واختلاط فقال ما للناس في حيص بيص أي في شر وهرج فغلب عليه هذه الكلمة وكان يزعم أنه من ولد أكثم بن صيفي طبيب العرب ولم يترك عقبا كانت له حوالة بالحلة فذهب يتقاضاها فتوفي ببغداد في هذه السنة
محمد بن نسيم
أبو عبدالله الخياط عتيق الرئيس أبي الفضل بن عبسون سمع الحديث وقارب الثمانين سقط من درجة فمات قال أنشدني مولى الدين يعني ابن علام الحكيم بن عبسون ... للقارئ المحزون أجدر بالتقى ... من راهب في ديره متقوس ... ومراقب الأفلاك كانت نفسه ... بعبادة الرحمن أحرى الأنفس ... والماسح الأرضين وهي فسيحة ... أولى بمسح في أكف اللمس ... أولى بخشية ربه من جاهل ... بمثلث ومربع ومخمس ...
ثم دخلت سنة خمس وسبعين وخمسمائة
وفيها كانت وقعة مرج عيون استهلت هذه السنة والسلطان صلاح الدين الناصر نازل بجيشه على تل القاضي ببانياس ثم قصده الفرنج بجمعهم فنهض إليهم فما هو إلا أن التقى الفريقان واصطدم الجندان فأنزل الله نصره وأعز جنده فولت ألوية الصلبان ذاهبة وخيل الله لركابهم راكبة فقتل منهم خلق كثير وأسر من ملوكهم جماعة وأنابوا إلى السمع والطاعة منهم مقدم الداوية ومقدم الإبسباتارية وصاحب الرملة وصاحب طبرية وقسطلان يافا وآخرون من ملوكهم وخلق من شجعانهم وابطالهم ومن فرسان القدس جماعة كثيرون تقريبا من ثلاثمائة أسير من أشرافهم فصاروا يهانون في القيود قال العماد فاستعرضهم السلطان في الليل حتى اضاء الفجر وصلى يومئذ الصبح بوضوء العشاء وكان جالسا ليلتئذ في نحو العشرين والفرنج كثير فسلمه الله منهم ثم أرسلهم إلى دمشق ليعتقلوا بقلعتها فافتدى ابن البارزاني صاحب الرملة نفسه بمائة ألف وخمسين ألف دينار صورية وإطلاق ألف أسير من بلاده فأجيب إلى ذلك وافتدى جماعة منهم أنفسهم بأموال جزيلة ومنهم من مات في السجن واتفق أنه في اليوم الذي ظفر فيه السلطان بالفرنج بمرج عيون ظهر أسطول المسلمين على بطشه للفرنج في البحر وأخرى معها فغنموا منها ألف رأس من السبي وعاد إلى الساحل مؤيدا منصورا وقد امتدح الشعراء السلطان في هذه الغزوة بمدائح كثيرة وكتب بذلك إلى بغداد فدقت البشائر بها فرحا وسرورا وكان الملك المظفر تقي الدين عمر غائبا عن هذه الوقعة مشتغلا بما هو أعظم منها وذلك أن ملك الروم فرارسلان بعث يطلب حصن رعنان وزعم أن نور الدين اغتصبه منه وأن ولده قد عصى فلم يجبه إلى ذلك السلطان فبعث صاحب الروم (12/302)
عشرين ألف مقاتل يحاصرونه فأرسل السلطان تقي الدين عمر في ثمانمائة فارس منهم سيف الدين علي بن أحمد المشطوب فالتقوا معهم فهزموهم بإذن الله واستقرت يد صلاح الدين على حصن رعنان وقد كان مما عوض به ابن المقدم عن بعلبك وكان تقي الدين عمر يفتخر بهذه الوقعة ويرى أنه قد هزم عشرين ألفا وقيل ثلاثين ألفا بثمانمائة وكان السبب في ذلك أنه بيتهم وأغار عليهم فما لبثوا بل فروا منهزمين عن آخرهم فأكثر فيهم القتل واستحوذ على جميع ما تركوه في خيامهم ويقال إنه كسرهم يوم كسر السلطان الفرنج بمرج عيون والله أعلم
ذكر تخريب حصن الأحزان
وهو قريب من صفد ثم ركب السلطان إلى الحصن الذي كانت الفرنج قد بنوه في العام الماضي وحفروا فيه بئرا وجعلوه لهم عينا وسلموه إلى الدواية فقصده السلطان فحاصره ونقبه من جميع جهاته وألقى فيه النيران وخربه إلى الأساس وغنم جميع ما فيه فكان فيه مائة ألف قطعة من السلاح ومن المأكل شيء كثير وأخذ منه سبعمائة أسير فقتل بعضا وارسل إلى دمشق الباقي ثم عاد إلى دمشق مؤيدا منصورا غير أنه مات من أمرائه عشرة بسبب ما نالهم من الحر والوباء في مدة الحصار وكانت أربعة عشر يوما ثم إن الناس زاروا مشهد يعقوب على عادتهم وقد امتدحه الشعراء فقال بعضهم ... بجدك أعطاف القنا قد تعطفت ... وطرف الأعادي دون مجدك يطرف ... شهاب هدى في ظلمة الليل ثاقب ... وسيف إذا ما هزه الله مرهف ... وقفت على حصن المحاض وإنه ... لموقف حق لا يوازيه موقف ... فلم يبد وجه الأرض بل حال دونه ... رجال كآساد الثرى وهي ترجف ... وجرد سلهوب درع مضاعف ... وابيض هندي ولدن مهفهف ... وما رجعت أعلامك البيض ساعة ... إلا غدت أكبادها السود ترجف ... كنائش أغياد صليب وبيعة ... وشاد به دين حنيف ومصحف ... صليب وعباد الصليب ومنزل ... لنوال قد غادرته وهو صفصف ... أتكسن أوطان النبيين عصبة ... تمين لدى أيمانها وهي تحلف ... نصحتكم والنصح في الدين واجب ... ذروا بيت يعقوب فقد جاء يوسف ... وقال آخر ... هلاك الفرنج أتى عاجلا ... وقد آن تكسير صلبانها ... ولو لم يكن قد دنا حتفها ... لما عمرت بيت أحزانها (12/303)
من كتاب كتبه القاضي الفاضل إلى بغداد في خراب هذا الحصن وقد قيس عرض حائطه فزاد على عشرة أذرع وقطعت له عظام الحجارة كل فص منها سبعة أذرع إلى ما فوقها وما دونها وعدتها تزيد على عشرين ألف حجر لا يستقر الحجر في بنيانه إلا بأربعة دنانير فما فوقها وفيما بين الحائطين حشو من الحجارة الضخمة الصم أتوا بها من رؤس الجبال الشم وقد جعلت شعبيته بالكلس الذي إذا أحاطت بالحجر مازجه بمثل جسمه ولا يستطيع الحديد أن يتعرض إلى هدمه وفيها أقطع صلاح الدين ابن أخيه عزالدين فروخ شاه بعلبك وأغار فيها على صفت وأعمالها فقتل طائفة كبيرة من مقاتليها وكان فروخ شاه من الصناديد الأبطال وفيها حج القاضي الفاضل من دمشق وعاد إلى مصر فقاسى في الطريق أهوال ولقي ترحا وتعبا وكلالا وكان في العام الماضي قد حج من مصر وعاد إلى الشام وكان ذلك العام في حقه أسهل من هذا العام وفيها كانت زلزلة عظيمة انهدم بسببها قلاع وقرى ومات خلق كثير فيها من الورى وسقط من رؤس الجبال صخور كبار وصادمت بين الجبال في البراري والقفار مع بعد ما بين الجبال من الأقطار وفيها أصاب الناس غلاء شديد وفناء شريد وجهد جهيد فمات خلق كثير بهذا وهذا فإنا لله وإنا إليه راجعون
وفاة المستضيء بأمر الله وشيء من ترجمته
كان ابتداء مرضه أواخر شوال فأرادت زوجته أن تكتم ذلك فلم يمكنها ووقعت فتنة كبيرة ببغداد ونهبت العوام دورا كثيرة وأموالا جزيلة فلما كان يوم الجمعة الثاني والعشرين من شوال خطب لولي العهد أبي العباس أحمد بن المستضيء وهو الخليفة الناصر لدين الله وكان يوما مشهودا نثر الذهب فيه على الخطباء والمؤذنين ومن حضر ذلك عند ذكر اسمه على المنبر وكان مرضه بالحمى ابتدأ فيها يوم عيد الفطر ولم يزل الأمر بتزايد به حتى استكمل في مرضه شهرا ومات سلخ شوال وله من العمر تسع وثلاثون سنة وكانت مدة خلافته تسع سنين وثلاثة أشهر وسبعة عشر يوما وغسل وصلي عليه من الغد ودفن بدار النصر التي بناها وذلك عن وصيته التي أوصاها وترك ولدين أحدهما ولي عهده وهو عدة الدنيا والدين أبو العباس أحمد الناصر لدين الله والآخر أبو منصور هاشم وقد وزر له جماعة من الرؤساء وكان من خيار الخلفاء آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر مزيلا عن الناس المكوسات والضرائب مبطلا للبدع والمعائب وكان حليما وقورا كريما وبويع بالخلافة من بعده لولده الناصر وفيها توفي من الأعيان
إبراهيم بن علي
أبو إسحاق الفقيه الشافعي المعروف بابن الفراء الأموي ثم البغدادي كان فاضلا مناظرا (12/304)
فصيحا بليغا شاعرا توفي عن أربع وسبعين سنة وصلى عليه أبو الحسن القزويني مدرس النظامية
إسماعيل بن موهوب
ابن محمد بن أحمد الخضر أبو محمد الجواليقي حجة الإسلام أحد أئمة اللغة في زمانه والمشار إليه من بين أقرانه بحسن الدين وقوة اليقين وعلم اللغة والنحو وصدق اللهجة وخلوص النية وحسن السيرة في مرباه ومنشاه ومنتهاه سمع الحديث وسمع الأثر واتبع سبيله ومرماه رحمه الله تعالى
المبارك بن علي بن الحسن
أبو محمد ابن الطباخ البغدادي نزيل مكة ومجاورها وحافظ الحديث بها والمشار إليه بالعلم فيها كان يوم جنازته يوما مشهودا
خلافة الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن المستضيء
لما توفي أبوه في سلخ شوال من سنة خمس وسبعين وخمسمائة بايعه الأمراء والوزراة والكبراء والخاصة والعامة وكان قد خطب له على المنابر في حياة أبيه قبل موته بيسير فقيل إنه إنما عهد له قبل موته بيوم وقيل بأسبوع ولكن قدر الله أنه لم يختلف عليه اثنان بعد وفاة أبيه ولقب بالناصر ولم يل الخلافة من بني العباس قبله أطول مدة منه فإنه مكث خليفة إلى سنة وفاته في ثلاث وعشرين وستمائة وكان ذكيا شجاعا مهيبا كما سيأتي ذكر سيرته عند وفاته وفي سابع ذي القعدة من هذه السنة عزل صاحب المخزن ظهير الدين أبو بكر بن العطار واهين غاية الإهانة وهو وأصحابه وقتل خلق منهم وشهر في البلد وتمكن أمر الخليفة الناصر وعظمت هيبته في البلاد وقام قائم الخلافة في جميع الأمور ولما حضر عيد الأضحى أقيم على ما جرت به العادة والله أعلم
ثم دخلت سنة ست وسبعين وخمسمائة
فيها هادن السلطان صلاح الدين الفرنج وسار إلى بلاد الروم فأصلح بين ملوكها من بين أرتق وكر على بلاد الأرمن فأقام عليها وفتح بعض حصونها وأخذ منها غنائم كثيرة جدا من أواني الفضة والذهب لأن ملكها كان قد غدر بقوم من التركمان فرده إلى بلاده ثم صالحه على مال يحمله إليه واسارى يطلقهم من اسره وآخرين يستنقذهم من أيدي الفرنج ثم عاد مؤيدا منصورا فدخل حماه في أواخر جمادى الآخرة وامتدحه الشعراء على ذلك ومات صاحب الموصل سيف الدين غازي بن مودود وكان شابا حسنا مليح الشكل تام القامة مدور اللحية مكث في الملك عشر سنين ومات عن ثلاثين سنة وكان عفيفا في نفسه مهيبا وقورا لا يلتفت إذا ركب وإذا جلس وكان غيورا لا يدع أحدا من الخدم الكبار يدخل على النساء وكان لا يقدم على سفك الدماء وكان ينسب إلى شيء من البخل سامحه الله توفي في ثالث صفر وكان قد عزم على أن يجعل (12/305)
الملك من بعده لولده عزالدين سنجرشاه فلم يوافقه الأمراء خوفا من صلاح الدين لصغر سنه فاتفقوا كلهم على أخيه فأجلس مكانه في المملكة وكان يقال له عزالدين مسعود وجعل مجاهد الدين قايماز نائبه ومدبر مملكته وجاءت رسل الخليفة يلتمسون من صلاح الدين أن يبقي سروج والرها والرقة وحران والخابور ونصيبين في يده كما كانت في يد أخيه فامتنع السلطان من ذلك وقال هذه البلاد هي حفظ ثغور المسلمين وإنما تركتها في يده ليساعدنا على غزو الفرنج فلم يفعل ذلك وكتب إلى الخليفة يعرفه أن المصلحة في ترك ذلك عونا للمسلمين
وفاة السلطان توران شاه
فيها توفي السلطان الملك المعظم شمس الدولة توران شاه بن أيوب أخي الملك صلاح الدين وهو الذي افتتح بلاد اليمن عن أمر أخيه فمكث فيها حينا واقتنى منها أموالا جزيلة ثم استناب فيها وأقبل الىالشام شوقا إلى أخيه وقد كتب إليه في أثناء الطريق شعرا عمله له بعض الشعراء يقال له ابن المنجم وكانوا قد وصلوا إلى سما ... هل لأخي بل مالكي علم بالذي ... إليه وإن طال التردد راجع ... وإني بيوم واحد من لقائه ... علي وإن عظم الموت بايع ... ولم يبق إلا دون عشرين ليلة ... ويحيى اللقا أبصارنا والمسامع ... إلى ملك تعنو الملوك إذا بدا ... وتخشع إعظاما له وهو خاشع ... كتبت وأشواقي إليك ببعضها ... تعلمت النوح الحمام السواجع ... وما الملك إلا راة أنت زندها ... نضم على الدنيا ونحن الصابع ... وكان قدومه على أخيه سنة إحدى وسبعين وخمسمائة فشهد معه مواقف مشهودة محمودة واستنابه على دمشق مدة ثم سار إلى مصر فاستنابه على الإسكندرية فلم توافقه وكانت تعتريه القوالنج فمات في هذه السنة ودفن بقصر الإمارة فيها ثم نقلته أخته ست الشام بنت أيوب فدفنته بتربتها التي بالشامية البرانية فقبره القبلي والوسطاني قبر زوجها وابن عمها ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه صاحب حماه والرحبة والموخر قبرها والتربة الحسامية منسوبة إلى ولدها حسام الدين عمر بن لاشين وهي إلى جانب المدرسة من غربها وقد كان توران شاه هذا كريما شجاعا عظيم الهيبة كبير النفس واسع النفقة والعطاء قال فيه ابن سعدان الحلبي ... هو الملك إن تسمع بكسرى وقيصر ... فإنهما في الجود والباس عبداه ... وما حاتم ممن يقاس بمثله ... فخذ ما رأيناه ودع ما رويناه ... ولذ بعلاه مستجيرا فإنه ... يجيبرك من جور الزمان وعدواه (12/306)
ولا تحمل للسحائب منه إذ ... هطلت جودا سحائب كفاه ... فترسل كفاه بما اشتق منهما ... فلليمن بمناه ولليسر يسراه ... ولما بلغ موته أخاه صلاح الدين بن أيوب وهو مخيم بظاهر حصن حزن عليه حزنا شديدا وجعل ينشد باب المراثي من الحماسة وكانت محفوظة وفي رجب منها قدمت رسل الخليفة الناصر وخلع وهدايا إلى الناصر صلاح الدين فلبس خلعة الخليفة بدمشق وزينت له البلد وكان يوما مشهودا وفي رجب أيضا منها سار السلطان إلى مصر لينظر في أحوالها ويصوم بها رمضان ومن عزمه أن يحج عامه ذلك واستناب على الشام ابن أخيه عزالدين فروخ شاه وكان عزيز المثل غزير الفضل فكتب القاضي الفاضل عن الملك العادل أبي بكر إلى أهل اليمن والبقيع ومكة يعلمهم بعزم السلطان الناصر على الحج ومعه صدرالدين أبو القاسم عبدالرحيم شيخ الشيوخ ببغداد الذي قدم من جهة الخليفة في الرسالة وجاء بالخلع ليكون في خدمته إلى الديار المصرية وفي صحبته إلى الحجاز فدخل السلطان مصر وتلقاه الجيش وأما شيخ الشيوخ فإنه لم يقم بها إلا قليلا حتى توجه الىالحجاز في البحر فأدرك الصيام في المسجد الحرام وفيها سار قراقوش التقوى إلى المغرب فحاصر بها فاس وقلاعا كثيرة حولها واستحوذ على أكثرها واتفق له أنه أسر من بعض الحصون غلاما أسود فأراد قتله فقال له أهل الحصن لا تقتله وخذ لك ديته عشرة آلاف دينار فأبى فأوصله إلى مائة الف فأبى إلا قتله فقتله فلما قتله نزل صاحب الحصن وهو شيخ كبير ومعه مفاتيح ذلك الحصن فقال له خذ هذه فإني شيخ كبير وإنما كنت أحفظه من أجل هذا الصبي الذي قتلته ولي أولاد أخ أكره أن يملكوه بعدي فأقره فيه وأخذ منه أموالا كثيرة وفيها توفي من الأعيان
الحافظ أبو طاهر السلفي
أحمد بن محمد بن إبراهيم سلفة الحافظ الكبير المعمر أبو طاهر السلفي الأصبهاني وإنما قيل له السلفي لجده إبراهيم سلفة لأنه كان مشقوق إحدى الشفتين وكان له ثلاث شفاه فسمته الأعاجم لذلك قال ابن خلكان وكان يلقب بصدرالدين وكان شافعي المذهب ورد بغداد واشتغل بها على الكيا الهراسي وأخذ اللغة عن الخطيب أبي زكريا يحيى بن علي التبريزي سمع الحديث الكثير ورحل في طلبه إلى الآفاق ثم نزل ثغر الإسكندرية في سنة إحدى عشرة وخمسمائة وبنى له العادل أبو الحسن علي بن السلار وزير الخليفة الظافر مدرسة وفوضها إليه فهي معروفة به إلى الآن قال ابن خلكان وأما أماليه وكتبه وتعاليقه فكثيرة جدا وكان مولده فيما ذكر المصريون سنة ثنتين وسبعين وأربعمائة ونقل الحافظ عبدالغني عنه أنه قال اذكر مقتل نظام الملك في سنة (12/307)
خمس وثمانين وأربعمائة ببغداد وأنا ابن عشر تقريبا ونقل أبو القاسم الصفراوي أنه قال مولدى بالتخمين لا باليقين سنة ثمان وسبعبن فيكون مبلغ عمره ثمانيا وتسعين سنة لأنه توفي ليلة الجمعة خامس ربيع الآخر سنة ست وسبعين وخمسمائة بثغر الإسكندرية والله أعلم ودفن بوعلة وفيها جماعة من الصالحين وقد رجح ابن خلكان قول الصفراوي قال ولم يبلغنا من ثلاثمائة أن أحدا جاوز المائة إلا القاضي أبا الطيب الطبري وقد ترجمه ابن عساكر في تاريخه ترجمة حسنة وإن كان قد مات قبله بخمس سنين فذكر رحلته في طلب الحديث ودورانه في الأقاليم وأنه كان يتصوف أولا ثم أقام بثغر الإسكندرية وتزوج بأمراة ذات يسار فحسنت حاله وبنت عليه مدرسة هناك وذكر طرفا من أشعاره منها قوله ... أتأمن إلمام المنية بغتتة ... وأمن الفتى جهل وقد خبر الدهرا ... وليس يحابي الدهر في دورانه ... أراذل أهليه ولا السادة الزهرا ... وكيف وقد مات النبي وصحبه ... وأزواجه طرا وفاطمة الزهرا ... وله أيضا ... يا قاصدا علم الحديث لدينه ... إذ ضل عن طرق الهداية وهمه ... إن العلوم كما علمت كثيرة ... وأجلها فقه الحديث وعلمه ... من كان طالبه وفيه تيقظ ... فأتم سهم في المعالي سهمه ... لولا الحديث وأهله لم يستقم ... دين النبي وشذ عنا حكمه ... وإذا استراب بقولنا متحذلق ... ما كل فهم في البسيطة فهمه ...
ثم دخلت سنة سبع وسبعين وخمسمائة
استهلت وصلاح الدين مقيم بالقاهرة مواظب على سماع الحديث وجاءه كتاب من نائبه بالشام عز الدين فروخ شاه يخبره فيه بما من الله به على الناس من ولادة النساء بالتوأم جبرا لما كان اصابهم من الوباء بالعام الماضي والفناء وبأن الشام مخصبة بإذن الله لما كان أصابهم من الغلاء وفي شوال توجه الملك صلاح الدين إلى الإسكندرية لينظر من أمر به من تحصين سورها وعمارة أبراجها وقصورها وسمع بها موطأ مالك على الشيخ أبي طاهر بن عوف عن الطرطوشي وسمع معه العماد الكاتب وارسل القاضي الفاضل رسالة إلى السلطان يهنئه بهذا السماع
وفاةالملك الصالح بن نور الدين الشهيد صاحب حلب وماجرى بعده من الأمور
كانت وفاته في الخامس والعشرين من رجب من هذه السنة بقلعة حلب ودفن بها وكان سبب وفاته فيما قيل أن الأمير علم الدين سليمان بن حيدر سقاه سما في عنقود عنب في الصيد وقيل (12/308)
بل سقاه ياقوت الأسدي في شراب فاعتراه قولنج فما زال كذلك حتى مات وهو شاب حسن الصورة بهى المنظر ولم يبلغ عشرين سنة وكان من أعف الملوك ومن أشبه أباه فما ظلم وصف له الأطباء في مرضه شرب الخمر فأستفتى الفقهاء في شربها تداويا فأفتوه بذلك فقال أيزيد شربها في أجلي أو ينقص منه تركها شيئا قالوا لا قال فو الله لا أشربها وألقى الله وقد شربت ما حرمه على ولما يئس من نفسه استدعا الأمراء فحلفهم لابن عمه عز الدين مسعود صاحب الموصل لقوة سلطانه وتمكنه ليمنعها من صلاح الدين وخشي أن يبايع لابن عمه الآخر عماد الدين زنكي صاحب سنجار وهو زوج أخته وتربية والده فلا يمكنه حفظها من صلاح الدين فلما مات استدعي الحلبيون عز الدين مسعود بن قطب الدين صاحب الموصل فجاء إليهم فدخل حلب في أبهة عظيمة وكان يوما مشهودا وذلك في العشرين من شعبان فتسلم خزائنها وحواصلها وما فيها من السلاح وكان تقي الدين عمه في مدينة منبج فهرب إلى حماه فوجد أهلها قد نادوا بشعار صاحب الموصل وأطمع الحلبيون مسعودا بأخذ دمشق لغيبة صلاح الدين عنها وأعلموه محبة أهل الشام لهذا البيت الاتابكي نور الدين فقال لهم بيننا وبين صلاح الدين أيمان وعهود وأنا لا أغدربه فأقام بحلب شهورا وتزوج بأم الملك الصالح في شوال ثم سار إلى الرقة فنزلها وجاءه رسل أخيه عمادالدين زنكي يطلب منه أن يقايضه من حلب الى سنجار وألح عليه في ذلك وتمنع أخوه ثم فعل على كره منه فسلم إليه حلب وتسلم عزالدين سنجار والخابور والرقة ونصيبين وسروج وغيرذلك من البلاد ولما سمع الملك صلاح الدين بهذه الأمور ركب من الديار المصرية في عساكره فسار حتى أتى الفرات فعبرها وخامر إليه بعض أمراء صاحب الموصل وتقهقر صاحب الموصل عن لقائه وأستحوذ صلاح الدين على بلاد الجزيرة بكمالها وهم بمحاصرة الموصل فلم يتفق له ذلك ثم جاء إلى حلب فتسلمها من عمادالدين زنكي لضعفه عن ممانعتها ولقلة ما ترك فيها عزالدين من الأسلحة وذلك في السنة الآتية وفيها عزم البرنس صاحب الكرك على قصد تيماء من أرض الحجاز ليتوصل منها إلى المدينة النبوية فجهزله صلاح الدين سرية من دمشق تكون حاجزة بينه وبين الحجاز فصده ذلك عن قصده وفيها ولي السلطان صلاح الدين أخاه سيف الإسلام ظهيرالدين طغتكين بن أيوب نيابة اليمن وأرسله إليها وذلك لاختلاف نوابها وأضطراب أصحابها وبعد وفاة المعظم أخي السلطان فسار إليها طغتكين فوصلها في سنة ثمان وسبعين فسار فيها أحسن سيرة واحتاط على أموال حطان بن منقذ صاحب زبيد وكانت تقارب ألف ألف دينار أو أكثر وأما نائب عدن فخرالدين عثمان [ الزنجبيلي ] فأنه خرج من اليمن قبل قدوم طغتكين فسكن الشام وله أوقاف مشهورة (12/309)
باليمن ومكة إليه تنسب المدرسة الزنجبيلة خارج باب توما تجاه دار المطعم وكان قد حصل من اليمن أموالا عظيمة جدا وفيها غدرت الفرنج ونقضت عهودها وقطعوا السبل على المسلمين برا وبحرا وسرا وجهرا فأمكن الله من لطيشة عظيمة فيها نحو من ألفين وخمسمائة من مقاتلتهم المعدودين ألقاها الموج إلى ثغر دمياط قبل خروج السلطان من مصر فأحيط بها فغرق بعضهم وحصل في الأسر نحو ألف وسبعمائة وفيها سار قراقوش إلى بلاد إفريقسة ففتح بلادا كثيرة وقاتل عسكر ابن عبد المؤمن صاحب المغرب واستفحل أمره هناك وقراقوش مملوك تقي الدين عمر بن أخي السلطان صلاح الدين ثم عاد إلى مصر فأمره صلاح الدين أن يتم السور المحيط بالقاهرة ومصر وذلك قبل خروجه منها في هذه السنة وكان ذلك آخر عهده بها حتى توفاه الله بعد أن أناله الله بلوغ مناه ففتح عليه بيت المقدس وما حوله ولما خيم بارزا من مصر وأولاده حوله جعل يشمهم ويقبلهم ويضمهم فأنشد بعضهم في ذلك ... تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار ... وكان الأمر كما قال لم يعد إلى مصر بعد هذا العام بل كان مقامه بالشام وفيها ولد للسلطان ولدان أحدهما المعظم توران شاه الملك المحسن أحمد وكان بين ولادتهما سبعة أيام فزينت البلاد واستمر الفرح أربعة عشر يوما وفيها توفي من الأعيان
الشيخ كمال الدين أبو البركات
عبد الرحمن بن محمد أبي السعادات عبيد الله بن محمد بن عبيد الله الأنباري النحوي الفقيه العابد الزاهد كان خشن العيش ولا يقبل من أحد شيئا ولا من الخليفة وكان يحضر نوبة الصوفية بدار الخلافة ولا يقبل من جوائز الخليفة ولافلسا وكان مثابرا على الاشتغال وله تصانيف مفيدة توفي في شعبان من هذه السنة قال ابن خلكان له كتاب أسرار العربية مفيد جدا وطبقات النحاة مفيد جدا وكتاب الميزان في النحو أيضا والله سبحانه أعلم
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وخمسمائة
في خامس محرمها كان بروز السلطان من مصر قاصدا دمشق لأجل الغزو والإحسان إلى الرعايا وكان ذلك آخر عهده بمصر وأغار بطريقه على بعض نواحي بلاد الإفرنج وقد جعل أخاه تاج الملوك بورى بن أيوب على الميمنة فالتقوا على الأرزق بعد سبعة أيام وقد أغار عزالدين فروخ شاه على بلاد طبرية وأفتتح حصونا جيدة وأسر منهم خلقا وأغتنم عشرين ألف رأس من الأنعام ودخل الناصر دمشق سابع صفر ثم خرج منها في العشر الأول من ربيع الأول فأقتتل مع الفرنج (12/310)
في نواحي طبرية وبيسان تحت حصن كوكب فقيل خلق من الفريقين وكانت النصرة للمسلمين على الفرنج وثم رجع إلى دمشق مؤيدا منصورا ثم ركب قاصدا حلب وبلاد الشرق لياخذها وذلك أن المواصلة والحلبيين كاتبوا الفرنج على حرب المسلمين فغارت الفرنج على بعض اطراف البلاد ليشغلوا الناصر عنهم بنفسه فجاء إلى حلب فحاصرها ثلاثا ثم رأى العدول عنها إلى غيرها أولى فسار حتى بلغ الفرات وأستحوذ على بلاد الجزيرة والرها والرقة ونصيبين وخضعت له الملوك ثم عاد إلى حلب فتسلمها من صاحبها عمادالدين زنكي فأستوثقت له الممالك شرقا وغربا وتمكن حينئذ من قتال الفرنج فصل ولما عجز ابرنس الكرك عن إيصال الأذى إلى المسلمين في البر عمل مراكب في بحر القلزم ليقطعوا الطريق على الحجاج والتجار فوصلت أذيتهم إلى عيذاب وخاف أهل المدينة النبوية من شرهم فأمر الملك العادل الأمير حسام الدين لؤلؤ صاحب الأسطول أن يعمل مراكبه في بحر القلزم ليحارب أصحاب الابرنس ففعل ذلك فظفر بهم في كل موطن فقتلوا منهم وحرقوا وغرقوا وسبوا في مواطن كثيرة ومواقف هائلة وأمن البر والبحر بإذن الله تعالى وارسل الناصر إلى أخيه العادل ليشكر ذلك عن مساعيه وأرسل إلى ديوان الخليفة يعرفهم بذلك
فصل في وفاة المنصور عزالدين
فروخ شاه بن شاهنشاه بن أيوب صاحب بعلبك ونائب دمشق لعمه الناصر وهو والد الأمجد بهرام شاه صاحب بعلبك بعد أبيه وإليه تنسب المدرسة الفروخ شاهية بالشرق الشمالي بدمشق وإلى جانبها التربة الأمجدية لولده وهما وقف على الحنفية والشافعية وقد كان فروخ شاه شجاعا شهما عاقلا ذكيا كريما ممدحا أمتدحه الشعراء لفضله وجوده وكان من أكبر أصحاب الشيخ تاج الدين أبي اليمن الكندي عرفه من مجلس القاضي الفاضل فأنتمى إليه وكان يحسن إليه وله وللعماد الكاتب فيه مدائح وكان ابنه الأمجد شاعرا جيدا ولاه عم أبيه صلاح الدين بعلبك بعد أبيه واستمر فيها مدة طويلة ومن محاسن فروخ شاه صحبته لتاج الدين الكندي وله شعر رائق ... أنا في أسر السقام ... و هو في هذا المقام ... رشأ يرشق عينا ... فؤادي بسهام ... كلما أرشفني فا ... ه على حر الأوام ... ذقت منه الش ... هد المصفى في المدام ... وقد دخل الحمام فرأى رجلا كان يعرفه من أصحاب الأموال و قد نزل به الحال حتى إنه كان يستتر ببعض ثيابه لئلا تبدو عورته فرق له وامر غلامه أن ينقل بقجة وبساطا إلى موضع الرجل (12/311)
وأمره فأحضر ألف دينار وبغلة وتوقيعا له في كل شهر بعشرين ألف دينار فدخل الرجل الحمام فقيرا وخرج منه غنيا فC على الأجواد الجياد وفيها توفي من الأعيان
الشيخ أبو العباس
أحمد بن أبي الحسن علي بن أبي العباس أحمد المعروف بابن الرفاعي شيخ الطائفة الأحمدية الرفاعية البطائحية لسكناه أم عبيدة من قرى البطائح وهي بين البصرة وواسط كان أصله من العرب فسكن هذه البلاد والتف عليه خلق كثير يقال إنه حفظ التنبيه في الفقه على مذهب الشافعي قال ابن خلكان ولأ تباعه أحوال عجيبة من أكل الحيات وهي حية والدخول في النار في التنانير وهي تضطرم ويلعبون بها وهي تشتعل يقال إنهم في بلادهم يركبون الأسود وذكر ابن خلكان أنه قال وليس للشيخ أحمد عقب وإنما النسل لأخيه وذريته يتوارثون المشيخة بتلك البلاد وقال ومن شعره على ما قيل ... إذا جن ليلى هام قلبي بذكركم ... أنوح كما ناح الحمام المطوق ... وفوقي سحاب يمطر الهم والأسى ... وتحق بحار بالأسى تتدفق ... سلوا أم عمرو كيف بات اسيرها ... تفك الأساري دونه وهو موثق ... فلا هو مقتول ففي القتل راحة ... ولا هو ممنون عليه فيطلق ... ومن شعره قوله ... أغار عليها من أبيها وأمها ... ومن كل من يدنو إليها وينظر ... واحسد للمرىة ايضا بكفها ... إذا نظرت مثل الذي أنا أنظر ... قال ابن خلكان ولم يزل على تلك الحال إلى أن توفي يوم الخميس الثاني والعشرين من جمادى الأولى من هذه السنة
خلف بن عبد الملك بن مسعود بن بشكوال
أبو القاسم القرطبي الحافظ المحدث المؤرخ صاحب التصانيف له كتاب الصلة جعله ذيلا على تاريخ أبي الوليد بن الفرضي وله كتاب المستغيثين بالله وله مجلةه في تعيين الأسماء المبهمة على طريق الخطيب وله أسماء من روى الموطا على حروف المعجم بلغوا ثلاثة وسبعين رجلا مات في رمضان عن اربيع وثمانين سنة
العلامة قطب الدين أبو المعالي
مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري تفقه على محمد بن يحيى صاحب الغزالي قدم دمشق ودرس بالغزالية والمجاهدية وبحلب بمدرسة نور الدين وأسد الدين ثم بهمذان ثم رجع إلى دمشق ودرس بالغزالية وأنتهت إليه رياسة المذهب ومات بها في سلخ رمضان يوم العيد سنة ثمان وسبعين (12/312)
وخمسمائة عن ثلاث وتسعين سنة عنه أخذ الفخر ابن عساكر وغيره وهو الذي صلى على الحافظ ابن عساكر والله سبحانه أعلم
ثم دخلت سنة تسع وسبعين وخمسمائة
في رابع عشر محرمها تسلم السلطان الناصر مدينة آمد صلحا بعد حصار طويل من يد صاحبها ابن بيسان بعد حمل ما أمكنه من حواصله وأمواله مدة ثلاثة أيام ولما تسلم البلد وجد فيه شيئا كثيرا من الحواصل وآلات الحرب حتى إنه وجد برجا مملوءا بنصول النشاب وبرجا آخر فيه مائة ألف شمعة وأشياء يطول شرحها ووجد فيها خزانة كتب ألف ألف مجلد وأربعين ألف مجلد فوهبها كلها للقاضي الفاضل فانتخب منها حمل سبعين حمارة ثم وهب السلطان البلد بما فيه لنور الدين محمد بن قرا أرسلان وكان قد وعده بها فقيل له إن الحواصل لم تدخل في الهبة فقال لا أبخل بها عليه وكان في خزانتها ثلاثة آلاف ألف دينار فامتدحه الشعراء على هذا الصنيع ومن أحسن ذلك قول بعضهم ... قل للملوك تنحوا عن ممالككم ... فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها ... ثم سار السلطان في بقية المحرم إلى حلب فحاصرها وقاتله أهلها قتالا شديدا فجرخ أخو السلطان تاج الملوك بوري بن ايوب جرحا بليغا فمت منه بعد أيام وكان أصغر أولاد أيوب لم يبلغ عشرين سنة وقيل إنه جاوزها بثنتين وكان ذكيا فهما له ديوان شعر لطيف فحزن عليه أخوه صلاح الدين حزنا شديدا ودفنه بحلب ثم نقله إلى دمشق ثم اتفق الحال بين الناصر وبين صاحب حلب عمادالدين زنكي بن آقنسقر على عوض أطلقه له الناصر بأن يرد عليه سنجار ويسلمه حلب فخرج عمادالدين من القلعة إلى خدمة الناصر وعزاه في أخيه ونزل عنده في المخيم ونقل أثقاله إلى سنجار وزاده السلطان الخابور والرقة ونصيبين وسروج واشترط عليه إرسال العسكر في الخدمة لأجل الغزاة في الفرنج ثم سار وودعه السلطان ومكث السلطان في المخيم يرى حلب أياما غير مكترث بحلب ولا وقعت منه موقعا ثم صعد إلى قلعتها يوم الإثنين السابع والعشرين من صفر وعمل له الأمير طهمان وليمة عظيمة فتلا هذه الآية وهو داخل في بابها قل اللهم مالك الملك الآية ولما دخل دار الملك تلا قوله تعالى وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم الآية ولما دخل مقام إبراهيم صلى فيه ركعتين وأطال السجود به والدعا والتضرع إلى الله ثم شرع في عمل وليمة وضربت البشائر وخلع على الأمراء وأحسن إلى الرؤساء والفقراء ووضعت الحرب أوزارها وقد امتحده الشعراء بمدائح حسان ثم إن القلعة وقعت منه بموقع عظيم ثم قال ما سررت بفتج قلعة أعظم سرورا من فتح مدينة حلب واسقطت عنها وعن سائر بلاد الجزيرة المكوس (12/313)
والضرائب وكذلك عن بلاد الشام ومصر وقد عاث الفرنج في غيبته في الأرض فسادا فأرسل إلى العساكر فاجتمعوا إليه وكان قد بشر بفتح بيت المقدس حين فتح حلب وذلك أن الفقيه مجد الدين بن جهبل الشافعي رأى في تفسير أبي الحكم العربي عند قوله آلم غلبت الروم في أدنى الأرض الآية البشارة بفتح بيت المقدس في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة واستدل على ذلك بأشياء فكتب ذلك في ورقة وأعطاها للفقيه عيسى الهكاري ليبشر بها السلطان فلم يتجاسر على ذلك خوفا من عدم المطابقة فأعلم بذلك القاضي محي الدين بن الزكي فنظم معناها في قصيدة يقول فيها ... وفتحكم حلب الشهباء في صفر ... قضى لكم بافتتاح القدس في رجب ... وقدمها إلى السلطان فتاقت نفسه إلى ذلك فلما افتتحها كما سيأتي أمر ابن الزكي فخطب يومئذ وكان يوم الجمعة ثم بلغه بعد ذلك أن ( ابن ) جهبل هو الذي قال ذلك أولا فأمره فدرس على نفس الصخرة درسا عظيما فأجزل له العطاء وأحسن عليه الثناء فصل ثم رحل من حلب في أواخر ربيع الآخر واستخلف على حلب ولده الظاهر غازي وولي قضاءها لابن الزكي فاستناب له فيها نائبا وسار مع السلطان فدخلوا دمشق في ثالث جمادى الأولى وكان ذلك يوما مشهودا ثم برز منها خارجا إلى قتال الفرنج في أول جمادى الآخرة قاصدا نحو بيت المقدس فانتهى إلى بيسان فنهبها ونزل على عين جالوت وأرسل بين يديه سرية هائلة فيها بردويل وطائفة من النورية وجاء مملوك عمه أسد الدين فوجدوا جيش الفرنج قاصدين إلى أصحابهم نجدة فالتقوا معهم فقتلوا من الفرنج خلقا واسروا مائة أسير ولم يفقد من المسلمين سوى شخص واحد ثم عاد في آخر ذلك اليوم وبلغ السلطان أن الفرنج قد اجتمعوا لقتاله فقصدهم وتصدى لهم لعلم يصافونه فالتقى معهم فقتل منهم خلقا كثيرا وجرح مثلهم فرجعوا ناكصين على أعقابهم خائفين منه غاية المخافة ولا زال جيشه خلفهم يقتل ويأسر حتى غزوا في بلادهم فرجعوا عنهم وكتب القاضي الفاضل إلى الخليفة يعلمه بما من الله عليه وعلى المسلمين من نصرة الدين وكان لا يفعل شيئا ولا يريد أن يفعله إلا أطلع عليه الخليفة أدبا واحتراما وطاعة واحتشاما فصل وفي رجب سار السلطان إلى الكرك فحاصرها وفي صحبته تقي الدين عمر بن أخيه وقد كتب لأخيه العادل ليحضر عنده ليوليه حلب وأعمالها وفق ما كان طلب واستمر الحصار على الكرك (12/314)
مدة شهر رجب ولم يظفر منها بطلب وبلغه أن الفرنج قد اجتمعوا كلهم ليمنعوا منه الكرك فكر راجعا إلى دمشق وذلك من أكبر همته وأرسل ابن أخيه تقي الدين إلى مصر نائبا وفي صحبته القاضي الفاضل وبعث أخاه على مملكة حلب وأعمالها واستقدم ولده الظاهر إليه وكذلك نوابه ومن يعز عليه وإنما أعطى أخاه حلب ليكون قريبا منه فإنه كان لا يقطع أمرا دونه واقترض السلطان من أخيه العادل مائة ألف دينار وتألم الظاهر بن الناصر على مفارقة حلب وكانت إقامته بها ستة أشهر ولكن لا يقدر أن يظهر ما في نفسه لوالده لكن ظهر ذلك عل صفحات وجهه ولفظات لسانه
ثم دخلت سنة ثمانين وخمسمائة
فيها أرسل الناصر إلى العساكر الحلبية والجزيرية والمصرية والشامية أن يقدموا عليه لقتال الفرنج فقدم عليه تقي الدين عمر من مصر ومعه الفاضل ومن حلب العادل وقدمت ملوك الجزيرة وسنجار وغيرها فأخذ الجميع وسار نحو الكرك فأحرقوا بها في رابع عشر جمادى الأولى وركب عليها المنجنيقات وكانت تسعة وأخذ في حصارها وذلك أنه رأى أن فتحها أنفع للمسلمين من غيرها فإن أهلها يقطعون الطريق على الحجاج فبينما هو كذلك إذ بلغه أن الفرنج قد اجتمعوا له كلهم فارسهم وراجلهم ليمنعوا منه الكرك فانشمر عنها وقصدهم فنزل على حسان تجاههم ثم صار إلى ما عر فانهزمت الفرنج قاصدين الكرك فأرسل ورءاهم من قتل منهم مقتلة عظيمة وأمر السلطان بالإغارة على السواحل لخلوها من المقاتلة فنهبت نابلس وما حولها من القرى والرساتيق ثم عاد السلطان إلى دمشق فاذن للعساكر في الإنصراف إلى بلادهم وأمر ابن أخيه عمر الملك المظفر أن يعود إلى مصر وأقام هو بدمشق ليؤدي فرض الصيام وليجل الخليل ويحد الحسام وقدم على السلطان خلع الخليفة فلبسها وألبس أخاه العادل وابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه ثم خلع خلعته على ناصر الدين بن قرا أرسلان صاحب حصن كيفا وآمد التي أطلقها له السلطان وفيها مات صاحب المغرب يوسف بن عبدالمؤمن بن علي وقام في الملك بعده ولده يعقوب وفي أواخرها بلغ صلاح الدين أن صاحب الموصل نازل أربل فبعث صاحبخا يتصرخ به فركب من فوره إليه فسار إلى بعلبك ثم إلى حماة فأقام بها اياما ينتظر وصول العماد إليه وذلك لأنه حصل له ضعف فاقام ببعلبك وقد أرسل إليه الفاضل من دمشق طبيبا يقال له اسعد بن المطران فعالجه مداواة من طب لمن حب
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وخمسمائة
استهلت والسلطان مخيم بظاهر حماة ثم سار إلى حلب ثم خرج منها في صفر قاصدا الموصل فجاء إلى حران فقبض على صاحبها مظفر الدين وهو أخو زين الدين صاحب إربل ثم رضي عنه (12/315)
وأعاده الى مملكته حتى يتبين خبث طويته ثم سار إلى الموصل فتلقاه الملوك من كل ناحية وجاء إلى خدمته عمادالدين أبو بكر بن قرا أرسلان وسار السلطان فنزل على الاسماعيليات قريبا من الموصل وجاءه صاحب إربل نور الدين الذي خضعت له ملوك تلك الناحية ثم أرسل صلاح الدين الدين ضياء الدين الشهر زورى إلى الخليفة يعلمه بما عزم عليه من حصار الموصل وإنما مقصوده ردهم إلى طاعة الخليفة ونصرة الإسلام فحاصرها مدة ثم رحل عنها ولم يفتحها وسار إلى خلاط واستحوذ على بلدان كثيرة وأقاليم جمة ببلاد الجزيرة وديار بكر وجرت أمور استقصاها ابن الأثير في كامله وصاحب الروضتين ثم وقع الصلح بينه وبين المواصلة على أن يكونوا من جنده إذا ندبهم لقتال الفرنج وعلى أن يخطب له وتضرب له السكة ففعلوا ذلك في تلك البلاد كلها وانقطعت خطبة السلاجقة والازيقية بتلك البلاد كلها ثم اتفق مرض السلطان بعد ذلك مرضا شديدا فكان يتجلد ولا يظهر شيئا من الألم حتى قوي عليه الأمر وتزايد الحال حتى وصل إلى حران فخيم هنالك من شدة ألمه وشاع ذلك في البلاد وخاف الناس عليه وأرجف الكفرة والملحدون بموته وقصده أخوه العادل من حلب بالأطباء والأدوية فوجده في غاية الضعف وأشار عليه بأن يوصي فقال ما أبالي وأنا أترك من بعدي أبا بكر وعمر وعثمان وعليا يعني أخاه العادل وتقي الدين عمر صاحب حماه وهو إذ ذاك نائب مصر وهو بها مقيم وابنيه العزيز عثمان والأفضل عليا ثم نذر لئن شفاه الله من مرضه هذا ليصرفن همته كلها إلى قتال الفرنج ولا يقاتل بعد ذلك مسلما وليجعل أكبر همه فتح بيت المقدس ولو صرف في سبيل الله جميع ما يملكه من الأموال والذخائر وليقتلن البرنس صاحب الكرك بيده لأنه نقض العهد وتنقص الرسول ( ص ) وذلك أنه أخذ قافلة ذاهبة من مصر إلى الشام فأخذ أموالهم وضرب رقابهم وهو يقول أين محمدكم دعوه ينصركم وكان هذا النذر كله بأشارة القاضي الفاضل وهو أرشده إليه وحثه عليه حتى عقده مع الله عز و جل فعند ذلك شفاه الله وعافاه من ذلك المرض الذي كان فيه كفارة لذنوبه وجاءت البشارات بذلك من كل ناحية فدقت البشائر وزينت البلاد وكتب الفاضل من دمشق وهو مقيم بها إلى المظفر عمر أن العافية الناصرية قد استقامت وأستفاضت أخبارها وطلعت بعد الظلمة أنوارها وظهرت بعد الاختفاء آثارها وولت العلة ولله الحمد والمنة وطفئت نارها وأنجلى غبارها وخمد شرارها وما كانت إلا فلتة وقى الله شرها وشنارها وعظمية كفى الله الإسلام عارها وتوبة امتحن الله بها نفوسنا فرأى أقل ما عندها صبرنا وماكان الله ليضيع الدعاء وقد أخلصته القلوب ولا تتوقف الاجابة وإن سدت طريقها الذنوب ولا ليخلف وعد فرج وقد أيس الصاحب والمصحوب ... نعي زاد فيه الدهر ميما ... فأصبح بعده بؤساه نعيما (12/316)
وما صدق النذير به لأني ... رأيت الشمس تطلع والنجوما ... وقد استقبل مولانا السلطان الملك الناصر غضة جديدة والعزمة ماضية حديدة والنشاط إلى الجهاد والتوبة لرب العباد والجنة مبسوطة البساط وقد انقضى الحساب وجزنا الصراط وعرضنا نحن على الأهوال التي من خوفها كاد الجمل يلج الخياط ثم ركب السلطان من حران بعد العافية فدخل حلب ثم ركب فدخل دمشق وقد تكاملت عافيته وقد كان يوما مشهودا وفيها توفي من الأعيان الفقيه مهذب الدين
عبد الله بن أسعد الموصلي
مدرس حمص وكان بارعا في فنون ولا سيما في الشعر والأدب وقد أثنى عليه العماد والشيخ شهاب الدين أبو شامة
الأمير ناصر الدين محمد بن شيركوه
صاحب حمص والرحبة وهو ابن عم صلاح الدين وزوج أخته ست الشام بنت أيوب توفي بحمص فنقلته زوجته إلى تربتها بالشامية البرانية وقبره الأوسط بينها وبين أخيها المعظم توران شاه صاحب اليمن وقد خلف من الأموال والذخائر شيئا كثيرا ينيف على ألف ألف دينار توفي يوم عرفة فجأة فولي بعده مملكة حمص ولده أسد الدين شيركوه بأمر صلاح الدين
المحمودي بن محمد بن علي بن إسماعيل
ابن عبد الرحيم الشيخ جمال الدين أبو الثناء محمودي بن الصابوني كان أحد الأئمة المشهورين وإنما يقال له المحمودي لصحبة جده السلطان محمود بن زنكي فأكرمه ثم سار إلى مصر فنزلها وكان صلاح الدين يكرمه وأوقف عليه وعلى ذريته أرضا فهي لهم إلى الآن
الأمير سعد الدين مسعود
ابن معين الدين كان من كبار الأمراء أيام نور الدين وصلاح الدين وهو أخو الست خاتون وحين تزوجها صلاح الدين زوجه بأخته الست ربيعة خاتون بنت أيو ب التي تنسب إليها المدرسة الصاحبية بسفح قيسون على الحنابلة وقد تأخرت مدتها فتوفيت في سنة ثلاث وأربعين وستمائة وكانت آخر من تقى من أولاد أيوب لصلبه وكانت وفاته بدمشق في جمادى الآخرة من جرح أصابة وهو في حصار ميا فارقين
الست خاتون عصمت الدين
بنت معين الدين نائب دمشق وأتابك عساكرها قبل نور الدين كما تقدم وقد كانت زوجة نور الدين ثم خلف عليها من بعده صلاح الدين في سنة أثنتين وسبعين وخمسمائة وكانت من أحسن النساء وأعفهن وأكبرهن صدقة وهي واقفة الخاتونية الجوانية بمحلة حجر الذهب (12/317)
وخانقات خاتون ظاهر باب النصر في أول الشرف القبلى على بانياس ودفنت بتر بتها في سفح قايسون قريبا من قباب السركسية وإلى جنبها دار الحديث الأشرفية والاتابكية ولها أوقاف كثيرة غير ذلك وأما الخاتونية البرانية التي على القنوات بمحلة صنعاء الشام ويعرف ذلك المكان التي هي فيه بتل الثعالب فهي من إنشاء الست زمرد خاتون بنت جاولي وهي أخت الملك دقماق لأمه وكانت زوجة زنكي والد نور الدين محمود صاحب حلب وقد ماتت قبل هذا الحين كما تقدمت وفاتها
الحافظ الكبير أبو موسى المديني
محمد بن عمر بن محمد الأصبهاني الحافظ الموسوى المديني أحد حفاظ الدنيا الرحالين الجوالين له مصنفات عديدة وشرح أحاديث كثيرة رحمه الله
السهيلي أبو القاسم
وأبو زيد عبد الرحمن بن الخطيب أبي محمد عبد الله بن الخطيب أبي عمر أحمد بن أبي الحسن أصبغ بن حسين بن سعدون بن رضوان بن فتوح هو الداخل إلى الأندلس الخثعمي السهلي حكي القاضي ابن خلكان أنه أملي عليه نسبه كذلك قال والسهلي نسبة إلى قرية بالقرب من مالقة اسمها سهيل لأنه لايرى سهيل النجم في شئ من تلك البلاد إلا منها من رأس جبل شاهق عندها هي من قرى المغرب ولد السهلي سنة ثمان وخمسمائة وقرأ القراءات وأشتغل وحصل حتى برع وساد أهل زمانه بقوة القريحة وجودة الذهن وحسن التصنيف وذلك من فضل الله تعالى ورحمته وكان ضريرا مع ذلك له الروض الأنف يذكر فيه نكتا حسنة على السيرة لم يسبق إلى شئ منها أو إلى أكثرها وله كتاب الإعلام فيما أبهم في القران من الأسماء الإعلام وكتاب نتائج الفكر ومسالة في الفرائض بديعة ومسألة في سركون الدجال أعور وأشياء فريدة كثيرة بديعة مفيدة وله اشعار حسنة وكان عفيفا فقيرا وقد حصل له مال كثير في آخر عمره من صاحب مراكش مات يوم الخميس السادس والعشرين من شعبان منهذه السنة وله قصيدة كان يدعو الله بها ويرتجى الآجابة فيها وهي ... يامن يرى ما في الضمير ويسمع ... أنت المعد لكل ما يتوقع ... يامن يرجى للشدائد كلها ... يامن إليه المشتكى والمفزع ... يامن خزائن رزقه في قول كن ... امنن فإن الخير عندك أجمع ... مالي سوى فقري إليك وسيلة ... فبالافتقار إليك فقري أدفع ... مالي سوى قرعي لبابك حيلة ... فلئن رددت فأي باب أقرع ... ومن الذي ارجو واهتف بإسمه ... إن كان فضلك عن فقيركض يمنع (12/318)
حاشا لمجدك أن تقنط عاصيا ... الفضل أججزل والمواهب أوسع ...
ثم دخلت سنة إثنتين وثمانين وخمسمائة
في الثاني ربيع الأول منها كان دخول الناصر دمشق بعد عافيته وزار القاضي الفاضل واستشاره وكان لايقطع امرا دونه وقرر في نيابة دمشق ولده الأفضل على ونزل أبو بكر العادل عن حلب لصهره زوج ابنته الملك الظاهر غازي بن الناصر وأرسل السلطان أخاه العادل صحبة ولده عمادالدين زنكي الدين عثمان الملك العزيز على ملك مصر ويكون الملك العادل أنابكه وله إقطاع كبيرة جدا وعزل عن نيابتها تقي الدين عمر فعزم على الدخول إلى إفريقية فلم يزل الناصر يتلطف به ويترفق له حتى أقبل بجنوده نحوه فأكرمه واحترمه وأقطعه حماه وبلادا كثيرة معها وقد كانت له قبل ذلك وزاد له على ذلك مدينة ميافارقين وامتدحه العماد بقصيدة ذكرها في الروضتين وفيها هادن قومس طرابلس السلطان وصالحه وصافاه حتى كان يقاتل ملوك الفرنج أشد القتال وسبى منهم النساء والصبيان وكاد أن يسلم ولكن صده السلطان فمات على الكفر والطغيان وكانت مصالحته من أقوى أسباب النصر على الفرنج وأشد ما دخل عليهم في دينهم قال العماد الكاتب وأجمع المنجمون على خراب العالم في شعبان لأن الكواكب الستة تجتمع فيه في الميزان فيكون طوفان الريح في سائر البلدان وذكر أن ناسا من الجهلة تأهبوا لذلك بحفر مغارات في الجبال ومدخلات واسراب في الأرض خوفا من ذلك قال فلما كانت تلك الليلة التي اشاروا إليها وأجمعوا عليها لم ير ليلة مثلها في سكونها وركودها وهدوئها وقد ذكر ذلك غير واحد من الناس في سائر اقطار الأرض وقد نظم الشعراء في تكذيب المنجمين في هذه الواقعة وغريبها أشعارا كثيرة حسنة منها ... مزق التقويم والزيجج فقد بان الخطا ... إنما التقويم والزيج هباء وهوا ... قلت للسبعة إبرام ومنع وعطا ... ومتى ينزلن في الميزان يستولى الهوا ... ويثور الرمل حتى يمتلى منه الصفا ... ويعم الأرض زحف وخراب وبلى ... ويصير القاع كالقف وكالطود العدا ... وحكمتم فأبى الحاكم إلا مايشا ... ما أتى الشرع ولا جاءت بهذا الأنبيا ... فبقيتم ضحكة يضحك منها العلما ... حسبكم خزيا وعارا ما يقول الشعرا ... ما أطمعكم في الحكم إلا الأمرا ... ليت إذ لم يحسنوا في الدين طغاما أسا ... فعلى اصطرلاب بطليموس والزيج العفا ... وعليه الخزى ما جادت على الأرض السما ... وممن توفي فيها من الأعيان
أبو محمد عبد الله بن أبي الوحش
برى بن عبد الجبار بن برى المقدسي ثم المصري أحد أئمة اللغة والنحو في زمانه وكان عليه (12/319)
تعرض الرسائل بعد ابن بابشاد وكان كثير الاطلاع عالما بهذا الشأن ومطرحا للتكيف في كلامه لايلتفت ولا يعرج على الأعراب فيه إذا خاطب الناس وله التصانيف المفيدة توفي وقد جاوز الثمانين بثلاث سنين رحمه الله تعالى والله سبحانه وتعالى أعلم
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة
فيها كانت وقعة حطين التي كانت أمارة وتقدمة وإشارة لفتح بيت المقدس واستنفاذه من أيدي الكفرة قال ابن الأثير كان أول يوم منها يوم السبت وكان يوم النيروز وذلك أول سنة الفرس وأتفق أن ذلك كان أول سنة الروم و هو اليوم الذي نزلت فيه الشمس برج الحمل وكذلك كان القمر في برج الحمل أيضا وهذا شئ يبعد وقوع مثله وبرز السلطان من دمشق يوم السبت مستهل محرم في جيشه فسار إلى رأس الماء فنزل ولده الأفضل هناك في طائفة من الجيش وتقدم السلطان ببقية الجيش إلى بصرى فخيم على قصر أبي سلام ينتظر قدوم الحجاج وفيهم أخته ست الشام وأبنها حسام الدين محمد بن عمر بن لاشين ليسلموا من معرة برنس الكرك فلما جاز الحجيج سالمين سار السلطان فنزل على الكرك وقطع ما حوله من الاشجار ورعى الزرع وأكلوا الثمار وجاءت العساكر المصرية وتوافت الجيوش المشرقية فنزلوا عند ابن السلطان على رأس الماء وبعث الأفضل سرية نحو بلاد الفرنج فقتلت وغنمت وسلمت ورجعت فبشر بمقدمات الفتح والنصر وجاء السلطان بجحافله فإلتفت عليه جميع العساكر فرتب الجيوش وسار قاصدا بلاد الساحل وكان جملة من معه من المقاتلة أثنى عشر ألفا غير المتطوعة فتسامعت الفرنج بقدومه فاجتمعوا كلهم وتصالحوا فيما بينهم وصالح قومس طرابلس وبرنس الكرك الفاجر وجاءوا بحدهم وحديدهم وأستصحبوا معهم صليب الصلبوت يحمله منهم عباد الطاغوت وضلال الناسوت في خلق لايعلم عدتهم إلاالله عز و جل يقال كانوا خمسين ألفا وقيل ثلاثا وستين ألفا وقد خوفهم صاحب طرابلس من المسلمين فاعترض عليه البرنس صاحب الكرك فقال له لا أشك أنك تحب المسلمين وتخوفنا كثرتهم وسترى غب ما أقول لك فتقدموا نحو المسلمين وأقبل السلطان ففتح طبرية وتقوى بما فيها من الأطعمة والأمنعة وغير ذلك وتحصنت منه القلعة فلم يعبأ بها وحاز البحيرة في حوزته ومنع الله الكفرة أن يصلوا منها إلى قطرة حتى صاروا في عطش عظيم فبرز السلطان إلى سطح الجبل الغربي من طبرية عند قرية يقال لها حطين التي يقال إن فيها قبر شعيب عليه الصلاة و السلام وجاء العدو المخذول وكان فيهم صاحب عكا وكفرنكا وصاحب الناصرة وصاحب صور وغير ذلك من جميع ملوكهم فتواجه الفريقان وتقابل الجيشان وأسفر وجه الإيمان وإغبر وأقتم وأظلم وجه الكفر والطغيان ودارت دائرة السوء على عبدة الصلبان وذلك عشية يوم (12/320)
الجمعة فبات الناس على مصافهم وأصبح صباح يوم السبت الذي كان يوما عسيرا على أهل الأحد وذلك لخمس بقين من ربيع الآخر فطلعت الشمس على وجوه الفرنج واشتد الحر وقوى بهم العطش وكان تحت أقدام خيولهم حشيش قد صار هشيما وكان ذلك عليهم مشئوما فأمر السلطان النفاطة أن يرموه بالنفط فرموه فتأجج نارا تحت سنابك خيولهم فاجتمع عليهم حر الشمس وحر العطش وحر النار وحر السلاح وحر رشق النبال وتبارز الشجعان ثم أمر السلطان بالتكبير والحملة الصادقة فحملوا وكان النصر من الله عز و جل فمنحهم الله أكتافهم فقتل منهم ثلاثون ألفافي ذلك اليوم وأسر ثلاثون ألفامن شجعانهم وفرسانهم وكان في جملة من أسر جميع ملوكهم سوى قومس طرابلس فإنه انهزم في أول المعركة واستلبهم السلطان صليبهم الأعظم وهو الذين يزعمون أنه صلب عليه المصلوب وقد غلفوه بالذهب وا للآلىء والجواهر النفسية ولم يسمع بمثل هذا اليوم في عزالاسلام وأهله ودمغ الباطل وأهله حتى ذكر أن بعض الفلاحين رآه بعضهم يقود نيفا وثلاثين أسيرا من الفرنج قد ربطهم بطنب خيمة وباع بعضهم أسيرا بنعل ليلبسها في رجله وجرت أمور لم يسمع بمثلها إلا في زمن الصحابة والتابعين فلله الحمد دائما كثيرا طيبا مباركا فلما تمت هذه الوقعة ووضعت الحرب أوزارها أمر السلطان بضرب مخيم عظيم وجلس فيه على سرير المملكة وعن يمينه أسرة وعن يساره مثلها وجىء بالأساري تتهادى بقيودهم فأمر بضرب أعناق جماعة من مقدمى الداوية والأساري بين يديه صبرا ولم يترك أحدا منهم ممن كان يذكر الناس عنه شرا ثم جىء بملوكهم فأجلسوا عن يمينه ويساره على مراتبهم فأجلس ملكهم الكبير عن يمينه وأجلس أرياط برنس الكرك وبقيتهم عن شماله ثم جىء إلى السلطان بشراب من الجلاب مثلوجا فشرب ثم ناول الملك فشرب ثم ناول ارياط صاحب الكرك فغضب السلطان وقال له إنما ناولتك ولم آذن لك أن تسقيه هذا لا عهد له عندي ثم تحول السلطان إلى خيمة داخل تلك الخيمة وستدعى بارياط صاحب الكلرك فلما أوقف بين يديه قام إليه بالسيف ودعاه إلى الإسلام فامتنع فقال له نعم أنا أنوب عن رسول الله ( ص ) في الانتصار لأمته ثم قتله وأرسل برأسه إلى الملوك وهم في الخيمة وقال إن هذا تعرض لسب رسول الله ( ص ) ثم قتل السلطان جميع من كان من الأساري من الداوية والأستثارية صبرا وأراح المسلمين من هذين الجنسين الخبيثين ولم يسلم ممن عرض عليه الإسلام إلا القليل فيقال إنه بلغت القتىة ثلاثين ألفا والأساري كذلك كانوا ثلاثين ألفا وكان جملة جيشهم ثلاثة وستين ألفا وكان من سلم مع قلتهم وهرب أكثرهم جرحى فماتوا ببلادهم وممن مات كذلك قومس وطرابلس فإنه انهزم جريحا فمات بها بعد مرجعه ثم أرسل السلطان برؤس أعيان الفرنج ومن لم يقتل من رؤسهم وبصليب (12/321)
الصلبوت صحبه القاضي ابن أبي عصرون إلى دمشق ليودعوا في قلعتها فدخل بالصليب منكوسا وكان يوما مشهودا ثم سار السلطان إلى قلعة طبرية فأخذها وقد كانت طبرية تقاسم بلاد حوران والبلقاء وما حولها من الجولان وتلك الأراضي كلها بالنصف فأراح الله المسلمين من تلك المقاسمة ثم سارالسلطان إلى حطين فزار قبر شعيب ثم ارتفع منه إلى أقليم الأردن فتسلم تلك البلادكلها وهى قرى كثيرة كبار وصغار ثم سار إلى عكا فنزل عليه يوم الأربعاء سلخ ربيع الآخر فافتتحها صلحا يوم الجمعة وأخذ ما كان بها من حواصل الملوك وأموالهم وذخائرهم ومتاجر وغيرها واستنقذ من كان بها من أسرى المسلمين فوجد فيها أربعة آلاف أسير ففرج الله عنهم وأمر بإقامة الجمعة بها وكانت أول جمعة اقيمت بالساحل بعد أخذه الفرنج نحوا من سبعين سنة ثم سار منها إلى صيدا وبيروت وتلك النواحي من السواحل يأخذها بلدا بلدا لخلوها من المقاتلة والملوك ثم رجع سائرا نحو غزة وعسقلان ونابلس وبيسان وأراضي الغور فملك ذلك كله واستناب على نابلس ابن أخيه حسام الدين عمر بن محمد بن لاشين وهو الذي افتتحها وكان جملة ما افتتحه السلطان في هذه المدة القريبة خمسين بلدا كباراكل بلد له مقاتلة وقلعة ومنعة وغنم الجيش والمسلمون من هذه الأماكن شيئا كثيرا وسبوا خلقا ثم إن السلطان أمر جيوشه أن ترتع في هذه الأماكن مدة شهور ليستريحوا وتحمو أنفسهم وخيولهم لفتح بيت المقدس وطار في الناس أن السلطان عزم على فتح بيت المقدس فقصده العلماء والصالحون تطوعا وجاؤا إليه ووصل أخوه العادل بعد وقعة حطين وفتح عكا ففتح بنفسه حصونا كثيرة فاجتمع من عباد الله ومن الجيوش شيء كثيرجدا فعند ذلك قصد السلطان القدس بمن معه كما سيأتي وقد امتدحه الشعراء بسبب وقعة حطين فقالوا وأكثروا وكتب إليه القاضي الفاضل من دمشق وهو مقيم بها لمرض اعتراه ( ليهن المولىأن الله أقام به الدين وكتب المملوك هذه الخدمة والرؤس لم ترفع من سجودها والدموع لم تمسح من خدودها وكلما ذكر المملوك أن البيع تعود مساجد والمكان الذي كان يقال فيه إن الله ثالث ثلاثة إذ يقال فيه اليوم إنه الواحد جدد لله شكرا نارة يفيض من لسانه وتارة يفيض من جفنه سرورا بتوحيد الله تعالى الملك الحق المبين وأن يقال محمد رسول الله الصادق الأمين وجزى الله يوسف خيرا عن إخراجه من سجنه والمماليك ينتظرون المولىوكل من أراد أن يدخل الحمام بدمشق قد عزم علىدخول حمام طبرية ... تلك المكارم لاقعبان من لبن ... وذلك السيف لاسيف ابن ذي يزن ...
ثم قال وللألسنة بعد في هذا الفتح تسبيح طويل وقول جميل جليل ) (12/322)
فتح بيت المقدس في هذه السنة واستنقاذه من أيدي النصارى بعد أن استحوذوا عليه مدة ثنتين وتسعين سنة لما افتتح السلطان تلك الأماكن المذكورة فيما تقدم أمر العساكر فاجتمعت ثم سار نحو بيت المقدس فنزل بيت غربي المقدس في الخامس عشر من رجب من هذه السنة أعني سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة فوجد البلد قد حصنت غاية التحصين وكانوا ستين ألف مقاتل دون بين المقدس أو يزيدون وكان صاحب القدس يومئذ رجلا يقال له بالبان بن بازران ومعه من سلم من وقعة حطين يوم التقى الجمعان من الداوية والإستثارية أتباع الشيطان وعبدة الصلبان فأقام السلطان بمنزله المذكور خمسة أيام وسلم إلى كل طائفة من الجيش ناحية من السور وابراجه ثم تحول السلطان إلى ناحية الشام لأنه رآها أوسع للمجال والجلاد والنزال وقاتل الفرنج دون البلد قتالا هائلا وبذلوا أنفسهم وأموالهم في نصرة دينهم وقمامتهم واستشهد في الحصار بعض أمراء المسلمين فحنق عند ذلك كثير من الأمراء والصالحين واجتهدوا في القتال ونصب المناجنيق والعرادات على البلد وغنت السيوف والرماح الخطيات والعيون تنظر إلى الصلبان منصوبة فوق الجدران وفوق قبة الصخرة صليب كبير فزاد ذلك أهل الإيمان حنقا وشدة التشمير وكان ذلك يوما عسيرا علىالكافرين غير يسير فبادر السلطان بأصحابه إلى الزاوية الشرقية الشمالية من السور فنقبها وعلقها وحشاها وأحرقها فسقط ذلك الجانب وخر البرج برمته فإذا هو واجب فلما شاهد الفرنج ذلك الحادث الفظيع والخطب المؤلم الوجيع قصد أكابرهم السلطان وتشفعوا إليه أن يعطيهم الأمان فامتنع من ذلك وقال لا افتحها إلا عنوة كما افتتحتموها أنتم عنوة ولا أترك بها أحدا من النصارى إلا قتلته كما قتلتم أنتم من كان بها من المسلمين فطلب صاحبها بالبان بن بازران الأمان ليحضر عنده فأمنه فلما حضر ترقق للسلطان وذل ذلا عظيما وتشفع إليه بكل ما أمكنه فلم يجبه إلى الأمان لهم فقالوا إن لم تعطنا الأمان رجعنا فقتلنا كل أسير بأيدينا وكانوا قريبا من أربعة آلاف وقتلنا ذرارينا وأولادنا ونساءنا وخربنا الدور والأماكن الحسنة وأحرقنا المتاع وأتلفنا ما بأيدينا من الأموال وهدمنا قبة الصخرة وحرقنا ما نقدر عليه ولا نبقي ممكنا في إتلاف ما نقدر عليه وبعد ذلك نخرج فنقاتل قتال الموت ولا خير في حياتنا بعد ذلك فلا يقتل واحد منا حتى يقتل أعدادا منكم فماذا ترتجي بعد هذا من الخير فلما سمع السلطان ذلك أجاب إلى الصلح وأناب على أن يبذل كل رجل منهم عن نفسه عشرة دنانير وعن المرأة خمسة دنانير وعن كل صغير وصغيرة دينارين ومن عجز عن ذلك كان أسيرا للمسلمين وأن تكون الغلات والأسلحة والدور للمسلمين وأنهم يتحولون منها إلى مأمنهم (12/323)
وهي مدينة صور فكتب الصلح بذلك وأن من لم يبذل ما شرط عليه إلى أربعين يوما فهو أسير فكان جملة من أسر بهذا الشرط ستة عشر ألف أسير من رجال ونساء وولدان ودخل السلطان والمسلمون البلد يوم الجمعة قبل وقت الصلاة بقليل وذلك يوم السابع والعشرين من رجب قال العماد وهي ليلة الإسراء برسول الله ( ص ) من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى قال أبو شامة وهو أحد الأقوال في الإسراء ولم يتفق للمسلمين صلاة الجمعة يومئذ خلافا لمن زعم أنها أقيمت يومئذ وأن السلطان خطب بنفسه بالسواد والصحيح أن الجمعة لم يتمكنوا من إقامتها يومئذ لضيق الوقت وإنما اقيمت في الجمعة المقبلة وكان الخطيب محي الدين بن محمد بن علي القرشي ابن الزكي كما سيأتي قريبا ولكن نظفوا المسجد الأقصى مما كان فيه من الصلبان والرهبان والخنازير وخربت دور الداوية وكانوا قد بنوها غربي المحراب الكبير واتخذوا المحراب مشتا لعنهم الله فنظف من ذلك كله واعيد إلى ما كان عليه في الأيام الإسلامية وغسلت الصخرة بالماء الطاهر وأعيد غسلها بماء الورد والمسك الفاخر وابرزت للناظرين وقد كانت مستورة مخبوءة عن الزائرين ووضع الصليب عن قبتها وعادت إلى حرمتها وقد كان الفرنج قلعوا منها قطعا فباعوها من أهل البحور الجوانية بزنتها ذهبا فتعذر استعادة ما قطع منها ثم قبض من الفرنج ما كانوا بذلوه عن أنفسهم من الأموال وأطلق السلطان خلقا منهم بنات الملوك بمن معهن من النساء والصبيان والرجال ووقعت المسامحة في كثير منهم وشفع في أناس كثير فعفا عنهم وفرق السلطان جميع ما قبض منهم من الذهب في العسكر ولم يأخذ منه شيئا مما يقتني ويدخر وكان رحمه الله حليما كريما مقداما شجاعا رحيما أول جمعة أقيمت ببيت المقدس بعد فتحه لما تطهر بيت المقدس مما كان فيه من الصلبان والنواقيس والرهبان والقساقس ودخله أهل الإيمان ونودي بالأذان وقرئ القرآن ووحد الرحمن كان أول جمعة أقيمت في اليوم الرابع من شعبان بعد يوم الفتح بثمان فنصب المنبر إلى جانب المحراب وبسطت البسط وعلقت القناديل وتلي التنزيل وجاء الحق وبطلت الأباطيل وصفت السجادات وكثرت السجدات وتنوعت العبادات وارتفعت الدعوات ونزلت البركات وانجلت الكربات واقيمت الصلوات وأذن المؤذنون وخرس القسيسون وزال البوس وطابت النفوس وأقبلت السعود وأدبرت النحوس وعبد الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وكبره الراكع والساجد والقائم والقاعد وامتلأ الجامع وسالت لرقة القلوب المدامع ولما أذن المؤذنون للصلاة قبل الزوال كادت (12/324)
القلوب تطير من الفرح في ذلك الحال ولم يكن عين خطيب فبرز من السلطان المرسوم الصلاي وهو في قبة الصخرة أن يكون القاضي محيي الدين بن الزكي اليوم خطيبا فلبس الخلعة السوداء وخطب للناس خطبة سنية فصيحة بليغة ذكر فيها شرف البيت المقدس وما ورد فيه من الفضائل والترغيبات وما فيه من الدلائل والأمارات وقد أورد الشيخ أبو شامة الخطبة في الروضتين بطولها وكان أول ما قال فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ثم أورد تحميدات القرآن كلها ثم قال ( الحمد لله معز الإسلام بنصره ومذل الشرك بقهره ومصرف الأمور بأمره ومزيد النعم بشكره ومستدرج الكافرين بمكره الذي قدر الأيام دولا بعدله وجعل العاقبة للمتقين بفضله وافاض على العباد من طله وهطله ( الذي ) أظهر دينه على الدين كله القاهر فوق عباده فلا يمانع والظاهر على خليقته فلا ينازع والآمر بما يشاء فلا يراجع والحاكم بما يريد فلا يدافع أحمده على إظفاره وإظهاره وإعزازه لأوليائه ونصرة أنصاره ومطهر بيت المقدس من أدناس الشرك وأوضاره حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر أجهاره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد شهادة من طهر بالتوحيد قلبه وأرضى به ربه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله رافع الشكر وداحض الشرك ورافض الإفك الذي أسري به من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأقصى وعرج به منه إلى السموات العلى إلى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى ما زاغ البصر وما طغى ( ص ) وعلى خليفته الصديق السابق إلى الإيمان وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلبان وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان ذي النورين جامع القرآن وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل الشرك ومكسر الأصنام وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ثم ذكر الموعظة وهي مشتملة على تغبيط الحاضرين بما يسره الله على أيديهم من فتح بيت المقدس الذي من شأنه كذا وكذا فذكر فضائله ومآثره وأنه أول القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه واليه أسري برسول الله ( ص ) من المسجد الحرام وصلى فيه بالأنبياء والرسل الكرام ومنه كان المعراج إلى السموات ثم عاد إليه ثم سار منه إلى المسجد الحرام على البراق وهو أرض المحشر والمنشر يوم التلاق وهو مقر الأنبياء ومقصد الأولياء وقد أسس على التقوى من أول يوم قلت ويقال إن أول من أسسه يعقوب عليه السلام بعد أن بنى الخليل المسجد الحرام بأربعين سنة كما جاء في الصحيحين ثم جدد بناءه سليمان بن داود عليهما السلام كما ثبت فيه الحديث (12/325)
بالمسند والسنن وصحيح ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم وسأل سليمان عليه السلام الله عند فراغه منه خلالا ثلاثا حكما يصادف حكمه وملكا لا ينبغي لأحد من بعده وأنه لا يأتي أحدا هذا المسجد لا ينهزه إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ثم ذكر تمام الخطبتين ثم دعا للخليفة الناصر العباسي ثم دعا للسلطان الناصر صلاح الدين وبعد الصلاة جلس الشيخ زين الدين أبو الحسن بن علي نجا المصري على كرسي الوعظ بإذن السلطان فوعظ الناس واستمر القاضي ابن الزكي يخطب بالناس في أيام الجمع أربع جمعات ثم قرر السلطان للقدس خطيبا مستقرا وأرسل إلى حلب فاستحضر المنبر الذي كان الملك العادل نور الدين الشهيد قد استعمله لبيت المقدس وقد كان يؤمل أن يكون فتحه على يديه فما كان إلا على يدي بعض أتباعه صلاح الدين بعد وفاته
نكته غريبة
قال أبو شامة الروضتين وقد تكلم شيخنا أبو الحسن علي بن محمد السخاوي في تفسيره الأول فقال وقع في تفسير أبي الحكم الأندلسي يعني ابن برجان في أول سورة الروم أخبار عن فتح بيت المقدس وأنه ينزع من أيدي النصارى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة قال السخاوي ولم أره أخذ ذلك من علم الحروف وإنما أخذه فيما زعم من قوله آلم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين فبنى الأمر على التاريخ كما يفعل المنجمون فذكر أنهم يغلبون في سنة كذا وكذا ويغلبون في سنة كذا وكذا على ما تقتضيه دوائر التقدير ثم قال وهذه نجابة وافقت إصابة إن صح قال ذلك قبل وقوعه وكان في كتابه قبل حدوثه قال وليس هذا من قبيل علم الحروف ولا من باب الكرامات والمكاشفات ولا ينال في حساب قال وقد ذكر في تفسير سورة القدر أنه لو علم الوقت الذي نزل فيه القرآن لعلم الوقت الذي يرفع فيه قلت ابن برجان ذكر هذا في تفسيره في حدود سنة ثنتين وعشرين وخمسمائة ويقال إن الملك نور الدين أوقف على ذلك فطمع أن يعيش إلى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة لأن مولده في سنة إحدى عشر وخمسمائة فتهيأ لأسباب ذلك حتى إنه أعد منبرا عظيما لبيت المقدس إذا فتحه والله أعلم وأما الصخرة المعظمة فإن السلطان أزال ما حولها من المنكرات والصور والصلبان وطهرها بعد ما كانت جيفة وأظهرها بعد ما كانت خفية مستورة غير مرئية وأمر الفقيه عيسى الهكاري أن يعمل حولها شبابيك من حديد ورتب لها إماما راتبا وقف عليه رزقا جيدا وكذلك إمام الأقصى عمل للشافعية مدرسة يقال لها الصلاحية والناصرية أيضا وكان موضعها كنيسة على قبر حنة أم مريم ووقف على الصوفية رباطا كان للتبرك إلى جنب القمامة وأجرى على الفقهاء والفقراء الجوامك وارصد الختم والربعات في أرجاء المسجد الأقصى والصخرة ليقرأ فيها المقيمون والزائرون (12/326)
وتنافس بنو أيوب فيما يفعلونه ببيت المقدس وغيره من الخيرات إلى كل أحد وعزم السلطان على هدم القمامة وأن يجعلها دكا لتنحسم مادة النصارى من بيت المقدس فقيل ( له ) إنهم لا يتركون الحج إلى هذه البقعة ولو كانت قاعا صفصفا وقد فتح هذه البلد قبلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وترك هذه الكنيسة بأيديهم ولك في ذلك أسوة فأعرض عنها وتركها على حالتها تأسيا بعمر رضي الله عنه ولم يترك من النصارى فيها سوى أربعة يخدمونها وحال بين النصارى وبينها وهدم المقابر التي كانت لهم عند باب الرحمة وعفا آثارها وهدم ما كان هناك من القباب وأما أسارى المسلمين الذين كانوا بالقدس فإنه أطلقهم جميعهم وأحسن إليهم وأطلق لهم إعطاءات سنية وكساهم وأنطلق كل منهم إلى وطنه وعاد إلى أهله ومسكنه فلله الحمد على نعمه ومننه فصل فلما فرغ السلطان صلاح الدين من القدس الشريف انفصل عنها في الخامس والعشرين من شعبان قاصدا مدينة صور بالساحل وكان فتحها قد تأخر وقد استحوذ عليها بعد وقعة حطين رجل من تجار الفرنج يقال له المركيس فحصنها وضبط أمرها وحفر حولها خندقا من البحر إلى البحر فجاء السلطان فحاصرها مدة ودعا بالأسطول من الديار المصرية في البحر فأحاط بها برا وبحرا فعدت الفرنج في بعض الليالي على خمس شواني من أسطول المسلمين فملكتها فأصبح المسلمون واجمين حزنا وتأسفا وقد دخل عليهم فصل البرد وقلت الأزواد وكثرت الجراحات وكل الأمراء من المحاصرات فسألوا السلطان أن ينصرف بهم إلى دمشق حتى يستريحوا ثم يعودوا إليها بعد هذا الحين فأجابهم إلى ذلك على تمنع منه ثم توجه بهم نحو دمشق واجتاز في طريقه على عكا وتفرقت العساكر إلى بلادها وأما السلطان فإنه لما وصل إلى عكا نزل بقلعتها وأسكن ولده الأفضل برج الداوية وولى نيابتها عزالدين حردبيل وقد أشار بعضهم على السلطان بتخريب مدينة عكا خوفا من عود الفرنج إليها فكاد ولم يفعل وليته فعل بل وكل بعمارتها وتجديد محاسنها بهاءالدين قراقوش التقوي ووقف دار الإستثارية بصفين على الفقهاء والفقراء وجعل دار الأسقف مارستانا ووقف على ذلك كله أوقافا داره وولى نظر ذلك إلى قاضيها جمال الدين ابن الشيخ أبي النجيب ولما فرغ من هذه الأشياء عاد إلى دمشق مؤيدا منصورا وأرسل إليه الملوك بالتهاني والتحف والهدايا من سائر الأقطار والأمصار وكتب الخليفة إلى السلطان يعتب عليه في أشياء منها أنه بعث إليه في بشارة الفتح بوقعة حطين شابا بغداديا كان وضيعا عندهم لا قدر له ولا قيمة وأرسل بفتح القدس مع نجاب ولقب نفسه بالناصر مضاهاة للخليفة فتلقى ذلك بالبشر واللطف والسمع (12/327)
والطاعة وأرسل يعتذر مما وقع وقال الحرب كانت شغلته عن التروي في كثير من ذلك وأما لقبه بالناصر فهو من أيام الخليفة المستضيء ومع هذا فمهما لقبني أمير المؤمنين فلا أعدل عنه وتأدب مع الخليفة غاية الأدب مع غناه عنه وفيها كانت وقعة عظيمة ببلاد الهند بين الملك شهاب الدين الغوري صاحب غزنة وبين ملك الهند الكبير فأقبلت الهنود في عدد كثير من الجنود ومعهم أربعة عشر فيلا فالتقوا واقتتلوا قتالا شديدا فانهزمت ميمنة المسلمين وميسرتهم وقيل للملك أنج بنفسك فما زاده ذلك إلا إقداما فحمل على الفيلة فجرح بعضها وجرح الفيل لا يندمل فرماه بعض الفيالة بحربة في ساعده فخرجت من الجانب الآخر فخر صريعا فحملت عليه الهنود ليأخذوه فجاحف عنه أصحابه فاقتتلوا عنده قتالا شديدا وجرت حرب عظيمة لم يسمع بمثلها بموقف فغلب المسلمون الهنود وخلصوا صاحبهم وحملوه على كواهلهم في محفة عشرين فرسخا وقد نزفه الدم فلما تراجع إليه جيشه أخذ في تأنيب الأمراء وحلف ليأكلن كل أمير عليق فرسه وما أدخلهم غزنة إلا مشاة وفيها ولدت امرأة من سواد بغداد بنتا لها أسنان وفيها قتل الخليفة الناصر أستاذ داره أبا الفضل بن الصاحب وكان قد استحوذ على الأمور ولم يبق للخليفة معه كلمة تطاع ومع هذا كان عفيفا عن الأموال جيد السيرة فأخذ الخليفة منه شيئا كثيرا من الحواصل والأموال وفيها استوزر الخليفة أبا المظفر جلال الدين ومشى أهل الدولة في ركابه حتى قاضي القضاة ابن الدامغاني وقد كان ابن يونس هذا شاهدا عند القاضي وكان يقول وهو يمشي في ركابه لعن الله طول العمر فمات القاضي في آخر هذه السنة وفيها توفي من الأعيان
الشيخ عبدالمغيث بن زهير الحربي
كان من صلحاء الحنابلة وكان يزار وله مصنف في فضل يزيد بن معاوية أتى فيه بالغرائب والعجائب وقد رد عليه أبو الفرج ابن الجوزي فأجاد واصاب ومن أحسن ما اتفق لعبد المغيث هذا أن بعض الخلفاء واظنه الناصر جاءه زائرا مستخفيا فعرفه الشيخ عبدالمغيث ولم يعلمه بأنه قد عرفه فسأله الخليفة عن يزيد أيلعن أم لا فقال لا أسوغ لعنه لأني لو فتحت هذا الباب لأفضى الناس إلى لعن خليفتنا فقال الخليفة ولم قال لأنه يفعل أشياء منكرة كثيرة منها كذا وكذا ثم شرع يعدد على الخليفة أفعاله القبيحة وما يقع منه من المنكر لينزجر عنها فتركه الخليفة وخرج من عنده وقد أثر كلامه فيه وانتفع به مات في المحرم من هذه السنة وفيها توفي الشيخ
علي بن خطاب بن خلف
العابد الناسك أحد الزهاد وذوي الكرامات وكان مقامه بجزيرة ابن عمر قال ابن الأثير (12/328)
في الكامل ولم ار مثله في حسن خلقه وسمته وكراماته وعبادته
الأمير شمس الدين محمد بن عبدالملك بن مقدم
أحد نواب صلاح الدين ولما افتتح الناصر بيت المقدس أحرم جماعة في زمن الحج منه إلى المسجد الحرام وكان ابن المقدم أمير الحاج في تلك السنة فلما توقف بعرفة ضرب الدبادب ونشر الألوية وأظهر عز السلطان صلاح الدين وعظمته فغضب طاشتكين أمير الحاج من جهة الخليفة فزجره عن ذلك فلم يسمع فاقتتلا فجرح ابن مقدم ومات في اليوم الثاني بمنى ودفن هنالك وجرت خطوب كثيرة وليم طاشتكين على ما فعل وخاف معرة ذلك من جهة صلاح الدين والخليفة وعزله الخليفة عن منصبه
محمد بن عبيدالله
ابن عبدالله سبط بن التعاويذي الشاعر ثم اضر في آخر عمره وجاز الستين توفي في شوال
نصر بن فتيان بن مطر
الفقيه الحنبلي المعروف بابن المنى كان زاهدا عابدا مولده سنة إحدى وخمسمائة وممن تفقه عليه من المشاهير الشيخ موفق الدين بن قدامة والحافظ عبدالغني ومحمد بن خلف بن راجح والناصر عبدالرحمن بن المنجم بن عبدالوهاب وعبدالرزاق بن الشيخ عبدالقادر الجيلي وغيرهم توفي خامس رمضان وفيها توفي قاضي القضاة
ابو الحسن الدامغاني
وقد حكم في أيام المقتفي ثم المستنجد ثم عزل وأعيد في أيام المستضيء وحكم للناصر حتى توفي في هذه السنة
ثم دخلت سنة أربع وثمانين وخمسمائة
في محرمها حاصر السلطان صلاح الدين حصن كوكب فرأه منيعا صعبا فوكل به الأمير قايماز البجمى في خمسمائة فارس يضيقون عليهم المسالك وكذلك وكل لصفت ( الصغد ) وكانت للدواية خمسمائة فارس مع طغرلبك الجامدار يمنعون الميرة والتقاوي أن تصل إليهم وبعث إلى الكرك الشوبك يضيقون على أهلها ويحاصرونهم ليفرغ من أموره لقتال هذه الأماكن ولما رجع السلطان من هذه الغزوة إلى دمشق وجد الصفي بن الفايض وكيل الخزانة قد بنى له دارا بالقلعة هائلة مطلة على الشرف القبلي فغضب عليه وعزله وقال إنا لم نخلق للمقام بدمشق ولا بغيرها من البلاد وإنما خلقنا لعبادة الله عز و جل والجهاد في سبيله وهذا الذي عملته مما يثبط النفوس ويقعدها عما خلقت له وجلس السلطان بدار العدل فحضرت عنده القضاة وأهل الفضل وزار القاضي الفاضل في بستانه على الشرف في جوسق ابن الفراش وحكى له ما جرى من الأمور واستشاره فيما يفعل في المستقبل من المهمات والغزوات ثم خرج من دمشق فسلك على بيوس وقصد البقاع وسار إلى حمص وحماه (12/329)
وجاءت الجيوش من الجزيرة وهو على العاصي فسار إلى السواحل الشمالية ففتح أنطر طوس وغيرها من الحصون وجبلة واللاذقية وكانتا من أحصن المدن عمارة ورخاما ومحالا وفتح صهيون وبكاس والشغر وهما قلعتان على العاصي حصينتان فتحهما عنوة وفتح حصن بدرية وهي قلعة عظيمة على جبل شاهق منيع تحتها أودية عميقة يضرب بها المثل في سائر بلاد الفرنج والمسلمين فحاصرها أشد حصار وركب عليها المجانيق الكبار وفرق الجيش ثلاث فرق كل فريق يقاتل فإذا كلوا وتعبوا خلفهم الفريق الآخر حتى لا يزال القتال مستمرا ليلا ونهارا فكان فتحها في نوبة السلطان أخذها عنوة في أيام معدودات ونهب جميع ما فيها واستولى على حواصلها وأموالها وقتل حماتها ورجالها واستخدم نساءها وأطفالها ثم عدل عنها ففتح حصن دربساك وحصن بغراس كل ذلك يفتحه عنوة فيغنم ويسلم ثم سمت به همته العالية إلى فتح أنطاكية وذلك لأنه أخذ جميع ما حولها من القرى والمدن واستظهر عليها بكثرة الجنود فراسله صاحب أنطاكية يطلب منه الهدنة على أن يطلق من عنده من أسرى المسلمين فأجابه إلى ذلك لعلمه بتضجر من معه من الجيش فوقعت الهدنة على سبعة أشهر ومقصود السلطان أن يستريح من تعبها وأرسل السلطان من تسلم منه الأسارى وقد ذلت دولة النصارى ثم سار فسأله ولده الظاهر أن يجتاز بحلب فأجابه إلى ذلك فنزل بقلعتها ثلاثة أيام ثم استقدمه ابن أخيه تقي الدين إليه حماة فنزل عنده ليلة واحدة وأقطعه جبلة واللاذقية ثم سار فنزل بقلعة بعلبك ودخل حمامها ثم عاد إلى دمشق في أوائل رمضان وكان يوما مشهودا وجاءته البشائر بفتح الكرك وإنقاذه من أيدي الفرنج وأراح الله منهم تلك الناحية وسهل حزنها على السالكين من التجار والغزاة والحجاج فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين
فصل في فتح صفد وحصن كوكب
لم يقم السلطان بدمشق إلا أياما حتى خرج قاصدا صفد فنازلها في العشر الأوسط من رمضان وحاصرها بالمجانيق وكان البرد شديدا يصبح الماء فيه جليدا فما زال حتى فتحها صلحا في ثامن شوال ثم سار إلى صور فألقت إليه بقيادها وتبرأت من أنصارها وأجنادها وقوادها وتحققت لما فتحت صفد أنها مقرونة معها في أصفادها ثم سار منها إلى حصن كوكب وهى معقل الاستثارية كما أن صفد كانت معقل الداوية وكانوا أبغض أجناس الفرنج إلى السلطان لا يكاد يترك منهم أحدا إلا قتله إذا وقع في المأسورين فحاصر قلعة كوكب حتى أخذها وقتل من بها وأراح المارة من شر ساكنيها وعهدت تلك السواحل واستقر بها منازل قاطنيها هذا والسماء تصب والرياح تهب والسيول تعب والأرجل في الأوحال تخب وهو في كل ذلك صابر مصابر وكان القاضي (12/330)
الفاضل معه في هذه الغزوة وكتب القاضي الفاضل إلى أخي السلطان صاحب اليمن يستدعيه الىالشام لنصرة الإسلام وأنه قد عزم على حصار أنطاكية ويكون تقي الدين عمر محاصرا طرابلس إذا انسلخ هذا العام ثم عزم القاضي الفاضل على الدخول إلى مصر فودعه السلطان فدخل القدس فصلى به الجمعة وعيد فيه عيد الأضحى ثم سار ومعه أخوه السلطان العادل إلى عسقلان ثم أقطع أخاه الكرك عوضا عن عسقلان وأمره بالإنصراف ليكون عونا لابنه العزيز على حوادث مصر وعاد السلطان فأقام بمدينة عكا حتى انسلخت هذه السنة وفيا خرجت طائفة بمصر من الرافضة ليعيدوا دولة الفاطميين واغتنموا غيبة العادل عن مصر واستخفوا أمر العزيز عثمان بن صلاح الدين فبعثوا اثنى عشر رجلا ينادون في الليل يا آل علي يا آل علي بنياتهم على أن العامة تجيبهم فلم يجبهم أحد ولا إلتفت إليهم فلما رأوا ذلك انهزموا فأدركوا وأخذوا وقيدوا وحبسوا ولما بلغ أمرهم السلطان صلاح الدين ساءه ذلك واهتم له وكان القاضي الفاضل عنده بعد لم يفارقه فقال له أيها الملك ينبغي أن تفرح ولا تحزن حيث لم يصغ إلى هؤلاء الجهلة أحد من رعيتك ولو أنك بعثت جواسيس من قبلك يختبرون الناس لسرك ما بلغك عنهم فسرى عنه ما كان يجد ورجع إلى قوله وأرسله إلى مصر ليكون له عينا وعونا وفيها توفي من الأعيان
الأمير الكبير سلالة الملوك والسلاطين
الشيزري مؤيد الدولة أبو الحارث وأبو المظفر أسامة بن مرشد بن علي بن ( مقلد بن نصر بن ) منقد أحد الشعراء المشهورين المشكورين بلغ من العمر ستا وتسعين سنة وكان عمره تاريخا مستقلا وحده وكانت داره بدمشق مكان العزيزية وكانت معقلا للفضلاء ومنزلا للعلماء وله أشعار رائقة ومعان فائقة ولدية علم غزير وعنده جود وفضل كثير وكان من أولاد ملوك شيزر ثم أقام بمصر مدة في أيام الفاطميين ثم عاد إلى الشام فقدم على الملك صلاح الدين في سنة سبعين وأنشده حمدت على طول عمري المشيبا ... وإن كنت أكثرت فيه الذنوبا ... لأني حييت إلى أن لقيت ... بعد العدو صديقا حبيبا ... وله في سن قلعها وفقد نفها ... وصاحب لا أمل الدهر صحبته ... يشقى لنفعي ويسعى سعي مجتهد ... لم ألقه مذ تصاحبنا فحين بدا ... لناظري افترقنا فرقة الأبد ... وله ديوان شعر كبير وكان صلاح الدين يفضله على سائر الدواوين وقد كان مولده في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة وكان في شبيبته شهما شجاعا قتل الأسد وحده مواجهة ثم عمر إلى أن توفي في هذه السنة ليلة الثلاثاء الثالث والعشرين من رمضان ودفن شرقي جبل قايسون قال وزرت قبره (12/331)
وأنشدت له ... لا تستعر جلدا على هجرانهم ... فقواك تضعف عن صدود دائم ... واعلم بأنك إن رجعت إليهم ... طوعا إلا عدت عدوة نادم ... وله أيضا ... واعجب لضعف يدي عن حملها قلما ... من بعد حطم القنا في لبة الأسد ... وقل لمن يتمنى طول مدته ... هذي عواقب طول العمر والمدد ...
قال ابن الأثير وفيها توفي شيخه
أبو محمد عبدالله بن علي
ابن عبدالله بن سويد التكريتي كان عالما بالحديث وله تصانيف حسنة
الحازمي الحافظ
قال أبو شامة وفيها توفي الحافظ أبو بكر محمد بن موسى بن عثمان بن حازم الحازمي الهمذاني ببغداد صاحب التصانيف على صغر سنه منها العجالة في النسب والناسخ والمنسوخ وغيرها ومولدها سنة ثمان أو تسع وأربعين وخمسمائة وتوفي في الثامن والعشرين من جمادى الأولى من هذه السنة
ثم دخلت سنة خمس وثمانين وخمسمائة
فيها قدم من جهة الخليفة رسل إلى السلطان يعلمونه بولاية العهد لأبي نصر الملقب بالظاهر بن الخليفة الناصر فأمر السلطان خطيب دمشق أبا القاسم عبدالملك بن زيد الدولعي أن يذكره على المنبر ثم جهز السلطان مع الرسل تحفا كثيرة وهدايا سنية وأرسل بأسارى من الفرنج على هيئتهم في حال حربهم وأرسل بصليب الصلبوت فدفن تحت عتبة باب النوى من دار الخليفة فكان بالأقدام يداس بعدما كان يعظم ويباس والصحيح أن هذا الصليب وكان منصوبا على الصخرة كان من نحاس مطليا بالذهب فحطه الله إلى أسفل العتب
قصة عكا وما كان من أمرها لما كان شهر رجب اجتمع من كان بصور من الفرنج وساروا إلى مدينة عكا فأحاطوا بها يحاصرونها فتحصن من فيها من المسلمين وأعدوا للحصار ما يحتاجون إليه وبلغ السلطان خبرهم فسار إليهم من دمشق مشرعا فوجدهم قد أحاطوا بها إحاطة الخاتم بالخنصر فلم يزل يدافعهم عنها ويمانعهم منها حتى جعل طريقا إلى باب القلعة يصل إليه كل من أراده من جندي وسوقي وامرأة وصبي ثم أدخل إليها ما أراد من الآلات والأمتعة ودخل هو بنفسه فعلا على سورها ونظر إلى الفرنج وجيشهم وكثرة عددهم وعددهم والميرة تفد إليهم في البحر في كل وقت وكل ما لهم في ازدياد وفي كل حين تصل إليهم الأمداد ثم عاد إلى مخيمه والجنود تفد إليه وتقدم عليه من كل جهة ومكان منهم رجال وفرسان فلما كان في العشر الأخير من شعبان برزت الفرنج من مراكبها إلى (12/332)
مواكبها في نحو من الفي فارس وثلاثين ألف راجل فبرز إليهم السلطان فيمن معه من الشجعان فاقتتلوا بمرج عكا قتالا عظيما وهزم جماعة من المسلمين في أول النهار ثم كانت الدائرة على الفرنج فكانت القتلى بينهم أزيد من سبعة آلاف قتيل ولما تناهت هذه الوقعة تحول السلطان عن مكانه الأول إلى موضع بعيد من رائحة القتلى خوفا من الوخم والأذى وليستريح الخيالة والخيل ولم يعلم أن ذلك كان من أكبر مصالح العدو المخذول فإنهم اغتنموا هذه الفرصة فحفروا حول مخيمهم خندقا من البحر محدقا بجيشهم واتخذوا من ترابه سورا شاهقا وجعلوا له أبوابا يخرجون منها إذا أرادوا وتمكنوا في منزلهم ذلك الذي اختاروا وارتادوا وتفارط الأمر على المسلمين وقوى الخطب وصار الداء عضالا وازداد الحال وبالا اختبارا من الله وامتحانا وكان رأي السلطان أن يناجزوا بعد الكرة سريعا ولا يتركوا حتى يطيب البحر فتأتيهم الأمداد من كل صوب فتعذر عليه الأمر بإملال الجيش والضجر وكل منهم لأمر الفرنج قد احتقر ولم يدر ما قد حتم في القدر فأرسل السلطان إلى جميع الملوك يستنفر ويستنصر وكتب إلى الخليفة بالبث وبث الكتب بالتحضيض والحث السريع فجاءته الأمداد جماعات وآحادا وأرسل إلى مصر يطلب أخاه العادل ويستعجل الأسطول فقدم عليه فوصل إليه خمسون قطعة في البحر مع الأمير حسام الدين لؤلؤ وقدم العادل في عسكر المصريين فلما وصل الاسطول حادت مراكب الفرنج عنه يمنة ويسرة وخافوا منه واتصل بالبلد الميرة والعدد والعدد وانشرحت الصدور بذلك وانسلخت هذه السنة والحال ما حال بل هو على ما هو عليه ولا ملجأ من الله إلا إليه وفيها توفي من الأعيان القاضي شرف الدين أبو سعد عبدالله بن محمد بن هبة الله بن أبي عصرون أحد أئمة الشافعية له كتاب الإنتصاف وقد ولي قضاء القضاة بدمشق ثم أضر قبل موته بعشر سنين فجعل ولده نجم الدين مكانه بطيب قلبه وقد بلغ من العمر ثلاثا وتسعين سنة ونصفا ودفن بالمدرسة العصرونية التي أنشأها عند سويقة باب البريد قبالة داره بينهما عرض الطريق وكان من الصالحين والعلماء العاملين وقد ذكره ابن خلكان فقال كان أصله من حديثة عانة الموصل ورحل في طلب العلم إلى بلدان شتى وأخذ عن اسعد الميهني وأبي علي الفارقي وجماعة وولي قضاء سنجار وحران وباشر في أيام نور الدين تدريس الغزالية ثم انتقل إلى حلب فبنى له نور الدين بحلب مدرسة وبحمص أخرى ثم قدم دمشق في أيام صلاح الدين فولي قضاءها في سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة إلى أن توفي في هذه السنة وقد جمع جزءا في قضاء الأعمى وأنه جائز وهو خلاف المذهب وقد حكاه صاحب البيان وجها لبعض الأصحاب قال ولم أره في غيره ولكن حبك الشيء يعمي ويصم وقد صنف كتبا كثيرة (12/333)
منها صفوة المذهب في نهاية المطلب في سبع مجلدات والإنتصاف في أربعة والخلاف في أربعة والذريعة ( في معرفة الشريعة ) والمرشد وغير ذلك ( وكتابا سماه مأخذ النظر ومختصرا ) في الفرائض وقد ذكره ابن عساكر في تاريخه والعماد فأثنى عليه وكذلك القاضي الفاضل وأورد له العماد أشعارا كثيرة وابن خلكان منها ... أؤمل أن أحيا وفي كل ساعة ... تمر بي الموتي يهز نعوشها ... وهل أنا إلا مثلهم غير أن لي ... بقايا ليال في الزمان أعيشها ...
أحمد بن عبدالرحمن بن وهبان
أبو العباس المعروف بابن أفضل الزمان قال ابن الأثير كان عالما متبحرا في علوم كثيرة من الفقه والأصول والحساب والفرائض والنجوم والهيئة والمنطق وغير ذلك وقد جاور بمكة وأقام بها إلى أن مات بها وكان من أحسن الناس صحبة وخلقا
الفقيه الأمير ضياء الدين عيسى الهكاري
كان من أصحاب أسد الدين شيركوه دخل معه إلى مصر وحظي عنده ثم كان ملازما للسلطان صلاح الدين حتى مات في ركابه بمنزلة الخروبة قريبا من عكا فنقل إلى القدس فدفن به كان ممن تفقه على الشيخ أبي القاسم بن البرزي الجزري وكان من الفضلاء والأمراء الكبار
المبارك بن المبارك الكرخي
مدرس النظامية تفقه بابن الخل ( وحظي ) بمكانة عند الخليفة والعامة وكان يضرب بحسن خطه المثل ذكرته في الطبقات
ثم دخلت سنة ست وثمانين وخمسمائة
استهلت والسلطان محاصر لحصن عكا وأمداد الفرنج تفد إليهم من البحر في كل وقت حتى أن نساء الفرنج ليخرجن بنية القتال ومنهن من تأتي بنية راحة الغرباء لينكحوها في الغربة فيجدون راحة وخدمة وقضاء وطر قدم إليهم مركب فيه ثلاثمائة امرأة من أحسن النساء وأجملهن بهذه النية فإذا وجدوا ذلك ثبتوا على الحرب والغربة حتى ان كثيرا من فسقة المسلمين تحيزوا إليهم من أجل هذه النسوة واشتهر الخبر بذلك وشاع بين المسلمين والفرنج بأن ملك الألمان قد أقبل بثلاثمائة ألف مقاتل من ناحية القسطنطينية يريد أخذ الشام وقتل أهله انتصارا لبيت المقدس فعند ذلك حمل السلطان والمسلمون هما عظيما وخافوا غاية الخوف مع ما هم فيه من الشغل والحصار الهائل وقويت قلوب الفرنج بذلك واشتدوا للحصار والقتال ولكن لطف الله وأهلك عامة جنده في الطرقات بالبرد والجوع والضلال في المهالك على ما سيأتي بيانه وكان سبب قتال الفرنج وخروجهم (12/334)
من بلادهم ونفيرهم ما ذكره ابن الأثير في كامله أن جماعة من الرهبان والقسيسين الذين كانوا ببيت المقدس وغيره ركبوا من صور في أربعة مراكب وخرجوا يطوفون ببلدان النصارى البحرية وما هو قاطع البحر من الناحية الأخرى يحرضون الفرنج ويحثونهم على الانتصار لبيت المقدس ويذكرون لهم ما جرى على أهل القدس وأهل السواحل من القتل والسبي وخراب الديار وقد صوروا صورة المسيح وصورة عربي آخر يضربه ويؤذيه فإذا سألوهم من هذا الذي يضرب المسيح قالوا هذا نبي العرب يضربه وقد جرحه ومات فينزعجون لذلك ويحمون ويبكون ويحزنون فعند ذلك خرجوا من بلادهم لنصرة دينهم ونبيهم وموضع حجهم على الصعب والذلول حتى النساء المخدرات والزواني والزانيات الذين هم عند أهليهم من أعز الثمرات وفي نصف ربيع الأول تسلم السلطان شعيف أربون بالأمان وكان صاحبه مأسورا في الذل والهوان وكان من أدهى الفرنج وأخبرهم بأيام الناس وربما قرأ في كتب الحديث وتفسير القرآن وكان مع هذا غليظ الجلد قاسي القلب كافر النفس ولما انفصل فصل الشتاء واقبل الربيع جاءت ملوك الإسلام من بلدانها بخيولها وشجعانها ورجالها وفرسانها وأرسل الخليفة إلى الملك صلاح الدين أحمالا من النفط والرماح ونفاطة ونقابين كل منهم متقن في صنعته غاية الإتقان ومرسوما بعشرين ألف دينار وانفتح البحر وتواترت مراكب الفرنج من كل جزيرة لأجل نصرة أصحابهم يمدونهم بالقوة والميرة وعملت الفرنجه ثلاثةأبرجه من خشب وحديد عليها جلود مسقاة بالخل لئلا يعمل فيها النفط يسع البرج منها خمسمائة مقاتل وهي أعلا من أبرجة البلد وهي مركبة على عجل بحيث يديرونها كيف شاءوا وعلى ظهر كل منها منجنيق كبير فلما ذلك رأى المسلمون أهمهم أمرها وخافوا على البلد ومن فيه من المسلمين أن يؤخذوا وحصل لهم ضيق منها فأعمل السلطان فكره بإحراقها واحضر النفاطين ووعدهم بالأموال الجزيلة إن هم أحرقوها فانتدب لذلك شاب نحاس من دمشق يعرف بعلي بن عريف النحاسين والتزم بإحراقها فأخذ النفط الأبيض وخلطه بأدوية يعرفها وعلى ذلك في ثلاثة قدور من نحاس حتى صار نارا تأجج ورمى كل برج منها بقدر من تلك القدور بالمنجنيق من داخل عكا فاحترقت الأبرجة الثلاثة حتى صارت نارا بإذن الله لها ألسنة في الجو متصاعدة واحترق من كان فيها فصرخ المسلمون صرخة واحدة بالتهليل واحترق في كل برج منها سبعون كفورا وكان يوما على الكافرين عسيرا وذلك يوم الإثنين الثاني والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة وكان الفرنج قد تعبوا في عملها سبعة أشهر فاحترقت في يوم واحد وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ثم أمر السلطان لذلك الشاب النحاس بعطية سنية وأموال كثيرة فامتنع أن يقبل شيئا من ذلك وقال إنما عملت ذلك ابتغاء وجه الله ورجاء (12/335)
ما عنده سبحانه فلا أريد منكم جزءا ولا شكورا وأقبل الأسطول المصري وفيه الميرة الكثيرة لأهل البلد فعبى الفرنج أسطولهم ليقاتلوا اسطول المسلمين نهض السلطان بجيشه ليشغلهم عنهم وقاتلهم أهل البلد أيضا واقتتل الأسطولان في البحر وكان يوما عسيرا وحربا في البر والبحر فظفرت الفرنج بشبيني واحد من الأسطول الذي للمسلمين وسلم الله الباقي فوصل إلى البلد بما فيه من الميرة وكانت حاجتهم قد اشتدت إليها جدا بل إلى بعضها وأما ملك الألمان المتقدم ذكره فإنه أقبل في عدد وعدد كثير جدا قريب من ثلاثمائة ألف مقاتل من نيته خراب البلد وقتل أهلها من المسلمين والانتصار لبيت المقدس وأن يأخذ البلاد إقليما بعد إقليم حتى مكة والمدينة فما نال من ذلك شيئا بعون الله وقوته بل أهلكهم الله عز و جل في كل مكان وزمان فكانوا يتخطفون كما يتخطف الحيوان حتى اجتاز ملكهم بنهر شديد الجرية فدعته نفسه أن يسبح فيه فلما صار فيه حمله الماء إلى شجرة فشجت رأسه وأخمدت أنفاسه واراح الله منه العباد والبلاد فأقيم ولده الأصغر في الملك وقد تمزق شملهم وقلت منهم العدة ثم أقبلوا لا يجتازون ببلد إلا قتلوا فيه فما وصلوا إلى أصحابهم الذين على عكا إلا في ألف فارس فلم يرفعوا بهم رأسا ولا لهم قدرا ولا قيمة بينهم ولا عند أحد من أهل ملتهم ولا غيرهم وهكذا شأن من أراد إطفاء نور الله وإذلال دين الإسلام وزعم العماد في سياقه أن الألمان وصلوا في خمسة آلاف وأن ملوك الإفرنج كلهم كرهوا قدومهم عليهم لما يخافون من سطوة ملكهم وزوال دولتهم بدولته ولم يفرح به إلا المركيس صاحب صور الذي أنشأ هذه الفتنة وأثار هذه المحنة فإنه تقوى به وبكيده فإنه كان خبيرا بالحروب وقد قدم بأشياء كثيرة من آلات الحرب لم تخطر لأحد ببال نصب دبابات أمثال الجبال تسير بعجل ولها زلوم من حديد تنطح السور فتخرقه وتثلم جوانبه فمن الله العظيم بإحراقها واراح الله المسلمين منها ونهض صاحب الألمان بالعسكر الفرنجي فصادم به جيش المسلمين ( فجاءت جيوش المسلمين ) برمتها إليه فقتلوا من الكفرة خلقا كثيرا وجما غفيرا وهجموا مرةعلى مخيم السلطان بغتة فنهبوا بعض الأمتعة فنهض الملك العادل أبو بكر وكان رأس الميمنة فركب في أصحابه وامهل الفرنج حتى توغلوا بين الخيام ثم حمل عليهم بالرماح والحسام فهربوا بين يديه فما زال يقتل منهم جماعة بعد جماعة وفرقة بعد فرقة حتى كسوا وجه الأرض منهم حللا أزهى من الرياض الباسمة وأحب إلى النفوس من الخدود الناعمة واقل ما قيل إنه قتل منهم خمسة آلاف وزعم العماد أنه قتل منهم فيما بين الظهر إلى العصر عشرة آلاف والله أعلم هذا وطرف الميسرة لم يشعر بما جرى ولا درى بل نائمون وقت القائلة في خيامهم وكان (12/336)
الذين ساقوا وراءهم أقل من ألف وإنما قتل من المسلمين عشرة أو دونهم وهذه نعمة عظيمة وقد أوهن هذا جيش الفرنج وأضعفهم وكادوا يطلبون الصلح وينصرفون عن البلد فاتفق قدوم مدد عظيم إليهم من البحر مع ملك يقال له كيد هرى ومعه أموال كثيرة فأنفق فيهم وغرم عليهم وأمرهم أن يبرزوا معه لقتال المسلمين ونصب على عكا منجنيقين غرم على كل واحد منهما ألفا وخمسمائة دينار فأحرقهما المسلمون من داخل البلد وجاءت كتب صاحب الروم من القسطنطنية يعتذر لصلاح الدين من جهة ملك الألمان وأنه لم يتجاوز بلده باختياره وأنه تجاوزه لكثرة جنوده ولكن ليبشر السلطان بأن الله سيهلكهم في كل مكان وكذلك وقع وأرسل إلى السلطان يخبره بأنه يقيم للمسلمين عنده جمعة وخطبا فأرسل السلطان مع رسله خطيبا ومنبرا وكان يوم دخولهم إليه يوما مشهودا ومشهدا محمودا فأقيمت الخطبة بالقسطنطنية ودعا للخليفة العباسي واجتمع فيها من هناك من المسلمين من التجار والمسلمين الأسرى والمسافرين إليها والحمد لله رب العالمين فصل وكتب متولي عكا من جهة السلطان صلاح الدين وهو الأمير بهاء الدين قراقوش في العشر الأول من شعبان إلى السلطان إنه لم يبق عندهم في المدينة من الأقوات إلا ما يبلغهم إلى ليلة النصف من شعبان فلما وصل الكتاب إلى السلطان أسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم خوفا من إشاعة ذلك فيبلغ العدو فيقدموا على المسلمين وتضعف القلوب وكان قد كتب إلى أمير الأسطول بالديار المصرية أن يقدم بالميرة إلى عكا فتأخر سيره ثم وصلت ثلاث بطش ليلة النصف فيها من الميرة ما يكفي أهل البلد طول الشتاء وهي صحبة الحاجب لؤلؤ فلما أشرفت على البلد نهض إليها اسطول الفرنج ليحول بينها وبين البلد ويتلف ما فيها فاقتتلوا في البحر قتالا شديدا والمسلمون في البر يبتهلون إلى الله عز و جل في سلامتها والفرنج أيضا تصرخ برا وبحرا وقد ارتفع الضجيج فنصر الله المسلمين وسلم مراكبهم وطابت الريح للبطش فسارت فأحرقت المراكب الفرنجية المحيطة بالميناء ودخلت البلد سالمة ففرح بها أهل البلد والجيش فرحا شديدا وكان السلطان قد جهز قبل هذه البطش الثلاث بطشة كبيرة من بيروت فيها أربعمائة غرارة وفيها من الجبن والشحم والقديد والنشاب والنفط شيء كثير وكانت هذه البطشة من بطش الفرنج المغنومة وأمر من فيها من التجار أن يلبسوا زي الفرنج حتى أنهم حلقوا لحاهم وشدوا الزنانير واستصحبوا في البطشة معهم شيئا من الخنازير وقدموا بها على مراكب الفرنج فاعتقدوا أنهم منهم وهي سائرة كأنها السهم إذا خرج من كبد القوس فحذرهم الفرنج غائلة الميناء من ناحية البلد فاعتذروا (12/337)
بأنهم مغلوبون عنها ولا يمكنهم حبسها من قوة الريح وما زالوا كذلك حتى ولجوا الميناء فأفرغوا ما كان معهم من الميرة والحرب خدعة فعبرت الميناء فامتلأ الثغر بها خيرا فكفتهم إلى أن قدمت عليهم تلك البطش الثلاث المصرية وكانت البلد يكتنفها برجان يقال لأحدهما برج الديان فاتخذت الفرنج بطشة عظيمة لها خرطوم وفيه محركات إذا أرادوا أن يضعوه على شيء من الأسوار والأبرجة قلبوه فوصل إلى ما أرادوا فعظم أمر هذه البطشة على المسلمين ولم يزالوا في أمرها محتالين حتى أرسل الله عليها شواظا من نار فأحرقها وأغرقها وذلك أن الفرنج أعدوا فيها نفطا كثيرا وحطبا جزلا وأخرى خلفها فيها حطب محض فلما أراد المسلمون المحافظة على الميناء أرسلوا النفط على بطشة الحطب فاحترقت وهي سائرة بين بطش المسلمين واحترقت الأخرى وكان في بطشة أخرى لهم مقاتلة تحت قبو قد أحكموه فيها فلما أرسلوا النفط على برج الديان انعكس الأمر عليهم بقدرة الله تعالى وذلك لشدة الهواء تلك الليلة فما تعدت النار بطشتهم فاحترقت وتعدى الحريق إلى الأخرى فغرقت ووصل إلى بطشة المقاتلة فتلفت وهلك من فيها فاشبهوا من سلف من أهل الكتاب من الكافرين في قوله تعالى يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فصل وفي ثالث رمضان اشتد حصار الفرنج للمدينة حتى نزلوا إلى الخندق فبرز إليهم أهل البلد فقتلوا منهم خلقا كثيرا وتمكنوا من حريق الكيس والأسوار وسرى حريقه إلى السقوف وارتفعت له لهبة عظيمة في عنان السماء ثم اجتذبه المسلمون إليهم بكلاليب من حديد في سلاسل فحصل عندهم وألقوا عليه الماء البارد فبرد بعد أيام فكان فيه من الحديد مائة قنطار بالدمشقي ولله الحمد والمنة وفي الثامن والعشرين من رمضان توفي الملك زين الدين صاحب أربل في حصار عكا مع السلطان فتأسف الناس عليه لشبابه وغربته وجودته وعزى أخاه مظفر الدين فيه وقام بالملك من بعده وسأل من صلاح الدين أن يضيف إليه شهرزور وحران والرها وسميساط وغيرها وتحمل مع ذلك خمسين ألف دينار نقدا فأجيب إلى ذلك وكتب له تقليدا وعقد له لواء وأضيف ما تركه إلى الملك المظفر تقي الدين ابن أخي السلطان صلاح الدين فصل وكان القاضي الفاضل بمصر يدير الممالك بها ويجهز إلى السلطان ما يحتاج إليه من الأموال (12/338)
وعمل الأسطول والكتب السلطانية فمنها كتاب يذكر فيه أن سبب هذا التطويل في الحصار كثرة الذنوب وارتكاب المحارم بين الناس فإن الله لا ينال ما عنده إلا بطاعته ولا يفرج الشدائد إلا بالرجوع إليه وامتثال أمره فكيف لا يطول الحصار والمعاصي في كل مكان فاشية وقد صعد إلى الله منها ما يتوقع بعده الإستعاذة منه وفيه أنه قد بلغه أن بيت المقدس قد ظهر فيه المنكرات والفواحش والظلم في بلاده ما لا يمكن تلافيه إلا بكلفة كثيرة ومنها كتاب يقول فيه إنما أتينا من قبل أنفسنا ولو صدقنا لعجل الله لنا عواقب صدقنا ولو أطعناه لما عاقبنا بعدونا ولو فعلنا ما نقدر عليه من أمره لفعل لنا ما لا نقدر عليه إلا به فلا يختصم أحد إلا نفسه وعمله ولا يرج إلا ربه ولا يغتر بكثرة العساكر والأعوان ولا فلان الذي يعتمد عليه أن يقاتل ولا فلان فكل هذه مشاغل عن الله ليس النصر بها وإنما النصر من عنده الله ولا نأمن أن يكلنا الله إليها والنصر به واللطف منه ونستغفر الله تعالى من ذنوبنا فلولا أنها تسد طريق دعائنا لكان جواب دعائنا قد نزل وفيض دموع الخاشعين قد غسل ولكن في الطريق عائق خار الله لمولانا في القضاء السابق واللاحق ومن كتاب آخر يتألم فيه لما عند السلطان من الضعف في جسمه بسبب ما حمل على قلبه مما هو فيه من الشدائد أثابه الله بقوله وما في نفس الملوك شائنة إلا بقية هذا الضعف الذي في جسم مولانا فإنه بقلوبنا ونفديه بأسماعنا وأبصارنا ثم قال ... بنا معشر الخدام ما بك من أذى ... وإن أشفقوا مما أقول فبي وحدي ...
وقد أورد الشيخ شهاب الدين صاحب الروضتين ها هنا كتبا عدة من الفاضل إلى السلطان فيها فصاحة وبلاغة ومواعظ وتحضيض على الجهاد فC من إنسان ما أفصحه ومن وزير ما كان أنصحه ومن عقل ما كان أرجحه
فصل
وكتب الفاضل كتابا على لسان السلطان إلى ملك الغرب أمير المسلمين وسلطان جيش الموحدين يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن يستنجده في إرسال مراكب في البحر تكون عونا للمسلمين على المراكب الفرنجية في عبارة طويلة فصيحة بليغة مليحة حكاها أبو شامة بطولها وبعث السلطان صلاح الدين مع الكتاب سنية من التحف والألطاف صحبة الأمير الكبير شمس الدين أبي الحزم عبد الرحمن بن منقذ وسار في البحر في ثامن ذي القعدة فدخل على سلطان المغرب في العشرين من ذي الحجة فأقام عنده إلى عاشوراء من المحرم من سنة ثمان وثمانين ولم يفد هذا الإرسال شيئا لأنه تغضب إذ لم يلقب بأمير المؤمنين وكانت إشارة الفاضل إلى عدم الإرسال إليه ولكن وقع ما وقع بمشيئة الله (12/339)
فصل
وفيها حصل للناصر صلاح الدين سوء مزاج من كثرة ما يكابده من الأمور فطمع العدو المخذول في حوزة الإسلام فتجرد جماعة منهم للقتال وثبت آخرون على الحصار فأقبلوا في عدد كثير وعدد فرتب السلطان الجيوش يمنة ويسرة وقلبا وجناحين فلما رأى العدو الجيش الكثيف فروا فقتلوا منهم خلقا كثيرا وجما غفيرا
فصل
ولما دخل فصل الشتاء وانشمرت مراكب الفرنج عن البلد خوفا من الهلاك بسبب اغتلام البحر سأل من بالبلد من المسلمين من السلطان أن يريحهم مما هم فيه من الحصر العظيم والقتال ليلا ونهارا وأن يرسل إلى البلد بدلهم فرق لهم السلطان وعزم على ذلك وكانوا قريبا من عشرين ألف مسلم ما بين أمير ومأمور فجهز جيشا آخر غيرهم ولم يكن ذلك برأي جيد ولكن ما قصد السلطان إلا خيرا وأن هؤلاء يدخلون البلد بهمم حدة شديدة ولهم عزم قوي وهم في راحة بالنسبة إلى ما أولئك ولكن أولئك الذين كانوا بالبلد وخرجوا منه كانت لهم خبرة بالبلد وبالقتال وكان لهم صبر وجلد وقد تمونوا فيها مؤنة تكفيهم سنة فانمحقت بسبب ذلك وقدم بطش من مصر فيه ميرة تكفي أهل البلد سنة كاملة فقدر الله العظيم وله الأمر من قبل ومن بعد إنها لما توسطت البحر واقتربت من المينا هاجت عليها ريح عظيمة فانقلبت تلك البطش وتغلبت على عظمها فاختبطت واضطربت وتصادمت فتكسرت وغرقت وغرق ما كان فيها من الميرة والبحارة فدخل بسبب ذلك وهن عظيم على المسلمين واشتد الأمر جدا ومرض السلطان وازداد مرضا إلى مرضه فإنا لله وإنا إليه راجعون وكان ذلك عونا للعدو والمخذول على أخذ البلد ولاقوة إلا بالله وذلك في ذي الحجة من هذه السنة وكان المقدم على الداخلين إلى عكا الأمير سيف الدين على بن أحمد بن المشطوب وفي اليوم السابع من ذي الحجة سقطت ثلمة عظيمة من سور عكا فبادر الفرنج إليها فسبقهم المسلمون إلى سدها بصدورهم وقاتلوا دونها بنحورهم وما زالوا يمانعون عنها حتى بنوها أشد مما كانت وأقوى وأحسن ووقع في هذه السنة وباء عظيم في المسلمين والكافرين فكان السلطان يقول في ذلك
... اقتلوني ومالكا ... واقتلوا مالكا معي (12/340)
واتفق موت ابن ملك الألمان لعنه الله في ثاني ذي الحجة وجماعة من كبراء الكندهرية وسادات الفرنج لعنهم الله فحزن الفرنج على ابن ملك الألمان وأوقدوا نارا عظيمة في كل خيمة وصار كل يوم يهلك من الفرنج المائة والمائتان واستأمن السلطان جماعة منهم من شدة ما هم فيه من الجوع والضيق والحصر وأسلم خلق كثير منهم وفيها قدم القاضي الفاضل من مصر على السلطان وكان قد طال شوق كل منهما إلى صاحبه فأفضى كل منهما إلى صاحبه ما كان يسره ويكتمه من الآراء التي فيها مصالح المسلمين وفيها توفي من الأعيان ملك الألمان
وقد تقدم أنه قدم في ثلاثمائة ألف مقاتل فهلكوا في الطرقات فلم يصل إلى الفرنج إلا في خمسة آلاف وقيل في ألفي مقاتل وكان قد عزم على دمار الإسلام واستنقاذ البلاد بكمالها من أيدي المسلمين انتصارا في زعمه إلى بيت المقدس فأهلكه الله بالغرق كما أهلك فرعون ثم ملك بعده ولده الأصغر فأقبل بمن بقي معه من الجيش إلى الفرنج وهم في حصار عكا ثم مات في هذه السنة فلله الحمد والمنة
محمد بن محمد بن عبد الله
أبو حامد قاضي القضاة بالموصل كمال الدين الشهرزوري الشافعي أثنى عليه العماد وأنشد له من شعره قوله
... قامت بإثبات الصفات أدلة ... قصمت ظهور أثمة التعطيل ... وطلائع التنزيه لما أقبلت ... هزمت ذوي التشبيه والتمثيل ... فالحق ما صرنا إليه جميعنا ... بأدلة الأخبار والتنزيل ... من لم يكن بالشرع مقتديا فقد ... ألقاه فرط الجهل في التضليل ... ثم دخلت سنة سبع وثمانين وخمسمائة فيها قدم ملك الفرنسيس وملك انكلترا وغيرهما من ملوك البحر الفرنج على أصحابهم الفرنج إلى عكا وتمالؤا على أخذ عكا في هذه السنة كما سيأتي تفصيله وقد استهلت هذه السنة والحصار الشديد على عكا من الجانبين وقد استكمل دخول العدو إلى البلد والملك العادل مخيم إلى جانب البحر ليتكامل دخولهم ودخول ميرتهم وفي ليلة مستهل ربيع الأول منها خرج المسلمون من عكا فهجموا على مخيم الفرنج فقتلوا منهم خلقا كثيرا وسبوا وغنموا شيئا كثيرا سبوا اثنى عشر امرأة وانكسر مركب عظيم للفرنج فغرق ما فيه منهم وأسر باقيهم وأغار صاحب حمص أسد الدين بن شيركوه على سرح الفرنج بأراضي طرابلس فاستاق منهم شيئا كثيرا من الخيول والأبقار والأغنام وظفر الترك بخلق كثير من الفرنج فقتلوهم ولم يقتل من المسلمين سوى طواش (12/341)
صغير عثر به فرسه وفي ثاني عشر ربيع الأول وصل إلى الفرنج ملك الفرنسيين في قريب من ستين بطش ملعونة مشحونة بعبدة الصليب فحين وصل إليهم وقدم عليهم لم يبق لأحد من ملوكهم معه كلام ولاحكم لعظمته عندهم وقدم معه باز عظيم أبيض وهو الأشهب هائل فطار من يده فوقع على سور عكا فأخذه أهلها وبعثوه إلى السلطان صلاح الدين فبذل الفرنجي فيه ألف دينار فلم يجبه إلى ذلك وقدم بعده كيد فرير وهو من أكابر ملوكهم أيضا ووصلت سفن ملك الإنكليز ولم يجيء ملكهم لاشتغاله بجزيرة قبرص وأخذها من يد صاحبها وتواصلت ملوك الإسلام أيضا من بلدانها في أول فصل الربيع لخدمة الملك الناصر قال العماد وقد كان للمسلمين لصوص يدخلون إلى خيام الفرنج فيسرقون حتى أنهم كانوا يسرقون الرجال فاتفق أن بعضهم أخذ صبيا رضيعا من مهده ابن ثلاثة أشهر فوجدت عليه أمه وجدا شديدا واشتكت إلى ملوكهم فقالوا لها إن سلطان المسلمين رحيم القلب وقد أذنا لك أن تذهبي إليه فتشكي أمرك إليه قال العماد فجاءت إلى السلطان فأنهت إليه حالها فرق لها رقة شديدة حتى دمعت عينه ثم أمر بإحضار ولدها فإذا هو قد بيع في السوق فرسم بدفع ثمنه إلى المشتري ولم يزل واقفا حتى جيء بالغلام فأخذته أمه وأرضعته ساعة وهي تبكي من شدة فرحها وشوقها إليه ثم أمر بحملها إلى خيمتها على فرس مكرمة رحمه الله تعالى وعفا عنه فصل في كيفية أخذ العدو عكا من يدي السلطان لما كان شهر جمادي الأولى اشتد حصار الفرنج لعنهم الله لمدينة عكا وتمالؤا عليها من كل فج عميق وقدم عليهم ملك الانكليز في جم غفير وجمع كثير في خمسة وعشرين قطعة مشحونة بالمقاتلة وابتلى أهل الثغر منهم ببلاء لا يشبه ما قبله فعند ذلك حركت الكؤسات في البلد وكانت علامة ما بينهم وبين السلطان فحرك السلطان كؤساته فاقترب من البلد وتحول إلى قريب منه ليشغلهم عن البلد وقد أحاطوا به من كل جانب ونصبوا عليه سبعة منجانيق وهى تضرب في البلد ليلا ونهارا ولا سيما على برج عين البقر حتى أثرت به أثرا بينا وشرعوا في ردم الخندق بما أمكنهم من دواب ميتة ومن قتل منهم ومن مات أيضا ردموا به وكان أهل البلد يلقون ما ألقوه فيه إلى البحر وتلقى ملك الانكليز بطشة عظيمة للمسلمين قد أقبلت من بيروت مشحونة بالأمتعة والأسلحة فأخذها وكان واقفا في البحر في أربعين مركبا لا يترك شيئا يصل إلى البلد بالكلية وكان بالبطشة ستمائة من المقاتلين الصناديد الأبطال فهلكوا عن آخرهم رحمهم الله فإنه لما أحيط (12/342)
بهم وتحققوا إما الغرق أو القتل خرقوا جوانبها كلها فغرقت ولم يقدر الفرنج على أخذ شىء منها لا من الميرة ولا من الأسلحة وحزن المسلمون على هذا المصاب حزنا عظيما فإنا لله وإنا إليه راجعون ولكن جبر الله سبحانه هذا البلاء بأن أحرق المسلمون في هذا اليوم دبابة كانت أربع طبقات الأولى من الخشب والثانية من رصاص والثالثة من حديد والرابعة من نحاس وهي مشرفة على السور والمقاتلة فيها وقد قلق أهل البلد منها بحيث حدثتهم أنفسهم من خوفهم من شرها بأن يطلبوا الأمان من الفرنج ويسلموا البلد ففرج الله عن المسلمين وأمكنهم من حريقها اتفق لهم ذلك في هذا اليوم الذي غرقت فيه البطشة المذكورة فأرسل أهل البلد يشكون إلى السلطان شدة الحصار وقوته عليهم منذ قام ملك الإنكليز لعنه الله ومع هذا قد مرض هو وجرح ملك الافرنسيين أيضا ولايزيدهم ذلك إلا شدة وغلظة وعتوا وبغيا وفارقهم الركيس وسار إلى بلده صور خوفا منهم أن يخرجوا ملكها من يده وبعث ملك الانكليز إلى السلطان صلاح الدين يذكر له أن عنده جوارح قد جاء بها من البحر وهو على نية إرسالها إليه ولكنها قد ضعفت وهو يطلب دجاجا وطيرا لتقوى به فعرف أنه إنما يطلب ذلك لنفسه يلطفها به فأرسل إليه شيئا كثيرا من ذلك كرما ثم أرسل يطلب منه فاكهة وثلجا فأرسل إليه أيضا فلم يفد معه الإحسان بل لما عوفي عاد إلى شر مما كان واشتد الحصار ليلا ونهارا فأرسل أهل البلد يقولون للسلطان إما أن تعملوا معنا شيئا غدا وإلا طلبنا من الفرنج الصلح والأمان فشق ذلك على السلطان وذلك لأنه كان قد بعث إليها أسلحة الشام والديار المصرية وسائر السواحل وما كان غنمه من وقعة حطين ومن القدس فهي مشحونة بذلك فعند ذلك عزم السلطان على الهجوم على العدو فلما أصبح ركب في جيشه فرأى الفرنج قد ركبوا من وراء خندقهم والرجالة منهم قد ضربوا سورا حول الفرسان وهم قطعة من حديد صماء لا ينفذ فيهم شيء فأحجم عنهم لما يعلم من نكول جيشه عما يريده وتحدوه عليه شجاعته رحمه الله هذا وقد اشتد الحصار على البلد ودخلت الرجالة منهم إلى الخندق وعلقوا بدنه في السور وحشوها وأحرقوها فسقطت ودخلت الفرنج إلى البلد فمانعهم المسلمون وقاتلوهم أشد القتال وقتلوا من رؤسهم ستة أنفس فاشتد حنق الفرنج على المسلمين جدا بسبب ذلك وجاء الليل فحال بين الفريقين فلما أصبح الصباح خرج أمير المسلمين بالبلد أحمد بن المشطوب فاجتمع بملك الإفرنسيين وطلب منهم الأمان على أنفسهم ويتسلمون منه البلد فلم يجبهم إلى ذلك وقال له بعد ما سقط السور جئت تطلب الأمان فأغلظ له ابن المشطوب في الكلام ورجع إلى البلد في حالة الله بها عليم فلما أخبر أهل البلد بما وقع خافوا خوفا شديدا وأرسلوا إلى السلطان يعلمونه بما وقع فأرسل (12/343)
إليهم أن يسرعوا الخروج من البلد في البحر ولا يتأخروا عن هذه الليلة ولا يبقى بها مسلم فتشاغل كثير ممن كان بها لجمع الأمتعة والأسلحة وتأخروا عن الخروج تلك الليلة فما أصبح الخبر إلا عند الفرنج من مملوكين صغيرين سمعا بما رسم به السلطان فهربا إلى قومهما فأخبروهم بذلك فاحتفظوا على البحر احتفاظا عظيما فلم يتمكن أحد من أهل البلد أن يتحرك بحركة ولا خرج منها شيء بالكلية وهذان المملوكان كانا أسيرين قد أسرهما السلطان من أولاد الفرنج وعزم السلطان على كبس العدو في هذه الليلة فلم يوافقه الجيش على ذلك وقالوا لا نخاطر بعسكر المسلمين فلما أصبح بعث إلى ملوك الفرنج يطلب منهم الأمان لأهل البلد على أن يطلق عدتهم من الأسرى الذين تحت يده من الفرنج ويزيدهم صليب الصلبوت فأبوا إلا أن يطلق لهم كل أسير تحت يده ويطلق لهم جميع البلاد الساحلية التي أخذت منهم وبيت المقدس فأبى ذلك وترددت المراسلات في ذلك والحصار يتزايد على أسوار البلد وقد تهدمت منه ثلم كثيرة وأعاد المسلمون كثيرا منها وسدوا ثغر تلك الأماكن بنحورهم رحمهم الله وصبروا صبرا عظيما وصابروا العدو ثم كان آخر الأمر وصولهم إلى درجة الشهادة وقد كتبوا إلى اللسلطان في آخر أمرهم يقولون له يامولانا لاتخضع لهؤلاء الملاعين الذين قد أبوا عليك الأجابة إلى ما دعوتهم فينا فانا قد بايعنا الله على الجهاد حتى نقتل عن آخرنا وبالله المستعان فلما كان وقت الظهر في اليوم السابع من جمادي الآخرة من هذه السنة ما شعر الناس إلا وأعلام الكفار قد ارتفعت وصلبانهم ونارهم على أسوار البلد وصاح الفرنج صيحة واحدة فعظمت عند ذلك المصيبة على المسلمين واشتد حزن الموحدين وانحصر كلام الناس في إنا لله وإنا إليه راجعون وغشي الناس بهتة عظيمة وحيرة شديدة ووقع في عسكرالسلطان الصياح والعويل ودخل المركيس لعنه الله وقد عاد إليهم من صور بهدايا فأهداها إلى الملوك فدخل في هذا اليوم عكا بأربعة أعلام الملوك فنصبها في البلد واحدا على المأذنة يوم الجمعة وآخر على القلعة وآخر على برج الداوية وآخر على برج القتال عوضا عن أعلام السلطان وتحيز المسلمون الذين بها إلى ناحية من البلد معتقلين محتاط بهم مضيق عليهم وقد أسروا النساء والأبناء وغنمت أموالهم وقيدت الأبطال وأهين الرجال والحرب سجال والحمد لله على كل حال فعند ذلك أمر السلطان الناس بالتأخر عن هذه المنزلة وثبت هو مكانه لينظر ماذا يصنعون وما عليه يعولون والفرنج في البلد مشغولون مدهوشون ثم سار السلطان لى العسكر وعنده من الهم مالا يعلمه إلا الله وجاءت الملوك الإسلامية والأمراء وكبراء الدولة يعزونه فيما وقع ويسلمونه على ذلك ثم راسل ملوك الفرنج في خلاص من بأيديهم من الأسارى فطلبوا منه عدتهم من أسراهم (12/344)
ومائة ألف دينار وصليب الصلبوت إن كان باقيا فأرسل فأحضر المال والصليب ولم يتهيأ له من الأساري إلا ستمائة أسير فطلب الفرنج منه أن يريهم الصليب من بعيد فلما رفع سجدوا له وألقوا أنفسهم إلى الأرض وبعثوا يطلبون منه ما أحضره من المال والأسارى فامتنع إلا أن يرسلوا إليه الأساري أو يبعثوا له برهائن على ذلك فقالوا لا ولكن أرسل لنا ذلك وارض بأمانتنا فعرف أنهم يريدون الغدر والمكر فلم يرسل إليهم شيئا من ذلك وأمر برد الأساري إلى أهليهم بدمشق ورد الصليب إلى دمشق مهانا وأبرزت الفرنج خيامهم إلى ظاهر البلد وأحضروا ثلاثة آلاف من المسلمين فأوقفوهم بعد العصر وحملوا عليهم حملة رجل واحد فقتلوهم عن آخرهم في صعيد واحد رحمهم الله وأكرم مثواهم ولم يستبقوا بأيديهم من المسلمين إلا أميرا أو صبيا أو من يرونه في عملهم قويا أو امرأة وجرى الذي كان وقضى الأمر الذي فيه تستفتيان وكان مدة إقامة صلاح الدين على عكا صابرا مصابرا مرابطا سبعة وثلاثين شهرا وجملة من قتل من الفرنج خمسين ألفا فصل فيما حدث بعد أخذ الفرنج عكا ساروا برمتهم قاصدين عسقلان والسلطان بجيشه يسايرهم ويعارضهم منزلة منزلة والمسلمون يتخطفونهم ويسلبونهم في كل مكان وكل أسير أتى به إلى السلطان يأمر بقتله في مكانه وجرت خطوب بين الجيشين ووقعات متعددات ثم طلب ملك الانكليز أن يجتمع بالملك العادل أخى السلطان يطلب منه الصلح والأمان على أن يعاد لأهلها بلاد السواحل فقال له العادل إن دون ذلك قتل كل فارس منكم وراجل فغضب اللعين ونهض من عنده غضبان ثم اجتمعت الفرنج على حرب السلطان عند غابة أرسوف فكانت النصرة للمسلمين فقتل من الفرنج عند غابة أرسوف ألوف بعد ألوف وقتل من المسلمين خلق كثير أيضا وقد كان الجيش فرعن السلطان في أول الواقعة ولم يبق معه سوى سبعة عشر مقاتلا وهو ثابت صابر والكؤسات لاتفتر والأعلام منشورة ثم تراجع الناس فكانت النصرة للمسلمين ثم تقدم السلطان بعساكره فنزل ظاهر عسقلان فأشار ذوو الرأى على السلطان بتخريب عسقلان خشية أن يتملكها الكفار ويجعلونها وسيلة إلى أخذ بيت المقدس أو يجري عندها من الحرب والقتال نظير ما كان عند عكا أوشد فبات السلطان ليلته مفكرا في ذلك فلما أصبح وقد أوقع الله في قلبه أن خرابها هو المصلحة فذكر ذلك لمن حضره وقال لهم والله لموت جميع أولادي أهون على من تخريب حجر واحد منها (12/345)
ولكن إذا كان خرابها فيه مصلحة للمسلمين فلا بأس به ثم طلب الولاة وأمرهم بتخريب البلد سريعا قبل وصول العدو إليها فشرع الناس في خرابه وأهله ومن حضره يتباكون على حسنه وطيب مقيله وكثرة زروعه وثماره ونضارة أنهاره وأزهاره وكثرة رخامه وحسن بنائه وألقيت النار في سقوفه وأتلف ما فيه من الغلات التي لايمكن تحويلها ولا نقلها ولم يزل الخراب والحريق فيه من جمادى الآخرة إلى سلخ شعبان من هذه السنة ثم رحل السلطان منها في ثاني رمضان وقد تركها قاعا صفصفا ليس فيها معلمة لأحد ثم اجتاز بالرملة فخرب حصنها وخرب كنيسة لد وزار بيت المقدس وعاد إلى المخيم سريعا وبعث ملك الإنكليز إلى السلطان إن الأمر قد طال وهلك الفرنج والمسلمون وإنما مقصودنا ثلاثة أشياء لا سواها رد الصليب وبلاد الساحل وبيت المقدس لانرجع عن هذه الثلاثة ومنا عين تطرف فأرسل إليه السلطان أشد جواب وأسد مقال فعزمت الفرنج على قصد بيت المقدس فتقدم السلطان بجيشه إلى القدس وسكن في دار القساقس قريبا من قمامة في ذي القعدة وشرع في تحصين البلد وتعميق خنادقه وعمل فيه بنفسه وأولاده وعمل فيه الأمراء والقضاة والعلماء والصالحون وكان وقتا مشهودا واليزك حول البلد من ناحية الفرنج وفي كل وقت يستظهرون على الفرنج ويقتلون ويأسرون ويغنمون ولله الحمد والمنة وانقضت هذه السنة والأمر على ذلك وفيها على ما ذكره العماد تولى القضاء محي الدين محمد بن الزكي بدمشق وفيها عدى أمير مكة داود بن عيسى بن فليتة بن هاشم بن محمد بن أبي هاشم الحسني فأخذ أموال الكعبة حتى انتزع طوقا من فضة كان على دائرة الحجر الأسود كان قد لم شعثه حين ضربه ذلك القرمطي بالدبوس فلما بلغ السلطان خبره من الحجيج عزله وولى أخاه بكيرا ونقض القلعة التي كان بناها أخوه على أبي قبيس وأقام داود بنخله حتى توفي بها سنة سبع وثمانين وفيها توفي من الأعيان الملك المظفر الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب وكان عزيزا على عمه صلاح الدين استنابه بمصر وغيرها من البلاد ثم أقطعه حماه ومدنا كثيرة حولها في بلاد الجزيرة وكان مع عمه السلطان على عكا ثم استأذنه أن يذهب ليشرف على بلاده المجاورة للجزيرة والفرات فلما صار إليها اشتغل بها وامتدت عينه إلى أخذ غيرها من أيدي الملوك المجاورين له فقاتلهم فاتفق موته وهو كذلك والسلطان عمه غضبان عليه بسبب اشتغاله بذلك عنه وحملت جنازته حتى دفنت بحماه وله مدرسة هناك هائلة كبيرة وكذلك له بدمشق مدرسة مشهورة وعليها أوقاف كثيرة وقد أقام بالملك بعده ولده المنصور ناصر الدين محمد فأقره صلاح الدين على ذلك بعد جهد جهيد ووعد ووعيد ولولا (12/346)
السلطان العادل أخو صلاح الدين تشفع فيه لما أقره في مكان أبيه ولكن سلم الله توفي يوم الجمعة تاسع عشر رمضان من هذه السنة وكان شجاعا فاتكا الأمير حسام الدين محمد بن عمر بن لاشين
أمه ست الشام بنت أيوب واقفة الشاميتين بدمشق توفي ليلة الجمعة تاسع عشر رمضان أيضا ففجع السلطان بابن أخيه وابن أخته في ليلة واحدة وقد كانا من أكبر أعوانه ودفن بالتربة الحسامية وهي التي أنشأتها أمه بمحله العونية وهي الشامية البرانية
الأمير علم الدين سليمان بن حيدر الحلبي
كان من أكابر الدولة الصلاحية وفي خدمة السلطان حيث كان وهو الذى أشار على السلطان بتخريب عسقلان واتفق مرضه بالقدس فاستأذن في أن يمرض بدمشق فأذن له فسار منها فلما وصل إلى غباغب مات بها في أواخر ذي الحجة وفي رجب منها توفي الأمير الكبير نائب دمشق
الصفي بن الفائض
وكان من أكبر أصحاب السلطان قبل الملك ثم استنابه على دمشق حتى توفي بها في هذه السنة وفي ربيع الأول توفي
الطبيب الماهر أسعد بن المطران
وقد شرف بالإسلام وشكره على طبه الخاص والعام
الجيوشاتي الشيخ نجم الدين
الذي بنى تربة الشافعي بمصر بأمر السلطان صلاح الدين ووقف عليها أوقافا سنية وولاه تدريسها ونظرها وقد كان السلطان يحترمه ويكرمه وقد ذكرته في طبقات الشافعية وما صنفه في المذهب من شرح الوسيط وغيره ولما توفي الجيوشاتي طلب التدريس جماعة فشفع الملك العادل عند أخيه في شيخ الشيوخ أبي الحسن محمد بن حمويه فولاه إياه ثم عزله عنها بعد موت السلطان واستمرت عليه أيدي بنى السلطان واحدا بعد واحد ثم عادت إليها الفقهاء والمدرسون بعد ذلك
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وخمسمائة استهلت والسلطان صلاح الدين مخيم بالقدس وقد قسم السور بين أولاده وأمرائه وهو يعمل فيه بنفسه ويحمل الحجر بين القربوسيين وبينه والناس يقتدون يهم والفقهاء والقراء يعملون والفرنج لعنهم الله حول البلد من ناحية عسقلان وما والاها لايتجاسرون أن يقربوا البلد من الحرس واليزك الذين حول القدس إلا أنهم على نية محاصرة القدس مصممون ولكيد الإسلام مجمعون وهم والحرس تارة يغلبون وتارة يغلبون وتارة ينهبون وتارة ينهبون وفي ربيع الآخر (12/347)
وصل إلى السلطان الأمير سيف الدين المشطوب من الأسر وكان نائبا على عكا حين أخذت فافتدى نفسه منهم بخمسين ألف دينار فأعطاه السلطان شيئا كثيرا منها واستنابه على مدينة نابلس فتوفى بها في شوال من هذه السنة وفي ربيع الآخر قتل المركيس صاحب صور لعنه الله أرسل إليه ملك الانكليز اثنين من الفداوية فقتلوه أظهرا التنصر ولزما الكنيسة حتى ظفرا به فقتلاه وقتلا أيضا فاستناب ملك الإنكليز عليها ابن أخيه بلام الكندهر وهو ابن أخت ملك الافرنسيين لأبيه فهما خالاه ولما صار إلى صور بنى بزوجه المركيس بعد موته بليلة واحدة وهي حبلي أيضا وذلك لشدة العداوة التي كانت بين الانكليز وبينه وقد كان السلطان صلاح الدين يبغضهما ولكن المركيس كان قد صانعه بعض شيء فلم يهن عليه قتله وفي تاسع جمادى الأولى استولى الفرنج لعنهم الله على قلعة الداروم فخربوها وقتلوا خلقا كثيرا من أهلها وأسروا طائفة من الذرية فإنا لله وإنا إليه راجعون ثم أقبلوا جملة نحو القدس فبرز إليهم السلطان في حزب الإيمان فلما تراأي الجمعان نكص حزب الشيطان راجعين فرارا من القتال والنزال وعاد السلطان إلى القدس وقد رد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا ثم إن ملك الانكليز لعنه الله وهو أكبر ملوك الفرنج ذلك الحين ظفر ببعض فلول المسلمين فكبسهم ليلا فقتل منهم خلقا كثيرا وأسر منهم خمسمائة أسير وغنم منهم شيئا كثيرا من الأموال والجمال والخيل والبغال وكان جملة الجمال ثلاثة آلاف بعير فتقوى الفرنج بذلك وساء ذلك السلطان مساءة عظيمة جدا وخاف من غائلة ذلك واستخدم الانكليز الجمالة على الجمال والخر بندية على البغال والسياس على الخيل وأقبل وقد قويت نفسه جدا وصمم على محاصرة القدس وأرسل إلى ملوك الفرنج الذين بالساحل فاستحضرهم ومن معهم من المقاتلة فتعبأ السلطان لهم وتهيأ وأكمل السور وعمر الخنادق ونصب المنجانيق وأمر بتغوير ما حول القدس من المياه وأحضر السلطان أمراءه ليلة الجمعة تاسع عشر جمادي الآخرة أبا الهيجاء المبسمين والمشطوب والأسدية فاستشارهم فيما قد دهمه من هذا الأمر الفظيع الموجع المؤلم فأفاضوا في ذلك وأشاروا كل برأيه وأشار العماد الكاتب بأن يتحالفوا على الموت عند الصخرة كما كان الصحابة يفعلون فأجابوا إلى ذلك هذا كله والسلطان ساكت واجم مفكر فسكت القوم كأنما على رؤسهم الطير ثم قال الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله اعلموا أنكم جند الإسلام اليوم ومنعته وأنتم تعلمون أن دماء المسلمين وأموالهم وذراريهم في ذممكم معلقة والله عز و جل سائلكم يوم القيامة عنهم وأن هذا العدو ليس له من المسلمين من يلقاه عن العباد والبلاد غيركم (12/348)
فإن وليتم والعياذ بالله طوى البلاد وأهلك العباد وأخذ الأموال والأطفال والنساء وعبد الصليب في المساجد وعزل القرآن منها والصلاة وكان ذلك كله في ذممكم فإنكم أنتم الذين تصديتم لهذا كله وأكلتم بيت مال المسلمين لتدفعوا عنهم عدوهم وتنصروا ضعيفهم فالمسلمون في سائر البلاد متعلقون بكم والسلام فانتدب لجوابه سيف الدين المشطوب وقال يا مولانا نحن مماليكك وعبيدك وأنت الذي أعطيتنا وكبرتنا وعظمتنا وليس لنا إلا رقابنا ونحن بين يديك والله مايرجع أحد منا عن نصرك حتى يموت فقال الجماعة مثل ما قال ففرح السلطان بذلك وطاب قلبه ومد لهم سماطا حافلا وانصرفوا من بين يديه على ذلك ثم بلغه بعد ذلك أن بعض الأمراء قال إنا نخاف أن يجري علينا في هذا البلد مثل ما جرى على أهل عكا ثم يأخذون بلاد الإسلام بلدا بلدا والمصلحة أن نلتقيهم بظاهر البلد فإن هزمناهم أخذنا بقية بلادهم وإن تكن الأخرىسلم العسكر ومضى بحاله ويأخذون القدس وتحفظ بقية بلاد الإسلام بدون القدس مدة طويلة وبعثوا إلى السلطان يقولون له إن كنت تريدنا نقيم بالقدس تحت حصار الفرنج فكن أنت معنا أو بعض أهلك حتى يكون الجيش تحت أمرك فإن الأكراد لاتطيع الترك والترك لاتطيع الأكراد فلما بلغه ذلك شق عليه مشقة عظيمة وبات ليلته أجمع مهموما كئيبا يفكر فيما قالوا ثم انجلى الأمر واتفق الحال على أن يكون الملك الأمجد صاحب بعلبك مقيما عندهم نائبا عنه بالقدس وكان ذلك نهار الجمعة فلما حضر إلى صلاة الجمعة وأذن المؤذن للظهر قام فصلى ركعتين بين الأذانين وسجد وابتهل إلى الله تعالى ابتهالا عظيما وتضرع إلى ربه وتمسكن وسأله فيما بينه وبينه كشف هذه الضائقة العظيمة فلما كان يوم السبت من الغد جاءت الكتب من الحرس الذين حول البلد بأن الفرنج قد اختلفوا فيما بينهم فقال ملك الافرنسيين إنا إنما جئنا من البلاد البعيدة وأنفقنا الأموال العديدة في تخليص بيت المقدس ورده إلينا وقد بقى بيننا وبينه مرحلة فقال الانكليز إن هذا البلد شق علينا حصاره لأن المياه حوله قد عدمت وإلى أن يأتينا الماء من المشقة البعيدة يعطل الحصار ويتلف الجيش ثم اتفق الحال بينهم على أن حكموا منهم عليهم ثلاثمائة منهم فردوا أمرهم إلى اثنى عشر منهم فردوا أمرهم إلى ثلاثة منهم فباتوا ليلتهم ينظرون ثم أصبحوا وقد حكموا عليهم بالرحيل فلم يمكنهم مخالفتهم فسحبوا راجعين لعنهم الله أجمعين فساروا حتى نزلوا على الرملة وقد طالت عليهم الغربة والزملة وذلك في بكرة الحادي والعشرين من جمادى الآخرة وبرز السلطان بجيشه إلى خارج القدس وسار نحوهم خوفا أن يسيروا إلى مصر لكثرة ما معهم من الظهر والأموال وكان الانكليز يلهج بذلك كثيرا فخذلهم الله عن ذلك وترددت الرسل من الانكليز إلى السلطان (12/349)
في طلب الأمان ووضع الحرب بينه وبينهم ثلاث سنين وعلى أن يعيد لهم عسقلان ويهب لهم كنيسة بيت المقدس وهى القمامة وأن يمكن النصارى من زيارتها وحجها بلاشيء فامتنع السلطان من إعادة عسقلان وأطلق لهم قمامة وفرض على الزوار مالا يؤخذ من كل منهم فامتنع الانكليز إلا أن تعادلهم عسقلان ويعمر سورها كما كانت فصمم السلطان على عدم الإجابة ثم ركب السلطان حتى وافى يافا فحاصرها حصارا شديدا فافتتحها وأخذوا الأمان لكبيرها وصغيرها فبينما هم كذلك إذ أشرقت عليهم مراكب الانكليز على وجه البحر فقويت رؤسهم واستعصت نفوسهم فهجم اللعين فاستعاد البلد وقتل من تأخر بها من المسلمين صبرا بين يديه وتقهقر السلطان عن منزلة الحصار إلى ما وراءها خوفا على الجيش من معرة الفرنج فجعل ملك الانكليز يتعجب من شدة سطوة السلطان وكيف فتح مثل هذا البلد العظيم في يومين وغيره لايمكنه فتحه في عامين ولكن ماظننت أنه مع شهامته وصرامته يتأخر من منزلته بمجرد قدومي وأنا ومن معي لم نخرج من البحر إلا جرائد بلا سلاح ثم ألح في طلب الصلح وان تكون عسقلان داخلة في صلحهم فامتنع السلطان ثم إن السلطان كبس في تلك الليالي الإنكليز وهو في سبعة عشر مقاتلا وحوله قليل من الرجالة فأكب بجيشه حوله وحصره حصرا لم يبق معه نجاة لوصمم معه الجيش ولكنهم نكلوا كلهم عن الحملة فلا قوة إلا بالله وجعل السلطان يحرضهم غاية التحريض فكلهم يمتنع كما يمتنع المريض من شرب الدواء وهذا وملك الانكليز قد ركب في أصحابه وأخذ عدة قتاله وأهبة نزاله واستعرض الميمنة إلى آخر الميسرة يعني ميمنة المسلمين وميسرتهم فلم يتقدم إليه أحد الفرسان ولا نهره بطل من الشجعان فعند ذلك كر السلطان راجعا وقد أحزنه أنه لم ير من الجيش مطيعا فأنا لله وإنا إليه راجعون ولو أن له بهم قوة لما ترك أحدا منهم يتناول من بيت المال فلسا ثم حصل لملك الانكليز بعد ذلك مرض شديد فبعث إلى السلطان يطلب فاكهة وثلجا فأمده بذلك من باب الكرم ثم عوفي لعنه الله وتكررت الرسل منه يطلب من السلطان المصالحة لكثرة شوقه إلى أولاده وبلاده وطاوع السلطان على ما يقول وترك طلب عسقلان ورضى بما رسم به السلطان وكتب كتاب الصلح بينهما في سابع عشر شعبان وأكدت العهود والمواثيق من كل ملك من ملوكهم وحلف الأمراء من المسلمين وكتبوا خطوطهم واكتفى من السلطان بالقول المجرد كما جرت به عادة السلاطين وفرح كل من الفريقين فرحا شديدا وأظهروا سرورا كثيرا ووقعت الهدنة على وضع الحرب ثلاثين سنة وستة أشهر وعلى أن يقرهم على ما بأيديهم من البلاد الساحلية وللمسلمين ما يقابلها من البلاد الجبلية وما بينهما من المعاملات تقسم على المناصفة وأرسل السلطان مائة نقاب صحبة (12/350)
أمير لتخريب سور عسقلان وإخراج من بها من الفرنج وعاد السلطان إلى القدس فرتب أحواله ووطدها وسدد أموره وأكدها وزاد وقف المدرسة سوقا بدكاكينها وأرضا ببساتينها وزاد وقف الصوفية وعزم على الحج عامه ذلك فكتب إلى الحجاز واليمن ومصر والشام ليعلموا بذلك ويتأهبوا له فكتب إليه القاضي الفاضل ينهاه عن ذلك خوفا على البلاد من إستيلاء الفرنج عليها ومن كثرة المظالم بها وفساد الناس والعسكر وقلة نصحهم وأن النظر في أحوال المسلمين خير لك في عامك هذا والعدو مخيم بعد بالشام وأنت تعلم أنهم يهادنون ليتقووا ويكثروا ثم يمكروا ويغدروا فسمع السلطان منه وشكر نصحه وترك ما عزم عليه وكتب به إلى سائر الممالك واستمرة مقيما بالقدس جميع شهر رمضان في صيام وصلاة وقرآن وكلما وفد أحد من رؤساء الفرنج للزيارة فعل معه غاية الإكرام تأليفا لقلوبهم ولم يبق أحد من ملوكهم إلا جاء لزيارة القمامة متنكرا ويحضر سماط السلطان فيمن حضر من جمهورهم بحيث لايرى والسلطان لايعلم ذلك جملة ولاتفصيلا ولهذا كان يعاملهم بالإكرام ويريهم صفحا جميلا وبرا جزيلا فلما كان في خامس شوال ركب السلطان في العساكر فبرز من القدس قاصدا دمشق واستناب على القدس عز الدين جوردبك وعلى قضائها بهاء الدين بن يوسف بن رافع بن تميم الشافعي فاجتاز على وادي الجيب وبات على بركة الداوية ثم أصبح في نابلس فنظر في أحوالها ثم ترحل عنها فجعل يمر بالقلاع والحصون والبلدان فينظر في أحوالها ويكشف المظالم عنها وفي أثناء الطريق جاء إلى خدمته بيمند صاحب إنطاكية فأكرمه وأحسن إليه وأطلق له أموالا جزيلة وخلعا وكان العماد الكاتب في صحبته فأخبر عن منازله منزلة منزلة إلى أن قال وعبر يوم الإثنين عين الحر إلى مرج بيوس وقد زال البوس وهناك وفد عليه أعيان دمشق وأماثلها ونزل يوم الثلاثاء على العرادة وجاءه هناك التحف والمتلقون على العادة وأصبحنا يوم الأربعاء سادس عشر شوال بكرة بجنة دمشق داخلين بسلام آمنين وكانت غيبة السلطان عنها أربع سنين فأخرجت دمشق أثقالها وأبرزت نساءها وأطفالها ورجالها وكان يوم الزينة وخرج أكثر أهل المدينة واجتمع أولاده الكبار والصغار وقدم عليه رسل الملوك من سائر الأمصار وأقام بقية عامه في اقتناص الصيد وحضور دار العدل والعمل بالإحسان والفضل ولما كان عيد الأضحى امتدحه بعض الشعراء بقصيدة يقول فيها ... وأبيها لولا تغزل عينها ... لما قلة في التغزل شعرا ... ولكانت مدائح الملك النا ... صرو إلى مافيه أعمل فكرا ... ملك طبق المالك بالعد ... ل مثلما أوسع البرية برا (12/351)
فيحل الأعياد صوما وفطرا ... ويلقى الهنا برا وبحرا ... يأمر بالطاعات لله إن ... أضحى مليك على المناهي مصرا ... نلت ماتسعى من الدين والدنيا ... فتيها على الملوك وفخرا ... قد جمعت المجدين أصلا وفرعا ... وملكت الدارين دنيا وأخرى ...
ومما وقع في هذه السنة من الحوادث غزوة عظيمة بين صاحب غزنة شهاب الدين ملكها السبكتكيني وبين ملك الهند وأصحابه الذين كانوا قد كسروه في سنة ثلاث وثمانين فأظفره الله بهم هذه السنة فكسرهم وقتل خلقا منهم وأسر خلقا وكان من جملة من أسره ملكهم الأعظم وثمانية عشر فيلا من جملتها الذي كان جرحه ثم أحضر الملك بين يديه فأهانه ولم يكرمه واستحوذ على حصنه وأخبر بما فيه من كل جليل وحقير ثم قتله بعد ذلك وعاد إلى غزنة مؤيدا منصورا مسرورا محبورا وفيها أتهم أمير الحج ببغداد وهو طاشتكين وقد كان على إمرة الحج من مدة عشرين سنة وكان في غاية حسن السيرة واتهم بأنه يكاتب صلاح الدين بن أيوب في أخذ بغداد فإنه ليس بينه وبينها أحد يمانعه عنها وقد كان مكذوبا عليه ومع هذا أهين وحبس وصودر
فصل
وممن توفي فيها من الأعيان القاضي شمس الدين
محمد بن محمد بن موسى
المعروف بابن الفراش كان قاضي العساكر بدمشق ويرسله السلطان إلى ملوك الآفاق ومات بملطية
سيف الدين علي بن أحمد المشطوب
كان من أصحاب أسد الدين شيركوه حضر معه الوقعات الثلاث بمصر ثم صار من كبراء أمراء صلاح الدين وهو الذي كان نائبا على عكا لما أخذوها الفرنج فأسروه في في جملة من أسروا فافتدى نفسه بخمسين ألف دينار وجاء إلى السلطان وهو بالقدس فأعطاه أكثرها وولاه نابلس توفي يوم الأحد ثالث وعشرين شوال بالقدس ودفن في داره
صاحب بلاد الروم عز الدين قلج أرسلان بن مسعود
ابن قلج أرسلان وكان قد قسم جميع بلاده بين أولاده طمعا في طاعتهم له فخالفوه وتجبروا وعتوا عليه وخفضوا قدره وارتفعوا ولم يزل كذلك حتى توفي في عامه هذا وفي ربيع الآخر توفي الشاعر أبو المرهف (12/352)
نصر بن منصور النميري
سمع الحديث واشتغل بالأدب أصابه جدري وهو ابن أربعة عشرة سنة فنقص بصره جدا وكان لايبصر الأشياء البعيدة ويرى القريب منه ولكن كان لايحتاج إلى قائد فارتحل إلى العراق لمداواة عينيه فآيسته الأطباء من ذلك فاشتغل بحفظ القرآن ومصاحبة الصالحين فأفلح وله ديوان شعر كبير حسن وقد سئل مرة عن مذهبه واعتقاده فأنشأ يقول
... أحب علينا والبتول وولدها ... ولا أجحد الشيخين فضل التقدم ... وأبرأ ممن نال عثمان بالأذى ... كما أتبرا من ولاء ابن ملجم ... ويعجبني أهل الحديث لصدقهم ... فلست إلى قوم سواهم بمنتمي ... توفي ببغداد ودفن بمقابر الشهداء بباب حرب رحمه الله تعالى بحمد الله تعالى قد تم طبع الجزء الثاني عشر من البداية والنهاية للعلامة ابن كثير ويليه الجزء الثالث عشر وأوله سنة تسع وثمانين وخمسمائة هجرية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التحية (12/353)
البداية والنهاية
الجزء الثالث عشر (13/353)
بسم الله الرحمن الرحيم
ثم دخلت سنة تسع وثمانين وخمسمائة
فيها كانت وفاة السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن ايوب رحمه الله تعالى
استهلت هذه السنة وهو في غاية الصحة والسلامة وخرج هو وأخوه العادل إلى الصيد شرقي دمشق وقد اتفق الحال بينه وبين أخيه أنه بعد ما يفرغ من أمر الفرنج يسير هو إلى بلاد الروم ويبعث أخاه إلى بغداد فإذا فرغا من شأنهما سارا جميعا إلى بلاد آذربيجان بلاد العجم فإنه ليس دونها أحد يمانع عنها فلما قدم الحجيج في يوم الاثنين حادى عشر صفر خرج السلطان لتلقيهم وكان معه ابن أخيه سيف الاسلام صاحب اليمن فأكرمه والتزمه وعاد إلى القلعة فدخلها من باب الجديد فكان ذلك آخر ما ركب في هذه الدنيا ثم إنه اعتراه حمى صفراوية ليلة السبت سادس عشر صفر فلما اصبح دخل عليه القاضي الفاضل وابن شداد وابنه الأفضل فأخذ يشكو إليهم كثرة قلقه البارحة وطاب له الحديث وطال مجلسهم عنده ثم تزايد به المرض واستمر وقصده الأطباء في اليوم الرابع ثم اعتراه يبس وحصل له عرق شديد بحيث نفذ إلى الأرض ثم قوى اليبس فأحضر الأمراء الأكابر فبويع لولده الأفضل نور الدين علي وكان نائبا على دمشق وذلك عندما ظهرت مخايل الضعف الشديد وغيبوبة الذهن في بعض الاوقات وكان الذين يدخلون عليه في هذه الحال الفاضل وابن شداد وقاضي البلد ابن الزكي ثم اشتد به الحال ليلة الاربعاء السابع والعشرين من صفر واستدعى الشيخ أبا جعفر إمام الكلاسة ليبيت عنده يقرأ (13/2)
القرآن ويلقنه الشهادة إذا جد به الأمر فذكر أنه كان يقرأ عنده وهو في الغمرات فقرأ هو الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة فقال وهو كذلك صحيح فلما أذن الصبح جاء القاضي الفاضل فدخل عليه وهو في آخر رمق فلما قرأ القارئ لا إله إلا هو عليه توكلت تبسم وتهلل وجهه وأسلم روحه إلى ربه سبحانه ومات رحمه الله وأكرم مثواه وجعل جنات الفردوس مأواه وكان له من العمر سبع وخمسون سنة لأنه ولد بتكريت في شهور سنة ثنتين وثلاثين وخمسمائة رحمه الله فقد كان ردءا للاسلام وحرزا وكهفا من كيد الكفرة اللئام وذلك بتوفيق الله له وكان أهل دمشق لم يصابوا بمثل مصابه وود كل منهم لو فداه بأولاده واحبابه وأصحابه وقد غلقت الاسواق واحتفظ على الحواصل ثم اخذوا في تجهيزه وحضر جميع أولاده وأهله وكان الذي تولى غسله خطيب البلد الفقيه الدولعي وكان الذي أحضر الكفن ومؤنة التجهيز القاضي الفاضل من صلب ماله الحلال هذا واولاده الكبار والصغار يتباكون وينادون وأخذ الناس في العويل والانتحاب والدعاء له والابتهال ثم أبرز جسمه في نعشه في تابوت بعد صلاة الظهر وأم الناس عليه القاضي ابن الزكي ثم دفن في داره بالقلعة المنصورة ثم شرع ابنه في بناء تربة له ومدرسة للشافعية بالقرب من مسجد القدم لوصيته بذلك قديما فلم يكمل بناؤها وذلك حين قدم ولده العزيز وكان محاصرا لأخيه الأفضل كما سيأتي بيانه في سنة تسعين وخمسمائة ثم اشترى له الأفضل دارا شمالي الكلاسة في وزان مازاده القاضي الفاضل في الكلاسة فجعلها تربة هطلت سحائب الرحمة عليها ووصلت ألطاف الرأفة إليها وكان نقله إليها في يوم عاشوراء سنة اثنتين وتسعين وصلى عليه تحت النسر قاضي القضاة محمد بن علي القرايبي ابن الزكي عن إذن الأفضل ودخل في لحده ولده الأفضل فدفنه بنفسه وهو يومئذ سلطان الشام ويقال إنه دفن معه سيفه الذي كان يحضر به الجهاد وذلك عن أمر القاضي الفاضل وتفاءلوا بأنه يكون معه يوم القيامة يتوكأ عليه حتى يدخل الجنة إن شاء الله ثم عمل عزاؤه بالجامع الأموي ثلاثة أيام يحضره الخاص والعام والرعية والحكام وقد عمل الشعراء فيه مراثي كثيرة من أحسنها ما عمله العماد الكاتب في آخر كتابه البرق السامي وهي مائتا بيت واثنان وقد سردها الشيخ شهاب الدين أبو شامة في الروضتين منها قوله ... شمل الهدى والملك عم شتاته ... والدهر ساء وأقلعت حسناته ... أين الذي مذ لم يزل مخشية ... مرجوة رهباته وهباته ... أين الذي كانت له طاعاتنا ... مبذولة ولربه طاعاته ... بالله أين الناصر الملك الذي ... لله خالصة صفت نياته ... أين الذي ما زال سلطانا لنا ... يرجى نداه وتتقى سطواته (13/3)
أين الذي شرف الزمان بفضله ... وسمت على الفضلاء تشريفاته ... أين الذي عنت الفرنج لبأسه ... ذلا ومنها أدركت ثاراته ... اغلال اعناق العدا أسيافه ... اطواق اجياد الورى مناته ... وله ... من للعلى من للذرى من للهدى ... يحميه من للبأس من للنائل ... طلب البقاء لملكه في آجل ... إذ لم يثق ببقاء ملك عاجل ... بحر أعاد البر بحرا بره ... وبسيفه فتحت بلاد الساحل ... من كان أهل الحق في أيامه ... وبعزه يردون أهل الباطل ... وفتوحه والقدس من أبكارها ... أبقت له فضلا بغير مساجل ... ماكنت استسقى لقبرك وابلا ... ورأيت جودك مخجلا للوابل ... فسقاك رضوان الاله لأنني ... لا أرتضى سقيا الغمام الهاطل ... تركته وشيء من ترجمته
قال العماد وغيره لم يترك في خزانته من الذهب سوى جرم واحد أي دينار واحد صوريا وستة وثلاثين درهما وقال غيره سبعة وأربعين درهما ولم يترك دارا ولا عقارا ولا مزرعة ولا بستانا ولا شيئا من أنواع الأملاك هذا وله من الاولاد سبعة عشر ذكرا وابنة واحدة وتوفي له في حياته غيرهم والذين تأخروا بعده ستة عشر ذكرا أكبرهم الملك الأفضل نور الدين علي ولد بمصر سنة خمس وستين ليلة عيد الفطر ثم العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان ولد بمصر أيضا في جمادي الاولى سنة سبع وستين ثم الظافر مظفر الدين أبو العباس الخضر ولد بمصر في شعبان سنة ثمان وستين وهو شقيق الأفضل ثم الظاهر غياث الدين أبو منصور غازي ولد بمصر في نصف رمضان سنة ثمان وستين ثم العزيز فتح الدين أبو يعقوب إسحاق ولد بدمشق في ربيع الأول سنة سبعين ثم نجم الدين أبو الفتح مسعود ولد بدمشق سنة احدى وسبعين وهو شقيق العزيز ثم الأغر شرف الدين أبو يوسف يعقوب ولد بمصر سنة ثنتين وسبعين وهو شقيق العزيز أيضا ثم الزاهر مجير الدين أبو سليمان داود ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين وهو شقيق الظاهر ثم أبو الفضل قطب الدين موسى وهو شقيق الأفضل ولد بمصر سنة ثلاث وسبعين أيضا ثم لقب بالمظفر أيضا ثم الأشرف معز الدين أبو عبد الله محمد ولد بالشام سنة خمس وسبعين ثم المحسن ظهير الدين أبو العباس أحمد ولد بمصر سنة سبع وسبعين وهو شقيق الذي قبله ثم المعظم فخر الدين أبو منصور توران شاه ولد بمصر في ربيع الاول سنة سبع وسبعين وتأخرت وفاته إلى سنة ثمان وخمسين وستمائة ثم الجوال ركن الدين أبو سعيد أيوب ولد سنة ثمان وسبعين وهو شقيق للمعز ثم الغالب نصير (13/4)
الدين أبو الفتح ملك شاه ولد في رجب سنة ثمان وسبعين وهو شقيق المعظم ثم المنصور أبو بكر أخو المعظم لأبويه ولد بحران بعد وفاة السلطان ثم عماد الدين شادي لأم ولد ونصير الدين مروان لأم ولد أيضا وأما البنت فهي مؤنسة خاون تزوجها ابن عمها الملك الكامل محمد بن العادل أبي بكر ابن أيوب رحمهم الله تعالى
وإنما لم يخلف أموالا ولا أملاكا لجوده وكرمه وإحسانه إلى أمرائه وغيرهم حتى إلى أعدائه وقد تقدم من ذلك ما يكفي وقد كان متقللا في ملبسه ومأكله ومركبه وكان لا يلبس إلا القطن والكتان والصوف ولا يعرف أنه تخطى إلى مكروه ولا سيما بعد أن أنعم الله عليه بالملك بل كان همه الأكبر ومقصده الأعظم نصره الاسلام وكسر أعدائه اللئام وكان يعمل رأيه في ذلك وحده ومع من يثق به ليلا ونهارا وهذا مع ما لديه من الفضائل والفواضل والفوائد الفرائد في اللغة والادب وايام الناس حتى قيل إنه كان يحفظ الحماسة بتمامها وكان مواظبا على الصلوات في أوقاتها في الجماعة يقال إنه لم تفته الجماعة في صلاة قبل وفاته بدهر طويل حتى ولا في مرض موته كان يدخل الامام فيصلي به فكان يتجشم القيام مع ضعفه وكان يفهم ما يقال بين يديه من البحث والمناظرة ويشارك في ذلك مشاركة قريبة حسنة وإن لم يكن بالعبارة المصطلح عليها وكان قد جمع له القطب النيسابوري عقيدة فكان يحفظها ويحفظها من عقل من اولاده وكان يحب سماع القرآن والحديث والعلم ويواظب على سماع الحديث حتى أنه يسمع في بعض مصافه جزء وهو بين الصفين فكان يتبحبح بذلك ويقول هذا موقف لم يسمع احد في مثله حديثا وكان ذلك بإشارة العماد الكاتب وكان رقيق القلب سريع الدمعة عند سماع الحديث وكان كثير التعظيم لشرائع الدين كان قد صحب ولده الظاهر وهو بحلب شاب يقال له الشهاب السهروردي وكان يعرف الكيميا وشيئا من الشعبذة والابواب النيرنجيات فافتتن به ولد السلطان الظاهر وقربه واحبه وخالف فيه حملة الشرع فكتب إليه ان يقتله لا محالة فصلبه عن امر والده وشهره ويقال بل حبسه بين حيطين حتى مات كمدا وذلك في سنة ست وثمانين وخمسمائة وكان من اشجع الناس وأقواهم بدنا وقلبا مع ما كان يعترى جسمه من الأمراض والاسقام ولا سيما في حصارعكا فانه كان مع كثرة جموعهم وامدادهم لا يزيده ذلك إلا قوة وشجاعة وقد بلغت جموعهم خمسمائة الف مقاتل ويقال ستمائة الف فقتل منهم مائة الف مقاتل
ولما انفصل الحرب وتسلموا عكا وقتلوا من كان بها من المسلمين وساروا برمتهم إلى القدس جعل يسايرهم منزلة منزلة وجيوشهم اضعاف اضعاف من معه ومع هذا نصره الله وخذلهم وسبقهم إلى القدس فصانه وحماه منهم ولم يزل بجيشه مقيما به يرهبهم ويرعبهم ويغلبهم ويسلبهم حتى تضرعوا اليه (13/5)
وخضعوا لديه ودخلوا عليه في الصلح وان تضع الحرب اوزارها بينهم وبينه فاجابهم إلى ما سألوا على الوجه الذي أراده لا على ما يريدونه وكان ذلك من جملة الرحمة التي رحم الله بها المؤمنين فإنه ما انقضت تلك لسنون حتى ملك البلاد اخوه العادل فعزبه المسلمون وذل به الكافرون وكان سخيا جبيا ضحوك الوجه كثير البشر لا يتضجر من خير يفعله شديد المصابرة على الخيرات والطاعات فC وقد ذكر الشيخ شهاب الدين أبو شامة طرفا صالحا من سيرته وأيامه وعدله في سريرته وعلانيته وأحكامه فصل
وكان قد قسم البلاد بين أولاده فالديار المصرية لولده العزيز عماد الدين ابي الفتح ودمشق وما حولها لولده الأفضل نور الدين على وهو أكبر أولاده والمملكة الحلبية لولده الظاهر غازي غياث الدين ولأخيه العادل الكرك والشوبك وبلاد جعبر وبلدان كثيرة قاطع الفرات وحماه ومعاملة أخرى معها للملك المنصور محمد بن تقي الدين عمر بن أخي السلطان وحمص والرحبة وغيرها لأسد الدين بن شيركوه بن ناصر الدين بن محمد بن أسد الدين شيركوه الكبير نجم الدين أخي أبيه نجم الدين أيوب واليمن بمعاقله ومخاليفه جميعه في قبضة السلطان ظهير الدين سيف الاسلام طغتكين ابن أيوب أخى السلطان صلاح الدين وبعلبك واعمالها للامجد بهرام شاه بن فروخ شاه وبصرى واعمالها للظافر بن الناصر ثم شرعت الأمور بعد موت صلاح الدين تضطرب وتختلف في جميع هذه الممالك حتى آل الأمر واستقرت الممالك واجتمعت الكلمة على الملك العادل أبي بكر صلاح الدين وصارت المملكة في أولاده كما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى
وفيها جددا لخليفة الناصر لدين الله خزانة كتب المدرسة النظامية ببغداد ونقل إليها الوفا من الكتب الحسنة المثمنة وفي المحرم منها جرت ببغداد كائنة غريبة وهي أن ابنة لرجل من التجار في الطحين عشقت غلام أبيها فلما علم أبوها بامرها طرد الغلام من داره فواعدته البنت ذات ليلة ان يأتيها فجاء إليها مختفيا فتركته في بعض الدار فلما جاء أبوها في اثناء الليل امرته فنزل فقتله وأمرته بقتل امها وهي حبلى واعطته الجارية حليا بقيمة الفي دينار فأصبح امره عندا لشرطة فمسك وقتل قبحه الله وقد كان سيده من خيار الناس وأكثرهم صدقة وبرا وكان شابا وضيء الوجه رحمه الله
وفيها درس بالمدرسة الجديدة عند قبر معروف الكرخي الشيخ أبو علي التويابي وحضر عنده القضاة والاعيان وعمل بها دعوة حافلة (13/6)
وممن توفي فيها من الاعيان
السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب
ابن شاذي وقد تقدمت وفاته مبسوطة
الأمير بكتمر صاحب خلاط
قتل في هذه السنة وكان من خيار الملوك واشمجهم واحسنهم سيرة رحمه الله
الاتابك عز الدين مسعود
ابن مودود بن زنكي صاحب الموصل نحوا من ثلاث عشرة سنة من خيار الملوك كان بنسبه نور الدين الشهيد عمه ودفن بتربته عند مدرسة أنشأها بالموصل اثابه الله
جعفر بن محمد بن فطيرا
أبو الحسن أحد الكتاب بالعراق كان ينسب إلى التشيع وهذا كثير في أهل تلك البلاد لا أكثر الله منهم جاءه رجل ذات يوم فقال له رأيت البارحة أمير المؤمنين عليا في المنام فقال لي اذهب إلى ابن فطيرا فقل له يعطيك عشرة دنانير فقال له ابن فطيرا متى رأيته قال أول الليل فقال ابن فطيرا وأنا رأيته آخر الليل فقال لي إذا جاءك رجل من صفته كذا وكذا فطلب منك شيئا فلا تعطه فأدبر الرجل موليا فاستدعاه ووهبه شيئا ومن شعره فيما اورده ابن الساعي وقد تقدم ذلك لغيره ... ولما سبرت الناس أطلب منهم ... اخا ثقة عند اعتراض الشدائد ... وفكرت في يومي سروري وشدتي ... وناديت في الاحياء هل من مساعد ... فلم أر فيما ساءني غير شامت ... ولم أر فما سرني غير حاسد ... يحيى بن سعيد بن غازي
أبو العباس البصري النجراني صاحب المقامات كان شاعرا اديبا فاضلا بليغا له اليد الطولي في اللغة والنظم ومن شعره قوله ... غناء خود ينساب لطفا ... بلا عناء في كل أذن ... ما رده قط باب سمع ... ولا أتى زائرا باذن ... السيدة زبيدة
بنت الامام المقتفى لأمر الله اخت المستنجد وعمة المستضيء كانت قد عمرت طويلا ولها صدقات كثيرة دارة وقد تزوجها في وقت السلطان مسعود على صداق مائة ألف دينار فتوفي قبل ان يدخل بها وقد كانت كارهة لذلك فحصل مقصودها وطلبتها (13/7)
الشيخة الصالحة فاطمة خاتون
بنت محمد بن الحسن العميد كانت عابدة زاهدة عمرت مائة سنة وست سنين كان قد تزوجها في وقت امير الجيوش مطر وهي بكر فبقيت عنده إلى ان توفي ولم تتزوج بعده بل اشتغلت بذكر الله عز و جل والعبادة رحمها الله
وفيها أنفذ الخليفة الناصر العباسي إلى الشيخ أبي الفرج بن الجوزي يطلب منه ان يزيد على أبيات عدي بن زيد المشهورة ما يناسبها من الشعر ولو بلغ ذلك عشر مجلدات وهي هذه الابيات ... أيها الشامت المعير بالده ... ر أأنت المبرأ الموفور ... أم لديك العهد الوثيق من ال ... أيام بل أنت جاهل مغرور ... من رأيت المنون خلدت أم من ... ذاعليه من أن يضام خفير ... أين كسرى كسر الملوك أبو ... ساسان أم أين قبله سابور ... وبنوا الأصفر الملوك ملوك الر ... وم لم يبق منهم مذكور ... وأخو الحضر إذبناه وإذ ... دجلة تجبي إليه والخابور ... شاده مرمرا وجلله كلسا ... فللطير في ذراه وكور ... لم تهبه ريب المنون فزا ... ل الملك عنه فبابه مهجور ... وتذكر رب الخورنق إذ ... أشرف يوما وللهندي تكفير ... سره حاله وكثرة ما ... يملك والبحر معرضا والسدير ... فارعوى قلبه وقال وما ... غبطة حي إلى الممات يصير ... ثم بعد النعيم والملك والنهي وال ... أمر وارتهم هناك قبور ... ثم اضحوا كأنهم أورق جف ... ت فألوت بها الصبا والدبور ... غير ان الايام تختص بالمرء ... وفيها لعمري العظات والتفكير ... ثم دخلت سنة تسعين وخمسمائة
لما استقر الملك الأفضل بن صلاح الدين مكان أبيه بدمشق بعث بهدايا سنية إلى باب الخليفة الناصر من ذلك سلاح ابيه وحصانه الذي كان يحضر عليه الغزوات ومنها صليب الصلبوت الذي استلبه أبوه من الفرنج يوم حطين وفيه من الذهب ما ينيف على عشرين رطلا مرصعا بالجواهر النفيسة وأربع جواري من بنات ملوك الفرنج وأنشا له العماد الكاتب كتابا حافلا يذكر فيه التعزية بأبيه والسؤال من الخليفة أن يكون في الملك من بعده فأجيب إلى ذلك
ولما كان شهر جمادي الاولى قدم العزيز صاحب مصر إلى دمشق ليأخذها من أخيه الأفضل (13/8)
فخيم على الكسوة يوم السبت سادس جمادى وحاصر البلد فمانعه اخوه ودافعه عنها فقطع الانهار ونهبت الثمار واشتد الحال ولم يزل الأمر كذلك حتى قدم العادل عمهما فأصلح بينهما ورد الأمر للألفة بعد اليمين على أن يكون للعزيز القدس وما جاور فلسطين من ناحيته أيضا وعلى ان يكون جبلة واللاذقية للظاهر صاحب حلب وان يكون لعمهما العادل اقطاعه الاول ببلاد مصر مضافا إلى ما بيده من الشام والجزيرة كحران والرها وجعبر وما جاور ذلك فاتفقوا على ذلك وتزوج العزيز بابنة عمه العادل ومرض ثم عوفي وهو مخيم بمرج الصفر وخرجت الملوك لتهنئته بالعافية والتزويج والصلح ثم كر راجعا إلى مصر لطول شوقه إلى اهله واولاده وكان الأفضل بعد موت أبيه قد أساء التدبير فأبعد امراء ابيه وخواصه وقرب الاجانب واقبل على شرب المسكر واللهو واللعب واستحوذ عليه وزيره ضياء الدين ابن الاثير الجزري وهو الذي كان يحدوه إلى ذلك فتلف وأتلفه واضل واضله وزالت النعمة عنهما كما سيأتي
وفيها كانت وقعة عظيمة بين شهاب الدين ملك غزنة وبين كفار الهند أقبلوا إليه في ألف ألف مقاتل ومعهم سبعمائة فيل منها فيل أبيض لم ير مثله فالتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا لم ير مثله فهزمهم شهاب الدين عند نهر عظيم يقال له الملاحون وقتل ملكهم واستحوذ على حواصله وحواصل بلاده وغنم فيلتهم ودخل بلد الملك الكبرى فحمل من خزانته ذهبا وغيره على ألف واربعمائة جمل ثم عاد إلى بلاده سالما منصورا
وفيها ملك السلطان خوارزم شاه تكش ويقال له ابن الاصباعي بلاد الرى وغيرها واصطلح مع السلطان طغرلبك السلجوقي وكان قد تسلم بلادا لري وسائر مملكة أخيه سلطان شاه وخزائنه وعظم شأنه ثم التقى هو والسلطان طغرلبك في ربيع الاول من هذه السنة فقتل السلطان طغرلبك وأرسل راسه إلى الخليفة فعلق على باب النوبة عدة أيام وأرسل الخليفة الخلع والتقاليد إلى السلطان خوارزم شاه وملك همدان وغيرها من البلاد المتسعة
وفيها نقم الخليفة على الشيخ أبي الفرج بن الجوزي وغضب عليه ونفاه إلى واسط فمكث بها خمسة أيام لم يأكل طعاما وأقام بها خمسة أعوام يخدم نفسه ويستقى لنفسه الماء وكان شيخا كبيرا قد بلغ ثمانين سنة وكان يتلو في كل يوم وليلة ختمة قال ولم أقرأ يوسف لوجدي على ولدي يوسف إلى أن فرج الله كما سيأتي إن شاء الله وفيها توفي من الاعيان
احمد بن إسماعيل بن يوسف
أبو الخير القزويني الشافعي المفسر قدم بغداد ووعظ بالنظامية وكان يذهب إلى قوم الاشعري في الأصول وجلس في يوم عاشوراء فقيل له العن يزيد بن معاوية فقال ذاك إمام (13/9)
مجتهد فرماه الناس بالاجر فاختفى ثم هرب إلى قزوين
ابن الشاطبي ناظم الشاطبية
أبو القاسم بن قسيرة بن أبي القاسم خلف بن أحمد الرعيني الشاطبي الضرير مصنف الشاطبية في القراءات السبع فلم يسبق إليها ولا يلحق فيها وفيها من الرموز كنوز لا يهتدي إليها إلا كل ناقد بصير هذا مع أنه ضرير ولد سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة وبلده شاطبة قرية شرقي الاندلس كان فقيرا وقد أريد أن يلي خطابه بلده فامتنع من ذلك لأجل مبالغة الخطباء على المنابر في وصف الملوك خرج الشاطبي إلى الحج فقدم الاسكندرية سنة ثنتين وسبعين وخمسمائة وسمع على السلفي وولاه القاضي الفاضل مشيخة الاقراء بمدرسته وزار القدس وصام به شهر رمضان ثم رجع إلى القاهرة فكانت وفاته بها في جمادي الاخرة من هذه السنة ودفن بالقرافة بالقرب من التربة الفاضلية وكان دينا خاشعا ناسكا كثير الوقار لا يتكلم فيمالا يعنيه وكان يتمثل كثيرا بهذه الابيات وهي لغز في النعش وهي لغيره ... أتعرف شيئا في السماء يطير ... إذا سار هاج الناس حيث يسير ... فتلقاه مركوبا وتلقاه راكبا ... وكل أمير يعتليه أسير ... يحث على التقوى ويكره قربه ... وتنفر منه النفس وهو نذير ... ولم يستزز عن رغبة في زيارة ... ولكن على رغم المزور يزور ...
ثم دخلت سنة احدى وتسعين وخمسمائة
فيها كانت وقعة الزلاقة ببلاد الاندلس شمالي قرطبة بمرج الحديد كانت وقعة عظيمة نصر الله فيها الإسلام وخذل فيها عبدة الصلبان وذلك أن القيش ملك الفرنج ببلادالانلدس ومقر ملكة بمدينة طليطلة كتب إلى الأمير يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن ملك الغرب يستنخيه ويستدعيه ويستحثه إليه ليكون من بعض من يخضع له في مثالبه وفي قتاله في كلام طويل فيه تأنيب وتهديد ووعيد شديد فكتب السلطان يعقوب بن يوسف في رأس كتابه فوق خطه ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون ثم نهض من فوره في جنوده وعساكره حتى قطع الزقاق إلى الاندلس فالتقوا في المحل المذكور فكانت الدائرة أولا على المسلمين فقتل منهم عشرون الفا ثم كانت اخيرا على الكافرين فهزمهم الله وكسرهم وخذلهم أقبح كسرة وشر هزيمة وأشنعها فقتل منهم مائة ألف وثلاثة وأربعون ألفا واسر منهم ثلاثة عشر الفا وغنم المسلمون منهم شيئا كثيرا من ذلك مائة ألف خيمة وثلاثة وأربعون خيمة ومن الخيل ستة واربعون الف فرس ومن البغال مائة الف بغل ومن الحمر مثلها ومن السلاح التام سبعون الفا (13/10)
ومن العدد شيء كثير وملك عليهم من حصونهم شيئا كثيرا وحاصر مدينتهم طليطلة مدة ثم لم يفتحها فانفصل عنها راجعا إلى بلاده ولما حصل للقيش ما حصل حلق لحيته ورأسه ونكس صليبه وركب حمارا وحلف لا يركب فرسا ولا يتلذذ بطعام ولا ينام مع امراة حتى تنصره النصرانية ثم طاف على ملوك الفرنج فجمع من الجنود مالا يعلمه إلا الله عز و جل فاستعد له السلطان يعقوب فالتقيا فاقتتلا قتالا عظيما لم يسمع بمثله فانهزم الفرنج أقبح من هزيمتهم الاولى وغنموا منهم نظير ما تقدم أو أكثر واستحوذ السلطان على كثير من معاملهم وقلاعهم ولله الحمد والمنة حتى قيل إنه بيع الاسير بدرهم والحصان بخمسة دراهم والخيمة بدرهم والسيف بدون ذلك ثم قسم السلطان هذه الغنائم على الوجه الشرعي فاستغنى المجاهدون إلى الابد ثم طلبت الفرنج من السلطان الامان فهادنهم على وضع الحرب خمس سنين وإنما حمله على ذلك أن رجلا يقال له علي بن إسحاق التوزي الذي يقال له المكلثم ظهر ببلاد إفريقية فأحدث أمورا فظيعة في غيبة السلطان واشتغاله بقتال الفرنج مدة ثلاث سنين فأحدث هذا المارق التوزي بالبادية حوادث وعاث في الارض فسادا وقتل خلقا كثيرا وتملك بلادا
وفي هذه السنة والتي قبلها استحوذ جيش الخليفة على بلاد الرى وأصبهان وهمدان وخوزستان وغيرها من البلاد وقوى جانب الخلافة على الملوك والممالك وفيها خرج العزيز من مصر قاصدا دمشق لياخذها من يد أخيه الأفضل وكان الأفضل قد تاب وأناب وأقلع عما كان فيه من الشراب واللهو واللعب وأقبل على الصيام والصلاة وشرع بكتابة مصحف بيده وحسنت طريقته غير أن وزيره الضيا الجزري يفسد عليه دولته ويكدر عليه صفوته فلما بلغ الأفضل إقبال أخيه نحوه سار سريعا إلى عمه العادل وهو بجعبر فاستنجده فسار معه وسبقه إلى دمشق وراح الأفضل أيضا إلى أخيه الظاهر بحلب فسارا جميعا نحو دمشق فلما سمع العزيز بذلك وقد اقترب من دمشق كر راجعا سريعا إلى مصر وركب وراءه العادل والأفضل ليأخذا منه مصر وقد اتفقا على أن يكون ثلث مصر للعادل وثلثاها للأفضل ثم بدا للعادل في ذلك فأرسل للعزيز يثبته وأقبل على الأفضل يثبطه وأقاما على بلبيس أياما حتى خرج إليهما القاضي الفاضل من جهة العزيز فوقع الصلح على ان يرجع القدس ومعاملتها للأفضل ويستقر العادل مقيما بمصر على إقطاعه القديم فأقام العادل بها طمعا فيها ورجع العادل إلى دمشق بعدما خرج العزيز لتوديعه وهي هدنة على قذا وصلح على دخن وفيها توفي من الاعيان
علي بن حسان بن سافر
أبو الحسن الكاتب البغدادي كان اديبا شاعرا من شعره قوله ... نفي رقادي ومضى ... برق بسلع ومضا ... لاح كما سلت يدال ... أسود عضبا أبيضا (13/11)
كأنه الأشهب في ... النقع إذا ما ركضا ... يبدو كما تختلف الر ... يح على جمر الغضا ... فتحسب الريح اب ... دا نظر أوغمضا ( 1 ) ... او شعلة النار علا ... لهيبا وانخفضا ... آه له من بارق ... ضاء على ذات الأضا ... اذكرني عهدا مضى ... على الغويروانقضى ... فقال لي قلبي أتو ... صي حاجة وأعرضا ... يطلب من أمرضه ... فديت ذاك الممرضا ... يا غرض القلب لقد ... غادرت قلبي غرضا ... لأسهم كأنما ... يرسلها صرف القضا ... فبت لا أرتاب في ... أن رقادي قد قضى ... حتى قفا الليل وكاد ... الليل أن ينقرضا ... وأقبل الصبح لاط ... راف الدجا مبيضا ... وسل في الشرق على الغ ... رب ضياء وانقضى ... ثم دخلت سنة ثنتين وتسعين وخمسمائة ...
في رجب ينقرضا
... وأقبل الصبح لاط ... راف الدجا مبيضا ... وسل في الشرق على الغ ... رب ضياء وانقضى ... ثم دخلت سنة ثنتين وستعين وخمسمائة في رجب منها أقبل العزيز من مصر ومعه عمه العادل في عساكر ودخلا دمشق قهرا وأخرجا منها الأفضل ووزيره الذي أساء تدبيره وصلى العزيز عند تربة والده صلاح وخطب له بدمشق ودخل القلعة المنصورة في يوم وجلس في دار العدل للحكم والفصل وكل هذا وأخوه الأفضل حاضر عنده في الخدمة وأمر القاضي محيي الدين بن الزكي بتأسيس المدرسة العزيزية إلى جانب تربة أبيه وكانت دارا للأمير عز الدين شامة ثم استناب على دمشق عمه الملك العادل ورجع إلى مصر يوم الاثنتين تاسع شوال والسكة والخطبة بدمشق له وصولح الافضل على صرخد وهرب وزيره ابن الاثير الجزري إلى جزيرته وقد أتلف نفسه وملكه وملكه بجريرته وانتقل الأفضل إلى صرخد بأهله وأولاده وأخيه قطب الدين
وفي هذه السنة هبت ريح شديدة سوداء مدلهمة بأرض العراق ومعها رمل أحمر حتى احتاج الناس إلى السرج بالنهار وفيها ولي قوام الدين أبو طالب يحيى بن سعد بن زيادة كتاب الانشاء ببغداد وكان بليغا وليس هو كالفاضل وفيها درس مجير الدين أبو القاسم محمود بن المبارك بالنظامية وكان فاضلا مناظرا
وفيها قتل رئيس الشافعية بأصبهان محمود بن عبد اللطيف بن محمد بن ثابت الخجندي قتله ملك الدين سنقر الطويل وكان ذلك سبب زوال ملك أصبهان عن الديوان وفيها مات الوزير وزير الخلافة
مؤيد الدين أبو الفضل
محمد بن علي بن القصاب وكان أبوه يبيع اللحم في بعض أسواق بغداد فتقدم ابنه وساد أهل زمانه توفي بهمدان وقد اعاد رساتيق كثيرة من بلاد العراق وخراسان وغيرها إلى ديوان الخلافة وكان ناهضا ذا همة وله صرامة وشعر جيد وفيها توفي (13/12)
الفخر محمود بن علي
التوقاني الشافعي عائدا من الحج والشاعر
أبو الغنائم محمد بن علي ابن المعلم الهرثي من قرى واسط عن إحدى وتسعين سنة وكان شاعرا فصيحا وكان ابن الجوزي في مجالسه يشتهيد بشيء من لطائف أشعاره وقد أورد ابن الساعي قطعة جيدة من شعره الحسن المليح وفيها توفي
الفقيه أبو الحسن علي بن سعيد
ابن الحسن البغدادي المعروف بابن العريف ويلقب بالبيع الفاسد كان حنبليا ثم اشتغل شافعيا على ابي القاسم بن فضلان وهو الذي لقبه بذلك لكثرة تكراره على هذه المسألة بين الشافعية والحنفية ويقال إنه صار بعد هذا كله إلى مذهب الامامية فالله اعلم وفيها توفي
الشيخ أبو شجاع
محمد بن علي بن مغيث بن الدهان الفرضي الحاسب المؤرخ البغدادي قدم دمشق وامتدح الكندي أبو اليمن زيد بن الحسن فقال ... يا زيد زادك ربي من مواهبه ... نعما يقصر عن إدراكها الأمل ... لا بدل الله حالا قد حباك بها ... ما دار بين النحاة الحال والبدل ... النحو أنت أحق العالمين به ... أليس باسمك فيه يضرب المثل ...
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة
فيها ورد كتاب من القاضي الفاضل إلى ابن الزكي يخبره فيه أن في ليلة الجمعة التاسع من جمادي الاخرة أتى عارض فيه ظلمات متكاثفة وبروق خاطفة ورياح عاصفة فقوى الجو بها واشتد هبوبها قد أثبت لها أعنة مطلقات وارتفعت لها صفقات فرجفت لها الجدران واصطفقت وتلاقت على بعدها واعتنقت وثار السماء والارض عجاجا حتى قيل إن هذه على هذه قد انطبقت ولا يحسب إلا أن جهنم قد سال منها واد وعدا منها عاد وزاد عصف الريح إلى أن أطفا سرج النجوم ومزقت أديم السماء ومحت ما فوقه من الرقوم فكنا كما قال تعالى يجعلون اصابعم في آذانهم من الصواعق ويردون أيديهم على أعينهم من البوارق لا عاصم لخطف الابصار ولا ملجأ من الخطب إلا معاقل الاستغفار وفر الناس نساء ورجالا واطفالا ونفروا من دورهم خفافا وثقالا لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فاعتصموا بالمساجد الجامعة واذعنوا للنازلة بأعناق خاضعة بوجوه عانية ونفوس عن الأهل والمال سالية ينظرون من طرف خفي ويتوقعون أي خطب جلي (13/13)
قد انقطعت من الحياة علقهم وعميت عن النجاة طرقهم ووقعت الفكرة فيما هم عليه قادمون وقاموا على صلاتهم وودوا لو كانوا من الذين عليها دائمون إلى ان اذن بالركود واسعف الهاجدون بالهجود فأصبح كل مسلم على رفيقه ويهنيه بسلامة طريقه ويرى انه قد بعث بعد النفخة وأفاق بعدا لصحية والصرخة وان الله قد رد له الكرة واحياه بعد ان كاد ياخذه على غرة ووردت الاخبار بأنها قد كسرت المراكب في البحار والاشجار في القفار واتلفت خلقا كثيرا من السفار ومنهم من فر فلا ينفعه الفرار إلى ان قال ولا يحسب المجلس أني أرسلت القلم محرفا والعلم مجوفا فالأمر اعظم ولكن الله سلم ونرجو ان الله قد ايقظنا بما به وعظنا ونبهنا بما فيه ولهنا فما من عباده إلا من رأى القيامة عيانا ولم يلتمس عليها من بعد ذلك برهانا إلا أهل بلدنا فما قص الاولون مثلها في المثلات ولا سبقت لها سابقة في المعضلات والحمد لله الذي من فضله قد جعلنا نخبر عنها ولا يخبر عنا ونسأل الله أن يصدف يصرف عنا عارض الحرص والغرور ولا يجعلنا من أهل الهلاك والثبور
وفيها كتب القاضي الفاضل من مصر إلى الملك العادل بدمشق بحثه على قتال الفرنج ويشكره على ما هو بصدده من محاربتهم وحفظ حوزة الاسلام فمن ذلك قوله في بعض تلك الكتب هذه الاوقات التي انتم فيها عرائس الاعمار وهذه النفقات التي تجري على أيديكم مهور الحور في دار القرار وما أسعد من أودع يد الله ما في يديه فتلك نعم الله عليه وتوفيقه الذي ما كل من طلبه وصل إليه وسواد العجاج في هذه المواقف بباطن ما سودته الذنوب من الصحائف فما أسعد تلك الوقفات وما أعود بالطمأنينة تلك الرجعات وكتب أيضا أدام الله ذلك الاسم تاجا على مفارق المنابر والطروس وحياه للدينا وما فيها من الأجساد والنفوس وعرف المملوك من الأمر الذي اقتضته المشاهدة وجرت به العافية في سرور ولا يزيد على سيبه الحال بقوله ... ألم تر ان المرء تدوي يمينه ... فيقطعها عمدا ليسلم سائره ...
ولو كان فيها تدبير لكان مولانا سبق إليه ومن قلم من الاصبع ظفرا فقد طلب إلى الجسد بفعله نفعا ودفع عنه ضررا وتجشم المكروه ليس بضائر إذا كان ما جلبه سببا إلى المحمود وآخر سنوه أول كل غزوة فلا يسأم مولانا نية الرباط وفعلها وتجشم الكلف وحملها فهو إذا صرف وجهه إلى وجه واحد وهو وجه الله صرف الوجوه إليه كلها والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين الله وفي هذه السنة انقضت مدة الهدنة التي كان عقدها الملك صلاح الدين للفرنج فأقبلوا بحدهم وحديدهم فتلقاهم الملك العادل بمرج عكا فكسرهم وغنمهم وفتح يافا عنوة ولله الحمد والمنة وقد كانوا كتبوا إلى ملك الالمان يستنهضونه لفتح بيت المقدس فقدر الله هلاكه سريعا وأخذت الفرنج (13/14)
في هذه السنة بيروت من نائبها عز الدين شامة من غير قتال ولا نزال ولهذا قال بعض الشعراء في الأمير شامة ... سلم الحصن ما عليك ملامة ... ما يلام الذي يروم السلامة ... فتعطى الحصون من غير حرب ... سنة سنها ببيروت شامة ...
ومات فيها ملك الفرنج كندهري سقط من شاهق فمات فبقيت الفرنج كالغنم بلا راعي حتى ملكوا عليهم صاحب قبرس وزوجوه بالملكة امرأة كندهري وجرت خطوب كثيرة بينهم وبين العادل ففي كلها يستظهر عليهم ويكسرهم ويقتل خلقا من مقاتلتهم ولم يزالوا كذلك معه حتى طلبوا الصلح والمهادنة فعاقدهم على ذلك في السنة الآتية وفيها توفي ملك اليمن
سيف الاسلام طغتكين
أخو السلطان صلاح الدين وكان قد جمع اموالا جزيلة جدا وكان يسبك الذهب مثل الطواحين ويدخره كذلك وقام في الملك بعده ولده إسماعيل وكان أهوج قليل التدبير فحمله جهله على ان ادعى أنه قرشي أموي وتلقب بالهادي فكتب إليه عمه العادل ينهاه عن ذلك ويتهدده بسبب ذلك فلم يقبل منه ولا التفت إليه بل تمادى وأساء التدبير إلى الامراء والرعية فقتل وتولى بعده مملوك من ماليك أبيه وفيها توفي
الأمير الكبير أبو الهيجاء السمين الكردي كان من أكابر امراء صلاح الدين وهو الذي كان نائبا على عكا وخرج منها قبل أخذ الافرنج ثم دخلها بعد المشطوب فأخذت منه واستنابه صلاح الدين على القدس ثم لما أخذها العزيز عزل عنها فطلب إلى بغداد فأكرم إكراما زائدا وأرسله الخليفة مقدما على العساكر إلى همدان فمات هناك وفيها توفي
قاضي بغداد أبو طالب علي بن علي بن هبة الله بن محمد
البخاري سمع الحديث على أبي الوقت وغيره وتفقه علي أبي القاسم بن فضلان وتولى نيابة الحكم ببغداد ثم استقل بالمنصب واضيف إليه في وقت نيابة الوزارة ثم عزل عن القضاء ثم أعيد ومات وهو حاكم نسأل الله العافية وكان فاضلا بارعا من بيت فقه وعدالة وله شعر ... تنح عن القبيح ولا ترده ... ومن أوليته حسنا فزده ... كفا بك من عدوك كل كيد ... إذا كاد العدو ولم تكده ... وفيها توفي
السيد الشريف نقيب الطالبيين ببغداد
أبو محمد الحسن بن علي بن حمزة بن محمد بن الحسن بن محمد بن الحسن بن محمد بن علي بن يحيى بن الحسين بن يزيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب العلوي الحسيني المعروف بابن الاقساسي (13/15)
الكوفي مولدا ومنشأ كان شاعرا مطبقا امتدح الخلفاء والوزراء وهو من بيت مشهور بالأدب والرياسة والمروءة قدم بغداد فامتدح المقتفي والمستنجد وابنه المستضيء وابنه الناصر فولاه النقابة كان شيخا مهيبا جاوز الثمانين وقد اورد له ابن الساعي قصائد كثيرة منها ... اصبر على كيد الزما ... ن فما يدوم على طريقة ... سبق القضاء فكن به ... راض ولا تطلب حقيقة ... كم قد تغلب مرة ... وأراك من سعة وضيقة ... ما زال في أولاده ... يجري على هذي الطريقة ...
وفيها توفيت
الست عذراء بنت شاهنشاه
ابن أيوب ودفنت بمدرستها داخل باب النصر والست خاتون والدة الملك العادل ودفنت بدراها بدمشق المجاورة لدار أسد الدين شيركوه
ثم دخلت سنة أربع تسعين وخمسمائة
فيها جمعت الفرنج جموعها وأقبلوا فحاصروا تينين فاستدعى العادل بني أخيه لقتالهم فجاءه العزيز من مصر والأفضل من صرخند فاقلعت الفرنج عن الحصن وبلغهم موت ملك الألمان فطلبوا من العادل الهدنة والامان فهادنهم ورجعت الملوك إلى أماكنها وقد عظم المعظم عيسى بن العادل في هذه المرة واستنابه أبوه على دمشق وسار إلى ملكه بالجزيرة فأحسن فيهم السيرة وكان قد توفي في هذه السنة السلطان صاحب سنجار وغيرها من المدائن الكبار وهو عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي الاتابكي كان من خيار الملوك وأحسنهم شكلا وسيرة وأجودهم طوية سريرة غير أنه كان يبخل وكان شديد المحبة للعلماء ولا سيما الحنفية وقد ابتنى لهم مدرسة بسنجار وشرط لهم طعاما يطبخ لكل واحد منهم في كل يوم وهذا نظر حسن والفقيه أولى بهذه الحسنة من الفقير لاشتغال الفقيه بتكراره ومطالعته عن الفكر فيما يقيته فعدى على أولاده ابن عمه صاحب الموصل فأخذ الملك منهم فاستغاث بنوه بالملك العادل فرد فيهم الملك ودرأ عنهم الضيم واستقرت بالمملكة لولده قطب الدين محمد ثم سار الملك إلى ماردين فحاصرها في شهر رمضان فاستولى على ريفها ومعاملتها وأعجزته قلعتها فطاف عليها ومشى وما ن أحد أنه تملكها لأن ذلك لم يكن مثبوتا ولا مقدارا
وفيها ملكت الخزر مدينة بلخ وكسروا الخطا وقهروهم وأرسل الخليفة اليهم أن يمنعوا خوارزم شاه من دخول العراق فإنه كان يروم أن يخطب له ببغداد وفيها حاصر خوارزم شاه مدينة بخارى ففتحها بعد مدة وقد كانت امتنعت عليه دهرا ونصرهم الخطا فقهرهم جميعا وأخذها عنوة وعفا (13/16)
عن أهلها وصفح وقد كانوا ألبسوا كلبا اعور قباء وسموه خوارزم شاه ورموه في المنجيق إلى الخوارزمية وقالوا هذا مالكم وكان خوارزم شاه اعور فلما قدر عليهم عفا عنهم جزاه الله خيرا وفيها توفي من الاعيان
العوام بن زيادة
كاتب الانشاء بباب الخلافة وهو ابو طالب يحيى بن سعيد بن هبة الله بن علي بن زيادة انتهت إليه رياسة الرسائل والانشاء والبلاغة والفصاحة في زمانه بالعراق وله علوم كثيرة غير ذلك من الفقه على مذهب الشافعي أخذه عن ابن فضلان وله معرفة جيدة بالاصلين الحساب واللغة وله شعر جيد وقد ولي عدة مناصب كان مشكورا في جميعها ومن مستجاد شعره قوله ... لا تحقرن عدوا تزدريه فكم ... قد أتعس الدهر جد الجد باللعب ... فهذه الشمس يعروها الكسوف لها ... على جلالتها بالرأس والذنب ... وله ... باضطراب الزمان ترتفع الان ... ذال فيه حتى يعم البلاء ... وكذا الماء راكد فإذا ... حرك ثارت من قعره الاقذاء ... وله أيضا ... قد سلوت الدنيا ولم يسلها ... من علقت في آماله والأراجي ... فإذا ما صرفت وجهي عنها ... قذفتني في بحرها العجاج ... يستضيئون بي وأهلك وحدي ... فكأني ذبالة في سراج ...
توفي في ذي الحجة وله ثنتان وسبعون سنة وحضر جنازته خلق كثير ودفن عند موسى بن جعفر
القاضي أبو الحسن علي بن رجاء بن زهير
ابن علي البطائحي قدم بغداد فتفقه بها وسمع الحديث وأقام برحبة مالك بن طوق مدة يشتغل على ابي عبد الله بن النبيه الفرضي ثم ولي قضاء العراق مدة وكان أديبا وقد سمع من شيخه أبي عبد الله بن النبيه ينشد لنفسه معارضا للحريري في بيتيه اللذين زعم أنهما لا يعزوان ثالثالهما وهما قوله ... سم سمة يحمدآثارها ... واشكر لمن اعطا ولو سمسمة ... والمكرمهما استطعت لا تأته ... لتقتني السؤدد والمكرمة ...
فقال ابن النبيه ... ما الامة الوكساء بين الورى ... احسن من حر أتى ملامة ... فمه إذا استجديت عن قول لا ... فالحر لا يملأ منها فمه ...
الأمير عز الدين حرديل
كان من أكابر الأمراء في أيام نور الدين وكان ممن شرك في قتل شاور وحظى عند صلاح الدين وقد استنابه على القدس حين افتتحها وكان يستندبه للمهمات الكبار فيسدها بنفسه (13/17)
وشجاعته ولما ولي الأفضل عزله عن القدس فترك بلاد الشام وانتقل إلى الموصل فمات بها في هذه السنة
ثم دخلت سنة خمس وتسعين وخمسمائة
فيها كانت وفاة العزيز صاحب مصر
وذلك أنه خرج إلى الصيد فكانت ليلة الأحد العشرين من المحرم ساق خلف ذئب فكبابه فرسه فسقط عنه فمات بعد أيام ودفن بداره ثم حول إلى عند تربة الشافعي وله سبع أو ثمان وعشرون سنة ويقال إنه كان قد عزم في هذه السنة على إخراج الحنابلة من بلده ويكتب إلى بقية إخوته باخراجهم من البلاد وشاع ذلك عنه وذاع وسمع ذلك منه وصرح به وكل ذلك من معلميه وخلطائه وعشرائه من الجهمية وقلة علمه بالحديث فلما وقع منه هذا ونوى هذه النية القبيحة الفاسدة أهلكه الله ودمره سريعا وعظم قدر الحنابلة بين الخلق بمصر والشام عند الخاص والعام وقيل إن بعض صالحيهم دعا عليه فما هو إلا أن خرج إلى الصيد فكان هلاكه سريعا وكتب الفاضل كتاب التعزية بالعزيز لعمه العادل وهو محاصر ماردين ومعه العساكر وولده محمد الكامل وهو نائبه على بلاد الجزيرة المقاربة لبلاد الحيرة وصورة الكتاب أدام الله سلطان مولانا الملك العادل وبارك في عمره واعلا امره بامره وأعز نصر الاسلام بنصره وفدت الأنفس نفسه الكريمة وأصغر الله العظائم بنعمه فيه العظيمة وأحياه الله حياة طيبة هو والاسلام في مواقيت الفتوح الجسيمة وينقلب عنها بالأمور المسلمة والعواقب السليمة ولا نقص له رجالا ولا أعدمه نفسا ولا ولدا ولا قصر له ذيلا ولا يدا ولا أسخن له عينا ولا كبدا ولا كدر له خاطرا ولا موردا ولما قدر الله ما قدر من موت الملك العزيز كانت حياته مكدرة عليه منغصة مهملة فلما حضر أجله كانت بديهة المصاب عظيمة وطالعة المكروه اليمة وإذا محاسن الوجه بليت تعفى الثرى عن وجهه الحسن وكانت مدة مرضه بعد عوده من الفيوم اسبوعين وكانت في الساعة السابعة من ليلة الاحد والعشرين من المحرم والمملوك في حال تسطيرها مجموع بين مرض القلب والجسد ووجع أطراف وعلة كبد وقد فجع بهذا المولى والعهد بوالده غير بعيد والأسى عليه في كل يوم جديد ولما توفي العزيز خلف من الولد عشرة ذكور فعمد أمراؤه فملكوا عليهم ولده محمدا ولقبوه بالمنصور وجمهور الأمراء في الباطن مائلون إلى تمليك العادل ولكنهم يستبعدون مكانه فأرسلوا إلى الأفضل وهو بصرخد فأحضروه على البريد سريعا فلما حضر عندهم منع رفدهم ووجدوا الكلمة مختلفة عليه ولم يتم له ما صار اليه وخامر عليه اكابر الامراء الناصرية وخرجوا من مصر فأقاموا ببيت المقدس وأرسلوا يستحثون الجيوش العادلية فاقر ابن أخيه على السلطنة ونوه باسمه على السكة والخطبة في سائر بلاد مصر لكن استفاد الافضل في سفرته هذه ان اخذ جيشا كثيفا من المصريين وأقبل بهم ليسترد (13/18)
دمشق في غيبة عمه وذلك بإشارة أخيه صاحب حلب وملك حمص أسد الدين فلما انتهى إليها ونزل حواليها قطع انهارها وعقر أشجارها وأكل ثمارها ونزل بمخيمه على مسجد القدم وجاء إليه أخوه الظاهر وابن عمه الأسد الكاسر وجيش حماه فكثر جيشه وقوى بأسه وقد دخل جيشه إلى البلد ونادوا بشعاره فلم يتابعم من العامة أحد وأقبل العادل من ماردين بعساكره وقد التف عليه أمراء أخيه وطائفة بني أخيه وأمده كل مصر بأكابره وسبق الأفضل إلى دمشق بيومين فحصنها وحفظها وقد استناب على ما ردين ولده محمدا الكامل ولما دخل دمشق خامر إليه أكثر الأمراء من المصريين وغيرهم وضعف أمر الأفضل ويئس من برهم وخيرهم فأقام محاصر البلد بمن معه حتى انسلخ الحول ثم انفصل الحال في أول السنة الآتية على ما سيأتي
وفيها شرع في بناء سور بغداد بالآجر والكلس وفرق على الأمراء وكملت عمارته بعد هذه السنة فأمنت بغداد من الغرق والحصار ولم يكن لها سور قبل ذلك وفيها توفي
السلطان أبو محمد يعقوب بن يوسف
ابن عبد المؤمن صاحب المغرب والأندلس بمدينته وكان قد بنى عندها مدينة مليحة سماها المهدية وقد كان دينا حسن السيرة صحيح السريرة وكان مالكي المذهب ثم صار ظاهريا حزميا ثم مال إلى مذهب الشافعي واستقضى في بعض بلاده منهم قضاة وكانت مدة ملكه خمس عشرة سنة وكان كثير الجهاد رحمه الله وكان يؤم الناس في الصلوات الخمس وكان قريبا إلى المرأة والضعيف رحمه الله وهو الذي كتب إليه صلاح الدين يستنجده على الفرنج فلما لم يخاطبه بأمير المؤمنين غضب من ذلك ولم يجبه إلى ما طلب منه وقام بالملك بعده ولده محمد فسار كسيرة والده ورجع إليه كثير من البلدان اللاتي كانت قد عصت على أبيه ثم من بعد ذلك تفرقت بهم الاهواء وباد هذا البيت بعد الملك يعقوب
وفيها ادعى رجل أعجمي بدمشق أنه عيسى بن مريم فأمر الأمير صارم الدين برغش نائب القلعة بصلبه عند حمام العماد الكاتب خارج باب الفرج مقابل الطاحون التي بين البابين وقد باد هذا الحمام قديما وبعد صلبه بيومين ثارت العامة على الروافض وعمدوا إلى قبر رجل منهم بباب الصغير يقال له وثاب فنبشوه وصلبوه مع كلبين وذلك في ربيع الآخر منها
وفيها وقعت فتنة كبيرة ببلاد خراسان وكان سببها أن فخر الدين محمد بن عمر الرازي وفد إلى الملك غياث الدين الغوري صاحب غزنة فأكرمه وبنى له مدرسة بهراة وكان أكثر الغورية كرامية فأبغضوا الرازي وأحبوا إبعاده عن الملك فجمعوا له جماعة من الفقهاء الحنفية والكرامية وخلقا من الشافعية وحضر أبن القدوة وكان شيخا معظما في الناس وهو على مذهب ابن كرام وابن الهيصم (13/19)
فتناظر هو والرازي وخرجا من المناظرة إلى السب والشتم فلما كان من الغد اجتمع الناس في المسجد الجامع وقام واعظ فتكلم فقال في خطبته أيها الناس إنا لا نقول إلا ما صح عندنا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وأما علم ارسطاطا ليس وكفريات ابن سينا وفلسفة الفارابي وما تلبس به الرازي فانا لا نعلمها ولانقول بها وإنما هو كتاب الله وسنة رسوله ولأي شيء يشتم بالأمس شيخ من شيوخ الاسلام يذب عن دين الله وسنة رسوله على لسان متكلم ليس معه على ما يقول دليل قال فبكى الناس وضجوا وبكت الكرامية واستغاثوا واعانهم على ذلك قوم من خواص الناس وأنهوا إلى الملك صورة ما وقع فأمر باخراج الرازي من بلاده وعاد إلى هراة فلهذا اشرب قلب الرازي بغض الكرامية وصار يلهج بهم في كلامه في كل موطن ومكان
وفيها رضى الخليفة عن ابي الفرج ابن الجوزي شيخ الوعاظ وقد كان اخرج من بغداد إلى واسط فأقام بها خمس سنين فانتفع به اهلها واشتغلوا عليه واستفادوا منه فلما عاد إلى بغداد خلع عليه الخليفة وأذن له في الوعظ على عادته عندا لتربة الشريفة المجاورة لقبر معروف فكثر الجمع جدا وحضر الخليفة وأنشد يومئذ فيما يخاطب به الخليفة ... لا تعطش الروض الذي بنيته ... بصوب إنعامك قد روضا ... لا تبر عودا أنت قد رشته ... حاشى لباني المجد أن ينقضا ... إن كان لي ذنب قد جنيته ... فاستأنف العفو وهب لي الرضا ... قد كت أرجوك لنيل المنى ... فاليوم لا أطلب إلا الرضا ...
ومما أنشده يومئذ ... شقينا بالنوى زمنا فلما ... تلاقينا كأنا ما شقينا ... سخطنا عند ما جنت الليالي ... وما زالت بنا حتى رضينا ... ومن لم يحى بعد الموت يوما ... فإنا بعد ما متنا حيينا ...
وفي هذه السنة استدعى الخليفة الناصر قاضي الموصل ضياء الدين ابن الشهروزري فولاه قضاء قضاة بغداد وفيها وقعت قتنة بدمشق بسبب الحافظ عبد الغني المقدسي وذلك أنه كان يتكلم في مقصورة الحنابلة بالجامع الأموي فذكر يوما شيئا من العقائد فاجتمع القاضي ابن الزكي وضياء الدين الخطيب الدولعي بالسلطان المعظم والأمير صارم الدين برغش فعقد له مجلسا فيما يتعلق بمسألة الاستواء على العرش والنزول والحرف والصوت فوافق النجم الحنبلي بقية الفقهاء واستمر الحافظ على ما يقوله لم يرجع عنه واجتمع بقية الفقهاء عليه وألزموه بالزامات شنيعة لم يلتزمها حتى قال له الأمير برغش كل هؤلاء على الضلالة وأنت وحدك على الحق قال نعم (13/20)
فغضب الامير وامر بنفيه من البلد فاستنظره ثلاثة أيام فأنظره وأرسل برغش بالاسارى من القلعة فكسروا منبر الحنابلة وتعطلت يومئذ صلاة الظهر في محراب الحنابلة واخرجت الخزائن والصناديق التي كانت هناك وجرت خبطة شديدة نعوذ باللهمن الفتن ما ظهر منها وما بطن وكان عقد المجلس يوم الاثنين الرابع والعشرين من ذي الحجة فارتحل الحافظ عبدالغني إلى بعلبك ثم سار إلى مصر فآواه المحدثون فحنوا عليه وأكرموه وممن توفي فيها من الاعيان
الامير مجاهدالدين قيماز الرومي
نائب الموصل المستولى على مملكتها أيام ابن استاذه نور الدين ارسلان وكان عاقلا ذكيا فقيها حنيفا وقيل شافعيا يحفظ شيئا كثيرا من التواريخ والحكايات وقد ابتنى عدة جوامع ومدارس وربط وخانات وله صدقات كثيرة دارة قال ابن الاثير وقد كان من محاسن الدنيا
أبو الحسن محمد بن جعفر
ابن أحمد بن محمد بن عبدالعزيز العباس الهاشمي قاضي القضاة ببغداد بعد ابن النجارى كان شافعيا تفقه على أبي الحسن بن الخل وغيره وقد ولى القضاء والخطابة بمكة واصله منها ولكن ارتحل إ 4 لى بغداد فنال منها ما نال من الدنيا وآل به الأمر إلى ما آل ثم إنه عزل عن القضاء بسبب محضر رقم خطه عليه وكان فيما قيل مزورا عليه فالله أعلم فجلس في منزله حتى مات
الشيخ جمال الدين أبو القاسم
يحيى بن علي بن الفضل بن بركة بن فضلان شيخ الشافعية ببغداد تفقه أولا على سعيد بن محمد الزار مدرس النظامية ثم ارتحل إلى خراسان فأخذ عن الشيخ محمد الزبيدي تلميذ الغزالي وعاد إلى بغداد وقد اقتبس علم المناظرة والاصلين وساد أهل بغداد وانتفع به الطلبة والفقهاء وبنيت له مدرسة فدرس بها وبعد صيته وكثرت تلاميذه وكان كثير التلاوة وسماع الحديث وكان شيخا حسنا لطيفا ظريفا ومن شعره ... وإذا أردت منازل الأشراف ... فعليك بالاسعاف والانصاف ... واذا بغا باغ عليك فخله ... والدهر فهو له مكاف كاف ...
ثم دخلت سنة ست وتسعين وخمسمائة
استهلت هذه السنة والملك الافضل بالجيش المصري محاصر دمشق لعمه العادل وقد قطع عنها الانهار والميرة فلا خبز ولا ماء إلا قليلا وقد تطاول الحال وقد خندقوا من أرض اللوان إلى اللد خندقا لئلا يصل إليهم جيش دمشق وجاء فصل الشتاء وكثرت الأمطار والاوحال فلما دخل شهر صفر قدم الملك الكامل محمد بن العادل علي أبيه بخلق من التركمان وعساكر من بلاد (13/21)
الجزيرة والرها وحران فعند ذلك انصرف العساكر المصرية وتفرقوا أيادي سبا فرجع الظاهر إلى حلب والأسد إلى حمص والأفضل إلى مصر وسلم العادل من كيدا لاعادي بعد ما كان قد عزم على تسليم البلد وسارت الامراء الناصرية خلف الافضل ليمنعوه من الدخول إلى القاهرة وكاتبوا العادل أن يسرع السير إليهم فنهض اليهم سريعا فدخل الأفضل مصر وتحصن بقلعة الجبل وقد اعتراه الضعف والفشل ونزل العادل على البركة وأخذ ملك مصر ونزل إليه ابن أخيه الافضل خاضعا ذليلا فأقطعه بلادا من الجزيرة ونفاه من الشام لسوء السيرة ودخل العادل القلعة وأعاد القضاء إلى صدر الدين عبد الملك بن درباس المارداني الكردي وأبقى الخطبة والسكة باسم ابن أخيه المنصور والعادل مستقل بالامور واستوزر الصاحب صفي الدين بن شكر لصرامته وشهامته وسيادته وديانته وكتب العادل إلى ولده الكامل يستدعيه من بلاد الجزيرة ليملكه على مصر فقدم عليه فاكرمه واحترمه وعانقه والتزمه واحضر الملك الفقهاء واستفتاهم في صحة مملكة ابن أخيه المنصور بن العزيز وكان ابن عشر سنين فافتوا بأن ولايته لا تصح لأنه متولى عليه فعند ذلك طلب الأمراء ودعاهم إلى مبايعته فامتنعوا فأرغبهم وأرهبهم وقال فيما قال قد سمعتم ما أفتى به العلماء وقد علمتم ان ثغور المسلمين لا يحفظها الاطفال الصغار وإنما يحفظها الملوك الكبار فاذعنوا عند ذلك وبايعوه ثم من بعده لولده الكامل فخطب الخطباء بذلك بعدا لخليفة لهما وضربت السكة باسمهما واستقرت دمشق باسم المعظم عيسى بن العادل ومصر باسم الكامل وفي شوال رجع إلى دمشق الأمير ملك الدين أبو منصور سليمان بن مسرور بن جلدك وهو أخو الملك العادل لأمه وهو واقف الفلكية داخل باب الفراديس وبها قبره فأقام بها محترما معظما إلى أن توفي في هذه السنة وفيها وفي التي بعدها كان بديار مصر غلاء شديد فهلك بسببه الغنى والفقير وهرب الناس منها نحو الشام فلم يصل إليها إلا القليل وتخطفهم الفرنج من الطرقات وغروهم من أنفسهم واغتالوهم بالقليل من الأقوات وأما بلادالعراق فإنه كان مرخصا قال ابن الساعي وفي هذه السنة باض ديك ببغداد فسألت جماعة عن ذلك فأخبروني به
وممن توفي بها من الاعيان
السلطان علاء الدين خوارزم شاه
تكش بن ألب رسلان من ولد طاهر بن الحسين وهو صاحب خوارزم وبعض بلاد خراسان والري وغيرها من الاقاليم المتسعة وهو الذي قطع دولة السلاجقة كان عادلا حسن السيرة له معرفة جيدة بالموسيقى حسن المعاشرة فقيها على مذهب ابي حنيفة ويعرف الاصول وبنى (13/22)
للحنفية مدرسة عظيمة ودفن بتربة بناها بخوارزم وقام في الملك من بعده ولده علاء الدين محمد وكان قبل ذلك يلقب بقطب الدين وفيها قتل وزير السلطان خوارزم شاه المذكور
نظام الدين مسعود بن علي
وكان حسن السيرة شافعي المذهب له مدرسة عظيمة بخوارزم وجامع هائل وبنى بمرو جامعا عظيما للشافعية فحسدتهم الحنابلة ( 1 ) وشيخهم بها يقال له شيخ الاسلام فيقال إنهم أحرقوه وهذا إنما يحمل عليه قلة الدين والعقل فأغرمهم السلطان خوارزم شاه ما غرم الوزير على بنائه وفيها توفي الشيخ المسند المعمر رحلة الوقت
ابو الفرج بن عبد المنعم بن عبدالوهاب
ابن صدقة بن الخضر بن كليب الحراني الأصل البغدادي المولد والدار والوفاة عن ست وتسعين سنة سمع الكثير وأسمع وتفرد بالرواية عن جماعة من المشايخ وكان من أعيان التجار وذوي الثروة
الفقيه مجد الدين
أبو محمد بن طاهر بن نصر بن جميل مدرس القدس اول من درس بالصلاحية وهو والد الفقهاء بني جميل الدين كانوا بالمدسة الجاروخية ثم صاروا إلى العمادية والدماغية في ايامنا هذه ثم ماتوا ولم يبق إلا شرحهم
الأمير صارم الدين قايماز
ابن عبد الله النجي كان من أكابر الدولة الصلاحية كان عند صلاح الدين بمنزلة الاستاذ وهو الذي تسلم القصر حين مات العاضد فحصل له أموال جزيلة جدا وكان كثير الصدقات والاوقاف تصدق في يوم بسبعة آلاف دينار عينا وهو واقف المدرسة القيمازية شرقي القلعة وقد كانت دار الحديث الاشرفية دارا لهذا الامير وله بها حمام فاشترى ذلك الملك الأشرف فيما بعد وبناها دار حديث وأخرب الحمام وبناه مسكنا للشيخ المدرس بها ولما توفي قيماز ودفن في قبره نبشت دوره وحواصله وكان متهما بمال جزيل فتحصل ما جمع من ذلك مائة ألف دينار وكان يظن أن عنده أكثر من ذلك وكان يدفن أمواله في الخراب من أراضي ضياعه وقرياه سامحه الله
الأمير لؤلؤ
أحد الحجاب بالديار المصرية كان من أكابر الأمراء في أيام صلاح الدين وهو الذي كان متسلم الاسطول في البحر فكم من شجاع قد أسر وكم من مركب قد كسر وقد كان مع كثرة جهاده دار (13/23)
الصدقات كثير النفقات في كل يوم وقع غلاء بمصر فتصدق باثني عشر ألف رغيف لاثني عشر الف نفس
الشيخ شهاب الدين الطوسي
أحد مشايخ الشافعية بديار مصر شيخ المدرسة المنسوبة إلى تقي الدين شاهنشاه بن أيوب التي يقال لها منازل العز وهو من أصحاب محمد بن يحيى تلميذ الغزالي كان له قدر ومنزلة عند ملوك مصر يامرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر توفي في هذه السنة فازدحم الناس على جنازته وتأسفوا عليه
الشيخ ظهير الدين عبدالسلام الفارسي
شيخ الشافعية بحلب اخذ الفقه عن محمد بن يحيى تلميذ الغزالي وتتلمذ للرازي ورحل إلى مصر وعرض عليه ان يدرس بتربة الشافعي فلم يقبل فرجع إلى حلب فأقام بها إلى ان مات
الشيخ العلامة بدر الدين ابن عسكر
رئيس الحنفية بدمشق قال أبو شامة ويعرف بابن العقادة الشاعر أبو الحسن علي بن نصر بن عقيل بن أحمد بغدادي قدم دمشق في سنة خمس وتسعين وخمسمائة ومعه ديوان شعر له فيه درر حسان وقد تصدى لمدح الملك الأمجد صاحب بعلبك وله ... وما الناس إلا كامل الحظ ناقص ... وآخر منهم ناقص الحظ كامل ... وإني لمثر من خيار اعفة ... وإن لم يكن عندي من المال كامل ...
وفيها توفي القاضي الفاضل الامام العلامة شيخ الفصحاء والبلغاء
أبو علي عبدالرحيم بن القاضي الأشرف
أبي المجد علي بن الحسن بن البيساني المولى الأجل القاضي الفاضل كان أبوه قاضيا بعسقلان فأرسل ولده في الدولة الفاطمية إلى الديار المصرية فاشتغل بها بكتابة الانشاء على أبي الفتح قادوس وغيره فساد أهل البلاد حتى بغداد ولم يكن له في زمانه نظير ولا فيما بعده إلى وقتنا هذا مثيل ولما استقر الملك صلاح الدين بمصر جعله كاتبه وصاحبه ووزيره وجليسه وأنيسه وكان أعز عليه من اهله وأولاده وتساعدا حتى فتح الاقاليم والبلاد هذا بحسامه وسنانه وهذا بقلمه ولسانه وبيانه وقد كان الفاضل من كثرة أمواله كثير الصدقات والصلات والصيام والصلاة وكان يواظب كل يوم وليلة على ختمة كاملة مع ما يزيد عليها من نافلة رحيم القلب حسن السيرة طاهر القلب والسريرة له مدرسة بديار مصر على الشافعية والمالكية وأوقاف على تخليص الاساري من يدي النصاري وقد اقتنى من الكتب نحوا من مائة ألف كتاب وهذا شيء لم يفرح به أحد من الوزراء ولا العلماء ولا الملوك ولد في سنة ثنتين وخمسمائة توفي يوم دخل العادل إلى مصر صر بمدرسته فجأة يوم (13/24)
الثلاثاء سادس ربيع الآخر واحتفل الناس بجنازته وزار قبره في اليوم الثاني الملك العادل وتأسف عليه ثم استوزر العادل صفي الدين بن شكر فلما سمع الفاضل بذلك دعا الله ان لا يحييه إلى هذه الدولة لما بينهما من المنافسة فمات ولم ينله أحد بضيم ولا أذى ولا رأى في الدولة من هو أكبر منه وقد رثاه الشعراء بأشعار حسنة منها قول القاضي هبة الله بن سناء الملك ... عبد الرحيم على لابرية رحمة ... امنت بصحبتها حلول عقابها ... يا سائلي عنه وعن اسبابه ... نال السماء فسله عن أسبابها ... وأتته خاطبة إليه وزارة ... ولطال ما أعيت على خطابها ... وأتت سعادته إلى أبوابه ... لا كالذي يسعى إلى أبوابها ... تعنوا الملوك لوجهه بوجوهها ... لا بل تساق لبابه برقابها ... شغل الملوك بما يزول ونفسه ... مشغولة بالذكر في محرابها ... في الصوم والصلوات أتعب نفسه ... وضمان راحته على إتعابها ... وتعجل الاقلاع عن لذاته ... ثقة بحسن مآلها ومآبها ... فلتفخر الدنيا بسائس ملكها ... منه ودارس علمها وكتابها ... صوامها قوامها علامها ... عمالها بذالها وهابها ...
والعجب أن الفاضل مع براعته ليس له قصيدة طويلة وإنما له ما بين البيت والبيتين في اثناء رسائله وغيرها شيء كثير جدا فمن ذلك قوله ... سبقتم باسداء الجميل تكرما ... وما مثلكم فيمن يحدث أو يحكى ... وكان ظني أن أسابقكم به ... ولكن بلت قبلي فهيج لي البكا ... وله ... ولي صاحب ما خفت من جور حادث ... من الدهر إلا كان لي من ورائه ... إذا عضني صرف الزمان فانني ... براياته أسطو عليه ورائه ... وله في بدو امره ... أرى الكتاب كلهم جميعا ... بأرزاق تعمهم سنينا ... ومالي بينهم رزق كأني ... خلقت من الكرام الكاتبينا ...
وله في النحلة والزلقطة ... ومغردين تجاوبا في مجلس ... منعاهما لأذاهما الأقوام ... هذا يجود بعكس ما يأتي به ... هذا فيحمد ذا وذاك يلام ... وله ... بتنا على حال تسر الهوى ... لكنه لا يمكن الشرح (13/25)
بوابنا الليل وقلنا له ... إن غبت عنا هجم الصبح ...
وأرسلت جارية من جواري الملك العزيز إلى الملك العزيز زرا من ذهب مغلف بعنبر أسود فسأل الملك الفاضل عن معنى ما أرادت بإرساله فأنشا يقول ... أهدت لك العنبر في وسطه ... زر من التبر رقيق اللحام ... فالزر في العنبر معناهما ... زر هكذا مختفيا في الظلام ...
قال ابن خلكان وقد اختلف في لقبه فقيل محيي الدين وقيل مجير الدين وحكى عن عمارة اليمني أنه كان يذكر جميل وأن العادل بل الصالح هو الذي استقدمه من الاسكندرية وقد كان معدودا في حسناته وقد بسط ابن خلكان ترجمته بنحو ما ذكرنا وفي هذه زيادة كثيرة والله أعلم ...
ثم دخلت سنة سبع وتسعين وخمسمائة
فيها اشتد الغلاء بأرض مصر جدا فهلك خلق كثير جدا من الفقراء والاغنياء ثم اعقبه فناء عظيم حتى حكى الشيخ أبو شامة في الذيل أن العادل كفن من ماله في مدة شهر من هذه السنة نحوا من مائتي ألف وعشرين ألف ميت وأكلت الكلاب والميتات فيها بمصر وأكل من الصغار والاطفال خلق كثير يشوي الصغير والداه وياكلانه وكثر هذا في الناس جدا حتى صار لا ينكر بينهم فلما فرغت الاطفال والميتات غلب القوى الضعيف فذبحه وأكله وكان الرجل يحتال على الفقير فيأتي به ليطعمه أو ليعطيه شيئا ثم يذبحه ويأكله وكان أحدهم بذبح امراته ويأكلها وشاع هذا بينهم بلا إنكار ولا شكوى بل يعذر بعضهم بعضا ووجد عند بعضهم أربعمائة رأس وهلك كثير من الاطباء الذين يستدعون إلى المرضى فكانوا يذبحون ويؤكلون كان الرجل يستدعى الطبيب ثم يذبحه ويأكله وقد استدعى رجل طبيبا حاذقا وكان الرجل موسرا من أهل المال فذهب الطبيب معه على وجل وخوف فجعل الرجل يتصدق على من لقيه في الطريق ويذكر الله ويسبحه ويكثر من ذلك فارتاب به الطبيب وتخيل منه ومع هذا حمله الطمع على الاستمرار معه حتى دخل داره فإذا هي خربة فارتاب الطبيب أيضا فخرج صاحبه فقال له ومع هذا البطء جئت لنا بصيد فلما سمعها الطبيب هرب فخرجا خلفه سراعا فما خلص إلا بعد جهد وشر وفيها وقع وباء شديد ببلاد عنزة بين الحجاز واليمن وكانوا عشرين قرية فبادت منها ثماني عشرة لم يبق فيها ديار ولا نافخ نار وبقيت أنعامهم وأموالهم لا قاني لها ولا يستطيع أحد أن يسكن تلك القرى ولا يدخلها بل كان من اقترب إلى شيء من هذه القرى هلك من ساعته نعوذ بالله من باس الله وعذابه وغضبه وعقابه أما القريتان الباقيتان فإنهما لم يمت منهما أحد ولا عندهم شعور بما جرى على من حولهم بل هم على حالهم لم يفقد منهم أحد فسبحان الحكيم العليم (13/26)
واتفق باليمن في هذه السنة كائنة غريبة جدا وهي ان رجلا يقال له عبد الله بن حمزة العلوي كان قد تغلب على كثير من بلاداليمن وجمع نحوا من اثني عشر الف فارس ومن الرجالة جمعا كثيرا وخافه ملك اليمن إسماعيل بن طغتكين بن أيوب وغلب على ظنه زوال ملكه على يدي هذا الرجل وأيقن بالهلكة لضعفه عن مقاومته واختلاف امرائه معه في المشورة فأرسل الله صاعقة فنزلت عليهم فلم يبق منهم أحد سوى طائفة من الخيالة والرجالة فاختلف جيشه فيما بينهم فغشيهم المعز فقتل منهم ستة آلاف واستقر في ملكه آمنا
وفيها تكاتب الاخوان الأفضل من صرخد والظاهر من حلب على أن يجتمعا على حصار دمشق وينزعاها من المعظم بن العادل وتكون للأفضل ثم يسيرا إلى مصر فيأخذاها من العادل وابنه الكامل اللذين نقضا العهد وأبطلا خطبة المنصور ونكثا المواثيق فإذا أخذا مصر كانت للأفضل وتصير دمشق مضافة إلى الظاهر مع حلب فلما بلغ العادل ما تمالا عليه أرسل جيشا مددا لابنه المعظم عيسى إلى دمشق فوصلوا إليها قبل وصول الظاهر وأخيه إليها وكان وصولهما إليها في ذي القعدة من ناحية بعلبك فنزلا علىمسجد القدم واشتد الحصار للبلد وتسلق كثير من الجيش من ناحية خان القدم ولم يبق إلا فتح البلد لولا هجوم الليل ثم إن الظار بدا له في كون دمشق للأفضل فرأى أن تكون له اولا ثم إذا فتحت مصر تسلمها الأفضل فأرسل إليه في ذلك فلم يقبل الأفضل فاختلفا وتفرقت كلمتهما وتنازعا الملك بدمشق فتفرقت الأمراء عنهما وكوتب العادل في الصلح فأرسل يجيب إلى ما سألا وزاد في إقطاعهما شيئا من بلاد الجزيزة وبعض معاملة المعرة وتفرقت العساكر عن دمشق في محرم سنة ثمان وتسعين وسار كل منهما إلى ما تسلم من البلاد التي أقطعها وجرت خطوب يطول شرحها وقد كان الظاهر وأخوه كتبا إلى صاحب الموصل نور الدين أرسلان الأتابكي أن يحاصر مدن الجزيرة التي مع عمهما العادل فركب في جيشه وأرسل إلى ابن عمه قطب الدين صاحب سنجار واجتمع معهما صاحب ماردين الذي كان العادل قد حاصره وضيق عليه مدة طويلة فقصدت العساكر حران وبها الفائز بن العادل فحاصروه مدة ثم لما بلغهم وقوع الصلح عدلوا إلى المصالحة وذلك بعد طلب الفائز ذلك منهم وتمهدت الأمور واستقرت على ما كانت عليه
وفيها ملك غياث الدين وأخوه شهاب الدين الغوريان جميع ما كان يملك خوارزم شاه من البلدان والحواصل والأموال وجرت لهم خطوب طويلة جدا وفيها كانت زلزلة عظيمة ابتدأت من بلادالشام إلى الجزيرة وبلاد الروم والعراق وكان جمهورها وعظمها بالشام تهدمت منها دور كثيرة وتخربت محال كثيرة وخسف بقرية من ارض بصرى وأما سواحل الشام وغيرها فهلك فيها شيء (13/27)
كثير وأخربت محال كثيرة من طرابلس وصور وعكا ونابلس ولم يبق بنابلس سوى حارة السامرة ومات بها وبقراها ثلاثون ألفا تحت الردم وسقط طائفة كثيرة من المنارة الشرقية بدمق بجامعها وأربع عشرة شرافة منه وغالب الكلاسة والمارستان النوري وخرج الناس إلى الميادين يستغيثون وسقط غالب قلعة بعلبك مع وثاقه بنياتها وانفرق البحر إلى قبرص وقد حذف بالمراكب منه إلى ساحله وتعدى إلى ناحية الشرق فسقط بسبب ذلك دور كثيرة ومات أمم لا يحصون ولا يعدون حتى قال صاحب مرآة الزمان إنه مات في هذه السنة بسبب الزلزلة نحو ألف ألف ومائة ألف إنسان قتلا تحتها وقيل إن احدا لم يحص من مات فيها والله سبحانه اعلم وفيها توفي من الاعيان
عبدا لرحمن بن علي
ابن محمد بن علي بن عبد الله بن حمادي بن أحمد بن محمد بن جعفر الجوزي نسبة إلى فرضة نهر البصرة ابن عبد الله بن القاسم بن النضر بن القاسم بن محمد بن عبد الله بن عبدا لرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق الشيخ الحافظ الواعظ جمال الدين أبو الفرج المشهور بابن الجوزي القرشي التيمي البغدادي الحنبلي أحد أفراد العلماء برز في علوم كثيرة وانفرد بها عن غيره وجمع المصنفات الكبار والصغار نحوا من ثلاثمائة مصنف وكتب بيده نحوا من مائتي مجلدة وتفرد بفن الوعظ الذي لم يسبق إليه ولا يلحق شأوه فيه وفي طريقته وشكله وفي فصاحته وبلاغته وعذوبته وحلاوة ترصيعه ونفوذ وعظه وغوصه على المعاني البديعة وتقريبه الأشياء الغريبة فيما يشاهد من الأمور الحسية بعبارة وجيزة سريعة الفهم والادراك بحيث يجمع المعاني الكثيرة في الكلمة اليسيرة هذا وله في العلوم كلها اليد الطولى والمشاركات في سائر أنواعها من التفسير والحديث والتاريخ والحساب والنظر في النجوم والطب والفقه وغير ذلك من اللغة والنحو وله من المصنفات في ذلك ما يضيق هذا المكان عن تعدادها وحصر أفرادها منها كتابه في التفسير المشهور بزاد المسير وله تفسير أبسط منه ولكنه ليس بمشهور وله جامع المسانيد استوعب به غالب مسند أحمد وصحيحي البخاري ومسلم وجامع الترمذي وله كتاب المنتظم في تواريخ الأمم من العرب والعجم في عشرين مجلدا قد أوردنا في كتابنا هذا كثيرا منه من حوادثه وتراجمه ولم يزل يؤرخ أخبار العالم حتى صار تاريخا وما احقه بقول الشاعر ... ما زلت تدأب في التاريخ مجتهدا ... حتى رأيتك في التاريخ مكتوبا ...
وله مقامات وخطب وله الاحاديث الموضوعة وله العلل المتناهية في الاحاديث الواهية وغير ذلك ولد سنة عشر وخمسمائة ومات أبوه وعمره ثلاث سنين وكان أهله تجارا في النحاس فلما ترعرع جاءت به عمته إلى مسجد محمد بن ناصر الحافظ فلزم الشيخ وقرا عليه وسمع عليه (13/28)
الحديث وتفقه بابن الزاغوني وحفظ الوعظ ووعظ وهو ابن عشرين سنة او دونها وأخذ اللغة عن ابي منصور الجواليقي وكان وهو صبي دينا مجموعا على نفسه لا يخالط أحدا ولا يأكل ما فيه شبهة ولا يخرج من بيته إلا للجمعة وكان لا يلعب مع الصبيان وقد حضر مجلس وعظه الخلفاء والوزراء والملوك والأمراء والعلماء والفقراء ومن سائر صنوف بني آدم وأقل ما كان يجتمع في مجلس وعظه عشرة آلاف وربما اجتمع فيه مائة ألف أو يزيدون وربما تكلم من خاطره على البديهة نظما ونثرا وبالجملة كان استاذا فردا في الوعظ وغيره وقد كان فيها بهاء وترفع في نفسه وإعجاب وسمو بنفسه أكثر من مقامه وذلك ظاهر في كلامه في نثره ونظمه فمن ذلك قوله ... ما زلت أدرك ما غلا بل ما علا ... وأكابد النهج العسير الأطولا ... تجري بي الآمال في حلباته ... جرى السعيد مدى ما أملا ... أفضى بي التوفيق فيه إلى الذي ... اعيا سواي توصلا وتغلغلا ... لو كان هذا العلم شخصا ناطقا ... وسألته هل زار مثلي قال لا ...
ومن شعره وقيل هو لغيره ... إذا قنعت بميسور من القوت ... بقيت في الناس حرا غير ممقوت ... ياقوت يومي إذاما در حلقك لي ... فلست آسى على در وياقوت ...
وله من النظم والنثر شيء كثيرا جدا وله كتاب سماه لقط الجمان في كان وكان ومن لطائف كلامه قوله في الحديث
اعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين إنما طالت أعمار من قبلنا لطول البادية فلما شارف الركب بلد الاقامة قيل لهم حثوا المطى وقال له رجل أيما أفضل أجلس أسبح أو أستغفر فقال اثوب الوسخ أحوج إلى البخور وسئل عمن أوصى وهو في السياق فقال هذا طين سطحه في كانون والتفت إلى ناحية الخليفة المستضيء وهو في الوعظ فقال يا أمير المؤمنين إن تكلمت خفت منك وإن سكت خفت عليك وإن قول القائل لك اتق الله خير لك من قوله لكم إنكم أهل بيت مغفور لكم كان عمر بن الخطاب يقول إذا بلغني عن عامل لي أنه ظلم فلم أغيره فأنا الظالم يا أمير المؤمنين وكان يوسف لا يشبع في زمن القحط حتى لا ينسى الجائع وكان عمر يضرب بطنه عام الرمادة ويقول قرقرا ولا تقرقرا والله لا ذاق عمر سمنا ولا سمينا حتى يخصب الناس قال فبكى المستضيء وتصدق بمال كثير وأطلق المحابيس وكسى خلقا من الفقراء ولد ابن الجوزي في حدود سنة عشر وخمسمائة كما تقدم وكانت وفاته ليلة الجمعة بين العشاءين الثاني عشر من رمضان من هذه السنة وله من العمر سبع وثمانون سنة وحملت جنازته على رؤس الناس وكان الجمع كثيرا جدا ودفن بباب حرب عند ابيه بالقرب من الامام احمد وكان يوما (13/29)
مشهودا حتى قيل إنه أفطر جماعة من الناس من كثرة الزحام وشدة الحر وقد أوصى أن يكتب على قبره هذه الابيات ... يا كثير العفويا من ... كثرت ذنبي لديه ... جاءك المذنب يرجو الصد ... فح عن جرم يديه ... أنا ضيف وجزاء ال ... ضيف إحسان إليه ...
وقد كان من الأولاد الذكور ثلاثة عبد العزيز وهو أكبرهم مات شابا في حياة والده في سنة أربع وخمسين ثم أبو القاسم علي وقد كان عاقا لوالده إلبا عليه في زمن المحنة وغيرها وقد تسلط على كتبه في غيبته بواسط فباعها بأبخس الثمن ثم محيي الدين يوسف وكان أنجب أولاده وأصغرهم ولد سنة ثمانين ووعظ بعد ابيه واشتغل وحرر وأتقن وساد أقرانه ثم باشر حسبة بغداد ثم صار رسول الخلفاء إلى الملوك بأطراف البلاد ولا سيما بني أيوب بالشام وقد حصل منهم من الأموال والكرامات ما ابتنى به المدرسة الجوزية بالنشابين بدمشق وما أوقف عليها ثم حصل له من سائر الملوك أموالا جزيلة ثم صار أستاذ دار الخليفة المستعصم في سنة أربعين وستمائة واستمر مباشرها إلى أن قتل مع الخليفة عام هارون تركي بن جنكيزخان وكان لأبي الفرج عدة بنات منهن رابعة أم سبطة أبي المظفر بن مزعلي صاحب مرآة الزمان وهي من أجمع التواريخ وأكثرها فائدة وقد ذكره ابن خلكان في الوفيات فأثنى عليه وشكر تصانيفه وعلومه
العماد الكاتب الاصبهاني
محمد بن محمد بن حامد بن محمد بن عبد الله بن علي بن محمود بن هبة الله بن أله بتشديد اللام وضمها المعروف بالعماد الكاتب الاصبهاني صاحب المصنفات والرسائل وهو قرين القاضي الفاضل واشتهر في زمنه ومن اشتهر في زمن الفاضل فهو فاضل ولد بأصبهان في سنة تسع عشرة وخمسمائة وقدم بغداد فاشتغل بها على الشيخ أبي منصور سعيد بن الرزاز مدرس النظامية وسمع الحديث ثم رحل إلى الشام فحظى عند الملك نور الدين محمود بن زنكي وكتب بين يديه وولاه المدرسة التي أنشأها داخل باب الفرج التي يقال لها العمادية نسبة إلى سكناه بها وإقامته فيها وتدريسه بها لا أنه أنشأها وإنما أنشأها نور الدين محمود ولم يكن هو أول من درس بها بل قد سبقه إلى تدريسها غير واحد كما تقدم في ترجمة نور الدين ثم صار العماد كاتبا في الدولة الصلاحية وكان الفاضل يثني عليه ويشكره قالوا وكان منطوقه يعتريه جمود وفترة وقريحته في غاية الجودة والحدة وقد قال القاضي الفاضل لأصحابه يوما قولوا فتكلموا وشبهوه في هذه الصفة بصفات فلم يقبلها القاضي وقال هو كالزناد ظاهره بارد وداخله نار وله من المصنفات الجريدة جريدة النصر في شعراء العصر والفتح القدسي والبرق السامي وغير ذلك من المصنفات المسجعة والعبارات المتنوعة (13/30)
والقصائد المطولة توفي في مستهل رمضان من هذه السنة عن ثمان وسبعين سنة ودفن بمقابر الصوفية
الامير بهاء الدين قراقوش
الفحل الخصي أحد كبار كتاب أمراء الدولة الصلاحية كان شهما شجاعا فاتكا تسلم القصر لما مات العاضد وعمر سور القاهرة محيطا على مصر أيضا وانتهى إلى المقسم وهو المكان الذي اقتسمت فيه الصحابة ما غنموا من الديار المصرية وبنى قلعة الجبل وكان صلاح الدين سلمه عكا ليعمر فيها أماكن كثيرة فوقع الحصار وهو بها فلما خرج البدل منها كان هو من جملة من خرج ثم دخلها ابن المشطوب وقد ذكر أنه أسر فافتدى نفسه بعشرة آلاف دينار وعاد إلى صلاح الدين ففرح به فرحا شديدا ولما توفي في هذه السنة احتاط العادل على تركته وصارت أقطاعه وأملاكه للملك الكامل محمد بن العادل قال ابن خلكان وقد نسب إليه أحكام عجيبة حتى صنف بعضهم جزءا لطيفا سماه كتاب الفاشوش في أحكام فراقوش فذكر أشياء كثيرة جدا وأظنها موضوعة عليه فإن الملك صلاح الدين كان يعتمد عليه فكيف يعتمد على من بهذه المثابة والله اعلم
مكلبة بن عبد الله المستنجدي
كان تركيا عابدا زاهدا سمع المؤذن وقت السحر وهو ينشد على المنارة ... يا رجال الليل جدوا ... رب صوت لا يرد ... ما يقوم الليل إلا ... من له عزم وجد ...
فبكى مكلبة وقال للمؤذن يا مؤذن زدني فقال ... قد مضى الليل وولى ... وحبيبي قد تخلا ...
فصرخ مكلبة صرخة كان فيها حتفه فأصبح أهل البلد قدا جتمعوا على بابه فالسعيد منهم من وصل إلى نعشه رحمه الله تعالى
أبو منصور بن أبي بكر بن شجاع
المركلسي ببغداد ويعرف بابن نقطة كان يدور في أسواق بغداد بالنهار ينشد كان وكان والمواليا ويسحر الناس في ليالي رمضان وكان مطبوعا ظريفا خليعا وكان اخوه الشيخ عبدالغني الزاهد من أكابر الصالحين له زاوية ببغداد يزار فيها وكان له اتباع ومريدون ولا يدخر شيئا يحصل له من الفتوح تصدق في ليلة بألف دينار وأصحابه صيام لم يدخر منها شيئا لعشائهم وزوجته أم الخليفة بجارية من خواصها وجهزتها بعشرة آلاف دينار إليه فما حال الحول وعندهم من ذلك شيء سوى هاون فوقف سائل ببابه فالح في الطلب فأخرج إليه الهاون فقال خذ هذا وكل به ثلاثين يوما ولا تسأل الناس ولا تشنع على الله عز و جل هذا الرجل من خيار الصالحين والمقصود انه قال لأخيه أبي (13/31)
منصور ويحك أنت تدور في الاسواق وتنشد الاشعار واخوك من قد عرفت فأنشأ يقول في جواب ذلك بيتين مواليا من شعره على البديهة ... قد خاب من شبه الجزعة إلى درة ... وقاس قحبة إلى مستحيية حرة ... انا مغني وأخي زاهد إلى مرة ... في الدر ببرى ذي حلوة وذي مرة ...
وقد جرى عنده مرة ذكر قتل عثمان وعلى حاضر فأنشأ يقول كان وكان ومن قتل في جواره مثل ابن عفان فاعتذر يجب عليه أن يقبل في الشام عذر يزيد فأرادت الروافض قتله فاتفق أنه بعض الليالي يسحر الناس في رمضان إذ مر بدار الخليفة فعطس الخليفة في الطارقة فشمته أبو منصور هذا من الطريق فأرسل إليه مائة دينار ورسم بحمايته من الروافض إلى أن مات في هذه السنة رحمه الله وفيها توفي مسند الشام
أبو طاهر بركات بن إبراهيم بن طاهر
الخشوعي شارك ابن عساكر في كثير من مشيخته وطالت حياته بعد وفاته بسبع وعشرين سنة فألحق فيها الاحفاد بالأجداد ...
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وخمسمائة
فيها شرع الشيخ أبو عمر محمد بن قدامة باني المدرسة بسفح قايسون في بناء المسجدالجامع بالسفح فاتفق عليه رجل يقال له الشيخ أبو داود محاسن الغامي حتى بلغ البناء مقدار قامة فنفد ما عنده وما كان معه من المال فأرسل الملك المظفر كوكرى بن زين الدين صاحب إربل مالا جزيلا ليتمه به فكمل وأرسل ألف دينار ليساق بها إليه الماء من بردى فلم يمكن من ذلك الملك المعظم صاحب دمشق واعتذر بأن هذا فرش قبور كثيرة للمسلمين فصنع له بئر وبغل يدور ووقف عليه وقفا لذلك وفيها كانت حروب كثيرة وخطوب طويلة بين الخوارزمية والغورية ببلاد المشرق بسطها ابن الاثير واختصرها ابن كثير وفيها درس بالنظامية مجدالدين يحيى بن الربيع وخلع عليه خلعة سنية سوداء وطرحة كحلى وحضر عنده العلماء والأعيان وفيها تولى القضاء ببغداد أبو الحسن علي بن سليمان الجيلي وخلع عليه أيضا وفيها توفي من الاعيان
القاضي ابن الزكي
محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن عبدالعزيز أبو المعالي القرشي محيي الدين قاضي قضاة دمشق وكل منهما كان قاضيا أبوه وجده وأبو جده يحيى بن علي وهو أول من ولى الحكم بدمشق منهم وكان هو جد الحافظ أبي القاسم بن عساكر لأمه وقد ترجمه ابن عساكر في التاريخ ولم يزد على القرشي قال الشيخ أبو شامة ولو كان أمويا عثمانيا كما يزعمون لذكر ذلك ابن عساكر إذ كان فيه شرف لجده (13/32)
وخالية محمد وسلطان فلو كان ذلك صحيحا لما خفى على ابن عساكر اشتغل ابن الزكي على القاضي شرف الدين أبي سعد عبد الله بن محمد بن أبي عصرون وناب عنه الحكم وهو أول من ترك النيابة وهو أول من خطب بالقدس لما فتح كما تقدم ثم تولى قضاء دمشق وأضيف إليه قضاء حلب أيضا وكان ناظر أوقاف الجامع وعزل عنها قبل وفاته بشهور ووليها شمس الدين بن الليثي ضمانا وقد كان ابن الزكي ينهى الطلبة عن الاشتغال بالمنطق وعلم الكلام ويمزق كتب من كان عنده شيء من ذلك بالمدرسة النورية وكان يحفظ العقيدة المسماة بالمصباح للغزالي ويحفظها أولاده أيضا وكان له درس في التفسير يذكره بالكلاسة تجاه تربة صلاح الدين ووقع بينه وبين الاسماعيلية فأرادوا قتله فاتخذ له بابا من داره إلى الجامع ليخرج منه إلى الصلاة ثم إنه خولط في عقله فكان يعتريه شبه الصرع إلى أن توفي في شعبان من هذه السنة ودفن بتربته بسفح قايسون ويقال إن الحافظ عبدا لغني دعا عليه فحصل له هذا الداء العضال ومات وكذلك
الخطيب الدولعي
توفي فيها وهما اللذان قاما على الحافظ عبد الغنى فماتا في هذه السنة فكانا عبرة لغيرهما الخطيب الدولعي
ضياء الدين الدين أبو القاسم عبد الملك بن زيد بن ياسين الثعلبي الدولعي نسبة إلى قرية بالموصل يقال لها الدولعية ولد بها في سنة ثمان عشرة وخمسمائة وتفقه ببغداد على مذهب الشافعي وسمع الحديث فسمع الترمذي على أبي الفتح الكروجي والنسائي علي أبي الحسن علي بن أحمد البردي ثم قدم دمشق فولى بها الخطابة وتدريس الغزالية وكان زاهدا متورعا حسن الطريقة مهيبا في الحق توفي يوم الثلاثاء تاسع عشر ربيع الأول ودفن بمقبرة باب الصغير عند قبور الشهداء وكان يوم جنازته يوما مشهودا وتولى بعده الخطابة ولد أخيه محمد بن أبي الفضل بن زيد سبعا وثلاثين سنة وقيل ولده جمال الدين محمد وقد كان ابن الزكي ولى ولده الزكى فصلى صلاة واحدة فتشفع جمال الدين بالأمير علم الدين أخي العادل فولاه إياها فبقي فيها إلى أن توفي سنة خمس وثلاثين وستمائة
الشيخ علي بن علي بن عليش
اليمني العابد الزاهد كان مقيما شرقي الكلاسة وكانت له أحوال وكرامات نقلها الشيخ علم الدين السخاوي عنه ساقها أبو شامة عنه
الصدر أبو الثناء حماد بن هبة الله
ابن حماد الحراني التاجر ولد سنة إحدى عشرة عام نور الدين الشهيد وسمع الحديث ببغداد ومصر وغيرها من البلاد وتوفي في ذي الحجة ومن شعره قوله ... تنقل المرء في الآفاق يكسبه ... محاسنا لم يكن منها ببلدته (13/33)
أما ترى البيدق الشطرنج أكسبه ... حسن التنقل حسنا فوق زينته ... الست الجليلة
ينفشا بنت عبد الله
عتيقة المستضيء كانت من أكبر حظاياه ثم صارت بعده من أكثر الناس صدقة وبرا وإحسانا إلى العلماء والفقراء لها عند تربتها ببغداد عند تربة معروف الكرخي صدقات وبر
ابن المحتسب الشاعر أبو السكر
محمود بن سليمان بن سعيد الموصلي يعرف بابن المحتسب تفقه ببغداد ثم سافر إلى البلاد وصحب ابن الشهرزوري وقدم معه فلما ولى قضاء بغداد ولاه نظر أوقاف النظامية وكان يقول الشعر وله أشعار في الخمر لا خير فيها تركتها تنزها عن ذلك وتقذرا لها
ثم دخلت سنة تسع وتسعين وخمسمائة
قال سبط ابن الجوزي في مرآته في ليلة السبت سلخ المحرم هاجت النجوم في السماء وماجت شرقا وغربا وتطايرت كالجراد المنتشر يمينا وشمالا قال ولم ير مثل هذا إلا في عام المبعث وفي سنة احدى وأربعين ومائتين وفيها شرع بعمارة سور قلعة دمشق وابتدئ ببرج الزاوية الغربية القبلية المجاور لباب النصر وفيها أرسل الخليفة الناصر الخلع وسراويلات الفتوة إلى الملك العادل وبنيه وفيها بعث العادل ولده موسى الأشرف لمحاصرة ماردين وساعده جيش سنجار والموصل ثم وقع الصلح على يدي الظاهر على أن يحمل صاحب ماردين في كل سنة مائة ألف وخمسين ألف دينار وأن تكون السكة والخطبة للعادل وأنه متى طلبه بجيشه يحضر إليه وفيها كمل بناء رباط الموريانية ووليه الشيخ شهاب الدين عمر بن محمد الشهرزوري ومعه جماعة من الصوفية ورتب لهم من المعلوم والجراية ما ينبغي لمثلهم وفيها احتجر الملك العادل على محمد بن الملك العزيز إخوته وسيرهم إلى الرها خوفا من آفائهم بمصر وفيها استحوذت الكرج على مدينة دوين فقتلوا أهلها ونهبوها وهي من بلاد آذربيحان لاشتغال ملكها بالفسق وشرب الخمر قبحه الله فتحكمت الكفرة في رقاب المسلمين بسببه وذلك كله غل في عنقه يوم القيامة وفيها توفي
الملك غياث الدين الغوري أخو شهاب الدين
فقام بالملك بعده ولده محمود وتلقب بلقب أبيه وكان غياث الدين عاقلا حازما شجاعا لم تكسر له راية مع كثرة حروبه وكان شافعي المذهب ابتنى مدرسة هائلة للشافعية وكانت سيرته حسنة في غاية الجودة وفيها توفي من الاعيان
الأمير علم الدين أبو منصور ( )
سليمان بن شيروه بن جندر أخو الملك العادل لأبيه في تاسع عشر من المحرم ودفن بداره التي (13/34)
خطها مدرسة في داخل باب الفراديس في محلة الافتراس ووقف عليها الحمام بكمالها تقبل الله منه
القاضي الضياء الشهرزوري
أبو الفضائل القاسم بن يحيى بن عبد الله بن القاسم الشهرزوري الموصلي قاضي قضاة بغداد وهو ابن أخي قاضي قضاة دمشق كمال الدين الشهرزوري أيام نور الدين ولما توفي سنة ست وسبعين في ايام صلاح الدين أوصى لولد أخيه هذا بالقضاء فوليه ثم عزل عنه بابن أبي عصرون وعوض بالسفارة إلى الملوك ثم تولى قضاء بلدة الموصل ثم استدعى إلى بغداد فوليها سنتين وأربعة أشهر ثم استقال الخليفة فلم يقله لحظوته عنده فاستشفع في زوجته ست الملوك على أم الخليفة وكان لها مكانة عندها فأجيب إلى ذلك فصار إلى قضاء حماه لمحبته إياها وكان يعاب عليه ذلك وكانت لديه فضائل وله أشعار رائقة توفي في حماه في نصف رجب منها
عبد الله بن علي بن نصر بن حمزه
أبو بكر البغدادي المعروف بابن المرستانية أحد الفضلاء المشهورين سمع الحديث وجمعه وكان طبيبا منجما يعرف علوم الاوائل وأيام الناس وصنف ديوان الاسلام في تاريخ دار السلام ورتبه على ثلاثمائة وستين كتابا إلا أنه لم يشتهر وجمع سيرة ابن هبيرة وقد كان يزعم انه من سلالة الصديق فتكلموا فيه بسبب ذلك وأنشد بعضهم ... دع الانساب لا تعرض لتيم ... فإن الهجن من ولدالصميم ... لقد أصبحت من تيم دعيا ... كدعوى حيص بيص إلى تميم ...
ابن النجا الواعظ
على بن إبراهيم بن نجازين الدين أبو الحسن الدمشقي الواعظ الحنبلي قدم بغداد فتفقه بها وسمع الحديث ثم رجع إلى بلده دمشق ثم عاد إليها رسولا من جهة نور الدين في سنة أربع وستين وحدث بها ثم كانت له حظوة عند صلاح الدين وهو الذي نم على عمارة اليمني وذويه فصلبوا وكانت له مكانة بمصر وقد تكلم يوم الجمعة التي خطب فيها بالقدس بعد الفراغ من الجمعة وكان وقتا مشهودا وكان يعيش عيشا أطيب من عيش الملوك في الأطعمة والملابس وكان عنده أكثر من عشرين سرية من أحسن النساء كل واحدة بألف دينار فكان يطوف عليهن ويغشاهن وبعد هذا كله مات فقيرا لم يخلف كفنا وقد أنشد وهو على منبره للوزير طلائع بن زريك ... مشيبك قد قضى شرخ الشباب ... وحل الباز في وكر الغراب ... تنام ومقلة الحدثان يقظى ... وما ناب النوائب عنك ناب ... فكيف بقاء عمرك وهو كنز ... وقد انفقت منه بلا حساب (13/35)
الشيخ أبو البركات ( محمد بن احمد بن سعيد التكريتي ) يعرف بالمؤبد كان أديبا شاعرا ومما نظمه في الوجيه النحوي حين كان حنبليا فانتقل حنفيا ثم صار شافعيا نظم ذلك في حلقة النحو بالنظامية فقال ... ألا مبلغا عني الوجيه رسالة ... وإن كان لا تجدي لديه الرسائل ... تمذهبت للنعمان بعد ابن حنبل ... وذلك لما أعوزتك المآكل ... وما اخترت قول الشافعي ديانة ... ولكنما تهوى الذي هو حاصل ... وعما قليل أنت لا شك صائر ... إلى مالك فانظر إلى ما أنت قائل ... الست الجيلية زمرد خاتون
أم الخليفة الناصر لدين الله زوجة المستضيء كانت صالحة عابدة كثيرة البر والاحسان والصلات والاوقاف وقد بنت لها تربة إلى جانب قبر معروف وكانت جنازتها مشهورة جدا واستمر العزاء بسببها شهرا عاشت في خلافة ولدها أربعا وعشرين سنة نافذة الكلمة مطاعة الأوامر وفيها كان مولد الشيخ شهاب الدين أبي شامة وقد ترجم نفسه عند ذكر مولده في هذه السنة في الذيل ترجمة مطولة فينقل إلى سنة وفاته وذكر بدو أمره واشتغاله ومصنفاته وشيئا كثيرا من شعاره وما رؤى له من المنامات المبشرة وفيها كان ابتداء ملك جنكيز خان ملك التتار عليه من الله ما يستحقه وهو صاحب الباسق وضعها ليتحاكموا إليها يعني التتار ومن معهم من أمراء الترك ممن يبتغي حكم الجاهلية وهو والد تولى وجد هولاكو بن تولى الذي قتل الخليفة المستعصم وأهل بغداد في سنة ست وخمسين وستمائة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في موضعه والله سبحانه وتعالى أعلم
سنة ستمائة من الهجرة
في هذه السنة كانت الفرنج قد جمعوا خلقا منهم ليستعيدوا بيت المقدس من أيدي المسلمين فأشغلهم الله عن ذلك بقتال الروم وذلك أنهم اجتازوا في طريقهم بالقسطنطينية فوجدوا ملوكها قد اختلفوا فيما بينهم فحاصروها حتى فتحوها قسرا وأباحوها ثلاثة أيام قتلا وأسرا وأحرقوا اكثر من ربعها وما أصبح أحد من الروم في هذه الأيام الثلاثة إلا قتيلا أو فقيرا أو مكبولا أو أسيرا ولجأ عامة من بقي منها إلى كنيستها العظمى المسماة بايا صوفيا فقصدهم الفرنج فخرج إليهم القسيسون بالأناجيل ليتوسلوا إليهم ويتلوا ما فيها عليهم فما التفتوا إلى شيء من ذلك بل قتلوهم أجمعين أكتعين أبصعين وأخذوا ما كان في الكنيسة من الحلى والأذهاب والأموال التي لا تحصى ولا (13/36)
تعد وأخذوا ما كان على الصلبان والحيطان والحمد لله الرحيم الرحمن الذي ما شاء كان ثم اقترع ملوك الفرنج وكانوا ثلاثة وهم دوق البنادقة وكان شيخا أعمى يقاد فرسه ومركيس الافرنسيس وكندا بلند وكان أكثرهم عددا وعددا فخرجت القرعة له ثلاث مرات فولوه ملك القسطنطينية وأخذ الملكان الآخران بعض البلاد وتحول الملك من الروم إلى الفرنج بالقسطنطينية في هذه السنة ولم يبق بأيدي الروم هناك إلا ما وراء الخليج استحوذ عليه رجل من الروم يقال له تسكرى ولم يزل مالكا لتلك الناحية حتى توفي ثم إن الفرنج قصدوا بلاد الشام وقد تقووا بملكهم القسطنطينية فنزلوا عكا وأغاروا على كثير من بلاد الاسلام من ناحية الغور وتلك الأراضي فقتلوا وسبوا فنهض إليهم العادل وكان بدمشق واستدعى الجيوش المصرية والشرقية ونازلهم بالقرب من عكا فكان بينهم قتال شديد وحصار عظيم ثم وقع الصلح بينهم والهدنة وأطلق لهم شيئا من البلاد فانا لله وإنا إليه راجعون
وفيها جرت حروب كثيرة بين الخوارزمية والغورية بالمشرق يطول ذكرها وفيها تحارب صاحب الموصل نور الدين وصاحب سنجار قطب الدين وساعد الأشرف بن العادل القطب ثم اصطلحوا وتزوج الأشرف أخت نور الدين وهي الاتابكية بنت عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي واقفة الاتابكية التي بالسفح وبها تربتها وفيا كانت زلزلة عظيمة بمصر والشام والجزيرة وقبرص وغيرها من البلاد قاله ابن الاثير في كامله وفيها تغلب رجل من التجار يقال له محمود بن محمد الحميري على بعض بلاد حضرموت ظفار وغيرها واستمرت أيامه إلى سنة تسع عشرة وستمائة وما بعدها
وفي جمادي الأولى منها عقد مجلس لقاضي القضاة ببغداد وهو أبو الحسن علي بن عبد الله بن سليمان الجيلي بدار الوزير وثبت عليه محضر بأنه يتناول الرشا فعزل في ذلك المجلس وفسق ونزعت الطرحة عن رأسه وكانت مدة ولايته سنتين وثلاثة أشهر
وفيها كانت وفاة الملك ركن الدين بن قلج أرسلان كان ينسب إلى اعتقاد الفلاسفة وكان كهفا لمن ينسب إلى ذلك وملجأ لهم وظهر منه قبل موته تجهرم عظيم وذلك أنه حاصر أخاه شقيقه وكان صاحب أنكورية وتسمى أيضا أنقرة مدة سنين حتى ضيق عليه الأقوات بها فسلمها إليه قسرا على أن يعطيه بعض البلاد فلما تمكن منه ومن أولاده أرسل إليهم من قتلهم غدرا وخديعة ومكرا فلم ينظر بعد ذلك إلا خمسة أيام فضربه الله تعالى بالقولنج سبعة أيام ومات فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين وقام بالملك من بعده ولده أفلح أرسلان وكان صغيرا فبقى سنة واحدة ثم نزع منه الملك وصار إلى عمه كنخسروا وفيها قتل خلق كثير من الباطنية بواسط قال ابن (13/37)
الأثير في رجب منها اجتمع جماعة من الصوفية برباط ببغداد في سماع فأنشدهم وهو الجمال الحلى ... اعاذلتي أقصرى ... كفى بمشيبي عذل ... شباب كأن لم يكن ... وشيب كأن لم يزل ... وبثي ليال الوصا ... ل أواخرها والأول ... وصفرة لون المحب ... ب عند استماع الغزل ... لئن عاد عتبي لكم ... حلالي العيش واتصل ... فلست أبالي بما نالني ... ولست أبالي بأهل ومل ...
قال فتحرك الصوفية على العادة فتواجد من بينهم رجل يقال له أحمد الرازي فخر مغشيا عليه فحركوه فإذا هو ميت قال وكان رجلا صالحا وقال ابن الساعي كان شيخا صالحا صحب الصدر عبد الرحيم شيخ الشيوخ فشهد الناس جنازته ودفن بباب إبرز
وفيها توفي من الاعيان
أبو القاسم بهاء الدين
الحافظ ابن الحافظ أبو القاسم علي بن هبة الله بن عساكر كان مولده في سنة سبع وعشرين وخمسمائة اسمعه أبوه الكثير وشارك أباه في أكثر مشايخه وكتب تاريخ أبيه مرتين بخطه وكتب الكثير وأسمع وصنف كتبا عدة وخلف أباه في إسماع الحديث بالجامع الأموي ودار الحديث النورية مات يوم الخميس ثامن صفر ودفن بعدالعصر على أبيه بمقابر باب الصغير شرقي قبور الصحابة خارج الحظيرة
الحافظ عبدالغني المقدسي
ابن عبد الواحد بن علي بن سرور الحافظ أبو محمد المقدسي صاحب التصانيف المشهورة من ذلك الكمال في اسماء الرجال والأحكام الكبرى والصغرى وغير ذلك ولد بجماعيل في ربيع الآخر سنة إحدى وأربعين وخمسمائة وهو أسن من عميه الامام موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي والشيخ ابي عمر بأربعة أشهر وكان قدومهما مع أهلهما من بيت المقدس إلى مسجد أبي صالح خارج باب شرقي أولا ثم انتقلوا إلى السفح فعرفت محلة الصالحية بهم فقيل لها الصالحية فسكنوا الدير وقرا الحافظ عبدالغني القرآن وسمع الحديث وارتحل هو والموفق إلى بغداد سنة ستين وخمسمائة فأنزلهما الشيخ عبد القادر عنده في المدرسة وكان لا يترك أحدا ينزل عنده ولكن توسم فيهما الخير والنجابة والصلاح فأكرمهما وأسمعهما ثم توفي بعد مقدمهما بخمسين ليلة رحمه الله وكان ميل عبدالغني إلى الحديث وأسماء الرجال وميل الموفق إلى الفقه واشتغلا على الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي وعلى الشيخ ابي الفتح ابن المنى ثم قدما دمشق بعد اربع سنين (13/38)
فدخل عبدالغني إلى مصر واسكندرية ثم عاد إلى دمشق ثم ارتحل إلى الجزيرة وبغداد ثم رحل إلى أصبهان فسمع بها الكثير ووقف على مصنف للحافظ أبي نعيم في أسماء الصحابة قلت وهو عندي بخط أبي نعيم فأخذ في مناقشته في أماكن من الكتاب في مائة وتسعين موضعا فغضب بنو الخجندي من ذلك فبغضوه وأخرجوه منها مختفيا في إزار ولما دخل في طريقه إلى الموصل سمع كتاب العقيلي في الجرح والتعديل فثار عليه الحنفية بسبب أبي حنيفة فخرج منها أيضا خائفا يترقب فلما ورد دمشق كان يقرا الحديث بعد صلاة الجمعة برواق الحنابلة من جامع دمشق فاجتمع الناس عليه وإليه وكان رقيق القلب سريع الدمعة فحصل له قبول من الناس جدا فحسده بنو الزكي والدولعي وكبار الدماشقة من الشافعية وبعض الحنابلة وجهزوا الناصح الحنبلي فتكلم تحت قبة النسر وأمره أن يجهر بصوته مهما أمكنه حتى يشوش عليه فحول عبد الغني ميعاده إلى بعد العصر فذكر يوما عقيدته على الكرسي فثار عليه القاضي ابن الزكي وضياء الدين الدولعي وعقدوا له مجلسا في القلعة يوم الاثنين الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة خمس وتسعين وتكلموا معه في مسألة العلو ومسألة النزول ومسألة ا لحرف والصوت وطال الكلام وظهر عليهم بالحجة فقال له برغش نائب القلعة كل هؤلاء على الضلالة وأنت على الحق قال نعم فغضب برغش من ذلك وأمره بالخروج من البلد فارتحل بعد ثلاث إلى بعلبك ثم إلى القاهرة فآواه الطحانيون فكان يقرأ الحديث بها فثار عليه الفقهاء بمصر أيضا وكتبو إلى الوزير صفي الدين بن شكر فأقر بنفيه إلى المغرب فمات قبل وصول الكتاب يوم الاثنين الثالث والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة وله سبع وخمسون سنة ودفن بالقرافة عند الشيخ أبي عمرو بن مرزوق رحمهما الله قال السبط كان عبد الغني ورعا زاهدا عابدا يصلي كل يوم ثلاثمائة ركعة كورد الامام أحمد ويقوم الليل ويصوم عامة السنة وكان كريما جوادا لا يدخر شيئا ويتصدق على الارامل والأيتام حيث لا يراه أحد وكان يرقع ثوبه ويؤثر بثمن الجديد وكان قد ضعف بصره من كثرة المطالعة والبكاء وكان أوحد زمانه في علم الحديث والحفظ قلت وقد هذب شيخنا الحافظ ابو الحجاج المزي كتابه الكمال في أسماء الرجال رجال الكتب الستة بتهذيبه الذي استدرك عليه فيه أماكن كثيرة نحوا من ألف موضع وذلك الامام المزي الذي لا يمارى ولا يجارى وكتابه التهذيب لم يسبق إلى مثله ولا يلحق في شكله فرحمهما الله فلقد كانا نادرين في زمانهما في أسماء الرجال حفظا وإتقانا وسماعا وإسماعا وسردا للمتون وأسماء الرجال والحاسد لا يفلح ولا ينال منالا طائلا قال ابن الاثير وفيها توفي
ابو الفتوح أسعد بن محمود العجلي
صاحب تتمة التتمة أسعد بن أبي الفضل بن محمود بن خلف العجلي الفقيه الشافعي الأصبهاني (13/39)
الواعظ منتخب الدين سمع الحديث وتفقه وبرع وصنف تتمة التتمة لأبي سعدالهروي كان زاهدا عابدا وله شرح مشكلات الوسيط والوجيز توفي في صفر سنة ستمائة
البناني الشاعر
أبو عبد الله محمد بن المهنا الشاعر المعروف بالبناني مدح الخلفاء والوزراء وغيرهم ومدح وكبر 2 وعلت سنه وكان رقيق الشعر ظريفه قال ... ظلما ترى مغرما في الحب تزجره ... وغيره بالهوى امسيت تنكره ... يا عاذل الصب لو عانيت قاتله ... لو جنة وعذار كنت تعذره ... أفدى الذي بسحر عينيه يعلمني ... إذا تصدى لقتلي كيف أسحره ... يستمتع الليل في نوم وأسهره ... إلى الصباح وينساني وأذكره ... أبو سعيدالحسن بن خلد
ابن المبارك النصراني المازداني الملقب بالوحيد اشتغل في حداثته بعلم الاوائل واتقنه وكانت له يد طولى في الشعر الرائق فمن ذلك قوله قاتله الله ... أتاني كتاب أنشأته أتأمل ... حوت أبحرا من فيضها يغرق البحر ... فوا عجبا أنى التوت فوق طرسه ... وما عودت بالقبض أنمله العشر ... وله أيضا ... لقد أثرت صدغاه في لون خده ... ولاحا كفيء من وراء زجاج ... ترى عسكرا للروم في الريح مذبدت ... كطائفة تسعى ليوم هياج ... أم الصبح بالليل البهيم موشح ... حكى آبنوسا في صحيفة عاج ... لقد غار صدغاه على ورد خده ... فسيجه من شعره بسياج ...
لطاووسي صحب الطريقة
العراقي محمد بن العراقي
ركن الدين أبو الفضل القزويني ثم الهمداني المعروف بالطاووسي كان بارعا في علم الخلاف والجدل والمناظرة أخذ علم ذلك عن رضى الدين النيسابوري الحنفي وصنف في ذلك ثلاث تعاليق قال ابن خلكان احسنهن الوسطى وكانت إليه الرحلة بهمدان وقد بنى له بعض الحجبة بها مدرسة تعرف بالحاجبية ويقال إنه منسوب إلى طاووس بن كيسان التابعي فالله أعلم
ثم دخلت سنة إحدى وستمائة
فيها عزل الخليفة ولده محمد الملقب بالظاهر عن ولاية العهد بعد ما خطب له سبعة عشر سنة وولى العهد ولده الاخر عليا فمات على عن قريب فعاد الأمر إلى الظاهر فبويع له بالخلافة (13/40)
بعد أبيه الناصر كما سيأتي في سنة ثلاث وعشرين وستمائة
وفيها وقع حريق عظيم بدار الخلافة في خزائن السلاح فاحترق من ذلك شيء كثير من السلاح والمتعة والمساكن ما يقارب قيمته أربعة آلاف ألف دينار وشاع خبر هذا الحريق في الناس فأرسلت الملوك من سائر الاقطار هدايا أسلحة إلى الخليفة عوضا عن ذلك وفوقه من ذلك شيئا كثيرا
وفيها عاثت الكرج ببلاد المسلمين فقتلوا خلقا وأسروا آخرين وفيها وقعت الحرب بين امير مكة قتادة الحسيني وبين أمير المدينة سالم بن قاسم الحسيني وكان قتادة قد قصد المدينة فحصر سالما فيها فركب إليه سالم بعد ما صلى عندا لحجرة فاستنصر الله عليه ثم برز إليه فكسره وساق وراءه إلى مكة فحصره بها ثم إن قتادة أرسل إلى أمراء سالم فافسدهم عليه فكر سالم راجعا إلى المدينة سالما
وفيها ملك غياث الدين كبيحسرو بن قلج ارسلان بن مسعود بن قلج بلاد الروم واستلبها من ابن اخيه واستقر هو بها وعظم شأنه وقويت شوكته وكثرت عساكره واطاعه الأمراء وأصحاب الأطراف وخطب له الأفضل بن صلاح الدين بسميساط وسار إلى خدمته واتفق في هذه السنة أن رجلا ببغداد نزل إلى دجلة يسبح فيها واعطى ثيابه لغلامه فغرف في الماء فوجد في ورقة بعمامته هذه الابيات ... يا ايها الناس كان لي أمل ... قصر بي عن بلوغه الأجل ... فليتق الله ربه رجل ... امكنه في حياته العمل ... ما انا وحدي بفناء بيت ... يرى كل إلى مثله سينتقل ...
وفيها توفي من الاعيان
أبو الحسن علي بن عنتر بن ثابت الحلي
المعروف بشميم كان شيخا اديبا لغويا شاعرا جمع من شعره حماسة كان يفضلها على حماسة أبي تمام وله خمريات يزعم أنها أفحل من التي لأبي نواس قال أبو شامة في الذيل كان قليل الدين ذا حماقة ورقاعة وخلاعة وله حماسة ورسائل قال ابن الساعي قدم بغداد فأخذ النحو عن ابن الخشاب حصل منه طرفا صالحا ومن اللغة وأشعار العرب ثم أقام بالموصل حتى توفي بها ومن شعره ... لا تسرحن الطرف في مقل المها ... فمصارع الاجال في الآمال ... كم نظرة اردت وما أخرت ... وكم يد قبلت أوان قتال ... سنحت وما سمحت بتسليمة ... وأغلال التحية فعلة المحتال ...
وله في التجنيس ... ليت من طول بالش ... م أم ثواه وثوابه ... جعل العود إلى الزو ... راء من بعض ثوابه (13/41)
أترى يوطئني الده ... ر ثرى مسك ترابه ... وأراني نور عيني ... موطئا لي وثرى به ...
وله أيضا في الخمر وغيره
أبو نصر محمد بن سعد الله ( )
ابن نصر بن سعيد الارتاحي كان سخيا بهيا واعظا حنبليا فاضلا شاعرا مجيدا وله ... نفس الفتى إن أصلحت أحوالها ... كان إلى نيل المنى أحوى لها ... وإن تراها سددت أقوالها ... كان على حمل العلى أوقى لها ... فإن تبدت حال من لها لها ... في قبره عندا لبلى لها لها ... أبو العباس أحمد بن مسعود
ابن محمد القرطبي الخزرجي كان إماما في التفسير والفقه والحساب والفرائض والنحو واللغة والعروض والطب وله تصانيف حسان وشعر رائق منه قوله ... وفي الوجنات ما في الروض لكن ... لرونق زهرها معنى عجيب ... واعجب ما التعجب منه ... أنى لتيار تحمله عصيب ( 2 ) ... أبو الفداء إسماعيل بن برتعس السنجاري
مولى صاحبها عمادا لدين زنكي بن مودود وكان جنديا حسن الصورة مليح النظم كثير الادب ومن شعره ما كتب به إلى الأشرف موسى بن العادل يعزيه في أخ له اسمه يوسف ... دموع المعالي والمكارم اذرفت ... وربع العلى قاع لفقدك صفصف ... غدا الجود والمعروف في اللحد ثاويا ... غداة ثوى في ذلك اللحد يوسف ... متى خطفت يد المنية روحه ... وقد كان للأرواح بالبيض يخطف ... سقته ليالي الدهر كأس حمامها ... وكان بسقى الموت في الحرب يعرف ... فواحسرتا لو ينفع الموت حسرة ... ووا أسفا لو كان يجدي التأسف ... وكان على الارزاء نفسي قوية ... ولكنها عن حمل ذا الرزء تضعف ... أبو الفضل بن الياس بن جامع الاربلي
تفقه بالنظامية وسمع الحديث وصنف التاريخ وغيره وتفرد بحسن كتابة الشروط وله فضل ونظم فمن شعره ... أممرض قلبي ما لهجرك آخر ... ومسهر طربي هل خيالك زائر ... ومستعذب التعذيب جورا بصده ... أمالك في شرع المحبة زاجر ... هنيئا لك القلب الذي قد وقفته ... على ذكر أيام وأنت مسافر (13/42)
فلا فارق الحزن المبرح خاطري ... لبعدك حتى يجمع الشمل قادر ... فإن مت فالتسليم مني عليكم ... يعاودكم ما كبر الله ذكر ... أبو السعادات الحلي
التاجر البغدادي الرافضي كان في كل جمعة يلبس لأمة الحرب ويقف خلف باب داره والباب مجاف عليه والناس في صلاة الجمعة وهو ينتظر أن يخرج صاحب الزمان من سرداب سامرا يعني محمد بن الحسن العسكري ليميل بسيفه في الناس نصرة للمهدي
أبو غالب بن كمنونة اليهودي
الكاتب كان يزور على خط ابن مقلة من قوة خطه توفي لعنه الله بمطمورة واسط ذكره ابن الساعي في تاريخه
ثم دخلت سنة ثنتين وستمائة
فيها وقعت حرب عظيمة بين شهاب الدين محمد بن سام الغوري صاحب غزنة وبين بني بوكر أصحاب الجبل الجودي وكانوا قد ارتدوا عن الاسلام فقاتلهم وكسرهم وغنم منهم شيئا كثيرا لا يعد ولا يوصف فاتبعه بعضهم حتى قتله غيلة في ليلة مستهل شعبان منها بعدالعشاء وكان رحمه الله من أجود الملوك سيرة وأعقلهم واثبتهم في الحرب ولما قتل كان في صحبته فخر الدين الرازي وكان يجلس للوعظ بحضرة الملك ويعظه وكان السلطان يبكي حين يقول في آخر مجلسه يا سلطان سلطانك لا يبقى ولا يبقى الرازي أيضا وإن مردنا جميعا إلى الله وحين قتل السلطان اتهم الرازي بعض الخاصكية بقتله فخاف من ذلك والتجأ إلى الوزير مؤيد الملك بن خواجا فسيره إلى حيث يأمن وتملك غزنة بعده أحد مماليكه تاج الدر وجرت بعد ذلك خطوب يطول ذكرها قد استقصاها ابن الأثير وابن الساعي
وفيها أغارت الكرج على بلاد المسلمين فوصلوا إلى أخلاط فقتلوا وسبوا وقاتلهم المقاتلة والعامة وفيها سار صاحب إربل مظفر الدين كوكري وصحبته صاحب مراغة لقتال ملك أذربيجان وهو أبو بكر بن البهلول وذلك لنكوله عن قتال الكرج وإقباله على السكر ليلا ونهارا فلم يقدروا عليه ثم إنه تزوج في هذه السنة بنت ملك الكرج فانكف شرهم عنه قال ابن الأثير وكان كما يقال أغمد سيفه وسل أيره وفيها استوزر الخليفة نصير الدين ناصر بن مهدي ناصر العلوي الحسنى وخلع عليه بالوزارة وضربت الطبول بين يديه وعلى بابه في أوقات الصلوات وفيها أغار صاحب بلاد الأرمن وهو ابن لاون على بلاد حلب فقتل وسبي ونهب فخرج إليه الملك الظاهر غازي بن الناصر فهرب ابن لاون بين يديه فهدم الظاهر قلعة كان قد بناها ودكها إلى الأرض وفي شعبان منها (13/43)
هدمت القنطرة الرومانية عند الباب الشرقي ونشرت حجارتها ليبلط بها الجامع الأموي بسفارة الوزير صفي الدين بن شكر وزير العادل وكمل تبليطه في سنة اربع وستمائة وفيها توفي من الاعيان
شرف الدين أبو الحسن
علي بن محمد بن علي جمال الاسلام الشهرزوري بمدينة حمص وقد كان أخرج إليها من دمشق وكان قبل ذلك مدرسا بالأمينية والحلقة بالجامع تجاه البرادة وكان لديه علم جيد بالمذهب والخلاف
التقي عيسى بن يوسف
ابن احمد العراقي الضرير مدرس الامينية أيضا كان يسكن المنارة الغربية وكان عنده شاب يخدمه ويقود به فعدم للشيخ دارهم فاتهم هذا الشاب بها فلم يثبت له عنده شيئا واتهم الشيخ عيسى هذا بأنه يلوط به ولم يكن يظن الناس أن عنده من المال شيء فضاع المال واتهم عرضه فأصبح يوم الجمعة السابع من ذي القعدة مشنوقا ببيته بالمأذنة الغربية فامتنع الناس من الصلاة عليه لكونه قتل نفسه فتقدم الشيخ فخر الدين عبد الرحمن بن عساكر فصلى عليه فائتم به بعض الناس قال أبو شامة وإنما حمله على ما فعله ذهاب ماله والوقوع في عرضه قال وقد جرى لي اخت هذه القضية فعصمني الله سبحانه بفضله قال وقد درس بعده في الأمينية الجمال المصري وكيل بيت المال
أبو الغنائم المركيسهلار البغدادي
كان يخدم مع عز الدين نجاح السراي وحصل أموالا جزيلة كان كلما تهيا له مال اشترى به ملكا وكتبه باسم صاحب له يعتمد عليه فلما حضرته الوفاة أوصى ذلك الرجل أن يتولى اولاده وينفق عليهم من ميراثه مما تركه لهم فمرض الموصي إليه بعد قليل فاستدعى الشهود ليشهدهم على نفسه أن ما في يده لورثة أبي الغنائم فتمادى ورثته باحضار الشهود وطولوا عليه وأخذته سكتة فمات فاستولى ورثته على تلك الأموال والأملاك ولم يقضوا أولاد أبي الغنائم منها شيئا مما ترك لهم
أبو الحسن علي بن سعاد الفارسي
تفقه ببغداد وأعاد بالنظامية وناب في تدريسها واستقل بتدريس المدرسة التي أنشأتها أم الخليفة وأزيد على نيابة القضاء عن أبي طالب البخاري فامتنع فألزم به فباشره قليلا ثم دخل يوما إلى مسجد فلبس على رأسه مئزر صوف وأمر الوكلاء والجلاوذة أن ينصرفوا عنه وأشهد على نفسه بعزلها عن نيابة القضاء واستمر على الاعادة والتدريس رحمه الله وفي يوم الجمعة العشرين من ربيع الأول توفيت الخاتون
أم السلطان الملك المعظم عيسى بن العادل فدفنت بالقبة بالمدرسة المعظمية بسفح قايسون (13/44)
الأمير مجير الدين طاشتكين المستنجدي
أمير الحاج وزعيم بلاد خوزستان كان شيخا خيرا حسن السيرة كثير العبادة غالبا في التشيع توفي بتستر ثاني جمادي الاخرة وحمل تابوته إلى الكوفة فدفن بمشهد على لو صيته بذلك هكذا ترجمه ابن الساعي في تاريخه وذكر أبو شامة في الذيل أنه طاشتكين بن عبد الله المقتفوي أمير الحاج حج بالناس ستا وعشرين سنة كان يكون في الحجاز كأنه ملك وقد رماه الوزير ابن يونس بأنه يكاتب صلاح الدين فحبسه الخليفة ثم تبين له بطلان ما ذكر عنه فأطلقه وأعطاه خوزستان ثم أعاده إلى إمرة الحج وكانت الحلة الشيعية إقطاعه وكان شجاعا جوادا سمحا قليل الكلام يمضي عليه الاسبوع لا يتكلم فيه بكلمة وكان فيه حلم واحتمال استغاث به رجل علىبعض نوابه فلم يرد عليه فقال له الرجل المستغيث أحمار أنت فقال لا وفيه يقول ابن التعاويذي ... وأمير على البلاد مولى ... لا يجيب الشاكي بغير السكوت ... وكلما زاد رفعة حطنا الل ... ه بتفيله إلى البهموت ... وقد سرق فراشه حياجبه له فأرادوا أن يستقروه عليها وكان قد رآه الأمير طاشتكين حين أخذها فقال لا تعاقبوا أحدا قد أخذها من لا يردها ورآه حين أخذها من لا ينم عليه وقد كان بلغ من العمر تسعين سنة واتفق أنه استأجر أرضا مدة ثلاثمائة سنة للوقف فقال فيه بعض المضحكين هذا لا يوقن بالموت عمره تسعون سنة وأستأجر أرضا ثلاثمائة سنة فاستضحك القوم والله سبحانه وتعالى أعلم
ثم دخلت سنة ثلاث وستمائة
فيها جرت أمور طويلة بالمشرق بين الغورية والخوارزمية ومكلهم خوارزم شاه بن تكش ببلاد الطالقان وفيها ولى الخليفة القضاء ببغداد لعبد الله بن الدامغاني وفيها قبض الخليفة على عبد السلام بن عبدا لوهاب ابن الشيخ عبدالقادر الجبلاني بسبب فسقه وفجوره وأحرقت كتبه وأمواله قبل ذلك لما فيها من كتب الفلاسفة وعلوم الاوائل واصبح يستعطى بين الناس وهذا بخطيئة قيامه على ابي الفرج ابن الجوزي فإنه هو الذي كان وشى به إلى الوزير ابن القصاب حتى احرقت بعض كتب ابن الجوزي وختم على بقيتها ونفى إلى واسط خمس سنين والناس يقولون في الله كفاية وفي القرآن وجزاء سيئة سيئة مثلها والصوفية يقولون الطريق يأخذ والاطباء يقولون الطبيعة مكافئة وفيها نازلت الفرنج حمص فقاتلهم ملكها أسدا لدين شيركوه وأعانه بالمدد الملك الظاهر صاحب حلب فكف الله شرهم وفيها اجتمع شابان ( 1 ) ببغداد على الخمر (13/45)
فضرب أحدهما الآخر بسكين فقتله وهرب فأخذ فقتل فوجد مع رقعة فيها بيتان من نظمه أمر أن تجعل بين أكفانه ... قدمت على الكريم بغير زاد ... من الأعمال بالقلب السليم ... وسوء الظن أن تعتد زادا ... إذا كان القدوم على كريم ... وفيها توفى من الاعيان
الفقيه أبو منصور
عبدالرحمن بن الحسين بن النعمان النبلي الملقب بالقاضي شريح لذكائه وفضله وبرعاته وعقله وكمال اخلاقه ولي قضاء بده ثم قدم بغداد فندب إلى المناصب الكبار فأباها فحلف عليه الأمير طاشتكين أن يعمل عنده في الكتابة فخدمه عشرين سنة ثم وشى به الوزير ابن مهدي إلى المهدي فحبسه في دار طاشتكين إلى أن مات في هذه السنة ثم إن الوزير الواشي عما قريب حبس بها أيضا وهذا مما نحن فيه من قوله كما تدين تدان
عبدالرزاق بن الشيخ عبدالقادر
كان ثقة عابدا زاهدا ورعا لم يكن في أولاد الشيخ عبدالقادر الجيلاني خير منه لم يدخل فيما دخلوا فيه من المناصب والولايات بل كان متقللا من الدنيا مقبلا على أمر الاخرة وقد سمع الكثير وسمع عليه أيضا
أبو الحزم مكي بن زيان
ابن شبة بن صالح الماكسيني من أعمال سنجار ثم الموصلي النحوي قدم بغداد وأخذ علي ابن الخشاب وابن القصار والكمال الانباري وقدم الشام فانتفع به خلق كثير منهم الشيخ علم الدين السخاوي وغيره وكان ضريرا وكان يتعصب لأبي العلاء المعري لما بينهما من القدر المشترك في الأدب والعمى ومن شعره
إذا حتاج النوال إلى شفيع
... فلا تقبله تصبح قرير عين ... إذا عيف النوال لفرد من ... فأولى أن يعاف لمنتين ...
ومن شعره أيضا
... نفسي فداء لأغيد غنج ... قال لنا الحق حين ودعنا ... من ود شيئا من حبه طمعا ... في قتله للوداع ودعنا ... إقبال الخادم
جمال الدين أحد خدام صلاح الدين واقف الاقباليتين الشافعية والحنفية وكانتا دارين فجعلهما مدرستين ووقف عليهما وقفا الكبيرة للشافعية والصغيرة للحنفية وعليها ثلث الوقف توفي بالقدس (13/46)
رحمه الله
ثم دخلت سنة اربع وستمائة
فيها رجع الحجاج إلى العراق وهم يدعون الله ويشكون إليه ما لقوا من صدر جهان البخاري الحنفي الذي كان قدم بغداد في رسالة فاحتفل به الخليفة وخرج إلى الحج في 2 هذه السنة فضيق على الناس في المياه والميرة فمات بسبب ذلك ستة آلاف من حجيج العراق وكان فيما ذكروا يأمر غلمانه فتسبق إلى المناهل فيحجزون على المياه ويأخذون الماء فيرشونه حول خيمته في قيظ الحجاز ويسقونه للبقولات التي كانت تحمل معه في ترابها ويمنعون منه الناس وابن السبيل الامين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا فلما رجع مع الناس لعنته العامة ولم تحتفل به الخاصة ولا أكرمه الخليفة ولا أرسل إليه أحدا وخرج من بغداد والعامة من ورائه يرجمونه ويلعنونه وسماه الناس صدر جهنم نعوذ بالله من الخذلان ونسأله أن يزيدنا شفقة ورحمة لعباده فإنه إنما يرحم من عباده الرحماء وفيها قبض الخليفة على وزيره ابن مهدي العلوي وذلك أنه نسب إليه أنه يروم الخلافة وقيل غير ذلك من الاسباب والمقصود أنه حبس بدار طاشتكين حتى مات بها وكان جبارا عنيدا حتى قال بعضهم فيه ... خليلي قولا للخليفة وانصحا ... توق وقيت السوء ما أنت صانع ... وزيرك هذا بين أمرين فيهما ... صنيعك ياخير البرية ضائع ... فإن كان حقا من سلالة حيدر ... فهذا وزير في الخلافة طامع ... وإن كان فيما يدعى غير صادق ... فاضيع ما كانت لديه الصنائع ...
وقيل إنه كان عفيفا عن الأموال حسن السيرة جيدا لمباشرة فالله أعلم بحاله وفي رمضان منها رتب الخليفة عشرين دارا للضيافة يفطر فيها الصائمون من الفقراء يطبخ لهم في كل يوم فيها طعام كثير ويحمل إليها أيضا من الخبز النقي والحلواء شيء كثير وهذا الصنيع يشبه ما كانت قريش تفعله من الرفادة في زمن الحج كان ويتولى ذلك عمه أبو طالب كما كان العباس يتولى السقاية وقد كانت فيهم السفارة واللواء والندوة له كما تقدم بيان ذلك في مواضعه وقد صارت هذه المناصب كلها على أتم الأحوال في الخلفاء العباسيين وفيها أرسل الخليفة الشيخ شهاب الدين الشهرزوري وفي صحبته سنقر السلحدار إلى الملك العادل بالخلعة السنية وفيها الطوق والسواران وإلى جميع أولاده بالخلع أيضا وفيها ملك الأوحد بن العادل صاحب ميافارقين مدينة خلاط بعد قتل صاحبها شرف الدين بكتمر وكان شابا جميل الصورة جدا قتله بعض مماليكهم ( 1 ) ثم قتل القاتل أيضا فخلا البلد عن ملك فأخذها الأوحد بن العادل
وفيها ملك خوارزم شاه محمد بن تكش بلاد ما وراء النهر بعد حروب طويلة اتفق له في بعض (13/47)
المواقف أمر عجيب وهو أن المسلمين انهزموا عن خوارزم شاه وبقي معه عصابة قليلة من أصحابه فقتل منهم كفار الخطا من قتلوا وأسروا خلقا منهم وكان السلطان خوارزم شاه في جملة من أسروا أسره رجل وهو لا يشعر به ولا يدري أنه الملك وأسر معه أميرا يقال له مسعود فلما وقع ذلك وتراجعت العساكر الاسلامية إلى مقرها فقدوا السلطان فاختبطوا فيما بينهم واختلفوا اختلافا كثيرا وانزعجت خراسان بكمالها ومن الناس من حلف أن السلطان قد قتل وأما ما كان من أمر السلطان وذاك الأمير فقال الأمير للسلطان من المصلحة أن تترك اسم الملك عنك في هذه الحالة وتظهر انك غلام لي فقبل منه ما قال واشار به ثم جعل الملك يخدم ذلك الأمير يلبسه ثيابه ويسقيه الماء ويصنع له الطعام ويضعه بين يديه ولا يألو جهدا في خدمته فقال الذي أسرهما إني أرى هذا يخدمك فمن أنت فقال أنا مسعود الأمير وهذا غلامي فقال والله لو علم الأمراء أني قد أسرت أميرا وأطلقته لأطلقتك فقال له إني 6 إنما أخشى على أهلي فإنهم يظنون أني قد قتلت ويقيمون المأتم فإن رأيت أن تفاديني على مال وترسل من يقبضه منهم فعلت خيرا فقال نعم فعين رجلا من أصحابه فقال له الأمير مسعود إن أهلي لا يعرفون هذا ولكن إن رأيت أن أرسل معه غلامي هذا فعلت ليبشرهم بحياتي فإنهم يعرفونه ثم يسعى في تحصيل المال فقال نعم فجهز معهما من يحفظهما إلى مدينة خوارزم شاه فلما دنوا من مدينة خوارزم سبق الملك إليها فلما رآه 2 الناس فرحوا به فرحا شديدا ودقت البشائر في سائر بلاده وعاد الملك إلى نصابه واستقر السرور بايابه وأصلح ما كان وهي من مملكته بسبب ما اشتهر من قتله وحاصر هراه وأخذها عنوة وأما الذي كان قد أسره فإنه قال يوما للأمير مسعود الذي يتوجه لي وينوهون به أن خوارزم شاه قد قتل فقال لا هو الذي كان في أسرك فقال له فهلا أعلتمني به حتى كنت أرده موقرا معظما فقال خفتك عليه فقال سر بنا إليه فسارا إليه فأكرمهما إكراما زائدا وأحسن إليهما وأما غدر صاحب سمرقند فإنه قتل كل من كان في أسره من الخوارزمية حتى كان الرجل يقطع قطعتين ويعلق في السوق كما تعلق الأغنام وعزم على قتل زوجته بنت خوارزم شاه ثم رجع عن قتلها وحبسها في قلعة وضيق عليها فلما بلغ الخبر إلى خوارزم شاه سار إليه في الجنود فنازله وحاصر سمرقند فأخذها قهرا وقتل من أهلها نحوا من مائتي ألف وأنزل الملك من القلعة وقتله صبرا بين يديه ولم يترك له نسلا ولا عقبا واستحوذ خوارزم شاه على تلك الممالك التي هنالك وتحارب الخطا وملك التتار كشلي خان المتاخم لمملكة الصين فكتب ملك الخطا لخوارزم شاه يستنجده على التتار ويقول متى غلبونا خلصوا إلى بلادك وكذا وكذا وكتب التتار إليه أيضا يستنصرونه على الخطا ويقولون هؤلاء أعداؤنا واعداؤك فكن معنا عليهم فكتب إلى (13/48)
كل من الفريقين يطيب قلبه وحضر الوقعة بينهم وهو متحيز عن الفريقين وكانت الدائرة على الخطا فهلكوا إلا القليل منهم وغدر التتار ما كانوا عاهدوا عليه خوارزم شاه فوقعت بينهم الوحشة الأكيدة وتواعدوا للقتال وخاف منهم خوارزم شاه وخرب بلادا كثيرة متاخمة لبلاد كشلى خان خوفا عليها أن يملكها ثم إن جنكيز خان خرج على كشلى خان فاشتغل بمحاربته عن محاربة خوارزم شاه ثم إنه وقع من الأمور الغريبة ما سنذكره إن شاء الله تعالى
وفيها كثرت غارات الفرنج من طرابلس على نواحي حمص فضعف صاحبها أسد الدين شيركوه عن مقاومتهم فبعث إليه الظاهر صاحب حلب عسكرا قواه بهم على الفرنج وخرج العادل من مصر في العساكر الاسلامية وأرسل إلى جيوش الجزيرة فوافوه على عكا فحاصرها لأن القبارصة أخذوا من أسطول المسلمين قطعا فيها جماعة من المسلمين فطلب صاحب عكا الأمان والصلح على أن يرد الاسارى فأجابه إلى ذلك وسار العادل فنزل على بحيرة قدس قريبا من حمص ثم سار إلى بلاد طرابلس فأقام اثني عشر يوما يقتل ويأسر ويغنم حتى جنح الفرنج إلى المهادنة ثم عاد إلى دمشق
وفيها ملك صاحب اذربيجان الأمير نصير الدين أبو بكر بن البهلول مدينة مراغة لخلوها عن ملك قاهر لأن ملكها مات وقام بالملك بعده ولد له صغير فدبر أمره خادم له وفي غرة ذي القعدة شهد محي الدين أبو محمد يوسف بن عبد الرحمن بن الجوزي عند قاضي القضاة أبي القاسم بن الدامغاني فقبله وولاه حسبة جانبي بغداد وخلع عليه خلعة سنية سوداء بطرحة كحلية وبعد عشرة أيام جلس للوعظ مكان أبيه أبي الفرج بباب درب الشريف وحضر عنده خلق كثير وبعد أربعة أيام من يومئذ درس بمشهد أبي حنيفة ضياء الدين أحمد بن مسعود الركساني الحنفي وحضر عنده الأعيان والأكابر وفي رمضان منها وصلت الرسل من الخليفة إلى العادل بالخلع فلبس هو وولداه المعظم والأشرف ووزيره صفي الدين بن شكر وغير واحد من الأمراء ودخلوا القلعة وقت صلاة الظهر من باب الحديد وقرأ التقليد الوزير وهو قائم وكان يوما مشهودا وفيها درس شرف الدين عبد الله ابن زين القضاة عبد الرحمن بالمدرسة الرواحية بدمشق وفيها انتقل الشيخ الخير بن البغدادي من الحنبلية إلى مذهب الشافعية ودرس بمدرسة أم الخليفة وحضر عنده الأكابر من سائر المذاهب وفيها توفي من الأعيان
الأمير بنامين بن عبد الله
أحد أمراء الخليفة الناصر كان من سادات الأمراء عقلا وعفة ونزاهة سقاه بعض الكتاب من النصارى سما فمات وكان اسم الذي سقاه ابن ساوا فسلمه الخليفة إلى غلمان بنيامين فشفع فيه ابن مهدي الوزير وقال إن النصارى قد بذلوا فيه خمسين ألف دينار فكتب الخليفة على رأس الورقة (13/49)
إن الأسود أسود الغاب همتها ... يوم الكريهة في المسلوب لا السلب ...
فتسلمه غلمان بنيامين فقتلوه وحرقوه وقبض الخليفة بعد ذلك على الوزير ابن مهدي كما تقدم
حنبل بن عبد الله
ابن الفرج بن سعادة الرصافي الحنبلي المكبر بجامع المهدي راوي مسند احمد عن
ابن الحصين عن ابن المذهب عن باي مالك عن عبد الله عن أبيه عمر تسعين سنة وخرج من بغداد فأسمعه باربل واستقدمه ملوك دمشق إليها فسمع الناس بها عليه المسند وكان المعظم يكرمه ويأكل عنده على السماط من الطيبات فتصيبه التخمة كثيرا لأنه كان فقيرا ضيق الامعاء من قلة الأكل خشن العيش ببغداد وكان الكندي إذا دخل على المعظم يسأل عن حنبل فيقول المعظم هو متخوم فيقول أطعمه العدس فيضحك المعظم ثم أعطاه المعظم مالا جزيلا ورده إلى بغداد فتوفي بها وكان مولده سنة عشر وخمسائة وكان معه ابن طبرزد فتأخرت وفاته عنه إلى سنة سبع وستمائة
عبد الرحمن بن عيسى
ابن أبي الحسن المروزي الواعظ البغدادي سمع من ابن أبي الوقت وغيره واشتغل علي ابن الجوزي بالوعظ ثم حدثته نفسه بمضاهاته وشمخت نفسه واجتمع عليه طائفة من أهل باب النصيرة ثم تزوج في آخرعمره وقد قارب السبعين فاغتسل في يوم بارد فانتفخ ذكره فمات في هذه السنة
الأمير زين الدين قراجا الصلاحي
صاحب صرخد كانت له دار عند باب الصفير عند قناة الزلاقة وتربته بالسفح في قبة على جادة الطريق عند تربة ابن تميرك وأقر العادل ولده يعقوب على صرخد
عبدالعزيز الطبيب
توفي فجأة وهو والد سعدالدين الطبيب الأشرفي وفيه يقول ابن عنين ... فراري ولا خلف الخطيب جماعة ... وموت ولا عبدالعزيز طبيب ...
وفيها توفي
العفيف بن الدرحي
إمام مقصورة الحنفية الغربية بجامع بني أمية
أبو محمد جعفر بن محمد
ابن محمود بن هبة الله بن أحمد بن يوسف الاربلي كان فاضلا في علوم كثيرة في الفقه على مذهب الشافعي والحساب والفرائض والهندسة والأدب والنحو وما يتعلق بعلوم القرآن العزيز وغير ذلك ومن شعره ... لا يدفع المرء ما ياتي به القدر ... وفي الخطوب إذا فكرت معتبر (13/50)
فليس ينجي من الأقدار إن نزلت ... رأى وحزم ولا خوف ولا حذر ... فاستعمل الصبر في كل الأمور ولا ... تجزع لشيء فعقبى صبرك الظفر ... كم مسنا عسر فصرفه ال ... آله عنا وولى بعده سر ... لا ييئس المرء من روح الاله فما ... ييأس منه إلا عصبة كفروا ... إني لأعلم أن الدهر ذو دول ... وأن يوميه ذا أمن وذا خطر ...
ثم دخلت سنة خمس وستمائة
في محرمها كمل بناء دار الضيافة ببغداد التي أنشأها الناصر لدين الله بالجانب الغربي منها للحجاج والمارة لهم الضيافة ما داموا نازلين بها فإذا أراد أحدهم السفر منها زوج وكسي واعطى بعد ذلك دينارا جزاه الله خيرا وفيها عاد أبو الخطاب ابن دحية الكلبي من رحلته العراقية فاجتاز بالشام فاجتمع في مجلس الوزير الصفي هو والشيخ تاج الدين أبو اليمن الكندي شيخ اللغة والحديث فأورد ابن دحية في كلامه حديث الشفاعة حتى انتهى إلى قول إبراهيم عليه السلام إنما كنت خليلا من وراء وراء بفتح اللفظتين فقال الكندي من وراء وراء بضمهما فقال ابن دحية للوزير ابن شكر من هذا فقال هذا أبو اليمن الكندي فنال منه ابن دحية وكان جرئيا فقال الكندي هو من كلب ينبح كما ينبح الكلب قال أبو شامة وكلتا اللفظتين محكية وحكى فيهما الجر أيضا وفيها عاد فخر الدين ابن تيمية خطيب من حران من الحج إلى بغداد وجلس بباب بدر للوعظ مكان محيي الدين يوسف بن الجوزي فقال في كلامه ذلك ... وابن اللبون إذا ما لز في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس ...
كأنه يعرض بابن الجوزي يوسف لكونه شابا ابن خمس وعشرين سنة والله أعلم
وفي يوم الجمعة تاسع محرم دخل مملوك افرنجي من باب مقصورة جامع دمشق وهو سكران وفي يده سيف مسلول والناس جلوس ينتظرون صلاة الفجر فمال على الناس يضربهم بسيفه فقتل اثنتين أو ثلاثة وضرب المنبر بسيفه فانكسر سيفه فأخذوا أودع المارستان وشنق في يومه ذلك على جسر اللابادين
وفيها عاد الشيخ شهاب الدين السهروردي من دمشق بهدايا الملك العادل فتلقاه الجيش ومعه أموال كثيرة أيضا لنفسه وكان قبل ذلك فقيرا زاهدا فلما عاد منع من الوعظ وأخذت منه الربط التي يباشرها ووكل إلى ما بيده من الأموال فشرع في تفريقها على الفقراء والمساكين فاستغنى منه خلق كثير فقال المحيي ابن الجوزي في مجلس وعظه لا حاجة بالرجل يأخذ أموالا من غير حقها ويصرفها إلى من يستحقها ولو ترك على ما كان كان تركها أولى به من تناولها وإنما أراد أن ترتفع (13/51)
منزلته ببذلها ويعود على حاله كما كان مباشره لما بذلها فليحذر العبد الدنيا فإنها خداعة غرارة تسترق فحول العلماء والعباد وقد وقع ابن الجوزي فيما بعد فيما وقع فيه السهروردي وأعظم وفيها قصدت الفرنج حمص وعبروا على العاصي يجسر عدوة فلما عرف بهم العساكر ركبوا في آثارهم فهربوا منهم فقتلوا خلقا كثيرا منهم وغنم المسلمون منهم غنيمة جيدة ولله الحمد
وفيها قتل صاحب الجزيرة وكان من أسوأ الناس الناس سيرة وأخبثهم سريرة وهو الملك سنجر شاه بن غازي بن مودود بن زنكي بن آقسنقر الانابكي ابن عم نور الدين صاحب الموصل وكان الذي تولى قتله ولده غازي توصل إليه حتى دخل عليه وفي في الخلاء سكران فضربه بسكين أربع عشرة ضربة ثم ذبحه وذلك كله ليأخذ الملك من بعده فحرمه الله إياه فبويع بالملك لأخيه محمود وأخذ غازي القاتل فقتله من يومه فسلبه الله الملك والحياة ولكن أراح الله المسلمين من ظلم أبيه وغشمه وفسقه وفيها توفي من الاعيان
أبو الفتح محمد بن أحمد بن بخيتار
ابن علي الواسطي المعروف بابن السنداي آخر من روى المسند عن أحمد بن الحصين وكان من بيت فقه وقضاء وديانة وكان ثقة عدلا متورعا في النقل ومما أنشده من حفظه ... ولو أن ليلى مطلع الشمس دونها ... وكانت من وراء الشمس حين تغيب ... لحدثت نفسي بانتظار نوالها ... وقال المنى لي إنها لقريب ... قاضي القضاة لمصر
صدر الدين عبد الملك بن درباس المارداني الكردي والله أعلم
ثم دخلت سنة ست
وستمائة في المحرم وصل نجم الدين خليل شيخ الحنفية من دمشق إلى بغداد في الرسلية عن العادل ومعه هدايا كثيرة وتناظر هو وشيخ النظامية مجد الدين يحيى بن الربيع في مسألة وجوب الزكاة في مال اليتيم والمجنون وأخذ الحنفي يستدل على عدم وجوبها فاعترض عليه الشافعي فأجاد كل منهما في الذي أورده ثم خلع على الحنفي وأصحابه بسبب الرسالة وكانت المناظرة بحضرة نائب الوزير ابن شكر وفي يوم السبت خامس جمادي الاخر وصل الجمال يونس بن بدران المصري رئيس الشافعية بدمشق إلى بغداد في الرسلية عن العادل فتلقاه الجيش مع حاجب الحجاب ودخل معه ابن أخي صاحب إربل مظفر الدين كوكرى والرسالة تتضمن الاعتذار عن صاحب إربل والسؤال في الرضا عنه فأجيب إلى ذلك وفيها ملك العادل الخابور ونصيبين وحاصر مدينة سنجار مدة فلم يظفر بها ثم صالح صاحبها ورجع عنها (13/52)
وفيها توفي من الاعيان
القاضي الأسعد ابن مماتي
ابو المكارم أسعد بن الخطير أبي سعيد مهذب بن مينا بن زكريا الاسعد بن مماتي بن أبي قدامة ابن أبي مليح المصري الكاتب الشاعر أسلم في الدولة الصلاحية وتولى نظر الدواوين بمصر مدة قال ابن خلكان وله فضائل عديدة ومصنفات كثيرة ونظم سيرة صلاح الدين وكليلة ودمنة وله ديوان شعر ولما تولى الوزير ابن شكر هرب منه إلى حلب فمات بها وله ثنتان وستون سنة فمن شعره في ثقيل زاره بدمشق ... حكى نهرين وما في الأر ... ض من يحكيهما أبدا ... حكى في خلقه ثورا ... أراد وفي أخلاقه بردا ... أبو يعقوب يوسف بن إسماعيل ابن عبدا لرحمن بن عبدا لسلام اللمعاني أحد الأعيان من الحنفية ببغداد سمع الحديث ودرس بجامع السلطان وكان معتزليا في الأصول بارعا في الفروع اشتغل على ابيه وعمه واتقن الخلاف وعلم المناظرة وقارب التسعين
أبو عبد الله محمد بن الحسن
المعروف بابن الخراساني المحدث الناسخ كتب كثيرا من الحديث وجمع خطبا له ولغيره وخطه جيد مشهور
أبو الواهب معتوق بن منيع
ابن مواهب الخطيب البغدادي قرأ النحو واللغة على ابن الخشاب وجمع خطبا كان يخطب منها وكان شيخا فاضلا له ديوان شعر فمنه قوله ... ولا ترجو الصداقة من عدو ... يعادي نفسه سرا وجهرا ... فلو اجدت مودته انتفاعا ... لكان النفع منه إليه اجرا ... ابن خروف
شارح سيبويه على بن محمد بن يوسف أبو الحسن ابن خروف الاندلسي النحوي شرح سيبويه وقدمه إلى صاحب المغرب فاعطاه ألف دينار وشرح جمل الزجاجي وكان يتنقل في البلاد ولا يسكن إلا في الخانات ولم يتزوج ولا تسرى ولذلك علة تغلب على طباع الاراذل وقد تغير عقله في آخر عمره فكان يمشي في الاسواق مكشوف الرأس توفي عن خمس وثمانين سنة
أبو علي يحيى بن الربيع
ابن سلميان بن حرار الواسطي البغدادي اشتغل بالنظامية على فضلان وأعاد عنه وسافر إلى محمد بن يحيى فأخذ عنه طريقته في الخلاف ثم عاد إلى بغداد ثم صار مدرسا بالنظامية وناظرا (13/53)
على أوقافها وقد سمع الحديث وكان لديه علوم كثيرة ومعرفة حسنة بالمذهب وله تفسير في أربع مجلدات كان يدرس منه واختصر تاريخ الخطيب والذيل عليه لابن السمعاني وقارب الثمانين
ابن الاثير صاحب جامع الاصول والنهاية
المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد مجد الدين أبو السعادات الشيباني الجزري الشافعي المعروف بابن الاثير وهو أخو الوزير وزير الأفضل ضياء الدين نصر الله وأخو الحافظ عز الدين أبي الحسن على صاحب الكامل في التاريخ ولد أبو السعادات هذا في إحدى الربيعين سنة أربع وأربعين وخمسمائة وسمع الحديث الكثير وقرأ القرآن وأتقن علومه وحررها وكان مقامه بالموصل وقد جمع في سائر العلوم كتبا مفيدة منها جامع الأصول الستة الموطأ والصحيحين وسنن أبي داود والنسائي والترمذي ولم يذكر ابن ماجه فيه وله كتاب النهاية في غريب الحديث وله شرح مسند الشافعي والتفسير في اربع مجلدات وغير ذلك في فنون شتى وكان معظما عند ملوك الموصل فلما آل الملك إلى نور الدين أرسلان شاه أرسل إليه مملوكه لؤلؤ أن يستوزره فأبى فركب السلطان إليه فامتنع أيضا وقال له قد كبرت سني واشتهرت بنشر العلم ولا يصلح هذا الأمر إلا بشيء من العسف والظلم ولا يليق بي ذلك فاعفاه قال أبو السعادات كنت أقرأ علم العربية على سعيد بن الدهان وكان يأمرني بصنعة الشعر فكنت لا أقدر عليه فلما توفي الشيخ رأيته في بعض الليالي فأمرني بذلك فقلت له ضع لي مثالا أعمل عليه فقال ... حب العلا مدمنا إن فاتك الظفر ... فقلت أنا وخد خد الثرى والليل معتكر ... فالعز في صهوات الليل مركزه ... والمجد ينتجه الإسراء والسهر ...
فقال أحسنت ثم استيقظت فأتممت عليها نحوا من عشرين بيتا كانت وفاته في سلخ ذي الحجة عن ثنتين وستين سنة وقد ترجمه أخوه في الذيل فقال كان عالما في عدة علوم منها الفقه وعلم الاصول والنحو والحديث واللغة وتصانيفه مشهورة في التفسير والحديث والفقه والحساب وغريب الحديث وله رسائل مدونة وكان مغلقا يضرب به المثل ذا دين متين ولزم طريقة مستقيمة رحمه الله فلقد كان من محاسن الزمان قال ابن الاثير وفيها توفي
المجلد المطرزي النحوي الخوارزمي
كان إماما في النحو له فيه تصانيف حسنة قال أبو شامة وفيها توفي
الملك المغيث
فتح الدين عمر بن الملك العادل ودفن في تربة اخيه المعظم بسفح قايسون والملك المؤيد (13/54)
مسعود بن صلاح الدين
بمدرسة راس العين فحمل إلى حلب فدفن بها وفيها توفي
الفخر الرازي
المتكلم صاحب التيسير والتصانيف يعرف بابن خطيب الري واسمه محمد بن عمر بن الحسين ابن علي القرشي التيمي البكري أبو المعالي وأبو عبد الله المعروف بالفخر الرازي ويقال له ابن خطيب الري أحد الفقهاء الشافعية المشاهير بالتصانيف الكبار والصغار نحو من مائتي مصنف منها التفسير الحافل والمطالب العالية والمباحث الشرقية والاربعين وله أصول الفقه والمحصول وغيره وصنف ترجمه الشافعي في مجلد مفيد وفيه غرائب لا يوافق عليها وينسب إليه أشياء عجيبة وقد ترجمته في طبقات الشافعية وقد كان معظما عند ملوك خوارزم وغيرهم وبنيت له مدارس كثيرة في بلدان شتى وملك من الذهب العين ثمانين ألف دينار وغير ذلك من الأمتعة والمراكب والاثاث والملابس وكان له خمسون مملوكا من الترك وكان يحضر في مجلس وعظه الملوك والوزراء والعلماء والأمراء والفقراء والعامة وكانت له عبادات وأوراد وقد وقع بينه وبين الكرامية في أوقات وكان يبغضهم ويبغضونه ويبالغون في الحط عليه ويبالغ هو أيضا في ذمهم وقد ذكرنا طرفا من ذلك فيما تقدم وكان مع غزارة علمه في فن الكلام يقول من لزم مذهب العجائز كان هو الفائز وقد ذكرت وصيته عند موته وأنه رجع عن مذهب الكلام فيها إلى طريقة السلف وتسليم ما ورد على وجه المراد اللائق بجلال الله سبحانه وقال الشيخ شهاب الدين أبو شامة في الذيل في ترجمته كان يعظ وينال من الكرامية وينالون منه سبا وتكفيرا بالكباشر وقيل إنهم وضعوا عليه من سقاه سما فمات ففرحوا بموته وكانوا يرمونه بالمعاصي مع المماليك وغيرهم قال وكانت وفاته في ذي الحجة ولا كلام في فضله ولا فيما كان يتعاطاه وقد كان يصحب السلطان ويحب الدنيا ويتسع فيها إتساعا زائدا وليس ذلك من صفة العلماء ولهذا وأمثاله كثرت الشناعات عليه وقامت عليه شناعات عظيمة بسبب كلمات كان يقولها مثل قوله 2 قال محمد البادي يعني العربي يريد به النبي ص نسبة إلى البادية وقال محمد الرازي يعني نفسه ومنها أنه كان يقرر الشبهة من جهة الخصوم بعبارات كثيرة ويجيب عن ذلك بأدنى إشارة وغير ذلك قال وبلغني أنه خلف من الذهب العين مائتي ألف دينار غير ما كان يملكه من الدواب والثياب والعقار والالات وخلف ولدين أخذ كل واحد منهما أربعين ألف دينار وكان ابنه الأكبر قد تجند وخدم السلطان محمد بن تكش وقال ابن الاثير في الكامل وفيها توفي فخر الدين الرازي محمد بن عمر بن خطيب الري الفقيه الشافعي صاحب التصانيف المشهورة والفقه والاصول كان إمام الدنيا في عصره (13/55)
بلغني أن مولده سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة ومن شعره قوله ... إليك إله الخلق وجهي ووجهتي ... وأنت الذي أدعوه في السر والجهر ... وأنت غياثي عند كل ملمة ... وأنت ملاذي في حياتي وفي قبري ... ذكره ابن الساعي عن ياقوت الحموي عن ابن الفخر الدين عنه وبه قال ... تتمة أبواب السعادة للخلق ... بذكر جلال الواحد الأحدا لحق ... مدبر كل الممكنات بأسرها ... ومبدعها بالعدل والقصد والصدق ... أجل جلال الله عن شبه خلقه ... وأنصر هذا الدين في الغرب والشرف ... إله عظيم الفضل والعدل والعلى ... هو المرشد المغوي هو المسعد المشقي ...
ومما كان ينشده
... وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال ... ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا ...
ثم يقول لقد اختبرت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فلم أجدها تروي غليلا ولا تشفى عليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن أقرا في الاثبات الرحمن على العرش استوى إليه بصعد الكلم الطيب وفي النفي ليس كمثله شيء هل تعلم له سميا
ثم دخلت سنة سبع وستمائة
ذكر الشيخ ابو شامة ان في هذه السنة تمالأت ملوك الجزيرة صاحب الموصل وصاحب سنجار وصاحب إربل والظاهر صاحب حلب وملك الروم على مخالفة العادل ومنابذته ومقاتلته واصطلام الملك من يده وأن تكون الخطبة للملك كنجر بن قلج ارسلان صاحب الروم وأرسلوا إلىالكرج ليقدموا الحصار خلاط وفيها الملك الأوحد بن العادل ووعدهم النصر والمعاونة عليه قلت وهذا بغي وعدوان ينهى الله عنه فأقبلت الكرج بملكهم إيواني فحاصروا خلاط فضاق بهم الأوحد ذرعا وقال هذا يوم عصيب فقدر الله تعالى أن في يوم الاثنين تاسع عشر ربيع الآخر اشتد حصارهم للبلد واقبل ملكهم إيواني وهو راكب على جواده وهو سكران فسقط به جواده في بعض الحفر التي قد أعدت مكيدة حول البلد فبادر إليه رجال البلد فأخذوه أسيرا حقيرا فأسقط في أيدي الكرج فلما أوقف بين يدي الأوحد أطلقه ومن عليه وأحسن إليه وفاداه على مائتي ألف دينار وألفي أسير من المسلمين وتسلميم إحدى وعشرين قلعة متاخمة لبلاد الأوحد وان يزوج ابنته من أخيه الأشرف موسى وأن يكون عونا له على من يحاربه فأجابه إلى ذلك كله فأخذت منه الايمان بذلك وبعث الأوحد إلى أبيه يستأذنه في ذلك كله وأبوه نازل بظاهر حراب في أشد حدة (13/56)
مما قد داهمه من هذا الأمر الفظيع فبينما هو كذلك إذ أتاه هذا الخبر والأمر الهائل من الله العزيز الحكيم لا من حولهم ولا من قوتهم ولا كان في بالهم فكاد يذهل من شدة الفرح والسرور ثم اجاز جميع ما شرطه ولده وطارت الأخبار بما وقع بين الملوك فخضعوا وذلوا عند ذلك وأرسل كل منهم يعتذر مما نسب إليه ويحيل على غيره فقبل منهم اعتذاراتهم وصالحهم صلحا أكيدا واستقبل الملك عصرا جديدا وفي ملك الكرج الأوحد بجميع ما شرطه عليه وتزوج الاشرف ابنته ومن غريب ما ذكره أبو شامة في هذه الكائنة أن قسيس الملك كان ينظر في النجوم فقال للملك قبل ذلك بيوم اعلم انك تدخل غدا إلى قلعة خلاط ولكن بزي غير ذلك اذان العصر فوافق دخوله إليها أسيرا أذان العصر
ذكر وفاة صاحب الموصل نور الدين
ارسل الملك نور الدين شاه بن عز الدين مسعود بن قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل يخطب ابنة السلطان الملك العادل وأرسل وكيله لقبول العقد على ثلاثين ألف دينار فاتفق موت نور الدين ووكيله سائر في أثناء الطريق فعقد العقد بعد وفاته وقد أثنى عليه ابن الاثير في كامله كثيرا وشكر منه ومن عدله وشهامته وهو اعلم به من غيره وذكر أن مدة ملكه سبع عشرة سنة وإحدى عشر شهرا وأما أبو المظفر السبط فإنه قال كان جبارا ظالما بخيلا سفاكا للدماء فالله أعلم به وقام بالملك ولده القاهر عز الدين مسعود وجعل تدبير مملكته إلى غلامه بدر الدين لؤلؤ الذي صار الملك إليه فيما بعد
قال أبو شامة وفي سابع شوال شرع في عمارة المصلى وبنى له أربع جدر مشرفة وجعل له أبوابا صونا لمكانه من الميار ونزول القوافل وجعل في قبلته محرابا من حجارة ومنبرا من حجارة وعقدت فوق ذلك قبة ثم في سنة ثلاث عشرة عمل في قبلته رواقان وعمل له منبر من خشب ورتب له خطيب وإمام راتبان ومات العادل ولم يتم الرواق الثاني منه وذلك كله على يد الوزير الصفي ابن شكر قال وفي ثاني شوال منها جددت أبواب الجامع الأموي 2 من ناحية باب البريد بالنحاس الأصفر وركبت في أماكنها وفي شوال أيضا شرع في إصلاح الفوارة والشاذروان والبركة وعمل عندها مسجد وجعل له إمام راتب وأول من تولاه رجل يقال له النفيس المصري وكان يقال له بوق الجامع لطيب صوته إذا قرأ على الشيخ أبي منصور الضرير المصدر فيجتمع عليه الناس الكثيرون وفي ذي الحجة منها توجهت مراكب من عكا إلى البحر إلى ثغر دمياط وفيها ملك قبرص المسمى إليان فدخل الثغر ليلا فاغار على بعض البلاد فقتل وسبى وكر راجعا فركب مراكبه ولم يدركه الطلب وقد تقدمت له مثلها قبل هذه وهذا شيء لم يتفق لغيره لعنه الله
وفيه عاثت الفرنج بنواحي القدس فبرز إليهم الملك المعظم وجلس الشيخ شمس الدين أبو (13/57)
المظفر ابن قر علي الحنفي وهو سبط ابن الجوزي ابن ابنته رابعة وهو صاحب مرآة الزمان وكان فاضلا في علوم كثيرة حسن الشكل طيب الصوت وكان يتكلم في الوعظ جيدا وتحبه العامة على صيت جده وقد رحل من بغداد فنزل دمشق وأكرمه ملوكها وولى التدريس بها وكان يجلس كل يوم سبت عند باب مشهد علي بن الحسين زين العابدين إلى السارية التي يجلس عندها الوعاظ في زماننا هذا فكان يكثر الجمع عنده حتى يكونوا من باب الناطفانيين إلى باب المشهد إلى باب الساعات الجلوس غير الوقوف فحزر جمعه في بعض الايام ثلاثين ألفا من الرجال والنساء وكان الناس يبيتون ليلة السبت في الجامع ويدعون البساتين يبيتون في قراءة ختمات وأذكار ليحصل لهم أماكن من شدة الزحام فإذا فرغ من وعظه خرجوا إلى أماكنهم وليس لهم كلام إلا فيما قال يومهم ذلك أجمع يقولون قال الشيخ وسمعنا من الشيخ فيحثهم ذلك على العمل الصالح والكف عن المساوي وكان يحضر عنده الأكابر حتى الشيخ تاج الدين أبو اليمن الكندي كان يجلس في القبة التي عند باب المشهد هو ووالي البلد المعتمد ووالي البر ابن تميرك وغيرهم والمقصود أنه لما جلس يوم السبت خامس ربيع الأول كما ذكرنا حث الناس على الجهاد وأمر باحضار ما كان تحصل عنده من شعرو التائبين وقد عمل منه شكالات تحمل الرجال فلما رآها الناس ضجوا ضجة واحدة وبكوا بكاء كثيرا وقطعوا من شعورهم نحوها فلما انقضى المجلس ونزل عن المنبر فتلقاه الوالي مبادر الدين المعتمد بن إبراهيم وكان من خيار الناس فمشى بين يديه إلى باب الناطفيين يعضده حتى ركب فرسه والناس من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله فخرج من باب الفرج وبات بالمصلى ثم ركب من الغد في الناس الى الكسوة ومعه خلائق كثيرون خرجوا بنية الجهاد الى بلاد القدس وكان من جملة من معه ثلاثمائة من جهة زملكا بالعدد الكثيرة التامة قال فجئنا عقبة أفيق والطير لا يتجاسر أن يطير من خوف الفرنج فلما وصلنا نابلس تلقانا المعظم قال ولم أكن اجتمعت به قبل ذلك فلما رأى الشكالات من شعور التائبين جعل يقبلها ويمرغها على عينيه ووجهه ويبكي وعمل أبو المظفر ميعادا بنابلس وحث على الجهاد وكان يوما مشهودا ثم سار هو ومن معه وصحبته المعظم نحو الفرنج فقتلوا خلقا وخربوا أماكن كثيرة وغنموا وعادوا سالمين وشرع المعظم في تحصين جبل الطور وبنى قلعة فيه ليكون إلبا على الفرنج فغرم أموالا كثيرة في ذلك فبعث الفرنج إلى العادل يطلبون منه الأمان والمصالحة فهادنهم وبطلت تلك العمارة وضاع ما كان المعظم غرم عليها والله اعلم وفيها توفي من الاعيان
الشيخ أبو عمر
باني المدرسة بسفح قايسون للفقراء المشتغلين في القرآن رحمه الله محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة (13/58)
الشيخ الصالح ابو عمر المقدسي باني المدرسة التي بالسفح يقرا بها القرآن العزيز وهو أخو الشيخ موفق الدين عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة وكان ابو عمر اسن منه لأنه ولد سنة ثمان وعشرين وخمسمائة بقرية الساويا وقيل بجماعيل والشيخ أبو عمر ربى الشيخ موفق الدين وأحسن إليه وزوجه وكان يقوم بمصالحة فلما قدموا من الأرض المقدسة نزلوا بمسجد أبي صالح خارج باب شرقي ثم انتقلوا منه إلى السفح ليس به من العمارة شيء سوى دير الحوراني قال فقيل لنا الصالحيين نسبة إلى مسجد أبي صالح لا أنا صالحون وسميت هذه البقعة من ذلك الحين بالصالحية نسبة الينا فقرا الشيخ ابو عمر القرآن على رواية أبي عمرو وحفظ مختصر الخرقي في الفقه ثم إن أخاه الموفق شرحه فيما بعد فكتب شرحه بيده وكتب تفسير البغوي والحلية لأبي نعيم والابانة لابن بطة وكتب مصاحف كثيرة بيده للناس ولأهله بلا اجرة وكان كثير العبادة والزهادة والتهجد ويصوم الدهر وكان لا يزال متبسما وكان يقرا كل يوم سبعا بين الظهر والعصر ويصلي الضحى ثماني ركعات يقرأ فيهن ألف مرة قل هو الله أحد وكان يزور مغارة الدم في كل يوم اثنين وخميس ويجمع في طريقه الشيح فيعطيه الأرامل والمساكين ومهما تهيأ له من فتوح وغيره يؤثر به اهله والمساكين وكان متقللا في الملبس وربما مضت عليه مدة لا يلبس فيها سراويل ولا قميصا وكان يقطع من عمامته قطعا يتصدق بها او في تكميل كفن ميت وكان هو واخوه وابن خالهم الحافظ عبد الغني واخوه الشيخ العماد لا ينقطعون عن غزاة يخرج فيها الملك صلاح الدين إلى بلاد الفرنج وقد حضروا معه فتح القدس والسواحل وغيرها وجاء الملك العادل يوما إلى ختمهم أي خصهم ليزارة ابي عمر وهو قائم يصلي فما قطع صلاته ولا اوجز فيها فجلس السلطان واستمر ابو عمر في صلاته ولم يتلتفت اليه حتى قضى صلاته رحمه الله والشيخ ابو عمر هو الذي شرع في بناء المسجد الجامع أولا بمال رجل فامي فنفد ما عنده وقد ارتفع البناء قامة فبعث صاحب إربل الملك المظفر كوكرى مالا فكمل به وولى خطابته الشيخ أبو عمر فكان يخطب به وعليه لباسه الضعيف وعليه أنوار الخشية والتقوى والخوف من الله عز و جل والمسك كيف خبأته ظهر عليك وبان وكان المنبر الذي فيه يومئذ ثلاث مراقي والرابعة للجلوس كما كان المنبر النبوي وقد حكى أبو المظفر أنه حضر يوما عنده الجمعة وكان الشيخ عبد الله البوتاني حاضرا الجمعة أيضا عنده فلما انتهى في خطبته إلى الدعاء للسلطان قال اللهم اصلح عبدك الملك العادل سيف الدين أبا بكر بن أيوب فلما قال ذلك نهض الشيخ عبد الله البوتاني وأخذ نعليه وخرج من الجامع وترك صلاة الجمعة فلما فرغنا ذهبت إلى البوتاني فقلت له ماذا نقمت عليه في قوله فقال يقول لهذا الظالم العادل لا صليت معه قال فبينما نحن في الحديث إذ أقبل الشيخ أبو عمر ومعه رغيف وخيارتان فكسر ذلك الرغيف وقال الصلاة ثم قال قال النبي ص (13/59)
بعثت في زمن الملك العادل كسرى فتبسم الشيخ عبد الله البوتاني ومد يده فأكل فلما فرغوا قام الشيخ أبو عمر فذهب فلما ذهب قال لي البوتاني يا سيدنا ماذا إلا رجل صالح
قال أبو شامة كان البوتاني من الصالحين الكبار وقد رأيته وكانت وفاته بعد ابي عمر بعشر سنين فلم يسامح الشيخ أبا عمر في تساهله مع ورعه ولعله كان مسافرا والمسافر لا جمعة عليه وعذر الشيخ أبي عمر أن هذا قد جرى مجرى الأعلام العادل الكامل الأشرف ونحوه كما يقال سالم وغانم ومسعود ومحمود وقد يكون ذلك على الضد والعكس في هذه الاسماء فلا يكون سالما ولا غانما ولا مسعودا ولا محمودا وكذلك اسم العادل ونحوه من أسماء الملوك وألقابهم والتجار وغيرهم كما يقال شمس الدين وبدر الدين وعز الدين وتاج الدين ونحو ذلك قد يكون معكوسا على الضد والانقلاب ومثله الشافعي والحبنلي وغيرهم وقد تكون أعماله ضد ما كان عليه إمامه الأول من الزهد والعبادة ونحو ذلك وكذلك العادل يدخل إطلاقه على المشترك والله اعلم قلت هذا الحديث الذي احتج به الشيخ أبو عمر لا أصل له وليس هو في شيء من الكتب المشهورة وعجبا له ولأبي المظفر ثم لابي شامة في قبول مثل هذا واخذه منه مسلما إليه في والله أعلم
ثم شرع أبو المظفر في ذكر فضائل أبي عمر ومناقبه وكراماته وما رآه هو وغيره من أحواله الصالحة قال وكان على مذهب السلف الصالح سمتا وهديا وكان حسن العقيدة متمسكا بالكتاب والسنة والآثار المروية يمرها كما جاءت من غير طعن على أئمة الدين وعلماء المسلمين وكان ينهى عن صحبة المتبدعين ويأمر بصحبة الصالحين الذين هم على سنة سيدا لمرسلين وخاتم النبيين وربما أنشدني لنفسه في ذلك ... أوصيكم بالقول في القرآن ... بقول أهل الحق والاتقان ... ليس بمخلوق ولا بفان ... لكن كلام الملك الديان ... آياته مشرقة المعاني ... متلوة لله باللسان ... محفوظة في الصدر والجنان ... مكتوبة في الصحف بالبنان ... والقول في الصفات يا إخواني ... كالذات والعلم مع البيان ... إمرارها من غير ما كفران ... من غير تشبيه ولا عطلان ...
قال وانشدني لنفسه ... ألم يك ملهاة ع اللهو أنني ... بدا لي شيب الرأس والضعف والألم ... الم بي الخطب الذي لو بكيته ... حياتي حتى يذهب الدمع لم ألم ...
قال ومرض أياما فلم يترك شيئا مما كان يعمله من الأوراد حتى كانت وفاته وقت السحر في ليلة (13/60)
الثلاثاء التاسع والعشرين من ربيع الأول فغسل في الدير وحمل إلى مقبرته في خلق كثير لا يعلمهم إلا الله عز و جل ولم يبق أحد من الدولة والامراء والعلماء والقضاة وغيرهم إلا حضر جنازته وكان يوما مشهودا وكان الحر شديدا فاظلت الناس سحابة من الحر كان يسمع منها كدوى النحل وكان الناس ينتهبون أكفانه وبيعت ثيابه بالغالي الغالي ورثاه الشعراء بمراثي حسنة ورؤيت له منامات صالحة رحمه الله وترك من الأولاد ثلاثة ذكور عمر وبه كان يكنى والشرف عبد الله وهو الذي ولي الخطابة بعد أبيه وهو والد العز احمد وعبد الرحمن ولما توفي الشرف عبد الله صارت الخطابة لأخيه شمس الدين عبدا لرحمن بن أبي عمر وكان من أولاد أبيه الذكور فهؤلاء أولاده الذكور وترك من الاناث بنات كما قال الله تعالى مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا قال وقبره في طريق مغارة الجوع في الزقاق المقابل لدير الحوراني رحمه الله وإيانا
ابن طبرزد شيخ الحديث
عمر بن محمد بن معمر بن يحيى المعروف بأبي حفص بن طبرزد البغدادي الدراقزي ولد سنة خمس عشرة وخمسمائة سمع الكثير وأسمع وكان خليعا ظريفا ماجنا وكان يؤدب الصبيان بدار القز قدم مع حنبل بن عبد الله المكبر إلى دمشق فسمع أهلها عليهما وحصل لهما اموال وعادا إلى بغداد فمات حنبل سنة ثلاث وتأخر هو إلى هذه السنة في تاسع شهر رجب فمات وله سبع وتسعون سنة وترك مالا جيدا ولم يكن له وارث إلا بيت المال ودفن بباب حرب
السلطان الملك العادل أرسلان شاه
نور الدين صاحب الموصل وهو ابن أخي نور الدين الشهيد وقد ذكرنا بعض سيرته في الحوادث كان شافعي المذهب ولم يكن بينهم شافعي سواه وبنى للشافعية مدرسة كبيرة بالموصل وبها تربته توفي في صفر ليلة الأحد من هذه السنة
إبن سكينة عبدا لوهاب بن علي
ضياء الدين المعروف بابن سكينة الصوفي كان يعد من الأبدال سمع الحديث الكثير وأسمعه ببلاد شتى ولد في سنة تسع عشرة وخمسمائة وكان صاحبا لأبي الفرج ابن الجوزي ملازما لمجلسه وكان يوم جنازته يوما مشهودا لكثرة الخلق ولكثرة ما كان فيه من الخاصة والعامة رحمه الله
مظفر بن ساسير
الواعظ الصوفي البغدادي ولد سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة وسمع الحديث وكان يعظ في الاعزية والمساجد والقرى وكان ظريفا مطبوعا قام إليه إنسان فقال له فيما بينه وبينه أنا مريض جائع فقال أحمد ربك فقد عوفيت واجتاز مرة على قصاب يبيع لحما ضعيفا وهو يقول أين من (13/61)
حلف لا يغبن فقال له حتى تحنثه قال وعملت مرة مجلسا بيعقوبا فجعل هذا يقول عندي للشيخ نصفيه وهذا يقول عندي للشيخ نصفية وهذا يقول مثله حتى عدوا نحوا من خمسين نصفيه فقلت في نفسي استغنيت الليلة فأرجع إلى البلد تاجرا فلما أصبحت إذا صبرة من شعير في المسجد فقيل لي هذه النصافي التي ذكر الجماعة وإذا هي بكيلة يسمونها نصفيه مثل الزبدية وعملت مرة مجلسا بباصرا فجمعوا لي شيئا لا أدري ما هو فلما أصبحنا إذا شيء من صوف الجواميس وقرونها فقام رجل ينادي عليكم عندكم في قرون الشيخ وصوفه فقلت لا حاجة لي بهذا وأنتم في حل منه ذكره أبو شامة
ثم دخلت سنة ثمان وستمائة
استهلت والعادل مقيم على الطور لعمارة حصنه وجاءت الاخبار من بلاد المغرب بأب عبد المؤمن قد كسر الفرنج بطليطلة كسرة عظيمة وربما فتح البلد عنوة وقتل منهم خلقا كثيرا وفيها كانت زلزلة عظيمة شديدة بمصر والقاهرة هدمت منها دورا كثيرة وكذلك بالكرك والشوبك هدمت من قلعتها أبراجا ومات خلق كثير من الصبيان والنسوان تحت الهدم ورؤى دخان نازل من السماء فيما بين المغرب والعشاء عند قبر عاتكة غربي دمشق وفيها أظهرت الباطنية الاسلام وأقامت الحدود على من تعاطى الحرام وبنوا الجوامع والمساجد وكتبوا إلى إخوانهم بالشام بمضات وأمثالها بذلك وكتب زعيمهم جلال الدين إلى الخليفة يعلمه بذلك وقدمت أمة منهم إلى بغداد لأجل الحج فأكرموا وعظموا بسبب ذلك ولكن لما كانوا بعرفات ظفر واحد منهم على قريب لأمير مكة قتادة الحسيني فقتله ظانا انه قتادة فثارت فتنة بين سودان مكة وركب العراق ونهب الركب وقتل منهم خلق كثير وفيها اشترى الملك الأشرف جوسق الريس من النيرب من ابن عم الظاهر حضر بن صلاح الدين وبناه بناء حسنا وهو المسمى بزماننا بالدهشة وفيها توفي من الاعيان
الشيخ عماد الدين
محمد بن يونس الفقيه الشافعي الموصلي صاحب التصانيف والفنون الكثيرة كان رئيس الشافعية بالموصل وبعث رسولا إلى بغداد بعد موت نور الدين أرسلان وكان عنده وسوسة كثيرة في الطهارة وكان يعامل في الأموال بمسألة العينة كما قيل تصفون البعوض من شرابكم وتستربطون الجمال بأحمالها ولو عكس الأمر لكان خيرا له فلقيه يوما قضيب البان الموكه فقال له يا شيخ بلغني عنك أنك تغسل العضو من أعضائك بابريق من الماء فلم لا تغسل اللقمة التي تأكلها لتستنظف قلبك وباطنك ففهم الشيخ ما أراد فترك ذلك توفي بالموصل في رجب عن ثلاث وسبعين سنة
ابن حمدون تاج الدين
أبو سعد الحسن بن محمد بن حمدون صاحب التذكرة الحمدونية كان فاضلا بارعا اعتنى بجمع (13/62)
الكتب المنسوبة وغيرها وولاه الخليفة المارستان العضدي توفي بالمدائن وحمل إلى مقابر قريش فدفن بها
صاحب الروم خسروشاه
ابن قلج ارسلان مات فيها وقام بالملك بعده ولده كيكايرس فلما توفي في سنة خمس عشرة ملك أخوه كيقياذ صارم الدين برغش العادلي نائب القلعة بدمشق مات في صفر ودفن بتربته غربي الجامع المظفري وهذا الرجل هو الذي نفى الحافظ عبدالغني المقدسي إلى مصر وبين يديه كان عقد المجلس وكان في جملة من قام عليه ابن الزكي والخطيب الدولعي وقد توفوا أربعتهم وغيرهم ممن قام عليه واجتمعوا عند ربهم الحكم العدل سبحانه
الأمير فخر الدين سركس
ويقال له جهاركس احد أمراء الدولة الصلاحية وإليه تنسب قباب سركس بالسفح تجاه تربة خاتون وبها قبره قال ابن خلكان هذا هو الذي بنى القيسارية الكبرى بالقاهرة المسنوبة إليه وبنى في أعلاها مسجدا معلقا وربعا وقد ذكر جماعة من التجار أنهم لم يروا لها نظيرا في البلدان في حسنها وعظمها وإحكام بنائها قال وجها ركس بمعنى أربعة أنفس قلت وقد كان نائبا للعادل على بانياس وتينين وهو بين فلما توفي ترك ولدا صغيرا فأقره العادل على ما كان يليه أبوه وجعل له مدبرا وهو الأمير صارم الدين قطلبا التنيسي ثم استقل بها بعد موت الصبي إلى سنة خمس عشرة
الشيخ الكبير المعمر الرحلة أبو القاسم أبو بكر أبو الفتح منصور بن عبدا لمنعم بن عبد الله بن محمد بن الفضل الفراوي النيسابوري سمع أباه وجد أبيه وغيرهما وعنه ابن الصلاح وغيره توفي بنيسابور في شعبان في هذه السنة عن خمس وثمانين سنة
قاسم الدين التركماني
العقيبي والد والي البلد كانت وفاته في شوال منها والله أعلم
ثم دخلت سنة تسع وستمائة
فيها اجتمع العادل وأولاده الكامل والمعظم والفائز بدمياط من بلاد مصر في مقاتلة الفرنج فاغتنم غيبتهم سامة الجبلي أحد أكابر الأمراء وكانت بيده قلعة عجلون وكوكب فسار مسرعا إلى دمشق ليستلم البلدين فأرسل العادل في إثره ولده المعظم فسبقه إلى القدس وحمل عليه فرسم عليه في كنيسة صهيون وكان شيخا كبيرا قد أصابه النقرس فشرع يرده إلى الطاعة بالملاطفة فلم ينفع فيه فاستولى على حواصله وأملاكه وأمواله وأرسله إلى قلعة الكرك فاعتقله بها وكان قيمة ما أخذه منه قريبا من ألف ألف دينار من ذلك داره وحمامه داخل باب السلامة وداره هي التي جعلها البادرائي مدرسة للشافعية وخرب حصن كوكب ونقلت حواصله إلى حصن الطور الذي استجده (13/63)
العادل وولده المعظم وفيها عزل الوزير ابن شكر واحتيط على أمواله ونفى إلى الشرق وهو الذي كان قد كتب إلى الديار المصرية بنفي الحافظ عبدا لغني منها بعد نفيه من الشام فكتب أن ينفى إلى المغرب فتوفي الحافظ عبد الغني رحمه الله قبل أن يصل الكتاب وكتب الله عز و جل بنفي الوزير إلى الشرق محل الزلازل والفتن والشر ونفاه عن الأرض المقدسة جزاء وفاقا ولما استولى صاحب قبرص على مدينة أنطاكية حصل بسببه شر عظيم وتمكن من الغارات على بلاد المسلمين لا سيما على التراكمين الذين حول أنطاكية قتل منهم خلقا كثيرا وغنم من أغنامهم شيئا كثيرا فقدر الله عز و جل أن أمكنهم منه في بعض الأودية فقتلوه وطافوا برأسه في تلك البلاد ثم أرسلوا رأسه إلى الملك العادل إلى مصر فطيف به هنالك وهو الذي أغار على بلاد مصر من ثغر دمياط مرتين فقتل وسبى وعجز عنه الملوك
وفي ربيع الاول منها توفي الملك الأوحد
نجم الدين أبوب
ابن العادل صاحب خلاط يقال إنه كان قد سفك الدماء وأساء السيرة فقصف الله عمره ووليها بعده أخوه الملك الأشرف موسى وكان محمود السيرة جيد لسريرة فأحسن إلى أهلها فأحبوه كثيرا وفيها توفي من الاعيان
فقيه الحرم الشريف بمكة
محمد بن إسماعيل بن أبي الصيف اليمني وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن أبي بكر القفصي المقري المحدث كتب كثيرا وسمع الكثير ودفن بمقابر الصوفية
أبو الفتح محمد بن سعد بن محمد الديباجي
من أهل مرو له كتاب المحصل في شرح المفصل للزمخشري في النحو كان ثقة عالما سمع الحديث توفي فيها عن ثنتين وتسعين سنة
الشيخ الصالح الزاهد العابد أبو البقاء محمود بن عثمان بن مكارم النعالي الحنبلي كان له عبادات ومجاهدات وسياحات وبنى رباطا بباب الأزح يأوي إليه أهل العلم من المقادسة وغيرهم وكان يؤثرهم ويحسن إليهم وقد سمع الحديث وقرأ القرآن وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر توفي وقد جاوز الثمانين
ثم دخلت سنة عشر وستمائة
فيها أمر العادل أيام الجمع بوضع سلاسل على أفواه الطرق إلى الجامع لئلا تصل الخيول إلى قريب الجامع صيانة للمسلمين عن الأذى بهم ولئلا يضيقوا على المارين إلى الصلاة وفيها ولد الملك (13/64)
العزيز للظاهر غازي صاحب حلب وهو والد الملك الناصر صاحب دمشق واقف الناصريتين داخل دمشق إحداهما داخل باب الفراديس والأخرى بالسفح ذات الحائط الهائل والعمارة المتينة التي قيل إنه لا يوجد مثلها إلا قليلا وهو الذي أسره التتار الذين مع هلاكو ملك التتار وفيها قدم بالفيل من مصر فحمل هدية إلى صاحب الكرج فتعجب الناس منه جدا ومن بديع خلقه وفيها قدم الملك الظافر خضر بن السلطان صلاح الدين من حلب قاصدا الحج فتلقاه الناس وأكرمه ابن عمه المعظم فلما لم يبق بينه وبين مكة إلا مراحل يسيرة تلقته حاشية الكامل صاحب مصر وصدوه عن دخول مكة وقالوا إنما جئت لأخذ اليمن فقال لهم قيدوني وذروني أقضى المناسك فقالوا ليس معنا مرسوم وإنما أمرنا بردك وصدك فهم طائفة من الناس بقتالهم فخاف من وقوع فتنة فتحلل من حجه ورجع إلى الشام وتأسف الناس على ما فعل به وتباكوا لما ودعهم تقبل الله منه وفيها وصل كتاب من بعض فقهاء الحنفية بخراسان إلى الشيخ تاجا الدين أبو اليمن الكندي يخبر به أن السلطان خوارزم شاه محمد بن تاج تنكر في ثلاثة نفر من أصحابه ودخل بلاد التتر ليكشف أخبارهم بنفسه فأنكروهم فقبضوا عليهم فضربوا منهم اثنين حتى ماتا ولم يقرأ بما جاؤا فيه واستوثقوا من الملك وصاحبه الاخر أسرا فلما كان في بعض الليالي هربا ورجع السلطان إلى ملكه وهذه المرة غير نوبة أسره في المعركة مع
مسعود الامير
وفيها ظهرت بلاطة وهم يحفرون في خندق حلب فوجد تحتها من الذهب خمسة وسبعون رطلا ومن الفضة خمسة وعشرون بالرطل الحلبي وفيها توفي من الاعيان
شيخ الحنفية
مدرس مشهد أبي حنيفة ببغداد الشيخ أبو الفضل أحمد بن مسعود بن علي الرساني وكان إليه المظالم ودفن بالمشهد المذكور
والشيخ أبو الفضل بن إسماعيل
ابن علي بن الحسين فخر الدين الحنبلي يعرف بابن الماشطة ويقال له الفخر غلام ابن المنى له تعليقة في الخلاف وله حلقة بجامع الخليفة وكان يلي النظر في قرايا الخليفة ثم عزله فلزم بيته فقيرا لا شيء له إلى أن مات رحمه الله وكان ولده محمد مدبرا شيطانا مريدا كثير الهجاء والسعاية بالناس إلى أولياء الأمر بالباطل فقطع لسانه وحبس إلى أن مات
والوزير معز الدين أبو المعالي
سعيد بن علي بن احمد بن حديدة من سلالة الصحابي قطبة بن عامر بن حديدة الأنصاري ولى الوزارة للناصر في سنة أربع وثمانين ثم عزله عن سفارة ابن مهدي فهرب إلى مراغة ثم عاد (13/65)
بعد موت ابن مهدي فأقام ببغداد معظما محترما وكان كثير الصدقات والاحسان إلى الناس إلى ان مات رحمه الله
وسنجربن عبد الله الناصري
الخليفتي كانت له أموال كثيرة وأملاك وإقطاعات متسعة وكان مع ذلك بخيلا ذليلا ساقط النفس اتفق أنه خرج أمير الحاج في سنة تسع وثمانين وخمسمائة فاعترضه بعض الأعراب في نفر يسير ومع سنجر خمسمائة فارس فدخله الذل من الأعرابي فطلب منه الاعرابي خمسين ألف دينار فجباها سنجر من الحجيج ودفعها إليه فلما عاد إلى بغداد أخذ الخليفة منه خمسين ألف دينار ودفعها إلى أصحابها وعزله وولى طاشتكين مكانه
قاضي السلامية
ظهير الدين أبو إسحاق إبراهيم بن نصر بن عسكر الفقيه الشافعي الأديب ذكره العماد في الجريدة وابن خلكان في الوفيات وأثنى عليه وانشد من شعره في شيخ له زاوية وفي أصحابه يقال له مكي ... ألا قل لمكي قول النصوح ... وحق النصيحة أن تستمع ... متى سمع الناس في دينهم ... بأ الغنا سنة تتبع ... وأن يأكل المرء أكل البعير ... ويرقص في الجمع حتى يقع ... ولو كان طاوى الحشا جائعا ... لما دار من طرب واستمع ... وقالوا سكرنا بحب الاله ... وما أسكر القوم إلا القصع ... كذاك الحمير إذا أخصبت ... يهيجها ريها والشبع ... تراهم يهزوا لحاهم إذا ... ترنم حاديهم بالبدع ... فيصرخ هذا وهذا يئن ... ويبس لو تلين ما انصدع ... وتاج الامناء
أبو الفضل أحمد بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عساكر من بيت الحديث والرواية وهو أكبر من إخوته زين الفخر والامناء سمع عميه الحافظ أبي القاسم والصائن وكان صديقا للكندي توفي يوم الأحد ثاني رجب ودفن قبلي محراب مسجد القدم
والنسابة الكلبي
كان يقال له تاج العلى الحسيني اجتمع بآمد بابن دحية وكان ينسب إلى دحية الكلبي ودحية الكلبي لم يعقب فرماه ابن دحية بالكذب في مسائله الموصلية قال ابن الأثير وفي المحرم منها توفي (13/66)
المهذب الطبيب المشهور
وهو علي بن احمد بن مقبل الموصلي سمع الحديث وكان أعلم أهل زمانه بالطب وله فيه تصنيف حسن وكان كثير الصدقة حسن الاخلاق
الجزولي صاحب المقدمة المسماة بالقانون وهو أبو موسى عيسى بن عبدالعزيز الجزولي بطن من البربر ثم البردكيني النحوي المصري مصنف المقدمة المشهورة البديعة شرحها هو وتلامذته وكلهم يعترفون بتقصيرهم عن فهم مراده في أماكن كثيرة منها قدم مصر وأخذ عن ابن بري ثم عاد إلى بلاده وولى خطابه مراكش توفي في هذه السنة وقيل قبلها فالله أعلم
ثم دخلت سنة إحدى عشرة وستمائة
فيها أرسل الملك خوارزم شاه أميرا من أخصاء امرائه عنده وكان قبل ذلك سير وانيا فصار أميرا خاصا فبعثه في جيش ففتح له كرمان ومكران وإلى حدود بلاد السند وخطب له بتلك البلاد وكان خورازم شاه لا يصيف إلا بنواحي سمرقند خوفا من التتار وكشلى خان أن يثبوا على أطراف تلك البلاد التي تتاخمهم قال أبو شامة وفيها شرع في تبليط داخل الجامع الأموي وبدأوا من ناحية السبع الكبير وكانت أرض الجامع قبل ذلك حفرا وجورا فاستراح الناس في تبليطه وفيها وسع الخندق مما يلي القيمازية فأخربت دور كثيرة وحمام قايماز وفرن كان هناك وقفا على دار الحديث النورية وفيها بنى المعظم الفندق المنسوب إليه بناحية قبر عاتكة ظاهر باب الجابية وفيها أخذ المعظم قلعة صرخد من ابن قراجا وعوضه عنها وسلمها إلى مملوكه عز الدين أيبك المعظمى فثبتت في يده إلى أن انتزعها منه نجم الدين أيوب سنة أربع وأربعين وفيها حج الملك المعظم ابن العادل ركب من الكرك على الهجن في حاي عشر ذي القعدة ومعه ابن موسك ومملوك أبيه وعز الدين استاذ داره وخلق فسار على طريق تبوك والعلا وبنى البركة المنسوبة إليه ومصانع أخر فلما قدم المدينة النبوية تلقاه صاحبها سالم وسلم إليه مفاتيحها وخدمه خودمة تامة وأما صاحب مكة قتادة فلم يرفع به رأسا ولهذا لما قضى نسكه وكان قارنا وأنفق في المجاورين ما حمله إليهم من الصدقات وكر راجعا استصحب معه سالما صاحب المدينة وتشكى إلى أبيه عند راس الماء ما لقيه من صاحب مكة فأرسل العادل مع سالم جيشا يطردون صاحب مكة فلما انتهوا إليها هرب منهم في الأدوية والجبال والبراري وقد اثر المعظم في حجته هذه آثارا حسنة بطريق الحجاز أثابه الله
وفيها تعادل أهل دمشق في القراطيس السود العادلية ثم بطلت بعد ذلك ودفنت وفيها مات (13/67)
صاحب اليمن وتولاها سليمان بن شاهنشاه بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب باتفاق الأمراء عليه فأرسل العادل إلى ولده الكامل أن يرسل إليها ولده أضسيس فأرسله فتملكها فظلم بها وفتك وغشم وقتل من الأشراف نحوا من ثمانمائة وأما من عداهم فكثير وكان من افجر الملوك وأكثرهم فسقا وأقلهم حياء ودينا وقد ذكروا عنه ما تقشعر منه الأبدان وتنكره القلوب نسأل الله العافية وفيها توفي من الاعيان
إبراهيم بن علي
ابن محمد بن بكروس الفقيه الحنبلي أفتى وناظر وعدل عندالحكام ثم انسلخ من هذا كله وصار شرطيا بباب النوى يضرب الناس ويؤذيهم غاية الأذى ثم بعد ذلك ضرب إلى أن مات والقى في دجلة وفرح الناس بموته وقد كان أبوه رجلا صالحا
الركن عبد السلام بن عبد الوهاب
ابن الشيخ عبد القادر كان أبوه صالحا وكان هو متهما بالفسلفة ومخاطبة النجوم ووجد عنده كتب في ذلك وقد ولى عدة ولايات وفيه وفي أمثاله يقال نعم الجدود ولكن بئس ما نسلوا رأى عليه أبوه يوما ثوبا بخاريا فقال سمعنا بالبخارى ومسلم وأما بخارى وكافر فهذا شيء عجيب وقد كان مصاحبا لأبي القاسم ابن الشيخ ابي الفرج بن الجوزي وكان الاخر مدبرا فاسقا وكانا يجتمعان على الشراب والمردان قبحهما الله
أبو محمد عبد العزيز بن محمود بن المبارك
البزار المعروف بابن الأخضر البغدادي المحدث المكثر الحافظ المصنف المحرر له كتب مفيدة متقنة وكان من الصالحين وكان يوم جنازته يوما مشهودا رحمه الله
الحافظ أبو الحسن علي بن الأنجب
أبي المكارم المفضل بن أبي الحسن علي بن أبي الغيث مفرج بن حاتم بن الحسن بن جعفر بن إبراهيم بن الحسن اللخمي المقدسي ثم الاسكندراني المالكي سمع السلفي وعبد الرحيم المنذري وكان مدرسا للمالكية بالاسكندرية ونائب الحكم بها ومن شعره قوله ... أيا نفس بالمأثور عن خير مرسل ... وأصحابه والتابعين تمسكي ... عساكي إذا بالغت في نشر دينه ... بما طاب من عرف له أن تمسكي ... وخافي غدا يوم الحساب جهنما ... إذا لفحت نيرانها أن تمسكي ...
توفي بالقاهرة في هذه السنة قاله ابن خلكان ثم دخلت سنة اثنتني عشرة وستمائة فيها شرع في بناء المدرسة العادلية الكبيرة بدمشق وفيها عزل القاضي ابن الزكي وفوض الحكم (13/68)
إلى القاضي جمال الدين بن الحرستاني وهو ابن ثمانين أو تسعين سنة فحكم بالعدل وقضى بالحق ويقال إنه كان يحكم بالمدرسة المجاهدية قريبا من النورية عند باب القواسين وفيها أبطل العادل ضمان الخمر والقيان جزاه الله خيرا فزال بزوال ذلك عن الناس ومنهم شر كثير وفيها حاصر الأمير قتادة أمير مكة المدينة ومن بها وقطع نخلا كثيرا فقاتله أهلها فكر خائبا خاسرا حسيرا وكان صاحب المدينة بالشام فطلب من العادل نجدة على أمير مكة فأرسل معه جيشا فأسرع في الاوبة فمات في أثناء الطريق فاجتمع الجيش على أبن أخيه جماز فقصد مكة فالتقاه اميرها بالصفراء فاقتتلوا قتالا شديدا فهرب المكيون وغنم منهم جماز شيئا كثيرا وهرب قتادة إلى الينبع فساروا إليه فحاصروه بها وضيقوا عليه وفيها أغارت الفرنج على بلاد الاسماعيلية فقتلوا ونهبوا وفيها أخذ ملك الروم كيكارس مدينة أنطاكية من أيدي الفرنج ثم أخذها منه ابن لاون ملك الأرمن ثم منه إيريس طرابلس وفيها ملك خوارزم شاه محمد بن تكش مدينة غزنة بغير قتال
وفيها كانت وفاة ولي العهد أبي الحسن علي بن أمير المؤمنين الناصر لدين الله ولما توفي حزن الخليفة عليه حزنا عظيما وكذلك الخاصة والعامة لكثرة صدقاته وإحسانه إلى الناس حتى قيل إنه لم يبق بيت ببغداد إلا حزنوا عليه وكان يوم جنازته يوما مشهودا وناح أهل البلد عليه ليلا ونهارا ودفن عند جدته بالقرب من قبر معروف توفي يوم الجمعة العشرين من ذي القعدة وصلى عليه بعد صلاة العصر وفي هذا اليوم قدم بغداد براس منكلي الذي كان قد عصى على الخليفة وعلى أستاذه فطيف به ولم يتم فرحه ذلك اليوم لموت ولده وولى عهده والدنيا لا تسر بقدر ما تضر وترك ولدين أحدهما المؤيد أبو عبد الله الحسين والموفق أبو الفضل يحيى وفيها توفي من الاعيان
الحافظ عبد القادر الرهاوي
ابن عبد القادر بن عبد الله بن عبدا لرحمن أبو محمد الحافظ المحدث المخرج المفيد المحرر المتقن البارع المصنف كان مولى لبعض المواصلة وقيل لبعض الجوابين اشتغل بدار الحديث بالموصل ثم انتقل إلى حران وقد رحل إلى بلدان شتى وسمع الكثير من المشايخ وأقام بحران إلى أن توفي بها وكان مولده في سنة ست وثلاثين وخمسمائة كان دينا صالحا رحمه الله
الوجيه الأعمى
أبو بكر المبارك بن سعيد بن الدهان النحوي الواسطي الملقب بالوجيه ولد بواسط وقدم بغداد فاشتتغل بعلم العربية فأتقن ذلك وحفظ شيئا كثير من أشعار العرب وسمع الحديث وكان حنبليا ثم انتقل إلى مذهب ابي حنيفة ثم صار شافعيا وولى تدريس النحو بالنظامية وفيه يقول الشاعر فمن مبلغ عني الوجيه رسالة وإن كان لا تجدي إليه الرسائل (13/69)
تمذهبت للنعمان بعد ابن حنبل ... وذلك لما أعوزتك المآكل ... وما أخذت برأي الشافعي ديانة ... ولكنما تهوى الذي هو حاصل ... وعما قليل أنت لا شك صائر ... إلى مالك فانظر إلى ما أنت قائل ...
وكان يحفظ شيئا كثيرا من الحكايات والأمثال والملح ويعرف العربية والتركية والعجمية والرومية والحبشية والزنجية وكانت له يد طولى في نظم الشعر فمن ذلك قوله ... ولو وقفت في لجة البحر قطرة ... من المزن يوما ثم شاء لما زها ... ولو ملك الدنيا فأضحى ملوكها ... عبيدا له في الشرق والغرب مازها ...
وله في التجنيس ... أطلت ملامي في اجتنابي لمعشر ... طغام لئام جودهم غير مرتجي ... حموا ما لهم والدين والعرض منهم ... مباح فما يخشون من عاب أو هجا ... إذا شرع الأجواد في الجود منهجا ... لهم شرعوا في البخل سبعين منهجا ...
وله مدائح حسنة وأشعار رائقة ومعاني فائقة وربما عارض شعر البحتري بما يقاربه ويدانيه قالوا وكان الوجيه لا يغضب قط فتراهن جماعة مع واحد أنه إن أغضبه كان له كذا وكذا فجاء إليه فسأله عن مسألة في العربية فأجابه فيها بالجواب فقال له السائل أخطأت أيها الشيخ فأعاد عليه الجواب بعبارة أخرى فقال كذبت وما أراك إلا قد نسيت النحو فقال الوجيه أيها الرجل فلعلك لم تفهم ما أقول لك فقال بلى ولكنك تخطيء في الجواب فقال له فقل أنت ما عندك لنستفيد منك فاغلظ له السائل في القول فتبسم ضاحكا وقال له إن كنت راهنت فقد غلبت وإنما مثلك مثل البعوضة يعني الناموسة سقطت على ظهر الفيل فلما أرادت أن تطير قالت له استمسك فإني احب أن أطير فقال لها الفيل ما احسست بك حين سقطت فما أحتاج أن استمسك إذا طرت كانت وفاته رحمه الله في شعبان منها ودفن بالوردية
أبو محمد عبدالعزيز بن أبي العاليي
ابن غنيمة المعروف بابن منينا ولد سنة خمس عشرة وخمسمائة وسمع الكثير وأسمعه توفي في ذي الحجة منها عن سبع وتسعين سنة
الشيخ الفقه كمال الدين مودود ابن الشاغوري الشافعي كان يقرئ بالجامع الأموي الفقه وشرح التنبيه للطلبة ويتأنى عليهم حتى يفهموا احتسابا تجاه المقصوةر ودفن بمقابر باب الصغير شمالي قبور الشهداء وعلى قبره شعر ذكره أبو شامة والله سبحانه اعلم (13/70)
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وستمائة
قال أبو شامة فيها أحضرت الاوتاد الخشب الاربعة لأجل قبة النسر طول كل واحد اثنان وثلاثون ذراعا بالنجار وفيها شرع في تجديد خندق باب السر المقابل لدار الطعم العتيقة إلى جانب بانياس قلت هي التي يقال لها اليوم اصطبل السلطان وقد نقل السلطان بنفسه التراب ومماليكه تحمل بين يديه على قربوس السروج القفاف من التراب فيفرغونها في الميدان الأخضر وكذلك أخوه الصالح ومماليكه يعمل هذا يوما وهذا يوما وفيها وقعت فتنة بين أهل الشاغور وأهل العقيبة فاقتتلوا بالرحبة والصيارف فركب الجيش إليهم ملبسين وجاء المعظم بنفسه فمسك رؤسهم وحبسهم وفيها رتب بالمصلى خطيب مستقل وأول من باشره الصدر معيد الفلكية ثم خطب به بعد بهاء الدين بن أبي اليسر ثم بنو حسان وإلى الآن وفيها توفي من الاعيان
الملك الظاهر أبو منصور
غازي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب وكان من خيار الملوك وأسدهم سيرة ولكن كان فيه عسف ويعاقب على الذنب اليسير كثيرا وكان يكرم العلماء والشعراء والفقراء أقام في الملك ثلاثين سنة وحضر كثيرا من الغزوات مع أبيه وكان ذكيا له رأي جيد وعبارة سديدة وفطنة حسنة بلغ أربعا واربعين سنة وجعل الملك من بعده لولده العزيز غياث الدين محمد و كان حينئذ ابن ثلاث سنين وكان له أولاد كبار ولكن ابنه هذا الصغير الذي عهد إليه كان من بنت عمه العادل وأخواله الأشرف والمعظم والكامل وجده وأخواله لا ينازعونه ولو عهد لغيره من أولاده لأخذوا الملك منه وهكذا وقع سواء بايع له جده العادل وأخواله وهم المعظم بنقض ذلك وبأخذ الملك منه فلم يتفق له ذلك وقام بتدبير ملكه الطواشي شهاب الدين طفر بك الرومي الابيض وكان دينا عاقلا وفيها توفي من الاعيان
زيد بن الحسن
ابن زيد بن الحسن بن سعيد بن عصمة الشيخ الامام وحيد عصره تاج الدين أبو اليمن الكندي ولد ببغداد ونشأ بها واشتغل وحصل ثم قدم دمشق فأقام بها وفاق أهل زمانه شرقا وغربا في اللغة والنحو وغير ذلك من فنون العلم وعلو الاسناد وحسن الطريقة والسيرة وحسن العقيدة وانتفع به علماء زمانه وأثنوا عليه وخضعوا له وكان حنبليا ثم صار حنفيا ولد في الخامس والعشرين من شعبان سنة عشرين وخمسمائة فقرأ القرآن بالروايات وعمره عشر سنين وسمع الكثير من الحديث العالي على الشيوخ الثقات وعنى به وتعلم العربية واللغة واشتهر بذلك ثم دخل الشام في سنة ثلاث وستين وخمسمائة ثم سكن مصر واجتمع بالقاضي الفاضل ثم انتقل إلى دمشق فسكن بدار (13/71)
العجم منها وحظى عند الملوك والوزراء والأمراء وتردد إليه العلماء والملوك وأنباؤهم كان الأفضل ابن صلاح الدين وهو صاحب دمشق يتردد إليه في منزله وكذلك أخوه المحسن والمعظم ملك دمشق كان ينزل إليه إلى درب العجم يقرأ عليه في المفصل للزمخشري وكان المعظم يعطى لمن حفظ المفصل ثلاثين دينارا جائزة وكان يحضر مجلسه بدرب العجم جميع المصدرين بالجامع كالشيخ علم الدين السخاوي ويحيى بن معطى الوجيه اللغوي والفخر التركي وغيرهم وكان القاضي الفاضل يثنى عليه قال السخاوي كان عنده من العلوم مالا يوجد عند غيره ومن العجب ان سيبويه قد شرح عليه كتابه وكان اسمه عمرو واسمه زيد فقلت في ذلك ... لم يكن في عهد عمرو مثله ... وكذا الكندي في آخر عصر ... فهما زيد وعمرو إنما ... بنى النحو على زيد وعمرو ...
قال أبو شامة وهذا كما قال فيه ابن الدهان المذكور في سنة ثنتين وتستعين وخمسمائة ... يا زيد زادك ربي من مواهبه ... نعما يقصر عن إدراكها الأمل ... النحو أنت أحق العالمين به ... أليس باسمك فيه يضرب المثل ...
وقد مدحه السخاوي بقصيدة حسنة وأثنى عليه أبو المظفر سبط ابن الجوزي فقال قرأت عليه وكان حسن العقيدة ظريف الخلق لا يسأم الانسان من مجالسته وله النوادر العجيبة والخط المليح والشعر الرائق وله ديوان شعر كبير وكانت وفاته يوم الاثنين سادس شوال منها وله ثلاث وتسعون سنة وشهر وسبعة عشر يوما وصلى عليه بجامع دمشق ثم حمل إلى الصالحية فدفن بها وكان قد وقف كتبه وكانت نفيسة وهي سبعمائة وإحدى وستون مجلدا على معتقه نجيب الدين ياقوت ثم على العلماء في الحديث والفقه واللغة وغير ذلك وجعلت في خزانة كبيرة في مقصورة ابن سنان الحلبية المجاورة لمشهد علي بن زين العابدين ثم إن هذه الكتب تفرقت وبيع كثير منها ولم يبق بالخزانة المشار إليها إلا القليل الرث وهي بمقصورة الحلبية وكانت قديما يقال لها مقصورة ابن سنان وقد ترك نعمة وافرة وأموالا جزيلة ومماليك متعددة من الترك الحسان وقد كان رقيق الحاشية حسن الاخلاق يعامل الطلبة معاملة حسنة من القيام والتعظيم فلما كبر تركا لقيام لهم وأنشأ يقول ... تركتب قيامي للصديق يزورني ... لا ذنب لي إلا الاطالة في عمري ... فإن بلغوا من عش تسعين نصفها ... تبين في ترك القيام لهم عذري ...
ومما مدح فيه الملك المظفر شاهنشاه ما ذكره ابن الساعي في تاريخ ... وصال الغواني كان اورى وأرجا ... وعصر التداني كان أبهى وأبهجا (13/72)
ليالي كان العمر أحسن شافع ... تولى وكان اللهو أوضح منهجا ... بدا الشيب فانجابت طماعية الصبا ... وقبح لي ما كان يستحسن الحجا ... بلهنية ولت كان لم أكن بها ... اجلي بها وجه النعيم مسرجا ... ولا ختلت في برد الشباب مجررا ... ذيولي إعجابا به وتبرجا ... أعارك غيداء المعاطف طفلة ... واغيد معسول المراشف أدعجا ... نقضت لياليها بطيب كأنه ... لتقصيره منها مختطف الدجا ... فإن أمس مكروب الفؤاد خزينة ... أعاقر من در الصابة منهجا ... وحيدا على أني بفضل متيم ... مروعا بأعداء الفضائل مزعجا ... فيا رب ديني قد سررت وسرني ... وأبهجته بالصالحات وأبهجا ... ويا رب ناد قد شهدت وماجد ... شهدت دعوته فتلجلجا ... صدعت بفضلى نقصه فتركته ... وفي قلبه شجو وفي حلقه شجا ... كأن ثنائي في مسامع حسدي ... وقد ضم أبكار المعاني وأدرجا ... حسام تقي الدين في كل مارق ... يقد إلى الأرض الكمي المدججا ...
وقال يمدح أخاه معز الدين فروخشاه بن شاهنشاه بن أيوب ... هل أنت راحم عبرة ومدله ... ومجير صب عند ما منه وهي ... هيهات يرحم قاتل مقتوله ... وسنانه في القلب غير منهنه ... مذ بل من ذاك الغرام فانني ... مذ حل بي مرض الهوى لم أنقه ... إني بليت بحب أغيد ساحر ... بلحاظه رخص البنان بزهوه ... ابغي شفاء تدلهي من واله ... ومتى يرق مدلل لمدله ... كم آهة لي في هواه وأنه ... لو كان ينفعني عليه تأوهي ... ومآرب في وصله لو أنها ... تقضي لكانت عند مبسمه الشهي ... يا مفردا بالحسن إنك منته فيه كما أنا في الصبابة منتهي ... قد لام فيك معاشر كي أنتهى ... باللوم عن حب الحياة وانت هي ... أبكي لديه فان احس بلوعة ... وتشهق أرمي بطرف مقهقه ... يا من محاسنه وحالي عنده ... حيران بين تفكر وتكفه ... ضدان قد جمعا بلفظ واحد ... لي في هواه بمعنيين موجه (13/73)
او لست رب فضائل لوحاز أد ... ناها وما أزهى بها غيري زهى ...
والذي أنشده تاج الدين الكندي في قتل عمارة اليمنى حين كان مالأ الكفرة والملحدين على قتل الملك صلاح الدين وأرادوا عودة دولة الفاطميين فظهر على أمره فصلب مع من صلب في سنة تسع وتسعين وخمسمائة ... عمارة في الاسلام أبدى خيانة ... وحالف فيها بيعة وصليبا ... فأمسى شريك الشرك في بعض أحمد ... وأصبح في حب الصليب صليبا ... وكان طبيب الملتقى إن عجمته ... تجد منه عودا في النفاق صليبا ( 1 ) ...
وله ... صحبنا الدهر أياما حسانا ... نعوم بهن في اللذات عوما ... وكانت بعد ما ولت كأني ... لدى نقصانها حلما ونوما ... أناخ بي المشيب فلا براح ... وإن أوسعته عتبا ولوما ... نزيل لا يزال على التآني ... يسوق إلى الردى يوما فيوما ... وكنت اعد لي عاما فعاما فصرت أعد لي يوما فيوما ... العز محمد بن الحافظ عبدالغني المقدسي
ولد سنة ست وستين وخمسمائة وأسمعه والده الكثير ورحل بنفسه إلى بغداد وقرأ بها مسند أحمد وكانت له حلقة بجامع دمشق وكان من أصحاب المعظم وكان صالحا دينا ورعا حافظا رحمه الله ورحم أباه
أبو الفتوح محمد بن علي بن المبارك
الخلاخلي البغدادي سمع الكثير وكان يتردد في الرسلية بين الخليفة والملك الأشرف ابن العادل وكان عاقلا دينا ثقة صدوقا
الشريف أبو جعفر
يحيى بن محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن علي العلوي الحسيني نقيب الطالبيين بالبصرة بعد أبيه كان شيخا أديبا فاضلا عالما بفنون كثيرة لا سيما علم الانساب وأيام العرب وأشعارها يحفظ كثيرا منها وكان من جلساء الخليفة الناصر ومن لطيف شعره قوله ... ليهنك سمع لا يلائمه العذل ... وقلب قريح لا يمل ولا يسلو ... كأن على الحب أضحى فريضة ... فليس لقلبي غيره أبدا شغل ... وإني لأهوى الهجر ما كان أصله ... دلالا ولولا الهجر ما عذب الوصل ... وأما إذا كان الصدود ملالة ... فأيسر ما هم الحبيب به القتل ... أبو علي مزيد بن علي
ابن مزيد المعروف بابن الخشكري الشاعر المشهور من أهل النعمانية جمع لنفسه ديوانا أورد له ابن الساعي قطعة من شعره فمن ذلك قوله (13/74)
سألتك يوم النوى نظرة ... فلم تسمحي فعز الاسلم ... فأعجب كيف تقولين لا ... ووجهك قد خط فيه نعم ... أما النون يا هذه حاجب ... أما العين عين أما الميم فم ... أبو الفضل رشوان بن منصور
ابن رشوان الكردي المعروف بالنقف ولد باربل وخدم جنديا وكا اديبا شاعرا خدم مع الملك العادل ومن شعره قوله ... سلي عني الصوارم والرماحا ... وخيلا تسبق الهوج الرياحا ... وأسدا حبيسها سمر العوالي ... إذا ما الأسد حاولت الكفاحا ... فإني ثابت عقلا ولبا ... إذا ما صائح في الحرب صاحا ... وأورد مهجتي لجج المنايا ... إذا ما جت ولم أخف الجراحا ... وكم ليل سهرت وبت فيه ... اراعي النجم أرتقب الصباحا ... وكم في فدفد فرسي ونضوى ... بقائلة الهجير غدا وراحا ... لعينك في العجاجة ما ألاقي ... وأثبت في الكريهة لا براحا ... محمد بن يحيى
ابن هبة الله أبو نصر النحاس الوساطي كتب إلى السبط من شعره ... وقائلة لما عمرت وصار لي ... ثمانون عاما عش كذا وابق واسلم ... ودم وانتشق روح الحياة فإنه ... لا طيب من بيت بصعدة مظلم ... فقلت لها عذرى لديك ممهد ... ببيت زهير فاعملي وتعلمي ... سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولا لا محالة يسأم ... ثم دخلت سنة اربع عشرة وستمائة
في ثالث المحرم منها كمل تبليط داخل الجامع الأموي وجاء المعتمد مبارز الدين إبراهيم المتولى بدمشق فوضع آخر بلاطة منه بيده عند باب الزيارة فرحا بذلك وفيها زادت دجلة ببغداد زيادة عظيمة وارتفع الماء حتى ساوى القبور إلا مقدار أصبعين ثم طفح الماء من فوقه وأيقن الناس بالهلكة واستمر ذلك سبع ليال وثمانية أيام حسوما ثم من الله فتناقص الماس وذهبت الزيادة وقد بقيت بغداد تلولا وتهدمت اكثر البنايات وفيها درس بالنظامية محمد بن يحيى بن فضلان وحضر عنده القضاة والأعيان وفيها صدر الصدر بن حمويه رسولا من العادل إلى الخليفة وفيها قدم ولده الفخر ابن الكامل إلى المعظم يخطب منه ابنته على ابنه أقسيس صاحب اليمن فعقد العقد بدمشق على (13/75)
صداق هائل وفيها قدم السلطان علاء الدين خوارزم شاه محمد بن تكش من همدان قاصدا إلى بغداد في أربعمائة ألف مقاتل وقيل في ستمائة ألف فاستعد له الخليفة واستخدم الجيوش وارسل إلى الخليفة يطلب منه أن يكون بين يديه على قاعدة من تقدمه من الملوك السلاجقة وان يخطب له ببغداد فلم يجبه الخليفة إلى ذلك وارسل إليه الشيخ شهاب الدين السهروردي فلما وصل شاهد عنده من العظمة وكثرة الملوك بين يديه وهو جالس في حركاة من ذهب على سرير ساج وعليه قباء بخارى ما يساوي خمسة دراهم وعلى رأسه جلدة ما تساوي درهما فسلم عليه فلم يرد عليه من الكبر ولم يأذن له في الجلوس فقام إلى جانب السرير وأخذ في خطبة هائلة فذكر فيها فضل بني العباس وشرفهم وأورد حديثا في النهي عن أذاهم والترجمان يعيد على الملك فقال الملك أما ما ذكرت من فضل الخليفة فإنه ليس كذلك ولكني إذ قدمت بغداد اقمت من يكون بهذه الصفة وأما ما ذكرت من النهي عن أذاهم فإني لم أوذ منهم أحدا ولكن الخليفة في سجونه منهم طائفة كثيرة يتناسلون في السجون فهو الذي آذى بني العباس ثم تركه ولم يرد عليه جوابا بعد ذلك وانصرف السهروردي راجعا وأرسل الله تعالى على الملك وجنده ثلجا عظيما ثلاثة ايام حتى طم الحزاكي والخيام ووصل إلى قريب رؤس الأعلام وتقطعت أيدي رجال وأرجلهم وعمهم من البلاء مالا يحد ولا يوصف فردهم الله خائبين والحمد لله رب العالمين
وفيها انقضت الهدنة التي كانت بين العادل والفرنج واتفق قدوم العادل من مصر فاجتمع هو وابنه المعظم ببيسان فركبت الفرنج من عكا وصحبتهم ملوك السواحل كلهم وساقوا كلهم قاصدين معافصة العادل فلما أحس بهم فر منهم لكثرة جيوشهم وقلة من معه فقال ابنه المعظم إلى أين يا أبة فشتمه بالعجمية وقال له أقطعت الشام مماليكك وتركت أبناء الناس ثم توجه العادل إلى دمشق وكتب إلى واليها المعتمد ليحصنها من الفرنج وينقل إليها من الغلات من داريا إلى القلعة ويرسل الماء على أراضي داريا وقصر حجاج والشاعوز ففزع الناس من ذلك وابتهلوا إلى الله بالدعاء وكثر الضجيج بالجامع وأقبل السلطان فنزل مرج الصفر وأرسل إلى ملوك الشرق ليقدموا لقتال الفرنج فكان أول من قدم صاحب حمص أسد الدين فتلقاه انلاس فدخل من باب الفرج وجاء فسلم على ست الشام بدارها عند المارستان ثم عاد إلى داره ولما قدم أسد الدين سرى عن الناس فلما أصبح توجه نحو العادل إلى مرج الصفر وأما الفرنج فإنهم قدموا بيسان فنهبوا ما كان بها من الغلات والدواب وقتلوا وسبوا شيئا كثيرا ثم عاثوا في الأرض فسادا يقتلون وينهبون ويأسرون ما بين بيسان إلى بانياس وخرجوا إلى أراضي الجولان إلى نوى وغيرها وسار الملك المعظم فنزل على عقبة اللبن بين القدس ونابلس خوفا على القدس منهم فإنه هو الأهم الأكبر ثم حاصر الفرنج (13/76)
حصن الطور حصارا هائلا ومانع عنه الذين به من الابطال ممانعة هائلة ثم كر الفرنج راجعين إلى عكا ومعهم الاسارى من المسلمين وجاء الملك المعظم إلى الطور فخلع على الأمراء الذين به وطيب نفوسهم ثم اتفق هو وابوه على هدمه كما سيأتي وفيها توفي من الاعيان
الشيخ الامام العلامة الشيخ العماد
أخو الحافظ عبدالغني أبو إسحاق إبراهيم بن عبدالواحد بن علي بن سرور المقدسي الشيخ العمادي أصغر من أخيه الحافظ عبد الغني بسنتين وقدم مع الجماعة إلى دمشق سنة إحدى وخمسين وخمسمائة ودخل بغداد مرتين وسمع الحديث وكان عابدا زاهدا ورعا كثير الصيام يصوم يوما ويفطر يوما وكان فقيها مفتيا وله كتاب الفروع وصنف أحكاما ولم يتمه وكان يؤم بمحراب الحنابلة مع الشيخ الموفق وإنما كانوا يصلون بغير محراب ثم وضع المحراب في سنة سبع عشرة وستمائة وكان أيضا يؤم بالناس لقضاء الفوائت وهو أول من فعل ذلك صلى المغرب ذات ليلة وكان صائما ثم رجع إلى منزله بدمشق فأفطر ثم مات فجأة فصلى عليه بالجامع الأموي صلى عليه الشيخ الموفق عند مصلاهم ثم صعدوا به إلى السفح وكان يوم موته يوما مشهودا من كثرة الناس قال سبط ابن الجوزي كان الخلق من الكهف إلى مغارة الدم إلى المنطور لو بدر السمسم ما وقع إلا على رؤس الناس قال فلما رجعت تلك الليلة فكرت فيه وفي جنازته وكثرة من شهدها وقلت هذا كان رجلا صالحا ولعله أن يكون نظر إلى ربه حين وضع في قبره ومر بذهني أبيات الثوري التي أنشدها بعد موته في المنام ... نظرت إلى ربي كفاحا فقال لي ... هنيئا رضائي عنك يا ابن سعيد ... لقد كنت قواما إذا اظلم الدجى ... بعبرة مشتاق وقلب عميد ... فدونك فاختر أي قصر أردته ... وزرني فإني عنك غير بعيد ...
ثم قلت أرجو أن يكون العماد رأى ربه كما رآه الثوري فنمت فرأيت الشيخ العماد في المنام وعليه حلة خضراء وعمامة خضراء وهو في مكان متسع كأنه روضة وهو يرقى في درج متسعة فقلت يا عماد الدين كيف بت فإني والله مفكر فيك فنظر إلى وتبسم على عادته التي كنت أعرفه فيها في الدنيا ثم قال ... رأيت إلهي حين أنزلت حفرتي ... وفارقت أصحابي وأهلي وجيرتي ... وقال جزيت الخير عني فانني ... رضيت فها عفوي لديك ورحمتي ... دأبت زمانا تأمل العفو والرضا ... فوقيت نيراني ولقيت جنتي ...
قال فانتبهت وأنا مذعور وكتبت الابيات والله اعلم
القاضي جمال الدين ابن الحرستاني
عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل أبو القاسم الانصاري ابن الحرستاني قاضي القضاة بدمشق (13/77)
ولد سنة عشرين وخمسمائة وكان أبوه من أهل حرستان فنزل داخل باب توما وأم بمسجد الزينبي ونشأ ولده هذا نشأة حسنة سمع الحديث الكثير وشارك الحافظ ابن عساكر في كثير من شيوخه وكان يجلس للاسماع بمقصورة الخضر وعندها كان يصلي دائما لا تفوته الجماعة بالجامع وكان منزله بالحورية ودرس بالمجاهدية وعمر دهرا طويلا على هذا القدم الصالح والله أعلم وناب في الحكم عن ابن أبي عصرون ثم ترك ذلك ولزم بيته وصلاته بالجامع ثم عزل العادل القاضي ابن الزكي والزم هذا بالقضاء وله ثنتان وتسعون سنة وأعطاه تدريس العزيزية وأخذ التقوية أيضا من ابن الزكي وولاها فخر الدين ابن عساكر قال ابن عبدالسلام ما رأيت أحدا أفقه من ابن الحرستاني كان يحفظ الوسيط للغزالي وذكر غير واحد أنه كان من أعدل القضاة وأقومهم بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم وكان ابنه عمادا لدين يخطب بجامع دمشق وولى مشيخة الاشرفية ينوب عنه وكان القاضي جمال الدين يجلس للحكم بمدرسته المجاهدية وأرسل إليه السلطان طراحة ومسندة لأجل أنه شيخ كبير وكان ابنه يجلس بين يديه فإذا قام أبوه جلس في مكانه ثم إنه عزل ابنه عن نيابته لشيء بلغه عنه واستناب شمس الدين بن الشيرازي وكان يجلس تجاهه في شرقي الايوان واستناب معه شمس الدين ابن سنا الدولة واستناب شرف الدين ابن الموصلي الحنفي فكان يجلس في محراب المدرسة واستمر حاكما سنتين وأربعة أشهر ثم مات يوم السبت رابع الحجة وله من العمر خمس وتسعون سنة وصلى عليه بجامع دمشق ثم دفن بسفح قايسبون
الأمير بدر الدين محمد بن أبي القاسم
الهكاري باني المدرسة التي بالقدس كان من خيار الامراء وكان يتمنى الشهادة دائما فقتله الفرنج بحصن الطور ودفن بالقدس بتربة عاملها وهو يزار إلى الآن رحمه الله
الشجاع محمود المعروف بابن الدماع
كان من أصدقاء العادل يضحكه فحصل أموالا جزيلة منهم كانت داره داخل باب الفرنج فجعلتها زوجته عائشة مدرسة للشافعية والحنفية ووقفت عليها أوقافا دارة
الشيخة الصالحة العابدة الزاهدة
شيخة العالمات بدمشق تلقب بدهن اللوز بنت نورنجان وهي آخر بناته وفاة وجعلت أموالها وقفا على تربة أختها بنت العصبة المشهورة
ثم دخلت سنة خمس عشرة وستمائة
استهلت والعادل بمرج الصفر لمناجزة الفرنج وأمر ولده المعظم بتخريب حصن الطور فأخربه ونقل ما فيه من آلات الحرب وغيرها إلى البلدان خوفا من الفرنج وفي ربيع الاول نزلت الفرنج على (13/78)
دمياط وأخذوا برج السلسلة في جمادي الاولى وكان حصنا منيعا وهو قفل بلاد مصر وفيها التقى المعظم والفرنج على القيمون فكسرهم وقتل منهم خلقا واسر من الداوية مائة فأدخلهم إلى القدس منكسة أعلامهم وفيها جرت خطوب كثيرة ببلد الموصل بسبب موت ملوكها أولاد قرا أرسلان واحدا بعد واحد وتغلب مملوك أبيهم بدر الدين لؤلؤ على الأمور والله أعلم وفيها أقبل ملك الروم كيكاريس سنجر يريد أخذ مملكة حلب وساعده على ذلك الافضل بن صلاح الدين صاحب سميساط فصده عن ذلك الملك الأشرف موسى بن العادل وقهر ملك الروم وكسر جيشه ورده خائبا
وفيها تملك الأشرف مدينة سنجار مضافا إلى ما بيده من الممالك وفيها توفي السلطان الملك العادل أبو بكر بن أيوب فأخذت الفرنج دمياط ثم ركبوا وقصدوا بلاد مصر من ثغر دمياط فحصاصروه مدة أربعة شهور والملك الكامل يقاتلهم ويمانعهم فتملكوا برج السلسلة وهو كالقفل على ديار مصر وصفته في وسط جزيرة في النيل عند انتهائه إلى البحر ومنه إلى دمياط وهو على 2 شاطيء البحر وحافة سلسلة منه إلى الجانب الآخر وعليه الجسر وسلسلة أخرى لتمنع دخول المراكب من البحر إلى النيل فلا يمكن الدخول فلما ملكت الفرنج هذا البرج شق ذلك على المسلمين وحين وصل الخبر إلى الملك العادل وهو بمرج الصفر تأوه لذلك تأوها شديدا ودق بيده على صدره أسفا وحزنا على السملمين وبلادها ومرض من ساعته مرض الموت لأمر يريده الله عز و جل فلما كان يوم الجمعة سابع جمادي الآخرة توفي بقرية غالقين فجاءه ولده المعظم مسرعا فجمع حواصله وارسله في محفة ومعه خادم بصفة أن السلطان مريض وكلما جاء أحد من الأمراء ليسلم عليه بلغهم الطواشي عنه أي أنه ضعيف عن الرد عليهم فلما انتهى به إلى القلعة دفن بها مدة ثم حول إلى تربته بالعادلية الكبيرة وقد كان الملك سيف الدين أبو بكر بن أيوب بن شادي من خيار الملوك وأجودهم سيرة دينا عاقلا صبورا وقورا أبطل المحرمات والخمور والمعارف من مملكته كلها وقد كانت ممتدة من أقصى بلاد مصر واليمن والشام والجزيرة إلى همدان كلها أخذها بعد اخيه صلاح الدين سوى حلب فإنه أقرها بيد أبن أخيه الظاهر غازي لأنه زوج ابنته صفية الست خاتون وكان العادل حليما صفوحا صبورا على الأذى كثير الجهاد بنفسه ومع أخيه حضر معه مواقفه كلها أو أكثرها في مقاتلة الفرنج وكانت له في ذلك اليد البيضاء وكان ماسك اليد وقد أنفق في عام الغلاء بمصر أموالا كثيرة على الفقراء وتصدق على أهل الحاجة من أبناء الناس وغيرهم شيئا كثيرا جدا ثم إنه كفن في العام الثاني من بعد عام الغلاء في الفناء مائة ألف إنسان من الغرباء والفقراء وكان كثير الصدقة في ايام مرضه حتى كان يخلع جميع ما عليه ويتصدق به وبمركوبه وكان كثير الاكل ممتعا بصحة وعافية مع كثرة صيامه كان يأكل في اليوم الواحد أكلات جيدة ثم بعد (13/79)
هذا يأكل عند النوم رطلا بالدمشقي من الحلوى السكرية اليابسة وكان يعتريه مرض في أنفه في زمن الورد وكان لا يقدر على الاقامة بدمشق حتى يفرغ زمن الورد فكان يضرب له الوطاق بمرج الصفر ثم يدخل البلد بعد ذلك توفي عن خمس وسبعين سنة وكان له من الأولاد جماعة محمد الكامل صاحب مصر وعيسى المعظم صاحب دمشق وموسى الأشرف صاحب الجزيرة وخلاط وحران وغير ذلك والاوحد أيوب مات قبله والفائز إبراهيم والمظفر غازي صاحب الرها والعزيز عثمان والأمجد حسن وهما شقيقا المعظم والمقيت محمود والحافظ أرسلان صاحب جعبر والصالح إسماعيل والقاهر إسحاق ومجير الدين يعقوب وقطب الدين أحمد وخليل وكان أصغرهم وتقي الدين عباس وكان آخرهم وفاة بقي إلى سنة ستين وستمائة وكان له بنات أشهرهن الست صفية خاتون زوجة الظاهر غازي صاحب حلب وأم الملك العزيز والد الناصر يوسف الذي ملك دمشق وإليه تنسب الناصريتان إحداهما بدمشق والأخرى بالسفح وهو الذي قتله هلاكو كما سيأتي
صفة اخذ الفرنج دمياط
لما اشتهر الخبر بموت العادل ووصل إلى ابنه الكامل وهو بثغر دمياط مرابط الفرنج أضعف ذلك اعضاء المسلمين وفشلوا ثم بلغ الكامل خبر آخر أن الأمير ابن المشطوب وكان أكبر أمير بمصر قد اراد أن يبايع للفائز عوضا عن الكامل فسلق وحده جريدة فدخل مصر ليستدرك هذا الخطب الجسيم فلما فقده الجيش من بينهم انحل نظامهم واعتقدوا أنه قد حدث أمر أكبر من موت العادل فركبوا وراءه فدخلت الفرنج بأمان إلى الديار المصرية واستحوذوا على معسكر الكامل وأثقاله فوقع خبط عظيم جدا وذلك تقدير العزيز العليم فلما دخل الكامل مصر لم يقع مما ظنه شيء وإنما هي خديعة من الفرنج وهرب منه ابن المشطوب إلى الشام ثم ركب من فوره في الجيش إلى الفرنج فإذا الأمر قد تزايد وتمكنوا من البلدان وقتلوا خلقا وغنموا كثيرا وعاثت الأعراب التي هنالك على أموال الناس فكانوا أضر عليهم من الفرنج فنزل الكامل تجاه الفرنج يمانعهم عن دخولهم إلى القاهرة بعد أن كان يمانعهم عن دخول الثغر وكتب إلى إخوانه يستحثهم ويستنجدهم ويقول الوحا الوحا العجل العجل أدركوا المسلمين قبل تملك الفرنج جميع أرض مصر فاقبلت العساكر إلاسلامية إليه من كل مكان وكان أول من قدم عليه أخوه الأشرف بيض الله وجهه ثم المعظم وكان من أمرهم مع الفرنج ما سنذكره بعد هذه السنة
وفيها ولى حسبة بغداد الصاحب محيي الدين يوسف بن أبي الفرج ابن الجوزي وهو مع ذلك يعمل ميعاد الوعظ على قاعدة ابيه وشكر في مباشرته للحسبة وفيها فوض إلى المعظم النظر في التربة البدرية تجاه الشبلية عندالجسر الذي على ثور ويقال له جسر كحيل وهي منسوبة إلى (13/80)
حسن بن الداية كان هو وإخوته من أكابر أمراء نور الدين محمود بن زنكي وقد جعلت في حدود الأربعين وستمائة جامعا يخطب فيه يوم الجمعة وفيها أرسل السلطان علاء الدين محمد بن تكش إلى الملك العادل وهو مخيم بمرج الصفر رسولا فرد إليه مع الرسول خطيب دمشق جمال الدين محمد بن عبد الملك الدولعي واستنيب عنه في الخطابة الشيخ الموفق عمر بن يوسف خطيب بيت الأبار فأقام بالعزيزية يباشر عنه حتى قدم وقد مات العادل
وفيها توفي الملك القاهر صاحب الموصل فأقيم ابنه الصغير مكانه ثم قتل وتشتت شمل البيت الاتابكي وتغلب على الامور بدر الدين لؤلؤ غلام أبيه وفيها كان عود الوزير صفي الدين عبد الله ابن علي بن شكر من بلاد الشرق بعد موت العادل فعمل فيه علم الدين مقامة بالغ في مدحه فيها وقد ذكروا انه كان متواضعا يحب الفقراء والفقهاء ويسلم على الناس إذا اجتاز بهم وهو راكب في أبهة وزارته ثم إنه نكب في هذه السنة وذلك أن الكامل هو الذي كان سبب طرده وإبعاده كتب إلى أخيه المعظم فيه فاحتاط على أمواله وحواصله وعزل ابنه عن النظر من الدواوين وقد كان ينوب عن ابيه في مدة غيبته وفي رجب منها أعاد المعظم ضمان القيان والخمور والمغنيات وغير ذلك من الفواحش والمنكرات التي كان أبوه قد أبطلها بحيث إنه لم يكن أحد يتجاسر أن ينقل ملء كف خمر إلى دمشق إلا بالحيلة الخفية فجزى الله العادل خيرا ولا جزى المعظم خيرا على ما فعل واعتذر المعظم في ذلك بأنه إنما صنع هذا المنكر لقلة الأموال على الجند واحتايجهم إلى النفقات في قتال الفرنج وهذا من جهله وقلة دينه وعدم معرفته بالأمور فإن هذا الصنيع يديل عليهم الأعداء وينصرهم عليهم ويتمكن منهم الداء ويثبط الجند عن القتال فيولون بسببه الادبار وهذا مما يدمر ويخرب الديار ويديل الدول كما في الأثر إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني وهذا ظاهر لا يخفى على فطن وممن توفي فيها من الاعيان
القاضي شرف
الدين أبو طالب عبد الله بن زين القضاة عبد الرحمن بن سلطان بن يحيى اللخمي الضرير البغدادي كان ينسب إلى علم الاوائل ولكنه كان يتستر بمذهب الظاهرية قال فيه ابن الساعي الداودي المذهب المعري أدبا واعتقادا ومن شعره ... إلى الرحمن أشكو ما ألاقي ... غداة عدوا على هوج النياق ... سألتكم بمن زم المطايا ... امر بكم امر الفراق ... وهل ذل أشد من التنائي ... وهل عيش ألذ من التلاق ...
قاضي قضاة بغداد (13/81)
عماد الدين أبو القاسم
عبد الله بن الحسين بن الدمغاتي الحنفي سمع الحديث وتفقه على مذهب أبي حنيفة وولى القضاء ببغداد مرتين نحوا من أربع ( 1 ) عشرة سنة وكان مشكور السيرة عارفا بالحساب والفرائض وقسمة التركات
أبو اليمن نجاح بن عبد الله الحبشي
السوداني نجم الدين مولى الخليفة الناصر كان يسمى سلمان دار الخلافة وكان لا يفارق الخليفة فلما مات وجد عليه الخليفة وجدا كثيرا وكان يوم جنازته يوما مشهودا كان بين يدي نعشه مائة بقرة والف شاة وأحمال من التمر والخبز والماورد وقد صلى عليه الخليفة بنفسه تحت التاج وتصدق عنه بعشرة آلاف دينار على المشاهد ومثلها على المجاورين بالحرمين واعتق مماليكه ووقف عنه خمسمائة مجلد
أبو المظفر محمد بن علوان ابن مهاجر بن علي بن مهاجر الموصلي تفقه بالنظامية وسمع الحديث ثم عاد إلى الموصل فساد أهل زمانه بها وتقدم في الفتوى والتدريس بمدرسة بدر الدين لؤلؤ وغيرها وكان صالحا دينا
أبو الطيب رزق الله بن يحيى
ابن رزق الله بن يحيى بن خليفة بن سليمان بن رزق الله بن غانم بن غنام الناخدري المحدث الجوال الرحال الثقة الحافظ الاديب الشاعر أبو العباس أحمد بن برتكش بن عبد الله العمادي كان من أمراء سنجار وكان أبوه من موالي الملك عماد الدين زنكي صاحبها وكان أحمد هذا دينا شاعرا ذا مال جزيل وأملاك كثيرة وقد احتاط على أمواله قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي وأودعه سجنا فنسي فيه ومات كمدا ومن شعره ... تقول وقد ودعتها ودموعها ... على خدها من خشية البين تلتقي ... مضى أكثر العمر الذي كان نافعا ... رويدك فاعمل صالحا في الذي بقى ...
ثم دخلت سنة ست عشرة وستمائة فيها أمر الشيخ محيي الدين بن الجوزي محتسب بغداد بإزالة المنكر وكسر الملاهي عكس ما أمر به المعظم وكان أمره في ذلك في أول هذه السنة ولله الحمد والمنة
ظهور جنكيز خان وعبور التتار نهر جيحون
وفيها عبرت التتار نهر جيحون صحبة ملكهم جنكز خان من بلادهم وكانوا يسكنون جبال طمغاج من أرض الصين ولغتهم 2 مخالفة للغة سائر التتار وهم من أشجعهم وأصبرهم على القتال وسبب دخولهم نهر جيحون أن جنكزخان بعث تجارا له ومعهم أموال كثيرة إلى بلاد خوارزم شاه يبتضعون له (13/82)
ثيابا للكسوة فكتب نائبها إلى خوارزم شاه يذكر له ما معهم من كثرة الأموال فأرسل إليه بأن يقتلهم ويأخذ ما معهم ففعل ذلك فلما بلغ جنكزخان خبرهم أرسل يتهدد خوارزم شاه ولم يكن ما فعله خوارزم شاه فعلا جيدا فلما تهدده أشار من أشار على خوارزم شاه بالمسير إليهم فسار إليهم وهم في شغل شاغل بقتال كشلى خان فنهب خوارزم شاه أموالهم وسبى ذراريهم وأطفالهم فأقبلوا إليه محروبين فاقتتلوا مع أربعة أيام قتالا لم يسمع بمثله أولئك يقاتلون عن حريمهم والمسلمون عن أنفسهم يعملون أنهم متى ولوا استأصلوهم فقتل من والفريقين خلق كثير حتى أن الخيول كانت تزلق في الدماء وكان من جملة من قتل من المسلمين نحوا من عشرين الفا ومن التتار أضعاف ذلك ثم تحاجز الفريقان وولى كل منهم إلى بلاده ولجأ خوارزم شاه وأصحابه إلى بخارى وسمرقند فحصنها وبالغ في كثرة من ترك يها من المقاتلة ورجع إلى بلاده ليجهز الجيوش الكثيرة فقصدت التتار بخارى وبها عشرون ألف مقاتل فحاصرها جنكزخان ثلاثة أيام فطلب منه أهلها الأمان فأمنهم ودخلها فأحسن السيرة فيهم مكرا وخديعة وامتنعت عليه القلعة فحاصرها واستعمل أهل البلد في طم خندقها وكان التتار يأتون بالمنابر والربعات فيطرحونها في الخندق بطمونه بها ففتحوها قسرا في عشرة أيام فقتل من كان بها ثم عاد إلى البلد فاصطفى أموال تجارها وأحلها لجنده فقتلوا من أهلها خلقا لا يعلمهم إلا الله عز و جل وأسروا الذرية والنساء وفعلوا معهن الفواحش بحضرة أهليهن فمن الناس من قاتل دون حريمه حتى قتل ومنهم من أسر فعذب بأنواع العذاب وكثر البكاء والضجيج بالبلد من النساء والأطفال والرجال ثم ألقت التتار النار في دور بخارى ومدارسها ومساجدها فاحترقت حتى صارت بلاقع خاوية على عروشها ثم كروا راجعين عنها قاصدين سمرقند وكان من أمرهم ما سنذكره في السنة الاتية
وفي مستهل هذه السنة خرب سور بيت المقدس عمره الله بذكره أمر بذلك المعظم خوفا من استيلاء الفرنج عليه بعد مشورة من اشار بذلك فإن الفرنج إذا تمكنوا من ذلك جعلوه وسيلة إلى أخذ الشام جميعه فشرع في تخريب السور في أول يوم المحرم فهرب منه أهله خوفا من الفرنج أن يهجموا عليهم ليلا أو نهارا وتركوا أموالهم وأثاثهم وتمزقوا في البلاد كل ممزق حتى قيل إنه بيع القنطار الزيت بعشرة دراهم والرطل النحاس بنصف درهم وضج الناس وابتلهوا إلى الله عند الصخرة وفي الاقصى وهي أيضا فعلة شنعاء من المعظم مع ما أظهر من الفواحش في العام الماضي فقال بعضهم يهجو المعظم بذلك ... في رجب حلل الحميا ... وأخرب القدس في المحرم ...
وفيها استحوذت الفرنج على مدينة دمياط ودخولها بالأمان قغدروا بأهلها وقتلوا رجالها وسبوا (13/83)
نساءها وأطفالها وفجروا بالنساء وبعثوا بمنبر الجامع والربعات ورؤس القتلى إلى الجزائر وجعلوا الجامع كنيسة وفيها غضب المعظم على القاضي زكي الدين بن الزكي وسببه أن عمته
ست الشام
بنت أيوب مرضت في دارها التي جعلتها بعدها مدرسة فأرسلت إلى القاضي لتوصي إليه فذهب إليها بشهود معه فكتب الوصية كما قالت فقال المعظم يذهب إلى عمتي بدون إذني ويسمع هو والشهود كلامها واتفق أن القاضي طلب من جابي الفزيزية حسابها وضربه بين يديه بالمقارع وكان المعظم يبغض هذا القاضي من أيام أبيه فعند ذلك أرسل المعظم إلى القاضي ببقجة فيها قباء وكلوته القباء أبيض والكاوتة صفراء وقيل بل كانا حمراوين مدرنين وحلف الرسول عن السلطان ليلبسنهما ويحكم بين الخصوم فيهما وكان من لطف الله أن جاءته الرسالة بهذا وهو في دهليز داره التي باب البريد وهو منتصب للحكم فلم يستطع إلا أن يلبسهما وحكم فيهما ثم دخل داره واستقبل مرض موته وكانت وفاته في صفر من السنة الآتية بعدها وكان الشرف بن عنين الزرعي الشاعر قد أظهر النسك والتعبد ويقال إنه اعتكف بالجامع أيضا فأرسل إليه المعظم بخمر ونرد ليشتغل بهما فكتب إليه ابن عنين ... يا أيها الملك المعظم سنة ... أحدثتها تبقى على الآباد ... تجري الملوك على طريقك بعدها ... خلع القضاة وتحفة الزهاد ...
وهذا من أقبح ما يكون أيضا وقد كان نواب ابن الزكي أربعة شمس الدين بن الشيرازي إمام مشهد علي كان يحكم بالمشهد بالشباك وربما برز إلى طرف الرواق تجاه البلاطة السوداء وشمس الدين ابن سني الدولة كان يحكم في الشباك الذي في الكلاسة تجاه تربة صلاح الدين عند الغزالية وكمال الدين المصري وكيل بيت المال كان يحكم في الشباك الكمالي بمشهد عثمان وشرف الدين الموصلي الحنفي كان يحكم بالمدرسة الطرخانية بجبرون والله تعالى أعلم وفيها توفي من الاعيان ست الشام
واقفة المدرستين البرانية والجوانية الست الجليلة المصونة خاتون ست الشام بنت أيوب بن شادي اخت الملوك وعمة أولادهم وأم الملوك كان لها من الملوك المحارم خمسة وثلاثون ملكا منهم شقيقها المعظم توران شاه بن أيوب صاحب اليمن وهو مدفون عندها في القبر القبلى من الثلاثة وفي الأوسط منها زوجها وابن عمها ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شادي صاحب حمص وكانت قد تزوجته بعد أبي ابنها حسام الدين عمر بن لاجين وهي وابنها حسام الدين عمر في القبر الثالث وهو الذي يلي مكان الدرس ويقال للتربة والمدرسة الحسامية نسبة إلى ابنها هذا حسام الدين عمر بن لاجين وكان من أكابر العلماء عند خاله صلاح الدين وكانت ست الشام (13/84)
من أكثر النساء صدقة وإحسانا إلى الفقراء والمحاويج وكانت تعمل في كل سنة في دارها بألوف من الذهب أشربة وأدوية وعقاقير وغير ذلك وتفرقه على الناس وكانت وقاتها يوم الجمعة آخر النهار السادس عشر من ذي القعدة من هذه السنة في دارها التي جعلتها مدرسة وهي عند المارستان وهي الشامية الجوانية ونقل منها إلى تربتها بالشامية البرانية وكانت جنازتها حافلة رحمها الله
أبو البقاء صاحب الأعراب واللباب
عبد الله بن الحسين بن عبد الله الشيخ أبو البقاء العكبري الضرير النحوي الحنبلي صاحب إعراب القرآن العزيز وكتاب اللباب في النحو وله حواش على المقامات ومفصل الزمخشري وديوان المتنبي وغير ذلك وله في الحساب وغيره وكان صالحا دينا مات وقد قارب الثمانين رحمه الله وكان إماما في اللغة فقيها مناظرا عارفا بالأصلين والفقه وحكى القاضي ابن خلكان عنه أنه ذكر في شرح المقامات أن عنقاء مغرب كانت تأتي إلى جبل مثاهف عند أصحاب الرس فربما اختطفت بعض اولادهم فشكوها إلى نبيهم حنظلة بن صفوان فدعا عليها فهلكت قال وكان وجهها كوجه الانسان وفيها شبه من كل طائر وذكر الزمخشري في كتابه ربيع الأبرار أنها كانت في زمن موسى لها أربعة أجنحة من كل جانب ووجه كوجه الانسان وفيها شبه كثير من سائر الحيوان وأنها تأخرت إلى زمن خالد بن سنان العبسي الذي كان في الفترة فدعا عليها فهلكت والله أعلم وذكر ابن خلكان أن المعز الفاطمي جيء إليه بطائر غريب الشكل من الصعيد يقال له عنقاء مغرب قلت وكل واحد من خالد بن سنان وحنظلة بن صفوان كان في زمن الفترة وكان صالحا ولم يكن نبينا لقول رس
ص أنا أولى الناس بعيسى بن مريم لأنه ليس بيني وبينه نبي وقد تقدم ذلك
الحافظ عماد الدين أبو القاسم
علي ابن الحافظ بهاء الدين أبي محمد القاسم بن الحافظ الكبير أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله ابن عساكر الدمشقي سمع الكثير ورحل فمات ببغداد في هذه السنة ومن لطيف شعره قوله في المروحة ... ومروحة تروح كل هم ... ثلاثة أشهر لا بد منها ... حزيران وتموز وآب ... وفي أيلول يغنى الله عنها ...
ابن الدواي الشاعر وقد أورد له ابن الساعي جملة صالحة من شعره وأبو سعيد بن الوزان الداوي وكان أحد المعدلين ببغداد وسمع البخاري من أبي الوقت وأبو سعيد محمد بن محمود بن عبد الرحمن المروزي الأصل الهمداني المولد البغدادي المنشأ والوفاة كان حسن الشكل كامل الأوصاف له خط حسن ويعرف فنونا كثيرة من العلوم شافعي المذهب يتكلم في مسائل الخلاف حسن الأخلاق ومن شعره قوله (13/85)
أرى قسم الارزاق أعجب قسمة ... لذي دعة ومكدية لذي كد ... وأحمق ذو مال وأحمق معدم ... وعقل بلا حظ وعقل له حد ... يعم الغنى والفقر ذا الجهل والحجا ... ولله من قبل الأمور ومن بعد ... أبو زكريا يحيى بن القاسم
ابن الفرج بن درع بن الخضر الشافعي شيخ تاج الدين التكريتي قاضيها ثم درس بنظامية بغداد وكان متقنا لعلوم كثيرة منها التفسير والفقه والأدب والنحو واللغة وله المصنفات في ذلك كله وجمع لنفسه تاريخا حسنا ومن شعره قوله ... لا بد للمرء من ضيق ومن سعة ... ومن سرور يوافيه ومن حزن ... والله يطلب منه شكر نعمته ... ما دام فيها ويبغى الصبر في المحن ... فكن مع الله في الحالين معتنقا ... فرضيك هذين في سر وفي علن ... فما على شدة يبقى الزمان يكن ... ولا على نعمة تبقى على الزمن ... وله أيضا ... إن كان قاضي الهوى علي ولى ... ما جار في الحكم من علي ولى ... يا يوسفي الجمال عندك لم ... تبق لي حيلة من الحيل ... إن كان قد القميص من دبر ... ففيك قد الفؤاد من قبل ... صاحب الجواهر
الشيخ الامام جمال الدين أبو محمد عبد الله بن نجم بن ساس بن نزار بن عشائر بن عبد الله بن محمد بن سلس الجذامي المالكي الفقيه مصنف كتاب الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة وهو من أكثر الكتب فوائد في الفروع رتبه على طريقة الوجيز للغزالي قال ابن خلكان وفيه دلالة على غزارة علمه وفضله والطائفة المالكية بمصر عاكفة عليه لحسنه وكثرة فوائده وكان مدرسا بمصر ومات بدمياط رحمه والله الله سبحانه أعلم
ثم دخلت سنة سبع عشرة وستمائة
في هذه السنة عم البلاء وعظم العزاء بجنكز خان المسمى بتموجين لعنه الله تعالى ومن معه من التتار قبحهم الله أجمعين واستفحل أمرهم واشتد إفسادهم من أقصى بلاد الصين إلى أن وصلوا بلاد العراق وما حولها حتى انتهوا إلى إربل وأعمالها فملكوا في سنة واحدة وهي هذه السنة سائر الممالك إلا العراق والجزيرة والشام ومصر وقهروا جميع الطوائف التي بتلك النواحي الخوارزمية والقفجاق والكرج واللان والخزر وغيرهم وقتلوا في هذه السنة من طوائف المسلمين وغيرهم في بلدان متعددة كبار مالا يحد ولا يوصف وبالجملة فلم يدخلوا بلدا إلا قتلوا جميع من فيه من المقاتلة (13/86)
والرجال وكثيرا من النساء والأطفال وأتلفوا ما فيه بالنهب إن احتاجوا إليه وبالحريف إن لم يحتاجوا إليه حتى أنهم كانوا يجمعون الحرير الكثير الذي يعجزون عن حمله فيطلقون فيه النار وهم ينظرون إليه ويخربون المنازل وما عجزوا عن تخريبه يحرقوه وأكثر ما يحرقون المساجد والجوامع وكانوا ياخذون الاسارى من المسلمين فيقاتلون بهم ويحاصرون بهم وإن لم ينصحوا في القتال قتلوهم وقد بسط ابن الاثير في كامله خبرهم في هذه السنة بسطا حسنا مفصلا وقدم على ذلك كلاما هائلا في تعظيم هذا الخطب العجيب قال فنقول هذا فصل يتضمن ذكر الحادثة العظمى والمصيبة الكبرى التي عقمت الليالي والأيام عن مثلها عمت الخلائق وخصت المسلمين فلو قال قائل إن العالم منذ خلق الله آدم والى الآن لم يبتلوا بمثهلها لكان صادقا فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا يدانيها ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعل بخت نصر ببني اسرائيل من القتل وتخريب بيت المقدس وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد التي كل مدينة منها اضعاف البيت المقدس وما بنو إسرائيل بالنسبة لما قتلوا فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل ولعل الخلائق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج وأما الدجال فإنه يبقى على من أتبعه ويهلك من خالفه وهؤلاء لم يبقوا على أحد بل قتلوا الرجال والنساء والاطفال وشقوا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لهذه الحادثة التي استطار شررها وعم ضررها وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح فإن قوما خرجوا من أطراف الصين فقصدوا بلاد تركستان مثل كاشغر وبلاساغون ثم منها إلى بلاد ما رواء النهر مثل سمرقند وبخارا وغيرهما فيملكونها ويفعلون بأهلها ما نذكره ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان فيفرغون منها ملكا وتخريبا وقتلا ونهبا ثم يجاوزونها إلى الري وهمذان وبلد الجبل وما فيه من البلاد إلى حد العراق ثم يقصدون بلاد اذربيجان وأرانية ويخربونه ويقتلون أكثر أهلها ولم ينج منهم إلا الشريد النادر في أقل من سنة هذا ما لم يسمع بمثله ثم ساروا إلى دربند شروان فملكوا مدنه ولم يسلم غير قلعته التي بها ملكهم وعبروا عندها إلى بلد اللان اللكز ومن في ذلك الصقع من الأمم المختلفة فأوسعوهم قتلا ونهبا وتخريبا ثم قصدوا بلاد قفجاق وهم من أكثر الترك عددا فقتلوا كل من وقف لهم وهرب الباقون إلى الغياض وملكوا عليهم بلادهم وسارت طائفة أخرى إلى غزنة وأعمالها وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان ففعلوا فيها مثل أفعال هؤلاء وأشد هذا ما لم يطرق الاسماع مثله فإن الاسكندر الذي اتفق المؤرخون على أنه ملك الدنيا لم يملكها في سنة واحدة إنما ملكها في نحو عشر سنين ولم يقتل أحدا بل رضى من الناس بالطاعة وهؤلاء قد (13/87)
ملكوا أكثر المعمور من الأرض وأطيبه وأحسنه عمارة وأكثره أهلا وأعد لهم أخلاقا وسيرة في نحو سنة ولم يتفق لأحد من أهل البلاد التي لم يطرقوها بقاء إلا وهو خائف مترقب وصولهم وهم مع ذلك يسجدون للشمس إذا طلعت ولا يحرمون شيئا ويأكلون ما وجدوه من الحيوانات والميتات لعنهم الله تعالى قال وإنما استقام لهم هذا الأمر لعدم المانع لأن السلطان خوارزم شاه محمدا كان قد قتل الملوك من سائر الممالك واستقر في الأمور فلما انهزم منهم في العام الماضي وضعف عنهم وساقوا وراءه فهرب فلا يدري اين ذهب وهلك في بعض جزائر البحر خلت البلاد ولم يبق لها من يحميها ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور ثم شرع في تفصيل ما ذكره مجملا فذكر أولا ما قدمنا ذكره في العام الماضي من بعث جنكزخان اولئك التجار بمال له ليأتونه بثمنه كسوة ولباسا وأخذ خوارزم شاه تلك الأموال فحنق عليه جنكزخان وأرسل يهدده فسار إليه خوارزم شاه بنفسه وجنوده فوجد التتار مشغولين بقتال كشلى خان فنهب أثقالهم ونساءهم وأطفالهم فرجعوا وقد انتصروا على عدوهم وازدادوا حنقا وغيظا فتواقعواهم وإياه وابن جنكزخن ثلاثة أيام فقتل من الفريقين خلق كثير ثم تحاجزوا ورجع خوارزم شاه إلى أطراف بلاده فحصنها ثم كر راجعا إلى مقره ومملكته بمدينة خوارزم شاه فأقبل جنكزخان فحصر بخارا كما ذكرنا فافتتحها صلحا وغدر بأهلها حتى افتتح قلعتها قهرا وقتل الجميع وأخذ الأموال وسبى النساء والاطفال وخرب الدور والمحال وقد كان بها عشرون ألف مقاتل فلم يغن عنهم شيئا ثم سار إلى سمرقند فحاصرها في أول المحرم من هذه السنة وبها خمسون ألف مقاتل من الجند فنكلوا وبرز إليهم سبعون ألفا من العامة فقتل الجميع في ساعة واحدة وألقى إليه الخمسون ألف السلم فسلبهم سلاحهم وما يمتنعون به وقتلهم في ذلك اليوم واستباح البلد فقتل الجميع وأخذ الأموال وسبى الذرية وحرقه وتركه بلاقع فانا لله وإنا إليه راجعون وأقام لعنه الله هنالك وارسل السرايا إلى البلدان فارسل سرية إلى بلاد خراسان وتسميها التتار المغربة وأرسل أخرى وراء خوارزم شاه وكانوا عشرين ألفا قال اطلبوه فأدركوه ولو تعلق بالسماء فساروا وراءه فأدركوه وبينهم وبينه نهر جيحون وهو آمن بسببه فلم يجدوا سفنا فعملوا لهم أحواضا يحملون عليها الاسلحة ويرسل أحدهم فرسه ويأخذ بذنبها فتجره الفرس بالماء وهو يجر الحوض الذي فيه سلاحه حتى صاروا كلهم في الجانب الآخر فلم يشعر بهم خوارزم شاه إلا وقد خالطوه فهرب منهم إلى نبيسابور ثم منها إلى غيرها وهم في أثره لا يمهلونه يجمع لهم فصار كلما أتى بلدا ليجتمع فيه عساكره له يدركونه فيهرب منهم حتى ركب في بحر طبرستان وسار إلى قلعة في جزيرة فيه فكانت فيها وفاته وقيل إنه لا يعرف بعد ركوبه في البحر ما كان من أمره بل ذهب فلا يدرى أين ذهب ولا إلى أي مفر هرب وملكت التتار حواصله فوجدوا في خزانته عشرة آلاف (13/88)
ألف دينار وألف حمل من الاطلس وغيره وعشرون ألف فرس وبغل ومن الغلمان والجواري والخيام شيئا كثيرا وكان له عشرة آلاف مملوك كل واحد مثل ملك فتمزق ذلك كله وقد كان خوارزم شاه فقيها حنفيا فاضلا له مشاركات في فنون من العلم يفهم جيدا وملك بلادا متسعة وممالك متعددة إحدى وعشرين سنة وشهورا ولم يكن بعد ملوك بني سلجوق أكثر حرمة منه ولا أعظم ملكا منه لأنه إنما كانت همته في الملك لا في اللذات والشهوات ولذلك قهر الملوك بتلك الأراضي وأحل بالخطا بأسا شديدا حتى لم يبق ببلاد خراسان وما رواء النهر وعراق العجم وغيرها من الممالك سلطان سواه وجميع البلاد تحت ايدي نوابه ثم ساروا إلى مازندران وقلاعها من أمنع القلاع بحيث إن السملمين لم يفتحوها إلا في سنة تسعين من أيم سليمان بن عبد الملك ففتحها هؤلاء في أيسر مدة ونهبوا ما فيها وقتلوا أهاليها كلهم وسبوا وأحرقوا ثم ترحلوا عنها نحو الري فوجدوا في الطريق أم خوارزم شاه ومعها أموال عظيمة جدا فأخذوها وفيها كل غريب ونفيس مما لم يشاهد مثله من الجواهر وغيرها ثم قصدوا الري فدخلوها على حين غفلة من أهلها فقتلوهم وسبوا واسروا ثم ساروا إلى همذان فملكوها ثم إلى زنجان فقتلوا وسبوا ثم قصدوا قزوين فنهبوها وقتلوا من أهلها نحوا من اربعين ألفا ثم تيمموا بلاد أذربيجان فصالحهم ملكها ازبك بن البهلوان على مال حمله إليهم لشغله بما هو فيه من السكر وارتكاب السيئات والانهماك على الشهوات فتركوه وساروا إلى موقان فقاتلهم الكرج في عشرة الاف مقاتل فلم يقفوا بين أيديهم طرفة عين حتى انهزمت الكرج فأقبلوا إليهم بحدهم وحديدهم فكسرتهم التتار وقعة ثانية أقبح هزيمة وأشنعها وههنا قال ابن الاثير ولقد جرى لهؤلاء التتر ما لم يسمع بمثله من قديم الزمان وحديثه طائفة تخرج من حدود الصين لا تنقضي عليهم سنة حتى يصل بعضهم إلى حدود بلاد أرمينية من هذه الناحية ويجاوزون العراق من ناحية همذان وتالله لا أشك أن من يجيء بعدنا إذا بعد العهد ويرى هذه الحادثة مسطورة ينكرها ويستبعدها والحق بيده فمتى استبعد ذلك فلينظر أننا سطرنا نحن وكل من جمع التاريخ في أزماننا هذه في وقت كل من فيه يعلم هذه الحادثة قد استوى في معرفتها العالم والجاهل لشهرتها يسر الله للمسلمين والاسلام من يحفظهم ويحوطهم فلقد دفعوا من العدو إلى أمر عظيم ومن الملوك المسلمين إلى من لا تتعدى همته بطنه وفرجه وقد عدم سلطان المسلمين خوارزم شاه قال وانقضت هذه السنة وهم في بلادا لكرج فلما رأوا منهم ممانعة و مقاتلة يطول عليهم بها المطال عدلوا إلى غيرهم وكذلك كانت عادتهم فساروا إلى تبريز فصالحهم أهلها بمال ثم ساروا إلى مراغة فحصروها ونصبوا عليها المجانيق وتترسوا بالاسارى من المسلمين وعلى البلد امرأة ولو يفلح قوم ولو أمرهم امرأة ففتحوا البلد بعد ايام وقتلوا من أهله خلقا لا يعلم عدتهم إلا الله عز و جل وغنموا منه شيئا كثيرا وسبوا وأسروا على (13/89)
عادتهم لعنهم الله لعنة تدخلهم نار جهنم وقد كان الناس يخافون منهم خوفا عظيما جدا حتى إنه دخل رجل منهم إلى درب من هذه البلد وبه مائة رجل لم يستطع واحد منهم أن يتقدم إليه وما زال يقتلهم واحدا بعد واحد حتى قتل الجميع ولم يرفع منهم احد يده إليه ونهب ذلك الدرب وحده ودخلت امراة منهم في زي رجل بيتا فقتلت كل من في ذلك البيت وحدها ثم استشعر أسير معها أنها امرأة فقتلها لعنها الله ثم قصدوا مدينة إربل فضاق المسلمون لذلك ذرعا وقال أهل تلك النواحي هذا امر عصيب وكتب الخليفة إلى أهل الموصل والملك الأشرف صاحب الجزيرة يقول إني قد جهزت عسكرا فكونوا معه لقتال هؤلاء التتار فأرسل الأشرف يعتذر إلى الخليفة بانه متوجه نحو اخيه الكامل إلى الديار المصرية بسبب ما قددهم المسلمين هناك من الفرنج وأخذهم دمياط الذي قد أشرفوا بأخذهم لها على أخذ الديار المصرية قاطبة وكان أخوه المعظم قد قدم على والي حران يستنجده لأضيهما الكامل ليتحاجزوا الفرنج بدمياط وهو على أهبة المسير إلى الديار المصرية فكتب الخليفة إلى مظفر الدين صاحب إربل ليكون هو المقدم على العساكر التي يبعثها الخليفة وهي عشرة آلاف مقاتل فلم يقدم عليه منهم ثمانمائة فارس ثم تفرقوا قبل أن يجمتعوا فانا لله وإنا إليه راجعون ولكن الله سلم بأن صرف همة التتار إلى ناحية همذان فصالحهم اهلها وترك عندهم التتار شحنة ثم اتفقوا على قتل شحنتهم فرجعوا إليهم فحاصروهم حتى فتحوها قسرا وقتلوا اهلها عن آخرهم ثم ساروا إلى أذربيجان ففتحوا اردبيل ثم تبريز ثم إلى بيلقان فقتلوا من أهلها خلقا كثيرا وجما غفيرا وحرقوها وكانوا يفجرون بالنساء ثم يقتلونهن ويشقون بطونهم عن الأجنة ثم عادوا إلى بلاد الكرج وقد استعدت لهم الكرج فاقتتلوا معهم فكسروهم أيضا كسرة فظيعة ثم فتحوا بلدانا كثيرة يقتلون أهلها ويسبون نساءها ويأسرون من الرجال ما يقاتلون بهم الحصون يجعلونهم بين أيديهم ترسا يتقون بهم الرمي وغيره ومن سلم منهم قتلوه بعدا نقضاء الحرب ثم ساروا إلى بلاد اللان والقبجاق فاقتتلوا معهم قتالا عظيما فكسروهم وقصدوا أكبر مدائن القبجاق وهي مدينة سوداق وفيها من الامتعة والثياب والتجائر من البرطاسي والقندر والسنجاب شيء كثير جدا ولجأت القبجاق إلى بلاد الروس وكانوا نصارى فاتفقوا معهم على قتال التتار فالتقوا معهم فكسرتهم التتار كسرة فظيعة جدا ثم ساروا نحو بلقار في حدود العشرين وستمائة ففرغوا من ذلك كله ورجعوا نحو ملكهم جنكزخان لعنه الله وإياهم هذا ما فعلته هذه السرية المغربة وكان جنكزخان قد أرسل سرية في هذه السنة إلى كلانة واخرى إلى فرغانة فملكوها وجهز جيشا آخر نحو خراسان فحصاروا بلخ فصالحهم أهلها وكذلك صالحوا مدنا كثيرة أخرى حتى انتهوا إلى الطالقان فاعجزتهم قلعتها وكانت حصينة فحصاروها ستة أشهر حتى عجزوا فكتبوا إلى جنكزخان فقدم بنفسه فحاصرها أربعة أشهر (13/90)
أخرى حتى فتحها قهرا ثم قتل كل من فيها وكل من في البلد بكماله خاصة وعامة ثم قصدوا مدينة مرو مع جنكزخان فقد عسكر بظاهرها نحو من مائتي ألف مقاتل من العرب وغيرهم فاقتتلوا معه قتالا عظيما حتى انكسر المسلمون فإنا لله وإنا إليه راجعون ثم حصروا البلد خمسة أيام واستنزلوا نائبها خديعة ثم غدروا به وبأهل البلد فقتلوهم وغنموهم وسلبوهم وعاقبوهم بانواع العذاب حتى إنهم قتلوا في يوم واحد سبعمائة ألف إنسان ثم ساروا إلى نيسابور ففعلوا فيها ما فعلوا بأهل مرو ثم إلى طوس فقتلوا وخربوا مشهد على بن موسى الرضى سلام الله عليه وعلى آبائه وخربوا تربة الرشيد الخليفة فتركوه خرابا ثم ساروا إلى غزنة فقاتلهم جلال الدين بن خوارزم شاه فكسرهم ثم عادوا إلى ملكهم جنكزخان لعنه الله وإياهم وأرسل جنكزخان طائفة أخرى إلى مدينة خوارزم فحاصروها حتى فتحو االبلد قهرا فقتلوا من فهيا قتلا ذريعا ونهبوها وسبوا أهلها وأرسلوا الجسر الذي يمنع ماء جيحون منها فغرقت دورها وهلك جميع أهلها ثم عادوا إلى جنكزخان وهو مخيم على الطالقان فجهز منهم طائفة إلى غزنة فاقتتل معهم جلال الدين بن خوارزم شاه فكسرهم جلال الدين كسرة عظيمة واستنقذ منهم خلقا من أسارى المسلمين ثم كتب إلى جنكزخان يطلب منه أن يبرز بنفسه لقتاله فقصده جنكزخان فتواجها وقد تفرق على جلال الدين بعض جيشه ولم يبق بد من القتال فاقتتلوا ثلاثة أيام لم يعهد قبلها مثلها من قتالهم ثم صفعت أصحاب جلال الدين فذهبوا فركبوا بحر الهند فسارت التتار إلى غزنة فأخذوها بلا كلفة ولا ممانعة كل هذا او أكثره وقع في هذه السنة
وفيها أيضا ترك الأشرف موسى بن العادل لأخيه شهاب الدين غازي ملك خلاط وميافارقين وبلاد أرمينية واعتاض عن ذلك بالرها وسروج وذلك لاشتغاله عن حفظ تلك النواحي بمساعدة أخيه الكامل ونصرته على الفرنج لعنهم الله تعالى وفي المحرم منها هبت رياح ببغداد وجاءت بروق وسمعت رعود شديدة وسقطت صاعقة بالجانب الغربي على المنارة المجاورة لعون ومعين فثلمتها ثم أصلحت وغارت الصاعقة في الارض وفي هذه السنة نصب محراب الحنابلة في الرواق الثالث الغربي من جامع دمشق بعد ممانعة من بعض الناس لهم ولكن ساعدهم بعض الأمراء في نصبه فهم وهو الأمير ركن الدين المعظمي وصلى فيه الشيخ موفق الدين بن قدامة قلت ثم رفع في حدود سنة ثلاثين وسبعمائة وعوضوا عه بالمحراب الغربي عند باب الزيارة كما عوض الحنفية عن محرابهم الذي كان فيا الجانب الغربي من الجامع بالمحراب المجدد لهم شرقي باب الزيارة حين جدد الحائط الذي هو فيه في الايام التنكزية على يدي ناظر الجامع تقي الدين ابن مراجل أثابه الله تعالى كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى وفيها قتل صاحب سنجار أخاه فملكها مستقلا بها (13/91)
الملك الأشرف بن العادل وفيها نافق الأمير عمادا لدين بن المشطوب على الملك الأشرف وكان قد آواه وحفظه من أذى أخيه الكامل حين أراد أن يبايع للفائز ثم إنه سعى في الأرض فسادا في بلادا لجزيرة فسجنه الأشرف حتى مات كمدا وذلا وعذابا وفيها أوقع الكامل بالفرنج الذين على دمياط بأسا شديدا فقتل منهم عشرة آلاف وأخذ منهم خيولهم وأموالهم ولله الحمد
وفيها عزل المعظم المعتمد مفاخر الدين إبراهيم عن ولاية دمشق وولاها للعزيز خليل ولما خرج الحاج إلى مكة شرفها الله تعالى كان أميرهم المعتمد فحصل به خير كثير وذلك أنه كف عبيد مكة عن نهب الحجاج بعد قتلهم أمير حاج العراقيين اقباش الناصري وكان من أكبر الأمراء عند الخليفة الناصر وأخصهم عنده وذلك لانه قدم معه بخلع للامير حسين بن أبي عزيز قتادة بن إدريس ابن مطاعن بن عبد الكريم العلوي الحسني الزيدي بولايته لامرة مكة بعد ابيه وكانت وفاته في جمادي الاولى من هذه السنة فنازع في ذلك راجح وهو أكبر أولاد قتادة وقال لا يتأمر عليها غيري فوقعت فتنة أفضى الحال إلى قتل أقباش غلطا وقد كان قتادة من أكابر الاشراف الحسنيين الزيديين وكان عادلا منصفا منعما نقمة على عبيد مكة والمفسدين بها ثم عكس هذا السير فظلم وجدد المكوس ونهب الحاج غير مرة فسلط الله عليه ولده حسنا فقتله وقتل عمه وأخاه أيضا فلهذا لم يمهل الله حسنا أيضا بل سلبه الملك وشرده في البلاد وقيل بل قتل كما ذكرنا وكان قتادة شيخا طويلا مهيبا لا يخاف من أحد من الخلفاء والملوك ويرى انه احق بالامر من كل احد وكان الخليفة يود لو حضر عنده فيكرمه وكان يأبى من ذلك ويمتنع عنه أشد الامتناع ولم يفد إلى أحد قط ولا ذل الخليفة ولا ملك وكتب إليه الخليفة مرة يستدعيه فكتب إليه ... ولي كف ضرغام أذل ببطشها ... وأشرى بها بين الورى وابيع ... تظل ملوك الارض تلثم ظهرها ... وفي بطنها للمجد بين ربيع ... أأجعلها تحت الرحى ثم ابتغى ... خلاصا لها إني إذا لرقيع ... ما انا إلا المسك في كل بقعة ... يضوع وأما عندكم فيضيع ...
وقد بلغ من السنين سبعين سنة وقد ذكر ابن الاثير وفاته في سنة ثماني عشرة فالله اعلم وفيها توفي من الاعيان
الملك الفائز
غياث الدين إبراهيم بن العادل كان قد انتظم له الأمر في الملك بعد أبيه على الديار المصرية علي يدي الامير عمادا لدين بن المشطوب لولا ان الكامل تدارك ذلك سريعا ثم ارسله أخوه في هذه السنة إلى أخيهما الأشرف موسى يستحثه في سرعة المسير إليهم بسبب الفرنج فمات بين سنجاب والموصل وقد ذكر انه سم فرد إلى سنجاب فدفن بها رحمه الله تعالى (13/92)
شيخ الشيوخ صدر الدين
أبو الحسن محمد بن شيخ الشيوخ عماد الدين محمود بن حمويه الجويني من بيت رياسة وإمرة عند بني أيوب وقد كان صدر الدين هذا فقيها فاضلا درس بتربة الشافعي بمصر وبمشهد الحسين وولى مشيخة سعيد السعداء والنظر فيها وكانت له حرمة وافرة عند الملوك ارسله الكامل إلى الخليفة يستنصره على الفرنج فمات بالموصل بالاسهال ودفن بها عند قضيب البان عن ثلاث وسبعين سنة
صاحب حماه
الملك المنصور محمد بن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب وكان فاضلا له تاريخ في عشر مجلدات سماه المضمار وكان شجاعا فارسا فقام بالملك بعده ولده الناصر قلج ارسلان ثم عزله عنها الكامل وحبسه حتى مات رحمه الله تعالى وولى أخاه المظفر بن المنصور
صاحب آمد
الملك الصالح ناصر الدين محمود بن محمد بن قرا ارسلان بن أرتق وكان شجاعا محبا للعلماء وكان مصاحبا للاشرف موسى بن العادل يجيء إلى خدمته مرارا وملك بعده ولده المسعود وكان بخيلا فاسقا فأخذه معه الكامل وحبسه بمصر ثم اطلقه فأخذ أمواله وسار إلى التتار فأخذته منه
الشيخ عبد الله الوينني
الملقب أسدالشام رحمه الله ورضى عنه من قرية بعلبك يقال لها يونين وكانت له زاوية يقصد فيها للزيارة وكان من الصالحين الكبار المشهورين بالعبادة والرياضة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له همة عالية في الزهد والورع بحيث إنه كان لا يقتني شيئا ولا يملك مالا ولا ثيابا بل يلبس عارية ولا يتجاوز قميصا في الصيف وفروة فوقه في الشتاء وعلى رأسه قبعا من جلود المعز شعره إلى ظاهر وكان لا ينقطع عن غزاة من الغزوات ويرمى عن قوس زنته ثمانون رطلا وكان يجاور في بعض الاحيان بجبل لبنان ويأتي في الشتاء إلى عيون العاسريا في سفح الجبل المطل على قرية دومة شرقي دمشق لاجل سخونة الماء فيقصده الناس للزيارة هناك ويجيء تارة إلى دمشق فينزل بسفح قاسيون عند القادسية وكانت له أحوال ومكاشفات صالحة وكان يقال له أسدا لشام حكى الشيخ أبو المظفر سبط ابن الجوزي عن القاضي جمال الدين يعقوب الحاكم بكرك البقاع أنه شاهد مرة الشيخ عبدا لله وهو يتوضأ من ثور عند الجسر الابيض إذ مر نصراني ومعه حمل بغل خمرا فعثرت الدابة عندا لجسر فسقط الحمل فرأى الشيخ وقد فرغ من وضوئه ولا يعرفه واستعان به على رفع الحمل فاستدعاني الشيخ فقال تعال يا فقيه فتساعدنا على تحميل ذلك الحمل على الدابة وذهب النصراني فتعجبت من ذلك وتبعت الحمل وأنا ذاهب إلى المدينة فانتهى به الى العقبة فأورده إلى (13/93)
الخمار بها فإذا خل فقال له الخمار ويحك هذا خل فقال النصراني أنا أعرف من أين أتيت ثم ربط الدابة في خان ورجع إلى الصالحية فسأل عن الشيخ فعرفه فجاء إليه فأسلم على يديه وله أحوال وكرامات كثيرة جدا وكان لا يقوم لاحد دخل عليه ويقول إنما يقوم الناس لرب العالمين وكان الأمجد إذا دخل عليه جلس بين يديه فيقول له يا أمجد فعلت كذا وكذا ويأمره بما يأمره وينهاه عما ينهاه عنه وهو يمتثل جميع ما يقوله له وما ذاك إلا لصدقه في زهده وورعه وطريقه وكان يقبل الفتوح وكان لا يدخر منه شيئا لغد وإذا اشتد جوعه أخذ من ورق اللوز ففركه واستفه ويشرب فوقه الماء البارد رحمه الله تعالى وأكرم مثواه وذكروا أنه كان يحج في بعض السنين في الهواء وقد وقع هذا لطائفة كبيرة من الزهاد وصالحي العباد ولم يبلغنا هذا عن أحد من أكابر العلماء وأول من يذكر عنه هذا حبيب العجمي وكان من أصحاب الحسن البصري ثم من بعده من الصالحين رحمهم الله اجمعين فلما كان يوم جمعة من عشر ذي الحجة من هذه السنة صلى الصبح عبدالله اليونيني وصلاة الجمعة بجامع بعلبك وكان قد دخل الحمام يومئذ قبل الصلاة وهو صحيح فلما انصرف من الصلاة قال للشيخ داود المؤذن وكان يغسل الموتى انظر كيف تكون غدا ثم صعد الشيخ إلى زاويته فبات يذكرالله تعالى تلك اليلة ويتذكر أصحابه ومن أحسن إليه ولو بأدنى شيء ويدعو لهم فلما دخل وقت الصبح صلىباصحابه ثم استند يذكر الله وفي يده سبحة فمات وهو كذلك جالس لم يسقط ولم تسقط السبحة من يده فلما انتهى الخبر إلى الملك الأمجد صاحب بعلبك فجاء إليه فعاينه كذلك فقال لو بنينا عليه بنيانا هكذا يشاهدا لناس منه آية فقيل له ليس هذا من السنة فنحى وكفن وصلى عليه ودفن تحت اللوزة التي كان يجلس تحتها يذكر الله تعالى رحمه الله ونور ضريحه وكانت وفاته يوم السبت وقد جاوز ثمانين عاما أكرمه الله تعالى وكان الشيخ محمد الفقيه اليونيني من جملة تلاميذه وممن يلوذ به وهو جد هؤلاء المشايخ بمدينة بعلبك
أبو عبد الله الحسين بن محمد بن أبي بكر
المجلي الموصلي ويعرف بابن الجهني شاب فاضل ولى كتابة الانشاء لبدر الدين لؤلؤ زعيم الموصل ومن شعره ... نفسي فداء الذي فكرت فيه وقد ... غدوت أغرق في بحر من العجب ... يبدو بليل على صبح على قمر ... على قضيب على وهم على كثب ... ثم دخلت سنة ثمان عشرة وستمائة
فيها استولت التتر على كثير من البلدان بكلادة وهمذان وأردبيل وتبريز وكنجة وقتلوا أهاليها ونهبوا ما فيها واستأسروا ذراريها واقتربوا من بغداد فانزعج الخليفة لذلك وحصن (13/94)
بغداد واستخدم الاجناد وقنت الناس في الصلوات والأوراد وفيها قهروا الكرج واللان ثم قاتلوا القبجاق فكسروهم وكذلك الروس وينهبون ما قدروا عليه ثم قاتلوهم سبوا نساءهم وذراريهم وفيها سار المعظم إلى أخيه الأشرف فاستعطفه على أخيه الكامل وكان في نفسه موجدة عليه فأزالها وسارا جميعا نحو الديار المصرية لمعاونة الكامل على الفرنج الذين قد أخذوا ثغر دمياط واستحكم أمرهم هنالك من سنة أربع عشرة وعرض عليهم في بعض الاوقات أن يرد إليهم بيت المقدس وجميع ما كان صلاح الدين فتحه من بلاد الساحل ويتركوا دمياط فامتنعوا من ذلك ولم يفعلوا فقدر الله تعالى أنهم ضاقت عليهم الاقوات فقدم عليهم مراكب فيها ميرة لهم فأخذها الاسطول البحري وأرسلت المياه على أراضي دمياط من كل ناحية فلم يمكنهم بعد ذلك أن يتصرفوا في نفسهم وحصرهم المسلمون من الجهة الاخرى حتى اضطروهم إلى أضيق الأماكن فعند ذلك أثابوا إلى المصالحة بلا معاوضة فجاء مقدموهم إليه وعنده أخواه المعظم عيسى وموسى الأشرف وكانا قائمين بين يديه وكان يوما مشهودا فوقع الصلح على ما أراد الكامل محمد بيض الله وجهه وملوك الفرنج والعساكر كلها واقفة بين يديه وكان يوما مشهودا فوقع الصلح على ما أراد الكامل محمد بيض الله وجهه وملوك الفرنج والعساكر كلها واقفة بين يديه ومد سماطا عظيما فاجتمع عليه المؤمن والكافر والبر والفاجر وقام راجح الحلى الشاعر فأنشد ... هنيئا فإن السعد راح مخلدا ... وقد انجز الرحمن بالنصر موعدا ... حبانا آله الخلق فتحا بدا لنا ... مبينا وإنعاما وعزا مؤبدا ... تهلل وجه الدهر بعد قطوبه ... وأصبح وجه الشرك بالظلم أسودا ... ولما طغى البحر الخضم بأهله الط ... غاة وأضحى بالمراكب مزبدا ... أقام لهذا الدين من سل عزمه ... صقيلا كما سل الحسام مجردا ... فلم ينج إلا كل شلو مجدل ... ثوى منهم أو من تراه مقيدا ... ونادى لسان الكون في الأرض رافعا ... عقيرته في الخافقين ومنشدا ... أعباد عيسى إن عيسى وحزبه ... وموسى جميعا يخدمون محمدا ...
قال ابو شامة وبلغني انه أشار عند ذلك إلى المعظم عيسى والأشرف موسى والكامل محمد قال وهذا من أحسن شيء اتفق وكان ذلك يوم الاربعاء التاسع عشر رجب من هذه السنة وتراجعت الفرنج إلى عكا وغيرها ورجع المعظم إلى الشام واصطلح الأشرف والكامل على أخيهما المعظم وفيها ولى الملك المعظم قضاء دمشق كمال الدين المصري الذي كان وكيل بيت المال بها وكان فاضلا بارعا يجلس في كل يوم جمعة قبل الصلاة بالعادلية بعد فراغها لاثبات المحاضر ويحضر عنده في المدرسة جميع الشهود من كل المراكز حتى يتيسر على الناس إثبات كتبهم في الساعة الواحدة جزاه الله خيرا (13/95)
وممن توفي فيها من الاعيان
ياقوت الكاتب الموصلي رحمه الله
أمين الدين المشهور بطريقة ابن البواب قال ابن الاثير لم يكن في زمانه من يقاربه وكانت لديه فضائل جمة والناس متفقون على الثناء عليه وكان نعم الرجل وقد قال فيه نجيب الدين الواسطي قصيدة يمدحه بها ... جامع شارد العلوم ولولا ... ه لكانت أم الفضائل ثكلى ... ذويراع تخاف ريقته الأس ... د وتعنو له الكتائب ذلا ... وإذا افتر ثغره عن بياض ... في سواد فالسمر والبيض خجلا ... أنت بدر والكاتب ابن هلال ... كأبيه لا فخر فيمن تولى ... إن يكن اولى فإنك بالتفض ... يل أولى فقد سبقت وصلى ... جلال الدين الحسن
من أولاد الحسن بن الصباح مقدم الاسماعيلية وكان قد أظهر في قومه شعائر الاسلام وحفظ الحدود والمحرمات والقيام فيها بالزواجر الشرعية
الشيخ الصالح
شهاب الدين محمد بن خلف بن راجح المقدسي الحنبلي الزاهد العابد الناسك كان يقرا على الناس يوم الجمعة الحديث النبوي وهو جالس على أسفل منبر الخطابة بالجامع المظفري وقد سمع الحديث الكثير ورحل وحفظ مقامات الحريري في خمسين ليلة وكانت له فنون كثيرة وكان ظريفا مطبوعا رحمه الله
والخطيب موفق الدين
أبو عبد الله عمر بن يوسف بن يحيى بن عمر بن كامل المقدسي خطيب بيت الابار وقد تاب في دمشق عن الخطيب جمال الدين الدولعي حين سار في الرسلية إلى خوارزم شاه حتى عاد
المحدث تقي الدين أبو طاهر
إسماعيل بن عبد الله بن عبد المحسن بن الانماطي قرأ الحديث ورحل وكتبه وكان حسن الخط متقنا في علوم الحديث حافظا له وكان الشيخ تقي الدين ابن الصلاح يثني عليه ويمدحه وكانت له كتب بالبيت الغربي من الكلاسة الذي كان للملك المحسن بن صلاح الدين ثم أخذ من ابن الانماطي وسلم إلى الشيخ عبد الصمد الدكائي واستمر بيد أصحابه بعد ذلك وكانت وفاته بدمشق ودفن بمقابر الصوفية وصلى عليه بالجامع الشيخ موفق الدين وبباب النصر الشيخ فخر الدين بن عساكر وبالمقبرة قاضي القضاة جمال الدين المصري رحمه الله تعالى (13/96)
أبو الغيث شعيب بن أبي طاهر بن كليب
ابن مقبل الضرير الفقيه الشافعي أقام ببغداد إلى أن توفي وكانت لديه فضائل وله رسائل ومن شعره قوله ... إذا كنتم للناس أهل سياسة ... فسوسوا كرام الناس بالجود والبذل ... وسوسوا لئام الناس بالذل يصلحوا ... عليه فإن الذل أصلح للنذل ... أبو العز شرف بن علي ابن أبي جعفر بن كامل الخالصي المقري الضرير الفقيه الشافعي تفقه بالنظامية وسمع الحديث ورواه وأنشد عن الحسن بن عمرو الحلبي ... تمثلتم لي والديار بعيدة ... فخيل لي أن الفؤاد لكم معنى ... وناجاكم قلبي على البعد بيننا ... فأوحشتم لفظا وآنستم معنى ... أبو سليمان داوود بن إبراهيم
ابن مندار الجيلي أحد المعيدين بالمدرسة النظامية ومما أنشده ... أيا جامعا أمسك عنانك مقصرا ... فإن مطايا الدهر تكبو وتقصر ... ستقرع سنا أو تعض ندامة ... إذا خان الزمان واقصر ... ويلقاك رشد بعد غيك واعظ ... ولكنه يلقاك والأمر مدبر ...
أبو المظفر عبد الودود بن محمود بن المبارك
...
ابن علي بن المبارك بن الحسن الواسطي الأصل البغدادي الدار والمولد كمال الدين المعروف والده بالمجيد تفقه على أبيه وقرأ عليه علم الكلام ودرس بمدرسته عند باب الأزج ووكله الخليفة الناصر واشتهر بالديانة والامانة وباشر مناصب كبارا وحج مرارا عديدة وكان متواضعا حسن الاخلاق وكان يقول ... وما تركت ست وستون حجة ... لنا حجة أن نركب اللهو مركبا ... وكان ينشده ... العلم يأتي كل ذي خف ... ض ويأبي على كل آبي ... كالماء ينزل في الوها ... دوليس يصعد في الروابي ... ثم دخلت سنة تسع عشرة وستمائة
فيها نقل تابوت العادل من القلعة إلى تربته العادلية الكبيرة فصلى عليه أولا تحت النسر بالجامع الأموي ثم جاؤا به إلى التربة المذكورة فدفن فيها ولم تكن المدرسة كملت بعد وقد تكامل بناؤها في هذه السنة أيضا وذكر الدرس بها القاضي جمال الدين المصري وحضر عنده السلطان (13/97)
المعظم فجلس في الصدر وعن شماله القاضي وعن يمينه صدر الدين الحصيري شيخ الحنفية وكان في المجلس الشيخ تقي الدين بن الصلاح إمام السلطان والشيخ سيف الدين الآمدي إلى جانب المدرس وإلى جانبه شمس الدين بن سناء الدولة ويليه النجم خليل قاضي العسكر وتحت الحصيري شمس الدين بن الشيرازي وتحته محيي الدين التركي وفيه خلق من الاعيان والأكابر وفيهم فخر الدين بن عساكر وفيها أرسل الملك المعظم الصدر الكشهني محتسب دمشق إلى جلال الدين بن خوارزم شاه يستعينه على أخويه الكامل والأشرف اللذين قد تمالا عليه فأجابه إلى ذلك بالسمع والطاعة ولما عاد الصدر المذكور أضاف إليه مشيخة الشيوخ وحج في هذه السنة الملك مسعود بن أقسيس بن الكامل صاحب اليمن فبدت منه أفعال ناقصة بالحرم من سكر ورشق حمام المسجد بالبندق من أعلا قبة زمزم وكان إذا نام في دار الامارة يضرب الطائفون بالمسعى بأطراف السيوف لئلا يشوشوا عليه وهو نوم سكر قبحه الله ولكن كان مع هذا كله مهيبا محترما والبلاد به آمنة مطمئنة وقد كاد يرفع سنجق أبيه يوم عرفة على سنجق الخليفة فيجرى بسبب ذلك فتنة عظيمة وما مكن من طلوعه وصعوده إلى الجبل إلا في آخر النهار بعد جهد جهيد وفيها كان بالشام جراد كثيرا أكل الزرع والثمار والأشجار وفيها وقعت حروب كثيرة بين القبجاق والكرج وقتال كثير بسبب ضيق بلاد القبجاق عليهم وفيها ولى قضاء القضاة ببغداد أبو عبد الله محمد بن فلان ولبس الخلعة في باب دار الوزارة مؤيد الدين محمد بن محمد القيمق بحضرة الاعيان والكبراء وقرئ تقليده بحضرتهم وساقه ابن الساعي بحروفه وممن توفي فيها من الاعيان
عبد القادر بن داود
أبو محمد الواسطي الفقيه الشافعي الملقب بالمحب استقل بالنظامية دهرا واشتغل بها وكان فاضلا دينا صالحا ومما أنشده من الشعر ... الفرقدان كلاهما شهدا له ... والبدر ليلة تمه بسهاده ... دنف إذا اعتبق الظلام تضرمت ... نار الجوى في صدره وفؤاده ... فجرت مدامع جفنه في خده ... مثل المسيل يسيل من أطواره ... شوقا إلى مضنيه لم أر هكذا ... مشتاق مضني جسمه ببعاده ... ليت الذي اضناه سحرجفونه ... قبل الممات يكون من عواده ... أبو طالب يحيى بن علي
اليعقوبي الفقيه الشافعي أحد المعيدين ببغداد كان شيخا مليح الشيبة جميل الوجه كان بلى بعض الاوقاف ومما أنشده لبعض الفضلاء (13/98)
لحمل تهامة وجبال أحد ... وماء البحر ينقل بالزبيل ... ونقل الصخر فوق الظهر عريا ... لاهون من مجالسة الثقيل ...
ولبعضهم أيضا وهومما أنشده المذكور ... وإذا مضى للمرء من أعوامه ... خمسون وهو إلى التقى لا يجنح ... عكفت عليه المخزيات فقولها ... حالفتنا فأقم كذا لا تبرح ... وغذا رأى الشيطان غرة وجهه ... حيا وقال فديت من لا يفلح ...
اتفق أنه طولب بشيء من المال فلم يقدر عليه فاستعمل شيئا من الأفيون المصري فمات من يومه ودفن بالوردية وفيها توفي
قطب الدين العادل
بالفيوم ونقل إلى القاهرة وفيها توفي إمام الحنابلة بمكة
الشيخ نصر بن أبي الفرج
المعروف بابن الحصري جاور بمكة مدة لم يسافر ثم ساقته المنية إلى اليمن فمات بها في هذه السنة وقد سمع الحديث من جماعة من المشايخ
وفيها في ربيع الاول توفي بدمشق الشهاب عبد الكريم بن نجم النيلي أخو البهاء والناصح وكان فقيها مناظرا بصيرا بالمحاكمات وهو الذي أخرج مسجد الوزير من يد الشيخ علم الدين السخاوي رحمه الله تعالى بمنه ؟ ؟ وكرمه
ثم دخلت سنة عشرين وستمائة
فيها عاد الأشرف موسى بن العادل من عند أخيه الكامل صاحب مصر فتلقاه أخوه المعظم وقد فهم أنهما تمالا عليه فبات ليلة بدمشق وسار من آخر الليل ولم يشعر أخوه بذلك فسار إلى بلاده فوجد أخاه الشهاب غازي الذي استنابه على خلاط وميافارقين وقد قووا رأسه وكاتبه المعظم صاحب إربل وحسنوا له مخالفة الأشرف فكتب إليه الأشرف ينهاه عن ذلك فلم يقبل فجمع له العساكر ليقاتله وفيها سار أقسيس الملك مسعود صاحب اليمن ابن الكامل من اليمن إلى مكة شرفها الله تعالى فقاتله ابن قتادة ببطن مكة بين الصفا والمروة فهزمه اقسيس وشرده واستقل بملك مكة مع اليمن وجرت أمور فظيعة وتشرد حسن بن قتادة قاتل أبيه وعمه وأخيه في تلك الشعاب والأودية وممن توفي فيها من الاعيان الشيخ الامام
موفق الدين عبد الله بن أحمد
ابن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر شيخ الاسلام مصنف المغني في المذهب أبو محمد المقدسي (13/99)
إمام عالم بارع لم يكن في عصره بل ولا قبل دهره بمدة أفقه منه ولد بجماعيل في شعبان سنة إحدى وأربعين وخمسمائة وقدم مع أهله إلى دمشق في سنة إحدى وخمسين وقرأ القرآن وسمع الحديث الكثير ورحل مرتين إلى العراق إحداهما في سنة إحدى وستين مع ابن عمه الحافظ عبدالغني والأخرى سنة سبع وستين وحج في سنة ثلاث وسبعين وتفقه ببغداد على مذهب الامام أحمد وبرع وأفتى وناظر وتبحر في فنون كثيرة مع زهد وعبادة وورع وتواضع وحسن أخلاق وجود وحياء وحسن سمت ونور وبهاء وكثرة تلاوة وصلاة وصيام وقيام وطريقة حسنة واتباع للسلف الصالح وكانت له أحوال ومكاشفات وقد قال الشافعي رحمه الله تعالى إن لم تكن العلماء العاقلون أولياء الله فلا أعلم لله وليا وكان يؤم الناس للصلاة في محراب الحنابلة هو والشيخ العماد فلما توفي العماد استقل هو بالوظيفة فإن غاب صلى عنه أبو سليمان ابن الحافظ عبد الرحمن بن الحافظ عبد الغني وكان يتنفل بين العشاءين بالقرب من محرابه فإذا صلى العشاء انصرف إلى منزله بدرب الدولعي بالرصيف وأخذ معه من الفقراء من تيسر يأكلون معه من طعامه وكان منزله الأصلي بقاسيون فينصرف بعض الليالي بعدا لعشاء إلى الجبل فاتفق في بعض الليالي أن خطف رجل عمامته وكان فيها كاغد فيه رمل فقال له الشيخ خذ الكاغد والق العمامة فظن الرجل أن ذلك نفقة فأخذه وألقى العمامة وهذا يدل على ذكاء مفرط واستخصار حسن في الساعة الراهنة حتى خلص عمامته من يده بتلطف وله مصنفات عديدة مشهورة منها المغني في شرح مختصر الخرقي في عشرة مجلدات والشافي في مجلدين والمقنع للحفظ والروضة في اصول الفقه وغير ذلك من التصانيف المفيدة وكانت وفاته في يوم عيد الفطر في هذه السنة وقد بلغ الثمانين وكان يوم سبت وحضر جنازته خلق كثير ودفن بتربته المشهورة ورؤيت له منامات صالحة رحمه الله تعالى وكان له أولاد ذكور وإناث فلما كان حيا ماتوا في حياته ولم يعقب منهم سوى ابنه عيسى ولدين ثم ماتا وانقطع نسله قال أبو المظفر سبط ابن الجوزي نقلت من خط الشيخ موفق رحمه الله تعالى ... لا تجلسن بباب من ... يأبي عليك وصول داره ... وتقول حاجاتي إلي ... ه يعوقها إن لم أداره ... واتركه واقصد ربها ... تقضى ورب الدار كاره ...
ومما انشده الشيخ موفق الدين لنفسه رحمه الله تعالى ورضى عنه قوله ... أبعد بياض الشعر أعمر مسكنا ... سوى القبر إني إن فعلت لأحمق ... يخبرني شيبي بأني ميت ... وشيكا فينعاني إلي ويصدق ... يخرق عمري كل يوم وليلة ... فهل مستطاع وقع ما يتخرق (13/100)
كأني بجسمي فوق نعشي ممددا ... فمن ساكت أو معول يترحق ... إذا سئلوا عني أجابوا وعولوا ... وأدمعهم تنهل هذا الموفق ... وغيبت في صدع من الأرض ضيق ... وأودعت لحدا فوقه الصخر مطبق ... ويحثو على الترب أوثق صاحب ... ويسلمني للقبر من هو مشفق ... فيا رب كن لي مؤنسا يوم وحشتي ... فإني بما أنزلته لمصدق ... وما ضرني أني إلى الله صائر ... ومن هو من أهلي أبر وأرفق ...
فخر الدين ابن عساكر
عبد الرحمن بن الحسن بن هبة الله بن عساكر
أبو منصور الدمشقي شيخ الشافعية بها وأمه اسمها أسماء بنت محمد بن الحسن بن طاهر القدسية المعروف والدها بأبي البركات ابن المران وهو الذي جدد مسجد القدم في سنة سبع عشرة وخمسمائة وبه قبره وقبرها ودفن هناك طائفة كبيرة من العلماء وهي أخت آمنة والدة القاضي محيي الدين محمد بن علي بن الزكي اشتغل الشيخ فخر الدين من صغره بالعلم الشريف على شيخه قطب الدين مسعود النيسابوري فتزوج بابنته ودرس مكانه بالحاروجية وبها كان يسكن في إحدى القاعتين اللتين أنشأهما وبها توفي غربي الايوان ثم تولى تدريس الصلاحية الناصرية بالقدس الشريف ثم ولاه العادل تدريس التقوية وكان عنده أعيان الفضلاء ثم تفرغ فلزم المجاورة في الجامع في البيت الصغير إلى جانب محراب الصحابة يخلو فيه للعبادة والمطالعة والفتاوى وكانت تفد إليه من الاقطار وكان كثير الذكر حسن السمت وكان يجلس تحت النسر في كل اثنين وخميس مكان عمه لا سماع الحديث بعد العصر فيقرا عليه دلائل النبوة وغيره وكان يحضر مشيخة دار الحديث النورية ومشهد ابن عروة أول ما فتح وقد استدعاه الملك العادل بعد ما عزل قاضيه ابن الزكي فأجلسه إلى جانبه وقت السماط وسأل منه أن يلي القضاء بدمشق فقال حتى أستخير الله تعالى ثم امتنع من ذلك فشق على السلطان امتناعه وهم أن يؤذيه فقيل له أحمد الله الذي فيه مثل هذا ولما توفي العادل وأعاد ابنه المعظم الخمور أنكر عليه الشيخ فخر الدين فبقي في نفسه منه فانتزع منه تدريس التقوية ولم يبق معه سوى الحاروجية ودار الحديث النورية ومشهد ابن عروة وكانت وفاته يوم الاربعاء بعد العصر عاشر رجب من هذه السنة وله خمس وستون سنة وصلى عليه بالجامع وكان يوما مشهودا وحملت جنازته إلى مقابر الصوفية فدفن في أولها قريبا من قبر شيخه قطب الدين مسعود بن عروة
سيف الدين محمد بن عروة الموصلي
المنسوب إليه مشهد ابن عروة بالجامع الأموي لأنه أول من فتحه وقد كان مشحونا بالحواصل الجامعية وبنى فيه البركة ووقف فيه على الحديث درسا ووقف خزائن كتب فيه وكان (13/101)
مقيما بالقدس الشريف ولكنه كان من خواص أصحاب الملك المعظم فانتقل إلى دمشق حين خرب سور بيت المقدس إلى أن توفي بها وقبره عند قباب أتابك طغتكين قبلي المصلى رحمه الله
الشيخ أبو الحسن الروزبهاري
دفن بالمكان المنسوب إليه عند باب الفراديس
الشيخ عبد الرحمن اليمني
كان مقيما بالمنارة الشرقية كان صالحا زاهدا ورعا وفيه مكارم أخلاق ودفن بمقابر الصوفية
الرئيس عز الدين المظفر بن أسعد
ابن حمزة التميمي ابن القلانسي احد رؤساء دمشق وكبرائها وجده أبو يعلى حمزة له تاريخ ذيل به على ابن عساكر وقد سمع عز الدين هذا الحديث من الحافظ أبي القاسم ابن عساكر وغيره ولزم مجالسة الكندي وانتقع به
الأمير الكبير أحد حجاب الخليفة
محمد بن سليمان بن قتلمش بن تركانشاه بن منصور السمرقندي وكان من أولاد الأمراء وولى حاجب الحجاب بالديوان العزيز الخليفتي وكان يكتب جيدا وله معرفة حسنة بعلوم كثيرة منها الأدب وعلوم الرياضة وعمر دهرا وله حظ من نظم الشعر الحسن ومن شعره قوله ... سئمت تكاليف هذي الحياة ... وكذا الصباح بها والمساء ... وقد كنت كالطفل في عقله ... قليل الصواب كثير الهراء ... أنام إذا كنت في مجلس ... وأسهر عند دخول الغناء ... وقصر خطوى قيد المشيب ... وطال على ما عناني عناء ... وغودرت كالفرخ في عشه ... وخلفت حلمي وراء وراء ... وما جر ذلك غير البقاء ... فكيف بدا سوء فعل البقاء ...
وله أيضا وهو من شعره الحسن رحمه الله
... إلهي يا كثير العفو عفوا ... لما أسلفت في زمن الشباب ... فقد سودت في الاثام وجها ... ذليلا خاضعا لك في التراب ... فبيضه بحسن العفو عني ... وسامحني وخفف من عذابي ...
ولما توفي صلى عليه بالنظامية ودفن بالشونيزية ورآه بعضهم في المنام فقال ما فعل بك ربك فقال ... تحاشيت اللقاء لسوء فعلي ... وخوفا في المعاد من الندامة ... فلما أن قدمت على إلهي ... وحاقق في الحساب على قلامه (13/102)
وكان العدل أن أصلي جحيما ... تعطف بالمكارم والكرامة ... وناداني لسان العفو منه ... الا يا عبد يهنيك السلامة ...
أبو علي الحسن بن ابي المحاسن
زهرة بن علي بن زهرة العلوي الحسيني الحلبي نقيب الأشراف بها كان لديه فضل وأدب وعلم باخبار الناس والتواريخ والسير والحديث ضابطا حافظا للقرآن المجيد وله شعر جيد فمنه قوله ... لقد رأيت المعشوق وهو من ال ... هجر تنبو النواظر عنه ... أثر الدهر فيه آثار سوء ... وأدالت يد الحوادث منه ... عاد مستذلا ومستبدلا ... عزا بذل كأن لم يصنه ... أبو علي يحيى بن المبارك
ابن الجلاجلي من أبناء التجار سمع الحديث وكان جميل الهيئة يسكن بدار الخلافة وكان عنده علم وله شعر حسن فمنه قوله ... خير إخوانك المشارك في الأمر ... وأين الشريك في المر أينا ... الذي إن شهدت سرك في القو ... م وإن غبت كان اذنا وعينا ... مثل العقيق إن مسه النا ... ر رجلاه الجلاء فازداد زينا ... وأخو السوء إن يغب عنك يش ... نئك وإن يحتضر يكن ذاك شينا ... جيبه غير ناصح ومناه أن ... يصب الخليل إفكا ومينا ... فاخش منه ولا تلهف عليه ... إن غرما له كنقدك دينا ... ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وستمائة
فيها وصلت سرية من جهة جنكزخان غير الاولتين إلى الري وكانت قد عمرت قليلا فقتلوا أهلها أيضا ثم ساروا إلى ساوة ثم إلى قم وقاسان ولم تكونا طرقتا إلا هذه المرة ففعلوا بها مثل ما تقدم من القتل والسبي ثم ساروا إلى همذان فقتلوا أيضا وسبوا ثم ساروا إلى خلف الخوارزمية إلى أذربيجان فكسروهم وقتلوا منهم خلقا كثيرا فهربوا منهم إلى تبريز فلحقوهم وكتبوا إلى ابن البهلوان إن كنت مصالحا لنا فابعث لنا بالخوارزمية وإلا فأنت مثلهم فقتل منهم خلقا وأرسل برؤسهم إليهم مع تحف وهدايا كثيرة هذا كله وإنما كانت هذه السرية ثلاثة آلاف والخوارمية وأصحاب البلهوان اضعاف أضعافهم ولكن الله تعالى القى عليهم الخذلان والفشل فانا لله وإنا إليه راجعون
وفيها ملك غياث الدين بن خوارزم شاه بلاد فارس مع ما في يده من مملكة أصفهان وهمذان (13/103)
وفيها استعاد الملك الأشرف مدينة خلاط من أخيه شهاب الدين غازي وكان قد جعلها إليه مع جميع بلاد ارمينية وميا فارقين وجاي وجبل حور وجعله ولي عهده من بعده فلما عصى عليه وتشغب دماغه بما كتب إليه المعظم من تحسينه له مخالفته فركب إليه وحاصره بخلاط فسلمت إليه وامتنع أخوه في القلعة فلما كان الليل نزل إلى أخيه معتذرا فقبل عذره ولم يعاقبه بل أقره على ميافارقين وحدها وكان صاحب إربل والمعظم متفقين مع الشهاب غازي على الأشرف فكتب الكامل إلى المعظم يتهدده لئن ساعد على الأشرف ليأخذنه وبلاده وكان بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل مع الأشرف فركب إليه صاحب إربل فحاصره بسبب قلة جنده لأنه أرسلهم إلى الأشرف حين نازل خلاط فلما انفصلت الأمور على ما ذكرنا ندم صاحب إربل والمعظم بدمشق أيضا
وفيها أرسل المعظم ولده الناصر داود إلى صاحب إربل يقويه على مخالفة الأشرف وأرسل صوفيا من الشميساطية يقال له الملق إلى جلال الدين بن خوارزم شاه وكان قد أخذ أذربيجان في هذه السنة وقوى جأشه يتفق معه على أخيه الأشرف فوعده النصر والرفادة وفيها قدم الملك مسعود أقسيس ملك اليمن على أبيه الكامل بالديار المصرية ومعه شيء كثي من الهدايا والتحف من ذلك مائتا خادم وثلاثة أفيلة هائلة وأحمال عود وند ومسك وعنبر وخرج أبوه الكامل لتلقيه ومن نية أقسيس أن ينزع الشام من يد عمه المعظم وفيها كمل عمارة دار الحديث الكاملية بمصر وولى مشيختها الحافظ أبو الخطاب ابن دحية الكلبي وكان مكثارا كثير الفنون وعنده فوائد وعجائب رحمه الله وممن توفي فيها من الاعيان
أحمد بن محمد
ابن علي القادسي الضرير الحنبلي والد صاحب الذيل على تاريخ ابن الجوزي وكان القادسي هذا يلازم حضور مجلس الشيخ ابي الفرج ابن الجوزي ويزهره لما يسمعه من الغرائب ويقول والله إن ذا مليح فاستقرض منه الشيخ مرة عشرة دنانير فلم يعطه وصار يحضر ولا يتكلم فقال الشيخ مرة هذا القادسي لا يقرضنا شيئا ولا يقول والله إن ذا مليح رحمهم الله تعالى وقد طلب القادسي مرة إلى دار المستضيء ليصلي بالخليفة التراويح فقيل له والخليفة يسمع ما مذهبك فقال حنبلي فقال له لا تصل بدار الخلافة وأنت حنبلي فقال أنا حنبلي ولا أصلي بكم فقال الخليفة اتركوه لا يصلي بنا إلا هو
أبو الكرم المظفر بن المبارك
ابن أحمد بن محمد البغدادي الحنفي شيخ مشهد أبي حنيفة وغيره ولى الحسبة بالجانب الغربي من بغداد وكان فاضلا دينا شاعرا ومن شعره (13/104)
فصن بجميل الصبر نفسك واعتنم ... شريف المزايا لا يفنك ثوابها ... وعش سالما والقول فيك مهذب ... كريما وقد هانت عليك صعابها ... وتندرج الايام والكل ذاهب ... قليل ويقني عذبها وعذابها ... وما الدهر إلا مر يوم وليلة ... وما العمر إلا طيها وذهابها ... وما الحزم إلا في إخاء عزيمة ... وفيك المعالي صفوها ولبابها ... ودع عنك أحلام الأماني فإنه ... سيسفر يوما غيها وصوابها ... محمد بن أبي الفرج بن بركة
الشيخ فخر الدين أبو المعالي الموصلي قدم بغداد واشتغل بالنظامية وأعاد بها وكانت له معرفة بالقراءات وصنف كتابا في مخارج الحروف وأسند الحديث وله شعر لطيف
أبو بكر بن حلبة الموازيني البغدادي
كان فردا في علم الهندسة وصناعة الموازين يخترع أشياء عجيبة من ذلك أنه ثقب حبة خشخاش سبعة ثقوب وجعل في كل ثقب شعرة وكان له حظوة عند الدولة
أحمد بن جعفر بن احمد
ابن محمد أبو العباس الدبيبي البيع الواسطي شيخ أديب فاضل له نظم ونثر عارف بالأخبار والسير وعنده كتب جيدة كثيرة وله شرح قصيدة لأبي العلاء المعري في ثلاث مجلدات وقد أورد له ابن الساعي شعرا حسنا فصيحا حلوا لذيذا في السمع لطيفا في القلب
ثم دخلت سنة إثنتين وعشرين وستمائة
فيها عاثت الخوارزمية حين قدموا مع جلال الدين بن خوارزم شاه من بلاد غزنة مقهورين من التتار إلى بلاد خوزستان ونواحي العراق فأفسدوا فيه وحاصروا مدنه ونهبوا قراه وفيها استحوذ جلال الدين بن خوارزم شاه على بلاد أذربيجان وكثيرا من بلادا لكرج وكسر الكرج وهم في سبعين ألف مقاتل فقتل منهم عشرين ألفا من المقاتلة واستفحل امره جدا وعظم شأنه وفتح تفليس فقتل منها ثلاثين ألفا وزعم أبو شامه أنه قتل من الكرج سبعين ألفا في المعركة وقتل من تفليس تمام المائة ألف وقد اشتغل بهذه الغزوة عن قصد بغداد وذلك أنه لما حاصر دقوقا سبه أهلها ففتحها قسرا وقتل من أهلها خلقا كثيرا وخرب سورها وعزم على قصد الخليفة ببغداد لأنه فيم زعم عمل على أبيه حتى هلك واستولت التتر على البلاد وكتب إلى المعظم بن العادل يستدعيه لقتال الخليفة ويحرضه على ذلك فامتنع المعظم من ذلك ولما علم الخليفة بقصد جلال الدين بن خوارزم شاه بغداد انزعج لذلك وحصن بغداد واستخدم الجيوش والاجناد أنفق (13/105)
في الناس ألف ألف دينار وكان جلال الدين قد بعث جيشا إلى الكرج فكتبوا إليه أن أدركنا قبل أن نهلك عن آخرنا وبغداد ما تفوت فسار إليهم وكان من أمره ما ذكرنا
وفيها كان غلاء شديد بالعراق والشام بسبب قلة الأمطار وإنتشار الجراد ثم أعقب ذلك فناء كثير بالعراق والشام أيضا فمات بسببه خلق كثير في البلدان فإنا لله وإنا إليه راجعون
وفاة الخليفة الناصر لدين الله وخلافة ابنه الظاهر
لما كان يوم الأحد آخر يوم من شهر رمضان المعظم من هذه السنة توفي الخليفة الناصر لدين الله أبو العباس أحمد بن المستضيء بامر الله أبي المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله أبي عبد الله محمد بن المستظهر بالله أبي عبد الله أحمد بن المقتدي بأمر الله أبي القاسم عبد الله بن الذخيرة محمد بن القائم بأمر الله أبي جعفر عبدا لله بن القادر بالله أبي العباس أحمد بن الموفق أبي أحمد بن محمد المتوكل أبي جعفر عبد الله بن القادر بالله أبي العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الموفق أبي أحمد بن محمد المتوكل على الله جعفر بن المعتصم بالله أبي إسحاق محمد بن هارون الرشيد بن المهدي محمد بن عبد الله أبي جعفر المنصور بن محمد بن علي ابن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي العباسي أمير المؤمنين ولد ببغداد سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة وبويع له بالخلافة بعد موت أبيه سنة خمس وسبعين وخمسمائة وتوفي في هذه السنة وله من العمر تسع وستون سنة وشهران وعشرون يوما وكانت مدة خلافته سبعا وأربعين سنة إلا شهرا ولم يقم أحد من الخلفاء العباسيين قبله في الخلافة هذه المدة الطويلة ولم تطل مدة أحد من الخلفاء مطلقا أكثر من المستنصر العبيدي أقام بمصر حاكما ستين سنة وقد انتظم في نسبة أربعة عشر خليفة وولى عهد على ما رأيت وبقية الخلفاء العباسيين كلهم من أعمامه وبنى عمه وكان مرضه قد طال به وجمهوره من عسار البول مع أنه كان يجلب له الماء من مراحل عن بغداد ليكون أصفى وشق ذكره مرات بسبب ذلك ولم يغن عنه هذا الحذر شيئا وكان الذي ولى غسله محيي الدين ابن الشيخ ابي الفرج ابن الجوزي وصلى عليه ودفن في دار الخلافة ثم نقل إلى الترب من الرصافة في ثاني ذي الحجة من هذه السنة وكان يوما مشهودا قال ابن الساعي أما سيرته فقد تقدمت في الحوادث وأما ابن الاثير في كامله فإنه قال وبقي الناصر لدين الله ثلاث سنين عاطلا من الحركة بالكلية وقد ذهبت إحدى عينيه والأخرى يبصر بها إبصارا ضعيفا وآخر الأمر أصابه دوسنطارية عشرين يوما ومات وزر له عدة وزراء وقد تقدم ذكرهم ولم يطلق في أيام مرضه ما كان أحدثه من الرسوم الجائرة وكان قبيح السيرة في رعينه ظالما لهم فخرب في أيامه العراق وتفرق أهله في البلاد وأخذ أموالهم وأملاكهم وكان يفعل الشيء وضده فمن ذلك أنه عمل دورا (13/106)
للافطار في رمضان ودورا لضيافة الحجاج ثم أبطل ذلك وكان قد أسقط مكوسا ثم أعادها وجعل جل همه في رمي البندق والطيور المناسيب وسراويلات الفتوة قال ابن الاثير وإن كان ما ينسبه العجم إليه صحيحا من أنه هو الذي اطمع التتار في البلاد وراسلهم فهو الطامة الكبرى التي يصغر عندها كل ذنب عظيم قلت وقد ذكر عنه أشياء غريبة من ذلك انه كان يقول للرسل الوافدين عليه فعلتم في مكان كذا وكذا وفعلتم في الموضع الفلاني كذا حتى ظن بعض الناس أو أكثرهم أنه كان يكاشف أو أن جنيا يأتيه بذلك والله أعلم
خلافة الظاهر بن الناصر
لما توفي الخليفة الناصر لدين الله كان قد عهد إلى ابنه أبي نصر محمد هذا ولقبه بالظاهر وخطب له على المنابر ثم عزله عن ذلك بأخيه علي فتوفي في حياة ابيه سنة ثنتي عشرة فاحتاج إلى إعادة هذا لولاية العهد فخطب له ثانيا فحين توفي بويع بالخلافة وعمره يومئذ ثنتان وخمسون سنة فلم يل الخلافة من بني العباس أسن منه وكان عاقلا وقورا دينا عادلا محسنا رد مظالم كثيرة وأسقط مكوسا كان قد أحدثها أبوه وسار في الناس سيرة حسنة حتى قيل إنه لم يكن بعد عمر بن عبدالعزيز أعدل منه لو طالت مدته لكنه لم يحل إلى الحول بل كانت مدته تسعة أشهر أسقط الخراج الماضي عن الاراضي التي قد تعطلت ووضع عن أهل بلدة واحدة وهي يعقوبا سبعين ألف دينار كان ابوه قد زادها عليهم في الخراج وكانت صنجة المخزن تزيد على صنجة البلد نصف دينار في كل مائة إذا قبضوا وإذا أقبضوا دفعوا بصنجة البلد فكتب إلى الديوان ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم او وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين فكتب إليه بعض الكتاب يقول يا أمير المؤمنين إن تفاوت هذا عن العام الماضي خمسة وثلاثون ألفا فأرسل ينكر عليه ويقول هذا يترك وإن كان تفاوته ثلثمائة ألف وخمسين ألفا رحمه الله وأمر للقاضي أن كل من ثبت له حق بطريق شرعي يوصل إليه بلا مراجعة وأقام في النظر على الاموال الجردة رجلا صالحا واستخلص على القضاء الشيخ العلامة عماد الدين أبا صالح نصر بن عبدا لرزاق بن الشيخ عبد القادر الجيلي في يوم الاربعاء ثامن ذي الحجة فكان من خيار المسلمين ومن القضاة العادلين رحمهم الله أجمعين ولما عرض عليه القضاء لم يقبله إلا بشرط أن يورث ذوي الارحام فقال أعط كل ذي حق حقه واتق الله ولا تتق سواه وكان من عادة ابيه أن يرفع إليه حراس الدروب في كل صباح بما كان عندهم في المحال من الاجتماعات الصالحة والطالحة فلما ولى الظاهر أمر بتبطيل ذلك كله وقال أي فائدة في كشف أحوال الناس وهتك استارهم فقيل له إن ترك ذلك يفسد الرعية فقال نحن ندعو الله لهم ان يصلحهم وأطلق من كان (13/107)
في السجون معتقلا على الاموال الديوانية ورد عليهم ما كان استخرج منهم قبل ذلك من المظالم وأرسل إلى القاضي بعشرة آلاف دينار يوفي بها ديون من في سجونه من المدينين الذي لا يجدون وفاء وفرق في العلماء بقية المائة ألف وقد لامه بعض الناس في هذه التصرفات فقال إنما فتحت الدكان بعد العصر فذروني اعمل صالحا وأفعل الخير فكم مقدار ما بقيت أعيش ولم تزل هذه سيرته حتى توفي في العام الاتي كما سيأتي ورخصت الاسعار في ايامه وقد كانت قبل ذلك في غاية الغلاء حتى انه فيما حكى ابن الاثير أكلت الكلاب والسنانير ببلاد الجزيرة والموصل فزال ذلك والحمد لله وكان هذا الخليفة الظاهر حسن الشكل مليح الوجه أبيض مشربا حلو الشمائل شديد القوى وممن توفي فيها من الاعيان
أبو الحسن علي الملقب بالملك الأفضل
نور الدين ابن السلطان صلاح الدين بن يوسف بن أيوب كان ولي عهد أبيه وقد ملك دمشق بعده مدة سنتين ثم أخذها منه عمه العادل ثم كاد ان يملك الديار المصرية بعد أخيه العزيز فأخذها منه عمه العادل أبو بكر ثم اقتصر على ملك صرخد فأخذها منه أيضا عمه العادل ثم آل به الحال أن ملك سميساط وبها توفي في هذه السنة وكان فاضلا شاعرا جيد الكتابة ونقل إلى مدينة حلب فدفن بها بظاهرها وقد ذكر ابن خلكان انه كتب إلى الخليفة الناصر لدين الله يشكو إليه عمه أبا بكر واخاه عثمان وكان الناصر شيعيا مثله ... مولاي إن ابا بكر وصاحبه ... عثمان قد غصبا بالسيف حق علي ... وهو الذي كان قدولاه والده ... عليهما باستقام الامر حين ولي ... فخالفاه وحلا عقد بيعته ... والأمر بينهما والنص فيه جلي ... فانظر إلى حظ هذا الاسم كيف لقى ... من الأواخر ما لاقى من الاول ... الأمير سيف الدين علي
ابن الأمير علم الدين بن سليمان بن جندر كان من أكابر الأمراء بحلب وله الصدقات الكثيرة ووقف بها مدرستين إحداهما على الشافعية والأخرى على الحنفية وبنى الخانات والقناطر وغير ذلك من سبل الخيرات والغزوات رحمه الله
الشيخ علي الكردي
الموله المقيم بظاهر باب الجابية قال أبو شامة وقد اختلفوا فيه فبعض الدماشقة يزعم انه كان صاحب كرامات وأنكر ذلك آخرون وقالوا ما رآه أحد يصلي ولا يصوم ولا لبس مداسا بل كان يدوس النجاسات ويدخل المسجد على حاله وقال آخرون كان له تابع من الجن يتحدث على لسانه حكى السبط عن امرأة قالت جاء خبر بموت أمي باللاذقية أنها ماتت وقال لي بعضهم إنها لم تمت (13/108)
قالت فممرت به وهو قاعد عند المقابر فوقفت عنده فرفع رأسه وقال لي ماتت ماتت إيش تعملين فكان كما قال وحكى لي عبد الله صاحبي قال صبحت يوما وما كان معي شيء فاجتزت به فدفع إلي نصف درهم وقال يكفي 2 هذا للخبز والفت بدبس وقال مر يوما على الخطيب جمال الدين الدولعي فقال له يا شيخ علي أكلت اليوم كسيرات يابسة وشربت عليها الماء فكفتني فقال له الشيخ علي الكردي وما تطلب نفسك شيئا آخر غير هذا قال لا فقال يا مسلمين من يقنع بكسرة يابسة يحبس نفسه في هذه المقصورة ولا يقضي ما فرضه الله عليه من الحج
الفخر ابن تيمية
محمد بن ابي القاسم بن محمد الشيخ فخر الدين أبو عبد الله بن تيمية الحراني عالمها وخطيبها وواعظها اشتغل على مذهب الامام احمد وبرع فيه وبرز وحصل وجمع تفسيرا حافلا في مجلدات كثيرة وله الخطب المشهورة المنسوبة إليه وهم عم الشيخ مجدا لدين صاحب المنتقى في الأحكام قال ابو المظفر سبط ابن الجوزي سمعته يوم جمعة بعدالصلاة وهو يعظ الناس ينشد ... أحبابنا قد ندرت مقلتي ... ما تلتقي بالنوم او نلتقي ... رفقا بقلب مغرم واعطفوا ... على سقام الجسد المحرق ... كم تمطلوني بليالي اللقا ... قد ذهب العمر ولم نلتقي ...
وقد ذكرنا أنه قدم بغداد حاجا بعد وفاة شيخه أبي الفرج ابن الجوزي ووعظ بها في مكان وعظه
الوزير بن شكر
صفي الدين أبو محمد عبد الله بن علي بن عبدالخالق بن شكر ولد بالديار المصرية بدميرة بين مصر واسكندرية سنة أربعين وخمسمائة ودفن بتربته عند مدرسته بمصر وقد وزر للملك العادل وعمل أشياء في أيامه منها تبليط جامع دمشق وأحاط سور المصلى عليه وعمل الفوارة ومسجدها وعمارة جامع المزة وقد نكب وعزل سنة خمس عشرة وستمائة وبقي معزولا إلى هذه السنة فكانت فيها وفاته وقد كان مشكور السيرة ومنهم من يقول كان ظالما فالله أعلم
أبو إسحاق إبراهيم بن المظفر
ابن إبراهيم بن علي المعروف بابن البذي الواعظ البغدادي أخذ الفن عن شيخه أبي الفرج ابن الجوزي وسمع الحديث الكثير ومن شعره قوله في الزهد ... ما هذه الدنيا بدار مسرة ... فتخوفي مكرا لها وخداعا ... بينا الفتى فيها يسر بنفسه ... وبماله يستمتع استمتاعا ... حتى سقته من المنية شربة ... وحمته فيه بعد ذاك رضاعا (13/109)
فغدا بما كسبت يداه رهينة ... لا يتسطيع لما عرته دفاعا ... لو كان ينطق قال من تحت الثرى ... فليحسن العمل الفتى ما استطاعا ... أبو الحسن علي بن الحسن
الرازي ثم البغدادي الواعظ عنده فضائل وله شعر حسن فمنه قوله في الزهد ... استعدي يا نفس للموت واسعى ... لنجارة فالحازم المستعد ... قد تبينت أنه ليس للحي ... خلود ولا من الموت بد ... إنما أنت مستعيرة ماسو ... ف تردين والعواري ترد ... أنت تسهين والحوادث لا ... تسهو وتلهين والمنايا تجدد ... لا ترجي البقاء في معدن المو ... ت ولا أرضا بها لك ورد ... أي ملك في الارض أم أي خط ... لامرئ حظه من الارض لحد ... كيف يهوى امرؤ لذاذة أيا ... م عليه الانفاس فيها تعد ... البها السنجاري
أبو السعادات أسعد بن محمد بن موسى الفقيه الشافعي الشاعر قال ابن خلكان كا فقيها وتكلم في الخلاف إلا انه غلب عليه الشعر فأجاد فيه واشتهر بنظمه وخدم به الملوك وأخذ منهم الجوائز وطاف البلاد وله ديوان بالتربة الأشرفية بدمشق ومن رقيق شعره ورائقه قوله ... وهواك ما خطر السلو بباله ... ولأنت أعلم في الغرام بحاله ... ومتى وشى واش إليك بانه ... سال هواك فذاك من عذاله ... أوليس للكلف المعني شاهد ... من حاله يغنيك عن تسآله ... جددت ثوب سقامه وهتكت ست ... رغرامه وصرمت حبل وصاله ...
وهي قصيدة طويلة امتدح فيها القاضي كمال الدين الشهرزوري وله ... لله أيامي على رامة ... وطيب اوقاتي على حاجر ... تكاد للسرعة في مرها ... أولها يعثر بالآخر ...
وكانت وفاته في هذه السنة عن تسعين سنة رحمه الله بمنه وفضله
عثمان بن عيسى
ابن درباس بن قسر بن جهم بن عبدوس الهدباني الماراني ضياء الدين أخو القاضي صدر الدين عبد الملك حاكم الديار المصرية في الدولة الصلاحية وضياء الدين هذا هو شارح المهذب إلى كتاب الشهادات في نحو من عشرين مجلدا وشرح اللمع في أصول الفقه والتنبيه للشيرازي وكان بارعا عالما بالمذهب رحمه الله (13/110)
أبو محمد عبد الله بن احمد بن الرسوي
البواريجي ثم البغدادي شيخ فاضل له رواية ومما أنشده ... ضيق العذر في الضراعة انا ... لو قنعنا بقسمنا لكفانا ... مالنا نعبد العباد إذا كان ... إلى الله فقرنا وغنانا ... أبو الفضل عبد الرحيم بن نصر الله
ابن علي بن منصور بن الكيال الواسطي من بيت الفقه والقضاء وكان أحد المعدلين ببغداد ومن شعره ... فتبا لدنيا لا يدوم نعيمها ... تسر يسيرا ثم تبدي المساويا ... تريك رواء في النقاب وزخرفا ... وتسفر عن شوهاء طحياء عاميا ...
ومن ذلك قوله
... إن كنت بعدالطاعتين تاسمحت ... بالفحص أجفاني فما أجفاني ... أو كنت من بعد الأحبة ناظرا ... حسنا بإنساني فما أنساني ... الدهر مغفور له زلاته ... إن عاد أوطاني على أوطاني ... أبو علي الحسن بن علي
ابن الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمار بن فهر بن وقاح الياسري نسبة إلى عمار بن ياسر شيخ بغدادي فاضل له مصنفات في التفسير والفرائض وله خطب ورسائل وأشعار حسنة وكان مقبول الشهادة عند الحكام
أبو بكر محمد بن يوسف بن الطباخ
الواسطي البغدادي الصوفي باشر بعض الولايات ببغداد ومما أنشده ... ما وهب الله لامرئ هبة ... أحسن من عقله ومن أدبه ... نعما جمال الفتى فإن فقدا ... ففقده للحياة أجمل به ... ابن يونس شارح التنبيه
أبو الفضل أحمد بن الشيخ كمال الدين أبي الفتح موسى بن يونس بن محمد بن منعة بن مالك بن محمد بن سعد بن سعيد بن عاصم بن عابد بن كعب بن قيس بن إبراهيم الأربلي الأصل ثم الموصلي من بيت العلم والرياسة اشتغل على أبيه في فنونه وعلومه فبرع وتقدم وقد درس وشرح التنبيه واختصر إحياء علوم الدين لغزالي مرتين صغيرا وكبيرا وكان يدرس منه قال ابن خلكان وقد ولى بأربل مدرسة الملك المظفر بعد موت والدي في سنة عشر وستمائة وكتت أحضر عنده (13/111)
وأنا صغير ولم أر أحدا يدرس مثله ثم صار إلى بلده سنة سبع عشرة ومات في يوم الاثنين الرابع والعشرين من ربيع الآخر من هذه السنة عن سبع وأربعين سنة رحمه الله تعالى
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وستمائة
فيها التقى الملك جلال الدين بن خوارزم شاه الخوارزمي مع الكرج فكسرهم كسرة عظيمة وصمد إلى أكبر معاقلتهم تفليس ففتحها عنوة وقتل من فيها من الكفرة وسبى ذراريهم ولم يتعرض لأحد من المسلمين الذين كانوا بها واستقر ملكه عليها وقد كان الكرج أخذوها من المسلمين في سنة خمس عشرة وخمسمائة وهي بأيديهم إلى الآن حتى استنقذها منهم جلال الدين هذا فكان فتحا عظيما ولله المنة وفيها سار إلى خلاط ليأخذها من نائب الملك الأشرف فلم يتمكن من أخذها وقاتله أهلها قتالا عظيما فرجع عنهم سبب اشتغاله بعصيان نائبه بمدينة كرمان وخلافه له فسار إليهم وتركهم وفيها اصطلح الملك الأشرف مع أخيه المعظم وسار إليه إلى دمشق وكان المعظم ممالئا عليه مع جلال الدين وصاحب إربل وصاحب ماردين وصاحب الروم وكان مع الأشرف أخوه الكامل وصاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ ثم استمال أخاه المعظم إلى ناحيته يقوى جانبه وفيها كان قتال كبير بين إبراش إنطاكية وبين الأرمن وجرت خطوب كثيرة بينهم وفيها أوقع الملك جلال الدين بالتركمان الايوانية بأسا شديدا وكانوا يقطعون الطرق على المسلمين
وفيها قدم محيي الدين يوسف بن الشيخ جمال الدين بن الجوزي من بغداد في الرسلية إلى الملك المعظم بدمشق ومعه الخلع والتشاريف لأولاد العادل من الخليفة الظاهر بأمر الله ومضمون الرسالة نهيه عن موالاة جلال الدين بن خوارزم شاه فإنه خارجي من عزمه قتال الخليفة وأخذ بغداد منهم فاجابه إلى ذلك وركب القاضي محيي الدين بن الجوزي إلى الملك الكامل بالديار المصرية وكان ذلك أول قدومه إلى الشام ومصر وحصل له جوائز كثيرة من الملوك منها كان بناء مدرسته الجوزية بالنشابين بدمشق وفيها ولى تدريس الشبلية بالسفح شمس الدين محمد بن قرزغلي سبط ابن الجوزي بمرسوم الملك المعظم وحضر عنده أول يوم القضاة والأعيان
وفاة الخليفة الظاهر وخلافة ابنه المستنصر
كانت وفاة الخليفة رحمه الله يوم الجمعة ضحى الثالث عشر من رجب من هذه السنة أعني سنة ثلاث وعشرين وستمائة ولم يعلم الناس بموته إلا بعد الصلاة فدعا له الخطباء يومئذ على المنابر على عادتهم فكانت خلافته تسعة أشهر وأربعة عشر يوما وعمره اثنتان وخمسون سنة وكان من أجود بني العباس وأحسنهم سيرة وسريرة وأكثرهم عطاء وأحسنهم منظرا ورواء ولو طالت مدته لصلحت الأمة صلاحا كثيرا على يديه ولكن أحب الله تقريبه وإزلافه لديه فاختار له ما عنده وأجزل له إحسانا (13/112)
ورفده وقد ذكرنا ما اعتمده في أول ولايته من إطلاق الأموال الديوانية ورد المظالم وإسقاط المكوس وتخفيف الخراج عن الناس وأداء الديون عمن عجز من أدائها والاحسان إلى العلماء والفقراء وتولية ذوي الديانة والأمانة وقد كان كتب كتابا لولاة الرعية فيه بسم الله الرحيم اعلموا أنه ليس إمهالنا إهمالا ولا أعضاؤنا احتمالا ولكن لنبولكم أيكم احسن عملا وقد غفرنا لكم ما سلف من إخراب البلاد وتشريد الرعايا وتقبيح الشريعة وإظهار الباطل الجلي في صورة الحق الخفي حيلة ومكيدة وتسمية الاستئصال والاجتياح استيفاء واستدر كالاغراض انتهزتم فرصها مختلسة من براثن ليث باسل وأنياب اسد مهيب تنفقون بألفاظ مختلفة على معنى واحد وأنتم أمناؤه وثقاته فتميلون رأيه إلى هواكم وتمزجون باطلكم بحقه فيطيعكم وأنتم له عاصون ويوافقكم وأنتم له مخالفون والآن قد بدل الله سبحانه بخوفكم أمنا وبفقركم غنى وبباطلكم حقا ورزقكم سلطانا يقيل العثرة ولا يؤاخذ إلا من أصر ولا ينتقم إلا ممن استمر يأمركم بالعدل وهو يريده منكم وينهاكم عن الجور وهو يكرهه لكم يخاف الله تعالى فيخوفكم مكره ويرجو الله تعالى ويرغبكم في طاعته فإن سلكتم مسالك خلفاء الله في أرضه وأمنائه على خلقه وإلا هلكتم والسلام ووجد في داره رقاع مختومة لم يفتحها سترا للناس ودرءا عن أعراضهم رحمه الله وقد خلف من الأولاد عشرة ذكورا وإناثا منهم ابنه الأكبر الذي بويع له بالخلافة من بعده ابو جعفر المنصور ولقب بالمستنصر بالله وغسله الشيخ محمد الخياط الواعظ ودفن في دار الخلافة ثم نقل إلى الترب من الرصافة
خلافة المستنصر بالله العباسي
أمير المؤمنين أبي جعفر منصور بن الظاهر محمد بن الناصر احمد بويع بالخلافة يوم مات أبوه يوم جمعة ثالث عشر رجب من هذه السنة سنة ثلاث وعشرين وستمائة استدعوا به من التاج فبايعه الخاصة والعامة من أهل العقد والحل وكان يوما مشهودا وكان عمره يومئذ خمسا وثلاثين سنة وخمسة أشهر وأحد عشر يوما وكان من أحسن الناس شكلا وأبهاهم منظرا وهو كما قال القائل ... كان الثريا علقت في جبينه ... وفي خده الشعرى وفي وجهه القمر ...
وفي نسبه الشريف خمسة عشر خليفة منهم خسة من آبائه ولوا نسقا 2 وتلقى هو الخلافة عنهم وراثة كابرا عن كابر وهذا شيء لم يتفق لأحد من الخلفاء قبله وسار في الناس كسيرة أبيه الظاهر في الجود وحسن السيرة والاحسان إلى الرعية وبنى المدرسة الكبيرة المستنصرية التي لم تبن مدرسة في الدنيا مثلها وسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله واستمر أرباب الولايات الذين كانوا في عهد أبيه على ما كانوا عليه ولما كان يوم الجمعة المقبلة خطب للامام المستنصر بالله على المنابر ونثر الذهب والفضة عند ذكر اسمه وكان يوما مشهودا وأنشد الشعراء المدائح والمراثي واطلقت لهم (13/113)
الخلع والجوائز وقدم رسول من صاحب الموصل يوم غرة شعبان من الوزير ضياء الدين أبي الفتح نصر الله بن الاثير فيها التهنئة والتعزية بعبارة فصيحة بليغة
ثم إن المستنصر بالله كان يواظب على حضور الجمعة راكبا ظاهرا للناس وإنما معه خادمان وراكب دار وخرج مرة وهو راكب فسمع ضجة عظيمة فقال ما هذا فقيل له التأذين فترجل عن مركوبه وسعى ماشيا ثم صار يدمن المشي إلى الجمعة رغبة في التواضع والخشوع ويجلس قريبا من الامام ويستمع الخطبة ثم أصلح له المطبق فكان يمشي فيه إلى الجمعة وركب في الثاني والعشرين من شعبان ركوبا ظاهرا للناس عامة ولما كانت أول ليلة من رمضان تصدق بصدقات كثيرة من الدقيق والغنم والنفقات على العلماء والفقراء والمحاويج إعانة لهم على الصيام وتقوية لهم على القيام وفي يوم السابع والعشرين من رمضان نقل تابوت الظاهر من دار الخلافة إلى التربة من الرصافة وكان يوما مشهودا وبعث الخليفة المستنصر يوم العيد صدقات كثيرة وإنعاما جزيلا إلى الفقهاء والصوفية وأئمة المساجد على يدي محي الدين ابن الجوزي وذكر ابن الاثير أنه كانت زلزلة عظيمة في هذه السنة هدمت شيئا كثيرا من القرى والقلاع ببلادهم وذكر أنه ذبح شاة ببلدهم فوجد لحمها مرا حتى رأسها وأكارعها ومعاليقها وجميع أجزائها وممن توفي بها من الاعيان بعدالخليفة الظاهر كما تقدم
الجمال المصري
يونس بن بدران بن فيرور جمال الدين المصري قاضي القضاة في هذا الحين اشتغل وحصل وبرع واختصر كتاب الأم للامام للشافعي وله كتاب مطول في الفرائض وولى تدريس الامينية بعدالتقى صالح الضرير الذي قتل نفسه ولاه إياه الوزير صفي الدين بن شكر وكان معتنيا بأمره ثم ولى وكالة بيت المال بدمشق وترسل إلى الملوك والخلفاء عن صاحب دمشق ثم ولاه المعظم قضاء القضاة بدمشق بعد عزله الزكي ابن الزكي وولاه تدريس العادلية الكبيرة حين كمل بناؤها فكان أول من درس بها وحضره الأعيان كما ذكرنا وكان يقول أولا درسا في التفسير حتى أكمل التفسير إلى آخره ويقول درس الفقه بعدالتفسير وكان يعتمد في أمر إثبات السجلات اعتمادا حسنا وهو انه كان يجلس في كل يوم جمعة بكرة ويوم الثلاثاء ويستحضر عنده في إيوان العادلية جميع شهود البلد ومن كان له كتاب يثبته حضر واستدعى شهوده فأدوا على الحاكم وثبت ذلك سريعا وكان يجلس كل يوم جمعة بعد العصر إلى الشباك الكمالي بمشهد عثمان فيحكم حتى يصلي المغرب وربما مكث حتى يصلي العشاء أيضا وكان كثير المذاكرة للعلم كثير الاشتغال حسن الطريقة لم ينقم عليه أنه أخذ شيئا لأحد قال أبو شامة وإنما كان ينقم عليه أنه كان يشير على (13/114)
بعض الورثة بمصالحة بيت المال وأنه استناب ولده التاج محمدا ولم يكن مرضي الطريقة وأما هو فكان عفيفا في نفسه نزها مهيبا قال أبو شامة وكان يدعى أنه قرشي شيبي فتكلم الناس فيه بسبب ذلك وتولى القضاء بعده شمس الدين أحمد بن الخليلي الجويني قلت وكانت وفاته في ربيع لاول من هذه السنة ودفن بداره التي في راس درب الريحان من ناحية الجامع ولتربته شباك شرق المدرسة الصدرية اليوم وقد قال فيه ابن عنين وكان هجاء ... ما أقصر المصري في فعله ... إذ جعل التربة في داره ... اراح للاحياء من رجمه ... وأبعد الأموات من ناره ... المعتمد والي دمشق
المبارز إبراهيم المعروف بالمعتمد والي دمشق من خيار الولاة وأعفهم واحسنهم سيرة وأجودهم سريرة أصله من الموصل وقدم الشام فخدم فروخشاه بن شاهنشاه بن أيوب ثم استنابه البدر مودود أخو فروخشاه وكان شحنة دمشق فحمدت سيرته في ذلك ثم صارهو شحنة دمشق أربعين سنة فجرت في أيامه عجائب وغرائب وكان كثير الستر على ذوي اليهئات ولا سيما من كان من أبناء الناس وأهل البيوتات وأتفق في أيامه أن رجلا حائكا كان له ولد صغير في آذانه حلق فعدا عليه رجل من جيرانهم فقتله غيلة وأخذ ما عليه من الحلى ودفنه في بعض المقابر فاشتكوا عليه فلم يقر فبكت والدته من ذلك وسألت زوجها أن يطلقها فطلقها فذهبت إلى ذلك الرجل وسألته أن يتزوجها وأظهرت له أنها أحبته فتزوجها ومكثت عنده حينا ثم سألته في بعض الاوقات عن ولدها الذي اشتكوا عليه بسببه فقال نعم أنا قتلته فقالت أشتهي ان تريني قبره حتى أنظر إليه فذهب بها إلى قبر خشنكاشه ففتحه فنظرت إلى ولدها فاستعبرت وقد أخذت معها سكينا أعدتها لهذا اليوم فضربته حتى قتلته ودفنته مع ولدها في ذلك القبر فجاء أهل المقبرة فحملوها إلى الوالي المعتمد هذا فسألها فذكرت له خبرها فاستحسن ذلك منها وأطلقها وأحسن إليها وحكى عنه السبط قال بينما أنا يوما خارج من باب الفرج وإذا برجل يحمل طبلا وهو سكران فأمرت به فضرب الحد وأمرتهم فكسروا الطبل وإذا ذكرة كبيرة جدا فشقوها فإذا فيها خمر وكان العادل قد منع أن يعصر خمر ويحمل إلى دمشق شيء منه بالكلية فكان الناس يتحيلون بأنواع الحيل ولطائف المكر قال السبط فسألته من أين علمت أن في الطبل شيئا قال رأيته يمشي ترجف سيقانه فعرفت أنه يحمل شيئا ثقيلا في الطبل وله من هذا الجنس غرائب وقد عزله المعظم وكان في نفسه منه وسجنه في القلعة نحوا من خمس سنين ونادى عليه في البلد فلم يجيء أحد ذكر أنه أخذ منه حبة خردل ولما مات رحمه الله دفن بتربته المجاورة لمدرسة أبي عمر من شامها قبلي السوق وله عند ترتبته المسجد (13/115)
يعرف به رحمه الله
واقف الشبليه التي بطريق الصالحية
شبل الدولة كافور الحسامي نسبة إلى حسام الدين محمد بن لاجين ولد ست الشام وهو الذي كان مستحثا على عمارة الشامية البرانية لمولاته ست الشام وهو الذي بني الشبلية للحنفية والخانقاه على الصوفية إلى جانبها وكانت منزله ووقف القناة والمصنع والساباط وفتح للناس طريقا من عند المقبرة غربي الشامية البرانية إلى طريق عين الكرش ولم يكن الناس لهم طريق إلى الجبل من هناك إنما كانوا يسلكون من عند مسجد الصفي بالعقبية وكانت وفاته في رجب ودفن إلى جانب مدرسته وقد سمع الحديث على الكندي وغيره رحمه الله تعالى
واقف الرواحية بدمشق وحلب
أبو القاسم هبة الله المعروف بابن رواحة كان احد التجار وفي الثروة المقدار ومن المعدلين بدمشق وكان في غاية الطول والعرض ولا لحية له وقد ابتنى المدرسة الرواحية داخل باب الفراديس ووقفها على الشافعية وفوض نظرها وتدريسها إلى الشيخ تقي الدين بن الصلاح الشهرزوري وله بحلب مدرسة أخرى مثلها وقد انقطع في آخر عمره في المدرسة التي بدمشق وكان يسكن البيت الذي في إيوانها من الشرق ورغب فيما بعد أن يدفن فيه إذا مات فلم يمكن من ذلك بل دفن بمقابر الصوفية وبعد وفاته شهد محي الدين ابن عربي الطائي الصوفي وتقي الدين خزعل النحوي المصري ثم المقدسي إمام مشهد على شهدا على ابن رواحة بأنه عزل الشيخ تقي الدين عن هذه المدرسة فجرت خطوب طويلة ولم ينتظم ما راماه من الأمر ومات خزعل في هذه السنة أيضا فبطل ما سلكوه
أبو محمد محمود بن مودود بن محمود
البلدجي الحنفي الموصلي وله بها مدرسة تعرف به وكان من أبناء الترك وصار من مشايخ العلماء وله دين متين وشعر حسن جيد فمنه قوله ... من ادعى أن له حالة ... تخرجه عن منهج الشرع ... فلا تكونن له صاحبا ... فإنه خرء بلا نفع ...
كانت وفاته بالموصل في السادس والعشرين من جمادي الآخرة من هذه السنة وله نحو من ثمانين سنة
ياقوت ويقال له يعقوب بن عبد الله نجيب الدين متولي الشيخ تاج الدين الكندي وقد وقف إليه الكتب التي بالخزانة بالزاوية الشرقية الشمالية من جامع دمشق وكانت سبعمائة وإحدى وستين مجلدا ثم على ولده من بعده ثم على العلماء فتمحقت هذه الكتب وبيع أكثرها وقد كان ياقوت هذا لديه فضيلة وأدب وشعر جيد وكانت وفاته ببغداد في مستهل رجب ودفن بمقبرة الخيزران بالقرب من مشهد أبي حنيفة (13/116)
ثم دخلت سنة أربع وعشرين وستمائة فيها كانت عامة أهل تفليس الكرج فجاؤا إليهم فدخلوها فقتلوا العامة والخاصة ونهبوا وسبوا وخربوا واحرقوا وخرجوا على حمية وبلغ ذلك جلال الدين فسار سريعا ليدركهم فلم يدركهم وفيها قتلت الاسماعيلية أميرا كبيرا من نواب جلال الدين بن خوارزم شاه فسار إلى بلادهم فقتل منهم خلقا كثيرا وخرب مدينتهم وسبى ذراريهم ونهب أموالهم وقد كانوا قبحهم الله من أكبر العون على المسلمين لما قدم التتار إلى الناس وكانوا أضر على الناس منهم
وفيها تواقع جلال الدين وطائفة كبيرة من التتار فهزمهم وأوسعهم قتلا وأسرا وساق وراءهم أياما فقتلهم حتى وصل إلى الري فبلغه أن طائفة قد جاؤا لقصده فاقام يثبطهم وكان من أمره وأمرهم ما سيأتي في سنة خمس وعشرين وفيها دخلت عساكر الملك الأشرف بن العادل إلى اذربيجان فملكوا منها مدنا كثيرة وغنموا أموالا جزيلة وخرجوا معهم بزوجة جلال الدين بنت طغرل وكانت تبغضه وتعاديه فأنزلوها مدينة خلاط وسيأتي ما كان من خبرهم في السنة الاتية وفيها قدم رسول الانبور ملك الفرنج في البحر إلى المعظم يطلب منه ما كان فتحه عمه السلطان الملك الناصر صلاح الدين من بلادا لسواحل فأغلظ لهم المعظم في الجواب وقال له قل لصاحبك ما عندي إلا السيف والله أعلم وفيها جهز الأشرف أخاه شهاب الدين غازي إلى الحج في محمل عظيم يحمل ثقله ستمائة جمل ومعه خمسون هجينا على كل هجين مملوك فسار من ناحية العراق وجاءته هدايا من الخليفة إلى أثناء الطريق وعاد على طريقه التي حج منها وفيها ولي قضاء القضاة ببغداد نجم الدين أبو المعالي عبد الرحمن بن مقبل الواسطي وخلع عليه كما هي عادة الحكام وكان يوما مشهودا وفيها كان غلاء شديد ببلادا لجزيرة وقل اللحم حتى حكى ابن الاثير أنه لم يذبح بمدينة الموصل في بعض الأيام سوى خروف واحد في زمن الربيع قال وسقط فيها عاشر أذار ثلج كثير بالجزيرة والعراق مرتين فأهلك الازهار وغيرها قال وهذا شيء لم يعهد مثله والعجب كل العجب من العراق مع كثرة حره كيف وقع فيه مثل هذا
وممن توفي فيها من الاعيان
جنكيز خان
السلطان الاعظم عند التتار والد ملوكهم اليوم ينتسبون إليه ومن عظم القان إنما يريد هذا الملك وهو الذي وضع لهم السياسا ( 1 ) التي يتحاكمون إليها ويحكمون بها وأكثرها مخالف لشرائع الله تعالى وكتبه وهو شيء اقترحه من عند نفسه وتبعوه في ذلك وكانت تزعم امه أنها حملته من شعاع الشمس فلهذا لا يعرف له أب والظاهر أنه مجهول النسب وقد رأيت مجلدا جمعه الوزير (13/117)
ببغداد علاء الدين الجويني في ترجمته فذكر فيه سيرته وما كان يشتمل عليه من العقل السياسي والكرم والشجاعة والتدبير الجيد للملك والرعايا والحروب فذكر أنه كان في ابتداء امره خصيصا عند الملك أزبك خان وكان إذ ذاك شابا حسنا وكان اسمه اولا تمرجي ثم لما عظم سمى نفسه جنكيزخان وكان هذا الملك قد قربه وأدناه فحسده عظماء الملك ووشوا به إليه حتى أخرجوه عليه ولم يقتله ولم يجد له طريقا في ذنب يتسلط عليه به فهو في ذلك إذ تغضب الملك على مملوكين صغيرين فهربا منه ولجآ إلى جنكيزخان فأكرمهما وأحسن إليهما فأخبراه بما يضمره الملك أزبك خان من قتله فأخذ حذره وتحيز بدولة واتبعه طوائب من التتار وصار كثير من اصحاب أزبك خان ينفرون إليه ويفدون عليه فيكرمهم ويعطيهم حتى قويت شوكته وكثرت جنوده ثم حارب بعد ذلك أزبك خان فظفر به وقتله واستحوز على مملكته وملكه وانضاف إليه عدده وعدده وعظم امره وبعد صيته وخضعت له قبائل الترك ببلاد طمعاج كلها حتى صار يركب في نحو ثمان مائة ألف مقاتل وأكثر القبائل قبيلته ألتي هومنها يقال لهم قيان ثم أقرب القبائل إليه بعدهم قبيلتان كبيرتا العدد وهما أزان وقنقوران وكان يصطاد من السنة ثلاثة اشهر والباقي للحرب والحكم قال الجويني وكان يضرب الحلقة يكون ما بين طرفيها ثلاثة أشهر ثم تتضايق فيجتمع فيها من أنواع الحيوانات شيئ كثير لا يحد كثرة ثم نشبت الحرب بينه وبين الملك علاء الدين خوارزم شاه صاحب بلاد خراسان والعراق وأذربيجان وغير ذلك والاقاليم والملك فقهره جنكيزخان وكسره وغلبه وسلبه واستحوذ على سائر بلاده بنفسه وبأولاده في ايسر مدة كما ذكرنا ذلك في الحوادث وكان ابتداء ملك جنكزخان سنة تسع وتسعين وخمسمائة وكان قتاله لخوارزم شاه في حدود سنة ست عشرة وستمائة ومات خوارزم شاه في سنة سبع عشرة كما ذكرنا فاستحوذ حينئذ على الممالك بلا منازع ولا ممانع وكانت وفاته في سنة أربع وعشرين وستمائة فجعلوه في تابوت من حديد وربطوه بسلاسل وعلقوه بين جبلين هنالك واما كتابه الياسا فإنه يكتب في مجلدين بخط غليظ ويحمل على بعير عندهم وقد ذكر بعضهم انه كان يصعد جبلا ثم ينزل ثم يصعد ثم ينزل مرارا حتى يعي ويقع مغشيا عليه ويامر من عنده أن يكتب ما يلقي على لسانه حينئذ فغ كان هذا هكذا فالظاهر أن الشيطان كان ينطق على لسانه بما فيها وذكر الجويني أن بعض عبادهم كان يصعد الجبال في البرد الشديد للعبادة فسمع قائلا يقول له إنا قد ملكنا جنكيزخان وذريته وجه الأرض قال الجويني فمشايخ المغول يصدقون بهذا ويأخذونه مسلما ثم ذكر الجويني نتفا من الياسا من ذلك أنه من زنا قتل محصنا كان أو غير محصن وكذلك من لاط قتل ومن تعمد الكذب قتل ومن سحر قتل ومن تجسس قتل ومن دخل بين اثنين يختصمان فأعان أحدهما قتل ومن بال في الماء الواقف قتل ومن انغمس فيه قتل ومن أطعم أسيرا (13/118)
أو سقاه أو كساه بغير إذن أهله قتل ومن وجد هاربا ولم يرده قتل ومن أطعم أسيرا أو رمى إلى أحد شيئا من المأكول قتل بل يناوله من يده إلى يده ومن أطعم أحدا شيئا فليأكل منه أولا ولو كان المطعوم اميرا لا أسيرا ومن أكل ولم يطعم من عنده قتل ومن ذبح حيوانا ذبح مثله بل يشق جوفه ويتناول قلبه بيده يستخرجه من جوفه أولا وفي ذلك كله مخالفة لشرائع الله المنزلة على عباده الانبياء عليهم الصلاة والسلام فمن ترك الشرع المحكم المنزل المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الانبياء وتحاك إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين قال الله تعالى أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون وقال تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما صدق الله العظيم ومن آدابهم الطاعة للسلطان غاية الاستطاعة وأن يعرضوا عليه أبكارهم الحسان ليختار لنفسه ومن شاء من حاشيته ما شاء منهن ومن شأنهم أن يخاطبوا الملك باسمه ومن مر بقوم يأكلون فله أن يأكل معهم من غير استئذان ولا يتخطى موقد النار ولا طبق الطعام ولا يقف على أسكفه الخركاه ولا يغسلون ثيابهم حتى يبدو وسخها ولا يكلفون العلماء من كل ما ذكر شيئا من الجنايات ولا يتعرضون لمال ميت وقد ذكر علاء الدين الجويني طرفا كبيرا من أخبار جنكيزخان ومكارم كان يفعلها لسجيته وما أداه إليه عقله وإن كان مشركا بالله كان يعبد معه غيره وقد قتل من الخلائق مالا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم ولكن كان البداءة من خوارزم شاه فإنه لما أرسل جنكيزخان تجارا من جهته معهم بضائع كثيرة من بلاده فانتهوا إلى إيران فقتلهم نائبها من جهة خوارزم شاه وهو والد زوجة كشلى خان وأخذ جميع ما كان معهم فأرسل جنكيزخان إلى خوارزم شاه يستعمله هل وقع هذا الأمر عن رضى منه أو أنه لا يعلم به فأنكره وقال له فيما أرسل إليه من المعهود من الملوك ان التجار لا يقتلون لأنهم عمارة الاقاليم وهم الذين يحملون إلى الملوك ما فيه التحف والاشياء النفيسة ثم إن هؤلاء التجار كانوا على دينك فقتلهم نائبك فإن كان امرا أمرت به طلبنا بدمائهم وإلا فأنت تنكره وتقتص من نائبك فلما سمع خوارزم شاه ذلك من رسول جنكيزخان لم يكن له جواب سوى انه أمر بضرب عنقه فأساء التدبير وقد كان خرف وكبرت سنه وقد ورد الحديث اتركوا الترك ما تركوكم فلما بلغ ذلك جنكيزخان تجهز لقتاله واخذ بلاده فكان بقدر الله تعالى ما كان من الأمور التي لم يسمع بأغرب منها ولا أبشع فمما ذكره الجويني أنه قدم له بعض الفلاحين بالصيد ثلاث بطيخات فلم يتفق أن عند جنكيزخان أحد من الخزندارية فقال لزوجته خاتون اعطيه هذين القرطين اللذين في أذنيك وكان فيهما جوهرتان نفيستان جدا فشحت المرأة بهما (13/119)
وقالت انظره إلى غد فقال إنه يبيت هذه الليلة مقلقل الخاطر وربما لا يجعل له شيء بعد هذا وإن هذين لا يمكن أحد إذا اشتراهما إلا جاء بهما إليك فانتزعتهما فدفعتهما إلى الفلاح فطار عقله بهما وذهب بهما فباعهما لأحد التجار بألف دينار ولم يعرف قيمتهما فحملهما التاجر إلى الملك فردهما على زوجته ثم أنشد الجويني عند ذلك ... ومن قال إن البحر والقطر أشبها ... نداه فقد أثنى على البحر والقطر ...
قالوا واجتاز يوما في سوق فرأى عند بقال عنابا فأعجبه لونه ومالت نفسه إليه فأمر الحاجب أن يشتري منه ببالس فاشترى الحاجب بربع بالس فلما وضعه بين يديه أعجبه وقال هذا كله ببالس قال وبقي منه هذا وأشار إلى ما بقي معه من المال فغضب وقال من يجد من يشتري منه مثلي يمموا له عشرة بوالس قالوا وأهدى له رجل جام زجاج من معمول حلب فاستحسنه جنكيزخان فوهن أمره عنده بعض خواصه وقال خوند هذا زجاج لا قيمة له فقال أليس قد حمله من بلاد بعيدة حتى وصل إلينا سالما أعطوه مائتي بالس قال وقيل له إن في هذا المكان كنزا عظيما إن فتحته أخذت منه مالا جزيلا فقال الذي في أيدينا يكفينا ودع هذا يفتحه الناس ويأكولونه فهم أحق به منا ولم يتعرض له قال واشتهر عن رجل في بلاده يقول أنا أعرف موضع كنز ولا أقول إلا للقان وألح عليه الأمراء أن يعلمهم فلم يفعل فذكروا ذلك للقان فأحضره على خيل الآولاق يعني البريد سريعا فلما حضر إلى بين يديه سأله عن الكنز فقال إنما كنت أقول ذلك حيلة لأرى وجهك فلما رأى تغير كلامه غضب وقال له قد حصل لك ما قلت ورده إلى موضعه سالما ولم يعطه شيئا قال وأهدى له إنسان رمانة فكسرها وفرق حبها على الحاضرين وأمر له بعدد حبها بوالس ثم أنشد ... فلذاك تزدحم الوفود ببابه ... مثل ازدحام الحب في الرمان ...
قال وقدم عليه لرجل كافر يقول رايت في النوم جنكيزخان يقول قل لابي يقتل المسلمين فقال له هذا كذب وأمر بقتله قال وأمر بقتل ثلاثة قد قضت الياسا بقتلهم فإذا امرأة تبكي (13/120)
وتلطم فقال ما هذه احضروها فقالت هذا ابني وهذا أخي وهذا زوجي فقال اختاري واحدا منهم حتى أطلقه لك فقالت الزوج يجيء مثله والابن كذلك والأخ لا عوض له فاستحسن ذلك منها وأطلق الثلاثة لها قال وكان يحب المصارعين وأهل الشطارة وقد اجتمع عنده منهم جماعة فذكر له إنسان بخراسان فأحضره فصرع جميع من عنده فأكرمه وأعطاه واطلق له بنتا من بنات الملوك حسناء فمكثت عنده مدة لا يتعرض لها فاتفق مجيئها إلا الاردوا فجعل السلطان يمازحها ويقول كيف رأيت المستعرب فذكرت له أنه لم يقربها فتعجب من ذلك واحضره فسأله عن ذلك فقال يا خوند أنا إنما حظيت عندك بالشطارة ومتى قربتها نقصت منزلتي عندك فقال لا بأس عليك وأحضر ابن عم له وكان مثله فأراد أن يصارع الاول فقال السلطان أنتما قرابة ولا يليق هذا بينكما وأمر له بمال جزيل ز قال ولما احتضر أوصى اولاده بالاتفاق وعدم الافتراق وضرب لهم في لك الامثال وأحضر بين يديه نشابا وأخذ سهما أعطاه لواحد منهم فكسره ثم أحضر حزمة ودفعها إليهم مجموعة فلم يطيقوا كسرها فقال هذا مثلكم إذا اجتمعتم واتفقتم وذلك مثلكم إذا انفردتم واختلفتم قال وكان له عدة أولاد ذكور وإناث منهم أربعة هم عظماء أولاده أكبرهم يوسي وهريول وباتو وبركة وتر كجار وكان كل منهم له وظيفة عنده ثم تكلم الجويني على ملك ذريته إلى زمان هولاكوخان وهو يقول في اسمه ياذشاه زاره هولاكو وذكر ما وقع في زمانه من الاوابد والامور المعروفة المزعجة كما بسطناه في الحوادث والله اعلم السلطان الملك المعظم عيسى بن العادل أبي بكر بن أيوب ملك دمشق والشام كانت وفاته يوم الجمعة سلخ ذي القعدة من هذه السنة وكان استقلاله بملك دمشق لما توفي أبوه سنة خمس عشرة وكان شجاعا باسلا عالما فاضلا اشتغل في الفقه على مذهب أبي حنيفة على الحصيري مدرس النورية وفي اللغة والنحو على التاج الكندي وكان محفوظه مفصل الزمخشري وكان يجيز من حفظه بثلاثين دينارا وكان قد أمر ان يجمع له كتاب في اللغة يشمل صحاح الجوهري والجمهرة لابن دريد والتهذيب للازهري وغير ذلك وأمر أن يرتب له مسند الامام أحمد وكان يحب العلماء ويكرمهم ويجتهد في متابعة الخير ويقول أناعلى عقيدة الطحاوي واوصى عند وفاته أن لا يكفن إلا في البياض وان يلحد له ويدفن في الصحراء ولا يبني عليه وكان يقول واقعة دمياط أدخرها عند الله تعالى وأرجو أن يرحمني بها يعني أنه أبلى بها بلاء حسنا رحمه الله تعالى وقد جمع له بين الشجاعة والبراعة والعلم ومحبة أهله وكان يجيء في كل جمعة إلى تربة والده فيجلس قليلا ثم إذا ذكر المؤذنون ينطلق إلى تربة عمه صلاح الدين (13/121)
فيصلى فيها الجمعة وكان قليل التعاظم يركب في بعض الاحيان وحده ثم يلحقه بعض غلمانه سوقا وقال فيه بعض أصحابه وهو محب الدين بن أبي السعود البغدادي لئن غودرت تلك المحاسن في الثرى ... بوال فما وجدي عليك ببال ... مذغبت عني ما ظفرت بصاحب ... أخي ثقة إلا خطرت ببالي ...
وملك بعده دمشق ولده الناصر داود بن المعظم وبايعه الأمراء
أبو المعالي أسعد بن يحيى
ابن موسى بن منصور بن عبدالعزيز بن وهب الفقيه الشافعي البخاري شيخ أديب فاضل خير له نظم ونثر ظريف وله نوادر حسنة وجاوز التسعين قد استوزره صاحب حماة في وقت وله شعر رائق أورد منه ابن الساعي قطعة جيدة فمن ذلك قوله ... وهواك ما خطر السلو بباله ... ولأنت أعلم في الغرام بحاله ... فمتى وشى واش إليك بشأنه ... سائل هواك فذاك من أعداله ... أو ليس للدنف المعنى شاهد ... من حاله يغنيك عن تسآله ... جددت ثوب سقامه وهتكت ست ... ر غرامة وصرمت حبل وصاله ... ياللعجائب من اسير دأبه ... يفدي الطليق بنفسه وبماله وله أيضا لام العواذل في هواك فاكثروا ... هيهات ميعاد السلو المحشر ... جهلوا مكانك في القلوب وحاولوا ... لو أنهم وجدوا كوجدي اقصروا ... صبرا على عذب الهوى وعذابه ... وأخو الهوى أبدا يلام ويعذر ... أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد
ابن احمد بن حمدان الطيبي المعروف بالصائن أحد المعيدين بالنظامية ودرس بالثقية وكان عارفا بالمذهب والفرائض والحساب صنف شرحا للتنبيه ذكره ابن الساعي ابو النجم محمد بن القاسم بن هبة الله التكريتي الفقيه الشافعي تفقه علي أبي القاسم بن فضلان ثم أعاد بالنظامية ودرس بغيرها وكان يشتغل كل يوم عشرين درسا ليس له دأب إلا الاشتغال وتلاوة القرآن ليلا ونهارا وكان بارعا كثير العلوم قد أتقن المذهب والخلاف وكان يفتي في مسألة الطلاق الثلاث بواحدة فتغيظ عليه قاضي القضاة ابو القاسم عبد الله بن الحسين الدامغاني فلم يسمع منه ثم أخرج إلى تكريت فأقام بها ثم استدعى إلى بغداد فعاد إلى الاشتغال واعاده قاضي القضاة نصر بن عبدا لرزاق إلى إعادته بالنظامية وعاد إلى ما كان عليه من الاشتغال والفتوى والوجاهة إلى أن توفي في هذه السنة رحمه الله تعالى وهذا (13/122)
ذكره ابن الساعي ثم دخلت سنة خمس وعشرين وستمائة
فيها كانت حروب كثيرة بين جلال الدين والتتر كسروه غير مرة ثم بعد ذلك كله كسرهم كسرة عظيمة وقتل منهم خلقا وأمما لا يحصون وكان هؤلاء التتر قد انفردوا وعصوا على جنكيزخان فكتب جنكيزخان إلى جلال الدين يقول له إن هؤلاء ليسوا منا ونحن أبعدناهم ولكن سترى مناما لا قبل لك به وفيها قدمت 2 طائفة كبيرة من الفرنج من ناحية صقلية فنزلوا عكا وصور وحملوا على مدينة صيدا فانتزعوها من أيدي المؤمنين وعبروها وقويت شوكتهم وجاء الانبرو ملك الجزيرة القبرصية ثم سار فنزل عكا فخاف المسلمون من شره وبالله المستعان وركب الملك الكامل محمد بن العادل صاحب مصر إلى بيت المقدس الشريف فدخله ثم سار إلى نابلس فخاف الناصر داود بن المعظم من عمه الكامل فكتب إلى عمه الأشرف فقدم عليه جريدة وكتب إلى أخيه الكامل يستعطفه ويكفه عن ابن أخيه فأجابه الكامل بأني إنما جئت لحفظ بيت المقدس وصونه عن الفرنج الذين يريدون أخذه وحاشى لله أن أحاصر أخي أو ابن اخي وبعد أن جئت أنت إلى الشام فأنت تحفظها وأنا راجع إلى الديار المصرية فخشى الأشرف وأهل دمشق إن رجع الكامل ان تمتد أطماع الفرنج إلى بيت المقدس فركب الاشرف إلى اخيه الكامل فثبطه عن الرجوع وأقاما جميعا هنالك جزاهما الله خيرا يحوطان جناب القدس عن الفرنج لعنهم الله واجتمع إلى الملك جماعة من ملوكهم كأخيه الأشرف وأخيهما الشهاب غازي بن العادل وأخيهم الصالح إسماعيل بن العادل وصاحب حمص أسد الدين شيركوه بن ناصر الدين وغيرهم واتفقوا كلهم على نزع الناصر داود عن ملك دمشق وتسليمها إلى الاشرف موسى وفيها عزل الصدر التكريتي عن حسبة دمشق ومشيخة الشيوخ وولى فيها اثنان غيره قال أبو شامة وفي اوائل رجب توفي الشيخ الصالح الفقيه أبو الحسن علي بن المراكشي المقيم بالمدرسة المالكية ودفن بالمقبرة التي وقفها الزين خليل بن زويزان قبلي مقابر الصوفية وكان أول من دفن بها رحمه الله تعالى
ثم دخلت سنة ست وعشرين وستمائة
استلهت هذه السنة وملوك بني أيوب مفترقون مختلفون قد صاروا أحزابا وفرقا وقد اجتمع ملوكهم إلى الكامل محمد صاحب مصر وهو مقيم بنواحي القدس الشريف فقويت نفوس الفرنج لعنهم الله بكثرتهم بمن وفد إليهم من البحر وبموت المعظم واختلاف من بعده من الملوك فطلبوا من المسلمين أن يردوا إليهم ما كان الناصر صلاح الدين أخذ منهم فوقعت المصالحة بينهم وبين الملوك أن يردوا لهم بيت المقدس وحده وتبقى بأيديهم بقية البلاد فتسلموا القدس الشريف وكان (13/123)
المعظم قد هدم أسواره فعظم ذلك على المسلمين جدا وحصل وهن شديد وإرجاف عظيم فإنا لله وإنا إليه راجعون ثم قدم الملك الكامل فحاصر دمشق وضيق على أهلها فقطع الانهار ونهبت الحواصل وغلت الاسعار ولم يزل الجنود حولها حتى اخرج منها ابن اخيه صلاح الدين الملك الناصر داود بن المعظم على أن يقيم ملكا بمدينة الكرك والشوبك ونابلس وبرا ما بين الغور وبالبلقاء ويكون الأمير عز الدين أيبك استاذ دار المعظم صاحب صرخد ثم تقايض الأشرف وأخاه الكامل فأخذ الأشرف دمشق وأعطى اخاه حران والرها والرقة ورأس العين وسروج ثم سار الكامل فحاصر حماة وكان صاحبها الملك المنصور بن تقي الدين عمر قد توفي وعهد بالأمر من بعده إلى أكبر ولده المظفر محمد وهو زوج بنت الكامل فاستحوذ على حماة أخوه صلاح الدين قلج أرسلان فحاصره الكامل حتى أنزله من قلعتها وسلمها إلى أخيه المظفر محمد ثم سار فتسلم البلاد التي قايض بها عن دمشق من أخيه الملك الأشرف كما ذكرنا وكان الناس بدمشق قد اشتغلوا بعلم الاوائل في أيام الملك الناصر داود وكان يعاني ذلك وقديما نسبه بعضهم إلى نوع من الانحلال فالله أعلم فنادى الملك الأشرف بالبلدان أن لا يشتغل الناس بذلك وأن يشتغلا بعلم التفسير والحديث والفقه وكان سيف الدين الامدي مدرسا بالعزيزية فعزله عنها وبقي ملازما منزله حتى مات في سنة إحدى وثلاثين كما سيأتي
وفيها كان الناصر داود قد اضاف إلى قاضي القضاة شمس الدين بن الخولي القاضي محيي الدين يحيى بن محمد بن علي بن الزكي فحكم أياما بالشباك شرقي باب الكلاسة ثم صار الحكم بداره مشاركا لابن الخولي وممن توفي فيها من الاعيان
الملك المسعود اقسيس بن الكامل
صاحب اليمن وقد ملك مكة سنة تسع عشرة فأحسن بها المعدلة ونفي الزيدية منها وأمنت الطرقات والحجاج ولكنه كان مسرفا على نفسه فيه عسف وظلم أيضا وكانت وفاته بمكة ودفن بباب المعلى
محمد السبتي النجار
كان يعده بعضهم من الابدال قال أبو شامة وهو الذي بني المسجد غربي دار الزكاة عن يسار المارفي الشارع من ماله ودفن بالجبل وكان جنازته مشهودة رحمه الله تعالى
أبو الحسن علي بن سالم
ابن يزبك بن محمد بن مقلد العبادي الشاعر من الحديثة قدم بغداد مرارا وامتدح المستظهر وغيره وكان فاضلا شاعرا يكثر التغزل (13/124)
أبو يوسف يعقوب بن صابر الحراني
ثم البغدادي المنجنيقي كان فاضلا في فنه وشاعرا مطبقا لطيف الشعر حسن المعاني قد أورد له ابن الساعي قطعة صالحة ومن احسن ما أورد له قصيدة فيها تعزية عظيمة لجميع الناس وهي ... هل لمن يرتجى البقاء حلود ... وسوى الله كل شيء يبيد ... والذي كان من تراب وإن ... عاش طويلا للتراب يعود ... فمصير الانام طرا إلى ما ... صار فيه آباؤهم والجدود ... اين حواء اين آدم إذفا ... تهم الخلد والثوى والخلود ... أين هابيل أين قابيل إذه ... ذا لهذا معاند وحسود ... أين نوح ومن نجامعه بالفل ... ك والعالمون طرا فقيد ... أسلمته الايام كالطفل للمو ... ت ولم يغن عمره الممدود ... أين عاد بل أين جنة عاد ... أم ترى أين صالح وثمود ... أين إبراهيم الذي شاد بي ... ت الله فهو المعظم المقصود ... حسدوا يوسفا أخاهم فكادا ... ه ومات الحاسد والمحسود ... وسليمان في النبوة والملك ... قضى مثل ما قضى داود ... فغدوا بعدما أطيع لذا الخل ... ق وهذا له الين الحديد ... وابن عمران بعد آياته التس ... ع وشق الخضم فهو صعيد ... والمسيح ابن مريم وهو روح الل ... ه كادت تقضي عليه اليهود ... وقضى سيدا لنبيين والها ... دي إلى الحق أحمدالمحمود ... وبنوه وآله الطاهرو ... الزهر صلى عليهم المعبود ... ونجوم السماء منتثرات ... بعد حين وللهواء ركود ... ولنار الدنيا التي توقد الصخ ... ر خمود وللماء جمود ... وكذا للثرى غداة يؤم الن ... اس منها تزلزل وهمود ... هذه الامهات نار وترب ... وهواء رطب وماء برود ... سوف يفنى كما فنينا فلا ... يبقى من الخلق والد ووليد ... لا الشقي الغوي من نوب الايا ... م ينجو ولا السعيدا لرشيد ... ومتى سلت المنايا سيوفا ... فالموالي حصيدها والعبيد (13/125)
وممن توفي فيها أبو الفتوح نصر بن علي البغدادي
الفقيه الشافعي ويلقب بثعلب اشتغل في المذهب والخلاف ومن شعره قوله ... جسمي معي غير أن الروح عندكم ... فالجسم في غربة والروح في وطن ... فليعجب الناس مني أن لي بدنا ... لا روح فيه ولي روح بلا بدن ... أبو الفضل جبرائيل بن منصور
ابن هبة الله بن جبريل بن الحسن بن غالب بن يحيى بن موسى بن يحيى بن الحسن بن غالب بن الحسن بن عمرو بن الحسن بن النعمان بن المنذر المعروف بابن زطينا البغدادي كاتب الديوان بها أسلم وكان نصرانيا فحسن إسلامه وكان من أفصح الناس وأبلغهم موعظة ومن ذلك قوله خير أوقاتك ساعة صفت لله وخلصت من الفكرة لغيره والرجاء لسواه وما دمت في خدمة السلطان فلا تغتر بالزمان أكفف كفك واصرف طرفك وأكثر صومك وأقلل نومك يؤمنك واشكر ربك يحمد أمرك وقال زاد المسافر يقدم على رحيله فأعد الزاد تبلغ بالمعاد المراد وقال إلى متى تتمادى في الغفلة كأنك قد أمنت عواقب المهلة عمر اللهو مضى وعمر الشبيبة انقضى وما حصلت من ربك على ثقة بالرضا وقدا نتهى بك الأمر إلى سن التخاذل وزمن التكاسل وما حظيت بطائل وقال روحك تخضع وعينك لا تدمع وقلبك يخشع ونفسك تجشع وتظلم نفسك وأنت لها تتوجع وتظهر الزهد في الدنيا وفي الحال تطمع وتطلب ما ليس لك بحق وما 2 وجب عليك من الحق لا تدفع وتروم فضل ربك وللماعون تمنع وتعيب نفسك الامارة وهي عن اللهو لا ترجع وتوقظ الغافلين بانذارك وتتناوم عن سهمك وتهجع وتخص غيرك بخيرك ونفسك الفقيرة لا تنفع وتحوم على الحق وأنت بالباطل مولع وتتعثر في المضايق وطرق النجاة مهيع وتتهجم على الذنوب وفي المجرمين تشفع وتظهر القناعة بالقليل وبالكثير لا تشبع وتعمر الدار الفانية ودارك الباقية خراب بلقع وتستوطن في منزل رحيل كأنك إلى ربك لا ترجع وتظن أنك بلا رقيب وأعمالك إلى المراقب ترفع تقدم على الكبائر وعن الصغائر تتورع وتؤمل الغفران وأنت عن الذنوب لا تقلع وترى الأهوال محيطة بك وأنت في ميدان اللهو ترتع وتستقبح أفعال الجهال وباب الجهل تقرع وقد آن لك أن تأنف من التعنيف وعن الدنايا تترفع وقد سار المخفون وتخلفت فماذا تتوقع
وقد أورد ابن الساعي له شعرا حسنا فمنه ... إن سهرت عيناك في طاعة ... فذاك خير لك من نوم ... امسك قد فات بعلاته ... فاستدرك الفائت في اليوم ... وله ... إن ربا هداك بعد ضلال ... سبل الرشد مستحق للعبادة (13/126)
فتعبد له تجد منه عتقا ... واستدم فضله بطول الزهادة ... وله إذا تعففت عن حرام ... عوضت بالطيب الحلال ... فاقنع تجد في الحرام حلا ... فضلا من الله ذي الجلال ...
ثم دخلت سفه سبع وعشرين وستمائة
فيها كانت وقعة عظيمة بين الأشرف موسى بن العادل وبين جلال الدين بن خوارزم شاه وكان سبببها أن جلال الدين كان قد أخذ مدينة خلاط في الماضي وخربها وشرد أهلها وحار به علاء الدين كيقباد ملك الروم وأرسل إلى الاشرف يستحثه على القدوم عليه ولو جريدة وحده فقد الاشرف في طائفة كبيرة من عسكر دمشق وانضاف إليهم عسكر بلاد الجزيرة ومن تبقى من عسكر خلاط فكانوا خمسة آلاف مقتل معهم العدة الكاملة والخيول الهائلة فالتقوا مع جلال الدين بأذربيجان وهو في عشرين ألف مقاتل فلم يقم لهم ساعة واحدة ولا صبر فتقهقر وانهزم واتبعوه على الأثر ولم يزالوا في طلبهم إلى مدينة خوى وعاد الأشرف إلى مدينة خلاط فوجدها خاوية على عروشها فمهدها واطدها ثم تصالح وجلال الدين وعاد إلى مستقر ملكه حرسها الله وفيها تسلم الاشرف قلعة بعلبك من الملك الامجد بهرام شاه بعد حصار طويل ثم استخلف على دمشق أاخاه الصالح إسماعيل ثم سار إلى الاشرف بسبب أن جلال الدين الخوارزمي استحوذ على بلاد خلاط وقتل من أهلها خلقا كثيرا ونهب أموالا كثيرة فالتقى معه الاشرف واقتتلوا قتالا عظيما فهزمه الاشرف هزيمة منكرة وهلك من الخلوارزمية خلق كثير ودقت البشائر في البلاد فرحا بنصرة الاشرف على الخوارزمية فإنهم كانوا لا يفتحون بلدا إلا قتلوا من فيه ونهبوا أموالهم فكسرهم الله تعالى وقد كان الاشرف رأى النبي صلى الله عليه و سلم في المنام قبل الوقعة وهو يقول له يا موسى أنت منصور عليهم ولما فرغ من كسرتهم عاد إلى بلاد خلاط فرمم شعثها وأصلح ما كان فسد منها ولم يحج أحد من اهل الشام في هذه السنة ولافى التي قبلها وكذا فيما قبلها أيضا فهذه ثلاث سنين لم يسر من الشام أحد إلى الحج وفيها اخذت الفرنج جزيرة سورقة وقتلوا بها خلقا وأسروا آخرين فقدموا بهم إلى الساحل فاستقبلهم المسلمون فأخبروا بما جرى عليهم من الفرنج
وممن توفى فيها من الاعيان
زين الامناء الشيخ الصالح
أبو البركات ابن الحسن بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن زين الامناء بن عساكر الدمشقي الشافعي سمع على عميه الحافظ ابي القاسم والصائن وغير واحد وعمر وتفرد بالرواية وجاوز الثمانين (13/127)
بنحو من ثلاث سنين وأقعد في آخر عمره فكان يحمل في محفة إلى الجامع وإلى دار الحديث النورية لاسماع الحديث وانتفع به الناس مدة طويلة ولما توفي حضر الناس جنازته ودفن عند أخيه الشيخ فخر الدين بن عساكر بمقابر الصوفية رحمه الله تعالى
الشيخ بيرم المارديني
كان صالحا منقطعا محبا للعزلة عن الناس وكان مقيما بالزاوية الغربية من الجامع وهي التي يقال له الغزالية وتعرف بزاوية الدولعي وبزاوية القطب النيسابوري وبزاوية الشيخ أبي نصر المقدسي قاله الشيخ شهاب الدين أبو شامة وكان يوم جنازته مشهودا ودفن بسفح قاسيون رحمه الله تعالى وعفا عنه بمنه وكرمه
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وستمائة
استهلت هذه السنة والملك الأشرف موسى بن العادل مقيم بالجزيرة مشغول فيها باصلاح ما كان جلال الدين الخوارزمي قد أفسده من بلاده وقد قدمت التتار في هذه السنة إلى الجزيرة وديار بكر فعاثوا بالفساد يمينا وشمالا فقتلوا ونهبوا وسبوا على عادتهم خذلهم الله تعالى وفيها رتب إمام بمشهد أبي بكر من جامع دمشق وصليت فيه الصلوات الخمس وفيها درس الشيخ تقي الدين بن الصلاح الشهرزوري الشافعي في المدرسة الجوانية في جانب المارستان في جمادي الاولى منها وفيها درس الناصر ابن الحنبلي بالصالحية بسفح قاسيون التي أنشاتها الخاتون ربيعة خاتون بنت أيوب اخت ست الشام
وفيها حبس الملك الأشرف الشيخ علي الحريري بقعلة عزتا وفيها كان غلاء شديد بديار مصر وبلاد الشام وحلب والجزيرة بسبب قلة المياه السماوية والارضية فكانت هذه السنة كما قال الله تعالى ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الاموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون وذكر ابن الاثير كلاما طويلا مضمونه خروج طائفة من التتار مرة أخرى من بلاد ما ورائ النهر وكان سبب قدومهم هذه السنة أن الاسماعيلية كتبوا إليهم يخبرونهم بضعف أمر جلال الدين بن خوارزم شاه وأنه قد عادى جميع الملوك حوله حتى الخليفة وأنه قد كسره الأشرف بن العادل مرتين وكان جلال الدين قد ظهرت منه أفعال ناقصة تدل على قلة عقله وذلك أنه توفي له غلام خصى يقال له قلج وكان يحبه فوجد عليه وجدا عظيما بحيث إنه أمر الأمراء أن يمشوا بجنازته فمشوا فراسخ وأمر أهل البلد أن يخرجوا بحزن وتعداد عليه فتوانى بعضهم في ذلك فهم بقتلهم حتى تشفع فيهم بعض الأمراء ثم لم يسمح بدفن قلج فكان يحمل معه بمحفة وكلما أحضر بين يديه طعام يقول أحملوا هذا إلى قلج (13/128)
فقال له بعضهم ايها الملك إن قلج قد مات فأمر بقتله فقتل فكانوا بعد ذلك يقولون قبله وهو يقبل الارض ويقول هو الان أصلح مما كان يعني أنه مريض وليس بميت فيجد الملك بذلك راحة من قلة عقله ودينه 2 قبحه الله فلما جاءت التتار اشتغل بهم وأمر بدفن قلج وهرب من بين أيديهم وامتلأ قلبه خوفا منهم وكان كلما سار من قطر لحقوه إليه خربوا ما اجتازوا به من الاقاليم والبلدان حتى انتهوا إلى الجزيرة وجاوزوها إلى سنجار وما ردين وآمذ يفسدون ما قدروا عليه قتلا ونهبا وأسرا وتمزق شمل جلال الدين وتفرق عنه جيشه فصاروا شذر مذر وبدلوا بالأمن خوفا وبالعز ذلا وبالاجتماع تفريقا فسبحان من بيده الملك لا إله إلا هو وانقطع خبر جلال الدين فلا يدري أين سلك ولا أين ذهب وتمكنت التتار من الناس في سائر البلاد لا يجدون من يمنعهم ولا من يردعهم وألقى الله تعالى الوهن والضعف في قلوب الناس منهم كانوا كثيرا يقتلون الناس فيقول المسلم لا بالله لا بالله فكانوا يلعبون على الخيل ويغنون ويحاكون الناس لا بالله لا بالله وهذه طامة عظمى وداهية كبرى فإنا لله وإنا إليه راجعون
وحج الناس في هذه السنة من الشام وكان ممن حج فيها الشيخ تقي الدين أبو عمر بن الصلاح ثم لم يحج الناس بعد هذه السنة أيضا لكثرة الحروب والخوف من التتار والفرنج فإنا لله وإنا إليه راجعون وفيها تكامل بناء المدرسة التي بسوق العجم ببغداد المنسوبة إلى إقبال الشرابي وحضر الدرس بها وكان يوما مشهودا اجتمع فيه جميع المدرسين والمفتيين ببغداد وعمل بصحنها قباب الحلوى فحمل منها إلى جميع المدارس والربط ورتب فيها خمسة وعشرين فقيها لهم الجوامك الدارة في كل يوم والحلوى في أوقات المواسم والفواكه في زمانها وخلع على المدرس والمعيدين والفقهاء في ذلك اليوم وكان وقتا حسنا تقبل الله تعالى منه وفيها سار الأشرف أبو العباس أحمد بن القاضي الفاضل في الرسلية عن الكامل محمد صاحب مصر إلى الخليفة المستنصر بالله فأكرم وأعيد معظما وفيها دخل الملك المظفر أبو سعيد كوكبرى بن زين الدين صاحب إربل إلى بغداد ولم يكن دخلها قط فتلقاه الموكب وشافهه الخليفة بالسلام مرتين في وقتين وكان ذلك شرفا له غبطة به سائر ملوك الافاق وسألوه أن يهاجروا ليحصل لهم مثل ذلك فلم يمكنوا لحفظ الثغور ورجع إلى مملكته معظما مكرما وممن توفي فيها من الاعيان
يحيى بن معطي بن عبد النور
النحوي صاحب الالفية وغيرها من المصنفات النحوية المفيدة ويلقب زين الدين أخذ عن الكندي وغيره ثم سافر إلى مصر فكانت وفاته بالقاهرة في مستهل ذي الحجة من هذه السنة وشهد جنازته الشيخ شهاب الدين أبو شامة وكان قد رحل إلى مصر في هذه السنة وحكى أن الملك الكامل شهد جنازته أيضا وأنه دفن قريبا من قبر المزني بالقرافة في طريق الشافعي عن يسرة المار رحمه الله (13/129)
الدخوار الطبيب
مذهب الدين عبد الرحيم بن علي بن حامد المعروف بالدخوار شيخ الاطباء بدمشق وقد وقف داره بدرب العميد بالقرب من الصاغة العتيقة على الاطباء بدمشق مدرسة لهم وكانت وفاته بصفر من هذه السنة ودفن بسفح قاسيون وعلى قبره قبة على أعمدة في أصل الجبل شرقي الركتيه وقد ابتلى بستة أمراض متعاكسة منها ريح اللقوة وكان مولده سنة خمس وستين وخمسمائة كان عمره ثلاثا وستين سنة قال ابن الاثير وفيها توفي
القاضي أبو غانم بن العديم
الشيخ الصالح وكان من المجتهدين في العبادة والرياضة من العاملين بعلمهم ولو قال قائل إنه لم يكن في زمانه أعبد منه لكان صادقا فرضى الله تعالى عنه وأرضاه فإنه من جماعة شيوخنا سمعنا عليه الحديث وانفتعنا برؤيته وكلامه قال وفيها أيضا في الثاني عشر من ربيع الاول توفي صديقنا
أبو القاسم عبد المجيد بن العجمي الحلبي
وهو وأهل بيته مقدموا السنة بحلب وكان رجلا ذا مروءة غزيرة وخلق حسن وحلم وافر ورياسة كثيرة يحب إطعام الطعام وأحب الناس إليه من أكل من طعامه ويقبل يده وكان يلقى أضيافه بوجه منبسط ولا يقعد عن إيصال راحة وقضاء حاجة فC تعالى رحمة واسعة قلت وهذا آخر ما وجد من الكامل في التاريخ للحافظ عز الدين أبي الحسن علي بن محمد بن الاثير رحمه الله تعالى
أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الكريم
ابن أبي السعادات بن كريم الموصلي أحد الفقهاء الحنفيين شرح قطعة كبيرة من القدورى وكتب الانشاء لصاحبها بدر الدين لؤلؤ ثم استقال من ذلك وكان فاضلا شاعرا من شعره ... دعوه كما شاء الغرام يكون ... فلست وإن خان العهود اخون ... ولينوا له في قولكم ما استطعتم ... عسى قلبه القاسي علي يلين ... وبثوا صباباتي إليه وكرروا ... حديثي عليه فالحديث شجون ... بنفسي ألاولى بأنواعن العين حصة ... وحبهم في القلب ليس يبين ... وسلوا على العشاق يوم تحملوا ... سيوفا لها وطف الجفون جفون ...
المجد البهنسي
وزير الملك الأشرف ثم عزله وصادره ولما توفى دفن بتربته التي أنشأها بسفح قاسيون وجعل كتبه بها وقفا وأجرى عليها أوقافا جيدة دارة رحمه الله تعالى (13/130)
جمال الدولة خليل بن زويزان رئيس قصر حجاج كان كيسا ذا مروءة له صدقات كثيرة وله زيارة في مقابر الصوفية من ناحية القبلة ودفن بتربته عند مسجد قلوس رحمه الله تعالى
الملك الامجد واقف المدرسة الامجدية وفيها كانت وفاة
بهرام شاه بن فروخشاه بن شاهنشاه
ابن أيوب صاحب بعلبك لم يزل بها حتى قدم الاشرف موسى بن العادل إلى دمشق فملكها في سنة ست وعشرين فانتزع من يده بعلبك في سنة سبع وعشرين وأسكنه عنده بدمشق بدار أبيه فلما كان شهر شوال من هذه السنة عدا عليه مملوك من مماليكه تركى فقتله ليلا وكان قد اتهمه في صاحبة له وحبسه فتغلب عليه في بعض الليالي فقتله وقتل المملوك بعده ودفن الامجد في تربته التي إلى جانب تربة أبيه في الشرق الشمالي رحمه الله تعالى وقد كان شاعرا فاضلا له ديوان شعر وقد اورد له ابن الساعي قطعة جيدة من شعره الرائق الفائق وترجمته في طبقات الشافعية ولم يذكره أبو شامة في الذيل وهذا عجيب منه ومما أورد له ابن الساعي في شاب رآه يقطع قضبان بان فأنشأ على البديهة ... من لي بأهيف قال حين عتبته ... في قطع كل قضيب بان رائق ... تحكى شمائله الرشاء إذا انثنى ... ريان بين جداول وحدائق ... سرقت غصون البان لين شمائلي ... فقطعتها والقطع حد السارق ...
ومن شعره أيضا رحمه الله تعالى
... يؤرقني حنين وادكار ... وقد خلت المرابع والديار ... تناءى الظاعنون ولي فؤاد ... يسير مع الهوادج حيث ساروا حنين مثلما شاء التنائي وشوق كلما بعد المزار ... وليل بعد بينهم طويل ... فأين مضت ليلاي القصار ... وقد حكم السهاد على جفوني ... تساوى الليل عندي والنهار ... سهادي بعد نأيهم كثير ... ونومي بعد ما رحلوا غرار ... فمن ذا يستعير لنا عيونا ... تنام وهل ترى عينا تعار ... فلا ليلى له صبح منير ... ولا وجدي يقال له عثار ... وكم من قائل والحي غاد ... يحجب ظعنه النقع المثار (13/131)
وقوفك في الديار وانت حي ... وقد رحل الخليط عليك عار ...
وله دوبيت
... كم يذهب هذا العمر في الخسران ... ما أغفلني فيه وما أنساني ... ضيعت زماني كله في لعب ... يا عمر هل بعدك عمر ثاني ...
وقد رآه بعضهم في المنام فقال له ما فعل الله تعالى بك فقال
... كنت من ديني على وجل ... زال عني ذلك الوجل ... أمنت نفسي بوائقها ... عشت لما مت لما رجل ...
رحمه الله وعفا عنه
جلال الدين تكش
وقيل محمود بن علاء الدين خوارزم شاه محمد بن تكش الخوارزمي وهم من سلالة طاهر بن الحسين وتكش جدهم هو الذي أزال دولة السلجوقية كانت التتار قهروا أباه حتى شردوه في البلاد فمات في بعض جزائر البحر ثم ساقوا وراء جلال الدين هذا حتى مزقوا عساكره شذر مذر وتفرقوا عنه أيدي سبا وانفرد هو وحده فلقيه فلاح من قرية بأرض ميافارقين فأنكره لما عليه من الجواهر الذهب وعلى فرسه فقال له من أنت فقال أنا ملك الخوارزمية وكانوا قد قتلوا للفلاح أخا فانزله وأظهر إكرامه فلما نام قتله بفأس كانت عنده وأخذ ما عليه فبلغ الخبر إلى شهاب الدين غازي ابن العادل صاحب ميافارقين فاستدعى بالفلاح فأخذ ما كان عليه من الجواهر وأخذ الفرس ايضا وكان الأشرف يقول هو سد ما بيننا وبين التتار كما أن السد بيننا وبين يأجوج ومأجوج
ثم دخلت سنة تسع وعشرين وستمائة
فيها عزل القاضيان بدمشق شمس الخوي وشمس الدين بن سني الدولة وولى قضاء القضاة عماد الدين ابن الخرستاني ثم عزل في سنة إحدى وثلاثين واعيد شمس الدين بن سني الدولة كما سيأتي وفيها سابع عشر شوالها عزل الخليفة المستنصر وزيره مؤيد الدين محمد بن محمد بن عبدالكريم القمي وقبض عليه وعلى أخيه حسن ابنه فخر الدين أحمد بن محمد القمي وأصحابهم وحبسوا واستوزر الخليفة مكانه استاذ الدار شمس الدين أبا الأزهر أحمد بن محمد بن الناقد وخلع عليه خلعة سنية وفرح الناس بذلك وفيه أقبل طائفة من التتار فوصلوا إلى شهزور فندب الخليفة صاحب إربل مظفر الدين كوكبري بن زين الدين وأضاف إليه عساكر من عنده فساورا نحوهم فهربت منهم التتار وأقاموا في مقابلتهم مدة شهور ثم تمرض مظفر الدين وعاد إلى بلده إربل وتراجعت التتار إلى بلادها (13/132)
وممن توفى فيها من الاعيان
الحافظ محمد بن عبدالغني
ابن ابي بكر البغدادي أبو بكر بن نقطة الحافظ المحدث الفاضل صاحب الكتاب النافع المسمى بالتقييد في تراجم رواة الكتب والمشاهير من المحدثين كان أبوه فقيها فقيرا منقطعا في بعض مساجد بغداد يؤثر أصحابه بما يحصل له ونشأ ولده هذا معنى بعلم الحديث وسماعه والرحلة فيه إلى الافاق شرقا غربا حتى برز فيه على الاقران وفاق أهل ذلك الزمان ولد سنة تسع وسبعين وخمسمائة وتوفي يوم الجمعة الثاني والعشرين من صفر من هذه السنة رحمهم الله تعالى
الجمال عبد الله بن الحافظ عبد الغني المقدسي كان فاضلا كريما حييا سمع الكثير ثم خالط الملوك وأبناء الدنيا فتغيرت أحواله ومات ببستان ابن شكر عند الصالح إسماعيل بن العادل وهو الذي كفنه ودفن بسفح قاسيون
أبو علي الحسين بن أبي بكر المبارك
ابن أبي عبد الله محمد بن يحيى بن مسلم الزبيدي ثم البغدادي كان شيخا صالحا حنفيا فاضلا ذا فنون كثيرة ومن ذلك علم الفرائض والعروض وله فيه أرجوزة حسنة انتخب منها ابن الساعي من كل بحر بيتين وسرد ذلك في تاريخه
أبو الفتح مسعود بن إسماعيل ابن علي بن موسى السلماسي فقيه أديب شاعر له تصانيف وقد شرح المقامات والجمل في النحو وله خطب وأشعار حسنة رحمه الله تعالى
أبو بكر محمد بن عبد الوهاب
ابن عبد الله الأنصاري فخر الدين ابن الشيرجي الدمشقي أحد المعدلين بها ولد سنة تسع وأربعين وخمسمائة وسمع الحديث وكان يلي ديوان الخاتون ست الشام بنت أيوب وفوضت إليه أمرا أوقافها قال السبط وكان ثقة امينا كيسا متواضعا قال وقد وزر ولده شرف الدين للناصر داود مدة يسيرة وكانت وفاة فخر الدين في يوم عيد الاضحى ودفن بمقابر باب الصغير رحمه الله تعالى وعفا عنه حسام بن غزي ابن يونس عماد الدين أبو المناقب المحلى المصري ثم الدمشقي كان شيخا صالحا فاضلا فقيها شافعيا حسن المحاضرة وله أشعار حسنة قال أبو شامة وله في معجم القوصي ترجمة حسنة وذكر أنه توفي عاشر ربيع الاخر ودفن بمقابر الصوفية قال السبط وكان مقيما بالمدرسة الامينية وكان لا يأكل لأحد شيئا ولا للسلطان بل إذا حضر طعاما كان معه في كمه شيء يأكله وكان لا يزال معه ألف دينار على وسطه وحكى عنه قال خلع علي الملك العادل ليلة طيلسانا فلما خرجت مشى بين يدي تعاط (13/133)
يحسبني القاضي فلما وصلت باب البريد عند دار سيف خلعت الطيلسان وجعلته في كمي وتباطأت في المشيء فالتفت فلم يرو راءه أحدا فقال لي أين القاضي فاشرت إلى ناحية النورية وقلت ذهب إلى داره فلما اسرع إلى ناحية النورية هرولت إلى المدرسة الامينية واسترحت منه قال ابن الساعي كان مولده سنة ستين وخمسمائة وخلف أموالا كثيرة ورثتها عصبته قال وكانت له معرفة حسنة بالأخبار والتواريخ وأيام الناس مع دين وصلاح وورع وأورد له ابن الساعي قطعا من شعره فمن ذلك قوله ... قيل لي من هويت قد عبث الش ... عر في خديه قلت ما ذاك عاره ... حمرة الخد احرقت عنبر الخا ... ل فمن ذاك الدخان عذارة ... وله ... شوقي إليكم دون أشواقكم ... لكن لا بد أن يشرح ... لأنني عن قلبكم غائب ... وأنتم في القلب لن تبرحوا ... أبو عبد الله محمد بن علي
ابن محمد بن الجارود الماراني الفقيه الشافعي أحد الفضلاء ولى القضاء باربل وكان ظريفا خليعا وكان من محاسن الايام وله أشعار رائقة ومعان فائقة منها قوله ... مشيب أتى وشباب رحل ... أحل العناية حيث حل ... وذنبك جم ألا فارجعي ... وعودي فقد حان وقت الأجل ... وديني الاله ولا تقصري ... ولا يخدعنك طل الامل ... أبو الثناء محمود بن رالي
ابن علي بن يحيى الطائي الرقي نزيل إربل وولى النظر بها للملك مظفر الدين وكان شيخا اديبا فاضلا ومن شعره قوله ... وهيف ما الخطى إلا قوامه ... وما الغصن إلا ما يثنيه لينه ... وما الدعص إلا ما تحمل خصره ... وما النبل إلا ما تريش جفونه ... وما الخمر إلا ما يروق ثغره ... وما السحر إلا ما تكن عيونه ... وما الحسن إلا كله فمن الذي ... إذا ما رآه لا يزيد جنونه ... ابن معطي النحوي يحيى
ترجمه أبو شامة في السنة الماضية وهو أضبط لأنه شهد جنازته بمصر وأما ابن الساعي فإنه ذكره في هذه السنة وقال إنه كان حظيا عند الكامل محمد صاحب مصر وإنه كان قد نظم أرجوزة في القراءت السبع ونظم ألفاظ الجمهرة وكان قد عزم على نظم صحاح الجوهري (13/134)
ثم دخلت سنة ثلاثين وستمائة
فيها باشر خطابة بغداد ونقابة العباسيين العدل مجدا لدين أبو القاسم هبة الله بن المنصوري وخلع عليه خلعة سنية وكان فاضلا قد صحب الفقراء والصوفية وتزهد برهة من الزمان فلما دعى إلى هذا الأمر أجاب سريعا وأقبلت عليه الدنيا بزهرتها وخدمة الغلمان الأتراك ولبس لباس المترفين وقد عاتبه بعض تلامذته بقصيدة طويلة وعنفه على ما صار إليه وسردها ابن الساعي بطولها في تاريخه وفيها سار القاضي محي الدين يوسف بن الشيخ جمال الدين أبي الفرج في الرسلية من الخليفة إلى الكامل صاحب مصر ومعه كتاب هائل فيه تقليده الملك وفيه أوامر كثيرة مليحة من إنشاء الوزير نصر الدين أحمد بن الناقد سرده ابن الساعي أيضا بكماله وقد كان الكامل مخيما بظاهر آمد من أعمال الجزيرة قد افتتحها بعد حصار طويل وهو مسرور بما نال من ملكها وفيها فتحت دار الضيافة ببغداد للحجيج حين قدموا من حجهم وأجريت عليهم النفقات والكساوى والصلات وفيها سار العساكر المستنصرية صحبة الأمير سيف الدين أبي الفضائل إقبال الخاص المستنصري إلى مدينة إربل وأعمالها وذلك لمرض مالكها مظفر الدين كوكبري بن زين الدين وأنه ليس له من بعده من يملك البلاد فحين وصلها الجيش منعه أهل البلد فحاصروه حتى افتتحوه عنوة في السابع عشر من شوال في هذه السنة وجاءت البشائر بذلك فضربت الطبول ببغداد بسبب ذلك وفرح أهلها وكتب التقليد عليها لاقبال المذكور فرتب فيها المناصب وسار فيه سيرة جيدة وامتدح الشعراء هذا الفتح من حيث هو كذلك مدحوا فاتحها إقبال ومن احسن ما قال بعضهم في ذلك ... يا يوم سابع عشر شوال الذي ... رزق السعادة أولا وأخيرا ... هنيت فيه بفتح إربل مثلما ... هنيت فيه وقد جلست وزيرا ...
يعني أن الوزير نصير الدين بن العلقمي قد كان وزر في مثل هذا اليوم من العام الماضي وفي مستهل رمضان من هذه السنة شرع في عمارة دار الحديث الأشرفية بدمشق وكانت قبل ذلك دارا للأمير قايماز وبها حمام فهدمت وبنيت عوضها وقد ذكر السبط في هذه السنة أن في ليلة النصف من شعبان فتحت دار الحديث الأشرفية المجاورة لقلعة دمشق وأملي بها الشيخ تقي الدين بن الصلاح الحديث ووقف عليها الأشرف الأوقاف وجعل بها نعل النبي صلى الله عليه و سلم قال وسمع الأشرف صحيح البخاري في هذه السنة على الزبيدي قلت وكذا سمعوا عليه بالدار وبالصالحية قال وفيها فتح الكامل آمد وحصن كيفا ووجد عند صاحبها خمسمائة حرة للفراش فعذبه الأشرف عذابا أليما وفيها قصد صاحب ماردين وجيش بلاد الروم الجزيرة فقتلوا وسبوا وفعلوا ما لم يفعله التتار بالمسلمين وممن توفي بها من الاعيان في هذه السنة من المشاهير (13/135)
أبو القاسم علي بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي
كان شيخا لطيفا ظريفا سمع الكثير وعمل صناعة الوعظ مدة ثم ترك ذلك وكان يحفظ شيئا كثيرا من الاخبار والنوادر والاشعار ولد سنة إحدى وخمسين وخمسمائة وكانت وفاته في هذه السنة وله تسع وسبعون سنة وقد ذكر السبط وفاة
الوزير صفي الدين بن شكر
في هذه السنة وأثنى عليه وعلى محبته للعلم وأهله وأن له مصنفا سماه البصائر وأنه تغضب عليه العادل ثم ترضاه الكامل وأعاده إلى وزارته وحرمته ودفن بمدرسته المشهورة بمصر وذكر أن أصله من قرية يقال لها دميرة بمصر
الملك ناصر الدين محمود
ابن عز الدين مسعود بن نور الدين أرسلان شاه بن قطب الدين مودود بن عمادا لدين بن زنكي بن آقسنقر صاحب الموصل كان مولده في سنة ثلاث عشرة وستمائة وقد أقامه بدر الدين لؤلؤ صورة حتى تمكن أمره وقويت شوكته ثم حجر عليه فكان لا يصل إلى أحد من الجواري ولا شيء من السراري حتى لايعقب وضيق عليه في الطعام والشراب فلما توفي جده لأمه مظفر الدين كوكبري صاحب إربل منعه حينئذ من الطعام والشراب ثلاث عشرة يوما حتى ما ت كمدا وجوعا وعطشا رحمه الله وكان من أحسن الناس صورة وهو آخر ملوك الموصل من بيت الأتابكي
القاضي شرف الدين إسماعيل بن إبراهيم
أحد مشايخ الحنفية وله مصنفات في الفرائض وغيرها وهو ابن خالة القاضي شمس الدين ابن الشيرازي الشافعي وكلاهما كان ينوب عن ابن الزكي وابن الحرستاني وكان يدرس بالطرخانية وفيها سكنه فلما أرسل إليه المعظم أن يفتى بإباحة نبيذ التمر وماء الرمان امتن من ذلك وقال أنا على مذهب محمد بن الحسن في ذلك والرواية عن أبي حنيفة شاذة ولا يصح حديث ابن مسعود في ذلك ولا الأثر عن عمر أيضا فغضب عليه المعظم وعزله عن التدريس وولاه لتلميذه الزين ابن العتال وأقام الشيخ بمنزله حتى مات قال أبو شامة ومات في هذه السنة جماعة من السلاطين منهم المغيث بن المغيث بن العادل والعزيز عثمان بن العادل ومظفر الدين صاحب إربل قلت أما صاحب إربل فهو
الملك المظفر أبو سعيد كوكبري
ابن زين الدين علي بن تبكتكين أحد الاجواد والسادات الكبراء والملوك الامجاد له آثار حسنة وقد عمر الجامع المظفري بسفح قاسيون وكان قدهم بسياقه الماء إليه من ماء بذيرة فمنعه المعظم من ذلك واعتل بأنه قد يمر على مقابر المسلمين بالسفوح وكان يعمل المولد الشريف في ربيع الاول (13/136)
ويحتفل به احتفالا هائلا وكان مع ذلك شهما شجاعا فاتكا بطلا عاقلا عالما عادلا رحمه الله وأكرم مثواه وقد صنف الشيخ أبو الخطاب ابن دحية له مجلدا في المولد النبوي سماه التنوير في مولد البشير النذير فأجازه على ذلك بألف دينار وقد طالت مدته في الملك في زمان الدولة الصلاحية وقد كان محاصر عكا وإلى هذه السنة محمودالسيرة والسريرة قال السبط حكى بعض من حضر سماط المظفر في بعض الموالد كان يمد في ذلك السماط خمسة آلاف راس مشوى وعشرة آلاف دجاجة ومائة ألف زبدية وثلاثين ألف صحن حلوى قال وكان يحضر عنده في المولد اعيان العلماء والصوفية فيخلع عليهم ويطلق لهم ويعمل للصوفية سماعا من الظهر إلى الفجر ويرقص بنفسه معهم وكانت له دار ضيافة للوافدين من أي جهة على أي صفة وكانت صدقاته في جميع القرب والطاعات على الحرمين وغيرهما ويتفك من الفرنج في كل سنة خلقا من الاسارى حتى قيل إن جملة من استفكه من ايديهم ستون ألف أسير قالت زوجته ربيعة خاتون بنت أيوب وكان قد زوجه إياها أخوها صلاح الدين لما كان معه على عكا قالت كان قميصه لا يساوي خمسة دراهم فعاتبته بذلك فقال لبسي ثوبا بخمسة واتصدق بالباقي خير من أن البس ثوبا مثمنا وادع الفقير المسكين وكان يصرف على المولد في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار وعلى دار الضيافة في كل سنة مائة ألف دينار وعلى الحرمين والمياه بدرب الحجاز ثلاثين ألف دينار سوى صدقات السر رحمه الله تعالى وكانت وفاته بقلعة إربل وأوصى أن يحمل إلى مكة فلم يتفق فدفن بمشهد علي
والملك العزيز بن عثمان بن العادل
وهو شقيق المعظم كان صاحب بانياس وتملك الحصون التي هنالك وهو الذي بنى المعظمية وكان عاقلا قليل الكلام مطيعا لأخيه المعظم ودفن عنده وكانت وفاته يوم الاثنين عاشر رمضان ببستانه الناعمة من لهيا رحمه الله وعفا عنه
أبو المحاسن محمد بن نصر الدين بن نصر
ابن الحسين بن علي بن محمد بن غالب الانصاري المعروف بابن عنين الشاعر قال ابن الساعي أصله من الكوفة وولد بدمشق ونشأ بها وسافر عنها سنين فجاب الاقطار والبلاد شرقا وغربا ودخل الجزيرة وبلاد الروم والعراق وخراسان وما وراء النهر والهند والهند واليمن والحجاز وبغ ومدح أكثر أهل هذه البلاد وحصل أموالا جزيلة وكان ظريفا شاعرا مطيقا مشهورا حسن الاخلاق جميل المعاشرة وقد رجع إلى بلده دمشق فكان بها حتى مات هذه السنة في قول ابن للسماعي وأما السبط وغيره فأرخوا وفاته في سنة ثلاث وثلاثين وقد قيل إنه مات في سنة إحد وثلاثين والله أعلم والمشهور أن أصله من حوران مدينة زرع وكانت إقامته بدمشق في الجزيرة قبلي الجامع (13/137)
وكان هجاء له قدرة على ذلك وصنف كتابا سماه مقراض الأعراض مشتمل على نحو من خمسمائة بيت قل من سلم من الدماشقة من شره ولا الملك صلاح الدين ولا أخوه العادل وقد كان يزن بترك الصلاة المكتوبة فالله اعلم وقد نفاه الملك الناصر صلاح الدين إلى الهند فامتدح ملوكها حصل أموالا جزيلة وصار إلى اليمن فيقال إنه وزر لبعض ملوكها ثم عاد في ايام العادل إلى دمشق ولما ملك المعظم استوزره فأساء السيرة واستقال هو من تلقاء نفسه فعزله وكان قد كتب إلى الدماشقة من بلاد الهند ... فعلام أبعدتم أخا ثقة ... لم يقترف ذنبا ولا سرقا ... انفوا المؤذن من بلادكم ... إن كان ينفي كل من صدقا ...
ومما هجا به الملك الناصر صلاح الدين رحمه الله تعالى
... سلطاننا أعرج وكاتبه ... ذو عمش ووزيره أحدب ... والدولعي الخطيب معتكف ... وهو على قشر بيضة يثب ... ولابن باقا وعظ يغش به الن ... اس وعبد اللطيف محتسب ... وصاحب الامر خلقه شرس ... وعارض الجيش داؤه عجب ...
وقال في السلطان الملك العادل سيف الدين رحمه الله تعالى وعفا عنه إن سلطاننا الذي نرتجيه ... واسع المال ضيق الانفاق ... هو سيف كما يقال ولكن ... قاطع للرسوم والارزاق ...
وقد حضر مرة مجلس الفخر الرازي بخراسان وهو على المنبر يعظ الناس فجاءت حمامة خلفها جارح فألقت نفسها على الفخر الرازي كالمستجيرة به فأنشأ ابن عنين يقول
... جاءت سليمان الزمان حمامة ... والموت يلمع من جناحي خاطف ... قرم لواه الجوع حتى ظله ... بازائه بقلب واجف ... من أعلم الورقاء أن محلكم ... حرم وأنك ملجأ للخائف ... الشيخ شهاب الدين السهروردي
صاحب عوارف المعارف عمر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن محمد بن حمويه واسمه عبد الله البكري البغدادي شهاب الدين أبو حفص السهروردي شيخ الصوفية ببغداد كان من كبار الصالحين وسادات المسلمين وتردد في الرسلية بين الخلفاء والملوك مرارا وحصلت له أموال جزيلة ففرقها بين الفقراء والمحتاجين وقد حج مرة وفي صحبته خلق من الفقراء لا يعلمهم إلا الله عز و جل وكانت فيه مروءة وإغاثة للملهوفين وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر وكان يعظ الناس (13/138)
وعليه ثياب البذلة قال مرة في ميعاده هذا البيت وكرره ... ما في الصحاب أخو وجد تطارحه ... إلا محب له في الركب محبوب ...
فقام شاب وكان في المجلس فأنشده
... كأنما يوسف في كل راحلة ... وله وفي كل بيت منه يعقوب ...
فصاح الشيخ ونزل عن المنبر وقصد الشاب ليعتذر إليه فلم يجده ووجد مكانه حفرة فيهادم كثير من كثرة ما كان يفحص برجليه عند إنشاد الشيخ البيت وذكر له أبن خلكان أشياء كثيرة من أناشيده وأثنى عليه خيرا وأنه توفي في هذه السنة وله ثلاث وتسعون سنة رحمه الله تعالى
ابن الاثير مصنف اسدالغابة والكامل
هو الامام العلامة عز الدين أبو الحسن علي بن عبدالكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري الموصلي المعروف بابن الاثير مصنف كتاب أسد الغابة في أسماء الصحابة وكتاب الكامل في التاريخ وهو من أحسنها حوادث ابتدأه من المبتدأ إلى سنة ثمان وعشرين وستمائة وقد كان يتردد إلى بغداد خصيصا عند ملوك الموصل ووزر لبعضهم كما تقدم بيانه وأقام بها في آخر عمره موقرا معظما إلى ان توفي بها في شعبان في هذه السنة عن خمس وسبعين سنة رحمه الله وأما أخوه أبو السعادات المبارك فهو مصنف كتاب جامع الأصول وغيره وأخوهما الوزير ضياء الدين أبو الفتح نصر الله كان وزيرا للملك الأفضل علي بن الناصر فاتح بيت المقدس صاحب دمشق كما تقدم وجزيرة ابن عمر قيل إنها منسوبة إلى رجل يقال له عبدالعزيز بن عمر من أهل برقعيد وقيل بل هي منسوبة إلى ابني عمر وهما أوس وكامل ابنا عمر بن أوس
ابن المستوفي الاربلي
مبارك بن احمد بن مبارك ابن موهوب بن غنيمة بن غالب العلامة شرف الدين أبو البركات اللخمي الاربلي كان إماما في علوم كثيرة كالحديث وأسماء الرجال والأدب والحساب وله مصنفات كثيرة وفضائل غزيرة وقد بسط ترجمته القاضي شمس الدين بن خلكان في الوفيات فأجاد وأفاد رحمهم الله
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وستمائة
فيها كمل بناء المدرسة المستنصرية ببغداد ولم يبن مدرسة قبلها مثلها ووقفت على المذاهب الأربعة من كل طائفة اثنان وستون فقيها وأربعة معيدين ومدرس لكل مذهب وشيخ حديث وقارئان وعشرة مستمعين وشيخ طب وعشرة من المسلمين يشتغلون بعلم الطب ومكتب للأيتام وقدر للجميع من الخبز واللحم والحلوى والنفقة ما فيه كفاية وافرة كل واحد ولما كان يوم الخميس خامس رجب حضرت الدروس بها وحضر الخليفة المستنصر بالله بنفسه الكريمة وأهل دولته من (13/139)
الأمراء والوزراء والقضاة والفقهاء والصوفية والشعراء ولم يتخلف أحد من هؤلاء وعمل سماط عظيم بها أكل منه الحاضرون وحمل منه إلى سائر دروب بغداد من بيوتات الخواص والعوام وخلع على جميع المدرسين بها والحاضرين فيها وعلى جميع الدولة والفقهاء والمعيدين وكان يوما مشهودا وأنشدت الشعراء الخليفة المدائح الرائقة والقصائد الفائقة وقد ذكر ذلك ابن الساعي في تاريخه مطولا مبسوطا شافيا كافيا وقدر لتدريس الشافعية بها الامام محي الدين أبو عبد الله بن فضلان وللحنفية الامام العلامة رشيد الدين أبو حفص عمر بن محمد الفرغاني وللحنابلة الامام العالم محي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي ودرس عنه يومئذ ابنه عبدالرحمن نيابة لغيبته في بعض الرسالات إلى الملوك ودرس للمالكية ويومئذ الشيخ الصالح العالم أبو الحسن المغربي المالكي نيابة أيضا حتى يعين شيخ غيره ووقفت خزائن كتب لم يسمع بمثلها في كثرتها وحسن نسخها وجودة الكتب الموقوفة بها وكان المتولي لعمارة هذه المدرسة مؤيد الدين أبو طالب محمد بن العلقمي الذي وزر بعد ذلك وقد كان إذ ذاك أستاذ دار الخلافة وخلع عليه يومئذ وعلى الوزير نصير الدين ثم عزل مدرس الشافية في رابع عشر ذي القعدة بقاضي القضاة أبي المعالي عبدا لرحمن بن مقبل مضافا إلى ما بيده من القضاء وذلك بعد وفاة محيي الدين بن فضلان وقد ولى القضاء مدة ودرس بالنظامية وغيرها ثم عزل ثم رضى عنه ثم درس آخر وقت بالمستنصرية كما ذكرنا فلما توفي وليها بعده ابن مقبل رحمهم الله تعالى
وفيها عمر الأشرف مسجد جراح ظاهر باب الصغير وفيها قدم رسول الانبر ورملك الفرنج إلى الأشرف ومعه هدايا منها دب أبيض شعره مثل شعر الاسد وذكروا أنه ينزل إلى البحر فيخرج السمك فيأكله وفيها طاووس أبيض أيضا وفيها كملت عمارة القيسارية التي هي قبل النحاسين وحول إليها سوق الصاغة وشغر سوق اللؤلؤ الذي كان فيه الصاغة العتيقة عند الحدادين وفيها جددت الدكاكين التي بالزيادة قلت وقد جددت شرقي هذه الصاغة الجديدة قيساريتان في زماننا وسكنها الصياغ وتجار الذهب وهما حسنتان وجميعهما وقف الجامع المعمور
وممن توفي في هذه السنة من الاعيان
أبو الحسن علي بن أبي علي
ابن محمد بن سالم الثعلبي الشيخ سيف الدين الامدي ثم الحموي ثم الدمشقي صاحب المصنفات في الاصلين وغير ذلك من ذلك أبكار الأفكار في الكلام ودقائق الحقائق في الحكمة وأحكام الأحكام في أصول الفقه وكان حنبلي المذهب فصار شافعيا أصوليا منطقيا جدليا خلافيا وكان حسن الاخلاق سليم الصدر كثير البكاء رقيق القلب وقد تكلموا فيه بأشياء الله أعلم (13/140)
بصحتها والذي يغلب على الظن أنه ليس لغاليها صحة وقد كانت ملوك بني أيوب كالمعظم والكامل يكرمونه وإن كانوا لا يحبونه كثيرا وقد فوض إليه المعظم تدريس العزيزية فلما ولى الأشرف دمشق عزله عنها ونادى بالمدارس أن لا يشتغل أحد بغير التفسير والحديث والفقه ومن اشتغل بعلوم الاوائل نفيته فأقام الشيخ سيف الدين بمنزله إلى أن توفي بدمشق في هذه السنة في صفر ودفن بتربته بسفح قاسيون وذكر القاضي ابن خلكان انه اشتغل ببغداد على ابي الفتح نصر بن فتيان بن المنى الحنبلي ثم انتقل إلى مذهب الشافعي فأخذ عن ابن فضلان وغيره وحفظ طريقة الخلاف للشريف وزوائد طريقة أسعد الميهني ثم انتقل إلى الشام واشتغل بعلوم المعقول ثم إلى الديار المصرية فأعاد بمدرسة الشافعية بالقرافة الصغرى وتصدر بالجامع الظافري واشتهر فضله وانتشرت فضائله فحسده أقوام فسعوا فيه وكتبوا خطوطهم باتهامه بمذهب الاوائل والتعطيل والانحلال فطلبوا من بعضهم ان يوافقهم فكتب ... حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ... فالقوم أعداء له وخصوم ...
فانتقل سيف الدين إلى حماه ثم تحول إلى دمشق فدرس بالعزيزية ثم عزل عنها ولزم بيته إلى أن مات في هذه السنة وله ثمانون عاما رحمه الله تعالى وعفا عنه ...
واقف الركنية الأمير ركن الدين منكورس الفلكي
غلام فلك الدين أخي الملك العادل لأنه وقف الفلكية كما تقدم وكان هذا الرجل من خيار الأمراء ينزل في كل ليلة وقت السحر إلى الجامع وحده بطوافه ويواظب على حضور الصلوات فيه مع الجماعة وكان قليل الكلام كثير الصدقات وقد بنى المدرسة الركنية بسفح قاسيون ووقف عليها أوقافا كثيرة وعمل عندها تربة وحين توفي بقرية حدود حمل إليها رحمه الله تعالى
الشيخ الامام العالم رضي الدين
أبو سليمان بن المظفر بن غنائم الجيلي الشافعي أحد فقهاء بغداد والمفتيين بها والمشغلين للطلبة مدة طويلة له كتاب في المذهب نحو من خمسة عشر مجلدا يحكى فيه الوجوه الغريبة والاقوال المستغربة وكان لطيفا ظريفا توفي رحمه الله يوم الاربعاء ثالث ربيع الاول من هذه السنة ببغداد
الشيخ طي المصري أقام مدة بالشام في زاوية له بدمشق وكان لطيفا كيسا زاهدا يتردد إليه الأكابر ودفن بزاويته المذكورة رحمه الله تعالى
الشيخ عبد الله الأرمني
أحد العباد الزهاد الذين جابوا البلاد وسكنوا البراري والجبال والوهاد واجتمعوا بالأقطاب (13/141)
والأبدال والأوتاد وممن كانت له الأحوال والمكاشفات والمجاهدات والسياحات في سائر النواحي والجهات وقد القرآن لاقرى في بدايته وحفظ كتاب القدوري على مذهب أبي حنيفة ثم اشتغل بالمعاملات والرياضات ثم أقام آخر عمره بدمشق حتى مات بها ودفن بسفح قاسيون وقد حكى عنه أشياء حسنة منها أنه قال اجتزت مرة في السياحة ببلدة فطالبتني نفسي بدخولها فآليت أن لا أستطعم منها بطعام ودخلتها فمررت برجل غسال فنظر إلى شزرا فخفت منه وخرجت من البلد هاربا فلحقني ومعه طعام فقال كل فقد خرجت من البلد فقلت له وانت في هذا المقام وتغسل الثياب في الاسواق فقال لا ترفع رأسك ولا تنظر إلي شيئ من عملك وكن عبدا لله فإن استعملك في الحش فارض به ثم قال رحمه الله ... ولو قيل لي مت قلت سمعا وطاعة ... وقلت لداعي الموت أهلا ومرحبا ...
وقال اجتزت مرة في سياحتي براهب في صومعه فقال لي يا مسلم ما أقرب الطرق عندكم إلى الله عز و جل قلت مخالفة النفس قال فرد رأسه إلى صومعته فلما كنت بمكة زمن الحج إذا رجل يسلم علي عند الكعبة فقلت من أنت فقال أنا الراهب قلت بم وصلت إلى هاهنا قال بالذي قلت وفي رواية عرضت الاسلام على نفسي فأبت فعلمت أنه حق فأسلمت وخالفتها فأفلح وأنجح وقال بينا أنا ذات يوم بجبل لبنان إذا حرامية الفرنج فأخذوني فقيدوني وشدوا وثاقي فكنت عندهم في أضيق حال فلما كان النهار شربوا وناموا فبينا أنا موثوق إذا حرامية المسلمين قد اقبلوا نحوهم فأنبهتهم فلجأوا إلى مغارة هنالك فسملوا من أولئك المسلمين فقالوا كيف فعلت هذا وقد كان خلاصك على أيديهم فقلت إنك أطعمتموني فكان من حق الصحبة أن لا أغشكم فعرضوا علي شيئا من متاع الدنيا فأبيت وأطلقوني وحكى السبط قال زرته مرة ببيت المقدس وكنت قد أكلت سمكا مالحا فلما جلست عنده أخذني عطش جدا وغلى جانبه إبريق فيه ماء بارد فجعلت أستحيي منه فمد يده إلى الابريق وقد أحمر وجهه وناولني وقال خذ كم تكاسر فشربت وذكر أنه لما ارتحل من بيت المقدس كان سورها بعد قائما جديدا على عمارة الملك صلاح الدين قبل أن يخربه المعظم فوقف لأصحابه يودعهم ونظر إلى السور وقال كأني بالمعاول وهي تعمل في هذا السور عما قريب فقيل له معاول المسلمين أو الفرنج فقال بل معاول المسلمين فكان كما قال وقد ذكرت له أحوال كثيرة حسنة ويقال إن أصله أرمني وإنه أسلم على يدي الشيخ عبد الله اليونيني وقيل بل أصله رومي من قونية وأنه قدم على الشيخ عبدالله اليونيني وعليه برنس كبرانس الرهبان فقال له أسلم فقال أسلمت لرب العالمين وقد كانت أمه داية امرأة الخليفة وقد جرجت له كائنة غريبة فسلمه الله بسبب ذلك وعرفه الخليفة فأطلقه (13/142)
ثم دخلت سنة إثنتين وثلاثين وستمائة
فيها خرب الملك الأشرف بن العادل خان الزنجاري الذي كان بالعقبية فيه خواطئ وخمور ومنكرات متعددة فهدمه وامر بعمارة جامع مكانه سمى جامع التوبة تقبل الله تعالى منه
وفيها توفي القاضي بهاء الدين يوسف بن رافع بن تميم بن شداد الحلبي أحد رؤاسائها من بيت العلم والسيادة له علم بالتواريخ وايام الناس وغير ذلك وقد سمع الكثير وحدث والشيخ شهاب الدين عبدالسلام بن المطهر بن عبد الله بن محمد بن عصرون الحلبي أيضا كان فقيها زاهدا عابدا كانت له نحو من عشرين سرية وكان شيخا يكثر من الجماع فاعترته أمراض مختلفة فأتلفته ومات بدمشق ودفن بقاسيون وهو والد قطب الدين وتاج الدين والشيخ الامام العالم صائن الدين أبو محمد عبدالعزيز الجبلي الشافعي أحد الفقهاء المفتيين المشتغلين بالمدرسة النظامية ببغداد وله شرح على التنبيه للشيخ أبي إسحاق توفي في ربيع الاول رحمه الله تعالى والشيخ الامام العالم الخطيب الاديب أبو محمد حمد بن حميد بن محمود بن حميد بن أبي الحسن بن أبي الفرج بن مفتاح التميمي الدينوري الخطيب بها والمفتي لأهلها الفقيه الشافعي تفقه ببغداد بالنظامية ثم عاد إلى بلده المشار إليها وقد صنف كتبا وأنشد عنه ابن الساعي سماعا منه ... روت لي أحاديث الغرام صبابتي ... باسنادها عن بانة العلم الفرد ... وحدثني مر النسيم عن الحمى ... عن الدوح عن وادي الغضا عن ربا نجد ... بان غرامي والأسى قد تلازما ... فلن يبرحا حتى أوسد في لحدي ...
وقد أرخ ابو شامة في الذيل وفاة الشهاب السهروردي صاحب عوارف المعارف في هذه السنة وذكر أن مولده في سنة تسع وثلاثين وخمسمائة وأنه جاوز التسعين وأما السبط فإنما أرخ وفاته في سنة ثلاثين كما تقدم
قاضي القضاة بحلب
أبو المحاسن يوسف بن رافع بن تميم بن عتبة بن محمد الاسدي الموصلي الشافعي كان رجلا فاضلا أديبا مقرئا ذا وجاهة عند الملوك أقام بحلب وولى القضاء بها وله تصانيف وشعر توفي في هذه السنة رحمه الله تعالى
ابن الفارض
ناظم التائبة في السلوك على طريقة المتصوفة المنسوبين إلى الاتحاد هو ابو حفص عمر بن أبي الحسن علي بن المرشد بن علي الحموي الاصل المصري المولد والدار والوفاة وكان أبوه يكتب فروض النساء والرجال وقد تكلم فيه غير واحد من مشايخنا بسبب قصيدته المشار إليها وقد ذكره شيخنا أبو عبد الله الذهبي في ميزانه وحط عليه مات في هذه السنة وقد قارب السبعين (13/143)
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وستمائة
فيها قطع الكامل وأخوه الأشرف الفرات واصلحا ما كان أفسده جيش الروم من بلادهما وخرب الكامل قلعة الرها وأحل بدنيسر بأسا شديدا وجاء كتاب بدر الدين صاحب الموصل بأن الروم أقبلوا بمائة طلب كل طلب بخمسمائة فارس فرجع الملكان إلى دمشق سريعا وعاد جيش الروم إلى بلادهما بالجزيرة وأعادوا الحصار كما كان ورجعت التتار عامهم ذلك إلى بلادهم والله تعالى أعلم وممن توفي فيها من الاعيان والمشاهير ابن عنين الشاعر وقد تقدمت ترجمته في سنة ثلاثين
الحاجري الشاعر
صاحب الديوان المشهور وهو عيسى بن سنجر بن بهرام بن جبريل بن خمارتكين بن طاشتكين الاربلي شاعر مطبق ترجمة ابن خلكان وذكر أشياء من شعره كثيرة وذكر أنه كان صاحبهم وأنه كتب إلى أخيه ضياء الدين عيسى يستوحش منه ... الله يعلم ما أبقى سوى رمق ... منى فراقك يا من قربة الأمل ... فابعث كتابك واستودعه تعزية ... فربما مت شوقا قبل ما يصل ...
وذكر له في الخال رحمه الله تعالى ... ومهفهف من شعره وجبينه ... امسى الورى في ظلمة وضياء ... لا تنكروا الخال الذي في خده ... كل الشقيق بنطقة سوداء ... ابن دحية
أبو الخطاب عمر بن الحسن بن علي بن محمد بن فرج بن خلف بن قومس بن مزلال بن بلال بن بدر بن أحمد بن دحية بن خليفة الكلبي الحافظ شيخ الديار المصرية في الحديث وهو أول من باشر مشيخة دار الحديث الكاملية بها قال السبط وقد كان كابن عنين في ثلب المسلمين والوقيعة فيهم ويتزيد في كلامه فترك الناس الرواية عنه وكذبوه وقد كان الكامل مقبلا عليه فلما انكشف له حاله أخذ منه دار الحديث وأهانه توفي في ربيع الاول بالقاهرة ودفن بقرافة مصر وقد قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة وللشيخ السخاوي فيه أبيات حسنة وقال القاضي ابن خلكان بعد سياق نسبه كما تقدم وذكر انه كتبه من خطه قال وذكر ان امه امة الرحمن بنت أبي عبد الله بن البسام موسى بن عبد الله بن الحسين بن جعفر بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فلهذا كان يكتب بخطه ذو النسبين أبن دحية ابن الحسن والحسين قال ابن خلكان وكان من أعيان العلماء ومشاهير الفضلاء متقنا لعلم الحديث وما يتعلق به عارفا بالنحو واللغة وأيام العرب واشعارها اشتغل ببلاد المغرب ثم رحل إلى الشام ثم (13/144)
إلى العراق واجتاز باربل سنة أربع وستمائة فوجد ملكها المعظم مظفر الدين بن زين الدين يعتني بالمولد النبوي فعمل له كتاب التنوير في مولد السراج المنير وقرأه عليه بنفسه فأجازه بألف دينار قال وقد سمعناه على الملك المعظم في ستة مجالس في سنة ست وعشرين وستمائة قلت وقد وقفت على هذا الكتاب وكتبت منه أشياء حسنة مفيدة قال ابن خلكان وكان مولده في سنة أربع وأربعين وخمسمائة وقيل ست أو تسع وأربعين وخمسمائة وتوفي في هذه السنة وكان أخوه أبو عمرو عثمان قد باشر بعده دار الحديث الكاملية بمصر وتوفي بعده بسنة قلت وقد تكلم الناس فيه بأنواع من الكلام ونسبه بعضهم إلى وضع حديث في قصر صلاة المغرب وكنت أود أن أقف على إسناده لنعلم كيف رجاله وقد اجمع العلماء كما ذكره ابن المنذر وغيره على أن المغرب لا يقصر والله سبحانه وتعالى يتجاوز عنا وعنه بمنه وكرمه
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وستمائة
فيها حاصرت التتار إربل بالمجانيف ونقبوا الأسوار حتى فتحوها عنوة فقتلو أهلها وسبوا ذراريهم وامتنعت عليهم القلعة مدة وفيها النائب من جهة الخليفة فدخل فصل الشتاء فأقلعوا عنها وانشمروا إلى بلادهم وقيل إن الخليفة جهز لهم جيشا فانهزم التتار وفيها استخدم الصالح أيوب بن الكامل صاحب حصن كيفا الخوارزمية الذين تبقوا من جيش جلال الدين وانفصلوا عن الرومي فقوى جأش الصالح أيوب وفيها طلب الأشرف موسى بن العادل من أخيه الكامل الرقة لتكون قوة له وعلفا لدوابه إذا جاز الفرات مع أخيه في البواكير فقال الكامل أما يكفيه أن معه دمشق مملكة بني أمية فأرسل الأشرف الأمير فلك الدين بن المسيري إلى الكامل في ذلك فأغلظ له الجواب وقال إيش يعمل بالملك يكفيه عشرته للمغاني وتعلمه لصناعتهم فغضب الأشرف لذلك وبدت الوحشة بنيهما وأرسل الأشرف إلى حماه وحلب وبلاد الشرق فحالف أولئك الملوك على أخيه الكامل فلو طال عمر الأشرف لأفسد الملك على أخيه وذلك لكثرة ميل الملوك إليه لكرمه وشجاعته وشح أخيه الكامل ولكنه أدركته منيته في أول السنة الداخلة رحمه الله تعالى وممن توفي فيها من الاعيان الملك العزيز الظاهر صاحب حلب محمد بن السلطان الملك الظاهر غياث الدين غازي بن الملك الناصر صلاح الدين فاتح القدس الشريف وهو وأبوه وابنه الناصر أصحاب ملك حلب من أيام الناصر وكانت أم العزيز الخاتون بنت الملك العادل أبي بكر بن أيوب وكان حسن الصورة كريما عفيفا توفي وله من العمر أربع وعشرون سنة وكان مدبر دولته الطواشي شهاب الدين وكان من الأمراء رحمه الله (13/145)
تعالى وقام في الملك بعده ولده الناصر صلاح الدين يوسف والله سبحانه وتعالى أعلم صاحب الروم
كيقياد الملك علاء الدين صاحب بلاد الروم كان من أكابر الملوك وأحسنهم سيرة وقد زوجه العادل ابنته وأولدها وقد استولى على بلادا لجزيرة في وقت واخذ أكثرها من يدالكامل محمد وكسر الخوارزمية مع الاشرف موسى رحمهما الله
الناصح الحنبلي
في ثالث المحرم توفي الشيخ ناصح الدين عبدا لرحمن بن نجم بن عبد الوهاب بن الشيخ أبي الفرج الشيرازي وهم ينتسبون إلى سعد بن عبادة رضي الله عنه ولد الناصح سنة أربع وخمسين وخمسمائة وقرأ القرى وسمع الحديث وكان يعظ في بعض الاحيان وقد ذكرنا قبل انه وعظ في حياة الشيخ الحافظ عبد الغني وهو أول من درس بالصالحية التي بالجبل وله بنيت وله مصنفات وقد اشتغل علي ابن المنى البغدادي وكان فاضلا صالحا وكان وفاته بالصالحية ودفن هناك رحمه الله
الكمال بن المهاجر التاجر كان كثير الصدقات والاحسان إلى الناس مات فجأة في جمادي الاولى بدمشق فدفن بقاسيون واستحوذ الأشرف على أمواله فبلغت التركة قريبا من ثلثمائة ألف دينار من ذلك سبحة فيها مائة حبة لؤلؤ كل واحدة مثل بيضة الحمامة
الشيخ الحافظ ابو عمرو عثمان بن دحية
أخو الحافظ أبي الخطاب بن دحية كان قد ولى دار الحديث الكاملية حين عزل أخوه عنها حتى توفي في عامه هذا وكان ندر في صناعة الحديث أيضا رحمه الله تعالى
القاضي عبد الرحمن التكريتي الحاكم بالكرك ومدرس مدرسة الزبداني فلما أخذت أوقافها سار إلى القدس ثم إلى دمشق فكان ينوب بها عن القضاة وكان فاضلا نزها عفيفا دينا رحمه الله تعالى ورضى عنه
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وستمائة
فيها وكانت وفاة الأشرف ثم أخوه الكامل أما الأشرف موسى بن العادل باني دار الحديث الأشرفية وجامع التوبة وجامع جراح فإنه توفي في يوم الخميس رابع المحرم من هذه السنة بالقلعة المنصورة ودفن بها حتى نجزت تربته التي بنيت له شمالي الكلاسة ثم حول إليها رحمه الله تعالى في جمادي الاولى وقد كان ابتداء مرضه في رجب من السنة الماضية واختلفت عليه الادواء حتى كان الجرائحي يخرج العظام من رأسه وهو يسبح الله عز و جل فلما كان آخر السنة تزايد به المرض (13/146)
واعتراه إسهال مفرط فخارت قوته فشرع في التهيء للقاء الله عز و جل فاعتق مائتي غلام وجارية ووقف دار فروخشاه التي يقال لها دار السعادة وبستانه بالنيرب على أبنية وتصدق بأموال جزيلة وأحضر له كفنا كان قد أعده من ملابس الفقراء والمشايخ الذين لقيهم من الصالحين وقد كان رحمه الله تعالى شهما شجاعا كريما جوادا لأهل العلم لا سيما أهل الحديث ومقار بيته الصالحة وقد بنى لهم دار حديث بالسفح وبالمدينة للشافعية آخرى وجعل فيها نعل النبي صلى الله عليه و سلم الذي ما زال حريصا على طلبه من النظام ابن أبي الحديد التاجر وقد كان النظام ضنينا به فعزم الأشرف أن يأخذ منه قطعة ثم ترك ذلك خوفا من أن يذهب بالكلية فقدر الله موت ابن ابي الحديد بدمشق فأوصى للملك الأشرف به فجعله الأشرف بدار الحديث ونقل إليها كتبا سنية نفيسة وبنى جامع التوبة بالعقبية وقد كان خانا للزنجاري فيه من المنكرات شيء كثير وبنى مسجد القصب وجامع جراح ومسجد دار السعادة وقد كان مولده في سنة ست وسبعين وخمسمائة ونشأ بالقدس الشريف بكفالة الامير فخر الدين عثمان الزنجاري وكان أبوه يحبه وكذلك أخوه المعظم ثم استنابه ابوه على مدن كثيرة بالجزيرة منها الرها وحران ثم اتسعت مملكته حين ملك خلاط وكان من أعف الناس وأحسنهم سيرة وسريرة لا يعرف غير نسائه وسراريه مع أنه قد كان يعاني الشراب وهذا من أعجب الأمور حكى السبط عنه قال كنت يوما بهذه المنظرة من خلاط إذ دخل الخادم فقال بالباب امرأة تستأذن فدخلت فإذا صورة لم أر أحسن منها وإذا هي ابنة الملك الذي كان بخلاط قبلي فذكرت أن الحاجب قد استحوذ على قرية لها وأنها قد احتاجت إلى بيوت الكرى وأنها إنما تتقوت من عمل النقوش للنساء فأمرت برد ضيعتها إليها وامرت لها بدار تسكنها وقد كنت قمت لها حين دخلت وأجلستها بين يدي وأمرتها بستر وجهها حين أسفرت عنه ومعها عجوز فحين قضت شغلها قلت لها انهضي على اسم الله تعالى فقالت العجوز يا خوند إنما جاءت لتحظى بخدمتك هذه الليلة فقلت معاذ الله لا يكون هذا واستحضرت في ذهني ابنتي ربما يصيبها نظير ما أصاب هذه فقامت وهي تقول بالأرمني سترك الله مثل ما سترتني وقلت لها مهما كان من حاجة فانهيها إلى أقضها لك فدعت لي وانصرفت فقالت لي نفسي في الحلال مندوحة عن الحرام فتزوجها فقلت لا والله لا كان هذا أبدا أين الحياء والكرم والمروءة قال ومات مملوك من مماليكي وترك ولدا ليس يكون في الناس بتلك البلاد أحسن شبابا ولا أحلى شكلا منه فأحببته وقربته وكان من لا يفهم أمري يتهمني به فاتفق أنه عدا على إنسان فضربه حتى قتله فاشتكى عليه إلى اولياء المقتول فقلت اثبتوا أنه قتله فأثبتوا ذلك فحاجفت عنه مماليكي وأرادوا إرضاءهم بعشر ديات فلم يقبلوا ووقفوا لي في الطريق وقالوا قد أثبتنا انه قتله فقلت (13/147)
خذوه فتسلموه فقتلوه ولو طلبوا مني ملكي فداء له لدفعته إليهم ولكن استحيت من الله أن أعارض شرعه بحظ نفسي رحمه الله تعالى وعفا عنه
ولما ملك دمشق في سنة ست وعشرين وستمائة نادى مناديه فيها أن لا يشتغل أحد من الفقهاء بشيء من العلوم سوى التفسير والحديث والفقه ومن اشتغل بالمنطق وعلوم الاوائل نفي من البلد وكان البلد به في غاية الامن والعدل وكثرة الصدقات والخيرات كانت القلعة لا تغلق في ليالي رمضان كلها وصحون الحلاوات خارجة منها إلى الجامع والخوانق والربط والصالحية وإلى الصالحين والفقراء والرؤساء وغيرهم وكان أكثر جلوسه بمسجد أبي الدرداء الذي جدده وزخرفه بالقلعة وكان ميمون النقيبة ما كسرت له رأيه قط وقد استدعى الزبيدي من بغداد حتى سمع هو والناس عليه صحيح البخاري وغيره وكان له ميل إلى الحديث وأهله ولما توفي رحمه الله رآه بعض الناس وعليه ثياب خضر وهو يطير مع جماعة من الصالحين فقال ما هذا وقد كنت تعاني الشراب في الدنيا فقال ذاك البدن الذي كنا نفعل به ذاك عندكم وهذه الروح التي كنا نحب بها هؤلاء فهي معهم ولقد صدق رحمه الله قال رسول الله صلى الله عليه و سلم المرء مع من أحب وقد كان اوصى بالملك من بعده لأخيه الصالح إسماعيل فلما توفي أخوه ركب في أبهة الملك ومشى الناس بين يديه وركب إلى جانبه صاحب حمص وعز الدين أيبك المعظمى حامل الغاشية على راسه ثم إنه صادر جماعة من الدماشقة الذين قيل عنهم إنهم مع الكامل منهم العالم تعاسيف وأولاد ابن مزهر وحبسهم ببصرى وأطلق الحريري من قلعة عزاز وشرط عليه أن لا يدخل دمشق ثم قدم الكامل من مصر وأنضاف إليه الناصر داود صاحب الكرك ونابلس والقدس فحاصروا دمشق حصارا شديدا وقد حصنها الصالح إسماعيل وقطع المياه ورد الكامل ماء بردى إلى ثورا وأحرقت العقبية وقصر حجاج فافتقر خلق كثير واحترق آخرون وجرت خطوب طويلة ثم آل الحال في آخر جمادي الاولى إلى أن سلم الصالح إسماعيل دمشق إلى أخيه الكامل على أن له بعلبك وبصرى وسكن الامر وكان الصلح بينهما على يدي القاضي محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي اتفق أنه كان بدمشق قد قدم في رسلية من جهة الخليفة إلى دمشق فجزاه الله تعالى خيرا ودخل الكامل دمشق وأطلق الفلك بن المسيري من سجن الحيات بالقلعة الذي كان أودعه فيه الأشرف ونقل الأشرف إلى تربته وأمر الكامل في يوم الاثنين سادس جمادي الآخرة أئمة الجامع أن لا يصلي أحد منهم المغرب سوى الامام الكبير لما كان يقع من التشويش والاختلاف بسبب اجتماعهم في وقت واحد ولنعم ما فعل رحمه الله وقد فعل هذا في زماننا في صلاة التراويح اجتمع الناس على قارئ واحد وهو الامام الكبير في المحراب المقدم عند المبنر ولم يبق به إمام يومئذ سوى الذي بالحلبية عند مشهد على (13/148)
ولو ترك لكان حسنا والله أعلم
ذكر وفاة الملك الكامل
محمد بن العادل رحمه الله تعالى تملك الكامل مدة شهرين ثم أخذه أمراض مختلفة من ذلك سعال وإسهال ونزلة في حلقه ونقرس في رجليه فاتفق موته في بيت صغير من دار القصبة وهو البيت الذي توفي فيه عمه الملك الناصر صلاح الدين ولم يكن عندالكامل احد عند موته من شدة هيبته بل دخلوا فوجوده ميتا رحمه الله تعالى وقد كان مولده في سنة ست وسبعين وخمسمائة وكان أكبر اولاد العادل بعد مردود وإليه أوصى العادل لعلمه بشأنه وكمال عقله وتوفر معرفته وقد كان جيد الفهم يحب العلماء ويسألهم اسئلة مشكلة وله كلام جيد على صحيح مسلم وكان ذكيا مهيبا ذا بأس شديد عادل منصف له حرمة وافرة وسطوة قوية ملك مصر ثلاثين سنة وكانت الطرقات في زمانه آمنة والرعايا متناصفة لا يتجاسر أحد أن يظلم أحدا شنق جماعة من الاجناد اخذوا شعيرا لبعض الفلاحين بارض آمد واشتكى إليه بعض الركبدارية أن أستاذه استعمله ستة أشهر بلا اجرة فأحضر الجندي والبسه قباب الركبدارية وألبس الركبداري ثياب الجندي وامر الجندي أن يخدم الركبدار ستة أشهر على هذه الهيئة ويحضر الركبدار الموكب والخدمة حتى ينقضي الأجل فتأدب الناس بذلك غاية الادب وكانت له اليد البيضاء في رد ثغر دمياط إلى المسلمين بعد أن استحوذ عليه الفرنج لعنهم الله فرابطهم أربع سنين حتى استنقذه منهم وكان يوم أخذه له واسترجاعه إياه يوما مشهودا كما ذكرنا مفصلا رحمه الله تعالى وكانت وفاته في ليلة الخميس الثاني والعشرين من رجب من هذه السنة ودفن بالقلعة حتى كملت تربته التي بالحائط الشمالي من الجامع ذات الشباك الذي هناك قريبا من مقصورة ابن سنان وهي الكندية التي عندا لحلبية نقل إليها ليلة الجمعة الحادي والعشرين من رمضان من هذه السنة ومن شعره يستحث أخاه الأشرف من بلادالجزيرة حين كان محاصرا بدمياط ... يا مسعفي إن كنت حقا مسعفي ... فارحل بغير تقيد وتوقف ... واطو المنازل والديار ولا تنخ ... إلا على باب المليك الأشرف ... قبل يديه لاعدمت وقل له ... عني بحسن تعطف وتلطف ... إن مات صنوك عن قريب تلقه ... ما بين حد مهند ومثقف ... أو تبط عن إنجاده فلقاؤه ... يوم القيامة في عراص الموقف ... ذكر ما جرى بعده
كان قد عهد لولده العادل وكان صغيرا بالديار المصرية وبالبلاد الدمشقية وولده الصالح أيوب ببلاد الجزيرة فأمضى الأمراء ذلك فأما دمشق فاختلف الأمراء بها في الملك الناصر داود بن (13/149)
المعظم والملك الجواد مظفر الدين يونس بن مودود بن الملك العادل فكان ميل عماد الدين ابن الشيخ إلى الجواد وآخرون إلى الناصر وكان نازلا بدار أسامة فانتظم أمر الجواد وجاءت الرسالة إلى الناصر أن اخرج من البلد فركب من دار أسامة والعامة وراءه إلى القلعة لا يشكون في ولايته الملك فسلك نحو القلعة فلما جاوز العمادية عطف برأس فرسه نحو باب الفرج فصرخت العامة لالالا فسار حتى نزل القابون عند وطأة برزة فعزم بعض الأمراء الأشرفية على مسكه فساق فبات بقصر ام حكيم وساقوا وراءه فتقدم إلى عجلون فتحصن بها وأمن
واما الجواد
فإنه ركب في ابهة الملك وأنفق الأموال والخلع على الأمراء قال السبط فرق ستة آلاف ألف دينار وخمسة آلاف خلعة وأبطل المكوس والخمور ونفى الخواطيء واستقر ملكه بدمشق واجتمع عليه الأمراء الشاميون والمصريون ورحل الناصر داود من عجلون نحو غزة وبلاد الساحل فاستحوذ عليها فركب الجواد في طلبه ومعه العساكر الشامية والمصرية وقال للأشرفية كاتبوه وأطمعوه فلما وصلت إليه كتبهم طمع في موافقتهم فرجع في سبعمائة راكب إلى نابلس فقصده الجواد وهو نازل على جيتين والناصر على سبسطية فهرب منه الناصر فاستحوذوا على حواصله وأثقاله فاستغنوا بها وافتقر بسببها فقرا مدقعا ورجع الناصر إلى الكرك جريدة قد سلب امواله وأثقاله وعاد الجواد إلى دمشق مؤيدا منصورا
وفيها اختلفت الخوارزمية على الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل صاحب كيفا وتلك النواحي وعزموا على القبض عليه فهرب منهم ونهبوا أمواله وأثقاله ولجأ إلى سنجار فقصده بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل ليحاصره ويأخذه في قفص إلى الخليفة وكان أهل تلك الناحية يكرهون مجاورته لتكبره وقوة سطوته فلم يبق إلى أخذه إلا القليل فكاتب الخوارزمية واستنجد بهم ووعدهم بأشياء كثيرة فقدموا إليه جرائد ليمنعوه من البدر لؤلؤ فلما أحس بهم لؤلؤ هرب منهم فاستحوذوا على أمواله وأثقاله فوجوا فيها شيئا كثيرا لا يحد ولا يوصف ورجع إلى بلده الموصل جريدة خائبا وسلم الصالح أيوب مما كان فيه من الشدة وممن توفي فيها من الاعيان
محمد بن زيد
ابن ياسين الخطيب جمال الدين الدولعي نسبة إلى قرية بأصل الموصل وقد ذكرنا ذلك عند ترجمة عمه عبد الملك بن ياسين الخطيب بدمشق أيضا وكان مدرسا بالغزالية مع الخطابة وقد منعه المعظم في وقت عن الافتاء فعاتبه السبط في ذلك فاعتذر بأن شيوخ بلده هم الذين أشاروا عليه بذلك لكثرة خطئه في فتاويه وقد كان شديد المواظبة على الوظيفة حتى كاد أن لا يفارق بيت (13/150)
الخطابة ولم يحج قط مع أنه كانت له اموال جزيلة وقف مدرسة بجيرون وسبعا في الجامع ولما توفي ودفن بمدرسته التي بجيرون ولى الخطابةبعدة أخ له وكان جاهلا ولم يستقر فيها وتولاها الكمال بن عمر بن أحمد بن هبة الله بن طلحة النصيبي وولى تدريس الغزالية الشيخ عبد العزيز بن عبد السلام
محمد بن هبة الله بن جميل
الشيخ أبو نصر بن الشيرازي ولد سنة تسع واربعين وخمسمائة وسمع الكثير على الحافظ ابن عساكر وغيره واشتغل في الفقه وأفتى ودرس بالشامية البرانية وناب في الحكم عدة سنين وكان فقيها عالما فاضلا ذكيا حسن الاخلاق عارفا بالأخبار وأيام العرب والاشعار كريم الطباع حميد الاثار وكانت وفاته يوم الخميس الثالث من جمادي الاخرة ودفن بقاسيون رحمه الله تعالى
القاضي شمس الدين يحيى بن بركات
ابن هبة الله بن الحسن الدمشقي قاضيها بن سنا الدولة كان عالما عفيفا فاضلا عادلا منصفا نزها كان الملك الاشرف يقول ما ولى دمشق مثله وقد ولى الحكم ببلده المقدس وناب بدمشق عن القضاة ثم استقل بالحكم وكانت وفاته يوم الأحد السادس ذي القعدة وصلى عليه بالجامع ودفن بقاسيون وتأسف الناس عليه رحمه الله تعالى وتوفي بعده
الشيخ شمس الدين بن الحوبي
القاضي زين الدين عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن علوان الاسدي عرف بابن الاستاذ الحلبي قاضيها بعد بهاء الدين بن شداد وكان رئيسا عالما عارفا فاضلا حسن الخلق والسمت وكان أبوه من الصالحين الكبار رحمهم الله تعالى
الشيخ الصالح المعمر
أبو بكر محمد بن مسعود بن بهروز البغدادي ظهر سماعه من أبي الوقت في سنة خمس عشرة وستمائة فانثال الناس عليه يسمعون منه وتفرد بالرواية عنه في الدنيا بعد الزبيدي وغيره توفي ليلة السبت التاسع والعشرين من شعبان رحمه الله تعالى
الأمير الكبير المجاهد المرابط صارم الدين
خطلبا بن عبد الله مملوك شركس ونائبه بعده مع ولده على تنين وتلك الحصون وكان كثير الصدقات ودفن مع استاذه بقباب شركس وهو الذي بناها بعد استاذه وكان خيرا قليل الكلام كثير الغزو مرابطا مدة سنين رحمه الله تعالى وعفا عنه بمنه كرمه
ثم دخلت سنة ست وثلاثين وستمائة
فيها قضى الملك الجواد على الصفي بن مرزوق وصادره بأربعمائة ألف دينار وحبسه بقلعة (13/151)
حمص فمكث ثلاث سنين لا يرى الضوء وكان ابن مرزوق محسنا إلى الجواد قبل ذلك إحسانا كثيرا وسلط الجواد خادما لزوجته يقال له الناصح فصادر الدماشقة وأخذ منهم نحوا من ستمائة ألف دينار ومسك الأمير عماد الدين بن الشيخ الذي كان سبب تمليكه دمشق ثم خاف من أخيه فخر الدين بن الشيخ الذي بديار مصر وقلق من ملك دمشق وقال إيش أعمل بالملك باز وكلب أحب إلي من هذا ثم خرج إلى الصيد وكاتب الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل فتقايضا من حصن كيفا وسنجار وما تبع ذلك إلى دمشق فملك الصالح دمشق ودخلها في مستهل جمادي الاولى من هذه السنة والجواد بين يديه بالغاشية وندم على ما كان منه فأراد أن يستدرك الفائت فلم يتفق له وخرج من دمشق والناس يلعنونه بوجهه بسبب ما أسداه إليهم من المصادرات وأرسل إليه الصالح أيوب ليرد إلى الناس أموالهم فلم يلتفت إليه وسار وبقيت في ذمته ولما استقر الصالح أيوب في ملك مصر كما سيأتي حبس الناصح الخادم فمات في أسوأ حالة من القلة والقمل جزءا وفاقا وما ربك بظلام للعبيد وفيها ركب الصالح أيوب من دمشق في رمضان قاصدا الديار المصرية ليأخذها من أخيه العادل لصغره فنزل بنابلس واستولى عليه ا وأخرجها من يد الناصر داود وأرسل إلى عمه الصالح إسماعيل صاحب بعلبك ليقدم عليه ليكون في صحبته إلى الديار المصرية وكان قد جاء إليه إلى دمشق ليبايعه فجعل يسوف به ويعمل عليه ويحالف الأمراء بدمشق ليكون ملكهم ولا يتجاسر أحد من الصالح أيوب لجبروته أن يخبره بذلك وانقضت السنة وهو مقيم بنابلس يستعدي إليه وهو يماطله
وممن توفي فيها من الأعيان
جمال الدين الحصيري الحنفي
محمود بن احمد العلامة شيخ الحنفية بدمشق ومدرس النورية أصله من قرية يقال لها حصير من معاملة بخارى تفقه بها وسمع الحديث الكثير وصار إلى دمشق فانتهت إليه رياسة الحنفية بها لا سيما في أيام المعظم كان يقرأ عليه الجامع الكبير وله عليه شرح وكان يحترمه ويعظمه ويكرمه وكان رحمه الله غزير الدمعة كثير الصدقات عاقلا نزها عفيفا توفي يوم الاحد ثامن صفر ودفن بمقابر الصوفية تغمده الله برحمته توفي وله تسعون سنة واول درسة بالنورية في سنة إحدى عشر وستمائة بعد الشرف داود الذي تولاها بعد البرهان مسعود وأول مدرسيها رحمهم الله تعالى الأمير عماد الدين عمر بن شيخ الشيوخ صدر الدين على بن حمويه كان سببا في ولاية الجواد دمشق ثم سار إلى مصر فلامه صاحبها العادل بن الكامل بن العادل فقال الآن أرجع الى دمشق وآمر الجواد بالمسير إليك على ان تكون له اسكندرية عوض دمشق فإن امتنع عزلته عنها وكنت انا نائبك فيها فنهاه اخوه فخر الدين بن الشيخ عن تعاطي ذلك فلم يقبل ورجع إلى دمشق فتلقاه (13/152)
الجواد إلى المصلي وانزله عنده بالقلعة بدار المسرة وخادعه عن نفسه ثم دس إليه من قتله جهرة في صورة مستغيث به واستحوذ على أمواله وحواصله وكانت له جنازة حافلة ودفن بقاسيون
الوزير جمال الدين علي بن حديد
وزر للأشرف واستوزره الصالح أيوب أياما ثم مات عقب ذلك كان أصله من الرقة وكان له أملاك يسيرة يعيش منها ثم آل امره أن وزر للأشرف بدمشق وقد هجاه بعضهم وكانت وفاته بالجواليق في جمادي الاخرة ودفدن بمقابر الصوفية
جعفر بن علي
ابن أبي البركات بن جعفر بن يحيى الهمداني راوية السلفي قدم إلى دمشق صحبة الناصر داود وسمع عليه أهلها وكانت وفاته بها ودفن بمقابر الصوفية رحمه الله تعالى وله تسعون سنة
الحافظ الكبير زكي الدين
أبو عبد الله بن محمد بن يوسف بن محمد البرزالي الاشبيلي أحد من اعتنى بصناعة الحديث وبرز فيه وأفاد الطلبة وكان شيخ الحديث بمشهد ابن عروة ثم سافر إلى حلب فتوفي بحماه في رابع عشر رمضان من هذه السنة وهو جد شيخنا الحافظ علم الدين بن القاسم بن محمد البرزالي مؤرخ دمشق الذي ذيل على الشيخ شهاب الدين أبي شامة وقد ذيلت أنا على تاريخه بعون الله تعالى
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وستمائة
استهلت هذه السنة وسلطان دمشق نجم الدين الصالح أيوب بن الكامل مخيم عند نابلس يستدعي عمه الصالح إسماعيل ليسير إلى الديار المصرية بسبب أخذها من صاحبها العادل بن الكامل وقد أرسل الصالح إسماعيل ولده وابن يغمود إلى صحبة الصالح أيوب فهما ينفقان الأموال في الأمراء ويحلفانهم على الصالح أيوب للصالح إسماعيل فلما تم الأمر وتمكن الصالح إسماعيل من مراده أرسل إلى الصالح أيوب يطلب منه ولده ليكون عوضه ببعلبك ويسير هو إلى خدمته فأرسله إليه وهو لا يشعر بشيء مما وقع وكل ذلك عن ترتيب أبي الحسن غزال المتطبب وزير الصالح وهو الأمين واقف أمينية بعلبك فلما كان يوم الثلاثاء السابع والعشرين من صفر هجم الملك الصالح إسماعيل وفي صحبته أسدا لدين شيركوه صاحب حمص إلى دمشق فدخلاها بغتة من باب الفراديس فنزل الصالح إسماعيل بداره من درب الشعارين ونزل صاحب حمص بداره وجاء نجم الدين بن سلامة فهنأ الصالح إسماعيل ورقص بين يديه وهو يقول إلى بيتك جئت واصبحوا فحاصروا القلعة وبها المغيث عمر بن الصالح نجم الدين ونقبوا القلعة من ناحية باب الفرج وهتكوا حرمتها ودخلوها وتسلموها واعتقلو المغيث في برج هنالك قال ابو شامة واحترقت دار الحديث وما هنالك من الحوانيت (13/153)
والدور حول القلعة ولما وصل الخبر بما وقع إلى الصالح أيوب تفرق عنه أصحابه والأمراء خوفا على أهاليهم من الصالح إسماعيل وبقي الصالح أيوب وحده بمماليكه وجاريته أم ولده خليل وطمع فيه الفلاحون والفوارنة وارسل الناصر داود صاحب الكرك إليه من أخذه من نابلس مهانا على بغلة بلا مهماز ولا مقدمة فاعتقله عنده سبعة أشهر وأرسل العادل من مصر إلى الناصر يطلب منه أخاه الصالح أيوب ويعطيه مائة ألف دينار فما أجابه إلى ذلك بل عكس ما طلب منه بإخبراج الصالح من سجنه والافراج عنه وإطلاقه من الحبس يركب وينزل فعند ذلك حاربت الملوك من دمشق ومصر وغيرهما الناصر داود وبرز العادل من الديار المصرية إلى بلبيس قاصدا قتال الناصر داود فاضطرب الجيس عليه واختلفت الامراء وقيدوا العادل واعتقلوه في خركاه وأرسلوا إلى الصالح ايوب يستدعونه إليهم فامتنع الناصر داود من إرساله حتى اشترط عليه أن يأخذ له دمشق وحمص وحلب بلاد الجزيرة وبلاد ديار بكر نصف مملكة مصر ونصف ما في الخزائن من الحواصل والأموال والجواهر قال الصالح ايوب فاجبت إلى ذلك مكرها ولا تقدر على ما اشترط جميع ملوك الارض وسرنا فأخذته معي خائفا أن تكون هذه الكائنة من المصريين مكيدة ولم يكن لي به حاجة وذكر أنه كان يسكر ويخبط في الامور ويخالف في الاراء السديدة فلما وصل الصالح إلى المصريين ملكوه عليهم ودخل الديار المصرية سالما مؤيدا منصورا مظفرا محبورا مسرورا فأرسل إلى الناصر داود عشرين ألف دينار فردها عليه ولم يقبلها منه واستقر ملكه بمصر وأما الملك الجواد فإنه أساء السيرة في سنجار وصادر أهلها وعسفهم فكاتبوا بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل فقصدهم وقد خرج الجواد للصيد فاخذ البلد بغير شيء وصار الجواد إلى غانة ثم باعها من الخليفة بعد ذلك وفي ربيع الاول درس القاضي الرفيع عبدالعزيز بن عبد الواحد الجيلي بالشامية البرانية وفي يوم الاربعاء ثالث ربيع الاخر ولى الشيخ عز الدين عبدالعزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم السلمي خطابة جامع دمشق وخطب الصالح إسماعيل لصاحب الروم ببلد دمشق وغيرها لأنه حالفه على الصالح أيوب قال أبو شامة وفي حزيران أيام المشمش جاء مطر عظيم هدم كثيرا من الحيطان وغيرها وكنت يومئذ بالمزة وممن توفي فيها من الاعيان
صاحب حمص
الملك المجاهد اسد الدين شيركوه بن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شادي ولاه إياها الملك الناصر صلاح الدين بعد موت أبيه سنة إحدى وثمانين وخمسمائة فمكث فيها سبعا وخمسين سنة وكان من احسن الملوك سيرة طهر بلاده من الخمور والمكوس والمنكرات وهي في غاية الأمن والعدل لا يتجاسر أحد من الفرنج ولا العرب يدخل بلاده إلا أهانه غاية الاهانة (13/154)
وكانت ملوك بني أيوب يتقونه لأنه يرى أنه أحق بالأمر منهم لأن جده هو الذي فتح مصر وأول من ملك منهم وكانت وفاته رحمه الله بحمص وعمل عزاءه بجامع دمشق عفا الله عنه بمنه
القاضي الحوبي شمس الدين أحمد بن خليل ابن سعادة جعفر الحوبي قاضي القضاة بدمشق يومئذ وكان عالما بفنون كثيرة من الاصول والفروع وغير ذلك وكانت وفاته يوم السبت بعد الظهر السابع من شعبان وله خمس وخمسون سنة بالمدرسة العادلية وكان حسن الاخلاق جميل المعاشرة وكان يقول لا أقدر على إيصال المناصب إلى مستحقيها له مصنفات منها عروض قال فيه أبو شامة
... أحمد بن الخليل أرشده أل ... له لما أرشد الخليل بن احمد ... ذاك مستخرج العروض وه ... ذا مظهر السر منه والعود احمد ...
وقد ولى القضاء بعد رفيع الدين عبد العزيز بن عبدالواحد بن إسماعيل بن عبدالهادي الحنبلي مع تدريس العادلية وكان قاضيا بعلبك فأحضره إلى دمشق الوزير أمين الدين الذي كان سامريا فأسلم وزر للصالح إسماعيل واتفق هو وهذا القاضي على أكل أموال الناس بالباطل قال أبو شامة ظهر منه سوء سيرة وعسف وفسق وجور ومصادرة في الاموال قلت وقد ذكر غيره عنه أنه ربما حضر يوم الجمعة في المشهد الكمالي بالشباك وهو سكران وان قناني الخمر كانت تكون على بركة العادلية يوم السبت وكان يعتمد في التركات اعتمادا سيئا جدا وقد عامله الله تعالى بنقيض مقصوده وأهلكه الله على يدي من كان سبب سعادته كما سيأتي بيانه قريبا إن شاء الله تعالى
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وستمائة
فيها سلم الصالح اسماعيل صاحب دمشق حصن سعيف أربون لصاحب صيدا الفرنجي فاشتد الانكار عليه بسبب ذلك من الشيخ عز الدين بن عبد السلام خطيب البلد والشيخ أبي عمر وبن الحاجب شيخ المالكية فاعتقلهما مدة ثم اطلقهما وألزمهما منازلهما وولى الخطابة وتدريس الغزالية لعماد الدين داود بن عمر بن يوسف المقدسي خطيب بيت الابار ثم خرج الشيخان من دمشق فقصد أبو عمرو الناصر داود بالكرك ودخل الشيخ عز الدين الديار المصرية فتلقاه صاحبها أيوب بالاحترام والاكرام وولاه خطابة القاهرة وقضاء مصر واشتغل عليه أهلها فكان ممن اخذعنه الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد رحمهما الله تعالى
وفيها قدم رسول من ملك التتار تولى بن جنكيزخان إلى ملوك الاسلام يدعوهم إلى طاعته (13/155)
ويأمرهم بتخريب أسوار بلدانهم وعنوان الكتاب من نائب رب السماء ماسح وجه الارض ملك الشرق والغرب قان قان وكان الكتاب مع رجل مسلم من أهل أصبهان لطيف الاخلاق فأول ما ورد على شهاب الدين غازي بن العادل بميافارقين وقد أخبر بعجائب في أرضهم غريبة منها أن في البلاد المتاخمة للسد أناسا أعينهم في مناكبهم وأفواهم في صدورهم يأكلون السمك وإذا رأوا أحدا من الناس هربوا وذكر أن عندهم بزرا ينبت الغنم يعيش الخروف منها شهرين وثلاثة ولا يتناسل ومن ذلك أن بما زندران عينا يطلع فيها كل ثلاثين سنة خشبة عظيمة مثل المنارة فتقيم طول النهار فإذا غابت الشمس غابت في العين فلا ترى إلى مثل ذلك الوقت وان بعض الملوك احتال ليمسكوها بسلاسل ربطت فيها فغارت وقطعت تلك السلاسل ثم كانت إذا طعلت ترى فيها تلك السلاسل وهي إلى الان كذلك قال أبو شامة وفيها قلت المياه من السماء والارض وفسد كثير من الزرع والثمار والله
أعلم وممن توفي فيها من الاعيان والمشاهير
محيي الدين بن عربي
صاحب الفصوص وغيره محمد بن علي بن محمد ابن عربي أبو عبد الله الطائي الأندلي طاف البلاد وأقام بمكة مدة وصنف فيها كتابه المسمى بالفتوحات المكية في نحو عشرين مجلدا فيها ما يعقل ومالا يعقل وما ينكر وما لا ينكر وما يعرف ومالا يعرف وله كتابه المسمى بفصوص الحكم فيه أشياء كثيرة ظاهرها كفر صريح وله كتاب العبادلة وديوان شعر رائق وله مصنفات اخر كثيرة جدا وأقام بدمشق مدة طويلة قبل وفاته وكان بنو الزكي لهم عليه اشتمال وبه احتفال ولجميع ما يقوله احتمال قال أبو شامة وله تصانيف كثيرة وعليه التصنيف سهل وله شعر حسن وكلام طويل على طريق التصوف وكانت له جنازة حسنة ودفن بمقبرة القاضي محي الدين بن الزكي بقاسيون وكانت جنازته في الثاني والعشرين من ربيع الاخر من هذه السنة وقال ابن السبط كان يقول إنه يحفظ الاسم الأعظم ويقول إنه يعرف الكيمياء بطريق المنازلة لا بطريق الكسب وكان فاضلا في علم التصوف وله تصانيف كثيرة
القاضي نجم الدين أبو العباس
أحمد بن محمد بن خلف بن راجح المقدسي الحنبلي الشافعي المعروف بابن الحنبلي كان شيخا فاضلا دينا بارعا في علم الخلاف ويحفظ الجمع بين الصحيحين للحميدي وكان متواضعا حسن الاخلاق قد طاف البلدان يطلب العلم ثم استقر بدمشق ودرس بالفداوية والصارمية والشامية الجوانية وأم الصالح وناب في الحكم عن جماعة من القضاة إلى أن توفي بها وهو نائب الرفيع الجيلي وكانت (13/156)
وفاته يوم الجمعة سادس شوال ودفن بقاسيون
ياقوت بن عبد الله امين الدين الرولي
منسوب إلى بيت أتابك قدم بغداد مع رسول صاحب الموصل لؤلؤ قال ابن الساعي اجتمعت به وهو شاب أديب فاضل يكتب خطا حسنا في غاية الجودة وينظم شعرا جيدا ثم روى عنه شيئا من شعره قال وتوفي في جمادي الاخرة محبوسا
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وستمائة
فيها قصد الملك الجواد أن يدخل مصر ليكون في خدمة الصالح أيوب فلما وصل إلى الرمل توهم منه الصالح أيوب وأرسل إليه كمال الدين ابن الشيخ ليقبض عليه فرجع الجواد فاستجار بالناصر داود وكان إذ ذلك بالقدس الشريف وبعث منه جيشا فالتقوا مع ابن الشيخ فكسروه وأسروه فوبخه الناصر داود ثم أطلقه وأقام الجواد في خدمة الناصر حتى توهم منه فقيده وأرسله تحت الحوطة إلى بغداد فأطلقه بطن من العرب عن قوة فلجأ إلى صاحب دمشق مدة ثم انتقل إلى الفرنج ثم عاد إلى دمشق فحبسه الصالح إسماعيل بعزتا إلى ان مات في سنة إحدى وأربعين كما سيأتي وفيها شرع الصالح أيوب في بناء المدارس بمصر وبنى قلعة بالجزيرة غرم عليها شيئا كثيرا من بيت المال وأخذ ملاك الناس وخرب نيفا وثلاثين مسجدا وقطع ألف نخلة ثم أخربها الترك في سنة إحدى وخمسين كما سيأتي بيانه وفيها ركب الملك المنصور بن إبراهيم بن الملك المجاهد صاحب حمص ومعه الحلبيون فاقتتلوا مع الخوارزمية بأرض حران فكسروهم ومزقوهم كل ممزق وعادوا منصورين إلى بلادهم فاصطلح شهاب الدين غازي صاحب ميا فارقين مع الخوارزمية وآواهم إلى بلده ليكونوا من حزبه قال ابو شامة وفيها كان دخول الشيخ عز الدين إلى الديار المصرية فأكرمه صاحبها وولاه الخطابة بالقاهرة وقضاء القضاة بمصر بعد وفاة القاضي شرف الدين المرقع ثم عزل نفسه مرتين وانقطع في بيته رحمه الله تعالى
قال وفيها توفي الشمس بن الخباز النحوي الضرير في سابع رجب والكمال بن يونس الفقيه في النصف من شعبان وكانا فاضلي بلدهما في فنهما قلت أما
الشمس ابن الخباز
فهو ابو عبدا لله أحمد بن الحسين بن احمد بن معالي بن منصور بن علي الضرير النحوي الموصلي المعروف بابن الخبار اشتغل بعلم العربية وحفظ المفصل والايضاح والتكملة والعروض والحساب وكان يحفظ المجمل في اللغة وغير ذلك وكان شافعي المذهب كثير النوادر والملح وله أشعار جيدة وكانت وفاته عاشر رجب وله من العمر خمسون سنة رحمه الله تعالى وأما (13/157)
الكمال بن يونس فهو موسى بن يونس بن محمد بن منعة بن مالك العقيلي أبو الفتح الموصلي شيخ الشافعية بها ومدرس بعدة مدارس فيها وكانت له معرفة تامة بالاصول والفروع والمعقولات والمنطق والحكمة ورحل إليه الطلبة من البلدان وبلغ ثمانيا وثمانين عاما وله شعر حسن فمن ذلك ما امتدح به البدر لؤلؤ صاحب الموصل وهو قوله
... لئن زينت الدنيا بما لك أمرها ... فمملكة الدنيا بكم تتشرف ... بقيت بقاء الدهر أمرك نافذ ... وسعيك مشكور وحكمك ينصف ...
كان مولده سنة إحدى وخمسين وخمسمائة وتوفي للنصف من شعبان هذه السنة رحمه الله تعالى قال أبو شامة وفيها توفي بدمشق
عبدالواحد الصوفي
الذي كان قسا راهبا في كنيسة مريم سبعين سنة أسلم قبل موته بأيام ثم توفي شيخا كبيرا بعد أن أقام بخانقاه السميساطية أياما ودفن بمقابر الصوفية وكانت له جنازة حافلة حضرت دفنه والصلاة عليه رحمه الله تعالى
أبوالفضل أحمد بن اسفنديار
ابن الموفق بن أبي علي البوسنجي الواعظ شيخ رباط الارجوانية قال ابن الساعي كان جميل الصورة حسن الاخلاق كثير التودد والتواضع متكلما متفوها منطقيا حسن العبارة جيد الوعظ طيب الانشاد عذب الايراد له نظم حسن ثم ساق عنه قصيدة يمدح بها الخليفة المستنصر
أبو بكر محمد بن يحيى
ابن المظفر بن علم بن نعيم المعروف بابن الحسر السلامي شيخ عالم فاضل كان حنبليا ثم صار شافعيا ودرس بعدة مدارس ببغداد للشافعية وكان احد المعدلين بها تولى مباشرات كثيرة وكان فقيها أصوليا عالما بالخلاف وتقدم ببلده وعظم كثيرا ثم استنابه ابن فضلان بدار الحريم ثم صار من أمره أن درس بالنظامية وخلع عليه ببغلة وحضر عنده الأعيان وما زال بها حتى توفي عن ثمانين سنة ودفن بباب حرب قاضي القضاة ببغداد
أبو المعالي عبدالرحمن بن مقبل بن علي الواسطي الشافعي اشتغل ببغداد وحصل وأعاد في بعض المدارس ثم استنابه قاضي القضاة عماد الدين أبو صالح نصر بن عبد الرزاق بن عبد القادر في أيام الخليفة الظاهر بن الناصر ثم ولى قضاء القضاة مستقلا ثم ولى تدريس المستنصرية بعد (13/158)
موت أول من درس بها محيي الدين محمد بن فضلان ثم عزل عن ذلك كله وعن مشيخه بعض الربط ثم كانت وفاته في هذا العام وكان فاضلا دينا متواضعا رحمه الله تعالى وعفا عنه
ثم دخلت سنة أربعين وستمائة
فيها توفي الخليفة المستنصر بالله وخلافة ولده المستعصم بالله فكانت وفاة الخليفة أمير المؤمنين بكرة يوم الجمعة عاشر جمادي الاخرة وله من العمر إحدى وخمسون سنة وأربعة أشهر وسبعة أيام وكتم موته حتى كان الدعاء له على المنابر ذلك اليوم وكانت مدة ولايته ست عشرة سنة وعشرة أشهر وسبعة وعشرين يوما ودفن بدار الخلافة ثم نقل إلى الترب من الرصافة وكان جميل الصورة حسن السريرة جيدالسيرة كثير الصدقات والبر والصلات محسنا إلى الرعية بكل ما يقدر عليه كان جده الناصر قد جمع ما يتحصل من الذهب في بركة في دار الخلافة فكان يقف على حافتها ويقول أترى أعيش حتى أملأها وكان المستنصر يقف على حافتها ويقول أترى أعيش حتى أنفقها كلها فكان يبني الربط والخانات والقناطر في الطرقات من سائر الجهات وقد عمل بكل محلة من محال بغداد دار ضيافة للفقراء لا سيما في شهر رمضان وكان يتقصد الجواري اللائي قد بلغن الاربعين فيشترين له فيعتقهن ويجهزهن ويزوجهن وفي كل وقت يبرز صلاته ألوف متعددة من الذهب تفرق في المحال ببغداد على ذوي الحاجات والارامل والايتام وغيرهم تقبل الله تعالى منه وجزاه خيرا وقد وضع ببغداد المدرسة المستنصرية للمذاهب الاربعة وجعل فيها دار حديث وحماما ودار طب وجعل لمستحقيها من الجوامك والاطعمة والحلاوات والفاكهة ما يحتاجون إليه في أوقاته ووقف عليها أوقافا عظيمة حتى قيل إن ثمن التبن من غلات ريعها يكفي المدرسة واهلها ووقف فيها كتبا نفيسة ليس في الدنيا لها نظير فكانت هذه المدرسة جمالا لبغداد وسائر البلاد وقد احترق في أول هذه السنة المشهدا لذي بسامرا المنسوب إلى على الهادي والحسن العسكري وقد كان بناه ارسلان البساسيري في أيام تغلبه على تلك النواحي في حدود سنة خمسين وأربعمائة فأمر الخليفة المستنصر باعادته إلى ما كان عليه وقد تكلمت الروافض في الاعتذار عن حريق هذا المشهد بكلام طويل بارد لا حاصل له وصنفوا فيه أخبار وأنشدوا أشعارا كثيرة لا معنى لها وهو المشهد الذي يزعمون أنه يخرج منه المنتظر الذي لاحقيقة له فلا عين ولا أثر ولو لم يبن لكان أجدر وهو الحسن بن علي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن علي ابن محمد بن الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بكر بلاء بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين وقبح من يغلو فيهم ويبغض بسببهم من هو أفضل منهم وكان المستنصر رحمه الله كريما حليما رئيسا متوددا إلى الناس وكان جميل الصورة حسن الاخلاق (13/159)
بهى المنظر عليه نور بيت النبوبة رضي الله عنه وأرضاه وحكى أنه اجتاز راكبا في بعض ازفة بغداد قبل غروب الشمس من رمضان فرأى شيخا كبيرا ومعه إناء فيه طعام قد حمله من محلة إلى محلة أخر فقال أيها الشيخ لم لا أخذت الطعام من محلتك أو أنت محتاج تأخذ من المحلتين فقال لا والله يا سيدي ولم يعرف أنه الخليفة ولكني شيخ كبير وقد نزل بي الوقت وأنا أستحي من أهل محلتي أن أزاحمهم وقت الطعام فيشمت بي من كان يبغضني فأنا أذهب إلى غير محلتي فآخذ الطعام وأتحين وقت كون الناس في صلاة المغرب فأدخل بالطعام إلى منزلي بحيث لا يراني أحد فبكى الخليفة رحمه الله وامر له بألف دينار فلما دفعت إليه فرح الشيخ فرحا شديدا حتى قيل إنه انشق قلبه من شدة الفرح ولم يعش بعد ذلك إلا عشرين يوما ثم مات فخلف الألف دينار إلى الخليفة لأنه لم يترك وارثا وقد أنفق منها دينارا واحدا فتعجب الخليفة من ذلك وقال شيء قد خرجنا عنه لا يعود إلينا تصدقوا بها على فقراء محلته فC تعالى وقد خلف من الاولاد ثلاثة اثنان شقيقان وهما أمير المؤمنين المستعصم بالله الذي ولى الخلافة يعده وابو أحمد عبد الله والأمير أبو القاسم عبدالعزيز وأختهما من أم اخرى كريمة صان الله حجابها وقد رثاه الناس بأشعار كثيرة أورد منها بن الساعي قطعة صالحة ولم يستوزر أحدا بل أقرأبا الحسن محمد بن محمد القمي على نيابة الوزارة ثم كان بعده نصر الدين أبو الأزهر أحمد بن محمد الناقد الذي كان استاذ دار الخلافة والله تعالى أعلم بالصواب
خلافة المستعصم بالله
أمير المؤمنين وهو آخر خلفاء بني العباس ببغداد وهو الخليفة الشهيد الذي قتله التتار بأمر هلاكو ابن تولى ملك التتار بن جنكيزخان لعنهم الله في سنة ست وخمسين وستمائة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى وهو أمير المؤمنين المستعصم بالله أبو احمد عبد الله بن أمير المؤمنين المستنصر بالله ابي جعفر المنصور بن أمير المؤمنين الظاهر بالله أبي نصر محمد بن أمير المؤمنين الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن أمير المؤمنين المستضيء بالله أبي محمد الحسن بن أمير المؤمنين المستنجد بالله أبي المظفر يوسف بن أمير المؤمنين المقتفى لأمر الله أبي عبد الله محمد بن أمير المؤمنين المستظهر بالله أبي العباس أحمد بن الخليفة المقتدي بأمر الله أبي القاسم عبد الله وبقية نسبه إلى العباس في ترجمة جده الناصر وهؤلاء الذين ذكرناهم كلهم ولى الخلافة يتلو بعضهم بعضا ولم يتفق هذا لأحد قبل المستعصم ان في نسبه ثمانية نسقا ولوا الخلافة لم يتخللهم أحد وهو التاسع رحمه الله تعالى بمنه
لما توفي أبوه بكرة الجمعة عاشر جمادي الاخرة من سنة أربعين وستمائة استدعى هو من التاج يومئذ بعدالصلاة فبويع بالخلافة ولقب بالمستعصم وله من الأمر يومئذ ثلاثون سنة وشهور وقد (13/160)
أتقن في شبيبته تلاوة القرآن حظفا وتجويدا وأتقن العربية والخط الحسن وغير ذلك من الفضائل على الشيخ شمس الدين أبي المظفر علي بن محمد بن النيار أحد ائمة الشافعية في زمانه وقد أكرمه وأحسن إليه في خلافته وكان المستعصم على ما ذكر كثير التلاوة حسن الاداء طيب الصوت يظهر عليه خشوع وإنابة وقد نظر في شيء من التفسير وحل المشكلات وكان مشهورا بالخير مشكورا مقتديا بأبيه المستنصر جهده وطاقته وقد مشت الامور في ايامه على السداد والإستقامة بحمد الله وكان القائم بهذه البيعة المستعصمية شرف الدين أبو الفضائل إقبال المستنصري فبايعه اولا بنو عمه وأهله من بني العباس ثم أعيان الدولة من الأمراء والوزراء والقضاة والعلماء والفقهاء ومن بعدهم من أولى الحل والعقد والعامة وغيرهم وكان يوما مشهودا ومجمعا محمودا ورأيا سعيدا وأمرا حميدا وجاءت البيعة من سائر الجهات والأقطار والبلدان والأمصار وخطب له في سائر البلدان والاقاليم والرساتيق وعلى سائر المنابر شرقا وغربا بعدا وقربا كما كان أبوه وأحداده رحمهم الله جميعا
وفيها وقع من الحوادث أنه كان بالعراق وباء شديد في آخر أيام المستنصر وغلا السكر والأدوية فتصدق الخليفة
المستنصر بالله
رحمه الله بسكر كثير على المرضى تقبل الله منه وفي يوم الجمعة رابع عشر شعبان أذن الخليفة المستعصم بالله لأبي الفرج عبد الرحمن بن محيي الدين يوسف ابن الشيخ ابي الفرج بن الجوزي وكان شابا ظريفا فاضلا في الوعظ بباب البدرية فتكلم وأجاد وافاد وامتدح الخليفة المستعصم بقصيدة طويلة فصيحة سردها ابن الساعي بكمالها ومن يشابه أباه فما ظلم والشبل في المخبر مثل الاسد وفيها كانت وقعة عظيمة بين الحلبيين وبين الخوارزمية ومع الخوارزمية شهاب الدين غازي صاحب ميافارقين فكسرهم الحلبيون كسرة عظيمة منكرة وغنموا من أموالهم شيئا كثيرا جدا ونهبت نصيبين مرة أخرى وهذه سابع عشر مرة نهبت في هذه السنين فانا لله وإنا إليه راجعون وعاد الغازي إلى ميا فارقين وتفرقت الخوارزمية يفسدون في الارض صحبة مقدمهم بركات خان لا بارك الله فيه وقدم على الشهاب غازي منشور بمدينة خلاط فتسلمها وما فيها من الحواصل وفيها عزم الصالح أيوب صاحب مصر على دخول الشام فقيل له إن العساكر مختلفة فجهز عسكرا إليها وأقام هو بمصر يدير مملكتها
وممن توفي فيها من الاعيان المستنصر بالله
أمير المؤمنين كما تقدم والحرمة المصونة الجليلة
خاتون بنت عز الدين مسعود
ابن مودود بن زنكي بن آقسنقر الاتابكية واقفة المدرسة الاتابكية بالصالحية وكانت زوجة (13/161)
السلطان الملك الأشرف رحمه الله وفي ليلة وفاتها كانت وقفت مدرستها وتربتها بالجبل قاله أبو شامة ودفنت بها رحمها الله تعالى وتقبل منها
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وستمائة
فيها ترددت الرسل بين الصالح أيوب صاحب مصر وبين عمه الصالح إسماعيل صاحب دمشق على أن يرد إليه ولده المغيث عمر بن الصالح أيوب المعتقل في قلعة دمشق وتستقر دمشق في يد الصالح اسماعيل فوقع الصلح على ذلك وخطب للصالح أيوب بدمشق فخاف الوزير أمين الدولة أبو الحسن غزال المسلماني وزير الصالح اسماعيل من غائلة هذا الأمر فقال لمخدومه لا ترد هذا الغلام لأبيه تخرج البلاد من يدك هذا خاتم سليمان بيدك للبلاد فعند ذلك أبطل ما كان وقع من الصلح ورد الغلام إلى القلعة وقطعت الخطبة للصالح أيوب ووقعت الوحشة بين الملكين وأرسل الصالح أيوب إلى الخوارزمية يستحضرهم لحصار دمشق فإنا لله وإنا إليه راجعون وكانت الخوارزمية قد فتحوا في هذه السنة بلاد الروم وأخذوها من أيدي ملكها ابن علاء الدين وكان قليل العقل يلعب بالكلاب والسباع ويسلطها على الناس فاتفق أنه عضه سبع فمات فتغلبوا على البلاد حينئذ وفيها احتيط على أعوان القاضي الرفيع الجيلي وضرب بعضهم بالمقارع وصودروا ورسم على القاضي الرفيع بالمدرسة المقدمية داخل باب الفراديس ثم أخرج ليلا وذهب به فسجن بمغارة أفقه من نواحي البقاع ثم انقطع خبره وذكر أبو شامة أنه توفي ومنهم من قال إنه ألقى من شاهق ومنهم من قال خنق وذلك كله بذي الحجة من هذه السنة وفي يوم الجمعة الخامس والعشرين منه قرئ منشور ولاية القضاء بدمشق لمحي الدين بن محمد بن علي بن محمد بن يحيى القرشي بالشباك الكمالي من الجامع كذا قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة وزعم السبط أن عزله إنما كان في السنة الاتية وذكر أن سبب هلاكه أنه كتب إلى الملك الصالح يقول له إنه قد أورد إلى خزانته من الأموال ألف ألف دينار من أموال الناس فأنكر الصالح ذلك ورد عليه الجواب أنه لم يرد سوى ألف ألف درهم فأرسل القاضي يقول فأنا أحاقق الوزير وكان الصالح لا يخالف الوزير فأشار حنيئذ على الصالح فعزله لتبرأ ساحة السلطان من شناعات الناس فعزله وكان من أمره ما كان وفوض أمر مدارسه إلى الشيخ تقي الدين ابن الصلاح فعين العادلية للكمال التفليسي والعذراوية لمحي الدين بن الزكي الذي ولى القضاء بعده والامينية لابن عبدا لكافي والشامية البرانية للتقي الحموي وغيب القاضي الرفيع وأسقط عدالة شهوده قال السبط أرسله الامين مع جماعة على بغل بأكاف لبعض النصارى إلى مغارة أفقه في جبل لبنان من ناحية الساحل فأقام بها أياما ثم أرسل إليه عدلين من بعلبك ليشهدا عليه ببيع أملاكه من امين الدولة فذكرا أنهما شاهداه وعليه (13/162)
بخفيفه وقندورة وانه استطعمهما شيئا من الزاد وذكر أن له ثلاثة أيام لم يأكل شيئا فأطعماه من زوادتهما وشهدا عليه وانصرفا ثم جاءه داود النصراني فقال له قم فقد أمرنا بحملك إلى بعلبك فأيقن بالهلاك حينئذ فقال دعوني أصلي ركعتين فقال له قم فقام يصلي فأطال الصلاة فرفسه النصراني فألقاه من رأس الجبل إلى أسفل الوادي الذي هناك فما وصل حتى تقطع وحكى أنه تعلق ذيله بسن الجبل فما زال داود يرميه بالحجارة حتى ألقاه إلى أسفل الوادي وذلك عند السقيف المطل على نهر إبراهيم قال السبط وقد كان فاسد العقيدة دهريا مستهزئا بأمور الشرع يخرج إلى المجلس سكرانا ويحضر إلى الجمعة كذلك وكانت داره كالحانات فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم قال وأخذ الموفق الواسطي أحد أمنائه وكان من أكبر البلايا أخذ لنفسه من أموال الناس ستمائة ألف درهم فعوقب عقوبة عظيمة حتى أخذت منه وقد كسرت ساقاه ومات تحت الضرب فألقى في مقابر اليهود والنصارى وأكلته الكلاب وممن توفي فيها من الاعيان
الشيخ شمس الدين أبو الفتوح
أسعد بن المنجي التنوخي المعري الحنبلي قاضي حران قديما ثم قدم دمشق ودرس بالمسمارية وتولى خدما في الدولة المعظمية وكانت له رواية عن ابن صابر والقاضيين الشهزوري وابن أبي عصرون وكانت وفاته في سابع ربيع الاول من هذه السنة رحمه الله تعالى
الشيخ الحافظ الصالح
تقي الدين أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن الأزهر الصريفيني كان يدري الحديث وله به معرفة جيدة أثنى عليه أبو شامة وصلى عليه بجامع دمشق ودفن بقاسيون رحمه الله
واقف الكروسية
محمد بن عقيل بن كروس جمال الدين محتسب دمشق كان كيسا متواضعا توفي بدمشق في شوال ودفن بداره التي جعلها مدرسة وله دار حديث رحمه الله تعالى وعفا عنه
الملك الجواد يونس بن ممدود
ابن العادل أبي بكر بن أيوب الملك الجواد وكان أبوه أكبر أولاد العادل تقلبت به الأحوال وملك دمشق بعد عمه الكامل محمد بن العادل وكان في نفسه جيدا محبا للصالحين ولكن كان في بابه من يظلم الناس وينسب ذلك إليه فأبغضته العامة وسبوه وألجؤوه إلى أن قايض بدمشق الملك الصالح أيوب بن الكامل إلى سنجار وحصن كيفا ثم لم يحفظهما بل خرجتا عن يده ثم آل به الحال إلى أن سجنه الصالح إسماعيل بحصن عزتا حتى كانت وفاته في هذه السنة ونقل في شوال إلى تربة المعظم بسفح قاسيون وكان عنده ابن يغمور معتقلا فحوله الصالح إسماعيل إلى قلعة دمشق فلما (13/163)
ملكها الصالح أيوب نقله إلى الديار المصرية وشنقه مع الامين غزال وزير الصالح اسماعيل على قلعة القاهرة جزاء على صنعهما في حق الصالح ايوب رحمه الله تعالى اما ابن يغمور فإنه عمل عليه حتى حول ملك دمشق إلى الصالح إسماعيل وأما أمين الدولة فإنه منع الصالح من تسليم ولده عمر إلى أبيه فانتقم منهما بهذا وهو معذور بذلك
مسعود بن احمد بن مسعود
ابن مازه المحاربي أحد الفقهاء الحنفية الفضلاء وله علم بالتفسير وعلم الحديث ولديه فضل غزير قدم بغداد صحبة رسول التتار للحج فحبس مدة سنين ثم أفرج عنه فحج ثم عاد فمات ببغداد في هذه السنة رحمه الله تعالى
أبو الحسن علي بن يحيى بن الحسن
ابن الحسين بن علي بن محمد البطريق بن نصر بن حمدون بن ثابت الاسدي الحلي ثم الواسطي ثم البغدادي الكاتب الشاعر الشيعي فقيه الشيعة أقام بدمشق مدة وامتدح كثيرا من الأمرء والملوك منهم الكامل صاحب مصر وغيره ثم عاد إلى بغداد فكان يشغل الشيعة في مذهبهم وكان فاضلا ذكيا جيدا النظم والنثر لكنه مخذول محجوب عن الحق وقد أرود ابن الساعي قطعة جيدة من أشعاره الدالة على غزارة مادته في العلم والذكاء رحمه الله وعفا عنه
ثم دخلت سنة أثنين واربعين وستمائة
فيها استوزر الخليفة المستعصم بالله مؤيد الدين أبا طالب محمد بن أحمد بن علي بن محمد العلقمي المشؤم على نفسه وعلى أهل بغداد الذي لم يعصم المستعصم في وزارته فإنه لم يكن وزير صدق ولا مرضى الطريقة فإنه هو الذي أعان على المسلمين في قضية هولاكو وجنوده قبحه الله وإياهم وقد كان ابن العلقمي قبل هذه الوزارة أستاذ دار الخلافة فلما مات نصر الدين محمد بن الناقد استوزر ابن العلقمي وجعل مكانه في الاستادارية الشيخ محيي الدين يوسف بن أبي الفرج ابن الجوزي وكان من خيار الناس وهو واقف الجوزية التي بالتشابين بدمشق تقبل الله منه وفيها جعل الشيخ شمس الدين علي بن محمد بن الحسين بن النيار مؤدب الخليفة شيخ الشيوخ ببغداد وخلع عليه ووكل الخليفة عبدالوهاب ابن المطهر وكالة مطلقة وخلع عليه وفيها كانت وقعة عظيمة بين الخوارزمية الذين كان الصالح أيوب صاحب مصر استقدمهم ليستنجد بهم على الصالح إسماعيل أبي الحسن صاحب دمشق فنزلوا على غزة وأرسل إليهم الصالح أيوب الخلع والأموال والأقمشة والعساكر فاتفق الصالح إسماعيل والناصر داود صاحب الكرك والمنصور صاحب حمص مع الفرنج واقتتلوا مع الخوارزمية قتالا شديدا فهزمتهم الخوارزمية كسرة منكرة فظيعة هزمت الفرنج بصلبانها وراياتها العالية على رؤس أطلاب المسلمين وكانت كوؤس الخمر دائرة بين الجيوش فنابت كؤس (13/164)
المنون عن كوؤس الزرجون فقتل من الفرنج في يوم واحد زيادة عن ثلاثين الف وأسروا جماعة من ملوكهم وقسوسهم وأساقفتهم وخلقا من امراء المسلمين وبعثوا بالاسارى إلى الصالح أيوب بمصر وكان يومئذ يوما مشهودا وامرا محمودا ولله الحمد وقد قال بعض أمراء المسلمين قد علمت أنا لما وقفنا تحت صلبان الفرنج أنا لا نفلح وغنمت الخوارزمية من الفرنج ومن كان معهم شيئا كثيرا وأرسل الصالح أيوب إلى دمشق ليحاصرها فحصنها الصالح إسماعيل وخرب من حولها رباعا كثيرة وكسر جسر باب توما فسار النهر فتراجع الماء حتى صار بحيرة من باب توما وباب السلامة فغرق جميع ما كان بينهما من العمران وافتقر كثير من الناس فانا لله وإنا إليه راجعون
وممن توفي فيها من الاعيان
الملك المغيث عمر بن الصالح أيوب
كان الصالح إسماعيل قد أسره وسجنه في برج قلعة دمشق حين أخذها في غيبة الصالح ايوب فاجتهد أبوه بكل ممكن في خلاصه فلم يقدر وعارضه فيه أمين الدولة غزال المسلماني واقف المدرسة الامينية التي ببعلبك فلم يزل الشاب محبوسا في القلعة من سنة ثمان وثلاثين إلى ليلة الجمعة ثاني عشر ربيع الاخر من هذه السنة فأصبح ميتا في محبسه غما وحزنا ويقال إنه قتل فالله أعلم وكان من خيار أبناء الملوك وأحسنهم شكلا وأكملهم عقلا ودفن عند جده الكامل في تربته شمالي الجامع فاشتد حنق أبيه الصالح أيوب على صاحب دمشق وممن توفي فيها شيخ الشيوخ بدمشق
تاج الدين أبو عبد الله بن عمر بن حمويه
أحد الفضلاء المؤرخين المصنفين له كتاب في ثماني مجلدات ذكر فيه أصول وله السياسة الملوكية صنفها للكامل محمد وغير ذلك وسمع الحديث وحفظ القرآن وكان قد بلغ الثمانين وقيل إنه لم يبلغها وقد سافر إلى بلاد المغرب في سنة ثلاث وتسعين واتصل بمراكش عند ملكها المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن فأقام هناك إلى سنة ستمائة فقدم إلى ديار مصر وولى مشيخة الشيوخ بعد أخيه صدر الدين بن حمويه رحمه الله تعالى
الوزير نصر الدين أبو الأزهر
أحمد بن محمد بن علي بن أحمد الناقد البغدادي وزير المستنصر ثم ابنه المستعصم كان من أبناء التجار ثم توصل إلى أن وزر لهذين الخليفتين وكان فاضلا بارعا حافظا للقرآن كثيرالتلاوة نشأ في حشمة باذخة ثم كان في وجاهة هائلة وقد أقعد في آخر أمره وهو مع هذا في غاية الاحترام والاكرام وله أشعار حسنة أورد منها ابن الساعي قطعة صالحة توفي في هذه السنة وقد جاوز الخمسين رحمه الله تعالى
نقيب النقباء خطيب الخطباء
وكيل الخلفاء أبو طالب الحسين بن أحمد بن علي بن أحمد بن معين بن هبة الله بن محمد بن علي (13/165)
ابن الخليفة المهتدي بالله العباسي كان من سادات العباسيين وأئمة المسلمين وخطباء المؤمنين استمرت أحواله على السداد والصلاح لم ينقطع قط عن الخطابة ولم يمرض قط حتى كانت ليلة السبت الثامن والعشرين من هذه السنة قام في اثناء الليل لبعض حاجاته فسقط على أم رأسه فسقط من فمه دم كثير وسكت فلم ينطق كلمة واحدة يومه ذلك إلى الليل فمات وكانت له جنازة حافلة رحمه الله تعالى وعفا عنه بمنه وكرمه
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وستمائة
وهي سنة الخوارزمية وذلك أن الصالح أيوب بن الكامل صاحب مصر بعث الخوارزمية ومعهم ملكهم بركات خان في صحبة معين الدين ابن الشيخ فاحاطوا بدمشق يحاصرون عمه الصالح أبا الجيش صاحب دمشق وحرق قصر حجاج وحكر السماق وجامع جراح خارج باب الصغير ومساجد كثيرة ونصب المنجنيق عند باب الصغير وعند باب الجابية ونصب من داخل البلد منجنيقان أيضا وتراأى الفريقان وارسل الصالح إسماعيل إلى الأمير معين الدين بن الشيخ بسجادة وعكاز وإبريق وارسل يقول اشتغالك بهذا اولى من اشتغالك بمحاصرة الملوك فأرسل إليه المعين بزمر وجنك وغلالة حرير أحمر وأصفر وأرسل يقول أما السجادة فإنها تصلح لي وأما أنت فهذا أولى بك ثم أصبح ابن الشيخ فاشتد الحصار بدمشق وأرسل الصالح إسماعيل فأحرق جوسق قصر والده العادل وامتد الحريق في زقاق الرمان الى العقبية فأحرقت بأسرها وقطعت الانهار وغلت الاسعار واخيفت الطرق وجرى بدمشق أمور بشعة جدا لم يتم عليها قط وامتد الحصار شهورا من هذه السنة إلى جمادي الاولى فأرسل أمين الدولة يطلب من ابن الشيخ شيئا من ملابسه فأرسل إليه بفرجيةوعمامة وقميص ومنديل فلبس ذلك الامين وخرج إلى معين الدين فاجتمع به بعدالعشاء طويلا ثم عاد ثم خرج مرة أخرى فاتفق الحال على ان يخرج الصالح إسماعيل إلى بعلبك ويسلم دمشق إلى الصالح أيوب فاستبشر الناس بذلك وأصبح الصالح إسماعيل خارجا إلى بعلبك ودخل معين الدين ابن الشيخ فنزل في دار أسامة فولى وعزل وقطع ووصل وفوض قضاء القضاة إلى صدر الدين بن سني الدولة وعزل القاضي محي الدين بن الزكي واستناب ابن سني الدولة التفليسي الذي تاب لابن الزكي والفرز السنجاري وأرسل معين الدين ابن الشيخ أمين الدولة غزال ابن المسلماني وزير الصالح إسماعيل تحت الحوطة إلى الديار المصرية
وأما الخوارزمية فإنهم لم يكونوا حاضرين وقت الصلح فلما علموا بوقوع الصلح غضبوا وساروا نحو داريا فنهبوها وساقوا نحو بلاد الشرق وكاتبوا الصالح إسماعيل فحالفوه على الصالح أيوب ففرح بذلك ونقض الصلح الذي كان وقع منه وعادت الخوارزمية فحاصروا دمشق وجاء إليهم الصالح (13/166)
إسماعيل من بعلبك فضاق الحال على الدماشقة فعدمت الاموال وغلت الاسعار جدا حتى إنه بلغ ثمن الغرارة ألف وستمائة وقنطار الدقيق تسعمائة والخبز كل وقيتين إلا ربع بدرهم ورطل اللحم بسبعة وبيعت الأملاك بالدقيق وأكلت القطاط والكلاب والميتات والجيفات وتماوت الناس في الطرقات وعجزوا عن التغسيل والتكفين والافبار فكانوا يلقون موتاهم في الابار حتى انتنت المدينة وضجر الناس فإنا لله وإنا إليه راجعون
وفي هذه الايام توفي الشيخ تقي الدين ابن الصلاح شيخ دار الحديث وغيرها من المدارس فما أخرج من باب الفرج إلا بعد جهد جهيد ودفن بالصوفية رحمه الله
قال ابن السبط ومع هذا كانت الخمور دائرة والفسق ظاهرا والمكوس بحالها وذكر الشيخ شهاب الدين أن الاسعار غلت في هذه السنة جدا وهلك الصعاليك بالطرقات كانوا يسألون لقمة ثم صاروا يسألون لبابة ثم تنازلوا إلى فلس يشترون به نخالة يبلونها ويأكلونها كالدجاج قال وأنا شاهدت ذلك وذكر تفاصيل الاسعار وغلاءها في الاطعمة وغيرها ثم زال هذا كله في آخر السنة بعد عيد الاضحى ولله الحمد
ولما بلغ الصالح ايوب أن الخوارزمية قد مالؤا عليه وصالحوا عمه الصالح إسماعيل كاتب الملك المنصور إبراهيم بن أسد الدين شيركوه صاحب حمص فاستماله إليه وقوى جانب نائب دمشق معين الدين حسين ابن الشيخ ولكنه توفي في رمضان من هذه السنة كما سيأتي في الوفيات ولما رجع المنصور صاحب حمص عن موالاة الصالح إسماعيل شرع في جمع الجيوش من الحلبيين والتركمان والأعراب لاستنقاذ دمشق من الخوارزمية وحصارهم إياها فبلغ ذلك الخوارزمية فخافوا من غائلة ذلك وقالوا دمشق ما تفوت والمصلحة قتاله عند بلده فساورا إلى بحيرة حمص وأرسل الناصر داود جيشه إلى الصالح إسماعيل مع الخوارزمية وساق جيش دمشق فانضافوا إلى صاحب حمص والتقوا مع الخوارزمية عند بحيرة حمص وكان يوما مشهودا قتل فيه عامة الخوارزمية وقتل ملكهم بركات خان وجيء برأسه على رمح فتفرق شملهم وتمزقوا شذر مذر وساق المنصور صاحب حمص إلى بعلبك فتسلمها الصالح أيوب وجاء إلى دمشق فنزل ببستان سامة خدمة للصالح أيوب ثم حدثته نفسه بأخذها فاتفق مرضه فمات رحمه الله في السنة الاتية ونقل إلى حمص فكانت مدة ملكه بعد أبيه عشر سنين وقام من بعده فيها ابنه الملك الأشرف مدة سنتين ثم أخذت منه على ما سيأتي وتسلم نواب الصالح أيوب بعلبك وبصرى ولم يبق بيد الصالح اسماعيل بلد ياوى إليه ولا أهل ولا ولد ولا مال بل أخذت جميع أمواله ونقلت عياله تحت الحوطة إلى الديار المصرية وسار هو فاستجار بالملك الناصر بن العزيز بن الظاهر غازي صاحب حلب فآواه وأكرمه واحترمه وقال (13/167)
الاتابك لؤلؤ الحلبي لابن أستاذه الناصر وكان شابا صغيرا انظر إلى عاقبة الظلم وأما الخوارزمية فإنهم ساروا إلى ناحية الكرك فأكرمهم الناصر داود صاحبها واحسن إليهم وصاهرهم وأنزلهم بالصلت فأخذوا معها نابلس فأرسل إليهم الصالح أيوب جيشا مع فخر الدين ابن الشيخ فكسرهم على الصلت وأجلاهم عن تلك البلاد وحاصر الناصر بالكرك واهانه غاية الاهانة وقدم الملك الصالح نجم الدين أيوب من الديار المصرية فدخل دمشق في أبهة عظيمة وأحسن إلى أهلها وتصدق على الفقراء والمساكين وسار إلى بعلبك وإلى بصرى وإلى صرخد فتسلمها من صاحبها عز الدين أيبك المعظمي وعوضه عنها ثم عاد إلى مصر مؤيدا منصورا وهذا كله في السنة الاتية
وفي هذه السنة كانت وقعة عظيمة بين جيش الخليفة وبين التتار لعنهم الله فكسرهم المسلمون كسرة عظيمة وفرقوا شملهم وهزموا من بين ايديهم فلم يلحقوهم ولم يتبعوهم خوفا من غائلة مكرهم وعملا بقوله صلى الله عليه و سلم اتركوا الترك ما تركوكم وفي هذه السنة ظهر ببلاد خوزستان على شق جبل داخله من الابنية الغريبة العجيبة ما يحار فيه الناظر وقد قيل إن ذلك من بناء الجن وأورد صفته ابن الساعي في تاريخه وممن توفي في هذه السنة من الاعيان
الشيخ تقي الدين أبو الصلاح
عثمان بن عبدالرحمن بن عثمان الامام العلامة مفتي الشام ومحدثها الشهرزوري ثم الدمشقي سمع الحديث ببلاد الشرق وتفقه هنالك بالموصل وحلب وغيرها وكان أبوه مدرسا بالاسدية التي بحلب وواقفها أسد الدين شيركوه ابن شاذي وقدم هو الشام وهو في عداد الفضلاء الكبار وأقام بالقدس مدة ودرس بالصلاحية ثم تحول منه إلى دمشق ودرس بالرواحية ثم بدار الحديث الاشرفية وهو أول من وليها من شيوخ الحديث وهو الذي صنف كتاب وقفها ثم بالشامية الجوانية وقد صنف كتبا كثيرة مفيدة في علوم الحديث والفقه وله تعاليق حسنة على الوسيط وغيره من الفوائد التي يرحل إليها وكان دينا زاهدا ورعا ناسكا على طريق السلف الصالح كما هو طريقة متأخري أكثر المحدثين مع الفضيلة التامة في فنون كثيرة ولم يزل على طريقة جيدة حتى كانت وفاته بمنزله في دار الحديث الاشرفية ليلة الاربعاء الخامس والعشرين من ربيع الاخر من سنة ثلاث وأربعين وستمائة وصلى عليه بجامع دمشق وشيعه الناس إلى داخل باب الفرج ولم يمكنهم البروز لظاهره لحصار الخوارزمية وما صحبه إلى جبانة الصوفية إلا نحو العشرة رحمه الله وتغمده برضوانه وقد اثنى عليه القاضي شمس الدين بن خلكان وكان من شيوخه قال السبط انشدني الشيخ تقي الدين من لفظه رحمه الله (13/168)
احذر من الواوات أربعة ... فهن من الحتوف ... واو الوصيةوالوديعة ... والوكالة والوقوف ...
وحكى ابن خلكان عنه انه قال الهمت في المنام هؤلاء الكلمات ادفع المسألة ما وجدت التحمل يمكنك فإن لكل يوم رزقا جديدا والالحاح في الطلب يذهب البهاء وما أقرب الصنيع من الملهوف وربما كان العسر نوعامن آداب الله والحظوظ مراتب فلا تعجل على ثمرة قبل أن تدرك فإنك ستنالها في أوانها ولا تعجل في حوائجك فتضيق بها ذرعا ويغشاك القنوط
ابن النجار الحافظ صاحب التاريخ
محمد بن محمود بن الحسن بن هبة الله بن محاسن ابن النجار أبو عبد الله البغدادي الحافظ الكبير سمع الكثير ورحل شرقا وغربا ولد سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة وشرع في كتابة التاريخ وعمره خمسة عشر سنة والقراءات وقرأ بنفسه على المشايخ كثيرا حتى حصل نحوا من ثلاثة آلاف شيخ من ذلك نحو من أربعمائة امرأة وتغرب ثمانيا وعشرين سنة ثم جاء إلى بغداد وقد جمع أشياء كثيرة من ذلك القمر المنير في المسند الكبير يذكر لكل صحابي ما روى وكنز الايام في معرفة السنن والاحكام والمختلف والمؤلف والسابق واللاحق والمتفق والمفترق وكتاب الالقاب ونهج الاصابة في معرفة الصحابة والكافي في أسماء الرجال وغير ذلك مما لم يتم أكثره وله كتاب الذيل على تاريخ مدينة السلام في ستة عشر مجلدا كاملا وله أخبار مكة ولمدينة وبيت المقدس وغرر الفوائد في خمس مجلدات وأشياء كثيرة جدا سردها ابن الساعي في ترجمته وذكر أنه لما عاد إلى بغداد عرض عليه الاقامة في المدارس فأبي وقال معي ما استغنى به عن ذلك فاشترى جارية وأولدها واقام برهة ينفق مدة على نفسه من كيسه ثم احتاج إلى أن نزل محدثا في جماعة المحدثين بالمدرسة المستنصرية حين وضعت ثم مرض شهرين واوصى إلى ابن الساعي في أمر تركته وكانت وفاته يوم الثلاثاء الخامس من شعبان من هذه السنة وله من العمر خمس وسبعون سنة وصلى عليه بالمدرسة النظامية وشهد جنازته خلق كثير وكان ينادي حول جنازته هذا حافظ حديث رسول الله
ص الذي كان ينفي الكذب عنه ولم يترك وارثا وكانت تركته عشرين دينارا وثياب بدنه وأوصى أن يتصدق بها ووقف خزانتين من الكتب بالنظامية تساوي ألف دينار فأمضى ذلك الخليفة المستعصم وقد أثنى عليه الناس ورثوه بمراث كثيرة سردها ابن الساعي في آخر ترجمته
الحافظ ضياء الدين المقدسي
ابن الحافظ محمد بن عبد الواحد ( 1 ) سمع الحديث الكثير وكتب كثيرا وطوف وجمع وصنف (13/169)
وألف كتبا مفيدة حسنة كثيرة الفوائد من ذلك كتاب الاحكام ولم يتمه وكتاب المختارة وفيه علوم حسنة حديثية وهي أجود من مستدرك الحاكم لو كمل وله فضائل الاعمال وغير ذلك من الكتب الحسنة الدالة على حفظه واطلاعه وتضلعه من علوم الحديث متنا وإسنادا وكان رحمه الله في غاية العبادة والزهادة والورع والخير وقد وقف كتبا كثيرة عظيمة لخزانة المدرسة الضيائية التي وقفها على اصحابهم من المحدثين والفقهاء وقد وقفت عليها أوقاف أخر كثيرة بعد ذلك
الشيخ علم الدين أبو الحسن السخاوي
علي بن محمد بن عبدالصمد بن عبدا لاحد بن عبد الغالب الهمذاني المصري ثم الدمشقي شيخ القراء بدمشق ختم عليه ألوف من الناس وكان قد قرأ على الشاطبي وشرح قصيدته وله شرح المفصل وله تفاسير وتصانيف كثيرة ومدائح في رسول الله
ص وكانت له حلقة بجامع دمشق وولى مشيخة الاقراء بتربة أم الصالح وبها كان مسكنه وبه توفي ليلة الاحد ثاني عشر جمادي الاخرة ودفن بقاسيون وذكر القاضي ابن خلكان ان مولده في سنة ثمان وخمسين وخمسمائة وذكر من شعره قوله
... قالوا غدا نأتي ديار الحمى ... وينزل الركب بمغناهم ... وكل من كان مطيعا لهم ... اصبح مسرورا بلقياهم ... قلت فلى ذنب فما حيلتي ... بأي وجه أتلقاهم ... قالوا أليس العفو من شأنهم ... لا سيما عمن ترجاهم ... ربيعة خاتون بنت أيوب
أخت السلطان صلاح الدين زوجها أخوها أولا بالأمير سعدالدين مسعود بن معين الدين وتزوج هو بأخته عصمة الدين خاتون التي كانت زوجة الملك نور الدين واقفة الخاتونية الجوانية والخانقاه البرانية ثم لما مات الامير سعدالدين زوجها من الملك مظفر الدين صاحب إربل فأقامت عنده باربل أزيد من أربعين سنة حتى مات ثم قدمت دمشق فسكنت بدار العقيقي حتى كانت وفاتها في هذه السنة وقد جاوزت الثمانين ودفنت بقاسيون وكانت في خدمتها الشيخة الصالحة العالمة أمة اللطيف بنت الناصح الحنبلي وكانت فاضلة ولها تصانيف وهي التي أرشدتها إلى وقف المدرسة بسفح قاسيون على الحنابلة ووقفت أمة اللطيف على الحنابلة مدرسة أخرى وهي الان شرقي الرباط الناصري ثم لما ماتت الخاتون وقعت العالمة بالمصادرات وحبست مدة ثم أفرح عنها وتزوجها الأشرف صاحب حمص وسافرت معه إلى الرحبة وتل راشد ثم توفيت في سنة ثلاث وخمسين ووجد لها بدمشق دخائر كثيرة وجواهر ثمينة تقارب ستمائة ألف درهم غير (13/170)
الأملاك والأوقاف رحمها الله تعالى
معين الدين الحسن بن شيخ الشيوخ
وزير الصالح نجم الدين أيوب أرسله إلى دمشق فحاصرها مع الخوارزمية أول مرة حتى أخذها من يد الصالح إسماعيل وأقام بها نائبا من جهة الصالح أيوب ثم مالأ الخوارزمية مع الصالح اسماعيل عليه فحصروه بدمشق ثم كانت وفاته في العشر الاخر من رمضان هذه السنة عن ست وخمسين سنة فكانت مدة ولايته بدمشق أربعة أشهر ونصف وصلى عليه بجامع دمشق ودفن بقاسيون إلى جانب أخيه عماد الدين وفيها كانت وفاة وقاف القليجية للحنفية وهو الأمير
سيف الدين بن قلج
ودفن بتربته التي بمدرسته المذكورة التي كانت سكنه بدار فلوس تقبل الله تعالى منه وخطيب الجبل شرف الدين عبد الله بن الشيخ أبي عمر رحمه الله والسيف أحمد بن عيسى بن الامام موفق الدين بن قدامة وفيها توفي إمام الكلاسة الشيخ تاج الدين أبو الحسن محمد بن أبي جعفر مسند وقته وشيخ الحديث في زمانه رواية وصلاحا رحمه الله تعالى والمحدثان الكبيران الحافظان المفيدان شرف الدين أحمد بن الجوهري وتاج الدين عبدالجليل الابهري
ثم دخلت سنة أربع وأربعين وستمائة
فيها كسر المنصور الخوارزمية عند بحيرة حمص واستقرت يد نواب الصالح أيوب على دمشق وبعلبك وبصرى ثم في جمادي الاخرة كسر فخر الدين بن الشيخ الخوارزمية على الصلت كسرت فرق بقية شملهم ثم حاصر الناصر بالكرك ورجع عنه إلى دمشق وقدم الصالح أيوب إلى دمشق في ذي القعدة فأحسن إلى أهلها وتسلم هذه المدن المذكورة وانتزع صرخد من يد عز الدين أيبك وعوضه عنها وأخذ الصلت من الناصر داود بن المعظم وأخذ حصن الصبية من السعيد بن العزيز بن العادل وعظم شأنه جدا وزار في رجوعه بيت المقدس وتفقد أحواله وأمر بإعادة أسواره أن تعمر كما كانت في الدولة الناصرية فاتح القدس وان يصرف الخراج وما يتحصل من غلات بيت المقدس في ذلك وإن عاز شيئا صرفه من عنده وفيها قدمت الرسل من عند البابا الذي للنصارى تخبر بأنه قد أباح دم الابدور ملك الفرنج لتهاونه في قتال المسلمين وأرسل طائفة من عنده ليقتلوه فلما انتهوا إليه كان استعدلهم وأجلس مملوكا له على السرير فاعتقدوه الملك فقتلوه فعند ذلك أخذهم الابدور فصلبهم على باب قصره بعد ما ذبحهم وسلخهم وحشى جلودهم تبنا فلما بلغ ذلك البابا أرسل إليه جيشا كثيفا لقتاله فأوقع الله الخلف بينهم بسبب ذلك وله الحمد والمنة
وفيها هبت رياح عاصفة شديدة بمكة في يوم الثلاثاء من عشر ربيع الاخر فألقت ستارة (13/171)
الكعبة المشرفة وكانت قد عتقت فإنها من سنة اربعين لم تجدد لعدم الحج في تلك السنين من ناحية الخليفة فما سكنت الريح إلا والكعبة عريانة قد زال عنها شعار السواد وكان هذا فألا على زوال دولة بني العباس ومنذرا بما سيقع بعد هذا من كائنة التتار لعنهم الله تعالى فاستأذن نائب اليمن عمر بن سول شيخ الحرم العفيف بن منعة في أن يكسو الكعبة فقال لا يكون هذا إلآ من مال الخليفة ولم يكن عنده مال فاقترض ثلثمائة دينار واشترى ثياب قطن وصبغها سوادا وركب عليها طرازاتها العتيقة وكسى بها الكعبة ومكثت الكعبة ليس عليها كسوة إحدى وعشرين ليلة وفيها فتحت دار الكتب التي أنشأها الوزير مؤيد الدين محمد بن أحمد العلقمي بدار الوزارة وكانت في نهاية الحسن ووضع فيها من الكتب النفيسة والنافعة شيء كثير وامتدحها الشعراء بأبيات وقصائد حسانا وفي أواخر ذي الحجة طهر الخليفة المستعصم بالله ولديه الأميرين أبا العباس أحمد وأبا الفضائل عبد الرحمن وعملت ولائم فيها كل أفراح ومسرة لا يسمع بمثلها من أزمان متطاولة وكان ذلك وداعا لمسرات بغداد وأهلها في ذلك الزمان
وفيها احتاط الناصر داود صاحب الكرك على ا الامير عماد الدين داود بن موسك بن حسكو وكان من خيار الامراء الاجواد واصطفى أمواله كلها وسجنه عنده في الكرك فشفع فيه فخر الدين ابن الشيخ لما كان محاصره في الكرك فأطلقه فخرجت في حلقه جراحة فبطها فمات ودفن عند قبر جعفر والشهداء بحوته رحمه الله تعالى
وفيها توفي ملك الخوارزمية قبلا بركات خان لما كسرت أصحابه عند بحيرة حمص كما تقدم ذكره وفيها توفي
الملك المنصور
ناصر الدين إبراهيم بن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه صاحب حمص بدمشق بعد أن سلم بعلبك للصالح أيوب ونقل إلى حمص وكان نزوله أولا ببستان سامة فلما مرض حمل إلى الدهشة بستان الاشرف بانليرب فمات فيه وفيها توفي
الصائن محمد بن حسان
ابن رافع العامري الخطيب وكان كثير السماع مسندا وكانت وفاته بقصر حجاج رحمه الله تعالى وفيها توفي
الفقيه العلامة محمد بن محمود بن عبد المنعم
المرامي الحنبلي وكان فاضلا ذا فنون أثنى عليه أبو شامة قال صحبته قديما ولم يترك بعده بدمشق مثله في الحنابلة وصلى عليه بجامع دمشق ودفن بسفح قاسيون رحمه الله
والضياء عبدالرحمن الغماري
المالكي الي ولى وظائف الشيخ أبي عمرو ابن الحاجب حين خرج من دمشق سنة ثمان (13/172)
وثلاثين وجلس في حلقته ودرس مكانه بزاوية المالكية والفقيه تاج الدين إسماعيل بن جميل بحلب وكان فاضلا دينا سليم الصدر لC
ثم دخلت سنة خمس وأربعين وستمائة
فيها كان عود السلطان الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل من الشام إلى الديار المصرية وزار في طريقه بيت المقدس وفرق في أهله أموالا كثيرة وأمر باعادة سوره كما كان في أيام عم أبيه الملك الناصر فاتح القدس ونزل الجيوش لحصار الفرنج ففتحت طبرية في عاشر صفر وفتحت عسقلان في أواخر جمادي الاخرة وفي رجب عزل الخطيب عمادالدين داود بن خطيب بيت الابار عن الخطابة بجامع الاموي وتدريس الغزالية وولى ذلك للقاضي عمادالدين بن عبدالكريم بن الحرستاني شيخ دار الحديث بعد ابن الصلاح وفيها ارسل الصالح أيوب يطلب جماعة من أعيان الدماشقة أتهموا بممالأة الصالح إسماعيل منهم القاضي محي الدين بن الزكي وبنو صصرى وابن العماد الكاتب والحليمي مملوك الصالح إسماعيل والشهاب غازي والي بصرى فلما وصلوا إلى مصر لم يكن إليهم شيئ من العقوبات والاهانة بل خلع على بعضهم وتركوا باختيارهم مكرمين وممن توفي فيها من الاعيان
الحسين بن الحسين بن علي
ابن حمزة العلوي الحسيني أبو عبد الله الافساسي النقيب قطب الدين أصله من الكوفة واقام ببغداد وولى النقابة ثم اعتقل بالكوفة وكان فاضلا أديبا شاعرا مطبقا أورد له ابن الساعي أشعارا كثيرة رحمه الله
الشلوبين النحوي
هو عمر بن محمد بن عبد الله الأزدي أبو علي الاندلسي الاشبيلي المعروف بالشلوبين وهو بلغة الاندلسيين الابيض الأشقر قال ابن خلكان ختم به أئمة النحو وكان فيه تغفل وذكر له شعرا ومنصفات منها شرح الجزولية وكتاب التوطئة وأرخ وفاته بهذه السنة وقد جاوز الثمانين رحمه الله تعالى وعفا عنه
الشيخ علي المعروف بالحريري
أصله من قرية بسر شرقي ذرع وأقام بدمشق مدة يعمل صنعة الحرير ثم ترك ذلك وأقبل يعمل الفقيري على يد الشيخ علي المغربل وابتنى له زاوية على الشرف القبلي وبدرت منه أفعال أنكرها عليه الفقهاء كالشيخ عز الدين بن عبد السلام والشيخ تقي الدين ابن الصلاح والشيخ ابي عمرو بن الحاجب شيخ المالكية وغيرهم فلما كانت الدولة الاشرفية حبس في قلعة عزتا مدة سنين ثم أطلقه الصالح إسماعيل واشترط عليه أن لا يقيم بدمشق فلزم بدلده بسر مدة حتى كانت وفاته في (13/173)
هذه السنة قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة في الذيل وفي رمضان أيضا توفي الشيخ على المعروف بالحريري المقيم بقرية بسر في زاويته وكان يتردد إلى دمشق وتبعه طائفة من الفقراء وهم المعروفون بأصحاب الحريري أصحاب المنافي للشريعة وباطنهم شر من ظاهرهم إلا من رجع إلى الله منهم وكان عند هذا الحريري من الاسهزاء بأمور الشريعة والتهاون فيها من إظهار شعائر أهل الفسوق والعصيان شيئ كثير وأنفسد بسببه جماعة كبيرة من أولاد كبراء دمشق وصاروا على زي أصحابه وتبعوه بسبب أنه كان خليع العذار يجمع مجلسه الغنا الدائم والرقص والمردان وترك الانكار على احد فيما يفعله وترك الصلوات وكثرت النفقات فأضل خلقا كثيرا وأفسد جما غفيرا ولقد أفتى في قتله مرارا جماعة من علماء الشريعة ثم أراح الله تعالى منه هذا لفظه بحروفه
واقف العزية الأمير عز الدين أيبك
استاذ دار المعظم كان من العقلاء الاجواد الامجاد استنابه المعظم على صرخد وظهرت منه نهضة وكفاية وسداد ووقف العزيتين الجوانية والبرانية ولما أخذ منه الصالح أيوب صرخد عوضه عنها وأقام بدمشق ثم وشى عليه بانه يكاتب الصالح إسماعيل فاحتيط عليه وعلى امواله وحواصله فمرض وسقط إلى الارض وقال هذا آخر عهدي ولم يتكلم حتى مات ودفن بباب النصر بمصر رحمه الله تعالى ثم نقل إلى تربته التي فوق الوراقة وإنما أرخ السبط وفاته في سنة سبع وأربعين فالله اعلم
الشهاب غازي بن العادل صاحب ميا فارقين وخلاط وغيرهما من البلدان كان من عقلاء بني أيوب وفضلائهم واهل الديانة منهم ومما أنشد قوله
... ومن عجب الايام أنك جالس ... على الأرض في الدنيا وأنت تسير ... فسيرك يا هذا كسير سفينة ... بقوم جلوس والقلوع تطير ...
ثم دخلت سنة ست وأربعين وستمائة
فيها قدم السلطان الصالح نجم الدين من الديار المصرية إلى دمشق وجهز الجيوش والمجانيق إلى حمص لأنه كان صاحبها الملك الأشرف بن موسى بن المنصوور بن أسدا لدين قد قايض بها إلى تل باشر لصاحب حلب الناصر يوسف بن العزيز ولما علمت الحلبيون بخروج الدماشقة برزوا أيضا في جحفل عظيم ليمنعوا حمص منهم واتفق الشيخ نجم الدين البادزاي مدرس النظامية ببغداد في رسالة فأصلح بين الفريقين ورد كلا من الفئتين إلى مستقرها ولله الحمد وفيها قتل مملوك تركي شاب صبي لسيده على دفعه عنه لما أراد به من الفاحشة فصلب الغلام مسمرا وكان شابا حسنا جدا فتأسف الناس له لكونه صغيرا ومظلوما وحسنا ونظموا فيه قصائد وممن نظم فيه الشيخ شهاب (13/174)
الدين أبو شامة في الذيل وقد أطال قصته جدا وفيها سقطت قنطرة رومية قديمة البناء بسوق الدقيق من دمشق عند قصر أم حكيم فتهدم بسببها شيئ كثير من الدور والدكاكين وكان سقوطها نهارا وفي ليلة الاحد الخامس والعشرين من رجب وقع حريق بالمنارة الشرقية فأحرق جميع حشوها وكانت سلالمها سقالات من خشب وهلك للناس ودائع كثيرة كانت فيها وسلم الله الجامع وله الحمد وقدم السلطان بعد أيام إلى دمشق فأمر باعادتها كما كانت قلت ثم احترقت وسقطت بالكلية بعد سنة أربعين وسبعمائة وأعيدت عمارتها أحسن مما كانت ولله الحمد وبقيت حينئذ المنارة البيضاء الشرقية بدمشق كما نطق به الحديث في نزول عيسى عليه السلام عليها كما سيأتي بيانه وتقريره في موضعه إن شاء الله تعالى ثم عاد السلطان الصالح أيوب مريضا في محفة إلى الديار المصرية وهو ثقيل مدنف شغله ما هو فيه عن أمره بقتل أخيه العادل أبي بكر بن الكامل الذي كان صاحب الديار المصرية بعد أبيه وقد كان سجنه سنة أستحوذ على مصر فلما كان في هذه السنة في شوالها أمر بخنقه فخنق بتربة شمس الدولة فما عمر بعده إلا إلى النصف من شعبان في العام القابل في أسوأ حال وأشد مرض فسبحان من له الخلق والأمر وفيها كانت وفاة قاضي القضاة بالديار المصرية
فضل الدين الخونجي
الحكيم المنطقي البارع في ذلك وكان مع ذلك جيد السيرة في أحكامه قال أبو شامة أثنى عليه غير واحد
علي بن يحيى جمال الدين أبو الحسن المحرمي
كان شابا فاضلا أديبا شاعرا ماهرا صنف كتابا مختصرا وجيزا جامعا لفنون كثيرة في الرياضة والعقل وذم الهوى وسماه نتائج الافكار قال فيه من الكلم المستفادة الحكمية السلطان إمام متبوع ودين مشروع فإن ظلم جارت الحكام لظلمه وإن عدل لم يجر أحد في حكمه من مكنه الله في ارضه وبلاده وائتمنه على خلقه وعباده وبسط يده وسلطانه ورفع محله ومكانه فحقيق عليه أن يؤدي الامانة و يخلص الديانة ويجمل السريرة ويحسن السيرة ويجعل العدل دأبه المعهود والأجر غرضه المقصود فالظلم يزل القدم ويزيل النعم ويجلب الفقر ويهلك الامم وقال أيضا معارضة الطبيب توجب التعذيب رب حيلة أنفع من قبيلة سمين الغضب مهزول ووالي الغدر معزول قلوب الحكماء تستشف الاسرار من لمحات الابصار أرض من أخيك في ولايته بعشر ما كنت تعهده في مودته التواضع من مصائدالشرف ما أحسن حسن الظن لولا أن فيه العجز ما اقبح سوء الظن لولا أن فيه الحزم وذكر في غضون كلامه أن خادما لعبد الله بن عمر أذنب فأراد ابن عمر أن يعاقبه على ذنبه فقال يا سيدي أما لك ذنب تخاف من الله فيه قال بلى (13/175)
قال بالذي أمهلك لما أمهلتني ثم أذنب العبد ثانيا فأراد عقوبته فقال هل مثل ذلك فعفا عنه ثم أذنب الثالثة فعاقبه وهو لا يتكلم فقال له ابن عمر مالك لم تقل مثل ما قلت في الاولتين فقال يا سيدي حياء من حلمك مع تكرار جرمي فبكى ابن عمر وقال أنا أحق بالحياء من ربي أنت حر لوجه الله تعالى ومن شعره يمدح الخليفة ... يا من إذا بخل السحاب بمائه ... هطلت يداه على البرية عسجدا ... جورت كسرى يا مبخل حاتم ... فغدت بنو الامال نحوك سجدا ...
وقد أورد له ابن الساعي أشعارا كثيرة حسنة رحمه الله تعالى
الشيخ أبو عمرو بن الحاجب
المالكي عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس الرويني ثم المصري العلامة أبو عمرو شيخ المالكية كان أبوه صاحبا للأمير عز الدين موسك الصلاحي واشتغل هو بالعلم فقرأ القراءات وحرر النحو تحريرا بليغا وتفقه وساد أهل عصره ثم كان رأسا في علوم كثيرة منها الأصول والفروع والعربية والتصريف والعروض والتفسير وغير ذلك وقد كان استوطن دمشق في سنة سبع عشرة وستمائة ودرس بها للمالكية بالجامع حتى كان خروجه بصحبة الشيخ عز الدين بن عبدالسلام في سنة ثمان وثلاثين فصارا إلى الديار المصرية حتى كانت وفاة الشيخ أبي عمرو وفي هذه السنة بالاسكندرية ودفن بالمقبرة التي بين المنارة والبلد قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة وكان من أذكى الائمة قريحة وكان ثقة حجة متواضعا عفيفا كثير الحياء منصفا محبا للعلم وأهله تاشرا له محتملا للأذى صبورا على البلوى قدم دمشق مرارا آخرها سنة سبع عشرة فأقام بها مدرسا للمالكية وشيخا للمستفدين عليه في علمي القراءات والعربية وكان ركنا من أركان الدين في العلم والعمل بارعا في العلوم متقنا لمذهب مالك بن أنس رحمه الله تعالى وقد أثنى عليه ابن خلكان ثناء كثيرا وذكر أنه جاء إليه في أداء شهادة حين كان نائبا في الحكم بمصر وسأله عن مسألة اعتراض الشرط على الشرط إذا قال إن أكلت إن شربت فأنت طالق لم كان يقع الطلاق حين شربت اولا وذكر أنه اجاب عن ذلك في تؤده وسكون قلت ومختصره في الفقه من أحسن المختصرات انتظم فيه فوائد ابن شاش ومختصره في اصول الفقه استوعب فيه عامة فوائد الأحكام لسيف الدين الامدي وقد من الله تعالى على بحفظه وجمعت كراريس في الكلام على ما اودعه فيه من الاحاديث النبوية ولله الحمد وله شرح المفصل والامالي في العربية والمقدمة المشهورة في النحو اختصر فيها مفصل الزمخشري وشرحها وقد شرحها غيره أيضا وله التصريف وشرحه وله عروض على وزن الشاطبية رحمه الله ورضى عنه (13/176)
ثم دخلت سنة سبع وأربعين وستمائة
فيها كانت وفاة الملك الصالح أيوب وقتل ابنه توران شاه وتوليه المعز عز الدين أيبك التركماني وفي رابع المحرم يوم الاثنين توجه الملك الصالح من دمشق إلى الديار المصرية في محفة قاله ابن السبط وكان قد نادى في دمشق من له عندنا شيئ فليأت فاجتمع خلق كثير بالقلعة فدفعت إليهم أموالهم وفي عاشر صفر دخل إلى دمشق نائبها الأمير جمال الدين بن يغمور من جهة الصالح أيوب فنزل بدرب الشعارين داخل باب الجابية وفي جمادي الاخرة أمر النائب بتخريب الدكاكين المحدثة وسط باب البريد وامر أن لا يبقى فيها دكان سوى ما في جانبيه إلى جانب الخياطين القبلي والشامي وما في الوسط يهدم قال أبو شامة وقد كان العادل هدم ذلك ثم أعيد ثم هدمه ابن يغمور والمرجو استمراره على هذه الصفة وفيها توجه الناصر داود من الكرك إلى حلب فأرسل الصالح أيوب إلى نائبه بدمشق جمال الدين بن يغمور بخراب دار أسامة المنسوبة إلى الناصر بدمشق وبستانه الذي بالقبون وهو بستان القصر وأن تقلع أشجاره ويخرب القصر وتسلم الصالح أيوب الكرك من الامجد حسن بن الناصر وأخرج من كان بها من بيت المعظم واستحوذ على حواصلها وأموالها فكان فيها من الذهب ألف ألف دينار واقطع الصالح الأمجد هذا إقطاعا جيدا وفيها طغى الماء ببغداد حتى أتلف شيئا كثيرا من المحال والدور الشهيرة وتعذرت الجمع في أكثر الجوامع بسبب ذلك سوى ثلاث جوامع ونقلت توابيت جماعة من الخلفاء إلى الترب من الرصافة خوفا عليهم من أن تغرق محالهم منهم المقتصد بن الامير أبي أحمد المتوكل وذلك بعد دفنه بنيف وخمسين سنة وثلثمائة سنة وكذا نقل ولده المكتفي وكذا المقتفي بن المقتدر بالله رحمهم الله تعالى وفيها هجمت الفرنج على دمياط فهرب من كان فيها من الجند والعامة واستحوذ الفرنج على الثغر وقتلوا خلقا كثيرا من المسلمين وذلك في ربيع الاول منها فنصب السلطان المخيم تجاه العدو بجميع الجيش وشنق خلقا ممن هرب من الفرنج ولامهم على ترك المصابرة قليلا ليرهبوا عدو الله وعدوهم وقوى المرض وتزايد بالسلطان جدا فلما كانت ليلة النصف من شعبان توفي إلى رحمة الله تعالى بالمنصورة فأخفت جاريته أم خليل المدعوة شجرة الدر موته وأظهرت أنه مريض مدنف لا يوصل إليه وبقيت تعلم عنه بعلامته سواء وأعلمت إلى أعيان الامراء فأرسلوا إلى ابنه الملك المعظم تورانشاه وهو بحصن كيفا فأقدموه إليهم سريعا وذلك باشارة أكابر الامراء منهم فخر الدين ابن الشيخ فلما قدم عليهم ملكوه عليهم وبايعوه أجمعين فركب في عصائب الملك وقاتل الفرنج فكسرهم وقتل منهم ثلاثين ألفا ولله الحمد وذلك في أول السنة الداخلة ثم قتلوه بعد شهرين من ملكه ضربه بعض الامراء وهو عز الدين أيبك التركماني فضربه في يده فقطع بعض أصابعه فهرب إلى (13/177)
قصر من خشب في المخيم فحاصروه فيه وأحرقوه عليه فخرج من بابه مستجيرا برسول الخليفة فلم يقبلوا منه فهرب إلى النيل فانغمر فيه ثم خرج فقتل سريعا شر قتلة وداسوه بأرجلهم ودفن كالجيفة فإنا لله وإنا إليه راجعون وكان فيمن ضربه البندقداري على كتفه فخرج السيف من تحت ابطه الاخر وهو يتسغيث فلا يغاث وممن قتل في هذه السنة
فخر الدين يوسف بن الشيخ بن حمويه
وكان فاضلا دينا مهيبا وقورا خليقا بالملك كانت الأمراء تعظمه جدا ولو دعاهم إلى مبايعته بعد الصالح لما اختلف عليه اثنان ولكنه كان لا يرى ذلك حماية لجانب بني أيوب قتلته الداوية من الفرنج شهيدا قبل قدوم المعظم توران شاه إلى مصر في ذي القعدة ونهبت أمواله وحواصله وخيوله وخربت داره ولم يتركوا شيئا من الافعال الشنيعة البشعة إلا صنعوه به مع أن الذين تعاطوا ذلك من الأمراء كانوا معظمين له غاية التعظيم ومن شعره ... عصيت هو نفسي صغيرا فعندما ... رمتني الليالي بالمشيب وبالكبر ... أطعت الهوى عكس القضية ليتني ... خلقت كبيرا ثم عدت إلى الصغر ... ثم دخلت سنة ثمان واربعين وستمائة
في ثالث المحرم يوم الاربعاء كان كسر المعظم توران شاه للفرنج على ثغر دمياط فقتل منهم ثلاثين ألفا وقيل مائة ألف وغنموا شيئا كثيرا ولله الحمد ثم قتل جماعة من الامراء الذي أسروا وكان فيمن اسر ملك الفرنسيس واخوه وارسلت غفارة ملك الافرنسيس إلى دمشق فلبسها نائبها في يوم الموكب وكانت من سقرلاط تحتها فر وسنجاب فأنشد في ذلك جماعة من الشعراء فرحا بما وقع ودخل الفقراء كنيسة مريم فأقاموا بها فرحا لما نصر الله تعالى على النصارى وكادوا ان يخربوها وكانت النصارى ببعلبك فرحوا حين أخذت النصارى دمياط فلما كانت هذه الكسرة عليهم سخموا وجوه الصور فأرسل نائب البلد فجناهم وأمر اليهود فصفعوهم ثم لم يخرج شهر المحرم حتى قتل الأمراء ابن أستاذهم توران شاه ودفنوه إلى جانب النيل من الناحية الاخرى رحمه الله تعالى ورحم أسلافه بمنه وكرمه
المعز عز الدين أيبك التركماني يملك مصر بعد بني أيوب
لما قتل الأمراء البحرية وغيرهم من الصالحية ابن استاذهم المعظم غياث الدين توران شاه بن الصالح أيوب بن الكامل بن العادل أبي بكر بن نجم الدين أيوب وكان ملكه بعد ابيه بشهرين كما تقدم بيانه ولما انفصل مره بالقتل نادوا فيما بينهم لا باس لا بأس واستدعوا من بينهم الأمير عز الدين أيبك التركماني فملكوه عليهم وبايعوه ولقبوه بالملك المعز وركبوا إلى القاهرة ثم بعدخمسة أيام أقاموا (13/178)
لهم صبيا من بين أيوب ابن عشر سنين وهو الملك الاشرف مظفر الدين موسى بن الناصر يوسف ابن المسعود إقسيس بن الكامل وجعلوا المعز أتابكه فكانت السكة والخطبة بينهما وكاتبوا امراء الشام بذلك فما تم لهم الامر بالشام بل خرج عن أيديهم ولم تستقر لهم المملكة إلا على الديار المصرية وكل ذلك عن أمر الخاتون شجرة الدر أم خليل حظية الصالح أيوب فتزوجت بالمعز وكانت الخطبة والسكة لها يدعى لها على المنابر أيام الجمع بمصر وأعمالها وكذا تضرب السكة باسمها أم خليل والعلامة على المناشير والتواقيع بخطها واسمها مدة ثلاثة أشهر قبل المعز ثم آل أمرها إلى ما سنذكره من الهوان والقتل
الناصر بن العزيز بن الظاهر صاحب حلب يملك دمشق
لما وقع بالديار المصرية من قتل الامراء للمعظم توران شاه بن الصالح أيوب ركب الجلبيون معهم ابن أستاذهم الناصر يوسف بن العزيز محمد بن الظاهر غازي بن الناصر يوسف فاتح بيت المقدس ومن كان عندهم من ملوك بني أيوب منهم الصالح إسماعيل ابن العادل وكان أحق الموجودين بالملك من حيث السن والتعدد والحرمة والرياسة ومنهم الناصر داود بن المعظم بن العادل والاشرف موسى بن المنصور إبراهيم بن اسد الدين شيركوه الذي كان صاحب حمص وغيرهم فجاؤا إلى دمشق فحاصروها فملكوها سريعا ونهبت دار ابن يغمور وحبس في القلعة وتسلموا ما حولها كبعلبك وبصرى والصلت وصرخد وامتنعت ليهم الكرك والشوبك بالملك المغيث عمر بن العادل بن الكامل كان قد تغلب عليهما في هذه الفتنة حين قتل المعظم توران شاه فطلبه المصريون ليملكوه عليهم فخاف مما حل بابني عمه فلم يذهب إليهم ولما استقرت يد الحلبيين على دمشق وما حولها جلس الناصر في القلعة وطيب قلوب الناس ثم ركبوا إلى غزة ليتسملوا الديار المصرية فبرز إليهم الجيش المصري فاقتتلوا معهم أشد القتال فكسر المصريون أولا بحيث إنه خطب للناصر في ذلك بها ثم كانت الدائرة على الشاميين فانهزموا وأسروا من أعيانهم خلقا كثيرا وعدم من الجيش الصالح إسماعيل رحمه الله تعالى وقد أنشد هنا الشيخ أبو شامة لبعضهم ... ضيع إسماعيل أموالنا ... وخرب المغني بلا معنى ... وراح من جلق هذا جزاء ... من أفقر الناس وما استغنى ...
شيء من ترجمة الصالح إسماعيل واقف تربة الصالح
وقد كان الصالح رحمه الله ملكا عاقلا حازما تتقلب به الاحوال أطوارا كثيرة وقد كان الاشرف أوصى له بدمشق من بعده فملكها شهورا ثم انتزعها منه أخوه الكامل ثم ملكها من يد الصالح أيوب خديعة ومكرا فاستمر فيها أزيد من أربع سنين ثم استعادها منه الصالح أيوب (13/179)
عام الخوارزمية سنة ثلاث وأربعين واستقرت بيده بلداه بعلبك وبصرى ثم أخذتا منه كما ذكرنا ولم يبق له بلد يأوي إليه فلجأ إلى المملكة الحلبية في جوار الناصر يوسف صاحبها فلما كان في هذه السنة ما ذكرنا عدم بالديار المصرية في المعركة فلا يدري ما فعل به والله تعالى أعلم وهو واقف التربة والمدرسة ودار الحديث والأفراء بدمشق رحمه الله بكرمه وممن توفي في هذه السنة من الاعيان
الملك المعظم توران شاه بن الصالح أيوب
ابن الكامل ابن العادل كان اولا صاحب حصن كيفا في حياة ابيه وكان أبوه يستدعيه في أيامه فلا يجيبه فلما توفي أبوه كما ذكرنا استدعاه الامراء فاجابهم وجاء إليهم فملكوه عليهم ثم قتلوه كما ذكرنا وذلك يوم الاثنين السابع والعشرين من المحرم وقد قيل إنه كان متخلفا لا يصلح للملك وقد رؤى ابوه في المنام بعد قتل ابنه وهو يقول ... قتلوه شر قتلة ... صار للعالم مثله ... لم يراعوا فيه إلا ... لاولا من كان قبله ... ستراهم عن قريب ... لأقل الناس أكله ...
فكان كما ذكرنا من اقتتال المصريين والشامين وممن عدم فيما بين الصفين من أعيان الامراء والمسلمين فمنهم الشمس لؤلؤ مدبر ممالك الحلبيين وكان من خيار عباد الله الصالحين الامرين بالمعروف وعن النمكر ناهين وفيها كانت وفاة
الخاتون ارغوانية
الحافظية سميت الحافظية لخدمتها وتربيتها الحافظ صاحب قلعة جعبر وكانت امرأة عاقلة مدبرة عمرت دهرا ولها أموال جزيلة عظيمة وهي التي كانت تصلح الاطعمة للمغيث عمر بن الصالح أيوب فصادرها الصالح إسماعيل فاخذ منها أربعمائة صندوق من المال وقد وقفت دارها بدمشق على خدامها واشترت بستان النجيب ياقوت الذي كان خادم الشيخ تاج الدين الكندي وجعلت فيه تربة ومسجدا ووقفت فيه عليه أوقافا كثيرة جيدة رحمها الله واقف الامينية التي ببعلبك
أمين الدولة أبو الحسن غزال المتطبب
وزير الصالح إسماعيل أبي الجيش الذي كان مشؤما على نفسه وعلى سلطانه وسببا في زوال النعمة عنه وعن مخدومه وهذا هو وزير السوء وقد اتهمه السبط بأنه كان مستهترا بالدين وانه لم يكن له في الحقيقة دين فأرح الله تعالى منه عامة المسلمين وكان قتله في هذه السنة لما عدم الصالح إسماعيل بديار مصر عمد من عمد من الامراء إليه وإلى ابن يغمور فشنقوهما وصلبوهما على القلعة (13/180)
بمصر متناوحين وقد وجد لأمين الدولة غزال هذا من الاموال والتحف والجواهر والاثاث ما يساوي ثلاثة آلاف ألف دينار وعشرة آلاف مجلد بخط منسوب وغير ذلك من الخطوط النفيسة الفائقة
ثم دخلت سنة تسع واربعين وستمائة
فيها عاد الملك الناصر صاحب حلب إلى دمشق وقدمت عساكر المصريين فحكموا على بلاد السواحل إلى حد الشريعة فجهز لهم الملك الناصر جيشا فطردوهم حتى ردوهم إلى الديار المصرية وقصروهم عليها وتزوجت في هذه السنة أم خليل شجرة الدر بالملك المعز عز الدين أيبك التركماني مملوك زوجها الصالح أيوب وفيهانقل تابوت الصالح أيوب إلى تربته بمدرسته ولبست الاتراك ثياب العزاء وتصدقت أم خليل عنه باموال جزيلة وفيها خربت الترك دمياط ونقلوا الأهالي إلى مصر وأخلوا الجزيرة أيضا خوفا من عود الفرنج وفيها كمل شرح الكتاب المسمى بنهج البلاغة في عشرين مجلدا مما ألفه عبد الحميد بن داود بن هبة الله بن أبي الحديد المدائني الكاتب للوزير مؤيد الدين بن العلقمي فأطلق له الوزير مائة دينار وخلعة وفرسا وامتدحه عبد الحميد بقصيدة لأنه كان شيعيا معتزليا وفي رمضان استدعى الشيخ سراج الدين عمر بن بركة النهر قلى مدرس النظامية ببغداد فولى قضاء القضاة ببغداد مع التدريس المذكور وخلع عليه وفي شعبان ولي تاج الدين عبدالكريم بن الشيخ محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي حسبة بغداد بعد أخيه عبد الله الذي تركها تزهد عنها وخلع عليه بطرحة ووضع على رأسه غاشية وركب الحجاب في خدمته وفي هذه السنة صليت صلاة العيد يوم الفطر بعد العصر وهذا اتفاق غريب وفيها وصل إلى الخليفة كتاب من صاحب اليمن صلاح الدين بن يوسف بن عمر بن رسول يذكر فيه أن رجلا باليمن خرج فادعى الخلافة وأنه أنفذ إليه جيشا فكسروه وقتلوا خلقا من اصحابه وأخذ منهم صنعاء وهرب هو بنفسه في شرذمة ممن بقي من اصحابه وفيها أرسل الخليفة إليه بالخلع والتقليد وفيها كانت وفاة
بهاء الدين علي بن هبة الله بن سلامة الحميري
خطيب القاهرة رحل في صغره إلى العراق فسمع بها وغيرها وكان فاضلا قد أتقن معرفة مذهب الشافعي رحمه الله تعالى وكان دينا حسن الاخلاق وساع الصدر كثير البر قل أن يقدم عليه أحد إلا أطعمه شيئا وقد سمع الكثير على السلفي وغيره وأسمع الناس شيئا كثيرا من مروياته وكانت وفاته في ذي الحجة من هذه السنة وله تسعون سنة ودفن بالقرافة رحمه الله تعالى وممن توفي فيها القاضي أبو الفضل عبد الرحمن بن عبد السلام ابن إسماعيل بن عبد الرحمن بن إبراهيم اللمعاني الحنفي من بيت العلم والقضاء درس بمشهد أبي حنيفة وناب عن قاضي القضاة ابن فضلان الشافعي ثم عن قاضي القضاة أبي صالح نصر بن (13/181)
عبد الزراق الحنبلي ثم عن قاضي القضاء عبد 2 الرحمن بن مقبل الواسطي ثم بعد وفاته في سنة ثلاث وثلاثين استقل القاضي عبدالرحمن اللمعاني بولاية الحكم ببغداد ولقب أقضى القضاة ولم يخاطب بقاضي القضاة ودرس للحنفية بالمستنصرية في سنة خمس وثلاثين وكان مشكور السيرة في أحكامه ونقضه وإبرامه ولما توفي تولي بعده قضاء القضاة ببغداد شيخ النظامية سراج الدين النهر قلى رحمهما الله تعالى وتجاوز عنهما بمنه وكرمه آمين ثم دخلت سنة خمسين وستمائة هجرية
فيها وصلت التتار إلى الجزيرة وسروج ورأس العين وما والى هذه البلاد فقتلوا وسبوا ونهبوا وخربوا فإنا لله وإنا اليه راجعون ووقعوا بسنجار يسيرون بين حران وراس العين فاخذوا منهم ستمائة حمل سكر ومعمول من الديار المصرية وستمائة ألف دينار وكان عدة من قتلوا في هذه السنة من أهل الجزيرة نحوا من عشرة آلاف قتيل وأسروا من الولدان والنساء ما يقارب ذلك فإنا لله وإنا إليه راجعون قال السبط وفيها حج الناس من بغداد وكان لهم عشر سنين لم يحجوا من زمن المستنصر وفيها وقع حريق بحلب احترق بسببه ستمائة دار ويقال إن الفرنج لعنهم الله ألقوه فيه قصدا وفيها أعاد قاضي القضاة عمر بن علي النهر قلى أمر المدرسة التاجية التي كان قد استحوذ عليها طائفة من العوام وجعلوها كالقيسارية يبتاعون فيها مدة طويلة وهي مدرسة جيدة حسنة قريبة الشبه من النظامية وقد كان بانيها يقال له تاج الملك وزير ملك شاه السلجوقي وأول من درس بها الشيخ أبو بكر الشاشي وفيها كانت وفاة
جمال الدين بن مطروح
وقد كان فاضلا رئيسا كيسا شاعرا من كبار المتعممين ثم استتابه الملك الصالح أيوب في وقت على دمشق فلبس لبس الجند قال السبط وكان لا يليق في ذلك ومن شعره في الناصر داود صاحب الكرك لما استعاد القدس من الفرنج حين سلمت إليهم في سنة ست وثلاثين في الدولة الكاملية فقال هذا الشاعر وهو ابن مطروح رحمه الله ... المسجد الاقصى له عادة ... سارت صارت مثلا سائرا ... إذا غدا للكفر مستوطنا ... أن يبعث الله له ناصرا ... فناصر طهره اولا ... وناصر طهره آخرا ...
ولما عزله الصالح من النيابة أقام خاملا وكان كثير البر بالفقراء والمساكين وكانت وفاته بمصر وفيها توفي
شمس الدين محمد بن سعد المقدسي
الكاتب الحسن الخط كان كثير الادب وسمع الحديث كثيرا وخدم السلطان الصالح (13/182)
إسماعيل والناصر داود وكان دينا فاضلا شاعرا له قصيدة ينصح فيها السلطان الصالح إسماعيل وما يلقاه الناس من وزيره وقاضيه وغيرهما من حواشيه وممن توفي فهيا من الاعيان
عبدالعزيز بن علي
ابن عبد الجبار المغربي أبوه ولد ببغداد وسمع بها الحديث وعنى بطلب العلم وصنف كتابا في مجلدات على حروف المعجم في الحديث وحرر فيه حكاية مذهب الامام مالك رحمه الله تعالى
الشيخ أبو عبد الله محمد بن غانم بن كريم الاصبهاني قدم بغداد وكان شابا فاضلا فتتلمذ للشيخ شهاب الدين السهروردي وكان حسن الطريقة له يد في التفسير وله تفسير على طريقة التصوف وفيه لطافة ومن كلامه في الوعظ العالم كالذرة في فضاء عظمته والذرة كالعالم في كتاب حكمته الأصول فروع إذا تجلى جمال أوليته والفروع أصول إذا طلعت من مغرب نفي الوسائط شمس أخريته استار الليل مسدولة وشموع الكواكب مشعولة واعين الرقباء عن المشتاقين مشغولة وحجاب الحجب عن أبواب الوصل معزولة ما هذه الوقعة والحبيب قد فتح الباب ما هذه الفترة والمولى قد خرق حاجب الحجاب
... وقوفي بأكناف العقيق عقوق ... إذا لم أرد والدمع فيه عقيق ... وإذ لم أمت شوقا إلى ساكن الحمى ... فما أنا فيما أدعيه صدوق ... أيا ربع ليلى ما المحبون في الهوى ... سواء ولا كل الشراب رحيق ... ولا كل من تلقاه يلقاك قلبه ... ولا كل من يحنو إليك مشوق ... تكاثرت الدعوى على الحب فاستوى ... أسير صبابات الهوى وطليق ...
أيها الامنون هل فيكم من يصعد إلى السماء أيها المحبوسون في مطامير مسمياتهم هل فيكم سليم في الفهم يفهم رموز الوحوش والاطيار هل فيكم موسوى الشوق يقول بلسان شوقه أرني أنظر إليك فقد طال الانتظار ولما استسقى الناس قال بعد الاستسقاء لما صعدت إلى الله عز و جل نفس المشتاق بكت آماق الافاق وجادت بالدر مرضعة السحاب وامتص لبن الرحمة رضيع التراب وخرج من اخلاف الغمام نطاف الماء النمير فاهتزت به الهامدة وقرت عيون المدر وتزينت الرياض بالسندس الاخضر فحبر الصب حبرها أحسن تحبير وأنفلق بأنملة الصبا أكمام الانوار وانشقت بنفحات انفاسه جيوب الازهار ونطقت أجزاء الكائنات بلغات صفاتها وعادات عبرها أيها النائمون تيقظوا أيها المبعدون تعرضوا فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيى الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير (13/183)
ابو الفتح نصر الله بن هبة الله
ابن عبد الباقي بن هبة الله بن الحسين بن يحيى بن صاقعة الغفاري الكناني المصري ثم الدمشقي كان من اخصاء الملك المعظم وولده الناصر داود وقد سافر معه إلى بغداد في سنة ثلاث وثلاثين وستمائة وكان اديبا مليح المحاضرة رحمه الله تعالى ومن شعره قوله ... ولما ابيتم سادتي عن زيارتي ... وعوضتموني بالبعاد عن القرب ... ولم تسمحوا بالوصل في حال يقظتي ... ولم يصطبر عنكم لرقته قلبي ... نصبت لصيد الطيف جفني حبالة ... فأدركت خفض العيش بالنوم والنصب ... ثم دخلت سنة إحدى وخسمين وستمائة
فيها دخل الشيخ نجم الدين البادرائي رسول الخليفة بين صاحب مصر وصاحب الشام وأصلح بين الجيشين وكانوا قد اشتد الحرب بينهم ونشبت وقد مالأ الجيش المصري الفرنج ووعدهم أن يسلموا إليهم بيت المقدس إن نصروهم على الشاميين وجرت خطوب كثيرة فأصلح بينهم وخلص جماعة من بيوت الملوك من الديار المصرية منهم اولاد الصالح إسماعيل وبنت الأشرف وغيرهم من أولاد صاحب حمص وغيرهم جزاه الله خيرا وفيها فيما ذكر ابن الساعي كان رجل ببغداد على رأسه زبادي قابسي فزلق فتكسرت ووقف يبكي فتألم الناس له لفقره وحاجته وأنه لم يكن يملك غيرها فأعطاه رجل من الحاضرين دينارا فلما أخذه نظر فيه طويلا ثم قال والله هذا الدينار اعرفه وقد ذهب مني في جملة دنانير عام أول فشتمه بعض الحاضرين فقال له ذلك الرجل فما علامة ما قلت قال زنة هذا وكذا وكاذ وكان معه ثلاثة وعشرون دينارا فوزنوه فوجدوه كما ذكر فأخرج له الرجل ثلاثة وعشرين دينارا وكان قد وجدها كما قال حين سقطت منه فتعجب الناس لذلك قال ويقرب من هذا ان رجلا بمكة نزع ثيابه ليغتسل من ماء زمزم وأخرج من عضده دملجا زنته خمسون مثقالا فوضعه مع ثيابه فلما فرغ من اغتساله لبس ثيابه ونسي الدملج ومضى وصار إلى بغداد وبقي مدة سنتين بعد ذلك وايس منه ولم يبق معه شيء إلا يسير فاشترى به زجاجا وقوارير ليبعيها ويتكسب بها فبينما هو يطوف بها إذا زلق فسقطت القوارير فتكسرت فوقف يبكي واجتمع الناس عليه يتألمون له فقال في جملة علامه والله يا جماعة لقد ذهب مني من مدة سنتين دملج من ذهب زنته خمسون دينارا ما باليت لفقده كما باليت لتكسير هذه القوارير وما ذاك إلا لأن هذه كانت جميع ما أملك فقال له رجل من الجماعة فأنا والله لقيت ذلك الدملج وخرجه من عضده فتعجب الناس والحاضرون والله أعلم بالصواب (13/184)
وممن توفي فيها من الاعيان
ثم دخلت سنة إثنين وخمسين وستمائة
قال سبط ابن الجوزي في كتابه مرآة الزمان فيها وردت الاخبار من مكة شرفها الله تعالى بان نارا ظهرت في أرض عدن في بعض جبالها بحيث إنه يطير شررها إلى البحر في الليل ويصعد منها دخان عظيم في أثناء النهار فما شكوا أنها النار التي ذكر النبي صلى الله عليه و سلم أنها تظهر في آخر الزمان فتاب الناس وأقلعوا عما كانوا عليه من المظالم والفساد وشرعوا في أفعال الخير والصدقات وفيها قدم الفارس أقطاي من الصعيد ونهب أموال المسلمين وأسر بعضهم ومعه جماعة من البحرية المفسدين في الارض وقد بغوا وطغوا وتجبروا ولا يلتفتون إلى الملك المعز ايبك التركماني ولا إلى زوجته شجرة الدر فشاور المعز زوجته شجرة الدر في قتل أفطاي فأذنت له فعمل عليه حتى قتله في هذه السنة بالقلعة المنصورة بمصر فاستراح المسلمون من شره وفيها درس الشيخ عز الدين بن عبد السلام بمدرسة الصالح أيوب بين القصرين وفيها قدمت بنت ملك الروم في تجمل عظيم وإقامات هائلة إلى دمشق زوجة لصاحبها الناصر بن العزيز بن الظاهر بن الناصر وجرت أوقات حافلة بدمشق بسببها وممن توفي فيها من المشاهير
عبدالحميد بن عيسى
الشيخ شمس الدين بن الخسر وشاهي أحد مشاهير المتكلمين وممن اشتغل على الفخر الرازي في الاصول وغيرها ثم قدم الشام فلزم الملك الناصر داود بن المعظم وحظى عنده قال ابو شامة وكان شيخا مهيبا فاضلا متواضعا حسن الظاهر رحمه الله تعالى قال السبط وكان متواضعا كيسا محضر خير لم ينقل عنه أنه آذى أحدا فإن قدر على نفع وإلا سكت توفي بدمشق ودفن بقاسيون على باب تربة الملك المعظم رحمه الله تعالى
الشيخ مجد الدين بن تيمية صاحب الاحكام عبدالسلام بن عبد الله بن أبي القاسم الخضر ابن محمد بن علي بن تيمية الحراني الحنبلي جد الشيخ تقي الدين ابن تيمية ولد في حدود سنة تسعين وخمسمائة وتفقه في صغره على عمه الخطيب فخر الدين وسمع الكثير ورحل إلى البلاد وبرع في الحديث والفقه وغيره ودرس وافتى وانتفع به الطلبة ومات يوم الفطر بحران (13/185)
الشيخ كمال الدين بن طلحة
الذي ولى الخطابة بدمشق بعدالدولعي ثم عزل وصار إلى الجزيرة فولى قضاء نصيبين ثم صار إلى حلب فتوفى بها في هذه السنة قال أبو شامة وكان فاضلا عالما طلب أن يلي الوزارة فامتنع من ذلك وكان هذا من التأييد رحمه الله تعالى
السيد بن علان
آخر من روى عن الحافظ ابن عساكر سماعا بدمشق
الناصح فرج بن عبد الله الحبشي
كان كثير السماع مسندا خيرا صالحا مواظبا على سماع الحديث وإسماعه إلى أن مات بدار الحديث النورية بدمشق رحمه الله
النصرة بن صلاح الدين يوسف ابن أيوب
توفي بحلب في هذه السنة وآخرون رحمهم الله أجمعين
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وستمائة
قال السبط فيها عاد الناصر داود من الانبار إلى دمشق ثم عاد وحج من العراق وأصلح بين العراقيين وأهل مكة ثم عاد معهم إلى الحلة قال أبو شامة وفيها في ليلة الاثنين ثامن عشر صفر توفي بحلب الشيخ الفقيه
ضياء الدين صقر بن يحيى بن سالم
وكان فاضلا دينا ومن شعره قوله رحمه الله تعالى ... من ادعى أن له حالة ... تخرجه عن منهج الشرع ... فلا تكونن له صاحبا ... فإنه ضر بلا نفع ...
وهو واقف القوصية
... أبو العز إسماعيل بن حامد ابن عبدالرحمن الانصاري القوصي واقف داره بالقرب من الرحبة على أهل الحديث وبها قبره وكان مدرسا بحلقة جمال الاسلام تجاه البدارة فعرفت به وكان ظريفا مطبوعا حسن المحاضرة وقد جمع له معجما حكى فيه عن مشايخه أشياء كثيرة مفيدة قال أبو شامة وقد طالعته بخطه فرأيت فيه أغاليط وأوهاما في أسماء الرجال وغيرها فمن ذلك أنه انتسب إلى سعد بن عبادة ابن دلم فقال سعد بن عبادة بن الصامت وهذا غلط وقال في شدة خرقه التصوف فغلط وصحف حييا أبا محمد حسينا قال أبو شامة رأيت ذلك بخبطه توفي يوم الاثنين سابع عشر ربيع الاول من (13/186)
هذه السنة رحمه الله وقد توفي الشريف المرتضي نقيب الاشراف بحلب وكانت وفاته بها رحمه الله تعالى ثم دخلت سنة أربع وخمسين وستمائة
فيها كان ظهور النار من أرض الحجاز التي أضاءت لها أعناق الابل ببصرى كما نطق بذلك الحديث المتفق عليه وقد بسط القول في ذلك الشيخ الامام العلامة الحافظ شهاب الدين أبو شامة المقدسي في كتابه الذيل وشرحه واستحضره من كتب كثيرة وردت متواترة إلى دمشق من الحجاز بصفة أمر هذه النار التي شوهدت معاينة وكيفية خروجها وأمرها وهذا محرر في كتاب دلائل النبوة من السيرة النبوية في أوائل هذا الكتاب ولله الحمد والمنة وملخص ما أورده أبو شامة انه قال وجاء إلى دمشق كتب من المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام بخروج نار عندهم في خامس جمادي الاخرة من هذه السنة وكتبت الكتب في خامس رجب والنار بحالها ووصلت الكتب إلينا في عاشر شعبان ثم قال
بسم الله الرحمن الرحيم ورد إلى مدينة دمشق في أوائل شعبان من سنة أربع وخمسين وستمائة كتب من مدينة رسول الله صلى الله عليه و سلم فيها شرح أمر عظيم حدث بها فيه تصديق لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها اعناق الابل ببصرى فأخبرني من أثق به ممن شاهدها أنه بلغه أنه كتب بتيماء على ضوئها الكتب قال وكنا في بيوتنا تلك الليالي وكان في دار كل واحد منا سراج ولم يكن لها حر ولفح على عظمها إنما كانت آية من آيات الله عز و جل قال أبو شامة وهذه صورة ما وقفت عليه من الكتب الواردة فيها
لما كانت ليلة الاربعاء ثالث جمادي الاخرة سنة اربع وخمسين وستمائة ظهر بالمدينة النبوية دوي عظيم ثم زلزلة عظيمة رجفت منها الارض والحيطان والسقوف والاخشاب والابواب ساعة بعد ساعة إلى يوم الجمعة الخامس من الشهر المذكور ثم ظهرت نار عظيمة في الحرة قريبة من قريظة نبصرها من دورنا من داخل المدينة كأنها عندنا وهي نار عظيمة إشعالها أكثر من ثلاث منارات وقد سالت أودية بالنار إلى وادي شظا مسيل الماء وقد مدت مسيل شظا وما عاد يسيل والله لقد طلعنا جماعة نبصرها فإذا الجبال تسيل نيرانا وقد سدت الحرة طريق الحاج العراقي فسارت إلى أن وصلت إلى الحرة فوقفت بعد ما أشفقنا ان تجيء إلينا ورجعت تسيل في الشرق فخرج من وسطها سهود وجبال نيران تأكل الحجارة فيها أنموذج عما أخبر الله تعالى في كتابه إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر وقد أكلت الارض وقد كتبت هذا الكتاب يوم خامس رجب سنة أربع وخمسين وستمائة والنار في زيادة ما تغيرت وقد عادت إلى الحرار في قريظة طريق (13/187)
عير الحاج العراقي إلى الحرة كلها نيران تشتعل نبصرها في الليل من المدينة كأنها مشاعل الحاج واما ام النار الكبيرة فهي جبال نيران حمر والام الكبيرة التي سالت النيران منها من عند قريظة وقد زادت وما عاد الناس يدرون أي شيء يتم بعد ذلك والله يجعل العاقبة إلى خير فما أقدر أصف هذه النار
قال أبو شامة وفي كتاب آخر فظهر في أول جمعة من جمادي الاخرة سنة أربع وخمسين وستمائة ووقع في شرقي المدينة المشرفة نار عظيمة بينها وبين المدينة نصف يوم انفجرت من الارض وسال منها واد من نار حتى حاذي جبل أحد ثم وقفت وعادت إلى الساعة ولا ندري ماذا نفعل ووقت ما ظهرت دخل أهل المدينة إلى نبيهم عليه الصلاة و السلام مستغفرين تائبين إلى ربهم تعالى وهذه دلائل القيامة
قال وفي كتاب آخر لما كان يوم الاثنين مستهل جمادي الاخرة سنة أربع وخمسين وستمائة وقع بالمدينة صوت يشبه صوت الرعد البعيد تارة وتارة أقام على هذه الحالة يومين فلما كانت ليلة الاربعاء ثالث الشهر المذكور تعقب الصوت الذي كنا نسمعه زلازل فلما كان يوم الجمعة خامس الشهر المذكور انبجست الحرة بنار عظيمة يكون قدرها مثل مسجد رسول الله
ص وهي برأي العين من المدينة نشاهدها وهي ترمي بشرر كالقصر كما قال الله تعالى وهي بموضع يقال له أجيلين وقد سال من هذه النار واد يكون مقداره اربع فراسخ وعرضه أربعة أميال وعمقه قامة ونصف وهي تجري على وجه الارض ويخرج منها أمها دوجبال صغار وتسير على وجه الارض وهو صخر يذوب حتى يبقى منك الانك فإذا جمد صار اسود وقبل الجمود لونه أحمر وقد حصل بسبب هذه النار إقلاع عن المعاصي والتقرب إلى الله تعالى بالطاعات وخرج امير المدينة عن مظالم كثيرة إلى أهلها
قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة ومن كتاب شمس الدين بن سنان بن عبد الوهاب بن نميلة الحسيني قاضي المدينة إلى بعض اصحابه لما كانت ليلة الاربعاء ثالث جمادي الاخرة حدث بالمدينة بالثلث الاخير من الليل زلزلة عظيمة أشفقنا منها وباتت باقي تلك الليلة تزلزل كل يوم وليلة قدر عشر نوبات والله لقد زلزلت مرة ونحن حول حجرة رسول الله صلى الله عليه و سلم اضطرب لها المنبر إلى أن أوجسنا منه إذ سمعنا صوتا للحديد الذي فيه واضطربت قناديل الحرم الشريف وتمت الزلزلة إلى يوم الجمعة ضحى ولها دوي مثل دوي الرعد القاصف ثم طلع يوم الجمعة في طريق الحرة (13/188)
في رأس اجيلين نار عظيمة مثل المدينة العظيمة ومابانت لنا إلا ليلة السبت وأشفقنا منها وخفنا خوفا عظيما وطلعت إلى الامير كلمته وقلت له قد احاط بنا العذاب ارجع إلى الله تعالى فاعتق كل مماليكه ورد على جماعة أموالهم فلما فعل ذلك قلت اهبط الساعة معنا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فهبط وبتنا ليلة السبت والناس جميعهم والنسوان واولادهم وما بقي احد لا في النخيل ولا في المدينة إلا عند النبي صلى الله عليه و سلم ثم سال منها نهر من نار وأخذ في وادي اجيلين وسد الطريق ثم طلع إلى بحرة الحاج وهو بحر نار يجري وفوقه جمر يسير إلى أن قطعت الوادي وادي الشظا وما عاد يجيء في الوادي سيل قط لأنها حضرته نحو قامتين وثلث علوها والله يا أخي إن عيشتنا اليوم مكدرة والمدينة قد تاب جميع أهلها ولا بقي يسمع فيها رباب ولا دف ولا شرب وتمت النار تسيل إلى أن سدت بعض طريق الحاج وبعض بحرة الحاج وجاء في الوادي إلينا منها يسير وخفنا أنه يجيئنا فاجتمع الناس ودخلوا على النبي صلى الله عليه و سلم وتابوا عنده جميعهم ليلة الجمعة وأما قتيرها الذي مما يلينا فقد طفيء بقدرة الله وأنها إلى الساعة وما نقصت إلا ترى مثل الجمال حجارة ولها دوي ما يدعنا نرقد ولا نأكل ولا نشرب وما أقدر أصف لك عظمها ولا ما فيها من الاهوال وأبصرها أهل ينبع وندبوا قاضيهم ابن أسعد وجاء وعدا إليها وما صبح يقدر يصفها من عظمها وكتب الكتاب يوم خامس رجب وهي على حالها والناس منها خائفون والشمس والقمر من يوم ما طلعت ما يطلعان إلا كاسفين فنسأل الله العافية
قال أبو شامة وبان عندنا بدمشق أثر الكسوف من ضعف نورها على الحيطان وكنا حيارى من ذلك إيش هو إلى أن جاءنا هذا الخبر عن هذه النار
قلت وكان أبو شامة قد أرخ قبل مجيء الكتب بأمر هذه النار فقال وفيها في ليلة الاثنين السادس عشر من جمادي الاخرة خسف القمر أول الليل وكان شديد الحمرة ثم انجلى وكسفت الشمس وفي غده احمرت وقت طلوعها وغروبها وبقيت كذلك اياما متغيرة اللون ضعيفة النور والله على كل شيء قدير ثم قال واتضح بذلك ما صوره الشافعي من اجتماع الكسوف والعيد واستبعده اهل النجامة
ثم قال أبو شامة ومن كتاب آخر من بعض بني الفاشاني بالمدينة يقول فيه وصل إلينا في جمادي الاخرة نجابة من العراق وأخبروا عن بغداد أنه أصابها غرق عظيم حتى طفح الماء من أعلى أسوار بغداد إليها وغرق كثير منها ودخل الماء دار الخلافة وسط البلد وانهدمت دار الوزير وثلثمائة وثمانون دارا وانهدم مخزن الخليفة وهلك من خزانة السلاح شيئ كثير وأشرف الناس (13/189)
على الهلاك وعادت السفن تدخل إلى وسط البلدة وتخترق أزقة بغداد قال وأما نحن فإنه جرى عندنا أمر عظيم لما كان بتاريخ ليلة الاربعاء الثالث من جمادي الاخرة ومن قبلها بيومين عاد الناس يسمعون صوتا مثل صوت الرعد فانزعج لها الناس كلهم وانتبهوا من مراقدهم وضج الناس بالاستغفار إلى الله تعالى وفزعوا إلى المسجد وصلوا فيه وتمت ترجف بالناس ساعة بعد ساعة إلى الصبح وذلك اليوم كله يوم الاربعاء وليلة الخميس كلها وليلة الجمعة وصبح يوم الجمعة ارتجت الارض رجة قوية إلى أن اضطرب منار المسجد بعضه ببعض وسمع لسقف المسجد صرير عظيم وأشفق الناس من ذنوبهم وسكنت الزلزلة بعد صبح يوم الجمعة إلى قبل الظهر ثم ظهرت عندنا بالحرة وراء قريظة على طريق السوارقية بالمقاعد مسيرة من الصبح إلى الظهر نار عظيمة تنفجر من الارض فارتاع لنا الناس روعة عظيمة ثم ظهر لها دخان عظيم في السماء ينعقد حتى يبقى كالسحاب الابيض فيصل إلى قبل مغيب الشمس من يوم الجمعة ثم ظهرت النار لها ألسن تصعد في الهواء إلى السماء حمراء كأنها القلعة وعظمت وفزع الناس إلى المسجد النبوي وإلى الحجرة الشريفة واستجار الناس بها وأحاطوا بالحجرة وكشفوا رؤسهم واقروا بذنوبهم وابتهلوا إلى الله تعالى واستجاروا نبيه عليه الصلاة و السلام وأتى الناس إلى المسجد من كل فج ومن النخل وخرج النساء من البيوت والصبيان واجتمعوا كلهم وأخلصوا إلى الله وغطت حمرة النار السماء كلها حتى بقي الناس في مثل ضوء القمر وبقيت السماء كالعلقة وأيقن الناس بالهلاك أو العذاب وبات الناس تلك الليلة بين مصل وتال للقرآن وراكع وساجد وداع إلى الله عز و جل ومتنصل من ذنوبه ومستغفر وتائب ولزمت النار مكانها وتناقص تضاعفها ذلك ولهيبها وصعد الفقيه والقاضي إلى الامير يعظونه فطرح المكس واعتق مماليكه كلهم وعبيده ورد علينا كل ما لنا تحت يده وعلى غيرنا وبقيت تلك النار على حالها تلتهب التهابا وهي كالجبل العظيم ارتفاعا و كالمدينة عرضا يخرج منها حصى يصعد في السماء ويهوى فيها ويخرج منها كالجبل العظيم نار ترمي كالرعد وبقيت كذلك أياما ثم سالت سيلانا إلى وادي اجلين تنحدر مع الوادي إلى الشظا حتى لحق سيلانها بالبحرة بحرة الحاج والحجارة معها تتحرك وتسير حتى كادت تقارب حرة العريض ثم سكنت ووقفت أياما ثم عادت ترمي بحجارة خلفها وأمامها حتى بنت لها جبلين وما بقي يخرج منها من بين الجبلين لسان لها أياما ثم إنها عظمت وسناءها إلى الان وهي تتقد كاعظم ما يكون ولها كل يوم صوت عظيم في آخر الليل إلى ضحوة ولها عجائب ما أقدر أن أشرحها لك على الكمال وإنما هذا طرف يكفي والشمس والقمر كأنهما منكسفان إلى الان وكتب هذا الكتاب ولها شهر وهي في مكانها ما تتقدم ولا تتأخر وقد قال فيها بعضهم أبياتا (13/190)
يا كاشف الضر صفحا عن جرائمنا ... لقد أحاطت بنا يا رب بأساء ... نشكو إليك خطوبا لا نطيق لها ... حملا ونحن بها حقا أحقاء ... زلازل تخشع الصم اصلاب لها ... وكيف يقوى على الزلزال شماء ... أقام سبعا يرج في الأرض فانصدعت ... عن منظر منه عين الشمس عشواه ... بحر من النار تجري فوقه سفن من الهضاب لها في الأرض أرساء ... كأنما فوقه الأحبال يرج الارض فانصدعت ... عن منظر منه عين الشمس عشواء ... بحر من النار تجري فوقه سفن ... من الهضاب لها في الارض أرساء ... كأنما فوقه الاجبال طافية ... موج عليه لفرط البهج وعثاء ... ترمي لها شررا كالقصر طائشة ... كأنها ديمة تنصب هطلاء ... تنشق منها قلوب الصخر إن زفرت رعبا وترعد مثل السعف أضواء ... منها تكاثف في الجو الدخان إلى ... أن عادت الشمس منه وهي دهماء ... قد اثرت سفعة في البدر لفحتها ... فليلة التم بعد النور ليلاء ... تحدث النيرات السبع ألسنها ... بما يلاقى بها تحت الثرى الماء ... وقد احاط لظاها بالبروج إلى ... أن كاد يلحقها بالارض إهواء ... فيالها آية من معجزات رسو ... ل الله يعقلها القوم الالباء ... فباسمك الاعظم المكنون إن عظمت ... منا الذنوب وساء القلب أسواء ... فاسمح وهب وتفضل وامح واعف وجد ... واصفح فكل لفرط الجهل خطاء ... فقوم يونس لما آمنوا كشف ال ... العذاب عنهم وعم القوم نعماء ... ونحن امة هذا المصطفى ولنا ... منه إلى عفوك المرجو دعاء ... هذا الرسول الذي لولاه ما سلكت ... محجة في سبيل الله بيضاء ... فارحم وصل على المختار ما خطبت ... على علا منبر الاوراق ورقاء ...
قلت والحديث الوارد في أمر هذه النار مخرج في الصحيحين من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الابل ببصرى وهذا لفظ البخاري
وقد وقع هذا في هذه السنة أعني سنة أربع وخمسين وستمائة كما ذكرنا وقد أخبرني قاضي القضاة صدر الدين علي بن أبي القاسم التميمي الحنفي الحاكم بدمشق في بعض الايام في المذاكرة وجرى ذكر هذا الحديث وما كان من أمر هذه النار في هذه السنة فقال سمعت رجلا من الأعراب يخبر والدي ببصرى في تلك الليالي أنهم رأوا أعناق الابل في ضوء هذه النار التي ظهرت في أرض الحجاز قلت وكان مولده في سنة ثنتين وأربعين وستمائة وكان والده مدرسا للحنفية ببصرى وكذلك (13/191)
كان جده وهو قد درس بها أيضا ثم انتقل إلى دمشق فدرس بالصادرية وبالمعدمية ثم ولى قضاء القضاة الحنفية وكان مشكور السيرة في الاحكام وقد كان عمره حين وقعت هذه النار بالحجاز ثنتا عشرة سنة ومثله ممن يضبط ما يسمع من الخبر أن الاعرابي أخبر والده في تلك الليالي وصلوات الله وسلامه على نبيه سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا
ومما نظمه بعض الشعراء في هذه النار الحجازية وغرق بغداد قوله ... سبحان من اصبحت مشيئته ... جارية في الورى بمقدار ... اغرق بغداد بالمياه كما ... أحرق أرض الحجاز بالنار ...
قال أبو شامة والصواب أن يقال ... في سنة أغرق العراق وقد ... أحرق أرض الحجاز بالنار ...
وقال ابن الساعي في تاريخ سنة اربع وخمسين وستمائة في يوم الجمعة ثامن عشر رجب يعني من هذه السنة كنت جالسا بين يدي الوزير فورد عليه كتاب من مدينة الرسول صلى الله عليه و سلم صحبة قاصد يعرف بقيماز العلوى الحسني المدني فناوله الكتاب فقرأه وهو يتضمن ان مدينة الرسول
ص زلزلت يوم الثلاثاء ثاني جمادي الاخرة حتى ارتج القبر الشريف النبوي وسمع صرير الحديد وتحركت السلاسل وظهرت نار على مسيرة أربع فراسخ من المدينة وكانت ترمي بزبد كأنه رؤس الجبال ودامت خمسة عشر يوما قال القاصد وجئت ولم تنقطع بعد بل كانت على حالها وساله إلى أي الجهات ترمي فقال إلى جهة الشرق واجتزت عليها أنا ونجابة اليمن ورمينا فيها سعفة فلم تحرقها بل كانت تحرق الحجارة وتذيبها وأخرج قيماز المذكور شيئا من الصخر المحترق وهو كالفحم لونا وخفة قال وذكر في الكتاب وكان بخط قاضي المدينة أنهم لما زلزلوا دخلوا الحرم وكشفوا رؤسهم واستغفروا وأن نائب المدينة أعتق جميع ممالكيه وخرج من جميع المظالم ولم يزالوا مستغفرين حتى سكنت الزلزلة إلا أن النار التي ظهرت لم تنقطع وجاء القاصد المذكور ولها خمسة عشر يوما وإلى الان قال ابن الساعي وقرأت بخط العدل محمود بن يوسف بن الامعاني شيخ حرم المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام يقول إن هذه النار التي ظهرت بالحجاز آية عظيمة وإشارة صحيحة دالة على اقتراب الساعة فالسعيد من انتهز الفرصة قبل الموت وتدارك أمره باصلاح حاله مع الله عز و جل قبل الموت وهذه النار في ارض ذات حجر لا شجر فيها ولا نبت وهي تأكل بعضها بعضا إن لم تجد ما تأكله وهي تحرق الحجارة وتذيبها حتى تعود كالطين المبلول ثم يضربه الهواء حتى يعود كخبث الحديد الذي يخرج من الكير فالله يجعلها عبرة للمسلمين ورحمة للعالمين بمحمد وآله الطاهرين (13/192)
قال أبو شامة وفي ليلة الجمعة مستهل رمضان من هذه السنة احترق مسجد المدينة على ساكنه أفضل الصلاة والسلام ابتدأ حريقه من زاويته الغربية من الشمال وكان دخل احد القومة إلى خزانة ثم ومعه نار فعلقت في الابواب ثم واتصلت بالسقف بسرعة ثم دبت في السقوف وأخذت قبلة فأعجلت الناس عن قطعها فما كان إلا ساعة حتى احترقت سقوف المسجد اجمع ووقعت بعض أساطينه وذاب رصاصها وكل ذلك قبل أن ينام الناس واحترق سقف الحجرة النبوية ووقع ما وقع منه في الحجرة وبقي على حاله حتى شرع في عمارة سقفه وسقف المسجد النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام واصبح الناس فعزلوا موضعا للصلاة وعد ما وقع من تلك النار الخارجة وحريق المسجد من جملة الايات وكأنها كانت منذرة بما يعقبها في السنة الاتية من الكائنات على ما سنذكره هذا كلام الشيخ شهاب الدين أبي شامة وقد قال أبو شامة في الذي وقع في هذه السنة وما بعدها شعرا وهو قوله ... بعد ست من المئين والخمس ... ين لدى أربع جرى في العام ... نار أرض الحجاز مع حرق المس ... جد معه تغريق دار السلام ... ثم أخذ التتار بغداد في أو ... ل عام من بعد ذاك وعام ... لم يعن أهلها وللكفر أعوا ... ن عليهم ياضيعة الاسلام ... وانقضت دولة الخلافة منها ... صار مستعصم بغير اعتصام ... فحنانا على الحجاز ومصر ... وسلاما على بلاد الشام ... رب سلم وصن وعاف بقايا ... المدن ياذا الجلال والاكرام ...
وفي هذه السنة كملت المدرسة الناصرية الجوانية داخل باب الفراديس وحضر فيها الدرس واقفها الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن الملك العزيز محمد بن الملك الظاهر غياث الدين غازي ابن الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي فاتح بيت المقدس ودرس فيها قاضي البلد صدر الدين ابن سناء الدولة وحضر عنده الأمراء والدولة والعلماء وجمهور أهل الحل والعقد بدمشق وفيها أمر بعمارة الرباط الناصري بسفح قاسيون
وممن توفي في هذه السنة من الأعيان
الشيخ عمادا لدين عبد الله بن الحسن بن النحاس
ترك الخلائق وأقبل على الزهادة والتلاوة والعبادة والصيام المتتابع والانقطاع بمسجده بسفح قاسيون نحوا من ثلاثين سنة وكان من خيار الناس ولما توفي دفن عند مسجده بتربة مشهورة به وحمام ينسب إليه في مساريق الصالحية وقد اثنى عليه السبط وأرخوا وفاته كما ذكرت (13/193)
يوسف بن الامير حسام الدين
قزأ وغلى بن عبد الله عتيق الوزير عون الدين يحيى بن هبيرة الحنبلي رحمه الله تعالى الشيخ شمس الدين
ابو المظفر الحنفي البغدادي ثم الدمشقي سبط ابن الجوزي امه رابعة بنت الشيخ جمال الدين أبي الفرج بن الجوزي الواعظ وقد كان حسن الصورة طيب الصوت حسن الوعظ كثير الفضائل والمصنفات وله مرآة الزمان في عشرين مجلدا من أحسن التواريخ نظم فيه المنتظم لجده وزاد عليه وذيل إلى زمانه وهو من أبهج التواريخ قدم دمشق في حدود الستمائة وحظى عند ملوك بني أيوب وقدموه وأحسنوا إليه وكان له مجلس وعظ كل يوم سبت بكرة النهار عند السارية التي تقوم عندها الوعاظ اليوم عند باب مشهد علي بن الحسين زين العابدين وقد كان الناس يبيتون ليلة السبت بالجامع ويتركون البساتين في الصيف حتى يسمعوا ميعاده ثم يسرعون إلى بساتينهم فيتذاكرون ما قاله من الفوائد والكلام الحسن على طريقة جده وقد كان الشيخ تاج الدين الكندي وغيره من المشايخ يحضرون عنده تحت قبة يزيد التي عند باب المشهد ويستحسنون ما يقول ودرس بالعزية البرانية التي بناها الامير عز الدين أيبك المعظمى اساذ دار المعظم وهو واقف العزية الجوانية التي بالكشك أيضا وكانت قديما تعرف بدور ابن منقذ ودرس السبط أيضا بالشبلية التي بالجبل عند جسر كحيل وفوض إليه البدرية التي قبالتها فكانت سكنه وبها توفي ليلة الثلاثاء الحادي والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة وحضر جنازته سلطان البلد الناصر ابن العزيز فمن دونه وقد أثنى عليه الشيخ شهاب الدين أبو شامة في علومه وفضائله ورياسته وحسن وعظه وطيب صوته ونضارة وجهه وتواضعه وزهده وتودده لكنه قال وقد كنت مريضا ليلة وفاته فرأيت وفاته في المنام قبل اليقظة ورأيته في حالة منكرة ورآه غيري أيضا فنسأل الله العافية ولم أقدر على حضور جنازته وكانت جنازته حافلة حضره السلطان والناس ودفن هناك وقد كان فاضلا عالما ظريفا منقطعا منكرا على أرباب الدول ما هم عليه من المنكرات وقد كان مقتصدا في لباسه مواظبا على المطالعة والاشتغال والجمع والتصنيف منصفا لأهل العلم والفضل مباينا لاولى الجهل وتأتي الملوك وأرباب المناصب إليه زائرين وقاصدين وربى في طول زمانه في حياة طيبة وجاه عريض عند الملوك والعوام نحو خمسين سنة وكان مجلس وعظه مطربا وصوته فيما يورده حسنا طيبا رحمه الله تعالى ورضى عنه وقد سئل في يوم عاشوراء زمن الملك الناصر صاحب حلب أن يذكر للناس شيئا من مقتل الحسين فصعد المنبر وجلس طويلا لا يتكلم ثم وضع المنديل على وجهه وبكى شديدا ثم أنشا يقول وهو يبكي (13/194)
ويل لمن شفعاؤه خصماؤه ... والصور في نشر الخلائق ينفخ ... لا بد أن تردا لقيامة فاطم ... وقميصها بدم الحسين ملطخ ...
ثم نزل عن المنبر وهو يبكي وصعد إلى الصالحية وهو كذلك رحمه الله
واقف مرستان الصالحية
الامير الكبير سيف الدين أبو الحسن يوسف ابن أبي الفوارس بن موسك القيمري الكردي أكبر أمراء القيمرية كانوا يقفون بين يديه كما تعامل الملوك ومن أكبر حسناته وقفة المارستان الذي بسفح قاسيون وكانت وفاته ودفنه بالسفح في القبة التي تجاه المارستان المذكورة وكان ذا مال كثير وثروة رحمه الله
مجير الدين يعقوب بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب
دفن عند والده بتربة العادلية
الامير مظفر الدين إبراهيم
ابن صاحب صرخد عز الدين أيبك استاذ دار المعظم واقف المعزيتين البرانية والجوانية على الحنفية ودفن عند والده بالتربة تحت القبة عند الوراقة رحمهما الله تعالى
الشيخ شمس الدين عبد الرحمن بن نوح
المقدسي الفقيه الشافعي مدرس الرواحية بعد شخيه تقي الدين ابن الصلاح ودفن بالصوفية أيضا وكانت له جنازة حافلة رحمه الله قال أبو شامة وكثر في هذه السنة موت الفجأة فمات خلق كثير بسبب ذلك وممن توفي فيها زكي الدين أبو الغورية أحد المعدلين بدمشق وبدر الدين بن السني أحد رؤسائها وعز الدين عبد العزيز بن أبي طالب بن عبدالغفار الثعلبي أبي الحسين وهو سبط القاضي جمال الدين بن الحرستاني رحمهم الله تعالى وعفا عنهم اجمعين
ثم دخلت سنة خمس وخمسين وستمائة
فيها اصبح الملك المعظم صاحب مصر عز الدين ايبك بداره ميتا وقد ولى الملك بعد استاذه الصالح نجم الدين أيوب بشهور كان فيها ملك توران شاه المعظم بن الصالح ثم خلفته شجرة الدر أم خليل مدة ثلاثة أشهر ثم أقيم هو في الملك ومعه الملك الاشرف موسى بن الناصر يوسف بن أقسيس ابن الكامل مدة ثم استقل بالملك بلا منازعة وكسر الناصر لما أراد أخذ الديار المصرية وقتل الفارس إقطاي في سنة ثنتين وخمسين وخلع بعده الاشرف واستقل بالملك وحده ثم تزوج بشجرة (13/195)
الدر أم خليل وكان كريما شجاعا حييا دينا ثم كان موته في يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من ربيع الاول وهو واقف المدرسة المعزية بمصر ومجازها من أحسن الاشياء وهي من داخل ليست بتلك الفائقة وقد قال بعضهم هذه مجاز لا حقيقة له ولما قتل رحمه الله فإنهم مماليكه زوجته أم خليل شجرة الدر به وقد كان عزم على تزوج ابنة صاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ فأمرت جواريها أن يمسكنه لها فما زالت تضربه بقباقبها والجواري يعركن في معاربه حتى مات وهو كذلك ولما سمعوا مماليكه أقبلوا بصحبة مملوكه الأكبر سيف الدين قطز فقتلوها والقوها على مزبلة غير مستورة العورة بعد الحجاب المنيع والمقام الرفيع وقد علمت على المناشير والتواقيع وخطب الخطباء باسمها وضربت السكة برسمها فذهبت فلا تعرف بعد ذلك بعينها ولا رسمها قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير وأقامت الاتراك بعد أستاذهم عز الدين أيبك التركماني بإشارة أكبر مماليكه الامير سيف الدين قطز ولده نور الدين عليا ولقبوه الملك المنصور وخطب له على المنابر وضربت السكة باسمه وجرت الامور على ما يختاره برأيه ورسمه
وفيها كانت فتنة عظيمة ببغداد بين الرافضة وأهل السنة فنهب الكرخ ودور الرافضة حتى دور قرابات الوزير ابن العلقمي وكان ذلك من أقوى الاسباب في ممالأته للتتار وفيها دخلت الفقراء الحيدرية الشام ومن شعارهم لبس الراحي والطراطير ويقصون لحاهم ويتركون شواربهم وهو خلاف السنة تركوها لمتابعة شيخهم حيدر حين أسره الملاحدة فقصوا لحيته وتكروا شواربه فاقتدوا به في ذلك وهو معذور مأجور وقد نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك وليس لهم في شيخهم قدوة وقد بنيت لهم زاوية بظاهر دمشق قريبا من العونية وفي يوم الاربعاء ثامن عشر ذي الحجة من هذه السنة المباركة عمل عزاء واقف البادرائية بها الشيخ نجم الدين عبد الله بن محمد البادرائي البغدادي مدرس النظامية ورسول الخلافة إلى ملوك الافاق في الامور المهمة وإصلاح الاحوال المدلهمة وقد كان فاضلا بارعا رئيسا وقورا متواضعا وقد ابتنى بدمشق مدرسة حسنة مكان دار الامير أسامة وشرط على المقيم بها العزوبة وأن لا يكون الفقيه في غيرها من المدارس وإنما أراد بذلك توفر خاطرا لفقيه وجمعه على طلب العلم ولكن حصل بذلك خلل كثير وشر لبعضهم كبير وقد كان شيخنا الامام العلامة شيخ الشافية بالشام وغيرها برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم بن الشيخ تاج الدين الفزاري مدرس هذه المدرسة وابن مدرسها يذكر أنه لما حضر الواقف في أول يوم درس بها وحضر عنده السلطان الناصري قرأ كتاب الوقف وفيه ولا تدخلها امرأة فقال السلطان ولا صبي فقال الواقف يا مولانا السلطان ربنا ما يضرب بعصاتين فإذا ذكر هذه الحكاية تبسم (13/196)
عندها رحمه الله تعالى وكان هو أول من درس بها ثم ولده كمال الدين من بعده وجعل نظرها إلى وجيه الدين بن سويد ثم صار في ذريته إلى الان وقد نظر فيه بعض الاوقات القاضي شمس الدين ابن الصائغ ثم انتزع منه حيث اثبت لهم النظر وقد أوقف البادرائي على هذه المدرسة أوقافا حسنة دارة وجعل فيها خزانة كتب حسنة نافعة وقد عاد إلى بغداد في هذه السنة فولى بها قضاء القضاة كرها منه فأقام فيه سبعة عشر يوما ثم توفي إلى رحمة الله تعالى في مستهل ذي الحجة من هذه السنة ودفن بالشونيزيه رحمة الله تعالى وفي ذي الحجة من هذه السنة بعد موت البادرائي بأيام قلائل نزلت التتار على بغداد مقدمة لملكهم هولاكو بن تولى بن جنكيزخان عليهم لعائل الرحمن وكان افتتاحهم لها وجنايتهم عليها في أول السنة الاتية على ما سيأتي بيانه وتفصيله وبالله المستعان وممن توفي في هذه السنة من الاعيان البادرائي واقف البادرائية التي بدمشق كما تقدم بيانه رحمه الله تعالى
والشيخ تقي الدين عبدالرحمن بن أبي الفهم
البلداني بها في ثامن ربيع الاول ودفن فيها وكان شيخا صالحا مشتغلا بالحديث سماعا وكتابة وإسماعا إلى أن توفي وله نحو مائة سنة قلت وأكثر كتبه ومجاميعه التي بخطه موقوفة بخزانة الفاضلية من الكلاسة وقد رأى في المنام رسول الله
ص فقال له يا رسول الله ما أنا رجل جيد قال بلى أنت رجل جيد رحمه الله وأكرم مثواه
الشيخ شرف الدين
محمد بن أبي الفضل المرسي وكان شيخا فاضلا متقنا محققا للبحث كثير الحج له مكانه عند الاكابر وقد اقتنى كتبا كثيرة وكان أكثر مقامه بالحجاز وحيث حل عظمه رؤساء تلك البلدة وكان مقتصدا في أموره وكانت وفاته رحمه الله بالذعقة بين العريش والداروم في منتصف ربيع الاول من هذه السنة رحمه الله
المشد الشاعر الامير سيف الدين
علي بن عمر بن قزل مشدا لديوان بدمشق وكان شاعرا مطبقا له ديوان مشهور وقد رآه بعضهم بعد موته فسأله عن حاله فأنشده ... نقلت إلى رمس القبور وضيقها ... وخوفي ذنوبي أنها بي تعثر ... فصادفت رحمانا رءوفا وأنعما ... حباني بها سقيا لما كنت أحذر ... ومن كان حسن الظن في حال موته ... جميلا بعفو الله فالعفو أجدر (13/197)
بشاره بن عبد الله
الارمني الاصل بدر الدين الكاتب مولى شبل الدولة المعظمي سمع الكندي وغيره وكان يكتب خطا جيدا وأسند إليه مولاه النظر في أوقافه وجعله في ذريته فهم إلى الان ينظرون في الشبليتين وكانت وفاته في النصف من رمضان من هذه السنة
القاضي تاج الدين أبو عبد الله محمد بن قاضي القضاة جمال الدين المصري ناب عن أبيه ودرس بالشامية وله شعر فمنه قوله
... صيرت فمي لفيه باللثم لئام ... عمدا ورشفت من ثناياه مدام ... فأزور وقال أنت في الفقه إمام ... ريقي خمر وعندك الخمر حرام ... الملك الناصر
داود بن المعظم عيسى بن العادل ملك دمشق بعد أبيه ثم انتزعت من يده وأخذها عمه الاشرف واقتصر على الكرك ونابلس ثم تنقلت به الاحوال وجرت له خطوب طوال حتى لم يبق معه شيء من المحال وأودع وديعة تقارب مائة ألف دينار عند الخليفة المستنصر فانكره إياها ولم يردها عليه وقد كان له فصاحة وشعر جيد ولديه فضائل جمة واشتغل في علم الكلام على الشمس الخسر وشاهي تلميذ الفخر الرازي وكان يعرف علوم الاوائل جدا وحكوا عنه أشياء تدل إن صحت على سوء عقيدته فالله أعلم وذكر أنه حضر أول درس ذكر بالمستنصرية في سنة ثنتين وثلاثين وستمائة وأن الشعراء أنشدوا المستنصر مدائح كثيرة فقال بعضهم في جملة قصيدة له ... لو كنت في يوم السقيفة شاهدا ... كنت المقدم والامام الاعظما ...
فقال الناصر داود للشاعر اسكت فقد اخطأت قد كان جد أمير المؤمنين العباس شاهدا يومئذ ولم يكن المقدم وما الامام الاعظم إلا أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال الخليفة صدقت فكان هذا من أحسن ما نقل عنه رحمه الله تعالى وقد تقاصر أمره إلى أن رسم عليه الناصر بن العزيز بقرية البويضا لعمه مجد الدين يعقوب حتى توفي بها في هذه السنة فاجتمع الناس بجنازته وحمل منها فصلى عليه ودفن عند والده بسفح قاسيون
الملك المعز
عز الدين أيبك التركماني أول ملوك الاتراك كان من أكبر مماليك الصالح نجم الدين أيوب ابن الكامل وكان دينا صينا عفيفا كريما مكث في الملك نحوا من سبع سنين ثم قتلته زوجته شجرة الدر أم خليل وقام في الملك من بعده ولده نور الدين علي ولقب بالملك المنصور وكان مدير (13/198)
مملكة مملوك أبيه سيف الدين قطز ثم عزله واستقل بالملك بعده نحوا من سنة وتلقب بالمظفر فقدر الله كسرة التتار على يديه بعين جالوت وقد بسطنا هذا كله في الحوادث فيما تقدم وما سيأتي
شجرة الدر بنت عبد الله
أم خليل التركية كانت من حظايا الملك الصالح نجم الدين أيوب وكان ولدها منه خليل من أحسن الصور فمات صغيرا وكانت تكون في خدمته لا تفارقه حضرا ولا سفرا من شدة محبته لها وقد ملكت الديار المصرية بعد مقتل ابن زوجها المعظم توران شاه فكان يخطب لها وتضرب السكة باسمها وعلمت على المناشير مدة ثلاثة أشهر ثم تملك المعز كما ذكرنا ثم تزوجها بعد تملكه الديار المصرية بسنوات ثم غارت عليه لما بلغها أنه يريد أن يتزوج بنت صاحب الموصل بدر الدين لؤلؤ فعملت عليه حتى قتلته كما تقدم ذكره فتمالأ عليها مماليكه المعزية فقتلوها والقوها على مزبلة ثلاثة أيام ثم نقلت إلى تربة لها بالقرب من قبر السيدة نفيسة رحمها الله تعالى وكانت قوية النفس لما علمت أنه قد أحيط بها أتلفت شيئا كثيرا من الجواهر النفيسة واللالئ المثمنة كسرته في الهاون لا لها ولا لغيرها وكان وزيرها في دولتها الصاحب بهاء الدين علي بن محمد بن سليمان المعروف بابن جند وهو أول مناصبه
الشيخ الاسعد هبة الله بن صاعد
شرف الدين الفائزي لخدمته قديما الملك الفائز سابق الدين إبراهيم بن الملك العادل وكان نصرانيا فأسلم وكان كثير الصدقات والبر والصلات استوزره المعز وكان حظيا عنده جدا لا يفعل شيئا إلا بعد مراجعته ومشاروته وكان قبله في الوزارة القاضي تاج الدين ابن بنت الاعز وقبله القاضي بدر الدين السنجاري ثم صارت بعد ذلك كله إلى هذا الشيخ الاسعد المسلماني وقد كان الفائزي يكاتبه المعز بالمملوك ثم لما قتل المعز أهين الاسعد حتى صار شقيا وأخذ الامير سيف الدين قطز خطه بمائة ألف دينار وقد هجاه بهاء الدين زهير بن علي فقال ... لعن الله صاعدا ... وأباه فصاعدا ... وبنيه فنازلا ... واحدا
ثم واحدا ... ثم قتل بعد ذلك كله ودفن بالقرافة وقد رثاه القاضي ناصر الدين ابن المنير وله فيه مدائح وأشعار حسنة فصيحة رائقة
ابن أبي الحديد الشاعر العراقي
عبدالحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين أبو حامد بن أبي الحديد عز الدين المدائني الكاتب الشاعر المطبق الشيعي الغالي له شرح نهج البلاغة في عشرين مجلدا ولد بالمدائن سنة ست وثمانين وخمسمائة ثم صار إلى بغداد فكان أحد الكتاب والشعراء بالديوان الخليفتي وكان (13/199)
حظيا عند الوزير ابن العلقمي لما بينهما من المناسبة والمقاربة والمشابهة في التشيع والادب والفضيلة وقد أورد له ابن الساعي أشياء كثيرة من مدائحه وأشعاره الفائقة الرائقة وكان أكثر فضيلة وأدبا من أخيه أبي المعالي موفق الدين بن هبة الله وإن كان الاخر فاضلا بارعا أيضا وقد ماتا في هذه السنة رحمهما الله تعالى
ثم دخلت سنة ست وخمسين وستمائة
فيها أخذت التتار بغداد وقتلوا أكثر أهلها حتى الخليفة وانقضت دولة بني العباس منها
استهلت هذه السنة وجنود التتار قد نازلت بغداد صحبة الاميرين اللذين على مقدمة عساكر سلطان التتار هولاكوخان وجاءت إليهم أمداد صاحب الموصل يساعدونهم على البغاددة وميرته وهداياه وتحفه وكل ذلك خوفا على نفسه من التتار ومصانعة لهم قبحهم الله تعالى وقد سترت بغداد ونصبت فيها المجانيق والعرادات وغيرها من آلات الممانعة التي لا ترد من قدر الله سبحانه وتعالى شيئا كما ورد في الاثر لن يغني حذر عن قدر وكما قال تعالى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر وقال تعالى إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له وما لهم من دونه من وال وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب حتى اصيبت جارية كانت تلعب بين يدي الخليفة وتضحكه وكانت من جملة حظاياه وكانت مولدة تسمى عرفة جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها وهي ترقص بين يدي الخليفة فانزعج الخليفة من ذلك وفزع فزعا شديدا وأحضر السهم الذي أصابها بين يديه فإذا عليه مكتوب إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره أذهب من ذوي العقول عقولهم فامر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز وكثرت الستائر على دار الخلافة وكان قدوم هلاكوخان بجنوده كلها وكانوا نحو مائتي ألف مقاتل إلى بغداد في ثاني عشر المحرم من هذه السنة وهو شديد الحنق على الخليفة بسبب ما كان تقدم من الامر الذي قدره الله وقضاه وأنفذه وأمضاه وهو أن هلاكو لما كان أول بروزه من همدان متوجها إلى العراق أشار الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي على الخليفة بأن يبعث إليه بهدايا سنية ليكون ذلك مداراة له عما يريده من قصد بلادهم فخذل الخليفة عن ذلك دويداره الصغير ايبك وغيره وقالوا إن الوزير إنما يريد بهذا مصانعة ملك التتار بما يبعثه إليه من الاموال وأشاروا بأن يبعث بشيء يسير فأرسل شيئا من الهدايا فاحتقرها هلاكوخان وأرسل إلى الخليفة يطلب منه دويداره المذكور وسليمان شاه فلم يبعثهما اليه ولا بالا به حتى أزف قدومه ووصل بغداد بجنوده الكثيرة الكافرة الفاجرة الظالمة الغاشمة ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الاخر فاحاطوا ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية وجيوش (13/200)
بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة لا يبلغون عشرة آلاف فارس وهم وبقية الجيش كلهم قد صرفوا عن إقطاعاتهم حتى استعطى كثيرمنهم في الاسواق وأبواب المساجد وأنشد فيهم الشعراء قصائد يرثون لهم ويحزنون على الاسلام وأهله وذلك كله عن آراء الوزير ابن العلقمي الرافضي وذلك أنه لما كان في السنة الماضية كان بين أهل السنة والرافضة حرب عظيمة نهبت فيها الكرخ ومحلة الرافضة حتى نهبت دور قرابات الوزير فاشتد حنقه على ذلك فكان هذا مما أهاجه على أن دبر على الاسلام وأهله ما وقع من الأمر الفظيع الذي لم يؤرخ أبشع منه منذ بنيت بغداد وإلى هذه الاوقات ولهذا كان أول من برز إلى التتار هو فخرج بأهله وأصحابه وخدمه وحشمه فاجتمع بالسلطان هلاكوخان لعنه الله ثم عاد فاشار على الخليفة بالخروج إليه والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم ونصفه للخليفة فاحتاج الخليفة إلى أن خرج في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والصوفية ورؤس الامرا والدولة والاعيان فلما اقتربوا من منزل السلطان هولاكوخان حجبوا عن الخليفة إلا سبعة عشر نفسا فخلص الخليفة بهؤلاء المذكورين وأنزل الباقون عن مراكبهم ونهبت وقتلوا عن آخرهم وأحضر الخليفة بين يدي هلاكو فسأله عن أشياء كثيرة فيقال إنه اضطرب كلام الخليفة من هول ما راى من الاهانة والجبروت ثم عاد إلى بغداد وفي صحبته خوجة نصير الدين الطوسي والوزير ابن العلقمي وغيرهما والخليفة تحت الحوطة والمصادرة فأحضر من دار الخلافة شيئا كثيرا من الذهب والحلى والمصاغ والجواهر والاشياء النفيسة وقد اشار أولئك الملأ من الرافضة وغيرهم من المنافقين على هولاكو ان لا يصالح الخليفة وقال الوزير متى وقع الصلح على المناصفة لا يستمر هذا إلا عاما أو عامين ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك وحسنوا له قتل الخليفة فلما عاد الخليفة إلى السلطان هولاكو أمر بقتله ويقال إن الذي أشار بقتله الوزير ابن العلقميي والمولى نصير الدين الطوسي وكان النصير عند هولاكو قد استصحبه في خدمته لما فتح قلاع الألموت وانتزعها من أيدي الاسماعيلية وكان النصير وزيرا لشمس الشموس ولأبيه من قبله علاء الدين بن جلال الدين وكانوا يسنبون إلى نزار بن المستنصر العبيدي وانتخب هولاكو النصير ليكون في خدمته كالوزير المشير فلما قدم هولاكو وتهيب من قتل الخليفة هون عليه الوزير ذلك فتقلوه رفسا وهو في جوالق لئلا يقع على الارض شيء من دمه خافوا اني ؤخذ بثأره فيما قيل لهم وقيل بل خنق ويقال بل أغرق فالله اعلم فباءوا بائمة وإثم من كان معه من سادات العلماء والقضاة والاكابر والرؤساء والأمراء واولى الحل والعقد ببلاده وستأتي ترجمة الخليفة في الوفيات ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان ودخل كثير من الناس في الابار وأماكن الحشوش وقنى الوسخ وكمنوا كذلك أياما لا يظهرون (13/201)
وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الابواب فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الامكنة فيقتلونهم بالاسطحة حتى تجري الميازيب من الدماء في الازقة فإنا لله وإنا إليه راجعون وكذلك في المساجد والجوامع والربط ولم ينج منهم احد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي وطائفة من التجار أخذوا لهم أمانا بذلوا عليه أموالا جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلها كانها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس وهم في خوف وجوع وذلة وقلة وكان الوزير ابن العلقمي قبل هذه الحادثة يجتهد في صرف الجيوش وإسقاط اسمهم من الديوان فكانت العساكر في آخر أيام المستنصر قريبا من مائة ألف مقاتل منهم من الامراء من هو كالملوك الاكابر الاكاسر فلم يزل يجتهد في تقليلهم إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف ثم كاتب التتار وأطمعهم في أخذ البلاد وسهل عليهم ذلك وحكى لهم حقيقة الحال وكشف لهم ضعف الرجال وذلك كله طمعا منه أن يزيل السنة بالكلية وأن يظهر البدعة الرافضة وأن يقيم خليفة من الفاطميين وأن يبيد العلماء والمفتيين والله غالب على أمره وقد رد كيده في نحره وأذله بعد العزة القعساء وجعله حوشكاشا للتتار بعد ما كان وزيرا للخلفاء واكتسب إثم من قتل ببغداد من الرجال والنساء والاطفال فالحكم لله العلي الكبير رب الارض والسماء
وقد جرى على بني إسرائيل ببيت المقدس قريب مما جرى على أهل بغداد كما قص الله تعالى علينا ذلك في كتابه العزيز حيث يقول وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الارض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا الايات وقد قتل من بني إسرائيل خلق من الصلحاء وأسر جماعة من أولاد الانبياء وخرب بيت المقدس بعد ما كان معمورا بالعباد والزهاد والاحبار والانبياء فصار خاويا على عروشه واهي البناء
وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة فقيل ثمانمائة ألف وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف وقيل بلغت القتلى ألفي ألف نفس فانا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرم وما زال السيف يقتل أهلها اربعين يوما وكان قتل الخليفة المستعصم بالله أمير المؤمنين يوم الاربعاء رابع عشر صفر وعفى قبره وكان عمره يومئذ ستا واربعين سنة وأربعة أشهر ومدة خلافته خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأيام وقتل معه ولده الاكبر أبو العباس أحمد وله خمس وعشرون سنة ثم قتل ولده الاوسط أبو الفضل عبدالرحمن وله ثلاث وعشرون سنة واسر ولده الاصغر مبارك واسرت (13/202)
أخواته الثلاث فاطمة وخديجة ومريم وأسر من دار الخلافة من الابكار ما يقارب ألف بكر فيما قيل والله أعلم فإنا لله وإنا إليه راجعون
وقتل استاذ دار الخلافة الشيخ محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي وكان عدو الوزير وقتل أولاده الثلاثة عبد الله وعبدالرحمن وعبدالكريم وأكابر الدولة واحدة بعد واحد منهم الديودار الصغير مجاهد الدين ايبك وشهاب الدين سليمان شاه وجماعة من أمراء السنة وأكابر البلد وكان الرجل يستدعي به من دار الخلافة من بني العباس فيخرج باولاده ونسائه فيذهب به إلى مقبرة الخلال تجاه المنظرة فيذبح كما تذبح الشاة ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه وقتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة صدر الدين علي بن التيار وقتل الخطباء والأئمة وحملة القرآن وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد وأراد الوزير ابن العلقمي قبحه الله ولعنه أن يعطل المساجد والمدارس والربط ببغداد ويستمر بالمشاهد ومحال الرفض وأن يبني للرافضة مدرسة هائلة ينشرون علمهم وعليها بها وعليا فلم يقدره الله تعالى على ذلك بل أزال نعمته عنه وقصف عمره بعد شهور يسيرة من هذه الحادثة وأتبعه بولده فاجتمعا والله أعلم بالدرك الاسفل من النار ولما انقضى الامر المقدر وانقضت الاربعون يوما بقيت بغداد خاوية على عروشها ليس بها احد إلا الشاذ من الناس والقتلى في الطرقات كأنها التلول وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد وتغير الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلادا لشام فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون فإنا لله وإنا إليه راجعون ولما نودى ببغداد بالامان خرج من تحت الارض من كان بالمطامير والقنى والمقابر كانهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم وقد أنكر بعضهم بعضا فلا يعرف الوالد ولده ولا الاخ أخاه وأخذهم الوباء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى واجتمعوا تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى الله لا إله إلا هو له الاسماء الحسنى وكان رحيل السلطان المسلط هولاكوخان عن بغداد في جمادي الاولى من هذه السنة إلى مقر ملكه وفوض أمر بغداد إلى الامير على بهادر فوض إليه الشحنكية بها وإلى الوزير بن العلقمي فلم يمهله الله ولا أهمله بل أخذه أخذ عزيز مقتدر في مستهل جمادي الاخرة عن ثلاث وستين سنة وكان عنده فضيلة في الانشاء ولديه فضيلة في الادب ولكنه كان شيعيا جلدا رافضيا خبيثا فمات جهدا وغما وحزنا وندما إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم فولى بعده الوزارة ولده عز الدين بن الفضل محمد فالحقه الله بأبيه في بقية هذا العام ولله الحمد والمنة (13/203)
وذكر أبو شامة وشيخنا أبو عبد الله الذهبي وقطب الدين اليونيني أنه أصاب الناس في هذه السنة بالشام وباء شديد وذكروا أن سبب ذلك من فساد الهواء والجو فسد من كثرة القتلى ببلاد العراق وانتشر حتى تعدى إلى بلاد الشام فالله أعلم وفي هذه السنة اقتتل المصريون مع صاحب الكرك الملك المغيث عمر بن العادل الكبير وكان في حبسه جماعة من أمراء البحرية منهم ركن الدين بيبرس البندقداري فكسرهم المصريون ونهبوا ما كان معهم من الاثقال والأموال وأسروا جماعة من رءوس الامراء فقتلوا صبرا وعادوا إلى الكرك في أسوا حال وأشنعه وجعلوا يفسدون في الارض ويعيثون في البلاد فارسل الله الناصر صاحب دمشق فبعث جيشا ليكفهم عن ذلك فكسرهم البحرية واستنصروا فبرز إليهم الناصر بنفسه فلم يلتفتوا إليه وقطعوا أطناب خيمته التي هو فيها بإشارة ركن الدين بيبرس المذكور وجرت حروب وخطوب يطول بسطها وبالله المستعان وممن توفي في هذه السنة من الاعيان
خليفة الوقت المستعصم بالله
أمير المؤمنين آخر خلفاء بني العباس بالعراق رحمه الله وهو أبو أحمد عبدالله بن المستنصر بالله أبي جعفر منصور بن الظاهر بامر الله أبي نصر محمد بن الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن بن المستنجد بالله أبي المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله أبي عبد الله محمد بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد بن المقتدي بالله أبي القاسم عبد الله بن الذخيرة أبي العباس محمد بن القائم بأمر الله عبد الله بن القادر بالله أبي العباس أحمد بن الامير إسحاق بن المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الامير الموفق أبي احمد طلحة بن المتوكل على الله أبي الفضل جعفر بن المعتصم بالله أبي إسحاق محمد بن الرشيد أبي محمد هارون بن المهدي أبي عبد الله محمد ابن المنصور ابي جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمي العباسي مولده سنة تسع وستمائة وبويع له بالخلافة في العشرين من جمادي الاولى سنة اربعين وكان مقتله في يوم الاربعاء الرابع عشر من صفر سنة ست وخمسين وستمائة فيكون عمره يوم قتل سبعا وأربعين سنة رحمه الله تعالى وقد كان حسن الصورة جيدالسريرة صحيح العقيدة مقتديا بأبيه المستنصر في المعدلة وكثرة الصدقات وإكرام العلماء والعباد وقد استجاز له الحافظ ابن النجار من جماعة من مشايخ خراسان منهم المؤيد الطوسي وأبو روح عبدالعزيز بن محمد الهروي وأبو بكر القاسم بن عبد الله بن الصفار وغيرهم وحدث عنه جماعة منهم مؤدبه شيخ الشيوخ صدر الدين أبو الحسن علي بن محمد بن التيار وأجاز هو للامام محيي الدين أبن الجوزي وللشيخ نجم الدين البادرائي وحدثا عنه بهذه الاجازة وقد كان رحمه الله سنيا على طريقة السلف واعتقاد (13/204)
الجماعة كما كان ابوه وجده ولكن كان فيه لين وعدم تيقظ ومحبة للمال وجمعه ومن جملة ذلك أنه استحل الوديعة التي استودعه إياها الناصر داود بن المعظم وكانت قيمتها نحوا من مائة ألف دينار فاستقبح هذا من مثل الخليفة وهو مستقبح ممن هو دونه بكثير بل من اهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك كما قال الله تعالى ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما قتلته التتار مظلوما مضطهدا في يوم الاربعاء رابع عشر صفر من هذه السنة وله من العمر ستة وأربعون سنة وأربعة أشهر وكانت مدةخلافته خمسة عشر سنة وثمانية أشهر وأياما فC وأكرم مثواه وبل بالرأفة ثراه وقد قتل بعده ولداه وأسر الثالث مع بنات ثلاث من صلبه وشغر منصب الخلافة بعده ولم يبق في بني العباس من سد مسده فكان آخر الخلفاء من بني العباس الحاكمين بالعدل بين الناس ومن يرتجي منهم النوال ويخشى البأس وختموا بعبد الله المستعصم كما فتحوا بعبد الله السفاح بويع له بالخلافة وظهر ملكه وأمره في سنة ثنتين وثلاثين ومائة بعد انقضاء دولة بني امية كما تقدم بيانه وآخرهم عبد الله المستعصم وقد زال ملكه وانقضت خلافته في هذا العام فجملة أياهم خمسمائة سنة وأربع وعشرون سنة وزال ملكهم عن العراق والحكم بالكلية مدة سنة وشهور في أيام البساسيري بعد الخمسين وأربعمائة ثم عادت كما كانت وقد بسطنا ذلك في موضعه في أيام القائم بأمر الله ولله الحمد
ولم تكن أيدي بني العباس حاكمة على جميع البلاد كما كانت بنو أمية قاهرة لجميع البلاد والاقطار والامصار فإنه خرج عن بني العباس بلاد المغرب ملكها في أوائل الأمر بعض بني أمية ممن بقي منهم من ذرية عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك ثم تغلب عليه الملوك بعد دهور متطاولة كما ذكرنا وقارن بني العباس دولة المدعين أنهم من الفاطميين ببلاد مصر وبعض بلاد المغرب وما هنالك وبلاد الشام في بعض الاحيان والحرمين في أزمان طويلة وكذلك أخذت من أيدهم بلاد خراسان وما وراء النهر وتداولتها الملوك دولا بعد دول حتى لم يبق مع الخليفة منهم إلى بغداد وبعض بلاد العراق وذلك لضعف خلافتهم واشتغالهم بالشهوات وجمع الاموال في أكثر الاوقات كما ذكر ذلك مبسوطا في الحوادث والوفيات
واستمرت دولة الفاطميين قريبا من ثلاثمائة سنة حتى كان آخرهم العاضد الذي مات بعد الستين وخمسمائة في الدولة الصلاحية الناصرية القدسية وكانت عدة ملوك الفاطميين أربعة عشر ملكا متخلفا ومدة ملكهم تحريرا من سنة سبع وتسعين ومائتين إلى ان توفي العاضد سنة بضع وستين وخمسمائة والعجب أن خلافة النبوة التالية لزمان رسول صلى الله عليه و سلم كانت ثلاثين سنة كما نطق بها (13/205)
الحديث الصحيح فكان فيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم ابنه الحسن بن علي ستة شهور حتى كملت الثلاثون كما قررنا ذلك في دلائل النبوة ثم كانت ملكا فكان أول ملوك الاسلام من بني أبي سفيان معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية ثم ابنه يزيد ثم ابن ابنه معاوية ابن يزيد بن معاوية والقرض هذا البطن المفتتح بمعاوية المختتم بمعاوية ثم ملك مروان بن الحكم ابن ابي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصى ثم ابنه عبد الملك ثم الوليد بن عبد الملك ثم أخوه سليمان ثم ابن عمه عمر بن عبد العزيز ثم يزيد بن عبد الملك ثم هشام بن عبد الملك ثم الوليد بن يزيد ثم يزيد بن الوليد ثم أخوه إبراهيم الناقص وهو ابن الوليد أيضا ثم مروان بن محمد بن مروان الملقب بالحمار وكان آخرهم فكان أولهم اسمه مروان وآخرهم اسمه مروان ثم انقرضوا من أولهم إلى خاتمهم وكان أول خلفاء بني العباس عبد الله السفاح وآخرهم عبد الله المستعصم وكذلك أول خلفاء الفاطميين فالأول اسمه عبد الله العاضد وآخرهم عبد الله العاضد وهذا اتفاق غريب جدا قل من يتنبه له والله سبحانه أعلم وهذه ارجوزة لبعض الفضلاء ذكر فيها جميع الخلفاء ... الحمد لله العظيم عرشة ... القاهر الفرد القوي بطشه ... مقلب الايام والدهور ... وجامع الانام للنشور ... ثم الصلاة بدوام الابد ... على النبي المصطفى محمد ... وآله وصحبه الكرام ... السادة الائمة الاعلام ... وبعد فإن هذه ارجوزة ... نظمتها لطيفة وجيزة ... نظمت فيها الراشدين الخلفا ... من قام بعد النبي المصطفى ... ومن تلاهم وهلم جرا ... جعلهتا تبصرة وذكرى ... ليعلم العاقل ذو التصوير ... كيف جرت حوادث الامور ... وكل ذي مقدرة وملك ... معرضون للفنا والهلك ... وفي اختلاف الليل والنهار ... تبصرة لكل ذي اعتبار ... والملك الجبار في بلاده ... يورثه من شاء من عباده ... وكل مخلوق فللفناء ... وكل ملك فالى انتهاء ... ولا يدوم غير ملك الباري ... سبحانه من ملك قهار ... منفرد بالعز والبقاء ... وما سواه فألى انقضاء ... أول من بويع بالخلافة ... بعد النبي ابن أبي قحافة (13/206)
أعني الامام الهادي الصديقا ... ثم ارتضى من بعده الفاروقا ... ففتح البلاد ولامصارا ... واستأصلت سيوفه الكفارا ... وقام بالعدل قياما يرضي ... بذاك جبار السما والارض ... ورضى الناس بذي النورين ... ثم على والد السبطين ... ثم أتت كتائب مع الحسن ... كادوا بأن يجددوا بها الفتن ... فأصلح الله على يديه ... كما عزا نبينا إليه ... وجمع الناس على معاوية ... ونقل القصة كل راوية ... فمهد الملك كما يريد ... وقام فيه بعده يزيد ... ثم ابنه وكان برا راشدا ... أعني أبا ليلى وكان زاهدا ... فترك الامرة لا عن غلبة ... ولم يكن إليها منه طلبة ... وابن الزبير بالحجاز يد أب ... في طلب الملك وفيه ينصب ... وبالشام بايعوا مروانا ... بحكم من يقول كن فكانا ... ولم يدم في الملك غير عام ... وعافصته اسهم الحمام ... واستوثق الملك لعبد الملك ... ونار نجم سعده في الفلك ... وكل من نازعه في الملك ... خر صريعا بسيوف الهلك ... وقتل المصعب بالعراق ... وسير الحجاج ذا الشقاق ... إلى الحجاز بسيوف النقم ... وابن الزبير لائذ بالحرم ... فجار بعد قتله بصلبه ... ولم يخف في أمره من ربه ... وعندما صفت له الامور ... تقلبت بجسمه الدهور ... ثم أتى من بعده الوليد ... ثم سليمان الفتى الرشيد ... ثم استفاض في الورى عدل عمر ... تابع امر ربه كما أمر ... وكان يدعى بأشج القوم ... وذي الصلاة والتقى والصوم ... فجاء بالعدل والاحسان ... وكف أهل الظلم والطفيان ... مقتديا بسنة الرسول ... والراشدين من ذوي العقول ... فجرع الاسلام كأس فقده ... ولم يروا مثلا له من بعده ... ثم يزيد بعده هشام ... ثم الوليد فت منه الهام ... ثم يزيد وهو يدعى الناقصا ... فجاءه حمامه معافصا (13/207)
ولم تطل مدة إبراهيما وكان كل أمره سقيما ... وأسند الملك إلى مروانا ... فكان من أموره ما كانا ... وانقرض الملك على يديه ... وحادث الدهر سطا عليه ... وقتله قد كان بالصعيد ... ولم تفده كثرة العديد ... وكان فيه حتف آل الحكم ... واستنزعت عنهم ضروب النعم ... ثم أتى ملك بني العباس ... ولا زال فينا ثابت الاساس ... وجاءت البيعة من أرض العجم ... وقلدت بيعتهم كل الامم ... وكل من نازعهم من أمم ... خر صريعا لليدين والفم ... وقد ذكرت من تولى منهم ... حين تولى القائم المستعصم ... أولهم ينعت بالسفاح ... وبعده المنصور ذو الجناح ... ثم أتى من بعده المهدي ... يتلوه موسى الهادي الصفي ... وجاء هارون الرشيد بعده ... ثم الامين حين ذاق فقده ... وقام بعد قتله المأمون ... وبعده المعتصم المكين ... واستخلف الواثق بعد المعتصم ... ثم اخوه جعفر موفى الذمم ... وأخلص النية في المتوكل ... لله ذي العرش القديم الاول ... فأدحض البدعة في زمانه ... وقامت السنة في أوانه ... ولم يبق فيها بدعة مضلة ... وألبس المعتزلي ثوب ذلة ... فرحمة الله عليه أبدا ... ما غار نجم في السماء أو بدا ... وبعده استولى وقام المعتمد ... ومهد الملك وساس المقتصد ... وعندما استشهد قام المنتصر ... والمستعين بعده كما ذكر ... وجاء بعد موته المعتز ... والمهتدي الملتزم الاعز ... والمكتفي في صحف العلا أسطر ... وبعده ساس الامور المقتدر ... واستوثق الملك بعز القاهر ... وبعده الراضي أخو المفاخر ... والمتقي من بعد ذا المستكفي ... ثم المطيع ما به من خلف ... والطائع الطائع ثم القادر ... والقائم الزاهد وهو الشاكر ... والمقتدي من بعده المستظهر ... ثم أتى المسترشد الموقر ... وبعده الراشد ثم المقتفى ... وحين مات استنجدوا بيوسف (13/208)
المستفيء العادل في أفعاله ... الصادق الصدوق في أقواله ... والناصر الشهم الشديد الباس ... ودام طول مكثه في الناس ... ثم تلاه الظاهر الكريم ... وعدله كل به عليم ... ولم تطل أيامه في المملكة ... غير شهور واعترته الهلكة ... وعهده كان إلى المستنصر ... العادل البر الكريم العنصر ... دام يسوس الناس سبع عشرة ... وأشهرا بعزمات بره ... ثم توفي عام أربعينا ... وفي جمادي صادف المنونا ... وبايع الخلائق المستعصما ... صلى عليه ربنا وسلما ... فأرسل الرسل إلى الافاق ... يقضون بالبيعة والوفاق ... وشرفوا بذكره المنابرا ... ونشروا في جوده المفاخرا ... وسار في الافاق حسن سيرته ... وعدله الزائد في رعيته ...
قال الشيخ عمادا لدين ابن كثير رحمه الله تعالى ثم قلت أنا بعد ذلك أبياتا ... ثم ابتلاه الله بالتتار ... أتباع جنكيزخان الجبار ... صحبته ابن ابنه هولاكو ... فلم يكن من أمره فكاك ... فمزقوا جنوده وشمله ... وقتلوه نفسه وأهله ... ودمروا بغداد والبلادا ... وقتلوا الاحفاد والاجدادا ... وانتهبوا المال مع الحريم ... ولم يخافوا سطوة العظيم ... وغرهم إنظاره وحلمه ... وما اقتضاه عدله وحكمه ... وشغرت من بعده الخلافة ... ولم يؤرخ مثلها من آفة ... ثم أقام الملك اعني الظاهرا ... خليفة أعني به المستنصرا ... ثم ولى من بعد ذاك الحاكم ... مسيم بيبرس الامام العالم ... ثم ابنه الخليفة المستكفي ... وبعض هذا للبيب يكفي ... ثم ولى من بعده جماعة ... ما عندهم علم ولا بضاعة ... ثم تولى وقتنا المعتضد ... ولا يكاد الدهر مثله يجد ... في حسن خلق واعتقاد وحلى ... وكيف لا وهو من السيم الاولى ... سادوا البلاد والعباد فضلا ... وملأوا الاقطار حكما وعدلا ... اولاد عم المصطفى محمد ... وأفضل الخلق بلا تردد (13/209)
صلى عليه الله ذو الجلال ... ما دامت الايام والليالي ... فصل ...
والفاطميون قليلوا العدة
... لكنهم مدلهم في المدة ... فملكوا بضعا وستين سنة ... من بعده مائتين وكان كالسنة ... والعدة أربع عشرة المهدي ... والقائم المنصور المعدي ... أعني به المعز بأني القاهرة ... ثم العزيز الحاكم الكوافرة ... والظاهر المستنصر المستعلي ... فالامر الحافظ عنه سوء الفعل ... والظافر الفائز ثم العاضد ... آخرهم وما لهذا جاحد ... أهلك بعد البضع والسنينا ... من قبلها خمسمائة سنينا ... وأصلهم يهود ليسوا شرفا ... بذاك أفتى السادة الائمة ... أنصاردين الله من ذي الامة ... فصل ... وهكذا خلفاء بني أمية ... عدتهم كعدة الرافضية ... ولكن المدة كانت ناقصة ... عن مائة من السنين خالصة ... وكلهم قد كان ناصبيا ... إلا الامام عمر التقيا ... معاوية ثم ابنه يزيد ... وابن ابنه معاوية السديد ... مروان ثم ابن له عبد الملك ... منابذ لابن الزبير حتى هلك ... ثم استقل بعده بالملك ... في سائر الارض بغير شك ... ثم الوليد النجل باني الجامع ... وليس مثله بشكله من جامع ... ثم سليمان الجواد وعمر ... ثم يزيد وهشام وغدر ... أعني الوليد بن يزيد الفاسقا ... ثم يزيد بن الوليد فائقا ... يلقب الناقص وهو كامل ... ثم إبراهيم وهو عاقل ... ثم مروان الحمار الجعدي ... آخرهم فاظفر بذا من عندي ... والحمد لله على التمام ... كذاك نحمد على الانعام ... ثم الصلاة مع تمام العدد ... على النبي المصطفى محمد ... وآله وصحبه الاخيار ... في سائر الاوقات والاعصار ... وهذه الابيات نظم الكاتب ... ثمانية تتمة المناقب (13/210)
وممن قتل مع الخليفة واقف الجوزية بدمشق استاذ دار الخلافة محيي الدين يوسف بن الشيخ جمال الدين ابي الفرج ابن الجوزي عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله بن حماد بن احمد بن جعفر بن عبد الله بن القاسم بن النضر بن محمد بن أبي بكر الصديق القرشي التيمي البكري البغدادي الحنبلي المعروف بابن الجوزي ولد في ذي القعدة سنة ثمانين وخمسمائة ونشأ شابا حسنا وحين توفي أبوه وعظ في موضعه فأحسن وأجاد وأفاد ثم لم يزل متقدما في مناصب الدنيا فولى حسبة بغداد مع الوعظ الفائق والاشعار الحسنة ثم ولى تدريس الحنابلة بالمستنصرية سنة اثنتين وثلاثين وستمائة وكانت له تداريس أخر ولى استاذ دار الخلافة وكان رسولا للملوك من بني أيوب وغيرهم من جهة الخلفاء وانتصب ابنه عبد الرحمن مكانه للحسبة والوعظ ثم كانت الحسبة تتنقل في بنيه الثلاثة عبد الرحمن وعبد الله وعبدالكريم وقد قتلوا معه في هذه السنة رحمهم الله ولمحيي الدين هذا مصنف في مذهب أحمد وقد ذكر له ابن الساعي أشعارا حسنة يهنئ بها الخليفة في المواسم والاعياد تدل على فضيلة وفصاحة وقد وقف الجوزية بدمشق وهي من أحسن المدارس تقبل الله منه الصرصري المادح رحمه الله
يحيى بن يوسف بن يحيى بن منصور بن المعرم عبدالسلام الشيخ الامام العلامة البارع الفاضل في أنواع من العلوم جمال الدين أبو زكريا الصرصري الفاضل المادح الحنبلي الضرير البغدادي معظم شعره في مدح رسول الله صلى الله عليه و سلم وديوانه في ذلك مشهور معروف غير منكر ويقال إنه كان يحفظ صحاح الجوهري بتمامه في اللغة وصحب الشيخ علي بن إدريس تلميذ الشيخ عبدالقادر وكان ذكيا يتوقد نورا وكان ينظم على البديهة سريعا أشياء حسنة فصيحة بليغة وقد نظم الكافي الذي ألفه موفق الدين بن قدامة ومختصر الخرقي وأما مدائحه في رسول الله صلى الله عليه و سلم فيقال إنها تبلغ عشرين مجلدا وما اشتهر عنه أنه مدح أحدا من المخلوقين من بني آدم إلا الأنبياء ولما دخل التتار إلى بغداد دعي إلى ذارئها كرمون بن هلاكو فأبى أن يجيب إليه وأعد في داره حجارة فحين دخل عليه التتار رماهم بتلك الاحجار فهشم منهم جماعة فلما خلصوا إليه قتل بعكازه أحدهم ثم قتلوه شهيدا رحمه الله تعالى وله من العمر ثمان وستون سنة وقد أورد له قطب الدين اليونيني من ديوانه قطعة صالحة في ترجمته في الذيل استوعب حروف المعجم وذكر غير ذلك قصائد طوالا كثيرة حسنة
البهاء زهير صاحب الديوان
وهو زهير بن محمد بن علي بن يحيى بن الحسين بن جعفر المهلبي العتكي المصري ولد بمكة ونشأ بقوص وأقام بالقاهرة الشاعر المطبق الجواد في حسن الخط له ديوان مشهور وقدم على السلطان (13/211)
الصالح أيوب وكان غزير المروءة حسن التوسط في إيصال الخير إلى الناس ودفع الشر عنهم وقد أثنى عليه ابن خلكان وقال اجاز لي رواية ديوانه وقد بسط ترجمته القطب اليونيني
الحافظ زكي الدين المنذري
عبدالعظيم بن عبد القوي بن عبد الله بن سلامة بن سعد بن سعيد الامام العلامة محمد أبو زكي الدين المنذري الشافعي المصري أصله من الشام وولد بمصر وكان شيخ الحديث بها مدة طويلة إليه الوفادة والرحلة من سنين متطاولة وقيل إنه ولد بالشام سنة إحدى وثمانين وخمسمائة وسمع الكثير ورحل وطلب وعنى بهذا الشأن حتى فاق أهل زمانه فيه وصنف وخرج واختصر صحيح مسلم وسنن أبي داود وهو أحسن اختصارا من الاول وله اليد الطولى في اللغة والفقه والتاريخ وكان ثقة حجة متحريا زاهدا توفي يوم السبت رابع ذي القعدة من هذه السنة بدار الحديث الكاملية بمصر ودفن بالقرافة رحمه الله تعالى
النور أبو بكر بن محمد بن محمد بن عبد العزيز
ابن عبد الرحيم بن رستم الأشعري الشاعر المشهور الخليع كان القاضي صدر الدين بن سناء الدولة قد أجلسه مع الشهود تحت الساعات ثم استدعاه الناصر صاحب البلد فجعله من جلسائه وندمائه وخلع عليه خلع الاجناد فانسلخ من هذا الفن إلى غيره وجمع كتابا سماه الزرجون في الخلاعة والمجون وذكر فيه أشياء كثيرة من النظم والنثر والخلاعة ومن شعره الذي لا يحمد ... لذة العمر خمسة فاقتنيها ... من خليع غدا اديبا فقيها ... في نديم وقينة وحبيب ... ومدام وسب من لام فيها ... الوزير بن العلقمي الرافضي قبحه الله
محمد بن أحمد بن محمد بن علي بن أبي طالب الوزير مؤيد الدين أبو طالب ابن العلقمي وزير المستعصم البغدادي وخدمة في زمان المستنصر استاذ دار الخلافة مدة طويلة ثم صار وزير المستعصم وزير سوء على نفسه وعلى الخليفة وعلى المسلمين مع أنه من الفضلاء في الانشاء والادب وكان رافضيا خبيثا ردئ الطوية على الاسلام وأهله وقد حصل له من التعظيم والوجاهة في أيام المستعصم ما لم يحصل لغيره من الوزراء ثم مالأ على الاسلام وأهله الكفار هولاكوخان حتى فعل ما فعل بالاسلام وأهله مما تقدم ذكره ثم حصل له بعد ذلك من الإهانة والذل على أيدي التتار الذين مالأهم وزال عنه ستر الله وذاق الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الاخرة أشد وابقى وقد رأته امراة وهو في الذل والهوان وهو راكب في أيام التتار برذونا وهو مرسم عليه وسائق يسوق به ويضرب فرسه فوقفت إلى جانبه وقالت له يا ابن العلقمي هكذا كان بنو العباس يعاملونك فوقعت كلمتها (13/212)
في قلبه وانقطع في داره إلى أن مات كمدا وغبينة وضيق وقلة وذلة في مستهل جمادي الاخرة من هذه السنة وله من العمر ثلاث وستون سنة ودفن في قبور الروافض وقد سمع بأذنيه ورأى بعينيه من الإهانة من التتار والمسلمين مالا يحسد ولا يوصف وتولى بعده ولده الخبيث الوزارة ثم اخذه الله أخذ القرى وهي ظالمة سريعا وقد هجاه بعض الشعراء فقال فيه ... يا فرقة الاسلام نوحوا واندبوا ... أسفا على ما حل بالمستعصم ... دست الوزارة كان قبل زمانه ... لابن الفرات فصار لابن العلقمي ... محمد بن عبد الصمد بن عبد الله بن حيدرة
فتح الدين أبو عبد الله بن العدل محتسب دمشق كان مشكورا حسن الطريقة وجده العدل نجيب الدين أبو محمد عبد الله بن حيدرة وهو واقف المدرسة التي بالزبداني في سنة تسعين وخمسمائة تقبل الله منه وجزاه خيرا
القرطبي صاحب المفهم في شرح مسلم أحمد بن عمر بن إبراهيم بن عمر أبو العباس الانصاري القرطبي المالكي الفقيه المحدث المدرس بالاسكندرية ولد بقرطبة سنة ثمان وسبعين وخمسمائة وسمع الكثير هناك واختصر الصحيحين وشرح صحيح مسلم المسمى بالمفهم وفيه اشياء حسنة مفيدة محررة رحمه الله
الكمال إسحاق بن أحمد بن عثمان
أحد مشايخ الشافعية أخذ عنه الشيخ محيي الدين النووي وغيره وكان مدرسا بالرواحية توفي في ذي القعدة من هذه السنة
العماد داود بن عمر بن يحيى بن عمر بن كامل
أبو المعالي وأبو سليمان الزبيدي المقدسي ثم الدمشقي خطيب بيت الابار وقد خطب بالاموي ست سنين بعد ابن عبد السلام ودرس بالغزالية ثم عاد إلى بيت الابار فمات بها
علي بن محمد بن الحسين صدر الدين أبو الحسن بن النيار شيخ الشيوخ ببغداد وكان أولا مؤدبا للامام المستعصم فلما صارت الخلافة إليه برهة من الدهور رفعه وعظمه وصارت له وجاهة عنده وانضمت إليه أزمة الامور ثم إنه ذبح بدار الخلافة كما تذبح الشاة على أيدي التتار
الشيخ علي العابد الخباز كان له أصحاب وأتباع ببغداد وله زاوية يزار فيها قتلته التتار وألقى على مزبلة بباب زاويته ثلاثة أيام حتى أكلت الكلاب من لحمه ويقال إنه أخبر بذلك عن نفسه في حال حياته محمد بن إسماعيل بن أحمد بن أبي الفرج أبو عبد الله المقدسي خطيب براد سمع الكثير وعاش تسعين سنة ولد في سنة ثلاث وخمسين فسمع الناس (13/213)
عليه الكثير بدمشق ثم عاد فمات ببلده برادا في هذه السنة رحمه الله البدر لؤلؤ صاحب الموصل الملقب بالملك الرحيم توفي في شعبان عن مائة سنة وقد ملك الموصل نحوا من خمسين سنة وكان ذا عقل ودهاء ومكر لم يزل يعمل على أولاد استاذه حتى أبادهم وأزال الدولة الاتابكية عن الموصل ولما انفصل هولاكوخان عن بغداد بعد الوقعة الفظيعة العظيمة سار إلى خدمته طاعة له ومعه الهدايا والتحف فأكرمه واحترمه ورجع من عنده فمكث بالموصل أياما يسيرة ثم مات ودفن بمدرسته البدرية وتاسف الناس عليه لحسن سيرته وجودة معدلته وقد جمع له الشيخ عز الدين كتابه المسمى بالكامل في التاريخ فاجازه عليه وأحسن إليه وكان يعطى لبعض الشعراء ألف دينار وقام في الملك بعده ولده الصالح إسماعيل وقد كان بدر الدين لؤلؤ هذا أرمنيا اشتراه رجل خياط ثم صار إلى الملك نور الدين ارسلان شاه بن عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي ابن آقسنقر الاتابكي صاحب الموصل وكان مليح الصورة فحظى عنده وتقدم في دولته إلى أن صارت الكلمة دائرة عليه والوفود من سائر جهات ملكهم إليه ثم إنه قتل أولاد استاذه غيلة واحدا بعد واحد إلى أن لم يبق معه أحد منهم فاستقل هو بالملك وصفت له الامور وكان يبعث في كل سنة إلى مشهد على قنديلا ذهبا زنته ألف دينار وقد بلغ من العمر قريبا من تسعين سنة وكان شابا حسن الشباب من نضارة وجهه وحسن شكله وكانت العامة تلقبه قضيب الذهب وكان ذا همة عالية وداهية شديد المكر بعيد الغور وبعثه إلى مشهد على بذلك القنديل الذهب في كل سنة دليل على قلة عقله وتشيعه والله أعلم
الملك الناصر داود المعظم
ترجمة الشيخ قطب الدين اليونيني في تذييله على المرآة في هذه السنة وبسط ترجمته جدا وما جرى له من أول أمره إلى آخره وقد ذكرنا ترجمته في الحوادث وأنه أودع الخليفة المستعصم في سنة سبع وأربعين وديعة قيمتها مائة ألف دينار فجحدها الخليفة فتكرر وفوده إليه وتوسله بالناس في ردها إليه فلم يفد من ذلك شيئا وتقدم أنه قال لذلك الشاعر الذي مدح الخليفة بقوله ... لو كنت في يوم السقيفة حاضرا ... كنت المقدم والامام الأورعا ...
فقال له الناصر داود أخطأت فقد كان جد أمير المؤمنين العباس حاضرا يوم السقيفة ولم يكن المقدم وهو أفضل من أمير المؤمنين وإنما كان المقدم أبو بكر الصديق فقال الخليفة صدق وخلع عليه ونفى ذلك الشاعر وهو الوجيه الفزاري إلى مصر وكانت وفاة الناصر داود بقرية البويضا مرسما عليه وشهد جنازته صاحب دمشق (13/214)
ثم دخلت سنة سبع وخمسين وستمائة
استهلت هذه السنة وليس للمسلمين خليفة وسلطان دمشق وحلب الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز محمد بن أبي الظاهر غازي بن الناصر صلاح الدين وهو واقع بينه وبين المصريين وقد ملكوا نور الدين علي بن المعز ايبك التركماني ولقبوه بالمنصور وقد أرسل الملك الغاشم هولاكوخان إلى الملك الناصر صاحب دمشق يستدعيه إليه فأرسل إليه ولده العزيز وهو صغير ومعه هدايا كثيرة وتحف فلم يحتفل به هولاكوخان بل غضب على أبيه إذ لم يقبل إليه وأخذ ابنه وقال انا أسير إلى بلاده بنفسي فانزعج الناصر لذلك وبعث بحريمه وأهله إلى الكرك ليحصنهم بها وخاف أهل دمشق خوفا شديدا ولا سيما لما بلغهم أن التتار قد قطعوا الفرات سافر كثير منهم إلى مصر في زمن الشتاء فمات ناس كثير منهم ونهبوا فإنا لله وإنا إليه راجعون وأقبل هولاكوخان فقصد الشام بجنوده وعساكره وقد امتنعت عليه ميا فارقين مدة سنة ونصف فأرسل إليها ولده أشموط فافتتحها قسرا وأنزل ملكها الكامل بن الشهاب غازي بن العادل فأرسله إلى أبيه وهو محاصر حلب فقتله بين يديه واستناب عليها بعض مماليك الاشرف وطيف برأس الكامل في البلاد ودخلوا برأسه إلى دمشق فنصب على باب الفراديس البراني ثم دفن بمسجد الرأس داخل باب الفراديس الجواني فنظم أبو شامة في ذلك قصيدة يذكر فيها فضله وجهاده وشبهه بالحسين في قتله مظلوما ودفن رأسه عند رأسه
وفيها عمل الخواجة نصير الدين الطوسي الرصد بمدينة مراغة ونقل إليه شيئا كثيرا من كتب الاوقاف التي كانت ببغداد وعمل دار حكمة ورتب فيها فلاسفة ورتب لكل واحد في اليوم والليلة ثلاثة دراهم ودار طب فيها للطبيب في اليوم درهان ومدرسة لكل فقيه في اليوم درهم ودار حديث لكل محدث نصف درهم في اليوم وفيها قدم القاضي الوزير كما الدين عمر بن أبي جرادة المعروف بابن العديم إلى الديار المصرية رسولا من صاحب دمشق الناصر بن العزيز يستنجد المصريين على قتال التتار وأنهم قد اقترب قدومهم إلى الشام وقد استولوا على بلادالجزيرة وغيرها وقد جاز اشموط بن هولاكوخان الفرات وقرب من حلب فعند ذلك عقدوا مجلسا بين يدي المنصور بن المعز التركماني وحضر قاضي مصر بدرا لدين السنجاري والشيخ عز الدين بن عبد السلام وتفاوضوا الكلام فيما يتعلق بأخذ شيء من أموال العامة لمساعدة الجند وكانت العمدة على ما يقوله ابن عبد السلام وكان حاصل كلامه أنه قال إذا لم يبق في بيت المال شيء ثم انفقتم أموال الحوائض المذهبة وغيرها من الفضة والزينة وتساويتم أنتم والعامة في الملابس سوى آلات الحرب بحيث لم يبق للجندي سوى فرسه التي يركبها ساغ للحاكم حينئذ أخذ شيء من أموال (13/215)
الناس في دفع الاعداء عنهم لأنه إذا دهم العدو البلاد وجب على الناس كافة دفعهم باموالهم وأنفسهم
ولاية الملك المظفر قطز وفيها قبض الامير سيف الدين قطز علي ابن أستاذه نور الدين علي الملقب بالمنصور وذلك في غيبة أكثر الأمراء من مماليك ابيه وغيرهم في الصيد فلما مسكه سيره مع امه وابنيه واخوته الى بلاد الاشكري وتسلطن هو وسمى نفسه بالملك المظفر وكان هذا من رحمة الله بالمسلمين فإن الله جعل على يديه كسر التتار كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى وبان عذره الذي اعتذر به إلى الفقهاء والقضاة وإلى ابن العديم فإنه قال لا بد للناس من سلطان قاهر يقاتل عن المسلمين عدوهم وهذا صبي صغير لا يعرف تدبير المملكة
وفيها برز الملك الناصر صاحب دمشق إلى وطاء برز في جحافل كثيرة من الجيش والمتطوعة والاعراب وغيرهم ولما علم ضعفهم عن مقاومة المغول أرفض ذلك الجمع ولم يسر لا هو ولا هم فإنا لله وإنا إليه راجعون وفيها توفي من الاعيان
واقف الصدرية صدر الدين أسعد بن المنجاة بن بركات بن مؤمل التنوخي المغربي ثم الدمشقي الحنبلي احد المعدلين ذوي الاموال والمروءات والصدقات الدارة البارة وقف مدرسة للحنابلة وقبره بها إلى جانب تربة القاضي المصري في راس درب الريحان من ناحية الجامع الاموي وقد ولى نظر الجامع مدة واستجد أشياء كثيرة منها سوق النحاسين قبلي الجامع ونقل الصاغة إلى مكانها الان وقد كانت قبل ذلك في الصاغة العتيقة وجدد الدكاكين التي بين أعمدة الزيارة وثمر الجامع أموالا جزيلة وكانت له صدقات كثيرة وذكر عنه انه كان يعرف صنعة الكيميا وأنه صح معه عمل الفضة وعندي أن هذا لا يصح ولا يصح عنه والله أعلم
الشيخ يوسف الاقميني
كان يعرف بالأقميني لأنه كان يسكن قمين حمام نور الدين الشهيد وكان يلبس ثيابا طوالا تحف على الارض ويبول في ثيابه ورأسه مكشوفة ويزعمون أن له أحوالا وكشوفا كثيرة وكان كثير من العوام وغيرهم يعتقدون صلاحه وولايته وذك لانهم لا يعملون شرائط الولاية ولا الصلاح ولا يعملون أن الكشوف قد تصدر من البر والفاجر والمؤمن والكافر كالرهبان وغيرهم وكالدجال وابن صياد وغيرهم فإن الجن تسترق السمع وتلقيه على اذن الانسي ولا سيما من يكون مجنونا أو غير نقي الثياب من النجاسة فلا بد من اختبار صاحب الحال بالكتاب والسنة فمن وافق حاله كتاب الله وسنة رسوله فهو رجل صالح سواء كاشف أو لم يكاشف ومن لم يوافق فليس (13/216)
برجل صالح سواء كاشف أم لا قال الشافعي إذا رايتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة ولما مات هذا الرجل دفن بتربة بسفح قاسيون وهي مشهورة به شرقي الرواحية وهي مزخرفة قد اعتنى بها بعض العوام ممن كان يعتقده فزخرفها وعمل على قبره حجارة منقوشة بالكتابة وهذا كله من البدع وكانت وفاته في سادس شعبان من هذه السنة وكان الشيخ إبراهيم بن سعيد جيعانة لا يتجاسر فيما يزعم أن يدخل البلد والقميني حي فيوم مات الاقميني دخلها وكانت العوام معه فدخلوا دمشق وهم يصيحون ويصرخون اذن لنا في دخول البلد وهم أتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم فقيل لجيعانة ما منعك من دخولها قبل اليوم فقال كنت كلما جئت إلى باب من أبواب البلد أجد هذا السبع رابضا فيه فلا استطيع الدخول وقد كان سكن الشاغور وهذا كذب واحتيال ومكر وشعبذة وقد دفن جيعانة عنده في تربته بالسفح والله أعلم بأحوال العباد
الشمس علي بن الشبي المحدث
ناب في الحسبة عن الصدر البكري وقرأ الكثير بنفسه وسمع وأسمع وكتب بخطه كثيرا
أبو عبد الله الفاسي شارح الشاطبية
اشتهر بالكنية وقيل إن اسمه القاسم مات بحلب وكان عالما فاضلا في العربية والقراءات وغير ذلك وقد أجاد في شرحه للشاطبية وافاد واستحسنه الشيخ شهاب الدين أبو شامة شارحها أيضا
النجم أخو البدر مفضل وكان شيخ الفاضلية بالكلاسة وكان له إجازة من السلفي خطيب العقبية بدر الدين يحيى بن الشيخ عز الدين بن عبد السلام ودفن بباب الصغير على جده وكانت جنازته حافلة رحمه الله
سعد الدين محمد بن الشيخ محي الدين بن عربي
ذكره أبو شامة وأثنى عليه في فضيلته وأدبه وشعره هذا إن لم يكن من أتباع أبيه وقد ذكره ابو شامة وفاة الناصر داود في هذه السنة
سيف الدين بن صبرة
متولي شرطة دمشق ذكر أبو شامة أنه حين مات جاءت حية فنهشت أفخاذه وقيل إنها التفت في أكفانه وأعيي الناس دفعها قال وقيل إنه كان نصيريا رافضيا خبيثا مدمن خمر نسأل الله الستر والعافية النجيب بن شعيشعة الدمشقي أحد الشهود بها له سماع حديث ووقف داره بدرب البانياسي دار حديث وهي التي كان يسكنها شيخنا الحافظ المزي قبل انتقاله إلى دار الحديث الاشرفية قال أبو شامة وكان ابن شعيشعة (13/217)
وهو النجيب أبو الفتح نصر الله بن أبي طالب الشيباني مشهورا بالكذب ورقة الدين وغير ذلك وهو احدا لشهود المقدوح فيهم ولم يكن بأهل أن يؤخذ عنه قال وقد اجلسه أحمد بن يحيى الملقب بالصدر ابن سني الدولة في حال ولايته القضاء بدمشق فأنشد فيه بعض الشعراء ... جلس الشعيشعة الشقي ليشهدا ... تبالكم ماذا عدا فيما بدا ... هل زلزل الزلزال أم قد خرج الد ... جال أم عدم الرجال ذوو الهدى ... عجبا لمحلول العقيدة جاهل ... بالشرع قد أذنوا له أن يقعدا ...
قال ابو شامة في سنة سبع وخسمين وستمائة مات شخص زنديق يتعاطى الفلسفة والنظر في علم الاوائل وكان يسكن مدارس المسلمين وقد أفسد عقائد جماعة من الشبان المشتغلين فيما بلغني وكان أبوه يزعم أنه من تلامذة ابن خطيب الري الرازي صاحب المصنفات حية ولد حية
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وستمائة
استهلت هذه السنة بيوم الخميس وليس للناس خليفة وملك العراقين وخراسان وغيرها من بلاد المشرق للسلطان هولاكوخان ملك التتار وسلطان ديار مصر الملك المظفر سيف الدين قطز مملوك المعز أيبك التركمامني وسلطان دمشق وحلب الملك الناصر بن العزيز بن الظاهر وبلاد الكرك والشوبك للملك المغيث بن العادل بن الكامل محمد بن العادل أبي بكر بن أيوب وهو حرب مع الناصر صاحب دمشق على المصريين ومعهما الامير ركن الدين بيبرس البندقداري وقد عزموا على قتال المصريين وأخذ مصر منهم وبينما الناس على هذه الحال وقد تواترت الاخبار بقصدالتتار بلادالشام إذ دخل جيش المغول صحبة ملكهم هولاكوخان وجازوا الفرات على جسور عملوها ووصلوا إلى حلب في ثاني صفر من هذه السنة فحاصروها سبعة أيام ثم افتتحوها بالامان ثم غدروا باهلها وقتلوا منهم خلقا لا يعلمهم إلا الله عز و جل ونهبوا الأموال وسبوا النساء والاطفال وجرى عليهم قريب مما جرى على أهل بغداد فجاسوا خلال الديار وجعلوا أعزة أهلها أذلة فإنا لله وإنا إليه راجعون وامتنعت عليه القلعة شهرا ثم استلموها بالامان وخرب اسوار البلد واسوار القلعة وبقيت حلب كأنها حمار اجرب وكان نائبها الملك المعظم توران شاه بن صلاح الدين وكان عاقلا حازما لكنه لم يوافقه الجيش على القتال وكان أمر الله قدرا مقدورا وقدكان ارسل هولاكو يقول لأهل حلب نحن إنما جئنا لقتال الملك الناصر بدمشق فاجعلوا لنا عندكم شحنة فإن كانت النصرة لنا فالبلاد كلها في حكمنا وان كانت علينا فإن شئتم قبلتم الشحنة وإن شئتم أطلقتموه فأجابوه مالك عندنا إلا السيف فتعجب من ضعفهم وجوابهم فزحف حينئذ إليهم واحاط بالبلد وكان ما كان بقدر الله سبحانه ولما فتحت حلب ارسل صاحب حماه بمفاتيحها إلى هولاكو فاستناب عليها (13/218)
رجلا من العجم يدعى أنه من ذرية خالد بن الوليد يقال له خسر وشاه فخرب أسوارها كمدينة حلب
صفة أخذهم دمشق وزوال ملكهم عنها سريعا
أرسل هولاكو وهو نازل على حلب جيشا مع امير من كبار دولته يقال له كتبغانوين فوردوا دمشق في آخر صفر فاخذوها سريعا من غير ممانعة ولا مدافع بل تلقاهم كبارها بالرحب والسعة وقد كتب هولاكو أمانا لأهل البلد فقرئ بالميدان الاخضر ونودي به في البلد فأمن الناس على وجل من الغدر كما فعل باهل حلب هذا والقلعة ممتنعة مستورة وفي أعاليها المجانيق منصوبة والحال شديدة فاحضرت التتار منجنيقا يحمل على عجل والخيول تجرها وهم راكبون على الخيل وأسلحتهم على أبقار كثيرة فنصب المنجانيق على القلعة من غربيها وخربوا حيطانا كثيرة وأخذوا حجارتها ورموا بها القلعة رميا متواترا كالمطر المتدارك فهدموا كثيرا من أعاليها وشرافاتها وتداعت للسقوط فاجابهم متوليها في آخر ذلك النهار للمصالحة ففتحوها وخربوا كل بدنة فيها وأعالي بروجها وذلك في نصف جمادي الاولى من هذه السنة وقتلوا المتولى بها بدرا لدين بن قراجا ونقيبها جمال الدين ابن الصيرفي الحلبي وسلموا البلد والقلعة إلى أمير منهم يقال له ابل سيان وكان لعنه الله معظما لدين النصارى فاجتمع به اساقفتهم وقسوسهم فعظمهم جدا وزار كنائسهم فصارت لهم دولة وصولة بسببه وذهب طائفة من النصارى إلى هولاكو وأخذوا معهم هدايا وتحفا وقدموا من عنده ومعهم امان فرمان من جهته ودخلوا من باب توما ومعهم صليب منصوب يحملونه على رؤس الناس وهم ينادون بشعارهم ويقولون ظهر الدين الصحيح دين المسيح ويذمون دين الاسلام وأهله ومعهم اواني فيها خمر لا يمرون على باب مسجد إلآ رشوا عنده خمرا وقماقم ملانة خمرا يرشون منها على وجوه الناس وثيابهم ويأمرون كل من يجتازون به في الازقة والاسواق ان يقوم لصليبهم ودخلوا من درب الحجر فوقفوا عند رباط الشيخ ابي البيان ورشوا عنده خمرا وكذلك على باب مسجد درب الحجر الصغير والكبير واجتازوا في السوق حتى وصلوا درب الريحان أو قريب منه فتكاثر عليهم المسلمون فردوهم إلى سوق كنيسة مريم فوقف خطيبهم إلى دكة دكان في عطفه السوق فمدح دين النصارى وذم دين الاسلام واهله فانا لله وإنا إليه راجعون ثم دخلوا بعد ذلك إلى كنيسة مريم وكانت عامرة ولكن كان هذا سبب خرابها ولله الحمد وحكى الشيخ قطب الدين في ذيله على المرآة أنهم ضربوا بالناقوس في كنيسة مريم فالله اعلم قال وذكر أنهم دخلوا إلى الجامع بخمر وكان في نيتهم إن طالت مدة التتار أن يخربوا كثيرا من المساجد وغيرها ولما وقع هذا في البلد اجتمع قضاة المسلمين والشهود والفقهاء فدخلوا القلعة يشكون هذا الحال إلى متسلمها ابل سيان فأهينوا وطردوا وقدم كلام رؤساء النصارى عليهم فإنا لله (13/219)
وإنا إليه راجعون وهذا كان في اول هذه السنة وسلطان الشام الناصر بن العزيز وهو مقيم في وطأة برزه ومعه جيوش كثيرة من الامراء وأبناء الملوك ليناجزوا التتار إن قدموا عليهم وكان في جملة من معه الامير بيبرس البندقداري في جماعة من البحرية ولكن الكلمة بين الجيوش مختلفة غير مؤتلفة لما يريده الله عز و جل وقد عزمت طائفة من الامراء على خلع الناصر وسجنه ومبايعة اخيه شقيقه الملك الظاهر علي فلما عرف الناصر ذلك هرب إلى القلعة وتفرقت العساكر شذر مذر وساق الأمير ركن الدين بيبرس في أصحابه إلى ناحية غزة فاستدعاه الملك المظفر قطز إليه واستقدمه عليه واقطعه قليوب وانزله بدار الوزارة وعظم شأنه لديه وإنما كان حتفه على يديه
وقعت عين جالوت
اتفق وقوع هذا كله في العشر الاخير من رمضان من هذه السنة فما مضت سوى ثلاثة أيام حتى جاءت البشارة بنصرة المسلمين على التتار بعين جالوت وذلك أن الملك المظفر قطز صاحب مصر لما بلغه ان التتار قد فعلوا بالشام ما ذكرنا وقدنهبوا البلاد كلها حتى وصلوا إلى غزة وقد عزموا على الدخول إلى مصر وقد عزم الملك الناصر صاحب دمشق على الرحيل إلى مصر وليته فعل وكان في صحبته الملك المنصور صاحب حماه وخلق من الامراء وأبناء الملوك وقد وصل إلى قطية وأكرم الملك المظفر قطز صاحب حماه ووعده ببلده ووفاه له ولم يدخل الملك الناصر مصر بل كر راجعا إلى ناحية تيه بني إسرائيل ودخل عامة من كان معه إلى مصر ولو دخل كان أيسر عليه مما صار إليه ولكنه خاف منهم لأجل العداوة فعدل إلى ناحية الكرك فتحصن بها وليته استمر فيها ولكنه قلق فركب نحو البرية وليته ذهب فيها واستجار ببعض امراء الاعراب فقصدته التتار واتلفوا ما هنالك من الاموال وخربوا الديار وقتلوا الكبار والصغار وهجموا على الاعراب التي بتلك النواحي فقتلوا منهم خلقا وسبوا من نسلهم ونسائهم وقد اقتص منهم العرب بعد ذلك فأغاروا على خيل جشارهم في نصف شعبان فساقوها بأسرها فساقت وراءهم التتار فلم يدركوا لهم الغبار ولا استردوا منهم فرسا ولا حمارا وما زال التتار وراء الناص 2 ر حتى أخذوه عند بركة زيزي وأرسلوه مع ولده العزيز وهو صغير وأخيه إلى ملكهم هولاكوخان وهو نازل على حلب فما زالوا في أسره حتى قتلهم في السنة الاتية كما سنذكره والمقصود أن المظفر قطز لما بلغه ما كان من أمر التتار بالشام المحروسة وأنهم عازمون على الدخول إلى ديار مصر بعد تمهيد ملكهم بالشام بادرهم قبل أن يبادروه وبرز إليهم وأقدم عليهم قبل أن يقدموا عليه فخرج في عساكره وقدا جتمعت الكلمة عليه حتى انتهى إلى الشام واستيقظ له عسكر المغول وعليهم كتبغانوين وكان إذ ذاك في البقاع فاستشار الاشرف صاحب حمص والمجير ابن الزكي فأشاروا عليه بأنه لا قبل له بالمظفر حتى يستمد هولاكو (13/220)
فأبى إلا أن يناجزه سريعا فساروا إليه وسار المظفر إليهم فكان اجتماعهم على عين جالوت يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان فاقتتلوا قتالا عظيما فكانت النصرة ولله الحمد للاسلام وأهله فهزمهم المسلمون هزيمة هائلة وقتل أمير المغول كتبغانوين وجماعة من بيته وقد قيل إن الذي قتل كتبغانوين الامير جمال الدين آقوش الشمسي واتبعهم الجيش الاسلامي يقتلونهم في كل موضع وقد قاتل الملك المنصور صاحب حماه مع الملك المظفر قتالا شديدا وكذلك الامير فارس الدين أقطاي المستعرب وكان أتابك العسكر وقد أسر من جماعة كتبغانوين الملك السعيد بن العزيز بن العادل فأمر المظفر بضرب عنقه وأستأمن الاشرف صاحب حمص وكان مع التتار وقد جعله هولاكوخان نائبا على الشام كله فأمنه الملك المظفر ورد إليه حمص وكذلك رد حماه إلى المنصور وزاده المعرة وغيرها وأطلق سلمية للامير شرف الدين عيسى بن مهنا بن مانع امير العرب واتبع الامير بيبرس البندقداري وجماعة من الشجعان التتار يقتلونهم في كل مكان إلى ان وصلوا خلفهم إلى حلب وهرب من بدمشق منهم يوم الاحد السابع والعشرين من رمضان فتبعهم المسلمون من دمشق يقتلون فيهم ويستفكون الاسارى من أيديهم وجاءت بذلك البشارة ولله الحمد على جبره إياهم بلطفه فجاوبتها دق البشائر من القلعة وفرح المؤمنون بنصر الله فرحا شديدا وأيد الله الاسلام وأهله تأييدا وكبت الله النصارى واليهود والمنافقين وظهر دين الله وهم كارهون فتبادر عند ذلك المسلمون إلى كنيسة النصارى التي خرج منها الصليب فانتبهوا ما فيها وأحرقوها وألقوا النار فيما حولها فاحترق دور كثيرة إلى النصارى وملأ الله بيوتهم وقوبرهم نارا وأحرق بعض كنيسة اليعاقبة وهمت طائفة بنهب اليهود فقيل لهم إنه لم يكن منهم من الطغيان كما كان من عبدة الصلبان وقتلت العامة وسط الجامع شيخا رافضيا كان مصانعا للتتار على أموال الناس يقال له الفخر محمد بن يوسف بن محمد الكنجي كان خبيث الطوية مشرقيا ممالئا لهم على أموال المسلمين قبحه الله وقتلوا جماعة مثله من المنافقين فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين وقد كان هولاكو أرسل تقليدا بولاية القضاء على جميع المدائن الشام والجزيرة والموصل وماردين والكراد وغير ذلك للقاضي كمال الدين عمر بن بدار التفليسي وقد كان نائب الحكم بدمشق عن القاضي صدر الدين أحمد بن يحيى بن هبة الله ابن سني الدولة من مدة خمس عشرة سنة فحين وصل التقليد في سادس عشرين ربيع الاول قرئ بالميدان الأخضر فاستقل بالحكم في دمشق وقد كان فاضلا فسار القاضيان المعز ولان صدر الدين بن سنى الدولة ومحيي الدين بن الزكي إلى خدمة هولاكوخان إلى حلب فخدع ابن الزكي لابن سني الدولة وبذلك أموالا جزيلة وتولى القضاء بدمشق وردعا فمات ابن سني الدولة ببعلبك وقدم ابن الزكي على القضاء ومعه تقليده وخلعة مذهبة فلبسها وجلس في خدمة ابل سنان تحت قبة النسر عند الباب (13/221)
الكبير وبينهما الخاتون زوجة ابل سنان حاسرة عن وجها وقرئ التقليد هناك والحالة كذلك وحين ذكر اسم هولاكو نثر الذهب والفضة فوق رؤس الناس فإنا لله وإنا إليه راجعون قبح الله ذلك القاضي والامير والزوجة والسلطان وذكر أبو شامة أن ابن الزكي استحوذ على مدارس كثيرة في مدته هذه القصيرة فإنه عزل قبل رأس الحول فاخذ في هذه المدة العذراوية والسلطانية والفلكية والركنية والقيمرية والعزيزية مع المدرستين اللتين كانتا بيده التقوية والعزيزية وأخذ لولده عيسى تدريس الامينية ومشيخة الشيوخ وأخذ ام الصالح لبعض أصحابه وهو العماد المصري وأخذ الشامية البارانية لصاحب له واستناب اخاه لأمه شهاب الدين إسماعيل بن أسعد بن حبيش في القضاء وولاه الرواحية والشامية البارنية قال ابو شامة مع أن شرط واقفها أن لا يجمع بينها وبين غيرها ولما رجعت دمشق وغيرها إلى المسلمين سعى في القضاء وبذل أموالا ليستمر فيه وفيما بيديه من المدارس فلم يستمر بل عزل بالقاضي نجم الدين أبي بكر بن صدر الدين بن سني الدولة فقرئ توقيعه بالقضاء يوم الجمعة بعد الصلاة في الحادي والعشرين من ذي القعدة عند الشباك الكمالي من مشهد عثمان من جامع دمشق ولما كسر الملك المظفر قطز عساكر التتار بعين جالوت ساق وراءهم ودخل دمشق في أبهة عظيمة وفرح به الناس فرحا شديدا ودعوا له دعاء كثيرا وأقر صاحب حمص الملك الاشرف عليها وكذلك المنصور صاحب حماه واسترد حلب من يد هولاكو وعاد الحق إلى نصابه ومهد القواعد وكان قد ارسل بين يديه الامير ركن الدين بيبرس البندقداري ليطرد التتار عن حلب ويتسلمها ووعده بنيابتها فلما طردهم عنها وأخرجهم منها وتسلمها المسلمون استناب عليها غيره وهو علاء الدين ابن صاحب الموصل وكان ذلك سبب الوحشة التي وقعت بينهما واقتضت قتل الملك المظفر قطز سريعا ولله الأمر من قبل ومن بعد فلما فرغ المظفر من الشام عزم على الرجوع إلى مصر واستناب على دمشق الامير علم الدين سنجر الحلبي الكبير والامير مجير الدين ابن الحسين بن آقشتمر وعزل القاضي ابن الزكي عن قضاء دمشق وولى ابن سني الدولة ثم رجع إلى الديار المصرية والعساكر الاسلامية في خدمته وعيون الاعيان تنظر إليه شزرا من شدة هيبته ذكر سلطنة الملك الظاهر بيبرس البندقداري وهو الاسد الضاري وذلك أن السلطان الملك المظفر قطز لما عاد قاصدا مصر وصل إلى ما بين الغزالي والصالحية عدا عليه الامراء فقتلوه هنالك وقد كان رجلا صالحا كثير الصلاة في الجماعة ولا يتعاطى المسكر ولا شيئا مما يتعاطاه الملوك وكانت مدة ملكه من حين عزل ابن استاذه المنصور علي بن المعز التركماني إلى هذه المدة وهي اواخر ذي القعدة نحوا من سنة رحمه الله وجزاه عن الاسلام وأهله خيرا وكان الامير ركن الدين بيبرس البندقداري قداتفق مع جماعة من الامراء (13/222)
على قتله فلم وصل إلى هذه المنزلة ضرب دهليزه وساق خلف ارنب وساق معه أولئك الأمراء فشفع عنده ركن الدين بيبرس في شئ فشفعه فأخذ يده ليقبلها فأمسكها وحمل عليه أولئك الامراء بالسيوف فضربوه بها وألقوه عن فرسه ورشقوه بالنشاب حتى قتلوه رحمه الله ثم كرو راجعين إلى المخيم وبأيديهم السيوف مصلتة فأخبروا من هناك بالخبر فقال بعضم من قتله فقالوا ركن الدين بيبرس فقالوا أنت قتلته فقال نعم فقالوا أنت الملك إذا وقيل لما قتل حار الامراء بينهم فيمن يولون الملك وصار كل واحد منهم يخشى غائلة ذلك ان يصيبه ما أصاب غيره سريعا فاتفقت كلمتهم على ان بايعوا بيبرس البندقداري ولم يكن هو من أكابر المقدمين ولكن أرادوا اان يجربوا فيه ولقبوه الملك الظاهر فجلس على سرير المملكة وحكمه ودقت البشائر وضربت الطبول والبوقات وصفرت الشغابة وزعقت الشاووشية بين يديه وكان يوما مشهودا وتوكل على الله واستعان به ثم دخل مصر والعساكر في خدمته فدخل قلعة الجبل وجلس على كرسيها فحكم وعدل وقطع ووصل وولى وعزل وكان شهما شجاعا أقامه الله للناس لشدة احتياجهم إليه في هذا الوقت الشديد والامر العسير وكان أول لقب نفسه بالملك القاهر فقال له الوزير إن هذا اللقب لا يفلح من يلقب به تلقب به القاهر بن المعتمد فلم تطل أيامه حتى خلع وسملت عيناه ولقب به القاهر صاحب الموصل فسم فمات فعدل عنه حينئذ إلى الملك الظاهر ثم شرع في مسك من يرى في نفسه رئاسة من أكابر الأمراء حتى مهد الملك وقد كان هولاكوخان لما بلغه ما جرى على جيشه من المسلمين بعين جالوت أرسل جماعة من جيشه الذين معه كثيرين ليستعيدوا الشام من أيدي المسلمين فحيل بينهم وبين ما يشتهون فرجعوا إليه خائبين خاسرين وذلك أنه نهض إليهم الهزبر الكاسر والسيف البائر الملك الظاهر فقدم دمشق وأرسل العساكر في كل وجه لحفظ الثغور والمعاقل بالاسلحة فلم يقدر التتار على الدنو إليه ووجدوا الدولة قد تغيرت والسواعد قد شمرت وعناية الله بالشام وأهله قد حصلت ورحمته بهم قد نزلت فعند ذلك نكصت شياطينهم على أعقابهم وكروا راجعين القهقري والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وقد كان الملك المظفر قطز رحمه الله استناب على دمشق الامير علم الدين سنجر الحلبي أحد الاتراك فلما بلغه مقتل المظفر دخل القلعة ودعا لنفسه وتسمى بالملك المجاهد فلما جاءت البيعة للملك الظاهر خطب له يوم الجمعة السادس من ذي الحجة فدعا الخطيب أولا للمجاهد ثم للظاهر ثانيا وضربت السكة باسمهما معا ثم ارتفع المجاهد هذا من البين كما سيأتي
وقد اتفق في هذا العام امور عجيبة وهي ان اول هذه السنة كانت الشام للسلطان الناصر ابن العزيز ثم في النصف من صفر صارت لهولاكو ملك التتار ثم في آخر رمضان صارت للمظفر قطز (13/223)
ثم في أواخر العقدة صارت للظاهر بيبرس وقد شركه في دمشق الملك المجاهد سنجر وكذلك كان القضاء في أولها بالشام لابن سني الدولة صدر الدين ثم صار للكمال عمر التفليسي من جهة هولاكو ثم لابن الزكي ثم لنجم الدين ابن سني الدولة وكذلك كان خطيب جامع دمشق عماد الدين بن الحرستاني من سنين متطاولة فعزل في شوال منها بالعماد الاسعردي وكان صينا قارئا مجيدا ثم أعيد العماد الحرستاني في أول ذي القعدة منها فسبحان من بيده الامور يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وفيها توفي من الاعيان
قاضي القضاة صدرا لدين أبو العباس ابن سني الدولة أحمد بن يحيى بن هبة الله بن الحسين بن يحيى بن محمد بن علي يحيى بن صدقة بن الخياط قاضي القضاة صدر الدين أبو العباس ابن سني الدولة التغلبي الدمشقي الشافعي وسني الدولة الحسين بن يحيى المذكور كان قاضيا لبعض ملوك دمشق في حدود الخمسمائة وله أوقاف على ذريته وابن الخياط الشاعر صاحب الديوان وهو أبو عبد الله أحمد بن محمد بن علي بن يحيى بن صدقة التغلبي هو عم سني الدولة ولد سني الدولة سنة تسع وخسمين وخمسمائة وسمع الخشوعي وابن طبرزد والكندي وغيرهم وحدث ودرس في عدة مدارس وأفتى وكان عارفا بالمذاهب مشكور السيرة ولكن أبو شامة ينال منه ويذمه فالله اعلم
وقد ولى الحكم بدمشق استقلالا سنة ثلاث وأربعين واستمر إلى مدة السنة وسافر حين عزل بالكمال التفليسي هو والقاضي محيي الدين ابن الزكي وقد سافر هو وابن الزكي إلى هولاكو لما أخذ حلب فولى ابن الزكي القضاء واختار ابن سني الدولة بعلبك فقدمها وهو متمرض فمات بها ودفن عند الشيخ عبد الله اليونيني وقد كان الملك الناصر يثني عليه كما كان الملك الاشرف يثني على والده شمس الدين ولما استقر الملك الظاهر بيبرس ولى القضاء ولده نجم الدين ابن سني الدولة وهو الذي حدث في زمن المشمشي بطالة الدروس لأنه كان له بستان بأرض السهم فكان يشق عليه مفارقة المشمش والنزول إلى المدارس فبطل الناس هذه الايام واتبعوه في ذلك والنفوس إنما تؤثر الراحة والبطالة ولا سيما أصحاب البساتين في ايام الفواكه وكثرة الشهوات في تلك الايام ولا سيما القضاة وفيها توفي
الملك السعيد صاحب ماردين
نجم الدين بن أيل غازي بن المنصور ارتق بن أرسلان بن ايل غازي بن السني بن تمرتاش ابن ايل غازي بن اريثي وكان شجاعا ملك يوما وقد وقع في قلعته توران شاه بن الملك صلاح الدين كان نائبا للملك الظاهر بن العزيز بن الظاهر بن الناصر صاحب دمشق على حلب وقد حصن (13/224)
حلب من أيدي المغول مدة شهر ثم تسلمها بعدمحاصرة شديدة صلحا كانت وفاته في هذه السنة ودفن بدهليز داره وفيها قتل
الملك السعيد حسن بن عبدالعزيز
ابن العادل أبي بكر بن أيوب كان صاحب الصبيبة وبانياس بعد ابيه ثم أخذتا منه وحبس بقلعة المنيرة فلما جاءت التتار كان معهم وردوا عليه بلاده فلما كانت وقعة عين جالوت أتى به أسيرا إلى بين يدي المظفر قطز فضرب عنقه لأنه كان قد لبس سرقوج التتار وناصحهم على المسلمين
عبد الرحمن بن عبد الرحيم بن الحسن بن عبد الرحمن بن طاهر
ابن محمد بن الحسين بن علي بن أبي طالب شرف الدين بن العجمي الحلبي الشافعي من بيت العلم والرئاسة بحلب درس بالظاهرة ووقف مدرسة بها ودفن بها توفي حين دخلت التتار حلب في صفر فعذبوه وصبوا عليه ماء باردا في الشتاء فتشنج حتى مات رحمه الله تعالى الملك المظفر قطز بن عبد الله سيف الدين التركي أخص مماليك المعز التركماني احد مماليك الصالح أيوب بن الكامل لما قتل أستاذه المعز قام في تولية ولده نور الدين المنصور علي فلما سمع بأمر التتار خاف أن تختلف الكلمة لصغر ابن استاذه فعزله ودعا إلى نفسه فبويع في ذي القعدة سنة سبع وخمسين وستمائة كما تقدم ثم سار إلى التتار فجعل الله على يديه نصرة الاسلام كما ذكرنا وقد كان شجاعا بطلا كثير الخير ناصحا للاسلام وأهله وكان الناس يحبونه ويدعون له كثيرا ذكر عنه أنه لما كان يوم المعركة بعين جالوت قتل جواده ولم يجد احدا في الساعة الراهنة من الوشاقية الذين معهم الجنائب فترجل وبقي واقفا على الارض ثابتا والقتال عمال في المعركة وهو في موضع السلطان من القلب فلما رآه بعض الأمراء ترجل عن فرسه وحلف على السلطان ليركبنها فامتنع وقال لذلك الامير ما كنت لاحرم المسلمين نفعك ولم يزل كذلك حتى جاءته الوشاقية بالخيل فركب فلامه بعض الامراء وقال يا خوند لم لا ركبت فرس فلان فلو أن بعض الاعداء رآك لقتلك وهلك الاسلام بسببك فقال أما أنا فكنت اروح إلى الجنة وأما الاسلام فله رب لا يضيعه قد قتل فلان وفلان وفلان حتى عد خلقا من الملوك فأقام للاسلام من يحفظه غيرهم ولم يضيع الاسلام رحمه الله وكان حين سار من مصر فيخدمته خلق من كبار الامراء البحرية وغيرهم ومعه المنصور صاحب حماه وجماعة من أبناء الملوك فأرسل إلى صاحب حماه يقول له لا تتعني في مد سماط في هذه الايام وليكن مع الجندي لحمة يأكلها والعجل العجل وكان اجتماعه مع عدوه كما ذكرنا في العشر الاخير من رمضان يوم الجمعة وهذه بشارة عظيمة فإن وقعة بدر كانت يوم الجمعة في رمضان وكان (13/225)
فيها نصر الاسلام ولما قدم دمشق في شوال أقام بها العدل ورتب الامور وأرسل بيبرس خلف التتار ليخرجهم ويطردهم عن حلب ووعده بنيابتها فلم يف له لما رآه من المصلحة فوقعت الوحشة بينهما بسبب ذلك فلم عاد إلى مصر تملأ عليه الأمراء مع بيبرس فقتلوه بين القاربي والصالحية ودفن بالقصر وكان قبره يزار فلما تمكن الظاهر من الملك بعث إلى قبره فغيبه عن الناس وكان لا يعرف بعد ذلك قتل يوم السبت سادس عشر من ذي القعدة رحمه الله وحكى الشيخ قطب الدين اليونيني في الذيل على المرآة عن الشيخ علاء الدين بن غانم عن المولى تاج الدين أحمد بن الاثير كاتب السر في ايام الناصر صاحب دمشق قال لما كنا مع الناصر بوطاه برزه جاءت البريدية بخبر أن قطز قد تولى الملك بمصر فقرأت ذلك على السلطان فقال اذهب إلى فلان وفلان فأخبرهم بهذا قال فلما خرجت عنه لقيني بعض الاجناد فقال لي جاءكم الخبر من مصر بأن قطز قدتملك فقلت ما عندي من هذا علم وما يدريك انت بهذا فقال بلى والله سيلي المملكة ويكسر التتار فقلت من أين تعلم هذا فقال كنت أخدمه وهو صغير وكان عليه قمل كثير فكنت افليه وأهينه وأذمه فقال لي يوما ويلك إيش تريد اعطيك إذا ملكت الديار المصرية فقلت له أنت مجنون فقال لقد رأيت رسول صلى الله عليه و سلم في المنام وقال لي أنت تملك الديار المصرية وتكسر التتار وقول رس ص حق لا شك فيه فقلت له حينئذ وكان صادقا اريد منك أمرة خمسين فارسا فقال نعم أبشر قال ابن الاثير فلما قال لي هذا قلت له هذه كتب المصريين بأنه قد تولى السلطنة فقال والله ليكسرن التتار وكان كذلك ولما رجع الناصر إلى ناحية الديار المصرية واراد دخولها ورجع عنها ودخلها أكثر الجيوش الشامية كان هذا الامير الحاكي في جملة من دخلها فاعطاه المظفر إمرة خمسين فارسا ووفى له بالوعد وهو الامير جمال الدين التركماني قال ابن الاثير فلقيني بمصر بعد ان تأمر فذكرني بما كان أخبرني عن المظفر فذكرته ثم كانت وقعة التتار علي إثر ذلك فكسرهم وطردهم عن البلاد وقد روى عنه أنه لما رأى عصائب التتار قال للأمراء والجيوش الذين معه لا تقاتلوهم حتى تزول الشمس وتفيء الظلال وتهب الرياح ويدعو لنا الخطباء والناس في صلاتهم رحمه الله تعالى وفيها هلك كتبغانوين نائب هولاكو على بلادالشام لعنه الله ومعنى نوين يعني اميرعشرة آلاف وكان هذا الخبيث قد فتح لاستاذه هولاكو من أقصى بلاد العجم إلى الشام وقد أدرك جنكيزخان جد هولاكو وكان كتبغا هذا يعتمد في حروبه للمسلمين أشياء لم يسبقه أحد إليها كان إذا فتح بلدا ساق مقاتلة هذا البلد إلى البلد الاخر الذي يليه ويطلب من أهل ذلك البلد أن يؤوا هؤلاء إليهم فإن فعلوا حصل مقصوده في تضييق الاطعمة والاشربة عليهم فتقصر مدة الحصار (13/226)
عليه لما ضاق على أهل البلدمن اقواتهم وإن امتنعوا من إيوائهم عندهم قاتلهم باولئك المقاتلة الذين هم أهل البلد الذي فتحه قبل ذلك فإن حصل الفتح وإلا كان قد اضعف اولئك بهؤلاء حتى يفنى تلك المقاتلة فإن حصل الفتح وإلا قاتلهم بجنده وأصحابه مع راحة أصحابه وتعب أهل البلد وضعفهم حتى يفتحهم سريعا وكان يبعث إلى الحصن يقول إن ماءكم قد قل فنخشى أن نأخذكم عنوة فنقتلكم عن آخركم ونسبي نساءكم وأولادكم فما بقاؤكم بعد ذهاب مائكم فافتحوا صلحا قبل أن نأخذكم قسرا فيقولون له إن الماء عندنا كثير فلا نحتاج إلى ماء فيقول لا أصدق حتى أبعث من عندي من يشرف عليه فإن كان كثيرا انصرفت عنكم فيقولون ابعث من يشرف عليه فيرسل رجالا من جيشه معهم رماح مجوفة محشو سما فإذا دخلوا الحصن الذي قد أعياه ساطوا ذلك الماء بتلك الرماح على انهم يفتسونه ويعرفون قدره فينفتح ذلك السم ويستقر في ذلك الماء فيكون سبب هلاكهم وهم لا يشعرون لعنه الله لعنة تدخل معه قبره وكان شيخا كبيرا قد اسن وكان يميل إلى دين النصارى ولكن لا يمكنه الخروج من حكم جنكيزخان في الياساق
قال الشيخ قطبي الدين اليونيني وقد رأيته ببعلبك حين حاصر قلعتها وكان شيخا حسنا له لحية طويلة مسترسلة قد ضفرها مثل الدبوقة وتارة يعلقها من خلفه باذنه وكان مهيبا شديد السطوة قال وقد دخل الجامع فصعد المنارة ليتأمل القلعة منها ثم خرج من الباب الغربي فدخل دكانا خرابا فقضى حاجته والناس ينظرون إليه وهو وهو مكشوف العورة فلما فرغ من حاجته مسحه بعض أصحابه بقطن ملبد مسحة واحدة قال ولما بلغه خروج المظفربالعساكر من مصر تلوم في أمره وحار ماذا يفعل ثم حملته نفسه الابية على لقائه وظن انه منصور على جاري عادته فحمل يومئذ على الميسرة فكسرها ثم ايد الله المسلمين وثبتهم في المعركة فحملوا حملة صادقة على التتار فهزموهم خزيمة لا تجبر أبدا وقتل اميرهم كتبغانوين في المعركة وأسر أبنه وكان شابا حسنا فأحضر بين يدي المظفر قطز فقال له اهرب أبوك قال إنه لا يهرب فطلبوه فوجدوه بين القتلى فلما رآه ابنه صرخ وبكى فلما تحققه المظفر سجد لله تعالى ثم قال أنام طيبا كان هذا سعادة التتار وبقتلة ذهب سعدهم وهكذا كان كما قال ولم يفلحوا بعده أبدا وكان قتله يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان وكان الذي قتله الامير آقوش الشمسي رحمه الله الشيخ محمد الفقيه اليونيني الحنبلي البعلبكي الحافظ هو محمد بن أحمد بن عبد الله بن عيسى بن أبي الرجال أحمد بن علي ابن محمد بن محمد بن محمد بن الحسين بن إسحاق بن جعفر الصادق كذا نقل هذه النسبة الشيخ قطب الدين اليونيني من خط اخيه الأكيبر أبي الحسين علي وأخبره أن والده قال له نحن من سلالة (13/227)
جعفر الصادق قال وإنما قال له هذا عند الموت ليتخرج من قبول الصدقات أبو عبد الله بن أبي الحسين اليونيني الحنبلي تقي الدين الفقيه الحنبلي الحافظ المفيد البارع العابدالناسك ولد سنة ثنتين وسبعين وخمسمائة وسمع الخشوعي وحنبلا والكندري والحافظ عبدالغني وكان يثني عليه وتفقه على الموفق ولزم الشيخ عبد الله اليونيني فانتفع به وكان الشيخ عبد الله يثني عليه ويقدمه ويقتدي به في الفتاوى وقد لبس الخرقة من شيخ شيخه عبد الله البطائحي وبرع في علم الحديث وحفظ الجمع بين الصحيحين بالفاء والواو وحفظ قطعة صالحة من مسند احمد وكان يعرف العربية أخذها عن التاج الكندي وكتب مليحا حسنا وكان الناس ينتفعون بفنونه الكثيرة وياخذون عنه الطرق الحسنة وقد حصلت له وجاهة عظيمة عند الملوك توضا مرة عند الملك الاسرف بالقلعة حال سماع البخاري على الزبيدي فلما فرع من الوضوء نفض السلطان تخفيفته وبسطها على الارض ليطا عليها وحلف السلطان له إنها طاهرة ولا بد أن يطأ برجليه عليها ففعل ذلك وقدم الكامل على أخيه الاشرف دمشق فانزله القلعة وتحول الاشرف لدار السعادة وفعل يذكر للكامل محاسن الشيخ الفقيه فقال الكامل احب أن رأه فأرسل إليه إلى بعلبك بطاقة واستحضره فوصل إلى دار السعادة فنزل الكامل إليه وتحادثا وتذاكرا شيئا من العلم فجرت مسألة القتل بالمثقل وجرى ذكر حديث الجارية التي قتلها اليهودي فرض راسها بين حجرين فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقتله فقال الكامل إنه لم يعترف فقال الشيخ الفقيه في صحيح مسلم فاعترف فقال الكامل انا اختصرت صحيح مسلم ولم أجدهذا فيه فأرسل الكامل فأحضر خمس مجلدات اختصاره لمسلم فأخذ الكامل مجلدا والاشرف آخر وعماد الدين بن موسك آخر وأخذ الشيخ الفقيه مجلدا فاول ما فتحه وجد الحديث كما قال الشيخ الفقيه فتعجب الكامل من استحاضاره وسرعةكشفه وأراد أن يأخذه معه إلى الديار المصرية فأرسله الاشرف سريعا إلى بعلبك وقال للكامل إنه لا يؤثر ببعلبك شيئا فأرسل له الكامل ذهبا كثيرا قال ولده قطب الدين كان والدي يقبل بر الملوك ويقول انا لي في بيت المال أكثر من هذا ولا يقبل من الامراء ولا من الوزاء شيئا إلا أن يكون هدية مأكول ونحوه ويرسل إليهم من ذلك فيقبلونه على سبيل التبرك والاستشفاء وذكر أنه كثر ماله واثرى وصار له سعة من المال كثيرة وذكر له أن الاشرف كتب له كتابا بقرية يونين وأعطاه لمحيي الدين بن الجوزي ليأخذ عليه خط الخليفة فلما شعر والدي بذلك اخذ الكتاب ومزقه وقال أنا في غنية عن ذلك قال وكان والدي لا يقبل شيئا من الصدقة ويزعم انه من ذرية علي بن أبي طالب من جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين بن (13/228)
علي بن أبي طالب قال وقد كان قبل ذلك فقيرا لا شيء له وكان للشيخ عبد الله زوجة ولها ابنة جميلة وكان الشيخ يقول لها زوجيها من الشيخ محمد فتقول إنه فقير وأنا أحب أن تكون ابنتي سعيدة فيقول الشيخ عبد الله كأني أنظر إليهما إياه وإياها في دار فيها بركة وله رزق كثير والملوك يترددون إلى زيارته فزوجتها منه فكان الأمر كذلك وكانت أولى زوجاته رحمه الله تعالى
وكانت الملوك كلهم يحترمونه ويعظمونه ويجيئون إلى مدينته بنو العادل وغيرهم وكذلك كان مشايخ الفقهاء كابن الصلاح وابن عبد السلام وابن الحاجب والحصري وشمس الدين بن سني الدولة وابن الجوزي وغيرهم يعظمونه ويرجعون إلى قوله لعلمه وعمله وديانته وامانته وقد ذكرت له أحوال ومكاشفات وكرامات كثيرة رحمه الله وزعم بعضهم أنه قطب منذ ثنتي عشرة سنة فالله أعلم وذكر الشيخ الفقيه قال عزمت مرة على الرحلة إلى حران وكان قد بلغني أن رجلا بها يعلم علم الفرائض جيدا فلما كانت الليلة التي اريد أن أسافر في صبيحتها جاءتني رسالة الشيخ عبد الله اليونيني يعزم على إلى القدس الشريف وكأني كرهت ذلك وفتحت المصحف فطلع قوله اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون فخرجت معه إلى القدس فوجدت ذلك الرجل الحراني بالقدس الشريف فأخذت عنه علم الفرائض حتى خيل لي أني صرت أبرع فيه منه وقال الشيخ أبو شامة كان الشيخ الفقيه رجلا ضخما وحصل له قبول من الأمراء وغيرهم وكان يلبس قبعا صوفه إلى خارج كما كان شيخه الشيخ عبد الله اليونيني قال وقد صنف شيئا في المعراج فرددت عليه في كتاب سميته الواضح الجلي في الرد على الحنبلي وذكر ولده قطب الدين أنه مات في التاسع عشر من رمضان من هذه السنة عن ثمان وثمانين سنة رحمه الله تعالى
محمد بن خليل بن عبد الوهاب بن بدر
أبو عبد الله البيطار الأكال أصله من جبل بني هلال وولد بقصر حجاج وكان مقيما بالشاغور وكان فيه صلاح ودين وإيثار للفقراء والمحاويج والمحباس وكانت له حال غريبة ولا يأكل لأحد شيئا إلا باجرة وكان أهل البلد يترامون عليه ليأكل لهم الاشياء المفتخرة الطيبة فيمتنع إلا باجرة جيدة وكلما امتنع من ذلك حلى عند الناس وأحبوه ومالوا إليه ويأتونه بأشياء كثيرة من الحلاوات والشواء وغير ذلك فيرد عليهم عوض ذلك أجرة جيدة مع ذلك وهذا غريب جدا رحمه الله تعالى ورضى عنه بمنه وكرمه آمين ثم دخلت سنة تسع وخسمين وستمائة استهلت بيوم الاثنين لأيام خلون من كانون الاول وليس للمسلمين خليفة وصاحب مكة ابو نمي بن أبي سعيد بن علي بن قتادة الحسنى وعمه إدريس بن علي شريكه وصاحب المدينة (13/229)
الأمير عز الدين جماز بن شيحه الحسيني وصاحب مصر والشام السلطان الملك الظاهر بيبرس البندقداري وشريكه في دمشق وبعلبك والصبيبة وبانياس الامير علم الدين سنجر الملقب بالملك المجاهد وشريكه في حلب الامير حسام الدين لاشين الجوكنداري العزيزي والكرك والشوبك للملك المغيث فتح الدين عمر بن العادل بن سيف الدين أبي بكر الكامل محمد بن العادل الكبير سيف الدين أبي بكر بن أيوب وحصن جهيون وبازريا في يدالامير مظفر الدين عثمان بن ناصر الدين مكورس وصاحب حماه الملك المنصور بن تقي الدين محمود وصاحب حمص الاشرف بن المنصور إبراهيم بن أسد الدين الناصر وصاحب الموصل الملك الصالح بن البدر لؤلؤ وأخوه الملك المجاهد صاحب جزيرة ابن عمر وصاحب ماردين الملك السعيد نجم الدين ايل غازي بن ارتق وصاحب بلاد الروم ركن الدين قلج ارسلان بن كيخسرو السلجوقي وشريكه في الملك اخوه كيكاوس والبلاد بينهما نصفين وسائر بلاد المشرق بأيدي التتار أصحاب هولاكو وبلاد اليمن تملكها غير واحد من الملوك وكذلك بلاد الجوكندي المغرب في كل قطر منها ملك
وفي هذ السنة أغارت التتار على حلب فلقيهم صاحبها حسام الدين العزيزي والمنصور صاحب حماه والاشرف صاحب حمص وكانت الوقعة شمالي حمص قريبا من قبر خالد بن الوليد والتتار في ستة آلاف والمسلمون في ألف وأربعمائة فهزمهم الله عز و جل وقتل المسلمون أكثرهم فرجع التتار إلى حلب فحصروها أربعة أشهر وضيقوا عليها الاقوات وقتلوا من الغرباء خلقا صبرا فإنا لله وإنا إليه راجعون والجيوش الذين كسروهم على حمص مقميون لم يرجعوا إلى حلب بل ساقوا إلى مصر فتلقاهم الملك الظاهر في أبهة السلطنة وأحسن إليهم وبقيت حلب محاصرة لا ناصر لها في هذه المدة ولكن سلم الله سبحانه وتعالى
وفي يوم الاثنين سابع صفر ركب الظاهر في أبهة الملك ومشى الامراء والاجناد بين يديه وكان ذلك اول ركوبه واستمر بعد ذلك يتابع الركوب واللعب بالكرة
وفي سابع عشر صفر خرج الامراء بدمشق على ملكها علم الدين سنجر فقاتلوه فهزموه فدخل القلعة فحاصر فيها فهرب منها إلى قلعة بعلبك وتسلم قلعة دمشق الامير علم الدين أيديكن البندقداري وكان مملوكا لجمال الدين يعمرو ثم للصالح أيوب بن الكامل وإليه ينسب الملك الظاهر فأرسله الظاهر ليتسلم دمشق من الحلبي علم الدين سنجر فأخذها وسكن قلعتها نيابة عن الظاهر ثم حاصروا الحلبي ببعلبك حتى أخذوه فأرسلوه إلى الظاهر على بغل إلى مصر فدخل عليه ليلا فعاتبه ثم أطلق له أشياء وأكرمه
وفي يوم الاثنين ثامن ربيع الاول استوزر الظاهر بهاء الدين علي بن محمد المعروف بابن الحنا (13/230)
وفي ربيع الآخر قبض الظاهر على جماعة من الأمراء بلغه عنهم أنهم يريدون الوثوب عليه وفيه أرسل إلى الشوبك فتسلمها من ايدي نواب المغيث صاحب الكرك وفيها جهز الظاهر جيشا إلى حلب ليطردوا التتار عنها فلما وصل الجيش إلى غزة كتب الفرنج إلى التتار ينذرونهم فرحلوا عنها مسرعين واستولى على حلب جماعة من أهلها فصادروا ونهبوا وبلغوا أغراضهم وقدم إليهم الجيش الظاهري فأزالوا ذلك كله وصادروا أهلها بألف ألف وستمائة ألف ثم قدم الأمير شمس الدين آقوش التركي من جهة الظاهر فاستلم البلد فقطع ووصل وحكم وعدل
وفي يوم الثلاثاء عاشر جمادي الاولى باشر القضاء بمصر تاج الدين عبد الوهاب بن القاضي الأعز أبي القاسم خلف بن رشيد الدين بن أبي الثناء محمود بن بدر العلائي وذلك بعد شروط ذكرها للظاهر شديدة فدخل تحتها الملك الظاهر وعزل عن القضاء بدر الدين أبو المحاسن يوسف بن علي النسجاري ورسم عليه أياما ثم أفرج عنه
البيعة بالخلافة للمستنصر بالله أبي القاسم أحمد بن أمير المؤمنين الظاهر
وكان معتقلا ببغداد فأطلق وكان مع جماعة الاعراب بأرض بالعراق ثم قصد الظاهر حين بلغه ملكه فقدم مصر صحبة جماعة من أمراء الاعراب عشرة منهم الأمير ناصر الدين مهنا في ثامن رجب فخرج السلطان ومعه الوزير والشهود والمؤذنون فتقلوه وكان يوما مشهودا وخرج أهل التوراة بتوراتهم والنصارى بأنجيلهم ودخل من باب النصر في أبهة عظيمة فلما كان يوم الاثنين ثالث عشر رجب جلس السلطان والخليفة بالايوان بقلعة الجبل والوزير والقاضي والأمراء على طبقتهم وأثبت نسب الخليفة المذكور على الحاكم تاج الدين بن الاعز وهذا الخليفة هو أخو المستنصر باني المستنصرية وعم المستعصم بويع بالخلافة بمصر بايعه الملك الظاهر والقاضي والوزير والأمراء وركب في دست الخلافة بديار مصر والأمراء بين يديه والناس حوله وشق القاهرة في ثالث عشر رجب وهذا الخليفة هو الثامن والثلاثون من خلفاء بني العباس بينه وبين العباس أربعة وعشرون أبا وكان أول من بايعه القاضي تاج الدين لما ثبت نسبه ثم السلطان ثم الشيخ عز الدين ابن عبد السلام ثم الأمراء والدولة وخطب له على المنابر وضرب اسمه على السكة وكان منصب الخلافة قد شغر منذ ثلاث سنين ونصفا لأن المستعصم قتل في أول سنة ست وخمسين وستمائة وبويع هذا في يوم الاثنين في ثالث عشر رجب من هذه السنة أعني سنة تسع وخمسين وستمائة وكان اسمر وسيما شديد القوى عالي الهمة له شجاعة وإقدام وقد لقبوه بالمستنصر كما كان أخاه باني المدرسة وهذا أمر لم يسبق إليه أن خليفتين أخوين يلقب كل منهما بالاخر ولي الخلافة أخوين كهذين السفاح وأخوه المنصور وكذا محمد بن علي بن عبد الله بن العباس والهادي (13/231)
والرشيد والمسترشد والمقتفى ولدا المستظهر وأما ثلاثة فالأمين والمأمون والمعتصم أولاد الرشيد والمنتصر والمعتز والمطيع أولاد المقتدر وأما أربعة فأولاد عبد الملك بن مروان الوليد وسليمان ويزيد وهشام وكانت مدة خلافته إلى أن فقد كما سيأتي خمسة أشهر وعشرين يوما أقصر مدة من جميع خلفاء بني العباس وأما بنو أمية فكانت مدة خلافة معاوية بن يزيد بن معاوية أربعين يوما وإبراهيم بن يزيد الناقص سبعين يوما وأخوه يزيد بن الوليد خمسة أشهر وكانت مدة خلافة الحسن بن علي بعد ابيه سبعة أشهر وأحد عشر يوما وكانت مدة مروان بن الحكم تسعة أشهر وعشرة ايام وكان في خلفاء بني العباس من لم يستكمل سنة منهم المنتصر بن المتوكل ستة اشهر والمهتدي بن الواثق أحد عشر شهرا وأياما وقد انزل الخليفة هذا بقلعة الجبل في برج هو وحشمه فلما كان يوم سابع رجب ركب في السواد وجاء إلى الجامع بالقلعة فصعد المنبر وخطب خطبة ذكر فيها شرف بني العباس ثم استفتح فقرأ صدرا من سورة الانعام ثم صلى على النبي
ص ثم ترضى عن الصحابة ودعا للسلطان الظاهر ثم نزل فصلى بالناس فاستحسنوا ذلك منه وكان وقتا حسنا ويوما مشهودا
تولية الخلافة المستنصر بالله للملك الظاهر السلطنة
لما كان يوم الاثنين الرابع من شعبان ركب الخليفة والسلطان والوزير والقضاة والأمراء وأهل الحل والعقد إلى خيمة عظيمة قد ضربت ظاهر القاهرة فجلسوا فيها فألبس الخليفة السلطان بيده خلعة سوداء وطوقا في عنقه وقيدا في رجليه وهما من ذهب وصعد فخر الدين إبراهيم بن لقمان وهو رئيس الكتاب منبرا فقرأ على الناس تقليد السلطان وهو من إنشائه وبخط نفسه ثم ركب السلطان بهذه الابهة والقيد في رجليه والطوق في عنقه والوزير بين يديه وعلى رأسه التقليد والأمراء والدولة في خدمته مشاة سوى الوزير فشق القاهرة وقد زينت له وكان يوما مشهودا وقد ذكر الشيخ قطب الدين هذا التقليد بتمامه وهو مطول والله أعلم
ذهاب الخليفة إلى بغداد
ثم إن الخليفة طلب من السلطان أن يجهزه إلى بغداد فرتب السلطان له جندا هائلة واقام له من كل ما ينبغي للخلفاء والملوك ثم سار السلطان صحبته قاصدين دمشق وكان سبب خروج السلطان من مصر إلى الشام أن التركي كما تقدم كان قد استحوذ على حلب فارسل إليه الأمير علم الدين سنجر الحلبي الذي كان قد تغلب على دمشق فطرده عن حلب وتسلمها وأقام بها نائبا عن السلطان ثم لم يزل التركي حتى استعادها منه وأخرجه منها هاربا فاستناب الظاهر على مصر عز الدين أيدمر الحلبي وجعل تدبير المملكة إلى الوزير بهاء الدين بن الحنا وأخذ ولده فخر الدين (13/232)
معه وزيرا وجعل تدبير العساكر والجيوش إلى الأمير بدر الدين بيليك الخازندار ثم ساروا فدخلوا دمشق يوم الاثنين سابع ذي القعدة وكان يوما مشهودا وصليا الجمعة بجامع دمشق وكان دخول الخليفة من باب البريد ودخل السلطان من باب الزيارة وكان يوما مشهودا أيضا ثم جهز السلطان الخليفة إلى بغداد ومعه أولاد صاحب الموصل وأنفق عليه وعليهم وعلى من استقل معه من الجيش الذين يردون عنه ما لم يقدر الله من الذهب العين ألف ألف دينار وأطلق له وزاده فجزاه الله خيرا وقدم إليه صاحب حمص الملك الأشرف فخلع عليه واطلق له وزاده تل باشر وقدم صاحب حماه المنصور فخلع عليه واطلق له وكتب له تقليدا ببلاده ثم جهز جيشا صحبة الامير علاء الدين البندقداري إلى حلب لمحاربة التركي المتغلب عليها المفسد فيها وهذا كل ما بلغنا من وقائع هذه السنة ملخصا
ثم دخلت سنة ستين وستمائة
في أوائل هذه السنة في ثالث المحرم قتل الخليفة المستنصر بالله الذي بويع له في رجب في السنة الماضية بمصر وكان قتله بأرض العراق بعد ماهزم من كان معه من الجنود فإنا لله وإنا إليه راجعون واستقل الملك الظاهر بجميع الشام ومصر وصفت له الأمور ولم يبق له منازع سوى التركي فإنه ذهب إلى المنيرة فاستحوذ عليها وعصى عليه هنالك وفي اليوم الثالث من المحرم من هذه السنة خلع السلطان الملك الظاهر ببلاد مصر على جميع الأمراء والحاشية وعلى الوزير وعلى القاضي تاج الدين ابن بنت الاعز وعزل عنها برهان الدين السنجاري وفي اواخر المحرم اعرس الامير بدر الدين بيليك الخازندار على بنت الامير لؤلؤ صاحب الموصل واحتفل الظاهر بهذا العرس احتفالا بالغا
قال ابن خلكان وفي هذه السنة اصطاد بعض امراء الظاهر بحدود حماة حمار وحش فطبخوه فلم ينضج ولا اثر فيه كثرة الوقود ثم افتقدوا جلده فإذا هو مرسوم على أذنه بهرام جور قال وقد احضروه إلى فقرأته كذلك وهو يقتضي أن لهذا الحمار قريبا من ثمانمائة سنة فإن بهرام جور كان قبل المبعث بمدة متطاولة وحمر الوحش تعيش دهرا طويلا قلت يحتمل أن يكون هذا بهرام شاه الملك الامجد إذ يبعد بقاء مثل هذا بلا اصطياد هذه المدة الطويلة ويكون الكاتب قد أخطأ فأراد كتابة بهرام شاه فكتب بهرام جور فحصل اللبس من هذا والله أعلم
ذكر بيعة الحاكم بأمر الله العباسي
في السابع والعشرين من ربيع الاخر دخل الخليفة أبو العباس الحاكم بأمر الله أحمد بن الامير ابي علي القبي من الامير علي بن الامير ابي بكر بن الامام المسترشد بالله بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد من بلاد الشرق وصحبته جماعة من رؤوس تلك البلاد وقد شهد الوقعة صحبة المستنصر وهرب هو في جماعة من المعركة فسلم فلما كان يوم دخوله تلقاه السلطان الظاهر وأظهر (13/233)
السرور له والاحتفال به وأنزله في البرج الكبير من قلعة الجبل وأجريت عليه الارزاق الدارة والاحسان وفي ربيع الاخر عزل الملك الظاهر الامير جمال الدين آقوش النجيبي عن استداريته واستبدل به غيره وبعد ذلك ارسله نائبا على الشام كما سيأتي
وفي يوم الثلاثاء تاسع رجب حضر السلطان الظاهر إلى دار العدل في محاكمة في بئر إلى بيت القاضي تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز فقام الناس إلا القاضي فإنه اشار عليه أن لا يقوم وتداعيا وكان الحق مع السلطان وله بينه عادلة فانتزعت البئر من يد الغريم وكان الغريم أحد الأمراء
وفي شوال استناب الظاهر على حلب الامير علاء الدين أيدكين الشهابي وحينئذ انحاز عسكر سيس على القلعة من أرض حلب فركب إليهم الشهابي فكسرهم واسر منهم جماعة فبعثهم إلى مصر فقتلوا وفيها استناب السلطان على دمشق الامير جمال الدين أقوش النجيبي وكان من أكابر الامراء وعزل عنها علاء الدين طيبرس الوزيري وحمل إلى القاهرة
وفي ذي القعدة خرج مرسوم السلطان إلى القاضي تاج الدين ابن بنت الاعز ان يستنيب من كل مذهب من المذاهب الثلاثة نائبا فاستناب من الحنفية صدر الدين سليمان الحنفي ومن الحنابلة شمس الدين محمد بن الشيخ العماد ومن المالكية شرف الدين عمر السبكي المالكي
وفي ذي الحجة قدمت وفود كثيرة من التتار على الملك الظاهر مستأمنين فأكرمهم وأحسن إليهم وأقطعهم إقطاعات حسنة وكذلك فعل بأولاد صاحب الموصل ورتب لهم رواتب كافية
وفيها ارسل هولاكو طائفة من جنده نحو عشرة آلاف فحاصروا الموصل ونصبوا عليها أربعة وعشرين منجنيقا وضاقت بها الاقوات
وفيها أرسل الملك الصالح إسماعيل بن لؤلؤ إلى التركي يستنجده فقم عليه فهزمت التتار ثم ثبتوا والتقوا معه وإنما كان معه سبعمائة مقاتل فهزموه وجرحوه وعاد إلى البيرة وفارقه اكثر أصحابه فدخلوا الديار المصرية ثم دخل هو إلى الملك الظاهر فأنعم عليه وأحسن إليه واقطعه سبعين فارسا وأما التتار فإنهم عادوا إلى الموصل ولم يزالوا حتى استنزلوا صاحبها الملك الصالح إليهم ونادوا في البلد بالأمان حتى اطمأن الناس ثم مالوا عليهم فقتلوهم تسعة أيام وقتلوا الملك الصالح إسماعيل وولده علاء الدين وخربوا أسوار البلد وتركوها بلاقع ثم كروا راجعين قبحهم الله
وفيها وقع الخلف بين هلاكو وبين السلطان بركه خان ابن عمه وأرسل إليه بركة يطلب منه نصيبا مما فتحه من البلاد وأخذه من الاموال والأسرار على ما جرت به عادة ملوكهم فقتل رسله فاشتد غضب بركه وكاتب الظاهر ليتفقا على هولاكو
وفيها وقع غلاء شديد بالشام قبيع القمح الغرارة بأربعمائة والشعير بمائتين وخمسين واللحم (13/234)
الرطل بستة أو سبعة وحصل في النصف من شعبان خوف شديد من التتار فتجهز كثير من الناس إلى مصر وبيعت الغلات حتى حواصل القلعة والامراء ورسم أولياء الامور على من له قدرة أن يسافر من دمشق إلى بلاد مصر ووقعت رجفة عظيمة في الشام وفي بلاد الروم ويقال إنه حصل لبلاد التتر خوف شديد ايضا فسبحان الفعال لما يريد وبيده الأمر وكان الآمر لأهل دمشق بالتحول منها إلى مصر نائبها الامير علاء الدين طيبرس الوزيري فأرسل السلطان إليه في ذي القعدة فامسكه وعزله واستناب عليها بهاء الدين النجيبي واستوزر بدمشق عز الدين بن وداعة
وفيها نزل ابن خلكان عن تدريس الركنية لأبي شامة وحضر عنده حين درس وأخذ في أول مختصر المزني
وفيها توفي من الاعيان
الخليفة المستنصر بن الظاهر بأمر الله العباسي
الذي بايعه الظاهر بمصر كما ذكرنا وكان قتله في ثالث المحرم من هذه السنة وكان شهما شجاعا بطلا فاتكا وقد أنفق الظاهر عليه حتى أقام له جيشا بألف ألف دينار وأزيد وسار في خدمته ومعه خلق من اكابر الأمراء وأولاد صاحب الموصل وكان الملك الصالح إسماعيل من الوفد الذين قدموا على الظاهر فأرسله صحبة الخليفة فلما كانت الوقعة فقد المستنصر ورجع الصالح إلى بلاده فجاءته التتار فحاصروه كما ذكرنا وقتلوه وخربوا بلاده وقتلوا أهلها فإنا لله وإنا إليه راجعون
العز الضرير النحوي اللغوي
واسمه الحسن بن محمد بن أحمد بن نجا من أهل نصيبين ونشأ بأربل فاشتغل بعلوم كثيرة من علوم الاوائل وكان يشتغل عليه أهل الذمة وغيرهم ونسب إلى الانحلال وقلة الدين وترك الصلوات وكان ذكيا وليس بذكي عالم اللسان جاهل القلب ذكي القول خبيث القعل وله شعر أورد منه الشيخ قطب الدين قطعة في ترجمته وهو شبيه بأبي العلاء المعري قبحهما الله
ابن عبد السلام
عبد العزيز بن عبد السلام بن القاسم بن الحسن بن محمد المهذب الشيخ عز الدين بن عبد السلام أبو محمد السلمي الدمشقي الشافعي شيخ المذهب ومفيد أهله وله مصنفات حسان منها التفسير وأختصار النهاية والقواعد الكبرى والصغرى وكتاب الصلاة والفتاوى الموصلية وغير ذلك ولد سنة سبع أو ثمان وسبعين وخمسمائة وسمع كثيرا واشتغل على فخر الدين بن عساكر وغيره وبرع في المذهب وجمع علوما كثيرة وأفاد الطلبة ودرس بعدة مدارس بدمشق وولى خطابتها ثم سافر إلى مصر ودرس بها وخطب وحكم وانتهت إليه رئاسة الشافية وقصد بالفتاوى من الافاق وكان لطيفا ظريفا يستشهد بالاشعار وكان سبب خروجه من الشام إنكاره على الصالح (13/235)
إسماعيل تسليمه صغد والثقيف إلى الفرنج ووافقه الشيخ أبو عمرو بن الحاجب المالكي فأخرجهما من بلده فسار أبو عمرو إلى الناصر داود صاحب الكرك فأكرمه وسار ابن عبد السلام إلى الملك الصالح أيوب بن الكامل صاحب مصر فأكرمه وولاه قضاء مصر وخطابة الجامع العتيق ثم انتزعهما منه وأقره على تدريس الصالحية فلما حضره الموت أوصى بها للقاضي تاج الدين ابن بنت الاعز وتوفي في عاشر جمادي الاولى وقد نيف على الثمانين ودفن من الغد بسفح المقطم وحضر جنازته السلطان الظاهر وخلق كثير رحمه الله تعالى
كمال الدي بن العديم الحنفي
عمر بن أحمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير بن هارون بن موسى بن عيسى بن عبد الله بن محمد بن أبي جرادة عامر بن ربيعة بن خويلد بن عوف بن عامر بن عقيل الحلبي الحنفي أبو القاسم بن العديم الامير الوزير الرئيس الكبير ولد سنة ست وثمانين وخمسمائة سمع الحديث وحدث وتفقه وأفتى ودرس وصنف وكان إماما في فنون كثيرة وقد ترسل إلى الخلفاء والملوك مرارا عديدة وكان يكتب حسنا طريقة مشهورة وصنف لحلب تاريخا مفيدا قريبا في أربعين مجلدا وكان جيد المعرفة بالحديث حسن الظن بالفقراء والصالحين كثير الاحسان إليهم وقد أقام بدمشق في الدولة الناصرية المتأخرة توفي بمصر ودفن بسفح المقطم بعد ابن عبد السلام بعشرة أيام وقد أورد له قطب الدين أشعارا حسنة
يوسف بن يوسف بن سلامة
ابن إبراهيم بن الحسن بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن سليمان بن محمد القاقاني الزينبي بن إبراهيم ابن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب محيي الدين أبو المعز ويقال أبو المحاسن الهاشمي العباسي الحوصلي المعروف بابن زبلاق الشاعر قتلته التتار لما أخذوا الموصل في هذه السنة عن سبع وخمسين سنة ومن شعره قوله ... بعثت لنا من سحر مقلتك الوسنا ... سهادا يزود الكرى أن يألف الجفنا ... وأبصر جسمي حسن خصرك ناحلا ... فحاكاه لكن زاد في دقة المعنى ... وابرزت وجها اخجل الصبح طالعا ... وملت بقد علم الهيف الغصن اللدنا ... حكيت أخال البدر ليلة تمه ... سنا وسناء إذ تشابهتما سنا ...
وقال أيضا وقد دعى إلى موضع فبعث يعتذر بهذين البيتين ... أنا في منزلي وقد وهب ال ... له نديما وقينة وعقار ... فأبسطوا العذر في التأخر عنكم ... شغل الخلى أهل بأن يعارا (13/236)
قال أبو شامة وفيها في ثاني عشر جمادي الاخرة توفي البدر المراغي الخلافي
المعروف بالطويل وكان قليل الدين تاركا للصلاة مغتبطا بما كان فيه من معرفة الجدل والخلاف على اصطلاح المتأخرين راضيا بمالا يفيد وفيها توفي
محمد بن داود بن ياقوت الصارمي
المحدث كتب كثير الطبقات وغيرها وكان دينا خيرا يعير كتبه ويداوم على الاشتغال بسماع الحديث رحمه الله تعالى
ثم دخلت سنة إحدى وستين وستمائة
استهلت وسلطان البلاد الشامية والمصرية الظاهر بيبرس وعلى الشام نائبه آقوش النجيبي وقاضي دمشق ابن خلكان والوزير بها عز الدين بن وداعة وليس للناس خليفة وإنما تضرب السكة باسم المستنصر الذي قتل
ذكر خلافة الحاكم بأمر الله أبي العباس
أحمد بن الامير أبي على القبي ابن الامير علي بن الامير ابي بكر بن الامام المسترشد بالله أمير المؤمنين أبي منصور الفضل بن الامام المستظهر بالله أحمد العباسي الهاشمي لما كان ثاني المحرم وهو يوم الخميس جلس السلطان الظاهر والامراء في الايوان الكبير بقلعة الجبل وجاء الخليفة الحاكم بأمر الله راكبا حتى نزل عند الايوان وقد بسط له إلى جانب السلطان وذلك بعد ثبوت نسبه ثم قرئ نسبه على الناس ثم أقبل عليه الظاهر بيبرس فبايعه وبايعه الناس بعده وكان يوما مشهودا فلما كان يوم الجمعة ثانية خطب الخليفة بالناس فقال في خطبته الحمد لله الذي أقام لآل العباس ركنا ظهيرا وجعل لهم من لدنه سلطانا نصيرا أحمده على السراء والضراء واستعينه على شكر ما أسبغ من النعماء واستنصره على دفع الاعداء وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه و سلم وعلى آله وصحبه نجوم الاهتداء وأئمة الاقتداء لا سيما الاربعة وعلي العباس كاشف غمة أبي السادة الخلفاء وعلى بقية الصحابة أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أيها الناس اعلموا أن الامامة فرض من فروض الاسلام والجهاد محتوم على جميع الانام ولا يقوم علم الجهاد إلا باجتماع كلمة العباد ولا سبيت الحرم إلا بانتهاك المحارم ولا سفكت الدماء إلا بارتكاب الجرائم فلو شاهدتم أعداء الاسلام لما دخلوا دار السلام واستباحوا الدماء والاموال وقتلوا الرجال والاطفال وسبوا الصبيان والبنات وأيتموهم من الاباء والأمهات وهتكوا حرم الخلافة والحريم وعلت الصيحات من هول ذلك اليوم الطويل فكم من شيخ خضبت شيبته (13/237)
بدمائه وكم من طفل بكى فلم يرحم لبكائه فشمروا عباد الله عن ساق الاجتهاد في إحياء فرض الجهاد واتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وانفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) فلم يبق معذرة في القعود عن أعداء الدين والمحاماة عن المسلمين وهذا السلطان الملك الظاهر السيد الأجل العالم العادل المجاهد المؤيد ركن الدنيا والدين قد قام بنصر الامامة عند قلة الانصار وشرد جيوش الكفر بعد أن جاسوا خلال الديار واصبحت البيعة بهمته منتظمة العقود والدولة العباسية به متكاثرة الجنود فبادروا عباد الله إلى شكر هذه النعمة وأخلصوا نياتكم تنصروا وقاتلوا أولياء الشيطان تظفروا ولا يروعكم ما جرى فالحرب سجال والعاقبة للمتقين والدهر يومان والأجر للمؤمنين جمع الله على الهدى امركم وأعز بالايمان نصركم واستغفر الله لي ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ثم خطب الثانية ونزل فصلى
وكتب بيعته إلى الافاق ليخطب له وضربت السكة باسمه قال أبو شامة فخطب له بجامع دمشق وسائر الجوامع يوم الجمعة سادس عشر المحرم من هذه السن وهذه الخليفة هو التاسع والثلاثون من خلفاء بني العباس ولم يل الخلافة من بني العباس من ليس والده وجده خليفة بعد السفاح والمنصور سوى هذا فأما من ليس والده خليفة فكثير منهم المستعين أحمد بن محمد ابن المعتصم والمعتضد بن طلحة بن المتوكل والقادر بن إسحاق بن المقتدر والمقتدى بن الذخيرة ابن القائم بامر الله
ذكر أخذ الظاهر الكرك وإعدام صاحبها
ركب الظاهر من مصر في العساكر المنصورة قاصدا ناحية بلاد الكرك واستدعى صاحبها الملك المغيث عمر بن العادل أبي بكر بن الكامل فلما قدم عليه بعد جهد أرسله إلى مصر معتقلا فكان آخر العهد به وذلك أنه كانت هولاكو وحثه على القدوم إلى الشام مرة أخرى وجاءته كتب التتار بالثبات ونيابة البلاد وأنهم قادمون عليه عشرون ألفا لفتح الديار المصرية وأخرج السلطان فتاوى الفقهاء بقتله وعرض ذلك على ابن خلكان وكان قد استدعاه من دمشق وعلى جماعة من الامراء ثم سار فتسلم الكرك يوم الجمعة ثالث عشر جمادي الاولى ودخلها يومئذ في أبهة الملك ثم عاد إلى مصر مؤيدا منصورا
وفيها قدمت رسل بركه خان إلى الظاهر يقول له قد علمت محبتي للاسلام وعلمت ما فعل هولاكو بالمسلمين فاركب أنت من ناحية حتى آتيه أنا من ناحية حتى نصطلمه أو نخرجه من البلاد واعطيك جميع ما كان بيده من البلاد فاستصوب الظاهر هذا الرأي وشكره وخلع على رسله واكرمهم
وفيها زلزلت الموصل زلزلة عظيمة وتهدمت أكثر دورها وفي رمضان جهز الظاهر صناعا وأخشابا وآلات كثيرة لعمارة مسجد رسول الله ص بعد حريقه فطيف بتلك الاخشاب والالات (13/238)
بمصر فرحة وتعظيما لشأنها ثم ساروا بها إلى المدينة النبوية وفي شوال سار الظاهر إلى الاسكندرية فنظر في أحوالها وأمورها وعزل قاضيها وخطيبها ناصر الدين أحمد بن المنير وولى غيره
وفيها التقى بركه خان وهولاكو ومع كل واحد جيوش كثيرة فاقتتلوا فهزم الله هولاكو هزيمة فظيعة وقتل أكثر أصحابه وغرق أكثر من بقي وهرب هو في شرذمة يسيرة ولله الحمد ولما نظر بركه خان كثرة القتلى قال يعز علي أن يقتل المغول بعضهم بعضا ولكن كيف الحيلة فيمن غير سنة جنكيزخان ثم أغار بركه خان على بلاد القسطنطينية فصانعه صاحبها وارسل الظاهر هدايا عظيمة إلى بركه خان وقد أقام التركي بحلب خليفة آخر لقبه بالحاكم فلما اجتاز به المستنصر سار معه إلى العراق واتفقا على المصلحة وإنفاذ الحاكم المستنصر لكونه أكبر منه ولله الحمد ولكن خرج عليهما طائفة من التتار ففرقوا شملهما وقتلوا خلقا ممن كان معهما وعدم المستنصر وهرب الحاكم مع الاعراب وقد كان المستنصر هذا فتح بلدانا كثيرة في مسيرة من الشام إلى العراق ولما قاتله بهادر على شحنة بغداد كسره المستنصر وقتل أكثر أصحابه ولكن خرج كمين من التتار نجدة فهرب العربان والاكراد الذين كانوا مع المستنصر وثبت هو في طائفة ممن كان معه من الترك فقتل أكثرهم وفقد هو من بينهم ونجا الحاكم في طائفة وكانت الوقعة في أول المحرم من سنة ستين وستمائة وهذا هو الذي أشبه الحسين بن علي في توغله في أرض العراق مع كثرة جنودها وكان الاولى له أن يستقر في بلاد الشام حتى تتمهد له الامور ويصفوا الحال ولكن قدر الله وما شاء فعل وجهز السلطان جيشا آخر من دمشق إلى بلاد الفرنج فاغاروا وقتلوا وسبوا ورجعوا سالمين وطلبت الفرنج منه المصالحة فصالحهم مدة لاشتغاله بحلب وأعمالها وكان قد عزل في شوال قاضي مصر تاج الدين ابن بنت الاعز وولى عليها برهان الدين الخضر بن الحسين السنجاري وعزل قاضي دمشق نجم الدين أبا بكر بن صدر الدين أحمد ابن شمس الدين بن هبة الله بن سني الدولة وولى عليها شمس الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان وقد ناب في الحكم بالقاهرة مدة طويلة عن بدر الدين السنجاري واضاف إليه مع القضاء نظر الاوقاف والجامع والمارستان وتدريس سبع مدارس العادلية والناصرية والغدراوية والفلكية والركنية والاقبالية والبهنسية وقرئ تقليده يوم عرفة يوم الجمعة بعد الصلاة بالشباك الكمالي من جامع دمشق وسافر القاضي المعزول مرسما عليه وقد تكلم فيه الشيخ أبو شامة وذكر أنه خان في وديعة ذهب جعلها فلوسا فالله أعلم وكانت مدة ولايته سنة واشهرا وفي يوم العيد يوم السبت سافر السلطان إلى مصر وقد كان رسول الاسماعيلية قدم على السلطان بدمشق يتهددونه ويتوعدونه ويطلبون منه إقطاعات كثيرة فلم يزل السلطان يوقع بينهم حتى ا ستأصل شأقهم واستولى على بلادهم (13/239)
وفي السادس والعشرين من ربيع الاول عمل عزاء السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن العزيز محمد بن الظاهر غازي بن الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي فاتح بيت المقدس وكان عمل هذا العزاء بقلعة الجبل بمصر بأمر السلطان الظاهر ركن الدين بيبرس وذلك لما بلغهم أن هولاكو ملك التتار قتله وقد كان في قبضته منذ مدة فلما بلغ هولاكو أن أصحابه قد كسروا بعين جالوت طلبه إلى بين يديه وقال له أنت أرسلت إلى الجيوش بمصر حتى جاؤا فاقتتلوا مع المغول فكسروهم ثم أمر بقتله ويقال إنه اعتذر إليه وذكر له أن المصريين كانوا أعداءه وبينه وبينهم شنآن فأقاله ولكنه انحطت رتبته عنده وقد كان مكرما في خدمته وقد وعده أنه إذا ملك مصر استنابه في الشام فلما كانت وقعة حمص في هذه السنة وقتل فيها أصحاب هولاكو مع مقدمهم بيدرة غضب وقال له أصحابك في العزيزية أمراء أبيك والناصرية من أصحابك قتلوا أصحابنا ثم أمر بقتله وذكروا في كيفية قتله أنه رماه بالنشاب وهو واقف بين يديه يسأله العفو فلم يعف عنه حتى قتله وقتل أخاه شقيقه الظاهر عليا وأطلق ولديهما العزيز محمد بن الناص روزبالة بن الظاهر وكانا صغيرين من أحسن أشكال بني آدم فأما العزيز فإنه مات هناك في أسر التتار وأما زبالة فإنه سار إلى مصر وكان أحسن من بها وكانت أمه أم ولد يقال له وجه القمر فتزوجها بعض الأمراء بعد استاذها ويقال إن هولاكو لما أراد قتل الناصر أمر بأربع من الشجر متباعدات بعضها عن بعض فجمعت روسها بحبال ثم ربط الناصر في الاربعة بأربعته ثم أطلقت الحبال فرجعت كل واحدة إلى مركزها بعضو من أعضائه رحمه الله وقد قيل إن ذلك كان في الخامس والعشرين من شوال في سنة ثمان وخمسين وكان مولده في سنة سبع وعشرين بحلب ولما توفي أبوه سنة أربع وثلاثين بويع بالسلطنة بحلب وعمره سبع سنين وقام بتدبير مملكته جماعة من مماليك أبيه وكان الأمر كله عن رأي جدته أم خاتون بنت العادل أبي بكر بن أيوب فلما توفيت في سنة أربعين وستمائة استقل الناصر بالملك وكان جيد السيرة في الرعية محببا إليهم كثير النفقات ولا سيما لما ملك دمشق مع حلب وأعمالها وبعلبك وحران وطائفة كبيرة من بلاد الجزيرة فيقال إن سماطة كان كل يوم يشتمل أربعمائة رأس غنم سوى الدجاج والأوز وأنواع الطير مطبوخا بأنواع الاطعمة والقلويات غير المشوى والمقلى وكان مجموع ما يغرم على السماط في كل يوم عشرين ألفا وعامته يخرج من يديه كما هو كأنه لم يؤكل منه شيء فيباع على باب القلعة بأرخص الاثمان حتى إن كثيرامن أرباب البيوت كانوا لا يطبخون في بيوتهم شيئا من الطرف والاطعمة بل يشترون برخص مالا يقدرون على مثله إلا بكلفة ونفقة كثيرة فيشترى أحدهم بنصف درهم أو بدرهم مالا يقدر عليه إلا بخسارة كثيرة ولعله لا يقدر على مثله وكانت الارزاق كثيرة دارة في زمانه وأيامه وقد كان خليعا ظريفا حسن (13/240)
الشكل أديبا يقول الشعر المتوسط القوى بالنسبة إليه وقد أورد له الشيخ قطب الدين في الذيل قطعة صالحة من شعره وهي رائقة لائقة قتل ببلاد المشرق ودفن هناك وقد كان أعدله تربة برباطه الذي بناه بسفح قاسيون فلم يقدر دفنه بها والناصرية البرانية بالسفح من أغرب الابنية وأحسنها بنيانا من الموكد المحكم قبلي جامع الافرم وقد بنى بعدها بمدةطويلة وكذلك الناصرية الجوانية التي بناها داخل باب الفراديس هي من أحسن المدارس وبنى الخان الكبير تجاه الزنجاري وحولت إليه دار الطعم وقد كانت قبل ذلك غربي القلعة في اصطبل ا لسلطان اليوم رحمه الله
وفيها توفي من الاعيان
أحمد بن محمد بن عبد الله
ابن محمد بن يحيى بن سيد لاناس أبو بكر اليعمري الاندلسي الحافظ ولد سنة سبع وتسعين وخمسمائة وسمع الكثير وحصل كتبا عظيمة وصنف أشياء حسنة وختم به الحافظ في تلك البلاد توفي بمدينة تونس في سابع عشرين رجب من هذه السنة وممن توفي فيها أيضا
عبد الرزاق بن عبد الله
ابن أبي بكر بن خلف عز الدين أبو محمد الرسعني المحدث المفسر سمع الكثير وحدث وكان من الفضلاء والادباء له مكانة عند البدر لؤلؤ صاحب الموصل وكان له منزلة ايضا عند صاحب سنجار وبها توفي في ليلة الجمعة الثاني عشر من ربيع الاخر وقد جاوز السبعين ومن شعره ... نعب الغراب فدلنا بنعيبه ... أن الحبيب دنا أوان مغيبة ... يا سائلي عن طيب عيشي بعدهم ... جدلي بعيش ثم سل عن طيبة ... محمد بن أحمد بن عنتر السلمي الدمشقي
محتسبها ومن عدولها واعيانها وله بها أملاك وأوقاف توفي بالقاهرة ودفن بالمقطم
علم الدين أبو القاسم بن أحمد
ابن الموفق بن جعفر المرسي البورقي اللغوي النحوي المقري شرح الشاطبية شرحا مختصرا وشرح المفصل في عدة مجلدات وشرح الجزولية وقد اجتمع بمصنفها وسأله عن بعض مسائلها وكان ذا فنون عديدة حسن الشكل مليح الوجه له هيئة حسنة وبزة وجمال وقد سمع الكندي وغيره
الشيخ أبو بكر الدينوري
وهو باني الزاوية بالصالحية وكان له فيها جماعة مريدون يذكرون الله بأصوات حسنة طيبة رحمه الله
مولد الشيخ تقي الدين ابن تيميه شيخ الإسلام
قال الشيخ شمس الدين الذهبي وفي هذه السنة ولد شيخنا تقي الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ شهاب الدين عبد الحليم بن أبي القاسم بن تيمية الحراني بحران يوم الاثنين عاشر ربيع الاول من سنة إحدى وستين وستمائة (13/241)
الأمير الكبير مجير الدين
أبو الهيجاء عيسى بن حثير الازكشي الكردي الاموي كان من أعيان الأمراء وشجعانهم وله يوم عين جالوت اليد البيضاء في كسر التتار ولما دخل الملك المظفرإلى دمشق بعد الوقعة جعله مع الامير علم الدين سنجر الحلبي نائبا على دمشق مستشارا ومشتركا في الرأي والمراسيم والتدبير وكان يجلس معه في دار العدل وله الاقطاع الكامل والرزق الواسع إلى أن توفي في هذه السنة قال أبو شامة ووالده الامير حسام الدين توفي في جيش الملك الاشرف ببلاد الشرق هو والامير عماد الدين أحمد بن المشطوب قلت وولده الامير عز الدين تولى هذه المدينة أعني دمشق مدة وكان مشكور السيرة وإليه ينسب درب ابن سنون بالصاغة العتيفة فيقال درب ابن أبي الهيجاء لأنه كان يسكنه وكان يعمل الولاية فيه فعرف به وبعد موته بقليل كان فيه نزولنا حين قدمنا من حوران وأنا صغير فختمت فيه القرآن ولله الحمد
ثم دخلت سنة ثنتين وستين وستمائة
استهلت والخليفة الحاكم بامر الله العباسي والسلطان الظاهر بيبرس ونائب دمشق الامير جمال الدين آقوش النجيبي وقاضيه ابن خلكان
وفيها في أولها كملت المدرسة الظاهرية التي بين القصرين ورتب لتدريس الشافعية بها القاضي تقي الدين محمد بن الحسين بن رزين ولتدريس الحنفية مجد الدين عبد الرحمن بن كمال الدين عمر ابن العديم ولمشيخة الحديث بها الشيخ شرف الدي عبد المؤمن بن خلف الحافظ الدمياطي
وفيها عمر الظاهر بالقدس خانا ووقف عليه أوقافا للنازلين به من إصلاح نعالهم وأكلهم وغير ذلك وبنى به طاحونا وفرنا
وفيها قدمت رسل بركه خان إلى الملك الظاهر ومعهم الأشرف ابن الشهاب غازي بن العادل ومعهم من الكتب والمشافهات ما فيه سرور للاسلام وأهله مما حل بهولاكو وأهله
وفي جمادي الاخرة منها درس الشيخ شهاب الدين أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي بدار الحديث الاشرفية بعد وفاة عماد الدين بن الحرستاني وحضر عنده القاضي ابن خلكان وجماعة من القضاة والاعيان وذكر خطبة كتابه المبعث وأورد الحديث بسنده ومتنه وذكر فوائد كثيرة مستحسنه ويقال أنه لم يراجع شيئا حتى ولا درسه ومثله لا يستكثر ذلك عليه والله أعلم
وفيها قدم نصير الدين الطوسي إلى بغداد من جهة هولاكو فنظر في الاوقاف وأحوال البلد وأخذ كتبا كثيرة من سائر المدارس وحولها إلى رصده الذي بناه بمراغة ثم انحدر إلى واسط والبصرة (13/242)
وفيها كانت وفاة
الملك الأشرف
موسى بن الملك المنصور إبراهيم بن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه الكبير كانوا ملوك حمص كابرا عن كابر إلى هذا الحين وقد كان من الكرماء الموصوفين وكبراء الدماشقة المترفين معتنيا بالمأكل والمشرب والملابس والمراكب وقضاء الشهوات والمآرب وكثرة التنعم بالمغاني والحبائب ثم ذهب ذلك كأن لم يكن أو كأضغاث احلام أو كظل زائل وبقيت تبعاته وعقوباته وحسابه وعاره ولما توفي وجدت له حواصل من الجواهر النفيسة والأموال الكثيرة وصار ملكه إلى الدولة الظاهرية وتوفي معه في هذه السنة الأمير حسام الدين الجوكندار نائب حلب
وفيها كانت كسرة التتار على حمص وقتل مقدمهم بيدرة بقضاء الله وقدره الحسن الجميل
وفيها توفي الرشيد العطار المحدث بمصر والذي حضر مسخرة الملك الاشرف موسى بن العادل والتاجر المشهور الحاج نصر بن دس وكان ملازما للصلوات بالجامع وكان من ذوي اليسار والخير
الخطيب عماد الدين بن الحرستاني
عبد الكريم بن جمال الدين عبد الصمد بن محمد بن الحرستاني كان خطيبا بدمشق وناب في الحكم عن أبيه في الدولة الاشرفية بعد ابن الصلاح إلى أن توفي في دار الخطابة في تاسع عشرين جمادي الاولى وصلى عليه بالجامع ودفن عند أبيه بقاسيون وكانت جنازته حافلة وقد جاوز الثمانين بخمس سنين وتولى بعده الخطابة والغزالية ولده مجد الدين وباشر مشيخة دار الحديث الشيخ شهاب الدين أبو شامة
محيي الدين محمد بن أحمد بن محمد
ابن إبراهيم بن الحسين بن سراقة الحافظ المحدث الانصاري الشاطبي أبو بكر المغربي عالم فاضل دين أقام بحلب مدة ثم اجتاز بدمشق قاصدا مصر وقد تولى دار الحديث الكاملية بعد زكي الدين عبدالعظيم المنذري وقد كان له سماع جيد ببغداد وغيرها من البلاد وقد جاوزر السبعين
الشيخ الصالح محمد بن منصور بن يحيى
الشيخ أبي القاسم القباري الاسكندراني
كان مقيما بغيط له يقتات منه ويعمل فيه ويبدره وتورع جدا ويطعم الناس من ثماره توفي في سادس شعبان بالاسكندرية وله خمس وسبعون سنة وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويردع الولاة عن الظلم فيسمعون منه ويطيعونه لزهده وإذا جاء الناس إلى زيارته إنما يكلمهم من طاقة المنزل وهم راضون منه بذلك ومن غريب ما حكى عنه أنه باع دابة له من رجل فلما كان بعد أيام جاء الرجل الذي اشتراها فقال يا سيدي إن الدابة التي اشتريتها منك لا تأكل عندي شيئا (13/243)
فنظر إليه الشيخ فقال له ماذا تعاني من الاسباب فقال رقاص عند الوالي فقال له إن دابتنا لا تأكل الحرام ودخل منزله فأعطاه دراهم ومعها دراهم كثيرة قد اختلطت بها فلا تميز فاشترى الناس من الرقاص كل درهم بثلاثة لأجل البركة وأخذ دابته ولما توفي ترك من الاساس ما يساوي خمسين درهما فبيع بمبلغ عشرين ألفا قال أبو شامة وفي الرابع والعشرين من ربيع الاخر توفي
محيي الدين عبد الله بن صفي الدين
إبراهيم بن مرزوق بداره بدمشق المجاورة للمدرسة النورية رحمه الله تعالى قلت داره هذه هي التي جعلت مدرسة للشافعية وقفها الأمير جمال الدين آقوش النجيبي التي يقال لها النجيبية تقبل الله منه وبها إقامتنا جعلها الله دارا تعقبها دار القرار في الفوز العظيم وقد كان أبو جمال الدين النجيبي وهو صفي الدين وزير الملك الأشرف وملك من الذهب ستمائة ألف دينار خارجا عن الأملاك والاثاث والبضائع وكانت وفاة أبيه بمصر سنة تسع وخمسين ودفن بتربته عند المقطم قال أبو شامة وجاء الخبر من مصر بوفاة الفخر عثمان المصري المعروف بعين غين
وفي ثامن عشر ذي الحجة توفي الشمس الوبار الموصلي وكان قد حصل شيئا من عمل الادب وخطب بجامع المزة مدة فانشدني لنفسه في الشيب وخصابه قوله ... وكنت وإياها مذ اختط عارضي ... كروحين في جسم وما نقضت عهدا ... فلما اتاني الشيب يقطع بيننا ... توهمته سيفا فألبسته غمدا ...
وفيها استحضر الملك هولاكوخان الزين الحافظي وهو سليمان بن عامر العقرباني المعروف بالزين الحافظي وقال له قد ثبت عندي خيانتك وقد كان هذا المغتر لما قدم التتار مع هولاكو دمشق وغيرها مالا على المسلمين وآذاهم ودل على عوراتهم حتى سلطهم الله عليه بانواع القعوبات والمثلات وكذلك تولى بعض الظالمين بعضا ومن أعان ظالما سلط عليه فإن الله ينتقم من الظالم بالظالم ثم ينتقم من الظالمين جميعا نسأل الله العافية من انتقامه وغضبه عقابه وشر عباده
ثم دخلت سنة ثلاث وستين وستمائة
فيها جهز السلطان الظاهر عسكرا جما كثيفا إلى ناحية الفرات لطرد التتار النازلين بالبيرة فلما سمعوا بالعساكر قد أقبلت ولو مدبرين فطابت تلك الناحية وأمنت تلك المعاملة وقد كانت قبل ذلك لا تسكن من كثرة الفساد والخوف فعمرت وأمنت
وفيها خرج الملك الظاهر في عساكره فقصد بلاد الساحل لقتال الفرنج ففتح قيسارية في ثلاث ساعات من يوم الخميس ثامن جمادي الاولى يوم نزوله عليها وتسلم قلعتها في يوم الخمس الاخر خامس عشرة فهدمها وانتقل إلى غيرها ثم جاء الخبر بأنه فتح مدينة أرسوف وقتل من بها من (13/244)
الفرنج وجاءت البريدية بذلك فدقت البشائر في بلاد المسلمين وفرحوا بذلك فرحا شديدا وفيها ورد خبر من بلاد المغرب بأنهم انتصروا على الفرنج وقتولو منهم خمسة وأربعين ألفا واسروا عشرة آلاف واسترجعوا منهم ثنتين وأربعين بلدة منها برنس واشبيلية وقرطبة ومرسية وكانت النصرة في يوم الخميس رابع عشر رمضان سنة ثنتين وستين
وفي رمضان من هذه السنة شرع في تبليط باب البريد من باب الجامع إلى القناة التي عند الدرج وعمل في الصف القبلي منها بركة وشاذروان وكان في مكانها قناة من القنوات ينتفع الناس بها عند انقطاع نهر ماناس فغيرت وعمل الشاذروان ثم غيرت وعمل مكانها دكاكين
وفيها استدعى الظاهر نائبه على دمشق الامير آقوش فسار إليه سامعا مطيعا وناب عنه الامير علم الدين الحصني حتى عاد مكرما معزوزا
وفيها ولي الظاهر قضاة من بقية المذاهب في مصر مستقلين بالحكم يولون من جهتهم في البلدان أيضا كما يولى الشافعي فتولى قضاء الشافعية التاج عبد الوهاب ابن بنت الاعز والحنفية شمس الدين سليمان والمالكية شمس الدين السبكي والحنابلة شمس الدين محمد المقدسي وكان ذلك يوم الاثنين الثاني والعشرين من ذي الحجة بدار العدل وكان سبب ذلك كثرة توقف القاضي ابن بنت الاعز في أمور تخالف مذهب الشافعي وتوافق غيره من المذاهب فاشار الامير جمال الدين ايد غدي العزيزي على السلطان بأن يولي من كل مذهب قاضيا مستقلا يحكم بمقتضى مذهبه فأجابه إلى ذلك وكان يحب رأيه ومشورته وبعث بأخشاب ورصاص وآلات كثيرة لعمارة مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم وأرسل منبرا فنصب هنالك
وفيها وقع حريق عظيم ببلاد مصر واتهم النصارى فعقابهم الملك الظاهر عقوبة عظيمة
وفيها جاءت الاخبار بان سلطان التتار هولاكو هلك إلى لعنة الله وغضبه في سابع ربيع الاخر يمر من ؟ ؟ ؟ الصرع بمدينة مراغة ودفن بقلعة تلا وبنيت عليه قبة واجتمعت التتار على ولده أبغا فقصده الملك بركة خان فكسره وفرق جموعه ففرح الملك الظاهر بذلك وعزم على جمع العساكر ليأخذ بلاد العراق فلم يتمكن من ذلك لتفرق العساكر في الاقطاعات
وفيها في ثاني عشر شوال سلطن الملك الظاهر ولده الملك السعيد محمد بركة خان وأخذ له البيعة من الأمراء وأركبه ومشى الأمراء بين يديه وحمل والده الظاهر الغاشية بنفسه والأمير بدر الدين بيسرى حامل الخبز والقاضي تاج الدين والوزير بهاء الدين ابن حنا راكبان وبين يديه وأعيان الأمراء ركبان وبقيتهم مشاة حتى شقوا القاهرة وهم كذلك
وفي ذي القعدة ختن الظاهر ولده الملك السعيد المذكور وختن معه جماعة من أولاد الأمراء وكان يوما مشهودا (13/245)
وفيها توفي
خالد بن يوسف بن سعد النابلسي
الشيخ زين الدين ابن الحافظ شيخ دار الحديث النورية بدمشق كان عالما بصناعة الحديث حافظا لأسماء الرجال وقد اشتغل عليه في ذلك الشيخ محيي الدين النواوي وغيره وتولى بعده مشيخة دار الحديث النورية الشيخ تاج الدين الفزاري كان الشيخ زين الدين حسن الاخلاق فكه النفس كثير المزاح على طريقة المحدثين رحل إلى بغداد واشتغل بها وسمع الحديث وكان فيه خير وصلاح وعبادة وكانت جنازته حافلة ودفن بمقابر باب الصغير رحمه الله
الشيخ أبو القاسم الحواري
هو ابو القاسم يوسف ابن أبي القاسم بن عبد السلام الأموي الشيخ المشهور صاحب الزاوية بحواري توفي ببلده وكان خيرا صالحا له أتباع وأصحاب يحبونه وله مريدون كثير من قرايا حوران في الحل والثبنية وهم حنابلة لا يرون الضرب بالدف بل بالكف وهم أمثل من غيرهم
القاضي بدر الدين الكردي السنجاري
الذي باشر القضاء بمصر مرارا توفي بالقاهرة قال أبو شامة وسيرته معروفة في أخذ الرشا من قضاة الاطراف والمتحاكمين إليه إلا أنه كان جوادا كريما صودر هو وأهله
ثم دخلت سنة أربع وستين وستمائة
استهلت و الخليفة الحاكم العباسي والسلطان الملك الظاهر وقضاة مصر أربعة وفيها جعل بدمشق أربعة قضاة من كل مذهب قاض كما فعل بمصر عام أول ونائب الشام آقوش النجيبي وكان قاضي قضاة الشافعية ابن خلكان والحنفية شمس الدين عبد الله بن محمد بن عطا والحنابلة شمس الدين عبد الرحمن ابن الشيخ ابي عمر والمالكية عبد السلام بن الزواوي وقد امتنع من الولاية فألزم بهاحتى قبل ثم عزل نفسه ثم الزم بها فقبل بشرط أن لا يباشر أوقافا ولا يأخذ جامكية على أحكامه وقال نحن في كفاية فأعفى من ذلك ايضا رحمهم الله وقد كان هذا الصنيع الذي لم يسبق إلى مثله قد فعل في العام الاول بمصر كما تقدم واستقرت الاحوال على هذا المنوال
وفيه كمل عمارة الحوض الذي شرقي قناة باب البريد وعمل له شاذروان وقبة وأنابيب يجرى منها الماء إلى جانب الدرج الشمالية
وفيها نازل ا لظاهر صغد واستدعى بالمنجانيق من دمشق وأحاط بها ولم يزل حتى افتتحها ونزل أهلها على حكمه فتسلم البلد في يوم الجمعة ثامن عشر شوال وقتل المقاتلة وسبى الذرية وقد افتتحها الملك صلاح الدين يوسف بن أيوب في شوال أيضا في أربع وثمانين وخمسمائة ثم استعادها الفرنج فانتزعها الظاهر منهم قهرا في هذه السنة ولله الحمد وكان السلطان الظاهر في نفسه منهم شيء (13/246)
كثير فلما توجه إلى فتحها طلبوا الامان فأجلس على سرير مملكته الامير سيف الدين كرمون التتري وجاءت رسلهم فخلعوه وانصرفوا ولا يشعرون أن الذي أعطاهم العهود بالأمان إنما هو الأمير الذي أجلسه على السرير والحرب خدعة فلما خرجت الاستنارية والداوية من القلعة وقد فعلوا بالمسلمين الافاعيل القبيحة فأمكن الله منهم فامر السلطان بضرب رقابهم عن آخرهم وجاءت البريدية إلى البلاد البلاد بذلك فدقت البشائر وزينت البلاد ثم بث السرايا يمينا وشمالا في بلاد الفرنج فاستولى المسلمون على حصون كثيرة تقارب عشرين حصنا واسروا قريبا من ألف أسير ما بين امرأة وصبي وغنموا شيئا كثيرا
وفيها قدم ولد الخليفة المستعصم بن المستنصر من الاسر واسمه على فأكرم وأنزل بالدار الاسدية تجاه العزيزية وقد كان اسيرا في أيدي التتار فلما كسرهم بركه خان تخلص من أيديهم وسار إلى دمشق ولما فتح السلطان صغدا أخبره بعض من كان فيها من أسرى المسلمين ان سبب أسرهم أن أهل قرية فأرا كانوا يأخذونهم فيحملونهم إلى الفرنج فيبيعونهم منهم فعند ذلك ركب السلطان قاصدا فأرا فأوقع بهم بأسا شديدا وقتل منهم خلقا كثيرا وأسر من أبنائهم ونسائهم أخذا بثأر المسلمين جزاه الله خيرا ثم ارسل السلطان جيشا هائلا إلى بلاد سيس فجاسوا خلال الديار وفتحوا سيس عنوة واسروا ابن ملكها وقتلوا أخاه ونهبوها وقتلوا أهلها وأخذوا بثار الاسلام وأهله منهم وذلك أنهم كانوا أضر شيء على المسلمين زمن التتار لما أخذوا مدينة حلب وغيرها اسروا من نساء المسلمين وأطفالهم خلقا كثيرا ثم كانوا بعد ذلك يغيرون على بلاد المسلمين في زمن هولاكو فكبته الله وأهانه على يدي أنصار الاسلام هو وأميره كتبغا وكان وأخذ سيس يوم الثلاثاء العشرين من ذي القعدة من هذه السنة وجاءت الاخبار بذلك إلى البلاد وضربت البشائر وفي الخامس والعشرين من ذي الحجة دخل السلطان وبين يديه ابن صاحب سيس وجماعة من ملوك الارمن أسارى أذلاء صغرة والعساكر صحبته وكان يوما مشهودا ثم سار إلى مصر مؤيدا منصورا وطلب صاحب سيس أن يفادي ولده فقال السلطان لا نفاديه إلا بأسير لنا عند التتار يقال له سنقر الأشقر فذهب صاحب سيس إلى ملك التتر فتذلل له وتمسكن وخضع له حتى اطلقه له فلما وصل سنقر الاشقر إلى السلطان أطلق ابن صاحب سيس
وفيها عمر الظاهر الجسر المشهور بين قرارا ودامية تولى عمارته الامير جمال الذين محمد بن بهادر وبدر الدين محمد بن رحال والي نابلس والاغوار ولما تم بناؤه اضطرب بعض أركانه فقلق السلطان من ذلك وأمر بتأكيده فلم يستطيوا من قوة جرى الماء حينئذ فاتفق 2 باذن الله ان انسالت على النهر أكمة من تلك الناحية فسكن الماء بمقدار أن أصلحوا ما يريدون ثم عاد الماء كما كان (13/247)
وذلك بتيسير الله وعونه وعنايته العظيمة وفيها توفي من الاعيان
ايد عدي بن عبد الله
الامير جمال الدين العزيزي كان من أكابر الامراء واحظاهم عند الملك الظاهر لا يكاد الظاهر يخرج عن رايه وهو الذي أشار عليه بولاية القضاة من كل مذهب قاضي على سبيل الاستقلال وكان متواضعا لا يلبس محرما كريما وقورا رئيسا معظما في الدولة اصابته جراحة في حصار صغد فلم يزل مريضا منها حتى مات ليلة عرفة ودفن بالرباط الناصري بسفح قاسيون من صلاحية دمشق رحمه الله
هولاكو خان بن تولي خان بن جنكيز خان
ملك التتار بن ملك التتار وهو والد ملوكهم والعامة يقولون هولاوون مثل قلاوون وقد كان هولاكو ملكا جبارا فاجرا كفارا لعنه الله قتل من المسلمين شرقا وغربا مالا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم وسيجازيه على ذلك شر الجزاء كان لا يتقيد بدين من الاديان وإنما كانت زوجته ظفر خاتون قد تنصرت وكانت تفضل النصارى على سائر الخلق وكان هو يترامى على محبة المعقولات ولا يتصور منها شيئا وكان أهلها من افراخ الفلاسفة لهم عنده وجاهة ومكانة وإنما كانت همته في تدبير مملكته وتملك البلاد شيئا فنشيئا حتى أباده الله في هذه السنة وقيل في سنة ثلاث وستين ودفن في مدينة تلا لا رحمه الله وقام في الملك من بعده ولده أبغا خان وكان أبغا أحد إخوة عشرة ذكور والله سبحانه أعلم وهو حسبنا ونعم الوكيل
ثم دخلت سنة خمس وستين وستمائة
في يوم الاحد ثاني المحرم توجه الملك الظاهر 2 من دمشق إلى الديار المصرية وصحبته العساكر المنصورة وقد استولت الدولة الاسلامية على بلاد سيس بكمالها وعلى كثير من معاقل الفرنج في هذه السنة وقد أرسل العساكر بين يديه إلى غزة وعدل هو إلى ناحية الكرك لينظر في أحوالها فلما كان عند بركة زيزي تصيد هنالك فسقط عن فرسه فانكسرت فخذه فأقام هناك أياما يتداوى حتى أمكنه أن يركب في المحفة واسر إلى مصر فبرأت رجله في أثناء الطريق فأمكنه الركوب وحده على الفرس ودخل القاهرة في أبهة عظيمة وتجمل هائل وقد زينت البلد واحتفل الناس له احتفالا عيظما وفرحوا بقدومه وعافيته فرحا كثيرا ثم في رجب منها رجع من القاهرة إلى صغد وحفر خندقا حول قلعتها وعمل فيه بنفسه وأمرائه وجيشه وأغار على ناحية عكا فقتل وأسر وغنم وسلم وضرب لذلك البشائر بدمشق وفي ثاني عشر ربيع الاول صلى الظاهر بالجامع الازهر الجمعة ولم يكن تقام به الجمعة من زمن العبيديين إلى هذا الحين مع أنه أول مسجد بني بالقاهرة بناه جوهر القائد وأقام فيه الجمعة فلما بنى الحاكم جامعه حول الجمعة منه إليه وترك الازهر لا جمعة فيه (13/248)
فصارفي حكم بقية المساجد وشعث حاله وتغيرت أحواله فأمر السلطان بعمارته وبياضه وإقامة الجمعة وأمر بعمارة جامع الحسينية وكمل في سنة سبع وستين كما سيأتي إن شاء الله تعالى
وفيها أمر الظاهر أن لا يبيت أحد من المجاورين بجامع دمشق فيه وأمر باخراج الخرائن منه والمقاصير التي كانت فيه فكانت قريبا من ثلاثمائة ووجدوا فيها قوارير البول والفرش والسجاجيد الكثيرة فاستراح الناس والجامع من ذلك واتسع على المصلين
وفيها أمر السلطان بعمارة اسوار صغد وقلعتها وان يكتب عليها ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر ان الأرض يرثها عبادي الصالحون أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون
وفيها التقى ابغا ومنكو تمر الذي قام مقام بركه خان فكسره أبغا وغنم منه شيئا كثيرا
وحكى ابن خلكان فيما نقل من خط الشيخ قطب الدين اليونيني قال بلغنا أن رجلا يدعى أبا سلامة ( 1 ) من ناحية بصرى كان فيه مجون واستهتار فذكر عنده السواك وما فيه من الفضيلة فقال والله لا استاك إلا في المخرج يعني دبره فأخذ سواكا فوضعه في مخرجه ثم أخرجه فمكث بعده تسعة أشهر وهو يشكو من الم البطن والمخرج ( 2 ) فوضع ولدا على صفة الجرذان له أربعة قوائم ورأسه كراس السمكة وله أربعة انياب بارزة وذنب طويل مثل شبر وأربع اصابع ( 2 ) وله دبر كدبر الارنب ولما وصعه صاح ذلك الحيوان ثلاث صيحات فقامت ابنة ذلك الرجل فرضخت رأ 6 سه فمات وعاش ذلك الرجل بعد وضعه له يومين ومات في الثالث وكان يقول هذا الحيوان قتلني وقطع امعائي وقد شاهد ذلك جماعة من أهل تلك الناحية وخطباء ذلك المكان ومنهم من رأى ذلك الحيوان حيا ومنهم من رآه بعد موته وممن توفي فيها من الاعيان
السلطان بركه خان بن تولي بن جنكيز خان
وهو ابن عم هولاكو وقد اسلم بركه خان هذا وكان يحب العلماء والصالحين ومن أكبر حسناته كسره لهولاكو وتفريق جنوده وكان يناصح الملك الظاهر ويعظمه ويكرم رسله إليه ويطلق لهم شيئا كثيرا وقد قام في الملك بعده بعض أهل بيته وهو منكو تمر بن طغان بن باوبن تولي بن جنكيزخان وكان على طريقته ومنواله ولله الحمد
قاضي القضاة بالديار المصرية
تاج الدين عبد الوهاب بن خلف بن بدر بن بنت الاعز الشافعي كان دينا عفيفا نزها لا تأخذه في الله لومة لائم ولا يقبل شفاعة أحد وجمع له قضاء الديار المصرية بكمالها والخطابة والحسبة (13/249)
ومشيخة الشيوخ ونظر الاجياش وتدريس الشافعي والصالحية وإمامة الجامع وكان بيده خمسة عشر وظيفة وباشر الوزارة في بعض الاوقات وكان السلطان يعظمه والوزير ابن حنا يخاف منه كثيرا وكان يحب أن ينكبه عند السلطان ويضعه فلا يستطيع ذلك وكان يشتهي أن يأتي داره ولو عائدا فمرض في بعض الاحيان فجاء القاضي عائدا فقام إلى تلقيه لوسط الدار فقال له القاضي إنما جئنا لعيادتك فإذا أنت سوى صحيح سلام عليكم فرجع ولم يجلس عنده وكان مولده في سنة أربع وستمائة وتولى بعده القضاء تقي الدين ابن رزين
واقف القيمرية الامير الكبير ناصر الدين
أبو المعالي الحسين بن العزيز بن أبي الفوارس القيمري الكردي كان من أعظم الأمراء مكانة عند الملوك وهو الذي سلم الشام إلى الملك الناصر صاحب حلب حين قتل توران شاه بن الصالح أيوب بمصر وهو واقف المدرسة القيمرية عند مأذنة فيروز وعمل على بابها الساعات التي لم يسبق إلى مثلها ولا عمل على شكلها يقال إنه غرم عليها أربعين ألف درهم
الشيخ شهاب الدين أبو شامة
عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم بن عثمان بن أبي بكر بن عباس أبو محمد وأبو القاسم
المقدسي الشيخ الامام العالم الحافظ المحدث الفقيه المؤرخ المعروف بأبي شامة شيخ دار الحديث الاشرفية ومدرس الركنية وصاحب المصنفات العديدة المفيدة له اختصار تاريخ دمشق في مجلدات كثيرة وله شرح الشاطبية وله الرد إلى الأمر الاول وله في المبعث وفي الاسراء وكتاب الروضتين هي في الدولتين النورية والصلاحية وله الذيل على ذلك وله غير ذلك من الفوائد الحسان والغرائب التي كالعقيان ولد ليلة الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الاخر سنة تسع وتسعين وخمسمائة وذكر لنفسه ترجمة في هذه السنة في الذيل وذكر مرباه ومنشأه وطلبه العلم وسماعه الحديث وتفقهه على الفخر بن عساكر وابن عبد السلام والسيف الامدي والشيخ موفق الدين بن قدامة وما رئى له من المنامات الحسنة وكان ذا فنون كثيرة أخبرني علم الدين البرزالي الحافظ عن الشيخ تاج الدين الفزاري أنه كان يقول بلغ الشيخ شهاب الدين أبو شامة رتبة الاجتهاد وقد كان ينظم أشعارا في أوقات فمنها ما هو مستحلى ومنها مالا يستحلى فالله يغفر لنا وله وبالجملة فلم يكن في وقته مثله في نفسه وديانته وعفته وأمانته وكانت وفاته بسبب محنة ألبوا عليه وارسلوا إليه من اغتاله وهو بمنزل له بطواحين الاشنان وقد كان اتهم برأي الظاهر براءته منه وقد قال جماعةمن أهل الحديث وغيرهم إنه كان مظلوما ولم يزل يكتب في التاريخ حتى وصل إلى رجب من هذه السنة فذكر أنه اصيب بمحنة في منزله بطواحين الاشنان وكان الذين قتلوه جاءوه قبل فضربوه ليموت فلم يمت فقيل له ألا تشتكي عليهم فلم يفعل وأنشأ يقول (13/250)
قلت لمن قال ألا تشتكي ... ما قد جرى فهو عظيم جليل ... يقيض الله تعالى لنا ... من يأخذ الحق ويشفي الغليل ... إذا توكلنا عليه كفى ... فحسبنا الله ونعم الوكيل ...
وكأنهم عادوا إليه مرة ثانية وهو في المنزل المذكور فقتلوه بالكلية في ليلة الثلاثاء تاسع عشر رمضان رحمه الله ودفن من يومه بمقابر دار الفراديس وباشر بعده مشيخة دار الحديث الأشرفية الشيخ محيي الدين النووي وفي هذه السنة كان مولد الحافظ علم الدين القاسم بن محمد البرزالي وقد ذيل على تاريخ أبي شامة لأن مولده في سنة وفاته فخذا حذوه وسلك نحوه ورتب ترتيبه وهذب تهذيبه وهذا أيضا ممن ينشد في ترجمته ... ما زلت تكتب في التاريخ مجتهدا ... حتى رأيتك في التاريخ مكتوبا ...
ويناسب ان ينشد هنا ... إذا سيد منا خلا قام سيد ... قؤول لما قال الكرام فعول ... ثم دخلت سنة ست وستين وستمائة
استهلت هذه السنة والحاكم العباسي خليفة وسلطان البلاد الملك الظاهر وفي أول جمادي الاخرة خرج السلطان من الديار المصرية بالعساكر المنصورة فنزل على مدينة يافا بغتة فأخذها عنوة وسلم إليه أهلها قلعتها صلحا فأجلاهم منها إلى عكا وخرب القلعة والمدينة وسارمنها في رجب قاصدا حصن الشقيف وفي بعض الطريق أخذ من بعض بريدية الفرنج كتابا من أهل عكا إلى أهل الشقيف يعلمونهم قدوم السلطان عليهم ويأمرونهم بتحصين البلد والمبادرة إلى إصلاح أماكن يخشى على البلد منها ففهم السلطان كيف يأخذ البلد وعرف من أين تؤكل الكتف واستدعى من فوره رجلا من الفرنج فأمره أن يكتب بدله كتابا على ألسنتهم إلى أهل الشقيف يحذر الملك من الوزير والوزير من الملك ويرمى الخلف بين الدولة فوصل إليهم فأوقع الله الخلف بينهم بحوله وقوته وجاء السلطان فحاصرهم ورماهم بالمنجنيق فسلموه الحصن في التاسع والعشرين من رجب وأجلاهم إلى صور وبعث بالانفال إلى دمشق ثم ركب جريدة فيمن نشط من الجيش فشن الغارة على طرابلس وأعمالها فنهب وقتل وأرعب وكر راجعا مؤيدا منصورا فنزل على حصن الاكراد لمحبته في المرج فحمل إليه أهله من الفرنج الاقامات فأبى أن يقبلها وقال أنتم قتلتم جنديا من جيشي وأريد ديته مائة ألف دينار ثم سار فنزل على حمص ثم منها إلى حماة ثم إلى فامية ثم سار منزلة أخرى ثم سار ليلا وتقدم العسكر فلبسوا العدة وساق حتى أحاط بمدينة انطاكية
فتح انطاكية على يد السلطان الملك الظاهر
وهي مدينة عظيمة كثيرة الخير يقال إن دور سورها اثنا عشر ميلا وعدد بروجها مائة وستة (13/251)
وثلاثون برجا وعدد شرافاتها أربعة وعشرون ألف شرافة كان نزله عليها في مستهل شهر رمضان فخرج إليه أهلها يطلبون منه الامان وشرطوا شروطا له عليهم فأبى أن يجيبهم وردهم خائبين وصمم على حصارها ففتحها يوم السبت رابع عشر رمضان بحول الله وقوته وتأييده ونصره وغنم منها شيئا كثيرا وأطلق للأمراء أموالا جزيلة ووجد من أسارى المسلمين من الحلبيين فيها خلقا كثيرا كل هذا في مقدار أربعة ايام وقد كان الأغريس صاحبها وصاحب طرابلس من أشد الناس أذية للمسلمين حين ملك التتار حلب وفر الناس منها فانتقم الله سبحانه منه بمن أقامه للاسلام ناصرا وللصليب دامغا كاسرا ولله الحمد والمنة وجاءت البشارة بذلك مع البريدية فجاوبتها البشائر من القلعة المنصورة وأرسل أهل بغراس حين سمعوا بقصد السلطان إليهم يطلبون منه أن يبعث إليهم من يتسلمها فأرسل إليهم أستاذ داره الامير أقسنقر الفارقاني في ثالث عشر رمضان فتسلمها وتسلموا حصونا كبيرة وقلاعا كثيرة وعاد السلطان مؤيدا منصورا فدخل دمشق في السابع والعشرين من رمضان من هذه السنة في أبهة عظيمة وهيبة هائلة وقد زينت له البلد ودقت له البشائر فرحا بنصرة الاسلام على الكفرة الطفام ؟ ؟ ؟ لكنه كان قد عزم على أخذ أراضي كثيرة من القرى والبساتين التي بأيدي ملاكها بزعم أنه قد كانت التتار استحوذوا عليها ثم استنقذها منهم وقد أفتاه بعض الفقهاء من الحنفية تفريعا على أن الكفار إذا أخذوا شيئا من أموال السملمين ملكوها فإذا استرجعت لم ترد إلى اصحابها وهذه المسألة مشهروة وللناس فيها قولان ( أصحهما ) قول الجمهور أنه يجب ردها إلى أصحابها لحديث العضباء ناقة رسول الله
ص حين استرجعها رس
ص وقد كان أخذها المشركون استدلوا بهذا وأمثاله على أبي حنيفة وقال بعض العلماء إذا أخذ الكفار أموال المسلمين وأسلموا وهي في أيديهم استقرت على أملاكهم واستدل على ذلك بقوله عليه الصلاة و السلام وهل ترك لنا عقيل من رباع وقد كان استحوذ على أملاك المسلمين الذين هاجروا وأسلم عقيل وهي في يده فلم تنتزع من يده وأما إذا انتزعت من أيديهم قبل فإنها ترد إلى أربابها لحديث العضباء والمقصود أن الظاهر عقد مجلسا اجتمع فيه القضاة والفقهاء من سائر المذاهب وتكلموا في ذلك وصمم السلطان على ذلك اعتمادا على ما بيده من الفتاوى وخاف الناس من غائلة ذلك فتوسط الصاحب فخر الدين بن الوزير بهاء الدين بن احنا وكان قد درس بالشافعي بعد ابن بنت الاعز فقال يا خوند أهل البلد يصالحونك عن ذلك كله بألف ألف درهم تقسط كل سنة مائتي ألف درهم فأبى إلا أن تكون معجلة بعد أيام وخرج متوجها إلى الديار المصرية وقد أجاب إلى تقسيطها وجاءت البشارة بذلك ورسم أن يعجلوا من ذلك أربعمائة ألف درهم وان تعاد إليه الغلات التي كانوا قد احتاطوا عليها في زمن القسم والثمار وكانت هذه الفعلة مما شعثت خواطر الناس على السلطان ولما استقر أمر أبغا على التتار أمر باستمرار وزيره نصير الدين الطوسي واستناب على بلاد الروم (13/252)
البرواناه وارتفع قدره عنده جدا واستقل بتدبير تلك البلاد وعظم شأنه فيها
وفيها كتب صاحب اليمن إلى الظاهر بالخضوع والانتماء إلى جانبه وأن يخطب له ببلاد اليمن وأرسل إليه هدايا وتحفا كثيرة فأرسل إليه السلطان هدايا وخلعا وسنجقا وتقليدا
وفيها رافع ضياء الدين بن الفقاعي للصاحب بهاء الدين بن الحنا عند الظاهر واستظهر عليه ابن الحنا فسلمه الظاهر إليه فلم يزل يضربه بالمقارع ويستخلص أمواله إلى أن مات فيقال إنه ضربه قبل أن يموت سبعة عشر ألف مقرعة وسبعمائة فالله أعلم
وفيها عمل البرواناه ( 1 ) على قتل الملك علاء الدين صاحب قونية واقام ولده غياث الدين مكانه وهو ابن عشر سنين وتمكن البرواناه في البلاد والعباد وأطاعه جيش الروم
وفيها قتل الصاحب علاء الدين صاحب الديوان ببغداد ابن الخشكري النعماني الشاعر وذلك أنه اشتهر عنه أشياء عظيمة منها أنه يعتقد فضل شعره على القرآن المجيد واتفق أن الصاحب انحدر إلى واسط فلما كان بالنعمانية حضر ابن الخشكري عنده وانشده قصيدة قد قالها فيه فبينما هو ينشدها بين يديه إذ أذن المؤذن فاستنصته الصاحب فقال ابن الخشكري يا مولانا اسمع شيئا جديدا وأعرض عن شيء له سنين فثبت عند الصاحب ما كان يقال عنده عنه ثم باسطه وأظهر أنه لا ينكر عليه شيئا مما قال حتى استعلم ما عنده فإذا هو زنديق فلما ركب قال لانسان معه استفرده في اثناء الطريق واقتله فسايره ذلك الرجل حتى إذا انقطع عن الناس قال لجماعة معه أنزلوه عن فرسه كالمداعب له فأنزلوه وهو يشتمهم ويلعنوهم ثم قال انزعوا عنه ثيابه فسلبوها وهو يخاصمهم ويقول إنكم اجلاف وإن هذا لعب بارد ثم قال اضربوا عنقه فتقدم إليه أحدهم فضربه بسيفه فأبان رأسه وفيها توفي
الشيخ عفيف الدين يوسف بن البقال
شيخ رباط المرزبانية كان صالحا ورعا زاهدا حكى عن نفسه قال كنت بمصر فبلغني ما وقع من القتل الذريع ببغداد في فتنة التتار فانكرت في قلبي وقلت يا رب كيف هذا وفيهم الاطفال ومن لا ذنب له فرايت في المنام رجلا وفي يده كتاب فأخذته فقرأته فإذا فيه هذه الابيات فيها الانكار على ... دع الاعتراض فما الأمر لك ... ولا الحكم في حركات الفلك ... ولا تسأل الله عن فعله ... فمن خاض لجة بحر هلك ... إليه تصير أمور العباد ... دع الاعتراض فما أجهلك (13/253)
وممن توفي فيها من الاعيان الحافظ أبو إبراهيم إسحاق بن عبد الله
ابن عمر المعروف بابن قاضي اليمن عن ثمان وستين سنة ودفن بالشرف الاعلى وكان قد تفرد بروايات جيدة وانتفع الناس به وفيها ولد الشيخ شرف الدين عبد الله بن تيمية اخو الشيخ تقي الدين ابن تيمية والخطيب القزويني
ثم دخلت سنة سبع وستين وستمائة
في صفر منها جدد السلطان الظاهر البيعة لولده من بعده الملك السعيد محمد بركة خان وأحضر الأمراء كلهم والقضاة والاعيان وأركبه ومشى بين يديه وكتب له ابن لقمان تقليدا هائلا بالملك من بعد أبيه وأن يحكم عنه أيضا في حال حياته ثم ركب السلطان في عساكره في جمادي الاخرة قاصدا الشام فلم دخل دمشق جاءته رسل من ابغا ملك التتار معهم مكاتبات ومشافهات فمن جملة المشافهات أنت مملوك بعت بسيواس فكيف يصلح لك أن تخالف ملوك الارض وأعلم أنك لو صعدت إلى السماء أو هبطت إلى الارض ما تخلصت مني فاعمل لنفسك على مصالحة السلطان إبغا فلم يلتفت إلى ذلك ولا عده شيئا بل أجاب عنه أتم جواب وقال لرسله أعلموه أني من روائه بالمطالبة ولا أزال حتى أنتزع منه جميع البلاد التي استحوذ عليها من بلاد الخليفة وسائر أقطار الارض وفي جمادي الاخرة رسم السلطان الملك الظاهر باراقة الخمور وتبطيل المفسدات والخواطيء بالبلاد كلها فنهبت الخواطيء وسلبن جميع ما كان معهم حتى يتزوجن وكتب إلى جميع البلاد بذلك وأسقط المكوس التي كانت مرتبة على ذلك وعوض من كان محالا على ذلك بغيرها ولله الحمد والمنة ثم عاد السلطان بعساكره إلى مصر فلما كان في أثناء الطريق عند خربة اللصوص تعرضت له امرأة فذكرت له أن ولدها دخل مدينة صور وأن صاحبها الفرنجي غدر به وقتله وأخذ ماله فركب السلطان وشن الغارة على صور فأخذ منها شيئا كثيرا وقتل خلقا فأرسل إليه ملكها ما سبب هذا فذكر له غدره ومكره بالتجار ثم قال السلطان لمقدم الجيوش أوهم الناس أني مريض وأني بالمحفة وأحضر الاطباء استوصف لي منهم ما يصلح لمريض به كذا وكذا وإذا وصفوا لك فأحضر الاشربة إلى المحفة وأنتم سائرون ثم ركب السلطان على البريد وساق مسرعا فكشف أحوال ولده وكيف الامر بالديار المصرية بعده ثم عاد مسرعا إلى الجيش فجلس في المحفة وأظهروا عافيته وتباشروا بذلك وهذه جرأة عظيمة وإقدام هائل
وفيها حج السلطان الملك الظاهر وفي صحبته الامير بدر الدين الخرندار وقاضي القضاة صدر الدين سليمان الحنفي وفخر الدين بن لقمان وتاج الدين بن الاثير ونحو من ثلاثمائة مملوك وأجناد من الخلقة المنصورة فسار على طريق الكرك ونظر في احوالها ثم منها إلى المدينة النبوية فأحسن إلى أهلها ونظر في أحوالها ثم منها إلى مكة فتصدق على المجاورين ثم وقف بعرفة وطاف طواف (13/254)
الافاضة وفتحت له الكعبة فغسلها بماء الورد وطيبها بيده ثم وقف بباب الكعبة فتناول أيدي الناس ليدخلوا الكعبة وهو بينهم ثم رجع فرمى الجمرات ثم تعجل النفر فعاد على المدينة النبوية فزار القبر الشريف مرة ثانية على ساكنه أفضل الصلاة واتم التسليم وعلى آله وأهل بيته الطيبين الطاهرين وصحابته الكرام أجمعين إلى يوم الدين ثم سار إلى الكرك فدخلها في التاسع والعشرين من ذي الحجة وارسل البشير إلى دمشق بقدومه سالما فخرج الامير جمال الدين آقوش النجيبي نائبها ليتلقى البشير في ثاني المحرم فإذا هو السلطان نفسه يسير في الميدان الاخضر وقد سبق الجميع فتعجب الناس من سرعة سيره وصبره وجلده ثم ساق من فوره حتى دخل حلب في سادس المحرم ليتفقد احوالها ثم عاد إلى حماة ثم رجع إلى دمشق ثم سار إلى مصر فدخلها يوم الثلاثاء ثالث صفر من السنة المقبلة رحمه الله
وفي أواخر ذي الحجة هبت ريح شديدة أغرقت مائتي مركب في النيل وهلك فيها خلق كثير ووقع هناك مطر شديد جدا أصاب الشام من ذلك صاعقة أهلكت الثمار فإنا لله وإنا اليه راجعون وفيها اوقع الله تعالى الخلف بين التتار من اصحاب إبغا واصحاب ابن منكوتمرا بن عمه وتفرقوا واشتغلواببعضهم بعضا ولله الحمد وفيها خرج اهل حران منها وقدموا الشام وكان فيهم شيخنا العلامة أبو العباس أحمد بن تيمية صحبة أبيه وعمره ست سنين وأخوه زين الدين عبدالرحمن وشرف الدين عبد الله وهما أصغر منه وممن توفي فيها من الاعيان
الامير عز الدين ايدمر بن عبد الله
الحلبي الصالحي كان من أكابر الأمراء وأحظاهم عند الملوك ثم عند الملك الظاهر كان يستنبيه إذا غاب فلما كانت هذه السنة أخذه معه وكانت وفاته بقلعة دمشق ودفن بتربته بالقرب من اليغمورية وخلف أموالا جزيلة وأوصى إلى السلطان في أولاده وحضر السلطان عزاءه بجامع دمشق
شرف الدين أبو الظاهر
محمد بن الحافظ أبي الخطاب عمر بن دحية المصري ولد سنة عشر وستمائة وسمع أباه وجماعة وتولى مشيخة دار الحديث الكاملية مدة وحدث وكان فاضلا
القاضي تاج الدين أبو عبد الله
محمد بن وثاب بن رافع البجيلي الحنفي درس وأفتى عن ابن عطاء بدمشق ومات بعدخروجه من الحمام علىمساطب الحمام فجأة ودفن بقاسيون
الطبيب الماهر شرف الدين أبو الحسن
علي بن يوسف بن حيدرة الرحبي شيخ الاطباء بدمشق ومدرس الدخوارية عن وصية واقفها بذلك وله التقدمة في هذه الصناعة على أقرانه من أهل زمانه ومن شعره قوله (13/255)
يساق بنو الدنيا إلى الحتف عنوة ... ولا يشعر الباقي بحالة من يمضي ... كأنهم الانعام في جهل بعضها ... بما ثم من سفك الدماء على بعض ... الشيخ نصير الدين
المبارك بن يحيى بن أبي الحسن أبي البركات بن الصباغ الشافعي العلامة في الفقه والحديث درس وأفتى وصنف وانتفع به وعمر ثمانين سنة وكانت وفاته في حادي عشرة جمادي الاولى من هذه السنة رحمه الله تعالى
الشيخ أبو الحسن
علي بن عبد الله بن إبراهيم الكوفي المقري النحوي الملقب بسيبويه وكان فاضلا بارعا في صناعة النحو توفي بمارستان القاهرة في هذه السنة عن سبع وستين سنة رحمه الله ومن شعره ... عذبت قلبي بهجر منك متصل ... يا من هواه ضمير غير منفصل ... فما زادني غير تأكيد صدك لي ... فما عدولك من عطف إلى بدل ...
وفيها ولد شيخنا العلامة كمال الدين محمد بن علي الانصاري بن الزملكاني شيخ الشافعية
ثم دخلت سنة ثمان وستين وستمائة
في ثاني المحرم منها دخل السلطان من الحجاز على الهجن فلم يرع الناس إلا وهو في الميدان الاخضر يسير ففرح الناس بذلك واراح الناس من تلقيه بالهدايا والتحف وهذه كانت عادته وقد عجب الناس من سرعة مسيره وعلو همته ثم سار إلى حلب ثم سار إلى مصر فدخلها في سادس الشهر مع الركب المصري وكانت زوجته أم الملك السعيد في الحجاز هذه السنة ثم خرج في ثالث عشر صفر هو وولده والأمراء إلى الاسكندرية فتصيد هنالك وأطلق للأمراء الاموال الكثيرة والخلع ورجع مؤيدا منصورا
وفي المحرم منها قتل صاحب مراكش أبو العلاء إدريس بن عبد الله بن محمد بن يوسف الملقب بالواثق قتله بنو مزين في حرب كانت بينه وبينهم بالقرب من مراكش وفي ثالث عشر ربيع الاخر منها وصل السلطان إلى دمشق في طائفة من جيشه وقد لقوا في الطريق مشقة كثيرة من البرد والوحل فخيم على الزنبقية وبلغه أن ابن أخت زيتون خرج من عكا يقصد جيش المسلمين فركب إليه سريعا فوجده قريبا من عكا فدخلها خوفا منه وفي رجب تسلم نواب السلطان مصياف من الاسماعيلية وهرب منها أميرهم الصارم مبارك بن الرضي فتحيل عليه صاحب حماه حتى أسره وأرسله إلى السلطان فحبسه في بعض الابرجة في القاهرة وفيها أرسل السلطان الدرابزينات إلى الحجرة (13/256)
النبوية وأمر أن تقام حول القبرصيانة له وعمل لها أبوابا تفتح وتغلق من الديار المصرية فركب ذلك عليها وفيها استفاضت الاخبار بقصد الفرنج بلاد الشام فجهز السلطان العساكر لقتالهم وهو مع ذلك مهتم بالاسكندرية 2 خوفا عليها وقد حصنها وعمل جسورة إليها إن دهمها العدو وأمر بقتل الكلاب منها وفيها انقرضت دولة بني عبد المؤمن من بلاد المغرب وكان آخرهم إدريس بن عبد الله بن يوسف صاحب مراكش قتله بنو مرين في هذه السنة
وممن توفي فيها من الاعيان
الصاحب زين الدين يعقوب بن عبد الله الرفيع
ابن زيد بن مالك المصري لمعروف بابن الزبيري كان فاضلا رئيسا وزر للملك المظفر قطز ثم للظاهر بيبرس في أول دولته ثم عزله وولى بهاء الدين ابن الحنا فلزم منزله حتى ادركته منيته في الرابع عشر من ربيع الاخر من هذه السنة وله نظم جيد
الشيخ موفق الدين
أحمد بن القاسم بن خليفة الخزرجي الطبيب المعروف بابن أبي أصيبعة له تاريخ الاطباء في عشر مجلدات لطف وهو وقف بمشهد ابن عروة بالاموي توفي بصرخد وقد جاوز التسعين
الشيخ زين الدين أحمد بن عبد الدائم
ابن نعمة بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أحمد بن بكير أبو العباس المقدسي النابلسي تفرد بالرواية عن جماعة من المشايخ ولد سنة خمس وسبعين وخمسمائة وقد سمع ورحل إلى بلدان شتى وكان فاضلا يكتب سريعا حكى الشيخ علم الدين أنه كتب مختصر الخرقي في ليلة واحدة وخطه حسن قوي وقد كتب تاريخ ابن عساكر مرتين واختصره لنفسه أيضا واضر في آخر عمره اربع سنين وله شعر أورد منه قطب الدين في تذييله توفي بسفح قاسيون وبه دفن في بكرة الثلاثاء عاشر رجب وقد جاوز التسعين رحمه الله
القاضي محيي الدين ابن الزكي
أبو الفضل يحيى بن قاضي القضاة بهاء الدين أبي المعالي محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن علي بن عبدالعزيز بن علي بن عبد العزيز بن علي بن الحسين بن محمد بن عبد الرحمن بن القاسم بن الوليد ابن عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان القرشي الاموي بن الزكي تولى قضاء دمشق غير مرة وكذلك آباؤه من قبله كل قد وليها وقد سمع الحديث من حنبل وابن طبرزد والكندي وابن الحرستاني وجماعة وحدث ودرس في مدارس كثيرة وقد ولى قضاء الشام في الهلاوونية ( 1 ) فلم يحمد على ما ذكره أبو شامة توفي بمصر في الرابع عشر من رجب ودفن بالمقطم وقد جاوز السبعين وله (13/257)
شعر جيد قوي وحكى الشيخ قطب الدين في ذلك بعد ما نسبه كما ذكرنا عن والده القاضي بهاء الدين أنه كان يذهب إلى تفضيل علي على عثمان موافقة لشيخه محيي الدين ابن عربي ولمنام رآه بجامع دمشق معرضا عنه بسبب ما كان من بني أمية إليه في أيام صفين فاصبح فنظم في ذلك يذكر فيها ميله إلى علي وإن كان هو أموي ... أدين بما دان الوصي ولا أرى ... سواه وإن كانت أمية محتدي ... ولو شهدت صفين خيلي لاعذرت ... وشاء بني حرب هنالك مشهدي ... لكنت اسن البيض عنهم تراضيا ... وأمنعهم نيل الخلافة باليد ...
ومن شعره قالوا ما في جلق نزهة ... تسليك عمن أنت به مغرا ... يا عاذلي دونك في لحظة ... سهما وقد عارضه سطرا ... الصاحب فخر الدين
محمد بن الصاحب بهاء الدين علي بن محمد بن سليم بن الحنا المصري كان وزير الصحبة وقد كان فاضلا بني رباطا بالقرافة الكبرى ودرس بمدرسة والده بمصر وبالشافعي بعد ابن بنت الاعز توفي بشعبان ودفن بسفح المقطم وفوض السلطان وزارة الصحبة لولده تاج الدين
الشيخ أبو نصر بن أبي الحسن
ابن الخراز الصوفي البغدادي الشاعر له ديوان حسن وكان جميل المعاشرة حسن المذاكرة دخل عليه بعض أصحابه فلم يقم له فأنشده قوله ... نهض القلب حين أقبلت ... إجلالا لما فيه من صحيح الوداد ... وهوض القلوب بالود أولى ... من نهوض الاجساد للأجساد ... ثم دخلت سنة تسع وستين وستمائة
في مستهل صفر منها ركب السلطان من الديار المصرية في طائفة من العسكر إلى عسقلان فهدم ما بقي من سورها مما كان أهمل في الدولة الصلاحية ووجد فيما هدم كوزين فيهما ألفا دينار ففرقهما على الأمراء وجاءته البشارة وهو هنالك بأن منكوتمر كسر جيش أبغا ففرح بذلك ثم عاد إلى القاهرة وفي ربيع الاول بلغ السلطان أن أهل عكا ضربوا رقاب من في أيديهم من أسرى المسلمين صبرا بظاهر عكا فأمر بمن كان في يده من أسرى أهل عكا فضربت رقابهم في صبيحة واحدة وكانوا قريبا من مائتي أسير وفيها كمل جامع المنشية ( 1 ) وأقيمت فيه الجمعة في الثاني والعشرين من ربيع الاخر وفيها جرت حروب يطول ذكرها بين أهل تونس والفرنج ثم تصالحوا بعد ذلك (13/258)
على الهدنة ووضع الحرب بعدما قتل من الفريقين خلق لا يحصون
وفي يوم الخميس ثامن رجب دخل الظاهر دمشق وفي صحبته ولده الملك السعيد وابن الحنا الوزير وجمهور الجيش ثم خرجوا متفرقين وتواعدوا ان يلتقوا بالساحل ليشنوا الغارة على جبلة واللاذقية ومرقب وعرقا وما هنالك من البلاد فلما اجتمعوا فتحوا صافينا والمجدل ثم ساروا فنزلوا على حصن الأكراد يوم الثلاثاء تاسع عشر رجب وله ثلاث أسوار فنصوبوا المنجنيقات فتحها قسرا يوم نصف شعبان فدخل الجيش وكان الذي يحاصره ولد السلطان الملك السعيد فأطلق السلطان أهله ومن عليهم وأجلاهم إلى طرابلس وتسلم القلعة بعد عشرة أيام من الفتح فاجلى أهلها أيضا وجعل كنيسة البلد جامعا وأقام فيه الجمعة وولى فيها نائبا وقاضينا وأمر بعمارة البلد وبعث صاحب طرسوس بمفاتيح بلده يطلب منه الصلح على ان يكون نصف مغل بلاده للسلطان وأن يكون له بها نائبا فأجابه إلى ذلك وكذلك فعل صاحب المرقب فصالحه أيضا على المناصفة ووضع الحرب عشر سنين وبلغ السلطان وهو مخيم على حصن الاكراد ان صاحب جزيرة قبرص قد ركب بجيشه إلى عكا لينصر أهلها خوفا من السلطان فاراد السلطان أن يغتنم هذه الفرصة فبعث جيشا كثيفا في أثني عشرة شيني ليأخذوا جزيرة قبرص في غيبة صاحبها عنها فسارت المراكب مسرعة فلما قاربت المدينة جاءتها ريح قاصف فصدم بعضها بعضا فانكسر فيها أربعة عشر مركبا باذن الله فغرق خلق وأسر الفرنج من الصناع والرجال قريبا من ألف وثمانمائة إنسان فإنا لله وإنا إليه راجعون ثم سار السلطان فنصب المجانيق على حصن عكا فسأله أهلها الامان على أن يخليهم فأجابهم إلى ذلك ودخل البلد يوم عيدا لفطر فتسلمه وكان الحصن شديد الضرر على المسلمين وهو واد بين جبلين ثم سار السلطان نحو طرابلس فأرسل إليه صاحبها يقول ما مراد السلطان في هذه الأرض فقال جئت لأرعى زروعكم وأخرب بلادكم ثم أعود إلى حصاركم في العام الاتي فأرسل يستعطفه ويطلب منه المصالحة ووضع الحرب بينهم عشر سنين فأجابه إلى ذلك وأرسل إليه الاسماعيلية يستعطفونه على والدهم وكان مسجونا بالقاهرة فقال سلموا إلى العليقة وانزلوا فخذوا إقطاعات بالقاهرة وتسلموا أباكم فلما نزلوا أمر بحبسهم بالقاهرة واستناب بحصن العليقة
وفي يوم الاحد الثاني عشر من شوال جاء سيل عظيم إلى دمشق فأتلف شيئا كثيرا وغرق بسببه ناس كثير لا سيما الحجاج من الروم الذين كانوا نزولا بين النهرين أخذهم السيل وجمالهم وأحمالهم فهلكوا وغلقت أبواب البلد ودخل الماء إلى البلد من مراقي السور ومن باب الفراديس فغرق خان ابن المقدم وأتلف شيئا كثيرا وكان ذلك في زمن الصيف في أيام المشمش ودخل السلطان إلى دمشق يوم الاربعاء خامس عشر شوال فعزل القاضي ابن خلكان وكان له في القضاء (13/259)
عشر سنسن وولى القاضي عز الدين بن الصائغ وخلع عليه وكان تقليده قد كتب بظاهر طرابلس بسفارة الوزير ابن الحنا فسار ابن خلكان في ذي القعدة إلى مصر وفي ثاني عشر شوال دخل حصن الكردي شيخ السلطان الملك الظاهر وأصحابه إلى كنيسة اليهود فصلوا فيها وأزلوا ما فيها من شعائر اليهود ومدوا فيها سماطا وعملوا سماعا وبقوا على ذلك أياما ثم أعيدت إلى اليهود ثم خرج السلطان إلى السواحل فافتتح بعضها واشرف على عكا وتأملها ثم سار إلى الديار المصرية وكان مقدار غرمه في هذه المدة وفي الغزوات قريبا من ثمانمائة ألف دينار وأخلفها الله عليه وكان وصوله إلى القاهرة يوم الخميس ثالث عشر ذي الحجة وفي اليوم السابع عشر من وصوله أمسك على جماعة من الامرء منهم الحلبي وغيره بلغه أنهم أرادوا مسكه على الشقيف
وفي اليوم السابع عشر من ذي الحجة أمر باراقة الخمور من سائر بلاده وتهدد من يعصرها أو يعتصرها بالقتل واسقط ضمان ذلك وكان ذلك بالقاهرة وحدها كل يوم ضمانة ألف دينار ثم سارت البرد بذلك إلى الافاق وفيها قبض السلطان على العزيز بن المغيث صاحب الكرك وعلى جماعة من أصحاباه كانوا عزموا على سلطنته
وممن توفي فيها من الاعيان
الملك تقي الدين عباس بن الملك العادل
ابي بكر بن أيوب بن شادي وهو آخر من بقي من أولاد العادل وقد سمع الحديث من الكندي وابن الحرستاني وكان محترما عند الملوك لا يرفع عليه أحد في المجالس والمواكب وكان لين الاخلاق حسن العشرة لا تمل مجالسته توفي يوم الجمعة الثاني والعشرين من جمادي الاخرة بدرب الريحان ودفن بتربته بسفح قاسيون
قاضي القضاة شرف الدين أبو حفص
عمر بن عبد الله بن صالح بن عيسى السبكي المالكي ولد سنة خمس وثمانين وخمسمائة وسمع الحديث وتفقه وأفتى بالصلاحية وولى حسبة القاهرة ثم ولى القضاء سنة ثلاث وستين لما ولوا من كل مذهب قاضيا وقد امنتع اشد الامتناع ثم أجاب بعد إكراه بشرط ان لا يأخذ على القضاء جامكية وكان مشهور بالعلم والدين روى عنه القاضي بدر الدين ابن جماعة وغيره توفي لخمس بقين من ذي القعدة
الطواشي شجاع الدين مرشدالمظفري الحموي
كان شجاعا بطلا من الابطال الشجعان وكان له رأي سديد كان استاذه لا يخالفه وكذلك الملك الظاهر توفي بحماه ودفن بتربته بالقرب من مدرسته بحماه (13/260)
ابن سبعين عبد الحق بن إبراهيم بن محمد
ابن نصر بن محمد بن نصر بن محمد بن قطب الدين أبو محمد المقدسي الرقوطي نسبة إلى رقوطة بلدة قريبة من مرسية ولد سنة أربع عشرة وستمائة واشتغل بعلم الاوائل والفلسفة فتولد له من ذلك نوع من الالحاد وصنف فيه وكان يعرف السيميا وكان يلبس بذلك على الاغبياء من الأمراء والاغنياء ويزعم أنه حال من أحوال القوم وله من المصنفات كتاب البدو وكتاب الهو وقد أقام بمكة واستحوذ على عقل صاحبها ابن سمى وجاور في بعض الاوقات بغار حراء يرتجى فيما ينقل عنه أن يأتيه فيه وحي كما أتى النبي
ص بناء على ما يعتقده من العقيدة الفاسدة من أن النبوة مكتسبة وأنها فيض يفيض على العقل إذا صفا فما حصل له إلا الخزي في الدنيا والآخرة إن كان مات على ذلك وقد كان إذا رأى الطائفين حول البيت يقول عنهم كأنهم الحمير حول المدار وأنهم لو طافوا به كان أفضل طوافهم بالبيت فالله يحكم فيه وفي أمثاله وقد نقلت عنه عظائم من الاقوال والافعال توفي في الثامن والعشرين من شوال بمكة
ثم دخلت سنة سبعين وستمائة من الهجرة
استهلت وخليفة الوقت الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد العباسي وسلطان الاسلام الملك الظاهر وفي يوم الاحد الرابع عشر من المحرم ركب السلطان إلى البحر لالتقاء الشواني التي عملت عوضا عما غرق بجزيرة قبرص وهي أربعون شينيا فركب في شيني منها ومعه الأمير بدر الدين فمالت بهم فسقط الخزندار في البحر فغاص في الماء فألقى إنسان نفسه وراءه فأخذ بشعره وأنقده من الغرق فخلع السلطان على ذلك الرجل وأحسن إليه وفي أواخر المحرم ركب السلطان في نفر يسير من الخاصكية والأمراء من الديار المصرية حتى قدم الكرك واستحصب نائبها معه إلى دمشق فدخلها في ثاني عشر صفر ومعه الامير عز الدين أيدمر نائب الكرك فولاه نيابة دمشق وعزل عنها جمال الدين آقوش النجيبي في رابع عشر صفر ثم خرج إلى حماة وعاد بعد عشرة ايام وفي ربيع الاول وصلت الجفال من حلب وحماة وحمص إلى دمشق بسبب الخوف من التتار وجفل خلق كثير من أهل دمشق وفي ربيع الآخر وصلت العساكر المصرية إلى حضرة السلطان إلى دمشق فسار بهم منها في سابع الشهر فاجتاز بحماة واستصحب ملكها المنصور ثم سار إلى حلب فخيم بالميدان الأخضر بها وكان سبب ذلك أن عساكر الروم جمعوا نحوا من عشرة آلاف فارس وبعثوا طائفة منهم فأغاروا على عين تاب ووصلوا إلى نسطون ووقعوا على طائفة من التركمان بين حارم وإنطاكية فاستأصلوهم فلما سمع التتار بوصول السلطان ومعه العساكر المنصورة ارتدوا على أعقابهم راجعين وكان بلغه أن الفرنج اغاروا على بلاد قاقون ( 1 ) ونهبوا طائفة من التركمان فقبض على الامراء الذين هناك حيث لم يهتموا بحفظ البلاد وعادوا إلى الديار المصرية (13/261)
وفي ثالث شعبان أمسك السلطان قاضي الحنابلة بمصر شمس الدين أحمد بن العماد المقدسي وأخذ ما عنده من الودائع فأخذ زكاتها ورد بعضها إلى أربابها واعتقله إلى شعبان من سنة ثنتين وسبعين وكان الذي وشى به رجل من أهل حران يقال له شبيب ثم تبين للسلطان نزاهة القاضي وبراءته فأعاده إلى منصبه في سنة ثنتين وسبعين وجاء السلطان في شعبان إلى أراضي عكا فأغار عليها فسأله صاحبها المهادنة فأجابه إلى ذلك فهادنه عشرة سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام وعشرة ساعات وعاد إلى دمشق فقرئ بدار السعادة كتاب الصلح واستمر الحال على ذلك ثم عاد السلطان إلى بلاد الاسماعيلية فأخذ عامتها قال قطب الدين وفي جمادي الاخرة ولدت زرافة بقلعة الجبل وأرضعت من بقرة قال وهذا شيء لم يعهد مثله وفيها توفي
الشيخ كما الدين
سلار بن حسن بن عمر بن سعيد الاربلي الشافعي أحد مشايخ المذهب وقد اشتغل عليه الشيخ محيي الدين النووي وقد اختصر البحر للروياني في مجلدات عديدة هي عندي بخط يده وكانت الفتيا تدور عليه بدمشق توفي في عشر السبعين ودفن بباب الصغير وكان مفيدا بالبادرائية من ايام الواقف لم يطلب زيادة على ذلك إلى أن توفي في هذه السنة
وجيه الدين محمد بن علي بن أبي طالب
ابن سويد التكريتي التاجر الكبير بين التجار بن سويد ذو الأموال الكثيرة وكان معظما عند الدولة ولا سيما عند الملك الظاهر كان يجله ويكرمه لأنه كان قد أسدى إليه جميلا في حال إمرته قبل أن يلي السلطنة ودفن برباطه وتربته بالقرب من الرباط الناصري بقاسيون وكانت كتب الخليفة ترد إليه في كل وقت وكانت مكاتباته مقبولة عند جميع الملوك حتى ملوك الفرنج في السواحل وفي أيام التتار في أيام هولاكو وكان كثير الصدقات والبر
نجم الدين يحيى بن محمد بن عبد الواحد بن اللبودي
واقف اللبودية التي عند حمام الفلك المبرر على الاطباء ولديه فضيلة بمعرفة الطب وقد ولى نظر الدواوين بدمشق ودفن بتربته عند اللبودية
الشيخ علي البكاء
صاحب الزاوية بالقرب من بلد الخليل عليه السلام كان مشهورا بالصلاح والعبادة والاطعام لمن اجتاز به من المارة والزوار وكان الملك المنصور قلاوون يثنى عليه ويقول اجتمعت به وهو أمير وأنه كاشفة في أشياء وقعت جميعها ومن جملتها أنه سيملك نقل ذلك قطب الدين اليونيني وذكر أن سبب بكائه الكثير أنه صحب رجلا كانت له أحوال وكرامات وأنه خرج معه من بغداد (13/262)
فانتهوا في ساعة واحدة إلى بلدة بينها وبين بغداد مسيرة سنة وأن ذلك الرجل قال له إني سأموت في الوقت الفلاني فاشهدني في ذلك الوقت في البلد الفلاني قال فلما كان ذلك الوقت حضرت عنده وهو في السياق وقد استدار إلى جهة الشرق فحولته إلى القبلة فاستدار إلى الشرق لحولته أيضا ففتح عينيه وقال لا تتعب فإني لا أموت إلا على هذه الجهة وجعل يتكلم بكلام الرهبان حتى مات فحملناه فجئنا به إلى دير هناك فوجدناهم في حزن عظيم فقلنا لهم ما شأنكم فقالوا كان عندنا شيخ كبير ابن مائة سنة فلما كان اليوم مات على الاسلام فقلنا لهم خذوا هذا بدله وسلمونا صاحبنا قال فوليناه فغسلناه وكفناه وصلينا عليه ودفناه مع المسلمين وولواهم ذلك الرجل فدفنوه في مقبرة النصارى نسأل الله حسن الخاتمة مات الشيخ على في رجب من هذه السنة
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وستمائة
في خامس المحرم وصل الظاهر دمشق من بلاد السواحل التي فتحها وقد مهدها وركب في أواخر المحرم إلى القاهرة فأقام بها سنة ثم عاد فدخل دمشق في رابع صفر وفي المحرم منها وصل صاحب النوبة إلى عيذاب فنهب تجارها وقتل خلقا من أهلها منهم الوالي والقاضي فسار إليه الامير علاء الدين أيد غدي الخزندار فقتل خلقا من بلاده ونهب وحرق وهدم ودوخ البلاد وأخذ بالثأر ولله الحمد والمنة
وفي ربيع الاول توفي الامير سيف الدين محمد بن مظفر الدين عثمان بن ناصر الدين منكورس صاحب صهيون ودفن في تربة والده في عشر السبعين وكان له في ملك صهيون وبزريه إحدى عشرة سنة وتسلمها بعده ولده سابق الدين وأرسل إلى الملك الظاهر يستأذنه في الحضور فأذن له فلما حضر أقطعه خبزا وبعث إلى البلدين نوابا من جهته
وفي خامس جمادي الاخرة وصل السلطان بعسكره إلى الفرات لأنه بلغه أن طائفة من التتار هنالك فخاض إليهم الفرات بنفسه وجنده وقتل من أولئك مقتلة كبيرة وخلقا كثيرا وكان أول من اقتحم الفرات يومئذ الامير سيف الدين قلاوون وبدر الدين بيسرى وتبعهما السلطان ثم فعل بالتتار ما فعل ثم ساق إلى ناحية البيرة وقد كانت محاصرة بطائفة من التتار أخرى فلما سمعوا بقدومه هربوا وتركوا أموالهم وأثقالهم ودخل السلطان إلى البيرة في أبهة عظيمة وفرق في أهلها أموالا كثيرة ثم عاد إلى دمشق في ثالث جمادى الاخرة ومعه الاسرى وخرج منها في سابعة إلى الديار المصرية وخرج ولده الملك السعيد لتلقيه ودخلا إلى القاهرة وكان يوما مشهودا ومما قاله القاضي شهاب الدين محمود الكاتب وأولاده يقال لهم بنو الشهاب محمود في خوض السلطان الفرات بالجيش ... سر حيث شئت لك المهيمن جار ... واحكم فطوع مرادك الاقدار (13/263)
لم يبق للدين الذي أظهرته ... يا ركنه عند الاعادي ثار ... لما تراقصت الرؤس تحركت ... من مطربات قسيك الاوتار ... خضت الفرات بعسكر أفضى به ... موج الفرات كما أتى الاثار ... حملتك أمواج الفرات ومن رأى ... بحرا سواك تقله الانهار ... وتقطعت فرقا ولم يك طودها ... إذ ذاك إلا جيشك الجرار ...
وقال بعض من شاهد ذلك ... ولما تراءينا الفرات بخيلنا ... سكرناه منا بالقنا والصوارم ... ولجنا فأوقف التيار عن جريانه ... إلى حين عدنا بالغنى والغنائم ... وقال آخر ولا بأس به ... الملك الظاهر سلطاننا ... نفديه بالأموال والأهل ... اقتحم الماء ليطفى به ... حرارة القلب من المغل ...
وفي يوم الثلاثاء ثالث رجب خلع على جميع 8 الامراء من حاشيته ومقدمي الحلقة وأرباب الدولة وأعطى كل إنسان ما يليق به من الخيل والذهب والحوايص وكان مبلغ ما أنفق بذلك نحو ثلثمائة ألف دينار وفي شعبان أرسل السلطان إلى منكوتمر هدايا عظيمة وفي يوم الاثنين ثاني عشر شوال استدعى السلطان شيخه الشيخ خضر الكردي إلى بين يديه إلى القلعة وحوقق على اشياء كثيرة ارتكبها فأمر السلطان عند ذلك باعتقاله وحبسه ثم أمر باغتياله وكان آخر العهد به وفي ذي القعدة سلمت الاسماعيلية ما كان بقي بأيديهم من الحصون وهي الكهف والقدموس والمنطقة وعوضوا عن ذلك باقطاعات ولم يبق بالشام شيء لهم من القلاع واستناب السلطان فيها وفيها أمر السلطان بعمارة جسورة في السواحل وغرم عليها مالا كثيرا وحصل للناس بذلك رفق كبير وممن توفي فيها من الاعيان
الشيخ تاج الدين أبو المظفر محمد بن أحمد
ابن حمزة بن علي بن هبة الله بن الحوى التغلبي الدمشقي كان من أعيان أهل دمشق ولي نظر الايتام والحسبة ثم وكالة بيت المال وسمع الكثير وخرج له ابن بليان مشيخة قرأها عليه الشيخ شرف الدين الغراري بالجامع فسمعها جماعة من الاعيان والفضلاء رحمه الله
الخطيب فخر الدين أبو محمد
عبد القاهر بن عبد الغني بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني الخطيب بها وبيته معروف بالعلم والخطابة والرياسة ودفن بمقبرة الصوفية وقد قارب الستين رحمه الله وقد سمع الحديث من جده فخر الدين صاحب ديوان الخطب المشهورة توفي بخانقاه القصر ظاهر دمشق (13/264)
الشيخ خضر بن أبي بكر المهراني العدوي
شيخ الملك الظاهر بيبرس كان حظيا عنده مكرما لديه له عنده المكانة الرفيعة كان السلطان ينزل بنفسه إلى زاويته التي بناها له في الحسينية في كل اسبوع مرة أو مرتين وبنى له عندها جامعا يخطب فيه للجمعة وكان يعطيه مالا كثيرا ويطلق له ما أراد ووقف على زاويته شيئا كثيرا جدا وكان معظما عند الخاص والعام بسبب حب السلطان وتعظيمه له وكان يمازحه إذا جلس عنده وكان فيه خير ودين وصلاح وقد كاشف السلطان بأشياء كثيرة وقد دخل مرة كنيسة القمامة بالمقدس فذبح قسيسها بيده ووهب ما فيها لأصحابه وكذلك فعل بالكنيسة التي بالاسكندرية وهي من أعظم كنائسهم نهبها وحولها مسجدا ومدرسة أنفق عليها أموالا كثيرة من بيت المال وسماها المدرسة الخضراء وكذلك فعل بكنيسة اليهود بدمشق دخلها ونهب ما فيها من الالات والامتعة ومد فيها سماطا واتخذها مسجدا مدة ثم سعوا إليه في ردها إليهم وإبقائها عليهم ثم اتفق في هذه السنة أنه وقعت منه أشياء أنكرت عليه وحوقق عليها عند السلطان الملك الظاهر فظهر له منه ما أوجب سجنه ثم أمر باعدامه وهلاكه ( 1 ) وكانت وفاته في هذه السن ودفن بزاويته سامحه الله وقد كان السلطان يحبه محبة عظيمة حتى إنه سمى بعض أولاده خضرا موافقة لاسمه وإليه تنسب القبة التي على الجبل غربي الربوة التي يقال لها قبة الشيخ خضر
مصنف التعجيز
العلامة تاج الدين عبد الرحيم بن محمد بن يونس بن محمد بن سعد بن مالك أبو القاسم الموصلي من بيت الفقه والرياسة والتدريس ولد سنة ثمان وتسعين وخمسمائة وسمع واشتغل وحصل وصنف واختصر الوجيز من كتابه التعجيز واختصر المحصول وله طريقة في الخلاف أخذها عن ركن الدين الطاووسي وكان جده عماد الدين بن يونس شيخ المذهب في وقته كما تقدم
ثم دخلت سنة إثنتين وسبعين وستمائة
في صفر منها قدم الظاهر إلى دمشق وقد بلغه أن أبغا وصل إلى بغداد فتصيد تلك الناحية فأرسل إلى العساكر المصرية أن يتأهبوا للحضور واستعد السلطان لذلك وفي جمادى الاخرة أحضر ملك الكرخ لبين يديه بدمشق وكان قد جاء متنكرا لزيارة بيت المقدس فظهر عليه فحمل إلى بين يديه فسجنه بالقلعة وفيها كمل بناء جامع دير الطين ظاهر الظاهرة وصلى فيه الجمعة وفيها سار السلطان إلى القاهرة فدخلها في سابع رجب وفي أواخر رمضان دخل الملك السعيد ابن الظاهر إلى دمشق في طائفة من الجيش فأقام بها شهرا ثم عاد وفي يوم عيد الفطر ختن السلطان ولده خضرا (13/265)
الذي سماه باسم شيخه وختن معه جماعة من أولاد الامراء وكان وقتا هائلا وفيها فوض ملك التتار إلى علاء الدين صاحب الديوان ببغداد النظر في تستر وأعمالها فسار إليها ليتصفح أحوالها فوجد بها شابا من أولاد التجار يقال له لي قد قرأ القرآن وشيئا من الفقه والاشارات لابن سينا ونظر في النجوم ثم ادعى انه عيسى ابن مريم وصدقه على ذلك جماعة من جهلة تلك الناحية وقد أسقط لهم من الفرائض صلاة العصر وعشاء الاخرة فاستحضره وسأله عن ذلك فرآه ذكيا إنما يفعل ذلك عن قصد فأمر به فقتل بين يديه جزاه الله خيرا وأمر العوام فنهبوا أمتعته وأمتعة العوام ممن كان اتبعه وممن توفي فيها من الاعيان
مؤيد الدين أبو المعالي الصدر الرئيس
أسعد بن غالب المظفري ابن الوزير مؤيد الدين أسعد بن حمزة بن أسعد بن علي بن محمد التميمي ابن القلانسي جاوز التسعين وكان رئيسا كبيرا واسع النعمة لا يغفل أن يباشر شيئا من الوظائف وقد الزموه بعد ابن سويد بمباشرة مصالح السلطان فباشرها بلا جامكية وكانت وفاته ببستانه ودفن بسفح قاسيون يوم الثلاثاء ثالث عشر المحرم والد الصدر عز الدين حمزة رئيس البلدين دمشق والقاهرة وحدهم مؤيد الدين أسعد بن حمزة الكبير كان وزيرا للملك الأفضل علي بن الناصرفاتح القدس كان رئيسا فاضلا له كتاب الوصية في الاخلاق المرضية وغير ذلك وكانت له يد جيدة في النظم فمن ذلك قوله ... يا رب جدلي إذا ما ضمني جدتي ... برحمة منك تنجيني من النار ... أحسن جواري إذا أمسيت جارك في ... لحدي فإنك قد أوصيت بالجار ...
وأما والد حمزة بن أسعد بن علي بن محمد التميمي فهو العميد وكان يكتب جيدا وصنف تاريخا فيما بعد سنة أربعين وأربعمائة إلى سنة وفاته في خمس وخمسمائة
الأمير الكبير فارس الدين أقطاي
المستعربي أتابك الديار المصرية كان أولا مملوكا لابن يمن ثم صار مملوكا للصالح أيوب فأمره ثم عظم شأنه في دولة المظفر وصار أتابك العساكر فلما قتل امتدت أطماع الأمراء إلى المملكة فبايع أقطاي الملك الظاهر فتبعه الجيش على ذلك وكان الظاهر يعرفها له ولا ينساها ثم قبل وفاته بقليل انهضم عند الظاهر ومات في هذه السنة بالقاهرة
الشيخ عبد الله بن غانم
ابن علي بن إبراهيم بن عساكر بن الحسين المقدسي له زاوية بنابلس وله أشعار رائقة وكلام قوي في علم التصوف وقد طول اليونيني ترجمته وأورد من أشعاره شيئا كثيرا (13/266)
قاضي القضاة كمال الدين
أبو الفتح عمر بن بندار بن عمر بن علي التفليسي الشافعي ولد بتفليس سنة إحدى وستمائة وكان فاضلا أصوليا مناظرا ولي نيابة الحكم مدة ثم استقل بالقضاء في دولة هلاوون هولاكو وكان عفيفا نزها لم يرد منصبا ولا تدريسا مع كثرة عياله وقلة ماله ولما انقضت أيامهم تغضب عليه بعض الناس ثم ألزم بالمسير إلى القاهرة فأقام بها يفيد الناس إلى أن توفي في ربيع الاول من هذه السنة ودفن بالقرافة الصغرى
اسماعيل بن إبراهيم بن شاكر بن عبد الله
التنوخي وتنوخ من قضاعة كان صدار كبيرا وكتب الانشاء للناصر داود بن المعظم وتولى نظر المارستان النوري وغيره وكان مشكور السيرة وقد أثنى عليه غير واحد وقد جاوز الثمانين ومن شعره قوله ... خاب رجاء أمرئ له أمل ... بغير رب السماء قد وصله ... أيبتغي غيره أخو ثقة ... وهو ببطن الاحشاء قد كفله ... وله أيضا ... خرس اللسان وكل عن ... أوصافكم ماذا يقول وأنتم ما أنتم ... الأمر أعظم من مقالة قائل ... قد تاه عقل أن يعبر عنكم ... العجز والتقصير وصفي دائما ... والبر والاحسان يعرف منكم ... ابن مالك صاحب الالفية
الشيخ جمال الدين محمد بن عبد الله بن مالك أبو عبد الله الطائي الحياني النحوي صاحب التصانيف المشهورة المفيدة منها الكافية الشافية وشرحها والتسهيل وشرحه والالفية التي شرحها ولده بدر الدين شرحا مفيدا ولد بحيان سنة ستمائة واقام بحلب مدة ثم بدمشق وكان كثير الاجتماع بابن خلكان واثنى عليه غير واحد وروى عنه القاضي بدر الدين بن جماعة وأجاز لشيخنا علم الدين البرزالي توفي ابن مالك بدمشق ليلة الاربعاء ثاني عشر رمضان ودفن برتبة القاضي عز الدين بن الصائغ بقاسيون
النصير الطوسي
محمد بن عبد الله الطوسي كان يقال له المولى نصير الدين ويقال الخواجا نصير الدين اشتغل في شبيبته وحصل علم الاوائل جيدا وصنف في ذلك في علم الكلام وشرح الاشارات لابن سينا ووزر لأصحاب قلاع الألموت من الاسماعيلية ثم وزر لهولاكو وكان معه في واقعة بغداد ومن الناس من يزعم أنه أشار على هولاكوخان بقتل الخليفة فالله أعلم وعندي أن هذا لا يصدر (13/267)
من عاقل ولا فاضل وقد ذكره بعض البغاددة فأثنى عليه وقال كان عاقلا فاضلا كريم الاخلاق ودفن في مشهد موسى بن جعفر في سرداب كان قد أعد للخليفة الناصر لدين الله وهو الذي كان قد بنى الرصد بمراغة ورتب فيه الحكماء من الفلاسفة والمتكلمين والفقهاء والمحدثين والاطباء وغيرهم من أنواع الفضلاء وبنى له فيه قبة عظيمة وجعل فيه كتبا كثيرة جدا توفي في بغداد في ثاني عشر ذي الحجة من هذه السنة وله خمس وسبعون سنة وله شعر جيد قوي وأصل اشتغاله على المعين سالم بن بدار بن علي المصري المعتزلي المتشيع فنزع فيه عروق كثيرة منه حتى أفسد اعتقاده
الشيخ سالم البرقي
صاحب الرباط بالقرافة الصغرى كان صالحا متعبدا يقصد للزيارة والتبرك بدعائه وله اليوم اصحاب معروفون على طريقة
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وستمائة
فيها اطلع السلطان على ثلاثة عشر أميرا منهم قجقار الحموي وقد كانوا كاتبوا التتر يدعونهم إلى بلاد المسلمين وأنهم معهم على السلطان فأخذوا فأقروا بذلك وجاءت كتبهم مع البريدية وكان آخر العهد بهم وفيها أقبل السلطان بالعساكر فدخل بلاد سيس يوم الاثنين الحادي والعشرين من رمضان فقتلوا خلقا لا يعلمهم إلا الله وغنموا شيئا كثيرا من الابقار والأغنام والاثقال والدواب والأنعام نبيع ذلك بأرخص ثمن ثم عاد فدخل دمشق مؤيدا منصورا في شهر ذي الحجة فأقام بها حتى دخلت السنة وفيها ثار على أهل الموصل رمل حتى عم الافق وخرجوا من دورهم يبتهلون إلى الله حتى كشف ذلك عنهم والله تعالى أعلم وممن توفي فيها من الاعيان
ابن عطاء الحنفي
قاضي القضاة شمس الدين أبو محمد بعد الله بن الشيخ شرف الدين محمد بن عطاء بن حسن بن عطاء بن جبير بن جابر بن وهيب الأذرعي الحنفي ولد سنة خمس وتسعين وخمسمائة سمع الحديث وتفقه على مذهب أبي حنيفة وناب في الحكم عن الشافعي مدة ثم استقل بقضاء الحنفية أول ما ولى القضاة من المذاهب الأربعة ولما وقعت الحوطة على أملاك الناس أراد السلطان منه أن يحكم بها بمقتضى مذهبه فغضب من ذلك فقال هذه أملاك بيد أصحابها وما يحل لمسلم أن يتعرض لها ثم نهض من المجلس فذهب فغضب السلطان من ذلك غضبا شديدا ثم سكن غضبه فكان يثني عليه بعد ذلك ويمدحه ويقول لا تثبتوا كتبا إلا عنه كان ابن عطاء من العلماء الاخيار كثير التواضع قليل الرغبة في الدنيا روى عنه ابن جماعة وأجاز للبرزالي توفي يوم الجمعة تاسع جمادي الاولى ودفن بالقرب من المعظمية بسفح قاسيون رحمه الله تعالى (13/268)
بيمند بن بيمند بن بيمند
ابرنس طرابلس الفرنجي كا جده نائبا لبنت صيحل الذي تملك طرابلس من ابن عمار في حدود الخمسمائة وكانت يتيمة تسكن بعض جزائر البحر فتغلب هذا على البلد لبعدها عنه ثم استقل بها ولده ثم حفيده وكان شكلا مليحا قال قطب الدين اليونيني رأيته في بعلبك في سنة ثمان وخمسين وستمائة حين جاء مسلما على كتبغانوين ورام أن يطلب منه بعلبك فشق ذلك على المسلمين ولما توفي دفن في كنيسة طرابلس ولما فتحها المسلمون في سنة ثمان وثمانين وستمائة نبش الناس قبره واخرجوه منه والقوا عظامه على المزابل للكلاب
ثم دخلت سنة أربع وسبعين وستمائة
لما كان يوم الخميس ثامن جمادى الاولى نزل التتار على البيرة في ثلاثين ألف مقاتل خمسة عشر ألفا من المغول وخمسة عشر ألفا من الروم والمقدم على الجميع البرواناه بأمر أبغا ملك التتار ومعهم جيش الموصل وجيش ماردين والأكراد ونصبوا عليها ثلاثة وعشرين منجنيقا فخرج أهل البيرة في الليل فكبسوا عسكر التتار وأحرقوا المنجنيقات ونهبوا شيئا كثيرا ورجعوا إلى بيوتهم سالمين فاقام عليها الجيش مدة إلى تاسع عشر الشهر المذكور ثم رجعوا عنها بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا ولما بلغ السلطان نزول التتار على البيرة أنفق في الجيش ستمائة ألف دينار ثم ركب سريعا وفي صحبته ولده السعيد فلما كان في أثناء الطريق بلغه رحيل التتار عنها فعاد إلى دمشق ثم ركب في رجب إلى القاهرة فدخلها في ثامن عشر فوجد بها خمسة وعشرين رسولا من جهة ملوك الارض ينتظرونه فتلقوه وحدثوه وقبلوا الأرض بين يديه ودخل القلعة في أبهة عظيمة ولما عاد البرواناه إلى بلاد الروم حلف الامراء الكبار منهم شرف الدين مسعود وضياء الدين محمود ابنا الخطيري وأمين الدين ميكائيل وحسام الدين ميجار وولده بهاء الدين على أن يكونوا من جهة السلطان الملك الظاهر وينابذوا أبغا فحلفوا له على ذلك وكتب إلى الظاهر بذلك وأن يرسل إليه جيشا ويحمل له ما كان يحمله إلى التتار ويكون غياث الدين كنجري على ما هو عليه يجلس على تخت مملكة الروم وفي هذه السنة استسقى أهل بغداد ثلاثة أيام فلم يسقوا وفيها في رمضان منها وجد رجل وامرأة في نهار رمضان على فاحشة الزنا فأمر علاء الدين صاحب الديوان برجمهما فرجما ولم يرجم ببغداد قبلهما قط أحد منذ بنيت وهذا غريب جدا وفيها استسقى أهل دمشق أيضا مرتين في أواخر رجب وأوائل شعبان وكان ذلك في آخر كانون الثاني فلم يسقوا ايضا وفيها أرسل السلطان جيشا إلى دنقلة فكسر جيش السودان وقتلوا منهم خلقا واسروا شيئا كثيرا من السودان (13/269)
بحيث بيع الرقيق الرأس منها بثلاثة دراهم ورهب ملكهم داوداه إلى صاحب النوبة فأرسله إلى الملك الظاهر محتاطا عليه وقرر الملك الظاهر على أهل دنقلة جزية تحمل إليه في كل سنة كل ذلك كان في شعبان من هذه السنة
وفيها عقد عقد الملك السعيد بن الظاهر على بنت الامير سيف الدين قلاوون الالفي في الايوان بحضرة السلطان والدولة على صداق خمسة آلاف دينار تعجل منها ألفا دينار وكان الذي كتبه وقرأه محيي الدين بن عبد الظاهر فاعطى مائة دينار وخلع عليه ثم ركب السلطان مسرعا فوصل إلى حصن الكرك فجمع القيمرية الذين به فإذا هم ستمائة نفر فأمر بشنقهم فشفع فيهم عنده فأطلقهم وأجلاهم منه إلى مصر كان قد بلغه عنهم انهم يريدون قتل من فيه ويقيموا ملكا عليهم وسلم الحصن إلى الطواشي شمس الدين رضوان السهيلي ثم عاد في بقية الشهر إلى دمشق فدخلها يوم الجمعة ثامن عشر الشهر وفيها كانت زلزلة بأخلاط واتصلت ببلاد بكر وممن توفي فيها من الاعيان
الشيخ الامام العلامة
الاديب تاج الدين أبو الثناء محمود بن عابد بن الحسين بن محمد بن علي التميمي الصرخدي الحنفي كان مشهورا بالفقه والأدب والعفة والصلاح ونزاهة النفس ومكارم الاخلاق ولد سنة ثمان وسبعين وخمسمائة وسمع الحديث وروى ودفن بمقابر الصوفية في ربيع الاخر منها وله ست وتسعون سنة رحمه الله
الشيخ الامام عماد الدين عبد العزيز بن محمد
ابن عبد القادر بن عبد الله بن خليل بن مقلد الانصاري الدمشقي المعروف بابن الصائغ كان مدرسا بالمذراوية وشاهدا بالخزانة بالقلعة يعرف الحساب جيدا وله سماع ورواية ودفن بقاسيون
ابن الساعي المؤرخ
تاج الدين بن المحتسب المعروف بابن الساعي البغدادي ولد سنة ثلاث وتسعين وسمع الحديث واعتنى بالتاريخ وجمع وصنف ولم يكن بالحافظ ولا الضابط المتقن وقد أوصى إليه ابن النجار حين توفي وله تاريخ كبير عندي أكثره ومصنفات اخر مفيدة وآخر ما صنف كتاب في الزهاد كتب في حاشيته زكي الدين عبد الله بن حبيب الكاتب ... ما زال تاج الدين طول المدى ... من عمره يعتق في السير ... في طلب العلم وتدوينه ... وفعله نفع بلا ضير ... علا علي بتصانيفه ... وهذه خاتمة الخير (13/270)
ثم دخلت سنة خمس وسبعين وستمائة
في ثالث عشر المحرم منها دخل السلطان إلى دمشق وسبق العساكر إلى بلاد حلب فلما توافت إليه أرسل بين يديه الامير بدر الدين الاتابكي بألف فارس إلى البلستين فصادف بها جماعة من عسكر الروم فركبوا إليه وحملوا إليه الاقامات وطلب جماعة منهم أن يدخولوا بلاد الاسلام فأذن لهم فدخل طائفة منهم بيجار وابن الخطير فرسم لهم أن يدخلوا القاهرة فتلقاهم الملك السعيد ثم عاد السلطان من حلب إلى القاهرة فدخلها في ثاني عشر ربيع الاخر
وفي خامس جمادي الاولى عمل السلطان عرس ولده الملك السعيد على بنت قلاوون واحتفل السلطان به احتفالا عظيما وركب الجيش في الميدان خمسة أيام يلعبون ويتطاردون ويحمل بعضهم على بعض ثم خلع على الأمراء وأرباب المناصب وكان مبلغ ما خلع ألف وثلثمائة خلعة بمصر وجاءت مراسيمه إلى الشام بالخلع على أهلها ومد السلطان سماطا عظيما حضره الخاص والعام والشارد والوارد وحبس فيه رسل التتار ورسل الفرنج وعليهم كلهم الخلع الهائلة وكان وقتا مشهودا وحمل صاحب حماه هدايا عظيمة وركب إلى مصر للتهنئة وفي حادي عشر شوال طيف بالمحمل وبكسوة الكعبة المشرفة بالقاهرة وكان يوما مشهودا
وقعة البلستين وفتح قيسارية
ركب السلطان من مصر في العساكر فدخل دمشق في سابع عشر شوال فأقام بها ثلاثة أيام ثم سار حتى دخل حلب في مستهل ذي القعدة فأقام بها يوما ورسم لنائب حلب أن يقيم بعسكر حلب على الفرات لحفظ المنائر وسار السلطان فقطع الدر بند في نصف يوم ووقع سنقر الأشقر في أثناء الطريق بثلاثة آلاف من المغول فهزمهم يوم الخميس تاسع ذي القعدة وصعد العسكر على الجبال فأشرفوا على وطأة البلستين فرأوا التتار قد رتبوا عسكرهم وكانوا أحد عشر ألف مقاتل وعزلوا عنهم عسكر الروم خوفا من مخامرتهم فلما تراأي الجمعان حملت ميسرة التتار فصدمت سناجق السلطان ودخلت طائفة منهم بينهم فشقوها وساقت إلى الميمنة فلما رأى السلطان ذلك اردف المسلمين بنفسه ومن معه ثم لاحت منه التفاتة فرأي الميسرة قد كادت أن تتحطم فأمر جماعة من الأمراء باردافها ثم حمل العسكر جميعه حملة واحدة على التتار فترجلوا إلى الأرض عن آخرهم وقاتلوا المسلمين قتالا شديدا وصبر المسلمون صبرا عظيما فأنزل الله نصره على المسلمين فأحاطت بالتتار العساكر من كل جانب وقتلوا منهم خلقا كثيرا وقتل من المسلمين أيضا جماعة وكان في جملة من قتل من سادات المسلمين الأمير الكبير ضياء الدين ابن الخطير وسيف الدين قيماز وسيف الدين بنجو الجاشنكير وعز الدين أيبك الثقفي واسر جماعة من أمراء المغول ومن أمراء (13/271)
ومن أمراء الروم وهرب الرواناه فنجا بنفسه ودخل قيسارية في بكرة الأحد ثاني عشرة ذي القعدة وأعلم أمراء الروم ملكهم بكسرة التتار على البلستين واشار عليهم بالهزيمة فأنهزموا منها وأخلوها فدخلها الملك الظاهر وصلى بها الجمعة سابع ذي القعدة وخطب له بها ثم كر راجعا مؤيدا منصورا وسارت البشائر إلى البلدان ففرح المؤمنون يومئذ بنصر الله ولما بلغ خبر هذه الوقعة أبغا جاء حتى وقف بنفسه وجيشه وشاهد مكان المعركة ومن فيها من قتلى المغول فغاظه ذلك وأعظمه وحنق على الرواناه إذ لم يعلمه بجلية الحال وكان يظن أمر الملك الظاهر دون هذا كله واشتد غضبه على أهله قيسارية وأهل تلك الناحية فقتل منهم قريبا من مائتي ألف وقيل قتل منهم خمسمائة ألف من قيسارية وأرزن الروم وكان في جملة من قتل القاضي جلال الدين حبيب فإنا لله وإنا إليه راجعون
وممن توفي فيها من الاعيان
الشيخ أبو الفضل ابن الشيخ عبيد بن عبد الخالق الدمشقي
ودفن بالقرب من الشيخ أرسلان قال الشيخ علم الدين وكان يذكر أن مولده كان سنة أربع وستين وخمسمائة
الطواشي يمن الحبشي
شيخ الخدم بالحرم الشريف كان دينا عاقلا عدلا صادق اللهجة مات في عشر السبعين رحمه الله 4 الشيخ المحدث شمس الدين أبو العباس
أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي بكر الموصلي ثم الدمشقي الصوفي سمع الكثير وكتب الكتب الكبار بخط رفيع جيد واضح جاوز السبعين ( 1 ) ودفن بباب الفراديس
الشاعر شهاب الدين أبو المكارم
محمد بن يوسف بن مسعود بن بركة بن سالم بن عبد الله الشيباني التلعفري صاحب ديوان الشعر جاوز الثمانين مات بحماة وكان الشعراء مقرين له معترفين بفضله وتقدمه في هذا الفن ومن شعره قوله ... لساني طري نمك يا غاية المنى ... ومن ولهي أني خطيب وشاعر ... فهذا لمعنى حسن وجهك ناظم ... وهذا لدمعي في تجنيك ناشر ... القاضي شمس الدين
علي بن محمود بن علي بن عاصم الشهزوري الدمشقي مدرس القيمرية بشرط واقفها له ولذريته من بعده التدريس من تأهل منهم فدرس بها إلى أن توفي في هذه السنة ودرس بعده ولده (13/272)
صلاح الدين ثم ابن ابنه بعد ابن جماعة وطالت مدة حفيده وقد ولى شمس الدين على نيابة ابن خلكان في الولاية الاولى وكان فقيها جيدا نقالا للمذهب رحمه الله وقد سافر مع ابن العديم لبغداد فسمع بها ودفن بمقابر الصوفية بالقرب من ابن الصلاح
الشيخ الصالح العالم الزاهد
أبو إسحاق إبراهيم بن سعد الله بن جماعة بن علي بن جماعة بن حازم بن سنجر الكناني الحموي له معرفة بالفقه والحديث ولد سنة ست وتسعين بحماة وتوفي بالقدس الشريف ودفن بماملا وسمع من الفخر ابن عساكر وروى عنه ولده قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة
الشيخ الصالح جندل بن محمد المنيني
كانت له عبادة وزهادة وأعمال صالحة وكان الناس يترددون إلى زيارته بمنين وكان يتكلم بكلام كثير لا يفهمه أحد من الحاضرين بألفاظ غريبة وحكى عنه الشيخ تاج الدين أنه سمعه يقول ما تقرب أحد إلى الله بمثل الذل له والتضرع إليه وسمعه يقول المولة منفي من طريق الله يعتقد أنه واصل ولو علم انه منفي رجع عما هو فيه لأن طريق القوم من اهل السلوك لايثبت عليها إلا ذوو العقول الثابتة وكان يقول السماع وظيفة أهل البطالة قال الشيخ تاج الدين وكان الشيخ جندل من أهل الطريق وعلماء التحقيق قال وأخبرني في سنة إحدى وستين وستمائة أنه قد بلغ من العمر خمسا وتسعين سنة قلت على هذا فيكون قد جاوز المائة لأنه توفي في رمضان من هذه السنة ودفن في زاويته المشهورة بقرية منين وتردد الناس لقبره يصلون عليه من دمشق وأعمالها أياما كثيرة رحمه الله
محمد بن عبد الرحمن بن محمد
الحافظ بدر الدين أبو عبد الله بن النويرة السلمي الحنفي اشتغل على الصدر سليمان وابن عطاء وفي النحو على ابن مالك وحصل وبرع ونظم ونثر ودرس في الشبلية والقصاعين وطلب لنيابة القضاء فامتنع وكتب الكتاب المنسوبة رآه بعض أصحابه في المنام بعد وفاته فقال ما فعل الله بك فأنشأ يقول ... ما كان لي من شافع عنده ... غير اعتقادي أنه واحد ...
وكانت وفاته في جمادي الاخرة ودفن بظاهر دمشق رحمه الله
محمد بن عبد الوهاب بن منصور
شمس الدين أبو عبد الله الحراني الحنبلي تلميذ الشيخ مجد الدين ابن تيمية وهو أول من (13/273)
حكم بالديار المصرية من الحنابلة نيابة عن القاضي تاج الدين ابن بنت الاعز ثم ولى شمس الدين ابن الشيخ العماد القضاء مستقلا فاستناب به ثم ترك ذلك ورجع إلى الشام يشتغل ويفتى إلى أن توفي وقد نيف على الستين رحمه الله
ثم دخلت سنة ست وسبعين وستمائة
فيها كانت وفاة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس صاحب البلاد المصرية والشامية والحلبية وغير ذلك واقام ولده ناصر الدين أبا المعالي محمد بركة خان الملقب السعيد من بعده ووفاة الشيخ محيي الدين النووي إمام الشافعية فيها في اليوم السابع من المحرم منها ودخل السلطان الملك الظاهر من بلاد الروم وقد سكر التتار على البلستين ورجع مؤيدا منصورا فدخل دمشق وكان يوم دخوله يوما مشهودا فنزل بالقصر الأبلق الذي بناه غربي دمشق بين الميدانين الأخضرين وتواترت الاخبار إليه بأن أبغا جاء إلى المعركة ونظر إليها وتأسف على من قتل من المغول وأمر بقتل الرواناه وذكروا أنه قد عزم على قصد الشام فأمر السلطان بجمع الامراء وضرب مشورة فاتفق مع الامراء على ملاقاته حيث كان وتقدم بضرب الدهليز على القصر ثم جاء الخبر بأن أبغا قد رجع إلى بلاده فأمر برد الدهليز وأقام بالقصر الابلق يجتمع عنده الاعيان والأمراء والدولة في اسر حال وأنعم بال وأما أبغا فإنه أمر بقتل الرواناه وكان نائبه على بلادا لروم وكان اسمه معين الدين سليمان ابن علي بن محمد بن حسن وإنما قتله لأنه اتهمه بممالأته للملك الظاهر وزعم أنه هو الذي حسن له دخول بلاد الروم وكان الرواناه شجاعا حازما كريما جوادا وله ميل إلى الملك الظاهر وكان قد جاوز الخمسين لما قتل
ثم لما كان يوم السبت خامس عشر المحرم توفي الملك القاهر بهاء الدين عبد الملك بن السلطان المعظم عيسى بن العادل أبي بكر بن أيوب عن أربع وستين سنة وكان رجلا جيدا سليم الصدر كريم الاخلاق لين الكلمة كثير التواضع يعاني ملابس العرب ومراكبهم وكان معظما في الدولة شجاعا مقداما وقد روى عن ابن الليثي وأجاز للبرزالي قال البرزالي ويقال إنه سم وذكر غيره أن السلطان الملك الظاهر سمه في كأس خمر ناوله إياه فشربه وقام السلطان إلى المرتفق ثم عاد وأخذ الساقي الكأس من يد القاهر فملأه وناوله السلطان الظاهر والساقي لا يشعر بشيء مما جرى وأنسى الله السلطان ذلك الكأس أو ظن أنه غيره لأمر يريده الله ويقضيه وكان قد بقى في الكأس بقية كثيرة من ذلك السم فشرب الظاهر ما في الكأس ولم يشعر حتى شربه فاشتكى بطنه من ساعته ووجد الوهج والحر والكرب الشديد من فوره وأما القاهر فإنه حمل إلى منزله وهو مغلوب فمات من ليلته وتمرض الظاهر من ذلك أياما حتى كانت وفاته يوم الخميس بعد الظهر (13/274)
في السابع والعشرين من المحرم بالقصر الابلق وكان ذلك يوما عظيما على الامراء وحضر نائب السلطنة عز الدين أيدمر وكبار الأمراء والدولة فصلوا عليه سرا وجعلوه في تابوت ورفعوه إلى القلعة من السور وجعلوه في بيت من بيوت البحرية إلى أن نقل إلى تربته التي بناها ولده له بعد موته وهي دار العقيقي تجاه العادلية الكبيرة ليلة الجمعة خامس وجب من هذه السنة وكتم موته فلم يعلم جمهور الناس به حتى إذا كان العشر الاخير من ربيع الاول وجاءت البيعة لولده السعيد من مصر فحزن الناس عليه حزنا شديدا وترحموا عليه ترحما كثيرا وجددت البيعة أيضا بدمشق وجاء تقليد النيابة بالشام مجددا إلى عز الدين أيدمر نائبها
وقد كان الملك الظاهر شهما شجاعا عالي الهمة بعيد الغور مقداما جسورا معتنيا بأمر السلطنة يشفق على الاسلام متحليا بالملك له قصد صالح في نصرة الاسلام واهله وإقامة شعار الملك واستمرت أيامه من يوم الاحد سابع عشر ذي القعدة سنة ثمان وخمسين إلى هذا الحين ففتح في هذه المدة فتوحات كثيرة قيسارية وأرسون ويافا والشقيف وإنطاكية وبعراض وطبرية والقصير وحصن الأكراد وحصن عكا والغرين وصافينا وغير ذلك من الحصون المنيعة التي كانت بأيدي الفرنج ولم يدع مع الاسماعيلية شيئا من الحصون وناصف الفرنج على المرقب وبانياس وبلاد انطرسوس وسائر ما بقي بأيديهم من البلاد والحصون وولى في نصيبه مما ناصفهم عليه النواب والعمال وفتح قيسارية من بلاد الروم وأوقع بالروم والمغول على البلستين بأسا لم يسمع بمثله من دهور متطاولة واستعاد من صاحب سيس بلادا كثيرة وجاس خلال ديارهم وحصونهم واسترد من أيدي المتغلبين من المسلمين بعلبك وبصرى وصرخد وحمص وعجلون والصلت وتدمر والرحبة وتل باشر وغيرها والكرك والشوبك وفتح بلاد النوبة بكمالها من بلاد السودان وانتزع بلادا من التتار كثيرة منها شيرزور والبيرة واتسعت مملكته من الفرات إلى أقصى بلاد النوبة وعمر شيئا كثيرا من الحصون والمعاقل والجسور على الانهار الكبار وبنى دار الذهب بقلعة الجبل وبنى قبة على اثني عشر عمودا ملونة مذهبة وصور فيها صور خاصكيته وأشكالهم وحفر أنهارا كثيرةوخلجانات ببلاد مصر منها نهر السرداس وبنى جوامع كثيرة ومساجد عديدة وجدد بناء مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم حين احترق ووضع الدرابزينات حول الحجرة الشريفة وعمل فيه منبرا وسقفه بالذهب وجدد المارستان بالمدينة وجدد قبر الخليل عليه السلام وزاد في زاويته وما يصرف إلى المقيمين وبنى على المكان المنسوب إلى قبر موسى عليه السلام قبة قبلي أريحا وجدد بالقدس أشياء حسنة من ذلك قبة السلسلة ورمم سقف الصخرة وغيرها وبنى بالقدس خانا هائلا بما ملا ونقل إليه باب قصر الخلفاء الفاطميين من مصر وعمل فيه طاحونا وفرنا (13/275)
وبستانا وجعل للواردين إليه أشياء تصرف إليهم في نفقة امتعتهم رحمه الله وبنى على قبر أبي عبيدة بالقرب من عمتنا مشهدا ووقف عليه أشياء للواردين إليه وعمر جسر دامية وجدد قبر جعفر الطيار بناحية الكرك ووقف على الزائرين له شيئا كثيرا وجدد قلعة صفت وجامعها وجدد جامع الرملة وغيرها في كثير من البلاد التي كانت الفرنج قد أخذتها وخربت جوامعها ومساجدها وبنى بحلب دارا هائلة وبدمشق القصر الابلق والمدرسة الظاهرية وغيرها وضرب الدراهم والدنانير الجيدة الخالصة على النصح والمعاملة الجيدة الجارية بين الناس فC
وله من الاثار الحسنة والأماكن مالم يبن في زمن الخلفاء وملوك بني أيوب مع اشتغاله في الجهاد في سبيل الله واستخدم من الجيوش شيئا كثيرا ورد إليه نحوا من ثلاثة آلاف من المغول فأقطعهم وأمر كثيرا منهم وكان مقتصدا في ملبسه ومطعمه وكذلك جيشه وهو الذي انشأ الدولة العباسية بعد دثورها وبقي الناس بلا خليفة نحوا من ثلاث سنين وهو الذي أقام من كل مذهب قاضيا مستقلا قاضي قضاة وكان رحمه الله متيقظا شهما شجاعا لا يفتر عن الاعداء ليلا ولا نهارا بل هو مناجز لأعداء الاسلام وأهله ولم شعثه واجتماع شمله وبالجملة أقامه الله في هذا الوقت المتأخر عونا ونصرا للإسلام وأهله وشجا في حلوق المارقين من الفرنج والتتار والمشركين وأبطل الخمور ونفى الفساق من البلاد وكان لا يرى شيئا من الفساد والمفاسد إلا سعى في إزالته بجهده وطاقته وقد ذكرنا في سيرته ما ارشد إلى حسن طويته وسريرته وقد جمع له كاتبه ابن عبد الظاهر سيرة مطولة وكذلك ابن شداد أيضا وقد ترك من الاولاد عشرة ثلاثة ذكور وسبعة إناث ومات وعمره ما بين الخمسين إلى الستين وله أوقاف وصلات وصدقات تقبل الله منه الحسنات وتجاوز له عن السيئات والله سبحانه أعلم
وقام في الملك بعده ولده السعيد بمبايعة أبيه له في حال حياته وكان عمر السعيد يومئذ دون العشرين سنة وهو من أحسن الاشكال وأتم الرجال وفي صفر وصلت الهدايا من الفنس مع رسله إلى الديار المصرية فوجدوا السلطان قد مات وقد أقيم الملك السعيد ولده مكانه والدولة لم تتغير والمعرفة بعده ما تنكرت ولكن البلاد قد فقدت أسدها بل أسدها وأشدها بل الذي بلغ أشدها وإذا انفتحت ثغرة من سور الاسلام سدها وكلما انحلت عقدة من عرى العزائم شدها وكلما رامت فرقة مارقة من طوائف الطغام أن تلج إلى حومة الاسلام صدها وردها فسامحه الله وبل بالرحمة ثراه وجعل الجنة متقلبه ومثواه
وكانت العساكر الشامية قد سارت إلى الديار المصرية ومعهم محفة يظهرون أن السلطان بها مريض حتى وصلوا إلى القاهرة فجددوا البيعة للسعيد بعد ما أظهروا موت الملك السديد الذي هو (13/276)
إن شاء الله شهيد وفي يوم الجمعة السابع والعشرين من صفر خطب في جميع الجوامع بالديار المصرية للملك السعيد وصلى على والده الملك الظاهر واستهلت عيناه بالدموع وفي منتصف ربيع الاول ركب الملك السعيد بالعصائب على عادته وبين يديه الجيش بكماله المصري والشامي حتى وصل إلى الجبل الأحمر وفرح الناس به فرحا شديدا وعمره يومئذ تسع عشرة سنة وعليه أبهة الملك ورياسة السلطنة وفي يوم الاثنين رابع جمادي الاولى فتحت مدرسة الأمير شمس الدين آقسنقر الفارقاني بالقاهرة بحارة الوزيرية على مذهب أبي حنيفة وعمل فيها مشيخة حديث وقارئ وبعده بيوم عقد عقد ابن الخليفة المستمسك بالله ابن الحاكم بامر الله على ابنة الخليفة المستنصر ابن الظاهر وحضر والده والسلطان ووجوه الناس وفي يوم السبت تاسع جمادي الاولى شرع في بناء الدار التي تعرف بدار العقبقي تجاه العادلية لتجعل مدرسة وتربة للملك الظاهر ولم تكن قبل ذلك إلا دارا للعقبقي وهي المجاورة لحمام العقبقي وأسس أساس التربة في خامس جمادي الاخرة وأسست المدرسة أيضا
وفي رمضان طلعت سحابة عظيمة بمدينة صفت لمع منها برق شديد وسطع منها لسان نار وسمع منها صوت شديد هائل ووقع منها على منارة صفت صاعقة شقتها من أعلاها إلى أسفلها شقا يدخل الكف فيه
وممن توفي فيها من الاعيان البرواناه في العشر الاول من المحرم والملك الظاهر في العشر الاخير منه وقد تقدم شيء من ترجمتهما
الأمير الكبير بدر الدين بيلبك بن عبد الله
الخزندار نائب الديار المصرية للملك الظاهر كان جوادا ممدحا له إلمام ومعرفة بأيام الناس والتواريخ وقد وقف درسا بالجامع الأزهر على الشافعية ويقال إنه سم فمات فلما مات انتقض بعده حبل الملك السعيد واضطربت أموره
قاضي القضاة شمس الدين الحنبلي
محمد ابن الشيخ العماد أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي أول من ولى قضاء قضاة الحنابلة بالديار المصرية سمع الحديث خصوصا علي ابن طبرزد وغيره ورحل إلى بغداد واشتغل بالفقه وتفنن في علوم كثيرة وولى مشيخة سعيد السعداء وكان شيخا مهيبا حسن الشيبة كثير التواضع والبر والصدقة وقد اشترط في قبول الولاية أن لا يكون له عليها جامكية ليقوم في الناس بالحق في حكمه وقد عزله الظاهر عن القضاء سنة سبعين واعتقله بسبب الودائع التي كانت عنده ثم أطلقه بعد سنتين فلزم منزله واستقر بتدريس الصالحية إلى أن توفي في أواخر المحرم ودفن عند عم الحافظ عبد الغني بسفح جبل المقطم وقد أجاز للبرزالي (13/277)
قال الحافظ البرزالي وفي يوم السبت ثاني عشر ربيع الاول ورد الخبر بموت ستة أمراء من الديار المصرية سنقر البغدادي وبسطا البلدي التتري وبدر الدين الوزيري وسنقر الرومي وآق سنقر الفارقاني رحمهم الله
الشيخ خضر الكردي شيخ الملك الظاهر
خضر بن أبي بكر بن موسى الكردي النهرواني العدوى ويقال إن أصله من قريبة المحمدية من جزيرة ابن عمر كان ينسب إليه أحوال ومكاشفات ولكنه لما خالط الناس افتتن ببعض بنات الأمراء وكان يقول عن الملك الظاهر وهو أمير إنه سيلي الملك فلهذا كان الملك الظاهر يعتقده ويبالغ في إكرامه بعد أن ولى المملكة ويعظمه تعظيما زائدا وينزل عنده إلى زاويته في الاسبوع مرة أو مرتين ويستصحبه معه في كثير من اسفاره ويلزمه ويحترمه ويستشيره فيشير عليه برأيه ومكاشفات صحيحة مطابقة إما رحمانية أو شيطانية أو حال أو سعادة لكنه افتتن لما خالط الناس ببعض بنات الأمراء وكن لا يحتجبن منه فوقع في الفتنة وهذا في الغالب واقع في مخالطة الناس فلا يسلم المخالط لهم من الفتنة ولا سيما مخالطة النساء مع ترك الأصحاب فلا يسلم العبد ألبتة منهمن فلما وقع ما وقع فيه حوقق عند السلطان وتيسرى وقلاوون والفارس إقطاي الاتابك فاعترف فهم بقتله فقال له إنما بيني وبينك أيام قلائل فأمر بسجنه فسجن سنين عديدة من سنة إحدى وسبعين إلى سنة ست وسبعين وقد هدم بالقدس كنيسة وذبح قسيسها وعملها زاوية وقد قدمنا ترجمته قبل ذلك فيما تقدم ثم لم يزل مسجونا حتى مات في يوم الخميس سادس المحرم من هذه السنة فأخرج من القلعة وسلم إلى قرابته فدفن في تربة أنشأها في زاويته مات وهو في عشر الستين وقد كان يكاشف السلطان في اشياء وإليه تنسب قبة الشيخ خضر التي على الجبل غربي الربوة وله زاوية بالقدس الشريف ( 1 )
الشيخ محيي الدين النووي
يحيى بن شرف بن حسن بن حسين بن جمعة بن حزام الحازمي العالم محيي الدين أبو زكريا النووي ثم الدمشقي الشافعي العلامة شيخ المذهب وكبير الفقهاء في زمانه ولد بنوى سنة إحدى وثلاثين وستمائة ونوى قرية من قرى حوران وقد قدم دمشق سنة تسع وأربعين وقد حفظ القرآن فشرع في قراءة التنبيه فيقال إنه قرأه في أربعة أشهر ونصف وقرأ ربع العبادات من المذهب في بقية السنة ثم لزم المشايخ تصحيحا وشرحا فكان يقرأ في كل يوم اثنا عشر درسا على المشايخ ثم اعتنى بالتصنيف فجمع شيئا كثيرا منها ما أكمله ومنها ما لم يكمله فما كمل شرح مسلم والروضة والمنهاج (13/278)
والرياض والأذكار والتبيان وتحرير التنبيه وتصحيحه وتهذيب الاسماء واللغات وطبقات الفقهاء وغير ذلك ومما لم يتممه ولو كمل لم يكن له نظير في بابه شرح المهذب الذي سماه المجموع وصل فيه إلى كتاب الربا فأبدع فيه وأجاد وأفاد وأحسن الانتقاد وحرر الفقه فيه في المذهب وغيره وحرر الحديث على ما ينبغي والغريب واللغة وأشياء مهمة لا توجد إلا فيه وقد جعله نخبة على ما عن له ولا أعرف في كتب الفقه أحسن منه على أنه محتاج إلى أشياء كثيرة تزاد فيه وتضاف إليه وقد كان من الزهادة والعبادة والورع والتحري والانجماح عن الناس على جانب كبير لا يقدر عليه أحد من الفقهاء غيره وكان يصوم الدهر ولا يجمع بين إدامين وكان غالب قوته مما يحمله إليه أبوه من نوى وقد باشر تدريس الاقبالية نيابة عن ابن خلكان وكذلك ناب في الفلكية والركنية وولى مشيخة دار الحديث الاشرفية وكان لا يضيع شيئا من أوقاته وحج في مدة إقامته بدمشق وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر للملوك وغيرهم توفي في ليلة أربع وعشرين من رجب من هذه السنة بنوى ودفن هناك رحمه الله وعفا عنا وعنه
علي بن علي بن اسفنديار
نجم الدين الواعظ بجامع دمشق أيام السبوت في الاشهر الثلاثة وكان شيخ الخانقاه المجاهدية وبها توفي في هذه السنة كان فاضلا بارعا وكان جده يكتب الانشاء للخليفة الناصر وأصلهم من بوشنج ومن شعر نجم الدين هذا قوله ... إذا زار بالجثمان غيري فانني ... أزور مع الساعات ربعك بالقلب ... وما كل ناء عن ديار نازح ... ولا كل دان في الحقيقة ذو قرب ... ثم دخلت سنة سبع وسبعين وستمائة
كان أولها يوم الاربعاء وكان الخليفة الحاكم بأمر الله العباسي وسلطان البلاد شاما ومصرا وحلبا الملك السعيد وفي أوائل المحرم اشتهر بدمشق ولاية ابن خلكان قضاء دمشق عوداعلى بدء في أواخر ذي الحجة بعدعزل سبع سنين فامتنع القاضي عز الدين بن الصائغ من الحكم في سادس المحرم وخرج الناس لتلقي ابن خلكان فمنهم من وصل إلى الرملة وكان دخوله في يوم الخميس الثالث والعشرين من المحرم فخرج نائب السلطنة عز الدين أيدمر بجميع الأمراء والمواكب لتلقيه وفرح الناس بذلك مدحه الشعراء وأنشد الفقيه شمس الدين محمد بن جعفر ... لما تولى قضاء الشام حاكمه ... قاضي القضاة أبو العباس ذو الكرم ... من بعد سبع شداد قال خادمه ... ذا العام في يغاث الناس بالنعم ...
وقال سعد الله بن مروان الفارقي (13/279)
اذقت الشام سبع سنين جدبا ... غداة هجرته هجرا جميلا ... فلما زرت من أرض مصر ... مددت عليه من كفيك نيلا ...
وقال آخر ... رأيت أهل الشام طرا ... ما فيهم قط غير راض ... نالهم الخير بعد شر ... فالوقت بسط بلا انقباض ... وعوضوا فرحة بحزن ... قد أنصف الدهر في التقاضي ... وسرهم بعد طول غم ... دور قاضي وعزل قاضي ... وكلهم شاكر وشاك ... بحال مستقبل وماض ...
قال اليونيني وفي يوم الاربعاء ثالث عشر صفر ذكر الدرس بالظاهرية وحضر نائب السلطنة أيدمر الظاهري وكان درسا حافلا حضره القضاة وكان مدرس الشافعية الشيخ رشيد الدين محمود ابن الفارقي ومدرس الحنفية الشيخ صدر الدين سليمان الحنفي ولم يكن بناء المدرسة كمل وفي جمادي الاولى باشر قضاء الحنفية صدر الدين سليمان المذكور عوضا عن مجد الدين ابن العديم بحكم وفاته ثم توفي صدر الدين سليمان المذكور في رمضان وتولى بعده القضاءحسام الدين أبو الفضائل الحسن بن أنوشروان الرازي الحنفي الذي كان قاضيا بملطية قبل ذلك وفي العشر الاول من ذي القعدة فتحت المدرسة النجيبية وحضر تدريسها ابن خلكان بنفسه ثم نزل عنها لولده كمال الدين موسى وفتحت الخانقاه النجيبية وقد كانتا وأوقافهما تحت الحيطة إلى الآن
وفي يوم الثلاثاء خامس ذي الحجة دخل السلطان السعيد إلى دمشق وقد زينت له وعملت له قباب ظاهرة وخرج أهل البلد لتلقيه وفرحوا به فرحا عظيما لمحبتهم والده وصلى عيد النحر بالميدا وعمل العيد بالقلعة المنصورة واستوزر بدمشق الصاحب فتح الدين عبد الله بن القيساراني وبالديار المصرية بعد موت بهاء الدين بن الحنا الصاحب برهان الدين بن الحضر بن الحسن السنجاري وفي العشر الاخير من ذي الحجة جهز السلطان العساكر إلى بلاد سيس صحبة الآمير سيف الدين قلاوون الصالحي وأقام السلطان بدمشق في طائفة يسيرة من الأمراء والخاصكية والخواص وجعل يكثر التردد إلى الزنبقية وفي يوم الثلاثاء السادس والعشرين من ذي الحجة جلس السلطان بدار العدل داخل باب النصر وأسقط ما كان حدده والده على بساتين أهل دمشق فتضاعفت له منهم الادعية وأحبوه لذلك حبا شديدا فإنه كان قد أجحف بكثير من أصحاب الأملاك وود كثير منهم لو تخلص من ملكه جملة سبب ما عليه وفيها طلب من أهل دمشق خمسين ألف دينار ضربت أجرة على أملاكهم مدة شهرين وجبيت منهم على القهر والعسف (13/280)
وممن توفي فيها من الاعيان
آقوش بن عبد الله الامير الكبير جمال الدين النجيبي أبو سعيد الصالحي أعتقه الملك نجم الدين أيوب الكامل وجعله من أكابر الأمراء وولاه أستاذ داريته وكان يثق إليه ويعتمد عليه وكان مولده في سنة تسع أو عشر وستمائة وولاه الملك الظاهر أيضا استاذ داريته ثم استنابه بالشام تسع سنين فاتخذ فيها المدرسة النجيبية ووقف عليها أوقافا دارة واسعة لكن لم يقرر للمستحقين قدرا يناسب ما وقفه عليهم ثم عزله السلطان واستدعاه لمصر فأقام بها مدة بطالا ثم مرض بالفالج اربع سنين وقد عاده في بعضها الملك الظاهر ولم يزل به حتى كانت وفاته ليلة الجمعة خامس شهر ربيع الاخر بالقاهرة بداره بدرب الملوخية ودفن يوم الجمعة قبل الصلاة بتربته التي أنشأها بالقرافة الصغرى وقد كان بنى لنفسه تربة بالنجيبية وفتح لها شباكين إلى الطريق فلم يقدر دفنه بها وكان كثير الصدقة محبا للعلماء محسنا إليهم حسن الاعتقاد شافعي المذهب متغاليا في السنة ومحبة الصحابة وبغض الروافض ومن جملة أوقافه الحسان البستان والأراضي التي أوقفها على الجسورة التي قبلي جامع كريم الدين اليوم وعلى ذلك أوقاف كثيرة وجعل النظر في أوقافه لابن خلكان
ايدكين بن عبد الله
الامير الكبير علاء الدين الشهابي واقف الخانقاه الشهابية داخل باب الفرج كان من كبار الأمراء بدمشق وقد ولاه الظاهر بحلب مدة وكان من خيار الأمراء وشجعانهم وله حسن ظن بالفقراء والاحسان إليهم ودفن بتربة الشيخ عمار الرومي بسفح قاسيون في خامس عشر ربيع الاول وهو في عشر الخمسين وخانقاه داخل باب الفرج وكان لها شباك إلى الطريق والشهابي نسبة إلى الطواشي شهاب الدين رشيد الكبير الصالحي
قاضي القضاة صدر الدين سليمان بن أبي العز
ابن وهيب أبو الربيع الحنفي شيخ الحنفية في زمانه وعالمهم شرقا وغربا أقام بدمشق مدة يفتى ويدرس ثم انتقل إلى الديار المصرية يدرس بالصالحية ثم عاد إلى دمشق فدرس بالظاهرية وولى القضاء بعد مجد الدين بن العديم ثلاثة أشهر ثم كانت وفاته ليلة الجمعة سادس شعبان ودفن في الغد بعد الصلاة بداره بسفح قاسيون وله ثلاث وثمانون سنة ومن لطيف شعره في مملوك تزوج جارية للملك المعظم ... يا صاحبي قفالي وانظرا عجبا ... اتى به الدهر فينا من عجائبه ... البدر أصبح فوق الشمس منزلة ... وما العلو عليها من مراتبه (13/281)
اضحى يماثلها حسنا وشاركها ... كفوا وسار إليها في مواكبه ... فأشكل الفرق لولا وشى نمنمة ... بصدغه واخضرار فوق شاربه ... طه بن إبراهيم بن أبي بكر كمال الدين الهمداني
الاربلي الشافعي كان أديبا فاضلا شاعرا له قدرة في تصنيف روبيت وقد اقام بالقاهرة حتى توفي في جمادى الاولى من هذه السنة وقد اجتمع مرة بالملك الصالح أيوب فجعل يتكلم في علم النجوم فأنشده على البديهة هذين البيتين ... دع النجوم لطرقي يعيش بها ... وبالعزيمة فانهض أيها الملك ... إن النبي وأصحاب النبي نهوا ... عن النجوم وقد أبصرت ما ملكوا ...
وكتب إلى صاحب له اسمه شمس الدين يستزيره بعد رمد أصابه فبرا منه
... يقول لي الكحال عينك قد هدت ... فلا تشغلن قلبا وطب بها نفسا ... ولي مدة يا شمس لم أركم بها ... وآية برء العين أن تبصر الشمسا ... عبد الرحمن بن عبد الله ابن محمد بن الحسن بن عبد الله بن الحسن بن عفان جمال الدين ابن الشيخ نجم الدين البادرائي البغدادي ثم الدمشقي درس بمدرسة أبيه من بعده حتى حين وفاته يوم الاربعاء سادس رجب ودفن بسفح قاسيون وكان رئيسا حسن الأخلاق جاوز خمسين سنة
قاضي القضاة مجد الدين عبد الرحمن بن جمال الدين
عمر بن أحمد بن العديم الحلبي ثم الدمشقي الحنفي ولي قضاء الحنفية بعد ابن عطاء بدمشق وكان رئيسا ابن رئيس له إحسان وكرم أخلاق وقد ولى الخطابة بجامع القاهرة الكبير وهو أول حنفي وليه توفي بجوسقه بدمشق في ربيع الآخر من هذه السنة ودفن بالتربة التي أنشأها عند زاوية الحريري على الشرف القبلي غربي الزيتون
الوزير ابن الحنا
علي بن محمد بن سليم بن عبد الله الصاحب بهاء الدين أبو الحسن بن الحنا الوزير المصري وزير الملك الظاهر وولده السعيد إلى أن توفي في سلخ ذي القعدة وهو جد جد وكان ذا رأي وعزم وتدبير ذا تمكن في الدولة الظاهرية لا تمضي الأمور إلا عن رأيه وأمره وله مكارم على الأمراء وغيرهم وقد امتدحه الشعراء وكان ابنه تاج الدين وزير الصحبة وقد صودر في الدولة السعيدية
الشيخ محمد ابن الظهير اللغوي
محمد بن أحمد بن عمر بن أحمد بن أبي شاكر مجد الدين أبو عبد الله الاربلي الحنفي المعروف بابن (13/282)
الظهير ولد بار بل سنة ثنتين وستمائة ثم أقام بدمشق ودرس بالقايمازية وأقام بها حتى توفي بها ليلة الجمعة ثاني عشر ربيع الآخر ودفن بمقابر الصوفية وكان بارعا في النحو واللغة وكانت له يد طولى في النظم وله ديوان مشهور وشعر رائق فمن شعره قوله ... كل حي إلى الممات مآبه ... ومدى عمره سريع ذهابه ... يخرب الدار وهي دار بقاء ... ثم يبني ما عما قريب خرابه ... عجبا وهو في التراب غريق ... كيف يلهيه طيبة وعلابة ... كل يوم يزيد نقصا وإن عم ... ر حلت اوصاله أوصابه ... والورى في مراحل الدهر ركب ... دائم السير لا يرجى إيابه ... فتزود إن التقى خير زاد ... ونصيب اللبيب منه لبابة ... وأخو العقل من يقضي بصدق ... شيبته في صلاحه وشبابه ... وأخو الجهل يستلذ هوى النف ... س فيغدو شهدا لديه مصابة ...
وهي طويلة جدا قريبة من مائة وخمسين بيتا وقد أورد الشيخ قطب الدين شيئا كثيرا من شعره الحسن الفائق الرائق
ابن إسرائيل الحريري
محمد بن سوار بن إسرائيل بن الخضر بن إسرائيل بن الحسن بن علي بن محمد بن الحسين نجم الدين أبو المعالي الشيباني الدمشقي ولد في يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الاول سنة ثلاث وستمائة وصحب الشيخ علي بن أبي الحسن بن منصور اليسرى الحريري في سنة ثمان عشرة وكان قد لبس الخرقة قبله من الشيخ شهاب الدين السهروردي وزعم أنه أجلسه في ثلاث خلوات وكان ابن إسرائيل يزعم أن أهله قدموا الشام مع خالد بن الوليد فاستوطنوا دمشق وكان أديبا فاضلا في صناعة الشعر بارعا في النظم ولكن في كلامه ونظمه ما يشير به إلى نوع الحلول والاتحاد على طريقة ابن عربي وابن الفارض وشيخه الحريري والله أعلم بحاله وحقيقة أمره توفي بدمشق ليلة الأحد الرابع عشر من ربيع الآخر هذه السنة عن أربع وسبعين سنة ودفن بتربة الشيخ رسلان معه داخل القبة وكان الشيخ رسلان شيخ الشيخ علي المغربل الذي تخرج على يديه الشيخ على الحريري شيخ ابن إسرائيل فمن شعره قوله ... لقد عادني من لا عج الشوق عائد ... فهل عهد ذات الخال بالسفح عائد ... وهل نارها بالأجرع الفرد تعتلي ... لمنفرد شاب الدجى وهو شاهد ... نديمي من سعدي أديرا حديثها ... فذكرى هواها والمدامة واحد ... منعمة الأطراف رقت محاسنا ... حلى لي في حبها ما أكابد (13/283)
فللبدر ما لاثت عليه خمارها ... وللشمس ما جالت عليه القلائد ... وله ... أيها المعتاض بالنوم السهر ... ذاهلا يسبح في بحر الفكر ... سلم الأمر إلى مالكه ... واصطبر فالصبر عقباه الظفر ... لا تكونن آيسا من فرج ... إنما الأيام تأتي بالعبر ... كدر يحدث في وقت الصفا ... وصفي يحدث في وقت الكدر ... وإذا ما ساء دهر مرة ... سر أهليه ومهما ساء سر ... فارض عن ربك في أقداره ... إنما أنت أسير للقدر ...
وله قصيدة في مدح النبي
ص طويلة حسنة سمعها الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني وأصحابه علي الشيخ أحمد الاعفف عنه وأورد له الشيخ قطب الدين اليونيني أشعارا كثيرة فمنها قصيدته الدالية المطولة التي أولها ... وافي لي من أهواه جهرا لموعدي ... وارغم عذالي عليه وحسدي ... وزار علي شط المزار مطولا ... على مغرم بالوصل لم يتعود ... فيا حسن ما أهدى لعيني جماله ... ويا بردما أهدى إلى قلبي الصدى ... ويا صدق أحلامي ببشرى وصاله ... ويانيل آمالي ويا نجح مقصدي ... تجلى وجودي إذ تجلى لباطني ... بجد سعيد أو بسعد مجدد ... لقد حق لي عشق الوجود وأهله ... وقد علقت كفاي جمعا بموجدي ...
ثم تغزل فأطال إلى أن قال
... فلما تجلى لي على كل شاهد ... سامرني بالرمز في كل مشهد ... تجنبت تقييد الجمال ترفعا ... وطالعت أسرار الجمال المبدد ... وصار سماعي مطلقا منه بدؤه ... وحاشى لمثلي من سماع مقيد ... ففي كل مشهود لقلبي شاهد ... وفي كل مسموع له لحن معبد ...
ثم قال
وصل في مشاهد الجمال
... أراه بأوصاف الجمال جميعها ... بغير اعتقاد للحلو المبعد ... ففي كل هيفاء المعاطف غادة ... وفي كل مصقول السوالف أغيد ... وفي كل بدر لاح في ليل شعره ... على كل غصن مائس العطف أملد ... وعنه اعتناقي كل قد مهفهف ... ورشفي رضابا كالرحيق المبرد ... وفي الدر والياقوت والطيب والحلا ... على كل ساجي الطرف لدن المقلد (13/284)
وفي حلل الاثواب راقت لناظري ... بزبرجها من مذهب ومورد ... وفي الراح والريحان والسمع والعنا ... وفي سجع ترجيع الحمام المغرد ... وفي الدوح والأنهار والزهر والندى ... وفي كل بستان وقصر مشيد ... وفي الروضة الفيحاء تحت سمائها ... يضاحك نور الشمس نوارها الندى ... وفي صفو رقراق الغدير إذا حكى ... وقد جعدته الريح صفحة مبرد ... وفي اللهو الأفراح والغفلة التي ... تمكن أهل الفرق من كل مقصد ... وعند إنتشار الشرب في كل مجلس ... يهيج بأنواع الثمار المنضد ... وعند اجتماع الناس في كل جمعة ... وعيد وإظهار الرياش المجدد ... وفي لمعان المشرفيات بالوغي ... وفي ميل أعطاف القنا المتأود ...
المظاهر العلوية
... وفي الاعوجيات العتاق إذا انبرت ... تسابق وفد الريح في كل مطرد ... وفي الشمس تحكي وهي في برج نورها ... لدى الافق الشرقي مرآة عسجد ... وفي البدر بدر الأفق ليلة تمه ... جلته سماء مثل صرح ممرد ... وفي أنجم زانت دجاها كأنها ... نثار لآل في بساط زبرجد ... وفي الغيث روى الأرض بعد همودها ... قبال نداء متهم بعد منجد ... وفي البرق يبدو موهنا في سحابه ... كباسم ثغر أو حسام مجرد ... وفي حسن تنميق الخطاب وسرعة الج ... واب وفي الخط الانيق المجود ... ث
م قال
المظاهر المعنوية
... وفي رقة اشعار راقت لسامع ... بدائعها من مقصر ومقصد ... وفي عود عيد الوصل من بعد جفوة ... وفي أمن أحشاء الطريد المشرد ... وفي رحمة المعشوق شكوى محبة ... وفي رقة الألفاظ عند التودد ... وفي أريحيات الكريم إلى الندى ... وفي عاطفات العفو من كل سيد ... وحالة بسط العارفين وأنسهم ... وتحريكهم عند السماع المقيد ... وفي لطف آيات الكتاب التي بها ... تنسم روح الوعد بعد التوعد ... ث م قال المظاهر الجلالية ... كذلك أوصاف الجلال مظاهر ... أشاهده فيها بغير تردد ... ففي سطوة القاضي الجليل وسمته ... وفي سطوة الملك الشديد الممرد (13/285)
وفي حدة الغضبان حالة طيشه ... وفي نخوة القرم المهيب المسود ... وفي صولة الصهباء جاز مديرها ... وفي بؤس أخلاق النديم المعربد ... وفي الحر والبرد اللذين تقسما الزمان وفي إيلام كل محسد ... وفي سر تسليط النقوس بشرها ... على وتحسين التعدي لمعتدي ... وفي عسر العادات يشعر بالقضا ... وتكحيل عين الشمس منه بأثمد ... وعند اصطدام الخيل في كل موقف ... يعثر فيه بالوشيج المنضد ... وفي شدة الليث الصؤول وبأسه ... وشدة عيش بالسقام منكد ... وفي جفوة المحبوب بعد وصالة ... وفي غدره من بعد وعد مؤكد ... وفي روعة البين المسيء وموقف ال ... وداع لحران الجوانح مكمد ... وفي فرقة الالاف بعد اجتماعهم ... وفي كل تشتيت وشمل مبدد ... وفي كل دار أقفرت بعد أنسها ... وفي طلل بال ودارس معمد ... وفي هول أمواج البحار ووحشة ال ... قفار وسيل بالمزاييب مزبد ... وعند قيامي بالفرائض كلها ... وحالة تسليم لسر التعبد ... وعند خشوعي في الصلاة لعزة ال ... مناجي وفي الاطراق عند التهجد ... وحالة إهلال الحجيج بحجهم ... وأعمالهم للعيش في كل فدفد ... وفي عسر تخليص الحلال وفترة ال ... ملال لقلب الناسك المتعبد ... المظاهر الكمالية ... وفي ذكريات العذاب وظلمة ال ... حجاب وقبض الناسك المتزهد ... ويبدو باوصاف الكمال فلا أرى ... برؤيته شيئا قبيحا ولا ردى ... فكل مسيء لي إلى كمحسن ... وكل مضل لي إلى كمرشد ... فلا فرق عندي بين أنس ووحشة ... ونور وإظلام ومدن ومبعد ... وسيان إفطاري وصومي وفترتي ... وجهدي ونومي وإدعاء تهجدي ... أرى تارة في حانة الخمر خالعا ... عذارى وطورا في حنية مسجد ... تجلى لسرى بالحقيقة مشرب ... فوقتي ممزوج بكشف مسرمد ... تعمرت الاوطان بي وتحققت ... مظاهرها عندي بعيني ومشهدي ... وقلبي على الاشياء أجمع قلب ... وشربي مقسوم على كل مورد ... فهيكل اوثان ودير لراهب ... وبيت لنيران وقبله معبدي (13/286)
ومسرح غرلان وحانة قهوة ... وروضة أزهار ومطلع أسعد ... وأسرار عرفان ومفتاح حكمة ... وأنفاس وجدان وفيض تبلد ... وجيش لضرغام وخدر لكاعب ... وظلمة جيران ونور لمهتدي ... تقابلت الاضداد عندي جميعها ... لمحنة مجهود ومنحة مجتدي ... وأحكمت قرير المراتب صورة ... ومعنى ومن عين التفرد موردي ... فما موطن إلا ولي فيه موقف ... على قدم قامت بحق التفرد ... فلا غرو وإن فت الانام جميعهم ... وقد علقت بحبل من حبال محمد ... عليه صلاة الله تشفع دائما ... بروح تحيات السلام المردد ... ابن العود الرافضي
أبو القاسم الحسين بن العود نجيب الدين الأسدي الحلى شيخ الشيعة وإمامهم وعالمهم في أنفسهم كانت له فضيلة ومشاركة في علوم كثيرة وكان حسن المحاضرة والمعاشرة لطيف النادرة وكان كثير التعبد بالليل وله شعر جيد ولد سنة إحدى وثمانين وخمسمائة وتوفي في رمضان من هذه السنة عن ست وتسعين سنة والله أعلم باحوال عباده وسرائرهم ونياتهم ...
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وستمائة
كان أولها يوم الاحد والخليفة والسلطان هما المذكوران في التي قبلها وقد اتفق في هذه السنة أمور عجيبة وذلك أنه وقع الخلف بين الممالك كلها اختلفت التتار فيما بينهم واقتتلوا فقتل منهم خلق كثير واختلفت الفرنج في السواحل وصال بعضهم على بعض وقتل بعضهم بعضا وكذلك الفرنج الذين في داخل البحور وجزائرها فاختلفوا واقتتلوا وقتلت قبائل الاعراب بعضها في بعض قتالا شديدا وكذلك وقع الخلف بين العشير من الحوارنة وقامت الحرب بينهم على ساق وكذلك وقع الخلف بين الأمراء الظاهرية بسبب ان السلطان الملك السعيد بن الظاهر لما بعث الجيش إلى سيس أقام بعده بدمشق وأخذ في اللهو واللعب والانبساط مع الخاصكية وتمكنوا من الامور وبعد عنه الامراء الكبار فغضبت طائفة منهم ونابذوه وفارقوه واقاموا بطريق العساكر الذين توجهوا إلى سيس وغيرهم فرجعت العساكر إليهم فلما اجتمعوا شعثوا قلوبهم على الملك السعيد ووحشوا خوطر الجيش عليه وقالوا الملك لا ينبغي له أن يلعب ويهلو وإنما همة الملوك في العدل ومصالح المسلمين والذب عن حزتهم كما كان أبوه وصدقوا فيما قالوا فإن لعب الملوك والأمراء وغيرهم دليل على زوال النعم وخراب الملك وفساد الرعية ثم راسله الجيش في إبعاد الخاصكية عنه ودنو ذوي الاحلام والنهي إليه كما كان أبوه فلم يفعل وذلك أنه كان لا يمكنه ذلك لقوة شوكة الخاصكية (13/287)
وكثرتهم فركب الجيش وساروا قاصدين مرج الصفر ولم يمكنهم العبور على دمشق بل أخذوا من شرقها فلما اجتمعوا كلهم بمرج الصفر أرسل السلطان أمه إليهم فتلقوها وقبلوا الأرض بين يديها فأخذت تتألفهم وتصلح الأمور فاجابوها واشترطوا شروطا على ولدها السلطان فلما رجعت إليه لم يلتزم بها ولم تمكنه الخاصكية من ذلك فسارت العساكر إلى الديار المصرية فساق السلطان خلفهم ليتلاقى الأمور قبل تفاقمها وانفراطها فلم يلحقهم وسبقوه إلى القاهرة وقد كان أرسل أولاده واهله وثقله إلى الكرك فحصنهم فيها وركب في طائفة من الجيش الذين بقوا معه والخاصكية إلى الديار المصرية فلما اقترب منها صدوه عنها وقاتلوه فقتل من الفريقين نفر يسير فأخذه بعض الأمراء فشق به الصفوف وأدخله قلعة الجبل ليسكن الأمر فما زادهم ذلك إلا نفورا فحاصروا حينئذ القلعة وقطعوا عنها الماء وجرت خطوب طويلة وأحوال صعبة ثم اتفق الحال بعد ذلك مع الأمير سيف الدين قلاوون الالفي الصالحي وهو المشار إليه حينئذ أن يترك الملك السعيد الملك وتعوض بالكرك والشوبك ويكون في صحبته أخوه نجم الدين خضر وتكون المملكة إلى أخيه الصغير بدر الدين سلامش ويكون الأمير سيف الدين قلاوون أتابكه
خلع الملك السعيد وتولية أخيه الملك العادل سلامش
لما اتفق الحال على ما ذكرنا نزل السلطان الملك السعيد من القعلة إلى دار العدل في سابع عشر الشهر وهو ربيع الاخر وحضر القضاة والدولة من أولى الحل والعقد فخلع السعيد نفسه من السلطنة وأشهدهم على نفسه بذلك وبايعوا أخاه بدر الدين سلامش ولقب بالملك العادل وعمره يومئذ سبع سنين وجعلوا أتابكه الأمير سيف الدين قلاوون الألفي الصالحي وخطب له الخطباء ورسمت السكة باسمهما وجعل لأخيه الكرك ولأخيه خضر الشوبك وكتبت بذلك مكاتيب ووضع القاضاة والمفتيون خطوطهم بذلك وجاءت البريدية إلى الشام بالتحليف لهم على ما حلف عليه المصريون ومسك الامير أيدمر نائب الشام الظاهري واعتقل بالقلعة عند نائبها وكان نائبها إذ ذاك علم الدين سنجر الدواداري وأحيط على أموال نائب الشام وحواصله وجاء على نيابة الشام الأمير شمس الدين سنقر الأشقر في أبهة عظيمة وتحكم مكين فنزل بدار السعادة وعظمه الناس وعاملوه معاملة الملوك وعزل السلطان قضاة مصر الثلاثة الشافعي والحنفي والمالكي وولوا القضاء صدر الدين عمر بن القاضي تاج الدين بن بنت الاعز عوضا عن الشافعي وهو تقي الدين بن رزين وكأنهم إنما عزلوه لأنه توقف في خلع الملك السعيد والله أعلم
بيعة الملك المنصور قلاوون الصالحي
لما كان يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من رجب اجتمع الأمراء بقلعة الجبل من مصر وخلعوا (13/288)
الملك العادل سلامش ابن الظاهر وأخرجوه من البين وإنما كانوا قد بايعوه صورة ليسكن الشر عند خلع الملك السعيد ثم اتفقوا على بيعه الملك المنصور قلاوون الصالحي ولقبوه الملك المنصور وجاءت البيعة إلى دمشق فوافق الأمراء وحلفوا وذكر أن الأمير شمس الدين سنقر الأشقر لم يحلف مع الناس ولم يرض بما وقع وكأنه داخله حسد من المنصور لأنه كان يرى أنه أعظم منه عند الظاهر وخطب للمنصور على المنابر في الديار المصرية والشامية وضربت السكة باسمه وجرت الأمور بمقتضى رأيه فعزل وولى ونفذت مراسيمه في سائر البلاد بذلك فعزل عن الوزارة برهان الدين السنجاري ووولى مكانه فخر الدين ابن لقمان كاتب السر وصاحب ديوان الانشاء بالديار المصرية
وفي يوم الخميس الحادي عشر من ذي القعدة من هذه السنة توفي الملك السعيد ابن الملك الظاهر بالكرك وسيأتي ذكر ترجمته إن شاء الله تعالى فيها حمل الأمير أديمر الذي كان نائب الشام في محفة لمرض لحقه إلى الديار المصرية فدخلها في أواخر ذي القعدة واعتقل بقلعة مصر
سلطنة سنقر الأشقر بدمشق
لما كان يوم الجمعة الرابع والعشرين من ذي القعدة ركب الامير شمس الدين سنقر الاشقر من دار السعادة بعد صلاة العصر وبين يديه جماعة من الامراء والجند مشاة وقصد باب القلعة الذي يلي المدينة فهجم منه ودخل القلعة واستدعى الأمراء فبايعوه على السلطنة ولقب بالملك الكامل وأقام بالقلعة ونادت المنادية بدمشق بذلك فلما أصبح يوم السبت استدعى بالقضاة والعلماء والاعيان ورؤساء البلد إلى مسجد أبي الدرداء بالقلعة وحلفهم وحلف له بقية الأمراء والعسكر وأرسل العساكر إلى غزة لحفظ الأطراف وأخذ الغلات وأرسل الملك المنصور إلى الشوبك فتسلمها نوابه ولم يمانعهم نجم الدين خضر وفيها جددت أربع أضلاع في قبة النسر من الناحية الغربية وفيها عزل فتح الدين بن القيسراني من الوزارة بدمشق ووليها تقي الدين بن توبة التكريتي وممن توفي فيها من الاعيان
عز الدين بن غانم الواعظ
عبد السلام بن أحمد بن غانم بن علي بن إبراهيم بن عساكر بن حسين عز الدين أحمد الانصاري المقدسي الواعظ المطبق المفلق الشاعر الفصيح الذي نسج على منوال ابن الجوزي وأمثاله وقد ارد له قطب الدين أشياء حسنة كثيرة مليحة وكان له قبول عند الناس تكلم مرة تجاه الكعبة المعظمة وكان في الحضرة الشيخ تاج الدين بن الفزاري والشيخ تقي الدين بن دقيق العيد وابن العجيل من اليمن وغيرهم من العلماء والعباد فأجاد وأفاد وخطب فأبلغ واحسن نقل هذا المجلس الشيخ تاج الدين الفزاري وأنه كان في سنة خمس وسبعين (13/289)
الملك السعيد بن الملك الظاهر
بركة خان ناصر الدين محمد بن بركة خان أبو المعالي ابن السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري بايع له أبوه الأمراء في حياته فلما توفي أبوه بويع له بالملك وله تسع عشرة سنة ومشيت له الامور في أول الأمر على السعادة ثم انه غلبت عليه الخاصكية فجعل يعلب معهم في الميدان الاخضر فيما قيل أول هوى فربما جاءت النوبة عليه فينزل لهم فأنكرت الامراء الكبار ذلك وأنفوا أن يكون ملكهم يلعب مع الغلمان ويجعل نفسه كأحدهم فراسلوه في ذلك ليرجع عما هو عليه فلم يقبل فخلعوه كما ذكرنا وولوا السلطان الملك المنصور قلاوون في أواخر رجب كما تقدم ثم كانت وفاته في هذه السنة بالكرك في يوم الجمعة الحادي عشر من ذي القعدة يقال إنه سم فالله أعلم وقد دفن اولا عند قبر جعفر وأصحابه الذين قتلوا بموته ثم نقل إلى دمشق فدفن في تربة أبيه سنة ثمانين وستمائة وتملك الكرك بعده اخوه نجم الدين خضر وتلقب بالملك المسعود فانتزعها المنصور من يده كما سيأتي إن شاء الله تعالى
ثم دخلت سنة تسع وسبعين وستمائة
كان أولها يوم الخميس ثالث ايار والخليفة الحاكم بامر الله وملك مصر الملك المنصور قلاوون الصالحي وبعض بلاد الشام أيضا وأما دمشق وأعمالها فقد ملكها سنقر الأشقر وصاحب الكرك الملك المسعود بن الظاهر وصاحب حماة الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقي الدين محمود والعراق وبلاد الجزيرة وخراسان والموصل وإربل وأذربيجان وبلاد بكر وخلاط وما والاها وغير ذلك من البلاد بأيدي التتار وكذلك بلاد الروم في أيديهم أيضا ولكن فيها غياث الدين بن ركن الدين ولا حكم له سوى الاسم وصاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف بن عمر وصاحب الحرم الشريف نجم الدين بن أبي تمي الحسني وصاحب المدينة عز الدين جماز بن شيحه الحسيني
ففي مستهل السنة المذكورة ركب السلطان الملك الكامل سنقر الاشقر من القلعة إلى الميدان وبين يديه الامراء ومقدموا الحلقة الفاشية وعليهم الخلع والقضاة والاعيان ركاب معه فسير في الميدان ساعة ثم رجع إلى القلعة وجاء إلى خدمته الامير شرف الدين عيسى بن مهنا ملك العرب فقبل الارض بين يديه وجلس إلى جانبه وهو على السماط وقام له الكامل وكذلك جاء إلى خدمته ملك الاعراب بالحجاز وأمر الكامل سنقر أن تضاف البلاد الحلبية إلى ولاية القاضي شمس الدين بن خلكان وولاه تدريس الامينية وانتزعها من ابن سني الدولة
ولما بلغ الملك المنصور بالديار المصرية ما كان من أمر سنقر الاشقر بالشام أرسل إليه جيشا كثيفا فهزموا عسكر سنقر الاشقر الذي كان قد أرسله إلى غزة وساقوهم بين أيديهم حتى وصل جيش (13/290)
المصريين إلى قريب دمشق فأمر الملك الكامل أن يضرب دهليزه بالجسورة وذلك في يوم الاربعاء ثاني عشر صفر ونهض بنفسه وبمن معه فنزل هنالك واستخدم خلقا كثيرا وأنفق أموالا جزيلة وأنضاف إليه عرب الامير شرف الدين عيسى بن مهنا وشهاب الدين أحمد بن حجي وجاءته نجدة حلب ونجدة حماة ورجال كثيرة من رجال بعلبك فلما كان يوم الاحد السادس عشر من صفر أقبل الجيش المصري صحبة الامير علم الدين سنجر الحلبي فلما تراءا الجمعان وتقابل الفريقان وتقاتلوا إلى الرابعة في النهار فقتل نفر كثير وثبت الملك الكامل سنقر الاشقر ثباتا جيدا ولكن خامر عليه الجيش فمنهم من صار إلى المصري ومنهم من انهزم في كل وجه وتفرق عنه أصحابه فلم يسعه إلا الانهزام على طريق المرح في طائفة يسيرة في صحبة عيسى بن مهنا فسار بهم إلى برية الرحبة فأنزلهم في بيوت من شعر وأقام بهم وبدوابهم مدة مقامهم عنده ثم بعث الامراء الذين انهزموا عنه فأخذو لهم أمانا من الامير سنجر وقد نزل في ظاهر دمشق وهي مغلوقة فراسل نائب القلعة ولم يزل به حتى فتح باب الفرج من آخر النهار وفتحت القلعة من داخل البلد فتسلمها للمنصور وأفرج عن الامير ركن الدين بيبرس العجمي المعروف بالحالق والامير لاجين حسام الدين المنصوري وغيرهم من الأمراء الذين كان قد اعتقلهم الامير سنقر الاشقر وأرسل سنجر البريدية إلى الملك المنصور يعلمونه بصورة الحال وأرسل سنجر بثلاثة آلاف في طلب سنقر الاشقر
وفي هذا اليوم جاء ابن خلكان ليسلم على الامير سنجر الحلبي فاعتقله في علو الخانقاه النجيبية وعزله في يوم الخميس العشرين من صفر ورسم للقاضي نجم الدين بن سني الدولة بالقضاء فباشره ثم جاءت البريدية معهم كتاب من الملك المنصور قلاوون بالعتب على طوائف الناس والعفو عنه كلهم فتضاعفت له الادعية وجاء تقليد النيابة بالشام للأمير حسام الدين لاجين السلحداري المنصوري فدخل معه علم الدين سنجر الحلبي فرتبه في دار السعادة وأمر سنجر القاضي ابن خلكان ان يتحول من المدرسة العادلية الكبيرة ليسكنها نجم الدين بن سني الدولة وألح عليه في ذلك فاستدعى جمالا لينقل أهله وثقله عليها إلى الصالحية فجاء البريد بكتاب من السلطان فيه تقرير ابن خلكان على القضاء والعفو عنه وشكره والثناء عليه وذكر خدمته المتقدمة ومعه خلعة سنية له فلبسها وصلى بها الجمعة وسلم على الامراء فأكرموه وعظموه وفرح الناس به وبما وقع من الصفح عنه
وأما سنقر الاشقر فإنه لما خرجت العساكر في طلبه فارق الامير عيسى بن مهنا وساء إلى السواحل فاستحوذ منها على حصون كثيرة منها صهيون وقد كان بها اولاده وحواصله وحصن بلاطس وبرزية وعكا وجبلة واللاذقية والشفر بكاس وشيزر واستناب فيها الامير عز الدين ازدهر الحاج فأرسل السلطان المنصور لحصار شيزر طائفة من الجيش فبينما هم كذلك إذ اقبلت (13/291)
التتار لما سمعوا بتفريق كلمة المسلمين فانجفل الناس من بين أيديهم من سائر البلاد إلى الشام ومن الشام إلى مصر فوصلت التتار إلى حلب فقتلوا خلقا كثيرا ونهبوا جيشا كبيرا وظنوا أن جيش سنقر الاشقر يكون معهم على المنصور فوجدوا الأمر بخلاف ذلك وذلك أن المنصور كتب إلى سنقر الاشقر إن التتار قد اقبلوا إلى المسلمين والمصلحة أن نتفق عليهم لئلا يهلك المسلمون بيننا وبينهم وإذا ملكوا البلاد لم يدعوا منا احدا فكتب إليه سنقر بالسمع والطاعة وبرز من حصنه فخيم بجيشه ليكون على أهبة متى طلب أجاب ونزلت نوابه من حصونهم وبقوا مستعدين لقتال التتار وخرج الملك المنصور من مصر في أواخر جمادى الاخرة ومعه العساكر وفي يوم الجمعة الثالث من جمادى الاخرة قرئ على منبر جامع دمشق كتاب من السلطان أنه قد عهد إلى ولده على ولقب بالملك الصالح فلما فرغ من قراءة الكتاب جاءت البريدية فأخبروا برجوع التتار من حلب إلى بلادهم وذلك لما بلغهم من اتفاق كلمة المسلمين ففرح المسلمون بذلك ولله الحمد وعاد المنصور إلى مصر وكان قد وصل إلى غزة أراد بذلك تخفيف الوطأة عن الشام فوصل إلى مصر في نصف شعبان
وفي جمادي الاخرة أعيد برهان الدين السنجاري إلى وزارة مصر ورجع فخر الدين بن لقمان إلى كتابة الانشاء وفي أواخر رمضان أعيد إلى القضاء ابن رزين وعزل ابن بنت الاعز وأعيد القاضي نفيس الدين بن شكر المالكي ومعين الدين الحنفي وتولي قضاء الحنابلة عز الدين المقدسي وفي ذي الحجة جاء تقليد ابن خلكان بإضافة المعاملة الحلبية إليه يستنيب فيها من شاء من نوابه وفي مستهل ذي الحجة خرج الملك المنصور من بلاد مصر بالعساكر قاصدا الشام واستناب على مصر ولده الملك الصالح علي بن المنصور إلى حين رجوعه قال الشيخ قطب الدين وفي يوم عرفة وقع بمصر برد كبار أتلف شئا كثيرا من المغلات ووقعت صاعقة بالاسكندرية وأخرى في يومها تحت الجبل الاحمر على صخرة فأحرقتها فأخذ ذلك الحديد فسبك فخرج منه اواقي بالرطل المصري وجاء السلطان فنزل بعساكره تجاه عكا فخافت الفرنج منه خوفا شديدا وراسلوه في طلب تحديد الهدنة وجاء الامير عيسى بن مهنا من بلادا لعراق إلى خدمة المنصور وهو بهذه المنزلة فتلقاه السلطان بجيشه وأكرمه واحترمه وعامله بالصفح والعفو والاحسان وممن توفي فيها من الاعيان
الامير الكبير جمال الدين آقوش الشمسي
أحد أمراء الاسلام وهو الذي باشر قتل كتبغانوين أحد مقدمي التتار وهو المطاع فيهم يوم عين جالوت وهو الذي مسك عز الدين أيدمر الظاهري في حلب من السنة الماضية وكانت وفاته بها (13/292)
الشيخ الصالح داود بن حاتم
ابن عمر الحبال كا ن حنبلي المذهب له كرامات وأحوال صالحة ومكاشفات صادقة وأصل آبائه من حران وكانت إقامته ببعلبك وتوفي فيها رحمه الله عن ست وتسعين سنة وقد أثنى عليه الشيخ قطب الدين ابن الشيخ الفقيه اليونيني
الامير الكبير
نور الدين علي بن عمر أبو الحسن الطوري كان من أكابر الامراء وقد نيف على تسعين سنة وكانت وفاته بسبب انه وقع يوم مصاف سنقر الاشقر تحت سنابك الخيل فمكت بعد ذلك متمرضا إلى أن مات بعد شهرين ودفن بسفح قاسيون
الجزار الشاعر
يحيى بن عبد العظيم بن يحيى بن محمد بن علي جمال الدين أبو الحسين المصري الشاعر الماجن المعروف بالجزار مدح الملوك والوزراء والأمراء وكان ماجنا ظريفا حلو المناظرة وله في حدود ستمائة بعدها بسنة أو سنتين وتوفي يوم الثلاثاء ثاني عشر شوال من هذه السنة ومن شعره ... أدركوني فبي من البرد هم ... ليس ينسى وفي حشاي التهاب ... ألبستني الاطماع وهما فها ... جسمي عار ولي فرى وثياب ... كلما ازرق لون جسمي من ال ... برد تخيلت انه سنجاب ...
وقال وقد تزوج أبوه بعجوزة
... تزوج الشيخ أبي شيخة ... ليس لها عقل ولا ذهن ... كأنها في فرشها رمة ... وشعرها من حولها قطن ... وقال لي كم سنها ... قلت ليس في فمنها سن ... لو اسفرت غربها في الدجى ... ما جسرت تبصرها الجن ... ثم دخلت سنة ثمانين وستمائة من الهجرة
استهلت والخليفة الحاكم وسلطان البلاد الملك المنصور قلاوون وفي عاشر المحرم انعقدت الهدنة بين أهل عكا والمرقب والسلطان وكان نازلا على الروحاء وقد قبض على جماعة من الأمراء ممن كان معه وهرب آخرون إلى قلعة صهيون إلى خدمة سنقر الاشقر ودخل المنصور إلى دمشق في التاسع عشر من المحرم فنزل القلعة وقد زينت له البلد وفي التاسع والعشرين من المحرم أعاد القضاء إلى عز الدين بن الصائغ وعزل ابن خلكان وفي أول صفر باشر قضاء الحنابلة نجم الدين ابن لشيخ شمس بن أبي عمر وقد كان المنصب شاغرا منذ عزل والده نفسه عن القضاء وتولى (13/293)
قضاء حلب في هذا اشهر تاج الدين يحيى بن محمد بن إسماعيل الكردي وجلس الملك المنصور في دار العدل في هذا الشهر فحكم وانصف المظلوم من الظالم وقدم عليه صاحب حماة فتلقاه المنصور بنفسه في موكبه ونزل بداره بباب الفراديس وفي ربيع الاول وقوع الصلح بين الملك المنصور قلاوون وبين سنقر الاشقر الملك الكامل على أن يسلم للسلطان شيزر ويعوضه عنها بانطاكية وكفر طاب وشفر بكاس وغير ذلك وعلى أن يقيم على ما بيده ستمائة فارس وتحالفا على ذلك ودقت البشائر لذلك وكذلك تصالح صاحب الكرك والملك المنصور خضر بن الظاهر على تقرير ما بيده ونودي بذلك في البلاد وفي العشر الاول من هذا الشهر ضمن الخمر والزنا بدمشق وجعل عليه ديوان ومشد فقام في إبطال ذلك جماعة من العلماء والصلحاء والعباد فأبطل بعد عشرين يوما واريقت الخمور وأقيمت الحدود ولله الحمد والمنة وفي تاسع عشر ربيع الاول وصلت الخاتون بكرة خان زوجة الملك الظاهر ومعها ولدها السعيد قد نقلته من قرية المساجد بالقرب من الكرك لتدفنه عند أبيه بالتربة الظاهرية فرفع بحبال من السور ودفن عند والده الظاهر ونزلت أمه بدار صاحب حمص وهيئت لها الاقامات وعمل عزاء ولدها يوم الحادي والعشرين من ربيع الاخر بالتربة المذكورة وحضر السلطان المنصور وأرباب الدولة والقراء والوعاظ
وفي أواخر ربيع الاخر عزل التقي بن توبة التكريتي من الوزارة بدمشق وباشرها بعده تاج الدين السهنوري وكتب السلطان المنصور إلى مصر وغيرها من البلاد يستدعي الجيوش لأجل اقتراب مجيء التتار فدخل أحمد بن حجي ومعه بشر كثير من الاعراب وجاء صاحب الكرك الملك المسعود نجدة للسلطان يوم السبت الثاني عشر من جمادى الاخرة وقدم الناس عليه ووفدوا إليه من كل مكان وجاءته التركمان والاعراب وغيرهم وكثرت الاراجيف بدمشق وكثرت العساكر بها وجفل الناس من بلاد حلب وتلك لنواحي وتركوا الغلات والاموال خوفا من أن يدهمهم العدو من التتار ووصلت التتر صحبة منكوتمر بن هولاكو إلى عنتاب وسارت العساكر المنصورة إلى نواحي حلب يتبع بعضها بعضا ونازلت التتار بالرحبة في أواخر جمادى الاخرة جماعة من الاعراب وكان فيهم ملك التتار إبغا مختفيا ينظر ماذا يفعل أصحابه وكيف يقاتلون اعداءه ثم خرج المنصور من دمشق وكان خروجه منها في أواخر جمادى وقنت الخطباء والائمة بالجوامع والمساجد في الصلوات وغيرها وجاء مرسوم من السلطان باستسلام أهل الذمة من الدواوين والكتبة ومن لا يسلم يصلب فأسلموا كرها وكانوا يقولون آمنا وحكم الحاكم باسلامنا بعد أن عرض من امتنع منهم على الصلب بسوق الخيل وجعلت الحبال في أعناقهم فأجابوا والحالة هذه ولما انتهى الملك المنصور إلى حمص (13/294)
إلى الملك الكمل سنقر الاشقر يطلبه إليه نجدة فجاء إلى خدمته فأكرمه السلطان واحترمه ورتب له الاقامات وتكاملت الجيوش كلها في صحبة الملك المنصور عازمين على لقاء العدو لا محالة مخلصين في ذلك واجتمع الناس بعد خروج الملك في جامع دمشق ووضعوا المصحف العثماني بين أيديهم وجعلوا يبتهلون إلى الله تعالى في نصرة الاسلام وأهله على الاعداء وخرجوا كذلك والمصحف على رؤسهم إلى المصلي يدعون ويبتهلون ويبكون وأقبلت التتار قليلا قليلا فلما وصلوا حماة أحرقوا بستان الملك وقصره وما هنالك من المساكن والسلطان المصنور مخيم بحمص في عساكر من الاتراك والتركمان وغيرهم جحفل كثير جدا وأقبلت التتار في مائة ألف مقاتل أو يزيدون فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله
وقعة حمص
لما كان يوم الخميس رابع عشر رجب التقى الجمعان وتواجه الخصمان عند طلوع الشمس وعسكر التتر في مائة ألف فارس وعسكر المسلمين على النصف من ذلك أو يزيد قليلا والجميع فيما بين مشهد خالد بن الوليد إلى الرستن فاقتتلوا قتالا عظيما لم ير مثله من أعصار متطاولة فاستظهر التتار أول النهار وكسروا الميسرة واضطربت الميمنة أيضا وبالله المستعان وكسر جناح القلب الايسر وثبت السلطان ثباتا عظيما جدا في جماعة قليلة وقد انهزم كثير من عسكر المسلمين والتتار في آثارهم حتى وصلوا وراءهم إلى بحيرة حمص ووصلوا حمص وهي مغلقة الابواب فقتلوا خلقا من العامة وغيرهم واشرف المسلمون على خطة عظيمة من الهلاك ثم إن أعيان الامراء من الشجعان والفرسان تآمروا فيما بينهم مثل سنقر الاشقر وبيسرى وطيبرس الوزيري وبدر الدين أمير سلاح وايتمش السعدي وحسام الدين لاجين وحسام الدين طرنطاي والدوايداري وأمثالهم لما رأوا ثبات السلطان ردوا إلى السلطان وحملوا حملات متعددة صادقة ولم يزالوا يتابعون الحملة بعد الحملة حتى كسر الله بحوله وقوته التتر وجرح منكوتمر وجاءهم الامير عيسى بن مهنا من ناحية العرض فصدم التتر فاضربت الجيوش لصدمته وتمت الهزيمة ولله الحمد وقتلوا من التتار مقتلة عظيمة جدا ورجعت من التتار الذين اتبعوا المنهزمين من المسلمين فوجدوا أصحابهم قد كسروا والعساكر في آثارهم يقتلون وياسرون والسلطان ثابت في مكانه تحت السناجق والكوسات تضرب خلفه وما معه إلا ألف فارس فطمعوا فيه فقاتلوه فثبت لهم ثباتا عظيما فانهزموا من بين يديه فلحقهم فقتل أكثرهم وكان ذلك تمام النصر وكان انهزام التتار قبل الغروب وافترقوا فرقتين اخذت فرقة منهم إلى ناحية سلمية والبرية والاخرى إلى ناحية حلب والفرات فأرسل السلطان في آثارهم من يتبعهم وجاءت البطاقة بالبشارة بما وقع من النصر إلى دمشق يوم الجمعة خامس عشر رجب فدقت البشائر وزينت (13/295)
البلد وأوقدت الشموع وفرح الناس فلما أصبح الناس يوم السبت أقبلت طائفة من المنهزمين منهم بيليك الناصري والحالق وغيرهم فأخبروا الناس بما شاهدوه من الهزيمة في أول الامر ولم يكونوا شاهدوا بعد ذلك فبقى الناس في قلق عظيم وخوف شديدوتهيأ ناس كثير للهرب فبينما الناس في ذلك إذ اقبلت البريدية فأخبروا الناس بصورة ما وقع في أول الامر وآخره فتراجع الناس وفرحوا فرحا شديدا ولله الحمد والمنة
ثم دخل السلطان إلى دمشق الثاني والعشرين من رجب وبين يديه الاسارى بأيديهم الرماح عليها شقف رؤس القتلى وكان يوما مشهودا ومع السلطان طائفة من أصحاب سنقر الاشقر منهم علم الدين الدويداري فنزل السلطان بالقلعة مؤيدا منصورا وقد كثرت له المحبة والادعية وكان سنقر الاشقر ودع السلطان من حمص ورجع إلى صهيون وأما التتر فإنهم انهزموا في أسوا حال وأتعسه يتخطفون من كل جانب ويتقلون من كل فج حتى وصلوا إلى الفرات فغرق أكثرهم ونزل إليهم أهل البيرة فقتلوا منهم خلقا كثيرا وأسروا آخرين والجيوش في آثارهم يطردونهم عن البلاد حتى أراح الله منهم الناس
وقد استشهد في هذه الوقعة جماعة من سادات الامراء منهم الامير الكبير الحاج عز الدين ازدمر جمدار وهو الذي جرح ملك التتار يومئذ منكوتمر فإنه خاطر بنفسه وأوهم أنه مقفز إليه وقلب رمحه حتى وصل إليه فطعنه فجرحه فقتلوه رحمه الله ودفن بالقرب من مشهد خالد
وخرج السلطان من دمشق قاصدا الديار المصرية يوم الاحد ثاني شعبان والناس يدعون له وخرج معه علم الدين الدويداري ثم عاد من غزة وقد ولاه المشد في الشام والنظر في المصالح ودخل السلطان إلى مصر في ثاني عشر شعبان وفي سلخ شعبان ولي قضاء مصر والقاهرة للقاضي وجيه الدين البهنسي الشافعي وفي يوم الاحد سابع رمضان فتحت المدرسة الجوهرية بدمشق في حياة منشئها وواقفها الشيخ نجم الدين محمد بن عباس بن أبي المكارم التميمي الجوهري ودرس بها قاضي الحنفية حسام الدين الرازي وفي بكرة يوم السبت التاسع والعشرين من شعبان وقعت مأذنة مدرسة أبي عمر بقاسيون على المسجد العتيق فمات شخص واحد وسلم الله تعالى بقية الجماعة وفي عاشر رمضان وقع بدمشق ثلج عظيم وبرد كثير مع هواء شديد بحيث إنه ارتفع عن الارض نحوا من ذراع وفسدت الخضراوات وتعطل على الناس معايش كثيرة وفي شوال وصل صاحب سنجار إلى دمشق مقفزا من التتار داخلا في طاعة السلطان بأهله وماله فتلقاه نائب البلد وأكرمه وسيره إلى مصر معززا مكرما
وفي شوال عقد مجلس بسبب أهل الذمة من الكتاب الذين كانوا قد أسلموا كرها وقد كتب (13/296)
لهم جماعة من المفتيين بأنهم كانوا مكرهين فلهم الرجوع إلى دينهم وأثبت الاكراه بين يدي القاضي جمال الدين ابن ابي يعقوب المالكي فعاد أكثرهم إلى دينهم وضربت عليهم الجزية كما كانوا سود الله وجوههم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه وقيل إنهم غرموا مالا جزيلا جملة مستكثرة على ذلك قبحهم الله
وفي ذي القعدة قبض السلطان على أيتمش السعدي وسجنه بقلعة الجبل وقبض نائبة بدمشق على سيف الدين بلبان الهاروني وسجنه بقلعتها وفي بكرة الخميس التاسع والعشرين من ذي القعدة وهو العاشر من أذار استسقى الناس بالمصلى بدمشق فسقوا بعد عشرة ايام وفي هذه السنة أخرج الملك المنصور جميع آل الملك الظاهر من النساء والولدان والخدام من الديار المصرية إلى الكرك ليكونوا في كنف الملك المسعود خضر بن الظاهر وممن توفي فيها من الاعيان
أبغا ملك التتار بن هولاكوخان
ابن تولي بن جنكيزخان كان عالي الهمة بعيد الغور له رأي وتدبير وبلغ من العمر خمسين سنة ومدة ملكه ثماني عشرة سنة ولم يكن بعد والده في التدبير والحزم مثله ولم تكن وقعة حمص هذه برأيه ولا عن مشورته ولكن أخوه منكوتمر أحب ذلك فلم يخالفه ورأيت في بعض تاريخ البغاددة أن قدوم منكوتمر إلى الشام إنما كان عن مكاتبة سنقر الاشقر إليه فالله أعلم وقد جاء إبغا هذا بنفسه فنزل قريبا من الفرات ليرى ماذا يكون من الأمر فلما جرى عليهم ما جرى ساءه ذلك ومات غما وحزنا توفي بين العيدين من هذه السنة وقام بالملك بعده ولده السلطان أحمد وفيها توفي
قاضي القضاة
نجم الدين أبو بكر بن قاضي القضاة صدر الدين أحمد بن قاضي القضاة شمس الدين يحيى بن هبة الله ابن الحسن بن يحيى بن محمد بن علي الشافعي ابن سني الدولة ولد سنة ست عشرة وستمائة وسمع الحديث وبرع في المذهب وناب عن أبيه فشكرت سيرته واستقل بالقضاء في الدولة المظفرية فحمد أيضا وكان الشيخ شهاب الدين ينال منه ومن أبيه وقال البرزالي كان شديدا في الاحكام متحريا وقد الزم بالمقام بمصر فدرس بجامع مصر ثم عاد إلى دمشق فدرس بالأمينية والركنية وباشر قضاء حلب وعاد إلى دمشق وولاه سنجر قضاء دمشق ثم عزل بابن خلكان كما تقدم ثم كانت وفاته يوم الثلاثاء من المحرم ودفن من الغد يوم تاسوعاء بتربة جده بقاسيون وفي عاشر المحرم توفي
قاضي القضاة صدر الدين عمر
ابن القاضي تاج الدين عبد الوهاب بن خلف بن أبي القاسم الغلابي ابن بنت الأعز المصري كان فاضلا بارعا عارفا بالمذهب متحريا في الاحكام كأبيه ودفن بالقرافة (13/297)
الشيخ إبراهيم بن سعيد الشاغوري
الموله المعروف بالجيعانة كان مشهورا بدمشق ويذكر له أحوال ومكاشفات على ألسنة العوام ومن لا يعقل ولم يكن ممن يحافظ على الصلوات ولا يصوم مع الناس ومع هذا كان كثير من العوام وغيرهم يعتقدونه توفي يوم الاحد سابع جمادى الاولى ودفن بتربة المولهين بسفح قاسيون عند الشيخ يوسف القيميني وقد توفي الشيخ يوسف قبله بمدة وكان الشيخ يوسف يسكن إقمين حمام نور الدين الشهيد بالبزوريين وكان يجلس على النجاسات والقذر وكان يلبس ثيابا بداوية تجحف على النجاسات في الأزقة وكان له قبول من الناس ومحبة وطاعة وكان العوام يغالون في محبته واعتقاده وكان لا يصلى ولا يتقى نجاسة ومن جاءه زائرا جلس عند باب الاقمين على النجاسة وكان العوام يذكرون له مكاشفات وكرامات وكل ذلك خرافات من خرافات العوام وأهل الهديان كما يعتقدون ذلك في غيره من المجانين والمولهين ولما مات الشيخ يوسف القميني خرج خلق في جنازته من العوام وغيرهم وكانت جنازته حافلة بهم وحمل على أعناق الرجال إلى سفح قاسيون وبين يديه غوغاء وغوش كثير وتهليل وأمور لا تجوز من فعل العوام حتى جاؤا به إلى تربة المولهين بقاسيون فدفنوه بها وقد اعتنى بعض العوام بقبره فعمل عليه حجارة منقوشة وعمل على قبره سقفا مقرنصا بالدهان وأنواعه وعمل عليه مقصورة وأبوابا وغالى فيه مغالاة زائدة ومكث هو وجماعة مجاورون عنده مدة في قراءة وتهليل ويطبخ لهم الطبيخ فيأكلون ويشربون هناك والمقصود أن الشيخ إبراهيم الجيعانة لما مات الشيخ يوسف الاقميني جاء من الشاغور إلى باب الصغير في جماعة من أتباعه وهم في صراخ وضجة وغوش كثير وهم يقولون أذن لنا في دخول البلد أذن لنا في دخول البلد يكررون ذلك فقيل له في ذلك فقال لي عشرون سنة ما دخلت داخل سور دمشق لأني كنت كلما أتيت بابا من ابوابها أجد هذا السبع رابضا بالباب فلا أستطيع الدخول خوفا منه فلما مات اذن لنا في الدخول وهذا كله ترويج على الطغام والعوام من الهمج الرعاع الذين هم اتباع كل ناعق وقيل إن الشيخ يوسف كان يرسل إلى الجيعانة مما يأتيه من الفتوح والله سبحانه أعلم بأحوال العباد وإليه المنقلب والمآب وعليه الحساب
وقد ذكرنا أنه استشهد في وقعة حمص جماعة من الأمراء منهم الامير عز الدين ازدمر السلحداري عن نحو من ستين سنة وكان من خيار الامراء وله همة عالية ينبغي أن ينال بها مكانا في الجنة
قاضي القضاة
تقي الدين أبو عبد الله محمد بن الحسين بن رزين بن موسى العامري الحموي الشافعي ولد سنة ثلاث وستمائة وقد سمع الحديث وانتفع بالشيخ تقي الدين بن الصلاح وأم بدار الحديث مدة (13/298)
ودرس بالشامية وولى وكالة بيت المال بدمشق ثم سار إلى مصر فدرس بها بعدة مدارس وولى الحكم بها وكان مشكورا توفي ليلة الاحد ثالث رجب منها ودفن بالمقطم
وفي يوم السبت السابع الرابع والعشرين من ذي القعدة توفي
الملك الاشرف
مظفر الدين موسى بن الملك الزاهر محيي الدين داود المجاهد بن أسد الدين شيركوه بن الناصر ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شاذي ابن صاحب حمص ودفن بتربتهم بقاسيون وفي ذي القعدة توفي
الشيخ جال الدين الاسكندري
الحاسب بدمشق وكان له مكتب تحت منارة كيروز وقد انتفع به خلق كثير وكان شيخ الحساب في وقته رحمه الله
الشيخ جمال الدين الاسكندري
الحاسب بدمشق وكان له مكتب تحت منارة كيروز وقد انتفع به خلق كثير وكان شيخ الحساب في وقته رحمه الله
الشيخ علم الدين أبو الحسن محمد بن الامام أبي علي الحسين بن عيسى بن عبد الله بن رشيق الربعي المالكي المصري وفن بالقرافة وكانت له جنازة حافلة وقد كان فقيها مفتيا سمع الحديث وبلغ خمسا وثمانين سنة وفي يوم الاثنين الخامس والعشرين من ذي الحجة توفي
الصدر الكبير أبو الغنائم المسلم
محمد بن المسلم مكي بن خلف بن غيلان القيسي الدمشقي مولده سنة اربع وتسعين وكان من الرؤساء الكبار وأهل البيوتات وقد ولى نظر الدواوين بدمشق وغير ذلك ثم ترك ذلك كله وأقبل على العبادة وكتابة الحديث وكان يكتب سريعا يكتب في اليوم الواحد ثلاث كراريس وقد أسمع مسند الامام أحمد ثلاث مرات وحدث بصحيح مسلم وجامع الترمذي وغير ذلك وسمع منه البرازلي والمري وابن تيمية ودفن من يومه بسفح قاسيون عن ست وثمانين سنة رحمهم الله جميعا
الشيخ صفي الدين
أبو القاسم بن محمد بن عثمان بن محمد التميمي الحنفي شيخ الحنفية ببصرى ومدرس الامينية بها مدة سنين كثيرة كان بارعا فاضلا عالما عابدا منقطعا عن الناس وهو والد قاضي القضاة صدر الدين علي وقد عمر دهرا طويلا فإنه ولد في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة وتوفي ليلة نصف شعبان من هذه السنة عن تسع وتسعين سنة رحمه الله
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وستمائة
استهلت والخليفة الحاكم بامر الله والسلطان الملك المنصور قلاوون وفيها أرسل ملك التتار أحمد إلى الملك المنصور يطلب منه المصالحة وحقن الدماء فيما بينهم وجاء في الرسلية الشيخ قطب الدين الشيرازي أحد تلامذة النصير الطوسي فأجاب المنصور إلى ذلك وكتب المكاتبات إلى ملك (13/299)
التتر بذلك وفي مستهل صفر قبض السلطان على الامير الكبير بدر الدين بيسرى السعدي وعلى الامير علاء الدين السعدي الشمسي أيضا
وفيها درس القاضي بدر الدين بن جماعة بالقيمرية والشيخ شمس الدين ابن الصفي الحريري بالسرحانية وعلاء الدين بن الزملكاني بالامينية وفي يوم الاثنين الحادي عشر من رمضان وقع حريق باللبادين عظيم وحضر نائب السلطنة إذ ذاك الامير حسام الدين لاجين السلحدار وجماعة كثيرة من الامراء وكانت ليلة هائلة جدا وقى الله شرها واستدرك بعد ذلك أمرها القاضي نجم الدين بن النحاس ناظر الجامع فأصلح الأمر وسد وأعاد البناء احسن مما كان ولله الحمد والمنة وممن توفي فيها من الاعيان
الشيخ الصالح بقية السلف
برهان الدين أبو إسحاق ابن الشيخ صفي الدين أبي الفدا إسماعيل بن إبراهيم بن يحيى بن علوي ابن الرضى الحنفي إمام المعزية بالكشك وأسمع من جماعة منهم الكندي ابن الحرستاني ولكن لم يظهر سماعه منهما إلا بعد وفاته وقد أجاز له أبو نصر الصيدلاني وعفيفة الفارقانية وابن الميداني وكان رجلا صالحا محبا لاسماع الحديث كثير البر بالطلبة له وقد قرأ عليه الحافظ جمال الدين المزي معجم الطبراني الكبير وسمعه منه بقراءة الحافظ البرزالي وجماعة كثيرون وكان مولده في سنة تسع وتسعين وخمسمائة وتوفي يوم الاحد سابع صفر وهو اليوم الذي قدم فيه الحجاج إلى دمشق من الحجاز وكان هو معهم فمات بعد استقراره بدمشق
القاضي أمين الدين الاشتري
أبو العباس أحمد بن شمس الدين أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبد الجبار بن طلحة الحلبي المعروف بالاشتري الشافعي المحدث سمع الكثير وحصل ووقف أجزاء بدار الحديث الاشرفية وكان الشيخ محيي الدين النووي يثنى عليه ويرسل إليه الصبيان ليقرأوا عليه في بيته لأمانته عنده وصيانته وديانته
الشيخ برهان الدين أبو الثناء
محمود بن عبد الله بن عبد الرحمن المراغي الشافعي مدرس الفلكية كان فاضلا بارعا عرض عليه القضاء فلم يقبل توفي يوم الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الاخر عن ست وسبعين سنة وسمع الحديث واسمعه ودرس بعده بالفلكية القاضي بهاء الدين بن الزكي
القاضي الامام العلامة شيخ القراء زين الدين
أبو محمد بن عبد السلام بن علي بن عمر الزواوي المالكي قاضي قضاة المالكية بدمشق وهو أول من باشر القضاء بها وعزل نفسه عنها تورعا وزهادة واستمر بلا ولاية ثمان سنين ثم كانت وفاته ليلة الثلاثاء ثامن رجب منها عن ثلاث وثمانين سنة وقد سمع الحديث واشتغل على السنجاري (13/300)
وابن الحاجب
الشيخ صلاح الدين
محمد بن القاضي شمس الدين علي بن محمود بن علي الشهر زورى مدرس القيمرية وابن مدرسها توفي في أواخر رجب وتوفي أخوه شرف الدين بعده بشهر ودرس بالقيمرية بعد الصلاح المذكور القاضي بدر الدين ابن جماعة
ابن خلكان قاضي القضاة
شمس الدين أبو العباس احمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان الاربلي الشافعي أحد الائمة الفضلاء والسادة العلماء والصدور الرؤساء وهو أول من جدد في أيامه قضاء القضاة من سائر المذاهب فاشتغلوا بالأحكام بعد ما كانوا نوابا له وقد كان المنصب بينه وبين أبن الصائغ دولا يعزل هذا تارة ويولى هذا ويعزل هذا ويولى هذا وقد درس ابن خلكان في عدة مدارس لم تجتمع لغيره ولم يبق معه في آخر وقت سوى الامينية وبيد ابنه كمال الدين موسى النجيبية توفي ابن خلكان بالمدرسة النجيبية المذكورة بايوانها يوم السبت آخر النهار في السادس والعشرين من رجب ودفن من الغد بسفح قاسيون عن ثلاث وسبعين سنة وقد كان ينظم نظما حسنا رائقا وقد كانت محاضرته في غاية الحسن وله التاريخ المفيدالذي رسم بوفيات الاعيان من أبدع المصفنات والله سبحانه أعلم
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وستمائة
فيها قدم الملك المنصور إلى دمشق في يوم الجمعة سابع رجب في أبهة عظيمة وكان يوما مشهودا وفيها ولى الخطابة بدمشق الشيخ عبدالكافي بن عبد الملك بن عبد الكافي عوضا عن محيي الدين ابن الحرستاني الذي توفي فيها كما سياتي وخطب يوم الجمعة الحادي والعشرين من رجب من هذه السنة وفي هذا اليوم قبل الصلاة احتيط على القاضي عز الدين بن الصائغ بالقلعة وأثبت ابن الحصري نائب الحنفي محضرا يتضمن أن عنده وديعة بمقدار ثمانية آلاف دينار من جهة ابن الاسكاف وكان الذي أثار ذلك شخص قدم من حلب يقال له تاج الدين بن السنجاري وولى القضاء بعده بهاء الدين يوسف بن محيي الدين ابن الزكي وحكم يوم الاحد ثالث وعشرين رجب ومنع الناس من زيارة ابن الصائغ وسعى بمحضر آخر أن عنده وديعة بقيمة خمسة وعشرين ألف دينار للصالح إسماعيل بن أسد الدين وقام في ذلك ابن الشاكري والجمال بن الحموي وآخرون وتكلموا في قضية ثالثة ثم عقد له مجلس تاله فيه شدة شديدة وتعصبوا عليه ثم أعيد إلى اعتقاله وقام في صفة نائب السلطنة حسام الدين لاجين وجماعة من الأمراء فكلموا فيه السلطان فاطلقه وخرج إلى منزله وجاء الناس إلى تهنئته يوم الاثنين الثالث والعشرين من شعبان وانتقل من (13/301)
العادلية إلى داره بدرب النقاشة وكان عامة جلوسه في المسجد تجاه داره وفي رجب باشر حسبة دمشق جمال الدين بن صصرى وفي شعبان درس الخطيب جمال الدين ابن عبد الكافي بالغزالية عوضا عن الخطيب ابن الحرستاني وأخذ منه الدولعية لكمال الدين بن النجار الذي كان وكيل بيت المال ثم أخذ شمس الدين الاربلي تدريس الغزالية من ابن عبد الكافي المذكور وفي آخر شعبان باشر نيابة الحكم عن ابن الزكي شرف الدين أحمد بن نعمة المقدسي أحد أئمة الفضلاء وسادات العلماء المصنفين ولما توفي أخوه شمس الدين محمد في شوال ولي مكانه تدريس الشامية البرانية وأخذت منه العادلية الصغيرة فدرس فيها القاضي نجم الدين أحمد بن صصرى التغلبي في ذي القعدة وأخذت من شرف الدين أيضا الرواحية فدرس فيها نجم الدين البيابي نائب الحكم رحمهم الله أجمعين وممن توفي فيها من الاعيان
الصدر الكبير عماد الدين أبو الفضل
محمد بن القاضي شمس الدين أبي نصر محمد بن هبة الله بن الشيرازي صاحب الطريقة المنسوبة في الكتابة سمع الحديث وكان من رؤساء دمشق وأعيانها توفي في صفر منها
شيخ الجبل الشيخ العلامة شيخ الاسلام
شمس الدين أبو محمد عبد الرحمن بن الشيخ أبي عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة الحنبلي أول من ولي قضاء الحنابلة بدمشق ثم تركه وتولاه ابنه نجم الدين وتدريس الاشرفية بالجبل وقد سمع الحديث الكثير وكان من علماء الناس وأكثرهم ديانة وأمانة في عصره مع هدى وسمت صالح حسن وخشوع ووقار توفي ليلة الثلاثاء سلخ ربيع الاخر من هذه السنة عن خمس وثمانين سنة ودفن بمقبرة والده رحمهم الله
ابن أبي جفوان
العلامة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن عباس بن أبي جفوان الانصاري الدمشقي المحدث الفقيه الشافعي البارع في النحو واللغة سمعت شيخنا تقي الدين ابن تيمية وشيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول كل منهما للآخر هذا الرجل قرأ مسند الامام أحمد وهما يسمعان فلم يضبط عليه لحنة متفقا عليها وناهيك بهذين ثناء على هذا وهما هما
الخطيب محيي الدين
يحيى بن الخطيب قاضي القضاة عمادالدين عبد الكريم قاضي القضاة جمال الدين بن الحرستاني الشافعي خطيب دمشق ومدرس الغزالية كان فاضلا بارعا أفتى ودرس وولى الخطابة والغزالية بعد (13/302)
أبيه وحضر جنازته نائب السلطنة وخلق كثير توفي في جمادي الاخرة عن ثمان وستين سنة ودفن بقاسيون وفي خامس رجب توفي
الامير الكبير ملك عرب أل مثرى
أحمد بن حجى بمدينة بصرى وصلى عليه بدمشق صلاة الغائب
الشيخ الامام العالم شهاب الدين
عبد الحليم بن الشيخ الامام العلامة مجد الدين بعد الله بن عبد الله بن أبي القاسم ابن تيمية الحراني والد شيخنا العلامة العلم تقي الدين ابن تيمية مفتي الفرق الفارق بين الفرق كان له فضيلة حسنة ولديه فضائل كثيرة وكان له كرسي بجامع دمشق يتكلم عليه عن ظاهر قلبه وولى مشيخة دار الحديث السكرية بالقصاعين وبها كان سكنه ثم درس ولده الشيخ تقي الدين بها بعده في السنة الاتية كما سيأتي ودفن بمقابر الصوفية رحمه الله
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وستمائة
في يوم الاثنين ثاني المحرم منها درس الشيخ الامام العالم العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني بدار الحديث السكرية التي بالقصاعين وحضر عنده قاضي القضاة بهاء الدين ابن الزكي الشافعي والشيخ تاج الدين الفزاري شيخ الشافعية والشيخ زين الدين ابن المرحل وزين الدين بن المنجا الحنبلي وكان درسا هائلا وقدكتبه الشيخ تاج الدين الفزاري بخطه لكثرة فوائده وكثرة ما استحسنه الحاضرون وقد أطنب الحاضرون في شكره على حداثة سنه وصغره فإنه كان عمره إذ ذاك عشرين سنة وسنتين ثم جلس الشيخ تقي الدين المذكور أيضا يوم الجمعة عاشر صفر بالجامع الاموي بعد صلاة الجمعة على منبر قد هيء له لتفسير القرآن العزيز فابتدأ من أوله في تفسيره وكان يجتمع عنده الخلق الكثير والجم الغفير من كثرة ما كان يورد من العلوم المتنوعة المحررة مع الديانة والزهادة والعبادة سارت بذكره الركبان في سائر الاقاليم والبلدان واستمر على ذلك مدة سنين متطاولة
وفيها قدم السلطان إلى دمشق من مصر يوم السبت ثاني عشر جمادي الاخرة فجاء صاحب حماة الملك المنصور إلى خدمته فتلقاه السلطان في موكبه وأكرمه فلما كان ليلة الاربعاء الرابع والعشرين من شعبان وقع مطر عظيم بدمشق ورعد وبرق وجاء سيل عظيم جدا حتى كسر أقفال باب الفراديس وارتفع الماء ارتفاعا كثيرا بحيث اغرق خلقا كثيرا وأخذ جمال الجيش المصري واثقالهم فخرج السلطان إلى الديار المصرية بعد ثلاثة أيام وتولى مشد الدواوين الامير شمس الدين سنقر عوضا عن الدويدراي علم الدين سنجر وفيها اختلف التتار فيما بينهم على ملكهم (13/303)
السلطان أحمد فعزلوه عنهم وقتلوه وملكوا عليهم السلطان أرغون بن أبغا ونادوا بذلك في جيشهم وتأطدت أحوالهم ومشت أمورهم على ذلك وبادت دولة السلطان أحمد وقامت دولة أرغون بن أبغا وممن توفي فيها من الاعيان
الشيخ طالب الرفاعي بقصر حجاج
وله زواية مشهورة به وكان يزور بعض المريدين فمات وفيها مات
القاضي الامام عز الدين أبو المفاخر
محمد بن شرف الدين عبدالقادر بن عفيف الدين عبدالخالق بن خليل الانصاري الدمشقي ولي القضاء بدمشق مرتين عزل بابن خلكان ثم عزل ابن خلكان به ثانية ثم عزل وسجن وولى بعده بهاء الدين ابن الزكي وبقي معزولا إلى أن توفي ببستانه في تاسع ربيع الاول وصلى عليه بسوق الخيل ودفن بسفح قاسيون وكان مولده سنة ثمان وعشرين وستمائة وكان مشكور السيرة له عقل وتدبير واعتقاد كثير في الصالحين وقد سمع الحديث له ابن بلبان مشيخة قراها ابن جفوان عليه ودرس بعده بالعزروية الشيخ زين الدين عمر بن مكي بن المرحل وكيل بيت المال ودرس ابنه محيي الدين أحمد بالعمادية وزاوية الكلاسة من جامع دمشق ثم توفي ابنه احمد هذا بعده في يوم الاربعاء ثامن رجب فدرس بالعمادية والدماغية الشيخ زين الدين بن الفارقي شيخ دار الحديث نيابة عن أولاد القاضي عز الدين بن الصائغ بدر الدين وعلاء الدين وفيها توفي
الملك السعيد فتح الدين
عبد الملك بن الملك الصالح أبي الحسن إسماعيل بن الملك العادل وهو والد الملك الكامل ناصر الدين محمد في ليلة الاثنين ثالث رمضان ودفن من الغد بتربة أم الصالح وكان من خيار الامراء محترما كبيرا رئيسا روى الموطأ عن يحيى بن بكير عن مكرم بن ابي الصقر وسمع ابن الليثي وغيره
القاضي نجم الدين عمر بن نصر بن منصور
البياني الشافعي توفي في شوال منها وكان فاضلا ولي قضاء زرع ثم قضاء حلب ثم ناب في دمشق ودرس بالرواحية وباشرها بعده شمس الدين عبد الرحمن بن نوح المقدسي يوم عاشر شوال وفي هذا اليوم توفي بحماة ملكها
الملك المنصور ناصر الدين
محمد بن محمود بن عمر بن ملكشاه بن أيوب ولد سنة ثلاثين وستمائة وتملك حماة سنة ثنتين وأربعين وله عشر سنين فمكث في الملك أزيد من اربعين سنة وكان له بر وصدقات وقد (13/304)
أعتق في بعض موته خلقا من الأرقاء وقام في الملك بعده ولده الملك المظفر بتقليد الملك المنصور له بذلك
القاضي جمال الدين أبو يعقوب
يوسف بن عبد الله بن عمر الرازي قاضي قضاة المالكية ومدرسهم بعدالقاضي زين الزواوي الذي عزل نفسه وقد كان ينوب عنه فاستقل بعده بالحكم توفي في الخامس من ذي القعدة وهو في طريق الحجاز وكان عالما فاضلا قليل التكليف والتكلف وقد شغر المنصب بعده ثلاث سنين ودرس بعده للمالكية الشيخ جمال الدين الشريشي وبعده أبو إسحاق اللوري وبعده بدر الدين أبو بكر البريسي ثم لما وصل القاضي جمال الدين بن سليمان حاكما درس بالمدارس والله سبحانه أعلم
ثم دخلت سنة أربع وثمانين وستمائة
في أواخر المحرم قدم الملك المنصور إلى دمشق ومعه الجيوش وجاء إلى خدمته صاحب حماة الملك المظفر بن المنصور فتلقاه بجميع الجيوش وخلع عليه خلعة الملوك ثم سافر السلطان بالعساكر المصرية والشامية فنزل المرقب ففتحه الله عليهم في يوم الجمعة ثامن عشر صفر وجاءت البشارة بذلك إلى دمشق فدقت البشائر وزينت البلد وفرح المسلمون بذلك لأن هذا الحصن كان مضرة على المسلمين ولم يتفق فتحه لأحد من ملوك الاسلام لا للملك صلاح الدين ولا للملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري وفتح حوله بلنياس ومرقب وهي بلدة صغيرة إلى جانب البحر عند حصن منيع جدا لا يصل إليه سهم ولا حجر منجنيق فأرسل إلى صاحب طرابلس فهدمه تقربا إلى السلطان الملك المنصور واستنقذ المنصور خلقا كثيرا من أسارى المسلمين الذين كانوا عند الفرنج ولله الحمد ثم عاد المنصور إلى دمشق ثم سافر بالعساكر المصرية إلى القاهرة
وفي أواخر جمادي الاخرة ولد للمنصور ولده الملك الناصر محمد بن قلاوون وفيها عزل محيي الدين ابن النحاس عن نظر الجامع ووليه عز الدين بن محيي الدين بن الزكي وباشر ابن النحاس الوزارة عوضا عن التقي توبة التكريتي وطلب التقي توبة إلى الديار المصرية وأحيط على أمواله وأملاكه وعزل سيف الدين طوغان عن ولاية المدينة وباشرها عز الدين بن أبي الهيجاء
وممن توفي فيها من الاعيان
الشيخ عز الدين محمد بن علي
ابن إبراهيم بن شداد توفي في صفر وكان فاضلا مشهورا له كتاب سيرة الملك الظاهر وكان معتنيا بالتاريخ البندقداري
استاذ الملك الظاهر بيبرس وهو الامير الكبير علاء الدين أيديكين البندقداري الصالحي كان من خيار الأمراء سامحه الله توفي في ربيع الآخر منها وقد كان الصالح نجم الدين صادر البندقداري هذا (13/305)
وأخذ منه مملوكه بيبرس فأضافه إليه لشهامته ونهضته فتقدم عنده على استاذه وغيره
الشيخ الصالح العابد الزاهد
شرف الدين أبو عبد الله محمد بن الحسن بن إسماعيل الاخميمي كانت له جنازة هائلة ودفن بقاسيون رحمه الله
ابن عامر المقري
الذي ينسب إليه الميعاد الكبير الشيخ الصالح المقري شمس الدين ابو عبد الله محمد بن عامر بن أبي بكر الغسولي الحنبلي سمع الحديث من الشيخ موفق الدين بن قدامة وغيره وكان يعمل الميعاد ليلة الاحد فإذا فرغوا من ذلك دعا بهم ثم وعظهم توفي يوم الاربعاء حادي عشر جمادي الاخرة ودفن بالقرب من تربة الشيخ عبد الله الارمني
القاضي عمادا لدين
داود بن يحيى بن كامل القرشي النصروي الحنفي مدرس العزية بالكشك وناب في الحكم عن مجد الدين بن العديم وسمع الحديث وتوفي ليلة النصف من شعبان وهو والد الشيخ نجم الدين القجقازي شيخ الحنفية وخطيب جامع تنكر
الشيخ حسن الرومي
شيخ سعيد السعداء بالقاهرة وقد وليها بعده شمس الدين الاتابكي الرشيد سعيد بن علي بن سعيد الشيخ رشيد الدين الحنفي مدرس الشبلية وله تصانيف مفيدة كثيرة ونظم حسن فمن ذلك قوله ... قل لمن يحذر أن تدركه ... نكبات الدهر لا يغني الحذر ... أذهب الحزن اعتقادي ... أن كل شيء بقضاء وقدر ... ومن شعره قوله ... الهي لك الحمد الذي أنت أهله ... على نعم منها الهداية للحمد ... صحيحا خلقت الجسم مني مسلما ... ولطفلك بي ما زال مذ كنت في المهد ... وكنت يتيما قد أحاط بي الردى ... فآويت واستنقذت من كل ما يردى ... وهبت لي العقل الذي بضيائه ... إلى كل خير يهتدي طالب الرشد ... ووفقت للإسلام قلبي ومنطقي ... فيا نعمة قد حل موقعها عندي ... ولو رمت جهدي أن أجازى فضيلة ... فضلت بها لم يجز أطرافها جهدي ... ألست الذي أرجو حنانك عندما ... يخلفني الاهلون وحدي في لحدي ... فجلي بلطف منك يهدي سريرتي ... وقلبي ويدينني إليك بلا بعد ...
توفي يوم السبت ثالث رمضان وصلى عليه العصر بالجامع المظفري ودفن بالسفح (13/306)
أبو القاسم علي بن بلبان بن عبد الله
الناصري المحدث المفيد الماهر توفي يوم الخميس مستهل رمضان
الامير مجير الدين
محمد بن يعقوب بن علي المعروف بابن تميم الحموي الشاعر صاحب الديوان في الشعر فمن شعره قوله ... عاينت ورد الروض يلطم خده ... ويقول قولا في البنفسج يحنق ( 1 ) ... لا تقربوه وإن تضوع نشره ... ما بينكم فهو العدو الازرق ... الشيخ العارف شرف الدين
أبو عبد الله محمد بن الشيخ عثمان بن علي الرومي ودفن بتربتهم بسفح قاسيون ومن عندهم خرج الشيخ جمال الدين محمد الساوحي وحلق ودخل في ذي الجوالقية وصار شيخهم ومقدمهم
ثم دخلت سنة خمس وثمانين وستمائة
استهلت والخليفة الحاكم أبو العباس أحمد والسلطان الملك المنصور قلاوون ونائبه بالشام الامير حسام الدين لاجين السلحداري المنصوري والامير بدر الدين الصوابي محاصر مدينة الكرك في أواخر السنة الماضية وقدم عليه من مصر عسكر صحبة الامير حسام الدين طرقطاي فاجتمعوا على حصار الكرك حتى أنزلوا منها صاحبها الملك المسعود خضر بن الملك الظاهر في مستهل صفر وجاءت البشارة بذلك إلى دشمق فدقت البشائر ثلاثة أيام وعاد طرقطاي بالملك خضر وأهل بيته إلى الديار المصرية كما فعل الملك الظاهر أبوه بالملك المغيث عمر بن العادل كما تقدم ذلك واستناب في الكرك نائبا عن امر المنصور ورتب أمورها وأجلوا منها خلقا من الكركيين واستخذموا بقلعة دمشق ولما اقترب دخول آل الظاهر إلى القاهرة تلقاهم المنصور فأكرم لقياهم وأحسن إلى الاخوين نجم الدين خضر وبدر الدين سلامش وجعلهما يركبان مع ابنيه علي والاشرف خليل وجعل عليهما عيونا يرصدون ما يفعلان وأنزلا الدور بالقلعة وأجرى عليهم من الرواتب والنفقات ما يكفيهم وزيادة كثيرة وكتب الامير بدر الدين بكتوت العلائي وهو مجرد بحمص إلى نائب دمشق لاجين أنه قد انعقد زوبعة في يوم الخميس سابع صفر بأرض حمص ثم ارتفعت في السماء كهيئة العمود والحية العظيمة وجعلت تختطف الحجارة الكبار ثم تصعد بها في الجو كأنها سهام النشاب وحملت شيئا كثيرا من الجمال بأحمالها والاثاث والخيام والدواب ففقد الناس من ذلك شيئا كثيرا فانا لله وإنا إليه راجعون وفي هذا اليوم وقع مطر عظيم في دمشق وجاء سيل كثير ولا سيما في الصالحية وفيها أعيد علم الدين الدويداري إلى مشد الدواوين بدمشق والصاحب تقي الدين بن توبة (13/307)
إلى الوزارة بدمشق وفيها تولى قضاء المالكية بمصر زين الدين بن أبي مخلوف البريدي عوضا عن القاضي تقي الدين برساس الذي توفي بها وفيها درس بالغزالية بدر الدين بن جماعة انتزعها من يد شمس الدين إمام الكلاسة الذي كان ينوب عن شمس الدين الايكي والآيكي شيخ سعيد السعدا باشرها شهرا ثم جاء مرسوم باعادتها إلى الايكي وأنه قد استناب عنه جمال الدين الباجر يقي فباشرها الباجر يقي في ثالث رجب وممن توفي فيها من الاعيان
أحمد بن شيبان
ابن تغلب الشيباني أحد مشايخ الحديث المسندين المعمرين بدمشق توفي بصفر عن ثمان وثمانين سنة ودفن بقاسيون
الشيخ الامام العالم البارع
الشيخ جمال الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن بحمان البكري الشريشي المالكي ولد بشريش سنة إحدى وستمائة ورحل إلى العراق فسمع بها الحديث من المشايخ والقطيعي وابن زوربة وابن الليثي وغيرهم واشتغل وحصل وساد أهل زمانه ثم عاد إلى مصر فدرس بالفاضلية ثم أقام بالقدس شيخ الحرم ثم جاء إلى دمشق فولى مشيخة الحديث بتربة ام الصالح ومشيخة الرباط الناصري بالسفح ومشيخة المالكية وعرض عليه القضاء فلم يقبل توفي يوم الاثنين الرابع والعشرين من رجب بالرباط الناصري بقاسيون ودفن بسفح قاسيون تجاه الناصرية وكانت جنازته حافلة جدا
قاضي القضاة
يوسف ابن قاضي القضاة محيي الدين أبي الفضل يحيى بن محمد بن علي بن محمد بن يحيى بن علي ابن عبدا لعزيز بن علي بن الحسين بن محمد بن عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان القرشي الدمشقي ي المعروف بابن الزكي الشافعي كان فاضلا مبرزا وهو آخر من ولي القضاء من بني الزكي إلى يومنا هذا ولد في سنة أربعين وسمع الحديث توفي ليلة الاثنين حادي عشر ذي الحجة ودفن بقاسيون وتولى بعده ابن الخوي شهاب الدين
الشيخ مجد الدين
يوسف بن محمد بن محمد بن عبد الله المصري ثم الدمشقي الشافعي الكاتب المعروف بابن المهتار كان فاضلا في الحديث والأدب يكتب كتابة حسنة جدا وتولى مشيخة دار الحديث النورية وقد سمع الكثير وانتفع الناس به وبكتابته توفي عاشر ذي الحجة ودفن بباب الفراديس
الشاعر الأديب
شهاب الدين أبو عبد الله محمد بن عبد المنعم بن محمد المعروف بابن الخيمي كانت له مشاركة في علوم كثيرة ويد طولى في النظم الرائق الفائق جاوز الثمانين وقد تنازع هو نجم الدين بن (13/308)
إسرائيل في قصيدة بائية ( 1 ) فتحاكما إلى ابن الفارض فأمرهما بنظم أبيات على وزنها فنظم كل منهما فأحسن ولكن لابن الخيمي يد طولى عليه وكذلك فعل ابن خلكان وامتدحه على وزنها بأبيات حسان وقد أطال ترجمته الجزري في كتابه وفيها كانت وفاة
الحاج شرف الدين ( )
ابن مري والدالشيخ محيي الدين النووي رحمه الله
يعقوب بن عبد الحق
أبو يوسف المديني سلطان بلاد المغرب خرج على الواثق بالله أبي دبوس فسلبه الملك بظاهر مراكش واستحوذ على بلاد الاندلس والجزيرة الخضراء في سنة ثمان وستين وستمائة واستمرت أيامه إلى محرم هذه السنة وزالت على يديه دولة الموحدين بها
البيضاوي صاحب التصانيف
هو القاضي الامام العلامة ناصر الدين عبد الله بن عمر الشيرازي قاضيها وعالمها وعالم أذربيجان وتلك النواحي مات بتبريز سنة خمس وثمانين وستمائة ومن مصنفاته المنهاج في أصول الفقه وهو مشهور وقد شرحه غير واحد وله شرح التنبيه في أربع مجلدات وله الغاية القصوى في دراية الفتوى وشرح المنتخب والكافية في المنطق وله الطوالع وشرح المحصول أيضا وله غير ذلك من التصانيف المفيدة وقد أوصى إلى القطب الشيرازي أن يدفن بجانيه بتبريز والله سبحانه أعلم
ثم دخلت سنة ست وثمانين وستمائة
في أول المحرم ركبت العساكر صحبة نائب الشام حسام الدين لاحين إلى معصارة صهيون وحصن برزية فما نعمهم الامير سيف الدين سنقر الاشقر فلم يزالوا به حتى استنزلوه وسلمهم البلاد وسار إلى خدمة السلطان الملك المنصور فتلقاه بالإكرام والاحترام وأعطاه تقدمة ألف فارس ولم يزل معظما في الدولة المنصورية إلى آخرها وانقضت تلك الاحوال وفي النصف من المحرم حكم القاضي جلال الدين الحنفي نيابة عن أبيه حسام الدين الرازي وفي الثالث عشر من ربيع الاول قدم القاضي شهاب الدين محمد بن القاضي شمس الدين بن الخليل الخوي من القاهرة على قضاء قضاة دمشق وقرئ تقليده يوم الجمعة مستهل ربيع الاخر واستمر بنيابة شرف الدين المقدسي وفي يوم الاحد ثالث شوال درس بالرواحية الشيخ صفي الدين الهندي وحضر عنده القضاة والشيخ تاج الدين الفزاري وعلم الدين الدويداري وتولى قضاء قضاة القاهرة تقي الدين عبد الرحمن ابن بنت الاعز عوضا عن برهان الدين الخضر السنجاري وقد كان وليها شهرا بعد ابن الخوي (13/309)
فاجتمع حينئذ إلى ابن بنت الاعز بين القضاءكله بالديار المصرية وذلك في أوائل صفر منها
وفيها استدعى سيف الدين السامري من دمشق إلى الديار المصرية ليشترى منه ربع جزر ماء الذي اشتراه من بنت الملك الاشرف موسى فذكر لهم أنه وقفة وكان المتكلم في ذلك علم الدين الشجاعي وكان ظالما وكان قد استنابه الملك المنصور بديار مصر وجعل يتقرب إليه بتحصيل الاموال ففتق لهم ناصر الدين محمد بن عبد الرحمن المقدسي أن السامري اشترى هذا من بنت الاشرف وهي غير رشيدة وأثبت سفهها على زين الدين بن مخلوف الجائر الجاهل وأبطل البيع من أصله واسترجع على السامري بمغل مدة عشرين سنة مائتي ألف درهم وأخذوا منه حصة من الزنبقية قيمتها سبعين ألفا وعشرة آلاف مكملة وتركوه فقيرا على بردا لديار ثم أثبتوا رشدها واشتروا منها تلك الحصص بما أرادوه ثم أرادوا أن يستدعوا بالدماشقة واحدا بعد واحد ويصادرونهم وذلك أنه بلغهم أن من ظلم بالشام لا يفلح وأن من ظلم بمصر أفلح وطالت مدته وكانوا يطلبونهم إلى مصر أرض الفراعنة والظلم فيفعلون معهم ما أرادوا وممن توفي فيها من الاعيان
الشيخ الامام العلامة
قطب الدين أبو بكر محمد بن الشيخ الامام أبي العباس أحمد بن علي بن محمد بن الحسن بن عبد الله بن أحمد الميموني القيسي النوري المصري ثم المالكي الشافعي المعروف بالقسطلاني شيخ دار الحديث الكاملية بالقاهرة ولد سنة أربع عشرة وستمائة ورحل إلى بغداد فسمع الكثير وحصل علوما وكان يفتي على مذهب الشافعي وأقام بمكة مدة طويلة ثم صار إلى مصر فولى مشيخة دار الحديث وكان حسن الاخلاق محببا إلى الناس توفي في آخر المحرم ودفن بالقرافة الكبرى وله شعر حسن أورد منه ابن الجزري قطعة صالحة
عماد الدين
محمد بن العباس الدنيسري الطبيب الماهر والحاذق الشاعر خدم الاكابر والوزراء وعمر ثمانين سنة وتوفي في صفر من هذه السنة بدمشق
قاضي القضاة
برهان الدين الخضر بن الحسين بن علي السنجاري تولى الحكم بديار مصر غير مرة وولى الوزارة أيضا وكان رئيسا وقورا مهيبا وقد باشر القضاء بعده تقي الدين بن بنت الاعز
شرف الدين سليمان بن عثمان
الشاعر المشهور له يدوان مات في صفر منها
الشيخ الصالح عز الدين
عبد العزيز بن عبدالمنعم بن الصيقل الحراني ولد سنة أربع وتسعين وخمسمائة وسمع (13/310)
الكثير ثم استوطن مصر حتى توفي بها في رابع عشر رجب وقد جاوز التسعين وقد سمع منه الحافظ علم الدين الابرزالي لما رحل إلى مصر في سنة أربع وثمانين وحكى عنه أنه شهد جنازة في بغداد فتبعهم نباش فلما كان الليل جاء إلى ذلك القبر ففتح عن الميت وكان الميت شابا قد اصابته سكتة فلما فتح القبر نهض ذلك الشاب الميت جالسا فسقط النباش ميتا في القبر وخرج الشاب قبره ودفن فيه النباش وحكى له قال كنت مرة بقليوب وبين يدي صبرة قمح فجاء زنبور فأخذوا حدة ثم ذهب بها ثم جاء فأخذ أخرى ثم ذهب بها ثم جاء فأخذ أخرى أربع مرات قال فاتبعته فإذا هو يضع الحبة في فم عصفور أعمى بين تلك الاشجار التي هناك قال وحكى لي الشيخ عبد الكافي أنه شهد مرة جنازة فإذا عبد أسود معنا فلما صلى الناس عليها لم يصل فلما حضرنا الدفن نظر إلي وقال أنا عمله ثم ألقى نفسه في قبر ذلك الميت قال فنظرت فلم ار شيئا
الحافظ أبو اليمن
أمين الدين عبد الصمد بن عبد الوهاب بن الحسن بن محمد بن الحسن بن عساكر الدمشقي ترك الرياسة والاملاك وجاور بمكة ثلاثين سنة مقبلا على العبادة والزهادة وقد حصل له قبول من الناس شاميهم ومصريهم وغيرهم توفي بالمدينة النبوية في ثاني رجب منها
ثم دخلت سنة سبع وثمانين وستمائة
فيها قدم الشجاعي من مصر إلى الشام بنية المصادرة لأرباب الاموال من أهل الشام وفي أواخر ربيع الاخر قدم الشيخ ناصر الدين عبد الرحمن المقدسي من القاهرة على وكالة بيت المال ونظر الاوقاف ونظر الخاص ومعه تقاليد وخلع فتردد الناس إلى بابه وتكلم في الامور وآذى الناس وكانت ولايته بسفارة الامير علم الدين الشجاعي المتكلم في الديار المصرية توسل إليه بالشيخ شمس الدين الايكي وبابن الوحيد الكاتب وكانا عنده لهما صورة وقد طلب جماعة من أعيان الدماشقة في أول هذه السنة إلى الديار المصرية فطولبوا بأموال كثيرة فدافع بعضهم بعضا وهذا مما يخفف عقوبته من ظلمهم وإلا فلو صبروا لعولجل الظالم بالعقوبة ولزال عنهم ما يكرهون سريعا ولما قدم ابن المقدسي إلى دمشق كان يحكم بتربة أم الصالح والناس يترددون إليه ويخافون شره وقد استجد باشروة بباب الفراديس ومساطب باب الساعات للشهود وجدد باب الجابية الشمالي ورفعه وكان متواطئا وأصلح الجسر الذي تحته وكذلك اصلح جسر باب الفراديس تحت السويقة التي جددها عليه من الجانبين وهذا من أحسن ما عمله ابن المقدسي وقد كان مع ذلك كثير الاذية للناس ظلوما غشوما ويفتح على الناس أبوابا من الظلم لا حاجة إليها
وفي عاشر جمادي الاولى قدم من الديار المصرية أيضا قاضي القضاة حسام الدين الحنفي (13/311)
والصاحب تقي الدين توبة التكريتي وقاضي القضاة جمال الدين محمد بن سليمان الزواوي المالكي على قضاء المالكية بعد شغوره عن حاكم بدمشق ثلاث سنين ونصف فأقام شعار المنصب ودرس ونشر المذهب وكان له سؤدد ورياسة
وفي ليلة الجمعة رابع شعبان توفي الملك الصالح علاء الدين بن الملك المنصور قلاوون بالسنطارية فوجد عليه أبوه وجدا شديدا وقد كان عهد إليه بالأمر من بعده وخطب له على المنابر من مدة سنين فدفنه في تربته وجعل ولاية العهد من بعده إلى ابنه الاشرف خليل من بعد ابيه وخطب له على المنابر من بعد ذكر أبيه يوم الجمعة ودقت البشائر وزين البلد سبعة أيام ولبس الجيش الخلع وركبوا وأظهر الناس سرورا لشهامته مع ما في قلوبهم على أبيه لأجل ظلم الشجاعي وفي رمضان باشر حسبة دمشق شمس الدين بن السلعوسي عوضا عن شرف الدين ابن الشيزري وفيه توجه الشيخ بدر الدين بن جماعة إلى خطابة القدس بعد موت خطيبه قطب الدين فباشر بعده تدريس القيمرية علاء الدين أحمد بن القاضي تاج الدين بن بنت الاعز وفي شهر رمضان كبس نصراني وعنده مسلمة وهما يشربان الخمر في نهار رمضان فامر نائب السلطنة حسام الدين لاجين بتحريق النصراني فبذل في نفسه أموالا جزيلة فلم يقبل منه وأحرق بسوق الخيل وعمل الشهاب محمود في ذلك أبياتا في قصيدة مليحة وأما المراة فجلدت الحد
وممن توفي فيها من الاعيان
الخطيب الامام قطب الدين
أبو الزكا عبد المنعم بن يحيى بن إبراهيم بن علي بن جعفر بن عبد الله بن محمد بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري خطيب بيت المقدس أربعين سنة وكان من الصلحاء الكبار محبوبا عند الناس حسن الهيئة مهيبا عزيز النفس يفتى الناس ويذكر التفسير من حفظه في المحراب بعد صلاة الصبح وقد سمع الكثير وكان من الاخيار ولد سنة ثلاث وستمائة وتوفي ليلة الثلاثاء سابع رمضان عن أربع وثمانين سنة
الشيخ الصالح
العابد
إبراهيم بن معضاد بن شداد بن ماجد الجعبري تقي الدين أبو إسحاق أصله من قلعة جعبر ثم أقام بالقاهرة وكان يعظ الناس وكان الناس ينتفعون بكلامه كثيرا توفي بالقاهرة يوم السبت الرابع والعشرين من المحرم ودفن في تربته بالحسينية وله نظم حسن وكان من الصلحاء المشهورين رحمه الله الشيخ الصالح
يس بن عبد الله المقري الحجام شيخ الشيوخ محيي الدين النواوي وقد حج عشرين حجة وكانت له أحوال وكرامات (13/312)
الخونده غزية خاتون
بنت الملك المنصور قلاوون زوجة الملك السعيد
الحكيم الرئيس
علاء الدين بن أبي الحزم بن نفيس شرح القانون لابن سينا وصنف الموجز وغيره من الفوائد وكان يكتب من حفظه كان اشتغاله على ابن الدخواري وتوفي بمصر في ذي القعدة
الشيخ بدر الدين
عبد الله بن الشيخ جمال الدين بن مالك النحوي شارح الالفية التي عملها أبوه وهو من أحسن الشروح وأكثرها فوائد وكان لطيفا ظريفا فاضلا توفي في يوم الاحد الثامن من المحرم ودفن من الغد بباب الصغير والله أعلم
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وستمائة
فيها كان فتح مدينة طرابلس وذلك أن السلطان قلاوون قدم بالجيوش المنصورة المصرية صحبته إلى دمشق فدخلها في الثالث عشر من صفر ثم سار بهم وبجيش دمشق وصحبته خلق كثير من المتطوعة منهم القاضي نجم الدين الحنبلي قاضي الحنابلة وخلق من المقادسة وغيرهم فنازل طرابلس يوم الجمعة مستهل ربيع الاول وحاصرها بالمجانيق حصارا شديدا وضيقوا على أهلها تضيقا عظيما ونصب عليها تسعة عشر منجنيقا فلما كان يوم الثلاثاء رابع جمادي الاخرة فتحت طرابلس في الساعة الرابعة من النهار عنوة وشمل القتل والاسر جميع من فيها وغرق كثير من اهل الميناء وسبيت النساء والاطفال وأخذت الذخائر والحواصل وقد كان لها في أيدي الفرنج من سنة ثلاث وخمسمائة إلى هذا التاريخ وقد كانت قبل ذلك في أيدي المسلمين من زمان معاوية فقد فتحها سفيان بن نجيب لمعاوية فأسكنها معاوية اليهود ثم كان عبد الملك بن مروان جدد عمارتها وحصنها وأسكنها المسلمين وصارت آمنة عامرة مطمئنة وبها ثمار الشام ومصر فإن بها الجوز والموز والثلج والقصب والمياه جارية فيها تصعد إلى أماكن عالية وقد كانت قبل لك ثلاث مدن متقاربة ثم صارت بلدا واحدا ثم حولت من موضعها كما سيأتي الان ولما وصلت البشارة إلى دمشق دقت البشائر وزينت البلاد وفرح الناس فرحا شديدا ولله الحمد والمنة
ثم امر السلطان الملك المنصور قلاوون أن تهدم البلد بما فيها من العمائر والدور والأسوار الحصينة التي كانت عليها وأن يبنى على ميل منها بلدة غيرها أمكن منها وأحسن ففعل ذلك فهي هذه البلدة التي يقال لها طرابلس ثم عاد إلى دمشق مؤيدا منصورا مسرورا محبورا فدخلها يوم النصف من جمادى الاخرة ولكنه فوض الامور والكلام في الاموال فيها إلى إلى علم الدين (13/313)
الشجاعي فصادر جماعة وجمع أموالا كثيرة وحصل بسبب ذلك أذى الخلق وبئس هذا الصنيع فإن ذلك تعجيل لدمار الظالم وهلاكه فلم يغن عن المنصور ما جمع له الشجاعي من الاموال شيئا فإنه لم يعش بعد ذلك إلا اليسير حتى اخذه الله أخذ القرى وهي ظالمة كما سيأتي ثم سافر السلطان في ثاني شعبان بحيشه إلى الديار المصرية فدخلها في أواخر شعبان وفيها فتحت قلاع كثيرة بناحية حلب كركر وتلك النواحي وكسرت طائفة من التتر هناك وقتل ملكهم خربندا نائب التتر على ملطية
وفيها تولى الحسبة بدمشق جمال الدين يوسف بن التقي توبة التكريتي ثم أخذها بعد شهور تاج الدين الشيرازي وفيها وضع منبر عند محراب الصحابة بسبب عمارة كانت في المقصورة فصلى برهان الدين الاسكندري نائب الخطيب بالناس هناك مدة شهر الجماعات والجمعات ابتدؤا ذلك من يوم الجمعة الثاني والعشرين من ذي الحجة وممن توفي فيها من الاعيان
الشيخة فاطمة بنت الشيخ
إبراهيم زوجة النجم بن إسرائيل كانت من بيت الفقر لها سلطنة وإقدام وترجمة وكلام في طريقة الحريرية وغيرهم وحضر جنازتها خلق كثير ودفنت عند الشيخ رسلان
العالم بن الصاحب
الشيخ الماجن هو الشيخ الفاضل علم الدين أحمد بن يوسف بن عبد الله بن شكر كان من بيت علم ورياسة وقد درس في بعض المدارس وكان له وجاهة ورياسة ثم ترك ذلك كله وأقبل على الحرفشة وصحبة الحرافيش والتشبه بهم في اللباس والطريقة وأكل الحشيش واستعمله كان من الفهم في الخلاعة والمجون والزوائد الرائقة الفائقة التي لا يلحق في كثير منها وقد كان له أولاد فضلاء ينهونه عن ذلك فلم يلتفت إليهم ولم يزل ذلك دأبه حتى توفي ليلة الجمعة الحادي والعشرين من ربيع الاول ولما ولى القضاة الاربعة كان ابن خالته تاج الدين بن بنت الاعز مستقلا في القضاء قبل ذلك فقال له ابن الصاحب المذكور ما مت حتى رأيتك صاحب ربع فقال له تسكت وإلا خليتهم يسقونك السم فقال له في قلة دينك تفعل وفي قلة عقولهم يسمعوا منك وقال يمدح الحشيشة الخسيسة ... في خمار الحشيش معنى مرامي ... يا اهيل العقول والافهام ... حرموها من غير عقل ونقل ... وحرام تحريم غير الحرام ...
وله أيضا
... يا نفس ميلي إلى التصابي ... فاللهو منه الفتى يعيش ... ولا تملي من سكر يوم ... إن أعوز الخمر فالحشيش (13/314)
وله أيضا ... جمعت بين الحشيش والخمر فرحت لا أهتدي من السكر ... يا من يريني لباب مدرستي ... يريح والله غاية الاجر ...
وقال يهجو الصاحب بهاء الدين بن الحنا
... اقعد بها وتهنا ... لا بد ان تتمنى ... تكتب علي بن محمد ... من اين لك يا ابن حنا ...
فاستدعاه فضربه ثم أمر به إلى المارستان فمكث فيه سنة ثم أطلق
شمس الدين الأصبهاني شارح المحصول محمد بن محمود بن محمد بن عباد السلماني العلامة قدم دمشق بعد الخمسين وستمائة وناظر الفقهاء واشتهرت فضائله وسمع الحديث وشرحا المحصول للرازي وصنف القواعد في أربعة فنون أصول الفقه وأصول الدين والمنطق والخلاف وله معرفة جيدة في المنطق والنحو والادب وقد رحل إلى مصر فدرس بمشهد الحسين والشافعي وغيرهما ورحل إليه الطلبة وتوفي في العشرين من رجب في القاهرة عن ثنتين وسبعين سنة
الشمس محمد بن العفيف
سليمان بن علي بن عبد الله بن علي التلمساني الشاعر المطبق كانت وفاته في حياة أبيه فتألم له ووجد عليه وجدا شديدا ورثاه بأشعار كثيرة توفي يوم الاربعاء الرابع عشر من رجب وصلى عليه بالجامع ودفن بالصوفية فمن رائق شعره قوله وإن ثناياه نجوم لبدره ... وهن لعقد الحسن فيه فرائد ... وكم يتجافى خصره وهو ناحل ... وكم يتحلى ثغره وهو بارد ...
وله يذم الحشيشة ... ما للحشيشة فضل عند آكلها ... لكنها غير مصروف إلى رشده ... صفراء في وجهه خضراء في فمه ... حمراء في عينة سوداء في كبده ...
ومن شعره أيضا
... بدا وجهه من فوق ذابل خده ... وقد لاح من سود الذوائب في جنح ... فقلت عجيب كيف لم يذهب الدجا ... وقد طلعت شمس النهار على رمح ...
وله من جملة ا بيات
... ما أنت عندي والقضي ... ب اللدن في حد سوى ... هذاك حركه الهوا ... وأنت حركت الهوى ...
الملك المنصور شهاب الدين
محمود بن الملك الصالح إسماعيل بن العادل توفي يوم الثلاثاء ثامن عشر شعبان وصلى عليه بالجامع ودفن من يومه بتربة جده وكان ناظرها وقد سمع الحديث الكثير وكان يحب أهله (13/315)
وكان فيه لطف وتواضع
الشيخ فخر الدين أبو محمد
عبد الرحمن بن يوسف البعلبكي الحنبلي شيخ دار الحديث النورية ومشهد ابن عروة وشيخ الصدرية كان يفتى ويفيد الناس مع ديانة وصلاح وزهادة وعبادة ول سنة إحدى عشرة وستمائة وتوفي في رجب منها
ثم دخلت سنة تسع وثمانين وستمائة
فيها كانت
وفاة الملك المنصور قلاوون
وكان الخليفة الحاكم العباسي ونائب مصر حسام الدين طرقطاي ونائب الشام حسام الدين لاجين وقضاة الشام شهاب الدين بن الخوي الشافعي وحسام الدين الحنفي ونجم الدين بن شيخ الجبل وجمال الدين الزواوي المالكي وجاء البريد يطلب شمس الدين سنقر الاشقر إلى الديار المصرية فأكرمه السلطان وقواه وشديده وأمره باستخلاص الاموال وزاده مشد الجيوش والكلام على الحصون إلى البيرة وكختا وغير ذلك فقويت نفسه وزاد تجبره ولكن كان يرجع إلى مروءة وستروينفع من بنتمي إليه وذلك مودة في الدنيا في أيام قلائل وفي جمادي الاخرة جاء البريد بالكشف على ناصر الدين المقدسي وكيل بيت المال وناظر الخاص فظهرت عليه مخازي من أكل الاوقاف وغيرها فرسم عليه بالعذراوية وطولب بتلك الاموال وضيق عليه وعمل فيه سيف الدين أبو العباس السامري قصيدة يتشفى فيها لما كان أسدي إليه من الظلم والايذاء مع أنه راح إليه وتغمم له وتمازحا هنالك ثم جاء البريد بطلبه إلى الديار المصرية فخاف النواب من ذهابه فأصبح يوم الجمعة وهو مشنوق بالمدرسة العذراوية فطلبت القضاة والشهود فشاهدوه كذلك ثم جهز وصلى عليه بعد الجمعة ودفن بمقابر الصوفية عند أبيه وكان مدرسا بالرواحية وتربة أم الصالح مع الوكالتين والنظر
وجاء البريد بعمل مجانيق لحصار عكا فركب الاعسر إلى أراضي بعلبك لما هنالك من الاخشاب العظيمة التي لا يوجد مثلها بدمشق وهي تصلح لذلك فكثرت الجنايات والجبايات والسخر وكلفوا الناس تكليفا كثيرا وأخذوا أخشاب الناس وحملت إلى دمشق بكلفة عظيمة وشدة كثيرة فإنا لله وإنا إليه راجعون وفاة الملك المنصور قلاوون
بينما الناس في هذا الهم والمصادرات وأمثال ذلك إذ وردت بريدية فأخبروا بوفاة الملكا لمنصور يوم السبت سادس ذي القعدة من هذه السنة بالمخيم ظاهر القاهرة ثم حمل إلى قلعة الجبل ليلا وجلس بعده ولده الملك الاشرف خليل بولاية العهد له وحلف له جميع الامراء وخطب له على المنابر وركب في أبهة الملك والعساكر كلهم في خدمته مشاة من قلعة الجبل إلى الميدان الاسود الذي هو سوق الخيل وعلى الامراء والمقدمين الخلع وعلى القضاة والاعيان ولما جاءت الاخبار (13/316)
بذلك حلف له الامراء بالشام وقبض على حسام الدين طرقطاي نائب أبيه وأخذ منه أموالا جزيلة أنفق منها على العساكر
وفيها ولى خطابة دمشق زين الدين عمر بن مكي بن المرحل عوضا عن جمال الدين بن عبد الكافي وكان ذلك بمساعدة الأعسر وتولى نظر الجامع الرئيس وجيه الدين ابن المنجي الحنبلي عوضا عن ناصر الدين بن المقدسي وثمر وقعة وعمره وزاد مائة وخمسين الفا وفيها احترقت دار صاحب حماة وذلك أنه وقع فيها نار في غيبته فلم يتجاسر أحد يدخلها فعملت النار فيها يومين فاحترقت واحترق كل ما فيها
وفي شوال درس بتربة أم الصالح بعد ابن المقدسي القاضي إمام الدين القوتوي وفيها باشر الشرف حسين بن أحمد بن الشيخ ابي عمر قضاء الحنابلة عوضا عن ابن عمه نجم الدين بن شيخ الجبل عن مرسوم الملك المنصور قبل وفاته وحج بالناس في هذه السنة من الشام الامير بدر الدين بكتوت الدوباسي وحج قاضي القضاة شهاب الدين بن الخوي وشمس الدين بن السلعوس ومقدم الركب الامير عتبه فتوهم منه أبو نمى وكان بينهما عداوة فأغلق أبواب مكة ومنع الناس من دخولها فاحرق الباب وقتل جماعة ونهب بعض الاماكن وجرت خطوب فظيعة ثم أرسلوا القاضي ابن الخوي ليصلح بين الفريقين ولما استقر عند أبي نمى رحل الركوب وبقى هو في الحرم وحده وأرسل معه أبو نمى من الحقه بهم سالما معظما وجاء الخبر بموت المنصور إلى الناس وهم بعرفات وهذا شيء عجيب وجاء كتاب يستحث الوزير ابن السلعوس في المسير إلى الديار المصرية وبين الاسطر بخط الملك الاشرف يا شقير يا وجه الخير احضر لتستلم الوزارة فساق إلى القاهرة فوصلها يوم الثلاثا عاشر المحرم فتسلم الوزارة كما قال السلطان وممن توفي فيها من الاعيان
السلطان الملك المنصور قلاوون
ابن عبد الله التركي الصالحي الالفي اشتراه الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الملك الكامل محمد بن العادل ابي بكر بن أيوب بألفي دينار وكان من أكابر الامراء عنده وبعده ولما تزوج الملك السعيد بن الظاهر بابنته غازية خاتون عظم شأنه جدا عند الظاهر وما زال يترفع في الدولة حتى صار أتابك سلامش بن الظاهر ثم رفعة من البين واستقل بالملك في سنة أربع وثمانين وفتح طرابلس سنة ثمان وثمانين وعزم على فتح عكا وبرز إليها فعالجه المنية في السادس والعشرين من ذي القعدة ودفن بتربته بمدرسته الهائلة التي أنشاها بين القصرين التي ليس بديار مصر ولا بالشام مثلها وفيها دار حديث ومارستان وعليها أوقاف دارة كثيرة عظيمة مات عن قريب من ستين سنة وكانت مدة ملكه اثنتي عشرة سنة وكان حسن الصورة مهيبا عليه أبهة السلطنة (13/317)
ومهابة الملك تام القامة حسن اللحية عالي الهمة شجاعا وقورا سامحه الله
الامير حسام الدين طرقطاي
نائب السلطنة المنصورية بمصر أخذه الاشرف فسجنه في قلعة الجبل ثم قتله وبقي ثمانية أيام لا يدري به ثم لف في حصير وألقي عل مزبله وحزن عليه بعض الناس فكفن كآحاد الفقراء بعد النعيم الكثير والدنيا المتسعة والكلمة النافذة وقد أخذ السلطان من حواصله ستمائة ألف دينار وسبعين قنطارا بالمصري فضة ومن الجواهر شيئا كثيرا سوى الخيل والبغال والجمال والامتعة والبسط الجياد والأسلحة المثمنة وغير ذلك من الحواصل والاملاك بمصر والشام وترك ولدين أحدهما أعمى وقد دخل هذا الاعمى على الاشرف فوضع المنديل على وجهه وقال شيء لله وذكر له أن لهم أياما لا يجدون شيئا يأكلونه فرق له وأطلق لهم الاملاك يأكلون من ريعها فسبحان الله المتصرف في خلقه بما يشاء يعز من يشاء ويذل من يشاء
الشيخ الامام العلامة
رشيد الدين عمر بن إسماعيل بن مسعود الفارقي الشافعي مدرس الظاهرية توفي بها وقد جاوز التسعين وجد مخنوقا في المحرم ودفن بالصوفية وقد سمع الحديث وكان منفردا في فنون من العلوم كثيرة منها علم النحو والادب وحل المترجم والكتابة والانشاء وعلم الفلك والنجوم وضرب الرمل والحساب وغير ذلك وله نظم حسن
الخطيب جمال الدين أبو محمد
عبد الكافي بن عبد الملك بن عبد الكافي الربعي توفي بدار الخطابة وحضر الناس الصلاة عليه يوم السبت سلخ جمادي الاولى وحمل إلى السفح فدفن إلى جانب الشيخ يوسف الفقاعي
فخر الدين أبو الظاهر إسماعيل
ابن عز القضاة ابي الحسن علي بن محمد بن عبد الواحد بن أبي اليمن الشيخ الزاهد المتقلل من متاع الدنيا توفي في العشرين من رمضان وصلى عليه في الجامع ودفن بتربة بني الزكي بقاسيون محبة في محيي الدين بن عربي فإنه كان يكتب من كلامه كل يوم ورقتين ومن الحديث ورقتين وكان مع هذا يحسن الظن به وكان يصلي مع الائمة كلهم بالجامع وقد اخبر عنه بعض العلماء أنه رأى بخطه ... وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه عينه ...
وقد صحح على عينه وإنما الصحيح المروي عمن أنشد هذا الشعر ... تدل على أنه واحد ...
وله شعر فمنه
... والنهر مذجن في الغصون هوى ... فراح في قلبه يمثلها (13/318)
فغر منه النسيم عاشقها ... فجاء عن وصله يميلها ...
وله أيضا
... لما تحقق بالامكان فوقكم ... وقد بدا حكمه في عالم الصور ... فميز الجمع عنه وهو متخد ... فلاح فرقكم في عالم الصور ... وله ... لي سادة لا أرى سواهم ... هم عين معناي وعين جوفي ... لقد أحاطوا بك جزء ... مني وعزوا عن درك طرفي ... هم نظروا في عموم فقري ... وطول ذلي وفرط ضعفي ... فعاملوني ببحت جود ... وصرف بر ومحض لطف ... فلا تلم إن جررت ذيلي ... فخرا بهم أو ثنيت عطفي ... وله ... مواهب ذي الجلال لدى تترى ... فقد أخر ستني ونطقن شكرا ... فنعمي إثر نعمي إثر نعمي ... وبشرى بعد بشرى بعد بشرى ... لها بده وليس لها إنتهاء ... يعم مزيدها دنيا وأخرى ... الحاج طيبرس بن عبد الله
علاء الدين الوزير صهر الملك الظاهر كان من أكابر الأمراء ذوي الحل والعقد وكان دينا كثير الصدقات له خان بدمشق أوقفه وله في فكاك الاسرى وغير ذلك واوصى عند موته بثلثمائة الف تصرف على الجند بالشام ومصر فحصل لكل جندي خمسون درهما وكانت وفاته في ذي الحجة ودفن بتربته بسفح المقطم
قاضي القضاة
نجم الدين أبو العباس بن الشيخ شمس الدين بن أبي عمر المقدسي توفي ثاني عشر رجب بسوا وكان فاضلا بارعا خطيبا مدرسا بأكثر المدارس وهو شيخ الحنابلة وابن شيخهم وتولى بعده القضاء الشيخ شرف الدين حسين بن عبد الله بن أبي عمر والله أعلم
ثم دخلت سنة تسعين وستمائة من الهجرة
فيها فتحت عكا وبقية السواح التي كانت بأيدي الفرنج من مدد متطاولة ولم يبق لهم فيها حجر واحد ولله الحمد والمنة
استهلت هذه السنة والخليفة الحاكم بأمر الله أبو العباس العباسي وسلطان البلاد الملك الاشرف خليل بن المنصور قلاوون ونائبه بمصر وأعمالها بدر الدين بيدرا ووزيره ابن السلعوس الصاحب شمس الدين ونائبه بالشام حسام الدين لاجين السلحداري المنصوري وقضاة الشام (13/319)
هم المذكورون في التي قبلها وصاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف بن المنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول وصاحب مكة نجم الدين أبو نمي محمد بن إدريس بن علي بن قتادة الحسيني وصاحب المدينة عز الدين جماز بن شيحة الحسيني وصاحب الروم غياث الدين كنجسر وهو ابن ركن الدين قلج أرسلان السلجوقي وصاحب حماة تقي الدين محمود بن الملك المنصور ناصر الدين محمد بن الملك المظفر تقي الدين محمد وسلطان بلاد العراق وخراسان وتلك النواحي ارغون بن أبغا بن هولاكوين تولى بن جنكزخان
وكان أول هذه السنة يوم الخميس وفيه تصدق عن الملك المنصور بأموال كثيرة جدا من الذهب والفضة وأنزل السلطان إلى تربته في ليلة الجمعة فدفن بها تحت القبة ونزل في قبره بدر الدين بيدرا وعلم الدين الشجاعي وفرقت صدقات كثيرة حينئذ ولما قدم الصاحب شمس الدين بن السلعوس من الحجاز خلع عليه للوزارة وكتب تقليده بها القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر كاتب الانشا بيده وركب الوزير في أبهة الوزارة إلى داره وحكم ولما كان يوم الجمعة قبض على شمس الدين سنقر الاشقر وسيف الدين بن جرمك الناصري وأفرج عن الامير زين الدين كتبغا وكان قد قبض عليه مع طرقطاي ورد عليه أقطاعه وأعيد التقي توبة إلى وزارة دمشق مرة أخرى وفيها اثبت ابن الخوي محضرا يتضمن ان يكون تدريس الناصرية للقاضي الشافعي وانتزعها من زين الدين الفارقي
فتح عكا وبقية السواحل
وفيها جاء البريد إلى دمشق في مستهل ربيع الاول لتجهيز الات الحصار لعكا ونودي في دمشق الغزاة في سبيل الله إلى عكا وقد كان أهل عكا في هذا الحين عدوا على من عندهم من تجار المسلمين فقتلوهم وأخذوا أموالهم فأبرزت المناجيق إلى ناحية الجسورة وخرجت العامة والمتطوعة يجرون في العجل حتى الفقهاء والمدرسين والصلحاء وتولى ساقها الامير علم الدين الدويداري وخرجت العساكر بين يدي نائب الشام وخرج هو في آخرهم ولحقه صاحب حماة الملك المظفر وخرج الناس من كل صوب واتصل بهم عسكر طرابلس وركب الأشرف من الديار المصرية بعساكره قاصدا عكا فتوافت الجيوش هنالك فنازلها يوم الخميس رابع ربيع الاخر ونصبت عليها المناجيق من كل ناحية يمكن نصبها عليها واجتهدوا غاية الاجتهاد في محاربتها والتضييق على أهلها واجتمع الناس بالجوامع لقراءة صحيح البخاري فقرأه الشيخ شرف الدين الفزاري فحضر القضاة والفضلاء والاعيان وفي أثناء محاصرة عكا وقع تخبيط من نائب الشام حسام الدين لاجين فتوهم أن السلطان يريد مسكه وكان قد اخبره بذلك الامير الذي يقال له أبو خرص فركب هاربا فرده علم الدين الدويداري بالمسابه وجاء به إلى السلطان فطيب قلبه وخلع عليه تم (13/320)
أمسكه بعد ثلاثة أيام وبعثه إلى قعلة صفد واحتاط على حواصله ورسم على أستاذ داره بدر الدين بكداش وجرى مالا يليق وقوعه هنالك إذ الوقت وقت عسر وضيق وحصار وصمم السلطان على الحصار فرتب الكوسات ثلثمائة حمل ثم زحف يوم الجمعة سابع عشر جمادي الاولى ودقت الكوسات جملة واحدة عند طلوع الشمس وطلع المسلمون على الاسوار مع طلوع الشمس ونصبت السناجق الاسلامية فوق أسوار البلد فولت الفرنج عند ذلك الادبار وركبوا هاربين في مراكب التجار وقتل منهم عدد لا بعمله إلا الله تعالى وغنموا من الامتعة والرقيق والبضائع شيئا كثيرا جدا وأمر السلطان بهدمها وتخريبها بحيث لا ينتفع بها بعد ذلك فيسر الله فتحها نهار جمعة كما اخذتها الفرنج من المسلمين في يوم الجمعة وسلمت صور وصيدا قيادتهما إلى الاشرف فاستوثق الساحل للمسلمين وتنظف من الكافرين وقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين
وجاءت البطاقة إلى دمشق بذلك ففرح المسلمون ودقت البشار في سائر الحصون وزينت البلاد لينتزه فيها الناظرون ولمتفرجون وأرسل السلطان إلى صور أميرا فهدم أسوارها وعفا آثارها وقدكان لها في أيدي الفرنج من سنة ثمان عشرة وخمسمائة وأما عكا فقد كان الملك الناصر يوسف بن أيوب أخذها من أيدي الفرنج ثم إن الفرنج جاؤا فأحاطوا بها بجيوش كثيرة ثم جاء صلاح الدين ليمانعهم عنها مدة سبعة وثلاثين شهرا ثم آخر ذلك استملكوها وقتلوا من كان فيها من المسلمين كما تقدم ذلك
ثم إن السلطان الملك الاشرف خليل بن المنصور قلاوون سار من عكا قاصدا دمشق في أبهة الملك وحرمة وافرة وفي صحبته وزيره ابن السلعوس والجيوش المنصورة وفي هذا اليوم استناب بالشام الامير علم الدين سنجر الشجاعي وسكن بدار السعادة وزيد في إقطاعه حرستا ولم تقطع لغيره وإنما كانت لمصالح حواصل القعلة وجعل له في كل يوم ثلثمائة على دار الطعام وفوض إليه أن يطلق من الخزانة ما يريد من غير مشاورة ولا مراجعة وأرسله السلطان إلى صيدا لأنه كان قد بقي بها برج عصى ففتحه ودقت البشائر بسببه ثم عاد سريعا إلى السلطان فودعه وسار السلطان نحو الديار المصرية في أواخر رجب وبعثه إلى بيروت ليفتحها فسار إليها ففتحها في أقرب وقت وسلمت عثلية وانطرطوس وجبيل ولم يبق بالسواحل ولله الحمد معقل للفرنج إلا بأيدي المسلمين وأراح الله منهم البلاد والعباد ودخل السلطان إلى القاهرة في تاسع شعبان في أبهة عظيمة جدا وكان يوما مشهودا وأفرج عن بدر الدين بيسرى بعد سجن سبع سنين ورجع علم الدين سنجر الشجاعي نائب دمشق إلى دمشق في سابع عشرين الشهر المذكور وقد نظف السواحل من الفرنج بالكلية ولم يبق لهم بها حجر وفي رابع رمضان أفرج عن حسام الدين لاجين من قلعة صفد ومعه جماعة (13/321)
أمراء ورد عليهم إقطاعاتهم وأحسن أليهم وأكرمهم
وفي أوائل رمضان طلب القاضي بدر الدين ابن جماعة من القدس الشريف وهو حاكم به وخطيب فيه على البريد إلى الديار المصرية فدخلها في رابع عشرة وأفطر ليلتئذ عند الوزير ابن السلعوس وأكرمه جدا واحترمه وكانت ليلة الجمعة فصرح الوزير بعزل تقي الدين ابن بنت الاعز وتولية ابن جماعة بالديار المصرية قضاء القضاة وجاء القضاة إلى تهنئتة وأصبح الشهود بخدمته ومع القضاء خطابة الجامع الأزهر وتدريس الصالحية وركب في الخلعة والطرحة ورسم لبقية القضاة أن يستمروا بلبس الطرحات وذهب فخطب بالجامع الازهر وانتقل إلى الصالحية ودرس بها في الجمعة الاخرى وكان درسا حافلا ولما كان يوم الجمعة رسم السلطان للحاكم بأمر الله أن يخطب هو بنفسه الناس يومئذ وأن يذكر في خطبته أنه قد ولي السلطنة للأشرف خليل بن المنصور فلبس خلعة سوداء وخطب الناس بالخطبة التي كان خطب بها في الدولة الظاهرية وكانت من إنشاء الشيخ شرف الدين المقدسي في سنة ستين وستمائة فيكون بين الخطبتين أزيد من ثلاثين سنة وذلك بجامع قلعة الجبل ثم استمر ابن جماعة يخطب بالقلعة عند السلطان وكان يستنيب في الجامع الأزهر وأما ابن بنت الأعز فناله من الوزير إخراق ومصادرة وإهانة بالغة ولم يترك له من مناصبه شيئا وكن بيده سبعة عشر منصبا منها القضاء والخطابة ونظر الاحباس ومشيخة الشيوخ ونظر الخزانة وتداريس كبار وصادره بنحو من أربعين ألف غير مراكبه وأشياء كثيرة ولم يظهر منه استكانة له ولا خضوع ثم عاد فرضى عنه وولاه تدريس الشافعي وعملت ختمة عند قبر المنصور في ليلة الاثنين رابع ذي القعدة وحضرها القضاة والأمراء ونزل السلطان ومعه الخليفة إليهم وقت السحر وخطب الخليفة بعد الختمة خطبة بليغة حرض الناس على غزو بلاد العراق واستنقاذها من أيدي التتر وقد كان الخليفة قبل ذلك محتجبا فرآه الناس جهرة وركب في الاسواق بعد ذلك وعمل أهل دمشق ختمة عظيمة بالميدان الأخضر إلى جانب القصر الأبلق فقرئت ختمات كثيرة ثم خطب الناس بعدها الشيخ عز الدين القاروني ثم ابن البزوري ثم تكلم من له عادة بالكلام وجاءت البريدية بالتهيؤ لغزو العراق ونودي في الناس بذلك وعملت سلاسل عظام بسبب الجسورة على دجلة بغداد وحصلت الاجور على المقصود وإن لم يقع المقصود وحصل لبعض الناس أذى بسبب ذلك
وفيها نادى نائب الشام الشجاعي ان لا تلبس امرأة عمامة كبيرة وخرب الابنية التي على نهر بانياس والجداول كلها والمسالح والسقابات التي على الانهار كلها وأخرب جسر الزلابية وما عليه من الدكاكين ونادى أن لا يمشي أحد بعد العشاء الاخرة ثم أطلق لهم هذه فقط وأخرب الحمام (13/322)
الذي كان بناه الملك السعيد ظاهر باب النصر ولم يكن بدمشق أحسن منه ووسع الميدان الاخضر من ناحية الشمال مقدار سدسه ولم يترك بينه وبين النهر إلا مقدارا يسيرا وعمل هو بنفسه والأمراء بحيطانه
وفيها حبس جمال الدين آقوش الأفرم المنصوري وأميرا آخر معه في القلعة
وفيها حمل الأمير علم الدين الدويداري إلى الديار المصرية مقيدا وقد نظم الشيخ شهاب الدين محمود قصيدة في فتح عكا ... الحمد لله زالت دولة الصلب ... وعز بالترك دين المصطفى العربي ... هذا الذي كانت الامال لو طلبت ... رؤياه في النوم لاستحيت من الطلب ... ما بعد عكا وقد هدت قواعدها ... في البحر للترك عند البر من ارب ... لم يبق من بعدها للكفر إذ خربت ... في البحر والبر ما ينجي سوى الهرب ... أم الحروب فكم قد أنشأت فتنا ... شاب الوليد بها هولا ولم تشب ... يا يوم عكا لقد أنسيت ما سبقت ... به الفتوح وما قد خط في الكتب ... لم يبلغ النطق حد الشكر فيك فما ... عسى يقوم به ذو الشعر والأدب ... أغضبت عباد عيسى إذ أبدتهم ... لله أي رضى في ذلك الغضب ... واشرف الهادي المصطفى البشير علي ... ما أسلف الأشرف السلطان من قرب ... فقر عينا لهذا الفتح وابتهجت ... ببشره الكعبة الغراء في الحجب ... وسار في الارض سيرا قد سمعت به ... فالبر في طرب والبحر في حرب ...
وهي طويلة جدا وله ولغيره في فتح عكا أشعار كثيرة ولما رجع البريد أخبر بان السلطان لما عاد إلى مصر خلع على وزيره ابن السلعوس جميع ملابسه التي كانت عليه ومركوبه الذي كان تحته فركبه ورسم له بثمانية وسبعين ألفا من خزانة دمشق ليشتري له بها قرية قرحتا من بيت المال
وفي هذه السنة انتهت عمارة قلعة حلب بعد الخراب الذي أصابها من هولاكو واصحابه عام ثمان وخمسين وفيها في شوال شرع في عمارة قلعة دمشق وبناء الدور السلطانية والطارمة والقبة الزرقاء حسب ما رسم به السلطان الأشرف خليل بن قلاوون لنائبه علم الدين سنجر الشجاعي وفيها في رمضان اعيد إلى نيابة القلعة الأمير أرجواش وأعطى إقطاعات سنية وفيها أرسل الشيخ الرجيحي من ذرية الشيخ يونس مضيقا عليه محصورا إلى القاهرة وفيها درس عز الدين القاروني بالمدرسة النجيبية عوضا عن كمال الدين ابن خلكان وفي ذلك اليوم درس نجم الدين مكي بالرواحية (13/323)
عوضا عن ناصر الدين ابن المقدسي وفيه درس كمال الدين الطبيب بالمدرسة الدخوارية الطبية وفي هذا الشهر درس الشيخ جلال الدين الخبازي بالخاتونية البرانية وجمال الدين بن الناصر بقي بالفتحية وبرهان الدين الاسكندري بالقوصية التي بالجامع والشيخ نجم الدين الدمشقي بالشريفية عند حارة الغرباء وفيها أعيدت الناصرية إلى الفارقي وفيه درس بالأمينية القاضي نجم الدين ابن صصرى بعد ابن الزملكاني وأخذت منه العادلية الصغيرة لكمال الدين ابن الزملكاني وممن توفي فيها من الاعيان
أرغون بن أبغا ملك التتار
كان شهما شجاعا سفاكا للدماء قتل عمه السلطان أحمد بن هولاكو فعظم في أعين المغول فلما كان في هذه السنة مات من شراب شربه فيه سم فاتهمت المغول اليهود به وكان وزيره سعد الدولة ابن الصفي يهوديا فقتلوا من اليهود خلقا كثيرا ونهبوا منهم أموالا عظيمة جدا في جميع مدائن العراق ثم اختلفوا فيمن يقيمونه بعده فمالت طائفة إلى كيختو فأجلسوه على سرير المملكة فبقي مدة قيل سنة وقيل أقل من ذلك ثم قتلوه وملكوا بعده بيدرا وجاء الخير بوفاة أرغون إلى الملك الأشرف وهو محاصر عكا ففرح بذلك كثيرا وكانت مدة ملك أرغون ثمان سنين وقد وصفه بعض مؤرخي العراق بالعدل والسياسة الجيدة
المسند المعمر الرحالة
فخر الدين بن النجار وهو أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي المعروف بابن النجار ولد في سلخ أو مستهل سنة ست وسبعين وخمسمائة وسمع الكثير ورحل مع أهله وكان رجلا صالحا عابدا زاهدا ورعا ناسكا تفرد بروايات كثيرة لطول عمره وخرجت له مشيخات وسمع منه الخلق الكثير والجم الغفير وكان منصوبا لذلك حتى كبر وأسن وضعف عن الحركة وله شعر حسن منه قوله ... تكررت السنون على حتى ... بليت وصرت من سقط المتاع ... وقل النفع عندي غير اني ... أعلل بالرواية والسماع ... فإن يك خالصا فله جزاء ... وإن يك مالقا فالى ضياع ...
وله أيضا
... إليك اعتذاري من صلاتي قاعدا ... وعجزي عن سعي إلى الجمعات ... وتركي صلاة الفرض في كل مسجد ... تجمع فيه الناس للصلوات ... فيا رب لا تمقت صلاتي ونجني ... من النار واصفح لي عن الهفوات ...
توفي ضحى نهار الاربعاء ثاني ربيع الاخر من هذه السنة عن خمس وتسعين سنة وحضر جنازته خلق كثير ودفن عند والده الشيخ شمس الدين أحمد بن عبد الواحد بسفح قاسيون (13/324)
الشيخ تاج الدين الفزاري
عبد الرحمن بن سباع بن ضياء الدين أبو محمد الفزاري الامام العلامة العالم شيخ الشافعية في زمانه حاز قصب السبق دون أقرانه وهو والد شيخنا العلامة برهان الدين كان مولد الشيخ تاج الدين في سنة ثلاثين وستمائة وتوفي ضحى الاثنين خامس جمادي الاخرة بالمدرسة البادرائية وصلى عليه بعد الظهر بالاموي تقدم للصلاة عليه قاضي القضاة شهاب الدين بن الخوبي ثم صلى عليه عند جامع جراح الشيخ زين الدين الفارقي ودفن عند والده بباب الصغير وكان يوما شديد الزحام وقد كان ممن اجتمع فيه فنون كثيرة من العلوم النافعة والأخلاق اللطيفة وفصاحة المنطق وحسن التصنيف وعلو الهمة وفقه النفس وكتابة الاقليد الذي جمع على ابواب التنبيه وصل فيه إلى باب الغصب دليل على فقه نفسه وعلو قدره وقوة همته ونفوذ نظره وإتصافه بالاجتهاد الصحيح في غالب ما سطره وقد انتفع به الناس وهو شيخ أكابر مشايخنا هو ومحيي الدين النووي وله اختصار الموضوعات لابن الجوزي وهو عندي بخطه وقد سمع الحديث الكثير وحضر عند ابن الزبيدي صحيح البخاري وسمع من ابن الليثي وابن الصلاح واشتغل عليه وعلى ابن عبد السلام وانتفع بهما وخرج له الحافظ علم الدين البرزالي أحد تلاميذه مشيخة في عشرة أجزاء عن مائة شيخ فسمعها عليه الاعيان وله شعر جيد فمنه ... لله أيام جمع الشمل ما برحت ... بها الحوادث حتى أصبحت سمرا ... ومبتدا الحزن من تاريخ مسألتي ... عنكم فلم ألق لاعينا ولا أثرا ... يا راحلين قدرتم فالنجاة لكم ... ونحن للعجز لا نستعجز القدرا ...
وقد ولى الدرس بعده بالبادرائية والحلقة والفتيا بالجامع ولده شيخنا برهان الدين فمشى على طريقة والده وهديه وسمعته رحمه الله وفي ثالث شعبان توفي
الطبيب الماهر عز الدين إبراهيم بن محمد بن طرخان
السويدي الانصاري ودفن بالسفح عن تسعين سنة وروى شيئا من الحديث وفاق أهل زمانه في صناعة الطب وصنف كتبا في ذلك وكان يرمي بقلة الدين وترك الصلوات وانحلال في العقيدة إنكار أمور كثيرة مما يتعلق باليوم الاخر والله يحكم فيه وفي أمثاله بأمره العدل الذي لا يجو ولا يظلم وفي شعره ما يدل على قلة عقله ودينه وعدم إيمانه واعتراضه على تحريم الخمر وأنه قد طال رمضان عليه في تركها وغير ذلك
الشيخ الإمام العلامة
علاء الدين أبو الحسن علي بن الامام العلامة كمال الدين عبد الواحد بن عبد الكريم بن (13/325)
خلف الانصاري الزملكاني وقد درس بعد أبيه المذكور بالأمينية وكانت وفاة والده هذا ليلة الثلاثاء التاسع والعشرين من ربيع الاخر بالأمينية ودفن بمقابر الصوفية عند والده الأمير الكبير بدر الدين علي بن عبد الله الناصري ناظر الرباط بالصالحية عن وصية أستاذه وهو الذي ولى الشيخ شرف الفزاري مشيخة الرباط بعد ابن الشريشي جمال الدين وقد دفن بالتربة الكبيرة داخل الرباط المذكور
الشيخ الامام أبو حفص عمر بن يحيى بن عمر الكرخي
صهر الشيخ تقي الدين بن الصلاح وأحد تلاميذه ولد سنة تسع وتسعين وخمسمائة ومات يوم الاربعاء ثاني ربيع الآخر من هذه السنة ودفن إلى جانب ابن الصلاح
الملك العادل بدر الدين سلامش بن الظاهر
الذي كان قد بويع بالملك بعد أخيه الملك السعيد وجعل الملك المنصور قلاوون أتابكه ثم استقل قلاوون بالملك وأرسلهم إلى الكرك ثم أعادهم إلى القاهرة ثم سفرهم الاشرف خليل في أول دولته إلى بلاد الاشكري من ناحية اصطنبول فمات سلامش هناك وبقي أخوه نجم الدين خضر وأهلوهم بتلك الناحية وقد كان سلامش من أحسن الناس شكلا وأبهاهم منظرا وقد افتتن به خلق كثير واللوطية الذين يحبون المردان وشبب به الشعراء وكان عاقلا رئيسا مهيبا وقورا
العفيف التلمساني
أبو الربيع سليمان بن علي بن عبد الله بن علي بن يس العابدي الكرمي ثم التلمساني الشاعر المتقن المتفنن في علوم منها النحو والادب والفقه والاصول وله في ذلك مصنفات وله شرح مواقف النفر وشرح أسماء الله الحسنى وله ديوان مشهور ولولده محمد ديوان آخر وقد نسب هذا الرجل إلى عظائم في الأقوال والاعتقاد في الحلول والاتحاد والزندقة والكفر المحض وشهرته تغني عن الاطناب في ترجمته توفي يوم الاربعاء خامس رجب ودفن بالصوفية ويذكر عنه أنه عمل أربعين خلوة كل خلوة أربعين يوما متتابعة فالله أعلم
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وستمائة
فيها فتحت قلعة الروم وسلطان البلاد من دنقله إلى مصر إلى أقصى بلاد الشام بكماله وسواحله بلاد حلب وغير ذلك الملك الأشرف صلاح الدين خليل بن الملك المنصور قلاوون ووزيره شمس الدين بن السعلوس وقضاته بالشام ومصرهم المذكورون في التي قبلها ونائب مصر بدر الدين بندار ونائب الشام علم الدين سنجر الشجاعي وسلطان التتر بيدار بن أرغون بن أبغا والعمارة (13/326)
الخزائن أتلف شيئا كثيرا من الدخائر والنفائس والكتب وفي التاسع والعشرين من ربيع الاول خطب الخليفة الحاكم وحث في خطبته على الجهاد والنفير وصلى بهم الجمعة وجهر بالبسملة وفي ليلة السبت ثالث عشر صفر جيء بهذا الجرز الاحمر الذي بباب البرادة من عكا فوضع في مكانه وفي ربيع الاول كمل بناء الطارمة وما عندها من الدور والقبة الزرقاء وجاءت في غاية الحسن والكمال والارتفاع وفي يوم الاثنين ثاني جمادى الاولى ذكر الدرس بالظاهرية الشيخ صفي الدين محمد بن عبد الرحيم الارموي عوضا عن علاء الدين بن بنت الاعز وفي هذا اليوم درس بالدولعية كمال الدين بن الزكي وفي يوم الاثنين سابع جمادى الاخرة درس بالنجيبية الشيخ ضياء الدين عبد العزيز الطوسي بمقتضى نزول الفارقي له عنها والله أعلم بالصواب
فتح قلعة الروم
وفي ربيع الاول منها توجه السلطان الاشرف بالعساكر نحو الشام فقدم دمشق ومعه وزيره ابن السلعوس فاستعرض الجيوش وأنفق فيهم أموالا جزيلة ثم سار بهم نحو بلاد حلب ثم سار إلى قلعة الروم فافتتحها بالسيف قهرا في يوم السبت حادي عشر رجب وجاءت البشارة بذلك إلى دمشق وزينت البلد سبعة أيام وبارك الله لجيش المسلمين في سعيهم وكان يوم السبت إلبا على أهل يوم الأحد وكان الفتح بعد حصار عظيم جدا مدة ثلاثين يوما وكانت المنجنيقات تزيد على ثلاثين منجنيقا واشتهد من الأمراء شرف الدين بن الخطير وقد قتل من اهل البلد خلق كثير وغنم المسلمون منها شيئا كثيرا ثم عاد السلطان إلى دمشق وترك الشجاعي بقلعة الروم يعمرون ماوهى من قلعتها بسبب رمي المنجنيقات عليها وقت الحصار وكان دخوله إلى دمشق بكرة يوم الثلاثاء تاسع عشر شعبان فاحتفل الناس لدخوله ودعوا له وأحبوه وكان يوما مشهودا بسط له كما يبسط له إذا قدم من الديار المصرية وإنما كان ذلك بإشارة ابن السلعوس فهو أول من بسط له وقد كسر أبوه التتر على حمص ولم يبسط له وكذلك الملك الظاهر كسر التتر والروم على البلستين وفي غير موطن ولم يبسط له وهذه بدعة شنعاء قد أحدثها هذا الوزير للملوك وفيها إسراف وضياع مال واشر وبطر ورياء وتكليف للناس واخذ أموال ووضعها في غير مواضعها والله سبحانه سائلة عنها وقد ذهب وتركها يتوارثها الملوك والناس عنه وقد حصل للناس بسبب ذلك ظلم عظيم فليتق العبد ربه ولا يحدث في الاسلام بسبب هواه ومراد نفسه ما يكون سبب مقت الله له وإعراضه عنه فإن الدنيا لاتدوم لأحد ولا يدوم أحد فيها والله سبحانه أعلم
وكان ملك قلعة الروم مع السلطان أسيرا وكذلك رؤس أصحابه فدخل بهم دمشق وهم يحملون رؤس أصحابهم على رؤس الرماح وجهز السلطان طائفة من الجيش نحو جبل كسروان والجزر بسبب (13/327)
ممالأتهم للفرنج قديما على المسلمين وكان مقدم العساكر بندار وفي صحبته سنقر الأشقر واقر سنقر المنصوري الذي كان نائب حلب فعزله عنها السلطان وولى مكانه سيف الدين بلبان البطاحي المنصوري وجماعة آخرون من الامراء الكبار فلما أحاطوا بالجبل ولم يبق إلا دمار أهليه حملوا في الليل إلى بندار حملا كثيرا ففتر في قضيتهم ثم انصرف بالجيوش عنهم وعادوا إلى السلطان فتلقاهم السلطان وترجل السلطان إلى الأمير بندار وهو نائبه على مصر ثم ابن السلعوس نبه السلطان على فعل بندار فلامه وعنفه فمرض من ذلك مرضا شديدا أشفى به على الموت حتى قيل إنه مات ثم عوفي فعمل ختمة عظيمة بجامع دمشق حضرها القضاة والأعيان وأشغل الجامع نظير ليلة النصف من شعبان وكان ذلك ليلة العشر الاول من رمضان وأطلق السلطان أهل الحبوس وترك بقية الضمان عن أرباب الجهات السلطانية وتصدق عنه بشيء كثير ونزل هو عن ضمانات كثيرة كان قد حاف فيها على أربابها وقد امتدح الشهاب محمود الملك الأشرف خليل على فتحة قلعة الروم بقصيدة هائلة فاضلة اولها ... لك الراية الصفراء يقدمها النصر ... فمن كيقبادان رآها وكيسزو ... إذا خفقت في الأفق هدت بنورها ... هوى الشرك واستعلى الهدى وانجلى الثغر ... وان نشرت مثل الاصائيل في الوغى ... جلى النقع من لألاء طلعتها البدر ... وإن يممت زرق العدى سار تحتها ... كتائب خضر دوحا البيض والسمر ... كان مثار النقع ليل وخفقها ... بروق وأنت البدر والفلك الحتر ... وفتح أتى في إثر فتح كأنما ... سماء بدت تترى كواكبها الزهر ... فكم فطمت طوعا وكرها معاقلا ... مضى الدهر عنها وهي عانسة بكر ... بذلت لها عزما فلولا مهابة ... كساها الحيا جاءتك تسعى ولا مهر ... قصدت حمى من قلعة الروم ولم يتح ... لغيرك إذ غرتهم المغل فاغتروا ... ووالوهم سرا ليخفوا أذاهم ... وفي آخر الأمر استوى السر والجهر ... صرفت إليهم همة لو صرفتها ... إلى البحر لاستولى على مده الجزر ... وما قلعة الروم التي حزت فتحها ... وإن عظمت إلا إلى غيرها جسر ... طليعة ما يأتي من الفتح بعدها ... كما لاح قبل الشمس في الأفق الفجر ... فصبحتها بالجيش كالروض بهجة ... صوارمه أنهاره والقنا الزهر ... وأبعدت بل كالبحر والبيض موجه ... وجرد المزاكي السفن والخود الدر ... وأغربت بل كالليل عوج سيوفه ... أهلته ولانبل أنجمه الزهر (13/328)
ولحظات لابل كالنهار شموسه ... محياك والاصال راياتك الصفر ... ليوث من الاتراك آجامها القنا ... لها كل يوم في ذرى ظفر ظفر ... فلا الريخ يجري بينهم لاشتباكها ... عليهم ولا ينهل م فوقهم قطر ... عيون إذا الحرب العوان عرضت ... لخطابها بالنفس لم يغلها مهر ... ترى الموت معقودا يهدب نبالهم ... إذا ما رماها القوس والنظر الشزر ... ففي كل سرح غصن بان مهفهف ... وفي كل قوس مدة ساعد بدر ... إذا صدموا شم الجبال تزلزلت ... واصبح سهلا تحت خيلهم الوعر ... ولو ردت ماء الفرات خيولهم ... لقيل هنا قد كان فيما مضى نهر ... أداروا بها سورا فاضحت كخاتم ... لدى خنصر أو تحت منطقه خصر ... وأرخوا إليها من أكف بحارهم ... سحاب ردى لم يخل من قطره قطر ... كأن المجانيق التي قمن حولها ... رواعد سخط وبلها النار والصخر ... أقامت صلاة الحرب ليلا صخورها ... فأكثرها شفع واكبرها وتر ... ودارت بها تلك النقوب فأسرفت ... وليس عليها في الذي فعلت حجر ... فأضحت بها كالصب يخفي غرامة ... حذار اعاديه وفي قلبه جمر ... وشبت بها النيران حتى تمزقت ... وباحت بما أخفته وأنهتك الستر ... فلاذوا بذيل العفو منك فلم تجب ... رجاءهم لو لم يشب قصدهم مكر ... وما كره المغل اشتغالك عنهم ... بها عندما فروا ولكنهم سروا ... فأحرزتها بالسيف قهرا وهكذا ... فتوحك فيما قد مضى كله قسر ... وأضحت بحمد الله ثغرا ممنعا ... تبيد الليالي والعدى وهو مفتر ... فيا اشرف الاملاك فزت بغزوة ... تحصل منها الفتح والذكر والأجر ... ليهنيك عند المصطفى أن دينه ... توالي له في يمن دولتك النصر ... وبشراك أرضيت المسيح وأحمدا ... وإن غضب اليعفور من ذاك والكفر ... فسر حيث ما تختار فالأرض كلها ... تطيعك والأمصار أجمعها مصر ... ودم وابق للدنيا ليحيى بك الهدى ... ويزهى على ماضي العصور بك العصر ...
حذفت منها أشياء كثيرة
وفيها تولي خطابة دمشق الشيخ عز الدين أحمد الفاروبي الواسطي بعد وفاة زين الدين بن المرحل وخطب واستسقى بالناس فلم يسقوا ثم خطب مرة ثانية بعد ذلك بأيام عند مسجد القدم فلم يسقوا (13/329)
ثم ابتهل الناس من غير دعاية واستسقاية فسقوا ثم عزل الفاروثي بعد أيام بالخطيب موفق الدين أبي المعالي محمد بن محمد بن محمد بن عبد المنعم بن حسن المهراني الحموي كان خطيب حماة ثم نقل إلى دمشق في هذه السنة فقام وخطب وتألم الفاروثي لذلك ودخل على السلطان واعتقد أن الوزير عزله من غير علمه فإذا هو قد شعر لذلك واعتذار بأنه إنما عزله لضعفه فذكر له أن يصلي ليلة النصف مائة ركعة بمائة قل هو الله أحد فلم يقبلوا واستمروا بالحموي وهذه دناءة وقلة عقل وعدم إخلاص من الفاروثي واصاب السلطان في عزله
وفي هذا اليوم قبض السلطان على الأمير سنقر الأشقر وغيره فهرب هو والأمير حسام الدين لاجين السلحداري فنادت عليه المنادية بدمشق من أحضره فله ألف دينار ومن أخفاه شنق وركب السلطان ومماليكه في طلبه وصلى الخطيب بالناس في الميدان الأخضر وعلى الناس كآبة بسبب تفرق الكلمة واضطراب الجيش واختبط الناس فلما كان سادس شوال أمسكت العرب سنقر الأشقر فردوه على السلطان فأرسله مقيدا إلى مصر وفي هذا اليوم ولى السلطان نيابة دمشق لعز الدين أيبك الحموي عوضا عن الشجاعي وقدم الشجاعي من الروم ثاني يوم عزله فتلقاه الفاروثي فقال قد عزلنا من الخطابة فقال ونحن من النيابة فقال الفاروثي عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الارض فينظر كيف تعملون فلما بلغ ابن السلعوس تغضب عليه وكان قد عين له القيمرية فترك ذلك وسافر السلطان عاشر شوال إلى مصر فدخلها في أبهة الملك وفي يوم دخوله أقطع قرا سنقر مائة فارس بمصر عوضا عن نيابة حلب وفي هذه السنة اشترى الأمير سيف الدين طغاي الأشقري قيسارية القطن المعروفة بإنشاء الملك المعظم بن العادل من بيت المال بمرسوم من السلطان وكان حظيا عنده ونقل سوق الحريريين تلك المدة إليها وكان السلطان قد أفرج عن علم الدين الدويداري بعد رجوعه من قلعة الروم واستحضره إلى دمشق وخلع عليه واستصحبه معه إلى القاهرة وأقطعه مائة فارس وولاه مشد الدواوين مكرها
وفي ذي القعدة استحضر السلطان سنقر الأشقر وطقصوا فعاقبهما فاعترفا بأنهما أرادا قتله فسألهما عن لاجين فقالا لم يكن معنا ولا علم له بهذا فخنقهما واطلقه بعد ما جعل الوتر في حلقه وكان قد بقي له مدة لا بد أن يبلغها وقد ملك بعد ذلك كما سنذكره إن شاء الله تعالى
وفي ذي الحجة عقد الشيخ برهان الدين بن الشيخ تاج الدين عقده على بنت قاضي القضاة شهاب الدين الخوبي بالبادرائية وكان حافلا وفيها دخل الامير سنقر الاعسر على بنت الوزير شمس الدين بن السلعوس على صداق ألف دينار وعجل لها خمسمائة وفيها قفز جماعة من التتر نحوا من ثلثمائة إلى الديار المصرية فأكرموا (13/330)
وممن توفي فيها من الاعيان
الخطيب زين الدين أبو حفص
عمر بن مكي بن عبد الصمد الشافعي المعروف بابن المرحل وهو والد الشيخ صدر الدين بن الوكيل سمع الحديث وبرع في الفقه وفي علوم شتى منها علم الهيئة وله فيه مصنف تولى خطابة دمشق ودرس وأفتى توفي ليلة السبت الثالث والعشرين من ربيع الاول وصلى عليه من الغد بباب الخطابة
الشيخ عز الدين الفاروثي
ولى الخطابة قليلا ثم عزل ثم مات ودفن بباب الصغير عفا الله عنا وعنه
الصاحب فتح الدين أبو عبد الله
محمد بن محيي الدين بن عبد الله بن عبد الظاهر كاتب الاسرار في الدولة المنصورية بعد ابن لقمان وكان ماهرا في هذه الصناعة وحظى عند المنصور وكذا عند ابنه الأشرف وقد طلب منه ابن السلعوس أن يقرا عليه كل ما يكتبه فقال هذا لا يمكن فإن اسرار الملوك لا يطلع عليها غيرهم وأبصروا لكم غيري يكون معكم بهذه المثابة فلما بلغ ذلك الأشرف أعجبه منه وازدادت عنده منزلته توفي يوم السبت نصف رمضان وأخرجت في تركته قصيدة قد رثا بها تاج الدين بن الاثير وكان قد شوش فاعتقد أنه يموت فعوفي فبقيت بعده وتولى ابن الاثير بعده ورثاه تاج الدين كما رثاه وتوفي ابن الاثير بعده شهر وأربعة أيام
يونس بن علي بن رضوان بن برقش
الأمير عماد الدين كان أحد الامراء بطبلخانة في الدولة الناصرية ثم حمل وبطل الجندية بالكلية في الدولة المظفرية وهلم جرا إلى هذه السنة وكان الظاهر يكرمه توفي في شوال ودفن عند والده بتربة الخزيميين رحمهم الله
جلال الدين الخبازي
عمر بن محمد بن عمر أبو محمد الخجندي أحد مشايخ الحنفية الكبار أصله من بلاد ما وراء النهر من بلد يقال لها خجندة واشتغل ودرس بخوارزم وأعاد ببغداد ثم قدم دمشق فدرس بالعزية والخاتونية البرانية وكان فاضلا بارعا منصفا مصنفا في فنون كثيرة توفي لخمس بقين من ذي الحجة منها وله ثنتان وستون سنة ودفن بالصوفية
الملك المظفر
قرا أرسلان الافريقي صاحب ماردين توفي وله ثمانون سنة وقام بعده ولده شمس الدين داود ولقب بالملك السعيد والله سبحانه أعلم (13/331)
ثم دخلت سنة ثنتين وتسعين وستمائة
في تاريخ ظهير الدين الكازروني ظهرت نار بأرض المدينة النبوية في هذه السنة نظير ما كان في سنة أربع وخمسين على صفتها إلا أن هذه النار كان يعلو لهيبها كثيرا وكان تحرق الصخر ولا تحرق السعف واستمرت ثلاثة أيام
استهلت هذه السنة والخليفة الحاكم العباسي وسلطان البلاد الملك الاشرف بن المنصور ونائبه بمصر بد الدين بيدرا وبالشام عز الدين أيبك الحموي وقضاة مصر والشام هم الذين كانوا في التي قبلها والوزير شمس الدين بن السلعوس وفي جمادى الآخرة قدم الأشرف دمشق فنزل في القصر الأبلق والميدان الأخضر وجهز الجيوش وتهيأ لغزو بلاد سيس وقدم في غضون ذلك رسل صاحب بلاد سيس يطلبون الصلح فشفع الأمراء فيهم فسلموا بهسنا وتل حمدون ومرعش وهي أكبر بلادهم وأحسنها وأحصنها وهي في فم الدربند ثم ركب السلطان في ثاني رجب نحو سلمية بأكثر الجيش صورة أنه يريد أن يصيب الامير حسام الدين لاجين فأضافه الامير مهنا بن عيسى فلما انقضت الضيافة أمسك له حسام الدين لاجين وكان عنده فجاءه به فسجنه في قلعة دمشق وأمسك مهنا بن عيسى وولى مكانه محمد بن علي بن حذيفة ثم أرسل السلطان جمهور الجيش بين يديه إلى الديار المصرية صحبة نائبة بيدرا ووزيره ابن السلعوس وتأخر هو في خاصكيته ثم لحقهم
وفي المحرم منها حكم القاضي حسام الدين الرازي الحنفي بالتشريك بين العلويين والجعفرين في الدباغة التي كانوا يتنازعونها من مدة مائتي سنة وكان ذلك يوم الثلاثاء سادس عشرين المحرم بدار العدل ولم يوافقه ابن الخوبي ولا غيره وحكم للاعناكيي بصحة نسبهم إلى جعفر الطيار وفيها رسم الأشرف بتخريب قلعة الشوبك فهدمت وكانت من أحصن القلاع وأمنعها وأنفقها وإنما خربها عن رأي عتبة العقبي ولم ينصح للسلطان فيها ولا للمسلمين لأنها كانت شجى في حلوق الاعراب الذين هنك وفيها ارسل السلطان الأمير علم الدين الدويداري إلى صاحب القسطنطينية وإلى أولاد بركة ومع الرسول تحفا كثيرة جدا فلم يتفق خروجه حتى قتل السلطان فعاد إلى دمشق
وفي عاشر جمادى الاولى درس القاضي إمام الدين القزويني بالظاهرية البرانية وحضر عنده القضاة والاعيان وفي الثاني والعشرين من ذي الحجة يوم الاثنين طهر الملك الأشرف أخاه الملك الناصر محمد وابن اخيه الملك المعظم مظفر الدين موسى بن الصالح علي بن المنصور وعمل مهم عظيم ولعب الاشرف بالقبق وتمت لهم فرحة هائلة كانت كالوداع لسلطنته من الدنيا وفي أول (13/332)
المحرم درس الشيخ شمس الدين بن غانم العصرونية وفي مستهل صفر درس الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني بالرواحية عوضا عن نجم الدين بن مكي بحكم انتقاله إلى حلب وإعراضه عن المدرسة المذكورة ودخل الركب الشامي في آخر صفر وكان ممن حج في هذه السنة الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله وكان أميرهم الباسطي ونالهم في معان ريح شديدة جدا مات بسببها جماعة وحملت الريح جمالا عن أماكنها وطارت العمائم عن الرؤس واشتغل كل احد بنفسه وفي صفر منها وقع بدمشق برد عظيم أفسد شيئا كثيرا من المغلات بحيث بيع القمح كل عشرة أواق بدرهم ومات شيء كثير من الدواب وفيه زلزلت ناحية الكرك وسقط من تلفيتا أماكن كثيرة وممن توفي فيها من الاعيان
الشيخ الأرموي
الشيخ الصالح القدوة العارف أبو إسحاق إبراهيم بن الشيخ الصالح أبي محمد عبد الله بن يوسف ابن يونس بن إبراهيم بن سلمان الأرموي المقيم بزاويته بسفح قاسيون كان فيه عبادة وانقطاع وله أوراد وأذكار وكان محببا إلى الناس توفي بالمحرم ودفن عند والده بالسفح
ابن الاعمى صاحب المقامة
الشيخ ظهير الدين محمد بن المبارك بن سالم بن أبي الغنائم الدمشقي المعروف بابن الاعمى ولد سنة عشرة وستمائة وسمع الحديث وكان فاضلا بارعا له قصائد يمتدح بها رسول الله
ص سماها الشفعية عدد كل قصيدة اثنان وعشرون بيتا قال البرزالي سمعته وله المقامة البحرية المشهورة توفي في المحرم ودفن بالصوفية
الملك الزاهر مجير الدين
أبو سليمان داود بن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه صاحب حمص ابن ناصر الدين محمد بن الملك المعظم توفي ببستانه عن ثمانين سنة وصلى عليه بالجامع المظفري ودفن بتربته بالسفح وكان دينا كثير الصلاة في الجامع وله إجازة من المؤيد الطوسي وزينب الشعرية وأبي روح وغيرهم توفي في جمادى الاخرة
الشيخ تقي الدين الواسطي
أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن أحمد بن فضل الواسطي ثم الدمشقي الحنبلي شيخ الحديث بالظاهرية بدمشق توفي يوم الجمعة آخر النهار رابع عشرين جمادى الاخرة عن تسعين سنة وكان رجلا صالحا عابدا تفرد بعلو الرواية ولم يخلف بعده مثله وقد تفقه ببغداد ثم رحل إلى الشام ودرس بالصالحية مدة عشرين سنة وبمدرسة أبي عمر وولى في آخر عمره مشيخة الحديث بالظاهرية بعد سفر الفاروثي وكان داعية إلى مذهب السلف والصدر الأول وكان يعود المرضى ويشهد الجنائز ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وكان من خيار عباد الله تعالى رحمه الله وقد درس بعده بالصالحية الشيخ شمس الدين محمد بن عبد القوى المرداوي وبدرار الحديث الظاهرية (13/333)
شرف الدين عمر بن خواجا إمام الجامع المعروف بالناصح
ابن صاحب حماة الملك الأفضل
نور الدين علي بن الملك المظفر تقي الدين محمود بن الملك المنصور محمد بن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب توفي بدمشق وصلى عليه بجامعها وخرج به من باب الفراديس محمولا إلى مدينة أبيه وتربتهم بها وهو والد الاميرين الكبيرين بدر الدين حسن وعماد الدين إسماعيل الذي تملك حماة بعد مدة
ابن عبد الظاهر
محيي الدين بن عبد الله بن رشيد الدين عبد الظاهر بن نشوان بن عبد الظاهر بن علي بن نجدة السعدي كاتب الانشاء بالديار المصرية وآخر من برز في هذا الفن على أهل زمانه وسبق سائر أقرانه وهو والد الصاحب فتح الدين النديم وقد تقدم ذكر وفاته قبل والده وقد كانت له مصنفات منها سيرة الملك الظاهر وكان ذا مروءة وله النظم الفائق والنثر الرائق توفي يوم الثلاثاء رابع رجب وقد جاوز السبعين ودفن بتربته التي أنشاها بالقرافة
الأمير علم الدين سنجر الحلبي
الذي كان نائب قطز على دمشق فلما جاءته بيعة الظاهر دعا لنفسه فبويع وتسمى بالملك المجاهد ثم حوصر وهرب إلى بعلبك فحوصر فأجاب إلى خدمة الظاهر فسجنه مدة وأطلقه وسجنه المنصور مدة وأطلقه الأشرف واحترمه وأكرمه بلغ الثمانين سنة وتوفي في هذه السنة
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وستمائة
في أولها كان مقتل الأشرف وذلك أنه خرج إلى الصيد في ثالث المحرم فلما كان بارض بروجه بالقرب من الاسكندرية ثاني عشر المحرم حمل عليه جماعة من الأمراء الذين اتفقوا على قتله حين انفرد عن جمهور الجيش فأول من صوبه نائبه بيدرا ونمم عليه لاجين المنصوري ثم اختفى إلى رمضان ثم ظهر يوم العيد وكان ممن اشترك في قتل الأشرف بدر الدين بيسرى وشمس الدين قراسنقر المنصوري فلما قتل الأشرف اتفق الأمراء على تمليك بيدرا وسموه الملك القاهر أو الأوحد فلم يتم له ذلك فقتل في اليوم الثاني بأمر كتبغا ثم اتفق زين الدين كتبغا وعلم الدين سنجر الشجاعي على أن يملكوا أخاه محمد الملك الناصر بن قلاوون وكان عمره إذ ذاك ثمان سنين وشهورا فأجلسوه على سرير المملكة يوم الرابع عشر من المحرم وكان الوزير ابن السلعوس بالاسكندرية وكان قد خرج في صحبة السلطان وتقدم هو إلى الاسكندرية فلم يشعر إلا وقد أحاط به البلاء وجاءه العذاب من كل ناحية وذلك أنه كان يعامل الأمراء الكبار معاملة (13/334)
الصغار فأخذوه وتولى عقوبته من بينهم الشجاعي فضرب ضربا عظيما وقرر على الاموال ولم يزالوا يعاقبونه حتى كان وفاته في عاشر صفر بعد أن احتيط على حواصله كها وأحضر جسد الأشرف فدفن بتربته وتألم الناس لفقده وأعظموا قتله وقد كان شهما شجاعا عالي الهمة حسن المنظر كان قد عزم على غزو العراق واسترجاع تلك البلاد من أيدي التتار واستعد لذلك ونادى به في بلاده وقد فتح في مدة ملكه وكان ثلاث سنين عكا وسائر السواحل ولم يترك للفرنج فيها معلما ولا حجرا وفتح قلعة الروم وبهسنا وغيرها
فلما جاءت بيعة الناصر إلى دمشق خطب له بها على المنابر واستقر الحال على ذلك وجعل الامير كتبغا أتابكه والشجاعي مشاورا كبيرا ثم قتل بعد أيام بقلعة الجبل وحمل رأسه إلى كتبغا فأمر أن يطاف به في البلد ففرح الناس بذلك واعطوا الذين حملوا رأسه مالا ولم يبق لكتبغا منازع ومع هذا كان يشاور الامراء تطييبا لقلوبهم
وفي صفر بعد موت ابن السلعوس عزل بدر الدين بن جماعة عن القضاء وأعيد تقي الدين بن بنت الاعز واستمر ابن جماعة مدرسا بمصر في كفاية ورياسة وتولى الوزارة بمصر الصاحب تاج الدين ابن الحنا وفي ظهر يوم الاربعاء الحادي والعشرين من صفر رتب إمام بمحراب الصحابة وهو كمال الدين عبد الرحمن بن القاضي محيي الدين بن الزكي وصلى بعدئذ بعد الخطيب ورتب بالمكتب الذي بباب الناطفانيين إمام أيضا وهو ضياء الدين بن برهان الدين الاسكندري وباشر نظر الجامع الشريف زين الدين حسين بن محمد بن عدنان وعاد سوق الحريريين إلى سوقه واخلوا قيسارية القطن الذي كان نواب طغجى ألزموهم بسكناها وولى خطابة دمشق الشيخ العلامة شرف الدين أحمد بن جمال الدين أحمد بن نعمة بن أحمد المقدسي بعد عزل موفق الدين الحموي دعوه إلى حماة فخطب المقدسي يوم الجمعة نصف رجب وقرئ تقليده وكانت ولايته بإشارة تاج الدين ابن الحنا الوزير بمصر وكان قصيحا بليغا عالما بارعا
وفي أواخر رجب حلف الأمراء للأمير زين الدين كتبغا مع الملك الناصر محمد بن قلاوون وسارت البيعة بذلك في سائر المدن والمعامل
واقعة عساف النصراني
كان هذا الرجل من أهل السويداء قد شهد عليه جماعة أنه سب النبي ص وقد استجار عساف هذا بابن أحمد بن حجي أمير آل علي فاجتمع الشيخ تقي الدين بن تيمية والشيخ زين الدين الفارقي شيخ دار الحديث فدخلا على الامير عز الدين أيبك الحموي نائب السلطنة فكلماه في أمره فأجابهما إلى ذلك وأرسل ليحضره فخرجا من عنده ومعهما خلق كثير من الناس (13/335)
فرأى الناس عسافا حين قدم ومعه رجل من العرب فسبوه وشتموه فقال ذلك الرجل البدوي هو خير منكم يعني النصراني فرجمهما الناس بالحجارة واصابت عسافا ووقعت خبطة قوية فأرسل النائب فطلب الشيخين ابن تيمية والفارقي فضربهما بين يديه ورسم عليهما في العذراوية وقدم النصراني فأسلم وعقد مجلس بسببه واثبت بينه وبين الشهود عداوة فحقن دمه ثم استدعى بالشيخين فأرضاهما وأطلقهما ولحق النصراني بعد ذلك ببلاد الحجاز فاتفق قتله قريبا من مدينة رسول الله ص قتله ابن أخيه هنالك وصنف الشيخ تقي الدين ابن تيمية في هذه الواقعة كتابه الصارم المسلول على ساب الرسول
وفي شعبان منها ركب الملك الناصر في أبهة الملك وشق القاهرة وكان يوما مشهودا وكان هذا أول ركوبه ودقت البشائر بالشام وجاء المرسوم من جهته فقرئ على المنبر بالجامع فيه الأمر بنشر العدل وطي الظلم وإبطال ضمان الاوقاف والأملاك إلا برضي اصحابها وفي اليوم الثاني والعشرين من شعبان درس بالمسرورية القاضي جمال الدين القزويني أخو إمام الدين وحضر أخوه وقاضي القضاة شهاب الدين الخويي والشيخ تقي الدين بن تيمية وكان درسا حافلا قال البرزالي وفي شعبان اشتهر أن في الغيطة بجسرين تنينا عظيما ابتلع رأسا من المعز كبيرا صحيحا وفي
أخواخر رمضان ظهر الامير حسام الدين لاجين وكان مختفيا منذ قتل الاشرف فاعتذر له عند السلطان فقبله وخلع عليه وأكرمه ولم يكن قتله باختياره وفي شوال منها اشتهر أن مهنا بن عيسى خرج عن طاعة السلطان الناصر وانحاز إلى التتر وفي يوم الاربعاء ثامن ذي القعدة درس بالغزالية الخطيب شرف الدين المقدسي عوضا عن قاضي القضاة شهاب الدين ابن الخوبي توفي وترك الشامية البرانية وقدم على قضاء الشام القاضي بدر الدين أحمد بن جماعة يوم الخميس الرابع عشر من ذي الحجة ونزل العادلية وخرج نائب السلطنة والجيش بكماله لتلقيه وامتدحه الشعراء واستناب تاج الدين الجعبري نائب الخطابة وباشر تدريس الشامية البرانية عوضا عن شرف الدين المقدسي الشيخ زين الدين الفاروثي وانتزعت من يده الناصرية فدرس بها ابن جماعة وفي العادلية في العشرين من ذي الحجة وفي هذا الشهر أخرجوا الكلاب من دمشق إلى الفلاة بأمر واليها جمال الدين أقياي وشدد على الناس والبوابين بذلك
وممن توفي فيها من الاعيان
الملك الاشرف خليل بن قلاوون المنصور وبيدرا والشجاعي وشمس الدين بن السلعوس
الشيخ الامام العلامة
تاج الدين موسى بن محمد بن مسعود المراغي المعروف بأبي الجواب الشافعي درس بالاقبالية (13/336)
وغيرها وكان من فضلاء الشافعية له يد في الفقه والاصول والنحووفهم جيد توفي فجأة يوم السبت ودفن بمقابر باب الصغير وقد جاوز السبعين
الخاتون مؤنس بنت السلطان العادل أبي بكر بن أيوب
وتعرف بدار القطبية وبدار إقبال ولدت سنة ثلاث وستمائة وروت الإجازة عن عفيفة الفارقانية وعن عين الشمس بنت احمد بن أبي الفرج الثقفية توفيت في ربيع الاخر بالقاهرة ودفنت بباب زويلة
الصاحب الوزير فخر الدين
أبو إسحاق إبراهيم بن لقمان بن أحمد بن محمد البناني المصري راس الموقعين وأستاذ الوزراء المشهورين ولد سنة ثنتي عشرة وستمائة وروى الحديث توفي في آخر جمادى الآخرة في القاهرة
الملك الحافظ غياث الدين بن محمد
الملك السعيد معين الدين بن الملك الامجد بهرام شاه بن المعز عز الدي فروخ شاه بن شاهنشاه ابن أيوب وكان فاضلا بارعا سمع الحديث وروى البخاري وكان يحب العلماء والفقراء توفي يوم الجمعة سادس شعبان ودفن عند جده لأمه ابن المقدم ظاهر باب الفراديس
قاضي القضاة شهاب الدين بن الغوبي أبو عبد الله محمد بن قاضي القضاة شمس الدين أبي العباس أحمد بن خليل بن سعادة بن جعفر ابن عيسى بن محمد الشافعي أصلهم من خوى اشتغل وحصل علوما كثيرة وصنف كتبا كثيرة منها كتاب فيه عشرون فنا وله نظم علوم الحديث وكفاية المتحفظ وغير ذلك وقد سمع الحديث الكثير وكان محبا له ولأهله وقد درس وهو صغير بالدماغية ثم ولي قضاء القدس ثم بهسنا ثم ولي قضاء حلب ثم عاد إلى المحلة ثم ولي قضاء القاهرة ثم قدم على قضاء الشام مع تدريس العادلية والغزالية وغيرهما وكان من حسنات الزمان وأكابر العلماء الأعلام عفيفا نزها بارعا محبا للحديث وعلمه وعلمائه وقد خرج له شيخنا الحافظ المزي أربعين حديثا متباينة الاسناد وخرج له تقي الدين ابن عتبة الاسودي الاسعردي مشيخة على حروف المعجم اشتملت على مائتين وستة وثلاثين شيخا قال البرزالي وله نحو ثلثمائة شيخ لم يذكروا في هذا المعجم توفي يوم الخميس الخامس والعشرين من رمضان عن سبع وستين سنة وصلى عليه ودفن من يومه بتربة والده بسفح قاسيون رحمه الله تعالى
الأمير علاء الدين الأعمى ناظر
القدس وباني كثيرا من معالمه اليوم وهو الامي الكبير علاء الدين أيدكين بن عبد الله الصالحي النجمي كان من أكابر الامراء فلما أضر أقام بالقدس الشريف وولى نظره معمره ومثمرة وكان مهيبا لا تخالف مراسيمه وهو الذي بنى المطهرة قريبا من مسجد النبي ص فانتفع الناس (13/337)
بها بالوضوء وغيره ووجد بها الناس تيسيرا وابتنى بالقدس ربطا كثيرة وآثارا حسنة وكان يباشر الامور بنفسه وله حرمة وافرة توفي شوال منها الوزير شمس الدين محمد بن عثمان
ابن أبي الرجال التنوخي المعروف بابن السلعوس وزير الملك الأشرف مات تحت الضرب الذي جاوز ألف مقرعة في عاشر صفر من هذه السنة ودفن بالقرافة وقيل إنه نقل إلى الشام بعد ذلك وكان ابتداء أمره تاجرا ثم ولي الحسبة بدمشق بسفارة تقي الدين بن توبة ثم كان يعامل الملك الأشرف قبل السلطنة فظهر منه على عدل وصدق فلما ملك بعد أبيه المنصور استدعاه من الحج فولاه الوزارة وكان يتعاظم على أكابر الامراء ويسميهم بأسمائهم ولا يقوم لهم فلما قتل استاذه الأشرف تسلموه بالضرب والاهانة وأخذ الأموال حتى اعدموه حياته وصبروه وأسكنوه الثرى بعد أن كان عند نفسه قد بلغ الثريا ولكن حقا على الله أنه ما رفع شيئا إلا وضعه
ثم دخلت سنة أربع وتسعين وستمائة
استهلت والخليفة الحاكم بأمر الله وسلطان البلاد الملك الناصر محمد بن قلاوون وعمره إذ ذاك اثنتا عشرة سنة وأشهرها ومدبر الممالك وأتابك العساكر الأمير زين الدين كتبغا ونائب الشام الأمير عز الدين أيبك الحموي والوزير بدمشق تقي الدين توبة التكريتي وشاد الدواوين شمس الدين الأعسر وقاضي الشافعية ابن جماعة والحنفية حسام الدين الرازي والمالكية جمال الدين الرواوي والحنابلة شرف الدين حسن والمحتسب شهاب الدين الحنفي ونقيب الأشراف زين الدين بن عدنان ووكيل بيت المال وناظر الجامع تاج الدين الشيرازي وخطيب البلد شرف الدين المقدسي
فلما كان يوم عاشوراء نهض جماعة من مماليك الأشرف وخرقوا حرمة السلطان وأرادوا الخروج عليه وجاؤا إلى سوق السلاح فأخذوا ما فيه ثم احتيط عليهم فمنهم من صلب ومنهم من شنق وقطع أيدي آخرين منهم والسنتهم وجرت خبطة عظيمة جدا وكانوا قريبا من ثلثمائة أو يزيدون
سلطنة الملك العادل كتبغا
وأصبح الأمير كتبغا في الحادي عشر من المحرم فلجس على سرير المملكة وخلع الملك الناصر محمد بن المنصور وألزمه بيت أهله وأن لا يخرج منه وبايعه الأمراء على ذلك وهنئوه ومد سماطا حافلا وسارت البريدية بذلك إلى الأقاليم فبويع له وخطب له مستقلا وضربت السكة باسمه وتم الأمر وزينت البلاد ودقت البشائر ولقب بالملك العادل وكان عمره إذ ذاك نحوا من خمسين سنة فإنه من سبي وقعة حمص الاولى التي كانت في أيام الملك الظاهر بعد وقعة عين (13/338)
جالوت وكان من الغويرانية وهم طائفة من التتر واستناب في مصر الامير حسام الدين لاجين السلحداري المنصوري وكان بين يديه مدير المماليك وقد ذكر الجزري في تاريخه عن بعض الأمراء انه شهد هولاكوخان قد سأل منجمه أن يستخرج له من هؤلاء المقدمين في عسكره الذي يملك الديار المصرية فضرب وحسب وقال له أجد رجلا يملكها اسمه كتبغا فظنه كتبغانوين وهو صهر هولاكو فقدمه على العساكر فلم يكن هو فقتل في عين جالوت كما ذكرنا وأن الذي ملك مصر هذا الرجل وهو من خيار الأمراء وأجودهم سيرة ومعدلة وقصدا في نصرة الاسلام
وفي يوم الاربعاء مستهل ربيع الاول ركب كتبغا في أبهة الملك وشق القاهرة ودعا له الناس وعزل الصاحب تاج الدين بن الحنا عن الوزارة وولى فخر الدين بن الخليلي واستسقى الناس بدمشق عند مسجد القدم وخطب بهم تاج الدين صالح الجعبري نيابة عن مستخلفه شرف الدين المقدسي وكان مريضا فعزل نفسه عن القضاء وخطب الناس بعد ذلك وذلك يوم الاربعاء خامس جمادى الاولى فلم يسقوا ثم استسقوا مرة أخرى يوم السبت سابع جمادى الاخرة بالمكان المذكور وخطب بهم شرف الدين المقدسي وكان الجمع أكثر من أول فلم يسقوا وفي رجب حكم جمال الدين ابن الشريشي نيابة عن القاضي بدر الدين بن جماعة وفيه درس بالمعظمية القاضي شمس الدين بن العز انتزعها من علاء الدين بن الدقاق وفيه ولي القدس والخليل الملك الاوحد ابن الملك الناصر داود بن المعظم وفي رمضان رسم للحنابلة أن يصلوا قبل الامام الكبير وذلك أنهم كانوا يصلون بعده فلما أحدث لمحراب الصحابة إمام كانوا يصلون جميعا في وقت واحد فحصل تشويش بسبب ذلك فاستقرت القاعدة على أن يصلوا قبل الامام الكبير وفي وقت صلاة مشهد علي بالصحن عند محرابهم في الرواق الثالث الغربي
قلت وقد تغيرت هذه القاعدة بعدا لعشرين وسبعمائة كما سيأتي
وفي أواخر رمضان قدم القاضي نجم الدين بن صصرى من الديار المصرية على قضاء العساكر بالشام وفي ظهر يوم الخميس خامس شوال صلى القاضي بدر الدين بن جماعة بمحراب الجامع إماما وخطيبا عوضا عن الخطيب المدرس شرف الدين المقدسي ثم خطب من الغد وشكرت خطبته وقراءته وذلك مضاف إليه ما بيده من القضاء وغيره
وفي أوائل شوال قدمت من الديار المصرية تواقيع شتى منها تدريس الغزالية لابن صصرى عوضا عن الخطيب المقدسي وتوقيع بتدريس الامينية لامام الدين القزويني عوضا عن نجم الدين ابن صصرى ورسم لأخيه جلال الدين بتدريس الظاهرية البرانية عوضا عنه وفي شوال كملت عمارة الحمام الذي أنشاه عز الدين الحموي بمسجد اقصب وهو من أحسن الحمامات وباشر مشيخه (13/339)
دار الحديث النورية الشيخ علاء الدين بن العطار عوضا عن شرف الدين المقدسي وحج فيها الملك المجاهد أنس بن الملك العادل كتبغا وتصدقوا بصدقات كثيرة في الحرمين وغيرهما ونودي بدمشق في يوم عرفة أن لا يركب أحد من أهل الذمة خيلا ولا بغالا ومن رأى من المسلمين أحدا من أهل الذمة قد خالف ذلك فله سلبه وفي أواخر هذه السنة والتي تليها حصل بديار مصر غلاء شديد هلك بسببه خلق كثير هلك في شهر ذي الحجة نحو من عشرين الفا وفيها ملك التتار قازان ابن أرغون بن أبغابن تولى بن جننكزخان فأسلم وأظهر الاسلام على يد الامير توزون رحمه الله ودخلت التتار أو أكثرهم في الاسلام ونثر الذهب والفضة واللؤلؤ على رؤس الناس يوم إسلامه وتسمى بمحمود وشهد الجمعة والخطبة وخرب كنائس كثيرة وضرب عليهم الجزية ورد مظالم كثيرة ببغداد وغيرها من البلاد وظهرت السبح والهياكل مع التتار والحمد لله وحده وفيها توفي من الاعيان
الشيخ أبو الرجال المنيني
الشيخ الصالح الزاهد العابد أبو الرجال بن مرعى من بحتر المنين كانت له أحوال ومكاشفات وكان أهل دمشق والبلاد يزورونه في قرية منين وربما قدم هو بنفسه إلى دمشق فيكرم ويضاف وكانت له زاوية ببلده وكان بريئا من هذه السماعات الشيطانية وكان تلميذ الشيخ جندل وكان شيخه الشيخ جندل من كبار الصالحين سالكا طريق السلف أيضا وقد بلغ الشيخ أبو الرجال ثمانين سنة وتوفي بمنين في منزله في عاشر المحرم وخرج الناس من دمشق إلى جنازته فمنهم من أدركها ومن الناس من لم يدرك فصلى على القبر ودفن بزاويته رحمه الله
وفيها في اواخر ربيع الاول جاء الخبر بأن عساف بن أحمد بن حجي الذي كان قد أجار ذلك النصراني الذي سب الرسول قتل ففرح الناس بذلك
الشيخ الصالح العابد الزاهد الورع
بقية السلف جمال الدين أبو القاسم عبدا لصمد بن الحرستاني بن قاضي القضاة وخطيب الخطباء عماد الدين عبدا لكريم بن جمال الدين عبد الصمد سمع الحديث وناب عن أبيه في الامامة وتدريس الغزالية ثم ترك المناصب والدنيا وأقبل على العبادة وللناس فيه اعتقاد حسن صالح يقبلون يده ويسألونه الدعاء وقد جاوز الثمانين ودفن بالسفح عند أهله في أواخر ربيع الاخر
الشيخ محب الدين الطبري المكي
الشافعي سمع الكثير وصنف في فنون كثيرة من ذلك كتاب الاحكام في مجلدات كثيرة مفيدة وله كتاب على ترتيب جامع المسانيد أسمعه لصاحب اليمن وكان مولده يوم الخميس السابع والعشرين من جمادى الاخرة منها ودفن بمكة وله شعر جيد فمنه قصيدته في المنازل التي بين (13/340)
مكة والمدينة تزيد على ثلثمائة بيت كتبها عنه الحافظ شرف الدين الدمياطي في معجمه
الملك المظفر صاحب اليمن
يوسف بن المنصور نور الدين عمر بن علي بن رسول أقام في مملكة اليمن بعد أبيه سبعا وأربعين سنة وعمر ثمانين سنة وكان أبوه قد ولى أزيد من مدة عشرين سنة بعد الملك أقسيس ابن الكامل محمد وكان عمر بن رسول مقدم عساكر أقسيس فلما مات أقسيس وثب على الملك فتم له الأمر وتسمى بالملك المنصور واستمر أزيد من عشرين سنة ثم ابنه المظفر سبعا وأربعين سنة ثم قام من بعده في الملك ولده الملك الأشرف ممهد الدين فلم يمكث سنة حتى مات ثم قام اخوه المؤيد عز الدين داود بن المظفر فاستمر في الملك مدة وكانت وفاة الملك المظفر المذكور في رجب من هذه السنة وقد جاوز الثمانين وكان يحب الحديث وسماعه وقد جمع لنفسه أربعين حديثا
شرف الدين المقدسي
الشيخ الامام الخطيب المدرس المفتي شرف الدين أبو العباس أحمد بن الشيخكمال الدين أحمد بن نعمة بن أحمد بن جعفر بن حسين بن حماد المقدسي الشافعي ولد سنة ثنتين وعشرين وستمائة وسمع الكثير وكتب حسنا وصنف فأجاد وافاد وولى القضاء نيابة بدمشق والتدريس والخطابة بدمشق وكان مدرس الغزالية ودار الحديث النورية مع الخطابة ودرس في وقت بالشامية البرانية وأذن في الافناء لجماعة من الفضلاء منهم الشيخ الامام العلامة شيخ الاسلام أبو العباس بن تيمية وكان يفتخر بذلك ويفرح به ويقول أنا أذنت لابن تيمية بالافتاء وكان يتقن فنونا كثيرة من العلوم وله شعر حسن وصنف كتابا في أصول الفقه جمع فيه شيئا كثيرا وهو عندي بخطه الحسن توفي يوم الاحد سابع عشر رمضان وقد جاوز السبعين ودفن بمقابر باب كيسان عند والده رحمه الله ورحم أباه وقد خطب بعده يوم العيد الشيخ شرف الدين الفزاري خطيب جامع جراح ثم جاء المرسوم لابن جماعة بالخطابة ومن شعر الخطيب شرف الدين بن المقدسي ... أحجج إلى الزهر لتسعى به ... وارم جمار الهم مستنفرا ... من لم يطف بالزهر في وقته ... من قبل أن يحلق قد قصرا ...
واقف الجوهرية الصدر نجم الدين
أبو بكر محمد بن عياش بن أبي المكارم التميمي الجوهري واقف الجوهرية على الحنفية بدمشق توفي ليلة الثلاثاء تاسع عشر شوال ودفن بمدرسته وقد جاوز الثمانين وكانت له خدم على الملوك فمن دونهم
الشيخ الامام العالم المفتي
الخطيب الطبيب مجد الدين أبو محمد عبد الوهاب بن أحمد بن أبي الفتح بن سحنون التنوخي (13/341)
الحنفي خطيب النيرب ومدرس الدماغية للحنفية وكان طبيبا ماهرا حاذقا توفي بالنيرب وصلى عليه بجامع الصالحية وكان فاضلا وله شعر حسن وروى شيئا من الحديث توفي ليلة السبت خامس ذي القعدة عن خمس وسبعين سنة
الفاروثي الشيخ الامام العابد الزاهد
الخطيب عز الدين أبو العباس أحمد بن الشيخ محيي الدين إبراهيم بن عمر بن الفرج بن سابور ابن علي بن غنيمة الفاروثي الواسطي ولد سنة اربع عشرة وستمائة وسمع الحديث ورحل فيه وكانت له فيه يد جيدة وفي التفسير والفقه والوعظ والبلاغة وكان دينا ورعا زاهدا قدم إلى دمشق في دولة الظاهر فاعطى تدريس الجاروضية وإمام مسجد إبن هشام ورتب له فيه شيء على المصالح وكان فيه إثيار وله أحوال صالحة ومكاشفات كثيرة تقدم يوما في محراب ابن هشام ليصلي بالناس فقال قبل أن يكبر للاحرام والتفت عن يمينه فقال أخرج فاغتسل فلم يخرج أحد ثم كرر ذلك ثانية وثالثة فلم يخرج أحد فقال يا عثمان اخرج فاغتسل فخرج رجل من الصف فاغتسل ثم عاد وجاء إلى الشيخ يعتذر إليه وكان الرجل صالحا في نفسه ذكر أنه أصابه فيض من غير ان يرى شخصا فاعتقد أنه لا يلزمه غسل فلما قال الشيخ ما قال اعتقد أنه يخاطب غيره فلما عينه باسمه علم أنه المراد ثم قدم الفاروثي مرة أخرى في أواخر أيام المنصور قلاوون فخطب بجامع دمشق مدة شهور ثم عزل بموفق الدين الحموي وتقدم ذكر ذلك وكان قد درس بالنجيبية وبدار الحديث الظاهرية فترك ذلك كله وسافر إلى وطنه فمات بكرة يوم الاربعاء مستهل ذي الحجة وكان يوم موته يوما مشهودا بواسط وصلى عليه بدمشق وغيرها رحمه الله وكان قد لبس خرقة التصوف من السهروردي وقرأ القراءات العشرة وخلف ألفى مجلد ومائتي مجلدا وحدث بالكثير وسمع منه البرزالي كثيرا صحيح البخاري وجامع الترمذي وسنن ابن ماجه ومسند الشافعي وسمند عبد ابن حميد ومعجم الطبراني الصغير ومسند الدارمي وفضائل القرآن لأبي عبيد وثمانين جزء وغير ذلك
الجمال المحقق
احمد بن عبد الله بن الحسين الدمشقي اشتغل بالفقه على مذهب الشافعي وبرع فيه وافتى واعاد وكان فاضلا في الطب وقد ولي مشيخة الدخوازية لتقدمه في صناعة الطب على غيره وعاد المرضى بالمارستان النوري على قاعدة الاطباء وكان مدرسا للشافعية بالفرخشانية ومعيدا بعدة مدارس وكان جيد الذهن مشاركا في فنون كثيرة سامحه الله
الست خاتون بنت الملك الأشرف
موسى بن العادل زوجة ابن عمها المنصور بن المنصور بن الصالح إسماعيل بن العادل وهي التي اثبت سفهها (13/342)
زمن المنصور قلاوون حتى اشترى منها حزرما وأخذت الزنبقية من زين الدين السامري
الصدر جمال الدين
يوسف بن علي بن مهاجر التكريتي أخو الصاحب تقي الدين توبة ولي حسبة دمشق في وقت ودفن بتربة أخيه بالسفح وكانت جنازته حافلة وكان له عقل وافر وثروة ومروءة وخلف ثلاث بنين شمس الدين محمد وعلاء الدين علي وبدر الدين حسن
ثم دخلت سنة خمس وتسعين وستمائة
استهلت وخليفة الوقت الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد العباسي وسلطان البلاد الملك العادل زين الدين كتبغا ونائبه بمصر الامير حسام الدين لاجين السلحداري المنصوري ووزيره فخر الدين بن الخليلي وقضاة مصر والشام هم المذكورون في التي قبلها ونائب الشام عز الدين الحموي ووزيره تقي الدين توبة وشادالدواوين الأعسر وخطيب البلد وقاضيها ابن جماعة وفي المحرم ولي نظر الايتام برهان الدين بن هلال عوضا عن شرف الدين بن الشيرجي
وفي مستهل هذه السنة كان الغلاء والفناء بديار مصر شديدا جدا وقد تفانى الناس إلا القليل وكانوا يحفرون الحفيرة فيدفنون فيها الفئام من الناس والاسعار في غاية الغلاء والاقوات في غاية القلة والغلاء والموت عمال فمات بها في شهر صفر مائة ألف ونحو من ثلاثين ألفا ووقع غلاء بالشام فبلغت الغرارة إلى مائتين وقدمت طائفة من التتر العويرانية لما بلغهم سلطنة كتبغا إلى الشام لأنه منهم فتلقاهم الجيش بالرحب والسعة ثم سافروا إلى الديار المصرية مع الامير قراسنقر المنصوري وجاء الخبر باشتداد الغلاء والفناء بمصر حتى قيل إنه بيع الفروج بالاسكندرية بستة وثلاثين درهما وبالقاهرة بتسعة عشر والبيض كل ثلاثة بدرهم وأفنيت الحمر واخليل والبغال والكلاب من أكل الناس لها ولم يبق شيء من هذه الحيوانات يلوح إلا أكلوه
وفي يوم السبت الثاني عشر من جمادى الاولى ولي قضاء القضاة بمصر الشيخ العلامة تقي الدين بن دقيق عوضا عن تقي الدين بن بنت الاعز ثم وقع الرخص بالديار المصرية وزال الضر والجوع في جمادى الاخرة ولله الحمد وفي يوم الاربعاء ثاني شهر رجب درس القاضي إمام الدين بالقيمرية عوضا عن صدر الدين ابن رزين الذي توفي قال البرزالي وفيها وقعت صاعقة على قبة زمزم فقتلت الشيخ علي بن محمد بن عبد السلام مؤذن المسجد الحرام كان يؤذن على سطح القبة المذكورة وكان قد روى شيئا من الحديث وفيها قدمت امرأة الملك الظاهر أم سلامش من بلاد الاشكري إلى دمشق في أواخر رمضان فبعث إليها نائب البلد بالهدايا والتحف ورتبت لها الروائب والاقامات وكان قد تفاهم خليل (13/343)
ابن المنصور لما ولى السلطنة
قال الجزري وفي رجب درس كمال الدين بن القلانسي عوضا عن جلال الدين القزويني وفي يوم الاربعاء سابع عشر شعبان درس الشيخ الامام العلامة شيخ الاسلام تقي الدين بن تيمية الحراني بالمدرسة الحنبلية عوضا عن الشيخ زين الدين بن المنجي توفي إلى رحمة الله ونزل ابن تيمية عن حلقة العماد بن المنجا لشمس الدين بن الفخر البعلبكي وفي آخر شوال ناب القاضي جمال الدين الزرعي الذي كان حاكما بزرع وهو سليمان بن عمر بن سالم الازرعي عن ابن جماعة بدمشق فشكرت سيرته وفيها خرج السلطان كتبغا من مصر قاصدا الشام في أواخر شوال ولما جاء البريد بذلك ضربت البشائر بالقلعة ونزلوا بالقلعة السلطان ونائبه لاجين ووزيره ابن الخليلي وفي يوم الاحد سادس عشر ذي القعدة ولي قضاء الحنابلة الشيخ تقي الدين سليمان بن حمزة المقدسي عوضا عن شرف الدين مات رحمه الله وخلع عليه وعلى بقية الحكام وأرباب الولايات الكبار وأكابر الامراء وولي نجم الدين بن أبي الطيب وكلة بيت المال عوضا عن ابن الشيرازي وخلع عليه مع الجماعة ورسم على الاعسر وجماعة من أصحابه وخلق من الكتبة والولاة وصودروا بمال كثير واحتيط على أموالهم وحواصلهم وعلى بنت ابن السلعوس وابن عدنان وخلق وجرت خبطة عظيمة وقدم ابنا الشيخ على الحريري حسن وشيث من بسر لزيارة السلطان فحصل لهما منه رفد وإسعاف وعادا إلى بلادهما وضيفت القلندرية السلطان بسفح جبل المزة فاعطاه نحوا من عشرة آلاف وقدم صاحب حماة إلى خدمة السلطان ولعب معه الكرة بالميدان واشتكت الاشراف من نقيبهم زين الدين بن عدنان فرفع الصاحب يده عنهم وجعل أمرهم إلى القاضي الشافعي فلما كان يوم الجمعة الثاني والعشرين من ذي القعدة صلى السلطان الملك العادل كتبغا بمقصورة الخطابة وعن يمينه صاحب حماة وتحته بدر الدين أمير سلاح وعن يساره أولاد الحريري حسن واخواه وتحتهم نائب المملكة حسام الدين لاجين وإلى جانبه نائب الشام عز الدين الحموي وتحته بدر الدين بيسرى وتحته قراسنقر وإلى جانبه الحاج بهادر وخلفهم أمراء كبار وخلع على الخطيب بدر الدين بن جماعة خلعة سنية ولما قضيت الصلاة سلم على السلطان وزار السلطان المصحف العثماني ثم أصبح يوم السبت فلعب الكرة بالميدان
وفي يوم الاثنين ثاني ذي الحجة عزل الامير عز الدين الحموي عن نيابة الشام وعاتبه السلطان عتابا كثيرا على أشياء صدرت منه ثم عفا عنه وأمره بالمسير معه إلى مصر واستناب بالشام الامير سيف الدين غرلوا العادلي وخلع على المولى وعلى المعزول وحضر السلطان دار العدل وحضر عند الوزير والقضاة والأمراء وكان عادلا كما سمي ثم سافر السلطان في ثاني عشر ذي الحجة نحو بلاد (13/344)
حلب فاجتاز على حرستا ثم أقام بالبرية أياما ثم عاد فنزل حمص وجاء إليه نواب البلاد وجلس الامير غرلو نائب دمشق بدار العدل فحكم وعدل وكان محمود السيرة سديد الحكم رحمه الله تعالى وممن توفي فيها من الاعيان
الشيخ زين الدين بن منجي
الامام العالم العلامة مفتي المسلمين الصدر الكامل زين الدين أبو البركات بن المنجى بن الصدر عز الدين أبي عمر عثمان بن أسعد بن المنجي بن بركات بن المتوكل التنوخي شيخ الحنابلة وعالمهم ولد سنة إحدى وثلاثين وستمائة وسمع الحيث وتفقه فبرع في فنون من العلم كثيرة من الاصول والفروح والعربية والتفسير وغير ذلك وانتهت إليه رياسة المذهب وصنف في الاصول وشرح المقنع وله تعاليق في التفسير وكان قد جمع له بين حسن السمت والديانة والعلم والوجاهة وصحة الذهن والعقيدة والمناظرة وكثرة الصدقة ولم يزل يواظب على الجامع للاشتغال متبرعا حتى توفي يوم الخميس رابع شعبان وتوفيت معه زوجته أم محمد ست إليها بنت صدر الدين الخجندي وصلى عليهما بعد الجمعة بجامع دمشق وحملا جميعا إلى سفح قاسيون شمال الجامع المظفري تحت الروضة قدفنا في تربة واحدة رحمهما الله تعالى وهو والد قاضي القضاة علاء الدين وكان شيخ المسمارية ثم وليها بعده ولداه شرف الدين وعلاء الدين وكان شيخ الحنبلية فدرس بها بعده الشيخ تقي الدين بن تيمية كما ذكرنا ذلك في الحوادث
المسعودي صاحب الحمام بالمزة
احد كبار الامراء هو الأمير الكبير بدر الدين لؤلؤ بن عبد الله المسعودي احد الأمراء المشهورين بخدمة الملوك توفي ببستانه بالمزة يوم السبت سابع عشرين شعبان ودفن صبح يوم الاحد بتربته بالمزة وحضر نائب السلطنة جنازته وعمل عزاؤه تحت النسر بجامع دمشق
الشيخ الخالدي هو الشيخ الصالح إسرائيل بن علي بن حسين الخالدي له زاوية خارج باب السلامة كان يقصد فيها للزيارة وكان مشتملا على عبادة وزهادة وكان لا يقوم لأحد ولو كان من كان وعنده سكون وخشوع ومعرفة بالطريق وكان لا يخرج من منزله إلا إلى الجمعة حتى كانت وفاته بنصف رمضان ودفن بقاسيون رحمه الله تعالى
الشرف حسين المقدسي ( 1 ) هو قاضي القضاة شرف الدين أبو الفضل الحسين ابن الامام الخطيب شرف الدين أبي بكر عبد الله ابن الشيخ ابي عمر المقدسي سمع الحديث وتفقه وبرع في الفروع واللغة وفيه أدب وحسن محاضرة مليح الشكل تولي القضاء بعد نجم الدين بن الشيخ شمس الدين في أواخر سنة سبع (13/345)
وثمانين ودرس بدار الحديث الاشرفية بالسفح توفي ليلة الخميس الثاني والعشرين من شوال وقد قارب الستين ودفن من الغد بمقبرة جده بالسفح وحضر نائب السلطنة والقضاة والاعيان جنازته وعمل من الغد عزاؤه بالجامع المظفري وباشر القضاء بعده تقي الدين سليمان بن حمزة وكذا مشيخة دار الحديث الأشرفية بالسفح وقد وليها شرف الدين الغابر الحنبلي النابلس مدة شهور ثم صرف عنها واستقرت بيد التقى سليمان المقدسي
الشيخ الامام العالم الناسك
أبو محمد بن أبي حمزة المغربي المالكي توفي بالديار المصرية في ذي القعدة وكان قوالا بالحق أمارا بالمعروف ونهاءا عن المنكر
الصاحب محيي الدين بن النحاس
أبو عبد الله محمد بن بدر الدين يعقوب بن إبراهيم بن عبد الله بن طارق بن سالم بن النحاس الاسدي الحلبي الحنفي ولد سنة أربع عشرة وستمائة بحلب واشتغل وبرع وسمع الحديث واقام بدمشق مدة ودرس بها بمدارس كبار منها الظاهرية والزنجانية وولى القضاء بحلب والوزارة بدمشق ونظر الخزانة ونظر الدواوين والاوقاف ولم يزل مكرما معظما معروفا بالفضيلة والانصاف في المناظرة محبا للحديث واهله على طريقة السلف وكان يحب الشيخ عبد القادر وطائفته توفي ببستانه بالمزة عشية الاثنين سلخ ذي الحجة وقد جاوز الثمانين ودفن يوم الثلاثاء مستهل سنة ست وتسعين بمقبرة له بالمزة وحضر جنازته نائب السلطنة والقضاة
قاضي القضاة
تقي الدين أبو القاسم عبدا لرحمن بن قاضي القضاة تاج الدين أبي محمد عبد الوهاب بن القاضي الاعز أبي القاسم خلف بن بدر العلائي الشافعي توفي في جمادى الاولى ودفن بالقرافة بتربتهم ثم دخلت سنة ست وتسعين وستمائة استهلت والخليفة والسلطان ونائب مصر ونائب الشام والقضاة هم المذكورون في التي قبلها والسلطان الملك العادل كتبغا في نواحي حمص يتصيد ومعه نائب مصر لاجين وأكابر الامراء ونائب الشام بدمشق وهو الامير سيف الدين غرلو العادلي فلما كان يوم الاربعاء ثاني المحرم دخل السلطان كتبغا إلى دمشق وصلى الجمعة بالمقصورة وزار قبر هود وصلى عنده وأخذ من الناس قصصهم بيده وجلس بدار العدل في يوم السبت ووقع على القصص هو ووزيره فخر الدين الخليلي وفي هذا الشهر حضر شهاب الدين بن محيي الدين بن النحاس في مدرستي أبيه الزنجانية والظاهرية وحضر الناس عنده ثم حضر السلطان دار العدل يوم الثلاثاء وجاء يوم الجمعة فصلى الجمعة بالمقصورة (13/346)
ثم صعد في هذا اليوم إلى مغارة الدم لزيارتها ودعا هنالك وتصدق بجملة من المال وحضر الوزير الخليلي ليلة الأحد ثالث عشر المحرم إلى الجامع بعدا لعشاء فجلس عند شباك الكاملية وقرأ القراؤن بين يديه ورسم بان يكمل داخل الجامع بالفرش ففعلوا ذلك واستمر ذلك نحوا من شهرين ثم عاد إلى ما كان عليه
وفي صبحية هذا اليوم درس القاضي شمس الدين بن الحريري بالقيمازية عوضا عن ابن النحاس باتفاق بينهم وحضر عنده جماعة ثم صلى السلطان الجمعة الأخرى بالمقصورة ومعه وزيره ابن الخليلي وهو ضعيف من مرض اصابه وفي سابع عشر المحرم أمر للملك الكامل بن الملك السعيد ابن الصالح إسماعيل بن العادل بطبلخانة ولبس الشربوش ودخل القلعة ودقت له الكوسات على بابه ثم خرج السلطان العادل كتبغا بالعساكر من دمشق بكرة الثلاثاء ثاني عشرين المحرم وخرج بعده الوزير فاجتاز بدار الحديث وزار الأثر النبوي وخرج إليه الشيخ زين الدين الفارقي وشافهه بتدريس الناصرية وترك زين الدين تدريس الشامية البرانية فوليها القاضي كمال الدين بن الشريشي وذكر أن الوزير اعطى الشيخ شيئا من حطام الدينا فقبله وكذلك أعطى خادم الأثر وهو المعين خطاب وخرج الاعيان والقضاة مع الوزير لتوديعه ووقع في هذا اليوم مطر جيد استشفى الناس به وغسل آثار العساكر من الاوساخ وغيرها وعاد التقى توبة من توديع الوزير وقد فوض إليه نظر الخزانة وعزل عنها شهاب الدين بن النحاس ودرس الشيخ ناصر الدين بالناصرية الجوانية عوضا عن القاضي بدر الدين بن جماعة في يوم الاربعاء آخر يوم من المحرم
وفي هذا اليوم تحدث الناس فيما بينهم بوقوع تخبيط بين العساكر وخلف وتشويش فغلق باب القلعة الذي يلي المدينة ودخل الصاحب شهاب الدين إليها من ناحية الخوخة وتهيأ النائب والأمراء وركب طائفة من الجيش على باب النصر وقوفا فلما كان وقت العصر وصل السلطان الملك العادل كتبغا إلى القلعة في خمسة أنفس أو ستة من مماليكه فدخل القلعة فجاء إليه الأمراء وأحضر ابن جماعة وحسام الدين الحنفي وجددوا الحلف للأمراء ثانية فحلفوا وخلع عليهم وأمر بالاحتياط على نواب الامير حسام الدين لاجين وحواصله وأقام العادل بالقلعة هذه الايام وكان الخلف الذي وقع بينهم بوادي فحمة يوم الاثنين التاسع والعشرين من المحرم وذلك أن الامير حسام الدين لاجين كان قد واطأ جماعة من الأمراء في الباطن على العادل وتوثق منهم وأشار على العادل حين خرجوا من دمشق أن يستصحب معه الخزانة وذل لئلا يبقى بدمشق شيء من المال يتقوى به العادل إن فاتهم ورجع إلى دمشق ويكون قوة له هو في الطريق على ما عزم عليه من الغدر فلما كانوا بالمكان المذكور قتل لاجين الامير سيف الدين بيحاص وبكتوت الازرق العادليين وأخذ (13/347)
الخزانة من بين يديه والعسكر وقصدوا الديار المصرية فلما سمع العادل بذلك خرج في الدهليز وساق جريدة إلى دمشق فدخلها كما ذكرنا وتراجع إليه بعض مماليكه كزين الدين غلبك وغيره ولزم شهاب الدين الحنفي القلعة لتدبير المملكة ودرس ابن الشريشي بالشامية البرانية بكرة يوم الخميس مستهل صفر وتقلبت أمور كثيرة في هذه الايام ولزم السلطان القلعة لا يخرج منها وأطلق كثيرا من المكوس وكتب بذلك تواقيع وقرئت على الناس وغلا السعر جدا فبلغت الغرارة مائتين واشتد الحال وتفاقم الامر فإنا لله وإنا إليه راجعون
سلطنة الملك منصور لاجين السلحداري
وذلك أنه لما استاق الخزانة وذهب الجيوش إلى الديار المصرية دخلها في ابهة عظيمة وقد اتفق مع جمهور الأمراء الكبار وبايعوه وملكوه عليهم وجلس على سرير الملك يوم الجمعة عاشر صفر ودقت بمصر البشائر وزينت البلد وخطب له على المنابر وبالقدس والخليل ولقب بالملك المنصور وكذلك دقت له البشائر بالكرك ونابلس وصفد وذهبت إليه طائفة من أمراء دمشق وقدمت التجريدة من جهة الرحبة صحبة الأمير سيف الدين كجكن فلم يدخلوا البلد بل نزلوا بميدان الحصن وأظهروا مخالفة العادل وطاعة المنصور لاجين صاحب مصر وركب إليه الأمراء طائفة بعد طائفة وفوجا بعد فوج فضعف أمر العادل جدا فلما رأى انحلال امره قال للأمراء هو خشداشي وأنا وهو شيء واحد وانا سامع له مطيع وانا أجلس في أي مكان من القلعة أراد حتى تكاتبوه وتنظروا ما يقول وجاءت البريدية بالمكاتبات بالأمر بالاحتياط على القلعة وعلى العادل وبقي الناس في هرج وأقوال ذات ألوان مختلفة وأبواب القلعة مغلقة وأبواب البلد سوى باب النصر إلا الخوخة والعامة حول القلعة قد ازدحموا حتى سقطت طائفة منهم بالخندق فمات بعضهم وأمسى الناس عشية السبت وقد أعلن باسم الملك المنصور لاجين ودقت البشائر بذلك بعد العصر ودعا له المؤذنون في سحر ليلة الأحد بجامع دمشق وتلوا قوله تعالى قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذلك من تشاء الاية وأصبح الناس يوم الاحد فاجتمع القضاة والأمراء وفيهم غرلوا العادلي بدار السعادة فحلفوا للمنصور لاجين ونودي بذلك في البلد وأن يفتح الناس دكاكينهم واختفى الصاحب شهاب الدين وأخوه زين الدين المحتسب فعمل الوالي ابن النشابي حسبة البلد ثم ظهر زين الدين فباشرها على عادته وكذلك ظهر أخوه شهاب الدين وسافر نائب البلد غرلوا والأمير جاعان إلى الديار المصرية يلعمان السلطان بوقوع التحليف على ما رسم به وجاء كتاب السلطان أنه جلس على السرير يوم الجمعة عاشر صفر وشق القاهرة في سادس عشرة في أبهة المملكة وعليه الخلعة الخليفية (13/348)
والأمراء بين يديه وأنه قد استناب بمصر الأمير سف الدين سنقر المنصوري وخطب للمنصور لاجين بدمشق أول يوم ربيع الاول وحضر المقصورة القضاة وشمس الدين الاعسر وكجكن واستدمر وجماعة من أمراء دمشق وتوجه القاضي إمام الدين القزويني وحسام الدين الحنفي وجمال الدين المالكي إلى الديار المصرية مطلوبين وقدم الامير حسام الدين أستاذ دار السلطان وسيف الدين جاعان من جهة السلطان فحلفوا الأمراء ثانية ودخلوا على العادل القلعة ومعهم القاضي بدر الدين ابن جماعة وكجكن فحلفوه أيمانا مؤكدة بعدما طال بينهم الكلام بالتركي وذكروا بالتركي في مبايعته أنه راض من البلدان أي بلد كان فوقع التعيين بعد اليمين على قلعة صرخد وجاءت المراسيم بالوزارة لتقي الدين توبة وعزل شهاب الدين الحنفي وبالحسبة لأمين الدين يوسف الأرمني الرومي صاحب شمس الدين الايكي عوضا عن زين الدين الحنفي ودخل الامير سيف الدين قبجق المنصوري على نيابة الشام إلى دمشق بكرة السبت السادس عشر من ربيع الاول ونزل دار السعادة عوضا عن سيف الدين غرلو العادلي وقد خرج الجيش بكماله لتلقيه وحضر يوم الجمعة إلى المقصورة فصلى بها وقرأ بعد الجمعة كتاب سلطاني حسامي بإبطال الضمانات من الاوقاف والأملاك بغير رضى أصحابها وقرأه القاضي محيي الدين بن فضل الله صاحب ديوان الانشاء ونودي في البلد من له مظلمة فليأت يوم الثلاثاء إلى دار العدل وخلع على الامراء والمقدمين وارباب المناصب من القضاة والكتبة وخلع على ابن جماعة خلعتين واحد للقضاء والأخرى للخطابة
ولما كان في شهر جمادى الاخرة وصل البريد فأخبر بولاية إمام الدين القزويني القضاء بالشام عوضا عن بدر الدين بن جماعة وإبقاء ابن جماعة على الخطابة وتدريس القيمرية التي كات بيد إمام الدين وجاء كتاب السلطان بذلك وفيه احترام وإكرام له فدرس بالقيمرية يوم الخميس ثاني رجب ودخل إمام الدين إلى دمشق عقيب صلاة الظهر يوم الاربعاء الثامن من رجب فجلس بالعادلية وحكم بين الناس وامتدحه الشعراء بقصائد منها قصيدة لبعضهم يقول في أولها ... تبدلت الايام من بعد عسرها يسرا ... فأضحت ثغور الشام تفتر بالبشرى ...
وكان حال دخوله عليه خلعة السلطان ومعه القاضي جمال الدين الزواوي قاضي قضاة المالكية وعليه خلعة أيضا وقد شكر سيرة إمام الدين في السفر وذكر من حسن اخلاقه ورياضته ما هو حسن جميل ودرس بالعادلية بكرة الأربعاء منتصف رجب واشهد عليه بعد الدرس بولاية أخيه جلال الدين نيابة الحكم وجلس في الديوان الصغير وعليه الخلعة وجاء الناس يهنئونه وقرئ تقليده يوم الجمعة بالشباك الكمالي بعدا لصلاة بحضرة نائب السلطنة وبقية القضاة قرأه شرف الدين الفزاري وفي شعبان وصل الخبر بان شمس الدين الأعسر تولي بالديار المصرية شد الدواوين (13/349)
والوزارة وباشر المنصبين جميعا وباشر نظر الدواوين بدمشق فخر الدين بن السيرجي عوضا عن زين الدين بن صصرى ثم عزل بعدد قليل بشهر أو أقل بامين الدين بن هلال وأعيدت الشامية البرانية إلى الشيخ زين الدين لافارقي مع الناصرية بسبب غيبة كمال الدين بن الشريشي بالقاهرة
وفي الرابع عشر من ذي القعدة أمسك الامير شمس الدين قراسنقر المنصوري نائب الديار المصرية لاجين هو وجماعة من الامراء معه واحتيط على حواصلهم واموالهم بمصر والشام وولى السلطان نيابة مصر للأمير سيف الدين منكوتمر الحسامي وهؤلاء الأمراء الذين مسكهم هم الذين كانوا قد أعانوه وبايعوه على العادل كتبغا وقدم الشيخ كمال الدين الشريشي ومعه توقيع بتدريس الناصرية عوضا عن الشامية البرانية وأمسك الأمير شمس الدين سنقر الأعسر وزير مصر وشاد الدواوين يوم السبت الثالث والعشرين من ذي الحجة واحتيط على أمواله وحواصله بمصر والشام ونودي بمصر في ذي الحجة أن لا يركب أحد من أهل الذمة فرسا ولا بغلا ومن وجد منهم راكبا ذلك أخذ منه وفيها ملك اليمن السلطان الملك المؤيد هزبر الدين داود بن الملك المظفر المتقدم ذكره في التي قبلها
وممن توفي فيها من الاعيان
قاضي قضاة الحنابلة بمصر
عز الدين عمر بن عبد الله بن عمر بن عوض المقدسي الحنبلي سمع الحديث وبرع في المذهب وحكم بمصر وكان مشكورا في سيرته وحكمه توفي في صفر ودفن بالمقطم وتولى بعده شرف الدين عبدالغني بن يحيى بن محمد بن عبد الله بن نصر الحراني بديار مصر
الشيخ الامام الحافظ القدوة
عفيف الدين ابو محمد عبدالسلام بن محمد بن مزروع بن أحمد بن عزاز المصري الحنبلي توفي بالمدينة النبوية في أواخر صفر ولد سنة خمس وعشرين وستمائة وسمع الحديث الكثير وجاور بالمدينة النبوية خمسين سنة وحج فيها أربعين حجة متوالية وصلى عليه بدمشق صلاة الغائب رحمه الله
الشيخ شيث بن الشيخ علي الحريري
توفي بقرية بسر من حوران يوم الجمعة ثالث عشر ربيع الاخر وتوجه أخوه حسن والفقراء من دمشق إلى هناك لتعزية أخيهم حسن الأكبر فيه
الشيخ الصالح المقري
جمال الدين عبد الواحد بن كثير بن ضرغام المصري ثم الدمشقي نقيب السبع الكبير والغزالية كان قد قرأ على السخاوي وسمع الحديث توفي في أواخر رجب وصلى عليه (13/350)
بالجامع الاموي ودفن بالقرب من قبة الشيخ رسلان
واقف السامرية
الصدر الكبير سيف الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن علي بن جعفر البغدادي السامري واقف السامرية التي إلى جانب الكروسية بدمشق وكانت دارة التي يسكن بها ودفن بها ووقفها دار حديث وخانقاه وكان قد انتقل إلى دمشق وأقام بها بهذه الدار مدة وكانت قديما تعرف بدار ابن قوام بناها من حجارة منحوتة كلها وكان السامري كثير الأموال حسن الأخلاق معظما عند الدولة جميل المعاشرة وله أشعار رائقة ومبتكرات فائقة توفي يوم الاثنين ثامن عشر شعبان وقد كان ببغداد له خطوة عند الوزير ابن العلقمي وامتدح المعتصم وخلع عليه خلعة سوداء سنية ثم قدم دمشق في أيام الناصر صاحب حلب فحظى عنده أيضا فسعى فيه أهل الدولة فصنف فيهم أرجوزة فتح عليهم بسببها بابا فصادرهم الملك بعشرين ألف دينار فعظموه جدا وتوسلوا به إلى أغراضهم وله قصيدة في مدح النبي
ص وقد كتب عنه الحافظ الدمياطي شيئا من شعره
واقف النفيسية التي بالرصيف الرئيس نفيس الدين أبو الفداء إسماعيل بن محمد بن عبد الواحد بن إسماعيل بن سلام بن علي ابن صدقة الحراني كان أحد شهود القيمة بدمشق وولي نظر الايتام في وقت وكان ذا ثروة من المال ولد سنة ثمان وعشرين وستمائة وسمع الحديث ووقف داره دار حديث توفي يوم السبت بعد الظهر الرابع من ذي القعدة ودفن بسفح قاسيون بكرة يوم الاحد بعد ما صلى عليه بالاموي
الشيخ أبو الحسن المعروف بالساروب الدمشقي
يلقب بنجم الدين ترجمه الحريري فأطنب وذكر له كرامات وأشياء فل علم الحروف وغيرها والله أعلم بحاله
وفيها قتل قازان الامير نوروز الذي كان إسلامه على يديه كان نوروز هذا هو الذي استسلمه ودعاه للاسلام فأسلم وأسلم معه أكثر التتر فإن التتر شوشوا خاطر قازان عليه واستمالوه منه وعنه فلم يزل به حتى قتله وقتل جميع من ينسب إليه وكان نوروز هذا من خيار أمراء التتر عند قازان وكان ذا عبادة وصدق في إسلامه وأذكاره وتطوعاته وقصده الجيد رحمه الله وعفا عنه ولقد أسلم علي يديه منهم خلق كثير لا يعلمهم إلا الله واتخذوا السبح والهياكل وحضروا الجمع والجماعات وقرأوا القرآن والله اعلم
ثم دخلت سنة سبع وتسعين وستمائة
استهلت والخليفة الحاكم والسلطان لاجين ونائب مصر منكوتمر ونائب دمشق قبجق وفي عاشر صفر تولي جلال الدين بن حسام الدين القضاء مكان أبيه بدمشق وطلب أبوه إل مصر فأقام (13/351)
عند السلطان وولاه قضاء قضاءة مصر للحنفية عوضا عن شمس الدين السروجي واستقر ولده بدمشق قاضي قضاة الحنفية ودرس بمدرستي أبيه الخانونية والمقدمية وترك مدرسة القصاعين والشبلية وجاء الخبر على يدي البريد بعافية السلطان من الوقعة التي كان وقعها فدقت البشائر وزينت البلد فإنه سقط عن فرسه وهو يلعب بالكرة فكان كما قال الشاعر ... حويت بطشا وإحسانا ومعرفة ... وليس يحمل هذا كله الفرس ...
وجاء على يديه تقليد وخلعة لنائب السلطنة فقرأ التقليد وباس العتبة وفي ربيع الاول درس بالجوزية عز الدين ابن قاضي القضاة تقي الدين سليمان وحضر عنده إمام الدين الشفاعي واخوه جلال الدين وجماعة من الفضلاء وبعد التدريس جلس وحكم عن ابيه بإذنه في ذلك
وفي ربيع الاول غضب قاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد وترك الحكم بمصر أياما ثم استرضى وعاد وشرطوا عليه ان لا يستنيب ولده لامحب وفي يوم الجمعة عاشر ربيع الاخر أقيمت الجمعة بالمدرسة المعظمية وخطب فيها مدرسها القاضي شمس الدين بن المعز الحنفي واشتهر في هذا الحين القبض على بدر الدين بيسرى واحتيط على أمواله بديار مصر وارسل السلطان بجريدة صحبة علم الدين الدويداري إلى تل حمدون ففتحه بحمد الله ومنه وجاء الخبر بذلك إلى دمشق في الثاني عشر من رمضان وخربت به الخليلة وأذن بها الظهر وكان أخذها يوم الاربعاء سابع رمضان ثم فتحت مرعش بعدها فدقت البشائر ثم انتقل الجيش إلى قلعة حموص فأصيب جماعة من الجيش منهم الامير علم الدين سنجر طقصبا أصابه زيار في فخذه وأصاب الامير علم الدين الدويداري حجر في رجله
ولما كان يوم الجمعة سابع عشر شوال عمل الشيخ تقي الدين بن تيمية ميعادا في الجهاد وحرض فيه وبالغ في أجور المجاهدين وكان ميعادا حافلا جليلا
وفي هذا الشهر عاد الملك المسعود بن خضو بن الظاهر من بلاد الأشكري إلى ديار مصر بعد أن مكث هناك من زمن الأشرف بن المنصور وتلقاه السلطاب بالموكب وأكرمه وعظمه وحج الامير خضر بن الظاهر في هذه السنة مع المصريين وكان فيهم الخليفة الحاكم بأمر الله العباسي وفي شهر شوال جلس المدرسون بالمدرسة ألتي انشأها نائب السلطنة بمصر وهي المنكوتمرية داخل باب القنطرة وفيها دقت البشائر لاجل أخذ قلعتي حميمص ونجم من بلاد سيس
وفيها وصلت الجريدة من بلاد مصر قاصدين بلاد سيس مددا لأصحابهم وهي نحو ثلاثة آلاف مقاتل وفي منتصف ذي الحجة أمسك الامير عز الدين أيبك الحموي الذي كان نائب الشام هو وجماعة من أهله وأصحابه من الأمراء وفيها قلت المياه بدمشق جسدا حتى بقي ثورا في (13/352)
بعض الأماكن لا يصل إلى ركبة الانسان وأما بردى فأنه لم يبق فيه مسكة ماء ولا يصل إلى جسر حسرين وغلا سعر الثلج بالبلد وأما نيل مصر فإنه كان في غاية الزيادة والكثرة وممن توفي فيها من الاعيان
الشيخ حسن بن الشيخ علي الحريري
في ربيع الاول بقرية بسر وكان من كبار الطائفة وللناس إليه ميل لحسن أخلاقه وجودة معاشرته ولد سنة إحدى وعشرين وستمائة
الصدر الكبير شهاب الدين
أبو العباس أحمد بن عثمان بن أبي الرجا بن أبي الزهر التنوخي المعروف بابن السلعوس أخو الوزير قرا الحديث وسمع الكثير وكان من خيار عباد الله كثير الصدقة والبر توفي بداره في جمادى الاولى وصلى عليه بالجامع ودفن بباب الصغير وعمل عزاؤه بمسجد ابن هشام وقد ولى في وقت نظر الجامع وشكرت سيرته وحصل له وجاهة عظيمة عريضة أيام وزارة أخيه ثم عاد إلى ما كان عليه قبل ذلك حتى توفي وشهد جنازته خلق كثير من الناس
الشيخ شمس الدين الايكي
محمد بن أبي بكر بن محمد الفارسي المعروف بالايكي أحد الفضلاء الحلالين للمشكلات الميسرين المعضلات لا سيما في علم الاصلين والمنطق وعلم الاوائل باشر في وقت مشيخة الشيوخ بمصر وأقام مدرس الغزالية قبل ذلك توفي بقرية المزة يوم جمعة ودفن يوم السبت ومشى الناس في جنازته منهم قاضي القضاة إمام الدين القزويني وذلك في الرابع من رمضان ودفن بمقابر الصوفية إلى جانب الشيخ شملة وعمل عزاؤه بخانقاه السميساطية وحضر جنازته خلق كثير وكان معظما في نفوس كثير من العلماء وغيرهم
الصدر ابن عقبة
إبراهيم بن أحمد بن عقبة بن هبة الله بن عطاء البصراوي درس وأعاد وولي في وقت قضاء حلب ثم سافر قبل وقاته إلى مصر فجاء بتوقيع فيه قضاء قضاة حلب فلما اجتاز بدمشق توفي بها في رمضان من هذه السنة وله سبع وثمانون سنة يشيب المرء ويشب معه خصلتان الحرص وطول الامل
الشهاب العابر
احمد بن عبد الرحمن بن عبد المنعم بن نعمة المقدسي الحنبلي شهاب الدين عابر الرؤيا سمع الكثير وروى الحديث وكان عجبا في تفسير المنامات وله فيه اليد الطولي وله تصنيف فيه ليس كالذي يؤثر عنه من الغرائب والعجائب ولد سنة ثمان وعشرين وستمائة توفي في ذي القعدة ودفن بباب الصغير وكانت جنازته حافلة رحمه الله تم الجزء الثالث عشر من البداية والنهاية ويليه الجزء الرابع عشر وأوله سنة ثمان وتسعين وستمائة (13/353)
البداية والنهاية الجزء الرابع عشر (14/353)
بسم الله الرحمن الرحيم ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وستمائة
استهلت والخليفة الحاكم العباسي وسلطان البلاد المنصور لاجين ونائبه بمصر مملوكه سيف الدين منكوتمر وقاضي الشافعية الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد والحنفي حسام الدين الرازي والمالكي والحنبلي كما تقدم ونائب الشام سيف الدين قبجق المنصوري وقضاة الشام هم المذكورون في التي قبلها والوزير تقي الدين توبة والخطيب بدر الدين بن جماعة
ولما كان في أثناء المحرم رجعت طائفة من الجيش من بلاد سيس بسبب المرض الذي أصاب بعضهم فجاء كتاب السلطان بالعتب الأكيد والوعيد الشديد لهم وأن الجيش يخرج جميعه صحبة نائب السلطنة قبجق إلى هناك ونصب مشانق لمن تأخر بعذر أو غيره فخرج نائب السلطنة الأمير سيف الدين قبجق وصحبته الجيوش وخرج أهل البلد للفرجة على الأطلاب على ما جرت به العادة فبرز نائب السلطنة في ابهة عظيمة فدعت له العامة وكانوا يحبونه واستمر الجيش سائرين قاصدين بلاد سيس فلما وصلوا إلى حمص بلغ الأمير سيف الدين قبجق وجماعة من الأمراء أن السلطان قد تغلث خاطره بسبب سعي منكوتمر فيهم وعلموا ان السلطان لا يخالفه لمحبته له فاتفق جماعة منهم على الدخول الى بلاد التتر والنجاة بأنفسهم فساقوا من حمص فيمن اطاعهم وهم قبجق وبزلي وبكتمر السلحدار والايلي واستمروا ذاهبين فرجع كثير من الجيش إلى دمشق وتخبطت الامور وتأسفت العوام على قبجق لحسن سيرته وذلك في ربيع الآخر من هذه السنة فانا لله وإنا اليه راجعون (14/2)
ذكر مقتل المنصور لاجين وعود الملك الى محمد بن قلاوون
لما كان يوم السبت التاسع عشر ربيع الاخر وصل جماعة من البريدية وأخبروا بقتل السلطان الملك المنصور لاجين ونائبه سيف الدين منكوتمر وأن ذلك كان ليلة الجمعة حادي عشره على يد الأمير سيف الدين كرجي الاشرفي ومن وافقه من الأمراء وذلك بحضور القاضي حسام الدين الحنفي وهو جالس في خدمته يتحدثان وقبل كانا يلعبان بالشطرنج فلم يشعرا إلا وقد دخلوا عليهم فبادروا الى السلطان بسرعة جهرة ليلة الجمعة فقتلوه وقتل نائبه صبرا صبيحة يوم الجمعة وألقى على مزبلة واتفق الأمراء على إعادة ابن استاذهم الملك الناصر محمد بن قلاوون فارسلوا وراءه وكان بالكرك ونادوا له بالقاهرة وخطب له على المنابر قبل قدومه وجاءت الكتب الى نائب الشام قبجق فوجدوه قد فر خوفا من غائلة لاجين فسارت إليه البريدية فلم يدركوه الا وقد لحق بالمغول عند رأس العين من اعمال ماردين وتفارط الحال ولا قوة الا بالله
وكان الذي شمر العزم وراءهم وساق ليردهم الأمير سيف الدين بلبان وقام باعباء البلد نائب القلعة علم الدين أرجواش والامير سيف الدين جاعان واحتاطوا على ما كان له اختصاص بتلك الدولة وكان منهم جمال الدين يوسف الرومي محتسب البلد وناظر المارستان ثم اطلق بعد مدة وأعيد الى وظائفه واحتيط ايضا على سيف الدين جاعان وحسام الدين لاجين والى البر وأدخلا القلعة وقتل بمصر الامير سيف الدين طغجي وكان قد ناب عن الناصر اربعة ايام وكرجي الذي تولى قتل لاجين فقتلا وألقيا على المزابل وجعل الناس من العامة وغيرهم يتأملون صورة طغجي وكان جميل الصورة ثم بعد الدلال والمال والملك وارتهم هناك قبور فدفن السلطان لاجين وعند رجليه نائبه منكوتمر ودفن الباقون في مضاجعهم هنالك
وجاءت البشائر بدخول الملك الناصر الى مصر يوم السبت رابع جمادي الاولى وكان يوما مشهودا ودقت البشائر ودخل القضاة وأكابر الدولة الى القلعة وبويع بحضرة علم الدين ارجواش وخطب له على المنابر بدمشق وغيرها بحضرة أكابر العلماء والقضاة والأمراء وجاء الخبر بأنه قد ركب وشق القاهرة وعليه خلعة الخليفة والجيش معه مشاة فضربت البشائر أيضا وجاءت مراسيمه فقرئت على السدة وفيها الرفق بالرعايا والأمر بالإحسان اليهم فدعوا له وقدم الأمير جمال الدين آقوش الافرم نائبا على دمشق فدخلها يوم الأربعاء قبل العصر ثاني عشرين جمادي الأولى فنزل بدار السعادة على العادة وفرح الناس بقدومه وأشعلوا له الشموع وكذلك يوم الجمعة أشعلوا له لما جاء إلى صلاة الجمعة بالمقصورة وبعد أيام أفرج عن جاعان ولاجين والى البر وعادا إلى ما كانا عليه واستقر الأمير حسام الدين الاستادار اتابكا للعساكر المصرية والأمير (14/3)
سيف الدين سلار نائبا بمصر وأخرج الأعسر في رمضان من الحبس وولى الوزارة بمصر واخرج قراسنقر المنصوري من الحبس واعطى نيابة الصبيبة ثم لما مات صاحب حماة الملك المظفر نقل قراسنقر اليهما
وكان قد وقع في اواخر دولة لاجين بعد خروج قبجق من البلد محنة للشيخ تقي الدين بن تيمية قام عليه جماعة من الفقهاء وأرادوا احضاره الى مجلس القاضي جلال الدين الحنفي فلم يحضر فنودي في البلد في العقيدة التي كان قد سأله عنها أهل حماة المسماة بالحموية فانتصر له الأمير سيف الدين جاعان وأرسل يطلب الذين قاموا عنده فاختفى كثير منهم وضرب جماعة ممن نادى على العقيدة فسكت الباقون فلما كان يوم الجمعة عمل الشيخ تقي الدين الميعاد بالجامع على عادته وفسر في قوله تعالى وإنك لعلى خلق عظيم ثم اجتمع بالقاضي امام الدين يوم السبت واجتمع عنده جماعة من الفضلاء وبحثوا في الحموية وناقشوه في اماكن فيها فأجاب عنها بما اسكتهم بعد كلام كثير ثم ذهب الشيخ تقي الدين وقد تمهدت الامور وسكنت الاحوال وكان القاضي امام الدين معتقده حسنا ومقصده صالحا
وفيها وقف علم الدين سنجر الدويدار رواقه داخل باب الفرج مدرسة ودار حديث وولى مشيخته الشيخ علاء الدين بن العطار وحضر عنده القضاة والأعيان وعمل لهم ضيافة وأفرج عن قراسنقر وفي يوم السبت حادي عشر شوال فتح مشهد عثمان الذي جدده ناصر الدين بن عبد السلام ناظر الجامع وأضاف اليه مقصورة الخدم من شماليه وجعل له اماما راتبا وحاكى به مشهد علي بن الحسين زين العابدين وفي العشر الأولى من ذي الحجة عاد القاضي حسام الدين الرازي الى قضاء الشام وعزل عن قضاء مصر وعزل ولده عن قضاء الشام وفيها في ذي القعدة كثرت الاراجيف بقصد التتر بلاد الشام وبالله المستعان وممن توفي فيها من الأعيان
الشيخ نظام الدين احمد بن الشيخ جمال الدين محمود بن احمد بن عبد السلام الحصري الحنفي مدرس النورية ثامن المحرم ودفن في تاسعه يوم الجمعة في مقابر الصوفية كان فضالا ناب في الحكم في وقت ودرس بالنورية بعد ابيه ثم درس بعده الشيخ شمس الدين بن الصدر سليمان بن النقيب
المفسر الشيخ العالم الزاهد جمال الدين عبد الله بن محمد بن سليمان بن حسن بن الحسين البلخي ثم المقدسي الحنفي ولد في النصف من شعبان سنة احدى عشرة وستمائة بالقدس واشتغل بالقاهرة وأقام مدة بالجامع الازهر ودرس في بعض المدارس هناك ثم انتقل الى القدس فاستوطنه الى ان مات في المحرم منها وكان (14/4)
شيخا فاضلا في التفسير وله فيه مصنف حافل كبير جمع فيه خمسين مصنفا من التفسير وكان الناس يقصدون زيارته بالقدس الشريف ويتبركون به الشيخ ابو يعقوب المغربي المقيم بالقدس
كان الناس يجتمعون به وهو منقطع بالمسجد الأقصى وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية يقول فيه هو على طريقة ابن عربي وابن سبعين توفي في المحرم من هذه السنة
التقي توبة الوزير تقي الدين توبة بن علي بن مهاجر بن شجاع بن توبة الربعي التكريتي ولد سنة عشرين وستمائة يوم عرفة بعرفة وتنقل بالخدم الى ان صار وزيرا بدمشق مرات عديدة حتىتوفي ليلة الخيمس ثاني جمادي الآخرة وصلى عليه غدوة بالجامع وسوق الخيل ودفن بتربته تجاه دار الحديث الأشرفية بالسفح وحضر جنازته القضاة والأعيان وباشر بعده نظر الدواوين فخر الدين بن الشيرجي وأخذ امين الدين بن الهلال نظر الخزانة
الأمير الكبير
شمس الدين بيسرى كان من أكابر الأمراء المتقدمين في خدمة الملوك من زمن قلاوون وهلم جرا توفي في السجن بقلعة مصر وعمل له عزاء بالجامع الأموي وحضره نائب السلطنة الافرم والقضاة والأعيان
السلطان الملك المظفر
تقي الدين محمود بن ناصر الدين محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن ايوب صاحب حماة وابن ملوكها كابرا عن كابر توفي يوم الخميس الحادي والعشرين من ذي القعدة ودفن ليلة الجمعة
الملك الاوحد
نجم الدين يوسف بن الملك داود بن المعظم ناظر القدس توفي به ليلة الثلاثاء رابع ذي القعدة ودفن برباطه عند باب حطة عن سبعين سنة وحضر جنازته خلق كثير وكان من خيار ابناء الملوك دينا وفضيلة وإحسانا الى الضعفاء
القاضي شهاب الدين يوسف
ابن الصالح محب الدين بن النحاس احد رؤساء الحنفية ومدرس الزنجانية والظاهرية توفي ببستانه بالمزة ثالث عشر ذي الحجة ودرس بعده بالزنجانية القاضي جلال الدين بن حسام الدين
الصاحب نصر الدين ابو الغنائم
سالم بن محمد بن سالم بن هبة الله بن محفوظ بن صصرى التغلبي كان احسن حالا من اخيه القاضي نجم الدين وقد سمع الحديث وأسمعه كان صدرا معظما ولي نظر الدواوين ونظر الخزانة (14/5)
ثم ترك المناصب وحج وجاور بمكة ثم قدم دمشق فأقام بها دون السنة ومات توفي يوم الجمعة ثامن وعشرين ذي الحجة وصلى عليه بعد الجمعة بالجامع ودفن بتربتهم بسفح قاسيون وعمل عزاؤه بالصاحبية
ياقوت بن عبد الله
ابو الدر المستعصمي الكاتب لقبه جمال الدين وأصله رومي كان فاضلا مليح الخط مشهورا بذلك كتب ختما حسانا وكتب الناس عليه ببغداد توفي بها في هذه السنة وله شعر رائق فمنه ما اورده البرزالي في تاريخه عنه ... تجدد الشمس شوقي كلما طعلت ... الى محياك يا سمعي ويا بصري ... وأسهر الليل في انس بلاونس ... إذ طيب ذكراك في ظلماته يسرى ... وكل يوم مضى لا أراك به ... فلست محتسبا ماضيه من عمري ... ليلى نهار إذا ما درت في خلدي ... لأن ذكرك نور القلب والبصر ...
ثم دخلت سنة تسع وتسعين وستمائة وفيها كانت وقعة قازان وذلك ان هذه السنة استهلت والخليفة والسطان هما المذكوران في التي قبلها ونائب مصر سلار ونائب الشام اقوش الافرم وسائر الحكام هم المذكورون في التي قبلها وقد تواترت الأخبار بقصد التتار بلاد الشام وقد خاف الناس من ذلك خوفا شديدا وجفل الناس من بلاد حلب وحماة وبلغ كرى الخيل من حماة الى دمشق نحو المائتي درهم فلما كان يوم الثلاثاء ثاني المحرم ضربت البشائر بسبب خروج السلطان من مصر قاصدا الشام فلما كان يوم الجمعة ثامن ربيع الأول دخل السلطان الى دمشق في مطر شديد ووحل كثير ومع هذا خرج الناس لتلقيه وكان قد اقام بغزة قريبا من شهرين وذلك لما بلغه قدوم التتار الى الشام فتهيأ لذلك وجاء فدخل دمشق فنزل بالطارمة وزينت له البلد وكثرت له الأدعية وكان وقتا شديدا وحالا صعبا وامتلأ البلد من الجافلين النازحين عن بلادهم وجلس الأعسر وزير الدولة وطالب العمال واقتضروا اموال الأيتام وأموال الأسرى لأجل تقوية الجيش وخرج السلطان بالجيش من دمشق يوم الأحد سابع عشر ربيع الأول ولم يتخلف احد من الجيوش وخرج معهم خلق كثير من المتطوعة واخذ الناس في الدعاء والقنوت في الصلوات بالجامع وغيره وتضرعوا واستغاثوا وابتهلوا الى الله بالادعية
وقعة قازان لما وصل السلطان الى وادي الخزندار عند وادي سلمية فالتقى التتر هناك يوم الأربعاء السابع والعشرين من ربيع الأول فالتقوا معهم فكسروا المسلمين وولى السلطان هاربا فانا لله وانا اليه راجعون وقتل جماعة من الأمراء وغيرهم ومن العوام خلق كثير وفقد في المعركة قاضي قضاة (14/6)
الحنفية وقد صبروا وبالوا بلاء حسنا ولكن كان امر الله قدرا مقدورا فولى المسلمون لا يلوى احد على احد ثم كانت العاقبة بعد ذلك للمتقين غير انه رجعت العساكر على اعقابها للديار المصرية واجتاز كثير منهم على دمشق وأهل دمشق في خوف شديد على انفسهم وأهليهم وأموالهم ثم انهم استكانوا واستسلموا للقضاء والقدر وماذا يجدي الحذر اذا نزل القدر ورجع السلطان في طائفة من الجيش على ناحية بعلبك والبقاع وأبواب دمشق مغلقة والقلعة محصنة والغلاء شديد والحال ضيق وفرج الله قريب وقد هرب جماعة من اعيان البلد وغيرهم الى مصر كالقاضي امام الدين الشافعي وقاضي المالكية الزواوي وتاج الدين الشيرازي وعلم الدين الصوابي والى البر وجمال الدين بن النحاس والى المدينة والمحتسب وغيرهم من التجار والعوام وبقي البلد شاغرا ليس فيهم حاكم سوى نائب القلعة
وفي ليلة الأحد ثاني ربيع الأول كسر المحبوسون بحبس باب الصغير الحبس وخرجوا منه على حمية وتفرقوا في البلد وكانوا قريبا من مائتي رجل فنهبوا ما قدروا عليه وجاؤا الى باب الجابية فكسروا اقفال الباب البراني وخرجوا منه الى بر البلد فتفرقوا حيث شاؤا لا يقدر احد على ردهم وعاثت الحرافشة في ظاهر البلد فكسروا ابواب البساتين وقلعوا من الأبواب والشبابيك شيئا كثيرا وباعوا ذلك بأرخص الأثمان هذا وسلطان التتار قد قصد دمشق بعد الوقعة فاجتمع اعيان البلد والشيخ تقي الدين بن تيمية في مشهد على واتفقوا على المسير الى قازان لتلقيه وأخذ الأمان منه لأهل دمشق فتوجهوا يوم الاثنين ثالث ربيع الآخر فاجتمعوا به عند النبك وكلمه الشيخ تقي الدين كلاما قويا شديدا فيه مصلحة عظيمة عاد نفعها على المسلمين ولله الحمد ودخل المسلمون ليلتئذ من جهة قازان فنزلوا بالبدرانية وغلقت ابواب البلد سوى باب توما وخطب الخطيب بالجامع يوم الجمعة ولم يذكر سلطانا في خطبته وبعد الصلاة قدم الامير اسماعيل ومعه جماعة من الرسل فنزلوا ببستان الظاهر عند الطرن وحضر الفرمان بالامان وطيف به في البلد وقرئ يوم السبت ثامن الشهر بمقصورة الخطابة ونثر شيء من الذهب والفضة وفي ثاني يوم من المناداة بالامان طلبت الخيول والسلاح والاموال المخبأة عند الناس من جهة الدولة وجلس ديوان الاستخلاص إذ ذاك بالمدرسة القيمرية وفي يوم الاثنين عاشر الشهر قدم سيف الدين قبجق المنصوري فنزل في الميدان واقترب جيش التتر وكثر العيث في ظاهر البلد وقتل جماعة وغلت الاسعار بالبلد جدا وارسل قبجق الى نائب القلعة ليسلمها الى التتر فامتنع ارجواش من ذلك اشد الامتناع فجمع له قبجق اعيان البلد فكلموه ايضا فلم يجبهم الى ذلك وصمم على ترك تسليمها اليهم وبها عين تطرف فان الشيخ تقي الدين بن تيمية ارسل الى نائب القلعة يقول له ذلك لو لم يبق فيها (14/7)
الا حجر واحد فلا تسلمهم ذلك ان استطعت وكان في ذلك مصلحة عظيمة لهل الشام فان الله حفظ لهم هذا الحصن والمعقل الذي جعله الله حرزا لاهل الشام التي لا تزال دار ايمان وسنة حتى ينزل بها عيسى ابن مريم وفي يوم دخول قبجق الى دمشق دخل السلطان ونائبه سلار الى مصر كما جاءت البطاقة بذلك الى القعلة ودقت البشائر بها فقوى جأش الناس بعض قوة ولكن الامر كما يقال ... كيف السبيل الى سعاد ودونها ... قلل الجبال ودونهن حتوف ... الرجل حافية ومالي مركب ... والكف صفر والطريق مخوف ...
وفي يوم الجمعة رابع عشر ربيع الآخر خطب لقازان على منبر دمشق بحضور المغول بالمقصورة ودعى له على السدة بعد الصلاة وقرئ عليها مرسوم بنيابة قبجق على الشام وذهب اليه الأعيان فهنؤه بذلك فأظهر الكرامة وأنه في تعب عظيم مع التتر ونزل شيخ المشايخ محمود بن علي الشيباني بالمدرسة العادلية الكبيرة وفي يوم السبت النصف من ربيع الآخر شرعت التتار وصاحب سيس في نهب الصالحية ومسجد الاسدية ومسجد خاتون ودار الحديث الاشرفية بها واحترق جاع التوبة بالعقيبية وكان هذا من جهة الكرج والارمن من النصارى الذين هم مع التتار قبحهم الله وسبوا من اهلها خلقا كثيرا وجما غفيرا وجاء أكثر الناس الى رباط الحنابلة فاحتاطت به التتار فحماه منهم شيخ الشيوخ المذكور وأعطى في الساكن مال له صورة ثم اقحموا عليه فسبوا منه خلقا كثيرا من بنات المشايخ وأولادهم فإنا لله وإنا اليه راجعون
ولما نكب دير الحنابلة في ثاني جمادي الاولى قتلوا خلقا من الرجال وأسروا من النساء كثيرا ونال قاضي القضاة تقي الدين اذى كثير ويقال إنهم قتلوا من أهل الصالحية قريبا من اربعمائة وأسروا نحوا من اربعة آلاف اسير ونهبت كتب كثيرة من الرباط الناصري والضيائية وخزانة ابن البزوري وكانت تباع وهي مكتوب عليها الوقفية وفعلوا بالمزة مثل ما فعلوا بالصالحية وكذلك بداريا وبغيرها وتحصن الناس منهم في الجامع بداريا ففتحوه قسرا وقتلوا منهم خلقا وسبوا نساءهم وأولادهم فإنا لله وإنا اليه راجعون
وخرج الشيخ ابن تيمية في جماعة من أصحابه يوم الخميس العشرين من ربيع الآخر الى ملك التتر وعاد بعد يومين ولم يتفق اجتماعه به حجبه عنه الوزير سعد الدين والرشيد مشير الدولة المسلماني ابن يهودي والتزما له بقضاء الشغل وذكرا له ان التتر لم يحصل لكثير منهم شيء الى الآن ولا بد لهم من شيء واشتهر بالبلد ان التتر يريدون دخول دمشق فانزعج الناس لذلك وخافوا خوفا شديدا وأرادوا الخروج منها والهرب على وجوهم وأين الفرار ولات حين مناص وقد اخذ من البلد فوق العشرة آلاف فرس ثم فرضت اموال كثيرة على البلد موزعة على اهل الاسواق (14/8)
كل سوق بحسبه من المال فلا قوة إلا بالله وشرع التتر في عمل مجانيق بالجامع ليرموا بها القلعة من صحن الجامع وغلقت ابوابه ونزل التتار في مشاهده يحرسون اخشاب المجانيق وينهبون ما حوله من الأسواق وأحرق ارجوان ما حول القلعة من الابنية كدار الحديث الأشرفية وغير ذلك الى حد العادلية الكبيرة واحرق دار السعادة لئلا يتمكنوا من محاصرة القلعة من اعاليها ولزم الناس منازلهم لئلا يسخروا في طم الخندق وكانت الطرقات لا يرى بها احد الا القليل والجامع لا يصلي فيه احد الا اليسير ويوم الجمعة لا يتكامل فيه الصف الأول وما بعده إلا بجهد جهيد ومن خرج من منزله في ضرورة يخرج بثياب زيهم ثم يعود سريعا ويظن انه لا يعود الى اهله وأهل البلد قد اذاقهم الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون فإنا لله وإنا اليه راجعون
والمصادرات والتراسيم والعقوبات عمالة في أكابر اهل البلد ليلا ونهارا حتى اخذ منهم شيء كثير من الأموال والأوقاف كالجامع وغيره ثم جاء مرسوم بصيانة الجامع وتوفير اوقافه وصرف ما كان يؤخذ بخزائن السلاح والى الحجاز وقرئ ذلك المرسوم بعد صلاة الجمعة بالجامع في تاسع عشر جمادي الأولى وفي ذلك اليوم توجه السلطان قازان وترك نوابه بالشام في ستين الف مقاتل نحو بلاد العراق وجاء كتابه انا قد تركنا نوابنا بالشام في ستين الف مقاتل وفي عزمنا العود اليها في زمن الخريف والدخول الى الديار المصرية وفتحها وقد اعجزتهم القلعة ان يصلوا الى حجر منها وخرج سيف الدين قبجق لتوديع قطلوشاه نائب قازان وسار وراءه وضربت البشائر بالقلعة فرحا لرحيلهم ولم تفتح القلعة وأرسل أرجواش ثاني يوم من خروج قبجق القعلية الى الجامع فكسروا اخشاب المنجنيقات المنصوبة به وعادوا الى القلعة سريع سالمين واستصحبوا معهم جماعة ممن كانوا يلوذون بالتتر قهرا الى القلعة منهم الشريف القمي وهو شمس الدين محمد ابن محمد بن احمد بن ابي القاسم المرتضي العلوي وجاءت الرسل من قبجق الى دمشق فنادوا بها طيبوا أنفوسكم وافتحوا دكاكينكم وتهيئوا غدا لتلقي سلطان الشام سيف الدين قبجق فخرج الناس الى اماكنهم فأشرفوا عليها فرأوا ما بها من الفساد والدمار وانفك رؤساء البلد من التراسيم بعدما ذاقوا شيئا كثيرا
قال الشيخ علم الدين البرزالي ذكر لي الشيخ وجيه الدين بن النجا انه حمل الى خزانة قازان ثلاثة آلاف الف وستمائة الف درهم سوى ما تمحق من التراسيم والبراطيل وما اخذ غيره من الأمراء والوزراء وأن شيخ المشايخ حصل له نحو ستمائة الف درهم والأصيل بن النصير الطوسي مائة الف والصفي السخاوي ثمانون الفا وعاد سيف الدين قبجق الى دمشق يوم الخميس بعد الظهر خامس عشرين جمادي الاولى ومعه الاليكي وجماعة وبين يديه السيوف مسللة وعلى (14/9)
رأسه عصابة فنزل بالقصر ونودي بالبلد نائبكم قبجق قد جاء فافتحوا دكاكينكم واعملوا معاشكم ولا يغرر احد بنفسه هذا الزمان والاسعار في غاية الغلاء والقلة قد بلغت الغرارة الى اربعمائة واللحم الرطل بنحو العشرة والخبز كل رطل بدرهمين ونصف والعشرة الدقيق بنحو الأربعين والجبن الأوقية بدرهم والبيض كل خمسة بدرهم ثم فرج عنهم في اواخر الشهر ولما كان في أواخر الشهر نادى قبجق بالبلد ان يخرج الناس الى قراهم وأمر جماعة وانضاف اليه خلق من الأجناد وكثرت الأراجيف على بابه وعظم شأنه ودقت البشائر بالقلعة وعلى باب قبجق يوم الجمعة رابع جمادي الآخرة وركب قبجق بالعصائب في البلد والشاويشية بين يديه وجهز نحوا من الف فارس نحو خربة اللصوص ومشى مشى الملوك في الولايات وتأمير الأمراء والمراسيم العالية النافذة وصار كما قال الشاعر ... يا لك من قنبرة بمعمري ... خلالك الجو فبيضي واصفري ... ونقري ماشئت ان تنقري ...
ثم انه ضمن الخمارات ومواضع الزنا من الحانات وغيرها وجعلت دارا ابن جرادة خارج من باب توما خمارة وحانة أيضا وصار له على ذلك في كل يوم الف درهم وهي التي دمرته ومحقت آثاره وأخذ اموالا آخر من اوقاف المدارس وغيرها ورجع بولاي من جهة الأغوار وقد عاث في الارض فسادا ونهب البلاد وخرب ومعه طائفة من التتر كثيرة وقد خربوا قرى كثيرة وقتلوا من أهلها وسبوا خلقا من أطفالها وجبي لبولاي من دمشق أيضا جباية اخرى وخرج طائفة من القلعة فقتلوا طائفة من التتر ونهبوهم وقتل جماعة من المسلمين في غبون ذلك وأخذوا طائفة ممن كان يلوذ بالتتر ورسم قبجق لخطيب البلد وجماعة من الأعيان ان يدخلوا القلعة فيتكلموا مع نائبها في المصالحة فدخلوا عليه يوم الاثنين ثاني عشر جمادي الآخرة فكلموه وبالغوا معه فلم يجب الى ذلك وقد اجاد وأحسن وأرجل في ذلك بيض الله وجهه
وفي ثامن رجب طلب قبجق القضاة والأعيان فحلفهم على المناصحة للدولة المحمودية يعني قازان فخلفوا له وفي هذا اليوم خرج الشيخ تقي الدين بن تيمية الى مخيم بولاي فاجتمع به في فكاك من كان معه من اسارى المسلمين فاستنقذ كثيرا منهم من ايديهم وأقام عنده ثلاثة ايام ثم عاد ثم راح اليه جماعة من اعيان دمشق ثم عادوا من عنده فشلحوا عند باب شرقي وأخذ ثيابهم وعمائمهم ورجعوا في شر حالة ثم بعث في طلبهم فاختفى اكثرهم وتغيبوا عنه ونودي بالجامع بعد الصلاة ثالث رجب من جهة نائب القلعة بأن العساكر المصرية قادمة الى الشام وفي عشية يوم السبت رحل بولاي وأصحابه من التتر وانشمروا عن دمشق وقد أراح الله منهم وساروا من على عقبة دمر فعاثوا في تلك النواحي فسادا ولم يأت سابع الشهر وفي حواشي البلد منهم احد وقد أزاح الله عز و جل (14/10)
شرهم عن العباد والبلاد ونادى قبجق في الناس قد أمنت الطرقات ولم يبق بالشام من التتر أحد وصلى قبجق يوم الجمعة عاشر رجب بالمقصورة ومعه جماعة عليهم لأمة الحرب من السيوف والقسى والتراكيش فيها النشاب وأمنت البلاد وخرج الناس للفرجة في غيض السفرجل على عادتهم فعاثت عليهم طائفةمن التتر فلما رأوهم رجعوا الى البلد هاربين مسرعين ونهب بعض الناس بعضا ومنهم من القى نفسه في النهر وإنما كانت هذه الطائفة مجتازين ليس لهم قرار وتقلق قبجق من البلد ثم انه خرج منها في جماعة من رؤسائها واعيانها منهم عز الدين ابن القلانسي ليتلقوا الجيش المصري وذلك ان جيش مصر خرج الى الشام في تاسع رجب وجاءت البريدية بذلك وبقي البلدليس به احد ونادى ارجواش في البلد احفظوا الاسوار وأخرجوا ما كان عندكم من الاسلحة ولا تهملوا الاسوار والابواب ولا يبيتن احد الا على السور ومن بات في داره شنق فاجتمع الناس على الأسوار لحفظ البلاد وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية يدور كل ليلة على الأسوار يحرض الناس على الصبر والقتال ويتلو عليهم آيات الجهاد والرباط
وفي يوم الجمعة سابع عشر رجب اعيدت الخطبة بدمشق لصاحب مصر ففرح الناس بذلك وكان يخطب لقازان بدمشق وغيرها من بلاد الشام مائة يوم سواء وفي بكرة يوم الجمعة المذكور دار الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله وأصحابه على الخمارات والحانات فكسروا آنية الخمور وشققوا الظروف وأراقوا الخمور وعزروا جماعة من اهل الحانات المتخذة لهذه الفواحش ففرح الناس بذلك ونودي يوم السبت ثامن عشر رجب بأن تزين البلد لقدوم العساكر المصرية وفتح باب الفرج مضافا الى باب النصر يوم الأحد تاسع عشر رجب ففرح الناس بذلك وانفرجوا لأنهم لم يكونوا يدخلون إلا من باب النصر وقدم الجيش الشامي صحبة نائب دمشق جمال الدين آقوش الأفرم يوم السبت عاشر شعبان وثاني يوم دخل بقية العساكر وفيهم الأميران شمس الدين قراسنقر المنصوري وسيف الدين قطلبك في تجمل وفي هذا اليوم فتح باب العريش وفيه درس القاضي جلال الدين القزويني بالأمينية عوضا عن اخيه قاضي القضاة امام الدين توفي بمصر وفي يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء تكامل دخول العساكر صحبة نائب مصر سيف الدين سلار وفي خدمته الملك العادل كتبغا وسيف الدين الطراخي في تجمل باهر ونزلوا في المرج وكان السلطان قد خرج عازما على المجيء فوصل الى الصالحية ثم عاد الى مصر
وفي يوم الخميس النصف من شعبان اعيدالقاضي بدر الدين بن جماعة الى قضاة القضاة بدمشق مع الخطابة بعد إمام الدين ولبس معه في هذا اليوم امين الدين العجمي خلعة الحسبة وفي يوم سابع عشرة لبس خلعة نظر الدواوين تاج الدين الشيرازي عوضا عن فخر الدين بن الشيرجي (14/11)
ولبس أقبجاشد الدواوين في باب الوزير شمس الدين سنقر الأعسر وباشر الأمير عز الدين ايبك الدويدار النجيبي ولاية البر بعد ما جعل من أمراء الطبلخانة ودرس الشيخ كمال الدين بن الزملكاني بأم الصالح عوضا عن جلال الدين القزويني يوم الأحد الحادي والعشرين من شعبان وفي هذا اليوم ولي قضاء الحنفية شمس الدين بن الصفي الحريري عوضا عن حسام الدين الرومي فقد يوم المعركة في ثاني رمضان ورفعت الستائر عن القعلة في ثالث رمضان وفي مستهل رمضان جلس الأمير سيف الدين سلار بدار العدل في الميدان الأخضر وعنده القضاة والأمراء يوم السبت وفي السبت الآخر خلع على عز الدين القلانسي خلعة سنية وجعل ولده عماد الدين شاهدا في الخزانة وفي هذا اليوم رجع سلار بالعساكر الى مصر وانصرفت العساكر الشامية الى مواضعها وبلدانها وفي يوم الاثنين عاشر رمضان درس على بن الصفي بن ابي القاسم البصراوي الحنفي بالمدينة المقدمية وفي شوال فيها عرفت جماعة ممن كان يلوذ بالتتر ويؤذي المسلمين وشنق منهم طائفة وسمر آخرون وكحل بعضه وقطعت ألسن وجرت امور كثيرة وفي منتصف شوال درس بالدولعية قاضي القضاة جمال الدين الزرعي نائب الحكم عوضا عن جمال الدين بن الباجريقي وفي يوم الجمعة العشرين منه ركب نائب السلطنة جمال الدين آقوش الأفرم في جيش دمشق الى جبال الجرد وكسروان وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية ومعه خلق كثير من المتطوعة والحوارنة لقتال أهل تلك الناحية بسب فسادنيتهم وعقائدهم وكفرهم وضلالهم وما كانوا عاملوا به العساكر لما كسرهم التتر وهربوا حين اجتازوا ببلادهم وثبوا عليهم ونهبوهم واخذوا اسلحتهم وخيولهم وقتلوا كثيرا منهم فلما وصلوا الى بلادهم جاء رؤساؤهم الى الشيخ تقي الدين بن تيمية فاستتابهم وبين للكثير منهم الصواب وحصل بذلك خير كثير وانتصار كبير على اولئك المفسدين والتزموا برد ما كانوا اخذوه من أموال الجيش وقرر عليهم أموالا كثيرة يحملونها الى بيت المال وأقطعت اراضيهم وضياعهم ولم يكونوا قبل ذلك يدخلون في طاعة الجند ولا يلتزمون احكام الملة ولا يدينون دين الحق ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله وعاد نائب السلطنة يوم الأحد ثالث عشر ذي القعدة وتلقاه الناس بالشموع الى طريق بعلبك وسط النهار وفي يوم الأربعاء سادس عشره نودي في البلد ان يعلق الناس الأسلحة بالدكاكين وأن يتعلم الناس الرمي فعملت الأماجات في أماكن كثيرة من البلد وعلقت الأسلحة بالأسواق ورسم قاضي القضاة بعمل الأماجات في المدارس وأن يتعلم الفقهاء الرمي ويستعدوا لقتال العدو ان حضر وبالله المستعان
وفي الحادي والعشرين من ذي القعدة استعرض نائب السلطنة اهل الأسواق بين يديه وجعل على كل سوق مقدما وحوله اهل سوقه وفي الخميس رابع عشرينه عرضت الأشراف مع نقيبهم نظام (14/12)
الملك الحسيني بالعدد والتجمل الحسن وكان يوما مشهودا ومما كان من الحوادث في هذه السنة أن جدد إمام راتب عند رأس قبر زكريا وهو الفقيه شرف الدين أبو بكر الحموي وحضر عنده يوم عاشوراء القاضي إمام الدين الشافعي وحسام الدين الحنفي وجماعة ولم تطل مدته إلا شهورا ثم عاد الحموي إلى بلده وبطلت هذه الوظيفة الى الان ولله الحمد وممن توفي فيها من الأعيان
القاضي حسام الدين أبو الفضائل
الحسن بن القاضي تاج الدين أبي المفاخر أحمد بن الحسن انوشروان الرازي الحنفي ولي قضاء ملطية مدة عشرين سنة ثم قدم دمشق فوليها مدة ثم انتقل الى مصر فوليها مدة وولده جلال الدين بالشام ثم صار الى الشام فعاد الى الحكم بها ثم لما خرج الجيش الى لقاء قازان بوادي الخزندار عند وادي سلمية خرج معهم ففقد من الصف ولم يدر ما خبره وقد قارب السبعين وكان فاضلا بارعا رئيسا له نظم حسن ومولده باقسيس من بلاد الروم في المحرم سنة احدى وثلاثين وستمائة فقد يوم الأربعاء الرابع والعشرين من ربيع الأول منها وقد قتل يومئذ عدة من مشاهير الأمراء ثم ولى بعده القضاء شمس الدين الحريري
القضاي الامام العالي
إمام الدين ابو المعالي عمر بن القاضي سعد الدين ابي القاسم عبد الرحمن بن الشيخ امام الدين ابي حفص عمر بن احمد بن محمد القزويني الشافعي قدم دمشق هو وأخوه جلال الدين فقررا في مدارس ثم انتزع امام الدين قضاء القضاة بدمشق من بدر الدين بن جماعة كما تقدم في سنة سبع وسبعين وناب عنه اخوه وكان جميل الأخلاق كثير الاحسان رئيسا قليل الأذى ولما ازف قدوم التتار سافر الى مصر فلما وصل اليها لم يقم بها سوى اسبوع وتوفي ودفن بالقرب من قبة الشافعي عن ست واربعين سنة وصار المنصب الى بدر الدين بن جماعة مضافا الى ما بيده من الخطابة وغيرها ودرس اخوه بعده بالأمينية
المسند المعمر الرحلة
شرف الدين احمد بن هبة الله بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسن بن عساكر الدمشقي ولد سنة اربع عشرة وستمائة وسمع الحديث وروى توفي خامس عشر جمادي الأولى عن خمس وثمانين سنة
الخطيب الإمام العالم
موفق الدين ابو المعالي محمد بن محمد بن الفضل النهراواني القضاعي الحموي خطيب حماة ثم خطب بدمشق عوضا عن الفاروثي ودرس بالغزالية ثم عزل بابن جماعة وعاد الى بلده ثم قدم دمشق عام قازان فمات بها (14/13)
الصدر شمس الدين
محمد بن سليمان بن حمايل بن علي المقدسي المعروف بابن غانم وكان من اعيان الناس وأكثرهم مروءة ودرس بالعصرونية توفي وقد جاوز الثمانين كان من الكتاب المشهورين المشكورين وهو والد الصدر علاء الدين بن غانم
الشيخ جمال الدين ابو محمد
عبد الرحيم بن عمر بن عثمان الباجريقي الشافعي اقام مدة بالموصل يشتغل ويفتى ثم قدم دمشق عام قازان فمات بها وكان قد أقام بها مدة كذلك ودرس بالقليجية والدولعية وناب في الخطابة ودرس بالغزالية نيابة عن الشمس الأيكي وكان قليل الكلام مجموعا عن الناس وهو والد الشمس محمد المنسوب الى الزندقة والانحلال وله اتباع ينسبون الى ما ينسب اليه ويعكفون على ما كان يعكف عليه وقد حدث جمال الدين المذكور بجامع الأصول عن بعض اصحاب مصنفات ابن الأثير وله نظم ونثر حسن والله سبحانه اعلم
ثم دخلت سنة سبعمائة من الهجرة النبوية
استهلت والخليفة والسلطان ونواب البلاد والحكام بها هم المذكورون في التي قبلها غير الشافعي والحنفي ولما كان ثالث المحرم جلس المستخرج لاستخلاص اجرة اربعة أشهر عن جميع أملاك الناس وأوقافهم بدمشق فهرب اكثر الناس من البلد وجرت خبطة قوية وشق ذلك على الناس جدا
وفي مستهل صفر وردت الأخبار بقصد التتر بلاد الشام وأنهم عازمون على دخول مصر فانزعج الناس لذلك وازدادوا ضعفا على ضعفهم وطاشت عقولهم وألبابهم وشرع الناس في الهرب الى بلاد مصر والكرك والشوبك والحصون المنيعة فبلغت الحمارة الى مصر خمسمائة وبيع الجمل بألف والحمار بخمسمائة وبيعت الأمتعة والثياب والمغلات بأرخص الأثمان وجلس الشيخ تقي الدين ابن تيمية في ثاني صفر بمجلسه في الجامع وحرض الناس على القتال وساق لهم الآيات والأحاديث الواردة في ذلك ونهى عن الإسراع في الفرار ورغب في إنفاق الاموال في الذب عن المسلمين وبلادهم وأموالهم وأن ما ينفق في اجرة الهرب اذا انفق في سبيل الله كان خيرا واوجب جهاد التتر حتما في هذه الكرة وتابع المجالس في ذلك ونودي في البلاد لا يسافر احد إلا بمرسوم وورقة فتوقف الناس عن السير وسكن جأشهم وتحدث الناس بخروج السلطان من القاهرة بالعساكر ودقت البشائر لخروجه لكن كان قد خرج جماعة من بيوتات دمشق كبيت ابن صصرى وبيت ابن فضل الله وابن منجا وابن سويد وابن الزملكاني وابن جماعة
وفي اول ربيع الآخر قوى الارجاف بأمر التتر وجاء الخبر بأنهم قد وصلوا الى البيرة ونودي (14/14)
في البلد ان تخرج العامة مع العسكر وجاء مرسوم النائب من المرج بذلك فاستعرضوا في أثناء الشهر فعرض نحو خمسة آلاف من العامة بالعدة والاسلحة على قدر طاقتهم وقنت الخطيب ابن جماعة في الصلوات كلها واتبعه ائمة المساجد وأشاع المرجفون بأن التتر قد وصلوا الى حلب وأن نائب حلب تقهقر الى حماة ونودي في البلد يتطييب قلوب الناس واقبالهم علىمعايشهم وان السلطان والعساكر واصلة وأبطل ديوان المستخرج وأقيموا ولكن كانوا قد استخرجوا أكثر مما أمروا به وبقيت بواقي على الناس الذين قد اختفوا فعفى عما بقي ولم يرد ما سلف لا جرم ان عواقب هذه الأفعال خسر ونكر وأن اصحابها لا يفلحون ثم جاءت الأخبار بان سلطان مصر رجع عائدا الى مصر بعد ان خرج منها قاصدا الشام فكثر الخوف واشتد الحال وكثرت الامطار جدا وصار بالطرقات من الأوحال والسيول ما يحول بين المرء وبين ما يريده من الانتشار في الأرض والذهاب فيها فإنا لله وانا إليه راجعون
وخرج كثير من الناس خفافا وثقالا يتحملون بأهليهم وأولادهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون وجعلوا يحملون الصغار في الوحل الشديد والمشقة على الدواب والرقاب وقد ضعفت الدواب من قلة العلف مع كثرة الأمطار والزلق والبرد الشديد والجوع وقلة الشيء فلا حول ولا قوة الا بالله
واستهل جمادي الاولى والناس على خطة صعبة من الخوف وتأخر السلطان واقترب العدو وخرج الشيخ تقي الدين بن يتيمة رحمه الله تعالى في مستهل هذا الشهر وكان يوم السبت الى نائب الشام في المرج فثبتهم وقوى جأشهم وطيب قلوبهم ووعدهم النصر والظفر على الأعداء وتلا قوله تعالى ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور وبات عند العسكر ليلة الاحد ثم عاد الى دمشق وقد سأله النائب والامراء ان يركب على البريد الى مصر يستحث السلطان على المجيء فساق وراء السلطان وكان السلطان قد وصل الى الساحل فلم يدركه الا وقد دخل القاهرة وتفارط الحال ولكنه استحثهم على تجهيز العساكر الى الشام إن كان لهم به حاجة وقال لهم فيما قال ان كنتم اعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطانا يحوطه ويحميه ويستغله في زمن الأمن ولم يزل بهم حتى جردت العساكر الى الشام ثم قال لهم لو قدر انكم لستم حكام الشام ولا ملوكه واستنصركم أهله وجب عليكم النصر فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه وهم رعايتكم وانتم مسؤلون عنهم وقوى جأشهم وضمن لهم النصر هذه الكرة فخرجوا الى الشام فلما تواصلت العساكر الى الشام فرح الناس فرحا شديدا بعد ان كانوا قد يئسوا من أنفسهم وأهليهم وأموالهم ثم قويت الأراجيف بوصول التتر وتحقق عود السلطان الى مصر ونادى ابن النحاس متولي البلد في الناس من قدر على السفر فلا يقعد بدمشق فتصايح النساء والولدان ورهق الناس (14/15)
ذلة عظيمة وخمدة وزلولوا زلزالا شديدا وغلقت الاسواق وتيقنوا ان لا ناصر لهم الا الله عز و جل وأن نائب الشام لما كان فيه قوة مع السلطان عام اول لم يقو على التقاء جيش التتر فكيف به الآن وقد عزم على الهرب ويقولون ما بقي اهل دمشق الا طعمة العدو ودخل كثير من الناس الى البراري والقفار والمغر بأهليهم من الكبار والصغار ونودي في الناس من كانت نيته الجهاد فليلحق بالجيش فقد اقترب وصول التتر ولم يبق بدمشق من أكابرها الا القليل وسافر ابن جماعة والحريري وابن صصرى وابن منجا وقد سبقهم بيوتهم الى مصر وجاءت الاخبار بوصول التتر الى سرقين وخرج الشيخ زين الدين الفارقي والشيخ إبراهيم الرقي وابن قوام وشرف الدين بن تيمية وابن خبارة الى نائب السلطنة الافرم فقووا عزمه على ملاقاة العدو واجتمعوا بمهنا امير العرب فحرضوه على قتال العدو فأجابهم بالسمع والطاعة وقويت نياتهم على ذلك وخرج طلب سلار من دمشق الى ناحية المرج واستعدوا للحرب والقتال بنيات صادقة
ورجع الشيخ تقي الدين بن تيمية من الديار المصرية في السابع والعشرين من جمادي الأولى على البريد وأقام بقلعة مصر ثمانية أيام يحثهم على الجهاد والخروج الى العدو وقد اجتمع بالسلطان والوزير وأعيان الدولة فأجباوه الى الخروج وقد غلت الاسعار بدمشق جدا حتى بيع خاروفان بخمسمائة درهم واشتد الحال ثم جاءت الاخبار بأن ملك التتار قد خاض الفرات راجعا عامة ذلك لضعف جيشه وقلة عددهم فطابت النفوس لذلك وسكن الناس وعادوا الى منازلهم منشرحين آمنين مستبشرين ولما جاءت الأخبار بعدم وصول التتار الى الشام في جمادي الأخرة تراجعت أنفس الناس اليهم وعاد نائب السلطنة الى دمشق وكان مخيما في المرج من مدة أربعة أشهر متتابعة وهو من اعظم الرباط وتراجع الناس الى أوطانهم وكان الشيخ زين الدين الفارقي قد درس بالناصرية لغيبة مدرسها كمال الدين بن الشريشني بالكرك هاربا ثم عاد اليها في رمضان وفي أواخر الشهر درس ابن الزكي بالدولعية عوضا عن جمال الدين الزرعي لغيبته وفي يوم الاثنين قرئت شروط الذمة على أهل الذمة وألزموا بها واتفقت الكلمة على عزلهم عن الجهات وأخذوا بالصغار ونودي بذلك في البلد وألزم النصارى بالعمائم الزرق واليهود بالصفر والسامرة بالحمر فحصل بذلك خير كثير وتميزوا عن المسلمين وفي عاشر رمضان جاء المرسوم بالمشاركة بين أرجواش والأمير سيف الدين اقبجا في نيابة القلعة وأن يركب كل واحد منهما يوما ويكون الآخر بالقلعة يوما فامتنع ارجواش من ذلك
وفي شوال درس بالاقبالية الشيخ شهاب الدين بن المجد عوضا عن علاء الدين القونوي بحكم إقامته بالقاهرة وفي يوم الجمعة الثالث عشر من ذي القعدة عزل شمس الدين بن الحريري عن قضاء الحنفية بالقاضي جلال الدين بن حسام الدين على قاعدته وقاعدة أبيه وذلك باتفاق من (14/16)
الوزير شمس الدين سنقر الأعسر ونائب السلطان الأفرم وفيها وصلت رسل ملك التتار الى دمشق فأنزلوا بالقلعة ثم ساروا الى مصر وممن توفي فيها من الاعيان
الشيخ حسن الكردي
المقيم بالشاغور في بستان له يأكل من غلته ويطعم من ورد عليه وكان يزار فلما احتضر اغتسل وأخذ من شعره واستقبل القبلة وركع ركعات ثم توفي رحمه الله يوم الاثنين الرابع جمادي الاولى وقد جاوز المائة سنة
الطواشي صفي الدين جوهر التفليسي
المحدث اعتنى بسماع الحديث وتحصيل الأجزاء وكان حسن الخلق صالحا لين الجانب رجلا حاميا زكيا ووقف أجزاءه التي ملكها على المحدثين
الأمير عز الدين محمد بن ابي الهيجاء بن محمد الهيدباني الأربلي متولي دمشق كان لديه فضائل كثيرة في التواريخ والشعر وربما جمع شيئا في ذلك وكان يسكن بدرب سعور فعرف به فيقال درب ابن أبي الهيجاء وهو أول منزل نزلناه حين قدمنا دمشق في سنة ست وسبعمائة ختم الله لي بخير في عافية آمين توفي ابن ابي الهيجاء في طريق مصر وله ثمانون سنة وكان مشكور السيرة حسن المحاضرة
الأمير جمال الدين آقوش الشريفي
والي الولاة بالبلاد القبلية توفي في شوال وكانت له هيبة وسطوة وحرمة
ثم دخلت سنة إحدى وسبعمائة
استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها والأمير سيف الدين سلار بالشام ونائب دمشق الأفرم وفي أولها عزل الامير قطلبك عن نيابة البلاد الساحلية وتولاها الأمير سيف الدين استدمر وعزل عن وزارة مصر شمس الدين الأعسر وتولي سيف الدين أقجبا المنصوري نيابة غزة وجعل عوضه بالقلعة الامير سيف الدين بهادر السيجري وهو من الرحبة وفي صفر رجعت رسل ملك التتر من مصر الى دمشق فتلقاهم نائب السلطنة والجيش والعامة وفي نصف صفر ولي تدريس النورية الشيخ صدر الدين على البصراوي الحنفي عوضا عن الشيخ ولي الدين السمرقندي وإنما كان وليها ستة أيام ودرس بها أربعة دروس بعد بني الصدر سليمان توفي وكان من كبار الصالحين يصلي كل يوم مائة ركعة وفي يوم الأربعاء تاسع عشر ربيع الأول جلس قاضي القضاة وخطيب الخطباء بدر الدين بن جماعة بالخانقاه الشمساطية شيخ الشيوخ بها عن طلب الصوفية له بذلك ورغبتهم فيه وذلك بعد وفاة الشيخ يوسف بن حمويه الحموي وفرحت الصوفية به (14/17)
وجلس حوله ولم تجتمع هذه المناصب لغيره قبله ولا بلغنا انها اجتمعت الى احد بعده الى زماننا هذا القضاء والخطابة ومشيخة الشيوخ وفي يوم الاثنين الرابع والعشرين من ربيع الأول وقتل الفتح احمد بن الثقفي بالديار المصرية حكم فيه القاضي زين الدين بن مخلوف المالكي بما ثبت عنده من تنقيصه للشريعة واستهزائه بالآيات المحكمات ومعارضة المشتبهات بعضها ببعض يذكر عنه انه كان يحل المحرمات من اللواط والخمر وغير ذلك لمن كان يجتمع فيه من الفسقة من الترك وغيرهم من الجهلة هذا وقد كان له فضيلة وله اشتغال وهيئة جميلة في الظاهر وبزته ولبسته جيدة ولما أوقف عند شباك دار الحديث الكاملية بين القصرين استغاث بالقاضي تقي الدين بن دقيق العيد فقال ما تعرف مني فقال اعرف منك الفضيلة ولكن حكمك الى القاضي زين الدين فأمر القاضي للوالي ان يضرب عنقه فضرب عنقه وطيف برأسه في البلد ونودي عليه هذا جزاء من طعن في الله ورسوله قال البرزالي في تاريخه وفي وسط شهر ربيع الأول ورد كتاب من بلاد حماة من جهة قاضيها يخبر فيه انه وقع في هذه الأيام ببارين من عمل حماة برد كبار على صور حيوانات مختلفة شقى سباع وحيات وعقارب وطيور ومعز ونساء ورجال في أوساطهم حوائص وأن ذلك ثبت بمحضر عند قاضي الناحية ثم نقل ثبوته الى قاضي حماة وفي يوم الثلاثاء عاشر ربيع الأخر شنق الشيخ على الحويرالي بواب الظاهرية على بابها وذلك انه اعترف بقتل الشيخ زين الدين السمرقندي وفي النصف منه حضر القاضي بدر الدين بن جماعة تدريس الناصرية الجوانية عوضا عن كمال الدين ابن الشريشي ودلك انه ثبت محضر انها لقاضي الشافعية بدمشق فانتزعها من يد ابن الشريشي وفي يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من جمادي الاولى قدم الصدر علاء الدين بن شرف الدين بن القلانسي على أهله من التتر بعد أسر سنتين وأياما وقد حبس مدة ثم لطف الله به وتلطف حتى تخلص منهم ورجع الى أهله ففرحوا به
وفي سادس جمادي الآخرة قدم البريد من القاهرة وأخبر بوفاة أمير المؤمنين الخليفة الحاكم بأمر الله العباسي وأن ولده ولي الخلافة من بعده وهو أبو الربيع سليمان ولقب بالمستكفي بالله وأنه حضر جنازته الناس كلهم مشاة ودفن بالقرب من الست نفيسة وله اربعون سنة في الخلافة وقدم مع البريد تقليد بالقضاء لشمس الدين الحريري الحنفي ونظر الدواوين لشرف الدين بن مزهر واستمرت الخاتونية الجوانية بيد القاضي جلال الدين بن حسام الدين بإذن نائب السلطنة وفي يوم الجمعة تاسع جمادي الآخرة خطب للخليفة المستكفي بالله وترحم على والده بجامع دمشق واعيدت الناصرية الى ابن الشريشي وعزل عنها ابن جماعة ودرس بها يوم الأربعاء الرابع عشر من جمادي الآخرة وفي شوال قدم الى الشام جراد عظيم اكل الزرع والثمار وجرد الاشجار حتى (14/18)
صارت مثل العصى ولم يعهد مثل هذا وفي هذا الشهر عقد مجلس لليهود الخيابرة وألزموا باداء الجزية أسوة أمثالهم من اليهود فأحضروا كتابا معهم يزعمون انه من رسول الله صلى الله عليه و سلم بوضع الجزية عنهم فلما وقف عليه الفقهاء تبينوا انه مكذوب مفتعل لما فيه من الألفاظ الركيكة والتواريخ المحبطة واللحن الفاحش وحاققهم عليه شيخ الاسلام ابن تيمية وبين لهم خطأهم وكذبهم وأنه مزور مكذوب فأنابوا الى أداء الجزية وخافوا من ان تستعاد منهم الشئون الماضية قلت وقد وقفت انا على هذا الكتاب فرأيت فيه شهادة سعد بن معاذ عام خيبر وقد توفي سعد قبل ذلك بنحو من سنتين وفيه وكتب علي بن طالب وهذا لحن لا يصدر عن أمير المؤمنين علي لأن علم النحو إنما أسند اليه من طريق ابي الاسود الدؤلي عنه وقد جمعت فيه جزءا مفردا وذكرت ما جرى فيه أيام القاضي المارودي وكتاب أصحابنا في ذلك العصر وقد ذكره في الحاوي وصاحب الشامل في كتابه وغير واحد وبينوا خطأه ولله الحمد والمنة
وفي هذا الشهر ثار جماعةمن الحسدة على الشيخ تقي الدين بن تيمية وشكوا منه انه يقيم الحدود ويعزر ويحلق رؤس الصبيان وتكلم هو أيضا فيمن يشكو منه ذلك وبين خطأهم ثم سكنت الأمور وفي ذي القعدة ضربت البشائر بقلعة دمشق أياما بسبب فتح اماكن من بلاد سيس عنوة ففتحها المسلمون ولله الحمد وفيه قدم عز الدين بن ميسر على نظر الدواوين عوضا عن ابن مزهر وفي يوم الثلاثاء رابع ذي الحجة حضر عبدالسيد بن المهذب ديان اليهود الى دار العدل ومعه اولاده فأسلموا كلهم فأركمهم نائب السلطنة وأمر ان يركب بخلعة وخلفه الدبادب تضرب والبوقات الى داره وعمل ليلتئذ ختمة عظيمة حضرها القضاة والعلماء وأسلم على يديه جماعة كبيرة من اليهود وخرجوا يوم العيد كلهم يكبرون مع المسلمين وأكرمهم الناس إكراما زائدا وقدمت رسل ملك التتار في سابع عشر ذي الحجة فنزلوا بالقلعة وسافروا الى القاهرة بعد ثلاثة أيام وبعد مسيرهم بيومين مات ارجواس وبعد موته بيومين قدم الجيش من بلاد سيس وقد فتحوا جانبا منها فخرج نائب السلطنة والجيش لتلقيهم وخرج الناس للفرجة على العادة وفرحوا بقدومهم ونصرهم وممن توفي فيها من الأعيان
أمير المؤمنين الخليفة الحاكم بأمر الله
ابو العباس أحمد بن المسترشد بالله الهاشمي العباسي البغدادي المصري بويع بالخلافة بالدولة الظاهرية في أول سنة إحدى وستين وستمائة فاستكمل اربعين سنة في الخلافة وتوفي ليلة الجمعة ثامن عشر جمادي الأولى وصلى عليه وقت صلاة العصر بسوق الخيل وحضر جنازته الاعيان والدولة كلهم مشاة وكان قد عهد بالخلافة الى ولده المذكور ابي الربيع سليمان (14/19)
خلافة المستكفي بالله
أمير المؤمنين ابن الحاكم بأمر الله العباسي
لما عهد اليه كتب تقليده بذلك وقرئ بحضرة السلطان والدولة يوم الأحد العشرين من ذي الحجة من هذه السنة وخطب له على المنابر بالبلاد المصرية والشامية وسارت بذلك البريدية الى جميع البلاد الاسلامية وفي فيها الأمير عز الدين
أيبك بن عبد الله النجيبي الدويدار والي دمشق واحد أمراء الطبلخانة بها وكان مشكور السيرة ولم تطل مدته ودفن بقاسيون توفي يوم الثلاثاء سادس عشر ربيع الأول
الشيخ الإمام العالم شرف الدين أبو الحسن
علي بن الشيخ الامام العالم العلامة الحافظ الفقيه تقي الدين ابي عبد الله محمد بن الشيخ ابي الحسن احمد بن عبد الله بن عيسى بن أحمد بن محمد اليونيني البعلبكي وكان أكبر من أخيه الشيخ قطب الدين بن الشيخ الفقيه ولد شرف الدين سنة احدى وعشرين وستمائة فأسمعه ابوه الكثير واشتغل وتفقه وكان عابدا عاملا كثير الخشوع دخل عليه إنسان وهو بخزانة الكتب فجعل يضربه بعصا في رأسه ثم بسكين فبقي متمرضا أياما ثم توفي الى رحمة الله يوم الخميس حادي عشر رمضان ببعلبك ودفن بباب بطحا وتأسف الناس عليه لعلمه وعمله وحفظه الأحاديث وتودده الى الناس وتواضعه وحسن سمته ومرؤءته تغمده الله برحمته
الصدر ضياء الدين
احمد بن الحسين بن شيخ السلامية والد القاضي قطب الدين موسى الذي تولى فيها بعد نظر الجيش بالشام وبمصر أيضا توفي يوم الثلاثاء عشرين ذي القعدة ودفن بقاسيون وعمل عزاؤه بالرواحية
الأمير الكبير المرابط المجاهد
علم الدين ارجواش بن عبد الله المنصوري نائب القلعة بالشام كان ذا هيبة وهمة وشهامة وقصد صالح قدر الله على يديه حفظ معقل المسلمين لما ملكت التتار الشام أيام قازان وعصت عليهم القلعة ومنعها الله منهم على يدي هذا الرجل فإنه التزم ان لا يسملها اليهم ما دام بها عين تطرف واقتدت بها بقية القلاع الشامية وكانت وفاته بالقلعة ليلة السبت الثاني والعشرين من ذي الحجة وأخرج منها ضحوة يوم السبت فصلى عليه وحضر نائب السلطنة فمن دونه جنازته ثم حمل الى سفح قاسيون ودفن بتربته رحمه الله (14/20)
الأبرقوهي المسند المعمر المصري
هو الشيخ الجليل المسند الرحلة بقية السلف شهاب الدين ابو المعالي أحمد بن إسحاق بن محمد ابن المؤيد بن علي بن إسماعيل بن أبي طالب الأبرقوهي الهمداني ثم المصري ولد بأبرقوه من بلاد شيراز في رجب او شعبان سنة خمس عشرة وستمائة وسمع الكثير من الحديث على المشايخ الكثرين وخرجت له مشيخات وكان شيخا حسنا لطيفا مطيقا توفي بمكة بعد خروج الحجيج بأربعة أيام رحمه الله وفيها توفي
صاحب مكة
الشريف ابو نمي محمد بن الأمير ابي سعد حسن بن علي بن قتادة الحسني صاحب مكة منذ اربعين سنة وكان حليما وقورا ذا رأي وسياسة وعقل ومروءة وفيها ولد كاتبه إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي المصري الشافعي عفا الله عنه والله سبحانه اعلم
ثم دخلت سنة اثنتين وسبعمائة من الهجرة
استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها وفي يوم الأربعاء ثاني صفر فتحت جزيرة أرواد بالقرب من أنطرسوس وكانت من أضر الأماكن على أهل السواحل فجاءتها المراكب من الديار المصرية في البحر وأردفها جيوش طرابلس ففتحت ولله الحمد نصف النهار وقتلوا من أهلها قريبا من ألفين وأسروا قريبا من خمسمائة وكان فتحها من تمام فتح السواحل وأراح الله المسلمين من شر أهلها وفي يوم الخميس السابع عشر من شهر صفر وصل البريد الى دمشق فأخبر بوفاة قاضي القضاة ابن دقيق العيد ومعه كتاب من السلطان الى قاضي القضاة ابن جماعة فيه تعظيم له واحترام وإكرام يستدعيه الى قربه ليباشر وظيفة القضاء بمصر على عادته فتهيأ لذلك ولما خرج خرج معه نائب السلطنة الأفرم وأهل الحل والعقد وأعيان الناس ليودعوه وستأتي ترجمة ابن دقيق العيد في الوفيات ولما وصل ابن جماعة الى مصر أكرمه السلطان إكراما زائدا وخلع عليه خلعة صوف وبغلة تساوي ثلاثة آلاف درهم وباشر الحكم بمصر يوم السبت رابع ربيع الأول ووصلت رسل التتار في أواخر ربيع الأول قاصدين بلاد مصر وباشر شرف الدين الفزاري مشيخة دار الحديث الظاهرية يوم الخميس ثامن ربيع الآخر عوضا عن شرف الدين الناسخ وهو أبو حفص عمر بن محمد بن عمر بن حسن بن خواجا إمام الفارسي توفي بها عن سبعين سنة وكان فيه بر ومعروف وأخلاق حسنة رحمه الله
وذكر الشيخ شرف الدين المذكور درسا مفيدا وحضر عنده جماعة من الأعيان وفي يوم الجمعة حادي عشر جمادي الأولى خلع على قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى بقضاء الشام عوضا عن (14/21)
ابن جماعة وعلى الفارقي بالخطابة وعلى الأمير ركن الدين بيبرس العلاوي بشد الدواوين وهنأهم الناس وحضر نائب السلطنة والأعيان المقصورة لسماع الخطبة وقرئ تقليد ابن صصرى بعد الصلاة ثم جلس في الشباك الكمالي وقرئ تقليده مرة ثانية وفي جمادي الاولى وقع بيد نائب السلطنة كتاب مزور فيه ان الشيخ تقي الدين بن تيمية والقاضي شمس الدين بن الحريري وجماعة من الأمراء والخواص الذين بباب السلطنة يناصحون التتر ويكاتبوهم ويرويدون تولية قبجق على الشام وأن الشيخ كمال الدين بن الزملكاني يعلمهم بأحوال الأمير جمال الدين الأفرم وكذلك كمال الدين بن العطار فلما وقف عليه نائب السلطنة عرف ان هذا مفتعل ففحص عن واضعه فإذا هو فقير كان مجارا بالبيت الذي كان مجاور محراب الصحابة يقال له اليعفوري وآخر معه يقال له أحمد الغناري وكانا معروفين بالشر والفضول ووجد معهما مسودة هذا الكتاب فتحقق نائب السلطنة ذلك فعزرا تعزيرا عنيفا ثم وسطا بعد ذلك وقطعت يد الكاتب الذي كتب لهما هذا الكتاب وهو التاج المناديلي وفي أواخر جمادي الأولى انتقل الأمير سيف الدين بلبان الجوكندار المنصوري الى نيابة القلعة عوضا عن ارجواش
عجيبة من عجائب البحر
قال الشيخ علم الدين البرزالي في تاريخه قرأت في بعض الكتب الواردة من القاهرة أنه لما كان بتاريخ يوم الخميس رابع جمادي الآخرة ظهرت دابة من البحر عجيبة الخلقة من بحر النيل الى أرض المنوفية بين بلاد منية مسعود واصطباري والراهب وهذه صفتها لونها لون الجاموس بلا شعر وآذانها كآذان الجمل وعيناها وفرجها مثل الناقة يغطي فرجها ذنب طوله شبر ونصف كذنب السمكة ورقبتها مثل غلظ التنين المحشو تبنا وفمها وشفتاها مثل الكربال ولها أربعة أنياب اثنان من فوق واثنان من أسفل طول كل واحد دون الشبر في عرض اصبعين وفي فمها ثمان وأربعون ضرسا وسن مثل بيادق الشطرنج وطول يديها من باطنها الى الارض شبران ونصف ومن ركبتها الى حافرها مثل بطن الثعبان اصفر مجعد ودور حافرها مثل السكرجة بأربعة أظافير مثل أظافير الجمل وعرض ظهرها مقدار ذراعين ونصف وطولها من فمها الى ذنبها خمسة عشر قدما وفي بطنها ثلاثة كروش ولحمها أحمر وزفر مثل السمك وطعمه كلحم الجمل وغلظه أربعة أصابع ما تعمل فيه السيوف وحمل جلدها على خمسة جمال في مقدار ساعة من ثقله على جمل بعد جمل وأحضروه الى بين يدي السلطان بالقلعة وحشوه تبنا وأقاموه بين يديه والله أعلم
وفي شهر رجب قويت الأخبار بعزم التتار على دخول بلاد الشام فانزعج الناس لذلك واشتد خوفهم جدا وقنت الخطيب في الصلوات وقرئ البخاري وشرع الناس في الجفل الى الديار المصرية (14/22)
والكرك والحصون المنيعة وتأخر مجيء العساكر المصرية عن إبانها فاشتد لذلك الخوف وفي شهر رجب باشر نجم الدين بن أي الطيب نظر الخزانة عوضا عن أمين الدين سليمان وفي يوم السبت ثالث شعبان باشر مشيخة الشيوخ بعد ابن جماعة القاضي ناصر الدين عبد السلام وكان جمال الدين الزرعي يسد الوظيفة الى هذا التاريخ وفي يوم السبت عاشر شعبان ضربت البشائر بالقلعة وعلى أبواب الأمراء بخروج السلطان بالعساكر من مصر لمناجزة التتار المخذولين وفي هذا اليوم بعينه كانت وقعة غرض وذلك انه التقى جماعة من أمراء الاسلام فيهم استدمرو بها درأخي وكجكن وغرلوا العادلي وكل منهم سيف من سيوف الدين في ألف وخمسمائة فارس وكان التتار في سبعة آلاف فاقتتلوا وصبر المسلمون صبرا جيدا فنصرهم الله وخذل التتر فقتلوا منهم خلقا وأسروا آخرين وولوا عند ذلك مدبرين وغنم المسلمون منهم غنائم وعادوا سالمين لم يفقد منهم الا القليل ممن اكرمه الله بالشهادة ووقعت البطاقة بذلك ثم قدمت الأسارى يوم الخميس نصف شعبان وكان يوم خميس النصارى
اوائل وقعة شقحب
وفي ثامن عشر قدمت طائفة كبيرة من جيش المصريين فيهم الامير ركن الدين بيبرس الجاشنكير والامير حسام الدين لاجين المعروف بالاستادار المنصوري والامير سيف الدين كراي المنصوري ثم قدمت بعدهم طائفة اخرى فيهم بدر الدين امير سلاح وأيبك الخزندار فقويت القلوب واطمأن كثير من الناس ولكن الناس في جفل عظيم من بلاد حلب وحماة وحمص وتلك النواحي وتقهقر الجيش الحلبي والحموي الى حمص ثم خافوا ان يدهمهم التتر فجاؤا فنزلوا المرج يوم الاحد خامس شعبان ووصل التتار الى حمص وبعلبك وعاثوا في تلك الاراضي فسادا وقلق الناس قلقا عظيما وخافوا خوفا شديدا واختبط البلد لتأخر قدوم السلطان ببقية الجيش وقال الناس لا طاقة لجيش الشام مع هؤلاء المصريين بلقاء التتار لكثرتهم وإنما سبيلهم ان يتأخروا عنهم مرحلة مرحلة وتحدث الناس بالاراجيف فاجتمع الامراء يوم الاحد المذكور بالميدان وتحالفوا على لقاء العدو وشجعوا أنفسهم ونودي بالبلد أن لا يرحل احد منه فسكن الناس وجلس القضاة بالجامع وحلفوا جماعة من الفقهاء والعامة على القتال وتوجه الشيخ تقي الدين بن تيمية الى العسكر الواصل من حماة فاجتمع بهم في القطيعة فأعلمهم بما تحالف عليه الامراء والناس من لقاء العدو فأجابوا الى ذلك وحلفوا معهم وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية يحلف للأمراء والناس إنكم في هذه الكرة منصورون فيقول له الأمراء قل إن شاء الله فيقول إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا وكان يتأول في ذلك اشياء من كتاب الله منها قوله تعالى ومن بغى عليه لينصرنه الله
وقد تكلم الناس في كيفية قتال هؤلاء التتر من أي قبيل هو فإنهم يظهرون الاسلام وليسوا (14/23)
بغاة على الامام فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه فقال الشيخ تقي الدين هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية ورأوا أنهم أحق بالامر منهما وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسون به من المعاصي والظلم وهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة فتفطن العلماء والناس لذلك وكان يقول للناس إذا رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسي مصحف فاقتلوني فتشجع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم ونياتهم ولله الحمد
ولما كان يوم الرابع والعشرين من شعبان خرجت العساكر الشامية فخيمت على الجسورة من ناحية الكسوة ومعهم القضاة فصار الناس فيهم فريقين فريق يقولون إنما ساروا ليختاروا موضعا للقتال فإن المرج فيه مياه كثيرة فلا يستطيعون معها القتال وقال فريق إنما ساروا لتلك الجهة ليهربوا وليلحقوا بالسلطان فلما كانت ليلة الخميس ساروا الى ناحية الكسوة فقويت ظنون الناس في هربهم وقد وصلت التتار الى قارة وقيل انهم وصلوا الى القطيعة فانزعج الناس لذلك شديدا ولم يبق حول القرى والحواضر احد وامتلأت القلعة والبلد وازدحمت المنازل والطرقات واضطرب الناس وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية صبيحة يوم الخميس من الشهر المذكور من باب النصر بمشقة كبيرة وصحبته جماعة ليشهد القتال بنفسه ومن معه فظنوا أنه إنما خرج هاربا فحصل اللوم من بعض الناس وقالوا أنت منعتنا من الجفل وها أنت هارب من البلد فلم يرد عليهم وبقي البلد ليس فيه حاكم وجاس اللصوص والحرافيش فيه وفي بساتين الناس يخربون وينتهبون ما قدروا عليه ويقطعون المشمش قبل أوانه والباقلاء والقمح وسائر الخضراوات وحيل بين الناس وبين خبر الجيش وانقطعت الطرق الى الكسوة وظهرت الوحشة على البلد والحواضر وليس للناس شغل غير الصعود إلى المآذن ينظرون يمينا وشمالا وإلى ناحية الكسوة فتارة يقولون رأينا غبرة فيخافون ان تكون من التتر ويتعجبون من الجيش مع كثرتهم وجودة عدتهم وعددهم اين ذهبوا فلا يدرون ما فعل الله بهم فانقطعت الآمال وألح الناس في الدعاء والابتهال وفي الصلوات وفي كل حال وذلك يوم الخميس التاسع والعشرين من شعبان وكان الناس في خوف ورعب لا يعبر عنه لكن كان الفرج من ذلك قريبا ولكن أكثرهم لايفلحون كما جاء في حديث ابي رزين عجب ربك من قنوط عباده وقرب غيره ينظر إليكم ازلين قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب
فلما كان آخر هذا اليوم وصل الأمير فخر الدين إياس المرقبي احد أمراء دمشق فبشر الناس بخير هو أن السلطان قد وصل وقت اجتمعت العساكر المصرية والشامية وقد ارسلني أكشف هل طرق (14/24)
البلد احد من التتر فوجد الأمر كما يحب لم يطرقها أحد منهم وذلك أن التتار عرجوا من دمشق الى ناحية العساكر المصرية ولم يشتغلوا بالبلد وقد قالوا إن غلبنا فإن البلد لنا وإن غلبنا فلا حاجة لنا به ونودي بالبلد في تطييب الخواطر وأن السلطان قد وصل فاطمأن الناس وسكنت قلوبهم وأثبت الشهر ليلة الجمعة القاضي تقي الدين الحنبلي فإن السماء كانت مغيمة فعلقت القناديل وصليت التراويح واستبشر الناس بشهر رمضان وبركته وأصبح الناس يوم الجمعة في هم شديد وخوف أكيد للأنهم لا يعلمون ما خبر الناس فبينما هم كذلك إذ جاء الأمير سيف الدين غرلو العادلي فاجتمع بنائب القلعة ثم عاد سريعا إلى العسكر ولم يدر أحد ما أخبر به ووقع الناس في الأراجيف والخوض
صفة وقعة شقحب
اصبح الناس يوم السبت على ما كانوا عليه من الخوف وضيق الأمر فرأوا من المآذن سوادا وغبرة من ناحية العسكر والعدو فغلب على الظنون ان الوقعة في هذا اليوم فابتهلوا الى الله عز و جل بالدعاء في المساجد والبلد وطلع النساء والصغار على الأسطحة وكشفوا رءوسهم وضج البلد ضجة عظيمة ووقع في ذلك الوقت مطر عظيم غزير ثم سكن الناس فلما كان بعدالظهر قرئت بطاقة بالجامع تتضمن أن في الساعة الثانية من نهار السبت هذا اجتمعت الجيوش الشامية والمصرية مع السلطان في مرج الصفر وفيها طلب الدعاء من الناس والأمر بحفظ القلعة والتحرز على الأسوار فدعا الناس في المآذن والبلد وانقضى النهار وكان يوما مزعجا هائلا وأصبح الناس يوم الأحد يتحدثون بكسر التتر وخرج الناس الى ناحية الكسوة فرجعوا ومعهم شيء من المكاسب ومعهم رؤس من رؤس التتر وصارت كسرة التتار تقوى وتتزايد قليلا قليلا حتى اتضحت جملة ولكن الناس لما عندهم من شدة الخوف وكثرة التتر لا يصدقون فلما كان بعد الظهر قرئ كتاب السلطان الى متولي القلعة يخبر فيه باجتماع الجيش ظهر يوم السبت بشقحب وبالكسوة ثم جاءت بطاقة بعد العصر من نائب السلطان جمال الدين آقوش الأفرم الى نائب القلعة مضمونها أن الوقعة كانت من العصر يوم السبت الى الساعة الثانية من يوم الاحد وأن السيف كان يعمل في رقاب التتر ليلا ونهارا وأنهم هربوا وفروا واعتصموا بالجبال والتلال وأنه لم يسلم منهم الا القليل فأمسى الناس وقد استقرت خواطرهم وتباشروا لهذا الفتح العظيم والنصر المبارك ودقت البشائر بالقلعة من أول النهار المذكور ونودي بعد الظهر باخراج الجفال من القلعة لأجل نزول السلطان بها وشرعوا في الخروج وفي يوم الاثنين رابع الشهر رجع الناس من الكسوة الى دمشق فبشروا الناس بالنصر وفيه دخل الشيخ تقي الدين بن تيمية البلد ومعه اصحابه من الجهاد ففرح الناس به ودعوا له وهنؤه بما يسر الله على يديه من الخير وذلك أنه ندبه العسكر الشامي أن يسير الى السلطان يستحثه على (14/25)
السير الى دمشق فسار اليه فحثه على المجيء إلى دمشق بعد ان كاد يرجع الى مصر فجاء هو وإياه جميعا فسأله السلطان ان يقف معه في معركة القتال فقال له الشيخ السنة ان يقف الرجل تحت راية قومه ونحن من جيش الشام لا نقف الا معهم وحرض السلطان على القتال وبشره بالنصر وجعل يحلف بالله الله لا إله إلا هو إنكم منصورون عليهم في هذه المرة فيقول له الأمراء قل إن شاء الله فيقول إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا وأفتى الناس بالفطر مدة قتالهم وأفطر هو أيضا وكان يدور على الأجناد والأمراء فيأكل من شيء معه في يده ليعلمهم أن إفطارهم ليتقوا وعلى القتال أفضل فيأكل الناس وكان يتأول في الشاميين قوله صلى الله عليه و سلم إنكم ملاقوا العدو غدا والفطر أقوى لكم فعزم عليهم في الفطر عام الفتح كما في حديث أبي سعيد الخدري وكان الخليفة أبو الربيع سليمان في صحبة السلطان ولما اصطفت العساكر والتحم القتال ثبت السلطان ثباتا عظيما وأمر بجواده فقيد حتى لا يهرب وبايع الله تعالى في ذلك الموقف وجرت خطوب عظيمة وقتل جماعة من سادات الامراء يومئذ منهم الأمير حسام الدين لاجين الرومي استاذ دار السلطان وثمانية من الأمراء المقدمين معه وصلاح الدين بن الملك السعيد الكامل بن السعيد بن الصالح إسماعيل وخلق من كبار الأمراء ثم نزل النصر على المسلمين قريب العصر يومئذ واستظهر المسلمون عليهم ولله الحمد والمنة
فلما جاء الليل لجأ التتر إلى اقتحام التلول والجبال والآكام فأحاط بهم المسلمون يحرسونهم من الهرب ويرمونهم عن قوس واحدة إلى وقت الفجر فقتلوا منهم مالا يعلم عدده إلا الله عز و جل وجعلوا يجيئون بهم في الحبال فتضرب أعناقهم ثم اقتحم منهم جماعة الهزيمة فنجا منهم قليل ثم كانوا يتساقطون في الأودية والمهالك ثم بعد ذلك غرق منهم جماعة في الفرات بسبب الظلام وكشف الله بذلك عن المسلمين غمة عظيمة شديدة ولله الحمد والمنة
ودخل السلطان إلى دمشق يوم الثلاثاء خامس رمضان وبين يديه الخليفة وزينت البلد وفرح كل واحد من أهل الجمعة والسبت والأحد فنزل السلطان في القصر الأبلق والميدان ثم تحول إلى القلعة يوم الخميس وصلى بها الجمعة وخلع على نواب البلاد وأمرهم بالرجوع إلى بلادهم واستقرت الخواطر وذهب اليأس وطابت قلوب الناس وعزل السلطان ابن النحاس عن ولاية المدينة وجعل مكانة الأمير علاء الدين أيدغدي أمير علم وعزل صارم الدين إبراهيم والى الخاص عن ولاية البر وجعل مكانه الأمير حسام الدين لاجين الصغير ثم عاد السلطان إلى الديار المصرية يوم الثلاثاء ثالث شوال بعد ان صام رمضان وعيد بدمشق
وطلب الصوفية من نائب دمشق الافرم ان يولي عليهم مشيخة الشيوخ للشيخ صفي الدين (14/26)
الهندي فأذن له في المباشرة يوم الجمعة سادس شوال عوضا عن ناصر الدين بن عبدالسلام ودخل السلطان القاهرة يوم الثلاثاء ثالث عشرين شوال وكان يوما مشهودا وزينت القاهرة وفيها جاءت زلزلة عظيمة يوم الخميس بكرة الثالث والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة وكان جمهورها بالديار المصرية وتلاطمت بسببها البحار فكسرت المراكب وتهدمت الدور ومات خلق كثير لا يعلمهم إلا الله وشققت الحيطان ولم ير مثلها في هذه الأعصار وكان منها بالشام طائفة لكن كان ذلك أخف من سائر البلاد غيرها وفي ذي الحجة باشر الشيخ أبو الوليد بن الحاج الأشبيلي المالكي إمام محراب الملاكية بجامع دمشق بعد وفاة الشيخ شمس الدين محمد الصنهاجي وممن توفي فيها من الاعيان
ابن دقيق العيد
الشيخ الامام العالم العلامة الحافظ قاضي القضاة تقي الدين ابن دقيق العيد القشيري المصري ولد يوم السبت الخامس والعشرين من شعبان سنة خمس وعشرين وستمائة بساحل مدينة ينبع من أرض الحجاز سمع الكثير ورحل في طلب الحديث وخرج وصنف فيه إسنادا ومتنا مصنفات عديدة فريدة مفيدة وانتهت إليه رياسة العلم في زمانه وفاق أقرانه ورحل اليه الطلبة ودرس في أماكن كثيرة ثم ولي قضاء الديار المصرية في سنة خمس وتسعين وستمائة ومشيخة دار الحديث الكاملية وقد اجتمع به الشيخ تقي الدين بن تيمية فقال له تقي الدين بن دقيق العيد لما رأى تلك العلوم منه ما أظن بقي يخلق مثلك وكان وقورا قليل الكلام غزير الفوائد كثير العلوم في ديانة نزاهة وله شعر رائق توفي يوم الجمعة حادي عشر شهر صفر وصلى عليه يوم الجمعة المذكور بسوق الخيل وحضر جنازته نائب السلطنة والأمراء ودفن بالقرافة الصغرى رحمه الله
الشيخ برهان الدين الاسكندري
إبراهيم بن فلاح بن محمد بن حاتم سمع الحديث وكان دينا فاضلا ولد سنة ست وثلاثين وستمائة وتوفي يوم الثلاثاء رابع وعشرين شوال عن خمس وستين سنة وبعد شهور بسواء كانت وفاة الصدر جمال الدين بن العطار كاتب الدرج منذ أربعين سنة أبو العباس أحمد بن أبي الفتح محمود بن أبي الوحش أسد بن سلامة بن فتيان الشيباني كان من خيار الناس وأحسنهم تقية ودفن بتربة لهم تحت الكهف بسفح قاسيون وتأسف الناس عليه لاحسانه إليهم رحمه الله
الملك العالد زين الدين كتبغا
توفي بجماة نائبا عليها بعد صرخد يوم الجمعة يوم عيد الاضحى ونقل إلى تربته بسفح قاسيون (14/27)
غربي الرباط الناصري يقال لها العادلية وهي تربة مليحة ذات شبابيك وبوابة ومأذنة وله عليها أوقاف دارة على وظائف من قراءة وأذان وإمامة وغير ذلك وكان من كبار الامراء المنصورية وقد ملك البلاد بعد مقتل الاشرف خليل بن المنصور ثم انتزع الملك منه لاجين وجلس في قلعة دمشق ثم تحول إلى صرخد وكان بها إلى أن قتل لاجين وأخذ الملك الناصر بن قلاوون فاستنابه بحماة حتى كانت وفاته كما ذكرنا وكان من خيار الملوك وأعد لهم وأكثرهم برا وكان من خيار الامراء والنواب رحمه الله
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعمائة
استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها وفي صفر تولي الشيخ كمال الدين بن الشريشي نظارة الجامع الأموي وخلع عليه وباشره مباشرة مشكورة وساوى بين الناس وعزل نفسه في رجب منها وفي شهر صفر تولى الشيخ شمس الدين الذهبي خطابة كفر بطنا وأقام بها ولما توفي الشيخ زين الدين الفارقي في هذه السنة كان نائب السلطنة في نواحي البلقاء يكشف بعض الامور فلما قدم تكلموا معه في وظائف الفارقي فعين الخطابة لشرف الدين الفزاري وعين الشامية البرانية ودار الحديث للشيخ كمال الدين بن الشريشي وذلك بإشارة الشيخ تقي الدين بن تيمية وأخذ منه النصارية للشيخ كمال الدين بن الزملكاني ورسم بكتابة التواقيع بذلك وباشر الشيخ شرف الدين الامامة والخطابة وفرح الناس به لحسن قراءته وطيب صوته وجودة سيرته فلما كان بكرة يوم الاثنين ثاني عشرين ربيع الأول وصل البريد من مصر صحبة الشيخ صدر الدين بن الوكيل وقد سبقه مرسوم السلطان له بجميع جهات الفارقي مضافا إلى ما بيده من التدريس فاجتمع بنائب السلطنة بالقصر وخرج من عنده إلى الجامع ففتح له باب دار الخطابة فنزلها وجاءه الناس يهنئونه وحضر عنده القراء والمؤذنون وصلى بالناس العصر وباشر الامامة يومين فأظهر الناس التألم من صلاته وخطابته وسعوا فيه إلى نائب السلطنة فمنعه من الخطابة وأقره على التداريس ودار الحديث وجاء توقيع سلطاني للشيخ شرف الدين الفزاري بالخطابة فخطب يوم الجمعة سابع عشر جمادي الأولى وخلع عليه بطرحة وفرح الناس به وأخذ الشيخ كمال الدين بن الزملكاني تدريس الشامية البرانية من يد ابن الوكيل وباشرها في مستهل جمادي الأولى واستقرت دار الحديث بيد ابن الوكيل مع مدرستيه الاوليتين وأظنهما العذاراوية والشامية الجوانية
ووصل البريد في ثاني عشر جمادي الأولى بإعادة السنجري إلى نيابة القلعة وتولية نائبها الأمير سيف الدين الجوكندراني نيابة حمص عوضا عن عز الدين الحموي توفي وفي يوم السبت ثاني عشر رمضان قدمت ثلاثة آلاف فارس من مصر وأضيف إليها ألفان من دمشق وساروا وأخذوا (14/28)
معهم نائب حمص الجوكندراني ووصلوا إلى حماة فصحبهم نائبها الأمير سيف الدين قبجق وجاء إليهم استدمر نائب طرابلس وانضاف إليهم قراسنقر نائب حلب وانفصلوا كلهم عنها وافتقروا فرقتين فرقة سارت صحبة فيجق إلى ناحية ملطية وقلعة الروم والفرقة الأخرى صحبة قراسنقر حتى دخلوا الدربندات وحاصروا تل حمدون فتسلموه عنوة في ثالث ذي القعدة بعد حصار طويل فدقت البشائر بدمشق لذلك ووقع مع صاحب سيس على أن يكون للمسلمين من نهر جيهان إلى حلب وبلاد ما رواء النهر إلى ناحيتهم لهم وأن يعجلوا حمل سنتين ووقعت الهدنة على ذلك وذلك بعد أن قتل خلق من أمراء الأرمن ورؤسائهم وعادت العساكر إلى دمشق مؤيدين منصورين ثم توجهت العساكر المصرية صحبة مقدمهم امير سلاح إلى مصر
وفي أواخر السنة كان موت قازان وتولية اخيه خربندا وهو ملك التتار قازان واسمه محمود بن أرغون بن أبغا وذلك في رابع عشر شوال أو حادي عشرة أو ثالث عشرة بالقرب من همدان ونقل إلى تربته بيبرين بمكان يسمى الشام ويقال إنه مات مسموما وقام في الملك بعده أخوه خربندا محمد بن أرغون ولقبوه الملك غياث الدين وخطب له على منابر العراق وخراسان وتلك البلاد
وحج في هذه السنة الأمير سيف الدين سلار نائب مصر وفي صحبته اربعون أميرا وجميع أولاد الأمراء وحج معهم وزير مصر الأمير عز الدين البغدادي وتولى مكانه بالبركة ناصر الدين محمد الشيخي وخرج سلار في أبهة عظيمة جدا وأمير ركب المصريين الحاج إباق الحسامي وترك الشيخ صفي الدين مشيخة الشيوخ فوليها القاضي عبد الكريم بن قاضي القضاة محي الدين ابن الزكي وحضر الخانقاه يوم الجمعة الحادي عشر من ذي القعدة وحضر عنده ابن صصرى وعز الدين القلانسي والصاحب ابن ميسر والمحتسب وجماعة
وفي ذي القعدة وصل من التتر مقدم كبير قد هرب منهم إلى بلاد الاسلام وهو الأمير بدر الدين جنكي بن البابا وفي صحبته نحو من عشرة فحضروا الجمعة في الجامع وتوجهوا إلى مصر فأكرم وأعطى إمرة ألف وكان مقامه ببلاد آمد وكان يناصح السلطان ويكاتبه ويطلعه على عورات التتر فلهذا عظم شأنه في الدولة الناصرية وممن توفي فيها من الاعيان ملك التتر قازان
الشيخ القدورة العابد أبو إسحاق
أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد بن معالي بن محمد بن عبدالكريم الرقي الحنبلي كان أصله من بلاد الشرق ومولده بالرقة في سنة سبع وأربعين وستمائة واشتغل وحصل وسمع شيئا من (14/29)
الحديث وقدم دمشق فسكن بالمأذنة الشرقية في أسفلها بأهله إلى جانب الطهارة بالجامع وكان معظما عند الخاص والعام فصيح العبارة كثير العبادة خشن العيش حسن المجالسة لطيف الكلام كثير التلاوة قوي التوجه من أفراد العالم عارفا بالتفسير والحديث والفقه والأصلين وله مصنفات وخطب وله شعر حسن توفي بمنزلة ليلة الجمعة خامس عشر المحرم وصلى عليه عقيب الجمعة ونقل إلى تربة الشيخ ابي عمر بالسفح وكانت جنازته حافلة رحمه الله وأكرم مثواه
وفي هذا الشهر توفي الأمير زين الدين قراجا استاذ دار الأفرم ودفن بتربته بميدان الحصا عند النهر
والشيخ شمس الدين محمد بن إبراهيم بن عبد السلام عرف بابن الحبلى كان من خيار الناس يتردد إلى عكا أياما حين ما كانت في أيدي الفرنج في فكاك أسارى المسلمين جزاه الله خيرا وعتقه من النار وأدخله الجنة برحمته
الخطيب ضياء الدين
أبو محمد عبد الرحمن بن الخطيب جمال الدين أبي الفرج عبدا لوهاب بن علي بن أحمد بن عقيل السلمي خطيب بعلبك نحوا من ستين سنة هو ووالده ولد سنة أربع عشرة وستمائة وسمع الكثير وتفرد عن القزويني وكان رجلا جيدا حسن القراءة من كبار العدول توفي ليلة الاثنين ثالث صفر ودفن بباب سطحا
الشيخ زين الدين الفارقي
عبد الله بن مروان ابن عبد الله بن فهر ( 1 ) بن الحسن أبو محمد الفارقي شيخ الشافعية ولد سنة ثلاث وثلاثين وستمائة وسمع الحديث الكثير واشتغل ودرس بعدة مدارس وأفتى مدة طويلة وكانت له همة وشهامة وصرامة وكان يباشر الاوقاف جيدا وهو الذي عمر دار الحديث بعد خرابها بيد قازان وقد باشرها سبعا وعشرين سنة من بعد النواوي إلى حين وفاته وكانت معه الشامية البرانية وخطابة الجامع الأموي تسعة أشهر باشر به الخطابة قبل وفاته وقد انتقل إلى دار الخطابة وتوفي بها يوم الجمعة بعدالعصر وصلى عليه ضحوة السبت صلى عليه ابن صصرى عند باب الخطابة وبسوق الخيل قاضي الحنفية شمس الدين بن الحريري وعند جامع الصالحية قاضي الحنابلة تقي الدين سليمان ودفن بتربة أهله شمالي تربة الشيخ أبي عمر رحمه الله وباشر بعده الخطابة شرف الدين الفزاري ومشيخه دار الحديث ابن الوكيل والشامية البرانية ابن الزملكاني وقد تقدم ذلك
الأمير الكبير عز الدين ايبك الحموي
ناب بدمشق مدة ثم عزل عنها إلى صرخد ثم نقل قبل موته بشهر إلى نيابة حمص وتوفي بها يوم العشرين من ربيع الاخر ونقل إلى تربته بالسفح غربي زاوية ابن قوام وإليه ينسب الحمام بمسجد القصب الذي يقال له حمام الحموي عمره في أيام نيابته (14/30)
الوزير فتح الدين
أبو محمد عبد الله بن محمد بن احمد بن خالد بن محمد بن نصر بن صقر القرشي المخزومي ابن القيسراني كان شيخا جليلا أدبيا شاعرا مجودا من بيت رياسة ووزارة ولي وزارة دمشق مدة ثم أقام بمصر موقعا مدة وكان له اعتناء بعلوم الحديث وسماعه وله مصنف في أسماء الصحابة الذين خرج لهم في الصحيحين وأورد شيئا من أحاديثهم في مجلدين كبيرين موقوفين بالمدرسة الناصرية بدمشق وكان له مذاكرة جيدة محررة باللفظ والمعنى وقد خرج عنه الحافظ الدمياطي وهو آخر من توفي من شيوخه توفي بالقاهرة في يوم الجمعة الحادي والعشرين من ربيع الآخرة وأصلهم من قيسارية الشام وكان جده موفق الدين أبو البقاء خالد وزيرا لنور الدين الشهيد وكان من الكتاب المجيدين المتقنين له كتابة جيدة محررة جدا توفي في أيام صلاح الدين سنة ثمان وثمانين وخمسمائة وأبوه محمد بن نصر بن صقر وله بعكة قبل أخذ الفرنج لها سنة ثمان وسبعين وأربعمائة فلما أخذت بعد السبعين وأربعمائة أنتقل اهلهم إلى حلب وكانوا بها وكان شاعرا مطبقا له ديوان مشهور وكان له معرفة جيدة بالنجوم وعلم الهيئة وغير ذلك
ترجمة والد ابن كثير مؤلف هذا التاريخ
وفيها توفي الوالد وهو الخطيب شهاب الدين ابو حفص عمر بن كثير بن ضوبن كثير بن ضوبن درع القرشي من بني حصلة وهم ينتسبون إلى الشرف وبأيديهم نسب وقف على بعضها شيخنا المزي فأعجبه ذلك وابتهج به فصار يكتب في نسبي بسبب ذلك القرشي من قرية يقال لها الشركوين غربي بصرى بينها وبين أذرعات ولد بها في حدود سنة أربعين وستمائة واشتغل بالعلم عند أخواله بني عقبة ببصرى فقرأ البداية في مذهب أبي حنيفة وحفظ جمل الزجاجي وعنى بالنحو والعربية واللغة وحفظ اشعار العرب حتى كان يقول الشعر الجيد الفائق الرائق في المدح والمراثي وقليل من الهجاء وقرر بمدارس بصرى بمنزل الناقة شمالي البلد حيث يزار وهو المبرك المشهور عند الناس والله أعلم بصحة ذلك ثم انتقل إلى خطابة القرية شرقي بصرى وتمذهب للشافعي وأخذ عن النواوي والشيخ تقي الدين الفزاري وكان يكرمه ويحترمه فيما أخبرني شيخنا العلامة ابن الزملكاني فأقام بها نحوا من ثنتي عشرة سنة ثم تحول إلى خطابة مجيدل القرية التي منها الوالدة فأقاما بها مدة طويلة في خير وكفاية وتلاوة كثيرة وكان يخطب جيدا وله مقول عند الناس ولكلامه وقع لديانته وفصاحته وحلاوته وكان يؤثر الاقامة في البلاد لما يرى فيها من الرفق ووجود الحلال له ولعياله وقد ولد له عدة اولاد من الوالدة ومن أخرى قبلها أكبرهم إسماعيل ثم يونس وإدريس ثم من الوالدة عبدالوهاب وعبدالعزيز ومحمد وأخوات عدة ثم أنا أصغرهم وسميت (14/31)
باسم الأخ اسماعيل لأنه كان قد قدم دمشق فاشتغل بها بعد أن حفظ القرآن على والده وقرأ مقدمة في النحو وحفظ التنبيه وشرحه على العلامة تاج الدين الفزاري وحصل المنتخب في أصول الفقة قاله لي شيخنا ابن الزملكاني ثم إنه سقط من سطح الشامية البرانية فمكث اياما ومات فوجد الوالد عليه وجدا كثيرا ورثاه بأبيات كثيرة فلما ولدت له أنا بعد ذلك سماني باسمه فأكبر أولاده اسماعيل وآخرهم وأصغرهم إسماعيل فرحم الله من سلف وختم بخير لمن بقي توفي والدي في شهر جمادي الاولى سنة ثلاث وسبعمائة في قرية مجيدل القرية ودفن بمقبرتها الشمالية عند الزيتون وكنت إذ ذاك صغيرا ابن ثلاث سنين او نحوها لا أدركه إلا كالحلم ثم تحولنا من بعده في سنة سبع وسبعمائة الى دمشق صحبة كمال الدين عبد الوهاب وقد كان لنا شقيقا وبنا رفيقا شفوقا وقد تأخرت وفاته إلى سنة خمسين فاشتغلت على يديه في العلم فيسر الله تعالى منه ما يسر وسهل منه ما تعسر والله أعلم
وقد قال شيخنا الحافظ علم الدين البرازلي في معجمه فيما أخبرني عنه شمس الدين محمد بن سعد المقدسي مخرجه له ومن خط المحدث شمس الدين بن سعد هذا نقلت وكذلك وقفت على خط الحافظ البرزالى مثله في السفينة الثانية من السفن الكبار قال عمر بن كثير القرشي خطيب القرية وهي قرية من أعمال بصرى رجل فاضل له نظم جيد ويحفظ كثيرا من اللغز وله همة وقوة كتبت عنه من شعره بحضور شيخنا تاج الدين الفزاري وتوفي في جمادي الأولى سنة ثلاث وسبعمائة بمجيدل القرية من عمل بصرى أنشدنا الخطيب شهاب الدين أبو حفص عمر بن كثير القرشي خطيب القرية بها لنفسه في منتصف شعبان من سنة سبع وثمانين وستمائة ... نأى النوم عن جفني فبت مسهدا ... أخا كلف حلف الصبابة موجدا ... سمير الثريا والنجوم مدلها ... فمن ولهي خلت الكواكب ركدا ... طريحا على فرش الصبابة والاسى ... فما ضركم لو كنتم لي عودا ... تقلبني أيدي الغرام بلوعة ... أرى النار من تلقائها لي أبردا ... ومزق صبري بعد جيران حاجز ... سعير غرام بات في القلب موقدا ... فأمطرته دمعي لعل زفيره ... يقل فزادته الدموع توقدا ... فبت بليل نابغي ولا أرى ... على النأي من بعد الاحبة صعدا ... فيالك من ليل تباعد فجره ... على إلى أن خلته قد تخلدا ... غراما ووجدا لا يحد أقله ... بأهيف معسول المراشف أغيدا ... له طلعة كالبدر زان جمالها ... بطرة شعر حالك اللون أسودا (14/32)
يهز من القدر الرشيق مثقفا ... ويشهر من جفنيه سيفا مهندا ... وفي ورد خديه وآس عذاره ... وضوء ثناياه فنيت تجلدا ... غدا كل حسن دونه متقاصرا ... وأضحى له رب الجمال موحدا ... إذا مارنا واهتز عند لقائه ... سباك فلم تملك لسانا ولا يدا ... وتسجد إجلالا له وكرامة ... وتقسم قد أمسيت في الحسن أوحدا ... ورب أخي كفر تأمل حسنه ... فأسلم من إجلاله وتشهدا ... وأنكر عيسى والصليب ومريما ... وأصبح يهوى بعد بغض محمدا ... أيا كعية الحسن التي طاف حولها ... فؤادي أما للصد عندك من فدا ... قنعت بطيف من خيالك طارق ... وقد كنت لا أرضى بوصلك سرمدا ... فقد شفني شوق تجاوز حده ... وحسبك وحسبك من شوق تجاوز واعتدا ... سألتك إلا ما مررت بحينا ... بفضلك يا رب الملاحة والندا ... لعل جفوني أن تغيض دموعها ... ويسكن قلب مذ هجرت فما هدا ... غلطت بهجراني ولو كنت صابيا ... لما صدك الواشون عني ولا العدا ...
وعدتها ثلاثة وعشرون بيتا والله يغفر له ما صنع من الشعر
ثم دخلت سنة اربع وسبعمائة
استهلت والخليفة والسلطان والحكام والمباشرون هم المذكورون في التي قبلها وفي يوم الأحد ثالث ربيع الأول حضرت الدروس والوظائف التي أنشأها الأمير بيبرس الجاشنكير المنصوري بجامع الحاكم بعد أن جدده من خرابه بالزلزلة التي طرأت على دياره مصرفي آخر سنة ثنتين وسبعمائة وجعل القضاة الاربعة هم المدرسين للمذاهب وشيخ الحديث سعد الدين الحارثي وشيخ النحو أثير الدين أبو حيان وشيخ القراءات السبع الشيخ نور الدين الشطنوفي وشيخ إفادة العلوم الشيخ علاء الدين القونوي وفي جمادي الاخر باشر الأمير ركن الدين بيبرس الحجوبية مع الأمير سيف الدين بكتمر وصارا حاجبين كبيرين في دمشق وفي رجب أحضر الى الشيخ تقي الدين بن تيمية شيخ كان يلبس دلقا كبيرا متسعا جدا يسمى المجاهد إبراهيم القطان فأمر الشيخ بتقطيع ذلك الدلق فتناهبه الناس من كل جانب وقطعوه حتى لم يدعوا فيه شيئا وأمر بحلق رأسه وكان ذا شعر وقلم أظفاره وكانوا طوالا جدا وحف شاربه المسبل على فمه المخالف للسنة واستتابه من كلام الفحش وأكل ما يغير العقل من الحشيشة وما لا يجوز من المحرمات وغيرها وبعده استحضر الشيخ محمد الخباز البلاسي فاستتابه أيضا عن أكل (14/33)
المحرمات ومخالطة أهل الذمة وكتب عليه مكتوبا ان لا يتكلم في تعبير المنامات ولا في غيرها بمالا علم له به وفي هذا الشهر بعينه راح الشيخ تقي الدين بن تيمية الى مسجد التاريخ وأمر أصحابه ومعهم حجارون بقطع صخرة كانت هناك بنهر قلوط تزار وينذر لها فقطعها وأراح المسلمين منها ومن الشرك بها فأزاح عن المسلمين شبهة كان شرها عظيما وبهذا وأمثاله حسدوه وأبرزوا له العداوة وكذلك بكلامه بابن عربي وأتباعه فحسد على ذلك وعودى ومع هذا لم تأخذه في الله لومة لائم ولا بالي ولم يصلوا اليه بمكروه وأكثر ما نالوا منه الحبس مع أنه لم ينقطع في بحث لا بمصر ولا بالشام ولم يتوجه لهم عليه ما يشين وإنما أخذوه وحبسوه بالجاه كما سيأتي وإلى الله إياب الخلق وعليه حسابهم وفي رجب جلس قاضي القضاة نجم الدين بن صصرى بالمدرسة العادلية الكبيرة وعملت التخوت بعدما جددت عمارة المدرسة ولم يكن احد يحكم بها بعد وقعة قازان بسبب خرابها وجاء المرسوم للشيخ برهان الدين الفزاري بوكلة بيت المال فلم يقبل وللشيخ كمال الدين بن الزملكاني بنظر الخزانة فقبل وخلع عليه بطرحة وحضر بها يوم الجمعة وهاتان الوظيفتان كانتا مع نجم الدين بن أبي الطيب توفي إلى رحمة الله وفي شعبان سعى جماعة في تبطيل الوقيد ليلة النصف وأخذوا خطوط العلماء في ذلك وتكلموا مع نائب السلطنة فلم يتفق ذلك بل اشعلوا وصليت صلاة ليلة النصف أيضا وفي خامس رمضان وصل الشيخ كمال الدين بن الشريشي من مصر بوكلة بيت المال ولبس الخلعة سابع رمضان وحضر عند ابن صصرى بالشباك الكمالي وفي سابع شروال عزل وزير مصر ناصر الدين بن الشيخي وقطع إقطاعه ورسم عليه وعوقب إلى أن مات في ذي القعدة وتولى الوزارة سعد الدين محمد بن محمد بن عطاء وخلع عليه وفي يوم الخميس الثاني والعشرين من ذي القعدة حكم قاضي القضاة جمال الدين الزواوي بقتل الشمس محمد بن جمال الدين بن عبد الرحمن الباجريقي وإراقة دمه وإن تاب وان اسلم بعد اثبات محضر عليه يتضمن كفر الباجريقي المذكور وكان ممن شهد فيه عليه الشيخ مجد الدين التونسي النحوي الشافعي فهرب الباجريقي إلى بلاد الشرق فمكث بها مدة سنين ثم جاء بعد موت الحاكم المذك كما سيأتي
وفي ذي القعدة كان نائب السلطنة في الصيد فقصدهم في الليل طائفة من الاعراب فقاتلهم الأمراء فقتلوا من العرب نحو النصف وتوغل في العرب الأمير يقال له سيف الدين بها درتمر احتقارا بالعرب فضربه واحد منهم برمح فقتله فكرت الأمراء عليهم فقتلوا منهم خلقا أيضا وأخذوا واحدا منهم زعموا أنه هو الذي قتله فصلب تحت القلعة ودفن الأمير المذكور بقبر الست وفي ذي القعدة تكلم الشيخ شمس الدين بن النقيب وجماعة من العلماء في الفتاوي الصادرة من الشيخ (14/34)
علاء الدين بن العطار شيخ دار الحديث النورية والقوصية وأنها مخالفة لمذهب الشافعي وفيها تخبيط كثير فتوهم من ذلك وراح إلى الحنفي فحقن دمه وأبقاه على وظائفه ثم بلغ ذلك نائب السلطنة فأنكر على المنكرين عليه ورسم عليهم ثم اصطلحوا ورسم نائب السلطنة ان لا تثار الفتن بين الفقهاء وفي مستهل ذي الحجة ركب الشيخ تقي الدين بن تيمية ومعه جماعة من أصحابه إلى جبل الجرد والكسروانيين ومعه نقيب الأشراف زين الدين بن عدنان فاستتابوا خلقا منهم وألزموهم بشرائع الاسلام ورجع مؤيدا منصورا وممن توفي فيها من الاعيان
الشيخ تاج الدين بن شمس الدين بن الرفاعي
شيخ الأحمدية بأم عبيدة من مدة مديدة وعنه تكتب إجازات الفقراء ودفن هناك عند سلفة بالبطائح
الصدر نجم الدين بن عمر
ابن ابي القاسم بن عبد المنعم بن محمد بن الحسن بن أبي الكتائب بن محمد بن أبي الطيب وكيل بيت المال وناظر الخزانة وقد ولى في وقت نظر المارستان النوري وغير ذلك وكان مشكور السيرة رجلا جيدا وقد سمع الحديث وروى أيضا توفي ليلة الثلاثاء الخامس عشر من جمادي الآخرة ودفن بتربتهم بباب الصغير
ثم دخلت سنة خمس وسبعمائة
استهلت والخليفة المستكفي والسلطان الملك الناصر والمباشرون هم المذكورون فيما مضى وجاء الخبر أن جماعة من التتر كمنوا لجيش حلب وقتلوا منهم خلقا من الأعيان وغيرهم وكثر النوح ببلاد حلب بسبب ذلك وفي مستهل المحرم حكم جلال الدين القزويني أخو قاضي القضاة إمام الدين نيابة عن ابن صصرى وفي ثانيه خرج نائب السلطنة بمن بقي من الجيوش الشامية وقد كان تقدم بين يديه طائفة من الجيش مع ابن تيمية في ثاني المحرم فساروا إلى بلاد الجرد والرفض والتيامنة فخرج نائب السلطنة الأفرم بنفسه بعد خروج الشيخ لغزوهم فنصرهم الله عليهم وأبادوا خلقا كثيرا منهم ومن فرقتهم الضالة ووطئوا أراضي كثيرة من صنع بلادهم وعاد نائب السلطنة إلى دمشق في صحبته الشيخ ابن تيمية والجيش وقد حصل بسبب شهود الشيخ هذه الغزوة خير كثير وأبان الشيخ علما وشجاعة في هذه الغزوة وقد امتلأت قلوب اعدائه حسدا له وغما وفي مستهل جمادي الأولى قدم القاضي امين الدين أبو بكر ابن القاضي وجيه الدين عبد العظيم بن الرفاقي المصري من القاهرة على نظر الدواوين بدمشق عوضا عن عز الدين بن مبشر (14/35)
ما جرى للشيخ تقي الدين بن تيمية
مع الأحمدية وكيف عقدت له المجالس الثلاثة
وفي يوم السبت تاسع جمادي الأولى حضر جماعة كثيرة من الفقراء الأحمدية إلى نائب السلطنة بالقصر الأبلق وحضر الشيخ تقي الدين بن تيمية فسألوا من نائب السلطنة بحضرة الأمراء أن يكف الشيخ تقي الدين إمارته عنهم وأن يسلم لهم حالهم فقال لهم الشيخ هذا ما يمكن ولا بد لكل أحد أن يدخل تحت الكتاب والسنة قولا وفعلا ومن خرج عنهما وجب الانكار عليه فأرادوا أن يفعلوا شيئا من أحوالهم الشيطانية التي يتعاطونها في سماعاتهم فقال الشيخ تلك أحوال شيطانية باطلة وأكثر أحوالهم من باب الحيل والبهتان ومن اراد منهم أن يدخل النار فليدخل أولا إلى الحمام وليغسل جسده غسلا جيدا ويدلكه بالخل والأشنان ثم يدخل بعد ذلك إلى النار إن كان صادقا ولو فرض أن أحدا من أهل البدع دخل النار بعد أن يغتسل فإن ذلك لا يدل على صلاحه ولا على كرامته بل حاله من أحوال الدجاجلة المخالفة للشريعة إذا كان صاحبها على السنة فما الظن بخلاف ذلك فابتدر شيخ المنيبع الشيخ صالح وقال نحن أحوالنا إنما تنفق عند التتر ليست تنفق عند الشرع فضبط الحاضرون عليه تلك الكلمة وكثر الانكار عليهم من كل أحد ثم اتفق الحال على أنهم يخلعون الأطواق الحديد من رقابهم وأن من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه وصنف الشيخ جزءا في طريقة الأحمدية وبين فيه أحوالهم ومسالكهم وتخيلاتهم وما في طريقتهم من مقبول ومردود بالكتاب وأظهر الله السنة على يديه أخمد بدعتهم ولله الحمد والمنة
وفي العشر الأوسط من هذا الشهر خلع علي جلال الدين بن معبد وعز الدين خطاب وسيف الدين بكتمر مملوك بكتاش الحسامي بالأمرة ولبس التشاريف وركبوا بها وسلموا لهم جبل الجرد والكسروان والبقاع وفي يوم الخميس ثالث رجب خرج الناس للاستسقاء إلى سطح المزة ونصبوا هناك منبرا وخرج نائب السلطنة وجميع الناس من القضاة والعلماء والفقراء وكان مشهدا هائلا وخطبة عظيمة بليغة فاستسقوا فلم يسقوا يومهم ذلك
أول المجالس الثلاثة لشيخ الاسلام ابن تيمية
وفي يوم الاثنين ثامن رجب حضر القضاة والعلماء وفيهم الشيخ تقي الدين بن تيمية عندنائب السلطنة بالقصر وقرئت عقيدة الشيخ تقي الدين الواسطية وحصل بحث في أماكن منها وأخرت مواضع إلى المجلس الثاني فاجتمعوا يوم الجمعة بعد الصلاة ثاني عشر الشهر المذكور وحضر الشيخ صفي الدين الهندي وتكلم مع الشيخ تقي الدين كلاما كثيرا ولكن ساقيته لاطمت بحرا ثم اصطلحوا على ان يكون الشيخ كمال الدين بن الزملكاني هو الذي يحاققه من غير مسامحة فتناظرا في (14/36)
ذلك وشكر الناس من فضائل الشيخ كمال الدين بن الزملكاني وجودة ذهنه وحسن بحثه حيث قاوم ابن تيمية في البحث وتكلم معه ثم انفصل الحال على قبول العقيدة وعاد الشيخ إلى منزله معظما مكرما وبلغني ان العامة حملوا له الشمع من باب النصر إلى القصاعين على جاري عادتهم في أمثال هذه الأشياء وكان الحامل على هذه الاجتماعات كتاب ورد من السلطان في ذلك كان الباعث على إرساله قاضي المالكية ابن مخلوف والشيخ نصر المنبجي شيخ الجاشنكير وغيرهما من أعدائه وذلك أن الشيخ تقي الدين بن تيمية كان يتكلم في المنبجي وينسبه إلى اعتقاد ابن عربي وكان للشيخ تقي الدين من الفقهاء جماعة يحسدونه لتقدمه عند الدولة وانفراده بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطاعة الناس له ومحبتهم له وكثرة أتباعه وقيامه في الحق وعلمه وعمله ثم وقع بدمشق خبط كثير وتشويش بسبب غيبة نائب السلطنة وطلب القاضي جماعة من أصحاب الشيخ وعزر بعضهم ثم اتفق ان الشيخ جمال الدين المزي الحافظ قرأ فصلا بالرد على الجهمية من كتاب أفعال العباد للبخاري تحت قبة النسر بعد قراءة ميعاد البخاري بسبب الاستسقاء فغضب بعض الفقهاء الحاضرين وشكاه إلى القاضي الشافعي ابن صصرى وكان عدو الشيخ فسجن المزي فبلغ الشيخ تقي الدين فتألم لذلك وذهب إلى السجن فأخرجه منه بنفسه وراح إلى القصر فوجد القاضي هنالك فتقاولا بسبب الشيخ جمال الدين المزي فحلف ابن صصرى لا بد أن يعيده إلى السجن وإلا عزل نفسه فأمر النائب باعادته تطييبا لقلب القاضي فحبسه عنده في القوصية أياما ثم أطلقه ولما قدم نائب السلطنة ذكر له الشيخ تقي الدين ما جرى في حقه وحق اصحابه في غيبته فتألم النائب لذلك ونادى في البلد أن لا يتكلم احد في العقائد ومن عاد إلى تلك حل ماله ودمه ورتبت داره وحانوته فسكنت الامور وقد رأيت فصلا من كلام الشيخ تقي الدين في كيفية ما وقع في هذه المجالس الثلاثة من المناظرات
ثم عقد المجلس الثالث في يوم سابع شعبان بالقصر واجتمع الجماعة على الرضى بالعقيدة المذكورة وفي هذا اليوم عزل ابن صصرى نفسه عن الحكم بسبب كلام سمعه من بعض الحاضرين في المجلس المذكور وهو من الشيخ كمال الدين بن الزملكاني ثم جاء كتاب السلطان في السادس والعشرين من شعبان فيه إعادة ابن صصرى إلى القضاء وذلك بإشارة المنبجي وفي الكتاب إنا كنا سمعنا بعقد مجلس للشيخ تقي الدين بن تيمية وقد بلغنا ما عقد له من المجالس وأنه على مذهب السلف وإنما أردنا بذلك براءة ساحته مما نسب إليه ثم جاء كتاب آخر في خامس رمضان يوم الاثنين وفيه الكشف عن ما كان وقع للشيخ تقي الدين بن تيمية في أيام جاغان والقاضي إمام الدين القزويني وأن يحمل هو والقاضي ابن صصرى إلى مصر فتوجها على البريد نحو مصر وخرج مع الشيخ خلق من اصحابه وبكوا وخافوا عليه من أعدائه وأشار عليه نائب السلطنة ابن الأفرم بترك الذهاب (14/37)
الى مصر وقال له انا أكاتب السلطان في ذلك وأصلح القضايا فامتنع الشيخ من ذلك وذكر له ان في توجهه لمصر مصلحة كبيرة ومصالح كثيرة فلما توجه لمصر ازدحم الناس لوداعه ورؤيته حتى انتشروا من باب داره إلى قرب الجسورة فيما بين دمشق والكسوة وهم فيما بين باك وحزين ومتفرج ومتنزه ومزاحم متغال فيه فلا كان يوم السبت دخل الشيخ تقي الدين غزة فعمل في جامعها مجلسا عظيما ثم دخلا معا إلى القاهرة والقلوب معه وبه متعلثقة فدخلا مصر يوم الاثنين الثاني والعشرين من رمضان وقيل إنهما دخلاها يوم الخميس فلما كان يوم الجمعة بعد الصلاة عقد للشيخ مجلس بالقلعة اجتمع فيه القضاة وأكابر الدولة وأراد أن يتكلم على عادته فلم يتمكن من البحث والكلام وانتدب له الشمس ابن عدنان خصما احتسابا وادعى عليه عندابن مخلوف المالكي انه يقول ان الله فوق العرش حقيقة وأن الله يتكلم بحرف وصوت فسأله القاضي جوابه فأخذ الشيخ في حمد الله والثناء عليه فقيل له أجب ما جئنا بك لتخطب فقال ومن الحاكم في فقيل له القاضي المالكي فقال له الشيخ كيف تحكم في وأنت خصمي فغضب غضبا شديدا وانزعج وأقيم مرسما عليه وحبس في برج أياما ثم نقل منه ليلة العيد إلى الحبس المعروف بالجب هو واخوه شرف الدين عبد الله وزين الدين عبد الرحمن
وأما ابن صصرى فانه جدد له توقيع بالقضاء باشارة المنبجي شيخ الجاشنكير حاكم مصر وعاد إلى دمشق يوم الجمعة سادس ذي القعدة والقلوب له ماقنة والنفوس منه نافرة وقرئ تقليده بالجامع وبعده قرئ كتاب فيه الحط على الشيخ تقي الدين ومخالفته في العقيدة وأن ينادي بذلك في البلاد الشامية وألزم أهل مذهبه بمخالفته وكذلك وقع بمصر قام عليه جاشنكير وشيخه نصر المنبجي وساعدهم جماعة كثيرة من الفقهاء والفقراء وجرت فتن كثيرة منتشرة نعوذ بالله من الفتن وحصل للحنابلة بالديار المصرية إهانة عظيمة كثيرة وذلك أن قاضيهم كان قليل العلم مزجي البضاعة وهو شرف الدين الحراني فلذلك نال أصحابهم ما نالهم وصارت حالهم حالهم وفي شهر رمضان جاء كتاب من مقدم الخدام بالحرم النبوي يستأذن السلطان في بيع طائفة من قناديل الحرم النبوي لينفق ذلك ببناء مأذنة عند باب السلام الذي عند المطهرة فرسم له بذلك وكان في جملة القناديل قنديلان من ذهب زنتهما ألف دينار فباع ذلك وشرع في بنائها وولى سراج الدين عمر قضاءها مع الخطابة فشق ذلك على الروافض
وفي يوم الخميس ثاني عشر ذي القعدة وصل البريد من مصر بتولية القضاء لشمس الدين محمد بن إبراهيم بن داود الأذرعي الحنفي قضاء الحنفية عوضا عن شمس الدين ابن الحسيني معزولا وبتولية الشيخ برهان الدين ابن الشيخ تاج الدين الفزاري خطابة دمشق عوضا عن عمه (14/38)
الشيخ شرف الدين توفي إلى رحمة الله وخلع عليهما بذلك وباشرا في يوم الجمعة ثالث عشر الشهر وخطب الشيخ برهان الدين خطبة حسنة حضرها الناس والأعيان ثم بعد خمسة أيام عزل نفسه عن الخطابة وآثر بقاءه على تدريس البادرائية حين بلغه أنها طلبت لتؤخذ منه فبقى منصب الخطابة شاغرا ونائب الخطيب يصلي بالناس ويخطب ودخل عيد الأضحى وليس للناس خطيب وقد كاتب نائب السلطنة في ذلك فجاء المرسوم بالزامه بذلك وفيه لعلمنا بأهليته وكفايته واستمراره على ما بيده من تدريس البادرائية فباشرها القيسي جمال الدين ابن الرحبي سعى في البادرائية فأخذها وباشرها في صفر من السنة الآتية بتوقيع سلطاني فعزل الفزاري نفسه عن الخطابة ولزم بيته فراسله نائب السلطنة بذلك فصمم على العزل وأنه لا يعود إليها أبدا وذكر انه عجز عنها فلما تحقق نائب السلطنة ذلك اعاد إليه مدرسته وكتب له بها توقيعا بالعشر الأول من ذي الحجة وخلع على شمس الدين بن الخطيري بنظر الخزانة عوضا عن ابن الزملكاني وحج بالناس الامير شرف الدين حسن بن حيدر وممن توفي فيها من الأعيان
الشيخ عيسى بن الشيخ سيف الدين الرحبي
ابن سابق بن الشيخ يونس القيسي ودفن بزاويتهم التي بالشرق الشمالي بدمشق غربي الوراقة والعزية يوم الثلاثاء سابع المحرم
الملك الاوحد ابن الملك تقي الدين شادي بن الملك الزاهر مجير الدين داود بن الملك المجاهد أسد الدين شيركوه بن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شادي توفي بجبل الجرد في آخر نهار الأربعاء ثاني صفر وله من العمر سبع وخمسون سنة فنقل إلى تربتهم بالسفح وكان من خيار الملوك والدولة معظما عند الملوك والأمراء وكان يحفظ القرآن وله معرفة بعلوم ولديه فضائل
الصدر علاء الدين
على بن معالي الانصاري الحراني الحاسب يعرف بابن الزريز وكان فاضلا بارعا في صناعة الحساب انتفع به جماعة توفي في آخر هذه السنة فجأة ودفن بقاسيون وقد أخذت الحساب عن الحاضري عن علاء الدين الطيوري عنه
الخطيب شرف الدين أبو العباس
أحمد بن إبراهيم بن سباع بن ضياء الفزاري الشيخ الامام العلامة أخو العلامة شيخ الشافعية تاج الدين عبد الرحمن ولد سنة ثلاثين وسمع الحديث الكثير وانتفع على المشايخ في ذلك العصر كابن الصلاح وابن السخاوي وغيرهما وتفقه وأفتى وناظر وبرع وساد أقرانه وكان استاذا في (14/39)
العربية واللغة والقراءات وإيراد الأحاديث النبوية والتردد إلى المشايخ للقراءة عليهم وكان فصيح العبارة حلو المحاضرة لا تمل مجالسته وقد درس بالطبية وبالرباط الناصري مدة ثم تحول عنه إلى خطابة جامع جراح ثم انتقل إلى خطابة جامع دمشق بعد الفارقي في سنة ثلاث ولم يزل به حتى توفي يوم الأربعاء عشية التاسع من شوال عن خمس وسبعين سنة وصلى عليه صبيحة يوم الخميس على باب الخطابة ودفن عند أبيه وأخيه بباب الصغير رحمهم الله وولى الخطابة ابن اخيه
شيخنا العلامة برهان الدين الحافظ الكبير الدمياطي
وهو الشيخ الامام العالم الحافظ شيخ المحدثين شرف الدين أبو محمد عبد المؤمن بن خلف بن ابي الحسن بن شرف بن الخضر بن موسى الدمياطي حامل لواء هذا الفن أعني صناعة الحديث وعلم اللغة في زمانه مع كبر السن والقدر وعلو الاسناد وكثرة الرواية وجودة الدراية وحسن التآليف وإنتشار التصانيف وتردد الطلبة إليه من سائر الآفاق ومولده في آخر سنة ثلاث عشرة وستمائة وقد كان أول سماعه في سنة ثنتين وثلاثين بالاسكندرية سمع الكثير على المشايخ ورحل وطاف وحصل وجمع فأوعى ولكن ما منع ولا بخل بل بذل وصنف ونشر العلم وولي المناصب بالديار المصرية وانتفع الناس به كثيرا وجمع معجما لمشايخه الذين لقيهم بالشام والحجاز والجزيرة والعراق وديار مصر يزيدون على ألف وثلثمائة شيخ وهو مجلدان وله الأربعون المتباينة الاسناد وغيرها وله كتاب في الصلاة الوسطى مفيد جدا ومصنف في صيام ستة أيام من شوال أفاد فيه وأجاد وجمع ما لم يسبق إليه وله كتاب الذكر والتسبيح عقيب الصلوات وكتاب التسلى في الاغتباط بثواب من يقدم من الافراط وغير ذلك من الفوائد الحسان ولم يزل في إسماع الحديث إلى ان أدركته وفاته وهو صائم في مجلس الأمراء غشى عليه فحمل إلى منزله فمات من ساعته يوم الاحد عاشر ذي القعدة بالقاهرة ودفن من الغد بمقابر باب النصر وكانت جنازته حافلة جدا رحمه الله تعالى
ثم دخلت سنة ست وسبعمائة
استهلت والحكام هم المذكرون في التي قبلها والشيخ تقي الدين بن تيمية مسجون بالجب من قلعة الجبل وفي يوم الاربعاء جاء البريد بتولية الخطابة للشيخ شمس الدين إمام الكلاسة وذلك في ربيع الاول وهنئ بذلك فأظهر التكره لذلك والضعف عنه ولم يحصل له مباشرة لغيبة نائب السلطنة في الصيد فلما حضر أذن له فباشر يوم الجمعة العشرين من الشهر فأول صلاة صلاها الصبح يوم الجمعة ثم خلع عليه وخطب بها يومئذ وفي يوم الأربعاء ثامن عشر ربيع الأول باشر نيابة الحكم عن القاضي نجم الدين احمد بن عبد المحسن بن حسن المعروف بالدمشقي عوضا عن تاج الدين بن صالح بن تامر بن خان الجعبري وكان معمرا قديم الهجرة كثير الفضائل دينا (14/40)
ورعا جيد المباشرة وكان قد ولي الحكم في سنة سبع وخمسين وستمائة فلما ولى ابن صصرى كره نيابته وفي يوم الأحد العشرين من ربيع الآخر قدم البريد من القاهرة ومعه تجديد توقيع القاضي شمس الدين الأزرعي الحنفي فظن الناس انه بولاية القضاء لابن الحر يرى فذهبوا ليهنئوه مع البريد إلى الظاهرية واجتمع الناس لقراءة التقليد على العادة فشرع الشيخ علم الدين البرزالي في قراءته فلما وصل إلى الاسم تبين له أنه ليس له وأنه للأزرعي فبطل القارئ وقام الناس مع البريدي إلى الأزرعي وحصلت كسرة وخمدة على الحريري والحضارين ووصل مع البريدي أيضا كتاب فيه طلب الشيخ كمال الدين بن الزملكاني إلى القاهرة فتوهم من ذلك وخاف أصحابه عليه سبب انتسابه إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية فتلطف به نائب السلطنة ودارى عنه حتى اعفى من الحضور إلى مصر ولله الحمد
وفي يوم الخميس تاسع جمادي الأولى دخل الشيخ ابن براق إلى دمشق وبصحبته مائة فقير كلهم محلقي ذقونهم موفري شواربهم عكس ما وردت به السنة على رؤسهم قرون لبابيد ومعه أجراس وكعاب وجوا كين خشب فنزلوا بالمنيبع وحضروا الجمعة برواق الحنابلة ثم توجهوا نحو القدس فزاروا ثم استأذنوا في الدخول إلى الديار المصرية فلم يؤذن لهم فعادوا إلى دمشق فصاموا بها رمضان ثم انشمروا راجعين إلى بلاد الشرق إذ لم يجدوا بدمشق قبولا وقد كان شيخهم براق روميا من بعض قرى دوقات من أبناء الاربعين وقد كانت له منزلة عند قازان ومكانه وذلك أنه سلط عليه نمرا فزجره فهرب منه وتركه فحظى عنده وأعطاه في يوم واحد ثلاثين ألفا ففرقها كلها فأحبه ومن طريقة أصحابه أنهم لا يقطعون لهم صلاة ومن ترك صلاة ضربوه أربعين جلدة وكان يزعم ان طريقه الذي سلكه إنما سلكه ليخرب على نفسه ويرى أنه زي المسخرة وان هذا هو الذي يليق بالدنيا والمقصود انما هو الباطن والقلب وعمارة ذلك ونحن إنما نحكم بالظاهر والله أعلم بالسرائر
وفي يوم الأربعاء سادس جمادي الآخرة حضر مدرس النجيبية بهاء الدين يوسف بن كمال الدين أحمد بن عبد العزيز العجمي الحلبي عوضا عن الشيخ ضياء الدين الطوسي توفي وحضر عنده ابن صصرى وجماعة من الفضلاء وفي هذه السنة صليت صلاة الرغائب في النصف بجامع دمشق بعد أن كانت قد أبطلها ابن تيمية منذ أربع سنين ولما كانت ليلة النصف حضر الحاجب ركن الدين بيبرس العلائي ومنع الناس من الوصول إلى الجامع ليلتئذ وغلقت أبوابه فبات كثير من الناس في الطرقات وحصل للناس أذى كثير وإنما أراد صيانة الجامع من اللغو والرفث والتخليط وفي سابع عشر رمضان حكم القاضي تقي الدين الحنبلي بحقن دم محمد الباجريقي وأثبت عنده محضرا (14/41)
بعداوة ما بينه وبين الشهود الستة الذين شهدوا عليه عند المالكي حين حكم بإراقة دمه وممن شهد بهذه العداوة ناصر الدين بن عبد السلام وزين الدين بن الشريف عدنان وقطب الدين بن شيخ السلامية وغيرهم وفيها باشر كمال الدين بن الزملكاني نظر ديوان ملك الأمراء عوضا عن شهاب الدين الحنفي وذلك في آخر رمضان وخلع عليه بطيلسان وخلعة وحضر بها دار العدل وفي ليلة عيد الفطر أحضر الامير سيف الدين سلار نائب مصر القضاة الثلاثة وجماعة من الفقهاء فالقضاة الشافعي والمالكي والحنفي والفقهاء الباجي والجزري والنمراوي وتكلموا في إخراج الشيخ تقي الدين بن تيمية من الحبس فاشترط بعض الحاضرين عليه شروطا بذلك منها أنه يلتزم بالرجوع عن بعض العقيدة وأرسلوا اليه ليحضر ليتكلموا معه في ذلك فامتنع من الحضور وصمم وتكررت الرسل إليه ست مرات فصمم على عدم الحضور ولم يلتفت إليهم ولم يعدهم شيئا فطال عليهم المجلس فتفرقوا وانصرفوا غير مأجورين وفي يوم الأربعاء ثاني شوال أذن نائب السلطنة الأفرم للقاضي جلال الدين القزويني أن يصلى بالناس ويخطب بجامع دمشق عوضا عن الشيخ شمس الدين إمام الكلاسة توفي فصلى الظهر يومئذ وخطب الجمعة واستمر بالامامة والخطابة حتى وصل توقيعه بذلك من القاهرة وفي مستهل ذي القعدة حضر نائب السلطنة والقضاة والأمراء والاعيان وشكرت خطبته وفي مستهل ذي القعدة كمل بناء الجامع الذي ابتناه وعمره الأمير جمال الدين نائب السلطنة الأفرم عند الرباط الناصري بالصالحية ورتب فيه خطيبا يخطب يوم الجمعة وهو القاضي شمس الدين محمد بن العز الحنفي وحضر نائب السلطنة والقضاة وشكرت خطبة الخطيب به ومد الصاحب شهاب الدين الحنفي سماطا بعد الصلاة بالجامع المذكور وهو الذي كان الساعي في عمارته والمستحث عليها فجاء في غاية الاتقان والحسن تقبل الله منهم
وفي ثالث ذي القعدة استناب ابن صصرى القاضي صدر الدين سليمان بن هلال بن شبل الجعبري خطيب داريا في الحكم عوضا عن جلال الدين القزويني بسبب اشتغاله بالخطابة عن الحكم وفي يوم الجمعة التاسع والعشرين من ذي القعدة قدم قاضي القضاة صدر الدين ابو الحسن على بن الشيخ صفي الدين الحنفي البصراوي إلى دمشق من القاهرة متوليا قضاء الحنفية عوضا عن الأزرعي مع ما بيده من تدريس النورية والمقدمية وخرج الناس لتلقيه وهنؤه وحكم بالنورية وقرئ تقليده بالمقصورة الكندية في الزاوية الشرقية من جامع بني امية وفي ذي الحجة ولي الأمير عز الدين بن صبرة على البلاد القبلية والي الولاة عوضا عن الأمير جمال الدين آقوش الرستمي بحكم ولايته شد الدواوين بدمشق وجاء كتاب من السلطان بولاية وكالته للرئيس (14/42)
عز الدين بن حمزة القلانسي عوضا عن ابن عمه شرف الدين فكره ذلك
وفي اليوم الثامن والعشرين من ذي الحجة أخبر نائب السلطنة بوصول كتاب من الشيخ تقي الدين من الحبس الذي يقال له الجب فأرسل في طلبه فجيء به فقرئ على الناس فجعل يشكر الشيخ ويثني عليه وعلى علمه وديانته وشجاعته وزهده وقال ما رأيت مثله وإذا هو كتاب مشتمل على ما هو عليه في السجن من التوجه إلى الله وأنه لم يقبل من أحد شيئا لا من النفقات السلطانية ولا من الكسوة ولا من الادرارات ولا غيرها ولا تدنس بشيء من ذلك
وفي هذا الشهر يوم الخميس السابع والعشرين منه طلب اخوا الشيخ تقي الدين شرف الدين وزين الدين من الحبس إلى مجلس نائب السلطان سلار وحضر ابن مخلوف المالكي وطال بينهم كلام كثير فظهر شرف الدين بالحجة على القاضي المالكي بالنقل والدليل والمعرفة وخطأه في مواضع ادعى فيها دعاوي باطلة وكان الكلام في مسألة العرش ومسألة الكلام وفي مسألة النزول
وفي يوم الجمعة ثاني عشرين ذي الحجة وصل على البريد من مصر نصر الدين محمد بن الشيخ فخر الدين بن أخي قاضي القضاة البصراوي وزوج ابنته على الحسبة بدمشق عوضا عن جمال الدين يوسف العجمي وخلع عليه بطيلسان ولبس الخلعة ودار بها في البلد في مستهل سنة سبع وسبعمائة وفي هذه السنة عمر في حرم مكة بنحو مائة ألف وحج بالناس من الشام الأمير ركن الدين بيبرس المجنون وممن توفي فيها من الأعيان القاضي تاج الدين
صالح بن أحمد بن حامد بن علي الجعدي الشافعي نائب الحكم بدمشق ومفيد الناصرية كان ثقة دينا عدلا مرضيا زاهدا حكم من سنة سبع وخمسين وستمائة له فضائل وعلوم وكان حسن الشكل والهيئة توفي في ربيع الأول عن ست وسبعين سنة ودفن بالسفح وناب في الحكم بعده نجم الدين الدمشقي
الشيخ ضياء الدين الطوسي
أبو محمد عبدالعزيز بن محمد بن علي الشافعي مدرس النجيبية شارح الحاوي ومختصر ابن الحاجب كان شيخا فاضلا بارعا وأعاد في الناصرية أيضا توفي يوم الاربعاء بعد مرجعه من الحمام تاسع عشر من جمادي الاولى وصلى عليه يوم الخميس ظاهر باب النصر وحضر نائب السلطنة وجماعة من الأمراء والأعيان ودفن بالصوفية ودرس بعده بالمدرسة بهاء الدين بن العجمي
الشيخ جمال الدين إبراهيم بن محمد بن سعدالطيبي
المعروف بابن السوابلي والسوابل الطاسات كان معظما ببلاد الشرق جدا كان تاجرا كبيرا توفي في هذا الشهر المذكور (14/43)
الشيخ الجليل سيف الدين الرجيحي
ابن سابق بن هلال بن يونس شيخ اليونسية بمقامهم صلى عليه سادس رجب بالجامع ثم أعيد إلى داره التي سكنها داخل باب توما وتعرف بدار أمين الدولة فدفن بها وحضر جنازته خلق كثير من الأعيان والقضاة والأمراء وكانت له حرمة كبيرة عند الدولة وعند طائفته وكان ضخم الهامة جدا محلوق الشعر وخلف أموالا وأولادا
الأمير فارس الدين الروادي
توفي في العشر الأخير من رمضان وكان قد رأى النبي قبل وفاته بأيام وهو يقول له أنت مغفور لك او نحو هذا وهو من أمراء حسام الدين لاجين
الشيخ العابد خطيب دمشق شمس الدين
شمس الدين محمد بن الشيخ أحمد بن عثمان الخلاطي إمام الكلاسة كان شيخا حسنا بهى المنظر كثير العبادة عليه سكون ووقار باشر إمامة الكلاسة قريبا من أربعين سنة ثم طلب إلى أن يكون خطيبا بدمشق بالجامع من غير سؤال منه ولا طلب فباشرها ستة أشهر ونصف أحسن مباشرة وكان حسن الصوت طيب النغمة عارفا بصناعة الموسيقا مع ديانة وعبادة وقد سمع الحديث توفي فجأة بدار الخطابة يوم الاربعاء ثامن شوال عن ثنتين وستين سنة وصلى عليه بالجامع وقد امتلأ بالناس ثم صلى عليه بسوق الخيل وحضر نائب السلطنة والأمراء والعامة وقد غلقت الأسواق ثم حمل إلى سفح قاسيون رحمه الله
ثم دخلت سنة سبع وسبعمائة
استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها والشيخ تقي الدين بن تيمية معتقل في قلعة الجبل بمصر وفي أوائل المحرم أظهر السلطان الملك الناصر الغضب على الامير ابن سلار والجاشنكير وامتنع من العلامة وأغلق القلعة وتحصن فيها ولزم الأميران بيوتهما واجتمع عليهما جماعة من الأمراء وحوصرت القعلة وجرت خبطة عظيمة وغلقت الأسواق ثم راسلوا السلطان فتأطدت الأمور وسكنت الشرور على دخن وتنافر قلوب وقوى الأميران أكثر مما كانا قبل ذلك وركب السلطان ووقع الصلح على دخن وفي المحرم وقعت الحرب بين التتر وبين أهل كيلان وذلك أن ملك التتر طلب منهم أن يجعلوا في بلادهم طريقا إلى عسكره فامتنعوا من ذلك فأرسل ملك التتر خربندا جيشا كثيفا ستين ألفا من المقاتلة أربعين ألفا مع قطلوشاه وعشرني ألفا مع جوبان فأمهلهم أهل كيلان حتى توسطوا بلادهم ثم ارسلوا عليهم خليجا من البحر ورموهم بالنفط فغرق كثير منهم واحترق آخرون وقتلوا بأيديهم طائفة كثيرة فلم يفلت منهم إلا القليل وكان فيمن (14/44)
قتل امير التتر الكبير قطلوشاه فاشتد غضب خربندا على أهل كيلان ولكنه فرح بقتل قطلوشاه فإنه كان يريد قتل خربندا فكفى امره عنهم ثم قتل بعده بولاي ثم إن ملك التتر ارسل الشيخ براق الذي قدم الشام فيما تقدم إلى أهل كيلان يبلغهم عنه رسالة فقتلوه وأراحوا الناس منه وبلادهم من أحصن البلاد وأطيبها لا تستطاع وهم أهل سنة وأكثرهم حنابلة لا يستطيع مبتدع أن يسكن بين أظهرهم
وفي يوم الجمعة رابع عشر صفر اجتمع قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة بالشيخ تقي الدين ابن تيمية في دار الأوحدي من قلعة الجبل وطال بينهما الكلام ثم تفرقا قبل الصلاة والشيخ تقي الدين مصمم على عدم الخروج من السجن فلما كان يوم الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الأول جاء الأمير حسام الدين مهنا بن عيسى ملك العرب إلى السجن بنفسه وأقسم على الشيخ تقي الدين ليخرجن اليه فلما خرج اقسم عليه ليأتين معه إلى دار سلار فاجتمع به بعض الفقهاء بدار سلار وجرت بينهم بحوث كثيرة ثم فرقت بينهم الصلاة ثم اجتمعوا إلى المغرب وبات الشيخ تقي الدين عند سلار ثم اجتمعوا يوم الأحد بمرسوم السلطان جميع النهار ولم يحضر احد من القضاة بل اجتمع من الفقهاء خلق كثير أكثر من كل يوم منهم الفقيه نجم الدين بن رفع وعلاء الدين التاجي وفخر الدين بن بنت أبي سعد وعز الدين النمراوي وشمس الدين بن عدنان وجماعة من الفقهاء وطلبوا القضاة فاعتذروا بأعذار بعضهم بالمرض وبعضهم بغيره لمعرفتهم بما ابن تيمية منطوي عليه من العلوم والادلة وأن احدا من الحاضرين لا يطيقه فقبل عذرهم نائب السلطنة ولم يكلفهم الحضور بعد أن رسم السلطان بحضورهم أو بفصل المجلس على خير وبات الشيخ عند نائب السلطنة وجاء الأمير حسام الدين مهنا يريد أن يستصحب الشيخ تقي الدين معه إلى دمشق فأشار سلار باقامة الشيخ بمصر عنده ليرى الناس فضله وعلمه وينتفع الناس به ويشتغلوا عليه وكتب الشيخ كتابا إلى الشام يتضمن ما وقع له من الأمور قال البرزالي وفي شوال منها شكى الصوفية بالقاهرة على الشيخ تقي الدين وكلموه في ابن عربي وغيره إلى الدولة فردوا الأمر في ذلك إلى القاضي الشافعي فعقد له مجلس وادعى عليه ابن عطاء بأشياء فلم يثبت عليه منها شيء لكنه قال لا يستغاث إلا بالله لا يستغاث بالنبي استغاثة بمعنى العبارة ولكن يتوسل به ويتشفع به إلى الله فبعض الحاضرين قال ليس عليه في هذا شيء ورأى القاضي بدر الدين بن جماعة أن هذا فيه قلة أدب فحضرت رسالة الى القاضي أن يعمل معه ما تقتضيه الشريعة فقال القاضي قد قلت له ما يقال لمثله ثم إن الدولة خيروه بين أشياء إما أن يسير إلى دمشق او الاسكندرية بشروط أو الحبس فاختار الحبس فدخل عليه جماعة في السفر إلى دمشق ملتزما ما شرط فأجاب أصحابه إلى ما اختاروا جبرا لخواطرهم فركب خيل (14/45)
البريد ليلة الثامن عشر من شوال ثم ارسلوا خلفه من الغد بريدا آخر فردوه وحضر عند قاضي القضاة ابن جماعة وعنده جماعة من الفقهاء فقال له بعضهم إن الدولة ما ترضى إلا بالحبس فقال القاضي وفيه مصلحة له واستتاب شمس الدين التونسي المالكي وأذن له ان يحكم عليه بالحبس فامتنع وقال ما ثبت عليه شيء فأذن لنور الدين الزواوي المالكي فتحير فلما رأى الشيخ توقفهم في حبسه قال انا امضي إلى الحبس وأتبع ما تقتضيه المصلحة فقال نور الدين الزواوي يكون في موضع يصلح لمثله فقيل له الدولة ما ترضى إلا بمسمى الحبس فأرسل إلى حبس القضاة في المكان الذي كان فيه تقي الدين ابن بنت الأعز حين سجن واذن له ان يكون عنده من يخدمه كان ذلك كله بإشارة نصر المنبجي لوجاهته في الدولة فإنه كان قد استحوذ على عقل الجاشنكير الذي تسلطن فيما بعد وغيره من الدولة والسلطان مقهور معه واستمر الشيخ في الحبس يستفتي ويقصده الناس ويزورونه وتأتيه الفتاوي المشكلة التي لا يستطيعها الفقهاء من الأمراء وأعيان الناس فيكتب عليها بما يحير العقول من الكتاب والسنة ثم عقد للشيخ مجلس بالصالحية بعد ذلك كله ونزل الشيخ بالقاهرة بدار ابن شقير وأكب الناس على الاجتماع به ليلا ونهارا وفي سادس رجب باشر الشيخ كمال الدين بن الزملكاني نظر ديوان المارستان عوضا عن يوسف العجمي توفي وكان محتسبا بدمشق مدة فأخذها منه نجم الدين بن البصراوي قبل هذا بستة أشهر وكان العجمي موصوفا بالامانة وفي ليلة النصف من شعبان أبطلت صلاة ليلة النصف لكونها بدعة وصين الجامع من الغوغاء والرعاع وحصل بذلك خير كثير ولله الحمد والمنة
وفي رمضان قدم الصدر نجم الدين البصراوي ومعه توقيع بنظر الخزانة عوضا عن شمس الدين الخطيري مضافا إلى ما بيده من الحسبة ووقع في أواخر رمضان مطر قوي شديد وكان الناس لهم مدة لم يمطروا فاستبشروا بذلك ورخصت الاسعار ولم يمكن الناس الخروج إلى المصلى من كثرة المطر فصلوا بالجامع وحضر نائب السلطنة فصلى بالمقصورة وخرج المحمل وأمير الحج عامئذ سيف الدين بلبان البدري التتري وفيها حج القاضي شرف الدين البارزي من حماة وفي ذي الحجة وقع حريق عظيم بالقرب من الظاهرية مبدؤه من الفرن تجاهها الذي يقال له فرن العوتية ثم لطف الله وكف شرها وشررها
قلت وفي هذه السنة كان قدومنا من بصرى إلى دمشق بعد وفاة الوالد وكان أول ما سكنا بدرب سعور الذي يقال له درب ابن ابي الهيجاء بالصاغة العتيقة عند الطوريين ونسأل الله حسن العاقبة والخاتمة آمين (14/46)
وممن توفي فيها من الاعيان
الامير ركن الدين بيبرس
العجمي الصالحي المعروف بالجالق كان رأس الجمدارية في أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب وامره الملك الظاهر كان من أكابر الدولة كثير الاموال توفي بالرملة لأنه كان في قسم اقطاعه في نصف جمادي الأولى ونقل إلى القدس فدفن به
الشيخ صالح الاحمدي الرفاعي
شيخ المينبع كان التتر يكرمونه لما قدموا دمشق ولما جاء قطلوشاه نائب التتر نزل عنده وهو الذي قال للشيخ تقي الدين بن تيمية بالقصر نحن ما ينفق حالنا إلا عند التتر وأما عند الشرع فلا
ثم دخلت سنة ثمان وسبعمائة
استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها والشيخ تقي الدين قد أخرج من الحبس والناس قد عكفوا عليه زيارة وتعلما وإستفتاء وغير ذلك وفي مستهل ربيع الاول أفرج عن الامير نجم الدين خضر بن الملك الظاهر فأخرج من البرج وسكن دار الافرم بالقاهرة ثم كانت وفاته في خامس رجب من هذه السنة وفي أواخر جمادي الاولى تولى نظر ديوان ملك الامراء زين الدين الشريف ابن عدنان عوضا عن ابن الزملكاني ثم اضيف اليه نظر الجامع أيضا عوضا عن ابن الخطيري وتولى نجم الدين بن الدمشقي نظر الأيتام عوضا عن نجم الدين بن هلال وفي رمضان عزل الصاحب امين الدين الرفاقي عن نظر الدواوين بدمشق وسافر إلى مصر وفيها عزل كمال الدين ابن الشريشي نفسه عن وكالة بيت المال وصمم على الاستمرار على العزل وعرض عليه العود فلم يقبل وحملت اليه الخلعة لما خلع على المباشرين فلم يلبسها واستمر معزولا الى يوم عاشوراء من السنة الاتية فجدد تقليده وخلع عليه في الدولة الجديدة
وفهيا خرج الملك الناصر محمد بن قلاوون من الديار المصرية قاصدا الحج وذلك في السادس والعشرين من رمضان وخرج معه جماعة من الامراء لتوديعه فردهم ولما اجتاز بالكرك عدل اليها فنصب له الجسر فلما توسطه كسر به فسلم من كان أمامه وقفز به الفرس فسلم وسقط من كان وراءه وكانوا خمسين فمات منهم أربعة وتهشم أكثرهم في الوادي الذي تحت الجسر وبقي نائب الكرك الامير جمال الدين آقوش خجلا يتوهم أن يكون هذا يظنه السلطان عن قصد وكان قد عمل للسلطان ضيافة غرم عليها أربعة عشر ألفا فلم يقع الموقع لاشتغال السلطان بهم وما جرى له ولأصحابه ثم خلع على النائب وأذن له في الانصراف إلى مصر فاسفر واشتغل السلطان بتدبير المملكة في الكرك وحدها كان يحضر دار العدل ويباشر الامور بنفسه وقدمت عليه زوجته من مصر فذكرت له ما كانوا فيه من ضيق الحال وقلة النفقات (14/47)
ذكر سلطنة الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير بشيخ المنبجي عدو ابن تيمية لما استقر الملك النصار بالكرك وعزم على الاقامة بها كتب كتابا إلى الديار المصرية يتضمن عزل نفسه عن المملكة فأثبت ذلك على القضاة بمصر ثم نفذ على قضاة الشام وبويع الامير ركن الدين بيبرس الجاشنكير في السلطنة في الثالث والعشرين من شوال يوم السبت بعد العصر بدار الامير سيف الدين سلار اجتمع بها اعيان الدولة من الامراء وغيرهم وبايعوه وخاطبوه بالملك المظفر وركب إلى القلعة ومشوا بين يديه وجلس على سرير الملكة بالقلعة ودقت البشائر وسارت البريدية بذلك إلى سائر البلدان وفي مستهل ذي القعدة وصل الامير عز الدين البغدادي الى دمشق فاجتمع بنائب السلطنة والقضاة والأمراء والاعيان بالقصر الابلق فقرأ عليهم كتاب الناصر إلى أهل مصر وأنه قد نزل عن الملك وأعرض عنه فأثبته القضاة وامتنع الحنبلي من إثباته وقال ليس أحد يترك الملك مختارا ولولا أنه مضطهد ما تركه فعزل وأقيم غيره واستحلفهم للسلطان الملك المظفر وكتبت العلامة على القلعة وألقابه على محال المملكة ودقت البشائر وزينت البلد ولما قرئ كتاب الملك الناصر على الامراء بالقصر وفيه إني قد صحبت الناس عشر سنين ثم اخترت المقام بالكرك تباكى جماعة من الامراء وبايعوا كالمكرهين وتولى مكان الامير ركن الدين بيبرس الجاشنكير الامير سيف الدين بن علي ومكان ترعكي سيف الدين بنخاص ومكان بنخاص الامير جمال الدين آقوش الذي كان نائب الكرك وخطب للمظفر يوم الجمعة على المنابر بدمشق وغيرها وحضر نائب السلطنة الافرم والقضاة وجاءت الخلع وتقليد نائب السلطنة في تاسع عشر ذي القعدة وقرأ تقليد النائب كاتب السر القاضي محيي الدين بن فضل الله بالقصر بحضرة الأمراء وعليهم الخلع كلهم وركب المظفر بالخلعة السوداء الخليفية والعمامة المدورة والدولة بين يديه عليهم الخلع يوم السبت سابع ذي القعدة والصاحب ضياء الدين ! النسائي حامل تقليد السلطان من جهة الخليفة في كيس أطلس أسود وأوله إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ويقال إنه خلع في القاهرة قريب ألف خلعة ومائتي خلعة وكان يوما مشهودا وفرح بنفسه أياما يسيرة وكذا شيخه المنبجي ثم أزال الله عنهما نعمته سريعا
وفيها خطب ابن جماعة بالقلعة وباشر الشيخ علاء الدين القونوي تدريس الشريفية وممن توفي فيها من الاعيان
الشيخ الصالح عثمان الحلبوني
اصله من صعيد مصر فاقام مدة بقرية حلبون وغيرها من تلك الناحية ومكث مدة لا يأكل الخبز واجتمع عليه جماعة من المريدين وتوفي بقرية برارة في أواخر المحرم ودفن بها وحضر جنازته نائب الشام والقضاة وجماعة من الاعيان (14/48)
الشيخ الصالح
أبو الحسن علي بن محمد بن كثير الحراني الحنبلي إمام مسجد عطية ويعرف بابن المقري روى الحديث وكان فقيها بمدارس الحنابلة ولد بحران سنة أربع وثلاثين وستمائة وتوفي بدمشق في العشر الاخير من رمضان ودفن بسفح قاسيون وتوفي قبله الشيخ زين الدين الحراني بغزة وعمل عزاؤه بدمشق رحمهما الله
السيد الشريف زين الدين
أبو علي الحسن بن محمد بن عدنان الحسيني نقيب الاشراف كان فاضلا بارعا فصيحا متكلما يعرف طريقة الاعتزال ويباحث الامامية ويناظر على ذلك بحضرة القضاة وغيرهم وقد باشر قبل وفاته بقليل نظر الجامع ونظر ديوان الأفرم توفي يوم الخامس من ذي القعدة عن خمس وخمسين سنة ودفن بتربتهم بباب الصغير
الشيخ الجليل ظهير الدين
أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي الفضل بن منعة البغدادي شيخ الحرم الشريف بمكة بعد عمه عفيف الدين منصور بن منعة وقد سمع الحديث واقام ببغداد مدة طويلة ثم سار إلى مكة بعد وفاة عمه فتولى مشيخة الحرم إلى أن توفي
ثم دخلت سنة تسع وسبعمائة
استهلت وخليفة الوقت المستكفي أمير المؤمنين ابن الحاكم بأمر الله العباسي وسلطان البلاد الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير ونائبه بمصر الامير سيف الدين سلار وبالشام آقوش الأفرم وقضاة مصر والشام هم المذكورون في التي قبلها وفي ليلة سلخ صفر توجه الشيخ تقي الدين ابن تيمية من القاهرة إلى الاسكندرية صحبة أمير مقدم فأدخله دار السلطان وأنزله في برج منها فسيح متسع ! الاكناف فكان الناس يدخلون عليه ويتشغلون في سائر العلوم ثم كان بعد ذلك يحضر الجمعات ويعمل المواعيد على عادته في الجامع وكان دخوله إلى الاسكندرية يوم الاحد وبعد عشرة أيام وصل خبره إلى دمشق فحصل عليه تألم وخافوا عليه غائلة الجاشنكير وشيخه المنبجي فتضاعف له الدعاء وذلك أنهم لم يمكنوا أحدا من أصحابه أن يخرج معه إلى الاسكندرية فضاقت له الصدرو وذلك أنه تمكن منه عدوه نصر المنبجي وكان سبب عداوته له أن الشيخ تقي الدين كان ينال من الجاشنكير ومن شيخه نصر المنبجي ويقول زالت أيامه وانتهت رياسته وقرب انقضاء أجله ويتكلم فيهما وفي ابن عربي وأبتاعه فأرادوا أن يسيروه إلى الاسكندرية كهيئة المنفي لعل أحدا من أهلها يتجاسر عليه فيقتله غيلة فما زاد ذلك الناس إلا محبة فيه وقربا منه وانتفاعا به واشتغلا عليه وحنوا وكرامة له وجاء كتاب من أخيه يقول فيه إن الاخ الكريم قد نزل بالثغر المحروس على نية الرباط فإن اعداء الله قصدوا بذلك أمروا يكيدونه بها ويكيدون الاسلام وأهله (14/49)
وكانت تلك كرامة في حقنا وظنوا أن ذلك يؤدي إلى هلاك الشيخ فانقلبت عليهم مقاصدهم الخبيثة وانعكست من كل الوجوه وأصبحوا وأمسوا ومازالوا عند الله وعند الناس العارفين سود الوجوه يتقطعون حسرات وندما على ما فعلوا وانقلب أهل الثغر اجمعين إلى الأخ مقبلين عليه مكرمين له وفي كل وقت ينشر من كتاب الله وسنة رسوله ما تقربه أعين المؤمنين وذلك شجى في حلوق الاعداء واتفق انه وجد بالاسكندرية إبليس قد باض فيها وفرخ وأضل بها فرق السبعينية والعربية فمزق الله بقدومه عليهم شملهم وشتت جموعهم شذر مذر وهتك أستارهم وفضحهم واستتاب جماعة كثيرة منهم وتوب رئيسا من رؤسائهم واستقر عند عامة المؤمنين وخواصهم من أمير وقاض وفقيه ومفتي وشيخ وجماعة المجتهدين إلا من شذ من الأغمار الجهال مع الذلة والصغار محبة الشيخ وتعظيمه وقوبل كلامه والرجوع إلى أمره ونهيه فعلت كلمة الله بها على أعداء الله ورسوله ولعنوا سرا وجهرا وباطنا وظاهرا في مجامع الناس بأسمائهم الخاصة بهم وصار ذلك عند نصر المنبجي المقيم المقعد ونزل به من الخوف والذل مالا يعبر عنه وذكر كلاما كثيرا
والمقصود أن الشيخ تقي الدين أقام بثغر الاسكندرية ثمانية اشهر مقيما ببرج متسع مليح نظيف له شبا كان أحدهما إلى جهة البحر والاخر إلى جهة المدينة وكان يدخل عليه من شاء ويتردد إليه الاكابر والاعيان والفقهاء ويقرؤن عليه وستفيدون منه وهو في أطيب عيش وأشرح صدر وفي آخر ربيع الاول عزل الشيخ كمال الدين بن الزملكاني عن نظر المارستان بسبب انتمائه إلى ابن تيمية باشارة المنبجي وباشره شمس الدين عبدا لقادر بن الخطيري وفي يوم الثلاثاء ثالث ربيع الاخر ولي قضاء الحنابلة بمصر الشيخ الامام الحافظ سعد الدين أبو محمود مسعود بن أحمد ابن مسعود بن زين الدين الحارثي شيخ الحديث بمصر بعد وفاة القاضي شرف الدين أبي محمد عبدالغني بن يحيى بن محمد بن عبد الله بن نصر بن أبي بكر الحراني وفي جمادي الاولى برزت المراسيم السلطانية المظفرية إلى البلاد السواحلية بإبطال الخمور وتخريب الحانات ونفى اهلها ففعل ذلك وفرح المسلمون بذلك فرحا شديدا وفي مستهل جمادى الاخرة وصل بريد بتولية قضاء الحنابلة بدمشق للشيخ شهاب الدين أحمد بن شريف الدين حسن بن الحافظ جمال الدين أبي موسى عبد الله بن الحافظ عبد الغني المقدسي عوضا عن التقى سليمان بن حمزة بسبب تكلمه في نزول الملك الناصر عن الملك وإنه إنما نزل عنه مضطهدا بذلك ليس بمختار وقد صدق فيما قال وفي عشرين جمادي الاخرة وصل البريد بولاية شد الدواوين للأمير سيف الدين بكتمر الحاجب عوضا عن الرستمي فلم يقبل وبنظر الخزانة للأمير عز الدين احمد بن زين الدين محمد بن أحمد بن محمود المعروف بابن القلانسي فباشرهما وعزل عنها البصراوي محتسب البلد وفي هذا الشهر باشر قاضي القضاة ابن جماعة مشيخة سعيد السعداء (14/50)
بالقاهرة بطلب الصوفية له ورضوا منه بالحضور عندهم في الجمعة مرة واحدة وعزل عنها الشيخ كريم الدين الايكي لأنه عزل منها الشهود فثاروا عليه وكتبوا في حقه محاضر بأشياء قادحة في الدين فرسم بصرفه عنهم وعومل بنظير ما كان يعامل به الناس ومن جملة ذلك قيامه على شيخ الاسلام ابن تيمية وافتراؤه عليه الكذب مع جهله وقلة ورعه فجعل الله له هذا الخزي على يدي أصحابه وأصدقائه جزاء وفاقا وفي شهر رجب كثر الخوف بدمشق وانتقل الناس من ظاهرها إلى داخلها وسبب ذلك أن السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون ركب من الكرك قاصدا دمشق يطلب عوده إلى الملك وقد مالأه جماعة من الأمراء وكاتبوه في الباطن وناصحوه وقفز اليه جماعة من أمراء المصريين وتحدث الناس بسفر نائب دمشق الافرم إلى القاهرة وأن يكون مع الجم الغفير فاضطرب الناس ولم تفتح أبواب البلد إلى ارتفاع النهار وتخبطت الامور فاجتمع القضاة وكثير من الامراء بالقصر وجددوا البيعة للملك المظفر وفي آخر نهار السبت غلقت أبواب البلد بعد العصر وازدحم الناس بباب النصر وحصل لهم تعب عظيم وازدحم البلد بأهل القرى وكثر الناس بالبلد وجاء البريد بوصول الملك الناصر إلى الخمان فانزعج نائب الشام لذلك وأظهر أنه يريد قتاله ومنعه من دخول البلد وقفز اليه الاميران ركن الدين بيبرس المجنون وبيبرس العلمي وركب اليه الامير سيف الدين بكتمر حاجب الحجاب يشير عليه بالرجوع ويخبره بأنه لا طاقة له بقتال المصريين ولحقه الامير سيف الدين بهادرا يشير عليه بمثل ذلك ثم عاد إلى دمشق يوم الثلاثاء خامس رجب وأخبر أن السلطان الملك الناصر قد عاد الى الكرك فسكن الناس ورجع نائب السلطنة الى القصر وتراجع بعض الناس الى مساكنهم واستقروا بها
صفة عود الملك الناصر
محمد بن الملك المنصور قلاوون الى الملك وزاول دولة المظفر الجاشنكير بيبرس وخذلانه وخذلان شيخه نصر المنبجي الاتحادي الحلولي
لما كان ثالث عشر شعبان جاء الخبر بقدوم الملك الناصر إلى دمشق فساق اليه الاميران سيف الدين قطلوبك والحاج بهادر إلى الكرك وحضاه على المجيء اليها واضطرب نائب دمشق وركب في جماعة من اتباعه على الهجن في سادس عشر شعبان ومعه ابن صبح صاحب شقيف اربون وهيئت بدمشق ابهة السلطنة والاقامات اللائقة به والعصائب والكوسات وركب من الكرك في أبهة عظيمة وأرسل الأمان ألى الافرم ودعا له المؤذنون في المأذنة ليلة الاثنين سابع عشر شعبان وصبح بالدعاء له والسرور بذكره ونودي في الناس بالأمان وأن يفتحوا دكاكينهم (14/51)
ويامنوا في أوطانهم وشرع الناس في الزينة ودقت البشائر ونام الناس في الاسطحة ليلة الثلاثاء ليتفرجوا على السلطان حين يدخل البلد وخرج القضاة والأمراء والاعيان لتلقيه
قال كاتبه ابن كثير وكنت فيمن شاهد دخوله يوم الثلاثاء وسط النهار في أبهة عظيمة وبسط له من عند المصلى وعليه أبهة الملك وبسطت الشقاق الحرير تحت أقدام فرسه كلما جاوز شقة طويت من ورائه والجد على رأسه والأمراء السلحدارية عن يمينه وشماله وبين يديه والناس يدعون له ويضجون بذلك ضجيجا عاليا وكان يوما مشهودا قال الشيخ علم الدين البرزالي وكان على السلطان يومئذ عمامة بيضاء وكارثة حمراء وكان الذي حمل الغاشية على رأس السلطان الحاج بهادر وعليه خلعة معظمة مذهبة بفرو فاخم ولما وصل الى القلعة نصب له الجسر ونزل اليه نائبها الامير سيف الدين السنجري فقبل الارض بين يديه فأشار اليه إني الان لا أنزل ههنا وسار بفرسه إلى جهة القصر الابلق والامراء بين يديه فخطب له يوم الجمعة
وفي بكرة يوم السبت الثاني والعشرين من الشهر وصل الأمير جمال الدين آقوش الافرم نائب دمشق مطيعا للسلطان فقبل الارض بين يديه فترجل له السلطان وأكرمه وأذن له في مباشرة النيابة على عادته وفرح الناس بطاعة الأفرم له ووصل إليه أيضا الامير سيف الدين قبجق نائب حماة والامير سيف الدين استدمر نائب طرابلس يوم الاثنين الرابع والعشرين من شعبان وخرج الناس لتلقيهما وتلقاهما السلطان كما تلقى الأفرم وفي هذا اليوم رسم السلطان بتقليد قضاء الحنابلة وعوده إلى تقي الدين سليمان وهنأه الناس وجاء إلى السلطان إلى القصر فسلم عليه ومضى إلى الجوزية فحكم بها ثلاثة أشهر وأقيمت الجمعة الثانية بالميدان وحضر السلطان والقضاة إلى جانبه وأكابر الامراء والدولة وكثير من العامة وفي هذا اليوم وصل إلى اسلطان الامير قراسنقر المنصوري نائب حلب وخرج دهليز السلطان يوم الخميس رابع رمضان ومعه القضاة والقراء وقت العصر وأقيمت الجمعة خامس رمضان بالميدان أيضا ثم خرج السلطان من دمشق يوم الثلاثاء تاسع رمضان وفي صحبته ابن صصرى وصدر الدين الحنفي قاضي العساكر والخطيب جلال الدين والشيخ كمال الدين بن الزملكاني والموقعون وديوان الجيش وجيش الشام بكماله قد اجتمعوا عليه من سائر مدنه واقاليمه بنوا به وأمرائه فلما انتهى السلطان إلى غزة دخلها في أبهة عظيمة وتلقاه الامير سيف الدين بهادر هو وجماعة من أمراء المصريين فأخبروه أن الملك المظفر قد خلع نفسه من المملكة ثم تواتر قدوم الامراء من مصر إلى السلطان وأخبروه بذلك فطابت قلوب الشاميين واستبشروا بذلك ودقت البشائر وتأخر مجيء البريد بصورة الناصري (14/52)
واتفق في يوم هذا العيد أنه خرج نائب الخطيب الشيخ تقي الدين الجزري المعروف بالمقضاي في ! السناجق إلى المصلى على العادة واستناب في البلد الشيخ مجد الدين التونسي فلما وصلوا إلى المصلى وجدوا خطيب المصلى قد شرع في الصلاة فنصبت السناجق في صحن المصلى وصلى بينهما تقي الدين المقضاي ثم خطب وكذلك فعل ابن حسان داخل المصلى فعقد فيه صلاتان وخطبتان يومئذ ولم يتفق مثل هذا فيما نعلم
وكان دخول السلطان الملك الناصر إلى قلعة الجبل آخر يوم عيد الفطر من هذه السنة ورسم لسلار أن يسافر إلى الشوبك واستناب بمصر الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار الذي كان نائب صفد وبالشام الأمير قراسنقر المنصوري وذلك في العشرين من شوال واستوزر الصاحب فخر الدين الخليلي بعدها بيومين وباشر القاضي فخر الدين كاتب الممالك نظر الجيوش بمصر بعد بهاء الدين عبد الله بن أحمد بن علي بن المظفر الحلي توفي ليلة الجمعة عاشر شوال وكان من صدور المصريين وأعيان الكبار وقد روى شيئا من الحديث وصرف الامير جمال الدين آقوش الأفرم إلى نيابة صرخد وقدم إلى دمشق الامير زين الدين كتبغا رأس نوبة الجمدارية شد الدواوين واستاذ دار الاستادارية عوضا عن سيف الدين اقجبا وتغيرت الدولة وانقلبت قلبة عظيمة
قال الشيخ علم الدين البرزالي ولما دخل السلطان إلى مصر يوم عيد الفطر لم يكن له دأب إلا طلب الشيخ تقي الدين بن تيمية من الاسكندرية معززا مكرما مبجلا فوجه إليه في ثاني يوم من شوال بعد وصوله بيوم أو يومين فقدم الشيخ تقي الدين على السلطان في يوم ثامن الشهر وخرج مع الشيخ خلق من الاسكندرية يودعونه واجتمع بالسلطان يوم الجمعة فأكرمه وتلقاه ومشى اليه في مجلس حفل فيه قضاة المصريين والشاميين وأصلح بينه وبينهم ونزل الشيخ إلى القاهرة وسكن بالقرب من مشهد الحسين والناس يترددون اليه والامراء والجند وكثير من الفقهاء والقضاة منهم من يعتذر اليه ويتنصل مما وقع منه فقال انا حاللت كل من أذاني
قلت وقد أخبرني القاضي جمال الدين بن القلانسي بتفاصيل هذا المجلس وما وقع فيه من تعظيمه وإكرامه مما حصل له من الشكر والمدح من السلطان والحاضرين من الامراء وكذلك أخبرني بذلك قاضي القضاة منصور الدين الحنفي ولكن أخبار ابن القلانسي أكثر تفصيلا وذلك أنه كان إذ ذاك قاضي العساكر وكلاهما كان حاضرا هذا المجلس ذكر لي أن السلطان لما قدم عليه الشيخ تقي الدين بن تيمية نهض قائما للشيخ أول ما رآه ومشى له إلى طرف الايوان واعتنقا هناك هنيهة ثم أخذ معه ساعة إلى طبقة فيها شباك إلى بستان فجلسا ساعة يتحدثان ثم جاء ويد الشيخ في يد السلطان فجلس السلطان وعن يمينه ابن جماعة قاضي مصر وعن يساره ابن (14/53)
الخليلي الوزير وتحته ابن صصرى ثم صدر الدين علي الحنفي وجلس الشيخ تقي الدين بين يدي السلطان على طرف طراحته وتكلم الوزير في إعادة أهل الذمة إلى لب 2 س العمائم البيض بالعلائم وأنهم قد التزموا للديوان بسبع مائة ألف في كل سنة زيادة على الحالية فسكت الناس وكان فيهم قضاة مصر والشام وكبار العلماء من أهل مصر والشام من جملتهم ابن الزملكاني قال ابن القلانسي وأنا في مجلس السلطان إلى جنب ابن الزملكاني فلم يتكلم أحد من العلماء ولا من القضاة فقال لهم السلطان ما تقولون يستفتيهم في ذلك فلم يتكلم أحد فجثى الشيخ تقي الدين على ركبتيه وتكلم مع السلطان في ذلك بكلام غليظ ورد على الوزير ما قاله ردا عنيفا وجعل يرفع صوته والسلطان يتلافاه ويسكته بترفق وتؤدة وتوقير وبالغ الشيخ في الكلام وقال مالا يستطيع أحد أن يقوم بمثله ولا بقريب منه وبالغ في التشنيع على من يوافق في ذلك وقال للسلطان حاشاك ان يكون أول مجلس جلسته في أبهة الملك تنصر فيه أهل الذمة لأجل حطام الدنيا الفانية فاذكر نعمة الله عليك إذ رد ملكك إليك وكبت عدوك ونصرك على أعدائك فذكر أن الجاشنكير هو الذي جدد عليهم ذلك فقال والذي فعله الجاشنكير كان من مراسيمك لأنه إنما كان نائبا لك فأعجب السلطان ذلك واستمر بهم على ذلك وجرت فصول يطول ذكرها وقد كان السلطان أعلم بالشيخ من جميع الحاضرين ودينه وزينته وقيامه بالحق وشجاعته وسمعت الشيخ تقي الدين يذكر ما كان بينه وبين السلطان من الكلام لما انفردا في ذلك الشباك الذي جلسا فيه وأن السلطان استفتى الشيخ في قتل بعض القضاة بسبب ما كانوا تكلموا فيه وأخرج له فتاوى بعضهم بعزله من الملك ومبايعة الجاشنكير وأنهم قاموا عليك وآذوك أنت أيضا وأخذ يحثه بذلك على أن يفتيه في قتل بعضهم وإنما كان حنقه عليهم بسبب ما كانوا سعوا فيه من عزله ومبايعة الجاشنكير ففهم الشيخ مراد السلطان فأخذ في تعظيم القضاة والعلماء وينكر أن ينال أحدا منهم بسوء وقال له إذا قتلت هؤلاء لا تجد بعدهم مثلهم فقال له إنهم قد آذوك وأرادوا قتلك مرارا فقال الشيخ من آذاني فهو في حل ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه وأنا لاأنتصر لنفسي وما زال به حتى حلم عنهم السلطان وصفح
قال وكان قاضي المالكية ابن مخلوف يقول ما رأينا مثل ابن تيمية حرضنا عليه فلم نقدر عليه وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا ثم إن الشيخ بعد اجتماعه بالسلطان نزل إلى القاهرة وعاد إلى بث العلم ونشره وأقبلت الخلق عليه ورحلوا اليه يشتغلون عليه ويستفتونه ويجيبهم بالكتابة والقول وجاء الفقهاء يعتذرون مما وقع منهم في حقه فقال قد جعلت الكل في حل وبعث الشيخ كتابا إلى أهله يذكر ما هو فيه من نعم الله وخيره الكثير ويطلب منهم جملة من كتب (14/54)
العلم التي له ويستعينوا على ذلك بجمال الدين المزي فإنه يدري كيف يستخرج له ما يريده من الكتب التي أشار اليها وقال في هذا الكتاب والحق كل ماله في علو وإزدياد وانتصار والباطل في انخفاض وسفول واضحلال وقد أذل الله رقاب الخصوم وطلب أكابرهم من السلم من يطول وصفه وقد اشترطنا عليهم من الشروط ما فيه عز الاسلام والسنة وما فيه قمع الباطل والبدعة وقد دخلوا تحت ذلك كله وامتنعنا من قبول ذلك منهم حتى يظهر الى الفعل فلم نثق لهم بقول ولا عهد ولم نجبهم إلى مطلوبهم حتى يصير المشروط معمولا والمذكور مفعولا ويظهر من عز الاسلام والسنة للخاصة والعامة ما يكون من الحسنات التي تمحو سيئاتهم وذكر كلاما طويلا يتضمن ما جرى له مع السلطان في قمع اليهود والنصارى وذلهم وتركهم على ما هم عليه من الذلة والصغار والله سبحانه أعلم
وفي شوال أمسك السلطان جماعة من الامراء قريبا من عشرين أميرا وفي سادس عشر شوال وقع بين أهل حوران من قيس ويمن فقتل منهم مقتلة عظيمة جدا قتل من الفريقين نحو من ألف نفس بالقرب من السوداء وهم يسمونها السويداء ووقعة السويداء وكانت الكسرة على يمن فهربوا من قيس حتى دخل كثير منهم إلى دمشق في أسوأ حال وأضعفه وهربت قيس خوفا من الدولة وبقيت القرى خالية والزروع سائبة فإنا لله وإنا اليه راجعون
وفي يوم الأربعاء سادس القعدة قدم الأمير سيف الدين قبجق المنصوري نائبا على حلب فنزل القصر ومعه جماعة من أمراء المصريين ثم سافر إلى حلب بمن معه من الأمراء والأجناد واجتاز الأمير سيف الدين بهادر بدمشق ذاهبا إلى طرابلس نائبا والفتوحات السواحلية عوضا عن الامير سيف الدين استدمر ووصل جماعة ممن كان قدسا فر مع السلطان إلى مصر في ذي القعدة منهم قاضي قضاة الحنفية صدر الدين ومحيي الدين بن فضل الله وغيرهما فقمت وجلست يوما إلى القاضي صدر الدين الحنفي بعد مجيئة من مصر فقال لي أتحب ابن تيمية قلت نعم فقال لي وهو يضحك والله لقد أحببت شيئا مليحا وذكر لي قريبا مما ذكر ابن القلانسي لكن سياق ابن القلانسي أتم
مقتل الجاشنكيري
كان قد فر الخبيث في جماعة من أصحابه فلما خرج الامير سيف الدين قراسنقر المنصوري من مصر متوجها إلى نيابة الشام عوضا من الافرم فلما كان بغزة في سابع ذي القعدة ضرب حلقة لأجل الصيد فوقع في وسطبا ! الجاشنكير في ثلاثمائة من أصحابه فأحيط بهم وتفرق عنه أصحابه فأمسكوه ورجع معه قراسنقر وسيف الدين بهادر على الهجن فلما كان بالخطارة تلقاهم استدمر فتسلمن منهم (14/55)
ورجعا إلى عسكرهم ودخل به استدمر على السلطان فعاتبه ولامه وكان آخر العهد به قتل ودفن بالقرافة ولم ينفعه شيخه المنبجي ولا أمواله بل قتل شر قتلة ودخل قراسنقر دمشق يوم الاثنين الخامس والعشرين من ذي القعدة فنزل بالقصر وكان في صحبته ابن صصرى وابن الزملكاني وابن القلانسي وعلاء الدين بن غانم وخلق من الامراء المصريين والشاميين وكان الخطيب جلال الدين القزويني قد وصل قبلهم يوم الخميس الثاني والعشرين من الشهر وخطب يوم الجمعة على عادته فلما كان يوم الجمعة الاخرى وهو التاسع والعشرون من الشهر خطب بجامع دمشق القاضي بدر الدين محمد بن عثمان بن يوسف بن حداد الحنبلي عن إذن نائب السلطنة وقرئ تقليده على المنبر بعد الصلاة بحضرة القضاة والاكابر والاعيان وخلع عليه عقيب ذلك خلعة سنية واستمر يباشر الامامة والخطابة اثنين واربعين يوما ثم أعيد الخطيب جلال الدين بمرسوم سلطاني وباشر يوم الخميس ثاني عشر المحرم من السنة الاتية
وفي ذي الحجة درس كمال الدين بن الشيرازي بالمدرسة الشامية البرانية انتزعها من يد الشيخ كمال الدين بن الزملكاني وذلك أن استدمر ساعده على ذلك وفيها أظهر ملك التتر خربندا الرفض في بلاده وأمر الخطباء أولا أن لا يذكروا في خطبتهم إلا على بن أبي طالب رضي الله عنه وأهل بيته ولما وصل خطيب بلاد الازج إلى هذا الموضع من خطبته بكى بكاءا شديدا وبكى الناس معه ونزل ولم يتمكن من إتمام الخطبة فأقيم من أتمها عنه وصلى بالناس وظهر على الناس بتلك البلاد من أهل السنة أهله البدعة فإنا لله وإنا اليه راجعون ولم يحج فيها أحد من أهل الشام بسبب تخبيط الدولة وكثرة الاختلاف وممن توفي فيها من الاعيان
الخطيب ناصر الدين أبو الهدى
أحمد بن الخطيب بدر الدين يحيى بن الشيخ عز الدين بن عبدالسلام خطيب العقيبة بداره بها وقد باشر نظر الجامع الاموي وغير ذلك توفي يوم الاربعاء النصف من المحرم وصلى عليه بجامع العقيبة ودفن عند والده بباب الصغير وقد روى الحديث وباشر الخطابة بعد والده بدر الدين وحضر عنده نائب السلطنة والقضاة والاعيان
قاضي الحنابلة بمصر
شرف الدين أبو محمد عبد الغني بن يحيى بن محمد بن عبد الله بن نصر بن أبي بكر الحراني ولد بحران سنة خمس وأربعين وستمائة وسمع الحديث وقدم مصر فباشر نظر الخزانة وتدريس الصالحية ثم أضيف إليه القضاء وكان مشكور السيرة كثير المكارم توفي ليلة الجمعة رابع عشر ربيع الاول دفن بالقرافة وولى بعده سعدالدين الحارثي كما تقدم (14/56)
الشيخ نجم الدين
أيوب بن سليمان بن مظفر المصري المعروف بمؤذن النجيبي كان رئيس المؤذنين بجامع دمشق ونقيب الخطباء وكان حسن الشكل رفيع الصوت واستمر بذلك نحوا من خمسين سنة إلى أن توفي في مستهل جمادي الاولى وفي هذا الشهر توفي
الامير شمس الدين سنقر الاعسر المنصوري
تولى الوزارة بمصر مع شد الدواوين معا وباشر شد الدواوين بالشام مرات وله دار وبستان بدمشق مشهوران به وكان فيه نهضة وله همة عالية وأموال كثيرة توفي بمصر
الامير جمال الدين آقوش بن عبد الله الرسيمي
شاد الدواوين بدمشق وكان قبل ذلك والي الولاة بالجهة القبلية بعد الشريفي وكانت له سطوة توفي يوم الاحد تاسع عشر جمادي الأولى ودفن ضحوة بالقبة التي بناها تجاه قبة الشيخ رسلان وكان فيه كفياة وخبرة وباشر بعده شد الدواوين أقبجا وفي شعبان أو في رجب توفي
التاج ابن سعيد الدولة
وكان مسلمانيا وكان سفير الدولة وكانت له مكانة عند الجاشنكير بسبب صحبته لنصر المنبجي شيخ الجاشنكير وقد عرضت عليه الوزارة فلم يقبل ولما توفي تولى وظيفته ابن اخته كريم الدين الكبير
الشيخ شهاب الدين
أحمد بن محمد بن أبي المكرم بن نصر الاصبهاني رئيس المؤذنين بالجامع الأموي ولد سنة اثنتين وستمائة وسمع الحديث وباشر وظيفة الأذان من سنة خمس وأربعين إلى أن توفي ليلة الثلاثاء خامس ذي القعدة وكان رجلا جيدا والله سبحانه أعلم
ثم دخلت سنة عشر وسبعمائة
استهلت وخليفة لوقت المستكفي بالله أبو الربيع سليمان العباسي وسلطان البلاد الملك الناصر محمد بن المنصور قلاوون والشيخ تقي الدين بن تيمية مقيم بمصر معظما مكرما ونائب مصر الامير سيف الدين بكتمر أميرخزندار وقضاته هم المذكورون في التي قبلها سوى الحنبلي فإنه سعدالدين الحارثي والوزير بمصر فخر الدين الخليلي وناظر الجيوش فخر الدين كاتب المماليك ونائب الشام قراسنقر المنصوري وقضاة دمشق هم هم ونائب حلب قبجق ونائب طرابلس الحاج بهادر والأفرم بصرخد
وفي محرم منها باشر الشيخ أمين الدين سالم بن أبي الدرين وكيل بيت المال إمام مسجد هشام تدريس الشامية الجوانية والشيخ صدر الدين سليمان بن موسى الكردي تدريس العذراوية كلاهما (14/57)
انتزعها من ابن الوكيل بسبب إقامته بمصر وكان قد وفد إلى المظفر فألزمه رواتب لانتمائه إلى المنبجي ثم عاد بتوقيع سلطاني إلى مدرستيه فأقام بهما شهرا أو سبعة وعشرين يوما ثم استعدادهما منه ورجعنا إلى المدرسين الأولين الامين سالم والصدر الكردي ورجع الخطيب جلال الدين إلى الخطابة في سابع عشر المحرم وعزل عنها البدر بن الحداد وباشر الصاحب شمس الدين نظر الجامع والأسرى والأوقاف قاطبة يوم الاثنين ثم خلع عليه وأضيف إليه شرف الدين بن صصرى في نظر الجامع وكان ناظره مستقلا به قبلهما وفي يوم عاشوراء قدم استدمر إلى دمشق متوليا نيابة حماة وسافر إليها بعد سبعة أيام
وفي المحرم باشر بدر الدين بن الحداد نظر المارستان عوضا عن شمس الدين بن الخطيري ووقعت منازعة بين صدر الدين بن المرحل وبين الصدر سليمان الكردي بسبب العذراوية وكتبوا إلى الوكيل محضرا يتضمن من القبائح والفضائح والكفريات على ابن الوكيل فبادر ابن الوكيل إلى القاضي تقي الدين سليمان الحنبلي فحكم باسلامه وحقن دمه وحكم باسقاط التعزير عنه والحكم بعدالته واستحقاقه إلى المناصب وكانت هذه هفوة من الحنبلي ولكن خرجت عنه المدرستان العذراوية لسليمان الكردي والشامية الجوانية للأمين سالم ولم يبق معه سوى دار الحديث الاشرفية وفي ليلة الاثنين السابع من صفر وصل النجم محمد بن عثمان البصراوي من مصر متوليا الوزارة بالشام ومعه توقيع بالحسبة لاخيه فخر الدين سليمان فباشرا المنصبين بالجامع ونزلا بدرب سفون الذي يقال له درب ابن ابي الهيجاء ثم انتقل الوزير إلى دار الأعسر عند باب البريد واستمر نظر الخزانة لعز الدين احمد بن القلانسي أخي الشيخ جلال الدين
وفي مستهل ربيع الاول باشر القاضي جمال الدين الزرعي قضاء القضاة بمصر عوضا عن ابن جماعة وكان قد أخذ منه قبل ذلك في ذي الحجة مشيخة الشيوخ واعيدت الى الكريم الايكي وأخذت منه الخطابة أيضا وجاء البريد إلى الشام بطلب القاضي شمس الدين بن الحريري لقضاء الديار المصرية فسار في العشرين من ربيع الأول وخرج معه جماعة لتوديعه فلما قدم على السلطان أكرمه وعظمه وولاه قضاء الحنفية وتدريس الناصرية والصالحية وجامع الحاكم وعزل عن ذلك القاضي شمس الدين السروجي فمكث أياما ثم مات
وفي نصف هذا الشهر مسك من دمشق سبعة أمراء ومن القاهرة أربعة عشر أميرا وفي ربيع الاخر اهتم السلطان بطلب الامير سيف الدين سلار فحضر هو بنفسه إليه فعاتبه ثم استخلص منه أمواله وحواصله في مدة شهر ثم قتل بعد ذلك فوجد معه من الاموال والحيوان والاملاك والاسلحة والمماليك والبغال والحمير أيضا والرباع شيئا كثيرا وأما الجواهر والذهب والفضة فشيء لا يحد (14/58)
ولا يوصف في كثرته وحاصل الأمر أنه قد استأثر لنفسه طائفة كبيرة من بيت المال وأموال المسلمين تجري إليه ويقال إنه كان مع ذلك كثير العطاء كريما محببا إلى الدولة والرعية والله أعلم
وقد باشر نيابة السلطنة بمصر من سنة ثمان وتسعين إلى أن قتل يوم الاربعاء رابع عشرين هذا الشهر ودفن بتربته ليلة الخميس بالقرافة سامحه الله وفي ربيع الاخر درس القاضي شمس الدين بن المعز الحنفي بالظاهرية عوضا عن شمس الدين الحريري وحضر عنده خاله الصدر علي قاضي قضاة الحنفية وبقية القضاة والأعيان وفي هذا الشهر كان الأمير سيف الدين استدمر قد قدم دمشق لبعض أشغاله وكان له حنو على الشيخ صدر الدين بن الوكيل فاستنجز له مرسوما بنظر دار الحديث وتدريس العذراوية فلم يباشر ذلك حتى سافر استدمر فاتفق انه وقعت له بعد يومين كائنة بدار ابن درباس الصالحية وذكر أنه وجد عنده شيء من المنكرات واجتمع عليه جماعة من أهل الصالحية مع الحنابلة وغيرهم وبلغ ذلك نائب السلطنة فكاتب فيه فورد الجواب بعزله عن المناصب الدينية فخرجت عنه دار الحديث الاشرفية وبقي بدمشق وليس بيده وظيفة لذلك فلما كان في آخر رمضان سافر إلى حلب فقرر له نائبها استدمر شيئا على الجامع ثم ولاه تدريسا هناك وأحسن إليه وكان الأمير استدمر قد انتقل إلى نيابة حلب في جمادي الاخرة عوضا عن سيف الدين قبجق توفي وباشر مملكة حماة بعده الأمير عماد الدين اسماعيل بن الأفضل علي بن محمود بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب وانتقل جمال الدين آقوش الأفرم من صرخد إلى نيابة طرابلس عوضا عن الحاج بهادر وفي يوم الخميس سادس عشر شعبان باشر الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني مشيخة دار الحديث الاشرفية عوضا عن ابن الوكيل وأخذ في التفسر والحديث والفقه فذكر من ذلك دروسا حسنة ثم لم يستمر بها سوى خمسة عشر يوما حتى انتزعها منه كمال الدين ابن الشريشي فباشرها يوم الاحد ثالث شهر رمضان وفي شعبان رسم قراسنقر نائب الشام بتوسعة المقصورة فأخرت سدة المؤذنين إلى الركنين المؤخرين تحت قبة النسر ومنعت الجنائز من دخول الجامع أياما ثم أذن في دخولهم
وفي خامس رمضان قدم فخر الدين إياس الذي كان نائبا في قلعة الروم إلى دمشق شاد الدواوين عوضا عن زين الدين كتبغا المنصوري وفي شوال باشر الشيخ علاء الدين علي بن إسماعيل القونوي مشخية الشيوخ بالديار المصرية عوضا عن الشيخ كريم الدين عبدالكريم بن الحسين الايكي توفي وكان له تحرير وهمة وخلع على القونوي خلعة سنية وحضر سعيد السعداء بها وفي يوم الخميس ثالث ذي القعدة خلع على الصاحب عز الدين القلانسي خلعة الوزارء بالشام عوضا عن النجم البصراوي بحكم إقطاعه إمرة عشرة وإعراضه عن الوزارة وفي يوم الاربعاء سادس عشر ذي القعدة (14/59)
عاد الشيخ كمال الدين بن الزملكاني إلى تدريس الشامية البرانية وفي هذا اليوم لبس تقي الدين ابن الصاحب شمس الدين بن السلعوس خلعة النظر على الجامع الأموي ومسك الأمير سيف الدين استدمر نائب حلب في ثاني ذي الحجة ودخل إلى مصر وكذلك مسك نائب البيرة سيف الدين ضرغام بعده بليال وممن توفي فيها من الاعيان
قاضي القضاة شمس الدين أبو العباس
أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني السروجي الحنفي شارح الهداية كان بارعا في علوم شتى وولى الحكم بمصر مدة وعزل قبل موته بأيام توفي يوم الخميس ثاني عشر ربيع الاخر ودفن بقرب الشافعي وله اعتراضات على الشيخ تقي الدين بن تيمية في علم الكلام أضحك فيها على نفسه وقد رد عليه الشيخ تقي الدين في مجلدات وأبطل حجته وفيها توفي سلار مقتولا كما تقدم
الصاحب امين الدولة
أبو بكر بن الوجيه عبدالعظيم بن يوسف المعروف بابن الرقاقي والحاج بهادر نائب طرابلس مات بها والأمير سيف الدين قبجق نائب حلب مات بها ودفن بتربته بحماه ثاني جمادي الآخرة وكان شهما شجاعا وقد ولى نيابة دمشق في أيام لاجين ثم قفز إلى التتر خوفا من لاجين ثم جاء مع التتر وكان على يديه فرج المسلمين كما ذكرنا عام قازان ثم تنقلت به الأحوال إلى أن مات بحلب ثم وليها بعده استدمر ومات أيضا في آخر السنة وفيها توفي
الشيخ كريم الدين بن الحسين الأيكي
شيخ الشيوخ بمصر كان له صلة بالأمراء وقد عزل مرة عن المشيخة بابن جماعة توفي ليلة السبت سابع شوال بخانقاه سعيد السعداء وتولاها بعدة الشيخ علاء الدين القونوي كما تقدم
الفقيه عز الدين عبد الجليل
النمراوي الشافعي كان فاضلا بارعا وقد صحب سلار نائب مصر وارتفع في الدنيا بسببه
ابن الرفعة
هو الامام العلامة نجم الدين أحمد بن محمد شارح التنبيه وله غير ذلك وكان فقيها فاضلا وإماما في علوم كثيرة رحمهم الله
ثم دخلت سنة إحدى عشرة وسبعمائة
استهلت والحكام هم المذكرورن في التي قبلها غير الوزير بمصر فإنه عزل وتولى سيف الدين بكتمر وزيرا والنجم البصراوي عزل أيضا بعز الدين القلانسي وقد انتقل الافرم إلى نيابة (14/60)
طرابلس باشارة ابن تيمية على السلطان بذلك ونائب حماة الملك المؤيد عماد الدين على قاعدة أسلافه وقد مات نائب حلب استدمر وهي شاغرة عن نائب فيها وأرغون الدوادار الناصري قد وصل الى دمشق لتسفير قراسنقر منها الى حلب واحضار سيف الدين كراي الى نيابة دمشق وغالب العساكر بحلب والاعراب محدقة باطراف البلاد فخرج قراسنقر المنصوري من دمشق ف ثالث المحرم في جميع حواصله وحاشيته وأتباعه وخرج الجيش لتوديعه وسار معه أرغون لتقريره بحلب وجاء المرسوم الى نائب القلعة الامير سيف الدين بهادر السنجري أن يتكلم في أمور دمشق الى ان يأتيه نائب فحضر عنده الوزير والموقعون وباشر النيابة وقويت شوكته وقويت شوكة الوزير الى ان ولي ولايات عديدة منها لابن أخيه عماد الدين نظر الاسرار واستمر في يده وقدم نائب السلطنة سيف الدين كراي المنصوري الى دمشق نائبا عليها وفي يوم الخميس الحادي عشرين من المحرم خرج الناس لتلقيه وأوقدوا الشموع واعيدت مقصورة الخطابة الى مكانها رابع عشرين المحرم وانفرج الناس ولبس النجم البصراوي خلعة الامرة يوم الخميس ثالث عشر صفر على قاعدة الوزراء بالطرحة وركب مع المقدمين الكبار وهو أمير عشرة باقطاع يضاهي إقطاع كبر الطبلخانات
وفي يوم الاربعاء سابع عشر ربيع الاول جلس القضاة الاربعة بالجامع لانفاذ امر الشهود بسبب تزوير وقع من بعضهم فاطلع عليه نائب السلطنة فغضب وأمر بذلك فلم يكن منه كبير شيء ولم يتغير حال وفي هذا اليوم ولي الشريف نقيب الأشراف أمين الدين جعفر بن محمد بن محيي الدين عدنان نظر الدواودين عوضا عن شهاب الدين الواسطي وأعيد تقي الدين بن الزكي الى مشيخة الشيوخ وفيه ولي ابن جماعة تدريس الناصرية بالقاهرة وضياء الدين النسائي تدريس الشافعي والميعاد العام بجامع طولون ونظر الاحباس ايضا وولي الوزارة بمصر أمين الملك أبو سعيد عوضا عن سيف الدين بكتمر الحاجب في ربيع الاخر وفي هذا الشهر احتيط على الوزير عز الدين ابن القلانسي بدمشق ورسم عليه مدة شهرين وكان نائب السلطنة كثير الحنق عليه ثم أفرج عنه وأعيد بدر الدين بن جماعة الى الحكم بديار مصر في حادي عشر ربيع الآخر مع تدريس دار الحديث الكاملية وجامع طولون والصالحية والناصرية وجعل له إقبال كثير من السلطان
واستقر جمال الدين الزرعي على قضاء العسكر وتدريس جامع الحاكم ورسم له أن يجلس مع القضاة بين الحنفي والحنبلي بدار العدل عند السلطان وفي مستهل جمادي الاولى اشهد القاضي نجم الدين الدمشقي نائب ابن صصرى على نفسه بالحكم ببطلان البيع في الملك الذي اشتراه ابن القلانسي من تركة المنصوري في الرمثا والثوجة والفصالية لكونه بدون ثمن المثل ونفذه بقية الحكام وأحضر ابن القلانسي الى دار السعادة وادعى عليه بريع (14/61)
ذلك ورسم عليه بها ثم حكم قاضي القضاة تقي الدين الحنبلي بصحة هذا البيع وبنقض ما حكم به الدمشقي ثم نفذ بقية الحكام ما حكم به الحنبلي وفي هذا الشهر قرر على أهل دمشق ألف وخمسمائة فارس لكل فارس خمسمائة درهم وضربت على الاملاك والأوقاف فتألم الناس من ذلك تألما عظيما وسعى إلى الخطيب جلال الدين فسعى إلى القضاة واجتمع الناس بكرة يوم الاثنين ثالث عشر الشهر واحتفلوا بالاجتماع وأخرجوا معهم المصحف العثماني والأثر النبوي والسناجق الخليفية ووقفوا في الموكب فلما رآهم كراي تغيظ عليهم وشتم القاضي والخطيب وضرب مجد الدين التونسي ورسم عليهم ثم أطلقهم بضمان وكفالة فتألم الناس من ذلك كثيرا فلم يمهله الله الا عشرة أيام فجاءه الأمر فجأت فعزل وحبس ففرح الناس بذلك فرحا شديدا ويقال إن الشيخ تقي الدين بلغه ذلك الخبر عن أهل الشام فأخبر السلطان بذلك فبعث من فوره فمسكه شر مسكة وصفة مسكه ان تقدم الامير سيف الدين ارغون الدوادار فنزل في القصر فلما كان يوم الخميس الثالث والعشرين من جمادي الاولى خلع على الامير سيف الدين كراي خلعة سنية فلبسها وقبل العتبة وحضر الموكب ومد السماط فقيد بحضرة الامراء وحمل على البريد الى الكرك صحبة غرلو العادلي وبيبرس المجنون وخرج عز الدين القلانسي من الترسيم من دار السعادة فصلى في الجامع الظهر ثم عاد الى داره وقد أوقدت له الشموع ودعا له الناس ثم رجع الى دار الحديث الاشرفية فجلس فيها نحوا من عشرين يوما حتى قدم الأمير جمال الدين نائب الكرك
وفي هذا الشهر مسك نائب صفت الأمير سيف الدين بكتمر أمير خزندار وعوض عنه بالكرك بيبرس الدوادار المنصوري ومسك نائب غزة وعوض عنه بالجاولي فاجتمع في حبس الكرك استدمر نائب حلب وبكتمر نائب مصر وكراي نائب دمشق وقطلوبك نائب صفت وقلطنمز نائب غزة وبنحاص وقدم جمال الدين آقوش المنصوري الذي كان نائب الكرك على نيابة دمشق إليها في يوم الاربعاء رابع عشر ربيع الآخر وتلقاه الناس وأشعلت له الشموع وفي صحبته الخطيرى لتقريره في النيابة وقد باشر نيابة الكرك من سنة تسعين وستمائة الى سنة تسع وسبعمائة وله بها آثار حسنة وخرج عز الدين بن القلانسي لتلقى النائب وقريء يوم الجمعة كتاب السلطان على السدة بحضرة النائب والقضاة والاعيان وفيه الأمر بالاحسان الى الرعية وإطلاق البواقي التي كانت قد فرضت عليهم أيام كراي فكثرت الأدعية للسلطان وفرح الناس وفي يوم الاثنين التاسع عشر خلع على الأمير سيف الدين بهادراص بنيابة صفت فقبل العتبة وسار إليها يوم الثلاثاء وفيه لبس الصدر بدر الدين بن أبي الفوارس خلعة نظر الدواوين بدمشق مشاركا للشريف ابن عدنان وبعد ذلك بيومين قدم تلقليد عز الدين بن القلانسي وكالة السلطان على ما كان عليه وأنه أعفى (14/62)
عن الوزارة لكراهته لذلك
وفي رجب باشر ابن السلعوس نظر الاوقاف عوضا عن شمس الدين عدنان وفي شعبان ركب نائب السلطنة بنفسه الى أبواب السجون فأطلق المحبوسين بنفسه فتضاعفت له الادعية في الاسواق وغيرها وفي هذا اليوم قدم الصاحب عز الدين بن القلانسي من مصر فاجتمع بالنائب وخلع عليه ومعه كتاب يتضمن احترامه وإكرامه واستمراره على وكالة السلطان ونظر الخاص والانكار لما ثبت عليه بدمشق وأن السلطان لم يعلم بذلك ولا وكل فيه وكان المساعد له على ذلك كريم الدين ناظر الخاص السلطاني والامير سيف الدين أرغون الدوادار وفي شعبان منع ابن صصرى الشهود والعقاد من جهته وامتنع غيرهم أيضا وردهم المالكي وفي رمضان جاء البريد بتولية زين الدين كتبغا المنصوري حجوبية الحجاب والأمير بدر الدين ملتوبات القرماني شد الدواوين عوضا عن طوغان وخلع عليهما معا وفيه ركب بهادر السنجري نائب قلعة دمشق على البريد الى مصر وتولاها سيف الدين بلبان البدري ثم عاد السنجري في آخر النهار على نيابة البيرة فسار إليها وجاء الخبر بأنه قد احتيط على جماعة من قصاد المسلمين ببغداد فقتل منهم ابن العقاب وابن البدر وخلص عبيدة وجاء سالما وخرج المحمل في شوال وأمير الحاج الامير علاء الدين طيبغا أخوبها دراص
وفي آخر ذي القعدة جاء الخبر بأن الأمير قراسنقر رجع من طريق الحجاز بعد أن وصل الى بركة زيرا وأنه لحق بمهنا بن عيسى فاستجار به خائفا على نفسه ومعه جماعة من خواصه ثم سار من هناك الى التتر بعد ذلك كله وصحبه الأفرم والزردكش وفي العشرين من ذي القعدة وصل الأمير سيف الدين ارغون في خمسة آلاف الى دمشق وتوجهوا إلى ناحية حمص وتلك النواحي وفي سابع ذي الحجة وصل الشيخ كمال الدين بن الشريشي من مصر مستمرا عل وكالته ومع توقيع بقضاء العسكر الشامي وخلع عليه في يوم عرفة وفي هذا اليوم وصلت ثلاثة آلاف عليهم سيف الدين ملى من الديار المصرية فتوجهوا وراء أصحابهم الى البلاد الشمالية وفي آخر الشهر وصل شهاب الدين الكاشنغري من القاهرة ومعه توقيع بمشيخة الشيوخ فنزل في الخانقاه وباشرها بحضرة القضاة والأعيان وانفصل ابن الزكي عنها وفيه باشر الصدر علاء الدين بن تاج الدين بن الأثير كتابة السر بمصر وعزل عنها شرف الدين بن فضل الله الى كتابة السر بدمشق عوضا عن أخيه محيي الدين واستمر محيي الدين على كتابة الدست بمعلوم أيضا والله أعلم وممن توفي فيها من الاعيان
الشيخ الرئيس بدر الدين
محمد بن رئيس الأطباء أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن طرخان الأنصاري من سلالة سعد ابن معاذ السويدي من سويداء حوران سمع الحديث وبرع في الطب توفي في ربيع الأول (14/63)
ببستانه بقرب الشبلية ودفن في تربة له في قبة فيها عن ستين سنة
الشيخ شعبان بن أبي بكر بن عمر الاربلي
شيخ الحلبية بجامع بني أمية كان صالحا مباركا فيه خير كثير كان كثير العبادة وإيجاد الراحة للفقراء وكانت جنازته حافلة جدا صلى عليه بالجامع بعد ظهر يوم السبت تاسع عشرين رجب ودفن بالصوفية وله سبع وثمانون سنة وروى شيئا من الحديث وخرجت له مشيخة حضرها الأكابر رحمه الله
الشيخ ناصر الدين يحيى بن ابراهيم
ابن محمد بن عبد العزيز العثماني خادم المصحف العثماني نحوا من ثلاثين سنة وصلى عليه بعد الجمعة سابع رمضان ودفن بالصوفية وكان لنائب السلطنة الأفرم فيه اعتقاد وصله منه افتقاد وبلغ خمسا وستين سنة
الشيخ الصالح الجليل القدوة
أبو عبد الله محمد بن الشيخ القدوة إبراهيم بن الشيخ عبد الله الأموي توفي في العشرين من رمضان بسفح قاسيون وحضر الأمراء والقضاة والصدور جنازته وصلى عليه بالجامع المظفري ثم دفن عند والده وغلق يومئذ سوق الصالحية له وكانت له وجاهة عند الناس وشفاعة مقبولة وكان عنده فضيلة وفيه تودد وجمع أجزاء في أخبار جيدة وسمع الحديث وقارب السبعين رحمه الله
ابن الوحيد الكاتب
هو الصدر شرف الدين أبو عبد الله محمد بن شريف بن يوسف الزرعي المعروف بابن الوحيد كان موقعا بالقاهرة وله معرفة بالانشاء وبلغ الغاية في الكتابة في زمانه وانتفع الناس به وكان فاضلا مقداما شجاعا توفي بالمرستان المنصوري بمصر سادس عشر شوال
الامير ناصر الدين
محمد بن عماد الدين حسن بن النسائي أحد أمراء الطبلخانات وهو حاكم البندق ولي ذلك بعد سيف دين بلبان توفي في العشرين الآخر من رمضان
التميمي الداري
توفي يوم عيد الفطر ودفن بالقرافة الصغرى وقد ولى الوزارة بمصر وكان خبيرا كافيا مات معزولا وقد سمع الحديث وسمع عليه بعض الطلبة
وفي ذي القعدة جاء الخبر إلى دمشق بوفاة الامير الكبير استدمر وبنخاص في السجن بقلعة الكرك
القاضي الامام العلامة الحافظ
سعد الدين مسعود الحارثي الحنبلي الحاكم بمصر سمع الحديث وجمع وخرج وصنف وكانت (14/64)
له يد طولي في هذه الصناعة والأسانيد والمتون وشرح قطعة من سنن أبي داود فأجاد وافاد وحسن الاسناد رحمه الله تعالى والله أعلم
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وسبعمائة
استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها وفي خامس المحرم توجه الأمير عز الدين ازدمر الزردكاش وأميران معه إلى الأفرم وساروا بأجمعهم حتى لحقوا بقراسنقر وهو عند مهنا وكاتبوا السلطان وكانوا كالمستجيرين من الرمضاء بالنار وجاء البريد في صفر بالاحتياط على حواصل الافرم وقراسنقر والزردكاش وجميع ما يتعلق بهم وقطع خبز مهنا وجعل مكانه في الامرة أخاه محمدا وعادت العساكر صحبة أرغون من البلاد الشمالية وقد حصل عند الناس من قراسنقر وأصحابه هم وغم وحزن وقدم سودي من مصر على نيابة حلب فاجتاز بدمشق فخرج الناس والجيش لتلقيه وحضر السماط وقرئ المنشور بطلب جمال الدين نائب دمشق الى مصر فركب من ساعته على البريد الى مصر وتكلم في نيابته لغيبة لاجين وطلب في هذا اليوم قطب الدين موسى شيخ السلامية ناظر الجيش الى مصر فركب في آخر النهار إليها فتولى بها نظر الجيش عوضا عن فخر الدين الكاتب كاتب المماليك بحكم عزله ومصادرته وأخذ أمواله الكثيرة منه في عاشر ربيع الأول وفي الحادي عشر منه باشر الحكم للحنابلة بمصر القاضي تقي الدين أحمد بن المعز عمر بن عبد الله بن عمر بن عوض المقدسي وهو ابن بنت الشيخ شمس الدين بن العماد أول قضاة الحنابلة وقدم الأمير سيف الدين نمر على نيابة طرابلس عوضا عن الأفرم بحكم هربه إلى التتر وفي ربيع الآخر مسك بيبرس العلائي نائب حمص وبيبرس المجنون وطوغان وجماعة آخرون من الأمراء ستة في نهار واحد وسيروا الى الكرك معتقلين بها وفيه مسك نائب مصر الامير ركن الدين بيبرس الدوادار المنصوري وولى بعده ارغون الدوادار ومسك نائب الشام جمال الدين نائب الكرك وشمس الدين سنقر الكمالي حاجب الحجاب بمصر وخمسة أمراء آخرون وحبسوا كلهم بقلعة الكرك في برج هناك وفيه وقع حريق داخل باب السلامية احترق فيه دور كثيرة منها دار ابن ابي الفوارس ودار الشريف القباني
نيابة تنكز على الشام
في يوم الخميس العشرين من ربيع الاخر دخل الامير سيف الدين تنكز بن عبد الله المالكي الناصري نائبا على دمشق بعد مسك نائب الكرك ومعه جماعة من مماليك السلطان منهم الحاج ارقطاي على حيز بيبرس العلائي وخرج الناس لتلقيه وفرحوا به كثيرا ونزل بدار السعادة ووقع عند قدومه مصر فرح عظيم وكان ذلك اليوم يوم الرابع والعشرين من آب وحضر يوم الجمعة الخطبة بالمقصورة وأشعلت له الشموع في طريقه وجاء توقيع لابن صصرى باعادة (14/65)
قضاء العسكر إليه وأن ينظر الأوقاف فلا يشاركه احد في الاستنابة في البلاد الشامية على عادة من تقدمه من قضاة الشافعية وجاء مرسوم لشمس الدين ابي طالب بن حميد بنظر الجيش عوضا عن ابن شيخ السلامية بحكم إقامته بمصر ثم بعد أيام وصل الصدر معين الدين هبة الله بن خشيش ناظر الجيش وجعل ابن حميد بوظيفة ابن البدر وسافر ابن البدر على نظر جيش طرابلس وتولى ارغون نيابة مصر وعاد فخر الدين كاتب المماليك الى وظيفته مع استمرار قطب الدين بن شيخ السلامية مباشرا معه
وفي هذا الشهر قام الشيخ محمد بن قوام ومعه جماعة من الصالحين على ابن زهرة المغربي الذي كان يتكلم بالكلاسة وكتبوا عليه محضرا يتضمن استهانته بالمصحف وانه يتكلم في أهل العلم فأحضر إلى دار العدل فاستسلم وحقن دمه وعزر تعزيرا بليغا عنيفا وطيف به في البلد باطنه وظاهره وهو مكشوف الرأس ووجهه مقلوب وظهره مضروب ينادي عليه هذا جزاء من يتكلم في العلم بغير معرفة ثم حبس وأطلق فهرب الى القاهرة ثم عاد على البريد في شعبان ورجع الى ما كان عليه وفيها قدم بهادراص من نيابة صعد الى دمشق وهنأه الناس وفيها قدم كتاب من السلطان الى دمشق ان لا يولي أحد بمال ولا برشوة فإن ذلك يفضي إلى ولاية من لا يستحق الولاية وإلى ولاية غير الاهل فقرأه ابن الزملكاني على السدة وبلغه عنه ابن حبيب المؤذن وكان سبب ذلك الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله
وفي رجب وشعبان حصل للناس خوف بدمشق بسبب أن التتر قد تحركوا للمجيء الى الشام فانزعج الناس من ذلك وخافوا وتجول كثير منهم الى البلد وازدحموا في الابواب وذلك في شهر رمضان وكثرت الأراجيف بأنهم قد وصلوا الى الرحبة وكذلك جرى واشتهر بأن ذلك باشارة قراسنقر وذويه فالله أعلم وفي رمضان جاء كتاب السلطان ان من قتل لا يجني أحد عليه بل يتبع القاتل حتى يقتص منه بحكم الشرع الشريف فقرأه ابن الزملكاني على السدة بحضرة نائب السلطنة ابن تنكز وسببه ابن تيمية هو أمر بذلك وبالكتاب الاول قبله وفي أول رمضان وصل التتر الى الرحبة فحاصروها عشرين يوما وقاتلهم نائبها الأمير بد الدين موسى الازدكشي خمسة أيام قتالا عظيما ومنعهم منها فأشار رشيد الدولة بأن ينزلوا الى خدمة السلطان خربندا ويهدوا له هدية ويطلبون منه العفو فنزل القاضي نجم الدين إسحاق وأهدوا له خمسة رؤس خيل وعشرة أباليج سكر فقبل ذلك ورجع الى بلاده وكانت بلاد حلب وحماة وحمص قد أجلوا منها وخرب أكثرها ثم رجعوا اليها لما تحققوا رجوع التتر عن الرحبة وطابت الاخبار وسكنت النفوس ودقت البشائرة وتركت الائمة القنوت وخطب الخطيب يوم العيد وذكر الناس بهذه النعمة وكان سبب رجوع التتر قلة العلف (14/66)
وغلاء الاسعار وموت كثير منهم واشار على سلطانهم بالرجوع الرشيد وجوبان
وفي ثامن شوال دقت البشائر بدمشق بسبب خروج السلطان من مصر لأجل ملاقاة التتر وخرج الركب في نصف شوال وأميرهم حسام الدين لاجين الصغير الذي كان والى البر وقدمت العساكر المصرية أرسالا وكان قدوم السلطان ودخوله دمشق ثالث عشرين شوال واحتفل الناس لدخوله ونزل القلعة وزينت البلد وضربت البشائر ثم انتقل بعد ليلتئذ الى القصر وصلى الجمعة بالجامع بالمقصورة وخلع على الخطيب وجلس في دار العدل يوم الاثنين وقدم وزيره أمين الملك يوم الثلاثاء عشرين الشهر وقدم صحبة السلطان الشيخ الامام العالم العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية الى دمشق يوم الاربعاء مستهل ذي القعدة وكانت غيبته عنها سبع سنين ومعه أخواه وجماعة من أصحابه وخرج خلق كثير لتلقيه وسروا بقدومه وعافيته ورؤيته واستبشروا به حتى خرج خلق من السناء أيضا لرؤيته وقد كان السلطان صحبه معه من مصر فخرج معه بنية الغزاة فلما تحقق عدم الغزاة وأن التتر رجعوا الى بلادهم فارق الجيش من غزة وزار القدس وأقام به أياما ثم سافر على عجلون وبلاد السواد وزرع ووصل دمشق في أول يوم من ذي القعدة فدخلها فوجد السطان قد توجه إلى الحجاز الشريف في أربعين أميرا من خواصه يوم الخميس ثاني ذي القعدة ثم إن الشيخ بعد وصوله الى دمشق واستقراره بها لم يزل ملازما لاشتغال الناس في سائر العلوم ونشر العلم وتصنيف الكتب وإفتاء الناس بالكلام والكتابة المطولة والاجتهاد في الاحكام الشرعية ففي بعض الأحكام يفتي بما أدى إليه اجتهاده من موافقة أئمة المذاهب الاربعة وفي بعضها يفتي بخلافهم وبخلاف المشهور في مذاهبهم وله اختيارات كثيرة مجلدات عديدة أفتى فيها بما أدى إليه اجتهادة واستدل على ذلك من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والسلف
فلما سار السلطان الى الحج فرق العساكر والجيوش بالشام وترك أرغون بدمشق وفي يوم الجمعة لبس الشيخ كمال الدين الزملكاني خلعة ! وكلة بيت المال عوضا عن ابن الشريشي وحضر بها الشباك وتكلم وزير السلطان في البلد وطلب أموالا كثيرة وصادر وضرب بالمقارع وأهان جماعة من الرؤساء منهم ابن فضل الله محيي الدين وفيه عين شهاب الدين بن جهبل لتدريس الصلاحية بالمقدس عوضا عن نجم الدين داود الكردي توفي وقد كان مدرسا بها من نحو ثلاثين سنة فسافر ابن جهبل الى القدس بعد عيد الاضحى
وفيها مات ملك القفجاق المسمى طغطاي خان وكان له في الملك ثلاث وعشرون سنة وكان عمره ثمانا وثلاثين سنة وكان شهما شجاعا على دين التتر في عبادة الاصنام والكواكب يعظم المجسمة والحكماء والاطباء ويكرم المسلمين أكثر من جميع الطوائف كان جيشه هائلا لا يجسر (14/67)
أحد على قتاله لكثرة جيشه وقوتهم وعددهم وعددهم ويقال إنه جرد مرة تجريدة من كل عشرة من جيشه واحدا فبلغت التجريدة مائتي ألف وخمسين ألفا توفي في رمضان منها وقام في الملك من بعده ابن أخيه أزبك خان وكان مسلما فأظهر دين الاسلام ببلاده وقتل خلقا من أمراء الكفرة وعلت الشرائع المحمدية على سائر الشرائع هناك ولله الحمد والمنة على الاسلام والسنة وممن توفي فيها من الاعيان
الملك المنصور صاحب ماردين
وهو نجم الدين أبو الفتح غازي بن الملك المظفر قرارسلان بن الملك السعيد نجم الدين غازي بن الملك المنصور ناصر الدين ارتق بن غازي بن المنى بن تمرتاش بن غازي بن أرتق الارتقي أصحاب ماردين من عدة سنين كان شيخا حسنا مهيبا كامل الخلقة بدينا سمينا إذا ركب يكون ! خلفعه محفة خوفا من أن يمسه لغوب فيركب فيها توفي في تاسع ربيع الآخرة ودفن بمدرسته تحت القلعة وقد بلغ من العمر فوق السبعين ومكث في الملك قريبا من عشرين سنة وقام من بعده في الملك ولده العادل فمكث سبعة عشر يوما ثم ملك أخوه المنصور وفيها مات
الامير سيف الدين قطلوبك الشيخي
كان من امراء دمشق الكبار
الشيخ الصالح
نور الدين ابو الحسن علي بن محمد بن هارون بن محمد بن هارون بن علي بن حميد الثعلبي الدمشقي قارئ الحديث بالقاهرة ومسندها روى عن ابن الزبيدي وابن الليثي وجعفر الهمداني وابن الشيرازي وخلق وقد خرج له الامام العلامة تقي الدين السبكي مشيخة وكان رجلا صالحا توفي بكرة الثلاثاء تاسع عشر ربيع الآخر وكانت جنازته حافلة
الامير الكبير الملك المظفر
شهاب الدين غازي بن الملك الناصر داود بن المعظم سمع الحديث وكان رجلا متواضعا توفي بمصر ثاني عشر رجب ودفن بالقاهرة
قاضي القضاة
شمس الدين ابو عبد الله محمد بن إبراهيم بن داود بن خازم الازرعي الحنفي كان فاضلا درس وأفتى وولى قضاء الحنفية بدمشق سنة ثم عزل واستمر على تدريس الشبلية مدة ثم سافر إلى مصر فأقام بسعيد السعداء خمسة أيام وتوفي يوم الاربعاء ثاني عشرين رجب فالله أعلم
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وسبعمائة
استهلت والحكام هم هم والسلطان في الحجاز لم يقدم بعد وقد قدم الامير سيف الدين تجليس يوم السبت مستهل المحرم من الحجاز وأخبر بسلامة السلطان وأنه فارقه من المدينة النبوية أنه قد قارب البلاد فدقت البشائر فرحا بسلامته ثم جاء البريد فأخبر بدخوله إلى الكرك ثاني (14/68)
المحرم يوم الاحد فلما كان يوم الثلاثاء حادي عشر المحرم دخل دمشق وقد خرج الناس لتلقيه على العادة وقد رأيته مرجعه من هذه الحجة على شفته ورقة قد الصقها عليه فنزل بالقصر وصلى الجمعة رابع عشر المحرم بمقصروة الخطابة وكذلك الجمعة التي تليها ولعب في الميدان بالكرة يوم السبت النصف من المحرم وولى نظر الدواوين للصاحب شمس الدين غبريال يوم الاحد حادي عشر المحرم وشد الدواوين لفخر الدين إياس الاعسري عوضا عن القرماني وسافر القرماني إلى نيابة الرحبة وخلع عليهما وعلى وزيره وخلع على ابن صصرى وعلى الفخر كاتب المماليك وكان مع السلطان في الحج وولى شرف الدين بن صصرى حجابة الديوان وباشر فخر الدين ابن شيخ السلامية نظر الجامع وباشر بهاء الدين بن عليم نظر الاوقاف والمنكورسي شد الاوقاف وتوجه السلطان راجعا الى الديار المصرية بكرة الخميس السابع والعشرين من المحرم وتقدمت الجيوش بين يديه ومعه وفي أواخر صفر اجتاز على البريد في الرسلية الى مهنا الشيخ صدر الدين الوكيل وموسى بن مهنا والامير علاء الدين الطنبغا فاجتمعوا به في تدمر ثم عاد الطنبغا وابن الوكيل الى القاهرة
وفي جمادي الاخرة مسك امين الملك وجماعة من الكبار معه وصودروا بأموال كثيرة وأقيم عوضه بدر الدين بن التركماني الذي كان والي الخزانة وفي رجب كملت أربعة مناجيق واحد لقلعة دمشق وثلاثة تحمل إلى لاكرك ورمى باثنين على باب الميدان وحضر نائب السلطنة تنكز والعامة وفي شعبان تكامل حفر النهر الذي عمله سودى نائب حلب بها كان طوله من نهر الساجور إلى نهر قويق أربعين ألف ذراع في عرض ذراعين وعمق ذراعين وغرم عليه ثلثمائة ألف درهم وعمل بالعدل ولم يظلم فيه أحدا وفي يوم السبت ثامن شوال خرج الركب من دمشق واميره سيف الدين بلباي التتري وحج صاحب حماة في هذه السنة وخلق من الروم والغرباء وفي يوم السبت السادس والعشرين من ذي الحجة وصل القاضي قطب الدين موسى ابن شيخ السلامية من مصر على نظر الجيوش الشامية كما كان قبل ذلك وراح معين الدين بن الخشيش الى مصر في رمضان صحبة الصاحب شمس الدين بن غبريال وبعد وصول ناظر الجيوش بيومين وصلت البشائر بمقتضى إزالة الاقطاعات لما رآه السلطان بعد نظره في ذلك اربعة أشهر وممن توفي فيها من الاعيان
الشيخ الامام المحدث
فخر الدين أبو عمرو عفان بن محمد بن عثمان بن أبي بكر بن محمد بن داود التوزي بمكة يوم الاحد حادي ربيع الاخرة وقد سمع الكثير وأجازه خلق يزيدون على ألف شيخ وقرأ الكتب الكبار وغيرها وقرا صحيح البخاري أكثر من ثلاثين مرة رحمه الله (14/69)
عز الدين محمد بن العدل
شهاب الدين أحمد بن عمر بن إلياس الرهاوي كان يباشر استيفاء الاوقاف وغير ذلك وكان من أخصاء أمين الملك فلما مسك بمصر أرسل إلى هذا وهو معتقل بالعذراوية ليحضر على البريد فمرض فمات بالمدرسة العذراوية ليلة الخميس التاسع عشر من جمادي الآخرة وله من العمر خمس وثلاثون سنة وكان قد سمع من ابن طبرزد الكندي ودفن من الغد بباب الصغير وترك من بعده ولدين ذكرين جمال الدين محمد وعز الدين
الشيخ الكبير المقريء
شمس الدين المقصاي هو أبو بكر بن عمر بن السبع الجزري المعروف بالمقصاي نائب الخطيب وكان يقرئ الناس بالقراءات السبع وغيرها من الشواذ وله إلمام بالنحو وفيه ورع واجتهاد توفي ليلة السبت حادي عشرين جمادي الاخرة ودفن من الغد بسفح قاسيون تجاه الرباط الناصري وقد جاوز الثمانين رحمه الله
ثم دخلت سنة أربع عشرة وسبعمائة
استهلت والحكام هم هم في التي قبلها إلا الوزير أمين الملك فمكانه بدر الدين التركماني وفي رابع المحرم عاد الصاحب شمس الدين غبريال من مصر على نظر الدواوين وتلقاه أصحابه وفي عاشر المحرم يوم الجمعة قرئ كتاب السلطان على السدة بحضرة نائب السلطنة والقضاة والأمراء يتضمن باطلاق البواقي من سنة ثمان وتسعين وستمائة إلى آخر سنة ثلاث عشرة وسبعمائة فتضاعفت الادعية للسلطان وكان القارئ جمال الدين بن القلانسي ومبلغه صدر الدين بن صبح المؤذن ثم قرئ في الجمعة الاخرى مرسوم آخر فيه الافراج عن المسجونين وأن لا يؤخذ من كل واحد إلا نصف درهم ومرسوم آخر فيه إطلاق السخر في الغصب وغيره عن الفلاحين قرأه ابن الزملكاني وبلغه عنه أمين الدين محمد بن مؤذن النجيبي وفي المحرم استحضر السلطان إلى بين يديه الفقيه نور الدين على البكري وهم بقتله شفع فيه الأمراء فنفاه ومنعه من الكلام في الفتوى والعلم وكان قد هرب لما طلب من جهة الشيخ تقي الدين بن تيمية فهرب واختفى وشفع فيه أيضا ثم لما ظفر به السلطان الآن وأراد قتله شفع فيه الأمراء فنفاه ومنعه من الكلام والفتوى وذلك لاجترائه وتسرعه على التكفير والقتل والجهل الحامل له على هذا وغيره وفي يوم الجمعة مستهل صفر قرأ ابن الزملكاني كتابا سلطانيا على السدة بحضرة نائب السلطان القاضي وفيه الأمر بابطال ضمان القواسير وضمان النبيذ وغير ذلك فدعا الناس للسلطان وفي أواخر ربيع الاول اجتمع القضاة بالجامع للنظر في أمر الشهود ونهوهم عن الجلوس في المساجد وأن لا يكون أحد منهم في مركزين وان لا يتولوا (14/70)
ثبات الكتب ولا يأخذوا أجرا على أداء الشهادة وأن لايغتابوا أحدا وأن يتناصفوا في المعيشة ثم جلسوا مرة ثانية لذلك وتواعدوا ثالثة فلم يتفق اجتماعهم ولم يقطع احد من مركزه
وفي يوم الاربعاء الخامس والعشرين منه عقد مجلس في دار ابن صصرى لبدر الدين بن بضيان وأنكر عليه شيء من القراءات فالتزم بترك الاقراء بالكلية ثم استأذن بعد أيام في الاقرءا فأذن له فجلس بين الظهر والعصر بالجامع وصارت له حلقة على العادة وفي منتصف رجب توفي نائب حلب الامير سيف الدين سودي ودفن بتربته وولى مكانه علاء الدين الطنبغا الصالحي الحاجب بمصر قبل هذه النيابة وفي تاسع شعبان خلع على الشريف شرف الدين عدنان بنقابة الاشراف بعد والده أمين الدين جعفر توفي في الشهر الماضي
وفي خامس شوال دفن الملك شمس الدين دوباح بن ملكشاه بن رستم صاحب كيلان بتربته المشهورة بسفح قاسيون وكان قد قصد الحج في هذا العام فلما كان بغباغب أدركته منيته يوم السبت سادس عشرين رمضان فحمل إلى دمشق وصلى عليه ودفن في هذه التربة اشتريت له وتممت وجاءت حسنة وهي مشهورة عند المكارية شرقي الجامع المظفري وكان له في مملكة كيلان خمسة وعشرين سنة وعمر أربعا وخسمين سنة وأوصى ان يحج عنه جماعة ففعل ذلك وخرج الركب في ثالث شوال وأميره سيف الدين سنقر الابراهيمي وقاضيه محيي الدين قاضي الزبداني وفي يوم الخميس سابع ذي القعدة قدم القاضي بدر الدين بن الحداد من القاهرة متوليا حسبة دمشق فخلع عليه عوضا عن فخر الدين سليمان البصراوي عزل فسافر سريعا إلى البرية ليشتري خيلا للسلطان يقدمها رشوة على المنصب المذكور فاتفق موته في البرية في سابع عشر الشهر المذكور وحمل إلى بصرى فدفن بها عند أجداده في ثامن ذي القعدة وكان شابا حسنا كريم الاخلاق حسن الشكل وفي أواخره مسك نائب صغد بلبان طوباي المنصوري وسجن وتولى مكانه سيف الدين بلباي البدري وفي سادس ذي الحجة تولي ولاية البر الامير علاء الدين علي بن محمود بن معبد البعلبكي عوضا عن شرف الدين عيسى بن البركاسي وفي يوم عيد الاضحى وصل الامير علاء الدين بن صبح من مصر وقد افرج عنه فسلم عليه الامراء وفي هذا الشهر أعيد أمين الملك إلى نظر النظار بمصر وخلع على الصاحب بهاء الدين النسائي بنظر الخزانة عوضا عن سعد الدين حسن بن الاقفاصي وفيه وردت البريدية بأمر السلطان للجيوش الشامية بالمسير إلى حلب وأن يكون مقدم العساكر كلها تنكز نائب الشام وقدم من مصر ستة آلاف مقاتل عليهم الامير سيف الدين بكتمر الابوبكري وفيهم تجليس وبدر الدين الوزيري وكتشلي وابن طيبرس وشاطي وابن سلار وغيرهم فتقدموا إلى البلاد الحلبية بين يدي نائب الشام تنكز (14/71)
وممن توفي فيها من الأعيان
سودي نائب حلب في رجب
ودفن بتربته وهو الذي كان السبب في إجراء نهر إليها غرم عليه ثلثمائة ألف درهم وكان مشكور السيرة حميد الطريقة رحمه الله وفي شعبان توفي
الصاحب شرف الدين
يعقوب بن مزهر وكان بارا بأهله وقرابته رحمه الله
والشيخ رشيد أبو الفداء إسماعيل
أبو محمد القرشي الحنفي المعروف بابن المعلم كان من أعلام الفقهاء والمفتيين ولديه علوم شتى وفوائد وفرائد وعنده زهد وانقطاع عن الناس وقد درس بالبلخية مدة ثم تركها لولده وسار إلى مصر فأقام بها وعرض عليه قضاء دمشق فلم يقبل وقد جاوز السبعين من العمر توفي سحر يوم الأربعاء خامس رجب ودفن بالقرافة رحمه الله تعالى وفي شوال توفي
الشيخ سليمان التركماني
الموله الذي كان يجلس على مصطبته بالعلبيين وكان قبل ذلك مقيما بطهارة باب البريد وكان لا يتحاشى من النجاسات ولا يتقيها ولا يصلي الصلوات ولا ياتيها وكان بعض الناس من الهمج له فيه عقيدة قاعدة الهمج الرعاع الذين هم أتباع كل ناعق من المولهين والمجانين ويزعمون أنه يكاشف وأنه رجل صالح ودفن بباب الصغير في يوم كثير الثلج وفي يوم عرفة توفيت
الشيخة الصالحة العابدة الناسكة
أم زينب فاطمة بنت عباس بن أبي الفتح بن محمد البغدادية بظاهر القاهرة وشهدها خلق كثير وكانت من العالمات الفاضلات تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر وتقوم على الاحمدية في مواخاتهم النساء والمردان وتنكر أحوالهم وأصول أهل البدع وغيرهم وتفعل من ذلك مالا تقدر عليه الرجال وقد كانت تحضر مجلس الشيخ تقي الدين بن تيمية فاستفادت منه ذلك وغيره وقد سمعت الشيخ تقي الدين يثنى عليها ويصفها بالفضيلة والعلم ويذكر عنها أنها كانت تستحضر كثيرا من المغنى او أكثره وأنه كان يستعد لها من كثرة مسائلها وحسن سؤالاتها وسرعة فهمها وهي التي ختمت نساء كثيرا القرآن منهن أم زوجتي عائشة بنت صديق زوجة الشيخ جمال الدين المزي وهي التي أقرأت ابنتها زوجتي امة الرحيم زينب رحمهن الله واكرمهن برحمته وجنته آمين
ثم دخلت سنة خمس عشرة وسبعمائة
استهلت والحكام في البلاد هم المذكورون في التي قبلها (14/72)
فتح ملطية
في يوم الإثنين مستهل المحرم خرج سيف الدين تنكز في الجيوش قاصدا ملطية وخرجت الاطلاب على راياتها وأبرزوا ما عندهم من العدد وآلات الحرب وكان يوما مشهودا وخرج مع الجيش ابن صصرى لأنه قاضي العساكر وقاضي قضاة الشامية فساروا حتى دخلوا حلب في الحادي عشر من الشهر ومنها وصلوا في السادس عشر إلى بلاد الروم إلى ملطية فشرعوا في محاصرتها في الحادي والعشرين من المحرم وقد حصنت ومنعت وغلقت أبوابها فلما رأوا كثرة الجيش نزل متوليها وقاضيها وطلبوا الأمان فأمنوا المسلمين ودخلوها فقتلوا من الارمن خلقا ومن النصارى وأسروا ذرية كثيرة وتعدى ذلك إلى بعض المسلمين وغنموا شيئا كثيرا وأخذت أموال كثير من المسلمين ورجعوا عنها بعد ثلاثة أيام يوم الاربعاء رابع عشرين المحرم إلى عين تاب إلى مرج دابق وزينت دمشق ودقت البشائر وفي أول صفر رحل نائب ملطية متوجها إلى السلطان وفي نصف الشهر وصل قاضيها الشريف شمس الدين ومعه خلق من المسلمين من أهلها وفي بكرة نهار الجمعة سادس عشر ربيع الاول دخل تنكز دمشق وفي خدمته الجيوش الشامية والمصرية وخرج الناس للفرجة عليهم على العادة وأقام المصريون قليلا ثم ترحلوا إلى القاهرة وقد كانت ملطية إقطاعا للجوبان أطلقها له ملك التتر فاستناب بها رجلا كرديا فتعدى وأساء وظلم وكاتب أهلها السلطان الناصر وأحبوا أن يكونوا من رعيته فلما ساروا إليها وأخذوها وفعلوا ما فعلوا فيها جاءها بعد ذلك الجوبان فعمرها ورد إليها خلقا من الأرمن وغيرهم
وفي التاسع عشر من هذا الشهر وصل إلينا الخبر بمسك بكتمر الحاجب وايد غدي شقير وغيرهما وكان ذلك يوم الخميس مستهل هذا الشهر وذلك أنهم اتفقوا على السلطان فبلغه الخبر فمسكهم واحتيط على أموالهم وحواصلهم وظهر لبكتمر أموال كثيرة وأمتعة وأخشاب وحواصل كثيرة وقدم مجليس من القاهرة فاجتاز بدمشق إلى ناحية طرابلس ثم قدم سريعا ومعه الامير سيف الدين تمير نائب طرابلس تحت الحوطة ومسك بدمشق الأمير سيف الدين بهادر آص المنصوري فحمل الاول إلى القاهرة وجعل مكانه في نيابة طرابلس كسناي وحمل الثاني وحزن الناس عليه ودعوا له وفي يوم الخميس الحادي والعشرين من ربيع الآخر قدم عز الدين بن مبشر دمشق محتسبا وناظر الأوقاف وانصرف ابن الحداد عن الحسبة وبهاء الدين عن نظر الأوقاف وفي ليلة الاثنين ثالث عشر جمادي الاولى وقع حريق قبالة مسجد الشنباشي داخل باب الصغير احترق فيه دكاكين ودور وأموال وأمتعة وفي يوم الأربعاء سادس عشر جمادي الآخرة درس قاضي ملطية الشريف شمس الدين بالمدرسة الخاتونية البرانية عوضا عن قاضي القضاة الحنفي البصروي وحضر عنده الأعيان وهو (14/73)
رجل له فضيلة وخلق حسن كان قاضيا بملطية وخطيبا بها نحوا من عشرين سنة
وفي يوم الخميس رابع جمادي الآخرة أعيد ابن الحداد إلى الحبسة واستمر ابن مبشر ناظر الآوقاف وفي يوم الاربعاء تاسع جمادي الآخرة درس ابن صصرى بالاتابكية عوضا عن
الشيخ صفي الدين الهندي
وفي يوم الأربعاء الآخر حضر ابن الزمكاني درس الظاهرية الجوانية عوضا عن الهندي أيضا بحكم وفاته كما ستأتي ترجمته وفي أواخر رجب أخرج الامير آقوش نائب الكرك من سجن القاهرة وأعيد إلى الامرة وفي شعبان توجه خمسة آلاف من بلاد حلب فأغاروا على بلاد آمد وفتحوا بلدنا كثيرة وقتلوا وسبوا وعادوا سالمين وخمسوا ما سبوا فبلغ سهم الخمس أربعة آلاف رأس وكسور وفي أواخر رمضان وصل قراسنقر المنصوري إلى بغداد ومعه زوجته الخاتون بنت أبغا ملك التتر وجاء في خدمته خربندا واستأذنه في الغارة على أطراف بلاد المسلمين فلم يأذن له ووثب عليه رجل فداوى من جهة صاحب مصر فلم يقدر عليه وقتل الفداوي وفي يوم الأربعاء سادس عشر رمضان درس بالعادلية الصغيرة الفقيه الامام فخر الدين محمد بن علي المصري المعروف بابن كاتب قطلوبك بمقتضى نزول مدرسها كمال الدين بن الزملكاني له عنها وحضر عنده القضاة والأعيان والخطيب وابن الزملكاني ايضا وفي هذا الشهر كملت عمارة القيسارية المعروفة بالدهشة عند الوراقين واللبادين وسكنها التجار فتميزت بذلك أوقاف الجامع وذلك بمباشرة الصاحب شمس الدين وفي ثامن شوال قتل أحمد الزوسي ! شهد عليه بالعظائم من ترك الواجبات واستحلال المحرمات واستهانته وتنقيصه بالكتاب والسنة فحكم المالكي بإراقة دمه وإن أسلم فاعتقل ثم قتل وفي هذا اليوم كان خروج الركب الشامي وأميره سيف الدين طقتمر وقاضيه قاضي ملطية وحج فيه قاضي حماة وحلب وماردين ومحيي الدين كاتب ملك الامراء تنكز وصهره فخر الدين المصري وممن توفي فيها من الاعيان
شرف الدين أبو عبد الله
محمد بن العدل عماد الدين محمد بن أبي الفضل محمد بن أبي الفتح نصر الله بن المظفر بن أسعد ابن حمزة بن أسد بن علي بن محمد التميمي الدمشقي ابن القلانسي ولد سنة ست وأربعين وستمائة وباشر نظر الخاص وقد شهد قبل ذلك في القيمة ثم تركها وقد ترك اولادا وأموالا جمة توفي ليلة السبت ثاني عشر صفر ودفن بقاسيون الشيخ صفي الدين الهندي
أبو عبد الله محمد بن عبد الرحيم بن محمد الارموي الشافعي المتكلم ولد بالهند سنة اربع وأربعين وستمائة واشتغل على جده لامه وكان فاضلا وخرج من دهلي في رجب سنة سبع وستين فحج (14/74)
وجاور بمكة أشهر ثم دخل اليمن فاعطاه ملكها المظفر أربعمائة دينار ثم دخل مصر فأقام بها أربع سنين ثم سافر إلى الروم على طريق إنطاكية فأقام إحدى عشرة سنة بقونية وبسيواس خمسا وبقيسارية سنة واجتمع بالقاضي سراج الدين فأكرمه ثم قدم إلى دمشق في سنة خمس وثمانين فأقام بها وساتوطنها ودرس بالرواحية والدولعية والظاهرية والاتابكية وصنف في الاصول والكلام وتصدى للاشتغال والافتاء ووقف كتبه بدار الحديث الاشرفية وكان فيه بر وصلة توفي ليلة الثلاثاء تاسع عشرين صفر ودفن بمقابر الصوفية ولم يكن معه وقت موته سوى الظاهرية وبها مات فدرس بعده فيها ابن الزملكاني وأخذ ابن صصرى الاتابكية
القاضي المسند المعمر الرحلة
تقي الدين سليمان بن حمزة بن أحمد بن عمر بن الشيخ ابي عمر المقدسي الحنبلي الحاكم بدمشق ولد في نصف رجب سنة ثمان وعشرين وستمائة وسمع الحديث الكثير وقرأ بنفسه وتفقه وبرع وولى الحكم وحدث وكان من خيار الناس وأحسنهم خلقا وأكثرهم مروءة توفي فجأة بعد مرجعه من البلد وحكمه بالجوزية فلما صار إلى منزله بالدير تغيرت حاله ومات عقيب صلاة المغرب ليلة الاثنين حادي عشرين ذي القعدة ودفن من الغد بتربة جده وحضر جنازته خلق كثير وجم غفير رحمه الله
الشيخ علي بن الشيخ علي الحريري
كان مقدما في طائفته مات أبوه وعمره سنتان توفي في قرية نسر في جمادي الأولى
الحكيم الفاضل البارع
بهاء الدين عبدالسيد بن المهذب إسحاق بن يحيى الطبيب الكحال المتشرف بالاسلام ثم قرأ القرآن جميعه لأنه أسلم على بصيرة وأسلم على يديه خلق كثير من قومه وغيرهم وكان مباركا على نفسه وعليهم وكان قبل ذلك ديان اليهود فهداه الله تعالى وتوفي يوم الاحد سادس جمادي الآخرة ودفن من يومه بسفح قاسيون أسلم على يدي شيخ الإسلام ابن تيمية لما بين له بطلان دينهم وما هم عليه وما بدلوه من كتابهم وحرفوه من الكلم عن مواضعه رحمه الله
ثم دخلت سنة ست عشرة وسبعمائة
استهلت وحكام البلاد هم المذكورون في التي قبلها غير الحنبلي بدمشق فإنه توفي في السنة الماضية وفي المحرم تكملت تفرقة المثالات السلطانية بمصر بمقتضى إزالة الاجناد وعرض الجيش على السلطان وأبطل السلطان المكس بسائر البلاد القبلية والشامية وفيه وقعت فتنة بين الحنابلة والشافعية بسبب العقائد وترافعوا إلى دمشق فحضروا بدار السعادة عند نائب السلطنة تنكز (14/75)
فأصلح بينهم وانفصل الحال على خير من غير محاققه ولا تشويش على أحد من الفريقين وذلك يوم الثلاثاء سادس عشر المحرم وفي يوم الأحد سادس عشر صفر قرئ تقليد قاضي القضاة شمس الدين أبو عبد الله محمد بن مسلم بن مالك بن مزروع الحنبلي بقضاء الحنابلة والنظر بأوقافهم عوضا عن تقي الدين سليمان بحكم وفاته رحمه الله وتاريخ التقليد من سادس ذي الحجة وقرئ بالجامع الأموي بحضور القضاة والصاحب والاعيان ثم مشوا معه وعليه الخلعة إلى دار السعادة فسلم على النائب وراح إلى الصالحية ثم نزل من الغد إلى الجوزية فحكم بها على عادة من تقدمه واستناب بعد أيام الشيخ شرف الدين بن الحافظ وفي يوم الاثنين سابع صفر وصل الشيخ كمال الدين بن الشريشي من مصر على البريد ومعه توقيع بعود الوكلة إليه فخلع عليه وسلم على النائب والخلعة عليه وفي هذا الشهر مسك الوزير عز الدين بن القلانسي واعتقل بالعذراوية وصودر بخمسين ألفا ثم أطلق له ما كان أخذ منه وأنفصل من ديوان نظر الخاص وفي ربيع الاخر وصل من مصر فضل ابن عيسى وأجرى له ولابن أخيه موسى بن مهنا إقطاعات صيدا وذلك بسبب دخول منها إلى بلاد التتر واجتماعهم بملكهم خربندا
وفي يوم الاثنين سادس عشر جمادي الاولى باشر ابن صصرى مشيخة الشيوخ بالسميساطية بسؤال الصوفية وطلبهم له من نائب السلطنة فحضرها وحضر عنده الأعيان في هذا اليوم عوضا عن الشريف شهاب الدين أبي القاسم محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحيم بن عبد الكريم ابن محمد بن علي بن الحسن بن الحسين بن يحيى بن موسى بن جعفر الصادق وهو الكاشنغر توفي عن ثلاث وستين سنة ودفن بالصوفية وقسي جمادي الآخرة باشر بهاء الدين إبراهيم بن جمال الدين يحيى الحنفي المعروف بابن علية وهو ناظر ديوان النائب بالشام نظر الدواوين عوضا عن شمس الدين محمد ابن عبد القادر الخطيري الحاسب الكاسب توفي وقد كان مباشرا عدة من الجهات الكبار مثل نظر الخزانة ونظر الجامع ونظر المارستان وغير ذلك واستمر نظر المارستان من يومئذ بأيدي ديوان نائب السلطنة من كان وصارت عادة مستمرة وفي رجب نقل صاحب حمص الأمير شهاب الدين قرطاي إلى نيابة طرابلس عوضا عن الأمير سيف الدين التركستاني بحكم وفاته وولى الامير سيف الدين إرقطاي نيابة حمص وتولى نيابة الكرك سيف الدين طقطاي الناصري عوضا عن سيف الدين تيبغا
وفي يوم الاربعاء عاشر رجب درس بالنجيبية القاضي شمس الدين الدمشقي عوضا عن بهاء الدين يوسف بن جمال الدين أحمد بن الظاهري العجمي الحلبي سبط الصاحب كمال الدين بن العديم توفي ودفن عندخاله ووالده بتربة العديم وفي آواخر شعبان وصل القاضي شمس الدين (14/76)
ابن عز الدين يحيى الحراني أخو قاضي قضاة الحنابلة بمصر شرف الدين عبدالغني إلى دمشق متوليا نظر الاوقاف بها عوضا عن الصاحب عز الدين أحمد بن محمد بن أحمد بن مبشر توفي في مستهل رجب بدمشق وقد باشر نظر الدواوين بها وبمصر والحسبة وبالاسكندرية وغير ذلك ولم يكن بقي معه في آخر وقت سوى نظر الاوقاف بدمشق وقد قارب الثمانين ودفن باقسيون
وفي آخر شوال خرج الركب الشامي وأميرهم سيف الدين أرغون السلحدار الناصري الساكن عند دار الطراز بدمشق وحج من مصر سيف الدين الدوادار وقاضي القضاة ابن جماعة وقد زار القدس الشريف في هذه السنة بعد وفاة ولده الخطيب جمال الدين عبد الله وكان قد رأس وعظم شأنه وفي ذي القعدة سار الامير سيف الدين تنكز إلى زيارة القدس فغاب عشرين يوما وفيه وصل الأمير سيف الدين بكتمر الحاجب إلى دمشق من مصر وقد كان معتقلا في السجن فأطلق وأكرم وولى نيابة صفد فسار إليها بعد ما قضى أشغاله بدمشق ونقل القاضي حسام الدين القزويني من قضاء صفد إلى قضاء طرابلس وأعيدت ولاية قضاء صفد إلى قاضي دمشق فولى فيها ابن صصرى شرف الدين الهاوندي وكان متوليا طرابلس قبل ذلك ووصل مع بكتمر الحاجب الطواشي ظهير الدين مختار المعروف بالزرعي متوليا الخزانة بالقعلة عوضا عن الطواشي ظهير الدين مختار البلستين توفي
وفي هذا الشهر أعني ذا القعدة وصلت الاخبار بموت ملك التتر خربندا محمد بن أرغون بن أبغا ابن هولاكوقان ملك العراق وخراسان وعراق العجم والروم وأذربيجان والبلاد الأرمينية وديار بكر توفي في السابع والعشرين من رمضان وفدن بتربته بالمدنية التي أنشأها التي يقال لها السلطانية وقد جاوز الثلاثين من العمر وكان موصوفا بالكرم ومحبا للهو واللعب والعمائر وأظهر الرفض أقام سنة على السنة ثم تحول إلى الرفض أقام شعائره في بلاده وحظى عنده الشيخ جمال الدين بن مطهر الحلي تلميذ نصير الدين الطوسي وأقطعه عدة بلاد ولم يزل على هذا المذهب الفاسد إلى أن مات في هذه السنة وقد جرت في أيامه فتن كبار ومصائب عظام فاراح الله منه العباد والبلاد وقام في الملك بعده ولده أبو سعيد وله إحدى عشرة سنة ومدبر الجيوش والممالك له الامير جوبان واستمر في الوزارة على شاه النيريزي وأخذ أهل دولته بالمصادرة وقتل الاعيان ممن أتهمهم بقتل أبيه مسموما ولعب كثير من الناس به في أول دولته ثم عدل إلى العدل وإقامة السنة فأمر بإقامة الخطبة بالترضي عن الشيخين أولا ثم عثمان ثم على رضى الله عنهم ففرح الناس بذلك وسكنت بذلك الفتن والشرور والقتال الذي كان بين أهل تلك البلاد وبهراة واصبهان وبغداد وإربل وساوه وغير ذلك وكان صاحب مكة الامير خميصة بن أبي نمي الحسني قد قصد ملك التتر حربندا (14/77)
لينصره على أهل مكة فساعده الروافض هناك وجهزوا معه جيشا كثيفا من خراسان فلما مات خربندا بطل ذلك بالكلية وعاد خميصة خائبا خاسئا وفي صحبته أمير من كبار الروافض من التتر يقال له الدلقندي وقد جمع لخميصة أموالا كثيرة ليقيم بها الرفض في بلاد الحجاز فوقع بهما الامير محمد بن عيسى أخو مهنا وقد كان في بلاد التتر أيضا ومعه جماعة من العرب فقهرهما ومن كان معهما ونهب ما كان معهما من الاموال وحضرت الرجال وبلغت أخبار ذلك إلى الدولة الاسلامية فرضى عنه الملك الناصر وأهل دولته وغسل ذلك ذنبه عنده فاستدعى به السلطان إلى حضرته فحضر سامعا مطيعا فأكرمه نائب الشام فلما وصل إلى السلطان أكرمه أيضا ثم إنه استفتى الشيخ تقي الدين بن تيمية وكذلك ارسل إليه السلطان يسأله عن الأموال التي أخذت من الدلقندي فأفتاهم أنها تصرف في المصالح التي يعود نفعها على المسلمين لأنها كانت معدة لعناد الحق ونصرة أهل البدعة على السنة وممن توفي فيها من الأعيان
عز الدين المبشر والشهاب الكاشنغيري شيخ الشيوخ والبهاء العجمي مدرس النجيبية
وفيها قتل خطيب المزة قتله رجل جبلي ضربه بفأس اللحام في رأسه في السوق فبقي أياما ومات وأخذ القاتل فشنق في السوق الذي قتل فيه وذلك يوم الأحد ثالث عشر ربيع الاخر ودفن هناك وقد جاوز الستين
الشرف صالح بن محمد بن عربشاه
ابن أبي بكر الهمداني مات في جمادي الاخرة ودفن بمقابر النيرب وكان مشهورا بطيب القراءة وحسن السيرة وقد سمع الحديث وروى جزءا
ابن عرفة صاحب التذكرة الكندية
الشيخ الامام المقرئ المحدث النحوي الاديب علاء الدين علي بن المظفر بن إبراهيم بن عمر ابن زيد بن هبة الله الكندي الاسكندراني ثم الدمشقي سمع الحديث على أزيد من مائتي شيخ وقرأ القراءات السبع وحصل علوما جيدة ونظم الشعر الحسن الرائق الفائق وجمع كتابا في نحو من خمسين مجلدا فيه علوم جمة أكثرها أدبيات سماها التذكرة الكندية وقفها بالسميساطية وكتب حسنا وحسب جيدا وخدم في عدة خدم وولى مشيخة دار الحديث النفيسية في مدة عشر سنين وقرأ صحيح البخاري مرات عديدة وأسمع الحديث وكان يلوذ بشيخ الاسلام ابن تيمية وتوفي ببستان عند قبة المسجد ليلة الاربعاء سابع عشر رجب ودفن بالمزة عن ست وسبعين سنة
الطواشي ظهير الدين مختار
البكنسي الخزندار بالقلعة وأحد أمراء الطبلخانات بدمشق كان زكيا خبيرا فاضلا يحفظ القرآن يؤديه بصوت طيب ووقف مكتبا للايتام على باب قلعة دمشق ورتب لهم الكسوة (14/78)
الجامكية وكان يمنحنهم بنفسه ويفرح بهم وعمل تربة خارج باب الجابية ووقف عليها القريتين وبنى عندها مسجدا حسنا ووقفه بإمام وهي من أوائل ما عمل من الترب بذلك الخط ودفن بها في يوم الخميس عاشر شعبان رحمه الله وكان حسن الشكل والأخلاق عليه سكينة ووقار وهيبة وله وجاهة في الدولة سامحه الله وولى بعده الخزانة سميه ظهير الدين مختار الزرعي
الامير بدر الدين
محمد بن الوزيري كان من الامراء المقدمين ولديه فضيلة ومعرفة وخبرة وقد ناب عن السلطان بدار العدل مرة بمصر وكان حاجب الميسرة وتكلم في الأوقاف وفيما يتعلق بالقضاة والمدرسين ثم نقل إلى دمشق فمات بها في سادس عشر شعبان ودفن بميدان الحصى فوق خان النجيبي وخلف تركة عظيمة
الشيخة الصالحة
ست الوزراء بنت عمر بن أسعد بن المنجا راوية صحيح البخاري وغيره جاوزت التسعين سنة وكانت من الصالحات توفيت ليلة الخميس ثامن عشر شعبان ودفنت بتربتهم فوق جامع المظفري بقاسيون
القاضي محب الدين
ابو الحسن ابن قاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد استنابه أبوه في أيامه وزوجه بابنة الحاكم بأمر الله ودرس باللهارية ورأس بعد أبيه وكانت وفاته يوم الاثنين تاسع عشر رمضان وقد قارب الستين ودفن عند أبيه بالقرافة الشيخة الصالحة
ست المنعم بنت عبد الرحمن بن علي بن عبدوس الحرانية والدة الشيخ تقي الدين بن تيمية عمرت فوق السبعين سنة ولم ترزق بنتا قط توفيت يوم الأربعاء العشرين من شوال ودفنت بالصوفية وحضر جنازتها خلق كثير وجم غفير رحمها الله
الشيخ نجم الدين موسى بن علي بن محمد
الجيلي ثم الدمشقي الكاتب الفاضل المعروف بابن البصيص شيخ صناعة الكتابة في زمانه لا سيما في المزوج والمثلث وقد اقام يكتب الناس خمسين سنة وأنا ممن كتب عليه أثابه الله وكان شيخا حسنا بهى المنظر يشعر جيدا توفي يوم الثلاثاء عاشر ذي القعدة ودفن بمقابر الباب الصغير وله خمس وستون سنة
الشيخ تقي الدين الموصلي
أبو بكر بن أبي الكرم شيخ القراءة عند محراب الصحابة وشيخ ميعاد ابن عامر مدة طويلة وقد انتفع الناس به نحوا من خمسين سنة في التلقين والقراءآت وختم خلقا كثيرا وكان يقصد لذلك ويجمع تصديقات يقولها الصبيان ليالي ختمهم وقد سمع الحديث وكان خيرا دينا توفي (14/79)
ليلة الثلاثاء سابع عشر ذي القعدة ودفن بباب الصغير رحمه الله
الشيخ الصالح الزاهد المقري
أبو عبد الله محمد بن الخطيب سلامة بن سالم بن الحسن بن ينبوب الماليني احد الصلحاء المشهورين بجامع دمشق سمع الحديث وأقرأ الناس نحوا من خمسين سنة وكان يفصح الاولاد في الحروف الصعبة وكان مبتلي في فمه يحمل طاسة تحت فمه من كثرة ما يسيل منه من الريال وغيره وقد جاوز الثمانين بأربع سنين توفي بالمدرسة الصارمية يوم الاحد ثاني عشر ذي القعدة ودفن بباب الصغير بالقرب من القندلاوي وحضر جنازته خلق كثير جدا نحوا من عشرة آلاف رحمه الله تعالى
الشيخ الصدر بن الوكيل
هو العلامة أبو عبد الله محمد بن الشيخ الامام مفتي المسلمين زين الدين عمر بن مكي بن عبدالصمد المعروف بابن المرحل وبابن الوكيل شيخ الشافعية في زمانه وأشهرهم في وقته بالفضيلة وكثرة الاشتغال والمطالعة والتحصيل والاقتنان بالعلوم العديدة وقد أجاد معرفة المذهب والأصلين ولم يكن بالنحو بذاك القوى وكان يقع منه اللحن الكثير مع أنه قرا منه المفصل للزمخشري وكانت له محفوظات كثيرة ولد في شوال سنة خمس وستين وستمائة وسمع الحديث على المشايخ من ذلك مسند أحمد علي ابن علان والكتب الستة وقرئ عليه قطعة كبيرة من صحيح مسلم بدار الحديث عن الأمير الأربلي والعامري والمزي وكان يتكلم على الحديث بكلام مجموع من علوم كثيرة من الطب والفلسفة وعلم الكلام وليس ذلك بعلم وعلوم الأوائل وكان يكثر من ذلك وكان يقول الشعر جيدا وله ديوان مجموع مشتمل على أشياء لطيفة وكان له أصحاب يحسدونه ويحبونه وآخرون يحسدونه ويبغضونه وكانوا يتكلمون فيه بأشياء ويرمونه بالعظام وقد كان مسرفا على نفسه قد ألقى جلباب الحياء فيما يتعاطاه من القاذورات والفواحش وكان ينصب العداوة للشيخ ابن تيمية ويناظره في كثير من المحافل والمجالس وكان يعترف للشيخ تقي الدين بالعلوم الباهرة ويثنى عليه ولكنه كان يجاحف عن مذهبه وناحيته وهواه وينافح عن طائقته وقد كان شيخ الاسلام ابن تيمية يثنى عليه وعلى علومه وفضائله ويشهد له بالاسلام إذا قيل له عن أفعاله وأعماله القبيحة وكان يقول كان مخلطا على نفسه متبعا مراد الشيطان منه يميل إلى الشهوة والمحاضرة ولم يكن كما يقول فيه بعض أصحابه ممن يحسده ويتكلم فيه هذا أو ما هو في معناه وقد درس بعدة مدارس بمصر والشام ودرس بدمشق بالشاميتين والعذراوية ودار الحديث الأشرفية وولى في وقت الخطابة أياما يسيرة كما تقدم ثم قام الخلق عليه وأخرجوها من يده ولم يرق منبرها ثم خالط نائب السلطنة الأفرم فجرت له أمور لا يمكن ذكرها ولا يحسبن من القبائح (14/80)