الآيات البينات
في ذكر ما في أعضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من المعجزات
تأليف
أبي الخطاب عمر بن الحسن ابن دحية الكلبي الأندلسي السبتي
المتوفى سنة 633هـ
رحمه الله تعالى
دراسة وتحقيق
جمال عزون
مكتبة العمرين العلمية
الطبعة الأولى
1420 هـ - 2000 م(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمد الله حمداً نستعجل به مزيد قبوله ورضوانه، ونستقبل به جديد روحه وريحانه، ونتوكل على سعة رحمته وغفرانه، ونبذل الوسع في خدمة النبي الأمي الذي أعلمنا برفع شانه، ونستعمل ألسنتنا في مدحه الدال على حبه الذي هو أحد واجبات المرء في إيمانه، وندخل بعظيم بركته ويمن منقبته في أمن الله وأمانه، ونحصل في الدنيا في رضاه وفي الآخرة في غرفات جنانه، ونجعل خاتمة عمرنا في ذكر خاتم النبيين وسيد المرسلين بما يطابق من سر الذكر وإعلانه، صلى الله عليه وعلى آله صلاةً تمكنه من درجة الوسيلة في رفيع مكانه.
أما بعد:
فإن الواجب الاشتغال بكتاب الله المنزل، وبما صح من سنة النبي المرسل؛ فإنهما الأصلان اللذان يقربان إلى الله تعالى بالقول والعمل، وقد ألفت في ذلك كتباً عديدة، قطعت لها من العمر مدةً مديدة، رجوت فيها ثواب الله تعالى في الأخرى وما يقرب منه يوم الزلفى، وقد رأيت الآن أن(1/199)
أختم ذلك بما خص الله به أعضاء رسوله، وما مدحها به في محكم تنزيله، وما ظهر لها من المعجزات، المسندة الطرق والروايات، مما استفدته شرقاً وغرباً من ذوي الدرايات، لينفعني الله به والقارئين له في المحيا والممات، فهو كتابٌ يزهو على المصنفات، لم يأت أحدٌ بمثله ولا هو آتٍ، فأقول والله حسبي ونعم الوكيل:
إن الله مدح وجه النبي صلى الله عليه وسلم فقال جل من قائلٍ: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلةً ترضاها}، فبسبب تقلب وجهه حول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة جهراً، بعد أن صلى إليها ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، على ما ثبت باتفاق، عند علماء الآفاق.
فكانت بركة وجهه في التقلب معطيةً لرضاه، في إعطائه قبلةً يرضاها فيما اقتضاه.
وفيه كرامةٌ عظيمةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم، حيث أعطاه الله ذلك ولم يسأل ولا صرح ولا تكلم.
وفي قوله تبارك وتعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء} تأويلاتٌ ثلاثةٌ:(1/200)
أحدها: أن معناه تحويل وجهك في السماء، قاله أبو جعفرٍ الطبري وأبو إسحاق إبراهيم بن السري المعروف بالزجاج.
الثاني: أن معناه تقلب عينيك في النظر في السماء، قاله الزجاج.
الثالث: ذكره القاضي أبو الحسن علي بن محمد الماوردي فيما حدثني به الوزير الكاتب أبو بكر عبد الرحمن بن محمد بن مغاور، حدثنا القاضي الشهيد أبو علي الصدفي، حدثنا أبو [غالبٍ] شجاع [بن](1/201)
فارس بن الحسين الذهلي السهروردي عنه أن معناه:
قد نرى تقلب وجهك في السماء، وإن كان الله تعالى يرى من كل مكانٍ ولا يتحيز إلى مكانٍ، فالمراد بذكر السماء إعظام تقلب وجهه لأن السماء مختصةٌ بتعظيم ما أضيف إليها.
{فلنولينك قبلةً ترضاها} يعني الكعبة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرضاها ويختارها لأنها كانت قبلة أبيه إبراهيم.
ومعنى الرضا هاهنا لا يقدح في كونه صلى الله عليه وسلم مؤتمراً بما كان الله تعالى أمره به من التوجه إلى بيت المقدس، بل ذلك الرضا المتعلق بالكعبة هو محبتها وإرادتها حتى فعل الله له ما أراد إكراماً، وقضى بإرادته إعظاماً.
ومدح عينيه فقال جل من قائلٍ: {ما زاغ البصر وما طغى}.
وما: حرف نفيٍ.
والبصر: رفعٌ بزاغ.
وما طغى: عطفٌ على ما زاغ.(1/202)
وصفه جلت قدرته بالثبوت والتحقيق، وصحة نظره بالتصديق.
ومعنى ما زاغ: ما عدل عما أريه ليلة الإسراء.
وما طغى: ما طلب أن يرى غير ذلك ولا جاوز ما أمر به فطغى أي فارتفع عن الحد الذي حد له، وهو قول ابن عباسٍ وجماعةٍ من العلماء.
وقد تكلمنا على ذلك في كتاب ((الابتهاج في أحاديث المعراج))، وسأذكر في بصره ما جاء ثابتاً بالاتفاق عن علماء الآفاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى من خلفه كما يرى من أمامه، مما يزيد به أجر المرء في إحكامه.
ومدح لسانه فقال وهو أصدق القائلين: {لا تحرك به لسانك لتعجل به}، وذلك فيما ثبت وصح من رواية موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله تعالى: {لا تحرك به لسانك لتعجل به} قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي وكان مما يحرك به لسانه وشفتيه فيشتد عليه وكان يعرف منه فأنزل الله تعالى(1/203)
الآية التي في {لا أقسم بيوم القيامة}: {لا تحرك به لسانك لتعجل به}.
[ومدح يديه فقال] جل من قائلٍ: {ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك}.
وقال جل من قائلٍ: {وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمةٍ من ربك ترجوها فقل لهم قولاً ميسوراً}.
أي إن أعرضت عن إعطائهم لضيق يدٍ فأحسن القول، وابسط العذر، وادع لهم بسعة الرزق، وقل: إذا وجدت فعلت وأكرمت.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا سئل وليس عنده ما يعطي سكت انتظاراً لرزقٍ يأتي من الله كراهية الرد، فنزلت هذه الآية، فكان إذا سئل ولم يكن عنده ما يعطي قال: يرزقنا الله وإياكم من فضله، يعني قوله: {قل لهم قولاً ميسوراً}.
{ابتغاء رحمةٍ من ربك ترجوها}: ليس يريد بذلك سبب الإعراض بل هو إشارةٌ إلى حالة الإضاقة أي إن تعرض عن السائل إضافةً(1/204)
وإعساراً في حالةٍ ترجو رحمة الله فقل له قولاً جميلاً ميسوراً، من يسرت القول له أيسره أي لينته، وقيل: هو ما يتيسر من القول الجميل.
وقوله تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولةٌ إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً} علمه تبارك وتعالى أدب الإنفاق وأمره بالاقتصاد.
قال جابر وابن مسعود: ((جاء غلامٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمي تسألك كذا وكذا فقال: ما عندنا اليوم شيءٌ، قال فتقول لك: اكسني قميصك، فخلع قميصه فدفعه إليه وجلس في البيت عارياً)).
وفي رواية جابر: ((فأذن بلالٌ للصلاة، وانتظروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يخرج، واشتغلت القلوب، فدخل بعضهم فإذا هو عارٍ، فنزلت هذه الآية)).
والغل: الإدخال وغل في الغنيمة إذا خان فأدخلها في .. ..(1/205)
[وقوله تعالى: {وإما تعرضن عنهم} الضمير في {عنهم} عائدٌ على من تقدم ذكره من المساكين وبني السبيل، فأمر الله تعالى نبيه في هذه الآية إذا سأله منهم أحدٌ فلم يجد عنده ما يعطيه فقابله رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإعراض تأدباً منه في] أن [لا] يرده تصريحاً وانتظاراً برزقٍ من الله تعالى يأتي فيعطي منه أن تكون منه توليةٌ بالقول الميسور وهو الذي فيه الترجية بفضل الله تعالى، والتأنيس بالميعاد الحسن، والدعاء في توسعة الله وعطائه، وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول بعد نزول هذه الآية -إذ لم يكن عنده ما يعطي-: ((يرزقنا الله وإياكم من فضله))؛ فالرحمة على هذا التأويل الرزق المنتظر، وهذا قول ابن عباس ومجاهدٍ وعكرمة.
وقال ابن زيدٍ: الرحمة الأجر والثواب، وإنما نزلت الآية في قومٍ كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأبى أن يعطيهم لأنه كان يعلم منهم نفقة المال في فسادٍ، فكان يعرض عنهم رغبةً في الأجر في منعهم لئلا يعينهم(1/206)
على فسادهم، فأمره الله بأن يقول لهم قولاً ميسوراً يتضمن الدعاء في الفتح لهم والإصلاح.
وقال بعض أهل التأويل: نزلت الآية في عمار بن ياسر وصنفه.
والميسور: مفعولٌ من اليسر تقول: يسرت لك كذا إذا أعددته.
وقوله: {ولا تعجل يدك} الآية استعير لليد المقبوضة جملةً عن الإنفاق المتصلة بالبخل الغل إلى العنق، واستعير لليد التي تستنفد جميع ما عندها غاية البسط ضد الغل.
وكل هذا في إنفاق الخير، وأما إنفاق الفساد فقليله وكثيره حرامٌ، وهذه الآية ينظر إليها قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديدٍ)).
هكذا ترجم عليه البخاري في ((صحيحه)) قال: وحدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيبٌ، قال: أخبرنا أبو الزناد، أن عبد الرحمن حدثه أنه سمع أبا هريرة، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديدٍ من ثديهما إلى تراقيهما، فأما(1/207)
المنفق [فلا ينفق] إلا سبغت أو وفرت على جلده حتى تخفي ثيابه وتعفو أثره، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئاً إلا لزقت كل حلقةٍ مكانها، فهو يوسعها فلا تتسع)).
أتقن البخاري هذا الحديث، ووقع عند مسلمٍ فيه اختلاف ألفاظٍ، وذكر البخاري بعد إسناده: جبتان أو جنتان، والنون أصوب، وكذلك اختلف فيه رواة مسلمٍ.(1/208)
وجمع الثدي بفتح الثاء وسكون الدال ثدي بضم الثاء وكسر الدال.
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((فلا ينفق إلا سبغت أو وفرت على جلده)) أي كملت وطالت حتى تخفي بنانه.
وكلامه -أعني القاضي أبا محمد بن عطية- طويلٌ.
وقال الفقيه النحوي الكبير أبو الحسن علي بن سعيد بن يوسف بن سعيد الحوفي في كتاب ((البرهان)) له -وهو عندي في ثلاثين مجلداً- أجازه لي شيخنا الفقيه المقرئ النحوي المحدث الفاضل أبو بكر محمد بن خيرٍ، عن الفقيه المحدث أبي الأصبغ الشنتريني، قال حدثني به النحوي(1/209)
أبو الحسن طاهر بن بابشاذ، قال: سمعت الإمام النحوي أبا الحسن يقول -في قوله جل وعلا: {وإما تعرضن عنهم} الآية-:
((المعنى -والله أعلم- وإن تعرض يا محمد عن هؤلاء الذين أمرتك أن تؤتيهم حقوقهم إذا وجدت إليها السبيل بوجهك حياءً منهم ورحمةً لهم {ابتغاء رحمةٍ من ربك} يقول: انتظار رزقٍ تنتظره وترجوه من ربك فلا تأيسهم ولكن عدهم وعداً جميلاً وهو القول الميسور تقول: سيرزق الله فأعطيكم وما أشبه ذلك من القول اللين غير الغليظ كما قال: {وأما السائل فلا تنهر}.
قال عكرمة وابن عباسٍ: عدةً حسنةً.
وقال قتادة والضحاك: نزلت فيمن كان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم من المساكين.
وقوله تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك} هذا مثلٌ ضربه الله للممتنع من الإنفاق في الحقوق التي أوجبها في أموال ذوي الأموال(1/210)
فجعله كالمشدودة يده إلى عنقه التي لا يقدر على الأخذ بها والإعطاء، وإنما معنى الكلام: ولا تمسك يدك يا محمد بخلاً عن التقدم في حقوق الله فلا تنفق فيها شيئاً إمساك المغلولة يده إلى عنقه الذي لا يستطيع بسطها، ولا تبسطها بالعطية كل البسط فتبقى لا شيء عندك، ولا تجد إذا سئلت شيئاً تعطيه سائلك فتقعد يلومك سائلوك إذا لم تعطهم وتلومك نفسك على الإسراع في مالك وذهابه.
وقوله: {محسوراً} أي معيباً قد انقطع بك لا شيء عندك تنفقه، من قولهم للدابة التي قد سير عليها حتى انقطع سيرها وكلت من السير: دابةٌ حسيرٌ يقال منه: حسرت الدابة فأنا أحسرها وأحسرها حسراً وذلك إذا أنضيتها بالسير، وحسرته بالمسألة إذا سألته فألحفت، وحسر البصر فهو يحسر وذلك إذا بلغ أقصى المنظر فكل، ومنه قوله تعالى: {ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسيرٌ}.
قال الحسن: مغلولة عن النفقة، ولا تبسطها تبذر تسرف، وهو معنى قول ابن عباس.
وقال ابن زيدٍ: ولا تبسطها كل البسط في الحق والباطل فيأتيك من يريد أن تعطيه كما أعطيت هؤلاء فلا تجد ما تعطيه، فيلومك هؤلاء حين(1/211)
أعطيت هؤلاء ولم تعطهم)).
وقال عمر بن الخطاب:
((والله لقد بلغ من جودك عند الله أن كفك عن بعض ذلك في كتابه فقال جل من قائلٍ: {ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً} قال ذلك يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم )).
رواه عبد الملك بن حبيب السلمي وغيره، وذكره نسابة الأندلس في زمانه المحدث أبو محمد عبد الله بن علي اللخمي المعروف بالرشاطي في كتاب ((اقتباس الأنوار والتماس الأزهار في أنساب الصحابة ورواة الآثار، وقد حدثني عنه عشرون شيخاً رحم الله جميعهم ورحمنا بعدهم.(1/212)
ومدح صدره فقال تعالى: {ألم نشرح لك صدرك}، وبهذه السورة بان الصدق من المين، وتبين الصبح لذي عينين، وفرق بين المنزلتين: {رب اشرح لي صدري} و{ألم نشرح لك صدرك} لنبي الحرمين، وصفه بالثلج واليقين، وذكره بغسل قلبه بماء زمزم المعين، على ما سنذكره ونبينه بأوضح التبيين، فكان لما شجوا وجهه وكسروا رباعيته ذكر لقومه حاكياً نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)).
هذا في ((صحيح البخاري)) وفي ((صحيح مسلم)): ((رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)).
وهذا كله من انشراح الصدر وسعته، وحسن الخلق وطيبته، قال الله العظيم: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن(1/213)
يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء}، فشرح الله صدر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وضيق صدر عمه أبي لهبٍ، فقام الدليل الواضح أن كلا السببين من عند الله وبيده؛ لأنه أخبر أنه هو الذي يشرح صدر المؤمن للإيمان إذا أراد هدايته، ويضيق صدر الكافر للكفر إذا أراد إضلاله.
وقوله: {حرجاً} بكسر الراء قرأ به نافعٌ وأبو بكر، والباقون بفتحها فالمكسور اسم الفاعل، والمفتوح مصدرٌ وصف به مثل قولك: رجلٌ عدلٌ ورضاً.
وأصل الحرج الضيق الشديد، وقيل: الفتح والكسر لغتان مثل الدنف والدنف والوحد والوحد؛ فالصدر الضيق الحرج هو الذي لا تصل إليه الموعظة ولا يدخله نور الإيمان، فكأن هذا الكافر إذا دعي إلى الإسلام(1/214)
من ضيق صدره كأنه كلف الصعود إلى السماء، فامتناعه من قبول الإسلام كامتناعه من الصعود إلى السماء وعجزه عنه لأنه ليس في وسعه.
وقيل: الحرج جمع حرجةٍ وهي مجتمع الشجر الملتف الذي لا تصل إليه الراعية قال الشاعر:
أيا حرجات الحي حين تحملوا ... بذي سلمٍ لا جادكن ربيع
فشرح الله صدر نبيه شرح امتنانٍ، وجعل قوله: {ألم نشرح لك صدرك} آيةٌ متلوةً في القرآن، مادحةً لصدره بالشرح للإيمان.
ومدح أذنيه فقال جل وعلا: {ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذنٌ قل أذنٌ خيرٍ لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمةٌ للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذابٌ أليمٌ}؛ أي ومن هؤلاء المنافقين جماعةٌ يؤذون رسول الله ويعيبونه ويقولون: هو أذنٌ سامعةٌ يسمع من كل أحدٍ ما يقول له فيقبله ويصدقه، وقائل هذه المقالة هو نبتل ابن الحارث أخو بني عمرو بن عوفٍ، فأعلم الله عز وجل عباده أن محمداً صلى الله عليه وسلم أذن خيرٍ لا أذن شر، أي يستمع ما ينزله الله عز وجل عليه فيصدق به ويصدق المؤمنين فيما يخبرونه به، وهو معنى {يؤمن بالله} يصدق بالله وحده لا شريك له ويصدق المؤمنين لا الكافرين والمنافقين، ودخلت اللام في {للمؤمنين} للفرق بين إيمان التصديق وإيمان الأمان ولما كان(1/215)
معنى الإيمان التصديق جاء باللام كما جاء في قوله عز وجل: {مصدقاً لما بين يديه}.
وقال بعض النحويين -وهو أبو الحسن الحوفي-:
دخلت اللام في {للمؤمنين} كما دخلت في {ردف لكم}، وجعله الله تعالى رحمةً لمن تبعه وصدقه لأن الله تعالى استنقذهم به من الضلالة، وأورثهم به جنات عدنٍ وهي دار المقامة والجلالة.
ثم قال جل من قائلٍ: {والذين يؤذون رسول الله لهم عذابٌ أليمٌ} فأوعد الذين يعيبون رسوله بعذابٍ أليمٍ في دركات الجحيم، ورد عليهم بقوله: {قل أذن خيرٍ لكم} وكانوا إذا كان الرجل منهم يسمع كل ما يقال له قالوا: هو أذنٌ، ومنه قول الشاعر:
صم إذا سمعوا خيراً ذكرت به ... وإن ذكرت بسوءٍ عندهم أذن
ويروى: أذنوا أي سمعوا؛ فرد الله عليهم ذلك، وجعله أذن خيرٍ في كل ما هو سالك.
ومدح قلبه فقال تعالى: {ما كذب الفؤاد ما رأى} أي ما أنكر قلبه ما رأت عينه ليلة الإسراء لما عرج به إلى السماء.(1/216)
وقال جل من قائلٍ: {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملةً واحدةً كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً} أي فعلناه كذلك لنثبت به فؤادك فتحفظه ولا تنساه، وقد ضمن الله له الحفظ بقوله جل من قائلٍ: {سنقرئك فلا تنسى}.
ثم قال تعالى: {ولا يأتونك بمثلٍ إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً} أي لا يعارضونك في مناقضة ما أنزلنا عليك من هذا القرآن إلا أعطيناك فيه حجةٌ عليهم وجواباً عما أوردوا عليك فيه تحقيقاً لقول الله عز وجل: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً}.
وفي هذه الآية من تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم ما يشهد بأنه المتقى المكرم، فكانت فيه إشارةٌ إلى تطهيره، والشق الذي فرغنا من تفسيره، فإن التثبيت لا يكون إلا بعد التطهير بالإكرام، وتطهرت فضائل فؤاده عليه أفضل الصلاة وأشرف السلام.
والفؤاد: القلب، ومنه ما ثبت في ((الصحيحين)) أنه صلى الله عليه وسلم رجع إلى خديجة يرجف فؤاده، أي يتحرك حركةً قويةً.(1/217)
وقيل: الفؤاد عبارةٌ عن باطن القلب.
وقيل: الفؤاد عين القلب.
وقيل: القلب أخص من الفؤاد.
وقيل: الفؤاد غشاء القلب والقلب جثته.
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((أتاكم أهل اليمن هم ألين قلوباً، وأرق أفئدةً)) الحديث بطوله، وله طرقٌ في ((صحيح البخاري ومسلم)).
ومعنى ((ألين قلوباً وأرق أفئدةً)) متقاربٌ، وإنما كرره لاختلاف اللفظين، ومعنى وصف القلب بالرقة واللين راجعٌ إلى سرعة الاستجابة وضد القسوة التي وصف بها غيرهم.
وقيل: القلب محله الفؤاد، والفؤاد محله الصدر، وقد يعبر بكل واحدٍ منهما عن الآخر، وفي القرآن العظيم: {قال رب اشرح لي صدري}، والقلب أيضاً العقل قال الله العظيم: {إن في ذلك لذكرى لمن كان قلبٌ} أي عقلٌ، وإنما سميناه به لأنه محله.(1/218)
وسمي القلب قلباً لتقلبه بالخواطر قال الشاعر:
ما سمي القلب إلا من تقلبه ... والرأي يصرف والإنسان أطوار
وفي قوله صلى الله عليه وسلم : ((إن عيني تنامان ولا ينام قلبي)) المعجزة الكبرى والدلالة العظمى وهي رفعته عن جملة الآدميين في أن نومه ويقظته سواءٌ في حفظ حالته وصيانة عبادته، وذلك أن النوم آفةٌ يسلطها الله على العبد يخلع فيها السلطنة التي للنفس عن البدن فيستريح من خدمتها حتى إذا شاء الله تعالى رد الاستشعار باليقظة كما كان، فأخبر صلى الله عليه وسلم -وخبره الحق- أن النوم إنما يحل عينيه لا قلبه، وأن أحواله محفوظةٌ عنده.
قرأت بمدينة أغرناطة على الشيخ الثقة أبي محمد عبد الحق بن قاضي مالقة أبي مروان عبد الملك بن بونه العبدري، قال: حدثنا العدل أبو الحسن عبد الرحمن بن عبد الله الأموي يعرف بابن عفيفٍ، قال حدثنا الإمام العالم أبو محمد قاسم بن محمدٍ القيسي، قال: حدثنا القاضي أبو يعقوب يوسف بن أحمد بمكة -زادها الله شرفاً- قال:(1/219)
أخبرنا أبو ذر محمد بن إبراهيم الترمذي، قال: حدثنا الحافظ أبو عيسى الترمذي، حدثنا محمد بن بشارٍ، حدثنا ابن أبي عدي، عن جعفر بن ميمون، عن أبي تميمة الهجيمي، عن أبي عثمان، عن ابن مسعودٍ قال:
((صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء، ثم انصرف فأخذ بيد عبد الله بن مسعودٍ حتى خرج به إلى بطحاء مكة، فأجلسه ثم خط عليه خطاً، ثم قال: لا تبرحن خطك فإنه سينتهي إليك رجالٌ فلا تكلمهم فإنهم لا يكلمونك، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أراد، فبينما أنا جالسٌ في خطي إذ أتاني رجالٌ كأنهم الزط، أشعارهم وأجسامهم، لا أرى عورةً ولا أرى قشراً، وينتهون إلي ولا يجاوزون الخط، ثم يصدرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من آخر الليل، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءني وأنا جالسٌ فقال: لقد أراني منذ الليلة، ثم دخل علي في خطي، فتوسد فخذي فرقد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رقد نفخ، فبينا أنا قاعدٌ ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوسدٌ فخذي إذا أنا برجالٍ عليهم ثياب بياضٍ الله أعلم ما بهم من الجمال، فانتهوا إلي فجلس طائفةٌ منهم عند رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وطائفةٌ منهم عند رجليه، ثم قالوا بينهم: ما رأينا عبداً قط أوتي مثل ما أوتي هذا النبي، إن عينيه تنامان وقلبه يقظان، اضربوا له مثلاً مثل سيدٍ بنى قصراً، ثم جعل مائدةً، فدعا الناس إلى طعامه وشرابه، فمن أجابه أكل من طعامه وشرب من شرابه، ومن لم يجبه عاقبه أو قال: عذبه. ثم ارتفعوا، فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك فقال: سمعت ما قال هؤلاء؟ هل تدري من هم؟(1/220)
قلت: الله ورسوله أعلم، قال: هم الملائكة: تدري ما المثل الذي ضربوا؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: المثل الذي ضربوا الرحمن بنى الجنة ودعا إليها عباده، فمن أجابه دخل الجنة، ومن لم يجبه عاقبه أو عذبه)).
قال الترمذي: هذا حديثٌ حسن صحيحٌ غريبٌ من هذا الوجه، وأبو تميمة هو الهجيمي واسمه طريف بن مجالدٍ، وأبو عثمان النهدي اسمه عبد الرحمن بن مل، ذكره أبو عيسى في أبواب الأمثال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ذو النسبين أيده الله: وسيأتي لذلك مزيد بيانٍ فيما بعد من خصائص عينيه إن شاء الله تعالى.
ومدح ظهره فقال جل من قائلٍ: {ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك} أي جعل نقيضه يسمع أي صوته، وهذا مثلٌ لشيوع ثنائه عليه في الدنيا واحتياج جميع الخلق إلى شفاعته في الأخرى في قوله: {ورفعنا لك ذكرك} متبعاً لقوله: {أنقض ظهرك} أي لما أن وضعنا عنك وزرك المنقض لظهرك رفعنا لك ذكرك، فبهذا يستقيم مدح ظهره على هذه الإشارة، وهي مما تلحظه عيون المعاني عند العبارة.(1/221)
وفي قوله صلى الله عليه وسلم الثابت عند الجميع: ((إني لأراكم من وراء ظهري)) الآية الكبرى والكرامة العليا على ما سنذكره فيما بعد في خصائص رؤيته إن شاء الله.
ومدح خلقه فقال جل من قائل: {وإنك لعلى خلقٍ عظيمٍ} ترجم عليه البخاري في ((صحيحه)) في باب الكنية للصبي وقبل أن يولد للرجل، عن أنسٍ:
((كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، وكان لي أخٌ يقال له أبو عمير، قال: أحسبه فطيماً، وكان إذا جاء قال له: يا أبا عمير، ما فعل النغير؟ نغرٌ كان يلعب به، فربما حضرت الصلاة وهو في بيتنا فيأمر بالبساط الذي تحته فيكنس وينضح، ثم يقول ونقوم خلفه فيصلي بنا)).
هذا نصه في كتاب الأدب، وله طرقٌ في ((الصحيحين)) وغيرهما من المصنفات والمسانيد.
والفطم: قطع الصبي عن الرضاع، وأمه فاطمةٌ له، ومنه اشتقت فاطمة في الأسماء.(1/222)
والنغير: تصغير نغرٍ وهو طائرٌ يشبه العصفور، وقيل: هو فرخ العصفور، وقيل: نوعٌ من الحمرة، وقيل: هو طائرٌ صغيرٌ أسود اللون أحمر المنقار.
واختلفوا هل هو جمعٌ أو واحدٌ؟ فمن قال: هو جمعٌ قال: واحدته نغرةٌ، ومن قال: هو واحدٌ قال: جمعه نغرانٌ، وفي الحديث ما يدل على أنه واحدٌ لتصغيره صلى الله عليه وسلم له بقوله: ((ما فعل النغير)).
وفيه من العلم دخول الإمام والعالم في دار خادمه ومخالطته أياه.
وفيه كنية من لم يولد له بعد، أو التسمي باسمٍ بصورة الكنية.
وفيه التصغير للمرء أو الشيء إذا لم يكن على طريق التحقير.
وفيه من الفقه حجةٌ لأبي حنيفة في إباحة صيد المدينة، وكذلك قطع شجرها عنده إذ لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم صيد النغير وإمساكه في يد الصبي في المدينة، والحجة عليه أنه يجوز أن يكون صيد في غير حرم المدينة.
وجملة مذهب مالك والشافعي في صيدها وقطع شجرها أنه مكروهٌ ولا جزاء فيه كما يكون في حرم مكة، وقد فهم الصحابة رضي(1/223)
الله عنهم مراده صلى الله عليه وسلم في تحريمه صيد المدينة فلم يجيزوا فيها الاصطياد، ولذلك نزع النهس أفرض الصحابة زيد بن ثابت كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم من يد صاحبه، وقد ذكره مالكٌ في ((الموطأ))، فالعجب كيف يخالف ذلك ويقول بأنه مكروهٌ إلا أن يريد كراهة تحريمٍ.
وأخرجا معاً في ((صحيحيهما)) فقال البخاري في بقية المناقب: حدثنا عبدان، عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن أبي وائلٍ، عن مسروق، عن عبد الله بن عمرو بن العاصي قال: ((لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً، وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً))، وقد أخرجه من طريقٍ غير هذا في كتاب الأدب.(1/224)
وقال مسلم: حدثنا زهير بن حربٍ وعثمان بن أبي شيبة، قالا: حدثنا جريرٌ، عن الأعمش، عن شقيق، عن مسروق قال:
دخلنا على عبد الله بن عمرو حين قدم معاوية إلى الكوفة، فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً)) وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن من خياركم أحاسنكم أخلاقاً))، قال عثمان - حين قدم مع معاوية الكوفة.
وقد أخبرنا نبينا سيد كل نبي في الوجود، عن ربه الخالق المعبود، أنه أخذ الميثاق بذلك على اليهود، فقال جل من قائلٍ: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسناً}.
وهو عند النحويين نعتٌ لمصدر القول التقدير: وقولوا للناس قولاً ذا حسنٍ، فحذف ذا وأقيم حسناً مقامه فأعرب بإعرابه.
وقرأ حمزة والكسائي {حسناً} بفتح الحاء والسين، وقرأ الباقون بضم الحاء وتسكين السين.
قال الأعمش وعيسى بن عمر: هما بمعنى واحد كالعدم والعدم والبخل والبخل مصدران.(1/225)
وقال الأخفش: حسناً بفتح الحاء والسين يجوز أن يكون اسم فاعلٍ ويكون نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ أي قولوا قولاً حسناً، فحذف الموصوف وأقيم الوصف مقامه للدلالة عليه، كما قال عز وجل: {وجعل فيها رواسي} ولم يذكر الجبال، وكذلك قوله تعالى: {أن اعمل سابغاتٍ} ولم يذكر الدروع.
وقال ابن عباس: أمر الله بني إسرائيل أن يقولوا للناس حسناً، أن يأمروا بلا إله إلا الله لمن لم يقلها ورغب عنها.
وقال ابن جريج ومقاتل: وقولوا للناس قالاً صدقاً في شأن محمد.
وقال سفيان الثوري: {وقولوا للناس حسناً} قال مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر.(1/226)
وقد أخبرنا نبينا وبين غاية البيان، عن وصايا القرآن بما يجب التمسك بها والحذر من مخالفتها؛ لأنها ثابتةٌ في شريعتنا كما كانت على من قبلنا.
واعلموا رحمكم الله أن الله تعالى لم يخلق أحداً من أهل الأرض أحسن خلقاً من محمد صلى الله عليه وسلم نبيه وصفيه الكريم فإنه قال له جل من قائلٍ: {وإنك لعلى خلقٍ عظيمٍ} فخص الله سبحانه نبيه من كريم الطباع ومحاسن الأخلاق من الحياء والكرم والصفح وحسن العهد والعفاف والإنصاف والعلم والحلم ما لم يؤته أحداً من العالمين.
وفي ((صحيح مسلم)) أن سعد بن هشام بن عامرٍ سأل عائشة رضي الله عنها -بعد كلامٍ طويلٍ- قال:
((فقلت: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قالت: فإن خلق نبي الله كان القرآن، قال: فهممت أن أقوم ولا أسأل أحداً شيئاً حتى أموت)) الحديث بطوله.
فإذا كان خلق النبي صلى الله عليه وسلم القرآن فالقرآن يجمع كل فضيلة، ويحث عليها وينهى عن كل نقيصةٍ ورذيلة، ويوضحها ويبينها.(1/227)
ويكفيه ثناء الله العزيز الحكيم في قوله تعالى: {وإنك لعلى خلقٍ عظيمٍ}، ثم قال له جلت قدرته: {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}، وهذه أصول الفضائل وينبوع المناقب؛ لأن في أخذه العفو: صلة القاطع، والصفح عن الظالم، وإعطاء المانع، وفي الأمر بالمعروف: تقوى الله، وصلة الأرحام، وصون اللسان عن ذكر كل إنسانٍ، وغض الطرف عن الحرمات، وفي تقوى الله تدخل آداب الشرع جميعاً: فرضها ونفلها، وفي الإعراض عن الجاهلين الصفح والحلم وصرف النفس عن مماراة السفيه ومجاراة اللجوج، فهذه الأصول الثلاثة تتضمن محاسن الشرع نصاً وتنبيهاً وصمتاً واعتباراً؛ ولذلك كان أصحابه اللذين يحضرون مجالسه كأنما على رؤوسهم الطير ومعلومٌ أن من كان على رأسه طائرٌ فإنه لا يتحرك ولا يتكلم ولا يطرف بعينه حذراً أن ينفر الطائر.
وكان جملة رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمةً للعالمين: شعره، وشفتاه، وأسنانه، وجوارحه، ودمه، ونفخه، وريقه، وتفله، ونفثه، وعرقه، وماؤه.
ومن فوائد جملته المبايعة على النبوة والإيمان، والدخول بنصرته في طاعة الرحمان، وهي متلقاةٌ باليد واللسان، مع اعتقاد الجنان، وسيأتي في اليد دلائل من البرهان.(1/228)
ويقدم منها الآن ذكر المبايعة قال الله تعالى: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيدهم}، أقامه في تشريفه مقامه جل ثناؤه في قوله: {إنما يبايعون الله}، وخصه بخطاب الكاف بقوله: {يبايعونك}، وعظم ميثاق المبايعة بقوله: {يد الله فوق أيديهم} لأنهم كانوا يبايعون الله بيعتهم نبيه تحت الشجرة على نصرته على العدو.
وقد أثبت أهل السنة كل ما جاء من هذا وآمنوا به مع نفي النقيصة عن الله تعالى.
ومنهم من توقف عن تأويله وسلم علم ذلك إلى الله تعالى، وهو قول الأئمة مالكٌ والأوزاعي وسفيان الثوري والليث بن سعدٍ، وهو أحد قولي الأشعري، قالوا: ونقرها كما جاءت بلا كيف ولا تشبيهٍ، ونكل أمر تأويلها إلى الله عز وجل.(1/229)
وتأولها بعضهم على مقتضى اللغة التي خوطبوا بها من جهة الشرع، وذلك عشرة أقوالٍ في اليد:
فقيل: معناه القوة أي قوة الله فوق قوتهم في نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتأولوا اليد على القدرة وعلى المنة يعني أن منة الله وإحسانه إليهم فوق ما يمنون به عليك، ألا ترى إلى قوله عز وجل: {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين}، وكذلك روينا عن الحسن بن أبي الحسن البصري قال: يد الله بالنعمة عليهم أن هداهم للإيمان أفضل من قولهم.
فهذا هو اللائق بصفة الله تعالى، والمشبهة تذهب إلى أنها اليد المحدودة ذات الأصابع، وذلك لجهلهم بقدرة الله وقلة علمهم بالتأويل وغباوةٍ عن كلام العرب {سبحان الله عما يصفون}.(1/230)
ويتأول أيضاً على النعمة، وعلى الملك، وعلى السلطان، وعلى الحفظ والوقاية، والطاعة، والجماعة، بحسب ما يليق تأويلها بالموضع الذي تتأول فيه كقوله تعالى: {بل يداه مبسوطتان} يريد الإنعام عليهم والقبول منهم والله أعلم.
ثم لا خلاف بين أهل السنة في نفي الجارحة عن الله تعالى واستحالة إثباتها له {ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير}.
ومن خصائص جملته فيما رووا أنه كان ربعةً، وإذا مشى مع طويلٍ طاله كما حدثني الفقيه القاضي الخطيب بجامع مرسية أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد المروي في خمسين شيخاً، قالوا: حدثنا الفقيه المفتي أبو الحسن يونس بن محمد بن مغيثٍ قراءةً من أبي القاسم عليه وعليه قرأته أنا، قال ابن مغيثٍ: حدثني القاضي بمدينة دانية أبو عمر بن الحذاء،(1/231)
قال حدثنا الثقة أبو القاسم عبد الوارث بن سفيان، قال: نا الإمام العدل أبو محمد قاسم بن أصبغ، قال: سمعت شيخ العراقين الإمام أبا بكر بن أبي خيثمة يقول: وحدثنا صبيح بن عبد الله الفرغاني، قال: حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد قال: حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه، وهشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة قالت: ((كان من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قامته أنه لم يكن بالطويل البائن، ولا المشذب الذاهب، والمشذب: الطويل نفسه إلا أنه المخفف، ولم يكن صلى الله عليه وسلم بالقصير المتردد، وكان ينسب إلى الربعة إذا مشى وحده، ولم يكن على ذلك يماشيه أحدٌ من الناس ينسب إلى الطول إلا طاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولربما اكتنفه الرجلان الطويلان فيطولهما، فإذا فارقاه نسبا إلى الطول، ونسب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الربعة، ويقول صلى الله عليه وسلم : ((جعل الخير كله في الربعة)).(1/232)
والربعة بسكون الباء وفتحها هو الرجل بين الرجلين في قده ويفسره ما ثبت وصح عن جماعةٍ من الصحابة ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل ولا بالقصير))، ويقال ربعةٌ للذكر والأنثى والواحد والجميع.
وصبيحٌ شيخ ابن أبي خيثمة بفتح الصاد منكر الحديث.
قال أبو داود: سألت علي بن المديني عنه فأنكره.
وحكى الساجي في آخر ((تعديله وتجريحه)) صبيحاً هذا وقال: قال يحيى بن معين: كان كذاباً خبيثاً.
وإنما ذكرناه لنعرف بعلته، فمعرفة علل الحديث من أعظم فوائد رحلته، فلنرجع الآن إلى تفاصيل ما قدمناه من جملته.
ومنها أن الله جل وعلا كساه من نور الجلال، حلة المحبة والجمال، فكان ما نظر إليه أحدٌ من الموحدين إلا أفلح كل الفلاح، وظهر عليه نور الحقيقة ولاح، وأخذت عنه بعد الجهل دقائق العلوم، وصار خليفةً أو أميراً في طيلسان الأمر والنهي المعلوم، وبقي عندنا ذكر الصحابة والخلفاء(1/233)
الراشدين بسبب رؤيتهم له وصحبتهم إياه إلى يوم الدين، ولم يكن لهم ذكرٌ قبل ذلك إلا الاشتغال بالتجارة، دون خلافةٍ أو إمارة، فعلا ذكرهم بسببه وبسبب رؤيته رؤوس المنابر، وأصبحت بسبب صحبته تخدمهم جميع الأقلام والمحابر، وأمرنا بالاستغفار لهم بسبب سبقهم للإيمان على ما تضمنه الذكر الحكيم بقوله تعالى: {والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا ربنا إنك رؤوفٌ رحيمٌ}، وجعلهم أمنةً لأمته ما داموا فيهم أو ما داموا لهم وهم ذاكرون بقوله في ((صحيح مسلم)): ((النجوم أمنةٌ للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنةٌ لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنةٌ لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون)).
وأخبرنا أنهم خير الناس، وخبره محمولٌ على العين والرأس، فقال في ((الصحيحين)): ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) الحديث بطوله، رواه عبد الله بن مسعود عن نبي الله وخليله.(1/234)
ونهانا عن سبهم وأمرنا بحبهم فقال -فيما ثبت في ((الصحيحين))-:
((لا تسبوا أصحابي؛ فإن أحدكم لو أنفق مثل أحدٍ ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)).
جعل لكل واحدٍ من أصحابه فضلاً على غيرهم بسبب قدم صحبته، وجعل أقلهم سابقةً فوق أعلانا منزلةً بسبب رؤيته وخدمته.
ومن خصائص جملته أنه رجف به وهو عليه الجبل، وانقاد له بعد شروده وتوحشه الجمل، ونصر بالرعب بين يدي مسيرة شهر، وخص بليلة القدر، التي هي خيرٌ من ألف شهر، ونصر بالصبا، وشفيت ببسالته غلل صدور الظبا، وجعلت له الأرض كلها مسجداً وترابها طهوراً، وختم به النبيون وزاد الله دينه على الأديان علواً وظهوراً، وحن الجذع اليابس إليه، وسلم الحجر فيما صح عليه، ودعا الشجرتين فأجابتا بين يديه، وساخت(1/235)
قوائم فرس سراقة إلى بطنها في أرضٍ صلدٍ لما اتبعه واتبعها عثان وهذه آية ظاهرةٌ لجملته وبرهان.
واستسقى فأطلقت السماء عزاليها كأفواه القرب، ثم استصحى لما شكا الناس إليه خوف الهلاك مع العطب، فانجابت عن المدينة انجياب الثوب، وعدلت إلى بطون الأودية عن ذلك الصوب.
ودعا على كفار قريشٍ بالسنين، وأنزل الله عليه في كتابه المبين: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخانٍ مبين}، فكانوا إذا رفعوا رؤوسهم إلى السماء رأوا بينهم وبينها دخاناً متراكماً كالركام، آخذاً بأنفاسهم أخذ الزكام، وعدموا القوت فيها حتى أكلوا العظام والميتة من شدة الجوع، ثم دعا لهم ليستيقظوا بعد الهجوع، فأحصبوا وامتنعوا من الإنابة والرجوع، {فأخذهم الله أخذةً رابية}، فقتلوا وطرحوا في القليب {كأنهم أعجاز نخلٍ خاوية}.
وأخمد الله برميته صلى الله عليه وسلم نار حرب حنين، فهزمهم الله برؤيته وصاروا أثراً بعد عين، وبلغه فيهم ما كان يرجوه، وقال في رميته: ((شاهت الوجوه)).(1/236)
وكم لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم المؤيد بالمعجزات، الآخذ بالحجزات، من الآيات البينات، وأعظم معجزاته معجزة القرآن الباقية بقاء الدهور، المتجددة على تعاقب الأعوام والشهور، المتألقة في الأفق الأعلى أنوارها المتدفقة في رياض الملكوت الأسنى أنهارها، الفاتحة لأقفال القلوب، الكاشفة لأسرار الغيوب، المخصوص في اليوم المشهود، بالمقام المحمود، واللواء المعقود، والحوض المورود، وهو نهر الكوثر المفعم الملآن، الذي مساحته من بصرى إلى عمان، أو من صنعاء إلى عمان، وماؤه أشد بياضاً من الثلج وأحلى من العسل في المذاق، وأباريقه على عدد نجوم السماء ذوات الإشراق، المخصوص بالشفاعة، الذي أخبر بما كان وما يكون إلى قيام الساعة، الذي جعل الله في كل عضوٍ منه آية، وذلك دليلٌ على مكانه عند ربه وأن له به عناية، وقبض صلى الله عليه وسلم بعد أن خيره الله في الدنيا فاختار لقاء ربه، برغبته فيما لديه وحبه، فجمع الله له بين ملك الدارين الدنيا والآخرة، وأسبغ عليه جزيل النعمتين الباطنة والظاهرة، وكسر بدعوته شوكة الأكاسرة، وجبر الدين وقصم ظهور الجبابرة، ففشت دعوته في المشارق والمغارب كما وعد وشاعت، وأخبر عن الله عز وجل أنه يستخلف في أرضه من آمن به فكان ذلك كذلك وهذه معجزةٌ راعت، فاستخلف الله أصحابه وأهل بيته من بعده فسمعت الأمة لهم وأطاعت، فملكوا الملوك بجيوشهم المنصورة وعزماتهم، وحاربوا العرب الذين فرقوا بين صلاتهم وزكاتهم، فنثروا ما نظمه مسيلمة والأعراب من سلكهم، وبادروا إلى إطفاء نارهم وتعجيل هلكهم، واستباحوا حريمهم، وسبوا حرمهم، وبنوا ذمة الله وهدموا ذممهم، وقهروا الفرس والروم وكسروا تيجانهم، وضربوا قممهم، حتى(1/237)
أظهر الله الإسلام على أيديهم في البدو والحضر، وفاض على الأسود والأحمر، وشاع في جميع الأرض وظهر، وذلك ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقه فيما أخبر، فامتد الإسلام شرقاً وغرباً حتى بهت الذي كفر، فصلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته على المكين عند ربه، سيد ولد آدم محمدٍ المغفور له ما تقدم وما تأخر من ذنبه، وعلى آله الطاهرين وصحبه، فلنرجع الآن إلى تفاصيل هذه الجملة الكريمة، وما فيها من الآيات العظيمة.
فأما شعره فقد كان الناس يستسقون به وتداولوه من بعده، ثبت في ((الصحيحين)) عن أنس: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رمى الجمرة نحر نسكه ثم ناول الحالق شقه الأيمن، فحلقه فأعطاه أبا طلحة، ثم ناوله شقه الأيسر فقال: اقسمه بين الناس)).
وله طرقٌ منها في ((صحيح مسلم)) حدثنا محمد بن رافعٍ، قال: حدثنا أبو النضر، قال: حدثنا سليمان عن ثابت، عن أنس قال:
((لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحلاق يحلقه وأطاف به أصحابه فما يريدون أن تقع شعرةٌ إلا في يد رجلٍ)).
ومنها في ((صحيح البخاري)) حدثنا مالك بن إسماعيل، قال: حدثنا إسرائيل، عن عثمان بن عبد الله بن موهبٍ قال:(1/238)
((أرسلني أهلي إلى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم بقدحٍ من ماءٍ، وقبض إسرائيل ثلاث أصابع من قصةٍ فيها شعرٌ من شعر النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان إذا أصاب الإنسان عينٌ أو شيءٌ بعث إليها مخضبه، فاطلعت في الجلجل فرأيت شعراتٍ حمراً)).
وقال أيضاً: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا سلام، عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: ((دخلت على أم سلمة فأخرجت إلينا شعراتٍ من شعر النبي صلى الله عليه وسلم مخضوباً)).
وقال أبو نعيم: حدثنا نصير بن أبي الأشعث، عن ابن موهبٍ، ((أن أم سلمة أرته شعر النبي صلى الله عليه وسلم أحمر)).
قال ذو النسبين أيده الله:
هكذا أخرجه البخاري في آخر كتاب اللباس في باب ما يذكر في الشيب.
قيدناه: ((من قصةٍ)) بضم القاف وصادٍ مهملةٍ لأكثر رواة البخاري.(1/239)
قال ابن دريد: كل خصلةٍ من الشعر قصةٌ والقصة أيضاً ما أقبل على الجبهة من شعر الرأس، سمي بذلك لأنه يقص.
والصحيح عند المتقنين ((فضةٍ)) بالفاء بواحدةٍ وضادٍ معجمةٍ، وهو الأشبه والأولى لقوله بعد ذلك: ((فاطلعت في الجلجل)).
ورواه الحافظ أبو علي ابن السكن: ((فاطلعت في المخضب))، والمخضب شبه الإجانة وهي القصرية تغسل فيها الثياب، والصحيح ما رواه الكافة: ((فاطلعت في الجلجل))، وقد بينه الإمام وكيع بن الجراح في ((مصنفه)) فقال: ((كان جلجلاً من فضةٍ صنع صواناً لشعراتٍ كانت عندهم من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم )).(1/240)
وخرج البخاري أيضاً في كتاب المناقب حدثنا ابن بكير، قال: حدثني الليث، عن خالد، عن سعيد بن أبي هلال، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، قال: سمعت أنس بن مالك يصف النبي صلى الله عليه وسلم :
((كان ربعةً من القوم، ليس بالطويل ولا بالقصير، أزهر اللون، ليس بأبيض أمهق ولا آدم، ليس بجعدٍ قططٍ ولا سبطٍ رجلٍ، أنزل عليه وهو ابن أربعين، فلبث بمكة عشر سنين ينزل عليه، وبالمدينة عشر سنين، وقبض وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرةً بيضاء، قال ربيعة: فرأيت شعراً من شعره فإذا هو أحمر، فسألت فقيل: احمر من الطيب)).
ولما جاز اتخاذ شعرات رسول الله صلى الله عليه وسلم للتبرك به علم أنه طاهرٌ، وقد ترجم عليه البخاري وأراد بذلك رد قول الشافعي: إن شعر الإنسان إذا فارق الجسد نجس وأنه إذا وقع في الماء نجسه.(1/241)
وذكر قول عطاء: إنه لا بأس باتخاذ الخيوط منه والحبال، ولو كان نجساً لما جاز اتخاذه.
وفيه دليلٌ أن ما أخذ من جسد الإنسان من شعرٍ أو ظفرٍ أنه ليس بنجسٍ.
وللشافعي في ذلك من الجواب أن يقول: ذلك من خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم فلا يقاس عليه، كما كان بوله ودمه صلى الله عليه وسلم طاهرين على ما سنذكره من بعد إن شاء الله تعالى.
وأما خصائص سمعه فإنه كان يسمع ما لا يسمعه الحاضرون معه مع سلامة حواسهم من مثل الذي سمعه.
من ذلك ما ثبت باتفاق، رواية علماء الآفاق، أن الوحي كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم أحياناً في مثل صلصلة الجرس، ويسمعه منه ويعيه عنه(1/242)
ولا يسمعه أحدٌ من أصحابه الحاضرين، وكذلك جميع القرآن المبين، فإذا ارتفع الوحي عنه أخبرهم بنزوله على لسان الروح الأمين.
والصلصلة في اللغة صوت الحديد إذا اضطرب في داخل تلك الآلة التي تسمى الجرس، وهو صوتٌ متداركٌ متباعدٌ.
والجرس بفتح الجيم وسكون الراء، وبكسر الجيم أيضاً واحدٌ وهو الصوت، واختار ابن الأنباري الفتح إذا لم يتقدمه حس فإن تقدمه حس فالكسر وقال: هذا كلام فصحاء العرب والجرس بفتح الجيم والراء الآلة.
وحدثني شيوخي بخراسان مجد الدين مفتي الفرق أبو سعدٍ بن الصفار بمدرسته بشاذياخ والزاهد أبو الحسن الشعري قراءةً مني عليه بمسجد المطرز بنيسابور والعدل تاج الدين أبو القاسم الفراوي(1/243)
قراءةٌ مني عليه أيضاً، قالوا: حدثنا فقيه الحرمين أبو عبد الله الصاعدي؛ سماعاً لمجد الدين أبي سعدٍ وأبي الحسن الشعري سنة أربعٍ وعشرين ولحفيده تاج الدين مرتين سنة ثمانٍ وعشرين وسنة تسعٍ وعشرين ومولده سنة اثنتين وعشرين، قال فقيه الحرمين: أخبرنا العدل أبو الحسين الفارسي سماعاً عليه سنة ثمانٍ وأربعين وأربع مائة، قال: أخبرنا الشيخ أبو أحمد الجلودي قراءةً عليه في شهور سنة خمس وستين وثلاثمائة، أخبرنا أبو إسحاق الفقيه، حدثنا الإمام أبو الحسين، قال: حدثنا يحيى بن(1/244)
أيوب، وأبو بكر بن أبي شيبة جميعاً عن ابن علية، قال يحيى بن أيوب: حدثنا ابن علية قال: وأخبرنا سعيدٌ الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيدٍ الخدري، عن زيد بن ثابت قال: قال أبو سعيد: ولم أشهده من النبي صلى الله عليه وسلم ولكن حدثنيه زيد بن ثابت قال:
((بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائطٍ لبني النجار على بغلةٍ له ونحن معه إذ حادت به فكادت تلقيه، وإذا أقبرٌ ستةٌ أو خمسةٌ أو أربعةٌ، قال ابن علية: كذا كان يقول الجريري، فقال: من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟ فقال رجلٌ: أنا، قال: فمتى مات هؤلاء؟ قال: ماتوا في الإشراك، فقال:
إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: تعوذوا بالله من عذاب النار، فقالوا: نعوذ بالله من عذاب النار، فقال: تعوذوا بالله من عذاب القبر، فقالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر، فقال: تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قال: تعوذوا بالله من فتنة الدجال، قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال)).
أخرجه الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج في ((صحيحه)) في بقية كتاب صفة الجنة والنار.(1/245)
قال ذو النسبين أيده الله:
وأبو نضرة بالنون والضاد المعجمة اسمه المنذر بن مالك بن قطعة العبدي، وقد لقي أيضاً حبر القرآن أبا العباس عبد الله بن عباس والزاهد أبا عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم.
وخرجه الإمام أحمد في ((مسنده)) بقراءتي لجميعه على جمال العراقين العدل تاج الدين أبو الفتح محمد بن أحمد المندائي بحق سماعه لجميعه على الرئيس الثقة أبي القاسم ابن الحصين بحق سماعه لجميعه على الثقة الواعظ أبي علي ابن المذهب، بحق سماعه لجميعه على الثقة أبي بكر(1/246)
القطيعي، بحق سماعه على الإمام أبي عبد الرحمن عبد الله، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا مؤمل وحسنٌ الأشيب، قالا: حدثنا حماد، قال: حدثنا ثابتٌ، عن أنسٍ:
((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على بغلته الشهباء بحائطٍ لبني النجار فسمع أصوات قومٍ يعذبون في قبورهم، فحاصت البغلة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لولا أن لا تدافنوا لسألت الله عز وجل أن يسمعكم عذاب القبر)).
وخرجه قبل هذا قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن حميدٍ، عن أنس قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم حائطاً من حيطان المدينة لبني النجار فسمع صوتاً من قبرٍ، فسأل عنه متى دفن هذا؟ قالوا: يا رسول الله، دفن هذا في الجاهلية, فأعجبه ذلك وقال: لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر)).
وخرجه بعد ذلك وبعد الأول قال: حدثنا عبد الصمد، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا عبد العزيز، عن أنسٍ قال:(1/247)
((بينما نبي الله صلى الله عليه وسلم في نخلٍ لنا نخلٍ لأبي طلحة تبرز لحاجته، قال: وبلالٌ يمشي وراءه يكرم نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يمشي إلى جنبه، فمر نبي الله صلى الله عليه وسلم بقبر فقام حتى تم إليه بلالٌ فقال: ويحك يا بلال، هل تسمع ما أسمع؟ قال: ما أسمع شيئاً، قال: صاحب القبر يعذب، قال: فسئل عنه فوجد يهودياً)).
وهذا الحديث الصحيح مع غيره من الأحاديث المحكوم بصحتها ناصةٌ على أن المعذب في القبر له صوتٌ يسمع وتسمعه البهائم، وله حادت البغلة أي مالت عند نفارها عن سنن طريقها.
وكذلك في حديث ((المسند)): ((فحاصت)) أي نفرت وكرت راجعةً من خوف ما سمعت، والصوت إنما هو للجسم لا للروح وأنه يصرخ لما يحل به من البلاء والنكال على ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم افهم قوله صلى الله عليه وسلم : ((لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع))، فكتم الله سبحانه هذا عنا حتى نتدافن بحكمته الإلهية ولطفه الرباني {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون}، ولا رب لمن يدعي الإسلام إلا من هذه صفته، وأما من زعم أن ربه لا يفعل الأشياء الجزئية ولا يكمل أغراضه وأفعاله إلا النواب كالنفس والطبيعة والعقل والكواكب، فليس الكلام مع هؤلاء في عذاب(1/248)
القبر بل الكلام عليهم في المخالفة في أوصاف الرب تعالى الله عما يقول المبطلون. وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ثبت عنه باتفاقٍ أنه قال:
((إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه حتى إنه ليسمع قرع نعالهم، قال: يأتيه ملكان فيقعدانه، وفي رواية محمد بن منهال: إنه ليسمع خفق نعالهم إذا انصرفوا، أتاه ملكان فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمدٍ؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعداً من الجنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم : فيراهما جميعاً)) الحديث بطوله أخرجاه في ((الصحيحين)) عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم .
والإقعاد إنما يجري على جسد الميت، وإن الميت يعاين ذلك عياناً وهو في قبره.
حدثنا غير واحدٍ من شيوخنا قالوا: حدثنا أبو عبد الله أحمد بن محمد الخولاني، قال: أنبأنا الفقيه العالم أبو عمران موسى بن أبي حاج(1/249)
الفاسي، قال: سمعت القاضي أبا بكر بن الطيب يقول:
((وقد ورد القرآن العظيم بتصديق الأخبار الواردة في عذاب القبر قال الله جل جلاله: {النار يعرضون عليها غدواً وعشياً}، وقد اتفق المسلمون أنه لا غدو ولا عشي في الآخرة وإنما هما في الدنيا، فهم يعرضون بعد مماتهم على النار قبل يوم القيامة، ويوم القيامة يدخلون أشد العذاب، فإذا جاز أن يكون المكلف بعد موته معروضاً على النار غدواً وعشياً جاز أن يسمع الكلام ويمنع الجواب؛ لأن اللذة والعذاب لا يصح حصولهما إلا لحي حساسٍ، وإذا كان ذلك وجب اعتقاد رد الحياة في تلك الأجسام وسماعهم للكلام، والعقل لا يدفع هذا ولا يوجب حاجة الحياة إلى بنيةٍ ورطوبةٍ وإنما يقتضي حاجتها إلى المحل فقط، وإذا صح رد الحياة إلى أجسامهم مع ما هم عليه من خفض البنية وتقطيع الأوصال صح أن يوجد فيهم سماع الكلام والعجز عن رد الجواب. والأخبار في عذاب القبر صحيحةٌ متواترةٌ لا يصح عليها التواطؤ، وإن لم يصح مثلها لم يصح شيءٌ من أمر الدين، ولم ينف هذا سوى الكفرة والزنادقة الملحدين.
وقالت الفلاسفة: كيف يصح أن يقعد الميت ولو وضعنا الزئبق في عينيه لوجدناه بحاله.(1/250)
فالجواب: أن الرب سبحانه أبسط قدرةً وأقوى قوةً وأسرع فعلاً وأحصى حساباً فهو يصرف أبصارنا عن جميع ذلك ويغيبه عنا عند كشف القبر للعلة التي نبهنا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لولا أن لا تدافنوا)).
وقول الفلاسفة: إنها إشاراتٌ إلى حالاتٍ ترد على الروح من العذاب الروحاني وأنها لا حقائق لها -سخم الله وجه قائلها- فلم يبق لقولهم وجهٌ مع الإيمان بأن الله سبحانه هو الواحد القهار، الصانع المختار، الذي يصرف الأشياء على مشيئته من غير توقفٍ واقتصارٍ، قال الله العزيز الجبار: {وربك يخلق ما يشاء ويختار}.
وانظر إلى تخليقه آدم عليه السلام لا من ذكرٍ ولا أنثى، وإلى تخليقه حواء عليها السلام من ضلع آدم عليه السلام، وإلى تخليق عيسى عليه السلام من أنثى دون ذكرٍ، جرى التشبيه بينه وبين آدم في سرعة التخليق وتمام الخلق، وابتداء خلقه لا من نطفة رجلٍ بل من جوهرٍ غير جوهر النطفة وهي الريح، وخلق الكافة من الذكر والأنثى؛ فهذه أطوارٌ أربعةٌ من التخليق لئلا يشكل على أحدٍ أن التخليق يجري على نوعٍ من التعليل أن لو جرى على وجهٍ أو وجهين، فلما جرى على جميع ما تحتمله القسمة أدى التخليق إما أن يكون من شرطه الولادة أو لا يكون من(1/251)
شرطه فهل الإيجاب فيه يجري للذكر دون الأنثى، أو للأنثى دون الذكر، أو للذكر والأنثى جميعاً، فأبان بالقسم الأربع أنه لا توقف للتخليق على نحوٍ من هذه الأنحاء، فخلق عيسى من مزج الريح مع نطفة الأنثى لئلا يقول قائلٌ: فلعل في قوة التراب ما ينوب مناب نطفة الرجل إذ خلق آدم من ترابٍ، فأتى بالريح الذي لم يدخل في تخليق جسد آدم منه شيءٌ كما نطق به القرآن، ووجب التصديق به والإيمان)).
وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حدثني العدل تاج الدين أبو القاسم الفراوي بقراءتي عليه بمسجد المطرز بنيسابور، قال: حدثني جدي الأعلى فقيه الحرمين أبو عبد الله الصاعدي سنة تسعٍ وعشرين وخمسمائة -ومولدي سنة اثنتين وعشرين-، قال: حدثنا الشيخ أبو سعيدٍ محمد بن علي الخشاب الصوفي، قال: أخبرنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي، قال: أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق بن إبراهيم الثقفي السراج، قال: حدثنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا الليث، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم؛ فإن كانت صالحةً قالت: قدموني، قدموني، وإن كانت غير صالحةٍ قالت: يا ويلها(1/252)
أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيءٍ إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق)) أي مات.
وهذا حديثٌ صحيحٌ، وقد خرجه البخاري في غير موضعٍ من ((صحيحه))، وهذا نصه في ترجمة باب كلام الميت على الجنازة حدثنا قتيبة، وهي لنا موافقةٌ عاليةٌ في نسخة قتيبة بن سعيد.
فأما ترجمته: بابٌ كلام الميت على الجنازة، فمعناه على السرير الذي يحمل عليه.
واختلف اللغويون في لفظ: ((الجنازة)):
فقالوا بكسر الجيم وفتحها اسمٌ للميت وللسرير أيضاً.
وقيل للميت بالفتح وللسرير بالكسر.
وقيل للميت بالكسر وللسرير بالفتح.(1/253)
وكل شيءٍ ثقل على قومٍ فاغتموا به فهو جنازةٌ بفتح الجيم، والميت كذلك لما فيه من الثقل والاغتمام.
وقيل: أصل الكلمة من الجنز وهو الستر، وأما الجنازة بكسر الجيم فخشب الشرجع وهو سريرٌ.
وقد نص صلى الله عليه وسلم أن لها صوتاً يسمعه بعض السامعين دون بعضٍ، ولم يقل صلى الله عليه وسلم : يسمع كلامها؛ لئلا يقول القائل: تكلمت بلسان الحال كما قال الشاعر:
تشكى الكميت الحري لما جهدته ... وحمحم لو يستطيع أن يتكلما
وقال آخر:
يشكو إلي جملي طول السرى ... صبراً جميلاً فكلانا مبتلى
أنشده سيبويه في باب ما ينتصب من المصادر في غير الدعاء.
((صبرٌ جميلٌ)) الشاهد فيه رفع ((صبرٌ)) مع وضعه موضع الفعل، والوجه فيه النصب لأنه أمرٌ لا يقع موقعه الخبر، وتقدير سيبويه في هذا أن يحمله على إضمار مبتدأ أو إضمار خبرٍ، فكأنه قال: أمرك صبرٌ جميلٌ، أو صبرٌ جميلٌ أمثل.
قال الأعلم: والقول عندي أنه مبتدأ لا خبر له لأنه اسم فعلٍ ناب مناب الفعل والفاعل ووقع موقعه، وتعرى من العوامل فوجب رفعه،(1/254)
واستغنى عن الخبر لما فيه من معنى الفعل، والفاعل، ونظيره من كلام العرب في الاكتفاء به وحده دون خبره قولهم: ((حسبك تشتم الناس))؛ لأن معناه: اكفف، ولذلك أجيب كما يجاب الأمر، وهذا بينٌ إن شاء الله.
والذي يبين لكم إخواني وجه الصواب، ويصرفكم عن الأهواء والارتياب، أن تعرفوا أن القرآن العظيم عربي، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم عربي، وأن السنة الثابتة إنما هي حديثه، وهو واقعٌ بلغته وهي العربية، وأن تعلموا أن القرآن العظيم ورد تبياناً لكل شيءٍ، وأنا أمرنا بتدبره وتفهمه كما شهدت نصوصه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره ربه أن يبين لنا الكتاب فقال جل من قائلٍ: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم}، وأكد على نبيه وصفيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم في ذلك فشجعه مرةً وهدده أخرى فقال جل من قائلٍ: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين}، وقال جل من قائلٍ: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين}، وقال جل من قائلٍ: {ولو تقول علينا(1/255)
بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين} أي بالقوة {ثم لقطعنا منه الوتين} يعني عرق القلب وبقطعه يموت صاحبه.
إلى غير ذلك من الآيات المنصوصة في القرآن العظيم، ولا يعلم ذلك البتة هذه الأمور المغيبة من جهة المقاييس العقلية ولا الفقهية ولا الجدلية، إذ لم يرجع إلينا أحدٌ من الموتى فيخبرنا عن حقيقة ما لقي وشاهد، وعاين من كرب الموت وكابد، فلم تبق لنا جهةٌ نتعرف منها إلا من جهة الشريعة، لا من جهةٍ برهانيةٍ إذ مبادئ البرهان لا بد عندهم أن تكون ضرورية، فضلت فيه الملحدة من الفلاسفة والموحدة من الإسلاميين، واعتمدوا في تعرف المغيبات على الاستقراء على ما بينه المتكلمون في آراء الناظرين، وذلك باطلٌ بيقينٍ، قال الله العظيم في محكم كتابه المبين: {فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذٍ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون}، وإنما نادت الجنازة على سريرها بويلها فيما ثبت عنها لخوفها من عذاب القبر الذي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة منه، ولما يسئلها الملكان عنه، وهذا مخصوصٌ بالقبر لا بالموت، والموضوع في القبر أو في الخشبة هو شخص الميت، وهو الذي يكلمه الملكان، كان في القبر أو في أي مكانٍ، وهو الذي يضرب بمطارق من حديدٍ يسمعها من يليه غير(1/256)
الثقلين، كما بينه سيد الكونين، محمدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي يجب الوقوف عند ما يقوله فيما يتكلم، فإنه لا ينطق عن الهوى، ولا يقول إلا عن وحيٍ يوحى، وإذا نص على أمرٍ فالحق فيما نصه، والمخالف له غوي إن عمه أو خصه.
ولولا خشية الإطالة، والخروج إلى الملالة، لتلوت عليك كتاب الله العزيز الجبار، ولرويت لك جميع ما ثبت في ذلك من صحيح الآثار، إلى أن يستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار.
مسألة:
قالت الزنادقة: كيف يكون صوتٌ مسموعٌ لسامعٍ في محل لا يسمعه آخر معه، وهو مثله سليم الحاسة عن آفة الإدراك؟
الجواب: أن الإدراك معنىً يخلقه الله جل وعلا لمن شاء ويمنعه من شاء، وليس بطبيعةٍ ولا وتيرةٍ واحدةٍ.
قال القاضي سيف السنة أبو بكر: ((ولكن لا يخرق العادة إلا في زمن الأنبياء صلوات الله عليهم)).(1/257)
وأما خصائص فمه صلى الله عليه وسلم فأعظمها الفصاحة التي فاق بها جميع العرب، وأتى بنظامٍ غير نظام الشعراء والمترسلين وذوي الخطب، وكان إذا تكلم ريء كالنور بين ثناياه صلى الله عليه وسلم .
قرأت جميع ((المعجم الكبير)) -وهو ستون ألف حديثٍ- على الشيخ الثقة موفق الدين أبي جعفر محمد بن أحمد بن نصرٍ سبط حسين بن مندة -وقد قارب التسعين بحق سماعه على الحرة الصالحة أم إبراهيم أم الغيث أم الخير فاطمة بنت عبد الله بن أحمد بن القاسم بن عقيلٍ الجوزدانية في شهور سنة عشرين وخمسمائة- وقد قاربت المائة، وتوفيت رحمها الله يوم الأربعاء في أول شعبان سنة أربعٍ وعشرين في قريتها، ومولدها نحو الخمس والعشرين وأربع مائة، وكانت مسنةً عابدةً قويةً على التعبد مع كبر سنها، وختم بها رواية محمد بن عبد الله بن ريذة -بحق سماعها عليه، وهو الثقة الزاهد النحوي أبو بكر محمد بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم بن إسحاق بن زيادٍ الضبي، سألت شيخنا الإمام العالم شيخ الأئمة فاضل العراقين منتجب الدين أبا الفتوح أسعد بن الإمام أبي الفضائل العجلي بمنزله بمدينة أصبهان عن ابن ريذة -وهو بكسر الراء المهملة بعدها ياءٌ مثناةٌ باثنتين من أسفلها ودالٌ معجمةٌ- فقال: كان(1/258)
ثقةً أميناً، وافر العقل، مكرماً لأهل العلم، حافظاً لأطرافٍ من النحو واللغة، توفي سنة أربعين وأربعمائةٍ وقد قارب المائة، وقيل: ولد سنة ست وأربعين وثلاثمائة، آخر من ختم عليه حديث الطبراني، سمع منه ((المعجم الكبير والصغير)) و((الفتن)) لنعيم بن حماد بحق سماعه على الإمام الحافظ الثقة العدل أبي القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطيرٍ اللخمي الطبراني من طبرية الشام، وهو مجمعٌ على حفظه وفضله وعلمه وديانته وتحفظه وإتقانه واشتغاله بنشر ما سمعه من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدائن والأمصار، بعلو أسانيد الأخبار، ولد رضي الله عنه سنة ستين ومائتين، وتوفي يوم السبت، ودفن يوم الأحد لليلتين بقيتا من ذي القعدة سنة ستين وثلاثمائة، وله مائة سنةٍ، ودفن بباب مدينة جي، وقد زرت قبره رحمه الله، وعندي من ((المعجم)) أصله في مائتين وأحدٍ وثلاثين جزءاً.
ورواة هذا الحديث معمرون قال: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، قال: حدثنا عبد العزيز ابن أبي ثابتٍ، قال: حدثني إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن عمه موسى بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفلج الثنيتين، إذا تكلم يرى كالنور بين ثنيتيه)).(1/259)
وحدثنا المحدث العدل أبو القاسم بن بشكوال قراءةً مني عليه بمدينة قرطبة، قال: حدثنا الفقيه أبو محمد ابن عتابٍ مناولةً، قال: حدثنا أبو القاسم حاتم بن محمد التميمي، عن أبي محمد ابن عباسٍ، قال: حدثنا أبو محمد ابن أمية، قال: حدثنا محمد بن الحسين الطوسي قال:(1/260)
حدثنا محمد بن علي الصائغ، قال: حدثنا محمد بن فليحٍ، عن موسى بن عقبة الثقة العدل، عن كريبٍ، عن ابن عباسٍ قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تكلم يرى كالنور بين ثناياه)).
قال ذو النسبين أيده الله:
والسند الأول:
محمد بن عبد الله الحضرمي: ثقةٌ مخرجٌ معدلٌ قاله أبو جعفر العقيلي وأبو يحيى الساجي، وخرجا عنه.
وإبراهيم بن المنذر الحزامي:
أخرج البخاري عنه في ((صحيحه)) واعتمده ووثقه.
وعبد العزيز بن أبي ثابتٍ المدني:
قال يحيى: ليس بثقةٍ.(1/261)
وقال البخاري: لا يكتب حديثه.
وقال النسائي: متروك الحديث.
وقال الترمذي والدارقطني: هو ضعيفٌ.
وقال أبو حاتم محمد بن حبان: عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز أبو ثابتٍ ويعرف بابن أبي ثابتٍ الزهري المدني يروي المناكير عن المشاهير.
وأخرج البخاري في ((صحيحه)) عن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، ووثقه.
وموسى بن عقبة: اتفقا في ((الصحيحين)) على الإخراج عنه،(1/262)
وهو شيخ مالك بن أنسٍ إمام دار الهجرة.
وأما السند الثاني إلى موسى بن عقبة ففيه محمد بن فليح بن سليمان الأسلمي، يكنى أبا عبد الله:
قال يحيى: ليس بثقةٍ.
وقال أبو حاتمٍ الرازي: ليس بذاك القوي.
وقرأت بمدينة السلام بغداد على غير واحدٍ منهم شيخ الشيوخ ضياء الدين أبو محمد عبد الوهاب بن علي بن علي، قالوا: حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي، أخبرنا طاهر بن عبد الله، قال: أخبرنا أبو أحمد الغطريفي، قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن أبي شيبة، قال:(1/263)
حاتم بن الليث الجوهري، قال: حدثنا حماد بن أبي حمزة السكري، قال: حدثنا علي بن الحسين بن واقد، قال: حدثنا أبي، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب أنه قال:
((يا رسول الله، ما بالك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ قال: كانت لغة إسماعيل قد درست فجاء بها جبريل فحفظتها)).
قال البخاري: رأينا علي بن الحسين بن واقدٍ في سنة عشرٍ وكان أبو يعقوب إسحاق بن راهويه سيء الرأي فيه في حياته لعلة الإرجاء فتركناه، ثم كتبت عن إسحاق عنه.(1/264)
قال ذو النسبين أيده الله:
وحدثني به بأصبهان موفق الدين أبو جعفر محمد بن أحمد سبط حسين بن مندة، قال: حدثنا أبو علي الحداد سماعاً حضوراً وإجازةً، قال: حدثنا الحافظ أبو نعيم، قال: حدثنا أبو أحمد محمد بن أحمد الغطريفي بجرجان.
وقرأت في كتاب ((المنتقى من كتاب أنس الواحش وري العاطش)) الذي ألفه أبو الحسن أحمد بن عبد الله بن محمد البكري للسلطان المظفر ذي السيادتين أبي عمر أحمد بن المستعين بالله سلطان الثغر الأعلى بالأندلس من حديث برة بنت عامر الثقفية سيدة قومها أنها سألت إخوتها فقالت: ((يا بني عامرٍ، أفيكم من أبصر محمداً صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا: كلنا قد رأيناه أيام الموسم، فقالت: أفيكم من سمعه يتكلم؟ فقالوا: نعم، فقالت: كيف هو في فصاحته؟ قالوا: يا أختاه، إن أقبح مثالب العرب الكذب، أما فصاحته فما ولدت العرب فيما مضى ولا تلد فيما بقي أفصح منه ولا أذرب إذا تكلم، يعجز اللبيب كلامه، ويحرس الخطيب عن خطابه)).(1/265)
قال ذو النسبين أيده الله:
وما عسى أن يقال فيمن أوتي جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، وقد كان كبار الصحابة يسألونه عن شرح كلامه، وتفسير خطابه، ويقولون: ((ما رأينا الذي هو أفصح منك، فقال: وما يمنعني وإنما أنزل القرآن بلساني لسان عربي مبينٍ)).
وهذا تأييدٌ إلهيٌ، لا يحيط بعلمه بشري، وقد ذكر ثقات المصنفين في الحديث وغريبه، كثيراً مما سأله أصحابه عن تفسير جوابه.
فقال الإمام أبو عبيد في ((شرح غريبه)): ((إنه سئل صلى الله عليه وسلم أي الناس أفضل؟ فقال: الصادق اللسان، المخموم القلب، قالوا: هذا الصادق اللسان قد عرفناه فما المخموم القلب؟ قال: هو التقي الذي لا غل فيه ولا حسد)).(1/266)
قال أبو عبيد: التفسير في الحديث، وكذلك هو عند العرب؛ ولهذا قيل: خممت البيت إذا كنسته، ومنه سميت الخمامة وهي مثل القمامة والكناسة.
وكان صلى الله عليه وسلم يخاطب كل أمةٍ من العرب بلسانها، ويجاوبها بلغتها، ويباريها في منزع بلاغتها. وليس كلامه صلى الله عليه وسلم مع قريش والأنصار وأهل الحجاز ونجد ككلامه مع غيرهم من العرب كقطنٍ العليمي الكلبي في كتابه لوفد كلب بن وبرة بحضور دحية بن خليفة الكلبي وشهادته في الكتاب على ما ذكره ابن قتيبة في ((غريب الحديث)) له والحافظ أبو محمد الحسن بن محمد بن يعقوب في كتابه المسمى بـ ((الإكليل))، وككتابه صلى الله عليه وسلم لذي المشعار مالك بن نمطٍ الهمداني ثم الخارفي ولوفود(1/267)
همدان، وكتابه لوائل بن حجر الكندي وأقيال حضرموت وغيرهم من ملوك اليمن؛ فإن كتبه إلى هؤلاء بإملائه على كتابه صلى الله عليه وسلم قد استولت على أقاصي الفصاحة، وأخذت بمجامع الرجاحة، ومن الألفاظ الغريبة، والدالة على معانيها القريبة، ما أتعبت المفسرين، وأعجزت اللغويين، من الحوشي والغريب، والبعيد والقريب، وذلك أن الله تعالى أقدره على لغات العرب كلها، فكان أفصحها في سهل الألفاظ وجزلها.
وأما كلامه مع قريشٍ والأنصار، ففي نهايةٍ من البلاغة وركنيها اللذين هما العذوبة مع الاختصار.
ثبت في ((الصحيحين)) من طريق محمد بن سيرين، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها)).
وأخرجا عن صالح بن كيسان، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال على المنبر:
((غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله، وعصية عصت الله ورسوله)).(1/268)
ولهذا الحديث طرقٌ كثيرةٌ منها حديث خفاف بن إيماء بن رحضة أخرجه مسلم، وأخرج أيضاً من حديث محمد بن زياد القرشي عن أبي هريرة، ومن حديث ورقاء عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة بمثله، ومن حديث عراك بن مالك عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها، أما إني لم أقلها لكن الله قالها)).
ففيه البديع النفيس وهو التجنيس وذلك أن قوله صلى الله عليه وسلم : ((أسلم سالمها الله)) مجانسةٌ في الكلام؛ لأن من سالمته لم ير منك ما يكره، فكأنه صلى الله عليه وسلم دعا لها بأن يصنع الله لها ما يوافقها، ويكون: ((سالمها)) بمعنى سلمها، كما قال تعالى: {قاتلهم الله} بمعنى قتلهم.
وهذا التسليم هو هداها إلى أن أسلمت فسلمت من السبي والقتل؛ فغفار من كنانة بن خزيمة، وأسلم بن خزاعة، وعصية من سليم، والنسب إليه عصوي، وهم عصاةٌ لله يقطعون طريق الله، ويقتلون حجاج بيت(1/269)
الله، وهم ألأم خلق الله بالدعوة المقبولة، والمسألة المبذولة، وسكناهم اليوم بصحراء المغرب، منهم رواحة، لا أراهم الله راحة.
ورواحة هو هلال بن عصية بن خفاف بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان.
وثبت باتفاق من حديث جابر بن عبد الله بن حرام الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن صاحبه، ومن حديث أبي موسى عبد الله بن قيسٍ الأشعري، وعبد الله بن عمرو بن العاصي القرشي السهمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)).
فيه بلاغة لفظٍ ونفاسة معنىً؛ فأما بلاغة اللفظ فالتجنيس الواقع في الكلام في قوله: ((المسلم من سلم))، ولو قال: من نجا أو من خلص لكان المعنى واحداً، ولكن ((من سلمٍ)) تجانس به الكلام وحسن موقعه من السمع جرساً، ومن النفس حساً.
ومن التجنيس قول الله تبارك وتعالى فيما أخبر به عن بلقيس في قولها: {إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين}، فقولها: {أسلمت مع سليمان} تجنيسٌ واقعٌ من قبل ما نحن فيه سواءً.(1/270)
وأما نفاسة المعنى فإنه صلى الله عليه وسلم جعل مزية الإسلام، لمن كان المسلمون معه على سلامٍ، وذلك أن الذنوب تنقسم قسمين: كفرٌ ومعاصي، والمعاصي تنقسم قسمين تجمعها مخالفة أمر الله، فأحدهما بين العبد وبين بارئه، والآخر ظلمٌ للعباد، فأما الكفر فلا وجود للإسلام معه إذا كان بمعنى الإيمان، كما هو في هذا المكان، إذ هو ضده والضدان لا يجتمعان، وأما المعاصي فأشد قسميها مظالم العباد، ومظالم العباد تكون إما في مالٍ أو في عرضٍ أو في جسمٍ، وهي متناولةٌ باللسان واليد، واللسان آلة العرض واليد آلة الجناية على الجسم أو التعدي في المال، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم مزية الإسلام لمن سلم منها، وحض النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الكلام على مسالمة المسلمين وترك أذاهم. وليس ببدعٍ لمن أوتي جوامع الكلم أن يأتي في الألفاظ بالبلاغة وفي المعاني بالحكمة، وتظهر هذه المزية بما إذا فرضنا مسلماً يقارف الذنوب التي بين العبد وبين بارئه، ومسلماً يقارف الذنوب التي هي مظالم العباد، فلا خلاف بين العلماء أن المسلم الذي لا يظلم العباد أسلم من المسلم الذي ظلمهم؛ لأن الجنايتين عند العلماء مفترقتان، والقضيتين مختلفتان، فمجانب المظالم أسلم، ومواقعها أظلم وأجرم.
واعلموا رحمكم الله أن الظالم لا يستحق العهد من الله بالإمامة، مع ما له من الخزي يوم القيامة، قال الله جل من قائل لخليله إبراهيم عليه السلام: {إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي(1/271)
الظالمين}، أي من كان ظالماً من ذريتك لا يناله استخلافي وعهدي إليه بالإمامة وإنما ينال من كان عادلاً بريئاً من الظلم؛ لأن قوله: {ومن ذريتي} هو عطفٌ على الكاف كأنه قال: وجاعلٌ بعض ذريتي، كما يقال لك: سأكرمك فتقول: وزيداً. فالعدل هو الواجب لأن الله عز وجل عدل فيه على عباده قال جل من قائلٍ: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان}، فجعل ما فرضه عليهم واقعاً تحت طاقتهم، والإحسان الندب، وإنما علق أمره بهما جميعاً لأن الفرض لا بد من أن يقع فيه تفريطٌ فيجبره الندب.
وثبت بنقل العدل عن العدل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((وأهل الجنة ثلاثةٌ: ذو سلطان مقسطٌ متصدقٌ موفقٌ، ورجلٌ رحيمٌ رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلمٍ، وعفيفٌ متعففٌ ذو عيالٍ)) الحديث بطوله تفرد بإخراجه مسلمٌ في ((صحيحه)) في كتاب صفة الجنة والنار. فمن كان له رعيةٌ ولو شخصٌ واحدٌ فهو ذو سلطنةٍ عليه، فإذا أقسط في حقه أي عدل يقال: أقسط إذا عدل، وقسط إذا جار فهو قاسطٌ. فإذا عدل ذو سلطانٍ على من جعله الله تحت يديه وتصدق من ماله ووفق للخير فهو من أهل الجنة، وإلا سئل عنه يوم القيامة، في موقف الحسرة والندامة.
ثبت باتفاقٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته))، والراعي هو المراعي لما يدخل تحت نظره ليحفظه ويحوطه ويدبر مصالحه.(1/272)
والمراد من الحديث المتفق على صحته تحذير الولاة من التفريط فيما استرعوا عليه، وفي إشاعة العدل قوة القلب ولزوم اليقين، وأمانٌ من العدو بعصمة الحق المبين.
ولما استأذن الهرمزان -بعد ما أسلم وكان ملكاً- على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يجد عنده حاجباً ولا بواباً، فقيل له: هو في المسجد، فأتى المسجد فوجده مستلقياً متوسداً كوماً من الحصى ودرته بين يديه، فقال: ((عدلت فنمت وأنمت)).
وإذا قدم من كان ظالماً في نفسه فقد جاء المثل السائر: ((من استرعى الذئب ظلم)).
وقال حيوة بن شريحٍ: ((لما استخلف عمر بن عبد العزيز قالت رعاء الشاء: من هذا العبد الصالح الذي قام على الناس؟ قيل: وما علمكم بذلك؟ قالوا: إذا قام على الناس خليفة عدلٍ كفت الذئاب عن شائنا)).
وكتب إليه عامل مدينة حمص: ((إن مدينة حمص قد خربت فإن رأى أمير المؤمنين أن يقطع لنا مالاً نرمها به فعل فقد احتاجت إلى الإصلاح. فكتب إليه عمر: أما بعد فقد فهمت كتابك، فإذا قرأت كتابي هذا فحصنها بالعدل، ونق طرقها من الظلم؛ فإنه مرمتها، والسلام)).(1/273)
وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الظلم ظلماتٌ يوم القيامة)) أخرجاه في ((الصحيحين)) عن ابن عمر، وقد أخرجه مسلمٌ عن جابرٍ في حديثٍ طويلٍ.
فقوله صلى الله عليه وسلم : ((الظلم ظلماتٌ يوم القيامة)) يعني على أهله حين يسعى نور المؤمنين بين أيديهم وبأيمانهم، أو يكون بمعنى الشدائد والأهوال كما قال جل من قائلٍ: {قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر} أي من أهوالهما وشدائدهما، والعرب تقول: يومٌ مظلمٌ أي شديدٌ، وقال جل من قائلٍ: {وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلماً}.
وفي ((صحيح مسلم)) عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل: ((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)) الحديث بطوله.
فقوله جلت قدرته: ((حرمت الظلم على نفسي)) أي تقدست عنه وتعاليت، فهو محالٌ في حقه إذ لا يصادف لغيره ملكاً، ولا لأحدٍ عليه أمرٌ،(1/274)
فكأن الظلم في حقه كالشيء المحرم الممنوع على الناس، إذ لا يتصور في حقه ولا يمكن فرضه. وأصل الظلم في اللغة وضع الشيء غير موضعه وأخذه من غير وجهه، فكأن الظالم هو الذي يزيل الحق عن جهته ويأخذ ما ليس له، والظالم من قولك: ظلمت السقاء إذا شربته قبل أن يدرك، وظلمت الجزور إذا عقرته بغير ما علةٍ.
وثبت بنقل العدل عن العدل عن عائشة أم المؤمنين قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول -في بيتي هذا-: ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به)) أخرجه مسلمٌ بطوله.
وفي ((الصحيحين)) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذٍ -لما بعثه إلى اليمن-: ((واتق دعوة المظلوم؛ فإنها ليس بينها وبين الله حجابٌ))، أي أنها مستجابةٌ مقبولةٌ.
وفي ((الصحيحين)) أيضاً عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن الله تعالى ليملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمةٌ}.(1/275)
وقوله: ((ليملي)) أي يؤخره ويطيل مدته، مأخوذٌ من الملوة وهي الزمان الممتد.
فاعتبروا عباد الله بما تلونا عليكم من كتاب الله العظيم، ومن السنة الثابتة عن رسول الله عليه أشرف الصلاة والتسليم، وأنه يقتص للشاة الجماء من القرناء، يوم القيامة بمحضر أهل الأرض وأهل السماء.
وقد اختلف بعض الناس في حشر البهائم وفي جريان القصاص بينها:
فقال أبو الحسن الأشعري: لا تجوز المقاصة بين البهائم لأنها غير مكلفةٍ، ولا يجري عليها القلم، قال: وما ورد في ذلك من الأخبار نحو قوله صلى الله عليه وسلم : ((يقتص للجماء من القرناء، ويسأل العود لم خدش العود)) فعلى سبيل المثل والإخبار عن شدة التقصي في الحساب، وأنه لا بد أن يقتص للمظلوم من الظالم.
وكلامه وساوس وهذيان، ترده السنة الثابتة والقرآن، وقد رد عليه الأستاذ أبو الحسن الإسفراييني فقال في ((الجامع الجلي)): يجري القصاص بينها، ويحتمل أنها كانت تعقل هذا القدر في دار الدنيا فلهذا أجري فيها القصاص.(1/276)
قال ذو النسبين أيده الله:
وكلامه جارٍ على مقتضى العقل والنقل لأن البهيمة تعرف النفع والضر، فتنفر من العصا، وتقبل على العلف، وينزجر الكلب إذا زجر، ويستأسد إذا أشلي، والطير والوحوش تفر من الجوارح استدفاعاً لشرها.
فإن قيل: القصاص انتقامٌ وهو جزاءٌ على جنايةٍ والبهائم ليست بمكلفةٍ.
فالجواب أنها ليست مكلفةً لأن من ضرورة التكليف أن يعلم الرسول والمرسل، وذلك من خصائص العقلاء وهم الثقلان، والآية محمولةٌ على من يعلم الرسول والمرسل قال الله العظيم: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً}، إلا أن لله عز وجل أن يفعل في ملكه ما أراد من تنعيمٍ وتعذيبٍ، كما سلط عليهم في الدنيا التسخير لبني آدم والذبح لما يؤكل منها، فلا اعتراض عليه إنه هو العزيز المجيد يحكم في خلقه ما يشاء ويفعل في ملكه ما يريد. وأيضاً فإن البهائم إنما تقتص لبعضها من بعض لا أنها تطالب بارتكاب نهي ولا بمخالفة أمرٍ؛ لأن هذا مما خص الله به العقلاء.
ولما كثر التنازع رجعنا إلى ما أمرنا به ربنا جلت قدرته وتعالت عظمته: {فإن تنازعتم في شيءٍ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلاً}، فوجدنا الكتاب العزيز الذي {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ} يدل على الإعادة في الجملة قال الله العظيم: {وما(1/277)
من دابةٍ في الأرض ولا طائرٍ يطير بجناحيه إلا أممٌ أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيءٍ ثم إلى ربهم يحشرون}، وقال جل من قائلٍ: {وإذا الوحوش حشرت}.
والحشر في اللغة الجمع، قال العالم الثقة أبو الخطاب قتادة بن دعامة: حشرت جمعت، حكاه عنه المفسرون.
وقال أبو الحسن الواحدي في قوله تعالى: {وإذا الوحوش حشرت} قال: جمعت للقصاص.
وروى أبو صالحٍ عن ابن عباس قال: حشرها موتها، وحشر كل شيءٍ الموت غير الجن والإنس فإنهما يوقفان يوم القيامة.
وهذا لا يصح لغةً وعقلاً ونقلاً؛ الحشر في اللغة التي أنزل الله بها كتابه الجمع، وليس في موتها جمعها بل فيه تفرقتها وتفرقة أجزائها، وإنما يكون الحشر إلى الله جل وعلا بإعادة الحياة إليها وجمعها إلى ربها.(1/278)
والسند إلى ابن عباس، واهٍ دون أساسٍ:
أبو صالحٍ اسمه باذان بالنون وقيل: باذام بالميم:
قال الحافظ أبو أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني في ((تعديله وتجريحه)): أبو صالحٍ لم يلق ابن عباسٍ ولا رآه ولا أعلم أحداً من المتقدمين رضيه.
وقال أبو الفتح محمد بن الحسين الأزدي الحافظ: أبو صالح كذابٌ.
وقد رواه جويبر بن سعيد عن الضحاك عن ابن عباسٍ.
قال الإمام أحمد بن حنبل: لا يشتغل بحديث جويبر.
وقال الإمام يحيى بن معين: ليس بشيءٍ.(1/279)
وقال النسوي والدارقطني: جويبر متروكٌ.
وقال أبو حاتم بن حبان: لا يجوز الاحتجاج بحديث جويبر إلا على معنى التعريف به والقدح فيه.
ولا يصح عن الضحاك، والضحاك هو ابن مزاحم ضعيفٌ عند أكثر العلماء، كان شعبة لا يحدث عنه، وينكر أن يكون لقي ابن عباس، وضعفه الناقد يحيى بن سعيد القطان.
وقال أبو المنذر أبو الطفيل أبي بن كعب بن قيس النجاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، -وكان من المهاجرين الأولين السابقين إلى الدين، شهد(1/280)
العقبة الثانية، وبايع النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وشهد بدراً وقد غفر الله لمن شهدها، وكان أقرأ الصحابة لكتاب الله عز وجل ومن كبار فقهائهم- قال: {وإذا الوحوش حشرت} قال: اختلطت.
يعني جميع الوحوش على اختلاف أجناسها لا ينفر بعضهم من بعض، وذلك في يوم الجزاء والعرض.
والصحابي الذي شهد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب الاعتماد على تفسيره، مع أن الكتاب العزيز والسنة الثابتة واللغة نطقت بذلك، وأوضحت الطرق والمسالك.
قال الله العظيم: {قالوا أرجه وأخاه} أي أخر موسى وأخاه هارون وابعث في بلادك من يجمع لك كل سحارٍ عليمٍ، قال الله العظيم: {فجمع السحرة لميقات يومٍ معلومٍ}.
وثبت في ((الصحيحين)) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يحشر الناس على ثلاث طرائق: راغبين راهبين، واثنان على بعيرٍ، وثلاثةٌ على بعيرٍ، وأربعةٌ على بعيرٍ، وعشرةٌ على بعيرٍ، وتحشر بقيتهم النار، تقيل معهم(1/281)
حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسي معهم حيث أمسوا)).
هذا صحيحٌ باتفاقٍ، وبهذا النص أخرجه البخاري في كتاب الرقاق قال: حدثنا معلى بن أسدٍ، قال: حدثنا وهيبٌ، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وأخرجه مسلم من طريق عبد الله بن طاووس، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم .
فقوله صلى الله عليه وسلم : ((راغبين)) أي طالبين طامعين راجين.
و((راهبين)) أي خائفين فزعين.
وهذا كله إخراجٌ وجمعٌ وسوقٌ لا موتٌ وفوتٌ.
والسنة الثابتة هي المبينة للقرآن قال الله العظيم: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم}، فدل هذا الحديث المجمع على صحته من حيث منطوقه المنصوص على حشر البعران مع الناس.
وحدثنا القاضي أبو الفتح محمد بن أحمد المندائي بقراءتي عليه بواسط العراق، قال: حدثنا الرئيس الثقة أبو القاسم ابن الحصين سماعاً عليه، قال:(1/282)
أخبرنا الثقة أبو علي الحسن بن علي التميمي قراءةً عليه، قال: أخبرنا الثقة أبو بكر أحمد بن جعفر القطيعي قراءةً عليه، قال: حدثنا الإمام أبو عبد الرحمن عبد الله سماعاً عليه، قال: سمعت أبي الإمام أبو عبد الله أحمد ابن محمد بن حنبلٍ يقول: حدثنا عبد الصمد، قال: حدثنا حمادٌ، عن واصلٍ، عن يحيى بن عقيلٍ، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((يقتص للخلق بعضهم من بعضٍ حتى للجماء من القرناء حتى للذرة من الذرة)).
قال ذو النسبين أيده الله: هذا سندٌ صحيحٌ.
عبد الصمد: هو ابن عبد الوارث بن سعيد ثقةٌ عدلٌ مخرجٌ عنه في ((الصحيحين)).
وحمادٌ: هو ابن زيد بن درهم أبو إسماعيل الأزرق إمامٌ فقيهٌ عدلٌ متفقٌ على الإخراج عنه.(1/283)
وواصلٌ: هو مولى أبي عيينة بن المهلب بن أبي صفرة بصري ثقةٌ، روى عنه العلماء كحماد بن زيدٍ ومهدي بن ميمونٍ وهشام بن حسان، وقد أخرج عنه مسلم في ((صحيحه)).
ويحيى بن عقيلٍ: هو الخزاعي بصري ثقةٌ قاله مسلم بن الحجاج، وأخرج عنه في ((صحيحه))، نزل مرو وروى بها عن الصحابة: عن عبد الله بن أبي أوفى وأنس بن مالك وأبي هريرة.
والذرة: النملة الصغيرة.
فإذا كانت البهائم والذر يقتص منها، فكيف يغفل الغافل عنها.
وقد أخرج مسلمٌ هذا الحديث من طريق العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:(1/284)
((لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)). زاد الإمام أحمد في ((مسنده)) أيضاً: حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن العلاء ومحمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت العلاء يحدث عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقص للشاة الجماء من الشاة القرناء نطحتها)).
وقال ابن جعفر -يعني في حديثه-: ((حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء نطحتها)).
قال أبو عبد الرحمن: سألت أبي عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه وسهيل عن أبيه؟ قال: لم أسمع أحداً ذكر العلاء إلا بخيرٍ، وقدم أبا صالحٍ على العلاء.
الجلحاء في اللغة التي لا قرون لها، والجماء التي لا قرني لها، والذكر أقرن وأجم، والشقحطب الكبش له أربعة قرونٍ.
قرأته في ((كتاب التلخيص)) للغوي أبي هلالٍ الحسن بن عبد الله(1/285)
ابن سهل العسكري، وقد روي: ((لتؤدين)) بزيادة ياءٍ مفتوحةٍ قبل النون وهو الفصيح.
وكان أبو الحسن الأشعري لا يقطع بإعادة البهائم والمجانين ومن لم تبلغه الدعوة، ويرد قوله الكتاب والسنة.
ثبت بإجماعٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
((ما من صاحب ذهبٍ ولا فضةٍ لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نارٍ، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنةٍ حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار. قيل: يا رسول الله، فالإبل؟ قال: ولا صاحب إبلٍ لا يؤدي منها حقها، ومن حقها حلبها يوم وردها، إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاعٍ قرقرٍ أوفر ما كانت، لا يفقد منها فصيلاً واحداً، تطؤه بأخفافها وتعضه(1/286)
بأفواهها، كلما مر عليها أولاها رد عليها أخراها، في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنةٍ، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار. قيل: يا رسول الله، فالبقر والغنم؟ قال: ولا صاحب بقرٍ ولا غنمٍ لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاعٍ قرقرٍ لا يفقد منها شيئاً ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء، تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها، في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنةٍ، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار)) الحديث بطوله.
وهذا نص ((صحيح مسلم)) في كتاب الزكاة: وحدثني سويد بن سعيدٍ قال: حدثنا حفص -يعني ابن ميسرة الصنعاني- عن زيد بن أسلم، أن أبا صالحٍ ذكوان أخبره، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ونص ((صحيح البخاري)) في كتاب الزكاة أيضاً: حدثنا الحكم بن نافعٍ، قال: أخبرنا شعيب، أخبرنا أبو الزناد، أن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج حدثه أنه سمع أبا هريرة يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم :
((تأتي الإبل على صاحبها على خير ما كانت إذا هو لم يعط فيها حقها، تطؤه بأخفافها، وتأتي الغنم على صاحبها على خير ما كانت إذا لم يعط فيها حقها تطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها، قال: ومن حقها أن(1/287)
يعط فيها حقها تطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها، قال: ومن حقها أن تحلب على الماء، قال: ولا يأتي أحدكم يوم القيامة بشاةٍ يحملها على رقبته لها ثغاءٌ فيقول: يا محمد، فأقول: لا أملك لك شيئاً قد بلغت، ولا يأتي ببعيرٍ يحمله على رقبته له رغاءٌ فيقول: يا محمد، فأقول: لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغت)).
ولهذه الأحاديث الصحاح طرقٌ كثيرةٌ في المسندات والمصنفات، عن الثقات الأثبات.
فقوله صلى الله عليه وسلم : ((بطح لها)):
البطح: البسط، فبطح: بسط.
والقاع: نحو من القرقر.
والقرقر: الأرض المستوية.
فمعناه أن صاحبها يلقى على وجهه، كذا فسره أبو عبيدٍ الهروي.
وفي بعض طرق هذا الحديث: ((تخبط وجهه بأخفافها))، وهذا يدل على أن بطحه على ظهره، والبطح: البسط كيف كان لتدرسه بمستوى من الأرض خالٍ.
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((أوفر ما كانت)) أي تامة غير ناقصةٍ، قال الله العظيم -يخاطب الشيطان الرجيم-: {قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم(1/288)
جزاؤكم جزاءً موفوراً} أي تاماً غير ناقصٍ، والوفر: المال الكثير، فتطؤه بأخفافها إلى آخر الحديث.
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((ومن حقها حلبها يوم وردها))، قيدناه ((حلبها)) بإسكان اللام اسم الفعل، وذكره أبو عبيدٍ بفتح اللام وكلاهما صحيحٌ عند اللغويين، وعند النحاة بفتح اللام في قولهم: ((احلب حلباً لك شطره))، وقد يكون الحلب هو المحلوب وهو اللبن، ورواية البخاري: ((ومن حقها أن تحلب على الماء))، وإنما ذلك لأجل المحتاجين النازلين حول الماء ممن لا لبن له فيواسيهم من له اللبن.
ويوم وردها: هو اليوم الذي ترد فيه الماء.
وقد صحفه الداودي وقال: يروى: ((أن تجلب)) بالجيم.
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((ليس فيها عقصاء)) وهي الملتوية القرنين.
((ولا جلحاء)): وهي الجماء التي لا قرن لها.
((ولا عضباء)): وهي المكسورة القرنين يعني أنها تكون صحيحة الأطراف أوفر ما كانت قوةً وسمناً.(1/289)
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((بشاةٍ يحملها على رقبته لها ثغاءٌ)) على رواية المستملي والكشميهني.
فالثغاء: صوت الشاة بضم الثاء وفتح الغين المعجمة ومدها وألفٍ أمامها.
وفي رواية الحموي: ((يعار))، اليعار: صياح الشاة الشديد قال الشاعر:
كأنهم إذا فكرت فيهم ... تيوسٌ بالشكاع لها يعار
واليعر: الجدي، وقال الخليل: اليعرة الشاة.
وقد روي ((يعارٌ)) بفتح الياء وضمها وهو صوت المعز كما قدمناه.
والرغاء: أصوات الإبل إذا ضجت يقال: رغت الإبل ترغو.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ((في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنةٍ حتى يقضى بين العباد))؛ فأعلى ما قيل في ذلك قول ابن عباس ترجمان القرآن رضي(1/290)
الله عنه أنه يوم القيامة، وأن المعنى مقدار محاسبة الله الخلق فيه، وإثابة الله ومعاتبته إياهم مقدار ذلك خمسون ألف سنةٍ لو كان غير الله المحاسب، حكاه النحوي الفاضل أبو الحسن علي بن إبراهيم الحوفي.
ففي ذلك اليوم إظهار قدرة رب العالمين، في محاسبة الأولين والآخرين، كما قال في كتابه المبين: {ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين}، أي أسرع من حسب عددكم وأعمالكم وآجالكم وغير ذلك من أموركم؛ لأنه لا يحسب بعقدٍ ولكنه يعلم ذلك ولا تخفى عليه منه خافيةٌ، {لا يعزب عنه مثقال ذرةٍ في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتابٍ مبينٍ}.
وإنما رفع القلم عن البهائم في الأحكام وإلا فهي تعلم وتحذر من قيام الساعة ما لا يحذره ويعلمه جميع بني آدم كما حدثني جماعةٌ من الخراسانيين منهم الشيخ الصالح أبو الحسن عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن أبي الحسن بن أحمد الجرجاني الشعري قراءةً مني عليه بنيسابور، قال: حدثنا فقيه الحرمين أبو عبد الله محمد بن الفضل الفراوي سماعاً عليه، قال: أخبرنا الشيخ أبو حامدٍ أحمد بن الحسن الأزهري سماعاً عليه، قال: أخبرنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي، قال: أخبرنا الإمام أبو العباس(1/291)
محمد بن إسحاق بن إبراهيم الثقفي السراج قراءةً عليه، قال: حدثنا قتيبة ابن سعيد، قال: حدثنا المغيرة -هو ابن عبد الرحمن يعني الحزامي- عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((خير يومٍ طلعت عليه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة)).
كذا أخرجه مسلمٌ في ((صحيحه)) عن قتيبة، وأخرجه مالكٌ على الكمال والتمام، أخبرنا بذلك النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم ، كما حدثني جماعةٌ من شيوخي رحمهم الله منهم الفقيه الفاضل أبو الحسن علي بن الحسين بمنزله بمدينة فاسٍ سنة ثلاثٍ وسبعين وفيها مات رحمه الله، ومولده سنة تسعٍ وسبعين وأربعمائة، قال: أخبرنا الثقة أبو عبد الله أحمد بن محمد ابن عبد الله بن عبد الرحمن بن غلبون الخولاني سنة إحدى وخمسمائة.
وقرأت على القاضي بسبتة الفقيه أبي عبد الله محمد بن سعيد بن زرقون بحق إجازته من الخولاني المذكور آنفاً، قال: أخبرنا الفقيه(1/292)
أبو عمرو.
وأخبرنا الفقيه أبو الحسن ابن الحسين، قال: أخبرنا الثقة أبو عبد الله أحمد بن محمد سنة إحدى وخمسمائة، قال: أخبرنا الفقيه أبو عمرو عثمان بن أحمد القيشطالي سماعاً عليه لجميع ((الموطأ)) والشيخ الفقيه قاضي القضاة بقرطبة أبو الوليد يونس بن عبد الله بن مغيثٍ إجازةً، قال: حدثنا الفقيه أبو عيسى يحيى بن عبد الله سماعاً عليه، قال: حدثنا عم أبي الفقيه أبو مروان عبيد الله بن يحيى سماعاً عليه قال: حدثني أبي الفقيه أبو محمد يحيى بن يحيى، قال: عرضت على إمام دار(1/293)
الهجرة أبي عبد الله مالك بن أنسٍ، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة أنه قال:
((خرجت إلى الطور فلقيت كعب الأحبار، فجلست معه فحدثني عن التوراة وحدثته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان فيما حدثته أن قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خير يومٍ طلعت عليه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه أهبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابةٍ إلا وهي مصيخةٌ يوم الجمعة، من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقاً من الساعة إلا الجن والإنس، وفيه ساعةٌ لا يصادفها عبدٌ مسلمٌ -وهو يصلي يسأل الله شيئاً- إلا أعطاه إياه)).
الحديث بطوله في ((الموطأ))، وقد تكلمنا عليه بما لم يسبقنا أحدٌ والحمد لله إليه في كتابنا المسمى بـ ((العلم المشهور)).
وفيه من الفقه دليلٌ على أن الأيام بعضها أفضل من بعضٍ، وهذا لا يدرك بقياسٍ ولا يعرف إلا بتوقيفٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وفيه أيضاً من الفقه دليلٌ على أن الإنس والجن لا يعلمون من معنى الساعة ما يعرف غيرهم من الدواب.
وهو جمع دابةٍ اسمٌ موضوعٌ لكل ما دب ثم غلب عليه عرف الاستعمال في نوعٍ من الحيوان دون غيره.(1/294)
وأصل الإصاخة في اللغة الاستماع قال الشاعر:
وحديثها كالقطر يسمعه ... راعي سنين تتابعت جدبا
فيصيخ يرجو أن يكون حياً ... ويقول من فرحٍ أيا ربا
أنشده النحويون في فصل في باب النداء.
فالإصاخة في الحديث الكريم للبهائم ترقباً للساعة التي تقوم في يوم الجمعة إصاخة حذرٍ وإشفاق، خشية عموم الموت الذي هو مر المذاق، وإليه أشار صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث: ((شفقاً من الساعة)) حتى يعلم أن في قيامها من عظيم الأمر الذي يجب توقيه ما هو مركوزٌ في جبلة البهائم، وإنما لم يسمع الإنس لحكمةٍ بالغةٍ وهو أنهم لو سمعوا صار الإيمان بالغيب مشاهدةً وذهب معنى التكليف، فتبليغ الصادق صلى الله عليه وسلم ينوب عن سماعنا، فإصاخة الدواب محمولٌ على إلهام الله تعالى إياها في ذلك اليوم على ما جبلها عليه من توقيها ما يضرها وانقيادها إلى ما ينفعها جبلاً خلقياً لا علماً عقلياً، وإحساساً حيوانياً لا إدراكاً فهمياً.
وإذا جبل الله تعالى النملة على حمل قوتها وادخاره لزمن الشتاء محاذرةً من مضرةٍ تكون فيه على أجسامها، فجبله البهيمة على الإصاخة لمحاذرة يومٍ تكون فيه الساعة المؤذنة بهلاكها وهلاك العالم أقرب وأولى.(1/295)
ومن استقرأ أحوال الحيوانات رأى حكمة الله تعالى فيها، لما سلبها العقل جعل لها حساً تفرق به بين الضار لها والنافع، وجبلها على أشياء وألهمها إياها لا توجد في الإنسان إلا بعد التعلم وتدقيق النظر.
منها النحل المحكمة لتسديس مخازن قوتها حتى يتعجب منه أهل الهندسة، والعنكبوت المتقنة لخيوط بيوتها، وتجويد تناسب الدوائر المقاطعة لها، والعرب تقول: ((أصنع من سرفةٍ)) وهي دودةٌ تكون في الحمض، ويبلغ من صنعها إلى أن تصنع مربعاً من عيدانٍ.
وقد ظهرت من البهائم الصنائع العجيبة، والأفاعيل الغريبة ولم يسلبها رب العالمين سوى العبارة عن ذلك والنطق به ولو شاء أنطقها كما أنطق النملة في عهد سليمان على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام.
وقد تكلمنا على هذا الحديث في الكتاب المذكور، بما فيه منفعةٌ للجمهور، فلله جل وعلا أن يعذب بملكه لا بالمعصية.
وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الوزغ فقال فيما خرجه البخاري في كتاب بدء الخلق في ترجمةٍ نصها: بابٌ قول الله عز وجل: {واتخذ الله إبراهيم خليلاً}، حدثنا عبيد الله بن موسى أو ابن سلامٍ عنه، قال:(1/296)
أخبرنا ابن جريجٍ، عن عبد الحميد بن جبيرٍ، عن سعيد بن المسيب، عن أم شريكٍ ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ، قال: وكان ينفخ على إبراهيم)).
وأخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ((من قتل وزغاً في أول ضربةٍ كتبت له مائة حسنةٍ)).
أخرجه مسلمٌ في ((صحيحه)) في كتاب الأدب قال: حدثنا قتيبة ابن سعيدٍ: قال: حدثنا أبو عوانة.
وحدثني زهير بن حربٍ، قال: حدثنا جريرٌ.
وحدثنا محمد بن الصباح، قال: حدثنا إسماعيل -يعني ابن زكرياء-. وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، كلهم عن سهيلٍ، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى حديث خالد بن عبد الله عن سهيل، إلا جريراً وحده فإن في حديثه: ((من قتل وزغاً في أول ضربةٍ كتبت له مائة حسنةٍ، وفي الثانية دون ذلك، وفي الثالثة دون ذلك))، وللحديث طرقٌ في ((صحيح مسلم)).
قال ذو النسبين أيده الله:
فهذه عجماء عوقبت على سوء صنيع جنسها؛ فلا تلتفتوا -رحمنا الله وإياكم- إلى الآراء الفلسفية، وأن البهائم لا يجري عليها القصاص(1/297)
لخروجها عن الصفة الإنسانية، وكذلك قولهم أيضاً في البهائم: إنما هي الناس الذين غلبت عليهم الأخلاق البهيمية، وأن العذاب إنما هو على أرواح بني آدم دون إعادة أجسادهم؛ وهذا لكفر الفلاسفة بالله وعنادهم.
ثبت بنقل العدل عن العدل، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه ذي العظمة والطول.
أنبأنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيبٍ السجزي الصوفي في إجازته العامة، قال: حدثنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر الداوودي سماعاً عليه، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطرٍ الفربري، أخبرنا الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قال حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيبٌ، قال: حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله عز وجل: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك؛ فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما(1/298)
بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولداً، وأنا الأحد الصمد لم نلد ولم نولد، ولم يكن لي كفؤاً أحدٌ)) وهذا نص طريق البخاري في سورة الصمد، وله طرقٌ.
فخالفوا من نبذ كتاب الله وراء ظهره، وقفوا عند نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره، وتيقنوا أن البهائم يقتص بعضها من بعضٍ يوم الحشر والحساب، وأن الكافر يتمنى حين يقال لها: كوني تراباً أنه انقلب إلى حال التراب، وإنما يصير تراباً الأجساد المعروفة المركبة من اللحوم والعظام والجلود، حتى يعيدها الذي بدأها لحضور اليوم المشهود، إما إلى الجنة دار الخلود أو إلى النار ذات الوقود.
وأول كتابٍ كتبه لسلطان الروم أملاه على ابن عمه الإمام أبي الحسن علي بن أبي طالبٍ، وأرسله مع صاحبه المشبه بجبريل: دحية بن خليفة سنة سبعٍ من الهجرة، ونصه في أول ((صحيح البخاري))، وإن كان كرره في مواضع كثيرة، وحذف منه فوائد غزيرة، منها في:
- بدء الوحي.
- والإيمان.(1/299)
- والعلم
- والأحكام
- والجهاد
- والشهادات.
- والمغازي.
- وخبر الواحد.
- والاستئذان.
- والأدب.
- والتفسير.(1/300)
وأخرجه مسلمٌ في المغازي، وأخرجه الجميع سوى مالك في ((الموطأ)).
وهو كتابٌ اتفق العلماء على صحته، ونصه في بدء الوحي:
((بسم الله الرحمن الرحيم؛ من محمدٍ عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلامٌ على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون}.
فإنما كتب صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وسمى نفسه عبداً على ما خرجه البخاري في أول كتاب بدء الوحي على معنى التنبيه للروم على أن عيسى عبدٌ لله لا ابنٌ له على زعمهم الفاسد، وموضع التنبيه أنه كما استوى معه في النبوة فكذلك استوى معه في العبودية.(1/301)
ثم قال صلى الله عليه وسلم : ((إلى هرقل عظيم الروم)) فلم يصفه بصفةٍ توجب له استحقاق أمرٍ لا حقيقةً ولا إيهاماً، مثل أن يقول: سلطان الروم أو ملك الروم أو ما ينبئ من ذلك، إذ مثل هذه الصفات تقتضي استحقاقاً لهذه الولايات أو توهم ذلك، وليس كذلك عظيم الروم لأنه إنما يقتضي تعظمه في نفسه أو تعظيمهم إياه، فافترق هذا من سواه. وإنما لم يكتب: إلى ملك الروم؛ لما يقتضيه هذا الاسم من المعاني التي لا يستحقها من ليس بمسلمٍ، ولو فعل لكان فيه التسليم لملكه وهو بحق الدين معزولٌ.
ثم قال صلى الله عليه وسلم بعقب ذلك: ((سلامٌ على من اتبع الهدى)) أخذاً واقتداءً بما أمر الله تعالى به إخوته موسى وهارون عليهما السلام أن يقولاه لفرعون.
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين)) اختلف الأئمة من أهل اللغة في هذه اللفظة وهي عندهم كلمةٌ أعجميةٌ:
فقيده جل رواة ((صحيح البخاري)): ((الأريسيين)) بسكون اللام وفتح الهمزة وكسر الراء والسين وتشديد الياء وكسرها، وواحده الأريس، وجمعه الأراريس؛ نسب توكيداً كما قالوا: والدهر بالإنسان دواري، أصله دوارٌ نسب توكيداً. ورواه أبو إسحاق النسفي صاحب البخاري: ((اليرسيين)) بالياء، وكذلك رواه أبو زيدٍ المروزي على الإبدال للهمزة بالياء كما قالوا: أزني ويزني.(1/302)
ورواه أبو أحمد الجرجاني: ((الأريسيين)) بسكون اللام وفتح الهمزة وسكون الراء وفتح الياء وكسر السين.
فمن قال: ((الأريسيين)) فتفسير الرواية الأولى هم أتباع عبد الله بن أريسٍ رجلٍ في الزمان الأول بعث الله نبياً فخالفه هو وأتباعه.
ورواية الجرجاني: ((الأريسيين)) بسكون الراء كما قدمناه.
قيل: هم نصارى أتباع عبد الله بن أروس وهم الأروسية متمسكون بدين عيسى ولا يقولون هو ابنٌ.
وقال الإمام عبد الله بن وهبٍ: الأريسيون الشمامسة.
وقيل: إن الأريسيين كانوا مجوساً وكانوا يعمرون أرض الروم، وكانت الروم أهل كتابٍ فغلظ عليهم لذلك لأن المجوس عند الروم شر الناس.
وقيل: صنفٌ من الناس مذموموا الأحوال عندهم.
وقيل: هم الملوك الذين يخالفون أنبياءهم.
وقيل: الخدمة والأعوان.
وقيل: المتبخترون.
وقال أبو علي ابن السكن: يعني اليهود والنصارى لأنه فسره في الحديث، ومعناه أن عليك إثم رعاياك وأتباعك ممن صددته عن الإسلام(1/303)
فاتبعك على كفرك كما حكى الله جل وعلا عنهم في كتابه: {قال الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين}.
قال الهروي عن ثعلب: يقال: أرس بفتح الهمزة وكسر الراء يأرس بفتح الراء، وأرس بفتح الهمزة والراء يأرس بكسر الراء صار أريساً، وأرس يؤرس، فإذا شددت الراء من أرس فمعناه صار إريساً بكسر الهمزة وكسر الراء وشدها والجمع أريسون بضم الهمزة وتشديد الراء وهم الأكرة. قاله القاضي عياض بن موسى في ((مشارق الأنوار على صحاح الآثار)).
وقيده الإمام الثقة أبو عبد الله محمد بن جعفر التميمي المعروف بابن القزاز وقال: إن الإريس على وزن فعيل مشدد الراء مكسور الهمزة، وهو من الأضداد يكون المالك ويكون الأجير.
قال ذو النسبين أيده الله:
((الإريسيون)) بالتشديد للراء وكسر الهمزة، وجمعه أيضاً أرارسةٌ ومعناه: فعليك إثم الملوك والأتباع والجهال الذين هم يسلمون إن أسلمت تبعاً وتقليداً لك، وإن لم تسلم أنت لم يسلموا فيكون عليك إثمهم.(1/304)
واحتج القائل لهذا بما رواه ابن وهبٍ في ((مغازيه)): ((فإنك إن تسلم تسلم، وإن لم تسلم فإنك تهدم الكفور وتقتل الإريسيين، وإني أجعل إثم ذلك في رقبتك)).
والكفور: القرى جمع كفرٍ، ومعناه أن عليك إثم من قتل منهم في مملكتك لأنك أنت تعرضهم للقتل، فيكون الإريس: الضعيف العاجز والراعي، والعبد الخسيس الهمة في المساعي.
ولما بلغ معاوية بن أبي سفيان أن عظيم الروم يريد قصد الشام، فكتب إليه يحلف بالله:
((لإن تممت على ما بلغني من عزمك لأصالحن صاحبي ولأكونن على مقدمته إليك، ولأجعلن القسطنطينية البخراء حممةً سوداء، ولأنتزعنك من الملك انتزاع الإصطفلينة، ولأردنك إريساً من الأرارسة ترعى الدوابل)).
الإصطفلينة: الجزرة لغةٌ شاميةٌ، والجمع بحذف التاء، ومنه حديث القاسم بن مخيمرة: ((إن الوالي لتنحت أقاربه أمانته كما تنحت القدوم الإصطفلينة حتى تخلص إلى قلبها)).
والدوابل: جمع دوبلٍ وهو الخنزير، وقيل: الجحش.
وتمم على الأمر: إذا استمر عليه كما يقال: مضى على ما عزم.(1/305)
واللام في ((لإن)) هي الموطئة للقسم، وقد لف القسم والشرط ثم جاء بقوله: ((لأصالحن)) فوقع جواباً للقسم وجزاءً للشرط دفعةً.
والمقدمة: الجماعة تتقدم الجيش، من قدم بمعنى تقدم، وقد استعيرت لأوائل كل شيءٍ فقيل: مقدمة الكتاب، ومقدمة الكلام، وفتح الدال خلفٌ من الكلام.
وفي الكتاب الكريم من الفقه اثنا عشر فائدةً:
الأولى: جواز البعثة بالكتاب واحداً إذا كان عدلاً لأن الصحابة كلهم عدولٌ بثناء الله تعالى عليهم ووصفه لهم بالصدق، والصادق لا يكون عند الله كاذباً.
الثانية: جواز الكتاب إلى الكافرين.
الثالثة: استفتاح الكتاب بسم الله الرحمن الرحيم.
الرابعة: وقوع العنوان بعد البسملة اقتداءً بسيد المرسلين، إعراضاً عن أفعال البطالين.
الخامسة: افتتاح الكتاب بقوله: أما بعد.
السادسة: أنه دعاه إلى الإسلام الذي يوجب السلامة فتجانس اللفظ وتطابق المعنى.
السابعة: دعاء الكفار قبل القتال، وهو أثبت الأقوال، قال الله العظيم: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً}.(1/306)
الثامنة: الاستشهاد بالقرآن، لأهل الكفر والعدوان.
التاسعة: أن من قبل الإيمان، كان له أجران، أجر لإيمانه بعيسى بن مريم ثم إيمانه بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم على ما فسره القرآن، وقام عليه من الحديث الصحيح البرهان.
العاشرة: جواز بعث القرآن، ليتعظ به أهل العصيان.
الحادية عشر: جواز تفسير القرآن بغير اللسان العربي إن دعت الضرورة إلى ذلك؛ ليقرب بذلك إلى فهمهم، ويكون سبباً لدخولهم في الإسلام.
الثانية عشر: لا تجوز قراءة القرآن في الصلاة بغير العربية وهو الحق، وبه قال مالكٌ والشافعي؛ لأنه إنما فسر بغير العربية لمعنىً غير الصلاة وهو عرض الإيمان عليهم.
أجاز لنا أبو الوقت إجازةً عامةً قال: سمعت الداوودي يقول: سمعت الحموي يقول: سمعت الفربري يقول: سمعت البخاري يقول: حدثنا يحيى بن سليمان، قال: حدثني ابن وهبٍ، قال: حدثني عمر، أن سالماً حدثه عن عبد الله بن عمر قال: ((ما سمعت عمر لشيءٍ قط يقول: إني لأظنه كذا إلا كان كما يظن، بينما عمر جالسٌ إذ مر به رجلٌ(1/307)
جميلٌ فقال: لقد أخطأ ظني، أو إن هذا على دينه في الجاهلية، أو لقد كان كاهنهم، علي الرجل.
فدعي له وقال له ذلك، فقال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجلاً مسلماً، قال: فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني، قال: كنت كاهنهم في الجاهلية، قال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتك؟
قال: بينما أنا يوماً في السوق جاءتني أعرف فيها الفزع وقالت: ألم تر الجن وإبلاسها، ويأسها من بعد إنكاسها، ولحوقها بالقلاص وأحلاسها.
قال عمر: صدق، بينما أنا نائمٌ عند آلهتهم إذ جاء رجلٌ بعجلٍ فذبحه، فصرخ به صارخٌ لم أسمع صارخاً قط أشد صوتاً منه يقول:
يا جليح، أمرٌ نجيح، رجلٌ فصيح، يقول: لا إله إلا الله. فوثب القوم، قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى: يا جليح، أمرٌ(1/308)
نجيح، رجلٌ فصيح، يقول: لا إله إلا الله، فقمت فما نشبنا أن قيل: هذا نبي)).
قال ذو النسبين أيده الله:
ورواه ابن إسحاق بالياء ((يصيح))، والصحيح ما ثبت في ((الصحيح)).
وعمر الذي لم ينسبه البخاري هو عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله ابن عمر بن الخطاب العسقلاني، أصله من المدينة شرفها الله، يروي عن الإمام في الحديث واستنباط الفقه منه سالم بن عبد الله، وروى عن جده زيد بن عبد الله وأبيه محمد بن زيد ونافع وزيد بن أسلم، وهو أخو واقدٍ وعاصمٍ وزيدٍ وأبي بكرٍ.
قال أبو حاتم: ولد محمد بن زيد بن عبد الله خمسةٌ أوثقهم عمر، وهو ثقةٌ صدوقٌ.
قال ذو النسبين أيده الله:
وقد اتفق أهل ((الصحيح)) على الإخراج عنه.(1/309)
فقد بشرت الجن بسيد ولد آدم محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ونطق به ساكن الصنم وتكلم.
وجليح: اسم شيطانٍ، والجليح في اللغة ما تطاير من رؤوس النبات وخف نحو القطن وشبهه، والواحدة جليحةٌ.
ووقع في ((السيرة)): ((يا ذريح))، وكأنه نداءٌ للفحل المذبوح للصنم فإنهم يقولون: أحمر ذريحي أي شديد الحمرة، فصار وصفاً للعجل الذبيح من أجل الحمرة. والذي ثبت في ((صحيح البخاري)) مآله إلى هذا المعنى، لأن العجل قد جلح أي كشف عنه الجلد.
وقوله: ((وإبلاسها)) الإبلاس التحير، والإبلاس أيضاً اليأس قال الله العظيم: {فإذا هم مبلسون} أي يائسون، وقرأناه في الأغربة: عجبت للجن وتقساسها، وهو موزونٌ معربٌ، والتقساس التسمع على المتحدثين، وذلك من أفعال الشياطين.
وقوله: ((من بعد إنكاسها)) انتكس الرجل إذا سقط سقطةً بعد سقطةٍ ولا يزال منتكساً.
وقوله: ((بالقلاص وأحلاسها)) القلاص جمع قلوصٍ وهي فتيات الإبل، وهي في النوق كالجارية في النساء.(1/310)
والأحلاس: جمع حلسٍ وهو كساءٌ أو لبدٌ يجعل على ظهر البعير تحت القتب يلازمه؛ فمعناه أي يلازمون ظهور القلاص فراراً من الرجل الفصيح الذي يقول: لا إله إلا الله، ومنه يقال: فلانٌ حلس بيته أي ملازمه، وقيل لهمدان: أحلاس الخيل، أي الملازمون لظهورها.
قال ذو النسبين أيده الله:
وهذا الرجل الذي لم يسمه البخاري هو سواد بن قاربٍ الدوسي كذا نسبه العارفون بالنسب منهم ابن الكلبي، وقال ابن أبي خيثمة: سواد ابن قاربٍ سدوسي من بني سدوس.
قال ذو النسبين أيده الله:
سدوسٌ بالفتح في ذهلٍ وبالضم في طيءٍ. وكان سواد بن قاربٍ شاعراً خطيباً موفقاً في علمه مطاعاً عند قومه، ذكر ذلك غير واحدٍ منهم الإمام شيخ السنة أبو القاسم الطبراني وأبو يعلى الموصلي والثقة اللغوي أبو علي القالي وغيرهم.
قرأت بمدينة أصبهان على الشيخ الثقة أبي جعفر الصيدلاني بحق سماعه على الزاهدة أم الغيث الجوزدانية، بحق سماعها على الفقيه الثقة أبي بكر محمد بن ريذة، بحق سماعه على الإمام شيخ السنة أبي القاسم سليمان ابن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الطبراني، قال: حدثنا محمد بن محمد التمار النصري، قال: حدثنا بشر بن حجر السامي، قال: حدثنا علي بن منصور الأبناوي، عن عثمان بن عبد الرحمن الوقاصي، عن محمد بن كعب(1/311)
القرظي قال: ((بينما عمر رضي الله عنه قاعدٌ في المسجد إذ مر رجلٌ في مؤخر المسجد، فقال رجلٌ: يا أمير المؤمنين، أتعرف هذا المار؟ قال: لا، فمن هو؟ قال: هذا سواد بن قاربٍ وهو رجلٌ من أهل اليمن له فيهم شرفٌ وموضعٌ، وهو الذي أتاه رئيه بظهور النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال عمر: علي به، فدعي به، فقال: أنت سواد بن قاربٍ؟ قال: نعم، قال: فأنت الذي أتاك رئيك بظهور النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم، قال: فأنت على ما كنت عليه من كهانتك؟ فغضب غضباً شديداً وقال: يا أمير المؤمنين، ما استقبلني بهذا أحدٌ منذ أسلمت، فقال عمر: يا سبحان الله، ما كنا عليه من الشرك أعظم مما كنت عليه من كهانتك، أخبرني بإتيانك رئيك بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: نعم يا أمير المؤمنين، بينا أنا ذات ليلةٍ بين النائم واليقظان إذ أتاني رئيي فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قاربٍ فافهم واعقل إن كنت تعقل، إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى الله عز وجل وإلى عبادته، ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وتجساسها ... وشدها العيس بأحلاسها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما خير الجن كأنجاسها
فارحل إلى الصفوة من هاشمٍ ... واسم بعينيك إلى رأسها
قال: فلم أرفع بقوله رأساً وقلت: دعني أنم فإني أمسيت ناعساً. فلما أن كان الليلة الثانية أتاني فضربني برجله وقال: ألم أقل لك يا سواد ابن قاربٍ: قم فافهم واعقل إن كنت تعقل، إنه قد بعث رسولٌ من لؤي ابن غالب يدعو إلى الله تعالى وإلى عبادته، ثم أنشأ الجني يقول:(1/312)
عجبت للجن وتطلابها ... وشدها العيس بأقتابها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما صادق الجن ككذابها
فارحل إلى الصفوة من هاشمٍ ... ليس قداماها كأذنابها
قال: فلم أرفع بقوله رأساً. فلما أن كان الليلة الثالثة أتاني فضربني برجله وقال: ألم أقل لك يا سواد بن قاربٍ: قم فافهم واعقل إن كنت تعقل، إنه قد بعث رسولٌ من لؤي بن غالبٍ يدعو إلى الله تعالى وإلى عبادته، ثم أنشأ الجني يقول:
عجبت للجن وأخبارها ... وشدها العيس بأكوارها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمن الجن ككفارها
فارحل إلى الصفوة من هاشمٍ ... بين روابيها وأحجارها
قال: فوقع في نفسي حب الإسلام ورغبت فيه، فلما أصبحت شددت على راحلتي فانطلقت متوجهاً إلى مكة، فلما كنت ببعض الطريق أخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد هاجر إلى المدينة، فأتيت المدينة فسألت عن النبي صلى الله عليه وسلم فقيل لي: في المسجد، فانتهيت إلى المسجد فعقلت ناقتي ودخلت، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس حوله، فقلت: اسمع مقالتي يا رسول الله، فقال أبو بكر رضي الله عنه: ادنه ادنه، فلم يزل بي حتى صرت بين يديه فقال: هات فأخبرني بإتيانك رئيك فقلت:
أتاني نجيي بعد هدءٍ ورقدةٍ ... ولم يك فيما قد بلوت بكاذب
ثلاث ليالٍ قوله كل ليلةٍ ... أتاك رسولٌ من لؤي بن غالب(1/313)
فشمرت عن ذيل الإزار ووسطت ... بي الذعلب الوجناء بين السباسب
فأشهد أن الله لا رب غيره ... وأنك مأمونٌ على كل غائب
وأنك أدنى المرسلين وسيلةً ... إلى الله يابن الأكرمين الأطايب
فمرنا بما يأتيك يا خير من نشا ... وإن كان فيما جاء شيب الذوائب
وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعةٍ ... سواك بمغنٍ عن سواد بن قارب
قال: ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه بإسلامي فرحاً شديداً حتى ريء في وجوههم، قال: فوثب إليه عمر رضي الله عنه والتزمه وقال: قد كنت أحب أن أسمع هذا منك)). هذا نص رواية ابن ريذه ونقلته حرفاً من أصل الطبراني المقروء عليه. وقد رواه أيضاً من طريق سعيد(1/314)
ابن جبير، قال: أخبرني سواد بن قاربٍ الأزدي قال: ((كنت نائماً على جبلٍ من جبال الشراة، فأتى آتٍ فضربني برجله))، ونص الحديث وأسقط منه ذكر عمر رضي الله عنه.
وقد رواه الحفاظ منهم محمد بن أبي شيبة وأبو يعلى الموصلي وزاد عبد الله بن محمد بن النعمان في آخر حديثه قال عمر: ((فأخبرني عن رئيك هل يأتيك اليوم؟ فقال: أما منذ قرأت كتاب الله فلا، ونعم العوض كتاب الله من الجن))، ووقف أبو يعلى في ((مسنده)): ((ونعم العوض كتاب الله)).
وهذه الأبيات معناها واحدٌ وقافيتها مختلفةٌ، وقد رواها أصحاب السير والأخبار برواياتٍ وألفاظٍ متقاربةٍ وليست من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأورد جميع رواياتها ويكفيني سندٌ واحدٌ إليها.
وهذا الحديث الذي رويناه عن الطبراني عن:
محمد بن محمد التمار: محدثٌ من أهل البصرة من أهل الخير والدين، سمعه من بشر بن حجر السامي، وكذلك رواه عن بشرٍ جماعةٌ من الحفاظ منهم الحسن بن سفيان وأبو بكر عبد الله بن محمد بن النعمان التيمي في جماعةٍ.
وبشر السامي: منسوبٌ على سامة بن لؤي من ثقات أهل البصرة.
وعلي بن منصور الأبناوي: وكل من كان باليمن من أبناء الموالي يدعى الأبناوي.(1/315)
وعثمان بن عبد الرحمن الوقاصي: من ولد سعد بن أبي وقاصٍ ضعفه جماعةٌ منهم يحيى بن معين.
ومحمد بن كعب القرظي: أحد علماء المسلمين وثقاتهم، ومن فضلاء التابعين بالمدينة وصلحائهم، ومن علماء المفسرين، اتفقا على الإخراج عنه في ((صحيحيهما)).
فلنرجع إلى شرح ما في هذا الحديث من الغريب، على جهة الاختصار والتقريب.
التجساس: على وزن الترحال وهو التجسس، وكذلك التطلاب بمعنى الطلب.
والعيس: الإبل التي يخلط بياضها شيءٌ من شقرةٍ يقال: جملٌ أعيس وناقةٌ عيساءٌ.
والأحلاس: جمع حلسٍ.
والرئي: بفتح الراء على وزن النجي هو جني يتبع إنسياً ويأتيه بالأخبار فيصير كاهناً، ويروى بكسر الراء على وزن القسي، والفتح في الراء أفصح، وأصله من الإراءة والرؤية.
وخير الجن: ويروى ((وخيروا)) بالواو على لفظ الجمع، وكذا صادقوا الجن ومؤمنوا الجن، وهي تلائم الألفاظ التي بعدها من قوله:(1/316)
كأنجاسها وككفارها، وككذابها، وإن كان جاء في روايتنا على لفظ الواحد إلا أنه يدل على الجمع بالألفاظ التي بعدها.
والصفوة: المختارون.
وقوله: ((إلى رأسها)) أي إلى رئيس القبيلة وسيدها الذي هو فيها بمنزلة الرأس للجسد.
وقوله: ((دعني أنم)) أنم جزم جواب دع.
وقوله: ((أمسيت ناعساً)) أي يغلبني النوم ولم أقض منه وطري.
وقوله: ((يا سواد بن قاربٍ))، ففي هذا وأمثاله للنحويين ثلاثة أوجهٍ:
الأول: أن تضم الاسم الأول كما هو شأن المنادى المفرد نحو: يا زيد ويا عمر، ولأنه منادى مفردٌ ليس بمضاف، وتفتح النون لأنه صفةٌ مضافةٌ فكما تقول: يا زيد أخانا فتنصب الصفة نصبت الابن هاهنا.
والوجه الثاني: تفتح الدال تبعاً للنون، وهذان الوجهان فصيحان.
والوجه الثالث: أن تضم النون من ((ابن)) تبعاً للدال فتقول: يا سواد بن قاربٍ، وهو أحط درجةً من الوجهين الأولين.
والأقتاب والأكوار: جمع القتب والكور وهما الرحل الذي يشد على البعير.
وقوله: ((واعقل إن كنت تعقل)) أي اعقل كلامي إن كان لك عقلٌ ومعرفةٌ.
والقدامى: المتقدم، والأذناب: المتأخرون.(1/317)
أي ليس متقدموا بني هاشمٍ كالنبي صلى الله عليه وسلم ومن آمن به منهم مثل المتأخرين في الكفر عنهم، ويحتمل أن يريد به: ليس متقدموا المسلمين والسابقون إلى الإسلام كمن تأخر. وهذا يعضده كتاب الله عز وجل فإنه أثنى على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وفيهم الموالي وأعيان الأحرار.
وقوله في هذه الرواية: ((فقال أبو بكر)) وليس في رواية غيره ذكر أبي بكر وكأنه الأولى لأنه المتكلم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقوله: ((ادنه)) الهاء للوقف.
وقوله: ((بعد هدءٍ)): الهدء بفتح الهاء وسكون الدال هو الهدو بضم الهاء والدال وتشديد الواو وهو السكون أي بعد ما رقدت وهدأت.
وثلاث ليالٍ: بالنصب ظرفٌ.
وكل ليلةٍ: ظرفٌ أيضاً، أي يقول لي كل ليلةٍ.
والذعلب: الناقة القوية.
والوجناء: الناقة الصلبة.
والسباسب: المفاوز، جمع سبسبٍ.
والأطايب: جمع الأطيب.
وقوله: وإن كان فيما جاء شيب الذوائب، أي بلغنا ما يأتيك به الوحي من الله عز وجل وإن كان فيه أمورٌ شدادٌ تشيب منها الذوائب؛ فإنا نأخذ به ونتبعك عليه.
والوسيلة: القرب والمنزلة.
والروابي: جمع الرابية وهي المرتفع من الأرض، يريد بين الجبال.(1/318)
وجبل الشراة: في رواية سعيد بن جبير وإن كان السند فيه لينٌ فقيدناه بالشين المعجمة المضمومة، وهو جبلٌ باليمن منسوبٌ إلى جماعةٍ من الخوارج يقال لأحدهم: شاري.
قال ذو النسبين أيده الله: وقرأت في ((كتاب الاشتقاق)) للنحوي الكبير أبي جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل: فقال الشراة واحدهم شارٍ.
وقد تكلم أهل اللغة في اشتقاق هذه الكلمة بغير جوابٍ فمنهم من قال: سموا شراةً بقولهم: شرينا أنفسنا لله عز وجل، واشترينا الآخرة بالدنيا. ومنهم من قال: الكلمة مشتقةٌ من قولهم: شاريته أي لاححته وماريته وهم من ألح الناس وأشدهم مراءً، ومنه الحديث: ((فكان لا يشاري ولا يماري)).(1/319)
وأصح ما قيل في اشتقاق هذه الكلمة ما حكاه يعقوب بن السكيت أنه يقال: شرى الرجل غضباً إذا استطار غضباً، وقيل لهم هذا لشدة غضبهم واحتدادهم على المسلمين. وحكى أبو عبيد أنه يقال: استشرى الفرس في سيره أي لج ومضى فيه بلا فتورٍ ولا انكسارٍ. قال: ومن هذا القبيل قيل للرجل -إذا لج في الأمر-: قد شرى فيه واستشرى.
قال يعقوب: وحكى أبو عمروٍ: شرى البعير في سيره يشرى شرى إذا كان سريع المشي، وشري زمام الناقة يشرى إذا كثر اضطرابه، وشرى البرق إذا كثر لمعانه، وشريت الشيء بعته واشتريته، وأصله كله من سرعة الشيء.
وفي بعض الروايات: ((أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة))، وفي روايتنا عن محمد بن كعب: ((أنه أدركه بعدما هاجر إلى المدينة)).
وسواد بن قاربٍ هذا رضي الله عنه أزدي دوسي، وقال ابن أبي خيثمة: سدوسي، وهما قبيلتان مختلفان إلا أن يكون من إحداهما وحالف الأخرى، أو نزل فيما بين أهلها فنسب إليهما جميعاً.
ولسواد بن قاربٍ هذا مقامٌ حميدٌ في دوسٍ حين بلغهم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب واشرأب النفاق، وجاء من العرب ما لا يطاق، فقام خطيباً فقال:
((يا معشر الأزد، إن من سعادة القوم أن يتعظوا بغيرهم، ومن شقائهم أن لا يتعظوا إلا بأنفسهم، وإنه من لم تنفعه التجارب ضرته، ومن(1/320)
لم يسعه الحق لم يسعه الباطل، وإنما تسلمون اليوم بما أسلمتم به أمس، وقد علمتم أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد تناول قوماً أبعد منكم فظفر بهم، وأوعد قوماً أكثر منكم فأخاتهم، ولم يمنعه منكم عدةٌ ولا عددٌ، وكل بلاء منسي إلا ما بقي أثره في الناس، وما ينبغي لأهل البلاء إلا أن يكونوا أذكر من أهل العافية للعافية، وإنما كف نبي الله عنكم ما كفكم عنه، فلم تزالوا خارجين مما فيه أهل البلاد داخلين فيما فيه أهل العافية، حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبكم ونقيبكم فعبر الخطيب عن الشاهد، ونقب النقيب عن الغائب، ولست أدري لعله يكون للناس جولةٌ، فإن تكن فالسلامة منها الأناة، والله يحبها فأحبوها، فأجابه القوم وسمعوا قوله، فقال في ذلك سواد بن قاربٍ:
جلت مصيبتك الغداة سواد ... وأرى المصيبة بعدها تزداد
أبقى لنا فقد النبي محمدٍ ... صلى الإله عليه ما يعتاد
حزناً لعمرك في الفؤاد مخامراً ... أو هل لمن فقد النبي فؤاد
كنا نحل به جناباً ممزعاً ... جف الجناب فأحدب الرواد
فبكت عليه أرضنا وسماؤنا ... وتصدعت وجداً به الأكباد
قل المتاع به وكان عنانه ... حلماً تضمن سكرتيه رقاد
كان العيان هو الطريف وحزنه ... باقٍ لعمرك في النفوس تلاد
إن النبي وفاته كحياته ... الحق حق والجهاد جهاد
لو قيل تفدون النبي محمداً ... بذلت له الأموال والأولاد.
وتسارعت فيه النفوس ببذلها ... هذا له الإغياب والإشهاد
هذا وهذا لا يرد نبينا ... لو كان يفديه فداه سواد
إني أحاذر والحوادث جمةٌ ... أمراً لعاصف ريحه إرعاد(1/321)
إن حل منه ما يخاف فأنتم ... للأرض إن رجفت بنا أوتاد
لو زاد قومٌ فوق منية صاحبٍ ... زدتم وليس لمنيةٍ مزداد
فأعجب القوم شعره وقوله فأجابوه إلى ما أحب)).
ومن نزل القرآن الحكيم والكتاب الكريم بلسانه، وجرى على بيانه، وهو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ما عسى أن يقال في بلاغته وفصاحة لفظه في وصفه، كيف وهو معجزةٌ باقيةٌ إلى يوم الدين، عجز عن معارضتها سائر الفصحاء من العرب أجمعين، ومن بعدهم من الفاضلين، مع كونه نبئ من الأميين، كما قال أصدق القائلين: {وما كنت تتلوا من قبله من كتابٍ ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون}، وفي ذلك كفاية، وهو لعمري الغاية والنهاية.
والفصاحة في اللغة من قولهم: أفصح فلانٌ عما في نفسه إذا أظهره، والشاهد على أنها هي الإظهار قول العرب: أفصح الصبح إذا أضاء وفصح أيضاً، وأفصح الأعجمي إذا أبان بعد أن لم يكن يبين، وفصح اللحان بضم الصاد إذا عبر عما في نفسه وأظهره على جهة الصواب، وإذا كان الأمر على هذا فالفصاحة والبلاغة بمعنى واحدٍ إذ كان كل واحدٍ منهما إنما هو الإبانة عن المعنى والإظهار له.
وقال بعض علمائنا: الفصاحة تمام آلة البيان؛ فلهذا لا يجوز أن يسمى الله تعالى فصيحاً إذ كانت الفصاحة تتضمن معنى الآلة، ولا تجوز على الله تعالى الآلة، ويوصف كلامه بالفصاحة لما يتضمن من تمام البيان، والدليل على ذلك أن الألثغ والتمتام لا يسميان فصيحين لنقصان آلتهما عن إقامة الحروف.(1/322)
والبلاغة من قولهم: بلغت الغاية إذا انتهيت إليها وبلغتها غيري، ومبلغ الشيء منتهاه، والمبالغة في الشيء الانتهاء إلى غايته، فسميت البلاغة لأنها تنهي المعنى إلى قلب السامع فيفهمه، وسميت البلغة بلغةً لأنك تتبلغ بها فتنتهي بك إلى ما فوقها، وهي البلاغ أيضاً، والدنيا بلاغٌ لأنها تؤديك إلى الآخرة، والبلاغ أيضاً التبليغ في قول الله عز وجل: {هذا بلاغٌ للناس} أي تبليغٌ. والبلاغة من صفة الكلام لا من صفة المتكلم، فلهذا لا يجوز أن يسمى الله عز وجل بأنه بليغٌ إذ لا يجوز أن يوصف بصفةٍ كان موضوعها للكلام، وتسميتنا المتكلم بأنه بليغٌ توسعٌ، وحقيقته أن كلامه بليغٌ كما تقول: فلانٌ رجلٌ محكمٌ تعني أن أفعاله محكمةٌ قال الله العظيم: {حكمةٌ بالغةٌ}، فجعل البلاغة من صفة الحكمة ولم يجعلها من صفة الحكيم؛ وقد ظهر من كلامنا هذا فرق ما بين البلاغة والفصاحة وجمع ما بينهما بالوجهين جميعاً.
ومنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتكلم بالغيوب، مما لا يطلع عليه إلا من هو عن الوحي النبوي ليس بمحجوب، وذلك في مرارٍ عدةٍ لا تدخل في المحصور والمحسوب، وذلك مما لا يقدر عليه بحساب منجمٍ ولا كتابة مكتوب.
منها أنه صلى الله عليه وسلم يوم بدرٍ وضع يده المقدسة على الأرض فقال: ((هذا مصرع فلانٍ غداً، وهذا مصرع فلانٍ غداً إن شاء الله، فالتقوا فهزمهم(1/323)
الله، فوالله ما أماط رجلٌ منهم عن موضع كفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ثلاثة أيام وقد جيفوا فقال: يا أبا جهلٍ، يا عتبة، يا شيبة، يا أمية، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً، فقال له عمر: يا رسول الله، تدعوهم بعد ثلاثة أيامٍ وقد جيفوا؟ فقال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، غير أنهم لا يستطيعون جواباً))، وقد ذكرت ذلك في معجزات يديه، صلى الله عليه.
ومنها في غزوة تبوك وهي آخر غزوةٍ غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لما وصل إلى بيوت ثمود نهى أصحابه أن يخرج أحدهم منفرداً، فخرج رجلان من بني ساعدة كل واحدٍ منهم منفردٌ عن صاحبه، أحدهما يريد الغائط، فخنق أحدهما، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فدعا له فشفي، والآخر خرج في طلب بعيرٍ له فأخذته الريح ورمته في جبل طيءٍ، فردته طيءٌ بعد ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم )).
و((أضل صلى الله عليه وسلم ناقته في هذه السفرة فقال بعض من في قلبه نفاقٌ: محمدٌ يدعي أن خبر السماء يأتيه وهو لا يدري حيث ناقته، فنزل الوحي بما قاله هذا القائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعا أصحابه فأخبرهم بقول القائل،(1/324)
وأخبرهم أن الله عز وجل قد عرفه بموضع ناقته وأنها في موضع كذا قد تعلق خطامها بشجرةٍ، فابتدروا المكان الذي وصف فوجدوها هنالك)).
والقائل زيد بن اللصيب وكان منافقاً قاله موسى بن عقبة الثقة وأصحاب السير.
قال ذو النسبين أيده الله: الصواب اللصيت بالتاء المثناة باثنتين وهو تصغير لصتٍ بضم اللام، واللصت لغةٌ في اللص. إلى غير ذلك من إعلاماته بالمغيبات، وإظهاره لحقائقها وصورها بالبراهين والدلالات.
ومنها ((أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يتثاءب)) أخرجه البخاري في ((تاريخه الكبير)) مرسلاً، وأخرجه في ((كتاب الأدب)) تعليقاً. وقال مسلمة بن عبد الملك: ((ما تثاءب نبي قط، وإنها من علامة النبوة)).
قال ذو النسبين أيده الله:
وصدق؛ ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله تعالى يحب العطاس ويكره التثاؤب، فإذا عطس أحدكم وحمد الله كان حقاً على كل مسلمٍ سمعه أن يقول: يرحمك الله. وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان(1/325)
فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع، فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان))، رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وترجم عليه البخاري في آخر ((كتاب الأدب)) بابٌ إذا تثاءب فليضع يده على فيه، وله طرقٌ.
قال أهل اللغة منهم ثابتٌ في ((كتاب الدلائل)): صواب هذه اللفظة تثأب مشددة الهمزة ولا يقال: تثاوب.
قال ابن دريدٍ: أصله من ثئب فهو مثؤوبٌ إذا كسل واسترخى.
وأما لسانه فخرج الترمذي الحافظ أبو عيسى في ((جامعه الكبير)) في أبواب المناقب في باب آيات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وما قد خصه الله به، وحكم الترمذي بصحته.
حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا محمد بن سعيد، حدثنا شريك، عن سماك عن أبي ظبيان، عن ابن عباس قال: ((جاء أعرابي إلى رسول الله(1/326)
صلى الله عليه وسلم فقال: بم أعرف أنك نبي؟ قال: إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة تشهد أني رسول الله؟ فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل ينزل من النخلة حتى سقط إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال: ارجع فعاد، فأسلم الأعرابي))، هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
قال ذو النسبين أيده الله: أبو ظبيان هذا اسمه حصين بن جندب المذحجي الجنبي الكوفي والد قابوس اتفقا في ((الصحيحين)) على الإخراج عنه لثقته، روى عن ابن عباسٍ وأسامة بن زيدٍ وجرير بن عبد الله البجلي، توفي رحمه الله سنة تسعين.
والعذق: بكسر العين الكباسة وهو العرجون، والعذق بفتح العين النخلة.
وفي الباب أحاديث كثيرةٌ نتكلم إن شاء الله على سقيمها من صحيحها، وتعديلها وتجريحها.
منها حديث شاصونة بن عبيدٍ أبي محمد اليمامي.
أجاز لنا أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي الأصبهاني سنة ثلاثٍ(1/327)
وسبعين وسنة أربع وسبعين ونقلته من سماعه، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد ابن المظفر بن الحسين بن سوسن التمار بقراءتي عليه ببغداد في شوال سنة ثلاثٍ وتسعين وأربعمائة، قال: حدثنا أبو القاسم عبد الرحمن بن عبيد الله بن عبد الله بن محمد الحرفي السمسار إملاءً يوم الجمعة لعشرين من شعبان سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، قال: حدثنا أبو بكرٍ أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك إملاءً في شهر رمضان سنة ست وخمسين وثلاثمائة، قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يونس بن موسى القرشي في جمادى الآخرة سنة أربعٍ وثمانين، قال: حدثنا شاصونة بن عبيدٍ أبو محمد اليمامي سنة عشرٍ ومائتين بالحردة وقد انصرفنا من عدن، قال حدثني معرض بن عبد الله بن معرض بن معيقيبٍ قال:
((حججت حجة الوداع فدخلت داراً بمكة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن وجهه دارة القمر، فسمعت منه عجباً، جاءه رجلٌ من أهل اليمامة بصبي يوم ولد قد لفه في خرقةٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا غلام؟ من أنا؟ قال: أنت رسول الله، قال: صدقت بارك الله فيك، قال:
ثم إن الغلام لم يتكلم بعدها حتى شب، قال أبي: فكنا نسميه مبارك اليمامة)).(1/328)
وهذا حديثٌ موضوعٌ من وضع محمد بن يونس بن موسى المذكور آنفاً يعرف بالكديمي.
وكان الشيخ أبو طاهر السلفي يروي حديث شاصونة ويفخر به لعلوه فيه، وكان يجب عليه شرعاً أن يبين ما يرويه من الأحاديث الموضوعات خوفاً من الوعيد الوارد فيها وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ((من حدث عني بحديثٍ يرى أنه كذبٌ فهو أحد الكاذبين))، أسنده الإمام أحمد في ((مسنده)) عن علي بن أبي طالبٍ، وأسنده مسلمٌ في ((صحيحه)) من طريقين عن صاحبين: المغيرة وسمرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ويرى: بضم الياء أي يظن، فهما كاذبان أحدهما كذب حقيقةً، والآخر كذب ظناً.
وفيه وعيدٌ شديدٌ للمحدث إذا حدث بما يظن أنه كذبٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن هو الكاذب في روايته.
وقد أسند مسلمٌ في أول ((صحيحه)) عن شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع))، وإن كان الصواب في هذا(1/329)
الحديث الإرسال عن حفص بن عاصمٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله معاذ العنبري وغندرٌ وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم عن شعبة.
ومعنى الحديث أن يحدث بكل ما سمع من الأحاديث الموضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأثم إذا حدث بها مع علمه بحالها ولم يبينها.
وفي الباب أيضاً أحاديث منها أنه أخذ قطعةً صغيرةً من ذهب، فقلبها على لسانه سيد العجم والعرب، فوزن سلمان منها أواقي كثيرةً وذلك من أعجب العجب.
وبسندنا المتقدم إلى الإمام أحمد قال: حدثنا يعقوب، قال: حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، قال: حدثنا يزيد بن أبي حبيب، عن رجلٍ من عبد القيس، عن سلمان قال:
((لما قلت: وأين تقع هذه من الذي علي يا رسول الله، أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلبها على لسانه ثم قال: خذها فأوفهم منها، فأخذتها فأوفيتهم منها حقهم كله أربعين أوقيةً))، وسأورد هذا الحديث إن شاء الله بكماله، وأتكلم على رجاله، في آخر خصائص يديه، صلى الله عليه.
وأما نفخه صلى الله عليه وسلم فمن كرامته على ربه أنه نفخ في رواحل أصحابه وقد أعيت وكلت وقد نزلوا عنها يسوقونها، فانبعثت تسير سيراً شديداً حتى نازعتهم أزمتها.
خرجه شيخ السنة أبو القاسم الطبراني في ((معجمه الكبير)) وفيه ستون ألف حديثٍ وقيل: ثمانون ألفاً، وقد تقدم سندي إليه بقراءتي(1/330)
لجميعه قال: حدثنا أبو شعيب الحراني، قال: حدثنا يحيى بن عبد الله، قال: حدثنا صفوان بن عمرو، قال: حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن فضالة بن عبيد: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا غزوة تبوك، فجهد الظهر جهداً شديداً فشكوا إليه ذلك، قال: ورآهم رجالاً يزجون ظهرهم، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مضيقٍ يمر الناس فيه، فوقف عليه والناس يمرون، فنفخ فيها وقال: اللهم احمل عليها في سبيلك فإنك تحمل على القوي والضعيف والرطب واليابس في البحر والبر، فاستمرت فما دخلنا المدينة إلا وهي تنازعنا أزمتها))، هذا حديثٌ صحيحٌ وإسنادٌ ثابتٌ.
شيخ الطبراني أبو شعيب الحراني: هو عبد الله بن العدل المحدث أبي مسلم الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني، سمع منه الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل والإمام أبو زكرياء يحيى بن معين والإمام إسحاق بن أبي إسرائيل حديث بشر بن أبيرق؛ لأنه أسنده وأرسله غيره، والزيادة من الثقة مقبولةٌ.
وابنه أبو شعيب عبد الله: محدثٌ مسندٌ ثقةٌ.
وشيخه يحيى بن عبد الله: هو الحراني صاحب الأوزاعي أخرجا في ((الصحيحين)) عنه لثقته وعدالته.
وصفوان بن عمرو بن هرم الحمصي السكسكي: ثقةٌ عدلٌ، روى عنه أبو إسحاق الفزاري وابن المبارك ومبشر بن إسماعيل والوليد بن مسلم وإسماعيل بن عياشٍ وبقية وأبو المغيرة وأبو حيوة وأبو اليمان.(1/331)
قال أبو حاتم: ثقةٌ.
وقال عمرو بن علي الفلاس: صفوان بن عمرو ثبتٌ في الحديث.
قال البخاري: قال يزيد بن عبد ربه: مات صفوان بن عمروٍ سنة خمسٍ وخمسين ومائةٍ، كنيته أبو عمرو.
وقد أخرج مسلمٌ في ((صحيحه)) عن صفوان بن عمرو.
وعبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي الشامي فقيهٌ محدثٌ عدلٌ، روى عنه جماعةٌ من العلماء منهم أبو الهذيل محمد بن الوليد الزبيدي ومعاوية بن صالحٍ وصفوان بن عمرو المذكور آنفاً وبكر بن سوادة.
كنية عبد الرحمن أبو حميدٍ وهو الأشهر، خرج عنه مسلمٌ في ((صحيحه)) منفرداً به وبأبيه الفاضل العدل جبير بن نفيرٍ دون البخاري.
وأما فضالة بن عبيدٍ فصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيهٌ عالمٌ مقدمٌ، وهو من بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس الأنصاري، أوسي يكنى أبا محمدٍ، شهد أحداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم شهد المشاهد كلها، ثم انتقل إلى الشام فسكن دمشق وبنى بها داراً، وكان فيها قاضياً لمعاوية، وفي أيامه توفي.(1/332)
والإزجاء في اللغة السوق.
ومزجي السحاب: سائقها وباعثها.
وأما تفله، والتفل بالتاء المثناة باثنتين من فوق وهو شبيهٌ بالبصق وهو أقل منه، أوله البصق ثم التفل ثم النفث ثم النفخ، وقد تفل يتفل بفتح الفاء في الماضي وكسرها في المضارع، وبضمها أيضاً في المضارع، ومنه تفل الراقي، واتفل في الأمر بكسر الفاء، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهل الجنة: ((لا يتفلون)) بكسر الفاء أيضاً، كله من النفخ بالبصاق القليل.
والتفل بفتح التاء والفاء: البصاق نفسه، وقد وهم فيه القابسي في ((صحيح البخاري)) فرواه بثاء مثلثةٍ وهو وهمٌ منه.
وكذلك الريح الكريهة ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في النساء: ((وليخرجن تفلاتٍ)) أي غير متطيبات لئلا يحركن الرجال بريح طيبهن.
وكذلك في حديث غسل الجمعة: ((ولهم تفلٌ)) أي رائحةٌ كريهةٌ، والفعل من الرائحة الكريهة: تفل بكسر الفاء، يتفل بفتحها في المضارع، تفلاً بفتحها في المصدر، ولم يرو أحدٌ في صفة أهل الجنة: لا(1/333)
يتفلون بفتح الفاء في الماضي وكسرها في المضارع وسكونها في المصدر كما قال صلى الله عليه وسلم : ((لا يبصقون ولا يمتخطون))، ولو روي بفتح الفاء لكان معناه: لا تنتن روائحهم وأعراقهم.
والمرأة متفالٌ: والتتفل بفتح الفاء وضمها أيضاً ولد الثعلب.
قال اليزيدي: والتاء فيه زائدةٌ.
ومن أصحها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفل في عيني علي بن أبي طالب عليه السلام يوم خيبر وهو أرمد، فصح من حينه، وبعثه بالراية إلى خيبر ففتحها الله على يديه، رواه سعد بن أبي وقاصٍ وعبد الله بن عمر وأبو سعيد الخدري وعمران بن حصين وبريدة الأسلمي وأبو هريرة وسلمة بن الأكوع وسهل بن سعدٍ الساعدي، غير أن في حديثه في ((الصحيحين)) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر:
((لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: أين علي(1/334)
ابن أبي طالب؟ فقيل: هو يشتكي عينيه، قال: فأرسلوا إليه، فأتي به إليه، فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له حتى كأن لم يكن به وجعٌ، فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله، حتى يكونوا مثلنا؟ قال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ من حمر النعم)).
قوله: ((يدوكون)) أي يخوضون.
والدوكة: الاختلاط والخوض، تروى بفتح الدال وضمها: دوكةٌ ودوكةٌ.
وفي هذا الحديث المجمع على صحته من الفقه:
الدعاء قبل القتال لمن بلغته الدعوة، وقد اختلف الفقهاء في دعاء العدو قبل القتال إذا كانوا ممن بلغته الدعوة، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر علي ابن أبي طالبٍ أن يدعو أهل خيبر قبل قتالهم، ولا شك في أن الدعوة قد كانت بلغتهم قبل ذلك لمجاورتهم له بأرض الحجاز، مع نص القرآن العظيم: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً}.
وكل ما جاء من ذكر محبة الله تعالى لعبده أو محبة العبد لله تعالى؛ فمعناه في محبة العبد لله راجعٌ إلى طاعته له وإيثار أمره على سواه، وفي محبة(1/335)
الله لعبده محمولٌ على إرادة الله تعالى به الخير وهدايته إياه، وأما المحبة التي هي الميل إلى المحبوب فالبارئ جل وعلا منزه عنها لا يميل ولا يمال إليه {ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير}.
وأما محبة الرسول والملائكة عليهم السلام لمن يحبهم ويحبونه فهي على ظاهرها من الميل اللائق بالمخلوقين إذ الحب ميل القلب إلى الشخص، من حبة القلب وسويدائه، يقال: أحب يحب إحباباً، والحب الاسم، ويكون من الملائكة بمعنى الاستغفار وحسن الذكر والثناء الجميل، وكذلك من البشر لهم التعظيم والذكر الجميل، ومن الرسول لأمته إرادته هداهم ونجاتهم والدعاء لهم والشفاعة لهم، ومحبتهم له طاعتهم إياه والصلاة عليه والثناء وتقديم أمره وقبول قوله.
ومن ذلك أنه أتي صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن عامر بن كريز بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي القرشي العبشمي وهو صغيرٌ فقال: ((هذا شبهنا، وجعل يتفل عليه ويعوده، فجعل عبد الله يتسوغ ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه لمسقىً، فكان لا يعالج أرضاً إلا ظهر له الماء)).(1/336)
وقال ابن عبد البر أيضاً في ((الاستيعاب)) -عند ذكره للصحابة رضي الله عنهم-:
((وقيل: لما أتي بعبد الله بن عامر بن كريز إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال لبني عبد شمس: هذا أشبه منا منه بكم، ثم تفل في فيه فازدرده فقال: أرجو أن يكون مسقياً، فكان كما قال صلى الله عليه وسلم )).
وإنما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم شبهه بهم لأن جدته هي البيضاء أم حكيم بنت شيبة الحمد مطعم طير السماء عبد المطلب بن هاشمٍ، وكانت تحت كريز بن حبيب بن عبد شمس فولدت له عامراً أبا عبد الله هذا.
فخرج كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ حفر الآبار، وشق الأنهار، وهو الذي شق نهر البصرة وفتح بلاد فارسٍ وأصبهان وحلوان وكرمان وخراسان، وعمل السقايات بعرفة، وقتل بمرو، وأحرم من نيسابور شكراً لله.
وكان جواداً ميمون النقيبة، وولاه ابن خاله أمير المؤمنين أبو عبد الله عثمان بن عفان على فارسٍ والبصرة، وجمع له ذلك كله وهو ابن أربعٍ وعشرين سنةً، ولم يزل والياً لعثمان على البصرة إلى أن قتل عثمان، وكان ابن عمته فأصيب بمصيبته، أسكنهما الله بحبوحة جنته.
قال ذو النسبين أيده الله:
كريزٌ: بضم الكاف في قريشٍ، وكريزٌ: بفتح الكاف في خزاعة.(1/337)
كريزٌ: بضم الكاف تصغير كرزٍ وهو الجوالق والخرج، وبه سمي الرجل كرزاً.
والكريز: بفتح الكاف مأخوذٌ من قول العرب: كرزت الشيء إذا اختزنته، ولذلك أجازوا أن يكون الكراز من الفخار مأخوذاً من ذلك لأنه كالذي يختزن الماء.
وقيل: الكراز على مثال الفعال وهو القارورة، وأصله أعجمي، وإذا استعملت الأسماء الأعجمية بالألف واللام فقد صار حكمها حكم العربي.
وأما تفثه ففيه أحاديث:
منها ما خرجه البخاري في ((صحيحه)) حدثنا المكي بن إبراهيم، قال: حدثنا يزيد بن أبي عبيد، قال:
((رأيت أثر ضربةٍ في ساق سلمة فقلت: يا أبا مسلمٍ، ما هذه الضربة؟ قال: هذه ضربةٌ أصابتها يوم خيبر، فقال الناس: أصيب سلمة؟ فأتيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنفث فيه ثلاث نفثاتٍ فما اشتكيتها حتى الساعة))..
ومنها ما رواه ابن وهبٍ في ((جامعه)) فيما حدثني به بالجامع الأعظم بقرطبة شيخنا المحدث العدل مؤرخ الأندلس أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال الأنصاري في شهر صفرٍ سنة أربعٍ وسبعين وخمسمائة، قال: سمعت جميعه على الفقيه المفتي أبي محمد عبد الرحمن بن(1/338)
محمد بن عتاب، قال: سمعت جميعه على أبي، قال: قرأته على أبي عثمان سعيد بن سلمة، قال: حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عثمان، عن سعيد بن خميرٍ، عن يونس بن عبد الأعلى وأحمد بن عبد الرحمن بن وهبٍ عن الإمام ابن وهبٍ -وهو في عشرين جزءاً-:
((أن خبيب بن يسافٍ أصيب يوم بدرٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بضربةٍ على عاتقه حتى مال شقه، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفث عليه حتى صح)).
وذكره الحافظ أبو جعفر العقيلي في ((صحيحه)) عن حبيب بن فديك -ويقال: فويكٍ بالواو-:(1/339)
((أن أباه ابيضت عيناه فلا يبصر بهما شيئاً، فنفث رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه فأبصر، فرأيته يدخل الخيط في الإبرة وهو ابن ثمانين)).
وذكر ابن أبي شيبة عن محمد بن بشرٍ العبدي، عن عبد العزيز بن عمر، عن رجلٍ من سلامان بن سعدٍ، عن أمه، أن خالها حبيب بن فويك حدثها:
((أن أباه فويكاً خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه مبيضتان لا يبصر بهما شيئاً، فسأله ما أصابه؟ فقال: كنت أمرن جملاً لي فوقفت على بيض حيةٍ، فأصيب بصري، فنفث رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه فأبصر، فرأيته يدخل الخيط في الإبرة وإنه لابن ثمانين سنةً وإن عينيه مبيضتان)).
وقد خرجه البغوي عن ابن أبي شيبة، وأتقنه الحافظ الإمام أبو علي ابن السكن، فيما حدثني غير واحدٍ بقراءتي بالأندلس والمغرب عن الإمام أبي الحجاج يوسف بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عديسٍ الأنصاري، قال: قرأت على الحافظ الإمام أبي عمر بن عبد البر، قال: قرأت على الحافظ الثقة أبي القاسم خلف بن القاسم، قال قرأت على(1/340)
الحافظ أبي علي بن سعيد بن عثمان بن السكن بجامع مصر، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن العلاء، حدثنا أبو عبيدة بن أبي السفر، حدثنا محمد بن بشرٍ، حدثنا عبد العزيز بن عمر، قال: حدثني رجلٌ من بني سلامان بن سعدٍ، عن أمه، عن خالها فديكٍ: ((أن أباه خرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعيناه مبيضتان)) الحديث بنصه.
وهو محفوظٌ بهذه القصة وهذا السند ويورى عن بنت أخته لابنة أخيه، وقد اضطرب فيه الحافظ أبو عمر بن عبد البر في ((كتاب الصحابة)) في حرف الحاء.
ومنها ما اتفقا على صحته عن جابر بن عبد الله:
((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعم يوم الخندق ألف رجلٍ من صاع شعيرٍ وعناقٍ، قال جابرٌ: فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا ليخبز، وكان رسول الله بصق في العجين والبرمة وبارك)).
رواه عن جابرٍ سعيد بن مينا ونصه قال: ((لما حفر الخندق رأيت من النبي صلى الله عليه وسلم خمصاً، فانكفيت إلى امرأتي فقلت: هل عندك شيءٌ؟ فإني رأيت برسول الله صلى الله عليه وسلم خمصاً شديداً، فأخرجت إلي جراباً فيه صاعٌ من شعيرٍ، ولنا بهيمةٌ داجنٌ فذبحتها، وطحنت ففرغت إلي فراغي وقطعتها في برمتها،(1/341)
ثم وليت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لا تفضحني برسول الله ومن معه، فجئته فساررته فقلت: يا رسول الله، ذبحنا بهيمةً لنا وطحنت صاعاً من شعيرٍ كان عندنا فتعال أنت ونفرٌ معك، فصاح النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أهل الخندق، إن جابراً قد صنع سوراً فحي هلاً بكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تنزلن برمتكم ولا تخبزن عجينكم حتى أجيء، وجئت وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس، حتى جئت امرأتي فقالت: بك وبك، فقلت: قد فعلت الذي قلت، فأخرجت عجيناً، فبصق فيه وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبصق وبارك، ثم قال: ادع خابزةً فلتخبز معك، واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها وهم ألفٌ، فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو)).
شرح غريبه:
الخمص: ضمور البطن، فقوله: ((رأيت به خمصاً)) يعني ضمور بطنه من أثر الجوع.
وقوله: ((فانكفيت)) أي رجعت عن سنن قصدي الأول، يقال: كفأت وأكفأت وكله بمعنى الميل والانقلاب، ومنه: وأكفأ بيده أي قلبها وأمالها.(1/342)
وقوله: ((فأخرجت إلي جراباً)) فجمعه جربٌ وهو وعاءٌ من جلدٍ كالمزود، وقيده ابن القزاز في ((كتابه في اللغة وفي غريب صحيح البخاري)) بفتح الجيم، وبالكسر ذكره الخليل وغيره.
والصاع: مكيالٌ يسع أربعة أمدادٍ بمد النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو خمسة أرطالٍ وثلث رطلٍ، هذا قول جميع أهل الحجاز.
قوله: ((ولنا بهيمةٌ)) تصغير بهمةٍ وهي الصغيرة من أولاد الغنم، وجمعها بهامٌ، وأصل ذلك كل ما استبهم على الكلام، ومنه قولهم: بابٌ مبهمٌ أي مسدودٌ.
وقوله: ((تعال أنت)) يقال للرجل: تعال أي تقدم وللمرأة تعالي، وللاثنين وللاثنتين تعاليا، ولجماعة الرجال: تعالوا، ولجماعة النساء: تعالين، وجعلوا التقدم ضرباً من التعالي والارتفاع لأن المأمور بالتقدم في أصل وضع هذا الفعل كأنه كان قاعداً فقيل له: تعال أي ارفع شخصك بالقيام وتقدم، واتسعوا فيه حتى جعلوه للواقف والماشي، ويدلك على أن التقدم الآن قد صار ضرباً من الارتفاع قولهم: ارتفع فلانٌ وفلانٌ إلى الحاكم أي تقدما إليه.
وقوله: ((ونفرٌ معك)) فالنفر ما بين الثلاثة إلى العشرة.(1/343)
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((قد صنع سوراً)) فالسور بالفارسية دون همزٍ: كل طعامٍ يدعى الناس إليه، قال الطبري: وهي كلمةٌ فارسيةٌ. وقد جاءت مفسرةٌ بنحو هذا في بعض نسخ البخاري. وأما السؤر مهموزٌ فهو البقية من طعامٍ أو ماءٍ أو غيرهما، وهو من فصيح كلامهم مهموزٌ بلا خلافٍ.
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((فحي هلا)) يقال: حي هل بفتح اللام، وحي هلا بألف مزيدةٍ دون تنوينٍ قال الشاعر:
بحي هلا يزجون كل مطيةٍ ... أمام المطايا سيرها المتقاذف
وحي هلا للتنكير كما جاء في الحديث وحيهلا بتخفيف الياء، وروي: حيهل بالتشديد وإسكان الهاء، وعلل باستثقال توالي الحركات، وقيل: الصواب حيهل بتخفيف الياء وسكون الهاء، وأن هذا التعليل إنما يصح فيه لا في المشدد. وتلحق كاف الخطاب به فيقال: حيهلك، ومنه قولهم: ((إذا ذكر الصالحون فحي هلا بعمر))، أي ابدأ به واعجل بذكره. وقوله صلى الله عليه وسلم : ((واقدحي من برمتكم)) أي اغرفي، والمقدحة: المغرفة. وقوله: ((وإن برمتنا لتغط كما هي)) أي تغلي غلياناً له صوتٌ.(1/344)
وأخرجه البخاري من حديث عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه قال: ((أتيت جابراً قال:
إنا يوم الخندق نحفر، فعرضت لنا كديةٌ شديدةٌ فجاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه كديةٌ عرضت في الخندق، فقال: أنا نازلٌ، ثم قام وبطنه معصوبٌ، ولبثنا ثلاثة أيامٍ لا نذوق ذواقاً، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم المعول فضرب فعاد كثيباً أهيل أو أهيم، فقلت: يا رسول الله، ائذن لي إلى البيت، فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ما في ذلك صبرٌ أعندك شيءٌ؟ قالت: عندي شعيرٌ وعناقٌ، فذبحت العناق وطحنت الشعير حتى جعلنا اللحم في البرمة، ثم جئت النبي صلى الله عليه وسلم والعجين قد انكسر والبرمة بين الأثافي قد كادت أن تنضج، فقلت: طعيمٌ لي فقم أنت يا رسول الله ورجلٌ أو رجلان، قال: كم هو؟ فذكرت له قال: كثيرٌ طيبٌ، قال: قل لها لا تنزعي البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي، فقال: قوموا، فقام المهاجرون والأنصار، فلما دخل على امرأته قال: ويحك، جاءك النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم، قالت: هل سألك؟ قلت: نعم، فقال: ادخلوا ولا تضاغطوا، فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم، ويخمر البرمة والتنور إذا أخذ منه، ويقرب إلى أصحابه ثم ينزع، فلم يزل يكسر ويغرف حتى شبعوا وبقي منه، فقال: كلي هذا وأهدي فإن الناس أصابتهم مجاعةٌ)).
شرح غريبه
((كديةٌ)): اختلف العلماء في تقييدها:(1/345)
فرواه أبو الهيثم محمد بن المكي بن محمد بن زراع الكشميهني: ((كديةٌ)) بضم الكاف وسكون الدال المهملة وياءٍ مثناةٍ من تحت، وكذلك للحافظ أبي بكر بن أبي شيبة في ((صحيح مسلم))، وكذلك قال ابن قتيبة في ((غريبه)).
وهي القطعة الصلبة من الأرض التي لا تحفر إلا بعد شدةٍ يقال: أكدى الحافر إذا حفر حتى يبلغ كديةٌ لا يعمل فيها المعول.
وقيده الإمامان الفقيه أبو الحسن القابسي والفقيه القاضي بسرقسطة أبو محمدٍ الأصيلي بباءٍ مفردةٍ من تحت مكسورة، وكذا قيده أبو إسحاق النسفي عن البخاري، وكذا قيده الهمذاني في ((صحيح مسلم)).
وهي قطعةٌ من الأرض صلبةٌ يشق كسرها.
وقيدناه أيضاً: ((كبدةٌ)) بكسر الكاف وسكون الباء من قولهم: أرضٌ كبداء أي صلبةٌ، والكبد في اللغة: الشدة والمشقة.
وقيده أبو محمدٍ الأصيلي في المشرق على أبي أحمد محمد بن أحمد بن يوسف الجرجاني صاحب الفربري: ((كندة)) بنونٍ مكسورةٍ.(1/346)
وقيده الإمام الحافظ أبو علي بن السكن: ((كتدة)): بتاءٍ مثناةٍ من فوق مفتوحة في الموضعين من الحديث.
قال القاضي أبو الفضل عياض بن موسى: ولا أعرف لهاتين الروايتين معنىً هاهنا.
قال شيخنا العالم أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف الحمزي يعرف بابن قرقول سمعت منه سنة أربع وستين في شهر رمضان:
الكندة بالنون الأرض الصلبة التي لا تنبت، والكتدة بفتح الكاف والتاء: الأرض المتلززة المنعقد بعضها إلى بعضٍ، وكله راجعٌ إلى شدة الحفر وقلة تأثير الفأس فيها.
ورواه أبو ذر عبد بن أحمد الحافظ الهروي عن شيخه أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد البلخي المستملي وأبي محمدٍ عبد الله بن أحمد بن حموية(1/347)
السرخسي: كيدة بياء ساكنةٍ مثناةٍ من تحت وهي الأرض الصلبة أيضاً الشاق قطعها وحفرها.
وقوله: ((ثم قام وبطنه معصوبٌ)): قال أهل اللغة: العصابة بالتاء ما يشد به الرأس خاصةً، وأما لسائر الجسد فالعصاب بغير تاءٍ.
والمعول: بكسر الميم وسكون العين المهملة: هو الذي يحفر به.
وقوله: ((فعاد كثيباً أهيل)) الكثيب: قطعةٌ من الرمل مستطيلةٌ محدودبةٌ وهي شبه الربوة.
والأهيل: السيال من كثبان الرمل يقال: تهيل الرمل وانهال إذا سال، وهلته أهيله إذا نثرته وصببته، وهيلته إذا أرسلته إرسالاً فجرى، ومنه ((كيلوا ولا تهيلوا))، وأهلته أيضاً لغةٌ.
وقوله: ((أو أهيم)) بالشك بمعنى ((أهيل))، وكذلك هيامه سيلانه.
وقول امرأة جابر: ((عندي شعيرٌ وعناقٌ)) العناق: الجذعة من المعز التي قاربت الحمل التي لا يجوز أخذها في الصدقة لصغرها.(1/348)
وقوله: ((والعجين قد انكسر)) كل شيءٍ قتر فقد انكسر يريد أنه لان ورطب بملكها العجين وما كان اختمر بعد؛ بدليل أنهم لم يخبزوه لقوله صلى الله عليه وسلم : ((لا تخبزوا عجينكم حتى أجيء))، وإن كان الظاهر من الرواية أنه كان اختمر وجعل في التنور لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قل لها -يعني لمرأة جابرٍ-: لا تنزعي البرمة ولا الخبز من التنور)) فيكون انكساره لينه للنضج وأخذ النار منه.
والتنور: اسم اتفقت عليه العرب مع العجم ليس له اسمٌ غير هذا، والتاء فيه زائدةٌ لأنه من النار، وتنورها اتقادها في التنور.
والأثافي: جمع أثفيةٍ وهي ثلاثة أحجارٍ توضع لتوضع عليها القدر للطبخ هذا أصلها عند العرب.
وأما قولهم: ((رماه الله بثالثة الأثافي)) فأصله أن الرجل يأتي إلى لحف الجبل فينصب لقدره أثفيتين ويجعل الجبل الثالثة فيقال: ((رماه الله بثالثة الأثافي)) معناه رماه الله بالجبل، ويقال للداهية: ثالثة الأثافي.
وذكر ابن إسحاق في ((السيرة)) له -وإن كان لا يحتج به لتجريح مالكٍ إمام دار الهجرة له والإمام هشام بن عروة قبله فيستشهد به(1/349)
كما فعل البخاري ولم يسند عنه حرفاً- فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمر بحفر الخندق عرضت له صخرةٌ -ووقع في غير ((السيرة)): ((عبلةٌ)) وهي الصخرة الصماء وجمعها عبلاتٌ ويقال: العبلاء، والأعبل: صخرةٌ بيضاء- فذكر ابن إسحاق أنه لمعت له من تلك الصخرة برقةٌ بعد برقةٍ.
وأسند الإمام أحمد في ((مسنده)) في الجزء السادس من مسند الكوفيين قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا عوفٌ، عن ميمونٍ أبي عبد الله، عن البراء بن عازبٍ قال:
((أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق قال: وعرض لنا صخرةٌ في مكانٍ من الخندق لا تأخذ فيها المعاول، فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال عوفٌ: وأحسبه قال: وضع ثوبه ثم هبط إلى الصخرة فأخذ المعول وقال:
بسم الله، وضرب ضربةً فكسر ثلث الحجر وقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا، ثم قال: بسم الله، وضرب أخرى فكسر ثلث الحجر فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا، ثم قال: بسم الله، وضرب ضربةً أخرى فقلع بقية الحجر فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا)).(1/350)
وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا هوذة، قال: حدثنا عوفٌ، عن ميمون، قال: أخبرني البراء بن عازبٍ الأنصاري فذكره، وخرجه النسوي في ((سننه الكبير)) من طريق البراء بن عازبٍ أيضاً.
ومن ذلك ما خرجه محمد مولى الجعفيين، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال:
((تعدون الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحاً، نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائةً والحديبية بئر فنزحناها فلم نترك فيها قطرةٌ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناءٍ من ماءٍ فتوضأ ثم مضمض ودعا، ثم صبه فيها، فتركناها غير بعيدٍ، ثم إنها أصدرتنا ماشينا نحن وركابنا)).
وقال محمد: حدثني فضيل بن يعقوب، قال: حدثنا الحسن بن محمد بن أعين أبو علي الحراني، قال: حدثنا زهيرٌ، قال: حدثنا أبو إسحاق، قال: أنبأنا البراء بن عازبٍ: ((أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ألفاً وأربع مائةٍ أو أكثر، فنزلوا على بئرٍ فنزحوها فأتوا رسول(1/351)
الله صلى الله عليه وسلم فأتى البئر فقعد على شفيرها ثم قال: ائتوني بدلوٍ من مائها، فأتي به فبصق فدعا، ثم قال: دعوها ساعةً، فأرووا أنفسهم وركابهم حتى ارتحلوا)).
قول البراء رضي الله عنه: ((نحن نعد الفتح بيعة الرضوان)) فللعلماء في تسمية فتح الحديبية فتحاً أقوالٌ:
قال ابن شهابٍ: ((لم يكن في الإسلام فتحٌ أعظم منه، كانت الحرب قد حجزت بين الناس، يعني الصلح الذي كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريشٍ، ودخل أكثر الناس في الإسلام مثل من كان قبل ذلك في تلك السنين التي بعث فيها صلى الله عليه وسلم أو أكثر، وفيها أنزل الله الآية العظمى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} بعد أن عرفه المغفرة له لما تقدم من ذنبه وما تأخر، ثم لم ينزل بعد ذلك سخطاً على من رضي عنه، وبينت هذه السورة: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به حالهم في الآخرة، فذكر المغفرة لنبيه لما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقال جل وعلا للمؤمنين: {ليدخل المؤمنين والمؤمنات جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم}، وهو قول ابن عباسٍ وعكرمة والحسن وقتادة على قوله تعالى في سورة(1/352)
الأحقاف: {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} قال الحسن: في الدنيا أي لا يدري صلى الله عليه وسلم ما يلحقه وإياهم من مرضٍ وصحةٍ، ورخصٍ وغلاءٍ، وغنىً وفقرٍ، ومثله: {ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذيرٌ وبشيرٌ}.
قال أبو جعفر أحمد بن محمد النحاس في ((كتاب الناسخ والمنسوخ)) له: ((وهذا أصح قولٍ وأحسنه)).
حدثني به بقية المشيخة بقرطبة العدل أبو القاسم بن بشكوال، قال: سمعت جميعه يقرأ على شيخنا أبي محمد بن عتابٍ، ثم ذكر سند القراءة باتصال السماع وفيه بعدٌ، ورواه عالياً بالإجازة عن الإمام أبي محمدٍ مكي بن أبي طالبٍ المقرئ، عن أبي بكرٍ محمد بن علي الأدفوي إجازةً.(1/353)
وحدثني شيخنا أبو القاسم المذكور، عن الثقة أبي الوليد أحمد بن عبد الله بن طريفٍ، قال: حدثنا الإمام المقرئ أبو القاسم عبد الوهاب ابن محمد بن عبد الوهاب، قال: سمعت النحوي العدل أبا الحسن علي بن إبراهيم الحوفي يقول في هذه الآية: {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم}:
((أما في الآخرة فمعاذ الله قد علم أنه في الجنة حين أخذت ميثاقه في الرسل، ولكن قال: {ما أدري ما يفعل بي ولا بكم} في الدنيا، أخرج كما أخرجت الأنبياء من قبلي، {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} أأمتي(1/354)
المكذبة أم أمتي المصدقة، أم أمتي المرمية بالحجارة من السماء قذفاً، أم مخسوفٌ بها خسفاً، ثم أوحي إليه {وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس} يقول جل من قائلٍ: أحطت لك بالعرب ألا يقتلوك، فعرف أنه لا يقتل، ثم أنزل عليه: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً} يقول: أشهد لك على نفسه أنه سيظهر دينه على الأديان، ثم قال جل من قائلٍ لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم في أمته: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}، فأخبره الله جل وعلا ما يصنع به وما يصنع بأمته.
وقال آخرون: معنى ذلك وما أدري ما يفترض علي وعليكم أو ينزل من حكمٍ، وليس معنى {ما أدري ما يفعل بي ولا بكم} غداً في المعاد، فقد بشر جماعةً بالجنة وقطع لهم بها، وقطع على جماعةٍ بالنار وأنذرهم بها.
وقال آخرون: أمر أن يقول هذا في أمرٍ كان ينتظره من قبل الله عز وجل في غير الثواب والعقاب.
وسورة الأحقاف مكيةٌ وسورة الفتح مدنيةٌ قاله ابن عباس:
وقال المسور بن مخرمة: نزلت بين مكة والمدينة.(1/355)
وصدق؛ فإنها نزلت في مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم في العمرة التي خرج إليها من المدينة إلى مكة عام الحديبية.
وقرأت في ((كتاب الإيجاز في معرفة ما في القرآن من منسوخٍ وناسخ مستخرج من أقوال كل عالمٍ في علمه راسخ)) تأليف النحوي الكبير أبي عبد الله محمد بن بركات السعيدي بالجامع العتيق بمصر على الثقة أبي القاسم هبة الله بن علي الأنصاري بحق سماعه على مؤلفه فقال ما هذا نصه:
((سورة الأحقاف مكيةٌ محكمةٌ غير آيتين:
الآية الأولى: قوله تعالى: {قل ما كنت بدعاً من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} قالوا: وليس في كتاب الله آيةٌ من المنسوخ ثبت حكمها كمدى هذه الآية ثبتت ست عشرة سنةً فقال الكافرون من أهل مكة: كيف يجوز لنا أن نتبع رجلاً لا يدري ما يفعل به ولا بأصحابه، وقال المنافقون من أهل المدينة كذلك، فلما كان عام الحديبية أنزل الله تعالى ناسخها وهو أول سورة الفتح، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ووجهه يتهلل فقال: لقد نزلت علي آياتٌ هن أحب إلي مما طلعت عليه(1/356)
الشمس، فقرأ على أصحابه: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} إلى قوله تعالى: {وما تأخر}، يعني قبل الرسالة وبعدها.
وقيل: ما تقدم من ذنب أبيك آدم وما تأخر من ذنوب أمتك.
وقيل: ما تقدم من ذنب أبيك إبراهيم.
وقال آخرون: ما تقدم من ذنبٍ يوم بدرٍ وما تأخر من ذنبٍ يوم حنينٍ.
الثانية: {فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل} نسخت بأية السيف)).
قال ذو النسبين أيده الله: وقد ثبت بشهادة أهل العدالة والإتقان، عمن شهد الله له بالإيمان، عن المبعوث بالحجة والبرهان، الذي وكل الله عز وجل له تبيين القرآن بسماعنا المتصل المسند إلى الإمام أحمد قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: حدثنا معمر، عن قتادة، عن أنس قال:
((نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} مرجعه من الحديبية فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لقد أنزلت علي آيةٌ(1/357)
أحب إلي مما على الأرض ثم قرأها عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا: هنيئاً مريئاً يا رسول الله، قد بين الله لك ماذا يفعل بك فماذا يفعل بنا؟ فنزلت عليه: {ليدخل المؤمنين والمؤمنات جناتٍ} حتى بلغ {فوزاً عظيماً}، وله طرقٌ بنقل العدل عن العدل.
وقولهم: ((هنيئاً مريئاً)) أي طيباً سائغاً.
وقال أبو العباس ثعلب عن ابن الأعرابي: هنأني وأهنأني ومرأني وأمرأني لغتان في كل واحدٍ منهما، وقد هنؤ الطعام وهنيء هناءةً وهناةً يهمز ويسهل.
والهنيء: الأمر الذي يأتيك من غير مشقةٍ ولا عناءٍ.
فمن لم يقطع للنبي صلى الله عليه وسلم بالجنة التي هي دار الأبرار، يقتل ويسفك دمه كسائر الكفار، كيف لا ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم أول من يقرع باب الجنة ويدخلها من النبيين المصطفين الأخيار، وليس يدخلها أحدٌ قبله بكرامة العزيز الجبار، صلى الله عليه وعلى آله صلاةً هاطلة المدرار.
ومنها ((أن خالد بن الوليد المخزومي أثقل بالجراحة يوم حنين، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يقول: من يدلني على رحل خالدٍ؟ حتى دل عليه، فوجده قد(1/358)
أسند إلى مؤخرة رحله، فنفث على جرحه فبرأ))، ذكره الثقة عبد بن حميدٍ الكشي وهو مما أغفله ابن إسحاق في ((السيرة)).
وأسنده الإمام أحمد في ((مسنده)) في الجزء الرابع عشر من المكيين والمدنيين قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري قال:
((وكان عبد الرحمن بن الأزهر يحدث أن خالد بن الوليد بن المغيرة جرح يومئذٍ وكان على الخيل خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال ابن أزهر:
قد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بعدما هزم الله الكفار ورجع المسلمون إلى رحالهم يمشي في المسلمين يقول: من يدل على رحل خالد بن الوليد؟ قال: فمشيت أو قال: فسعيت بين يديه وأنا محتلمٌ أقول: من يدل على رحل خالد؟ حتى دللنا على رحله، فإذا خالد بن الوليد مستندٌ إلى مؤخر رحله، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى جرحه، قال الزهري: وحسبت أنه قال: ونفث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ))، انتهى ما في ((المسند)).(1/359)
وقرأت في ((المعجم الكبير)) لشيخ السنة أبي القاسم الطبراني، عن إسحاق بن إبراهيم الدبري، عن أبي بكر عبد الرزاق.
وعبد الرحمن هو ابن أزهر بن عوف بن عبد عوف بن عبد الحارث ابن زهرة بن كلاب القرشي الزهري ابن أخي عبد الرحمن بن عوف، شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً، يكنى أبا جبير، روى عنه أبو سلمة بن عبد الرحمن، ومحمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، وعبد الحميد بن عبد الرحمن بن أزهر ابنه، وأبو بكر محمد بن شهاب الزهري.
قال ابن عبد البر: وهو أروى الناس عنه.
ذكره في ترجمته من ((الصحابة))، ولم يلتفت لقول النسائي في تكلمه في سماع الزهري منه، وكذلك قال أحمد بن صالح المصري(1/360)
وذكر له من أدرك الزهري من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال-: أما عبد الرحمن بن أزهر فيما أرى لم يسمع منه الزهري سماعاً ولم يدركه لأن موت عبد الرحمن قديمٌ، وقد روى عقيلٌ عن الزهري عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أزهر عن أبيه حديث خالد بن الوليد، وأما سفيان بن عيينة فرواه عن الزهري عن ابن أزهر كما قدمناه، والله العالم لا رب سواه، ووهم الترمذي في نسبه فقال: عبد الرحمن بن أزهر بن عبد يغوث فجعله ابن عم عبد الرحمن وإنما هو ابن أخيه على ما نسبناه.
وفي هذا الحديث من الفقه عيادة المرضى والجرحى على ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم في عيادة المريض، وما ذكر فيها عن الله تعالى من الحديث الطويل العريض، وهو قوله عن ربه جلت قدرته: ((يقول الله: عبدي مرضت فلم تعدني)).
وفيه من الفقه أيضاً زيارة الفاضل للمفضول، ويجب على الملوك أن يقتدوا بسيد ولد آدم محمدٍ الرسول.
وفيه من غريب اللغة يقال: برأت من المرض وبرئت منه.
قال ابن دريد: يهمز ولا يهمز.
يعني أن من العرب من يسهل مهموزه وهي لغة قريشٍ كما قال علي عليه السلام -لما سئل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات منه قال-: ((أصبح بحمد الله بارئاً)).(1/361)
قال ثابتٌ في ((الدلائل)): لغة أهل الحجاز يقولون: برأت من المرض، وتميمٌ تقول: برئت بالكسر، وحكي: برو بالضم وبري بغير همزٍ على لغة من ترك الهمز تسهيلاً، وأما من الهمز: فبريء بالكسر لا غير.
ومنه قوله: ((أنا بريءٌ من الصالقة)).
وفي ((الصحيحين)) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((وأنا أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليلٌ)).
وقول ابن عمر في أول ((صحيح مسلم)) -في القدرية-:
((أني بريءٌ منهم وأنهم برآء مني))، ومنه قولهم في الطلاق: وأنت بريةٌ أي منفصلةٌ عني.
وقوله: ((قد أسند إلى مؤخرة رحله)):
يقال: آخرة الرحل ممدودةٌ وهو عودٌ في مؤخره وهو ضد قادمته.
وقيدناه أيضاً: ((مؤخرة الرحل)) في ((الصحيحين)) بكسر الخاء وسكون الهمزة، وبالوجهين ذكره أبو عبيدٍ.(1/362)
وقرأت في أصل الإمام أبي محمدٍ الأصيلي بخطه في ((صحيح البخاري)): ((مأخرة الرحل)) بفتح الميم، وهو تقييدٌ غريبٌ.
وأنكر ابن قتيبة: ((مؤخرة الرحل)) بضم الميم وهمز الواو مع التشديد وفتح الخاء.
وقال ثابتٌ في ((الدلائل)): مؤخرة الرحل ومقدمته، ويجوز قادمته وآخرته.
ونقلت من ((كتاب تقويم اللسان)) لابن مكي: لا يقال: مقدمٌ ولا مؤخرٌ إلا في العين، وأما في غيرها فالفتح لا غير.
ومن الحديث الحسن ما خرجه النسائي في ((مصنفه)) عن سماك بن حربٍ، عن محمد بن حاطبٍ.
وقرأت بقرطبة على شيخنا الفقيه القاضي بأركش المسند الثقة أبي القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال الأنصاري، قال: قرأت بخط أبي(1/363)
العباس العذري وأخبرنيه غير واحدٍ عنه، قال: حدثنا علي بن أبي عبد الحميد، قال: حدثنا أحمد بن وليدٍ، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أحمد بن رشدين، قال: حدثنا محمد بن سنجر، قال: حدثنا سعيد بن سليمان، قال: حدثنا عبد الرحمن بن عثمان بن إبراهيم بن محمد بن حاطب، عن أبيه، عن محمد بن حاطبٍ، عن أم جميلٍ بنت المجلل وهي أم محمد بن حاطبٍ قالت: ((قدمت بك مكة وطبخت قدراً ففني الحطب، فقمت ألتمس حطباً فانكفأت القدر على يدك، فأتيت بك النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، هذا محمد بن حاطبٍ وهو أول من سمي بك، فتفل في يدك ودعا لك وقال: أذهب البأس، رب الناس، اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقماً. قالت: فما قمت بك من عنده حتى برئت يدك)).
وقرأت في رحلتي للعراق في ((مسند الإمام أحمد)) وقد تقدم إسنادي بقراءتي لجميعه بمدينة واسط، قال: حدثنا إبراهيم بن أبي(1/364)
العباس، أن إبراهيم بن محمد بن حاطب، قال: حدثني أبي، عن جده محمد ابن حاطبٍ، عن أمه أم جميل بنت المجلل قالت:
((أقبلت بك من أرض الحبشة حتى إذا كنت من المدينة على ليلةٍ أو ليلتين طبخت لك طبيخاً، ففني الحطب فخرجت أطلبه، فتناولت القدر فانكفأت على ذراعك، فأتيت بك النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله، هذا محمد بن حاطبٍ، فتفل في فيك، ومسح على رأسك، ودعا لك، وجعل يتفل على يدك ويقول: أذهب البأس، رب الناس، واشف وأنت الشافي شفاءً لا يغادر سقماً، قالت: فما قمت بك من عنده حتى برأت يدك))، ذكره في مسند النساء.
أما هذه الرقية فمتفقٌ على صحتها، وأما السند فمشهورٌ بها وبابنها وهي قرشيةٌ عامريةٌ ممن جمعت الهجرتين إلى الحبشة وإلى المدينة، وهي بنت المجلل بالجيم ابن عبدٍ ويقال: عبيد بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر ابن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي بن فهر، ولا عقب للمجلل عند أهل النسب إلا من ابنته هذه.
واختلف في اسمها:
فقال ابن السكن في ((كتاب الحروف)): اسمها جويرية.
وقال ابن عبد البر في ((كتاب الصحابة)):
((اسمها فاطمة، وهو الأكثر)). هاجرت مع زوجها حاطب بن الحارث بن معمر القرشي الجمحي في جملة المهاجرين الأولين، ومات رضي(1/365)
الله عنه بأرض الحبشة، وولدت له هناك ابنيه محمد بن حاطبٍ والحارث ابن حاطبٍ، روى عنها ابنها محمد، وخلف عليها بعده زيد بن ثابت بن الضحاك الخزرجي الأنصاري كاتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم )).
ومنها ما ذكره العدل نسابة قريشٍ أبو عبد الله الزبير بن بكار بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بروايتي عن عدول مشايخي عن الزبير.
منها وهي آخر روايتي بأصبهان على بقية الرواة بها الثقة الصالح موفق الدين أبي جعفر محمد بن أحمد الصيدلاني، قال: حدثنا الثقة الصالح أبو منصورٍ محمود بن إسماعيل المدعو بالأشقر سنة اثنتي عشرة وخمسمائة حضوراً وأجاز لي جميع رواياته في ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة، قال: أخبرنا الوزير الثقة الأمين أبو الحسين أحمد بن محمد بن الحسين بن فاذشاه، قال: حدثنا الإمام الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني، قال: حدثنا المحدث العدل أبو الحسن علي بن عبد العزيز البغوي نزيل مكة زادها الله شرفاً، قال: حدثنا الفقيه القاضي(1/366)
المحدث الأديب الحسيب نسابة قريشٍ أبو عبد الله الزبير بن بكارٍ، قال: حدثني إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز الزبيري، عن أبيه قال:
((ولد عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وهو ألطف من ولد، فأخذه جده أبو أمه أبو لبابة بن عبد المنذر الأنصاري في ليفةٍ فجاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما هذا معك يا أبا لبابة؟ قال: ابن ابنتي يا رسول الله، ما رأيت مولوداً أصغر خلقةً منه، فحنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسح على رأسه ودعا فيه بالبركة، قال: فما رئي عبد الرحمن بن زيد مع قومٍ في صف إلا فرعهم طولاً)).
قال الزبير: ((حدثني عمي وكان عبد الرحمن -زعموا- من أطول الرجال وأتمهم وكان شبيهاً بأبيه، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا نظر إليه قال:
أخوكم غير أشيب قد أتاكم ... بحمد الله عاد له الشباب))
زيدٌ أخو أمير المؤمنين عمر، شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان عمر يحبه حباً شديداً، وقتل باليمامة شهيداً فحزن عليه عمر حزناً شديداً. ومنها ما خرجه الإمام الثقة العدل محدث الأندلس وزاهدها أبو عبد الله محمد بن وضاحٍ فيما حدثني به القاضي بسبتة أبو عبد الله محمد ابن أبي الطيب قال: حدثنا الفقيه المفتي أبو عمران بن أبي تليدٍ سماعاً(1/367)
عليه بحضرة مراكش، قال: حدثنا الإمام أبو عمر بن عبد البر، حدثني سعيد بن نصرٍ، حدثنا محمد بن أبي دليمٍ، حدثنا ابن وضاحٍ، حدثنا محمد بن فروخ، حدثنا علي بن عاصمٍ، حدثنا حصين بن عبد الرحمن، قال: حدثتني أم عاصمٍ امرأة عتبة بن فرقدٍ قالت:
((كنا عند عتبة بن فرقدٍ ثلاث نسوةٍ ما منا واحدةٌ إلا وهي تجتهد في الطيب لتكون أطيب ريحاً من صاحبتها، وما يمس عتبة طيباً إلا أن يلتمس دهناً وكان أطيب ريحاً منا، فقلت له في ذلك فقال: أصابني الشرى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقعدني رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه، وتجردت وألقيت ثيابي على عورتي، فنفث رسول الله صلى الله عليه وسلم في كفه، ثم دلك بها الأخرى، ثم أمرهما على ظهري وبطني، فعبق ما بي ما ترون)).
قال ذو النسبين أيده الله:
الشرى: قروحٌ تنتشر على البدن يقال منه: شرى جلد الرجل يشرى شرى.(1/368)
ومنها ما ثبت في ((الموطأ)) و((صحيح مسلم)) والمصنفات سوى البخاري عن معاذ بن جبل:
((أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تبوك، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، قال: فأخر الصلاة يوماً، ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعاً، ثم قال:
إنكم ستأتون غداً إن شاء الله عين تبوك وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار، فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئاً حتى آتي، فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان، والعين تبض بشيءٍ من ماءٍ، فسألهما رسول الله صلى الله عليه وسلم هل مسستما من مائها شيئاً؟ فقالا: نعم، فسبهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهما ما شاء الله أن يقول: ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلاً قليلاً حتى اجتمع في شيءٍ، ثم غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وجهه ويديه، ثم أعاده فيها، فجرت العين بماءٍ كثيرٍ، فاستقى الناس)).
وقال ابن إسحاق في ((السيرة)): ((ثم نزل فوضع يده تحت الوشل، فجعل يصب في يده ما شاء الله أن يصب، ثم نضحه به ومسحه بيده، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما شاء الله أن يدعو به، فانخرق من الماء -كما يقول(1/369)
من سمعه- ما إن حسا كحس الصواعق، فشرب الناس واستقوا حاجتهم منه)). رجعنا إلى ما ثبت في ((الصحيح)): ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((يوشك يا معاذ إن طالت بك حياةٌ أن ترى ما هاهنا قد مليء جناناً)).
هذا نص ((الموطأ)) من رواية الإمام أبي محمد يحيى بن يحيى عن إمام دار الهجرة أبي عبد الله مالك بن أنسٍ، وقد تقدمت أسانيدي إليه في غير موضعٍ. فعاش معاذ حتى افتتحت الشام وعمر الإسلام ذلك المكان بالبساتين، بعد أن كانت غطشى وهي التي لا يبصر طريقها ولا يبين.
وكان معاذ بن جبلٍ أحد الأمراء بالشام من أمراء المسلمين، وممن قتل الله على يديه كثيراً من المشركين، مع الشجاعة والفقه والمكانة من الدين، والصحبة المحمودة لسيد الأولين والآخرين، محمدٍ خاتم النبيين.
وتبوك من أدنى أرض الشام من المدينة، قيل: سميت بذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم وجدهما يبوكان حسيها بقدح أي يحركانه بإدخال القدح فيه، فقال: ((ما زلتما تبوكانها منذ اليوم))، فسميت العين تبوك. والبوك: كالنقش والحفر.(1/370)
فإن قيل: فقد سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم من قبل وصولهم إليها في قوله: ((إنكم ستأتون غداً إن شاء الله عين تبوك))؟
قلنا: إنما سماها بذلك من قبل للوحي الذي أنزل عليه، فإنهم سيأتونها ويجدون عندها من يبوكها من المنافقين الذين كانوا معه الذين نزل فيهم القرآن في سورة براءة في قوله تعالى: {ومنهم .. .. } {ومنهم .. .. } في مواضع، ومنها أمره الله تعالى بالرجوع إلى المدينة، ومنها بعث رسله إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الله تعالى، فسماها بذلك من قبل وعرفت الصحابة ذلك ولم يسألوه عنها، وإن كانت كما قيل: إنما كانت تسمى الرشل بوادٍ يقال له وادي المشقق قاله أصحاب السير منهم ابن إسحاق؛ لأنهم عرفوا أن لا عين أمامهم يصلون إليها في غدٍ سواها فعرفوها بذلك، وعلموا أن في تسميته لها بتبوك معنىً آخر سيظهر لهم لأنه لا ينطق عن الهوى، لا جرم أنه ظهر لهم في غدهم معنى ذلك الاسم وصار علماً لها لا تسمى إلا به إلى اليوم للمعجزة التي فيها.
وفي هذه الغزاة آياتٌ كثيرةٌ منها ما قد ذكر في القرآن بأتم البيان، ومنها ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم المؤيد بالبرهان، فجرت العين بماءٍ كثيرٍ عمهم وفضل عنهم وتمادى إلى الآن، ثم يتمادى إلى قيام الساعة، وهكذا النبوة الصحيحة فإن السحر لا يبقى بعد مفارقة عين صاحبه ساعة، وحضرها من(1/371)
المسلمين سبعون ألفاً وهي آخر غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي غزاة العسرة المذكورة في القرآن في قوله تعالى: {في ساعة العسرة} سماها الله بذلك لمشقة السفر فيها وعسرةٍ من النفقة والظهر والزاد والماء وشدة الحر لأنها كانت زمن الحر ووقت طيب الثمار ومفارقة الظلال، وكانت في مفاوز صعبةٍ وشقةٍ بعيدةٍ وعدو كثيرٍ من جميع عبدة الصليب، فأنزل الله عز وجل فيها {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريقٍ منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوفٌ رحيمٌ}.
فبدأ بالنبي صلى الله عليه وسلم لشرفه وفضله فكان ذكره تشريفاً له ولمن بعده بذكره، أي لقد رزق الله الإنابة إلى أمره وطاعته نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ساعة العسرة أي الشدة والضيق من جميع ما ذكرناه.
وقوله تعالى: {من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريقٍ منهم} أي تميل قلوب بعضهم عن الحق ويشك في دينه ويرتاب بالذي ناله من المشقة والشدة في سفره وغزوته، حتى إن الرجل كان يذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده من العطش والحر.(1/372)
وذكر أهل السير والحوفي في ((تفسيره)): ((أن أبا بكر الصديق قال: يا رسول الله، إن الله قد عودك في الدعاء خيراً فادع لنا، قال: أتحب ذلك؟ قال: نعم، فرفع يديه، فلم يرجعهما حتى مالت السماء فانهلت ثم سكبت، فملؤوا ما معهم، ثم ذهبنا للنظر فلم نجدها جازت العسكر))، وحكاه ابن عباس. وقوله تعالى: {إنه بهم رؤوف رحيمٌ} أي إن ربهم بالذي خالط قلوبهم -ذلك لما نالهم في سفرهم من المشقة والشدة- رفيقٌ بهم، رحيمٌ أن يهلكهم فينزع منهم الإيمان بعد ما أبلوا وصبروا عليه من البأساء والضراء.
وعدة من حضرها سبعون ألفاً فيما رواه الثقات، وذكر الواقدي عن رفاعة بن ثعلبة بن أبي مالك، عن أبيه، عن جده، أن زيد بن ثابتٍ قال: ((شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك ثلاثون ألفاً))، والواقدي كذابٌ قاله أحمد بن حنبل، وقال النسوي: الواقدي كذابٌ وضاعٌ.
فأما الرواية الأولى فحدثني غير واحدٍ من شيوخي، عن أبي محمدٍ السراج، قال: أخبرنا عبيد الله بن عمر بن أحمد بن شاهين، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني، حدثنا الحسن بن علي(1/373)
الرازي، قال: سمعت أبا زرعة الرازي وسئل عن عدة من روى عن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: ((ومن يضبط هذا، شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع أربعون ألفاً، وشهد معه تبوك سبعون ألفاً)).
وأبو زرعة هذا هو عبيد الله بن عبد الكريم القرشي الرازي أحد حفاظ الدنيا، قال أحمد عنه: إنه كان يحفظ ستمائة ألف حديثٍ.
قوله: ((والعين تبض)):
بالضاد المعجمة هي روايتنا من طريق أبي محمد يحيى بن يحيى الأندلسي عن مالكٍ، ووافقه القعنبي وابن القاسم والتنيسي.
وهو القطر والسيلان القليل والرشح، يقال منه: بض يبض وضب يضب، وذكر الباجي أن رواية يحيى بصادٍ مهملةٍ، وهي رواية مطرفٍ عن مالكٍ.
قال ابن السيد في ((شرح الموطأ)) له: ((وبالضاد المعجمة هو الصواب ومعناه أنه كان ينبع منها ماءٌ قليلٌ)).(1/374)
وأما الرواية الأخرى عن مطرفٍ صاحب مالكٍ: ((يبص)) بالصاد المهملة فهو من البصيص وهو البريق ولمعان خروج الماء القليل ونشعه.
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((يوشك يا معاذ)):
قال أهل اللغة: أوشك أن يقع فيه هو في الماضي بفتح الهمزة والشين، ومعناه عند الخليل أسرع أن يكون كذا.
قال أبو علي البغدادي: جعلوا له الفعل كأنهم قالوا: يوشك الفعل.
قال أبو علي: مثل عسى أن يفعل أي عسى الفعل.
قال: ولا يقال: يوشك بفتح الشين في المستقبل، ولا أوشك بكسر الشين في الماضي، وكذلك قال الأصمعي فيهما.
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((أن ترى ما هاهنا قد مليء جناناً)):
فهو جمع جنةٍ يقال: جنةٌ وجناتٌ وجنانٌ، والعامة يحسبونه واحداً ويجمعونه أجنةٌ بفتح الجيم، وهو لحنٌ قبيحٌ خص به أهل سبتة.
وإنما سميت جنةً لأن شجرها تستر أرضها أو داخلها، ومنه سمي الجن لاستتارهم عن الناس، وجن عليه الليل إذا أظلم عليه فستره، وجنه وأجنه إذا أظلم عليه، والجنين: ما استتر في بطن أمه، فإن خرج حياً فهو(1/375)
ولدٌ، وإن خرج ميتاً فهو سقطٌ، لكن جاء في الحديث إطلاق الاسم عليه بعد خروجه استصحاباً لما قبل.
ومنها أن شرحبيل الجعفي ويقال فيه: شراحيل شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم سلعةً كانت في كفه، فنفث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووضع يده عليها ثم رفع يده فلم ير لها أثرٌ.
روى عنه ابنه عبد الرحمن، رواه الحافظ المعدل المجرح أبو الحسن علي ابن المديني، قال: حدثنا يونس بن محمد، حدثنا حماد بن يزيد يعني المنقري، حدثنا مخلد بن عقبة بن عبد الرحمن بن شرحبيل الجعفي، عن جده، عن أبيه قال:
((أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وبكفي سلعةٌ فقلت: يا رسول الله، إن هذه السلعة حالت بيني وبين قائم سيفي أن أقبض عليه، وحالت بيني وبين عنان الدابة، فقال: ادن مني فدنوت منه فقال: افتح كفك ففتحتها ثم قال: اقبض يدك فقبضتها، ثم قال: افتحها ففتحتها، ثم تنفس فيها، ثم لم يزل يطعنها ويدلكها بيده، ثم إنه رفع يده وما أرى لها أثراً)).
قال ذو النسبين أيده الله:
حدثني به علماء المشرق عن غير واحدٍ من أصحاب الخطيب أبي بكر بن ثابتٍ، قال: حدثنا أبو بكر البرقاني بفتح الباء منسوبٌ إلى برقان بكسر الباء من أعمال خوارزم، حدثنا أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي، حدثنا محمد بن صالح بن ذريحٍ العكبري، حدثنا علي بن المديني، حدثنا يونس بن(1/376)
محمد، حدثنا حماد بن يزيد -يعني المنقري-، حدثنا مخلد بن عقبة بالإسناد المتقدم وذكر الحديث.
وقرأت جميع ((المعجم الكبير)) لشيخ السنة أبي القاسم الطبراني وهو أكبر مسانيد الحديث على الثقة أبي جعفرٍ سبط ابن مندة، قال: سمعت على العابدة أم إبراهيم الجوزدانية، قالت: حدثنا الفقيه الفاضل أبو بكرٍ محمد بن عبد الله بن ريذة سماعاً عليه لجميعه، قال: سمعت جميعه على مصنفه، قال: حدثنا عبدان بن أحمد، قال: حدثنا الفضل بن سهلٍ الأعرج، قال: حدثنا يونس بن محمد، قال: حدثنا حماد بن يزيد، قال: حدثني مخلد ابن عقبة بن شراحيل، عن جده عبد الرحمن، عن أبيه قال:
((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبكفي سلعةٌ فقلت: يا نبي الله، هذه السلعة قد أورمتني تحول بيني وبين قائمة السيف أن أقبض عليه وعن عنان الدابة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ادن مني فدنوت منه فقال: افتح يدك ففتحتها، ثم قال: اقبضها فقبضتها، قال: ادن مني فدنوت، قال: افتحها ففتحتها، فنفث في كفي ثم وضع يده على السلعة فما زال يطحنها بكفه حتى رفع عنها وما أرى أثرها)).(1/377)
قال ذو النسبين أيده الله:
والسلعة بفتح السين: الغدة تكون في العنق وغيره، وجمعها سلاعٌ وسلعاتٌ كجفنةٍ وجفانٍ وجفناتٍ، يقال: أسلع الرجل يسلع إسلاعاً إذا كثرت سلعاته.
ومنها ما ثبت في ((صحيح البخاري)) عن البراء بن عازبٍ قال:
((كنا يوم الحديبية -والحديبية بئرٌ- فنزحناها حتى لم نترك فيها قطرةً، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم على شفير البئر فدعا بماءٍ، فتمضمض ومج في البئر، فمكثنا غير بعيدٍ، ثم استقينا حتى روينا ورويت أو صدرت ركابنا)).
شرح غريبه:
شفير البئر: حرفها، وكذلك شفير جهنم، وشفرة السيف: حده، والشفرة هي السكين نفسها، وشفر العين مضموم الأول: حرف الجفن حيث ينبت الهدب، ويقال بفتح الشين أيضاً.
والمج: زرق الماء من الفم.
ومنها ما اتفقا على صحته عن عمران بن حصينٍ قال:(1/378)
((كنا مع نبي الله صلى الله عليه وسلم في مسيرٍ له، فأدلجنا ليلتنا، حتى إذا كان في وجه الصبح عرسنا، فغلبتنا أعيينا حتى بزغت الشمس)).
قال: فكان أول من استيقظ منا أبو بكرٍ، وكنا لا نوقظ نبي الله صلى الله عليه وسلم من منامه إذا نام حتى يستيقظ، ثم استيقظ عمر فقام عند نبي الله صلى الله عليه وسلم فجعل يكبر ويرفع صوته حتى استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رفع رأسه ورأى الشمس قد بزغت نزل فصلى بنا الغداة.
فاعتزل رجلٌ من القوم ولم يصل معنا، فلما انصرف قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا فلان، ما منعك أن تصلي معنا؟ قال: يا نبي الله، أصابتني جنابةٌ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فتيمم بالصعيد فصلى، ثم عجلني في ركبٍ بين يديه نطلب الماء، وقد عطشنا عطشاً شديداً، فبينما نحن نسير إذا نحن بامرأةٍ سادلةٍ رجليها بين مزادتين، فقلنا لها: أين الماء؟ فقالت: أيهاه أيهاه لا ماء لكم، قلنا: فكم بين أهلك وبين الماء؟ قالت: مسيرة يومٍ وليلةٍ، قلنا انطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت: وما رسول الله؟ فلم نملكها من أمرها شيئاً حتى انطلقنا بها، فاستقبلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها فأخبرته مثل الذي أخبرتنا، وأخبرته أنها مؤتمةٌ لها صبيانٌ أيتامٌ، فأمر بروايتها فأنيخت، فمج في العزلاوين العلياوين، ثم بعث بروايتها فشربنا ونحن أربعون رجلاً عطاشٌ، حتى روينا وملأنا كل قربةٍ معنا وإداوةٍ، وغسلنا صاحبنا، غير أنا لم نسق بعيراً، وهي تكاد تنضرج من الماء -أعني المزادتين- ثم قال لها:(1/379)
هاتوا ما عندكم، فجمعنا لها من كسرٍ وتمرٍ وصر لها صرةً فقال: اذهبي فأطعمي هذا عيالك، واعلمي أنا لم نرزأ من مائك، فلما أتت أهلها قالت: لقد لقيت أسحر البشر أو إنه لنبي كما زعم، كان من أمره ذيت وذيت، فهدى الله ذلك الصرم بتلك المرأة فأسلمت وأسلموا)).
شرح غريبه:
قوله: ((فأدلجنا)).
قال أهل اللغة: أدلج بسكون الدال يقال في سير الليل كله، وادلج بتشديد الدال أي سرنا من آخر الليل، هذا هو الأشهر عند علماء اللغة.
وقولها: ((أيهاه)): وفي ((صحيح مسلم)): ((أيآت أيآت))، وأكثر ما في ((الصحيحين)) وغيرهما: ((هيهات)) على نص القرآن.
وفيه لغاتٌ:
يقال: أيهات وأيآت بالهاء تارةً وبالهمز موضع الهاء، وإيهات بكسر الهمزة الأولى، وفي الوقف: هيهاه، هذا مذهب سيبويه والكسائي.
وبنيت عندهم في غير الوقف على الفتح كأنه ضم اسمٌ إلى اسمٍ كحضرموت.
ومنهم من يرى كسر التاء فيقف عندهم بالتاء وينون إن شاء؛ لأنها عنده جمع هيهةٍ مثل قبضةٍ وقبضاتٍ، ومن لم ينون فللفرق بين المعرفة والنكرة.(1/380)
وقال أبو عبيدٍ: هيهات ترفع وتنصب وتخفض.
قال سيبويه: الكسرة فيها كالفتحة.
قيل: معناه أنهما جميعاً للبناء وإن كانت على صورة المعرب من حيث كانت مجموعةً بالألف والتاء.
قال بعضهم: هو من مضاعف البناء من باب هاهيت، وجاء في شعر ذي الرمة على غير هذا الترتيب: يهياه.
وقوله: ((سادلةٌ رجليها)) أي مرسلتهما على جملها، ويروى: سائلة ومسبلة.
والمزادة: الراوية.
والعزالي حيث وقع كله: فم المزادة الأسفل الذي يصب منه الماء عند تفريغها، الواحدة عزلاء، والجمع عزالٍ، وتثنيته عزلاوان.
والمج كما قدمناه: زرق الماء من الفم؛ فمج صلى الله عليه وسلم هنا في العزلاوين أي طرح ريقه المقدس في فم المزادتين.
وقوله: ((تنضرج من الماء)): قيده الإمامان الفقيه أبو الحسن القابسي والفقيه أبو محمد عبد الله بن محمد الأصيلي: ((تنصر)) براءٍ مشددةٍ.(1/381)
قال القابسي: ومعناه: تنشق، من صير الباب، وذلك بصادٍ مهملةٍ.
وعند أبي علي بن السكن: ((تنضر)).
والصحيح من ذلك: ((تنضرج)) بالنون والضاد المعجمة والراء المهملة والجيم على ما قيده علماء رواة ((صحيح مسلم)).
وابن ماهان قيده: ((تتضرج))، والصواب: ((تنضرج)) أي تنشق.
وقوله: ((من الماء)) رويناه أيضاً: ((من الملء)) بفتح الميم وكسرها، أي من الامتلاء، والكسر الاسم، والفتح المصدر.
وقوله: ((نرزأ من مائك)):
قال أبو زيدٍ الأنصاري: رزأته أرزؤه رزءاً إذا أصبت منه خيراً.(1/382)
وقيدناه في ((صحيح مسلم)): ((ما رزئناك)) بكسر الزاي، ومعناه: ما نقصناك وإنما استعملناه من بركة الله عز وجل.
وقولها: ((ذيت ذيت)) بفتح الذال مثل كذا وكذا عبارةٌ عن أمرٍ مبهمٍ.
والقربة: معلومةٌ.
والإداوة: وعاءٌ للماء شبه المطهرة.
وقولها: ((أو إنه لنبي)) بسكون الواو على معنى الشك.
والنبي: يهمز ولا يهمز.
وقوله: ((فهدى الله بها ذلك الصرم)) هو القطعة من الناس ينزلون على الماء بأهليهم، والصرمة أيضاً من الإبل القطعة القليلة، وقيل: هي ما دون الأربعين، ومنه قول عمر رضي الله عنه: ((وإن رب الصريمة والغنيمة)).
وقد ظهرت آية نفثه بعد مماته، كما كانت ظهرت في حياته، وذلك من براهينه ومعجزاته.(1/383)
سمعت الثقة المسن المبشر بالجنة أبا جعفرٍ محمد بن أحمد بن نصر ابن أبي الفتح بن محمد بن عمر الصيدلاني سبط أبي علي الحسين بن عبد الملك بن المحدث أبي عمرو بن الإمام الحافظ المصنف الكبير أبي عبد الله محمد بن مندة يقول في داره بأصبهان: قال: سمعت الشيخ العدل المسند أبا منصور محمود بن إسماعيل بن محمد بن محمد المدعو بالأشقر والصيرفي وبالصالحاني وبالحساني وبالأطروش وأنا حاضرٌ عنده في صفر سنة اثنتي عشرة وخمسمائة وأجاز لي جميع رواياته تحت يد المحدث الجليل عبد الرحيم بن زينة في شهر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وخمسمائة ومولده يوم الخميس آخر يومٍ من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وأربعمائة وتوفي رحمه الله يوم السبت الثامن من شهر ذي القعدة سنة أربع عشرة وخمسمائة، قال: سمعت المحدث الثقة أبا مسلم عمر بن علي بن أحمد الليثي البخاري يقول: سمعت أبا عمر عبد الواحد بن أحمد المليحي يقول:(1/384)
((دخلت على الحاكم أبي عمرو حفيد الحسن بن سفيان النسوي بنيسابور وكان معه شيخٌ يقال له: علان، فقال له الحاكم: اقصص حديثك على هذا عناني، فقال: كنت في بلد الري وكنت أذكر فضائل الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فأنهي ذلك إلى الصاحب، فأمر بأخذي ففررت منه إلى جرجان، وكنت يوماً في سوقها إذا أنا بقومٍ جاؤوني وشدوني على جمازةٍ، فحملت إلى الري، فلما أدخلت ثم أمر الصاحب بقطع لساني فقطع ذاك، وكنت على حالةٍ من الألم وضيق الصدر، فلما أن دخل الليل رأيت فيما يرى النائم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وجماعةٌ من أصحابه رضي الله عنهم فقالا: يا رسول الله، هذا أصيب فينا، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفث في فمي، فانتبهت وليس بي شيءٌ من الوجع، ورد علي الكلام، وخرجت من ولايته إلى همذان وكانوا أهل السنة، فقصصت عليهم قصتي، وظهر لي هناك قبولٌ، وكنت ثم مدةً أنشر من فضائل الشيخين، قال عبد الواحد: ففتح لنا علان فاه فما رأينا فيه لساناً، فشاهدناه على ذلك وكان يكلمنا بكلامٍ فصيحٍ كما يكلم ذو اللسان)).(1/385)
وأما عيناه فإنه كان يرى من خلفه كما يرى من أمامه، ثبت في جميع المصنفات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((هل ترون قبلتي هاهنا؟ فوالله ما يخفى علي ركوعكم ولا سجودكم، إني لأراكم من وراء ظهري)).
وثبت في جميعها أيضاً من رواية مالكٍ، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال:
((صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً ثم انصرف فقال: يا فلان، ألا تحسن صلاتك؟ ألا ينظر المصلي إذا صلى كيف يصلي فإنما يصلي لنفسه، إني والله لأبصر من ورائي كما أبصر من بين يدي)).
وفي ((الصحيحين)) عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(1/386)
((أتموا الركوع والسجود فوالله إني لأراكم من بعدي وربما قال: من بعد ظهري إذا ركعتم وسجدتم)).
وفيها عن أنسٍ أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال:
((أتموا الركوع والسجود؛ فوالله إني لأراكم من بعد ظهري إذا ما ركعتم وإذا ما سجدتم)).
قال ذو النسبين أيده الله:
وهذا الحديث يفسره الحديث الذي من قبله، أي لأراكم من بعدي، وكلاهما مفسرٌ بالحديث السابق: ((من وراء ظهري))؛ فمعنى ((من بعدي)) أي من خلفي.
وقال الداودي: في ((شرح البخاري)) له: يحتمل أن يريد: من بعد موتي أي يعلم بحالهم.
قال ذو النسبين أيده الله: وهذا خلفٌ من القول، منافٍ للنص والعقل، لأنه صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم بإتمام الركوع والسجود خلفه إذ صلى بهم ثم(1/387)
انصرف فقال لرجلٍ منهم لا يحسن صلاته: ((يا فلان، ألا تحسن صلاتك؟)) الحديث بطوله.
فقوله صلى الله عليه وسلم : ((من بعدي)) و((من بعد ظهري إذا ركعتم وسجدتم)) كقوله صلى الله عليه وسلم : ((من وراء ظهري))، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كالقرآن يفسر بعضه بعضاً، وفي روايةٍ عن أبي هريرة: ((إني لأبصر من قفاي كما أبصر من بين يدي))، ومثله عن عائشة وقالت: ((زيادةٌ زاده الله إياها في حجته)).
وقال الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبلٍ: هذه من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرى من خلفه كما يرى من بين يديه.
وهذا كما قال الأصوليون: لا يمتنع أن يكون البارئ تعالى قد خلق إدراكاً في قفاه صلى الله عليه وسلم أو في ظهره يبصر به من وراءه، وقد انخرقت العادة له صلى الله عليه وسلم بأعظم من هذا فلا يستنكر هذا وإنما يستنكره المعتزلة حيث شرطوا للإدراك بنيةً مخصوصةً، والرد عليهم مستقصى -قبحهم الله- في كتب الأصول؛ ومن سماه الله نوراً فخليقٌ أن يرى من وراء ظهره كما يرى من أمامه.
فنص ((صحيح مسلم)) عن أنسٍ قال: ((صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ، فلما قضى أقبل علينا بوجهه، فقال: أيها الناس، إني إمامكم.(1/388)
فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالانصراف، فإني أراكم أمامي ومن خلفي، ثم قال: والذي نفس محمدٍ بيده لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: رأيت الجنة والنار)).
إلى غير ذلك من رؤية الملائكة والأنبياء الذين من قبله ليلة الإسراء، وملكوت الأرض والسماء، ورؤية الشياطين على صورهم التي هم عليها ولا يراها أحدٌ إلا الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد ترجم عليه البخاري بابٌ الأسير والغريم يربط في المسجد، وذكر أخذه للعفريت، وهو حديثٌ صحيحٌ متفقٌ عليه، وهو مما خص به كما خص برؤية الملائكة، ولا يرى أحدٌ الشيطان على صورته غيره صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الله تعالى يقول: {إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم}.
وقد رأى جبريل غير مرةٍ ورآه وله ستمائة جناحٍ ساداً بها ما بين الأفق، ورآه أيضاً جالساً على كرسي بين السماء والأرض على ما ثبت في غير ما حديثٍ.
وقال من لا يتقي الله: إن جبريل هو القوة التامة للفلك وهي المحركة له من المشرق إلى المغرب، وإن العرش هو الأفلاك، وإن الملائكة(1/389)
هي قوى الأفلاك، وإن جبريل كما قدمناه القاضي على كل قواه؛ فحذار من هذا القول حذار، فإنه يقود صاحبه إلى النار.
ورأى بيت المقدس حين رفعه الله إليه حتى وصفه لقريشٍ على ما هو عليه من صفته كما ثبت وصح، ورفع له النجاشي حتى صلى عليه وبينه وبينه البحر الأعظم ومسيرة مدةٍ في البر، ورأى فيما صح عنه مشارق الأرض ومغاربها حين زوى الله له الأرض. وهذا كله محمولٌ على رؤية العين حقيقةً لا مجازاً، فلا يحمل على غير ذلك جوازاً.
وقد ذكر الإمام أبو محمد سفيان الثوري في ((مسنده)) عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى في الظلمة كما يرى في الضوء)).
وقرأت ذلك بسنده بقرطبة على شيخنا الثقة المحدث أبي القاسم بن بشكوال قال: أخبرنا أبو بحرٍ سفيان بن العاصي الحافظ فيما قرأت عليه من حفظي، قلت له: أخبرك أبو العباس أحمد بن عمر العذري، أخبرنا أبو أسامة محمد بن أحمد الهروي المقرئ بمكة في المسجد الحرام وفي دار الندوة، قال: حدثنا الحسن بن رشيقٍ الحافظ، حدثنا الحسين بن حميدٍ العكي، حدثنا زهير بن عبادٍ الرؤاسي، حدثنا عبد الله بن المغيرة، قال: حدثنا سفيان الثوري، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم .. .. )) الحديث، فأقر به أبو بحرٍ وقال لي: نعم.(1/390)
قال ذو النسبين أيده الله:
وهذا سندٌ ضعيفٌ؛ عبد الله بن محمد بن المغيرة بن نشيط أبو الحسن كوفي سكن مصر، روى عن الثوري، يخالف في بعض حديثه، ويحدث بما لا أصل له، قاله أبو جعفر العقيلي في ((كتاب الضعفاء)) له.
وقال أبو حاتم الرازي: ليس بقوي.
وقال أبو سعيد بن يونس: منكر الحديث.
وقال أبو أحمد بن عدي: حديثه لا يتابع عليه.
وقرأت في ((كتاب ليس)) من تأليف الحافظ أبي عبد الله الحسين ابن خالويه اللغوي: ليس أحدٌ بين لنا سفيان الثوري إلى أي ثورٍ نسب:(1/391)
إلى ثورٍ جبلٍ ما بين عيرٍ إلى ثورٍ، أو إلى الثور السيد، أو إلى الثور من البقر، أو إلى الثور من من ثوران الخصية، أو إلى ثوران الماء، أو إلى الثور القطعة من الأقط، إلا أبو العباس ثعلب فإنه قال غير ذلك قال: نسب إلى ثور أطحل قال: قال الأصمعي: أطحل اسم جبلٍ نزلوا إلى جنبه فنسبوا إليه، وليس بأبٍ ولا حي ولا قبيلةٍ، كما أن تيم الرباب سموا رباباً لأنهم تحالفوا وغمسوا أيديهم في الرب، والرباب: ضبة وتيمٌ وعدي وعكلٌ، وقاله أبو علي الغساني في ((تقييد المهمل)) له.
قال ذو النسبين أيده الله:
ويحتاج تفسيره هذا إلى تفسير، من عالمٍ نحرير.
وذلك أن ثور أطحل هو ثور بن عبد مناة بن أد بن طابخة رهط الإمام سفيان الثوري؛ لأنه بلا شك سفيان بن سعيد بن مسروق بن رافع ابن عبد الله بن موهب بن منقذ بن نصر بن الحكم بن الحارث بن مالك ابن ملكان بن ثور بن عبد مناة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار ابن معد بن عدنان.(1/392)
وقوله: ((كما أن تيم الرباب))؛ وسموا الرباب لأنهم غمسوا أيديهم في رب إذ تحالفوا على بني تميمٍ.
وقال الهيثم بن عدي في ((تاريخه)) -وذكر فقهاء الكوفة فقال-: وكان بعد الطبقة الثانية إلى أن وصل إلى ذكر سعيد بن مسروق الثوري ثور تميمٍ، وكذلك قال عند ذكره ولده بعد الطبقة الخامسة: سفيان بن سعيد الثوري ثور تميم، وهذا وهمٌ منه بنسبه الصميم.
وثورٌ أيضاً في همدان وليس هو بيته إنما هو من ثور عبد مناة الذي ذكرناه، ويشتبه به التوزي بالتاء المثناة باثنتين من فوق والزاي وهو أبو يعلى محمد بن الصلت خرج عنه البخاري في باب الردة، وتوز: موضعٌ من أرض فارس.
وسفيان من الأسف لا ينصرف، فإن كان من السفن انصرف، وكذلك سلمان من السلم لا ينصرف، قاله ثعلب.
وأما خصائص صدره صلى الله عليه وسلم فقد أثنى الله عز وجل عليه في القرآن بقوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك}، وثبت في ((الصحيحين))(1/393)
من رواية أبي ذر الغفاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فرج سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل ففرج صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطستٍ من ذهبٍ ممتلئٍ حكمةً وإيماناً فأفرغها في صدري ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء)) الحديث بطوله.
أخرجه البخاري ومسلمٌ بألفاظٍ متقاربةٍ وأهل التصنيف في مصنفاتهم سوى ((الموطأ)) فإن مالكاً كان لا يخرج الأحاديث الطويلة وعذره فيها خوفه من الزلل أو الغلط في إيرادها، وكان أعداؤه يقولون: بل كان لا يحفظها عند اعتمادها.
ولا خلاف عند أهل النقل في صحة هذا الحديث وفي حديث مالك ابن صعصعة فيما خرجوه أيضاً واتفقوا على صحته أن النبي صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به قال:
((بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان، وذكر بين الرجلين، فأتيت بطستٍ ملآى حكمةً وإيماناً، وأتيت بدابةٍ أبيض ..)) الحديث بطوله، وله طرقٌ وألفاظٌ قد ذكرتها في كتاب ((الابتهاج في أحاديث المعراج)).(1/394)
وقيدناه أيضاً في ((صحيح البخاري)) وغيره: ((فرج))، ورويناه: ((فشق)) مكان فرج، وقيدناه أيضاً في ((الصحيحين)): ((فشرح صدري)).
فقوله: ((فرج)) بتخفيف الراء معناه: شق، فإن شددتها صارت للمبالغة في الشق، يعني أن الملائكة لم يدخلوا من الموضع الذي لم يسقف من البيت بل دخلوا عليه من وسط السقف وانشق لهم السقف ليكون أوقع في القلب صدق ما جاءوا به.
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((فنزل جبريل ففرج صدري)).
وقيدناه أيضاً في ((صحيح البخاري)): ((فشق)) مكان ((فرج)).
وقيدناه في ((البخاري ومسلم)): ((فشرح الله صدري)) أي شقه، وأصله التوسعة يقال: شرح الله صدره أي وسعه بالبيان.
وقوله: ((فأفرغها)) قيل: إن التأنيث للطست لأنها مؤنثةٌ وهي فارسيةٌ معربةٌ بدليل أنه يقال في تصغيرها: طسيسةٌ، وجمعها طساسٌ وطسوسٌ، غير أنه لم يؤنثها في حديث أبي ذر حيث قال: ((ممتلئ)) ولم يقل: ممتلئة، كما جاء في حديث مالك بن صعصعة: ((ملآى حكمةً وإيماناً))، وروى أيضاً في حديثه: ((مملوءة)) على التأنيث.
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((فشق من النحر إلى مراق)):(1/395)
النحر: مجتمع التراقي على الصدر، ومراق البطن بتشديد القاف أسفله، وأصله عند النحويين: مراقق أدغمت القاف في القاف وهي مفاعل من: رق يرق، سميت بذلك لأنها موضع رقة الجلد، فأولها السرة وهي كانت منتهى الشق.
وفي ((صحيح مسلم)) وقد تقدم سندي إليه قال: وحدثنا شيبان ابن فروخ، قال: حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابتٌ البناني، عن أنس بن مالك ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الصبيان، فأخذه فصرعه فشق عن قلبه، فاستخرج القلب فاستخرج منه علقةً فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طستٍ من ذهبٍ بماء زمزم، ثم لأمه ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه -يعني ظئره- وقالوا: إن محمداً قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون، قال أنسٌ: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره)).
قال ذو النسبين أيده الله:
وقد ذكرنا في كتاب ((الابتهاج في أحاديث المعراج)) من تابع ثابتاً على روايته عن أنسٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك يزيد على عشرة رجالٍ ثم نيف على خمسة عشر من رواةٍ شتى من طريقٍ آخر.
وهذه معجزةٌ عظيمة، وآيةٌ قويمة، لم يكن مثلها لرسول، ولا تقدمت في منقول، فإن شق الصدر واستخراج القلب منه وغسله ثم إعادته على(1/396)
مكانه، من أعظم ما يقوم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من برهانه، فإن حياة الإنسان مع ذلك عجيب، وليس لغير الرسول النبي النجيب.
وأما شرح لغته:
يقال: لأمت الصدع فالتأم أي أصلحته فصلح، وكذلك لآءمته بالمد أي ضممت بعضه إلى بعضٍ.
وقوله: ((منتقع اللون)) أي كاسفه يقال: انتقع بالنون وامتقع وهو أقوى اللغتين.
وقال الخليل في ((كتاب العين)): ويقال أيضاً: التقع باللام، كل ذلك إذا تغير لونه من حزنٍ أو دهشٍ أو غيره.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في ((الصحيحين)) وغيرهما من المصنفات: ((إن عيني تنامان ولا ينام قلبي)).
قال ذو النسبين أيده الله:
وفي هذا من المعنى قوةٌ لقول المفضل الضبي: السنة في الرأس، والنوم في القلب.
وفيما قدمناه أيةٌ كبرى ومعجزةٌ عظمى يقع بها الغنى إن شاء الله.(1/397)
وأما يداه فقد نص القرآن بفضلهما في قوله تبارك وتعالى: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم}، أقام يد رسوله صلى الله عليه وسلم مقام يده التي ليست بيدٍ جارحةٍ جل جلاله، وخاطبه بالكاف المخصوصة به في قوله: {يبايعونك} فليس هذا لغيره من كل مبايعٍ من بعده ولا قبله، إذ ليس لأحدٍ منزلته في فضله، فهي من كرامات يديه، صلى الله عليه.
ومن ذلك ما ثبت في ((الصحيحين)) عن جابر بن عبد الله قال:
((خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاةٍ فأبطأ بي جملي وأعيا فتخلفت، فنزل فحجنه بمحجنه ثم قال: اركب فركبت، فلقد رأيتني أكفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم )) وذكر الحديث وله طرقٌ في ((الصحيحين)) وغيرهما.
المحجن: دون العنزة وهو قدر ذراعٍ أو أكثر معوج الطرف كان يمشي به ويعلقه بين يديه على البعير على ما جرت عادة العظماء والأشراف من الناس وذوي القدر فيهم، كما كان لآبائه الكرام، عليه أفضل الصلاة والسلام.
ومن ذلك خروج الماء من أبين أصابعه مراراً عدة، وقد جعل الله له ذلك في الحجة عدة.(1/398)
منها ما ثبت في ((الصحيحين)) وغيرهما عن جابر بن عبد الله وغيره قال:
((عطش الناس يوم الحديبية والنبي صلى الله عليه وسلم بين يديه ركوةٌ، فتوضأ وجهش الناس نحوه، فقال: ما لكم؟ قالوا: ليس عندنا ماءٌ يتوضأ ولا يشرب إلا ما بين يديك، فوضع يده في الركوة فجعل الماء يثور من بين أصابعه كأمثال العيون، فشربنا وتوضأنا، قلت: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألفٍ لكافنا، كنا خمس عشرة مائة)).
روى هذا الحديث جماعةٌ من الصحابة رضي الله عنهم: جابرٌ وابن مسعودٍ وأنس بن مالكٍ وغيرهم.
والركوة: هي شبه تورٍ من أدمٍ وهي بفتح الراء وقد تضم وتكسر.(1/399)
والجهش: أن يفزع الإنسان إلى الإنسان وهو مع فزعه كأنه يريد البكاء كالصبي يفزع إلى أمه أو أبيه متهيئاً للبكاء.
قال أبو عبيد: ويقال: أجهش إجهاشاً فأنا مجهشٌ قاله أبو زيدٍ وأبو عمرو والأصمعي والأموي.
وقول الصحابة: ((ليس عندنا ماءٌ)) بالمد كذا ضبطه أهل الإتقان في ((صحيح البخاري)) منهم أبو محمدٍ الأصيلي، وعند غيره: ((ما يتوضأ)).
ومن ذلك ما ثبت في ((صحيح البخاري)) دون مسلمٍ عن عبد الله:
((كنا نعد الآيات بركةً وأنتم تعدونها تخويفاً، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرٍ فقل الماء، فقال: اطلبوا فضلةً من ماءٍ، فجاءوا بإناءٍ فيه ماءٌ قليلٌ، فأدخل يده في الإناء ثم قال: حي على الطهور المبارك، والبركة من الله،(1/400)
ولقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل)).
ومن ذلك ما ثبت في ((الصحيحين)) عن جرير بن عبد الله البجلي من طرقٍ عديدةٍ منها في وسط المغازي وكرره في غير موضعٍ فقال في هذا الموضع: حدثنا يوسف بن موسى، قال: حدثنا أبو أسامة، عن إسماعيل بن أبي خالدٍ، عن قيسٍ، عن جريرٍ قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :
((ألا تريحني من ذي الخلصة؟ فقلت: بلى، فانطلقت في خمسين ومائة فارسٍ من أحمس، وكانوا أصحاب خيلٍ وكنت لا أثبت على الخيل، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضرب يده على صدري حتى رأيت أثر يده في صدري وقال: اللهم ثبته واجعله هادياً مهدياً، قال: فما وقعت عن فرسٍ بعد. قال: وكان ذو الخلصة بيتاً باليمن لخثعم وبجيلة فيه نصبٌ تعبد يقال له الكعبة، قال: فأتاها فحرقها بالنار وكسرها. قال: ولما قدم جريرٌ اليمن كان بها رجلٌ يستقسم بالأزلام فقيل له: إن هاهنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فإن غلبك ضرب عنقك، قال: فبينما هو يضرب بها إذ وقف فيه جريرٌ فقال: لتكسرنها ولتشهد أن لا إله إلا الله أو لأضربن عنقك، قال: فكسرها وتشهد. ثم بعث جريرٌ رجلاً من أحمس يكنى أبا أرطأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبشره بذلك، فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله،(1/401)
والذي بعثك بالحق ما جئت حتى تركتها كأنها جملٌ أجرب، قال: فبرك النبي صلى الله عليه وسلم على خيل أحمس ورجالها خمس مراتٍ)).
وذكره في مناقب الصحابة وترجم عليه: ذكر جريرٍ، ثم ساقه عن قيس عن جرير بن عبد الله قال:
((كان في الجاهلية بيتٌ يقال له ذو الخلصة، وكان يقال له الكعبة اليمانية والكعبة الشامية)).
وذكره أيضاً في المغازي وترجم عليه: غزوة ذي الخلصة الحديث بطوله، وأسقط البخاري لفظةً له في باب البشارة بالفتوح على عادته من الاختصار.
وفي ((صحيح مسلم)) في المناقب حدثني عبد الحميد بن بيانٍ، قال: أخبرنا خالدٌ، عن بيانٍ، عن قيسٍ، عن جريرٍ قال:(1/402)
((كان في الجاهلية بيتٌ يقال له ذو الخلصة وكان يقال له الكعبة اليمانية والكعبة الشامية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل أنت مريحي من ذي الخلصة والكعبة اليمانية والشامية؟ فنفرت إليها في مائة وخمسين من أحمس، فكسرناه وقتلنا من وجدنا عنده، فأتيته فأخبرته، قال: فدعا لنا ولأحمس)).
ثم ذكره أيضاً بإثر هذا الحديث عن إسحاق بن إبراهيم بزيادة:
((وكنت لا أثبت على الخيل، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم )) الحديث بطوله.
وإنما معنى: ((كان يقال له)) أي يقال من أجله كما قال ابن أبي ربيعة:
وقميرٌ بدا ابن خمسٍ وعشرين ... له قالت الفتاتان قوما
أراد: قومن.
وأنشد الفراء:
يحسبه الجاهل ما لم يعلما ... شيخاً على كرسيه معمما
أراد: يعلمن.(1/403)
وذو الخلصة: بضم الخاء واللام في قول أهل اللغة وأهل السير.
وبفتحهما قيدناه في ((الصحيحين))، وكذا قال ابن هشامٍ.
وقيده الإمام المستبحر في كل فن أبو الوليد الكناني الوقشي: ((الخلصة)) بفتح الخاء وسكون اللام، وكذا قال ابن دريدٍ.
وهو اسم صنمٍ ببلاد دوسٍ لا اسم بيته. وسيعبد في آخر الزمان على ما ثبت وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجه البخاري عن أبي اليمان، قال: أخبرنا شعيبٌ، عن الزهري، قال: أخبرني سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوسٍ على ذي الخلصة)).
أخرجه مسلمٌ في ((صحيحه)) في كتاب الفتن: وحدثني محمد بن رافعٍ وعبد بن حميدٍ، قال عبدٌ: أخبرنا وقال ابن رافعٍ: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوسٍ من حول ذي الخلصة، وكانت صنماً تعبدها دوسٌ في الجاهلية بتبالة)).(1/404)
الأليات: بفتح الهمزة واللام التي بعدها جمع أليةٍ بفتح الهمزة وسكون اللام وهما المقعدتان من ابن آدم، واللحمتان المؤخرتان اللتان يكتنفان مخرج الحيوان.
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((ألا تريحني)) من الراحة أي تزيل همي بها.
وقول جريرٍ: ((فيه نصبٌ تعبد)) في هذه اللفظة ثلاث لغاتٍ: فتح النون وضمها ونصبٌ بضم النون والصاد.
قال ابن قتيبة: ((النصب صنمٌ أو حجرٌ كانت العرب تنصبه وتذبح عنده القرابين)).
قال ذو النسبين أيده الله: إنما هو حجرٌ أو أحجارٌ تذبح عليه أهل الجاهلية يعبدونها من دون الله تعالى ويتذللون لها قال الله العظيم: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله}، والند المثل يقال: نده ونديده ويجمع أنداداً.
ثم قال: {والذين آمنوا أشد حباً لله} يعني منهم لأندادهم.(1/405)
وقيل: يحبونهم كما يحبون الله إذا أقروا بأن الله خلقهم، دلنا على ذلك قوله عز وجل: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله}، وقوله تعالى: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى}.
وتحقيقه أن المؤمنين لما علموا أن الإله هو الكامل الذي لا يحتاج إلى البشر في نصبه والاحتفاظ به {ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير}، المتعالي عن الصاحبة والولد والمعين والظهير، لا كمن يعبد الحجر فإن وجد أحسن منه ترك الأول وعبد الثاني.
ولما دخل عمرو بن لحي إلى أرض الجزيرة وهم يعبدون الأصنام، فاستحسنها فسألهم أن يعطوه واحداً منها ينقله إلى أرض العرب ليعبد هناك، فأعطوه هبل، فحلاه بالذهب والفضة وأصناف الجواهر، وجاء به حتى نصبه في داخل الكعبة أيام غلبة خزاعة على أهل مكة.
وقد فخر به أبو سفيان يوم أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول: اعل هبل، اعل هبل، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقولوا: الله أعلا وأجل)).(1/406)
وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنقل العدول عنه أنه قال: ((رأيت عمرو ابن لحي يجر قصبه في النار)).
والأقصاب: الأمعاء، وقصب الشاة: قطعها أعضاءً.
والأصنام في اللغة: كل مصورٍ للعبادة، وما عبد مما ليس بمصورٍ فهو وثنٌ، قاله نفطويه.
وقال العسكري في ((تلخيصه)): الصنم ما يعمل من صفرٍ وحديدٍ وذهبٍ وما شاكل ذلك.
والوثن: الصنم الصغير، وأصله من قولهم: استوثنت الإبل إذا نشأ أولادها.
وقيل: الوثن ما كان من طينٍ أو حجارةٍ.
والأزلام: قداحٌ ملسٌ لا ريش عليها كانوا يدخلونها في خريطةٍ ضيقة الفم حتى لا يخرج منها إلا قدحٌ قدحٌ، يجعلون عليها علاماتٍ: افعل، ولا تفعل، واحدها: زلمٌ بضم الزاي، وزلمٌ بفتح الزاي.(1/407)
وذلك أنهم في الجاهلية كان أحدهم إذا أراد سفراً أو غزواً أو نحو ذلك أجال القداح أي حركها وهي ثلاثةٌ واحدٌ عليه مكتوبٌ: أمرني ربي، والآخر مكتوبٌ عليه: نهاني ربي، والآخر غفلٌ لا شيء عليه يسمى المنيح، وقيل: هي عشرة أقدحٍ وشرحها يطول، وقد ذكرنا فيها ما قاله الله والرسول، قال الله تعالى: {وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسقٌ}.
والاستقسام بها: هو الضرب بها حتى يعلموا ما كان لهم في الغيب أو ما قدر عليهم.
والقداح: عيدان السهام قبل أن تريش وتركب فيها النصال، فإذا فعل ذلك بها فهي سهامٌ.
ويقال: إن الأزلام حصىً بيضٌ كانوا يضربون بها، والأول أشهر.
ومن ذلك ما خرجه البخاري في ((صحيحه)) في بقية كتاب النكاح وترجم عليه: باب الهدية للعروس: وقال إبراهيم عن أبي عثمان -واسمه الجعد- عن أنس بن مالكٍ قال: مر بنا في مسجد بني رفاعة فسمعته يقول:(1/408)
((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا مر بجنبات أم سليمٍ دخل عليها فسلم عليها، ثم قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم عروساً بزينب فقالت لي أم سليم: لو أهدينا لرسول الله صلى الله عليه وسلم هديةً، فقلت لها: افعلي، فعمدت إلى تمرٍ وسمنٍ وأقطٍ فاتخذت حيسةً في برمةٍ فأرسلت بها معي إليه، فانطلقت بها إليه فقال لي: ضعها، ثم أمرني فقال: ادع لي رجالاً سماهم، وادع لي من لقيت، قال: ففعلت الذي أمرني، فرجعت فإذا البيت غاص بأهله، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم وضع يديه على تلك الحيسة وتكلم بما شاء الله، ثم جعل يدعو عشرةً عشرةً يأكلون منه ويقول لهم: اذكروا اسم الله، وليأكل كل رجلٍ مما يليه، قال: حتى تصدعوا كلهم عنها، فخرج منهم من خرج، وبقي نفرٌ يتحدثون، قال: وجعلت أغتم، ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم نحو الحجرات وخرجت في أثره فقلت: إنهم قد ذهبوا، فرجع فدخل البيت وأرخى الستر وإني لفي الحجرة وهو يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعامٍ غير ناظرين إناه} إلى قوله: {والله لا يستحي من الحق}. قال أبو عثمان: قال أنسٌ: إنه خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين)).
هكذا أخرجه البخاري تعليقاً، وأسنده الإمام أحمد في(1/409)
((مسنده)) وقد تقدم سندي بقراءة جميعه قال: حدثنا عبد الرزاق، [عن معمر]، عن أبي عثمان، عن أنسٍ قال:
((لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب أهدت إليه أم سليمٍ حيساً في تورٍ من حجارةٍ، قال أنسٌ: فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اذهب فادع من لقيت؛ فجعلوا يدخلون فيأكلون ويخرجون ووضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على الطعام فدعا فيه بالبركة وقال فيه ما شاء الله أن يقول، ولم أدع أحداً لقيته إلا دعوته، فأكلوا حتى شبعوا وخرجوا، وبقي طائفةٌ منهم فأطالوا عليه الحديث، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يستحي منهم أن يقول لهم شيئاً، فخرج وتركهم في البيت، فأنزل الله عز وجل {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعامٍ غير ناظرين إناه} حتى بلغ {لقلوبكم وقلوبهن}.
وأخرجه مسلمٌ في ((صحيحه)) في كتاب النكاح حدثني محمد بن رافعٍ، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: حدثنا معمر، عن أبي عثمان، عن أنسٍ قال:
((لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب أهدت له أم سليمٍ حيساً في تورٍ من حجارةٍ، فقال أنسٌ: فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اذهب فادع لي من لقيت من(1/410)
المسلمين، فدعوت له من لقيت، فجعلوا يدخلون عليه فيأكلون ويخرجون، ووضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على الطعام فدعا فيه وقال فيه ما شاء الله أن يقول، ولم أدع أحداً لقيته إلا دعوته، فأكلوا حتى شبعوا وخرجوا، وبقي طائفةً منهم فأطالوا عليه الحديث، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يستحي منهم أن يقول لهم شيئاً، فخرج وتركهم في البيت فأنزل الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعامٍ غير ناظرين إناه}، قال قتادة: غير متحينين طعاماً، {ولكن إذا دعيتم فادخلوا} حتى بلغ {ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن}.
أبو عثمان: اسمه الجعد، ثقةٌ عدلٌ، وقد تقدم اسمه قبل هذا الحديث وقال: ((قلت لأنسٍ: عدد كم كانوا؟ قال: زهاء ثلاثمائة)) الحديث قبل هذا إلى آخره.
وقوله جلت قدرته: {غير ناظرين} أي يدعوكم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعامٍ تطعمونه غير منتظرين إدراكه وبلوغه يقال: أنى يأني إنىً إذا نضج وبلغ، وهو مقصورٌ إذا كسر، والمراد بهذا كله الوقت يريد وقت نضجه وبلوغه.(1/411)
ومن ذلك ما ثبت وصح عند الجميع غير ((الموطأ)) من حديث وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأتقنه الإمام أبو بكر بن أبي خيثمة في ((تاريخه)) الذي لا مثل له، وزاد فيه زياداتٍ مفيدةً فسقناه من طريقه.
حدثنا الشيخ الفقيه المحدث الناقد القاضي الخطيب أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن يوسف قراءةً حدثنا الفقيه المشاور المفتي أبو الحسن يونس بن مغيثٍ قراءةً عليه، حدثنا الفقيه القاضي بمدينة دانية أبو عمر بن الحذاء، قال: حدثنا عبد الوارث بن سفيان الشيخ الثقة، قال: حدثنا الإمام العدل المصنف أبو محمد قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا الإمام العدل شيخ بغداد في زمانه وابن كبير المحدثين أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة زهير بن حربٍ سماعاً عليه، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عبد الرحمن مطر بن عبد الرحمن الأعنق العتري، قال: حدثتني امراةٌ عن عبد القيس من صباحٍ يقال لها أم أبان بنت الزارع، عن جدها:
((أن جدها الزارع بن عامرٍ خرج وافداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج معه بأخيه لأمه يقال له مطر بن هلالٍ من عنزة، وخرج بخاله أو ابن أخته مجنونٌ ومعهم الأشج وكان اسمه منذر بن عائذ، فقال المنذر لجدها: يا زارع، خرجت معنا برجلٍ مجنونٍ وفتىً شاب ليس منا وافدين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت: فقال جدي للمنذر: أما المصاب فإني آتي به النبي يدعو له(1/412)
يدعو له عسى أن يعافيه الله عز وجل، وأما الفتى العنزي فإنه أخي لأمي وأرجو أن تصيبه دعوة النبي صلى الله عليه وسلم قال: فما عدا أن قدمنا المدينة قيل: هذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما تمالكنا أن وثبنا عن رواحلنا فانطلقنا إليه سراعاً، فأخذنا بيديه ورجليه نقبلهما، وأناخ منذرٌ راحلته فعقلها وبعير النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم عمد إلى رواحلنا فأناخها راحلةً راحلةً فعقلها كلها، ثم عمد إلى عيبةٍ ففتحها فوضع عنه ثياب السفر، ثم جاء يمشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبه شجةٌ في وجهه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أشج، إن فيك لخلقين يحبهما الله ورسوله، قال: وما هما يا رسول الله؟ قال: الحلم والأناة، قال: فأنا أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما؟ قال: بل الله جبلك عليهما، قال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله. قال: فقال جدي يا رسول الله، بأبي وأمي إني جئت معي بخالي أو ابن أختٍ لي -شك أبو عبد الرحمن- مصابٍ لتدعو الله له أن يعافيه وهو في الركاب، قال: فأتيت وقد رأيت الذي صنع الأشج، ففتحت عيبتي فأخرجت ثوبين حسنين، وألقيت عنه ثياب السفر، وألبستهما إياه، ثم أخذت بيده فجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ينظر نظر المجنون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اجعل ظهره من قبلي، فجعلت ظهره من قبل النبي صلى الله عليه وسلم ووجهه من قبلي، فأخذه من مؤخره بمجامع ردائه، فرفع يده حتى رأيت إبطه، ثم ضرب بثوبه ظهره وقال: اخرج عدو الله، فالتفت ينظر نظر الصحيح، ثم أقعده من بين يديه فدعا له ومسح وجهه، فلم تزل تلك المسحة في وجهه وهو شيخٌ كبيرٌ كأن وجهه وجه عذراء شباباً، فما كان(1/413)
في القوم يفضل عليه بفعلٍ بعد دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم دعا لنا عبد القيس فقال: خير أهل المشرق، رحم الله عبد القيس إذ أسلموا غير خزايا ولا موتورين إذ أبى بعض الناس أن يسلموا حتى وتروا، قال: ثم لم يزل يدعو لنا حتى زالت الشمس. قال: فقال جدي: يا نبي الله، إن معنا ابن أختٍ لنا ليس منا، قال: ابن أخت القوم منهم، فانصرفنا راجعين، قال: فقال الأشج: أنت كنت يا زارع أمثل رأياً مني فيهما، قال: وكان في القوم جهم بن قثم وكان قد شرب قبل ذلك بالبحرين مع ابن عم له، فقال له ابن عمه، فضرب ساقه بالسيف، فكانت تلك الضربة في ساقه، فقال بعض القوم: يا نبي الله، إن أرضنا ثقيلةٌ وخمةٌ وإنا نشرب من هذا الشراب على طعامنا، فقال: علَّ أحدكم أن يشرب الإناء ثم يزداد إليها أخرى حتى يأخذ فيه الشراب، فيقوم إلى ابن عمه فيضرب ساقه بالسيف، قال: فجعل يغطي جهمٌ ساقه، فنهاهم عن الدباء والنقير والحنتم)).(1/414)
وفي هذا الحديث فوائد كثيرةٌ:
منها ثناؤه على الأشج بما فيه من الأناة والحلم اللذين ذكرهما، وجعلهما فيه خلقين محمودين قد شكرهما، ولا يخفى أن الطيش مذموم، وأن الوقار محمودٌ معلوم، وقد كان الصحابة يوقرونه صلى الله عليه وسلم الوقار العظيم، ويسلكون من ذلك في حقه مسلك التكريم، ولقد أفلح من كانا فيه جبلةً لا تخلقا، كما ذكرهما في الأشج تحققا.
ومنها بركة يده المقدسة في طرد الشيطان عن ذلك المجنون، وكونه صح من وقته مما كان به من الجنون.
وفيه رد على أهل الطبيعة المنافين للشريعة في قولهم: إنه خلطٌ يصيب الإنسان، وهو نوعٌ من السوداء المختلفة الأكوان، فكان في هذا لهم تكذيب، وهو أقوى ما يتمسك به المجيب، مع كونه صلى الله عليه وسلم في ((الصحيح)) خنق عفريتاً وأراد أن يربطه إلى ساريةٍ من سواري المسجد.
ورأى أبو هريرة شيطاناً يسرق التمر فأخذه وقبض عليه، فذكر له أن له صبيةً فأشفق عليه وأطلقه، فلما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أخبره أنه الشيطان وأنه سيعود إليه، فعاد ثلاث ليالٍ.(1/415)
وقد تصارع عمر بن الخطاب مع الشيطان على ما ذكره أبو عبيدٍ في ((غريبه)) مع قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: ((ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك))؛ هذا كله مع قول الله تعالى: {كالذي يتخبطه الشيطان من المس}.
فحذار حذار، من مخالفة الأخبار، والعمل بقول الكفار، المكذبين للشريعة المطهرة، أولئك هم الكفرة الفجرة.
ومنها إخباره صلى الله عليه وسلم عن المغيبات، وكون جهماً شرب بالبحرين فضرب ساقه بالسيف فأخبره صلى الله عليه وسلم بتلك المخبآت.
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((غير خزايا ولا موتورين)):
أي غير مذلين، ولا مهانين ولا مفضوحين بوطء البلاد وقتل الأنفس وسبي النساء كما فعل بغيرهم.
ونهيه صلى الله عليه وسلم عن الدباء والنقير والحنتم:(1/416)
الدباء: القرع ساكن الراء لا غير، وهو جمع دباءةٍ، وإذا فتحت الراء فهو جربٌ يأخذ الإبل وداءٌ يكون في الإنسان.
والنقير: هي النخلة تنقر أي تحفر في جوفها أو جنبها ويلقى فيها الماء والتمر للانتباذ. وقد فسره في المصنفات الصحيحة والجامعة للأحاديث فقال: هي النخلة تنسح نسحاً وتنقر نقراً.
وقيده بعض رواة مسلمٍ -قيل: إنه ابن ماهان-: ((تنسج)) بالجيم، وكذلك في ((جامع الترمذي))، وذلك خطأٌ وتصحيفٌ؛ لأن النسج لا معنى له هاهنا وإنما هو بالحاء المهملة، أي تنقر ويحفر فيها ويطرح من داخلها ما ينتحت من نحاتتها، يقال: نسحت التراب نسحاً إذا ذريته في الهواء، ذكره ابن طريفٍ.
والحنتم: فسره أبو هريرة بأنه الجرار الخضر، وقيل: البيض وقيل: هو ما طلي بالحنتم المعلوم من الزجاج وغيره، وقيل: هو الفخار كله، وقيل: الخضر في تفسير أبي هريرة هي السود المطلية بالزفت الذي هو القار.(1/417)
قال الإمام أبو إسحاق الحربي: هي جرارٌ مزفتةٌ.
وقيل: هي جرارٌ يحمل فيها الخمر من مصر أو الشام.
وقيل: هي جرارٌ مصراةٌ بالخمر.
وقيل: هي جرارٌ تعمل من طينٍ قد عجن بشعرٍ ودمٍ، وهو قول عطاء، فنهي عنها لنجاستها.
والزارع بن عامرٍ بالزاي:
ذكره العلماء في هذا الحرف، وقال ابن عبد البر في ((كتاب الصحابة)) له:
((الزارع بن عامرٍ العبدي أبو الوازع من عبد القيس، حديثه عند البصريين، ويقال له الزارع بن الزارع، والأول أولى بالصواب، وله ابن يسمى الوازع وبه كان يكنى، روت عنه ابنة ابنه أم أبان بنت الوازع بن الزارع، عن جدها الزارع حديثاً حسناً ساقته بتمامه وطوله سياقةً حسنةً)).(1/418)
وقرأت في ((مسند شيخه الإمام أحمد)) ما هذا نصه، ذكره في الجزء الموفي ثلاثين من مسند الأنصار، وترجم عليه: حديث الوازع بالواو.
وقرأت جميع ((المسند)) بمدينة واسط على الإمام العالم القاضي العدل تاج الدين أبي الفتح محمد بن أحمد المندائي، قال: سمعت جميعه على رئيس الحضرة أبي القاسم هبة الله ابن الحصين، قال: سمعت جميعه على الثقة أبي علي الحسن بن المذهب، قال: سمعت جميعه على الثقة أبي بكر القطيعي، قال: سمعت جميعه على الإمام أبي عبد الرحمن بن إمام أهل السنة أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، قال: أملى علي أبي، قال: حدثنا أبو سعيدٍ مولى بني هاشمٍ قال: حدثنا مطر بن عبد الرحمن، قال: سمعت هنداً بنت الوازع، أنها سمعت الوازع يقول:
((أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والأشج المنذر بن عاصمٍ أو عامر بن المنذر، ومعهم رجلٌ مصابٌ، وانتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم وثبوا من رواحلهم فقبلوا يده، ثم نزل الأشج فعقل راحلته وأخرج عيبته، ففتحها وأخرج ثوبين أبيضين من ثيابه فلبسهما، ثم أتى رواحلهم فعقلها، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا أشج، إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة، قال: يا رسول الله، أنا تخلقتهما أو جبلني الله عليهما؟ قال: بل الله خلقك عليهما، قال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله. فقال الوازع: يا رسول الله، إن معي خالاً لي مصاباً فادع الله له، قال: أين هو؟ ائتني به، فصنعت مثل ما صنع(1/419)
الأشج، ألبسته ثوبيه فأتيته، فأخذ من ردائه فرفعها حتى رأينا بياض إبطه ثم ضرب بظهره، قال: اخرج عدو الله، فولى وجهه وهو ينظر نظر رجلٍ صحيحٍ)).
أبو سعيدٍ مولى بني هاشمٍ اسمه عبد الرحمن بن عبد الله قاله الإمام أحمد بن محمد بن حنبلٍ أبو عبد الله فقال: رجلٌ كان يلقب جردقة، قال أبو عبد الله برأسه أي نعم، شيخٌ صالحٌ محدثٌ بصري سكن مكة.
قال أبو جعفر العقيلي: كان يخطئ في بعض حديثه.
وهذا ليس بتجريح، عند أهل ((الصحيح)).
ومن ذلك أن منقذ بن حيان الغنمي من غنم بن وديعة بن لكيز بن أفصى بن عبد القيس.
قال المدائني: ((وفد من بني غنمٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة نفرٍ: منقذ بن حيان أحدهم وهو أول من أسلم من أهل البحرين، وكان يأتي يثرب بالتجارات، فمر به النبي صلى الله عليه وسلم وقد قدم المدينة، فقيل له: هذا القرشي الذي يزعم أنه نبي، فقام منقذٌ إليه فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قام إليه وقال: مرحباً بك يا منقذ بن حيان، كيف جميع هيئتك؟ ثم سأله عن رجلٍ رجلٍ من قومه، فأسلم وتعلم سورة الحمد و{اقرأ باسم ربك}، ثم شخص، وقد مسح(1/420)
النبي صلى الله عليه وسلم يده على وجهه، وكان به عشى وقبحٌ، فأذهب الله عنه العشى وأحسن صورته، وكتب معه إلى قومه أن أسلموا تسلموا، فقدم عليهم بالكتاب فأنكروا هيئته وحليته، ثم بدا لهم بعد وبان، فأسلم من أسلم، ثم تعلم من أسلم منهم القرآن، فكانوا يقرؤونه سراً ويصلون كذلك حتى اطلع عليهم. وكان الأشج خال منقذٍ وكان قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لي خالاً لا يهمل قومي إن أسلم اتبعوه، فكان كذلك، فبينا هو كذلك في دارهم إذ دخل الأشج على أخته أم منقذٍ وهي تقرأ وتصلي، فسألها فقالت: إنك نجسٌ فاذهب فتطهر حتى أعلمك، ففعل ثم عاد فعلمته، فوقع في قلبه الإسلام وأسلم، وصرخ بالإسلام في البحرين، فتلك الدار إلى الآن تسمى دار الصرخة؛ فكان لعبد القيس كعمر لقريشٍ الذي قال: لا يعبد الله سراً بعد اليوم)).
ذكره أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله المدائني مولى عبد الرحمن ابن سمرة بهذه الزيادات المفيدة وإن كان ضعيفاً.
قال الإمام أبو أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني في ((تعديله وتجريحه)): علي بن محمد بن عبد الله أبو الحسن المدائني ليس بالقوي في الحديث.
وقد ذكره أبو عبيدة معمر بن المثنى، وحديث المدائني أتم وذكرناه لشهرته.(1/421)
وقول أخت الأشج للأشج: ((إنك نجسٌ)) وأنه أسلم بعد ذلك دليلٌ على أنه كان لم يسلم بعد، فيمكن أن يكون لم يأت النبي صلى الله عليه وسلم ولا أسلم إلا بعد ذلك، فيجمع بين الخبرين بذلك والله أعلم.
ومنقذٌ هذا لم يذكره ابن عبد البر في ((الصحابة)) ولا ابن فتحون في ((الاستدراك عليه))، ونقلته من ((كتاب الحافظ نسابة الأندلس أبي محمدٍ الرشاطي في استدراكه عليهما))، وقرأته على المحدث الفاضل أبي محمدٍ عبد الله بن محمد بن عبيد الله الحجري قال: قرأته على الحافظ أبي محمد الرشاطي، وقد ذكره أبو الحسن الدارقطني في ((النبيذ))، سمع منه حنظلة بن سلمة، روى عنه أهل البصرة.
شرحٌ:
قوله: ((يثرب)) سميت باسم الذي نزلها من العماليق وهو يثرب بن عبيل، وبنو عبيل هم الذين سكنوا الجحفة فأجحفت بهم السيول بها فسميت الجحفة.(1/422)
ولا يجوز الآن أن تسمى المدينة بهذا الاسم لقوله صلى الله عليه وسلم : ((يقولون يثرب وهي المدينة))، أي أن الناس يسمونها يثرب وإنما اسمها المدينة.
فإن قيل: إن الله تعالى سماها بذلك في القرآن؟
قلنا له: إنما حكى ذلك عن المنافقين إذ هو مشتق من لفظ التثريب قال الله تعالى: {وإذ قالت طائفةٌ منهم يا أهل يثرب}.
وقائل هذه المقالة هو أوس بن قيظي والد عرابة الذي يقول فيه الشماخ:
إذا ما رايةٌ رفعت لمجدٍ ... تلقاها عرابة باليمين
والطائفة تقع على الواحد فما فوقه بدليل هذه الآية، إذ لم يقل هذه المقالة سوى أوسٍ المذكور، والله تبارك وتعالى قال في القرآن غير حاكٍ عن أحدٍ: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله}.
وإذا قيل: المدينة غير مضافةٍ ولا منسوبةٍ فهي المدينة النبوية كما قال تعالى: {لئن رجعنا إلى المدينة}.
والنسب إليها مديني، وإلى مدينة أبي جعفر المنصور -وهي بغداد- مدني؛ لأن الميم فيها أصليةٌ والياء زائدةٌ، وهو مأخوذٌ من: مدن بالمكان إذا(1/423)
أقام به، والنسب إلى مدائن كسرى مدائني مسموعٌ من العرب، والنسب إلى مدين قرية شعيب عليه السلام مديني بفتح الميم وسكون الدال وفتح الياء.
ولها اثنان وعشرون اسماً:
المدينة، والدار، والإيمان: قال الله تعالى: {والذين تبوءوا الدار والإيمان}، قال ابن أبي خيثمة: الإيمان من أسمائها.
وطيبة وطابة مؤنث الطاب وهو الطيب، وطيبة بالتخفيف أيضاً هي الطيبة بتثقيل الياء فخففت، والمطيبة، والعذراء، والجابرة، والمجبورة، والمحبة، والمحببة، والحبيبة، والمحبوبة، والقاصمة لأنها قصمت الجبابرة، ونيدر، ويلندد. انتهى ما وجدته في ((كتاب الوزير أبي عبيد البكري)) [حدثنا] به حفيده الأديب الفارض أبو عبيد عبد الله، عن أبيه، عن جده الوزير أبي عبيد. وزاد كراعٌ في ((المنتخب له في(1/424)
أسمائها: ((المرحومة، والمسكينة، والبحرة، والبحيرة، والبحيرة، فكل ذلك اسمٌ للمدينة، وأصله أن كل قريةٍ بحيرةٌ.
وقرأت في ((كتاب ليس)) طيبة، والمطيبة، والحبيبة، والمحببة، والبحيرة تصغير بحرةٍ لا بحرٍ لأن البحر مذكرٌ وتصغيره بحيرٌ؛ فالبحيرة: المدينة، والبحرة: الأرض والبلد.
وقال اللغوي الكبير أبو الحسين بن سراجٍ: ويقال: البحيرة على لفظ الناقة البحيرة، والبحار: القرى، وقد قيل في قوله تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر} إنه القرى والأمصار، وقيل: بل هو البحر نفسه.
وثبت عن أبي سعيد الخدري ((أن أعرابياً قال: يا رسول الله، أخبرني عن الهجرة، قال: ويحك، إن شأن الهجرة شديدٌ فهل لك من إبلٍ؟ قال: نعم، قال: فهل تؤدي صدقتها؟ قال: نعم، قال: فاعمل من(1/425)
وراء البحار فإن الله لن يترك من عملك شيئاً))، هذا نص ((صحيح البخاري)) في كتاب الأدب.
قوله: ((من وراء البحار)) أي البلاد.
وفي ((البخاري)): -في أكيدر دومة- ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب له ببحرهم)) أي ببلدهم وأرضهم.
قال الطبري: كل قريةٍ لها نهرٌ جارٍ أو ماءٌ ناقعٌ فالعرب تسميها بحراً.
وقال كعبٌ: إنا نجد في التوراة يقول الله سبحانه للمدينة: يا طابة، يا طيبة، يا مسكينة، لا تقبلي الكنوز، أرفع أحاجيرك على أحاجير القرى، وقد روى في هذا حديثاً عن علي عليه السلام يرفعه.
وروي أن لها في التوراة أحد عشر اسماً.
وقيل في قوله تعالى لنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم : {وقل رب أدخلني مدخل صدقٍ} أنها المدينة، وأن {مخرج صدقٍ} مكة، و{سلطاناً نصيراً} الأنصار، وقيل: عتاب بن أسيدٍ.(1/426)
وفي ((صحيح مسلم)) عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله سمى المدينة طابة)).
وثبت في ((الصحيحين)) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أمرت بقريةٍ تأكل القرى)) أي يفتح الله على أهلها ذلك ويأكلون فيئهم.
والقرية: المدينة، وكل مدينةٍ قريةٌ لاجتماع أهلها فيها من: قريت الماء في الحوض إذا جمعته.
وأمر المدينة عجبٌ، وفي ترابها وهوائها دليلٌ شاهدٌ وبرهانٌ على قول النبي صلى الله عليه وسلم .
وفي ((الصحيحين)) عن جابر ((إنها طيبة تنفي خبثها، وينصع طيبها)) بكسر الطاء، رواه ابن وضاحٍ في ((الموطأ))، ورواه الجماعة:(1/427)
((طيبها)) بفتح الطاء.
ومعنى: ((ينصع)) بالصاد المهملة والعين المهملة أي يخلص، وقيل: يبقى ويظهر، والناصع: الخالص.
وطيبها: فاعل ينصع؛ لأن من دخلها وأقام فيها كائناً من كان من الناس فإنه يجد من تربتها وحيطانها رائحةً طيبةً ليس لها اسمٌ في الأرائح، وبهذا السبب طاب طيبها، والمعجونات بها من الطيب أحد رائحةً، وكذلك العود وجميع البخور يقوى طيبه فيها إذا استعمل فيها بخلاف غيرها.
وفيها روضةٌ من رياض الجنة خصها الله بذلك دون سائر الأقطار، ثبت في ((الصحيحين)) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما بين بيتي ومنبري روضةٌ من رياض الجنة، ومنبري على حوضي)).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ولقاب قوس أحدكم من الجنة أو موضع قيدٍ -يعني سوطه- خيرٌ من الدنيا وما فيها))، رواه أنسٌ عنه أخرجه(1/428)
البخاري وهذا نصه في كتاب الجهاد.
وقاب القوس: قدر طولها.
وقيد سوطه: أي قدره.
فلاح من هذا أنها خير المدائن والأمصار، وخير المساكن والديار، ومن مات بها شفع له رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الملك الجبار، وهو حديثٌ صحيحٌ عند نقاد الآثار.
قال الترمذي في باب ما جاء في فضل المدينة: حدثنا بندار، حدثنا معاذ بن هشامٍ، حدثني أبي، عن أيوب، عن نافعٍ عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم :
((من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها فإني أشفع لمن يموت بها)) وفي الباب عن سبيعة بنت الحارث الأسلمية. هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ من هذا الوجه من حديث أيوب.(1/429)
قال ذو النسبين أيده الله:
صدق؛ محمد بن بشار: هو بندارٌ اتفقا على الإخراج عنه في ((الصحيحين)).
ومعاذ بن هشام: اتفقا أيضاً على الإخراج عنه في ((صحيحيهما)).
وأبوه هشام الدستوائي: أحد ثقات المسلمين وعلمائهم مخرجٌ عنه في ((الصحيحين)).
وأيوب: هو ابن أبي تميمة، واسم أبي تميمة كيسان، وهو أحد أئمة المسلمين وعظمائهم، اتفق المسلمون على إخراج حديثه لثقته وعدالته وحفظه، وكان مالكٌ يفخر بالأخذ عنه.
ونافعٌ: مولى أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب أحد ثقات المسلمين، بعثه أمير المؤمنين أبو حفص عمر بن عبد العزيز إلى أهل مصر يعلمهم السنن.
وهذا كله لأنها طابت بالطيب المختار، وأي طيبٍ أطيب من المتلقي عن الله تعالى مغيبات الأخبار، ومن غسلت الملائكة باطنه بماء الجنة وظاهره أيضاً، وملئ حكمةً وإيماناً وفاض الخير عليه فيضاً، وقد كان إذا مشى وجدت منه الرائحة الطيبة من بعيد، فهو في صفةٍ أخرى من عظمها فهو أسعد سعيد، وسأذكر من طيب عرفه في موضعه إن شاء الله ما يتلى على سائر الأعصار، ويقرأ في جميع الأمصار، وينتفع به في الدارين دار(1/430)
التكليف ودار القرار، صلى الله عليه صلاةً تستدر شآبيب الأمطار، وتستوعب متموج البحار، وتتبلج تبلج النهار، وتتأرج تأرج الأزهار.
فهو الذي أعلمنا ربنا ... أن الخطيئات به تغفر
قد طاب في الدنيا كطيب اسمه ... فهو بذاك الطيب الأطهر
يا خير خلق الله حقاً ومن ... به هدي الأسود والأحمر
يا صفوة الرحمن من هاشمٍ ... ومن له المنصب والمفخر
يا من له فضل المقام الذي ... يحمد عند الله والكوثر
لولاك ما كنا على شرعةٍ ... هاديةٍ مهديةٍ تؤثر
ناسخةٍ صارمها قاطعٌ ... لكل شرعٍ قد مضى يذكر
لولاك لم تعرف لنا جنةٌ ... للخلد والنار التي تسعر
لولاك لم ترفع إلى ربنا ... عبادةٌ من أجلها نؤجر
نعم ولم يعلم له ذاكرٌ ... مما هو المشروع ما يذكر
يا خاتم الأرسال يا سيداً ... كل النبيين به بشروا
أنت الذي أسرى به ربه ... لمنتهىً ما بعده مظهر
أنت الذي تشفع في آدم ... والناس قد ضمهم المحشر
صلى عليك الله ما غردت ... قمرية في أيكةٍ تزهر
انتهى الكتاب والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمدٍ نبيه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين وسلم تسليماً.(1/431)