عهد النحاس باشا، وفي المداولات لوضع الميثاق بصفته النهائية، في عهد النقراشي باشا.
وهكذا قُدِّر للذين وضعوا الميثاق بمقاييس "السيادة المطلقة" و"التعاون الاختياري" أن يواجهوا هذه الأزمة القومية.. وقيود الميثاق وأغلاله تكبلهم إلى الأعناق، حتى يصدق فيهم القول العربي القديم: على نفسها جنت براقش.
وانعقدت الجلسة في الرابع من يونيو (حزيران) 1945 برئاسة "حضرة صاحب الدولة محمود فهمي النقراشي باشا رئيس مجلس وزراء(1/156)
المملكة المصرية، ووزير خارجيتها "في قصر الزعفران إياه.. حيث تم توقيع الميثاق قبل شهرين اثنين.
وفي بداية الجلسة تليت الرسالة الملكية الموجهة من الملك فاروق إلى مجلس الجامعة، يدعو فيه إلى "العمل لاستقلال سوريا ولبنان وسيادتهما الكاملة وأن يكون لجامعة الدول العربية المقام الذي نوده لها وتريده الأمة العربية كلها، فإن في قوة الجامعة قوة لجميع أعضائها".. وكانت هذه العبارات فوق مستوى الميثاق الذي وضعته الحكومة، وهذه إحدى المفارقات العربية، ولم تكن المفارقة الأولى، ولن تكون الأخيرة في الأعوام الطويلة المقبلة!!
وجاء دور الخطب الرسمية، وتكلم النقراشي باشا فتحدث عن "الاعتداء الشنيع الذي قامت به القوات الفرنسية.. فاستعملت مع أمة عزلاء مدافع الميدان ومدافع الهاون وقنابل الطائرات ورشاشاتها ضد المدن الآمنة وأخذت تحطم عاصمة الأمويين إحدى عواصم الحضارة العربية التليدة" ثم شكر بريطانيا العظمى لتدخلها لإيقاف القتال، وكذلك شكر أمريكا وروسيا لموقفهما المؤيد لسوريا ولبنان، وخلص إلى القول بأن مجلس الجامعة سينتهي إلى قرارات "قوية حكيمة تلقى تأييد العرب في كل أقطارهم.. ولنسر على بركة الله في طريقنا".
وتحدث رئيس مجلس النواب السوري السيد سعد الله الجابري فشرح تفاصيل العدوان الفرنسي على الشعب السوري الأعزل، ووجه في نهاية كلمته شكرا خاصا إلى بريطانيا العظمى فقد "أدى تدخلها في ساعات الهول إلى وضع حد لذلك الشر المستطير الذي أنزله الجنرال ديجول ورجاله بدمشق وسائر المدن السورية، فحقنت الدماء وأوقفت التخريب والتدمير(1/157)
والنهب والسلب"؛ ثم شكرها لأنها "وفرّت عن الشام من هول مجاعة كادت تقع حتما، إذ أحرق الفرنسيون ما فيها من ذخيرة القمح انتقاما وتشنيعا"؛ وأزجى بعد ذلك أجمل عبارات التحية والتقدير للولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي لموقفهما إلى جانب الشعب السوري في نضاله من أجل الحفاظ على حريته وسيادته واستقلاله.
وتبعه بعد ذلك في الكلام، توفيق باشا أبو الهدى رئيس الوزراء الأردني، والسيد حمدي الباجة جي رئيس وزراء العراق، والشيخ يوسف ياسين ممثل المملكة العربية السعودية، فأعربوا عن استنكارهم للعدوان الفرنسي، ووقوفهم إلى جانب سوريا ولبنان في دفاعهما عن استقلالهما.
وكانت الكلمة الأخيرة للسيد عبد الحميد كرامي رئيس وزراء لبنان فسرد مراحل الصراع بين فرنسا من جهة، وسوريا ولبنان من جهة ثانية؛ وأوضح أن حكومة الجنرال ديجول "تريد أن تأخذنا بالضغط فتوقع معاهدة جائرة تحمل في طياتها الانتداب والاستعمار، وترمي إلى إعطاء فرنسا في سوريا ولبنان قواعد إستراتيجية وامتيازات ثقافية واقتصادية "ثم ذكر بأن سوريا ولبنان" قد طلبتا عقد اجتماع مجلس الجامعة لتؤازرنا والوقوف بجانبنا وقد أراد الله لهذه الجامعة العربية الفتية أن يمتحن حيويتها ويختبر قدرتها على الدفاع عن استقلال كل دولة من الدول المنتمية إليها والذود عن سيادتها".
وكانت هذه الكلمات الأخيرة هي "ورقة الامتحان" للجامعة العربية التي أعلن ميثاقها أنه "إذا وقع اعتداء من دولة على دولة من أعضاء الجامعة(1/158)
فللدولة المعتدى عليها أن تطلب دعوة المجلس للانعقاد فورا.. ويقرر المجلس التدابير اللازمة لدفع هذا الاعتداء" (1) .
ولم يكن السيد عبد الحميد كرامي رئيس وزراء لبنان في حاجة أن يذكرهم بنص الميثاق فإن الوفود العربية التي شاركت في ذلك الاجتماع كانت قد وقعت على ذلك الميثاق، وكان في طليعتهم السيد كرامي نفسه، عن لبنان، والنقراشي باشا عن مصر، والشيخ يوسف ياسين عن السعودية، والسيد تحسين العسكري عن العراق.
وبعد هذا الخطب العامة انتقل المجلس إلى المناقشة التفصيلية فعقد ست جلسات متوالية من 4 يونيو (حزيران) إلى 11 يونيو (حزيران) 1945 باستثناء جلسة سرية واحدة؛ وكانت في مجموعها امتحانا مبكرا لحيوية الجامعة وقدرتها على الدفاع عن استقلال الدول الأعضاء، كما عبر عن ذلك رئيس وزراء لبنان.
وكان السيد سعد الله الجابري رئيس مجلس النواب السوري، أول المتكلمين في المناقشة التفصيلية فعرض مراحل النزاع بين سوريا وفرنسا منذ عهد الانتداب إلى فترة العدوان، وشرح كيف قامت القوات الفرنسية بضرب الدوائر الرسمية كلها بدمشق، ومن جملتها وزارة الخارجية السورية، وكيف نهبت أوراقها وحرقت ومزقت، بحيث أن الوفد السوري لم يستطع أن يحمل معه الوثائق والملفات التي تتعلق بمهمته في مداولات الجامعة.
وفي سياق هذا السرد المفصل للعدوان الفرنسي على سوريا، أعلن رئيس الوفد السوري أن سوريا تضع نفسها ومصيرها بين يدي الجامعة مؤكدا بأن "التعاون الدولي يجب أن يسبقه التعاون العربي أي سيادة الجامعة
__________
(1) المادة 6 من الميثاق.(1/159)
العربية في سياسة البلدان العربية، وأنه يجب على الدول العربية أن تعمل على النهوض بالجامعة لا من أجل الزينة أو المظهر أو الاجتماعات الودية القائمة على الصداقة، بل لإحكام الروابط ودفع الشر وجلب الخير لهذه الدول مجتمعة ومنفردة، ولتجعل من الجامعة إقليما من أقاليم الأمن في نطاق النظام العالمي" وأعلن السيد الجابري في سياق عرضه أنه لا يوجد واحد من في بلاد الشام يرضى بعقد أية معاهدة مع فرنسا، وأن الجمهورية السورية حكومة وشعبا مصممة على هذا الموقف حتى النهاية.
وواضح من هذا الحديث أن الرئيس السوري ينطلق في تحليله للموقف من أن ميثاق الجامعة العربية لا يرقى إلى مستوى الأحداث وأنه لا يتسع لمعالجة الصراع السوري الفرنسي، ولهذا فإننا نراه يدعو إلى أن تكون الجامعة العربية "سيادة"، وأن سوريا مستعدة أن تضع مصيرها بين يدي الجامعة في إطار نظام أمن عربي بدلا عن معاهدة ثنائية مع فرنسا.
ثم أثير في النقاش العام أن الحجة التي تتذرع بها فرنسا لاستبقاء قواتها العسكرية في سوريا هي المحافظة على الأمن في البلاد لأن الجمهورية السورية ضعيفة المواد ولا تملك القوة على توفير الأمن.. وهنا بادر السيد توفيق السويدي – وفد العراق - إلى دعوة مجلس الجامعة أن يتحمل جانبا من المسئولية في الحفاظ على الأمن في سوريا، فاقترح أن تقوم الجامعة بشد أزر سوريا ولبنان لتساعدها على تحمل مسئولية الأمن، "وإذا كان هناك نقص في وسائل الدولتين فستعمل الجامعة على سده، وبهذا الإجراء نسد الباب أمام ما تنتحله فرنسا من أعذار".(1/160)
ثم وجه السيد السويدي حديثه إلى الوفدين السوري واللبناني قائلا: "يجب علينا أن نزودكم بجيش إلى أن تستطيعوا تكوين جيشكم للمحافظة على الأمن لأن تشكيل القوات المنظمة يقتضي وقتا".
وتلقف عبد الرحمن عزام الأمين العام للجامعة العربية الاقتراح العراقي ووصفه بأنه ينقل الجامعة العربية إلى مقام كريم جدا ويجعلها في المستقبل مسئولة عن الأمن داخل نطاق دول الجامعة، وأنها تستمد هذه السلطة من نفسها ومن شعوبها.. ثم تمنى أن يأتي اليوم الذي يكون فيه للدول العربية قوة دولية كافية لتأمين الأمن في الساحة العربية، وأن يكون هذا الجيش الدولي للجامعة سندا للبلاد العربية المعتدى عليها.
والموقف العراقي هذا، كما أيده وشرحه الأمين العام للجامعة، واضح الدلالة، إنه يرى إعطاء الجامعة سلطة "الدولة" وأن تتوافر لها إمكانات مادية للمحافظة على الأمن في الأراضي السورية ولبنان، ولو على سبيل المشاركة، وبهذا تحل قوات عربية محل القوات الفرنسية، وتسقط الحجة الفرنسية، وهي الحجة الدائمة للاستعمار لتبرير بقاء الاحتلال الأجنبي.
وطال النقاش حول الموضوع ثم تطور موضوع الجامعة إلى ناحية أخرى فقد تناول الكلام حافظ رمضان باشا –عضو الوفد المصري- وأشار إلى أن هنالك رغبة دولية في عقد مؤتمر دولي خماسي للنظر في الصراع الفرنسي السوري، واقترح أن تكون الجامعة العربية ممثلة في هذا المؤتمر.. بصرف النظر عن سوريا ولبنان..".
وهذا موقف آخر من جانب مصر يجعل للجامعة العربية شخصية دولية مستقلة، منفصلة عن شخصية دول الجامعة ويخول الجامعة العربية أن تشارك في مؤتمر دولي، وأن تكون مخولة لبحث العدوان الفرنسي على(1/161)
سوريا، والوصول به إلى تسوية تحقق المطالب القومية للبنان وسوريا، سواء شاركتنا أم لم تشاركنا. وقد برر رمضان باشا اقتراحه بأن "سياسة الاحتجاج لا تجدي وخاصة إذا صدر عن الجامعة العربية التي يجب أن يكون لها مركز قوي ومسموع، ولا يجدر بالجامعة أن تستهل حياتها بمجرد احتجاج، وهذه وسيلة لا يلجأ إليها إلا في حالة العجز".
وكأنما كان حافظ رمضان يرى من وراء الغيب أن "الاحتجاج" سيكون على الدوام سلاح الجامعة العربية في كل ما تواجه من أزمات ومشكلات.
وتناول السنهوري بك –وفد مصر- الموضوع من زاوية أخرى، فقد أشار بعد استعراضه لكافة الوسائل القانونية لمعالجة الموقف إلى أنه من المستطاع التفكير في "إرسال جيش عربي إلى سوريا كتدبير لفض النزاع ومنع الاعتداء، لا للمحافظة على الأمن الداخلي أو الدولي".
وهذا الاقتراح من جانب السنهوري، وهو الذي شارك في صياغة ميثاق الجامعة يلقي مزيداً من الضوء على النواقص والنقائص الكامنة في ميثاق الجامعة، فليس في نصوصه شيء من الشئون العسكرية إطلاقا، وليس للجامعة "سيادة" تخولها تشكيل قوة عسكرية على رأسها قيادة عسكرية "جامعية"، وتكون لها مهمات محدودة على أراضي الدول الأعضاء في الجامعة.. وهذا الاقتراح هو في الواقع "انقلاب" أساسي في ميثاق الجامعة وعلى سياسة الحكومات العربية التي رفضت أن تتنازل لمجلس الجامعة عن أي قدر من السيادة..
وتدخل في النقاش السيد حبيب أبو شهلا –وفد لبنان- وأعلن أنه ينتظر اليوم الذي تشترك فيه الجامعة "في تنظيم الأمن الدولي ليس نظريا بل(1/162)
عمليا في الشرق العربي"، وكان هذا الكلام يمثل خطوة تقدمية بعيدة في إعطاء الجامعة العربية هذا القدر من السيادة، وهذا الحجم من الشخصية، على حين أن الوفد اللبناني قد أشغل الوفود العربية زمنا طويلا وهو ينكر على الجامعة أية شخصية وأية سيادة، وأنها مجرد مؤتمر دولي للتعاون الاختياري، وأن لبنان لا يشترك في الجامعة إلا على هذا الأساس، وإذا بهذا الأساس ينهار حينما وجد لبنان نفسه في حرب مع فرنسا.
ولكن، ما لم ينفع فيه الجدل النظري في الماضي، قد نفعت فيه المحنة الكبرى التي وقعت فيها سوريا ولبنان في أول عهد الجامعة، مما حدا بالسيد حبيب أبو شهلا نفسه أن يؤكد "بأن الجامعة تجتمع لأول مرة لتواجه أول تجربة حاسمة في تاريخ الجامعة فتبرهن عن حيويتها من عدمها، وإضافة إلى ذلك أنه كلما كانت التدابير شديدة وقوية كان النجاح مضمونا وعاد بالخير على الجميع.. "وكذلك فقد كان هذا الموقف اللبناني انقلابا" على السياسة اللبنانية..
وجاء دور مكرم باشا –وفد مصر- فأكد أن سوريا ولبنان يجب أن يمثلا في أي مؤتمر لبحث النزاع الفرنسي السوري وأنه يجب المطالبة "بتمثيل الجامعة في هذا المؤتمر" لأنها – على حد قوله- "هي صاحبة المصلحة المباشرة في هذا النزاع.. لتتخذ الموقف الحازم الملائم" وبهذا انضمت مصر إلى الرأي القائل بإعطاء الجامعة دورا أساسيا، نابعا في حقيقتة من ضرورات الدفاع عن دولة عربية، دون أن يكون له في الميثاق أي سند قانوني، وهو دور أبعد ما يكون عن بيانات ومناقشات جميع الوفود العربية التي ساهمت في وضع الميثاق.(1/163)
وتحدث رئيس الوزراء العراقي، السيد حمدي الباجة جي – فأيد الرأي القائل بحضور الجامعة العربية في المؤتمر المزمع عقده إلى جانب سوريا ولبنان، وأضاف إلى ذلك أنه في حالة فشل المفاوضات فيمكن عندئذ النظر "في إرسال قوة من الجامعة العربية".
وانضم إلى هذا الرأي الدكتور هيكل باشا – وفد مصر - فأكد أنه "لا بد أن تدعى سوريا ولبنان والجامعة إلى أية مفاوضة تجري في هذا الموضوع.
وقد تمثلت ذروة الموقف بالنسبة لرفع مستوى الجامعة العربية في التصريح الحاسم الذي أدلى به السيد عبد الحميد كرامي رئيس وزراء لبنان، فقد قال: "إننا باسم لبنان نصرح بأننا لا نقبل الذهاب للمؤتمر إذا لم يدع مجلس الجامعة إليه أيضا، وعلى ذلك نصر على تمثيل الجامعة في المؤتمر" وبادر الرئيس السوري إلى تأييد التصريح اللبناني.
وهذا الموقف اللبناني يعتبر ثورة على الميثاق، بل إنه ثورة على الموقف اللبناني الذي كان يكرر على الدوام أن الجامعة لا تملك الشخصية المستقلة عن الدول الأعضاء، وإذا بالعدوان الفرنسي على سوريا ولبنان، يكشف "بالحديد والنار" أكثر مما يكشف الجدال والحوار، بأن سلامة أية دولة عربية لا بد له من جامعة عربية، لها سيادة، ولها قوات عسكرية تتصدى للعدوان.. وأن الاحتجاجات والمذكرات السياسية، وهي كل ما تملكه الجامعة بحكم ميثاقها، ليس لها أي جدوى سوى إلحاق الإهانة بالأمة العربية.
ولم يكن موقف الرئيس اللبناني مستغربا، فهو من رجال الحركة العربية الأوائل، وكان "استقلال" لبنان عنده حلا وسطا، وصيغة توفيق ووفاق بين بقائه تحت النفوذ الفرنسي أو اندماجه في الوحدة السورية؛ فقد سبق له أن(1/164)
صاح في مجلس النواب اللبناني قائلا: "نحن الذين كنا ننادي بالوحدة السورية والإمبراطورية العربية، قد عدلنا الآن عن رأينا، وأردنا لبنان مستقلا بحدوده الحاضرة، لا خوفا من أحد، ولا مجاملة لأحد ولكن عن عقيدة وطنية" وكان هذا موقف الكثيرين من القادة اللبنانيين وفي مقدمتهم السيد رياض الصلح الذي تولى رئاسة الوزارة اللبنانية غير مرة، وكان من رجال الحركة العربية الأوائل..
وتابع مكرم باشا – وفد مصر - موضوع إرسال قوة عربية إلى سوريا ولبنان، فاقترح الضغط على فرنسا حتى "ولو بإرسال قوة عربية رمزية تبقى في سوريا ولبنان حتى تحل المسألة.. فإن ذلك يعمل على دفع فرنسا قطعا إلى إيجاد حل سريع لأنهم يخشون اليوم الذي يحسون فيه أن هناك قوة مصرية وقوة عربية فيحاولون أن يتحاشوا هذه النتيجة وينتج هذا الضغط أثره".
وأكد مكرم باشا بعد ذلك أن تمثيل الجامعة في أي مؤتمر دولي واجب باعتبارها "صاحبة حق قائم ومستقل".
وعاد السيد حبيب أبو شهلا –وفد لبنان- إلى الكلام فأكد أن الفرنسيين لا يفهمون إلا لغة القوة، وأنه يجب على مجلس الجامعة أن يبحث التدابير الواجب اتخاذها إزاء هذا النزاع.. والمهم هو التدابير التي يجب أن تتخذ..
وعلى كل حال يجب أن تمثل الجامعة في أي مؤتمر يعقد لتسوية المشكلة" ويكاد أن يكون هذا الكلام صادرا عن الوفد السوري الذي كان يطالب بالوحدة في المراحل الأولى من المشاورات...(1/165)
ثم دارت المناقشات حول ما إذا كانت التمثيل العربي في المؤتمر الدولي ينبغي أن يكون قاصرا على سوريا ولبنان، أو أن تكون الجامعة معهما.. وهنا بادر الرئيسان السوري واللبناني فحسما الموقف.. فقال الرئيس السوري إنه "قبل أن تمثل سوريا فإننا نرغب أن تمثل الجامعة، وسوريا تؤثر أن لا تمثل في المؤتمر، وأن يكون التمثيل قاصرا على الجامعة العربية".. وثنى على هذا الموقف الرئيس اللبناني.
وانقطعت المداولات بعض الوقت حينما أعلن الرئيس الجلسة، النقراشي باشا، إنه تلقى برقية من وزير مصر المفوض في سوريا تقول بأن الحكومة الفرنسية – بناء على وساطة بريطانيا - قد سلمت إلى الحكومة السورية قوات الهجانة، وعددا من المصفحات والمدافع الرشاشة، وأن الحكومة السورية تطلب من الحكومة المصرية إرسال ضباط مدربين على الأعمال الميكانيكية والهجانة من 25 إلى 30 ضابطا، وتطلب كذلك أربع أو خمس ضباط عظام للتشاور مع الحكومة السورية في شئون التدريب.
وأعلن رئيس وزراء مصر أن الضباط المصريين قد صدر الأمر باختيارهم، وأن طائرة قد أعدت لنقلهم إلى دمشق، ولكن رؤي إرجاء سفرهم بعض الوقت بناء على رغبة الجنرال باجيت (قائد القوات البريطانية في الشرق الأوسط).
ثم أخذ المجلس يبحث في القرارات التي يجب اتخاذها لمعالجة المشكلة، وطال الكلام في الصياغات المتعددة، وكلها كانت تدور في فلك المساعي السياسية.. وتدخل السيد صادق البصام –وفد العراق - مشيرا إلى أن الاحتجاجات والمظاهرات لم تجد نفعا وأن الموضوع المطروح على مجلس الجامعة هو البحث في تخليص سوريا ولبنان من العدوان والاحتلال(1/166)
الفرنسي، وأن واجب مجلس الجامعة يقضي باتخاذ قرار مستمد من شعور الأمة العربية وأن تتضامن الدول العربية تضامنا سياسيا وعسكريا واقتصاديا لإنقاذ سوريا ولبنان من محنتهما.. "وهذا واجب مجلس الجامعة لأنه يعتبر كحكومة للدول العربية وعليه أن يتخذ التدابير اللازمة".
وعاد الرئيس اللبناني إلى الكلام، فطالب المجلس بأن يبحث التدابير الواجب اتخاذها في حالة فشل المساعي السياسية وقال: "هذه أول مرة تمتحن فيها حيوية الجامعة فعلينا أن نمكنها من الحياة وإثبات وجودها وإني أرى أن هناك تدابير كثيرة يمكن الالتجاء إليها وهي المقاطعة الاقتصادية والمقاطعة الثقافية ثم المقاطعة السياسية والتدابير العسكرية"..
وهنا.. كما يقول المحضر، رأى المجلس أن يعقد جلسة بصورة سرية، وأخليت قاعة الاجتماع من هيئة السكرتارية.. فإن البحث في اقتراحات الرئيس اللبناني قد وصل إلى مرحلة "تكلم السيف فاسكت أيها القلم".
وانتهت الاجتماعات واتخذ المجلس قرارات، أعلنها ونشرها في اليوم السادس من يونيو (حزيران) 1946، جاء فيها:
أولا: إن أي مؤتمر دولي لحل النزاع بين سوريا ولبنان من جهة، وفرنسا من جهة أخرى يجب أن تمثل فيه جامعة الدول العربية إلى جانب تمثيل سوريا ولبنان، وأن يكون مفهوما أن كل مفاوضة في هذا الشأن هي على أساس الاستقلال والسيادة الكاملين لهما.
ثانيا: إن الحكومة الفرنسية اعتدت على سوريا ولبنان، وعليها تقع مسئولية ما وقع فيهما من قتل وتخريب وخسائر.(1/167)
ثالثا: أ- إن بقاء القوات الفرنسية في سوريا ولبنان يتنافى مع حقوق السيادة والاستقلال المعترف لهما بها.
ب- إن وجود القوات الفرنسية في سوريا ولبنان يعرض البلاد والأهالي بصفة مستديمة إلى مثل الحوادث الفاجعة التي وقعت في الأيام الأخيرة والتي حدث مثلها في الماضي.
ج- إن وجود هذه القوات يحدث توتراً مستمرا في علاقات فرنسا مع الجمهوريتين العربيتين يمتد إلى بقية الأقطار العربية.
ولذلك يؤيد المجلس طلب سوريا ولبنان الجلاء العاجل لجميع القوات الفرنسية عن أراضي الجمهوريتين، وهو حين يقرر ذلك لا يفكر مطلقا في احتمال بقاء قوات أجنبية أخرى، في بلاد الجمهوريتين العربيتين، ولقد أعلن البريطانيون من غير تردد عزمهم على سحب قواتهم من هذين القطرين.
رابعا: قرر المجلس أن يتخذ التدابير اللازمة وفقا للمادة السادسة من ميثاق الجامعة لدفع الاعتداء الفرنسي، وهو حين يتخذ هذه التدابير لن يدخر تضحية في سبيل القيام بواجبه، وهو يقوم بتنسيق الوسائل والجهود المطلوبة على ضوء التطورات الدولية المحتملة ليصل بمعونة دول الجامعة للقطرين العربيين إلى تحقيق غرضه وغرضهما في الاستقلال والسيادة وجلاء القوات الأجنبية عنها.
ولم يقابل الرأي العام العربي هذه القرارات بالرضاء، فقد رأى أنها مظاهرة سياسية كلامية، لا جدوى منها ولا نفع "والتدابير اللازمة" التي نص عليها القرار، لم تر فيها الأمة العربية ملامح الجدية والصدق والحزم.. ولم تكن الجامعة العربية قد قضت من عمرها إلا شهرين اثنين لا ثالث لهما.(1/168)
ثم جاءت الأسابيع التالية لتثبت أن موضوع "المؤتمر الخماسي" لبحث الأزمة السورية الفرنسية كانت أحاديث صحفية، ليس لها أساس من الصحة، ولم تر الحكومة السورية أمامها إلا طريقا واحدا، هو الالتجاء إلى مجلس الأمن، فتقدمت إليه بالشكوى في فبراير (شباط) 1946، طالبة جلاء القوات الأجنبية الفرنسية والبريطانية، عن الأراضي السورية؛ وكانت الأمم المتحدة في أوائل عهدها، متآلفة العزم، فصدر القرار يطلب إلى بريطانيا وفرنسا أن تأمرا قواتهما بالجلاء عن الأراضي السورية جلاء كاملا.. وبهذا أقفلت صفحة الصراع الفرنسي السوري، لتبدأ الجمهورية العربية السورية حياتها الوطنية في حرية وسيادة كاملتين.
وفي الخامس عشر من شهر أبريل 1945 انسحب آخر جندي فرنسي وآخر جندي بريطاني من الأرض السورية، وأصبح ذلك اليوم عيدا قوميا هو عيد الجلاء يحتفل به الشعب السوري كل عام.
وبعد أن تم الجلاء على هذا الوجه، جاء دور مجلس جامعة الدول العربية، ودور الكلام الرشيق، فأصدر في دورته الثالثة قرارا (23 تاريخ 25-3-1946) بتهنئة الحكومتين السورية واللبنانية بهذا الجلاء الذي جاء محققا لأمانيهما القومية ولقرارات مجلس الجامعة السابقة ولأماني العرب كافة في جميع أقطارهم".
وقد ظن بعض الكتاب أن الجامعة العربية كان لها الفضل في إجلاء القوات الفرنسية عن أراضي القطرين العربيين وقد فاتهم أن الفضل كل الفضل هو لصمود الشعبين السوري واللبناني، واستمرار نضالهما لتحقيق كامل حريتهما واستقلالهما، مدعوما ذلك كله بالأوضاع الدولية الملائمة.. ففي تلك الفترة كانت القوات البريطانية جاثمة على أرض مصر، ولم تستطع(1/169)
القرارات العديدة التي أصدرتها الجامعة العربية بهذا الشأن أن تخرج جنديا بريطانيا واحدا من ثكنات الجيش البريطاني القائمة على ضفاف النيل.
ولكن الأوضاع الدولية، بالنسبة إلى الأزمة الفرنسية السورية اللبنانية كانت مختلفة تماما، وكانت في صالح سوريا ولبنان، ذلك أن بريطانيا كانت على خلاف قديم مع فرنسا بالنسبة إلى الشرق الأوسط، منذ عهد نابليون، وهنا قد لاحت الفرصة بعد الحرب العالمية الثانية لإخراج فرنسا نهائيا من سوريا ولبنان، فضلا عن أن فرنسا وقد خرجت محطمة بعد الحرب العالمية الثانية لم تعد تملك القدرة على الاحتفاظ بوجودها في المشرق العربي.
والواقع أن بريطانيا كانت تتطلع إلى "حرمان" فرنسا من سوريا ومن لبنان منذ الحرب العالمية الأولى، ففي مارس (آذار) 1915 كتب لورنس، صاحب الدور المشهور في الثورة العربية يقول: "إن فرنسا تصر على الاستيلاء على سوريا وإن بقاء الاسكندرونة – وهي جزء من سوريا - في قبضة تركيا اليوم في يد فرنسا يمنحها مزايا عسكرية ضخمة.. ولذلك فإني أرى من الضرورة القصوى أن تكون الاسكندرونة في حوزتنا.. كما أنه يجب علينا أن "نحرم" فرنسا من سوريا كلها".
ومن الطرائف أن لورنس قد كتب هذه الرسالة من فندق الكونتننتال في القاهرة، حين كان يعمل في قسم المخابرات في مكتب الحرب البريطاني في القاهرة.
وقد هجعت "تمنيات" لورنس هذه، سنين طويلة، حين أقبلت الحرب العالمية الثانية، فاغتنمت بريطانيا الفرصة وعملت على إنهاء الوجود الفرنسي في المشرق العربي، وما أن وقع العدوان الفرنسي على سوريا ولبنان حتى أصدرت بريطانيا إنذارا إلى القوات الفرنسية بأنه يتعين عليها(1/170)
وقف إطلاق النار وتسليم السلطة إلى الحكومتين العربيتين، وإلا فإن القيادة البريطانية ستقصف الثكنات الفرنسية" وأعلنت أمريكا تأييدها لهذا الإنذار.
ولا يفوتنا أن نضيف أن روسيا والولايات المتحدة، ولأسباب مختلفة، كانتا تريدان أن لا تكون سوريا ولبنان، لأحد.. لا لفرنسا ولا لبريطانيا، لأنهما كانتا تريدان أن تتعاملا معهما كدولتين مستقلتين، فذلك أجدى لمصالحهما.. وخاصة أن العدوان الفرنسي قد وقع في وقت كان فيه العالم مشدودا إلى اجتماعات الأمم المتحدة، في سان فرانسيسكو التي كانت تعمل على وضع ميثاق دولي يصون حقوق الشعوب كبيرها وصغيرها ويكفل الأمن والسلام في العالم.
وكائنا ما كان الأمر، فإن الأزمة قد انتهت، وحققت كل من سوريا ولبنان استقلالهما الكامل، ممن غير معاهدة ولا ارتباط من أي دولة أجنبية، وبهذا أصبح "الآخرون هم الأولون" فقد سبقتا مصر بسنوات في تحقيق الجلاء وإلغاء المعاهدة.
ولكن هذه الأزمة قد خلعت الجامعة العربية من ملابسها، وألقت بها في العراء، وكشفت عن معايب ميثاقها، لا للرأي العام العربي فحسب، بل في عيون الذين أسسوها بالذات.
وفي المقتبسات التي سردناها في هذا الفصل، رأينا الوفود العربية، وكثير منهم ساهم في صياغة الميثاق، قد دخلوا في حرب شعواء مع الميثاق.. ومنحوا الجامعة وجودا سياسيا وعسكريا وشخصية منفصلة عن شخصية الدول الأعضاء.. وهم الذين أنكروا عليها هذه المزايا قبل شهرين اثنين من وقوع الأزمة.. وكان في مقدمة أولئك الوفد اللبناني نفسه.. وقذفته المحنة إلى الطرف الآخر، ليعتبر أن الجامعة أولا، ولبنان ثانيا.(1/171)
ولقد كانت الأزمة امتحانا قاسيا للجامعة العربية.. وسقطت الجامعة في ذلك الامتحان، وكان الأساتذة الذين حكموا بسقوطها، هم الذين ساهموا في ميلادها، ووضعوا ميثاقها، وهاهم، كما رأينا يكشفون عن معايبها.
وكان من القدر الساخر، أن بريطانيا وأمريكا، وهما اللتان أعطتا إشارة البدء لإنشاء الجامعة العربية، هما الدولتان اللتان أنقذتا وجه الجامعة العربية من المحنة السورية اللبنانية، فساندتا الشعب البطل في سوريا ولبنان على إجلاء فرنسا من الأرض العربية بعد خمسة وعشرين عاما من الاحتلال البغيض.
وهكذا سقطت الجامعة العربية لأول مرة، بعد شهرين من ميلادها، وها قد مضى على الجامعة العربية خمسة وثلاثون عاما، لنراها تسقط مرات ومرات..
الفصل العاشر
وسقطت الجامعة العربية..
بين يدي الملك فاروق
وسقطت الجامعة العربية مرة أخرى بعد عام واحد من قيامها، وكان من سخرية القدر أن تسقط بين يدي الملك فاروق، وهو الذي سقط بدوره بعد(1/172)
ستة أعوام، في ثورة يوليو (تموز) من عام 1952، الثورة التي قادها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر.
وقد اغتنم الملك فاروق فرصة الذكرى الأولى لقيام الجامعة العربية فأثار موضوعا عربيا خطيرا، ضمنه في رسالة إلى الجامعة العربية عرفت يومئذ "بالنطق السامي" قال فيه الملك فاروق:
"في مثل هذا اليوم، من عام مضى، ارتبطت مصر بميثاق الدول العربية، لتنمية أواصر الأخوة بيننا، وإنه ليسرني أن أرى تقدما مستمرا نحو تلك الغاية، وقد يعين على تحقيقها أن ننشئ فيما بيننا قومية مشتركة، ويقيني أن الأجيال الناشئة، في جميع البلاد العربية قادرة على حمل رسالة هذه الأمة القديمة الجديدة التي نعتز جميعا بالانتساب إليها، وتلك الرسالة هي أن نكون أعوانا على البر، متكاتفين في إقامة العدل والسلم الدائم، والله يوفقنا لما فيه خير العرب ومجد العروبة".
وكان فاروق حينما أعلن هذا "النطق السامي" عن القومية المشتركة ومجد العروبة، شابا وسيما، مهيب الطلعة، يؤم الاجتماعات العامة بوقار واحتشام، ويؤدي الصلاة في المساجد بخشوع وخضوع، بكل جوارحه المطرقة إلى الحديث الديني الذي كان يلقيه شيخ الأزهر الإمام المراغي، كل ذلك كان قبل أن تسوء سيرته الخاصة والعامة ويصبح بغيض الشعب بعد أن كان "سيدنا ومولانا الفاروق" تيمنا بأمير المؤمنين ثاني الخلفاء الراشدين، سيدنا عمر بن الخطاب، وحاشا لله هذا التشبيه..
والمواطن العربي حين يقرأ هذه الرسالة في هذه الأيام لا يجد فيها ما يثير حماسته، ولكن الكلام عن "الأمة العربية القديمة الجديدة" من ملك مصر في أواسط الأربعينات، والأعراب عن "الاعتزاز بالانتساب إليها" كان مثيرا(1/173)
للاهتمام البالغ، وباعثا، كذلك، على التساؤل عما إذا كان فاروق، يريد أن يذكر الأمة العربية من جديد بالدولة العربية الكبرى التي أنشاها جده الأعلى محمد علي باشا الكبير وامتدت من حدود السودان جنوبا إلى المشارف الشمالية لديار الشام.
ولهذا لم يكد يذاع النطق السامي وخاصة في الأقطار العربية، خارج مصر، حتى استقبلته الجماهير العربية باستبشار بالغ، وحماسة منقطعة النظير، وتطلع قادة العرب في كل مكان إلى هذه الدعوة الجديدة عن "القومية المشتركة" باهتمام وتقدير كبيرين، وكان الحوار يومئذ، ما يزال ساخنا بصدد الجامعة العربية، هل ستؤدي رسالة القومية العربية، أم أنها ستكون أداة لترسيخ التجزئة، والنزعة الإقليمية.. ورأى الناس في "الفاروق" أنه قد انحاز إلى معسكر القومية العربية، وأن الأمل معقود عليه وعلى مصر، أن تغدو القاهرة رائدة الفكر العربي، وقائدة النضال العربي إلى الوحدة العربية.
وثمة عامل آخر، شد انتباه القادة العرب إلى هذا النطق السامي، واعتبروه معبرا عن آمالهم، ومستجيبا لتطلعاتهم، ذلك أنه بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها انطلقت أبصار المفكرين العرب صوب القاهرة، يزورونها، ويتحدثون إلى زعمائها وأحزابها، بشأن الوحدة العربية، ودعوة مصر أن تأخذ بزمام المبادرة لقيادة القضية العربية؛ وكان قادة العرب يحرصون في زيارتهم لمصر أن يتصلوا بالملك فاروق أو رجاله، لتذكيره بماضي جده محمد علي باشا الكبير والدور الكبير الذي قام به في توحيد مصر والسودان والجزيرة العربية، وديار الشام، بأقطارها الأربعة: فلسطين والأردن وسوريا ولبنان.(1/174)
وحين كنت لاجئا إلى مصر في عام 1945، هربا من السلطات البريطانية في فلسطين، بعثت إلى الملك فاروق برسالة تتضمن هذه المعاني، سلمتها إلى الديوان الملكي في قصر عابدين؛ وأذكر أن السيد كريم ثابت أحد رجال الملك فاروق في ذلك العهد، قد دعاني بعد بضعة أيام إلى مكتبه، ليقول لي: إن "مولانا" قد سر كثيرا من رسالتك، وخاصة إشارتك إلى عهد محمد علي باشا الكبير.
والواقع أنه ما حل عربي بالقاهرة في ذلك العهد إلا ودعا الملك فاروق إلى الأخذ بزمام القضية العربية.. ولذلك ما أن صدر "النطق السامي" إياه حتى رأى فيه الرأي العام العربي آفاقا رحبة من العمل الجاد لتحقيق آمال الأمة العربية في استكمال حريتها واستقلالها ووحدتها.. وكان الوطن العربي إلى ذلك الحين خاضعا للسيطرة الاستعمارية تحت شعار الحماية، أو الانتداب.
وبعد ثلاثة أيام من النطق السامي انعقد مجلس الجامعة العربية في دورته العادية، ما بين 25 مارس (آذار) – 13 ابريل (نيسان) 1946 ليجد أمامه "النطق السامي" الذي أدلى له الملك فاروق، وكأنه دعوة إلى الجامعة العربية بأن "تنشئ القومية المشتركة" على حد تعبير الملك فاروق.
وبعد أن افتتحت الجلسة الأولى لاجتماع مجلس الجامعة، تلا عبد الرحمن عزام باشا "النطق السامي" وأدرج بنصه الكامل في محضر الجلسة.. ونظر رؤساء الوفود العربية السبعة بعضهم إلى بعض، وهم لا يدرون ما يقولون.. وكيف يبدأون.. فلم يكونوا يتوقعون أن يصبح "النطق السامي" على جدول الأعمال، وقد كانوا يحسبون، هم وحكوماتهم، أنه كلمة عابرة جاءت(1/175)
لمناسبة الاحتفال بالذكرى الأولى لإنشاء الجامعة، مجرد تهنئة وتمن، وانتهى..
أما وقد أصبحت الجامعة العربية مدعوة لإنشاء القومية العربية المشتركة، فلم يعد مجال للهرب من التحدي، وأصبح لا بد من إبداء الرأي وتحديد المواقف..
ولم يكن الأمر سهلا على الوفود العربية، فليس في ميثاق الجامعة شيء اسمه "القومية العربية المشتركة" فضلا عن أن "الأمة العربية" غير مذكورة في ميثاق لا من قريب ولا من بعيد، يضاف إلى ذلك أن تعبير "القومية المشتركة" يتداخل مع "الجنسية المشتركة" ومع "المواطنة" ومع "الرعوية" وما إلى ذلك من التعابير القانونية المترادفة الكثيرة.
وزاد من الحرج لدى العديد من الوفود العربية، أن أحدا لم يكن يدري ماذا يعني الملك فاروق بتعبير القومية المشتركة.. حتى ولا وفد المملكة المصرية.. إنه كذلك لم يكن يدري ماذا دار في خلد الملك فاروق.. فضلا عن أن الحكومة المصرية قد قرأت "النطق السامي" في الصحف ولم يكن لها علم سابق به، ولا أخذ رأيها فيه.. وكان أسلوب الملك فاروق مع حكوماته في كثير من الأمور، على هذه الصورة، شأنها اليوم مع كثير من الحكومات العربية المعاصرة.
ولم يسع الوفود العربية، وهي في ضيافة القاهرة، إلا أن تشكر جلالة الفاروق، على "نطقه الكريم" وتثني على تحيته للجامعة العربية في الذكرى الأولى لإنشائها.
أما بالنسبة للقضية التي طرحها "النطق السامي" وهي القومية المشتركة، فإن أحدا من الوفود العربية، باستثناء الوفد السوري، لم يتطرق(1/176)
إليها من بعيد أو قريب، وقد بادر السيد جميل مردم رئيس الوفد السوري بالثناء على فكرة القومية المشتركة، وضرورة العمل على تحقيقها باعتبارها هدفا من أهداف الجامعة العربية.
وتطلع رؤساء الوفود العربية إلى رئيس الوفد المصري، ليشرح مفهوم القومية المشتركة ووسائل تحقيقها، فلم يكن عنده شيء يقوله، ولم يستطع بطبيعة الحال أن يعلن أن الرسالة كلها قد "أطلقت" رأسا من الديوان الملكي إلى الجامعة العربية من فوق أكتافه.
ولم ينبس الوفود الآخرون ببنت شفة، فإنهم هم وحكامهم على استعداد أن يخطبوا عن الأمة العربية والقومية العربية ثلاثمائة وأربعة وستين يوما من العام، دون أن يكرسوا يوما واحدا "لتطبيق" أصغر الوقائع المتصلة بحياة الإنسان العربي كمواطن عربي ينتمي إلى الوطن العربي الكبير وإلى الأمة العربية جمعاء..
وتحدث رئيس الوفد اللبناني، وقسمات وجوه الوفود العربية تنبئ أنه يتحدث بلسانهم، فقال إنه لا يفهم معنى القومية المشتركة، وإن رعايا كل دولة خاضعون لقوانينها، وإن كل مواطن تابع لدولته بالولاء والجنسية، ولا يوجد في الميثاق شيء اسمه القومية المشتركة، وأن وفده لا يستطيع تحديد موقفه من الموضوع قبل أن يستمع إلى شرح لمفهوم القومية المشتركة..
ولا نكران، أن النهضة العربية الحديثة مدينة إلى عدد كبيير من اللبنانيين المسيحيين من أمثال آل اليازجي والبستاني وغيرهم، ولكن الأحداث الطائفية التي أثارتها الدول العظمى في لبنان في أواخر القرن التاسع عشر، قد أثارت بعض اللبنانيين فأصبحوا يخشون القومية العربية ولا يدركون(1/177)
معانيها الحضارية.. ومن هنا فإن الوفد اللبناني كان قلقا على "القومية" اللبنانية من القومية المشتركة التي دعا إليها الملك فاروق، فطالب بالإيضاح..
ووقع العبء في النهاية على عزام باشا أن يوضح معاني القومية المشتركة وأساليب تحقيقها.. ونهض عزام باشا بالعبء على خير وجه.. فقد كان وثيق الصلة بالديوان الملكي ورجال الملك فاروق، كما كان هو نفسه واحدا من قادة الفكر العربي في مصر، ومن المؤمنين بهذا التعبير "الفاروفي" الجديد، للقومية المشتركة..
وراح عزام باشا يتحدث في الموضوع بعباراته "العربية والمصرية والليبية" وله نضال معروف في حركة التحرير الليبية ضد الاستعمار الإيطالي، فأوضح مفهوم القومية المشتركة بأبعادها المتعددة..
تحدث عزام باشا، عن المعنى العام للقومية المشتركة فقال: "نحن العرب لنا قومية مشتركة، وأظن أن جلالة الملك فاروق حين أشار إلى القومية العربية أشار إلى معنى يختلج في أنفسنا جميعا وهو أن كل واحد منا يشعر أن عليه إخلاصا لوطنه كدولة وإخلاصا للجامعة كوحدة، أي إخلاص لجميع العرب.. فلو كان الشخص مصريا أو سوريا فلا يتعارض ذلك مطلقا، مع شعوره المشترك نحو هذه الأمة العربية، وهو شعور لا نحسه بالنسبة للإنجليز أو الفرنسيين أو الهنود، فنحن لنا في الواقع قومية مشتركة، باعتبارنا عربا، ولذلك نريد في هذا النطاق أن يتمتع كل عربي بامتيازات في البلاد العربية، وأن يكون له فيها صلات غير صلات الأجانب، فبيننا نحن العرب علاقة جامعة لنا، وهذه العلاقة الجامعة في استطاعتنا أن نسميها القومية المشتركة أو الوطن المشترك أو الأمة العربية المشتركة، ومن هذه القومية المشتركة، أو سموها ما شئتم، نريد نخرج للعربي بامتيازات وصلات في(1/178)
البلاد العربية ليست لغيره" وكان هذا الكلام من عزام باشا يومئذ، خير توفيق بين تعبير "القومية المشتركة" الذي أطلقه فاروق وبين المفهوم الانفصالي والإقليمي الذي يعشش في أذهان الوفود العربية ويسود مواد ميثاق الجامعة العربية.
وهنا لا بد لنا أن نتجاوز عن تعبير امتيازات الذي استخدمه عزام باشا بديلا عن "الحقوق" التي يجب أن يتمتع بها المواطن العربي في وطنه، فقد كان معنيا بتهوين الأمر على الدول العربية وتبسيطه حتى يقنعهم بالموافقة عليه.
ثم انتقل عزام من التعريف والتعميم، إلى التحديد والتخصيص، فرفع صوته في وجه الوفود العربية وهو يقول: خبروني يا حضرات الأعضاء لماذا نضع في وجه العربي العقبات التي نضعها في وجه اليهودي أو الإنجليزي أو غيرهما من الأجانب.. إننا إن لم نخرج من هذا الموضوع بتذليل العقبات في وجه العربي فمعنى ذلك أن الجامعة لم تؤد رسالتها كما أعتقد".
وراح عزام باشا يضرب الأمثال فقال: "إن مسألة جوازات السفر مثلا قد حان الوقت لأن يقول المجلس كلمته بشأنها، والواقع أن جوازات السفر بدعة (يقصد أنها لم تكن موجودة بين البلاد العربية).. فإذا تغلبنا على هذه البدعة فإننا بذلك نزيل عن كاهل الأمة العربية الصعوبات التي وضعتها الجوازات، وليس في هذا العمل ما يمس سيادة أي دولة عربية، وأظن أن هذه أبسط ما يمكن أن تعمله الدول العربية فيما بينها".
ومن موضوع جواز السفر، والسفر، انتقل عزام باشا إلى موضوع الإقامة، فقال: "ومن ضمن ما تشتمل عليه هذه القومية المشتركة أيضا مسألة(1/179)
الإقامة، ففي هذه الحالة أيضا يجب أن لا ينظر إلى العربي كما ينظر إلى الأجنبي، فإذا أراد أحد العرب أن يقيم في بلد عربي غير بلده تسنى له ذلك، وإطلاق حرية الإقامة للعرب هو في الواقع اعتراف بهذه القومية المشتركة، وعلينا نحن العرب أن نعمل على السماح بتلك الإقامة، ونترك لكل عربي الحرية في اختيار أي بلد عربي يريد أن يقيم فيه إذا كان لا يريد الإقامة في بلده، وفي هذه الحالة يصير كأحد رعايا هذا البلد ويعمل على قدر استعداده للخدمة فيه وذلك كله يذلل لنا سبل العيش والتعاون، وهو يحقق الغرض الأساسي لميثاقنا في جميع نواحي التعاون" (1) .
ولقد كانت هذه الإيضاحات للقومية المشتركة، خير تفسير لمفهوم هذا التعبير، كما أنها تضمنت اقتراحات محددة لإطلاق حرية السفر بين البلاد العربية، ومعها حرية الإقامة والعمل.. وكان هذا الموقف من عزام باشا، فضلا عن أنه يعبر عن ضمير الأمة العربية بأسرها، ينطوي على مبادرة عالية جديرة بمنصب الأمين العام، وبغيرها يغدو هذا المنصب وظيفة عادية ذات راتب وكفى..
ولقد كانت لعزام باشا، أثناء توليه منصبه، أخطاء سياسية معروفة، وهذا ما يقع عادة للمشتغلين بالقضايا القومية، ولكنه كان كثيرا ما يواجه الدولة العربية بمسئولياتها، حتى اتهمه خصومه السياسيون بأنه أصبح "حكومة" فوق الحكومات.
ولقد كان موضوع "القومية المشتركة" تفسيرا وتطبيقا، واحدا من هذه المواقف القومية التي تصدى لها عزام باشا في أوائل عهد الجامعة العربية،
__________
(1) جميع هذه المقتبسات مأخوذة من محضر الجامعة ص 135 ، الاجتماع العادي الثالث تاريخ 25 مارس (آذار) – 13 أبريل (نيسان) 1946.(1/180)
ولا تزال معانيها وحوافزها وملابساتها، حية إلى يومنا هذا، وقد انقضى عليها ما يزيد على ثلاثين عاما.
وعلى الرغم من أن إيضاحات عزام باشا كانت مبسطة، خالية من التعقيد، فقد بدا على الوفود العربية أنهم يواجهون قضية ضخمة ومشكلة عظمى تحتاج إلى "دراسات ومشاورات وأبحاث وتعليمات" بالإضافة إلى التعرف على رأي المختصين بالأمور القانونية، وشئون الأمن.. فالموضوع كبير وخطير وينطوي على خطورة تتصل بالأمن العام، والنظام والاستقرار، وضرورة الحيطة من الحركات الهدامة والنزعات المشبوهة والأفكار المستوردة!! وما إلى ذلك..
وطال الحوار والجدل حول الموضوع، وكادت الجلسات أن تنتهي من غير أن يستقر الأمر على رأي محدد يرسو عليه اقتراح الملك فاروق، بل كاد أن يذهب الاقتراح أدراج الرياح وفي أدراج الجامعة، مع كلمة تحية "ترفع إلى مقام صاحب الجلالة الملك المفدى فاروق الأول حفظه الله".
غير أن الوفد السوري تولى بنفسه إنقاذ الموقف ولو إلى حين، فبعد أن تكلم في فوائد القومية المشتركة للأمة العربية تقدم باقتراح رسمي بالنص الآتي:
"لما كانت البلدان العربية التي يشملها الميثاق وطنا للأمة العربية تقوم في كل قطر من أقطاره دولة تستمد سلطاتها من رغائب سكانه.
ولما كان تحقيق الأغراض التي نص عليها الميثاق يقتضي العمل على تعزيز التعاون وتوحيد الاتجاهات بين هذه الأقطار في شتى الميادين السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والقومية وغيرها يقرر المجلس: "أن من الخطوات المهمة التي تساعد على تحقيق المبادئ والأغراض السالفة(1/181)
إطلاق حرية السفر للمواطن العربي من رعايا هذه الدول بين كل قطر وآخر من أقطارها والإقامة فيه، على أن لا يكون في بذلك ما من شأنه أن يخل بالنظام العام أو بالآداب العامة.
"وتنفيذاً لهذا القرار تضع كل دولة من دول الجامعة جوازا خاصا للسفر إلى أقطار الدول الأخرى ويشترط في كل حال أن يكون حامل الجواز عريي المحتد واللسان، ويعرف الجواز المتقدم ذكره باسم جواز القومية المشتركة"..
وهكذا فقد حرص الوفد السوري أن لا يمر تعبير "القومية المشتركة" كعبارة إنشائية من غير مضمون ولا مدلول، بل أصبح يعني في جملة ما يعني.. جواز سفر عربياً يبيح لكل مواطن عربي أن يسافر إلى أي قطر عربي آخر يختاره وأن يقيم فيه، كل ذلك كحق لا يحتاج إلى ترخيص أو إذن..
وقد حرص الوفد السوري في اقتراحه أن لا يثير حفيظة الوفود العربية الأخرى، فاختار في صياغته عبارات هادئة، وانتزع مخاوفهم وهواجسهم، وطمأنهم على "النظام العام والآداب العامة".
وكان هذا التطمين ضروريا للدول العربية، ولعله لا يزال ضروريا حتى الآن، ذلك أنه كلما قيل للحكومات العربية افتحوا الأقطار العربية أمام أبناء الأمة العربية قالوا: ومهربو الحشيش والخطرون على الأمن، وأصحاب الأفكار الهدامة، كيف نسمح لهم بحرية السفر، كأنما سواد الأمة العربية هم كل أولئك.. حشاشون ومهربون.
ولكن الوفود العربية لم تستطع أن تبتلع مشروع الوفد السوري.. فاقترحت إحالته إلى الحكومات العربية لدراسته وإبداء الملاحظات بشأنه والنظر فيه "في الدورة العادية المقبلة" وكان ذلك هو الأسلوب الذي درجت(1/182)
عليه الجامعة العربية لمدة خمسة وثلاثين عاما، لقتل أي اقتراح عربي جاد، فيه خير للمواطن العربي، وللأمة العربية جمعاء.
وأدرج الموضوع على جدول أعمال "الدورة المقبلة" ومنها إلى الدورة التالية.. وهكذا من دورة إلى دورة، ومن لجنة إلى لجنة، ومن صياغة إلى صياغة حتى سقط فاروق في ثورة 23 يوليو (تموز) 1952، وسقط معه اقتراح القومية المشتركة.. والاقتراح السوري بإطلااق حرية السفر والإقامة في البلاد العربية. ولكن.. بعد أن سقطت هذه الشجرة المباركة، بقيت بعض أغصانها الصغيرة مبعثرة على الأرض فالتقطتها الجامعة العربية في محاولة لإظهار اهتمامها بموضوع الجنسية، فصاغت اتفاقية بشأن الجنسية.. وقد تناولت هذه الاتفاقية موضوعا صغيرا مجردا، وهو "تحديد جنسية أبناء الدول العربية المقيمين في بلاد غير التي ينتمون إليها بأصلهم".. وقد وافق مجلس الجامعة على هذه الاتفاقية في دورة انعقاده العادي السادس عشر بتاريخ 23-9-1952 ولم يودع وثائق التصديق عليها إلا أربع دول هي المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر والمملكة الأردنية الهاشمية والمملكة العراقية (1) .
والاتفاقية تحتوي على مادة واحدة، هي المادة اليتيمة، وتنص على ما يأتي:
"كل شخص ينتمي بأصله إلى إحدى دول الجامعة العربية ولم يكتسب جنسية معينة ولم يتقدم لاختيار جنسية بلده الأصلي في المهلة المحددة بموجب المعاهدات والقوانين يعتبر من رعايا بلده الأصلي. ولا يؤثر ذلك على حقه في الإقامة في البلد الذي يقيم فيه عادة طبقا للأنظمة المعمول بها فإذا كسب جنسية البلد الذي يقيم فيه سقطت عنه جنسية بلده الأصلي".
__________
(1) مجموعة المعاهدات والاتفاقات، جامعة الدول العربية، ص 70.(1/183)
والمتأمل في القيود الاحترازية الواردة في هذه المادة اليتيمة يرى أن الاتفاقية لم تعط شيئا إلا بقدر ما تريده الدول المعنية وفق نظمها، وأنه إذا حصل العربي على جنسية عربية ما، فإنه تسقط عنه جنسية بلده الأصلي.. تماما كالنصوص الواردة في الاتفاقات المعقودة بين الدول الأجنبية فيما بينها.. بل إن النصوص الأجنبية أرحم بالعربي من النصوص الأجنبية.
هذا فضلا عن أن الاتفاقية المذكورة، لم تتناول موضوع إطلاق حرية السفر والإقامة في البلاد العربية وأبقت الأمر بين يدي الدول العربية وسيادتها وأنظمتها ودوائر مخابراتها.
وبقيت فروع صغيرة أخرى من شجرة القومية المشتركة، تناولها مجلس الجامعة العربية في دورته العادية الحادية والعشرين فجعل منها اتفاقية أخرى اسمها "اتفاقية الجنسية" بتاريخ 5-4-1954، ووقعتها ثلاث دول هي المملكة الأردنية الهاشمية وجمهورية مصر والمملكة العراقية، ولم تودع وثائق التصديق عليها لدى الأمانة العامة إلا المملكة الأردنية الهاشمية وجمهورية مصر، واعتبرت الاتفاقية في النهاية ساقطة، غير نافذة..
وهذه الاتفاقية الساقطة، ومن الخير أنها سقطت، كثيرة الطرائف، أهمها المادة الأولى التي تقول: "يعتبر عربيا في أحكام هذه الاتفاقية كل من ينتمي بجنسيته إلى إحدى الدول العربية الأعضاء".
وهذا التفسير "للمواطن العربي" أقرب ما يكون إلى القول الشهير.. فسر الماء بعد الجهد بالماء" ذلك أن الاتفاقية لم تحدد للمواطن العربي أي حق، لا بحرية السفر ولا بالإقامة ولا بغير ذلك، بل اقتصرت على تعريف المواطن العربي وهو تعريف لا يحتاج إليه أولادنا في رياض الأطفال..(1/184)
أما باقي المواد فتتعلق بجنسية المرأة العربية حين تتزوج من مواطن عربي (! !) وجنسية الأولاد القاصرين (! !) وجنسية اللقيط (! !) وغير ذلك من الأمور التافهة المتعلقة بالجنسية.. وكان خيرا أن هذه الاتفاقية قد نشرت في مجموعة "المعاهدات والاتفاقات" المعقودة في إطار الجامعة العربية، مع الإشارة بأنها غير نافذة (1) .
كان ذلك كله حين كان عدد أعضاء الجامعة سبع دول عربية، لها سبعة جوازات عربية مختلفة الألوان والأحجام والتفاصيل والتواقيع.. تعاقب استقلال الدول العربية واحدة بعد الأخرى، حتى أصبح عدد الدول الأعضاء في الجامعة العربية يتجاوز العشرين، وكذلك عدد جوازات السفر العربية.
وبدلا من أن يكون "الاستقلال" خطوة على طريق الوحدة، أو التوحيد في أدنى الصور والأشكال، برز "الاستقلال" عملاقا جبارا، يضع في قبضة كل دولة عربية، أبناء تلك الدولة، ويحوز في قبضته كذلك أراضي تلك الدولة، لا يدخلها العربي إلا بإذن، ولا يعمل فيها إلا بإذن، ولا يدفن فيها إلا بإذن.. وإذا ولد فيها مولود عربي فهو غريب عنها، وهيهات هيهات أن يحظى منها بشهادة ميلاد.
وفي ختام الأعوام الخمسة والثلاثين التي انقضت على عمر الجامعة وعلى عمر ميثاق الجامعة الذي تنص مادته الثانية (فقرة د) على "تعاون الدول العربية في شئون الجنسية والجوازات والتأشيرات" نجد أن المواطن العربي، غريب في وطنه العربي، يعامل معاملة الأجنبي.. بل إن الأجنبي الفرنسي والبريطاني، مثلا، يستطيع أن يدخل عددا من أقطار الدول العربية من غير "فيزا" تصريح دخول؛ ولا تصريح خروج!!
__________
(1) مجموعة المعاهدات والاتفاقات، جامعة الدول العربية، ص 245.(1/185)
والأنكى من ذلك كله أن العربي، يستطيع أن يدخل عددا من الدول الأجنبية من غير "فيزا" تصريح دخول، وبجواز سفر عربي.. وقد صادف أنني دخلت هذا العام إلى بريطانيا بجواز سفري الدبلوماسي الجزائري من غير "فيزا" على حين أنني لا أستطيع أن أدخل عددا من الدول العربية بهذا الجواز نفسه إلا بتأشيرة فما بالك بالمواطن العادي الذي يحمل جواز السفر العادي. والحصيلة النهائية "للقومية المشتركة" التي اقترحها الملك فاروق، ومعها الاقتراح السوري والذي دعا إلى إطلاق حرية السفر والإقامة، قد جاءت بالحصيلة المضادة، فإن المواطن العربي لا يستطيع أن يدخل بلدا عربيا إلا بتأشيرة، دخول، ولا يؤذن له بالإقامة إلا مدة محددة، وإذا تجاوز المدة المحددة فإنه يعاقب بالغرامة والحبس.
والمحزن في هذه الصورة، أن الملك فاروق قد سقط عن العرش وخلع.. وسقط كثيرون بعده وخلعوا، وحل حكام آخرون كثيرون تحت شعار القومية العربية.. ولكن لم يتقدم أحد من الذين ركبوا صهوة الحكم "الثوريين" والتقليديين، بأحسن من "القومية المشتركة" التي دعا إليها فاروق أو بمثلها، بل إنهم جميعا باستثناءات محدودة، قد تفننوا في إبداع القومية القطرية وبالغوا في وضع القيود على حرية الإقامة والسفر والعمل في وجه المواطن العربي.. حتى بدا للأجنبي الذي يدرس أحوالنا في بلادنا أننا لا نمت إلى امة عربية واحدة، وأن هذه الدول العربية العشرين تنتمي إلى عشرين أمة، وأنها تتكلم لغة واحدة من باب المصادفة التاريخية.
والسائر في شوارع القاهرة، في أحياء القنصليات العربية يجد جموع المواطنين العرب، يقفون طوابير طويلة على أبوابها انتظارا للحصول على تأشيرة الدخول للسفر إلى هذا البلد العربي أو ذاك، والشرطة تشهر هراواتها(1/186)
في وجه هذه الطوابير لتحول بينها وبين أبواب القنصليات العربية.. وهذا الحال في القاهرة هو مثال لما يجري في العواصم العربية الأخرى.
ذلك هو حال المواطن العربي في ظل الجامعة العربية، وهو آخذ بالازدياد والتعقيد، لأن النزعة الإقليمية سائرة إلى مزيد من الرسوخ التعميق، ولأن دعوة الوحدة أصبحت كلمة هامدة إن لم نقل خافتة.
والمأساة الموجعة أن هذا "الحال" وقد مرت عليه هذه السنون الطوال قد غدا هو الأمر العادي الذي يتعين على المواطن العربي أن يخضع له وأن يرضى به، أحب أم كره، مع أنه لو تأمل فيه عميقا لرآه انتهاكا للقومية العربية وافتئاتاً عليها، ويتعين عليه أن يزيله لا بلسانه وقلبه فحسب، بل بالسلاح، وهو أقوى الإيمان.
ومما يزيد الإحساس بعمق هذه المأساة أن الحكم العربي المعاصر، قد انفرد وحده في فرض هذه القيود على المواطن العربي، وأن الجامعة العربية هي المنظمة العالمية الوحيدة التي يمارس في ظلها هذا العبث في حرية العربي كمواطن وإنسان معا.
وهذه الجماعة الأوروبية التي تضم تسع دول، كانت متحاربة متصارعة إلى عهد قريب، وليس لها ماض واحد، ولا تاريخ واحد، ولا لغة واحدة، قد أباحت للمواطن الغربي حرية السفر والإقامة والعمل في الدولة التي يختارها..
وقد تهيأت لي فرصة لدراسة مقارنة للجماعة الأوروبية في مقرها الرئيسي في بروكسل عاصمة بلجيكا، في زيارة قمت بها في صيف عام 1977، فأذهلني ما قرأت وما رأيت..(1/187)
هذه الجماعة أصغر عمرا من الجامعة العربية، وقد احتفلت مؤخرا بمرور عشرين عاما على تأسيسها.. وقد أنشئت بموجب ميثاق، وأين منه ميثاق الجامعة، عرف بمعاهدة روما في عام 1957.
ولا حاجة بنا للدخول في التفاصيل، فيكفي أن يعلم ملوك الجامعة ورؤساؤها أن حرية الإقامة والسفر والعمل مكفولة للمواطن الأوروبي، لأي دولة انتسب، ولأي دولة يريد أن يسافر، وفيها يقيم ويعمل.
وموجز القول أنه استنادا إلى معاهدة روما ولوائحها فإنه من الميسور، حتى للعمال، أن يتجولوا في أوروبا الغربية كلها، وأن يتقدموا لوظائف العمل المعروضة في أقاليم الدول الأعضاء، وأن يقيموا هم وزوجاتهم وأولادهم، ومن يعيلون من آبائهم وأمهاتهم.
هذه المعاهدة ولوائحها قد ألغت كل تمييز قائم على الجنسية فيما يتعلق بالاستخدام والأجر والشروط الأخرى للعمل، وأصبح لا يجوز حظر تقييد الهجرة بقصد أن تكفل فرص العمل للعمال الوطنيين، وقد ضمنت المعاهدة أن تكون المنافسة بين العمال "الأوروبيين" على أساس الكفاءة لا على أساس الجنسية. وبهذا أصبح العمال الأوروبيون يعتبرون مجموعة واحدة، والمفاضلة بين عامل وعامل تقوم على أساس القدرة والكفاءة، وكذلك فإن المزايا المالية والاجتماعية التي تمنح للعمال الوطنيين تكفل لكل العمال الأوروبيين على السواء.
وعلى وجه التحديد فقد نصت لائحة 15 أكتوبر 1968 الصادرة بموجب معاهدة روما على أنه يحق لكل مواطن ينتمي لدولة من الدول الأعضاء، أنى كان محل إقامته أن يلتحق بعمل ذي أجر وأن يحتفظ به،(1/188)
ويستوي العامل مع العامل الوطني بصفة تامة، وليس في حاجة لتصريح بالعمل (المواد 1 - 2 - 3).
وكذلك فقد نصت هذه اللائحة أنه لا يجوز وضع شروط للعمل لا توضع بالنسبة للوطنيين من أجل استبعاد عمال دول الجماعة الأوروبية الآخرين.. وحددت اللائحة شروط الاستخدام والعمل وخاصة فيما يتعلق بالأجر والعزل وإعادة الاستخدام، في حالة إصابة العامل بالبطالة (مادة 7).
وجدير بالذكر أن المساواة في المعاملة تشمل انضمام العامل الأوروبي للمنظمات العمالية وممارسة الحقوق النقابية بما في ذلك حق التصويت ويعترف له بالحق في التمثيل في الهيئات العمالية.
وفوق ذلك فقد نصت اللائحة بأن من حق العامل أن يعين له مسكن لأسرته في مستوى العمال الذين يعملون في المنطقة التي يعمل بها، ولا يجوز أن يكون هنالك تمييز بين العمال الوطنيين والعمال الذين يأتون من الدول الأعضاء الآخرين.. ويكون لأسرة العامل أيضا حق الالتحاق بالوظائف وبالتعليم، تعليما عاما أو فنيا، وبالشروط نفسها الخاصة بمواطني الدولة، من غير تمييز.
ولو أردنا أن ننقل معاهدة روما هذه إلى الوطن العربي، لتطبق فيه، لكان معنى ذلك أن ملايين العمال العرب في الوطن العربي، يصبحون أحرارا، ويملكون إرادتهم، ويستطيعون أن يعملوا حيث يشاؤون في الوطن العربي، من المحيط إلى الخليج.. وهذا هو المعنى الحقيقي لشعار من المحيط إلى الخليج.
وعلى سبيل المثال، فإن معنى ذلك أن العامل المصري، أو اليمني، أو أي عامل عربي، يستطيع أن يسافر إلى أي دولة عربية متى يشاء،وأن(1/189)
يقيم فيها كما يشاء، وأن يلتحق بأي عمل يجده، وأن تصبح له ولأسرته حقوق المواطن في السكن والتمثيل النقابي والأجر والتعليم، كأي مواطن آخر في تلك الدولة كل ذلك من غير إذن، ولا تصريح..
بهذا، وبهذا وحده، يصبح تعبير الأمة العربية، والوطن العربي، ذا مدلول صادق، كامل شامل، خال من التزييف والتدجيل.
ومن حقنا أن نتساءل: وما المانع أن تصبح معاهدة روما هي الميثاق الجديد للجامعة العربية.
إن الأمر في غاية اليسر.. تترجم معاهدة روما إلى اللغة العربية.. وتوضع كلمة الدول العربية مكان الدول الأوروبية، وحينئذ تتحرر الأمة العربية من القيود والأغلال التي فرضها الحكم العربي المعاصر على المواطن العربي..
أجل، وما المانع.. ليس ما ندعو إليه خيالا ولا خبالا.. إن الدول الأوروبية التي ارتضت معاهدة روما لحياتها، عاشت لأجيال متعاقبة في حروب طاحنة، وليس لها روابط مشتركة تجمع بينها سوى أنها أمم متجاورة، رأت أخيرا أن تحل الوفاق محل الصراع، وأن تسعى إلى "وحدة" تحميها من الخطر السوفييتي، والسيطرة الأمريكية.. وتهيئ للملايين من مواطنيها حياة أنعم وأكرم.
وهذه الدول الأوروبية ليست متجانسة في شيء.. التباين هو صفتها المشتركة، في الاقتصاد والثقافة والاجتماع والتشريع، والنقد، وكل مناحي الحياة العامة.. ومع هذا فإنها تذلل كل هذه المصاعب.
نقول هذا، كلما دعا داع، إلى وحدة عربية، أو إلى سوق عربية مشتركة، هب "فلاسفة" الانفصال "وعلماء التجزئة يستشهدون بالعلم" بأن(1/190)
ظروف البلاد العربية الاقتصادية والاجتماعية والمالية والثقافية، تحول دون ذلك، والله يشهد أنهم لمخطئون، ولا نقول كاذبون.
وذروة المأساة، أن الدعوة التي دعا إليها فاروق لإنشاء القومية المشتركة، قد ذبلت وجفت، وأن أبطال الانقلابات والثورات في الوطن العربي، من بكر صدقي في العراق عام 1939، إلى بطل انقلابي جديد ننتظره غدا أو بعد غد، ليزيدوا جميعا على الأربعين عبر الأربعين عاما الماضية، لم يستطيعوا أن يزيدوا حرفا واحدا على "النطق السامي" الذي أعلنه الملك فاروق.. ذلك الملك الذي يذكره التاريخ، بفجوره وفسقه، بعد أن نسي له موضوع القومية المشتركة.
إن ملوك الجامعة ورؤساءها، منذ أن أنشئت لا يفتئون، بمناسبة وبغير مناسبة، يتسابقون إلى الإشادة بالأمة العربية، والقومية العربية، والوحدة العربية.. ولا تفوتهم فرصة دون أن يعلنوا أنهم مستعدون لأن يضعوا كل إمكاناتهم وقدراتهم في خدمة الأمة العربية.
ونحن نريد أن نأخذ هذا الكلام مأخذ الجد، ومطلبنا المتواضع إليهم أن يخرجوا موضوع القومية المشتركة من خزانة الجامعة العربية وأن يطلقوا للمواطن العربي حرية السفر، والإقامة والعمل في الوطن العربي.
إن الأمة العربية في حاجة إلى جامعة عربية جديدة، ذات ميثاق جديد، على الأقل ميثاق ينسج على منوال الميثاق الأوروبي الذي وضعته الدول الأوروبية لنفسها، وأحرى بنا أن نضعه لأنفسنا وأمتنا.
هذا ما يجب على الحكم العربي المعاصر أن يفعله.. فإن لم يفعل فإن انتماءه إلى الأمة العربية يحتاج إلى برهان وألف برهان.. وهيهات أن يجدي ذلك كله.(1/191)
ليس هذا فحسب، ولكن الأمة العربية، تغدو في حاجة إلى ثورة عربية كبرى تنشئ جامعة عربية، تكون في خدمة الأمة العربية بأسرها، وتضع اللبنات الأولى في إقامة صرح الوحدة العربية.
وإذا عجز المصلحون عن الإصلاح.. تتنادى الأمة: حي السلاح.
الفصل الحادي عشر
وسقطت الجامعة العربية..
في أنشاص وبلودان
حينما كانت الوفود العربية تروح وتغدو بين العواصم العربية وكل من الإسكندرية والقاهرة لإنشاء جامعة الدول العربية، والاتفاق على ميثاقها، كان الرأي العام العربي يرصد ذلك التحرك العربي الهادر، الحافل(1/192)
بالاقتراحات والتصريحات، من خلال موضوعين كبيرين تتطلع الأمة العربية إليهما بلهفة وشوق.. وهذان الموضوعان هما الوحدة العربية وفلسطين.
وقد خاب أمل الأمة العربية فيما انتهى إليه أمر الجامعة بالنسبة إلى الوحدة العربية، فقد وضح بصورة لا تقبل الجدل أن الجامعة قد طرحت الوحدة العربية جانبا، وأقامت العمل العربي على أساس التعاون والتنسيق بين الدول العربية مع الاحتفاظ الكامل بسيادتها المطلقة من غير أي قيد، وفي أي شيء.
والدارس لما نشرته الصحافة العربية، في تلك الحقبة وما نقلته من آراء المفكرين العرب في الوطن العربي يستطيع أن يضع يده على "نبض" تلك المشاعر الغاضبة الحزينة التي سادت العالم العربي، يومئذ، والناس يقرأون ميثاق الجامعة العربية، وليس فيه كلمة جامعة ولا عبارة مانعة..
ولكن هذه الخيبة المريرة كان يلطف من حدتها رجاء كبير حول الموضوع الثاني وهو قضية فلسطين، فقد استقر في ذهن الرأي العام العربي، أنه لو لم يكن للجامعة العربية من جدوى إلا التصدي لقضية فلسطين، لكفى.. والوحدة العربية يمكن أن تنتظر، أما الخطر الذي يحيط بفلسطين فإنه عاجل ماثل، لا ينتظر ولا يمهل.
ولقد ضاعف من هذا الإحساس، أنه ما إن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، حتى انطلقت الحركة الصهيونية العالمية، ومعها الطائفة اليهودية في فلسطين، تشرع في معركة كبرى هدفها الواضح الصريح المعلن إقامة الدولة اليهودية في فلسطين، كائنا ما كان الثمن..
ومن هنا فقد تطلعت الأمة العربية إلى "قوة عربية" تتصدى للحركة الصهيونية، وتنقذ الشعب الفلسطيني من الخطر الداهم الذي يهم بالإحداق به(1/193)
والإجهاز عليه. وكان الشعب الفلسطيني في طليعة الشعوب العربية أملا في الجامعة العربية، وانتظارا لأداء واجبها.
ولم يكن الشعب الفلسطيني ينتظر من الجامعة العربية أن تنقذه من الخطر الصهيوني على أسلوب "اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون" ولكن كان شأنه في الثلاثين عاما الماضية من عهد الانتداب البريطاني، يرنو إلى الكفاح المسلح ويطمع أن يكون في طليعة المعركة وشعاره إنا أمامكما مقاتلون، لا وراءكما "قاعدون" ويشهد للشعب الفلسطيني أنه خاض غمار خمس عشرة ثورة ضد الاستعمار البريطاني، وحده، من غير معين ولا نصير.. فالعالم العربي من حوله كان هو في حاجة إلى المعين والنصير لزحزحة الاستعمار عن أرضه..
ومن هذا المنطلق كان أمل الشعب الفلسطيني في جامعته، ولم يكد يصدر بروتوكول الإِسكندرية حتى اطمأن مع المواطن العربي بعض الشيء إلى عباراته التي تقول "إن فلسطين ركن من أركان البلاد العربية، وإن حقوق العرب لا يمكن المساس بها.. وإن استقلال فلسطين هو من الحقوق الثابتة".. وأنه ليس أشد ظلما وعدوانا من أن تحل مسألة يهود أوروبا بظلم آخر يقع على عرب فلسطين، وإنه يجب وقف الهجرة اليهودية والمحافظة على الأراضي العربية"، ورأت الأمة العربية في هذه العبارات التزاما قوميا من جانب الجامعة العربية ودولها بالدفاع عن القضية الفلسطينية وصون عروبتها.
ثم جاء بعد ذلك ميثاق جامعة الدول العربية فأعلن الملحق الخاص "إن فلسطين أصبحت مستقلة بنفسها غير تابعة لأية دولة، وإن أمرها لأصحاب الشأن فيها.. وأن وجودها واستقلالها الدولي من الناحية الشرعية(1/194)
أمر لا شك فيه" فازدادت الأمة العربية أملا بأن الجامعة العربية قد التزمت بميثاقها علنا، وأمام العالم الدولي، بكل ما تتطلبه القضية الفلسطينية من تأييد ومساندة، ليتمكن الشعب الفلسطيني من تحقيق حريته واستقلاله وسيادته على وطنه.
ولقد كانت هذه العبارات، سواء في بروتوكول الإسكندرية أو ميثاق الجامعة العربية، موضوعة في صياغة سياسية وقانونية، بارعة اشترك في إعدادها نخبة من رجال السياسة والقانون في الوطن العربي، وما كان أكثرهم وأعظمهم يومذاك.
وكان عدد من الشخصيات البريطانية، في الوطن العربي، التي "تتعاطف" مع القضية العربية، وتبدي "أسفها" لما حل بالشعب الفلسطيني "وندمها"على صدور وعد بلفور وما خلف من مآسٍ وكوارث.. وكانت هذه الشخصيات دائمة الالتصاق بالشخصيات العربية الرسمية، تحثها على الدوام أن تكون مواقفها السياسية هادئة ومرنة وإيجابية، وأنه يجب مخاطبة الرأي العام الدولي باللغة الدبلوماسية العاقلة الرشيدة، تماما كما يجري هذه الأيام مع "أصدقائنا" الأمريكان، واستجابتنا لنصائحهم بأن تكون سياستنا عاقلة وهادئة، وبذلك تتحقق مطالبنا المعروفة..
ولقد تم "للأصدقاء البريطانيين" ما أرادوا فجاءت صياغة الميثاق بالنسبة إلى القضية الفلسطينية في قمة الكياسة واللباقة.
ولكن الأحداث الرهيبة التي كانت مطبقة على القضية الفلسطينية بفكيها لا تصلح معها الكياسة، ولا بد لها من نضال منظم تعبأ فيه كل طاقات الأمة العربية، ذلك أن العواصم الصهيونية الثلاث، تل أبيب وواشنطن ولندن،(1/195)
كانت تعد العدة لخوض المعركة الفاصلة النهائية، لتحويل الوطن القومي اليهودي في فلسطين إلى دولة يهودية، وليكن ما يكون.
ولقد كانت القضية الفلسطينية معروفة تماما، بظروفها المختلفة على الصعيد العربي، فإن الذين أسسوا الجامعة العربية لم يكونوا غرباء عن القضية الفلسطينية فقد واكبوا أحداثها، ومنهم ذلك الجيل العربي الذي عاش حقبة الحكم البريطاني في فلسطين منذ 1918، ووقفوا على تفاصيل الصراع الرهيب الذي كان يدور على أرض فلسطين، بين الجماعة اليهودية الغازية، والشعب الفلسطيني، حول مصير الوطن الفلسطيني، أيكون يهوديا كما تريده الصهيونية والاستعمار، أم عربيا لأهله وأصحابه الشرعيين.
بل إن مؤسسي الجامعة العربية، حين كانوا يتجادلون حول صيغة ميثاق الجامعة، ويستبدلون عبارة بعبارة، كانت وكالات الأنباء العالمية "تقحم" عليها أخبار الحركة الصهيونية ونشاطها الدائب العنيد، لتحقيق أهدافها العدوانية، التوسعية، من غير مواربة ولا خفاء ومن غير كياسة ولا لباقة.
ولسنا في حاجة إلى العودة إلى التاريخ البعيد، لنستشهد بالوقائع، ويكفينا أن نشير فقط إلى الأحداث التي كانت تواكب نشوء الجامعة العربية، والأمثال في ذلك كثيرة..
من هذه، أنه في مايو 1942 انعقد المؤتمر الصهيوني في أوتيل بلتمور في نيويورك، وحضره قادة الحركة الصهيونية من فلسطين ومن كافة أرجاء العالم، وألقيت فيه الخطب النارية الصاخبة، وصدر في نهايته أربعة قرارات:
أولا: المبادرة فورا إلى إنشاء دولة يهودية في فلسطين تكون جزءا لا يتجزأ من العالم الديمقراطي.(1/196)
ثانيا: السماح بالهجرة اليهودية إلى فلسطين من غير قيد ولا شرط والعمل على الاستيطان اليهودي في أرض فلسطين بحرية كاملة.
ثالثا: أن تكون الوكالة اليهودية في فلسطين مسئولة عن موضوع الهجرة اليهودية واستيطان الأراضي.
رابعا: العمل على إنشاء جيش يهودي معترف به، ينضم إليه القادرون على حمل السلاح من اليهود وتحت العلم اليهودي.
وتعبير "الطائفة اليهودية" لم يكن دون الحقيقة، فإن اليهود، في أواسط الأربعينات، كانوا أقل من ثلث السكان في فلسطين، ولا يملكون أكثر من خمسة بالمائة من أراضيها بعد حملة "شراء" امتدت مئة عام، من أيام الحكم العثماني إلى انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين.
وقد استطاعت هذه الطائفة اليهودية، بفضل مساندة الحكم البريطاني في فلسطين خلال ثلاثين عاما، أن تنشئ مؤسسات إدارية وثقافية وعسكرية ومالية وإعلامية مما جعل اللجنة البريطانية الشهيرة – لجنة لورد بيل - أن تصف الإدارة اليهودية بأنها "حكومة داخل حكومة".
وهكذا راحت هذه الإدارة تعمل على تعبئة الموارد البشرية والسياسية لليهود داخل فلسطين وخارجها، لإقامة الدولة اليهودية، وأخذت تعد للأمر عدته، تنظيما وتخطيطا وتنفيذا.
وكانت هذه الاستعدادات تجري، تماما في الوقت الذي كانت "الاستعدادات" تتم لإنشاء الجامعة العربية.
ففي مارس (آذار) 1943، خطب بن غوريون رئيس الوكالة اليهودية، وكأنه يخاطب مؤسسي الجامعة العربية، فقال: "إن نهاية الحرب(1/197)
العالمية، ليس معناها نهاية الحرب بالنسبة لنا، ولكنها تعني البداية للحرب اليهودية".
ولم يكن بن غوريون يتحدث عن الحرب من فراغ.. فقد كان لليهود جيشهم المعروف بالهاجاناه. ومعه العصابات اليهودية شترن، وزفاي لومي، وبالماخ.. وكلها مجهزة بالأسلحة، ومدربة على مختلف أنواع القتال.. وكل ذلك كان معروفا لدى الرأي العام العالمي، تنشره الصحافة العالمية.. من غير تحرج ولا مبالاة..
بل إن القضاء البريطاني في فلسطين قد ساهم في نشر أخباره، ففي أغسطس 1943 عرضت على المحكمة البريطانية قضية اشتهرت باسمها "قضية الأسلحة"واستمرت المحاكمة عدة أسابيع ونقلت أخبارها إلى الصحف العالمية، وكان المتهمون فيها بعض قادة العصابات الصهيونية، وكانت التهمة المنسوبة ‘إليهم "سرقة كميات وفيرة من الأسلحة والذخائر"، وأدانتهم المحكمة وجاء في قرارها قولها "لقد ثبت لدينا أنه توجد في فلسطين مؤامرة خطيرة كبرى للحصول على الأسلحة من مخازن الجيش البريطاني، من قوات حكومة جلالته، وأن بين يدي المتهمين أموالا وفيرة، ولهم معرفة واسعة بالشئون العسكرية والتنظيم العسكري" وقد أثار هذا القرار في حينه الصحافة العالمية والرأي العام في بريطانيا وأمريكا..
وهاجت الصهيونية العالمية وماجت، حين صدر هذا القرار من محكمة بريطانية؛ وحسب العادة الصهيونية في مثل هذه الأحوال، فقد أعلن قادة اليهود في العالم أن هذا القرار الصادر من المحكمة "هو قرار لا سامي وأن المحكمة محكمة لا سامية".(1/198)
أما على الصعيد السياسي فقد كانت الصورة واضحة كذلك للقادة العرب الذين أسسوا الجامعة العربية.. فقد كانت الدولتان الحليفتان أمريكا وبريطانيا، تعلنان بكل صراحة، ولم تكن الحرب العالمية الثانية قد انتهت، أنهما تؤيدان إقامة دولة يهودية في فلسطين.. والشواهد هنا كثيرة كذلك.
ففي يناير (كانون الثاني) 1944 أصدر الكونجرس الأمريكي قرارا يدعو "إلى فتح أبواب فلسطين للهجرة اليهودية، وإنشاء دولة يهودية في فلسطين، وأن لا تحول دون ذلك أية عقبات".
وفي مايو (أيار) 1944 ناقش حزب العمال البريطاني في مؤتمره السنوي القضية الفلسطينية، وأصدر قراره الشهير باتخاذ الوسائل اللازمة لتشجيع الشعب الفلسطيني على الرحيل عن وطنه، ليحل محلهم المهاجرون اليهود، والسعي لإنشاء الدولة اليهودية، ذلك أن العرب، حسبما أعلن القرار البريطاني، "يملكون أراضي شاسعة ولا يحق لهم أن يستبعدوا اليهود عن فلسطين، وهي أرض صغيرة أقل مساحة من مقاطعة ويلز، بل إن الواقع يقتضي النظر في توسع الحدود الفلسطينية الحاضرة بالاتفاق مع سورية ومصر والأردن".. وهكذا بكل صراحة ووقاحة.. وعلى العرب أن يقابلوا ذلك بسياسة وكياسة.
وفي أكتوبر 1944 أصدر الرئيس الأمريكي روزفلت تصريحا نقلته وكالات الأنباء العالمية أعلن فيه إباحة الهجرة اليهودية إلى فلسطين والسعي لإنشاء دولة يهودية في فلسطين في أقرب وقت مستطاع.
هذا وغير هذا، كان يعلمه قادة العرب الذين أسسوا الجامعة العربية ووضعوا ميثاقها، وأنفقوا كثيرا من الوقت والجهد في إعداد الصياغات(1/199)
البارعة المشرقة، الدالة على براعة العرب السياسية، وحكمتهم، والتزام العقلانية والموضوعية.
ولو كان الأمر قاصرا على البيانات السياسية في تأييد الحركة الصهيونية لكانت الجامعة العربية، ومؤسسوها على حق في التزام الروية، ولكن أنباء الثورة "اليهودية" والإرهاب اليهودي كان يصل إلى اجتماعات الجامعة العربية، حتى لتكاد لعلعة الرصاص ودوي القنابل أن تصل آذان الرؤساء والوزراء العرب الذين كانت تجمعهم "مشاورات الوحدة العربية" تارة في الإسكندرية، وتارة أخرى في القاهرة.
ففي السادس من نوفمبر (تشرين الثاني) 1944، اغتال إرهابيان من عصابة شترن، الوزير البريطاني في الشرق الأوسط المقيم في القاهرة، اللورد موين، وهو خارج من منزله في حي الزمالك، لأن المخابرات اليهودية كانت تعتقد أنه "يعطف" على فكرة الجامعة العربية، وقد ألقي القبض عليهما وبعد مرافعات مستفيضة أصدرت المحكمة الحكم بإعدامهما.
واهتزت بريطانيا حكومة وصحافة وشعبا لهذه الجريمة الشنعاء، وانبرى رئيس الوزراء البريطاني السر ونستون تشرشل لاستنكار الإرهاب الصهيوني بعبارات صارمة حاسمة، معلنا ندمه على صدور وعد بلفور، ومساندته للحركة الصهيونية، وقد حسب مؤسسو الجامعة العربية أن سقف الكون سينزل على رأس الطائفة اليهودية في فلسطين، وسيجعل مهمة الجامعة العربية بالنسبة للقضية الفلسطينية سهلة للغاية بحيث يغدو الوطن القومي اليهودي تجربة تاريخية بدأت ثم ما لبثت أن انتهت.
ورغما عن ذلك كله فقد رضي المواطن العربي بصياغة "الكياسة والسياسة" التي اتبعها ميثاق الجامعة العربية في معالجة القضية الفلسطينية(1/200)
متطلعا إلى الممارسة الفعلية، والخطط العملية التي ستضعها الجامعة العربية في تحقيق "الاستقلال والسيادة" للشعب الفلسطيني حتى يصبح العضو الثامن في الجامعة بدلا من أن تختار من يمثله، وبدأت الأمة العربية تراقب ممارسات الجامعة وخططها.
وكانت الدورة الأولى قاصرة على قضية سوريا ولبنان وإجلاء القوات الفرنسية عن أراضيهما، ولم تتعرض الجامعة للقضية الفلسطينية من قريب أو بعيد، وسكت المواطن العربي على الجامعة فقد كانت الأزمة السورية اللبنانية صداما مسلحا مع القوات الفرنسية، وكان من الطبيعي أن تكون لها الأولوية على كل قضية أخرى.
وجاءت الدورة الثانية للجامعة (31 أكتوبر (تشرين الأول) 1945-14 ديسمبر) وقد استمرت شهرا ونصفا كانت مكرسة للقضية الفلسطينية.
ففي تلك الفترة استفحل أمر الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وقررت بريطانيا تأليف لجنة بريطانية أمريكية مشتركة لدرس القضية الفلسطينية.. وقد اتخذت الجامعة قرارات هامشية، فيما يتعلق بالهجرة اليهودية، قررت تقديم مذكرة إلى كل من بريطانيا وأمريكا مطالبة بوقف الهجرة وبيان مخاطرها، والتذكير بما ورد في الكتاب الأبيض سنة 1939 بشأن تقييدها بألف وخمسمائة مهاجر يهودي في الشهر الواحد.
وفيما يتعلق بالمحافظة على الأراضي العربية في فلسطين فقد أحالت مشروع إنشاء شركة لإنقاذ الأراضي إلى حكومات الدول الأعضاء لدراستها.
وفيما يتعلق بتأليف لجنة التحقيق الانجلو – الأمريكية قررت الجامعة تأليف لجنة لوضع الخطة الواجب إتباعها للدفاع عن القضية الفلسطينية.(1/201)
ورأت الأمة العربية في هذه القرارات هروبا من "الأصول" إلى الفروع.. فإن موضوع إنقاذ الأراضي الفلسطينية في عام 1945 لم يعد يصلح له إنشاء شركة اقتصادية، فإن الوطن بكل أراضيه يواجه "معركة" حقيقية.
أما الهجرة اليهودية فقد بلغت حدا خطيرا من الطغيان، فقد تدفقت البواخر إلى الشواطئ الفلسطينية تحمل موجات من المهاجرين اليهود فيما عرف يومئذ "بالهجرة غير المشروعة" ناهيك عن الهجرة "المشروعة" وجاء على رأس ذلك تصريح الرئيس ترومان مطالبا الحكومة البريطانية بأن تسمح للهجرة اليهودية في حدود مئة ألف بصورة مستعجلة.. وكان هذا التصريح في شهر أغسطس (آب)، قبل اجتماع دورة الجامعة بشهر واحد..
وفي هذا الموضوع كذلك رأت الأمة العربية أن تقديم مذكرة من قبل الجامعة العربية هو دون مستوى ذلك الخطر الداهم، وازدادت الأمة العربية غضبا حينما قرأت المذكرة وما تضمنتها من عبارات تتسم بالكياسة والسياسة.
وكانت الأمة العربية تطالب الجامعة العربية باتخاذ "خطة عملية" لمواجهة الإرهاب اليهودي من جهة، والمساندة المكشوفة التي كانت تتبعها بريطانيا وأمريكا لإقامة الدولة اليهودية.. ولكن الجامعة، بميثاقها المترهل المعروف، وتفكك أعضائها فيما بينهم كانت تلجأ إلى معزوفة "الصداقة" التي تربط الدول العربية بأمريكا وبريطانيا، وأن ذلك سيصل بالقضية العربية إلى حل معقول فلم يكن من "المعقول" في حسابات الجامعة العربية ودولها أن تقدم أمريكا وبريطانيا على إقامة دولة يهودية في فلسطين، خلافا لكل المبادئ الديمقراطية.. وما إلى ذلك من الحجج والأسانيد.(1/202)
بل إن الجامعة العربية، كما يدل الاتجاه العام لمذكراتها في الجلسات، ومذكراتها إلى بريطانيا وأمريكا، كانت تستبعد قيام دولة يهودية في فلسطين، فالشعب العربي في فلسطين هو الأكثرية، والأرض الفلسطينية يملكها الشعب الفلسطيني وليس من "المعقول" أن تقدم بريطانيا وأمريكا والعالم الدولي على الأخذ بالمطالب اليهودية المخالفة للعدالة والمبادئ الديمقراطية ولميثاق الأمم المتحدة، وكان حبره طريا في تلك الأيام!!
ولكن بدأ "غير المعقول" يصبح معقولا، وبدأ الإرهاب اليهودي يعطي ثماره فقد فرغت لجنة التحقيق الانجلو – أمريكية من مهمتها بعد أن استمعت إلى بيانات مستفيضة من قادة فلسطين ومن رجال الجامعة العربية، ونشرت تقريرها النهائي فإذا به يوصي بفتح أبواب الهجرة اليهودية على مصراعيها، ويلغي القيود المفروضة على الاستيطان اليهودي ويضرب بالمطالب العربية عرض الحائط، ويوصي بإدخال مئة ألف يهودي إلى فلسطين فورا.
وتفجرت مشاعر الغضب في سائر أرجاء الوطن العربي، وعم الإضراب مدن فلسطين وقراها، وسارت المظاهرات الصاخبة في العواصم العربية، وأصبح لا بد من "مسرحية" فريدة تشد إليها أبصار الناس جميعا، وتلهيهم ولو إلى حين، عن هذا الخطر الجديد.
وكانت هذه المسرحية هي مؤتمر القمة العربي الذي انعقد في زهراء إنشاص، إحدى ضواحي القاهرة الجميلة، وعرف باسمها.. وكان وراء انعقاد هذا المؤتمر أسرار أمريكية وبريطانية يطول شرحها.. يكفي منها أن يعلم المواطن العربي أن الجنرال كلايتون رجل المخابرات البريطاني الشهير في الشرق الأوسط، كان على مقربة من ذلك المؤتمر يقدم "صداقة" بريطانيا "ونصائحها" في معالجة القضية العربية.(1/203)
وكان الملك فاروق هو الداعي لهذا المؤتمر ولبى الدعوة الملك عبد الله (الأردن) والأمير عبد الإله الوصي على العرش (العراق) والسيد شكري القوتلي رئيس الجمهورية السوري، والأمير سعود ولي عهد المملكة العربية السعودية، والشيخ بشارة الخوري رئيس الجمهورية اللبنانية، والأمير سيف الإسلام عبد الله نجل الإمام يحيى ملك اليمن.. وقد صدر عن الاجتماع البيان الآتي:
"تشاور أصحاب الجلالة والفخامة والسمو رؤساء دول الجامعة العربية في المؤتمر الخاص الذي عقد في انشاص في يومي 28، 29 مايو (أيار) 1946 بدعوة من حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق ملك مصر وصاحب بلاد النوبة والسودان وكسوردفان ودارفور.. وقد حضر الاجتماع.. (الأسماء مع الألقاب)
"وبعد المداولة في المسائل العامة والخاصة بالشئون العربية وجدوا أنفسهم متفقين تمام الاتفاق على أن البلاد العربية المشتركة في جامعة دولهم ترغب رغبة أكيدة في تأييد السلم، وأنهم يرون أن من أعظم الوسائل إلى ذلك، التعاون الصادق مع هيئة الأمم المتحدة وتقويتها واحترامها وتنمية الثقة بها.
"ثم تداولوا في قضية فلسطين من شتى نواحيها فرأوا أن قضيتها ليست قضية خاصة بعرب فلسطين وحدهم بل هي قضية العرب جميعا، وأن فلسطين عربية يتحتم على دول العرب وشعوبها صيانة عروبتها، وأنه ليس في إمكان هذه الدول أن توافق بوجه من الوجوه على أية هجرة جديدة ويعتبرون ذلك نقضا صريحا للكتاب الأبيض الذي ارتبط به الشرف البريطاني، ولهم عظيم الأمل أن لا يعكر صفو علائق المودة القائمة بين الدول والشعوب العربية من جهة والدولتين الديمقراطيتين الصديقتين من جهة أخرى أي تشبث من(1/204)
جانبهما يرمي إلى إقرار تدابير مادية ماسة بحقوق عرب فلسطين، حرصا منهم على دوام هذه الصداقة وتفاديا لرد فعل ينشأ بسبب ذلك ويفضي إلى اضطرابات قد يكون لها أسوأ الأثر في السلم العام، أما فيما رأوا زيادة على ذلك فقد كلفوا الأمين العام بجامعة الدول العربية أن يحمل إلى مجلس الجامعة نتائج أبحاثهم ومداولاتهم وتوجيهاتهم في بهذا الشأن ليتخذ أفضل الوسائل لصيانة مستقبل هذا الوطن العزيز على قلوب العرب أجمعين" ثم تناول البيان قضية طرابلس وبرقة والمسألة المصرية، وشئون البلاد العربية الأخرى، وقال بشأنها كلاما جيدا..
ولا جدال أن اجتماع إنشاص كان مرحلة قومية رفيعة تهيأ فيها اجتماع ملوك العرب ورؤسائهم ليعلنوا تضامنهم وتأييدهم لقضية فلسطين والقضايا العربية الأخرى.. وكذلك فإن البيان الصادر عن الاجتماع يتضمن كل ما يمكن أن "يقال" بشأن الموقف العربي في تلك الظروف السائدة يومئذ، وصياغته تليق بالملوك والرؤساء ولا يمكن أن "يقولوا" أحسن أو أقوى من ذلك.
وكانت بارعة حقا، تلك الإشارة الأخيرة التي كلف الأمين العام للجامعة العربية بموجبها أن يحمل إلى مجلس الجامعة "الأبحاث والمداولات والتوجيهات" التي تؤدي إلى "أفضل الوسائل لصيانة مستقبل هذا الوطن العزيز على قلوب العرب أجمعين".
والحق أن "صيانة الوطن العزيز" كانت تقتضي يومئذ شيئا واحدا في المقام الأول، ثم تأتي بعده الإجراءات الأخرى.. ذلك هو بكلمة مختصرة: تمكين الشعب الفلسطيني من الصمود في وطنه، والدفاع عن مدنه وقراه بقوة السلاح.(1/205)
تلك هي "أفضل الوسائل" إذا كان ملوك العرب ورؤساؤهم يعنون ما يقولون، وأنهم جادون فيما يعلنون.. ذلك أنه في العام الذي انعقد فيه مؤتمر انشاص.. كان الوضع الاستراتيجي في فلسطين واضحا، يتلخص في أن الشعب العربي أعزل، والطائفة اليهودية مسلحة من الرأس إلى أخمص القدمين، والسلطة البريطانية تمضي في سياستها المعلنة لإقامة الدولة اليهودية.
ولذلك فقد كانت الخطة العاجلة هي تنظيم الشعب الفلسطيني وتدريبه وتسليحه، بحيث يصبح قادرا على الصمود في أرضه.. ثم تأتي بعد ذلك الخطط العربية الأخرى من سياسية وعسكرية لمساندة الشعب الفلسطيني في كفاحه، وللضغط على الصديقتين الديمقراطيتين بريطانيا وأمريكا أن تكفا عن تأييد الحركة الصهيونية.
من أجل ذلك، فإن القارئ العادي لبيان إنشاص، يفترض أن "التوجيهات" التي أشار إليها لا بد أن تتضمن شيئا من هذه الخطة.
غير أن "أوراقي" عن تلك الحقبة، وكنت أحد الذين واكبوها تتحدث عن "توجيهات" لا صلة لها بالقضايا العربية، تتلخص في القيام بحملة في جميع البلاد العربية لإلقاء القبض على جميع الشيوعيين في البلاد العربية والحد من نشاطهم.. ولم تمض أسابيع حتى نفذت هذه التوصية من عدد من الدول العربية!!
أما قضية فلسطين فلم تتعدَّ "التوجيهات" بشأنها، المساعي السياسية وكفى الله المؤمنين القتال..
وكان الرابح الوحيد في بيان إنشاص هو الملك فاروق الذي اعترف له العرب بأنه "صاحب بلاد النوبة والسودان ودافور وكسوردفان" وهذه(1/206)
المجاملة لم تعد أن تكون شكلية واسمية، وأنه لم يتوحد مصر والسودان لا في عهده ولا في عهد الذين جاؤوا من بعده.
ولم يمض أسبوع على اجتماع إنشاص، حتى انعقد مجلس جامعة الدول العربية في دورة غير عادية (8 يونيو (حزيران) -12 يونيو 1946) في مصيف بلودان، وحضره رؤساء الحكومات العربية ووزراؤهم وخبراؤهم، وكان الجنرال كلايتون رجل المخابرات البريطاني قد سبقهم إلى فندق بلودان ليكون على مقربة من ساسة العرب، وله صلات وثيقة مع عدد منهم، يزورهم في منازلهم ويستضيفونه على طعام وشراب، من حلال وحرام..
وتطلعت أبصار العالم كله إلى فندق بلودان، والاجتماعات التي تدور في صالاته ودهاليزه وحجراته ليلا ونهارا، وانطلقت تكهنات الصحفيين فيما عسى أن تقرره الوفود العربية إزاء "الحرب" التي كانت تخوضها الطائفة اليهودية بفصائلها الإرهابية المتعددة.
وقد انهالت البرقيات والرسائل على فندق بلودان من العالمين العربي والإسلامي، ومن المهاجر، وكلها تحض الجامعة العربية على اتخاذ التدابير الفعالة للتصدي للخطر الصهيوني الذي يحدق بفلسطين ويهدد الشعب الفلسطيني بالجلاء عن وطنه.
وهذه الرغبة الشعبية العارمة لقيت استجابة صادقة في داخل الجامعة من قبل عدد من الوفود العربية وخاصة السورية والمصرية والعراقية.. فقد حذر مكرم عبيد باشا (مصر) من اتخاذ "قرارات نظرية" وطالب بالاتفاق على قرارات عملية بمقاطعة اقتصادية إذا ما استمرت مساعدة الدولتين لليهود، وأشار هيكل باشا (مصر) إلى أن صداقة انجلترا وأمريكا تستهدف(1/207)
"الهيمنة على الشرق الأوسط" وأنه إذا تعارضت هذه السياسة مع حقوق العرب في فلسطين فستكون صداقة مشوبة بالسم "وأنه يجب أن تكون سياستنا في مجموعها منسقة لنواجه الطوارئ متفقين".
وفي إشارة هادئة ذكر الأستاذ فارس الخوري أن بيان إنشاص لم يتعرض إلى استقلال فلسطين أو رفع الانتداب عنه "وتحدث مندوب العراق بهذا المعنى في كلمة أكثر عنها..
وكشف حافظ رمضان باشا (مصر) عن مخاوف الأمة العربية فقال: "لا نريد أن نبدأ عملا يعرض الجامعة العربية لسوء ظن الأمة العربية.. ولاسيما أن هناك دعاية واسعة النطاق بأن الجامعة العربية إنما خلقتها انجلترا لتستعين بها على تنفيذ مآربها ومن الغريب أن هذه الدعاية تجد سبيلها إلى نفوس العرب.."
وكان أول قرار أعلن عن مجلس الجامعة في تلك الدورة غير العادية، "رفع الشكر والثناء إلى أصحاب الجلالة والفخامة والسمو.. على الروح السامية التي تجلت في بيان انشاص مع تقديره الكبير لجميع التوجيهات والآراء الصائبة المشار إليها فيه وتأييد كل ما جاء فيه تأييدا تاما، وأن يتخذ جميع التدابير لتحقيق هذه الرغبات السامية".
وكان القرار الثاني قرار تهنئة أيضا، فقد وردت برقية من وزير خارجية شرق الأردن يحيط مجلس الجامعة علما باستقلال إمارة شرق الأردن وأن اسمها قد أصبح المملكة الأردنية الهاشمية وقرر مجلس الجامعة التهنئة والإعراب عن أجمل التمنيات.
ومن المؤسف حقا، أنه بينما كانت العصابات اليهودية تخوض أعنف معاركها ضد الجيش البريطاني في فلسطين مطالبة بريطانيا بالرحيل عنها،(1/208)
ومعلنة تصميمها على إقامة دولة يهودية، فقد قضى رؤساء الحكومات العربية أوقاتهم في قراءة تقرير لجنة التحقيق الانجلو –الأمريكية ونقده وتحليله ووضع الرد عليه، وانقلبوا إلى لجنة خبراء يصوغون مذكرات سياسية لإرسالها إلى كل من بريطانيا وأمريكا بشأن التواصي الظالمة التي جاءت في تقرير اللجنة.
وفي النهاية فقد جاءت مذكرة الجامعة العربية دون مستوى بيان إنشاص، فقد رددت في ختامها المعزوفة التقليدية في أن الحكومات العربية تعتبر الأخذ بتوصيات لجنة التحقيق عملا غير ودي.. وأن الحكومات العربية الحريصة على دوام الصداقة والعلاقات الطيبة بين بريطانيا وأمريكا من جانب والدول العربية من جانب آخر، تطالب بعدم الأخذ بما ورد في تقرير اللجنة".
أما القرارات الباقية فهي:
1- طلب المفاوضة مع بريطانيا من أجل إنهاء الحالة الراهنة في فلسطين.
2- عرض القضية على هيئة الأمم المتحدة إذا لم تنته المفاوضة مع بريطانيا إلى حل مرض.
3- تأليف لجنة دائمة في أمانة الجامعة للإشراف على سير القضية.
4- مطالبة بريطانيا بتجريد اليهود من السلاح,
5- رفض أي شكل من أشكال التقسيم من حيث المبدأ.
6- إنشاء لجان دفاع عن فلسطين في كل دولة عربية.
7- إصدار طابع باسم فلسطين يرصد ريعه للقضية الفلسطينية.
وهذه القرارات العلنية ليست في حاجة إلى تحليل دقيق لإيضاح تفاهتها وضحالتها، فإن أكثرها يدخل في باب المساعي السياسية في مخاطبة(1/209)
بريطانيا وهي صانعة المأساة، وأمريكا وهي التي تمضي في عناد وتصميم في مساندة الحركة الصهيونية.
أما تعيين لجنة في الجامعة العربية للإشراف على قضية فلسطين، فإنه ضرب من العبث لأن هذه اللجنة تألفت من السفراء، هؤلاء الذين تلتهم أعمالهم كل أوقاتهم، ولا يكادون يبدأون جلساتهم حتى تلحقهم تلفوناتهم من سفاراتهم؛ فأين هؤلاء من الصهيونيين، الكادين المتفرغين الذين يعملون ليل نهار وليس عندهم إلا قضية واحدة هي الدولة اليهودية.
وكذلك فإن إصدار طابع بريدي من أجل قضية فلسطين، فلا يصلح إلى في العشرينات، وعرب فلسطين في الأربعينات في حاجة إلى فيضان النيل، والرافدين، والأردن، وبردى.. من الأموال والأسلحة والذخيرة والميرة. ولا حاجة للتعليق كثيرا على القرارات السرية، فقد رأت فيها الأمة العربية بفطرتها الذكية، أنها قرارات ستبقى في سلة المهملات في صالة الاجتماعات في بلودان، ولم يغادر الجنرال كلايتون حجرته في الفندق إلا وهو مطمئن إلى مصيرها البائس الحزين.
أما هذه القرارات السرية فقد كانت، كما سجلتها أوراقي:
أولا: عدم السماح للدولتين أو أحدهما أو رعاياهما بأي امتياز اقتصادي جديد.
ثانيا: عدم تأييد مصالحهما الخاصة في أي هيئة دولية.
ثالثا: مقاطعتهما مقاطعة أدبية.
رابعا: إلغاء ما يكون لهما من امتيازات في البلاد العربية.
خامسا: شكواهما إلى مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة.. على أن تنفذ هذه القرارات في حالة قبول تواصي لجنة التحقيق الانجلو – أمريكية.(1/210)
وانتهت اجتماعات بلودان وطار رؤساء الحكومات العربية إلى عواصمهم ليجدوا جماهير الشعب يتظاهرون معلنين استنكارهم للقرارات الوديعة الوضيعة التي اتخذها مجلس الجامعة العربية فلم يروا فيها إلا عملا سياسيا لا ينقذ وطنا ولا يدفع عدوا، وراحت الهتافات في الشوارع تسخر من القرارات السرية بسجعات شعبية، ومن يومها أصبح مؤتمر بلودان ومقرراته السرية سخرية الجماهير العربية، يتندرون بها في أحاديثهم السياسية، ونزل اسم بلودان من قممه الجبلية العالية إلى القاع الأسفل من الهزأ والسخرية.
وزاد من هذه السخرية أن الجواب الأمريكي على مذكرة الجامعة العربية كان فظا وفجا، يؤيد قناعة الجماهير العربية في أن التغني بالصداقة الأمريكية العربية إنما هو ضرب من الأوهام فقد أكد الجواب الأمريكي في ختام مذكراته أنه "منذ نهاية الحرب العالمية الأولى عاضدت الولايات المتحدة حكومة وشعبا فكرة الوطن القومي اليهودي في فلسطين، وإذن فحكومتي إنما تتصرف طبقا لسياسة الولايات المتحدة التقليدية عندما تدعو إلى اتخاذ التدابير التي ترمي إلى تعزيز إبراز هذه الفكرة إلى حيز الوجود"!!
أما بصدد الهجرة اليهودية فقد قالت المذكرة الأمريكية "إن كثيرا من هؤلاء اليهود يتطلعون.. إلى فلسطين كملجأ، وأنه ليبدو مخالفا للمبادئ الإنسانية إنكار حق اليهود في البحث عن مأوى لهم في بلاد أخرى ومنها فلسطين".
أما بالنسبة إلى ما كان يجري داخل فلسطين فقد كان الإرهاب اليهودي يؤذن بتدمير الحياة القومية للشعب الفلسطيني الأعزل وهو يراقب تحركات العصابات الصهيونية.. وخاصة أن لجنة التحقيق الانجلو – أمريكية(1/211)
قد كشفت عن المنظمات العسكرية التي تملكها الطائفة اليهودية على مشهد ومسمع من أمريكا وبريطانيا، واللجنة نفسها لم تستطع أن تتجول في البلاد إلا تحت حماية عسكرية ثقيلة. وقد أتيحت لبعض أعضائها بصورة سرية، زيارة معسكرات جيش الهاجاناه الذي وصفته اللجنة في تقريرها بأنه "الجيش غير الرسمي".
وفوق هذا وذاك فقد كانت بين يدي مجلس الجامعة تقرير مفصل قدمته حكومة فلسطين (1) إلى لجنة التحقيق الانجلو، أمريكية سردت فيه بإيجاز أعمال الإرهاب الصهيونية: تدمير المؤسسات العامة، اقتحام مراكز البوليس، محاولة الاعتداء على حياة المندوب السامي البريطاني وزوجته، مهاجمة دوائر الهجرة في القدس ويافا وحيفا في ساعة واحدة ويوم واحد، احتلال دار الإذاعة في رام الله ومحاولة إذاعة بيان عن إنشاء الدولة اليهودية، مهاجمة القرى العربية العزلاء، وغير ذلك من العمليات الإرهابية الشنيعة التي وصفها القائد العام للقوات البريطانية في فلسطين بأنها"تعطل المجهود الحربي للحلفاء وتعمل على مساعدة العدو". وهذه تهمة بالغة الخطورة.
وكانت هذه الأعمال الإرهابية تعلن عنها "الجمعية العسكرية اليهودية" في بلاغات رسمية، في ذيل كل بلاغ عبارة مكتوبة بأحرف بارزة بأن هدف "الجمعية" هو فتح أبواب فلسطين لليهود من كافة أنحاء العالم، والمطالبة بجلاء بريطانيا عن فلسطين تمهيدا لإقامة دولة يهودية فيها..
ولقد سرد التقرير الرسمي أكثر من ذلك، وكان ماثلا أمام أبصار رؤساء الوفود العربية في مؤتمر بلودان، لتعرف حقيقة ما يجري في فلسطين، إذا كانوا لا يثقون بوكالات الأنباء التي نقلت إلى العالم الصورة(1/212)
الموحشة التي أصبحت عليها أرض الديار المقدسة وهي تعج بالأشلاء والدماء واللهب المتصاعد إلى السماء..
وإذا كان هذا التقرير عن الإرهاب لم يكن كافيا لدى بلودان فقد انبرت الطائفة اليهودية في فلسطين لتكون أكثر تحديا للمقررات السرية في بلودان فقد صعدت أعمالها الإرهابية ولم تنقض أربعة أيام على انفضاض مؤتمر بلودان حتى قامت العصابات الصهيونية بعملية عسكرية مثيرة.. فقد دمرت الجسور العشرة التي تربط فلسطين بدول الجامعة العربية، في ليلة واحدة وساعة واحدة، وكان من نتائج هذا التدمير البالغ الدقة والإحكام، أن فلسطين قد بقيت، إلى أن تم إصلاح الجسور على يد سلاح المهندسين البريطانيين، جزيرة معزولة عن العالم العربي، تقطعت أوصالها عن القاهرة وعمان ودمشق وبيروت، وقمم بلودان تطل على هذه المأساة حزينة منكسة الهامة.
وإزاء هياج الأمة العربية أمام هذا التحدي المروع، انطلقت الإضرابات والمظاهرات من جديد وكانت الأمة تملك في تلك الأيام حرية التظاهر والإضراب، واندلعت الشعارات والهتافات تنادي فليسقط اجتماع إنشاص – وليسقط مؤتمر بلودان.
ولم تكن الجماهير العربية متعسفة على الجامعة العربية في هذا الغضب الصادق الأمين، فإن الجامعة جامعتهم، ويريدونها عزيزة كريمة، وكان من حقهم أن يستنكروا تلك القرارات الاحتجاجية التي أصدرتها الجامعة بصدد توصيات لجنة التحقيق الانجلو – أمريكية، على حين أن جيش الهاجاناه اليهودي كان قد خاطب اللجنة باللغة التي تفهمها، فقد وجهت إليها مذكرة تقول فيها: "إذا كنتم تقبلون بالحل الصهيوني في إقامة الدولة اليهودية(1/213)
ولا ترغبون أو تجدون أنفسكم عاجزين عن فرضه، فكل ما نرجو منكم أن لا تتدخلوا ونحن قادرون على تنفيذه وتحقيقه".
وحينما كانت الأمة العربية تعقد المقارنة بين هذا الكلام اليهودي، وذلك الكلام العربي الصادر عن الجامعة العربية في إنشاص وبلودان، لم تجد أمامها إلا أن تنطلق حناجرها فليسقط اجتماع إنشاص، وليسقط مؤتمر بلودان.
هكذا سقطت الجامعة العربية في إنشاص وفي بلودان، لتسقط بعد ذلك هذه المرة لا في بلودان، ولكن في لبنان.. في صوفر وعالية..
وللمأساة بقية..
الفصل الثاني عشر
وسقطت الجامعة..
في صوفر وعالية
كان النصف الثاني من عام 1946 حافلا بالنشاط السياسي العربي الضخم، على صعيد الجامعة العربية، فقد كان أقطاب الجامعة العربية يروحون ويغدون بين العواصم العربية، ووراءهم ذيل طويل من التصريحات(1/214)
اللاهبة تؤكد العزم والتصميم على عروبة فلسطين مهما بلغت التضحيات ومهما تعاظمت المصاعب..
وكذلك فقد توالت الاجتماعات في مقر الجامعة العربية في القاهرة لمعالجة القضية الفلسطينية من مختلف جوانبها السياسية، وكان قصر البستان، وهو المقر القديم للجامعة أشبه ما يكون بخلية نحل، تعج بالعمل ليلا ونهارا، في إعداد المذكرات واستقبال السفراء، وعقد الندوات الصحفية وشرح التطورات التي تكتنف القضية الفلسطينية يوما بعد يوم.
وفي تلك الحقبة أسندت إلى لجنة التحقيق الانجلو – أمريكية مهمة النظر في القضية الفلسطينية، فنشطت الجامعة العربية لإعداد المذكرات والدراسات المتصلة بالقضية، وأدلى أقطاب الجامعة العربية وأمينها العام ببيانات مستفيضة استعرضوا فيها تاريخ القضية الفلسطينية وسردوا الحجج القانونية والسياسية والتاريخية التي تؤيد حق الشعب الفلسطيني في وطنه وطالبوا بإقامة دولة ديمقراطية في فلسطين يكون فيها لجميع المواطنين حقوق متساوية عربا كانوا أم يهودا..
وبعد ذلك دعت الحكومة البريطانية إلى مؤتمر عقد في لندن، في صيف 1046، للبحث في القضية الفلسطينية، واشتركت الجامعة العربية في ذلك المؤتمر وقامت بجهود واسعة في شرح القضية الفلسطينية في مختلف أدوارها وطالبت باستقلال فلسطين، وإقامة حكومة ديمقراطية يتمتع فيها اليهود بحقوق المواطنة الفلسطينية من غير إجحاف ولا تمييز.
وقد كانت هذه الجهود المتوالية، استكمالا لمؤتمر القمة العربي في انشاص في مايو (أيار) 1946 ولمؤتمر بلودان وقراراته السرية في يونيو (حزيران) من العام نفسه كما أسلفنا، ولكن هذه الجهود السياسية، وكانت(1/215)
ضرورية من غير شك، اتسمت بطابع الاستجداء والمناشدة أمام الدولتين الديمقراطيتين وهما اللتان كانتا تسعيان السعي الحثيث لإقامة الدولة اليهودية.. رضي العرب أو غضبوا، وإن غضبوا فما أيسر أن يرضوا، كما كانت تقدر الديمقراطية الغربية..
وكان الخطأ القاتل الذي وقعت فيه الجامعة العربية يومئذ، هو الوهم بأن الدولتين "الصديقتين"، سوف لا تقدمان على اغتصاب العرب، ولا على انتهاك المبادئ الدولية، وأنه لا بد من العثور على حل يرضي العرب واليهود، وتنتهي الأزمة ولو إلى حين.
وثمة خطأ آخر أصيبت به الجامعة العربية؛ إن العالم الدولي يستقبل عهدا جديدا من العلاقات الدولية يتمثل في ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه الرفيعة، وإنه في مثل هذه الحالة لا يمكن أن يفرض على الشعب الفلسطيني أي حل غير ديمقراطي، وإن القضية الفلسطينية ستجد لها حلا عادلا من غير شك..
ومما ساعد على خلق هذه الأخطاء تلك الاجتماعات التي تمت بين روزفلت وتشرشل من جانب والملك عبد العزيز والملك فاروق والرئيس شكري القوتلي في فبراير (شباط) 1945 من جانب أخر، ونفخت فيها أجهزة الإعلام العربية وجعلت منها صخرة الخلاص لإنقاذ الشعب الفلسطيني من الخطر الصهيوني وللوصول إلى حل سلمي عادل يعيد إلى الديار المقدسة الأمن والسلام.. وكان الهدف الأكبر لهذه اللقاءات، والبيانات التي صدرت عنها هو ربط الأمة العربية بالمعسكر الغربي.(1/216)
ولا شك أن هذه الجهود العربية المتكاملة، في إطار الجامعة العربية، وخارجها كانت لها فوائد جلى في التعريف بعدالة القضية الفلسطينية، وكسبت أنصارا ذوي شأن في الرأي العام الدولي.
غير أن هذه الجهود كانت تعيش في العراء، وتسبح في فراغ.. ذلك أن الميدان الأول للمعركة في فلسطين،وأن المصير في النهاية سيقرر في النهاية على أرض فلسطين.. وأن القوة وحدها هي التي ستقرر المصير.
وهذه الحقيقة الأزلية التاريخية، كانت تدركها الصهيونية إدراكا كاملا، فتضع الخطط على أساسها، على حين أن الجامعة العربية، قد تركت الميدان الأول "فارغا" وعبأت الميدان السياسي تعبئة كاملة.. قدر حظها لدى الرأي العام المشبع بالحركة الصهيونية.
وكانت الأحداث التي تجري على أرض فلسطين كافية لأن تجعل الجامعة العربية أكثر إدراكا لمسئولياتها فتضع كل ثقلها على أرض فلسطين ومع شعب فلسطين، تسلحه وتدربه وتدعمه في النضال، تقابل اليهود بسلاحهم، إرهابا بإرهاب.. وكان مقدرا للأيام أن تثبت فيما بعد أن الدولة اليهودية قامت بالإرهاب، وإن إجلاء الشعب الفلسطيني عن وطنه كان بالإرهاب.
وحين نعود بالذاكرة إلى تلك الحقبة، نجد أنه في الوقت الذي كانت الجامعة العربية غارقة في بحر من المذكرات السياسية، كانت الطائفة اليهودية في فلسطين تخوض معركة "الإرهاب" بالحديد والنار.. وبالحرب الفنية.. أكثر الضحايا بأيسر الوسائل.
من ذلك أنه في اليوم الثاني والعشرين من شهر يوليو (تموز) 1946، تقدم اثنان – اثنان فقط، من اليهود، ومعهما وعاءان من الحليب، إلى فندق(1/217)
الملك داود في القدس، تركا الوعاءين في بدروم الفندق.. وما هي إلا دقائق حتى اهتزت مدينة القدس بأسوارها، وكأنما الصواعق قد انطلقت من جوف الأرض، فتهاوى الفندق ركاما على الأرض وتفتت أحجاره مع الأشلاء والدماء، وزاد عدد الضحايا على مئة وثلاثين من كبار موظفي الحكومة من الإنجليز والعرب واليهود.. وعاشت القدس ليلة رهيبة تحت سحابة من غبار الموت.
ولقد كان الفندق يومئذ المقر الرئيسي لحكومة فلسطين، ولقيادة الجيش البريطاني وقد أفصحت البلاغات الرسمية التي صدرت عن العصابات اليهودية "تبريرا" لهذه الجريمة النكراء "إن السلام لن يستقر على أرض فلسطين إلا بإقامة الدولة اليهودية رغما عن بريطانيا وأصدقائها الحكام العرب".
ولسنا بصدد سرد حوادث الإرهاب اليهودية التي كانت تتكرر يوميا فإن القائمة طويلة، وتشمل أصنافا وفنونا من الإرهاب، مثل خطف الضباط البريطانيين وقتلهم، وفي كثير من الأحيان "جلدهم" وهذه العقوبة هي قمة الإهانة في التقاليد العسكرية..
وبالإضافة إلى حوادث الإرهاب اليومية، فقد تصاعدت كذلك موجات الهجرة اليهودية غير الشرعية، ولا يخلو يوم من باخرة قادمة من موانئ أوروبا الشرقية وهي تحمل العديد من المهاجرين اليهود، حتى أصبح البحر الأبيض المتوسط بحيرة يهودية، تعج بالهجرة اليهودية.
ولم تخل الأرض العربية في فلسطين من هذا "الإرهاب" ففي صيف ذلك العام 1946 واجتماعات الجامعة العربية متوالية، قامت "حملة يهودية" تقودها مائتا سيارة كبيرة تحمل الخيام والمعدات والعمال والأسلاك الشائكة(1/218)
إلى صحراء النقب، وبنى اليهود الأساس لعشر مستعمرات يهودية فيها، تحديا للقيود التي كانت موضوعة على استيطان اليهود لتلك الأراضي وجوابا مباشرا على قرارات الجامعة العربية التي كانت تدرس إنشاء شركة لإنقاذ الأراضي في فلسطين، ووافقت الجامعة على منحها سلفة بموجب القرار الآتي:
"يوافق المجلس على أن تعطى شركة إنقاذ أراضي فلسطين سلفة في حدود مبلغ ألف جنيه تصرف باسم حافظ عفيفي باشا" – القرار 141 – الدورة الخامسة – الجلسة 16 – تاريخ 12-12-1946 (1) ، ولا يتسع هذا الفصل لنضع ألف علامة تعجب لمواجهة هذه السلفة السخية بألف جنيه.
ولم تكن الجامعة العربية جاهلة لما يجري على أرض فلسطين، فقد كانت وكالات الأنباء مثقلة بحوادث الإرهاب اليهودي الذي يقع يوما بعد يوم، وكانت الهيئات الوطنية في فلسطين تمطر الجامعة بآلاف البرقيات تستنجد وتستغيث طلبا للسلاح والتدريب والمال.. وفوق هذا وذاك فقد أصدرت حكومة فلسطين كتابا أبيض (23 يوليو (تموز) 1946) أثبتت فيه أن الوكالة اليهودية "هي التي تقود الأعمال الإرهابية في فلسطين، وتتحمل مسئوليتها".. وهكذا من غير مبالاة بالعواقب..
وقد اعتمد الكتاب الأبيض في إدانته للوكالة اليهودية على برقيات سرية متبادلة بين لندن والقدس حول حوادث الإرهاب.. ومن إذاعات صوت إسرائيل التي كانت تبث من داخل فلسطين ومن النشرات الصادرة عن جماعة البالماخ واشترن والهاجاناه وحركة المقاومة اليهودية، وكلها تثبت بما لا يدع مجالا للشك، أن ما كان يجري في فلسطين هو معركة تقودها الوكالة
__________
(1) مجموعة قرارات مجلس جامعة الدول العربية، الجزء الأول ، ص 33.(1/219)
اليهودية وتستهدف هذه الحركة "تفريغ" فلسطين من أهلها، وتوطين المهاجرين مكانهم، وإقامة الدولة اليهودية.
وقد انعقد مجلس الجامعة في دورته الخامسة لمعالجة الموقف الذي راح يتدهور في فلسطين من سيء إلى أسوأ.. وتوالت الاجتماعات قرابة شهر ونصف 30 أكتوبر (تشرين الأول) - 12 ديسمبر (كانون الأول) 1946، فماذا كان من أمر هذه الاجتماعات وقراراتها.
استعرض المجلس خطورة الموقف الذي بلغته القضية الفلسطينية سواء بالنسبة إلى الإرهاب اليهودي أو بالنسبة للاتجاه الدولي نحو التقسيم كحل للقضية الفلسطينية، وارتفعت أصوات بعض الوفود مطالبة "بتنفيذ قرارات بلودان السرية" وأنه آن الأوان أن تأخذ بها الدول العربية بعد أن وضح بكل جلاء أن أمريكا وبريطانيا ماضيتان في مساندتهما للحركة الصهيونية وإهمال المطالب العربية.
ورست مداولات المجلس على أربعة قرارات، تواجه بها الثورة اليهودية، بما لا يخرج عن نطاق الاحتجاج، فكانت القرارات كما يلي:
أولا: الاحتجاج على الحكومة الإنجليزية على سماحها باستمرار الهجرة "غير المشروعة"مما يعرقل كل تسوية مقبلة ويؤدي إلى اضطراب السلم في الشرق الأوسط.
ثانيا: الاحتجاج على حكومة الولايات المتحدة لتدخلها في قضية فلسطين تدخلا ضارا في حقوق العرب ومهددا لكيانهم ومثيرا لقلقهم، ومخلا بالصداقة القائمة بينها وبين الدول العربية.(1/220)
ثالثا: احتجاج إلى الحكومة الإنجليزية لتساهلها مع الإرهاب اليهودي والمطالبة بوقفه، وإمداد عرب فلسطين بوسائل الدفاع عن أنفسهم (!) أو السماح للحكومات العربية بإرسال حرس مسلح يحميهم (!).
رابعا: الاحتجاج على أي مشروع يرمي إلى تقسيم فلسطين أو إحداث أي تعديل في كيانها..
والقرار "العملي" الوحيد الذي أصدره مجلس الجامعة فقد نص على "توصية الحكومات العربية بالإسراع في مساندة عرب فلسطين مما خصص في موازنتها وصرف ما يتجمع لدى الأمانة العامة من المال الخاص بقضية فلسطين لإنفاقه على الوجوه المعينة لها.. تنفيذا لقرارات مؤتمر بلودان".
ومعنى هذا القرار أنه مرت ستة أشهر على قرارات بلودان من غير تنفيذ، وأن عام 1946 قد مر بكامله من غير تدابير عملية حقيقية في الجبهة الداخلية في فلسطين.. وكان مقدرا لذلك العام الفاصل أن "يُلغى" من عمر القضية الفلسطينية.. وأعلن مجلس الجامعة في نهاية اجتماعاته بيانا جاء فيه أن مجلس الجامعة" يؤكد من جديد عزم دول الجامعة العربية على مواصلة الدفاع عن حقوق عرب فلسطين حتى يرجع الحق إلى نصابه، وأن مجلس الجامعة لن يلين ولن ينثني عن عزمه على رفض أي مشروع من شأنه أن يؤدي إلى تقسيم فلسطين.. كما أنه لن يدخر وسعا في القيام بكل ما تتطلبه الظروف والأحوال للاحتفاظ بصبغة فلسطين العربية وباعتبارها جزءا حيويا من الوطن العربي الأكبر".
ولم يكترث الرأي العام العربي لهذا البيان، فإن حقائق الأمور التي كانت تجري في أروقة الجامعة العربية ووراء كواليسها، كانت معروفة تتناقلها الألسنة وتمتلئ بها الصحف العربية.. وكان الأستاذ إبراهيم عبد القادر(1/221)
المازني أحد أعلام الأدب العربي في القرن الحديث قد كبت مقالا طريفا ومثيرا في مضمونه جعل عنوانه "صهينة" الجامعة، حمل فيه على سياسة الجامعة وقراراتها، وظل مدة طويلة حديث المجالس السياسية، أيام كان الوطن العربي حافلا بهذه المجالس.. وكان أبلغ ما فيه عنوانه "صهينة" ولا أعرف أفصح منها في لغتنا الفصحى.
والواقع أن غضبة الرأي العام العربي على سياسة الجامعة، يومئذ، تجاوبت أصداؤها في مناقشات الوفود العربية في الاجتماعات السرية فأعلن أكثر من وفد عربي واحد أن "قرارات بلودان السرية" قد أصبحت حبرا على ورق ولم ينفذ منها شيء، وارتفعت حرارة الجو في داخل الاجتماعات واشتبك الأعضاء فيما بينهم بالكلمات لا بالأيدي.
وانبرى الأمين العام للجامعة عزام باشا يدافع عن جهود الجامعة وسياستها، مؤكدا أنه لولا جهود الجامعة "في السنتين الأخيرتين لكانت الدولة اليهودية قائمة اليوم في فلسطين برضاء الأمريكيين وتشجيع الإنجليز فالذي حال دون سقوط فلسطين في هذه الهاوية هي دول الجامعة وإذا كان اليهود قد فشلوا إلى اليوم في تحقيق أغراضهم فالفضل في ذلك يعود للجامعة، ويجب أن تشكر لأنها الوحيدة التي أنقذت فلسطين حتى الآن من تكوين الدولة اليهودية فيها وأنا أتحدى من يقول غير ذلك"، وهذه إحدى كبوات عزام باشا غفر الله له، ولكل جواد كبوة.
وتصدى السيد جميل مردم رئيس الوفد السوري، للأمين العام، فرد عليه بقوله: "عندما يقال هنا إن التقارير حبر على ورق فهذه حقيقة، هذا قول يقال ويثبت ولا يرجع عنه، والذي نقوله هو أن استمرارنا على هذا الأسلوب سيؤدي بنا إلى الضعف.. ولقد اتخذت الجامعة قرارات وليس لها أداة تنفيذ(1/222)
بل أن الأداة هي الحكومات والتقصير لا ينسب إلى الجامعة العربية وإنما إلى الحكومات.. وأن لدينا قرارات لا أقول إنها سرية لأنها أصبحت واضحة ومعروفة واتفقنا عليها جميعا فإذا طبقت بالأسلوب الحسن الصحيح يصبح للجامعة القيمة الصحيحة"..
وانبرى حافظ رمضان باشا (وفد مصر) للرد على الأمين العام فقال: "إننا خطونا خطوات طيبة في أمر المذكرات وهو عمل سياسي كبير للجامعة.. لكني أشعر أن هذا غير كاف لأن اليهود كونوا جمعيات إرهاب وتهريب وتسليح حتى أمكنهم أن يرهبوا انجلترا، وأؤكد لحضراتكم أنه لو كنا منذ رجعنا من بلودان سرنا في طريق غير الذي نسير فيه الآن واتبعنا بعض الأساليب التي يتبعها اليهود لكنا وصلنا إلى نتيجة".
والواقع أن حافظ رمضان باشا كان يتحدث عن الإرهاب اليهودي في مجلس الجامعة. ووكالات الأنباء تنقل أنباء العمليات العسكرية اليهودية في فترة انعقاد الدورة.. ففي 21 أكتوبر من عام 1946 اهتزت العاصمة الإيطالية على أصوات انفجار مدو تجاوبت أصداؤه في هضاب روما، فقد تهاوت السفارة البريطانية في دقائق معدودات وأصبحت ركاما تلتهما النيران، وأعلنت عصابة ارجون على لسان زعيمها بيجن مسئوليتها عن الحادث، وقال البلاغ الرسمي الصادر عن العصابة "إن السفارة البريطانية في روما قد أصبحت وكرا للتجسس على الهجرة اليهودية من أوروبا ومركزا لمناهضة الحركة الصهيونية".. وقد تبعت هذا البلاغ قنابل منشورات في روما والبندقية فيها تهديد للحكومة الإيطالية إذا لم تطهر بلادها من أعداء الصهيونية.
أما في فلسطين نفسها فقد شهد الشهر الذي انعقد فيه مجلس الجامعة تصعيدا لأعمال الإرهاب اليهودي.. ففي 9 نوفمبر (تشرين الثاني) 1964(1/223)
هاجمت العصابات الصهيونية بعض معسكرات الجيش البريطاني وقتلت عددا من الضباط والجنود البريطانيين وأحرقت كثيرا من المعدات العسكرية، وفي اليوم التالي قام اليهود بالهجوم على محطة رأس العين في وسط فلسطين، ودمرت بكاملها، وقتل من فيها من الضباط والجنود العرب والإنجليز.. وفي الأيام اللاحقة تكاثرت الهجمات اليهودية على الطرق العامة والسكك الحديدية حتى إن المواصلات الحديدية في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) 1946 قد توقفت بصورة كلية في جميع أرجاء فلسطين.. وانتقل الإرهاب إلى مدينة القدس فقام اليهود بهجمات متوالية على المنشآت الحكومية كان من جملتها دائرة ضريبة الدخل، فدمرت بكاملها وأتت النار على جميع سجلاتها.
وعلى الصعيد السياسي فقد انعقد المؤتمر الصهيوني العالمي في بال في سويسرا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 1946 وكان ذلك في أواخر جلسات مجلس الجامعة، ونقلت وكالات الأنباء مقتبسات مستفيضة عن خطب زعماء الصهيونية ينددون ببريطانيا ويطالبون بأن تفتح أبواب فلسطين على مصراعيها للمهاجرين اليهود، وأن تصبح أمور الهجرة من اختصاص الوكالة اليهودية وأن تمارس السلطة الكاملة بشأن جميع الأمور الإدارية والتشريعية التي تتعلق بالاستيطان اليهودي حيثما كان في أرجاء فلسطين، وقد تناقلت وكالات الأنباء خطب زعماء الصهيونية ومقررات المؤتمر، وكان المواطن العربي يرى الفرق شاسعا بين قرارات الجامعة العربية وقرارات المؤتمر الصهيوني.
وكان زعماء اليهود في فلسطين يتصدون للحاكم البريطاني في فلسطين ولا يتعاونون معه، وقد ناشدت السلطات البريطانية الوكالة اليهودية أن تعمل على مكافحة الإرهاب اليهودي، واستنكاره، ودعوة الجمهور(1/224)
اليهودي لمعاونة السلطات البريطانية على مطاردة "الإرهابيين" ولكن الوكالة اليهودية ومعها الجمهور اليهودي لم يأبهوا لمناشدة السلطة البريطانية، وقد أعلنت السيدة جولدا ماير، التي كانت يومئذ مديرة الشئون السياسية في الوكالة اليهودية "أن الشعب اليهودي غير مستعد أن يؤدي دور الشرطة قبل أن يصبح دولة ذات سيادة كاملة، وأنه لا يمكن لستمائة ألف يهودي أن يصبحوا جواسيس، يراقب كل منهم جاره أو صديقه فيما يفعل".
وأطل عام 1947، ليحمل في شهر فبراير (شباط) ومارس (آذار) أخباراً رهيبة عن استمرار الإرهاب اليهودي في كافة أرجاء فلسطين فقد قامت العصابات اليهودية بمجموعات متلاحقة من الهجمات بالقنابل والأسلحة الأوتوماتيكية على المنشآت العامة، ومنها تدمير نادي الضباط البريطاني قتل فيه العشرات من البريطانيين والمدنين والعسكريين. وقد ناشدت الحكومة البريطانية الوكالة اليهودية مرة أخرى للمساعدة في وقف أعمال الإرهاب فكان الجواب على ذلك أن قامت المنظمات الإرهابية بثمان وعشرين عملية هجومية قتل أثناءها العديد من المدنيين والعسكريين.. وأضافت الهاجاناه إلى ذلك أن قامت في شهر مارس (آذار) ثلاث مستعمرات في صحراء النقب تحديا للعرب والإنجليز على السواء.. فلم يكن اليهود يملكون في صحراء النقب إلا نصف واحد في المائة من أراضي النقب، وتلك هي أرقام الأمم المتحدة.. واتسعت دائرة الإرهاب اليهودي، إلى أوروبا وانجلترا نفسها، فقد بعثت العصابات اليهودية، برسائل بريدية تحمل مواد متفجرة إلى كبار رجال الدولة في لندن تنذرهم بالاغتيال إذا أصرت السياسة البريطانية على البقاء في فلسطين.. وتعالت أصوات الصحافة البريطانية بأن تتخلى بريطانيا عن(1/225)
الانتداب في فلسطين، وأن تغسل يديها من القضية الفلسطينية وأن تحيل المشكلة برمتها إلى الأمم المتحدة.
وكان المستر بيفن وزير الخارجية البريطانية قد خطب في شهر فبراير (شباط) 1947 في مجلس العموم خطابا مسهبا فيه القضية الفلسطينية منذ نشوئها في أوائل العشرينات. واعترف "بعد ثلاثين عاما" أن وعد بلفور وصك الانتداب يحتويان التزامات متناقضة إزاء اليهود والعرب، وأن بريطانيا لا تستطيع أن تفرض تسوية بالقوة، وأن تدخل أمريكا وبالذات الرئيس ترومان، في شئون الهجرة اليهودية، زاد المشكلة تعقيدا" ولذلك كله.. فإن بريطانيا ستتخلى عن أعباء الانتداب، وستعرض القضية على الأمم المتحدة، وأنها ستنسحب نهائيا من فلسطين.
وكانت بريطانيا مكرهة على هذا العمل، فقد خرجت من الحرب العالمية الثانية مثخنة الجراح وهي عازمة على أن تخفف من أعبائها الإمبراطورية، تاركة لأمريكا لأن يكون لها الدور الأول في قيادة سفينة الدول الغربية.
وقد سارعت الجامعة العربية إلى عقد دورتها السابعة (17 – 29 مارس (آذار) 1947) في محاولة لاستباق الحوادث.. وإن كانت الحوادث قد سبقتها في فلسطين على صعيد الإرهاب اليهودي وعملياتها المتلاحقة التي بدأت منذ إنشاء الجامعة العربية.
ولكن الجامعة العربية راحت تسبح مرة أخرى في فلك العمل السياسي، فدارت مناقشات مطولة حول موضوع عرض القضية الفلسطينية على الأمم المتحدة، وهل تعرضها الجامعة بنفسها أو تترك الأمر لبريطانيا(1/226)
تعرضها، مع أن مؤتمر بلودان (يونيو (حزيران) 1946) كان قد قرر عرض القضية على الأمم المتحدة إذا فشلت المفاوضات مع بريطانيا.
وفي الوقت الذي كانت أعمال الإرهاب اليهودي تجتاح فلسطين بأكملها كان مجلس الجامعة يغوص في الأبحاث السياسية القانونية حول اختصاص الأمم المتحدة وماذا تستطيع أن تقرر بعد انتهاء الانتداب البريطاني.. وأصبحت محاضر الجامعة ولجنتها السياسية في تلك الدورة مملوءة بالمناقشات القانونية والسياسية كما لو كان القانون والسياسة هما اللذان سيقرران مصير الشعب الفلسطيني والمصير السياسي لفلسطين.
وانتهت مناقشات الجامعة العربية، إلى خمسة قرارات سياسية أولها: معارضة إنشاء لجنة من قبل الأمم المتحدة، فإن القضية قتلت بحثا وتحقيقا في عشرين لجنة تحقيق تألفت أثناء الانتداب البريطاني، وقررت ثانيا أن يكون عرض القضية الفلسطينية على أساس إنهاء الانتداب البريطاني وإعلان استقلال فلسطين وقيام حكومة ديمقراطية يتمتع فيها جميع المواطنين العرب واليهود بالحقوق الوطنية من غير تمييز.. وقررت ثالثا إنشاء لجنة لدراسة القضية الفلسطينية من جميع جوانبها لتمد الوفود العربية بالدراسات والمقترحات اللازمة، وقررت رابعا إرسال احتجاج شديد اللهجة إلى الحكومة البريطانية على تساهلها إزاء الهجرة اليهودية غير الشرعية، وقررت خامسا أن تمد الحكومات العربية الهيئة العربية العليا لفلسطين بالأموال اللازمة لتسيير نشاطها وأعمالها.
ومرة أخرى جنحت الجامعة العربية إلى الجهود السياسية، سواء بتقديم الاحتجاجات أو إعداد الدراسات، ولم تسلك سبيل الجد الحقيقي في إشعال النضال العربي الفلسطيني من داخل فلسطين وعلى أرض فلسطين،(1/227)
وتركت الميدان واسعا أمام المنظمات اليهودية تستمر في الإرهاب المسلح بكل أنواعه وألوانه، ولتمضي في تهجير ألوف اليهود في أوروبا الشرقية إلى شواطئ فلسطين ومعظمهم من الشباب القادرين على حمل السلاح.
والمتتبع لمحاضر اللجنة السياسية في تلك الدورة يرى أمامه خططاً مطولة، لا خططا مفصلة.. من ذلك أن الوفد العراقي قد دون في محاضر الجلسات بيانا ساخنا باسم الحكومة العراقية، أثار جدلا حارا بين الوفود العربية حول مضمونه ومآله، وانتهى الجدل بين الوفود بأن أعلن السيد رياض الصلح رئيس الوزراء اللبناني أن البيان العراقي هو تعبير حقيقي عن موقف الوفود العربية الأخرى.. وأقفل باب الجدل ولم يعرف لماذا سجل الوفد العراقي موقفه الساخن وكيف رضيت به الوفود العربية الأخرى على اعتبار أنه كلام في كلام.
ومن ذلك أيضا أن وفد الأردن سجل تحفظا يقول فيه: "مع عدم معارضة فكرة الدفاع عن قضية فلسطين أمام منظمة الأمم المتحدة طالما اختارت بريطانيا عرض القضية على تلك المنظمة ترغب حكومة المملكة الأردنية الهاشمية في تسجيل تحفظها بأنها تتحفظ بحرية العمل المستقل في سياستها نحو فلسطين بقصد صيانة عروبة هذا القطر المقدس والمحافظة على حقوقه المشروعة وتحقيق مطالبه القومية".
وقد وافقت الوفود العربية كذلك على هذا التحفظ، ولم يفهم مداه ومعناه يومئذ، وجاءت الأحداث التاريخية بعد عامين ليكون مفهوما ومعروفا في إطار ضم الضفة الغربية إلى المملكة الأردنية الهاشمية..
وفي أول شهر نيسان 1947 تقدمت بريطانيا إلى الأمم المتحدة بطلب لعقد جلسة خاصة للجمعية العامة للنظر في القضية الفلسطينية، وفي الثامن(1/228)
والعشرين من الشهر نفسه انعقدت الجمعية العامة في دورة خاصة وانكشف في هذه المناقشات الوجه الحقيقي للسياسة التي تتبعها كل من بريطانيا وأمريكا.. فقد اعترضتا منذ البداية على اقتراح الوفود العربية بإدراج موضوع "استقلال فلسطين وإقامة حكومة ديمقراطية" وكانت الهزيمة الأولى للجامعة العربية على "يد الدولتين الصديقتين الديمقراطيتين" أمريكا وبريطانيا.
ثم جاءت الهزيمة الثانية على يد أمريكا وبريطانيا كذلك فقد أصرتا على تأليف لجنة تحقيق خلافا لقرار الجامعة العربية وتألفت اللجنة الدولية من ممثلي إحدى عشرة دولة من أعضاء الأمم المتحدة، معظمهم من المعروفين بولائهم ومساندتهم للحركة الصهيونية.
ووصلت لجنة التحقيق الدولية إلى القدس في السابع عشر من شهر حزيران ووجدت الشعب الفلسطيني في إضراب شامل عن العمل في المدن والقرى احتجاجا على رفض الأمم المتحدة إدراج موضوع استقلال فلسطين على جدول الأعمال في الجلسة الخاصة للأمم المتحدة.
وقبل أن تصل اللجنة الدولية إلى فلسطين، بل وفي أثناء مناقشات الأمم المتحدة كانت وكالات الأنباء تنقل إلى الصحافة العالمية تفاصيل الإرهاب اليهودي، والهجرة غير المشروعة يوما بعد يوم، ففي السابع عشر من شهر مايو (أيار) 1947 وصلت إلى حيفا باخرة تحمل 1420 مهاجرا يهوديا إلى فلسطين بينهم نسبة كبيرة من الشباب القادرين على حمل السلاح.. وفي اليوم الحادي والعشرين قامت العصابات الصهيونية بالهجوم على قرية فجة العربية، فهدمت العديد من منازل القرويين وقتلت الشعرات من الأهالي الآمنين وتناول العدوان اليهودي عددا من القرى العربية المجاورة.. وفي الحادي والثلاثين من ذلك الشهر وصل إلى فلسطين تسعمائة مهاجر من(1/229)
اليهود السفارديم القادمين من الشمال الإفريقي.. ذلك كله وغيره مما لا يتسع المجال لسرد تفاصيله كان يقصد منه أن تعلم الأمم المتحدة ولجنتها الدولية أن الطائفة اليهودية في فلسطين لن تتراجع عن أعمالها الإرهابية حتى تحقق أهدافها المعلنة في إقامة الدولة اليهودية.
وكانت قمة الأعمال اليهودية الإرهابية، الهجوم على السجن المركزي في عكا مما أدى إلى قتل عدد من الحرس الفلسطيني والبريطاني وانهيار بعض جدران السجن وفرار 251 سجينا بينهم عدد كبير من الإرهابيين اليهود.
ولم يقتصر النشاط الإرهابي على فلسطين، بل تعداه إلى الخارج فقد قامت العصابات اليهودية بتدمير قطار بريطاني عسكري كان يحمل مهمات وذخائر حربية في جبال النمسا!!
وفي زيارة اللجنة الدولية لفلسطين وضحت أمامها صورتان متناقضتان الشعب العربي الأعزل والطائفة اليهودية المسلحة، تخوض معركة إرهابية كبرى، تقتل وتدمر، وتحرق الأخضر قبل اليابس.. وقد قام اثنان من أعضاء اللجنة بزيارة للقيادة العسكرية لجيش الهاجاناه.. وهو الجيش الذي كان يعتبر قوة عسكرية غير قانونية، في نظر حكومة الانتداب وفي العرف الدولي.
وقد بلغ الاستهتار اليهودي بالرأي العام الدولي، أنه أثناء زيارة اللجنة الدولية لمدينة حيفا، قامت العصابات اليهودية، بوضع كمية من المتفجرات في إحدى السيارات، فأحدث انفجارها دويا هائلا في المدينة وكان ضحاياه العشرات من العرب، من النساء والشيوخ والأطفال، وغادرت اللجنة الدولية البلاد ودوي القنابل يصم آذانها.(1/230)
وناشدت الحكومة البريطانية الوكالة اليهودية أن تعمل على تهدئة الحالة والتوقف عن أعمال الإرهاب ما دامت الأمم المتحدة تنظر في القضية الفلسطينية، ولكن الوكالة اليهودية كعادتها لم تبال "بالمناشدة" الصادرة من "بريطانيا العظمى" الدولة المسكينة الحزينة وعقب هذه المناشدة فقد قامت العصابات اليهودية بما يزيد على 170 عملية إرهابية في أماكن متفرقة من فلسطين.
وكان من أشد هذه الأعمال الإرهابية استخفافا بالحكومة البريطانية أن أقدمت عصابة الآرجون على خطف ضابطين بريطانيين كانا يستحمان في البحر عند شاطئ ناتانيا، وأعلن زعيم العصابة مناحم بيجن أنهما سيعدمان شنقا. وهذا ما تم فعلا، فقد علقا على الأشجار، وعلقت على صدريهما يافطة تقول "هذا هو حكم الآرجون على القوات العسكرية البريطانية التي تناهض حركة التحرير اليهودية".
ومع لهيب الصيف في فلسطين في ذلك العام (1947) اشتد تصاعد الإرهاب اليهودي يضرب العرب مرة والإنجليز أخرى، ففي الخامس عشر من شهر آب (أغسطس) هاجمت العصابات اليهودية بعض القرى العربية المعزولة فقتلوا في إحداها 21 عربيا وهدموا منازلهم وجرحوا العشرات من الأهالي العزل.
أما بالنسبة إلى الهجرة اليهودية غير المشروعة، فقبل شهر واحد من ذلك التاريخ، وبالتحديد في 17 يوليو (تموز) وصلت الباخرة اكسورس إلى شواطئ فلسطين وعليها 4554 مهاجرا يهوديا، وقد أحاطتها الدعاية الصهيونية بحملة إعلامية واسعة، وأرسلت الباخرة وهي تقترب من المياه الإقليمية الفلسطينية إشارة لاسلكية تقول فيها "إن باخرة مهاجرين واحدة هي(1/231)
أجدى من عشرة ملايين كلمة تقال إلى لجنة التحقيق لإقناعها" وقد انبرى أحد أعضاء اللجنة الموالين للصهيونية فأعلن وهو يتحدث عن الإرهاب اليهودي والهجرة اليهودية "أن أمامنا أحسن شهادة عن الوضع في فلسطين".
وغادرت لجنة التحقيق فلسطين لتستمع إلى القضية العربية خارج فلسطين، بعد أن استمعت إلى القضية اليهودية من فوهات المدافع وتحت موجات عارمة من أزيز الرصاص وانفجارات القنابل.. وكان لقاء اللجنة مع الوفود العربية في المصيف اللبناني الجميل، الهادئ الوديع في فندق صوفر الكبير، فاستمعت اللجنة إلى بيان شامل باسم الوفود العربية ألقاه وزير الخارجية اللبنانية ثم تبعه باقي الوفود العربية ببيانات إضافية.
والحق أن البيانات العربية كانت غاية في الإحكام والشمول، تضمنت دراسة تاريخية وسياسية وقانونية للقضية الفلسطينية منذ نشوئها، وفيها كل أسانيد الإقناع.. لولا أنها معزولة تماما عن الواقع العسكري في فلسطين.. ذلك الواقع الذي شاهدته لجنة التحقيق في فلسطين قبل مجيئها إلى مصيف صوفر الرائع.
وقد فات الجامعة العربية ووزراءها وهم يدلون ببياناتهم المستفيضة أنه لا جدوى من كل ذلك، فإن العالم الدولي لا يعترف إلا بالقوة المسلحة ولا يلقي بالا إلى المطالب الوطنية المجردة مهما كانت رائعة ومجيدة.. وخاصة أن تلك البيانات، شأن البيانات العربية في تلك الحقبة.. كانت تركز على الصداقة التقليدية بين "الأمة العربية والدولتين الديمقراطيتين العظيمتين أمريكا وبريطانيا" وتلفت النظر إلى ما عرف عن العرب من "الوفاء والعرفان بالجميل والمحافظة على العهد".. وغير ذلك من العبارات التي ليس لها ثمن، ولا تسوى شيئا في السوق الدولية.(1/232)
ولو أن كل كلمة في هذه البيانات العظيمة كان يقابلها صندوق واحد من الذخيرة يرسل إلى الشعب الفلسطيني لمقابلة الإرهاب بالإرهاب، ورد الاعتداء بمثله، لكانت القضية العربية أولى بالاحترام والاعتبار والتقدير.
ولكن الإرهاب اليهودي هو الذي كان يشغل العالم، ولا شيء غيره، ولا بد أن الجامعة العربية قد اطلعت على مذكرة أرسلتها بريطانيا إلى الأمم المتحدة في ذلك الشهر (يوليو) إلى الأمم المتحدة تقول فيها "لقد ادعت الطائفة اليهودية لنفسها منذ بداية 1945 الحق الصريح في ارتكاب الإرهاب السياسي تدعمها فيه حملات منظمة من القتل والخروج على القوانين وأعمال التدمير، وهي تزعم في ادعائها هذا أنه مهما كانت الأهداف التي تحققها هذه الأعمال فمن الواجب أن لا يسمح بالوقوف في وجه الدولة اليهودية والهجرة اليهودية إلى فلسطين".. وقد أثبتت الأشهر الأربعة التالية لهذه المذكرة أن هذه السياسة الإرهابية اليهودية هي التي انتصرت في الأمم المتحدة، وبالتحديد في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1947.
وانصرفت لجنة التحقيق إلى جنيف لتضع تقريرها إلى الأمم المتحدة، وظلت أخبار الإرهاب اليهودي تتابعها، وبعد مناقشات حادة في داخل اللجنة بين الأكثرية الصهيونية والأقلية المحايدة، وضعت اللجنة تقريرها فجاء في مجموعه مؤيدا للمطالب الصهيونية فأوصى بالتقسيم، وإنشاء دولة يهودية وأخرى عربية، مع إقامة نظام دولي لمنظمة القدس.
وهاج الرأي العام العربي في الوطن العربي بأسره، فاندلعت المظاهرات في الحواضر العربية، وامتلأت الصحف العربية بالبرقيات والاحتجاجات وكلها تلح على الجامعة العربية أن تنفذ القرارات السرية في(1/233)
بلودان، وأن تعمل على إعداد الشعب الفلسطيني لخوض المعركة، معركة البقاء أو الجلاء.
وتداعت اللجنة السياسية للجامعة العربية، إلى اجتماع عاجل في مصيف صوفر في لبنان في منتصف شهر أيلول (ديسمبر) 1947 وحضر الاجتماع رؤساء الوزارات العربية في جو حماسي بالغ، وألقى رؤساء الوفود خطبا نارية نشرت في الصحافة العربية وقابلتها الجماهير العربية بمزيد المظاهرات والاحتجاجات.
وكان لهذا الاجتماع أهمية خاصة لأنه انعقد قبل بضعة أيام من انعقاد الأمم المتحدة في دورتها العادية، حيث سينظر في تقرير اللجنة الدولية، وتقرر الأمم المتحدة مستقبل فلسطين السياسي إلى زمن بعيد..
وقد انتهت اللجنة السياسية إلى قرارات، ألخصها عن أوراقي فيما يلي:
أولا: إبلاغ الحكومة البريطانية والأمريكية بأنهما مسئولتان عن نتائج الوضع الحرج القائم في فلسطين الآن، وما يتمخض عنه من مخاطر تهدد الأمن والسلم في هذه المنطقة من العالم.
ثانيا: الذهاب إلى منظمة الأمم المتحدة لإعلان استقلال فلسطين كدولة عربية، وفي حالة الفشل فإن دول الجامعة تجد نفسها مضطرة إلى تنفيذ القرارات السرية التي اتخذتها في بلودان وإعادة النظر في علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع الحكومتين الإنجليزية والأمريكية.
ثالثا: ترى الجامعة العربية أن تنفيذ مقترحات اللجنة الدولية يؤدي إلى خطر محقق يهدد أمن فلسطين والسلام في البلاد العربية جمعاء، ولذلك فإن الجامعة قد وطدت العزم أن تقاوم بجميع الوسائل الفعالة لتنفيذ هذه المقترحات.(1/234)
رابعا: لقد سبق للجامعة العربية أن حذرت لجنة التحقيق من تعبئة التوصية بإقامة دولة يهودية في فلسطين، وترى الجامعة أن ترسل مذكرات إلى أمريكا وبريطانيا تعلمهما بأن كل قرار يتخذ في صدد قضية فلسطين دون أن ينص على قيام دولة عربية مستقلة فيها يهدد بإثارة اضطرابات خطيرة في الشرق الأوسط وأن الدول العربية عازمة على تأييد عرب فلسطين في كل ما يقومون به عندئذ من أعمال في سبيل الدفاع عن عروبة وطنهم وحريتهم واستقلالهم.
خامسا: توصي الجامعة الحكومات العربية لتقديم أقصى ما يمكن من معونة عاجلة لأهل فلسطين من مال وسلاح ورجال، وتشكيل لجنة فنية للتعرف على حاجات فلسطين ووسائل دفاعها وتنسيق المعونة المادية التي ينبغي على الحكومات العربية أن تدفعها.
وقدتم تأليف اللجنة الفنية العسكرية من مندوبي الحكومات العربية، برئاسة اللواء إسماعيل صفوت باشا، وهو من القادة العراقيين الحاسمين الصارمين لولا أنه يعمل تحت إمرة الجامعة.
وقد كانت هذه القرارات دون مستوى الأحداث، ووراء الزمن بكثير.. فإن معركة الدولة اليهودية التي تخوضها الصهيونية العالمية مسنودة بأمريكا وبريطانيا وفرنسا لا تنتظر الاستعدادات العربية أن تتكامل، ولا تقرير اللجنة الفنية أن يوضع، ويقدم إلى مجلس الجامعة لدراسته والنظر فيه.. وربما كانت هذه القرارات صالحة قبل عامين من ذلك التاريخ منذ أن نزل الإرهاب اليهودي إلى ساحة المعركة.. هذا إذا أحسنا الظن بأن قرارات الجامعة العربية ستأخذ طريقها إلى الميدان، وتترجم على أرض فلسطين بالتصدي للإرهاب اليهودي بالإرهاب..(1/235)
وانعقدت الأمم المتحدة في دورتها المعتادة في شهر سبتمبر، حسب زمنها المقرر،وكان أبرز ما تضمنه جدول الأعمال، تقرير اللجنة الدولي الذي أوصى بإقامة دولة يهودية في فلسطين وتعاقب عدد من مندوبي الدول الأعضاء في الكلام مؤيدين تقرير اللجنة وإصدار قرار بالموافقة على إقامة دولة يهودية في فلسطين.
واستمعت الوفود العربية إلى مندوب الولايات المتحدة، وهو يعلن موافقة أمريكا على تقرير اللجنة واقترح إنشاء قوة دولية للإشراف على الأمن أثناء فترة الانتقال.. وحذر الأمم المتحدة "بأن المشكلة لم تعد تنتظر طويلا، وأن الساعة قد أزفت لإصدار القرار.. وإذا كان هنالك أي تردد فإن المسألة ستتدهور أكثر فأكثر في خلال عام واحد..".
وكان من الغرائب الدولية، التي لم يكن لها سابقة، ولا جاءت فيما بعد لها لاحقة، أن الأمم المتحدة قد سمحت للدكتور وايزمن أن يتكلم بصفته الشخصية.. فهو في ذلك الوقت لم يكن عضوا في الوكالة اليهودية ولم تكن له أية صفة رسمية.. وناشد الأمم المتحدة أن تعمل على إقامة دولة يهودية.. وكان جو الأمم المتحدة مشحونا بالإرهاب الأمريكي والإرهاب الصهيوني، السياسي والاقتصادي.
وقد انتقل هذا الجو الساخن من نيويورك، عبر البحار والجبال الأنهار، إلى الوطن العربي، فانعقدت الجامعة العربية في مصيف عالية لتضع اللمسات الأخيرة على الخطة العربية التي يجب إتباعها في الأمم المتحدة لمناهضة التقسيم، والعمل على إقامة الدولة العربية الديمقراطية في فلسطين.
وبدأ الاجتماع في السابع من شهر أكتوبر (تشرين الأول) 1947 وامتد إلى الخامس عشر، وسط جو مفعم بالحماسة والهياج، ولم تكن(1/236)
القرارات التي اتخذتها في عالية بعيدة عن القرارات التي اتخذتها في صوفر، سوى أن الجامعة في عالية قد قررت أن تبقى الدورة مفتوحة انتظارا للطوارئ.. مع أن القضية العربية كانت تغوص يومئذ في وحل الطوارئ.. بعد أن أخذت الولايات المتحدة زمام المبادرة في الأمم المتحدة لفرض التقسيم في فلسطين، رضي العرب، أم أبوا..
وفي الجلسة الأخيرة للاجتماعات حين كانت الوفود العربية قد حزمت حقائبها ولفلفت ملفاتها، استمعت الجامعة العربية إلى تقرير اللجنة العسكرية الفنية التي ألفتها في اجتماعات صوفر.. وقد تضمن التقرير تحليلا عسكريا في فلسطين، وقد تضمن هذا التقرير ملخصا عن أوراقي ما يلي:
أولا: إن للصهيونيين في فلسطين منظمات وتشكيلات عسكرية وسياسية وإدارية على درجة من التنظيم مما ييسر لها أن تنقلب فورا إلى حكومة صهيونية، وأن للصهيونية قوة من الرجال والسلاح والاحتياط وما تتطلبه من وراء البحار، وليس لعرب فلسطين في الوقت الحاضر من القوة ما يقاس مع القوة الصهيونية، ويوجد في المناطق التي تقطنها أكثرية يهودية ما لا يقل عن 350 ألف عربي وهؤلاء مهددون بالقتل فيما إذا قام الصهيونيون بحركات عسكرية ضد العرب.
ثانيا: إن الموقف السياسي الأخير وما أعلنته الحكومة البريطانية عن عزمها على الانسحاب من فلسطين، ينذر بوقوع أحداث خطيرة جدا في فلسطين إذا لم تبادر الدول العربية وتشرع في حشد أقصى ما يمكن من قوة وجهد لإحباط أطماع الصهيونيين.(1/237)
ثالثا: تقترح اللجنة العسكرية المبادرة حالا بدعوة المتطوعين وتسليحهم وتجهيزهم وتدريبهم سواء بواسطة الدوائر الحكومية أو الهيئات أو المنظمات الشعبية.
رابعا: توصي اللجنة العسكرية بأن تشرع الدول العربية بحشد قواتها العسكرية في مناطق قريبة من الحدود الفلسطينية على أن تؤلف قيادة خاصة لكل من هذه القوات.
خامسا: ترى اللجنة العسكرية أن يتم فورا تأليف قيادة عربية عامة في أسرع وقت ممكن على أن ترتبط بها جميع القيادات الخاصة وتخضع لأوامرها جميع القوات التي يتم حشدها بالقرب من فلسطين أو في فلسطين نفسها، وتشمل ذلك القوات النظامية وغيرها.
سادسا: تزويد عرب فلسطين بكميات كافية من الأسلحة، (فصلت أنواعها وأعدادها) مع الأموال اللازمة.
سابعا: حشد الطائرات العربية المقاتلة والقاصفة في المطارات العربية من الساحل الشرقي للبحر المتوسط والحدود الأخرى لفلسطين.
ثامنا: إن مقاومة اليهود في فلسطين والتغلب عليهم لا بد من مجابهته بقوات نظامية مدربة ومسلحة تسليحا عسكريا مع الانتفاع بالقوات الفلسطينية وقوات المتطوعين.
تاسعا: توصي اللجنة العسكرية بضرورة عقد مؤتمر يضم رؤساء أركان حرب الجيوش العربية للمداولة والاتفاق على القوات النظامية التي يجب حشدها على حدود فلسطين.
ولم تقف الجامعة العربية أمام هذه التوصيات الجادة الخطيرة، فلم تقرر شيئا بخصوص القيادة الموحدة، ولم تبت في اقتراح الدعوة إلى مؤتمر(1/238)
عسكري لرؤساء الأركان العرب، واكتفت بصيغة عامة خالية من الالتزام والتحديد جاء فيها: "إن الحالة تستلزم من جانب الدول العربية اتخاذ احتياطات عسكرية على حدود فلسطين، وعلى الدول العربية المتاخمة لفلسطين أن تيسر لغير الدول المتاخمة سبيل الاشتراك والتعاون في هذا الواجب بالاتفاق فيما بينها".
ثم ختمت الجامعة جلستها بقرار عام قالت فيه: "إن مقررات بلودان السرية التي كانت واجبة التنفيذ في حالة قبول قرار لجنة التحقيق الإنجليزية الأمريكية والشروع في تنفيذ ذلك لا تزال قائمة وواجبة التنفيذ في حالة تطبيق أي حل من شأنه أن يمس بحق فلسطين في أن تكون دولة عربية مستقلة.. وكذلك فإن مجلس الجامعة يوصي الدول الأعضاء بالمبادرة إلى أداء المساعدات المادية والمعنوية للعرب في فلسطين لتقويتهم وتعضيدهم في الدفاع عن أنفسهم وكيانهم وأن ترصد فورا دول الجامعة الأموال اللازمة لذلك على أن تتولى إنفاق هذه الأموال لجنة خاصة".
وهذه القرارات ليس لها إلا معنى واحد.. معناها أن مقررات بلودان السرية لم تنفذ.. وأن الأمور العسكرية والمالية ما تزال في عالم الغيب..وأن "القتال" لتأييد عرب فلسطين ومكافحة الحركة الصهيونية لا يزال في حيز المذكرات والاحتجاجات..
هذا مع العلم أن القرار بشأن حشد الجيوش العربية على حدود فلسطين قد أقرته الوفود العربية بالتراضي، فقد كان يغمرهم الإحساس الخاطئ القاتل بأن الأمور لن تصل إلى المرحلة التي تستدعي تدخل الجيوش العربية.. إلا النقراشي باشا رئيس حكومة المملكة المصرية فقد سجل في المحضر تحفظا واضحا صريحا قال فيه: "أريد أن يكون معلوما من الجميع(1/239)
أن مصر إذا كانت توافق على الاشتراك في هذه المظاهرة العسكرية، أي الحشد على الحدود، فإنها غير مستعدة قط للمضي أكثر من ذلك". وهذا الكلام له تفسير واحد أن مصر في أكتوبر (تشرين الأول) 1947، لم تكن تريد أن تحارب، ومن أراد أن يحارب فليتفضل..
وانتهت دورة الجامعة العربية في عالية لتراقب سير القضية الفلسطينية في الأمم المتحدة ولا يتسع هذا الفصل لسرد تفاصيل الإرهاب السياسي والاقتصادي الذي أطلقته الولايات المتحدة على الدول الأعضاء لحملهم على التصويت إلى جانب التقسيم وإقامة دولة يهودية، فذلك يحتاج إلى كتاب كبير، وهيهات أن يكفي، ويكفي أن نبرز الوقائع الآتية التي تتحمل الجامعة العربية مسئوليتها بصورة كاملة، وهي تلخص فيما يلي:
أولا: استمرار السياسة العربية، في الاعتماد على صداقة الدولتين الديمقراطيتين، والتودد إليهما ومناشدتهما عدم الموافقة على التقسيم.. مما أوحى أن قرارات الجامعة ومنها مقررات مؤتمر بلودان هي للاستهلاك المحلي، وأن الحكومات العربية، لا تستطيع أن "تقول" غير ذلك لتهدئة الرأي العام العربي الغاضب.
ثانيا: الانصراف عن الدول الاشتراكية وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي، حتى لا تغضب "الدولتان الصديقتان الديمقراطيتان" فإن الأمل معقود على عدالتهما وصداقتهما في النهاية.. على حين أن الوفد اليهودي لم يكن يكنس عتبات مقر الوفد الروسي.
ثالثا: التباطؤ في تنفيذ ما سمي بمقررات مؤتمر بلودان السرية، والتراخي في تنفيذ توصيات اللجنة الفنية العسكرية بشأن تعضيد عرب فلسطين في المال(1/240)
والسلاح.. مما حمل اللواء إسماعيل صفوت باشا رئيس اللجنة العسكرية على الاستقالة فيما بعد.
وقد تلقت الجامعة العربية هذه الهزائم، وكان المفروض فيها أن تصدها عن سياستها المتخاذلة، ولكنها استمرت في موادعة أمريكا وبريطانيا وكان من أبرز هذه الهزائم ما يلي:
أولا: إن أمريكا قد عارضت في عرض القضية الفلسطينية على محكمة العدل العليا لاستفتائها فيما إذا كانت الأمم المتحدة تملك الاختصاص القانوني بتقسيم وطن رغما عن إرادة أهله.
ثانيا: إن أمريكا قد عارضت في إجراء التصويت على مشروع التقسيم في السادس والعشرين من شهر نوفمبر، ففي ذلك اليوم لم تكن الأصوات المطلوبة في جانب التقسيم، بل راحت أمريكا تؤجل من ساعة إلى ساعة،ومن يوم إلى يوم حتى 29 نوفمبر.. وفي ذلك اليوم استطاعت أن تحوز أكثرية الثلثين وظفر التقسيم بالأكثرية اللازمة.
ثالثا: والدلائل متوافرة على الإرهاب الأمريكي، الذي سلطه الرئيس الأمريكي ترومان بشخصه وأعوانه الصهيونيين، على مشهد ومسمع من الوفود العربية.. وكان أول هذه الدلائل أن مشروع التقسيم قد حاز في التصويت الأول في اللجنة العامة على 25 صوتا مقابل 13 وامتناع 17، وهذه الأصوات من شأنها أن تسقط مشروع التقسيم أمام الجمعية العامة التي تحتاج إلى الثلثين لإصدار قراراتها.
والحق أن الوفود العربية قد أبلت بلاء عظيما في الدفاع عن القضية العربية فلم تترك زيادة لمستزيد، وكان للسيد ظفر الله خان مندوب الباكستان مواقف رائدة.. لو كان الحق يستند إلى الحق وحده.. وتولى الدفاع عن(1/241)
القضية اليهودية، نيابة عن الوكالة اليهودية، الحاخام سيلفر، وهو مواطن أمريكي مقيم، ولا نكران أنه أضفى على قضيته الباطلة ظلالا بارعة من الخداع البارع، ولكن الإرهاب اليهودي في فلسطين هو الذي انتصر في النهاية في أروقة الأمم المتحدة وساندته الولايات المتحدة بطوفان من الضغوط السياسية والاقتصادية.. فأصدرت الأمم المتحدة قرارها الشرير الخطير بتقسيم فلسطين وإقامة دولة يهودية، وكان يوم التاسع والعشرين من شهر نوفمبر (تشرين الثاني)، يوما مصيريا تاريخيا، تفاقمت شروره وأخطاره، ومأساته وويلاته إلى يومنا هذا.
ويوم أن أصدر ذلك القرار المشئوم، رقصت الطائفة اليهودية في فلسطين، ورقص معها التجمع اليهودي في نيويورك، وانهالت برقيات الشكر والامتنان على البيت الأبيض، وحملت وكالات الأنباء العالمية أحمالا من التصريحات السياسية تشيد بالأمم المتحدة لأعظم مبادرة إنسانية تاريخية صدرت عنها، في ذلك اليوم العظيم، ولأجيال مقبلة عديدة.
وفي اجتماع جماهيري ضخم في مدينة نيويورك خطب زعماء الصهيونية مشيدين بذلك القرار الخطير باعتباره يفتتح صفحة تاريخية مجيدة، يحمل بعض الإنصاف والامتنان "للشعب اليهودي العريق منشئ الحضارة الإنسانية"... إلا خطيبا واحدا لا بد أن يلفت انتباهنا هذه الأيام..
ذلك الخطيب هو ماير كروسمان زعيم الإصلاحيين – حيروت - فقد وقف على المنبر ليعلن أمام الجماهير اليهودية قوله: "لقد تلقيت قرار التقسيم بحزن عميق لأنه يدعو إلى تقسيم فلسطين إلى دولتين، إحداهما دولة يهودية، وهذا معناه تصغير وطننا التاريخي في فلسطين، فقد تناقص من 44 ألف ميل(1/242)
مربع (مساحة فلسطين وشرق الأردن) إلى 5.500 ميل مربع (مساحة الدولة اليهودية).
أما في الوطن العربي، فقد تفجرت براكين الغضب من الجماهير العربية، وكانت كعهدها صادقة وأمينة، فعمت المظاهرات الصاخبة عواصم العالم العربي، وأضرب الشعب الفلسطيني ثلاثة أيام متواليات، وتنادى الناس إلى الجهاد، وخطب العديد من رؤساء الحكومات في الاجتماعات الشعبية.. وهاجم المتظاهرون في دمشق مكاتب المفوضية الأمريكية، ومكتب الشيوعيين وأصدقاء الاتحاد السوفييتي، واقتحم المتظاهرون في عمان مكاتب شركة التابلاين وأحرقوا سياراتها. ومثل ذلك وقع في كثير من البلاد العربية.
وفي الأسبوع الثاني من شهر ديسمبر عقدت اللجنة السياسية للجامعة العربية عدة اجتماعات في القاهرة للنظر فيما يجب عمله إزاء القرار الظالم الذي أصدرته الأمم المتحدة، وقد اشترك في هذه الاجتماعات معظم رؤساء الوزارات العربية، وأصدروا على إثره بيانا نكرمه لو لخصناه، فإن نصه الكامل يغني عن التعليق والتحليل (الملحق رقم 5).
وأثناء انعقاد هذه الجلسات قامت مظاهرة كبرى في القاهرة ضمت ما يزيد على مائة ألف من المواطنين، وسار فيها عد كبير من الزعماء المصريين، وممثلي جميع الأحزاب، وخطب فيها عدد من الشخصيات المصرية البارزة يدعون الجامعة العربية ودولها إلى الجهاد، ومقاطعة الدولتين الكبريين أمريكا وبريطانيا.
وقامت مثل هذه المظاهرات في العواصم العربية الأخرى، وكلها تدعو الجامعة العربية إلى الوفاء بالتزاماتها وقراراتها.. من إنشاص إلى بلودان إلى عالية إلى صوفر.(1/243)
وفي جميع هذه المظاهرات، كان الخطباء يتساءلون أين مقررات إنشاص وبلودان، أين مقررات صوفر وعالية".. أين القيادة العربية الموحدة، أين حشد الجيوش العربية حول فلسطين، أين سلاح النفط العربي؟
وكان المتظاهرون تتعالى أصواتهم وحناجرهم بالهتاف مرة بسقوط أمريكا وبريطانيا، وبسقوط مقررات إنشاص وبلودان مرة أخرى، وبسقوط مقررات صوفر وعالية مرة ثالثة.
وهكذا سقطت الجامعة العربية في صور وعالية، بعد أن سقطت في إنشاص وبلودان..
ولكن السقوط هنا وهناك، كان أيسر بكثير من الفرص الذهبية الخمس التي أضاعتها الجامعة العربية من عمر الأمة العربية..
وللمأساة بقية، وسنرى كيف ضاعت تلك الفرص التاريخية.
الفصل الثالث عشر
الفرص الذهبية الخمس..
التي أضاعتها الجامعة العربية
منذ ثلاثين عاما، والأمة العربية في صراع متواصل مع إسرائيل، خاضت خلاله أربع حروب، وصفحات التاريخ الحديث ما تزال مفتوحة على مصراعيها لتدون أنباء أخرى، قادمة لا محالة حتى تحقيق النصر الأكبر(1/244)
بعودة فلسطين إلى حظيرة الوطن العربي الكبير، وعودة شعب فلسطين الأحفاد، أو أحفاد الأحفاد، إلى تراب الآباء والأجداد.
وقد بدأ هذا الصراع الرهيب في عام 1947 حين كانت الطائفة اليهودية في فلسطين تتجسد في إطار سياسي اسمه الوطن القومي اليهودي، ثم كان ما كان من صدور قرار الأمم المتحدة في خريف 1947 بإنشاء دولة يهودية في فلسطين، في مساحة تزيد قليلا على نصف مساحة فلسطين، وما تلا ذلك من تصدي الجامعة العربية بالحرب وبالسياسة للحيلولة دون قيام الدولة اليهودية، ثم ما انتهى إليه الأمر من هزيمة الجيوش العربية، وقيام الدولة اليهودية باسم إسرائيل في ربيع عام 1948، وكان أسوأ ربيع شهدته الأمة العربية في تاريخها الطويل الطويل..
وقد عصفت هذه الهزيمة الساحقة الماحقة، بكيان الأمة العربية في أرجاء الوطن الكبير، فأطاحت وما تزال، بالملوك والرؤساء، فوقعت الثورات والانقلابات، وكلها تطلق شعارا واحدا، تحرير فلسطين كاملة غير منقوصة.
وفي غمرة هذا الصراع الرهيب تحملت الأمة العربية، راضية شامخة، تضحيات جسيمة مادية وبشرية، فاستشهد من أبنائها الألوف والألوف في ساحات الشرف والكرامة، حتى لم تبق أسرة عربية في الوطن العربي الكبير إلا وفقدت قريبا أو صديقا أو حبيبا.
وكذلك فقد أنفقت الأمة العربية في حلبة هذا الصراع زبدة ثرواتها وخيراتها، وشدت الحزام على بطون أبنائها، ناهيك عن تناقص برامجها الصحية والتعليمية والاجتماعية، وتخلف مشروعاتها الزراعية والصناعية والعمرانية.(1/245)
وقد ارتضت الأمة العربية هذه التضحيات الجسام، وما تزال وستظل، لأن فلسطين هي قلب العالم العربي، تهون كل التضحيات من أجل تحريرها.. ولأن العدو الغاصب المحتل، يهدد أمن الأمة العربية وسلامتها، وخيراتها ومقدساتها، وحاضرها ومستقبلها وكل ذلك جدير بأغلى التضحيات، وأعز الأنفس والأموال والثمرات.
وحين ننظر في الحساب الختامي لهذا الصراع في كل مراحله نرى أن الأمة العربية لم تحقق شيئا من أهدافها، وأن العدو هو الذي حقق الكثير من أهدافه.. فقد أصبحت إسرائيل دولة قائمة، معترفا بوجودها في الأمم المتحدة، وأصبحت محتلة لفلسطين بكاملها، ومعها الأراضي العربية من جبل الشيخ في الجولان إلا شرم الشيخ في سيناء.
وكانت حرب أكتوبر، هي الشعلة المضيئة الوحيدة وسط هذه الظلمة الدامسة التي طال ليلها، بما أظهرت من كفاءة الجندي العربي وبسالته، ولكن الدبلوماسية العربية، بما اقترفت من أخطاء سياسية جسيمة، على الصعيدين العربي والدولي، قد أطفأت تلك الشعلة المجيدة، وعادت إسرائيل إلى سياستها العدوانية التوسعية الدائبة، تقيم المستعمرات على الأرض العربية، تعمل على تهويد الضفة الغربية وقطاع غزة، وتهدد بالاستيلاء على جنوب لبنان، وتتشامخ برأسها في الشرق الأوسط.
وطالعنا هذا العام، بأنباء خطيرة عن قوة إسرائيل العسكرية المتفوقة، وما تؤكده مراجع المعاهد الإستراتيجية في العالم الغربي، من أن إسرائيل توشك أن تصبح نووية وأنها أصبحت تصدر أنواعا كثيرة من السلاح إلى دول أمريكا اللاتينية بل وإلى أمريكا وألمانيا، وأنها تعاون إفريقيا الجنوبية في صنع القنبلة الذرية.... وأن.... وأن....(1/246)
وكل الذي يعنينا في هذا الموجز، ونحن نضع هذا الكتاب عن الجامعة العربية، أن ننسبه إلى حقيقة تاريخية علمية، أهملها كثيرون من الباحثين، وانطمست وقائعها، تحت الأحمال الثقيلة مما كتب عن القضية الفلسطينية، غثا كان أو سمينا.
هذه الحقيقة التاريخية؛ أن إسرائيل هذه، كان يمكن أن لا تكون، في عام 1948 وأن بقاءها واستمرارها، كان يمكن أن لا يكون... وأن قوتها العسكرية المتنامية كان يمكن أن لا تكون... وبالتالي إن كل هذه الكوارث والمآسي التي تحملتها الأمة العربية عبر ثلاثين عاما، كان يمكن أن لا تكون.
كل ذلك كان يمكن أن لا يكون، لولا أن الجامعة العربية قد أضاعت خمس فرص ذهبية، كل واحدة منها كانت كافية أن تحول دون قيام إسرائيل، أو أن تجعل أمرها قاصرا على كيان محدود يتمتع باستقلال ذاتي في إطار دولة فلسطينية ديمقراطية.
وهذه النتيجة، الراجح وقوعها يومئذ، كان من الميسور أن يواكبها قيام وحدة عربية كبرى، وتنصرف الأمة العربية إلى تعبئة طاقاتها وثرواتها في سبيل تقدمها العلمي والاقتصادي والاجتماعي، وبذلك تتوافر الحياة الرغيدة للملايين البائسة من أبناء الأمة العربية.
ولقد كانت حرب 1948، استثناء لجميع الحروب اللاحقة، هي حرب الجامعة العربية، فهي التي أعلنتها، وخططت لها، ونفذتها، وخاضتها الجامعة العربية تحت علمها وقيادتها، ومن هنا تأتي علاقة الجامعة العربية في هذه الحرب، ومن هذه الزاوية تأتي هذه الحرب في هذا الكتاب.
وقد كتب عن حرب 1948 مئات من الكتب والمقالات والدراسات، في جميع اللغات، وأفقرها ما كتب في اللغة العربية، وليس هذا الكتاب مؤلفا(1/247)
يضاف إلى هذه المجموعة.. فلن نتعرض إلى تاريخ هذه الحرب، ولا إلى ملابساتها وظروفها، وفقدان الخطة فيها، وانقسام الدول العربية بشأنها، وفساد الأسلحة والضمائر التي تكشفت عنها، فذلك كله وغيره له مراجعه ووثائقه.
ولكنا سنقتصر في هذا الفصل على فترات خمس من هذه الحرب، أتاحت للأمة العربية فرصا ذهبية خمسا، كانت أي واحدة منها قادرة على تغيير مصير المعركة، وبالتالي مصير إسرائيل والعالم العربي، ولنعد قليلا إلى الوراء، إلى بعض الوقائع، ولنبدأ بالفرصة الذهبية الأولى.
في التاسع والعشرين من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 1947 وقف الشعب الفلسطيني أمام الخطر الرهيب وجها لوجه.. فقد تجسدت مخاوفه وهواجسه التي كانت تملأ فؤاده عبر ثلاثين عاما مضت.. في ذلك اليوم أصدرت الأمم المتحدة قرارها بتقسيم فلسطين، بين الغرباء الدخلاء، والمواطنين الشرعيين أصحاب البلاد الحقيقيين على مدى عشرة آلاف عام من التاريخ المدون، ورأى الشعب الفلسطيني في هذا القرار الظالم افتئاتا صارخا على حقوقه الوطنية.. وتهديدا بإجلائه عن وطن آبائه وأجداده، على حين تمتع إخوانه في الأقطار العربية المجاورة بالاستقلال والسيادة والحرية أو كانوا في الطريق إلى ذلك...
ولم يعد أمام الشعب الفلسطيني رغما عن قلة وسائله وضعف إمكاناته، من خيار إلا النضال المسلح، بعد خمس عشرة ثورة خاضها الشعب الفلسطيني منذ أن فرض الانتداب على فلسطين.
وقد طال انتظار الشعب الفلسطيني للجامعة العربية وقراراتها منذ أن أنشئت في ربيع 1945، ومنذ أن تلاحقت مؤتمراتها من انشاص إلى بلودان وصوفر وعالية وكلها تمني الشعب الفلسطيني ومعه الأمة العربية بالعمل(1/248)
على عروبة فلسطين بكافة الوسائل، ومنها النضال والقتال وكان آخرها البيان "القوي الحازم" الذي أصدرته الجامعة العربية باستنكار التقسيم والعمل على إحباطه.
ولم يكن الشعب الفلسطيني وحده هو الذي فقد صبره من الجامعة العربية وسياستها المتخاذلة المعتمدة على صداقة "الدولتين الديمقراطيتين العظيمتين" فإن الأمة العربية بأسرها قد أسقطت الجامعة العربية من حسابها، وتداعى الرأي العام العربي إلى الجهاد لإنقاذ فلسطين، ولتمض الجامعة العربية في مسالكها فيما تستطيع أن تقول أو تفعل، وقد قالت كثيرا وفعلت قليلا.
وهكذا كان، فما هي إلا بضعة أيام حتى أخذ الفلسطينيون في إعداد أنفسهم للكفاح في مجموعات في مختلف مقاطعات فلسطين، وأخذ المتطوعون في البلاد العربية يتسابقون إلى ميدان الجهاد في فلسطين.. وكلهم عزيمة صادقة على الاستشهاد أو النصر.
والشعب الفلسطيني وقد استنفد الجهاد الطويل كل موارده في الماضي، لم يكن يملك السلاح والعتاد، ولا وسائل التدريب، ومع هذا فقد انطلق أبناء فلسطين يبحثون عن السلاح في البلاد العربية المجاورة، ومنهم من باع بقرته أو دابته، أو أجر بيته ليشتري بندقية كائنا ما كان حالها، حتى ولو كانت من المطمورات في الصحراء الغربية، من مخلفات الحرب العالمية الثانية.
وبدأ الشعب الفلسطيني كفاحه من الصفر، ومعه المتطوعون من أبناء الأمة العربية، وراحوا يتصدون للمستعمرات والمؤسسات والمواصلات اليهودية ينزلون بها أفدح الخسائر.(1/249)
وقد أدرك المقاتل الفلسطيني من البداية أن العدو اليهودي يجب أن يقابل بمثل خططه وأسلحته.. فتلك هي شريعة الحرب وخاصة مع عدو يتخذ من الإرهاب وسيلة لإزهاق الحق، وإحقاق الباطل.
وكانت أولى عملياتهم العسكرية، "الكفاح للوصول إلى السلاح" وبعد أسبوعين من صدور قرار التقسيم وبالتحديد في الثاني والعشرين من ديسمبر (كانون الأول) 1948 اقتحم المناضلون الفلسطينيون مدرسة البوليس الإضافي قرب مدينة الرملة في أواسط فلسطين، وبعد معركة قصيرة فاصلة، استطاع المناضلون أن يغنموا كل ما فيها من أسلحة وعتاد، فاستولوا على أربعمائة بندقية وثمانية مدافع وست وستين ألف طلقة للبنادق، وحققوا بذلك وصية طارق بن زياد إلى جنوده في فتح الأندلس، "إن ليس لكم إلا ما تغنمونه من أيدي عدوكم".. وقد تكررت هذه العمليات عدة مرات فكانت من أكثر مصادر السلاح للمقاتل الفلسطيني.
وقد انشغل المناضلون وقتا غير قليل في الوصول إلى السلاح، فإن السلاح الذي قررته الجامعة العربية مرة بعد مرة لم يصل إلى المناضلين الفلسطينيين، وقد كتب الأستاذ أحمد فراج طايع، الذي كان قنصل المملكة المصرية في القدس يومذاك، (وأصبح فيما بعد وزيرا للخارجية المصرية) يشكو إلى وزارة الخارجية المصرية من تباطؤ البلاد العربية في مد فلسطين بالأسلحة "التي طالما وعد بها رؤساء الحكومات العربية.. بحيث أصبح كثير من أهل فلسطين يعتقدون أن رؤساء الحكومات العربية اتخذوا من مأساة فلسطين وسيلة للدعاية الحزبية" وكان تاريخ هذه الشكوى (1) بعد شهر واحد من صدور قرار التقسيم 25 ديسمبر (كانون الأول) 1947.
__________
(1) أحمد فراج طايع، صفحات مطوية عن فلسطين ، ص 68.(1/250)
والواقع أنه بعد يومين من هذه الشكوى (في 29-12-1947) قام اليهود بجريمة إرهابية شنيعة في باب العمود في القدس فقد وضعوا عنده صفيحة مملوءة بالمتفجرات، وكان المكان مزدحما بالأهلين الآمنين فذهب ضحيتها العشرات من الرجال والنساء والأطفال، وقد تكررت أمثال هذه الحوادث وكان أبرزها الانفجار الرهيب في سوق الخضار بالرملة، وأعقبه انفجار أشد هولا في شارع العراق في حيفا، وقد أودت هذه الانفجارات بحياة كثيرين من العزل الآمنين.. وكان اليهود يتسللون إلى الأحياء العربية وهم يلبسون الزي العربي أو زي الجندي البريطاني.
ولم يعد أمام المناضلين الفلسطينيين إلا مكافحة الإرهاب بالإرهاب، وقد تفوقوا على اليهود في هذا المجال، وإن لم يكن هنالك تكافؤ في السلاح... وفي الحماية من جانب الجيش البريطاني، وكانت بطولات المناضل العربي في هذا المجال أكثر من أن تذكر...
منها أن مجموعة من المناضلين الفلسطينيين قد أخذت طريقها إلى موقف الباصات اليهودية في حيفا، وهو ساحة كبيرة يتجمع فيها اليهود، فوضعوا لغما موقوتا، وما أن انفجر في ساعته المحددة حتى كان القتلى والجرحى من اليهود بالمئات.. والبادئ أظلم.. (14-1-1948).
وفي اليوم العاشر من شهر شباط فبراير من عام 1948 قامت مجموعة أخرى من المناضلين الفلسطينيين باقتحام شارع بن يهودا في القدس فأشعلت فيه النيران ودمرت فيه عددا من المباني، وهاجمت عمارة جريدة البالستين بوست – جورسالم بوست الحالية - وأحرقتها بما فيها ومن فيها، ولم تغادر الحي إلا بعد أن أصبح ربوة من النيران والأنقاض.(1/251)
وكانت "قمة" هذه الأعمال المجيدة المتلاحقة عملية خارقة باسلة قام بها مناضل فلسطيني واحد.. دخل إلى الحي الذي فيه مبنى الوكالة اليهودية وهو يركب سيارة عليها العلم الأمريكي وترك السيارة وفيها المتفجرات الموقوتة، وما أن غادرها، ومشى مع الجمهور اليهودي، حتى كانت الوكالة اليهودية تتناثر جدرانها في الفضاء، ومعها أشلاء عدد من زعماء اليهود.. وعلى الباغي تدور الدوائر-(31-3-1948).
وكل ذلك وأكثر من ذلك جاء مصداقا لتقرير بعث به قنصل المملكة المصرية في القدس إلى وزارة الخارجية يقول فيه: "يقع التصادم المسلح بين العرب واليهود بصورة مستمرة.. وقد دلت الحوادث على أن العرب بالرغم من قلة ما تجمع لديهم من الأسلحة وبالرغم من رداءة نوعها برهنوا على شجاعة عظيمة وعلى أنه لو كان لديهم نصف ما لدى اليهود من أسلحة لنكلوا باليهود شر تنكيل" (1) .
واتسع نشاط المناضلين الفلسطينيين في مجالات أخرى فقد فتحوا جبهة "حرب المواصلات" فقد تصدوا للمواصلات اليهودية، في جميع أرجاء فلسطين ليقطعوا التجمعات اليهودية بعضها عن بعض، وتعرضوا للطريق بين تل أبيب وحيفا، وبين تل أبيب والقدس، وضربوا حصارا حول المواقع السكانية اليهودية، وأصبح اليهود لا يتحركون إلا قوافل تحت حراسة شديدة، وكانت هذه القوافل لا ينجو منها إلا القليل.
وكانت معركة قافلة كفار عصيون على الطريق الرئيس بين الخليل والقدس من أشد المعارك هولا على اليهود، فقد تصدى المناضلون الفلسطينيون لقافلة يهودية ضخمة (27-3-1948) فقتلوا الكثير من أفرادها
__________
(1) المرجع السابق، ص 69.(1/252)
وغنموا الأسلحة والذخائر، ومن بقي على قيد الحياة جرى تسليمه إلى القوات البريطانية.
ولم تمر مذبحة دير ياسين من غير انتقام عادل شامل، فبعد أسبوع واحد من تلك المذبحة الرهيبة (13-4-1948) خطط المناضلون الفلسطينيون لهجوم على قافلة يهودية كبيرة كانت في طريقها إلى جبل سكوبس – المشارف، أحد جبال القدس، فتصدى لها المناضلون الفلسطينيون فأبادوها واستولوا على الأسلحة والذخائر، وكان بين الهلكى عدد كبير من زعماء اليهود ومشاهير أطبائهم.. وقد أعلن اليهود ذلك اليوم يوم حداد، ولا يزالون إلى يومنا هذا يجددون عليه العويل والبكاء.
ولا يتسع المجال لذكر أمثال هذه الحوادث، فإن هذا الفصل لا يتسع لسردها ولو بإيجاز.. ولكننا نورد هذه الشواهد المحدودة لنصل إلى الفرصة الذهبية الأولى التي لاحت في الأفق العربي، بل وقعت في قبضة الجامعة العربية، ثم جعلتها تسقط من يدها.
ذلك إن البطولات الفلسطينية هذه ومعها بطولات المتطوعين العرب قد أفزعت الجمهور اليهودي وخلعت قلبه، وراحت المظاهرات الصاخبة في شوارع تل أبيب تطالب الوكالة اليهودية بوقف الأعمال العسكرية اليهودية، والبحث عن وسيلة للتعايش مع الشعب العربي في فلسطين، والدارس للصحافة اليهودية والعالمية في تلك الحقبة يجد على ذلك الدلائل متوافرة..
ومع قلق الطائفة اليهودية في فلسطين، قلقت الأم الحنون، أمريكا، على مصير مصالحها في الوطن العربي وعلى مصير القضية الصهيونية برمتها.. وبدأ التفكير في التراجع المنظم عن السياسة الأمريكية.. وعن التقسيم، وعن إقامة دولة يهودية.. ولو إلى حين.(1/253)
ذلك أنه بعد أن صدر قرار التقسيم في خريف 1947 كان مجلس الأمن في حالة انعقاد دائم ليس له شغل شاغل إلا قضية فلسطين يتلقى التقارير عن حالة الأمن فيها،ويناشد الشعب العربي في فلسطين والوكالة اليهودية إلى العمل على إقرار السلام، وقد أصدر عدة قرارات يعبر فيها عن هذه التمنيات.
وفي اليوم الرابع والعشرين من شهر فبراير (شباط) 1948 – أي بعد ثلاثة أشهر من قرار التقسيم فوجئت الأمم المتحدة والمحافل الدولية بخطاب مثير من قبل المستر وارن اوست مندوب أمريكا في مجلس الأمن، يعلق على تقرير وارد عن حالة الأمن في فلسطين ويعرب عن شكوكه في "حكمة" قرار التقسيم ومدى الإمكانيات في تنفيذه بالنظر لحالة عدم الاستقرار السائدة في فلسطين.
وكان التقرير المطروح على مجلس الأمن صادرا عن رئيس اللجنة الدولية في القدس التي كانت مكلفة بتنفيذ قرار التقسيم.. وكان مما جاء في ذلك التقرير، أنه "في ظروف فلسطين الحالية والمستقبلية فإنه لا يرى إمكانية لتنفيذ قرار التقسيم إلا بقوة عسكرية فعالة من خارج فلسطين". ولم يستطع المندوب الأمريكي أمام هذه الحقيقة الخطيرة إلا أن يقول: "إن مجلس الأمن لا يملك أن ينفذ قرارا سياسيا سواء كان صادرا من الجمعية العامة أو من مجلس الأمن نفسه"..
وثارت الصهيونية العالمية على هذا الموقف المتراجع، وحملت حملة كبرى على المندوب الأمريكي واتهمته "باللاسامية" وهي التهمة التي توجه لمن يقاومون الحركة الصهيونية من غير العرب، تماما مثل تهمة "إلقاء اليهود بالبحر" التي توجه إلى العرب حينما يرمون اليهود بأشواك الورد..(1/254)
ولم يكن موقف السياسة الأمريكية هذا بالعدول عن التقسيم قائما على أساس القناعة بالظلم الذي لحق بالعرب ولا بمخالفة التقسيم لمبادئ العدالة وأحكام ميثاق الأمم المتحدة فإن المناقشات التي دارت في الأمم المتحدة قبل ثلاثة أشهر من ذلك التاريخ كانت أغنى "مرافعة" حظيت بها أية قضية من قضايا الأمم المتحدة، ولكن الدافع الرئيسي الذي حمل أمريكا على هذا الموقف أن النضال العربي الفلسطيني كان مشتعلا في ميدان المعركة، وأن نكبة كبرى توشك أن تقع عل الطائفة اليهودية في فلسطين، وجودا ومصيرا، وأن سلاح البترول يوشك أن يتحرك من مرقده.
ومع اشتداد هذا النضال، الذي كان يملك وفرة وافرة من الشجاعة والإقدام، وقلة ظاهرة من السلاح والعتاد، فقد اشتد الموقف الأمريكي إنكارا للتقسيم، وأخذت الولايات المتحدة تتحدث عن مشروع جديد يكون بديلا عن التقسيم، يقوم على إنشاء وصاية دولية على فلسطين.
وفي 19 مارس (آذار) 1948 أثار المندوب الأمريكي انتباه العالم الدولي، وهو يعلن أمام مجلس الأمن معارضته للتقسيم مرة أخرى، فأعلن أن السياسة الأمريكية بالنسبة إلى فلسطين تلخص في ثلاث نقاط:
أولاً: إن هناك اتفاقا عاما أن التقسيم لا يمكن تنفيذه بتدابير سلمية..
ثانيا: إنه يترتب على مجلس الأمن أن يدعو الجمعية العامة للانعقاد في دورة خاصة بصورة عاجلة وذلك للنظر في إقامة وصاية مؤقتة دون إجحاف بحقوق ومطالب ومواقف أي من الفريقين ومن غير إجحاف بطبيعة مستقبل الحل السياسي، وذلك من شأنه توطيد السلام وإعطاء فرصة أخرى للوصول إلى اتفاق..(1/255)
ثالثا: وإلى أن تتم دعوة الجمعية العامة فإن على مجلس الأمن أن يطلب إلى لجنة فلسطين الدولية أن توقف مساعيها الرامية إلى تنفيذ التقسيم..
وما أن انتهى المندوب الأمريكي من اقتراحاته هذه حتى ثار مندوب الوكالة اليهودية، وراح يرغي ويزبد، منددا بالسياسة الأمريكية، ووصفها بأنها تمثل تراجعا رهيبا مخزيا عن موقفها السابق، وأنها تعد انتهاكا صارخا لكرامة الأمم المتحدة وإخلالا بميثاقها، وأعلن المندوب اليهودي في ختام كلمته الغاضبة أن الموقف الأمريكي ما هو إلا استسلام لبعض الدول الأعضاء الذين هددوا باستعمال القوة (الإشارة إلى الدول العربية).
وتناول الكلام عدد من أعضاء مجلس الأمن، مؤيدين الموقف الأمريكي واقتراحاته، وكان من أبرزهم رئيس المجلس – مندوب الصين - فقد أيد الاقتراحات الأمريكية واستشهد بقول لجنة فلسطين الدولية من أنه لا يمكن تنفيذ التقسيم إلا بالقوة، وأنه ليس على المجلس أن يستعمل القوة في مثل هذه الحالة.. ولم يعارض الاقتراح الأمريكي إلا مندوب الاتحاد السوفييتي- وكانت هذه إحدى زلاته الشهيرة.
واستمر مجلس الأمن يناقش الموقف في فلسطين، ويتلقى تقارير اللجنة الدولية في القدس وكلها تعرب عن بالغ قلقها، وتحذر من العواقب والمخاطر، إلى أن حل اليوم الأول من شهر ابريل (نيسان) 1948 وكان يوما تاريخيا حقا في عمر الأمم المتحدة..
ففي ذلك اليوم أصدر مجلس الأمن في جلسته رقم 277 قرارا رقمه (44/1948) لا بد أن نورد الكامل فيما يأتي:
قرار رقم 44 (1948) بتاريخ 1 نيسان 1948(1/256)
دعوة دورة استثنائية للجمعية العامة للنظر في حكومة فلسطين المستقبلية:
إن مجلس الأمن وقد تلقى في 9-12-1947 قرار الجمعية العامة رقم 181 (الدورة 2) بشأن فلسطين المؤرخ في 29-11-1947.
وقد أخذ علما بتقريري لجنة فلسطين التابعة للأمم المتحدة الأول والثاني الشهيرين عن تقدم أعمالهما، وبالتقرير الأول الخاص عن مشكلة الأمن.
وقد أخذ علما بالتقارير التي وضعت بشأن تلك المشاورات، يطلب من السكرتير العام، وفق المادة 20 من ميثاق الأمم المتحدة، أن يدعو إلى عقد دورة استثنائية للجمعية العامة للبحث مجددا في مسألة حكومة فلسطين المستقبلية.
ووافق مجلس الأمن على القرار المذكور بامتناع كل من الاتحاد السوفييتي وأوكرانيا.
وواضح من هذا القرار الصادر من أعلى سلطة دولية مسئولة عن الأمن والسلم العالمي، إن قرار التقسيم قد أصبح في خبر كان وجميع مشتقاتها وأن الجمعية العامة مدعوة لإعادة النظر في قرارها، وأن عليها أن تبحث من جديد موضوع "مستقبل الحكم في فلسطين".. وهو الموضوع الذي ناقشته الجمعية العامة بقرار التقسيم في شهر نوفمبر الفائت.
وفي السادس عشر من شهر ابريل (نيسان) 1948 انعقدت الجمعية العامة في دورة خاصة، لتبدأ من جديد بحث القضية الفلسطينية، وتعاقب على المنبر رؤساء لوفود يدلون بآرائهم وكان الكثير منهم يدعو إلى البحث عن حل آخر للقضية الفلسطينية غير التقسيم، وأصبحت المعركة الدائرة في قاعة(1/257)
الجمعية العامة مركزة على التقسيم في مبدئه لا في تفاصيله، هل يبقى أو يزول، وقال كثيرون إنه يجب أن يزول.
وقد طرح المندوب الأمريكي أمام الجمعية العامة مشروعا للوصاية يتلخص فيما يلي:
أولا: وضع فلسطين تحت وصاية هيئة الأمم المتحدة.
ثانيا: تتولى هيئة الأمم المتحدة تصريف شئون البلاد عن طريق مجلس الوصاية الدولي.
ثالثا: يعين مجلس الوصاية حاكما على البلاد، ويخول هذا الحاكم صلاحية تأليف القوات المسلحة وغير ذلك من السلطات.
رابعا: تتكون حكومة البلاد من الحاكم العام ومجلسين حكوميين وهيئة قضائية وأخرى تشريعية.
خامسا: تكون فترة أعضاء مجلس الشيوخ والنواب لمدة ثلاث سنوات.
سادسا: فيما يتعلق بالهجرة فهناك اقتراحان، الأول السماح للحاكم العام بتعيين مقدرة البلاد على الاستيعاب والثاني السماح لعدد من المشردين اليهود بدخول فلسطين لمدة عامين فقط.
سابعا: فيما يتعلق بنظام الأراضي فيخول الحاكم العام صلاحية وضع تشاريع خاصة لضمان حرية انتقال وبيع وشراء الأراضي واستغلالها دون مساس بحقوق أي فريق من السكان.
ثامنا: يتعهد الحاكم العام بضمان سلامة الأراضي المقدسة.
تاسعا: وفيما يتعلق بمستقبل البلاد فهناك اقتراحان:(1/258)
... الأول: يعمل الحاكم العام على تحقيق وصول العرب واليهود إلى اتفاق حول مستقبل الحكم فيها ومتى تم الاتفاق ينقل إلى الجمعية العامة وتنتهي الوصاية.
الثاني: يظل نظام الوصاية ساري المفعول ثلاث سنوات ثم يقرر نوع الحكم عن طريق الاستفتاء العام.
هذا وقد اقترح المندوب الأمريكي تأليف قوة دولية لفرض نظام الوصاية بالقوة..
وإن أقل ما يقال في الاقتراح الأمريكي أنه سدد "الضربة القاتلة" لقرار التقسيم، وتأتي أهمية هذه الضربة أنها جاءت من الولايات المتحدة نفسها التي كانت قبل أربعة أشهر مضت تقوم بأكبر حملة من الإرهاب والابتزاز السياسي والاقتصادي للموافقة على التقسيم.
لقد تراجعت أمريكا رغما عن الضغوط الصهيونية الكبرى التي قامت بها في أمريكا وفي سائر أرجاء العالم.
ومن هذه الضغوط الكبرى أنه في الأسبوع الأول من شهر ابريل (نيسان) 1948 انعقد في ميدان ماديسون في نيويورك اجتماع يهودي ضخم ضم ما يزيد على مئة ألف، وخطب زعماء الصهيونية منددين بالسياسة الأمريكية، وكان أشدهم فصاحة في الباطل الحاخام ابا هلل سيلفر، وكانت الجماهير اليهودية تقاطع خطابه بالهتاف ضد أمريكا، وضد الرئيس ترومان بالذات، وانضم "ملوك البترول" والإقطاعيون العرب إلى القائمة فكانوا مددا للهتافات العدائية.(1/259)
وظلت هذه الحملة الضخمة بضعة أسابيع فامتدت إلى الصحافة وأجهزة الإعلام المختلفة، ودخلت أبواب الكونجرس، وأعلنت أرملة الرئيس روزفلت استقالتها من الوفد الأمريكي احتجاجا على السياسة الأمريكية.
وبعث الزعيم الصهيوني الدكتور وايزمن كتابا إلى الرئيس ترومان يقول فيه: "إن عقارب الساعة لا يمكن أن تعود إلى الوراء.. إلى ما قبل 29 نوفمبر (تشرين الثاني) 1947 – وهو تاريخ التقسيم - وأضاف إلى ذلك أنه "لا يمكن إعطاء الاستقلال في تشرين الثاني ثم إلغاؤه في آذار".. وفي حديثه مع الوفد الأمريكي أعلن الدكتور وايزمن، أنه لا يكترث "بالقوة العسكرية العربية فهذه ما هي إلا أسطورة".
وكانت الحملة الصهيونية بالغة العنف، وتعبئ كل طاقاتها لتأييد التقسيم، وكأنها في معركة البقاء والفناء، ويكفي أن نشير هنا إلى أن الصحافة العالمية قد أصبحت تتحدث عن القضية الفلسطينية، وكأن قرار التقسيم قد ألقي في سلة المهملات، ويكفي أن نشير إلى أن صحيفة متزنة مثل "التايمز" قد كتبت تقول: "إن قرار التقسيم قد حكم عليه بالإعدام" وإن كاتبا يهوديا معروفا هو المستر جون كيمشي قد أعلن في كتابه المعروف "الأعمدة السبعة المنهارة" أن الصهيونية كانت على حافة الهاوية في تلك الفترة الخطيرة" وهذا المؤلف هو كاتب صهيوني في ثياب مفكر يهودي محايد..
ومما تجدر الإشارة إليه أن الوكالة اليهودية نفسها قد بعثت في شهر فبراير (شباط) 1948 بمذكرة إلى مجلس الأمن تشكو فيها من "أعمال الإرهاب الفلسطيني العربي" ومذكرة أخرى في شهر مارس (آذار) 1948 تكرر الشكوى من فظائع المنظمات الفلسطينية المسلحة، وتطالب بإنشاء قوة دولية للحفاظ على الأمن والسلام في فلسطين، ولتسهيل تنفيذ قرار التقسيم.(1/260)
وازداد الموقف وضوحا حين مثل رئيس اللجنة الدولية أمام مجلس الأمن وألقى بيانا مستفيضا عن الحالة العامة في فلسطين، وما أفضى إليه قرار التقسيم من اضطرابات وقلاقل، وأكد في نهاية بيانه أن التقسيم لا يمكن تنفيذه إلا بقوة دولية فعالة..
واستمر مجلس الأمن يناقش القضية الفلسطينية على هذا الأساس، أساس الوصاية بعيدا عن قرار التقسيم، إلى أن انتهى شهر ابريل (نيسان) 1948، وحل شهر أيار، الشهر الذي بدأت فيه التصريحات العربية تتحدث عن دخول الجيوش العربية إلى فلسطين لمقاومة التقسيم، والحفاظ على الأمن والسلام في فلسطين.. وإنقاذ الفلسطينيين من الإرهاب اليهودي.
وهذه المرحلة، مرحلة الجيوش العربية ودخولها إلى فلسطين – تحتاج إلى كتاب كبير يتألف من عدة أجزاء لسرد الصراعات العربية التي كانت تحف بالقضية الفلسطينية، وفساد الخطة العربية في تلك المرحلة من البداية إلى النهاية.
وكل الذي يهمنا في هذا الفصل أن رياح الاطمئنان قد بدأت تدخل إلى البيت الأبيض في واشنطن، وإلى الأمم المتحدة في نيويورك، فقد كان معروفا لدى المراجع العليمة في أمريكا أن الدول العربية لا تخوض حرب فلسطين لإزالة الدولة اليهودية، ولا لإحباط التقسيم ولكن "لملء الفراغ" في أراضي الدولة العربية المقترحة، الفراغ الذي ينشأ بانسحاب بريطانيا من فلسطين.
والنتيجة من هذه الخطة العربية واضحة تماما أنها بكلمة واحدة تنفيذ التقسيم، والحفاظ على "الأرض" المخصصة للعرب.. وكانت هذه الخطة بالاتفاق من المستر بيفن وزير خارجية بريطانيا كما يتضح ذلك من أقوال(1/261)
"جلوب باشا" قائد الجيش الأردني – يومئذ، في كتابه الشهير، ولا يستطيع أحد أن يطعن فيما كتبه حول هذا الموضوع بالذات.. فقد كشف عن أسرار خطيرة بصدد حرب فلسطين (1) .
وكائنا ما كان الأمر، فإن الخطة العربية، إذا كانت قد حققت شيئا فإنها لم تحبط مشروع التقسيم، ولا حفظت الأرض العربية المخصصة للعرب، بل إنها فقدت كثيرا من المدن والقرى العربية استطاعت إسرائيل أن "تظفر" بها، وفوق هذا وذاك فقد تضاعف عدد اللاجئين من ربع مليون، فلسطيني قبل تدخل الجامعة العربية، إلى ثلاثة أرباع المليون في نهاية هذا التدخل المشين.
وهذا الاستطراد لا يبعدنا عن موضوع الفرصة الذهبية التي تجلت في عدول أمريكا عن التقسيم وجنوحها إلى نظام الوصاية الدولي، فقد كانت هذه الفرصة التاريخية حقيقة ظلت قائمة قرابة ثلاثة أشهر بكاملها، من فبراير (شباط) إلى مايو (أيار) 1948.. وظلت المناقشات دائرة في مجلس الأمن والجمعية العامة تدور في هذا الإطار الذي لخصناه.. إلى أن جاء اليوم الرابع عشر من شهر مايو (أيار) 1948.
ففي ذلك اليوم التاريخي دخلت الجيوش العربية إلى فلسطين، وكانت الجمعية العامة ما تزال منعقدة لمناقشة القضية الفلسطينية من كل جوانبها.. وتلقت الأمم المتحدة في مساء ذلك اليوم رسالة من تل أبيب تبلغ الأمم المتحدة بقيام الدولة اليهودية وإعلان الحكومة المؤقتة برئاسة بن غوريون..
ورأت الولايات المتحدة أمام الوضع الحرج في فلسطين، والضغوط الصهيونية الضخمة، والتراخي العربي في تنفيذ مقررات بلودان التي مضى
__________
(1) جلوب باشا، جندي في الصحراء، ص 61.(1/262)
على صدورها قرابة سنتين كاملتين من غير تنفيذ.. وخاصة فيما يتعلق بالبترول ومنح امتيازات جديدة للدول الغربية، رأت أمريكا إزاء ذلك كله أن لا تتابع موضوع الوصاية – دون أن تسحبه - وأن تقدم اقتراحا آخر بتعيين وسيط دولي، وهو الكونت برنادوت، فوافقت الجمعية العامة عليه تحت رقم 186/س2/1948 تنص فقراته الرئيسية على تحويل الوسيط الدولي (الكونت برنادوت الذي وقع عليه الاختيار فيما بعد) القيام بمهمة "تشجيع إيجاد تسوية سلمية في مستقبل وضع فلسطين"، والعبارة الإنجليزية، وهي أكثر تحديدا، تقول:
“a peaceful adjustment of the future Situation of Palestine”.
كما إن القرار قد نص على "إعفاء لجنة فلسطين من الاستمرار في ممارسة مسئولياتها الواردة في القرار 181" الدورة الصادرة في 29 نوفمبر (تشرين الثاني) 1947".
ويلاحظ في هذه الفقرة أن قرار التقسيم قد انطوى جانبا، بعد أن تم إعفاء اللجنة التي كانت مؤلفة لتنفيذه...
والمواطن العربي يلاحظ كذلك أن هذا القرار كان وسطا بين الموقف اليهودي والموقف العربي، يعطي الفرصة لتأييد المنتصر، وأبرز ما فيه أنه لم يؤيد قرار التقسيم إطلاقا، وأناط بالوسيط الدولي أن يعمل على "تشجيع الوصول إلى تسوية سلمية لمستقبل الحالة في فلسطين".. بل إنه أقرب إلى الموقف العربي، من الناحية النظرية.
ولو أن ا لجامعة العربية كانت صادقة في مد فلسطينيين بالسلاح والعتاد، ونفذت بعض قراراتها السرية، لبقيت الأمم المتحدة على موقفها من التقسيم، ومضت في موضوع الوصاية الدولية إلى النهاية.(1/263)
ولكن جاءت الأحداث بعد حرب فلسطين، وبعد وساطة الكونت برنادوت لتكون لصالح القضية اليهودية.. وسقطت الفرصة الذهبية الأولى لتصبح في ذمة التاريخ، وغدت مهمة الكونت برنادوت الوصول إلى تسوية سلمية بين الدولة اليهودية والدولة العربية، بعد أن كانت في قرار تعيينه الوصول إلى تسوية سليمة بشأن "مستقبل الحالة في فلسطين" وتلك سيرة الفرصة الذهبية الأولى التي أضاعتها الجامعة العربية، نضعها أمام المواطن العربي بإيجاز كئيب حزين.
أما الفرصة الذهبية الثانية فقد كانت مواكبة زمنيا للفرصة الأولى كأنهما توأمان نشآ وماتا في فترة واحدة.. وهذه الفرصة الثانية هي الحصار العسكري الذي فرضه المناضلون الفلسطينيون ومعهم المتطوعون العرب على القدس الجديدة، خارج الأسوار.
وتتألف القدس الجديدة من مجموعة من الأحياء الجميلة العصرية، بنى العرب عددا منها، وبنى اليهود عددا آخر، وبعضها قديم منذ عهد الدولة العثمانية، ومنطقة القدس في مجموعها الجديدة والقديمة، يملك العرب ما يزيد على خمسة وثمانين في المائة من مساحتها..
وحينما انبرى المناضلون الفلسطينيون للتصدي إلى العصابات اليهودية وضعوا خطة عسكرية لقطع القدس عن تل أبيب وإبقاء الحصار على السكان اليهود في القدس البالغ عددهم يومئذ مئة ألف يهودي.. وتنفيذا لهذه الخطة فقد قام المناضلون العرب بالاستيلاء على المراكز الإستراتيجية حول القدس وأحكموا الحصار عليها، وأصبح المائة ألف يهودي في كماشة عربية تطبق عليهم من كل جانب، وقد حاولت القوات اليهودية فك الحصار بهجمات ضارية، ولكن دون جدوى فقد استبسل المناضلون العرب رغما عن(1/264)
عدم التكافؤ بينهم وبين القوات اليهودية، وأيقن اليهود أنهم هالكون لا محالة وأنهم ينتظرون مصيرهم أسبوعا بعد أسبوع ويوما بعد يوم.
واستماتت القوات اليهودية في محاولاتها اليائسة لفك الحصار عن يهود القدس، واندفعت القوافل اليهودية من تل أبيب تحمل إلى القدس الجديدة المؤن والأدوية والحاجات الضرورية فكان أن استولى عليها المجاهدون الفلسطينيون، وأما ما سلم منها فقد عاد أدراجه إلى تل أبيب.
وضاقت الحياة على يهود القدس، وبدأت سلطتهم المحلية توزع عليهم الماء والغذاء بالبطاقات، وقامت المظاهرات اليومية في شوارع القدس وميادينها، وهم يطالبون بوقف القتال، وقد رفعوا اللافتات تحت عنوان "الخلاص".. الخلاص بأي ثمن..
ووصل الأمر إلى مرحلة الاستسلام، ولم يبق عند يهود القدس من الماء والزاد إلا ما يكفي لثلاثة أيام.. وكان طريق الماء الذي يصل إلى القدس تحت السيطرة الكاملة للقوات العربية.. وأصبح المائة ألف يهودي مهددين بالفناء جوعا وعطشا.
وغدا زمام الموقف كله بيد المناضلين الفلسطينيين، يتحدثون من مركز القوة، ويطلبون إلى الوكالة اليهودية أن تعلن الاستسلام من غير قيد ولا شرط..
وليس هذا الحديث من باب التفاخر بالنضال الفلسطيني، فإن المراجع التي سردت وقائع تلك الفترة متوافرة فيما كتبه الدراسون الغربيون، ناهيك عن المراجع اليهودية نفسها، ومن أبرزها ما كتبه المؤلف اليهودي جون كيمشي في كتابه الذي أشرنا إليه سابقا، فقد أسهب في وصف الضائقة الرهيبة التي كانت تمسك بعنق الطائفة اليهودية..(1/265)
وشاهد عيان، هو الأستاذ أحمد فراج طايع، الذي كان يومئذ القنصل العام للمملكة المصرية، فقد كتب إلى القاهرة يقول: وكان للعرب في القدس ميزة كبرى في صراعهم مع اليهود، وهي أنهم يستطيعون قطع الماء وإحكام الحصار عليها من جميع الجهات، وفي القدس مئة ألف يهودي يمكن القضاء عليهم بهذا السلاح الماضي.. والعرب لا يتأثرون بقطع الماء عن القدس إلا قليلا جدا، لأن الأحياء العربية تحتوي على آبار تكفي لمعظم السكان العرب بينما لا توجد في الأحياء اليهودية آبار مطلقا" (1) .
وتدخل مجلس الأمن عدة مرات لإنقاذ يهود القدس من الكارثة المحققة التي كانت محدقة بهم، فأصدر بتاريخ 17 ابريل (نيسان) 1948 قرارا يدعو الهيئة العربية العليا والوكالة اليهودية إلى وقف إطلاق النار.. وعدم القيام بأي نشاط سياسي يمكن أن يلحق ضررا بحقوق أحد الطرفين إلى أن تنتهي الجمعية من بحث مستقبل نظام الحكم في فلسطين "وهذه إشارة واضحة أخرى إلى العدول عن قرار التقسيم، وقد امتنعت روسيا وأوكرانيا عن التصويت على هذه الفقرة بالذات..
ونصت فقرة أخرى، وهذا هو المهم "على صون المرافق العامة الأساسية لا سيما ما يتعلق منها بالنقل والمواصلات والصحة العامة والتموين بالغذاء والماء".
وقد وافق كل من الاتحاد السوفييتي وأوكرانيا على هذه الفقرة إنقاذا لليهود.. ولكنهم فشلوا في إدراج فقرة إضافية تنص على "وجوب سحب الجماعات المسلحة التي دخلت فلسطين لمعارضة تنفيذ قرار الجمعية بقوة
__________
(1) أحمد فراج طايع ، صفحات مطوية عن فلسطين ، ص 77.(1/266)
السلاح، وتحريم دخول مثل هذه الجماعات" وما أعجب هذه المواقف السوفييتية.
ورفض المجاهدون الفلسطينيون من جانبهم تنفيذ قرار مجلس الأمن.. ولكن الجامعة العربية وافقت على هذا القرار في 7 مايو 1948، وفي الاجتماع المشهور باجتماع أريحا وافق وفد الجامعة العربية على قرار الهدنة بعد تحفظات وإيضاحات.. وبدأ يهود القدس يتنفسون الصعداء..
ولكن المناضلين العرب رفضوا أن يسيروا في ركاب الجامعة العربية، وكان رئيس بلدية القدس في ذلك الوقت المستر اسكاراني معينا من قبل الأمم المتحدة، فأرسل يستنجد بالملك عبد الله، ويستغيث بالأريحية العربية والرحمة الإسلامية، فبعث إليه برقية يلتمس فيها "إعادة النظر في مسألة تزويد القدس بالمياه لأن ندرة المياه تسبب آلاما عظيمة لجميع السكان، كما أن حالة النساء والأطفال والمرضى يرثى لها، ولهذا فإني أرجو وأقترح على جلالة الملك أن يضرب لمدينة القدس وللعالم أجمع، مثلا رائعا، ويبرهن على أن الإرادة والعزم لا تتعارضان مع الشعور الإنساني".
ومن غير دخول في التفاصيل فقد بدأت الفرصة الذهبية الثانية تفلت من يد المجاهدين العرب، وبالتالي من يد الأمة العربية، فقد كان التباطؤ في تزويد المناضلين العرب بالسلاح من أهم الأسباب في ضياع تلك الفرصة.. ويكفي أن يعلم المواطن العربي أن الجامعة العربية التي كانت مجتمعة في القاهرة في 16 فبراير 1948 قد أصدرت قرارا "يوصي الحكومات العربية أن تبادر إلى تسليم الأسلحة التي سبق أن تعهدت بها ومعها عتادها الكامل، على أن تكون بقدر الإمكان من نوع واحد وصنف جيد، وكذلك فإنها توصي(1/267)
الحكومات العربية بالسماح للمتطوعين من البلاد العربية والبلاد الإسلامية بالمرور عبر أراضيها"..
هذا القرار وحده كاف لأن يوضح الأسباب التي أدت إلى ضياع هذه الفرصة الذهبية من يد الجامعة العربية.. فإن معناه أن السلاح والذخيرة لم تصل إلى الفلسطينيين وهم في معمعان المعارك في فبراير (شباط) 1948، وقد كان هذا شهر البقاء والزوال بالنسبة للدولة اليهودية.
وكان طبيعيا أن يضعف النضال الفلسطيني، وأن تفتح القوات اليهودية الطريق إلى القدس وإنقاذ المائة ألف يهودي، وهم في آخر رمق من الجوع والعطش.. بعد أن كان الخطر المحدق بهم، أكبر بكثير من دخول الجيوش العربية بعد ذلك في منتصف شهر مايو (أيار) 1948.
وبعد أن ضاعت الفرصة الثانية، أقبلت الفرصة الثالثة، تجر أذيالها، ذلك أن مدينة يافا العربية، المرفأ التاريخي الشهير، كانت تمثل شوكة كبرى في ظهر مدينة تل أبيب، وفيها أكبر تجمع يهودي في فلسطين يناهز ثلث سكان الجالية اليهودية، وكانت هذه المدينة العربية الباسلة بما حولها من القرى العربية معها مدينتا اللد والرملة، ومطار اللد الشهير، ذات موقع استراتيجي خطير، وظل أبطالها يحيطون بمدينة تل أبيب إحاطة السوار بالمعصم، ولم يكن ينقصها إلا السلاح والعتاد، وتقول أوراقي أن أهلها قد أمطروا الجامعة العربية بالبرقيات والوفود يطلبون السلاح السلاح.. ولكن من غير سميع ولا مجيب..
وقد كان بإمكان الجامعة العربية، كما فعل إبراهيم باشا في الثلاثينات من القرن التاسع عشر، أن ترسل قوات عسكرية إلى يافا وبذلك تستطيع القوات العربية الانقضاض على تل أبيب، ومحاصرتها وتطويقها، ويكون(1/268)
بذلك القضاء على دولة إسرائيل في المهد، دون ما حاجة إلى دخول الجيوش العربية في شهر مايو (أيار) للقيام بمعركة لم يتوافر لها دليل واحد على نجاحها..
ولكن بدلا من ذلك كله، فإن العصابات اليهودية هي التي أخذت زمام المبادرة بالنسبة إلى يافا، فاحتلتها قبل دخول الجيوش العربية بأيام معدودات، وأنقذت اليهود في تل أبيب وبالتالي أنقذت التجمع اليهودي بأسره، وبذلك ضاعت الفرصة الذهبية الثالثة على الجامعة العربية..
ويكفي للتدليل على ذهبية تلك الفرصة الذهبية، أن مناحيم بيجن، رئيس وزراء العدو الحالي قد كشف عنها بنفسه في "يومياته" بعد احتلالها فقال: "قد لا يلاحظ البعض أهمية يافا بالنسبة إلينا، ولكنها من الناحية السياسية والتاريخية ذات أهمية قصوى، فقد كان على يافا أن ترهب تل أبيب خصوصا بعد 15 أيار فتشل بذلك عمل القوات اليهودية.. لقد كانت يافا الأداة الرئيسية لإذلال اليهود ودفعهم إلى طلب الحماية البريطانية، ولكننا أفشلنا هذه الخطة في الوقت المناسب.. ولقد كان باستطاعة العرب أن يغرقوا يافا بالرجال والعتاد والقنابل لقصف تل أبيب.. ثم إن يافا لا تبعد كثيرا عن غزة، والقوات العربية التي نزلت غزة كانت تستطيع أن تنزل في يافا، وفي 15 أيار لم يكن لدينا طائرات ولا بواخر حربية".
وأنهى بيجن كلامه قائلا: "لقد أنقذ احتلالنا ليافا شعبنا اليهودي من الدمار، لقد كان احتلال يافا حادثة عظيمة في تاريخ حرب التحرير اليهودية"..(1/269)
ولست في حاجة بعد هذا، إلى توكيد السقطة الكبرى التي وقعت فيها الجامعة العربية بإضاعة تلك الفرصة الذهبية التي كان يمكن أن تفضي إلى "تعريض الشعب اليهودي إلى الدمار" على حد تعبير الإرهابي اليهودي..
أما الفرصة الذهبية الرابعة التي قذفت بها الجامعة العربية أدراج الرياح فقد كانت سقوط عكا المدينة التاريخية العريقة، ذات الأسوار المنيعة والأبراج الحصينة، سقطت تماما يوم دخول الجيوش العربية إلى فلسطين، بعد أن تعاقب وفودها على دمشق والقاهرة طلبا للسلاح والنجدة، وبعد أن استنفد شبابها الأبطال آخر طلقة من ذخائرهم، وآخر قطرة من دمائهم..
ولو أن الجامعة العربية قد أنجدت عكا، ووصلت إليها بحرا أو برا، وهي على بضعة ساعات من بيروت ودمشق، لوقعت إسرائيل بين فكي الكماشة، فك في يافا، وفك في عكا، ولكان مصير الدولة اليهودية إلى زوال..
ولكن العكس هو الذي جرى، فكما أخذت القوات اليهودية زمام المبادرة بشأن يافا، فقد أخذت زمام المبادرة بشأن عكا –المدينة الباسلة قاهرة نابليون الذي ارتد عنها وهو يقول: "على أسوارك يا عكا أضعت مستقبل حياتي".
وبسقوط عكا سقط الجليل الغربي بمدنه وقراه العربية، وسقط "مفتاح سوريا" كما يقول المؤرخون عن عكا "من فتحها فتح سوريا".
تلك هي مأساة الفرصة الذهبية الرابعة التي أضاعتها الجامعة العربية، أما الفرصة الخامسة فإنها متصلة بحرب فلسطين ودخول الجيوش العربية، ووقف إطلاق النار الذي عرف بالهدنة الأولى..(1/270)
ونحن لا نتعرض في هذا الفصل لتفاصيل هذه الحرب، وهي كارثة بذاتها حتى في معزل عن نتائجها، ولن ندخل في تفاصيلها الموجعة المفجعة ولكننا تقتصر على جانب محدود فيها.
الفرصة الذهبية الخامسة التي أعنيها، هي وقف إطلاق النار في الهدنة التي قبلتها الجامعة العربية، فهذه لم تكن فرصة ضاعت على حساب العرب فحسب، ولكنها انقلبت إلى فرصة ذهبية للطائفة اليهودية، هزمت الجيوش العربية، وأقامت الدولة اليهودية، واستولت على الأراضي العربية المخصصة للدولة العربية بموجب قرار التقسيم.
وكائنة ما كانت المهزلة المأساة التي اسمها حرب فلسطين، ودخول الجيوش العربية ومن خلفهم حكام العرب المتباغضون المتحاسدون، الحاقدون بعضهم على بعض، المتربصون الدوائر على رفاقهم في المعركة.. فإن حرب فلسطين هذه كانت في الأسبوعين الأولين تسير سيرا لا بأس به،فقد استولت الجيوش العربية على مناطق غير قليلة من فلسطين، واصطدمت مع القوات اليهودية في معارك ناجحة.. إن قصف الطائرات المصرية لتل أبيب ليلا نهارا مما أثار الرعب في الجماهير اليهودية.. وراح الرأي العام الدولي يترقب نتائج هذه المعركة باهتمام وقلق بالغين.. ولم تكن للقوات اليهودية حتى تلك الفترة قوة عسكرية ذات شأن، فقد كان أثرهم وخطرهم إلى ذلك الوقت قاصرا على الأعمال الإرهابية، لا قتال الميدان، وكذلك فم يكن بين يدي تلك القوات أسلحة ذات شأن، وكان الجمهور اليهودي يسخر من قواته العسكرية، مستخدما النكتة الساخرة للتعبير عن مشاعره، وقد روى الكاتب اليهودي جون كيمشي في كتابه الذي أسلفنا الإشارة إليه أن اليهود كانوا يتندرون قائلين: "عندنا أحسن جيش مدرب وطائرات متقدمة ولكن في(1/271)
أوروبا" بينما يقول آخرون: "هل تعرفون أن لدينا أسلحة سرية.. إنها طائرتنا غير المنظورة".
وفي المعركة التي خاضها اليهود لفك الحصار عن القدس، تشكلت قوات يهودية بصورة غير منتظمة، وكان الكثير منهم لا يتكلمون اللغة العبرية، وكان الكولونيل إيجال يادين مدير العمليات العسكرية متشائما من نتائج المعركة، ويرى أنه لم يعد مناص من استسلام اليهود في القدس الجديدة بعد أن استسلموا بالقدس القديمة، وغير ذلك من الوقائع التي أشار إليها المؤلف اليهودي المذكور.
وتقول أوراقي، وكنت على اتصال وثيق بالعمل العربي في تلك الفترة، إن اليهود في فلسطين قد بدأوا يشكون في جدوى التقسيم، وفي حكمة السياسة اليهودية برمتها، وأن عدداً من اليهود ذوي المعرفة بالشخصيات العربية قد اتصلوا بالمسئولين في الجامعة العربية بحثا عن حل مقبول يقوم على أساس التعايش بين اليهود والعرب، وكفى الله الناس القتال..
يضاف إلى ذلك أن المراجع الأمريكية والبريطانية، قد راحت تعرض حلولا أخرى، منها تضييق حدود التقسيم بحيث تكون الدولة اليهودية قاصرة على الرقعة الساحلية من حيفا إلى تل أبيب.
وعلى العموم فإن الخط البياني لحرب فلسطين في مرحلتها الأولى كان صاعدا لصالح الجيوش العربية، وكان ذلك هو ما اتفقت عليه تحقيقات المعلقين العسكريين مما لا يتسع المجال للدخول في تفاصيله.
وتحرك مجلس الأمن، يبحث الوسائل التي تكفل وقف الحرب، وإعلان هدنة مؤقتة تتيح البحث عن تسوية سلمية.. والسجل هنا طويل ومحاضر مجلس الأمن أوسع من أن تتحمل التلخيص..(1/272)
وصفوة الأمر أن مجلس الأمن أصدر في الثاني والعشرين من مايو قرارا يقضي بوقف القتال وسارعت الوكالة اليهودية إلى قبوله بعد يومين اثنين.. كما سارعت السفارتان الأمريكية والبريطانية في القاهرة إلى الاتصال بالجامعة العربية ووزارة الخارجية المصرية للإلحاح بالإذعان لقرار مجلس الأمن، وما يعقبه من فوائد لحل القضية الفلسطينية..
وعقد اجتماع في مكتب وزير الخارجية المصرية أحمد خشبة باشا، حضره ممثلو الدول العربية وقرروا بالإجماع رفض قرار مجلس الأمن وبعثوا بردهم إلى المجلس يقولون فيه: "إنه ليبدو غريبا وشاذا في المعاملات الدولية أن تعامل القوات النظامية العربية على قدم المساواة مع تلك العصابات الإرهابية التي لا تمثل إلا أقلية ثائرة تريد أن تملي إراداتها قوة واقتدارا على غالبية السكان في بلاد لا تتسع إلى التجزئة والتقسيم".
وعاد مجلس الأمن إلى الانعقاد مرة ثانية، في السابع والعشرين من شهر مايو، فأصدر قرارا جديدا يدعو إلى وقف القتال لمدة أربعة أسابيع، "وأن على الفرقاء أن يبلغوا مجلس الأمن قبولهم للقرار، وفي أول يونيو".
واجتمعت اللجنة السياسية للجامعة العربية في أول يونيو (حزيران) في عمان للبحث في أمر هذا القرار الجديد، وناقش وزراء الخارجية العرب الموقف السياسي والعسكري، وقد أدلى القادة العسكريون في هذا الاجتماع بآرائهم وخلاصتها كما تقول أوراقي: "إنه لا توجد أسباب عسكرية ملحة تلجئ الحكومات العربية إلى الموافقة على الهدنة المقترحة لأن الموقف العسكري في فلسطين بوجه عام هو في صالح القوات العربية"..
وكان قد وصل الوسيط الدولي الكونت برنادوت إلى عمان، كما وصل رجال المخابرات البريطانية والأمريكية، وفي مقدمتهم الجنرال(1/273)
كلايتون، الموجود أبدا في العواصم العربية عند كل حادث.. وبدأت الضغوط الدولية تعمل ليل نهار على إقناع هذه الدولة أو تلك، حتى تفككت عرى التضامن العربي في الجامعة العربية فوافقت دولة على قرار مجلس الأمن، وقبلت الثانية لأن الأولى قبلت، وتبعتها الثالثة إلى السابعة.. وكل منها تعرب عن قبولها لأن غيرها قد قبل..
ولم يخل الأمر من أصوات معارضة للهدنة، في مقدمتها أمين الجامعة العربية عزام باشا الذي قدم استقالته احتجاجا، ثم سوي الأمر بينه وبين رؤساء الوفود العربية..
وهذه الأصوات المعارضة حذرة من أن الهدنة ستكون لصالح اليهود، عسكريا وبشريا.. ولم يعترض أحد على أقوال المعارضة وأجمعوا أنها صحيحة، ولكن الجامعة العربية كانت أضعف ميثاقا وهيكلا، وكانت دولها أضعف وجودا من أن تتحمل ضغوط الدولتين الديمقراطيتين العظيمتين.
والغريب حقا أن هذه التحذيرات والمخاوف قد امتلأت بها مذكرة الجامعة العربية التي أرسلتها إلى مجلس الأمن.. لقد دونتها وسجلتها، ولكنها قبلت وقف إطلاق النار، وقد رأينا أن نضمها إلى الكتاب الملحق رقم (6).
وفجع الرأي العام العربي، وأحراره وقادته المفكرون لوقف إطلاق النار، بينما تنفس المجتمع اليهودي الصعداء، كما يقول المؤلف اليهودي جون كيمشي في كتابه (1) ، لأن الحرب العربية على حد تعبيره كانت أشد هولا مما كانوا يتوقعون..
وكان وقف إطلاق النار فرصة العمر، بل فرصة الدهر بين يدي اليهود فاستغلوها أعظم استغلال خلال الأسابيع الأربعة التي نص عليها قرار
__________
(1) كتاب الأعمدة السبعة المنهارة، ص 240.(1/274)
مجلس الأمن.. بينما انشغل حكام العرب في تطريز برقيات التهاني فيما بينهم تمجيدا للنصر الذي حققته الجيوش العربية في معركة لم تتجاوز ثلاثة أسابيع إلا قليلا.
وخلال أسابيع الهدنة، قامت الدولة اليهودية بإعادة بناء قواتها العسكرية، ويمكن تلخيص المكاسب اليهودية التي تحققت فيما يلي.
1) تشكيل القوات اليهودية من جديد، بعد أن انضمت إليها أعداد وفيرة من القادة العسكريين والخبراء والفنيين والجنود الذين قدموا من كل أنحاء العالم.
2) احتلال مزيد من الأرض العربية "وتطهير الجيوب" الواقعة وراء الخطوط اليهودية.
3) إجلاء السكان العرب من المواقع الإستراتيجية.
4) إنشاء طريق "بورما" التي أنشأها الحلفاء في قلب آسيا لمد روسيا بالمعونات العسكرية.
5) هجرة الألوف من يهود أوروبا ومعظمهم من القادرين على حمل السلاح.
6) الحصول على كميات وافرة من الأسلحة والذخائر من أوروبا وأمريكا، ومنها الطائرات والمدافع والقطع البحرية.
لقد فعلت إسرائيل هذا على مرأى ومسمع من الجامعة العربية والأمم المتحدة والكونت برناندوت رغما عن الحظر الذي نص عليه مجلس الأمن، وقال المؤلف اليهودي جون كيمشي تبريرا لذلك: "إن حالة الجيش اليهودي عند الهدنة، بحيث لو التزم اليهود بنصوص قرار مجلس الأمن لكان ذلك يعني نهاية الحرب بالنسبة لإسرائيل.. وأن الوضع العسكري كان من الوضوح لدى كل يهودي في فلسطين وخارجها، بحيث لم يكن هناك شك للحظة واحدة بأن مخالفة قرار مجلس الأمن لا بد منها.. فقد كان الأمر مسألة(1/275)
حياة أو موت بالنسبة لإسرائيل" (1) . ومعنى ذلك بكلمة واحدة أنه لولا الهدنة لكانت "الدولة اليهودية" في ذمة التاريخ..
وقد علمت الجامعة العربية بهذه الاختراقات اليهودية الخطيرة فبعثت إلى الكونت برنادوت مذكرة بهذا الشأن بتاريخ 3 يوليو (تموز) 1948 جاء فيها ما يلي:
"لقد كان متفقا عليه ومقررا أن تنفذ شروط الهدنة تنفيذا دقيقا لا يترتب عليه أي تغيير في مركز الجانبين كما كان عليه وقت وقف إطلاق النار يوم 11 يونيو بحيث لا يستفيد أحد في هذه الفترة على حساب الآخر.. ولكن الطرف الآخر قد أمعن في خرقها وانتهاكها المرة بعد المرة كما نبهت الدول العربية جنابكم إلى ذلك، واستمر في جهات متعددة يرتكب أعماله العدوانية الاستفزازية، ولا شك أن رقباءكم سجلوا جميع هذه الأعمال التي استفاد منها الطرف الآخر، وجعلت فترة وقف إطلاق النار تعود عليه بالفائدة، كما أنه أدخل إلى فلسطين العديد من المهاجرين القادرين على القتال والكثير من الأسلحة والعتاد، وأخذ في تدعيم مراكزه واحتلال بعض المواقع الإستراتيجية وفي تموين قواته المحاصرة.. كما أن اليهود قاموا بهجمات محلية متكررة على كافة قطاعات الجبهة، كما قامت طائراتهم باستطلاعات مستمرة فوق مواقعنا العسكرية.. وقام اليهود خلال هذه الفترة بتطهير جيوب المقاومة الكائنة في مناطقهم.. وكان أبرز خرق للهدنة قام به اليهود هو هجماتهم المتكررة التي بدأت في 16 يونيو على عدد من القرى العربية وتمكنوا من احتلالها وتدميرها وطرد سكانها" إلى آخر ما جاء في ذلك البيان.
__________
(1) المرجع نفسه ، ص 249.(1/276)
والغرابة الكبرى أن هذا البيان، والبيان السابق بقبول وقف إطلاق النار، كانا بارعين كل البراعة في بيان أخطار وقف إطلاق النار، وما سيؤدي إليه من المزايا العسكرية للدولة اليهودية.. ومع ذلك فقد قبلت الجامعة العربية بوقف إطلاق النار، تماما كمن يستيقظ مبكرا لتنفيذ حكم الإعدام.
وكان ذلك هو الإعدام لحرب فلسطين، والإعدام لأهداف الجامعة العربية ومقرراتها في تلك الفترة، فما أن استؤنف القتال بعد انقضاء الهدنة الأولى حتى انطلقت القوات اليهودية تضرب بيد فولاذية في جميع الجبهات فوطدت سيطرتها على جميع الأراضي المخصصة للدولة اليهودية، واخترقت الخطوط العربية، فاحتلت العشرات من المدن والمئات من القرى العربية التي كانت مخصصة للدولة العربية، وفي مرحلة تالية اخترقت صحراء النقب بكاملها إلى شواطئ البحر الأحمر، واستولت على أواسط فلسطين حتى وصلت إلى أسوار بيت المقدس، ثم بسطت يدها على الجبل الغربي ومنها نفذت إلى الأرض اللبنانية واحتلت بضعة قرى لبنانية على الحدود.. واستقر الأمر في النهاية على توقيع هدنة عربية يهودية، فرض الغالب فيها شروطه على المغلوب..
وبهذا توطدت دعائم الدولة اليهودية، وتكاثرت الاعترافات الدولية بها، وقبلت عضوا في الأمم المتحدة، والمواطن العربي يعرف بقية القصة.. إلى يومنا هذا.
وهكذا أضاعت الجامعة العربية خمس فرص ذهبية: الوصاية الدولية التي اقترحتها أمريكا، الحصار العسكري على المائة ألف يهودي في القدس الجديدة، سقوط يافا بيد القوات الإسرائيلية، وسقوط عكا، وأخيرا الهدنة الأولى التي توقف فيها القتال لمدة أربعة أسابيع.(1/277)
وكانت أي من هذه الفرص كافية للقضاء على الدولة اليهودية أو للوصول إلى حل مرحلي مقبول يبعد عن الأمة العربية هذه السلسلة الطويلة من الحروب والكوارث التي وقعت فيها الأمة العربية في الثلاثين عاما الماضية.
تلك هي مسئولية الجامعة العربية العظمى نسردها اليوم لا لنستعرض أحداثا تاريخية مضت وانقضت، ولكننا أردناها أن تكون مؤشرا صارخا صائحا يدعو الأمة العربية وحكامها المعاصرين إلى بناء الجامعة العربية من جديد، ميثاقا وهيكلا واختصاصا وسيادة.. ذلك أن الجامعة تلك صاحبة الهزيمة الكبرى إياها، ما تزال قائمة إلى يومنا هذا بكل سيئاتها، وبميثاقها الهزيل.
ليس هذا فحسب بل إن سيئاتها قد ازدادت ضخامة، بضخامة هياكلها المبعثرة، ومؤسساتها المفككة، كما تعمقت التجزئة بين دولها بعد أن تجاوز أعضاؤها، عشرين دولة انفصالية، تتعامل فيما بينها، تعامل الدول الأجنبية بعضها مع بعض.
ولا بد للأمة العربية أن تقضي على هذه المآسي بالإصلاح، أو بالثورة، إذا عجز الإصلاح..(1/278)
الفصل الرابع عشر
الجامعة العربية من غير وازع ولا رادع
كانت الجامعة العربية، عبر الثلاثين عاما من عمرها الانقسامي الخصامي، جامعة للخلافات العربية، بدلا من أن تكون جامعة للتضامن العربي والوفاق القومي، ولم يكن يخلو عام واحد، من اختلاف بين دولتين عربيتين أو أكثر، وما يكاد ذلك الخلاف يبدأ بالكلام، حتى يتطور إلى حملات من السباب والشتائم، بذيئة ومقذعة في كثير من الأحوال، ثم يتصاعد إلى قطيعة دبلوماسية واقتصادية، ويبلغ الذروة بعد ذلك إلى اقتتال بكل سلاح، من(1/280)
القنابل والمتفجرات إلى حرب الدبابات والطائرات.. ويا ضيعة الدم الزكي المهراق، ويا شقاء الكرامة العربية الجريحة..
ولو كان هذا الخلاف قاصرا على الحكام أنفسهم يتدابرون ويتخاصمون حينما يشاؤون، لكان الخطب هينا، ولكن الخلاف يجر وراءه الشعوب بمصالحها القومية، وشئونها الملكية والجمهورية، وتتناول حياة الكادحين في معاملهم ومزارعهم وأكواخهم، وتزرع الأحقاد بين أبناء الأمة الواحدة..
والمتتبع لمسيرة الخصومات العربية، في عهد الجامعة العربية، إذا كان باحثا أجنبيا، حتى ولو كان صديقا عطوفا على الأمة العربية، لا يكاد يصدق إن هذه الخلافات يمكن أن تحدث في أمة واحدة، ولا يستطيع إلا أن يجزم بأن هذا "الوطن" الممتد من المحيط إلى الخليج إنما تقيم على أرضه أمم وشعوب متباعدة، لا تربطها رابطة، ولا تتكلم لغة واحدة، إلا لغة الفتن والقلاقل..
ولا يرتد الباحث إلى الصواب، إلا حين ينزل عميقا إلى جذور هذه الخلافات وأسبابها، ليصل في النهاية إلى الحقيقة الكبرى أن هذه الصراعات العربية لا صلة للأمة العربية بها إطلاقا، وأنها صراعات بين الحكام لسبب أو لآخر، وأن الأمة العربية لو كانت تملك زمام أمرها، أو لو كان الحكم فيها قائما على الشورى الحقيقية، ما كانت تقع هذه السلسلة الطويلة من الصراعات العربية العربية..
والخلاف والاختلاف، بل الصراع والنزاع، هي أمور "مركبة" في طبيعة الحياة الفردية والجماعية.. فليس عالمنا الذي نعيش فيه هو عالم الملائكة.. والإنسان الفرد يمثل "الكيان" العجيب الذي تقوم حياته على(1/281)
الصراعات، بل "الحروب" النافعة في أصغر خلية من خلاياه التي تعد بملايين الملايين، ناهيك عن الجماعات الإنسانية الكبرى التي تتضارب فيها المصالح والمطامع والمطامح..
وأنه من الطبيعي، بل من الضروري جدا، أن يقوم الخلاف في المجتمع العربي، حول المناهج والأساليب في شتى نواحي الحياة.. فإن الجثة الهامدة وحدها هي التي لا تحس فيها "نبض" الخلاف والصراع.
وكذلك فإنه من الضروري جدا، أن يشتد الاختلاف في المجتمع العربي، بعد أن استيقظ من رقاده الطويل، ونهض على قدميه، يريد أن يسابق الزمن ليلحق بركب الحضارة والتقدم، من حيث انتهت مرحلة اليقظة العالمية لا من حيث ابتدأت.
ولكن هذا الصراع العربي الذي عشنا لياليه السوداء، كان يجب أن يتحضر في نطاق الحوار الرشيد، والسباق إلى الأفضل والأكرم، والمناقشة على خير الخطط والبرامج، التي تؤدي إلى عزة الأمة العربية وكرامتها وما يقودها إلى الانتفاع بخيراتها وكنوزها، لخير الوطن كله والمواطنين جميعا..
وقد كان الأمل معقودا على الجامعة العربية، حتى وهي في إطار التنسيق والتعاون، أن تقود الأمة العربية في مسيرة التقدم، ولكن سجلها في الأعوام الخمسة والثلاثين، لا ينبئ عن إنجاز جاد وأصيل يمكن أن تفاخر به، وتصدره في كشف الحساب.. وما التقدم الذي نراه في الوطن العربي منذ عهد الاستقلال إلى يومنا هذا إلا نتاج جهود فردية ذاتية، أو تعاونية عامة، أو نشاطات إقليمية.. ولا يكاد الباحث الدارس أن يضع يده على مشروع عربي عام أنجزته الجامعة العربية لصالح الأمة العربية جمعاء، ولخير الوطن العربي بأسره.(1/282)
وبدلا من أن تكون الجامعة أداة كبرى للتقدم العربي، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، فقد كانت مسرحا للخلافات والصراعات، وكل ما أفلحت الجامعة بصدده أنها أخفت الحقائق عن الرأي العام العربي، حتى لا يدري المواطن العربي مواقف الحكم العربي، واقتصر الأمر من حين إلى حين، على الدعوة إلى "التضامن العربي"، وتوقيع وثائق التضامن العربي، وإبقاء أسباب النزاع دفينة في مكانها، لا يدري المواطن العربي من حقائقها شيئا.
ومما ساعد على قيام هذه الصراعات العربية، بل وأذكى حدتها على يد الحكم العربي المعاصر، أن الجامعة العربية قد جعلت ميثاقها مستباحا منذ البداية، فلم تكن فيه نصوص وازعة، ولا أحكام رادعة.. والمثل العربي العامي يقول: "المال السايب يعلم الناس الحرام". لذلك فإن الجامعة العربية "السايبة" تعلم الدول العربية الخلاف، وتغريهم بالنزاع.
وميثاق الجامعة، كما بينا في الفصول السابقة، قام منذ البداية على نصوص رخوة، وأحكام فضفاضة.. وكانت أكثر مواده ضعفا ووهنا ما تعلق بالخلافات العربية، وضرورة حسمها في مهدها، قبل أن تستفحل وتصبح حربا في الميدان.. تماما كما يقع بين الدول الأجنبية المجاورة.. وأنا أدعو المواطن العربي إلى نظرة سريعة إلى المادتين الخامسة والسادسة من ميثاق الجامعة (انظر الملحق رقم 4).
وتكفي الدراسة العادية لهاتين المادتين أنه محظور على مجلس الجامعة أن ينظر في "الخلاف إذا كان يتعلق باستقلال الدولة أو سيادتها أو سلامة أراضيها" وهذا الحظر لا مبرر له إطلاقا إلا "العناد الجامح" في التمسك بالاستقلال والسيادة، على حين أن ميثاق الأمم المتحدة ينظر في جميع(1/283)
الخلافات كائنة ما كانت، وتنتج عن ذلك حالة غريبة عجيبة، هي أن الأمم المتحدة تملك بشأن النزاعات العربية – العربية، اختصاصات لا تملك الجامعة العربية شيئا منها.
وفوق ذلك فإن اختصاص الجامعة العربية يقوم على أساس الاختيار والرضى، فإن المادة الخامسة من الميثاق تعطي الاختصاص في حالة واحدة فقط "إذا لجأ المتنازعون إلى المجلس لفض الخلاف كان قراراً نافذا وملزما".. أما إذا لم يلجأ الطرفان.. فلا سلطة للمجلس.. وتبقى السلطة للأمم المتحدة..
والمادة نفسها، تعطي المجلس حق الوساطة في "الخلاف الذي يخشى منه وقوع حرب" ومعنى ذلك أن الخلافات الأخرى ليس للمجلس سلطة بشأنها.. وكل ذلك بقصد "التوفيق بينهما".
وحتى "القرار الخاص بالتوسط" فلا بد فيه من أغلبية الآراء، أما المادة السادسة فإن "التدابير اللازمة لدفع الاعتداء" فيصدر القرار بشأنها بالإجماع.
وبالإضافة إلى هذا كله فإن المادة السابعة من ميثاق الجامعة، من شأنها أن تعطل عمل الجامعة بصورة كاملة شاملة، فإنها تنص على "الإجماع" لتكون القرارات ملزمة، وبعد ذلك فإن تنفيذ القرارات الإجماعية، لا بد له من خطوة أخرى، هو أن يتم "وفقا للنظم الأساسية" لكل دولة عربية.
ثم هنالك المادة التاسعة من الميثاق، وهي أعجب مواد الميثاق وأغربها، حينما تتناول موضوع محكمة العدل العربية بطريقة مواربة مسربلة بالحياء والخجل، فهي تقول إنه "يجوز بموافقة ثلثي دول الجامعة تعديل هذا الميثاق، وعلى الخصوص لجعل الروابط بينها أمتن وأوثق ولإنشاء محكمة عدل عربية"!!(1/284)
وآية السخرية أن مؤسسي الجامعة العربية الأوائل، بدلا من أن يبادروا إلى إنشاء محكمة عدل عربية للنظر في الخلافات العربية، هربوا من الموضوع كلية، وجعلوا مسألة محكمة العدل، إنشاءها واختصاصها وقراراتها منوطا بتعديل ميثاق الجامعة.. ولماذا لم يبادر مؤسسو الجامعة إلى إنشاء محكمة عدل عربية، ولماذا أرجأوا ذلك إلى المستقبل، ولماذا جعلوا إنشاء محكمة العدل العربية عملا يتطلب تعديل الميثاق ويحتاج إلى ثلثي الأصوات.. هذه كلها أسئلة تثير الاستغراب بل الاستنكار، ولا يصح للحكم العربي المعاصر أن يقف أمامها مكبلا حائرا بعد خمسة وثلاثين عاما من التجارب والمحن..
ولقد جرت محاولات متكررة عبر الأعوام الخمسة والثلاثين لتعديل الميثاق، ولإنشاء محكمة العدل العربية.. ولكن هذه المحاولات باءت بالفشل وبقي سلوك الحكومات العربية، وتصرفاتها وصراعاتها، بعيدة عن القضاء العادل.. وبالتالي بعيدة عن مراقبة الأمة العربية ومحاسبتها..
وقد سبق لمجلس الجامعة في دورته الثانية عشرة بتاريخ 13-4-1950 أن أصدر قرارا اختار بموجبه لجنة "لوضع مشروع نظام محكمة العدل العربية" وتعاقبت بعد ذلك قرارات الجامعة في هذا الصدد حتى بلغت تسعة قرارات كان آخرها في الدورة الثامنة والعشرين بتاريخ 17-11-57 دون أن يصل الموضوع إلى نتيجة حاسمة.
وقد قام الأمين العام للجامعة السيد محمود رياض، بمبادرة في هذا الصدد فقدم إلى مجلس وزراء الخارجية العرب بتاريخ 12-11-1977 مذكرة مطالبا فيها "بالعمل على إنشاء محكمة العدل العربية" وأن تمارس إلى جانب ذلك مهام التوفيق والتحكيم والوساطة" ولكن مجلس الوزراء قرر(1/285)
إحالتها إلى اجتماعه التالي في دورة سبتمبر 1977.. والمجلس حسب "عادته القديمة التي تعلمها من حليمة" أحال الموضوع إلى الاجتماع الذي يليه، وكانت مبادرة الأمين العام تلك جديرة بالتقدير والتطبيق ولكن أنى للحكم العربي المعاصر أن ينهض بمسئولياته القومية بجدية وعزيمة..
وبهذا بقي الحكم العربي المعاصر، من غير رادع ولا وازع، ومن غير حسيب ولا رقيب يملك الحرية الكاملة ليخوض الخلافات والحروب، بالقلم واللسان والسلاح.
وقد ساعد هذا "الفراغ" في الميثاق على تعدد الصراعات فيما بين الدول العربية، وأذكى شدتها وحدتها، ولهذا فإن الميثاق "السايب" قد فتح للحكم العربي المعاصر "حرية" تبادل الأراجيف والأباطيل، وكذلك تبادل المتفجرات، والحشود على الحدود، الاشتباكات المسلحة ثم تصعيدها حتى تصل إلى مستوى الحروب.. وأن نظرة سريعة إلى سجل "السوابق" في هذا الباب، من شأنها تحملنا على وضع ميثاق جديد، يجعل الحكم العربي نظيفا من غير سوابق، ويجعل حياة المجتمع العربي نقية مهذبة تتصارع من خلالها الآراء على أشد ما يكون الصراع، ولكن في إطار موضوعي رشيد يأتي بخير الثمرات.. وستقتصر في هذا السجل على أبرز الصراعات وأكثرها قبحا وخطرا.. وكان أول ما امتحنت به الجامعة العربية هو الخلاف السوري اللبناني في مايو (أيار) 1949.
وكانت خلاصة الوقائع التي أدت إلى ذلك الخلاف أنه في صباح العاشر من ذلك الشهر دخلت قوة سورية إلى الأراضي اللبنانية لإلقاء القبض على فلسطيني كان متهما بالتعاون مع السلطات الإسرائيلية، وأثناء مطاردته أطلقت عليه النار فأردته قتيلا، على أثر ذلك قامت قوة من الجيش اللبناني،(1/286)
فاعتقلت المجموعة العسكرية السورية وانتزعت سلاحهم، وأودعتهم السجن تمهيدا لمحاكمتهم أمام القضاء اللبناني.
وطالبت الحكومة السورية بالإفراج عن المعتقلين باعتبار أن العسكريين السوريين كانوا بين الأمر الصادر إليهم من السلطات السورية بالقبض على الفلسطيني لمحاكمته أماكم المحكمة العسكرية السورية بتهمة الخيانة العظمى.. وأن العرف بين سوريا ولبنان يجيز لرجال القوة العامة في كل منهما، أن ينفذوا أوامر القبض الصادرة من السلطات المختصة للبلد التابعين له في أراضي البلد الآخر، وأن الجنود الذين يرتكبون جرائم في أراضي دولة صديقة يحاكمون أمام محاكم دولتهم العسكرية وليس أمام المحاكم التي دخلوا أراضيها.
وردت الحكومة اللبنانية أن القضاء اللبناني هو السلطة الوحيدة المختصة للنظر في هذه الجريمة، وأنه وفقا لأحكام القانون الدولي فإن محاكم الدولة التي وقعت الجريمة في أراضيها هي صاحبة الاختصاص.
وتأزم الموقف بين الدولتين الشقيقتين،ولم تفلح الوساطة بينهما، ولكنهما رضيا في النهاية بإحالة الخلاف إلى التحكيم، ولكن خارج إطار الجامعة العربية.. وأصدرت هيئة التحكيم قرارها "بدعوة الحكومة اللبنانية إلى إبعاد الضباط والجنود السورين من أراضيها.. وإعادتهم إلى الحكومة السورية.. ومطالبة الطرفين بالتعجيل بإبرام اتفاقات ثنائية لضبط الإجراءات فيما يتعلق بالمواد الجزائية في علاقتهما المتبادلة، منعا لوقوع حوادث أخرى في المستقبل من هذا القبيل".
ومما تجدر الإشارة إليه أن مندوب لبنان، أمام هيئة التحكيم، قد رفض أن يتضمن قرار التحكيم إشارة إلى ميثاق جامعة الدول العربية حتى لا(1/287)
تكون مدخلا لتبرير تدخل الجامعة العربية مستقبلا في المنازعات اللبنانية التي قد تحدث مع أية دولة عربية.
وكائنا ما كان الأمر فإن هذا التحكيم الذي تم بين سوريا ولبنان، كان أول وآخر تحكيم يلجأ إليه لتسوية المنازعات العربية.. داخل إطار الجامعة العربية أو خارجها.. وكان ذلك البداية في كشف عجز الجامعة العربية، وقصور ميثاقها عن التصدي للخلافات العربية..
وجاءت بعد ذلك أزمة الضفة الغربية في عام 1950 وتفاصيلها تحتاج إلى كتاب قائم بذاته، وموجزها أن الحكومة الأردنية قد أعلنت ضم الضفة الغربية إلى شرق الأردن، فيما عرف بعد ذلك بالمملكة الأردنية الهاشمية.. ولم يوافق عدد من الدول العربية الأخرى على هذا الإجراء، وكان ذلك كما هو معروف بعد انتهاء حرب فلسطين في عام 1948 وإلحاق الهزيمة بالجيوش العربية..
وأثناء انعقاد الدورة العادية الثانية عشرة لمجلس الجامعة في مارس (آذار) سنة 1950 أثير الموضوع وأثيرت معه مناقشات سياسية وقانونية حادة حول مشروعية الضم، فأصدر مجلس الجامعة في 13 ابريل (نيسان) 1950 قرارا، بمعارضة الأردن، يؤكد فيه "أن دخول الجيوش العربية إلى فلسطين لتحريرها، ينبغي أن ينظر إليه كإجراء مؤقت.. وأن فلسطين بعد تحريرها يجب أن يحكمها أصحابها، بالأسلوب الذي يرغبونه.. وأنه إذا قامت دولة عربية بانتهاك هذا القرار فإنها تعتبر مخلة بالتزاماتها".
وقد أثار الخلاف الكبير حول القضية الفلسطينية مدى القوة الإلزامية لقرارات مجلس الجامعة، ومدى صلاحية مجلس الجامعة، وبالتالي موضوع قيمة الميثاق بأكمله، فقد أعلن الوفد الأردني "أن الجامعة تقوم على أساس(1/288)
اختياري وأنه ما من دولة عضو يمكن أن تقيد حركتها في مسألة تمس سيادتها واستقلالها، وأن الدولة العضو لا تلتزم إلا بالقرار الذي صوتت عليه بالقبول وأن القرار الصادر بالإجماع يلزم جميع الدول الأعضاء"..
على حين أن بقية الدول الأعضاء تمسكت بصلاحية مجلس الجامعة في أن يقرر أن دولة ما قد أخلت بالتزاماتها طبقا للميثاق، وبالتالي يحق لمجلس الجامعة أن يطرد تلك الدولة من عضوية الجامعة..
وتوالت الاجتماعات وتكاثرت المجالات حول هذا الخلاف بين الأردن من جانب والجامعة العربية من جانب آخر، ولم يستطع مجلس الجامعة أن يصل إلى قرار إجماعي بطرد الأردن وفقا لما طلبته مصر وسوريا ولبنان والسعودية.. وانتهى الأمر بعد ذلك بتسوية وراء الكواليس، تتلخص بأن الأردن يتعهد باعتبار أن ضم الضفة الغربية مسألة إجرائية بحتة تقتضيها اعتبارات عملية بحتة، وأن الضم مؤقت لحين التوصل إلى تسوية نهائية لقضية فلسطين.
هكذا سويت أكبر أزمة قومية واجهت الجامعة العربية، بصورة "عشائرية" فلم يكن الميثاق في مستوى هذه الأزمة، ولم تكن لدى الجامعة محكمة عدل تفصل في الجوانب القانونية، من النزاع، ولم يكن في مؤسسات الجامعة جهاز شعبي، تخشى هذه الدولة أو تلك، محاسبته أو مراقبته.. وكل ما تملكه الأمة العربية، هو جامعة تعمل بالخفاء، في مناقشات سرية، وتسوي الخلافات العربية، على اعتبارات بعيدة عن المصلحة القومية العليا.
وفي فبراير (شباط) 1958 نشأ نزاع بين مصر والسودان، وكان ذلك لمناسبة الانتخابات البرلمانية في السودان.. فقد أدرجت حكومة الخرطوم منطقة معينة واقعة شمال خط العرض 22 ضمن الدوائر الانتخابية في(1/289)
السودان.. فبادرت الحكومة المصرية إلى إرسال مذكرة إلى حكومة السودان تطالبها بإخراج تلك المنطقة من الدوائر الانتخابية السودانية.. وصاحب ذلك أن دخلت دورية من قوات الحدود المصرية إلى تلك المنطقة، وترتب على ذلك أن اعتبر السودان أن الإجراء المصري هو "عدوان خارجي على سيادة واستقلال السودان" وأعلنت عدة صحف سودانية أن "جيش عبد الناصر يغزو حدود السودان".. وتبادلت الخرطوم والقاهرة البرقيات والاتهامات.
وقدم السودان مذكرة إلى الجامعة العربية تطالب "ببذل المساعي الحميدة بعد أن فشلت المفاوضات المباشرة".. ومن غير انتظار للمساعي الحميدة قامت الحكومة السودانية في اليوم نفسه بتقديم مذكرة إلى الأمم المتحدة تطلب عقد جلسة عاجلة لمجلس الأمن "لمناقشة الحالة الخطيرة القائمة على الحدود السودانية المصرية والناجمة عن حشد قوات مصرية كبيرة تتحرك صوب الحدود السياسية السودانية".
وفي 21 فبراير (شباط) 1958 انعقد مجلس الأمن واستمع إلى بيانات طرفي النزاع، وأعلن مندوب مصر أن حكومته عازمة على إرجاء تسوية مسألة الحدود إلى ما بعد الانتخابات السودانية.. وكل ما فعله مجلس الأمن، أن أعضاءه أعربوا عن أملهم في أن يتمكن الطرفان من تسوية خلافاتهما سلميا عن طريق المفاوضات وفي إطار الجامعة العربية..
وكان مقدرا لهذا الخلاف أن يسوى عندما أبرمت اتفاقية توزيع مياه النيل في 8 فبراير (شباط) 1958، ولكن العبرة في هذا النزاع الذي كان يمكن أن يتطور إلى أحداث خطيرة، أن ميثاق الجامعة لا يحظر على الدول الأعضاء أن يلتجئوا إلى مجلس الأمن بصدد هذه الخلافات.. وأن أمانة الجامعة لم تبادر إلى دعوة مجلس الجامعة إلى جلسة عاجلة.. وأن مجلس(1/290)
الأمن لم يفعل شيئا فقد أعرب عدد من الأعضاء عن تمنياتهم بأن يسوى الخلاف في وطنه.. في الوطن العربي لا في نيويورك.
وما أن انتهى النزاع المصري السوداني، حتى نشبت أزمة كبرى في مايو- نوفمبر 1958 بين الجمهورية العربية المتحدة ولبنان، وعرفت بالأوساط الدولة بأزمة الشرق الأوسط.. والقصة طويلة ومتشابكة، وموجزها أن خلافات حادة بدأت بين الجماعات السياسية في لبنان في عهد الرئيس كميل شمعون، ثم تطورت هذه الخلافات حول قبول مبدأ إيزنهاور الذي كانت قبلته يومذاك كل من ليبيا وتونس والمغرب والأردن والعراق، وازداد الموقف توترا بحدوث الاضطرابات في المدن اللبنانية بين أنصار هذا الفريق أو ذاك، وكانت الجمهورية العربية المتحدة أول دولة عربية أعلنت رفضها لمبدأ إيزنهاور، ولم يكن مفر من أن تساند العناصر الوطنية في لبنان في هذا الاتجاه.. وفي مايو (أيار) 1958 طلب رئيس الجمهورية اللبنانية المساندة والعون من كل من فرنسا وبريطانيا وأميركا ضد ما وصفه "العون الخارجي الواقع على لبنان".
وجاءت ثورة تموز (يوليو) في العراق وسقوط الحكم الهاشمي، ليزداد الموقف العربي خطورة وتدهورا، فعادت الحكومة اللبنانية إلى مطالبة أمريكا بالتدخل العسكري "لحمايته من اعتداءات جيرانه من البلاد العربية الثورية" وبادرت أمريكا إلى الاستجابة فبعث بالأسطول السادس إلى شواطئ لبنان، وأنزلت قوات عسكرية على الأراضي اللبنانية، وقامت الحكومة البريطانية من جانبها بإنزال قوات المظلات البريطانية في الأردن، بناء على طلب الحكومة الأردنية.. وبذلك أصبح الشرق الأوسط بؤرة توتر عالمي..(1/291)
وعلى صعيد الأمم المتحدة فقد قدم الأردن شكوى إلى مجلس الأمن بتاريخ 13 يوليو يتهم فيها الجمهورية المتحدة بالتدخل في شئونه الداخلية، وعقد مجلس الأمن عدة جلسات متعاقبة جرت فيها مناقشات حادة بين مختلف الأطراف، وكانت أمريكا وروسيا على رأس الأزمة، وأخفق مجلس الأمن في الوصول إلى قرار، فالمشروع الأمريكي أسقطه الفيتو الروسي، والمشروع الروسي أسقطه مجلس الأمن بالأغلبية، ولم يجد مجلس الأمن أمامه مخرجا أمام هذه الأزمة الدولية، إلا أن يدعو إلى عقد جلسة طارئة للجمعية العامة، في دورة استثنائية.
وانعقدت الجمعية العامة في الثامن من أغسطس (آب)، لمناقشة النزاع العربي بأطرافه المختلفة، ولم يعد للعالم الدولي من حديث في ذلك الشهر إلا الاتهامات المتبادلة بين الدول العربية.. "الحرب" الباردة والساخنة الدائرة في الوطن العربي.
وكانت الوفود العربية في الأمم المتحدة في موقف لا تحسد عليه، فالويل لها إن هي خالفت التعليمات الصارمة الصادرة إليها من العواصم العربية، والويل لها من الرأي العام الدولي الذي أصبح يرى الجامعة العربية مضغة في أفواه الساخرين.
وأيقنت الوفود العربية أن الأمم المتحدة أعجز من أن تحل الأزمة، فإنها لا تملك شيئا بعد أن أخفق مجلس الأمن، وراح الوفود الآخرون الأصدقاء والأعداء على السواء يناشدون الدول العربية أن يسووا خلافاتهم فيما بينهم، وكانت إسرائيل في مقدمة الأعضاء "عطفا" على الوفاق العربي، ومناشدة لتسوية الخلاف العربي عن طريق المفاوضات.(1/292)
إزاء ذلك كله لم يجد رؤساء الوفود العربية مناصا من أن يتفقوا هم على مشروع يعرضونه على الجمعية العامة لتسوية الأزمة.. فكان ذلك، فتقدم رئيس وفد السودان باسم جميع الدول العربية بمشروع قرار يدعو إلى ضرورة الالتزام بأحكام المادة الثامنة من ميثاق الجامعة العربية التي تدعو إلى عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى واحترام نظم الحكم القائمة فيها.. ووافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على القرار العربي بالإجماع، بما فيها صوت إسرائيل.
وهبطت حدة النزاع في الوطن العربي، والتأمت الجراح، وعادت العلاقات طيبة بين الفرقاء، وانسحبت القوات الأمريكية والبريطانية من مواقعها، في لبنان والأردن.
وهذه الأزمة التي طحنت رحاها كرامة الأمة العربية، وكشفت عن هزال الجامعة العربية تركت وراءها كثيرا من الدروس والعبر، كلها مؤشرات صارخة تكشف عن مواطن الضعف في ميثاق الجامعة العربية ومؤسساتها..
ومن أهم هذه الدروس، أن الخلافات العربية يجب أن تعالج في إطار الجامعة العربية وحدها، وأن الضرورة تقضي بإنشاء مؤسسات تبادر إلى تسوية الخلافات قبل استفحالها، وأخيرا، وهذا هو الأهم، أن اختصاصات الردع والعقاب يجب أن تفوض إلى مجلس الجامعة بصورة وافية.
وفي يونيو (حزيران) من عام 1961 شهد الوطن العربي أزمة خطيرة أخرى، أشغلت الجامعة العربية والأمم المتحدة معا.. وهي النزاع بين الكويت والعراق.. ذلك أنه بعد أسبوع من استقلال الكويت، أعلن اللواء عبد الكريم قاسم رئيس الجمهورية العراقية أن الكويت جزء من العراق وأنه(1/293)
سيتخذ التدابير اللازمة لضم الكويت إلى العراق، وبالفعل فقد أصدر أمرا ينص على تعيين أمير الكويت "حاكما لمقاطعة الكويت" وتصدر إليه الأوامر من بغداد.
وإزاء هذا التهديد العراقي، فقد أرسل الكويت برقيات إلى جميع الدول العربية يخطرها بالموقف الذي أعلنته حكومة العراق، وكذلك فقد طلبت حكومة الكويت، حماية القوات البريطانية لأراضيها من احتمالات الغزو العسكري لها استنادا إلى المعاهدة البريطانية الكويتية.. واستجابت الحكومة البريطانية على وجه السرعة، فأنزلت قواتها في الكويت بعد أربع وعشرين ساعة من الطلب الكويتي.
وتقدم الكويت والعراق بالشكوى إلى مجلس الأمن، كل يعرض قضيته.. كما تقدمت المملكة العربية السعودية بطلب إلى مجلس الجامعة لعقد اجتماع غير عادي للنظر في التهديد العراقي ولبحث موضوع انضمام الكويت إلى الجامعة العربية.
وكثرت الاجتماعات والمساعي العربية، ولم يستطع مجلس الجامعة أن يصل إلى قرار في الموضوع، المرة بعد المرة، إلا في يوليو (تموز) 1961، فقد أصدر قرارا "بقبول الكويت عضوا في الجامعة العربية، وتقديم المساعدة الفعالة لصيانة استقلال الكويت" وكان القرار بموافقة الدول العربية باستثناء العراق..
وقام الأمين العام بإنشاء قوة طوارئ عربية مكونة من قوات سعودية ومصرية وسودانية وأردنية وتونسية تقدر بثلاثة آلاف وخمسمائة جندي.. ولكن هذه القوات لم تصل إلى الكويت إلا في العاشر من شهر سبتمبر(1/294)
(أيلول)، حين أصبح التهديد العراقي آخذا بالتراخي.. وأصبح عمل القوات العربية رمزيا.
ولكن الأزمة الكويتية العراقية التي استعصى حلها على الجامعة العربية، قد تمت تسويتها بمقتل اللواء عبد الكريم قاسم، وقيام حكم عراقي جديد، اعترف باستقلال الكويت، وتبادل العلاقات الدبلوماسية معها.. وكأن شيئا ما كان.. وكان ذلك دليلا آخر، إن الحكام بأشخاصهم هم سبب الخلاف والشقاق..
وقد تأكدت في النزاع الكويتي العراقي حقيقتان أساسيتان، بدت ملامحهما في النزاعات العربية السابقة.. الأولى أن مجلس الأمن لم يستطع أن يجد حلا للأزمة.. والثانية أن مجلس الجامعة، بسبب رخاوة ميثاقه وانعدام مؤسساته واختصاصاته لم يستطع كذلك أن يجد الحل العربي المطلوب.. وفي الوقت المطلوب.
ولقد كانت سابقة حسنة، أن الجامعة العربية استطاعت أن تؤلف قوة أمن عربية، ولكن بريطانيا قد سبقتها بزمن غير قليل، فقد بعثت بقواها عبر البحار بعد أربع وعشرين ساعة.. واتخذ الجنود البريطانيون خلالها مواقعهم في الصحراء اللاهبة في ذلك الشهر اللاهب، حين "يذوب المسمار في الباب" كما يقول العراقيون والكويتيون.
وبعد النزاع الكويتي العراقي، نشب نزاع خطير أخر، وهذه المرة في داخل كيان الجمهورية العربية المتحدة، بين القاهرة ودمشق، بعد الانفصال في شهر سبتمبر 1958 ولم تكف كارثة الانفصال بنفسها حتى تناول النزاع بعدها اتهامات خطيرة، بعضها مالي وبعضها قومي، وأية واحدة منها تصل إلى حد الخيانة القومية العظمى، وتطور الأمر بين سوريا ومصر إلى توتر(1/295)
خطير امتد إلى الوطن العربي كله، وانعقد مجلس الجامعة العربية في دورة استثنائية في شتورا بلبنان في أغسطس من عام 1962، وأصبحت هذه المدينة اللبنانية الصغيرة محل انتباه العالم العربي والدولي بأسره لما جرى فيها من تبادل الاتهامات والمهاترات حتى أن مجلس الجامعة قرر أن يشطب من محاضره كثيرا من العبارات النابية المقذعة.. وبلغ النزاع ذروته في الجلسة الثامنة من الدورة الاستثنائية وانسحب الوفد المصري من الاجتماع.. وانتهت الدورة الاستثنائية من غير نهاية للنزاع دون إجراء أي تحقيق في ادعاءات الطرفين.
وفي 8 مارس 1963 وقع في سوريا انقلاب أطاح بالحكومة السورية القائمة، فكان هو الحل وقام مقام الجامعة في تسوية النزاع، فقد اعترفت القاهرة بالحكومة الجديدة في سوريا، وهذه بدورها طلبت شطب أية إشارة إلى الشكوى السورية من سجلات الجامعة، وبهذا انتهى واحد من أخطر النزاعات العربية.. انتهى بالقضاء والقدر، ولم يكن للجامعة أي فضل فيه..
وثبت مرة ثانية، كما في النزاع الكويتي العراقي، أن الخلافات العربية، لا تعكس سلوك الأمة العربية، ولكنها تجسيد كامل لأخلاق الحكم العربي وسلوكه.. ويرحم الله هذه الأمة..
ولكن أكبر أزمة عربية واجهتها الجامعة العربية منذ نشوئها وتطورت إلى حرب عربية – عربية، كانت أزمة اليمن.. ففي سبتمبر 1962 وقع انقلاب عسكري في اليمن أطاح بالإمام أحمد ملك اليمن، وأعلن عن قيام الجمهورية العربية اليمنية، وفي نهاية العام كان قد اعترف بالجمهورية الجديدة قرابة ثلاثين دولة منها أمريكا والاتحاد السوفييتي.. وعلى الصعيد العربي فقد اعترف بالنظام الجمهوري الجديد كل من العراق وسوريا ولبنان(1/296)
والسودان وتونس والجزائر.. وكذلك فقد قررت الأمم المتحدة في دورتها ذلك العام، قبول أوراق اعتماد أعضاء الوفد الجمهوري الممثل للنظام الجديد في اليمن.
وبإيجاز، تطور الأمر في اليمن، إلى حرب أهلية بين الجمهوريين والملكيين، وانقسمت الدول العربية فيما بينها إلى مؤيد لهذا الفريق أو ذاك، وكانت القاهرة على رأس المؤيدين للنظام الجمهوري كما كانت السعودية إلى جانب الملكيين، وأصبحت الحرب الأهلية اليمنية حربا عربية – عربية.. بكل أنواع الأسلحة، واستنزفت فيها الدماء العربية، والطاقات والقدرات العربية إلى حد كبير.
وتصدت محاولات دولية لإيقاف الحرب العربية في اليمن، ومن جملتها مجلس الأمن ولكن هذه الجهود لم تفلح في مساعيها، واستمرت الحرب في ضراوتها وحدتها.. وكذلك فإن الجامعة العربية رغما عن اعترافها بالنظام الجمهوري في اليمن في مارس 1963 إلا أنها لم تستطع أن تكبح جماح الحرب الضروس التي كانت تشهدها أرض اليمن، من سواحلها إلى جبالها إلى وديانها..
وتعاقبت الأحداث وتوالت الاجتماعات من يمنية إلى عربية إلى دولية.. ولم تنته الأزمة إلا في مارس 1970 حينما عقد في جدة المؤتمر الإسلامي لوزراء الخارجية، ودعي وفد جمهوري برئاسة رئيس وزراء اليمن، وبعد ختام المؤتمر أجريت مفاوضات بين الجمهوريين والملكيين لإنهاء الحرب الأهلية في اليمن، وتم الاتفاق بين الجانبين.. وانسحبت القوات المصرية من اليمن.. وأصبح الملكيون، باستثناء الأسرة الملكية، جزءا من النظام الجمهوري.(1/297)
وقد أثبتت هذه الأزمة العربية الكبرى في اليمن، من جديد، أن مجلس الأمن لم يستطع أن يجد حلا للمشكلة، وإن حلها هو في الوطن العربي نفسه، وعلى يد العرب أنفسهم.. كما أثبتت أن الجامعة العربية، ميثاقا وجهازا، أضعف من أن تتصدى لهذه المشكلة، هذا بالإضافة إلى أن الهزيمة العربية الكبرى في حرب الأيام الستة عام 1967 قد حملت جميع الأطراف العربية، يمنية وغير يمنية إلى وقف الحرب وترك الشعب اليمني يقرر مصيره بنفسه في ظل النظام الجمهوري.
ومن المشرق العربي، انتقلت جمرة النزاع إلى المغرب العربي، ففي خريف 1963، نشب خلاف على الحدود بين الجزائر والمغرب، وهو خلاف تمتد جذوره إلى عهد الاحتلال الفرنسي.. وبقي هذا الخلاف راقدا إلى أن تحقق للجزائر استقلاله وسيادته، وقد بدأت بين الفريقين اتصالات لتسوية نزاع الحدود بين المغرب والجزائر، ولكن لم يتوصل الجانبان إلى اتفاق.. وفي سبتمبر (أيلول) 1963 دخلت قوات مغربية إلى المناطق المتنازع عليها الواقعة على بعد خمسمائة كيلومتر شمال شرق تندوف (الجزائر)، وفي أكتوبر (تشرين الأول) من نفس العام وقعت اشتباكات عسكرية بين المغرب والجزائر في المنطقة المتنازع عليها، وتدهور الموقف بين الدولتين الشقيقتين وانعقد مجلس الجامعة في دورة غير عادية في 16 أكتوبر (تشرين الأول)، وأصدر بالإجماع قرارا يقضي بوقف إطلاق النار، ودعوة الحكومتين إلى سحب قواتهما إلى مراكزها السابقة لبدء الاشتباك المسلح.. وفي الحادي والعشرين من أكتوبر تشرين الأول أعلن وزير خارجية المغرب أن دولته لا توافق على قرار مجلس الجامعة ولا على سحب قواتها المسلحة "لأن المنطقة التي احتلتها هي أرض مغربية".. وهكذا فشلت الجامعة العربية في مبادرتها(1/298)
الاجتماعية، ولم يخضع المغرب لقرار الجامعة.. وهذه لم يكن لها دور آخر تؤديه.
وبعد ذلك توالت مبادرات متعددة، على الصعيد العربي من قبل عدد من رؤساء الحكومات العربية وعلى الصعيد الإفريقي من قبل عدد من رؤساء الدول الإفريقية ومن منظمة الوحدة الإفريقية، ولكن جميع هذه المبادرات باءت بالفشل.
ولكن هذا النزاع قد انتهى بصورة رسمية على الأقل، بطريقة ثنائية بين الطرفين فقد التقى ملك المغرب والرئيس الجزائري ووقعا معاهدة تضامن وتعاون بين البلدين في مدينة "افران" وبذلك انتهى نزاع الحدود بين الدولتين خارج إطار الجامعة العربية.
ولقد انتهى النزاع الجزائري المغربي "رسميا" ولكن جذور المشكلة بقيت راقدة في حظيرتها، فقد قفزت مشكلة الصحراء الغربية، على الساحة الدولية كإقليم يطالب باستقلاله عن السيادة الأسبانية، ثم نشب النزاع بشأنها ومصيرها بين جيرانها الثلاثة المغرب وموريتانيا والجزائر.. وامتدت المشكلة من 1964 إلى 1977 وتناولتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومحكمة العدل الدولية، ومؤتمرات القمة العربية، ومنظمة الوحدة الإفريقية.. وعدة قرارات وإجراءات ولا يتسع المجال لسردها.
وبكلمة موجزة، فإن الصحراء الغربية، بعد أن رفعت أسبانيا سيادتها عنها، قد دخلتها قوات مغربية وموريتانية واقتسمتها فيما بينها، وقد عارضت "جبهة البوليزاريو" هذه الإجراءات وأعلنت قيام "جمهورية الصحراء الغربية الديموقراطية" بمساندة الجزائر.. وأعقب ذلك اصطدامات مسلحة بين(1/299)
الأطراف المتنازعة، المغرب وموريتانيا من جانب، وجمهورية الصحراء من جانب آخر.. والبلاغات العسكرية ما تزال تصدر من الطرفين المتقاتلين..
والمشكلة ذات أبعاد شتى، قومية، وسياسية، واقتصادية، وتاريخية، ولم تفلح الجهود في تسويتها حتى الآن، وليس من المستبعد، أن تجر دول المغرب بأسرها إلى اصطدام مسلح، يجر معه الدولتين العظميين، لتتخذا من الوطن العربي مسرحا جديدا لصراعهما، ومعرضا لأسلحتهما.
ولقد كان للجامعة دور في مشكلة الصحراء الغربية، حينما كانت قضية عربية أسبانية، أما بعد ذلك، وحينما أصبحت نزاعا عربيا عربيا فلم يكن للجامعة أي دور إلا الوساطة التي قام بها الأمين العام للجامعة في شهري فبراير (شباط) ومارس (آذار) من عام 1976، دون أن تأتي بنتيجة حاسمة..
ويبدو أن مجلس الجامعة لم يستطع أن يعالج المشكلة لأنه أضعف من أن يقترب منها.. ولكن.. ولكن مئة مرة ومرة، هذه الخلافات العربية الخطيرة التي استعرضناها بصورة موجزة، ومع ضبط القلم وكبح جماح الغضب، أصبحت "رحيمة" إلى جانب ثلاثة أحداث خطيرة وقعت في الوطن العربي عبر الثلاث سنوات الأخيرة.
الحدث الأول هو الخلاف الخطير بين دمشق والقاهرة في أعقاب اتفاقية سيناء المعروفة ونقاط الخلاف معروفة لدى المواطن العربي ولا حاجة إلى سردها، غير أن المحزن في هذا الخلاف هو وقوعه، ثم الصورة التي انتهى إليها.. ووقوعه بين رفاق السلاح في معركة أكتوبر (تشرين) 1973 هو بنفسه فاجعة قومية يعز فيها العزاء والسلوان وخاصة بعد الحملات الإعلامية التي وقعت بين دولتين لم تجف دماء شهدائهما على أرض سيناء(1/300)
والجولان، ولم يجف كذلك حبر الاتحاد بينهما في دولة الاتحاد العربية.. وأما الصورة التي انتهى بها ذلك الخلاف فقد دفعت المواطن العربي إلى مواطن الحيرة والضياع، فقد قيل في جملة ما قيل إنه بعد لقاء الرئيسين السادات والأسد، في الخمس دقائق الأولى، قد عادا حبيبين حميمين.. وصاح المواطن العربي بأعلى صوته وإلى عنان السماء.. وإذن فيم كان الخلاف، وعلام كانت تلك المعركة السياسية الضارية.
والحدث الثاني، وهو مجموع الأحداث السياسية والعسكرية الرهيبة التي وقعت في أرض لبنان وذهب ضحيتها الألوف من أبناء الأمة العربية، وأفشت القتل والتدمير والتمثيل، في حرب قذرة بشعة، سقطت فيها القيم الأخلاقية، والمعايير القومية، وانتهت إلى ما انتهت من تدمير وطن، وإهلاك شعب، وإهدار كرامة، وإنهاك قضية العرب الأولى قضية فلسطين.
وقد كشفت هذه الفاجعة الكبرى عن مسئولية الدول العربية جميعها كل حسب موقعه ودوره إزاء هذه الحرب العمياء التي ضلت الطريق والهدف كما كشفت أنها تطورت من فتنة أهلية، إلى حرب عربية –عربية وآية ذك أنها وقفت يوم أرادت لها الدول العربية أن تقف، ولو أن ذلك الجهد الحربي، قد أنفق في ميدانه على بطاح فلسطين الزكية لكان لنا مع إسرائيل شأن آخر.. شأن العزة والكرامة.. لا شأن المهرولين إلى جنيف كأننا نهرول بين الصفا والمروة، وأستغفر الله من التشبيه!!
وإذا كانت أحداث لبنان قد اثبت شيئا، فقد أثبتت أن الدول العربية ليست لها جامعة، وأن الجامعة ليست لها دول، وسواء كان هذا أو ذاك فإن الجامعة العربية لا تصلح أداة لتسوية الخلافات العربية إلا إذا "سويت" الجامعة بالأرض وبنيت من جديد.. من جديد..(1/301)
ولم تخل أحداث لبنان من مفارقة تبعث على العجب العجاب، ذلك أن القوات السورية قد دخلت إلى الأرض اللبنانية استجابة لطلب الحكومة اللبنانية، لحفظ الأمن والنظام ولتحجز بين الأطراف المتقاتلة، وللحفاظ على المقاومة الفلسطينية.. واتخذت الأزمة اللبنانية مضاعفات عربية وفلسطينية أعلن خلالها أن القوات السورية معتدية ومحتلة وغازية ومتآمرة مع إسرائيل وأمريكا.. وانعقدت بعد ذلك قمة الرياض، وتبعتها قمة القاهرة.. وفي دقائق معدودات، اعتبرت القوات السورية قوات ردع عربية، تمول من قبل الدول العربية.. ووقع المواطن العربي مرة أخرى في حالة "اختلاط" فكري، لا يستطيع أن يستوعب كيف أصبحت القوات الغازية المحتلة المتآمرة مع إسرائيل وأمريكا قوات ردع عربية بيدها "براءة من الله ورسوله" ومن القمة العربية؛ وصاح المواطن العربي بأعلى صوته يسأل: ماذا أصدق، ومن أصدق..
أما الحدث الخطير الثالث فهو حرب الأيام الأربعة، الحرب المصرية الليبية التي نشبت في شهر يوليو (تموز) من هذا العام 1977، وأن المرء ليؤثر أن يكون أميا حتى لا يكتب عن هذه الحرب بين قطرين عربيين، جارين قديمين قدم الزمن، عضوين مؤسسين في دولة الاتحاد العربي، لأكبرها ثورة يوليو (تموز) المجيدة، ولأصغرهما ثورة الفاتح من سبتمبر، اقتتلا بالطائرات والمدافع والصواريخ، وسقط القتلى والأسرى بالعشرات والمئات، ومعهم سقطت الجامعة لا تبدي حراكا..
وكذلك فقد سقطت "الحقيقة" ولم يعرف المواطن العربي أين تقع المسئولية الخطيرة، من هو المسئول عن الدماء العربية البريئة، ومن المسئول عن تدمير الأسلحة العربية التي أحرقت ودمرت في هذه الحرب المشينة.(1/302)
ولأن الجامعة ليس ليها جهاز لمعرفة الحقيقة، ولجنة لتقصي الحقائق، فقد ضاعت الحقيقة والحقائق تحت أقدام الإعلام العربي في هذا القطر أو ذلك..
وبعد فإن هذا العرض السريع لأبرز الخلافات العربية التي نزلت بالأمة العربية في عهد الجامعة العربية.. يقودنا إلى استخلاص توصيات أساسية، يجب أن يتضمنها أي ميثاق جديد للجامعة العربية، نذكر منها:
أولا: لا بد من قيام محكمة عدل عربية تنظر في الخلافات العربية مهما كان نوعها، ويصدر بشأنها الحكم الذي تفرضه المصلحة القومية العليا..
ثانيا: إعطاء مؤسسات الجامعة وحدها، لا الأمم المتحدة اختصاصات كاملة للنظر في الخلافات العربية، وإصدار القرارات اللازمة لها، بما في ذلك وقف إطلاق النار، وتأليف لجان لتقصي الحقائق.
ثالثا: في حالات النزاع المسلح، إعطاء مؤسسات الجامعة ذات الشأن، الاختصاص لمطالبة الدول العربية، غير المتورطة في النزاع، بفرز قوات عسكرية، تكون في مجموعها قوة سلام في منطقة النزاع.
رابعا: التوصل إلى التسويات، لا عن طريق الدبلوماسية السرية، فتلك طريق الأمم الأجنبية فيما بينها، ولكن على أساس المبادئ القومية والوقائع الصحيحة، بحيث تكون الأمة العربية على علم بالحقائق، وتكون الدول العربية، تحت الرقابة والمحاسبة.. فليس من المعقول أن يشتد النزاع بين دولتين عربيتين ثم يحسم الخلاف في لقاء بين الرئيسين بضعة دقائق معدودات.. دون أن يعرف المواطن حقائق الاختلاف، وحوافز الاتفاق..
خامسا: أن لا تقل اختصاصات الجامعة العربية، عن اختصاص الأمم المتحدة ومجلس الأمن، في معالجة الخلافات العربية.(1/303)
سادسا وأخيرا: أن الإجراءات التي تملكها الجامعة العربية لتسوية الخلافات يجب أن تتسم بطابع السرعة والمبادرة، قبل أن يستفحل أمرها، فإنها كارثة قومية، أن تمضي الحرب العربية العربية، عامين كاملين، كما جرى في لبنان، والجامعة العربية عاطلة عن العمل، متفرجة على المأساة.. لأن هذا الفريق أو ذاك، لا يريدها أن تعمل أو تتدخل.
ذلك هو طريق السلام العربي، وطريق التضامن العربي.. بل إنه آية الانتماء إلى الأمة العربية الواحدة، وإن الأنظمة العربية التي لا تسلك هذا الطريق فإن انتماءها إلى الأمة العربية يعوزه مائة دليل ودليل.(1/304)
الفصل الخامس عشر
الجامعة الاتحادية والجامعة الانفصالية
رحم الله فقهاءنا الأماجد.. لقد تعلمنا علي أيديهم القاعدة الأصولية: "ما بني على الباطل فهو باطل"،ولقد صدق هذا أكثر ما صدق، حينما رأينا الجامعة تبنى على أسس من الباطل، فظل عملها باطلا في باطل وعاطلا في عاطل..
وقد أرادها الإنجليز أولا والأمريكان ثانيا أن تبنى على باطل، واستمرت هكذا على بنائها القديم خمسة وثلاثين عاما إلى يومنا هذا، وما ندري متى تبني الأمة العربية جامعتها من جديد، بعيدا عن الباطل والعاطل..
وكان الأمر يوم نشوء الجامعة أن قال الإنجليز أولا، والأمريكان ثانيا، لحكام العرب يومئذ اجعلوا جامعتكم منظمة إقليمية، فذلك أنفع لكم وأجدى، فأطاعوا وجعلوها كذلك..
ثم قالوا، أعني الإنجليز والأمريكان، اجعلوا جامعتكم قائمة على التنسيق والتعاون وفق ميثاق يتسم بالمرونة والاختيار، فذلك أدعى إلى الاتفاق والوفاق، فأطاع حكام العرب نصيحة الأصدقاء "الألداء" وجعلوا الميثاق كما أرادوا..(1/306)
وبدأت الجامعة أعمالها، بسبعة أعضاء، هم المؤسسون الأوائل، ومن حولها وحولهم أمة عربية طموحة، استيقظت لترى العالم يسارع الخطى نحو التقدم والبناء والتكتل، ورأت الجامعة نفسها غير قادرة على الاستجابة لمطالب الأمة العربية، والتصدي لمشكلاتها الاجتماعية والاقتصادية، ناهيك عن العسكرية والسياسية.. وكان لا بد من حل لهذه "الأزمة" التي أخذت بخناق الجامعة العربية..
وراحت الجامعة العربية تعالج الأزمة، ولكن دون الوصول إلى جذورها.. وإنما رأت أن تعالجها في إطار ميثاقها واختصاصاتها، ووجدت أن تسلك منهج "الهروب" من العلاج المباشر، بالالتجاء إلى عقاقير مسكنة، وبذلك "تهرب" من المواجهة الصحيحة، تهدئ ثائرة الجماهير العربية.
وكان أن هداها هذا "الضلال" إلى تقليد الأمم المتحدة، فتفعل ما تفعل في معالجة مشاكلها.. وقد فاتها أن الأمم المتحدة منظمة أمم غير متحدة، تضم العالم بأسره وليس لها موضع قدم مشترك إلا منبر الأمم المتحدة في نيويورك.. ولم تدرك منذ البداية أن خطأ الجامعة العربية الأساسي، يكمن في تقديرها أنها منظمة إقليمية وكفى..
ولم يدر في خلد مؤسسي الجامعة الأوائل أو أنهم لم تكن لهم إرادة واختيار، أن الأمة العربية لا يمكن أن تحتويها منظمة إقليمية، وفق الأحكام الواردة بهذا الشأن في ميثاق الأمم المتحدة.. فإن "المنظمة الإقليمية" أية منظمة، لا تقوم في "الأمة الواحدة"، ولكنها تقوم في منطقة جغرافية، تجمع أمما متعددة، مختلفة، متباينة.. لتنسيق ما أمكن من المصالح المشتركة التي يفرضها حسن الجوار.(1/307)
وإنه ليبدو غريبا عجيبا مثلا.. أن تقوم في أمريكا الشمالية منظمة إقليمية، اسمها منظمة الولايات الأمريكية، أو أن تقوم في ألمانيا منظمة الولايات الألمانية، ومثلها في بريطانيا، وفرنسا.. فإن الأمة الواحدة لا تقوم فيها منظمة إقليمية، إنما تقوم فيها وحدة، واتحاد، أو رابطة عضوية أخرى.. ولكن المنظمة الإقليمية، لا تقوم إلا بين دول تجمعها رابطة واحدة، لا رابطة سواها، إنها تشترك في منطقة جغرافية واحدة.. مثل شرق أوروبا، غرب أوروبا، شرق آسيا، جنوب آسيا، وهكذا دواليك..
ولكن الوطن العربي الواحد، ليس منطقة جغرافية فحسب، إنه منطقة تاريخية واحدة، له حضارة وثقافة واحدة، تحدوه آمال وطموحات واحدة. ويتطلع إلى مستقبل واحد، في ظل وحدة عربية، تختار الأمة شكلها ونظامها وحدودها..
وإذا كان الاستعمار قد عمل على تقسيم الوطن العربي وتجزئته فإنه ليس من المعقول قوميا ومنطقيا أن تقبل الأمة العربية التجزئة التي صنعها الاستعمار، وتبني منظمة إقليمية.. ذلك أن الواجب القومي يفرض قيام "منظمة قومية" فيها سمات الوحدة، ولو في أصغر صورها، والوحدة دستورا وممارسة، متسعة الأرجاء، رحبة الآفاق تتسع لكل المطالب وتستجيب لكل الرغبات.
ولكن العكس هو الذي تم فقد اختار المؤسسون الأوائل للجامعة العربية أن تكون جامعة انفصالية، وانطلاقا من ذلك فقد اعتبر عدد من الباحثين،ومنهم نفر من الدارسين العرب، أن الجامعة العربية هي منظمة إقليمية وفق نصوص ميثاق الأمم المتحدة.. وأصبحت تدرس كإحدى المنظمات الإقليمية القائمة في هذه البقعة وتلك من بقاع العالم.(1/308)
وقد نتج عن هذا الشعور العام، أن الجامعة العربية نفسها قد بدأت تعالج مشاكلها على أنها منظمة إقليمية، وأن خير وسيلة لإنقاذ نفسها من القصور الذي تعانيه هو أن تقلد الأمم المتحدة وتسير على غرارها.
وهكذا فمنذ الخمسينات، فإن الجامعة العربية، بدلا من أن تعيد النظر في ميثاقها وتبني نفسها كمنظمة عربية تابعة لأمة واحدة، بدأت تنشئ منظمات متخصصة، لمعالجة مختلف نواحي الحياة العربية من عسكرية واقتصادية واجتماعية وثقافية وعمالية، وغير ذلك من الجوانب التي لا نهاية لها.
وصارت الجامعة كلما عرضت لها مشكلة، وهي غير قادرة بحكم ميثاقها على التصدي لها، تؤلف منظمة متخصصة لها، وهي تتوهم أن هذا الأسلوب وحده هو الذي يفضي إلى معالجة المشكلة.. وكان مما أغرى الجامعة العربية على سلوك هذا السبيل أن الأمم المتحدة قد أصبح تحتها وحولها، عشرات المنظمات الدولية، مربوطة بها، بعلاقة أو بأخرى.,
ولم يكد يطل عام 1978 حتى أصبح تحت الجامعة العربية وحولها ثماني عشرة منظمة عربية متخصصة مستقلة، ذات مسئوليات مختلفة، واختصاصات متعددة.. وليس فيما بين هذه المنظمات نفسها، أي علم بما يدور بين يدي الأخرى.. وكذلك فليس للجامعة العربية، والمفروض أنها المؤسسة الأم، أي رابطة محددة تربطها بتلك المنظمات.. وأصبح حال الجامعة العربي، كحال الخلافة العباسية في أواخر عهدها، ملوك وأمراء وحكام في المشرق والمغرب، كل منهم غريب عن الآخر، والخليفة قابع في بغداد، يذكر في خطب الجمعة، هذا إذا ذكر..(1/309)
وليعرف المواطن العربي ما آلت إليه الجامعة من التفتت، يكفي أن نسرد أسماء هذه المنظمات في الوطن العربي، وهي حسب ترتيب نشوئها: 1- الاتحاد العربي للمواصلات السلكية واللاسلكية. 2- اتحاد إذاعات الدول العربية. 3- الاتحاد البريدي العربي. 4-المنظمة العربية للدفاع الاجتماعي ضد الجريمة. 5- المنظمة العربية للعلوم الإدارية. 6- منظمة العمل العربية. 7- المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. 8- المجلس العربي المشترك لاستخدام الطاقة الذرية. 9- مجلس الطيران المدني للدول العربية. 10- المنظمة العربية للمواصفات والمقاييس. 11- المركز العربي لدراسة المناطق الجافة والأراضي القاحلة. 12- المنظمة العربية للتنمية الزراعية. 13- الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي. 14- المنظمة العربية للصحة. 15- الأكاديمية العربية للنقل البحري. 16- المصرف العربي للتنمية الاقتصادية في إفريقيا. 17- مجلس الوحدة الاقتصادية العربية. 18- منظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول، والحبل على الجرار وسيطالعنا العام المقبل بالمزيد.
هذا بالإضافة إلى أن هنالك عددا أكبر من المنظمات والمجالس والاتحادات والمراكز العربية التي تعمل في مجال التعاون الاقتصادي والاجتماعي العربي.
والدارس لهذه المنظمات يرى أن لها شخصية مستقلة بذاتها، ولها هيكلها الإداري المستقل ولها ميزانيتها، ولها موظفوها ومقرها، وبذلك أصبحت هذه المنظمات ثماني عشرة جامعة عربية.. وكأنها تنتسب إلى ثماني عشرة أمة.(1/310)
ولو سأل سائل عن نشاطات وإنجازات هذه المنظمات لوجد أن أكثرها لم تنجز شيئا يذكر يبرر وجودها.. فإن المجلس العربي المشترك لاستخدام الطاقة الذرية، مثلا، وهو أضخم الأسماء بين هذه المنظمات لم يمارس نشاطه بعد، وهذا تعبير رحيم متواضع، وبين هذه المنظمات ما هو فريد بذاته، وليس له شبيه دولي، ومثال ذلك: منظمة العلوم الإدارية، والأكاديمية العامة للنقل البحري، ومنظمة المواصفات والمقاييس.. وهذا وغير هذا مضيعة للوقت والجهد والمال، هذا فضلا عن تضليل المواطن العربي بأن العمل العربي المشترك قائم على قدم وساق..
وثمة جانب آخر يدعو إلى التخبط والفوضى بصدد هذه المنظمات.. ذلك هو التداخل والازدواج في اختصاصات هذه المنظمات فيما بين بعضها البعض، ولا يتسع المجال للخوض في التفاصيل، ويكفي أن نشير إلى أن نشاطات المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم تتداخل مع نشاطات مركز التنمية الصناعية، ومع المنظمة العربية للمواصفات والمقاييس، ومع منظمة العمل العربية، ومع المنظمة العربية للتنمية الزراعية، ومع اتحاد إذاعات الدول العربية.. وذلك في المجالات العلمية والفنية.. وعلى هذا المنوال تتداخل الاختصاصات والنشاطات بين جميع هذه المنظمات، ومن غير أداة للتنسيق فيما بينها حتى تكون جهودها متكاملة.. هذا مع العلم أن معظم هذه المنظمات، يمكن تصريف أمورها في شعب محدودة في الأمانة العامة للجامعة العربية، حينما يجدد ميثاقها، ويصلح حالها مآ لها.
ولكن أخطر أنواع التداخل، أو الفوضى.. هو ما يتصل بالأمور الاقتصادية، والاقتصاد هو عماد الحياة القومية.. فإن دراسة مواثيق المنظمات العاملة في المجال الاقتصادي تظهر التداخل بين نشاطات مجلس(1/311)
الوحدة الاقتصادية، وكل من منظمة التنمية الزراعية، ومركز التنمية الصناعية للدول العربية، ومنظمة العمل العربي، ومجلس الطيران العربي.. وكيف يمكن أن يكون للأمة العربية اقتصاد عربي مدروس وخطط في ظل هذه الشرذمة التنظيمية، بعيدا عن إطار الجامعة.
ولو انتقلنا بعد ذلك إلى "إنجازات" الجامعة العربية المختلفة لرأينا أن أكبر إنجازاتها، أنها لم تحقق أية إنجازات.. إلا إصدار القرارات بالمئات، فقد بلغت قرارات الجامعة، ونحن نكتب هذا الفصل (3687) قرارا لا يستشعر المواطن العربي أنها تجسد خطوة عربية واحدة، ولو متواضعة.. على طريق الوحدة.
والجامعة العربية، لأنها "جامعة" لدول "أجنبية"، لا بد أنها تصرف أعمالها على مراحل متعددة، أولا: إدراج الاقتراحات على جدول الأعمال. ثانيا: إبلاغ هذه الاقتراحات إلى الدول الأعضاء لدراستها وتحديد الموقف بِشأنها. ثالثا: مناقشة الاقتراحات في إحدى دورات الجامعة. رابعا: تأجيل الاقتراحات إلى دورة ثانية لمزيد من البحث والدرس. خامسا: إصدار توصيات بشأن الاقتراحات إذا تمت الموافقة الإجماعية، إذا لم يقترح أحد الأعضاء التأجيل، أو إحالة الاقتراح لدراسة.. سادسا: قيام الأمانة العامة بمطالبة الدول العربية بتنفيذ التوصيات. سابعا: موافقة السلطات الدستورية على صيغة التوصيات.. ثامنا: توقيع معاهدة أو اتفاقية بالموافقة على التوصيات.. تاسعا: تكامل التوقيع لتصبح المعاهدة قابلة للتنفيذ. عاشرا: البدء بالتنفيذ.. وكل هذا إذا كان حظ الموضوع سعيدا، من حيث التوقيت والموافقة والتنفيذ.. وكثير من قرارات الجامعة لم تنفذها دول الجامعة، وليس هناك من مؤسسة عربية قضائية أو شعبية تحاسب هذه الدولة أو تلك على مخالفاتها.(1/312)
وعبر الأعوام الخمسة والثلاثين التي مرت من عمر الجامعة، تم توقيع ثلاثين معاهدة بين الدول العربية بصدد الشئون العربية المشتركة، ولا بأس أن نسارع إلى القول إن الإنجاز الوحيد الذي حققته هذه المعاهدات، هو أنها طبعت في مجلد واحد، ليستطيع المواطن العربي أن يقرأها مجتمعة، ويتبين حصيلتها.. ولا بد لنا أن نلقي نظرة سريعة على أهم هذه المعاهدات..
تأتي في الطليعة معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي بين دول الجامعة العربية، وتهدف هذه المعاهدة كما يدل عليها اسمها، إلى تحقيق الدفاع المشترك عن كيانها.. وصيانة الأمن والسلام.. وعزمها على فض منازعاتها بالطرق السلمية.. واعتبار كل اعتداء مسلح يقع على إحداها أنه اعتداء عليها جميعا.. واتخاذ التدابير الوقائية والدفاعية في حالة خطر داهم أو قيام حالة دولية مفاجئة.. إلى آخر هذه الأحكام التي تحتويها صياغة بارعة، تهيئ لكل حالة طارئة ما تستوجب من التدابير.. وقد أضيف إلى المعاهدة ملحق عسكري، وبروتوكول إضافي، لإنشاء الهيئات العسكرية اللازمة للقيام بواجباتها بموجب أحكام المعاهدة..
وكانت هذه المعاهدة سعيدة الحظ، فقد وافق عليها مجلس الجامعة في دورته الثانية عشرة بتاريخ 13 ابريل (نيسان) 1950، وكان الحافز على سرعة البت فيها الهزيمة العربية في حرب فلسطين عام 1948.. وتم التوقيع عليها، وإيداع وثائق التصديق ما بين منتصف يونيو (حزيران) 1950 إلى شهر أكتوبر 1953- أي ما يزيد على ثلاثة أعوام ونصف العام. وكان على أعداء الأمة العربية أن ينتظروا الموافقة من قبل الجامعة والتوقيع من قبل الدول العربية، وإيداع وثائق التصديق.. وفي النهاية قيام الهياكل العسكرية اللازمة لممارسة اختصاصاتها.. ولم تنضم إلى هذه المعاهدة بعد، كل من(1/313)
دولة الإمارات العربية، وسلطنة عمان، والجمهورية الإسلامية الموريتانية، بالإضافة إلى العضوين الجديدين الصومال وجيبوتي.
ولنترك المعاهدة بنصوصها، لننظر إلى مصيرها.. والسجل طويل حافل وحزين.. فقد دخلت المعاهدة في مرحلة التنفيذ، واجتمعت الهياكل العسكرية مرات ومرات، بعيدا عن الصحافة والإذاعة، وأعدت الدراسات والتوجيهات والقرارات، وقد مر على هذه المعاهدة ربع قرن من الزمان لنرى أن الأمة العربية، في ختام هذا العام 1977، ليس لها "جيش مشترك" فضلا عن الجيش الواحد، والقيادة الواحدة..
وليس هذا فقط، فإن سلسلة طويلة من الاتفاقيات الثنائية، للدفاع المشترك، قد عقدت بين الدول العربية، قبل حرب الأيام الستة وبعدها. ومعاهدة الدفاع المشترك "الأم" راقدة على سريرها تلفظ أنفاسها..
والمظهر الوحيد الباقي لمعاهدة الدفاع المشترك، هو أنه توجد أمانة إدارية للشئون العسكرية في ملاك الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، وأحسب أن هذه الأمانة العسكرية غير راضية عن أوضاعها ولا عما آلت إليه معاهدة الدفاع العربي المشترك.
وتأتي بعد ذلك "حزمة" من المعاهدات الاقتصادية: اتفاقية بشأن تسهيل التبادل التجاري، وتنظيم تجارة الترانزيت بين دول الجامعة العربية، وتعديلاتها وملاحقها الستة، واتفاقية بشأن تسديد مدفوعات المعاملات الجارية وانتقال رؤوس الأموال بين الدول العربية والتعديلين الاثنين التابعين لها.. واتفاقية بشأن اتخاذ جدول موحد للتعرفة الجمركية واتفاقية الوحدة الاقتصادية بين دول الجامعة العربية، واتفاقية السوق العربية المشتركة ولا بد لنا من كلمة موجزة حول اختصاصاتها حتى لا يكون تقييمنا ظالما أو مسرفا.(1/314)
إن صيغة هذه المعاهدات وحدها، كافية لإدانة الجامعة بالقصور، ولإدانة دولها بعدم الالتزام بأحكامها.. فقد نصت هذه المعاهدات في مجملها على أن تقوم بين دول الجامعة العربية وحدة اقتصادية كاملة تضمن للدول ورعاياها ما يلي:
1- حرية انتقال الأشخاص ورؤوس الأموال.
2- حرية تبادل البضائع والمنتجات الوطنية والأجنبية.
3- حرية الإقامة والعمل والاستخدام وممارسة النشاط الاقتصادي.
4- حرية النقل والترانزيت واستعمال وسائل النقل والمرافق والمطارات المدنية.
5- حق التملك والإيصاء والإرث.
وقد نصت تلك المعاهدات، تحقيقا لهذه الأهداف، على التزام الدول العربية بما يلي:
1- جعل بلادها منطقة جمركية واحدة تخضع لإدارة موحدة، وتوحيد التعرفة والتشريع والأنظمة الجمركية المطبقة في كل منها.
2- توحيد سياسة الاستيراد والتصدير والأنظمة المتعلقة بها.
3- توحيد أنظمة النقل والترانزيت.
4- عقد الاتفاقات التجارية واتفاقات المدفوعات في البلدان الأخرى بصورة مشتركة.
5- تنسيق السياسة المتعلقة بالزراعة والصناعة والتجارة الداخلية وتوحيد التشريع الاقتصادي بشكل يكفل لمن يعمل من رعايا البلاد المتعاقدة في الصناعة والزراعة والمهن شروطا متكافئة.
6- تنسيق تشريع العمل والضمان الاجتماعي.(1/315)
7- تنسيق تشريع الضرائب والرسوم الحكومية والبلدية وسائر الضرائب والرسوم الأخرى المتعلقة بالزراعة والصناعة والتجارة والعقارات وتوظيف رؤوس الأموال بما يكفل مبدأ تكافؤ الفرص، وكذلك تلافي ازدواج الضرائب والرسوم على المكلفين من رعايا الدول المتعاقدة.
8- تنسيق السياسات النقدية والمالية.. تمهيدا لتوحيد النقد..
وقد تم التوقيع والتصديق على هذه "الحزمة" من المعاهدات ابتداء من شهر سبتمبر (أيلول) 1953 حتى أواسط 1963، وقامت الهياكل التنفيذية والإدارية وانعقدت المؤتمرات وصدرت القرارات و"تورمت" الملفات والمواطن العربي يرى أن كثيرا مما نصت عليه هذه الحزمة من الاتفاقات لم ينفذ في قليل أو كثير.. وبكلمة واحدة.. إنه لا يرى سوقا عربية مشتركة، ولا حرية من الحريات الخمس المذكورة آنفا.. والعكس هو القائم في الوطن العربي.. اثنتان وعشرون سوقا عربية بقدر عدد أعضاء الجامعة.. والحريات الخمس مثل بنات الجاهلية موؤودات مدفونات.
وأمامنا مقارنة ماثلة، تملأ أبصارنا وأسماعنا، هي الجماعة الأوروبية والسوق الأوروبية المشتركة، فما هي الحقائق الموجعة، والوقائع المفجعة التي تقود إليها المقارنة.
نرى أولا أن الدول الأوروبية التسع وهي بريطانية وألمانيا وفرنسا وبلجيكا وإيطاليا وهولندا ولوكسمبورغ والنرويج والدنمارك قد أصبحت تضمها سوق واحدة مشتركة تجعل من هذه الدول وحدة اقتصادية شاملة، على أساس اتحاد جمركي، وبذلك أصبحت هذه الدول "وطنا" اقتصاديا واحدا يتطلع قادته إلى جعله اتحادا أوروبيا كاملا، مع أن الجماعة الأوروبية هذه هي أصغر عمرا من الجامعة العربية بعشر سنوات.. ناهيك عن أنها تضم(1/316)
شعوبا قامت بينها عبر التاريخ حروب ضروس، ويكفي أن نذكر أن فرنسا وألمانيا قد جرتا العالم إلى الحرب العالمية الأولى والثانية.
والدارس لمعاهدة روما عام 1957 وهي التي تم بموجبها إنشاء الجماعة الأوروبية يلاحظ لأول وهلة أن "الهدف" الذي يسري في جميع نصوصها يدور حول تدعيم الاقتصاد العام للدول الأعضاء، ورفع مستوى الحياة فيها، وتوثيق العلاقات فيما بينها، وذلك عن طريق إنشاء سوق مشتركة، وكذلك عن طريق التوحيد التدريجي للسياسات الاقتصادية للدول الأعضاء.
وتحقيقا لهذا الهدف الشامل قررت معاهدة روما أن تتخذ دول الجماعة الخطوات التالية ضمن مراحل محددة:
أولا: إلغاء الرسوم الجمركية وقيود الكمية على دخول وخروج البضائع فيما بين الدول الأعضاء.
ثانيا: وضع تعرفة جمركية مشتركة.. وسياسة تجارية مشتركة، في مواجهة الدول الأخرى.
ثالثا: إلغاء القيود فيما بين الدول الأعضاء على حرية مرور الأشخاص والخدمات ورؤوس الأموال.
رابعا: وضع سياسة مشتركة في مجال الزراعة.
خامسا: وضع سياسة مشتركة في مجال النقل.
سادسا: تنسيق السياسات الاقتصادية للدول الأعضاء بما يكفل الوقاية من عدم التوازن في موازين مدفوعات الدول الأعضاء.
سابعا: التقريب ما بين التشريعات الوطنية للدول الأعضاء بالقدر الذي يلزم لنشاط السوق المشتركة.(1/317)
ثامنا: إنشاء صندوق اجتماعي أوروبي لتحسين إمكانيات الاستخدام للعمال والمساهمة في رفع مستوى حياتهم.
تاسعا: إنشاء بنك أوروبي للاستثمار.
تلك هي المعاهدة بأهدافها ووسائلها ومراحلها الانتقالية جاءت على الورق، تماما كالورق الذي كتبنا عليه معاهداتنا الاقتصادية.. فإذا بتلك المعاهدة الأوروبية تنفذ بحذافيرها وكل مراحلها المحددة، وإذا بأوروبا الغربية أصبحت وطنا اقتصاديا بلا حواجز، ولا حدود، ولا جوازات سفر، وبالمقابل ترى أن الدول العربية أصبحت اليوم تمثل اثنين وعشرين إقليما اقتصاديا من غير تنفيذ معاهداتنا الاقتصادية لا مرحليا ولا جزئيا.. فلا حرية للمرور، لا للبضائع ولا للأشخاص ولا للخدمات، ولا لرؤوس الأموال.. وفوق هذا وذلك فليس للدول العربية، في عهد الجامعة العربية، تعريفة جمركية مشتركة، ولا سياسة تجارية مشتركة؛ والسياسة المشتركة الوحيدة، أنها لا توجد لها سياسة مشتركة..
وثمة مقارنة أخرى بين المجموعة الأوروبية والجامعة العربية، الأولى تؤلف نظاما فدراليا اقتصاديا واحدا، والثانية تمثل نظاما انفصاليا يقوم على أساس التعارض والتناقض.
ولو أننا انتقلنا من التعميم إلى التخصيص، بل إلى التحديد بالأسماء والأمثلة لرأينا أن شيئا جديدا أخذ بالنشوء في أوروبا الغربية هو المواطن الأوروبي والوطن الأوروبي، فهذا المواطن الجديد، يتصرف في وطنه الجديد كما يشاء ويريد، من غير قيود ولا حدود.. يسافر من قطر إلى قطر من غير سائل ولا مراقب، هو وبضاعته وأمواله وأولاده وقططه وكلابه، ليقيم حيث يشاء، وليعمل حيث يريد، على حين أن عددا من الدول العربية قد توغلت في(1/318)
الإقليمية بحيث أصبحت تسن القوانين والأنظمة التي تحظر على "الأجنبي" الإقامة والسفر والعمل، وحق شراء العقارات والكثير من التصرفات الأخرى.. وكلمة "الأجنبي" معناها بالتحديد والتفسير.. المواطن العربي..
ولكن هذا المواطن العربي، الأجنبي في وطنه، لا يعتبر "أجنبيا" في البلاد الأجنبية بصدد كثير من التصرفات.. إنه يستطيع أن يشتري الفيلات والشقق وأسهم الشركات من دول الجماعة الأوروبية، وقد اشترى أمراء المال العرب، شركات وبنوكا، وقصورا في كثير من عواصم أوروبا الغربية.
وأكثر من ذلك فإن العمال العرب وأولادهم وعائلاتهم، الذين يعملون في أوروبا الغربية يتمتعون بضمانات اجتماعية لا تتاح لهم في وطنهم وعلى أيدي حكامهم، فقد وضعت ونفذت الجماعة الأوروبية برنامجا لتعليم أبناء العمال المهاجرين وتأهيلهم وترويضهم على الوسط الأوروبي (1) ويتناول هذا البرنامج ما يقرب من ستة ملايين وربع من العمال، فيهم ما لا يقل عن مليونين من الصبيان دون الثامنة عشر، والألوف من هؤلاء وأولئك هم من الجزائريين والمغاربة وأبناء المشرق العربي.
وحكام العرب المعاصرون، يعلمون عن طريق سفرائهم في أوروبا الغربية، أن الدول الأوروبية التسع حطمت فيما بينها كل الحدود والحواجز، وأصبحت سيارة الفيات الإيطالية مثلا تباع في أسواق لندن بأسعار روما، والأجبان الهولندية تباع في بلجيكا بنفس أسعار أمستردام.. والملابس الإنجليزية تباع في برلين بأسعار إنجلترا، والعطور الفرنسية تباع في ألمانيا بأسعار باريس.. وما هو أهم من ذلك، فإن البرامج التربوية في العديد من
__________
(1) ويعرف هذا البرنامج Education of Migrant Workers.(1/319)
المهن والحرف والصناعات قد باتت تتجه نحو إنشاء العامل الأوروبي الواحد..
ويكفي أن يدرس المواطن العربي البرنامج الذي وضعته ونفذته الجماعة الأوروبية تحقيقا لهذا الهدف (1) .
وقد بلغ من اهتمام الجماعة الأوروبية، بإنجازاتها الاقتصادية، أنه في أول يوليو 1968 حين تحقق الاتحاد الجمركي لأول مرة في تاريخ أوروبا الحديثة، احتفل بذلك اليوم كمناسبة وطنية كبرى.. تماما كما تحتفل الدول العربية، من غير حياء ولا خجل، بالاتحادات العربية التي انتكست، أو بالانتصارات العربية التي حطمتها الدبلوماسية العربية.
والجماعة الأوروبية قد أولت اهتماماتها الكبرى إلى القاعدة الكبرى لشعوب أوروبا، إلى جماهير العمال.. فقد نصت المادة 118 من المعاهدة الأوروبية، على تنمية التعاون بين الدول الأعضاء في المجال الاجتماعي وخاصة فيما يتعلق بالحق في العمل وفي تحسين ظروف العمل، والتأهيل والتدريب المهني، والضمان الاجتماعي والوقاية من الأمراض، والصحة العمالية، والحق النقابي، والمفاوضات الجماعية بين العمال وأصحاب الأعمال.. وهذه العبارات وأمثالها واردة في المعاهدة العربية للوحدة الاقتصادية.
ولكن الجماعة الأوروبية قد نقلت هذه الالتزامات من الورق إلى ميدان الحياة والعمل، فقد أنشأت ما يعرف بالصندوق الأوروبي للضمان الاجتماعي، بموجب المادة 122 من المعاهدة لتحسين فرص العمل للعمال في الدول الغربية التسع، لكي يسهم في رفع مستوى الحياة، ولكي ييسر سهولة
__________
(1) يعرف هذا البرنامج From Education to Working Life .(1/320)
انتقال العمال من إقليم لآخر، ومن مهنة لأخرى، ويسهم هذا الصندوق في تدريب الأيدي العاملة المتعطلة.
ولعل الأرقام، وهي أعداد باردة بطبيعتها، تقدم إلينا مقارنة ساخنة..فقد رصد الصندوق الاجتماعي الأنف الذكر أكثر من ألف ومائة مليون دولار لمساعدة حوالي ثلاثة ملايين عامل، كما رصد الصندوق الإقليمي وهو الأحدث عهدا حوالي ألف وستمائة مليون دولار للمدة 1975-1977، فهل من مذكر.. وهل من معتبر..
ونحن لو طرحنا هذه المفارقات أمام الحكم العربي المعاصر، لرأيناه يجر عددا من "علماء" الاقتصاد من نواصيهم ليعلنوا في أجهزة الإعلام العربية الرسمية أن تضارب المصالح بين الأقطار العربية يستحيل معها تحقيق أية وحدة اقتصادية أو اتحاد جمركي.. ولكن التجربة الأوروبية هي وحدها التي ترد على أولئك "العلماء" الجهابذة، وملوكهم ورؤسائهم الأفذاذ ولنأخذ مثلا واحدا، وهو السياسة الزراعية، على اعتبار أن الزراعة تمثل العنصر الأكبر في اقتصاد دول الجامعة العربية.
ومن الحقائق البديهية المعروفة أن الشئون الزراعية في أوروبا الغربية تواجه مشكلات عديدة، ومصاعب عملية جمة.. ولكن الجماعة الأوروبية قد حققت في هذا المجال أكبر انتصاراتها.. فقد كان هدف الجماعة الأوروبية أن تحقق زيادة القدرة الإنتاجية الزراعية، مع المحافظة على ثبات الأسواق، وكفالة مستوى عادل لحياة المزارعين، وضمان أسعار معتدلة للمستهلكين كل ذلك مع كفالة مواد التموين الضرورية..
وواضح كذلك أن تحقيق هذه الأهداف يقف في وجه "المصالح المتضاربة"بين الدول الأوروبية نفسها، وعلى سبيل المثال، فإن دولا مثل(1/321)
فرنسا وبلجيكا ولوكسمبورغ تتمتع زراعتها بحماية قوية من جانب الدولة فضلا عن زيادة فائضها.. ومن أجل هذه "المصلحة" فمن الطبيعي أن تعارض في فتح أوروبا للمنتجات الزراعية بالأسعار المخفضة في السوق العالمية، على حين أن دولا أخرى مثل ألمانيا وإيطاليا وهولندا ترى من مصلحتها الاستمرار في شراء المنتجات الزراعية بأسعار مخفضة..
ولكن الجماعة الأوروبية لم تنهزم أمام هذه المصالح المتضاربة وأمثالها، إذ وجدت لها حلولا اقتصادية سليمة.. فقد عمدت إلى وضع القواعد للتنظيم المشترك للسوق الداخلية، ولسياسة المبادلات من الدول الأخرى خارج الجماعة.. ووضعت الأسس المالية لتمويل نفقات الدعم لهذه السياسة.. وبذلك أصبحت المنتجات الزراعية تزرع وتستهلك في الوطن الأوروبي في ظل أوضاع تخدم مصالح الفلاحين والمستهلكين على السواء.. من غير تفريق بين فواكه إيطالية، أو خضار فرنسية، أو طيور هولندية، إلى غير ذلك مما لذ وطاب.
وقد أمكن الوصول إلى هذه النتائج الباهرة لأن الجماعة أنشأت سوقا مشتركة لمنتجات الجماعة الزراعية وساعدت الزراعة في دول الجماعة، وأصبحت الجماعة تنتج الآن معظم السلع الزراعية التي تستهلكها.. أما في الوطن العربي، فإننا نستورد اللحوم والحبوب والكثير من المواد الغذائية من الخارج، وأراضينا الزراعية المترامية الأطراف تنادي: هل من زارع، وهل من فالح صالح..
على أن الإحصاءات والبيانات الرسمية فيها أبلغ الدلالة،ولو كان المجال متسعا لأوردناها ملحقا في هذا الكتاب فإنها تثبت من غير شك أن الجماعة الأوروبية بسوقها المشتركة قد أصبحت أقوى المنظمات الاقتصادية الدولية(1/322)
تطورا، فقد باتت المصدر العالمي الأول، والمشتري العالمي الأول، ودفعت بالإنتاج إلى أعلى معدل للنمو.
وهذه القوة الاقتصادية الضخمة هي التي أمسكت بالجماعة الأوروبية عن الانهيار أمام العواصف الاقتصادية التي هبت على العالم في الحقبة الأخيرة، ويكفي أن نسمع إلى الاعتراف الخطير الذي أدلى به السيد والتر شيل رئيس جمهورية ألمانيا الاتحادية حين قال بهذا الصدد: "إني مقتنع بصورة قاطعة أنه لم يكن بإمكاننا، فرادى، أن نقف في وجه العاصفة الاقتصادية التي بدأت في عام 1973، وكان من الممكن أن تفضي تلك العاصفة إلى كارثة تبتلعنا، كل دولة على حدة – وكان من الخير أننا أنشأنا قبل عشرين عاما الجماعة الأوروبية".
وهل من خطاط عربي، يكتب لنا هذه الكلمات العظيمة لتعلق في قصور الملوك والرؤساء، يقرأونها في الغدو والآصال..
ولكن العلاقة العربية بالجماعة الأوروبية مليئة بالعبرة، وهذه وحدها تكشف مواضع التخلف في الجامعة العربية، ومؤسساتها ومعاهداتها، وعلاقاتها مع الدول الغربية، ذلك أن الجماعة الأوروبية قد أنشأت علاقات، ووقعت اتفاقات مع عدد من دول الجامعة العربية، في مختلف المجالات الاقتصادية.. والدول العربية هذه، قد وقعت فرادى، أما الدول الأوروبية التسع فقد وقعت كجماعة.. ذلك أن دول الجماعة الأوروبية قد التزمت بالتعامل الاقتصادي مع الدول الأخرى، كجماعة واحدة تفاوض وتتفق بهذه الصفة باسم الدول الأوروبية التسع، أما دول الجامعة العربية فإنها تفاوض وتتفق واحدة واحدة.. والسبب بسيط لأن الدول العربية ليس لها سياسة مشتركة لا في الاقتصاد ولا في غيره.. ولو أن الدول العربية، وفي إطار(1/323)
الجامعة، تفاوضت كجماعة عربية مع الجماعة الأوروبية، لحصلوا على شروط أفضل جميعا وأفرادا.. ولكن من أين يكون لهم الإدراك الرشيد حتى في مجال لقمة العيش.
ذلك كله في مجال الاقتصاد، وقفنا عنده بعض الشيء، لأن الاقتصاد هو الحياة، والحياة هو، خاصة في هذا الزمن الذي يعيشه العالم بأسره، أما في مجالات الثقافة، والإعلام، والمواصلات والتشريع وسائر جوانب الحياة العربية، فإن الجامعة العربية لا تستطيع أن تقدم للمواطن العربي إنجازا يستحق الذكر، رغم الحوافز الكبرى، والدواعي الملحة التي تقضي بذلك، من غير إبطاء..
ففي مجال الإعلام مثلا، وهو ميدان على أقصى ما يكون من الأهمية بالنسبة إلى القضية العربية، لا نحتاج إلى عرض تفصيلي لنرى أن الجامعة العربية قد سجلت إخفاقا آخر في ميدان الإعلام بالإضافة إلى إخفاقها في الشئون السياسية والفكرية والاقتصادية، ذلك أنه منذ أن تأسست الجامعة ولا تكاد تخلو دورة من دوراتها إلا والإعلام العربي يبرز على رأس الجدول وتصدر بشأنه القرارات والتوصيات من غير أن نرى أثراً يذكر للإعلام العربي لا في الوطن العربي ولا على الصعيد العالمي. وفي مؤتمرات القمة العربية الثمانية طرحت قضية الإعلام العربي ومعها ملفات ضخمة وتقارير شاملة وضعتها لجان وخبراء وعلماء، ثم ينتهي الأمر إلى قرارات جليلة كأصحاب الجلالة، وتوصيات فخمة كأصحاب الفخامة ولكن من غير أن يتحرك الإعلام من مواقعه الراكدة الراقدة.
ولا بد لنا أن نعترف أن الجامعة العربية، قد سعت على مر السنين، أن تنشئ مكاتب إعلامية في عدد من العواصم العالمية، ولكن هذه المكاتب(1/324)
بقيت مقيدة في الرجال والمال، ولم تستطع أن تؤدي دورا ملحوظا ناهيك عن التصدي للإعلام الإسرائيلي العملاق..
والواقع أن موضوع الإعلام كان من أكثر مواضيع الجامعة العربية "ضخامة" من حيث انعقاد المؤتمرات وإعداد الدراسات وتقارير الخبراء.. ولكن ذلك كله لم يفض إلى نتيجة تذكر، مع أن الحاجة لذلك كانت ماسة على أقصى ما يكون، وخاصة أثناء الأحداث العربية الخطيرة، مثل حرب الأيام الستة، وحرب تشرين، والتغيرات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية في الوطن العربي..
ولو شاءت الجامعة نفسها أن تضع تقريرا عن نشاطاتها وإنجازاتها عبر الأعوام الخمسة والثلاثين الماضية فإنها لن تجد أكثر من مجلد ضخم يحتوي مئات القرارات، ومحاضر عشرات الاجتماعات والمؤتمرات.
وعلى وجه التحديد، فإن المواطن العربي لا يستطيع أن يجد ثلاثين كتابا جيدا باللغات الحية عن الجامعة العربية، أو القضية العربية.. أو الوحدة العربية.. وكذلك فإنه لا يستطيع أن يجد عشرة أفلام سينمائية جيدة عن الوطن العربي، وعن الحياة الاجتماعية للأمة العربية، أو ما شاكل ذلك من جوانب الحياة العربية العامة.
وإذا ذهب المواطن العربي إلى الخارج، فإنه لا يستطيع أن يجد أن للجامعة العربية محاضرين، عربا أو أجانب ذوي كفاءات عالية يخطبون في الجامعات والكنائس والأندية العامة، بصورة غير متقطعة، وكذلك فإنه لا يستطيع أن يجد في المكتبات العامة، الكتيبات الصغيرة عن مختلف شئون الأمة العربية مكتوبة بصورة شيقة، علمية وموضوعية..(1/325)
وفي داخل الوطن العربي، ليس للجامعة العربية مجلة أو جريدة منتشرة على صعيد الوطن العربي بأسره، لتثقف الإنسان العربي بالقضايا العربية العامة، السياسية والاقتصادية والثقافية، والاجتماعية.. وتقدم له شيئا غير ما تعطيه الصحف العربية، التي تعنى أكثر ما تعنى بشئون أقطارها..
وكذلك ليس للجامعة العربية، إذاعة خاصة بها، تختص بالشئون العربية العامة، وتكون بمثابة ملتقى للمفكرين العرب، بدلا أن يهرب المواطن العربي إلى الإذاعة البريطانية وصوت أمريكا بحثا عن أخبار الوطن العربي ومختلف شئونه..
وقد أصبحت معظم دول العالم تخصص في برامجها الإذاعية جانبا هاما للتحدث إلى الأمة العربية، وكل ما تهدف إليه إذاعات هذه الدول أن تدفع الجماهير العربية إلى وجهة معينة أو ليس الأجدر أن يكون للأمة العربية إذاعة خاصة بها على الصعيد القومي العام لا على الصعيد القطري، أو ليست هذه هي أولى المهمات الإعلامية للجامعة العربية، المؤسسة العربية الأم.
ليست هذه أحلام النهار، هذه أمنيات يمكن تحقيقها، فالأمة العربية معنية بكفاءاتها الفكرية وثروتها المادية، وثرائها الحضاري، وكل هذه الأمور وغيرها يمكن تحقيقها بنجاح وسهولة.. وأمامنا مثل حي وهو إذاعة مونت كارلو، وهو مشروع ليست وراءه عدة دول، وقد أصبحت هذه الإذاعة مرجعا للمواطن العربي للأخبار والتعليقات.. فلماذا لا يكون للجامعة العربية إذاعة تخاطب الإنسان العربي لتجعل منه مواطنا عربيا مدركا لأبعاد قضاياه القومية عارفا بمشاكله الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وإلى جانب ذلك تتولى هذه الإذاعة مخاطبة الشعوب الأجنبية الأخرى بلغاتها فتعمل على تعريفها(1/326)
بالشئون العربية من الينبوع العربي مباشرة.. وهل نحن أقل شأنا من الدول الأخرى التي توجه إذاعاتها إلى شعوب متعددة، بلغاتها ووفق برامج خاصة.
ويدور بخلدنا موضوع هام، يكشف عن قصور الجامعة العربية ودولها، ذلك هو موضوع الصهيونية والعنصرية، وقد أصدرت الأمم المتحدة بشأنه قرارا هاما، فماذا فعل الإعلام العربي في هذا الموضوع، كم عدد الكتب التي صدرت بشأنه باللغات الحية.. كم عدد الندوات والمؤتمرات العالمية التي نظمها الإعلام العربي بهذا الشأن.. لقد انتهى الموضوع عند عتبات الأمم المتحدة، ولم يحسن الإعلام العربي استخدامه واستثماره بدوام، وفي كل عام.. فالصهيونية وحدها هي التي اغتنمت الفرصة، فعبأت الكتاب والمفكرين الأوروبيين، وعقدت الندوات دفاعا عن الصهيونية، واعتبارها حركة حضارية تحريرية رفيعة الشأن.. وانتفعت الصهيونية بقرار إدانة الصهيونية لتمجيد الصهيونية.
وقضية اللاجئين الفلسطينيين، موضوع آخر لم يستطع الإعلام العربي أن ينقله للرأي العام الدولي بصورة علمية مثيرة.. على حين أن الإعلام الصهيوني، يتخذ كل يوم من "مشكلة" يهودي سوفييتي واحد يريد أن يهاجر إلى إسرائيل، قضية إنسانية كبرى يشغل بها الرأي العام الدولي زمنا طويلا..
إن الإعلام الصهيوني، مؤمن عنيد بباطله؛ والإعلام العربي، متخلف متهاون في حقه.. الإعلام الصهيوني يتحرك بدينامكية دقيقة بدقيقة.. والإعلام العربي يتثاقل على الأرض مكبلاً بالروتين.. الإعلام الصهيوني وراءه دولة واحدة، والإعلام العربي وراءه اثنان وعشرون دولة، كل دولة ترسم له خطا معينا، وكل دولة معنية بأن تقذف إليه أقل أبنائها كفاءة وإيمانا.(1/327)
وبكلمة موجزة فإن الإعلام الصهيوني هو رسالة عند أصحابه.. والإعلام العربي هو منصب عند طلابه..
ومرة أخرى فإن الجماعة الأوروبية لها نشاط إعلامي يتعلق بشئونها الخاصة، فهي تخاطب المواطن الأوروبي في كل ما يهمه من الشئون الاقتصادية والاجتماعية والمالية.. بمختلف اللغات، لتعرفه بمشاكل الجماعة وكيفية التغلب عليها، ثم هي تشده إلى الاتحاد الأوروبي... وهي تفعل ذلك دون أن تشعر بحرج من قبل الدول الأوروبية التسع التي تتألف منها الجماعة.
ولا بد لنا من كلمة حول التربية والثقافة القومية، ذلك أن الأمة العربية تجد نفسها أمام واقع حزين مخيف، فإن خمسة وثلاثين عاما من عمر الجامعة العربية، بأوضاعها الانفصالية، قد جعلت الإنسان العربي في حالة من الفراغ القومي، تتجاذبه الدعوات المتعددة، فراح يعاني التمزق الروحي والضياع الفكري، وأصبحنا في حاجة إلى إعلام عربي موجه إلى الأمة العربية أولا، يعمل على الترشيد والتوجيه السديد.
والجيل العربي الناشئ أحوج ما يكون إلى هذا الترشيد القومي، ومن المؤسف أن الألوف من الطلاب العرب في جامعات القاهرة ودمشق وبغداد ليست لهم مظلة فكرية قومية واحدة تجمع الطالب التونسي، إلى المصري، إلى السوري إلى العراقي..
هؤلاء جميعا، وهم قادة الأمة العربية في المستقبل، يعيشون الآن في روابط واتحادات إقليمية في العاصمة الواحدة، لا يكادون يعرف بعضهم بعضا.. وهؤلاء مسئولية الجامعة العربية..(1/328)
ومرة أخرى ليس هذا الاقتراح خيالا، فإن الجماعة الأوروبية تعد وتنفذ برامج واحدة للطلاب الأوروبيين، رغما عن تباين لغتهم ومناهلهم الثقافية.. وما على الجامعة العربية إلا أن تقلد ما تفعله الجماعة الأوروبية في هذا الباب، بل أن الجامعة العربية قادرة أن تبتدع وتبدع، ولدينا المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم فإنها قادرة على أن تخوض هذا الميدان وتؤدي واجبها الأكمل، ولكن يجب أولا أن تنسل الجامعة العربية من ميثاقها الانفصالي، وتدخل في ميثاق وحدوي، وحينئذ تصبح الجامعة العربية قادرة على بناء الأجيال العربية الصاعدة بالتعاون مع وزارات التربية في الوطن العربي.
وفي هذا المجال تبرز مفارقة أخرى كبيرة بين ما تفعله الجماعة الأوروبية والجامعة العربية، ذلك أن الأولى قد وضعت ونفذت برنامجا لتحقيق سياسة تعليمية واحدة (1) وبرنامجا آخر لتدريب المعلمين في الجماعة الأوروبية (2) وفي بروكسل أقامت الجماعة "المدرسة الأوروبية"، يفد إليها التلاميذ من أبناء الدول الأوروبية التسع.
هذا وغير هذا قليل من كثير، يجسد الفارق الكبير بين الجماعة الأوروبية والجامعة العربية: الأولى اتحادية وهي لذلك ناجحة.. والثانية انفصالية وهي لذلك خائبة وفاشلة..
ولكن الخيبة الكبرى أن لا تدرك أنها خائبة فاشلة.
__________
(1) Towards European Policy.
(2) 2 ) Teachers Training in the European community(1/329)
الفصل السادس عشر
تغير كل شيء من المحيط إلى الخليج..
إلا جامعة الدول العربية
حينما نعود بالذاكرة إلى ربيع عام 1945 في رحلة استطلاعية لنتجلى من خلالها حال الأمة العربية في ذلك العهد، تطالعنا صورة واضحة عن المتغيرات الكبرى والتطورات المتلاحقة التي اجتازها الوطن العربي في هذه الحقبة القصيرة من تاريخنا المعاصر.
وهذه التطورات والمتغيرات، قد تفوت انتباه الجيل المعاصر، شأن الوالد الذي لا يلاحظ نمو ولده يوما بعد يوم.. ولكن الدراسة المقارنة الدقيقة، لأوضاع الأمة العربية في الأربعينات، وما صارت إليه في أيامنا هذه ونحن نطل على الثمانينات، توضح لنا بكل جلاء، أن أمورا كثيرة، وكثيرة جدا، قد تغيرت وتبدلت إلا الجامعة العربية، فقد بقيت على حالها، ميثاقا، وكيانا، وأن ما تغير فيها وتبدل كان إلى الأعطل، لا إلى الأفضل.
ولقد كان من المفروض، أن تواكب الجامعة العربية رياح التطور والتغير التي هبت على الوطن العربي خلال ما يزيد على ثلث قرن من الزمان.. ولكن شيئا من ذلك لم يحدث، فقد بقيت الجامعة العربية كيوم ولادتها، ومضت في طريقها مع الزمن يتضخم جسدها يوما بعد يوم وتتثاقل حركتها، ولا تحقق لأمتها الأمi المرتجى والخير المنشود.(1/330)
وميثاق الجامعة نفسه، هو من أوائل الدلائل على تخلف الجامعة عن موكب التطور الكبير الذي قطعته الأمة العربية في هذه الفترة، وتكفينا قراءة عابرة لبعض نصوص الميثاق لنرى هذه الحقيقة ماثلة أمام العيان.
ولقد ناقشنا في الفصول السابقة كثيرا من مواطن الضعف في الميثاق بما فيه الكفاية ولكن الناحية التي تعنينا في هذا الفصل أن الميثاق الذي وضع قبل خمسة وثلاثين عاما لم يعد يصلح للأمة العربية في مجموعه، وهي تواجه المشاكل الضخمة المتعددة التي توشك أن "تهجم" علينا في مطلع القرن الحادي والعشرين، وهو يسرع خطاه إلينا.. من غير تمهل ولا إبطاء، ولنضرب بعض الأمثال..
إن المادة الثانية من الميثاق، وهي التي تتحدث عن التعاون والتنسيق بين الدول العربية فيما يختص بالشئون الاقتصادية والمالية، والثقافية والاجتماعية والصحية، وسائر الأمور التفصيلية التي تدخل في هذا الباب.. قد تجاوزها الزمن بمراحل متعددة.
إن الأمة العربية تواجه اليوم مشكلات عظيمة اقتصادية واجتماعية، وستواجه غدا ما هو أعظم وأوخم، إذا لم تبادر الدول العربية إلى إقامة جامعة عربية جديدة قادرة على الاستجابة للتحديات الكبرى التي تقرع أبوابنا، ومؤهلة لمعالجة المشكلات التي تواجهنا.. والمشكلات هذه لا يتسع هذا الفصل إلا لسرد عناوينها..
عندنا أولا مشكلة تزايد السكان في الوطن العربي، دون أن يقابلها نمو في الإنتاج وخاصة في مواد التموين الغذائي.. والأمة العربية ستواجه عاجلا أو آجلا خطر مجاعة حقيقية.. ويكفي أن نعلم على سبيل المثال، وفي سياق التحذير والإنذار أن جمهورية مصر العربية سيصبح عدد سكانها في(1/331)
أوائل القرن الحادي والعشرين قرابة ثمانين مليونا، وكان هذا الرقم الكبير هو مجموع تعداد الأمة العربية بأسرها قبيل عشرين عاما، أما بقية الدول العربية فإن النمو السكاني فيها سيتضاعف في فترة تتراوح بين عشرين وثلاثين عاما، ومعنى هذه التقديرات بصورة إجمالية أن تعداد الأمة العربية في مطلع القرن القادم سيصل إلى مائتين وخمسين مليون نسمة دون أن تقابله النسبة المطلوبة في النمو الإنتاجي وخاصة في المواد التموينية.. فالأمة العربية ستحتاج يوميا إلى مليار رغيف أو 360 مليار رغيف في العام الواحد عدا ما تستهلكه من أنواع الغذاء الأخرى، وهذه الأرقام رهيبة يجب أن نحسب لها كل حساب!!
وعندنا ثانيا خطر نفاد النفط العربي في منابعه في الوطن العربي، دون أن نستخدم عوائده الحاضرة في بناء اقتصاد عربي شامل ييسر للأمة العربية الحياة من غير نفط؛ وتقع تحت هاتين المشكلتين العظميين، مشاكل اقتصادية ومالية واجتماعية كثيرة لا يتسع المجال للخوض فيها، وهي في مجموعها تتصل، لا برفاه الأمة العربية وسعادتها، ولكن بحياة الكفاف لمواطنيها وشعوبها.
هذا مع العلم أن في الوطن العربي ثروات معدنية متنوعة ضخمة، وكثير منها غير مكتشف أو معروف، بالإضافة إلى المساحات الضخمة من الأراضي الزراعية والصالحة للزراعة التي تحتاج إلى المكننة والتقننة، لتقدم للأمة العربية بأسرها الغذاء والكساء والدواء، والفائض منها ثروة أخرى للتصدير والتبادل.
وليس بالجواب العلمي السليم أن يقال إن استثمار الأموال البترولية في مشروعات متعددة في الخارج سيكون بنفسه مصدر دخل مضمون(1/332)
لأصحابه.. ذلك أن تلك المشروعات عرضة للمصادرة والتأميم، وهبوط الأسعار.. وشيوخنا الأوائل لهم حكمة قديمة، وراءها تجربة عريضة، حين قالوا: "المال الذي ليس في بلدك ليس لك ولا لولدك"!!
والأمر في مجموعه، في حاضره وفي مستقبله، بالغ الخطورة، لا يمكن معالجته بهذه الطريقة التقليدية البليدة التي نراها في هذا الميثاق التقليدي، وفي نصوصه البليدة.
وكذلك فإن المادتين الخامسة والسادسة اللتين تعالجان الخلافات العربية قد أصبحتا متهرئتين، فقد اخترقتهما الصراعات فيما بين الدول العربية، كما اخترقتهما الدبابات والصورايخ التي استخدمت بين العرب والعرب في مختلف أرجاء الوطن العربي، وهذه النصوص الرخوة ليست بقادرة أن تكبح جماح هذه النزاعات العدوانية التي لا تعكس طبيعة الأمة العربية ولا مشيئتها.. ولكن سببها الأول والأخير هو الحكم الجامع من غير وازع ولا رادع..
وتأتي بعد ذلك المادة السابعة من الميثاق التي تجعل الإلزام في قرارات الجامعة منوطا برغبة دولة عربية واحدة، وفق مزاجها وهواها..
وتتحدث المادة التاسعة عشرة بصدد تعديل الميثاق عن "جعل الروابط بين الدول العربية أمتن وأوثق".. وعن إنشاء محكمة عدل عربية "في صياغة متسمة بالاستحياء والمواربة.. وينتهي بنا المطاف في هذا اليوم ونحن نبحث عن محكمة عدل عربية لتسوي الخلافات العربية فلا نجدها، وندقق في الروابط بين الدول العربية، فنجدها، أوهن بدلا من أن تكون "أمتن" كما توقع الميثاق.(1/333)
ثم يسوقنا الميثاق بعد ذلك إلى الملحق الخاص بفلسطين، الذي يتحدث عن فترة الانتداب البريطاني، ويقصر همه على كيفية تمثيل فلسطين في مجلس الجامعة.. وغير ذلك من الإشارات والعبارات التي لا تستطيع أن تتصدى لأكبر خطر يواجه الأمة العربية بأسرها في حاضرها ومستقبلها..
والقارئ لهذا الملحق الناعم الرقيق، يدهشه أن يظل على حاله، بعد أن تطورت القضية الفلسطينية تلك التطورات الخطيرة ممثلة بقيام إسرائيل وتشريد الشعب الفلسطيني، وتوافر الدلائل الكثيرة أن أمن الأمة العربية وحدود إسرائيل، أمران لا يلتقيان ولا يتعايشان.
ويأتي بعد ذلك ملحق آخر، وهو يتعلق بالتعاون "مع البلاد العربية غير المشتركة في مجلس الجامعة" والإشارة هنا موجهة إلى الأقطار العربية في إفريقيا، من ليبيا إلى السودان، إلى تونس، إلى الجزائر إلى المغرب.. ولقد استقلت هذه البلاد العربية الشقيقة وأصبحت أعضاء في مجلس الجامعة ولكن هذا الملحق لا يزال قائما، بين دفتي الميثاق.. ويتحدث عن هذه الأقطار باعتبارها تحت الاحتلال.
ويختم الميثاق، في النهاية بالنص على تعيين "سعادة عبد الرحمن عزام بك أمينا عاما لجامعة الدول العربية" وقد انتقل عزام باشا إلى جوار ربه، وهو من أعلام القضية العربية رحمه الله، وتبعه أمنيان عامان آخران، ولكن هذا "الملحق" ما يزال موجودا في كتاب الميثاق بكلماته وعباراته!!
ومن الطريف أن صدر الميثاق قد استغرق حيزا غير قليل في ذكر أصحاب الجلالة والفخامة والسمو الملوك والأمراء والرؤساء، المؤسسين الأوائل للجامعة العربية، وتلا ذلك أسماء رؤساء الوفود العربية وأعضائها الذين وقعوا ميثاق الجامعة العربية، على غير ما جرى عليه الأمر بالنسبة(1/334)
إلى ميثاق الأمم المتحدة أو المنظمات الدولية الأخرى مما دل منذ أول الطريق، أن الجامعة العربية قد غلب عليها المظهر دون الجوهر، ولم تجد مكانا في الميثاق ينص على "الأمة العربية" بهذا اللفظ الواضح الصريح!!
وبقيت الجامعة العربية بأعضائها السبعة من عام 1945 إلى عام 1953 وانقضت قرابة عشرة أعوام تعاقبت فيها مراحل الاستقلال على ست دول عربية وهي ليبيا والسودان وتونس والمغرب والجزائر والكويت، فانضمت جميعها إلى الجامعة العربية وما أن حل صيف 1962 حتى أصبحت الجامعة العربية مؤلفة من ثلاثة عشر عضوا.
وأقبلت حرب الأيام الستة فانهزمت الدول العربية لأنها كانت ثلاثة عشرة، تماما كما انهزمت في حرب 1948 لأنها كانت سبعا.. وكانت الأسباب في الهزيمتين كثيرة، منها أن الجامعة لم تكن جامعة.
ثم تعاقبت سبع سنوات أخرى 1967-1974 واستقلت أقطار عربية أخرى فانضمت إلى الجامعة العربية سبع دول عربية أخرى هي اليمن الشعبية الديمقراطية، قطر، البحرين، عمان، اتحاد الإمارات العربية، موريتانيا والصومال.. وفي عام 1977 انضمت جيبوتي إلى الجامعة فأصبح عدد أعضائها وإحدى وعشرين دولة، يضاف إليها فلسطين التي منحتها الجامعة لقب "عضو كامل العضوية" عزاء لها عن الوطن السليب.
وهذا التطور في العضوية من سبعة في عام 1945 إلى ثلاثة عشر في عام 1967، إلى ما يربو على عشرين في عام 1977 يطرح السؤال الكبير، وهل تبقى الجامعة العربية على ميثاقها المهلهل القائم، وعلى هيكلها المترهل، ومؤسساتها المنشقة بعضها عن بعض..(1/335)
ونحن لو تجاوزنا تعاظم العدد في عضوية الجامعة فلا يمكن أن تفوتنا الحقيقة الأكيدة أن جميع الظروف التي رافقت مولد الجامعة قد تبدلت وتغيرت.. بل إن بعض الاعتبارات قد إمّحت من الساحة العربية..
ومن الاعتبارات الهامة التي أمحت وزالت من الوطن العربية بصورة كلية ونهائية، الاحتلال العسكري الأجنبي الفعلي الذي كان باسطا ذراعيه وساقيه على معظم أقطار الوطن العربي الكبير.. وإذا استثنينا اليمن والحجاز فقد كانت باقي الأقطار العربية تحت الاحتلال أو الحماية، أو الانتداب الأجنبي.. من جانب فرنسا في سوريا ولبنان، وتونس والجزائر والمغرب، ومن جانب إيطاليا في ليبيا، ومن جانب الإنجليز في مصر وفلسطين والعراق وشرق الأردن.. ولا بد لنا هنا من وقفة قصيرة لنتعرف على مدى "السيادة العربية" التي كان يمارسها المؤسسون الأوائل الذين أنشأوا الجامعة العربية ووضعوا ميثاقها وحددوا أهدافها..
ولنبدأ أولا بمصر –المملكة المصرية- وهي قائدة الأمة العربية، وهي التي تحملت أعباء "مشاورات الوحدة العربية" التي اقترحها وزير الخارجية البريطانية المستر إيدن وأيدتها الولايات المتحدة، كما رأينا في الفصول الأولى.. ولعل الجيل العربي الناشئ يصاب بالذهول حين يعلم أن مصر، دولتنا الكبرى، كانت تحت الحماية البريطانية، وكانت القوات البريطانية تحتل مواقع إستراتيجية على ترابها الوطني وخاصة على ضفاف القنال.. بل أن المقر الحالي للجامعة العربية قام على أنقاض قشلاق الإنجليز الذي كانت تشغله القوات البريطانية.
ويروي لنا اليوم الرابع من شهر فبراير من عام 1942 الحادثة الشهيرة الرهيبة، حين اقتحمت القوات البريطانية في الساعة التاسعة صباحا(1/336)
من ذلك اليوم، قصر عابدين، يتقدمها السفير البريطاني اللورد كلرن وبرفقته القائد العام للقوات البريطانية في مصر، وداهموا مكتب الملك فاروق بعد أن تغلبوا على الحرس الملكي، وفرضوا على الملك أن يقيل حكومة علي ماهر باشا، وينصب مكانه مصطفى النحاس باشا، وهو الذي قاد فيما بعد حملة "مشاورات الوحدة العربية" ثم أقيل بعد ذلك من قبل الملك فاروق، وتولت بعده حكومة مصرية أخرى توقيع ميثاق الجامعة العربية.
كان هذا هو حال مصر، وهي قائدة المسيرة العربية في إنشاء الجامعة، وصائغة ميثاقها وصانعة أهدافها.. دولة عربية ناقصة السيادة الوطنية ومحجوبة الإرادة القومية.. فضلا عن أن ظروف الحرب العالمية الثانية التي ابتدأت من عام 1939 وانتهت في عام 1945، وهذه هي أعوام الحمل والولادة للجامعة العربية، قد جعلت من مصر، أرضا واقتصادا وطاقات بشرية تحت تصرف المجهود العربي، رضيت مصر أو رفضت.
وانتهت الحرب العالمية الثانية ولم ينته الاحتلال البريطاني لأرض مصر على ضفاف القنال حيث كانت القوات البريطانية في معسكراتها بما يزيد على سبعين ألف جندي.. وقامت الجامعة العربية واتخذت القاهرة مقرا لها والاحتلال البريطاني ما يزال على حاله، وتقدم النقراشي باشا، وهو الذي خلف النحاس باشا في توقيع ميثاق الجامعة، إلى مجلس الأمن يشكو بريطانيا بالتدخل في شئون مصر، ويطالب بجلاء القوات البريطانية عن أرض مصر، وبادر السير ألكسندر كادو وكان ممثل بريطانيا إلى مجلس الأمن، بالاعتراف بوقائع الشكوى المصرية، "مؤكدا أن وجود القوات البريطانية على أرض مصر هو وجود شرعي"!!(1/337)
وكان من المفارقات اللطيفة، أن مصر قد استصدرت عدة قرارات من مجلس الجامعة على مدى سبع سنوات 45-1952 تؤيد مطالب مصر القومية في جلاء القوات البريطانية عن أرض مصر.. مصر تستعين بالجامعة، والجامعة تستعين بمصر، وكلتاهما تبحث عن النصير والمجير.. ولم يكن سكان مصر في تلك الحقبة يتجاوزون عشرين مليونا على أحسن تقدير، وقد تضاعف هذا العدد إلى أربعين مليونا في 1977 كما كانت ميزانيتها العامة أربعة وتسعين مليون جنيه مصري للواردات ومائة وثلاثة ملايين جنيه للصادرات – بعجز تسعة ملايين جنيه مصري.
ومن الأرقام الفصيحة البليغة عائد النفط في مصر فقد كان في عام 1946 في حدود ثلاثة ملايين دولار!..
ويلي المملكة المصرية، المملكة العراقية، وكانت الدولة الثانية أهمية في إنشاء الجامعة.. فقد كان العراق في حال مصر، مرتبطا مع بريطانيا بمعاهدة غير متكافئة.. وكانت القوات والقواعد البريطانية على أرض العراق كما هي على أرض مصر، وكان السفير البريطاني في بغداد، مثل زميله في القاهرة يدير دفة الحكم إلى حد كبير.. وبهذا كان ملك العراق، مثل زميله ملك مصر، يملك ولا يحكم في كثير من الشئون.
وفي حقبة إنشاء الجامعة كانت ميزانية العراق لا تتجاوز عشرين مليون دينار.. ودخله من البترول في حدود خمسة ملايين دينار.. أما عدد سكان العراق فلم يكن يتجاوز خمسة ملاين نسمة.
أما المملكة العربية السعودية، وكانت يومئذ في المقام الثالث بين دول الجامعة.. فقد كانت دولة فقيرة، وثروتها الكبرى تتجسد في شخصية الملك عبد العزيز الضخمة وشجاعة الإخوان الوهابين واستمساكهم بصفاء الإسلام..(1/338)
وقد كان دخل البترول السعودي في تلك الحقبة في حدود ثلاثة عشر مليون دولار وكانت تتلقى أثناء الحرب العالمية الأولى معونة مالية من بريطانيا قيمتها خمسة آلاف جنيه إسترليني ذهب شهريا.. وأثناء الحرب العالمية الثانية استلفت السعودية مبلغ عشرة ملايين دولار من شركة الزيت قرضا على سبع سنوات 1939-1946 كما تلقت معونات مالية أمريكية بموجب قانون الإعارة والتأجير ومثلها من الحكومة البريطانية..
أما الجمهوريتان العربيتان السورية واللبنانية فقد كانتا تحت الاحتلال الفرنسي في أوائل الحرب العالمية الثانية، ثم وقعتا تحت الاحتلال البريطاني، ومعه الاحتلال الفرنسي في عهد الرئيس ديجول، وقد شاركت هاتان الدولتان في مشاورات الوحدة العربية قبل أن تستكملا الاستقلال والسيادة والحرية.. وقد خاض الشعبان السوري واللبناني معركة تحررية ضد القوات الفرنسية بعد قيام الجامعة العربية بشهرين، وطلبا النصرة من الجامعة العربية، وهي خالية من كل أسباب النصرة. وكان سكان سوريا في تلك الفترة في حدود ثلاثة ملايين نسمة، على حين كان سكان لبنان فوق المليون نسمة بقليل، ولم تتجاوز ميزانية الدولتين في مجموعهما مائة وأربعة ملايين ليرة..
والدولة السادسة، وهي "إمارة شرق الأردن" وهو اسمها الرسمي الذي كانت تعرف به عند توقيع ميثاق الجامعة، هي أقل الدول العربية سيادة وحرية، فقد كانت مقيدة بمعاهدة بريطانية شديدة القيود، ولم يتجاوز عدد سكانها وقتئذ ثلث مليون نسمة، وكانت ميزاتها العامة في حدود مليون ونصف مليون جنيه.. وكانت بريطانيا تمول الجيش الأردني، وتؤمن له السلاح والذخيرة.. وتزودها بالقيادة ورئاسة الأركان، وكلهم من البريطانيين.(1/339)
وعلى هذا الحال كانت إمارة شرق الأردن، أحد المؤسسين لجامعة الدول العربية، وكان مقدرا لها أن تبلغ مرحلة الاستقلال فيما بعد، وأن يصدر مجلس الجامعة قرارا بالتهنئة باستقلالها وقد استبدلت اسمها ليصبح المملكة الأردنية الهاشمية..
أما الدولة السابعة، وهي المملكة المتوكلية اليمنية، فقد كانت البيانات الصحيحة بشأنها غير معروفة في المراجع العربية والأجنبية، سكانا وميزانية.. وكانت حقا مصونة من الاحتلال الأجنبي، لتكون تحت احتلال الفقر والفاقة والتخلف.. ولم يكن لها سفارات في الخارج، وكانت المفوضية السعودية في لندن هي التي تتولى رعاية المصالح اليمينية في المملكة المتحدة.
وكان هذا هو حال الدول العربية السبع، التي أنشأت الجامعة العربية، سيادة وحرية واقتصادا.. دول فقيرة أفراداً وجماعة، معظمها تحت الاحتلال الأجنبي، يصرف الاستعمار سياستها العامة..
ومن الطريف أن الملك عبد الله، وهو الذي كانت مملكته أكثر الدول العربية وقوعا تحت السيطرة البريطانية، قد ترك لنا في مذكراته الرشيقة، عبارة بالغة الدلالة يصف فيها حال الجامعة العربية ومؤسسيها حين قال: "الجامعة العربية.. جراب أدخلت فيه سبع رؤوس.. بسرعة عجيبة في وقت كانت فيه سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، وشرق الأردن تحت الانتداب البريطاني، والعراق ومصر تحت المعاهدتين (البريطانيتين) فالدول العربية كانت حينذاك في قيود انتدابية وعهدية.. أما قيد احتلال، أو قيد عهد أو قيد جهالة.." (1) .
__________
(1) مذكرات الملك عبد الله، ص 220.(1/340)
ثم ذهب الملك عبد الله إلى أبعد من ذلك فقال في ختام عبارته: "ويظن الغريب الراضي عن هذه الجامعة أنها ستكون خير أداة لدوام الانتدابات ودوام الأحكام العهدية..وإني تارك لغيري تفسير هذه الظنون" وهذه إشارة غاضبة على بريطانيا فجرتها طموحات الملك عبد الله التي لم تستطع بريطانيا أن تحققها له في إطار سوريا الكبرى أو الهلال الخصيب!!
وإذا كان الملك عبد الله قد كتب هذه المذكرات بعد قيام الجامعة بخمس سنوات، فإن رئيس وزرائه توفيق باشا أبو الهدى الذي تولى دفة المفاوضات مع النحاس باشا في إنشاء الجامعة العربية فإنه لم يكتف بشرحه المستفيض عن أوضاع إمارة شرق الأردن والقيود التي تحد من حريتها وسيادتها، ولكنه تناول كذلك بالشرح الحالة في سوريا وأكد في محضر المشاورات "أن الانتداب وإن كان قد ألغي عن سوريا إلا أنه لا يزال قائما فعلا.. فالجمارك والأمن العام والشئون الخارجية لا تزال بأيدي الفرنسيين، وليس هناك تمثيل دبلوماسي أو قنصلي في الخارج.. والجنرال ديجول وكاترو كانا قد أعلنا تمسكهما ببقاء الانتداب على سوريا.. إلى أن يتم استبداله بمعاهدة مع فرنسا تكفل لها وضع الدولة الممتازة".
تلك هي الحالة العامة التي كانت "تغوص" فيها الدول السبع، التي أنشأت الجامعة قبل خمسة وثلاثين عاما.. إنها حالة من الفقر العام، في السيادة والقومية، والاقتصاد الوطني وسائر جوانب الحياة العامة..
أما اليوم ونحن نكتب هذا الفصل في ختام عام 1977 فقد أصبحت الدول السبع مستقلة استقلالا كاملا وتتمتع بالسيادة الوطنية الشاملة وخرجت الرؤوس السبع من الجراب، كما ذكر الملك عبد الله، وكانت مملكته في جملة الخارجين.. ثم انضم إلى الدول السبع، أربع وعشرون دولة عربية أخرى(1/341)
كاملة السيادة والحرية.. وبعد أن كانت ساحة الجامعة العربية في عام 1945 قاصرة على رقعة محدودة من الوطن العربي، اتسعت منطقة الاختصاص فأصبحت في يومنا هذا شاملة للوطن العربي بأسره من المحيط إلى الخليج.. وبعد أن كانت الجامعة يوم نشوئها تتعامل مع خمسة وثلاثين مليونا من المواطنين.. أصبح "رعاياها" مائة وأربعين مليون نسمة.. وإن كانوا في الواقع الرسمي رعايا لعشرين دولة مستقلة..
هذه أرقام بالغة الدلالة، ولكن الأرقام الاقتصادية والمالية، أعظم دلالة وتعبيرا، فقد تعاظمت القوة المالية والاقتصادية للأمة العربية أكثر من خمسو وثلاثين ضعفا في خمس وثلاثين ضعفا في اليوم الواحد، خلال عمر الجامعة في الأعوام الخمسة والثلاثين التي سلختها في مسيرة الزمن.. وأن الجداول التفصيلية في المراجع العلمية توضح لنا بكل جلاء أن الثروة العربية قد أصبحت عملاقة حقا، وأصبحت من أكبر عوامل الاقتصاد العالمي العملاق.
ونحن لو اقتصرنا على ثروة النفط وعوائده الضخمة، واستثنينا موارد الدخل القومي العربي الأخرى لتجسدت أمامنا قدراتنا الاقتصادية والمالية، على هيئة مارد جبار يلف العالم بأسره بين ذراعيه، إذا "عصره" اختنق، وإذا احتضنه ترعرع وتألق.. ووراء هذه الكتابات والمجازات شواهد حية تتمثل في حياة الناس أجمعين.
ويكفي أن نعود بالذاكرة إلى النصف الأول من عام 1974 حينما قامت الدول العربية، بتدابير تخفيض إنتاج البترول، مجرد التخفيض، وكان من نتيجة ذلك أن اضطرب الاقتصاد العالمي بأسره.. وأصبح البترول يمثل "الرعب الأكبر" في دنيا الاقتصاد والمال والأعمال..(1/342)
وانقلبت موازين القوى في الساحة العالمية، وإن كان الجانب العربي لم يصل بعد إلى إدراك هذه الحقيقة، أو أنه لا يملك الرغبة والإرادة في الإيمان بهذه الحقيقة.. فقد أصبح العالم العربي، بصورة خاصة، تحت رحمة القرارات الاقتصادية العربية، بعد أن كان الوطن العربي في أكثر أقطاره، تحت رحمة الدول الغربية حماية ووصاية، في السياسة والاقتصاد.. من ذلك مثلا، أن السعودية وهي قوة اقتصادية عالمية، كانت في عهد مؤسسها الكبير الملك عبد العزيز آل سعود تتلقى عونا ماليا سنويا من بريطانيا أول الأمر ثم من أمريكا فيما بعد، ومثلها الكويت وقطر والبحرين، والمحميات التسع التي أصبحت دولة الإمارات العربية.. كانت كلها تتلقى مساعدات مالية مقررة من الخزانة البريطانية عاما بعد عام..
ومن ذلك أن كلا من ليبيا وإمارة شرق الأردن في أوائل عهدهما، كانتا تتلقيان عونا ماليا يصل إلى نصف ميزانيتيهما.
وأين نحن الآن – نحن الآن في سدرة المنتهى إذ يغشى السدرة ما يغشى.. وأستغفر الله من هذا التشبيه.. إن ثرواتنا البترولية وغير البترولية قد أصبحت تحسب بالأرقام الفلكية.. نحن الآن، نقدم المساعدات للذين كانوا يقدمون لنا المساعدات، وعلى مستوى أكبر وأضخم.. في أوروبا وفي أمريكا... بالإضافة إلى مساعداتنا للدول الإفريقية والآسيوية..
ونحن الآن، أصبح لنا دور مرموق، فقد غدت عواصم الخليج تعج بالرواد والقصاد من رؤساء إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، يطلبون من دولنا العربية أن تمد إليهم يد العون.. ولا بد من بعض الشواهد، لنعرف قدرنا، الذي لا نعرفه أو لا ندرك مداه..(1/343)
ويكفي أن نشير إلى المساهمات المالية لثلاث دول عربية فقط، لصالح الدول الإفريقية خلال مؤتمر القمة العربي الإفريقي الذي عقد في شهر مارس من هذا العام 1977.. فقد بلغت مساهمة السعودية ألف مليون دولار، ومساهمة الكويت مائتين وأربعين مليون دولار، ومساهمة دولة الإمارات مائة وسبعين مليون دولار.. هذا بالإضافة إلى مساهمات الدول العربية الأخرى. وبالإضافة إلى المشاركة العربية في برامج التنمية الدولية بالنسبة لإفريقيا عن طريق الأمم المتحدة وغيرها، وكذلك ما تقدمه المؤسسات المالية العربية المعنية بالقروض والمعاونة الفنية..
وفي دراسة إحصائية كشف النقاب أن جملة المساعدات العربية المدفوعة فعلا إلى الدول النامية بلغ 3.6 مليار دولار وهو ما يوازي قرابة 4 في المائة من الناتج القومي لدول البترول على أن المساعدات التي قدمتها الدول الصناعية إلى العالم النامي في تلك السنة قد بلغ ثلاثة أعشار الواحد في المائة فقط.. وعلينا أن نتأمل.
وكان تاج هذه المساعدات المالية السخية، مبلغ اثني عشر مليون دولار، رصدتها الدول العربية لمساندة حركات التحرر الإفريقية على حين أن الثورة الجزائرية المجيدة لم تكن تحلم ببعض هذا المبلغ في ذروة نضالها البطولي في ساحة الجهاد والاستشهاد.
ولسنا بصدد دراسة ثرواتنا الاقتصادية، فذلك لا يتسع له هذا الفصل ولا هذا الكتاب، وكل ما أردناه من هذه اللمحة العابرة أن نؤكد النتيجة الحتمية بأن الجامعة التي أسستها دولها الفقيرة المعدمة لا يصح أن تبقى كما أسست، بعد أن أصبحت دولها تملك هذه الثروات الطائلة..(1/344)
وربما كانت تعبيرات الشباب من هواة السيارات، أقرب إلى إدراك هذه الحقيقة، فإن السيارة من موديل 1945 يجب أن يكون مكانها في حوانيت الخردوات، ويجب أن تستبدل بسيارة موديل 1977 وهذا هو الحال بالنسبة للجامعة العربية.. فإنها حين تغدو مواكبة للمتغيرات والتطورات التي حدثت في نفسها، في دولها، تصبح جديرة بحمل أمانة الأمة العربية، ومؤهلة لأداء رسالتها..
وإلى هنا، فإن الحديث يتصل بالجوانب الاقتصادية من حياتنا القومية ولكن جانبا آخري يدعو بإصرار، أن نقيم الجامعة من جديد.. فإن الأمن العربي قد "هجمت" عليه عوامل جديدة لم تكن قائمة عند قيام الجامعة بالصورة الرهيبة أمامنا اليوم، على الأقل.. وأعني بذلك وجود إسرائيل.. ولنبدأ من البداية..
حينما أنشئت الجامعة العربية، في عام 1945 كما فصلنا ذلك في الفصول السابقة.. لم يكن في فلسطين إلا جالية يهودية لا يزيد عدد سكانها على ستمائة ألف نسمة.. وكانت فلسطين تحت الانتداب البريطاني، وتحدث عنها ميثاق الجامعة في الملحق الخاص في إطار أوضاعه الدولية.. وتطور الأمر فيما بعد إلى حالة معروفة التفاصيل، فقد قررت الأمم المتحدة إقامة دولة يهودية على مساحة تزيد قليلا عن نصف أرض فلسطين.. ثم توالى التوسع والعدوان اليهودي إلى أن أصبحت إسرائيل نتيجة لحرب الأيام الستة محتلة لجميع أرض فلسطين، ومعها الأرض العربية من جبل الشيخ إلى شرم الشيخ.
ثم جاءت حرب أكتوبر المجيدة عام 1973 فأثبتت في جملة ما أثبتت قدرة المقاتل العربي وشجاعته ولكن لم تستطع الدبلوماسية العربية أن تحقق(1/345)
مكاسب سياسية على مستوى العمل العسكري.. وبقيت الأرض العربية تحت الاحتلال.
ولو شئنا أن نرسم خطا بيانيا لهذا الصراع العربي الإسرائيلي منذ بدايته، لرأيناه قفز صاعدا بالنسبة لإسرائيل وهوى منحدرا بالنسبة إلى الأمة العربية.. ولا شك أن الأسباب كثيرة من جملتها ومن أهمها، أن الجامعة العربية ليست أداة صالحة لقيادة هذا الصراع، وأنها إذا بقيت على حالها القائم، فسيظل الخط البياني على حاله، صاعدا لصالح العدو، مرحلة بعد مرحلة.
والواقع أن الأعوام الخمسة والثلاثين من عمر الجامعة العربية، ومن عمر هذا الصراع العربي الإسرائيلي قد أثبتت مخاطر كبيرة كان يظن أنها من باب الوهم أو التهويل.. ولكن مواقف إسرائيل منذ حرب أكتوبر إلى يومنا هذا قد وضعت الأمة العربية أمام حقائق رهيبة لا يمكن أن تتحملها الجامعة العربية في أوضاعها الحاضرة.. إلا إذا كان الحكم العربي المعاصر يريد أن يفرط بأمن الأمة العربية في حاضرها ومستقبلها، بالإضافة إلى التفريط بفلسطين وهذا ما لا نريد أن نقوله..
وحسبنا أن نطلب إلى الحكم العربي المعاصر أن يقرأ، إن لم يكن قد قرأ، خطاب موشي ديان وزير خارجية العدو في الأمم المتحدة في العاشر من شهر أكتوبر من عام 1977 حين أعلن أن إقامة المستوطنات في "السامرة والهبواية"، وهو التعبير اليهودي عن الضفة الغربية، هو أمر شرعي وأن الأردن وغيرها من الدول العربية لا تستطيع أن تدعي سيادة على الضفة الغربية أكثر من حق إسرائيل فيها.. وأن إسرائيل صاحبة الحق في السيادة(1/346)
الوطنية في الأرض القديمة والتاريخية للشعب اليهودي" وغير ذلك مما يعني بكلمات مختلفة، حق اليهود في الأرض الممتدة من النيل إلى الفرات.
ولو أن كتاب اليهود القدامى الذين وضعوا أسفار العهد القديم، قد عرفوا التعبير الجغرافي الجديد من المحيط إلى الخليج لرددوه في هذه الأيام بديلا عن تعبير من النيل إلى الفرات.
وهذا الموضوع يمكن أن يضع فيه المرء كتابا بأكمله يبسط فيه خطورة الحركة الصهيونية وديناميكيتها، ولكننا نكتفي في هذا المجال بأحدث صورة خطيرة عن وجود إسرائيل في الوطن العربي.. تلك هي الصورة الدقيقة التي رسمها الفريق أول محمد عبد الغني الجمسي في البيان الخطير الذي ألقاه أمام مجلس الشعب المصري بتاريخ 16-3-1977.. وقد أبرز فيه النقاط الرئيسية الآتية:
أولا: إن إسرائيل، ورغما عن حرب أكتوبر، ما زالت تؤمن بعقيدة القوة، وأنها تدخل في سباق رهيب لامتلاك القوة العسكرية.. فتبنت سياسة طموحة لتدعيم قواتها العسكرية، وتسليحها بأحدث الأسلحة.. وتمكنت من استعواض خسائرها في الحرب وإضافة قدرات جديدة لقواتها المسلحة..
ثانيا: زادت إسرائيل من حجم الإنفاق العسكري بشكل حاد ومستمر، فبينما كان هذا الحجم يمثل في عام 72/73 حوالي 30 في المائة من إجمالي ميزانيتها ارتفع ارتفاعا حادا بعد الحرب مباشرة في العام التالي ليصبح 51 في المائة وهكذا في الأعوام التالية..
ثالثا: تزايد حجم المساعدات العسكرية من الولايات المتحدة الأمريكية بشكل واضح، إذ بلغ حجم هذه المساعدات في السنوات الثلاث الماضية حوالي(1/347)
خمس مليارات دولار، وكان أبرزها ما قدمته لها الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب مباشرة عام 1974 إذ بلغت قيمته ملياري دولار ونصف المليار.
رابعا: قامت إسرائيل برفع نسبة تعداد قواتها المسلحة من 9 في المائة عام 1972 إلى اثني عشر ونصف في المائة عام 1976 بذلك بلغ حجم قواتها المسلحة عام 1976 حوالي أربعمائة ألف جندي بزيادة قدرها مائة وخمسة وعشرين ألف جندي في عام 1973.
خامسا: وضعت إسرائيل نظاما للخدمة العسكرية بحيث يتحول معظم الشعب إلى جيش من المقاتلين يشارك فيه كل قادر على القتال كل حسب سنه وقدراته حتى أصبح الفرد الإسرائيلي يقضي من حياته أربعين عاما خاضعا خضوعا مستمرا للنظم العسكرية ومشاركا في الخدمة الميدانية بشتى مجالاتها.
سادسا: ركزت إسرائيل، فوق ما تقدمه الولايات المتحدة لها من السلاح والذخيرة، على زيادة إنتاجية من الصناعات الحربية فارتفعت قيمته من أربعمائة وسبعين مليون دولار عام 1973 إلى 650 مليون دولار عام 1975.. وارتفعت قيمة صادراتها من المنتجات العسكرية من 75 مليون دولار عام 1973 إلى 120 مليون دولار عام 1975.
سابعا: لقد زادت إسرائيل بعد حرب أكتوبر من اهتمامها بشئون الطاقة الذرية.. وهي ترفض دائما مطالب الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالتفتيش، كما رفضت التوقيع على ميثاق حظر انتشار الأسلحة الذرية.
ثم يخلص الفريق الجمسي في بيانه إلى التوكيد بأن الإستراتجية العسكرية الإسرائيلية ما زالت كما هي لم تتغير وأن إسرائيل تعمل على الدوام على الاحتفاظ بقوة عسكرية متفوقة على العرب.. وأن على الأمة(1/348)
العربية أن تدرك أن أمتها واحدة لا تتجزأ.. وأن أي صراع مسلح جديد سوف تتأثر به دول عربية أخرى لم يسبق لها أن خاضت الحرب بطريقة مباشرة، وأن أي حرب قادمة ستنتشر لتشمل الساحة العربية كلها.. وأن خلق القوة العسكرية العربية القادرة هو التعبير الواقعي الوحيد عن قوة العرب، وهو الوسيلة العملية الضرورية لتأمين سلامتهم القومية".
والمواطن العربي حين يقرأ بيان الفريق الجمسي، وهو أكبر شخصية عسكرية في العالم العربي، يرى البون الشاسع بين الفكر العسكري العربي الصاعد، والفكر السياسي العربي الهابط، ويكاد يرى أن الأول غريب عن الثاني.. وأنهما لا ينتميان إلى أمة واحدة أو حتى إلى دولة واحدة!! وكائنا ما كان الأمر، فإن المخاطر الرهيبة التي حددها الفريق الجمسي لا يمكن التصدي لها في إطار الجامعة العربية كما هي قائمة الآن.. وكذلك فإن المواقف الرفيعة التي دعا الجمسي إلى اتخاذها، لا يمكن بلوغها عن طريق الجامعة العربية إياها.. وليس عند الأمة العربية "أداة" أخرى للعمل العربي المشترك غير الجامعة.. ولكن الجامعة هذه كما أثبتت تجارب الأعوام الخمسة والثلاثين.. أداة غير صالحة بل غير مؤهلة.. إلا للهزائم المتلاحقة..
وبعد، فقد أثبتت الجامعة العربية في مسيرتها المتغيرة الطويلة أنها ذات جدوى وحيدة.. هي أنه لا جدوى فيها. وأن الخير كل الخير أن تبنى من جديد.. فإنه لا صلاح لها بالتعديل أو التبديل، وكذلك فإنها لا تقوى على الترميم، فإن جدرانها متهاوية تكاد أن تلامس الأرض، ولم يعد أمام الأمة العربية إلا أن تبنيها من جديد..إن الجامعة العربية لا تصلح للحاضر ولا للمستقبل، ولا بد لنا من جامعة جديدة من أجل المستقبل، مستقبل أكرم وأعظم.(1/349)
الفصل السابع عشر
جامعة عربية جديدة ..
الخطوة الأولى على طريق الهدف الكبير
كلما انعقدت الجامعة العربية، في دورة عادية أو غير عادية، وقد بلغت حتى الآن ستا وثمانين دورة، عبر خمسة وثلاثين عاما، هب الرأي العام العربي ليعرب عن مشاعر الغضب والحزن معا لما آل إليه حال الجامعة العربية، وأوضاعها وتصرفاتها، وتنطلق أقلام المفكرين العرب، في المشرق والمغرب على السواء، ينعون على الجامعة جمودها وينادون بإصلاحها.
أما عامة الناس، ومن إليهم من الطبقات التي تمثل الرأي العام الشعبي، فإنها أصبحت لا تلقي بالا إلى الجامعة العربية وقراراتها، حتى ولو كانت على مستوى القمة.. وكانت مؤتمرات القمة في أول عهدها تثير اهتمام الأمة العربية في جميع أقطارها، ولكن ما أن رأتها الجماهير قليلة الجدوى انصرفت عنها بالهزأ تعبر عن ألمها بالنكتة الساخرة.. وشر ما يصيب الحكم، أي حكم، أن ينقلب إلى تندر في مقاهي الحواضر، وسمر في مضافات القرى.
وقد تسربت غضبة الجماهير العربية على الجامعة إلى صميم أروقتها، فأطلقت الأصوات من حين إلى حين، تدعو إلى مراجعة ميثاق الجامعة بالتعديل والتبديل فأدرجت على جدول أعمال الجامعة اقتراحات(1/350)
تتناول شئون الجامعة المختلفة، وكانت هذه الاقتراحات صادرة عن قادة العرب، بعضهم وفاء لماضيهم النضالي الوحدوي، وبعضهم للاستهلاك المحلي، وبعضهم الآخر لامتصاص نقمة شعوبهم عليهم، ولا بد لنا من عرض موجز لهذه المحاولات لنتعرف على كنهها ومصيرها.
لعل أول محاولة لتعديل ميثاق الجامعة كان تلك التي صدرت عن الحكومة السورية، في اقتراحها في 19 فبراير (شباط) 1948، "بأن يمتنع أعضاء الجامعة عن التفاوض والتعاقد مع الدول الأجنبية إلا بعد التفاهم على أساس هذا التعاقد ومداه ضمن الجامعة، وأن لا تدخل أي من دول الجامعة في مفاوضات مع دولة أجنبية، تستهدف قبولها التزامات سياسية أو عسكرية أو اقتصادية أو مالية، إلا بعد إعلام الجامعة رسميا برغبتها هذه، وليس لها أن توقع اتفاقية من هذا النوع إلا بعد أن يقرر مجلس الجامعة أن الالتزامات التي تحويها الاتفاقية لا تتعارض مع مصالح الجامعة ومصالح أحد أعضائها".. وواضح أن الاقتراح السوري "يقتلع" المحور الرئيسي الذي يقوم عليه ميثاق الجامعة.. وهو السيادة المطلقة للدول العربية، فهو يقيد "حرية" تعاقدها بما تفرضه "مصالح الجامعة أو مصالح أحد أعضائها".
ولكن الاقتراح السوري لم يلق قبولا، ولقي مصيره بين محفوظات الجامعة العربية شأنه شأن كل اقتراح قومي أصيل، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الدول الأعضاء في الجامعة، لم يترددوا في أن يتعاقدوا مع هذه الدولة الأجنبية أو تلك، باتفاقات اقتصادية وعسكرية ومالية، تتعارض مع مصالح الجامعة أو مصالح أحد أعضائها.. وذلك هو "سلوك" الدول العربية عبر خمسة وثلاثين عاما، ولا يتسع المجال لسرد تفاصيله.(1/351)
وتلا ذلك عقد معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي بين دول الجامعة المعقودة عام 1950 وقد تضمنت تعديلا لبعض المبادئ التي أخذ بها ميثاق الجامعة وفي مقدمتها قاعدة الإجماع إذ نص في المادة السادسة أن ما يقرره مجلس الدفاع المشترك بأكثرية ثلثي الدول الأعضاء يكون ملزما لجميع الدول المتعاقدة.
ونصت المادة الثانية أن لمجلس الدفاع المشترك "أن يتخذ التدابير والوسائل بما في ذلك استخدام القوة المسلحة لرد أي اعتداء يقع على أية دولة من الدول الأعضاء ولإعادة الأمن والسلام إلى نصابهما".
ولكن ميثاق الضمان الجماعي جاء "ليكحلها فأعماها" كما يقول المثل العامي، فقد نصت المادة الحادية عشرة من الميثاق العربي "أن ليس في أحكام هذه المعاهدة ما يمس أو يقصد به أن يمس بأية حال من الأحوال الحقوق والالتزامات المترتبة والتي ترتب للدول الأطراف فيها بمقتضى ميثاق هيئة الأمم المتحدة أو المسئوليات التي يضطلع بها مجلس الأمن في المحافظة على الأمن والسلام الدولي".
وبذلك أصبح ميثاق الضمان الجماعي العربي ذيلا لميثاق الأمم المتحدة وأصبحت الجامعة العربية ذنبا للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي.. وحصيلة ذلك كله، وهذه هي المأساة، إن الدول العربية تعطي للأمم المتحدة من الاختصاصات ما لا تعطيه للجامعة العربية.
وفي سبتمبر (أيلول) 1959 قدم وفد المملكة المغربية مذكرة إلى الجامعة العربية يطالب فيها "بإعادة النظر في ميثاق الجامعة ومراجعة الأسس التي قام عليها.. لأن ميثاق الجامعة قد مضى على توقيعه أربعة عشر عاما.. ولأن الظروف الدولية التي وضع فيها الميثاق قد تغيرت.. ولأن جامعة الدول(1/352)
العربية قد مرت خلال هذه الحقبة بتجارب متنوعة.. ولأن وضعيات الدول العربية قد تغيرت".. وأجل الموضوع إلى اجتماعات تالية، وسلكت المذكرة المغربية طريقها إلى خزانة المحفوظات!!
وانعقدت الدورة الثانية والثلاثون لمجلس الجامعة في الدار البيضاء في المغرب فألقى الملك محمد الخامس ملك المغرب خطابا افتتاحيا، اقترح فيه "أن يجتمع أقطاب الأمة العربية للنظر في المهمات الجديدة للجامعة ودراسة الوسائل التي يستطاع بها حل المشاكل الداخلية والخارجية التي تواجه البلدان العربية".. ثم أشار في كلمته إلى أن "دولا لا تجمعها لغة ولا دين تتدانى من بعضها تحت تأثير المنافع المشتركة مكونة فيما بينها اتحادات سياسية أو عسكرية أو اقتصادية أو ثقافية.. والأقطار العربية التي تجمع بينها روابط الدين واللغة والتاريخ والجوار واشتراك المصالح ووحدة الشعور والمصير هي أولى الأقطار بالتقارب وأجدرها بالاتحاد وأحراها بجمع القوى، وتوحيد الجهود"، وانتهت اجتماعات الجامعة دون أن تتخذ إجراء معينا بصدد هذه الدعوة، وانطوت في صدر صاحبها بعد أن التحق بجوار ربه رحمه الله.
واستمرت الدعوة لمراجعة الميثاق متواصلة وخاصة من الرأي العام العربي، فتألفت لجنة من ممثلي الدول الأعضاء للنظر في تعديل الميثاق.. وواصلت اللجنة أعمالها في عدة جلسات، وتكاثرت الاقتراحات وتضاربت الآراء وانتهى عمل اللجنة إلى متاهات لا نهاية لها..
وفي مؤتمر القمة العربية الثالث الذي انعقد في الدار البيضاء في سبتمبر (أيلول) 1965 عاد موضوع مراجعة الميثاق إلى جدول الأعمال فقد تقدم وفد العراق بمذكرة لدعم الجامعة وتطوير ميثاقها، وبحثها مجلس وزراء الخارجية العرب، وحينما عرض الأمر على مجلس الملوك والرؤساء(1/353)
أصدروا قرارا "بإحالة المذكرة العراقية إلى اللجنة المؤلفة في الجامعة لبحثها وتقديم تقرير عنها".
واجتمعت لجنة الجامعة في شهر فبراير (شباط) 1966 لدراسة الموضوع من جديد، وتقدمت الحكومة العراقية باقتراحات محددة، وتبعتها حكومة الجزائر باقتراحات أخرى.. وطرحت الحكومة السورية مشروعا مفصلا ثم توحدت هذه الاقتراحات في مشروع جديد لتعديل الميثاق.. واستقر الرأي في اللجنة، بعد جلسات عديدة على اتخاذ ميثاق الجامعة أساسا للبحث بحيث يجري التحوير والتبديل في بعض مواده على ضوء الاقتراحات التي تتقدم بها الدول العربية.
وجاءت بعد ذلك حرب الأيام الستة، وما لحقها من هزيمة نكراء.. فاحتجب موضوع الجامعة العربية زمنا ولكنه عاد إلى الظهور مرة ثانية ولكن على أساس تطوير الجامعة في إطارها القائم، من غير تعرض لميثاقها.. وهي محاولة لا بد أن تفضي إلى الفشل، لأن الميثاق هو بيت الداء، في بيت العرب.. ولا بد لهذا الميثاق أن يكتب من جديد، في أهدافه ومبادئه؛ وهنا يبرز السؤال الكبير وما هو الأساس الذي ينبغي أن يقوم عليه الميثاق الجديد..
والجواب بكل صدق وأمانة ووضوح.. إن المحور الذي يجب أن يدور حوله الميثاق الجديد هو الوحدة.. وحتى لا يجفل الحكم العربي المعاصر فإن الوحدة التي نقصد إليها هي وحدة الخطوة خطوة، الوحدة المدروسة.. والوحدة التي يسبقها تنسيق وتمهيد، وبكلمة موجزة، وحدة المراحل المحددة بتوقيت زمني: تواريخ مكتوبة، عاما، وشهرا، ويوما..(1/354)
ولسنا ننكر أن "الوحدة" بهذا النص لم تكن هدفا معلنا في ميثاق الجامعة العربية ولا في "سلفه" بروتوكول الإسكندرية، ولكن الإنصاف يقتضينا القول بأن المؤسسين الأوائل للجامعة العربة، لم يستبعدوا النص على الوحدة في الأربعينات إلا لظروف وأسباب كثيرة بسطناها بصورة وافية في الفصول الأربعة الأولى.
ولكن محاضر المشاورات والخطب الرسمية التي ألقيت لمناسبة توقيع الميثاق، وفي مراحل إعداده، تثبت من غير شك أن الحكومات العربية السبع كانت تعتبر أن "مجرد" قيام الجامعة العربية هو الخطوة العملية الأولى للوحدة.. وأن "التعاون والتنسيق" بين الدول العربية سيؤدي في النهاية إلى قيام الوحدة بصورة طبيعية.
بل إن الذين صاغوا الميثاق قد حرصوا أن يضعوا نصا صريحا في مادته التاسعة يقول أن من حق دول الجامعة "الراغبة فيما بينها في تعاون أوثق وروابط أقوى مما نص عليه هذه الميثاق أن تعقد بينها من الاتفاقات ما تشاء لتحقيق هذه الأغراض" ثم ذهبت المادة التاسعة عشرة إلى القول بجواز تعديل الميثاق "وعلى الخصوص لجعل الروابط بينها أمتن وأوثق" وواضح أن الوحدة هي المقصودة "بالتعاون الأوثق والروابط الأقوى والأمتن".
والإنصاف كذلك يدعونا إلى القول إن ميثاق الجامعة في مجموعه كان صيغة مصالحة.. صيغة توفيق، بين الدول العربية السبع، يومئذ.. توفيق بين أولئك الذين يصرون على ميثاق وحدوي يتسم بطابع الإلزام، وأولئك الذين يؤكدون على ميثاق تعاوني يقوم على أساس الاختيار الحر الخالي من الالتزام.. حتى أن هذه الفريق الثاني لم يكن منكرا للوحدة ولكنه كان يرى أن الظروف غير مهيئة لها، وأنه لا بد من مرحلة انتقالية.. ومن هنا جاء الميثاق(1/355)
بمثابة مرحلة الانتقال.. ومواقف قادة العرب يومئذ مليئة بالشواهد على ذلك.. ولنعد إلى تصريحاتهم لا في الصحف، ولكن في المحاضر، والمواقف الرسمية..
ويأتي في مقدمة المعنى الوحدوي، أن الجامعة العربية قد ولدت تحت مظلة "الوحدة العربية" فإن المؤتمرات الرسمية وما تفرع عنها من لجان قد عرفت بصورة رسمية بأنها "مشاورات الوحدة العربية" وكانت المداولات بين النحاس باشا الذي تولى قيادة هذه المشاورات مع الوفود العربية الست يدور حول "الوحدة العربية" وإمكاناتها وظروفها.
وفي أوائل هذه المشاورات، وبعد البحث والدرس، اتفق الرأي بين الوفدين المصري والعراقي "على استبعاد قيام حكومة مركزية لجميع البلاد العربية في الظروف الحاضرة".. ولذلك تقدم الوفد العراقي باقتراح بديل هو "الاتحاد" على نموذجين وهما المرافقان في ذيل الكتاب..
ورست المشاورات مع وفد إمارة شرق الأردن على هذا الاتجاه: معارضة للحكومة المركزية للأسباب نفسها، وموافقة على فكرة الاتحاد بالنموذج الأول فإن لم يتيسر فعلى النموذج الثاني..
وفي المشاورات مع الوفد السوري، أبدت الحكومة السورية تمسكها بالوحدة في أي شكل من أشكالها.. حكومة مركزية، أو اتحادية من النموذج الأول أو الثاني.
ولم تكن الوفود العربية الأخرى، باستثناء لبنان ولأسباب معروفة، بعيدة عن فكرة الوحدة أو منكرة لها، ولكنها كانت تريد أن تكون الخطوات الأولى متمشية مع الظروف التي تحيط بالأمة العربية يومذاك.(1/356)
وبعد أن قطعت المشاورات مرحلة متقدمة وأصبح مشروع ميثاق الجامعة جاهزا، لم يفت النقراشي باشا أن يشير إلى الوحدة العربية، وكان رئيس وزراء المملكة المصرية، رئيسا للجلسة، بقوله: "أن التفاني في سبيل الوحدة العزيزة وبالتعاون الدائم بين الدول العربية سنصل إن شاء الله تعالى إلى تحقيق أمانينا جميعا".
ثم تابع النقراشي حديثه قائلا، وكأنه يطمئن أنصار الوحدة العربية : "نعم قد يكون لبعض الناس رأي أن هذا المشروع لا يصل إلى المدى الذي تشرئب إليه أعناق أنصار الوحدة في الأقطار العربية كلها ولكنه أساس صالح لبناء مستقبل سعيد للأمة العربية كلها وأنه أداة تسمح بما يطمح إليه الجميع من تعاون واتحاد".
وفي تلك الجلسة وصف رئيس الوفد السوري مشروع الميثاق بأنه "بداءة متواضعة" وقال عنه رئيس الوفد الأردني: "إن نصوصه ضعيفة جدا" وأشار إليه عبد الرحمن عزام باشا، وكان وقتئذ عضوا في وفد مصر "بأنه بعد كثيرا عن الغرض الذي كنا نأمله وأن نظامنا الحالي تضاءل إلى لا شيء.. ويجب أن نجعل نظامنا بحيث يحتضننا كأمة واحدة.. وإلا فإن الروابط ستكون أبعد بكثير مما بين الصين والشيلي".
تلك كانت مواقف المؤسسين الأوائل للجامعة العربية، أرادوها أن تكون نقطة البداية على طريق الوحدة.. خطوات ومراحل حتى تقوم دولة اتحادية عربية تتفق مع ظروف الدول العربية..
ويقينا أنه لم يكن يدور بخلد الذين وقعوا ميثاق الجامعة العربية، رحمهم الله جميعا، أن تبقى الجامعة العربية خمسة وثلاثين عاما وهي على ميثاقها المتراخي، وتكون نتيجة هذه الرحلة الطويلة في عمر الأمة العربية،(1/357)
ترسيخا للتجزئة، والانفصال، وابتعاداً للدول العربية بعضها عن بعض واحترابا واقتتالا فيما بينها بالإذاعات، وبالذخيرة الحية!!
وإذا كان المؤسسون الأوائل لم يستطيعوا أن يقيموا الدولة الاتحادية، ولو في أضعف صورها، بسبب الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شرحناها في الفصول السابقة فما هو عذر "خلفاء" الأسلاف الذين جاؤوا بعدهم.. وقد وجدوا الأمة العربية قد استكملت سيادتها وتضاعفت ثرواتها، وقطعت شوطا بعيدا في مضمار التقدم الثقافي والاجتماعي.
أجل ما هو عذر الحكم العربي المعاصر، في الحفاظ على هذه الجامعة العربية بعيدة عن
أيسر أشكال الوحدة.. ولا يدع أحد منهم أية مناسبة قومية إلا ويتحدث عن الوحدة العربية بأجمل الكلمات وأضخم العبارات.
بل وما هو العذر، والعديد من دساتير الدول العربية التزمت بالعمل لتحقيق الوحدة العربية.. وأقسم السادة حكام العرب، يوم ولايتهم القسم العظيم، بأن يصونوا الدستور ويعملوا على تحقيق نصوصه.. والوحدة في رأس نصوصه..
ولقد مرت الأمة العربية بعشر تجارب وحدوية (1) وقد انتكست كلها، ولم يكن للأمة العربية ذنب ولا للوحدة العربية ذاتها.. وإنما الذنب كل الذنب كان على كاهل الذي أمسكوا بخيوط الوحدة بين أيديهم، فنقضوا غزلها وتساقطت خيوطها على الأرض..
وكلما قامت في الوطن العربي صيحة داوية تدعو إلى الوحدة، انطلق الحكم العربي، في هذا القطر أو ذلك، بصوته، أو بصوت أجهزته الإعلامية،
__________
(1) انظر: أحمد الشقيري، علم واحد وعشرون نجمة.(1/358)
يمجد الوحدة ولكن.. ولكنه ينادي بأن تكون وحدة مدروسة غير مرتجلة، لا انفعالية أو عاطفية، وحدة "تحتية من الشعب لا فوقية من الحكام".. كأنما الاتحادات الأمريكية والإيطالية، والألمانية، صنعها رجل الشارع وحده من غير أولئك القادة العظام الذين صنعوا الوحدة لشعوبهم، وأصبحوا من أعلام التاريخ العالمي..
وتحت هذه المظلة من الشعارات، ينطلق "علماء" الحكم العربي يشرحون ظروف الدول العربية وما بينها من تباين في أحوالها الاقتصادية والمالية والاجتماعية والثقافية.. وأن ذلك كله يحول دون قيام الوحدة، وأن الخير كل الخير في هذه المرحلة الحاضرة.. هو التضامن العربي وأن (الوحدة الدستورية) ليست هي المهم. فالمهم هو وحدة العمل، وحدة الصف، وحدة الهدف.. وغير ذلك من الكلمات التي تستخدم فيها لفظة الوحدة، لاستبعاد الوحدة.. ويستخدم فيها التضامن العربي تسترا على التفكك العربي!!
والرد على هذه السفسطائيات لا يحتاج إلى جهد كبير، فإن هذه "الجدليات" سرعان ما تتساقط أمام الحقائق البسيطة التي لا تعدو أن تكون بديهيات، برهانها كامن في ذاتها.
ونحن لا نريد أن ننكر أن في المجتمع العربي من المحيط إلى الخليج تقوم اختلافات وتباينات في الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والثقافية من قطر إلى قطر، فهذه أمور طبيعية في أي مجتمع في العالم حتى في أرقى المجتمعات.. بل إن هذه التباينات موجودة في الدولة الواحدة، وفي العاصمة الواحدة..
ولنضرب على ذلك مثلا واحدا... نشاهده في القاهرة، ولندن، ونيويورك.. فإن بين الحي الواحد منها والحي الآخر، فوارق رهيبة تنبئ عن(1/359)
زمان حضاري قد يمتد إلى مائة عام ويزيد، ومع ذلك فإن أيا من تلك العواصم تمثل وحدة لا تتجزأ وهي بدورها جزء لا يتجزأ من الدولة الواحدة.
ولو كانت المستويات الاجتماعية والاقتصادية أو الثقافية هي مقياس الوحدة، لوقع العالم في تجزئة كبرى وأصبح مؤلفا من ألوف الدول الصغرى، كل منها تمثل طريقة اجتماعية معينة، بل لأصبحت المدينة الواحدة، كل حي فيها، تقوم فيه دولة هنا ودولة هناك.
حتى الدولة الواحدة، المعروفة في القانون الدولي بالدولة البسيطة، وهي الوحدة المركزية العادية نجد أقاليمها متباينة في التقاليد، ومستوى الحياة، والمصالح المتعددة، وفرنسا هي إحدى الأمثلة الحية على ذلك.. وما أكثر التباينات فيما بين مقاطعاتها: لهجة، ومصلحة، ومستوى، وطعاما، ونبيذا!!
أما الدول الاتحادية، مثل أمريكا وروسيا، وسويسرا وألمانيا الغربية، وغير ذلك كثير في آسيا وأمريكا اللاتينية وإفريقيا، فإن ظروف التباين والتضارب الاختلاف بين أقاليمها، ودولها الصغيرة، واسعة وعميقة، رغما عن مرور السنين الطويلة على دخولها في الاتحاد.. ذلك أن هذه الفروق لا تحول دون الأخذ بنظام الاتحاد.. لأن هذا النظام قد استحدث من أجل التوفيق بين هذه الفروق، ولمعالجة هذه التناقضات.
وبالتأكيد، فنحن لا نعرف دولة اتحادية في المشرق والمغرب على السواء، خالية من الفوارق والتباين والتضارب، والذين يدرسون مشاكل الاتحادات المعروفة في دول كالهند واندونيسيا ويوغسلافيا، سيصلون إلى الحقيقة المشرقة، وهي أن "الاتحاد" فيها هو عنصر سلام ووفاق ورخاء بين(1/360)
العشرات من شعوبها، والمئات من لغاتها، والعديد من عقائدها.. وأنه لولا الاتحاد فيما بينها.. لكانت أوطانها ساحة صراع وتفكك وانحلال.
و"الاتحاد" في بلاد مثل روسيا، وأمريكا الشمالية، هو السر الأكبر في قوتها وعظمتها وازدهارها ولو أن الأولى كانت مؤلفة من ست عشرة جمهورية منفصلة بعضها عن بعض، والثانية مؤلفة من إحدى وخمسين دولة مستقلة... لما كان الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة بهذه القوة العظمى، وهذا التقدم الرفيع، بل لكان كل من هذين العملاقين مجموعة من الأقزام!!
والدول الاتحادية القائمة اليوم، وهي تمثل ما لا يقل عن ثلثي سكان العالم بأسره، كلها بدأت وسط المصاعب الجمة، وفي خضم تضارب المصالح بين الأجزاء المتعددة في الدولة الواحدة.. والولايات الأمريكية المتحدة هي خير مثال على ذلك.
فهذه "الولايات" والترجمة الدقيقة لها، هذه "الدول"، كانت في أوائل عهدها، وقبيل الاتحاد غارقة فيما بينها في الخلاف على الحدود بين هذه الدولة وتلك.. وكان التعامل فيما بينها قائما على المساومات.. فقد كان مندوبو ولاية كونيتكت مثلا يقولون لمندوبي فرجينيا: "صوتوا لقانوننا، ونحن نصوت لقانونكم" وكانت كل ولاية تحتفظ بحق إصدار عملتها، وكانت كل ولاية تتولى إدارة شئونها الخارجية.. وكان العديد من المسئولين الأمريكيين ينادون بأن يكون لكل ولاية جيش مستقل.. وأن تظل حكومة الولاية متمتعة بكامل سلطانها على ولايتها.. وكذلك لم يخل الأمر من قيادات أمريكية تعارض في جلاء القوات البريطانية عن القارة الأمريكية.. وقد كتب باتريك هنري وهو من أكبر معارضي الاتحاد يقول: "إن قيام حكومة وطنية قوية سيفسح المجال لوجود طاغية يستولي على السلطة.. وإن رجلا كهذا يستطيع أن يعمل نفسه(1/361)
ملكا على أمريكا، وعندما أفكر بالخطر الذي قد يحيق بنا من جراء الاتحاد، يجفوني النوم خوفا من أن يقطع الكابوس أنفاسي ويقضي على عقلي".. وكذلك فقد أعلن هاملتون وكان من رجال أمريكا المعروفين "أن المنازعات بين الولايات من الكثرة بحيث أنها ستكون حجر عثرة في سبيل الاتفاق على طريقة الاتحاد.. ولن تكون الولايات قادرة على إقرار قوانين موحدة إذ لا توجد ولايتان لها قوانين متشابهة".
وعلى الجملة، فقد كانت الخلافات والمصاعب بين الولايات الأمريكية، أوسع من القارة الأمريكية نفسها، وقد عبر عنها بنجامين فرنكلين وهو من أكبر قادة أمريكا بقوله: "إننا ثلاثة عشر حصانا – ولاية - يقفز كل حصان في اتجاه مختلف، وإني أعجب كيف أننا لم نمزق العربة".
وقد أردنا هذه الحقائق لأنها تكاد تتحدث عن وقائع ومصاعب، بل وهو أحسن قائمة في الوطن العربي، ونحن نسمع صداها كلما انطلقت دعوة الوحدة من عقالها.. ينطلق في أثرها تيار هادر من الحديث عن تضارب المصالح الاقتصادية، وتباين الأنظمة المالية بين الدول العربية، وخاصة بعد أن زادت على عشرين دولة، وليس في هذه الكثرة بركة!!
ولكن هذه "الأوضاع" العربية القائمة حاليا في الوطن العربي كان يقوم مثلها وأشد في الولايات الأمريكية، فالولايات الشمالية مثلا، حيث ازدهرت الصناعة والتجارة كانت تواجه قوانين صارمة في الولايات الأخرى، تحد من حرية التجارة.. وفي الجنوب، حيث كانت تنمو الزراعة على نطاق واسع، كانت القوانين تمنع التصدير عبر الولايات.. وكان تصدير القطن الأمريكي إلى الإنجليز مثلا، أقل كلفة من تصديره إلى نيويورك؛ ونتيجة لذلك فقد نشأ تحالفان متصارعان، أحدهما تحالف التجار ورجال(1/362)
الصناعة في الشمال من جهة، وتحالف المزارعين والفلاحين في الجنوب من جهة أخرى..
وقليل من التفاصيل، يجعلنا نرى أننا اليوم فيما بيننا أحسن حالا بكثير من الولايات المتحدة قبل قيام الاتحاد بينها.. من ذلك مثلا أن أصحاب السفن في الشاطئ الشرقي كانوا ينادون بحرية التجارة، على حين أن أهل الصناعة في الغرب الأوسط كانوا يصرون على حماية مصنوعاتهم في السوق الأمريكية، ومن ذلك أن المزارعين كانوا يطالبون بأجور نقل مخفضة وأسعار عالية لحاصلاتهم، وأصحاب السكك الحديدية كانوا يصرون على أعلى الأسعار التي يستطيعون الحصول عليها.. ومن ذلك أن أصحاب البنوك في نيويورك كانوا ينادون بحرية التعامل، وزراع القطن يريدون أعلى الأسعار، ومعهم مربو المواشي في تكساس،ومع هؤلاء جميعا أصحاب الأخشاب والغابات في ولاياتهم.. إلى آخر تلك الوقائع المتضاربة المتصارعة، التي توضح للدارس العربي لماذا نشأ في أمريكا حزب معروف معارض للوحدة الفدرالية وقد اشتهر باسم حزب اللافدرالية، المعادي للفدرالية Anti Federalist Party.
ومن الطرائف في هذا الباب أن أهل ولاية نيوجرسي لم يكونوا يستطيعون عبور نهر هدسون ليبيعوا خضارهم في نيويورك بدون دفع رسوم باهظة.. وهذا وغير هذا مما جعل جورج واشنطن، الزعيم الأمريكي الشهير يقول: "إننا متحدون بحبل من الرمال".. ونحن بحمد الله، فإن التجزئة مهما كانت قائمة في الوطن العربي.. فإن الرمال العربية أشد تماسكا من الرمال(1/363)
الأمريكية (1) ، ونتطلع إلى وحدة، تكون جبالها من جبالنا الراسية، وأنهارها الممتدة، وسهولنا المترامية.
ولكن "فقهاء" الأنظمة العربية لا يعدمون أن يجدوا في جرابهم الورقة الأخيرة، وهي تقول بأن الاستشهاد بالولايات المتحدة غير ذي موضوع، لأن الزمن تجاوز تلك الأحداث، ونحن أبناء القرن العشرين، وجيلنا الناشئ يطل برأسه على القرن الحادي والعشرين.
ونحمد الله أن التاريخ المعاصر، في السبعينات يمدنا بأروع الوقائع والشواهد، وأمامنا الجماعة الأوروبية التي تسير بخطى ثابتة نحو الوحدة الفدرالية لتضم تسع دول أوروبية يبلغ سكانها ضعف عدد الأمة العربية جميعا من المحيط إلى الخليج، وليس لها من مصلحة مشتركة تجمعها إلا رغبتها أن تعيش بسلام فيما بينها.. وتحفظ وجودها كقوة عالمية ثالثة تدافع عن نفسها من الغزو السوفييتي والسيطرة الأمريكية.
أما نحن، نحن حوافزنا زاخرة، ونحن أمة واحدة، لها تاريخ واحد، ولغة واحدة، ونتطلع إلى مستقبل واحد، يزدهر فيه تقدمنا الاقتصادي والثقافي والاجتماعي، ونزداد قوة ومنعة، حتى نستطيع أن نؤدي رسالتنا لأمتنا وللعالم أجمع..
وهذه الجماعة الأوروبية احتفلت هذا العام بمرور عشرين عاما على قيامها في 25-3-1977 في اجتماع كبير عقد في روما وضم رؤساء الدول التسع، وخطب الرئيس الإيطالي، بوصفه رئيسا للمؤتمر، فدعا إلى بذل المزيد من الجهود للإسراع في قيام "الاتحاد الأوروبي".. وأردفه الرئيس
__________
(1) للمزيد من التفاصيل انظر: نويل برترام غيرسون ، ترجمه عدد من الأساتذة العرب، وطن حر مستقل،.(1/364)
الفرنسي جيسكار ديستان فناشد المجتمعين أن تعمل الجماعة الأوروبية على قيام "اتحاد فدرالي" لدولها.. وأيده في هذه الدعوة بقية الرؤساء.. كما أرسل الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، برقية إلى المؤتمر أعلن فيها تأييده الكامل لقيام "الوحدة الأوروبية" بأقرب فرصة ممكنة.
والواقع أن "الجماعة الأوروبية" تعبير متواضع فإن إنجازاتها خلال العشرين سنة الماضية تؤلف مجلدا رائعا من أوجه النشاط الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، فقد أنشأت سوقا أوروبية مشتركة، وجعلت من أوروبا الغربية منطقة جمركية واحدة في إطار اتحاد جمركي.. ونفذت سياسة زراعية واحدة، وعملت على تنظيم السوق الداخلية، ووضعت قواعد التجارة مع الدول الأخرى خارج الجماعة، وكفلت في دول الجماعة حرية مرور المواطنين، بمن فيهم العمال والحرفيون، ورؤوس الأموال، والخدمات، والبضائع، ووضعت القواعد التي تتعلق بسياسة التنقل، والأحكام الضريبية والشئون المتعلقة بالسياسة الاجتماعية بما فيها الصندوق الاجتماعي وحددت بصورة واقعية الموارد المالية التي تكون ميزانية الجماعة، وأنشأت البنك الأوروبي للاستثمار.
أما الأداة العليا لهذه الجماعة، فإنها في الواقع "حكومة أوروبية" تنازلت لها الدول التسع عن بعض الاختصاصات الوطنية، فأصبحت حكومة ذات سيادة محددة تمارسها وفق نصوص المعاهدة المنشئة للجماعة واللوائح الصادرة بموجبها.
وهذه "الحكومة" مؤلفة من أربع مؤسسات:
- لجنة عليا مستقلة عن الحكومات تضع الأسس العامة للعمل المشترك.(1/365)
- مجلس وزاري يتألف من ممثلي الحكومات الأعضاء ويبت في المقترحات المقدمة من اللجنة العليا.
- برلمان أوروبي يباشر الإشراف الديمقراطي على أعمال اللجنة.
- محكمة عدل تكفل سيادة القانون.
وهذه "الحكومة" عدة هيئات استشارية ومجموعات من الخبراء والموظفين.. أما ميزانية الجماعة فإنها تمول من عائدات وجزء من الإيرادات الضريبية للدول الأعضاء، وقد رصد الصندوق الاجتماعي أكثر من مليار وعشر مليار دولار لمساعدة حوالي ثلاثة ملايين عامل، كما رصد الصندوق الإقليمي ما يزيد على مليار ونصف مليار دولار للمدة 1975-1977.
وفي أول ميزانية للجماعة الأوروبية وضعت لعام 1968 تجاوز مجموعها أربعة مليارات دولار أمريكي، وأخذت الميزانية بعد ذلك بالاضطراد والتصاعد.. وقسم من هذه الميزانيات مرصود لمشروعات تنمية اقتصادية متعددة على أراضي الدول التسع.
فأين ذلك كله في الوطن العربي.. بين دول الجامعة أو في إطار الجامعة.
وللجماعة شخصية قانونية، مستقلة عن شخصية الدول التسع، وتستقبل ممثلين دبلوماسيين معتمدين لديها من عدد من الدول الأجنبية، وقد تطور نشاطها فأصبحت لها سياسة خارجية واحدة تعبر فيها عن موقف دولها في المحافل الدولية، فتبنت سياسة مشتركة تجاه مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا، واتخذت موقفا مشتركا في الأمم المتحدة وبصدد أزمة الشرق الأوسط، وكان للجماعة وفد واحد في الحوار بين الشمال والجنوب، وكذلك(1/366)
في الحوار العربي الأوروبي، وفي المفاوضات التجارية فإن الجماعة الأوروبية تفاوض وتتعاقد وتنفذ باسم الدول الأوروبية التسع.
فأين هذا من "سلوك" دول الجامعة أو في إطار الجامعة..
وليست هذه هي نهاية المطاف بالنسبة إلى الجماعة الأوروبية تجارة وزراعة، وصناعة، وكفى فإن دول الجماعة لم تقنع بهذه الإنجازات، وهي عظمى بذاتها، ولكن طموحها يتجه إلى إقامة "الدول الأوروبية المتحدة"، بكل جدية وتصميم.. وأمامنا حدثان مثيران جديران بالإعجاب والإكبار الأول أنه في شهر سبتمبر من عام 1976 وقع وزراء خارجية الدول الأوروبية التسع اتفاقية لانتخاب أول برلمان أوروبي، وقد نص الاتفاق على أن يكون عدد المقاعد 410 تم توزيعها بين الدول الأعضاء وأن تكون مدة العضوية خمس سنوات، بشرط أن لا يكون العضو المرشح عضوا في إحدى الحكومات وأن تتم الانتخابات خلال تاريخ محدد لكل دولة.. وأن تشرع الحكومات في الانتخابات في مايو أو يونيو من عام 1978.
وإذا تمت الانتخابات في موعدها المحدد، فإن قيام البرلمان الأوروبي المنتخب في عام 1978 سيكون من أعظم الأحداث السياسية في تاريخ أوروبا في كل العصور.. وإن قامت عقبات في سبيله.. فإن المحاولة ستتكرر من غير شك.
أما الحدث الثاني: فإنه يتمثل في القرارات التاريخية الاتحادية التي أصدرتها القمة الأوروبية، ففي شهر أكتوبر عام 1972 أصدرت القمة الأوروبية قرارا بأن يكون الهدف الكبير، الذي ينبغي أن يتحقق قبل نهاية العقد – السبعينات، هو تحويل مجمل روابط الجماعة الأوروبية إلى "اتحاد أوروبي" وطلبوا من مؤسسات الجماعة أن تقدم تقريرا عن الموضوع في نهاية 1975 لدراسته من(1/367)
قبل مؤتمر القمة التالي.. وقد جرى توكيد هذا الهدف في قمة كوبنهاجن التي انعقدت في ديسمبر (كانون الأول) 1973، وفي قمة باريس التي انعقدت في ديسمبر (كانون الأول) 1974.. في هذه القمة الأخيرة "أعلن الرؤساء أن الدول الأوروبية التسع يجب أن تتفق بأسرع وقت ممكن على خطة شاملة لإقامة الاتحاد الأوروبي.. وأن على مؤسسات الجماعة أن تقدم تقريرها في منتصف 1975 لا في نهايته.. وقد اتفقت الكلمة كذلك على تكليف السيد ليوتاندمان رئيس وزراء بلجيكا أن يقدم تقريرا شاملا عن الموضوع إلى رؤساء الحكومات قبل نهاية عام 1975.
وقد قام رئيس الوزراء البلجيكي بدراسة الموضوع، وتلقى تقارير مؤسسات الجماعة، وقام بزيارة للدول التسع واجتمع بالمسئولين فيها، كما التقى برجال الفكر من مختلف المذاهب والأحزاب السياسية واتحادات العمال، والصناعيين، والجامعات، والصحفيين.. وفي النهاية قدم الرئيس البلجيكي تقريره الشامل في ديسمبر (كانون الأول) 1975 ونشر في الشهر التالي.
وقد جاء التقرير في خمس وثلاثين صفة، وهو من التركيز والأهمية بحيث لا يمكن تلخيصه، فقد تقدم بتوصيات محددة لتوسيع اختصاصات مؤسسات الجماعة الأوروبية وتمكينها من ممارسة اختصاصات كبيرة، وقدم تصورا عن "الاتحاد الأوروبي"، والمواطن الأوروبي.. وكانت آخر عبارة فيه قوله: "يجب على كل منا أن يساهم في هذا الجهد المشترك.. حتى نستطيع أن نصوغ مجتمعا أكثر عدالة تحترم فيه قيمنا المشتركة، وأن يكون صوتنا مسموعا في العالم وقوة "الاتحاد" وراءه تسنده، وعلى هذا ستعتمد طريقة حياتنا في الغد،وحياة أبنائنا من بعدنا.."(1/368)
هكذا تفكر أوروبا الغربية، وهكذا تقرر مؤتمرات القمة الأوروبية.. طموح إلى الاتحاد، ونزوع إلى مزيد من القوة والرخاء والرفاهية.
ولقد أردت من هذا العرض السريع للاتجاه الوحدوي في أوروبا أن أشدد وأؤكد أن النظام الاتحادي وإن يكن قد ظهر أول ما ظهر بصورته الدستورية المنظمة، في أوائل القرن الثامن عشر، إلا أنه لا يزال موضوعا حيا يمثل الحل الأكبر لمشاكل الشعوب المتجاورة.. فما بالك بالشعوب التي تنتمي إلى أمة واحدة.. وهذه أوروبا الغربية وهي التي ابتدعت صناعة الحرب وأدخلت أعراف الحرب على القانون الدولي.. هي هي نفسها التي تتطلع إلى قيام الدولة الفدرالية الواحدة، للدول الأوروبية التسع..
والأمة العربية أجدر بهذا الهدف الكبير لمائة سبب وسبب.. ولا يبقى إلا أن يحدد هذا الهدف العربي بكل وضوح، كما حددته الدول الأوروبية لنفسها في مؤتمرات القمة.. حتى تبدأ المسيرة الوحدوية من الصفر، مرحلة بعد مرحلة..
ولقد انتكست تجارب وحدوية عربية متعددة.. ولسنا بصدد ذكر الأسباب ولكن اليقين كل اليقين أن الوحدة لم تكن هي السبب بذاتها.. فالوحدة هي الفكرة المقدسة البتول، هي البكر العذراء الطهور.. لقد كان التطبيق وأصحابه هم السبب في كل النكسات..
وكانت تلك التجارب ثنائية أو ثلاثية.. وربما كانت مخاوف الآخرين السبب في فشلها..ومن هنا فلتكن التجربة هذه المرة، جماعية تضم الدول العربية جميعا، وتقطع مسيرة الوحدة خطوة خطوة.. ابتداء بتوحيد الشهور، فالمقاييس، والموازين، والمصطلحات، والجوازات، والمواطنة العربية(1/369)
وحقوقها.. والقوانين وما إلى ذلك من الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية.
ولكن عملية التوحيد هذه، تحتاج إلى جامعة جديدة، لها هيكل جديد، وميثاق جديد.. ولا بد أن تتضافر الجهود العربية، الرسمية والشعبية، لبناء هذه الجامعة الجديدة.
والأمر يحتاج إلى تبديل، لا إلى تعديل.. فإن أسلوب التعديل قد تجاوزه الزمن.. وكانت تجارب التعديل فاشلة على مدى ثلاثين عاما.. وقد أخفقت كل جهود التعديل في هذه الحقبة الطويلة إلا في حالة هزيلة واحدة، واحدة فقط، هي تعديل المادة الحادية عشرة من الميثاق، فقد وافق مجلس الجامعة في دورته التاسعة والعشرين في ابريل 1958 أن يكون موعد انعقاد مجلس الجامعة في شهر سبتمبر بدلا من شهر أكتوبر، ليلائم موعد انعقاد الأمم المتحدة، وهذا التعديل لم ينظر فيه في تلك الدورة بل أجل إلى الدورة التالية، لأن المادة التاسعة عشرة تنص أن التعديل لا ينظر فيه إلا في دورة تالية.. كأنما الجامعة العربية لم تنتهك ميثاقها مرة واحدة في هذه المسيرة الطويلة.. ومن أجل هذا وغير هذا لا بد أن نهدم القديم ونبني الجديد..
وإلى الفصل التالي لنرى كيف نقيم هذه الجامعة الجديدة.. لتكون الخطوة الأولى على طريق الهدف الكبير..(1/370)
الفصل الثامن عشر
الجامعة العربية .. كيف تكون جامعة..
وكيف تصبح عربية..
هذا العنوان مثير حقا، وقد يبدو غريبا ومستنكرا، شأن كثير من الأمور، التي نطرحها في هذا الفصل، وليست الإثارة هي القصد من هذا العنوان.. ولكن القصد هو أن نعيد الأمور إلى نصابها الصحيح، بعد أن فككت "الصورة" العربية فأصبحت "اللوحة" في مكان، والإطار في مكان آخر، وفي أيامنا هذه تفكك الإطار واللوحة معا.
ومن هنا فإن الواجب القومي يدعونا جميعا أن نعيد بناء الصورة والإطار من جديد،حتى تعود الصورة إلى وحدتها الكاملة، ويعود الإطار إلى تركيبه الشامل، ونضع الصورة في الإطار، وتعود اللوحة مشرقة مضيئة..
ولعل من الخير أن نبادر إلى التساؤل والإجابة معا: كيف تصبح الجامعة "عربية" وقد مضى على هذه التسمية المحببة قرابة خمسة وثلاثين عاما، رددتها أجهزة الإعلام العربية والأجنبية، ملايين المرات وأصبحت تعبيرا مألوفا، له مضمون بديهي بأن الجامعة العربية هي عربية حقا.
وهنا لا بد لنا من وقفة قصيرة للتفكير الهادئ الرصين، لننفذ إلى حقيقة الجامعة العربية القائمة، وهل هي جديرة بأن تسمى "عربية"، وهل هي تتسم بالمقومات أو بالمميزات، على الأصح، التي تؤهلها أن تكون "عربية".. وتعزلها عن أن تكون "أجنبية".(1/372)
ومن البديهي، أن الشيء، أي شيء، حتى يكون عربياً ويوصف بالعربية، ليس يكفي أن يسمى عربيا فحسب، بل أن كنهه وجوهره، يجب أن يكون عربيا بالواقع والفعل.. فإذا خلعنا الاسم العربي على مواطن بريطاني أو أمريكي فإنه لا يكون عربيا.. ولكن "العربي" هو ذلك الإنسان الذي يحمل الإحساس والإرادة والثقافة والأماني العربية، حتى ولو كان اسمه بالمصادفة غير عربي..
ومن غير إطالة في تفصيل هذه المسلمة.. يبقى أمامنا أن نتساءل: هل الجامعة العربية القائمة اليوم هي عربية، وتتميز بميثاق "عربي" وآمال عربية وممارسات عربية، وطموحات عربية، للمواطن والوطن على السواء.
الجواب عن ذلك بالتأكيد أن ميثاق الجامعة العربية، ليس فيه إلا صفة "العربية" بالمعنى النحوي أما "الماهية" العربية فإن الميثاق خال منها بصورة جوهرية، ناهيك عن الممارسات فإنها غير عربية في كثير من الأحوال..
ومن السهل لمن يقرأ الميثاق أن يجد أن لفظ "العربية" قد ورد ثماني مرات تعريفاً بالبلاد العربية، ولكنه لم يرد لفظ "العربية" في الميثاق ليحدد "ماهية" الروابط بين البلاد العربية، أو لتعيين أهدافها..
وإذا كان المؤسسون السبعة الأوائل، قد اكتفوا بصيغة الميثاق كما هو قائم حتى الآن، بسبب ظروف الدول العربية السياسية والثقافية والاجتماعية التي كانت سائدة قبل خمسة وثلاثين عاما، فإن الواجب القومي من أجل حاضر الأمة العربية ومستقبلها، يدعو أن يكون الميثاق الجديد، في مضمونه الأصيل، متميزا بمقومات القومية العربية، والانتماء الأصيل إلى الأمة العربية الواحدة، والتطلع إلى إقامة الوحدة العربية، كهدف أصيل من غير(1/373)
بديل، تحقيقا لازدهار الأمة العربية، ورضاء شعوبها، وليمكنها من أداء رسالتها على الوجه الأكمل نحو ذاتها، ولصالح العدل والأمن والسلام في العالم أجمع.
والواقع أن ميثاق الجامعة الحالي ليس له طابع عربي يميزه عن المواثيق العالمية الأخرى، ونحن لو صدرناه إلى دول أمريكا اللاتينية مثلا فإنه يصح أن يكون ميثاقا لهم بعد أن يضعوا كلمة "دول أمريكا اللاتينية" مكان "دول الجامعة العربية".
وكذلك فإن ميثاق الجامعة الحالي ليس فيه ما يميزه عن ميثاق الأمم المتحدة.. بل إن الثاني أوسع وأشمل من الأول، وله أسنان وأضراس وأنياب.. على حين أن ميثاق الجامعة "يأكل على اللثة"!
وميثاقنا وميثاق الأمم المتحدة يتحدثان على السواء عن السيادة و"الاستقلال" وعدم "الخوض في الأمور الداخلية" والفارق بينهما أن ميثاقنا أقرب إلى الأقزام إذا قيس بالميثاق الدولي العملاق..
وكائنا ما كان الأمر فإننا لن نحاول في هذا الفصل أن نضع صيغة لميثاق جديد.. فتلك مهمة ليست بالعسيرة بعد الاتفاق على المبادئ والأعراف والأهداف.. وليس لفرد، أو لدولة بمفردها أن تضع هذه الصيغة ولكنها لا بد أن تكون ثمرة حوار عربي في مؤتمر عربي تحضيري، تدعى إليه الدول العربية جميعا، وتنبثق عنه لجان فرعية متخصصة، لتضع مشروع ميثاق جديد للجامعة العربية، توافق عليه الدول العربية في ختام المناقشات بصيغته النهائية..
وعلى هذا فإننا سنقتصر في هذا الفصل على عرض الأفكار بصورة عامة، بعيدة عن صياغة معينة محددة، مع التركيز على المبادئ والأهداف..(1/374)
والإطار العام للجامعة العربية وما يحتويه من مؤسسات بالإضافة إلى القواعد التي تحكم عمل الجامعة.. كل ذلك نورده تحت العناوين الآتية:
جامعة الأمة العربية
الاسم الحالي: "جامعة الدول العربية" اقتبس من المشروع اللبناني بديلا عن عبارة "الجامعة العربية" كما وردت في المشروع العراقي، أثناء مداولات اللجنة الفرعية السياسية التي عهد إليها بصياغة مشروع الجامعة العربية أثناء مشاورات الوحدة العربية (1) .
ورغما عن أن التسمية العراقية جاءت بصورة عادية، دون أن تحتمل معاني معينة، إلا أن الوفد اللبناني حرصا منه على توكيد الصفة "الدولية" للجامعة قد اختار تلك التسمية "جامعة الدول العربية" وانطلاقا من ذلك فقد راح الميثاق يردد لفظ "الدول العربية": والسيادة والاستقلال منسوبتين إلى الدول العربية، ولم يرد في الميثاق تعبير "الأمة العربية" في أية مادة من مواد الميثاق، بل ابتعد عنه ابتعاد السليم عن الأجرب.
ومن غير حاجة أن نناقش أن "الدولة" تتضمن "الأمة " إلا أنه يجب أن يكون ذكر "الأمة العربية" أمرا أساسيا في ميثاق يتصل أولا وآخرا بحياة الأمة العربية، ويتعامل معها.. وأن تسمى الجامعة باسم أمتها الواحدة بديلا من الانتساب إلى اثنتين وعشرين دولة.. فهذا العدد وحده يبرز الانفصال والتجزئة، وتعبير الأمة يحمل معنى الوحدة، بصورة طبيعية عفوية.
ونحن أجدر أن نسمي جامعتنا باسم الأمة من المنظمة العالمية البائدة التي كانت تسمى "عصبة الأمم" لا عصبة "الدول" أو المنظمة العالمية الحالية، التي تسمى "بالأمم المتحدة" لا الدول المتحدة..
__________
(1) من محاضر اللجنة السياسية الفرعية للمؤتمر العربي العام 1944، ص ص19، 22.(1/375)
ثم أن هناك بعض المذاهب الفكرية، ولا داعي لأن نذكرها بالاسم، تنكر علينا أننا أمة واحدة.. وفي تبذير فكري، تقول تلك المذاهب أننا "أمة في طريق التكوين" كما أن بعض دعاة الإقليمية والنزاعات التعصبية، تجادل في وجود "الأمة العربية الواحدة".
ومن أجل هذا، بل من أجل الانتماء الحق لأمتنا، وتاريخنا، وتراثنا، ودعما لحاضرنا، وبناء لمستقبلنا، فإن ذلك كله يقضي بأن نسمي الجامعة.. "جامعة الأمة العربية" وإيجازها "الجامعة العربية".. في الاستعمال العادي السريع..
المبادئ الأساسية
ويقودنا هذا إلى تحديد المبادئ الأساسية التي يجب أن تقوم عليها الجامعة العربية الجديدة يأتي في صدرها المبدأ الأول، وهو أن الأمة العربية وحدة لا تتجزأ، وأنها تشترك في تاريخها الغابر والحاضر، وفي تراثها، وإرادتها وأمانيها والقومية، وتتطلع إلى صنع المستقبل الواحد، في وحدة عربية تختار نظامها وفق حاجاتها وما يحقق تقدمها وازدهارها، وقوتها ومنعتها..
وينطلق من ذلك، المبدأ الثاني، وهو أن الوطن العربي بحدوده المعروفة من المحيط إلى الخليج، بما فيه فلسطين، وحدة لا تتجزأ، وأن أسماء أقطارها الاثنين والعشرين ليست تعريفات سياسية ولكنها تعريفات إدارية وجغرافية يشملها الوطن العربي الواحد..
والمبدأ الثالث، أن الدفاع عن السيادة العربية على الوطن العربي واجب الأمة العربية في كل أقطارها.. وأن تحريرها ما هو واقع في الوطن العربي تحت الاحتلال، واجب قومي على الأمة العربية جمعاء، وعلى(1/376)
السواء، يتطلب تعبئة جميع الموارد والطاقات البشرية والمادية والروحية التي تملكها الأمة العربية.
والمبدأ الرابع، أن القومية العربية هي تعبير عن وجود الأمة العربية بالمعنى الثقافي الحضاري، بعيدا عن العصبية العنصرية، أو الطائفية، أو القبلية، أو مفاهيم العرق واللون والمذهب..
والمبدأ الخامس، أن الوحدة العربية هي التعبير الإيجابي الحي عن وجود الأمة العربية، والسبيل الأقوم لتحقيق الحياة الأفضل والأعدل لجماهيرها من غير تفريق ولا تمييز.. وأنها هي الحل الأوحد لجميع مشاكلها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ولتصبح قادرة على أداء رسالتها الإنسانية.
والمبدأ السادس، أن المواطنة العربية، هي الصفة الشاملة التي تجمع مواطني الدول العربية في الوطن العربي كله.. وأن المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات..
ومما هو جدير بالملاحظة، ونحن نورد هذه المبادئ، أن الميثاق الحالي، لا يتضمن شيئا من ذلك، لا في الديباجة ولا في المتن، على حين أن ميثاق الأمم المتحدة، وميثاق عصبة الأمم قبله، قد نص كل منهما على المبادئ المقررة.. بل إن الدول الأمريكية.. قد وقعت في الشهر نفسه الذي تم فيه توقيع ميثاق جامعة الدول العربية، على وثيقة تضمنت عددا من المبادئ المعروفة..
الأهداف(1/377)
وأهداف الجامعة العربية، من الطبيعي أن تنطلق من واقع الأمة العربية لا لاستبقائه مجمدا في إطار بقاء القديم على قدمه ولكن بغية تطويره إلى الأفضل والأعظم.. لما فيه خير الأمة العربية جمعاء..
ويأتي الهدف الأول، وهو صيانة سيادة الأمة العربية على وطنها، والدفاع عن أمنها وسلامتها، وصد أي عدوان على ترابها التاريخي، والمبادرة إلى رده بجميع الوسائل الفعالة، مبادرة جماعية تقدم فيها كل دولة ما عندها.
والهدف الثاني الحفاظ على تراث الأمة العربية، ولغتها وتقاليدها الأصيلة، وصياغة عقيدة قومية حضارية ثقافية، تصون مقوماتها القومية، وتمد أجيالها الصاعدة بالفكر القومي الأصيل.
والهدف الثالث توثيق عرى التضامن العربي عل أساس المبادئ القومية والمضي قدما في تنسيق الجهود العربية، تمهيدا لقيام إنجازات وحدوية في النواحي السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية، كل ذلك ليتم في مراحل محددة، على أساس علمي مدروس، يكفل لها البقاء والنماء.. وبذلك يكون التنسيق لا للتنسيق ذاته، ولكن كمرحلة انتقالية لصياغة الوحدة مرحلة بعد مرحلة.
والهدف الرابع، كفالة العدالة الاجتماعية للمجتمع العربية كله.. احترام حقوق الإنسان العربي، وضمان سيادة القانون، واحترام الحريات الأساسية..
وجدير بالتنويه أن بعض هذه الأهداف، موجودة في كثير من المواثيق الدولية، بصيغة أو بأخرى، والميثاق العربي أولى من غيره بالتوكيد(1/378)
عليها، وأن إعلانها هو الخطوة في سبيل تنفيذها.. وليس في الميثاق الحالي أي ذكر لهذه الأهداف لا تلميحا لا تصريحا..
ماهية الميثاق
إن الميثاق، في رأينا، يجب أن يصاغ بصورة تؤهله لأن يكون قانونا عربيا تصدره كل دول من أعضاء الجامعة العربية.. فإن الميثاق الحالي صاغه المؤسسون السبعة الأوائل، ليكون معاهدة دولية.. والمعاهدة في القانون الدولي، تنظم العلاقات بين الدول الأجنبية.. ولا يصح أن يكون في الأمة الواحدة معاهدات تنظم العلاقة بين أقطارها..
وحين يكون الميثاق قانونا في كل دولة عربية، فلا يكون الاحتكام بشأنه وفق قواعد القانون الدولي، وأمام المراجع الدولية.. وإنما وفق قواعد عربية أخرى يجب أن يتضمنها الميثاق العربي الجديد.
ولو فعلنا غير ذلك.. نكون قد نقضنا بأنفسنا، وبتصرفاتنا، الحقيقة القومية الثابتة أن العرب أمة واحدة ونكون قد اخترنا أن نصبح مجموعة "أمم" تجمعنا منظمة دولية، نتعامل فيما بيننا على أساس "المعاهدات الدولية" وتحكمنا قواعد القانون الدولي.. وهذا ما يجب أن نأباه، وأن نرفضه بكل إباء.
العضوية
تتألف الجامعة العربية من الدول العربية التي توقع على الميثاق العربية الجديد، وقد حرص المؤسسون الأوائل على اشتراط العروبة والاستقلال كمؤهلين للانضمام إلى الجامعة العربية.. ومن أجل ذلك فقد اقتصرت العضوية بادئ ذي بدء على الدول العربية السبع، وإن لم تكن قد تمتعت يومئذ بالاستقلال الكامل، كما بينا في الفصول السابقة.(1/379)
وفيما بعد استقلت الأقطار العربية الأخرى، في إفريقيا وآسيا، وكانت تحت السيطرة الأجنبية، وكان الميثاق قد نص على رعاية مصالح تلك الأقطار ووضع لها نصوصا خاصة ثم توالت حركات التحرر العربي في الوطن العربي، حتى أصبحت الجامعة العربية مؤلفة من اثنين وعشرين عضوا ومعها فلسطين.. ولهذا لم يعد من حاجة للنصوص الواردة في الميثاق الحالي خاصا بشرط الاستقلال.. فلم يعد في الوطن العربي أقطار تنتظر التحرير لتدخل الجامعة العربية، إلا فلسطين.
ومن هنا فإن الميثاق العربي الجديد ليس عليه أن يجعل شروطا للعضوية إلا الالتزام بالمبادئ والأهداف الواردة في الميثاق مع الالتزام بتنفيذ القرارات التي تقررها الجامعة العربية من حين لآخر.
فلسطين
أما فلسطين فإن أمرها يجب أن يأخذ وضعاً جديداً في الجوهر والصياغة معاً.. فإن الميثاق الحالي قد تحدث عن "الانتداب على فلسطين" وحقها في الاستقلال والسيادة بعد مرحلة الانتقال، وقد أصبح من الواجب أن يعالج الميثاق العربي الجديد موضوع فلسطين في ملحق خاص وافٍ يتناول عدم شرعية العدوان والاحتلال اللذين وقعا على فلسطين ويؤكد حق الشعب الفلسطيني في السيادة على وطنه الكامل والنضال من أجل تحرره وما يتصل ويتفرع عن كل هذه المعاني.
الالتزامات والخلافات العربية
أولا: تلتزم الدول الأعضاء في الجامعة في سياستها العامة بأحكام هذا الميثاق نصا وروحا، وتعمل على تحقيق المبادئ والأغراض والأهداف الواردة في هذا الميثاق.(1/380)
ثانيا: تتعامل الدول العربية فيما بينها على أساس الأخوة العربية، والجوار الحسن، والاحترام المتبادل للمصالح المشتركة.
ثالثا: الحوار الموضوعي بصدد القضايا العامة، ضرورة قومية عليا، فهو السبيل الأمثل للوصول إلى الطريق الأفضل لحل المشاكل العربية العامة.. وتلتزم الدول الأعضاء بالتقاليد العربية في أدب الحوار والابتعاد عن الحملات الإعلامية الجارحة للأخوة العربية.
رابعا: تلتزم الدول العربية في حل خلافاتها بالطرق السلمية، ولا يجوز الالتجاء إلى السلاح بين الدول الأعضاء في أية حالة من الأحوال.
خامسا: إذا نشب نزاع مسلح بين دولتين من أعضاء الجامعة، يبادر مجلس الجامعة إلى الاجتماع وينعقد المجلس بدعوة من أي من الدول الأعضاء، أو من الأمين العام للجامعة في مدة لا تتجاوز ستا وثلاثين ساعة من إصدار الدعوة.
سادسا: يحق لمجلس الجامعة حسما للنزاع المسلح أن يمارس الاختصاصات الآتية:
أ- إصدار الأمر بوقف إطلاق النار فورا.
ب- تأليف لجنة لتقصي الحقائق لمعرفة أسباب النزاع وتحديد المسئولية.
ج- إحالة الموضوع على محكمة العدل العربية، للفتوى أو لإصدار الحكم، أو للتحكيم الإجباري.
د- تكليف دولة عربية أو أكثر بأن تتولى قواها المسلحة الفصل بين المتقاتلين تمهيدا لإحلال السلام بين الطرفين المتنازعين.
هـ- اتخاذ جميع إجراءات الردع التي يقتضيها الموقف بقصد إحلال السلام.(1/381)
سابعا: يحق لمجلس الجامعة أن يصدر قرارا بوقف العضوية عن أي من الدول الأعضاء، وكذلك فرض أية عقوبات أخرى في حالة انتهاك قرارات المجلس، أو مخالفات أحكام الميثاق.
ثامنا: الجامعة العربية وحدها هي صاحبة الحق في الفصل في المنازعات التي تنشأ بين الدول العربية، ويلتزم الأعضاء بأن لا يلجأوا إلى أية منظمات أخرى، ولا أن يمتثلوا لتدخلها.
الشئون السياسية
تلتزم الدول الأعضاء في تصريف شئونها السياسية بالخطوط العريضة للسياسة الخارجية التي تقررها الجامعة سواء في علاقاتها مع الدول الأجنبية أو في مواقفها في الأمم المتحدة.. ويترتب على ذلك ما يلي:
أولا: لا تدخل أية دولة من أعضاء الجامعة في أي اتفاق مع أية دولة أجنبية من شأنه أن يكون ضارا بالصالح العام للجامعة العربية، أو أي من دولها، وتلتزم دول الجامعة بأن لا تدخل في أي أحلاف سياسية أو عسكرية.
ثانيا: ليس لأية دولة من الأعضاء أن تتعاقد مع أية دولة أجنبية إلا بعد التشاور مع الجامعة العربية.
ثالثا: لا تنفرد أية دولة من الأعضاء بالقيام بأي عمل عسكري خارج الوطن العربي إلا بعد موافقة الجامعة العربية.
رابعا: لا تنفرد أية دولة من الأعضاء بالقيام بأية مبادرة أو بالموافقة على أية تسوية، مؤقتة أو نهائية، بشأن أية قضية عربية مختلف عليها مع أية دولة أجنبية.. ومثل هذه التسويات يجب أن تحظى بموافقة الجامعة.
خامسا: تتصل الدول الأعضاء فيما بينها بصورة مباشرة، عن طريق الوزراء المختصين أو وكلائهم، لتبادل الرأي حول الأمور الثنائية أو الشئون(1/382)
العربية العامة، ولا تبقى بعد ذلك حاجة لوجود سفارات عربية في العواصم العربية.. إن التمثيل الدبلوماسي وجد بين الدول أصلا، أولا لرعاية مصالح الرعايا، والمواطنون العرب ليسوا غرباء في الوطن العربي وليسوا في حاجة إلى حماية ترعاهم.. وعلى كل دولة عربية أن ترعى مصالح أبناء الأقطار العربية الأخرى كما ترعى مصالح أبنائها حيثما كانوا.. أما مهمة الدبلوماسية الثانية وهي استطلاع أحوال الدول الأخرى والتجسس عليها، فهي ليست لائقة للعرب فيما بينهم.
سادسا: تتصل الدول العربية مباشرة بالجامعة العربية ومؤسساتها على جميع المستويات، ولا تبقى حاجة للمندوبين الدائمين المعتمدين لدى الجامعة العربية، وهذا تقليد مأخوذ عن الأمم المتحدة، وهي المنظمة العالمية التي يبلغ عدد أعضائها ما يقرب من مائة وخمسين دولة أجنبية بعضها عن بعض.
سابعا: تقتصر السفارات العربية في الخارج على العواصم الكبرى مثل واشنطن ولندن وباريس وموسكو، أما بشأن بقية الدول الأجنبية فيتم في إطار الجامعة توحيد السلكين السياسي والقنصلي العربي على أساس جغرافي وفق قواعد مقررة بحيث يكون في السفارة الواحدة مواطنون ينتمون لدول عربية معينة حسبما تقتضيه مصالح تلك الدول.
ثامنا: يوضع جواز سفر عربي موحد باسم الجامعة العربية، ويصدر لمواطني الدول الأعضاء من قبل مصلحة الجوازات المختصة في الدولة التي ينتمي إليها المواطن.. وهذه خطوة أولى في سبيل تدعيم المواطنة العربية الواحدة، تمهيدا لأن تأتي بعدها خطوات أخرى.(1/383)
شئون الأمن والدفاع العربي
الدفاع عن الوطن العربي، وصيانة السيادة العربية على التراب الوطني في أي قطر من الأقطار العربية هو المسئولية الأولى للجامعة العربية ويقع في رأس واجباتها ويترتب على ذلك ما يلي:
أولا: إذا وقع أي عدوان، أو تهديد بالعدوان، على أية دولة عربية، تبادر الجامعة العربية إلى اتخاذ جميع التدابير اللازمة بما في ذلك استخدام القوات المسلحة لرد العدوان.
ثانيا: تعتبر الدول الأعضاء، إن أي اعتداء، أو تهديد بالاعتداء يقع على أية دولة عربية أو أكثر، أنه اعتداء عليها جميعا، وتلتزم بالمبادرة إلى مساندة الدولة أو الدول المعتدى عليها بجميع الوسائل الفعالة من مادية وعسكرية لرد العدوان وإعادة الأمن والسلام إلى نصابهما.
ثالثا: يؤلف مجلس للدفاع العربي من وزراء الدفاع العربي لوضع الخطط اللازمة وإنشاء الأجهزة والمؤسسات اللازمة لتأمين سلامة الوطن العربي وأمن الأمة العربية.
رابعا: إن شئون الدفاع العربي المشترك تستلزم دراسة جديدة تأخذ بعين الاعتبار التجارب الماضية في هذا الميدان بغية الوصول إلى أسس جديدة تلتزم بها الدول العربية.. وذلك أن معاهدة الدفاع المشترك قد وضعت في عام 1950 في ظروف تختلف عن الظروف القائمة والأمر يحتاج إلى إعادة النظر بصورة جذرية في نصوصها.. وفي المؤتمر القومي، الذي نقترحه لوض الميثاق الجديد، يحسن أن تؤلف لجنة سياسية وعسكرية خاصة لصياغة ملحق خاص يلحق بالميثاق لمعالجة شاملة لشئون الدفاع المشترك والقيادة(1/384)
العربية الموحدة، وسائر الأمور العسكرية المتصلة بها، ومما تجدر الإشارة إليه أن ميثاق الجامعة القائم لم يتناول الأمور العسكرية من قريب أو بعيد.
الشئون الاقتصادية والاجتماعية وأمور العمل والعمال
تعمل الجامعة العربية على تدعيم اقتصاديات الدول الأعضاء، ورفع مستوى الحياة فيها، والتقارب التدريجي للسياسات الاقتصادية للدول الأعضاء.. بحيث يصبح الوطن العربي ساحة اقتصادية واحدة، وتحقيقا لذلك يلتزم الأعضاء بأن يتم على ساحة الوطن العربي:
أولا: حرية مرور البضائع، باستبعاد الرسوم الجمركية وقيود الكمية على دخول وخروج البضائع، ووضع تعريفة جمركية مشتركة.. وسياسة تجارية مشتركة في مواجهة الدول الأجنبية..
ثانيا: حرية مرور المواطنين العرب في الوطن العربي.
ثالثا: حرية مرور الخدمات.
رابعا: حرية مرور رؤوس الأموال.
خامسا: حرية الإقامة والعمل والتملك.
سادسا: وضع سياسة مشتركة في مجال الزراعة والمواصلات والصناعة بحيث تكون مصلحة الإنتاج هي التي تحدد مواقع المشروعات الزراعية والصناعية .
سابعا: تحديد فترة انتقالية مربوطة بتاريخ يتعين باليوم والشهر والعام لتنفيذ هذه الإجراءات بحيث يصبح الوطن العربي سوقا واحدة في إطار اتحاد جمركي.. وكل ذلك حققته الجماعة الأوروبية قبل انتهاء المرحلة التي كانت محددة لها.. والدول العربية أولى بتحقيقها..(1/385)
وإلى جانب الشئون الاقتصادية تأتي الشئون الاجتماعية وأمور العمل والعمال في الوطن العربي وما يتصل بها من محو الأمية والضمان الاجتماعي، وهذه كلها مهمات رئيسية للجامعة العربية، تباشرها بالتنسيق، وتدفعها إلى مرحلة التوحيد..
التنمية العربية
عناصر التنمية العربية متوافرة في الوطن العربي.. الأراضي الزراعية الشاسعة، الوفرة العمالية الكبرى، الثروات المعدنية الضخمة، مصادر المياه المتعددة، الثروات المالية الهائلة، ولكن هذه العناصر متفرقة في مختلف الدول العربية.. وتبقى مهمة الجامعة العربية أن تتوحد هذه العناصر من أجل هدف واحد، هو الانتفاع بخيرات الوطن العربي، واستخدام كل طاقاته وقدراته، في المجالات الزراعية والصناعية والاجتماعية، لتوفير حياة أفضل للأمة العربية بأسرها.. ولتحقيق هذا الهدف الكبير، يترتب ما يلي:
أولا: توحيد صناديق التنمية العربية في السعودية، والعراق، وليبيا، والكويت، ودولة الإمارات في صندوق واحد يعرف بصندوق التنمية العربية، بقصد تمويل جميع المشروعات العربية التي تحقق حاجات الأمة العربية، وفي مقدمتها الحاجة الملحة إلى الغذاء.
ثانيا: مجلس إدارة الصندوق العربي يتألف من الدول المساهمة في الصندوق وتزداد هذه المساهمات باتساع رقعة نشاطات التنمية.
ثالثا: يكون لهذا المجلس لجنة عليا للتخطيط ومعها العدد اللازم من الخبراء لدراسة المشروعات العربية على أسس اقتصادية سليمة..(1/386)
رابعا: ليس في هذا ما يمنع الدول الأعضاء أو الشركات العربية من القيام بأية مشروعات معينة للتنمية في الوطن العربي، وعلى الجامعة العربية أن تعمل على تيسير وتشجيع هذه الجهود.
شئون التربية والثقافة والعلوم
تحقيقا للوحدة الثقافية في الوطن العربي، باعتبارها الدعامة الأساسية التي تقوم عليها الوحدة العربية، تلتزم الجامعة العربية بما يلي:
أولا: أن يكون هدف التربية والتعليم تنشئة أجيال عربية واعية مستنيرة تؤمن بقوميتها ورسالتها وترابها، وذلك برسم فلسفة وسياسة ومناهج تربوية تحقق هذا الهدف العام.
ثانيا: تنسيق الأنظمة التعليمية وتطويرها، والعمل على بلوغ مستويات تعليمية متماثلة، وتوحيد أسس المناهج والكتب المدرسية، وتعادل الشهادات، وتوحيد الدرجات العلمية وتعادلها.
ثالثا: التركيز على الاهتمام باللغة العربية، والتراث والتاريخ العربي، وجغرافية الوطن العربي والتعريف بالمجتمع العربي المعاصر وأحواله ومشاكله..
رابعا: تنسيق الجهود في جميع مجالات التربية والثقافة والعلوم، بقصد النهوض بمستوى التعليم والثقافة، وتشجيع البحث العلمي، والمحافظة على التراث العربي ونشره.
خامسا: استخدام مادة على مناهج الدراسة تختص بالنهضة العربية الحديثة، تبحث موضوع القومية العربية ومقدمات الوحدة العربية.
سادسا: حرية انتقال الكتاب العربي والصحافة العربية في الوطن العربي بدون قيود..(1/387)
الإعلام العربي
الإعلام العربي، إحدى المهمات الرئيسية التي يجب أن تتحملها الجامعة العربية على الصعيدين العربي والدولي ويترتب على ذلك ما يلي:
أولا: أن تكون الخطة الإعلامية من الشمول بحيث تتناول التعريف بالأمة العربية، وتاريخها وحضارتها مع التركيز على النهضة العربية الحديثة وتطلع الأمة العربية إلى الوحدة العربية "كحركة" إيجابية حضارية تستهدف تقدم الأمة العربية وتمكينها من المساهمة في أداء رسالة العدل والسلام.
ثانيا: الاستعانة بأكبر قدر ممكن من العلماء والكتاب والخطباء، والساسة، ورجال الدين والجامعات والسينمائيين في مختلف أقطار العالم للتعريف بالقضية العربية عامة، وقضية فلسطين بصورة خاصة.
ثالثا: إتباع الأسلوب العلمي الموضوعي في مخاطبة الرأي العام الدولي مع الحفاظ على المبادئ القومية الأساسية، فإن الكسب الإعلامي على حساب القضية العربية هو خسارة في حقيقته وجوهره، والربح الإعلامي الحقيقي هو اجتذاب الرأي العام الدولي نحو القضية العربية وبديهياتها المعروفة.. وخاصة أن العلم هو في الحقيقة يتفق مع حقائق القضية العربية الأساسية.
رابعاً: يتعين أن يكون للإعلام العربي جريدة يومية تختص بشئون الوطن العربي على مستوى قومي، وتعالج مشاكله الاقتصادية والاجتماعية، وأن تكون ملتقى المفكرين العرب، ومنارة تضيء الطريق أمام الأجيال العربية، وتزيد من إيمانهم بقوميتهم، والسعي لبناء وحدتهم على أسس سليمة..
خامسا: وكذلك يتعين أن يكون للإعلام العربي إذاعة ذات اتجاهين، اتجاه إلى الوطن العربي، لتخاطب الأمة العربية، وتبصرها بقضاياها، وحاضرها ومستقبلها، واتجاه آخر نحو العالم الخارجي باللغات الفرنسية والإنجليزية(1/388)
والألمانية، مع التوسيع فيما بعد، لتشرح للشعوب الغربية، الحقائق العلمية عن الأمة العربية وقضاياها ومشاكلها، وتاريخها وتراثها، وهذه المهمات الإعلامية، تبعات ضخمة من غير شك، ولكن ثرواتنا الفكرية والمالية أضخم ولنا في المهاجر كفاءات وافرة لا تتخلف عن أداء هذا الواجب القومي الكبير.. ولا ينقصنا إلا أن نقرر ونخطط وننفذ.
ونحن، في أي مقياس، نملك أكثر مما تملك بريطانيا، صاحبة القسم العربي في الإذاعة البريطانية، وأكثر مما تملك أية دولة أوروبية أخرى، وهي الحريصة أن تتحدث إلينا عن قضايانا من عواصمها، وبلغتنا، وأينا أولى بهذه المهمة؟
شئون البترول والغاز العربي
بدأت الجامعة العربية حياتها القومية، من غير بترول أو غاز يذكر، فلقد كانت هذه الثروة العربية العظمى تعيش في جوف الأرض، وفي الأعوام الخمسة والثلاثين التي مرت على عمر الجامعة العربية، تفجرت هذه الثروة العربية، لتلقي على الجامعة العربية أعباء ضخمة يفترض فيها أن تحشد ثورة كبرى في حياة العرب الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية.. وكما أهملت الشئون العسكرية في ميثاق الجامعة القائم، فإن أمور البترول والغاز لم تكن قد بلغت مرحلة تستحق معها أن تلقى لها مكانا في نصوص الميثاق..
وإذا كان الحديد والصلب هو الذي كان حجر الأساس في بناء الجماعة الأوروبية، فأحرى بالبترول والغاز العربي، في إطار الجامعة العربية، أن يكون هو حجر الأساس في بناء الوحدة العربية.. ويترتب على ذلك ما يلي"(1/389)
أولا: التنسيق الكامل والدائم بين الدول العربية في آسيا وإفريقيا في كل ما يتصل بهذه الثروة العربية الكبرى، إنتاجا وصناعة وتسويقا لتكون أولا في خدمة الأمة العربية، وأهدافها القومية السياسية والعسكرية والاقتصادية، وما فاض بعد ذلك يتجه لخدمة الاقتصاد العالمي، وخاصة اقتصاد الدول النامية.
ثانيا: إن الدور الكبير الذي تؤديه في الوقت الحاضر، منظمة الدول العربية المصدرة للبترول بمن فيها من الكفاءات العربية الممتازة وبالمشروعات المجدية التي أقامتها أو ساعدت على إقامتها يتطلب المزيد والمزيد من توسيع ميادين النشاطات التي يستطيع البترول والغاز العربي أن يؤديها في خدمة الأمة العربية،وفي دفع الأمة العربية إلى الأمام..
ثالثا: ميثاق الجامعة العربية يجب أن يفرد ملحقا خاصا يحدد السياسة العربية إزاء البترول والغاز العربي، وأن تكون الخطط العربية في هذا الموضوع متجهة نحو استخدام هذه الثروة المعرضة للنفاد، لتفجير الثروات العربية المدفونة في باطن الأرض، وإقامة اقتصاد عربي، صناعي زراعي، اجتماعي، يعوض للأمة العربية نفاد البترول والغاز العربيين، وأن السياسة الأوروبية بشأن الحديد والصلب، نموذج حي لما يمكن أن يحتويه الميثاق العربي الجديد، وما يمكن للجامعة العربية أن تؤديه للانتفاع بهذه الثروة الكبرى في الحاضر... وما يمكن أن تؤديه للمستقبل، حينما لا نجدها في المستقبل.
الثروة المهاجرة
وللأمة العربية ثروة كبرى أخرى لم تلق العناية اللازمة الكافية، وهي ثروة عربية مهاجرة، وأعني بها "العرب في المهجر".. فهؤلاء لا يقلون عن أربعة ملايين منتشرين في القارات الست بينهم العلماء والمختصون في(1/390)
مختلف نواحي العلم وخاصة ما تحتاج إليه الأمة العربية في نهضتها الحديثة.. وبينهم رجال الأموال والأعمال والشركات، وبينهم رجال السياسة والحكم وقد وصلوا إلى أعلى مؤسسات الدولة في البلاد التي يعيشون فيها، فقد أصبح منهم رؤساء جمهوريات وبرلمانات ووزراء وذوي مناصب عالية في سائر نواحي الحياة، وهؤلاء جميعا لم تستفد القضية العربية من نفوذهم السياسي ومواقعهم في الحكم.
وواجب الجامعة العربية في هيكلها الجديد، أن تعقد الصلات الوثيقة مع هذه الشخصيات الكبيرة لصالح القضية العربية، كما يفعل الإسرائيليون مع أمثالهم المنحدرين من أصل يهودي، وأن يكون في الجامعة العربية جهاز متخصص للمهاجرين العرب يعنى بشئونهم ويظل على اتصال دائم بهم ينفذ مقترحاتهم ويضع المشروعات لتبادل الزيارات بينهم وبين البلاد العربية وينتفع بخبراتهم الاقتصادية ويهيئ لهم مشروعات استثمارية في البلاد العربية.
نقطة البداية والنهاية
ومن هذه الدراسة التفصيلية الشاملة، يصل المواطن العربي الذي واكب معنا هذه الدراسة إلى نقطة النهاية التي تؤدي في حقيقتها إلى نقطة البداية.
ونقطة النهاية هذه هي أن الجامعة العربية في حالتها الحاضرة قد استنفدت أغراضها وزمانها، ولم تعد مؤسسة صالحة لخدمة أغراض عربية جادة، وأصبح من الواجب النظر إليها كهيأة تحت التصفية إلى أن نقيم مكانها مؤسسة قومية صالحة، تخدم الأغراض العربية بصورة جادة، ومن هنا تأتي نقطة البداية، وهي إنشاء جامعة جديدة، وجودا، وكيانا،وميثاقا، وأغراضا،(1/391)
ولهذا فلقد وجب علينا أن ننشئ جامعة جديدة مكان القديمة، وفي رأينا أن الجامعة الجديدة يجب أن تتكون على الوجه الآتي:
1- أن يكون لها ميثاق جديد يتمشى مع روح العصر، ويتلاءم مع الظروف العربية التي طرأت عليها خلال الثلاثين عاما الماضية، ويأخذ بعين الاعتبار القدرات الاقتصادية الضخمة التي أصبحت تملكها الأمة العربية في هذه الفترة.
2- وأن يكون كيانها قادرا على تحمل المسئوليات الكبرى التي تواجه الحياة العربية، سياسيا، واجتماعيا، واقتصاديا، وثقافيا.
مؤسسات الجامعة الجديدة
ويترتب على ذلك أن تكون للجامعة الجديدة مؤسسات قادرة على تحمل المسئوليات والنهوض بالتبعات.
المجلس الأعلى للجامعة
وأولى هذه المؤسسات التي يجب إنشاؤها، مجلس مسئول على مستوى عال، يعرف بالمجلس الأعلى للجامعة يتولى تصريف شئونها والقيام بحل المنازعات العربية وإصدار القرارات الحاسمة بشأنها.
ويتكون المجلس الأعلى للجامعة من رؤساء الدول العربية، وتكون الرئاسة فيه لأحدهم بالتناوب لمدة عام، وينعقد هذا المجلس في دورة عادية مرة كل عام، أو في اجتماع غير عادي بناء على طلب من إحدى الدول العربية.
المجلس الدائم للجامعة
ويأتي بعد المجلس الأعلى، مجلس وزاري يعرف بالمجلس التنفيذ ... ي الدائم، مهامه وتكوينه كما يلي:(1/392)
1- يتم تعيين أعضاء المجلس الدائم من قبل المجلس الأعلى، ويكون الأمين العام للجامعة العربية رئيسا طبيعيا لهذا المجلس، ضمانا للمسئولية المشتركة.
2- تنفيذ جميع التوصيات التي تصدر إليه من قبل المجلس الأعلى.
3- يرفع إلى المجلس الأعلى الاقتراحات والمشروعات التي تستهدف التنسيق أو التوحيد.
4- يتابع تنفيذ القرارات والتوصيات الصادرة من المجلس الأعلى، ويتصل بحكومات الدول الأعضاء وبمؤسسات الجامعة وأجهزتها.. في كل ما تقتضيه شئون الجامعة العربية.
5- التنسيق بين مؤسسات الجامعة العربية فيما يتصل باختصاصاتها ونشاطاتها.
6- المجلس الدائم هو الصلة بين مؤسسات الجامعة والمجلس الأعلى للجامعة، يقدم إليه مشروعاتها وتقاريرها وتوصياتها ويرفعها بملاحظاته..
7- يتكون المجلس من الوزارات الآتية: الشئون السياسية، الأمن والدفاع العربي، الشئون الاقتصادية، والمواصلات، العمل والعمال، التربية والثقافة والعلوم، التنمية العربية، الإعلام العربي، المعونات العربية الخارجية، البترول والغاز العربيان، الشئون الاجتماعية والصحة.. شئون المغتربين، ويكون للمجلس نظام داخلي يحدد الاختصاصات والأمور الإدارية الأخرى.
8- وينشأ كذلك منصب "الوزير المقيم" يكون مقره ومكتبه في إحدى العواصم العربية، ومهمته أن يكون ممثلا للمجلس الدائم لدى دولة عضو أو أكثر.. ويعمل على متابعة تنفيذ قرارات الجامعة، والتشاور مع الدولة المعنية بشأن الأمور العربية المشتركة.. ويترك للأمين العام للجامعة أن يحدد عددهم(1/393)
ومواقع عملهم، ويتم تعيينهم من قبل المجلس الأعلى للاتحاد بترشيح من الأمين العام..
9- يتولى الأمين العام للجامعة وزارة الشئون السياسية، وبوصفه رئيسا للمجلس فإنه يعهد ببقية الوزراء إلى الوزارات الأخرى.. ويكون كل وزير هو الأمين العام للمنظمة المتخصصة التي تختص بوزارته..
الأمانة العامة للجامعة
يكون للجامعة العربية أمانة عامة كما يلي:
أولا: الأمانة العامة للجامعة، مؤسسة رئيسية من مؤسسات الجامعة العربية.. مستقلة عن حكومات الدول الأعضاء، ويرأسها الأمين العام، ويكون للأمين العام مساعدون يقرر عددهم بالنظام الداخلي للأمانة العامة.
ثانيا: تتألف الأمانة العامة من الدوائر والشعب وعدد من المواطنين كما هو مقرر في النظام الداخلي.
ثالثا: الأمين العام هو الذي يعين مساعديه وموظفيه، ويختارهم على أساس كفاءاتهم ومؤهلاتهم، لا على أساس تمثيلي أو جغرافي.
رابعا: يقدم الأمين العام إلى المجلس الأعلى الصيغة النهائية لمشروعات القرارات والتوصيات والمراسم لإصدارها ما يراه مناسبا فيها .
خامسا: يقدم الأمين العام إلى مؤسسات الجامعة الاقتراحات الخاصة بشأن التنسيق والتوحيد تمهيدا لعرضها على المجلس الأعلى للاتحاد.
سادسا: تصدر الأمانة العامة "الجريدة الرسمية" التي تتضمن مراسيم الجامعة وقراراتها وتوصياتها، ونشاطات وإنجازات المنظمات المتخصصة للجامعة، وتقاريرها.(1/394)
مجالس الجامعة المتخصصة
أولا: يكون للجامعة العربية المجالس المتخصصة الآتية:
مجلس الشئون السياسية، ومجلس الدفاع العربي، مجلس الوحدة الاقتصادية العربية.. المجلس العربي للعمل والعمال، المجلس العربي للتربية والثقافة والعلوم، ومجلس التنمية العربية، مجلس الإعلام العربي، مجلس المعونات العربية الخارجية، مجلس البترول والغاز العربيين، المجلس العربي للشئون الاجتماعية والصحية، المجلس العربي لشئون المغتربين.
ثانيا: تمارس هذه المجالس اختصاصاتها كما وردت في المعاهدات والاتفاقات المعقودة بين الدول العربية إلى أن تعاد صياغتها القانونية من قبل الجامعة العربية الجديدة.
ثالثا: تتمتع المجالس المتخصصة المذكورة باستقلال ذاتي في ممارسة نشاطاتها واختصاصاتها في حدود التوجيهات العاملة التي تصدر إليها من المجلس الأعلى للجامعة العربية.
رابعا: تقدم المجالس المتخصصة تقاريرها ومشروعاتها وتوصياتها إلى المجلس الأعلى عن طريق الأمين العام للجامعة العربية.
القرارات والعقوبات
أولا: القرارات التي تنص على التعاون والتنسيق تصدر بالأكثرية العادية.. وتكون ملزمة لجميع الدول الأعضاء..
ثانيا: القرارات التي تنص على التوحيد بقصد تنفيذها على ساحة الوطن العربي كله، تصدر بأكثرية الثلثين وتكون ملزمة لجميع الدول الأعضاء.
ثالثا: قرارات الحرب والصلح وتعديل ميثاق الجامعة تصدر بأكثرية الثلثين.
رابعا: تفصل من عضوية جامعة الدول العربية بالأكثرية العادية:(1/395)
1ـ الدولة التي تنتهك المبادئ والأهداف والالتزامات الواردة في ميثاق الجامعة العربية.
2ـ أو تخالف قرارات الجامعة العربية.
3ـ أو لا تلتزم بقرار محكمة العدل العربية، أو التحكيم.
مجلس الأمة العربية
الميثاق القائم لجامعة الدول العربية قد أهمل ذكر الأمة العربية وبالتالي فقد جعل العمل العربي المشترك قاصرا على الصعيد الرسمي، وجاءت مؤسساته ممثلة للجانب العربي الرسمي، وكان ذلك نقصا خطيرا في مسيرة الجامعة العربية عبر هذه المدة الطويلة.
والجامعة العربية لتكون جديرة باسمها، وأمينة على أهدافها، لا بد أن تكون الأمة العربية ممثلة، ولو في حدود ضيقة، في الهيكل الهرمي العام للجامعة العربية.. ويترتب على ذلك أن ينص الميثاق الجديد على ما يلي:
أولا: يكون للجامعة العربية جهاز رئيسي يعرف بمجلس الأمة العربية، وعدد أعضائه ثلاثمائة وخمسون، نصفهم منتخبون من المجالس النيابية في الوطن العربي، كل مجلس يختار نوابه، والنصف الآخر ينتخبون بالتساوي من الاتحادات العربية.. الصحافة، والعمال، والطلاب والسيدات، والمحامون، والمجامع العلمية العربية، وسائر الاتحادات الأخرى، كل اتحاد ينتخب ممثليه.
ثانيا: مدة الدورة للمجلس خمس سنوات، والأعضاء مؤهلون بتجديد انتخابهم لدورتين فقط.
ثالثا: ينتخب المجلس مكتب الرئاسة للدورة، والأمين العام للجامعة العربية يتخذ الإجراءات اللازمة لتأمين انعقاد الدورة الأولى للمجلس.(1/396)
رابعا: يضع المجلس نظامه الداخلي، ويتمتع باستقلال كامل في ممارسة مهماته واختصاصاته.
خامسا: اختصاص المجلس عام شامل، يتناول مناقشة جميع الشئون العربية ونشاطات الجامعة العربية.. ويقدم بشأنها التواصي والرغبات إلى مؤسسات الجامعة كل فيما يخصه.
سادسا: يحضر وزراء مجلس الجامعة اجتماعات مجلس الأمة للاشتراك في المناقشات وللإجابة عن استيضاحات الأعضاء فيما يتعلق بأمور الجامعة العربية، وتكون الجلسات علنية، ما لم يقرر المجلس غير ذلك.
محكمة العدل العربية
ليس للجامعة العربية، بموجب ميثاقها القائم، مرجع قضائي للنظر في الخلافات بين الدول العربية.. والمؤسسون الأوائل الذين وضعوا ميثاقهم قد أشاروا إلى محكمة العدل العربية في المادة التاسعة عشرة، بصورة غير مباشرة حين تحدثت عن تعديل الميثاق.. وقد نشأت عن هذا الإغفال أو الإهمال.. مفارقة خطيرة هي أن الدول العربية الأعضاء في الأمم المتحدة لها محكمة عدل دولية.. ولكن الدول العربية الأعضاء في الجامعة العربية ليس لها محكمة عدل عربية.. وفي ظل الصراعات الدموية والاختلافات السياسية التي نشبت بين الدول العربية منذ أن أنشئت الجامعة العربية، أصبح من الواجب أن ينص الميثاق الجديد على إنشاء محكمة عدل عربية.. ويترتب على ذلك ما يلي:
أولا: محكمة العدل العربية هي المؤسسة الرئيسية للشئون القضائية والقانونية للجامعة العربية وتمارس اختصاصاتها وفقا لأحكام نظام أساسي تضعه لجنة من الخبراء القانونيين المختصين.(1/397)
ثانيا: تكون جميع الدول الأعضاء في الجامعة العربية، فرقاء في النظام الأساسي لمحكمة العدل العربية.
ثالثا: الأحكام التي تصدرها المحكمة واجبة النفاذ، ويلتزم كل طرف في النزاع أن ينزل على حكم المحكمة وأن يبادر إلى تنفيذه.. ومجلس الجامعة يتخذ الإجراءات الكفيلة بتنفيذه.
رابعا: لأي من مؤسسات الجامعة ومنظماتها المتخصصة بالإضافة إلى الدول الأعضاء، حق المقاضاة أمام محكمة العدل الدولية.. أو التماس الفتوى في أي شأن من شئون الجامعة العربية بقصد احترام الميثاق، وكفالة تنفيذ قرارات الجامعة العربية.
الميزانية العامة
ميزانية الجامعة، كانت تعتمد على "أنصبة الدول الأعضاء" وهذه كانت تتغير من وقت لآخر حسب الظروف المادية للدول الأعضاء.. ولكن متطلبات العمل العربي المشترك، أصبحت تتطلب تبني خطوة وحدوية متقدمة، ولو محدودة، لتكون الميزانية مقررة على أسس أخرى، والنظر في فرض إيرادات ضريبية عامة تقرر على ساحة الوطن العربي كله، حتى تصبح الأمة العربية بأسرها هي القاعدة العريضة للجامعة العربية وتمثل الإيرادات ما يلي:
أولا: نسبة معينة مقتطعة من ميزانيات الدول العربية.
ثانيا: طابع بريد باسم الجامعة العربية.
ثالثا: ضريبة مقررة على تذاكر الملاهي والطائرات والبواخر.
رابعا: رسوم جوازات السفر العربية الموحدة.
خامسا: ضريبة محددة يدفعها المسافرون خارج الوطن العربي.(1/398)
سادسا: ضريبة معينة على كل برميل بترول تنتجه الدول العربية البترولية.
وما إلى ذلك من الأبواب الضريبية التي يضعها الخبراء الماليون..
علم الجامعة العربية، والنشيد
وأخيرا فإن علم الجامعة العربية يجب أن يرمز إلى الوحدة العربية، وأن تكون رسومه من الألوان الأربعة التي تم التعارف عليها منذ فجر الحركة العربية وهي الأحمر والأبيض والأخضر والأسود اقتباسا من البيت العربي الشهير..
والرمز الملائم في رأينا وهو امتداد لعدد من الأعلام العربية الحاضرة هو أن يكون العلم محتويا لاثنتين وعشرين نجمة وهي عدد الدول العربية الأعضاء في الجامعة العربية.
وللعلم توأم هو النشيد، فهذا مثل شقائق النعمان، لا يفترقان.. ولا بد لجامعة الدول العربية من نشيد يحمل المعاني الرفيعة للنضال العربي، وينشده المواطن العربي في الوطن والمهجر، ويتغنى به في السراء والضراء..
وبعد فإن هذه الأفكار العامة التي وردت في هذا الفصل، هي حصيلة تجربة مواطن عربي، رافق الجامعة منذ مولدها، وعمل فيها سبع سنوات أمينا مساعدا، وبعد ذلك اشترك في أعمالها مع الوفود العربية، ثم حضر مؤتمرات القمة الأربعة التي انعقدت بين 1964-1967.
وبديهي أن مناقشة هذه الأفكار لا بد أن تأتي بأفكار أخرى، أرجو أن تكون أجود منها، وأقرب إلى الوحدة منها إلى التجزئة والانفصال..
وفي إطار الحديث عن الوحدة لا بد من التوكيد على أن مشروع الميثاق الحالي الذي طرحناه في هذا الفصل قد مشى على طريق الوحدة خطوة واحدة فقط، أخذا بعين الاعتبار واقع العالم العربي في الظروف(1/399)
الحاضرة.. وقد كان بالإمكان أن نرسم على الورق ميثاقا وحدويا أكثر اتساعا والتزاما.. ولكن حظه من القبول والتنفيذ يكون ضئيلا..
ونحن نرى أن هذه الخطوة الوحدوية الواحدة، ضرورية، ويجب الأخذ بها ولا عذر لأحد في رفضها أو الاعتذار عنها، إلا إذا كان يؤثر الراحة في الجامعة العربية الحاضرة بعيدا عن الالتزام القومي، وفي منأى عن العمل الوحدوي في أبسط صوره..
إن الإشارة إلى الوحدة العربية وإلى الأمة العربية وانتساب الجامعة إليها كل ذلك لا مجال للجدال فيه إلا إذا كنا ننكر وجودنا كأمة.. نتنكر لأهدافنا، ونناقض خطبنا عن الوحدة..
وإن توكيد وتنفيذ الحريات الأساسية، والحقوق الإنسانية، والمواطنة العربية الواحدة متمثلة في جواز سفر عربي واحد، هي أبسط معاني القومية العربية الواحدة.. إلا إذ كنا نعلنها شعارا وندرسها تطبيقا وممارسة.
وإن الاعتراف بحق المواطن العربي في الإقامة والعمل والسفر في وطنه العربي هو المعنى الصغير لتعبير الوطن العربي الكبير من المحيط إلى الخليج، وإلا لكان هذا التعبير زبدا في أمواج المحيط والخليج.
وإن صدور قرارات "وحدوية" من قبل المجلس الأعلى، بموجب مراسم نافذة على جميع الرعايا في الأمة العربية.. هو أيسر الخطوات الوحدوية.. ما دامت أكثرية الثلثين ترتضيها.. وفي هذه الحالة يتعين على الدول الأخرى أن تلتزم بها وهذا أبسط معاني الوحدة ناهيك عن التضامن.
وإن إنشاء مجلس الجامعة العربية على مستوى وزاري، ينفذ في البداية والنهاية توجيهات الملوك والرؤساء، هو أداة ذات سلطة محددة، وتجده(1/400)
الأحداث العربية حاضرا على الدوام لمعالجتها، بدلا من مجلس يكون غائبا عن المسئولية كل العام إلا حين ينعقد في دورتين مختصرتين..
وإن التزام الدول العربة بعدم الانفراد في أية قضية عربية هو أبسط مقومات العروبة وأيسر معاني القومية العربية.. والانفراد لا يقبل المبررات والاعتذار، إنه انفصام عن قافلة الأمة العربية.. ومن يؤثر الانفراد فعليه أن يبقى خارج الأسرة، وإن جامعة عربية من خمسة مؤمنة، أنفع للأمة العربية من خمسين متخاذلين، لا يحفظون ميثاقا ولا يرعون عهدا..
هذا وغير هذا يصل بنا إلى الحل المتوازن العادل.. بين جامعة تكرس الانفصال وجامعة تقفز إلى الدولة الفدرالية، من غير تمهيد ولا إعداد..
ومن أجل ذلك فقد اخترنا الحل الوسط.. خطوة متواضعة على الطريق.. أملا بأن نلتزم بها اليوم لا غدا..
والحكم العربي المعاصر، أمام التاريخ وجها لوجه.. ونرجو أن تبيض الوجوه، كل الوجوه.. أو أكثر الوجوه..(1/401)
الملاحق(1/402)
ملحق رقم (1)(1/403)
بروتوكول الإسكندرية
الموقعون على هذا رؤساء الوفود العربية في اللجنة التحضيرية للمؤتمر العربي العام وأعضاؤها وهم:
رئيس اللجنة التحضيرية.
حضرة صاحب المقام الرفيع مصطفى النحاس باشا.
رئيس مجلس وزراء مصر ووزير خارجيتها ورئيس الوفد المصري.
الوفد السوري
حضرة صاحب الدولة السيد سعد الله الجابري
رئيس مجلس وزراء سوريا ورئيس الوفد السوري
حضرة صاحب الدولة السيد جميل مردم بك وزير الخارجية
سعادة الدكتور نجيب الأرمنازي (أمين السر العام لرئاسية الجمهورية)
سعادة الأستاذ صبري العسلي نائب دمشق
الوفد الأردني
حضرة صاحب الدولة توفيق أبو الهدى باشا
رئيس مجلس وزراء شرق الأردن ووزير خارجيته ورئيس الوفد الأردني
سعادة سليمان سكر بك سكرتير مالي ووزير الخارجية
الوفد العراقي
حضرة صاحب الدولة السيد حمدي الباجة جي
رئيس مجلس وزراء العراق ورئيس الوفد العراقي(1/404)
حضرة صاحب المعالي السيد أرشد العمري وزير الخارجية
حضرة صاحب الدولة السيد نوري السعيد
رئيس مجلس وزراء العراق سابقا
حضرة صاحب السعادة السيد تحسين العسكري
وزير العراق المفوض بمصر
الوفد اللبناني
حضرة صاحب الدولة رياض الصلح بك
رئيس مجلس وزراء لبنان ورئيس الوفد اللبناني
حضرة صاحب المعالي سليم تقلا بك وزير الخارجية
سعادة السيد موسى مبارك
مدير غرفة حضرة صاحب الفخامة رئيس الجمهورية
الوفد المصري
حضرة صاحب المعالي أحمد نجيب الهلالي باشا وزير المعارف العمومية
حضرة صاحب المعالي محمد صبري أبو علم باشا وزير العدل
حضرة صاحب العزة محمد صلاح الدين بك وكيل وزارة الخارجية
إثباتا للصلات الوثيقة والروابط العديدة التي تربط بين البلاد العربية جمعاء، وحرصا على توطيد هذه الروابط وتدعيمها وتوجيهها إلى ما فيه خير البلاد العربية قاطبة وصلاح أحوالها وتأمين مستقبلها وتحقيق أمانيها وآمالها، واستجابة للرأي العام في جميع القطار العربية.
قد اجتمعوا بالإسكندرية بين يوم الاثنين 8 شوال سنة 1963 (الموافق 25 سبتمبر سنة 1944) ويوم السبت 20 شوال سنة 1363 الموافق (7(1/405)
أكتوبر سنة 1944) في هيئة تحضيرية للمؤتمر العربي العام وتم الاتفاق بينهم على ما يلي:
أولا- جامعة الدول العربية
تؤلف "جامعة الدول العربية" من الدول العربية المستقلة التي تقبل الانضمام إليها، ويكون لهذه الجامعة مجلس يسمى "مجلس جامعة الدول العربية" تمثل فيه الدول المشتركة في "الجامعة" على قدم المساواة.
وتكون مهمته مراعاة تنفيذ ما تبرمه هذه الدول فيما بينها من الاتفاقات وعقد الاجتماعات دورية لتوثيق الصلات بينها وتنسيق خططها السياسية تحقيقا للتعاون فيها وصيانة لاستقلالها وسيادتها من كل اعتداء بالوسائل الممكنة وللنظر بصفة عامة في شئون البلاد العربية ومصالحها.
وتكون قرارات هذا "المجلس" ملزمة لمن يقبلها فيما عدا الأحوال التي يقع فيه خلاف بين دولتين من أعضاء الجامعة، ويلجأ فيها الطرفان إلى المجلس لفض هذا الخلاف، ففي هذه الأحوال تكون قرارات "مجلس الجامعة" نافذة ملزمة.
ولا يجوز على كل حال الالتجاء إلى القوة لفض المنازعات بين دولتين من دول الجامعة، ولكل دولة أن تعقد مع دولة أخرى من دول الجامعة أو غيرها اتفاقات خاصة لا تتعارض مع نصوص هذه الأحكام أو روحها.
ولا يجوز في أية حال إتباع سياسة خارجية تضر بسياسة جامعة الدول العربية أو أية دولة منها.(1/406)
ويتوسط المجلس في الخلاف الذي يخشى منه وقوع حرب بين دولة من دول الجامعة وبين أية دولة أخرى من دول الجامعة أو غيرها للتوفيق بينهما.
وتؤلف منذ الآن لجنة فرعية من أعضاء اللجنة التحضيرية لإعداد مشروع لنظام مجلس الجامعة ولبحث المسائل السياسية التي يمكن إبرام اتفاقات فيها بين الدول العربية.
ثانيا- التعاون في الشئون الاقتصادية والثقافية والاجتماعية وغيرها
1) تتعاون الدول العربية الممثلة في اللجنة تعاونا وثيقا في الشئون الآتية:
أ- الشئون الاقتصادية والمالية بما في ذلك التبادل التجاري والجمارك والعملة وأمور الزراعة والصناعة.
ب- شئون المواصلات بما في ذلك السكك الحديدية والطرق والطيران والملاحة والبرق والبريد.
ج- شئون الثقافة.
د- شئون الجنسية والجوازات والتأشيرات وتنفيذ الأحكام وتسليم المجرمين وما إلى ذلك.
هـ- الشئون الاجتماعية.
و- الشئون الصحية.
2) تؤلف لجنة فرعية من الخبراء لكل طائفة من هذه الشئون تمثل فيها الحكومات المشتركة في اللجنة التحضيرية وتكون مهمتها إعداد مشروع قواعد التعاون في الشئون المذكورة ومداه وأداته.(1/407)
3) تؤلف لجنة للتنسيق والتحرير تكون مهمتها مراقبة عمل اللجان الفرعية الأخرى وتنسيق ما يتم من أعمالها أولا فأول وصياغته في شكل مشروعات اتفاقات وعرضه على الحكومات المختلفة.
4) عندما تنتهي جميع اللجان الفرعية من أعمالها تجتمع اللجنة التحضيرية لتعرض عليها نتائج بحث هذه اللجان تمهيدا لعقد المؤتمر العربي العام.
ثالثا- تدعيم هذه الروابط في المستقبل
مع الاغتباط بهذه الخطوة المباركة ترجو اللجنة أن توفق البلاد العربية في المستقبل إلى تدعيمها بخطوات أخرى وبخاصة إذا أسفرت الأوضاع العالمية بعد الحرب القائمة عن نظم تربط بين الدول العربية بروابط أمتن وأوثق.
رابعا- قرار خاص بلبنان
تؤيد الدول العربية الممثلة في اللجنة التحضيرية احترامها لاستقلال لبنان وسيادته بحدوده الحاضرة وهو ما سبق لحكومات هذه الدول أن اعترفت به بعد أن انتهج سياسة استقلالية أعلنتها حكومته في بيانها الوزاري الذي نالت عليه موافقة المجلس النيابي اللبناني بالإجماع في 7 أكتوبر سنة 1943.
خامسا- قرار خاص بفلسطين
1) ترى اللجنة أن فلسطين ركن مهم من أركان البلاد العربية وأن حقوق العرب لا يمكن المساس بها من غير أضرار بالسلم والاستقرار في العالم العربية.
كما ترى اللجنة أن التعهدات التي ارتبطت بها الدولة البريطانية والتي تقضي بوقف الهجرة اليهودية والمحافظة على الأراضي العربية(1/408)
والوصول إلى استقلال فلسطين هي من حقوق العرب الثابتة التي تكون المبادرة إلى تنفيذها خطوة نحو الهدف المطلوب ونحو استتباب السلم وتحقيق الاستقرار.
وتعلن اللجنة تأييدها لقضية عرب فلسطين بالعمل على تحقيق أمانيهم المشروعة وصون حقوقهم العادلة.
وتصرح اللجنة بأنها ليست أقل تألما من أحد لما أصاب اليهود في أوروبا من الويلات والآلام على يد بعض الدول الأوروبية الدكتاتورية، ولكن يجب أن لا يخلط بين مسألة هؤلاء اليهود وبين الصهيونية، إذ ليس ظلما وعدوانا من أن تحل مسألة يهود أوروبا بظلم آخر يقع على عرب فلسطين على اختلاف أديانهم ومذاهبهم ..
2) يحال الاقتراح الخاص بمساهمة الحكومات والشعوب العربية في "صندوق الأمة العربية" لإنقاذ أراضي العرب في فلسطين إلى لجنة الشئون الاقتصادية والمالية لبحثه من جميع وجوهه وعرض نتيجة البحث على اللجنة التحضيرية في اجتماعها المقبل.
وإثباتا لما تقدم وقع هذا البروتوكول بإدارة جامعة فاروق الأول بالإسكندرية في يوم السبت 20 شوال سنة 1363 (الموافق 2 أكتوبر سنة 1944).
إمضاءات
مصطفى النحاس ... تحسين العسكري ... جميل مردم ...
أرشد العمري ... موسى مبارك ... ياض الصلح
أحمد نجيب الهلالي ... محمد صلاح الدين توفيق أبو الهدى ... نجيب الارمنازي
نوري السعيد ... سليم تقلا
سليمان سكر ... سعد الله الجابري ... صبري العسلي
محمد صبري أبو علم ... حمدي الباجه جي(1/409)
ملحق رقم (2)
ميثاق جامعة الدول العربية
إن حضرة صاحب الفخامة رئيس الجمهورية السورية
وحضرة صاحب السمو الملكي أمير شرق الأردن
وحضرة صاحب الجلالة ملك المملكة العربية السعودية
وحضرة صاحب الفخامة رئيس الجمهورية اللبنانية
وحضرة صاحب الجلالة ملك مصر
وحضرة صاحب الجلالة ملك اليمن
تثبيتا للعلاقات الوثيقة والروابط العديدة التي تربط بين الدول العربية وحرصا على دعم هذه الروابط وتوطيدها على أساس احترام استقلال تلك الدول وسيادتها، وتوجيها لجهودها إلى ما فيه خير البلاد العربية قاطبة وصلاح أحوالها وتأمين مستقبلها وتحقيق أمانيها وآمالها، واستجابة للرأي العربي العام في جميع الأقطار العربية.
قد اتفقوا على عقد ميثاق لهذه الغاية وأنابوا عنهم المفوضين الآتية أسماؤهم:
حضرة صاحب الفخامة رئيس الجمهورية السورية
قد أناب عن سوريا:
حضرة صاحب الدولة جميل مردم بك، وزير الخارجية.
حضرة صاحب السمو الملكي أمير شرق الأردن(1/410)
قد أناب عن شرق الأردن:
حضرة صاحب المعالي سمير الرفاعي باشا، رئيس الوزراء
حضرة صاحب الفخامة سعيد المفتي باشا، وزير الداخلية
حضرة صاحب العزة سليمان النابلسي بك، نائب سر الحكومة
حضرة صاحب الجلالة ملك العراق
قد أناب عن العراق:
حضرة صاحب المعالي السيد أرشد العمري، وزير الخارجية
حضرة صاحب الفخامة السيد علي جودة الأيوبي، وزير العراق المفوض بواشنطن.
حضرة صاحب المعالي السيد تحسين العسكري، وزير العراق المفوض بالقاهرة.
حضرة صاحب الجلالة ملك المملكة العربية السعودية
قد أناب عن المملكة العربية السعودية
سعادة الشيخ يوسف ياسين، نائب وزير خارجية المملكة العربية السعودية
سعادة السيد خير الدين الزركلي، مستشار مفوضية المملكة العربية السعودية بالقاهرة.
حضرة صاحب الفخامة رئيس الجمهورية اللبنانية قد أناب عن لبنان
حضرة صاحب الدولة السيد عبد الحميد كرامي، رئيس الوزراء
سعادة السيد يوسف سالم وزير لبنان المفوض بالقاهرة
حضرة صاحب الجلالة ملك مصر
قد أناب عن مصر:
حضرة صاحب الدولة محمود فهمي النقراشي باشا، رئيس مجلس الوزراء(1/411)
حضرة صاحب السعادة محمد حسين هيكل باشا، رئيس مجلس الشيوخ
حضرة صاحب المعالي عبد الحميد بدوي باشا، وزير الخارجية
حضرة صاحب المعالي مكرم عبيد باشا، وزير المالية
حضرة صاحب المعالي محمد حافظ رمضان باشا، وزير العدل
حضرة صاحب المعالي عبد الرزاق أحمد السنهوري بك وزير المعارف العمومية
حضرة صاحب العزة عبد الرحمن بك الوزير المفوض بوزارة الخارجية
حضرة صاحب الجلالة ملك اليمن
قد أناب عن اليمن:
السيد حسين الكيسي ...
الذين بعد تبادل وثائق تفويضهم التي تخولهم سلطة كاملة والتي وجدت صحيحة ومستوفاة الشكل قد اتفقوا على ما يأتي:
مادة 1: تتألف جامعة الدول العربية من الدول العربية المستقلة الموقعة على هذا الميثاق.
ولكل دولة عربية مستقلة الحق في أن تنضم إلى الجامعة، فإذا رغبت في الانضمام قدمت طلبا بذلك يودع لدى الأمانة العامة الدائمة ويعرض على المجلس في أول اجتماع يعقد بعد تقديم الطلب.
مادة 2: الغرض من الجامعة توثيق الصلات بين الدول المشتركة فيها وتنسيق خططها السياسية تحقيقا للتعاون بينها وصيانة لاستقلالها وسيادتها والنظر بصفة عامة في شئون البلاد العربية ومصالحها.
كذلك من أغراضها تعاون الدول المشتركة فيها تعاونا وثيقا بحسب نظم كل دولة منها وأحوالها في الشئون الآتية:(1/412)
1) الشئون الاقتصادية والمالية ويدخل في ذلك التبادل التجاري والجمارك والعملة وأمور الزراعة والصناعة.
ب) شئون المواصلات ويدخل في ذلك السكك الحديدية والطرق والطيران والملاحة والبرق والبريد.
ج) شئون الثقافة.
د) شئون الجنسية والجوازات والتأشيرات وتنفيذ الأحكام وتسليم المجرمين.
هـ) الشئون الاجتماعية.
و) الشئون الصحية.
مادة 3: يكون للجامعة مجلس يتألف من ممثلي الدول المشتركة في الجامعة ويكون لكل منها صوت واحد مهما يكن عدد ممثليها، وتكون مهمته القيام على تحقيق أغراض الجامعة ومراعاة تنفيذ ما تبرمه الدول المشتركة فيها من اتفاقات في الشئون المشار إليها في المادة السابقة وفي غيرها.
ويدخل في مهمة المجلس كذلك تقرير وسائل التعاون مع الهيئات الدولية التي قد تنشأ في المستقبل لكفالة الأمن والسلام ولتنظيم العلاقات الاقتصادية والاجتماعية.
مادة 4: تؤلف لكل من الشئون المبينة في المادة الثانية لجنة خاصة تمثل فيها الدول المشتركة في الجامعة وتتولى هذه اللجان وضع قواعد التعاون ومداه وصياغتها في شكل مشروعات اتفاقات تعرض على المجلس للنظر فيها تمهيدا لعرضها على الدول المذكورة.
ويجوز أن يشترك في اللجان المتقدم ذكرها أعضاء يمثلون البلاد العربية الأخرى، ويحدد المجلس الأحوال التي يجوز فيها اشتراك أولئك الممثلين وقواعد التمثيل.(1/413)
مادة 5: لا يجوز الالتجاء إلى القوة لفض المنازعات بين دولتين أو أكثر من دول الجامعة، فإذا نشبت بينهما خلاف لا يتعلق باستقلال الدولة أو سيادتها أو سلامة أراضيها ولجأ المتنازعون إلى المجلس لفض هذا الخلاف كان قراره عندئذ نافذا وملزما، وفي هذه الحالة لا يكون للدول التي وقع بينها الخلاف الاشتراك في مداولات المجلس وقراراته.
ويتوسط المجلس في الخلاف الذي يخشى منه وقوع حرب بين دولة من دول الجامعة وبين أية دول أخرى من دول الجامعة أو غيرها للتوفيق بينهما.
وتصدر قرارات التحكيم والقرارات الخاصة بالتوسط بأغلبية الآراء.
مادة 6: إذا وقع اعتداء من دولة على دولة من أعضاء الجامعة أو خشي وقوعه فللدولة المعتدى عليها أو المهددة بالاعتداء أن تطلب دعوة المجلس للانعقاد فورا.
ويقرر المجلس التدابير اللازمة لدفع هذا الاعتداء ويصدر القرار بالإجماع فإذا كان الاعتداء من إحدى دول الجامعة، لا يدخل في حساب الإجماع رأي الدولة المعتدية.
وإذا وقع الاعتداء بحيث يجعل حكومة الدولة المعتدى عليها عاجزة عن الاتصال بالمجلس فلممثل تلك الدولة فيه أن يطلب انعقاده للغاية المبينة في الفقرة السابقة، وإذا تعذر على الممثل الاتصال بمجلس الجامعة حق لأي دولة من أعضائها أن تطلب انعقاده.
مادة 7: وما يقرره المجلس بالإجماع يكون ملزما لجميع الدول المشتركة في الجامعة، وما يقرره المجلس بالأكثرية يكون ملزما لمن يقبله.(1/414)
وفي الحالتين تنفذ قرارات المجلس في كل دولة وفقا لنظمها الأساسية.
مادة 8: تحترم كل دولة من الدول المشتركة في الجامعة نظام الحكم القائم في دول الجامعة الأخرى وتعتبره حقا من حقوق تلك الدول وتتعهد بأن لا تقوم بعمل يرمي إلى تغيير ذلك النظام فيها.
مادة 9: لدول الجامعة العربة الراغبة فيما بينها في تعاون أوثق وروابط أقوى مما نص عليه هذا الميثاق أن تعقد بينها من الاتفاقات ما تشاء لتحقيق هذه الأغراض، والمعاهدات والاتفاقات التي سبق أن عقدتها أو التي تعقدها فيما بعد من دولة دول الجامعة مع أية دولة أخرى لا تلزم ولا تقيد الأعضاء الآخرين.
مادة 10: تكون القاهرة المقر الدائم لجامعة الدول العربية ولمجلس الجامعة أن يجتمع في أي مكان آخر يعينه.
مادة 11: ينعقد مجلس الجامعة انعقادا عاديا مرتين في العام في كل من شهري مارس وسبتمبر وينعقد بصفة غير عادية كلما دعت الحاجة إلى ذلك بناء على طلب دولتين من دول الجامعة.
مادة 12: يكون للجامعة أمانة عامة دائمة تتألف من أمين عام وأمناء مساعدين وعدد كاف من الموظفين، ويعين مجلس الجامعة بأكثرية ثلثي دول الجامعة الأمين العام، ويعين الأمين العام بموافقة المجلس الأمناء المساعدين والموظفين الرئيسيين في الجامعة.
ويضع مجلس الجامعة نظاما داخليا لأعمال الأمانة العامة وشئون الموظفين، ويكون الأمين العام في درجة سفير والأمناء المساعدون في درجة وزراء مفوضين ويعين في ملحق لهذا الميثاق أول أمين عام للجامعة.(1/415)
مادة 13: يعد الأمين العام مشروع ميزانية الجامعة ويعرضه على المجلس للموافقة عليه قبل بدء كل سنة مالية.
ويحدد المجلس نصيب كل دولة من دول الجامعة في النفقات، ويجوز أن يعيد النظر فيه عند الاقتضاء.
مادة 14: يتمتع أعضاء مجلس الجامعة وأعضاء لجانها وموظفوها الذين ينص عليهم في النظام الداخلي بالامتيازات وبالحصانة الدبلوماسية أثناء قيامهم بعملهم، وتكون مصونة حرمة المباني التي تشغلها هيئات الجامعة.
مادة 15: ينعقد المجلس للمرة الأولى بدعوة من رئيس الحكومة المصرية وبعد ذلك بدعوة من الأمين العام ويتناوب ممثلو دول الجامعة رئاسة المجلس في كل انعقاد عادي.
مادة 16: فيما عدا الأحوال المنصوص عليها في هذا الميثاق يكتفي بأغلبية الآراء لاتخاذ المجلس قرارات نافذة في الشئون الآتية:
أ) شئون الموظفين
ب) إقرار ميزانية الجامعة.
ج) وضع نظام داخلي لكل من المجلس واللجان والأمانة العامة.
د) تقرير أدوار الاجتماع.
مادة 17: تودع الدول المشتركة في الجامعة الأمانة العامة نسخا من جميع المعاهدات والاتفاقات التي عقدتها أو تعقدها مع أية دولة أخرى من دول الجامعة أو غيرها.
مادة 18: إذا رأت إحدى دول الجامعة أن تنسحب منها أبلغت المجلس عزمها على الانسحاب قبل تنفيذه بسنة، ولمجلس الجامعة أن يعتبر أية دولة لا تقوم(1/416)
بواجبات هذا الميثاق منفصلة عن الجامعة وذلك بقرار يصدر بإجماع الدول عدا الدولة المشار إليها.
مادة 19: يجوز بموافقة ثلثي دول الجامعة تعديل هذا الميثاق وعلى الخصوص لجعل الروابط بينها أمتن وأوثق ولإنشاء محكمة عدل عربية ولتنظيم صلات الجامعة بالهيئات الدولية التي قد تنشأ في المستقبل لكفالة الأمن والسلام.
ولا يبت في التعديل إلا في دور الانعقاد التالي للدور الذي يقدم فيه الطلب، وللدولة التي لا تقبل التعديل أن تنسحب عند تنفيذه دون التقيد بأحكام المادة السابقة.
مادة 20: يصدق على هذا الميثاق وملاحقه وفقا للنظم الأساسية المرعية في كل من الدول المتعاقدة وتودع وثائق التصديق لدى الأمانة العامة ويصبح الميثاق نافذا من قبل من صدق عليه بعد انقضاء خمسة عشر يوما من تاريخ استلام الأمين العام وثائق التصديق من أربع دول.
حرر هذا الميثاق باللغة العربية في القاهرة بتاريخ 8 ربيع الثاني سنة 1314 (22 مارس سنة 1945) من نسخة واحدة تحفظ في الأمانة العامة. وتسلم صورة منها مطابقة للأصل لكل دولة من دول الجامعة.
ملحق خاص بالتعاون مع البلاد العربية غير المشتركة في
مجلس الجامعة
نظرا لأن الدول المشتركة في الجامعة ستباشر في مجلسها وفي لجانها شئونا يعود خيرها وأثرها على العالم العربي كله، ولأن أماني البلاد العربية غير المشتركة في المجلس ينبغي له أن يرعاها وأن يعمل على تحقيقها.(1/417)
فإن الدول الموقعة على ميثاق الجامعة العربية يعنيها بوجه خاص أن توصي مجلس الجامعة، عند النظر في إشراك تلك البلاد في اللجان المشار إليها في الميثاق بأن يذهب في التعاون معها إلى أبعد مدى مستطاع، وفيما عدا ذلك بألاّ يدخر جهدا لتعرف حاجاتها وتفهم أمانيها وآمالها، وبأن يعمل بعد ذلك على إصلاح أحوالها وتأمين مستقبلها بكل ما تهيؤه الوسائل السياسية من أسباب.
ملحق خاص بفلسطين
منذ نهاية الحرب العظمى الماضية، سقطت عن البلاد العربية المنسلخة من الدولة العثمانية، ومنها فلسطين، ولاية تلك الدولة، وأصبحت مستقلة بنفسها، غير تابعة لأية دولة أخرى، وأعلنت معاهدة لوزان أن أمرها لأصحاب الشأن فيها، وإذا لم تكن قد مكنت من تولي أمورها فإن ميثاق العصبة سنة 1919، لم يقرر النظام الذي وضعه لها إلا على أساس الاعتراف باستقلالها فوجودها واستقلالها الدولي من الناحية الشرعية أمر لا شك فيه، كما أنه لا شك في استقلال البلاد العربية الأخرى، وإذا كانت المظاهر الخارجية لذلك الاستقلال ظلت محجوبة لأسباب قاهرة فلا يسوغ أن يكون ذلك حائلا دون اشتراكها في أعمال مجلس الجامعة.
ولذلك ترى الدول الموقعة على ميثاق الجامعة العربية أنه نظرا لظروف فلسطين الخاصة وإلى أن يتمتع هذا القطر بممارسة استقلاله فعلا، يتولى مجلس الجامعة أمر اختيار مندوب عربي من فلسطين للاشتراك في أعماله.(1/418)
ملحق خاص بتعيين الأمين العام للجامعة
اتفقت الدول الموقعة على هذا الميثاق على تعيين سعادة عبد الرحمن عزام بك أمينا عاما لجامعة الدول العربية.
ويكون تعيينه لمدة سنتين، ويجدد مجلس الجامعة فيما بعد النظام المستقبل للأمانة العامة.(1/419)
ملحق رقم (3)
البيان الذي أذاعته الحكومات العربية باستنكارالتقسيم
في تاريخ 17 كانون الأول 1947
منذ تلاقت أغراض الاستعمار وأطماع الصهيونية على إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين وعرب هذه البلاد في محنة، تفرض القوة عليهم جماعات أجنبية عنهم تأتيهم من الغرب والشرق بلغاتها وعادتها ومذاهبها الاجتماعية، ولا تلبث هذه الجماعات أن تنتزع من العرب بشتى الوسائل أراضيهم وموارد رزقهم، وهي اليوم تستلبهم أوطانهم، وقد مدت الدولة المنتدبة هؤلاء الدخلاء بالمعونة فمكنتهم من إنشاء جيش مدرب مسلح انقلب في السنين الأخيرة إلى أداة إرهاب وأداة شر على البلاد جميعا بما عاثوا فيها من فساد.وقد بصرت حكومات الدول العربية المنتدبة وغيرها في مناسبات كثيرة وبطرق شتى وفي مؤتمرات متعددة بسوء المنقلب في فلسطين وكاشفتها العاقبة الوخيمة لعملها وعمل الصهيونيين وما يؤدي إليه من حروب وفتن بين المسلمين والمسيحيين من ناحية واليهود من ناحية أخرى تعم الشرق بأسره وقد تمتد أحقابا طويلة، ولما تفاقمت الحالة في فلسطين وعجزت الدولة المنتدبة عن حفظ الأمن والنظام عرضت أمر الانتداب على هيئة الأمم المتحدة فأدت وفود الدول العربية في دورتي الجمعية العامة واجبها كاملا وأظهرت حق العرب وبغي الصهيونية، وأنذرت بالعواقب الوخيمة إذا ما تجاهلت الجمعية مبادئ الحق والديمقراطية ولكن لشديد الأسف(1/420)
تنكرت الجمعية لذات المبادئ التي تضمنها ميثاقها فأوصت بتقسيم فلسطين وإقامة دولة يهودية فيها، وهي بذلك قد هدرت حق كل شعب في اختيار مصيره وتقريره، وأخلت بمبادئ الحق والعدالة جميعا، وهي قد رسمت للتقسيم حدودا غير قابلة للتنفيذ وتجعله أيضا مصدر الاضطراب والفتنة، فأدخلت فيما سمته بالدولة اليهودية أجود أراضي العرب وأوسعها رقعة وأكبر موارد الثروة الاقتصادية في البلاد وأخطرها شأنا ووضعت نصف مليون من العرب مسيحيين ومسلمين تحت نير الصهيونيين وسيف إرهابهم وهم أنفسهم لا يتجاوزون عدد العرب الذين يراد وضعهم تحت سلطان الصهيونية الدخيلة وذلك بعد أن نزعت الدولة المنتدبة من العرب سلاحهم ومكنت الصهيونية من رقابهم. وقد استفز هذا الوضع الظالم الشرق بأسره بل كثرة سكان العالم أجمع فهبت الشعوب العربية والإسلامية جميعا مندفعة لإزهاق الباطل وإحقاق الحق وإنقاذ عرب فلسطين المستضعفين في أراضيهم وديارهم، وحكومات دول الجامعة العربية تقف صفا واحدا في جانب شعوبها في نضالها لدفع الظلم عن إخوانهم العرب وتمكينهم من الدفاع عن أنفسهم ولتحقيق استقلال فلسطين ووحدتها، وقد قرر رؤساء وممثلو هذه الحكومات في اجتماعهم بالقاهرة أن التقسيم باطل من أساسه، وقرروا كذلك عملا بإرادة شعوبهم أن يتخذوا من التدابير الحاسمة ما هو كفيل بعون الله بإحباط مشروع التقسيم الظالم ونصرة حق العرب، وسيرى العالم استحالة أخذ العرب بالعنف وإخضاعهم للقوة أيا كان مصدرها وسيرى العالم أن العرب حين دعوا إلى التمسك بقواعد الحق والعدل وحين نذروا بعواقب المغامرة الصهيونية إنما كانوا طلاب حق وعدل بين الناس جميعا راغبين في استبعاد أسباب الفتن والاضطراب في الشرق الأوسط حريصين على إقرار السلام في ربوعه.(1/421)
وسيرى العالم كذلك أن الذين عملوا على تقسيم فلسطين دون تدبر العواقب يتحملون وحدهم مسؤولية الفتن والاضطرابات التي أثارتها والتي لا يعلم مداها، أما وقد تغلبت الشهوات والأغراض حتى في ساحة الأمم المتحدة وأغلقت أبواب الحق والعدل في وجوه العرب فإنهم قد وطدوا العزم على خوض المعركة التي حملوا عليها وعلى السير بها حتى نهايتها الظافرة بإذن الله فتستقر مبادئ الأمم المتحدة في نصابها السليم وتسود في الأراضي المقدسة مبادئ العدالة والمساواة بين الناس أجمعين.(1/422)
ملحق رقم (4)
رد الدول العربية على اقتراح مجلس الأمن بقبول الهدنة في 2 حزيران سنة 1948
أولا: لقد أعلنت حكومات الدول العربية في ردها على الدعوة الأولى الموجهة إليها من مجلس الأمن بالغرض نفسه في 22 مايو الماضي أن أحب شيء إليها هو أن يعود السلام إلى ربوع فلسطين وأن ترى اليوم الذي يعيش فيه أهالي فلسطين من عرب ويهود جنبا إلى جنب في وئام وتفاهم تام، كما وضحت الأسباب التي من أجلها رفضت قبول تلك الدعوة ولفتت النظر إلى الضمانات التي بدونها لن يكون وقف القتال الدائم في فلسطين إلا استراحة مؤقتة تمهد لاضطرابات أوسع مدى وإرهاب أشد وطأة وأكثر مرارة.
ثانيا: إنه لمن دواعي الارتياح أن كانت ملاحظاتها محل عناية مجلس الأمن وتقديره، وما وقف القتال إلا وسيلة تمكن من إيجاد حل عادل طال انتظاره لقضية فلسطين، ولذلك يسر الدول العربية أن تسجل ما جاء في قرار مجلس الأمن من تكليف الوسيط المعين من قبل الأمم المتحدة أن يتصل بمجرد وقف القتال بجميع الأطراف للاضطلاع بمهامه التي عهدت إليه بها الجمعية العامة بقرارها الصادر في 14 مايو الماضي.
ثالثا: من بين هذه المهام بل وفي مقدمتها الوصول إلى حل سلمي عادل لهذه القضية، وإن حكومات الدول العربية لعلى يقين من أن الوسيط المعين من قبل هيئة الأمم المتحدة وأعضاء لجنة الهدنة التي عينها مجلس الأمن في 22(1/424)
ابريل سنة 1948 سوف يرون بأنفسهم أن كل حل لا يحفظ لفلسطين وحدتها السياسية ولا يراعي فيه إرادة غالبية أهالي فلسطين لن يكون له أي حظ من النجاح.
رابعا: ولا شك أنه مما يتعارض مع الغرض الذي من أجله طلب وقف القتال أن تفتح منافذ فلسطين التي بيد الصهيونيين الآن على مصراعيها لتتلقى سيل المهاجرين من اليهود الذين هم في سن حمل السلاح والذين يرقبون أول فرصة لدخول فلسطين أفواجا قادمين من مختلف الموانئ في أوروبا وإفريقيا. ولقد درب معظمهم أقوى تدريب على أعمال القتال ولا غرض لهم من دخول فلسطين إلا الانضمام إلى العصابات الإرهابية الصهيونية. وفي ذلك أكبر تهديد لكيان عرب فلسطين ولاستقرار الأمن في البلاد العربية والشرق الأوسط.
خامسا: ولا يمكن أن يكون قصد مجلس الأمن قد اتجه إلى السماح للصهيونيين بالإفادة من فترة وقف القتال للاستزادة من الرجال الذين وإن وصلوا إلى فلسطين بشكل مهاجرين إلا أنهم في واقع الأمر محاربون مدربون تنطبق عليهم بطبيعة الحال الفقرة الثانية من قرار مجلس الأمن الخاصة بعدم السماح للأفراد المحاربين بدخول فلسطين أثناء فترة وقف القتال.
سادسا: وأخيرا يهم حكومات الدول العربية أن تكون هنالك هيئة موفورة الضمانات تتولى الإشراف على تنفيذ أحكام قرار مجلس الأمن الخاصة بوقف القتال وشروطه بكل دقة وعناية وأن تكون قادرة على الاضطلاع بتلك المهمة الخطيرة.(1/425)
سابعا: ولا ترى الحكومات الدول العربية أن قرار مجلس الأمن في هذه الناحية يطمئنها على احترام الطرف الآخر لأحكام وقف القتال وشروطه. ومن أجل ذلك فإنه يهمها بوصفها أعضاء في منظمة إقليمية مسئولة عن حفظ الأمن في ساحتها أن تتعاون مع الوسيط المعين من قبل هيئة الأمم المتحدة ومع أعضاء هيئة الهدنة لفلسطين تعاونا صادقا في الإشراف على تنفيذ تلك الأحكام والشروط.
ثامنا: وعلى ضوء هذه الإيضاحات توافق الدول العربية الحريصة على أن يستقر السلام في ربوع فلسطين تمكينا من الوصول إلى الحل العادل للقضية الفلسطينية على أن تلبى دعوة مجلس الأمن إلى وقف القتال لمدة أربعة أسابيع ابتداء من الوقت الذي تقرر بذلك.
تاسعا: وإن في تلبية الدول العربية لهذه الدعوة مع إخفاق جميع المحاولات التي بذلت حتى الآن لحل قضية فلسطين حلا عادلا بسبب تعنت الصهيونيين لأكبر دليل على صدق رغبتها في التعاون مع الأمم المتحدة للوصول إلى هذا الحل بالرغم من تمكن جيوشها من ناصية الأمر.(1/426)