البطائح تحت نفوذ عمران بن شاهين من حوالي 330 ـ 369هـ / 941 ـ 979م
فايزة إسماعيل أكبر
أستاذ مساعد ، قسم التاريخ ، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ،
جامعة الملك عبدالعزيز ، جدة ، المملكة العربية السعودية
ملخص البحث : تناول هذه الدراسة بالمناقشة والتحليل تاريخ عمران بن شاهين الزعيم السياسي الذي سيطر على منطقة البطائح جنوبي العراق من حوالي 330 إلى 396هـ / 941 ـ 979 م ، تلك المنطقة ذات الطبيعة الجغرافية القاسية والعناصر السكانية المتباينة في أجناسها ولغاتها وأديانها كما تحاول هذه الدراسة إبراز كيف استطاع عمران بن شاهين بما لديه من مواهب قيادية أن يستغل ظروف هذه المنطقة لصالحه في انتفاضة ضد التسلط البويهي ، وكيف أن البويهيين فشلوا في القضاء عليه وعلى حركته رغم محاولاتهم العسكرية المتكررة .
المقدمة
شهدت منطقة جنوب العراق القرنين الثالث والرابع الهجريين / التاسع والعاشر الميلاديين أحداثًا كثيرة ، منها انتفاضة الزط وثورات العلويين وثورة الزنج وفتنة القرامطة وظهور الإسماعيليين وحركة عمران بن شاهين ، وجميعها من الحركات والفتن التي جرَّت على الدولة مشكلات كثيرة منها المالية والحربية والعقيدة .
... ولا نأتي بجديد إذ قلنا إن هذه الحركات لم تنل حظّا وافيًا من الدارسين ولم تلق اهتمامًا بالغًا من البحث والدراسة . وما زال للباحثين في هذا الباب شعاب كثيرة لم تسلكها الأقلام ــ بعد ــ بالبحث .
أما عن الدافع التي حملتني عن اختيار حركة عمران بن شاهين موضوعًا لبحثي فتتلخص فيما يأتي :
أولاً : أن في سيرة هذا الرجل وشخصيته ما يلفت الانتباه ويدعو الباحث إلى محاولة كشف خبايا حياته وأسرارها ، وإن كان هذا ليس بالأمر اليسير ، خاصة وأن المصادر التاريخية المتوافرة قد مرت مرورًا سريعًا بالمراحل الأولى من حياته وذلك قبل أن يصبح زعيمًا لسكان البطائح .(1/1)
ثانيًا : أن هذه الحركة ماهي إلا حلقات سلسلة من الحركات التي قمت بدراسة بعضها ، كانتفاضة الزط وثورة الزنج وفتنة القرامطة .
ثالثًا : أن هذه الحركة ظهرت في منطقة البطائح ذات الطبيعة الجغرافية القاسية والعناصر السكانية المتباينة في أجناسها ولغاتها وأديانها والتي هي موضع اهتمامي .
وتتركز الدراسة التي بين أيدينا في عنصريين أساسيين /
أولهما : تعريف منطقة البطائح لغويًّا وجغرافيًّا ، ودراسة مواردها الاقتصادية وعناصر السكان بها
والآخر : رصد البدايات الأولى لحياة عمران بن شاهين وإلقاء الضوء على أسباب ظهوره ، ثم توضيح علاقات عمران بن شاهين بحكام بغداد البويهيين ، ومتابعة آثار هذه العلاقات على مستقبل منطقة البطائح .
تمهيد
إذا نظرنا إلى المجتمع العراقي خلال النصف الثاني من القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الهجري ( النصف الثاني من القرن التاسع وأوائل القرن العاشر الميلادي ) نرى مجتمعًا تنعدم فيه العدالة الاجتماعية والعناية بالطبقات الفقيرة ، ويفتقر إلى حكومة رشيدة مستقرة . فقد هوت الحكومة المركزية في بغداد إلى الحضيض . كما كان الخليفة العباسي نفسه ضعيفًا واقعًا تحت سلطة رجال البلاط المفسدين ورحمة حراسة وهم طغمة من القواد العسكريين الأجانب . إذ سيطر الترك على أداة الحكم بعد مقتل المتوكل سنة 247هـ / 861م ،(1)
__________
(1) ابن الأثير ، الكامل في التاريخ ، طـ 2 ( بيروت : دار الكتاب العربي ، 1387هـ / 1967م ) ، جـ5 ، ص 301 .(1/2)
واستضعفوا الخلفاء وأرهقوهم بطلب المال واعتدوا على أشخاصهم ، فأصبح ليس للخليفة عندهم حرمة . ومنذ ذلك الوقت ، أي منتصف القرن الثالث الهجري / التاسع الميلادي ، والثورات تتوالى على العراق ، منها ثورات العلويين في بغداد والكوفة وغيرها ، ثم ثورة الزنج في سباخ البصرة ، وحركة القرامطة في سواد الكوفة البحرين . وقد جّر ذلك كله على الدولة مشاكل مالية وحربية وعقيدية كما انفصل عدد من أمراء الولايات بولاياتهم عن الخلافة العباسية ، فكانت بين دول مستقلة استقلالاً تامًا ناصبت الدولة العباسية العداء ، وبين دول مستقلة تدين بالطاعة للخلافة ظاهريًّا فقط .(1/3)
... أمام ذلك أصبح من الضروري إنقاذ الدولة بتنصيب رجل قوي يجمع في يده جميع السلطات المدنية والعسكرية ويكون أعلى رتبة من الوزير ( يسمى أمير الأمراء ) ويكون مسؤلاً عن الضرائب في العاصمة والولايات . وقد وقع اختيار الخليفة الراضي سنة 324هـ / 936م على أبي بكر محمد بن رائق الخزري ، أمير واسط والبصرة ، وأسند إليه مهام هذا المنصب الحساس ، وبناء عليه انتقل ابن رائق على بغداد واستلم عمله الجديد في الرابع والعشرين من شهر ذي الحجة / الثالث عشر من نوفمبر من السنة نفسها .(1)هذه التدابير البائسة لم يسفر عنها غير المزيد من الفوضى ، وفي غضون عشرة أعوام من 324 إلى 334هـ / 936 إلى 945م تصارع على هذا المنصب ستة قادة عسكريون ، في الوقت الذي كانت فيه القوات الديلمية بقيادة البويهيين تتقدم نحو العراق من الشرق والجنوب الشرقي هادفة الاستيلاء على بغداد . ولما مات الخليفة الراضي عام 329هـ / 940م خلفه أخوه المتقي إلا أنه خلع وسلمت عيناه عندما حاول التدخل في أمور أمير الأمراء ، وعُين بدلاً منه شقيق آخر له لقب بالمستكفي الذي شهد نهاية عصر إمرة الأمراء ودخول البويهيين بنزول معز الدولة أحمد بن بويه بغداد وغدره بالمستكفي واستيلائه وقومه على مقاليد الأمور في بغداد .(2)
... في هذه الأثناء ظهر عمران بن شاهين على مسرح الأحداث فاستطاع بما يمتلكه من شخصية قوية ومواهب قيادية أن يجمع الأنصار من سكان البطائح من صيادي السمك وقطاع الطرق وجماعات من القبائل العربية المستقرة هناك . وقد التفّ هؤلاء حوله التفافًا شديدًا للوصول إلى مآربهم وتحقيق شيء لأنفسهم في هذا الجو المضطرب .
__________
(1) الصولي أخبار الراضي والمتقي ، عني بنشره ج . هبورت د ن، ط2( بيروت : دار الميسرة ، 1399هـ / 1979م ) ، ص ص 85ـ 86 ، 117.
(2) الصولي ن أخبار الراضي والمتقي ، ص ص 183 ، 188 ، 282 .(1/4)
... وبعد ، فقبل الخوض في عرض أحداث حركة عمران بن شاهين وأعماله فإنه لا بد من إلقاء الضوء على المسرح الذي شهد فعاليات تلك الأحداث وأعني بها منطقة البطائح ، من الناحيتين الجغرافية والاقتصادية ، وكذلك إلقاء الضوء على العناصر السكانية بها لأنها كانت الدعامة القوية التي ارتكز عليها عمران بن شاهين واستمد منها قوته .
أولاً : البطائح
البطيحة ، بالفتح ، ثم الكسر ، وجمعها البطائح ، والبطحاء واحد ، وهو مسيل فيه دقاق للحصى ، وقيل بطحاء الوادي ، تراب لين ، مما جزته السيول ، وتبطح السيل ، إذا اتسع في الأرض ، وبهذا سميت بطائح واسط ، وذلك لأن المياه تبطحت فيها وسالت واتسعت في الأرض .(1)
... والبطائح التي نحن بصدد الحديث عنها في هذه الدراسة هي المنطقة الواقعة جنوبي العراق حيث الأهوار والمستنقعات التي تغذيها مياه نهري دجلة والفرات وتوابعهما ، وتقع تقريبًا بين واسط شمالاً والبصرة جنوبًا ، ولذلك تسمى أحيانًا ببطائح واسط ، أو بطائح البصرة نسبة إلى هاتين المدينتين المتجاورتين . وتبتدئ من القطر على دجلة ومن جنوب شرق الكوفة وتغمر المجرى السفلي لكل من دجلة والفرات .(2)
__________
(1) ابن منظور ، لسان العرب ( بيروت : دار صادر ، 1388هـ / 1968م ) ، جـ2 ، ص412 ، ياقوت الحموي ، معجم البلدان ( بيروت : دار بيروت للطباعة والنشر ، 1399هـ /1979م ) ، جـ1 ، ص 450 .
(2) سهراب ، كتاب عجائب الأقاليم السبعة إلى نهاية العمارة ( فينا : مطبعة أدولف هولزهوزن ، 1347هـ / 1929م ) ، ص 135 ، عبدالعزيز الدوري ، تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري ، طـ 2 ( بيروت : دار المشرق ، 1986م ) ص ص 20 ـ 21 . والقطر جنوب واسط مسافة 110 كيلومترات لأن الفرسخ يساوي 5 كيلومترات ؛ M . Streck and Saleh al – Ali , ' al – Batiha , " The Encyclopaedia of Islam , 2nd . ed . ( Leiden : E.J. Brill , 1960 ) , I , 1093 .(1/5)
... واستنادًا إلى ما جاء في المصادر العربية فإنه من الصعب تحديد مساحة البطائح تحديدًا دقيقًا ، وقد توصل Le Strange بعد دراسة متعمقة في كتب الجغرافيين العرب إلى أن مساحة البطائح في الفترة التي نحن بصددها كانت تقرب من مائتي ميل طولاً وخمسين ميلاً عرضًا .(1)
__________
(1) G . Le Strannge , The Lands Of the Eastern Caliphate , 34d . ed . ( London : Frank Cass , 1966 ) , p . 26 .
وانظر : الدوري ، تاريخ العراق الاقتصادي ، ص 22 .
وقد اختلف الجغرافيون العرب في تحديد مساحة البطائح ، فمنهم من ذكر أنها دون واسط بعشرين فرسخًا في ثلاثين فرسخًا ؛ النويري ، نهاية الأرب ( القاهرة المؤسسة المصرية العامة للكتاب ، د . ت . ) ، جـ 1 ، ص 269 ؛ ومنهم من حددها بالمنطقة الواقعة بين واسط والبصرة وأنها ماء مستنقع لا يرى طرفاه من سعته ؛ ابن منظور ، لسان العرب ، جـ 2 ، ص 413 ؛ ياقوت الحموي ، معجم البلدان ، جـ1 ، ص 450 ؛ في حين ذكر أن مدينة واحدة من مدن البطائح وهي الصُّليق تقع على هور طوله أربعون فرسخًا ؛ المقدسي ، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم ، ط 3 ( القاهرة : مكتبة مدبولي ، 1411هـ / 1991م ) ، ص 119 .(1/6)
... وربما يرجع اختلاف الجغرافيين العرب في تحديد مساحة البطائح ، إلى عدم ثباتها أمام الفيضانات ، ويؤكد هذا الأمر ماذكره المسعودي " من أنه إذا وجد الماء سيلاً منخفضًا وانصبابًا وسع بالحركة وشدة الجري لنفسه فاقتلع المواضع من الأرض إلى أبعد غايتها وكلما وجد موضعًا متسعًا من الوهاد ملأه في طريقه من شدة جريه حتى يعمل بحيرات وبطائح ومستنقعات ، وتخرب بذلك بلاد وتعمر بذلك بلاد . "(1)كما يرجع ذلك أيضًا إلى مشاريع تجفيف المستنقعات التي كانت تقوم بها الدولة .(2)ولا شك في أن هذه العوامل لا تساعد على تحديد المساحة بدقة .
... وعلى كل ، فإن البطائح في القرنين الثالث والرابع الهجريين / التاسع والعاشر الميلاديين ، كانت عبارة عن أرض واسعة تغمرها المياه ويتأرجح الماء فيها بين القلة والكثرة ، وهي صالحة للملاحة ، ويكثر فيها القصب ، فالمناطق التي يقل فيها الماء لا تمخر فيها إلا المجاديف الصغيرة التي تدفع بالمرادي ،(3)لقرب قعرها وارتدام مجاريها بالتراب .(4)
__________
(1) المسعودي ، مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق محمد محي الدين عبدالحميد ، ط 5( بيروت : دار الفكر، 1393هـ / 1973م ) ، جـ 1 ، ص104
(2) قدامة بن جعفر ، نبذة من كتاب الخراج وصنعة الكتابة ، منشور ضمن كتاب المسالك والممالك لابن خرداذبة ( بغداد : مكتبة المثنى ، د. ت . ) ، ص ص 340 ـ 341 ؛ البلاذري ، فتوح البلدان ( بيروت : دار الكتب العلمية ، 1403هـ /1983م ) ، ص ص 290 ـ 293 .
(3) المرادي هي أعواد من القصب وتسمى المردي وجمعها المرادي .
(4) 10) ابن حوقل ، صورة الأرض ( بيروت : دار مكتبة الحياة ، 1979م ) ، ص 214 ؛ الإدريسي ، نزهة المشتاق في اختراق الآفاق ، ط1( بيروت عالم الكتب 1409هـ / 1979م )، جـ1 ، ص385 .(1/7)
أما المناطق التي يكثر فيها الماء ، فإن السفن النهرية الكبيرة تسير فيها ، وتسمى المناطق كثيرة الماء الخالية من القصبفي البطائح بالهول أو الهور .(1)
وتنتشر المدن والقرى في الأراضي المرتفعة فيها والتي تعرف بالجوامد وقد المقدسي بعض مدن البطائح وقراها ومنها الصِّليق وهي أكبر مدنها ، ثم يليها في الكبر الجامدة وهما على دجلة وسائر المدن دونهما مثل الحدادية والزبيدية .(2)
أما بالنسبة لموارد البطائح الاقتصادية ففي غضون الفترة موضوع الدراسة فقد كانت منطقة أهوار ومستنقعات جنوبي العراق عالية الخصب ، لأن وفرة المياه وشدة الحرارة في الصيف وكثرة الرطوبة والبرودة النسبية وقلة الأمطار في الشتاء قد جعلت منها بيئة مميزة لأنواع معينة من النبات .(3)
ويعد القصب من أهم حاصلات هذه المنطقة ، وهو يستخدم في كثير من الاحتياجات المحلية ، فقد استخدمه أهل البطائح مثلاً في بناء بيوتهم وهي عبارة عن أكواخ مستطيلة من القصب والحصير .(4)كما يستخدم في صناعة الحصير وأقلام الكتابة وعندما يجف يستخدم وقودًا .(5)
__________
(1) 11) ابن رسته ، الأعلاق النفيسة ( ليدن : بريل ، 1891م ) ، ص 185؛ سهراب ، كتاب عجائب الأقاليم السبعة ، ص 135 .
(2) 12) المقدسي ، أحسن التقاسيم ، ص ص 53 ، 119 .
(3) 13) المقدسي ، أحسن التقاسيم ، ص 119 .
(4) 14) ابن رسته ، الأعلاق النفيسة ، ص 185 ؛ سهراب ، عجائب الأقاليم السبعة ، ص 135 ؛ نعمان بن العراق ، معدن الجواهر بتاريخ البصرة والجزائر ، تحقيق محمد حميدالله ( إسلام آباد : مجمع البحوث الإسلامية ، 1393هـ / 1973م ) .
(5) 15) نعمان بن العراق ، معدن الجواهر ، ص88 ؛ حسن الخياط ، جغرافية أهوار ومستنقعات جنوب العراق ( القاهرة : المطبعة العالمية ، 1975 م ) ، ص 104 ؛Streck and al – Ali , p . 1097 .(1/8)
كما اشتهرت المنطقة بزراعة الأرز بعدما انتقل إليها من الهند ، وكان يزرع فيها منذ العهد الساساني ، ومنها انتشر تدريجيًا إلى جميع المناطق الملائمة في الجزء الواقع على البحر الأبيض المتوسط من العالم الإسلامي .(1)وأهم منطقة لزراعة الأرز الجيد كسكر وتقع في القسم الشرقي من البطائح .(2)وكانت منطقة واسط مركزًا مهمًا لزراعة الشعير .(3)وعلى كل فإن المنطقة عبارة عن حقول يغطيها القصب والأرز والشعير وأشجار النخيل .
__________
(1) 16) ياقوت الحموي ، معجم البلدان ، جـ10 ، ص 450 ؛ صفي الدين البغدادي ، مراصد الاطلاع ، تحقيق علي محمد البجاوي ( بيروت : دار المعرفة ، 1373هـ / 1954م ) جـ1 ، ص206 ، موريس لومبار ، الإسلام في مجده الأول ، ترجمة إسماعيل العربي ( الجزائر : الشركة الوطنية للنشر والتوزيع ، 1979 ) ص39 ؛ Streck and al – Ali , p . 1097 .
(2) 17) Le Strange , p . 43 . .
(3) 18) الهمداني ، تكملة تاريخ الطبري ، منشور ضمن كتاب ذيول تاريخ الطبري ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ( القاهرة : دار المعارف ، د.ت . ) ، ص 286 .(1/9)
وقد تمتعت البطائح بكثرة الطيور المائية وبالثروة السمكية الواسعة .(1)أما عن الماشية ، فقد كان سكان البطائح يعنون بتربية البقر حتى عرف الأنباط المقيمون في هذه المنطقة باسم فرسان البقر .(2)وحيث أنه قد منح ذبح البقر والجواميس للقيام بعملية الحرث والزراعة ،(3)فقد نتج عن ذلك تكاثر عددها بشكل ملموس وساعد على ذلك ملائمة جو البطائح لها وقد أصبح ماتنتجه الجواميس والبقر من الألبان ومنتجاتها مصدرًا مهمًّا من مصادر الثروة للسكان .
__________
(1) 19) ابن رسته ، الأعلاق النفيسة ، ص94 ؛ المقدسي ، أحسن التقاسيم ، ص119 ؛ نعمان بن العراق ، معدن الجواهر ، ص 88 .
(2) 20) آدم متر . الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ، نقله إلى العربية محمد عبدالهادي أبو ريدة ، ط4 ( بيروت : دار الكتاب العربي ، 1387هـ / 1967م ) ، جـ2 ، ص 346 .
(3) 21) ابن رسته ، الأعلاق النفيسة ، ص105 ؛ البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ص 172، 368.(1/10)
... أما عن التركيب السكاني للبطائح خلال القرنين الثالث والرابع الهجري / التاسع والعاشر الميلاديين ، فقد كان خليطًا من أناس تختلف لغاتهم وأجناسهم وأديانهم ، ويأتي في مقدمة هذا التركيب النبط النصارى( السريان ) سكان بابل القديمة الذين يتكلمون الآرامية .(1)فعندما تمت الفتوحات الإسلامية في العراق ، التجأ إلى منطقة البطائح وتكاثر عددهم وأصبحوا فلاحين للأرض ، حتى أن مصنفي العرب كانوا يستعملون لفظ النبط للإشارة إلى الفلاحين في هذه المنطقة ، وفي هذا الصدد يقول ابن منظور : " الأنباط جيل ينزلون بالبطائح بين العراقيين وإنما سموا نبطًا لاستنباطهم مايخرج من الأرض ،"(2)ولا تزال بقايا منهم وهم المندائيون الذين عرفهم العرب بالصائبة يعيشون في أماكن متفرقة من هذه البطائح .(3)
... ونجد إلى جانب النبط ، الفرس الذين بقوا في أراضيهم بعد الفتح الإسلامي وانهيار الدولة الساسانية ، وقد سمح لهم المسلمون بالبقاء في ممتلكاتهم ومراكزهم . فمن دخل منهم في الإسلام كان له ما للمسلمين وعليه ومن لم يسلم أخذت منه الجزية .(4)
__________
(1) 22) المسعودي ، التنبيه والإشراف ( بيروت : مكتبة الهلال ، 1981م ) ص ص 49 ، 52 ؛ المقدسي ، أحسن التقاسيم ، ص 128 ؛ ابن منظور ، لسان العرب ، مادة نبط ، جـ7 ، ص411.
(2) 23) ابن منظور ، لسان العرب ، مادة نبط ، جـ7 ، ص411 ؛ المسعودي ، التنبيه والإشراف ، ص 49 .
(3) 24) مصطفى جواد ، " الصابئة المندائيون أيضًا " مجلة العربي ، ع 116 ( ربيع الثاني 1388هـ / يوليو 1968 م ) ، ص ص 105 ـ 106 .
(4) 25) البلاذري ، فتوح البلدان ، ص ص 265 ـ 274 .(1/11)
... ومن الجماعات التي سكنت البطائح أيضًا الزط ( Jat ) وهم قوم من الهند وبالتحديد من بلاد السند ، جاءوا إلى هذه المنطقة بطرق عديدة وفي أوقات مختلفة .(1)وفي عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك جلب الحجاج منهم أعدادًا كبيرة وأسكنهم البطائح ومعهم قطعان كبيرة من الجاموس بهدف تعمير المنطقة واستصلاحها .(2)
... ومن العناصر التي وفدت إلى منطقة البطائح وسكنت في أطرافها الزنج وهم في الأصل من سواحل شرق أفريقيا ، وكانوا يجلبون في الأكثر من أجل استخدامهم في أعمال الخدمة والزراعة واستصلاح الأراضي التي تحتاج على استصلاح ، واستخراج الملح من الأراضي السبخة وهو ـ بل شك ـ عمل شاق لم يتلقوا مقابله مكافأة سوى القوت اليومي ، ولعل هذا قد ولد لديهم حقدًا ثم ثورة كبرى ساعد على قيامها تكاثر عددهم بشكل تدريجي . وقد دعمهم فيها عناصر أخرى ، استطاعت معهم تهديد الدولة العباسية بالإغارات المستمرة الشرسة أكثر من أربعة عشر عامًا ( من 255 ـ 270هـ / 869 ـ 883م ) .(3)هذا وقد كانت هناك أيضًا مجموعات يهودية تعيش في منطقة البطائح يعمل أغلب أفرادها بالتجارة .(4)
__________
(1) 26) انظر مقالة للكاتبة بعنوان " الزط وموقعهم في التاريخ الإسلامي " العصور ، م 8 ، ع1 ( يناير 1993م ) ، ص ص 78 ـ 82 .
(2) 27) البلاذري ، فتوح البلدان ، ص 368 .
(3) 28) الطبري ، تاريخ الأمم والملوك ، جـ3 ، ص ص 1743 ـ 2098 .
(4) 29) الطبري ، تاريخ الأمم والملوك ، جـ3 ، ص 1760 .(1/12)
... وعلى اية حال فإلى جانب هؤلاء جميعًا ، كانت أغلبية سكان البطائح وأطرافها تتشكل من القبائل العربية , ولم يكونوا طبقة أرستقراطية حاكمة وإنما كانوا فلاحين وعمالاً يعملون في الحقول والأراضي الزراعية الخصبة في أطراف الكوفة وواسط والبصرة . وقد عانوا ـ شأنهم في ذلك شأن باقي السكان ـ من ظلم الولاة وعمال الضرائب ، لذلك نراهم يناصرون جميع الحركات والانتفاضات التي ظهرت في المنطقة ، ويشير البلاذري والطبري إلى بعض هذه القبائل كقبيلة باهلة ومواليهم وعن دورهم في الانتفاضة التي قام بها الزط في عهد كل من الخليفتين المأمون والمعتصم .(1)كما ساند بنو باهلة ثورة الزنج بعد ما يقرب من أربعين عامًا من انتفاضة الزط ، وقد استخدمهم علي بن محمد زعيم الزنج ، أدلاء ومرشدين لمعرفتهم طرق البطائح ومسالكها .(2)
... كما ناصر البعض من قبيلة بني عجل من بكر بن وائل ــ بفروعها المتعددة ــ عددًا من الحركات والفتن التي ظهرت في جنوبي العراق في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري / التاسع الميلادي ، كحركة يحي بن عمر العلوي سنة 250هـ / 864 م .(3)
... وتعاطفت جماعة أخرى من بني عجل بقرية الجعفرية في جنوب شرق البطائح مع حركة الزنج سنة 255هـ / 869 م ، وذلك بعرض أنفسهم وبذل مالديهم لزعيم الزنج . فشكرهم زعيم الزنج وأمر بعدم تعرض لهم ولقريتهم .(4)
__________
(1) 30) البلاذري ، فتوح البلدان ، ص 368 ؛ الطبري ، تاريخ الأمم والملوك ، جـ3، ص1859.
(2) 31) الطبري ، تاريخ الأمم والملوك ، جـ3 ، ص ص 1899، 1902 ، 1903 .
(3) 32) الطبري ، تاريخ الأمم والملوك ، جـ3 ، ص1520 ؛ أبو الفرج الأصفهاني ، مقاتل الطالبيين ، تحقيق سيد أحمد صقر ( طهران : انتشارات مؤسسة مطبوعاتي ، 1970 م ) ، ص ص 642 ــ 643 .
(4) 33) الطبري ، تاريخ الأمم والملوك ، جـ3 ، ص 1759 .(1/13)
... كذلك انتشر بعض من بطون قبيلة شيبان في المنطقة مثل ذهل ، وعبس ، وعنزة ، وتيم الله ، وقد عاضد هؤلاء جميعًا قرامطة سواد الكوفة .(1)هذا بالإضافة إلى المهالبة ـ وهم الذين ينسبون إلى المهلب بن أبي صفرة ــ وبني حمان وبني هاشم ،(2)وبني سُليم وهم من أوائل من استقر بمدينتي الكوفة والبصرة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه .(3)وهكذا يستنتج مما سبق أن هذه القبائل العربية المستقرة في جنوبي العراق كانت من العامة المهضومة حقوقهم ، الثائرين لتحسين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية .
... فمن الطبيعي إذن أن منطقة يتكون سكانها من عناصر مختلفة متباينة كل هذا التباين أن تحتوي على أناس يدينون بأديان مختلفة . فهناك اليهودية والنصرانية والزرادشتية والصابئة ، هذا بالإضافة بالطبع إلى المسلمين الذين تعددت مذاهبهم وتنوعت .
... ولعل هذا كله قد وضّح الصورة لهذا المجتمع القاسي بطبيعته وسكانه ، وبالتالي انعكس الأمر على أحواله ، وقد قدمت هذه الظروف نفسها لأصحاب المصالح الذين استغلوها ، ومن ثم قامت الحركات الثورية وكثرت الفتن والانتفاضات ومنها حركة عمران بن شاهين .
ثانيًا : حركة عمران بن شاهين
لم تورد المصادر التاريخية التي بين أيدينا معلومات عن الصدر الأول من حياة عمران بن شاهين أو عن أسرته ، أي قبل أن يقف على رأس أهل البطائح ويصبح زعيمهم .
__________
(1) 34) المقريزي ، اتعاظ الحنفا ، تحقيق جمال الدين الشيال ( القاهرة : دار المعارف ، 1967 م )، جـ1 ، ص 156 .
(2) 35) الطبري ، تاريخ الأمم والملوك ، جـ3 ، ص ص 1746 ، 1754 ، 1764 ، 1785 ، 1850 ، 1855 .
(3) 36) عبدالقدوس الأنصاري ، بنو سُليم ، ط1 ( بيروت : د. ن . ،1391هـ / 1971م )، ص14 .(1/14)
وكل ما ذكر عنه أنه عربي ينتمي إلى قبيلة سُليم ، نشأ في سواد العراق وبالتحديد في مدينة الجامدة التي تقع على الطريق بين البصرة وواسط ، ثم التجأ إلى البطائح بعد أن ارتكب جريمة وخاف من أن يقبض عليه ،(1)فأقام بين أهلها بين القصب والآجام متحصنًا بها ، فاقتصر طعامه على ما يتصيده من السمك وطيور الماء وكذلك الأرز . وهناك حاول أن يستميل إليه أهل البطائح فالتفت حوله جماعة من اللصوص ونفر من صيادي السمك .(2)
... وحسب اعتقاد محمد أسعد طلس ، فإن عمران بن شاهين كان جابيًا للخراج فجمع أموال الخراج وهرب إلى البطائح في سنة 329هـ / 940م .(3)ولا يوجد أي خبر غير ذلك يشير أو يكشف لنا طبيعة عمل عمران بن شاهين أو نوع جريمته التي ارتكبها وهرب على إثرها . ولعل ما أورده محمد أسعد طلس يبدو منطقيًّا وقريبًا من الصحة وذلك لعدة أسباب منها :
? ان طرق جباية الأموال وتحصيلها في هذه الفترة غالبًا كانا يتّمان بطرق تعسفية ، إذ كان لا يهم الجباة غير جمع الأموال والحفاظ عليها بعد اقتطاع حصة الخلافة منها وما كانوا يقدمونه للوزراء في صورة هدايا لكسب مودتهم . وكثيرًا ما كان بعض جباة الخراج يمتنعون عن أداء الأموال المقررة عليهم ويهربون بها لإنفاقها على أتباعهم وأنصارهم مكونين بذلك جيشًا يحاربون به جيوش الخلافة ، ومن ثم يستقل كل منهم بمنطقته عن الخلافة ، والأمثلة على ذلك كثيرة كالبريديين مثلاً .
__________
(1) 37) مؤلف مجهول ، العيون والحدائق في أخبار الحقائق ، تحقيق عمر السعيدي ( دمشق : المعهد الفرنسي للدراسات العربية ، 1973م ) ، ص 461 .
(2) 38) مجهول ، العيون والحدائق ، ص461 ؛ مسكوية ، تجارب الأمم ( القاهرة : شركة التمدن الصناعية 1333هـ/1915م ) ، جـ2 ، ص119 ؛ الهمذاني ، التكملة ، ص 369 .
(3) 39) محمد أسعد طلس ، تاريخ العرب ، طـ2 ( بيروت : دار الأندلس للطباعة والنشر ، 1399هـ / 1979 م ) ، م 2 ، جـ6 ، ص 101 .(1/15)
? أن عمران بن شاهين لو لم يكن لديه مال ينفقه على أتباعه لما تجمع حوله الأنصار والأتباع ولما استطاع أن يقف على رأس أهل البطائح ويصبح زعيمهم .
أما عن دوافع هذه الحركة فإننا نرجح أن سكان البطائح ــ وعلى رأسهم عمران بن شاهين ــ قد عزموا على تقرير مصيرهم بأنفسهم مشكلين قوة مسلحة أطلق على أفرادها اسم عيارين وشطار(1)وعصابات وقطاع طرق ولصوص ، وانضم إليهم كل من له مصلحة في دعمهم ، وعندما قوي أمرهم أخذوا بقطعون الطريق على من يسلك البطائح . وكان ذلك قبيل دخول البويهيين إلى المسرح السياسي مباشرة وتوليهم مقاليد الأمور في بغداد سنة 334هـ / 946م .
__________
(1) 40) العيارين والشطار هم الذين أخذوا على عاتقهم مهمة إصلاح الخلل الإجتماعي والاقتصادي بالقوة وحماية الفقراء وإسعادهم على أموال الغنياء وأملاكهم وتوزيعها بين الفقراء . والأمثلة على ذلم كثيرة ( أمثال ابو الهيثم العيار ، والعيارون الذين دافعوا عن مدينة بغداد أيام الفتنة بين الأمين والمأمون ، وابن حمدي الشاطر ) انظر كتاب محمد أحمد عبدالمولى ، العيارون والشطار البغاددة في التاريخ العباسي ( الإسكندرية : مؤسسة شباب الجامعة ، 1986م ) .(1/16)
عندما اشتهر أمر عمران بن شاهين وأتباعه بما كانوا يقومون به من أعمال التلصص وقطع طريق عابري السبيل والتجار ممن كانوا يجتازون طرق البطائح ، عزمت الحكومة المركزية في بغداد على عمران بن شاهين والقضاء على حركته في مهدها ، وعندما توجس عمران بن شاهين خيفة من القبض عليه استأمن أبا القاسم البريدي ، الذي أصبحت له رئاسة البريدين في البصرة والأهواز بعد وفاة أبيه إبي عبدالله البريدي سنة 332هـ / 943م .(1)فعين أبو البريدي عمران بن شاهين مسؤولاً عن الجامدة والأهوار ( وهي من نواحي منطقة البطائح ) ، وقد استطاع من خلال تقلده أمور هذه المنطقة أن ينظم أتباعه في قوة عسكرية تمكن بها من فرض سيطرته ــ فيما بعد ــ على المنطقة كلها .(2)
__________
(1) 41) مجهول ، العيون والحدائق ، ص461 ؛ الهمذاني ، التكملة ، ص369 ؛ مسكويه ، تجارب الأمم ، جـ2 ، ص ص 58 ـ 61 ، 119 ؛ ابن الأثير ، الكامل ، جـ 6 ، ص331 .
(2) 42) مجهول ، العيون والحدائق ، ص 461 ، مسكويه ، تجارب الأمم ، جـ2 ، ص119 ؛ أبو الفداء ، المختصر ، جـ2 ، ص121 ؛ ابن خلدون ، تاريخ ابن خلدون ، ط1 ( بيروت : دار الفكر للطباعة والنشر ، 1401هـ / 1981م ) ، جـ3 ، ص 525 .(1/17)
... إلا أن مجريات الأمور اتخذت مسارًا آخر في منطقة جنوبي العراق بعد دخول البويهيين بغداد بقيادة معز الدولة ( سنة 334هـ / 945م ) . ففي سنة نفسها انتفض أبو القاسم البريدي بالبصرة على البويهيين فأرسل إليه معز الدولة عدة حملات كانت آخرها سنة 336هـ/947م عندما خرج بنفسه على رأس الجيش مصطحبًا معه الخليفة العباسي المطيع لله . فلما وصل بالقرب من البصرة استأمنه جيش البريدي بأسره ، فاضطر أبو القاسم على الهرب إلى هجر عاصمة القرامطة ودخل معز الدولة ومن معه البصرة وقبض على جميع قواد البريدي فيها واستخرج أمواله وودائعه وقبض على خزائنه ، وبذلك أسقط معز الدولة إمارة البريديين إلى الأبد .(1)بعد سقوط إمارة البريديين عمل عمران بن شاهين على تحصين منطقته فاتخذ المعاقل على التلال في البطائح تحسبًا لأي عدوان خارجي من قبل البويهيين . واستمر في قطع طريق عابري السبيل والتجار ممن كانوا يجتازون طرق البطائح فأصبح بذلك خطرًا يهدد أمن وسلامة طرق المواصلات النهرية والبرية في جنوبي العراق .
__________
(1) 43) مسكويه ، تجارب الأمم ، جـ2 ، ص ص 111 ــ 112 .(1/18)
... لم يقف معز الدولة مكتوف اليدين أمام هذا التحدي ، فأعد جيشًا كبيرًا لمحاربة عمران بن شاهين وأسند قيادته إلى وزيره أبي جعفر محمد بن أحمد الصيمري ، فالتقى الطرفان سنة 338هـ / 949م في عدة معارك انهزم فيها عمران بن شاهين ، ووقع العديد من أهل بيته وأولاده في الأسر ، مما دفعه إلى الهرب والاختباء داخل البطائح التي ساعدته طبيعتها على المقاومة والصمود . كما ساعدته الظروف أيضًا إذ بينما كان الصيميري في ميدان المعركة مات عماد الدولة ، كبير الأسرة البويهية وحاكم فارس ، في شيراز فأمر معز الدولة وزيره الصيمري بترك محاربة عمران والتوجه إلى شيراز لمساعدة أخيه ركن الدولة الذي أسرع لضبط الأمور فيها .(1)
... وبذلك تحولت هزيمة عمران بن شاهين إلى نصر وراح يعيد بناء قواته من جديد ، ويعزز مكانته بين أتباعه ، وجمع فلول جيشه وقوي أمره . إلا أن الصيمري عاد إلى محاربته مرة أخرى سنة 339هـ / 950م بعد أن عاد الهدوء إلى شيراز ولكنه توفي فجأة في السنة نفسها من حمى حادة أصابته بقرية صغيرة بالقرب من الجامدة .(2)
__________
(1) 44) مجهول ، العيون والحدائق ، ص ص 461 ــ 462 ؛ مسكويه ، تجارب الأمم ، جـ2 ، ص 120 ؛ ابن الأثير ، الكامل ، جـ2 ، ص 332 .
(2) 45) مجهول ، العيون والحدائق ، ص ص 462 ــ 463 ؛ مسكويه ، تجارب الأمم ، جـ2 ، ص ص 121 ــ 123 ؛ حسين المسري ، " الإمارة الشاهينية في البطائح ، " المجلة الإسلامية ، ع 17 ( 1406هـ / 1985م ) ، ص 97 .(1/19)
... وفي سنة 339هـ / 950م ، وبعد وفاة الصيمري ، أرسل معز الدولة جيشًا آخر لمحاربة عمران بن شاهين بقيادة أحد قواده من الديلم يدعى روزبهان إلا أن الأول كان أكثر استعدادًا في هذه المرة لملاقاة جيش البويهيين فتحصن في المعاقل التي اتخذها على التلال وطال أمد حصار روزبهان حتى ضجر هو وجنده من طول المدة ، فقرروا التوغل داخل البطائح والهجوم على معاقل عمران بن شاهين . إلا أن الأخير وأتباعه باغتوهم وألحقوا بهم هزيمة نكراء ، وغنموا جميع ما في معسكرهم من أسلحة وآلات . وبعد هذا الانتصار تشجع عمران بن شاهين وازدادت قوته ونفوذه فسيطر على منافذ الطرق وراح يطالب المّارين بدفع الضرائب على ما معهم من أمتعة ، خاصة كبار رجال الدولة من التجار الأغنياء والقواد والحجاب والكتاب الذين تكدست بيدهم الأموال والأراضي ، نتيجة التوزيع غير المتكافئ للثروة . وقد قصد عمران بن شاهين بذلك إذلالهم والحط في مكانتهم والانتقام منهم لما كانوا يقترفونه بحق الفئة الفقيرة المعدمة التي تكدح ليلاً ونهارًا في سبيل الحصول على لقمة العيش والتي كانت تعاني من الذل والحرمان الشيء الكثير .(1)
__________
(1) 46) مسكويه ، تجارب الأمم ، جـ2 ، ص ص 129 ــ 130 ؛ ابن الأثير ، الكامل ، جـ6 ، ص336 .(1/20)
... عندما وصلت هذه الأنباء إلى عز الدولة ، وكثرت شكوى الأمراء والتجار والحجاب والقواد لما كانوا يلاقونه من الهوان أثناء اجتيازهم المنطقة ، أمر وزيره محمد المهلبي ــ الذي تولى الوزارة بعد وفاة الصيمري ( سنة 339هـ ــ 950م ) ــ بالمسير إلى واسط ومعاودة حرب عمران بن شاهين . فاستعد المهلبي لهذه الحرب أتم استعداد وأنفق معز الدولة على هذا الجيش مبالغ طائلة ، وزوده بأحسن الأسلحة ، وضم إليه كبار القواد ومعهم روزبهان . وزحف المهلبي إلى البطائح وضيق الخناق على عمران بن شاهين وسد عليه المضايق وعمد إلى تكسير الممرات المائية التي تقضي إلى داخل البطائح لمنع وصول المياه ، وكان القصد من ذلك هو تجفيف المنطقة من المياه حتى يتسنى للجيش المتقدم السير على الأقدام للوصول إلى معاقل عمران بن شاهين .(1)
... ولقد تجنب عمران بن شاهين ملاقاة جيش المهلبي واستخدام أسلوب حرب العصابات مختبئًا هو وأصحابه بين أدغال البطائح . فطال أمد ذلك الحصار وضجر الجند من طول المقام وسوء جو البطائح . ولعل هذا ــ بالإضافة إلى المنافسة بين القائدين روزبهان والمهلبي ــ كان من الأسباب التي أجبرت المهلبي بالعدول وجنوده عن الوقوع في مضايق لا يعرفها سوى عمران بن شاهين وقواته . فخرج عليهم كمين عمران بن شاهين من كل جانب فقتلوا جماعة وأسروا جماعة وغرق جماعة وتفرق الباقون بينما نجا المهلبي سباحة ورجع إلى واسط .(2)
__________
(1) 47) المسري ، الإمارة الشاهينية ، ص 99 .
(2) 48) الهمذاني ، التكملة ، ص372 ؛ مسكويه ، تجارب الأمم ، جـ2 ، ص ص 129 ــ 130 ؛ ابن الأثير ، الكامل ، جـ6 ، ص336 ؛ ابن خلدون ، تاريخ ، جـ3 ، ص 526 .(1/21)
... أدرك معز الدولة بعد هزيمة جيشه أنه أمام خصم عنيد ، فعقد مع عمران بن شاهين صلحًا سنة 340هـ / 951م وافق فيه جميع شروطه ، وذلك بإطلاق سراح أهله وأولاده والاعتراف به أميرًا على منطقة البطائح كما أطلق عمران بن شاهين من كان في أسره من قواد معز الدولة وجنوده .(1)
... ومع هذا فقد استمرت العلاقة بين الطرفين قلقة خاصة من ناحية عمران بن شاهين ، إذ غالى في شطارته وعيارته وتهديد طرق المواصلات وأحكم سيطرته على البطائح . ففي المحرم سنة 344هـ / 955م هاجم قافلة تجارية كانت مارّة بالبطائح قادمة من الأهواز بها أموال وأمتعة كثيرة لمعز الدولة تقدر بحوالي مائة ألف دينار كان يرافق القافلة عدد كبير من التجار مع تجارتهم فاستولى على جميع ما فيها . وعندما احتج معز الدولة على تصرفات عمران وطالبه برد الأموال ، رد عليه أمواله فقط وامتنع عن رد أموال التجار وانفرط عقد شروط الصلح بينهما .(2)
من هنا يتضح لنا من تصرفات عمران بن شاهين أنه رغم الاعتراف به أميرًا على منطقة البطائح لم يتخل عن هدفه الأساسي وهو إصلاح الخلل الاجتماعي والاقتصادي والقهر السياسي بالقوة وحماية الفقراء وإسعادهم بالاستيلاء على أموال الأغنياء وتوزيعها على الفقراء ، وهو الهدف الذي كان يصبو إليه جميع العيارين والشطار .
__________
(1) 49) مسكويه ، تجارب الأمم ، جـ2 ، ص131 ؛ ابن الأثير الكامل ، جـ6 ، ص336 ؛ ابن خلدون ، تاريخ ، جـ3 ، ص521 .
(2) 50) مجهول العيون والحدائق ، ص476 ؛ الهمذاني ، التكملة ، ص 380 ، مسكويه ، تجارب الأمم ، جـ2 ، ص ص 158 ــ 159 ؛ ابن الأثير الكامل ، جـ6 ، ص 349 .(1/22)
... وفي رمضان من السنة نفسها أرسل معز الدولة جيشًا لتأديب عمران بن شاهين بقيادة روزبهان وانضم إليه الوزير المهلبي لمساعدته .(1)ولكن يبدو أن هذه الحملة لم تسفر عن أية نتيجة لأن المصادر التاريخية لم تشر إلى حدوث قتال بين الطرفين ، كما أنه لم ترد أية معلومات تفسر العلاقة بين عمران بن شاهين ومعز الدولة بعد هذه الحادثة لفترة من الزمن .
... وهكذا يبدو أن منطقة البطائح تمتعت بفترة هدوء نسبي تحت زعامة عمران بن شاهين نغّصه التصدع والانشقاق الداخلي الذي حصل بخروج أخويه عليه ، وهما أبو الفتح المعروف بابن العريان وأبو القاسم . ففي سنة 349هـ / 960م ترك أبو الفتح البطائح وذهب إلى واسط ترافقه أسرته ومنها إلى بغداد مستأمنًا معز الدولة الذي رحّب به وأكرمه وأقطعه إقطاعًا يقدر بحوالي ثلاثمائة ألف دينار .(2)وفي السنة التالية التجأ أبو القاسم إلى معز الدولة طالبًا الأمان . فأستأمنه وأعطاه مائتي ألف درهم .(3)ويضيف صاحب العيون والحدائق " أن أبا القاسم بقي مدة ثم عاد إلى أخيه . أما أبو الفتح فإنه بقي في بغداد سنين طويلة وخدم معز الدولة إلى أن توفي . "(4)
... ولعل تفسير انشقاق أخوي عمران بن شاهين وخروجهما عليه يرجع إلى أطماع شخصية من الاستحواذ على السلطة ولكن ذلك لم يكن سهلاً ، لما كان يتمتع به عمران بن شاهين من شخصية قوية ومكانة عظيمة بين أتباعه ومن ثم فقد خاف أخوه على نفسيهما وهربا مستأمنين عدوه معز الدولة .
__________
(1) 51) الهمذاني ، التكملة ، ص 380 .
(2) 52) مجهول ، العيون والحدائق ، ص 469؛ مسكويه ، تجارب الأمم ، جـ2 ، ص181 ؛ ابن الأثير ، الكامل ، جـ6 ، ص 358 .
(3) 53) مجهول ، العيون والحدائق ، ص 469؛ مسكويه ، تجارب الأمم ، جـ2 ، ص189 ، ابن الأثير ، الكامل ، جـ6 ، ص 360 .
(4) 54) مجهول ، العيون والحدائق ، ص 469 .(1/23)
... توفي معز الدولة سنة 356هـ / 966م بعد حكم دام أكثر من 21 عامًا أميرًا على بغداد لم يستطع خلالها أن يخضع عمران بن شاهين ، وبعد وفاته خلفه ابنه بختيار الذي تلقب بعز الدولة . وعلى الرغم من أن بختيار بدأ عهده بمصالحة عمران بن شاهين ،(1)إلا ان الضائفة المالية التي كانت تمر بها حزينة الدولة المركزية وشغب الجند من أتراك وديلم ومطالبتهم بدفع مرتباتهم ، دفعت باختيار إلى فكرة ضرورة إيجاد المال من حكام المناطق المجاورة وإشغال الناس والجند بذلك ، فهداه تفكيره إلى محاربة عمران بن شاهين خاصة بعد أن علم بما يملكه من ثروة فطمع بها .(2)ففي سنة 360هـ / 970م خرج بختيارعلى رأس جيش كبير من بغداد وجعل على مقدمته وزيره أبا الفضل الشيرازي مظهرًا أنه يريد التصيد بناحية النعمانية حتى ينخدع عمران بن شاهين فلا يتأهب للقائه . وقد أقام بختيارمع عسكره في النعمانية لمدة شهر ثم أمر وزيره بالتقدم مع الجيش إلى الجامدة ونواحي البطائح . كما أمره بسد الأنهار التي تجري إلى داخل البطائح ، حتى تمنع وصول المياه إلى معاقل عمران وتجفيف المنطقة ليسهل على الجيش السير فيها والوصول إلى معاقل عمران مشيًا على الأقدام .(3)وهي الطريقة التقليدية التي استخدمها أمراء البويهيين عند محاربة عمران بن شاهين والتي أثبتت عدم جدواها .
__________
(1) 55) مسكويه ، تجارب الأمم ، جـ2 ، ص232 ؛ أبو الفداء ، المختصر ، جـ2 ، ص106 .
(2) 56) مسكويه ، تجارب الأمم ، جـ2 ، ص284 ؛ انظر كذلك عن العلاقة بين بختيار وعمران بن شاهين في كل من المسري ، الإمارة الشاهينية ، ص100 ؛ وكذلك فاروق عمر فوزي ، " عمران بن شاهين السُلمي ،" آفاق عربية ، س9 ، ع10( حزيران 1984م ) ، ص ص 36 ـ 38 .
(3) 57) مسكويه ، تجارب الأمم ، جـ2، ص296 ؛ ابن الأثير ، الكامل ، جـ7 ، 39 .(1/24)
... ولما بلغت أخبار تقدم جيش بختيار إلى عمران بن شاهين ترك مقره وانسحب إلى موضع آخر في البطائح يعرف باسم هوكلان .(1)فلما جفت المياه واستقامت الطرق تقدم الجيش نحو مقر عمران بن شاهين فوجده خاليًا ، فلم يستطع الجيش التوغل داخل البطائح لأنه لم يكن مزودًا بالسفن الحربية اللازمة في مثل المعارك النهرية .(2)كما سئم الجند من طول الإقامة ورداءة مناخ البطائح ، وامتلاء أرضها بالبق والضفادع وانقطاع المؤن " فشغبوا على الوزير وتناولوه بألسنتهم وهموا بالإيقاع به وتحالف الديلم والأتراك وأبوا أن يقيموا أكثر مما أقاموا . "(3)هنا أدرك بختيار أنه لن يستطيع أن يحقق الهدف الذي جاء من أجله ، كما أدرك أن الحرب أكثر كلفة من الأموال أو الضرائب التي سيحصل عليها من عمران بن شاهين ، وهكذا فشلت الحملة.
... والواقع أن هناك أسبابًا أخرى ساعدت على الفشل منها : دهاء عمران بن شاهين ومكره حيال خصومه ، وفي ذلك يقول ابن مسكويه : " قد اعتاد في جميع حروبه أن يمسك عن عدوه حتى ينفق ماله ويكد رجاله فإذا أحس بالمد ومجيء السيول احتال في تخريب ما يبنى له من السكور . "(4)
__________
(1) 58) الهمذاني ، التكملة ، ص426 .
(2) 59) مسكويه ، تجارب الأمم ، جـ2 ، ص297 ؛ ابن الأثير ، الكامل ، جـ7 ، ص 39 ، المعاضيدي ، واسط في العصر العباسي ، ص58 .
(3) 60) مسكويه ، تجارب الأمم ، جـ2 ، ص297 ؛ ابن الأثير ، الكامل ، جـ7 ، ص39 .
(4) 61) مسكويه ، تجارب الأمم ، جـ2 ، ص297 .(1/25)
... هذا بالإضافة إلى أن البيزنطيين ــ في هذه الأثناء ــ استولوا على نصيبين وهي من مدن الجزيرة الفراتية شمال العراق ،(1)فشغب أهالي بغداد على بختيار وتناولوه بألسنتهم كذلك ، منكرين عليه انشغاله عن مصالح المسلمين وانصرافه عن تدبير أمورهم إلى مجاهدة عمران بن شاهين وهو من أهل القبلة وإمهاله البزنطين وهم أعداء الملة ، ثم انشغاله بالصيد واللهو عن جميع مهمات المملكة .(2)كل هذه العوامل مجتمعة دفعت بختيار إلى عقد الصلح مع عمران بن شاهين والرجوع إلى بغداد مهزومًا ومنكسرًا ، وكان من شرط الصلح أن يؤدي عمران بن شاهين للدولة خمسة ملايين من الدراهم سنويَّا. إلا أنه سرعان ما رفض ذلك وامتنع عن الأداء.(3)
... وفي حقبقة الأمر ، فإن العمليات العسكرية الفاشلة التي قام بها بختيار ضد عمران بن شاهين في البطائح والحمدانيين في الموصل كانت باهظة التكاليف ، وبالتالي فقد أدت إلى إفلاس الخزينة مما أسفر عن قيام الجند باضطرابات مطالبين برواتبهم . وعندما لم يحقق بختيار هذه المطالب اتسعت دائرة الفوضى والاضطرابات حتى شملت جميع أهالي بغداد من سنة وشيعة وأتراك وديلم ، وأصبح من الصعب معها البقاء في بغداد .(4)
__________
(1) 62) ياقوت الحموي ، معجم البلدان ، جـ5 ، مادة نصيبين .
(2) 63) الهمذاني ، التكملة ، ص428 ؛ مسكويه ، تجارب الأمم ، جـ2 ، ص204 .
(3) 64) مسكويه ، تجارب الأمم ، جـ2 ، ص297 ؛ ابن الأثير ، الكامل ، جـ7 ، ص39 .
(4) 65) مسكويه تجارب الأمم ، جـ2،ص ص 323ــ 327 .(1/26)
... وهكذا وجد بختيار نفسه مضطرًا إلى مغادرة بغداد والذهاب إلى الأهواز ، فدخلها في شعبان سنة 363هـ / أبريل 974م . ومن هناك أرسل إلى عمران بن شاهين يستنجد به ويطلب منه المساعدة العسكرية ، كما أرسل إليه الهدايا الكثيرة كان من بينها فرس بسرج من ذهب ، وخطب إليه إحدى بناته وأسقط عنه الدين والأموال التي كانت عليه .(1)إلا أن عمران بن شاهين رفض جميع مطالب بختيار مسجلاً قوله :" أما عن المصاهرة فأنا رجل لا أداخل أحدًا من خلق الله إلا أن يكون الذكر من عندي والأنثى من عنده وأما الخلعة والفرس فلست ممن يلبس لباسكم ولا أركب الخيل لأن دوابي هي هذه السفن ، أما عسكري وإنفاذه فليس تسكن رجالي إلى مخاطتكم لكثرة من قتلوا من رجالكم على مر السنين والوقائع . "(2)كما طلب من رسول بختيار أن ينصحه بالاتزان والبعد عن الخفة قائلاً : " قل له ينبغي أن تتوفر وتتزن ولا تستعمل هذه الخفة والنزق فقد قصتني محاربًا لي فرجعت عني منهزمًا وأنا أعلم أنك ستجيئني وتلوذ بي وتعلم حينئذٍ أني أعاملك بالجميل وبخلاف ما عاملتني به أنت وأبوك من قبلك . "(3)
__________
(1) 66) مسكويه ، تجارب الأمم ، جـ2 ، ص329 .
(2) 67) مسكويه ، تجارب الأمم ، جـ2 ، ص 330 .
(3) 68) مسكويه ، تجارب الأمم ، جـ2 ، ص330 ؛ ابن الأثير ، الكامل ، حـ7 ، ص56 .(1/27)
... ولا شك في أن رد عمران بن شاهين هذا هو خير دليل على معرفة شخصيته ، كما أننا من خلال هذا الرد نستطيع أن نفسر جميع أفعاله . فهو يعلن صراحة أنه رجل من عامة الناس لايرتدي ما يرتديه الحكام والأمراء مما يؤكد لنا انتماءه إلى زمرة العيارين والشطار الذين كانوا متواضعين جدًا في ملبسهم ومأكلهم . كما يبدو أيضًا أنه كان شديد الاعتزاز بنفسه شديد التمسك بعاداته وتقاليده العربية وذلك لعدم تزويج بناته من غير العرب . هذا يدل امتناع عمران بن شاهين عن تقديم المساعدات العسكرية إلى بختيار على حنكته السياسية ومعرفته بما يدور حوله من أمور عسكرية ، ذلك لأن بقاء عدوه ضعيفًا أصلح له وأبقى(1/28)
... إلا أن موقف بن شاهين قد تغير ــ فيما بعد ــ تجاه بختيار وبادر بتقديم المساعدات له ، وذلك عند ظهور شخصية قوية على مسرح الأحداث السياسية في العراق ، ونقصد بذلك عضد الدولة ابن عم بختيار . فقد ورث عضد الدولة حكم جنوب بلاد فارس ( سجستان ومكران وكرمان ) بعد وفاة همه الأكبر عماد الدولة سنة 338هـ / 950م . وسيطر على جميع ممتلكات أبيه ركن الدولة شمال بلاد فارس ( بلاد الجبل والري وطبرستان ) سنة 366هـ / 976م .(1)وكانت غاية عضد الدولة بعد أن سيطر على جميع ممتلكات البويهيين في المشرق أن يوسع دائرة نفوذه لتشمل العراق بأكمله بما فيها بغداد العاصمة . فسار على رأس جيش كبير سنة 366هـ / 976م يريد بغداد . وعندما أحس بختيار بتحركات عضد الدولة استعد لملاقاته وجهزّ جيشًا قاده بنفسه وخرج من بغداد متجهًا إلى الأهواز إلا أنه كان يريد أن تكتمل أعداد الجنود بمدينة واسط قبل الذهاب إلى الأهواز لملاقاة عضد الدولة . وعليه فقد وصل واسط في جمادى الأولى سنة 366هـ / ديسمبر 976م ومنها انحدر إلى البطائح طالبًا المساعدة من عمران بن شاهين فاستقبله عمران بن شاهين استقبالاً حافلاً وأكرمه أجمل إكرام ، وإثباتا للمودة وحسن النية تصاهر البيتان . وقد اختلفت الروايات حول هذه المصاهرة . فبينما يذكر أن مسكويه أن بختيار تزوج من ابنة عمران بن شاهين وتزوج الحسن بن عمران من ابنة بختيار .(2)يشير الهمذاني إلى أن الذي تزوج بابنة بختيار هو عمران نفسه ولم يذكر شيئًا عن زواج بختيار من ابنة عمران .(3)ويبدو أن رواية الهمذاني هي الأرجح لأن عمران بن شاهين قد رفض تزويج إحدى بناته من بختيار .
__________
(1) 69) مسكويه ، تجارب الأمم ، جـ2 ، ص366 .
(2) 70) مسكويه ، تجارب الأمم ، جـ2 ، ص 366 .
(3) 71) الهمذاني ، التكملة ص 452 .(1/29)
ولقد اتفق الطرفان ــ عمران بن شاهين وبختيار ــ على وضع خطة لمواجهة عضد الدولة تتلخص في أن يعد عمران بن شاهين قوة من السفن مجهزة بالعتاد وآلات الحرب والرجال وأن يجمع على رأس هذه القوة ابنه الحسن ومعه مجموعة من القواد المدربين . وأن يعد المرزبان بن بختيار حاكم البصرة مثل هذه القوة وأن يتجه الجميع إلى الأبلة في السفن عبر النهر المعروف الأبلة استعدادًا لمواجهة عضد الدولة .(1)
... ومن الطريف حقًا أن هذه الجيوش المجتمعة اسحبت دون أي لقاء عسكري مع جيش عضد الدولة خوفًا من أن يسير الأخير هذا إلى واسط فيستولى عليها ويفوت عليهم فرصة الهرب والرجوع إلى بغداد إن أرادوا . فتقهقر بختيار وبرفقته باقي القوة العسكرية في السفن مخترقين البطائح . فتلقاهم عمران بن شاهين وهم على هذه الصورة من الانكسار وأكرمهم أجل إكرام ، وحلوا عليه ضيوفًا ثلاثة أيام توجهوا بعدها إلى بغداد . وبذلك تحققت مقولة عمران بن شاهين التي قالها عندما قصده بختيار محاربًا ، " سترى أنك تحتاج إليّ وأعاملك من الجميل بخلاف ما عاملتني به أنت وأبوك من القبح فعجب الناس من هذا الاتفاق . "(2)
... ولا شك في أن موقف عمران بن شاهين واتخاذه جانب بختيار ومؤازرته له يدل على ذكائه وبعد نظره . فقد كان مدركًا خطورة الوضع بالنسبة لمصيره ومصير أتباعه سكان البطائح إن تسلم عضد الدولة القوي أمور العراق فقرر استخدام جميع قدراته المالية والعسكرية لمواجهة هذا العدو.
__________
(1) 72) الهمذاني ، التكملة ، ص 454 ، مسكويه ، تجارب الأمم ، جـ2 ، ص 396 ؛ ابن الأثير ، الكامل ، جـ7 ، ص 81 .
(2) 73) الهمذاني ، التكملة ، ص455 ؛ مسكويه ، تجارب الأمم ، جـ2 ، ص370 .(1/30)
... غير أن هذه العلاقة الطيبة بين عمران بن شاهين وبختيار لم تستمر طويلاً ، فقد انتهت بدخول عضد الدولة بغداد سنة 367هـ / 977م وتسلمه مقاليد الأمور بها وقبضه على بختيار ووزيره ابن مقلة وقتلهما .(1)
... وبعد سنتين من تولي عضد الدولة مقاليد الأمور في بغداد توفي عمران بن شاهين في المحرم سنة 369هـ / يوليو 979م بعد حكم دام ما يقارب الأربعين عامًا تمتعت منطقة البطائح خلالها بالاستقلالية والمنعة .(2)وخسر أهل البطائح بموته زعيمًا قويًّا وسياسيًّا بارعًا حقق لهم الحياة الكريمة بما كان يحصل عليه ضرائب ومكوس على التجارة المارة بمنطقة البطائح وقطعة الطريق على عابري السبيل والتجار واستيلائه على أموال الأغنياء بالقوة وتوزيعها على الفقراء من أتباعه .
__________
(1) 74) مسكويه ، تجارب الأمم ، جـ2 ، ص ص 377 ــ 381 .
(2) 75) مسكويه ، تجارب الأمم ، جـ2 ، ص 397 ؛ ابن الأثير ، الكامل ، جـ7 ، ص99 ؛ أبو الفداء ، المختصر ، جـ2 ، ص 121 .(1/31)
... هذا وبعد وفاة عمران بن شاهين تزعم أهل البطائح ابنه الحسن ، وقد شجع هذا التغير عضد الدولة على التخلص من هذه الأسرة نهائيًّا . وكانت غاية عضد الدولة بعد أن سيطر على بغداد وعلى ممتلكات البويهيين في المشرق ــ كما أشرنا سابقًا ــ أن يوسع نفوذه ليشمل مصر ومنطقة الثغور على الحدود البيزنطية .(1)فكان عليه قبل أن يضع هذا المخطط موضع التنفيذ أن يتخلص أولاً من المناوئين له بالداخل ، وعلى رأسهم زعيم البطائح ومناصروه من النبط والعيارين ومن يلوذ من الفارّين من الحكم البويهي .(2)فجهز لذلك جيشًا كبيرًا جعله تحت قيادة وزيره المطهر بن عبدالله سنة 369هـ / 979م وتوجه الجيش نحو البطائح . فلما وصل إلى قرية صغيرة بالقرب من الجامدة ، شاور الوزير المطهر من معه من أصحاب الرأي على خطة مثلى للهجوم ، إلا أن هذه الخطة لم تأت بشيء جديد . فقد استخدم المطهر الطريقة التقليدية نفسها التي استخدمها سابقوه من القواد عند هجومهم على البطائح ، وهي ردم السدود لمنع مياه الأنهار من الوصول إلى معاقل الحسن بن عمران . فتجف الأرض ويسهل على الجيش السير فيها على الأقدام . وقد استغرق ذلك وقتًا طويلاً وكلف أموالاً طائلة حتى سئم الجند من طول الإقامة وقرروا العودة . ففشلت الحملة من تحقيق أهدافها كما فشلت الحملات السابقة .(3)
... وعندما يئس المطهر من إحراز النصر على الحسن بن عمران وكان المطهر ذا مزاج شرس وطباع خشنة ، خشي عقوبة الدولة فانتحر قبل أن يصل إلى بغداد . وقد أجبرت هذه الحادثة عضد الدولة على عقد الصلح مع الحسن بن عمران على مال يؤديه إليه .(4)
__________
(1) 76) مسكويه ، تجارب الأمم ، جـ2 ، ص409 .
(2) 77) مسكويه ، تجارب الأمم ، جـ2 ، ص409 .
(3) 78) مسكويه ، تجارب الأمم ، جـ2 ، ص 410 ؛ ابن الأثير ، الكامل ، جـ 7 ، ص 99 .
(4) 79) مسكويه ، تجارب الأمم ، جـ ، ص ص 410 ــ 411 ؛ ابن الأثير ،الكامل ، جـ2 ، ص99.(1/32)
... ولكن يظهر أن عضد الدولة لم يكن يهدأ له بال والبطائح قوية منيعة الجانب ، فراح يكيد للحسن بن عمران المكائد حتى يوقع به ، فاتفق مع وجهاء البصرة على أن يكاتبوا الحسن بأنهم يوالونه وأنهم يريدون تسليم البصرة إذ ساعدهم في التخلص من واليها فانطلقت الخدعة على الحسن الذي خرج بعسكره في السفن . فلما وصل على القرية المَطَارة ،(1)خرج عليه الكمين من الخلف . فانهزم الحسن وفقد كثيرًا من رجاله وسفنه ورجع إلى البطائح بعد أن نجا من موت محقق وذلك في شعبان سنة 369هـ / فبراير 980م .(2)
... يتضح مما سبق أن هزيمة الحسن بن عمران هذه ترجع إلى عدم خبرته وانخداعه بمكائد عضد الدولة . كما أن عضد الدولة كان على معرفة تامة بأن البويهيين لن يستطيعوا كسب أية جولة ضد زعماء البطائح على أرض البطائح لمناعتها وحصانتها الطبيعية ولعدم معرفة رجاله بطبيعة المنطقة . فدبر المكائد والحيل لإخراج الحسن بن عمران من مكمنه وكسب بذلك الجولة . ولكن على الرغم من ذلك بقيت الأسرة الشاهينية صامدة وعجز البويهيين عن دحرها.
__________
(1) 80) المطارة من قرى البصرة على ضفة دجلة والفرات في ملقتيهما بين المذار والبصرة ، ياقوت الحموي ، معجم البلدان ، جـ5 ، ص47 .
(2) 81) مسكويه ، تجارب الأمم ، جـ2 ، ص ص 423 ــ 414 ؛ المسري ، الإمارة الشاهينية ، ص ص 112 ــ 113 .(1/33)
... إلا أنها ــ مع ذلك ــ بدأت بالتفكك والتمزق الداخلي بعد موت زعيمها الأول بوقت قصير ( حوالي ثلاث سنوات ) . إذ وقع نزاع داخلي بين أبناء عمران بن شاهين وكان إيذانًا بانهيار هذه الأسرة . ففي سنة 372هـ / 982م استطاع أبو الفرج محمد بن عمران ، الذي عرف بتهوره وجهله وطمعه بالسلطة قتل أخيه الأكبر الحسن بن عمران والاستيلاء على الحكم . وكان قد دبر وخطط لهذا الأمر وأسكت الثائرين على فعلته بالهدايا والأموال .(1)
... ولا شك في أن هذا العمل الطائش يدل على أن سياسة زعماء البطائح المستقلة دخلت منعطفًا جديدًا بعيدًا عن منهج عمران بن شاهين من قبل ، ذلك المنعطف المتمثل في الطمع بالسلطة وإيثار المصالح الشخصية على المصلحة العامة مما كان له أكبر الأثر في نهاية هذه الأسرة العربية السُليمة التي رفعت لواء المقاومة الباسلة ضد البويهيين ما يزيد عن 40 عامًا متحدية محاولاتهم المتكررة لإخضاعها ، فكان ذلك إيذانًا بميلاد أسرة جديدة تحكم البطائح موالية للحكام البويهيين .(2)
AL – Bata, ih under the Rule of Imran b . Shahin
( A.H.330 – 369 \ 941 – 979 )
Faiza Ismail Akbar
Assistant professor,History Department , Faculty of Arts and Humanities ,
King Abdulaziz University , Jeddah . Saudi Arabia
__________
(1) 82) أبو شجاع ، ذيل تجارب الأمم ( القاهرة : مطبعة التمدن الصناعية ، 1334هـ / 1916م ) ، جـ3 ، ص ص 82 ــ 83 ؛ ابن الأثير ، الكامل ، جـ7 ، ص116 ؛ ابن تغري بردي ، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ، طبعة مصورة عن طبعة دار الكتب ( القاهرة : المؤسسة المصرية للكتاب ، د . ت . ) ، جـ3 ، ص141 .
(2) 83) أبو شجاع ، ذيل تجارب الأمم ، جـ3 ، ص ص 134 ــ 135 ؛ ابن الأثير ، الكامل ، جـ7 ، ص131 ؛ ابن تغري بردي ، النجوم الزاهرة ، جـ4 ، ص149 .(1/34)
Abstract . This study sheds liqht on the leadershib characteristics of Imran b . Shahin , who ruled the al – Bata ih reqion of southern land from about A. H.330 to 369 ( 941 – 979 ) . areqion known for its hard ruqqed terrain and different ethnic groups . Furthermore , the study tries to demonstrate how Imran b . Shahin managed to take full advantage of unstable political and social situation of the region to revolt against the Buwayhid authorities and how yhe Buwayhids failed to subdue him and his movement . inspite of their repeated military attacks .
...(1/35)