مؤنسا فركب وهو كارة وبين يديه الفقهاء ومعهم المصاحف المنشورة وعليه البردة والناس حوله فوقف على تل عال بعيد من المعركة ونودي في الناس من جاء برأس فله خمسة دنانير ومن جاء بأسير له عشرة دنانير ثم بعث إلى أمراؤه يعزمون عليه أن يتقدم فامتنع من التقدم إلى محل المعركة ثم ألحوا عليه فجاء بعد تمنع شديد فما وصل اليهم حتى انهزموا وفروا راجعين ولم يلتفتوا إليه ولا عطفوا عليه فجاء بعد تمنع شديد فما وصل إليهم حتى انهزموا وفروا راجعين ولم يلتفتوا إليه ولا عطفوا عليه فكان أول من لقيه من أمراء مؤنس علي بن بليق فلما رآه ترجل وقبل الأرض بين يديه وقال لعن الله من أشار عليك بالخروج في هذا اليوم ثم وكل به قوما من المغاربة البربر فلما تركهم وإياه شهروا عليه السلاح فقال لهم ويلكم أنا الخليفة فقالوا قد عرفناك يا سفلة إنما أنت خليفة إبليس تنادي في جيشك من جاء برأس فله خمسة دنانير وضربه أحدهم بسيفه على عاتقه فسقط إلى الأرض وذبحه آخر وتركوا جثته وقد سلبوه كل شيء كان عليه حتى سراويله وبقي مكشوف العورة مجندلا على الأرض حتى جاء رجل فغطى عورته بحشيش ثم دفنه في موضعه وعفا أثره وأخذت المغاربة رأس المقتدر على خشبة قد رفعوها وهم يلعنونه فلما انتهوا به إلى مؤنس ولم يكن حاضرا الوقعة فحين نظر إليه لطم رأس نفسه ووجهه وقال ويلكم والله لم آمركم بهذا لعنكم الله والله لنقتلن كلنا ثم ركب ووقف عند دار الخلافة حتى لا تنهب وهرب عبدالواحد بن المقتدر وهارون بن عريب وأبناء رايق إلى المدائن وكان فعل مؤنس هذا سببا لطمع ملوك الأطراف في الخلفاء وضعف أمر الخلافة جدا مع ما كان المقتدر يعتمده في التبذير والتفريط في الأموال وطاعة النساء وعزل الوزراء حتى قيل إن جملة ما صرفه في الوجوه الفاسدة ما يقارب ثمانين ألف ألف دينار
ترجمة المقتدر بالله
هو جعفر بن أحمد المعتضد بالله أحمد بن أبي أحمد الموفق بن جعفر المتوكل على الله بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد يكنى أبا الفضل أمير المؤمنين العباسي مولده في ليلة الجمعة لثمان بقين من رمضان سنة ثنتين وثمانين ومائتين وأمه أم ولد اسمها شغب ولقبت في خلافة ولدها بالسيدة بويع له بالخلافة بعد أخيه المكتفي يوم الأحد لأربع عشرة مضت من ذي القعدة سنة خمس وتعسين ومائتين وهو يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة وشهر وأيام ولهذا أراد الجند خلعه في ربيع الأول من سنة ست وتسعين محتجين بصغره وعدم بلوغه وتولية عبدالله بن المعتز فلم يتم ذلك وانتقض الأمر في ثاني يوم كما ذكرنا ثم خلعوه في المحرم من سنة سبع عشرة وثلثمائة وولوا أخاه محمدا القاهر كما تقدم فلم يتم ذلك سوى يومين ثم رجع إلى الخلافة كما ذكرنا وقد كان المقتدر ربعة من الرجال حسن الوجه والعينين بعيد ما بين المنكبين حسن الشعر مدور الوجه مشربا بحمرة حسن الخلف قد شاب رأسه وعارضاه وقد كان معطاءا جوادا وله عقل جيد وفهم وافر وذهن صحيح (11/169)
وقد كان كثير التحجب والتوسع في النفقات وزاد في رسوم الخلافة وأمور الرياسة وما زاد شيء إلا نقص كان في داره إحدى عشر ألف خادم خصي غير الصقالبة وأبناء فارس والروم والسودان وكان له دار يقال لها دار الشجرة بها من الأثاث والأمتعة شيء كثير جدا كما ذكرنا ذلك في سنة خمس حين قدم رسول ملك الروم وقد ركب المقتدر يوما في حراقة وجعل يستعجل الطعام فأبطأوا به فقال للملاح ويحك هل عندك شيء آكل قال نعم فأتاه بشيء من لحم الجدي وخبز حسن وملوحا وغير ذلك فأعجبه ثم استدعاه فقال هل عندك شيء من الحلواء فإني لا أحسن بالشبع حتى آكل شيئا من الحلواء فقال يا أمير المؤمنين إن حلواءنا التمر والكسب فقال هذا شيء لا أطيقه ثم جيء بطعام فأكل منه وأوتي بالحواءات فأكل وأطعم الملاحين وأمر أن يعمل كل في الحراقة بمائتي درهم حتى إذا اتفق ركوبه فيها أكل منها وإن لم يتفق ركوبه كانت للملاح وكان الملاح يأخذ ذلك في كل يوم عدة سنين متعددة ولم يتفق ركوبه مرة أخرى أبدا وقد أراد بعض خواصه أن يطهر ولده فعمل أشياء هائلة ثم طلب من أم الخليفة أن يعار القرية التي عملت في طهور المقتدر من فضة ليراها الناس في هذا المهم فتلطفت أم المقتدر عند ولدها حتى أطلقها له بالكلية وكان صفة قرية من القرى كلها من فضة بيوتها وأعاليقها وأبقارها وجمالها ودوابها وطيورها وخيولها وزروعها وثمارها وأشجارها وأنهارها وما يتبع ذلك مما يكون في القرى الجميع من فضة مصور وأمر بنقل سماطه إلى دار هذا الرجل وأن لا يكلف شيء من المطاعم سوى سمك طري فاشترى الرجل بثلثمائة دينار سمكا طريا وكان جملة ما أنفق الرجل على سماط المقتدر ألفا وخمسمائة دينار والجميع من عند المقتدر وكان كثير الصدقة والإحسان إلى أهل الحرمين وأربابا الوظائف وكان كثير التنفل بالصلاة والصوم والعبادة ولكنه كان مؤثرا لشهواته مطيعا لخصاياه كثير العزل والولاية والتلون وما زال ذلك دأبه حتى كان هلاكه على يدي غلمان مؤنس الخادم فقتل عند باب الشماسية لليلتين بقيتا من شوال من هذه السنة أعني سنة ثلثمائة وعشرين وله من العمر ثمان وثلاثون سنة وكانت مدة خلافته أربعا وعشرين سنة وإحدى عشر شهرا وأربعة عشر يوما كان أكثر مدة ممن تقدمه من الخلفاء
خلافة القاهر
لما قتل المقتدر بالله عزم مؤنس على تولية أبي العباس بن المقتدر بعد أبيه ليطيب قلب أم المقتدر فعدل عن ذلك جمهور من حضر من الأمراء فقال أبو يعقوب إسحاق بن إسماعيل النوبختي بعد التعب والنكد نبايع لخليفة صبي له أم وخالات يطيعهن ويشاورهن ثم أحضروا محمد بن المعتضد وهو أخو المقتدر فبايعه القضاة والأمراء والوزراء ولقبوه بالقاهر بالله وذلك في سحر (11/170)
يوم الخميس لليلتين بقيتا من شوال منها واستوزر أبا علي بن مقلة ثم أبا جعفر محمد بن القاسم بن عبدالله ثم أبا العباس ثم الخصيبي وشرع القاهر في مصادرة أصحاب المقتدر وتتبع أولاده واستدعى بأم المقتدر وهي مريضة بالاستسقاء وقد تزايد بها الوجع من شدة جزعها على ولدها حين بلغها قتله وكيف بقي مكشوف العورة فبقيت أياما لا تأكل شيئا ثم وعظها النساء حتى أكلت شيئا يسيرا من الخبز والملح ومع هذا كله استدعى بها القاهر فقررها على أموالها فذكرت له ما يكون للنساء من الحلي والمصاغ والثياب ولم تقر بشيء من الأموال والجواهر وقالت له لو كان عندي من هذا شيء ما سلمت ولدي فأمر بضربها وعلقت برجليها ومسها بعذاب شديد من العقوبة فأشهدت على نفسها ببيع أملاكها فأخذه الجند مما يحاسبون به من أرزاقهم وأرادها على بيع أوقافها فامتنعت من ذلك وأبت أشد الأباء ثم استدعى القاهر بجماعة من أولاد المقتدر منهم أبو العباس وهارون والعباس وعلي والفضل وإبراهيم فأمر بمصادرتهم وحبسهم وسلمهم إلى حاجبه علي بن بليق وتمكن الوزير علي بن مقلة فعزل وولى وأخذ وأعطى أياما ومنع البريدي من عمالتهم وفيها توفي من الأعيان
أحمد بن عمير بن جوصا
أبو الحسن الدمشقي أحد المحدثين الحفاظ والرواة الأيقاظ وإبراهيم بن محمد بن علي بن بطحاء بن علي بن مقلة أبو إسحاق التميمي المحتسب ببغداد روى عن عباس الدوري وعلي بن حرب وغيرهما وكان ثقة فاضلا مر يوما على القاضي أبي عمر محمد بن يوسف والخصوم عكوف على بابه والشمس قد ارتفعت عليهم فبعث حاجبه إليه يقول له إما أن تخرج فتفصل بين الخصوم وإما أن تبعث فتعتذر إليهم إن كان لك عذر حتى يعودوا إليك بعد هذا الوقت
أبو علي بن خيزران
الفقيه الشافعي أحد أئمة المذهب واسمه الحسين بن صالح بن خيزران الفقيه الكبير الورع عرض عليه منصب القضاء فلم يقبل فختم عليه الوزير علي بن عيسى على بابه ستة عشر يوما حتى لم يجد أهله ماء إلا من بيوت الجيران وهو مع ذلك يمتنع عليهم ولم يل لهم شيئا فقال الوزير إنما أردنا أن نعلم الناس أن ببلدنا وفي مملكتنا من عرض عليه قضاء قضاة الدنيا في المشارق والمغارب فلم يقبل وقد كانت وفاته في ذي الحجة منها وقد ذكرنا ترجمته في طبقات الشافعية بما فيه كفاية عبدالملك بن محمد بن عدي الفقيه الاستراباذي أحد أئمة المسلمين والحفاظ المحدثين وقد ذكرناه أيضا في طبقات الشافعية
القاضي أبو عمر المالكي محمد بن يوسف
ابن إسماعيل بن حماد بن زيد أبو عمر القاضي ببغداد ومعاملاتها في سائر البلاد كان من أئمة (11/171)
الإسلام علما ومعرفة وفصاحة وبلاغة وعقلا ورياسة بحيث كان يضرب بعقله المثل وقد روى الكثير عن المشايخ وحدث عنه الدارقطني وغيره من الحفاظ وحمل الناس عنه علما كثيرا من الفقه والحديث وقد جمع قضاء القضاة في سنة سبع عشرة وثلاثمائة وله مصنفات كثيرة وجمع مسندا حافلا وكان إذا جلس للحديث جلس أبو القاسم البغوي عن يمينه وهو قريب من سن أبيه وجلس عن يساره أيضا ابن صاعد وبين يديه أبو بكر النيسابوري وسائر الحفاظ حول سريره من كل جانب قالوا ولم ينتقد عليه حكم من أحكامه أخطأ فيه قط قلت وكان من أكبر صواب أحكامه وأصوبها قتله الحسين بن منصور الحلاج في سنة تسع وثلثمائة كما تقدم وكان القاضي أبو عمر هذا جميل الأخلاق حسن المعاشرة اجتمع عنده يوما أصحابه فجيء بثوب فاخر ليشتريه بنحو من خمسين دينارا فاستحسنه الحاضرون فدعا بالقلانسي وأمره أن يقطع ذلك الثوب قلانس بعدد الحاضرين وله مناقب ومحاسن جمة رحمه الله تعالى توفي في رمضان منها عن ثمان وسبعين سنة وقد رآه بعضهم في المنام فقال له ما فعل بك ربك فقال غفر لي بدعوة الرجل الصالح إبراهيم الحربي
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وثلثمائة
في صفر منها أحضر القاهر رجلا كان يقطع الطريق فضرب بين يديه ألف سوط ثم ضربت عنقه وقطع أيدي أصحابه وأرجلهم وفيها أمر القاهر بإبطال الخمر والمغاني والقيان وأمر ببيع الجواري المغنيات بسوق النخس على أنهن سواذج قال ابن الأثير وإنما فعل ذلك لأنه كان محبا للغناء فأراد أن يشتريهن برخص الأثمان نعوذ بالله من هذه الأخلاق وفيها أشاعت العامة بينهم بأن الحاجب علي بن بليق يريد أن يلعن معاوية على المنابر فلما بلغ الحاجب ذلك بعث إلى رئيس الحنابلة البربهاري أبي محمد الواعظ ليقابله على ذلك فهرب واختفى فأمر بجماعة من أصحابه فنفوا إلى البصرة وفيها عظم الخليفة وزيره على بن مقلة وخاطبه بالاحترام والإكرام ثم إن الوزير ومؤنسا الخادم وعلي بن بليق وجماعة من الأمراء اشتوروا فيما بينهم على خلع القاهر وتولية أبي أحمد المكتفي وبايعوه سرا فيما بينهم وضيقوا على القاهر بالله في رزقه وعلى من يجتمع به وأرادوا القبض عليه سريعا فبلغ ذلك القاهر بلغه طريف اليشكري فسعى في القبض عليهم فوقع في مخالبه الأمير المظفر مؤنس الخادم فأمر بحبسه قبل أن يراه والاحتياط على دوره وأملاكه وكانت فيه عجلة وجرأة وطيش وهوج وخرق شديد وجعل في منزلته أمير الأمراء ورياسة الجيش طريفا اليشكري وقد كان أحد الأعداء لمؤنس الخادم قبل ذلك وقبض على بليق واختفى ولده علي بن بليق وهرب الوزير بن مقلة فاستوزر مكانه أبا جعفر محمد بن القاسم بن عبيدالله في مستهل شعبان وخلع عليه وأمر بتحريق دار ابن مقلة ووقع النهب ببغداد وهاجت الفتنة وأمر (11/172)
القاهر بأن يجعل أبو أحمد المكتفي بين حائطين ويسد عليه بالآجر والكلس وهو حي فمات وأرسل منادي على المختفين إن من أخفاهم قتل وخربت داره فوقع بعلي بن بليق فذبح بين يديه كما تذبح الشاة فأخذ رأسه في طست ودخل به القاهر على أبيه بليق بنفسه فوضع رأس ابنه بين يديه فلما رآه بكى وأخذ يقبله ويترشفه فأمر بذبحه أيضا فذبح ثم أخذ الرأسين في طستين فدخل بهما على مؤنس الخادم فلما رآهما تشهد ولعن قاتلهما فقال القاهر جروا برجل الكلب فأخذ فذبح أيضا وأخذ رأسه فوضع في طست وطيف بالرؤس في بغداد ونودي عليهم هذا جزاء من يخون الإمام ويسعى في الدولة فسادا ثم أعيدت الرؤس إلى خزائن السلاح وفي ذي القعدة منها قبض القاهر على الوزير أبي جعفر محمد بن القاسم وسجنه وكان مريضا بالقولنج فبقي ثمانية عشر يوما ومات وكانت وزارته ثلاثة أشهر واثنى عشر يوما واستوزر مكانه أبا العباس أحمد بن عبدالله بن سليمان الخصيبي ثم قبض على طريف اليشكري الذي تعاون على مؤنس وابن بليق وسجنه ولهذا قيل من أعان ظالما سلطه الله عليه فلم يزل اليشكري في الحبس حتى خلع القاهر وفيها جاء الخبر بموت العامل بديار مصر وأن ابنه محمدا قد قام مقامه فيها وسارت الخلع إليه من القاهر بتنفيذ الولاية واستقراره
ابتداء أمر بني بويه وظهور دولتهم
وهم ثلاثة إخوة عماد الدولة أبو الحسن علي وركن الدولة أبو علي الحسن ومعر الدولة أبو الحسين أحمد أولاد أبي شجاع بويه بن قباخسروبن تمام بن كوهى بن شير زيل الأصغر بن شيركيده ابن شيرزيل الأكبر بن شيران شاه بن شيرويه بن سيسان شاه بن سيس بن فيروز بن شيرزيل بن سيسان بن بهرام جور الملك بن يزد جرد الملك بن سابور الملك بن سابور ذي الاكتاف الفارسي كذا نسبهم الأمير أبو نصر بن ماكولا في كتابه وإنما قيل لهم الديالمة لأنهم جاوروا الديلم وكانوا بين أظهرهم مدة وقد كان ابوهم أبو شجاع بويه فقيرا مدقعا يصطاد السمك ويحتطب بنوه الحطب على رؤسهم وقد ماتت امرأته وخلفت له هؤلاء الأولاد الثلاثة فحزن عليها وعليهم فبينما هو يوما عند بعض أصحابه وهو شهريار بن رستم الديلمي إذ مر منجم فاستدعاه فقال له إني رأيت مناما غريبا أحب أن نفسره لي رأيت كأني أبول فخرج من ذكري نار عظيمة حتى كادت تبلغ عنان السماء ثم انفرقت ثلاث شعب ثم انتشرت كل شعبة حتى صارت شعبا كثيرة فأضاءت الدنيا بتلك النار ورأيت البلاد والعباد قد خضعت لهذه النار فقال له المنجم هذا منام عظيم لا أفسره لك إلا بمال جزيل فقال والله لا شيء عندي أعطيك ولا أملك إلا فرسي هذه فقال هذا يدل على أنه يملك من صلبك ثلاثة ملوك ثم يكون من سلالة كل واحد منهم ملوك عدة فقال له ويحك أتسخر بي وأمر بنيه فصفعوه ثم أعطاه عشرة دراهم فقال لهم المنجم اذكروا هذا إذا قدمت عليكم (11/173)
وأنتم ملوك وخرج وتركهم وهذا من أعجب الأشياء وذلك أن هؤلاء الأخوة الثلاثة كانوا عند ملك يقال له ( ماكان بن كاني ) في بلاد طبرستان فتسلط عليه مرداويح فضعف ( ماكان ) فتشاوروا في مفارقته حتى يكون من أمره ما يكون فخرجوا عنه ومعهم جماعة من الأمراء فصاروا إلى مرادويح فأكرمهم واستعملهم على الأعمال في البلدان فأعطى عماد الدولة على بويه نيابة الكرخ فأحسن فيها السيرة والتف عليه الناس وأحبوه فحسده مردوايح وبعث إليه بعزله عنها ويستدعيه إليه فامتنع من القدوم عليه وصار إلى أصبهان فحاربه نائبها فهزمه عماد الدولة هزيمة منكرة واستولى على أصبهان وإنما كان معه سبعمائة فارس فقهر بها عشرة آلاف فارس وعظم في أعين الناس فلما بلغ ذلك مرداويح قلق منه فأرسل إليه جيشا فأخرجوه من أصبهان فقصد أذربيجان فأخذها من نائبها وحصل له من الأموال شيء كثير جدا ثم أخذ بلدانا كثيرة واشتهر أمره وبعد صيته وحسنت سيرته فقصده الناس محبة وتعظيما فاجتمع إليه من الجند خلق كثير وجم غفير فلم يزل يترقى في مراقي الدنيا حتى آل به وبأخويه الحال إلى أن ملكوا بغداد من أيدي الخلفاء العباسيين وصار لهم فيها القطع والوصل والولاية والعزل واليهم تجبى الأموال ويرجع إليهم في سائر الأمور والأحوال على ما سنذكر ذلك مبسوطا والله المستعان وفيها توفي من الأعيان
أحمد بن محمد بن سلامة
ابن سلمة بن عبدالملك أبو جعفر الطحاوي نسبة إلى قرية بصعيد مصر الفقيه الحنفي صاحب المصنفات المفيدة والفوائد الغزيرة وهو أحد الثقات الأثبات والحفاظ الجهابذة وطحا بلدة بدريا مصر وهو ابن أخت المزني توفي في مستهل ذي القعدة منها عن ثنتين وثمانين سنة وذكر أبو سعيد السمعاني أنه ولد في سنة تسع وعشرين ومائتين فعلى هذا يكون قد جاوز التسعين والله أعلم وذكر ابن خلكان في الوفيات أن سبب انتقاله إلى مذهب أبي حنيفة ورجوعه عن مذهب خاله المزني أن خاله قال له يوما والله لا يجيء منك شيء فغضب وتركه واشتغل على أبي جعفر بن أبي عمران الحنفي حتى برع وفاق أهل زمانه وصنف كتبا كثيرة منها أحكام القرآن واختلاف العلماء ومعاني الآثار والتاريخ الكبير وله في الشروط كتاب وكان بارعا فيها وقد كتب للقاضي أبي عبدالله محمد بن عبدالله وعدله القاضي أبو عبيد بن حربويه وكان يقول رحم الله المزني لو كان حيا لكفر عن يمينه توفي في مستهل ذي القعدة كما تقدم ودفن بالقرافة وقبره مشهور بها رحمه الله وقد ترجمه ابن عساكر وذكر انه قد قدم دمشق سنة ثمان وستين ومائتين وأخذ الفقه عن قاضيها أبي حازم
أحمد بن محمد بن موسى بن النضر
ابن حكيم بن علي بن زربي أبو بكر المعروف بابن أبي حامد صاحب بيت المال سمع عباسا الدوري (11/174)
وخلقا وعنه الدارقطني وكان ثقة صدوقا جوادا ممدحا اتفق في أيامه أن رجلا من أهل العلم كانت له جارية يحبها حبا شديدا فركبته ديون اقتضت بيع تلك الجارية في الدين فلما أن قبض ثمنها ندم ندامة شديدة على فراقها وبقي متحيرا في أمره ثم باعها الذي اشتراها فوصلت إلى ابن أبي حامد هذا وهو صاحب بيت المال فتشفع صاحبها الأول الذي باعها في الدين ببعض أصحاب ابن أبي حامد في أن يردها إليه بثمنها وذكر له أنه يحبها وأنه من أهل العلم وإنما باعها في دين ركبه لم يجد له وفاء فلما قال له ذلك لم يكن عند ابن أبي حامد شعور بما ذكر له من أمر الجارية وذلك أن امرأته كان اشترتها له ولم تعلمه بعد بأمرها حتى تحل من استبرائها وكان ذلك اليوم آخر الاستبراء فألبستها الحلي والمصاغ وصنتعها له وهيأتها حتى صارت كأنها فلقة قمر وكانت حسناء فحين شفع صاحبه فيها وذكر أمرها بهت لعدم علمه بها ثم دخل على أهله يستكشف خبرها من امرأته فإذا قد هيئت له فلما رآها على تلك الصفة فرح فرحا شديدا إذ وجدها كذلك من أجل سيدها الأول الذي تشفع فيه صاحبه فأخرجها معه وهو يظهر السرور وامرأته تظن أنه إنما أخذها ليطأها فأتى بها إلى ذلك الرجل بحليها وزينتها فقال له هذه جاريتك فلما رآها على تلك الصفة في ذلك الحلي والزينة مع الحسن الباهر اضطرب كلامه واختلط في عقله مما رأى من حسن منظرها وهيئتها فقال نعم فقال خذها بارك الله لك فيها ففرح الفتى بها فرحا شديدا وقال سيدي تأمر بمن يحمل ثمنها إليك فقال لا حاجة لنا بثمنها وأنت في حل منه أنفقه عليك وعليها فإني أخشى أن تفتقر فتبيعها لمن لا يردها عليك فقال يا سيدي وهذا الحلي والمصاغ الذي عليها فقال هذا شيء وهبناه لها لا نرجع فيه ولا يعود إلينا أبدا فدعا له واشتد فرحه بها جدا وأخذها وذهب فلما أراد أن يودع ابن أبي حامد قال ابن أبي حامد للجارية أيما أحب إليك نحن أو سيدك فقالت أما أنتم فقد أحسنتم إلى وأعنتموني فجزاكم الله خيرا وأما سيدي هذا فلو أني ملكت منه ما ملك مني لم أبعه بالأموال الجزيلة ولا فرطت فيه أبدا فاستحسن الحاضرون كلامها وأعجبهم ذلك من قولها مع صغر سنها
شغب أم أمير المؤمنين المقتدر بالله الملقبة بالسيدة
كان دخلها من أملاكها في كل سنة ألف ألف دينار فكانت تتصدق بأكثر ذلك على الحجيج في أشربة وأزواد وأطباء يكونون معهم وفي تسهيل الطرقات والموارد وكانت في غاية الحشمة والرياسة ونفوذ الكلمة أيام ولدها فلما قتل كانت مريضة فزادها قتله مرضا إلى مرضها ولما استقر أمر القاهر في الخلافة وهو ابن زوجها المعتضد وأخو ابنها المقتدر وقد كانت حضنته حين توفيت أمه وخلصته من ابنها لما أخذت البيعة بالخلافة له ثم رجع ابنها إلى الخلافة فشفعت في القاهر وأخذته إلى عندها (11/175)
فكانت تكرمه وتشتري له الجواري فلما قتل ابنها وتولى مكانه طلبها وهي مريضة فعاقبها عقوبة عظيمة جدا حتى كان يعلقها برجليها ورأسها منكوس فربما بالت فيسيل البول على وجهها ليقررها على الأموال فلم يجد لها شيئا سوى ثيابها ومصاغها وحليها في صناديقها قيمة ذلك مائة ألف دينار وثلاثون ألف دينار وكان لها غير ذلك أملاك أمر ببيعها وأتى بالشهود ليشهدوا عليها بالتوكيل في بيعها فامتنع الشهود من الشهادة حتى ينظروا إليها ويحلوها فرفع الستر بإذن الخليفة فقالوا لها أنت شغب جارية المعتضد أم جعفر المقتدر فبكت بكاء طويلا قم قالت نعم فكتبوا حليتها عجوز سمراء اللون دقيقة الجبين وبكى الشهود وتفكروا كيف يتقلب الزمان بأهله وتنقل الحدثان وأن الدنيا دار بلاء لا بفي مرجوها بمخوفها ولا يسلم طلوعها من كسوفها من ركن إليها أحرقته بنارها ولم يذكر القاهر شيئا من إحسانها إليه رحمها الله وعفا عنه توفيت في جمادى الأولى من هذه السنة ودفنت بالرصافة
عبدالسلام بن محمد
ابن عبدالوهاب بن سلام بن خالد بن حمران بن أبان مولى عثمان بن عفان وهو أبو هاشم ابن أبي علي الجبائي المتكلم ابن المتكلم المعتزلي ابن المعتزلي واليه تنسب الطائفة الهاشمية من المعتزلة وله مصنفات في الاعتزال كما لأبيه من قبله مولده سنة سبع وأربعين ومائتين توفي في شعبان منها قال ابن خلكان وكان له ابن يقال له أبو علي دخل يوما على الصاحب بن عباد فأكرمه واحترمه وسأله عن شيء من المسائل فقال لا أعرف نصف العلم فقال صدقت وسبقك أبوك إلى الجهل بالنصف الآخر
أحمد بن الحسن بن دريد بن عتاهية
أبو بكر بن دريد الأزدي اللغوي النحوي الشاعر صاحب المقصورة ولد بالبصرة في سنة ثلاث وعشرين ومائتين وتنقل في البلاد لطلب العلم والأدب وكان أبوه من ذوي اليسار وقدم بغداد وقد أسن فأقام بها إلى أن توفي في هذه السنة روى عن عبدالرحمن بن أخي الأصمعي وأبي حاتم والرياشي وعنه أبو سعيد السيرافي وأبو بكر بن شاذان وأبو عبيد الله بن المرزبان وغيرهم ويقال كان أعلم من شعر من العلماء وقد كان متهتكا في الشراب منهمكا فيه قال أبو منصور الأزهري دخلت عليه فوجدته سكران فلم أعد إليه وسئل عنه الدارقطني فقال تكلموا فيه وقال ابن شاهين كنا ندخل عليه فنستحي مما نراه من العيدان المعلقة وآلات اللهو والشراب المصفى وقد جاوز التسعين وقارب المائة توفي يوم الأربعاء لثنتي عشرة بقيت من شعبان وفي هذا اليوم توفي أبو هاشم ابن أبي علي الجبائي المعتزلي فصلي عليهما معا ودفنا في مقبرة الخيزران فقال الناس مات (11/176)
اليوم عالم اللغة وعالم الكلام وكان ذلك يوما مطيرا ومن مصنفات ابن دريد الجمهرة في اللغة نحو عشر مجلدات وكتاب المطر والمقصورة والقصيدة الأخرى في المقصور والممدود وغير ذلك سامحه الله
ثم دخلت سنة ثنتين وعشرين وثلثمائة
فيها قصد ملك الروم ملطية في خمسين ألفا فحاصرهم ثم أعطاهم الأمان حتى تمكن منهم فقتل منهم خلقا كثيرا وأسر ما لا يحصون كثرة فإنا لله وإنا إليه راجعون وفيها وردت الأخبار أن مردوايح قد تسلم أصبهان وانتزعها من علي بن بويه وأن علي بن بويه توجه إلى أرجان فأخذها وقد أرسل ابن بويه إلى الخليفة بالطاعة والمعونة وإن أمكن أن يقبل العتبة الشريفة ويحضر بين يدي الخليفة إن رسم ويذهب إلى شيراز فيكون مع ابن ياقوت ثم اتفق الحال بعد ذلك أن صار إلى شيراز وأخذها من نائبها ابن ياقوت بعد قتال عظيم ظفر فيه ابن بويه بابن ياقوت وأصحابه فقتل منهم خلقا وأسر جماعة فلما تمكن أطلقهم وأحسن إليهم وخلع عليهم وعدل في الناس وكانت معه أموال كثيرة قد استفادها من أصبهان والكرخ وهمذان وغيرها وكان كريما جوادا معطيا للجيوش الذين قد التفوا عليه ثم إنه أملق في بعض الأحيان وهو بشيراز وطالبه الجند بأرزاقهم وخاف أن ينحل نظام أمره وملكه فاستلقى على قفاه يوما مفكرا في أمره وإذا حية قد خرجت من شق في سقف المكان الذي هو فيه ودخلت في آخر فأمر بنزع تلك السقوف فوجد هناك مكانا فيه شيء كثير من الذهب نحو خمسمائة ألف دينار فأنفق في جيشه ما أراد وبقي عنده شيء كثير وركب ذات يوم يتفرج في جوانب البلد وينظر إلى ما بنته الأوائل ويتعظ بمن كان فيه قبله فانخسفت الأرض من تحت قوائم فرسه فأمر فحفر هنالك فوجد من الأموال شيئا كثيرا أيضا واستعمل عند رجل خياط قماشا ليلبسة فاستبطأه فأمر بإحضاره فلما وقف بين يديه تهدده وكان الخياط أصم لا يسمع جيدا فقال والله أيها الملك ما لابن ياقوت عندي سوى اثنا عشر صندوقا لا أدري ما فيها فأمر بإحضارها فإذا فيها أموال عظيمة تقارب ثلثمائة ألف دينار واطلع على ودائع كانت ليعقوب بن الليث فيها من الأموال مالا يحد ولا يوصف كثرة فقوى أمره وعظم سلطانه جدا وهذا كله من الأمور المقدرة لما يريد الله بهم من السعادة الدنيوية بعد الجوع والقلة وربك يخلق ما يشاء ويختار وكتب إلى الراضي وزيره ابن مقلة أن يقاطع على ما قبله من البلاد على ألف ألف في كل سنة فأجابه الراضي إلى ذلك وبعث إليه بالخلع واللواء وأبهة الملك وفيها قتل القاهر أميرين كبيرين وهما إسحاق بن إسماعيل النوبختي وهو الذي كان قد أشار على الأمراء بخلافة القاهر وأبا السرايا بن حمدان أصغر ولد أبيه وكان في نفس القاهر منهما بسبب أنهما زايداه من قبل أن يلي الخلافة في جاريتين مغنيتين فاستدعاهما إلى المسامرة فتطيبا وحضرا فأمر بإلقائهما في (11/177)
جب هناك فتضرعا إليه فلم يرحمهما بل ألقيا فيها وطم عليهما
ذكر خلع القاهر وسمل عينيه وعذابه
وكان سبب ذلك أن الوزير علي بن مقلة كان قد هرب حين قبض على مؤنس كما تقدم فاختفى في داره وكان يراسل الجند ويكاتبهم ويغريهم بالقاهر ويخوفهم سطوته وإقدامه وسرعة بطشه ويخبرهم بأن القاهر قد أعد لأكابر الأمراء أماكن في دار الخلافة يسجنهم فيها ومهالك يلقيهم فيها كما فعل بفلان وفلان فهيجهم ذلك على القبض على القاهر فاجتعموا وأجمعوا رأيهم على مناجزته في هذه الساعة فركبوا مع الأمير المعروف بسيما وقصدوا دار الخلافة فأحاطوا بها ثم هجموا عليه من سائر أبوابها وهو مخمور فاختفى في سطح حمام فظهروا عليه فقبضوا عليه وحبسوه في مكان طريف اليشكري وأخرجوا طريفا من السجن وخرج الوزير الخصيبي مستترا في زي امرأة فذهب واضطربت بغداد ونهبت وذلك يوم السبت لثلاث خلون من جمادى الأولى فيها في الشهر الذي ماتت فيه شغب فلم يكن بين موتها والقبض عليه وسمل عينيه وعذابه بأنواع العقوبات إلا مقدار سنة واحدة وانتقم الله منه ثم أمروا بإحضاره فلما حضر سملوا عينيه حتى سالتا على خديه وارتكب منه أمر عظيم لم يسمع مثله في الإسلام ثم أرسلوه وكان تارة يحبس وتارة يخلى سبيله وقد تأخر موته إلى سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة وافتقر حتى قام يوما بجامع المنصور فسأل الناسب فأعطاه رجل خمسمائة دينار ويقال إنما أراد بسؤاله التشنيع عليهم وسنذكر ترجمته إذا ذكرنا وفاته
خلافة الراضي بالله أبي العباس محمد بن المقتدر بالله
لما خلعت الجند القاهر وسملوا عينيه أحضروا أبا العباس محمد بن المقتدر بالله فبايعوه بالخلافة ولقبوه الراضي بالله وقد أشار أبو بكر الصولي بأن يلقب بالمرضي بالله فلم يقبلوا وذلك يوم الأربعاء لست خلون من جمادى الأولى منها وجاؤا بالقاهر وهو أعمى قد سملت عيناه فأوقف بين يديه فسلم عليه بالخلافة وسملها إليه فقام الراضي بأعبائها وكان من خيار الخلفاء على ما سنذكره وأمر بإحضار أبي علي بن مقلة فولاه الوزارة وجعل علي بن عيسى ناظرا معه وأطلق كل من كان في حبس القاهر واستدعى عيسى طبيب القاهر فصادره بمائتي ألف دينار وتسلم منه الوديعة التي كان القاهر أودعه إياها وكانت جملة مستكثرة من الذهب والفضة والجواهر النفيسة وفيها عظم أمر مرداويج بأصبهان وتحدث الناس أنه يريد أخذ بغداد وأنه ممالئ لصاحب البحرين أمير القرامطة وقد اتفقا على رد الدولة من العرب إلى العجم وأساء السيرة في رعيته لا سيما في خواصه فتمالؤا عليه فقتلوه وكان القائم بأعباء قتله أخص مماليكه وهو يحكم بيض الله وجهه ويحكم هذا هو الذي استنقذ الحجر الأسود من أيدي القرامطة حتى ردوه واشتراه منهم بخميس ألف دينار ولما قتل الأمير يحكم مرداويج (11/178)
عظم أمر علي بن بويه وارتفع قدره بين الناس وسيأتي ما آل إليه حاله ولما خلع القاهر وولى الراضي طمع هارون بن عريب في الخلافة لكونه ابن خال المقتدر وكان نائبا على ماه والكوفة والدينور وما سبذان فدعا إلى نفسه واتبعه خلق كثير من الجند والأمراء وجبي الأموال واستفحل أمره وقويت شوكته وقصد بغداد فخرج إليه محمد بن ياقوت رأس الحجبة بجميع جند بغداد فاقتتلوا فخرج في بعض الأيام هارون بن عريب يتقصد لعله يعمل حيلة في أسر محمد بن ياقوت فتقنطر به فرسه فألقاه في نهر فضربه غلامه حتى قتله وأخذ راسه حتى جاء به إلى محمد بن ياقوت وانهزم أصحابه ورجع ابن ياقوت فدخل بغداد ورأس هارون بن عريب يحمل على رمح ففرح الناس بذلك وكان يوما مشهودا وفيها ظهر ببغداد رجل يعرف بأبي جعفر محمد بن علي الشلمغاني ويقال له ابن العرافة فذكروا عنه أنه يدعي ما كان يدعيه الحلاج من الآلهية وكانوا قد قبضوا عليه في دولة المقتدر عند حامد بن العباس واتهم بأنه يقول بالتناسخ فأنكر ذلك ولما كانت هذه المرة أحضره الراضي وادعى عليه بما كان ذكر عنه فأنكر ثم أقر بأشياء فأفتى قوم أن دمه حلال إلا أن يتوب من هذه المقالة فأبى أن يتوب فضرب ثمانين سوطا ثم ضربت عنقه وألحق بالحلاج وقتل معه صاحبه ابن أبي عون لعنه الله وكان هذا اللعين من جملة من اتبعه وصدقه فيما يزعمه من الكفر وقد بسط ابن الأثير في كامله مذهب هؤلاء الكفرة بسطا جيدا وشبه مذهبهم بمذهب النصيرية وادعى رجل آخر ببلاد الشاش النبوة وأظهر المخاريق وأشياء كثيرة من الحيل فجاءته الجيوش فقاتلوه وانطفأ أمره
وفاة المهدي صاحب أفريقية
وفيها كان موت المهدي صاحب إفريقية أول خلفاء الفاطميين الادعياء الكذبة وهو أبو محمد عبيدالله المدعي أمه علوي وتلقب بالمهدي وبني المهدية ومات بها عن ثلاث وستين سنة وكانت ولايته منذ دخل رقادة وادعى الأمامة أربعا وعشرين سنة وشهرا وعشرين يوما وقد كان شهما شجاعا ظفر بجماعة ممن خالفه وناوأه وقاتله وعاداه فلما مات قام بأمر الخلافة من بعده ولده أبو القاسم الملقب بالخليفة القائم بأمر الله وحين توفي أبوه كتم موته سنة حتى دبر ما أراده من الأمور ثم أظهر ذلك وعزاه الناس فيه وقد كان كأبيه شهما شجاعا فتح البلاد وأرسل السرايا إلى بلاد الروم ورام أخذ الديار المصرية فلم يتفق له ذلك وإنما أخذ الديار المصرية ابن ابنه المعز الفاطمي بانى القاهرة المعزية كما سنذكره إن شاء الله قال ابن خلكان في الوفيات وقد اختلف في نسب المهدي هذا اختلافا كثيرا جدا فقال صاحب تاريخ القيروان هو عبيد الله بن الحسن بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي (11/179)
ابن الحسين بن علي بن أبي طالب وقال غيره هو عبيدالله بن التقي وهو الحسين بن الوفي بن أحمد بن الرضي وهو عبدالله هذا وهو ابن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق وقيل غير ذلك في نسبه قال ابن خلكان والمحققون ينكرون دعواه في النسب قلت قد كتب غير واحد من الأئمة منهم الشيخ أبو حامد الاسفراييني والقاضي الباقلاني والقدوري أن هؤلاء أدعياء ليس لهم نسب صحيح فيما يزعمونه وأن والد عبيد الله المهدي هذا كان يهوديا صباغا بسلمية وقيل كان اسمع سعد وإنما لقب بعبيدالله زوج أمه الحسين بن أحمد بن محمد بن عبدالله بن ميمون القداح وسمى القداح لأنه كان كحالا يقدح العيون وكان الذي وطأ له الأمر بتلك البلاد أبو عبدالله الشيعي كما قدمنا ذلك ثم استدعاه فلما قدم عليه من بلاد المشرق وقع في يد صاحب سجلماسة فسجنه فلم يزل الشيعي يحتال له حتى استنقذه من يده وسلم إليه الأمر ثم ندم الشيعي على تسليمه الأمر وأراد قتله ففطن عبيدالله لما أراد به فأرسل إلى الشيعي من قتله وقتل أخاه معه ويقال إن الشيعي لما دخل السجن الذي قد حبس فيه عبيدالله هذا وجد صاحب سجلماسة قد قتله ووحد في السجن رجلا مجهولا محبوسا فأخرجه إلى الناس لأنه كان قد أخبر الناس أن المهدي كان محبوسا في سجلماسة وأنه إنما يقاتل عليه فقال للناس هذا هو المهدي وكان قد أوصاه أن لا يتكلم إلا بما يأمره به وإلا قتله فراج أمره فهذه قصته وهؤلاء من سلالته والله أعلم وكان مولد المهدي هذا في سنة ستين ومائتين وقيل قبلها وقيل بعدها بسلمية وقيل بالكوفة والله أعلم وأول ما دعى له على منابر رقادة والقيروان يوم الجمعة لسبع بقين من ربيع الآخر سنة سبع وتسعين ومائتين بعد رجوعه من سجلماسة وكان ظهوره بها في ذي الحجة من السنة الماضية سنة ست وتسعين ومائتين فلما ظهر زالت دولة بني العباس عن تلك الناحية من هذا الحين إلى أن ملك العاضد في سنة سبع وستين وخمسمائة توفي بالمدينة المهدية التي بناها في أيامه للنصف من ربيع الأول منها وقد جاوز الستين على المشهور وسيفصل الله بين الآمر والمأمور يوم البعث والنشور وفيها توفي من الأعيان أحمد بن عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري قاضي مصر حدث عن أبيه بكتبه المشهورة وتوفي وهو قاض بالديار المصرية في ربيع الأول منها
حمد بن أحمد بن القاسم أبو علي الروذباري
وقيل اسمه أحمد بن محمد ويقال الحسين بن الهمام والصحيح الأول أصله من بغداد وسكن مصر وكان من أبناء الرؤساء والوزراء والكتبة وصحب الجنيد وسمع الحديث وحفظ منه كثيرا وتفقه بإبراهيم الحربي وأخذ النحو عن ثعلب وكان كثير الصدقة والبر للفقراء وكان إذا أعطى الفقير شيئا جعله في كفه تحت يد الفقير ثم يتناوله الفقير يريد أن لا تكون يد الفقير تحت يديه (11/180)
قال أبو نعيم سئل أبو علي الروذباري عمن يسمع الملاهي ويقول إنه وصل إلى منزلة لا يؤثر فيه اختلاف الأحوال فقال نعم وصل ولكن إلى سقر وقال الاشارة الابانة لما تضمنه الوجد من المشار إليه لا غير وفي الحقيقة أن الاشارة تصححها العلل والعلل بعيدة من غير الحقائق وقال من الاغترار أن تسيء فيحسن إليك فتترك الانابة والتوبة توهما أنك تسامح في الهفوات وترى أن ذلك من بسط الحق لك وقال تشوقت القلوب إلى مشاهدة ذات الحق فألقيت إليها الأسامي فركنت إليها مشغوفة بها عن الذات إلى أوان التجلي فذلك قوله ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها فوقفوا معها عن إدراك الحقائق فأظهر الأسامي وأبراها للخلق لتسكين شوق المحبين إليه وتأنيس قلوب العارفين به وقال لا رضى لمن لا يصبر ولا كمال لمن لا يشكر وبالله وصل العارفون إلى محبته وشكروه على نعمته وقال إن المشتاقين إلى الله يجدون حلاوة الشوق عند ورود المكاشف لهم عن روح الوصال إلى قربه أحلى من الشهد وقال من رزق ثلاثة أشياء فقد سلم من الآفات بطن جائع معه قلب قانع وفقر دائم معه زهد حاضر وصبر كامل معه قناعة دائمة وقال في اكتساب الدنيا مذلة النفوس وفي اكتساب الآخرة عزها فيا عجبا لمن يختار المذلة في طلب ما يفنى على العز في طلب ما يبقى ومن شعره ... لو مضى الكل مني لم يكن عجبا ... وإنما عجبي في البعض كيف بقى ... أدرك بقية روح منك قد تلفت ... قبل 8 الفراق فهذا آخر الرمق ...
محمد بن إسماعيل
المعروف بخير النساج أبو الحسن الصوفي من كبار المشايخ ذوي الأحوال الصالحة والكرامات المشهورة أدرك سريا السقطي وغيره من مشايخ القوم وعاش مائة وعشرين سنة ولما حضرته الوفاة نظر إلى زاوية البيت فقال قف رحمك الله فإنك عبد مأمور وأنا عبد مأمور وما أمرت به لا يفوت وما أمرت به يفوت ثم قام وتوضأ وصلى وتمدد ومات رحمه الله تعالى وقد رآه بعضهم في المنام فقال له ما فعل الله بك فقال استرحنا من دنياكم الوخيمة
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وثلثلمائة
فيها أحضر ابن شنبود المقري فأنكر عليه جماعة من الفقهاء والقراء حروفا انفرد بها فاعترف ببعضها وأنكر بعضها فاستتيب من ذلك واستكتب خطه بالرجوع عما نقم عليه وضرب سبع درر بإشارة الوزير أبي علي بن مقلة ونفي إلى البصرة فدعا على الوزير أن تقطع يده ويشتت شمله فكان ذلك عما قريب وفي جمادى الآخرة نادى ابن الحرسي صاحب الشرطة في الجانبين من بغداد (11/181)
أن لا يجتمع اثنان من أصحاب أبي محمد البربهاري الواعظ الحنبلي وحبس من أصحابه جماعة واستتر ابن البربهاري فلم يظهر مدة قال ابن الجوزي في المنتظم وفي شهر أيار تكاثفت الغيوم واشتد الحر جدا فلما كان آخر يوم منه وهو الخامس والعشرين من جمادى الآخرة منها هاجت ريح شديدة جدا وأظلمت الأرض واسودت إلى بعد العصر ثم خفت ثم عادت إلى بعد عشاء الآخرة وفيها استبطأ الأجناد أرزاقهم فقصدوا دار الوزير أبي علي بن مقلة فنقبوها وأخذوا ما فيها ووقع حريق عظيم في طريق الموازين فاحترق الناس شيء كثير فعوض عليهم الراضي بعض ما كان ذهب لهم وفي رمضان اجتمع جماعة من الأمراء على بيعة جعفر بن المكتفي فظهر الوزير على أمرهم فحبس جعفرا ونهبت داره وحبس جماعة ممن كان بايعه وانطفأت ناره وخرج الحجاج في غفارة الأمير لؤلؤ فاعترضهم أبو طاهر القرمطي فقتل أكثرهم ورجع من انهزم منهم إلى بغداد وبطل الحج في هذه السنة من طريق العراق قال ابن الجوزي وفيها نساقطت كواكب كثيرة بغداد والكوفة على صورة لم ير مثلها ولا ما يقاربها وغلا السعر في هذه السنة حتى بيع الكر من الحنظة بمائة وعشرين دينارا وفيها على الصحيح كان كقتل مرداويج بن زياد الديلمي وكان قبحه الله سيء السيرة والسريرة يزعم أن روح سليمان بن داود حلت فيه وله سرير من ذهب يجلس عليه والأتراك بين يديه ويزعم أنهم الجن الذين سخروا لسليمان بن داود وكان يسيء المعاملة لجنده ويحتقرهم غاية الاحتقار فما زال ذلك دأبه حتى أمكنهم الله منه فقتلوه شر قتلة في حمام وكان الذي مالأ علي قتله غلامه بجكم التركي وكان ركن الدولة بن بؤيه رهينة عنده فأطلق لما قتل فذهب إلى أخيه عماد الدولة وذهبت طائفة من الأتراك معه إلى أخيه والتفت طائفة منهم على بجكم فسار بهم إلى بغداد بإذن الخليفة له في ذلك ثم صرفوا إلى البصرة فكانوا بها وأما الديلم فإنهم بعثوا إلى أخي مرداويج وهو وشمكير فلما قدم عليهم تلقوه إلى أثناء الطريق حفاة مشاة فملكوه عليهم لئلا يذهب ملكهم فانتدب إلى محاربته الملك السعيد نصر بن أحمد الساماني نائب خراسان وما وراء النهر وما والاها من تلك البلاد والأقاليم فانتزع منه بلدانا هائلة وفيها بعث القائم بأمر الله الفاطمي جيشا من إفريقية في البحر إلى ناحية الفرنج فافتتحوا مدينة جنوه وغنموا غنائم كثيرة وثروة ورجعوا سالمين غانمين وفيها بعث عماد الدولة إلى أصبهان فاستولى عليها وعلى بلاد الجبل واتسعت مملكته جدا وفيها كان غلاء شديد بخراسان ووقع بها فناء كثير بحيث كان يهمهم أمر دفن الموتى وفيها قتل ناصر الدولة أبو الحسن بن حمدان نائب الموصل عمه أبا العلاء سعيد بن حمدان لأنه أراد أن ينتزعها منه فبعث إليه الخليفة وزيره أبا علي بن مقلة في جيوش فهرب منه ناصر الدولة فلما طال مقام ابن مقلة بالموصل ولم يقدر على ناصر الدولة رجع إلى بغداد فاستقرت (11/182)
يد ناصر الدولة على الموصل وبعث به إلى الخليفة أن يضمنه تلك الناحية فأجيب إلى ذلك واستمر الحال على ما كان وخرج الحجيج فلقيهم القرمطي فقاتلهم وظفر بهم فسألوه الأمان فأمنهم على أن يرجعوا بغداد فرجعوا وتعطل الحج عامهم ذلك أيضا وفيها توفي من الأعيان
نفطويه النحوي
واسمه إبراهيم بن محمد بن عرفة بن سليمان بن المغيرة بن حبيب بن المهلب بن صفرة الأزدي أبو عبدالله العتكي المعروف بنفطويه النحوي له مصنفات فيه وقد سمع الحديث وروى عن المشايخ وحدث عنه الثقات وكان صدوقا وله أشعار حسنة وروى الخطيب عن نفطويه أنه مر على بقال فقال له أيها الشيخ كيف الطريق إلى درب الرآسين يعني درب الرواسين فالتفت البقال إلى جاره فقال له قبح الله غلامي أبطأ علي بالسلق ولو كان عندي لصفعت هذا بحزمة منه فانصرف عنه نفطويه ولم يرد عليه توفي نفطويه في شهر صفر من هذه السنة عن ثلاث وثمانين سنة وصلى عليه البربهاري رئيس الحنابلة ودفن بمقابر دار الكوفة ومما أنشده أبو علي القالي في والأمالي له ... قلبي أرق عليه من خديكا ... وفؤادي أوهى من قوى جفنيكا ... لم لا ترق لمن يعذب نفسه ... ظلما ويعطفه هواه عليكا ... قال ابن خلكان وفي نفطويه يقول أبو محمد عبدالله بن زيد بن علي بن الحسن الواسطي المتكلم المشهور صاحب الإمامة وإعجاز القرآن وغير ذلك من الكتب من سره أن لا يرى فاسقا فليجتهد أن لا يرى نفطويه أحرقه الله بنصف اسمه وصير الباقي صراخا عليه قال الثعالبي إنما سمى نفطويه لدمامته وقال ابن خالويه لا يعرف من اسمه إبراهيم وكنيته أبو عبدالله سواه
عبدالله بن عبدالصمد بن المهتدي بالله الهاشمي العباسي
حدث عن بشار بن نصر الحلبي وغيره وعنه الدارقطني وغيره وكان ثقة فاضلا فقيها شافعيا عبدالملك بن محمد بن عدي أبو نعيم الاستراباذي المحدث الفقيه الشافعي أيضا توفي عن ثلاث وثمانين سنة علي بن الفضل بن طاهر بن نصر بن محمد أبو الحسن البلخي كان من الجوالين في طلب الحديث وكان ثقة حافظا سمع أبا هاشم الرازي وغيره وعنه الدراقطني وغيره محمد بن أحمد بن أسد أبو بكر الحافظ و ويعرف بابن البستبنان سمع الزبير بن بكار وغيره وعنه الدارقطني وغيره جاوز الثمانين
ثم دخلت سنة أربع وعشرين وثلثمائة
فيها جاءت الجند فأحدقوا بدار الخلافة وقالوا ليخرج إلينا الخليفة الراضي بنفسه فيصلي بالناس (11/183)
فخرج فصلى بهم وخطبهم وقبض الغلمان علي الوزير ابن مقلة وسألوا الخليفة أن يستوزر غيره فرد الخيرة إليهم فاختاروا علي بن عيسى فلم يقبل وأشار بأخيه عبدالرحمن بن عيسى فاستوزه وأحرقت دار ابن مقلة وسلم هو إلى عبدالرحمن بن عيسى فضرب ضربا عنيفا وأخذ خطه بألف ألف دينار ثم عجز عبدالرحمن بن عيسى فعزل بعد خمسين يوما وقلد الوزارة أبو جعفر بن القاسم الكرخي فصادر علي بن عيسى بمائة ألف دينار وصارد أخاه عبدالرحمن بن عيسى بسبعين ألف دينار ثم عزل بعد ثلاثة أشهر ونصف وقلد سليمان بن الحسين ثم عزل بأبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات وذلك في السنة الآتية وأحرقت داره كما أحرقت دار ابن مقلة في يوم أحرقت تلك فيه سنة بينهما واحدة وهذا كله من تخبيط الأتراك والغلمان ولما أحرقت دار ابن مقلة في هذه السنة كتب بعض الناس على بعض جدرانها ... أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ... ولم تخف يوما يأتي به القدر ... وسالمتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر ... وفيها ضعف أمر الخلافة جدا وبعث الراضي إلى محمد بن رائق وكان بواسط يدعوه إليه ليوليه إمرة الأمراء ببغداد وأمر الخراج والمغل في جميع البلاد والدواوين وأمر أن يخطب له على جميع المنابر وأنفذ إليه بالخلع فقدم ابن رائق إلى بغداد على ذلك كله ومعه الأمير بجكم التركي غلام مرداويج وهو الذي ساعد على قتل مرداويج واستحوذ ابن رائق على أموال العراق بكماله ونقل أموال بيت المال إلى داره ولم يبق للوزير تصرف في شيء بالكلية ووهى أمر الخلافة جدا واستقل نواب الأطراف بالتصرف فيها ولم يبق للخليفة حكم في غير بغداد ومعاملاتها ومع هذا ليس له مع ابن رائق نفوذ في شيء ولا تفرد بشيء وا كلمة تظاع وإنما يحمل إليه ابن رائق ما يحتاج إليه من الأموال والنفقات وغيرها وهكذا صار أمر من جاء بعده من أمراء الأكابر كانوا لا يرفعون راسا بالخليفة وأما بقية الأطراف فالبصرة مع ابن رائق هذا يولي فيها من شاء وخوزستان إلى أبي عبدالله البريدي وقد غلب ابن ياقوت على ما كان بيده في هذه السنة من مملكة تستر وغيرها واستحوذ على حواصلها وأموالها وأمر فارس إلى عماد الدولة بن بويه ينازعه في ذلك وشمكير أخو مرداويج وكرمان بيد أبي علي محمد بن إلياس بن اليسع وبلاد الموصل والجزيرة وديار بكر ومضر وربيعة مع بني حمدان ومصر والشام في يد محمد بن طغج وبلاد إفريقية والمغرب في يد القائم بأمر الله ابن المهدي الفاطمي وقد تلقب بأمير المؤمنين والأندلس في يد عبدالرحمن بن محمد الملقب بالناصر الأموي وخراسان وما وراء النهر في يد السعيد نصر بن أحمد الساماني وطبرستان وجرجان في يد الديلم والبحرين واليمامة وهجر في يد أبي طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنابي القرمطي وفيها وقع (11/184)
ببغداد غلاء عظيم وفناء كثير بحيث عدم الخبز منها خمسة أيام ومات من أهلهاخلق كثير وأكثر ذلك كام في الضعفاء وكان الموتى يلقون في الطريق ليس لهم من يقوم بهم ويحمل على الجنازة الواحدة الرجلان من الموتى وربما يوضع بينهم صبي وربما حفرت الحفرة الواحدة فتوسع حتى يوضع فيها جماعة ومات من أهل أصبهان نحو من مائتي ألف إنسان وفيها وقع حريق بعمان أحرق فيه من السودان ألف ومن البيضان خلق كثير وكان جملة ما أحرق فيه أربعمائة حمل كافور وعزل الخليفة أحمد بن كيغلغ عن نيابة الشام وأضاف ذلك إلى ابن طغج نائب الديار المصرية وفيها ولد عضد الدولة أبو شجاع فنا خسرو بن ركن الدولة بن بويه بأصبهان وفيها توفي من الأعيان
ابن مجاهد المقري
أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد المقري أحد أئمة هذا الشأن حدث عن خلق كثير وروى عنه الدارقطني وغيره وكان ثقة مأمونا سكن الجانب الشرقي من بغداد وكان ثعلب يقول ما بقي في عصرنا أحد أعلم بكتاب الله منه توفي يوم الأربعاء وأخرج يوم الخميس لعشر بقين من شعبان من هذه السنة وقد رآه بعضهم في المنام وهو يقرأ فقال له أما مت فقال بلى ولكن كنت أدعو الله عقب كل ختمة أن أكون ممن يقرأ في قبره فأنا ممن يقرأ في قبره رحمه الله
جحظة الشاعر البرمكي
أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك البرمكي أبو الحسن النديم المعروف بجحظة الشاعر الماهر الأديب الأخباري ذو الفنون في العلوم والنوادر الحاضرة وكان جيد الغناء ومن شعره ... قد نادت الدنيا على نفسها ... لو كان في العالم من يسمع ... كم آكل خيبت آماله ... وجدامع بددت ما يجمع ... وكتب له بعض الملوك رقعة على صيرفي بمال أطلقه له فلم يحصل له فكتب إلى الملك يذكر له ذلك ... إذا كانت صلاتكم رقاعا ... تخطط بالأنامل والأكف ... فلا تجدر الرقاع علي نفعا ... فذا خطي فخذه بألف ألف ... ومن شعره يهجو صديقا له ويذمه على شدة شحه وبخله وحرصه فقال ... لنا صاحب من أبرع الناس في البخل ... يسمى بفضل وهو ليس بذي فضل ... دعاني كما يدعو الصديق صديقه ... فجئت كما يأتي إلى مثله مثلي ... فلما جلسنا للغداء رأيته ... يرى أنما من بعض أعضائه أكلي ... فيغتاظ أحيانا ويشتم عبده ... فأعلم أن الغيظ والشتم من أجلي ... أمد يدي سرا لآكل لقمة ... فيلحظني شزرا فأعبث بالبقل (11/185)
إلى أن جنت كفي علي جناية ...
وذلك أن الجوع أعدمني عقلي
... فأهوت يميني نحو رجل دجاجة ... فجرت رجلها كما جرت يدي رجلي ... ومن قوي شعره قوله ... رحلتم فكم من أنة بعد حنة ... مبينة للناس حزني عليكم ... وقد كنت أعتقت الجفون من البكا ... فقد ردها في الرق شوقي إليكم ... وقد أورد له ابن خلكان من شعره الرائق قوله ... فقلت لها بخلت علي يقظي ... فجودي في المنام لمستهام ... فقالت لي وصرت تنام أيضا ... وتطمع أن أزورك في المنام ... قال وإنما لقبه بجحظة عبدالله بن المعتز وذلك لسؤ منظره بمآقيه قال بعض من هجاه ... ببيت جحةظ تسعين جحوظة ... من فيل شطرنج ومن سرطان ... وارحمتا لمنادميه تحملوا ... ألم العيون للذة الآذان ... توفي سنة ست وعشرين وقيل أربع وعشرين وثلثمائة بواسط
ابن مغلس الفقيه الظاهري
المشهور له المصنفات المفيدة في مذهبه أخذ الفقه عن أبي بكر بن داود وروى عن عبدالله بن أحمد بن حنبل وعلي بن داود القنطري وأبي قلابة الرياشي وآخرين وكان ثقة فقيها فاضلا وهو الذي نشر علم داود في تلك البلاد توفي بالسكتة
أبو بكر بن زياد
النيسابوري عبدالله بن محمد بن زياد بن واصل بن ميمون أبو بكر الفقيه الشافعي النيسابوري مولى أبان بن عثمان رحل إلى العراق والشام ومصر وسكن بغداد حدث عن محمد بن يحيى الذهلي وعباس الدوري وخلق وعنه الدارقطني وغير واحد من الحفاظ قال الدارقطني لم ير في مشايخنا أحفظ منه للأسانيد والمتون وكان أفقه المشايخ جالس المزني والربيع وقال عبدالله بن بطة كنا نحضر مجلس ابن زياد وكان يحرز من يحضر من أصحاب المحابر ثلاثين ألفا وقال الخطيب أخبرنا أبو سعد الماليني أنبأ يوسف بن عمر بن مسرور سمعت أبا بكر بن زياد النيسابوري يقول أعرف من قام الليل أربعين سنة لم ينم إلا جاثيا ويتقوت كل يوم خمس حبات ويصلي صلاة الغد بطهارة العشاء ثم يقول أنا هو كنت أفعل هذا كله قبل أن أعرف أم عبدالرحمن يعني أم ولده إيش أقول لمن زوجني ثم قال في إثر هذا ما أراد إلا الخير توفي في هذه السنة عن ست وثمانين سنة (11/186)
عفان بن سليمان
ابن أيوب أبو الحسن التاجر أقام بمصر وأوقف بها أوقافا دارة على أهل الحديث وعلى سلالة العشرة رضي الله عنهم وكان تاجرا موسعا عليه في الدنيا مقبول الشهادة عند الحكام توفي في شعبان منها
أبو الحسن الأشعري
قدم بغداد وأخذ الحديث عن زكريا بن يحيى الساجي وتفقه بابن سريج وقد ذكرنا ترجته في طبقات الشافعية وذكر ابن خلكان أنه كان يجلس في حلقة الشيخ أبي إسحاق المروزي وقد كان الأشعري معتزليا فتاب منه بالبصرة فوق المنبر ثم أظهر فضائح المعتزلة وقبائحهم وله من الكتب الموجز وغيره وحكى عن ابن حزم أنه قال للأشعري خمسة وخمسون تصنيفا وذكر أن مغله كان في كل سنة سبعة عشر ألف درهم وأنه كان من أكثر الناس دعابة وأنه ولد سنة سبعين ومائتين وقيل سنة ستين ومائتين ومات في هذه السنة وقيل في سنة ثلاثين وقيل في سنة بضع وثلاثين وثلثمائة فالله أعلم محمد بن الفضل بن عبدالله أبو ذر التميمي كان رئس جرجان سمع الكثير وتفقه بمذهب الشافعي وكانت داره مجمع العلماء وله إفضال كثير على طلبة العلم من أهل زمانه هارون بن المقتدر أخو الخليفة الراضي توفي في ربيع الأول منها فحزن عليه أخوه الراضي وأمر بنفي بختيشوع ابن يحيى المتطبب إلى الأنبار لأنه اتهم في علاجه ثم شفعت فيه أم الراضي فرده
ثم دخلت سنة خمس وعشرين وثلثمائة
في المحرم منها خرج الخليفة الراضي وأمير الأمراء محمد بن رائق من بغداد قاصدين واسط لقتال أبي عبدالله البريدي نائب الأهواز الذي قد تجبر بها ومنه الخراج فلما سار ابن رائق إلى واسط خرج الحجون فقاتلوه فسلط عليهم بجكم فطحنهم ورجع فلهم إلى بغداد فتلقاهم لؤلؤ أمير الشرطة فاحتاظ على أكثرهم ونهبت دورهم ولم يبق لهم رأس يرتفع وقطعت أرزاقهم من بيت المال بالكلية وبعث الخليفة وابن رائق إلى أبي عبدالله البريدي يتهددانه فأجاب إلى حمل كل سنة ثلثمائة ألف وستين ألف دينار يقوم بها تحمل كل سنة علىحدته وأنه يجهز جيشا إلى قتال عضد الدولة بن بويه فلما رجع الخليفة إلى بغداد لم يحمل شيئا ولم يبعث احدا ثم بعث ابن رائق بجكم وبدرا الحسيني لقتال البريدي فجرت بينهم حروب وخطوب وأمور يطول ذكرها ثم لجأ البريدي إلى عماد الدولة واستجار به واسحوذ بجكم على بلاد الأهواز وجعل إليه ابن رائق خراجها وكان بجكم هذا شجاعا فاتكا وفي ربيع الأول خلع الخليفة على بجكم وعقد له الإمارة ببغداد وولاه نيابة المشرق إلى خراسان وفيها توفي من الأعيان أبو حامد بن الشرقي (11/187)
أحمد بن محمد بن الحسن
أبو حامد الشرقي مولده سنة أربعين ومائتين وكان حافظا كبير القدر كثير الحفظ كثير الحج رحل إلى الأمصار وجاب الأقطار وسمع من الكبار نظر إليه ابن خزيمة يوما فقال حياة أبي حامد تحول بين الناس وبين الكذب على رسول الله ( ص ) عبدالله بن محمد بن سفيان أبو الحسن الخزاز النحوي حدث عن المبرد وثعلب وكان ثقة له مصنفات في علوم القرآن غزيرة الفوائد محمد بن إسحاق بن يحيى أبو الطيب النحوي قال أبو الوفا له مصفات مليحة في الأخبار وقد حدث عن الحارث بن أبي المبرد وأسامة وثعلب وغيرهم محمد بن هارون أبو بكر العسكري الفقيه على مذهب أبي ثور روى عن الحسن بن عرفة وعباس الدوري وعن الدارقطني والآجري وغيرهما والله أعلم
ثم دخلت سنة عشرين ست وعشرين وثلثمائة
فيها ورد كتاب من ملك الروم إلى الراضي مكتوب بالرومية والتفسير بالعربية فالرومي بالذهب والعربي بالفضة وحاصله طلب الهدنة بينه وبينه ووجه مع الكتاب بهدايا وألطاف كثيرة فاخرة فأجابه الخليفة إلى ذلك وفودي من المسلمين سنة آلاف أسير ما بين ذكر وأنثى على نهر البدندون وفيها ارتحل الوزير أبو الفتح بن الفرات من بغداد إلى الشام وترك الوزارة فوليها أبو علي بن مقلة وكانت ولايته ضعيفه جدا ليس له من الأمر شيء مع ابن رائق وطلب من ابن رائق أن يفرغ له عن أملاكه فجعل يماطله فكتب إلى بجكم يطمعه في بغداد وأن يكون عوضا عن ابن رائق وكتب ابن مقلة أيضا إلى الخليفة يطلب منه أن يسلم إليه ابن رائق وابن مقاتل ويضمنهم بألفي دينار فبلغ ذلك ابن رائق فأخذه فقطع يده وقال هذا أفسد في الأرض ثم جعل يحسن للراضي أن يستوزره وأن قطع يده لا يمنعه من الكتابة وأنه يشد القلم على يده اليمنى المقطوعة فيكتب بها ثم بلغ ابن رائق أنه قد كتب إلى بجكم بما تقدم وأنه يدعو عليه فأخذه فقطع لسانه وسجنه في مكان ضيق وليس عنده من يخدمه فكان يستقي الماء بنفسه يتناول الدول بيده اليسرى ثم يمسكه بفيه ثم يجذب باليسرى ثم يمسك بفيه إلى أن يستقي ولقي شدة وعناء ومات في محبسه هذا وحيدا فدفن فيه ثم سأل أهله نقله فدفن في داره ثم نقل منها إلى غيرها فاتفق له أشياء غريبة منها أنه وزر ثلاث مرات وعزل ثلاث مرات وولى لثلاثة من الخلفاء ودفن ثلاث مرات وسافر ثلاث سفرات مرتين منفيا ومرة إلى الموصل كما تقدم وفيها دخل بجكم بغداد فقلده الراضي إمرة الأمراء مكان ابن رائق وقد كان بجكم هذا من غلمان أبي علي العارض وزير ماكان بن كالي الديلمي فاستوهبه ماكان من الوزير فوهبه له ثم فارق ماكان ولحق بمرداويج وكان في جملة من قتله (11/188)
في الحمام كما تقدم فلما ولاه الخليفة إمرة الأمراء أسكن في دار مؤنس الخادم وعظم أمره جدا وانفصل ابن رائق وكانت أيامه سنة وعشرة أشهر وستة عشر يوما وفيها بعث عماد الدولة بن بويه أخاه معز الدولة فأخذ الأهواز لأبي عبدالله البريدي وانتزعها من يد بجكم وأعادها إليه وفيها استولى لشكري أحد أمراء وشمكير الديلمي على بلاد أذربيجان وانتزعها من رستم بن إبراهيم الكردي أحد أصحاب ابن أبي الساج بعد قتال طويل وفيها اضطرب أمر القرامطة جدا وقتل بعضهم بعضا وانكفوا بسبب ذلك عن التعرض للفساد في الأرض ولزموا بلدهم هجر لا يرومون منه انتقالا إلى غيره ولله الحمد والمنة وفيها توفي أحمد بن زياد بن عبدالرحمن الأندلسي وكان أبوه من أصحاب مالك وهذا الرجل هو أول من أدخل فقه مالك إلى الأندلس وقد عرض عليه القضاء بها فلم يقبل
ثم دخلت سنة سبع وعشرين وثلثمائة
في المحرم منها خرج الراضي أمير المؤمنين إلى الموصل لمحاربة ناصر الدولة الحسن بن عبدالله بن حمدان نائبها وبين يديه بجكم أمير الأمراء وقاضي القضاة أبو الحسين عمر بن محمد بن يوسف وقد استخلف على بغداد ولده القاضي أبا نصر يوسف بن عمر في منصب القضاء عن أمر الخليفة بذلك وكان فاضلا عالما ولما انتهى بجكم إلى الموصل واقع الحسن بن عبدالله بن حمدان فهزم بجكم إبن حمدان وقرر الخليفة الموصل والجزيزة وولى فيها وأما محمد بن رائق فإنه اغتنم غيبة الخليفة عن بغداد واستجاش بألف من القرامطة وجاء بهم فدخل بغداد فأكثر فيها الفساد غير أنه لم يتعرض لدار الخلافة ثم بعث إلى الخليفة يطلب منه المصالحة والعفو عما جنى فأجابه إلى ذلك وبعث إليه قاضي القضاة أبا الحسين عمر بن يوسف وترحل ابن رائق عن بغداد ودخلها الخليفة في جمادى الاولى ففرح المسلمون بذلك ونزل عند غروب الشمس أول ليلة من شهر أذار في جمادى الأولى مطر عظيم وبرد كبار كل واحدة نحو أوقيتين واستمر فسقط بسببه دور كثيرة من بغداد وظهر جراد كثير في هذه السنة وكان الحج من جهة درب العراق قد تعطل من سنة سبع عشرة وثلثمائة إلى هذه السنة فشفع في الناس الشريف أبو علي محمد بن يحيى العلوي عند القرامطة وكانوا يحبونه لشجاعته وكرمه في أن يمكنهم من الحج وأن يكون لهم على كل جمل خمسة دنانير وعلى المحمل سبعة دنانير فاتفقوا معه على ذلك فخرج الناس في هذه السنة إلى الحج على هذاالشرط وكان في جملة من خرج الشيخ أبو علي بن أبي هريرة أحد أئمة الشافعية فلما اجتاز بهم طالبوه بالخفارة فثنى رأس راحلته ورجع وقال ما رجعت شحا ولكن سقط عني الوجوب بطلب هذه الخفارة وفيها وقعت فتنة بالأندلس وذلك أن عبدالرحمن الأموي صاحب الأندلس الملقب (11/189)
بالناصر لدين الله قتل وزيره أحمد فغضب له أخوه أمية بن إسحاق وكان نائبا على مدينة شنترين فارتد ودخل بلاد النصارى واجتمع بملكهم ردمير ودلهم على عورات المسلمين فسار إليهم في جيش كثيف في الجلالقة فخرج إليهم عبدالرحمن فأوقع بهم بأسا شديدا وقتل من الجلالقة خلقا كثيرا ثم كر الفرنج على المسلمين فقتلوا منهم خلقا كثيرا قريبا ممن قتلوا منهم ثم والى المسلمون الغارات على بلاد الجلالقة فقتلوا منهم أمما لا يحصون كثرة ثم ندم أمية بن إسحاق على ما صنع وطلب الأمان من عبدالرحمن فبعث إليه بالأمان فلما قدم عليه قبله واحترمه وفيها توفي من الأعيان
الحسن بن القاسم بن جعفر بن رحيم
أبو علي الدمشقي من أبناء المحدثين كان أخباريا له في ذلك مصنفات وقد حدث عن العباس بن الوليد البيروتي وغيره توفي بمصر في محرم هذه السنة وقد أناف على الثمانين سنة الحسين بن القاسم بن جعفر بن محمد بن خالد بن بشر أبو علي الكوكبي الكاتب صاحب الأخبار والآداب روى عن أحمد بن أبي خيثمة وأبي العيناء وابن أبي الدنيا ورى عنه الدارقطني وغيره
عثمان بن الخطاب
ابن عبدالله أبو عمرو البلوي المغربي الأشج ويعرف بأبي الدنيا قدم هذا الرجل بغداد بعد الثلثمائة وزعم أنه ولد أول خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ببلاد المغرب وأنه وفد هو وأبوه على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأصابهم في الطريق عطش فذهب يرتاد لأبيه ماء فرأى عينا فشرب منها واغتسل ثم جاء لأبيه ليسقيه فوجده قد مات وقدم هو على علي بن أبي طالب فأراد أن يقبل ركبته فصدمه الركاب فشج رأسه فكان يعرف بالأشج وقد زعم صدقه في هذا الذي زعمه طائفة من الناس ورووا عنه نسخة فيها أحاديث من روايته عن علي وممن صدقه في ذلك الحافظ محمد بن أحمد بن المفيد ورواه عنه ولكن كان المفيد متهم بالتشيع فسمح له بذلك لانتسابه إلى علي وأما جمهور المحدثين قديما وحديثا فكذبوه في ذلك وردوا عليه كذبه ونصوا على أن النسخة التي رواها موضوعة ومنهم أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي وأشياخنا الذين أدركناهم جهبذ الوقت شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية والجهبذ أبو الحجاج المزي والحافظ مؤرخ الإسلام أبو عبدالله الذهبي وقد حررت ذلك في كتابي التكميل ولله الحمد والمنة قال المفيد بلغني أن الأشج هذا مات سنة سبع وعشرين وثلثمائة وهو راجع إلى بلده والله أعلم
محمد بن جعفر بن محمد بن سهل أبو بكر الخرائطي صاحب المصنفات أصله من أهل سر من رأى وسكن الشام وحدث بها عن الحسن بن عرفة وغيره (11/190)
وممن توفي فيها الحافظ الكبير ابن الحافظ الكبير أبو محمد عبدالرحمن ابن أبي حاتم محمد ابن إدريس الرازي صاحب كتاب الجرح والتعديل وهو من أجل الكتب المصنفة في هذا الشأن وله التفسير الحافل الذي اشتمل على النقل الكامل الذي يربو فيه على تفسير ابن جرير الطبري وغيره من المفسرين إلى زماننا وله كتاب العلل المصنفة المرتبة على أبواب الفقه وغير ذلك من المصنفات النافعة وكان من العبادة والزهادة والورع والحفظ والكرامات الكثيرة المشهورة على جانب كبير رحمه الله وقد صلى مرة فلما سلم قال له رجل من بعض من صلى معه لقد أطلت بنا ولقد سبحت في سجودي سبعين مرة فقال عبدالرحمن لكني والله ما سبحت إلا ثلاثا وقد انهدم سور بلد في بعض بلاد الثغور فقال عبدالرحمن بن أبي حاتم للناس أما تبنوه وقد حثهم على عمارته فرأى عندهم تأخرا فقال من يبنيه وأضمن له على الله الجنة فقام رجل من التجار فقال اكتب لي خطك بهذا الضمان وهذه ألف دينار لعمارته فكتب له رقعة بذلك فعمر ذلك السور ثم اتفق موت ذلك الرجل التاجر عما قريب فلما حضر الناس جنازته طارت من كفنه رقعة فإذا هي التي كتبها له ابن أبي حاتم وإذا في ظهرها مكتوب قد أمضينا لك هذا الضمان ولا تعد إلى ذلك والله سبحان أعلم ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وثلثمائة قال ابن الجوزي في منتظمه في غرة المحرم منها ظهرت في الجو حمرة شديدة في ناحية الشمال والمغرب وفيها أعمدة بيض عظيمة كثيرة العدد وفيها وصل الخبر بأن ركن الدولة أبا علي الحسن ابن بويه وصل إلى واسط فركب الخليفة وبجكم إلى حربه فخاف فانصرف راجعا إلى الأهواز ورجعا إلى بغداد وفيها ملك ركن الدولة بن بويه مدينة أصبهان أخذها من وشمكير أخي مرداويج لقلة جيشه في هذا الحين وفي شعبان منها زادت دجلة زيادة عظيمة وانتشرت في الجانب الغربي وسقطت دور كثيرة وابنثق بثق من نواحي الأنبار فغرق قرى كثيرة وهلك بسببه حيوان وسباع كثيرة في البرية وفيها تزوج بجكم بسارة بنت عبدالله البريدي ومحمد بن أحمد بن يعقوب الوزير يومئذ ببغداد ثم صرف عن الوزارة بسليمان بن الحسن وضمن البريدي بلاد واسط وأعمالها بستمائة ألف دينار وفيها توفي قاضي القضاة ابو الحسن عمر بن محمد بن يوسف وتولى مكانه ولده أبو نصر يوسف ابن عمر بن محمد بن يوسف وخلع عليه الخليفة الراضي يوم الخميس لخمس بقين من شعبان منها ولما خرج أبو عبدالله البريدي إلى واسط كتب إلى بجكم يحثه على الخروج إلى الجبل ليفتحها ويساعده هو على أخذ الأهواز من يد عماد الدولة بن بويه وإنما كان مقصوده أن يبعده عن بغداد ليأخذها (11/191)
منه فلما انفصل بجكم بالجنود بلغه ما يريده البريدي من المكيدة به فرجع سريعا إلى بغداد وركب في جيش كثيف إليه وأخذ الطرق عليه من كل جانب لئلا يشعر به إلا وهو عليه فاتفق أن بجكما كان راكبا في زورق وعنده كاتب له إذ سقطت حمامة في ذنبها كتاب فأخذه بجكم فقرأه فإذا فيه كتاب من هذا الكاتب إلى أصحاب البريدي يعلمهم بخبر بجكم فقال له بجكم ويحك هذا خطك قال نعم ولم يقدر أن ينكر فأمر بقتله وألقي في دجلة ولما شعر البريدي بقدوم بجكم هرب إلى البصرة ولم يقم بها أيضا بل هرب منها إلى غيرها واستولى بجكم علىبلاد واسط وتسلط الديلم على جيشه الذين خلفهم بالجبل ففروا سراعا إلى بغداد وفيها استولى محمد بن رائق على بلاد الشام فدخل حمص أولا فأخذها ثم جاء إلى دمشق وعليها بدر بن عبد الله الأخشيد المعروف ببدر الأخشيد وهو محمد بن طنج فأخرجه ابن رائق من دمشق قهرا واستولى عليها ثم ركب ابن رائق في جيش إلى الرملة فأخذها ثم إلى عريش مصر فأراد دخولها فلقيه محمد بن طغج الأخشيد فاقتتلا هناك فهزمه ابن رائق واشتغل أصحابه بالنهب ونزلوا بخيام المصريين فكر عليهم المصريون فقتلوهم قتلا عظيما وهرب ابن رائق في سبعين رجلا من أصحابه فدخل دمشق في أسوإ حال وشرها وأرسل له ابن طغج أخاه نصر بن طغج في جيش فاقتتلوا عند اللجون في رابع ذي الحجة فهزم ابن رائق المصريين وقتل أخو الأخشيد فيمن قتل فغسله ابن رائق وكفنه وبعث به إلى أخيه بمصر وأرسل معه ولده وكتب إليه يحلف أنه ما أراد قتله ولقد شق عليه وهذا ولدي فاقتد منه فأكرم الأخشيد ولد محمد بن رائق واصطلحا على أن تكون الرملة وما بعدها إلى ديار مصر للأخشيد ويحمل إليه الأخشيد في كل سنة مائة آلف دينار وأربعين ألف دينار وما بعد الرملة إلى جهة دمشق تكون لابن رائق وفيها توفي من الأعيان أبو محمد جعفر المرتعش أحد مشايخ الصوفية كذا ذكره الخطيب وقال أبو عبدالرحمن السلمي اسمه عبدالله بن محمد أبو محمد النيسابوري كان من ذوي الأموال فتخلى منها وصحب الجنيد وأبا حفص وأبا عثمان وأقام ببغداد حتى صار شيخ الصوفية فكان يقال عجائب بغداد إشارات الشبلي ونكت المرتعش وحكايات جعفر الخواص سمعت أبا جعفر الصائغ يقول قال المرتعش من ظن أن أفعاله تنجيه من النار أو تبلغه الرضوان فقد جعل لنفسه وفعله خطرا ومن اعتمد على فضل الله بلغه الله أقصى منازل الرضوان وقيل للمرتعش أن فلانا يمشي على الماء فقال إن مخالفة الهوى أعظم من المشي على الماء والطيران في الهواء ولما حضرته الوفاة بمسجد الشونيزية حسبوا ما عليه من الدين فإذا عليه سبعة عشر درهما فقال بيعوا خريقاتي هذه واقضوا بها ديني وأرجو من الله تعالى أن يرزقني (11/192)
كفنا وقد سألت الله ثلاثا أن يميتني فقيرا وأن يجعل وفاتي في هذا المسجد فإني صحبت فيه أقواما وأن يجعل عندي من آنس به وأحبه ثم أغمض عينيه ومات أبو سعيد الأصطخري الحسن بن أحمد
ابن يزيد بن عيسى بن الفضل بن يسار أبو سعيد الأصطخري أحد أئمة الشافعية كان زاهدا ناسكا عابدا ولي القضاء بقم ثم حسبة بغداد فكان يدور بها ويصلي على بغلته وهو دائر بين الأزقة وكان متقللا جدا وقد ذكرنا ترجمته في طبقات الشافعية وله كتاب القضاء لم يصنف مثله في بابه توفي وقد قارب التسعين رحمه الله
علي بن محمد أبو الحسن المزين الصغير
أحد مشايخ الصوفية أصله من بغداد وصحب الجنيد وسهلا التستري وجاور بمكة حتى توفي في هذه السنة وكان يحكى عن نفسه قال وردت بئرا في أرض تبوك فلما دنوت منها زلقت فسقطت في البئر وليس أحد يراني فلما كنت في أسفله إذا فيه مصطبة فتعلقت بها وقلت إن مت لم أفسد على الناس الماء وسكنت نفسي وطابت للموت فبينا أنا كذلك إذا أفعى قد تدلت علي فلفت علي ذنبها ثم رفعتني حتى أخرجتني إلى وجه الأرض وانسابت فلم أدر أين ذهبت ولا من أين جاءت وفي مشايخ الصوفية آخر يقال له أبو جعفر المزين الكبير جاور بمكة ومات بها أيضا وكان من العباد روى الخطيب عن علي بن أبي علي إبراهيم بن محمد الطبري عن جعفر الخلدي قال ودعت في بعض حجاتي المزين الكبير فقلت له زودني فقال لي إذا فقدت شيئا فقل يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد اجمع بيني وبين كذا فإن الله يجمع بينك وبين ذلك الشيء قال وجئت إلى الكتاني فودعته وسألته أن يزودني فأعطاني خاتما على فصه نقش فقال إذا اغتممت فانظر إلى فص هذا الخاتم يزول غمك قال فكنت لا أدعو بذلك الدعاء إلا استجيب لي ولا أنظر في ذلك الفص إلا زال غمي فبينا أنا ذات يوم في سمرية إذ هبت ريح شديدة فأخرجت الخاتم لأنظر إليه فلم أدر كيف ذهب فجعلت أدعو بذلك الدعاء يومي أجمع أن يجمع علي الخاتم فلما رجعت إلى المنزل فتشت المتاع الذي في المنزل فإذا الخاتم في بعض ثيابي التي كانت بالمنزل
صاحب كتاب العقد الفريد أحمد بن عبد ربه ابن حبيب بن جرير بن سالم أبو عمر القرطبي مولى هشام بن عبدالرحمن بن معاوية بن هشام ابن عبدالملك بن مروان بن الحكم الأموي كان من الفضلاء المكثرين والعلماء بأخبار الأولين والمتأخرين وكتابه العقد يدل على فضائل جمة وعلوم كثيرة مهمه ويدل كثير من كلامه (11/193)
على تشيع فيه وميل إلى الحط على بني أمية وهذا عجيب منه لأنه أحد مواليهم وكان الأولى به أن يكون ممن يواليهم لا ممن يعاديهم قال ابن خلكان وله ديوان شعر حسن ثم أورد منه أشعارا في التغزل في المردان والنسوان أيضا ولد في رمضان سنة ست وأربعين ومائتين وتوفي بقرطبة يوم الأحد ثامن عشر جمادى الأولى من هذه السنة عمر بن أبي عمر محمد بن يوسف بن يعقوب
ابن حماد بن زيد بن درهم أبو الحسين الأزدي الفقيه المالكي القاضي ناب عن أبيه وعمره عشرون سنة وكان حافظا للقرآن والحديث والفقه على مذهب مالك والفرائض والحساب واللغة والنحو والشعر وصنف مسندا فرزق قوة الفهم وجودة القريحة وشرف الأخلاق وله الشعر الرائق الحسن وكان مشكور السيرة في القضاء عدلا ثقة إماما قال الخطيب أخبرنا أبو الطيب الطبري سمعت المعافى بن زكريا الجريري يقول كنا نجلس في حضرة القاضي أبي الحسين فجئنا يوما ننتظره على العادة فجلسنا عند بابه وإذا أعرابي جالس كأن له حاجة إذ وقع غراب على نخلة في الدار فصرخ ثم طار فقال الأعرابي يخبر أن صاحب هذه الدار يموت بعد سبعة أيام قال فزبرناه فقام وانصرف ثم خرج الأذن من القاضي أن هلموا فدخلنا فوجدناه متغير اللون مغتما فقلنا له ما الخبر فقال إني رأيت البارحة في المنام شخصا يقول
... منازل آل حماد بن زيد ... على أهليك والنعم السلام ...
وقد ضاق لذلك صدري قال فدعونا له وانصرفنا فلما كان اليوم السابع من ذلك اليوم دفن ليوم الخميس لسبع عشرة مضت من شعبان من هذه السنة وله من العمر تسع وثلاثون سنة وصلى عليه ابنه أبو نصر وولي بعده القضاء قال الصولي بلغ القاضي أبو الحسين من العلم مبلغا عظيما مع حداثة سنه وحين توفي كان الخليفة الراضي يبكي عليه ويحرضنا ويقول كنت أضيق بالشيء ذرعا فيوسعه علي ثم يقول والله لا بقيت بعده فتوفي الراضي بعده في نصف ربيع الأول من هذه السنة الآتية رحمهما الله وكان الراضي أيضا حدث السن
ابن شنبوذ المقري محمد بن أحمد بن أيوب بن الصلت أبو الحسن المقري المعروف بابن شنبوذ روى عن أبي مسلم الكجي وبشر بن موسى وخلق واختار حروفا في القراءات أنكرت عليه وصنف أبو بكر الأنباري كتابا في الرد عليه وقد ذكرنا فيما تقدم كيف أنه عقد له مجلس في دار الوزير ابن مقلة وأنه ضرب حتى رجع عن كثير منها وكانت قراءات شاذة أنكرها عليه قراء أهل عصره توفي في صفر منها وقد دعا على الوزير ابن مقلة حين أمر بضربه فلم يفلح ابن مقلة بعدها بل عوقب بأنواع من العقوبات (11/194)
وقطعت يده ولسانه وحبس حتى مات في هذه السنة التي مات فيها ابن شنبوذ وهذه ترجمة ابن مقلة الوزير أحد الكتاب المشاهير وهو محمد بن علي بن الحسن بن عبدالله
أبو علي المعروف بابن مقلة الوزير وقد كان في أول عمره ضعيف الحال قليل المال ثم آل به الحال إلى أن ولي الوزارة لثلاثة من الخلفاء المقتدر والقاهر والراضي وعزل ثلاث مرات وقطعت يده ولسانه في آخر عمره وحبس فكان يستقي الماء بيده اليسرى وأسنانه وكان مع ذلك يكتب بيده اليمنى مع قطعها كما كان يكتب بها وهي صحيحة وقد كان خطه من أقوى الخطوط كما هو مشهور عنه وقد بنى له دارا في زمان وزارته وجمع عند بنيانها خلقا من المنجمين فاتفقوا على وضع أساسها في الوقت الفلاني فأسس جدرانها بين العشائين كما أشار به المنجمون فما لبث بعد استتمامها إلا يسيرا حتى خربت وصارت كوما كما ذكرنا ذلك وذكرنا ما كتبوا على جدرانها وقد كان له بستان كبير جدا عدة أجربة أي فدادين وكان على جميعه شبكة من إبريسم وفيه أنواع الطيور من القمارى والهزاز والببغ والبلابل والطواويس وغير ذلك شيء كثير وفي أرضه من الغزلان وبقر الوحش والنعام وغير ذلك شيء كثير أيضا ثم صار هذا كله عما قريب بعد النضرة والبهجة والبهاء إلى الهلاك والبوار والفناء والزوال وهذه سنة الله في المغترين الجاهلين الراكنين إلى دار الفناء والغرور وقد أنشد فيه بعض الشعراء حين بنى داره وبستانه وما اتسع فيه من متاع الدنيا
... قل لابن مقلة لا تكن عجلا ... واصبر فإنك في أضغاث أحلام ... تبنى بأحجر دور الناس مجتهدا ... دارا ستهدم قنصا بعد أيامم ... ما زلت تختار سعد المشتري لها ... فكم نحوس به من نحس بهرام ... إن القرآن وبطليموس ما اجتمعا ... في حال نقص ولا في حال إبرام ...
فعزل ابن مقلة عن وزارة بغداد وخربت داره وانقلعت أشجاره وقطعت يده ثم قطع لسانه وصودر بألف ألف دينار ثم سجن وحده ليس معه من يخدمه مع الكبر والضعف والضرورة وانعدام بعض أعضائه حتى كان يستقي الماء بنفسه من بئر عميق فكان يدلي الحبل بيده اليسرى ويمسكه بفيه وقاسى جهد جهيدا بعد ما ذاق عيشا رغيدا ومن شعره في يده
... ما سئمت الحياة لكن توثقت للحياة ... بأيمانهم فبانت يمينى ... بعت ديني لهم بدنياي حتى ... حرموني دنياهم بعد ديني ... ولقد حفظت ما استطعت بجهدي ... حفظ أرواحهم فما حفظوني (11/195)
ليس بعد اليمين لذة عيش ... يا حياتي بانت يميني فبيني ...
وكان يبكي على يده كثيرا ويقول كتبت بها القرآن وخدمت بها ثلاثة من الخلفاء تقطع كما تقطع أيدي اللصوص ثم ينشد
... إذا ما مات بعضك فابك بعضا ... فإن البعض من بعض قريب ...
وقد مات عفا الله عنه في محبسه هذا ودفن في دار السلطان ثم سأل ولده أبو الحسين أن يحول إلى عنده فأجيب فنبشوه ودفنه ولده عنده في داره ثم سألت زوجته المعروفة بالدينارية أن يدفن في دارها فأجيبت إلى ذلك فنبش ودفن عندها فهذه ثلاث مرات توفي وله من العمر ست وخمسون سنة
أبو بكر ابن الأنباري
محمد بن القاسم بن محمد بن بشار بن الحسن بن بيان بن سماعة بن فروة بن قطن بن دعامة أبو بكر الأنباري صاحب كتاب الوقف والابتداء وغيره من الكتب النافعة والمصنفات الكثيرة كان من بحور العلم في اللغة العربية والتفسير والحديث وغير ذلك سمع الكديمي وإسماعيل القاضي وثعلبا وغيرهم وكان ثقة صدوقا أديبا دينا فاضلا من أهل السنة كان من أعلم الناس بالنحو والأدب وأكثرهم حفظا له وكان له من المحافيظ مجلدات كثيرة أحمال جمال وكان لا يأكل إلا النقالي ولا يشرب ماء إلا قريب العصر مراعاة لذهنه وحفظه ويقال إنه كان يحفظ مائة وعشرين تفسيرا وحفظ تعبير الرؤيا في ليلة وكان يحفظ في كل جمعة عشرة آلاف ورقة وكانت وفاته ليلة عيد النحر من هذه السنة
أم عيسى بنت إبراهيم الحربي
كان عالمة فاضلة تفتي في الفقه توفيت في رجب ودفنت إلى جانب أبيها رحمه الله تعالى
ثم دخلت سنة تسع وعشرين وثلثمائة في المنتصف من ربيع الأول كانت وفاة الخليفة الراضي بالله أمير المؤمنين أبي العباس أحمد بن المقتدر بالله جعفر بن المعتضد بالله أحمد بن الموفق بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد العباسي استخلف بعد عمه القاهر لست خلون من جمادي الأولى سنة ثنتين وعشرين وثلثمائة وأمه أم ولد رومية تسمى ظلوم كان مولده في رجب سنة سبع وتسعين ومائتين وكانت خلافته ست سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام وعمره يوم مات إحدى وثلاثين سنة وعشرة أشهر وكان أسمر رقيق السمرة ذرى اللون أسود الشعر سبطه قصير القامة نحيف الجسم في وجهه طول وفي مقدم لحيته تمام وفي شعرها رقة هكذا وصفه من شاهده قال الخطيب البغدادي كان للراضي فضائل كثيرة وختم الخلفاء في أمور عدة منها أنه كان آخر خليفة له شعر وآخرهم انفرد بتدبير الجيوش والأموال وآخر خليفة (11/196)
خطب على المنبر يوم الجمعة وآخر خليفة جالس الجلساء ووصل إليه الندماء وآخر خليفة كانت نفقته وجوائزه وعطاياه وجراياته وخزائنه ومطابخه ومجالسه وخدمه وأصحابه وأموره كلها تجري على ترتيب المتقدمين من الخلفاء وقال غيره كان فصيحا بليغا كريما جوادا ممدحا ومن جيد كلامه الذي سمعه منه محمد بن يحيى الصولي لله أقوام هم مفاتيح الخير وأقوام هم مفاتيح الشر فمن أراد الله به خيرا قصده أهل الخير وجعله الوسيلة إلينا فنقضي حاجته وهو الشريك في الثواب والأجر والشكر ومن أراد الله به شرا عدل به إلى غيرنا وهو الشريك في الوزر والإثم والله المستعان على كل حال ومن ألطف الإعتذارات ما كتب به الراضي إلى أخيه المتقي وهما في المكتب وكان المتقي قد اعتدى على الراضي والراضي هو الكبير منهما فكتب بسم الله الرحمن الرحيم أنا معترف لك بالعبودية فرضا وأنت معترف لي بالأخوة فضلا والعبد يذنب والمولى يعفو وقد قال الشاعر ... يا ذا الذي يغضب من غير شي ... اعتب فعتباك حبيب إلي ... أنت على أنك لي ظالم ... أعز خلق الله طرا علي ...
قال فجاء إليه أخوه المتقي فأكب عليه يقبل يديه وتعانقا واصطلحا ومن لطيف شعره قوله فيما ذكره ابن الأثير في كامله
... يصفر وجهي إذا تأمله ... طرفي ويحمر وجهه خجلا ... حتى كأن الذي بوجنته ... من دم جسمي إليه قد نقلا ...
قال ومما رثا به أباه المقتدر
... ولو أن حيا كان قبرا لميت ... لصيرت أحشائي لأعظمه قبرا ... ولو أن عمري كان طوع مشيئتي ... وساعدني المقدور قاسمته العمرا ... بنفسي ثرى ضاجعت في تربة البلى ... لقد ضم منك الغيث والليث والبدرا ... ومما أنشده له ابن الجوزي في منتظمه ... لا تكثرن لومي على الإسراف ... ربح المحامد متجر الأشراف ... أحوي لما يأتي المكارم سابقا ... وأشيد ما قد أسست أسلافي ... إني من القوم الذين أكفهم ... معتادة الإملاق والإتلاف ... ومن شعره الذي رواه الخطيب عنه من طريق أبي بكر محمد بن يحيى الصولي النديم قوله ... كل صفو إلى كدر ... كل أمن إلى حذر ... ومصير الشباب للمو ... ت فيه أو الكبر ... در در المشيب من ... واعظ ينذر البشر (11/197)
أيها الآمل الذي ... تاه في لجة الغرر ... أين من كان قبلنا ... درس العين والأثر ... سير المعاد من ... عمره كله خطر ... رب إني ادخرت عن ... دك أرجوك مدخر ... رب إني مؤمن بما ... بين الوحي في السور ... واعترافي بترك نف ... عى وإيثاري لضرر ... رب فاغفر لي الخطي ... ئة ياخير من غفر ... وقد كانت وفاته بعلة الاستسقاء في ليلة السادس عشر من ربيع الأول منها وكان قد أرسل إلى بجكم وهو بواسط أن يعهد إلى ولده الأصغر أبي الفضل فلم يتفق له ذلك وبايع الناس أخاه المتقي لله إبراهيم بن المقتدر وكان أمر الله قدرا مقدورا لما مات أخوه الراضي اجتمع القضاة والأعيان بدار بجكم وتترروا فيمن يولون عليهم فاتفق رأيهم كلهم على المتقي فأحضروه في دار الخلافة وأرادوا بيعته فصلى ركعتين صلاة الإستخارة وهو على الأرض ثم صعد إلى الكرسي بعد الصلاة ثم صعد إلى السرير وبايعه الناس يوم الأربعاء لعشر بقين من ربيع الأول منها فلم يغير على أحد شيئا ولا غدر بأحد حتى ولا على سريته لم يغيرها ولم يتسر عليها وكان كاسمه المتقي بالله كثير الصيام والصلاة والتعبد وقال لا أريد جليسا ولا مسامرا حسبي المصحف نديما لا أريد نديما غيره فانقطع عنه الجلساء والسمار والشعراء والوزراء والتفوا على الأمير بجكم وكان يجالسهم ويحادثونه ويتناشدون عنده الأشعار وكان بجكم لا يفهم كثير شيء مما يقولون لعجمته وكان في جملتهم سنان بن ثابت الصابي المتطبب وكان بجكم يشكو إليه قوة النفس الغضبية فيه وكان سنان يهذب من أخلاقه ويسكن جأشه ويروض نفسه حتى يسكن عن بعض ما كان يتعاطاه من سفك الدماء وكان المتقي بالله حسن الوجه معتدل الخلق قصير الأنف أبيض مشربا حمرة وفي شعره شقرة وجعودة كث اللحية أشهل العينين أبي النفس لم يشرب خمرا ولا نبيذا قط فالتقى فيه الاسم والفعل ولله الحمد ولما استقر المتقي في الخلاقة أنفذ الرسل والخلع إلى بجكم وهو بواسط ونفذت المكاتبات إلى الآفاق بولايته وفيها تحارب أبو عبدالله البريدي وبجكم بناحية الأهواز فقتل بجكم في الحرب واستظهر البريدي عليه وقوي أمره فاحتاط الخليفة على حواصل بجكم وكان في جملة ما أخذ من أمواله ألف ألف دينار ومائة ألف دينار وكانت أيام بجكم على بغداد سنتين وثمانية أشهر وتسعة أيام ثم إن (11/198)
البريدي حدثته نفسه ببغداد فأنفق المتقي أموالا جزيلة في الجند ليمنعوه من ذلك فركب بنفسه فخرج أثناء الطريق ليمنعه من دخول بغداد فخالفه البريدي ودخل بغداد في ثاني رمضان ونزل بالشفيع فلما تحقق المتقي ذلك بعث إليه يهنئه وأرسل إليه بالأطعمة وخوطب بالوزير ولم يخاطبه بإمرة الأمراء فأرسل البريدي يطلب من المتقي خمسمائة ألف دينار فامتنع الخليفة من ذلك فبعث إليه يتهدده ويتوعده ويذكره ما حل بالمعز والمستعين والمهتدي والقاهر واختلفت الرسل بينهم ثم كان آخر ذلك أن بعث الخليفة إليه بذلك قهرا ولم يتفق اجتماع الخليفة والبريدي ببغداد حتى خرج منها البريدي إلى واسط وذلك أنه ثارت عليه الديالمة والتفوا على كبيرهم كورتكين وراموا حريق دار البريدي ونفرت عن البريدي طائفة من جيشه يقال لهم البجكمية لأنه لما قبض المال من الخليفة لم يعطهم منه شيئا وكانت من البجكمية طائفة أخرى قد اختلفت معه أيضا وهم والديالمة قد صاروا حزبين والفتوا مع الديالمة فانهزم البريدي من بغداد يوم سلخ رمضان واستولى كورتكين على الأمور ببغداد ودخل إلى المتقي فقلده إمرة الأمراء وخلع عليه واستدعى المتقي علي بن عيسى وأخاه عبدالرحمن ففوض إلى عبدالرحمن تدبير الأمور من غير تسمية بوزارة ثم قبض كورتكين على رئيس الأتراك بكبك غلام بجكم وغرقة ثم تظلمت العامة من الديلم لأنهم كانوا يأخذون منهم درهم فشكوا ذلك إلى كورتكين فلم يشكهم فمنعت العامة الخطباء أن يصلوا في الجوامع واقتتل الديلم والعامة فقتل من الفريقين خلق كثير وجم غفير وكان الخليفة قد كتب إلى أبي بكر محمد بن رائق صاحب الشام يستدعيه إليه ليخلصه من الديلم ومن البريدي فركب إلى بغداد في العشرين من رمضان ومعه جيش عظيم وقد صار إليه من الأتراك البجكمية خلق كثير وحين وصل إلى الموصل حاد عن طريقه ناصر الدولة بن حمدان فتراسلا ثم اصطلحا وحمل ابن حمدان مائة ألف دينار فلما اقترب ابن رائق من بغداد خرج كورتكين في جيشه ليقاتله فدخل ابن رائق بغداد من غربيها ورجع كورتكين بجيشه فدخل من شرقيها ثم تصافوا ببغداد للقتال وساعدت العامة ابن رائق على كورتكين فانهزم الديلم وقتل منهم خلق كثير وهرب كورتكين فاختفى واستقر أمر ابن رائق وخلع عليه الخليفة وركب هو وإياه في دجلة فظفر ابن رائق بكورتكين فأودعه السجن الذي في دار الخلافة قال ابن الجوزي وفي يوم الجمعة ثاني عشر جمادى الأولى حضر الناس لصلاة الجمعة بجامع براثي وقد كان المقتدر أحرق هذا الجامع لأنه كبسه فوجد فيه جماعة من الشيعة يجتمعون فيه للسب والشتم فلم يزل خرابا حتى عمره بجكم في أيام الراضي ثم أمر المتقي بوضع منبر فيه كان عليه اسم الرشيد وصلى فيه الناس الجمعة قال فلم يزل تقام فيه إلى ما بعد سنة خمسين وأربعمائة قال وفي جمادى الآخرة (11/199)
في ليلة سابعة كانت ليلة برد ورعد وبرق فسقطت القبة الخضراء من قصر المنصور وقد كانت هذه القبة تاج بغداد ومأثرة من مآثر بني العباس عظيمة بنيت أول ملكهم وكان بين بنيانها وسقوطها مائة وسبعة وثمانون سنة قال وخرج عن الناس التشرينان والكانونان منها ولم يمطروا فيها بشيء سوى مطرة واحدة لم ينبل منها التراب فغلت الأسعار ببغداد حتى بيع الكر بمائة وثلاثين دينار ووقع الفناء في الناس حتى كان الجماعة يدفنون في القبر الواحد من غير غسل ولا صلاة وبيع العقار والأثاث بأرخص الأسعار حتى كان يشتري بالدرهم ما يساوي الدينار في غير تلك الأيام ورأت امرأة رسول الله ( ص ) في منامها وهو يأمرها بخروج الناس إلى الصحراء لصلاة الاستسقاء فأمر الخليفة بامتثال ذلك فصلى الناس واستسقوا فجاءت الأمطار فزادت الفرات شيئا لم ير مثله وغرقت العباسية ودخل الماء الشوارع ببغداد فسقطت القنطرة العتيقة والجديدة وقطعت الأكراد الطريق على قافلة من خراسان فأخذوا منهم ما قيمته ثلاثة آلاف دينارا وكان أكثر ذلك من أموال
بجكم التركي
وخرج الناس للحج ثم رجعوا من أثناء الطريق بسبب رجل من العلويين قد خرج بالمدينة النبوية ودعا إلى نفسه وخرج عن الطاعة وفيها توفي من الأعيان
أحمد بن إبراهيم
ابن تزمرد الفقيه أحد أصحاب ابن سريج خرج من الحمام إلي خارجه فسقط عليه الحمام فمات من فوره بجكم التركي أمير الأمراء ببغداد قبل بني بويه كان عاقلا يفهم العربية ولا يتكلم بها يقول أخاف أن أخطئ والخطأ من الرئيس قبيح وكان مع ذلك يحب العلم وأهله وكان كثير الأموال والصدقات ابتدأ يعمل مارستان ببغداد فلم يتم فجدده عضد الدولة ابن بويه وكان بجكم يقول العدل ربح السلطان في الدنيا والآخرة وكان يدفن أموالا كثيرة في الصحراء فلما مات لم يدر أين هي وكان ندماء الراضي قد التفوا على بجكم وهو بواسط وكان قد ضمنها بثمانمائة ألف دينار من الخليفة وكانوا يسامرونه كالخليفة وكان لا يفهم أكثر ما يقولون وراض له مزاجه الطيب سنان بن ثابت الصابي حتى لان خلقه وحسنت سيرته وقلت سطوته ولكن لم يعمر إلا قليلا بعد ذلك ودخل عليه مرة رجل فوعظه فأبكاه فأمر له بمائة ألف درهم فلحقه بها الرسول فقال بجكم لجلسائه ما أظنه يقبلها ولا يريدها وما يصنع هذا بالدنيا هذا رجل مشغول بالعبادة ماذا يصنع بالدراهم فما كان بأسرع من أن رجع الغلام وليس معه شيء فقال بجكم قبلها قال نعم فقال بجكم كلنا صيادون ولكن الشباك مختلفة توفي لسبع بقين من رجب من هذه السنة وسبب موته أنه خرج يتصيد فلقي طائفة من الأكراد فاستهان بهم فقاتلوه فضربه رجل منهم فقتله وكانت إمرته على بغداد سنتين وثمانية (11/200)
أشهر وتسعة أيام وخلف من الأموال والحواصل ما ينيف على ألفى ألف دينار أخذها المتقي بالله كلها
أبو محمد البربهاري
العالم الزاهد الفقيه الحنبلي الواعظ صاحب المروزي وسهلا التستري وتنزه عن ميراث أبيه وكان سبعين ألفا لأمر كرهه وكان شديدا على أهل البدع والمعاصي وكان كبير القدر تعظمه الخاصة والعامة وقد عطس يوما وهو يعظ فشمته الحاضرون ثم شمته من سمعهم حتى شمته أهل بغداد فانتهت الضجة إلى دار الخلافة فغار الخليفة من ذلك وتكلم فيه جماعة من أرباب الدولة فطلب فاختفى عند أخت بوران شهرا ثم أخذه القيام داء فمات عندها فأمرت خادمها فصلى عليه فامتلأت الدار رجالا عليهم ثياب بياض ودفنته عندها ثم أوصت إذا ماتت أن تدفن عنده وكان عمره يوم مات ستا وتسعين سنة رحمه الله
يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول
أبو بكر الأزرق لأنه كان أزرق العينين التنوخي الكاتب سمع جده والزبير بن بكار والحسين بن عرفة وغيرهم وكان خشن العيش كثير الصدقة فيقال إنه تصدق بمائة ألف دينار وكان أمارا بالمعروف نهاء عن المنكر روى عنه الدارقطني وغيره من الحفاظ وكان ثقة عدلا توفي في ذي الحجة منها عن ثنتين وتسعين سنة رحمه الله تعالى
ثم دخلت سنة ثلاثين وثلثمائة
قال ابن الجوزي في المحرم منها ظهر كوكب بذنب رأسه إلي المغرب وذنبه إلى المشرق وكان عظيما جدا وذنبه منتشر وبقي ثلاثة عشر يوما إلى أن اضمحل قال وفي نصف ربيع الأول بلغ الكر من الحنظة مائتي دينار وأكل الضعفاء الميتة ودام الغلاء وكثر الموت وتقطعت السبل وشغل الناس بالمرض والفقر وتركوا دفن الموتى وشغلوا عن الملاهي واللعب قال ثم جاء مطر كأفواه القرب وبلغت زيادة دجلة عشرين ذراعا وثلثا وذكر ابن الأثير في الكامل أن محمد بن رائق وقع بينه وبين البريدي وحشة لأجل أن البريدي منع خراج واسط فركب إليه ابن رائق ليتسلم ما عنده من المال فوقعت مصالحة ورجع ابن رائق إلى بغداد فطالبه الجند بأرزاقهم وضاق عليه حاله وتحيز جماعة من الأتراك عنه إلى البريدي فضعف جانب ابن رائق وكاتب البريدي بالوزارة ببغداد ثم قطع اسم الوزارة عنه فاشتد حنق البريدي عليه وعزم على أخذ بغداد فبعث أخاه أبا الحسين في جيش إلى بغداد فتحصن ابن رائق مع الخليفة بدار الخلافة ونصبت فيها المجانيق والعرادات العرادة شيء أصغر من المنجنيق على دجلة أيضا فاضطربت أهل بغداد ونهب الناس بعضهم بعضا ليلا ونهارا وجاء أبو الحسين أخو أبي عبدالله البريدي بمن معه فقاتلهم الناس (11/201)
في البر وفي دجلة وتفاقم الحال جدا مع ما الناس فيه من الغلاء والوباء والفناء فإنا لله وإنا إليه راجعون ثم إن الخليفة وابن رائق انهزما في جمادى الآخرة ومع الخليفة ابنه منصور في عشرين فارسا فقصدوا نحو الموصل واستحوذ أبو الحسين على دار الخلافة وقتل من وجد فيها من الحاشية ونهبوها حتى وصل النهب إلى الحريم ولم يتعرضوا للقاهر وهو إذ ذاك أعمى مكفوفا وأخرجوا كورتكين من الحبس فبعثه أبو الحسين إلى البريدي فكان آخر العهد به ونهبوا بغداد جهارا علانية ونزل أبو الحسين بدار مؤنس الخادم التي كان يسكنها ابن رائق وكانوا يكبسون الدور ويأخذون ما فيها من الأموال فكثر الجور وغلت الأسعار جدا وضرب أبو الحسين المكس على الحنطة والشعير وذاق أهل بغداد لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون وكان معه طائفة كبيرة من القرامطة فأفسدوا في البلد فسادا عظيما ووقع بينهم وبين الأتراك حروب طويلة شديدة فغلبهم الترك وأخرجوهم من بغداد فوقعت الحرب بين العامة والديلم جند أبي الحسين وفي شعبان منها اشتد الحال أيضا ونهبت المساكن وكبس أهلها ليلا ونهارا وخرج جند البريدي فنهبوا الغلات من القرى والحيوانات وجرى ظلم لم يسمع بمثله قال ابن الأثير وإنما ذكرنا هذا ليعلم الظلمة أن أخبارهم الشنيعة تنقل وتبقى بعدهم على وجه الأرض وفي الكتب ليذكروا بها ويذموا ويعابوا ذلك لهم خزي في الدنيا وأمرهم إلى الله لعلهم أن يتركوا الظلم لهذا إن لم يتركوه لله وقد كان الخليفة أرسل وهو ببغداد إلى ناصر الدولة بن حمدان نائب الموصل يستمده ويستحثه على البريدي فأسل ناصر الدولة أخاه سيف الدولة عليا في جيش كثيف فلما كان بتكريت إذا الخليفة وابن رائق قد هربا فرجع معهما سيف الدولة إلى أخيه وخدم سيف الدولة الخليفة خدمة كثيرة ولما وصلوا إلى الموصل خرج عنها ناصر الدولة فنزل شرقها وأرسل التحف والضيافات ولم يجئ إلى الخليفة خوفا من الغائلة من جهة ابن رائق فأرسل الخليفة ولده أبا منصور ومعه ابن رائق للسلام على ناصر الدولة فصارا إليه فأمر ناصر الدولة أن ينثر الذهب والفضة على رأس ولد الخليفة وجلسا عنده ساعة ثم قاما ورجعا فركب ابن الخليفة وأراد ابن رائق أن يركب معه فقال له ناصر الدولة اجلس اليوم عندي حتى نفكر فيما نصنع في أمرنا هذا فاعتذر إليه بابن الخليفة واستراب بالأمر وخشي فقبض ابن حمدان بكمه فجبذه ابن رائق منه فانقطع كمه وركب سريعا فسقط عن فرسه فأمر ناصر الدولة بقتله فقتل وذلك يوم الإثنين لسبع بقين من رجب منها فأرسل الخليفة إلى ابن حمدان فاستحضره وخلع عليه ولقبه ناصر الدولة يومئذ وجعله أمير الأمراء وخلع على أخيه أبي الحسن ولقبه سيف الدولة يومئذ ولما قتل ابن رائق وبلغ خبر مقتله إلى صاحب مصر الأخشيد محمد بن طغج ركب إلى دمشق فتسلمها من محمد بن يزداد نائب ابن رائق لم ينتطح فيها عنزان ولما بلغ خبر مقتله إلى بغداد فارق (11/202)
أكثر الأتراك أبا الحسين البريدي لسوء سيرته وقبح سريرته قبحه الله وقصدوا الخليفة وابن حمدان فتقوى بهم وركب هو والخليفة إلى بغداد فلما اقتربوا منها هرب عنها أبو الحسين أخو البريدي فدخلها المتقي ومعه بنو حمدان في جيوش كثيرة وذلك في شوال منها ففرح المسلمون فرحا شديدا وبعث الخليفة إلى أهله وقد كان أخرجهم إلى سامرا فردهم وتراجع أعيان الناس إلى بغداد بعد ما كانوا قد ترحلوا عنها ورد الخليفة أبا إسحاق الفزاري إلى الوزارة وولى توزون شرطة جانبي بغداد وبعث ناصر الدولة أخاه سيف الدولة في جيش وراء أبي الحسين أخي البريدي فلحقه عند المدائن فاقتتلوا قتالا شديدا في أيام نحسات ثم كان آخر الأمر أن انهزم أبو الحسين إلى أخيه البريدي بواسط وقد ركب ناصر الدولة بنفسه فنزل المدائن قوة لأخيه وقد انهزم سيف الدولة مرة من أخي البريدي فرده أخوه وزاده جيشا حتى كسر البريدي وأسر جماعة من أعيان أصحابه وقتل منهم خلقا كثيرا ثم أرسل أخاه سيف الدولة إلى واسط لقتال أبي عبدالله البريدي فانهزم منه البريدي وأخوه إلى البصرة وتسلم سيف الدولة واسطا وسيأتي ما كان من خبره في السنة الآتية مع البريدي وأما ناصر الدولة فإنه عاد إلى بغداد فدخلها في ثالث عشر ذي الحجة وبين يديه الأسارى على ما الجمال ففرح المسلمون واطمأنوا ونظر في المصالح العامة وأصلح معيار الدنيار وذلك أنه وجده قد غير عما كان عليه فضرب دنانير سماها الإبريزيه فكانت تباع كل دينار بثلاثة عشر درهما وإنما كان يباع ما قبلها بعشرة وعزل الخليفة بدرا الخرشني عن الحجابة وولاها سلامة الطولوني وجعل بدرا على طريق الفرات فسار إلى الأخشيد فأكرمه واستنابه على دمشق فمات بها وفيها وصلت الروم إلى قريب حلب فقتلوا خلقا وأسروا نحوا من خمسة عشر ألفا فإنا لله وإنا إليه راجعون وفيها دخل نائب طرسوس إلى بلاد الروم فقتل وسبى وغنم وسلم وأسر من بطارقتهم المشهورين منهم وغيرهم خلقا كثيرا ولله الحمد وفيها توفي من الأعيان
إسحاق بن محمد بن يعقوب النهرجوري
أحد مشايخ الصوفية صحب الجنيد بن محمد وغيره من أئمة الصوفية وجاور بمكة حتى مات بها ومن كلامه الحسن مفاوز الدنيا تقطع بالأقدام ومفاوز الآخرة تقطع بالقلوب
الحسين بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن سعيد بن أبان
أبو عبدالله الضبي القاضي المحاملي الفقيه الشافعي المحدث سمع الكثير وأدرك خلقا من أصحاب ابن عيينة نحوا من سبعين رجلا وروى عن جماعة من الأئمة وعنه الدارقطني وخلق وكان يحضر مجلسه نحو من عشرة آلاف وكان صدوقا دينا فقيها محدثا ولي قضاء الكوفة ستين سنة (11/203)
وأضيف إليه قضاء فارس وأعمالها ثم استعفى من ذلك كله ولزم منزله واقتصر على إسماع الحديث وسماعه توفي في ربيع الآخر من هذه السنة عن خمس وتسعين سنة وقد تناظر هو و بعض الشيعة بحضرة بعض الأكابر فجعل الشيعي يذكر مواقف علي يوم بدر وأحد والخندق وخيبر وحنين وشجاعته ثم قال للمحاملي أتعرفها قال نعم ولكن أتعرف انت أين كان الصديق يوم بدر كان مع رسول الله ( ص ) في العريش بمنزلة الرئيس الذي يحامي عنه وعلي رضي الله عنه في المبارزة ولو فرض أنه انهزم أو قتل لم يخزل الجيش بسببه فأفحم الشيعي وقال المحاملي وقد قدمه الذين رووا لنا الصلاة والزكاة والوضوء بعد رسول الله ( ص ) فقدموه عليه حيث لا مال له ولا عبيد ولا عشيرة وقد كان أبو بكر يمنع عن رسول الله ( ص ) ويجاحف عنه وإنما قدموه لعلمهم أنه خيرهم فأفحمه أيضا
علي بن محمد بن سهل
أبو الحسن الصائغ أحد الزهاد العباد أصحاب الكرامات روى عن ممشاد الدينوري أنه شاهد أبا الحسن هذا يصلي في الصحراء في شدة الحر ونسر قد نشر عليه جناحيه يظله من الحر قال ابن الأثير وفيها توفي أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري المتكلم المشهور وكان مولده سنة ستين ومائتين وهو من ولد أبي موسى الأشعري قلت الصحيح أن الأشعري توفي سنة أربع وعشرين ومائتين كما تقدم ذكره هناك قال وفيها توفي محمد بن يوسف بن النضر الهروي الفقيه الشافعي وكان مولده سنة تسع وعشرين ومائتين أخذ عن الربيع بن سليمان صاحب الشافعي قلت وقد توفي فيها أبو حامد بن بلال وزكريا بن أحمد البلخي وعبدالغافر بن سلامة الحافظ ومحمد بن رائق الأمير ببغداد وفيها توفي الشيخ
أبو صالح مفلح الحنبلي
واقف مسجد أبي صالح ظاهر باب شرقي من دمشق وكانت له كرامات وأحوال ومقامات واسمه مفلح بن عبدالله أبو صالح المتعبد الذي ينسب إليه المسجد خارج باب شرقي من دمشق صحب الشيخ أبا بكر بن سعيد حمدونه الدمشقي وتأدب به وروى عنه الموحد بن إسحاق بن البري وأبو الحسن علي بن العجة قيم المسجد وأبو بكر بن داود الدينوري الدقي روى الحافظ ابن عساكر من طريق الدقي عن الشيخ أبي صالح قال كنت أطوف بجبل لكام أطلب العباد فمررت برجل وهو جالس على صخرة مطرق رأسه فقلت له ما تصنع ههنا فقال أنظر وأرعى فقلت له لا أرى بين يديك شيئا تنظر إليه ولا ترعاه إلا هذه العصاة والحجارة فقال بل أنظر خواطر قلبي وأرعى أوامر ربي وبالذي أطلعك علي إلا صرفت بصرك عني فقلت له نعم ولكن عظني بشيء أنتفع به حتى أمضي عنك فقال من لزم الباب أثبت في الخدم ومن أكثر ذكر الموت أكثر الندم (11/204)
ومن استغنى بالله أمن العدم ثم تركني ومضى وقال أبو صالح مكثت ستة أيام أو سبعة لم آكل ولم أشرب ولحقني عطش عظيم فجئت إلى النهر الذي وراء المسجد فجلست أنظر إلى الماء فتذكرت قوله تعالى وكان عرشه على الماء فذهب عني العطش فمكثت تمام العشرة أيام وقال مكثت أربعين يوما لم أشرب ثم شربت وأخذ رجل فضلتي ثم ذهب إلى امرأته فقال اشربي فضل رجل قد مكث أربعين يوما لم يشرب الماء قال أبو صالح ولم يكن اطلع على ذلك أحد إلا الله عز و جل ومن كلام أبي صالح الدنيا حرام على القلوب حلال على النفوس لأن كل شيء يحل لك أن تنظر بعين رأسك إليه يحرم عليك أن تنظر بعين قلبك إليه وكان يقول البدن لباس القلب والقلب لباس الفؤاد والفؤاد لباس الضمير والضمير لباس السر والسر لباس المعرفة به ولأبي صالح مناقب كثيرة رحمه الله توفي في جمادى الأولى من هذه السنة والله سبحانه أعلم
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وثلثمائة
فيها دخل سيف الدولة إلى واسط وقد انهزم عنها البريدي وأخوه أبو الحسين ثم اختلف الترك على سيف الدولة فهرب منها قاصدا بغداد وبلغ أخاه أمير الأمراء خبره فخرج من بغداد إلى الموصل فنهبت داره وكانت دولته على بغداد ثلاثة عشر شهرا وخمسة أيام وجاء أخوه سيف الدولة بعد خروجه منها فنزل بباب حرب فطلب من الخليفة أن يمده بمال يتقوى به على حرب تورون فبعث إليه بأربعمائة ألف درهم ففرقها بأصحابه وحين سمع بقدوم تورون خرج من بغداد ودخلها تورون في الخامس والعشرين من رمضان فخلع عليه الخليفة وجعله أمير الأمراء واستقر أمره ببغداد وعند ذلك رجع البريدي إلى واسط وأخرج من كان بها من أصحاب تورون وكان في أسر تورون غلام سيف الدولة يقال له ثمال فأرسله إلى مولاه ليخبره حاله ويرفع أمره عند آل حمدان وفيها كانت زلزلة عظيمة ببلاد نسا سقط منها عمارات كثيرة وهلك بسببها خلق كثير قال ابن الجوزي وكان ببغداد في أيلول وتشرين حر شديد يأخذ بالأنفاس وفي صفر منها ورد الخبر بورود الروم إلى أرزن وميا فارقين وأنهم سبوا وفي ربيع الآخر منها عقد أبو منصور إسحاق بن الخليفة المتقي عقده على علوية بنت ناصر الدولة بن حمدان على صداق مائة ألف دينار وألف ألف درهم وولى العقد على الجارية المذكورة أبو عبدالله محمد بن أبي موسى الهاشمي ولم يحضر ناصر الدولة وضرب ناصر الدولة سكة ضرب فيها ناصر الدولة عبد آل محمد قال ابن الجوزي وفيها غلت الأسعار حتى أكل الناس الكلاب ووقع البلاء في الناس ووافى من الجراد شيء كثير جدا حتى بيع منه كل خمسين رطلا بالدرهم فارتفق الناس به في (11/205)
الغلاء وفيها ورد كتاب ملك الروم إلى الخليفة يطلب فيه منديلابكنيسة الرها كان المسيح قد مسح بها وجهه فصارت صورة وجهه فيه وأنه متى وصل هذا المنديل يبعث من الأسارى خلقا كثيرا فأحضر الخليفة العلماء فاستشارهم في ذلك فمن قائل نحن أحق بعيسى منهم وفي بعثه إليهم غضاضة على المسلمين ووهن في الدين فقال علي بن عيسى الوزير يا أمير المؤمنين إنقاذ أسارى المسلمين من أيدي الكفار خير وأنفع للناس من بقاء ذلك المنديل بتلك الكنيسة فأمر الخليفة بإرسال ذلك المنديل إليهم وتخليص أسرى المسلمين من أيديهم قال الصولي وفيها وصل الخبر بأن القرمطي ولد له مولود فأهدى إليه أبو عبدالله البريدي هدايا كثيرة منها مهد من ذهب مرصع بالجوهر وجلاله منسوج بالذهب محلى باليواقيت وغير ذلك وفيها كثر الرفض ببغداد فنودي بها من ذكر أحدا من الصحابة بسوء فقد برئت منه الذمة وبعث الخليفة إلى عماد الدولة ابن بويه خلعا فقبلها ولبسها بحضرة القضاة والأعيان وفيها كانت وفاة السعيد نصر بن أحمد بن إسماعيل الساماني صاحب خراسان وما وراء النهر وقد مرض قبل موته بالسل سنة وشهرا واتخذ في داره بيتا سماه بيت العبادة فكان يلبس ثيابا نظافا ويمشي إليه حافيا ويصلي فيه ويتضرع ويكثر الصلاة وكان يجتنب المنكرات والآثام إلى أن مات رحمه الله فقام بالأمر من بعده ولده نوح بن نصر الساماني ولقب بالأمير الحميد وقتل محمد بن أحمد النسفي وكان قد طعن فيه عنده وصلبه وفيها توفي من الأعيان
ثابت بن سنان بن قرة الصابي
أبو سعيد الطبيب أسلم على يد القاهر بالله ولم يسلم ولده ولا أحد من أهل بيته وقد كان مقدما في الطب وفي علوم أخر كثيرة توفي في ذي القعدة منها بعلة الذرب ولم تغن عنه صناعته شيئا حتى جاءه الموت وما أحسن ما قال بعض الشعراء في ذلك ... قل للذي صنع الدواء بكفه ... أترد مقدورا ( عليك قد ) جرى ... مات المداوى والمداوى والذى ... صنع الدواء بكفه ومن اشترى وذكر ابن الجوزى في المنتظم وفاة الأشعري فيها وتكلم فيه وحط عليه كما جرت عادةالحنابلة يتكلمون في الأشعرية قديما وحديثا وذكر أنه 4 ولد سنة ستين ومائتين وتوفي في هذه السنة وأنه صحب الجبائي أربعين سنة ثم رجع عنه وتوفي ببغداد ودفن بمشرعة السرواني
محمد بن أحمد بن يعقوب بن شيبة
ابن الصلت السدوسي مولاهم أبو بكر سمع جده وعباسا الدوري وغيرهما وعنه أبو بكر بن مهدي وكان ثقة روى الخطيب أن والد محمد هذا حين ولد أخذ طالع مولده المنجمون فحسبوا عمره وقالوا إنه يعيش كذا وكذا فأرصد أبوه جبا فكان يلقي فيه عن كل يوم من عمره الذي أخبروه به (11/206)
دينارا فلما امتلأ أرصد له جبا آخر كذلك ثم آخر كذلك فكان يضع فيها في كل يوم ثلاثة دنانير على عدد أيام عمر ولده ومع هذا ما أفاده ذلك شيئا بل افتقر هذا الولد حتى صار يستعطي من الناس وكان يحضر مجلس السماع عليه عباءة بلا إزار فكان يتصدق عليه أهل المجلس بشيء يقوم بأوده والسعيد من أسعده الله عز و جل
محمد بن مخلد بن جعفر
أبو عمر الدوري العطار كان يسكن الدور وهي محلة بطرف بغداد سمع الحسن بن عرفة والزبير بن بكار ومسلم بن الحجاج وغيرهم وعنه الدارقطني وجماعة وكان ثقة فهماواسع الرواية مشكور الديانة مشهورا بالعبادة توفي في جمادى الأولى منها وقد استكمل سبعا وسبعين سنة وثمانية أشهر وإحدى وعشرين يوما المجنون البغدادي روى ابن الجوزي من طريق أبي بكر الشبلي قال رأيت مجنونا عند جامع الرصافة وهو عريان وهو يقول أنا مجنون الله أنا مجنون الله فقلت ما لك ألا تستتر وتدخل الجامع وتصلي فأنشأ يقول ... يقولون زرنا واقض واجب حقنا ... وقد أسقطت حالي حقوقهم عني ... إذا هم رأوا حالي ولم يأنفوا لها ... ولم يأنفوا منها أنفت لهم مني ...
ثم دخلت سةن ثنتين وثلاثين وثلثمائة
فيهها خرج المتقي أمير المؤمنين من بغداد إلى الموصل مغاضبا لتورون وهو إذ ذاك بواسط وقد زوج ابنة من أبي عبدالله البريدي وصارا يدا واحدة على الخليفة وأرسل ابن شير زاد في ثلثمائة إلى بغداد فأفسد فيها وقطع ووصل واستقل بالأمر من غير مراجعة المتقي فغضب المتقي وخرج منها مغاضبا له بأهله وأولاده ووزيره ومن اتبعه من الأمراء قاصدا الموصل إلى بني حمدان فتلقاه سيف الدولة إلى تكريت ثم جاءه ناصر الدولة وهو بتكريت أيضا وحين خرج المتقي من بغداد أكثر ابن شيرزاد فيها الفساد وظلم أهلها وصادرهم وأرسل يعلم تورون فأقبل مسرعا نحو تكريت فتواقع هو وسيف الدولة فهزم تورون سيف الدولة وأخذ معسكره ومعسكر أخيه ناصر الدولة ثم كر إليه سيف الدولة فهزمه تورون أيضا وانهزم المتقي وناصر الدولة وسيف الدولة من الموصل إلى نصيبين وجاء تورون فدخل الموصل وأرسل إلى الخليفة يطلب رضاه فأرسل الخليفة يقول لا سبيل إلى ذلك إلا أن تصالح بني حمدان فاصطلحوا وضمن ناصر الدولة بلاد الموصل بثلاثة آلاف ألف وستمائة ألف ورجع تورون إلى بغداد وأقام الخليفة عند بني حمدان وفي غيبة تورون هذه عن واسط أقبل إليها معز الدولة بن بويه في خلق من الديلم كثيرين من فانحدر تورون مسرعا إلى واسط فاقتتل مع معز الدولة بضعة عشر يوما وكان آخر الأمر أن انهزم معز الدولة ونهبت حواصله وقتل (11/207)
من جيشه خلق كثير وأسر جماعة من أشراف أصحابه ثم عاود تورون ما كان يعتريه من مرض الصرع فشغل بنفسه فرجع إلى بغداد وفيها قتل أبو عبدالله البريدي أخاه أبا يوسف وكان سبب ذلك أن البريدي قل ما في يده من الأموال فكان يستقرض من أخيه أبي يوسف فيقرضه القليل ثم يشنع عليه ويذم تصرفه بمال الجند إلى أن مال الجند إلى أبي يوسف وأعرض غالبهم عن البريدي فخشي أن يبايعوه فأرسل إليه طائفة من غلمانه فقتلوه غيلة ثم انتقل إلى داره وأخذ جميع حواصله وأمواله فكان قيمة ما أخذ منه من الأموال ما ياقارب ثلثمائة ألف ألف دينار ولم يمتع بعده إلا ثمانية أشهر مرض فيها مرضا شديدا بالحمى الحادة حتى كانت وفاته في شوال من هذه السنة فقام مقامه أخوه أبو الحسين قبحه الله فأساء السيرة في أصحابهه فثاروا عليه فلجأ إلى القرامطة قبحهم الله فاستجار بهم فقام بالأمر من بعده أبو القاسم بن أبي عبدالله البريدي في بلاد واسط والبصرة وتلك النواحي من الأهواز وغيرها وأما الخليفة المتقي لله فإنه لما أقام عند أولاد حمدان بالموصل ظهر له منهم تضجر وأنهم يرغبون في مفارقته فكتب إلى تورون في الصلح فاجتمع تورون مع القضاة والأعيان وقرؤوا كتاب الخليفة وقابله بالسمع والطاعة وحلف له ووضع خطه بالاقرار له ولمن معه بالإكرام والإحترام فكان من الخليفة ودخوله إلى بغداد ما سيأتي في السنة الآتية وفيها أقبلت طائفة من الروس في البحر إلى نواحي أذربيجان فقصدوا بردعة فحاصرها فلما ظفروا بأهلها قتلوهم عن آخرهم وغنموا أموالهم وسبوا من استحسنوا من نسائهم ثم مالوا إلى المراغة فوجدوا بها ثمارا كثيرة فأكلوا منها فأصابهم وباء شديد فمات أكثرهم وكان إذا مات أحذهم دفنوا معه ثيابه وسلاحه فأخذه المسلمون وأقبل إليهم المرزبان بن محمد فقتل منهم وفي ربيع الأول منها جاء الدمستق ملك الروم إلى رأس العين في ثمانين إلفا فدخلها ونهب ما فيها وقتل وسبي منهم نحوا من خمسة عشر ألفا وأقام بها ثلاثة أيام فقصدته الأعراب من كل وجه فقاتلوه قتالا عظيما حتى انجلى عنها وفي جمادى الأولى منها غلت الأسعار ببغداد جدا وكثرت الأمطار حتى تهدم البناء ومات كثير من الناس تحت الهدم وتعطلت أكثر الحمامات والمساجد من قلة الناس ونقصت قيمة العقار حتى بيع منه بالدرهم ما كان يساوي الدينار وخلت الدور وكان الدلالون يعطون من يسكنها أجرة ليحفظها من الداخلين إليها ليخربوها وكثرت الكبسات من اللصوص بالليل حتى كان الناس يتحارسون بالبوقات والطبول وكثرت الفتن من كل جهة فإنا لله وإنا إليه راجعون ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا وفي رمضان منها كانت وفاة أبي طاهر سليمان بن أبي سعيد الحسن الجنابي الهجري القرمطي (11/208)
رئيس القرامطة قبحه الله وهذا هوالذي قتل الحجيج حول الكعبة وفي جوفها وسلبها كسوتها وأخذ بابها وحليتها واقتلع الحجر الأسود من موضعه وأخذه معه إلى بلده هجر فمكث عنده من سنة تسع عشرة وثلثمائة ثم مات قبحه الله وهو عندهم لم يردوه إلى سنة تسع وثلاثين وثلثمائة كما سيأتي ولما مات هذا القرمطي قام بالأمر من بعده إخوته الثلاثة وهم أبو العباس الفضل وأبو القاسم سعيد وأبو يعقوب يوسف بنو أبي سعيد الجنابي وكان أبو العباس ضعيف البدن مقبلا على قراءة الكتب وكان أبو يعقوب مقبلا على اللهو واللعب ومع هذا كانت كلمة الثلاثة واحدة لا يختلفون في شيء وكان لهم سبعة من الوزراء متفقون أيضا وفي شوال منها توفي أبو عبدالله البريدي فاستراح المسلمون من هذا كما استراحوا من الآخر وفيها توفي من الأعيان أبو العباس بن عقدة الحافظ
أحمد بن محمد بن سعيد بن عبدالرحمن
أبو العباس الكوفي المعروف بابن عقدة لقبوه بذلك من أجل تعقيده في التصريف والنحو وكان أيضا عقدة في الورع والنسك وكان من الحفاظ الكبار سمع الحديث الكثير ورحل فسمع من خلائق من المشايخ وسمع منه الطبراني والدراقطني وابن الجعابي وابن عدي وابن المظفر وابن شاهين قال الدارقطني أجمع أهل الكوفة على أنه لم ير من زمن ابن مسعود إلى زمان ابن عقدة أحفظ منه ويقال إنه كان يحفظ نحوا من ستمائة ألف حديث منها ثلاثمائة ألف في فضائل أهل البيت بما فيها من الصحاح والضعاف وكانت كتبه ستمائة حمل جمل وكان ينسب مع هذا كله إلى التشيع والمغالاة قال الدارقطني كان رجل سوء ونسبه ابن عدي إلى أنه كان يعمل النسخ لأشياخ ويأمرهم بروايتها قال الخطيب حدثني علي بن محمد بن نصر قال سمعت حمزة بن يوسف سمعت أبا عمر بن حيويه يقول كان ابن عقدة يجلس في جامع برائي معدن الرفض يملي مثالب الصحابة أو قال الشيخين فتركت حديثه لا أحدث عنه بشيء قلت وقد حررت الكلام فيه في كتابنا التكميل بما فيه كفاية توفي في ذي القعدة منها
أحمد بن عامر بن بشر بن حامد المروروذي
نسبة إلى مر والروذ والروذ اسم للنهر وهو الفقيه الشافعي تلميذ أبي إسحاق المروذي نسبة إلى مروذ الشاهجان وهي أعظم 2 من تلك البلاد له شرح مختصر المزني وله كتاب الجامع في الذهب وصنف في أصول الفقه وكان إماما لا يشق غباره توفي في هذه السنة رحمه الله
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة
فيها رجع الخليفة المتقي إلى بغداد وخلع من الخلافة وسملت عيناه وكان وهو مقيم بالموصل (11/209)
قد أرسل إلى الأخشيد محمد بن طغج صاحب مصر والبلاد الشامية أن يأتيه فأقبل إليه في المنتصف من المحرم من هذه السنة وخضع للخليفة غاية الخضوع وكان يقوم بين يديه كما تقوم الغلمان ويمشي والخليفة راكب ثم عرض عليه أن يصير معه إلى الديار المصرية أو يقوم ببلاد الشام وليته فعل بل ابى عليه فأشار عليه بالمقام مكانه بالموصل ولا يذهب إلى تورون وحذره من مكر تورون وخديعته فلم يقبل ذلك وكذلك أشار عليه وزيره أبو حسين بن مقلة فلم يسمع وأهدى ابن طغج للخليفة هدايا كثيرة فاخرة وكذلك أهدى إلى الأمراء والوزير ثم رجع إلى بلاده واجتاز بحلب فانحاز عنها صاحبها أبو عبد الله بن سعيد بن حمدان وكان ابن مقاتل بها فأرسله إلى مصر نائبا عنه حتى يعود إليها وأما الخليفة فإنه ركب من الرقة في الدجلة إلى بغداد وأرسل إلى تورون فاستوثق منه ما كان حلف له من الأيمان فأكدها وقررها فلما قرب من بغداد خرج إليه تورون ومعه العساكر فلما رأى الخليفة قبل الأرض بين يديه وأظهر له أنه قد وفى له بما كان حلف له عليه وأنزله في منظرته ثم جاء فاحتاط على من مع الخليفة من الكبراء فأمر بسمل عيني الخليفة فسملت عيناه فصاح صيحة عظيمة سمعها الحريم فضجت الأصوات بالبكاء فأمر تورون بضرب الدبادب حتى لا تسمع أصوات الحريم ثم انحدر من فوره إلى بغداد فبايع المستكفي فكانت خلافة المتقي ثلاثة سنين وخمسة أشهر وعشرين يوما وقيل وأحد عشر شهرا وستأتي ترجمته عند ذكر وفاته
خلافة المستكفي بالله عبدالله بن المكتفي بن المعتضد
لما رجع تورون إلى بغداد وقد سمل عيني المتقي استدعي بالمستكفي فبايعه ولقب بالمستكفي بالله واسمه عبدالله وذلك في العشر الأواخر من صفر من هذه السنة وجلس تورون بين يديه وخلع عليه المستكفي وكان المستكفي مليح الشكل ربعة حسن الجسم الوجه أبيض اللون مشربا حمرة أقنى الأنف خفيف العارضين وكان عمره يوم بويع بالخلافة إحدى وأربعين سنة وأحضر المتقي بين يديه وبايعه وأخذ منه البردة والقضيب واستوزر أبا الفرج محمد بن علي السامري ولم يكن اليه من الأمر شيء وإنما الذي يتولى الأمور ابن شيرزاد وحبس المتقي بالسجن وطلب المستكفي أبا القاسم الفضل بن المقتدر هو الذي ولى الخلافة بعد ذلك ولقب المطيع لله فااختفى منه ولم يظهر مدة خلافة المستكفي فأمر المستكفي بهدم داره التي عند دجلة وفيها مات القائم الفاطمي وتولى ولده المنصور إسماعيل فكتم موت أبيه مدة حتى اتفق أمره ثم أظهره والصحيح أن القائم مات في التي بعدها وقد حاربهم أبو يزيد الخارجي فيها وأخذ منهم مدنا كبارا وكسروه مرارا متعددة ثم يبرز إليهم ويجمع الرجال ويقاتلهم فانتدب المنصور هذا لقتاله بنفسه وجرت بينهم حروب يطول ذكرها وقد بسطها ابن الأثير في كامله وقد انهزم في (11/210)
بعض الأحيان جيش المنصور ولم يبق إلا في عشرين نفسا فقاتل بنفسه قتالا عظيما فهزم أبا يزيد بعد ما كاد يقتله وثبت المنصور ثباتا عظيما فعظم في أعين الناس وزادت حرمته وهيبته واستنقذ بلاد القيروان منه وما زال يحاربه حتى ظفر به المنصور وقتله ولما جيء برأسه سجد شكرا لله وكان أبو يزيد هذا قبيح الشكل أعرج فصيرا خارجيا شديدا يكفر أهل الملة وفي ذي الحجة منها قتل أبو الحسين البريدي وصلب ثم أحرق وذلك أنه قدم بغداد يستنجد بتورون وأبي جعفر بن شيرزاد علي ابن أخيه فوعدوه النصر فوعدوه النصر ثم شرع يفسد ما بين تورون وابن شيرزاد فعلم بذلك ابن شيرزاد فأمر بسجنه وضربه ثم أفتاه بعض الفقهاء بإباحة دمه فأمر بقتله وصلبه ثم أحرقه وانت أيام البريدية وزالت دولتهم وفيها أمر المستكفي بإخراج القاهر الذي كان خليفة وأنزله دار ابن طاهر وقد افتقر القاهر حتى لم يبق له شيء من اللباس سوى قطعه عباءة يلتف بها وفي رجله قبقاب من خشب وفيها اشتد البرد والحر وفيها ركب معز الدولة في رجب منها إلى واسط فبلغ خبره إلى تورون فركب هو والمستكفي فلما سمع بهما رجع إلى بلاده وتسلمها الخليفة وضمنها أبو القاسم بن أبي عبدالله ثم رجع تورون والخليفة إلى بغداد في شوال منها وفيها ركب سيف الدولة علي بن أبي الهيجاء عبدالله بن حمدان إلى حلب فتسلمها من يأنس المؤنسي ثم سار إلى حمص ليأخذها فجاءته جيوش الأخشيد محمد بن طغج مع مولاه كافور فاقتتلوا يقنسرين فلم يظفر أحذ منهما بصاحبه ورجع سيف الدولة إلى الجزيرة ثم عاد إلى حلب فاستقر ملكه بها فقصدته الروم في جحافل عظيمة فالتقى معهم فظفر بهم فقتل منهم خلقا كثيرا
ثم دخلت سنةاربع وثلاثين وثلثمائة
في المحرم زاد الخليفة في لقبه إمام الحق وكتب ذلك على السكة والمتعامل بها ودعا له الخطباء على المنابر أيام الجمع وفي المحرم منها مات تورون التركي في داره ببغداد وكانت إمارته سنتين وأربعة أشهر وعشرة أيام وكان ابن شيرزاد كاتبه وكان غائبا بهيت لتخليص المال فلما بلغه موته أراد أن يعقد البيعة لناصر الدولة بن حمدان فاضطربت الأجناد وعقدوا الرياسة عليهم لابن شيرزاد فحضر ونزل بباب حرب مستهل صفر وخرج إليه الأجناد كلهم وحلفوا له وحلف الخليفة والقضاة والأعيان ودخل على الخليفة فخاطبه بأمير الأمراء وزاد في أرزاق الجند وبعث إلى ناصر الدولة يطالبه بالخراج فبعث إليه بخمسمائة ألف درهم وبطعام يفرقه في الناس وأمر ونهي وعزل وولى وقطع ووصل وفرح بنفسه ثلاثة أشهر وعشرين يوما ثم جاءت الأخبار بأن معز الدولة بن بويه قد أقبل في الجيوش قاصدا بغداد فاختفى ابن شيرزاد والخليفة أيضا وخرج إليه الأتراك قاصدين الموصل ليكونوا مع ناصر الدولة بن حمدان (11/211)
أول دولة بني بويه وحكمهم ببغداد
أقبل معز الدولة أحمد بن الحسن بن بويه في جحافل عظيمة من الجيوش قاصدا بغداد فلما اقترب منها بعث إليه الخليفة المستكفي بالله الهدايا والانزالات وقال للرسول أخبروه أني مسرور به وأني إنما اختفيت من شر الأتراك الذين انصرفوا إلى الموصل وبعث إليه بالخلع والتحف ودخل معز الدولة بغداد في جمادى الأولى من هذه السنة فنزل بباب الشماسية ودخل من الغد إلى الخليفة فبايعه ودخل عليه المستكفي ولقبه بمعز الدولة ولقب أخاه أبا الحسن بعماد الدولة وأخاه أبا علي الحسن بركن الدولة وكتب ألقابهم على الدراهم والدنانير ونزل معز الدولة بدار مؤنس الخادم ونزل أصحابه من الديلم بدور الناس فلقى الناس منهم ضائقة شديدة وأمن معز الدولة ابن شيرزاد فلما ظهر استكتبه على الخراج ورتب للخليفة بسبب نفقاته خمسة آلاف درهم في كل يوم وا الأمور على هذا النظام والله أعلم
القبض على الخليفة المستكفي بالله وخلعه
لما كان اليوم الثاني والعشرين من جمادى الآخرة حضر معز الدولة إلى الحضرة فجلس على سرير بين يدي الخليفة وجاء رجلان من الديلم فمدا أيديهما إلى الخليفة فأنزلاه عن كرسيه وسحباه فتحربت عمامته في حلقه ونهض معز الدولة واضطربت دار الخلافة حتى خلص إلى الحريم وتفاقم الحال وسيق الخليفة ماشيا إلى دار معز الدولة فاعتقل بها وأحضر أبو القاسم الفضل بن المقتدر فبويع بالخلافة وسملت عينا المستكفي وأودع السجن فلم يزل به مسجونا حتى كانت وفاته في سنة ثمان وثلاثين وثلثمائة كما يأتي ذكر ترجمته هناك
خلافة المطيع لله
لما قدم معز الدولة بغداد وقبض على المستكفي وسمل عينيه استدعى بأبي القاسم الفضل بن المقتدر بالله وقد كان مختفيا من المستكفي وهو يحث على طلبه ويجتهد فلم يقدر عليه ويقال إنه اجتمع بمعز الدولة سرا فحرضه على المستكفي حتى كان من أمره ما كان ثم أحضره وبويع له بالخلافة ولقب بالمطيع الله وبايعه الأمراء والأعيان والعامة وضعف أمر الخلافة جدا حتى لم يبق للخليفة أمر ولا نهي ولا وزير أيضا وإنما يكون له كاتب على أقطاعه وإنما الدولة ومورد المملكة ومصدرها راجع إلى معز الدولة وذلك لأن بني بويه ومن معهم من الديلم كان فيهم تعسف شديد وكانوا يرون أن بني العباس قد غصبوا الأمر من العلويين حتى عزم معز الدولة على تحويل الخلافة إلى العلويين واستشار أصحابه فكلهم أشار عليه بذلك إلا رجلا واحدا من أصحابه كان سديد الرأي فيهم فقال لا أرى لك ذلك قال ولم ذاك قال لأن هذا خليفة ترى أنت وأصحابك أنه غير صحيح الإمارة (11/212)
حتى لو أمرت بقتله قتله أصحابك ولو وليت رجلا من العلويين اعتقدت أنت وأصحابك ولايته صحيحة فلو أمرت بقتله لم تطع بذلك ولو أمر بقتلك لقتلك أصحابك فلما فهم ذلك صرفه عن رأيه الأول وترك ما كان عزم عليه للدنيا لا لله عز و جل ثم نشبت الحرب بين ناصر الدولة بن حمدان وبين معز الدولة بن بويه فركب ناصر الدولة بعد ما خرج معز الدولة والخليفة إلى عكبرا فدخل بغداد فأخذ الجانب الشرقي ثم الغربي وضعف أمر معز الدولة والديلم الذين كانوا معه ثم مكر به معز الدولة وخدعه حتى استظهر عليه وانتصر أصحابه فنهبوا بغداد وما قدروا عليه من أموال التجار وغيرهم وكان قيمة ما أخذ أصحاب معز الدولة من الناس عشرة آلاف ألف دينار ثم وقع الصلح بين ناصر الدولة ومعز الدولة ورجع ابن حمدان إلى بلده الموصل واستقر أمر معز الدولة ببغداد ثم شرع في استعمال السعاة ليبلغ أخاه ركن الدولة أخباره فغوى الناس في ذلك وعلموا أبناءهم سعاة حتى أن من الناس من كان يقطع نيفا وثلاثين فرسخا في يوم واحد وأعجبه المصارعون والملاكون وغيرهم من أرباب هذه الصناعات التي لا ينتفع بها إلا كل قليل العقل فاسد المروءة وتعلموا السباحة ونحوها وكانت تضرب الطبول بين يديه ويتصارع الرجال والكوسان تدق حول سور المكان الذي هو فيه وكل ذلك رعونة وقلة عقل وسخافة منه ثم احتاج إلى صرف أموال في أرزاق الجند فأقطعهم البلاد عوضا عن أرزاقهم فأذى ذلك إلى خراب البلاد وترك عمارتها إلا الأراضي التي بأيدي أصحاب الجاهات وفي هذه السنة وقع غلاء شديد ببغداد حتى أكلوا الميتة والسنانير والكلاب وكان من الناس من يسرق الأولاد فيشويهم ويأكلهم وكثر الوباء في الناس حتى كان لا يدفن أحد أحدا بل يتركون على الطرقات فيأكل كثيرا منهم الكلاب وبيعت الدور والعقار بالخبز وانتجع الناس إلى البصرة فكان منهم من مات في الطريق ومنهم من وصل إليها بعد مدة مديدة وفيها كانت وفاة القائم بأمر الله أبي القاسم محمد بن عبدالله المهدي وولى الأمر من بعده ولده المنصور إسماعيل وكان حازم الرأي شديدا شجاعا ما ذكرنا ذلك في السنة الماضية وكانت وفاته في شوال من هذه السنة على الصحيح وفيها توفي الأخشيد محمد بن طغج صاحب الديار المصرية والبلاد الشامية كانت وفاته بدمشق وله من العمر بضع وستون سنة وأقيم ولده أبو القاسم أبو جور وكان صغيرا وأقيم كافور الأخشيد أتابكه وكان يدبر المالك بالبلاد كلها واستحوذ على الأمور كلها وسار إلى مصر فقصد سيف الدولة بن حمدان دمشق فأخذها من أصحاب الأخشيد ففرح بها فرحا شديدا واجتمع بمحمد ابن محمد بن نصر الفارابي التركي الفليسوف بها وركب سيف الدولة يوما مع الشريف العقيلي في (11/213)
بعض نواحي دمشق فنظر سيف الدولة إلى الغوطة فأعجبته وقال ينبغي أن يكون هذا كله لديوان السلطان كأنه يعرض بأخذها من ملاكها فأوغر ذلك صدر العقيلي وأوعاه إلى أهل دمشق فكتبوا إلى كافور الأخشيدي يستنجدونه فأقبل إليهم في جيوش كثيرة كثيفة فأجلي عنهم سيف الدولة وطرده عن حلب أيضا واستناب عليها ثم كر راجعا إلى دمشق فاستناب عليها بدرا الأخشيدي ويعرف ببدير فلما صار كافور إلى الديار المصرية رجع سيف الدولة إلى حلب فأخذها كما كانت أولا له ولم يبق له في دمشق شيء يطمع فيه وكافور هذا الذي هجاه المتنبي ومدحه أيضا وممن توفي من الأعيان
عمر بن الحسين
صاحب المختصر في الفقه على مذهب الإمام أحمد وقد شرحه القاضي أبو يعلى بن الفراء والشيخ موفق الدين بن قدامة المقدسي وقد كان الخرقي هذا من سادات الفقهاء والعباد كثير الفضائل والبعادة خرج من بغداد مهاجرا لما كثر بها الشر والسب للصحابة وأودع كتبه في بغداد فاحترقت الدار التي كانت فيها الكتب وعدمت مصنفاته وقصد دمشق فأقام بها حتى مات في هذه السنة وقبره بباب الصغير يزار قريبا من قبور الشهداء وذكر في مختصره هذا في الحج ويأتي الحجر الأسود ويقبله إن كان هناك وإنما قال ذلك لأن تصنيفه لهذا الكتاب كان والحجر الأسود قد أخذته القرامطة وهو في أيديهم في سنة سبع عشرة وثلثمائة كما تقدم ذلك ولم يرد إلى مكانه إلا سنة سبع وثلاثين كما سيأتي بيانه في موضعه قال الخطيب البغدادي قال لي القاضي أبو يعلى كان للخرقي مصنفات كثيرة وتخريجات على المذهب لم تظهر لأنه خرج من مدينته لما ظهر بها سب الصحابة وأودع كتبه فاحترقت الدار التي هي فيها فاحترقت الكتب ولم تكن قد انتشرت لبعده عن البلد ثم روى الخطيب من طريقه عن أبي الفضل عبد السميع عن الفتح بن شخرف عن الخرقي قال رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في المنام فقال ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء قال قلت زدني يا أمير المؤمنين قال وأحسن من ذلك تيه الفقراء على الأغنياء قال ورفع له كفه فإذا فيها مكتوب ... قد كنت ميتا فصرت حيا ... وعن قريب تعود ميتا ... فابن بدار البقاء بيتا ... ودع الفناء بيتا ... قال ابن بطة مات الخرقي بدمشق سنة أربع وثلاثين وثلثمائة وزرت قبره رحمه الله
محمد بن عيسى
أبو عبدالله بن موسى الفقيه الحنفي أحد أئمة العراقيين في زمانه وقد ولى القضاء ببغداد (11/214)
للمتقي ثم للمستكفي وكان ثقة فاضلا كبست اللصوص داره يظنون أنه ذو مال فضربه بعضهم ضربة أثخنته فألقى نفسه من شدة الفزع إلى الأرض فمات رحمه الله تعالى في ربيع الأول من هذه السنة
محمد بن محمد بن عبدالله
أبو الفضل السلمي الوزير الفقيه المحدث الشاعر سمع الكثير وجمع وصنف وكان يصوم الإثنين والخميس ولا يدع صلاة الليل والتصنيف وكان يسأل الله تعالى الشهادة كثيرا فولي الوزارة للسلطان فقصده الأجناد فطالبوه بأرزاقهم واجتمع منهم ببابه خلق كثير فاستدعى بحلاق فحلق رأسه وتنور وتطيب ولبس كفنه وقام يصلي فدخلوا عليه فقتلوه وهو ساجد رحمه الله في ربيع الآخر من هذه السنة
الأخشيد محمد بن عبدالله بن طغج
أبو بكر الملقب بالأخشيد ومعناه ملك الملوك لقبه بذلك الراضي لأنه كان ملك فرغانة وكل من ملكها كان يسمى الأخشيد كما أن من ملك اشروسية يسمى الآفشين ومن ملك خوارزم يسمى خوارزم شاه ومن ملك جرجان يسمى صوك ومن ملك أذربيجان يسمى أصبهند ومن ملك طبرستان يسمى أرسلان قاله ابن الجوزى في منتظمه قال السهيلى وكانت العرب تسمى من ملك الشام مع الجزيرة كافرا قيصر ومن ملك فارس كسرى ومن ملك اليمن تبع ومن ملك الحبشة النجاشي ومن ملك الهند بطليموس ومن ملك مصر فرعون ومن ملك الاسكندرية المقوقس وذكر غير ذلك توفي بدمشق ونقل إلى بيت المقدس فدفن هناك رحمه الله
أبو بكر الشبلي
أحد مشايخ الصوفية اختلفوا في اسمه على أقوال فقيل دلف بن جعفر ويقال دلف بن جحدر وقيل جعفر بن يونس أصله من قرية يقال لها شبلة من بلاد اشروسية من خراسان وولد بسامرا وكان أبوه حاجب الحجاب للموفق وكان خاله نائب الاسكندرية وكانت توبة الشبلي على يدي خير النساج سمعه يعظ فوقع في قلبه كلامه فتاب من فوره ثم صحب الفقراء ولمشايخ ثم صار من أئمة القوم قال الجنيد الشبلي تاج هؤلاء وقال الخطيب أخبرنا أبو الحسن علي بن محمود الزوزني قال سمعت علي بن المثنى التميمي يقول دخلت يوما على الشبلي في داره وهو يهيج ويقول ... علي بعدك لا يصبر ... من عاته القرب ... ولا يقوى على هجرك ... من تيمه الحب ... فإن لم ترك العين ... فقد يبصرك القلب ... وقد ذكر له أحوال وكرامات وقد ذكرنا ممن اشتبه عليه أمر الحلاج فيما نسب إليه من الأقوال من غير تأمل لما فيها مما كان الحلاج يحاوله من الإلحاد والإتحاد ولما حضرته الوفاة (11/215)
قال لخادمه قد كان علي درهم مظلمة فتصدقت عن صاحبه بألوف ومع هذا ما على قلبي شغل أعظم منه ثم أمره بأن يوضئه فوضأه وترك تخليل لحيته فرفع الشبلي يده وقد كان اعتقل لسانه فجعل يخلل لحيته وذكره ابن خلكان في الوفيات وحكى عنه أنه دخل يوما على الجنيد فوقف بين يديه وصفق بيديه وأنشد ... عودوني الوصال والوصل عذب ... ورموني بالصد والصد أصعب ... زعموا حين اعتبوا أن جرمي ... فرط حبي لهم وما ذاك ذنب ... لا وحق الخضوع عند التلاقي ... ما جزاء من يحب الا يحب ... وذكر عنه قال رأيت مجنونا على باب جامع الرصافة يوم جمعة عريانا وهو يقول أنا مجنون الله فقلت ألا تستتر وتدخل إلى الجامع فتصلى الجمعة فقال ... يقولون زرنا واقض واجب حقنا ... وقد اسقطت حالي حقوقهم عني ... إذا أبصروا حالي ولم يأنفوا لها ... ولم يأنفوا مني أنفت لهم مني ... وذكر الخطيب في تاريخه عنه أنه انشد لنفسه فقال ... مضيت الشبيبة والحبيبة فانبري ... دمعان في الأجفان يزدحمان ... ما أنصفتني الحادثات رمينني ... بمودعين وليس لي قلبان ... كان وفاته رحمه الله تعالى رحمه الله تعالى الله ليلة الجمعة لليلتين بقيتا من هذه السنة وله سبع وثمانون سنة ودفن في مقبرة الخيزران ببغداد والله أعلم
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة
في هذه السنة استقر أمر الخليفة المطيع لله في دار الخلافة واصطلح معز الدولة بن بويه وناصر الدولة بن حمدان على ذلك ثم حارب ناصر الدولة تكين التركي فاقتتلا مرات متعددة ثم ظفر ناصر الدولة بتكين فسمل بين يديه واستقر أمره بالموصل والجزيرة واستحوذ ركن الدولة على الري وانتزعها من الخراسانية واتسعت مملكة بني بويه جدا فإنه صار بأيديهم أعمال الري والجبل وأصبهان وفارس والأهواز والعراق ويحمل إليهم ضمان الموصل وديار ربيعة من الجزيرة وغيرها ثم اقتتل جيش معز الدولة وجيش أبي القاسم البريدي فهزم أصحاب البريدي وأسر من أعيانهم جماعة كثيرة وفيها وقع الفداء بين الروم والمسلمين على يد نصر المستملي أمير الثغور لسيف الدولة بن حمدان فكان عدة الأسارى نحوا من ألفين وخمسمائة مسلم ولله الحمد والمنة وممن توفي فيها من الأعيان
الحسين بن حموية بن الحسين
القاضي الاستراباذي روى الكثير وحدث وكان له مجلس للإملاء وحكم ببلده مدة طويلة (11/216)
وكان من المجتهدين في العبادة المتهجدين بالأسحار ويضرب به المثل في ظرفه وفكاهته وقد مات فجأة على صدر جاريته عند إنزاله
عبدالرحمن بن أحمد بن عبدالله
أبو عبدالله الختلي سمع ابن أبي الدنيا وغيره وحدث عنه الدارقطني وغيره وكان ثقة نبيلا حافظا حدث من حفظه بخمسين ألف حديث عبدالسلام بن رغبان بن عبدالسلام بن حبيب بن عبدالله بن رغبان بن زيد بن تميم أبو محمد الكلبي الملقب بديك الجن الشاعر الماجن الشيعي ويقال إنه من موالي بني تميم وله أشعار قوية خمارية وغير خمارية وقد استجاد أبو نواس شعره في الخماريات
علي بن عيسى بن داود ابن الجراح
أبو الحسن الوزير للمقتدر والقاهر ولد سنة خمس وأربعين ومائتين وسمع الكثير وعنه الطبراني وغيره وكان ثقة نبيلا فاضلا عفيفا كثير التلاوة والصيام والصلاة يحب أهل العلم ويكثر مجالستهم أصله من الفرس وكان من أكبر القائمين على الحلاج وروى عنه أنه قال كسبت سبعمائة ألف دينار أنفقت منها في وجوه الخير ستمائة ألف وثمانين ألفا ولما دخل مكة حين نفى من بغداد طاف بالبيت وبالصفا والمروة في حر شديد ثم جاء إلى منزله فألقى نفسه وقال أشتهي على الله شربة ثلج فقال له بعض أصحابه هذا لا يتهيأ ههنا فقال أعرف ولكن سيأتي به الله إذا شاء وأصبر إلى المساء فلما كان في أثناء النهار جاءت سحابة فأمطرت وسقط منها برد شديد فجمع له صاحبه من ذلك البرد شيئا كثيرا وخبأه له وكان الوزير صائما فلما أمسى جاء به فلما جداء المسجد أقبل إليه صاحبه بأنواع الأشربة وكلها بثلج فجعل الوزير يسقيه لمن حواليه من الصوفية والمجاورين ولم يشرب هو منه شيئا فلما رجع إلى المنزل جئته بشيء من ذلك الشراب كمنا خبأناه له وأقسمت عليه ليشربنه فشربه بعد جهد جهيد وقال أشتهي لو كنت تمنيت المغفرة رحمه الله وغفر له ومن شعره قوله ... فمن كان عني سائلا بشماته ... لما نابني أو شامتا غير سائل ... فقد أبرزت مني الخطوب ابن حرة ... صبوارا على أهوال تلك الزلازل ... وقد روى أبو القاسم علي بن الحسن التنوخي عن أبيه عن جماعة أن عطارا من أهل الكرخ كان مشهورا بالسنة ركبه ستمائة دينار دينا فأغلق دكانه وانكسر عن كسبه ولزم منزله وأقبل على الدعاء والتضرع والصلاة ليالي كثيرة فلما كان في بعض تلك الليالي رأى رسول الله ( ص ) في المنام وهو يقول اذهب إلى علي بن عيسى الوزير فقد أمرته لك بأربعمائة دينار فلما أصبح الرجل قصد (11/217)
باب الوزير فلم يعرفه أحد فجلس لعل أحدا يستأذن له على الوزير حتى طال عليه المجلس وهم بالانصراف ثم إنه قال لبعض الحجبة قل للوزير إني رجل رأيت رسول الله ( ص ) في المنام وأنا أريد أن أقصه على الوزير فقال له الحاجب وأنت صاحب الرؤيا إن الوزير قد أنفذ في طلبك رسلا متعددة ثم دخل الحجاب فأخبروا الوزير فقال أدخله علي سريعا فدخل عليه فأقبل عليه الوزير يستعلم عن حاله واسمه وصفته ومنزله فذكر ذلك له فقال له الوزير إني رأيت رسول الله ( ص ) وهو يأمرني بإعطائك أربعمائة دينار فأصبحت لا أدري من أسأل عنك ولا أعرفك ولا أعرف أين أنت وقد أرسلت في طلبك إلى الآن عدة رسل فجزاك الله خيرا عن قصدك إياي ثم أمر الوزير بإحضار ألف دينار فقال هذه أربعمائة دينار لأمر رسول الله ( ص ) وستمائة هبة من عندي فقال الرجل لا والله لا أزيد على ما أمرني به رسول الله ( ص ) فإني أرجو الخير والبركة فيه ثم أخذ منها أربعمائة دينار فقال الوزير هذا هو الصدق واليقين فخرج ومعه الأربعمائة دينار فعرض على أرباب الديون أموالهم فقالوا نحن نصبر عليك ثلاث سنين وافتح بهذا الذهب دكانك ودم على كسبك فأبى إلا أن يعطيهم من أموالهم الثلث فدفع إليهم مائتي دينار وفتح حانوته بالمائتي دينار الباقية فما حال عليه الحول حتى ربح ألف دينار ولعلي بن عيسى الوزير أخبار كثيرة صالحة كانت وفاته في هذه السنة عن تسعين سنة ويقال في التي قبلها والله أعلم
محمد بن إسماعيل
ابن إسحاق بن بحر أبو عبدالله الفارسي الفقيه الشافعي كان ثقة ثبتا فاضلا سمع أبا زرعة الدمشقي وغيره وعنه الدارقطني وغيره وآخر من حدث عنه أبو عمر بن مهدي توفي في شوال من هذه السنة
هارون بن محمد
ابن هارون بن علي بن موسى بن عمرو بن جابر بن يزيد بن جابر بن عامر بن أسيد بن تميم بن صبح بن ذهل بن مالك بن سعيد بن حبنة أبو جعفر والد القاضي أبي عبدالله الحسن بن هارون كان أسلافه ملوك عمان في قديم الزمان وجده يزيد بن جابر أدرك الإسلام فأسلم وحسن إسلامه وكان هارون هذا أول من انتقل من أهله من عمان فنزل بغداد وحدث بها وروى عن أبيه وكان فاضلا متضلعا من كل فن وكانت داره مجمع العلماء في سائر الأيام ونفقاته دارة عليهم وكان له منزلة عالية ومهابة ببغداد وقد أثنى عليه الدارقطني ثناء كثيرا وقال كان مبرزا في النحو واللغة والشعر ومعاني القرآن وعلم الكلام قال ابن الأثير وفيها توفي أبو بكر محمد بن عبدالله بن العباس بن صول الصولي وكان عالما بفنون الآداب والأخبار وإنما ذكره ابن الجوزي في التي بعدها كما سيأتي (11/218)
أبو العباس بن القاضي أحمد بن أبي أحمد الطبري
الفقيه الشافعي تلميذ ابن سريج له كتاب التلخيص وكتاب المفتاح وهو مختصر شرحه أبو عبدالله الحسين وأبو عبدالله السنجي أيضا وكان أبوه يقص على الناس الأخبار والأثار وأما هو فتولى قضاء طرسوس وكان يعظ الناس أيضا فحصل له مرة خشوع فسقط مغشيا عليه فمات في هذه السنة
ثم دخلت سنة ست وثلاثين وثلثمائة
فيها خرج معز الدولة والخليفة المطيع لله من بغداد إلى البصرة فاستنقذاها من يد أبي القاسم بن البريدي وهرب هو وأكثر أصحابه واستولى معز الدولة على البصرة وبعث يتهدد القرامطة ويتوعدهم بأخذ بلادهم وزاد في إقطاع الخليفة ضياعا تعمل في كل سنة مائتي ألف دينار ثم سار معز الدولة لتلقي أخيه عماد الدولة بالأهواز فقبل الأرض بين يدي أخيه وقام بين يديه مقاما طويلا فأمره بالجلوس فلم يفعل ثم عاد إلى بغداد صحبة الخليفة فتمهدت الأمور جيدا وفي هذه السنة استحوذ ركن الدولة على بلاد طبرستان وجرجان من يد وشمكير أخي مرداويج ملك الديلم فذهب وشمكير إلى خراسان يستنجد بصاحبها كما سيأتي وممن توفي فيها من الأعيان
أبو الحسين بن المنادي
أحمد بن جعفر بن محمد بن عبيد الله بن يزيد سمع جده وعباسا الدوري ومحمد بن إسحاق الصاغاني وكان ثقة أمينا حجة صادقا صنف كثيرا وجمع علوما جمة ولم يسمع الناس منها إلا اليسير وذلك لشراسة أخلاقه وآخر من روى عنه محمد بن فارس اللغوي ونقل ابن الجوزي عن أبي يوسف القدسي أنه قال صنف أبو الحسين بن المنادي في علوم القرآن أربعمائة كتاب ونيفا وأربعين كتابا ولا يوجد في كلامه حشو بل هو نقي الكلام جمع بين الرواية والدراية وقال ابن الجوزي ومن وقف على مصنفاته علم فضله وإطلاعه ووقف على فوائد لا توجد في غير كتبه توفي في محرم من هذه السنة عن ثمانين سنة
الصولي محمد بن عبدالله بن العباس
ابن محمد صول أبو بكر الصولي كان أحد العلماء بفنون الأدب وحسن المعرفة بأخبار الملوك وأيام الخلفاء ومآثر الأشراف وطبقات الشعراء روى عن أبي داود السجستاني والمبرد وثعلب وأبي العيناء وغيرهم وكان واسع الرواية جيد الحفظ حاذقا بتصنيف الكتب وله كتب كثيرة هائلة ونادم جماعة من الخلفاء وحظي عندهم وكان جده صول وأهله ملوكا بجرجان ثم كان أولاده من كبار الكتاب وكان الصولي هذا جيد الاعتقاد حسن الطريقة وله شعر حسن وقد روى عنه الدارقطني وغيره من الحفاظ ومن شعره قوله ... أحببت من أجله من كان يشبهه ... وكل شيء من المعشوق معشوق (11/219)
حتى حكيت بجسمي ماء مقلته ... كأن سقمي من عينيه مسروق ... خرج الصولي من بغداد إلى البصرة لحاجة لحقته فمات بها في هذه السنة وفيها كانت وفاة ابنة الشيخ أبي الزاهد المكي وكانت من العابدات الناسكات المقيمات بمكة وكانت تقتات من كسب أبيها من عمل الخوص في كل سنة ثلاثين درهما يرسلها إليها فاتفق أنه أرسلها مرة مع بعض أصحابه فزاد عليها ذلك الرجل عشرين درهما يريد بذلك برها وزيادة في نفقتها فلما اختبرتها قالت وضعت في هذه الدراهم شيئا من مالك أصدقني بحق الذي حججت له فقال نعم عشرين درهما فقالت ارجع بها لا حاجة لي فيها ولولا أنك قصدت الخير لدعوت الله عليك فإنك قد اجعتني عامي هذا ولم يبق لي رزق إلا من المزابل إلى قابل فقال خذي منها الثلاثين التي أرسل بها ابوك إليك ودعي العشرين فقالت لا إنها قد اختلطت بمالك ولا أدري ما هو قال الرجل فرجعت بها إلى أبيها فأبي أن يقبلها وقال شققت يا هذا علي وضيقت عليها ولكن اذهب فتصدق بها
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وثلثمائة
فيها ركب معز الدولة من بغداد إلى الموصل فانهزم منه ناصر الدولة إلى نصيبين فتملك معز الدولة ابن بويه الموصل في رمضان فعسف أهلها وأخذ أموالهم وكثر الدعاء عليه ثم عزم على أخذ البلاد كلها من ناصر الدولة بن حمدان فجاء خبر من أخيه ركن الدولة يستنجده على من قبله من الخراسانية فاحتاج إلى مصالحة ناصر الدولة على ان يحمل ما تحت يده من بلاد الجزيرة والشام في كل سنة ثمانية آلاف ألف درهم وأن يخطب له ولأخويه عماد الدولة وركن الدولة على منابر بلاده كلها ففعل وعاد معز الدولة إلى بغداد وبعث إلى أخيه بجيش هائل وأخذ له عهد الخليفة بولاية خراسان وفيها دخل سيف الدولة بن حمدان صاحب حلب إلى بلاد الروم فلقيه جمع كثيف من الروم فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزمى سيف الدولة وأخذت الروم ما كان معهم وأوقعوا بأهل طرسوس بأسا شديدا فإنا لله وإنا إليه راجعون قال ابن الجوزي وفي رمضان انتهت زيادة دجلة أحد وعشرين ذراعا وثلثا وممن توفي فيها من الأعيان
عبدالله بن محمد بن حمدويه
ابن نعيم بن الحكم أبو محمد البيع وهو والد الحاكم أبي عبدالله النيسابوري أذن ثلاثا وستين سنة وغزا اثنتين وعشرين غزوة وأنفق على العلماء مائة ألف وكان يقوم الليل كثيرا وكان كثير الصدقة أدرك عبدالله بن أحمد بن حنبل ومسلم بن الحجاج وروى عن ابن خزيمة وغيره وتوفي عن ثلاث وتسعين سنة
قدامة الكاتب المشهور
هو قدامة بن جعفر بن قدامة أبو الفرج الكاتب له مصنف في الخراج وصناعة الكتابة وبه (11/220)
يقتدي علماء هذا الشأن وقد سأل ثعلبا عن أشياء محمد بن علي بن عمر أبو علي المذكر الواعظ بنيسابور كان كثير التدليس عن المشابخ الذين لم يلقهم توفي في هذه السنة عن مائة وسبع سنين سامحه الله
محمد بن مطهر بن عبدالله
أبو المنجا الفقيه الفرضي المالكي له كتاب في الفقه على مذهب مالك وله مصنفات في الفرائض قليلة النظير وكان أديبا إماما فاضلا صادقا رحمه الله
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وثلثمائة
في ربيع الأول منها وقعت فتنة بين الشيعة وأهل السنة ونهبت الكرخ وفي جمادى الآخرة تقلد أبو السائب عتبة بن عبيد الله الهمداني قضاء القضاة وفيها خرج رجل يقال له عمران بن شاهين كان قد استوجب بعض العقوبات فهرب من السلطان إلى ناحية البطائح وكان يقتات مما يصيده من السمك والطيور والتف عليه خلق من الصيادين وقطاع الطريق فقويت شوكته واستعمله أبو القاسم بن البريدي على بعض تلك النواحي وأرسل إليه معز الدولة بن بويه جيشا مع وزيره أبي جعفر بن بويه الضميري فهزم ذلك الصياد الوزير واستحوذ على ما معه من الأموال فقويت شوكه ذلك الصياد ودهم الوزير وفاة عماد الدولة بن بويه وهو
أبو الحسن علي بن بويه
وهو أكبر أولاد بويه وأول من تملك منهم وكان عاقلا حاذقا حميد السيرة رئيسا في نفسه كان أول ظهوره في سنة ثنتين وعشرين وثلثمائة كما ذكرنا فلما كان في هذا العام قويت عليه الأسقام وتواترت عليه الآلام فأحس من نفسه بالهلاك ولم يفاده ولا دفع عنه أمر الله ما هو فيه من الأموال والملك وكثرة الرجال والأموال ولا رد عنه جيشه من الديالم والأتراك والأعجام مع كثرة العدد والعدد بل تخلوا عنه أحوج ما كان إليهم فسبحان الله الملك القادر القاهر العلام ولم يكن له ولد ذكر فأرسل إلي أخيه ركن الدولة يستدعيه إليه وولده عضد الدولة ليجعله ولي عهده من بعده فلما قدم عليه فرح به فرحا شديدا وخرج بنفسه في جميع جيشه يتلقاه فلما دخل به إلى دار المملكة أجلسه على السرير وقام بين يديه كأحد الأمراء ليرفع من شأنه عند أمرائه ووزرائه وأعوانه ثم عقد له البيعة على ما يملكه من البلدان والأموال وتدبير المملكة والرجال وفيهم من بعض رؤس الأمراء كراهة لذلك فشرع في القبض عليهم وقتل من شاء منهم وسجن آخرين حتى تمهدت الأمور لعضد الدولة ثم كانت وفاة عماد الدولة بشيراز في هذه السنة عن سبع وخمسين سنة وكانت مدة ملكه ست عشرة سنة وكان من خيار الملوك في زمانه وكان ممن حاز قصب (11/221)
السبق دون أقرانه وكان هو أمير الأمراء وبذلك كان يكاتبه الخلفاء ولكن أخوه معز الدولة كان ينوب عنه في العراق والسواد ولما مات عماد الدولة اشتغل الوزير أبو جعفر الضميري عن محاربة عمران بن شاهين الصياد وكان قد كتب إليه معز الدولة أن يسير إلى شيراز ويضبط أمرها فقوي أمر عمران بعد ضعفه وكان من أمره ما سيأتي في موضعه وممن توفي فيها من الأعيان أبو جعفر النحاس النحوي
أحمد بن محمد بن إسماعيل بن يونس
أبو جعفر المرادي المصري النحو المعروف بالنحاس اللغوي المفسر الأديب له مصنفات كثيرة في التفسير وغيره وقد سمع الحديث ولقي أصحاب المبرد وكانت وفاته في ذي الحجة من هذه السنة قال ابن خلكان لخمس خلون منها يوم السبت وكان سبب وفاته أنه جلس عند المقياس يطقع شيئا من العروض فظنه بعض العامة يسحر النيل فرفسه برجله فسقط فغرق ولم يدر أين ذهب وقد كان أخذ النحو عن علي بن سليمان الأحوص وأبي بكر الأنباري وأبي إسحاق الزجاج ونفطويه وغيرهم وله مصنفات كثيرة مفيدة منها تفسير القرآن والناسخ والمنسوخ وشرح أبيان سيبويه ولم يصنف مثله وشرح المعلقات والدواوين العشرة وغير ذلك وروى الحديث عن النسائي وكان بخيلا جدا وانتفع الناس به وفيها كانت وفاة الخليفة
المستكفي بالله
عبدالله بن علي المكتفي بالله وقد ولي الخلافة سنة وأربعة أشهر ويومين ثم خلع وسملت عيناه كما تقدم ذكره توفي في هذه السنة وهو معتقل في داره وله من العمر ست وأربعون سنة وشهران
علي بن ممشاد بن سحنون بن نصر
أبو المعدل محدث عصره بنيسايور رحل إلى البلدان وسمع الكثير وحدث وصنف مسندا أربعمائة جزء وله غير ذلك مع شدة الأتقان والحفظ وكثرة العباد والصيانة والخشية لله عز و جل قال بعضهم صحبته في السفر والحضر فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة وله تفسير في مائتي جزء ونيف ودخل الحمام من غير مرض فتوفى فيه فجأة وذلك يوم الجمعة الرابع عشر من شوال من هذه السنة رحمه الله
علي بن محمد بن أحمد بن الحسن
أبو الحسن الواعظ البغدادي ارتحل إلى مصر فأقام بها حتى عرف بالمصري سمع الكثير وروى عنه الدارقطني وغيره وكان له مجلس وعظ يحضر فيه الرجال والنساء وكان يتكلم وهو مبرقع لئلا يرى النساء حسن وجهه وقد حضر مجلسه أبو بكر النقاش مستخفيا فلما سمع كلامه قام قائما وشهر نفسه وقال له القصص بعدك حرام قال الخطيب كان ثقة أمينا عارفا جمع حديث الليث وابن لهيعة وله كتب كثيرة في الزهد توفي في ذي القعدة منها وله سبع وثمانون سنة والله أعلم (11/222)
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وثلثمائة
في هذه السنة المباركة في ذي القعدة منها رد الحجر الأسود المكي إلى مكانه في البيت وقد كان القرامطة أخذوه في سنة سبع عشرة وثلثمائة كما تقدم وكان ملكهم إذا ذاك أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الحسين الجنابي ولما وقع هذا أعظم المسلمون ذلك وقد بذل لهم الأمير بجكم التركي خمسين ألف دينار على أن يردوه إلى موضعه فلم يفعلوا وقالوا نحن أخذناه بأمر فلا نرده إلا بأمر من أخذناه بأمره فلما كان في هذا العام حملوه إلى الكوفة وعلقوه على الأسطوانة السابعة من جامعها لبراه الناس وكتب أخو أبي طاهر كتابا فيه إنا أخذنا هذا الحجر بأمر وقد رددناه بأمر من أمرنا بأخذه ليتم حج الناس ومناسكهم ثم أرسلوه إلى مكة بغير شيء على قعود فوصل في ذي القعدة من هذه السنة ولله الحمد والمنة وكان مدة مغايبته عنده ثنتين وعشرين سنة ففرح المسلمون لذلك فرحا شديدا وقد ذكر غير واحد أن القرامطة لما أخذوه حملوه على عدة جمال فعطبت تحته واعترى أسنمتها القرح ولما ردوه حمله قعود واحد ولم يصبه أذى وفيها دخل سيف الدولة بن حمدان بجيش عظيم نحو من ثلاثين ألفا إلى بلاد الروم فوغل فيها وفتح حصونا وقتل خلقا وأسر أمما وغنم شيئا كثيرا ثم رجع فأخذت عليه الروم الدرب الذي يخرج منه فقتلوا عامة من معه وأسروا بقيتهم واستردوا ما كان أخذه ونجا سيف الدولة في نفر يسير من أصحابه وفيها مات الوزير أبو جعفر الضميري فاستوزر معز الدولة مكانه أبا محمد الحسين بن محمد المهلبي في جمادى الأولى فاستفحل أمر عمران بن شاهين الصياد وتفاقم الأمر به فبعث إليه معز الدولة جيشا بعد جيش كل ذلك يهزمهم مرة بعد مرة ثم عدل معز الدولة إلى مصالحته واستعماله له على بعض تلك النواحي ثم كان من أمره ما سنذكره إن شاء الله تعالى وفيها توفي من الأعيان
الحسن بن داود بن باب شاذ
أبو الحسن المصري قدم بغداد كان من أفاضل الناس وعلمائهم بمذهب أبي حنيفة مبسوط الذكاء قوي الفهم كتب الحديث وكان ثقة مات ببغداد في هذه السنة ودفن بمقبرة الشونيزية ولم يبلغ من العمر أربعين سنة
محمد القاهر بالله أمير المؤمنين
ابن المعتضد بالله ولي الخلافة سنة وستة أشهر وسبعة أيام وكان بطاشا سريع الانتقام فخاف منه وزيره أبو علي بن مقلة فاستتر منه فشرع في العمل عليه عند الأتراك فخلعوه وسملوا عينيه وأودع دار الخلافة برهة من الدهر ثم أخرج في سنة ثلاث وثلاثين إلى دار ابن طاهر وقد نالته فاقة وحاجة شديدة وسأل في بعض الأيام ثم كانت وفاته في هذا العام وله ثنتان وخمسون سنة ودفن إلى (11/223)
جانب أبيه المعتضد
محمد بن عبدالله بن أحمد
أبو عبدالله الصفار الأصبهاني محدث عصره بخراسان سمع الكثير وحدث عن ابن أبي الدنيا ببعض كتبه وكان مجاب الدعوة ومكث لا يرفع رأسه إلى السماء نيفا وأربعين سنة وكان يقول اسمي محمد واسم أبي عبدالله واسم أمي آمنة يفرح بهذه الموافقة في الأسم واسم الأب واسم الأم لأن النبي ( ص ) كان اسمه محمد واسم أبيه عبدالله وأمه اسمها آمنة
أبو نصر الفارابي
التركي الفيلسوف وكان من أعلم الناس بالموسيقى بحيث كان يتوسل به وبصناعته إلى الناس في الحاضرين من المستمعين إن شاء حرك ما يبكي أو يضحك أو ينوم وكان حاذقا في الفلسفة ومن كتبه تفقه ابن سينا وكان يقول بالمعاد الروحاني لا الجثماني ويخصص بالمعاد الأرواح العالمة لا الجاهلة وله مذاهب في ذلك يخالف المسلمين والفلاسفة من سلفه الأقدمين فعليه إن كان مات على ذلك لعنه رب العالمين مات بدمشق فيما قاله ابن الأثير في كامله ولم أر الحافظ ابن عساكر ذكره في تاريخه لنتنه وقباحته فالله أعلم
ثم دخلت سنة أربعين وثلثمائة
فيها قصد صاحب عمان البصرة ليأخذها في مراكب كثيرة وجاء لنصره أبو يعقوب الهجري فمانعه الوزير أبو محمد المهلبي وصده عنها وأسر جماعة من أصحابه وسبا سبيا كثيرا من مراكبه فساقها معه في دجلة ودخل بها إلى بغداد في أبهة عظيمة ولله الحمد وفيها رفع إلى الوزير أبي محمد المهلبي رجل من أصحاب أبي جعفر بن أبي العز الذي كان قتل علي الزندقة كما قتل الحلاج فكان هذا الرجل يدعي ما كان يدعيه ابن أبي العز وقد اتبعه جماعة من الجهلة من أهل بغداد وصدقوه في دعواه الربوبية وأن أرواح الأنبياء والصديقين تنتقل إليهم ووجد في منزله كتب تدل علىذلك فلما تحقق أنه هالك ادعى أنه شيعي ليحضر عند معز الدولة بن بويه وقد كان معز الدولة بن بويه يحب الرافضة قبحه الله فلما اشتهر عنه ذلك لم يتمكن الوزير منه خوفا على نفسه من معز الدولة وأن تقوم عليه الشيعة إنا لله وإنا إليه راجعون ولكنه احتاط على شيء من أموالهم فكان يسميها أموال الزنادقة قال ابن الجوزي وفي رمضان منها وقعت فتنة عظيمة بسبب المذهب وممن توفي فيها من الأعيان أشهب بن عبدالعزيز بن أبي داود بن إبراهيم أبو عمر العامري نسبة إلى عامر بن لؤي كان أحد الفقهاء المشهورين توفي في شعبان منها
أبو الحسن الكرخي
أحد أئمة الحنفية المشهورين ولد سنة ستين ومائتين وسكن بغداد ودرس فقه أبي حنيفة (11/224)
وانتهت إليه رئاسة أصحابه في البلاد وكان متعبدا كثير الصلاة والصوم صبورا على الفقر عزوفا عما في أيدي الناس وكان مع ذلك رأسا في الاعتزال وقد سمع الحديث من إسماعيل بن إسحاق القاضي وروى عنه حيوة وابن شاهين وأصابه الفالج في آخر عمره فاجتمع عنده بعض أصحابه واشتوروا فيما بينهم أن يكتبوا إلى سيف الدولة بن حمدان ليساعده بشيء يستعين به في مرضه فلما علم بذلك رفع رأسه إلى السماء وقال اللهم لا تجعل رزقي إلا من حيث عودتني فمات عقب ذلك قبل أن يصل إليه ما أرسل به سيف الدولة وهو عشرة آلاف درهم فتصدقوا بها بعد وفاته في شعبان من هذه السنة عن ثمانين سنة وصلى عليه أبو تمام الحسن بن محمد الزينبي وكان صاحبه ودفن في درب أبي زيد علي نهر الواسطيين
محمد بن صالح بن يزيد
أبو جعفر الوراق سمع الكثير وكان يفهم ويحفظ وكان ثقة زاهدا لا يأكل إلا من كسب يده ولا يقطع صلاة الليل وقال بعضهم صحبته سنين كثيرة فما رأيته فعل إلا ما يرضى الله عز و جل ولا قال إلا ما يسأل عنه وكان يقوم أكثر الليل وفيها كانت وفاة منصور بن قرابكين صاحب الجيوش الخراسانية من جهة الأمير نوح الساماني من مرض حصل له وقيل لأنه أدمن شرب الخمر أياما متتابعة فهلك بسبب ذلك فأقيم بعده في الجيوش أبو علي المحتاج الزجاجي مصنف الجمل وهو أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق النحوي اللغوي البغدادي الأصل ثم الدمشقي مصنف الجمل في النحو وهو كتاب نافع كثير الفائدة صنفه بمكة وكان يطوف بعد كل باب منه ويدعو الله تعالى أن ينفع به أخذ النحو أولا عن محمد بن العباس اليزيدي وأبي بكر بن دريد وابن الأنباري توفي في رجب سنة سبع وقيل سنة تسع وثلاثين وقيل سنة أربعين توفي في دمشق وقيل بطبرية وقد شرح كتابه الجمل بشروح كثيرة من أحسنها وأجمعها ما ضعه ابن عصفور والله أعلم
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وثلثمائة
فيما ملكت الروم سروج وقتلوا أهلها وحرقوا مساجدها قال ابن الأثير وفيها قصد موسى بن وجيه صاحب عمان البصرة فمنعه منها المهلبي كما تقدم وفيها نقم معز الدولة على وزيره فضربه مائة وخمسين سوطا ولم يعزله بل رسم عليه وفيها اختصم المصريون والعراقيون بمكة فخطبوا لصاحب مصر ثم غلبهم العراقيون فخطبوا لركن الدولة بن بويه وفيها كانت وفاة
المنصور الفاطمي
المنصور الفاطمي وهو أبو طاهر إسماعيل بن القائم بأمر الله أبي القاسم محمد بن عبيدالله المهدي صاحب المغرب (11/225)
وله من العمر تسع وثلاثون سنة وكانت خلافته سبع سنين وستة عشر يومان وكان عاقلا شجاعا فاتكا قهر أبا يزيد الحارجي الذي كان لايطاق شجاعة وإقداما وصبرا وكان فصيحا بليغا يرتجل الخطبة على البديهة في الساعة الراهنة وكان سبب موته ضعف الحرارة الغريزية كما أورده ابن الأثير في كامله فاختلف عليه الأطباء وقد عهد بالأمر إلى المعز الفاطمي وهو باني القاهرة المعزية كما سيأتي بيانه واسمه وكان عمره إذ ذلك أربعا وعشرين سنة وكان شجاعا عاقلا أيضا حازم الرأي أطاعه من البرير وأهل تلك النواحي خلق كثير وبعث مولاه جوهر القائد فبني له القاهرة المتاخمة لمصر واتخذ له فيها دار الملك وهما القصران اللذان هناك اللذان يقال لهما بين القصرين اليوم وذلك في سنة أربع وستين وثلثمائة كما سيأتي وممن توفي فيها من الأعيان
إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن صالح
أبو علي الصفار أحد المحدثين لقي المبرد واشتهر بصحبته وكان مولده في سنة سبع وأربعين ومائتين وسمع الحسن بن عرفة وعباسا الدوري وغيرهما وروى عنه جماعة منهم الدارققطني وقال صام أربعة وثمانين رمضانا وقد كانت وفاته في هذه السنة عن أربع وتسعين سنة رحمه الله تعالى
أحمدبن محمد بن زياد
ابن يونس بن درهم أبو سعيد بن الأعرابي سكن مكة وصار شيخ الحرم وصحب الجنيد بن محمد والنوري وغيرهما وأسند الحديث وصنف كتبا للصوفية ( إسماعيل بن القائم ) بن المهدي الملقب بالمنصور العبيدي الذي يزعم أنه فاطمي صاحب بلاد المغرب وهو والد المعز باني القاهرة وهو باني المنصورية ببلاد المغرب قال أبو جعفر المروزي خرجت معه لما كسر أبا يزيد الخاجي فبينما أنا أسير معه إذ سقط رمحه فنزلت فناولته إياه وذهبت أفاكهه بقول الشاعر ... فألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر ... فقال هلا قلت كما قال الله تعالى فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين قال فقلت له أنت ابن بنت رسول الله ( ص ) قلت ببعض ما علمت وأنا قلت بما بلغ به أكثر علمي قال ابن خلكان وهذا كما جرى لعبدالملك بن مروان حين امر الحجاج أن يبني بابا ببيت المقدس ويكتب عليه اسمه فبنى له بابا وبني لنفسه بابا آخر فوقعت صاعقة على باب عبدالملك فأحرقته فكتب إلى الحجاج بالعراق يسأله عما أهمه من ذلك يقول ما أنا وأنت إلا كما قال الله تعالى واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك فرضى عنه الخليفة بذلك توفي المنصور في هذه السنة من برد شديد والله أعلم (11/226)
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وثلثمائة
فيها دخل سيف الدولة بن حمدان صاحب حلب إلى بلاد الروم فقتل منهم خلقا كثيرا وأسر آخرين وغنم أموالا جزيلة ورجع سالما غانما وفيها اختلف الحجيج بمكة ووقعت حروب بين أصحاب بن طغج وأصحاب معز الدولة فغلبهم العراقيون وخطبوا لمعز الدولة ثم بعد انقضاء الحج اختلفوا أيضا فغلبهم العراقيون أيضا وجرت حروب كثير بين الخراسانية والسامانية اتقصاها ابن الأثير في كامله وممن توفي فيها من الأعيان
علي بن محمد بن أبي الفهم
أبو القاسم التنوخي جد القاضي أبي القاسم التنوخي شيخ الخطيب البغدادي ولد بأنطاكية وقدم بغداد فتفقه بها على مذهب أبي حنيفة وكان يعرف الكلام على طريقة المعتزلة ويعرف النجوم ويقول الشعر ولي القضاء بالأهواز وغيرها وقد سمع الحديث من البغوي وغيره وكان فهما ذكيا حفظ وهو ابن خمس عشر سنة قصيدة دعبل الشاعر في ليلة واحدة وهي ستمائة بيت وعرضها على أبيه صبيحتها فقام إليه وضمه وقبل بين عينيه وقال يا بني لا تخبر بهذا أحدا لئلا تصيبك العين وذكر ابن خلكان أنه كان نديما للوزير المهلبي ووفد على سيف الدولة بن حمدان فأكرمه وأحسن إليه وأورد له شعره أشياء حسنة فمن ذلك قوله في الخمر ... وراح من الشمس مخلوقة ... بدت لك في قدح من نهار ... هواء ولكنه جامد ... وماء ولكنه ليس جار ... كأن المدير له بالمي ... ن إذا مال للفيء أو بالنهار ... تدرع ثوبا من الياسمي ... ن له برد كم من الجلنار ...
محمد بن إبراهيم
ابن الحسين بن الحسن بن عبد الخلاق أبو الفرج البغدادي الفقيه الشافعي يعرف بابن سكره سكن مصر وحدث بها وسمع منه أبو الفتح بن مسرور وذكر أن فيه لينا
محمد بن موسى بن يعقوب
بن المأمون بن الرشيد هارون أبو بكر ولي إمرة مكة في سنة ثمان وستين ومائتين وقدم مصر فحدث بها عن علي بن عبد العزيز البغوي بموطأ مالك وكان ثقة مأمونا توفي بمصر في ذي الحجة منها
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وثلثمائة
فيها كانت وقعة بين سيف الدولة بن حمدان وبين الدمستق فقتل خلقا من أصحاب الدمستق وأسر آخرين في جماعة من رؤساء بطارقته وكان في جملة من قتل قسطنطين بن الدمستق وذلك (11/227)
في ربيع الأول من هذه السنة ثم جمع الدمستق خلقا كثيرا فالتقوا مع سيف الدولة في شعبان منها فجرت بينهم حروب عظيمة وقال شديد فكانت الدائرة للمسلمين وخذل الله الكافرين فقتل منهم خلق كثير وأسر جماعة من الرؤساء وكان منهم صهر الدمستق وابن بنته أيضا وفيها حصل للناس أمراض كثيرة وحمة وأوجاع في الحلق وفيها مات الأمير الحميد بن نوح بن نصر الساماني صاحب خراسان وما وراء النهر وقام بالأمر من بعده ولده عبد الملك وممن توفي فيها من الأعيان
الحسن بن أحمد
أبو علي الكاتب المصري صحب أبا علي الروذباري وغيره وكان عثمان المغربي يعظم أمره ويقول أبو علي الكاتب من السالكين إلى الله ومن كلامه الذي حكاه عنه أبو عبدالرحمن السلمي قوله روائح نسيم المحبة تفوح من المحبين وإن كتموها ويظهر عليهم دلائلها وإن أخفوها وتبدو عليهم وإن ستروها وأنشد ... إذا ما استسرت أنفس الناس ذكره ... تبين فيهم وإن لم يتكلموا ... تطيبهم أنفاسهم فتذيعها ... وهل سر مسك أودع الريح يكتم ...
علي بن محمد بن عقبة بنم همام
أبو الحسن الشيباني الكوفي قدم بغداد فحدث بها عن جماعة وروى عنه الدارقطني وكان ثقة عدلا كثير التلاوة فقيها مكث يشهد على الحكام ثلاثا وسبعين سنة مقبولا عندهم وأذن في مسجد حمزة الزيات نيفا وسبعين سنة وكذلك أبوه من قبله
محمد بن علي بن أحمد بن العباس
الكرخي الأديب كان عالما زاهدا ورعا يختم القرآن كل يوم ويديم الصيام سمع الحديث من عبدان وأقرانه
أبو الخير التيناني
العابد الزاهد أصله من العرب كا مقيما بقرية يقال لها تينان من عمل إنطاكية ويعرف بالأقطع لأنه كان مقطوع اليد كان قد عاهد الله عهدا ثم نكثه فاتفق له أنه مسك مع جماعة من اللصوص في الصحراء وهو هناك سائح يتعبد فأخذ معهم فقطعت يده معهم وكانت له أحوال وكرامات وكان ينسج الخوص بيده الواحدة دخل عليه بعض الناس فشاهد منه ذلك فأخذ منه العهد أن لا يخبر به أحدا ما دام حيا فوفي له بذلك
ثم دخلت سنة أربع وأربعين وثلثمائة
قال ابن الجوزي فيها شمل الناس ببغداد وواسط وأصبهان والأهواز داء مركب من دم وصفراء ووباء مات بسبب ذلك خلق كثير بحيث كان يموت في كل يوم قريب من ألف نفس (11/228)
وجاء فيها جراد عظيم أكل الخضروات والأشجار والثمار وفي المحرم منها عقد معز الدولة لابنه أبي منصور بختيار الأمر من بعده بأمرة الأمراء وفيها خرج رجل من أذربيجان ادعى أنه يعلم الغيب وكان يحرم اللحم وما يخرج من الحيوانات فأضافه مرة رجل فجاءه بطعام كشكية بشحم فأكله فقال له الرجل بحضرة من معه إنك تدعي أنك تعلم الغيب وهذا طعام فيه شحم وأنت تحرمه فلم لا علمته فتفرق عنه الناس وفيها جرت حروب كثيرة بين المعز الفاطمي وبين صاحب الأندلس عبد الرحمن الناصر الأموي استقصاها ابن الأثير وممن توفي فيها من الأعيان
عثمان بن أحمد
ابن عبدالله بن يزيد أبو عمرو الدقاق المعرووف بابن السماك روى عن حنبل بن إسحاق وغيره وعنه الدارقطني وغيره وكان ثقة ثبتا كتب المصنفات الكثيرة بخطه توفي في ربيع الأول منها ودفن بمقبرة باب التين وحضر جنازته خمسون ألفا
محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد
أبو جعفر القاضي السمناني ولد سنة إحدى وستين ومائتين وسكن بغداد وحدث بها وكان ثقة عالما فاضلا سخيا حسن الكلام عراقي المذهب وكانت داره مجمع العلماء ثم ولي قضاء الموصل وتوفي بها في هذه السنة في ربيع الأول منها
محمد بن احمد بن بطة بن إسحاق الأصبهاني
أبو عبدالله سكن نيسابور ثم عاد إلى أصبهان وليس هذا بعبد الله بن بطة العكبري هذا متقدم عليه هذا شيخ الطبراني وابن بطة الثاني يروي عن الطبراني وهذا بضم الباب من بطة وابن بطة الثاني وهو الفقيه الحنبلي بفتحها وقد كان جد هذا وهو ابن بطة بن إسحاق أبو سعيد من المحدثين أيضا ذكره ابن الجوزي في منتظمه
محمد بن محمد بن يوسف بن الحجاج
أبو النضر الفقيه الطوسي كان عالما ثقة عابدا يصوم النهار ويقوم الليل ويتصدق بالفاضل من قوته ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وقد رحل في طلب الحديث إلى الأقاليم النائية والبلدان المتباعدة وكان قد جزأ الليل ثلاثة أجزاء فثلث للنوم وثلث للتنصيف وثلث للقراءة وقد رآه بعضهم في النوم بعد وفاته فقال له وصلت إلى ما طلبت فقال إي والله نحن عند رسول الله ( ص ) وقد عرضت مصنفاتي في الحديث عليه فقبلها
أبو بكر الحداد
الفقيه الشافعي هو محمد بن أحمد بن محمد أبو بكر بن الحداد أحد أئمة الشافعية رورى عن (11/229)
النسائي وقال رضيت به حجة بيني وبين الله عز و جل وقد كان ابن الحداد فقيها فروعيا ومحدثا ونحويا وفصيحا في العبارة دقيق النظر في الفروع وله كتاب في ذلك غريب الشكل وقد ولى القضاء بمصر نيابة عن أبي عبيد بن حربويه ذكرناه في طبقات الشافعية
أبو يعقوب الأذرعي
إسحاق بن إبراهيم بن هاشم بن يعقوب النهدي قال ابن عساكر من أهل أذرعات مدينة بالبلقاء أحد الثقات من عباد الله الصالحين رحل وحدث عنه جماعة من أجل أهل دمشق وعبادها وعلمائها وقد روى عنه ابن عساكر أشياء تدل على صلاحه وخرق العادة له فمن ذلك قال إني سألت الله أن يقبض بصري فعميت فلما استضررت بالطهارة سألت الله عوده فرده علي توفي بدمشق في هذه السنة سنة أربع وخمسين وصححه ابن عساكر وقد نيف على التسعين
ثم دخلت سنة خمس وأربعين وثلثمائة
وفيها عصى الروزبهان على معز الدولة وانحاز إلى الأهواز ولحق به عامة من كان مع المهلبي الذي كان يحاربه فلما بلغ ذلك معز الدولة لم يصدقه لأنه كان قد أحسن إليه ورفع من قدره بعد الضعة والخمول ثم تبين له أن ذلك حق فخرج لقتاله وتبعه الخليفة المطيع لله خوفا من ناصر الدولة بن حمدان فإنه قد بلغه أنه جهز جيشا مع ولده أبي المرجا جاير إلى بغداد ليأخذها فأرسل معز الدولة حاجبه سبكتكين إلى بغداد وصمد معز الدولة إلى الروزبهان فاقتتلوا قتالا شديدا وهزمه معز الدولة وفرق أصحابه وأخذه أسيرا إلى بغداد فسجنه ثم أخرجه ليلا وغرقه لأن الديلم أرادوا إخراجه من السجن قهرا وانطوى ذكر روزبهان وإخوته وكان قد اشتعل اشتعال النار وحظيت الأتراك عند معز الدولة وانحطت رتبة الديلم عنده لأنه ظهر له خيانتهم في أمر الروزبهان وإخوته وفيها دخل سيف الدولة إلى بلاد الروم فقتل وسبى ورجع إلى حلب فحميت الروم فجمعوا وأقبلوا إلى ميا فارقين فقتلوا وسبوا وحرقوا ورجعوا وركبوا في البحر إلى طرسوس فقتلوا من أهلها ألفا وثمانمائة وسبوا وحرقوا قرى كثيرة وفيها زلزلت همذان زلزالا شديدا تهدمت البيوت وانشق قصر شيرين بصاعقة ومات تحت الهدم خلق كثير لا يحصون كثرة ووقعت فتنة عظيمة بين أهل أصبهان وأهل قم بسبب سب الصحابة من أهل قم فثاروا عليهم أهل أصبهان وقتلوا منهم خلقا كثيرا ونهبوا أموال التجار فغضب ركن الدولة لأهل قم لأنه كان شيعيا فصادر أهل أصبهان بأموال كثيرة وفيها توفي من الأعيان
غلام ثعلب
محمد بن عبدالواحد بن أبي هاشم أبو عمر والزاهد غلام ثعلب روى عن الكديمي وموسى بن (11/230)
سهل الوشاء وغيرهما روى عنه جماعة وآخر من حدث عنه أبو علي بن شاذان وكان كثير العلم والزهد حافظا مطيقا يملي من حفظه شيئا كثيرا ضابطا لما يحفظه ولكثرة إغرابه اتهمه بعض الرواة ورماه بالكذب وقد اتفق له مع القاضي أبي عمر حكاية وكان يؤدب ولده فإنه أملى من حفظه ثلاثين مسألة بشواهدها وأدلتها من لغة العرب واستشهد على بعضها ببيتين غريبين جدا فعرضهما القاضي أبو عمر علي ابن دريد وابن الأنباري وابن مقسم فلم يعرفوا منهما شيئا حتى قال ابن دريد هذا ما وضعه أبو عمرو من عنده فلما جاء أبو عمرو ذكر له الفاضي ما قال ابن دريد عنه فطلب أبو عمرو أن يحضر له من كتبه رواوين العرب فلم يزل أبو عمرو يعمد إلى كل مسألة ويأتيه بشاهد بعد شاهد حتى خرج من الثلاثين مسألة ثم قال وأما البيتان فإن ثعلبا أنشدناهما وأنت حاضر فكتبتهما في دفترك الفلاني فطلب القاضي دفتره فإذا هما فيه فلما بلغ ذلك ابن دريد كف لسانه عن أبي عمرو الزاهد فلم يذكره حتى مات توفي أبو عمرو هذا يوم الأحد ودفن يوم الإثنين الثالث عشر من ذي القعدة ودفن في الصفة المقابلة لقبر معروف الكرخي ببغداد رحمه الله
محمد بن علي بن أحمد بن رستم
أبو بكر المادرائي الكاتب ولد في سنة خمس وخمسين ومائتين بالعراق ثم صار إلى مصر هو وأخوه أحمد مع أبيهما وكان على الخراج لخمارويه بن أحمد بن طولون ثم صار هذا الرجل من رؤساء الناس وأكابرهم سمع الحديث من أحمد بن عبدالجبار وطبقته وقد روى الخطيب عنه أنه قال كان ببابي شيخ كبير من الكتاب قد تعطل عن وظيفته فرأيت والدي في المنام وهو يقول يا بني أما تتقي الله أنت مشغول بلداتك والناس ببابك يهلكون من العرى والجوع هذا فلان قد تقطع سراويله ولا يقدر على إبداله فلا تهمل أمره فاستيقظت مذعورا وأنا ناوله الإحسان ثم نمت فأنسيت المنام فبينا أنا أسير إلى دار الملك فإذا بذلك الرجل الذي ذكره على دابة ضعيفة فلما رآني أراد أن يترجل لي فبدا لي فخذه وقد لبس الخف بلا سراويل فلما رأيت ذلك ذكرت المنام فاستدعيت به وأطلقت له ألف دينار وثياب ورتبت له على وظيفته مائتي دينار كل شهر ووعدته بخير في الآجل أيضا
أحمد بن محمد بن إسماعيل
ابن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب الشريف الحسني الرسى قبيلة من الأشراف أبو القسام المصري الشاعر كان نقيب الطالبين بمصر ومن شعره قوله ... قالت لطيف خيال زارني ومضى ... بالله صفه ولا تنقص ولا تزد ... فقلت أبصرته لو مات من ظمأ ... وقال قف لا ترد الماء لم يرد (11/231)
قالت صدقت وفاء الحب عادته ... يا برد ذاك الذي قالت على كبدي ... توفي ليلة الثلاثاء لخمس بقين من هذه السنة
ثم دخلت سنة ست وأربعين وثلثمائة
فيها وقعت فتنة بين أهل الكره وأهل السنة بسبب السب فقتل من الفريقين خلق كثير وفيها نقص البحر المالح ثمانين ذراعا ويقال باعا فبدت به جبال وجزائر وأماكن لم تكن ترى من قبل ذلك وفيها كان بالعراق وبلاد الرى والجبل وقم ونحوها زلازل كثيرة مستمرة نحو أربعين يوما تسكن ثم تعود فتهدمت بسبب ذلك أبنية كثيرة وغارت مياه كثيرة ومات خلق كثير وفيها تجهز معز الدولة بن بويه لقتال ناصر الدولة بن حمدان بالموصل فراسله ناصر الدولة والتزم له بأموال يحملها إليه كل سنة فسكت عنه ثم إنه مع ما اشترط على نفسه لم يرجع عنه معز الدولة بل قصده في السنة الآتية كما سيأتي بيانه وفي تشرين منها كثرت في الناس أورام في حلوقهم ومناخرهم وكثر فيهم موت الفجأة حتى إن لصا نقب دارا ليدخلها فمات وهو في النقب ولبس القاضي خلعة القضاء ليخرج للحكم فلبس إحدى خفيه فمات قبل أن يلبس الأخرى وممن توفي فيها من الأعيان
أحمد بن عبدالله بن الحسين
أبو هريرة العذرى المستملي على المشايخ كتب عن أبي مسلم الكجي وغيره وكان ثقة توفي في ربيع الأول منها
الحسن بن خلف بن شاذان
أبو علي الواسطي روى عن إسحاق الأزرق ويزيد بن هارون وغيرهما وروى عنه البخاري في صحيحه توفي في هذه السنة هكذا رأيت ابن الجوزي ذكر هذه الترجمة في هذه السنة في منتظمه والله أعلم
أبو العباس الأصم
محمد بن يعقوب بن يوسف بن معقل بن سنان بن عبدالله الأموي مولاهم أبو العباس الأصم مولده في سنة سبع وأربعين ومائتين رأى الذهلي ولم يسمع ولم يسمع منه ورحل به أبوه إلى أصبهان ومكة ومصر والشام والجزيرة وبغداد وغيرها من البلاد فسمع الكثير بها عن الجم الغفير ثم رجع إلى خراسان وهو ابن ثلاثين سنة وقد صار محدثا كبيرا ثم طرأ عليه الصمم فاستحكم حتى كان لا يسمع نهيق الحمار وكان مؤذنا في مسجده ثلاثين سنة وحدث ستا وسبعين سنة فألحق الأحفاد بالأجداد وكان ثقة صادقا ضابطا لما سمعه ويسمعه كف بصره قبل موته بشهر وكان يحدث من حفظه بأربع عشر حديثا وسبع حكايات ومات وقد بقي له سنة من المائة
ثم دخلت سنة سبع وأربعين وثلثمائة
فيها كانت زلزلة ببغداد في شهر نيسان وفي غيرها من البلاد الشرقية فمات بسببها خلق كثير (11/232)
وخربت دور كثير زظهر في آخر نيسان وشهر أيار جراد كثير أتلف الغلات الصيفية والثمار ودخلت الروم آمد وميا فارقين فقتلوا ألفا وخمسمائة إنسان وأخذوا مدينة سمساط وأخربوها وفي المحرم منها ركب معز الدولة إلى الموصل فأخذها من يد ناصر الدولة وهرب ناصر الدولة إلى نصيبين ثم إلى ميا فارقين فلحقه معز الدولة فصار إلى حلب إلى عند أحيه سيف الدولة ثم أرسل سيف الدولة إلى معز الدولة في المصالحة بينه وبين أخيه فوقع الصلح على أن يحمل ناصر الدولة في كل سنة ألفي ألف وتسعمائة ألف ورجع معز الدولة إلى بغداد بعد انعقاد الصلح وقد امتلأت البلاد رفضا وسبا للصحابة من بني بويه وبني حمدان والفاطميين وكل ملوك البلااد مصرا وشاما وعراقا وخراسان وغير ذلك من البلاد كانوا رفضا وكذلك الحجاز وغيره وغالب بلاد المغرب فكثر السب والتكفير منهم للصحابة وفيها بعضث المعز الفاطمي مولاه أبا الحسن جوهر القائد في جيوش معه ومعه زيري بن هناد الصنهاجي ففتحوا بلادا كثيرة من أقصى بلاد المغرب حتى انتهوا إلى البحر المحيط فأمر جوهر بأن يصطاد له منه سمك فأرسل به في قلال الماء إلى المعز الفاطمي وحظي عنده جوهر وعظم شأنه حتى صار بمنزلة الوزير وممن توفي فيها من الأعيان
الزبير بن عبد الرحمن
ابن محمد بن زكريا بن صالح بن إبراهيم أبو عبدالله الاستراباذي رحل وسمع الحديث وطوف الأقاليم سمع الحسن بن سفيان وابن خزيمة وأبا يعلى وخلقا وكان حافظا متقنا صدوقا صنف الشروح والأبواب
أبو سعيد بن يونس
صاحب تاريخ مصر هو عبدالرحمن بن يونس بن عبدالأعلى الصدفي المصري المؤرخ كان حافظا مكثرا خبيرا بأيام الناس وتواريخهم له تاريخ مفيد جدا لأهل مصر ومن ورد إليها وله ولد يقال له أبو الحسن علي كان منجما له زيج مفيد يرجع إليه أصحاب هذا الفن كما يرجع أصحاب الحديث إلى أقوال أبيه وما يؤرخه وينقله ويحكيه ولد الصدفي سنة إحدى وثمانين ومائتين وتوفي في هذه السنة يوم الإثنين السادس والعشرين من جمادى الآخرة في القاهرة
ابن درستويه النحوي
عبدالله بن جعفر بن درستويه بن المرزبان أبو محمد الفارسي النحوي سكن بغداد وسمع عباسا الدوري وابن قتيبة والمبرد وسمع منه الدارقطني وغيره من الحافظ وأثنى عليه غير واحد منهم أبو عبدالله بن منده وتوفي في صفر منها وذكر له ابن خلكان مصنفات كثيرة مفيدة فيما يتعلث باللغة والنحو وغيره
محمد بن الحسن
ابن عبدالله بن علي بن محمد بن عبدالملك بن أبي الشوارب أبو الحسن القرشي الأموي قاضي (11/233)
بغداد كان حسن الأخلاق طلابة للحديث ومع هذا كان ينسب إلى أخذ الرشوة في الأحكام والولايات رحمه الله
محمد بن علي
ابو عبدالله الهاشمي الخاطب الدمشقي وأظنه الذي تنسب إليه حارة الخاطب من نواحي باب الصغير كان خطيب دمشق في أيام الأخشيد وكان شابا حسن الوجه مليح الشكل كامل الخلق توفي في يوم الجمعة السابع والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة وحضر جنازته نائب السلطنة وخلق كثير لا يحصون كثرة هكذا أرخه ابن عساكر ودفن بباب الصغير
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة
فيها كانت فتنة بين الرافضة وأهل السنة قتل فيها خلق كثير ووقع حريق بباب الطاق وغرق في دجلة خلق كثير من الحجاج الموصل نحو من ستمائة نفس وفيها دخلت الروم طرسوس والرها وقتلوا وسبوا وأخذوا الأموال ورجعوا وفيها قلت الأمطار وغلت الأسعار واستسقى الناس فلم يسقوا وظهر جراد عظيم في أذار فأكل ما نبت من الخضراوات فاشتد الأمر جدا على الخلق فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وفيها عاد معز الدولة إلى بغداد من الموصل وزوج ابنته من ابن أخيه مؤيد الدولة بن معز الدولة وسيرها معه إلى بغداد وممن توفي من الأعيان
إبراهيم بن شيبان القرميسيني
شيخ الصوفية بالجبل صحب أبا عبدالله المغربي ومن جيد كلامه قوله إذا سكن الخوف القلب أحرق مواضع الشهوات منه وطرد عنه الرغبة في الدنيا
ابو بكر النجاد
أحمد بن سليمان بن الحسن بن إسرائيل بن يونس أبو بكر النجاد الفقيه أحد أئمة الحنابلة ولد سنة ثلاث وخمسين ومائتين سمع عبدالله بن أحمد وأبا داود والباغندي وابن أبي الدنيا وخلقا كثيرا وكان يطلب الحديث ماشيا حافيا وقد جمع المسند وصنف في السنن كتابا كبيرا وكان له بجامع المنصور حلقتان من واحدة للفقه وأخرى لإملاء الحديث وحدث عنه الدارقطني وابن رزقويه وابن شاهين وأبو بكر بن مالك القطيعي وغيرهم وكان يصوم الدهر ويفطر كل ليلة على رغيف ويعزل منه لقمة فإذا كانت ليلة الجمعة أكل اللقم وتصدق بالرغيف صحيحا توفي ليلة الجمعة لعشرين من ذي الحجة عن خمس وتسعين سنة ودفن قريبا من قبر بشر الحافي رحمه الله
جعفر بن محمد بن نصير بن القاسم
أبو محمد الخواص المعروف بالخلدي سمع الكثير وحدث كثيرا وحج ستين جة وكان ثقة صدوقا دينا (11/234)
محمد بن إبراهيم بن يوسف بن محمد
أبو عمر الزجاج النيسابوري صحب أبا عثمان والجنيد والنوري والخواص وغيرهم وأقام بمكة وكان شيخ الصوفية بها وحج ستين حجة ويقال إنه مكث أربعين سنة لم يتغوط ولم يبل إلا خارج الحرم بمكة
محمد بن جعفر بن محمد بن فضالة
ابن يزيد بن عبدالملك أبو بكر الأدمي صاحب الألحان كان حسن الصوت بتلاوة القرآن وربما سمع صوته من بعد في الليل وحج مرة مع أبي القاسم البغوي فلما كانوا بالمدينة دخلوا المسجد النبوي فوجدوا شيخا أعمى يقص على الناس أخبارا موضوعة مكذوبة فقال البغوي ينبغي الإنكار عليه فقال له بعض أصحابه إنك لست ببغداد يعرفك الناس إذا أنكرت عليه ومن يعرفك هنا قليل والجمع كثير ولكن ترى أن تأمر أبا بكر الأدمي فيقرأ فأمره فاستفتح فقرأ فلم يتم الاستعاذة حتى انجفل الناس عن ذلك الأعمى وتركوه وجاؤا إلى أبي بكر ولم يبق عند الضرير أحد فأخذ الأعمى بيد قائده وقال له اذهب بنا فهكذا تزول النعم توفي في الأربعاء لليلتين بقيتا من ربيع الأول من هذه السنة عن ثمان وثمانين سنة وقد رآه بعضهم في المنام فقال له ما فعل الله بك قال وقفني بين يديه وقاسيت شدائد وأهوالا فقلت له فتلك القراءة الحسنة وذلك الصوت الحسن وتلك المواقف فقال ما كان شيء أضر علي من ذلك لأنها كانت للدنيا فقلت إلى أي شيء انتهي أمرك فقال الله عز و جل آليت على نفسي أن لا أعذب أبناء الثمانين
أبو محمد عبدالله بن أحمد بن علي
ابن الحسن بن إبراهيم بن طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي المصري كان من ساداتها وكبرائها لا تزال الحلوي تعقد بداره ولا يزال رجل يكسر اللوزر بسببها وللناس عليه رواتب من الحلوى فمنهم من يهدى إليه كل يوم ومنهم في الجمعة ومنهم في الشهر وكان لكافرو الأخشيد عليه في كل يوم جامان ورغيف من الحلوى ولما قدم المعز الاطمي إلى القاهرة وتلقاه سأله إلى من ينتسب مولانا من أهل البيت فقال الجواب إلى أهل البلد فلما دخل القصر جمع الأشارف وسل نصف سيفه وقال هذا نسبي ثم نثر عليهم الذهب وقال هذا حسبي فقالوا سمعنا وأطعنا والصحيح أن القائل للمعز هذا الكلام ابن هذا أو شريف آخر فالله أعلم فإن وفاة هذا كانت في هذا العام عن ثنتين وستين سنة والمعز إنما قدم مصر في سنة ثنتين وستين وثلثمائة كما سيأتي
ثم دخلت سنة تسع وأربعين وثلثمائة
فيها ظهر رجل بأذربيجان من أولاد عيسى بن المكتفي بالله فلقب بالمتسجير بالله ودعا إلى الرضا (11/235)
من آل محمد وذلك لفساد دولة المرزبان في ذلك الزمان فاقتتلوا قتالا شديدا ثم انهزم أصحاب المستجير وأخذ أسيرا فمات واضمحل أمره وفيها دخل سيف الدولة بن حمدان بلاد الروم فقتل من أهلها خلقا كثيرا وفتح حصونا وأحرقا بلدانا كثيرة وسبى وغنم وكر راجعا فأخذت الروم عليه فمنعوه من الرجوع ووضعوا السيف في أصحابه فما نجا هو في ثلاثمائة فارس إلا بعد جهد جهيد وفيها كانت فتنة عظيمة ببغداد بين الرافضة وأهل السنة قتل فيها خلق كثير وفي أخرها توفي أنوجور بن الأخشيد صاحب مصر فأقام بالأمر بعده أخوه علي وفيها مات أبو القاسم عبدالله بن أبي عبدالله البريدي الذي كان صاحب الأهواز وواسط وفيها رجع حجيج مصر من مكة فنزلوا واديا فجاءهم سيل فأخذهم فألقاهم في البحر عن آخرهم وفيها أسلم من الترك مائتا ألف خركاه فسموا ترك إيمان ثم خفف اللفظ بذلك فقيل تركمان وممن توفي فيها من الأعيان بن حرب الكاتب
كانت له نعمة وثروة عظيمة تقارب أبهة الوزارة فاجتاز يوما وهو راكب في موكب له عظيم فسمع رجلا يقرأ
ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق فصاح اللهم بلى وكررها دفعات ثم بكى ثم نزل عن دابته ونزع ثيابه وطرحها ودخل دجلة فاستتر بالماء ولم يخرج منه حتى فرق جميع أمواله في المظالم التي كانت عليه وردها إلى أهلها وتصدق بالباقي ولم يبق له شيء بالكلية فاجتاز به رجل فتصدق عليه بثوبين فلبسهما وخرج فانقطع إلى العلم والعبادة حتى مات رحمه الله
أبو علي الحافظ
ابن علي بن يزيد بن داود أبو علي الحافظ النيسابوري أحد أئمة الحفاظ المتقنين المصنفين قال الدارقطني كان إماما مهذبا وكان ابن عقدة لا يتواضع لأحد كتواضعه له توفي في جمادى الآخرة عن اثنتين وخمسين سنة
حسان بن محمد بن أحمد بن مروان
أبو الوليد القرشي الشافعي إمام أهل الحديث بخراسان في زمانه وأزهدهم وأعبدهم أخذ الفقه عن ابن سريج وسمع الحديث من الحسن بن سفيان وغيره وله التصانيف المفيدة وقد ذكرنا ترجمته في الشافعيين كانت وفاته ليلة الجمعة لخمس مضين من ربيع الأول من هذه السنة عن ثنتين وسبعين سنة
حمد بن إبراهيم بن الخطاب
أبو سليمان الخطابي سمع الكثير وصنف التصانيف الحسان منها المعالم شرح فيها سنن أبي داود والأعلام شرح فيه البخاري وغريب الحديث وله فهم مليح وعلم عزير ومعرفة باللغة والمعاني والفقه ومن أشعاره قوله (11/236)
ما دمت حيا فدار الناس كلهم ... فإنما أنت في دار المداراة ... من يدر داري ومن لم يدر سوف يرى ... عما قليل نديما للندامات ... هكذا ترجمه أبو الفرج ابن الجوزي حرفا بحرف
عبدالواحد بن عمر بن محمد
ابن أبي هاشم كان من أعلم الناس بحروف القراءات وله في ذلك مصنفات وكان من الأمناء الثقات روى عن ابن مجاهد وأبي بكر بن أبي داود وعنه أبو الحسن الحماني توفي في شوال منها ودفن بمقبرة الخيزران
أبو أحمد العسال
الحافظ محمد بن أحمد بن إبراهيم بن سليمان بن محمد أبو أحمد العسال الأصبهاني أحد الأئمة الحفاظ وأكابر العلماء سمع الحديث وحدث به قال ابن منده كتبت عن ألف شيخ لم أر أفهم ولا أتقن من أبي أحمد العسال توفي في رمضان منها رحمه الله والله سبحانه أعلم
ثم دخلت سنة خمسين وثلثمائة
في المحرم منها مرض معز الدولة بن بويه بإنحصار البول فقلق من ذلك وجمع بين صاحبه سبكتكين ووزيره المهلبي وأصلح بينهما ووصاهما بولده بختيار خيرا ثم عوفي من ذلك فعزم على الرحيل إلى الأهواز لاعتقاده أن ما أصابه من هذه العلة بسبب هواء بغداد ومائها فأشاروا عليه بالمقام بها وأن بيني بها دارا في أعلاها حيث الهواء أرق والماء أصفي فبنى له دارا غرم عليه ثلاثة عشر ألف ألف درهم فاحتاج لذلك أن يصادر بعض أصحابه ويقال أنفق عليها الفي ألف دينار ومات وهو يبني فيها ولم يسكنها وقد خرب أشياء كثيرة من معالم الخلفاء ببغداد في بنائها وكان مما خرب المعشوق من سر من رأى وقلع الأبواب الحديد التي على مدينة المنصور والرصافة وقصورها وحولها إلى داره هذه لا تمت فرحته فإنه كان رافضيا خبيثا وفيها مات القاضي أبو السائب عتبة بن عبدالله وقبضت أملاكه وولى بعده القضاء أبو عبدالله الحسين بن أبي الشوارب وضمن أن يؤدي في كل سنة إلى معز الدولة مائتي ألف درهم فخلع عليه معز الدولة وسار ومعه الدبابات والبوقات إلى منزله وهو أول من ضمن القضاء ورشى عليه والله أعلم ولم يأذن له الخليفة المطيع لله في الحضور عنده ولا في حضور الموكب من أجل ذلك غضبا عليه ثم ضمن معز الدولة الشرطة وضمن الحسبة أيضا وفيها سار قفل من أنطاكية يريدون طرسوس وفيهم نائب أنطاكية فثار عليهم الفرنج فأخذوهم عن بكرة أبيهم فلم يفلت منهم سوى النائب جريحا في مواضع من بدنه وفيها دخل نجا غلام سيف الدولة بلاد الروم فقتل وسبى وغنم ورجع سالما (11/237)
وفيها توفي الأمير
نوح بن عبد الملك الساماني
صاحب خراسان وغزنة وما وراء النهر سقط عن فرسه فمات فقام بالأمر من بعده أخوه منصور بن نوح الساماني وفيها توفي
الناصر لدين الله عبدالرحمن الأموي
صاحب الأندلس وكانت خلافته خمسين سنة وستة أشهر وله من العمر يوم مات ثلاث وسبعون سنة وترك أحد عشر ولدا كان أبيض حسن الوجه عظيم الجسم طويل الظهر قصير الساقين وهو أول من تلقب بأمير المؤمنين من أولاد الأمويين الداخلين إلى المغرب وذلك حين بلغه ضعف الخلفاء بالعراق وتغلب الفاطميين فتلقب قبل موته بثلاث وعشرين سنة ولما توفي قام بالأمر من بعده ولده الحكم وتلقب بالمنتصر وكان الناصر شافعي المذهب ناسكا شاعرا ولا يعرف في الخلفاء أطول مدة منه فإنه أقام خليفة خمسين سنة إلا الفاطمي المستنصر بن الحاكم الفاطمي صاحب مصر فإنه مكث ستين كما سيأتي ذلك وممن توفي فيها من الأعيان القطان
أبو سهل بن زياد القطان
أحمد بن محمد بن عبدالله بن زياد أبو سهل القطان كان ثقة حافظا كثير التلاوة للقرآن حسن الانتزاع للمعاني من القرآن فمن ذلك أنه استدل على تكفير المعتزلة بقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا إسماعيل بن علي بن إسماعيل بن بيان أبو محمد الحطبي سمع الحديث من ابن أبي أسامة وعبدالله بن أحمد والكوكبي وغيرهم وعنه الدارقطني وغيره وكان ثقة حافظا فاضلا نبيلا عارفا بأيام الناس وله تاريخ مرتب على السنين وكان أدبيا لبيبا عاقلا صدوقا توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة عن إحدى وثمانين سنة
أحمد بن محمد بن سعيد
ابن عبيد الله بن أحمد بن سعيد بن أبي مريم أبو بكر القرشي الوراق ويعرف بابن فطيس وكان حسن الكتابة مشهورا بها وكان يكتب الحديث لابن جوصا ترجمة ابن عساكر وأرخ وفاته بثاني شوال من هذه السنة
تمام بن محمد بن عباس
ابن عبد المطلب أبو بكر الهاشمي العباسي حدث عن عبدالله بن أحمد وعنه ابن رزقويه توفي في هذه السنة عن إحدى وثمانين سنة
الحسين بن القاسم
أبو علي الطبري الفقيه الشافعي أحد الأئمة المحررين في الخلاف وهو أول من صنف فيه (11/238)
وله الايضاح في المذهب وكتاب في الجدل وفي أصول الفقه وغير ذلك من المصنفات وقد ذكرناه في الطبقات
عبدالله بن إسماعيل بن إبراهيم
ابن عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور الهاشمي الإمام ويعرف بابن بويه ولد سنة ثلاث وستين ومائتين روى عن ابن أبي الدنيا وغيره وعنه ابن رزقويه وكان خطيبا بجامع المنصور مدة طويلة وقد خطب فيه سنة ثلاثين وثلثمائة وقبلها تمام سنة ثم خطب فيه الواثق سنة ثلاثين ومائتين وهما في النسب إلى المنصور سواء توفي في صفر منها
عتبة بن عبدالله
ابن موسى بن عبدالله أبو السائب القاضي الهمداني الشافعي كان فاضلا بارعا ولي القضاء وكان فيه تخليط في الأمور وقد رآه بعضهم بعد موته فقال ما فعل الله بك قال غفر لي وأمر بي إلى الجنة على ما كان مني من التخليط وقال لي إني كتبت على نفسي أن لا أعذب أبناء الثمانين وهذا الرجل أول من ولي قضاء القضاة ببغداد من الشافعية والله أعلم
محمد بن أحمد بن حيان
أبو بكر الدهقان بغدادي سكن بخارى وحدث بها عن يحيى بن أبي طالب والحسن بن مكرم وغيرهما وتوفي عن سبع وثمانين سنة
أبو علي الخازن
توفي في شعبان منها فوجد في داره من الدفائن وعند الناس من الودائع ما قارب أربعمائة ألف دينار والله أعلم
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وثلثمائة
فيها كان دخول الروم إلى حلب صحبة الدمستق ملك الروم لعنه الله في مائتي ألف مقاتل وكان سبب ذلك أنه ورد إليها بغتة فنهض إليه سيف الدولة بن حمدان بمن حضر عنده من الماتقلة فلم يقو به لكثرة جنوده وقتل من أصحاب سيف الدولة خلقا كثيرا وكان سيف الدولة قليل الصبر ففر منهزما في نفر يسير من أصحابه فأول ما استفتح به الدمستق قبح الله أن استخوذ على دار سيف الدولة وكانت ظاهر حلب فأخذ ما فيها من الأموال العظيمة والحواصل الكثيرة والعدد وآلات الحرب أخذ من ذلك ما لا يحصى كثرة وأخذ ما فيها من النساء والولدان وغيرهم ثم حاصر سور حلب فقاتل أهل البلد دونه قتالا عظيما وقتلواا خلقا كثيرا من الروم وثلمت الروم بسور حلب ثلمة عظيمة فوقف فيها الروم فحمل المسلمون عليهم فأزاحوهم عنها فلما جن الليل جد المسلمون في إعادتها فما أصبح الصباح إلا وهي كما كانت وحفظوا السور حفظا عظيما ثم بلغ المسلمون أن الشرط والبلاحية قد عاثوا في داخل البلد ينهبون البيوت فرجع الناس إلى منازلهم يمنعونها منهم قبحهم الله فإنهم أهل شر وفساد فلما فعلوا ذلك غلبت الروم على السور فعلوه ودخلوا البلد يقتلون من لقوه فقتلوا من المسلمين خلقا كثيرا وانتهبوا الأموال وأخذوا الأولاد والنساء وخلصوا من كان (11/239)
بأيدي المسلمين من أسارى الروم وكانوا ألفا وأربعمائة فأخذ الأساري السيوف وقاتلوا المسلمين وكانوا أضر على المسلمين من قومهم وأسروا نحوا من بضعة عشر ألفا ما بين صبي وصبية ومن النساء شيئا كثيرا ومن الرجال الشباب الفين وخربوا المساجد وأحرقوها وصبوا في جباب الزيت الماء حتى فاض الزيت على وجه الأرض وأهلكوا كل شيء قد روا عليه وكل شيء لا يقدرون على حمله أحرقوه وأقاموا في البلد تسعة أيام يفعلون فيها الأفاعيل الفاسدة العظيمة كل ذلك بسبب فعل البلاحية والشرط في البلد قاتلهم الله وكذلك خاكمهم ابن حمدان كان رافضيا يحب الشيعة ويبغض أهل السنة فاجتمع على أهل حلب عدة مصائب ثم عزم الدمستق على الرحيل عنهم خوفا من سيف الدولة فقال له ابن أخيه أين تذهب وتدع القلعة وأموال الناس غالبها فيها ونساؤهم فقال له الدمستق إنا قد بلغنا فوق ما كنا نأمل وإن بها مقاتلة ورجالا غزاة فقال له لا بد لنا منها فقال له اذهب إليها فصعد إليها في جيش ليحاصرها فرموه بحجر فقتلو في الساعة الراهنة من بين الجيش كله فغضب عند ذلك الدمستق وأمر بإحضار من في يديه من أسارى المسلمين وكانوا قريبا من الفين فضربت أعناقهم بين يديه لعنه الله ثم كر راجعا وقد دخلوا عين زربة قبل ذلك في المحرم من هذه السنة فأستأمنه أهلها فأمنهم وأمر بأن يدخلوا كلهم المسجد ومن بقي في منزله قتل فصاروا إلى المسجد كلهم ثم قال لا يبقين أحد من أهلها اليوم إلا ذهب حيث شاء ومن تأخر قتل فازدحوا في خروجهم من المسجد فمات كثير منهم وخرجوا على وجوههم لا يدرون أين يذهبون فمات في الطرقات منهم خلق كثير ثم هدم الجامع وكسر المنبر وقطع من حول البلد أربعين ألف نخلة وهدم سور البلد والمنازل المشار إليها وفتح حولها أربعة وخمسين حصنا بعضها بالسيف وبعضها بالأمان وقتل الملعون خلقا كثيرا وكان في جملة من أسر أبو فراس بن سعيد بن حمدان نائب منبج من جهة سيف الدولة وكان شاعرا مطيقا له ديوان شعر حسن وكان مدة مقامه بعين زربة إحدى وعشرين يوما ثم سار إلى قيسرية فلقيه أربعة آلامن أهل طرسوس مع نائبها ابن الزيات فقتل أكثرهم وأدركه صوم النصارى فاشتغل به حتى فرغ منه ثم هجم على حلب بغتة وكان من أمره ما ذكرناه وفيها كتبت العامة من الروافض على أبواب المساجد لعنة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وكتبوا أيضا ولعن الله من غصب فاطمة حقها وكانوا يلعنون أبا بكر ومن أخرج العباس من الشورى يعنون عمر ومن نفى أبا ذر يعنون عثمان رضي الله عن الصحابة وعلى من لعنهم لعنة الله ولعنوا من منع من دفن الحسن عند جده يعنون مروان بن الحكم ولما بلغ ذلك جميعه معز الدولة لم ينكر ولم يغيره ثم بلغه أن أهل السنة محوا ذلك وكتبوا عوضه لعن الله الظالمين لآل محمد من الأولين والآخرين والتصريح (11/240)
باسم معاوية في اللعن فأمر بكتب ذلك قبحه الله وقبح شيعته من الروافض لا جرم أن هؤلاء لا ينصرون وكذلك سيف الدولة بن حمدان بحلب فيه تشيع وميل إلى الروافض لا جرم أن الله لا ينصر أمثال هؤلاء بل يديل عليهم أعداءهم لمتابعتهم أهواءهم وتقليدهم سادتهم وكبراءهم وآباءهم وتركهم أنبياءهم وعلمائهم ولهذا لما ملك الفاطميون بلاد مصر والشام وكان فيهم الرفض وغيره استحوذ الفرنج على سواحل الشام بلاد الشام كلها حتى بيت المقدس ولم يبق مع المسلمين سوى حلب وحمص وحماة ودمشق وبعض أعمالها وجميع السواحل وغيرها مع الفرنج والنواقيس النصرانية والطقوس الانجيلية تضرب في شواهق الحصون والقلاع وتكفر في أماكن الإيمان من المساجد وغيرها من شريف البقاع والناس معهم في حصر عظيم وضيق من الدين وأهل هذه المدن التي في يد المسلمين في خوف شديد في ليلهم ونهارهم من الفرنج فإنا لله وإنا إليه راجعون وكل ذلك من بعض عقوبات المعاصي والذنوب وإظهار سب خير الخلق بعد الأنبياء وفيها وقعت فتنة عظيمة بين أهل البصرة بسبب السب أيضا قتل فيها خلق كثير وجم غفير وفيها أعاد سيف الدولة بن حمدان بناء عين زربة وبعث مولاه نجا فدخل بلاد الروم فقتل منها خلقا كثيرا وسبى جما غفيرا وغنم وسلم وبعث حاجبه مع جيش طرسوس فدخلوا بلاد الروم فغنموا وسبوا ورجعوا سالمين وفيها فتح المعز الفاطمي حصن طبرمين من بلاد المغرب وكان من أحصن بلاد الفرنج فتحه قسرا بعد محاصرة سبعة أشهر ونصف وقصد الفرنج جزيرة إقريطش فاستنجد أهلها المعز فأرسل إليهم جيشا فانتصروا على الفرنج ولله الحمد والمنة وممن توفي فيها من الأعيان بن هارون
الحسن بن محمد بن هارون
المهلبي الوزير لمعز الدولة بن بويه مكث وزيرا له ثلاث عشرة سنة وكان فيه حلم وكرم وأناة حكى أبو إسحاق الصابي قال كنت يوما عنده وقد جيء بدواة قد صنعت له ومرفع قد حليا له بحلية كثيرة فقال أبو محمد الفضل بن عبدالله الشيرازي سرا بيني وبينه ما كان أحوجني إليها لأبيعها وأنتفع بها قلت وأي شيء ينتفع الوزير بها فقال تدخل في خزانتها فسمعها الوزير وكان مصغ لنا ولا نشعر فلما أمسى بعث بالدواة إلى أبي محمد الشيرازي ومرفعها وعشرة ثياب وخمسة آلاف درهم واصطنع له غيرها فاجتمعنا يوما آخر عنده وهو يوقع من تلك الدواة الجديدة ونظر إلينا فقال من يريدها منكما قال فاستحيينا وعلمنا أنه قد سمع كلامنا ذلك اليوم وقلنا يمنع الله الوزير بها ويبقيه ليهب لنا مثلها توفي المهلبي في هذه السنة عن أربع وستين سنة
دعلج بن أحمد بن دعلج بن عبدالرحمن
أبو محمد السجستاني المعدل سمع بخراسان وحلوان وبغداد والبصرة والكوفة ومكة وكان من (11/241)
ذوي اليسار والمشهورين بالبر والافضال وله صدقات جارية وأوقاف دارة دائرة على أهل الحديث ببغداد وسجستان كانت له دار عظيمة ببغداد وكان يقول ليس في الدنيا مثل بغداد ولا في بغداد مثل القطيعة ولا في القطيعة مثل دار أبي خلف ولا في دار أبي خلف مثل داري وصنف الدارقطني له مسندا وكان إذا شك في حديث طرحه جملة وكان الدارقطني يقول ليس في مشايخنا أثبت منه وقد أنفق في ذوي العلم والحاجاتى أموالا جزيلة كثيرة جدا افترض منه بعض التجار عشرة آلاف دينار فاتجر بها فربح في مدة ثلاث سنين ثلاثين ألف دينار فعزل منها عشرة آلاف دينار وجاءه بها فأضافه دعلج ضيافة حسنة فلما فرغ من شأنها قال له ما شأنك قال له هذه العشرة آلاف دينار التي تفضلت بها قد أحضرت فقال يا سبحان الله إني لم أعطكها لتردها فصل بها الاهل فقال إني قد ربحت بها ثلاثين ألف دينار فهذه منها فقال له دعلج اذهب بارك الله لك فقال له كيف يتسع ما لك هذا ومن أين أفدت هذا المال قال إني كنت في حداثة سني أطلب الحديث فجاءني رجل تاجر من أهل البحر فدفع إلي ألف ألف درهم وقال اتجر في هذه فما كان من ربح فبيني وبينك وما كان من خسارة فعلي دونك وعليك عهد الله وميثاقه إن وجدت ذا حاجة أو خلة إلا سددتها من مالي هذا دون مالك ثم جاءني فقال إني أريد الركوب في البحر فإن هلكت فالمال في يدك على ما شرطت عليك فهو في يدي على ما قال ثم قال لي لا تخبر بها أحدا مدة حياتي فلم أخبر به أحدا حتى مات توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة عن أربع أو خمس وتسعين سنة رحمه الله
عبدالباقي بن قانع
ابن مرزوق أبو الحسن الأموي مولاهم سمع الحارث بن أسامة وعنه الدارقطني وغيره وكان ثقة أمينا حافظا ولكنه تغير في آخر عمره قال الدارقطني كان يخطئ ويصر على الخطأ توفي في شوال منها
أبو بكر النقاش المفسر
محمد بن الحسن بن محمد بن زياد بن هارون بن جعفر أبو بكر النقاش المفسر المقرئ مولى أبي دجانة سماك بن خرشة أصله من الموصل كان عالما بالتفسير وبالقراءات وسمع الكثير في بلدان شتى عن خلق من المشايخ وحدث عنه أبو بكر بن مجاهد والخلدي وابن شاهين وابن زرقوية وخلق وآخر من حدث عنه ابن شاذان وتفرد بأشياء منكرة وقد وثقه الدارقطني على كثير من خطئه ثم رجع عن ذلك وصرح بعضهم بتكذيبه والله أعلم وله كتاب التفسير الذي سماه شفاء الصدور وقال بعضهم بل هو سقام الصدور وقد كان رجلا صالحا في نفسه عابدا ناسكا حكى من حضره وهو يجود بنفسه وهو يدعو بدعاء ثم رفع صوته يقول لمثل هذا فليعمل العاملون يرددها ثلاث (11/242)
مرات ثم خرجت روحه رحمه الله توفي يوم الثلاثاء الثاني من شوال منها ودفن بداره بدار القطن محمد بن سعيد أبو بكر الحربي الزاهد ويعرف بابن الضرير كان ثقة صالحا عابدا ومن كلامه دافعت الشهوات حتى صارت شهوتي المدافعة
ثم دخلت سنة ثنتين وخمسين وثلثمائة
في عاشر المحرم من هذه السنة أمر معز الدولة بن بويه قبحه الله أن تغلق الأسواق وأن يلبس النساء المسوح من الشعر وأن يخرجن في الاسواق حاسرات عن وجههن ناشرات شعورهم يلطمن وجوههن ينحن على الحسين بن علي بن أبي طالب ولم يمكن أهل السنة منع ذلك لكثرة الشيعة وظهورهم وكون السلطان معهم وفي عشر ذي الحجة منها أمر معز الدولة بن بويه بإظهار الزينة في بغداد وأن تفتح الاسواق بالليل كما في الأعياد وأن تضرب الدبادب والبوقات وأن تشعل النيران في أبواب الأمراء وعند الشرط فرحا بعيد الغدير غدير حم فكان وقتا عجيبا مشهودا وبدعة شنيعة ظاهرة منكرة وفيها أغارت الروم على الرها فقتلوا وأسروا ورجعوا موقرين ثم ثارت الروم بملكهم فقتلوه وولوا غيره ومات الدمستق أيضا ملك الأرمن واسمه النقفور وهوالذي أخذ حلب وعمل فيها ما عمل وولوا غيره
ترجمة النقفور ملك الأرمن واسمه الدمستق
الذي توفي في سنة ثنتين وقيل خمس وقيل ست وخمسين وثلثمائة لا رحمه الله كان هذا الملعون من أغلظ الملوك قلبا وأشدهم كفرا وأقواهم بأسا وأحدهم شوكة وأكثرهم قتلا وقتالا للمسلمين في زمانه واستمرت في يديه قهرا وأضيفت إلى مملكة الروم قدرا وذلك لتقصير أهل ذلك الزمان وظهور البدع الشنيعة فيهم وكثرة العصيان من الخاص والعام منهم وفشو البدع فيهم وكثرة الرفض والتشيع منهم وقهر أهل السنة بينهم فلهذا أديل عليهم أعداء الإسلام فانتزعوا ما بأيديهم من البلاد مع الخوف الشديد ونكد العيش والفرار من بلاد إلى بلاد فلا يبيتون ليلة إلا في خوف من قوارع الأعداء وطوارق الشرور المترادفة فالله المستعان وقد ورد حلب في مائتي ألف مقاتل بغتة في سنة إحدى وخمسين وجال فيها جولة ففر من بين يديه صاحبها سيف الدولة ففتحها اللعين عنوة وقتل من أهلها الرجال والنساء ما لا يعلمه إلا الله وخرب دار سيف الدولة التي كانت ظاهر حلب وأخذ أموالها وحواصلها وعددها وبدد شملها وفرق عددها واستفحل أمر الملعون بها فإنا لله وإنا إليه راجعون وبالغ في الاجتهاد في قتال الإسلام وأهله وجد في التشمير فالحكم لله العلي الكبير وقد كان لعنه الله لا يدخل في بلد إلا قتل (11/243)
المقاتلة وبقية الرجال وسبى النساء والأطفال وجعل جامعها اصطبلا لخيوله وكسر منابرها واستنكث مأذنتها بخيله ورجله وطبوله ولم يزل ذلك دأبه وديدنه حتى سلط الله عليه زوجته فقتلته بجواريها في وسط مسكنه وأراح الله منه الإسلام وأهله وأزاح عنهم قيام ذلك الغمام ومزق شمله فلله النعمة والافضال وله الحمد على كل حال واتفق في سنة وفاته موت صاحب القسطنطينية فتكاملت المسرات وحلصت الأمنية فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وتذهب السيئات وبرحمته تغفر الزلات والمقصود أن هذا اللعين أعني النقفور الملقب الدمستق ملك الأرمن كان قد أرسل قصيدة إلى الخليفة المطيع لله نظمها له بعض كتابه ممن كان قد خذله الله وأذله وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة وصرفه عن الإسلام وأصله يفتخر فيها بهذا اللعين ويتعرض لسب الاسلام والمسلمين ويتوعد فيها أهل حوزة الإسلام بأنه سيملكها كلها حتى الحرمين الشريفين عما قريب من الأعوام وهو أقل وأذل وأخس وأضل من الأنعام ويزعم أنه ينتصر لدين المسيح عليه السلام ابن البتول وربما يعرض فيها بجناب الرسول عليه من ربه التحية والإكرام ودوام الصلاة مدى الأيام ولم يبلغني عن أحد من أهل ذلك العصر أنه رد علبه جوابه إما لأنها لم تشتهر وإما لأنه أقل من أن يردوا خطابه لأنه كالمعاند الجاحد ونفس ناظمها تدل على أنه شيطان مارد وقد انتخى للجواب عنها بعد ذلك أبو محمد بن حزم الظاهري فأفاد وأجاد وأجاب عن كل فصل باطل بالصواب والسداد فبل الله بالرحمه ثراه وجعل الجنة متقلبه ومثواه وها أنا أذكر القصيدة الأرمنية المخذولة الملعونة وأتبعها بالفريدة الإسلامية المنصورة الميمونة قال المرتد الكافر الأرمني على لسان ملكه لعنهما الله وأهل ملتهم أجمعين أكتعين أبتعين أبصعين آمين يارب العالمين ومن خط ابن عساكر كتبتها وقد نقلوها من كتاب صلة الصلة للفرغاني ... من الملك الطهر المسيحي مالك ... إلى خلف الأملاك من آل هاشم ... إلى الملك الفضل المطيع أخي العلا ... ومن يرتجى للمعضلات العظائم ... أما سمعت أذناك ما أناصانع ... ولكن دهاك الوهن عن فعل حازم ... فإن تك عما قد تقلدت نائما ... فإني عما همني غير نائم ... ثغوركم لم يبق فيها لوهنكم ... وضعفكم إلا رسوم المعالم ... فتحنا الثغور الأرمنية كلها ... بفتيان صدق كالليوث الضراغم ... ونحن صلبنا الخيل تعلك لجمها ... وتبلغ منها قضمها للشكائم ... إلى كل ثغر بالجزيرة آهل ... إلى جند قنسرينكم فالعواصم (11/244)
ملطية مع سميساط من بعد كركر ... وفي البحر أضعاف الفتوح النواخم ... وبالحدث الحمراء جالت عساكري ... وكيسوم بعد الجعفري للمعالم ... وكما قد ذللنا من أعزة أهلها ... فصاروا لنا من بين عبد وخادم ... وسد سروج إذ خربنا بجمعنا ... لنا رتبة تعلوا على كل قائم ... وأهل الرها لاذوا بنا وتحزبوا ... بمنديل مولى علا عن وصف آدمي ... وصبح رأس العين منا بطارق ... ببيض غزوناها بضرب الجماجم ... ودارا وميا فارقين وأزرنا ... أذقناهم بالخيل طعم العلاقم ... واقريطش فقد جازت إليها مراكبي ... على ظهر بحر مزبد متلاطم ... فحزتهم أسرى وسقيت نساؤهم ... ذوات الشعور المسبلات النواعم ... هناك فتحنا عين زربة عنوة ... نعم وأبدنا كل طاغ وظالم ... إلى حلب حتى استبحنا حريمها ... وهدم منها سورها كل هادم ... أخذنا النسا ثم البنات نسوقهم ... وصبيانهم مثل المماليك خادم ... وقد فر عنها سيف دولة دينكم ... وناصركم منا علي رغم راغم ... وملنا على طرسوس ميلة حازم ... أذقنا لمن فيها لحز الحلاقم ... فكم ذات عز و جل حمرة علوية ... منعمة الأطراف ريا المعاصم ... سبينا فسقنا خاضعات حواسرا ... بغير مهور لا ولا حكم حاكم ... وكم من قتيل قد تركنا مجندلا ... يصب دما بين اللها واللهازم ... وكم وقعة في الدرب أفنت كما تكم ... وسقناهم قسرا كوسق البهائم ... وملنا على أرياحكم وحريمها ... مدوخة تحت العجاج السواهم ... فأهوت أعاليها وبدل رسمها ... من الأنس وحشا بعد بيض نواعم ... إذا صاح فيها البوم جاوبه الصدى ... وأتبعه في الربع نوح الحمائم ... وإنطاك لم تبعد علي وإنني ... سأفتحها يوما بهتك المحارم ... ومسكن آبائي دمشق فإنني ... سأرجع فيها ملكنا تحت خاتمي ... ومصر سأفتحها بسيفي عنوة ... وآخذ أمولا بها وبهائمي ... وأجزي كافورا بما يستحقه ... بشط وقراض وقص محاجم ... ألا شمروا يا أهل حمدان شمروا ... أتتكم جيوش الروم مثل الغمائم ... فإن تهربوا تنجوا كراما وتسلموا ... من الملك الصادي بقتل المسالم (11/245)
كذاك نصيبين وموصلها إلى ... جزيرة آبائي وملك الأقادم ... سأفتح سامرا وكونا وعكبرا ... وتكريتها مع ماردين العواصم ... وأقتل أهليها الرجال بأسرها ... وأغنم أموالا بها وحرائم ... ألا شمروا با أهل بغداد ويلكم ... فكلكم مستضعف غير رائم ... رضيتم بحكم الديلمي ورفضه ... فصرتم عبيدا للعبيد الديالم ... ويا قاطني الرملات ويلكم ارجعوا ... إلى أرض صنعا راعييين البهائم ... وعودوا إلى أرض الحجاز أذلة ... وخلوا بلاد الروم أهل المكارم ... سألقي جيوشا نحو بغداد سائرا ... إلى باب طاق حيث دار القماقم ... وأحرق أعلاها وأهدم سورها ... وأسبى ذراريها على رغم راغم ... وأحرز أموالا بها وأسرة ... وأقتل من فيها بسيف النقائم ... وأسرى بجيشي نحو الأهواز مسرعا ... لإحراز ديباج وخز السواس نهبأ وأهدم قصورها ... وأسبي ذراريها كفعل الأقادم ... ومنها إلى شيراز والري فاعلموا ... خراسان قصري والجيوش بحارم ... إلى شاس بلخ بعدها وخواتها ... وفراغنة مع مروها والمخازم ... وسابور أهدمها حصونها ... وأوردها يوما كيوم السمائم ... وكرمان لا أنسى سجستان كلها ... وكابلها النائي وملك الأعاجم ... إلي واسط وسط العراق وكوفة ... كما كان يوما جندنا ذو العزائم ... وأخرج منها نحو مكة مسرعا ... أجر جيوشا كالليالي السواجم ... فأملكها دهرا عزيزا مسلما ... أقيم بها للحق كرسي عالم ... وأحوي نجدا كلها وتهامها ... وسرا واتهام مذحج وقحاطم ... وأغزو يمانا كلها وزبيدها ... وصنعاءها مع صعدة والتهائم ... فاتركها أيضا خرابا بلاقعا ... خلاء من الأهلين أهل نعائم ... وأحوي أموال اليمانين كلها ... وما جمع القرماط يوم محارم ... أعود إلى القدس التي شرفت بنا ... بعز مكين ثابت الأصل قائم ... وأعلوو سريري للسجود معظما ... وتبقى ملوك الأرض مثل الخوادم ... هنالك تخلو الأرض من كل مسلم ... لكل نقي الدين أغلف زاعم (11/246)
نصرنا عليكم جارت ولاتكم ... وأعلنتمو بالمنكرات العظائم ... قضاتكم باعوا القضاء بدينهم ... كبيع ابن يعقوب ببخس الدراهم ... عدو لكم بالزور يشهد ظاهرا ... وبالإفك والبرطيل مع كل قائم ... سأفتح أرض الله شرقا ومغربا ... وأنشر دينا للصليب بصارمي ... فعيسى علا فوق السموات عرشه ... يفوز الذي والاه يوم التخاصم ... وصاحبكم بالترب أودى به الثرى ... فصار رفاتا بين تلك الرمائم ... تناولتم أصحابه بعد موته ... بسب وقذف وانتهاك المحارم ... هذا آخرها لعن الله ناظمها وأسكنه النار يوم لا تنفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ويوم يدعو ناظمها ثبورا ويصلى نارا سعيرا يوم بعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر به إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا إن كان مات كافرا وهذا جوابها لأبي محمد بن حزم الفقيه الظاهري الأندلسي قالها ارتجالا حين بلغته هذه الملعونة غضبا لله ولرسوله ولدينه كما ذكر ذلك من رآه فC وأكرم مثواه وغفر له خطاياه ... من المحتمي بالله رب العوالم ... ودين رسول الله من آل هاشم ... محمد الهادي إلى الله بالتقى ... وبالرشد والإسلام أفضل قائم ... عليه من الله السلام مرددا ... إلى أن يوافي الحشر كل العوالم ... إلى قائل بالإفك جهلا وضلة ... عن النقفور المفتري في الأعاجم ... دعوت إماما ليس من أمرائه ... بكفيه إلا كالرسوم الطواسم ... دهته الدواهي في خلافته كما ... دهت قبله الأملاك دهم الدواهم ... ولا عجب من نكبة أو ملمة ... تصيب الكريم الجدود الأكارم ... ولو أنه في حال ماضي جدوده ... لجرعتم منه سموم الأراقم ... عسى عطفة لله في اهل دينه ... تجدد منه دارسات المعالم ... فخررتم بما لو كان فيكم حقيقة لكان بفضل الله أحكم حاكم ... إذن لاعترتكم خجلة عند ذكره ... وأخرس منكم كل فاه مخاصم ... سلبناكم كرا ففزتم بغرة ... من الكر أفعال الضعاف العزائم ... فطرتم سرورا عند ذاك ونسوة كفعل المهين الناقص المتعالم ... وما ذاك إلا في تضاعيف عقله ... عريقا وصرف الدهر جم الملاحم (11/247)
ولما تنازعنا الأمور تخاذلا ... ودانت لأهل الجهل دولة ظالم ... وقد شعلت فينا الخلائف فتنة ... لعبدانهم مع تركهم والدلائم ... بكفر أياديهم وجحد حقوقهم ... بمن رفعوه من حضيض البهائم ... وثبتم على أطرافنا عند ذاكم وثوب لصوص عند غفلة نائم ... ألم تنتزع منكم بأعظم فقوة ... جدميع بلاد الشام ضربة لازم ... ومصرا وأرض القيروان بأسرها ... وأندلسا قسرا بضرب الجماجم ... ألم ننتزع منكم على ضعف حالنا ... صقلية في بحرها المتلاطم ... مشاهد تقديساتكم وبيوتها ... لنا وبأيدينا على رغم راغم ... أما بيت لحم والقمامة بعدها ... بأيدي رجال المسلمين الأعاظم ... وسر كيسكم قسرا برغم أنوفكم ... وكرسى قسطنطينية في المعادم ... ولا بد من عود الجميع بأسره ... إلينا بعز قاهر متعاظم ... أليس يزد حل وسط دياركم ... على باب قسطنطينية بالصورام ... ومسلمة قد داسها بعد ذاكم ... بجيش تهام قد دوى بالضراغم ... وأخدمكم بالذل مسجدنا الذي ... بنى فيكم في عصره المتقادم ... إلى جنب قصرالملك من دار ملككم ... ألا هذه حق صرامة صارم ... وأذى لهارون الرشد مليككم ... رفادة مغلوب وجزية غارم ... سلبناكم مصرا شهود بقوة ... حبانا بها الرحمن أرحم راحم ... إلى بيت يعقوب وأرباب دومة ... إلى لجة البحر المحيط المحاوم ... فهل سرتم في أرضنا قط جمعة ... أبى لله ذا كم يا بقايا الهزائم ... فما لكم إلا الأماني وحدها ... بضائع نوكى تلك أحلام نائم ... رويدا بعد نحو الخلافة نورها ... وسفر مغير وجوه الهواشم ... وحينئذ تدرون كيف قراركم ... إذا صدمتكم خيل جيش مصادم ... على سالف العادات منا ومنكم ... ليالي بهم في عداد الغنائم ... سبيتم سبايا يحصر العدو دونها ... وسبيكم فينا كقطر الغمائم ... فلو رام خلق عدها رام معجزا ... وأتى بتعداد لرش الحمائم ... بأبنا بني حمدان وكافور صلتم ... أراذل أنجاس قصار المعاصم (11/248)
دعي وحجام سطوتهم عليهما ... وما قدر مصاص دماء المحاجم ... فهلا على دميانة قبل ذاك أو ... على محل أربا رماة الضراغم ... ليالي قادوكم كما اقتادكم ... أقيال جرجان بحز الحلاقم ... وساقوا على رسل بنات ملوككم ... سبايا كما سيقت ظباء الصرائم ... ولكن سلوا عنا هرقلا ومن خلى ... لكم من ملوك مكرمين قماقم ... يخبركم عنا التنوخ وقيصر ... وكم قد سبينا من نساء كرائم ... وعما فتحنا من منيع بلادكم ... وعما أقمنا فيكم من مآتم ... ودع كل نذل مفتر لا تعده ... إماما ولا الدعوى له بالتقادم ... فهيهات سامرا وتكريت منكم ... إلى جبل تلكم أماني هائم ... منى يتمناها الضعيف ودونها ... نظائرها وحز الغلاصم ... تريدون بغداد سوقا جديدة ... مسيرة شهر للفنيق القواصم ... محلة أهل الزهد والعلم والتقى ... ومنزلة يختارها كل عالم ... دعوا الرملة الصهباء عنكم فدونها ... من المسلمين الغر كل مقاوم ... ودون دمشق جمع جيش كأنه ... سحائب طير ينتحي بالقوادم ... وضرب يلقي الكفر كل مذلة ... كما ضرب السكي بيض الدراهم ... ومن دون أكناف الحجاز جحافل ... كقطر الغيوم الهائلات السواحم ... بها من بني عدنان كل سميدع ... ومن حي قحطان كرام العمائم ... ولو قد لقيتم من قضاعة كبة ... لقيتم ضراما في يبيس الهشائم ... إذا أصبحوكم ذكروكم بما خلا ... لهم معكم من صادق متلاحم ... زمان يقودون الصوافن نحوكم ... فجئتم ضمانا أنكم في الغنائم ... سيأتيكم منهم قريبا عصائب ... تنسيكم تذكار أخذ العواصم ... وأموالكم حل لهم ودماؤكم ... بها يشتفي حر الصدور الحوايم ... وأرضيكم حقا سيقتسمونها ... كما فعلوا دهرا بعدل المقاسم ... ولو طرقتكم من خراسان عصبة ... وشيراز والري الملاح القوائم ... لما كان منكم عند ذلك غيرما ... عهدنا لكم ذل وعض الأباهم ... فقد طالما زاروكم في دياركم ... مسيرة عام بالخيول الصوادم ... فأما سجستان وكرمان بال ... أولى وكابل حلوان بلاد المراهم (11/249)
وفي فارس والسوس جمع عرمرم ... وفي أصبهان كل أروع عارم ... فلوا قد أتاكم جمعهم لغدوتم ... فرائس كالآساد فوق البهائم ... وبالبصرة الغراء والكوفة التي ... سمت وبآدي واسط بالعظائم ... جموع تسامى الرمل عدا وكثرة ... فما أحد عادوه منه بسالم ... ومن دون بيت الله في مكة التي ... حباها بمجد للبرايا مراحم ... محل جميع الأرض منها تيقنا ... محلة سفل الخف من فص خاتم ... دفاع من الرحمن عنها بحقها ... فما هو عنها رد طرف برائم ... بها وقع الأحبوش هلكى وفيلهم ... بحصباء طير في ذرى الجو حائم ... وجمع كجمع البحر ماض عرمرم ... حمى بنية البطحاء ذات المحارم ... ومن دون قبر المصطفى وسط طيبة ... جموع كمسود من الليل فاحم ... يقودهم جيش الملائكة العلى ... دفاعا ودفعا عن مصل وصائم ... فلو قد لقيناكم لعدتم رمائما ... كما فرق الإعصار عظم البهائم ... وباليمن الممنوع فتيان غارة ... إذا ما لقوكم كنتم كالمطاعم ... وفي جانبي أرض اليمامة عصبة ... معاذر أمجاد طوال البراجم ... نستفينكم والقرمطيين دولة ... تقووا يميمون التقية حازم ... خليفة حق ينصر الدين حكمه ... ولا يتقي في الله لومة لائم ... إلى ولد العباس تنمي جدوده ... بفخر عميم مزبد الموج ناعم ... ملوك جرى بالنصر طائر سعدهم ... فاهلا بماضي منهم وبقادم ... محلهم في مسجد القدس أولدى ... منازل بغداد محل المكارم ... وإن كان من عليا عدي وتيمها ... ومن أسد هذا الصلاح الحضارم ... فاهلا وسهلا ثم نعمى ومرحبا ... بهم من خيار سالفين أقادم ... هم نصروا الإسلام نصرا مؤزرا ... وهم فتحوا البلدان فتح المراغم ... رويدا فوعد الله بالصدق وارد ... بتجريع أهل الكفر طعم العلاقم ... سنفتح قسطنطينية وذواتها ... ونجعلكم فوق النسور القعاشم ... ونفتح أرض الصين والهند عنوة ... بجيش لأرض الترك والخزر حاطم ... مواعيد للرحمن فينا صحيحة ... وليست كآمال العقول السواقم ... ونملك أقصى أرضكم وبلادكم ... ونلزمكم ذل الحر أو الغارم (11/250)
إلى أن ترى الإسلام قد عم حكمه ... جميع الأراضي بالجيوش الصوارم ... أتقرن يا مخذول دينا مثلثا ... بعيدا عن المعقول بادي المآثم ... تدين لمخلوق يدين لغيره ... فيا لك سحقا ليس بخفي لعالم ... أنا جيلكم مصنوعة قد تشابهت ... كلام الأولى فيها أتوا بالعظائم ... وعود صليب ما تزالون سجدا ... له يا عقول الهاملات السوائم ... تدينون تضلالا بصلب إلهكم ... بأيدي يهود أرذلين لآئم ... إلى ملة الإسلام توحيد ربنا ... فما دين ذي دين لها بمقاوم ... وصدق رسالات الذي جاء بالهدى ... محمد الآتي برفع المظالم ... وأذ عنت الأملاك طوعا لدينه ... ببرهان صدق طاهر في المواسم ... كما دان في صنعاء مالك دولة ... وأهل عمان حيث رهط الجهاضم ... وسائر أملاك اليمانين أسلموا ... ومن بلد البحرين قوم اللهازم ... أجابوا لدين الله لا من مخافة ... ولا رغبة يحظى بها كف عادم ... فحلوا عرى التيجان طوعا ورغبة ... بحق يقين بالبراهين فاحم ... وحاباه بالنصر المكين إلهه ... وصير من عاداه تحت المناسم ... فقير وحيد لم تعنه عشيرة ... ولا دفعوا عنه شتيمة شاتم ... ولا عنده مال عتيد لناصر ... ولا دفع مرهوب ولا لمسالم ... ولا وعد الأنصار مالا يخصم ... بلى كان معصوما لأقدر عاصم ... ولم تنهنهه قط قوة آسر ... ولا مكنت من جسمه يد ظالم ... كما يفتري إفكا وزورا وضلة ... على وجهه عيسى منكم كل لاطم ... على أنكم قد قلتموا هو ربكم ... فيالضلال في القيامة عائم ... أبى لله أن يدعى له ابن صاحب ... ستلقى دعاة الكفر حالة نادم ... ولكنه عبد نبي رسول مكرم ... من الناس مخلوق ولا قول زاعم ... أيلطم وجه الرب تبا لدينكم ... لقد فقتم في قولكم كل ظالم ... وكم آية أبدى النبي محمد ... وكم علم أبداه للشرك حاطم ... تساوي جميع الناس في نصر حقه ... بل لكل في إعطائه حال خادم ... فعرب وأحبوش وفرس وبربر ... وكرديهم قد فاز قدح المراحم ... وقبط وأنباط وخزر وديلم ... وروم رموكم دونه بالقواصم (11/251)
أبوا كفر أسلاف لهم فتمنعوا ... فآبوا بحظ في السعادة لازم ... به دخلوا في ملة الحق كلهم ... ودانوا لأحكام إلاله اللوازم ... به صح تفسير المنام الذي أتى ... به دانيال قبله حتم حاتم ... وهند وسند أسلموا وتدينوا ... بدين الهدى رفض لدين الأعاجم ... وشق له بدر السموات آية ... وأشبع من صاع له كل طاعم ... وسالت عيون الماء في وسط كفه ... فأروى به جيشا كثيرا هماهم ... وجاء بما تقضي العقول بصدقه ... ولا كدعاء غير ذات قوائم ... عليه سلام الله ماذر شارق ... تعقبه ظلماء أسحم قاتم ... براهينه كالشمس لا مثل قولكم ... وتخليطكم في جوهر وأقائم ... لنا كل علم من قديم ومحدث ... وأنتم حمير داميات المحازم ... أتيتم بشعر بارد متخاذل ... ضعيف معاني النظم جم البلاعم ... فدونكها كالعقد فيه زمرد ... ودر وياقوت بإحكام حاكم ... وفيها عزل ابن أبي الشوارب عن قضاء ونقضت سجلاته وأبطلت أحكامه مدة أيامه وولى القضاء عوضه أبو بشر عمر بن أكتم بن رزق ورفع عنه ما كان يحمله ابن أبي الشوارب في كل سنة وفي ذي الحجة منها استسقى الناس لتأخر المطر وذلك في كانون الثاني فلم يسقوا وحكى ابن الجوزي في المنتظم عن ثابت بن سنان المؤرخ قال حدثني جماعة ممن أثق بهم أن بعض بطارقة الأرمن أنفذ في سنة ثنتين وخمسين وثلثمائة إلى ناصر الدولة بن حمدان رجلين من الأرمن ملتصقين سنهما خمس وعشرون سنة ملتحمين ومعهما أبوهما ولهما سرتان وبطنان ومعدتان وجوعهما وريهما يختلفان وكان أحدهما يميل إلى النساء والآخر يميل إلى الغلمان وكان يقع بينهما خصومة وتشاجر وربما يحلف الآخر لا يكلم الآخر فيمكث كذلك أياما ثم يصطلحان وهبهما ناصر الدولة ألفي درهم وخلع عليهما ودعاهما إلى الإسلام فيقال إنهما أسلما وأراد أن يبعثهما إلى بغداد ليراهما الناس ثم رجع عن ذلك ثم إنهما رجعا إلى بلدهما مع أبيهما فاعتل أحدهما ومات وأنتن ريحه وبقي الآخر لا يمكنه التخلص منه وقد كان اتصال ما بينهما من الخاصرتين وقد كان ناصر الدولة أراد فصل أحدهما عن الآخر وجمع الأطباء لذلك فلم يمكن فلما مات أحدهما حار أبوهما في فصله عن أخيه فاتفق اعتلال الآخر من غمه ونتن أخيه فمات غما فدفنا جميعا في قبر واحد وومن توفي فيها من الأعيان عمر بن أكتم بن أحمد بن حيان بن بشر أبو بشر الأسدي ولد سنة أربع وثمانين ومائتين وولى القضاء في زمن المطيع نيابة عن أبي السائب عتبة بن عبيد الله (11/252)
ثم ولي قضاء القضاة وهو أول من ولي القضاء القضاة من الشافعية سوى أبي السائب وكان جيد السيرة في القضاء توفي في ربيع الأول منها
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وثلثمائة
في عاشر المحرم منها عملت الرافضة عزاء الحسين كما تقدم في السنة الماضية فاقتتل الروافض وأهل السنة في هذ اليوم قتالا شديدا وانتهبت الأموال وفيها عصى نجا غلام سيف الدولة عليه وذلك أنه كان في العام الماضي قد صادر أهل حران وأخذ منهم أموالا جزيلة فتمرد بها وذهب إلى أذربيجان وأخذ طائفة منها من يد رجل من الأعراب يقال له أبو الورد فقتله وأخذ من أمواله شيئا كثيرا وقويت شوكته بسبب ذلك فسار إليه سيف الدولة فأخذه وأمر بقتله فقتل بين يديه وألقيت جثته في الأقذار وفيها جاء الدمستق إلى المصيصة فحاصرها وثقب سورها فدافعه أهلها فأحرق رستاقها وقتل ممن حولها خمسة عشر ألفا وعاثوا فسادا في بلاد أذنة وطرسوس وكر راجعا إلى بلاده وفيها قصد معز الدولة الموصل وجزيرة ابن عمر فأخذ الموصل وأقام بها فراسله في الصلح صاحبها فاصطلحا على أن يكون الحمل في كل سنة وأن يكون أبو تغلب بن ناصر الدولة ولى عهد أبيه من بعده فأجاب معز الدولة إلى ذلك وكر راجعا إلى بغداد بعد ما جرت له خطوب كثيرة استقصاها ابن الأثير وفيها ظهر رجل ببلاد الديلم وهو أبو عبدالله محمد بن الحسين من أولاد الحسين بن علي ويعرف بابن الراعي فالتف عليه خلق كثير ودعا إلى نفسه وتسمى بالمهدي وكان أصله من بغداد وعظم شأنه بتلك البلاد وهرب منه ابن الناصر العلوي وفيها قصد ملك الروم وفي صحبته الدمستق ملك الأرمن بلاد طرسوس فحاصرها مدة ثم غلت عليهم الأسعار وأخذهم الوباء فمات كثير منهم فكروا راجعين ( ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا ) وكان من عزمهم يريدون أن يستحوذوا على البلاد الإسلامية كلها وذلك لسوء حكامها وفساد عقائدهم في الصحابة فسلم الله ورجعوا خائبين وفيها كانت وقعة المختار ببلاد صقلية وذلك أنه أقبل من الروم خلق كثير ومن الفرنج ما يقارب مائة ألف فبعث أهل صقلية إلى المعز الفاطمي يستنجدونه فبعث إليهم جيوشا كثيرة في الأسطول وكانت بين المسلمين والمشركين وقعة عظيمة صبر فيها الفريقان من أول النهار إلى العصر ثم قتل أمير الروم مويل وفرت الروم وانهزموا هزيمة قبيحة فقتل المسلمون منهم خلقا كثيرا وسقط الفرنج في واد من الماء عميق فغرق أكثرهم وركب الباقون في المراكب فبعث الأمير أحمد صاحب صقلية في آثارهم مراكب أخر فقتلوا أكثرهم في البحر أيضا وغنموا في هذه الغزوة كثيرا من الأموال والحيوانات والامتعة والأسلحة فكان في جملة ذلك سيف مكتوب عليه هذا سيف هندي زنته مائة وسبعون مثقالا طالما قوتل به بين يدي (11/253)
رسول الله ( ص ) فبعثوا به في جملة تحف إلى المعز الفاطمي إلى إفريقية وفيها قصدت القرامطة مدينة طبرية ليأخذوها من يد الأخشيد صاحب مصر والشام وطلبوا من سيف الدولة أن يمدهم بحديد يتخذون منه سلاحا فقلع لهم أبواب الرقة وكانت من حديد صامت وأخذ لهم من حديد الناس حتى أخذ أواقي الباعة والأسواق وأرسل بذلك كله إليهم فأرسلوا إليه يقولون اكتفينا وفيها طلب معز الدولة من الخليفة أن يأذن له في دخول دار الخلافة ليتفرج فيها فأذن له فدخلها فبعث الخليفة خادمه وصاحبه معه فطافوا بها وهو مسرع خائف ثم خرج منها وقد خاف من غائلة ذلك وخشي أن يقتل في دهاليزها فتصدق بعشرة آلاف لما خرج شكرا لله على سلامته وازداد حبا في الخليفة المطيع من يومئذ وكان في جملة ما رأى فيها من العجائب صنم من نحاس على صورة امرأة حسناء جدا وحولها أصنام صغار في هيئة الخدم لها كان قد أتى بها في زمن المقتدر فأقيمت هناك ليتفرج عليها الجواري والنساء فهم معز الدولة أن يطلبه من الخليفة ثم ارتأى فترك ذلك وفي ذي الحجة منها خرج رجل بالكوفة فادعى أنه علوي وكان يتبرقع فسمي المتبرقع وغلظت فتنته وبعد صيته وذلك في غيبة معز الدولة الدول عن بغداد واشتغاله بأمر الموصل كما تقدم فلما رجع إلى بغداد اختفى المتبرقع وذهب في البلاد فلم ينتج له أمر بعد ذلك وممن توفي فيها من الأعيان
بكار بن أحمد
ابن بكار بن بيان بن بكار بن درستويه بن عيسى المقري روى الحديث عن عبدالله بن أحمد و عنه أبو الحسن الحماني وكان ثقة أقرأ القرآن أزيد من ستين سنة رحمه الله توفي في ربيع الأول منها وقد جاوز السبعين وقارب الثمانين ودفن بمقبرة الخيزران عند قبر أبي حنيفة
أبو إسحاق الجهمي
ولد سنة خمسين ومائتين وسمع الحديث وكان إذا سئل أن يحدث يقسم أن لا يحدث حتى يحاوز المائة فأبر الله قسمه وجاوزها فأسمع توفي عن مائة سنة وثلاثين سنة رحمه الله
ثم دخلت سنة أربع وخمسين وثلثمائة
في عاشر المحرم منها عملت الشيعة مآتمهم وبدعتهم على ما تقدم قبل وغلقت الأوسواق وعلقت المسوح وخرجت النساء سافرات ناشرات شعورهن ينحن ويلطمن وجوههن في الأسواق والأزقة على الحسين وهذا تكلف لا حاجة إليه في الإسلام ولو كان هذا أمرا محمودا لفعله خير القرون وصدر هذه الأمة وخيرتها وهم أولى به ( لو كانوا خيرا ما سبقونا اليه ) وأهل السنة يقتدون ولا يبتدعون ثم تسلطت أهل السنة على الروافض فكسبوا مسجدهم مسجد براثا الذي هو عش الروافض وقتلوا بعض من كان فيه من القومة وفيها في رجب منها جاء ملك الروم بجيش كثيف إلى (11/254)
المصيصة فأخذها قسرا وقتل من أهلها خلقا واستاق بقيتهم معه أسارى وكانوا قريبا من مائتي ألف إنسان فإنا لله وإنا إليه راجعون ثم جاء إلى طرسوس فسأل أهلها منه الأمان فأمنهم وأمرهم بالجلاء عنها والانتقال منها واتخذ مسجدها الأعظم اسطبلا لخيوله وحرق المنبر ونقل قناديله إلى كنائس بلده وتنصر بعض أهلها معه لعنه الله وكان أهل طرسوس والمصيصة قد أصابهم قبل ذلك بلاء وغلاء عظيم ووباء شديد بحيث كان يموت منهم في اليوم الواحد ثمانمائة نفر ثم دهمهم هذا الأمر الشديد فانتقلوا من شهادة إلى شهاد أعظم منها وعزم ملك الروم على المقام بطرسوس ليكون أقرب إلى بلاد المسلمين ثم عن له فسار إلى القسطنطينية وفي خدمته الدمستق ملك الأرمن لعنه الله وفيها جدل أمر تسفير الحجيج إلى نقيب الطالبين وهو أبو أحمد الحسن بن موسى الموسوي وهو والد الرضى والمرتضى وكتب له منشور بالنقابة والحجيج وفيها توفيت أخت معز الدولة فركب الخليفة في طيارة وجاء لعزائه فقبل معز الدولة الأرض بين يديه وشكر سعيه إليه وصدقاته عليه وفي ثاني عشر ذي الحجة منها عملت الروافض عيد غدير خم على العادة الجارية كما تقدم وفيها تغلب على إنطاكية رجل يقال له رشيق النسيمي بمساعدة رجل يقال له ابن الأهوازي وكان يضمن الطواحين فأعطاه أموالا عظيمة وأطمعه في أخذ أنطاكية وأخبره أن سيف الدولة قد اشتغل عنه بميا فارقين وعجز عن الرجوع إلى حلب ثم تم لهما ماراماه من أخذ أنطاكية ثم ركبا منها في جيوش إلى حلب فجرت بينهما وبين نائب سيف الدولة حروب عظيمة ثم أخذ البلد وتحصن النائب بالقلعة وجاءته نجدة من سيف الدولة مع غلام له اسمه بشارة فانهزم رشيق فسقط عن فرسه فابتدره بعض الأعراب فقتله وأخذ رأسه وجاء به إلى حلب واستقل ابن الأهوازي سائرا إلى إنطاكية فأقام رجلا من الروم اسمه دزبر فسماه الأمير وأقام آخر من العلويين ليجعله خليفة وسماه الاستاذ فقصده نائب حلب وهو قرعويه فاقتتلا قتالا شديدا فهزمه ابن الأهوازي واستقر بأنطاكية فلما عاد سيف الدولة إلى حلب لم يبت بها إلا ليلة واحدة حتى سار إلى أنطاكية فالتقاه ابن الأهوازي فاقتتلوا قتالا شديدا ثم انهزم دزبز وابن الأهوازي وأسرا فقتلهما سيف الدولة وفيها ثار رجل من القرامطة اسمه مروان كان يحفظ الطرقات لسيف الدولة صار بحمص فملكها وما حولها فقصده جيش من حلب مع الأمير بدر فاقتتلوا معه فرماه بدر بسهم مسموم فأصابه واتفق أن أسر أصحاب مروان بدرا فقتله مروان بين يديه صبرا ومات مروان بعد أيام وتفرق عنه أصحابه وفيها عصى أهل سجستان أميرهم خلف بن أحمد وذلك أنه حج في سنة ثلاث وخمسين (11/255)
واستخلف عليهم طاهر بن الحسين فطمع في الملك بعده واستمال أهل البلد فلما رجع من الحج لم يسلمه البلد وعصى عليه فذهب إلى بخارا إلى الأمير منصور بن نوح الساماني فاستنجده فبعث معه جيشا فاستنقذ البلد من طاهر وسلمها إلى الأمير خلف بن أحمد وقد كان خلف عالما محبا للعلماء فذهب طاهر فجمع جموعا ثم جاء فحاصر خلفا وأخذ منه البلد فرجع خلف إلى الأمير منصور الساماني فبعث معه من استرجع له البلد ثانية وسلمها إليه فلما استقر خلف بها وتمكن منها منع ما كان يحمله من الهدايا والتحف والخلع إلى الأمير منصور الساماني ببخارا فبعث إليه جيشا فتحصن خلف في حصن يقال له حصن إراك فنازله الجيش فيه تسع سنين لم يقدروا عليه وذلك لمناعة هذا الحصن وصعوبته وعمق خندقه وارتفاعه وسيأتي ما آل إليه أمر خلف بعد ذلك وفيها قصدت طائفة من الترك بلاد الخزر فاستنجد أهل الخزر بأهل خوارزم فقالوا لهم لو أسلمتم لنصرناكم فأسلموا إلا ملكهم فقاتلوا معهم الترك فأجلوهم عنها ثم أسلم الملك بعد ذلك ولله الحمد والمنة وممن توفي فيها من الأعيان المتنبي الشاعر المشهور أحمد بن الحسين بن عبدالصمد أبو الطيب الجعفي الشاعر المعروف بالمتنبي كان أبوه يعرف بعيدان السقا وكان يسقي الماء لأهل الكوفة على بعير له وكان شيخا كبيرا وعيدان هذا قال ابن ماكولا والخطيب هو بكسر العين المهملة وبعدها ياء مثناة من تحت وقيل بفتح العين لا كسرها فالله أعلم كان مولد المتنبي بالكوفة سنة ست وثلثمائة ونشأ بالشام بالبادية فطلب الأدب ففاق أهل زمانه فيه ولزم جناب سيف الدولة بن حمدان وامتدحه وحظى عنده ثم صار إلى مصر وامتدح الأخشيد ثم هجاه وهرب منه وورد بغداد فامتدح بعض أهلها وقدم الكوفة ومدح ابن العميد فوصله من جهته ثلاثون ألف دينار ثم سار إلى فارس فامتدح عضد الدولة بن بويه فأطلق له أموالا جزيلة تقارب مائتي ألف درهم وقيل بل حصل له منه نحو من ثلاثين ألف دينار ثم دس إليه من يسأله أيما أحسن عطايا عضد الدولة بن بويه أو عطايا سيف الدولة بن حمدان فقال هذه أجزل وفيها تكلف وتلك أقل ولكن عن طيب نفس من معطيها لأنها عن طبيعة وهذه عن تكلف فذكر ذلك لعضد الدولة فتغيظ عليه ودس عليه طائفة من الأعراب فوقفوا له في أثناء الطريق وهو راجع إلى بغداد ويقال إنه كان قد هجى مقدمهم ابن فاتك الأسدي وقد كانوا يقطعون الطريق فلهذا أوعز إليهم عضد الدولة أن يتعرضوا له فيقتلوه ويأخذوا له ما معه من الأموال فانتهوا إليه ستون راكبا في يوم الأربعاء وقد بقي من رمضان ثلاثة أيام وقيل بل قتل في يوم الأربعاء لخمس بقين من رمضان وقيل بل كان ذلك في شعبان وقد نزل عند عين تحت شجرة أنجاص وقد وضعت سفرته ليتغدى ومعه ولده محسن وخمسة عشر غلاما له فلما رآهم قال هلموا يا وجوه العرب إلى الغداء فلما لم يكلموه أحس بالشر فنهض إلى (11/256)
سلاحه وخيله فتواقفوا ساعة فقتل ابنه محسن وبعض غلمانه وأراد هو أن ينهزم فقال له مولى له أين تذهب وأنت القائل ... فالخيل والليل والبيداء تعرفني ... والطعن والضرب والقرطاس والقلم ... فقال له ويحك قتلتني ثم كر راجعا فطعنه زعيم القوم برمح في عنقه فقتله ثم اجتمعوا عليه فطعنوه بالرماح حتى قتلوه وأخذوا جميع ما معه وذلك بالقرب من النعمانية وهو آيب إلى بغداد ودفن هناك وله من العمر ثمان وأربعون سنة وذكر ابن عساكر أنه لما نزل تلك المنزلة التي كانت قبل منزلته التي قتل بها سأله بعض الأعراب أن يعطيهم خمسين درهما ويخفرونه فمنعه الشح والكبر ودعوى الشجاعة من ذلك وقد كان المتنبي جعفي النسب صلبيبة منهم وقد ادعى حين كان مع بني كلب بأرض السماوة قريبا من حمص أنه علوي ثم ادعى أنه نبي يوحي إليه فاتبعه جماعة من جهلتهم وسفلتهم وزعم أنه أنزل عليه قرآن فمن ذلك قوله ( والنجم السيار والفك الدوار والليل والنهار إن الكافر لفي خسار امض على سنتك واقف أثر من كان قبلك بن المرسلين فإن الله قامع بك من ألحد في دينه وضل عن سبيله وهذا من خذلانه وكثرة هذاينه وفشاره ولو لزم قافية مدحه النافق بالنافق والهجاء بالكذب والشقاق لكان أشعر الشعراء وأفصح الفصحاء ولكن أراد بجهله وقلة عقله أن يقول ما يشبه كلام رب العالمين الذي لو اجتمعت الجن والإنس والخلائق أجمعون على أن يأتوا بسورة مثل سورة من أقصر سورة لما استطاعوا ولما اشتهر خبره بأرض السماوة وأنه قد التف عليه جماعة من أهل الغباوة خرج إليه نائب حمص من جهة بني الأخشيد وهو الأمير لؤلؤ بيض الله وجهه فقاتله وشرد شملة وأسر مذموما مدحورا وسجن دهرا طويلا فمرض في السجن وأشرف على التلف فاستحضره واستتابه وكتب عليه كتابا اعترف فيه ببطلان ما ادعاه من النبوة وأنه قد تاب من ذلك ورجع إلى دين الإسلام فأطلق الأمير سراحه فكان بعد ذلك إذا ذكر له هذا يجحده إن أمكنه وإلا اعتذر منه واستحيا وقد اشتهر بلفظة تدل على كذبه فيما كان ادعاه من الإفك والبهتان وهي لفظة المتنبي الدالة على الكذب ولله الحمد والمنة وقد قال بعضهم يهجوه يهجوه ... أي فضل لشاعر يطلب ال ... فضل من الناس بكرة وعشيا ... عاش حينا يبيع في الكوفة الما ... ء وحينا يبيع ماء المحيا ... وللمتنبي ديوان شعر مشهور فيه أشعار رائقة ومعان ليست بمسبوقة بل مبتكرة شائقة وهو في الشعراء المحدثين كامرئ القيس في المتقدمين وهو عندي كما ذكر من له خبرة بهذه الأشياء مع تقدم أمره وقد ذكر أبو الفرج ابن الجوزي في منتظمه قطعا رائقة استحسنها من شعره وكذلك الحافظ (11/257)
ابن عساكر شيخ إقليمه فمما استحسنه ابن الجوزي قوله ... عزيزا سبي من داؤه الحدق النجل ... عياء به مات المحبون من قبل ... فمن شاء فلينظر إلي فمنظري ... نذير إلى من ظن أن الهوى سهل ... جرى حبها مجري دمي في مفاصلي ... فأصبح لي عن كل شغل بها شغل ... ومن جسدي لم يترك السقم شعرة ... فما فوقها إلا وفا له فعل ... كأن رقيبا منك سد مسامعي ... عن العذل حتى ليس يدخلها العذل ... كأن سهاد الليل يعشق مقلتي ... فبينهما في كل هجر لنا وصل ... ومن ذلك قوله ... كشفت ثلاث ذوائب من شعرها ... في ليلة فأرت ليالي أربعا ... واستقبلت قمر السماء بوجهها ... فأرتني القمرين في وقت معا ... ومن ذلك قوله ... ما نال أهل الجاهلية كلهم ... شعري ولا سمعت بسحري بابل ... وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل ... من لي بفهم أهيل عصر يدعي ... أن يحسب الهندي منهم باقل ... ومن ذلك قوله ... ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدوا له ما من صداقته بد ... وله ... وإذا كانت النفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام ... وله ... ومن صحب الدنيا طويلا تقلبت ... على عينيه يرى صدقها كذبا ... وله ... خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به ... في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل ... وله في مدح بعض الملوك ... تمضي الكواكب والأبصار شاخصة ... منها إلى الملك الميمون طائره ... قد حزن في بشر في تاجه قمر ... في درعه أسد تدمي أظافره ... حلو خلائقه شوس حقائقه ... يحصى الحصى قبل أن تحصى مآثره ... ومنها قوله ... يا من ألوذ به فيما أؤمله ... ومن أعوذ به مما أحاذره ... لا يجبر الناس عظما أنت كاسره ... ولا يهيضون عظما أنت جابره ... وقد بلغني عن شيخنا العلامة شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله أنه كان ينكر على المتنبي هذه المبالغة في مخلوق ويقول إنما يصلح هذا لجناب الله سبحانه وتعالى وأخبرني العلامة شمس (11/258)
الدين بن القيم رحمه الله أنه سمع الشيخ تقي الدين المذكور يقول ربما قلت هذين البيتين في السجود أدعو الله بما تضمناه من الذل والخضوع ومما أورده ابن عساكر للمتنبي في ترجمته قوله ... أبعين مفتقر إليك رأيتني ... فأهنتني وقدفتني من حالقي ... لست الملوم أنا الملوم لأنني ... أنزلت آمالي بغير الخالق ... قال ابن خلكان وهذان البيتان ليسافي ديوانه وقد عزاهما الحافظ الكندي إليه بسند صحيح ومن ذلك قوله ... إذا ما كنت في شرف مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم ... فطعم الموت في أمر حقير ... كطعم الموت في أمر عظيم ... وله قوله وما أنا بالباغي على الحب رشوة ... قبيح هوى يرجى عليه ثواب ... إذا نلت منك الود فالكل هين ... وكل الذي فوق التراب تراب ... وقد تقدم أنه ولد بالكوفة سنة ست وثلاثمائة وأنه قتل في رمضان سنة أربع وخمسين وثلثمائة قال ابن خلكان وقد فارق سيف الدولة بن حمدان سنة أربع وخمسين لما كان من ابن خالويه إليه ما كان من ضربه به إياه بمفتاح في وجهه فأدماه فصار إلى مصر فامتدح كافور الأخشيد وأقام عنده أربع سنين وكان المتنبي يركب في جماعة من مماليكه فتوهم من كافور فجأة فخاف المتنبي فهرب فأرسل في طلبه فأعجزه فقيل لكافور ما هذا حتى تخافه فقال هذا رجل أراد أن يكون نبيا بعد محمد أفلا يروم أن يكون ملكا بديار مصر والملك أقل وأذل من النبوة ثم صار المتنبي إلى عضد الدولة فامتدحه فأعطاه مالا كثيرا ثم رجع من عنده فعرض له فاتك ابن أبي الجهل الأسدي فقتله وابنه محسن وغلامه مفلح يوم الأربعاء لست بقين من رمضان وقبل لليلتين بسواد بغداد وقد رثاه الشعراء وقد شرح ديوانه العلماء بالشعر واللغة نحوا من ستين شرحا وجيزا وبسيطا وممن توفي فيها من الأعيان أبو حاتم البستس صاحب الصحيح
محمد بن حيان
ابن أحمد بن حبان بن معاذ أبو حاتم البستي صاحب الأنواع والتقاسيم وأحد الحافظ الكبار المصنفين المجتهدين رحل إلى البلدان وسمع الكثير من المشايخ ثم ولي قضاء بلده ومات بها في هذه السنة وقد حاول بعضهم الكلام فيه من جهة معتقده ونسبة إلى القول بأن النبوة مكتسبة وهي نزعة فلسفية والله أعلم بصحة عزوها إليه ونقلها عنه وقد ذكرته في طبقات الشافعية
محمد بن الحسن بن يعقوب
ابن الحسن بن الحسين بن مقسم أبو بكر بن مقسم المقري ولد سنة خمس ومائتين وسمع (11/259)
الكثير من المشايخ روى عن الداقطني وغيره وكان من أعرف الناس بالقراءات وله كتاب في النحو على طريقة الكوفيين سماه كتاب الأنوار قال ابن الجووزي ما رأيت مثله وله تصانيف غيره ولكن تكلم الناس فيه بسبب تفرده بقراءات لا تجوز عند الجميع وكان يذهب إلى أن كل ما لا يخالف الرسم ويسوغ من حيث المعنى تجوز القراءة به كقوله تعالى ( فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا ) أي يتناجون قال لو قرئ نجيبا من النجابة لكان قويا وقد ادعى عليه وكتب عليه مكتوب أنه قد رجع عن مثل ذلك ومع هذا لم ينته عما كان يذهب إليه حتى مات قاله ابن الجوزي
محمد بن عبدالله بن إبراهيم بن عبدربه
ابن موسى أبو بكر الشافعي ولد بجبلان سنة ستين ومائتين وسمع الكثير وسكن بغداد وكان ثقة ثبتا كثير الرواية سمع منه الدارقطني وغيره من الحفاظ وكان يحدث بفضائل الصحابة حين منعت الديالم من ذلك جهرا بالجامع بمدينة المنصور مخالفة لهم وكذلك بمسجده بباب الشام توفي في هذه السنة عن أربع وستين سنة رحمه الله تعالى
ثم دخلت سنة خمس وخمسين وثلثمائة
في عاشر المحرم عملت الروافض بدعتهم الشنعاء وضلالتهم الصلعاء على عادتهم ببغداد وفيها أجلى القرامطة الهجريين من عمان وفيها قصدت الروم آمد فحاصروها فلم يقدروا عليها ولكن قتلوا من أهلها ثلثمائة وأسروا منهم أربعمائة ثم ساروا الى نصيبين وفيها سيف الدولة الدولة فهم بالهرب مع العرب ثم تأخر مجيء الروم فثبت مكانه وقد كادت تزلزل أركانه وفيها وردت طائفة من جيش خراسان وكانوا بضعة عشر ألفا يظهرون أنهم يريدون غزو الروم فأكرمهم ركن الدولة بن بويه وأمنوا إليهم فنهضوا إليهم وأخذوا الديلم على غرة فقاتلهم ركن الدولة فظفر بهم لأن البغي له مصرع وخيم وهرب أكثرهم وفيها خرج معز الدولة من بغداد إلى واسط لقتال عمران بن شاهين حين تفاقم الحال بشأنه واشتهر أمره في تلك النواحي فقوي المرض بمعز الدولة فاستناب على الحرب ورجع إلى بغداد فكانت وفاته في السنة الآتية كما سنذكره إلى حيث ألقت وفيها قوي أمر أبي عبدالله ابن الداعي ببلاد الديلم وأظهر النسك والعبادة ولبس الصوف وكتب إلى الآفاق حتى إلى بغداد يدعو إلى الجهاد في سبيل اله من سب أصحاب رسول الله ( ص ) وفي جمادى الآخرة نودي برفع المواريث الحشرية وأن ترد إلى ذوي الأرحام وفيها وقع الفداء بين سيف الدولة بين الروم فاستنقد منهم أسارى كثيرة منهم ابن عمه أبو فراس بن سعيد بن حمدان وأبو الهيثم بن حصن القاضي وذلك في رجب منها وفيها ابتدا معز الدولة بن بويه في بناء مارستان وأرصد له أوقافا جزيلة وفيها قطعت بنو سليم السابلة على الحجيج من أهل الشام ومصر والمغرب وأخذوا منهم (11/260)
عشرين ألف جمل بأحمالها وكان عليها من الأموال والأمتعة ما لا يقدر كثرة وكان لرجل يقال له ابن الخواتيمي قاضي طرسوس مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار عينا وذلك أنه أراد التحول من بلاد الشام إلى العراق بعد الحج وكذلك أراد كثير من الناس وحين أخذوا جمالهم تركوهم على برد الديار لاشيء لهم فقل منهم من سلم وألأكثر عطب فإنا لله وإنا إليه راجعون وحج بالناس الشريف أبو أحمد نقيب الطالبيين من جهة العراق وممن توفي فيها من الأعيان
الحسن بن دواد
ابن علي بن عيسى بن محمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسين بن علي بن أبي طالب أبو عبدالله العلوي الحسني قال الحاكم أبو عبدالله كان شيخ آل رسول الله ( ص ) في عصره بخراسان وسيد العلوم في زمانه وكان من أكثر الناس صلاة وصدقة ومحبة للصحابة وصحبته مدة فما سمعته ذكر عثمان إلا قال الشهيد ويبكي وما سمعته ذكر عائشة إلا قال الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله ويبكي وقد سمع الحديث من ابن خزيمة وطبقته وكان آباؤه بخراسان وفي سائر بلدانهم سادات نجباء حيث كانوا ... من آل بيت رسول الله منهم ... لهم دانت رقاب بني معد ...
محمد بن الحسين بن علي بن الحسن
ابن يحيى بن حسان بن الوضاح أبو عبدالله الأنباري الشاعر المعروف بالوضاحي كان يذكر أنه سمع الحديث من المحاملي وابن مخلد وأبي روق روى عنه الحاكم شيئا من شعره كان أشعر من في وقته ومن شعره ... سقى الله باب الكرخ ربعا ومنزلا ... ومن حله صوب السحاب المجلل ... فلو أن باكي دمنة الدار بالكوى ... وجارتها أم الرباب بمأسل ... رأى عرصات الكرخ أوحل أرضها ... لأمسك عن ذكر الدخول فحومل ...
أبو بكر بن الجعابي
محمد بن عمر بن سلم بن البراء بن سبرة بن سيار أبو بكر الجعابي قاضي الموصل ولد في صفر سنة أربع وثمانين ومائتين سمع الكثير وتخرج بأبي العباس بن عقدة وأخذ عنه علم الحديث وشيئا من التشيع أيضا وكان حافظا مكثرا يقال إنه كان يحفظ أربعمائة ألف حديث بأسانيدها ومتونها ويذاكر بستمائة ألف حديث ويحفظ من المراسيل والمقاطيع والحكايات قريبا من ذلك ويحفظ أسماء الرجال وجرحهم وتعديلهم وأوقات وفياتهم ومذاهبهم حتى تقدم على أهل زمانه وفاق سائر أقرانه وكان يجلس للإملاء فيزدحم الناس عند منزله وإنما كان يملي من حفظه إسناد (11/261)
الحديث ومتنه جيدا محررا صحيحا وقد نسب إلى التشيع كاستاذه ابن عقدة وكان يسكن بباب البصرة عندهم وقد سئل عنه الدارقطني فقال خلط وقال ابوبكر البرقاني صاحب غرائب ومذهبه معروف في التشيع وقد حكى عنه قلة دين وشرب خمر فالله أعلم ولما احتضر أوصى أن تحرق كتبه فحرقت وقد أحرق معها كتب كثيرة كانت عنده للناس فبئس ما عمل ولما أخرجت جنازته كانت سكينة نائحة الرافضة تنوح عليه في جنازته
ثم دخلت سنة ست وخمسين وثلثمائة
استهلت هذه السنة والخليفة المطيع لله والسلطان معز الدولة بن بويه الديلمي وفيها عملت الروافض في يوم عاشوراء عزاء الحسين على عادة ما ابتدعوه من النوح وغيره كما تقدم
وفاة معز الدولة بن بويه
ولما كان ثالث عشر ربيع الأول منا توفي أبو الحسن أحمد بن بويه الديلمي الذي أظهر الرفض ويقال له معز الدولة بعلة الذرب فصار لا يثبت في معدته شيء بالكلية فلما أحس بالموت أظهر التوبة وأناب إلى الله عز و جل ورد كثيرا من المظالم وتصدق بكثير من ماله وأعتق طائفة كثيرة من مماليكه وعهد بالأمر إلى ولده بختيار عز الدولة وقد اجتمع ببعض العلماء فكلمه في السنة وأخبره أن عليا زوج ابنته أم كلثوم من عمر بن الخطاب فقال والله ما سمعت بهذا قط ورجع إلى السنة ومتابعتها ولما حضر وقت الصلاة خرج عنه ذلك الرجل العالم فقال له معز الدولة إلى أين تذهب فقال إلى الصلاة فقال له ألا تصلي ههنا قال لا قال ولم قال لأن دارك مغصوبة فاستحسن منه ذلك وكان معز الدولة حليما كريما عاقلا وكانت إحدى يديه مقطوعة وهو أول من أجرى السعاة بين يديه ليبعث بأخباره إلى أخيه ركن الدولة سريعا إلى شيراز وحظى عنده أهل هذه الصناعة وكان عنده في بغداد ساعيان ماهران وهما فضل وبرغوش يتعصب لهذا عوام أهل السنة ولهذا عوام أهل الشيعة وجرت لهما مناصف ومواقف ولما مات معز الدولة دفن بباب التبن في مقابر قريش وجلس ابنه للعزاء وأصاب الناس مطر ثلاثة أيام تباعا وبعث عزالدولة إلى رؤس الأمراء في هذه الأيام بمال جزيل لئلا تجتمع الدولة على مخالفته قبل استحكام مبايعته وهذا من دهائه وكان عمر معز الدولة ثلاثا وخمسين سنة ومدة ولايته إحدى وعشرين سنة وإحدى عشر شهرا ويومين وقد كان نادى في أيامه برد المواريث إلى ذوي الارحام قبل بيت المال وقد سمع بعض الناس ليلة توفي معز الدولة هاتفا يقول ... لما بلغت أبا الحسين ... مراد نفسك بالطلب ... وأمنت من حدث الليا ... لي واحتجبت عن النوب (11/262)
مدت إليك يد الردى ... وأخذت من بين الرتب ... ولما مات قام بالأمر بعده ولده عزالدولة فأقبل على اللعب واللهو والاشتغال بأمر النساء فتفرق شمله واختلفت الكلمة عليه وطمع الأمير منصور بن نوح الساماني صاحب خراسان في ملك بني بويه وأرسل الجيوش الكثيرة صحبة وشمكير فلما علم بذلك ركن الدولة بن بويه أرسل إلى ابنه عضد الدولة وابن أخيه عزالدولة يستنجدهما فأرسلا اليه بجنود كثيرة فركب فيها ركن الدولة وبعث إليه وشمكير يتهدده ويتوعده ويقول لئن قدرت عليك لأفعلن بك ولأفعلن فبعث إليه ركن الدولة يقول لكني إن قدرت عليك لأحسنن إليك ولأصفحن عنك فكانت الغلبة لهذا فدفع الله عنه شره وذلك أن وشمكير ركب فرسا صعبا يتصيد عليها فحمل عليه خنزير فنفرت منه الفرس فألقته على الأرض فخرج الدم من أذنيه فمات من ساعته وتفرقت العساكر وبعث ابن وشمكير يطلب الأمان من ركن الدولة فأرسل إليه بالمال والرجال ووفى بما قال من الإحسان وصرف الله عنه كيد السامانية وذلك بصدق النية وحسن الطوية والله أعلم وممن توفي فيها من الأعيان
أبو الفرج الأصبهاني
صاحب كتاب الأغاني واسمه علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم بن عبدالرحمن بن مروان بن محمد بن مروان بن الحكم الأموي صاحب كتاب الأغاني وكتاب أيام العرب ذكر فيه ألفا وسبعمائة يوم من أيامهم وكان شاعرا أديبا كاتبا عالما بأخبار الناس وأيامهم وكان فيه تشيع قال ابن الجوزي ومثله لا يوثق به فإنه يصرح في كتبه بما بوجب العشق ويهون شرب الخمر وربما حكى ذلك عن نفسه ومن تأمل كتاب الأغاني رأى فيه كل قبيح ومنكر وقد روى الحديث عن محمد بن عبدالله بن بطين وخلق وروى عنه الدارقطني وغيره توفي في ذي الحجة من هذه السنة وكان مولده في سنة أربع وثمانين ومائتين التي توفي فيها البحتري الشاعر وقد ذكر له ابن خلكان مصنفات عديدة منها الأغاني والمزارات وأيام العرب وفيها توفي
سيف الدولة
أحد الأمراء الشجعان والملوك الكثيري الإحسان على ما كان فيه من تشيع وقد ملك دمشق في بعض السنين واتفق له أشياء غريبة منها أن خطيبه كان مصنف الخطب النباتية أحد الفصحاء البلغاء ومنها أن شاعره كان المتنبي ومنها أن مطربه كان أبو نصر الفارابي وكان سيف الدولة كريما جوادا معطيا للجزيل ومن شعره في أخيه ناصر الدولة صاحب الموصل ... رضيت لك العليا وقد كنت أهلها ... وقلت لهم بيني وبين أخي فرق ... وما كان لي عنها نكول وإنما ... تجاوزت عن حقي فتم لك السبق (11/263)
أما كنت ترضى أن أكون مصليا ... إذا كنت أرضى أن يكون لك السبق ... وله ... قد جرى في دمعه دمه ... قال لي كم أنت تظلمه ... رد عنه الطرف منك ... فقد جرحته منك أسهمه ... كيف تستطيع التجلد ... خطرات الوهلم تؤلمه ... وكان سبب موته الفالج وقيل عسر البول توفي بحلب وحمل تابوته إلى ميافارقين فدفن بها وعمره ثلاث وخمسون سنة ثم أقام في ملك حلب بعده ولده سيف الدولة أبو المعالي الشريف ثم تغلب عليه مولى أبيه قرعويه فأخرجه من حلب إلى أمه بميافارقين ثم عاد إليها كما سيأتي وذكر ابن خلكان أشياء كثيرة مما قاله سيف الدولة وقيل فيه قال ولم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع ببابه من الشعراء وقد أجاز لجماعة منهم وقال إنه ولد سنة ثلاث وقيل إحدى وثلثمائة وأنه ملك حلب بعد الثلاثين والثلثمائة وقبل ذلك ملك واسطا ونواحيها ثم تقلبت به الأحوال حتى ملك حلب انتزعها من يد أحمد بن سعيد الكلابي صاحب الأخشيد وقد قال يوما أيكم يجيز قولي وما أظن أحدا منكم يجيز ذلك لك جسمي تعله فدمي لم تحله فقال أبو نواس أخوه بديهة إن كنت مالكا الأمر كله وقد كان هؤلاء الملوك رفضة وهذا من أقبح القول وفيها توفي كافور
كافور الأخشيد
مولى محمد بن طغج الأخشيدي وقد قام بالأمر بعده مولاه لصغر ولده تملك كافور مصر ودمشق وقاده لسيف الدولة وغيره وقد كتب على قبره ... أنظر إلى غير الأيام ما صنعت ... أفنت قرونا بها كانوا وما فنيت ... دنياهم ضحكت أيام دولتهم ... حتى إذا فنيت ناحت لهم وبكت ...
أبو علي القالي
صاحب الأمالي إسماعيل بن القاسم بن عبدون بن هارون بن عيسى بن محمد بن سليمان أبو علي القاضي القالي اللغوي الأموي مولاهم لأن سليمان هذا كان مولى لعبد الملك بن مروان والقالي نسبة إلى قالي قلا ويقال إنها أردن الروم فالله أعلم وكان مولده بميافارقين جزء من أرض الجزيرة من ديار بكر وسمع الحديث من أبي يعلى الموصلي وغيره وأخذ النحو واللغة عن ابن دريد وأبي بكر الأنباري ونفطويه وغيرهم وصنف الأمالي وهو مشهور وله كتاب التاريخ على حروف المعجم في خمسة آلاف ورقة وغير ذلك من المصنفات في اللغة ودخل بغداد وسمع بها ثم ارتحل إلى قرطبة فدخلها في سنة ثلاثين وثلثمائة واستوطنها وصنف بها كتبا كثيرة إلى أن (11/264)
توفي بها في هذه السنة عن ثمان وستين سنة قاله ابن خلكان وفيها توفي أبو علي محمد بن إلياس صاحب بلاد كرمان ومعاملاتهم فأخذ عضد الدولة بن ركن الدولة بلاد كرمان من أولاد محمد بن إلياس وهم ثلاثة اليسع وإلياس وسليمان والملك الكبير وشمكير كما تقدمنا وفيها توفي من الملوك أيضا الحسن بن الفيرزان فكانت هذ السنة محل موت الملوك مات فيها معز الدولة وكافور وسيف الدولة قال ابن الأثير وفيها هلك نقفور ملك الأرمن وبلاد الروم يعني الدمستق كما تقدم
ثم دخلت سنة سبع وخمسين وثلثمائة
فيها شاع الخبر ببغداد وغيرها من البلاد أن رجلا ظهر يقال له محمد بن عبدالله وتلقب بالمهدي وزعم أنه الموعود به وأنه يدعو إلى الخير وينهى عن الشر ودعا إليه ناس من الشيعة وقالوا هذا علوي من شيعتنا وكان هذا الرجل إذ ذاك مقيما بمصر عند كافور الأخشيدي قبل أن يموت وكان يكرمه وكان من جملة المستحسنين له سبكتكين الحاجب وكان شيعيا فظنه علويا وكتب إليه أن يقدم إلى بغداد ليأخذ له البلاد فترحل عن مصر قاصدا العراق فتلقاه سبكتكين الحاجب إلى قريب الأنبار فلما رآه عرفه وإذا هو محمد بن المستكفي بالله العباسي فلما تحقق أنه عباسي وليس بعلوي انثنى رأيه فيه فتفرق شمله وتمزق أمره وذهب أصحابه كل مذهب وحمل إلى معز الدولة فأمنه وسلمه إلى المطيع لله فجدع أنفه واختفى أمره فلم يظهر له خبر بالكلية بعد ذلك وفيها وردت طائفة من الروم إلى بلاد إنطاكية فقتلوا خلقا من حواضرها وسبوا اثنى عشر ألفا من أهلها ورجعوا إلى بلادهم ولم يعرض لهم أحد وفيها عملت الروافض في يوم عاشوراء منها المأتم على الحسين وفي يوم غدير خم الهناء والسرور وفيها في تشرين عرض للناس داء الماشري فمات به خلق كثير وفيها مات أكثر جمال الحجيج في الطريق من العطش ولم يصل منهم إلى مكة إلا القليل بل مات أكثر من وصل منهم بعد الحج وفيها اقتتل أبو المعالي شريف بن سيف الدولة هو وخاله وابن عم أبيه أبو فراس في المعركة قال ابن الأثير ولقد صدق من قال إن الملك عقيم وفيها توفي من الأعيان أيضا إبراهيم المتقي لله وكان قد ولى الخلافة ثم ألجئ أن خلع من سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة إلى هذه السنة وألزم بيته فمات في هذه السنة ودفن بداره عن ستين سنة
عمر بن جعفر بن عبدالله
ابن أبي السري أبو جعفر البصري الحافظ ولد سنة ثمانين ومائتين حدث عن أبي الفضل ابن الحباب وغيره وقد انتقد عليه مائة حديث وضعها قال الدارقطني فنظرت فيها فإذا الصواب (11/265)
مع عمر بن حعفر
محمد بن أحمد بن علي بن مخلد
أبو عبدالله الجوهري المحتسب ويعرف بابن المخرم كان أحد أصحاب ابن جرير الطبري وقد روى عن الكديمي وغيره وقد اتفق له أنه تزوج امرأة فلما دخلت عليه جلس يكتب الحديث فجاءت أمها فأخذت الدواة فرمت بها وقالت هذه أضر على ابنتي من مائة ضرة توفي في هذه السنة عن ثلاث وتسعين سنة وكان يضعف في الحديث
كافور بن عبدالله الأخشيدي
كان مولى السلطان محمد بن طغج اشتراه من بعض أهل مصر بثمانية عشر دينارا ثم قربه وأدناه وخصه من بين الموالي واصطفاه ثم جعله أتابكا حين ملك ولداه ثم استقل بالأمور بعد موتهما في سنة خمس وخمسين واستقرت المملكة باسمه فدعى له على المنابر بالديار المصرية والشامية والحجازية وكان شهما شجاعا ذكيا جيد السيرة مدحه الشعراء منهم المتنبي وحصل له منه مال ثم غضب عليه فهجاه ورحل عنه إلى عضد الدولة ودفن كافور بتربته المشهورة به وقام في الملك بعده أبو الحسن علي بن الأخشيد ومنه أخذ الفاطميون الأدعياء بلاد مصر كما سيأتي ملك كافور سنتين وثلاثة أشهر
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة
في عاشوراء منها عملت الروافض وفي يوم خم عملوا الفرح والسرور المبتدع على عادتهم وفيها حصل الغلاء العظيم حتى كاد أن يعدم الخبز بالكلية وكاد الناس أن يهلكوا وفيها عاث الروم في الأرض فسادا وحرقوا حمص وأفسدوا فيها فسادا عريضا وسبوا من المسلمين نحوا من مائة ألف إنسان فإنا لله وإنا إليه راجعون وفيها دخل أبو الحسين جوهر القائد الرومي في جيش كثيف من جهة المعز الفاطمي إلى ديار مصر يوم الثلاثاء لثلاث عشرة بقيت من شعبان فلما كان يوم الجمعة خطبوا للمعز الفاطمي على منابر الديار المصرية وسائر أعمالها وأمر جوهر المؤذنين بالجوامع أن يؤذنوا بحي على خير العمل وأن يجهرالأئمة بالتسليمة الأولى وذلك أنه لما مات كافور لم يبق بمصر من تجتمع القلوب عليه وأصابهم غلاء شديد أضعفهم فلما بلغ ذلك المعز بعث جوهرا هذا وهو مولى أبيه المنصور في جيش إلى مصر فلما بلغ ذلك أصحاب كافور هربوا منها قبل دخول جوهر إليها فدخلها بلا ضربة ولا طعنة ولا ممانعة ففعل ما ذكرنا واستقرت أيدي الفاطميين على تلك البلاد وفيها شرع جوهر القائد في بناء القاهرة المعزية وبناء القصرين عندها على ما نذكره وفيها شرع في الإمامات إلى مولاه المعز الفاطمي وفيها أرسل جوهر جعفر بن فلاح في جيش كثيف إلى الشام فاقتتلوا قتالا شديدا وكان بدمشق الشريف أبو القاسم بن يعلى الهاشمي وكان مطاعا في أهل الشام فجاحف عن العباسيين مدة طويلة ثم آل الحال إلى أن يخطبوا للمعز بدمشق وحمل الشريف أبو (11/266)
القاسم هذا إلى الديار المصرية وأسر الحسن بن طغج وجماعة من الأمراء وحملوا إلى الديار المصرية فحملهم جوهر القائد إلى المعز بإفريقية واستقرت يد الفاطميين على دمشق في سنة ستين كما سيأتي وأذن فيها وفي نواحيها بحي على خير العمل أكثر من مائة سنة وكتب لعنة الشيخين على أبواب الجوامع بها وأبواب المساجد فإنا لله وإنا إليه راجعون ولم يزل ذلك كذلك حتى أزالت ذلك دولة الأتراك والأكراد نور الدين الشهيد وصلاح الدين بن أيوب على ما سيأتي بيانه وفيها دخلت الروم إلى حمص فوجدوا أكثر أهلها قد انجلوا عنها وذهبوا فحرقوها وأسروا ممن بقي فيها ومن حولها نحوا من مائة ألف إنسان فإنا لله وإنا إليه راجعون وفي ذي الحجة منها نقل عزالدولة والده معز الدولة بن بويه من داره إلى تربته بمقابر قريش
ثم دخلت سنة تسع وخمسين وثلثمائة
في عاشر المحرم منها عملت الرافضة بدعتهم الشنعاء فغلقت الأسواق وتعطلت المعايش ودارت النساء سافرات عن وجوهن ينحن على الحسين بن علي ويلطمن وجوههن والمسوح معلقة في الأسواق والتبن مدرور فيها وفيها دخلت الروم إنطاكية فقتلوا من أهلها الشيوخ والعجائز وسبوا الصبايا والأطفال نحوا من عشرين ألفا فإنا لله وإنا إليه راجعون وذلك كله بتدبير ملك الأرمن نقفور لعنه الله وكل هذا في ذمة ملوك الأرض أهل الرفض الذين قد استحوذوا على البلاد وأظهروا فيها الفساد قبحهم الله قال ابن الجوزي وكان قد تمرد وطغا وكان هذا الخبيث قد تزوج بامرأة الملك الذي كان قبله ولهذا الملك المتقدم ابنان فأراد أن يخصيهما ويجعلهما في الكنيسة لئلا يصلحا بعد ذلك للملك فلما فهمت ذلك أمهما عملت عليه وسلطت عليه الأمراء فقتلوه وهو نائم وملكوا عليهم أكبر ولديها وفي ربيع الأول صرف عن القضاء أبو بكر أحمد بن سيار وأعيد إليه أبو محمد بن معروف قال ابن الجوزي وفيها نقصت دجلة حتى غارت الآبار وحج بالناس الشريف أبو أحمد النقيب وانقض كوكب في ذي الحجة فأضاءت له الأرض حتى بقي له شعاع كالشمس ثم سمع له صوت كالرعد قال ابن الأثير وفي المحرم منها خطب للمعز الفاطمي بدمشق عن أمر جعفر بن فلاح الذي أرسله جوهر القائد بعد أخذه مصر فقاتله أبو محمد الحسن بن عبدالله ابن طغج بالرملة فغلبه ابن فلاح وأسره وأرسله إلى جوهر فأرسله إلى المعز وهو بإفريقية وفيها وقعت المنافرة بين ناصر الدولة بن حمدان وبين ابنه أبي تغلب وسببه أنه لما مات معز الدولة بن بويه عزم أبو تغلب ومن وافقه من أهل بيته على أخذ بغداد فقال لهم أبوهم إن معز الدولة قد ترك لولده عزالدولة أموالا جزيلة فلا تقدرون عليه ما دامت في يده فاصبروا حتى ينفقها فإنه مبذر فإذا أفلس فسيروا إليه فإنكم تغلبونه فحقد عليه ولده أبو تغلب بسبب هذا القول ولم يزل بأبيه (11/267)
حتى سجنه بالقلعة فاختلف أولاده بينهم وصاروا أحزابا وضعفوا عما في أيديهم فبعث أبو تغلب إلى عزالدولة يضمن منه بلاد الموصل بألف ألف كل سنة واتفق موت أبيه ناصر الدولة في هذه السنة واستقر أبو تغلب بالموصل وملكها إلا أنهم فيما بينهم مختلفين متحاربين وفيها دخل ملك الروم إلى طرابلس فأحرق كثيرا منها وقتل خلقا وكان صاحب طرابلس قد أخرجه أهلها منها لشدة ظلمه فأسرته الروم واستحوذوا على جميع أمواله وحواصله وكانت كثيرة جدا ثم مالوا على السواحل فملكوا ثمانية عشر بلدا سوى القرى وتنصر خلق كثير على أيديهم فإنا لله وإنا إليه راجعون وجاؤا إلى حمص فأحرقوا ونهبوا وسبوا ومكث ملك الروم شهرين يأخذ ما أراد من البلاد ويأسر من قدر عليه وصارت له مهابة في قلوب الناس ثم عاد إلى بلده ومعه من السبي نحو من مائة ألف ما بين صبي وصبية وكان سبب عوده إلى بلاده كثرة الأمراض في جيشه واشتياقهم إلى أولادهم وبعث سرية إلى الجزيرة فنهبوا وسبوا وكان قرعويه غلام سيف الدولة قد استحوذ على حلب وأخرج منها ابن أستاذه شريف فسار إلى طرف وهي تحت حكمه فأبوا أن يمكنوه من الدخول إليهم فذهب إلى أمه بميافارقين وهي ابنة سعيد بن حمدان فمكث عندها حينا ثم سار إلى حماه فملكها ثم عاد إلى حلب بعد سنتين كما سيأتي ولما عاثت الروم في هذه السنة بالشام صانعهم قرعوية عن حلب وبعث إليهم بأموال وتحف ثم عادوا إلى إنطاكية فملكوها وقتلوا خلقا كثيرا من أهلها وسبوا عامة أهلها وركبوا إلى حلب وأبو المعالي شريف محاصر قرعويه بها فخافهم فهرب عنها فحاصرها الروم فأخذوا البلد وامتنعت القلعة عليهم ثم اصطلحوا مع قرعويه على هدية ومال يحمله إليهم كل سنة وسلموا إليه البلد ورجعوا عنه وفيها خرج على المعز الفاطمي وهو بإفريقية رجل يقال له أبو خزر فنهض إليه بنفسه وجنوده وطرده ثم عاد فاستأمنه فقبل منه وصفح عنه وجاءه الرسول من جوهر يبشره بفتح مصر وإقامة الدعوة له بها ويطلبه إليها ففرح بذلك وامتدحه الشعراء من جملتهم شاعره محمد بن هانئ قصيدة له أولها ... يقول بنو العباس قد فتحت مصر ... فقل لبني العباس قد قضى الأمر ... وفيها رام عزالدولة صاحب بغداد محاصرة عمران بن شاهين الصياد فلم يقدر عليه فصالحه ورجع إلى بغداد وفيها اصطلح قرعويه وأبو المعالي شريف فخطب له قرعويه بحلب وجميع معاملاتها تخطب للمعز الفاطمي وكذلك حمص ودمشق ويخطب بمكة للمطيع باله وللقرامطة وبالمدينة للمعز الفاطمي وخطب أبو أحمد الموسوي بظاهرها للمطيع وذكر ابن الأثير أن نقفور توفي في هذه السنة ثم صار ملك الروم إلى ابن الملك الذي قبله قال وكان يقال له الدمستق وكان من أبناء المسلمين كان أبوه من أهل طرسوس من خيار المسلمين يعرف بابن الفقاس فتنصر ولده هذا (11/268)
وحظي عند النصارى حتى صار من أمره ما صار وقد كان من أشد الناس على المسلمين أخذ منهم بلادا كثيرة عنوة من ذلك طرسوس والأذنة وعين زربة والمصيصة وغير ذلك وقتل من المسلمين خلقا لا يعلمهم إلا الله وسبى منهم ما لا يعلم عدتهم إلا الله وتنصروا أو غالبهم وهو الذي بعث تلك القصيدة إلى المطيع كما تقدم وممن توفي فيها من الأعيان بن أحمد بن الحسين
محمد بن أحمد بن الحسين
ابن إسحاق بن إبراهيم بن عبدالله أبو علي الصواف روى عن عبدالله بن أحمد بن حنبل وطبقته وعنه خلق منهم الدارقطني وقال ما رأت عيناي مثله في تحريره ودينه وقد بلغ تسعا وثمانين سنة رحمه الله
محارب بن محمد بن محارب
أبو العلاء الفقيه الشافعي من ذرية محارب بن دثار كان ثقة عالما روى عن جعفر الفريابي وغيره
أبو الحسين أحمد بن محمد
المعروف بابن القطان أحد أئمة الشافعية تفقه على ابن سريج ثم الشيخ أبي إسحاق الشيرازي وتفرد برياسة المذهب بعد موت أبي القاسم الداراني وصنف في أصول الفقه وفروعه وكانت الرحلة إليه ببغداد ودرس بها وكتب شيئا كثيرا توفي في جمادى الأولى منها
ثم دخلت سنة ستين وثلثمائة
في عاشر محرمها عملت الرافضة بدعتهم المحرمة على عادتهم المتقدمة وفي ذي القعدة منها أخذت القرامطة دمشق وقتلوا نائبها جعفر بن فلاح وكان رئيس القرامطة وأميرهم الحسين بن أحمد بن بهرام وقد أمده عزالدولة من بغداد بسلاح وعدد كثيرة ثم ساروا إلى الرملة فأخذوها وتحصن بها من كان بها من المغاربة نوابا ثم إن القرامطة تركوا عليهم من يحاصرها ثم ساروا نحو القاهرة في جمع كثير من الأعراب والأخشيدية والكافورية فوصلوا عين شمس فاقتتلوا هم وجنود جوهر القائد قتالا شديدا والظفر للقرامطة وحصروا المغاربة حصرا عظيما ثم حملت المغاربة في بعض الأيام على ميمنة القرامطة فهزمتها ورجعت القرامطة إلى الشام فجدوا في حصار باقي المغاربة فأرسل جوهرالى أصحابه خمسة عشر مركبا ميرة لأصحابه فأخذتها القرامطة سوى مركبين أخذتها الإفرنج وجرت خطوب كثيرة ومن شعر الحسين بن أحمد بن بهرام أمير القرامطة في ذلك ... زعمت رجال الغرب أتي هبتها ... فدمى إذن ما بينهم مطلول ... يا مصر إن لم أسق أرضك من دم ... يروى ثراك فلا سقاني النبيل ... وفيها تزوج أبو تغلب بن حمدان بنت بختيار عزالدولة وعمرها ثلاث سنين على صداق مائة (11/269)
ألف دينار ووقع العقد في صفر منها وفيها استوزر مؤيد الدولة بن ركن الدولة الصاحب أبا القاسم بن عباد فأصلح أموره وساس دولته جيدا وفيها أذن بدمشق وسائر الشام بحي على خير العمل قال ابن عساكر في ترجمته جعفر بن فلاح نائب دمشق وهو أول من تأمر بها عن الفاطميين أخبرنا أبو محمد الأكفاني قال قال أبو بكر أحمد بن محمد بن شرام وفي يوم الخميس لخمس خلون من صفر من سنة ستين وثلثمائة أعلن المؤذنون في الجامع بدمشق وسائر مآذن البلد وسائر المساجد بحي على خير العمل بعد حي على الفلاح أمرهم بذلك جعفر بن فلاح ولم يقدروا على مخالفته ولا وجدوا من المسارعة إلى طاعته بدا وفي يوم الجمعة الثامن من جمادى الآخرة أمر المؤذنون أن يثنوا الأذان والتكبير في الاقامة مثنى مثنى وأن يقولوا في الاقامة حي على خير العمل فاستعظم الناس ذلك وصبروا على حكم الله تعالى وفيها توفي من الأعيان
سليمان بن أحمد بن أيوب
أبو القاسم الطبراني الحافظ الكبير صاحب المعاجم الثلاثة الكبير والأوسط والصغير وله كتاب السنة وكتاب مسند الشاميين وغير ذلك من المصنفات المفيدة عمر مائة سنة توفي بأصبهان ودفن علي بابها عند قبر حممة الصحابي قال أبو فرج ابن الجوزي قال ابن خلكان سمع من ألف شيخ قال وكانت وفاته في يوم السبت لليلتين بقيتا من ذي القعدة من هذه السنة وقيل في شوال منها وكان مولده في سنة ستين ومائتين فمات وله من العمر مائة سنة
الرفا الشاعر أحمد بن السري أبو الحسن
الكندي الرفا الشاعر الموصلي أرخ وفاته ابن الأثير في هذه السنة توفي في بغداد وذكر ابن الجوزي أنه توفي سنة ثنتين وستين وثلثمائة كما سيأتي
محمد بن جعفر
ابن محمد بن الهيثم بن عمران بن يزيد أبو بكر بن المنذر أصله أنباري سمع من أحمد بن الخليل ابن البرجلاني ومحمد بن العوام الرياحي وجعفر بن محمد الصائغ وأبي إسماعيل الترمذي قال ابن الجوزي وهو آخر من روى عنهم قالوا وكانت أصوله جيادا بخط أبيه وسماعه صحيحا وقد انتفى عنه أبو عمرو البصري توفي فجأة يوم عاشوراء وقد جاوز التسعين
محمد بن الحسن بن عبدالله أبو بكر الآجري
سمع جعفر الفريابي وأبا شعيب الحراني وأبا مسلم الكجي وخلقا وكان ثقة صادقا دينا وله مصنفات كثيرة مفيدة منها الاربعون الآجرية وقد حدث ببغداد قبل سنة ثلاثين وثلثمائة ثم انتقل إلى مكة فأقام بها حتى مات بعد إقامته بها ثلاثين سنة رحمه الله (11/270)
محمد بن جعفر بن محمد
أبو عمرو الزاهد سمع الكثير ورحل إلى الآفاق المتباعدة وسمع منه الحفاظ الكبار وكان فقيرا متقللا يضرب اللبن بقبور الفقراء ويتقوت برغيف وجزرة أو بصلة ويقوم الليل كله توفي في جمادى الآخرة منها عن خمس وتسعين سنة
محمد بن داود أبو بكر الصوفي
ويعرف بالدقى أصله من الدينور أقام ببغداد ثم ارتحل وانتقل إلى دمشق وقد قرأ على ابن مجاهد وسمع الحديث من محمد بن جعفر الخرائطي صاحب ابن الجلاء والدقاق توفي في هذه السنة وقد جاوز المائة
محمد بن الفرحاني
ابن زروية المروزي الطبيب دخل بغداد وحدث بها عن أبيه بأحاديث منكرة روى عن الجنيد وابن مرزوق قال ابن الجدوزي وكان فيه ظرف ولباقة غير أنهم كانوا يتهمونه بوضع الحديث
أحمد بن الفتح
ويقال ابن أبي الفتح الخاقاني أبو العباس النجاد إمام دمشق قال ابن عساكر كان عبادا صالحا وذكر أن جماعة جاؤوا لزيارته فسمعوه يتأوه من وجع كان به فأنكروا عليه ذلك فلما خرج إليهم قال لهم إن آه اسم من تستروح اليه الأعلى قال فزاد في أعينهم وعظموه قلت لكن هذا الذي قال لا يؤخذ عنه مسلما إليه فيه بل يحتاج إلى نقل صحيح عن المعصوم فإن أسماء الله تعالى توقيفية على الصحيح
ثم دخلت سنة إحدى وستين وثلثمائة
في عاشر المحرم منها عملت الروافض بدعتهم كما تقدم وفي المحرم منها أغارت الروم على الجزيرة وديار بكر فقتلوا خلقا من أهل الرها وساروا في البلاد كذلك يقتلون ويأسرون ويغنمون إلى أن وصلوا نصيبين ففعلوا ذلك ولم يغن عن تلك النواحي أبو تغلب بن حمدان متوليها شيئا ولا دافع عنهم ولا له قوة فعند ذلك ذهب أهل الجزيرة إلى بغداد وأرادوا أن يدخلوا على الخليفة المطيع لله وغيره يستنصرونه ويستصرخون فرثا لهم بغداد وجاؤوا معهم إلى الخليفة فلم يمكنهم ذلك وكان بختيار بن معز الدولة مشغولا بالصيد فذهبت الرسل وراءه فبعث الحاجب سبكتكين يستنفر الناس فتجهز خلق كثير من العامة وكتب إلى تغلب أن يعد الميرة والإقامة فأظهر السرور والفرح ولما تجهزت العامة للغزاة وقعت بينهم فتنة شديدة بين الروافض وأهل السنة وأحرق أهل السنة دور الروافض في الكرخ وقالوا الشر كله منكم وثار العيارون ببغداد يأخذون أموال الناس وتناقض النقيب أبو أحمد الموسوي والوزير أبو الفضل الشيرازي وأرسل بختيار بن معز الدولة (11/271)
إلى الخليفة يطلب منه أموالا يستعين بها على هذه الغزوة بعث إليه يقول لو كان الخراج يجيء إلي لدفعت منه ما يحتاج المسلمون إليه ولكن أنت تصرف منه في وجه ليس بالمسلمين إليها ضرورة وأما أنا فليس عندي شيء أرسله إليك فترددت الرسل بينهم وأغلظ بختيار للخليفة في الكلام وتهدده فاحتاج الخليفة أن يحصل له شيئا فباع بعض ثياب بدنه وشيئا من أثاث بيته ونقض بعض سقوف داره وحصل له اربعمائة ألف درهم فصرفها بختيار في مصالح نفسه وأبطل تلك الغزاة فنقم الناس للخليفة وساءهم ما فعل به ابن بويه الرافضي من أخذه مال الخليفة وتركه الجهاد فلا جزاه الله خيرا عن المسلمين وفيها تسلم أبو تغلب بن حمدان قلعة ماردين فنقل حواصلها وما فيها إلى الموصل وفيها اصطلح الأمير منصور بن نوح الساماني صاحب خراسان وركن الدولة بن بويه وابنه عضد الدولة على أن يحملا إليه في كل سنة مائة ألف دينار وخمسين ألف دينار وتزوج بابنة ركن الدولة فحمل إليه من الهدايا والتحف ما لا يعد ولا يحصى وفي شوال منها خرج المعزالفاطمي بأهله وحاشيته وجنوده من المدينة المنصورة من بلاد المغرب قاصدا البلاد المصرية بعد ما مهد له مولاه جوهر أمرها وبنى له بها القصرين واستخلف المعز على بلاد المغرب ونواحيها وصقلية وأعمالها نوابا من جهته وحزبه وأنصاره من أهل تلك البلاد واستصحب معه شاعره محمد بن هانئ الأندلسي فتوفي في أثناء الطريق وكان قدوم المعز إلى القاهرة في رمضان من السنة الآتية على ما سيأتي وفيها حج بالناس الشريف أبو أحمد الموسوي النقيب على الطالبيين كلهم وفيها توفي من الأعيان
سعيد بن أبي سعيد الجنابي
أبو القاسم القرمطي الهجري وقام بالأمر من بعده أخوه أبو يعقوب يوسف ولم يبق من سلالة أبي سعيد سواه
عثمان بن عمر بن خفيف
أبو عمر المقرى المعروف بالدراج روى عن أبي بكر بن أبي داود وعنه ابن زرقويه وكان من أهل القراءات والفقه والدراية والديانة والسيرة الجميلة وكان يعد من الإبدال وتوفي يوم الجمعة في رمضان منها
علي بن إسحاق بن خلف
أبو الحسين القطان الشاعر المعروف بالمراهي ومن شعره ... قم فهن عاشقين ... أصبحا مصطحبين ... جمعا بعد فراق ... فجعا منه ببين ... تم عادا في سرور ... من صدود آمنين ... بهما روح ولكن ... ركبت في بدنين ...
أحمد بن سهل
ابن شداد أبو بكر المخرمي سمع أبا خليفة وجعفر الفريابي وابن أبي الفوارس وابن جرير وغيرهم وعنه الدارقطني وابن زرقويه وأبو نعيم وقد ضعفه البرقاني وابن الجوزي وغيرهم (11/272)
ثم دخلت سنة ثنتين وستين وثلثمائة
في عاشر محرمها عملت الروافض من النياحة وتعليق المسوح وغلق الأسواق ما تقدم قبلها وفيها اجتمع الفقيه أبو بكر الرازي الحنفي وأبو الحسن علي بن عيسى الرماني وابن الدقاق الحنبلي بعزالدولة بختيار بن بويه وحرضوه على غزو الروم فبعث جيشا لقتالهم فأظفره الله بهم وقتلوا منهم خلقا كثيرا وبعثوا برؤسهم إلى بغداد فسكنت أنفس الناس وفيها سارت الروم مع ملكهم لحصار آمد وعليها هزرمرد غلام أبي الهيجاء بن حمدان فكتب إلى أبي تغلب يستنصره فبعث إليه أخاه أبا القاسم هبة الله ناصر الدولة بن حمدان فاجتمعا لقتاله فلقياه في آخر يوم من رمضان في مكان ضيق لا مجال للخيل فيه فقتتلوا مع الروم قتالا شديدا فعزمت الروم على الفرار فلم يقدروا فاستحر فيهم القتل وأخذ الدمستق أسيرا فأودع السجن فلم يزل فيه حتى مرض ومات في السنة القابلة وقد جمع أبو تغلب الأطباء فلم ينفعه شيء وفيها أحرق الكرخ ببغداد وكان سببه أن صاحب المعونة ضرب رجلا من العامة فمات فثارت عليه العامة وجماعة من الأتراك فهرب منهم فدخل دارا فأخرجوه مسجونا وقتلوه وحرقوه فركب الوزير أبو الفضل الشيرازي وكان شديد التعصب للسنة وبعث حاجبه إلى أهل الكرخ فألقى في دورهم النار فاحترقت طائفة كثيرة من الدور والأموال من ذلك ثلثمائة دكان وثلاثة وثلاثون مسجدا وسبعة عشر ألف إنسان فعند ذلك عزله بختيار عن الوزارة وولاها محمد بن بقية فتعجب الناس من ذلك وذلك أن هذا الرجل كان وضيعا عند الناس لا حرمة له كان أبوه فلاحا بقرية كونا وكان هو ممن يخدم عزالدولة كان يقدم له الطعام ويحمل منديل الزفر على كتفه إلى أن ولى الوزارة ومع هذا كان أشد ظلما للرعية من الذي قبله وكثر في زمانه العيارون ببغداد وفسدت الأمور وفيها وقع الخلاف بين عز الدولة وبين حاجبه سبكتكين ثم اصطلحا على دخن وفيها كان دخول المعز الفاطمي الديار المصرية وصحبته توابيت آبائه فوصل إلى اسكندرية في شعبان وقد تلقاه أعيان مصر اليها فخطب الناس هنالك خطبة بليغة ارتجالا ذكر فيها فضلهم وشرفهم وقد كذب فقال فيها إن الله أغاث الرعايا بهم وبدولتهم وحكى قاضي بلاد مصر وكان جالسا إلى جنبه فسأله هل رأيت خليفة أفضل مني فقال له لم أر أحدا من الخلفاء سوى أمير المؤمنين فقال له أحججت قال نعم قال وزرت قبر الرسول قال نعم قال وقبر أبي بكر وعمر قال فتحيرت ما أقول فإذا ابنه العزيز مع كبار الأمراء فقلت شغلني عنهما رسول الله كما شغلني أمير المؤمنين عن السلام على ولي العهد من بعده ونهضت إليه وسلمت عليه ورجعت فانفسح المجلس إلى غيره ثم سار من الاسكندرية إلى مصر فدخلها في الخامس من رمضان من هذه السنة فنزل القصرين فقيل إنه أول ما دخل إلى محل ملكه خر ساجدا شكرا لله (11/273)
عز و جل ثم كان أول حكومة انتهت اليه أن امرأة كافور الأخشيدي ذكرت أنها كانت أودعت رجلا من اليهود الصواغ قباء من لؤلؤ منسوج الذهب وأنه جحدها ذلك فاستحضره وقرره فجحد ذلك وأنكره فأمر أن تحفر داره ويستخرج منها ما فيها فوجدوا القباء بعينة قد جعله في جرة ودفنه في بعض المواضع من داره فسلمه المعز إليها ووفره عليها ولم يتعرض إلى القباء فقدمته إليه فأبى أن يقبله منها فاستحسن الناس منه ذلك وقد ثبت في الصحيح عن النبي ( ص ) ( إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ) وفيها توفي من الأعيان
السري بن أحمد بن أبي السري
أبو الحسن الكندي الموصلي الرفا الشاعر له مدائح في سيف الدولة بن حمدان وغيره من الملوك والأمراء وقد قدم بغداد فمات بها في هذه السنة وقيل في سنة أربع وقيل خمس وقيل ست وأربعين وقد كان بينه وبين محمد بن سعيد معاداة وادعى عليه أنه سرق شعره وكان مغنيا ينسج على ديوان كشاجم الشاعر وربما زاد فيه من شعر الخالديين ليكثر حجمه قال ابن خلكان وللسري الرفا هذا ديوان كبير جدا وأنشد من شعره ... يلقى الندى برقيق وجه مسفر ... فإذا التقى الجمعان عاد صفيقا ... رحب المنازل ما أقام فإن سرى ... في جحفل ترك الفضاء مضيقا ...
محمد بن هاني
الأندلسي الشاعر استصحبه المعز الفاطمي من بلاد القيروان حين توجه إلى مصر فمات ببعض الطريق وجد مقتولا على حافة البحر في رجب منها وقد كان قوي النظم إلا أنه كفره غير واحد من العلماء في مبالغته في مدحه الخلق فمن ذلك قوله يمدح المعز ... ما شئت لا ما شاءت الأقدار ... فاحكم فأنت الواحد القهار ... وهذا من أكبر الكفر وقال أيضا قبحه الله وأخزاه ... ولطالما زاحمت تحت ركابه جبريلا ... ومن ذلك قوله ابن الأثير ولم أرها في شعره ولا في ديوانه ... جل بزيادة جل المسيح ... بها وجل آدم ونوح ... جل بها الله ذو المعالي ... فكل شيء سواه ريح ... وقد اعتذر عنه بعض المتعصبين له قلت هذا الكلام إن صح عنه فليس عنه اعتذار لا في الدار الآخرة ولا في هذه الدار وفيها توفي
إبراهيم بن محمد
ابن شجنونة بن عبدالله المزكي أحد الحفاظ أنفق على الحديث وأهله أموالا جزيلة وأسمع (11/274)
الناس بتخريجه وعقد له مجلس للإملاء بنيسابور ورحل وسمع من المشايخ غربا وشرقا ومن مشايخه ابن جرير وابن أبي حاتم وكان يحضر مجلسه خلق كثير من كبار المحدثين منهم أبو العباس الأصم وأضرابه توفي عن سبع وستين سنة
سعيد بن القاسم بن خالد
أبو عمرو البردعي أحد الحفاظ روى عنه الدارقطني وغيره
محمد بن الحسن بن كوثر بن علي
أبو بحر البربهاري روى عن إبراهيم الحربي وتمام والباغندي والكديمي وغيرهم وقد روى عنه ابن زرقويه وأبو نعيم وانتخب عليه الدارقطني وقال اقتصروا على ما خرجته له فقد اختلظ صحيح سماعه بفاسده وقد تكلم فيه غير واحد من حفاظ زمانه بسبب تخليطه وغفلته واتهمه بعضهم بالكذب أيضا
ثم دخلت سنة ثلاث وستين وثلثمائة
فيها في عاشوراء عملت البدعة الشنعاء على عادة الروافض ووقعت فتنة عظيمة ببغداد بين أهل السنة والرافضة وكلا الفريقين قليل عقل أو عديمه بعيد عن السداد وذلك أن جماعة من أهل السنة أركبوا امرأة وسموها عائشة وتسمى بعضهم بطلحة وبعضهم بالزبير وقال نقاتل أصحاب علي فقتل بسبب ذلك الفريقين خلق كثير وعاث العيارون في البلد فسادا ونهبت الأموال ثم أخذ جماعة منهم فقتلوا وصلبوا فسكنت الفتنة وفيها أخذ بختيار بن معز الدولة الموصل وزوج ابنته بابن أبي تغلب بن حمدان وفيها وقعت الفتنة بالبصرة بين الديالم والأتراك فقويت الديالم على الترك بسبب أن الملك فيهم فقتلوا منهم خلقا كثيرا وحبسوا رؤسهم ونهبوا كثيرا من أموالهم وكمتب عزالدولة إلى أهله إني سأكتب إليكم أني قدمت فإذا وصل إليكم الكتاب فأظهروا النوح واجلسوا للعزاء فإذا جاء سبكتكين للعزاء فاقبضوا عليه فإنه ركن الأتراك ورأسهم فلما جاء الكتاب إلى بغداد بذلك أظهروا النوح وجلسوا للعزاء ففهم سبكتكين أن هذه مكيدة فلم يقربهم وتحقق العدواة بينه وبين عزالدولة وركب من فوره في الأتراك فحاصر دار عزالدولة يومين ثم أنزل أهله منها ونهب ما فيها وأحدرهم إلى دجلة وإلى واسط منفيين وكان قد عزم على إرسال الخليفة المطيع معم فتوسل إليه الخليفة فعفا عنه وأقره بداره وقويت شوكة سبكتكين والأتراك ببغداد ونهبت الأتراك دور الديالم وخلع سبكتكين على رؤس العامة لأنهم كانوا معه على الديلم وقويت السنة على الشيعة وأحرقوا الكرخ لأنه محل الرافضة ثانيا وظهرت السنة على يدي الأتراك وخلع المطيع وولي ولده على ما سنذكر إن شاء الله تعالى (11/275)
خلافة الطائع وخلع المطيع
ذكر ابن الأثير أنه لما كان الثالث عشر من ذي القعدة وقال ابن الجوزي كان ذلك يوم الثلاثاء التاسع عشر من ذي القعدة من هذه السنة خلع المطيع لله وذلك لفالج أصابه فثقل لسانه فسأله سبكتكين أن يخلع نفسه ويولي من بعده ولده الطائع فأجاب إلى ذلك فعقدت البيعة للطائع بدار الخلافة على يدي الحاجب سبكتكين وخلع أبوه المطيع بعد تسع وعشرين سنة كانت له في الخلافة ولكن تعوض بولاية ولده واسم الطائع أبو بكر عبدالكريم بن المطيع أبي القاسم ولم يل الخلافة من اسمه عبدالركيم سواه ولا من أبوه حي سواه ولا من كنيته أبو بكر سواه وسوى أبي بكر الصديق رضي الله عنه ولم يل الخلافة من بني العباس أسن منه كان عمره لما تولى ثمانيا وأربعين سنة وكانت أمه أم ولد اسمها غيث تعيش يوم ولي ولما بويع ركب وعليه البردة وبين يديه سبكتكين والجيش ثم خلع من الغد على سبكتكين خلع الملوك ولقبه ناصر الدولة وعقد له الإمارة ولما كان يوم الأضحى ركب الطائع وعليه السواد فخطب الناس بعد الصلاة خطبة خفيفية حسنة وحكى ابن الجوزي في منتظمه أن المطيع لله كان يسمى بعد خلعه بالشيخ الفاضل
الحرب بين المعز الفاطمي والحسين
لما استقر المعز الفاطمي بالديار المصرية وابتنى فيها القاهرة والقصرين وتأكد ملكه سار إليه الحسين بن أحمد القرمطي من الأحساه في جمع كثيف من أصحابه والتف معه أمير العرب ببلاد الشام وهو حسان بن الجراح الطائي في عرب الشام بكمالهم فلما سمع بهم المعز الفاطمي أسقط في يده لكثرتهم وكتب إلى القرمطي يستميله ويقول إنما دعوة آبائك كانت إلى آبائي قديما فدعوتنا واحدة ويذكر فيه فضله وفضل آبائه فرد عليه الجواب وصل كتابك الذي كثر تفضيله وقل تحصيله ونحن سائرون إليك على إثره والسلام فلما انتهوا إلى ديار مصر عانوا فيها قتلا ونهبا وفسادا وحار المعز فيما يصنع وضعف جيشه عن مقاومتهم فعدل إلى المكيدة والخديعة فراسل حسان بن الجراح أمير العرب ووعده بمائة ألف دينار إن هو خذل بين الناس فبعث إليه حسان يقول أن ابعث إلى بما التزمت وتعال بمن معك فإذا لقيتنا انهزمت بمن معي فلا يبقى للقرمطي قوة تأخذه كيف شئت فأرسل إليه بمائة ألف دينار في أكياسها ولكن أكثرها زغل ضرب النحاس وألبسه ذهبا وجعله في أسفل الأكياس وجعل في رؤسها الدنانير الخالصة ولما بعثها إليه ركب في إثرها في جيشه فالتقى الناس فانهزم حسان بمن معه فضعف جانب القرمطي وقوى عليه الفاطمي فكسره وانهزمت القرامطة ورجعوا إلى أذرعات في أذل حال وأرذله وبعث المعز في آثارهم القائد أبا محمود بن إبراهيم في عشرة آلاف فارس ليحسم مادة القرامطة ويطفئ نارهم عنه (11/276)
المعز الفاطمي ينتزع دمشق من القرامطة
لما انهزم القرمطي بعث المعز سرية وأمر عليهم ظالم بن موهوب العقيلي فجاؤا إلى دمشق فتسلمها من القرامطة بعد حصار شديد واعتقل متوليها أبا الهيجاء القرمطي وابنه واعتقل رجلا يقال له أبو بكر من أهل نابلس كان يتكلم في الفاطميين ويقول لو كان معي عشرة أسهم لرميت الروم بواحد رميت الفاطميين بتسعة فأمر به فسلخ بين يدي المعز وحشي جلده تبنا وصلب بعد ذلك ولما تفرغ أبو محمود القائد من قتال القرامطة أقبل نحو دمشق فخرج إليه ظالم بن موهوب فتلقاه إلى ظاهر البلد وأكرمه وأنزله ظاهر دمشق فأفسد أصحابه في الغوطة ونهبوا الفلاحين وقطعوا الطرقات فتحول أهل الغوطة إلى البلد من كثرة النهب وجيء بجماعة من القتلى فألقوا فكثر الضجيج وغلقت الأسواق واجتمعت العامة للقتال والتقوا مع المغاربة فقتل من الفريقين جماعة وانهزمت العامة غير مرة وأحرقت المغاربة ناحية باب الفراديس فاحترق شيء كثير من الأموال والدور وطال القتال بينهم إلى سنة أربع وستين وأحرقت البلد مرة أخرى بعد عزل ظالم بن موهوب وتولية جيش بن صمصامة بن أخت أبي محمود قبحه الله وقطعت القنوات وسائر المياه عن البلد ومات كثير من الفقراء في الطرقات من الجوع والعطش ولم يزل الحال كذلك حتى ولي عليهم الطواشي ريان الخادم من جهة المعز الفاطمي فسكنت النفوس ولله الحمد فصل ولما قويت الأتراك ببغداد تحير بختيار بن معز الدولة في أمره وهو مقيم بالأهواز لا يستطيع الدخول إلى بغداد فأرسل إلى عمه ركن الدولة يستنجده فأرسل إليه بعسكر مع وزيره أبي الفتح بن العميد وأرسل إلى ابن عمه عضد الدولة بن ركن الدولة فأبطأ عليه وأرسل إلى عمران بن شاهين فلم يجبه وأرسل إلى أبي تغلب بن حمدان فأظهر نصره وإنما يريد في الباطن أخذ بغداد وخرجت الأتراك من بغداد في جحفل عظيم ومعهم الخليفة المطيع وابوه فلما انتهوا إلى واسط توفي المطيع وبعد أيام توفي سبكتكين فحملا إلى بغداد والتف الأتراك على أمير يقال له افتكين فاجتمع شملهم والتقوا مع بختيار فضعف أمره جدا وقوى عليه ابن عمه عضد الدولة فأخذ منه ملك العراق وتمزق شمله وتفرق أمره وفيها خطب للمعز الفاطمي بالحرمين مكة والمدينة النبوية وفيها خرج طائفة من بني هلال وطائفة من العرب على الحجاج فقتلوا منهم خلقا كثيرا وعطلوا على من بقي منهم الحج في هذا العام وفيها انتهى تاريخ ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة وأوله من سنة خمس وتسعين ومائتين وهي أول دولة المقتدر وفيها كانت زلزة شديدة وبواسط وحج بالناس فيها الشريف أبو أحمد الموسوي ولم يحصل لأحد حج في هذه السنة سوى من كان معه على درب (11/277)
العراق وقد أخذ بالناس على طريق المدينة فتم حجهم وفيها توفي من الأعيان
العباس بن الحسين
أبو الفضل السراجي الوزير لعز الدولة بختيار بن معز الدولة بن بويه وكان من الناصرين للسنة المتعصبين لها عكس مخدومه فعزله وولى محمد بن بقية البابا كما تقدم وحبس هذا فقتل في محبسه في ربيع الآخر منها عن تسع وخمسين سنة وكان فيه ظلم وحيف فالله أعلم
وأبو بكر عبدالعزيز بن جعفر
الفقيه الحنبلي المعروف بغلام أحد مشاهر الحنابلة الأعيان وممن صنف وجمع وناظر وسمع الحديث من أبي القاسم البغوي وطبقته ومات وقد عدا الثمانين قال ابن الجوزي وله المقنع في مائة جزء والشافي في ثمانين جزء وزاد المسافر والخلاف مع الشاعي وكتاب القولين ومختصر السنة وغير ذلك في التفسير والأصول
علي بن محمد
أبو الفتح البستي الشاعر المشهور له ديوان جيد قوى وله في المطابقة والمجانسة اليد الطولى ومبتكرات أولى وقد ذكر ابن الجوزي له في منتظمه من ذلك قطعه كبيرة مرتبة على حروف المعجم من ذلك قوله ... إذا قنعت بميسور من القوت ... بقيت في الناس حرا غير ممقوت ... يا قوت يومي إذا مادر خلفك لي ... فلست آسي على در وياقوت ... وقوله ... يا أيها السائل عن مذهبي ... ليقتدي فيه بمنهاجي ... منهاجي الحق وقمع الهوى ... فهل لمنهاجي من هاجي ... وقوله ... افد طبعك المكدود بالجد راحة ... تجم وعلله بشيء من المزح ... ولكن إذا أعطيت ذلك فليكن ... بمقدار ما تعطى الطعام من الملح ...
أبو فراس بن حمدان الشاعر
له ديوان مشهور استنابه أخوه سيف الدولة على حران ومنبج فقاتل مرة الروم فأسروه ثم استنقذه سيف الدولة واتفق موته في هذه السنة عن ثمان وأربعين سنة وله شعر رائق ومعاني حسنة وقد رثاه أخوه سيف الدولة فقال ... المرء رهن مصائب لا تنقضي ... حتى يوارى جسمه في رمسه ... فمؤجل يلقى الردى في أهله ... ومعجل يلقى الأذى في نفسه ... فقلما قالهما كان عنده رجل من العرب فقال قل في معناهما فقال الأعرابي (11/278)
من يتمنى العمر فليتخذ ... صبرا على فقد أحبابه ... ومن يعمر يلق في نفسه ... ما يتمناه لأعدائه ... كذا ذكر ابن الساعي هذين البيتين من شعر سيف الدولة في أخيه أبي فراس وذكرها ابن الجوزي من شعر أبي فراس نفسه وأن الأعرابي أجازهما بالبيتين المذكورين بعدهما ومن شعر أبي فراس ... سيفقدني قومي إذا جد جدهم ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر ... ولو سد غيري ما سددت اكتفوا ... به وما فعل النسر الرفيق مع الصقر ... وقوله من قصيدة ... إلى الله أشكو إننا بمنازل ... تحكم في آسادهن كلاب ... فليتك تحلو والحياة مريرة ... وليتك ترضى والأنام غضاب ... وليت الذي بيني وبينك عامر ... وبيني وبين العالمين خراب ...
ثم دخلت سنة أربع وستن وثلثمائة
فيها جاء عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه إلى واسط ومعه وزير أبيه أبو الفتح بن العميد فهرب منه الفتكين في الأتراك إلى بغداد فسار خلفهم فنزل في الجانب الشرقي منها وأمر بختيار أن ينزل على الجانب الغربي وحصر الترك حصرا شديدا وأمر أمراء الأعراب أن يغيروا على الاطراف ويقطعوا عن بغداد الميرة الواصلة إليها فغلت الأسعار وامتنع الناس من المعاش من كثرة العيارين والنهوب وكبس الفتكين البيوت لطلب الطعام واشتد الحال ثم إلتفت الأتراك وعضد الدولة فكسرهم وهربوا إلى تكريت واستحوذ عضد الدولة على بغداد وما والاها من البلاد وكانت الترك قد أخرجوا معهم الخليفة فرده عضد الدولة إلى دار الخلافة مكرما ونزل هو بدار الملك وضعف أمر بختيار جدا ولم يبق معه شيء بالكلية فأغلق بابه وطرد الحجبة والكتاب عن بابه واستعفى عن الإمارة وكان ذلك بمشورة عضد الدولة فاستعطفه عضد الدولة في الظاهر وقد أشار عليه في الباطن أن لا يقبل فلم يقبل وترددت الرسل بينهما فصمم بختيار على الامتناع ظاهرا فألزم عضد الدولة بذلك وأظهر للناس أنه إنما يفعل هذا عجزا منه عن القيام بأعباء الملك فأمر بالقبض على بختيار وعلى أهله وإخوته ففرح بذلك الخليفة الطائع وأظهر عضد الدولة من تعظيم الخلافة ما كان دارسا وجدد دار الخلافة حتى صار كل محل منها آنسا وأرسل إلى الخليفة بالأموال والأمتعة الحسنة العزيزة وقتل المفسدين من مردة الترك وشطار العيارين قال ابن الجوزي وفي هذه السنة عظم البلاء بالعيارين ببغداد وأحرقوا سوق باب الشعير وأخذوا أموالا كثيرة وركبوا الخيول وتلقبوا بالقواد وأخذوا الخفر من الأسواق والدروب (11/279)
وعظمت المحنة بهم جدا واستفحل أمرهم حتى أن رجلا منهم أسود كان مستضعفا نجم فيهم وكثر ماله حتى اشترى جارية بالف دينار فلما حصلت عنده حاولها عن نفسها فأبت عليه فقال لها ماذا تكرهين مني قالت أكرهك كلك فقال فما تحبين فقالت تبيعني فقال أو خير من ذلك فحملها إلى القاضي فأعتقها وأعطاها ألف دينار وأطلقها فتعجب الناس من حلمه وكرمه مع فسقه وقوته قال وورد الخبر في المحرم بأنه خطب للمعز الفاطمي بمكة والمدينة في الموسم ولم يخطب للطائع قال وفي رجب منها غلت الأسعار ببغداد حتى بيع الكر الدقيق الحواري بمائة ونيف وسبعين دينارا قال وفيها اضمحل أمر عضد الدولة بن بويه وتفرق جنده عنده ولم يبق معه سوى بغداد وحدها فأرسل إلى أبيه يشكو له ذلك فأرسل يلومه على الغدر بابن عمه بختيار فلما بلغه ذلك خرج من بغداد إلى فارس بعد أن أخرج ابن عمه من السجن وخلع عليه وأعاده إلى ما كان عليه وشرط عليه أن يكون نائبا له بالعراق يخطب له بها وجعل معه أخاه أبا إسحاق أمير الجيوش لضعف بختيار عن تدبير الأمور واستمر ذاهبا إلى بلاده وذلك كله عن أمر أبيه له بذلك وغضبه عليه بسبب غدره بابن عمه وتكرار مكاتباته فيه إليه ولما سار ترك بعده وزير أبيه أبا الفتح بن العميد ولما استقر عزالدولة بختيار ببغداد وملك العراق لم يف لابن عمه عضد الدولة بشيء مما قال ولا ما كان التزم بل تمادى على ضلاله القديم واستمر على مشيه الذي هو غير مستقيم من الرفض وغيره قال وفي يوم الخميس لعشر خلون من ذي القعدة تزوج الخليفة الطائع شاه باز بنت عزالدولة على صداق مائة ألف دينار وفي سلخ ذي القعدة عزل القاضي أبو الحسن محمد بن صالح بن أم شيبان وقلده أبو محمد معروف وإمام الحج فيها أصحاب الفاطمي وخطب له بالحرمين دون الطائع والله سبحانه أعلم
ذكر أخذ دمشق من أيدي الفاطميين
ذكر ابن الأثير في كامله أن الفتكين غلام معز الدولة الذي كان قد خرج عن طاعته كما تقدم والتف عليه عساكر وجيوش من الديلم والترك والأعراب نزل في هذه السنة على دمشق وكان عليها من جهة الفاطميين ريان الخادم فلما نزل بظاهرها خرج إليه كبراء أهلها وشيوخها فذكروا له ما هم فيه من الظلم والغشم ومخالفة الاعتقاد بسبب الفاطميين وسألوه أن يصمم على أخذها ليستنقذها منهم فعند ذلك صمم على أخذها ولم يزل حتى اخذها وأخرج منها ريان الخادم وكسر أهل الشر بها ورفع أهل الخير ووضع في أهلها العدل وقمع أهل اللعب واللهو وكف أيدي الأعراب الذين كانوا قد عاثوا في الأرض فسادا وأخذوا عامة المرج والغوطة ونهبوا أهلها ولما استقامت الأمور على يديه وصلح أمر أهل الشام كتب إليه المعز الفاطمي يشكر سعيه ويطلبه إليه (11/280)
ليخلع عليه ويجعله نائبا من جهته فلم يجبه إلى ذلك بل قطع خطبته من الشام وخطب للطائع العباسي ثم قصد صيدا وبها خلق من المغاربة عليهم ابن الشيخ وفيهم ظالم بن موهوب العقيلي الذي كان نائبا على دمشق للمعز الفاطمي فأساء بهم السيرة فحاصرهم ولم يزل حتى أخذ البلد منهم وقتل منهم نحوا من أربعة آلاف من سراتهم ثم قصد طبرية ففعل بأهلها مثل ذلك فعند ذلك عزم المعز الفاطمي على المسير إليه فبينما هو يجمع له العساكر إذ توفي المعز في سنة خمسن وستين كما سيأتي وقام بعده ولده العزيز فاطمأن عند ذلك الفتكين بالشام واستفحل أمره وقويت شوكته ثم اتفق أمر المصريين على أن يبعثوا جوهرا القائد لقتاله وأخذ الشام من يده فعند ذلك حلف أهل الشام لأفتكين أنهم معه على الفاطميين وأنهم ناصحون له غير تاركيه وجاء جوهر فجصر دمشق سبعة أشهر حصرا شديدا ورأى من شجاعة الفتكين ما بهره فلما طال الحال أشار من أشار من الدماشقة على الفتكين أن يكتب إلى الحسين بن أحمد القرمطي وهو بالحساء ليجيء إليه فلما كتب إليه أقبل لنصره فلما سمع به جوهر لم يمكنه أن يبقى بين عدوين من داخل البلد وخارجها فارتحل قاصدا الرملة فتبعه الفتكين والقرمطي في نحو من خمسين ألفا فتواقعوا عند نهر الطواحين على ثلاث فراسخ من الرملة وحصروا جوهرا بالرملة فضاق حاله جدا من قلة الطعام والشراب حتى أشرف هو ومن معه على الهلاك فسأل من الفتكين على أن يجتمع هو وهو على ظهور الخيل فأجابه إلى ذلك فلم يزل يترفق له أن يطلقه حتى يذهب بمن معه من أصحابه إلى أستاذه شاكرا له مثنيا عليه الخير ولا يسمع من القرمطي فيه وكان جوهر داهية فأجابه إلى ذلك فندمه القرمطي وقال الرأي أنا كنا نحصرهم حتى يموتوا عن آخرهم فإنه يذهب إلى أستاذه ثم بجمع العساكر ويأتينا ولا طاقة لنا به وكان الأمر كما قال فإنه لما أطلقه الفتكين من الحصر لم يكن له دأب إلا أنه حث العزيز على الخروج إلى الفتكين بنفسه فأقبل في جحافل أمثال الجبال وفي كثرة من الرجال والعدد والأثقال والأموال وعلى مقدمته جوهر القائد وجمع الفتكين والقرمطي الجيوش والأعراب وساروا إلى الرملة فاقتتلوا في محرم سنة سبع وستين ولما تواجهوا رأي العزيز من شجاعة الفتكين ما بهره فأرسل إليه يعرض عليه إن أطاعه ورجع إليه أن يجعله مقدم عساكره وأن يحسن إليه غاية الإحسان فترجل افتكين عن فرسه بين الصفين وقبل الأرض نحو العزيز وأرسل إليه يقول لو كان هذا القول سبق قبل هذا الحال لأمكنني وسارعت وأطعت وأما الآن فلا ثم ركب فرسه وحمل على ميسرة العزيز ففرق شملها وبدد خيلها ورجلها فبرز عند ذلك العزيز من القلب وأمر الميمنة فحملت حملة صادقة فانهزم القرمطي وتبعه بقية الشاميين وركبت المغاربة أقفيتهم يقتلون ويأسرون من شاؤوا وتحول العزيز فنزل خيام الشاميين بمن معه وأرسل السرايا وراءهم (11/281)
وجعل لا يؤتى بأسير إلا خلع على من جاء به وجعل لمن جاءه الفتكين مائة ألف دينار فاتفق أن الفتكين عطش عطشا شديدا فاجتاز بمفرج بن دغفل وكان صاحبه فاستسقاه فسقاه وأنزله عنده في بيوته وأرسل إلى العزيز يخبره بأن طلبته عنده فليحمل المال إلى وليأخذ غريمه فأرسل إليه بمائة ألف دينار وجاء من تسمله منه فلما أحيط بالفتكين لم يشك أنه مقتول فما هو إلا أن حضر عند العزيز أكرمه غاية الإكرام ورد إليه حواصله وأمواله لم يفقد منها شيئا وجعله من أخص أصحابه وأمرائه وأنزله إلى جانب منزله ورجع به إلى الديار المصرية مكرما معظما وأقطعه هنالك اقطاعات جزيلة وأرسل إلى القرمطي أن يقدم عليه ويكرمه كما أكرم الفتكين فامتنع عليه وخاف منه فأرسل إليه بعشرين ألف دينار وجعلها له عليه في كل سنة يكف بها شره ولم يزل الفتكين مكرما عند العزير حتى وقع بينه وبين الوزير ابن كلس فعمل عليه حتى سقاه سما فمات وحين علم العزيز بذلك غضب على الوزير وحبسه بضعا وأربعين يوما وأخذ منه خمسمائة ألف دينار ثم رأى أن لا عنى به عنه فأعاده إلى الوزارة وهذا ملخص ما ذكره ابن الأثير وفيها توفي من الأعيان
سبكتكين الحاجب التركي
مولى المعز الديلمي وحاجبه وقد ترقى في المراتب حتى آل به الأمر إلى أن قلده الطائع الإمارة وخلع عليه وأعطاه اللواء ولقبه بنور الدولة وكانت مدة أيامه في هذا المقام شهرين وثلاثة عشر يوما ودفن ببغداد وداره هي دار الملك ببغداد وهي دار عظيمة جدا وقد اتفق له أنه سقط مرة عن فرسه فانكسر صلبه فداواه الطبيب حتى استقام ظهره وقدر على الصلاة إلا أنه لا يستطيع الركوع فأعطاه شيئا كثيرا من الأموال وكان يقول للطبيب إذا ذكرت وجعي ومداواتك لي لا أقدر على مكافأتك ولكن إذا تذكرت وضعك قدميك على ظهري اشتد غضبي منك توفي ليلة الثلاثاء لسبع بقين من المحرم منها وقد ترك من الأموال شيئا كثيرا جدا من ذلك ألف ألف دينار وعشرة آلاف ألف درهم وصندوقان من جوهر وخمسة عشر صندوقا من البلور وخمسة وأربعين صندوقا من آنية الذهب ومائة وثلاثون كوكبا من ذهب منها خمسون وزن كل واحد ألف دينار وستمائة مركب من فضة وأربعة آلاف ثوب من ديباج وعشرة آلاف ديبقي وعتابي وثلثمائة عدل معكومة من الفرش وثلاثة آلاف فرس والف جمل وثلثمائة غلام وأربعون خادما وذلك غير ما أدوع عند أبي بكر البزار وكان صاحبه
ثم دخلت سنة خمس وستين وثلثمائة
فيها قسم ركن الدولة بن بويه ممالكه بين أولاده عند ما كبرت سنه فجعل لولده عضد الدولة بلاد فارس وكرمان وأرجان ولولده مؤيد الدولة الرى وأصبهان ولفخر الدولة همدان والدينور (11/282)
وجعل ولده أبا العباس في كنف عضد الدولة وأوصاه به وفيها جلس قاضي القضاة ببغداد أبو محمد ابن معروف في دار عزالدولة لفصل الحكومات عن أمره له بذلك فحكم بين يديه بين الناس وفيها حج بالناس أمير المصريين من جهة العزيزالفاطمي بعد ما حاصر أهل مكة ولقوا شدة عظيمة غلت الأسعار بها جدا وفيها ذكر ابن الأثير أن يوسف بلكين نائب المعز الفاطمي على بلاد إفريقية ذهب إلى سبتة فأشرف عليها من جبل فطل عليها فحعل يتأمل من أين يحاصرها فحاصرها نصف يوم فخافه أهلها خوفا شديدا ثم انصرف عنها إلى مدينة هنالك يقال لها بصرة في المغرب فأمر بهدمها ونهبها ثم سار إلى مدينة برغواطة وبها رجل يقال له عيسى بن أم الأنصار وهو ملكها وقد اشتدت المحنة به لسحره وشعبذته وادعى أنه نبي فأطاعوه ووضع لهم شريعة يقتدون بها فقاتلهم بلكين فهزمهم وقتل هذا الفاجر ونهب أموالهم وسبى ذراريهم فلم ير سبي أحسن أشكالا منهم فيما ذكره أهل تلك البلاد في ذلك الزمان وممن توفي فيها من الأعيان
أحمد بن جعفر بن محمد بن مسلم
أبو بكر الحنبلي له مسند كبير روى عن عبدالله بن أحمد بن حنبل وأبي محمد الكجي وخلق وروى عنه الدارقطني وغيره وكان ثقة وقد قارب التسعين
ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة الصابي الؤرخ فيما ذكره ابن الأثير في الكامل
الحسين بن محمد بن أحمد
أبو علي الماسرجسي الحافظ رحل وسمع الكثير وصنف مسندا في ألف وثلثمائة جزء بطرقه وعلله وله المغازي والقبائل وخرج على الصحيح وغيره قال ابن الجوزي وفي بيته وسلفه تسعة عشر محدثا توفي في رجب منها
أبو أحمد بن عدي الحافظ
أبو عبدالله بن محمد بن أبي أحمد الجرجاني أبو أحمد بن عدي الحافظ الكبير المفيد الإمام العالم الجوال النقال الرحال له كتاب الكامل في الجرح والتعديل لم يسبق إلى مثله ولم يلحق في شكله قال حمزة عن الداقطني فيه كفاية لا يزاد عليه ولد أبو أحمد بن عدي في سنة سبع وسبعين ومائتين وهي السنة التي توفي فيها أبو حاتم الرازي وتوفي ابن عدي في جمادى الآخرة من هذه السنة
المعز الفاطمي باني القاهرة معد بن إسماعيل بن سعيد بن عبدالله أبو تميم المدعي أنه فاطمي صاحب الديار المصرية وهو أول من ملكها من الفاطميين وكان أول ملكا ببلاد إفريقية وما والاها من بلاد المغرب فلما كان في سنة ثمان وخمسين وثلثمائة بعث بين يديه جوهرا القائد فأخذ له بلاد مصر من (11/283)
كافور الأخشيدي بعد حروب تقدم ذكرها واستقرت أيدي الفاطميين عليها فبنى بها القاهرة وبنى منزل الملك وهما القصران ثم أقام جوهر الخطبة للمعز الفاطمي في سنة ثنتين وستين وثلثمائة ثم قدم المعز بعد ذلك ومعه جحافل من الجيوش وأمراء من المغاربة والأكابر وحين نزل الاسكندرية تلقاه وجوه الناس فخطبهم بها خطبة بليغة ادعى فيها أنه ينصف المظلوم من الظالم وافتخر فيها بنسبه وأن الله قد رحم الأمة بهم وهو مع ذلك متلبس بالرفض ظاهرا وباطنا كما قاله القاضي الباقلاني إن مذهبهم الكفر المحض وأعتقادهم الرفض وكذلك أهل دولته ومن أطاعه ونصره ووالاه قبحهم الله وإياه وقد أحضر إلى بين يديه الزاهد العابد الورع الناسك التقي أبو بكر النابلسي فقال له المعز بلغني عنك أنك قلت لو أن معي عشرة أسهم لرميت الروم بتسعة ورميت المصريين بسهم فقال ما قلت هذا فظن أنه رجع عن قوله فقال كيف قلت قال قلت ينبغي أن نرميكم بتسعة ثم نرميهم بالعاشر وقال ولم قال لأنكم غيرتم دين الأمة وقتلتم الصالحين وأطفأتم نور الإلهية وادعيتم ما لبس لكم فأمر باشهاره في أول يوم ثم ضرب في اليوم الثاني بالسياط ضربا شديدا مبرحا ثم أمر بسلخه في اليوم الثالث فجيء بيهودي فجعل يسلخه وهو يقرأ القرآن قال اليهودي فأخذتني رقة عليه فلما بلغت تلقاء قلبه طعنته بالسكين فمات رحمه الله فكان يقال له الشهيد وإليه ينسب بنو الشهيد من أهل نابلس إلى اليوم ولم تزل فيهم بقايا خير وقد كان المعز قبحه الله فيه شهامة وقوة حزم وشدة عزم وله سياسة وكلن يظهر أنه يعدل وينصر الحق ولكنه كان مع ذلك منجما يعتمد على حركات النجوم قال له منجمه إن عليك قطعا أي خوفا في هذه السنة فتوار عن وجه الأرض حتى تنقضي هذه المدة فعمل له سردابا وأحضر الأمراء وأوصاهم بولده نزار ولقبه العزيز وفوض إليه الأمر حتى يعود إليهم فبايعوه على ذلك ودخل المعز ذلك السرداب فتوارى فيه سنة فكانت المغاربة إذا راوا سحابا ترجل الفارس منهم له عن فرسه وأومأ إليه بالسلام ظانين أن المعز ذلك الغمام ( فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين ) ثم برز إليهم بعد سنة وجلس في مقام الملك وحكم على عادته أياما ولم تطل مدته بل عاجله القضاء المحتوم ونال رزقه المقسوم فكانت وفاته في هذه السنة وكانت أيامه في الملك قبل أن يملك مصر وبعد ما ملكها ثلاثا وعشرين سنة وخمسة أشهر وعشرة أيام منها بمصر سنتان وتسعة أشهر والباقي ببلاد المغرب وجملة عمره كلها خمسة وأربعون سنة وستة أشهر لأنه ولد بإفريقية في عاشر رمضان سنة تسع عشرة وثلثمائة وكانت وفاته بمصر في اليوم السابع عشر من ربيع الآخر سنة خمس وستين وثلثمائة وهي هذه السنة
ثم دخلت سنة ست وستين وثلثمائة
فيها توفي ركن الدولة بن علي بن بويه وقد جاوز التسعين سنة وكانت أيام ولايته نيفا وأربعين (11/284)
سنة وقبل موته بسنة قسم ملكه بين أولاده كما ذكرنا وقد عمل ابن العميد مرة ضيافة في داره وكانت حافلة حضرها ركن الدولة وبنوه وأعيان الدولة فعهد ركن الدولة في هذا اليوم إلى ابنه عضد الدولة وخلع عضد الدولة على إخوته وسائر الأمراء الأفبية والأكسية على عادة الديلم وحفوه بالريحان على عادتهم أيضا وكان يوما مشهودا وقد كان ركن الدولة قد أسن وكبر وتوفي بعد هذه الوليمة بقليل في هذه السنة وكان حليما وقورا كثير الصدقات محبا للعلماء فيه بر وكرم وإيثار وحسن عشرة ورياسة وحنو على الرعية وعلى أقاربه وحين تمكن ابنه عضد الدولة قصد العراق ليأخذها من ابن عمه بختيار لسوء سيرته ورداءة سريرته فالتقوا في هذه السنة بالأهواز فهزمه عضد الدولة وأخذ أثقاله وأمواله وبعث إلى البصرة فأخذها وأصلح بين أهلها حيي ربيعة ومضر وكان بينهما خلف متقادم من نحو مائة وعشرين سنة وكانت مضر تميل إليه وربيعة عليه ثم اتفق الحيان عليه وقويت شوكته وأذل بختيار وقبض على وزيره ابن بقية لأنه استحوذ على الأمور دونه وجبى الأموال إلى خزائنه فاستظهر عضد الدولة بما وجده في الخزائن والحواصل لابن بقية ولم يبق له منها بقية وكذلك أمر ركن الدولة بالقبض على وزير أبيه أبي الفتح بن العميد لموجدة تقدمت منه إليه وقد سلف ذكرها ولم يبق لابن العميد أيضا في الأرض بقية وقد كانت الأكابر تتقيه وقد كان ابن العميد من الفسوق والعصيان بأوفر مكان فخانته المقادير ونزل به غضب السلطان ونحن نعوذ بالله من غضب الرحمن وفي منتصف شوال منها توفي الأمير منصور بن نوح الساماني صاحب بلاد خراسان وبخارى وغيرهما وكانت ولايته خمس عشر سنة وقام بالأمر من بعده ولده أبو القاسم نوح وكان عمره إذ ذاك ثلاث عشرة سنة ولقب بالمنصور وفيها توفي الحاكم وهو المستنصر بالله بن الناصر لدين الله عبدالرحمن الأموي وقد كان هذا من خيار الملوك وعلمائهم وكان عالما بالفقه والخلاف والتواريخ محبا للعلماء محسنا إليهم توفي وله من العمر ثلاث وستون سنة وسبعة أشهر ومدة خلافته منها خمسة عشر سنة وخمسة أشهر وقام بالأمر من بعده ولده هشام وله عشر سنين ولقب بالمؤيد بالله وقد اختلف عليه في أيامه واضطربت الرعايا عليه وحبس مدة ثم أخرج وأعيد إلى الخلافة وقام بأعباء أمره حاجبه المنصور أبو عامر محمد بن أبي عامر المعافري وابناه المظفر والناصر فساسوا الرعايا جيدا وعدلا فيهم وغزوا الأعداء واستمر لهم الحال كذلك نحوا من ست وعشرين سنة وقد ساق ابن الأثير هنا قطعة من أخبارهم وأطال وفيها رجع ملك حلب إلى أبي المعالي شريف بن سيف االدولة بن حمدان وذلك أنه لما مات أبوه وقام هو من بعده تغلب قرعويه مولاهم واستولى عليهم سار إليه فأخرجه منها خائفا يترقب (11/285)
ثم جاء فنزل حماه وكانت الروم قد خربت حمص فسعى في عمارتها وترميمها وسكنها ثم لما اختلفت الأمور على قرعويه كتب أهل حلب إلى أبي المعالي هذا وهو بحمص أن يأتيهم فسار إليهم فحاصر حلب أربعة أشهر فافتتحها وامتنعت منه القلعة وقد تحصن بها نكجور ثم اصطلح مع أبي المعالي على أن يؤمنه على نفسه ويستنيبه بحمص ثم انتقل إلى نيابة دمشق وإليه تنسب هذه المزرعة ظاهر دمشق التي تعرف بالقصر النكجوري
ابتداء ملك بني سبكتكين
والد محمود صاحب غزنة وقد كان سبكتكين مولى الأمير أبي إسحاق بن البتكين صاحب جيش غزنة وأعمالها للسامانية وليس هذا بحاجب معز الدولة ذاك توفي قبل هذه السنة كما تقدم وأما هذا فإنه لما مات مولاه لم يترك أحدا يصلح للملك من بعده لا من ولده ولا من قومه فاصطلح الجيش على مبايعة سبكتكين هذا لصلاحه فيهم وخيره وحسن سيرته وكمال عقله وشجاعته وديانته فاستقر الملك في يده واستمر من بعده في ولده السعيد محمود بن سبكتكين وقد غزا هذا بلاد الهند وفتح شيئا كثيرا من حصونهم وغنم أموالا كثيرة وكسر من أصنامهم ونذورهم أمرا هائلا وباشر من معه من الجيوش حربا عظيمة هائلة وقد قصده جيبال ملك الهند الأعظم بنفسه وجنوده التي تعم السهول والجبال فكسره مرتين وردهم إلى بلادهم في أسوأ حال وأردأ بال وذكر ابن الأثير في كامله أن سبكتكين لما التقي مع جيبال ملك الهند في بعض الغزوات كان بالقرب منهم عين في عقبة باغورك وكان من عادتهم أنها إذا وضعت فيها نجاسة أو قذرا كفهرت السماء وأرعدت وأبرقت وأمطرت ولا تزال كذلك حتى تظهر تلك العين من ذلك الشيء الذي القي فيها فأمر سبكتكين بالقاء نجاسة فيها وكانت قريبة من نحو العدو فلم يزالوا في رعود وبروق وأمطار وصواعق حتى ألجأهم إلى الهرب والرجوع إلى بلادهم خائبين هاربين وأرسل ملك الهند يطلب من سبكتكين الصلح فأجابه بعد امتناع من ولده محمود على مال جزيل يحمله إليه وبلاد كثيرة يسلمها إليه وخمسين فيلا ورهائن من رؤس قومه يتركها عنده حتى يقوم بما التزمه من ذلك وفيها توفي
أبو يعقوب يوسف
ابن الحسين الجنابي صاحب هجر ومقدم القرامطة وقامم بالأمر من بعده ستة من قومه وكانوا يسمون بالسادة وقد اتفقوا على تدبير الأمر من بعده ولم يختلفوا فمشى حالهم وفيها كانت وفاة
الحسين بن أحمد
ابن أبي سعيد الجنابي أبو محمد القرمطي قال ابن عساكر واسم أبي سعيد الحسين بن بهرام ويقال ابن أحمد يقال أصلهم من الفرس وقد تغلب هذا على الشام في سنة سبع وخمسين وثلثمائة ثم عاد (11/286)
إلى الاحساء بعد سنة ثم عاد إلى دمشق في سنة ستين وكسر جيش جعفر بن فلاح أول من ناب بالشام عن المعز الفاطمي وقتله ثم توجه إلى مصر فحاصرها في مستهل ربيع الأول من سنة إحدى وستين واستمر محاصرها شهورا وقد كان استخلف على دمشق ظالم بن موهوب ثم عاد إلى الاحساء ثم رجع إلى الرملة فتوفي بها في هذه السنة وقد جاوز التسعين وهو يظهر طاعة عبدالكريم الطائع لله العباسي وقد أورد له ابن عساكر أشعارا رائقة من ذلك ما كتب به إلى جعفر بن فلاح قبل وقوع الحرب بينهما وهي من أفحل الشعر ... الكتب معذرة والرسل مخبرة ... والحق متبع والخير محمود ... والحرب ساكنة والخيل صافنة ... والسلم مبتذل والظل ممدود ... فإن أنبتم فمقبول إنابتكم ... وإن أبيتم فهذا الكور مشدود ... على ظهرور المنايا أو يردن بنا ... دمشق والباب مسدود ومردود ... إني امرؤ ليس من شأني ولا أربى ... طبل يرن ولا ناي ولا عود ... ولا اعتكاف على خمر ومخمرة ... وذات دل لها غنج وتفنيد ... ولا أبيت بطين البطن من شبع ... ولي رفيق خميص البطن مجهود ... ولا تسامت بي الدنيا إلى طمع ... يوما ولا غرني فيها المواعيد ... ومن شعره أيضا ... يا سكان البلد المنيف تعززا ... بقلاعه وحصونه وكهوفه ... لا عز إلا للعزيز بنفسه ... وبخيله وبرجله وسيوفه ... وبقية بيضاء قد ضربت على ... شرف الخيام بحاره وضيوفه ... قوم إذا اشتد الوغا أردى العدا ... وشفى النفوس بضربه وزحوفه ... لم يجعل الشرف التليد لنفسه ... حتى أفاد تليده بطريفة ... وفيها تملك قابوس بن وشمكير بلاد جرجان وطبرستان وتلك النواحي وفيها دخل الخليفة الطائع بشاه بار بنت عزالدولة بن بويه وكان عرسا حافلا وفيها حجت جميلة بنت ناصر الدولة بن حمدان في تجمل عظيم حتى كان يضرب المثل بحجها وذلك أنها عملت أربعمائة محمل وكان لا يدري في أيها هي ولما وصلت إلى الكعبة نثرت عشرة آلاف دينار على الفقراء والمجاورين وكست المجاورين بالحرمين كلهم وأنفقت أموالا جزيلة في ذهابها وإيابها وحج بالناس من العراق الشريف أحمد بن الحسين بن محمد العلوي وكذلك حج بالناس إلى سنة ثمانين وثلثمائة وكانت الخطبة بالحرمين في هذه السنة للفاطميين أصحاب مصر دون العباسيين (11/287)
وممن توفي فيها من الأعيان
إسماعيل بن نجيد
ابن أحمد بن يوسف أبو عمرو السلمي صحب الجنيد وغيره وروى الحديث وكان ثقة ومن جيد كلامه قوله من لم تهدك رؤيته فليس بمهذب وقد احتاج شيخه أبو عثمان مرة إلى شيء فسأل أصصحابه فيه فجاءه ابن نجيد بكيس فيه ألفا درهم فقبضه منه وجعل يشكره إلى أصحابه فقال له ابن نجيد بين أصحابه يا سيدي إن المال الذي دفعته إليك كان من مال امي أخذته وهي كارهة فأنا أحب أن ترده إلي حتى أرده إليها فأعطاه اياه فلما كان الليل جاء به وقال أحب أن تصرفها في أمرك ولا تذكرها لأحد فكان أبو عثمان يقول أنا أجتني من همة أبي عمرو بن نجيد رحمهم الله تعالى
الحسن بن بويه
أبو علي ركن الدولة عرض له قولنج فمات في لية السبت الثامن والعشرين من المحرم منها وكانت مدة ولايته اربعا وأربعين سنة وشهرا وتسعة أيام ومدة عمره ثمان وسبعون سنة وكان حليما كريما
محمد بن إسحاق
ابن إبراهيم بن أفلح بن رافع بن رافع بن إبراهيم بن أفلح بن عبدالرحمن بن رفاعة بن رافع أبو الحسن الأنصاري الزرقي كان نقيب الانصار وقد سمع الحديث من أبي القاسم البغوي وغيره وكان ثقة يعرف أيام الأنصار ومناقبهم وكانت وفاته في جمادى الآخرة منها
محمد بن الحسن
ابن أحمد بن إسماعيل أبو الحسن السراج سمع يوسف بن يعقوب القاضي وغيره وكان شديد الاجتهاد في العبادة صلى حتى أقعد وبكى حتى عمي توفي يوم عاشوراء منها
القاضي منذر البلوطي
رحمه الله قاضي قضاة الأندلس كان إماما عالما فصيحا خطيبا شاعرا أديبا كثير الفضل جامعا لصنوف من الخير والتقوى والزهد وله مصنفات واختيارات منها أن الجنة التي سكنها آدم وأهبط منها كانت في الأرض وليست بالجنة التي أعدها الله لعباده في الآخرة وله في ذلك مصنف مفرد له وقع في النفوس وعليه حلاوة وطلاوة دخل يوما على الناصر لدين الله عبدالرحمن الاموي وقد فرغ من بناء المدينة الزهراء وقصورها وقد بنى له فيها قصر عظيم منيف وقد زخرف بأنواع الدهانات وكسى الستور وجلس عنده رؤس دولته وأمراؤه فجاء القاضي فجلس إلى جانبه وجعل الحاضرون يثنون على ذلك البناء ويمدحونه والقاضي ساكت لا يتكلم فالتفت إليه الملك وقال ما تقول أنت يا أبا الحكم فبكى القاضي وانحدرت دموعه على لحيته وقال ما كنت أظن أن الشيطان أخزاه الله يبلغ منك هذا المبلغ المفضح المهلك المهلكم لصاحبه في الدنيا والآخرة ولا أنك تمكنه (11/288)
من قيادك مع ما آتاك الله وفضلك به على كثير من الناس حتى أنزلك منازل الكافرين والفاسقين قال الله تعالى ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون ولبيوتهم ابوابا وسررا عليها يتكئون وزخرفا الآية قال فوجم الملك عند ذلك وبكى وقال جزاك الله خيرا وأكثر في المسلمين مثلك وقد قحط في بعض السنين فأمره الملك أن يستسقي للناس فلما جاءته الرسالة مع البريد قال للرسول كيف تركت الملك فقال تركته أخشع ما يكون وأكثره دعاء وتضرعا فقال القاضي سقيتم والله إذا خشع جبار الأرض رحم جبار السماء ثم قال لغلامه ناد في الناس الصلاة فجاء الناس إلى محل الاستسقاء وجاء القاضي منذر فصعد المنبر والناس ينظرون إليه ويسمعون ما يقول فلما أقبل عليهم كان أول ما خاطبهم به قال سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم ثم أعادها مرارا فأخذ الناس في البكاء والنحيب والتوبة والانابة فلم يزالوا كذلك حتى سقوا ورجعوا يخوضون الماء
أبو الحسن علي بن أحمد
ابن المرزبان الفقيه الشافعي تفقه بأبي الحسين بن القطان وأخذ عنه الشيخ أبو حامد الاسفراييني قال ابن خلكان كان ورعا زاهدا ليس لأحد عنده مظلمة وله في المذهب وجه وكان له درس ببغداد توفي في رجب منها
ثم دخلت سنة سبع وستين وثلثمائة
فيها دخل عضدالدولة إلى بغداد وخرج منها عزالدولة بختيار واتبعه عضدالدولة وأخذ معه الخليفة فاستعفاه فأعفاه وسار عضدالدولة وراءه فأخذه أسيرا ثم قتل سريعا وتصرمت دولته واستقر أمر عضد الدولة ببغداد وخلع عليه الخليفة الخلع السنية والأسورة والطوق وأعطاه لواءين أحدهما ذهب والآخر فضة ولم يكن هذا لغيره إلا لأولياء العهد وأرسل إليه خليفة بتحف سنية وبعث عضدالدولة إلى الخليفة أموالا جزيلة من الذهب والفضة واستقرت يده على بغداد وما والاها من البلاد وزلزلت بغداد مرارا في هذه السنة وزادت دجلة زيادة كثيرة غرق بسببها خلق كثير وقيل لعضد الدولة إن أهل بغداد قد قلوا كثيرا بسبب الطاعون وما وقع بينهم من الفتن بسبب الرفض والسنة وأصابهم حريق وغرق فقال إنما يهيج الشر بين الناس هؤلاء القصاص والوعاظ ثم رسم أن أحدا لا يقص ولا يعظ في سائر بغداد ولا يسأل سائل باسم أحد من الصحابة وإنما يقرأ القرآن فيمن أعطاه أخذ فمن فعمل بذلك في البلد ثم بلغه أن أبا الحسين بن سمعون الواعظ وكان من الصالحين لم يترك الوعظ بل استمر على عادته فأرسل إليه من جاء به (11/289)
وتحول عضد الدولة من مجلسه وجلس وحده لئلا يبدر من ابن سمعون إليه بين الدولة كلام يكرهه وقيل لابن سمعون إذا دخلت على الملك فتواضع في الخطاب وقبل التراب فلما دخل دار الملك وجده قد جلس وحده لئلا يبدر من ابن سمعون في حقه كلام بحضرة الناس يؤثر عنه ودخل الحاجب بين يديه يستأذن له عليه ودخل ابن سمعون ورءاه ثم استفتح القراءة بقوله وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة الآية ثم إلتفت بوجهه نحو دار عزالدولة ثم قرأ ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظرهم كيف تعملون ثم أخذ في مخاطبة الملك ووعظه فبكى عضد الدولة بكاء كثيرا وجزاه خيرا فلما خرج من عنده قال للحاجب اذهب فخذ ثلاثة آلاف درهم وعشرة أثواب وادفعها له فإن قبلها جئني برأسه قال الحاجب فجئته فقلت هذا أرسل به الملك إليك فقال لا حاجة لي به هذه ثيابي من عهد أبي منذ أربعين سنة كلما خرجت إلى الناس لبستها فإذا رجعت طويتها ولي دار آكل من أجرتها تركها لي أبي فأنا في غنية عما أرسل به الملك فقلت فرقها في فقراء أهلك فقال فقراء أهله أحق بها من فقراء أهلي وأفقر إليها منهم فرجعت إلى الملك لأشاوره وأخبره بما قال فسكت ساعة ثم قال الحمد لله الذي سلمه منا وسلمنا منه ثم إن عضد الدولة أخذ ابن بقية الوزير لعزالدولة فأمر به فوضع بين قوائم الفيلة فتخبطته بأرجلها حتى هلك ثم صلب على رأس الجسر في شوال منها فرثاه أبو الحسين بن الأنباري بأبيات يقول فيها ... علو في الحياة وفي الممات ... بحق أنت إحدى المعجزات ... كأن الناس حولك حين قاموا ... وفود نداك أيام الصلات ... كأنك واقف فيهم خطيبا ... وكلهم وقوف للصلاة ... مددت يديك نحو احتفاء ... كمدهما إليهم بالهبات ... وهي قصيدة طويلة أورد كثيرا منها ابن الأثير في كامله
مقتل عزالدين بختيار
لما دخل عضد الدولة بغداد وتسلمها خرج منها بختيار ذليلا طريدا في فل ومن الناس من عزمه أن يذهب إلى الشام فيأخذها وكان عضد الدولة قد حلفه أن لا يتعرض لأبي تغلب لمودة كانت بينهما ومراسلات فحلف له على ذلك وحين خرج من بغداد كان معه حمدان بن ناصر الدولة بن حمدان فحسن لعز الدولة أخذ بلاد الموصل من أبي تغلب لأنها أطيب وأكثر مالا من الشام وأقرب إليه وكان عز الدولة ضعيف العقل قليل الدين فلما بلغ ذلك أبا تغلب أرسل إلى عز الدولة يقول له لئن أرسلت إلى ابن أخي حمدان بن ناصر الدولة أغنيتك بنفسي وجيشي حتى آخذ لك ملك بغداد من عضد الدولة وأردك إليها فعند ذلك أمسك حمدان وأرسله إلى عمه أبي تغلب (11/290)
فسجنه في بعض القلاع وبلغ ذلك عضد الدولة وأنهما قد اتفقا على حربه فركب اليهما بجيشه وأراد إخراج الخليفة الطائع معه فأعفاه فذهب اليهما فالتقى معهما فكسرهما وهزمهما وأخذ عزالدولة أسيراوقتله من فوره وأخذ الموصل ومعاملتها وكان قد حمل معه ميرة كثيرة وشرد أبا تغلب في البلاد وبعث وراءه السرايا في كل وجه وأقام بالموصل إلى أواخر سنة ثمان وستين وفتح ميافارقين وآمد وغيرهما من بلاد بكر وربيعة وتسلم بلاد مضر من أيدي نواب ابي تغلب وأخذ منهم الرحبة ورد بقيتها على صاحب حلب سعدالدولة بن سيف الدولة وتسلط على سعد الدولة وحين رجع من الموصل استناب عليها أبا الوفا وعاد إلى بغداد فتلقاه الخليفة ورؤس الناس إلى ظاهر البلد وكان يوما مشهوا ومما وقع من الحوادث فيها الوقعة التي كانت بين العزيز بن المعزالفاطمي وبين الفتكين غلام معز الدولة صاحب دمشق فهزمه وأسره وأخذه معه إلى الديار المصرية مكرما معظما كما تقدم وتسلم العزيز دمشق وأعمالها وقد تقدم بسط ذلك في سنة أربع وستين وفيها خلع على القاضي عبدالجبار بن أحمد المعتزلي بقضاء قضاة الري وما تحت حكم مؤيد الدولة بن ركن الدولة وله مصنفات حسنة منها دلائل النبوة وعمد الادلة وغيرها وحج بالناس فيها نائب المصريين وهو الأمير باديس بن زيري أخو يوسف بن بلكين ولما دخل مكة اجتمع إليه اللصوص وسألوا منه أن يضمنهم الموسم هذا العام بما شاء من الاموال فأظهر لهم الاجابة إلى ما سألوا وقال لهم اجتمعوا كلكم حتى أضمنكم كلكم فاجتمع عنده بضع وثلاثون حراميا فقال هل بقي منكم أحد فحلفوا له إنه لم يبق منهم أحد فأخذ عند ذلك بالقبض عليهم وبقطع أيديهم كلهم ونعما ما فعل وكانت الخطبة في الحجاز للفاطميين دون العباسيين وممن توفي فيها من الأعيان الملك عزالدولة
بختيار بن بويه الديلمي
ملك بعد أبيه وعمره فوق العشرين سنة بقليل وكان حسن الجسم شديد البطش وقوي القلب يقال إنه كان يأخذ بقوائم الثور الشديد فيلقيه في الأرض من غير أعوان ويقصد الأسود في أماكنها ولكنه كان كثير اللهو واللعب والاقبال على اللذات ولما كسره ابن عمه ببلاد الأهواز كان في جملة ما أخذ منه أمرد كان يحبه حبا شديدا لا يهنأ بالعيش إلا معه فبعث يترفق له في رده إليه وأرسل إليه بتحف كثيرة وأموال جزيلة وجاريتين عوادتين لا قيمة لهما فرد عليه الغلام المذكور فكثر تعنيف الناس له عند ذلك وسقط من أعين الملوك فإنه كان يقول ذهاب هذا الغلام مني أشد علي من أخذ بغداد من يدي بل وأرض العراق كلها ثم كان من أمره بعد ذلك (11/291)
أن ابن عمه أسره كما ذكرنا وقتله سريعا فكانت مدة حياته ستا وثلاثين سنة ومدة دولته منها إحددى وعسرين سنة وشهور وهو الذي أظهر الرفض ببغداد وجرى بسبب ذلك شرور كما تقدم
محمد بن عبدالرحمن
أبو بكر القاضي المعروف بابن قريعة ولى القضاء بالسندية وكان فصيحا يأتي بالكلام المسجوع من غير تكلف ولا تردد وكنا جميل المعاشر ومن شعره ... لي حيلة في من ينم ... م وليس في الكذاب حيلة ... من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليلة ... وكان يقول للرجل من أصحابه إذا تماشيا إذا تقدمت بين يديك فإني حاجب وإن تأخرت فواجب توفي يوم السبب لعشر بقين من جمادى الآخرة منها
ثم دخلت سنة ثمان وستين وثلثمائة
في شعبان منها أمر الطائع لله أن يدعى لعضد الدولة بعد الخليفة على المنابر ببغداد وأن تضرب الدبادب على بابه وقت الفجر وبعد المغرب والعشاء قال ابن الجوزي وهذا شيء لم يتفق لغيره من بني بويه وقد كان معز الدولة سأل من الخليفة أن يضرب الدبادب على بابه فلم يأذن له وقد افتتح عزالدولة في هذه السنة وهو مقيم بالموصل أكثر بلاد أبي تغلب بن حمدان كآمد والرحبة وغيرهما ثم دخل بغداد في سلخ ذي القعدة فتلقاه الخليفة والأعيان إلى أثناء الطريق
قسام التراب يملك دمشق
لما ذهب الفتكين إلى ديار مصر نهض رجل من أهل دمشق يقال له قسام التراب كان الفتكين يقربه ويدنيه ويأمنه على أسراره فاستحوذ على دمشق وطاوعه أهلها وقصدته عساكر العزيز من مصر فحاصروه فلم يتمكنوا منه وجاء أبو تغلب بن ناصر الدولة بن حمدان فحاصره فلم يقدر أن يدخل دمشق فانصرف عنه خائبا إلى طبرية فوقع بينه وبين بني عقيل وغيرهم من العرب حروب طويلة آل الحال إلى أن قتل أبو تغلب وكانت معه أخته وجميلة امرأته وهي بن سيف الدولة فردتا إلى سعد الدولة بحلب فأخذ أخته وبعث بجميلة إلى بغداد فحبست في دار وأخذ منها أموال جزيلة وأما قسام التراب هذا وهو من بني الحارث بن كعب من اليمن فإنه أقام بالشام فسد خللها وقام بمصالحها مدة سنين عديدة وكان مجلسه بالجامع يجتمع الناس إليه فيأمرهم وينهاهم فيتمثلون ما يأمر به قال ابن عساكر أصله من قرية تلفيتا وكان ترابا قلت والعامة يسمونه قسيم الزبال وإنما هو قسام ولم يكن زبالا بل ترابا من قرية تلفيتا بالقرب من قرية منين وكان بدو أمره أنه انتمى إلى رجل من أحداث أهل دمشق يقال له أحمد بن المسطان فكان من (11/292)
حزبه ثم استحوذ على الأمور وغلب على الولاة والامراء إلى أن أقدم بلكتكين التركي من مصر في يوم الخميس السابع عشر من المحرم سنة ست وسبعين وثلثمائة فأخذها منه واختفى قسام التراب مدة ثم ظهر فأخذه أسيرا وأرسله مقيدا إلى الديار المصرية فأطلق وأحسن إليه وأقام بها مكرما وممن توفي فيها من الأعيان العقيقي صاحب الحمام والدار والمسنوبتين إليه بدمشق بمحلة باب البريد واسمه أحمد بن الحسن القعيقي ابن ضعقن بن عبدالله بن الحسين الأصغر بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب الشريف أبو القاسم الحسين القعقيق قال ابن عساكر كان من وجوه الاشراف بدمشق واليه تنسب الدار والحمام بمحلة باب البريد وذكر ا نه توفي يوم الثلاثاء لأربع خلون من جمادى الاولى منها وأنه دفن من الغد وأغلقت البلد لأجل جنازته وحضرها نكجور وأصحابه يعني نائب دمشق ودفن خارج باب الصغير قلت وقد اشترى الملك الظاهر بيبرس داره وبناها مدرسة ودار حديث وتربة وبها قبره وذلك في حدود سنة سبعين وستمائة كما سيأتي بيانه
أحمد بن جعفر
ابن مالك بن شبيب بن عبدالله أبو بكر بن مالك القطيعي من قطيعة الدقيق ببغداد راوي مسند أحمد عن ابنه عبدالله وقد روى عنه غير ذلك من مصنفات أحمد وحدث عن غيره من المشايخ وكان ثقة كثير الحديث حدث عنه الدارقطني وابن شاهين والبرقاني وأبو نعيم والحاكم ولم يمتنع أحد من الرواية عنه ولا التفتوا إلى ما طعن عليه بعضهم وتكلم فيه بسبب غرق كتبه حين غرقت القطيعة بالماء الأسود فاستحدث بعضها من نسخ أخرى وهذا ليس بشيء لأنها قد تكون معارضة على كتبه التي غرقت والله اعلم ويقال إنه تغير في آخر عمره فكان لا يدري ما جرى عليه وقد جاوز التسعين
تميم بن المعز الفاطمي
وبه كان يكنى وقد كان من أكابر أمراء دولة أبيه وأخيه العزيز وقد اتفقت له كائنة غريبة وهي أنه أرسل إلى بغداد فاشتريت له جارية مغنة بمبلغ جزيل فلما حضرت عنده أضاف أصحابه ثم أمرها فغنت وكانت تحب شخصا ببغداد ... وبداله من بعد ما انتقل الهوى ... برق تألق من هنا لمعانه ... يبدو لحاشية اللواء ودونه ... صعب الذرى متمنع أركانه ... فبدا لينظر كيف لاح فلم يطق ... نظرا إليه وشده أشجانه ... فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه ... والماء ما سمحت به أجفانه ... ثم غنته أبياتا غيرها فاشتد طرب تميم هذا وقال لها لا بد أن تسأليني حاجة فقالت عافيتك (11/293)
فقال ومع العافية فقالت تردني إلى بغداد حتى أغني بهذه الأبيات فوجم لذلك ثم لم يجد بدا من الوفاء لها بما سألت فأرسلها مع بعض أصحابه فأحجبها ثم سار بها على طريق العراق فلما أمسوا في الليلة التي يدخلون فيها بغداد من صبيحتها ذهبت في الليل فلم يدر أين ذهبت فلما سمع تميم خبرها شق عليه ذلك وتألم ألما شديدا وندم ندما شديدا حيث لا ينفعه الندم
أبو سعيد السيرافي
النحوي الحسن بن عبدالله بن المرزبان القاضي سكن بغداد وولي القضاء بها نيابة وله شرح كتاب سيبويه وطبقات النحاة روى عن أبي بكر بن دريد وغيره وكان أبوه مجوسيا وكان أبو سعيد هذا عالما باللغة والنحو والقراءات والفرائض والحساب وغير ذلك من فنون العلم وكان مع ذلك زاهدا لا يأكل إلا من عمل يده كان يسنخ في كل يوم عشر ورقات بعشرة دراهم تكون منها نفقته وكان من أعلم الناس بنحو البصريين وكان ينتحل مذهب أهل العراق في الفقه وقرأ القراءات على ابن مجاهد واللغة على ابن دريد والنحو على ابن سراج وابن المرزبان ونسبه بعضهم إلا الاعتزال وأنكره آخرون توفي في رجب منها عن أربع وثمانين سنة ودفن بمقبرة الخيزران
عبدالله بن إبراهيم
ابن أبي القاسم الريحاني ويعرف بالأنبدري رحل في طلب الحديث إلى الآفاق ووافق ابن عدي في بعض ذلك ثم سكن بغداد وحدث بها عن أبي يعلى والحسن بن سفيان وابن خزيمة وغيرهم وكان ثقة ثبتا له مصنفات زاهدا روى عنه البرقاني وأثنى عليه خيرا وذكر أن أكثر أدم أهله الخبز المأدوم وبمرق الباقلا وذكر أشياء من تقلله وزهده وورعه توفي عن خمس وتسعين سنة
عبدالله بن محمد بن ورقاء
الأمير أبو أحمد الشيباني من أهل البيوتات والحشمة بلغ التسعين سنة روى عن ابن الأعرابي أنه أنشد في صفة النساء ... هي الضلع العوجاء لست تقيمها ... ألا إن تقويم الضلوع انكسارها ... أيجمعن ضعفا واقتدارا على الفتى ... أليس عجيبا ضعفها واقتدارها ... قلت وهذا المعنى أخذه من الحديث الصحيح ( إن المرأة خلقت من ضلع أعوج وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج )
محمد بن عيسى
ابن عمرويه الجلودي راوي صحيح مسلم عن إبراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه بن مسلم بن الحجاج وكان من الزهاد يأكل من كسب يده من النسخ وبلغ ثمانين سنة (11/294)
ثم دخلت سنة تسع وستين وثلثمائة
في المحرم منها توفي الأمير عمر بن شاهين صاحب بلاد البطيحة منذ أربعين سنة تغلب عليها وعجز عنه الأمراء والملوك والخلفاء وبعثوا إليه الجنود والسرايا والجيوش غير مرة فكل ذلك يفلها ويكسرها وكل ما له في تمكن وزيادة وقوة ومكث كذلك هذه المدة ومع هذا كله مات على فراشه حنف أنفه فلا نامت أعين الجبناء وقام بالأمر من بعده ولده الحسن فرام عضد الدولة أن ينتزع الملك من يده فأرسل إليه سرية حافلة من الجنود فكسرهم الحسن بن عمر بن شاهين وكاد أن يتلفهم بالكلية حتى أرسل إليه عضد الدولة فصالحه على مال يحمله إليه في كل سنة وهذا من العجائب الغريبة وفي صفر قبض على الشريف أبي أحمد الحسن بن موسى الموسوي نقيب الطالبيين وقد كان أمير الحج مدة سنين أتهم بأنه يفشي الأسرار وأن عزالدولة أودع عنده عقدا ثمينا ووجدوا كتابا بخطه في إفشاء الأسرار فأنكر أنه خطه وكان مزورا عليه واعترف بالعقد فأخذ منه وعزل عن النقابة وولوا غيره وكان مظلوما وفي هذا الشهر أيضا عزل عضد الدولة قاضي القضاة أبا محمد بن معروف وولى غيره وفي شعبان منها ورد البريد من مصر إلى عضد الدولة بمراسلات كثيرة فرد الجواب بما مضمونه صدق النية وحسن الطوية ثم سأل عضد الدولة من الطائع أن يجدد عليه الخلع والجواهر وأن يزيد في إنشائه تاج الدولة فأجابه إلى ذلك وخلع عليه من أنواع الملابس ما لم يتمكن معه من تقبيل الأرض بين يدي الخليفة وفوض إليه ما وراء بابه من الأمور ومصالح المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها وحضر ذلك أعيان الناس وكان يوما مشهودا وأرسل في رمضان إلى الأعراب من بني شيبان وغيرهم فعقرهم وكسرهم وكان أميرهم منبه ابن محمد الأسدي متحصنا بعين التمر مدة نيف وثلاثين سنة فأخذ ديارهم وأموالهم وفي يوم الثلاثاء لسبع بقين من ذي القعدة تزوج الطائع لله بنت عضد الدولة الكبرى وعقد العقد بحضرة الأعيان على صداق مبلغه مائة ألف دينار وكان وكيل عضد الدولة الشيخ ابا علي الحسين بن أحمد الفارسي النحوي صاحب الايضاح والتكملة وكان الذي خطب خطبة العقد القاضى أبو علي الحسن بن علي التنوخى قال ابن الأثير وفيها جدد عضد الدولة عمارة بغداد ومحاسنها وجدد المساجد والمشاهد وأجرى على الفقهاء الأزراق وعلى الأئمة من الفقهاء والمحدثين والأطباء والحساب وغيرهم وأطلق الصلات لأرباب البيوتات والشرف وألزم أصحاب الاملاك بعمارة بيوتهم ودورهم ومهد الطرقات وأطلق المكوس وأصلح الطريق للحجاج من بغداد إلى مكة وأرسل الصدقات للمجاورين بالحرمين قال وأذن لوزيره نصر بن هارون وكان نصرانيا بعمارة البيع والأديرة وأطلق الأموال لفقرائهم (11/295)
وفيها توفي حسنويه بن حسين الكردي وكان قد استحوذ على نواحي بلاد الدينور وهمدان ونهاوند مدة خمسين سنة وكان حسن السيرة كثير الصدقة بالحرمين وغيرهما فلما توفي اختلف أولاده من بعده وتمزق شملهم وتمكن عضد الدولة من أكثر بلادهم وقويت شوكته في تلك الأرض وفيها ركب عضد الدولة في جنود كثيفة إلى بلاد أخيه فخر الدولة وذلك لما بلغه من ممالأته لعزالدولة واتفاقهم عليه فتسلم بلاد أخيه فخر الدولة وهمدان والرى وما بينهما من البلاد وسلم ذلك إلى مؤيد الدولة وهو أخوه الآخر ليكون نائبه عليها ثم سار إلى بلاد حسنويه الكردي فتسلمها وأخذ حواصله وذخائره وكانت كثيرة جدا وحبس بعض أولاده وأسر بعضهم وأرسل إلى الأكراد الهكارية فأخذ منهم بعض بلادهم وعظم شأنه وارتفع صيته إلا أنه أصابه في هذا السفر داء الصراع وكان قد تقدم له بالموصل مثله وكان بكتمه إلى أن غلب عليه كثرة النسيان فلا يذكر الشيء إلا بعد جهد جهيد والدنيا لا تسر بقدر ما تضر ... دار إذا ما أضحكت في يومها ... أبكت غدا بعدا لها من دار ... وفيها توفي من الأعيان
أحمد بن زكريا أبو لحسن اللغوي
صاحب كتاب المجمل في اللغة وغيره ومن شعره قبل موته بيومين ... يا رب إن ذنوبي قد أحطت بها ... علما وبي وباعلاني وأسراري ... أنا الموحد لكني المقر بها ... فهب ذنوبي لتوحيدى وإقراري ... ذكر ذلك ابن الأثير
أحمد بن عطاء بن أحمد
أبو عبدالله الروذباري ابن اخت أبي علي الروذباري أسند الحديث وكان يتكلم على مذهب الصوفية وكان قدانتقل من بغداد فأقام بصور وتوفي بها في هذه السنة قال رأيت في المنام كأن قائلا يقول أي شيء أصح في الصلاة فقلت صحة القصد فسمعت قائلا يقول رؤية المقصود باسقاط رؤية القصد أتم وقال مجالسة الأضداد ذوبان الروح ومجالسة الأشكال تلقيح العقول وليس كل من يصلح للمجالسة يصلح للمؤانسة ولا كل من يصلح للمؤانسة يؤمن على الأسرار ولا يؤمن على الأسرار إلا الأمناء فقط وقال الخشوع في الصلاة علامة الفلاح قال تعالى قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون وترك الخشوع في الصلاة علامة النفاق وخراب القلب قال تعالى إنه لا يفلح الكافرون
عبدالله بن إبراهيم
ابن أيوب بن ماسي أبو محمد البزاز أسند الكثير وبلغ خمسا وتسعين سنة وكان ثقة ثبتا توفي في رجب منها
محمد بن صالح
ابن علي بن يحيى بن أبو الحسن الهاشمي يعرف بابن أم شيبان كان عالما فاضلا له تصانيف وقد (11/296)
ولي الحكم ببغداد قديما وكان جيد السيرة توفي فيها وقد جاوز السبعين وقارب الثمانين
ثم دخلت سنة سبعين وثلثمائة
فيها ورد الصاحب بن عباد من جهة مؤيد الدولة إلى أخيه عضد الدولة فتلقاه عضد الدولة إلى ظاهر البلد وأكرمه وأمر الأعيان باحترامه وخلع عليه وزاده في إقطاعه ورد معه هدايا كثيرة وفي جمادى الآخرة منها رجع عضد الدولة إلى بغداد فتلقاه الخليفة الطائع وضرب له القباب وزينت الأسواق وفي هذا الشهر أيضا وصلت هدايا من صاحب اليمن إلى عضد الدولة وكانت الخطبة بالحرمين لصاحب مصر وهوالعزيز بن المعز الفاطمي وممن توفي فيها من الأعيان
ابو بكر الرازي الحنفي
أحمد بن علي أبو بكر الرازي الفقيه الحنفي الرازي أحد أئمة أصحاب أبي حنيفة ولع من المصنفات المفيدة كتاب أحكام القرآن وهو تلميذ أبي الحسن الكرخي وكان عابدا زاهدا ورعا انتهت إليه رياسة الحنفية في وقته ورحل إليه الطلبة من الآفاق وقد سمع الحديث من أبي العباس الأصم وأبي القاسم الطبراني وقد أراده الطائع على أن يوليه القضاء فلم يقبل توفي في ذي الحجة من هذا العام وصلى عليه أبو بكر محمد بن موسى الخوارزمي
محمد بن جعفر
ابن محمد بن زكريا أبو بكر الوراق ويلقب بغندر كان جوالا رحالا سمع الكثير ببلاد فارس وخراسان وسمع الباغندي وابن صاعد وابن دريد وغيرهم وعنه الحافظ أبو نعيم الاصفهاني وكان ثقة حافظا
ابن خالويه
الحسين بن أحمد بن خالويه أبو عبدالله النحوي اللغوي صاحب المصنفات أصله من همذان ثم دخل بغداد فأدرك بها مشايخ هذا الشأن كابن دريد وابن مجاهد وأبي عمر الزاهد واشتغل على أبي سعيد السيرافي ثم صار إلى حلب فعظمت مكانته عند آل حمدان وكان سيف الدولة يكرمه وهو أحد جلسائه وله مع المتنبي مناظرات وقد سرد له ابن خلكان مصنفات كثيرة منها كتاب ليس في كلام العرب لأنه كان يكثر أن يقول ليس في كلام العرب كذا وكذا وكتاب الآل تكلم فيه على أقسامه وترجم الأئمة الإثنى عشر وأعرب ثلاثين سورة من القرآن وشرح الدريدية وغير ذلك وله شعر حسن وكان به داء كانت به وفاته
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وثلثمائة
في ربيع الأول منها وقع حريق عظيم بالكرخ وفيها سرق شيء نفيس لعضد الدولة فتعجب الناس من جرأة من سرقه مع شدة هيبة عضد الدولة ثم مع هذا اجتهدوا كل الاجتهاد فلم يعرفوا من (11/297)
أخذ ويقال إن صاحب مصر بعث من فعل ذلك فالله أعلم وممن توفي من الأعيان الإسماعيلي أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس أبو بكر الإسماعيلي الجرجاني الحافظ الكبير الرحال الجوال سمع الكثير وحدث وخرج وصنف فأفاد وأجاد وأحسن الانتقاد الاعتقاد صنف كتابا على صحيح البخاري فيه فوائد كثيرة وعلوم غزيرة قال الدارقطني كنت عزمت غير مرة على الرحلة إليه فلم أرزق وكانت وفاته يوم السبت عاشر رجب سنة إحدى وسبعين وثلثمائة وهو ابن أربع وسبعين سنة رحمه الله
الحسن بن صالح
أبو محمد السبيعي سمع ابن جرر وقاسما المطرز وغيرهما وعنه الدارقطني والبرقاني وكان ثقة حافظا مكثرا وكان عسر الرواية
الحسن بن علي بن الحسن
ابن الهيثم بن طهمان أبو عبدالله الشاهد المعروف بالبادي سمع الحديث وكان ثقة عاش سبعا وتسعين سنة منها خمس عشرة سنة مقيدا أعمى
عبدالله بن الحسين
ابن إسماعيل بن محمد أبو بكر الضبي ولي الحكم ببغداد وكان عفيفا نزها دينا
عبدالعزيزر بن الحارث
ابن أسد بن الليث أبو الحسن التميمي الفقيه الحنبلي له كلام ومصنف في الخلاف وسمع الحديث وروى عن غير واحد وقد ذكر الخطيب البغدادي أنه وضع حديثا وأنكر ذلك ابن الجوزي وقال ما زال هذا دأب الخطيب في أصحاب أحمد بن حنبل قال وشيخ الخطيب الذي حكى عنه هذا هو أبو القسام عبد الواحد بن اسد العكبري لا يعتمد على قوله فإنه كان معتزليا وليس من أهل الحديث وكان يقول بأن الكفار لا يخلدون في النار قلت وهذا غريب فإن المعتزلة يقولون با الكفار يخلدون في النار بل يقولون بتخليد أصحاب الكبائر قال وعنه حكى الكلام عن ابن بطة ايضا
علي بن إبراهيم
أبو الحسن الحصري الصوفي الواعظ شيخ المتصوفة ببغداد أصله من البصرة صحب الشبلي وغيره وكان يعظ الناس بالجامع ثم لما كبرت سنه بني له الرباط المقابل لجامع المنصور ثم عرف بصاحبه المروزي وكان لا يخرج إلا من الجمعة إلى الجمعة وله كلام جيد في التصوف على طريقتهم ومما نقله ابن الجوزي عنه أنه قال ما على مني وأي شيء لي في حتى أخاف وأرجو وإن رحم رحم ماله (11/298)
وإن عذب عذب ماله توفي في ذي الحجة وقد نيف على الثمانين ودفن بمقبرة دار حرب من بغداد
علي بن محمد الأحدب المزور
كان قوي الخط له ملكة على التزوير لا يشاء يكتب على أحد كتابة إلا فعل فلا يشك ذلك المزور عليه أنه خطه وحصل للناس به بلاء عظيم وختم السلطان على يده مرارا فلم يقدر وكان يزور ثم كانت وفاته في هذه السنة
الشيخ أبو زيد المروزي الشافعي
محمد بن أحمد بن عبدالله بن محمد أبو زيد المروزي شيخ الشافعية في زمانه وإمام أهل عصره في الفقه والزهد والعبادة والورع سمع الحديث ودخل بغداد وحدث بها فسمع منه الدارقطني وغيره قال أبو بكر البزار عادلت الشيخ أبا زيد في طريق الحج فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة وقد ذكرت ترجمته بكمالها في طبقات الشافعية قال الشيخ أبو نعيم توفي بمرو يوم الجمعة الثالث عشر من رجب من هذه السنة
محمد بن خفيف
أبو عبدالله الشيرازي أحد مشاهير الصوفية ننن صحب الجريري وابن عطاء وغيرهما قال ابن الجوزي وقد ذكرت في كتابي المسمى بتلبيس إبليس عنه حكايات تدل على أنه كان يذهب مذهب الإباحية
ثم دخلت سنة ثنتين وسبعين وثلثمائة
قال ابن الجوزي في المحرم منها جرى الماء الذي ساقه عضد الدولة إلى داره وبستانه وفي صفر فتح المارستان الذي أنشأه عضد الدولة في الجانب الغربي من بغداد وقد رتب فيه الأطباء والخدم ونقل إليه من الأدوية والأشربة والعقاقير شيئا كثيرا وقال وفيها توفي عضد الدولة فكتم أصحابه وفاته حتى أحضروا ولده صمصامة فولوه الأمر وراسلوا الخليفة فبعث إليه بالخلع والولاية
شيء من أخبار عضد الدولة
أبو شجاع ابن ركن الدولة أبو علي الحسين بن بويه الديلمي صاحب ملك بغداد وغيرها وهو أول من تسمى شاهنشاه ومعناه ملك الملوك وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله ( ص ) أنه قال ( أوضع اسم وفي رواية أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الملوك ) وفي رواية ( ملك الأملاك لا ملك إلا الله عز و جل ) وهو أول من ضربت له الدبادب ببغداد وأول من خطب له بها مع الخليفة وذكر ابن خلكان أنه امتدحه الشعراء بمدائح هائلة منهم المتنبي وغيره فمن ذلك قول أبي الحسن محمد بن عبدالله السلامي في قصيدة له ... إليك طوى عرض البسيطة جاعل ... قصارى المطايا أن يلوح لها القصر ... فكنت وعزمي في الظلام وصارمي ... ثلاثة أشياء كما اجتمع النسر (11/299)
وبشرت آمالي بملك هو الورى ... ودار هي الدنيا ويوم هو الدهر ... وقال المتنبي أيضا ... هي الغرض الأقصى ورؤيتك المنى ... ومنزلك الدنيا وأنت الخلائق ... قال وقال أبو بكر أحمد الارجاني في قصيدة له بيتا فلم يلحق السلامي أيضا وهو قوله ... لقيته فرأيت الناس في رجل ... والدهر في ساعة والأرض في دار ... قال وكتب إليه افتكين مولي أخيه يستمده بجيش إلى دمشق يقاتل به الفاطميين فكتب إليه عضد الدولة غرك عزك فصار قصاراك ذلك فاخش فاحش فعلك فعلك بهذا تهدأ ) قال ابن خلكان ولقد أبدع فيها كل الابداع وقد جرى له من التعظيم من الخليفة ما لم يقع لغيره قبله وقد اجتهد في عمارة بغداد والطرقات وأجرى النفقات على المساكين والمحاويج وحفر الأنهار وبنى المارستان العضدي وأدار السور على مدينة الرسول فعل ذلك مدة ملكه على العراق وهي خمسة سنين وقد كان عاقلا فاضلا حسن السياسة شديد الهيبة بعيد الهمة إلا أنه كان يتجاوز في سياسة الأمور الشرعية كان يحب جارية فألهته عن تدبير المملكة فأمر بتغريقها وبلغه أن غلاما له أخذ لرجل بطيخة فضربه بسيفه فقطعه نصفين وهذه مبالغة وكان سبب موته الصرع وحين أخذ في علة موته لم يكن له كلام سوى تلاوة قوله تعالى ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانية فكان هذا هجيراه حتى مات وحكى ابن الجوزي أنه كان يحب العلم والفضيلة وكان يقرأ عنده كتاب إقليدس وكتاب النحو لأبي علي الفارسي وهو الايضاح والتكملة الذي صنفه له وقد خرج مرة إلى بستان له فقال أود لوجاء المطر فنزل المطر فأنشأ يقول ... ليس شرب الراح إلا في المطر ... وغناء من جوار في السحر ... غانيات سالبات للنهى ... ناعمات في تضاعيف الوتر ... راقصات زاهرات نجل ... رافلات في أفانين الحبر ... مطربات غنجات لحن ... رافضات الهم أمال الفكر ... مبرزات الكاس من مطلعها ... مسقيات الخمر من فاق البشر ... عضد الدولة وابن ركنها ... مالك الأملاك غلاب القدر ... سهل الله إليه نصره ... في ملوك الأرض مادام القمر ... وأراه الخير في أولاده ... ولباس الملك فيهم بالغرر ... قبحه الله وقبح شعره وقبح أولاده فإنه احترأ في أبياته هذه فلم يفلح بعدها فيقال إنه حين أنشد قوله غلاب القدر أخذه الله فأهلكه ويقال إن هذه الأبيات إنما أنشدت بين يديه (11/300)
ثم هلك عقيبها مات في شوال من هذه السنة عن سبع أو ثمان وأربعين سنة وحمل إلى مشهد علي فدفن فيه وكان فيه رفض وتشيع وقد كتب على قبره في تربته عند مشهد على هذا قبر عضد الدولة وتاج المملكة أبي شجاع بن ركن الدولة أحب مجاورة هذا الإمام المتقي لطمعه في الخلاص يوم تأتي كل نفس تجادل على نفسها والحمد لله وصلواته على محمد وعترته الطاهرة وقد تمثل عند موته بهذه الأبيات وهي للقاسم بن عبيدالله ... قتلت صناديد الرجال فلم أدع ... عدوا ولم أمهل على ظنه خلقا ... وأخليت در الملك من كان باذلا ... فشردتهم غربا وشردتهم شرقا ... فلما بلغت النجم عزا ورفعة ... وصارت رقاب الخلق جمع لي رقا ... رماني الردى سهما فأخمد جمرتي ... فها أنا ذا في حفرتي عاطلا ملقى ... فأذهبت دنياي وديني سفاهة ... فمن ذا الذي منى بمصرعه أشقى ... ثم جعل يكرر هذه الأبيات وهذه الآية ما أغنى عني ماليه هلك عني سللطانية إلى أن مات وأجلس ابنه صمصامة على الأرض وعلي ثياب السواد وجاءه الخليفة معزيا وناح النساء عليه في الأسواق حاسرات عن وجوهن أياما كثيرة ولما انقضى العزاء ركب ابنه صمصامة إلى دار الخلافة فخلع عليه الخليفة سبع خلع وطوقه وسوره وألبسه التاج ولقبه شمس الدولة وولاه ما كان يتولاه أبوه وكان يوما مشهودا
محمد بن جعفر
ابن أحمد بن جعفر بن الحسن بن وهب أبو بكر الجريري المعروف بزوج الحرة سمع ابن جرير والبغوي وابن أبي داود وغيرهم وعنه ابن رزقويه وابن شاهين والبرقاني وكان أحد العدول الثقات جليل القدر وذكر ابن الجوزي والخطيب سبب تسميته بزوج الحرة أنه كان يدخل إلى مطبخ أبيه بدار مولاته التي كانت زوجة المقتدر بالله فلما توفي المقتدر وبقيت هذه المرأة سالمة من الكتاب والمصادرات وكانت كثيرة الأموال وكان هذا غلاما شابا حدث السن يحمل شيئا من حوائح المطبخ على رأسه فيدخل به إلى مطبخها مع جملة الخدم وكان شابا رشيقا حركا فنفق على القهرمانة حتى جعلته كاتبا على المطبخ ثم ترقى إلى أن صار وكيلا للست على ضياعها وينظر فيها وفي أموالها ثم آل به الحال حتى صارت الست تحدثه من وراء الحجاب ثم علقت به وأحبته وسألته أن يتزوج بها فاستصغر نفسه وخاف من غائلة ذلك فشجعته هي وأعطته أموالا كثيرة ليظهر عليه الحشمة والسعادة مما يناسبها ليتأهل لذلك ثم شرعت تهادي القضاة والأكابر ثم عزمت على تزويجه ورضيت به عند حضور القضاة واعترض أولياؤها عليها فغلبتهم بالمكارم والهدايا ودخل عليها فمكثت معه دهرا طويلا ثم ماتت قبله فورث منها نحو ثلثمائة ألف دينار وطال عمره بعدها حتى كانت وفاته في هذه السنة (11/301)
والله أعلم
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وثلثمائة
فيها غلت الأسعار ببغداد حتى بلغ الكر من الطعام إلى أربعة آلاف وثمانمائة ومات كثير من الناس جوعا وجافت الطرقات من الموتى من الجوع ثم تساهل الحال في ذي الحجة منها وجاء الخبر بموت مؤيد الدولة بن ركن الدولة وأن أبا القاسم بن عباد الوزير بعث إلى أخيه فخر الدولة فولاه الملك مكانه فاستوزر ابن عباد أيضا على ما كان عليه ولما بلغ القرامطة موت عضد الدولة قصدوا البصرة ليأخذوها مع الكوفة فلم يتم لهم ذلك ولكن صولحوا على مال كثير فأخذوه وأنصرفوا وممن توفي فيها من الأعيان بويه مؤيد الدولة بن ركن الدولة وكان ملكا على بعض ما كان أبوه يملكه وكان الصاحب أبو القاسم بن عباد وزيره وقد تزوج مؤيد الدولة هذا ابنة عمه معز الدولة فغرم على عرسه سبعمائة ألف دينار وهذا سرف عظيم
بلكين بن زيري بن منادي
الحميري الصنهاجي ويسمى أيضا يوسف وكان من أكابر أمراء المعز الفاطمي وقد استخلفه على بلاد إفريقية حين سار إلى القاهرة وكان حسن السيرة له أربعمائة حظية وقد بشر في ليلة واحدة بتسعة عشر ولدا وهو جد باديس المغربي
سعيد بن سلام
أبو عثمان المغربي أصله من بلاد القيروان ودخل الشام وصحب أبا الخير الأقطع وجاور بمكة مدة سنين وكان لا يظهر في المواسم وكانت له كرامات وقد أثنى عليه أبو سليمان الخطابي وغيره وروى ل أحوال صالحة رحمه الله تعالى
عبدالله بن محمد
ابن عبدالله بن عثمان بن المختار بن محمد المرى الواسطي يعرف بابن السقا سمع عبدان وأبا يعلي الموصلي وابن أبي داود والبغوي وكان فهما حافظا دخل بغداد فحدث بها مجالس كثيرة من حفظه وكان يحضره الدارقطني وغيره من الحفاظ فلم ينكروا عليه شيئا غيرأنه حدث مرة عن أبي يعلى بحديث أنكروه عليه ثم وجدوه في أصله بخط الضبي كما حدث به فبرئ من عهدته
ثم دخلت سنة أربع وسبعين وثلثمائة
فيها جرى الصلح بين صمصامة وبين عمه فخر الدولة فأرسل الخليفة لفخر الدولة خلعا وتحفا قال ابن الجوزي وفي رجب منها عمل عرس في درب رياح فسقطت الدار على من فيها فهلك أكثر النساء بها ونبش من تحت الردم فكانت المصيبة عامة وفيها كانت وفاة (11/302)
الحافظ أبي الفتح محمد بن الحسن
ابن أحمد بن الحسين الأزدي الموصلي المصنف في الجرح والتعديل وقد سمع الحديث من أبي يعلى وطبقته وضعفه كثير من الحفاظ من أهل زمانه واتهمه بعضهم بوضع حديث رواه لابن بويه حين قدم عليه بغداد فساقه يإسناد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( أن جبريل كان ينزل عليه في مثل صورة ذلك الأمير ) فأجازه وأعطاه دراهم كثيرة والعجب إن كان هذا صحيحا كيف راج على أحد ممن له أدنى فهم وعقل وقد أرخ ابن الجوزي وفاته في هذه السنة وقد قيل إنه توفي سنة تسع وستين وفيها توفي
الخطيب بن نباته الحذاء
في بطن من قضاعة وقيل إياد الفارقي خطيب حلب في أيام سيف الدولة بن حمدان ولهذا أكثر ديوانه الخطب الجهادية ولم يسبق إلى مثل ديوانه هذا ولا يلحق إلا أن يشاء الله شيئا لأنه كان فصيحا بليغا دينا ورعا روى الشيخ تاج الدين الكندي عنه أنه خطب يوم جمعة بخطبة المنام ثم رأى ليلة السبت رسول الله ( ص ) في جماعة من أصحابه بين المقابر فلما أقبل عليه قال له مرحبا بخطيب الخطباء ثم أومأ إلى قبور هناك فقال لابن نباتة كأنهم لم يكونوا للعيون قرة ولم يعدوا في الأحياء مرة أبادهم الذي خلقهم وأسكتهم الذي أنطقهم وسيجدهم كما أخلقهم ويجمعهم كما فرقهم تم الكلام بن نباتة حتى انتهى إلى قوله يوم تكونوا شهداء على الناس وأشار إلى الصحابة الذين مع الرسول ويكون الرسول عليكم شهيدا وأشار إلى رسول الله ( ص ) فقال أحسنت أحسنت أدنه أدنه فقبل وجهه وتفل في فيه وقال وفقك الله فاستيقظ وبه من السرور أمر كبير وعلى وجهه بهاء ونور ولم يعش بعد ذلك إلا سبعة عشر يوما لم يستطعم بطعام وكان يوجد منه مثل رائحة المسك حتى مات رحمه الله قال ابن الأزرق الفارقي ولد ابن نباتة في سنة خمس وثلاثين وثلثمائة وتوفي في سنة أربع وسبعين وثلثمائة حكاه ابن خلكان
ثم دخلت سنة خمس وسبعين وثلثمائة
فيها خلع الخليفة على صمصامة الدولة وسوره وطوقه وأركب على فرس بسرج ذهب وبين يديه جنيب مثله وفيها ورد الخبر بأن اثنين من سادة القرامطة وهما إسحاق وجعفر دخلا الكوفة في حفل عظيم فانزعجت النفوس بسبب ذلك وذلك لصرامتها وشجاعتهما ولأن عضد الدولة مع شجاعته كان يصانعهما وأقطعهما أراضي من أراضي واسط وكذلك عزالدولة من قبله أيضا فجهز اليهما صمصامة جيشا فطردهما عن تلك النواحي التي قد أكثروا فيها الفساد وبطل ما كان في نفوس الناس منهما وفيها عزم صمصامة الدولة على أن يضع مكسا على الثياب الابريسميات فاجتمع الناس بجامع المنصور وأرادوا تعطيل الجمعة وكادت الفتنة تقع بينهم فأعفوا من ذلك (11/303)
وفي ذي الحجة ورد الخبر بموت مؤيد الدولة فجلس صمصامة للعزاء وجاء إليه الخليفة معزيا له فقام إليه صمصامة وقبل الأرض بين يديه وتخاطبا في العزاء بألفاظ حسنة وفيها توفي الشيخ
ابو علي بن أبي هريرة
واسمه الحسن بن الحسين وهو أحد المشايخ الشافعية وله اختيارات كثيرة غريبة في المذهب وقد ترجمناه في طبقات الشافعية
الحسين بن علي
ابن محمد بن يحيى بن أحمد النيسابوري المعروف بحسنك كات تربيته عند ابن خزيمة وتلميذا له وكان يقدمه على أولاده ويقر له ما لا يقر لغيره وإذا تخلف ابن خزيمة عن مجالس السلطان بعث حسنك مكانه ولما توفي ابن خزيمة كان عمر حسنك ثلاثا وعشرين سنة ثم عمر بعده دهرا طويلا وكان من أكثر الناس عبادة وقراءة للقرآن لا يترك قيام الليل حضرا ولا سفرا كثير الصدقات والصلات وكان يحكى وضوء ابن خزيمة وصلاته ولم يكن في الأغنياء أحسن صلاة منه رحمه الله وصلى عليه الحافظ أبو أحمد النيسابوري
أبو القاسم الداركي
عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد أبو القاسم الداركي أحد أئمة الشافعية في زمانه نزل نيسابور ثم سكن بغداد إلى أن مات بها قال الشيخ أبو حامد الاسفراييني ما رأيت أفقه منه وحكى الخطيب عنه أنه كان يسأل عن الفتوى فيجيب بعد تفكر طويل فربما كانت فتواه مخالفة لمذهب الشافعي وأبي حنيفة فيقال له في ذلك فيقول ويلكم روى فلان عن فلان عن رسول الله ( ص ) كذا وكذا فالأخذ به أولى من الأخذ بمذهب الشافعي وأبي حنيفة ومخالفتهما أسهل من مخالفة الحديث قال ابن خلكان وله في المذهب وجوه جيدة دالة على متانة علمه وكان يتهم بالاعتزال وكان قد أخذ العلم عن الشيخ أبي إسحاق المروزي والحديث عن جده لأمه الحسن بن محمد الداركي وهو أحد ماشيخ ابي حامد الاسفراييني وأخذ عنه عامة شيوخ بغداد وغيرهم من أهل الآفاق وكانت وفاته في شوال وقيل في ذي القعدة منها وقد نيف على السبعين رحمه الله
محمد بن أحمد بن محمد حسنوية
أبو سهل النيسابوري ويعرف بالحسنوي مان فقيها شافعيا أديبا محدثا مشتغلا بنفسه عما لا يعنيه
محمد بن عبدالله بن محمد بن صالح
أبو بكر الفقيه المالكي سمع من ابن أبي عمرويه والباغندي وأبي بكر بن أبي داود وغيرهم وعنه البرقاني وله تصانيف في شرح مذهب مالك وانتهت اليه رياسة مذهب مالك وعرض عليه (11/304)
القضاء فأباه وأشار بأبي بكر الرازي الحنفي فلم يقبل الآخر أيضا توفي في شوال منها عن ست وثمانين سنة رحمه الله تعالى
ثم دخلت سنة ست وسبعين وثلثمائة
قال ابن الجوزي في محرمها كثرت الحيات في بغداد فهلك بسبب ذلك خلق كثير ولسبع خلون من ربيع الأول وكان يوم العشرين من تموز وقع مطر كثير ببرق ورعد وفي رجب غلت الأسعار جدا وورد الخبر فيه بأنه وقع بالموصل زلزلة عظيمة سقط بسببها عمران كثير ومات من أهلها أمة عظيمة وفيها وقع بين صمصام الدولة وبين أخيه شرف الدولة فاقتتلا فغلبه شرف الدولة ودخل بغداد فتلقاه الخليفة وهنأ بالسلامة ثم استدعى شرف الدولة بفراش ليكحل صمصام الدولة فاتفق موته فأكحله بعد موته وهذا من غريب ما وقع وفي ذي الحجة منها قبل قاضي القضاة أبو محمد ابن معروف شهادة القاضي الحافظ أبي الحسن الدارقطني وأبي محمد بن عقبة فذكر أن الدارقطني ندم على ذلك وقال كان يقبل قولي على رسول الله ( ص ) وحدي فصار لا يقبل قولي على نقلي إلا مع غيري
ثم دخلت سنة سبع وسبعين وثلثمائة
في صفرها عقد مجلس بحضرة الخليفة فيه القضاة وأعيان الدولة وجددت البيعة بين الطائع وبين شرف الدولة بن عضد الدولة وكان يوما مشهودا ثم في ربيعها الأول ركب شرف الدولة من داره الى دار الخليفة وزينت البلد وضربت البوقات والطبول والدبادب فخلع عليه الخليفة وسوره وأعطاه لواءين معه وعقد له على ما وراء داره واستخلفه على ذلك وكان في جملة من قدم مع شرف الدولة القاضي أبو محمد عبيدالله بن أحمد بن معروف فلما رآه الخليفة قال ... مرحبا بالأحبة القادمينا ... أوحشونا وطال ما آنسونا ... فقبل الأرض بين يدي الخليفة ولما قضيت البيعة دخل شرف الدولة على أخته امرأة الخليفة فمكث عندها إلى العصر والناس ينتظرونه ثم خرج وسار إلى داره للتهنئة وفيها اشتد الغلاء جدا ثم لحقه فناء كثير وفيها توفيت أم شرف الدولة وكانت تركية أم ولد فجاءه الخليفة فعزاه وفيها ولد لشرف الدولة ابنان توأمان وممن توفي فيها من الأعيان
أحمد بن الحسين بن علي
أبو حامد المروزي ويعرف بابن الطبري كان حافظا للحديث مجتهدا في العبادة متقنا بصيرا بالأثر فقيها حنفيا درس على أبي الحسين الكرخي وصنف كتبا في الفقه والتاريخ وولى قضاء القضاة بخراسان ثم دخل بغداد وقد علت سنة فحدث الناس وكتب الناس عنه منهم الدارقطني (11/305)
إسحاق بن المقتدر بالله
توفي ليلة الجمعة لسبع عشر من ذي الحجة عن ستين سنة وصلى عليه ابنه القادر بالله وهو إذ ذاك أمير المؤمنين ودفن في تربة جدته شغب أم المقتدر وحضر جنازته الأمراء والأعيان من جهة الخليفة وشرف الدولة وأرسل شرف الدولة من عزى الخليفة فيه واعتذر من الحضور لوجع حصل له
جعفر بن المكتفي بالله
كان فاضلا توفي فيها أيضا
ابو علي الفارسي النحوي
صاحب الايضاح والمصنفات الكثيرة ولد ببلده ثم دخل بغداد وخدم الملوك وحظي عند عضد الدولة بحيث إن عضد الدولة كان يقول أنا غلام أبي علي في النحو وحصلت له الأموال وقد اتهمه قوم بالاعتزال وفضله قوم من أصحابه على المبرد وممن أخذ عنه أبو عثمان بن جنى وغيره توفي فيها عن بضع وتسعين سنة ستيتة بنت القاضي أبي عبدالله الحسين بن إسماعيل المحاملي وتكنى أم عبد الواحد قرات القرآن وحفظت الفق والفرائض والحساب والدرر والنحو وغير ذلك وكانت من أعلم الناس في وقتها بمذهب الشافعي وكان تفتي به مع الشيخ أبي علي بن أبي هريرة وكانت فاضلة في نفسها كثيرة الصدقة مسارعة إلى فعل الخيرات وقد سمعت الحديث أيضا وكانت وفاتها في رجب عن بضع وتسعين سنة
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وثلثمائة
في محرمها كثر الغلاء والفناء ببغداد إلى شعبان كثرت الرياح والعواصف بحيث هدمت كثيرا من الأبنية وغرق شيء كثير من السفن واحتملت بعض الزوارق فألقته بالارض من ناحية جوخى وهذا أمر هائل وخطب شامل وفي هذا الوقت لحق أهل البصرة حر شديد بحيث سقط كثير من الناس في الطرقات وماتوا من شدته وفيها توفي من الأعيان
الحسن بن علي بن ثابت
أبو عبدالله المقرى ولد أعمى وكان يحضر مجلس ابن الأنباري فيحفظ ما يقول وما يمليه كله وكان ظريفا حسن الزي وقد سبق الشاطبي إلى قصيدة عملها في القراءات السبع وذلك في حياة النقاش وكانت تعجبه جدا وكذلك شيوخ ذلك الزمان أذعنوا إليها
الخليل بن أحمد القاضي
شيخ الحنفية في زمانه كان مقدما في الفقه والحديث سمع ابن جرير والبغوي وابن صاعد وغيرهم ولهذا سمي باسم النحوي المتقدم (11/306)
زياد بن محمد بن زياد بن الهيثم
أبو العباس الخرخاني بخاءين معجمتين نسبة إلى قرية من قرى قومس ولهم الجرجاني بجيمين وهم جماعة ولهم الخرجاني بخاء معجمة ثم جيم وقد حرر هذه المواضع االشيخ ابن الجوزي في منتظمه
ثم دخلت سنة تسع وسبعين وثلثمائة
فيها كانت وفاة
شرف الدولة
بن عضد الدولة بن بويه الديلمي وكان قد انتقل إلى قصر معز الدولة عن إشارة الأطباء لصحة الهواء وذلك لشدة ما كان يجده من الداء فلما كان في جمادى الأولى تزايد به ومات في هذا الشهر وقد عهد إلى ابنه أبي نصر وجاء الخليفة في طيارة لتعزيته في والده فتلقاه أبو نصر والترك بين يديه والديلم فقبل الأرض بين يدي الخليفة وكذلك بقية العسكر والخليفة في الطيارة وهم يقبلون الأرض إلى ناحيته وجاء الرئيس أبو الحسين علي بن عبدالعزيز من عند الخليفة إلى أبي نصر فبلغه تعزيته له في والده فقبل الأرض أيضا ثانية وعاد الرسول أيضا إلى الخليفة فبلغه شكر الأمير ثم عاد من جهة الخليفة لتوديع أبي نصر فقبل الأرض ثالثا ورجع الخليفة فلما كان يوم السبت عاشر هذا الشهرر ركب الأمير أبو نصر إلى حضرة الخليفة الطائع لله ومعه الأشراف والأعيان والقضاة والأمراء وجلس الخليفة في الرواق فلما وصل الأمير أبو نصر خلع عليه الخليفة سبع خلع أعلاهن السواد وعمامة سوداء وفي عنقه طوق وفي يده سواران ومشى الحجاب بين يديه بالسيوف والمناطق فقبل الأرض ثانية ووضع له كرسي فجلس عليه وقرأ الرئيس أبو الحسن عهده وقدم إلى الطائع لواء فعقده بيده ولقبه بهاء الدولة وضياء الملة ثم خرج من بين يديه والعسكر معه حتى عاد إلى دار المملكة وأقر الوزير أبا منصور بن صالح على الوزارة وخلع عليه وفيها بنى جامع القطيعة قطيعة أم جعفر بالجانب الغربي من بغداد وكان أصل بناء هذا المسجد أن امرأة رأت في منامها رسول الله ( ص ) يصلي في مكانه ووضع يده في جدار هناك فلما أصبحت فذكرت ذلك فوجدوا أثر الكف في ذلك الموضع فبنى مسجدا ثم توفيت تلك المرأة في ذلك اليوم ثم إن الشريف أبا أحمد الموسوي جدده وجعله جامعا وصلى الناس فيه في هذه السنة وفيها توفي من الأعيان شرف الدولة ابن عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه الديلمي تملك بغداد بعد أبيه وكان يحب الخير ويبغض الشر وأمر بترك المصادرات وكان مرضه بالاستسقاء فتزايد به حتى كانت وفاته ليلة الجمعة الثاني من جمادى الآخرة عن ثمان وعشرين سنة وخمسة أشهر وكانت مدة ملكه سنتين وثمانية أشهر وحمل تابوته إلى تربة أبيه بمشهد علي وكلهم فيم تشيع ورفض (11/307)
محمد بن جعفر بن العباس
أبو جعفر وأبو بكر النجار ويلقب غندر أيضا روى عن أبي بكر النيسابوري وطبقته وكان فهما يفهم القرآن فهما حسنا وهو من ثقات الناس
عبدالكريم بن عبدالكريم
ابن بديل أبو الفضل الخزاعي الجرجاني قدم بغداد وحدث بها قال الخطيب كانت له عناية بالقراءات وصنف أسانيدها ثم ذكر أنه كان يخلط ولم يكن مأمونا على ما يرويه وأنه وضع كتابا في الحروف ونسبه إلى أبي حنيفة فكتب الدارقطني وجماعة أن هذا الكتاب موضوع لا أصل له فافتضح وخرج من بغداد إلى الجبل فاشتهر أمره هناك وحبطت منزلته وكان يسمى نفسه أولا جميلا ثم غيره إلى محمد
محمد بن المطرف
ابن موسى بن عيسى بن محمد بن عبدالله بن سلمة بن إياس أبو الحسين البزار الحافظ ولد في محرم سنة ثلثمائة ورحل إلى بلاد شتى وروى عن ابن جرير والبغوي وخلق وروى عنه جماعة من الحفاظ منهم الدارقطني شيئا كثيرا وكان يعظمه ويجله ولا يستند بحضرته كان ثقة ثبتا وكان قديما ينتقد على المشايخ ثم كانت وفاته في هذه السنة ودفن يوم السبت لثلاث خلون من جمادى الأولى أو الاخرى منها
ثم دخلت سنة ثمانين وثلثمائة من الهجرة
فيها قلد الشريف أبو أحمد الحسن بن موسى الموسوي نقابة الأشراف الطالبيين والنظر في المظالم وإمرة الحاج وكتب عهده بذلك واستخلف ولداه المرتضى أبو القاسم والرضى أبو الحسين على النقابة وخلع عليهما وفيها تفاقم الأمر بالعيارين ببغداد وصار الناس أحزابا في كل محلة أمير مقدم واقتتل الناس وأخذت الأموال واتصلت الكبسات وأحرقت دور كبار ووقع حريق بالنهار في نهر الدجاج فاحترق بسببه شيء كثير للناس والله أعلم وفيها توفي من الأعيان
يعقوب بن يوسف
أبو الفتوح بن كلس وزير العزيز صاحب مصر وكان شهما فهما ذا همة وتدبير وكلمة نافذة عند مخدومه وقد فرض إليه أموره في سائر مملكته ولما مرض عاد العزيز ووصاه الوزير بأمر مملكته ولما مات دفنه في قصره وتولى دفنه بيده وحزن عليه كثيرا وأغلق الديوان أياما من شدة حزنه عليه
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وثلثمائة
فيها كان القبض على الخليفة الطائع لله وخلافة القادر بالله أبي العباس أحمد بن الأمير إسحاق ابن المقتدر بالله وكان ذلك يوم السبت التاسع عشر من شعبان منها وذلك أنه جلس الخليفة على عادته في الرواق وقعد الملك بهاء الدولة على السرير ثم أرسل من اجتنب الخليفة بحمائل سيفه (11/308)
عن السرير ولفوه في كساء وحملوه إلى الخزانة بدار المملكة وتشاغل الناس بالنهب ولم يدر أكثر الناس ما الخطب وما الخبر حتى أن كبير المملكة بهاء الدولة ظن الناس أنه هو الذي مسك فنهبت والحواصل وأشياء من أثاث دار الخلافة حتى أخذت ثياب الأعيان والقضاة والشهود وجرت كائنة عظيمة جدا ورجع يهاء الدولة إلى داره وكتب على الطائع كتابا بالخلع من الخلافة وأشهد عليه الأشراف وغيرهم أنه قد خلع نفسه من الخلافة وسلمها إلى القادر بالله ونودي بذلك في الأسواق وسبقت الديلم والأتراك وطالبوا برسم البيعة وراسلوا بهاء الدولة في ذلك وتطاول الأمر في يوم الجمعة ولم يمكنوا من الدعاء له على المنبر بصريح اسمه بل قالوا اللهم أصلح عبدك وخليفتك القادر بالله أرضوا وجوههم وأكابرهم وأخذت البيعة له واتفقت الكلمة وأمر بهاء الدولة بتحويل جميع ما في دار الخلافة من الأواني والأثاث وغيره إلى داره وأبيحت للعامة والخاصة فقلعوا وشعثوا أبنيتها هذا والخليفة القادر قد هرب إلى أرض البطيحة من الطائع حين كان يطلبه ولما رجع إلى بغداد ما نعته الديلم من الدخول إليها حتى يعطيهم رسم البيعة وجرت بينهم خطوب طويلة ثم رضوا عنه ودخل بغداد وكانت مدة هربه إلى أرض البطيحة ثلاث سنين ولما دخل بغداد جلس في اليوم الثاني جلوسا عاما إلى التهنئة وسماع المدائح والقصائد فيه وذلك في العشر الأخير من شوال ثم خلع على بهاء الدولة وفوض إليه ما وراء بابه وكان الخليفة القادر بالله من خيار الخلفاء وسادات العلماء في ذلك الزمان وكان كثير الصدقة حسن الاعتقاد وصنف قصيدة فيها فضائل الصحابة وغير ذلك فكانت تقرأ في حلق أصحاب الحديث كل جمعة في جامع المهدي وتجتمع الناس لسماعها مدة خلافته وكان ينشد هذه الأبيات يترنم بها وهي لسابق البربري ... سبق القضاء بكل ما هو كائن ... والله يا هذا لرزقك ضامن ... تعني بما تكفي وتترك ما به ... تعني كأنك للحوادث آمن ... أو ما ترى الدنيا ومصرع أهلها ... فاعمل ليوم فراقها يا خائن ... واعلم بأنك لا أبالك في الذي ... أصبحت تجمعه لغيرك خازن ... يا عامر الدنيا أتعمر منزلا ... لم يبق فيه مع المنية ساكن ... الموت شيء أنت تعلم أنه ... حق وأنت بذكره متهاون ... إن المنية لا تؤامر من أتت ... في نفسه يوما ولا تستأذن ... وفي اليوم الثالث عشر من ذي الحجة وهو يوم غدير خم جرت فتنة بين الروافض والسنة واقتتلوا فقتل منهم خلق كثير واستظهر أهل باب البصرة وحرقوا أعلام السلطان فقتل جماعة انهموا بفعل ذلك وصلبوا على القناطر ليرتدع أمثالهم وفيها ظهر أبو الفتوح الحسين بن جعفر (11/309)
العلوي أمير مكة وادعى أنه خليفة وسمى نفسه الراشد بالله فمالأه أهل مكة وحصل له أموال من رجل اوصى له بها فانتظم أمره بها وتقلد سيفا وزعم أنه ذو الفقار وأخذ بيده قضيبا زعم أنه كان لرسول الله ( ص ) ثم قصد بلاد الرملة ليستعين بعرب الشام فتلقوه بالرحب وقبلوا له الأرض وسلموا عليه بأمير المؤمنين وأظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود ثم إن الحاكم صاحب مصر وكان قد قام بالأمر من بعد أبيه العزيز في هذه السنة بعث إلى عرب الشام بملطفات ووعدهم من الذهب بألوف ومئات وكذلك إلى عرب الحجاز واستناب على مكة أميرا وبعث إليه بخمسين ألف دينار فانتظم أمر الحاكم وتمزق أمر الراشد وانسحب إلى بلاده كما بدا منها وعاد إليها كما خرج عنها واضمحل حاله وانتقضت حباله وتفرق عنه رجاله وممن توفي فيها من الأعيان أحمد بن الحسين بن مهران
أحمد بن الحسن بن مهران
أبو بكر المقري توفي في شوال منها عن ست وثمانين سنة واتفق له أنه مات في يوم وفاته أبو الحسن العامري الفيلسوف فرأى بعض الصالحين أحمد بن الحسين بن مهران هذا في المنام فقيل له ما فعل الله بك فقال أقام أبا الحسن العامري بجانبي وقال هذا فداؤك من النار
عبدالله بن أحمد بن معروف
أبو محمد قاضي قضاة بغداد روى عن ابن صاعد وعنه الخلال والأزهري وغيرهما وكان من العلماء الثقات العقلاء الفطناء حسن الشكل جميل اللبس عفيفا عن الأموال توفي عن خمس وسبعين سنة وصلى عليه أبو أحمد الموسوي فكبر عليه خمسا ثم صلى عليه ابنه بجامع المنصور فكبر عليه اربعا ثم دفن في داره سامحه الله
جوهر بن عبدالله
القائد باني القاهرة أصله أرمني ويعرف بالكاتب أخذ مصر بعد موت كافور الأخشيدي أرسله مولاه العزيز الفاطمي إليها في ربيع الأول سنة ثمان وخمسين وثلثمائة فوصل إليها في شعبان منها في مائة ألف مقاتل ومائتي صندوق لينفقه في عمارة القاهرة فبرزوا لقتاله فكسرهم وجدد الأمان لأهلها ودخلها يوم الثلاثاء لثمان عشرة خلت من شعبان فشق مصر ونزل في مكان القاهرة اليوم وأسس من ليلته القصرين وخطب يوم الجمعة الآتية لمولاه وقطع خطبة بني العباس وذكر في خطبته الأئمة الاثنى عشر وأمر فأذن بحي على خير العمل وكان يظهر الإحسان إلى الناس ويجلس كل يوم سبت مع الوزير ابن الفرات والقاضي واجتهد في تكميل القاهرة وفرغ من جامعها الأزهر سريعا وخطب به في سنة إحدى وستين وهو الذي يقال له الجامع الأزهر ثم أرسل جعفر بن فلاح إلى الشام فأخذها ثم قدم مولاه المعز في سنة اثنتين وستين كما تقدم فنزل بالقصرين (11/310)
ولم تزل منزلته عالية عنده إلى أن مات في هذه السنة وقام مكانه الحسين الذي كان يقال له قائد القواد وهو أكبر أمراء الحاكم ثم كان قتله على يديه في سنة إحدى وأربعمائة وقتل معه صهره زوج أخته القاضي عبدالعزيز بن النعمان وأظن هذا القاضي هو الذي صنف البلاغ الأكبر والناموس الأعظم الذي فيه من الكفر ما لم يصل إبليس إلى مثله وقد رد على هذا الكتاب أبو بكر الباقلاني رحمه الله
ثم دخلت سنة ثنتين وثمانين وثلثمائة
في عاشر محرمها أمر الوزير أبو الحسن علي بن محمد الكوكبي ويعرف بابن المعلم وكان قد استحوذ على السلطان أهل الكرخ باب الطاق من الرافضة بأن لا يفعوا شيئا من تلك البدع التي كانوا يتعاطونها في عاشوراء من تعليق المسوح وتغليق الاسواق والنياحة على الحسين فلم يفعلوا شيئا من ذلك ولله الحمد وقد كان هذا الرجل من أهل السنة إلا أنه كان طماعا رسم أن لا يقبل أحدا من الشهود ممن أحدثت عدالته بعد ابن معروف وكان كثيرا منهم قد بدل أموالا جزيلة في ذلك فاحتاجوا إلى أن جمعوا له شيئا فوقع لهم بالاستمرار ولما كان في جمادى الآخرة سعت الديلم والترك على ابن المعلم هذا وخرجوا بخيامهم إلى باب الشماسية وراسلوا بهاء الدولة ليسلمه إليهم لسوؤ معاملته لهم فدافع عنه مدافعة عظيمة في أيام متعددة ولم يزالوا يراسلونه في أمره حتى خنقه في حبل ومات ودفن بالمحرم وفي رجب منها سلم الخليفة الطائع الذي خلع إلى الخليفة القادر فأمر بوضعه في حجرة من دار الخلاقة وأمر أن تجري عليه الأرزاق والتحف والألطاف مما يستعمله الخليفة القادر من مأكل وملبس وطيب وغيره ووكل به من يحفظه ويخدمه وكان يتعنت على القادر في تقلله في المأكل والملبس فرتب من يحضر له من سائر الأنواع ولم يزالوا كذلك حتى توفي وهو في السجن وفي شوال منها ولد للخليفة القادر ولد ذكر وهو أبو الفضل محمد بن القادر بالله وفد ولاه العهد من بعده وسماه الغالب بالله فلم يتم له الأمر وفي ذي القعدة قام صاحب الصفراء الأعرابي والتزم بحارسة الحجاج في ذهابهم وإيابهم وأن يخطب للقادر من اليمامة والبحرين إلى الكوقة فأجيب إلى ذلك وأطلقت له الخلع والأموال والأواني وغيرها وممن توفي فيها من الأعيان
محمد بن العباس
ابن محمد بن محمد بن زكريا بن يحيى بن معاذ أبو عمر القزار المعروف بابن حيوة سمع البغوي والباغندي وابن صاعد وخلقا كثير وانتقد عليه الدارقطني وسمع منه الأعيان وكان ثقة دينا متيقظا ذا مروءة وكتب من الكتب الكبار كثيرا بيده وكانت وفاته في ربيع الآخر منها وقد (11/311)
قارب التسعين
أبو أحمد العسكري
الحسن بن عبدالله بن سعيد أحد الأئمة في اللغة والأدب والنحو والنوادر وله في ذلك تصانيف مفيدة منها التصحيف وغيره وكان الصاحب بن عباد يود الاجتماع به فسافر إلى عسكر خلفه حتى اجتمع به فأكرمه وراسله بالأشعار توفي فيها وله تسعون سنة كذا ذكره ابن خلكان وذكره ابن الجوزي فيمن توفي في سنة سبع وثمانين كما سيأتي
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وثلثمائة
فيها أمر القادر بالله بعمارة مسجد الحربية وكسوته وأن يجري مجرى الجوامع في الخطب وغيرهما وذلك بعد أن استفتى العلماء في جواز ذلك قال الخطيب البغدادي أدركت الجمعة تقام ببغداد في مسجد المدينة ومسجد الرصافة ومسجد دار الخلافة ومسجد براثا ومسجد قطيعة أم جعفر ومسجد الحربية قال ولم يزل الأمر على هذا إلى سنة إحدى وخمسين وأربعمائة فتعطلت في مسجد براثا وفي جمادى الأولى فرغ من الجسر الذي بناه بهاء الدولة في مشرعة القطانين واجتاز عليه هو بنفسه وقد زين المكان وفي جمادى الآخرة شعثت الديالم والأتراك في نواحي البلد لتأخر العطاء عنهم وغلت الأسعار وراسلوا بهاء الدولة فأزيحت عللهم وفي يوم الخميس الثاني من ذي القعدة تزوج الخليفة سكينة بنت بهاء الدولة على صداق مائة ألف دينار وكان وكيل بهاء الدولة الشريف أبو أحمد الموسوي ثم توفيت هذه المرأة قبل دخول الخليفة بها وفيها ابتاع الوزير أبو نصر سابور بن أزدشير دارا بالكرخ وجدد عمارتها ونقل إليها كتبا كثيرة ووقفها على الفقهاء وسماها دار العلم وأظن أن هذه أول مدرسة وقفت على الفقهاء وكانت قبل النظامية بمدة طويلة وفيها في أواخرها ارتفعت الأسعار وضاق الحال وجاع العيال وفيها توفي من الأعيان
أحمد بن إبراهيم بن
الحسن بن شاذان بن حرب بن مهران ابو بكر البزار سمع الكثير من البغوي وابن صاعد وابن أبي داود وابن دريد وعنه الدارقطني والبرقاني والأزهري وغيرهم وكان ثبتا صحيح السماع كثير الحديث متحريا ورعا توفي عن خمس وثمانين سنة رحمه الله تعالى
ثم دخلت سنة أربع وثمانين وثلثمائة
فيها عظم الخطب بأمر العيارين عاثوا ببغداد فسادا وأخذوا الأموال والعملات الثقال ليلا ونهارا وحرقوا مواضع كثيرة وأخذوا من الأسواق الجبايات وتطلبهم الشرط فلم يفد ذلك شيئا ولا فكروا في الدولة بل استمروا على ما هم عليه من أخذ الأموال وقتل الرجال وإرعاب النساء والأطفال في سائر المحال فلما تفاقم الحال بهم تطلبهم السلطان بهاء الدولة وألح في طلبهم فهربوا (11/312)
بين يديه واستراح الناس من شرهم وأظن هذه الحكايات التي يذكرها بعض الناس عن أحمد الدنف عنهم أو كان منهم والله أعلم وفي ذي القعدة عزل الشريف الموسوي وولداه عن نقابة الطالبيين وفيها رجع ركب العراق من أثناء الطريق بعد ما فاتهم الحج وذلك أن الأصيفر الأعرابي الذي كان قد تكفل بحراستهم اعترض لهم في الطريق وذكر لهم أن الدنانير التي أقطعت له من دار الخلافة كانت دراهم مطلية وأنه يريد من الحجيج بدلها وإلا لا يدعهم يتجاوزوا هذا المكان فمانعوه وراجعوه فحبسهم عن السير حتى ضاق الوقت ولم يبق فيه ما يدركوا فيه الحج فرجعوا إلى بلادهم ولم يحج منهم أحد وكذلك ركب الشام وأهل اليمن لم يحج منهم أحد وإنما حج أهل مصر والمغرب خاصة وفي يوم عرفة قلد الشريف أبو الحسين الزينبي محمد بن علي بن أبي تمام الزيني نقابة العباسيين وقرئ عهده بين يدي الخليفة بحضرة القضاة والأعيان وفيها توفي من الأعيان الصابئ الكاتب المشهور صاحب التصانيف وهو
إبراهيم بن هلال
ابن إبراهيم بن زهرون بن حبون أبو إسحاق الحراني كاتب الرسائل للخليفة ولمعز الدولة بن بويه كان على دين الصابئة إلى أن مات عليه وكان مع هذا يصوم رمضان ويقرأ القرآن من حفظه وكان يحفظه حفظا حسنا ويستعمل منه في الرسائل وكانوا يحرضون عليه أن يسلم فلم يفعل وله شعر جيد قوي توفي في شوال منها وقد جاوز السبعين وقد رثاه الشريف الرضي وقال إنما رثيت فضائله وليس له فضائل ولا هو أهل لها ولا كرامة
عبدالله بن محمد
ابن نافع بن مكرم أبو العباس البستي الزاهد ورث من آبائه أموالا كثيرة فأنفقها كلها في وجوه الخير والقرب وكان كثير العبادة يقال إنه مكث سبعين سنة لم يستند إلى حائط ولا إلى شيء ولا اتكأ على وسادة وحج من نيسابور ماشيا حافيا ودخل الشام وأقام ببيت المقدس شهورا ثم دخل مصر وبلاد المغرب وحج من هناك ثم رجع إلى بلاده بست وكان له بها بقية أموال وأملاك فتصدق بها كلها ولما حضرته الوفاة جعل يتألم ويتوجع فقيل له في ذلك فقال أرى بين يدي أمورا هائلة ولا أدري كيف أنجو منها توفي في المحرم من هذه السنة عن خمس وثمانين سنة وليلة موته رأت امرأة أمها بعد موتها وعليها ثياب حسان وزينة فقالت يا أمه ما هذه الزينة فقالت نحن في عيد لأجل قدوم عبيدالله بن محمد الزاهد البستي علينا رحمه الله تعالى (11/313)
علي بن عيسى بن عبيدالله
أبو الحسن النحوي المعروف بالرماني روى عن ابن دريد وكانت له يد طولى في النحو واللغة والمنطق والكلام وله تفسير كبير وشهد عند ابن معروف فقبله وروى عنه التنوخي والجوهري قال ابن خلكان والرماني نسبة إلى بيع الرمان أو قصر الرمان بواسط توفي عن ثمان وثمانين سنة ودفن في الشونيزية عند قبر أبي علي الفارسي
محمد بن العباس بن أحمد بن القزاز
أبو الحسن الكاتب المحدث الثقة المأمون قال الخطيب كان ثقة كتب الكثير وجمع ما لم يجمعه أحد في وقته بلغني أنه كتب مائة تفسير ومائة تاريخ وخلق ثمانية عشر صندوقا مملوءة كتبا أكثرها بخطه سوى ما سرق له وكان حفظه في غاية الصحة ومع هذا كان له جارية تعارض معه أي تقابل ما يكتبه رحمه الله تعالى
محمد بن عمران بن موسى بن عبيدالله
أبو عبدالله الكاتب المعروف بابن المرزبان روى عن البغوي وابن دريد وغيرهما وكان صاحب اختبار وآداب وصنف كتبا كثيرة في فنون مستحسنة وهو مصنف كتاب تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب وكان مشايخه وغيرهم يحضرون عنده ويبيتون في داره على فرش وأطعمه وغير ذلك وكان عضد الدولة إذا اجتاز بداره لا يجوز حتى يسلم عليه وكان يقف حتى يخرج إليه وكان أبو علي الفارسي يقول عنه هو من محاسن الدنيا وقال العقيقي كان ثقة وقال الأزهري ما كان ثقة وقال ابن الجوزي ما كان من الكذابين وإنما كان فيه تشيع واعتزال ويخلط السماع بالاجازة وبلغ الثمانين سنة رحمه الله تعالى
ثم دخلت سنة خمس وثمانين وثلثمائة
فيها استوزر ابن ركن الدولة بن بويه أبا العباس أحمد بن إبراهيم الضبي الملقب بالكافي وذلك بعد وفاة الصاحب إسماعيل بن عباد وكان من مشاهير الوزراء وفيها قبض بهاء الدولة على القاضي عبدالجبار وصادره بأموال جزيلة فكان من جملة ما بيع له في المصادرة ألف طيلسان والف ثوب معدني ولم يحج في هذه السنة وما قبلها وما بعدها ركب العراق والخطبة في الحرمين للفاطميين وممن توفي من الأعيان
الصاحب بن عباد
وهو إسماعيل بن عباد بن عباس بن عباد بن أحمد بن إدريس الطالقاني أبو القاسم الوزير المشهور بكافي الكفاة وزر لمؤيد الدولة بن ركن الدولة بن بوية وقد كان من العلم والفضيلة والبراعة الكرم والإحسان إلى العلماء والفقراء على جانب عظيم كان يبعث في كل سنة إلى بغداد (11/314)
بخمسة آلاف دينار لتصرف على أهل العلم وله اليد الطولى في الأدب وله مصنفات في فنون العلم واقتنى كتبا كثيرة وكانت تحمل على أربعمائة بعير ولم يكن في وزراء بني بويه مثله ولا قريب منه في مجموع فضائله وقد كانت دولة بني بويه مائة وعشرين سنة وأشهرا وفتح خمسين قلعة لمخدوميه مؤيد الدولة وابنه فخر الدولة بصرامته وحسن تدبيره وجودة رأيه وكان يحب العلوم الشرعية ويبغض الفلسفة وما شابهها من علم الكلام والآراء البدعية وقد مرض مرة بالإسهال فكان كلما قام عن المطهرة وضع عندها عشرة دنانير لئلا يتبرم به الفراشون فكانوا يتمنون لو طالت علته ولما عوفي أباح للفقراء نهب داره وكان فيها ما يساوي نحو من خمسين ألف دينار من الذهب وقد سمع الحديث من المشايخ الجياد العوالي الإسناد وعقد له في وقت مجلس للإملاء فاحتفل الناس لحضوره وحضره وجوه الأمراء فلما خرج إليه لبس زي الفقهاء وأشهد على نفسه بالتوبة والإنابة مما يعانيه من أمور السلطان وذكر للناس أنه كان يأكل من حين نشأ إلى يومه هذا من أموال أبيه وجده مما ورثه منهم ولكن كان يخالط السلطان وهو لتائب مما يمارسونه واتخذ بناء في داره سماه بيت التوبة ووضع العلماء خطوطهم بصحة توبته وحين حدث استملى عليه جماعة لكثرة مجلسه فكان في جملة من يكتب عنه ذلك اليوم القاضي عبدالجبار الهمداني وأضرابه من رؤس الفضلاء وسادات الفقهاء والمحدثين وقد بعث إليه قاضي قزوين بهدية كتب سنية وكتب معها ... العميدي عبدكافي الكفاة وأنه ... اعقل في ووجوه القضاة ... خدم المجلس الرفيع بكتب ... منعمات من حسنها مترعات ... فلما وصللت إليه أخذ منها كتابا واحدا ورد باقيها وكتب تخت البيتين ... قد قبلنا من الجميع كتابا ... ورددنا لوقتها الباقيات ... لست أستغنم الكثير وطبعي ... قول خذ ليس مذهبي قول هات ... وجلس مرة في مجلس شراب فناوله الساقي كأسا فلما أراد شربها قال له بعض خدمه إن هذا الذي الذي في يدك مسموم قال وما الشاهد على صحة قولك قال تجربه قال فيمن قال في الساقي قال ويحك لا أستحل ذلك قال ففي دجاجة قال إن التمثيل بالحيوان لا يجوز ثم أمر بصب ما في ذلك القدح وقال للساقي لا تدخل بعد اليوم داري ولم يقطع عنه معلومه وقد عمل عليه الوزير أبو الفتح ابن ذي الكفايتين حتى عزله عن وزارة مؤيد الدولة في وقت وباشرها عوضه واستمر فيها مدة فبينما هو ذات ليلة قد اجتمع عنده أصحابه وهو في أتم السرور قد هيء له في مجلس حافل بأنواع اللذات وقد نظم أبياتا والمغنون يغنونه بها وهو في غاية الطرب والسرور والفرح وهي هذه الأبيات ... دعوت الهنا ودعوت العلا ... فلما أجابا دعوت القدح ... وقلت لأيام شرخ الشبا ... ب إلى فقهذا أوان الفرح (11/315)
إذا بلغ المرء آماله ... فليس له بعدها منتزح ... ثم قال لأصحابه باكروني غدا إلى الصبوح ونهض إلى بيت منامه فما أصبح حتى قبض عليه مؤيد الدولة وأخذ جميع ما في داره من الحواصل والأموال وجعله مثلة في العباد وأعاد إلى وزارته ابن عباد وقد ذكر ابن الجوزي أن ابن عباد هذا حين حضرته الوفاة جاءه الملك فخر الدولة بن مؤيد الدولة يعوده ليوصيه في أموره فقال له إني موصيك أن تستمر في الأمور على ما تركتها عليه ولا تغيرها فإنك إن استمريت بها نسبت إليك من أول الأمر إلى آخره وإن غيرتها وسلكت غيرها نسب الخير المتقدم إلي لا إليك وأنا أحب أن تكون نسبة الخير إليك وإن كنت أنا المشير بها عليك فأعجبه ذلك منه واستمر بما أوصاه به من الخير وكانت وفاته في عشية يوم الجمعة لست بقين من صفر منها قال ابن خلكان وهو أول من تسمى بالوزراء بالصاحب ثم استعمل بعده منهم وانما سمى بذلك لكثرة صحبته الوزير أبا الفضل بن العميد ثم أطلق عليه أيام وزارته وقال الصابئ في كتابه الناجي إنما سماه الصاحب مؤيد الدولة لأنه كان صاحبه من الصغر وكان إذ ذاك يسميه الصاحب فلما ملك واستوزره سماه به واستمر فاشتهر به وسمى به الوزراء بعده ثم ذكر ابن خلكان قطعة صالحة من مكارمه وفضائله وثناء الناس عليه وعدد له مصنفات كثيرة منها كتابه المحيط في اللغة في سبع مجلدات يحتوي على أكثر اللغة وأورد من شعره أشياء منها في الخمر ... رق الزجاج وراقت الخمر ... وتشابها فتشاكل الأمر ... فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر ... قال ابن خلكان توفي بالرى في هذه السنة وله نحو ستين ونقل إلى أصبهان رحمه الله
الحسن بن حامد
أبو محمد الأديب كان شاعر متجولا كثير المكارم روى عن علي بن محمد بن سعيد الموصلي وعنه الصوري وكان صدوقا وهو الذي أنزل المتنبي داره حين قدم بغداد وأحسن إليه حتى قال له المتنبي لو كنت مادحا تاجرا لمدحتك وقد كان أبو محمد هذا شاعرا ماهرا فمن شعره الجيد قوله ... شربت المعالي غير منتظر بها ... كسادا ولا سوقا يقام لها أحرى ... وما أنا من أهل المكاسب كلما ... توفرت الاثمان كنت لها أشرى ...
ابن شاهين الواعظ
عمر بن أحمد بن عثمان بن محمد بن أيوب بن زذان أبو حفص المهشور وسمع الكثير وحدث عن الباغندي وأبي بكر بن أبي داود والبغوي وابن صاعد وخلق وكان ثقة أمينا يسكن الجانب الشرقي من بغداد وكانت له المصنفات العديدة ذكر عنه انه صنف ثلثمائة وثلاثين مصنفا (11/316)
منها التفسير في ألف جزء والمسند في ألف وخمسمائة جزء والتاريخ في مائة وخمسين جزءا والزهد في مائة جزء توفي في ذي الحجة منها وقد قارب التسعين رحمه الله
الحافظ الدارقطني
علي بن عمر بن أحمد بن مهدي بن مسعود بن دينار بن عبدالله الحافظ الكبير أستذا هذه الصناعة وقبله بمدة وبعده إلى زماننا هذا سمع الكثير وجمع وصنف وألف وأجاد وأفاد وأحسن النظر والتعليل والانتقاد والاعتقاد وكان فريد عصره ونسيج وحده وإمام دهره في أسماء الرجال وصناعة التعليل والجرح والتعديلل وحسن التصنيف والتأليف واتساع الرواية والاطلاع التام في الدراية له كتابه المشهور من أحسن المصنفات في بابه لم يسبق إلى مثله و لا يلحق في شكله إلا من استمد من بحره وعمل كعمله وله كتاب العلل بين فيه الصواب من الدخل والمتصل من المرسل والمنقطع والمعضل وكتاب الافراد الذي لا يفهمه فضلا عن أن ينظمه إلا من هو من الحفاظ الأفراد والأئمة النقاد والجهابدة الجياد وله غير ذلك من المصنفات التي هي كالعقود في الأجياد وكان من صغره موصوفا بالحفظ الباهر والفهم الثاقب والبحر الزاخر جلس مرة في مجلس إسماعيل الصفار وهو يملي على الناس الأحاديث والداقطني ينسخ في جزء حديث فقال له بعض المحدثين في أثناء المجلس إن سماعك لا يصح وأنت تنسخ فقال الدارقطني فهمي للإملاء أحسن من فهمك وأحضر ثم قال له ذلك الرجل أنحفظ كم أملي حديثا فقال إنه أملى ثمانية عشر حديثا إلى الآن والحديث الأول منها عن فلان عن فلان ثم ساقها كلها بأسانيدها وألفاظها لم يخرم منها شيئا فتعجب الناس منه وقال الحاكم أبو عبدالله النيسابوري لم ير الدارقطني مثل نفسه وقال ابن الجوزي وقد اجتمع له مع معرفة الحديث والعلم بالقراءات والنحو والفقه والشعر مع الإمامة والعداله وصحة العقيدة وقد كانت وفاته في يوم الثلاثاء السابع من ذي القعدة منها وله من العمر سبع وسبعون سنة يومان ودفن من الغد بمقبرة معروف الكرخي رحمه الله قال ابن خلكان وقد رحل إلى الديار المصرية فأكرمه الوزير أبو الفضل جعفر بن خنزابة وزير كافور الأخشيدي وساعده هو والحافظ عبد الغني على إكمال مسنده وحصل للدارقطني منه مال جزيل قال والدارقطني نسبة إلى دارالقطن وهي محلة كبيرة ببغداد وقال عبدالغني بن سعيد الضرير لم يتكلم على الأحاديث مثل علي بن المديني في زمانه وموسى بن هارون في زمانه والدارقطني في زمانه وسئل الدارقطني هل رأى مثل نفسه قال أما في فن واحد فربما رأيت من هو أفضل مني وأما فيما اجتمع لي من الفنون فلا وقد روى الخطيب البغدادي عن الأمير أبي نصر هبة الله بن ماكولا قال رأيت في المنام كأني أسال عن حال أبي الحسن الداقطني وما آل أمره إليه في (11/317)
الآخرة فقيل لي ذاك يدعى في الجنة الإمام
عباد بن عباس بن عباد
أبو الحسن الطالقاني والد الوزير إسماعيل بن عباد المتقدم ذكره سمع أبا خليفة الفضل بن الحباب وغيره من البغداديين والاصفهادنيين والرازييين وغيرهم وحدث عنه ابنه الوزير أبو الفضل القاسم وأبو بكر بن مردويه ولعباد هذا كتاب في أحكام القرآن وقد اتفق موته موت ابنه في هذه السنة رحمهما الله
عقيل بن محمد بن عبدالواحد
أبو الحسن الأحنف العكبري الشاعر المشهور له ديوان مفرد ومن مستجاد شعره ما ذكره ابن الجوزي في منتظمة قوله ... أقضى علي من الأجل ... عذل العذول إذا عذل ... وأشد من عذل العذو ... ل صدود إلف قد وصل ... وأشد من هذا وذا ... طلب النوال من السفل ... وقوله ... من أراد العز والرا ... حة من هم طويل ... فليكن فردا في النا ... س ويرضى بالقليل ... ويرى أن سيري ... كافيا عما قليل ... ويرى بالحزم أن الحز ... م في ترك الفضول ... ويداوي مرض الوح ... دة بالصبر الجميل ... لا يمارى أحدا ما ... عاش في قال وقيل ... يلزم الصمت فإن الصم ... ت تهذيب العقول ... يذر الكبر لأهل الكب ... ر ويرضى بالخمول ... أي عيش لامرئ ... يصبح في حال ذليل ... بين قصد من عدو ... ومداواة جهول ... واعتلال من صدي ... ق وتجنى من ملول ... واحتراس من طنون السو ... مع عذل العذول ... ومقاسات بغيض ومداناة ثقيل ... أف معرفة النا ... س على كل سبيل ... وتمام الأمر لا يعر ... رف سمحا من بخيل ... فإذا أكمل هذا كا ... ن في ظل ظليل ...
محمد بن عبدالله بن سكرة
أبو الحسن الهاشمي من ولد علي بن المهدي كان شاعرا خليعا ظريفا وكان ينوب في نقابة الهاشميين فترافع إليه رجل اسمه علي وامرأة اسمها عائشة يتحاكمان في جمل فقال هذه قضية لا أحكم فيها بشيء لئلا يعول الحال خدعة ومن مستجاد شعره ولطيف قوله ... في وجه إنسانة كلفت بها ... أربعة ما اجتمعن في أحد ... الوجه بدر والصدغ غالية ... والريق خمر والثغر من برد ... وله قوله وقد دخل حماما فسرق نعليه فعاد إلى منزله حافيا فقال ... إليك أذم حمام ابن موسى ... وإن فاق المنى طيبا وحرا (11/318)
تكاثرت اللصوص عليه حتى ... ليحفى من يطيف به ويعرى ... ولم أفقد به ثوبا ولكن ... دخلت محمدا وخرجت بشرا ...
يوسف بن عمر بن مسرور
أبو الفتح القواس سمع البغوي وابن أبي داود وابن صاعد وغيرهم وعنه الخلال والعشاري والبغدادي والتنوخي وغيرهم وكان ثقة ثبتا يعد من الأبدال قال الداقطني كنا نتبرك به وهو صغير توفي لثلاث بقين من ربيع الآخر عن خمس وثمانين سنة ودفن بباب حرب
يوسف بن أبي سعيد
السيراي أبو محمد النحوي وهو الذي تمم شرح أبيه لكتاب سيبويه وكان يرجع إلى علم ودين وكانت وفاته في ربيع الأول منها عن خمس وخمسين سنة
ثم دخلت سنة ست وثمانين وثلثمائة
في محرمها كشف أهل البصرة عن قبر عتيق فإذا هم بميت طري عليه ثيابه وسيفه فطنوه الزبير بن العوام فأخرجوه وكفنوه ودفنوه واتخذوا عند قبره مسجدا ووقف عليه أوقاف كثيرة وجعل عنده خدام وقوام وفرش وتنوير وفيها ملك الحاكم العبيدي بلاد مصر بعد أبيه العزيز بن المعز الفاطمي وكان عمره إذ ذاك إحدى عشر سنة وستة أشهر وقام بتدبير المملكة أرجوان الخادم وأمين الدولة الحسن بن عمارة فلما تمكن الحاكم قتلها وأقام غيرهما ثم قتل خلقا حتى استقام له الأمر على ما سنذكره وحج بالناس الأمير الذي من جهة المصريين والخطبة لهم وفيها توفي من الأعيان
أحمد بن إبراهيم
ابن محمد بن يحيى بن سحنويه أو حامد بن إسحاق بن المزكي النيسابوري سمع الأصم وطبقته وكان كثير العبادة من صغره إلى كبره وصام في عمره سردا تسعا وعشرين سنة وقال الحاكم وعندي أن الملائكة لم تكتب عليه خطيئة توفي في شعبان منها عن ثلاث وستين سنة
أبو طالب المكي
صاحب قوت القلوب محمد بن علي بن عطية أبو طالب المكي الواعظ المذكر الزاهد المتعبد الرجل الصالح سمع الحديث وروى عن غير واحد قال العتبقي كان رجلا صالحا مجتهدا في العبادة وصنف كتابا سماه قوت القلوب وذكر فيه أحاديث لا أصل لها وكان يعظ الناس في جامع بغداد وحكى ابن الجوزي أن أصله من الجبل وأنه نشأ مكة وأنه دخل البصرة بعد وفاة أبي الحسن بن سالم فانتمى إلى مقالته ودخل بغداد فاجتمع عليه الناس وعقد له مجلس الوعظ بها فغلط في كلام وحفظ عنه أنه قال ليس على المخلوقين أضر من الخالق فبدعه الناس وهجروه وامتنع من الكلام (11/319)
على الناس وقد كان أبو طالب هذا يبيح السماع فدعا عليه عبدالصمد بن علي ودخل عليه فعاتبه على ذلك فأنشد أبو طالب ... فيا ليل كم فيك من متعب ... ويا صبح ليتك لم تقرب ... فخرج عبد الصمد مغضبا وقال أبو القاسم بن سرات دخلت على شيخنا أبي طالب المكي وهو يموت فقلت له أوص فقال أذا ختم لي بخير فانثر على جنازي لوزا وسكرا فقلت كيف أعلم بذلك فقال اجلس عند ويدك في يدي فإن قبضت على يدك فاعلم أنه قد ختم لي بخير قال ففعلت فلما حان فراقه قبض على يدي قبضا شديدا فلما رفع على جنازته نثرت اللوز والسكر على نعشه قال ابن الجوزي توفي في جمادى الآخرة منها وقبره ظاهر في جامع الرصافة
العزيز صاحب مصر
نزار بن المعز معد أبي تميم ويكنى نزار بأبي منصور ويلقب بالعزيز توفي عن اثنتين وأربعين سنة منها وكانت ولايته بعد أبيه إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر وعشر أيام وقام بالأمر من بعده ولده الحاكم قبحه ابلله والحاكم هذا هو الذي ينسب إليه الفرقة الضالة المضلة الزنادقة الحاكمية واليه ينسب أهل وادي التيم من الدرزية أتباع هستكر غلام الحاكم الذي بعثه إليهم يدعوهم إلى الكفر المحض فأجابوه لعنه الله وإياهم أجمعين أما العزيز هذا فإنه كان قد استوزر رجلا نصرانيا يقال له عيسى بن نسطورس وآخر يهوديا اسمه ميشا فعز بسببهما أهل هذين الملتين في ذلك الزمان على المسلمين حتى كتبت إليه امرأة قصة في حاجة لها تقول فيها بالذي أعز النصارى بعيسى بن نسطورس واليهود بميشا وأذل المسلمين بهما لما كشفت ظلامتي فعند ذلك أمر بالقبض على هذين الرجلين وأخذ من النصارى ثلاثمائة ألف دينار وفيها توفيت بنت عضد الدولة امرأة الطائع فحملت تركتها إلى ابن أخيها بهاء الدولة وكان فيها جوهر كثير والله أعلم
ثم دخلت سنة سبع وثمانين وثلثمائة
فيها توفي فخر الدولة أبو الحسن علي بن ركن الدولة بن بويه وأقيم ولده رستم في الملك مكانه وكان عمره أربع سنين وقام خواص أبيه بتدبير الملك في الرعايا وممن توفي فيها من الأعيان أو أحمد العسكري اللغوي
الحسن بن عبيدالله
ابن سعيد بن أحمد العسكري اللغوي العلامة في فنه وتصانيفه المفيد في اللغة وغيرها يقال إنه كان يميل إلى الاعتزال ولما قدم الصاحب بن عباد هو وفخر الدولة البلدة التي كان فيها أبو أحمد العسكري وكان قد كبر وأسن بعث إليه الصاحب رقعة فيها هذه الأبيات (11/320)
ولما أبيتم أن تزوروا وقلتم ... ضعفنا فما نقوى على الوحدان ... أتيناكم من بعد أرض نزوركم ... فكم من منزل بكر لنا عوان ... نناشدكم هل من قرى لنزيلكم ... بطول جوار لا يمل جفان ... تضمنت بنت ابن الرشيد كأنما ... تعمد تشبيهي به وعناني ... أهم بأمر الحزم لا أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان ... ثم ركب بغلته تحاملا وصار إلى الصاحب فوجده مشغولا في خيمته بابهة الوزارة فصعد أكمه ثم نادى بأعلى صوته ... ما لي أرى القبة الفيحاء مقفلة ... دوني وقد طال ما استفتحت مقفلها ... كأنها جنة الفردوس معرضة ... وليس لي عمل زاك فأدخلها ... فلما سمع الصاحب صوته ناداه أدخلها يا أبا أحمد فلك السابقة الأولى فلما صار إليه أحسن إليه توفي في يوم التروية منها قال ابن خلكان وكانت ولادته يوم الخميس لست عشرة ليلة خلت من شوال سنة ثلاثة وتسعين ومائتين وتوفي يوم الجمعة لسبع خلون من ذي الحجة سنة اثنتين وثماني وثلثمائة
عبدالله بن محمد بن عبدالله
ابن إبراهيم بن عبيدالله بن زياد بن مهران أبو القاسم الشاعر المعروف بابن الثلاج لأن جده أهدى لبعض الخلفاء ثلجا فوقع منه موقعا فعرف عند الخليفة بالثلاج وقد سمع أبو القاسم هذا من البغوي وابن صاعد وأبي داود وحدث عن التنوخي والأزهري والعقيقي وغيرهم من الحفاظ قال ابن الجوزي وقد اتهمه المحدثون منهم الدارقطني ونسبوه إلى أنه كان يركب الإسناد ويضع الحديث على الرجال توفي في ربيع الأول فجأة
ابن زولاق
الحسن بن إبراهيم بن الحسين بن الحسن بن علي بن خلد بن راشد بن عبيد الله بن سليمان بن زولاق أبو محمد المصري الحافظ صنف كتابا في قضاة مصر ذيل به كتاب أبي عمر محمد بن يوسف بن يعقوب الكندي إلى سنة ست وأربعين ومائتين وذيل ابن زولاق من القاضي بكار إلى سنة ست وثمانين وثلثمائة وهي أيام محمد بن النعمان قاضي الفاطميين الذي صنف البلاغ الذي انتصب فيه للرد على القاضي الباقلاني وهو أخو عبدالعزيز بن النعمان والله أعلم وكانت وفاته في أواخر ذي القعدة من هذه السنة عن إحدى وثمانين سنة
ابن بطة عبيد الله بن محمد
ابن حمران أبو عبدالله العكبري المعروف بابن بطة أحد علماء الحنابلة وله التصانيف (11/321)
الكثيرة الحافلة في فنون من العلوم سمع الحديث من البغوي وأبي بكر النيسابوري وابن صاعد وخلق في أقاليم متعددة وعنه جماعة من الحفاظ منهم أبو الفتح بن أبي الفوارس والأزجي والبرمكي وأثنى عليه غير واحد من الأئمة وكان ممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وقد رأى بعضهم رسول الله فقال يا رسول الله ( ص ) قد اختلفت علي المذاهب فقال عليك بابي عبدالله بن بطة فلما أصبح ذهب إليه ليبشره بالمنام فحين لآه بن بطة تبسم إليه وقال له قبل أن يخاطبه صدق رسول الله ( ص ) ثلاث مرات وقد تصدى الخطيب البغدادي للكلام في ابن بطة والطعن عليه وفيه بسبب بعض الجرح في ابن بطة الذي أسنده إلى شيخه عبدالواحد بن علي الأسدي المعروف بابن برهان اللغوي فانتدب ابن الجوزي للرد على الخطيب والطعن عليه أيضا بسبب بعض مشايخه والانصار لابن بطة فحكى عن أبي الوفا بن عقيل أن ابن برهان كان يرى مذهب مرجئة المعتزلة في أن الكفار لا يخلدون في النار وإنما قالوا ذلك لأن دوام ذلك إنما هو التشفي ولا معنى له هنا مع أنه قد وصف بأنه غفور رحيم وأنه لأرحم الراحمين ثم شرع ابن عقيل يرد على ابن برهان قال ابن الجوزي فكيف يقبل الجرح من مثل هذا ثم روى ابن الجوزي بسنده عن ابن بطة أنه سمع المعجم من البغوي قال والمثبت مقدم على النافي قال الخطيب وحدثني عبدالواحد بن برهان قال ثنا محمد بن أبي الفوارس روى عن ابن بطة عن البغوي عن أبي مصعب عن مالك عن الزهري عن أنس قال قال رسول الله ( ص ) ( طلب العلم فريضة على كل مسلم ) قال الخطيب وهذا باطل من حديث مالك والحمل فيه على ابن بطة قال ابن الجوزي والجواب عن هذا من وجهين أحدهما أنه وجد بخط ابن برهان ما حكاه الخطيب في القدح في ابن بطة وهو شيخي أخت عنه العلم في البداية الثاني أن ابن برهان قد تقدم القدح فيه بما خالف فيه الاجماع فيكف قبلت القول في رجل قد حكيت عن مشايخ العماء أنه رجل صالح مجاب الدعوة نعوذ بالله من الهوى
علي بن عبدالعزيز بن مدرك
أبو الحسن البردعي روى عن أبي حاتم وغيره وكان كثير المال فترك الدنيا وأقبل على الآخرة فاعتكف في المسجد المسجد وكان كثير الصلاة والعبادة
فخر الدولة بن بويه
علي بن ركن الدولة أبي علي الحسن بن بوسه الديلمي ملك بلاد الري ونواحيها وحين مات أخوه مؤيد الدولة كتب إليه الوزير ابن عباد بالاسراع إليه فولاه الملك بعده واستوزر ابن عباد على ما كات عليه توفي عن ست أربعين سنة منها مدة ملكه ثلاث عشرة سنة وعشرة أشهر وسبعة عشر يوما وترك من الأموال شيئا كثيرا من الذهب ما يقارب ثلاثة آلاف ألف دينار (11/322)
ومن الجواهر نحوا من خمسة عشر ألف قطعة يقارب فيمتها ثلاث آلاف ألف دينار ذهبا وغير ذلك من أواني الذهب زنته ألف ألف دينار ومن الفضة زنته ثلاثة آلاف ألف درهم كلها آنية ومن الثياب ثلاثة آلاف حمل وخزانة السلاح ألف حمل ومن الفرش ألف وخمسمائة حمل ومن الأمتعة مما يليق بالملوك شيئا كثيرا لا يحصر ومع هذا لم يصلوا ليلة موته إلى شيء من المال ولم يحصل له كفن إلا ثوب من المجاورين في المسجد واشتغلوا عنه بالملك حتى تم لولده رستم من بعده فأنتن الملك ولم يتمكن أحد من الوصول إليه فربطوه في حبال وجروه على درج القلعة من نتن ريحه فتقطع جزاء وفاقا
ابن سمعون الواعظ
محمد بن أحمد بن إسماعيل أبو الحسين بن سمعون الواعظ أحد الصلحاء والعلماء كان يقال له الناطق بالحكمة روى عن أبي بكر بن داود وطبقته وكان له يد طولى في الوعظ والتدقيق في المعاملات وكانت له كرامات ومكاشفات كان يوما يعظ على المنبر وتحته أبو الفتح بن القواس وكان من الصالحين المشهورين فنعس ابن القواس فأمسك ابن سمعون عن الوعظ حتى استيقظ فحين استيقظ قال ابن سمعون رأيت رسول الله ( ص ) في منامك هذا قال نعم قال فلهذا أمسكت عن الوعظ حتى لا أزعجك عما كنت فيه وكان لرجل ابنه مريضة مدنفة فرأى أبوها رسول الله ( ص ) في المنام وهو يقول له اذهب إلى ابن سمعون ليأتي منزلك فيدعو لابنتك تبرأ بإذن الله فلما أصبح ذهب إليه فلما رآه نهض ولبس ثيابه وخرج مع الرجل فظن الرجل أنه يذهب إلى مجلس وعظه فقال في نفسه أقول له في أثناء الطريق فلما مر بدار الرجل دخل إليها فأحضر إليه ابنته فدعا لها وانصرف فبرأت من ساعتها وبعث إليه الخليفة الطائع لله من أحضره إليه وهو مغضب عليه فخيف على ابن سمعون منه فلما جلس بين يديه أخذ في الوعظ وكان أكثر ما أورده من كلام علي بن أبي طالب فبكى الخليفة حتى سمع نشيجه ثم خرج من بين يديه وهو مكرم فقيل للخليفة رأيناك طلبته وأن غضبان فقال بلغني انه ينتقص عليا فأردت أن أعاقبه فلما حضر أكثر من ذكر علي فعلمت أنه موفق فذكرني وشفى ما كان في خاطري عليه ورأى بعضهم في المنام رسول الله ( ص ) وإلى جانبه عيسى بن مريم عليه السلام وهو يقول أليس من أمتي ألحبار أليس من أمتى أصحاب الصوامع فبينا هو يقول ذلك إذ دخل ابن سمعون فقال رسول الله ( ص ) لعيسى أفي أمتك مثل هذا فسكت عيسى ولد ابن سمعون في سنة ثلثمائة وتوفي يوم الخميس الرابع عشر من ذي القعدة في هذه السنة ودفن بداره قال ابن الجوزي ثم أخرج بعد سنتين إلى مقبرة أحمد بن حنبل وأكفانه لم تبل رحمه الله
آخر ملوك السامانية نوح بن منصور
ابن نوح بن نصر بن أحمد بن إسماعيل أبو القاسم الساماني ملك خراسان وغزنة وما وراء (11/323)
النهر ولي الملك وعمره ثلاث عشرة سنة واستمر في الملك إحدى وعشرين سنة وتسعة أشهر ثم قبض عليه خواصه وأجلسوا مكانه أخاه عبدالملك فقدهم محمد بن سبكتيكن فانتزع الملك من ايدهم وقد كان لهم الملك مائة وستين سنة فباد ملكهم في هذا العام ولله الأمر من قبل ومن بعد
أبو الطيب سهل بن محمد
ابن سليمان بن محمد بن سليمان الصعلوكي الفقيه الشافعي إمام أهل نيسابور وشيخ تلك الناحية كان يحضر مجلسه خمسمائة محبرة وكانت وفاته في هذه السنة على المشهور وقال الحافظ أبو يعلى الخليلي في الإرشاد مات في سنة ستين وأربعمائة فالله أعلم
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وثلثمائة
قال ابن الجوزي في ذي الحجة منهاسقط في بغداد برد عظيم بحيث جمد الماء في الحمامات وبول الدواب في الطرقات وفيها جاءت رسل أبي طالب بن فخر الدولة في البيعة له فبايعه الخليفة وأمره على بلاد ألرى ولقبه مجد الدولة كهف الأمة وبعث إليه بالخلع والألوية وكذلك فعل ببدر بن حسنويه ولقبه ناصر الدين والدولة وكان كثير الصدقات وفها هرب أبو عبدالله بن جعفر المعروف بابن الوثاب المنتسب إلى جده الطائع من السجن بدار الخلافة إلى البطيحة فآواه صاخبها مهذب الدولة ثم أرسل القادر بالله في أمره فجيء به مضيقا عليه فاعتقله هرب من الاعتقال أيضا فهذب إلى بلاد كيلان فادعى انه الطائع لله فصدقوه وبايعوه وأدوا إليه العشر وغير ذلك من الحقوق ثم اتفق مجيء بعضهم إلى بغداد فسألوا عن الأمر فإذا ليس له أصل ولا حقيقة فرجعوا عنه واضمحل أمره وفسد حاله فانهزم عنهم وحج بالناس فيها أمير المصريين والخطبة بالحرمين للحاكم العبيدي قبحه الله وممن توفي فيها من الأعيان الخطابي أبو سليمان حمد ويقال أحمد بن محمد بن إبراهيم بن الحطاب الخطابي البستي أحد المشاهير الأعيان والفقهاء المجتهدين المكثرين له من المصنفات معالم السنن وشرح البخاري وغير ذلك وله شعر حسن فمنه قوله ... ما دمت حيا فدار الناس كلهم ... فإنما أنت في دار المداراة ... من يدرداري ومن لم يدر سوف يرى ... عما قليل نديما للندامات ... توفي بمدينة بست في ربيع الأول من هذه السنة قاله ابن خلكان
الحسين بن أحمد بن عبدالله
ابن عبدالرحمن بن بكر بن عبدالله الصيرفي الحافظ المطبق سمع إسماعيل الصفار وابن السماك (11/324)
والنجاد والخلدي وأبا بكر الشاشي وعنه ابن شاهين والأزهري والتنوخي وحكى الأزهري انه دخل عليه وبين يديه أجزاء كبار فجعل إذا ساق إسنادا أورد متنه من حفظه وإذا سرد متنا ساق إسناده من حفظه قال وفعلت هذا معه مرارا كل ذلك يورد الحديث إسنادا ومتنا كما في كتابه قال وكان ثقة فحسدوه وتكلموا فيه وحكى الخطيب أن ابن أبي الفوارس اتهمه بأنه يزيد في سماع الشيوخ ويلحق رجالا في الأحاديث ويصل المقاطيع توفي في ربيع الأول منها عن إحدى وسبعين سنة
صمصامة الدولة
ابن عضد الدولة صاحب بلاد فارس خرج عليه ابن عمه أبو نصر بن بختيار فهرب منه ونجا في جماعة من الأكراد فلما وغلوا به أخذوا ما في خزائنه وحواصله ولحقه أصحاب ابن بختيار فقتلوه وحملوا رأسه إليه فلما وضع بين يدي ابن بختيار قال هذه سنة سنها ابوك وكان ذلك في ذي الحجة من هذه السنة وكان عمره يوم قتل خمسا وثلاثين سنة ومدة ملكه منها تسع سنين وأشهر
عبدالعزيز بن يوسف الحطان
أبو القاسم كاتب الإنشاء لعضد الدولة ثم وزر لابنه بهاء الدولة خمسة أشهر وكان يقول الشهر توفي في شعبان منها
محمد بن أحمد
ابن إبراهيم أبو الفتح المعروف بغلام الشنبوذي كان عالما بالقراءات وتفسيرها يقال إنه كان يحفظ خمسين ألف بيت من الشعر شواهد للقرآن ومع هذا تكلموا في روايته عن أبي الحسين بن شنبوذ وأساء الدارقطني القول فيه توفي في صفر منها وولد سنة إحدى وثلاثين وثلثمائة
ثم دخلت سنة تسع وثمانين وثلثمائة
فيها قصد محمود بن سبكتكين بلاد خراسان فاستلب ملكها من أيدي السامانية وواقعهم مرات متعددة في هذه السنة وما قبلها حتى أزال اسمهم ورسمهم عن البلاد بالكلية وانقرضت دولتهم بالكلية ثم صمد لقتال ملك الترك بما وراء النهر وذلك بعد موت الخاقان الكبير الذي يقال له فائق وجرت له معهم حروب وخطوب وفيها استولى بهاء الدولة على بلاد فارس وخوزستان وفيها أرادت الشيعة أن يصنعوا ما كانوا يصنعونه من الزينة يوم غدير خم وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة فيما يزعمونه فقاتلهم جهلة آخرون من المنتسبين إلى السنة فادعوا أن في مثل هذا اليوم حصر النبي ( ص ) وأبو بكر في الغار فامتنعوا من ذلك وهذا أيضا جهل من هؤلاء فإن هذا إنما كان أوائل ربيع الأول من أول سنى الهجرة فإنهما أقاما فيه ثلاثا وحين خرجا منه قصدا المدينة دخلاها بعد ثمانية أيام أو نحوها وكان دخولهما المدينة في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول وهذا مر معلوم مقرر ومحرر ولما كانت الشيعة يصنعون في يوم عاشوراء مأتما يظهرون فيه الحزن على الحسين (11/325)
ابن علي قابلتهم طائفة أخرى من جهلة أهل السنة فادعوا أن في اليوم الثاني عشر من المحرم قتل مصعب بن الزبير فعملوا له مأتما كما تعمل الشيعة للحسين وزاروا قبره كما زاروا قبر الحسين وهذا من باب مقابلة البدعة ببدعة مثلها ولا يرفع البدعة إلا السنة الصحيحة وفيها وقع برد شديد مع غيم مطبق وريح قوية بحيث أتلفت شيئا كثيرا من النخيل ببغداد فلم يتراجع حملها إلى عادتها إلا بعد سنتين وفيها حج بركب العراق الشريفان الرضي والمرتضي فاعتقلهما أمير الأعراب ابن الجراح فافتديا أنفسهما منه بتسعة آلاف دينار من أموالهما فأطلقهما وممن توفي فيها من الأعيان
زاهد بن عبدالله
ابن
أحمد بن محمد
بن عيسى السرخسي المقرئ الفقيه المحدث شيخ عصره بخراسان قرأ على ابن مجاهد وتفقه بأبي اسحاق المروزي إمام الشافعية وأخذ اللغة والأدب والنحو عن أبي بكر بن الأنباري توفي في ربيع الآخر عن سن وتسعين سنة
عبدالله بن محمد بن إسحاق
ابن سليمان بن مخلد بن إبراهيم بن مروز أبو القاسم المعروف ابن حبابة روى عن البغوي وأبي بكر بن أبي داود وطبقتهما وكان ثقة مأمونا مسندا ولد ببغداد سنة تسع وتسعين ومائتين ومات في جمادى الأولى من هذه السنة عن تسعين سنة وصلى عليه الشيخ أبو حامد الاسفراييني شيخ الشافعية ودفن في مقابر جامع المنصور
ثم دخلت سنة تسعين وثلثمائة من الهجرة النبوية
فيها ظهر بأرض سجستان معدن من ذهب كانوا يحفرون فيه مثل الآبار ويخرجون منه ذهبا أحمر وفيها قتل الأمير أبو نصر بن بختيار صاحب بلاد فارس واستولى عليها بهاء الدولة وفيها قلد القادر بالله القضاء بواسط وأعمالها أبا حازم محمد بن الحسن الواسطي وقرئ عهده بدار الخلافة وكتب له القادر وصية حسنة طويلة أوردها ابن الجوزي في منتظمه وفيها مواعظ وأوامر ونواهي حسنة جيدة وممن توفي فيها من الأعيان أحمد بن محمد ابن أبي موسي أبو بكر الهاشمي الفقيه المالكي القاضي بالمدائن وغيرها وخطب بجامع المنصور وسمع الكثير وروى عنه الجم الغفير وعنه الدارقطني الكبير وكان عفيفا نزها ثقة دينا توفي في محرم هذه السنة عن خمس وسبعين سنة
عبيدالله بن عثمان بن يحيى
أبو القاسم الدقاق ويعرف بابن حنيفا قال القاضي العلامة أبو يعلى بن الفراء وهذا جده وروى باللام لا بالنون حليفا وقد سمع الحديث سماعا صحيحا وروى عنه الأزهري وكان ثقة (11/326)
مأمونا حسن الخلق ما رأينا مثله في معناه
الحسين بن محمد بن خلف
ابن الفراء والد القاضي أبي يعلى وكان صالحا فقيها على مذهب أبي حنيفة أسند الحديث ورى عنه ابنه أبو حازم محمد بن الحسين
عبدالله بن أحمد
ابن علي بن أبي طالب البغدادي نزيل مصر وحدث بها فسمع منه الحافظ عبدالغني بن سعيد المصري
عمر بن إبراهيم
ابن أحمد أبو نصر المعروف بالكتاني المقري ولد سنة ثلثمائة وروى عن البغوي وابن مجاهد وابن صاعد وعنه الأزهري وغيره وكان ثقة صالحا
محمد بن عبدالله بن الحسين
ابن عبدالله بن هارون أبو الحسين الدقاق المعروف بابن أخي ميمي سمع البغوي وغيره وعنه جماعة ولم يزل على كبر سنة يكتب الحديث إلى أن توفي وله تسعون سنة وكان ثقة مأمونا دينا فاضلا حسن الأخلاق توفي ليلة الجمعة لثمان وعشرين من شعبان منها
محمد بن عمر بن يحيى
ابن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه الشريف أبو الحسين العلوي الكوفي ولد سنة خمس عشرة وسمع من أبي العباس بن عقدة وغيره وسكن بغداد وكانت له أموال كثيرة وضياع ودخل عظيم وحشمة وافرة وهمة عالية وكان مقدما على الطالبيين في وقته وقد صادره عضد الدولة في وقت استحوذ على جمهور أمواله وسجنه ثم أطلقه شرف الدولة بن عضد الدولة ثم صادره بهاء الدولة بألف ألف دينار ثم سجنه ثم أطلقه واستنابه على بغداد ويقال إن غلاته كانت تساوي في كل سنة بألفي ألف دينار وله وجاهة كبيرة جدا ورياسة باذخة
الأستاذ أبو الفتوح برجوان
الناظر في الأمور بالديار المصرية في الدولة الحاكمية واليه تنسب حارة برجوان بالقاهرة كان أولا من غلمان العزيزبن المعز ثم صار عند الحاكم نافذ الأمر مطاعا كبيرا في الدولة ثم أمر بقتله في القصر فضرب به الأمير ريدان الذي تنسب إليه الريدانية خارخ باب الفتوح بسكين في بطنه فقتله وقد ترك شيئا ك كثيرا من الأثاث والثياب من ذلك ألف سراويل بيدقي بألف تكة من حرير قاله ابن خلكان وولي الحاكم بعده في منصبه الأمير حسين بن القائد جوهر (11/327)
الجريري المعروف بابن طرار
المعافي بن زكريا بن يحيى بن حميد بن حماد بن داود أبو الفرج النهرواني القاضي لأنه ناب في الحكم المعروف بابن طرار الجريري لأنه اشتغل على ابن جرير الطبري وسلك وراءه في مذهبه فنسب إليه سمع الحديث من البغوي وابن صاعد وخلق وروى عنه جماعة وكان ثقة مأمونا عالما فاضلا كثير الآداب والتمكن في أصناف العلوم وله المصنفات الكثيرة منها كتابه المسمى بالجليس والأنيس فيه فوائد كثيرة جمة وكان الشيخ أبو محمد الباقلاني أحد أئمة الشافعية يقول إذا حضر المعافى حضرت العلوم كلها ولو أوصى رجل بثلث ماله لأعلم الناس لوجب أن يصرف إليه وقال غيره اجتمع جماعة من الفضلاء في دار بعض الرؤساء وفيهم المعافى فقالوا هل نتذاكر في فن من العلوم فقال المعافي لصاحب المنزل وكان عنده كتب كثيرة في خزانة عظيمة مر غلامك أن يأني بكتاب من هذه الكتب أي كتاب كان نتذاكر فيه فتعجب الحاضرون من تمكنه وتبحره في سائر العلوم وقال الخطيب البغدادي أنشدنا االشيخ أبو الطيب الطبري أنشدنا المعافي بن زكريا لنفسه ... ألا قل لمن كان لي حاسدا ... أتدري على من أسأت الأدب ... أسأت على الله سبحانه ... لأنك لا ترضى لي ما وهب ... فجازاك عني بأن زادني ... وسد عليك وجوه الطلب ... توفي في ذي الحجة من هذه السنة عن خمس وثمانين سنة رحمه الله
ابن فارس
صاحب المجمل وقيل إنه توفي في سنة خمس وتسعين كما سيأتي
أم السلامة
بنت القاضي أبي بكر بن أحمد بن كامل بن خلف بن شنخرة أم الفتح سمعت من محمد بن إسماعيل النصلاني وغيره وعنها الأزهري والتنوخي وأبو يعلى بن الفراء وغيرهم وأثنى عليها غير واحد في دينها وفضلها وسيادتها وكان مولدها في رجب من سنة ثمان وتسعين وتوفيت في رجب أيضا من هذه السنة عن ثنتين وتسعين سنة رحمها الله تعالى
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وثلثمائة
فيها بايع الخليفة القادر بالله أبي الفضل بولاية العهد من بعده وخطب له على المنابر بعد أبيه ولقب بالغالب بالله وكان عمره حينئذ ثماني سنين وشهورا ولم يتم له ذلك وكان سبب ذلك أن رجلا يقال له عبدالله بن عثمان الواقفي ذهب إلى بعض الأطراف من بلاد الترك وادعى أن (11/328)
القادر بالله جعله ولي العهد من بعده فخطبوا له هنالك فلما بلغ القادر أمره بعث يتطلبه فهرب في البلاد وتمزق ثم أخذه بعض الملوك فسجنه في قلعة إلى أن مات فلهذا بادر القادر إلى هذه البيعة وفي يوم الخميس الثاني عشر من ذي القعدة ولد الأمير أو جعفر عبدالله بن القادر بالله وهذا هو الذي صارت إليه الخلافة وهو القائم بأمر الله وفيها قتل الأمير حسام الدولة المقلد بن المسيب العقيلي غيلة ببلاد الأنبار وكان قد عظم شأنه بتلك البلاد ورام المملكة فجاءه القدر المحتوم فقتله بعض غلمانه الأتراك وقام بالأمر من بعده ولده قرواش وحج بالناس المصريون وفيها توفي من الأعيان
جعفر بن الفضل بن جعفر
جعفر بن الفضل بن جعفر ابن محمد بن الفرات أبو الفضل المعروف بابن خنزابه الوزير ولد سنة ثمان وثلثمائة ببغداد ونزل الديار المصرية ووزر بها للأمير كافور الأخشيدي وكان أبوه وزيرا للمقتدر وقد سمع الحديث من محمد بن هارون الحضرمي وطبقته من البغداديين وكان قد سمع مجلسا من البغوي ولم يكن عنده وكان يقول من جاءني به أغنيته وكان له مجلس للإملاء بمصر وبسببه رحل الدارقطني إلى مصر فنزل عنده وخرج له مسندا وحصل له منه مال جزيل وحدث عنه الدارقطني وغيره من الأكابر ومن مستجاد شعره قوله ... من أخمل النفس أحياها وروحها ... ولم يبت طاويا منها على ضجر ... إن الرياح إذا اشتدت عواصفها ... فليس ترمي سوى العالي من الشجر ... قال ابن خلكان كانت وفاته في صفر وقيل في ربيع الأول منها عن ثنتين وثمانين سنة ودفن بالقرافة وقيل بداره وقيل إنه كان قد اشترى بالمدينة النبوية دارا فجعل له فيها تربة فلما نقل إليها تلقته الأشراف لإحسانه إليهم فحملوه وحجوا به ووقفوا به بعرفات ثم أعادوه إلى المدينة فدفنوه بتربته
ابن الحجاج الشاعر
الحسين بن أحمد بن الحجاج أبو عبدالله الشاعر الماجن المقذع في نظمه يستنكف اللسان عن التلفظ بها والأذنان عن الاستماع لها وقد كان أبوه من كبار العمال وولى هو حسبة بغداد في أيام عزالدولة فاستخلف عليها نوابا سنة وتشاغل هو بالشعر السخيف والرأي الضعيف إلا أن شعره جيد من حيث اللفظ وفيه قوة تدل على تمكين واقتدار على سبك المعاني القبيحة التي هي في غاية الفضيحة في الألفاظ الفصيحة وله غير ذلك من الاشعار المستجادة وقد امتدح مرة صاحب مصر فبعث إليه بألف دينار وقول ابن خلكان بأنه عزل عن حسبة بغداد بأبي سعيد الأصطخري قول ضعيف لا يسامح بمثله فإن أبا سعيد توفي في سنة ثمان وعشرين وثلثمائة فكيف يعزل به ابن الحجاج وهو لا يمكن ادعاء أن يلي الحسبة بعده أبو سعيد الأصطخري وابن خلكان قد أرخ وفاة (11/329)
هذا الشاعر بهذه السنة ووفاة الاصطخري بما تقدم وقد جمع الشريف الرضي أشعاره الجيدة على حدة في ديوان مفرد ورثاه حين توفي هو وغيره من الشعراء
عبدالعزيز بن أحمد بن الحسن الجزري
القاضي بالحرم وحريم دار الخلافة وغير ذلك من الجهات كان ظاهريا على مذهب داود وكان لطيفا تحاكم إليه وكيلان فبكى أحدهما في أثناء الخصومة فقال له القاضي أرني وكالتك فناوله فقرأها ثم قال له لم يجعل إليك أن تبكي عنه فاستضحك الناس ونهض الوكيل خجلا
عيسى بن الوزير علي بن عيسى
ابن داود بن الجراح أبو القاسم البغدادي وكان أبوه من كبار الوزراء وكتب هو للطائع أيضا وسمع الحديث الكثير وكان صحيح السماع كثير العلوم وكان عارفا بالمنطق وعلم الأوائل فاتهموه بشيء من مذهب الفلاسفة ومن جيد شعره قوله ... رب ميت قد صار بالعلم حيا ... ومبقى قد مات جهلا وغيا ... فاقتنوا العلم كي تنالوا خلودا ... لا تعدوا الحياة في الجهل شيا ... ولد في سنة ثنتين وثلثمائة وتوفي في هذه السنة عن تسع وثمانين سنة ودفن في داره ببغداد
ثم دخلت سنة ثنتين وتسعين وثلثمائة
في محرمها غزا يمين الدولة محمود بن سبكتكين بلاد الهند فقصده ملكها جيبال في جيش عظيم فاقتتلوا قتالا شديدا ففتح الله على المسلمين وانهزمت الهنود وأسر ملكهم جيبال وأخذوا من عنقه قلادة قيمتها ثمانون ألف دينار وغنم المسلمون منهم اموالا عظيمة وفتحوا بلادا كثيرة ثم إن محمودا سلطان المسلمين أطلق ملك الهند احتقارا له واستهانة به ليراه أهل مملكته والناس في المذلة فحين وصل جيبال إلى بلاده ألقى نفسه في النار التي يعبدونها من دون الله فاحترق لعنه الله وفي ربيع الأول منها ثارت العوام على النصارى ببغداد فنهبوا كنيستهم التي بقطيعة الدقيق وأحرقوها فسقطت على خلق فماتوا وفيهم جماعة من المسلمين رجال ونساء وصبيان وفي رمضان منها قوى أمر العيارين وكثرت العملات ونهبت بغداد وانتشرت الفتنة قال ابن الجوزية وفي ليلة الإثنين منها ثالث القعدة انقض كوكوب أضاء كضوء القمر ليلة التمام ومضى الشعاع وبقي جرمه يتموج نحو ذراعين في ذراعين في رأي العين ثم توارى بعد ساعة وفي هذا الشهر قدم الحجاج من خرسان إلى بغداد ليسيروا إلى الحجاز فبلغهم عيث الأعراب في الأرض بالفساد وأنه لا ناصر لهم ولا ناظر ينظر في أمرهم فرجعوا إلى بلادهم ولم يحج من بلاد المشرق أحد في هذه السنة وفي يوم عرفة منها ولد لبهاء (11/330)
الدولة ابنان توأمان فمات أحدهما بعد سبع سنين وأقام الآخر حتى قام بالأمر من بعد أبيه ولقب شرف الدولة وحج المصريون فيها بالناس وممن توفي فيها من الأعيان
ابن جني
أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي النحوي اللغوي صاحب التصانيف الفائقة المتداولة في النحو واللغة وكان جنى عبدا روميا مملوكا لسليمان بن فهد بن أحمد الأزدي الموصلي ومن شعره في ذلك قوله ... فإن أصبح بلا نسب ... فعلمي في الورى نسبي ... على أني أؤول إلى ... قروم سادة نجب ... قياصرة إذا نطقوا ... أرموا الدهر ذا الخطب ... أولاك دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم ... كفى شرفا دعاء نبي ... وقد أقام ببغداد ودرس بها العلم إلى أن توفي ليلة الجمعة لليلتين خلتا من صفر منها قال ابن خلكان ويقال إنه كان أعور وله في ذلك ... صدودك عني ولا ذنب لي ... يدل على نية فاسدة ... فقد وحياتك مما بكيت خشيت على عيني الواحدة ... ولولا ومخافة أن أرا ... ك لما كان في تركها فائدة ... ويقال إن هذه الأبيات لغيره وكان قائلها أعور وله في مملوك حسن الصورة أعور قوله ... له عين أصابت كل عين ... وعين قد أصابتها العيون ... أبو الحسن الجرجاني الشاعر الماهر
علي بن عبدالعزيز
القاضي بالري سمع الحديث وترقى في العلوم حتى أقر له الناس بالتفرد وله أشعار حسان من ذلك قوله ... يقولون لي فيك انقباض وإنما ... رأو رجلا عن موقف الذل أحجمكا ... أرى الناس من داناهم هان عندهم ... ومن أكرمته عزة النفس أكرما ... ولم أقض حق العلم إن كان كلما ... بدا طمع صيرته لي سلما ... إذا قيل لي هذا مطمع قلت قد أرى ... ولكن نفس الحر تحتمل الظما ... ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لا خدم من لا قيت ولكن لا خدما ... أأشقى به غرسا وأجنيت ذلة ... إذا فابتاع الجهل قد كان أحزما ... ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظموه في النفس لعظما (11/331)
ولكن أهانوه فهان ودنسوا ... محياه بالأطماع حتى نجهما ... ومن مستجاد شعره أيضا ... ما تطعمت لدة العيش حتى ... صرت للبيت والكتاب جليسا ... ليس عندي شيء ألذ من ال ... علم فما أبتغي سواه أنيسا ... ومن شعره أيضا ... إذا إذا شئت أن تستقرض المالل منقا ... على شهوات النفس في زمن العسر ... فسل نفسك الانفاق منى كنز صبرها ... عليك وإنظارا إلى زمن اليسر ... فإن فعلت كنت الغني وإن أبت ... فكل منوع بعدها واسع العذر ... توفي رحمه الله في هذه السنة وحمل تابو له إلى جرجان فدفن بها
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة
وفيها كانت وفاة الطائع لله على ما سنذكره وفيها منع عميد الجيوش الشيعة من النوح على الحسين في يوم عاشوراء ومنع جهلة السنة بباب البصرة وباب الشعير من النوح على مصعب بن الزبير بعد ذلك بثمانية أيام فامتنع الفريقان ولله الحمد والمنة وفي أواخر المحرم خلع بهاء الدولة وزيره أبا غالب محمد بن خلف عن الوزارة وصادره بمائة ألف دينار قاشانية وفي أوائل صفر منها غلت الأسعار ببغداد جدا وعدمت الحنطة حتى بيع الكر بمائة وعشرين دينارا وفيها برز عميد الجيوش إلى سر من رأى واستدعى سيد الدولة أبا الحسن علي بن مزيد وقرر عليه في كل سنة أربعين ألف دينار فالتزم بذلك فقرره على بلاده وفيها هرب أبو العباس الضبي وزير مجد الدولة بن فخر الدولة من الري إلى بدر بن حسنوية فأكرمه وولى بعد ذلك وزارة مجد الدولة أبو علي الخطير وفيها استناب الحاكم على دمشق وجيوش الشام أبا محمد الأسود ثم بلغه أنه عزر رجلا مغربيا سب ابو بكر وعمر رضي الله عنهما وطاف به في البلد فخاف من معرة ذلك فبعث إليه فعزله مكرا وخديعة وانقطع الحج فيها من العراق بسبب الأعراب وممن توفي فيها من الأعيان
إبراهيم بن أحمد بن محمد
أبو إسحاق الطبري الفقيه المالكي مقدم المعدلين ببغداد وشيخ القراءات وقد سمع الكثير من الحديث وخرج له الداقطني خمسمائة جزء حديث وكان كريما مفضلا على أهل العلم
الطائع لله عبدالكريم بن المطيع
تقدم خلعه وذكر ما جرى له توفي في ليلة عيد الفطر منها عن خمس أو ست وسبعين سنة منها سبع عشر سنة وستة أشهر وخمسة أيام خليفة وصلى عليه الخليفة القادر فكبر عليه خمسا وشهد جنازته الأكابر ودفن بالرصافه (11/332)
محمد بن عبدالرحمن بن العباس بن زكريا
أبو طاهر المخلص شيخ كبير الرواية سمع البغوي وابن صاعد وخلقا وعنه البرقاني والأزهري والخلال والتنوخي وكان ثقة من الصالحين توفي في رمضان منها عن ثمان وثمانين سنة رحمه الله
محمد بن عبدالله
أبو الحسن السلامي الشاعر المجيد له شعر مشهور ومدائح في عضد الدولة وغيره ميمونة بنت شاقولة الواعظة التي هي للقرآن حافظة ذكرت يوما في وعظها أن ثوبها الذي عليها وأشارت إليه له في صحبتها تلبسه منذ سبع وأربعين سنة وما تغير وأنه كان من غزل أمها قالت والثوب إذا لم يعص الله فيه لا يتخرق سريعا وقال ابنها عبدالصمد كان في دارنا حائط يريد أن ينقض فقلت لأمي ألا ندعو البناء ليصلح هذا الجدار فأخذت رقعة فكتبت فيها شيئا ثم أمرتني أن أضعها في موضع من الجدار فوضعتها فمكث على ذلك عشرين سنة فلما توفيت أردت أن أستعلم ما كتبت في الرقعة فحين أخذتها من الجدار سقط وإذا في الرقعة إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا اللهم ممسك السموات والأرض أمسكه
ثم دخلت سنة أربع وتسعين وثلثمائة
وفيها ولي بهاء الدولة الشريف أبا أحمد الحسين بن أحمد بن موسى الموسوي قضاء القضاة والحج والمظالم ونقابة الطالبيبن ولقب بالطاهر الأوحد ذوي المناقب وكان التقليد له بسيراج فلما وصل الكتاب إلى بغداد لم يأذن له الخليفة القادر في قضاء القضاة فتوقف حاله بسبب ذلك وفيها ملك أبو العباس بن واصل بلاد البطيحة وأخرج منها مهذب الدولة فقصده زعيم الجيوش ليأخذها منه فهزمه ابن واصل ونهب أمواله وحواصله وكان في جملة ما أصاب في خيمة الخزانة ثلاثون ألف دينار وخمسون ألف درهم وفيها خرج الركب العراقي إلى الحجاز في جحفل عظيم كبير وتحمل كثير فاعترضهم الأصيفر أمير الأعراب فبعثوا إليه بشابين قارئين مجيدين كانا معهم يقال لهما أبو الحسن الرفا وأبو عبدالله بن الزجاجي وكانا من أحسن الناس قراءة ليكلماه في شيء يأخذه من الحجيج ويطلق سراحهم ليدركوا الحج فلما جلسا بين يديه قرآ جميعا عشرا بأصوات هائلة مطربة مطبوعة فأدهشه ذلك وأعجبه جدا وقال لهما كيف عيشكما ببغداد فقالا بخير لا يزال الناس يكرموننا ويبعثون إلينا بالذهب والفضة والتحف فقال لهما هل أطلق لكما أحد منهم بألف ألف دينار في يوم واحد فقالا لا ولا ألف درهم في يوم واحد قال فإني أطلق لكما ألف ألف دينار في هذه اللحظة أطلق لكما الحجيج كله ولولا كما لما قنعت منهم بالف ألف دينار فأطلق (11/333)
الحجيج كله بسببهما فلم يتعرض أحد من الأعراب لهم وذهب الناس إلى الحج سالمون شاكرون لذينك الرجلين المقرئين ولما وقف الناس بعرفات قرأ هذان الرجلان قراءة عظيمة على جبل الرحمة فضج الناس بالبكاء من سائر الركوب لقراءتهما وقالوا لأهل العراق ما كان ينبغي لكم أن تخرجوا معكم بهذين الرجلين في سفرة واحدة لاحتمال أن يصابا جميعا بل كان ينبغي أن تخرجوا بأحدهما وتدعوا الآخر فإذا أصيب سلم الآخر وكانت الحجة والخطبة للمصرييين كما هي لهم من سنين متقدمة وقد كان أمير العراق عزم على العود سريعا إلى بغداد على طريقهم التي جاؤا منها وأن لا يسيروا إلى المدينة النبوية خوفا من الأعراب وكثرة الخفارات فشق ذلك على الناس فوقف هذان الرجلان يقرآن على جادة الطريق التي منها يعدل إلى المدينة النبوية وقرآ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه الآيات فضج الناس بالبكاء وأمالت النوق أعناقها نحوهما فمال الناس بأجمعهم والامير إلى المدينة النبوية فزاروا وعادوا سالمين إلى بلادهم ولله الحمد والمنة ولما رجع هذان القارئان رتبهما ولي الأمر مع أبي بكر بن البهلول وكان مقرئا مجيدا أيضا ليصلوا بالناس صلاة التراويح في رمضان فكثر الجمع وراءهم لحسن تلاوتهم وكانوا يطيلون الصلاة جدا ويتناوبون في الإمامة يقرؤون في كل ركعة بقدر ثلاثين آية والناس لا يصرفون من التراويح إلا في الثلث الأول من الليل أو قريب النصف منه وقد قرأ ابن البهلول يوما في جامع المنصور قوله تعالى ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق فنهض إليه رجل صوفي وهو يتمايل فقال كيف قلت فأعاد الآية فقال الصوفي بلى والله وسقط ميتا رحمه الله قال ابن الجوزي وكذلك وقع لأبي الحسن بن الخشاب شيخ ابن الرفا وكان تلميذا لأبي بكر بن الأدمي المتقدم ذكره وكان جيد القراءة حسن الصوت أيضا قرأ ابن الخشاب هذا في جامع الرصافة في الأحياء هذه الآية ألم يأن للذين آمنوا فتواجد رجل صوفي وقال بلى والله قد آن وجلس وبكى بكاء طويلا ثم سكت سكتة فإذا هو ميت رحمه الله وممن توفي فيها من الأعيان
أبو علي الاسكافي
ويلقب بالموفق وكان مقدما عند بهاء الدولة فولاه بغداد فأخذ أموالا كثيرة من اليهود ثم هرب إلى البطيحة فأقام بها سنتين ثم قدم بغداد فولاه بهاء الدولة الوزارة وكان شهما منصورا في الحرب ثم عاقبه بعد ذلك وقتله في هذه السنة عن تسع وأربعين سنة
ثم ( خلت سنة خمس وتسعين وثلثمائة
فيها عاد مهذب الدولة إلى البطيحة ولم يمانعه ابن واصل وقرر عليه في كل سنة لبهاء الدولة (11/334)
خمسين ألف دينار وفيها كان غلاء عظيم بإفريقية بحيث تعطلت المخابز والحمامات وذهب خلق كثير من الفناء وهلك آخرون من شدة الغلاء فنسأل الله حسن العافية والخاتمة آمين وفيها أصاب الحجيج في الطريق عطش شديد بحيث هلك كثير منهم وكانت الخطبة للمصريين وممن توفي فيها من الأعيان
محمد بن أحمد بن موسى بن جعفر
أبو نصر البخاري المعروف بالملاحمي أحد الحفاظ قدم بغداد وحدث بها عن محمود بن إسحاق عن البخاري وروى عن الهيثم بن كليب وغيره وحدث عنه الدارقطني وكان من أعيان أصحاب الحديث توفي ببخارى في شعبان منها وقد جاوز الثمانين
محمد بن أبي إسماعيل
علي بن الحسين بن الحسن بن القاسم أبي الحسن العلوي ولد بهمذان ونشأ ببغداد وكتب الحديث عن جعفر الخلدي وغيره وسمع بنيسابور من الأصم وغيره ودرس فقه الشافعي على علي بن أبي هريرة ثم دخل الشام فصحب الصوفية حتى صار من كبارهم وحج مرات على الوحدة توفي في محرم هذه السنة
أبو الحسين أحمد بن فارس
ابن زكريا بن محمد بن حبيب اللغوي الرازي صاحب المجمل في اللغة وكان مقيما بهمذان وله رسائل حسان أخذ عنه البديع صاحب المقامات ومن رائق شعره قوله ... مرت بنا هيفاء مجدولة ... تركية تنمى لتركي ... ترنو بطرف فاتر فاتن ... أضعف من حجة نحوي ... وله أيضا ... إذا كنت في حاجة مرسلا ... وأنت بها كلف مغرم ... فأرسل حكيما ولا توصه ... وذاك الحكيم هو الدرهم ... قال ابن خلكان توفي سنة تسعين وثلثمائة وقيل سنة خمس وتسعين والاول أشهر
ثم دخلت سنة ست وتسعين وثلثمائة
قال ابن الجوزي في ليلة الجمعة مستهل شعبان طلع نجم يشبه الزهرة في كبره وكثرة ضوئه عن يسار القبلة يتموج وله شعاع على الأرض كشعاع القمر وثبت إلى النصف من ذي القعدة ثم غاب وفيها ولي محمد بن الأكفاني قضاء جميع بغداد وفيها جلس القادر بالله للأمير قرواش بن أبي حسان وأقره في إمارة الكوفة ولقبه معتمد الدولة وفيها قلد الشريف الرضى نقابة الطالبيين ولقب بالرضي ذي الحسنيين ولقب أخوه المرتضي ذا المجدين وفيها غزا يمين الدولة محمود بن سبكتكين بلاد الهند فافتتح مدنا كبارا وأخذ أموالا جزيلة وأسر بعض ملوكهم وهو ملك كراشي حين هرب منه لما افتتحها وكسر أصنامها فألبسه منطقته وشدها على وسطه بعد تمنع شديد (11/335)
وقطع خنصره ثم أطلقه إهانة له وإظاهرا لعظمة الإسلام وأهله وفيها كانت الخطبة للحاكم العبيدي وتجدد في الخطبة أنه إذا ذكر الخطيب الحاكم يقوم الناس كلهم إجلالا له وكذلك فعلوا بديار مصر مع زيادة السجود له وكانوا يسجدون عند ذكره يسجد من هو في الصلاة ومن هو في الأسواق يسجدون لسجودهم لعنه الله وقبحه وممن توفي فيها من الأعيان
أبو سعيد الإسماعيلي
إبراهيم بن إسماعيل أبو سعيد الجرجاني المعروف بالإسماعيلي ورد بغداد والدارقطني حي فحدث عن أبيه أبي بكر الإسماعيلي والأصم بن عدي وحدث عنه الخلال والتنوخي وكان ثقة فقيها فاضلا على مذهب الشافعي عارفا بالعربية سخيا جوادا على أهل العلم وله ورع ورياسة إلى اليوم في بلده إلى ولده قال الخطيب سمعت الشيخ أبا الطيب يقول ورد أبو سعيد الإسماعيلي بغداد فعقد له مجلسين تولي أحدهما أبو حامد الاسفراييني وتولى الثاني أبو محمد الباجي فبعث الباجي إلى القاضي المعافى بن زكريا الجريري يستدعية إلى حضور المجلس ليجمل المجلس وكانت الرسالة مع ولده أبي الفضل وكتب على يده هذين البيتين ... إذا أكرم القاضي الجليل وليه ... وصاحبه ألفاه للشكر موضعا ... ولي حجاة يأتي بني بذكرها ... ويسأله فيها التطول أجمعا ... فأجابه الجريري مع ولد الشيخ ... دعا الشيخ مطواعا سميعا لأمره ... نواتيه طوعا حيث يرسم أصنعا ... وها أنا غاد في غد نحو داره ... أبادر ما قد حده لي مسرعا ... توفي الإسماعيلي فجأة بجرجان في ربيع الآخر وهو قائم يصلي في المحراب في صلاة المغرب فلما قرأ إياك نعبد وإياك نستعين فاضت نفسه فمات رحمه الله
محمد بن أحمد
ابن محمد بن جعفر بن محمد بن محمد بن بحير أبو عمرو المزكي الحافظ النيسابوري ويعرف بالحيري رحل إلى الآفاق في طلب العلم وكان حافظا جيد المذاكرة ثقة ثبتا حدث ببغداد وغيرها من البلاد وتوفي في شعبان عن ثلاث وسبعين سنة
أبو عبدالله بن منده
... الحافظ محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده أبو عبدالله الأصفهاني الحافظ كان ثبت الحديث والحفظ رحل إلى البلاد الشاسعة وسمع الكثر وصنف التاريخ والناسخ والمنسوخ قال أبو العباس جعفر بن محمد ما رأيت أحفظ من ابن منده توفي في أصفهان في صفر منها (11/336)
ثم دخلت سنة سبع وتسعين وثلثمائة
فيها كان خروج أبي ركوة على الحاكم العبيدي صاحب مصر وملخص أمر هذا الرجل أنه كان من سلالة هشام بن عبدالملك بن مروان الأموي واسمه الوليد وإنما لقب بأبي ركوة لركوة كان يصحبها في أسفاره على طريق الصوفية وقد سمع الحديث بالديار المصرية ثم أقام بمكة ثم رحل إلى اليمن ثم دخل الشام وهو في غضون ذلك يبايع من انقاد له ممن يرى عنده همة ونهضة للقيام في نصرة ولد هشام ثم إنه أقام ببعض بلاد مصر في محلة من محال العرب يعلم الصبيان ويظهر التقشف والعبادة والورع ويخبر بشيء من المغيبات حتى خضعوا له وعظموه جدا ثم دعا إلى نفسه وذكر لهم أنه الذي يدعى إليه من الأمويين فاستجابوا له وخاطبوه بأمير المؤمنين ولقب بالثائر بأمر الله المنتصر من أعداء الله ودخل برقة في جحفل عظيم فجمع له أهلها نحوا من مائتي ألف دينار وأخذ رجلا من اليهود أنهم بشيء من الودائع فأخذ منه مائتي ألف دينار أيضا ونقشوا الدراهم والدنانير بألقابه وخطب بالناس يوم الجمعة ولعن الحاكم في خطبته ونعما فعل فالتف على أبي ركوة من الجنود نحو من ستة عشر ألفا فلما بلغ الحاكم أمره وما آل إليه حاله بعث بخمسمائة ألف دينار وخمسة آلاف ثوب إلى مقدم جيوش أبي ركوة وهو الفضل بن عبدالله يستميله إليه ويثنيه عن أبي ركوة فحين وصلت الأموال إليه رجع عن أبي ركوة وقال له إنا لا طاقة لنا بالحاكم وما دمت بين أظهرنا فنحن مطلوبون بسببك فاختر لنفسك بلدا تكون فيها فسأل أن يبعثوا معه فارسين يوصلانه إلى النوبة فإن بينه وبين ملكها مودة وصحبة فأرسله ثم بعث وراءه من رده إلى الحاكم بمصر فلما وصل إليه أركبه جملا وشهره ثم قتله في اليوم الثاني ثم أكرم الحاكم الفضل وأقطعه أقطاعا كثيرة واتفق مرض الفضل فعاده الحاكم مرتين فلما عوفي قتله وألحقه بصاحبه وهذه مكافأة التمساح وفي رمضان منها عزل قرواش عما كان بيده ووليه أبو الحسن على بن يزيد ولقب بسند الدولة وفيها هزم يمين الدولة محمود بن سبكتكين ملك الترك عن بلاد خراسان وقتل من الأتراك خلقا كثيرا وفيها قتل أبو العباس بن واصل وحمل رأسه إلى بهاء الدولة فطيف به بخراسان وفارس وفيها ثارت على الحجيج وعم بالطريق ريح سوداء مظلمة جدا واعترضهم ابن الجراح أمير الأعراب فاعتاقهم عن الذهاب ففاتهم الحج فرجعوا إلى بلادهم فدخلوها في يوم التروية وكانت الخطبة بالحرمين للمصريين وفيها توفي من الأعيان
عبدالصمد بن عمر بن إسحاق
أبو القاسم الدينوري الواعظ الزاهد قرأ القرآن ودرس على مذهب الشافعي على أبي سعيد الاصطخري وسمع الحديث من النجاد وروى عنه الصيمري وكان ثقة صالحا يضرب به المثل في مجاهدة النفس واستعمال الصدق المحض والتعفف والتفقه والتقشف والأمر بالمعروف والنهي (11/337)
عن المنكر وحسن وعظه ووقعه في القلوب جاءه يوما رجل بمائة دينار فقال أنا غني عنها قال خذها ففرقها على أصحابك هؤلاء فقال ضعها على الأرض فوضعها ثم قال للجماعة ليأخذ كل واحد منكم حاجته منها فجعلوا يأخذون بقدر حاجاتهم حتى أنقذوها وجاء ولده بعد ذلك فشكى إليه حاجتهم فقال أذهب إلى البقال فخذ على ربع رطل تمر ورآه رجل وقد اشترى دجاجة وحلواء فتعجب من ذلك فاتبعه إلى دار فيها امرأة ولها أيتام فدفعها إليهم وقد كان يدق السعد للعطارين بالأجرة ويقتات منه ولما حضرته الوفاة جعل يقول سيدي لهذه الساعة خبأتك توفي يوم الثلاثاء لسبع بقين من ذي الحجة منها وصلى عليه بالجامع المنصوري ودفن بمقبرة الإمام أحمد
أبو العباس بن واصل
صاحب سيراف والبصرة وغيرهما كان أولا يخدم بالكرخ وكان منصورا له أنه سيملك كان أصحابه يهزؤن به فيقول أحدهم إذا ملكت فأي شيء تعطيني ويقول الآخر ولني ويقول الآخر استخدمني ويقول الآخر اخلع علي فقدر له أنه تقلبت به الأحوال حتى ملك سيراف والبصرة وأخذ بلاد البطيحة من مهذب الدولة وأخرجه منها طريدا بحيث إنه احتاج في أثناء الطريق إلى أن ركب بقرة واستحوذ ابن واصل على ما هناك وقصد الأهواز وهزم بهاء الدولة ثم ظفر به بهاء الدولة فقتله في شعبان منها وطيف برأسه في البلاد
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وثلثمائة
فيها غزا يمين الدولة محمود بن سبكتكين بلاد الهند ففتح حصونا كثيرة وأخذ أموالا جزيلة وجواهر نفيسة وكان في جملة ما وجد بيت طوله ثلاثون ذراعا وعرضه خمسة عشر ذراعا مملوء فضة ولما رجع إلى غزنة بسط هذه الأموال كلها في صحن داره وأذن لرسل الملك فدخلوا عليه فرأوا ما بهرهم وهالهم وفي يوم الأربعاء الحادي عشر من ربيع الآخر وقع ببغداد ثلج عظيم بحيث بقي على وجه الأرض ذراعا ونصفا ومكث أسبوعا لم يذب وبلغ سقوطه إلى تكريت والكوفة وعبادان والنهروان وفي هذا الشهر كثرت العملات جهرة وجفية حتى من المساجد والمشاهد ثم ظفر أصحاب الشرطة بكثير منهم فقطعوا أيديهم وكحلوهم
قصة مصحف ابن مسعود وتحريقه
على فتيا الشيخ أبي حامد الاسفراييني فيما ذكره ابن الجوزي في منتظمة وفي عاشر رجب جرت فتنة بين السنة والرافضة سببها أن بعض الهاشميين قصد أبا عبدالله محمد بن النعمان المعروف بابن المعلم وكان فقيه الشيعة في مسجده بدرب رباح فعرض له بالسب فثار أصحابه له واستنفر أصحاب الكرخ وصاروا إلى دار القاضي أبي محمد الأكفاني والشيخ أبي حامد الاسفراييني (11/338)
وجرت فتنة عظيمة طويلة وأحضرت الشيعة مصحفا ذكروا أنه مصحف عبدالله بن مسعود وهو مخالف للمصاحف كلها فجمع الأشراف والقضاة والفقهاء في يوم الجمعة لليلة بقيت من رجب وعرض المصحف عليهم فأشار الشيخ أبو حامد الاسفراييني والفقهاء بتحريقه ففعل ذلك بمحضر منهم فغضب الشيعة من ذلك غضبا شديدا وجعلوا يدعون ليلة النصف من شعبان على من فعل ذلك ويسبونه وقصد جماعة من أحداثهم دار الشيخ أبي حامد ليؤذوه فانتقل منها إلى دار القطن وصاحوا يا حاكم يا منصور وبلغ ذلك الخليفة فغضب وبعث أعوانه لنصرة أهل السنة فحرقت دور كثيرة من دور الشيعة وجرت خطوب شديدة وبعث عميد الجيوش إلى بغداد لينفي عنها ابن المعلم فقيه الشيعة فأخرج منها ثم شفع فيه ومنعت القصاص من التعرض للذكر والسؤال باسم الشيخين وعلي رضي الله عنهم وعاذ الشيخ أبو حامد إلى داره على عادته وفي شعبان منها زلزت الدينور زلزالا شديدا وسقطت منها دور كثيرة وهلك لللناس شيء كثير من الأثاث والأمتعة وهبت ريح سوداء بدقوقي وتكريت وشيراز فأتلفت كثيرا من المنازل والنخيل والزيتون وقتلت خلقا كثيرا وسقط بعض شيراز ووقعت رجفة بشيراز غرق بسببها مراكب كثيرة في البحر ووقع بواسط برد زنة الواحدة مائة درهم وستة دراهم ووقع ببغداد في رمضان وذلك في إيار مطر عظيم سالت منه المزاريب
تخريب قمامة في هذه السنة
وفيها أمر الحاكم بتخريب قمامة وهي كنيسة النصاري ببيت المقدس وأباح للعامة ما فيها من الأموال والأمتعة وغير ذلك وكان سبب ذلك البهتان الذي يتعاطاه النصارى في يوم الفصح م 4 ن النارالتي يحتالون بها وهي التى يوهمون جهلتهم أنها نزلت من السماء وإنما هي مصنوعة بدهن البلسان في خيوط الابريسم والرقاع المدهونة بالكبريت وغيره بالصنعة اللطيفة التي تروج على الطغام منهم والعوام وهم إلى الآن يستعملونها في ذلك المكان بعينة وكذلك هدم في هذه السنة عدة كنائس ببلاد مصر ونودي في النصارى من أحب الدخول في دين الإسلام دخل ومن لا يدخل فليرجع إلى بلاد الروم آمنا ومن أقام منهم على دينه فليلتزم بما شرط عليهم من الشروط التي زادها الحاكم على العمرية من تعليم الصلبان على صدورهم وأن يكون الصليب من خشب زنته أربعة أرطال وعلى اليهود تعليق رأس العجل زنته ستة أرطال وفي الحمام يكون في عنق الواحد منهم قربة زنة خمس أرطال بأجراس وأن لا يركبوا خيلا ثم بعد هذا كله أمر بإعادة بناء الكنائس التي هدمها وأذن لمن أسلم منهم في الارتداد إلى دينه وقال ننزه مساجدنا أن يدخلها من لا نية له ولا يعرف باطنه قبحه الله (11/339)
وممن توفي فيها من الأعيان
أبو محمد الباجي
سيق ذكره اسمه عبدالله بن محمد الباجي البخاري الخوارزمي أحد أئمة الشافعية تفقه على أبي القاسم الداركي ودرس مكانه وله معرفة جيدة بالأدب والفصاحة والشعر جاء مرة ليزور بعض أصحابه فلم يجده في المنزل فكتب هذه الأبيات ... قد حضرنا وليس نقضي التلاقي ... نسأل الله خير هذا الفراق ... إن تغب لم أب وإن لنب ... غبت كأن افتراقنا باتفاق ... توفي في محرم هذه السنة وقد ذكرنا ترجمته في طبقات الشافعية
عبدالله بن أحمد
ابن علي بن الحسين أبو القاسم المعروف بالصيدلاني وهو آخر من حدث عن ابن صاعد من الثقات وروى عنه الأزهري وكان ثقة مأمونا صالحا توفي في رجب من هذه السنة وقد جاوز التسعين
الببغاء الشاعر
عبدالواحد بن نصر بن محمد أبو الفرج المخزومي الملقب بالببغاء توفي في شعبان من هذه السنة وكان أديبا فاضلا مترسلا شاعرا مطبقا فمن ذلك قوله ... يا من تشابه منه الخلقق والخلق ... فما تسافر إلا نحوه الحدق ... فورد دمعي من خديك مختلس ... وسقم جسمي من جفنيك مسترق ... لم يبق لي رمق أشكو هواك به ... وإنما يتشكى من به رمق ...
محمد بن يحيى
أبو عبدالله الجرجاني أحد العلماء الزهاد العباد المناظرين لأبي بكر الرازي وكان يدرس في قطيعة الربيع وقد فلج في آخر عمره وحين مات دفن مع أبي حنيفة
بديع الزمان
صاحب المقامات أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد أو أبو الفضل الهمذاني الحافظ المعروف ببديع الزمان صاحب الرسائل الرائقة والمقامات الفائقة وعلى منواله نسج الحريري واقتفى أثره وشكر تقدمه واعترف بفضله وقد كان أخذ اللغة عن ابن فارس ثم برز وكان أحد الفضلاء الفصحاء ويقال أنه سم وأخذ سكتة فدفن سريعا ثم عاش في قبره وسمعوا صراخه فنبشوا عنه فإذا هو قد مات وهو آخذ على لحيته من هول القبر وذلك يوم الجمعة الحادي عشر من جمادى الآخرة منها رحمه الله تعالى (11/340)
ثم دخلت سنة تسع وتسعين وثلثمائة
فيها قتل علي بن نمال نائب الرحبة من طرف الحاكم العبيدي قتله عيسى بن خلاط العقيلي وملكها فأخرجه منها عباس بن مرداس صاحب حلب وملكها وفيها صرف عمرو بن عبدالواحد عن قضاء البصرة وولي أبو الحسن بن أبي الشوارب فذهب الناس يهنون هذا ويعزون هذا فقال في ذلك العصفري ... عندي حديث ظريف ... بمثله يتغنى ... من قاضيين يعزى ... هذا وهذا يهنا ... فذا يقول أكرهوني ... وذا يقول استرحنا ... ويكذبان جميعا ... ومن يصدق منا ... وفي شعبان من هذه السنة عصفت ريح شديدة فألقت وحلا أحمر في طرقات بغداد وفيها هبت على الحجاج ريح سوداء مظلمة واعترضهم الأعراب فصدوهم عن السبيل واعتاقوهم حتى فاتهم الحج فرجعوا وأخذت بنو هلال طائفة من حجاج البصرة نحوا من ستمائة واحد وأخذوا منهم نحوا من ألف ألف دينار وكانت الخطبة فيها للمصريين وممن توفي فيها من الأعيان
عبدالله بن بكر بن محمد بن الحسين
أبو أحمد الطبراني سمع بمكة وبغداد وغيرهما من البلاد وكان مكرما سمع منه الدارقطني وعبدالغني بن سعيد ثم أقام بالشام بالقرب من جبل عند بانياس يعبد الله تعالى إلى أن مات في ربيع الأول منها
محمد بن علي بن الحسين
أبو مسلم الوزير خنزابة روى عن البغوي وابن صاعد وابن دريد وابن أبي داود وابن عرفة وابن مجاهد وغيرهم وكان آخر من بقي من أصحاب البغوي وكان من أهل العلم والحديث والمعرفة والفهم وقد تكلم بعضهم في روايته عن البغوي لأن أصله كان غالبا مفسودا وذكر الصوري أنه خلط في آخر عمره
أبو الحسن علي بن أبي سعيد
عبدالواحد بن أحمد بن يونس بن عبدالأعلى الصدفي المصري صاحب كتاب الزيج الحاكمي في أربع مجلدات كان أبوه من كبار المحدثين الحفاظ وفد وضع لمصر تاريخا نافعا يرجع العلماء إليه فيه وأما هذا فانه اشتغل في علم النجوم فنال من شأنه منالا جيدا وكان شديد الاعتناء بعلم الرصد وكان مع هذا مغفلا سيء الحال رث الثياب طويلا يتعمم على طرطور طويل ويتطيلس فوقه ويركب حمارا فمن رآه ضحك منه وكان يدخل على الحاكم فيكرمه ويذكر من تغفله ما يدل على اعتنائه بأمر نفسه وكان شاهدا معدلا وله شعر جيد فمنه ما ذكره ابن خلكان ... أحمل نشر الريخح عد هبوبه ... رسالة مشتاق إلى حبيبه ... بنفسي من تحيا النفوس برقه ... ومن طابت الدنيا به وبطيبه (11/341)
يجدد وجدي طائف منه في الكرا ... سرى موهنا في جفنه من رقيبه ... لعمري لقد عطلت كأسي بعده ... وغيبتها عني لطول مغيبه ...
تعني أم أمير المؤمنين القادربالله
مولاة عبدالواحد بن المقتدر كان من العابدات الصالحات ومن أهل الفضل والدين توفيت ليلة الخميس الثاني والعشرين من شعبان منها وصلى عليها ابنها القادر وحملت بعد العشاء إلى الرصافة
ثم دخلت سنة اربعمائة من الهجرة
في ربيع الآخر منها نقصت دجلة نقصا كثيرا حتى ظهرت جزائر لم تغرف وامتنع سير السفن في أعاليها من أذنة والراشدية فأمر بكري تلك الأماكن وفيها كمل السور على مشهد أمير المؤمنين علي عليه السلام الذي بناه أبو إسحاق الأجاني وذلك أن أبا محمد بن سهلان مرض فنذر إن عوفي ليبنينه فعوفي وفي رمضان أرجف الناس بالخليفة القادر بالله بأنه مات فجلس للناس يوم جمعة بعد الصلاة وعلي البردة وبيده القضيب وجاء الشيخ أبو حامد الاسفراييني فقبل الأرض بين يديه وقرأ لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم الآيات فتباكى الناس ودعوا وانصرفوا وهم فراحا وفيها ورد الخبر بأن الحاكم أنفذ إلى دار جعفر بن محمد الصادق بالمدينة فأخذ منها مصحفا وآلات كانت بها وهذه الدار لم تفتح بعد موت صاحبها إلى هذا الآن وكان مع المصحف قعب خشب مطوق بحديد ودرقة خيزران وحربه وسرير حمل ذلك كله جماعة من العلويين إلى الديار المصرية فأطلق لهم الحاكم أنعاما كثيرة ونفقات زائدة ورد السرير وأخذ الباقي وقال أنا احق به فردوا وهم ذامون له داعون عليه وبنى الحاكم فيها دارا للعلم وأجلس فيا الفقهاء ثم بعد ثلاث سنين هدمها وقتل خلقا كثيرا ممن كان فيها من الفقهاء والمحدثين وأهل الخير وفيها عمر الجامع المنسوب إليه وهو جامع الحاكم وتأنق في بنائه وفي ذي الحجة منها أعيد المؤيد هشام بن الحكم بن عبدالرحمن الأموي إلى ملكه بعد خلعه وحبسه مدة طويلة وكانت الخطبة بالحرمين للحاكم صاحب مصر والشام وممن توفي فيها من الأعيان
أبو أحمد الموسوي النقيب
الحسن بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن موسى بن حعفر الموسوي والد الرضي والمرتضى ولي نقابة الطالبيين مرات نحوا من خمس مرات يعزل ويعاد ثم أخر في آخر عمره وتوفي عن سبع وتسعين سنة وصلى عليه ابنه المرتضى ودفن في مشهد الحسين وقد رثاه ابنه المرتضى في قصيدة حسنة قوية المنزع والمطلع فمنها ... سلام الله تنقله الليالي ... وتهديه الغدو إلى الرواح (11/342)
على جدث حسيب من لؤي ... لينبوع العبادة والصلاح ... فتى لم يرو إلا من حلال ... ولم يك زاده إلا المباح ... ولا دنست له أزر لزور ... ولا علقت له راح براح ... خفيف الظهر من ثقل الخطايا ... وعريان الجوارح من جناج ... مشوق في الامور إلى أعلاها ... ومدلول على باب النجاح ... من القوم الذين لهم قلوب ... بذكر الله عامرة النواحي ... بأجسام من التقوى مراض ... لنصرتها وأديان صحاح ...
الحجاج بن هرمز أبو جعفر
نائب بهاء الدولة على العراق وكان تليده لقتال الأعراب والأكراد وكان من المقدمين في أيام عضد الدولة وكانت له خبرة تامة بالحرب وحزمة شديدة وشجاعة تامة وافرة وهمة عالية وآراء سديدة ولما خرج من بغداد في سنة ثنتين وسبعين وثلثمائة كثرت بها الفتن توفي بالأهواز عن مائة سنة وخمس سنين رحمه الله
أبو عبدالله القمي المصر ي التاجر
كان ذا مال جزيل جدا أستملت تركته على أزيد من ألف ألف دينار من سائر أنواع المال توفي بأرض الحجاز ودفن بالمدينة النبوية عند قبر الحسن بن علي رضي الله عنهم
أبو الحسن ابن الرفا المقري
تقدم ذكره وقراءته على كبير الأعراب في سنة أربع وتسعين وثلثمائة كان من أحسن الناس صوتا بالقرآن وأحلاهم أداء رحمه الله
ثم دخلت سنة إحدى وأربعمائة
في يوم الجمعة الرابع من المحرم منها خطب بالموصل للحاكم العبيدي عن أمر صاحبها قرواش بن مقلد أبي منيع وذلك لقهره رعيته وقد سرد ابن الجوزي صفة الخطبة بحروفها وفي آخر الخطبة صلوا على آبائه المهدي ثم ابنه القائم ثم المنصور ثم ابنه المعز ثم ابنه العزيز ثم ابنه الحاكم صاحب الوقت وبالغوا في الدعاء لهم ولا سيما للحاكم وكذلك تبعته أعمالها من الأنبار والمدائن وغيرها وكان سبب ذلك أن الحاكم ترددت مكاتباته ورسله وهداياه إلى قرواش يستميله اليه وليقبل بوجهه عليه حتى فعل ما فعل من الخطبة وغيرها فلما بلغ الخبر القادر بالله العباسي كتب يعاتب قرواش على ما صنع ونفذ بهاء الدولة إلى عميد الجيوش بمائة ألف دينار لمحاربة قرواش فلما بلغ قرواشا رجع عن رأيه وندم على ما كان منه وأمر بقطع الخطبة للحاكم من بلاده وخطب للقادر على عادته (11/343)
قال ابن الجوزي ولخمس بقين من رجب زادت دجلة زيادة كثيرة واستمرت الزيادة إلى رمضان وبلغت أحدا وعشرين ذراعا وثلثا ودخل إلى أكثر دور بغداد وفيها رجع الوزير أبو خلف إلى بغداد ولقب فخر الملك بعميد الجيوش وفيها عصى أبو الفتح الحسن بن جعفر العلوي ودعا إلى نفسه وتلقب بالراشد بالله ولم يحج فيها أحد من أهل العراق والخطبة للحاكم وممن توفي فيها من الأعيان أبو مسعود صاحب الأطراف
إبراهيم بن محمد بن عبيد
أبو مسعود الدمشقي الحافظ الكبير مصنف كتاب الأطراف على الحصيحين رحل إلى بلاد شتى كبغداد والبصرة والكوفة وواسط واصبهان وخراسان وكان من الحفاظ الصادقين والأمناء الضابطين ولم يرو إلا اليسير روى عنه أبو القاسم وأبو ذر الهروي وحمزة السهمي وغيرهم توفي ببغداد في رجب وأوصى إلى أبي حامد الإسفراييني فصلى عليه ودفن في مقبرة جامع المنصور قريبا من السكك وقد ترجمه ابن عساكر وأثنى عليه
عميد الجيوش الوزير
الحسن بن أبي جعفر أستاد هرمز ولد سنة خمسين وثلثمائة وكان أبو من حجاب عضد الدولة وولاه بهاء الدولة وزارته سنة ثنتين وتسعين والشرور كثيرة منتشرة فمهد البلاد وأخاف العيارين واستقامت به الامور وأمر بعض غلمانه أن يحمل صينية فيها دراهم مكشوفة من أول بغداد إلى آخرها وأن يدخل بها في جميع الأزقة فإن اعترضه أحد فليدفعها إليه وليعرف ذلك المكان فذهب الغلام فلم يعترضه أحد فحمد الله وأثنى عليه ومنع الروافض النياحة في يوم عاشوراء وما يتعاطونه من الفرح في يوم ثامن عشر ذي الحجة الذي يقال له عيد غدير خم وكان عادلا منصفا
خلف الواسطي
صاحب الأطراف أيضا خلف بن محمد بن علي بن حمدون أبو محمد الواسطي رحل إلى البلاد وسمع الكثير ثم عاد إلى بغداد ثم رحل إلى الشام ومصر وكتب الناس عنه بانتخابه وصنف أطرافا على الصحيحين وكانت له معرفة تامة وحفظ جيد ثم عاد إلى بغداد واشتغل بالتجارة وترك النظر في العلم حتى توفي في هذه السنة سامحه الله روى عنه الأزهري
أبو عبيد الهروي
صاحب الغريبين أحمد بن محمد بن أبي عبيد العبدي أبو عبيد الهروي اللغوي البارع كان من علماء الناس في الأدب واللغة وكتابه الغريبين في معرفة القرآن والحديث يدل على اطلاعه وتبحره في هذا الشأن وكان من تلامذة أبي منصور الأزهري قال ابن خلكان وقيل كان (11/344)
يحب التنزه ويتناول في خلوته ما لا يجوز ويعاشر أهل الأدب في مجلس اللذة والطرب والله أعلم سامحه الله قال وكانت وفاته في رجب سنة إحدى وأربعمائة وذكر ابن خلكان أن في السنة أو التي قبلها كانت وفاة البستي الشاعر وهو
علي بن محمد بن الحسين بن يوسف الكاتب
صاحب الطريقة الأنيقة والتجنيس الأنيس البديع التأسيس والحذاقة والنظم والنثر وقد ذكرناه ومما أورد له ابن خلكان قوله من أصلح فاسده أرغم حاسده ومن أطاع غضبه أضاع أدبه من سعادة جدك وقوفك عند حدك المنية تضحك من الأمنية الرشوة رشا الحاجات حد العفاف الرضى بالكفاف ومن شعره ... إن هز أقلامه يوما ليعملها ... أنساك كل كمي هز عامله ... وإن أمر على رق أنامله ... أقر بالرق كتاب الأنام له ... وله ... إذا تحدثت في قوم لتؤنسهم ... بما تحدث من ماض ومن آت ... فلا تعد لحديث إن طبعهمم ... موكل بمعاداة المعادات ...
ثم دخلت سنة ثنتين وأربعمائة
في المحرم منها أذن فخر الملك الوزير للروافض أن يعملوا بدعتهم الشنعاء والفضيحة الصلعاء من الانتحاب والنوح والبكاء وتعليق المسوح وأن تغلق الأسواق من الصباح إلى المساء وأن تدور النساء حاسرات عن وجوههن ورؤسهن يلطمن خدودهم كفعل الجاهلية الجهلاء على الحسين بن علي فلا حزاه الله خيرا وسود الله وجهه يوم الجزاء إنه سمع الدعاء وفي ربيع الآخر أمر القادر بعمارة مسجد الكف بقطيعة الدقيق وأن يعاد إلى أحسن ما كان ففعل ذلك وزخرف زخرفة عظيمة جدا فإنا لله وإنا إليه راجعون
الطعن من أئمة بغداد وعلمائهم في نسب الفاطميين
وفي ربيع الآخر منها كتب هؤلاء ببغداد محاضر تتضمن الطعن والقدح في نسب الفاطميين وهم ملوك مصر وليسوا كذلك وإنما نسبهم إلى عبيد بن سعد الجرمي وكتب في ذلك جماعة من العلماء والقضاة والأشراف والعدول والصالحين والفقهاء والمحدثين وشهدوا جميعا أن الحاكم بمصر هو منصور بن نزار الملقب بالحاكم حكم الله عليه بالبوار والخزي والدمار ابن معد بن إسماعيل بن عبدالله بن سعيد لا أسعده الله فإنه لما صار إلى بلاد المغرب تسمى بعبيدالله وتلقب بالمهدي وأن من تقدم من سلفه أدعياء خوارج لا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب ولا يتعلقون بسبب وأنه منزه عن باطلهم وأن الذي ادعوه إليه باطل وزور وأنهم لا يعلمون أحدا من أهل بيوتات (11/345)
علي بن أبي طالب توقف عن إطلاق القول في أنهم خوارج كذبة وقد كان هذا الإنكار لباطلهم شائعا في الحرمين وفي أول أمرهم بالمغرب منتشرا انتشارا يمنع أن يدلس أمرهم على أحد أو يذهب وهم إلى تصديقهم فيما ادعوه وأن هذا الحاكم بمصر هو وسلفه كفار فساق فجار ملحدون زنادقة معطلون وللإسلام جاحدون ولمذهب المجوسية والثنوية معتقدون قد عطلوا الحدود وأباحوا الفروج وأحلوا الخمر وسفكوا الدماء وسبوا الأنبياء ولعنوا السلف وادعوا الربوبية وكتب في سنة اثنتين وأربعمائة وقد كتب خطه في المحضر خلق كثير فمن العلويين المرتضى والرضي وابن الأزرق الموسوي وأبو طاهر بن أبي الطيب ومحمد بن محمد بن عمرو بن أبي يعلي ومن القضاة أبو محمد بن الأكفاني وأبو القاسم الجزري وأبو العباس بن الشيورى ومن الفقهاء أبو حامد الإسفراييني وأبو محمد بن الكسفلي وأبو الحسن القدوري وأبو عبدالله الصيرمي وأبو عبدالله البيضاوي وأبو علي بن حمكان ومن الشهود أبو القاسم التنوخي في كثير منهم وكتب فيه خلق كثير هذه عبارة أبي الفرج ابن الجوزي قلت ومما يدل على أن هؤلاء أدعياء كذبة كما ذكر هؤلاء السادة العلماء والأئمة الفضلاء وأنهم لا نسب لهم إلى علي بن أبي طالب ولا إلى فاطمة كما يزعمون قول ابن عمر للحسين بن علي حين أراد الذهاب إلي العراق وذلك حين كتب عوام أهل الكوفة بالبيعة إليه فقال له ابن عمر لا تذهب إليهم فإني أخاف عليك أن تقتل وإن جدك قد خير بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة على الدنيا وأنت بضعة منه وإنه والله لا تنالها لا أنت ولا أحد من خلفك ولا من أهل بيتك فهذا الكلام الحسن الصحيح المتوجه المعقول من هذا الصحابي الجليل يقتضي أنه لا يلي الخلافة أحد من أهل البيت إلا محمد بن عبدالله المهدي الذي يكون في آخر الزمان عند نزول عيسى بن مريم رغبة بهم عن الدنيا وأن لا يدنسوا بها ومعلوم أن هؤلاء قد ملكوا ديار مصر مدة طويلة فدل ذلك دلالة قوية ظاهرة على أنهم ليسوا من أهل البيت كما نص عليه سادة الفقهاء وقد صنف القاضي الباقلاني كتابا في الرد على هؤلاء وسماه كشف الأسرار وهتك الأستار بين فيه فضائحهم وقبائحهم ووضح أمرهم لكل أحد ووضوح أمرهم بنبئ عن مطاوي أفعالهم وأقوالهم وقد كان الباقلاني يقول في عبارته عنهم هم قوم يظهرون الرفض ويبطنون الكفر المحض والله سبحانه أعلم وفي رجب وشعبان ورمضان أجرى الوزير فخر الملك صدقات كثيرة على الفقراء والمساكين والمقيمين بالمشاهد والمساجد وغير ذلك وزار بنفسه المساجد والمشاهد وأخرج خلقا من المحبوسين وأظهر نسكا كثيرا وعمر دارا عظيمة عند سوق الدقيق وفي شوال عصفت ريح شديدة فقصفت كثيرا من النخل وغيره أكثر من عشرة آلاف نخلة وورد كتاب من يمين الدولة محمود بن (11/346)
سبكتكين صاحب غزنة بأنه ركب بجيشه إلى أرض العدو فجازوا بمفازة فأعوزهم الماء حتى كادوا يهلكون عن آخرهم عطشا فبعث الله لهم سحابة فأمطرت عليهم حتى شربوا وسقوا واستقوا ثم تواقفوا هم وعدوهم ومع عدوهم نحو من ستمائة فيل فهزموا العدو وغنموا شيئا كثيرا من الأموال ولله الحمد وفيها عملت الشيعة بدعتهم التي كانوا يعملونها يوم غديرخم وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة وزينت الحوانيت وتمكنوا بسبب الوزير وكثير من الأتراك تمكنا كثيرا وفيها توفي من الأعيان
الحسن بن الحسن بن علي بن العباس
ابن نوبخت أبو محمد النوبختي ولد سنة عشرين وثلثمائة وروى عن المحاملي وغيره وعنه البرقاني وقال كان شيعيا معتزليا إلا أنه تبين لي أنه كان صدوقا وروى عنه الأزهري وقال كان رافضيا رديء المذهب وقال العقيقي كان فقيرا في الحديث ويذهب إلى الاعتزال والله أعلم
عثمان بن عيسى أبو عمرو الباقلاني
أحد الزهاد المشهورين كان له نخلات يأكل منها ويعمل بيده في البواري ويأكل من ذلك وكان في غاية الزهادة والعبادة الكثيرة وكان لا يخرج من مسجده إلا من يوم الجمعة إلى يوم الجمعة لأجل صلاة الجمعة ثم يعود إلى مسجده وكان لا يجد شيئا يشعله في مسجده فسأله بعض الأمراء أن يقبل شيئا ولو زيتا يشعله في قناديل مسجده فأبى الشيخ ذلك ولهذا وأمثاله لما مات رأى بعضهم بعض الأموات من جيرانه في القبور فسأله عن جواره فقال وأين هو لما مات ووضع في قيره سمعنا قائلا يقول إلى الفروس الأعلى إلى الفروس الأعلى أو كما قال توفي في رجب منها عن ستة وثمانين سنة
محمد بن جعفر بن محمد
ابن هارون بن فروة بن ناجية أبو الحسن النحوي المعروف بابن النجار التميمي الكوفي قدم بغداد وروى دعن ابن دريد والصولي ونفطويه وغيرهم توفي في جمادى الأولى منها عن سبع وسبعين سنة
ابو الطيب سهل بن محمد
الصعلوكي النيسابوري قال أبو يعلى الخليلي توفي فيها وقد ترجمناه في سنة سبع وثمانين وثلثمائة
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعمائة
في سادس عشر محرمها قلد الشريف الرضي أبو الحسن الموسوي نقابة الطالبيين في سائر المماليك وقرئ تقليده في دار الوزير فخر الملك بمحضر الأعيان وخلع عليه السواد وهو أول طالبي خلع عليه السواد وفيها جيء بأمير بني خفاجة أبو قلنبة قبحه الله وجماعة من رؤس قومه أسارى وكانوا قد اعترضوا للحجاج في السنة التي قبلها وهم راجعون وغوروا المناهل التي يردها الحجاج ووضعوا فيها الحنظل بحيث إنه مات من الحجاج من العطش نحو من خمسة عشر ألفا وأخذوا (11/347)
بقيتهم فجعلوهم رعاة لدوابهم في أسوأ حال وأخذوا جميع ما كان معهم فحين حضروا عند دار الوزير سجنهم ومنعهم الماء ثم صلبهم يرون صفاء الماء ولا يقدون على شيء منه حتى ماتوا عطشا جزاء وفاقا وقد أحسن في هذا الصنع اقتداء بحديث أنس في الصحيحين ثم بعث إلى أولئك الذين اعتقلوا في بلاد بني خفاجة من الحجاج فجيء بهم وقد تزوجت نساؤهم وقسمت أموالهم فردوا إلى أهاليهم وأموالهم قال ابن الجوزي وفي رمضان منها انقض كوكب من المشرق إلى المغرب عليه ضوء على ضوء القمر وتقطع قطعا وبقي ساعة طويلة قال وفي شوال توفيت زوجة بعض رؤساء النصارى فخرجت النوائح والصلبان معها جهارا فأنكر ذلك بعض الهاشميين فضربه بعض غلمان ذلك الرئيس النصراني بدبوس في رأسه فشجه فثار المسلمون بهم فانهزموا حتى لجأوا إلى كنيسة لهم هناك فدخلت العامة إلى فنهبوا ما فيها وما قرب منها من دور النصارى وتتبعوا النصارى في البد وقصدوا الناصح وابن أبي إسرائيل فقاتلهم غلمانهم وانتشرت الفتنة ببغداد ورفع المسلمون المصاحف في الأسواق وعطلت الجمع في بعض الأيام واستعانوا بالخليفة فأمر بإحضار ابن أبي إسرائيل فامتنع فعزم الخليفة على الخروج من بغداد وقويت الفتنة جدا ونهبت دور كثير من النصارى ثم احضر ابن أبي إسرائيل فبذل أموالا جزيلة فعفى عنه وسكنت الفتنة وفي ذي القعدة ورد كتاب يمين الدولة محمود إلي الخليفة يذكر أنه ورد إليه رسول من الحاكم صاحب مصر ومعه كتاب يدعوه إلي طاعته فبصق فيه وأمر بتحريقه وأسمع رسوله غليظ ما يقال وفيها قلد ابونصر بن مروان الكردي آمد وميافارقين وديار بكر وخلع عليه طوق وسواران ولقب الناصر الدولة ولم يتمكن ركب العراق وخراسان من الذهاب إلى الحج لفساد الطريق وغيبة فخر الملك في إصلاح الأراضي وفيها عادت مملكة الأمويين ببلاد الأندلس فتولى فيها سليمان بن الحكم بن سليمان بن عبدالرحمن الناصر الأموي ولقب بالمستعين بالله وبايعه الناس بقرطبة وفيها مات بهاء الدولة بن بويه الديلمي صاحب بغداد وغيرها وقام بالأمر من بعده ولده سلطان الدولة أبو شجاع وفيها مات ملك الترك الأعظم واسمه إيلك الخان وتولى مكانه أخوه طغان خان وفيها هلك شمس المعالي قابوس بن وشمكير أدخل بيتا باردا في الشتاء وليس عليه ثياب حتى مات كذلك وولى الأمر من بعده منوجهر ولقب فلك المعالي وخطب لمحمود بن سبكتكين وقد كان شمس المعالي قابو عالما فاضلا أديبا شاعرا فمن شعره قوله ... قل للذي بصروف الدهر عيرنا ... هل عاند الدهر إلا من له خطر ... أما ترى البحر يطفو فوقه جيف ... ويستقر بأقصى قعره الدرر (11/348)
فإن تكن نشبت أيدي الخطوب بنا ... ومسنا من توالي صرفها ضرر ... ففي السماء نجوم غير ذي عدد ... وليس يكسف إلا الشمس والقمر ... ومن مستجاد شعره قوله ... خطرات ذكرك تستثير مودتي ... فأحس منها في الفؤاد دبيبا ... لا عضو لي إلا وفيه صبابة ... وكأن أعضائي خلقن قلوبا ... وفيها توفي من الأعيان
أحمد بن علي أبو الحسن الليثي
كان يكتب للقادر وهو بالبطيحة ثم كتب له على ديوان الخراج والبريد وكان يحفظ القرآن حفظا حسنا مليح الصوت والتلاوة حسن المجالسة ظريف المعاني كثير الضحك والمجانة خرج في بعض الأيام هو والشريفان الرضي والمرتضى وجماعة من الأكابر لتلقي بعض الملوك فخرج بعض اللصوص فجعلوا يرمونهم بالحراقات ويقولون يا أزواج القحاب فقال الليثي ما خرج هؤلاء علينا إلا بعين فقالوا ومن أين علمت هذا فقال وإلا من أين علموا أنا أزواج قحاب
الحسن بن حامد بن علي بن مروان
الوراق الحنبلي كان مدرس أصحاب أحمد وفقيههم في زمانه وله المصنفات المشهورة منها كتاب الجامع في اختلاف العلماء في أربعمائة جزء وله في أصول الفقه والدين وعليه اشتغل أبو يعلى بن الفراء وكان معظما في النفوس مقدما عند السلطان وكان لا يأكل إلا من كسب يديه من النسج وروى الحديث عن أبي بكر الشافعي وابن مالك القطيعي وغيرهما وخرج في هذه السنة إلى الحج فلما عطش الناس في الطريق استند هو إلى حجر هناك في الحر الشديد فجاءه رجل بقليل من ماء فقال له ابن حامد من أين لك فقال ما هذا وقت سؤالك اشرب فقال بلى هذا وقته عند لقاء الله عز و جل فلم يشرب ومات من فوره رحمه الله
الحسين بن الحسن
ابن محمد بن حليم أبو عبدالله الحليمي صاحب المنهاج في أصول الديانه كان أحد مشايخ الشافعية ولد بجرجان وحمل إلى بخارى وسمع الحديث الكثير حتى انتهت إليه رياسة المحدثين في عصره وولى القضاء ببخارى قال ابن خلكان انتهت إليه الرياسة فيما وراء النهر وله وجوه حسنة في المذهب وروى عنه الحاكم أبو عبدالله
فيروز أبو نصر
الملقب ببهاء الدولة بن عضد الدولة الديلمي صاحب بغداد وغيرها وهو الذي قبض على الطائع وولى القادر وكان يحب المصادرات فجمع من الأموال ما لم يجمعه أحد قبله من بني بويه (11/349)
وكان بخيلا جدا توفي بأرجان في جمادى الآخرة منها عن ثنتين وأربعين سةن وثلاثة أشهر وكان مرضه بالصرع ودفن بالمشهد إلى جانب أبيه
قابوس بن وشمكير
كان أهل دولته قد تغيروا عليه فبايعوا ابنه منوجهر وقتلوه مكا ذكرنا وكان قد نظر في النجوم فرأى أن ولده يقتله وكان يتوهم أنه ولده دارا لما يرى من مخالفته له ولا يخطر بباله منوجهر لما يرى من طاعته له فكان هلاكه على يد منوجهر وقد قدمنا شيئا من شعره في الحوادث
القاضي أبو بكر الباقلاني
محمد بن الطيب ابوبكر الباقلاني رأس المتكلمين على مذهب الشافعي وهو من أكثر الناس كلاما وتصنيفا في الكلام يقال إنه كان لا ينام كل ليلة حتى يكتب عشرين ورقة من مدة طويلة من عمره فانتشرت عنه تصانيف كثيرة منها التبصرة ودقائق الحقائق والتمهيد في أصول الفقه وشرح الابانة وغير ذلك من المجاميع الكبار والصغار ومن أحسنها كتابه في الرد على الباطنية الذي سماه كشف الأسرار وهتك الأستار وقد اختلفوا في مذهبه في الفروع فقيل شافعي وقيل مالكي حكى ذلك عنه أبو ذر الهروي وقيل إنه كان يكتب على الفتاوي كتبه محمد بن الطيب الجنبلي وهذا غريب جدا وقد كان في غاية الذكاء والفطنة ذكر الخطيب وغيره عنه أن عضد الدولة بعثه في رسالة إلى ملك الروم فلما انتهى إليه إذا هو لا يدخل عليه أحد إلا من باب قصير كهية الراكع ففهم البلاقلاني أن مراده أن ينحني الداخل عليه له كيهئة الراكع لله عز و جل فدار إسته إلى الملك ودخل الباب بظهره يمشي إليه القهقرا فلما وصل إليه انفتل فسلم عليه فعرف الملك ذكاءه ومكانه من العلم والفهم فعظمه ويقال إن الملك أحضر بين يديه آلة الطرب المسماة بالأرغل ليستفز عقله بها فلما سمعها الباقلاني خاف على نفسه أن يظهر منه حركة ناقصة بحضرة الملك فجعل لا يألوا جهدا أن جرح رجله حتى خرج منها الدم الكثير فاشتغل بالألم عن الطرب ولم يظهر عليه شيء من النقص والخفة فعجب الملك من ذلك ثم إن الملك استكشف الأمر فإذا هو قد جرح نفسه بما أشغله عن الطرب فتحقق الملك وفور همته وعلو عزيمته فإن هذه الآلة لا يسمعها أحد إلا طرب شاء أم أبى وقد سأله بعض الأساقفة بحضرة ملكهم فقال ما فعلت زوجة نبيكم وما كان من أمرها بما رميت به من الإفك فقال الباقلاني مجيبا له على البديهة هما امرأتان ذكرتا بسوء مريم وعائشة فبرأهما الله عز و جل وكانت عائشة ذات زوج ولم تأت بولد وأتت مريم بولد ولم يكن لها زوج يعني أن عائشة أولى بالبراءة من مريم وكلاهما بريئة مما قيل فيها فإن تطرق في الذهن الفاسد احتمال ريبة إلى هذه فهو إلى تلك أسرع وهما بحمد الله منزهتان مبرأتان من السماء بوحي الله عز و جل عليهما السلام (11/350)
وقد سمع الباقلاني الحديث من أبي بكر بن مالك القطيعي وأبي محمد بن ماسي وغيرهما وقد قبله الدارقطني يوما وقال هذا يرد على أهل الأهواء باطلهم ودعا له وكانت وفاته يوم السبت لسبع بقين من ذي القعدة ودفن بداره ثم نقل إلى مقبرة باب حرب
محمد بن موسى بن محمد
أبو بكر الخوارزمي شيخ الحنفية وفقيههم أخذ العلم عن أحمد بن علي الرازي وانتهت إليه رياسة الحنفية ببغداد وكان معظما عند الملوك ومن تلامذة الرضي والصيرمي وقد سمع الحديث من أبي بكر الشافعي وغيره وكان ثقة دينا حسن الصلاة على طريقة السلف ويقول في الاعتقاد ديننا دين العجائز لسنا من الكلام في شيء وكان فصيحا حسن التدريس دعى الة ولاية القضاء غير مرة فلم يقبل توفي ليلة الجمعة الثامن عشر من جمادى الأولى سنة ثلاث وأربعمائة ودفن بداره من درب عبده
الحافظ أبو الحسن علي بن محمد بن خلف
العامري القابسي مصنف التلخيص أصله قرويني وإنما غلب عليه القابسي لأن عمه كان يتعمم قابسية فقيل لهم ذلك وقد كان حافظا بارعا في علم الحديث رجلا صالحا جليل القدر ولما توفي في ربيع الآخر من هذه السنة عكف الناس على قبره ليالي يقرؤن القرآن ويدعون له وجاء الشعراء من كل أوب يرثون ويترحمون ولما أجلس للمناظرة أنشد لغيره ... لعمر أبيك ما نسب المعلى ... الى كرم وفي الدنيا كريم ... ولكن البلاد إذا اقشعرت ... وصوح نبتها رعى الهشيم ... ثم بكى وأبكى وجعل يقول أنا الهشيم أنا الهشيم رحمه الله
الحافظ بن الفرضي
أبو الوليد عبدالله بن محمد بن يوسف بن نصر الأزدي الفرضي قاضي بكنسية سمع الكثير وجمع وصنف التاريخ وفي المؤتلف والمختلف ومشتبه النسبة وغير ذلك وكان علامة زمانه قتل شهيدا على يد البربر فسمعوه وهو جريح طريح يقرأ على نفسه الحديث الذي في الصحيح ( ما يكلم أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وكلمه يدمى اللون لون الدم والريح ريح المسك ) وقد كان سأل الله الشهادة عند أستار الكعبة فأعطاه إياها ومن شعره قوله ... أسير الخطايا عند بابك واقف ... على وجل مما به أنت عارف ... يخااف ذنوبا لم يغب عنك غيها ... ويرجوك ففيها وهو راج وخائف ... ومن ذا الذي يرجى سواك ويتقى ... ومالك في فصل القضاء مخالف ... فياسيدي لا تخزني في صحيفتي ... اذا نشرت يوم الحساب الحصائف ... وكن مؤنسي في ظلمة القبر عند ما ... يصد ذوو القربى ويجفو الموالف (11/351)
لئن ضاق عني عفوك الواسع الذي ... أرجى لإسرافي فإني تالف ...
ثم دخلت سنة أربع وأربعمائة
في يوم الخميس غرة ربيع الأول منها جلس الخليفة القادر في أبهة الخلافة وأحضر بين يديه سلطان الدولة والحجبة فخلع عليه سبع خلع على العادة وعممه بعمامة سوداء وقلد سيفا وتاجا مرصعا وسوارين وطوقا وعقد له لواءين بيده ثم أعطاه سيفا وقال للخادم قلده به فهو شرف له ولعقبه يفتح شرق الأرض وغربها وكان ذلك يوما مشهودا حضره القضاة والأمراء والوزراء وفيها غزا محمود بن سبكتكين بلاد الهند ففتح وقتل وسبى وغنم وسلم وكتب إلى الخليفة أن يوليه ما بيده من مملكة خراسان وغيرها من البلاد فأجابه إلى ما سأل وفيها عاثت بنو خفاجة ببلاد الكوفة فبرز إليهم نائبها أبو الحسن بن مزيد فقتل منهم خلقا وأسر محمد بن يمان وجماعة من رؤسهم وانهزم الباقون فأرسل الله عليهم ريحا حارة فأهلك منهم خمسمائة إنسان وحج بالناس أبو الحسن محمد بن الحسن الأفساسي وفيها توفي من الأعيان
الحسن بن أحمد
أبو جعفر بن عبدالله المعروف بابن البغدادي سمع الحديث 4 وكان زاهدا عابدا كثير المجاهدة لا ينام الآ عن غلبة وكان لا يدخل الحمام ولا يغسل ثيابه إلا بماء وجده الحسن بن عثمان بن علي أبو عبدالله المقري الضرير المجاهدي قرأ على ابن مجاهد القرآن وهو صغير وكان آخر من بقي من أصحابه وتوفي في جمادى الأولى منها وقد جاوز المائة سنة ودفن في مقابر الزرادين
علي بن سعيد الاصطخري
أحد شيوخ المعتزلة صنف للقادر بالله الرد على الباطنية فأجرى عليه جراية سنية وكان يسكن درب رباح توفي في شوال وقد جاوز الثمانين
ثم دخلت سنة خمس وأربعمائة
فيها منع الحاكم صاحب مصر النساء من الخروج من منازلهم أو أن يطلعن من الأسطحة أو من الطاقات ومنع الخفافين من عمل الخفاف لهن ومنعهن من الخروج إلى الحمامات وقتل خلقا من النساء على مخالفته في ذلك وهدم بعض الحمامات عليهن وجهز نساء عجائز كثيرة يستعلمن أحوال النساء لمن يعشقن أو يعشقهن بأسمائهن وأسماء من يتعرض لهن فمن وجد منهن كذلك أطفأها وأهلكها ثم إنه أكثر من الدوران بنفسه ليلا ونهارا في البلد في طلب ذلك وغرق خلقا من الرجال والنساء والصبيان ممن يطلع على فسقهم فضاق الحال واشتد على النساء وعلى الفساق ذلك ولم يتمكن أحد منهن أن يصل إلى أحد إلا نادرا حتى أن امرأة عاشقة لرجل عشقا قويا كادت أن تهلك بسببه لما حيل بينها وبينه فوقفت لقاضي القضاة وهو مالك بن سعد الفارقي وحلفته بحق (11/352)
الحاكم لما وقف لها واستمع كلامها فرحمها فوقف لها فبكت إليه بكاء شديدا مكرا وحيلة وخداعا وقالت له أيها القاضي إن لي أخا ليس لي غيره وهو في السياق وإني أسألك بحق الحاكم عليك لما أوصلتني إلى منزله لأنظر إليه قبل أن يفارق الدنيا وأجرك على الله فرق لها القاضي رقة شديدة وأمر رجلين كانا معه يكونان معها حتى يبلغانها إلى المنزل الذي تريده فأغلقت بابها وأعطت المفتاح لجارتها وذهبت معهما حتى وصلت إلى منزل معشوقها فطرقت الباب ودخلت وقالت لهما اذهبا هذا منزله فاذا رجل كانت تهواه وتحبه ويهواها ويحبها فقال لها كيف قدرت على الوصول إلي فأخبرته بما احتالت به من الحيلة على القاضي فأعجبه ذلك من مكرها وحيلتها وجاء زوجها من آخر النهار فوجد بابه مغلقا وليس في بيته أحد فسأل الجيران عن أمرها فذكرت له جارتها ما صنعت فاستغاث على القاضي وذهب إليه وقال له ما أريد امراتي إلا منك الساعة وإلا عرفت الحاكم فإن امراتي ليس لها أخ بالكلية وإنما ذهبت إلى معشوقها فخاف القاضي من معرة هذا الامر فركب إلى الحاكم وبكى بين يديه فسأله عن شأنه فأخبره بما اتفق له من الأمر مع المرأة فأرسل الحاكم مع ذينك الرجلين من يحضر المرأة والرجل جميعا على أي حال كانا عليه فوجدهما متعانقين سكارى فسألهما الحاكم عن أمرهما فأخذا يعتذران بما لايجدي شيئا فأمر بتحريق المرأة في بادية وضرب الرجل ضربا مبرحا حتى أتلفه ثم ازداد احتياطا وشدة على النساء حتى جعلهن في أضيق من جحر ضب و لا زال هذا دأبه حتى مات ذكره ابن الجوزي وفي رجب منها ولي أبو الحسن أحمد بن أبي الشوارب قضاء الحضرة بعد موت أبي محمد الأكفاني وفيها عمر فخر الدولة مسجد الشرقية ونصب عليه الشبابيك من الحديد وممن توفي من الأعيان
بكر بن شاذان بن بكر
أبو القاسم المقري الواعظ سمع أبا بكر الشافعي وجعفر الخلدي وعنه الأزهري والخلال وكان ثقة أمينا صالحا عابدا زاهدا له قيام ليل وكريم أخلاق مات فيها عن نيف وثمانين سنة ودفن بباب حرب
بدر بن حسنويه بن الحسين
أبو النجم الكردي كان من خيار الملوك بناحية الدينور وهمدان وله سياسة وصدقة كثيرة كناه القادر بأبي النجم ولقبه ناصر الدواة وعقد له لواء وأنفذه إليه وكانت معاملاته وبلاده في غاية الأمن والطيبة بحيث إذا أعيى جمل أحد من المسافرين أو دابته عن حمله يتركها بما عليها في البرية فيرد عليه ولو بعد حين لا ينقض منه شيء ولما عاثت أمراؤه في الأرض فسادا عمل لهم ضيافة حسنة فقدمها إليهم ولم يأتهم بخبز فجلسوا ينتظرون الخبز فلما استبطاؤه سألوا عنه فقال لهم إذا كنتم تهلكون الحرث وتظلمون الزراع فمن أين نؤتون بخبز ثم قال لهم لا أسمع بأحد أفسد في الأرض بعد اليوم إلا أرقت دمه واجتاز مرة في بعض أسفاره برجل قد حمل حزمة حطب وهو (11/353)
يبكي فقال له مالك تبكي فقال إني كان معي رغيفان أريد أن أتقوتهما فأخذهما مني بعض الجند فقال له أتعرفه إذا رأيته قال نعم فوقف به في موضع مضيق حتى مر عليه ذلك الرجل الذي أخذ رغيفيه قال هذا هو فأمر به أن ينزل عن فرسه وأن يحمل حزمته التي احتطبها حتى يبلغ بها إلى المدينة فأراد أن يفتدي من ذلك بمال جزيل فلم يقبل منه حتى تأدب به الجيش كلهم وكان يصرف كل جمعة عشرين ألف درهم على الفقراء والأرامل وفي كل شهر عشرين ألف درهم في تكفين الموتي ويصرف في كل سنة ألف دينار إلى عشرين نفسا يحجون عن والدته وعن عضد الدولة لأنه كان السبب في تمليكه وثلاثة آلاف دينار في كل سنة إلى الحدادين والحذائين لأجل المنقطعين من همذان وبغداد يصلحون الأحذية ونعال دوابهم ويصرف في كل سنة مائة ألف دينار إلى الحرمين صدقة على المجاورين وعمارة المصانع وإصلاح المياه في طريق الحجاز وحفر الآبار وما اجتاز في طريقه وأسفاره بماء إلا بني عنده قرية وعمر في أيامه من المساجد والخانات ما ينيف على ألفي مسجد وخان هذا كله خارجا عما يصرف من ديوانه من الجرايات والنفقات والصدقات والبر والصلات على أصناف الناس من الفقهاء والقضاة والمؤذنين والأشراف والشهود والفقراء والمساكين والأيتام والأرامل وكان مع هذا كثير الصلاة والذكر وكان له من الدواب المربوطة في سبيل الله وفي الحشر ما ينيف على عشرين ألف دابة توفي في هذه السنة رحمه الله عن نيف وثمانين سنة ودفن في مشهد علي وترك من الأموال أربعة عشر ألف بدرة ونيفا وأربعين بدرة والبدرة عشرة آلاف رحمه الله
الحسن بن الحسين بن حمكان
أبو علي الهمذاني أحد الفقهاء الشافعية ببغداد عني أولا بالحديث فسمع منه أبو حامد المروزي وروى عنه الأزهري وقال كان ضعيفا ليس بشيء في الحديث
عبدالله بن محمد بن عبدالله بن إبراهيم
أبو محمد الأسدي المعروف بابن الأكفاني قاضي قضاة بغداد ولد سنة ست عشرة وثلثمائة وروى عن القاضي المحاملي ومحمد بن خلف وابن عقدة وغيرهم وعنه البرقاني والتنوخي يقال إنه أنفق على طلب العلم مائة ألف دينار وكان عفيفا نزها صين العرض توفي في هذه السنة عن خمس وثمانين سنة ولى الحكم منها أربعين سنة نيابة واستقلالا رحمه الله
عبدالرحمن بن محمد
ابن محمد بن عبدالله بن إدريس بن سعد الحافظ الاستراباذي المعروف بالإدريسي رحل في طلب العلم والحديث وعني به وسمع الأصم وغيره وسكن سمرقند وصنف لها تاريخا وعرضه على الدارقطني فاستحسنه وحدث ببغداد فسمع منه الأزهري والتنوخي وكان ثقة حافظا (11/354)
ابو نصر عبدالعزيز بن عمر
ابن أحمد بن نباتة الشاعر المشهور امتدح سيف الدولة بن حمدان أظنه أخو الخطيب ابن نباتة أو غيره وهو القائل البيت المطروق المشهور ... ومن لم يمت بالسيف مات بغيره ... تنوعت الأسباب والموت واحد ...
عبدالعزيز بن عمر بن محمد بن نباتة
أبو نصر السعدي الشاعر وشعره موقوف ومن شعره قوله ... وإذا عجرت عن العدو فداره ... وامزج له إن المزاج وفاق ... كالماء بالنار الذي هو ضدها ... يعطي النضاج وطبعها الاحراق ... توفي فيها عبدالغفار بن عبدالرحمن أبو بكر الدينوري الفقيه السفياني وهو آخر من كان يفتي بمذهب سفيان الثوري ببغداد في جامع المنصور وكان إليه النظر في الجامع والقيام بأمره توفي فيها ودفن خلف جامع الحاكم
الحاكم النيسابوري
صاحب المستدرك محمد بن عبدالله بن محمد بن حمدويه بن نعيم بن الحكم أبو عبدالله الحاكم الضبي الحافظ ويعرف بابن البيع من أهل نيسابور وكان من أهل العلم والحفظ والحديث ولد سنة إحدى وعشرين وثلثمائة وأول سماعه من سنة ثلاثين وثلثمائمة سمع الكثير وطاف الآفاق وصنف الكتب الكبار والصغار فمناه المستدرك على الصحيحين وعلوم الحديث والإكليل وتاريخ نيسابور وقد روى عن خلق ومن مشايخه الدارقطني وابن أبي الفوارس وغيرهما وقد كان من أهل الدين والأمانة والصيانة والضبط والتجرد والورع لكن قال الخطيب البغدادي كان ابن البيع يميل إلى التشيع فحدثني أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الأرموي قال جمع الحاكم أبو عبدالله أحاديث زعم أنها صحاح على شرط اليخاري ومسلم يلزمهما إخراجها في صحيحيهما فمنها حديث الطير ( ومن كنت مولاه فعلي مولاه ) فأنكر عليه أصحاب الحديث ذلك ولم يلتفتوا إلى قوله ولاموه في فعله وقال محمد بن طاهر المقدسي قال الحاكم حديث الطير لم يخرج في الصحيح وهو صحيح قال ابن طاهر بل موضوع لا يروى إلا عن أسقاط أهل الكوفة من المجاهيل عن أنس فإن كان الحاكم لا يعرف هذا فهو جاهل والا فهو معاند كذاب وقال أبو عبدالرحمن السلمي دخلت على الحاكم وهو مختف من الكرامية لا يستطيع أن يخرج منهم فقلت له لو خرجت حديثا في فضائل معاوية لا سترحت مما أنت منه فقال لا يجيء من قبلي لا يجيء من قبلي توفي فيها عن أربع وثمانين سنة
ابن كج
وهو يوسف بن أحمد بن كج أبو القاسم القاضي أحد أئمة الشافعية وله في المذهب وجوه غريبة وكانت له نعمة عظيمة جدا وولي القضاء بالدينور لبدر بن حسنويه فلما تغيرت البلاد بعد موت بدر وثب عليه جماعة من العيارين فقتلوه ليلة سبع وعشرين من رمضان من هذه السنة تم الجزء الحادي عشر من البداية والنهاية وبالله التوفيق البداية والنهاية للحافظ ابن كثير
جزء ( )
طبعة مكتبة المعارف (11/355)
بسم الله الرحمن الرحيم
ثم دخلت سنة ست وأربعمائة
يوم الثلاثاء مستهل المحرم منها وقعت فتنة بين أهل السنة والروافض ثم سكن الفتنة الوزير فخر الملك على أن تعمل الروافض بدعتهم يوم عاشرواء من تعليق المسوح والنوح وفي هذا الشهر ورد الخبر بوقوع وباء شديد في البصرة أعجز الحافرين والناس عن دفن موتاهم وأنه أظلت البلد سحابة في حزيران فأمطرتهم مطرا شديدا وفي يوم السبت ثالث صفر تولى المرتضى نقابة الطالبيين والمظالم والحج وجميع ما كان يتولاه أخوه الرضي وقرئ تقليده بحضرة الاعيان وكان يوما مشهودا وفيها ورد الخبر عن الحجاج بأنه هلك منهم بسبب العطش أربعة عشر ألفا وسلم ستة آلاف وأنهم شربوا بول الإبل من العطش وفيها غزا محمود بن سبكتكين بلاد الهند فأخذه الأدلاء فسلكوا به على بلاد غريبة فانتهوا إلى أرض قد غمرها الماء من البحر فخاض بنفسه الماء أياما وخاض الجيش حتى خلصوا بعد ما غرق كثير من جيشه وعاد إلى خراسان بعد جهد جهيد ولم يحج فيها من العراق ركب لفساد البلاد من الأعراب وفيها توفي من الأعيان
الشيخ أبو حامد الإسفرايني
إمام الشافعية أحمد بن محمد بن أحمد إمام الشافعية في زمانه ولد في سنة أربع وأربعين وثلثمائة وقدم بغداد وهو صغير سنة ثلاث أو أربع وستين وثلثمائة فدرس الفقه على أبي الحسن ابن المرزبان ثم على أبي القاسم الداركي ولم يزل تترقى به الأحوال حتى صارت إليه رياسة (12/2)
الشافعية وعظم جاهه عند السلطان والعوام وكان فقيها إماما جليلا نبيلا شرح المزني في تعليقه حافلة نحوا من خمسين مجلدا وله تعليقة أخرى في أصول الفقه وروى عن الإسماعيلي وغيره قال الخطيب ورأيته غير مرة وحضرت تدريسه بمسجد عبدالله بن المبارك في صدر قطيعة الربيع وحدثنا عنه الأزجي والخلال وسمعت من يذكر أنه كان يحضر تدريسه سبعمائة متفقه وكان الناس يقولون لو رآه الشافعي لفرح به وقال أبو الحسن القدوري ما رأيت في الشافعية أفقه من أبي حامد وقد ذكرت ترجمته مستقصاة في طبقات الشافعية وذكر ابن خلكان أن القدوري قال هو أفقه وأنظر من الشافعي قال الشيخ أبو إسحاق ليس هذا مسلما إلى القدورى فإن أبا حامد وأمثاله بالنسبة إلى الشافعي كما قال الشاعر ... نزلوا بمكة في قبائل نوفل ... ونزلت بالبيداء أبعد منزل ...
قال ابن خلكان وله مصنفات التعليقة الكبرى وله كتاب البستان وهو صغير فيه غرائب قال وقد اعترض عليه بعض الفقهاء في بعض المناظرات فأنشأ الشيخ أبو حامد يقول
... جفاء جرى جهرا لدى الناس وانبسط ... وعذر أني سرا فأكد ما فرط ... ومن ظن أن يمحو جلي جفائه ... خفى اعتذار فهو في أعظم الغلط ... توفي ليلة السبت لإحدى عشرة بقيت من شوال منها ودفن بداره بعدما صلي عليه بالصحراء وكان الجمع كثيرا والبكاء غزيرا ثم نقل إلى مقبرة باب حرب في سنة عشر وأربعمائة قال ابن الجوزي وبلغ من العمر إحدى وستين سنة وأشهرا
أبو أحمد الفرضي
عبدالرحمن بن محمد بن أحمد بن علي بن مهران أبو مسلم الفرضي المقري سمع المحاملي ويوسف بن يعقوب وحضر مجلس أبي بكر بن الأنباري وكان إماما ثقة ورعا وقورا كثير الخير يقرأ القرآن كثيرا ثم سمع الحديث وكان إذا قدم على الشيخ أبي حامد الإسفرايني نهض إليه حافيا فتلقاه إلى باب المسجد توفي وقد جاوز الثمانين
الشريف الرضي
محمد بن الطاهر أبو أحمد الحسين بن موسى أبو الحسن العلوي لقبه بهاء الدولة بالرضي ذي الحسبتين ولقب أخاه المرتضى ذي المجدين ولي نقابة الطالبيين ببغداد بعد أبيه وكان شاعرا مطبقا سخيا جوادا وقال بعضهم كان الشريف في كثرة أشعاره أشعر قريش فمن شعره المستجاد قوله ... اشترالعز بما شئ ... ت فما العز بغال ... بالقصار إن شئ ... ت أو بالسمر الطوال (12/3)
ليس بالمغبون عقلا ... من شرى عزا بمال ... إنما يذخر الما ... ل لحاجات الرجال ... والفتى من جعل الأموا ... ل أثمان المعالي ... وله أيضا ... يا طائر البان غريدا على فنن ... ما هاج نوحك لي يا طائر البان ... هل أنت مبلغ من هام الفؤاد به ... إن الطليق يؤدي حاجة العاني ... جناية ما جناها غير متلفنا ... يوم الوداع وواشوقي إلى الجاني ... لولا تذكر أيام بذي سلم ... وعند رامة أو طاري وأوطاني ... لما قدحت بنار الوجد في كبدي ... ولا بللت بماء الدمع أجفاني ...
وقد نسب إلى الرضي قصيدة يتمنى فيها أن يكون عند الحاكم العبيدي ويذكر فيها أباه ويا ليته كان عنده حين يرى حاله ومنزلته عنده وأن الخليفة لما بلغه ذلك أراد أن يسيره إليه ليقضي أربه ويعلم الناس كيف حاله قال في هذه القصيدة
... ألبس الذل في بلاد الأعاد ... ي وبمصر الخليفة العلوي ... وأبوه أبي ومولاه مولا ... ي إذا ضامني البعيد القصي ... إلى آخرها فلما سمع الخليفة القادر بأمر هذه القصيدة انزعج وبعث إلى أبيه الموسوي يعاتبه فأرسل إلى ابنه الرضي فأنكر أن يكون قالها بالمرة والروافض من شأنهم التزوير فقال له أبوه فإذا لم تكن قلتها فقل أبياتا تذكر فيها أن الحاكم بمصر دعى لا نسب له فقال إني أخاف غائلة ذلك وأصر على أن لا يقول ما أمره به أبوه وترددت الرسائل من الخليفة إليهم في ذلك وهم ينكرون ذلك حتى بعث الشيخ أبا حامد الإسفرايني والقاضي أبا بكر إليهما فحلف لهما بالإيمان المؤكدة أنه ما قالها والله أعلم بحقيقة الحال توفي في خامس المحرم منها عن سبع وأربعين سنة وحضر جنازته الوزير والقضاة وصلى عليه الوزير ودفن بداره بمسجد الأنباري وولى أخوه المرتضى ما كان يليه وزيد على ذلك أشياء ومناصب أخرى وقد رثى الرضي أخاه بمرثاة حسنة
باديس بن منصور الحميري
أبو المعز مناذر بن باديس نائب الحاكم على بلاد إفريقية وابن نائبها لقبه الحاكم بنصير الدولة كان ذا همة وسطوة وحرمة وافرة كان إذا هزر محا كسره توفي فجأة ليلة الأربعاء سلخ ذي القعدة منها ويقال إن بعض الصالحين دعى عليه تلك الليلة وقام في الأمر بعده ولده المعز مناذر
ثم دخلت سنة سبع وأربعمائة
في ربيع الأول منها احترق مشهد الحسين بن علي ( بكربلاء ) وأروقته وكان سبب ذلك (12/4)
أن القومة اشعلوا شمعتين كبيرتين فمالتا في الليل على التازير ونفذت النار منه إلى غيره حتى كان ما كان وفي هذا الشهر أيضا احترقت دار القطن ببغداد وأماكن كثيرة بباب البصرة واحترق جامع سامرا وفيها ورد الخبر بتشعيث الركن اليماني من المسجد الحرام وسقوط جدار بين يدي قبر الرسول ( ص ) بالمدينة وأنه سقطت القبة الكبير على صخرة بين المقدس وهذا من أغرب الاتفاقات وأعجبها وفي هذه السنة قتلت الشيعة الذين ببلاد إفريقية ونهبت أموالهم ولم يترك منهم إلا من لا يعرف وفيها كان ابتداء دولة العلوليين ببلاد الأندلس وليها علي بن حمود بن أبي العيس العلوي فدخل قرطبة في المحرم منها وقتل سليمان بن الحكم الأموي وقتل أباه أيضا وكان شيخا صالحا وبايعه الناس وتلقب بالمتوكل على الله ثم قتل في الحمام في ثامن ذي القعدة منها ثمان وأربعين سنة وقام بالأمر من بعده أخوه القاسم بن حمود وتلقب بالمأمون فأقام في الملك ست سنين ثم قام ابن أخيه يحيى بن إدريس ثم ملك الأمويون حتى ملك أمر المسلمين علي بن يوسف ابن تاشفين وفيها ملك محمود بن سبكتكين بلاد خوارزم بعد ملكها خوارزم شاه مأمون بن مأمون وفيها استوزر سلطان الدولة أبا الحسن على بن الفضل الرامهرمزي عوضا عن فخر الملك وخلع عليه ولم يحج أحد في هذه السنة من بلاد المغرب لفساد البلاد والطرقات وفيها توفي من الأعيان
أحمد بن يوسف بن دوست
أبو عبدالله البزار احد حفاظ الحديث وأحد الفقهاء على مذهب مالك كان يذكر بحضرة الدارقطني ويتكلم على علم الحديث فيقال إن الدارقطني تكلم فيه لذلك السبب وقد تكلم في غيره بما لا يقدح فيه كبير شيء قال الأزهري رأيت كتبه طرية وكان يذكر أن أصوله العتق غرقت وقد أملى الحديث من حفظه والمخلص وابن شاهين حيان موجودان توفي في رمضان عن أربع وثمانين سنة
الوزير فخر الملك
محمد بن علي بن خلف أبو غالب الوزير كان من أهل واسط وكان أبوه صيرفيا فتنقلت به الأحوال إلى أن وزر لبهاء الدولة وقد اقتنى أموالا جزيلة وبنى دارا عظيمة تعرف بالفخرية وكانت أولا للخليفة المتقي لله فأنفق عليها أموالا كثيرة وكان كريما جواد كثير الصدقة كسى في يوم واحد ألف فقير وكان كثير الصلاة أيضا وهو أول من فرق الحلاوة ليلة النصف من شعبان وكان فيه ميل إلى التشيع وقد صادره سلطان الدولة بالأهواز وأخذ منه شيئا أزيد من ستمائة ألف دينار خارجا عن الأملاك والجواهر والمتاع قتله سلطان الدولة وكان عمره يوم قتل ثنتين وخمسين سنة وأشهرا وقيل إن سبب هلاكه أن رجلا قتله بعض غلمانه فاستعدت امرأة الرجل على الوزير هذا ورفعت إليه قصصتها وكل ذلك لا يلتفت إليها فقالت له ذات يوم أيها الوزير (12/5)
أرأيت القصص التي رفعتها إليك فلم تلتفت إليها قد رفعتها إلى الله عز و جل وأنا أنتظر التوقيع عليها فلما مسك قال قد والله خرج توقيع المرأة فكان من أمره ما كان
ثم دخلت سنة ثمان وأربعمائة
فيها وقعت فتنة عظيمة بين أهل السنة والروافض ببغداد قتل فيها خلق كثير من الفريقين وفيها ملك أبو المظفر بن خاقان بلاد ما وراء النهر وغيرها وتلقب بشرف الدولة وذلك بعد وفاة اخيه طغان خان وقد كان طغان خان هذا دينا فاضلا يحب أهل العلم والدين وقد غزا الترك مرة فقتل منهم مائتي ألف مقاتل وأسر منهم مائة الف وغنم من أواني الذهب والفضة وأواني الصين شيئا لا يعهد لأحد مثله فلما مات ظهرت ملوك الترك على البلاد الشرقية وفي جمادى الأولى منها ولي أبو الحسين أحمد بن مهذب الدولة على بن نصر بلاد البطائح بعد أبيه فقاتله ابن عمه فغلبه وقتله ثم لم تطل مدته فيها حتى قتل ثم آلت تلك البلاد بعد ذلك إلى سلطان الدولة صاحب بغداد وطمع فيهم العامة فنزلوا إلى واسط فقاتلوهم مع الترك وفيها ولي نور الدولة أبو الأغردبيس ابن أبي الحسن علي بن مزيد بعد وفاة أبيه وفيها قدم سلطان الدولة إلى بغداد وضرب الطبل في أوقات الصلوات ولم تجز بذلك عادة وعقد عقده على بنت قرواش علىصداق خمسين ألف دينار ولم يحج أحد من أهل العراق لفساد البلاد وعيث الاعراف وضعف الدولة قال ابن الجوزي في المنتظم أخبرنا سعد الله بن علي البزار أنبأ أبو بكر الطريثيثي أنبا هبة الله بن الحسن الطبري قال وفي سنة ثمان وأربعمائة استتاب القادر بالله الخليفة فقهاء المعتزلة فأظهروا الرجوع وتبرؤا من الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة للإسلام وأخذت خطوطهم بذلك وأنهم متى خالفوا أحل فيهم من النكال والعقوبة ما يتعظ به أمثالهم وامتثل محمود بن سبكتكين أمر أمير المؤمنين في ذلك واستن بسنته في أعماله التي استخلفه عليها من بلاد خراسان وغيرها في قتل المعتزلة والرافضة والاسماعيلية والقرامطة والجهمية والمشبهة وصلبهم وحبسهم ونفاهم وأمر بلعنهم على المنابر وأبعد جميع طوائف أهل البدع ونفاهم عن ديارهم وصار ذلك سنة في الإسلام وفيها توفي من الأعيان الحاجب الكبير
شباشي أبو نصر
مولى شرف الدولة ولقبه بهاء الدولة بالسعيد وكان كثير الصدقة والأوقاف على وجوه القربات فمن ذلك أنه وقف دباها على المارستان وكانت تغل شيئا كثيرا من الزروع والثمار والخراج وبنى قنطرة الخندق والمارستان والناصرية وغير ذلك ولمامات دفن بمقبرة الإمام أحمد وأوصى أن لا يبنى عليه فخالفوه فعقدوا قبة عليه فسقطت بعد موته بنحو من سبعين سنة واجتمع نسوة عند قبره ينحن يبكين فلما رجعن رأت عجوز منهن كانت هي المقدمة فيهن في المنام كأن تركيا خرج اليهن من (12/6)
قبره ومعه دبوس فحمل عليهن وزجرهن عن ذلك وإذا هو الحاجب السعيد فانتهبت مذعورة
ثم دخلت سنة تسع وأربعمائة
وفي يوم الخميس السابع عشر من المحرم قرئ بدار الخلافة في الموكب كتاب في مذهب أهل السنة وفيه أن من قال القرآن مخلوق فهو كافر حلال الدم وفي النصف من جمادى الأولى منها فاض البحر المالح وتداني إلى الأبلة ودخل البصرة بعد يومين وفيها غزا محمود بن سبكتكين بلاد الهند وتواقع هو وملك الهند فاقتتل الناس قتالا عظيما ثم انجلت عن هزيمة عظيمة على الهند وأخذ المسلمون يقتلون فيهم كيف شاؤا وأخذوا منهم أموالا عظيمة من الجواهر والذهب والفضة وأخذوا منهم مائتي فيل واقتصوا آثار المنهزمين منهم وهدموا معامل كثيرة ثم عاد إلى غزنة مؤيدا منصورا ولم يحج أحد من درب العراق فيها لفساد البلاد وعيث الأعراب وفيها توفي من الأعيان
رجاء بن عيسى بن محمد
أبو العباس الأنصناوي نسبة إلى قرية من قرى مصر يقال لها أنصنا قدم بغداد فحدث بها وسمع منه الحفاظ وكان ثقة فقيها مالكيا عدلا عند الحكام مرضيا ثم عاد إلى بلده وتوفي فيها وقد جاوز الثمانين علان
عبدالله بن محمد بن أبي علان
أبو أحمد قاضي الأهواز كان ذا مال وله مصنفات منها كتاب في معجزات النبي ( ص ) جمع فيه ألف معجزة وكان من كبار شيوخ المعتزلة توفي فيها عن تسع وثمانين سنة
علي بن نصر
ابن أبي الحسن مهذب الدولة صاحب بلاد البطيحة له مكارم كثيرة وكان الناس يلجؤن إلى بلاده في الشدائد فيؤويهم ويحسن إليهم ومن أكبر مناقبه إحسانه إلى أمير المؤمنين القادر لما استجار به ونزل عنده بالبطائح فارا من الطائع فآواه وأحسن إليه وكان في خدمته حتى ولي إمرة المؤمنين وكان له بذلك عنده اليد البيضاء وقد ولى البطائح ثنتين وثلاثين سنة وشهورا وتوفي فيها عن ثنتين وسبعين سنة وكان سبب موته أنه افتصد فانتفخ زراعه فمات
عبدالغني بن سعيد
ابن علي بن بشر بن مروان بن عبدالعزيز أبو محمد الأزدي المصري الحافظ كان عالما بالحديث وفنونه وله فيه المصنفات الكثيرة الشهيرة قال أبو عبدالله الصوري الحافظ ما رأت عيناي مثله في معناه وقال الدارقطني ما رأيت بمصر مثل شاب يقال له عبدالغني كانه شعلة نار وجعل يفخم أمره ويرفع ذكره وقد صنف الحافظ عبدالغني هذا كتابا فيه أوهام الحاكم فلما وقف الحاكم عليه جعل يقرؤه على الناس ويعترف لعبد الغني بالفضل ويشكره ويرجع فيه إلى ما أصاب (12/7)
فيه من الرد عليه رحمهما الله ولد عبد الغني لليلتين بقيتا من ذي القعدة سنة ثنتين وثلثمائة وتوفي في صفر من هذه السنة رحمه الله
محمد بن أمير المؤمنين
ويكنى بأبي الفضل كان قد جعله ولي عهده من بعده وضربت السكة باسمه وخطب له الخطباء على المنابر ولقب بالغالب بالله فلم يقدر ذلك توفي فيها عن سبع وعشرين سنة
محمد بن إبراهيم بن محمد بن يزيد
أبو الفتح البزار الطرسوسي ويعرف بابن البصري سمع الكثير من المشايخ وسمع منه الصوري ببيت المقدس حين أقام بها وكان ثقة مأمونا
ثم دخلت سنة عشر وأربعمائة
فيها ورد كتاب يمين الدولة محمود بن سبكتكين يذكر فيها ما افتتحه من بلاد الهند في السنة الخالية وفيه أنه دخل مدينة فيها ألف قصر مشيد وألف بيت للأصنام وفيها من الأصنام شيء كثير ومبلغ ما على الصنم من الذهب ما يقارب مائة ألف دينار ومبلغ الأصنام الفضة زيادة على ألف صنم وعندهم صنم معظم يؤرخون له وبه بجهالتهم ثلثمائة ألف عام وقد سلبنا ذلك كله وغيره مما لا يحصى ولا يعد وقد غنم المجاهدون في هذه الغزوة شيئا كثيرا وقد عمموا المدينة بالإحراق فلم يتركوا منها إلا الرسوم وبلغ عدد القتلى من الهنود خمسين ألفا وأسلم منهم نحو من عشرين ألفا وأفرد خمس الرقيق فبلغ ثلاثا وخمسين ألفا واعترض من الأفيال ثلثمائة وست وخمسين فيلا وحصل من الأموال عشرون ألف ألف درهم ومن الذهب شيء كثير وفي ربيع الآخر منها قرئ عهد أبي الفوارس ولقب قوام الدولة وخلع عليه خلعا حملت إليه بولاية كرمان ولم يحج في هذه السنة أحد من العراق وممن توفي فيها من الأعيان الأصيفر الذي كان يخفر الحجاج
أحمد بن موسى بن مردويه
ابن فورك أبو بكر الحافظ الأصبهاني توفي في رمضان منها
هبة الله بن سلامة
أبو القاسم الضرير المقرئ المفسر كان من أعلم الناس وأحفظهم للتفسير وكانت له حلقة في جامع المنصور روى ابن الجوزي بسنده إليه قال كان لنا شيخ نقرأ عليه فمات بعض أصحابه فرآه في المنام فقال له ما فعل الله بك قال غفر لي قال فما كان حالك مع منكر ونكير قال لما أجلساني وسألاني ألهمني الله أن قلت بحق أبي بكر وعمر دعاني فقال أحدهما للآخر قد أقسم بعظيمين فدعه فتركاني وذهبا (12/8)
ثم دخلت سنة إحدى عشرة وأربعمائة
فيها عدم الحاكم بمصر وذلك أنه لما كان ليلة الثلاثاء لليلتين بقيتا من شوال فقد الحاكم بن المعز الفاطمي صاحب مصر فاستبشر المؤمنون والمسلمون بذلك وذلك لأنه كان جبارا عنيدا وشيطانا مريدا ولنذكر شيئا من صفاته القبيحة وسيرته الملعونة أخزاه الله كان كثير التلون في أفعاله وأحكامه وأقواله جائرا وقد كان يروم أن يدعى الألوهية كما ادعاها فرعون فكان قد أمر الرعية إذا ذكر الخطيب على المنبر اسمه أن يقوم الناس على أقدامهم صفوفا إعظاما لذكره واحتراما لاسمه فعل ذلك في سائر ممالكه حتى في الحرمين الشريفين وكان قد أمر أهل مصر على الخصوص إذا قاموا عند ذكره خروا سجدا له حتى إنه ليسجد بسجودهم من في الأسواق من الرعاع وغيرهم ممن كان لا يصلي الجمعة وكانوا يتركون السجود لله في يوم الجمعة وغيره ويسجدون للحاكم وأمر في وقت لأهل الكتابين بالدخول في دين الإسلام كرها ثم أذن لهم في العود إلى دينهم وخرب كنائسهم ثم عمرها وخرب القمامة ثم أعادها وابتنى المدارس وجعل فيها الفقهاء والمشايخ ثم قتلهم وأخربها وألزم الناس بغلق الأسواق نهارا وفتحها ليلا فامتثلوا ذلك دهرا طويلا حتى اجتاز مرة برجل يعمل النجارة في أثناء النهار فوقف عليه فقال ألم أنهكم فقال يا سيدي لما كان الناس يتعيشون بالنهار كانوا يسهرون بالليل ولما كانوا يتعيشون بالليل سهروا بالنهار فهذا من جملة السهر فتبسم وتركه وأعاد الناس إلى أمرهم الأول وكل هذا تغيير للرسوم واختبار لطاعة العامة له ليرقى في ذلك إلى ما هو أشر وأعظم منه وقد كان يعمل الحسبة بنفسه فكان يدور بنفسه في الأسواق على حمار له وكان لا يركب إلا حمارا فمن وجده قد غش في معيشة أمر عبدا أسود معه يقال له مسعود أن يفعل به الفاحشة العظمى وهذا أمر منكر ملعون لم يسبق إليه وكان قد منع النساء من الخروج من منازلهن وقطع شجر الأعناب حتى لا يتخذ الناس منها خمرا ومنعهم من طبخ الملوخية وأشياء من الرعونات التي من أحسنها منع النساء من الخروج وكراهة الخمر وكانت العامة تبغضه كثيرا ويكتبون له الأوراق بالشتيمة البالغة له ولأسلافه في صورة قصص فإذا قرأها ازداد غيظا وحنقا عليهم حتى إن أهل مصر عملوا صورة امرأة من ورق بخفيها وإزارها وفي يدها قصة من الشتم واللعن والمخالفة شيء كثير فلما رآها ظنها امرأة فذهب من ناحيتها وأخذ القصة من يدها فقرأها فرأى ما فيها فأغضبه ذلك جدا فأمر بقتل المرأة فلما تحققها من ورق ازداد غظيا إلى غيظه ثم لما وصل إلى القاهرة أمر السودان أن يذهبوا إلى مصر فيحرقوها وينهبوا ما فيها من الأموال والمتاع والحريم فذهبوا فامتثلوا ما أمرهم به فقاتلهم أهل مصر قتالا شديدا ثلاثة أيام والنار تعمل في الدور والحريم وهو في كل يوم قبحه الله يخرج فيقف من بعيد وينظر ويبكي ويقول من أمر (12/9)
هؤلاء العبيد بهذا ثم اجتمع الناس في الجوامع ورفعوا المصاحف وصاروا إلى الله عز و جل واستغاثوا به فرق لهم الترك والمشارقة وانحازوا إليهم وقاتلوا معهم عن حريمهم ودورهم وتفاقم الحال جدا ثم ركب الحاكم لعنه الله ففصل بين الفريقين وكف العبيد عنهم وكان يظهر التنصل مما فعله العبيد وأنهم ارتكبوا ذلك من غير علمه وإذنه وكان ينفذ إليهم السلاح ويحثهم على ذلك في الباطن وما انجلى الأمر حتى احترق من مصر نحو ثلثها ونهب قريب من نصفها وسبيت نساء وبنات كثيرة وفعل معهن الفواحش والمنكرات حتى أن منهن من قتلت نفسها خوفا من العار والفضيحة واشترى الرجال منهم من سبى لهم من النساء والحريم قال ابن الجوزي ثم ازداد ظلم الحاكم حتى عن له أن يدعي الربوبية فصار قوم من الجهال إذا رأوه يقولون يا واحد يا أحد يا محي يا مميت قبحهم الله جميعا
صفة مقتله لعنه الله
كان قد تعدى شره إلى الناس كلهم حتى إلى أخته وكان يتهمها بالفاحشة ويسمعها أغلظ الكلام فتبرمت منه وعملت على قتله فراسلت أكبر الأمراء أميرا يقال له ابن دواس فتوافقت هي وهو على قتله ودماره وتواطآ على ذلك فجهز من عنده عبدين أسودين شهمين وقال لهما إذا كانت الليلة الفلانية فكونا في جبل المقطم ففي تلك الليلة يكون الحاكم هناك في الليل لينظر في النجوم وليس معه أحد إلا ركابي وصبي فاقتلاه واقتلاهما معه واتفق الحال على ذلك فلما كانت تلك الليلة قال الحاكم لأمه على في هذه الليلة قطع عظيم فإن نجوت منه عمرت نحوا من ثمانين سنة ومع هذا فانقلي حواصلى إليك فإن أخوف ما أخاف عليك من أختي وأخوف ما أخاف على نفسي منها فنقل حواصله إلى أمه وكان له في صناديق قريب من ثلثمائة ألف دينار وجواهر أخر فقالت له أمه يا مولانا إذا كان الأمر كما تقول فارحمني ولا تركب في ليلتك هذه إلى موضع وكان يحبها فقال أفعل وكان من عادته أن يدور حول القصر كل ليلة فدار ثم عاد إلى القصر فنام إلى قريب من ثلث الليل الأخير فاستيقط وقال إن لم أركب الليلة فاضت نفسي فثار فركب فرسا وصحبه صبي وركابي وصعد الجبل المقطم فاستقبله ذانك العبدان فأنزلاه عن مركوبه وقطعا يديه ورجليه وبقرا بطنه فأتيا به مولاهما ابن دواس فحمله إلى أخته فدفنته في مجلس دارها واستدعت الأمراء والأكابر والوزير وقد أطلعته على الجلية فبايعوا لولد الحاكم أبي الحسن علي ولقب بالظاهر لإعزاز دين الله وكان بدمشق فاستدعت به وجعلت تقول للناس إن الحاكم قال لي إنه يغيب عنكم سبعة أيام ثم يعود فاطمأن الناس وجعلت ترسل ركابيين إلى الجبل فيصعدونه ثم يرجعون فيقولون تركناه في الموضع الفلاني ويقول الذين بعدهم لأمه تركناه في موضع كذا وكذا حتى اطمأن الناس وقدم ابن أخيها واستصحب معه من دمشق ألف ألف دينار وألفي ألف درهم فحين وصل ألبسته (12/10)
تاج جد أبيه المعز وحلة عظيمة وأجلسته على السرير وبايعه الأمراء والرؤساء وأطلق لهم الأموال وخلعت على ابن دواس خلعة سنية هائلة وعملت عزاء أخيها الحاكم ثلاثة أيام ثم أرسلت إلى ابن دواس طائفة من الجند ليكونوا بين يديه بسيوفهم وقوفا في خدمته ثم يقولوا له في بعض الأيام أنت قاتل مولانا ثم يهبرونه بسيوفهم ففعلوا ذلك وقتلت كل من اطلع على سرها في قتل أخيها فعظمت هيبتها وقويت حرمتها وثبتت دولتها وقد كان عمر الحاكم يوم قتل سبعا وثلاثين سنة ومدة ملكه من ذلك خمسا وعشرين سنة
ثم دخلت سنة إثنتي عشرة وأربعمائة
فيها تولى القاضي أبو جعفر أحمد بن محمد السمناني الحسبة والمواريث ببغداد وخلع عليه السواد وفيها قالت جماعة من العلماء والمسلمين للملك الكبير يمين الدولة محمود بن سبكتكين أنت أكبر ملوك الأرض وفي كل سنة تفتح طائفة من بلاد الكفر وهذه طريق الحج قد تعطلت من مدة ستين وفتحك لها أوجب من غيرها فتقدم إلى قاضي القضاة أبي محمد الناصحي أن يكون أمير الحج في هذه السنة وبعث معه بثلاثين ألف دينار للأعراب غير ما جهز من الصدقات فسار الناس بصحبته فلما كانوا بفيد اعترضهم الأعراب فصالحهم القاضي أبو محمد الناصحي بخمسة آلاف دينار فامتنعوا وصمم كبيرهم وهو جماز بن عدي على أخذ الحجيج وركب فرسه وجال جولة واستنهض شياطين العرب فتقدم إليه غلام من سمرقند يقال له ابن عفان فرماه بسهم فوصل إلى قلبه فسقط ميتا وانهزمت الأعراب وسلك الناس الطريق فحجوا ورجعوا سالمين ولله الحمد والمنة وممن توفي فيها من الأعيان
أبو سعد الماليني
أحمد بن محمد بن أحمد بن إسماعيل بن حفص أبو سعد الماليني ومالين قرية من قرى هراة كان من الحفاظ المكثرين الراحلين في طلب الحديث إلى الآفاق وكتب كثيرا وكان ثقة صدوقا صالحا مات بمصر في شوال منها
الحسن بن الحسين
ابن محمد بن الحسين بن رامين القاضي أبو محمد الاستراباذي نزل بغداد وحدث بها عن الإسماعيلي وغيره وكان شافعيا كبيرا فاضلا صالحا
الحسين بن منصور بن غالب
الوزير الملقب ذا السعادتين ولد بسيراف سنة ثلاث وخمسين وثلثمائة ثم صار وزيرا ببغداد ثم قتل وصودر أبوه علي ثمانين ألف دينار (12/11)
الحسين بن عمرو
أبو عبد الله الغزال سمع النجاد والخلدى وابن السماك وغيرهم قال الخطيب كتبت عنه وكان ثقة صالحا كثير البكاء عند الذكر
محمد بن عمر
أبو بكر العنبري الشاعر كان أدبيا ظريفا حسن الشعر فمن ذلك قوله ... إني نظرت إلى الزما ... ن وأهله نظرا كفانى ... فعرفته وعرفتهم ... وعرفت عزى من هوانى ... فلذاك أطرح الصد ... يق فلا أراه ولا يرانى ... وزهدت فيما في يدي ... ه ودونه نيل الأمانى ... فتعجبوا لمغالب ... وهب الاقاصى للأدانى ... وانسل من بين الزحا ... م فماله في الغلب ثانى ... قال ابن الجوزى وكان متصوفا ثم خرج عنهم وذمهم بقصائد ذكرتها في تلبيس أبليس توفي يوم الخميس ثاني عشر جمادى الأولى منها
محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد
ابن روق بن عبد الله بن يزيد بن خالد أبو الحسن البزار المعروف بابن رزقويه قال الخطيب هو أول شيخ كتبت عنه في سنة ثلاث وأربعمائة وكان يذكر أنه درس القرآن ودرس الفقة على مذهب الشافعى وكان ثقة صدوقا كثير السماع والكتابة حسن الاعتقاد جميل المذهب مديما لتلاوة القرآن شديدا على أهل البدع وأكب دهرا على الحديث وكان يقول لا أحب الدنيا إلا لذكر الله وتلاوة القرآن وقراءتى عليكم الحديث بعض الأمراء إلى العلماء بذهب فقبلوا كلهم غيره فإنه لم يقبل شيئا وكانت وفات يوم الإثنين السادس عشر من جمادى الأولى منها عن سبع وثمانين سنة ودفن بالقرب من مقبرة معروف الكرخى
أبو عبد الرحمن السلمي
محمد بن الحسين بن محمد بن موسى أبو عبد الرحمن السلمي النيسابوري روى عن الأصم وغيره وعنه مشايخ البغداديين كلأزهري والعشاري وغيرهما وروى عنه البيهقى وغيره قال ابن الجوزي كانت له عناية بأخبار الصوفية فصنف لهم تفسيرا على طريقتهم وسننا وتاريخا وجمع شيوخا وتراجم وأبوابا له بنيسابور دار معروفة وفيها صوفية وبها قبره ثم ذكر كلام الناس في تضعفه في الرواية فحكى عن الخطيب عن محمد بن يوسف القطان أنه قال لم يكن بثقة ولم يكن سمع (12/12)
من الأصم شيئا كثيرا فلما مات الحاكم روى عنه اشياء كثيرة جدا وكان يضع للصوفية الأحاديث قال ابن الجوزي وكانت وفاته في ثالث شعبان منها
أبو علي الحسن بن علي الدقاق النيسابوري
كان يعظ الناس ويتكلم على الأحوال والمعرفة فمن كلامه من تواضع لأحد لأجل دنياه ذهب ثلثا دينه لأنه خضع له بلسانه وأركانه فإن اعتقد تعظيمه بقلبه أو خضع له به ذهب دينه كله وقال في قوله تعالى [ اذكروني أذ كركم ] اذكروني وأنتم أحياء أذكركم وانتم أموات تحت التراب وقد تخلى عنكم الأقارب والأصحاب والأحباب وقال البلاء الأكبر أن تريدولا تراد وتدنو فترد إلى الطرد والابعاد وانشد عند قوله تعالى [ فتولى عنهم وقال ياأسفي على يوسف ] ... جننا بليلى وهي جنت بغيرنا ... وأخرى بنا مجنونة لا نريدها ... وقال في قوله ( ص ) حفت الجنة بالمكاره إذا كان هذا المخلوق لاوصول إليه إلا بتحمل المشاق فما الظن بمن لم يزل وقال في قوله ليه السلام ( جلبت القلوب على حب من أحسن إليها ) يا عجبا لمن ير محسنا غير الله كيف لا يميل بكليته إليه قلت كلامه على هذا الحديث جيد والحديث لايصح بالكلية
صريع الدلال الشاعر
أبو الحسن على بن عبيد الواحد الفقية البغدادي الشاعر الماجن المعروف بصريع الدلال قتيل الغوانى ذي الرقاعتين له قصيدة مقصورة عارض بها مقصورة ابن دريد يقول فيها ... وألف حمل من متاع تستر ... أنفع للمسكين من لقط النوى ... من طبخ الديك ولايذبحه ... طار من القدر إلى حيث انتهى ... من دخلت في عينه مسلة ... فسله من ساعته كيف العمى ... والذقن شعر في الوجوه طالع ... كذلك العقصة من خلف القفى ... إلى أن ختمها بالبيت الذي حسد عليه وهو قوله ... من فاته العلم وأخطاه الغنى ... فذاك والكلب على حد سوى ... قدم مصر في سنة ثنتى عشرة وأربعمائة وامتدح فيها خليفتها الظاهر لا عزاز دين الله بن الحاكم واتفقت وفاته بها في رجبها
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وأربعمائة
فيها جرت كائنة غريبة عظيمة ومصيبة عامة وهى أن رجلا من المصريين من أصحاب الحاكم اتفق مع جماعة من الحجاج المصريين على أمر سوء وذلك أنه لما كان يوم النفر الأول طاف هذا الرجل بالبيت فلما انتهى إلى الحجر الأسود جاء ليقبله فضربه بدبوس كان معه ثلاث ضربات (12/13)
متواليات وقال إلى متى نعبد هذا الحجر ولا محمد ولا على مما أفعله فانى أهدم اليوم هذا البيت ن وجعل يرتعد فاتقاه أكثر الحاضرين وتأخروا عنه وذلك لأنه كان رجلا طوالا جسما أحمر اللون أشقر الشعر وعلى باب الجامع جماعة من الفرسان وقوف ليمنعوه ممن يريد منعه من هذا الفعل وأراده بسوء فتقدم إليه رجل من أهل اليمن معه خنجر فوجأه بها ن وتكاثر الناس عليه فقتلوه وقطعوه قطعا وحرقوه بالنار وتتبعوا أصحابه فقتلوا منهم جماعة ونهبت أهل مكة الركب المصري وتعدى النهب إلى غيرهم وجرت خبطة عظيمة وفتنة كبيرة جدا ثم سكن الحال بعد أن تتبع أولئك النفر الذين تمالؤا على الالحاد في أشرف البلاد غير انه قد سقط من الحجر ثلاث فلق مثل الأظفار وبدا ما تحتها أسمر يضرب إلى صفرة محببا مثل الخشخاش فأخذ بنوشيبة تلك الفلق فعجنوها بالمسك واللك وحشوا بها تلك الشقوق التي بدت فاستمسك الحجر وأستمر على ما هو عليه الآن وهو ظاهر لمن تأمله وفيها فتح المارستان الذي بناه الوزير مؤيد الملك أبو على الحسن وزير شرف الملك بواسط ورتب له الخزان والأشربة والأدوية والعقاقير وغير ذلك مما يحتاج إليه وفيها توفي من الأعيان
ابن البواب الكاتب
صاحب الخط المنسوب على بن هلال أبو الحسن ابن البواب صاحب أبي الحسين بن سمعون الواعظ وقد أثنى على ابن البواب غير واحد في دينه وأمانته وأما خطه وطريقته فيه فأشهر من أن ننبه عليها وخطه أوضح تعريبا من خط ابى على بن مقلة ولم يكن بعد ابن مقلة أكتب منه وعلى طريقته الناس اليوم في سائر الأقاليم إلا القليل قال ابن الجوزي توفي يوم السبت ثاني جمادى الآخرة منها ودفن بمقبرة باب حرب وقد رثاه بعضهم بأبيات منها قوله ... فللقلوب التي أبهجتها حرق ... وللعيون التي أقررتها سهر ... فما لعيش وقد ودعته أرج ... وما لليل وقد فارقته سحر ... قال ابن خلكان ويقال له الستري لأن أباه كان ملازما لستر الباب ويقال له ابن البواب وكان قد أخذ الخط عن عبدالله بن محمد بن أسد بن علي بن سعيد البزار وقد سمع أسد هذا على النجاد وغيره وتوفي سنة عشر وأربعمائة وأما ابن البواب فإنه توفي في جمادى الأولى من هذه السنة وقبل في سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة وقد رثاه بعضهم فقال ... استشعرت الكتاب فقدك سالفا ... وقضت بصحة ذلك الأيام ... فذلك سودت الدوي كآبة ... أسفا عليك وشقت الأقلام ... ثم ذكر ابن خلكان أول من كتب العربية فقال إسماعيل عليه السلام وقيل أول من (12/14)
كتب بالعربية من قريش حرب بن أمية بن عبد شمس أخذها من بلاد الحيرة عن رجل يقال له أسلم بن سدرة وسأله ممن اقتبستها فقال من واضعها رجل يقال له مرامر بن مروة وهو رجل من أهل الأنبار فاصل الكتابة في العرب من الأنبار وقال الهيثم بن عدي وقد كان لحمير كتابة يسمونها المسند وهي حروف متصلة غير منفصلة وكانوا يمنعون العامة من تعلمها وجميع كتابات الناس تنتهي إلى اثني عشر صنفا وهي االعربية والحميرية واليونانية والفارسية والرومانية والعبرانية والرومية والقبطية والبربرية والهندية والأندلسية والصينية وقد اندرس كثير منها فقل من يعرف شيئا منها وفيها توفي من الأعيان
علي بن عيسى
ابن سليمان بن محمد بن أبان أبو الحسن الفارسي المعروف بالسكري الشاعر وكان يحفظ القرآن ويعرف القراءات وصحب أبا بكر الباقلاني وأكثر شعره في مديح الصحابة وذم الرافضة وكانت وفاته في شوال من هذه السنة ودفن بالقرب من قبر معروف وقد كان أوصى أن يكتب على قبره هذه الأبيات التي عملها وهي قوله ى ... نفس يا نفس كما تمادين في تلفي ... وتمشين في الفعال المعيب ... اقبي الله واحذرى موقف العر ... ض وخافى يوم الحساب العصيب ... لا تغرنك السلامة في العي ... ش فإن السليم رهن الخطوب ... كل حي فللمنون ولا يد ... فع كأس المنون كيد الأديب ... واعلمي أن للمنية وقتا ... سوف يأتي عجلان غير هيوب ... إن حب الصديق في موقف ال ... حشر أمان للخائف المطلوب ...
محمد بن أحمد بن محمد بن منصور
أبو جعفر البيع ويعرف بالعتيقي ولد سنة إحدى وثلاثين وثلثمائة وأقام بطرسوس مدة وسمع بها وبغيرها وحدث بشيء يسير
ابن النعمان
شيخ الامامية الروافض والمصنف لهم والمحامي عن حوزتهم كانت له وجاهة عند مملوك الأطراف لميل كثير من أهل ذلك الزمان إلى التشيع وكان مجلسه يحضره خلق كثير من العلماء من سائر الطوائف وكان من جملة تلاميذه الشريف الرضي والمرتضي وقدرثاه بقصيدة بعد وفاته في هذه السنة منها قوله ... من لعضل أخرجت منه حساما ... ومعان فضضت عنها ختاما ... من يثير العقول من بعد ما ... كن همودا ويفتح الأفهاما (12/15)
من يعير الصديق رأيا ... اذا ماسل في الخطوب حساما ...
ثم دخلت سنة أربع عشرة وأربعمائة
فيها قدم الملك شرف الدولة إلى بغداد فخرج الخليفة في الطيارة لتلقيه وصحبته الأمراء والقضاة والفقهاء والوزراء والرؤساء فلما واجهة شرف الدولة قبل الأرض بين يديه مرات والجيش واقف برمته والعامة في الجانبين وفيها ورد كتاب من يمين الدولة محمود بن سبكتكين إلى الخليفة يذكر أنه دخل بلاد الهند أيضا وأنه فتح بلادا وقتل خلقا منهم وأنه صالحه بعض ملوكهم وحمل إليه هدايا سنية منها فيول كثيرة ومنها طائر على هيئة القمرى إذا وضع عند الخوان وفيه سم دمعت عيناه وجرى منها ماء ومنهما حجر يحك ويؤخذ منه ما تحصل منه فيطلى بها الجراحات ذات الأفواه الواسعة فيلحمها وغير ذلك وحج الناس أهل العراق ولكن رجعوا على طريق الشام لإحتياجهم إلى ذلك وفيها توفي من الأعيان
الحسن بن الفضل بن سهلان
أبو محمد الرامهرمزي وزير سلطان الدولة وهو الذي بنى سور الحائر عند مشهد الحسين قتل في شعبان منها
الحسن بن محمد بن عبدالله
أبو عبدالله الكشغلي الطبري الفقيه الشافعي تفقه على أبي القاسم الداركي وكان فهما فاضلا صالحا زاهدا وهو الذي درس بعد الشيخ أبي حامد الإسفرائيني في مسجده مسجد عبدالله بن المبارك في قطيعة الربيع وكا الطلبة عنده مكرمين اشتكى بعضهم إليه حاجة وأنه قد تأخرت عنه نفقته التي ترد إليه من ابيه فأخذه بيده وذهب الىبعض التجار فاستقرض له منه خمسين دينارا فقال التاجر حتى تأكل شيئا فمد السماط فأكلوا وقال يا جارية هاتي المال فأحضرت شيئا من المال فوزن منها خمسين دينارا ودفعها إلى الشيخ فلما قاما إذا بوجه ذلك الطالب قد تغير فقال له الكشغلي ما لك فقال يا سيدي قد سكن قلبي حب هذه الجارية فرجع به إلى التاجر فقال له قد وقعنا في فتنة أخرى فقال وما هي فقال إن هذا الفقيه قد هوى الجارية فأمر التاجر الجاربة أن تخرج فتسلمها الفقيه وقال ربما أن يكون قد وقع في قلبها منه مثل الذي قد وقع في قلبه منها فلما كان عن قريب قدم على ذلك الطالب نفقته من أبيه ستمائة دينار فوفى ذلك التاجر ما كان له عليه من ثمن الجارية والقرض وذلك بسفارة الشيخ توفي في ربيع الآخر منها ودفن بباب حرب
علي بن عبدالله بن جهضم
أبو الحسن الجهضمي الصوفي المكي صاحب بهجة الأسرار كان شيخ الصوفية بمكة وبها توفي قال ابن الجوزي وقد ذكر أنه كان كذابا ويقال إنه الذي وضع حديث صلاة الرغائب (12/16)
القاسم بن جعفر بن عبدالواحد
أبو عمر الهاشمي البصري قاضيها سمع الكثير وكان ثقة أمينا وهو راوي سنن أبي داود عن أبي علي اللؤلؤي توفي فيها وقد جاوز التسعين
محمد بن أحمد
بن الحسن بن يحيى بن عبدالجبار
أبو الفرج القاضي الشافعي يعرف بابن سميكة روى عن النجاد وغيره وكان ثقة توفي في ربيع الأول منها ودفن بباب حرب محمد بن أحمد أبو جعفر النسفي عالم الحنفية في زمانه وله طريقة في الخلاف وكان فقيرا متزهدا بات ليلة قلقا لما عنده من الفقر والحاجة فعرض له فكر في فرع من الفروع كان أشكل عليه فانفتح له فقام يرقص ويقول أين الملوك فسألته امرأته عن خبره فأعلمها بما حصل له فتعجبت من شأنه رحمه الله وكانت وفاته في شعبان منها
هلال بن محمد
ابن جعفر بن سعدان أبو الفتح الحلفار سمع إسماعيل الصفار والنجاد وابن الصواف وكان ثقة توفي في صفر عن اثنتين وتسعين سنة
ثم دخلت سنة خمس عشرة وأربعمائة
فيها ألزم الوزير جماعة الأتراك والمولدين والشريف المرتضى ونظام الحضرة أبا الحسن الزينبي وقاضي القضاة أبا الحسن بن أبي الشوارب والشهود بالحضور لتجديد البيعة لشرف الدولة فلما بلغ ذلك الخليفة توهم أن تكون هذه البيعة لنية فاسدة من أجله فبعث إلى القاضي والرؤساء ينهاهم عن الحضور فاختلفت الكلمة بين الخليفة وشرف الدولة واصطلحا وتصافيا وجددت البيعة لكل منهما من الآخر ولم يحج فيها من ركب العراق ولا خراسان أحد واتفق أن بعض الأمراء من جهة محمود بن سبكتكين شهد الموسم في هذه السنة فبعث إليه صاحب مصر بخلع عظيمة ليحملها للملك محمود فلما رجع بها إلى الملك أرسل بها إلى بغداد إلى الخليفة القادر فحرقت بالنار وممن توفي فيها من الأعيان
أحمد بن محمد بن عمر بن الحسن
أبو الفرح المعدل المعروف بابن المسلمة ولد سنة سبع وثلاثين وثلثمائة وسمع أباه وأحمد بن كامل والنجاد والجهضمي ودعلج وغيرهم وكان ثقة سكن الجانب الشرقي من بغداد وكان يملي في أول كل سنة مجلسا في المحرم وكان عاقلا فاضلا كثير المعروف داره مألف لأهل العلم وتفقه بأبي بكر الرازي وكان يصوم الدهر ويقرأ في كل يوم سبعا ويعيده بعينه في التهجد توفي في ذي القعدة منها (12/17)
أحمد بن محمد بن أحمد
ابن القاسم بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن سعيد بن أبان الضبي أبو الحسن المحاملي نسبة إلى المحامل التي يحمل عليها الناس في السفر تفقه على أبي حامد الإسفراييني وبرع فيه حتى إن الشيخ كان يقول هو أحفظ للفقه مني وله المصنفات المشهورة منها اللباب من والأوسط والمقنع وله في الخلاف وعلق على أبي حامد تعليقة كبيرة قال ابن خلكان ولد سنة ثمان وستين وثلثمائة وتوفي في يوم الأربعاء لتسع بقين محمد ربيع الآخر منها وهو شاب
عبيد الله بن عبدالله
ابن الحسين أبو القاسم الخفاف المعروف بابن النقيب كان من أئمة السنة وحين بلغه موت بن المعلم فقيه الشيعة سجد لله شكرا وجلس للتهنئة وقال ما أبالي أي وقت مت بعد أن شاهدت موت ابن المعلم ومكث دهرا طويلا يصلي الفجر بوضوء العشاء قال الخطيب وسألته عن مولده فقال في سنة خمس وثلثمائة وأذكر من الخلفاء المقتدر والقاهر والرضي والمتقي بالله والمستكفي والمطيع والطائع والقادر والغالب بالله الذي خطب له بولايه العهد توفي في سلخ شعبان منها عن مائة وعشر سنين
عمر بن عبدالله بن عمر
أبو حفص الدلال قال سمعت الشبلي ينشد قوله ... وقد كان شيء سمي السرور ... قديما سمعنا به ما فعل ... خليلي إن دام هم النفو ... س قليلا على ما نراه قتل ... يؤمل دنيا لتبقى له ... فمات المؤمل قبل الأمل ...
محمد بن الحسن أبو الحسن
الأقساسي العلوي نائب الشريف المرتضي في إمرة الحجيج حج بالناس سنين متعددة وله فصاحة وشعر وهو من سلالة زيد بن علي بن الحسين
ثم دخلت سنة ست عشرة وأربعمائة
فيها قوي أمر العيارين ببغداد ونهبوا الدور جهرة واستهانوا بأمر السلطان وفي ربيع الأول منها توفي شرف الدولة بن بويه الديلمي صاحب بغداد والعراق وغير ذلك فكثرت الشرور ببغداد ونهبت الخزائن ثم سكن الأمر على تولية جلال الدولة أبي الطاهر وخطب له على المنابر وهو إذ ذاك على البصرة وخلع علي شرف الملك أبي سعيد بن ماكولا وزيره ولقب علم الدين سعد الدولة أمين الملة شرف الملك وهو أول من لقب بالألقاب الكثيرة ثم طلب من الخليفة أنم يبايع لأبي كاليجار ولي عهد أبيه سلطان الدلة الذي استخلفه بهاء الدولة عليهم فتوقف في الجواب ثم (12/18)
وافقهم عل ما أرادوا وأقيمت الخطبة للملك أبي كاليجار يوم الجمعة سادس عشر شوال منها ثم تفاقم الأمر ببغداد من جهة العيارين وكبسوا الدور ليلا ونهارا وضربوا أهلها كما يضرب المصادرون ويستغيث أحدهم فلا يغاث واشتد الحال وهربت الشرطة من بغداد ولم تغن الأتراك شيئا وعملت الساريج على أفواه السكك فلم يفد ذلك شيئا وأحرقت دار الشريف المرتضي فانتقل منها وغلت الأسعار جدا ولم يحج أحد من أهل العراق خراسان وممن توفي فيها من الأعيان
سابور بن ازدشير
وزر لبهاء الدولة ثلاث مرات ووزر لشرف الدولة وكان كاتبا سديدا عفيفا عن الأموال كثير الخير سليم الخاطر وكان إذا سمع المؤذن لا يشغله شىء عن الصلاة وقد وقف دار للعلم في سنة إحدى وثمانين وثلثمائة وجعل فيها كتبا كثيرة جدا ووقف عليها غلة كبيرة فبقيت سبعين سنة ثم أحرقت عند مجيء الملك طغرلبك في سنة خمسين وأربعمائة وكانت محلتها بين السورين وقد كان حسن المعاشرة إلا أنه كان يعزل عماله سريعا خوفا عليهم من الأشر والبطر توفي فيها وقد قارب التسعين
عثمان النيسابوري
الجداوي الواعظ قال ابن الجوزي صنف كتبا في الوعظ من أبرد الأشياء وفيه أحاديث كثيرة موضوعة وكلمات مرذولة إلآ أنه كان خبرا صالحا وكانت له وجاهة عند الخلفاء والملوك وكان الملك محمود بن سبكتكين إذا رآه قام له وكانت محلته ححمى يحتمي بها من الظلمة وقد وقع في بلده نيسابور موت وكان يغسل الموتى محتسبا فغسل نحوا من عشرة آلاف ميتا رحمه الله
محمد بن الحسن بن صالحان
أبو منصور الوزير لشرف الدولة ولبهاء الدولة كان وزير صدق جيد المباشرة حسن الصلاة محافظا على أوقاتها وكان محسا إلى الشعراء والعلماء توفي فيها عن ست وسبعين سنة
الملك شرف الدولة
أبو علي بن بهاء الدولة أبي نصر بن عضد الدولة بن بويه أصابه مرض حار فتوفي لثمان بقين من ربيع الآخر عن ثلاث وعشرين سنة وثلاثة أشهر وعشرين يوما
التهامي الشاعر
علي بن محمد التهامي أبو الحسن له ديوان مشهور وله مرثاة في ولده وكان قد مات صغيرا أولها ... حكم المنية في البرية جاري ... ما هذه الدنيا بدار قرار ... ومنها ... إني لأرحم حاسدي لحرما ... ضمت صدورهم من الأوغار ... نظروا صنيع الله بي فعيونهم ... في جنة وقلوبهم في نار (12/19)
ومنها في ذم الدنيا ... جبلت على كدر وأنت ترومها ... صفوا من الأقذار والأكدار ... ومكاف الأيام ضد طباعها ... متطلب في الماء جذوة نار ... وإذا رجوت المستحيل فإنما ... تبني الرجاء شفير هار ... ومنها قوله في ولده بعد موته ... جاورت أعدائي وجاور ربه ... شتان بين جواره وجواري ... وقد ذكر ابن خلكان أنه رآه بعضهم في المنام في هيئة حسنة فقال له بعض أصحابه بم نلت هذا فقال بهذا البيت ... شتان بين جواره وجواري ...
ثم دخلت سنة سبع عشرة وأربعمائة
في العشرين من محرمها وقعت فتنة بين الإسفهلارية وبين العيارين وركبت لهم الأتراك بالدبابات كما يفعل في الحرب وأحرقت دور كثيرة من الدور التي احتمى فيها العيارون وأحرق من الكرخ جانب كبير ونهب أهله وتعدى بالنهب إلى غيرهم وقامت فتنة عظيمة ثم خمدت التفنة في اليوم الثاني وقرر على أهل الكرخ مائة ألف دينار مصادرة لإثارتهم الفتن والشرور وفي شهر ربيع الآخر منها شهد أبو عبدالله الحسين بن علي الصيمري عند قاضي القضاة ابن أبي الشوارب بعد ما كان استتابه عما ذكر عنه من الاعتزال وفي رمضان منها انقض كوكب سمع له دوي كدوي الرعد وقع في سلخ شوال يرد لم يعهد مثله واستمر ذلك العشرين من ذي الحجة وجمد الماء طول هذه المدة وقاسى الناس شدة عظيمة وتأخر المطر وزيادة دجلة وقلت الزراعة وامتنع كثير من الناس عن التصوف ولم يحج أحد من أهل العراق وخراسان في هذه السنة لفساد اليلاد وضعف الدولة وفيها توفي من الأعيان قاضي القضاة ابن أبي الشوارب
احمد بن محمد بن عبدالله
ابن العباس بن محمد بن عبدالملك بن أبي الشوارب أبو الحسن القرشي الأموي قاضي قضاة بغداد بعد ابن الأكفاني بثنتي عشرة سنة وكان عفيفا نزها وقد سمع الحديث من أبي عمر الزاهد وعبد الباقي بن قانع إلا أنه لم يحدث قاله ابن الجوزي وحكى الخطيب عن شيخه أبي العلاء الواسطي أن أبا الحسن هذا آخر من ولي الحكم ببغداد من سلالة محمد بن عبدالملك بن أبي الشوارب وقد ولي الحكم من سلالته اربعة وعشرون منهم ولوا قضاء قضاة بغداد قال أبو العلاء ما رأينا مثل أبي الحسن هذا جلالة ونزاهة وصيانة وشرفا وقد ذكر القاضب الماوردي أنه كان له صديقا (12/20)
وصاحبا وأن رجلا من خيار الناس أوصى له بمائتي دينار فحملها إليه الماوردي فأبي القاضبي أن يقبلها وجهد عليه كل جهد فلم يفعل وقال له سألتك بالله لا تذكرن هذا لأحد ما دمت حيا ففعل الماوردي فلم يخبر عنه إلا بعد موته وكان ابن الشوارب فقيرا إليها وإلى ما هو دونها فلم يقبلها رحمه الله توفي في شوال منها بن أبان
أبو مسلم الختلي سمع ابن بطة ودرس فقه الشافعي على الشيخ أبي حامد الإسفراييني وكان ثقة دينا توفي في رمضان منها
عمر بن أحمد بن عبدويه
أبو حازم الهذلي النيسابوري سمع ابن بجيد والإسماعيلي وخلقا وسمع منه الخطيب وغيره وكان الناس ينتفعون بإفادته وانتخابه توفي يوم عيد الفطر منها
علي بن أحمد بن عمر بن حفص
أبو الحسن المقري المعروف بالحمامي سمع النجاد والخلدي وابن السماك وغيرهم وكان صدوقا فاضلا حسن الاعتقاد وتفرد بأسانيد القراءات وعلوها توفي في شعبان منها عن تسع وثمانين سنة
صاعد بن الحسن
ابن عيسى الربعي البغدادي صاحب كتاب الفصوص في اللغة على طريقة القالي في الأمالي صنفه للمنصور بن أبي عامر فأجازه عليه خمسة آلاف دينار ثم قيل له إنه كذاب متهم فقال في ذلك بعض الشعراء
... قد غاص في الماء كتاب الفصوص ... وهكذا كل ثقيل يغوص ...
فلما بلغ صاعدا هذا البيت أنشد
... عاد إلى عنصره إنما ... يخرج من قعر البحور الفصوص ...
قلت كأنه سمى هذا الكتاب بهذا الإسم ليشاكل به الصحاح للجوهري لكنه كان مع فصاحته وبلاغته وعلمه متهما بالكذب فلهذا رفض الناس كتابه ولم يشتهر وكان ظريفا ما جنا سريع الجواب سأله رجل أعمى على سبيل التهكم فقال له ما الحر تقل فأطرق ساعة وعرف أنه افتعل هذا من عند نفسه ثم رفع رأسه إليه فقال هو الذي يأتي النساء العميان ولا يتعداهن إلى غيرهن فاستحى ذلك الأعمى وضحك الحاضرون توفي في هذه السنة سامحه الله
القفال المروزي أحد أئمة الشافعية الكبار علما وزهدا وحفظا وتصنيفا وإليه تنسب الطريقة الخراسانية ومن أصحابه الشيخ أبو محمد الجويني والقاضي حسنين وأبو علي السبخي قال ابن خلكان (12/21)
وأخذ عنه إمام الحرمين وفيما قاله نظر لأن سن إمام الحرمين لا يحتمل ذلك فإن القفال هذا مات في هذه السنة وله تسعون سنة ودفن بسجستان وإمام الحرمين ولد سنة تسع عشرة وأربعمائة كما سيأتي وإنما قيل له القفال لأنه كان أولا يعمل الأقفال ولم يشتغل إلا وهو ابن ثلاثين سنة رحمه الله تعالى ثم دخلت سنة ثمان عشرة وأربعمائة في ربيع الأول منها وقع برد أهلك شيئا كثيرا من الزروع والثمار وقتل خلقا كثيرا من الدواب قال ابن الجوزي وقد قيل إنه كان في برده كل بردة رطلان وأكثر وفي واسط بلغت البردة أرطالا وفي بغداد بلغت قدر البيض وفي ربيع الآخر سألت الإسفهلارية الغلمان الخليفة أن يعزل عنهم أبا كاليجار لتهاونه بأمرهم وفساده وفساد الأمور في أيامه ويولي عليهم جلال الدولة الذي كانوا قد عزلوه عنهم فما طلهم الخليفة في ذلك وكتب إلى أبي كاليجار أن يتدارك أمره وأن يسرع الأوبة إلى بغداد قبل أن يفوت الأمر وألح أولئك على الخليفة في تولية جلال الدولة وأقاموا له الخطبة ببغداد وتفاقم الحال وفسد النظام وفيها ورد كتاب من محمود بن سبكتكين يذكر أنه دخل بلاد الهند أيضا وأنه كسر الصنم الأعظم الذي لهم المسمى بسومنات وقد كانوا يفدون إليه من كل فج عميق كما يفد الناس إلى الكعبة البيت الحرام وأعظم وينفقون عنده الفقات والأموال الكثيرة التي لا توصف ولا تعد وكان عليه من الأوقاف عشرة آلاف قرية ومدينة مشهورة وقد امتلأت خزائنه أموالا وعنده ألف رجل يخدمونه وثلثمائة رجل يحلقون رؤس حجيجه وثلثمائة رجل يغنون ويرقصون على بابه لما يضرب على بابه الطبول والبوقات وكان عنده من المجاورين ألوف يأكلون من أوقافه وقد كان البعيد من الهنود يتمنى لو بلغ هذا الصنم وكان يعوقه طول المفاوز وكثرة الموانع والآفات ثم استخار الله السلطان محمود لما بلغه خبر هذا الصنم وعباده وكثرة الهنود في طريقه والمفاوز المهلكة والأرض الخطرة في تجشم ذلك في جيشه وأن يقطع تلك الأهوال إليه فندب جيشه لذلك فانتدب معه ثلاثون ألفا من المقاتلة ممن اختارهم لذلك سوى المتطوعة فسلمهم الله حتى انتهوا إلى بلد هذا الوثن ونزلوا بساحة عباده فإذا هو بمكان بقدر المدينة العظيمة قال فما كان بأسرع من أن ملكناه وقتلنا من أهله خمسين ألفا وقلعنا هذا الوثن وأوقدنا تحته النار وقد ذكر غير واحد أن الهنود بذلوا للسلطان محمود أموالا جزيلة ليترك لهم هذا الصنم الأعظم فأشار من أشار من الأمراء على السلطان محمود بأخذ الأموال وإبقاء هذا الصنم لهم فقال حتى أستخير الله عز و جل فلما أصبح قال إني فكرت في الأمر الذي ذكر فرأيت أنه إذا نوديت يوم القيامة أين محمود الذي كسر الصنم أحب إلى من أن يقال الذي ترك الصنم لأجل ما يناله من الدنيا ثم عزم فكسره رحمه الله فوجد عليه وفيه من الجواهر واللآلئ والذهب والجواهر (12/22)
النفيسة ما ينيف على ما بذلوه له بأضعاف مضاعفة ونرجو من الله له في الآخرة الثواب الجزيل الذي مثقال دانق منه خير من الدنيا وما فيها مع ما حصل له من الثناء الجميل الدنيوي فC وأكرم مثواه وفي يوم السبت ثالث رمضان دخل جلال الدولة إلى بغداد فتلقاه الخليفة في دجلة في طيارة ومعه الأكابر والأمراء فلما واجه جلال الدولة الخليفة قبل الأرض دفعات ثم سار إلى دار الملك وعاد الخليفة إلى داره وأمر جلال الدولة أن يضرب له الطبل في أوقات الصلوات الثلاث كما كان الأمر في زمن عضد الدولة وصمصامها وشرفها وبهائها وكان الخليفة يضرب له الطبل في أوقات الخمس فأراد جلال الدولة ذلك فقيل له يحمل هذه المساواة الخليفة في ذلك ثم صمم على ذلك في أوقات الخمس قال ابن الجوزي وفيها وقع برد شديد حتى جمد الماء والنبيذ وأبوال الدواب والمياه الكبار وحافات دجلة ولم يحج أحد من أهل العراق وفيها توفي من الأعيان أحمد بن محمد بن عبدالله
ابن عبد الصمد بن المهتدي بالله أبو عبدالله الشاهد خطب له في جامع المنصور في سنة ست وثمانين وثلثمائة ولم يخطب له إلا بخطبة واحدة جمعات كثيرة متعددة فكان إذا سمعها الناس منه ضجوا بالبكاء وخشعوا لصوته
الحسين بن علي بن الحسين
أبو القاسم المغربي الوزير ولد بمصر في ذي الحجة سنة تسعين وثلثمائة وهرب منها حين قتل صاحبها الحاكم أباه وعمه محمدا وقصد مكة ثم الشام ووزر في عدة أماكن وكان يقول الشعر الحسن وقد تذاكر هو وبعض الصالحين فأنشده ذلك الصالح شعرا
... إذا شئت أن تحيا غنيا فلا تكن ... على حالة إلا رضيت بدونها ...
فاعتزل المناصب والسلطان فقال له بعض أصحابه تركت المنازل والسلطان في عنفوان شبابك فأنشأ يقول
... كنت في سفر الجهل والبطالة ... حينا فحان مني القوم ... تبت من كل مأثم فعسى ... يمحي بهذا الحديث ذاك القديم ... بعد خمس وأربعين تعدت ... ألا إن الآله القديم كريم ... توفي بمافارقين في رمضان منها عن خمس وأربعين سنة ودفن بمشهد علي
محمد بن الحسن بن إبراهيم
أبو بكر الوراق المعروف بابن الخفاف روى عن القطيعي وغيره وقد اتهموه بوضع الحديث والأسانيد قاله الخطيب وغيره (12/23)
ابو القاسم اللالكائي
هبة الله بن الحسن بن منصور الرازي وهو طبري الأصل أحد تلامذة الشيخ أبي حامد الإسفراييني كان يفهم ويحفظ وعني بالحديث فصنف فيه أشياء كثيرة ولكن عاجلته المنية قبل أن تشتهر كتبه وله كتاب في السنة وشرفها وذكر طريقة السلف الصالح في ذلك وقع لنا سماعه على الحجار عاليا عنه توفي بالدينور في رمضان منها ورآه بعضهم في المنام فقال ما فعل الله بك قال غفر لي قال بم قال بشيء قليل من السنة أحييته
ابو القاسم بن أمير المؤمنين القادر
توفي ليلة الأحد في جمادى الآخرة وصلى عليه غير مرة ومشى الناس في جنازته وحزن عليه أبوه حزنا شديدا وقطع الطبل أياما
ابن طباطبا الشريف أبو إسحاق
كان شاعرا وله شعر حسن وهو الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني إبراهيم بن محمد بن مهران الشيخ أبو إسحاق الإمام العلامة ركن الدين الفقيه الشافعي المتكلم الأصولي صاحب التصانيف في الأصلين جامع الحلي في مجلدات والتعليقة النافعة في أصول الفقه وغير ذللك وقد سمع الكثير من الحديث من أبي بكر الإسماعيلي ودعلج وغيرهما وأخذ عنه البيهقي والشيخ أبو الطيب الطبري والحاكم النيسابوري وأثنى عليه وتوفي يوم عاشوراء منها بنيسابور ثم نقل إلى بلده ودفن بمشهده القدوري صاحب الكتاب المشهور في مذهب أبي حنيفة أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر بن حمدان أبو الحسن القدورى الحنفي صاحب المصنف الممختصر الذي يحفظ كان إماما بارعا عالما وثبتا مناظرا وهو الذي تولى مناظرة الشيخ أبي حامد الاسفراييني من الحنفية وكان القدورى يطريه ويقول هو أعلم من الشافعى وأنظر منه توفي يوم الأحد الخامس من رجب منها عن ست وخمسين سنة ودفن إلى جانب الفقيه أبي بكر الخوارزمي الحنفي
ثم دخلت سنة تسع عشرة وأربعمائة
فيها وقع بين الجيش وبين جلال الدولة ونهبوا دار وزيره وجرت له أمور طويلة آل الحال فيها إلى اتفاقهم على إخراجه من البلد فهيئ له برذون رث فخرج وفي يده طير نهارا فجعلوا لا يلتفتون إليه ولا يفكرون فيه فلما عزم على الركوب على ذلك البرذون الرث رثوا له ورقوا له ولهيئته وقبلوا الأرض بين يديه وانصلحت قضيته بعد فسادها وفيها قل الرطب جدا بسبب هلاك النخل في (12/24)
السنة الماضية بالبرد فبيع الرطب كل ثلاثة أرطال بدينار جلالي ووقع برد شديد أيضا فأهلك شيئا كثيرا من النخيل أيضا ولم يحج أحد من أهل المشرق ولا من اهل الديار المصرية فيها إلا أن قوما من خراسان ركبوا في البحر من مدينة مكران فانتهوا إلى جدة فحجوا وممن توفي فيها من الأعيان
حمزة بن إبراهيم بن عبدالله
أبو الخطاب المنجم حظي عند بهاء الدولة وعلماء النجوم وكان له بذلك وجاهة عنده حتى أن الوزراء كانوا يخافونه ويتوسلون به إليه ثم صار أمره طريدا بعيدا حتى مات يوم مات بالكرخ من سامرا غريبا فقيرا مفلوجا قد ذهب ماله وجاهه وعقله
محمد بن محمد بن إبراهيم بن مخلد
أبو الحسن التاجر سمع الكثير على المشايخ المتقدمين وتفرد بعلو الإسناد وكان ذا مال جزيل فخاف من المصادرة ببغداد فانتقل إلى مصر فأقام بها سنة ثم عاد إلى بغداد فاتفق مصادرة أهل محلته فسقط عليه ما أفقره ومات حين مات ولم يوجد له كفن ولم يترك شيئا فأرسل له القادر بالله ما كفن فيه
مبارك الأنماطي
كان ذا مال جزيل نحو ثلثمائة ألف دينار مات ولم يترك وارثا سوى ابنة واحدة ببغداد وتوفي هو بمصر
أبو الفوارس بن بهاء الدولة
كان ظالما وكان إذا سكر يضرب الرجل من أصحابه أو وزيره مائتي مقرعة بعد أن يحلفه بالطلاق أنه لا يتأوه ولا يخبر بذلك احدا فيقال إن حاشيته سموه فلما مات نادوا بشعار أخيه كاليجار
ابو محمد بن الساد
وزير كاليجار ولقبه معز الدولة فلك الدولة رشيد الأمة وزير الوزراء عماد الملك ثم سلم بعد ذلك إلى جلال الدولة فاعتقله ومات فيها
أبو عبدالله المتكلم
توفي فيها هكذا رأيت ابن الجوزي ترجمه مختصرا
ابن غلبون الشاعر
عبدالمحسن بن محمد بن أحمد بن غالب أبو محمد الشامي ثم الصوري الشاعر المطبق له ديوان مليح كان قد نظم قصيدة بليغه في بعض الرؤساء ثم أنشدها لرئيس آخر يقال له ذو النعمتين وزاد فيها بيتا واحدا يقول فيه ... ولك المناقب كلها ... فلم اقتصرت على اثنتين ...
فأجازه جائزة سنية فقيل له إنه لم يقلها فيك فقال إن هذا البيت وحده بقصيدة وله أيضا في بخيل نزل عنده (12/25)
وأخ مسه نزولي بقرح ... مثل ما مسني منه جرح ... بت ضيفا له كما حكم الده ... ر وفي حكمه على الحر فتح ... فابتداني يقول وهو من ال ... سكر بالهم طافح ليس يصحو ... لم تغربت قلت قال رسول الل ... ه والقول منه نصح ونجح ... سافروا تغنموا فقال وقد ... قال تمام الحديث صوموا تصحوا ...
ثم دخلت سنة عشرين وأربعمائة
فيها سقط بناحية المشرق مطر شديد معه برد كبار قال ابن الجوزي حزرت البردة الواحدة منه مائة وخمسون رطلا وغاصت في الأرض نحوا من ذراع وفيها ورد كتاب من محمود ابن سبكتكين أنه أحل بطائفة من أهل الري من الباطنية والروافض قتلا ذريعا وصلبا شنيعا وأنه انتهب أموال رئيسهم رستم بن علي الديلمي فحصل منها ما يقارب آلف ألف دينار وقد كان في حيازته نحو من خمسين امرأة حرة وقد ولدن له ثلاثا وثلاثين ولدا بين ذكر وأنثى وكانوا يرون إباحة ذلك وفي رجب منها انقض كواكب كثيرة شديدة الضوء شديدة الصوت وفي شعبان منها كثرت العملات وضعفت رجال المعونة عن مقاومة العيارين وفي يوم الاثنين منها ثامن عشر رجب غارماء دجلة حتى لم يبق منه إلا القليل ووقفت الأرحاء عن الطحن وتعذر ذلك وفي هذا اليوم جمع القضاة والعلماء في دار الخلافة وقرئ عليهم كتاب جمعه القادر بالله فيه مواعظ وتفاصيل مذاهب أهل البصرة وفيه الرد على أهل البدع وتفسيق من قال بخلق القرآن وصفة ما وقع بين بشر المريسي وعبدالعزيز بن يحيى الكتاني من المناظرة ثم ختم القول بالمواعظ والقول بالمعروف والنهي عن المنكر وأخذ خطوط الحاضرين بالموافقة على ما سمعوه وفي يوم الإثنين غرة ذي القعدة جمعوا أيضا كلهم وقرئ عليهم كتاب آخر طويل يتضمن بيان السنة والرد على أهل البدع ومناظرة بشر المريسي والكتاني أيضا والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفضل الصحابة وذكر فضائل أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما ولم يفرغوا منه إلا بعد العتمة وأخذت خطوطهم بموافقة ماسمعوه وعزل خطباء الشيعة وولي خطباء السنة ولله الحمد والمنة على ذلك وغيره وجرت فتنة بمسجد براثا وضربوا الخطيب السني بالآجر حتى كسروا أنفه وخلعوا كتفهه فانتصر لهم الخليفة وأهان الشيعة وأذلهم حتى جاؤا يعتذرون مما صنعوا وأن ذلك إنما تعاطاه السفهاء منهم لم يتمكن أحد من أهل العراق وخاراسان في هذه السنة من الحج ممن توفي فيها من الأعيان
الحسن بن أبي القين
أبو علي الزاهد أحد العباد والزهاد وأصحاب الأحوال دخل عليه بعض الوزراء فقبل يده (12/26)
فعوتب الوزير بذلك فقال كيف لا أقبل يدا ما امتدت إلا إلى الله عز و جل
علي بن عيسى بن الفرج بن صالح
أبو الحسن الربعي النحوي أخذ العربية أولا عن أبي سعيد السيرافي ثم عن أبي علي الفارسي ولازمه عشرين سنة حتى كان يقول قولوا له لو سار من المشرق إلى المغرب لم يجد أحدا أنحى منه كان يوما يمشي على شاطئ دجلة إذ نظر إلى الشريفين الرضي والمرتضى في سفينة ومعهما عثمان بن جني فقال لهما من أعجب الأشياء عثمان معكما وعلى بعيد عنكما يمشي على شاطئ الفرات فضحكا وقالا باسم الله توفي في المحرم منها عن ثنتين وتسعين سنة ودفن بباب الدير ويقال إنه لم يتبع جنازته إلا ثلاثة أنفس
أسد الدولة
أبو علي صالح بن مرداس بن إدريس الكلابي أول ملوك بني مرداس بحلب انتزعها من يدي نائبها عن الظاهر بن الحاكم العبيدي في ذي الحجة في سنة سبع عشرة وأربعمائة ثم جاءه جيش كثيف من مصر فاقتتلوا فقتل أسد الدولة هذا في سنة تسع عشرة وقام حفيده نصر
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وأربعمائة
فيها توفي الملك الكبير المجاهد المغازي فاتح بلاد الهند محمود بن سبكتكين رحمه الله لما كان في ربيع الأول من هذه السنة توفي الملك العادل الكبير الثاغر المرابط المؤيد المنصور يمين الدولة أبو القاسم محمود بن سبكتكين صاحب بلاد غزنة ومالك تلك الممالك الكبار وفاتح أكثر بلاد الهند قهرا وكاسر أصنامهم وندودهم وأوثانهم وهنودهم وسلطانهم الأعظم قهرا وقد مرض رحمه الله نحوا من سنتين لم يضطجع فيهما على فراش ولا توسد وسادا بل كان يتكئ جالسا حتى مات وهو كذلك وذلك لشهامته وصرامته وقوة عزمه وله من العمر ستون سنة رحمه الله وقد عهد بالأمر من بعده لولده محمد فلم يتم أمره حتى عاصفه أخوه مسعود بن محمود المذكور فاستحوذ على ممالك أبيه مع ما كان يليه مما فتحه هو بنفسه من بلاد الكفار ومن الرساتيق الكبار والصغار فاستقرت له الممالك شرقا وغربا في تلك النواحي في أواخر هذا العام وجاءته الرسل بالسلام من كل ناحية ومن كل ملك همام وبالتحية والإكرام وبالخضوع التام وسيأتي ذكر أبيه في الوفيات وفيها استحوذت السرية التي كان بعثها الملك المذكور محمود إلى بلاد الهند على أكثر مدائن الهنود وأكبرها ميدينة وهي المدينة المسماة نرسي دخلوها في نحو من مائة ألف مقاتل ما بين فارس وراجل فنهبوا سوق العطر والجواهر بها نهارا كاملا ولم يستطيعوا أن يحولوا ما فيه من أنواع الطيب والمسك والجواهر واللآلئ واليواقيت ومع هذا لم يدر أكثر أهل البلد بشيء من ذلك لاتساعها وذلك أنها كانت في غاية الكبر طولها مسيرة منزلة من منازل الهند وعرضها كذلك وأحذوا منها من الأموال والتحف (12/27)
والأثاث ما لا يحد ولا يوصف حتى قيل إنهم اقتسموا الذهب والفضة بالكيل ولم يصل جيش من جيوش المسلمين إلى هذه المدينة قط لا قبل هذه السنة ولا بعدها وهذه المدينة من أكثر بلاد الهند خيرا ومالا بل قيل إنه لا يوجد مدينة أكثر منها مالا ورزقا مع كفر أهلها وعبادتهم الأصنام فليسلم المؤمن على الدنيا سلام وقد كانت محل الملك وأخذوا منها من الرقيق من الصبيان والبنات ما لا يحصى كثرة وفيها عملت الرافضة بدعتهم الشنعاء وحادثتهم الصلعاء في يوم عاشوراء من تعليق المسوح وتغليق الأسواق والنوح والبكاء في الأزقة فأقبل أهل السنة إليهم في الحديد فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل من الفريقين طوائف كثيرة وجرت بينهم فتن وشرور مستطيرة وفيها مرض أمير المؤمنين القادر بالله وعهد بولاية العهد من بعده إلى ولده أبي جعفر القائم بأمر الله بمحضر من القضاة والوزراء والأمراء وخطب له بذلك وضرب اسمه على السكة المتعامل بها وفيها أقبل ملك الروم من قسطنطينية في مائة ألف مقاتل فسار حتى بلغ بلاد حلب وعليها شبل الدولة نصر بن صالح بن مرداس فنزلوا على مسيرة يوم منها ومن عزم ملك الروم أن يستحوذ على بلاد الشام كلها وأن يستردها إلى دين النصرانية وقد قال رسول الله ( ص ) ( إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده ) وقيصر هو من ملك الشام من الروم مع بلاد الروم فلا سبيل لملك الروم إلى هذا فلما نزل من حلب كما ذكرنا أرسل الله عليهم عطشا شديدا وخالف بين كلمتهم وذلك أنه كان معه الدمستق فعامل طائفة من الجيش على قتله ليستقل هو بالأمر من بعده ففهم الملك ذلك فكر من فوره راجعا فاتبعهم الأعراب ينهبونهم ليلا ونهارا وكان من جملة ما أخذوا منهم أربعمائة فحل محجل محملة أموالا وثيابا للملك وهلك أكثرهم جوعا وعطشا ونهبوا من كل جانب ولله الحمد والمنة وفيها ملك جلال الدولة واسطا واستناب عليها ولده وبعث وزيره أبا علي بن ماكولا إلى البطائح ففتحها وسار في الماء إلى البصرة وعليها نائب لأبي كاليجار فهزمهم البصريون فسار إليهم جلال الدولة بنفسه فدخلها في شعبان منها وفيها جاء سيل عظيم بغزنة فأهلك شيئا كثيرا من الزورع والأشجار وفي رمضان منها تصدق مسعود بن محمود بن سبكتكين بألف ألف درهم وأدر أرزاقا كثيرة للفقهاء والعلماء بلاد ببلاده على عادة أبيه من قبله وفتح بلادا كثيرة واتسعت ممالكه جدا وعظم شأنه وقويت أركانه وكثرت جنوده وأعوانه وفيها دخل خلق كثير من الأكراد إلى بغداد يسرقون خيل الأتراك ليلا فتحصن الناس منهم فأخذوا الخيول كلها حتى خيل السلطان وفيها سقط جسر بغداد على نهر عيسى وفيها وقعت فتنة بين الأتراك النازلين بباب البصرة وبين الهاشميين فرفعوا المصاحف ورمتهم الأتراك بالنشاب وجرت خطبة عظيمة ثم أصلح بين الفريقين وفيها كثرت العملات وأخذت الدور جهرة وكثر العيارون ولصوص (12/28)
الأكراد وفيها تعطل الحج أيضا سوى شرذمة من أهل العراق ركبوا من جمال البادية مع الأعراب ففازوا بالحج ذكر من توفي فيها من الأعيان
أحمد بن عبدالله بن أحمد
أبو الحسن الواعظ المعروف بان اكرات صاحب كرامات ومعاملات كان من أهل الجزيرة فسكن دمشق وكان يعظ الناس بالرفادة القيلية حيث كان يجلس القصاص قاله ابن عساكر قال وصنف كتبا في الوعظ وحكى حكايات كثيرة ثم قال سمعت أبا الحسن أحمد بن عبدالله اكرات الواعظ ينشد أبياتا ... أنا ما أصنع باللذا ... ت شغلي بالذنوب ... إنما العيد لمن فا ... ز بوصل من حبيب ... أصبح الناس على رو ... ح وريحان وطيب ... ثم أصبحت على نوح ... وحزن ونحيب ... فرحوا حين أهلوا ... شهرهم بعد المغيب ... وهلالي متوار ... من ورا حجب الغيوب ... فلهذا قلت للذا ... ت غيبى ثم غيبي ... وجلعت الهم والحز ... ن من الدنيا نصيبي ... يا حياتي ومماتي ... وشقائي وطبيبي ... جد لنفس تتلظى ... منك بالرحب الرحيب ...
الحسين بن محمد الخليع
الشاعر له ديوان شعر حسن عمر طويلا وتوفي في هذه السنة
الملك الكبير العادل
محمود بن سبكتكين أبو القاسم الملقب يمين الدولة وأمين الملة وصاحب بلاد غزنة وما والاها وجيشه يقال لهم السامانية لأن أباه كان قد تملك عليهم وتوفي سنة سبع وثلاثين وثلثمائة فتملك عليهم بعده ولده محمود هذا فسار فيهم وفي سائر رعاياه سيرة عادلة وقام في نصر الإسلام قياما تاما وفتح فتوحات كثيرة في بلاد الهند وغيرها وعظم شأنه واتسعت مملكته وامتدت رعاياه وطالت أيامه لعدله وجهاده وما أعطاه الله إياه وكان يخطب في سائر ممالكه للخليفة القادر بالله وكانت رسل الفاطميين من مصر تفد إليه بالكتب والهدايا لأجل أن يكون من جهتهم فيحرق بهم ويحرق كتبهم وهداياهم وفتح في بلاد الكفار من الهند فتوحات هائلة لم يتفق لغيره من (12/29)
الملوك لا قبله ولا بعده وغنم مغانم كثيرة منهم لا تنحصر ولا تنضبط من الذهب واللآلئ والسبي وكسر من أصنامهم شيئا كثيرا وأخذ من حليتها وقد تقدم ذلك مفصلا متفرقا في السنين المتقدمة من أيامه ومن جملة ما كسر من أصنامهم ضم يقال له سومنان بلغ ما تحصل من حليته من الذهب عشرين ألف ألف دينار وكسر ملك الهند الأكبر الذي يقال له صينال وقهر ملك الترك الأعظم الذي يقال له إيلك الخان وأباد ملك السامانية وقد ملكوا العالم في بلاد سمر قند وما حولها ثم هلكوا وبنى على جيحون جسرا تعجز الملوك والخلفاء عنه غرم عليه الفي ألف دينار وهذا شيء لم يتفق لغيره وكان في جيشه أربعمائة فيل تقاتل وهذا شيء عظيم هائل وجرت له فصول يطول تفصيلها وكان مع هذا في غاية الديانة والصيانة وكراهة المعاصي وأهلها لا يحب منها شيئا ولا يألفه ولا أن يسمع بها ولا يجسر أحدا أن يظهر معصية ولا خمرا في مملكته ولا غير ذلك ولا يحب الملاهي ولا أهلها وكان يحب العلماء والمحدثين ويكرمهم ويجالسهم ويحب أهل الخير والدين والصلاح ويحسن إليهم وكان حنفيا ثم صار شافعيا على يد أبي بكر القفال الصغير على ما ذكره إمام الحرمين وغيره وكان على مذهب الكرامية في الإعتقاد وكان من جملة من يجالسه منهم محمد بن الهيضم وقد جرى بينه وبين أبى بكر فورك مناظرات بين يدى السلطان محمود في مسألة العرش ذكرها ابن الهيضم في مصنف له فمال السلطان محمود إلى قول ابن الهيضم ونقم على ابن فورك كلامه وأمر بطرده وإخراجه لموافقته لرأي الجهمية وكان عادلا جيدا اشتكى إليه رجل أن ابن اخت الملك يهضم عليه في داره وعلى أهله في كل وقت فيخرجه من البيت ويختلي بإمرأته وقد حار في أمره وكلما اشتكاه لأحد من أولي الأمر لا يجسر أحد عليه خوفا وهيبة للملك فلما سمع الملك ذلك غضب غضبا شديدا وقال للرجل ويحك متى جاءك فئتنى فاعلمني ولا تسمعن من أحد منعك من الوصول إلي ولو جاءك في الليل فئتني فاعلمني ثم إن الملك تقدم إلى الحجبة وقال لهم إن هذا الرجل متى جاءني لا يمنعه أحد من الوصول إلي من ليل أو نهار فذهب الرجل مسرورا داعيا فما كان إلا ليلة أو ليلتان حتى هجم عليه ذلك الشاب فأخرجه من البيت واختلى بأهله فذهب باكيا إلى دار الملك فقيل له أن الملك نائم فقال قد تقدم إليكم أن لا أمنع منه ليلا ولا نهارا فنبهوا الملك فخرج معه بنفسه وليس معه أحد حتى جاء إلى منزل الرجل فنظر إلى الغلام وهو مع المرأة في فراش واحد وعندهما شمعة تقد فتقدم الملك فأطفأ الضوء ثم جاء فاحتز رأس الغلام وقال للرجل ويحك ألحقني بشربة ماء فأتاه بها فشرب ثم انطلق الملك ليذهب فقال له الرجل بالله لم أطفأت الشمعة قال ويحك إنه ابن أختي وإني كرهت أن أشاهده حال الذبح فقال ولم طلبت الماء سريعا فقال الملك إني آليت على نفسي منذ أخبرتني أن لا أطعم طعاما ولا أشرب (12/30)
شرابا حتى أنصرك وأقوم بحقك فكنت عطشانا هذه الأيام كلها حتى كان مما رأيت فدعا له الرجل وانصرف الملك راجعا إلى منزله ولم يشعر بذلك أحد وكان مرض الملك محمود هذا بسوء المزاج اعتراه معه انطلاق البطن سنتين فكان فيهما لا يضطجع على فراش ولا يتكئ على شيء لقوة بأسه وسوء مزاجه وكان يستند على مخاد توضع له ويحضر مجلس الملك ويفصل على عادته بين الناس حتى مات كذلك في يوم الخميس لسبع بقين من ربيع الآخر من هذه السنة على ثلاثة وستين سنة ملكه منها ثلاث وثلاثون سنة وخلف من الأموال شيئا كثيرا من ذلك سبعون رطلا من جوهر الجوهرة منه لها قيمة عظيمة سامحه الله وقام بالأمر من بعده ولده محمد ثم صار الملك إلى ولده الآخر مسعود بن محمود فأشبه أباه وقد صنف بعض العلماء مصنفا في سيرته وأيامه وفتوحاته وممالكه
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة
فيها كانت وفاة القادر بالله الخليفة وخلافة ابنه القائم بأمر الله على ما سيأتي تفصيله وبيانه وفيها وقعت فتنة عظيمة بين السنة والروافض فقويت عليهم السنة وقتلوا خلقا منهم ونهبوا الكرخ ودار الشريف المرتضى ونهبت العامة دور اليهود لأنهم نسبوا إلى معاونة الروافض وتعدى النهب إلى دور كثيرة وانتشرت الفتنة جدا ثم سكنت بعد ذلك وفيها كثرت العملات وانتشرت المحنة بأمر العيارن في أرجاء البلد وتجاسروا على أمور كثيرة ونهبوا دورا وأماكن سرا وجهرا ليلا ونهارا والله سبحانه أعلم
خلافة القائم بالله
أبي جعفر عبدالله بن القادر بالله بويع له بالخلافة لما توفي أبوه أبو العباس أحمد بن المقتدر بن المعتضد بن الامين أبو أحمد الموفق بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور في ليلة الإثنين الحادي عشر من ذي الحجة من هذه السنة عن ست وثمانين سنة وعشرة أشهر وإحدى عشر يوما ولم يعمر أحد من الخلفاء قبله هذا العمر ولا بعده مكث من ذلك خليفة إحدى وأربعين سنة وثلاثة أشهر وهذا أيضا شيء لم يسبقه أحد إليه وأمه أم ولد اسمها يمنى مولاة عبد الواحد بن المقتدر وقد كان حليما كريما محبا لأهل العلم والدين والصلاح ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وكان على طريقة السلف في الاعتقاد وله في ذلك مصنفات كانت تقرأ على الناس وكان أبيض حسن الجسم طويل اللحية عريضها يخضبها وكان يقوم الليل كثير الصدقة محبا للسنة وأهلها مبغضا للبدعة وأهلها وكان يكثر الصوم ويبر الفقراء من أقطاعه يبعث منه إلى المجاورين بالحرمين وجامع المنصور وجامع الرصافة وكان يخرج من داره في زي العامة فيزور قبور الصالحين وقد ذكرنا طرفا صالحا من سيرته عند ذكر ولايته في سنة إحدى وثمانين وثلثمائة وجلسوا (12/31)
في عزئاه سبعة أيام لعظم المصيبة به ولتوطيد البيعة لولده المذكور وأمه يقال لها قطر الندى أرمنية أدركت خلافته في هذه السنة وكان مولده يوم الجمعة الثامن عشر من ذي القعدة سنة إحدى وتسعين وثلثمائة ثم بويع له بحضرة القضاة والأمراء والكبراء في هذه السنة وكان أول من بايعه المرتضى وأنشده أبياتا ... فأما مضى جبل وانقضى ... فمسك لنا جبل قد رسى ... وأما فجعنا ببدر التمام ... فقد بقيت منه شمس الضحى ... لنا حزن في محل السرور ... فكم ضحك في محل البكا ... فيا صارما أغمدته يد ... لنا بعدك الصارم المنتضى ... ولما حضرنا لعقد البياع ... عرفنا بهديك طرق الهدى ... فقابلتنا بوقار المشيب ... كما لا وسنك سن الفتى ...
فطالبته الأتراك برسم البيعة فلم يكن مع الخليفة شيء يعطيهم لأن أباه لم يترك شيئا وكادت الفتنة تقع بين الناس بسبب ذلك حتى دفع عنه الملك جلال الدولة مالا جزيلا لهم نحوا من ثلاثة آلاف دينار واستوزر الخليفة أبا طالب محمد بن أيوب واستقضى ابن ماكولا ولم يحج أحد من أهل المشرق سوى شرذمة خرجوا من الكوفة مع العرب فحجوا وفيها توفي من الأعيان غير الخليفة
الحسن بن جعفر
أبو علي بن ماكولا الوزير لجلال الدولة قتله غلام له وجارية تعاملا عليه فقتلاه عن ست وخمسين سنة
عبدالوهاب بن علي
ابن نصر بن أحمد بن الحسن بن هارون بن مالك بن طوق صاحب الرحبة التغلبي البغدادي أحد أئمة المالكية ومصنفيهم له كتاب التلقين يحفظه الطلبة وله غيره في الفروع والأصول وقد أقام ببغداد دهرا وولى قضاء داريا وما كسايا ثم خرج من بغداد لضيق حاله فدخل مصر فأكرمه المغاربة وأعطوه ذهبا كثيرا فتمول جدا فأنشأ يقول متشوقا إلى بغداد
... سلام على بغداد في كل موقف ... وحق لها مني السلام مضاعف ... فوالله ما فارقتها عن ملالة ... وإني بشطي جانبيها لعارف ... ولكنها ضاقت على بأسرها ... ولم تكن الأرزاق فيها تساعف ... فكانت كخيل كنت أهوى دنوه ... وأخلاقه تنأى به وتخالف ... قال الخطيب سمع القاضي عبدالوهاب من ابن السماك وكتبت عنه وكان ثقة ولم تر المالكية أحدا أفقه منه قال ابن خلكان وعند وصوله إلى مصر حصل له شيء من المال وحسن حاله مرض من أكلة اشتهاها فذكر عنه أنه كان يتقلب ويقول لا إله إلا الله عند ما عشنا متنا (12/32)
قال وله أشعار رائقة فمنها قوله ... ونائمة قبلتها فتنبهت ... فقالت تعالوا واطلبوا اللص بالحد ... فقلت لها إني فديتك غاصب ... وما حكموا في غاصب بسوى الرد ... خذيها وكفي عن أثيم طلابة ... وإن أنت لم ترضي فالفا على العد ... فقالت قصاص يشهد العقل أنه ... على كبد الجاني ألذ من الشهد ... فباتت يمينيي وهي هميان خصرها ... وباتت يساري وهي واسطة العقد ... فقالت ألم تخبر بأنك زاهد ... فقلت بلى ما زات أزهد في الزهد ... ومما أنشده ابن خلكان للقاضي عبدالوهاب ... بغداد دار لأهل المال طيبة ... وللمفاليس دار الضنك والضيق ... ظللت حيران أمشي في أزقتها ... كأنني مصحف بيت زنديق ...
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة
في سادس المحرم منها استسقى أهل بغداد لتأخر المطر عن أوانه فلم يسقوا وكثر الموت في الناس ولما كان يوم عاشوراء عملت الروافض بدعتهم وكثر النوح والبكاء وامتلأت بذلك الطرقات والأسواق وفي صفر منها أمر الناس بالخروج إلا الإستسقاء فلم يخرج من أهل بغداد مع اتساعها وكثرة أهلها مائة واحد وفيها وقع بين الجيش وبين جلال الدولة فاتفق على خروجه إلى البصرة منفيا ورد كثيرا من جواريه واستبقى بعضهن معه وخرج من بغداد ليلة الإثنين سادس ربيع الأول منها وكتب الغلمان الاسفهلارية إلى الملك أبي كاليجار ليقدم عليهم فلما قدم تمهدت البلاد ولم يبق أحد من أهل العناد والإلحاد ونهبوا دار جلال الدولة وغيرها وتأخر مجيء أبي كاليجار وذلك أن وزيره أشار عليه بعدم القدوم إلى بغداد فأطاعه في ذلك فكثر العيارون وتفاقم الحال وفسد البلد وافتقر جلال الدولة بحيث أن احتاج إلى أن باع بعض ثيابه في الأسواق وجعل أبو كاليجار يتوهم من الأتراك ويطلب منهم رهائن فلم يتفق ذلك وطال الفصل فرجعوا إلى مكاتبة جلال الدولة وأن يرجع إلى بلده وشرعوا يعتذرون إليه وخطبوا له في البلد على عادته وأرسل الخليفة الرسل إلى الملك كاليجار وكان فيمن بعث إليه القاضي أبو الحسن الماوردي فسلم عليه مستوحشا منه وقد تحمل أمرا عظيما فسأل من القضاة أن يلقب بالسلطان الأعظم مالك الأمم قال الماوردي هذا مالا سبيل إليه لأن السلطان المعظم هو الخليفة وكذلك مالك الأمم ثم اتفقوا على تلقيبه بملك الدولة فأرسل مع الماوردي تحفا عظيمة منها ألف ألف دينار سابورية وغير ذلك من الدراهم آلاف مؤلفة والتحف والألطاف واجتمع الجند على (12/33)
طلب من الخليفة فتعذر ذلك فراموا ان يقطعوا خطبته فلم تصل الجمعة ثم خطب له من الجمعة القابلة وتخبط البلد جدا وكثر العيارون ثم في ربيع الآخر منها حلف الخليفة لجلال الدولة بخلوص النية وصفائها وأنه على ما يحب من الصدق وصلاح السريرة ثم وقع بينهما بسبب جلال الدولة وشربه النبيذ وسكره ثم اعتذر إلى الخليفة واصطلحا على فساد وفي رجب غلت الأسعار جدا ببغداد وغيرها من أرض العراق ولم يحج أحد منهم وفيها وقع موتان عظيم ببلاد الهند وغزنة وخراسان وجرجان والري وأصبهان خرج منها في أدنى مدة أربعون ألف جنازة وفي نواحي الموصل والجبل وبغداد طرف قوي من ذلك بالجدري بحيث لم تخل دار من مصاب به واستمر ذلك في حزيران وتموز وآزار وأيلول وتشرين الأول والثاني وكان في الصيف أكثر منه في الخريف قاله ابن الجوزي في المنتظم وقد رأى رجل في منامه من أهل أصبهان في هذه السنة مناديا ينادي بصوت جهوري يا أهل أصبهان سكت نطق سكت نطق فانتبه الرجل مذعورا فلم يدر أحد تأويلها ما هو حتى قال رجل بيت أبي العتاهية فقال احذروا يا أهل أصبهان فإني قرأت في شعر أبي العتاهية قول ... سكت الدهر زمانا عنهم ... ثم أبكاهم دما حين نطق ...
فما كان إلا قليل حتى جاء الملك مسعود بن محمود فقتل منهم خلقا كثيرا حتى قتل الناس في الجوامع وفي هذه السنة ظفر الملك أبو كاليجار بالخادم جندل فقتله وكان قد استحوذ على مملكته ولم يبق معه سوى الإسم فاستراح منه وفيها مات ملك الترك الكبير صاحب بلاد ما وراء النهر واسمه قدرخان وفيها توفي من الأعيان
روح بن محمد بن أحمد
أبو زرعة الرازي قال الخطيب سمع جماعة وفد علينا حاجا فكتبت عنه وكان صدوقا فهما أديبا يتفقه على مذهب الشافعي وولي قضاء أصبهان قال وبلغني أنه مات بالكرخ سنة ثلاثة وعشرين وأربعمائة
علي بن محمد بن الحسن
ابن محمد بن نعيم بن الحسن البصري المعروف بالنعيمي الحافظ الشاعر والمتكلم الفقيه الشافعي قال البرقاني هو كامل في كل شيء لولا بادرة فيه وقد سمع على جماعة ومن شعره قوله
... إذا أظمأتك أكف اللئام ... كفتك القناعة شبعا وريا ... فكن رجلا رجله في الثرى ... وهامته همه في الثريا ... أبيا لنائل ذي نعمة ... تراه بما في يديه أبيا (12/34)
فإن إراقة ماء الحيا ... ة دون إراقة ماء المحيا ... محمد بن الطيب
ابن سعد بن موسى أبو بكر الصباغ حدث عن النجاد وأبي بكر الشافعي وكان صدوقا حكى الخطيب أنه تزوج تسعمائة امرأة وتوفي عن خمس وتسعين سنة
علي بن هلال
الكاتب المشهور ذكر ابن خلكان أنه توفي في هذه السنة قيل في سنة ثلاث عشرة كما تقدم
ثم دخلت سنة أربع وعشرين وأربعمائة
فيها تفاقم الحال بأمر العيارين وتزايد أمرهم وأخذوا العملات الكثيرة وقوى أمر مقدمهم البرجمى وقتل صاحب الشرطة غيلة وتواترت العملات في الليل والنهار وحرس الناس دورهم حتى دار الخليفة منه وكذلك سور البلد وعظم الخطب بهم جدا وكان من شأن هذا البرجمي أنه لا يؤذي امرأة ولا يأخذ مما عليها شيئا وهذه مروءة في الظلم وهذا كما قيل
... حنانيك بعض الشر أهون من بعض ... وفيها أخذ جلال الدولة البصرة وأرسل إليها ولده العزيز فأقام بها الخطبة لأبيه وقطع منها خطبة أبي كاليجار في هذه السنة والتي بعدها ثم استرجعت وأخرج منها ولده وفيها ثارت الأتراك بالملك جلال الدولة ليأخذوا أرزاقهم وأخرجوه من داره ورسموا عليه في المسجد وأخرجت حريمه فذهب في الليل إلى دار الشريف المرتضى فنزلها ثم اصطلحت الأتراك عليه وحلفوا له بالسمع والطاعة وردوه إلى داره وكثر العيارون واستطالوا على الناس جدا ولم يحج أحد من أهل العراق وخراسان لفساد البلاد وممن توفي فيها من الأعيان
أحمد بن الحسين بن أحمد
أبو الحسين الواعظ المعروف بابن السماك ولد سنة ثلاثين وثلثمائة وسمع جعفر الخلدي وغيره وكان يعظ بجامع المنصور وجامع المهدي ويتكلم على طريق الصوفية وقد تكلم بعض الأئمة فيه ونسب إليه الكذب توفي فيها عن أربع وتسعين سنة ودفن بباب حرب
ثم دخلت سنة خمس وعشرين وأربعمائة
فيها غزا السلطان مسعود بن محمود بلاد الهند وفتح حصونا كثيرة وكان من جملتها انه حاصر قلعة حصينه فخرجت من السور عجوز كبيرة ساحرة فأخذت مكنسة فبلتها ورشتها من ناحية جيش المسلمين فمرض السلطان تلك الليلة مرضا شديدا فارتحل عن تلك القلعة فلما استقل ذاهبا عنها عوفي عافية كاملة فرجع إلى غزنة سالما وفيها ولي البساسيري حماية الجانب الشرقي من بغداد لما تفاقم أمر العيارين وفيها ولي سنان بن سيف الدولة بعد وفاة أبيه فقصد عمه قرواشا فأقره (12/35)
وساعده على أموره وفيها ملك الروم أرمانوس فملكم رجل ليس من بيت ملكهم قد كان صيرفيا في بعض الأحيان إلا أنه كان من سلالة الملك قسطنطين وفيها كثرت الزلازل بمصر والشام فهدمت شيئا كثيرا ومات تحت الردم خلق كثير وانهدم من الرملة ثلثها وتقطع جامعا تقطيعا وخرج أهلها منها هاربين فأقاموا بظاهرها ثمانية أيام ثم سكن الحال فعادوا إليها وسقط بعض حائط بيت المقدس ووقع من محراب دواد قطعة كبيرة ومن مسجد إبراهيم قطعة وسلمت الحجرة وسقطت منارة عسقلان ورأس منارة غزة وسقط نصف بنيان نابلس وخسف بقرية البارزاد وبأهلها وبقرها وغنمها وساخت في الأرض وكذلك قرى كثيرة هنالك وذكر ذلك ابن الجوزي ووقع غلاء شديد ببلاد إفريقة وعصفت ريح سوداء بنصيبين فألقت شيئا كثيرا من الأشجار كالتوت والجوز والعناب واقتلعت قصرا مشيدا بحجارة وآجر وكلس فألقته وأهله فهلكوا ثم سقط مع ذلك مطر أمثال الأكف والزنود والأصابع وجزر البحر من تلك الناحية ثلاث فراسخ فذهب الناس خلف السمك فرجع البحر عليهم فهلكوا وفيها كثر الموت بالخوانيق حتى كان يغلق الباب على من في الدار كلهم موتى وأكثر ذلك كان ببغداد فمات من أهلها في شهر ذي الحجة سبعون ألفا وفيها وقعت الفتنة بين السنة والروافض حتى بين العيارين من الفريقين مع أبنا الأصفهاني وهما مقدمي عيارين أهل السنة منعا أهل الكرخ من ورود ماء دجلة فضاق عليهم الحال وقتل ابن البرجمي وأخوه في هذه السنة ولم يحج أحد من أهل العراق وفيها توفي من الأعيان
أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب
الحافظ أبو بكر المعروف بالبرقاني ولد سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة وسمع الكثير ورحل إلى البلاد وجمع كتبا كثيرة جدا وكان عالما بالقرآن والحديث والفقه والنحو وله مصنفات في الحديث حسنة نافعة قال الأزهري إذا مات البرقاني ذهب هذا الشأن وما رأيت أتقن منه وقال غيره ما رأيت أعبد منه في اهل الحديث توفي يوم الخميس مستهل رجب وصلى عليه أبو علي بن أبي موسى الهاشمي ودفن في مقبرة الجامع ببغداد وقد أورد له ابن عساكر من شعره ... أعلل نفسي بكتب الحديث ... وأجمل فيه لها الموعدا ... وأشغل نفسي بتصنيفه ... وتخريجه دائما سرمدا ... فطورا أصنفه في الشيو ... خ وطورا أصنفه مسندا ... وأقفو البخاري فيما حوا ... ه وصنفه جاهدا مجهدا ... ومسلم إذ كان زين الأنام ... بتصنيفه مسلما مرشدا ... ومالي فيه سوى أنني ... أراه هوى صادف المقصدا (12/36)
وأرجو الثواب بكتب الصلا ... ة على السيد المصطفى احمدا ... أحمد بن محمد بن عبدالرحمن بن سعيد
أبو العباس الأبيوردي أحد أئمة الشافعية من تلاميذ الشيخ أبي حامد الإسفرايني كانت له حلقة في جامع المنصور للفتيا وكان يدرس في قطيعة الربيع وولى الحكم ببغداد نايبة عن ابن الأكفاني وقد سمع الحديث وكان حسن الإعتقاد جميل الطريقة فصح اللسان صبورا على الفقر كاتما له وكان يقول الشعر الجيد وكان كما قال تعالى
يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا توفي في جمادى الآخرة ودفن بمقبرة باب حرب
أبو علي البندنبجي
الحسن بن عبدالله بن يحيى الشيخ أبو علي البندنيجي أحد أئمة الشافعية من تلاميذ أبي حامد أيضا ولم يكن في أصحابه مثله تفقه ودرس وأفتى وحكم ببغداد وكان دينا ورعا توفي في جمادى الآخرة منها أيضا
عبدالوهاب بن عبدالعزيز
الحارث بن أسد أبو الصباح التميمي الفقيه الحنبلي الواعظ سمع من أبيه أثرا مسلسلا عن علي الحنان الذي يقبل على من أعرض عنه والمنان الذي يبدأ بالنوال قبل السؤال توفي في ربيع الأول ودفن في مقبرة أحمد بن حنبل
غريب بن محمد
ابن مفتي سيف الدولة أبو سنان كان قد ضرب السكة باسمه وكان ملكا متمكنا في الدولة وخلف خمسمائة ألف دينار وقام ابنه سنان بعده وتقوى بعمه قرواش واستقامت أموره توفي بالكرخ سابور عن سبعين سنة
ثم دخلت سنة ست وعشرين وأربعمائة
في محرمها كثر تردد الأعراب في قطع الطرقات إلى حواشي بغداد وما حولها بحيث كانوا يسلبون النساء ما عليهن ومن أسروه أخذوا ما معه وطالبوه بفداء نفسه واستفحل أمر العيارين وكثرت شرورهم وفي مستهل صفر زادت دجلة بحيث ارتفع الماء على الضياع ذراعين وسقط من البصرة في مدة ثلاثة نحو من ألفي دار وفي شعبان منها ورد كتاب من مسعود بن محمود بأنه قد فتح فتحا عظيما في الهند وقتل منهم خمسين ألفا وأسر تسعين ألفا وغنم شيئا كثيرا ووقعت فتنة بين أهل بغداد والعيارين ووقع حريق في أماكن من بغداد واتسع الخرق على الراقع ولم يحج أحد من هؤلاء ولا من أهل خرسان (12/37)
وممن توفي فيها من الأعيان
أحمد بن كليب الشاعر
وهو أحد من هلك بالعشق روى ابن الجوزي في المنتظم بسنده أن أحمد بن كليب هذا المسكين المغتر عشق غلاما يقال له أسلم بن أبي الجعد من بنى خلد وكان فيهم وزارة أي كانوا وزراء للملوك وحجابا فأنشد فيه أشعارا تحدث الناس بها وكان هذا الشاب أسلم يطلب العلم في مجالس المشايخ فلما بلغه عن ابن كليب ما قال فيه استحى من الناس وانقطع في دارهم وكان لا يجتمع بأحد من الناس فازداد غرام ابن كليب به حتى مرض من ذلك مرضا شديدا بحيث عاده منه الناس ولا يدرون ما به وكان في جملة من عاده بعض المشايخ من العلماء فسأله عن مرضه فقال أنتم تعلمون ذلك ومن أي شيء مرضي وفي أي شيء دوائي لو زارني أسلم ونظر إلى نظرة ونظرته نظرة واحدة لبرأت فرأى ذلك العالم من المصلحة أن لو دخل على أسلم وسأله أن يزوره ولو مرة واحدة مختفيا ولم يزل ذلك الرجل العالم بأسلم حتى أجابه إلى زيارته فانطلقا إليه فلما دخلا دربه ومحلته تجتن الغلام واستحى من الدخول عليه وقال للرجل العالم لا أدخل عليه وقد ذكرني ونوه بأسمي وهذا مكان ريبة وتهمة وأنا لا أحب أن أدخل مداخل التهم فحرص به الرجل كل الحرص ليدخل عليه فأبى عليه فقال له إنه ميت لا محالة فإذا دخلت عليه أحييته فقال يموت وأنا لا أدخل مدخلا يسخط الله علي ويغضبه وأبى أن يدخل وانصرف راجعا إلى دارهم فدخل الرجل على ابن كليب فذكر له ما كان من أمر أسلم معه وقد كان غلام ابن كليب دخل عليه قبل ذلك وبشره بقدوم معشوقه عليه ففرح بذلك جدا فلما تحقق رجوعه عنه اختلط كلامه واضطرب في نفسه وقال لذلك الرجل الساعي بينهما اسمع يا أبا عبد الله واحفظ عنى ما أقول ثم أنشده ... أسلم يا راحة العليل ... رفقا على الهائم النحيل ... وصلك أشهى إلى فؤادى ... من رحمة الخالق الجليل ... فقال له الرجل ويحك اتق الله تعالى ما خهذه العظيمة فقال قد كان ما سمعت أو قال القول ما سمعت قال فخرج الرجل من عنده فما توسط الدار حتى سمع الصراخ عليه وسمع صيحة الموت وقد فارق الدنيا على ذلك وهذه زلة شنعاء وعظيمة صلعاء وداهية دهياء ولولا أن هؤلاء الأئمة ذكروها ماذكرتها ولكن فيها عبرة لأولي الألباب وتنبيه لذوي البصائر والعقول أن يسألوا الله رحمته وعافيته وأن يستعيذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن وأن يرزقهم حسن الخاتمة عند الممات إنه كريم جواد قال الحميدي وأنشدنى أبو علي بن أحمد قال أنشدني محمد بن عبد الرحمن لأحمد بن كليب وقد أهدى إلى أسلم كتاب الفصيح لثعلب (12/38)
هذا كتاب الفصيح ... بكل لفظ مليح ... وهبته لك طوعا ... كما وهبتك روحى ... الحسن بن أحمد
ابن إبراهيم بن الحسن بن محمد بن شاذان بن حرب بن مهران البزاز أحد مشايخ الحديث سمع الكثير وكان ثقة صدوقا جاء يوما شاب غريب فقال له إني رأيت رسول الله ( ص ) في المنام فقال لي اذهب إلى أبي على بن شاذان فسلم عليه وأقره مني السلام ثم انصرف الشاب فبكى الشيخ وقال ما أعلم لي عملا أستحق به هذا غير صبري على سماع الحديث وصلاتي على رسول الله ( ص ) كلما ذكر ثم توفي بعد شهرين أو ثلاثة من هذه الرؤيا في محرمها عن سبع وثمانين سنة ودفن بباب الدير
الحسن بن عثمان
ابن أحمد بن الحسين بن سورة أبو عمر الواعظ المعروف بابن الغلو سمع الحديث عن جماعة قال ابن الجوزي وكان يعظ وله بلاغة وفيه كرم وأمر بمعروف ونهي عن منكر ومن شعره قوله
... دخلت على السلطان في دار عزه ... بفقر ولم أجلب بخيل ولا رجل ... وقلت انظروا ما بين فقرى وملككم ... بمقدار ما بين الولاية والعزل ... توفي في صفر منها وقد قارب الثمانين ودفن بمقبرة حرب إلى جانب ابن السماك رحمهما الله
ثم دخلت سنة سبع وعشرين وأربعمائة
في المحرم منها تكاملت قنطرة عيسى التي كانت سقطت وكان الذي ولي مشارفة الإنفاق عليها الشيخ أبو الحسن القدوري الحنفي وفي المحرم وما بعده تفاقم أمر العيارين وكبسوا الدور وتزايد شرهم جدا وفيها توفي صاحب مصر الظاهر أبو الحسن علي بن الحاكم الفاطمي وله من العمر ثلاث وثلاثون سنة وقام بالأمر من بعده ولده المستنصر وعمره سبع سنين واسمه معد وكنيته أبو تميم وتكفل بأعباء المملكة بين يديه الأفضل أمير الجيوش واسمه بدر بن عبد الله الجمالي وكان الظاهر هذا قد استوزر الصاحب أبا القاسم علي بن أحمد الجرجرائي وكان مقطوع اليدين من المرفقين في سنة ثماني عشرة فاستمر في الوزارة مدة ولاية الظاهر ثم لولده المستنصر حتى توفي الوزير الجرجرائي المذكور في سنة ست وثلاثين وكان قد سلك في وزارته العفة العظيمة وكان الذي يعلم عنه القاضي أبو عبد الله القضاعي صاحب كتاب الشهاب وكانت علامته الحمد لله شكرا لنعمه وكان الذي قطع يديه من المرفقين الحاكم لجناية ظهرت منه في سنة أربع وأربعمائة ثم استعمله في بعض الأعمال سنة تسع فلما فقد الحاكم في السابع والعشرين من شوال سنة إحدى عشرة تنقلت بالجرجرائي المذكور الأحوال حتى استوزر سنة ثماني عشرة كما ذكرنا وقد هجاه بعض الشعراء (12/39)
فقال ... يا أجمعا اسمع وقل ... ودع الرقاغة والتحامق ... أأقمت نفسك في الثقا ... ت وهبك فيما قلت صادق ... أمن الأمانة والتقي ... قطعت يداك من المرافق ... وممن توفي فيها من الأعيان
احمد بن محمد بن إبراهيم الثعالبي
ويقال الثعلبي أيضا وهو لقب أيضا وليس بنسبة النيسابورى المفسر المشهور له التفسير الكبير وله كتاب العرايس في قصص الأنبياء عليهم السلام وغير ذلك وكان كثير الحديث واسع السماع ولهذا يوجد في كتبه من الغرائب شئ كثير ذكره عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي في تاريخ نيسابور وأثنى عليه وقال هو صحيح النقل موثوق به توفي في سنة سبع وعشرين وأربعمائة وقال غيره توفي يوم الأربعاء لسبع بقين من المحرم منها ورؤيت له منامات صالحة رحمة الله وقال السمعاني ونيسابور كانت مغصبة فأمر سابور الثاني ببنائها مدينة
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وأربعمائة
فيها خلع الخليفة علي أبي تمام محمد بن محمد بن علي الزينبي وقلده ما كان إلى أبيه من نقابة العباسيين والصلاة وفيها وقعت الفرقة بين الجند وبين جلال الدولة وقطعوا خطبتة وخطبة الملك أبي كاليجار ثم أعادوا الخطبة واستوزر أبا المعالى بن عبد الرحيم وكان جلال الدولة قد جمع خلقا كثيرا معه منهم البساسيرى وديبس بن علي بن مرثد وقرواش بن مقلد ونازل بغداد من جانبها الغربي حتى أخذها قهرا وصطلح هو وأبو كاليجار نائبة جلال الدولة على يدي قاضي القضاة الماوردي وتزوج أبو منصور بن أبي كاليجار بإبنة جلال الدولة على صداق خمسين ألف دينار واتفقت كلمتهما وحسن حال الرعية وفيها نزل مطر ببلاد قم الصلح ومعه سمك وزن السمكة رطل ورطلان وفيها بعث ملك مصر بمال لاصلاح نهر بالكوفة إن أذن الخليفة العباسي في ذلك فجمع الخليفة الفقهاء وسألهم عن هذا المال فأفتوا بأن هذا المال فيء للمسلمين يصرف في مصالحهم فأذن في صرفه في مصالح المسلمين وفيها ثار العيارون ببغداد وفتحوا السجن بالجانب الشرقي وأخذوا منه رجالا وقتلوا من رجال الشرط سبعة عشرة رجلا وانتشرت الشرور في البلد جدا ولم يحج أحد من أهل العراق وخراسان لاختلاف الكلمة وممن توفي فيها من الأعيان توفي فيها من الأعيان
القدوري أحمد بن محمد
ابن أحمد بن جعفر أبو الحسن القدوري الحنفي البغدادي سمع الحديث ولم الحديث إلا بشيء يسير قال الخطيب كتبت عنه وقد تقدمت وفاته ودفن بداره في درب خلف
الحسن بن شهاب
ابن الحسن بن علي أبو علي العكبري الفقيه الحنبلي الشاعر ول سنة خمس وثلاثين وثلثمائة (12/40)
سمع من أبي بكر بن مالك وغيره وكان كما قال البرقاني ثقة أمينا وكان يسترزق من الوراقة وهو النسخ يقال إنه كان يكتب ديوان المتنبي في ثلاث ليال فيبيعه بمائتي درهم ولما توفي أخذ السلطان من تركته ألف دينار سوى الأملاك وكان قد أوصى بثلث ماله في متفقهة الحنابلة فلم تصرف
لطف الله أحمد بن عيسى
أبو الفضل الهاشمي ولي القضاء والخطابة بدرب ريحان وكان ذا لسان وقد أضر في آخر عمره وكان يروي حكايات وأناشيد من حفظه توفي في صفر منها
محمد بن أحمد
ابن على بن موسى بن عبد المطلب أبو علي الهاشمي أحد أئمة الحنابلة وفضلائهم
محمد بن الحسن
ابن أحمد بن علي أبو الحسن الأهوازي ويعرف بابن أبي علي الأصبهاني ولد سنة خمس وأربعين وثلثمائة وقدم بغداد وخرج له أبو الحسن النعيمي أجزاء من حديثه فسمعها منه البرقاني إلا أنه بان كذبه حتى كان بعضهم يسميه جراب الكذب أقام ببغداد سبع سنين ثم عاد إلى الأهواز فمات بها
مهيار الديلمي الشاعر
مهيار بن مرزويه أبو الحسين الكاتب الفارسي ويقال له الديلمي كان مجوسيا فأسلم إلا أنه سلك سبيل الرافضة وكان ينظم الشعر القوي الفحل في مذاهبهم من سب الصحابة وغيرهم حتى قال له أبو القاسم بن برهان يا مهيار انتقلت من زاوية في النار إلى زاوية أخرى في النار كنت مجوسيا فأسلمت فصرت تسب الصحابة وقد كان منزله بدرب رباح من الكرخ وله ديوان شعر مشهود فمن مستجاد قوله ... أستنجد الصبر فيكم وهو مغلوب ... وأسأل النوم عنكم وهو مسلوب ... وأبتغى عندكم قلبا سمحت به ... وكيف يرجع شئ وهو موهوب ... ما كنت أعرف مقدار حبكم ... حتى هجرت وبعض الهجر تأديب ... ولمهيار أيضا ... أجارتنا بالغور والركب منهم ... أيعلم خال كيف بات المتيم ... رحلتم وجمر القلب فينا وفيكم ... سواء ولكن ساهرون ونوم ... فبنتم عنا ظاعنين وخلفوا ... قلوبا أبت أن تعرف الصبر عنهم ... ولما خلى التوديع عما حذرته ... ولمح يبق إلا نظرة لي تغنم ... بكيت على الوادى وحرمت ماءه ... وكيف به ماء وأكثره دم ... قال ابن الجوزي ولما كان شعره أكثره جيدا اقتصرت على هذا القدر توفي في جمادي 0 (12/41)
الآخرة هبة الله بن الحسن
أبو الحسين المعروف بالحاجب كان من أهل الفضل والأدب والدين وله شعر حسن فمنه قوله
... يا ليلة سلك الزما ... ن في طيبها كل مسلك ... إذ ترتقى روحي المسر ... ة مدركا ما ليس يدرك والبدر قد فضح الزما ... ن وسره فيه مهتك ... وكأنما زهر النجو ... م بلمعها شعل تحرك ... والغيب أحيانا يلو ... ح كأنه ثوب ممسك ... وكأن تجعيد الريا ... ح لدجلة ثوب مفرك ... وكان نشر المسك ... ينفح في النسيم إذا تحرك ... وكأنما المنثور مصفر ... الذري ذهب مسبك ... والنور يبسم في الريا ... ض فإن نظرت إليه سرك ... شارطت نفسي أن أقو ... م بحقها والشرط أملك ... حتى تولى الليل م ... تهزما وجاء الصبح يضحك ... وذا الفتى لو أنه ... في طيب العيش يترك ... والدهر يحسب عمره ... فإذا أتاه الشيب فذلك ...
أبو علي بن سينا
الطبيب الفيلسوف الحسن بن عبد الله بن سينا الرئيس كان بارعا في الطب في زمانه كان أبوه من أهل بلخ وانتقل إلى بخارى واشتغل بها فقرأ القرآن وأتقنه وهو ابن عشر سنين وأتقن الحساب والجبر والمقابلة وإقليدس والمجسطي ثم اشتغل على أبي عبد الله الناتلى الحكيم فبرع فيه وفاق أهل زمانه في ذلك وتردد الناس إليه واشتغلوا عليه وهو ابن ست عشرة سنة وعالج بعض الملوك السامانية وهو الأمير نوح بن نصر فأعطاه جائزة سنية وحكمه في خزانة كتبه فرأى فيها من العجائب والمحاسن مالا يوجد في غيرها فيقال إنه غزا بعض تلك الكتب إلى نفسه وله في الآلهيات والطبيعات كتب كثيرة قال ابن خلكان له نحو من مائة مصنف صغار وكبار منها القانون والشفا والنجاة والإشارات وسلامان وإنسان وحي بن يقظان وغير ذلك 0 قال وكان من فلاسفة الإسلام أورد له من الأشعار قصيدته في نفسه التي يقول فيها ... هبطت إليك من المقام الأرفع ... ورقاء ذات تعزز وتمنع ... محجوبة عن كل مقلة عارف ... وهي التي سفرت ولم تتبرقع (12/42)
وصلت على كره إليك وربما ... كرهت فراقك وهي ذات تفجع ...
وهي قصيدة طويلة وله
... اجعل غذاءك كل يوم مرة ... واحذر طعاما قبل هضم طعام ... واحفظ منيك ما استطعت فإنه ... ماء الحياة يراق في الارحام ... وذكر أنه مات بالقولنج في همذان وقيل بأصبهان والأول أصح يوم الجمعة في شهر رمضان منها عن ثمان وخمسين سنة قلت قد حصر الغزالي كلامه في مقاصد الفلاسفة ثم رد عليه في تهافت الفلاسفة في عشرين مجلسا له كفره في ثلاث منها وهي قوله يقدم العالم وعدم المعاد الجثماني وان الله لا يعلم الجزئيات وبدعه في البواقي ويقال إنه تاب عند الموت فالله أعلم
ثم دخلت سنة تسع وعشرين وأربعمائة
فيها كان بدو ملك السلاجقة وفيها استولى ركن الدولة ابو طالب طغرلبك محمد بن ميكائيل بن سلجوق على نيسابور وجلس على سرير ملكها وبعث أخاه داود إلى بلاد خرسان فملكها وانتزعها من نواب الملك مسعود بن محمود بن سبكتكين وفيها قتل جيش المصريين لصاحب حلب وهو شبل الدولة نصر بن صالح بن مرداس واستولوا على حلب وأعمالها وفيها سأل جلال الدولة الخليفة أن يلقب ملك الدولة فأجابه إلى ذلك بعد تمنع وفيها استدعى الخليفة بالقضاة والفقهاء وأحضر جاثليق النصارى ورأس جالوت اليهود وألزموا بالغيار وفي رمضان منها لقب جلال الدولة شاهنشاه الأعظم ملك الملوك بأمر الخليفة وخطب له بذلك على المنابر فنفرت العامة من ذلك ورموا الخطباء بالآجر ووقعت فتنة شديدة بسبب ذلك واستفتوا القضاة والفقهاء في ذلك فأفتى أبو عبد الله الصيمري أن هذه الأسماء يعتبر فيها القصد والنية وقد قال تعالى إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا وقال وكان وراءهم ملك وإذا كان في الأرض ملوك جاز أن يكون بعضهم فوق بعض وأعظم من بعض وليس في ذلك ما يوجب النكير والمماثلة بين الخالق والمخلوقين وكتب القاضي أبو الطيب الطبري أن إطلاق ملك الملوك جائز ويكون معناه ملك ملوك الأرض وإذا جاز أن يقال كافي الكفاة وقاضي القضاة جاز أن يقال ملك الملوك وإذا كان في اللفظ ما يدل على أن المراد به ملوك الأرض زالت الشبة ومنه قولهم اللهم أصلح الملك فيصرف الكلام إلى المخلوقين وكتب التميمي الحنبلي نحو ذلك وأما الماوردي صاحب الحاوي الكبير فقد نقل عنه أنه أجاز ذلك أيضا والمشهور عنه ما نقله ابن الجوزي والشيخ أبو منصور بن الصلاح في أدب المفتي أنه منع من ذلك وأصر على المنع من ذلك مع صحبته للملك جلال الدولة وكثرة ترداده إليه ووجاهته عنده وأنه امتنع من الحضور عن مجلسه حتى استدعاه جلال الدولة في يوم عيد فلما دخل عليه (12/43)
دخل وهو وجل خائف أن يوقع به مكروها فلما واجهه قال له جلال الدولة قد علمت أنه إنما منعك من موافقة الذين جوزوا ذلك مع صحبتك إياي ووجاهتك عندي دينك واتباعك الحق وإن الحق آثر عندك من كل أحد ولو حابيت أحدا من الناس لحابيتني وقد زادك ذلك عندي صحبة ومحبة وعلو مكانة قلت والذي حمل القاضي الماوردي على المنع هو السنة التي وردت بها الأحاديث الصحيحة من غير وجه قال الإمام أحمد حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي ( ص ) أنه قال ( أخنع اسم عند الله يوم القيامة رجل تسمى بملك الأملاك ) قال الزهري سألت أبا عمرو الشيباني عن أخنع اسم قال أوضع وقد رواه البخاري عن علي بن المديني عن ابن عيينة وأخرجه مسلم من طريق همام عن أبي هريرة عن النبي ( ص ) وآله وسلم أنه قال ( أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه رجل تسمى ملك الأملاك لا ملك إلا الله عز و جل ) وقال الإمام أحمد حدثني محمد بن جعفر حدثنا عوف عن جلاس عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( ص ) ( اشتد غضب الله على من قتله نبي واشتد غضب الله على رجل تسمى بملك الأملاك لا ملك إلا الله عز و جل ) وممن توفي فيها من الأعيان الثعالبي
الثعالبي صاحب يتيمة الدهر
أبو منصور عبدالملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي النيسابوري كان إماما في اللغة والأخبار وأيام الناس بارعا مفيدا له التصانيف الكبار في النظم والنثر والبلاغة والفصاحة وأكبر كتبه يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر وفيها يقول بعضهم ... أبيات أشعار اليتيمة ... أبكار أفكار قديمة ... ماتوا وعاشت بعدهم ... فلذاك سميت اليتمية ... وإنما سمى الثعالبي لأنه كان رفاء يخيط جلود الثعالب وله أشعار كثيرة مليحة ولد سنة خمسين وثلثمائة ومات في هذه السنة
الأستاذ أبو منصوو
عبدالقاهر بن طاهر بن محمد البغدادي الفقيه الشافعي أحد الأئمة في الأصول والفروع وكان ماهرا في فنون كثيرة من العلوم منها علم الحساب والفرائض وكان ذا مال وثروة أنفقه كله على أهل العلم وصنف ودرس في سبعة عشر علما وكان اشتغاله على أبي إسحاق الإسفرائيني وأخذ عنه ناصر المروزي وغيره
ثم دخلت سنة ثلاثين وأربعمائة
فيها التقى الملك مسعود بن محمود والملك طغرلبك السلجوقي ومعه أخوه داود في شعبان (12/44)
فهزمهما مسعود وقتل من أصحابهما خلقا كثيرا وفيها خطب شبيب بن ريان للقائم العباسي بحران والرحبة وقطع خطبة الفاطمي العبيدي وفيها خوطب ابو منصور بن جلال الدولة بالملك العزيز وهو مقيم بواسط وهذا العزيز آخر من ملك بغداد من بني بويه لما طغوا وتمردوا وبغوا وتسموا بملك الأملاك فسلبهم الله ما كان أنعم به عليهم وجعل الملك في غيرهم كما قال الله تعالى إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم الآية وفيها خلع الخليفة على القاضي أبي عبدالله بن ماكولا خلعة تشريف وفيها وقع ثلج عظيم ببغداد مقدار شبر قال ابن الجوزي وفي جمادى الآخرة تملك بنو سلجوق بلاد خراسان والجبل وتقسموا الأطراف وهو أول ملك السلجوقية ولم يحج أحد فيها من العراق وخراسان ولا من أهل الشام ولا مصر إلا القليل وممن توفي فيها من الأعيان
الحافظ أبو نعيم الأصبهاني
أحمد بن عبدالله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران أبو نعيم الأصبهاني الحافظ الكبير ذو التصانيف المفيدة الكثيرة الشهيرة منها حلية الأولياء في مجلدات كثيرة دلت على اتساع روايته وكثرة مشايخه وقوة إطلاعه على مخارج الحديث وشعب طرقه وله معجم الصحابة وهو عندي بخطه وله صفة الجنة ودلائل النبوة وكتاب في الطب النبوي وغير ذلك من المصنفات المفيدة وقد قال الخطيب البغدادي كان أبو نعيم يخلط المسموع له بالمجاز ولا يوضح أحدهما من الآخر وقال عبدالعزيز النخشبي لم يسمع أبو نعيم مسند الحارث بن أبي أسامة من أبي بكر بن خلاد بتمامه فحدث به كله وقال ابن الجوزي سمع الكثير وصنف الكثير وكان يميل إلى مذهب الأشعري في الإعتقاد ميلا كثيرا توفي أبو نعيم في الثامن والعشرين من المحرم منها عن أربع وتسعين سنة رحمه الله لأنه ولد فيما ذكره ابن خلكان في سنة ست وثلاين وثلثمائة قال وله تاريخ أصبهان وذكر أبو نعيم في ترجمة والده أن مهران أسلم وأن ولاءهم لعبدالله بن معاوية بن عبدالله ابن جعفر بن أبي طالب وذكر أن معنى أصبهان وأصله بالفارسية شاهان أي مجمع العساكر وأن الاسكندر بناها
الحسن بن حفص
أبو الفتوح العلوي أمير مكة الحسن بن الحسين أبو علي البرجمي وزر لشرف الدولة سنتين ثم عزل وكان عظيم الجاه في زمانه وهو الذي بنى مارستان واسط ورتب فيه الأشربة والأطباء والأدوية ووقف عليه كفايته توفي في هذه السنة وقد قارب الثمانين رحمه الله
الحسين بن محمد بن الحسن
ابن علي بن عبدالله المؤدب وهو أبو محمد الخلال سمع صحيح البخاري من إسماعيل بن محمد الكشميهني وسمع غيره توفي في جمادى الأولى ودفن بباب حرب (12/45)
عبدالملك بن محمد
ابن عبدالله بن محمد بن بشر بن مهران أبو القاسم الواعظ سمع النجاد ودعلج بن أحمد والآجري وغيرهم وكان ثقة صدوقا وكان يشهد عند الحكام فترك ذلك رغبة عنه ورهبة من الله ومات في ربيع الآخر منها وقد جاوز التسعين وصلى عليه في جامع الرصافة وكان الجمع كثيرا حافلا ودفن إلى جانب أبي طالب المكي وكان قد أوصى بذلك
محمد بن الحسين بن خلف
ابن الفراء أبو حازم القاضي أبو يعلى الحنبلي سمع الدارقطني وابن شاهين قال الخطيب كان لا بأس به ورأيت له أصولا سماعه فيها ثم إنه بلغنا أنه خلط في الحديث بمصر واشترى من الوراقين صحفا فروى منها وكان يذهب إلى الإعتزال توفي بتنيس من بلاد مصر
محمد بن عبدالله
أبو بكر الدينوري الزاهد كان حسن العيش وكان ابن القزويني يثني عليه وكان جلال الدولة صاحب بغداد يزوره وقد سأله مرة أن يطلق للناس مكث الملح وكان مبلغه الفي دينار فتركه من أجله ولما توفي اجتمع أهل بغداد لجنازته وصلى عليه مرات ودفن بباب حرب رحمه الله تعالى
الفضل بن منصور
أبو الرضى ويعرف بابن الظريف وكان شاعرا ظريفا ومن شعر قوله ... يا قالة الشعر قد نصحت لكم ... ولست أدهى إلا من النصح ... قد ذهب الدهر بالكرام ... وفي ذاك أمور طويلة الشرح ... أتطلبون النوال من رجل ... قد طبعت نفسه على الشح ... وأنتم تمدحون بالحسن والظرف ... وجوها في غاية القبح ... من أجل ذا تحرمون رزقكم ... لأنكم تكذبون في المدح ... صونوا القوافي فما أرى ... أحدا يغتر فيه بالنجح ... فإن شككتم فيما أقول لكم ... فكذبوني بواحد سمح ...
هبةالله بن علي بن جعفر
أبو القاسم بن ماكولا وزر لجلال الدولة مرارا وكان حافظا للقرآن عارفا بالشعر والأخبار خنق بهيت في جمادى الآخرة منها
أبو زيد الدبوسي
عبدالله بن عمر بن عيسى الفقيه الحنفي أول من وضع علم الخلاف وأبرزه إلى الوجود قاله (12/46)
ابن خلكان وكان يضرب به المثل والدبوس نسبة إلى قرية من أعمال بخارى قال وله كتاب الأسرار والتقويم للأدلة وغير ذلك من التصانيف والتعاليق قال وروى أنه ناظر فقيها فبقي كلما ألزمه أبو زيد إلزاما تبسم أو ضحك فأنشد أبو زيد في ذلك ... مالي إذا ألزمته حجة ... قابلني بالضحك والقهقهة ... إن ضحك المرء من فقهه ... فالدب بالصحراء ما أفقهه ...
الحوفي صاحب إعراب القرآن
أبو الحسن علي بن إبراهيم بن سعيد بن يوسف الحوفي النحوي له كتاب في النحو كبير وإعراب القرآن في عشر مجلدات وله تفسير القرآن أيضا وكان إماما في العربية والنحو والأدب وله تصانيف كثيرة انتفع بها الناس قال ابن خلكان والحوفي نسبة لناحية بمصر يقال لها الشرقية وقصبتها مدينة بلبيس فجميع ريفها يسمون حوف واحدهم حوفي وهو من قرية يقال لها شبرا النخلة من اعمال الشرقية المذكورة رحمه الله
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة
فيها زادت دجلة زيادة عظيمة بحيث حملت الجسر ومن عليه فألقتهم بأسفل البلد وسلموا وفيها وقع بين الجند وبين جلال الدولة شغب وقتل من الفريقين خلق وجرت شرور ويطول ذكرها ووقع فساد عريض واتسع الخرق على الراقع ونهبت دور كثيرة جدا ولم يبق للملك عندهم حرمة وغلت الاسعار وفيها زار الملك أبو طاهر مشهد الحسين ومشى حافيا في بعض تلك الأزوار ولم يحج أحد من أهل العراق وفيها بعث الملك أبو كاليجار وزيره العادل إلى البصرة فملكها له وممن توفي فيها من الأعيان
إسماعيل بن أحمد
ابن عبدالله أبو عبدالرحمن الضرير الخيري من أهل نيسابور كان من أعيان الفضلاء الأذكياء والثقات الأمناء قدم بغداد حاجا في سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة فقرأ عليه الخطيب جميع صحيح البخاري في ثلاث مجالس بروايته له عن أبي الهيثم الكشميهني عن الفريري عن البخاري توفي فيها وقد جاوز التسعين
بشرى الفاتني
وهو بشرى بن مسيس من سبى الروم أهداه أمراء بني حمدان الفاتن غلام المطيع فأدبه وسمع الحديث عن جماعة من المشايخ وروى عنه الخطيب وقال كان صدوقا صالحا دينا توفي يوم عيدالفطر منها رحمه الله
محمد بن علي
ابن أحمد بن يعقوب بن مروان أبو العلاء الواسطي وأصله من فم الصلح سمع الحديث وقرأ (12/47)
القراآت ورواها وقد تكلموا في روايته في القراءات والحديث فالله أعلم توفي في جمادى الآخرة منها وقد جاوز الثمانين
ثم دخلت سنة إثنتين وثلاثين وأربعمائة
فيها عظم شأن السلجوقية وارتفع شان ملكهم طغرلبك وأخيه داود وهما أبنا ميكائيل بن سلجوق بن بغاق وقد كان جدهم بغلق هذا من مشايخ الترك القدماء الذي لهم رأي ومكيدة ومكانة عند ملكهم الأعظم ونشأ ولده سلجوق نجيبا شهما فقدمه الملك ولقبه شباسي فأطاعته الجيوش وانقاد له الناس بحيث تخوف منه الملك وأراد قتله فهرب منه إلى بلاد المسلمين فأسلم فازداد عزا وعلوا ثم توفي عن مائة وسبع سنين وخلف أرسلان وميكائيل وموسى فأما مكائيل فإنه اعتنى بقتال الكفار من الأتراك حتى قتل شهيدا وخلف ولديه طغرلبك محمد وجعفر بك داود فعظم شانهما في بني عمهما واجتمع عليهما الترك من المؤمنين وهم ترك الإيمان الذي يقول لهم الناس تركمان وهم السلاجتة بنو سلجوق جدهم هذا فأخذوا بلاد خراسان بكمالها بعد موت محمود بن سبكتكين وقد كان يتخوف منهم محمود بعض التخوف فلما مات وقام ولده مسعود بعده قاتلهم وقاتلوه مرارا فكانوا يهزمونه في أكثر المواقف واستكمل لهم ملك خراسان بأسرها ثم قصدهم مسعود في جنود يضيق بهم الفضاء فكسروه وكبسه مرة داود فانهزم مسعود فاستحوذ على حواصله وخيامه وجلس على سريره وفرق الغنائم على جيشه ومكث جيشه على خيولهم لا ينزلون عنها ثلاثة أيام خوفا من دهمة العدو وبمثل هذا تم لهم ما راموه وكمل لهم جميع ما أملوه ثم كان من سعادتهم أن الملك مسعود توجه نحو بلاد الهند لسبي بها وترك مع ولده مودود جيشا كثيفا بسبب قتال السلاجقة فلما عبر الجسر الذي على سيحون نهبت جنوده حواصله واجتمعوا على أخيه محمد بن محمود وخلعوا مسعودا فرجع إليهم مسعود فقاتلهم فهزموه وأسروه فقال له أخوه والله لست بقاتلك على شر صنيعك إلي ولكن اختر لنفسك أي بلد تكون فيه أنت وعيالك فاختار قلعة كبرى وكان بها ثم إن الملك محمدا أخا مسعود جعل لولده الأمر من بعده وبايع الجيش له وكان ولده اسمه أحمد وكان فيه هرج فاتفق هو ويوسف بن سبكتكين على قتل مسعود ليصفو لهم الأمر ويتم لهم الملك فسار إليه أحمد من غير علم أبيه فقتله فلما علم أبوه بذلك غاظه وعتب على ابنه عتبا شديدا وبعث إلى ابن أخيه يعتذر إليه ويقسم له أنه لم يعلم بذلك حتى كان ما كان فكتب إليه مودود بن مسعود رزق الله ولدك المعتوه عقلا يعيش به فقد ارتكب أمرا عظيما وقدم على إراقة دم مثل والدي الذي لقبه أمير المؤمنين بسيد الملوك والسلاطين وستعلمون أي حيف تورطتم وأي شر تأبطتم وسيعلم الذي ظلموا أي منقلب ينقلبون ثم سار إليهم في جنود فقاتلهم فقهرهم (12/48)
وأسرهم فقتل عمه محمدا وابنه أحمد وبني عمه كلهم إلا عبدالرحمن وخلقا من رؤس أمرائهم وابتنى قرية هنالك وسماها فتحا أباذا ثم سار إلى غزنة فدخلها في شعبان فأظهر العدل وسلك سيرة جده محمود فأطاعه الناس وكتب إليه أصحاب الأطراف بالإنقياد والإتباع والطاعة غير أنه أهلك قومه بيده وهذا من جملة سعادة السلاجقة وفيها اختلف أولاد حماد على العزيز باديس صاحب إفريقية فسار إليهم فحاصرهم قريبا من سنتين ووقع بإفريقية في هذه السنة غلاء شديد بسبب تأخر المطر ووقع ببغداد فتنة عظيمة بين الروافض والسنة من أهل الكرخ وأهل باب البصرة فقتل بينهم خلق كثير من الفريقين ولم يحج أحد من أهل العراق وخراسان وممن توفي فيها من الأعيان
محمد بن الحسين
ابن الفضل بن العباس أبو يعلى البصري الصوفي أذهب عمره في الأسفار والتغريب وقدم بغداد في سنة ثنتين وثلاثين فحدث بها عن أبي بكر بن أبي الحديد الدمشقي وأبي الحسين بن جميع الغساني وكان ثقة صدوقا دينا حسن الشعر
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة
فيها ملك طغرلبك جرجان وطبرستان ثم عاد إلى نيسابور مؤيدا منصورا صوفيها ولي ظهير الدولة بن جلال الدولة أبي جعفر بن كالويه بعد وفاة أبيه فوقع الخلف بينه وبين اخويه أبي كاليجار وكرسانيف وفيها دخل أبو كاليجار همذان ودفع الغز عنها وفيها شعثت الأكراد ببغداد لسبب تأخر العطاء عنهم وفيها سقطت قنطرة بني زريق على نهر عيسى وكذا القنطرة الكثيفة التي تقابلها وفيها دخل بغداد رجل من البلغار يريدالحج وذكر أنه من كبارهم فأنزل بدار الخلافة وأجرى عليه الأرزاق وذكر أنهم مولدون من الترك والصقالبة وأنهم في أقصى بلاد الترك وأن النهار يقصر عندهم حتى يكون ست ساعات وكذلك الليل وعندهم عيون وزروع وثمار على غير مطر ولا سقي وفيها قرئ الإعتقاد القادري الذي جمعه الخليفة القادر وأخذت خطوط العلماء والزهاد عليه بأنه إعتقاد المسلمين ومن خالفه فسق وكفر وكان أول من كتب عليه الشيخ أبو الحسن علي بن عمر القزويني ثم كتب بعده العلماء وقد سرده الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي بتمامه في منتظمه وفيه جملة جيدة من إعتقاد السلف وممن توفي فيها من الأعيان
بهرام بن منافيه
أبو منصور الوزير لأبي كاليجار كان عفيفا نزها صينا عادلا في سيرته وقد وقف خزانة (12/49)
كتب في مدينة فيروزباذ تشتمل على سبعة آلاف مجلد من ذلك أربعة آلاف ورقة بخط أبي علي وأبي عبدالله بن مقلة
محمد بن جعفر بن الحسين
المعروف بالجهرمي قال الخطيب هو أحد الشعراء الذين لقيناهم وسمعنا منهم وكان يجيد القول ومن شعره ... يا ويح قلبي من تقلبه ... أبدا نحن إلى معذبه ... قالوا كتمت هواه عن جلد ... لو أن لي جلد لبحت به ... ما بي جننت غير مكترث ... عني ولكن من تغيبه ... حسبي رضاه من الحياة وما ... يلقى وموتي من تغضبه ...
مسعود الملك بن الملك محمود
ابن الملك سبكتكين صاحب غزنة وابن صاحبها قتله ابن عمه أحمد بن محمد بن محمود فانتقم له ابنه مودود بن مسعود فقتل قاتل أبيه وعمه وأهل بيته من أجل أبيه واستتب له الأمر وحده من غير منازع من قومه كما تقدم بنت أمير المؤمنين المتقي تأخرت مدتها حتى توفيت في هذه السنة في رجب منها عن إحدى وتسعين سنة بالحريم الظاهر ودفنت بالرصافة
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وأربعمائة
فيها أمر الملك جلال الدولة أبا طاهر بجباية أموال الجوالي ومنع أصحاب الخليفة من قبضها فانزعج لذلك الخليفة القائم بالله وعزم على الخروج من بغداد وفيها كانت زلزلة عظيمة بمدينة تبريز فهدمت قلعتها وسورها ودورها ومن دار الإمارة عامة قصورها ومات تحت الهدم خمسون ألفا ولبس أهلها المسوح لشدة مصابهم وفيها استولى السلطان طغرلبك على أكثر البلاد الشرقية من ذلك مدينة خوارزم ودهستان وطيس والري وبلاد الجبل وكرمان وأعمالها وقزوين وخطب له في تلك النواحي كلها وعظم شأنه جدا واتسع صيته وفيها ملك سماك بن صالح بن مرداس حلب أخذها من الفاطميين فبعث إليه المصريون من حاربه ولم يحج أحد من أهل العراق وغيرها ولا في اللواتي قبلها وممن توفي فيها من الأعيان
أبو زر الهروي
عبدالله بن أحمد بن محمد الحافظ المالكي سمع الكثير ورحل إلى الأقاليم وسكن مكة ثم تزوج في العرب وكان يحج كل سنة ويقيم بمكة أيام الموسم ويسمع الناس ومنه أخذ المغاربة مذهب الأشعري عنه وكان يقول إنه أخذ مذهب مالك عن الباقلاني كان حافظا توفي في (12/50)
ذي القعدة
محمد بن الحسين
ابن محمد بن جعفر أبو الفتح الشيباني العطار ويعرف بقطيط سافر الكثير إلى البلاد وسمع الكثير وكان شيخا ظريفا سلك طريق التصوف وكان يقول لما ولدت سميت قطيطا على أسماء البادية ثم سماني بعض أهلي محمدا
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وأربعمائة
فيها ردت الجوالي إلى نواب الخليفة وفيها ورد كتاب من الملك طغر لبك إلى جلال الدولة يأمره بالإحسان إلى الرعايا والوصاة بهم قبل أن يحل به ما يسوءه
أبو كاليجار يملك بغداد بعد أخيه جلال الدولة
وفيها توفي جلال الدولة أبو طاهر بن بهاء الدولة فملك بغداد بعده أخوه سلطان الدولة أبو كاليجار بن بهاء الدولة وخطب له بها عن ممالأة أمرائها وأخرجوا منها الملك العزيز أبا منصور بن جلال الدولة فتنقل في البلاد وتسرب من مملكته إلى غيرها حتى توفي سنة إحدى وأربعين وحمل فدفن عند أبيه بمقابر قريش وفيها أرسل الملك مودود بن مسعود عسكرا كثيفا إلى خراسان فبرز إليهم ألب أرسلان بن داود السلجوقي فاقتتلا قتالا عظيما وفي صفر منها أسلم من الترك الذين كانوا يطرقون بلاد المسلمين نحو من عشرة آلاف خركاة وضحوا في يوم عيد الأضحى بعشرين ألف رأس من الغنم وتفرقوا في البلاد ولم يسلم من خطا والتتر أحد وهم بنواحي الصين وفيها نفي ملك الروم من القسطنطينية كل غريب له فيها دون العشرين سنة وفيها خطب المعز أبو تميم صاحب إفريقية ببلاد للخليفة العباسي وقطع خطبة الفاطميين وأحرق أعلامهم وأرسل إليه الخليفة الخلع واللواء المنشور وفيه تعظيم له وثناء عليه وفيها أرسل القائم بأمر الله أبا الحسن علي بن محمد ابن حبيب الماوردي قبل موت جلال الدولة إلى الملك طغرلبك ليصلح بينه وبين جلال الدولة وأبي كاليجار فسار إليه فالتقاه بجرجان فتلقاه الملك على أربعة فراسخ إكراما للخليفة وأقام عنده إلى السنة الآتية فلما قدم على الخليفة أخبره بطاعته وإكرامه لأجل الخليفة وفيها توفي من الأعيان
الحسين بن عثمان
ابن سهل بن أحمد بن عبدالعزيز بن أبي دلف العجلي أبو سعد أحد الرحالين في طلب الحديث إلى البلاد المتباعدة ثم أقام ببغداد مدة وحدث بها وروى عنه الخطيب وقال كان صدوقا ثم انتقل في آخره عمره إلى مكة فأقام بها حتى مات في شوال منها
عبدالله بن أبي الفتح
أحمد بن عثمان بن الفرج بن الأزهر أبو القاسم الأزهري الحافظ المحدث المشهور ويعرف (12/51)
بابن السواري سمع من أبي بكر بن مالك وخلق يطول ذكرهم وكان ثقة صدوقا دينا حسن الإعتقاد والسيرة توفي ليلة الثلاثاء تاسع عشر صفر منها عن ثمانين سنة وعشرة أيام
الملك جلال الدولة
أبو طاهر بن بهاء الدولة بن بويه الديلمي صاحب العراق كان يحب العباد ويزورهم ويلتمس الدعاء منهم وقد نكب مرات عديدة واخرج من داره وتارة أخرج من بغداد بالكلية ثم يعود إليها حتى اعتراه وجع كبده فمات من ذلك في ليلة الجمعة خامس شعبان منها وله من العمر إحدى وخمسين سنة وأشهر تولى العراق من ذلك ستة عشرة سنة وإحدى عشر شهرا والله أعلم
ثم دخلت سنة ست وثلاثين وأربعمائة
فيها دخل الملك أبو كاليجار بغداد وأمر بضرب الطبل في أوقات الصلوات الخمس ولم تكن الملوك تفعل ذلك إنما كان يضرب لعضد الدولة ثلاث أوقات وما كان يضرب في الأوقات الخمس إلا للخليفة وكان دخوله إليها في رمضان وقد فرق على الجند أموالا جزيلة وبعث إلى الخليفة بعشرة آلاف دينار وخلع على مقدمى الجيوش وهم البساسيرى والنشاورى والهمام أبو اللقاء ولقبه الخليفة محي الدولة وخطب له في بلاد كثيرة بأمر ملوكها وخطب له بهمذان ولم يبق لنواب طغرلبك فيها أمر وفيها استوزر طغرلبك أبا القاسم عبد الله الجويني وهو أول وزير وزر له وفيها ورد أبو نصر أحمد بن يوسف الصاحب مصر وكان يهوديا فأسلم بعد موت الجرجراي وفيها تولى نقابة الطالبيين أبو أحمد بن عدنان بن الرضى وذلك بعد وفاة عمه المرتضى وفيها ولى القضاء أبو الطيب الطبري قضاء الكرخ مضافا إلى ما كان يتولاه من القضاء بباب الطلق وذلك بعد موت القاضي الصيمري وفيها نظر رئيس الرؤساء أبو القاسم ابن المسلم في كتاب ديوان الخليفة وكان عنده بمنزلة عالية ولم يحج فيها أحد من أهل العراق وممن توفي فيها من الأعيان
الحسين بن علي
ابن محمد بن جعفر أبو عبد الله الصيمري نسبة إلى نهر البصرة يقال له صيمر ن عليه عدة قرى أحد أئمة الحنفية ولي قضاء المدائن ثم قضاء ربع الكرخ وحدث عن أبي بكر المفيد وابن شاهين وغيرهما وكان صدوقا وافر العقل جميل المعاشرة حسن العبادة عارفا بحقوق العلماء توفي في شوال عن خمس وثمانين سنة
عبد الوهاب بن منصور
ابن أحمد أبو الحسن المعروف بابن المشتري الأهوازى كان قاضيا بالأهواز ونواحيها (12/52)
شافعي المذهب كان له منزلة كبيرة عند السلطان وكان صدوقا كثير المال حسن السيرة
الشريف المرتضى
على بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الشريف الموسوي الملقب بالمرتضي ذي المجدين كان أكبر من أخيه ذي الحسبين وكان جيد الشعر على مذهب الإمامية والإعتزال يناظر علىذلك وكان يناظر عنده في كل المذاهب وله تصانيف في التشيع أصولا وفروعا وقد نقل ابن الجوزي أشياء من تفرداته في التشيع فمن ذلك أنه لا يصح السجود إلا على الأرض أو ما كان من جنسها وأن الإستجمار إنما يجزيء في الغائط لا في البول وأن الكتابيات حرام وكذا ذبائح أهل الكتاب وما ولدوه هم وسائر الكفار من الأطعمة حرام وأن الطلاق لا يقع إلا بحضرة شاهدين والمعلق منه لا يقع وإن وجد شرطه ومن نام عن صلاة العشاء حتى انتصف الليل وجب قضاؤها ويجب عليه أن يصبح صائما كفارة لما وقع منه ومن ذلك أن المرأة إذا جزت شعرها يجب عليها كفارة قتل الخطأ ومن شق ثوبه في مصيبة وجب عليه كفارة اليمين ومن تزوج امرأة لها زوج لا يعلمه وجب عليه أن يتصدق بخمسة دراهم وأن قطع السارق من رؤس الأصابع قال ابن الجوزي نقلته من خط أبي الوفاء ابن عقيل قال وهذه مذاهب عجيبة تخرق الإجماع وأعجب منها ذم الصحابة رضي الله عنهم ثم سرد من كلامه شيئا قبيحا في تكفير عمر بن الخطاب وعثمان وعائشة وحفصة رضي الله عنهم وأخزاه الله وأمثاله من الأرجاس والأنجاس أهل الرفض والإرتكاس إن لم يكن تاب فقد روى ابن الجوزي قال أنبأنا ابن ناصر عن أبي الحسن بن الطيوري قال سمعت أبا القاسم بن برهان يقول دخلت على الشريف المرتضي وإذا هو قد حول وجهه إلى الجدار وهو يقول أبو بكر وعمر وليا فعدلا واسترحما فرحما فأنا أقول ارتدا بعد ما أسلما قال فقمت عنه فما بلغت عتبة داره حتى سمعت الزعقة عليه توفي في هذه السنة عن إحدى وثمانين سنة وقد ذكره ابن خلكان فملس عليه على عادته الشعراء في الثناء عليهم وأورد له أشعارا رائقة قال ويقال إنه هو الذي وضع كتاب نهج البلاغة
محمد بن أحمد
ابن شعيب بن عبدالله بن الفضل أبو منصور الروياني صاحب الشيخ أبي حامد الإسفراييني قال الخطيب سكن بغداد وحدث بها وكتبنا عنه وكان صدوقا يسكن قطيعة الربيع توفي في ربيع الأول منها ودفن بباب حرب
أبو الحسين البصري المعتزلي
محمد بن علي بن الخطيب أبو الحسين البصري المتكلم شيخ المعتزلة والمنتصر لهم والمحامي (12/53)
عن ذمهم بالتصانيف الكثيرة توفي في ربيع الآخر منها وصلى عليه القاضي أبو عبدالله الصيمري ودفن في الشونيزي ولم يرو من الحديث سوى حديث واحد رواه الخطيب البغدادي في تاريخه حدثنا محمد بن علي بن الطيب قرئ على هلال بن محمد بن أخي هلال الرأي بالبصرة وأنا سمع قيل له حدثكم أبو مسلم الكجي وأبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي والغلابي والمازني والزريقي قالوا حدثنا القعنبي عن شعبة عن منصور عن ربعي عن أبي مسعود البدري قال قال رسول الله ( ص ) ( إن مما أدرك الناس من كلام النبوة إذا لم تستح فاصنع ما شئت ) والغلابي اسمه محمد والمازني اسمه محمد بن حامد والزريقي ابو علي محمد بن أحمد بن خالد البصري
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وأربعمائة
فيها بعث السلطان طغرلبك السلجوقي أخاه إبراهيم إلى بلاد الجبل فملكها وأخرج عنها صاحبها كرشاسف بن علاء الدولة فالتحق بالأكراد ثم سار إبراهيم إلى الدينور فملكها أيضا وأخرج صاحبها وهو أبو الشوك فسار إلى حلوان فتبعه إبراهيم فملك حلوان قهرا وأحرق داره وغنم أمواله فعند ذلك تجهز الملك أبو كاليجار لقتال السلاجقة الذين تعدوا على أتباعه فلم يمكنه ذلك لقلة الظهر وذلك أن الآفة اعترت في هذه السنة الخيل فمات له فيها نحو من اثنى عشر ألف فرس بحيث جافت بغداد من جيف الخيل وفيها وقع بين الروافض والسنة ثم اتفق الفريقان على نهب دور اليهود وإحراق الكنيسة العتيقة التي لهم واتفق موت رجل من أكابر النصارى بواسط فجلس أهله لعزائه على باب مسجد هناك وأخرجوا جنازته جهرا ومعها طائفة من الأتراك يحرسونها فحملت عليهم العامة فهزموهم وأخذوا الميت منهم واستخرجوه من أكفانه فأحرقوه ورموا رماده في دجلة ومضوا إلى الدير فنهبوه وعجز الأتراك عن دفعهم ولم يحج فيها أحد من أهل العراق وممن توفي فيها من الأعيان
فارس بن محمد بن عتاز
صاحب الدينور وغيرهم توفي في هذا الأوان
خديجة بنت موسى
ابن عبدالله الواعظة وتعرف ببنت البقال وتكنى أم سلمة قال الخطيب كتبت عنها وكانت فقيرة صالحة فاضلة
أحمد بن يوسف السليكي المنازي
الشاعر الكاتب وزير أحمد بن مروان الكردي صاحب ميا فارقين وديار بكر كان فاضلا بارعا لطيفا تردد في الترسل إلى القسطنطينية غير مرة وحصل كتبا عزيزة أوقفها على جامعي آمد (12/54)
وميافارقين ودخل يوما على أبي العلاء المعري فقال له إني معتزل الناس وهم يؤذونني وتركت لهم الدنيا فقال له الوزير والآخرة أيضا فقال والآخرة يا قاضي قال نعم وله ديوان قليل النظير عزيز الوجود حرص عليه القاضي الفاضل فلم يقدر عليه توفي فيها ومن شعره في وادي نزاعة ... وقانا لفحة الرمضاء واد ... وقاه مضاعف النبت العميم ... نزلنا دوحة فحنا علينا ... حنو المرضعات على الفطيم ... وأرشفنا على ظمأ زلالا ... ألذ من المدامة للنديم ... يراعي الشمس أنى قابلته ... فيحجبها ليأذن للنسيم ... تروع حصاه حالية العذارى ... فتلمس جانب العقد النظيم ...
قال ابن خلكان وهذه الأبيات بديعة في بابها
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة
استهلت هذه السنة والموتان كثير في الدواب جدا حتى جافت بغداد قال ابن الجوزي وربما أحضر بعض الناس الأطباء لأجل دوابهم فيسقونها ماء الشعير ويطببونها وفيها حاصر السلطان بن طغرلبك أصبهان فصالحه أهلها على مال يحملونه إليه وأن يخطب له بها فأجابوه إلى ذلك وفيها ملك مهلهل قرميسين والدينور وفيها تأمر على بني خفاجة رجل يقال له رجب بن أبي منيع بن ثمال بعد وفاة بدران بن سلطان بن ثمال وهؤلاء الأعراب أكثر من يصد الناس عن بيت الله الحرام فلا جزاهم الله خيرا وممن توفي فيها من الأعيان
الشيخ أبو محمد الجويني
إمام الشافعية عبدالله بن يوسف بن محمد بن حيسويه الشيخ أبو محمد الجويني وهو والد إمام الحرمين أبو المعالي عبدالملك بن أبي محمد واصله من قبيلة يقال لها سنبس وجوين من نواحي نيسابور سمع الحديث من بلاد شتى على جماعة وقرأ الأدب على أبيه وتفقه بأبي الطيب سهل بن محمد الصعلوكي ثم خرج إلى مرو إلى أبي بكر عبدالله بن أحمد القفال ثم عاد إلى نيسابور وعقد مجلس المناظرة وكان مهيبا لا يجري بين يديه إلا الجد وصنف التصانيف الكثيرة في أنواع من العلوم وكان زاهدا شديد الاحتياط لدينه حتى ربما أخرج الزكاة مرتين وقد ذكرته في طبقات الشافعية وذكرت ما قاله الأئمة في مدحه توفي في ذي القعدة منها قال ابن خلكان صنف التفسير الكبير المشتمل على أنواع العلوم وله في الفقه التبصرة والتذكرة وصنف المختصر والفرق والجمع والسلسلة وغير ذلك وكان إماما في الفقه والأصول والأدب والعربية توفي في هذه السنة وقيل سنة أربع وثلاثين قاله السمعاني في الأنساب وهو في سن الكهولة (12/55)
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وأربعمائة
فيها اصطلح الملك طغرلبك وأبو كاليجار وتزوج طغرلبك بابنته وتزوج أبو منصور بن كاليجار بإبنة الملك داود أخي طغرلبك وفيها أسرت الأكراد سر خاب اخا أبي الشوك وأحضروه بين يدي أميرهم ينال فأمر بقلع إحدى عينيه وفيها استولى كاليجار على بلاد البطيحة ونجا صاحبها أبو نصر بنفسه وفيها ظهر رجل يقال له الأصفر التغلبي وادعى أنه من المذكورين في الكتب فاستغوى خلقا وقصد بلادا فغنم فيها أموالا تقوى بها وعظم أمره ثم اتفق له أسر وحمل إلى نصر الدولة بن مروان صاحب ديار بكر فاعتقله وسد عليه باب السجن وفيها كان وباء شديد بالعراق والجزيرة بسبب جيف الدواب التي ماتت فمات فيها خلق كثير حتى خلت الأسواق وقلت الأشياء التي يحتاج إليها المرضى وورد كتاب من الموصل بأنه لا يصلي الجمعة من أهلها إلا نحو أربعمائة وأن أهل الذمة لم يبق منهم إلا نحو مائة وعشرين نفسا وفيها وقع غلاء شديد أيضا ووقعت فتنة بن الروافض والسنة ببغداد قتل فيها خلق كثير ولم يحج فيها أحد من ركب العراق وممن توفي فيها من الأعيان
أحمد بن محمد بن عبدالله بن أحمد
أبو الفضل القاضي الهاشمي الرشيدي من ولد الرشيد ولي القضاء بسجستان وسمع الحديث من الغطريفي قال الخطيب أنشدني لنفسه قوله
... قالوا اقتصد في الجود إنك منصف ... عدل وذو الإنصاف ليس بجور ... فأجبتهم إني سلالة معشر ... لهم لواء في الندى منشور ... تالله إني شائد ما قدموا ... جدي الرشيد وقبله المنصور ...
عبدالواحد بن محمد
عبدالواحد بن محمد بن يحيى بن أيوب أبو القاسم الشاعر المعروف بالمطرز ومن شعره قوله ... يا عبدكم لك من ذنب ومعصية ... إن كنت ناسيها فالله أحصاها ... لا بد يا عبد من يوم تقوم به ... ووقفة لك يدمى القلب ذكراها ... إذا عرضت على قلبي تذكرها ... وساء ظني فقلت استغفرالله ...
محمد بن الحسين بن علي
ابن عبدالرحيم أبو سعد الوزير وزر للمك جلال الدولة ست مرات ثم كان موته بجزيرة ابن عمر فيها عن ست وخمسين سنة
محمد بن أحمد بن موسى
أبو عبدالله الواعظ الشيرازي قال الخطيب قدم بغداد وأظهر الزهد والتقشف والورع وعزوف النفس عن الدنيا فافتتن الناس به وكان يحضر مجلسه خلق كثير ثم إنه بعد حين كان (12/56)
يعرض عليه الشيء فيقبله فكثرت أمواله ولبس الثياب الناعمة وجرت له أمور وكثرت أتباعه وأظهر أنه يريد الغزو فاتبعه نفر كثير فعسكر بظاهر البلد وكان يضرب له الطبل في أوقات الصلوات وسار إلى ناحية أذربيجان فالتف عليه خلق كثير وضاها أمير تلك الناحية وكانت وفاته هنالك في هذه السنة قال الخطيب وقد حدث ببغداد وكتبت عنه أحاديث يسيرة وحدثني بعض أصحابنا عنه بشيء يدل على ضعفه وأنشد هو لبعضهم ... إذا ما أطعت النفس في كل لذة ... نسبت إلى غير الحجى والتكرم ... إذا ما أجبت الناس في كل دعوة ... دعتك إلى الأمر القبيح المحرم ...
المظفر بن الحسين
ابن عمر بن برهان أبو الحسن الغزال سمع محمد بن المظفر وغيره وكان صدوقا
محمد بن علي بن إبراهيم
أبو الخطاب الحنبلي الشاعر من شعره قوله ... ما حكم الحب فهو ممتثل ... وما جناه الحبيب محتمل ... يهوى ويشكو الضنى وكل هوى ... لا ينحل الجسم فهو محتمل ... وقد سافر إلى الشام فاجتاز بمعرة النعمان فامتدحه أبو العلاء المعري بأبيات فأجابه مرتجلا عنها وقد كان حسن العينين حين سافر فما رجع إلى بغداد إلا وهو أعمى توفي في ذي القعدة منها ويقال إنه كان شديد الرفض فالله أعلم
الشيخ أبو علي السنجي
الحسين بن شعيب بن محمد شيخ الشافعية في زمانه أخذ عن أبي بكر القفال وشرح الفروع لابن الحداد وقد شرحها قبله شيخه وقبله القاضي أبو الطيب الطبري وشرح أبو علي السنجي كتاب التلخيض لابن القاص شرحا كبيرا وله كتاب المجموع ومنه أخذ الغزالي في الوسيط قال ابن خلكان وهو أول من جمع بين طريقة العراقيين والخراسانيين توفي سنة بضع وثلاثين وأربعمائة
ثم دخلت سنة أربعين وأربعمائة
في هذه السنة توفي الملك أبو كاليجار في جمادى الأولى منها صاحب بغداد مرض وهو في برية ففصد في يوم ثلاث مرات وحمل في محفة فمات ليلة الخميس ونهبت الغلمان الخزائن وأحرق الجواري الخيام سوى الخيمة التي هو فيها وولى بعد ابنه أبو نصر وسموه الملك الرحيم ودخل دار الخلافة فخلع عليه الخليفة سبع خلع وسوره وطوقه وجعل على رأسه التاج والعمامة السوداء ووصاه الخليفة ورجع إلى داره وجاء الناس ليهنئوه وفيها دار السور على شيراز وكان دوره اثنى عشر (12/57)
ألف ذراع وارتفاعه ثمانية أذرع وعرضه ستة أرع وفيه أحد عشر بابا وفيها غزا إبراهيم ابن نيال بلاد الروم فغنم مائة ألف رأس وأربعة آلاف درع وقيل تسع عشرة ألف درع ولم يبق بينه وبين القسطنطينية إلا خمسة عشر يوما وحمل ما غنم على عشرة آلاف عجلة وفيها خطب لذخيرة الدين أبي العباس أحمد بن الخليفة القائم بأمر الله على المنابر بولاية العهد بعد أبيه وحي بذلك وفيها اقتتل الروافض والسنة وجرت ببغداد فتن يطول ذكرها ولم يحج أحد من أهل العراق وممن توفي فيها من الأعيان
الحسن بن عيسى بن المقتدر
أبو محمد العباسي ولد في المحرم سنة ثلاث وأربعين وثلثمائة وسمع من مؤدبه أحمد بن منصور السكري وأبي الأزهر عبدالوهاب الكاتب وكان فاضلا دينا حافظا لأخبار الخلفاء عالما بأيام الناس صالحا أعرض عن الخلافة مع قدرته عليها وآثر بها القادر توفي فيها عن سبع وتسعين سنة وأوصى أن يدفن بباب حرب فدفن قريبا من قبر الإمام أحمد بن حنبل
هبة الله بن عمر بن أحمد بن عثمان
أبو القاسم الواعظ المعروف بابن شاهين سمع من أبي بكر بن مالك وابن ماسي والبرقاني قال الخطيب كتبت عنه وكان صدوقا ولد في سنة إحدى وخمسين وثلثمائة وتوفي في ربيع الآخر منها ودفن بباب حرب
علي بن الحسن
ابن محمد بن المنتاب أبو محمد القاسم المعروف بابن أبي عثمان الدقاق قال الخطيب سمع القطيعي وغيره وكان شيخا صالحا صدوقا دينا حسن المذهب
محمد بن جعفر بن أبي الفرج
الوزير الملقب بذي السعادات وزر لأبي كاليجار بفارس وبغداد وكان ذا مروءة غزيرة مليح الشعر والترسل ومن محاسنه أنه كتب إليه في رجل مات عن ولد له ثمانية أشهر وله من المال ما يقارب مائة ألف دينار فكتب إليه الموصي وقيل غيره إن فلانا قد مات وخلف ولدا عمره ثمانية أشهر وله من المال ما يقارب مائة ألف دينار فإن رأى الوزير أن يقترض هذا المال إلى حين بلوغ الطفل فكتب الوزير على ظهر الورقة المتوفي رحمه الله واليتيم جبره الله والمال ثمره الله والساعي لعنه الله ولا حاجة بنا إلى مال الأيتام اعتقل ثم قتل في رمضان منها عن إحدى وخمسين سنة
محمد بن أحمد بن إبراهيم
ابن غيلان بن عبدالله بن غيلان بن حليم بن غيلان أخو طالب البزار يروى عن جماعة وهو آخر من حدث عن أبي بكر الشافعي كان صدوقا دينا صالحا قوي النفس على كبر السن كان يملك ألف دينار وكان يصبها كل يوم في حجره فيقبلها ثم يردها إلى موضعها وقد خرج له (12/58)
الدارقطني الأجزاء الغيلانيات وهي سماعنا توفي يوم الإثنين سادس شوال منها عن أربع وتسعين سنة ويقال إنه بلغ المائة والله أعلم
الملك أبو كاليجار
واسمه المرزبان بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة توفي عن أربعين سنة وأشهر ولي العراق نحوا من أربع سنين ونهبت له قلعة كان له فيها من المال ما يزيد عن ألف ألف دينار وقام بالأمر من بعده ابنه الملك الرحيم أبو نصر
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وأربعمائة
في عاشر المحرم تقدم إلى أهل الكرخ أن لا يعملوا بدع النوح فجرى بينهم وبين أهل باب البصرة ما يزيد على الحد من الجراح والقتل وبنى أهل الكرخ سورا على الكرخ وبنى أهل السنة سورا على سوق القلائين ثم نقض كل من الفريقين أبنيته وحملوا الآجر إلى مواضع بالطبول والمزامير وجرت بينهم مفاخرات في ذلك وسخف لا تنحصر ولا تنضبط وإنشاد أشعار في فضل الصحابة وثلبهم فإنا لله وإنا إليه راجعون ثم وقعت بينهم فتن يطول ذكرها وأحرقوا دورا كثيرة جدا وفيها وقعت وحشة بين الملك طغرلبك وبين أخيه فجمع أخوه جموعا كثيرة فاقتتل هو وأخوه طغرلبك ثم أسره من قلعة قد تحصن بها بعد محاصرة أربعة أيام فاستنزله منها مقهورا فأحسن إليه وأكرمه واقام عنده مكرما وكتب ملك الروم إلى طغرلبك في فداء بعض ملوكهم ممن كان أسره إبراهيم بن نيال وبذل له مالا كثيرا فبعثه إليه مكرما من غير عوض اشترط عليه فأرسل إليه ملك الروم هدايا كثيرة وأمر بعمارة المسجد الذي بالقسطنطينية وأقيمت فيه الصلاة والجمعة وخطب فيه للملك طغرلبك فبلغ هذا الأمر العجيب سائر الملوك فعظموا الملك طغرلبك تعظيما زائدا وخطب له نصر الدولة بالجزيرة وفيها ولي مسعود بن مودود بن مسعود بن محمود بن سبكتكين الملك بعد وفاة أبيه وكان صغيرا فمكث أياما ثم عدل عنه إلى عمه علي بن مسعود وهذا أمر غريب جدا وفيها ملك المصريون مدينة حلب وأجلوا عنها صاحبها ثمال بن صالح بن مرداس وفيها كان بين البساسيري وبين بني عقيل حرب وفيها ملك البساسيري الأنبار من يد قرواش فأصلح أمورها وفي شعبان منها سار البساسير إلى طريق خراسان وقصد ناحية الدوران وملكها وغنم مالا كثيرا كان فيها وقد كان سعدي بن ابي الشوك قد حصنها قال ابن الجوزي في ذي الحجة منها ارتفعت سحابة سوداء فزادت على ظلمة الليل وظهر في جوانب السماء كالنار المضيئة فانزعج الناس وخافوا وأخذوا في الدعاء والتضرع فانكشف في أثناء الليل بعد ساعة وكانت قد هبت ريح شديدة جدا قبل ذلك فأتلفت شيئا كثيرا من الأشجار وهدمت رواشن كثيرة في دار الخلافة ودار المملكة ولم يحج أحد من أهل العراق (12/59)
وفيها توفي من الأعيان
أحمد بن محمد بن منصور
أبو الحسن المعروف بالعتيقي نسبة إلى جد له كان يسمى عتيقا سمع من ابن شاهين وغيره وكان صدوقا توفي في صفر منها وقد جاوز التسعين
علي بن الحسن
أبو القاسم العلوي ويعرف بابن محي السنة قال الخطيب سمع من ابن مظفر وكتب عنه وكان صدوقا دينا حسن الإعتقاد يورق بالأجرة ويأكل منه ويتصدق توفي في رجب مها وقد جاوز الثمانين
بن القاضي الماوردي
يكنى أبا الفائر شهد عند ابن ماكولا في سنة إحدى وثلاثين فأجاز شهادته احتراما لأبيه توفي في المحرم منها
الحافظ أبو عبدالله الصوري
محمد بن علي بن عبدالله بن محمد أبو عبدالله الصوري الحافظ طلب الحديث بعد ما كثر وأسن ورحل في طلبه إلا الآفاق وكتب الكثير وصنف واستفاد على الحافظ عبدالغني المصري وكتب عن عبدالغني شيئا من تصانيفه وكان من أعظم أهل الحديث همه في الطلب وهو شاب ثم وكان من أقوى الناس على العمل الصالح عزيمة في حال كبره كان يسرد الصوم إلا يومي العيدين وأيام التشريق وكان مع ذلك حسن الخلق جميل المعاشرة وقد ذهبت إحدى عينيه وكان يكتب بالأخرى المجلد في جزء قال أبو الحسن الطيوري يقال إن عامة كتب الخطيب سوى التاريخ مستفادة من كتب أبي عبدالله الصوري كان قد مات الصوري وترك كتبه اثنى عشر عدلا عند أخيه فلما صار الخطيب أعطا أخاه شيئا وأخذ بعض تلك الكتب فحولها في كتبه ومن شعره ... تولى الشباب بريعانه ... وأني المشيب بأحزانه ... فقلبي لفقدان ذا مؤلم ... كئيب لهذا ووجدانه ... وإن كان ما جار في حكمه ... ولا جاء في غير إبانه ... ولكن ات مؤذنا بالرحي ... ل فويلي من قرب إيذانه ... ولولا ذنوب تحملتها ... لما راعني إتيانه ... ولكن ظهرى ثقيل بما ... جناه شبابي بطغيانه ... فمن كان يبكي شبابا مضى ... ويندب طيب زمانه ... فليس بكائيي وما قد ترو ... ن منى لوحشة فقدانه ... ولكن لما كان قد جره ... على بوثبات شيطانه ... فويلي وويحي إن لم يجد ... على مليكي برضوانه (12/60)
ولم يتغمد ذنوبي وما قد ... جنيت برحمت وغرانه ... ويجعل مصيري إلى جنة ... يحل بها أهل رضوانه وغفرانه ... فإن كنت مالي من طاعة ... سوى حسن ظني بإحسانه ... وإني مقر بتوحيده ... عليم بعزة سلطانه ... أخالف في ذاك أهل الهوى ... وأهل الفسوق وعدوانه ... وأرجوا به الفوز في منزل ... معد مهيا لسكانه ... ولن يجمع الله أهل الجحو ... د ومن أقر بنيرانه ... فهذا ينجيه إيمانيه ... وهذا يبوء بخسرانه ... وهذا ينعم في جنة ... وذا قرين لشيطانه ...
ومن شعره أيضا
... قل لمن عاند الحديث وأضحى ... عائبا أهله ومن يدعيه ... أبعلم تقول هذا أبن لي ... أم بجهل فالجهل خلق السفيه ... أيعاب الذين هم حفطوا الد ... ين من الترهات والتمويه ... وإلى قولهم وما قد رووه ... راجع كل عالم وفقيه ...
كان سبب موته أنه افتصد فورمت يده وعلى ما ذكر أن ريشة الفاصد كانت مسمومة لغيره فغلط ففصده بها فكانت فيها منيته فحمل إلى المارستان فمات به ودفن بمقبرة جامع المدينة وقد نيف على الستين رحمه الله تعالى
ثم دخلت سنة إثنتين وأربعين وأربعمائة فيها فتح السلطان طغرلبك أصبهان بعد حصار سنة فنقل إليها حواصله من الري وجعلها دار إقامته وخرب قطعة من سورها وقال إنما يحتاج إلى السور من تضعف قوته وإنما حصنني عساكري وسيفي وقد كان فيها أبو منصور قرامز بن علاء الدولة أبي جعفر بن كالويه فأخرجه منها وأقطعه بعض بلادها وفيها سار الملك الرحيم إلى الأهواز وأطاعه عسكر فارس وفيها استولت الخوارج على عمان وأخربوا دار الإمارة واسروا أبا المظفر بن أبي كاليجار وفيها دخلت العرب بأذن المستنصر الفاطمي بلاد إفريقية وجرت بينهم وبين المعز بن باديس حروب طويلة وعاثوا في الأرض فسادا عدة سنين وفيها اصطلح الروافض والسنة ببغداد وذهبوا كلهم لزيارة مشهد علي ومشهد الحسين وترضوا في الكرخ على الصحابة كلهم وترحموا عليهم وهذا عجيب جدا إلا أن يكون من باب التقية ورخصت الأسعار ببغداد جدا ولم يحج أحد من أهل العراق (12/61)
وممن توفي فيها من الأعيان علي بن عمر بن الحسن
أبو الحسن الحربي المعروف بالقزويني ولد في مستهل المحرم في سنة ستين وثلاثمائة وهي الليلة التي مات فيها أبو بكر الآجري وسمع أبا بكر بن شاذان وأبا حفص بن حيويه وكان وافر العقل من كبار عبادالله الصالحين له كرامات كثيرة وكان يقرأ القرآن ويروي الحديث ولا يخرج إلا إلى الصلاة توفي في شوال منها فغلقت بغداد لموته يومئذ وحضر الناس جنازته وكان يوما مشهودا رحمه الله
عمر بن ثابت
الثمانيني النحوي الضرير شارح اللمع كان في غاية العلم بالنحو وكان يأخذ عليه وذكر ابن خلكان أنه اشتغل على ابن جني وشرح كلامه وكان ماهرا في صناعة النحو قال ونسبته إلى قرية من نواحي جزيرة ابن عمر عند الجبل الجودي يقال لها ثمانين باسم الثمانين الذين كانوا مع نوح عليه السلام في السفينة
قرواش بن مقلد
أبو المنيع صاحب الموصل والكوفة وغيرها كان من الجبارين وقد كاتبه الحاكم صاحب مصر في بعض الأحيان فاستماله إليه فخطب له ببلاده ثم تركه واعتذر إلى الخليفة فعذره وقد جمع هذا الجبار بين أختين في النكاح ولامته العرب فقال وأي شيء عملته إنما عملت ما هو مباح في الشريعة وقد نكب في أيام المعز الفاطمي ونهبت حواصله وحين توفي قام بالأمر بعده ابن أخيه قريش بن بدران بن مقلد
مودود بن مسعود
ابن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة توفي فيها وقام بالأمر من بعده عمه عبدالرشيد بن محمود
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة في صفر منها وقع الحرب بين الروافض والسنة فقتل من الفريقين خلق كثير وذلك أن الروافض نصبوا أبراجا وكتبوا عيها بالذهب محمد وعلي خير البشر فمن رضي فقد شكر ومن أبى فقد كفر فأنكرت السنة إقران علي مع محمد ( ص ) في هذا فنشبت الحرب بينهم واستمرالقتال بينهم إلى ربيع الأول فقتل رجل هاشمي فدفن عند الإمام أحمد ورجع السنة من دفنه فنهبوا مشهد موسى بن جعفر وأحرقوا ضريح موسى ومحمد الجواد وقبور بنى بوية وقبور من هناك من الوزراء وأحرق قبر جعفر بن المنصور ومحمد الأمين وأمه زبيدة وقبور كثيرة جدا وانتشرت الفتنة وتجاوزوا الحدود وقد قابلهم أولئك الرافضة أيضا بمفاسد كثيرة وبعثروا قبورا قديمة واحرقوا من فيها من الصالحين حتى هموا بقبر الإمام أحمد فمنعهم النقيب وخاف من غائلة لك وتسلط على الرافضة عيار يقال له القطيعي وكان يتبع رؤسهم وكبارهم فيقتلهم جهارا وغيلة وعظمت المحنة بسببه جدا ولم يقدر عليه أحد وكان في غاية الشجاعة والبأس والمكر ولما بلغ ذلك دبيس بن (12/62)
علي بن مزيد وكان رافضيا قطع خطبة الخليفة ثم روسل فأعادها وفي رمضان منها جاءت من الملك طغرلبك رسل شكر للخليفة على إحسانه إليه بما كان بعثه له من الخلع والتقليد وأرسل إلى الخليفة بعشرين ألف دينار وإلى الحاشية بخمسة آلاف وإلى رئيس الرؤساء بألفي دينار وقد كان طغرلبك حين عمر الري وخرب فيها أماكن وجد فيها دفائن كثيرة من الذهب والجوهر فعظم شأنه بذلك وقوي ملكه بسببه وممن توفي فيها من الأعيان محمد بن محمد بن أحمد
أبو الحسن الشاعر البصروي نسبة إلى قرية دون عكبرا يقال لها بصرى باسم المدينة التي هي أم حوران وقد سكن بغداد وكان متكلما مطبوعا له نوادر ومن شعره قوله
... نرى الدنيا وشهوتها فنصبوا ... وما يخلو من الشهوات قلب ... فلا يغررك زخرف ما تراه ... وعيش لين الأعطاف رطب ... فضول العيش أكثرها هموم ... واكثر ما يضرك ما تحب ... إذا ما بلغة جاءتك عفوا ... فخذها فالغنى مرعى وشرب ... إذا اتفق القليل وفيه سلم ... فلا ترد الكثير وفيه حرب ...
ثم دخلت سنة أربع وأربعين وأربعمائة
فيها كتبت تذكرة الخلفاء المصريين وأنهم أدعياء كذبة لا نسب لهم صحيحة إلى رسول الله ( ص ) نسخا كثيرة وكتب فيها الفقهاء والقضاة والأشراف وفيها كانت زلازل عظيمة في نواحي أرجان والأهواز وتلك البلاد تهدم بسببها شيء كثير من العمران وشرفات القصور وحكى بعض من يعتد قوله أنه انفرج إيوانه وهو يشاهد ذلك حتى رأى السماء منه ثم عاد إلى حاله لم يتغير وفي ذي القعدة منها تجددت الحرب بين أهل السنة والروافض وأحرقوا أماكن كثيرة وقتل من الفريقين خلائق وكتبوا على مساجدهم محمد وعلي خير البشر وأذنوا بحي على خير العمل واستمرت الحرب بينهم وتسلط القطيعي العيار على الروافض بحيث كان لا يقر لهم معه قرار وهذا من جملة الأقدار وفيها توفي من الأعيان
الحسن بن علي
ابن محمد بن علي بن أحمد بن وهب بن شنبل بن قرة بن واقد أبو علي التميمي الواعظ المعروف بابن المذهب ولد سنة خمس وخمسين وثلثمائة وسمع مسند الإمام أحمد من أبي بكر بن مالك القطيعي عن عبدالله بن الإمام أحمد عن أبيه وقد سمع الحديث من أبي بكر بن ماسي وابن شاهين والدارقطني وخلق وكان دينا خيرا وذكر الخطيب أنه كان صحيح السماع لمسند أحمد من القطيعي (12/63)
غير أنه ألحق اسمه في أجزاء قال ابن الجوزي وليس هذا بقدح في سماعه لأنه إذا تحقق سماعه جاز أن يلحق اسمه فيما تحقق سماعه له وقد عاب عليه الخطيب أشياء لا حاجة إليها
علي بن الحسين
ابن محمد أبو الحسن المعروف بالشاشي البغدادي وقد اقام بالبصرة واستحوذ هو وعمه على أهلها وعمل أشياء من الحيل يوهم بها أنه من ذوي الأحوال والمكاشفات وهو في ذلك كاذب قبحه الله وقبح عمه وقد كان مع هذا رافضيا خبيثا قرمطيا توفي في هذا العام فلله الحمد والشكر والأنعام
القاضي أبو جعفر
محمد بن أحمد بن أحمد أبو جعفر السمناني القاضي أحد المتكلمين على طريقة الشيخ أبي الحسن الأشعري وقد سمع الدارقطني وغيره كان عالما فاضلا سخيا تولى القضاء بالموصل وكان له في داره مجلس للمناظرة وتوفي لما كف بصره بالموصل وهو قاضيها في ربيع الأول منها وقد بلغ خمسا وثمانين سنة سامحه الله
ثم دخلت سنة خمس واربعين وأربعمائة
فيها تجدد الشر والقتال والحريق بين السنة والروافض وسرى الأمر وتفاقم الحال وفيها وردت الأخبار بأن المعز الفاطمي عازم على قصد العراق وفيها نقل إلى الملك طغر لبك أن الشيخ أبا الحسن الأشعري يقول بكذا وكذا وذكر بشيء من الأمور إلتي لا تليق بالدين والسنة فأمر بلعنه وصرح أهل نيسابور بتكفير من يقول ذلك فضج أبو القاسم القشيري عبدالكريم بن هوازن من ذلك وصنف رسالة في شكاية أهل السنة لما نالهم من المحنة واستدعى السلطان جماعة من رؤس الأشاعرة منهم القشيري فسألهم عما أنهى إليه من ذلك فأنكروا ذلك وأن يكون الأشعري قال ذلك فقال السلطان نحن إنما لعنا من يقول هذا وجرت فتنة عظيمة طويلة وفيها استولى فولا بسور الملك أبي كاليجار على شيراز وأخرج منها أخاه أبا سعد وفي شوال سار البساسيري إلى أكراد وأعراب أفسدوا في الأرض فقهرهم وأخذ أموالهم ولم يحج فيها أحد من أهل العراق وفيها توفي من الأعيان
أحمد بن عمر بن روح
أبو الحسن النهرواني وكان ينظر في العيار بدار الضرب وله شعر حسن قال كنت يوما على شاطئ النهروان فسمعت رجلا يتغنى في سفينة منحدرة يقول ... وما طلبوا سوى قتلى ... فهان علي ما طلبوا ...
قال فاستوقفته وقلت أضف إليه غيره فقال
... على قتلى الأحب ... ة في التمادى بالجفا غلبوا (12/64)
وبالهجران من عيني ... طيب النوم قد سلبوا ... وما طلبوا سوى قتلي ... فهان علي ما طلبوا ...
إسماعيل بن علي
ابن الحسين بن محمد بن زنجويه أبو سعيد الرازي المعروف بالسمان شيخ المعتزلة سمع الحديث الكثير وكتب عن أربعة آلاف شيخ وكان عالما عارفا فاضلا مع اعتزاله ومن كلامه من لم يكتب الحديث لم يتغرغر بحلاوة الإسلام وكان حنفي المذهب عالما بالخلاف والفرائض والحساب وأسماء الرجال وقد ترجمه ابن عساكر في تاريخه فأطنب في شكره والثناء عليه
عمر بن الشيخ أبي طالب المكي
محمد بن علي بن عطية سمع أباه وابن شاهين وكان صدوقا يكنى بأبي جعفر
محمد بن أحمد
ابن عثمان بن الفرج الأزهر أبو طالب المعروف بابن السوادي وهو أخو أبي القاسم الأزهري توفي عن نيف وثمانين سنة
محمد بن أبي تمام
الزينبي نقيب النقباء قام ببغداد بعد أبيه مقامه بالنقابة
ثم دخلت سنة ست وأربعين وأربعمائة
فيها غزا السلطان طغرلبك بلاد الروم بعد أخذه بلاد أذربيجان فغنم من بلاد الروم وسبى وعمل أشياء حسنة ثم عاد سالما فأقام بأذربيجان سنة وفيها أخذ قريش بن بدران الأنبار وخطب بها وبالموصل لطغرلبك واخرج منها نواب البساسيري وفيها دخل البساسيري بغداد مع بني خفاجة منصرفة من الوقعة وظهرت منه آثار النفرة للخلافة فراسله الخليفة لتطيب نفسه وخرج في ذي الحجة إلى الأنبار فأخذها وكان معه دبيس بن علي بن مزيد وخرب أماكن وحرق غيرها ثم أذن له الخليفة في الدخول إلى بيت النوبة ليخلع عليه فجاء إلى أن حاذى بيت النوبة فقبل الأرض وانصرف إلى منزله ولم يعبر فقويت الوحشة ولم يحج أحد من أهل العراق وممن توفي فيها من الأعيان
الحسين بن جعفر بن محمد
ابن داود أبو عبدالله السلماسي سمع ابن شاهين وابن حيويه والدارقطني وكان ثقة مأمونا مشهورا باصطناع المعروف وفعل الخير وافتقاد الفقراء وكثرة الصدقة وكان قد أريد على الشهادة فأبي ذلك وكان له في كل شهر عشرة دنانير نفقة لأهله (12/65)
عبدالله بن محمد بن عبدالرحمن
أبو عبدالله الأصبهاني المعروف بابن اللبان أحد تلامذة أبي حامد الإسفرايني ولي قضاء الكرخ وكان يصلي بالناس التراويح ثم يقوم بعد انصرافهم فيصلي إلى أن يطلع الفجر وربما انقضى الشهر عنه ولم يضطجع إلى الأرض رحمه الله
ثم دخلت سنة سبع وأربعين واربعمائة
فيها ملك طغرلبك بغداد وهو أول ملوك السلجوقية ملكها وبلاد العراق وفيها تأكدت الوحشة بين الخليفة والبساسيري واشتكت الأتراك منه وأطلق رئيس الرؤساء عبارته فيه وذكر قبيح أفعاله وأنه كاتب المصريين بالطاعة وخلع ما كان عليه من طاعة العباسيين وقال الخليفة وليس إلا إهلاكه وفيها غلت الأسعار بنواحي الأهواز حتى بيع الكر بشيراز بالف دينار وفيها وقعت الفتنة بين السنة والرافضة على العادة فاقتتلوا قتالا مستمرا ولا تمكن الدولة أن يحجزوا بين الفريقين وفيها وقعت الفتنة بين الأشاعرة والحنابلة فقوي جانب الحنابلة قوة عظيمة بحيث إنه كان ليس لأحد من الأشاعرة أن يشهد الجمعة ولا الجماعات قال الخطيب كان أرسلان التركي المعروف بالبساسيري قد أعظم أمره واستفحل لعدم أقرانه من مقدمي الأتراك واستولى على البلاد وطار اسمه وخافته أمراء العرب والعجم ودعى له على كثير من المنابر العراقية والأهواز ونواحيها ولم يكن للخليفة قطع ولا وصل دونه ثم صح عند الخليفة سوء عقيدته وشهد عنده جماعة من الأتراك أنه عازم على نهب دار الخلافة وأنه يريد القبض على الخليفة فعند ذلك كاتب الخليفة محمد بن ميكائيل بن سلجوق الملقب طغرلبك يستهضه على المسير إلى العراق فانفض أكثر من كان مع البساسيري وعادوا إلى بغداد سريعا ثم أجمع رأيهم على قصد دار البساسيري وهي في الجانب الغربي فأحرقوها وهدموا أبنيتها ووصل السلطان طغرلبك إلى بغداد في رمضان سنة سبع وأربعين وقد تلقاه إلى أثناء الطريق الأمراء والوزراء والحجاب ودخل بغداد في أبهة عظيمة جدا وخطب له بها ثم بعده للملك الرحيم نثم قطعت خطبة الملك الرحيم ورفع إلى القلعة معتقلا عليه وكان آخر ملوك بني بويه وكانت مدة ولايتهم قريب المائة والعشر سنين وكان ملك الملك الرحيم لبغداد ست سنين وعشرة أيام ونزل طغرلبك دار المملكة بعد الفراغ من عمارتها ونزل أصحابه دور الأتراك وكان معه ثمانية أفيلة ووقعت الفتنة بين الأتراك والعامة ونهب الجانب الشرقي بكماله وجرت خبطة عظيمة وأما البساسيري فإنه فر من الخليفة إلى بلاد الرحبة وكتب إلى صاحب مصر بأنه على إقامة الدعوى له بالعراق فأرسل إليه بولاية الرحبة ونيابته بها ليكون على أهبة الأمر الذي يريده (12/66)
وفي يوم الثلاثاء عاشر ذي القعدة قلد أبو عبدالله محمد بن علي الدامغاني قضاء القضاة وخلع عليه به وذلك بعد موت ابن ماكولا ثم خلع الخليفة على الملك طغرلبك بعد دخوله بغداد بيوم ورجع إلى داره وبين يديه الدبادب والبوقات وفي هذا الشهر توفي ذخيرة الدين أبو العباس محمد بن الخليفة القائم بأمر الله وهو ولي عهد أبيه فعظمت الرزية به وفيها استولى أبو كامل علي بن محمد الصليحي الهمداني على أكثر أعمال اليمن وخطب للفاطميين وقطع خطبة العباسيين وفيها كثر فساد الغز ونهبوا دواب الناس حتى بيع الثور بخمسة قراريط وفيها اشتد الغلاء بمكة وعدمت الأقوات وأرسل الله عليهم جرادا فتعوضوا به عن الطعام ولم يحج أحدا من أهل العراق وممن توفي فيها من الأعيان
الحسن بن علي
ابن جعفر بن علي بن محمد بن دلف بن أبي دلف العجلي قاضي القضاة المعروف بابن ماكولا الشافعي وقد ولي القضاء بالبصرة ثم ولي قضاء القضاة ببغداد سنة عشرين وأربعمائة في خلافة المقتدر واقره ابنه القائم إلى أن مات في هذه السنة عن تسع وسبعين سنة منها في القضاء سبع وعشرون سنة وكان صينا دينا لا يقبل من أحد هدية ولا من الخليفة وكان يذكر أنه سمع من أبي عبدالله بن مندة وله شعر حسن فمنه ... تصابى برهة من بعد شيب ... فما أغنى المشيب عن التصابي ... وسود عارضيه بلون خضب ... فلم ينفعه تسويد الخضاب ... وابدى للأحبة كل لطف ... فما زادوا سوى فرط اجتناب ... سلام الله عودا بعد بدئ ... على أيام رعيان الشباب ... تولى عزمه يوما وأبقى ... بقلبي حسرة ثم اكتئاب ... علي بن المحسن بن علي
ابن محمد بن أبي الفهم أبو القاسم التنوخي قال ابن الجوزي وتنوخ اسم لعدة قبائل اجتمعوا بالبحرين وتحالفوا على التناصر والتآزر فسموا تنوخا ولد بالبصرة سنة خمسة وخمسين وثلثمائة وسمع الحديث سنة سبعين وقبلت شهادته عند الحكام في حداثته وولي القضاء بالمدائن وغيرها وكان صدوقا محتاطا إلا أنه كان يميل إلى الإعتزال والرفض
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وأربعمائة في يوم الخميس لثمان بقين من المحرم عقد الخليفة على خديجة بنت أخي السلطان طغرلبك على صداق مائة ألف دينار وحضر هذا العقد عميد الملك الكندري وزير طغرلبك وبقية العلويين (12/67)
وقاضي القضاة الدامغاني والماوردي ورئيس الرؤساء ابن المسلمة فلما كان شعبان ذهب رئيس الرؤساء إلى الملك طغرلبك وقال له أمير المؤمنين يقول لك قال الله تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وقد أمرني أن أنقل الوديعة إلى داره العزيزة فقال السمع والطاعة فذهبت أم الخليفة لدار الملك لإستدعاء العروس فجاءت معها وفي خدمتها الوزير عميد الملك والحشم فدخلوا داره وشافه الوزير الخليفة عن عمها وسأله اللطف بها والإحسان إليها فلما دخلت إليه قبلت الأرض مرارا بين يديه فأدناها إليه وأجلسها إلى جانبه وأفاض عليها خلعا سنية وتاجا من جوهر ثمين وأعطاها من الغد مائة ثوب ديباجا وقصبات من ذهب وطاسة ذهب قد نبت فيها الجوهر والياقوت والفيروزج واقطعها في كل سنة من ضياعه ما يغل اثنا عشر ألف دينار وغير ذلك وفيها أمر السلطان طغرلبك ببناء دار الملك العضدية فخربت محال كثيرة في عمارتها ونهبت العامة أخشابا كثيرة من دور الأتراك والجانب الغربي وباعوه على الخبازين والطباخين وغيرهم وفيها رجع غلاء شديد على الناس وخوف ونهب كثير ببغداد ثم أعقب ذلك فناء كثير بحيث دفن كثير من الناس بغير غسل ولا تكفين وغلت الأشربة وما تحتاج إليه المرضى كثيرا واعترى الناس موت كثير واغبر الجو وفسد الهواء قال ابن الجوزي وعم هذا الوباء والغلاء مكة والحجاز وديار بكر والموصل وبلاد بكر وبلاد الروم وخراسان والجبال والدنيا كلها هذا لفظه في المنتظم قال وورد كتاب من مصر أن ثلاثة من اللصوص نقبوا بعض الدور فوجدوا عند الصباح موت أحدهم على باب النقب والثاني على رأس الدرجة والثالث على الثياب التي كورها ليأخذها فلم يمهل وفيها أمر رئيس الرؤساء بنصب أعلام سود في الكرخ فانزعج أهلها لذلك وكان كثير الأذية للرافضة وإنما كان يدافع عنهم عميد الملك الكندري وزير طغرلبك وفيها هبت ريح شديدة وارتفعت سحابة ترابية وذلك ضحى فأظلمت الدنيا واحتاج الناس في الأسواق وغيرها إلى السرج قال ابن الجوزي وفي العشر الثاني من جمادى الآخرة ظهر وقت السحر كوكب له ذؤابة طولها في رأي العين نحو من عشرة أذرع وفي عرض نحو الذراع ولبث كذلك إلى النصف من رجب ثم اضمحل وذكروا أنه طلع مثله بمصر فملكت وخطب بها للمصريين وكذلك بغداد لما طلع فيها ملكت وخطب بها للمصريين وفيها ألزم الروافض بترك الأذان بحي على خير العمل وأمروا أن ينادي مؤذنهم في أذان الصبح بعد حي على الفلاح الصلاة خير من النوم مرتين وأزيل ما كان على أبواب المساجد ومساجدهم من كتابة محمد وعلي خير البشر ودخل المنشدون من باب البصرة إلى باب الكرخ ينشدون بالقصائد التي فيها مدح الصحابة وذلك أن نوء الرافضة اضمحل لأن بني بويه كانوا حكاما وكانوا يقوونهم وينصرونهم فزالوا وبادوا وذهبت دولتهم وجاء بعدهم قوم آخرون (12/68)
من الأتراك السلوجوقية الذين يحبون أهل السنة ويوالونهم ويرفعون قدرهم والله المحمود ابدا على طول المدى وأمر رئيس الرؤساء الوالي بقتل أبي عبدالله بن الجلاب شيخ الروافض لما كان تظاهر به من الرفض والغلو فيه فقتل على باب دكانه وهرب أبو جعفر الطوسي ونهبت داره وفيها جاء البساسيري قبحه الله إلى الموصل ومعه نور الدولة دبيس في جيش كثيف فاقتتل مع صاحبها قريش ونصره قتلمش بن عم طغرلبك وهو جد ملوك الروم فهزمهما البساسيري وأخذ البلد قهرا فخطب بها للمصريين وأخرج كاتبه من السجن وقد كان أظهر الإسلام ظنا منه أنه ينفعه فلم ينفعه فقتل وكذلك خطب للمصريين فيها بالكوفة وواسط وغيرها من البلاد وعزم طغرلبك على المسير إلى الموصل لمناجزة البساسيري فنهاه الخليفة عن ذلك لضيق الحال وغلاء الأسعار فلم يقبل فخرج بجيشه قاصدا الموصل بجحافل عظيمة ومعه الفيلة والمنجنيقات وكان جيشه لكثرتهم ينهبون القرى وربما سطوا على بعض الحريم فكتب الخليفة إلى السلطان ينهاه عن ذلك فبعث إليه يعتذر لكثرة من معه واتفق أنه رأى رسول الله ( ص ) في المنام فسلم عليه فأعرض عنه فقال يا رسول الله لأي شيء تعرض عني فقال يحكمك الله في البلاد ثم لا ترفق بخلقه ولا تخاف من جلال الله عز و جل فاستيقظ مذعورا وأمر وزيره أن ينادي في الجيش بالعدل وأن لا يظلم أحد ولما اقترب من الموصل فتح دونها بلادا ثم فتحها وسلمها إلى أخيه داود ثم سار منها إلى بلاد بكر ففتح أماكن كثيرة هناك وفيها ظهرت دولة الملثمين في بلاد المغرب وأظهروا إعزاز الدين وكلمة الحق واستولوا على بلاد كثيرة منها سجلماسة وأعمالها والسوس وقتلوا خلقا كثيرا من أهلها وأول ملوك الملثمين رجل يقال له أبو بكر بن عمر وقد أقام بسجلماسة إلى أن توفي سنة ثنتين وستين كما سيأتي بيانه ثم ولي بعده أبو نصر يوسف بن تاشفين وتلقب بأمير المؤمنين وقوى أمره وعلا قدره ببلاد المغرب وفيها ألزم أهل الذمة بلبس الغيار ببغداد عن أمر السلطان وفيها ولد لذخيرة الدين بعد موته من جارية له ولدا ذكر وهو أبو القاسم عبدالله المقتدي بأمر الله وفيها كان الغلاء والفناء أيضا مستمرين على الناس ببغداد وغيرها من البلاد على ما كان عليه الأمر في السنة الماضية فإنا لله وإنا إليه راجعون ولم يحج أحد من أهل العراق فيها وفيها توفي من الأعيان
علي بن أحمد بن علي بن سلك
أبو الحسن المؤدب المعروف بالفالي صاحب الأمالي وفالة قرية قريبة من إيذج أقام (12/69)
بالبصرة مدة وسمع بها من عمر بن عبدالواحد الهاشمي وغيره وقدم بغداد فاستوطنها وكان ثقة في نفسه كثير الفضائل ومن شعره الحسن ... لما تبدلت المجالس أوجها ... غير الذين عاهدت من علمائها ... ورأيتها محفوفة بسوى الأولى ... كانوا ولاة صدورها وفنائها ... أنشدت بيتا سائرا متقدما ... والعين قد شرقت بجاري مائها ... أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها ...
ومن شعره أيضا
... تصدر للتدريس كل مهوس ... بليد تسمى بالفقيه المدرس ... فحق لأهل العلم أن يتمثلوا ... ببيت قديم شاع في كل مجلس ... لقد هزلت حتى بدى من هزالها ... كلاها وحتى سماها كل مفلس ...
محمد بن عبدالواحد بن محمد الصباغ
الفقيه الشافعي وليس بصاحب الشامل ذاك متأخر وهذا من تلاميذ أبي حامد الإسفرايني كانت له حلقة للفتوى بجامع المدينة وشهد عند قاضي القضاة الدامغاتي الحنفي فقبله وقد سمع الحديث من ابن شاهين وغيره وكان ثقة جليل القدر
هلال بن المحسن
ابن إبراهيم بن هلال أبو الخير الكاتب الصابئ صاحب التاريخ وجده أبو إسحاق الصابئ صاحب الرسائل وكان أبوه صابئيا أسلم هلال هذا متأخرا وحسن إسلامه وقد سمع في حال كفره من جماعة من المشايخ وذلك أنه كان يتردد إليهم يطلب الأدب فلما أسلم نفعه ذلك وكان ذلك سبب إسلامه على ما ذكره ابن الجوزي بسنده مطولا إنه رأى رسول الله ( ص ) في المنام مرارا يدعوه إلى الله عز و جل ويأمره بالدخول في الإسلام ويقول له أنت رجل عاقل فلم تدع دين الإسلام الذي قامت عليه الدلائل واراه آيات في المنام شاهدها في اليقظة فمنها أنه قال له إن امرأتك حامل بولد ذكر فسمه محمدا فولدت ذكرا فسماه محمدا وكناه أبا الحسن في أشياء كثيرة سردها ابن الجوزي فأسلم وحسن إسلامه وكان صدوقا توفي عن تسعين سنة منها في الإسلام نيف وأربعون سنة
ثم دخلت سنة تسع وأربعين وأربعمائة
فيها كان الغلاء والفناء مستمرين ببغداد وغيرها من البلاد بحيث خلت أكثر الدور وسدت على أهلها أبوابها بما فيها وأهلها موتى فيها ثم صار المار في الطريق لا يلقى الواحد بعد الواحد وأكل الناس الجيف والنتن من قلة الطعام ووجد مع امرأة فخذ كلب قد أخضر وشوى رجل صبية (12/70)
في الأتون وأكلها فقيل وسقط طائر ميت من حائط فاحتوشته خمسة أنفس فاقتسموه وأكلوه وورد كتاب من بخارى أنه مات في يوم واحد منها ومن معاملتها ثمانية عشر ألف إنسان وأحصى من مات في هذا الوباء من تلك البلاد إلى يوم كتب فيه هذا الكتاب بألف ألف وخمسمائة ألف وخمسين ألف إنسان والناس يمرون في هذه البلاد فلا يرون إلا أسواقا فارغة وطرقات خالية وأبوابا مغلقة ووحشة وعدم أنس حكاه ابن الجوزي قال وجاء الخبر من أذربيجان وتلك البلاد بالوباء العظيم وأنه لم يسلم من تلك البلاد إلا العدد اليسير جدا قال ووقع وباء بالأهواز وبواط وأعمالها وغيرها حتى طبق البلاد وكان أكثر سبب ذلك الجوع كان الفقراء يشوون الكلاب وينبشون القبور ويشوون الموتى ويأكلونهم وليس للناس شغل في الليل والنهار إلا غسل الأموات وتجهيزهم ودفنهم فكان يحفر الحفير فيدفن فيه العشرون والثلاثون وكان الإنسان بينما هو جالس إذ انشق قلبه عن دم المهجة فيخرج منه إلى الفم قطرة فيموت الإنسان من وقته وتاب الناس وتصدقوا بأكثر أموالهم فلم يجدوا أحدا يقبل منهم وكان الفقير تعرض عليه الدنانير الكثيرة والدراهم والثياب فيقول أنا أريد كسرة أريد ما يسد جوعي فلا يجد ذلك وأراق الناس الخمور وكسروا آلات اللهو ولزموا المساجد للعبادة وقراءة القرآن وقل دار يكون فيها خمر إلا مات أهلها كلهم ودخل على مريض له سبعة أيام في النزع فأشار بيده إلى مكان فوجدوا فيه خابية من خمر فأراقوها فمات من وقته بسهولة ومات رجل في مسجد فوجدوا معه خمسين ألف درهم فعرضت على الناس فلم يقبلها أحد فتركت في المسجد تسعة أيام لا يريدها أحد فلما كان بعد ذلك دخل أربعة ليأخذوها فماتوا عليها فلم يخرج من المسجد منهم أحد حي بل ماتوا جميعا وكان الشيخ أبو محمد عبدالجبار بن محمد يشتغل عليه سبعمائة متفقه فمات وماتوا كلهم إلا اثني عشر نفرا منهم ولما اصطلح السلطان دبيس بن علي رجع إلى بلاده فوجدها خرابا لقلة أهلها من الطاعون فأرسل رسولا منهم إلى بعض النواحي فتلقاه طائفة فقتلوه وشووه وأكلوه قال ابن الجوزي وفي يوم الأربعاء لسبع بقين من جمادى الآخرة احترقت قطيعة عيسى وسوق الطعام والكنيس وأصحاب السقط وباب الشعير وسوق العطارين وسوق العروس والأنماطيين والخشابين والجزارين والتمارين والقطيعة وسوق مخول ونهر الزجاج وسويقة غالب والصفارين والصباغين وغير ذلك من المواضع وهذه مصيبة أخرى ما بالناس من الجوع والغلاء والفناء ضعف الناس حتى طغت النار فعملت أعمالها فإنا لله وإنا إليه راجعون وفيها كثرت العياريون ببغداد وأخذوا الأموال جهارا وكبسوا الدور ليلا ونهارا وكبست دار أبي جعفر الطوسي متكلم الشيعة وأحرقت كتبه ومآثره ودفاتره التي كان يستعملها في ضلالته وبدعته ويدعو إليها أهل (12/71)
ملته ونحلته ولله الحمد وفيها دخل الملك طغرلبك بغداد عائدا إليها من الموصل فتلقاه الناس والكبراء إلى أثناء الطريق وأحضر له رئيس الرؤساء خلعة من الخليفة مرصعة بالجوهر فلبسها وقبل الأرض ثم بعد ذلك دخل دار الخلافة وقد ركب إليها فرسا من مراكب الخليفة فلما دخل علىالخليفة إذا هو على سرير طوله سبعة أذرع وعلى كتفه البردة النبوية وبيده القضيب فقبل الأرض وجلس على سرير طوله سبعة أذرع وعلى كتفه البردة النبوية وبيده القضيب فقبل الأرض وجلس على سرير دون سرير الخليفة ثم قال الخليفة لرئيس الرؤساء قل له أمير المؤمنين حامد لسعيك شاكر لفعلك آنس بقربك وقد ولاك جميع ما ولاه الله تعالى من بلاده فاتق الله فيما ولاك واجتهد في عمارة البلاد وإصلاح العباد ونشر العدل وكف الظلم ففسر له عميد الدولة ما قال الخليفة فقام وقبل الأرض وقال أنا خادم أمير المؤمنين وعبده ومتصرف على أمره ونهيه ومتشرف بما اهلني له واستخدمني فيه ومن الله أستمد المعونة والتوفيق ثم أمره الخليفة أن ينهض للبس الخلعة فقام إلى بيت في ذلك البهو فأفيض عليه سبع خلع وتاج ثم عاد فجلس على السرير بعد ما قبل يد الخليفة ورام تقبيل الأرض فلم يتمكن من التاج فأخرج الخليفة سيفا فقلده إياه وخوطب بملك الشرق والغرب وأحضرت ثلاثة ألوية فعقد منها الخليفة لواء بيده وأحضر العهد إلى الملك وقرئ بين يديه بحضرة الملك وأوصاه الخليفة بتقوى الله والعدل في الرعية ثم نهض فقبل يد الخليفة ثم وضعها على عينيه ثم خرج في أبهة عظيمة إلى داره وبين يديه الحجاب والجيش بكماله وجاء الناس للسلام عليه وارسل إلى الخليفة بتحف عظيمة منها خمسون ألف دينار وخمسون غلاما أتراكا بمراكبهم وسلاحهم ومناطقهم وخمسمائة ثوب أنواعا وأعطى رئيس الرؤساء خمسة آلاف دينار وخمسين قطعة قماش وغير ذلك وفيها قبض صاحب مصر على وزيره أبي محمد الحسن بن عبدالرحمن البازري وأخذ خطه بثلاثة آلاف دينار وأحيط على ثمانين من أصحابه وقد كان هذا الوزير فقيها حنفيا يحسن إلى أهل العلم وأهل الحرمين وقد كان الشيخ أبو يوسف القزويني يثني عليه ويمدحه وممن توفي فيها من الأعيان
أحمد بن عبدالله بن سليمان
ابن محمد بن سليمان بن أحمد بن سليمان بن داود بن المطهر بن زياد بن ربيعة بن الحرث بن ربيعة بن أنور بن أسحم بن أرقم بن النعمان بن عدي بن غطفان بن عمرو بن بريح بن خزيمة بن تيم الله بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة أبو العلاء المعري التنوخي الشاعر المشهور بالزندقة اللغوي صاحب الدواوين والمصنفات في الشعر واللغة ولد يوم الجمعة عند غروب الشمس لثلاث بقين من ربيع الأول سنة ثلاث وستين وثلاثمائة وأصابه جدري وله أربع سنين أو سبع فذهب بصره وقال الشعر وله إحدى عشرة أو ثنتا عشرة سنة ودخل (12/72)
بغداد سنة تسع وتسعين وثلاثمائة فأقام بها سنة وسبعة أشهر ثم خرج منها طريدا منهزما لأنه سأل سؤالا بشعر يدل على قلة دينه وعلمه وعقله فقال ... تناقض فما لنا إلا السكوت له ... وأن نعوذ بمولانا من النار ... يد بخمس مئين عسجد وديت ... ما بالها قطعت في ربع دينار ... وهذا من إفكه يقول اليد ديتها خمسمائة دينار فما لكم تقطعونها إذا سرقت ربع دينار وهذا من قلة عقله وعلمه وعمى بصيرته وذلك أنه إذا جنى عليها يناسب أن يكون ديتها كثيرة لنزجر الناس عن العدوان وأما إذا جنت هي بالسرقة فيناسب أن تقل قيمتها وديتها لينزجر الناس عن أموال الناس وتصان أموالهم ولهذا قال بعضهم كانت ثمينة لما كانت امينة فلما خانت هانت ولما عزم الفقهاء على أخذه بهذا وأمثاله هرب ورجع إلى بلده ولزم منزله فكان لا يخرج منه وكان يوما عند الخليفة وكان الخليفة يكره المتنبي ويضع منه وكان أبو العلاء يحب المتنبي ويرفع من قدره ويمدحه فجرى ذكر المتنبي في ذلك المجلس فذمه الخليفة فقال أبو العلاء لو لم يكن للمتنبي إلا قصيدته التي أولها ... لك يا منازل في القلوب منازل ... لكفاه ذلك فغضب الخليفة وأمر به سحب برجله على وجهه وقال أخرجوا عني هذا الكلب وقال الخليفة أتدرون ما أراد هذا الكلب من هذه القصيدة وذكره لها أراد قول المتنبي فيها ... وإذا اتتك مذمتي من ناقص ... فهي الدليل علي أني كامل ... وإلا فالمتنبي له قصائد أحسن من هذه وإنما أراد هذا وهذا من فرط ذكاء الخليفة حيث تنبه لهذا وقد كان المعري أيضا من الأذكياء ومكث المعري خمسا واربعين سنة من عمره لا يأكل اللحم ولا اللبن ولا البيض ولا شيئا من حيوان على طريقة البراهمة الفلاسفة ويقال إنه اجتمع براهب في بعض الصوامع في مجيئه من بعض السواحل آواه الليل عنده فشككه في دين الإسلام وكان يتقوت بالنبات وغيره وأكثر ما كان يأكل العدس ويتحلى بالدبس وبالتين وكان لايأكل بحضرة أحد ويقول أكل الأعمى عورة وكان في غاية الذكاء المفرط على ما ذكروه وأما ما ينقلونه عنه من الأشياء المكذوبة المختلفة من أنه وضع تحت سريره درهم فقال أما أن تكون السماء قد انخفضت مقدار درهم أو الأرض قد أرتفعت مقدار درهم أي انه شعر بارتفاع سريره عن الأرض مقدار ذلك الدرهم الذي وضع تحته فهذا لا أصل له وكذلك يذكرون عنه أنه مر فى بعض أسفاره بمكان فطأطأ رأسه فقيل له في ذلك فقال أما هنا شجرة قالوا لا فنظروا فإذا أصل شجرة كانت هناك في الموضع الذي طأطأ رأسه فيه وقد قطعت وكان قد اجتاز بها قديما مرة من كان معه بمطأطأة رأسه لما جازوا تحتها فلما مر بها المرة الثانية طأطأ رأسه خوفا من أن يصيبه شئ منها فهذا (12/73)
لا يصح وقد كان ذكيا ولم يكن زكيا وله مصنفات كثيرة أكثرها في الشعر وفي بعض أشعاره ما يدل على زندقته وانحلاله من الدين ومن الناس من يعتذر عنه ويقول إنه إنما كان يقول ذلك مجونا ولعبا ويقول بلسانه ما ليس في قلبه وقد كان باطنه مسلما قال ابن عقيل لما بلغه وما الذي ألجأه أن يقول في دار الإسلام ما يكفره به الناس قال والمنافقون مع قلة عقلهم وعملهم أجود سياسة منه لأنهم حافظوا على قبائحهم في الدنيا وستروها وهذا أظهر الكفر الذي تسلط عليه به الناس وزندقوه والله يعلم أن ظاهره كباطنه قال ابن الجوزي وقد رأيت لأبي العلاء المعري كتابا سماه الفصول والغايات في معارضة السور والايات على حروف المعجم في آخر كلماته وهو في غاية الركاكة والبرودة فسبحان من أعمى بصره وبصيرته قال وقد نظرت في كتابه المسمى لزوم ما لا يلزم ثم أورد ابن الجوزي من أشعاره الدالة على استهتاره بدين الإسلام أشياء كثيرة فمن ذلك قوله ... إذا كان لا يحظى برزقك عاقل ... وترزق مجنونا وترزق أحمقا ... فلا ذنب يا رب السماء على امرئ ... رأى منك مالا يشتهى فتزندقا ... وقوله ... ألا إن البرية في ضلال ... وقد نظر اللبيب لما اعتراها ... تقدم صاحب التوراة موسى ... وأوقع في الخسار من افتراها ... فقال رجاله وحى أتاه ... وقال الناظرون بل افتراها ... وما حجى إلى أحجار بيت ... كروس الحمر تشرف في ذراها ... إذا رجع الحليم إلى حجاه ... تهاون بالمذاهب وازدراها ... وقوله ... عفت الحنيفة والنصارى اهتدت ... ويهود جارت والمجوس مضلله ... اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا ... دين وآخر ذو دين ولا عقل له ... وقوله ... فلا تحسب فقال الرسل حقا ... ولكن قول زور سطروه ... فكان الناس في عيش رغيد ... فجاؤا بالمحال فكدروه ... وقلت أنا معارضة عليه ... فلا تحسب مقال الرسل زورا ... ولكن قول حق بلغوه ... وكان الناس في جهل عظيم ... فجاؤا بالبيان فأوضحوه ... وقوله ... إن الشرائع ألقت بيننا إحنا ... وأورثتنا ... أفانين العداوات ... وهل أبيح نساء الروم عن عرض ... للعرب إلا بإحكام النبوات ... و قوله ... وما حمدي لآدم أو بنيه ... واشهد أن كلهم خسيس (12/74)
وقوله ... أفيقوا أفيقوا يا غواة فإنما ... دياناتكم مكرا من القدما ...
وقوله صرف الزمان مفرق الألفين
... فاحكم إلهي بين ذاك وبيني ... نهيت عن قتل النفوس تعمدا ... وبعثت تقبضها مع الملكين ... وزعمت أن لها معادا ثانيا ... ما كان أغناها عن الحالين ... وقوله ... ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة ... وحق لسكان البسيطة أن يبكوا ... تحطمنا الأيام حتى كأننا ... زجاج ولكن لا يعود له سبك ... وقوله ... أمور تستخف بها حلوم ... وما يدري الفتى لمن الثبور ... كتاب محمد وكتاب موسى ... وإنجيل ابن مريم والزبور ... وقوله ... قالت معاشر لم يبعث إلهكم ... إلى البرية عيساها ولا موسى ... وإنما جعلوا الرحمن مأكلة ... وصيروا دينهم في الناس ناموسا ... وذكر ابن الجوزي وغيره اشياء كثيرة من شعره تدل على كفره بل كل واحدة من هذه الأشياء تدل على كفره وزندقته وانحلاله ويقال إنه أوصى أن يكتب على قبره ... هذا جناه أبي علي ... وما جنيت على أحد ...
معناه أن أباه بتزوجه لأمه أوقعه في هذه الدار حتى صار بسبب ذلك إلى ما إليه صار وهو لم يجن على أحد بهذه الجناية وهذا كله كفر وإلحاد قبحه الله وقد زعم بعضهم أنه أقلع عن هذا كله وتاب منه وأنه قال قصيدة يعتذر فيها من ذلك كله ويتنصل منه وهي القصيدة التي يقول فيها
... يا من يرى مد البعوض جناحها ... في ظلمة الليل البهيم الأليل ... ويرى مناط عروقها في نحرها ... والمخ في تلك العظام النحل ... امنن علي بتوبة تمحو بها ... ما كان مني في الزمان الأول ... توفي في ربيع الأول من هذه السنة بمعرة النعمان عن ست وثمانين سنة إلا أربعة عشر يوما وقد رثاه جماعة من أصحابه وتلامذته وأنشدت عند قبره ثمانون مرثاة حتى قال بعضهم في مرثاه له ... إن كنت لم ترق الدماء زهادة ... فلقد أرقت اليوم من جفني دما ... قال ابن الجوزي وهؤلاء الذين رثوه والذين اعتقدوه إما جهال بأمره وإما ضلال على مذهبه وطريقه وقد رأى بعضهم في النوم رجلا ضريرا على عاتقه حيتان مدليتان على صدره رافعتان رؤسهما إليه وهما ينهشان من لحمه وهو يستغيث وقائل يقول هذا المعري الملحد وقد ذكره ابن خلكان فرفع في نسبه على عادته في الشعراء كما ذكرنا وقد ذكر له من المصنفات كتبا كثيرة وذكر أن بعضهم وقف على المجلد الأول بعد المائة من كتابه المسمى بالأيك والغصون (12/75)
وهو المعروف بالهمز والردف وأنه أخذ العربية عن أبيه واشتغل بحلب علي محمد بن عبد الله بن سعد النحوى وأخذ عنه أبو القاسم على بن المحسن التنوخي والخطيب أبو زكريا يحيى بن على التبريزى وذكر أنه مكث خمسا واربعين سنة لا يأكل اللحم على طريقة الحكماء وانه أوصى ان يكتب على قبره ... هذا جناه أبي على ... وماجنيت على أحد ...
قال ابن خلكان وهذا أيضا متعلق باعتقاد الحكماء فإنهم يقولون اتخاذ الولد وإخراجه إلى هذا الوجود جناية عليه لأنه يتعرض للحوادث والآفات قلت وهذا يدل على انه لم يتغير عن اعتقاده و هو ما يعتقده الحكماء إلى آخر وقت وانه لم يقلع عن ذلك كما ذكره بعضهم والله أعلم بظواهر الأمور وبواطنها وذكر ابن خلكان ان عينه اليمنى كانت ناتئة وعليها بياض وعينه اليسرى غائرة وكان نحيفا ثم أورد من أشعاره الجيدة أبياتا فمنها قوله
... لا تطلبن بالة لك رتبة ... قلم البليغ بغير جد مغزل ... سكن السما كان السماء كلاهما ... هذا له رمح وهذا أعزل ...
الأستاذ أبو عثمان الصابوني
إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل بن عامر بن عابد النيسابوري الحافظ الواعظ المفسر قدم دمشق وهو ذاهب إلى الحج فسمع بها وذكر الناس وقد ترجمه ابن عساكر ترجمة عظيمة وأورد له اشياء حسنة من أقواله وشعره فمن ذلك قوله ... إذا لم أصب أموالكم ونوالكم ... ولم آمل المعروف منكم ولا البرا ... وكنتم عبيدا للذي أنا عبده ... فمن أجل ماذا أتعب البدن الحرا ...
وروى ابن عساكر عن إمام الحرمين أنه قال كنت أتردد وأنا بمكة في المذاهب فرأيت النبي ( ص ) وهو يقول عليك باعتقاد أبي عثمان الصابوني رحمه الله تعالى
ثم دخلت سنة خمسين وأربعمائة فيها كانت فتنة الخبيث البساسيرى وهو أرسلان التركي وذلك أن إبراهيم ينال أخا الملك طغرلبك ترك الموصل الذى كان قد أستعمله أخوه عليها وعدل إلى ناحية بلاد الجبل فاستدعاه أخوه وخلع عليه وأصلح أمره ولكن في غضون ذلك ركب البساسيرى ومعه قريش بن بدران أمير العرب إلى الموصل فأخذها وأخرب قلعتها فسار إليه الملك طغرلبك سريعا فاستردها وهرب منه البساسيرى وقريش خوفا منه فتبعهما إلى نصيبين وفارقه أخوه إبراهيم وعصى عليه وهرب إلى همذان وذلك بإشارة البساسيري عليه منسار الملك طغرلبك وراء أخيه وترك عساكره وراءه فتفرقوا وقل من لحقه منهم ورجعت زوجته الخاتون ووزيره الكندري إلى بغداد ثم جاء الخبر (12/76)
بأن أخاه قد استظهر عليه وأن طغرلبك محصور بهمذان ن فانزعج الناس لذلك واضطربت بغداد وجاء الخبر بأن البساسيري على قصد بغداد وأنه قد اقترب من الأنبار فقوى عزم الكندري على الهروب فأرادت الخاتون أن تقبض عليه فتحول عنها إلى الجانب الغربي ونهبت داره وقطع الجسر الذي بين الجانبين وركبت الخاتون في جمهور الجيش وذهبت إلى همذان لأجل زوجها وسار الكندري ومعه أنوشروان بن تومان وأم الخاتون المذكورة ومعها بقية الجيش إلى بلاد الأهواز وبقيت بغداد ليس بها أحد من المقاتلة فعزم الخليفة على الخروج منها وليته فعل ثم أحب داره والمقام مع أهله فمكث فيها اغترارا ودعة ولما خلى البلد من المقاتلة قيل للناس من أراد الرحيل من بغداد فليذهب حيث شاء فانزعج الناس وبكى الرجال والنساء والأطفال وعبر كثير من الناس إلى الجانب الغربي وبلغت المعبرة دينارا ودينارين لعدم الجسر قال ابن الجوزي وطار في تلك الليلة على دار الخليفة نحو عشر بومات مجتمعات يصحن صياحا مزعجا وقيل لرئيس الرؤساء المصلحة أن الخليفة يرتحل لعدم المقاتلة فلم يقبل وشرعوا في استخدام طائفة من العوام ودفع إليهم سلاح كثير من دار المملكة فلما كان يوم الأحد الثامن من ذي القعدة من هذه السنة جاء البساسيري إلى بغداد ومعه الرايات البيض المصرية وعلى رأسه أعلام مكتوب عليها اسم المستنصر بالله أبو تميم معد أمير المؤمنين فتلقاه أهل الكرخ الرافضة وسألوه أن يجتاز من عندهم فدخل الكرخ وخرج إلى مشرعة الزاويا فخيم بها والناس إذ ذاك في مجاعة وضر شديد ونزل قريش بن بدران في نحو من مائتي فارس على مشرعة باب البصرة وكان البساسيري قد جمع العيارين وأطمعهم في نهب دار الخلافة ونهب أهل الكرخ دور أهل السنة باب البصرة ونهبت دار قاضي القضاة الدامغاني وتملك أكثر السجلات والكتب الحكمية وبيعت للعطارين ونهبت دور المتعلقين بخدمة الخليفة وأعادت الروافض الأذان بحي على خير العمل وأذن به في سائر نواحي بغداد في الجمعات والجماعات وخطب ببغداد للخليفة المستنصر العبيدي على منابرها وغيرها وضربت له السكة على الذهب والفضة وحوصرت دار الخلافة فجاحف الوزير أبو القاسم بن المسلمة الملقب برئيس الرؤاساء بمن معه من المستخدمين دونها فلم يفد ذلك شيئا فركب الخليفة بسواد والبردة وعلى رأسه اللواء وبيده سيف الدولة مصلت وحوله زمرة من العباسيين والجواري حاسرات عن وجوههن ناشرات شعورهن معهن المصاحف على رؤس الرماح وبين يديه الخدم بالسيوف ثم إن الخليفة أخذ ذماما من أمير العرب قريش ليمنعه وأهله ووزيره ابن المسلمة فأمنه على ذلك كله وأنزله في خيمة فلامه البساسيري على ذلك وقال قد علمت ما كان وقع الاتفاق عليه بيني وبينك من أنك لا تبت برأي دوني ولا أنا دونك ومهما ملكنا بيني وبينك ثم إن البساسيري أخذ القاسم بن مسلمة (12/77)
فوبخه توبيخا مفضحا ولامه لوما شديدا ثم ضربه ضربا مبرحا واعتقله مهانا عنده ونهبت العامة دار الخلافة فلا يحصى ما أخذوا منها من الجواهر والنفائس والديباج والذهب والفضة والثياب والأثاث والدواب وغير ذلك مما لا يحد ولا يوصف ثم اتفق رأي البساسيري وقريش على أن يسيروا الخليفة إلى أمير حديثة عانة وهو مهارش بن مجلي الندوي وهو من بني عم قريش بن بدران وكان رجلا فيه دين وله مروأة فلما بلغ ذلك الخليفة دخل على قريش أن لا يخرج من بغداد فلم يفد ذلك شيئا وسيره مع أصحابهما في هودج إلى حديثة عانة فكان عند مهارش حولا كاملا وليس معه أحد من أهله فحكى عن الخليفة أنه قال لما كنت بحديثة عانة قمت ليلة إلى الصلاة فوجدت في قلبي حلاوة المناجاة ثم دعوت الله عز و جل بما سنح لي ثم قلت اللهم أعدني إلى وطني واجمع بيني وبين أهلي وولدي ويسر اجتماعنا وأعد روض الأنس زاهرا وربع القرب عامرا وفلفل العزا وبرج الجفا قال فسمعت قائلا على شاطئ الفرات يقول نعم نعم فقلت هذا رجل يخاطب آخر ثم أخذت في السؤال والابتهال فسمعت ذلك الصائح يقول إلى الحول إلى الحول فقلت إنه هاتف أنطقه الله بما جرى الأمر عليه وكان كذلك خرج من داره في ذي القعدة من هذه السنة ورجع إليها في ذي القعدة من السنة المقبلة وقد قال الخليفة القائم بأمر الله في مدة مقامه بالحديثة شعرا يذكر فيه حاله فمنه ... ساءت ظنوني فيمن كنت آمله ... ولم يجل ذكر من واليت في خلدي ... تعلموا من صروف الدهر كلهم ... فما أرى أحدا يحنو على أحد ... فما أرى من الأيام إلا موعدا ... فمتى أرى ظفري بذاك الموعد ... يومي يمر وكلما قضيته ... عللت نفسي بالحديث إلى غد ... أقبح بنفس تستريح إلى المنى ... وعلى مطامعها تروح وتغتدي ... وأما البساسيري وما أعتمده في بغداد فإنه ركب يوم عيد الأضحى وألبس الخطباء والمؤمنين البياض وكذلك أصحابه وعلى رأسه الألوية المصرية وخطب للخليفة المصري والروافض في غاية السرور والأذان بسائر العراق بحي على خير العمل وانتقم البساسيري من أعيان أهل بغداد انتقاما عظيما وغرق خلقا ممن كان يعاديه وبسط على آخرين الأرزاق ممن كان يحبه ويواليه وأظهر العدل ولما كان يوم الإثنين لليلتين بقيتا من ذي الحجة أحضر إلى بين يديه الوزير ابن المسلمة الملقب رئيس الرؤساء وعليه جبة صوف وطرطور من لبد أحمر وفي رقبته مخنقة من جلود كالتعاويذ فأركب جملا أحمر وطيف به في البلد وخلفه من يصفعه بقطعة جلد وحين اجتاز بالكرخ نثروا عليه خلقان المداسات وبصقوا في وجهه ولعنوه وسبوه وأوقف بإزاء دار الخلافة وهو (12/78)
في ذلك يتلو قوله تعالى قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ثم لما فرغوا من التطواف به جيء به إلى المعسكر فألبس جلد ثور بقرنيه وعلق بكلوب في شدقيه ورفع إلى الخشبة فجعل يضطرب إلى آخر النهار فمات رحمه الله وكان آخر كلامه أن قال الحمد لله الذي أحياني سعيدا وأماتني شهيدا وفيها وقع برد بأرض العراق أهلك كثيرا من الغلات وقتل بعض الفلاحين وزادت دجلة زيادة كثيرة وزلزلت بغداد في هذه السنة قبل الفتنة بشهر زلزالا شديدا فتهدمت دور كثيرة ووردت الأخبار أن هذه الزلزلة اتصلت بهمذان وواسط وتكريت وعانة وذكر أن الطواحين وقفت من شدتها وفيها كثر النهب ببغداد حتى كانت العمائم تخطف عن الرؤس وخطفت عمامة الشيخ أبي نصر بن الصباغ وطيلسانة هو ذاهب إلى صلاة الجمعة وفي أواخر السنة خرج السلطان طغرلبك من همذان فقاتل أخاه وانتصر عليه ففرح الناس وتباشروا بذلك ولم يظهروا ذلك خوفا من البساسيري واستنجد طغرلبك بأولاد أخيه داود وكان قد مات على أخيه إبراهيم فغلبوه وأسروه في أوائل سنة أحدى وخمسين واجتمعوا على عمهم طغرلبك فسار بهم نحو العراق فكان من أمرهم ما سيأتي ذكره في السنة الآتية إن شاء الله وفيها توفي من الأعيان
الحسن بن محمد أبو عبدالله الوني
الفرضي وهو شيخ الحربي وكان شافعي المذهب قتل في بغداد في فتنة البساسيري ودفن في يوم الجمعة يوم عرفة منها
داود أخو طغرلبك
وكان الأكبر منهم توفي فيها وقام أولاده مقامه
ابو الطيب الطبري
الفقيه شيخ الشافعية طاهر بن عبدالله بن طاهر بن عمر ولد بآمل طبرستان سنة ثمان وأربعين وثلثمائة سمع الحديث بجرجان من أبي أحمد الغطريقي وبنيسابور من أبي الحسن الماسرجسي وعليه درس الفقه أيضا وعلى أبي علي الزجاجي وأبي القاسم بن كج ثم اشتغل ببغداد على أبي حامد الإسفرايني وشرح المختصر وفروع ابن الحداد وصنف في الأصول والجدل وغير ذلك من العلوم الكثيرة النافعة وسمع ببغداد من الدارقطني وغيره وولي القضاء بربع الكرخ بعد موت أبي عبدالله الصيمري وكان ثقة دينا ورعا عالما بأصول الفقه وفروعه حسن الخلق سليم الصدر مواظبا على تعليم العلم ليلا ونهارا وقد ترجمته في طبقات الشافعية وحكى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي عنه وكان شيخه وقد أجلسه بعده في الحلقة أن أبا الطيب أسلم خفا له وكان متقللا من الدنيا فقيرا عند خفاف ليصلحه له فأبطأ عليه فكان كلما مر عليه أخذه فغمسه في الماء وقال أيها الشيخ الساعة (12/79)
أصلحه فقال الشيخ أسلمته لتصلحه ولم أسلمه لتعلمه السباحة وحكى ابن خلكان أنه كان له ولأخيه عمامة واحدة وقميص واحد إذا لبسهما هذا جلس الآخر في البيت لا يخرج منه وإذا لبسهما هذا احتاج الآخر أن يقعد في البيت ولا يخرج منه وإذا غسلاهما جلسا في البيت إلى أن ييبسا وقد قال في ذلك أبو الطيب ... قوم إذا غسلوا ثياب جمالهم ... لبسوا البيوت إلى فراغ الغاسل ...
وقد توفي في هذه السنة عن مائة سنة وسنتين وهو صحيح العقل والفهم والأعضاء يفتي ويشتغل إلى أن مات وقد ركب مرة سفينة فلما خرج منها قفز قفزة لا يستطيعها الشباب فقيل له ما هذا يا أبا الطيب فقال هذه أعضاء حفظناها في الشبيبة تنفعنا في الكبر رحمه الله
القاضي الماوردي
صاحب الحاوي الكبير علي بن محمد بن حبيب أبو الحسن الماوردي البصري شيخ الشافعية صاحب التصانيف الكثيرة في الأصول والفروع والتفسير والأحكام السلطانية وأدب الدنيا والدين قال بسطت الفقه في أربعة آلاف ورقة يعني الإقناع وقد ولي الحكم في بلاد كثيرة وكان حليما وقورا أديبا لم ير أصحابه ذراعه يوما من الدهر من شدة تحرزه وأدبه وقد استقصيت ترجمته في الطبقات توفي عن ست وثمانين سنة ودفن بباب حرب
رئيس الرؤساء أبو القاسم بن المسلمة
علي بن الحسن بن أحمد بن محمد بن عمر وزير القائم بأمر الله كان أولا قد سمع الحديث من أبي أحمد الفرضي وغيره ثم صار أحد المعدلين ثم استكتبه القائم بأمر الله واستوزره ولقبه رئيس الرؤساء شرف الوزراء جمال الوزراء كان متضلعا بعلوم كثيرة مع سداد رأي ووفور عقل وقد مكث في الوزارة ثنتي عشرة سنة وشهرا ثم قتله البساسيري بعد ما شهره كما تقدم وله من العمر ثنتان وخمسون سنة وخمسة أشهر
منصور بن الحسين
أبو الفوارس الأسدي صاحب الجزيرة توفي فيها وأقاموا ولده بعده
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وأربعمائة استهلت هذه السنة وبغداد في حكم البساسيري يخطب فيها لصاحب مصر الفاطمي والخليفة العباسي بحديثة عانة ثم لما كان يوم الإثنين ثاني عشر صفر أحضر القضاة أبا عبدالله الدامغاني وجماعة من الوجوه والأعيان والأشراف وأخذ عليهم البيعة لصاحب مصر المستنصر الفاطمي ثم دخل دارالخلافة وهؤلاء المذكورون معه وأمر بنقض تاج دار الخلافة فنقض بعض الشراريف ثم (12/80)
قيل له إن القبح في هذا أكثر من المصلحة فتركه ثم ركب إلى زيارة المشهد بالكوفة وعزم على عبور نهر جعفر ليسوق إلى الحائر لوفاء نذر كان عليه وأمر بأن تنقل جثة ابن مسلمة إلى ما يقارب الحريم الظاهري وأن تنصب على دجلة وكتبت إليه أم الخليفة وكانت عجوزا كبيرة قد بلغت التسعين وهي مختفية في مكان تشكو إليه الحاجة والفقر وضيق الحال فأرسل إليها من نقلها إلى الحريم وأخدمها جاريتين ورتب لها كل يوم اثني عشر رطلا من خبز وأربعة أرطال من لحم فصل ولما خلص السلطان طغرلبك من حصره بهمذان وأسر أخاه إبراهيم وقتله وتمكن في أمره وطابت نفسه ولم يبق له في تلك البلاد منازع كتب إلى قريش بن بدران يأمره بأن يعيد الخليفة إلى وطنه وداره وتوعده على أنه إن لم يفعل ذلك وإلا أحل به بأسا شديدا فكتب إليه قريش يتلطف به ويدخل عليه ويقول أنا معك على البساسيري بكل ما أقدر عليه حتى يمكنك الله منه ولكن أخشى أن أتسرع في أمر يكون فيه على الخليفة مفسدة أو تبدر إليه بادرة سوء يكون على عارها ولكن سأعمل على ما أمرتني به بكل ما يمكنني وأمر برد امرأة الخليفة خاتون إلى دارها وقرارها ثم إنه راسل البساسيري بعود الخليفة إلى داره وخوفه من جهة الملك طغرلبك وقال له فيما قال إنك دعوتنا إلى طاعة المستنصر الفاطمي وبيننا وبينه ستمائة فرسخ ولم يأتنا رسول ولا أحد من عنده ولم يفكر في شيء مما ارسلنا إليه وهذا الملك من ورائنا بالمرصاد قريب منا وقد جاءني منه كتاب عنوانه إلى الأمير الجليل علم الدين أبي المعالي قريش بن بدران مولى أمير المؤمنين من شاهنشاه المعظم ملك المشرق والمغرب طغرلبك أبي طالب محمد بن ميكائيل بن سلجوق وعلى رأس الكتاب العلامة السلطانية بخط السلطان حسبي الله ونعم الوكيل وكان في الكتاب والآن قد سرت بنا المقادير إلى هلاك كل عدو في الدين ولم يبق علينا في المهمات إلا خدمة سيدنا ومولانا القائم بأمر الله أمير المؤمنين وإطلاع أبهة إمامته على سرير عزه فإن الذي يلزمنا ذلك ولا فسحة في التقصير فيه ساعة من الزمان وقد أقبلنا بجنود المشرق وخيولها إلى هذا المهم العظيم ونريد من الأمير الجليل علم الدين إبانة النجح الذي وفق له وتفرد به وهو أن يتم وفاءه من إقامته وخدمته في باب سيدنا ومولانا أمير المؤمنين إما أن يأتي به مكرما في عزه وإمامته إلى موقف خلافته من مدينة السلام ويتمثل بين يديه متوليا أمره ومنفذا حكمه وشاهرا سيفه وقلمه وذلك المراد وهوخليفتنا وتلك الخدمة بعض ما يجيب له ونحن نوليك العراق بأسرها ونصفي لك مشارع برها وبحرها لا يطؤها حافر خيل من خيول العجم (12/81)
شبرا من اراضي تلك المملكة إلا ملتمسا لمعاونتك ومظاهرتك وإما أن تحافظ على شخصه الغالي يتحويله من القلعة إلى حين نحظى بخدمته فليمتثل ذلك ويكون الأمير الجليل مخيرا بين أن يلقانا أو يقيم حيث شاء فنوليه العراق كلها ونستخلفه في الخدمة الإمامية ونصرف أعيننا إلى الممالك الشرقية فهمتنا لا تقتضي إلا هذا فعند ذلك كتب قريش إلى مهاوش بن مجلي الذي عنده الخليفة يقول له إن المصلحة تقتضي تسليم الخليفة إلي حتى آخذ لي ولك به أمانا فامتنع عليه مهاوش وقال قد غرني البساسيري ووعدني بأشياء لم أرها ولست بمرسله إليك أبدا وله في عنقي أيمان كثيرة لا أغدرها وكان مهارش هذا رجلا صالحا فقال للخليفة إن المصلحة تقتضي أن نسير إلى بلد بدر بن مهلهل وننظر ما يكون من أمر السلطان طغرلبك فإن ظهر دخلنا بغداد وإن كانت الأخرى نظرنا لأنفسنا فإني أخشى من البساسيري أن يأتينا فيحضرنا فقال له الخليفة افعل ما فيه المصلحة فسارا في الحادي عشر من ذي القعدة إلى أن حصلا بقلعة تل عكبرا فتلقته رسل السلطان طغرلبك بالهدايا التي كان أنفذها وجاءت الأخبار بأن السلطان طغرلبك قد دخل بغداد وكان يوما مشهودا غير أن الجيش نهبوا البلد غير دار الخليفة وصودر خلق كثير من التجار وأخذت منهم أموال كثيرة وشرعوا في عمارة دار الملك وأرسل السلطان إلى الخليفة مراكب كثيرة من أنواع الخيول وغيرها وسرادق وملابس وما يليق بالخليفة في السفر أرسل ذلك مع الوزير عميد الملك الكندري ولما انتهوا إلى الخليفة أرسلوا بتلك الآلات إليه قبل أن يصلوا إليه وقالوا اضربوا السرادق وليلبس الخليفة ما يليق به ثم نجيء نحن ونستأذن عليه فلا يأذن لنا إلا بعد ساعة طويلة فلما فعلوا ذلك دخل الوزير ومن معه فقبلوا الأرض بين يديه وأخبروه بسرور السلطان بسلامته وبما حصل من العود إلى بغداد وكتب عميد الملك كتابا إلى السلطان يعلمه بصفة ما جرى وأحب أن يضع الخليفة علامته في أعلا الكتاب ليكون أقر لعين السلطان وأحضر الوزير دواته ومعها سيف الدولة وقال هذه خدمة السيف والقلم فأعجب الخليفة ذلك وترحلوا من منزلهم ذلك بعد يومين فلما وصلوا النهروان خرج السلطان لتلقي الخليفة فلما وصل السلطان إلى سرادق الخليفة قبل الأرض سبع مرات بين يدي الخليفة فأخذ الخليفة مخدة فوضعها بين يديه فأخذها الملك فقبلها ثم جلس عليها كما أشار الخليفة وقدم الخليفة الحبل الياقوت الأحمر الذي كان لبني بويه فوضعه بين يديه وأخرج اثنتي عشرة حبة من لؤلؤ كبار وقال أرسلان خاتون يعني زوجة الملك تخدم الخليفة وسأله أن يسبح بهذه المسبحة وجعل يعتذر من تأخره عن الحضرة بسسب عصيان أخيه فقتله واتفق موت أخي الأكبر أيضا فاشتغلت بترتيب أولاده من بعده وأنا شاكر لمهارش بما كان منه من خدمة (12/82)
أمير المؤمنين وأنا ذاهب إن شاء الله خلف الكلب البساسيري فأقتله إن شاء الله ثم أدخل الشام وأفعل بصاحب مصر ما ينبغي أن يجازى به من سوء المقابلة فدعا له الخليفة وأعطى الخليفة للملك سيفا كان معه لم يبق معه من أمور الخلافة سواه واستأذن الملك لبقية الجيش أن يخدموا الخليفة فرفعت الأستار عن جوانب الحركات فلما شاهد الأتراك الخليفة قبلوا الأرض ثم دخلوا بغداد يوم الإثنين لخمس بقين من ذي القعدة وكان يوما مشهودا الجيش كله معه والقضاة والأعيان والسلطان آخذ بلجام بغلته إلى أن وصل باب الحجرة ثم إنه لما وصل الخليفة إلى دار مملكته استأذنه السلطان في الذهاب وراء البساسيري فأرسل جيشا من ناحية الكوفة ليمنعوه من الدخول إلى الشام وخرج هو والناس في التاسع والعشرين من الشهر وأما البساسيري فإنه مقيم بواسط في جمع غلات وأمور يهيئها لقتال السلطان وعنده أن الملك طغرلبك ومن عنده ليسوا بشيء يخاف منه وذلك لما يريده الله تعالى من إهلاكه إن شاء الله مقتل البساسيري على يدي السلطان طغرلبك لما سار السلطان وراءه وصلت السرية الأولى فلقوه بأرض واسط ومعه ابن مزيد فاقتتلوا هنالك وانهزم أصحابه عنه ونجا البساسيري بنفسه على فرس فتبعه بعض الغلمان فرمى فرسه بنشابة فألقته إلى الأرض فجاء الغلام فضربه على وجهه ولم يعرفه واسره واحد منهم يقال له كمسكين فحز رأسه وحمله إلى السلطان وأخذت الأتراك من جيش البساسيري من الأموال ما عجزوا عن حمله ولما وصل الرأس إلى السلطان أمر أن يذهب به إلى بغداد وأن يرفع على رمح وأن يطاف به في المحال وأن يطوف معه الدبادب والبوقات والنفاطون وان يخرج الناس والنساء للفرجة عليه ففعل ذلك ثم نصب على الطيارة تجاه دار الخليفة وقد كان مع البساسيري خلق من البغاددة خرجوا معه ظانين أنه سيعود إلى بغداد فهلكوا ونهبت أموالهم ولم ينج من أصحابه إلا القليل وفر ابن مزيد في ناس قليل إلى البطيحة ومنه أولاد البساسيري وأمهم وقد سلبتهم الأعراب فلم يتركوا لهم شيئا ثم استؤمن لابن مزيد من السلطان ودخل معه بغداد وقد نهبت العساكر ما بين واسط والبصرة والأهواز وذلك لكثرة الجيش وانتشاره وكثافته وأما الخليفة فإنه حين عاد إلى دار الخلافة جعل لله عليه أن لا ينام على وطاء ولا يأتيه أحد بطعام إذا كان صائما ولا يخدمه في وضوئه وغسله أحد بل يتولى ذلك كله بنفسه لنفسه وعاهد الله أن لا يؤذي أحدا ممن آذاه وأن يصفح عن من ظلمه وقال ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه وفيها تولى الملك الب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق بلاد حران بعد وفاة أبيه بتقرير عمه طغرلبك وكان له من الأخوة سليمان وقاروت بك وياقوتي فتزوج طغرلبك بأم سليمان (12/83)
وفيها كان بمكة رخص لم يسمع بمثله بيع التمر والبر كل مائتي رطل بدينار ولم يحج أحد من أهل العراق فيها ترجمة أرسلان أبو الحارس البساسيري التركي
كان من مماليك بهاء الدولة وكان أولا مملوكا لرجل من أهل مدينة بسا فنسب إليه فقيل له البساسيري وتلقب بالملك المظفر ثم كان مقدما كبيرا عند الخليفة القائم بأمر الله لا يقطع أمرا دونه وخطب له على منابر العراق كلها ثم طغى وبغى وتمرد وعتا وخرج على الخليفة والمسلمين ودعا إلى الخلافة الفاطميين ثم انقضى أجله في هذه السنة وكان دخوله إلى بغداد بأهله في سادس ذي القعدة من سنة خمسين وأربعمائة ثم اتفق خروجهم منها في سادس ذي القعدة أيضا من سنة إحدى وخمسين بعد سنة كاملة ثم كان خروج الخليفة من بغداد في يوم الثلاثاء الثاني عشر من كانون الأول واتفق قتل البساسيرى في يوم الثلاثاء الثامن عشر من كانون الأول بعد سنة شمسية وذلك في ذي الحجة منها
الحسن بن الفضل
أبو علي الشرمقاني المؤدب المقرى الحافظ للقرآن والقراءات واختلافها كان ضيق الحال فرآه شيخه ابن العلاف ذات يوم وهو يأخذ أوراق الخس من دجلة ويأكلها فأعلم ابن المسلمة بحاله فأرسل ابن المسلمة غلاما له وأمره أن يذهب إلى الخزانة التي له بمسجده فيتخذ لها مفتاحا غير مفتاحه ثم كان كل يوم يضع فيها ثلاثة أرطال من خبز السميد ودجاجة وحلاوة السكر فظن أبو علي الشرمقاني ان ذلك كرامة أكرمه الله بها وأن هذا الطعام الذي يجده في خزانته من الجنة فكتمه زمانا وجعل ينشد
... من أطلعوه على سر فباح به ... لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا ... وأبعدوه فلم يظفر بقربهم ... وأبدلوه فكان الأنس ايحاشا ... فلما كان بعض الأيام ذاكره ابن العلاف في أمره وقال له فيما قال أراك قد سمنت فما هذا الأمر وانت رجل فقير فجعل يلوح ولا يصرح ويكني ولا يفصح ثم الح عليه فأخبره أنه يجد كل يوم في خزانته من طعام الجنة ما يكفيه وان هذا كرامة أكرمه الله بها فقال له ادع لابن المسلمة فنه الذي يفعل ذلك وشرح له صورة الحال فكسره ذلك ولم يعجبه
علي بن محمود بن إبراهيم بن ماجره
أبو الحسن الروزنى شيخ الصوفية و إليه ينسب الرباط الروزني وقد كان بنى لأبي الحسن شيخه وقد صحب أبا عبد الرحمن السلمي وقال صحبت ألف شيخ وأحفظ عن كل شيخ حكاية توفي في رمضان عن خمس وثمانين سنة (12/84)
محمد بن علي
ابن الفتح بن محمد بن علي بن أبي طالب الحربي المعروف بالعشاري لطول جسده وقد سمع الدارقطني وغيره وكان ثقة دينا صالحا توفي في جمادي الأولى منها وقد نيف على الثمانين
الوني الفرضي
الحسين بن محمد بن عبدالله أبو عبدالله الوني نسبة إلى ون قرية من أعمال جهستان الفرضي شيخ الحربي وهو أبو حكيم عبدالله بن إبراهيم كان الوني إماما في الحساب والفرائض وانتفع الناس به توفي فيها ببغداد شهيدا في فتنة البساسيري والله أعلم
ثم دخلت سنة إثنتين وخمسين وأربعمائة
في يوم الخميس السابع عشر من صفر دخل السلطان بغداد مرجعه من واسط بعد قتل البساسيري وفي يوم الحادي والعشرين جلس الخليفة في داره وأحضر الملك طغرلبك ومد سماطا عظيما فأكل الأمراء منه والعامة ثم في يوم الخميس ثاني ربيع الأول عمل السلطان سماطا للناس وفي يوم الثلاثاء تاسع جمادى الآخرة قدم الأمير عدة الدين أبو القاسم عبدالله بن ذخيرة الدين بن أمير المؤمنين القائم بأمر الله وعمته وله من العمر يومئذ أربع سنين صحبة أبي الغنائم فتلقاه الناس إجلالا لجده وقد ولي الخلافة بعد ذلك وسمي المقتدي بأمر الله وفي رجب وقف أبو الحسن محمد بن هلال العتابي دار كتب وهي دار بشارع ابن أبي عوف من غربي بغداد ونقل إليها ألف كتاب عوضا عن دار ازدشير التي أحرقت بالكرخ وفي شعبان ملك محمود بن نصر حلب وقلعتها فامتدحه الشعراء وفيها ملك عطية بن مرداس الرحبة وذلك كله منتزع من أيدي الفاطميين ولم يحج أحد من أهل العراق فيها غير أن جماعة اجتمعوا إلى الكوفة وذهبوا مع الخفراء وممن توفي فيها من الأعيان
أبو منصور الجيلي
من تلاميذ أبي حامد ولي القضاء بباب الطلق وبحريم دار الخلافة وسمع الحديث من جماعة قال الخطيب وكتبنا عنه وكان ثقة
الحسن بن محمد
ابن أبي الفضل أبو محمد الفسوي الوالي سمع الحديث وكان ذكيا في صناعة الولاية ومعرفة التهم والمتهومين من الغرماء بلطف من الصنيع كما نقل عنه أنه أوقف بين يديه جماعة اتهموا بسرقة فأتى بكوز يشرب منه فرمى به فانزعج الواقفون إلا واحدا فامر به أن يقرر وقال السارق يكون جريئا قويا فوجد الأمر كذلك وقد قتل مرة رجلا في ضرب بين يديه فادعى عليه عند القاضي أبي الطيب فحكم عليه بالقصاص ثم فادى عن نفسه بمال جزيل حتى خلص (12/85)
محمد بن عبيدالله
ابن أحمد بن محمد بن عروس أبو الفضل البزار انتهت إليه رياسة الفقهاء المالكيين ببغداد وكان من القراء المجيدين وأهل الحديث المسندين سمع ابن حبانة والمخلص وابن شاهين وقد قبل شهادته أبو عبدالله الدامغاني وكان أحد المعدلين قطرالندى ويقال الدجى ويقال علم أم الخليفة القائم بأمر الله كانت عجوزا كبيرة بلغت التسعين وهي التي احتاجت في زمان البساسيري فأجرى عليها رزقا وأخدمها جاريتين ثم لم تمت حتى أقر الله عينها بولدها ورجوعه إليها واستمر أمرهم على ما كانوا عليه ثم توفيت في هذه السنة فحضر ولدها الخليفة جنازتها وكانت حافلة جدا
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة
فيها خطب الملك طغرلبك ابنة الخليفة فانزعج الخليفة من ذلك وقال هذا شيء لم تجر العادة بمثله ثم طلب شيئا كثيرا كهيئة الفرار ومن ذلك ما كان لزوجته التي توفيت من الإقطاعات بأرض واسط وثلثمائة ألف دينار وأن يقيم الملك ببغداد لا يرحل عنها ولا يوما واحدا فوقع الإتفاق على بعض ذلك وأرسل إليها بمائة ألف دينار مع ابنة أخيه داود زوجة الخليفة وأشياء كثيرة من آنية الذهب والفضة والنثار والجواري ومن الجواهر ألفان ومائتي قطعة من ذلك سبعمائة قطعة من جوهر وزن القطعة ما بين الثلاث مثاقيل إلى المثقال وأشياء أخرى فتمنع الخليفة لفوات بعض الشروط فغضب عميد الملك الوزير لمخدومه السلطان وجرت شرور طويلة اقتضت أن أرسل السلطان كتابا يأمر الخليفة بانتزاع ابنة أخيه السيدة أرسلان خاتون ونقلها من دار الخلافة إلى دار الملك حتى تنفصل هذه القضية فعزم الخليفة على الرحيل من بغداد فانزعج الناس لذلك وجاء كتاب السلطان إلى رئيس شحنة بغداد برشتق يأمره بعدم المراقبة وكثرة العسف في مقابلة رد أصحابه بالحرمان ويعزم على نقل الخاتون إلى دار المملكة وأرسل من يحملها إلى البلد التي هو فيها كل ذلك غضبا على الخليفة قال ابن الجوزي وفي رمضان منها رأى إنسان من الزمني رسول الله ( ص ) في المنام وهو قائم ومعه ثلاثة أنفس فجاءه أحدهم فقال له ألا تقوم فقال لا أستطيع أنا رجل مقعد فأخذ بيده فقال قم فقام وانتبه فإذا هو قد برأ واصبح يمشي في حوائجه وفي ربيع الآخر استوزر الخليفة أبا الفتح منصور بن أحمد بن دارست الأهوازي وخلع عليه وجلس في مجلس الوزارة وفي جمادى الآخرة لليلتين بقيتا منه كسفت الشمس كسوفا عظيما جميع القرص غاب فمكث الناس أربع ساعات حتى بدت النجوم وآوت الطيور إلى أوكارها وتركت الطيران (12/86)
لشدة الظلمة وفيها ولي أبو تميم بن معز الدولة بلاد إفريقية وفيها ولي ابن نصر الدولة
أحمد بن مروان
الكردي ديار بكر وفيها ولي قريش بن بدران بلاد الموصل ونصيبين وفيها خلع على طراد ابن محمد الزينبي الملقب بالكامل نقابة الطالبيين ولقب المرتضى وفيها ضمن أبو إسحاق بن علاء اليهودي ضياع الخليفة من صرصر إلى أواثي كل سنة ستة وثمانين ألف دينار وسبع عشرة ألف كر من غلة ولم يجح أحد من أهل العراق هذه السنة وممن توفي فيها من الأعيان أحمد بن مروان أبو نصر الكردي صاحب بلاد بكر وميافارقين لقبه القادر نصر الدولة وملك هذه البلاد ثنتين وخمسين سنة وتنعم تنعما لم يقع لأحد من أهل زمانه ولا أدركه فيه أحد من أقرانه وكان عنده خمسمائة سرية سوى من يخدمهن وعنده خمسمائة خادم وكان عنده من المغنيات شيء كثير كل واحدة مشتراها خمسة آلاف دينار وأكثر وكان يحضر في مجلسه من آلات اللهو والأواني ما يساوي مائتي ألف دينار وتزوج بعدة من بنات الملوك وكان كثير المهادنة للملوك إذا قصده عدو أرسل إليه بمقدار ما يصالحه به فيرجع عنه وقد أرسل إلى الملك طغرلبك بهدية عظيمة حين ملك العراق من ذلك حبل من ياقوت كان لبني بويه اشتراه منهم بشيء كثير ومائة ألف دينار وغير ذلك وقد وزر له أبو القاسم المغربي مرتين ووزر له أيضا أبو نصر محمد بن محمد بن جرير وكانت بلاده آمن البلاد وأطيبها وأكثرها عدلا وقد بلغه أن الطيور تجوع فتجمع في الشتاء من الحبوب التي في القرى فيصطادها الناس فأمر بفتح الأهراء وإلقاء ما يكفيها من الغلات في مدة الشتاء فكانت تكون في ضيافته طول الشتاء مدة عمره توفي في هذه السنة وقد قارب الثمانين قال ابن خلكان قال ابن الأزرق في تاريخه إنه لم يصادر أحدا من رعيته سوى رجل واحد ولم تفته صلاة مع كثرة مباشرته للذات وكان له ثلاثمائة وستون حظية يبيت عند كل واحد ليلة في السنة وخلف أولادا كثيرة ولم يزل على ذلك إلى أن توفي في التاسع والعشرين من شوال منها
ثم دخلت سنة أربع وخمسين وأربعمائة
فيها وردت الكتب الكثيرة من الملك طغرلبك يشكو من قلة إنصاف الخليفة وعدم موافقته له ويذكر ما أسداه إليه من الخير والنعم إلى ملوك الأطراف وقاضي القضاة الدامغاني فلما رأى الخليفة ذلك وأن الملك أرسل إلى نوابه بالإحتياط على أموال الخليفة كتب إلى الملك يجيبه إلى ما سأل فلما وصل ذلك إلى الملك فرح فرحا شديدا وأرسل إلى نوابه أن يطلقوا أملاك الخليفة واتفقت الكلمة بعد أن كادت تتفرق فوكل الخليفة في العقد فوقع العقد بمدينة تبريز بحضرة (12/87)
الملك طغرلبك وعمل سماطا عظيما فلما جئ بالوكالة قام لها الملك وقبل الأرض عند رؤيتها ودعا للخليفة دعاء كثيرا ثم أوجب العقد على صداق أربعمائة ألف دينار وذلك في يوم الخميس الثالث عشر من شعبان من هذه السنة ثم بعث ابنة أخيه الخاتون زوجة الخليفة في شوال بتحف كثيرة وجوهر وذهب كثير وجواهر عديدة ثمينة وهدايا عظيمة لأم العروس وأهلها وقال الملك جهرة للناس أنا عبد الخليفة ما بقيت لا أملك شيئا سوى ما علي من الثياب وفيها عزل الخليفة وزيره واستوزر أبا نصر محمد بن محمد بن جبير استقدمه من ميافارقين وفيها عم الرخص جميع الأرض حتى بيع بالبصرة كل ألف رطل تمر بثمان قراريط ولم يحج فيها أحد وممن توفي فيها من الأعيان
ثمال بن صالح
معز الدولة صاحب حلب كان حليما كريما وقورا ذكر ابن الجوزي ان الفراش تقدم إليه ليغسل يده فصدمت بلبلة الإبريق ثنيته فسقطت في الطست فعفا عنه
الحسن بن علي بن محمد
أبو محمد الجوهري ولد في شعبان سنة ثلاث وستين وسمع الحديث على جماعة وتفرد بمشايخ كثيرين منهم أبو بكر بن مالك القطيعي وهو آخر من حدث عنه توفي في ذي القعدة منها
الحسين بن أبي يزيد
أبو على الدباغ قال رأيت رسول الله ( ص ) في المنام فقلت يا رسول الله أدع الله أن يميتني على الإسلام فقال وعلى السنة
سعد بن محمد بن منصور
أبو المحاسن الجرجاني كان رئيسا قديما وجه رسولا إلى الملك محمود بن سبكتكين في حدود سنة عشر وكان من الفقهاء العلماء تخرج به جماعة وروى الحديث عن جماعة وعقد له مجلس المناظرة ببلدان كثيرة وقتل ظلما باستراباذ في رجب منها رحمه الله تعالى
ثم دخلت سنة خمس وخمسين وأربعمائة
فيها دخل السلطان طغرلبك بغداد وعزم الخليفة على تلقيه ثم ترك ذلك وأرسل وزيره أبا نصر عوضا عنه وكان من الجيش أذية كثيرة للناس في الطريق وتعرضوا للحريم حتى هجموا على النساء في الحمامات فخلصهن منهم العامة بعد جهد فإنا لله وإنا إليه راجعون
دخول الملك طغرلبك على بنت الخليفة
لما استقر السلطان ببغداد أرسل وزيره عميد الملك إلى الخليفة يطالبه بنقل ابنته إلى دار المملكة فتمنع الخليفة من ذلك وقال إنكم إنما سألتم أن يعقد العقد فقط بحصول التشريف والتزمتم لها بعود المطالبة فتردد الناس في ذلك بين الخليفة والملك وأرسل الملك زيادة على النقد مائة ألف دينار (12/88)
ومائة وخمسين ألف درهم وتحفا أجر وأشياء لطيفة فلما كان ليلة الإثنين الخامس عشر من صفر زفت السيدة ابنة الخليفة إلى دار المملكة فضربت لها السرادقات من دجلة إلى دار المملكة وضربت الدبادب والبوقات عند دخولها إلى الدار فلما دخلت أجلست على سرير مكلل بالذهب وعلى وجهها برقع ودخل الملك طغرلبك فوقف بين يديها فقبل الأرض ولم تقم له ولم تره ولم يجلس حتى انصرف إلى صحن الدار والحجاب والأتراك يرقصون هناك فرحا وسرورا وبعث لها مع الخاتون زوجة الخليفة عقدين فاخرين وقطعة ياقوت حمراء كبيرة هائلة ودخل من الغد فقبل الأرض وجلس على سرير مكلل بالفضة بإزائها ساعة ثم خرج وأرسل لها جواهر كثيرة ثمينة وفرجية نسج بالذهب مكلل بالحب وما زال كذلك كل يوم يدخل ويقبل الأرض ويجلس على سرير بإزائها ثم يخرج عنها ويبعث بالتحف والهدايا ولم يكن منه إليها شيء مقدار سبعة أيام ويمد كل يوم من هذه الأيام السبعة سماطا هائلا وخلع في اليوم السابع على جميع الأمراء ثم عرض له سفر واعتراه مرض فاستأذن الخليفة في الانصراف بالسيدة معه إلى تلك البلاد ثم يعود بها فأذن له بعد تمنع شديد وحزن عظيم فخرج بها وليس معها من دار الخلافة سوى ثلاث نسوة برسم خدمتها وقد تألمت لفقدها ألما شديدا وخرج السلطان وهو مريض مدنف مأيوس منه فلما كانت ليلة الأحد الرابع والعشرين من رمضان جاء الخبر بأنه توفي في ثامن الشهر فثار العيارون فقتلوا العميدي وسبعمائة من أصحابه ونهبوا الأموال وجعلوا يأكلون ويشربون على القتلى نهارا حتى انسلخ الشهر وأخذت البيعة بعده لولد أخيه سليمان بن داود وكان طغرلبك قد نص عليه وأوصى اليه لأنه كان قد تزوج بأمه واتفقت الكلمة عليه ولم يبق عليه خوف إلا من جهة أخي سليمان وهو الملك عضد الدولة ألب أرسلان محمد بن داود فإن الجيش كانوا يميلون إليه وقد خطب له أهل الجبل ومعه نظام الملك أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق وزيره ولما رأى الكندري قوة أمره خطب له بالري ثم من بعده لأخيه سليمان بن داود وقد كان الملك طغرلبك حليما كثير الاحتمال شديد الكتمان للسر محافظا على الصلوات وعلى صوم الإثنين والخميس مواظبا على لبس البياض وكان عمره يوم مات سيعين سنة ولم يترك ولدا وملك بحضرة القائم بأمر الله سبع سنين واحدى عشر شهرا واثنى عشر يوما ولما مات اضطربت الأحوال وانتقضت بعده جدا وعاثت الأعراب في سواد بغداد وارض العراق ينهبون وتعذرت الزراعة إلا على المخاطرة فانزعج الناس لذلك وفيها كانت زلزلة عظيمة بواسط وأرض الشام فهدمت قطعة من سور طرابلس وفيها وقع بالناس موتان بالجدري والفجأة ووقع بمصر وباء شديد كان يخرج منها كل يوم ألف جنازة وفيها (12/89)
ملك الصليحي صاحب اليمن مكة وجلب الأقوات إليها وأحسن إلى أهلها وفي أوائلها طلبت الست أرسلان زوجة الخليفة النقلة من عنده إلى عمها وذلك لما هجرها وبارت عنده فبعثها مع الوزير الكندري إلى عمها فلما وصلت إليه كان مريضا مدنفا فأرسل إلى الخليفة يعتب عليه في تهاونه بها فكتب الخليفة إليه ارتجالا ... ذهبت شرتي وولى الغرام ... وارجاع الشباب ما لا يرام ... أذهبت مني الليالي جديدا ... والليالي يضعفن والأيام ... فعلى ما عهدته من شبابي ... وعلى الغانيات مني السلام ... وممن توفي فيها من الأعيان
زهير بن علي بن الحسن بن حزام
أبو نصر الحزامي ورد بغداد وتفقه على الشيخ أبي حامد الاسفرايني وسمع بالبصرة سنن أبي داود على القاضي أبي عمر وحدث بالكثير وكان يرجع إليه في الفتاوي وحل المشكلات وكانت وفاته بسرخس فيها
سعيد بن مروان
صاحب آمد ويقال إنه سم فانتقم صاحب ميا فارقين ممن سمه فقطعه قطعا
الملك أبو طالب
محمد بن ميكائيل بن سلجوق طغرلبك كان أول ملوك السلاجقة وكان خيرا مصليا محافظا على الصلاة في أول وقتها يديم صيام الإثنين والخميس حليما عمن أساء إليه كتوما للأسرار سعيدا في حركاته ملك في أيام مسعود بن محمود عامة بلاد خراسان واستناب أخاه داود وأخاه لأمه إبراهيم بن نيال وأولاد إخوته على كثير من البلاد ثم استدعاه الخليفة إلى ملك بغداد كما تقدم ذلك كله مبسوطا توفي في ثامن رمضان من هذه السنة وله من العمر سبعون سنة وكان له في الملك ثلاثون سنة منها في ملك العراق ثمان سنين إلا ثمانية عشر يوما
ثم دخلت سنة ست وخمسين وأربعمائة
فيها قبض السلطان ألب أرسلان على وزير عمه عميد الملك الكندري وسجنه ببيته ثم أرسل إليه من قتله واعتمد في الوزارة على نظام الملك وكان وزير صدق يكرم العلماء والفقراء ولما عصى الملك شهاب الدولة قتلمش وخرج عن الطاعة وأراد أخذ ألب أرسلان خاف منه ألب أرسلان فقال له الوزير أيها الملك لا تخف فإني قد استدمت لك جندا ما بارزوا عسكرا إلا كسروه كائنا ما كان قال له الملك من هم قال جند يدعون لك وينصرونك بالتوجه في صلواتهم وخلواتهم وهم العلماء والفقراء الصلحاء فطابت نفس الملك بذلك فحين التقى مع قتلمش لم ينظره أن كسره وقتل خلقا من جنوده وقتل قتلمش في المعركة واجتمعت الكلمة على ألب أرسلان (12/90)
وفيها أرسل ولده ملكشاه ووزيره نظام الملك هذا في جنود عظيمة إلى بلاد الكرخ ففتحوا حصونا كثيرة وغنموا أموالا جزيلة وفرح المسلمون بنصرهم وكتب كتاب ولده على ابنة الخان الأعظم صاحب ما وراء النهر وزفت إليه وزوج ابنه الآخر بابنة صاحب غزنة واجتمع شمل الملكين السلجوقي والمحمودي وفيها أذن ألب أرسلان لابنة الخليفة في الرجوع إلى أبيها وأرسل معها بعض القضاة والأمراء فدخلت بغداد في تجمل عظيم وخرج الناس لينظروا إليها فدخلت ليلا ففرح الخليفة وأهلها بذلك وامر الخليفة بالدعاء لألب أرسلان على المنابر في الخطب فقيل في الدعاء اللهم وأصلح السلطان المعظم عضد الدولة وتاج الملة ألب أرسلان أبا شجاع محمد بن داود ثم أرسل الخليفة إلى الملك بالخلع والتقليد مع الشريف نقيب النقباء طراد بن محمد وأبي محمد التميمي وموفق الخادم واستقر أمر السلطان ألب أرسلان على العراق قال ابن الجوزي وفي ربيع الأول شاع في بغداد أن قوما من الأكراد خرجوا يتصيدون فرأوا في البرية خياما سودا سمعوا بها لطما شديدا وعويلا كثيرا وقائلا يقول قد مات سيدوك ملك الجن وأي بلد لم يلطم به عليه ولم يقم له مأتم فيه قال فخرج النساء العواهر من حريم بغداد إلى المقابر يلطمن ثلاثة أيام ويخرقن ثيابهن وينشرن شعورهن وخرج رجال من الفساق يفعلون ذلك وفعل هذا بواسط وخوزستان وغيرها من البلاد قال وهذا من الحمق لم ينقل مثله قال ابن الجوزي وفي يوم الجمعة ثاني عشر شعبان هجم قوم من أصحاب عبدالصمد على أبي علي بن الوليد المدرس للمعتزلة فسبوه وشتموه لامتناعه من الصلاة في الجامع وتدريسه للناس بهذا المذهب وأهانوه وجروه ولعنت المعتزلة في جامع المنصور وجلس أبو سعيد بن أبي عمامة وجعل يلعن المعتزلة وفي شوال ورد الخبر أن السلطان غزا بلدا عظيما فيه ستمائة ألف دنليز وألف بيعة ودير وقتل منهم خلقا كثيرا وأسر خمسمائة ألف إنسان وفي ذي القعدة حدث بالناس وباء شديد ببغداد وغيرها من بلاد العراق وغلت أسعار الأدوية وقل التمرهندي وزاد الحرفي تشارين وفسدالهواء وفي هذا الشهر خلع على أبي الغنائم المعمر بن محمد بن عبيدالله العلوي بنقابة الطالبيين وولاية الحج والمظالم ولقب بالظاهر ذي المناقب وقرئ تقليده في الموكب وحج أهل العراق في هذه السنة وممن توفي فيها من الأعيان
ابن حزم الظاهري
هو الإمام الحافظ العلامة أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معد بن سفيان بن يزيد مولى يزيد بن أبي سفيان صخر بن حرب الأموي اصل جده من فارس أسلم وخلف المذكور وهو أول من دخل بلاد المغرب منهم وكانت بلدهم قرطبة فولد ابن (12/91)
حزم هذا بها في سلخ رمضان سنة أربع وثمانين وثلثمائة فقرأ القرآن واشتغل بالعلوم النافعة الشرعية وبرز فيها وفاق أهل زمانه وصنف الكتب المشهورة يقال إنه صنف أربعمائة مجلد في قريب من ثمانين ألف ورقة وكان اديبا طبيبا شاعرا فصيحا له في الطب والمنطق كتب وكان من بيت وزارة ورياسة ووجاهة ومال وثروة وكان مصاحبا للشيخ أبي عمر بن عبد البر النمري وكان مناوئا للشيخ أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي وقد جرت بينهما مناظرات يطول ذكرها وكان ابن حزم كثير الوقيعة في العلماء بلسانه وقلمه فأورثه ذلك حقدا في قلوب أهل زمانه ومازالوا به حتى بغضوه إلى ملوكهم فطردوه عن بلاده حتى كانت وفاته في قرية له في شعبان من هذه السنة وقد جاوز التسعين والعجب كل العجب منه أنه كان ظاهريا حائرا في الفروع لا يقول بشئ من القياس لا الجلي ولا غيره وهذا الذي وضعه عند العلماء وأدخل عليه خطأ كبيرا في نظره وتصرفه وكان مع هذا من أشد الناس تأويلا في باب الأصول وآيات الصفات وأحاديث الصفات لأنه كان أولا قد تضلع من علم المنطق أخذه عن محمد بن الحسن المذحجي الكناني القرطبي ذكره ابن ماكولا وابن خلكان ففسد بذلك حاله في باب الصفات
عبد الواحد بن علي بن برهان
أبو القاسم النحوي كان شرس الأخلاق جدا لم يلبس سراويل قط ولا غطى رأسه ولم يقبل عطاء لأحد وذكر عنه أنه كان يقبل المردان من غير ريبة قال ابن عقيل وكان على مذهب مرجئة المعتزلة وينفي خلود الكفار في النار ويقول دوام العقاب في حق من لايجوز عليه التشفي لا وجه له مع ما وصف الله به نفسه من الرحمة ويتأول قوله تعالى خالدين فيها أبدا أي أبدا من الآباد قال ابن الجوزي وقدكان ابن برهان يقدح في أصحاب أحمد ويخالف إعتقاد المسلمين لأنه قد خالف ا لأجماع ثم ذكر كلامه في هذا وغيره والله أعلم
ثم دخلت سنة سبع وخمسين وأربعمائة
فيها سار جماعة من العراق إلى الحج بخفارة فلم يمكنهم المسير فعدلوا إلى الكوفة ورجعوا وفي ذي الحجة منها شرع في بناء المدرسة النظامية ونقض لأجلها دور كثيرة من مشرعة الزوايا وباب البصرة وفيها كانت حروب كثيرة بين تميم بن العزيز وباديس واولاد حماد والعرب والمغاربة بصنهاجة وزناتة وحج بالناس من بغداد النقيب أبو الغنائم وفيها كان مقتل عميد الملك الكندري وهو منصور بن محمد أبو نصر الكندري وزير طغرلبك وكان مسجونا سنة تامة ولما قتل حمل فدفن عند أبيه بقرية كندرة من عمل طريثيث وليست بكندرة التي هي بالقرب من قزوين واستحوذ السلطان على أمواله وحواصله وقد كان (12/92)
ذكيا فصيحا شاعرا لديه فضائل جمة حاضر الجواب سريعه لما ارسله طغرلبك إلى الخليفة يطلب ابنته وامتنع الخليفة من ذلك وانشد متمثلا بقول الشاعر ... ما كل ما يتمنى المرء يدركه ...
فأجابه الوزير تمام قوله
... تجري الرياح بما لا يشتهى السفن ...
فسكت الخليفة وأطرق قتل عن نيف وأربعين سنة ومن شعره قوله
... ان كان في الناس ضيق عن منافستي ... فالموت قد وسع الدنيا على الناس ... مضيت والشامت المغبون يتبعنى ... كل لكاس المنايا شاربا حاسى ... وقد بعثه الملك طغرلبك يخطب له امرأة خوارزم شاه فتزوجها هو فخصاه الملك وأمره على عمله فدفن ذكره بخوارزم وسفح دمه حين قتل بمروالروذ ودفن جسده بقريته وحمل رأسه فدفن بنيسابور ونقل قحف رأسه إلى كرمان وأنا اشهد ان الله جامع الخلائق إلى ميقات يوم معلوم أين كانوا وحيث كانوا وعلى أي صفة كانوا وعلى اى صفة كانوا سبحانه وتعالى
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وأربعمائة
في يوم عاشوراء اغلق أهل الكرخ دكاكينهم وأحضروا نساء ينحن على الحسين كما جرت به عادتهم السالفة في بدعتهم المتقدمة المخالفة فحين وقع ذلك أنكرته العامة وطلب الخليفة أبا الغنائم وأنكر عليه ذلك فاعتذر إليه بأنه لم يعلم به أنه حين علم أزاله وتردد أهل الكرخ إلى الديوان يعتذرون من ذلك وخرج التوقيع بكفر من سب الصحابة وأظهر البدع قال ابن الجوزي في ربيع الأول ولد بباب الأزج صبية لها رأسان ووجهان ورقبتان واربع أيد على بدن كامل ثم ماتت قال وفي جمادي الآخرة كانت بخراسان زلزلة مكثت أياما تصدعت منها الجبال و هلك جماعة وخسف بعدة قرى وخرج الناس إلى الصحراء وأقاموا هنالك ووقع حريق بنهر يعلى فاحترق مائة دكان وثلاثة دور وذهب للناس شيء كثير ونهب بعضهم بعضا قال ابن الجوزي و في شعبان وقع قتال بدمشق فأحرقوا دارا كانت قريبة من الجامع فاحترق جامع دمشق كذا قال ابن الجوزي والصحيح المشهور ان حريق جامع دمشق إنما هو في ليلة النصف من شعبان سنة إحدى وستين وأربعمائة بعد ثلاث سنين مما قال وان غلمان الفاطميين اقتلوا مع غلمان العباسيين فألقيت نار بدار الإمارة وهي الخضراء فاحترقت وتعدى حريقها حتى وصل إلى الجامع فسقطت سقوفه وبادت زخرفته وتلف رخامه وبقي كأنه خربة وبادت الخضراء فصارت كوما من تراب بعد ما كانت في غاية الإحكام والإتقان وطيب الفناء ونزهة المجالس وحسن المنظر فهي إلى يومنا هذا لا يسكنها لرداءة مكانها إلا سفلة الناس وأسقاطهم بعد ما كانت دار الخلافة والملك والإمارة منذ أسسها معاوية بن أبي سفيان وأما الجامع الأموي فإنه لم يكن على وجه الأرض (12/93)
شئ أحسن منه ولا أبهى منظرا إلى أن أحترق فبقي خرابا مدة طويلة ثم شرع الملوك في تجديده وترميمه حتى بلط في زمن العادل أبي بكر بن أيوب ولم يزالوا في تحسين معالمه إلى زماننا هذا فتماثل وهو بالنسبة إلى حاله الأول كلا شىء ولا زال التحسين فيه إلى أيام الأمير سيف الدين بتكنزين عبد الله الناصري في حدود سنة ثلاث وسبعمائة وما قبلها وما بعدها بيسير وفيها رخصت الأسعار ببغداد رخصا كثيرا ونقصت دجلة نقصا بينا وفيها أخذ الملك الب أرسلان العهد بالملك من بعده لولده ملكشاه ومشى بين يديه بالغاشية والأمراء يمشون بين يديه و كان يوما مشهودا وحج بالناس فيها نور الهدى أبو طالب الحسين بن نظام الحضرتين الزينبي وجاور بمكة وفيها توفي من الأعيان
الحافظ الكبير أبو بكر البيهقي
أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى أبو بكر البيهقي له التصانيف التي سارت بها الركبان إلى سائر الأمصار ولد سنة أربع وثمانين وثلثمائة وكان أوحد أهل زمانه في الإتقان والحفظ والفقه والتصنيف كان فقيها محدثا أصوليا أخذ العلم عن الحاكم أبي عبد الله النيسابوري وسمع على غيره شيئا كثيرا وجمع أشياء كثيرة نافعة لم يسبق إلى مثلها ولا يدرك فيها منها كتاب السنن الكبير ونصوص الشافعي كل في عشر مجلدات والسنن الصغير والآثار والمدخل والآداب وشعب الإيمان والخلافيات ودلائل النبوة والبعث والنشور وغير ذلك من المصنفات الكبار والصغار المفيدة التي لاتسامى ولا تدانى وكان زاهدا متقللا من الدنيا كثير العبادة والورع توفي بنيسابور ونقل تابوته إلى بيهق في جمادى الاولى منها
الحسن بن غالب
ابن علي بن غالب بن منصور بن صعلوك أبو علي التميمي ويعرف بابن المبارك المقري صحب ابن سمعون وقرأ القرآن على حروف أنكرت عليه وجرب عليه الكذب إما عمدا وإما خطأ واتهم في رواية كثيرة وكان أبو بكر القزيني ممن ينكر عليه وكتب عليه محضر بعدم الاقراء بالحروف المنكرة قال أبو محمد السمرقندي كان كذابا توفي فيها عن ثنتين وثمانين سنة ودفن عند إبراهيم الحربي قال ابن خلكان أخذ الفقه عن أبي الفتح نصر بن محمد العمري المروزي ثم غلب عليه الحديث واشتهر به ورحل في طلبه
القاضي أبو يعلي بن الفرا الحنبلي
محمد بن الحسن بن محمد بن خلف بن أحمد الفرا القاضي أبو يعلى شيخ الحنابلة وممهد مذهبهم في الفروع ولد في محرم سنة ثمانين وثلثمائة وسمع الحديث الكثير وحدث عن ابن حبابة قال (12/94)
ابن الجوزي وكان من سادات العلماء الثقات وشهد عند ابن ماكولا وابن الدامغاني فقبلاه وتولى النظر في الحكم بحريم الخلافة وكان إماما في الفقه له التصانيف الحسان الكثيرة في مذهب أحمد ودرس وافتى سنين وانتهت إليه رياسة المذهب وانتشرت تصانيفه وأصحابه وجمع الإمامة والفقه والصدق وحسن الخلق والتعبد والتقشف والخشوع وحسن السمت والصمت عما لايعني توفي في العشرين من رمضان منها عن ثمان وسبعين سنة واجتمع في جنازته القضاة والأعيان وكان يوما حارا فأفطر بعض من اتبع جنازته وترك من البنين عبيد الله أبا القاسم وأبا الحسين وأبا حازم ورآه بعضهم في المنام فقال ما فعل الله بك فقال رحمنى وغفر لي وأكرمني ورفع منزلتي وجعل يعد ذلك بأصبعه فقال بالعلم فقال بل بالصدق
ابن سيده
صاحب المحكم في اللغة أبو الحسين علي بن إسماعيل المرسى كان إماما حافظا في اللغة وكان ضرير البصر أخذ علم العربية واللغة عن أبيه وكان أبوه ضريرا أيضا واشتغل على أبي العلاء صاعد البغدادي وله المحكم في مجلدات عديدة وله شرح الحماسة في ست مجلدات وغير ذلك وقرأ على الشيخ أبي عمر الطملنكي كتاب الغريب لأبي عبيد سردا من حفظه فتعجب الناس لذلك وكان الشيخ يقابل بما يقرأ في الكتاب فسمع الناس بقرائته من حفظه توفي في ربيع الأول منها وله ستون سنة وقيل إنه توفي في سنة ثمان وأربعين والأول أصح والله أعلم
ثم دخلت سنة تسع وخمسين وأربعمائة
فيها بنى أبو سعيد المستوفى الملقب بشرف الملك مشهد الإمام أبي حنيفة ببغداد وعقد عليه قبة وعمل بإزائه مدرسة فدخل أبو جعفر بن البياضي زائرا لأبي حنيفة فأنشد ... ألم تر العلم كان مضيعا ... فجمعه هذا المغيب في اللحد ... كذلك كانت هذه الأرض ميته ... فأنشرها جود العميد ابي السعد ... وفيها هبت ريح حارة فمات بسببها خلق كثير وورد أن ببغداد تلف شجر كثير من الليمون والأترج وفيها احترق قبر معروف الكرخي وكان سببه ان القيم طبخ له ماء الشعير لمرضه فتعدت النار إلى الأخشاب فاحترق المشهد وفيها وقع غلاء وفناء بدمشق وحلب وحران وأعمال خراسان بكمالها ووقع الفناء في الدواب كانت تنتفخ رؤسها وأعينها حتى كان الناس يأخذون حمر الوحش بالأيدي وكانوا يأنفون من أكلها قال ابن الجوزي في المنتظم وفي يوم السبت عاشر ذي القعدة جمع العميد أبو سعد الناس ليحضروا الدرس بالنظامية ببغداد وعين لتدريسها ومشيختها الشيخ أبا إسحاق الشيرازي فلما (12/95)
تكامل اجتماع الناس وجاء أبو اسحاق ليدرس لقيه فقيه شاب فقال يا سيدي تذهب تدرس في مكان مغصوب فامتنع أبو إسحاق من الحضور ورجع إلى بيته فأقيم الشيخ أبو نصر الصباغ فدرس فلما بلغ نظام الملك ذلك تغيظ على العميد وأرسل إلى الشيخ أبي إسحاق فرده إلى التدريس بالنظامية في ذي الحجة من هذه السنة وكان لا يصلي فيها مكتوبة بل كان يخرج إلى بعض المساجد فيصلي لما بلغه من أنها مغصوبة وقد كان مدة تدريس ابن الصباغ فيها عشرين يوما ثم عاد أبو إسحاق إليها وفي ذي القعدة من هذه السنة قتل الصليحي أمير اليمن وصاحب مكة قتله بعض أمراء اليمن وخطب للقائم بأمر الله العباسي وفيها حج بالناس أبو الغنائم النقيب وممن توفي فيها من الأعيان
محمد بن إسماعيل بن محمد
أبو علي الطرسوسي ويقال له العراقي لظرفه وطول مقامه بها سمع الحديث من أبي طاهر المخلص وتفقه على أبي محمد الباقي ثم على الشيخ أبي حامد الاسفرايني وولي قضاء بلدة طرسوس وكان من الفقهاء الفضلاء المبرزين
ثم دخلت سنة ستين وأربعمائة
قال ابن الجوزي في جمادى الأولى كانت زلزلة بأرض فلسطين أهلكت بلد الرملة ورمت شراريف من مسجد رسول الله ( ص ) ولحقت وادي الصفر وخيبر وانشقت الأرض عن كنوز كثيرة من المال وبلغ حسها إلى الرحبة والكوفة وجاء كتاب بعض التجار فيه ذكر هذه الزلزلة وذكر فيه أنها خسفت الرملة جميعا حتى لم يسلم منها إلا داران فقط وهلك منها خمس عشرة ألف نسمة وانشقت صخرة بيت المقدس ثم عادت فالتأمت وغار البحر مسيرة يوم وساخ في الأرض وظهر في مكان الماء أشياء من جواهر وغيرها ودخل الناس في أرضه يلتقطون فرجع عليهم فأهلك كثيرا منهم أو أكثرهم وفي يوم النسف من جمادى الآخرة قرئ الإعتقاد القادري الذي فيه مذهب أهل السنة والإنكار على أهل الدبع وقرأ أبو مسلم الكجي البخاري المحدث كتاب التوحيد لابن خزيمة على الجماعة الحاضرين وذكر بمحضر من الوزير ابن جهير وجماعة الفقهاء وأهل الكلام واعترفوا بالموافقة ثم قرئ الإعتقاد القادري على الشريف أبي جعفر بن المقتدي بالله بباب البصرة وذلك لسماعه له من الخليفة القادر بالله مصنفه وفيها عزل الخليفة وزيره أبا نصر محمد بن محمد بن جهير الملقب فخر الدولة وبعث إليه يعاتبه في اشياء كثيرة فاعتذر منها وأخذ في الترفق والتذلل فأجيب بأن يرحل إلى أي جهة شاء فاختار ابن مزيد فباع أصحابه أملاكهم وطلقوا نساءهم وأخذ أولاده وأهله وجاء ليركب في سفينة لينحدر منها إلى الحلة والناس يتباكون حوله لبكائه فلما اجتاز بدار الخلافة قبل الأرض دفعات (12/96)
والخليفة في الشباك و الوزير يقول يا أمير المؤمنين ارحم شيبتي وغربتي وأولادي فأعيد إلى الوزارة بشفاعة دبيس بن مزيد في السنة الآتية وامتدحه الشعراء وفرح الناس برجوعه إلى الوزارة وكان يوما مشهودا وفيها توفي من الأعيان
عبد الملك بن محمد بن يوسف بن منصور
الملقب بالشيخ الأجل كان أوحد زمانه بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والمبادرة إلى فعل الخيرات واصطناع الأيادى عند أهلها من أهل السنة مع شدة القيام على أهل البدع ولعنهم وافتقاد المستورين بالبر والصدقة واخفاء ذلك جهده وطاقته ومن غريب ما وقع له أنه كان يصل إنسانا في كل يوم بعشرة دنانير كان يكتب بها معه إلى ابن رضوان فلما توفي الشيخ جاء الرجل إلى ابن رضوان فقال ادفع إلى ما كان يصرف لى الشيخ فقال له ابن رضوان انه قد مات ولا أصرف لك شيئا فجاء الرجل إلى قبر الشيخ الأجل فقرأ شيئا من القرآن ودعا له وترحم عليه ثم التفت فإذا هو بكاغد فيه عشرة دنانير فأخذها وجاء بها إلى ابن رضوان فذكر له ما جرى له فقال هذه سقطت مني اليوم عند قبره فخذها ولك عندي في كل يوم مثلها توفي في نصف المحرم منها عن خمس وستين سنة وكان يوم موته يوما مشهودا حضره خلق لا يعلم عددهم إلا الله عز و جل فC تعالى
ابو جعفر محمد بن الحسن الطوسي
فقيه الشيعة ودفن في مشهد علي و كان مجاورا به حين أحرقت داره بالكرخ وكتبه سنة ثمان وأبعين إلى محرم هذه السنة فتوفي ودفن هناك
ثم دخلت سنة إحدى وستين وأربعمائة
في ليلة النصف من شعبان منها كان حريق جامع دمشق وكان سببه أن غلمان الفاطميين والعباسيين اختصموا فألقيت نار بدار الملك وهي الخضراء المتاخمة للجامع من جهة القبلة فاحترقت وسرى الحريق إلى الجامع فسقطت سقوفه وتناثرت فصوصه المذهبة وتغيرت معالمه وتقلعت الفسيفساء التي كانت في أرضه وعلى جدرانه وتبدلت بضدها وقد كانت سقوفه مذهبة كلها والجملونات من فوقها وجدرانه مذهبة ملونة مصور فيها جميع بلاد الدنيا بحيث ان الإنسان إذا أراد ان يتفرج في إقليم أو بلد وجده في الجامع مصورا كهيئته فلا يسافر إليه ولا يعنى في طلبه فقد وجده من قرب الكعبة ومكة فوق المحراب والبلاد كلها شرقا وغربا كل إقليم في مكان لائق به ومصور فيه كل شجرة مثمرة وغير مثمرة مصور مشكل في بلدانه وأوطانه والستور مرخاة على أبوابه النافذة إلى الصحن وعلى أصول الحيطان إلى مقدار الثلث منها ستور وباقي الجدران (12/97)
بالفصوص الملونة وأرضه كلها بالفصوص ليس فيها بلاط بحيث إنه لم يكن في الدنيا بناء أحسن منه لا قصور الملوك ولا غيرها ثم لما وقع هذا الحريق فيه تبدل الحال الكامل بضده وصارت أرضه طينا في زمن الشتاء وغبارا في زمن الصيف محفورة مهجورة ولم يزل كذلك حتى بلط في زمن العادل أبي بكر بن أيوب بعد الستمائة سنة من الهجرة وكان جميع ما سقط منه من الرخام والفصوص والأخشاب وغيرها مودعا في المشاهد الأربعة حتى فرغها من ذلك كمال الدين الشهر زورى في زمن العادل نور الدين محمود بن زنكي حين ولاه نظره مع القضاء ونظر الأوقاف كلها ونظر دار الضرب وغيرذلك ولم تزل الملوك تجدد في محاسنه إلى زماننا هذا فتقارب حاله في زمن تنكيز نائب الشام وقد تقدم أن ابن الجوزي أرخ ماذكرنا في سنة ثمان وخمسين وتبعه ابن الساعي أيضا في هذه السنة وكذلك شيخنا الذهبي مؤرخ الإسلام وغير واحد والله أعلم وفيها نقمت الحنابلة على الشيخ أبي الوفا بن عقيل وهو من كبرائهم بتردده إلى أبي على بن الوليد المتكلم المعتزلى واتهموه بالاعتزال وإنما كان يتردد إليه ليحيط علما بمذهبه ولكن شرقه الهوى فشرق شرقة كادت روحه يخرج معها وصارت فيه نزعة منه وجرت بينه وبينهم فتنة طويلة وتأذى بسببها جماعة منهم وما سكنت الفتنة بينهم إلى سنة خمس وستين ثم اصطلحوا فيما بينهم بعد اختصام كبير وفيها زادت دجلة على إحدى وعشرين ذراعا حتى دخل الماء مشهد أبي حنيفة وفيها ورد الخبر بأن الأفشين دخل بلاد الروم حتى انتهى إلى غورية فقتل خلقا وغنم أموالا كثيرة وفيها كان رخص عظيم في الكوفة حتى بيع السمك كل أربعين رطلا بحبة وفيها حج بالناس أبو الغنائم العلوي وممن توفي فيها من الأعيان
الفوراني صاحب الابانة
أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن فوران الفوراني المروزي أحد أئمة الشافعية ومصنف الابانة التي فيها من النقول الغريبة والأقوال والأوجه التي لا توجد إلا فيها كان بصيرا بالأصول والفروع أخذ الفقه عن القفال وحضر إمام الحرمين عنده وهو صغير فلم يلتفت إليه فصار في نفسه منه فهو يخطئه كثيرا في النهاية قال ابن خلكان فمتى قال في النهاية وقال بعض المصنفين كذا وغلط في ذلك وشرع في الوقوع فيه فمراده أبو القاسم الفوراني توفي الفوراني في رمضان منها بمرو عن ثلاث وسبعين سنة وقد كتب تلميذه أبو سعد عبد الرحمن بن محمد المأمون المعري المدرس بالنظامية بعد أبي إسحاق وقبل ابن الصباغ وبعده ايضا كتابا على الآبانة فسماه تتمة الابانة انتهى فيه إلى كتاب الحدود ومات قبل إتمامه فتممه أسعد العجلي وغيره لم يلحقوا شأوه ولا حاموا حوله وسموه تتمة التتمة (12/98)
ثم دخلت سنة اثنتين وستين وأربعمائة
قال ابن الجوزي فمن الحوادث فيها أنه كان على ثلاث ساعات في يوم الثلاثاء الحادى عشر من جمادي الأولى وهو ثامن عشرين أذار كانت زلزلة عظيمة بالرملة وأعمالها فذهب أكثرها وانهدم سورها وعم ذلك بيت المقدس ونابلس وانخسفت إيليا وجفل البحر حتى انكشفت أرضه ومشى ناس فيه ثم عاد وتغير وانهدم إحدى زوايا جامع مصر وتبعت هذه الزلزلة في ساعتها زلزلتان أخريان وفيها توجه ملك الروم من قسطنطينية إلى الشام في ثلثمائة ألف مقاتل فنزل على منبج وأحرق القرى ما بين منبج إلى أرض الروم وقتل رجالهم وسبى نساءهم وأولادهم وفزع المسلمون بحلب وغيرها منه فزعا عظيما فأقام ستة عشر يوما ثم رده الله خاسئا وهو حسير وذلك لقلة ما معهم من الميرة وهلاك أكثر جيشه بالجوع ولله الحمد والمنة وفيها ضاقت النفقة على أمير مكة فأخذ الذهب من أستار الكعبة والميزاب وباب الكعبة فضرب ذلك دراهم ودنانير وكذا فعل صاحب المدينة بالقناديل التي في المسجد النبوي وفيها كان غلاء شديد بمصر فأكلوا الجيف والميتات والكلاب فكان يباع الكلب بخمسة دنانير وماتت الفيلة فأكلت ميتاتها وأفنيت الدواب فلم يبق لصاحب مصر سوى ثلاثة أفراس بعد أن كان له العدد الكثير من الخيل والدواب ونزل الوزير يوما عن بغلته فغفل الغلام عنها لضعفه من الجوع فأخذها ثلاثة نفر فذبحوها وأكلوها فأخذوا فصلبوا فما أصبحوا إلا وعظامهم بادية قد أخذ الناس لحومهم فأكلوها وظهر على رجل يقتل الصبيان والنساء ويدفن رؤسهم وأطرافهم ويبيع لحومهم فقتل وأكل لحمه وكانت الأعراب يقدمون بالطعام يبيعونه في ظاهر البلد لا يتجاسرون يدخلون لئلا يخطف وينهب منهم وكان لا يجسر أحد أن يدفن ميته نهارا وإنما يدفنه ليلا خفية لئلا ينبش فيؤكل واحتاج صاحب مصر حتى باع أشياء من نفائس ما عنده من ذلك إحدى عشر ألف درع وعشرون ألف سيف محلى وثمانون ألف قطعة بلور كبار وخمسة وسبعون ألف قطعة من الديباج القديم وبيعت ثياب النساء والرجال وغير ذلك بأرخص ثمن وكذلك الأملاك وغيرها وقد كان بعض هذه النفائس للخليفة مما نهب من بغداد في وقعة البساسيري وفيها وردت التقادم من الملك ألب أرسلان إلى الخليفة وفيها اسم ولي العهد ابن الخليفة على الدنانير والدراهم ومنع التعامل بغيرها وسمي المضروب عليه الأميري وفيها ورد كتاب صاحب مكة إلى الملك ألب أرسلان وهو بخراسان يخبره بإقامة الخطبة بمكة للقائم بأمر الله وللسلطان وقطع خطبة المصريين فأرسل إليه بثلاثين ألف دينار وخلعة سنية وأجرى له في كل سنة عشرة آلاف دينار وفيها تزوج عميد الدولة ابن جهير بابنة نظام الملك بالري وحج بالناس أبو الغنائم العلوي (12/99)
وفيها توفي من الأعيان و المشاهير
الحسن بن علي
ابن محمد أبو الجوائز الواسطي سكن بغداد دهرا طويلا وكان شاعرا أديبا ظريفا ولد سنة ثنتين وخمسين وثلثمائة ومات في هذه السنة عن مائة وعشر سنين ومن مستجاد شعره قوله ... واحسرتى من قولها ... قد خان عهدي ولها ... وحق من صيرتي ... وقفا عليها ولها ... ما خطرت بخاطري ... إلا كستنى ولها ...
محمد بن أحمد بن سهل
المعروف بابن بشران النحوي الواسطي ولد سنة ثمانين وثلثمائة وكان عالما بالأدب وانتهت إليه الرحلة في اللغة وله شعر حسن فمنه قوله ... يا شائدا للقصور مهلا ... أقصر فقصر الفتى الممات ... لم يجتمع شمل أهل قصر إلا قصارهم الشتات ... وإنما العيش مثل ظل ... منتقل ماله ثبات ... وقوله ودعتهم ولي الدنيا مودعة ... ورحت مالي سوى ذكراهم وطر ... وقلت بالذاتي بيني لبينهم ... كأن صفو حياتي بعدهم كدر ... لولا تعلل قلبي بالرجاء لهم ... ألفيته إن حدوا بالعيس ينفطر ... يا ليت عيسهم يوم النوى نحرت ... أوليتها للضواري بالفلا جزر ... يا ساعة البين أنت الساعة اقتربت ... يا لوعة البين أنت النار تستعر ... وقوله طلبت صديقا في البرية كلها ... فأعيا طلابي أن أصيب صديقا ... بلى من سمى بالصديق مجازه ... ولم يك في معنى الوداد صدوقا ... فطلقت ود العالمين ثلاثة ...
وأصبحت من اسر الحفاظ طليقا
... وفيها أقبل ملك الروم أرمانوس في جحافل أمثال الجبال من الروم والكرخ والفرنج وعدد عظيم وعدد ومعه خمسة وثلاثون ألفا من البطارقة مع كل بطريق مائتا ألف فارس ومعه من الفرنج خمسة وثلاثون ألفا ومن الغزاة الذين يسكنون القسطنطينية خمسة عشر ألفا ومعه مائة ألف نقاب وحفار والف روز جاري ومعه أربعمائة عجلة تحمل النعال والمسامير والفا عجلة تحمل السلاح والسروج والغردات والمناجيق منها منجنيق عدة ألف ومائتا رحل وأهله ومن عزمه قبحه الله أن يبيد الاسلام وقد أقطع بطارقته البلاد حتى بغداد واستوصى نائبها بالخليفة خيرا فقال له ارفق بذلك الشيخ فإنه صاحبنا ثم إذا استوثقت ممالك العراق وخراسان لهم مالوا على الشام وأهله ميلة واحدة فاستعادوه من أيدي المسلمين والقدر يقول ( لعمرك إنهم في سكرتهم يعمهون ) (12/100)
فالقتاه السلطان ألب ارسلان في جيشه وهم قريب من عشرين ألفا بمكان يقال له الزهوة في يوم الأربعاء لخمس بقين من ذي القعدة وخاف السلطان من كثرة جند ملك الروم فأشار عليه الفقيه أبو نصر محمد بن عبدالملك البخاري بأن يكون وقت الوقعة يوم الجمعة بعد الزوال حين يكون الخطباء يدعون للمجاهدين فلما كان ذلك الوقت وتواقف الفريقان وتواجه الفتيان نزل السلطان عن فرسه وسجد لله عز و جل ومرغ وجهه في التراب ودعا الله واستنصره فأنزل نصره على المسلمين ومنحهم أكتافهم فقتلوا منهم خلقا كثيرا وأسر ملكهم أرمانوس أسره غلام رومي فلما أوقف بين يدي الملك ألب أرسلان ضربه بيده ثلاث مقارع وقال لو كنت أنا الأسير بين يديك ما كنت تفعل قال كل قبيح قال فما ظنك بي فقال إما أن تقتل وتشهرني في بلادك وإما أن تعفو وتأخذ الفداء وتعيدني قال ما عزمت على غير العفو والفداء فافتدى نفسه منه بألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار فقام بين يدي الملك وسقاه شربة من ماء وقبل الأرض بين يديه وقبل الأرض إلى جهة الخليفة إجلالا وإكراما وأطلق له الملك عشرة آلاف دينار ليتجهز بها وأطلق معه جماعة من البطارقة وشيعه فرسخا وأرسل معه جيشا يحفظونه إلى بلاده ومعهم راية مكتوب عليها لا إله إلا الله محمد رسول الله فلما انتهى إلى بلاده وجد الروم قد ملكوا عليهم غيره فأرسل إلى السلطان يعتذر إليه وبعث من الذهب والجواهر ما يقارب ثلاثمائة ألف دينار وتزهد ولبس الصوف ثم استغاث بملك الأرمن فأخذه وكحله وأرسله إلى السلطان يتقرب إليه بذلك وفيها خطب محمود بن مرداس للقائم وللسلطان ألب أرسلان فبعث إليه الخليفة بالخلع والهدايا والتحف والعهد مع طراد وفيها حج بالناس أبو الغنائم العلوي وخطب بمكة للقائم وقطعت خطبة المصريين منها وكان يخطب لهم فيها من نحو مائة سنة فانقطع ذلك وفيها توفي من الأعيان
أحمد بن علي
ابن ثابت بن أحمد بن مهدي أبو بكر الخطيب البغدادي أحد مشاهير الحفاظ وصاحب تاريخ بغداد وغيره من المصنفات العديدة المفيدة نحو من ستين مصنفا ويقال بل مائة مصنف فالله أعلم ولد سنة إحدى وتسعين وثلثمائة وقيل سنة ثنتين وتسعين واول سماعه سنة ثلاث وأربعمائة ونشأ ببغداد وتفقه على أبي طالب الطبري وغيره من أصحاب الشيخ أبي حامد الإسفرايني وسمع الحديث الكثير ورحل إلى البصرة ونيسابور وأصبهان وهمذان والشام والحجاز وسمي الخطيب لأنه كان يخطب بدرب ريحان وسمع بمكة على القاضي أبي عبدالله محمد بن سلامة القضاعي وقرأ صحيح البخاري على كريمة بنت أحمد في خمسة أيام ورجع إلى بغداد وحظي عند الوزير أبي القاسم بن مسلمة ولما ادعى اليهود الخيابرة أن معهم كتابا نبويا فيه إسقاط الجزية (12/101)
عنهم أوقف ابن مسلمة الخطيب على هذا الكتاب فقال هذا كذب فقال له وما الدليل على كذبه فقال لأن فيه شهادة معاوية بن أبي سفيان ولم يكن أسلم يوم خيبر وقد كانت خيبر في سنة سبع من الهجرة وإنما أسلم معاوية يوم الفتح وفيه شهادة سعد بن معاذ وقد مات قبل خيبر عام الخندق سنة خمس فأعجب الناس ذلك وقد سبق الخطيب إلى هذا النقل سبقه محمد بن جرير كما ذكرت ذلك في مصنف مفرد ولما وقعت فتنة البساسيري ببغداد سنة خمسين خرج الخطيب إلى الشام فأقام بدمشق بالمأذنة الشرقية من جامعها وكان يقرأ على الناس الحديث وكان جهوري الصوت يسمع صوته من أرجاء الجامع كلها فاتفق أنه قرأ على الناس يوما فضائل العباس فثار عليه الروافض من أتباع الفاطميين فأرادوا قتله فتشفع بالشريف الزينبي فأجاره وكان مسكنه بدار العقبقي ثم خرج من دمشق فاقام بمدينة صور فكتب شيئا كثيرا من مصنفات أبي عبدالله الصوري بخطه كان يستعيرها من زوجتة فلم يزل مقيما بالشام إلى سنة ثنتين وستين ثم عاد إلى بغداد فحدث بأشياء من مسموعاته وقد كان سأل الله أن يملك ألف دينار وأن يحدث بالتاريخ بجامع المنصور فملك ألف دينار أو ما يقاربها ذهبا وحين احتضر كان عنده قريب من مائتي دينار فأوصى بها لأهل الحديث وسأل السلطان أن يمضي ذلك فإنه لا يترك وارثا فأجيب إلى ذلك وله مصنفات كثيرة مفيدة منها كتاب التاريخ وكتاب الكفاية والجامع وشرف أصحاب الحديث والمتفق والمفترق والسابق واللاحق وتلخيص المتشابه في الرسم وفضل الوصل ورواية الآباء عن الأبناء ورواية الصحابة عن التابعين واقتضاء العلم للعمل والفقيه والمتفقه وغير ذلك وقد سردها ابن الجوزي في المنتظم قال ويقال إن هذه المصنفات أكثرها لأبي عبدالله الصوري أو ابتدأها فتممها الخطيب وجعلها لنفسه وقد كان الخطيب حسن القراءة فصيح اللفظ عارفا بالأدب يقول الشعر وكان أولا يتكلم على مذهب الإمام أحمد بن حنبل فانتقل عنه إلى مذهب الشافعي ثم صار يتكلم في أصحاب أحمد ويقدح فيهم ما أمكنه وله دسائس عجيبة في ذمهم ثم شرع ابن الجوزي ينتصر لأصحاب أحمد ويذكر مثالب الخطيب ودسائسه وما كان عليه من محبة الدنيا والميل إلى أهلها بما يطول ذكره وقد أورد ابن الجوزي من شعره قصيدة جيدة المطلع حسنة المنزع أولها قوله ... لعمرك ما شجاني رسم دار ... وقفت به ولا رسم المغاني ... ولا أثر الخيام اراق دمعي ... لأجل تذكري عهد الغواني ... ولا ملك الهوى يوما قيادي ... ولا عاصيته فثنى عناني ... ولم اطعمه في وكم قتيل ... له في الناس ما تحصى دعاني (12/102)
عرفت فعاله بذوي النصابي ... وما يلقون من ذل الهوان ... طلبت أخا صحيح الود محظي ... سليم الغيب محفوظ اللسان ... فلم أعرف من الإخوان إلا ... نفاقا في التباعد والتداني ... وعالم دهرنا لا خير فيهم ... ترى صورا تروق بلا معاني ... ووصف جميعهم هذا فما أن ... أقول سوى فلان أو فلان ... ولما لم أجد حرا يواتي ... على ما ناب من صرف الزمان ... ثبرت تكرما لقراع دهرى ... ولم أجزع لما منه دهاني ... ولم أك في الشدائد مستكينا ... أقول لها ألا كفي كفاني ... ولكني صليب العود عود ... ربيط الجأش مجتمع الجنان ... أبى النفس لا أختار رزقا ... يجيء بغير سيفي أو سناني ... فعز في لظى باغيه يهوى ... ألذ من المذلة في الجنان ...
وقد ترجمه ابن عساكر في تاريخه ترجمة حسنة كعادته وأورد له من شعره قوله
... لايغبطن أخا الدنيا لزخرفها ... ولا للذة عيش عجلت فرحا ... فالدهر أسرع شيء في تقلبه ... وفعله بين للخلق قد وضحا ... كم شارب عسلا فيه منيته ... وكم مقلد سيفا من قربه ذبحا ... توفي يوم الإثنين ضحى من ذي الحجة منها وله ثنتان وسبعون سنة في حجرة كان يسكنها بدرب السلسلة جوار المدرسة النظامية واحتفل الناس بجنازته وحمل نعشه فيمن حمل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي ودفن إلى جانب قبر بشر الحافي في قبر رجل كان قد أعده لنفسه فسئل أن يتركه للخطيب فشح به ولم تسمح نفسه حتى قال له بعض الحاضرين بالله عليك لو جلست أنت والخطيب إلى بشر ايكما كان يجلسه إلى جانبه فقال الخطيب فقيل له فاسمح له به فوهبه منه فدفن فيه رحمه الله وسامحه وهو ممن قيل فيه وفي أمثاله قول الشاعر ... ما زلت تدأب في التاريخ مجتهدا ... حتىرأيتك في التاريخ مكتوبا ...
حسان بن سعيد
... ابن حسان بن محمد بن أحمد بن عبدالله بن محمد بن منيع بن خالد بن عبدالرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي المنيعي كان في شبابه يجمع بين الزهد والتجارة حتى ساد أهل زمانه ثم ترك ذلك واقبل على العبادة والزهد والبر والصلة والصدقة وغير ذلك وبناء المساجد والرباطات وكان السلطان يأتي إليه ويتبرك به ولما وقع الغلاء كان يعمل كل يوم شيئا كثيرا من الخبز والأطعمة ويتصدق به (12/103)
وكان يكسو في كل سنة قريبا من ألف فقير ثيابا وجبايا وكذلك كان يكسو الأرامل وغيرهن من النساء وكان يجهز البنات الأيتام وبنات الفقراء وأسقط شيئا كثيرا من المكوس والوظائف السلطانية عن بلاد نيسابور وقرأها وهو مع ذلك في غاية التبذل والثياب والأطمار وترك الشهوات ولم يزل كذلك إلى أن توفي في هذه السنة في بلدة مرو الروز تغمده الله برحمته ورفع درجته ولا خيب الله له سعيا
أمين بن محمد بن الحسن بن حمزة
أبو علي الجعفري فقيه الشيعة في زمانه
محمد بن وشاح بن عبدالله
أبو علي مولى أبي تمام محمد بن علي بن الحسن الزينبي سمع الحديث وكان أديبا شاعرا وكان ينسب إلى الإعتزال والرفض ومن شعره قوله ... حملت العصا لا الضعف أوجب حملها ... علي ولا أني نحلت من الكبر ... ولكنني ألزمت نفسي حملها ... لأعلمها أن المقيم على سفر ...
الشيخ الأجل أبو عمر عبدالبر النمري
صاحب التصانيف المليحة الهائلة منها التمهيد والإستذكار والإستيعاب وغير ذلك
ابن زيدون
الشاعر أحمد بن عبدالله بن أحمد بن غالب بن زيدون أبو الوليد الشاعر الماهر الأندلسي القرطبي اتصل بالأمير المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية فحظى عنده وصار مشاورا في منزلة الوزير ثم وزر له ولولده أبي بكر بن أبي الوليد وهو صاحب القصيدة الفراقية التي يقول فيها ... بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا ... شوقا إليكم ولا جفت مآقينا ... تكاد حين تناجيكم ضمائرنا ... يقضي عليها الأسى لولا تاسينا ... حالت لبعدكم أيامنا فغدت ... سودا وكانت بكم بيضا ليالينا ... بالأمس كنا ولا نخشى تفرقنا ... واليوم نحن ولا يرجى تلاقينا ...
وهي طويلة وفيها صنعة قوية مهيجة على البكاء لكل من قرأها أو سمعها لأنه ما من أحد إلا فارق خلا أو حبيبا أو نسيبا وله أيضا
... بيني وبينك ما لو شئت لم يضع ... سر إذا ذاعت الأسرار لم يذع ... يا بائعا حظه مني ولو بذلت ... لي الحياة بحظي منه لم أبع ... يكفيك انك لو حملت قلبي ما ... لا تستطيع قلوب الناس يستطع ... ته احتمل واستطل أصبر وعزهن ... وول أقبل وقل أسمع ومر أطمع (12/104)
توفي في رجب منها واستمر ولده أبو بكر وزيرا للمعتمد بن عباد حتى أخذ ابن ياسين قرطبة من يده في سنة أربع وثمانين فقتل يومئذ قاله ابن خلكان كريمة بنت أحمد
ابن محمد بن أبي حاتم المروزية كانت عالمة صالحة سمعت صحيح البخاري على الكشميهني وقرأ عليها الأئمة كالخطيب وأبي المظفر السمعاني وغيرهما
ثم دخلت سنة أربع وستين وأربعمائة
فيها قام الشيخ أبو إسحاق الشيرازي مع الحنابلة في الإنكار على المفسدين والذين يبيعون الخمور وفي إبطال المواجرات وهن البغايا وكتبوا إلى السلطان في ذلك فجاءت كتبه في الإنكار وفيها كانت زلزلة عظيمة ببغداد ارتجت لها الأرض ست مرات وفيها كان غلاء شديد وموتان ذريع في الحيوانات بحيث إن بعض الرعاة بخراسان قام وقت الصباح ليسرح بغنمه فإذا هن قد متن كلهن وجاء سيل عظيم وبرد كبار أتلف شيئا كثيرا من الزروع والثمار بخراسان وفيها تزوج الأمير عدة الدين ولد الخليفة بابنة السلطان ألب أرسلان سفرىخاتون وذلك بنيسابور وكان وكيل السلطان نظام الملك ووكيل الزوج عميد الدولة ابن جهير وحين عقد العقد نثر على الناس جواهر نفيسة وممن توفي فيها من الأعيان
زكريا بن محمد بن حيده
أبو منصور النيسابوري كان يزعم أنه من سلالة عثمان بن عفان وروى الحديث عن أبي بكر بن المذهب وكان ثقة توفي في المحرم منها وقد قارب الثمانين
محمد بن أحمد
ابن محمد بن عبدالله بن عبدالصمد بن المهتدي بالله أبو الحسن الهاشمي خطيب جامع المنصور كان ممن يلبس القلانس الطوال حدث عن ابن زرقويه وغيره روى عنه الخطيب وكان ثقة عدلا شهد عند ابن الدامغاني وابن ماكولا فقبلاه توفي عن ثمانين سنة ودفن بقرب قبر بشر الحافي
محمد بن أحمد بن شاره
ابن جعفر أبو عبدالله الأصفهاني ولي القضاء بدجيل وكان شافعيا روى الحديث عن أبي عمرو بن مهدي توفي ببغداد ونقل إلى دجيل من عمل واسط والله سبحانه أعلم
ثم دخلت سنة خمس وستين وأربعمائة في يوم الخميس حادي عشر المحرم حضر إلى الديوان أبو الوفا علي بن محمد بن عقيل العقيلي الحنبلي وقد كتب على نفسه كتابا يتضمن توبته من الإعتزال وأنه رجع عن إعتقاد كون الحلاج (12/105)
من أهل الحق والخير وأنه قد رجع عن الجزء الذي عمله في ذلك وأن الحلاج قد قتل بإجماع علماء أهل عصره على زندقته وأنهم كانوا مصيبين في قتله وما رموه به وهو مخطئ واشد عليه جماعة من الكتاب ورجع من الديوان إلى دار الشريف أبي جعفر فسلم عليه وصالحه واعتذر إليه فعظمه وفاة السلطان ألب أرسلان وملك ولده ملكشاه كان السلطان قد سار في أول هذه السنة يريد أن يغزو بلاد ما وراء النهر فاتفق في بعض المنازل أنه غضب على رجل يقال له يوسف الخوارزمي فأوقف بين يديه فشرع يعاتبه في أشياء صدرت منه ثم أمر أن يضرب له أربعة أوتاد ويصلب بينها فقال للسلطان يا مخنث ومثلي يقتل هكذا فاحتد السلطان من ذلك وأمر بإرساله وأخذ القوس فرماه بسهم فأخطاه وأقبل يوسف نحو السلطان فنهض السلطان عن السرير خوفا منه فنزل عنه فعثر فوقع فأدركه يوسف فضربه بخنجر كان معه في خاصرته فقتله وأدرك الجيش يوسف فقتلوه وقد جرح السلطان جرحا منكرا فتوفي في يوم السبت عاشر ربيع الأول من هذه السنة ويقال إن أهل بخارى لما اجتاز بهم نهب عسكره أشياء كثيرة لهم فدعوا عليه فهلك ولما توفي جلس ولده ملكشاه على سرير الملك وقام الأمراء بين يديه فقال له الوزير نظام الملك تكلم أيها السلطان فقال الأكبر منكم أبي والأوسط أخي والأصغر ابني وسأفعل معكم ما لم أسبق إليه فأمسكوا فأعاد القول فأجابوه بالسمع والطاعة وقام بأعباء أمره الوزير نظام الملك فزاد في أرزاق الجند سبعمائة ألف دينار وسار إلى مرو فدفنوا بها السلطان ولما بلغ موته أهل بغداد أقام الناس له العزاء وغلقت الأسواق وأظهر الخليفة الجزع وخلعت ابنة السلطان زوجة الخليفة ثيابها وجلست على التراب وجاءت كتب ملكشاه إلى الخليفة يتأسف فيها على والده ويسأل أن تقام له الخطبة بالعراق وغيرها ففعل الخليفة ذلك وخلع ملكشاه على الوزير نظام الملك خلعا سنية وأعطاه تحفا كثيرة من جملتها عشرون ألف دينار ولقبه أتابك الجيوش ومعنه الأمير الكبير الوالد فسار سيرة حسنة ولما بلغ قاورت موت أخيه ألب أرسلان ركب في جيوش كثيرة قاصدا قتال ابن أخيه ملكشاه فالتقيا فاقتتلا فانهزم أصحاب قاورت وأسر هو فأنبه ابن أخيه ثم اعتقله ثم أرسل إليه من قتله وفيها جرت فتنة عظيمة بين أهل الكرخ وباب البصرة والقلايين فاقتتلوا فقتل منهم خلق كثير واحترق جانب كبير من الكرخ فانتقم المتولي لأهل الكرخ من أهل باب البصرة فأخذ منهم أموالا كثيرة جناية لهم على ما صنعوا وفيها أقيمت الدعوة العباسية ببيت المقدس وفيها ملك صاحب سمرقند وهو محمد التكين مدينة ترمذ وفيها حج بالناس أبو الغنائم العلوي (12/106)
وفيها توفي من الأعيان السلطان ألب أرسلان
الملقب بسلطان العالم ابن داود جغري بك بن ميكائيل بن سلجوق التركي صاحب الممالك المتسعة ملك بعد عمه طغرلبك سبع سنين وستة أشهر وأياما وكان عادلا يسير في الناس سيرة حسنة كريما رحيما شفوقا على الرعية رفيقا على الفقراء بارا بأهله وأصحابه ومماليكه كثير الدعاء بدوام النعم به عليه كثير الصدقات يتفقد الفقراء في كل رمضان بخمسة عشر ألف دينار ولا يعرف في زمانه جناية ولا مصادرة بل كان يقنع من الرعية بالخراج في قسطين رفقا بهم كتب إليه بعض السعاة في نظام الملك وزيره وذكر ماله في ممالكه فاستدعاه فقال له خذ إن كان هذا صحيحا فهذب أخلاقك واصلح أحوالك وإن كذبوا فاغفر له زلته وكان شديد الحرص على حفظ مال الرعايا بلغه أن غلاما من غلمانه أخذ إزارا لبعض أصحابه فصلبه فارتدع سائر المماليك به خوفا من سطوته وترك من الأولاد ملكشاه وإياز ونكشر وبوري برس وأرسلان وارغو وسارة وعائشة وبنتا أخرى توفي في هذه السنة عن إحدى وأربعين سنة ودفن عند والده بالري رحمه الله
أبو القاسم القشيري
صاحب الرسالة عبدالكريم بن هوازن بن عبدالمطلب بن طلحة أبو القاسم القشيري وأمه من بني سليم توفي أبوه وهو طفل فقرأ الأدب والعربية وصحب الشيخ أبا علي الدقاق وأخذ الفقه عن أبي بكر بن محمد الطوسي وأخذ الكلام عن أبي بكر بن فورك وصنف الكثير وله التفسير والرسالة التي ترجم فيها جماعة من المشايخ الصالحين وحج صحبة إمام الحرمين وأبي بكر البيهقي وكان يعظ الناس توفي بنيسابور في هذه السنة عن سبعين سنة ودفن إلى جانب شيخه أبي علي الدقاق ولم يدخل أحد من أهله بيت كتبه إلا بعد سنين احتراما له وكان له فرس يركبها قد أهديت له فلما توفي لم تأكل علفا حتى نفقت بعده بيسير فماتت ذكره ابن الجوزي وقد أثنى عليه ابن خلكان ثناء كثيرا وذكر شيئا من شعره من ذلك قوله
... سقى الله وقتا كنت أخلو بوجهكم ... وثغر الهوى في روضة الأنس ضاحك ... أقمنا زمانا والعيون قريرة ... وأصبحت يوما والجفون سوافك ... وقوله ... لو كنت ساعة بيننا ما بيننا ... وشهدت حين فراقنا التوديعا ... أيقنت أن من الدموع محدثا ... وعلمت أن من الحديث دموعا ... وقوله ... ومن كان في طول الهوى ذاق سلوة ... فإني من ليلى لها غير ذائق ... وأكثر شيء نلته من وصالها ... أماني لم تصدق كخطفة بارق (12/107)
ابن صربعر
الشاعر اسمه علي بن الحسين بن علي بن الفضل أبو منصور الكاتب المعروف بابن صربعر وكان نظام الملك يقول له أنت صردر لا صربعر وقد هجاه بعضهم فقال ... لئن لقب الناس قدما اباك ... وسموه من شحه صر بعرا ... فإنك تنثر ما صره ... عقوقا له وتسميه شعرا ...
قال ابن الجوزي وهذا ظالم فاحش فإن شعره في غاية الحسن ثم أورد له أبياتا حسانا فمن ذلك
... أيه أحاديث نعمان وساكنه ... أن الحديث عن الأحباب اسمار ... أفتش الريح عنكم كلما نفحت ... من نحو أرضكم مسكا ومعطار ...
قال وقد حفظ القرآن وسمع الحديث من ابن شيران وغيره وحدث كثيرا وركب يوما دابة هو ووالدته فسقطا بالشونيزية عنها في بئر فماتا فدفنا ببرر وذلك في صفر من هذه السنة قال ابن الجوزي قرأت بخط ابن عقيل صربعر جارنا بالرصافة وكان ينبذ بالإلحاد وقد اورد له ابن خلكان شيئا من أشعاره وأثنى عليه في فنه والله أعلم بحاله
محمد بن علي
ابن محمد بن عبدالله بن عبدالصمد بن المهتدي بالله أبو الحسين ويعرف بابن العريف ولد سنة سبعين وثلثمائة وسمع الدارقطني وهو آخر من حدث عنه في الدنيا وابن شاهين وتفرد عنه وسمع خلقا آخرين وكان ثقة دينا كثير الصلاة والصيام وكان يقال له راهب بني هاشم وكان غزير العلم والعقل كثير التلاوة رقيق القلب غزير الدمعة وقد رحل إليه الطلبة من الآفاق ثم ثقل سمعه وكان يقرأ على الناس وذهب إحدى عينيه وخطب وله ست عشرة سنة وشهد عند الحكام سنة ست وأربعمائة وولي الحكم سنة تسع وأربعمائة وأقام خطيبا بجامع المنصور وجامع الرصافة ستا وسبعين سنة وحكم ستا وخمسين سنة وتوفي في سلخ ذي القعدة من هذه السنة وقد جاوز تسعين سنة وكان يوم جنازته يوما مشهودا ورئيت له منامات صالحة حسنة رحمه الله وسامحه ورحمنا وسامحنا إنه قريب مجيب رحيم ودود
ثم دخلت سنة ست وستين وأربعمائة
في صفر منها جلس الخليفة جلوسا عاما وعلى رأسه حفيده الأمير عدة الدين أبو القاسم عبدالله ابن المهتدي بالله وعمره يومئذ ثماني عشرة سنة وهو في غاية الحسن وحضر الأمراء والكبراء فعقد الخليفة بيده لواء السلطان ملكشاه كثر الزحام يومها وهنأ الناس بعضهم بعضا بالسلامة (12/108)
غرق بغداد
في جمادى الآخرة نزل مطر عظيم وسيل قوي كثير وسالت دجلة وزادت حتى غرقت جانبا كبيرا من بغداد حتى خلص ذلك إلى دار الخلافة فخرج الجواري حاسرات عن وجوههن حتى صرن إلى الجانب الغربي وهرب الخليفة من مجلسه فلم يجد طريقا يسلكه فحمله بعض الخدم إلى التاج وكان ذلك يوما عظيما وأمرا هائلا وهلك للناس أموال كثيرة جدا ومات تحت الردم خلق كثير من أهل بغداد والغرباء وجاء على وجه السيل من الأخشاب والأحطاب والوحوش والحيات شيء كثير جدا وسقطت دور كثيرة في الجانبين وغرقت قبور كثيرة من ذلك قبر الخيزران ومقبرة أحمد بن حنبل ودخل الماء من شبابيك المارستان العضدي وأتلف السيل في الموصل شيئا كثيرا وصدم سور سنجار فهدمه وأخذ بابا من موضعه إلى مسيرة أربعة فراسخ وفي ذي الحجة منها جاءت ريح شديدة في أرض البصرة فانجعف منها نحو من عشرة آلاف نخلة وممن توفي فيها من الأعيان
أحمد بن محمد بن الحسن السمناني
الحنفي الأشعري قال ابن الجوزي وهذا من الغريب تزوج قاضي القضاة ابن الدامغاني ابنته وولاه نيابة القضاة وكان ثقة نبيلا من ذوي الهيئات جاوز الثمانين عبدالعزيز بن أحمد بن علي
ابن سليمان أبو محمد الكناني الحافظ الدمشقي سمع الكثير وكان يملي من حفظه وكتب عنه الخطيب حديثا واحدا وكان معظما ببلده ثقة نبيلا جليلا الماوردية ذكر ابن الجوزي أنها كانت عجوزا صالحة من أهل البصرة تعظ النساء بها وكانت تكتب وتقرأ ومكثت خمسين سنة من عمرها لا تفطر نهارا ولا تنام ليلا وتقتات بخبز الباقلا وتأكل من التين اليابس لا الرطب وشيئا يسيرا من العنب والزيت وربما اكلت من اللحم اليسير وحين توفيت تبع أهل البلد جنازتها ودفنت في مقابر الصالحين
ثم دخلت سنة سبع وستين وأربعمائة
ورحمة الله وبركاته صفر منها مرض الخليفة القائم بأمر الله مرضا شديدا انتفخ منه حلقه وامتنع من الفصد فلم يزل الوزير فخر الدولة عليه حتى افتصد وانصلح الحال وكان الناس قد انزعجوا ففرحوا بعافيته وجاء في هذا الشهر سيل عظيم قاسى الناس منه شدة عظيمة ولم تكن أكثر أبنية بغداد تكاملت من الغرق الأول فخرج الناس إلى الصحراء فجلسوا على رؤس التلول تحت المطر ووقع وباء عظيم بالرحبة فمات من أهلها قريب من عشرة آلاف وكذلك وقع بواسط والبصرة وخوزستان وارض خراسان وغيرها والله أعلم (12/109)
موت الخليفة القائم بأمر الله
لما افتصد في يوم الخميس الثامن والعشرين من رجب من بواسير كانت تعتاده من عام الغرق ثم نام بعد ذلك فانفجر فصاده فاستيقط وقد سقطت قوته وحصل الإياس منه فاستدعى بحفيده وولى عهده عدة الدين أبي القاسم عبدالله بن محمد بن القائم وأحضر إليه القضاة والفقهاء وأشهدهم عليه ثانيا بولاية العهد له من بعده فشهدوا ثم كانت وفاته ليلة الخميس الثالث عشر من شعبان عن أربع وتسعين سنة وثمانية أشهر وثمانية أيام وكانت مدة خلافته اربعا وأربعين سنة وثمانية أشهر وخمسة وعشرين يوما ولم يبلغ أحد من العباسيين قبله هذه المدة وقد جاوزن خلافة أبيه قبله أربعين سنة فكان مجموع أيامهما خمسا وثمانين سنة وأشهرا وذلك مقاوم لدولة بني أمية جميعها وقد كان القائم بأمر الله جميلا مليحا حسن الوجه أبيض مشربا بحمرة فصيحا ورعا زاهدا أديبا كاتبا بليغا شاعرا كما تقدم ذكر شيء من شعره وهو بحديثة عانة سنة خمسين وكان عادلا كثير الإحسان إلى الناس رحمه الله وغسله الشريف أبو جعفر بن أبي موسى الحنبلي عن وصية الخليفة بذلك فلما غسله عرض عليه ما هنالك من الأثاث والأموال فلم يقبل منه شيئا وصلى على الخليفة في صبيحة يوم الخميس المذكور ودفن عند أجداده ثم نقل إلى الرصافة فقبره يزار إلى الآن وغلقت الأسواق لموته وعلقت المسوح وناحت عليه نساء الهاشميين وغيرهم وجلس الوزير ابن جهير وابنه للعزاء على الأرض وخرق الناس ثيابهم وكان يوما عصيبا واستمر الحال كذلك ثلاثة أيام وقد كان من خيار بني العباس دينا واعتقادا ودولة وقد امتحن من بينهم بفتنة البساسيري التي اقتضت إخراجه من داره ومفارقته أهله وأولاده ووطنه فأقام بحديثة عانة سنة كاملة ثم أعاد الله عليه نعمته وخلافته قال الشاعر ... فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم ... إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر ...
وقد تقدم له في ذلك سلف صالح كما قال تعالى
ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جدسا ثم أناب وقد ذكرنا ملخص ما ذكره المفسرون في سورة ( ص ) وبسطنا الكلام عليه في هذه القصة العباسية والفتنة البساسيرية في سنة خمسين وإحدى وخمسين وأربعمائة
خلافة المقتدي بأمر الله
وهو أبو القاسم عدة الدين عبدالله بن الأمير ذخيرة الدين أبي القاسم محمد بن الخليفة القائم بأمر الله بن القادر العباسي وأمه أرمنية تسمى أرجوان وتدعى قرة العين وقد أدركت خلافة ولدها هذا وخلافة ولديه من بعده المستظهر والمسترشد وقد كان أبوه توفي وهو حمل فحين ولد ذكرا فرح به جده والمسلمون فرحا شديدا إذ حفظ الله على المسلمين بقاء الخلافة في البيت القدري لأن (12/110)
من عداهم كانوا يتبذلون في الأسواق ويختلطون مع العوام وكانت القلوب تنفر من تولية مثل أولئك الخلافة على الناس ونشأ هذا في حجر جده القائم بأمر الله يربيه بما يليق بأمثاله ويدربه على أحسن السجايا ولله الحمد وقد كان المقتدي حين ولي الخلافة عمره عشرين سنة وهو في غاية الجمال خلقا وخلقا وكانت بيعته يوم الجمعة الثالث عشر من شعبان من هذه السنة وجلس في دار الشجرة بقميص أبيض وعمامة بيضاء لطيفة وطرحة قصب أدريه وجاء الوزراء والأمراء والأشراف ووجوه الناس فبايعوه فكان أول من بايعه الشريف أبو جعفر بن أبي موسى الحنبلي وأنشد قول الشاعر ... إذا سيد منا مضى قام سيد ... ثم أرتج عليه فلم يدر ما بعده فقال الخليفة ... قؤول بما قال الكرام فعول ... وبايعه من شيوخ العلم الشيخ أبو إسحاق الشيرازي والشيخ أبو نصر بن الصباغ الشافعيان والشيخ أبو محمد التميمي الحنبلي وبرز فصلى بالناس العصر ثم بعد ساعة أخرج تابوت جده بسكون ووقار من غير صراخ ولا نوح فصلى عليه وحمل إلى المقبرة وقد كان المقتدي شهما شجاعا أيامه كلها مباركة والرزق دار والخلافة معظمة جدا وتصاغرت الملوك له وتضاءلوا بين يديه وخطب له بالحرمين وبيت المقدس والشام كلها واسترجع المسلمون الرها وأنطاكية من أيدي العدو وعمرت بغداد وغيرها من البلاد واستوزر ابن جهير ثم أبا شجاع ثم أعاد ابن جهير وقاضيه الدامغاني ثم ابو بكر الشاشي وهؤلاء من خيار القضاة والوزراء ولله الحمد وفي شعبان منها أخرج المفسدات من الخواطئ من بغداد وامرهن أن ينادين على أنفسهن بالعار والفضيحة وخرب الخمارات ودور الزواني والمغاني وأسكنهن الجانب الغربي مع الذل والصغار وخرب أبرجة الحمام ومنع اللعب بها وامر الناس باحتراز عوراتهم في الحمامات ومنع أصحاب الحمامات أن يصرفوا فضلاتها إلى دجلة وألزمهم بحفر آبار لتلك المياه القذرة صيانة لماء الشرب وفي شوال منها وقعت نار في أماكن متعددة في بغداد حتى في دار الخلافة فأحرقت شيئا كثيرا من الدور والدكاكين ووقع بواسط حريق في تسعة أماكن واحترق فيها أربعة وثمانون دارا وستة خانات وأشياء كثيرة غير ذلك فإنا لله وإنا إليه راجعون وفيها عمل الرصد للسلطان ملكشاه أجتمع عليه جماعة من أعيان المنجمين وأنفق عليه أموالا كثيرة وبقي دائرا حتى مات السلطان فبطل وفي ذي الحجة منها أعيدت الخطب للمصريين وقطعت خطبة العباسيين وذلك لما قوي أمر صاحب مصر بعد ما كان ضعيفا بسبب غلاء بلده فلما رخصت تراجع الناس إليها وطاب العيش بها وقد كانت الخطبة للعباسيين بمكة منذ أربعين سنة وخمسة أشهر وستعود كما كانت على ما سيأتي (12/111)
بيانه في موضعه وفي هذا الشهر انجفل أهل السواد من شدة الوباء وقلة ماء دجلة ونقصها وحج بالناس الشريف أبو طالب الحسيني بن محمد الزينبي وأخذ البيعة للخليفة المقتدي بالحرمين وممن توفي فيها من الأعيان
الخليفة القائم بأمر الله
عبدالله وقد ذكرنا شيئا من ترجمته عند وفاته الداوودي راوي صحيح البخاري عبدالرحمن بن محمد بن المظفر بن محمد بن داود أبو الحسن بن أبي طلحة الداوودي ولد سنة أربع وسبعين وثلاثمائة سمع الكثير وتفقه على الشيخ أبي حامد الإسفرايني وأبي بكر القفال وصحب أبا علي الدقاق وأبا عبدالرحمن السلمي وكتب الكثير ودرس وافتى وصنف ووعظ الناس وكانت له يد طولى في النظم والنثر وكان مع ذلك كثير الذكر لا يفتر لسانه عن ذكر الله تعالى دخل يوما عليه الوزير نظام الملك فجلس بين يديه فقال له الشيخ إن الله قد سلطك على عباده فانظر كيف تجيبه إذا سألك عنهم وكانت وفاته بيوشح في هذه السنة وقد جاوز التسعين ومن شعره الجيد القوي قوله ... كان في الإجتماع بالناس نور ... ذهب النور وادلهم الظلام ... فسد الناس والزمان جميعا ... فعلى الناس والزمان السلام ...
أبو الحسن علي بن الحسن
ابن علي بن أبي الطيب الباخرزي الشاعر المشهور اشتغل أولا على الشيخ أبي محمد الجويني ثم ترك ذلك وعمد إلى الكتابة والشعر ففاق أقرانه وله ديوان مشهور فمنه ... وإني لأشكو لسع اصداغك التي ... عقاربها في وجنتيك نجوم ... وأبكى لدر الثغر منك ولي أب ... فكيف نديم الضحك وهو يتيم ...
ثم دخلت سنة ثمان وستين وأربعمائة
قال ابن الجوزي جاء جراد في شعبان بعدد الرمل والحصا فأكل الغلات وآذى الناس وجاعوا فطحن الخروب بدقيق الدخن فأكلوه ووقع الوباء ثم منع الله الجراد من الفساد وكان يمر ولا يضر فرخصت الأسعار قال ووقع غلاء شديد بدمشق واستمر ثلاث سنين وفيها ملك نصر ابن محمود بن صالح بن مرداس مدينة منبج وأجلى عنها الروم ولله الحمد والمنة في ذي القعدة منها وفيها ملك الأقسيس مدينة دمشق وانهزم عنها المعلى بن حيدر نائب المستنصر العبيدي إلى مدينة بانياس وخطب فيها للمقتدي وقطعت خطبة المصريين عنها إلى الآن ولله الحمد والمنة فاستدعى المستنصر نائبه فحبسه عنده إلى أن مات في السجن (12/112)
قلت الأقسيس هذا هو أتسز بن أوف الخوارزمي ويلقب بالملك المعظم وهو أول من استعاد بلاد الشام من أيدي الفاطميين وأزال الأذان منها بحي على خير العمل بعد أن كان يؤذن به على منابر دمشق وسائر الشام مائة وست سنين كان على أبواب الجوامع والمساجد مكتوب لعنة الصحابة رضي الله عنهم فأمر هذا السلطان المؤذنين والخطباء أن يترضوا عن الصحابة أجمعين ونشر العدل وأظهر السنة وهو أول من أسس القلعة بدمشق ولم يكن فيها قبل ذلك معقل يلتجئ إليه المسلمون من العدو فبناها في محلتها هذه التي هي فيها اليوم وكان موضعها بباب البلد يقال له باب الحديد وهو تجاه دار رضوان منها وكان ابتداء ذلك في السنة الآتية وإنما أكملها بعده الملك المظفر تتش بن ألب أرسلان السلجوقي كما سيأتي بيانه وحج بالناس فيها مقطع الكوفة وهو الأمير السكيني جنفل التركي ويعرف بالطويل وكان قد شرد خفاجة في البلاد وقهرهم ولم يصحب معه سوى ستة عشر تركيا فوصل إلى مكة سالما ولما نزل ببعض دورها كبسه بعض العبيد فقتل منهم مقتلة عظيمة وهزمهم هزيمة شنيعة ثم إنه بعد ذلك إنما كان ينزل بالزاهر قاله ابن الساعي في تاريخه وأعيدت الخطبة في هذه السنة للعباسيين في ذي الحجة منها وقطعت خطبة المصريين ولله الحمد والمنة وممن توفي فيها من الأعيان
محمد بن علي
ابن أحمد بن عيسى بن موسى أبو تمام ابن أبي القاسم ابن القاضي أبي علي الهاشمي نقيب الهاشميين وهو ابن عم الشريف أبي جعفر بن أبي موسى الفقيه الحنبلي روى الحديث وسمع منه أبو بكر بن عبدالباقي ودفن بباب حرب
محمد بن القاسم
ابن حبيب بن عبدوس أبو بكر الصفار من أهل نيسابور سمع الحاكم وأبا عبدالرحمن السلمي وخلقا وتفقه على الشيخ أبي محمد الجويني وكان يخلفه في حلقته
محمد بن محمد بن عبدالله
أبو الحسين البيضاوي الشافعي ختن أبي الطيب الطبري على ابنته سمع الحديث وكان ثقة خيرا توفي في شعبان منها وتقدم للصلاة عليه الشيخ أبو نصر بن الصباغ وحضر جنازته أبو عبدالله الدامغاني مأموما ودفن بداره في قطيعة الكرخ
محمد بن نصر بن صالح
ابن أمير حلب وكان قد ملكها في سنة تسع وخمسين وكان من أحسن الناس شكلا وفعلا
مسعود بن المحسن
ابن الحسن بن عبدالرزاق بن جعفر البياضي الشاعر ومن شعره (12/113)
ليس لي صاحب معين سوى الل ... يل إذا طال بالصدود عليا ... أنا أشكو بعد الحبيب إليه ... وهو يشكو بعد الصباح إلينا ... وله أيضا ... يا من لبست لهجره طول الضنا ... حتى خفيت إذا عن العواد ... وأنست بالسهر الطويل فأنسيت ... أجفان عيني كيف كان رقادي ... إن كان يوسف بالجمال مقطع ال ... أيدي فأنت مفتت الأكباد ...
الواحدي المفسر
علي بن حسن بن أحمد بن علي بن بويه الواحدي قال ابن خلكان ولا أدري هذه النسبة إلى ماذا وهو صاحب التفاسير الثلاثة البسيط والوسيط والوجيز قال ومنه أخذ الغزالي أسماء كتبه قال وله أسباب النزول والتحبير في شرح الأسماء الحسنى وقد شرح ديوان المتنبي وليس في شروحه مع كثرتها مثله قال وقد رزق السعادة في تصانيفه وأجمع الناس على حسنها وذكرها المدرسون في دروسهم وقد أخذ التفسير عن الثعالبي وقد مرض مدة ثم كانت وفاته بنيسابور في جمادى الآخرة منها
ناصر بن محمد
ابن علي أبو منصور التركي الصافري وهو والد الحافظ محمد بن ناصر قرأ القرآن وسمع الكثير وهوالذي تولى قراءة التاريخ على الخطيب بجامع المنصور وكان ظريفا صبيحا مات شابا دون الثلاثين سنة في ذي القعدة منها وقد رثاه بعضه بقصيدة طويلة أوردها كلها في المنتظم ابن الجوزي
يوسف بن محمد بن الحسن
أبو القاسم الهمداني سمع وجمع وصنف وانتشرت عنه الرواية توفي في هذه سنة وقد قارب التسعين
ثم دخلت سنة تسع وستين وأربعمائة
فيها كان ابتداء عمارة قلعة دمشق وذلك أن الملك المعظم أتسز بن أوف الخوارزمي لما انتزع دمشق من أيدي العبيديين في السنة الماضية شرع في بناء هذا الحصن المنيع بدمشق في هذه السنة وكان في مكان القلعة اليوم أحد أبواب البلد باب يعرف بباب الحديد وهو الباب المقابل لدار رضوان منها اليوم داخل البركة البرانية منها وقد ارتفع بعض أبرجتها فلم يتكامل حتى انتزع ملك البلد منه الملك المظفر تاج الملوك تنش بن ألب أرسلان السلجوقي فأكملها وأحسن عمارتها وابتنى بها دار رضوان للملك واستمرت على ذلك البناء في أيام نور الدين محمود بن زنكي فلما كان الملك صلاح الدين بن يوسف بن أيوب جدد فيها شيئا وابتنى له نائبه ابن مقدم فيها دارا هائلة للمملكة ثم إن الملك العادل أخا صلاح الدين اقتسم هو وأولاده أبرجتها فبنى كل ملك منهم برجا منها جدده وعلاه وأطده وأكده ثم جدد الملك الظاهر بيبرس منها البرج الغربي القبلى (12/114)
ثم ابتنى بعده في دولة الملك الأشرف خليل بن المنصور نائبه الشجاعي الطارمة الشمالية والقبة الزرقاء وما حولها وفي المحرم منها مرض الخليفة مرضا شديدا فأرجف الناس به فركب حتى رآه الناس جهرة فسكنوا وفي جمادى الآخرة منها زادت دجلة زيادة كثيرة إحدى عشرين ذراعا ونصفا فنقل الناس أموالهم وخيف على دار الخلافة فنقل تابوت القائم بأمر الله ليلا إلى الترب بالرصافة وفي شوال منها وقعت الفتنة بين الحنابلة والأشعرية وذلك أن ابن القشيرى قدم بغداد فجلس يتكلم في النظامية وأخذ يذم الحنابلة وينسبهم إلى التجسيم وساعده أبو سعد الصوفي ومال معه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وكتب إلى نظام الملك يشكو إليه الحنابلة ويسأله المعونة عليهم وذهب جماعة إلى الشريف أبي جعفر بن أبي موسى شيخ الحنابلة وهو في مسجده فدافع عنه آخرون واقتتل الناس بسبب ذلك وقتل رجل خياط من سوق التبن وجرح آخرون وثارت الفتنة وكتب الشيخ أبو إسحاق وأبو بكر الشاشي إلى نظام الملك في كتابه إلى فخر الدولة ينكر ما وقع ويكره أن ينسب إلى المدرسة التي بناها شئ من ذلك وعزم الشيخ أبو إسحاق على الرحلة من بغداد غضبا مما وقع من الشر فأرسل إليه الخليفة يسكنه ثم جمع بينه وبين الشريف أبي جعفر وأبي سعد الصوفي وأبى نصر بن القشيري عند الوزير فأقبل الوزير على أبي جعفر يعظمه في الفعال والمقال وقام إليه الشيخ أبو إسحاق فقال أنا ذلك الذي كنت تعرفه وأنا شاب وهذه كتبي في الأصول ما أقول فيها خلافا للأشعرية ثم قبل رأس أبي جعفر فقال له أبو صدقت إلا أنك لما كنت فقيرا لم تظهر لنا ما في نفسك فلما جاء الأعوان والسلطان وخواجة بزك يعني نظام الملك وشبعت أبديت ما كان مختفيا في نفسك وقام الشيخ أبو سعد الصوفي وقبل رأس الشريف أبي جعفر أيضا وتلطف به فالتفت إليه مغضبا وقال أيها الشيخ أما الفقهاء إذا تكلموا في مسائل الأصول فلهم فيها مدخل وأما أنت فصاحب لهو وسماع وتغير فمن زاحمك منا على باطلك ثم قال أيها الوزير أنى تصلح بيننا وكيف يقع بيننا صلح ونحن نوجب ما نعتقده وهم يحرمون ويكفرون وهذا جد الخليفة القائم والقادر قد أظهر اعتقادهما للناس على رؤس الأشهاد على مذهب أهل السنة والجماعة والسلف ونحن على ذلك كما وافق عليه العراقيون والخراسانيون وقرىء على الناس في الدواوين كلها فأرسل الوزير إلى الخليفة يعلمه بما جرى فجاء الجواب بشكر الجماعة وخصوصا الشريف أبا جعفر ثم استدعى الخليفة أبا جعفر إلى دار الخلافة للسلام علية والتبرك بدعائه قال ابن الجوزى وفى ذي القعدة منها كثرت الأمراض في الناس ببغداد وواسط والسواد وورد الخبر بأن الشام كذلك وفي هذا الشهر أزيلت المنكرات والبغايا ببغداد وهرب الفساق منها وفيها ملك حلب نصر بن محمود بن مرداس بعد وفاة أبيه وفيها تزوج (12/115)
الأمير على بن أبي منصور بن قرامز بن علاء الدولة بن كالويه الست أرسلان خاتون بنت داود عم السلطان ألب أرسلان وكانت زوجة القائم بأمر الله وفيها حاصر الاقسيس صاحب دمشق مصر وضيق على صاحبها المستنصر بالله ثم كر راجعاإلى دمشق وحج بالناس فيها الأمير جنفل التركى مقطع الكوفة وممن توفي فيها من الأعيان
اسفهدوست بن محمد بن الحسن أبو منصور الديلمي
الشاعر لقي أبا عبد الله بن الحجاج وعبد العزيز بن نباتة وغيرهما من الشعراء وكان شيعيا فتاب وقال في قصيدة له في ذلك قوله في اعتقاده ... وإذا سئلت عن اعتقادى قلت ما ... كانت عليه مذاهب الأبرار ... وأقول خير الناس بعد محمد ... صديقه وأنيسه في الغار ... ثم الثلاثة بعده خير الورى ... أكرم بهم من سادة أطهار ... هذا اعتقادي والذي أرجو به ... فوزي وعتقي من عذاب النار ...
طاهر بن أحمد بن بابشاذ
أبو الحسن البصري النحوى سقط من سطح جامع عمرو بن العاص بمصر فمات من ساعته في رجب من هذه السنة قال ابن خلكان كان بمصر إمام عصره في النحو وله المصنفات المفيدة من ذلك مقدمته وشرحها وشرح الجمل للزجاجى قال وكانت وظيفته بمصر أنه لا تكتب الرسائل في ديوان الإنشاء إلا عرضت عليه فيصلح منها ما فيه خلل ثم تنفذ إلى الجهة التي عينت لها وكان له على ذلك معلوم وراتب جيد قال فاتفق أنه كان يأكل يوما مع بعض أصحابه طعاما فجاءه قط فرموا له شيئا فأخذه وذهب سريعا ثم أقبل فرموا له شيئا أيضا فانطلق به سريعا ثم جاء فرموا له شيئا أيضا فعلموا أنه لا يأكل هذا كله فتتبعوه فإذا هو يذهب به إلى قط آخر أعمى في سطح هناك فتعجبوا من ذلك فقال الشيخ ياسبحان الله هذا حيوان بهيم قد ساق الله إليه رزقه على يد غيره أفلا يرزقني وأنا عبده وأعبده ثم ترك ما كان له من الراتب وجمع حواشيه وأقبل على العبادة والاشتغال والملازمة في غرفة في جامع عمرو بن العاص إلى أن مات كما ذكرنا وقد جمع تعليقه في النحو وكان قريبا من خمسة عشر مجلدا فأصحابه كابن برى وغيره ينقلون منها وينتفعون بها ويسمونها تعليق الغرفة
عبد الله بن محمد بن عبد الله
ابن عمر بن أحمد بن المجمع بن محمد بن يحيى بن معبد بن هزار مرد أبو محمد الصريفينى ويعرف بابن المعلم أحد مشايخ الحديث المسندين المشهورين تفرد فيه عن جماعة من المشايخ لطول (12/116)
عمره وهو آخر من حدث بالجعديات عن ابن حبانة عن أبى القاسم البغوي عن على بن الجعد وهو سماعنا ورحل إليه الناس بسببه وسمع عليه جماعة من الحفاظ منهم الخطيب وكان ثقة محمود الطريقة صافي الطوية توفي بصر يفين في جمادى الأولى عن خمس وثمانين سنة
حيان بن خلف
ابن حسين بن حيان بن محمد بن حيان بن وهب بن حيان أبو مروان القرطبى مولى بني أمية صاحب تاريخ المغرب في ستين مجلدا اثنى عليه الحافظ أبو علي الغساني في فصاحته وصدقه وبلاغته قال وسمعته يقول التهنئة بعد ثلاث استخفاف بالمودة والتعزية بعد ثلاث إغراء بالمصيبة قال ابن خلكان توفي في ربيع الأول منها ورآه بعضهم في المنام فسأله عن حاله فقال غفرلي وأما التاريخ فندمت عليه ولكن الله بلطفه أقالنى وعفا عني
أبو نصر السجزي الوابلي
نسبة إلى قرية من قرى سجستان يقال لها وابل سمع الكثير وصنف وخرج وأقام بالحرم وله كتاب الإبانة في الأصول وله في الفروع أيضا ومن الناس من كان يفضله في الحفظ على الصوري
محمد بن علي بن الحسين
أبو عبد الله الأنماطي المعروف بابن سكينة ولد سنة تسعين وثلاثمائة وكان كثير السماع ومات عن تسع وسبعين سنة والله سبحانه وتعالى أعلم
ثم دخلت سنة سبعين وأربعمائة
قال ابن الجوزى في ربيع الأول منها وقعت صاعقة بمحلة النوبة من الجانب الغربي على نخلتين في مسجد فأحرقت أعاليهما وصعد الناس فأطفأوا النار ونزلوا بالسعف وهو يشتعل نارا قال وورد كتاب من نظام الملك إلى الشيخ أبى إسحاق الشيرازي في جواب كتابه إليه في شأن الحنابلة ثم سرده ابن الجوزى ومضمونه أنه لايمكن تغيير المذاهب ولانقل أهلها عنها والغالب على تلك الناحية هو مذهب الإمام أحمد ومحله معروف عند الأئمة والناس وقدره معلوم في السنة في كلام طويل قال وفي شوال منها وقعت فتنة بين الحنابلة وبين فقهاء النظامية وحمى لكل من الفريقين طائفة من العوام وقتل بينهم نحو من عشرين قتيلا وجرح آخرون ثم سكنت الفتنة قال وفى تاسع عشر شوال ولد للخليفة المقتدى ولده المستظهر أبو العباس أحمد وزينت البلاد وجلس الوزير للهناء ثم في يوم الأحد السادس والعشرين من شوال ولد له ولد آخر وهو أبو محمد هارون قال وفيها ولى تاج الدولة أرسلان الشام وحاصر حلب وحج بالناس جنفل مقطع الكوفة وذكر ابن الجوزى أن الوزير ابن جهير كان قد عمل منبرا هائلا لتقام عليه الخطبة بمكة (12/117)
فحين وصل إليها إذا الخطبة قد أعيدت للمصريين فكسر ذلك المنبر وأحرق وممن توفي فيها من الأعيان
أحمد بن محمد بن أحمد بن يعقوب
ابن أحمد أبو بكر اليربوعى المقرى آخر من حدث عن أبي الحسين بن سمعون وقد كان ثقة متبعدا حسن الطريقة كتب عند الخطيب وقال كان صدوقا توفي في هذه السنة عن سبع وثمانين سنة
أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله أبو الحسن ابن النقور البزاز أحد المسندين المعمرين تفرد بنسخ كثيرة عن ابن حبان ع عن البغوي عن أشياخه كنسخة هدبة وكامل بن طلحة وعمرو بن زرارة وأبي السكن البكري وكان متكثرا متبحرا وكان يأخذ على إسماع حديث طالوت بن عبادة دينارا وقد أفتاه الشيخ أبو إسحاق الشيرازى بجواز أخذ الأجرة على إسماع الحديث لاشتغاله به عن الكسب توفي عن تسع وثمانين سنة
أحمد بن عبد الملك
ابن علي بن أحمد أبو صالح المؤذن النيسابورى الحافظ كتب الكثير وجمع وصنف كتب عن ألف شيخ وكان يعظ ويؤذن مات وقد جاوز الثمانين
عبد الله بن الحسن بن علي
أبو القاسم بن أبي محمد الحلالي آخر من حدث عن أبي حفص الكناني وقد سمع الكثير روى عنه الخطيب ووثقه توفي عن خمس وثمانين سنة ودفن بباب حرب
عبد الرحمن بن منده
ابن محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن إبراهيم أبو القاسم بن أبي عبد الله الإمام سمع أباه وابن مردويه وخلقا في أقاليم شتى سافر إليها وجمع شيئا كثيرا وكان ذا وقار وسمت حسن واتباع للسنة وفهم جيد كثير الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لايخاف في الله لومة لائم وكان مسعد ابن محمد الريحاني يقول حفظ الله الإسلام به وبعبد الله النصارى الهروى توفي ابن منده هذا بأصبهان عن سبع وثمانين سنة وحضر جنازته خلق كثير لا يعلمهم إلا الله عز و جل
عبد الملك بن محمد
ابن عبد العزيز بن محمد بن المظفر بن علي أبو القاسم الهمداني أحد الحفاظ الفقهاء الأولياء كان يلقب ببجير وقد سمع الكثير وكان يكثر للطلبة ويقرأ لهم توفي بالرى في المحرم من هذه السنة ودفن إلى جانب إبراهيم الخواص (12/118)
الشريف أبو جعفر الحنبلي
عبد الخالق بن عيسى بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي بن أبي موسى الحنبلي العباسي كان أحد الفقهاء العلماء العباد الزهاد المشهورين بالديانة والفضل والعبادة والقيام في الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تأخذه في الله لومة لائم ولد سنة إحدى عشرة وأربعمائة واشتغل على القاضي أبي يعلى بن الفراء وزكاه شيخه عند ابن الدامغاني فقبله ثم ترك الشهادة بعد ذلك وكان مشهورا بالصلاح والديانة وحين احتضر الخليفة القائم بأمر الله أوصى أن يغسله الشريف أبو جعفر هذا وأوصى له بشيء كثير ومال جزيل فلم يقبل من ذلك شيئا وحين وقعت الفتنة بين الحنابلة والأشعرية بسبب ابن القشيري اعتقل هو في دار الخلافة مكرما معظما يدخل عليه الفقهاء وغيرهم ويقبلون يده ورأسه ولم يزل هناك حتى اشتكى فأذن له في المسير إلى أهله فتوفى عندهم ليلة الخميس النصف في صفر منها ودفن إلى جانب الإمام أحمد فاتخذت العامة قبره سوقا كل ليلة أربعاء يترددون إليه ويقرؤون الختمات عنده حتى جاء الشتاء وكان جملة ما قرئ عليه وأهدى له عشرة آلاف ختمة والله أعلم
محمد بن محمد بن عبد الله
أبو الحسن البيضاوي أحد الفقهاء الشافعيين بربع الكرخ ودفن عند والده
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وأربعمائة فيها ملك السلطان الملك المظفر تاج الملوك تنش بن ألب أرسلان السلجوقي دمشق وقتل ملكها إقسيس وذلك أن إقسيس بعث إليه يستنجده على المصريين فلما وصل إليه لم يركب لتلقيه فأمر بقتله فقتل لساعته ووجد في خزائنه حجر ياقوت أحمر وزنه سبعة عشر مثقالا وستين حبة لؤلؤ كل حبة منها أزيد من مثقال وعشرة آلاف دينار ومائتي سرج ذهب وغير ذلك وقد كان إقسيس هذا هو أتسز بن أوف الخوارزمي كان يلقب بالمعظم وكان من خيار الملوك وأجودهم سيرة وأصحهم سريرة أزال الرفض عن أهل الشام وأبطل الأذان بحي على خير العمل وأمر بالترضي عن الصحابة أجمعين وعمر بدمشق القلعة التي هي معقل الإسلام بالشام المحروس فرحمة الله وبل بالرحمة ثراه وجعل جنة الفردوس مأواه وفيها عزل الوزير ابن جهير بإشارة نظام الملك بسبب ممالأته على الشافعية ثم كاتب المقتدي نظام الملك في إعادته فأعيد ولده وأطلق هو وفيها قدم سعد الدولة جوهرا أميرا إلى بغداد وضرب الطبول على بابه في أوقات الصلوات وأساء الأدب علىالخليفة وضرب طوالات الخيل على باب الفردوس فكوتب السلطان بأمره فجاء الكتاب من السلطان بالإنكار عليه وحج بالناس مقطع الكوفة جنفل التركي أثابه الله (12/119)
وممن توفي فيها من الأعيان سعد بن علي
ابن محمد بن علي بن الحسين أبو القسام الزنجاني رحل إلا الآفاق وسمع الكثير وكان إماما حافظا متعبدا ثم انقطع في آخر عمره بمكة وكان الناس يتبركون به قال ابن الجوزي ويقبلون يده أكثر مما يقبلون الحجر الأسود
سليم بن الجوزي
نسبة إلى قرية من قرى دجيل كان عابدا زاهدا يقال إنه مكث مدة يتقوت كل يوم بزبيبة وقد سمع الحديث وقرئ عليه رحمه الله
عبدالله بن شمعون
أبو أحمد الفقيه المالكي القيرواني توفي ببغداد ودفن بباب حرب والله سبحانه وتعالى أعلم
ثم دخلت سنة ثنتين وسبعين وأربعمائة
فيها ملك محمود بن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة قلاعا كثيرة حصينة من بلاد الهند ثم عاد إلى بلاده سالما غانما وفيها ولد الأمير أبو جعفر بن المقتدي بالله وزينت له بغداد وفيها ملك صاحب الموصل الأمير شرف الدولة مسلم بن قريش بن بدران العقيلي بعد وفاة أبيه وفيها ملك منصور بن مروان بلاد بكر بعد أبيه وفيها أمر السلطان بتغريق ابن علان اليهودي ضامن البصرة وأخذ من ذخائره أربعمائة ألف دينار فضمن خمارتكين البصرة بمائة ألف دينار ومائة فرس في كل سنة وفيها فتح عبيد الله بن نظام الملك تكريت وحج بالناس جنفل التركي وقطعت خطبة المصريين بمكة وخطب للمقتدي وللسلطان ملكشاه السلجوقي وممن توفي فيها من الأعيان
عبدالملك بن الحسن بن أحمد بن حيرون
أبو نصر سمع الكثير وكان زاهدا عابدا يسرد الصوم ويختم في كل ليلة ختمة رحمه الله
محمد بن محمد بن أحمد
ابن الحسين بن عبدالعزيز بن مهران العكبري سمع هلال الحفار وابن زرقويه والحمامي وغيرهم وكان فاضلا جيد الشعر فمن شعره قوله
... أطيل فكري في أى ناس ... مضوا قدما وفيمن خلفونا ... هم الأحياء بعد الموت ذكرا ... ونحن من الخمول الميتونا ... توفي في رمضان منها وله سبعون سنة
هياج بن عبدالله
الخطيب الشامي سمع الحديث وكان أوحد زمانه زهدا وفقها واجتهادا في العبادة أقام بمكة مدة (12/120)
يفتي أهلها ويعتمر في كل يوم ثلاث مرات على قدميه ولم يلبس نعلا منذ اقام بمكة وكان يزور قبر النبي ( ص ) مع أهل مكة ماشيا وكذلك كان يزور قبر ابن عباس بالطائف وكان لا يدخر شيئا ولا يلبس إلا قميصا واحدا ضربه بعض أمراء مكة في بعض فتن الروافض فاشتكى أياما ومات وقد نيف على الثمانين رحمه الله والله سبحانه وتعالى أعلم
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة
فيها استولى تكش أخو السلطان ملك شاه على بعض بلاد خراسان وفيها اذن للوعاظ في الجلوس للوعظ وكانوا قد منعوا في فتنة ابن القشيري وفيها قبض على جماعة من الفتيان كانوا قد جعلوا عليهم رئيسا يقال له عبدالقادر الهاشمي وقد كاتبوه من الأقطار وكان الساعي له رجلا يقال له ابن رسول وكانوا يجتمعون عند جامع براثا فخيف من أمرهم أن يكونوا ممالئين للمصريين فأمر بالقبض عليهم وحج بالناس جنفل وممن توفي فيها من الأعيان
أحمد بن محمد بن عمر
ابن محمد بن إسماعيل أبو عبدالله بن الأخضر المحدث سمع علي بن شاذان وكان على مذهب الظاهرية وكان كثير التلاوة حسن السيرة متقللا من الدنيا قنوعا رحمه الله الصليحي المتغلب على اليمن أبو الحسن علي بن محمد بن علي الملقب بالصليحي كان أبوه قاضيا باليمن وكان سنيا ونشأ هذا فتعلم العلم وبرع في أشياء كثيرة من العلوم وكان شيعيا على مذهب القرامطة ثم كان يدل بالحجيج مدة خمس عشرة سنة وكان اشتهر أمره بين الناس أنه سيملك اليمن فنجم ببلاد اليمن بعد قتله نجاح صاحب تهامة واستحوذ على بلاد اليمن بكمالها في أقصر مدة واستوثق له الملك بها سنة خمس وخمسين وخطب للمستنصر العبيدي صاحب مصر فلما كان في هذا العام خرج إلى الحج في ألفي فارس فاعترضه سعيد بن نجاح بالموسم في نفر يسير فقاتلهم فقتل هو وأخوه واستحوذ سعيد بن نجاح على ممكلته وحواصله ومن شعر الصليحي هذا قوله ... أنكحت بيض الهند سمر رماحهم ... فرؤسهم عرض النثار نثار ... وكذا العلا لا يستباح نكاحها ... إلا بحيث تطلق الأعمار ...
محمد بن الحسين
ابن عبدالله بن أحمد بن يوسف بن الشبلي أبو علي الشاعر البغدادي اسند الحديث وله الشعر الرائق فمنه قوله ... لا تظهرن لعاذل أو عاذر ... حاليك في السراء والضراء ... فلرحمة المتوجعين مرارة ... في القلب مثل شماتة الأعداء (12/121)
وله أيضا ... يفنى البخيل يجمع المال مدته ... وللحوادث والوراث ما يدع ... كدودة القز ما تبنيه يخنقها ... وغيرها بالذي تبنيه ينتفع ...
يوسف بن الحسن
ابن محمد بن الحسن أبو القاسم العسكري من أهل خراسان من مدينة زنجان ولد سنة خمس وتسعين وثلاثمائة وتفقه على أبي إسحاق الشيرازي وكان من أكبر تلاميذه وكان عابدا ورعا خاشعا كثير البكاء عند الذكر مقبلا على العبادة مات وقد قارب الثمانين
ثم دخلت سنة أربع وسبعين وأربعمائة
فيها ولي أبو كامل منصور بن نور الدولة دبيس ما كان يليه أبوه من الأعمال وخلع عليه السلطان والخليفة وفيها ملك شرف الدولة مسلم بن قريش حران وصالح صاحب الرهاء وفيها فتح تتش بن ألب أرسلان صاحب دمشق مدينة انطرطوس وفيها أرسل الخليفة ابن جهير إلى السلطان ملك شاه يتزوج ابنته فأجابت أمها بذلك بشرط أن لايكون له زوجة ولا سرية سواها وأن يكون سبعة أيام عندها فوقع الشرط على ذلك وفيها توفي من الأعيان
داود بن السلطان بن ملك شاه
فوجد عليه أبوه وجدا كثيرا بحيث إنه كاد أوهم أن يقتل نفسه فمنعه الأمراء من ذلك وانتقل عن ذلك البلد وأمر النساء بالنوح عليه ولما وصل الخبر لبغداد جلس وزير الخليفة للعزاء
القاضي أبو الوليد الباجي
سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب التجيبي الأندلسي الباجي الفقيه المالكي أحد الحفاظ المكثيرين في الفقه والحديث سمع الحديث ورحل فيه إلى بلاد المشرق سنة ست وعشرين وأربعمائة فسمع هناك الكثير واجتمع بأئمة ذلك الوقت كالقاضي أبي الطيب الطبري وأبي إسحاق الشيرازي وجاور بمكة ثلاث سنين مع الشيخ أبي ذر الهروي واقام ببغداد ثلاث سنين وبالموصل سنة عند أبي جعفر السمناني قاضيها فأخذ عنه الفقه والأصول وسمع الخطيب البغدادي وسمع منه الخطيب أيضا وروى عنه هذين البيتين الحسنين ... إذا كنت أعلم علما يقينا ... بأن جميع حياتي كساعة ... فلم لا أكون كضيف بها ... وأجعلها في صلاح وطاعة ... ثم عاد إلى بلده بعد ثلاث عشرة سنة وتولى القضاء هناك ويقال إنه تولى قضاء حلب أيضا قاله ابن خلكان قال وله مصنفات عديدة منها المنتقى في شرح الموطأ وإحكام الفصول في أحكام الأصول والجرح والتعديل وغير ذلك وكان مولده سنة ثلاث وأربعمائة وتوفي ليلة الخميس بين (12/122)
العشاءين التاسع والعشرين من رجب من هذه السنة رحمه الله
أبو الأغر دبيس بن علي بن مزيد
الملقب نور الدولة توفي في هذه السنة عن ثمانين سنة مكث منها أميرا نيفا وستين سنة وقام بالأمر من بعده ولده أبو كامل ولقب بهاء الدولة
عبدالله بن أحمد بن رضوان
أبو القاسم البغدادي كان من الرؤساء ومرض بالشقيقة ثلاث سنين فمكث في بيت مظلم لا يرى ضوءا ولا يسمع صوتا
ثم دخلت سنة خمس وسبعين وأربعمائة
فيها قدم مؤيد الملك فنزل في مدرسة أبيه وضربت الطبول على بابه في أوقات الصلوات الثلاث وفيها نفذ الشيخ أبو إسحاق الشيرازي رسولا إلى السلطان ملكشاه والوزير نظام الملك وكان أبو إسحاق كلما مر على بلدة خرج أهلها يتلقونه بأولادهم ونسائهم يتبركون به ويتمسحون بركابه وربما أخذوا من تراب حافر بغلته ولما وصل إلى ساوة خرج إليه أهلها وما مر بسوق منها إلا نثروا عليه من لطيف ما عندهم حتى اجتار بسوق الأساكفة فلم يكن عندهم إلا مداساة الصغار فنثروها عليه فجعل يتعجب من ذلك وفيها جددت الخطبة لبنت السلطان ملكشاه من جهة الخليفة فطلبت أمها أربعمائة ألف دينار ثم اتفق الحال على خمسين ألف دينار وفيها حارب السلطان أخاه تتش فأسره ثم أطلقه واستقرت يده على دمشق وأعمالها وحج بالناس جنفل و توفي فيها من الأعيان
عبد الوهاب بن محمد
ابن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده أبو عمر الحافظ من بيت الحديث رحل إلى الآفاق وسمع الكثير وتوفي بأصبهان
ابن ماكولا
الأمير أبو نصر على بن الوزير أبي القاسم هبة الله بن علي بن جعفر بن علكان بن محمد بن دلف بن أبي دلف التميمي الأمير سعد الملك أبو نصر ابن ماكولا أحد أئمة الحديث وسادات الأمراء رحل وطاف وسمع الكثير وصنف الأكمال في المشتبه من أسماء الرجال وهو كتاب جليل لم يسبق إليه ولا يلحق فيه إلا ما استدرك عليه ابن نقطة في كتاب سماه الاستدراك قتله مماليكه في كرمان في هذه السنة وكان مولده في سنة عشرين وأربعمائة وعاش خمسا وخمسين سنة قال ابن خلكان وقيل إنه قتل في سنة تسع وسبعين وقيل في سنة سبع وثمانين قال وقد كان أبوه وزير القائم بأمر الله وعمه عبدالله بن الحسين ولي قضاء بغداد قال ولم أدر لم سمي الأمير إلا أن يكون منسوبا إلى جده الأمير أبي دلف واصله من جرباذقان وولد في عكبرا في شعبان سنة (12/123)
إحدى وعشرين وأربعمائة قال وقد كان الخطيب البغدادي صنف كتاب المؤتنف جمع فيه بين كتابي الدارقطني وعبدالغني بن سعيد في المؤتلف والمختلف فجاء ابن ماكولا وزاد على الخطيب وسماه كتاب الإكمال وهو في غاية الإفادة ورفع الإلتباس والضبط ولم يوضع مثله ولا يحتاج هذا الأمير بعده إلى فضلية أخرى ففيه دلالة على كثرة اطلاعه وضبطه وتحريره وإتقانه ومن الشعر المنسوب إلى قوله ... قوض خيامك عن أرض تهان بها ... وجانب الذل إن الذل يجتنب ... وارحل إذا كان في الأوطان منقصة ... فالمندل الرطب في أوطانه حطب ...
ثم دخلت سنة ست وسبعين وأربعمائة
... فيها عزل عميد الدولة بن جهير عن وزارة الخلافة فسار بأهله وأولاده إلى السلطان وقصدوا نظام الملك وزير السلطان فعقد لولده فخر الدولة على بلاد ديار بكر فسار إليها بالخلع والكوسات والعساكر وامر أن ينتزعها من ابن مروان وأن يخطب لنفسه وأن يذكر اسمه على السكة فما زال حتى انتزعها من أيديهم وباد ملكهم على يديه كما سيأتي بيانه وسد وزارة الخلافة أبو الفتح مظفر ابن رئيس الرؤساء ثم عزل في شعبان واستوزر أبو شجاع محمد بن 4 الحسين ولقب ظهير الدين وفي جمادى الآخرة ولي مؤيد الملك أبا سعيد عبدالرحمن ابن المأمون المتولي تدريس النظامية بعد وفاة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي وفيها عصى أهل حران على شرف الدولة مسلم بن قريش فجاء فحاصرها ففتحها وهدم سورها وصلب قاضيها ابن حلبة وابنيه علىالسور وفي شوال منها قتل أبو المحاسن بن أبي الرضا وذلك لأنه وشى إلى السلطان في نظام الملك وقال له سلمهم إلي حتى أستخلص لك منهم ألف ألف دينار فعمل نظام الملك سماطا هائلا واستحضر غلمانه وكانوا ألوفا من الأتراك وشرع يقول للسلطان هذا كله من أموالك وما وقفته من المدارس والربط وكله شكره لك في الدنيا وأجره لك في الآخرة واموالي وجميع ما أملكه بين يديك وأنا أقنع بمرقعة وزاوية فعند ذلك أمر السلطان بقتل أبي المحاسن وقد كان حضيا عنده وخصيصا به وجيها لديه وعزل أباه عن كتابة الطغراء وولاها مؤيد الملك وحج بالناس الأمير جنفل التركي مقطع الكوفة وممن توفي فيها من الأعيان
الشيخ أبو إسحاق الشيرازي
إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزاباذين وهي قرية من قرى فارس وقيل هي مدينة خوارزم شيخ الشافعية ومدرس النظامية ببغداد ولد سنة ثلاث وقيل ست وتسعين وثلاثمائة وتفقه بفارس على أبي عبدالله البيضاوي ثم قدم بغداد سنة خمس عشرة وأربعمائة فتفقه علىالقاضي أبي الطيب الطبري وسمع الحديث من ابن شاذان والبرقاني وكان زاهدا عابدا ورعا كبير القدر معظما محترما (12/124)
إماما في الفقه والأصول والحديث وفنون كثيرة وله المصنفات الكثيرة النافعة كالمهذب في المذهب والتنبيه والنكت في الخلاف واللمع في أصول الفقه والتبصرة وطبقات الشافعية وغير ذلك قلت وقد ذكرت ترجمته مستقصاة مطولة في أول شرح التنبيه توفي ليلة الأحد الحادي والعشرين من جمادى الآخرة في دار أبي المظفر بن رئيس الرؤساء وغسله أبو الوفا بن عقيل الحنبلي وصلى عليه بباب الفردوس من دارالخلافة وشهد الصلاة عليه المقتدي بأمر الله وتقدم للصلاة عليه أبو الفتح المظفر ابن رئيس الرؤساء وكان يومئذ لابسا ثياب الوزارة ثم صلى عليه مرة ثانية يجامع القصر ودفن بباب إبرز في تربة مجاورة للناحية رحمه الله تعالى وقد امتدحه الشعراء في حياته وبعد وفاته وله شعر رائق فمما أنشده ابن خلكان من شعره قوله ... سألت الناس عن خل وفي ... فقالوا ما إلى هذا سبيل ... تمسك إن ظفرت بذيل حر ... فإن الحر في الدنيا قليل ... قال ابن خلكان ولما توفي عمل الفقهاء عزاءه بالنظامية وعين مؤيد الملك أبا سعد المتولي مكانه فلما بلغ الخبر إلى نظام الملك كتب يقول كان من الواجب أن تغلق المدرسة سنة لأجله وامر أن يدرس الشيخ أبو نصر بن الصباغ في مكانه
طاهر بن الحسين
ابن أحمد بن عبدالله القواس قرأ القرآن وسمع الحديث وتفقه على القاضي أبي الطيب الطبري وأفتى ودرس وكانت له حلقة بجامع المنصور للمناظرة والفتوى وكان ورعا زاهدا ملازما لمسجده خمسين سنة توفي عن ست وثمانين سنة ودفن قريبا من الإمام أحمد رحمه الله وإيانا
محمد بن أحمد بن إسماعيل
أبو طاهر الأنباري الخطيب ويعرف بابن أبي الصفر طاف البلاد وسمع الكثير وكان ثقة صالحا فاضلا عابدا وقد سمع منه الخطيب البغدادي وروى عنه مصنفاته توفي بالأنبار في جمادى الآخرة عن نحو من مائة سنة رحمه الله
محمد بن أحمد بن الحسين بن جرادة
أحد الرؤساء ببغداد وهو من ذوي الثروة والمروءة كان يحزر ماله بثلاثمائة ألف دينار وكان أصله من عكبرا فسكن بغداد وكانت له بها دار عظيمة تشتمل على ثلاثين مسكنا مستقلا وفيها حمام وبستان ولها بابان على كل باب مسجد إذا أذن المؤذن في إحداهما لا يسمع الآخر من اتساعها وقد كانت زوجة الخليفة القائم حين وقعت فتنة البساسيري في سنة خمسين وأربعمائة نزلت عنده في جواره فبعث إلى الأمير قريش بن بدران أمير العرب بعشرة آلاف دينار (12/125)
ليحمي له داره وهو الذي بنى المسجد المعروف به ببغداد وقد ختم فيه القرآن ألوف من الناس وكان لا يفارق زي التجار وكانت وفاته في عاشر ذي القعدة من هذه السنة ودفن في التربة المجاورة لتربة القزويني رحمه الله وإيانا آمين
ثم دخلت سنة سبع وسبعين وأربعمائة
فيها كان الحرب بين فخر الدولة بن جهير وزير الخليفة وبين ابن مروان صاحب ديار بكر فاستولى ابن جهير على ملك العرب وسبى حريمهم وأخذ البلاد ومعه سيف الدولة صدقة بن منصور بن دبيس بن علي بن مزيد الأسدي فافتدى خلقا من العرب فشكره الناس على ذلك وامتدحه الشعراء وفيها بعث السلطان عميد الدولة ابن جهير في عسكر كثيف ومعه قسيم الدولة اقسنقر جد بني أتابك ملوك الشام والموصل فسارا إلى الموصل فملكوها وفي شعبان منها ملك سليمان بن قتلمش أنطاكية فأراد شرف الدولة مسلم بن قريش أن يستنقذها منه فهزمه سليمان وقتله وكان مسلم هذا من خيار الملوك سيرة له في كل قرية وال وقاض وصاحب خبر وكان يملك من السندية إلى منبج وولى بعده أخوه إبراهيم بن قريش وكان مسجونا من سنين فأطلق وملك وفيها ولد السلطان سنجر بن ملكشاه في العشرين من رجب بسنجار وفيها عصى تكش أخو السلطان فأخذه السلطان فسمله وسجنه وحج بالناس في هذه السنة الأمير خمارتكين الحسناتي وذلك لشكوى الناس من شدة سير جنفل بهم وأخذ المكوسات منهم سافر مرة من الكوفة إلى مكة في سبعة عشر يوما وممن توفي فيها من الأعيان
أحمد بن محمد بن دوبست
أبو سعد النيسابوري شيخ الصوفية له رباط بمدينة نيسابور يدخل من بابه الجمل براكبه وحج مرات على التجريد على البحرين حين انقطعت طريق مكة وكان يأخذ جماعة من الفقراء ويتوصل من قبائل العرب حتى يأتي مكة توفي في هذه السنة وقد جاوز التسعين رحمه الله وإيانا واوصى أن يخلفه ولده إسماعيل فأجلس في مشيخة الرباط
ابن الصباغ
صاحب الشامل عبد السيد بن محمد بن عبدالواحد بن أحمد بن جعفر الإمام أبو نصر بن الصباغ ولد سنة أربعمائة وتفقه ببغداد على أبي الطيب الطبري حتى فاق الشافعية بالعراق وصنف المصنفات المفيدة منها الشامل في المذهب وهو أول من درس بالنظامية توفي في هذه السنة ودفن بداره في الكرخ ثم نقل إلى باب حرب رحمه الله قال ابن خلكان كان فقيه العراقين وكان يضاهي أبا إسحاق وكان ابن الصباغ أعلم منه بالمذهب واليه الرحلة فيه وقد صنف الشامل في الفقه والعمدة في أصول الفقه وتولى تدريس النظامية أولا ثم عزل بعد عشرين (12/126)
يوما بالشيخ أبي إسحاق فلما مات الشيخ أبو إسحاق تولاها أبو سعد المتولى ثم عزل الصباغ ابن المتولى وكان ثقه حجة صالحا ولد سنة أربعمائة أضر في آخر عمره رحمة الله وإيانا
مسعود بن ناصر
ابن عبد الله بن أحمد بن إسماعيل أبو سعد السجري الحافظ رحل في الحديث وسمع الكثير وجمع الكتب النفيسة وكان صحيح الخط صحيح النقل حافظ ضابطا رحمه الله وإيانا
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وأربعمائة
في المحرم منها زلزلت أرجان فهلك خلق كثير من الروم ومواشيهم وفيها كثرت الأمراض بالحمى والطاعون بالعراق والحجاز والشام وأعقب ذلك موت الفجأة ثم ماتت الوحوش في البراري ثم تلاها موت البهائم حتى عزت الألبان واللحمان ومع هذا كله وقعت فتنة عظيمة بين الرفضة والسنة فقتل خلق كثير فيها وفي ربيع الأول هاجت ريح سوداء وسفت رملا وتساقطت أشجار كثيرة من النخل وغيرها ووقعت صواعق في البلاد حتى ظن بعض الناس أن القيامة قد قامت ثم انجلى ذلك ولله الحمد وفيها ولد للخلفية ولده أبو عبد الله الحسين وزينت بغداد وضربت الطبول والبوقات وكثرت الصدقات وفيها استولى فخر الدولة ابن جهير على بلاد كثيرة منها آمد وميا فارقين وجزيرة ابن عمر وانقضت بنو مروان على يده في هذه السنة وفي ثاني عشر رمضان منها ولي أبو بكر محمد بن مظفر الشامي قضاء القضاة ببغداد بعد وفاة أبي عبدالله الدامغاني وخلع عليه في الديوان وحج بالناس جنفل وزار النبي ( ص ) ذاهبا وآيبا قال أظن أنها آخر حجتي وكان كذلك وفيها خرج توقيع الخليفة المقتدي بأمر الله بتجديد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل محلة وإلزام أهل الذمة بلبس الغيار وكسر آلات الملاهي وإراقة الخمور وإخراج أهل الفساد من البلاد اثابه الله ورحمه وممن توفي فيها من الأعيان
أحمد بن محمد بن الحسن
ابن محمد بن إبراهيم بن أبي أيوب أبو بكر الفوركي سبط الأستاذ أبي بكر بن فورك استوطن بغداد وكان متكلما يعظ الناس في النظامية فوقعت بسببه فتنة بين أهل المذاهب قال ابن الجوزي وكان مؤثرا للدنيا لا يتحاشى من لبس الحرير وكان يأخذ مكس الفحم ويوقع العداوة بين الحنابلة والأشاعرة مات وقد ناف على الستين سنة ودفن إلى جانب قبر الأشعري بمشرعة الزوايا
الحسن بن علي
أبو عبدالله المردوسي كان رئيس أهل زمانه وأكملهم مروءة كان خدم في أيام بني بويه وتأخر لهذا الحين وكانت الملوك تعظمه وتكاتبه بعبده وخادمه وكان كثير الصدقة والصلات (12/127)
والبر وبلغ من العمر خمسا وتسعين سنة وأعد لنفسه قبرا وكفنا قبل موته بخمس سنين
أبو سعد المتولي
عبدالرحمن بن المأمون بن علي أبو سعد المتولي مصنف التتمة ومدرس الظامية بعد أبي إسحاق الشيرازي وكان فصيحا بليغا ماهرا بعلوم كثيرة كانت وفاته في شوال من هذه السنة وله ستة وخمسون سنة رحمه الله وإيانا وصلى عليه القاضي أبو بكر الشاشي
إمام الحرمين
عبدالملك بن ( الشيخ أبي محمد ) عبدالله بن يوسف بن عبدالله بن يوسف بن محمد بن حيويه أبو المعالي الجويني وجوين من قرى نيسابور الملقب بإمام الحرمين لمجاورته بمكة أربع سنين كان مولده في تسع عشرة وأربعمائة سمع الحديث وتفقه على والده الشيخ أبي محمد الجويني ودرس بعده في حلقته وتفقه على القاضي حسين ودخل بغداد وتفقه بها وروى الحديث وخرج إلى مكة فجاور فيها أربع سنين ثم عاد إلى نيسابور فسلم إليه التدريس والخطابة والوعظ وصنف نهاية المطلب في دراية المذهب والبرهان في أصول الفقه وغير ذلك في علوم شتى واشتغل عليه الطلبة ورحلوا إليه من الأقطار وكان يحضر مجلسه ثلاثمائة متفقه وقد استقصيت ترجمته في الطبقات وكانت وفاته في الخامس والعشرين من ربيع الأول من هذه السنة عن سبع وخمسين سنة ودفن بداره ثم نقل إلى جانب والده قال ابن خلكان كانت أمه جارية اشتراها والده من كسب يده من النسخ وأمرها أن لا تدع أحدا يرضعه غيرها فاتفق أن امرأة دخلت عليها فأرضعته مرة فأخذه الشيخ أبو محمد فنكسه ووضع يده على بطنه ووضع أصبعه في حلقه ولم يزل به حتى قاء ما في بطنه من لبن تلك المرأة قال وكان إمام الحرمين ربما حصل له في مجلسه في المناظرة فتور ووقفة فيقول هذا من آثار تلك الرضعة قال ولما عاد من الحجاز إلى بلده نيسابور سلم إليه المحراب والخطابة والتدريس ومجلس التذكير يوم الجمعة وبقي ثلاثين سنة غير مزاحم ولا مدافع وصنف في كل فن وله النهاية التي ما صنف في الإسلام مثلها قال الحافظ أبو جعفر سمعت الشيخ أبا إسحاق الشيرازي يقول لإمام الحرمين يا مفيد أهل المشرق والمغرب أنت اليوم إمام الأئمة ومن تصانيفه الشامل في أصول الدين والبرهان في أصول الفقه وتلخيص التقريب والإرشاد والعقيدة النظامية وغياث الأمم وغير ذلك مما سماه ولم يتمه وصلى عليه ولده أبو القاسم وغلقت الأسواق وكسر تلاميذه أقلامهم وكانوا أربعمائة ومحابرهم ومكثوا كذلك سنة وقد رثى بمراثي كثيرة فمن ذلك قول بعضهم (12/128)
قلوب العالمين على المقالى ... وأيام الورى شبه الليالى ... أيثمر غصن أهل العلم يوما ... وقد مات الامام أبو المعالي ...
محمد بن أحمد بن عبدالله بن أحمد
أبو علي بن الوليد شيخ المعتزلة كان مدرسا لهم فأنكر أهل السنة عليه فلزم بيته خمسين سنة إلى أن توفي في ذي الحجة منها ودفن في مقبرة الشونيزي وهذا هو الذي تناظر هو والشيخ أبو يوسف القزويني المعتزلي المفسر في إباحة الولدان في الجنة وأنه يباح لأهل الجنة وطء الولدان في أدبارهم كما حكى ذلك ابن عقيل عنهما وكان حاضرهما فمال هذا إلى إباحة ذلك لأنه مأمون المفسدة هنالك وقال أبو يوسف إن هذا لا يكون لا في الدنيا ولا في الآخرة ومن أين لك أن يكون لهم أدبار وهذا العضو وهو الدبر إنما خلق في الدنيا لحاجة العباد إليه لأنه مخرج للأذى عنهم وليس في الجنة شيء من ذلك وإنما فضلات أكلهم عرق يفيض من جلودهم فإذا هم ضمر فلا يحتاجون إلى أن يكون لهم أدبار ولا يكون لهذه المسألة صورة بالكلية وقد روى هذا الرجل حديثا واحدا عن شيخه أبي الحسين البصري بسنده المتقدم من طريق شعبة عن منصور عن ربعي عن أبي مسعود البدري أن رسول الله ( ص ) قال ( إذا لم تستح فاصنع ما شئت ) وقد رواه القعنبي عن شعبة ولم يرو عنه سواه فقيل إنه لما رحل إليه دخل عليه وهو يبول في البالوعة فسأله أن يحدثه فامتنع فروى له هذا الحديث كالواعظ له به والتزم أن لا يحدثه بغيره وقيل لأن شعبة مر على القعنبي قبل أن يشتغل بعلم الحديث وكان إذ ذاك يعاني الشراب فسأله أن يحدثه فامتنع فسل سكينا وقال إن لم تحدثني وإلا قتلتك فروى له هذا الحديث فتاب وأناب ولزم مالكا ثم فاته السماع من شعبة فلم يتفق له عنه غير هذا الحديث فالله أعلم
ابو عبدالله الدامغاني القاضي
محمد بن علي بن الحسين بن عبدالملك بن عبدالوهاب بن حمويه الدامغاني قاضي القضاة ببغداد مولده في سنة ثمان عشرة وأربعمائة فتفقه بها على أبي عبدالله الصيمري وأبي الحسن القدوري وسمع الحديث منهما ومن ابن النقور والخطيب وغيرهم وبرع في الفقه وكان له عقل وافر وتواضع زائد وانتهت إليه رياسة الفقهاء وكان فصيحا كثير العبادة وقد كان فقيرا في ابتداء طلبه عليه أطمار رثة ثم صارت إليه الرياسة والقضاء بعد ابن ماكولا في سنة تسع واربعين وكان القائم بأمر الله يكرمه والسلطان طغرلبك يعظمه وباشر الحكم ثلاثين سنة في أحسن سيرة وغاية الأمانة والديانة مرض أياما يسيرة ثم توفي في الرابع والعشرين من رجب من هذه السنة وقد ناهز الثمانين ودفن بداره بدرب العلابين ثم نقل إلى مشهد أبي حنيفة رحمه الله (12/129)
محمد بن علي بن المطلب
أبو سعد الأديب كان قد قرأ النحو والأدب واللغة والسير وأخبار الناس ثم أقلع عن ذلك كله وأقبل على كثرة الصلاة والصدقة والصوم إلى أن توفي في هذه السنة عن ست وثمانين سنة رحمه الله
محمد بن طاهر العباسي
ويعرف بابن الرجيحي تفقه على ابن الصباغ وناب في الحكم وكان محمود الطريقة وشهد عند ابن الدامغاني فقبله
منصور بن دبيس
ابن علي بن مزيد أبو كامل الأمير بعد سيف الدولة كان كثير الصلاة والصدقة توفي في رجب من هذه السنة وقد كان له شعر وأدب وفيه فضل فمن شعره قوله ... فإن أنا لم احمل عظيما ولم أقد ... لهاما ولم أصبر على كل معظم ... ولم أحجز الجاني وامنع جوره ... غداة أنادي للفخار وأنتمي ... فلا نهضت لي همة عربية ... إلى المجد ترقى بي ذرى كل محرم ... هبة الله بن أحمد بن السيبي
( قاضي الحريم بنهر معلى ) ومؤدب الخليفة المقتدي بأمر الله سمع الحديث وتوفي في محرم في هذه السنة وقد جاوز الثمانين وله شعر جيد فمنه قوله
... رجوت الثمانين من خالقي ... لما جاء فيها عن المصطفى ... فبلغنيها فشكرا له ... وزاد ثلاثا بها إذوفا ... وإني لمنتظر وعده ... لينجزه لي فعل أهل الوفا ...
ثم دخلت سنة تسع وسبعين وأربعمائة
وفيها كانت الوقعة بين تتش صاحب دمشق وبين سليمان بن قتلمش صاحب حلب وأنطاكية وتلك الناحية فانهزم أصحاب سليمان وقتل هو نفسه بخنجر كانت معه فسار السلطان ملكشاه من اصبهان إلى حلب فملكها وملك ما بين ذلك من البلاد التي مر بها مثل حران والرها وقلعة جعبر وكان جعبر شيخا كبيرا قد عمي وله ولدان وكان قطاع الطريق يلجأون إليها فيتحصنون بها فراسل السلطان سابق بن جعبر في تسليمها فامتنع عليه فنصب عليها المناجيق والعرادات ففتحها وأمر بقتل سابق فقالت زوجته لا تقتله حتى تقتلني معه فألقاه من رأسها فتكسر ثم أمر بتوسيطهم بعد ذلك فألقت المرأة نفسها وراءه فسلمت فلامها بعض الناس فقالت كرهت أن يصل إلي التركي فيبقى ذلك عارا علي فاستحسن منها ذلك واستناب السلطان على حلب قسيم الدولة اقسنقر التركي وهو جد نور الدين الشهيد واستناب على الرحبة وحران والرقة وسروج والخابور (12/130)
محمد بن شرف الدولة مسلم وزوجه بأخته زليخاخاتون وعزل فخر الدولة بن جهير عن ديار بكر وسلمها إلى العميد أبي علي البلخي وخلع على سيف الدولة صدقة بن دبيس الأسدي وأقره على عمل أبيه ودخل بغداد في ذي القعدة من هذه السنة وهي أول دخلة دخلها فزار المشاهد والقبور ودخل على الخليفة فقبل يده ووضعها على عينيه وخلع عليه الخليفة خلعا سنية وفوض إليه أمور الناس واستعرض الخليفة أمراءه ونظام الملك واقف بين يديه يعرفه بالأمراء واحدا بعد واحد باسمه وكم جيشه وأقطاعه ثم أفاض عليه الخليفة خلعا سنية وخرج من بين يديه فنزل بمدرسة النظامية ولم يكن رآها قبل ذلك فاستحسنها إلا أنه استصغرها وأستحسن أهلها ومن بها وحمد الله وسأل الله أن يجعل ذلك خالصا لوجهه الكريم ونزل بخزانة كتبها وأملى جزأ من مسموعاته فسمعه المحدثون منه وورد الشيخ أبو القاسم علي بن الحسين الحسني الدبوسي إلى بغداد في تجمل عظيم فرتبه مدرسا بالنظامية بعد أبي سعد المتولي وفي ربيع الآخر فرغت المنارة بجامع القصر وأذن فيها وفي هذه السنة كانت زلازل هائلة بالعراق والجزيرة والشام فهدمت شيئا كثيرا من العمران وخرج أكثر الناس إلى الصحراء ثم عادوا وحج بالناس الأمير خمارتكين الحسناني وقطعت خطبة المصريين من مكة والمدينة وقلعت الصفائح التي على باب الكعبة التي عليها ذكر الخليفة المصري وجدد غيرها عليها وكتب عليها اسم المقتدي قال ابن الجوزي وظهر رجل بين السندية وواسط يقطع الطريق وهو مقطوع اليد اليسرى يفتح القفل في أسرع مدة ويغوص دجلة في غوصتين ويقفز القفزة خمسة وعشرين ذراعا ويتسلق الحيطان الملس ولا يقدر عليه أحد وخرج من العراق سالما قال وفيها توفي فقير في جامع المنصور فوجد في مرقعته ستمائة دينار مغربية أي صحاحا كبارا من أحسن الذهب قال وفيها عمل سيف الدولة صدقة سماطا للسلطان جلال الدولة أبي الفتح ملكشاه اشتمل على ألف رأس من الغنم ومائة جمل وغيرها ودخله عشرون ألف من من السكر وجعل عليه من أصناف الطيور والوحوش ثم أردفه من السكر شئ كثير فتناول السلطان بيده منه شيئا يسيرا ثم أشار فانتهب عن آخره ثم انتقل من ذلك المكان إلى سرادق عظيم لم ير مثله من الحرير وفيه خمسمائة قطعة من الفضة وألوان من تماثيل الند والمسك والعنبر وغير ذلك فمد فيه سماطا خاصا فأكل السلطان حينئذ وحمل إليه عشرين ألف دينار وقدم إليه ذلك السرادق بما فيه بكماله وانصرف والله أعلم وممن توفي فيها من الأعيان
الأمير جعبر بن سابق القشيري
الملقب بسابق الدين كان قد تملك قلعة جعبر مدة طويلة فنسبت إليه وإنما كان يقال لها (12/131)
قبل ذلك الدوشرية نسبة إلى غلام النعمان بن المنذر ثم إن هذا الأمير كبر وعمي وكان له ولدان بقطعان الطريق فاجتاز به السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي وهو ذاهب إلى حلب فأخذ القلعة وقتله كما تقدم
الأمير جنفل قتلغ
أمير الحاج كان مقطعا للكوفة وله وقعات مع العرب أعربت عن شجاعته وأرعبت قلوبهم وشتتهم في بلاد شذر مذر وقد كان حسن السيرة محافظا على الصلوات كثير التلاوة وله آثار حسنة بطريق مكة في إصلاح المصانع والأماكن التي تحتاج إليها الحجاج وغيرهم وله مدرسة على الحنفية بمشهد يونس بالكوفة وبنى مسجدا بالجانب الغربي من بغداد على دجلة بمشرعة الكرخ توفي في جمادى الأولى منها رحمه الله ولما بلغ نظام الملك وفاته قال مات ألف رجل والله أعلم
علي بن فضال المشاجعي
أبو علي النحوي المغربي له المصنفات الدالة على علمه وغزارة فهمه وأسند الحديث توفي في ربيع الأول منها ودفن بباب أبرز
علي بن أحمد التستري
كان مقدم أهل البصرة في المال والجاه وله مراكب تعمل في البحر قرأ القرآن وسمع الحديث وتفرد براوية سنن أبي داود توفي في رجب منها
يحيى بن إسماعيل الحسيني
كان فقيها على مذهب زيد بن علي بن الحسين وعنده معرفة بالأصول والحديث
ثم دخلت سنة ثمانين وأربعمائة
في المحرم منها نقل جهاز ابنة السلطان ملكشاه إلى دار الخلافة على مائة وثلاثين جملا مجللة بالديباج الرومي غالبها أواني الذهب والفضة وعلى أربع وسبعين بغلة مجللة بأنواع الديباج الملكي وأجراسها وقلائدها من الذهب والفضة وكان على ستة منها اثنا عشر صندوقا من الفضة فيها أنواع الجواهر والحلي وبين يدي البغال ثلاث وثلاثون فرسا عليها مراكب الذهب مرصعة بالجواهر ومهد عظيم مجلل بالديباج الملكي عليه صفائح الذهب مرصع بالجوهر وبعث الخليفة لتلقيهم الوزير أبا شجاع وبين يديه نحو من ثلاثمائة موكبية غير المشاعل لخدمة الست خاتون امرأة السلطان تركان خاتون حماة الخليفة وسألها أن تحمل الوديعة الشريفة إلى دار الخلافة فأجابت إلى ذلك فحضر الوزير نظام الملك وأعيان الأمراء وبين أيديهم من الشموع والمشاعل ما لا يحصى وجاءت النساء الأميرات كل واحدة منهن في جماعتها وجواريها وبين أيديهن الشموع والمشاعل ثم جاءت الخاتون ابنة السلطان زوجة الخليفة بعد الجميع في محفة مجللة وعليها من الذهب والجواهر ما لا (12/132)
تحصى قيمته وقد أحاط بالمحفة مائتا جارية تركية بالمراكب المزينة العجيبة مما يبهرن الأبصار فدخلت دار الخلافة على هذه الصفة وقد زين الحريم الطاهر وأشعلت فيه الشموع وكانت ليلة مشهودة للخليفة هائلة جدا فلما كان من الغد أحضر الخليفة امراء السلطان ومد سماطا لم ير مثله عم الحاضرين والغائبين وخلع على الخاتون زوجة السلطان أم العروس وكان أيضا يوما مشهودا وكان السلطان متغيبا في الصيد ثم قدم بعد أيام وكان الدخول بها في أول السنة و لدت من الخليفة في ذي القعدة ولدا ذكرا زينت له بغداد وفيها ولد للسلطان ملكشاه ولد سماه محمودا وهو الذي ملك بعده وفيها جعل السلطان ولده أباشجاع أحمد ولي العهد من بعده ولقبه ملك الملوك عضد الدولة وتاج الملة عدة أمير المؤمنين وخطب له بذلك على المنابر ونثر الذهب على الخطباء عند ذكر اسمه وفيها شرع في بناء التاجية في باب إبرز وعملت بستان وغرست النخيل والفواكه هنالك وعمل سور بأمر السلطان والله أعلم وممن توفي فيها من الأعيان
اسماعيل ابن أبراهيم
ابن موسى بن سعيد أبو القاسم النيسابوري رحل في الحديث إلى الآفاق حتى جاوز ما وراء النهر وكان له حظ وافر في الأدب ومعرفة العربية توفي بنيسابور في جمادي الأولى منها
طاهر بن الحسين البندنيجي
أبو الوفا الشاعر له قصيدتان في مدح نظام الملك إحداهما معجمة والأخرى غير منقوطة أولها ... لاموا ولو علموا ما اللوم ما لاموا ... ورد لومهم هم وآلام ...
توفي ببلدهفي رمضان عن نيف وسبعين سنة
محمد بن أمير المؤمنين المقتدي
عرض له جدري فمات فيها وله تسع سنين فخزن عليه والده والناس وجلسوا للعزاء فأرسل إليهم يقول إن لنا في رسول الله أسوة حسنة حين توفي ابنه إبراهيم وقال الله تعالى
والذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ثم عزم على الناس فانصرفوا
محمد بن محمد بن زيد
ابن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أبو الحسن الحسيني الملقب بالمرتضي ذي الشرفين ولد سنة خمس وأربعمائة وسمع الحديث الكثير وقرأ بنفسه على الشيوخ وصحب الحافظ أبا بكر الخطيب فصارت له معرفة جيدة بالحديث وسمع عليه الخطيب شيئا من مروياته ثم انتقل إلى سمرقند وأملى الحديث بأصهبان وغيرها وكان يرجع إلى عقل كامل وفضل ومروءة وكانت له أموال جزيلة وأملاك متسعة ونعمة وافرة يقال إنه ملك (12/133)
أربعين قرية وكان كثير الصدقة والبر والصلة للعلماء والفقراء وبلغت زكاة ماله الصامت عشرة آلاف دينار غير العشور وكان له بستان ليس لملك مثله فطلبه منه ملك ماوراء النهر واسمه الخضر بن إبراهيم عارية ليتنزه فيه فأبى عليه وقال أعيره إياه ليشرب فيه الخمر بعد ما كان مأوى أهل العلم والحديث والدين فأعرض عنه السلطان وحقد عليه ثم استدعاه إليه ليستشيره في بعض الأمور على العادة فلما حصل عنده قبض عليه وسجنه في قلعته واستحوذ على جميع أملاكه وحواصله وأمواله وكان يقول ما تحققت صحة نسبي إلا في هذه المصادرة فإني ربيت في النعيم فكنت أقول إن مثلي لا بد أن يبتلى ثم منعوه الطعام والشراب حتى مات رحمه الله
محمد بن هلال بن الحسن
أبو الحسن الصابي الملقب بغرس النعمة سمع أباه وابن شاذان وكانت له صدقة كثيرة ومعروف وقد ذيل على تاريخ أبيه الذي ذيله على تاريخ ثابت بن سنان الذي ذيله على تاريخ ابن جرير الطبري وقد أنشأ دارا ببغداد ووقف فيها أربعة آلاف مجلد في فنون من العلوم وترك حين مات سبعين ألف دينار ودفن بمشهد علي
هبة الله بن علي
ابن محمد بن أحمد بن المجلي أبو نصر جمع خطبا ووعظا وسمع الحديث على مشايخ عديدة وتوفي شابا قبل أوان الرواية
ابو بكر بن عمر أمير الملثمين
كان في أرض فرغانة اتفق له من الناموس مالم يتفق لغيره من الملوك كان يركب معه إذا سار لقتال عدو خمسمائة ألف مقاتل كان يعتقد طاعته وكان مع هذا يقيم الحدود ويحفظ محارم الإسلام ويحوط الدين ويسير في الناس سيرة شرعية مع صحة اعتقاده ودينه وموالاة الدولة العباسية أصابته نشابة في بعض غزواته في حلقه فقتلته في هذه السنة
فاطمة بنت علي
المؤدبة الكاتبة وتعرف ببنت الأقرع سمعت الحديث من أبي عمر بن مهدي وغيره وكانت تكتب المنسوب على طريقة ابن البواب ويكتب الناس عليها وبخطها كانت الهدنة من الديوان إلى ملك الروم وكتبت مرة إلى عميد الملك الكندى رقعة فأعطاها ألف دينار توفيت في المحرم من هذه السنة ببغداد ودفنت بباب إبرز
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وأربعمائة
فيها كانت فتن عظيمة بين الروافض والسنة ببغداد وجرت خطوب كثيرة وفي ربيع الأول أخرجت الأتراك من حريم الخلافة فكان في ذلك قوة للخلافة وفيها ملك مسعود بن (12/134)
الملك المؤيد بن إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين بلاد غزنة بعد أبيه وفيها فتح ملكشاه مدينة سمرقند وحج بالناس الأمير خمارتكين وممن توفي فيها من الأعيان
أحمد بن السلطان ملكشاه
وكان ولي عهد أبيه توفي وعمره إحدى عشرة سنة فمكث الناس في العزاء سبعة أيام لم يركب أحد فرسا والناس ينحن عليه في الأسواق وسود أهل البلاد التي لأبيه أبوابهم
عبد الله بن محمد
ابن علي بن محمد أبو إسماعيل الأنصاري الهروي روى الحديث وصنف وكان كثير السهر بالليل وكانت وفاته بهراة في ذي الحجة عن ست وثمانين سنة وحج بالناس فيها الوزير أبو أحمد وأستناب ولده أبا منصور ونقيب النقباء طراد بن محمد الزينبي
ثم دخلت سنة ثنتين وثمانين وأربعمائة
في المحرم درس أبو بكر الشاشي في المدرسة التاجية بباب إبرز التي أنشأها الصاحب تاج الدين أبو الغنائم على الشافعية وفيها كانت فتن عظيمة بين الروافض والسنة ورفعوا المصاحف وجرت حروب طويلة وقتل فيها خلق كثير نقل ابن الجوزي في المنتظم من خط ابن عقيل أنه قتل في هذه السنة قريب من مائتي رجل قال وسب أهل الكرخ الصحابة وأزواج النبي ( ص ) فلعنة الله على من فعل ذلك من أهل الكرخ وأنما حكيت هذا ليعلم ما في طوايا الروافض من الخبث والبغض لدين الإسلام وأهله ومن العداوة الباطنة الكامنة في قلوبهم لله ولرسوله وشريعته وفيها مللك السلطان ملكشاه ما وراء النهر وطائفة كبيرة من تلك الناحية بعد حروب عظيمة ووقعات هائلة وفيها استولى جيش المصريين على عدة بلاد من بلاد الشام وفيها عمرت منارة جامع حلب وفيها أرسلت الخاتون بنت السلطان امرأة الخليفة تشكو إلى أبيها إعراض الخليفة عنها فبعث إليها أبوها الطواشي صواب والأمير مران ليرجعها إليه فأجاب الخليفة إلى ذلك وبعث معها بالنقيب والجماعة من أعيان الأمراء وخرج ابن الخليفة أبو الفضل والوزير فشيعاها إلى النهروان وذلك في ربيع الأول فلما وصلت إلى عند أبيها توفيت في شوال من هذه السنة بأصبهان فعمل عزاها ببغداد سبعة أيام وأرسل الخليفة إلى السلطان أميرين لتعزيته فيها وحج بالناس خمارتكين وممن توفي فيها من الأعيان
عبد الصمد بن أحمد بن علي
المعروف بطاهر النيسابوري الحافظ رحل وسمع الكثير وخرج وعاجله الموت في هذه السنة بهمذان وهو شاب
علي بن أبي يعلى أبو القاسم الدبوسى مدرس النظاميه بعد المتولي سمع شيئا من الحديث وكان فقيها ماهرا (12/135)
وجدليا باهرا عاصم بن الحسن
ابن محمد بن علي بن عاصم بن مهران أبو الحسين العاصمي من وأهل الكرخ سكن باب الشعير ولد سنة سبع وتسعين وثلثمائة وكان من أهل الفضل والأدب وسمع الحديث من الخطيب وغيره وكان ثقة حافظا ومن شعره قوله
... لهفي على قوم بكاظمة ... ودعتهم والركب معترض ... لم تترك العبرات مذ بعدوا ... لي مقلة ترنو وتغتمض ... رحلوا فدمعي واكف هطل ... جار وقلبي حشوه مرض ... وتعوضوا لا ذقت فقدهم ... عني ومالي عنهم عوض ... أقرضتهم قلبي على ثقة ... منهم فماردوا الذي اقترضوا ... محمد بن أحمد بن حامد
ابن عبيد أبو جعفر البخاري المتكلم المعتزلي أقام ببغداد وتعرف بقاضي حلب وكان حنفي المذهب في الفروع معتزليا في الأصول مات ببغداد في هذه السنة ودفن بباب حرب
محمد بن أحمد بن عبد الله
ابن محمد بن إسماعيل الأصبهاني المعروف بمسارفة أحد الحفاظ الجوالين الرحالين سمع الكثير وجمع الكتب واقام بهراة وكان صالحا كثير العبادة توفي بنيسابور في ذي الحجة من هذه السنة والله أعلم
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة
في المحرم منها ورد إلى الفقيه أبي عبد الله الطبري منشور نظام الملك بتدريس النظامية فدرس بها ثم قدم الفقيه أبو محمد عبد الوهاب الشيرازي في ربيع الآخر منها بمنشور بتدريسها فاتفق الحال على أن يدرس هذا يوما وهذا يوما وفي جمادي الأولى دهم أهل البصرة رجل يقال له بليا كان ينظر في النجوم فاستغوى خلقا من أهلها وزعم أنه المهدي واحرق من البصرة شيئا كثيرا من ذلك دار كتب وقفت على المسلمين لم ير في الأسلام مثلها وأتلف شيئا كثيرا من الدواليب والمصانع وغير ذلك وفيها خلع على أبي القاسم طراد الزينبي بنقابة العباسيين بعد أبيه وفيها استفتى على معلمى الصبيان ان يمنعوا من المساجد صيانة لها فأفتوا بمنعهم ولم يستثن منه سوى رجل كان فقيها شافعيا يدرى كيف تصان المساجد واستدل المفتي بقوله عليه الصلاة و السلام ( سدوا كل خوخة إلا خوخة أبي بكر ) وحج بالناس خمار تكين على العادة وممن توفي فيها من الأعيان
الوزير أبو نصر بن جهير ابن محمد بن محمد بن جهير عميد الدولة أحد مشاهير الوزراء وزر للقائم ثم لولده المقتدي ثم (12/136)
عزل ملكشاه السلطان وولي ولده فخر الدولة ديار بكر وغيرها مات بالموصول وهي بلده التي ولد بها وفيها كان مقتل صاحب اليمن الصليحي وقد تقدم ذكره ثم دخلت سنة أربع وثمانين وأربعمائة
في المحرم منها كتب المنجم الذي أحرق البصرة إلى أهل واسط يدعوهم إلى طاعته ويذكر في كتابه أنه المهدي صاحب الزمان الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويهدي الخلق إلى الحق فإن أطعتم أمنتم من العذاب وإن عدلتم خسف بكم فآمنوا بالله وبالإمام المهدي وفيها ألزم أهل الذمة بلبس الغيار وبشد الزنار وكذاك نساؤهم في الحمامات وغيرها وفي جمادي الأولى قدم الشيخ أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي من أصبهان إلى بغداد على تدريس النطامية ولقبه نظام الملك زين الدين شرف الأئمة قال ابن الجوزي وكان كلامه مقبولا وذكاؤه شديدا وفي رمضان منها عزل الوزير أبو شجاع عن وزارة الخلافة فأنشد عند عزله
... تولاها وليس له عدو ... وفارقها وليس له صديق ... ثم جاءه كتاب نظام الملك بأن يخرج من بغداد فخرج منها إلى عدة أماكن فلم تطب له فعزم على الحج ثم طابت نفس النظام عليه فبعث إليه يسأله أن يكون عديله في ذلك وناب ابن الموصلايا في الوزارة وقد كان أسلم قبل هذه المباشرة في أول هذه السنة وفي رمضان منها دخل السلطان ملكشاه بغداد ومعه الوزير نظام الملك وقد خرج لتلقيه قاضي القضاة أبو بكر الشاشي وابن الموصلايا المسلماني وجاءت ملوك الأطراف إليه للسلام عليه منهم أخوه تاج الدولة تتش صاحب دمشق وإتابكه قسيم الدولة اقسنقر صاحب حلب وفي ذي القعدة خرج السلطان ملكشاه وابنه وابن ابنته من الخليفة في خلق كثير من الكوفة وفيها استوزر أبو منصور بن جهير وهي النوبة الثانية لوزارته للمقتدي وخلع عليه وركب إليه نظام الملك فهنأه في داره بباب العامة وفي ذي الحجة عمل السلطان الميلاد في دجلة وأشعلت نيران عظيمة وأوقدت شموع كثيرة وجمعت المطربات في السمريات وكانت ليلة مشهودة عجيبة جدا وقد نظم فيها الشعراء الشعر فلما أصبح النهار من هذه الليلة جئ بالخبيث المنجم الذي حرق البصرة وأدعى أنه المهدي محمولا على جمل ببغداد وجعل يسب الناس والناس يلعنوه وعلى رأسه طرطورة بودع والدرة تأخذه من كل جانب فطافوا به بغداد ثم صلب بعد ذلك وفيها أمر السلطان ملكشاه جلال الدولة بعمارة جامعه المنسوب إليه بظاهر السور وفي هذه السنة ملك أمير المسلمين يوسف بن تاشفين بعد صاحب بلاد المغرب كثيرا من بلاد الأندلس وأسر صاحبها المعتمد بن عباد وسجنه وأهله وقد كان المعتمد هذا موصوفا بالكرم والأدب والحلم حسن السيرة والعشرة والإحسان إلى الرعية والرفق بهم فحزن الناس (12/137)
عليه وقال في مصابه الشعراء فأكثروا وفيها ملكت الفرج مدينة صقلية من بلاد المغرب ومات ملكهم فقام ولده مقامه فسار في الناس سيرة ملوك المسلمين حتى كأنه منهم لما ظهر منه من الاحسان إلى المسلمين وفيها كانت زلازل كثيرة بالشام وغيرها فهدمت بنيانا كثيرا من جملة ذلك تسعون برجا من سور إنطاكية وهلك تحت الهدم خلق كثير وحج بالناس فماتكين وممن توفي فيها من الأعيان عبد الرحمن بن أحمد
أبو طاهر ولد بأصبهان وتفقه بسمر قند وهو الذي كان سبب فتحها على يد السلطان ملكشاه وكان من رؤساء الشافعية وقد سمع الحديث الكثير قال عبد الوهاب بن منده لم نر فقيها في وقتنا أنصف منه ولاأعلم وكان فصيح اللهجة كثير المروءة غزير النعمة توفي ببغداد ومشى الوزراء والكبراء في جنازته غير أن النظام ركب واعتذر بكبر سنه ودفن إلى جانب الشيخ أبي إسحاق الشيرازي وجاء السلطان إلى التربة قال ابن عقيل جلست بكرة العزاء إلى جانب نظام الملك والملوك قيام بين يديه اجترأت على ذلك بالعلم حكاه ابن الجوزي
محمد بن أحمد بن علي
أبو نصر المروزي كان إماما في القراءات وله فيها المصنفات وسافر في ذلك كثيرا واتفق له أنه غرق في البحر في بعض أسفاره فبينما الموج يرفعه ويضعه إذ نظر إلى الشمس قد زالت فنوى الوضوء وانغمس في الماء ثم صعد فإذا خشبة فركبها وصلى عليها ورزقه الله السلامة ببركة امتثاله للأمر واجتهاده على العمل وعاش بعد ذلك دهرا وتوفي في هذه السنة وله نيف وتسعون سنة
محمد بن عبد الله بن الحسن
أبو بكر الناصح الفقيه الحنفي المناظر المتكلم المعتزلي ولي القضاء بنيسابور ثم عزل لجنونه وكلامه وأخذه الرشا وولي قضاء الري وقد سمع الحديث وكان من أكابر العلماء توفي في رجب منها
ارتق بن الب التركماني
جد الملوك الأرتقية الذين هم ملوك ماردين كان شهما شجاعا عالي الهمة تغلب على بلاد كثيرة وقد ترجمه ابن خلكان وأرخ وفاته بهذه السنة
ثم دخلت سنة خمس وثمانين واربعمائة فيها أمر السلطان ملكشاه ببناء سور سوق المدينة المعروفة بطغرلبك إلى جانب دار الملك وجدد خاناتها وأسواقها ودورها وأمر بتجديد الجامع الذي تم على يد هارون الخادم في سنة أربع وعشرين وخمسمائة ووقف على نصب قبلته بنفسه ومنجمه إبراهيم حاضر ونقلت أخشاب جامع سامرا وشرع نظام الملك في بناء دار له هائلة وكذلك تاج الملوك أبو الغنائم شرع في بناء دار (12/138)
هائلة أيضا واستوطنوا بغداد وفي جمادى الأولى وقع حريق عظيم ببغداد في أماكن شتى فما طفئ حتى هلك للناس شئ كثير فما عمروا بقدر ما حرق وما غرموا وفي ربيع الأول خرج السلطان إلى اصبهان وفي صحبته ولد الخليفة أبو الفضل جعفر ثم عاد إلى بغداد في رمضان فبينما هو في الطريق يوم عاشوراء عدا صبي من الديلم على الوزير نظام الملك بعد أن أفطر فضربه بسكين فقضى عليه بعد ساعة وأخذ الصبي الديلمي فقتل وقد كان من كبار الوزراء وخيار الأمراء وسنذكر شيئا من سيرته عند ذكر ترجمته وقدم السلطان بغداد في رمضان بنية غير صالحة فلقاه الله في نفسه ما تمناه لأعدائه وذلك أنه لما استقر ركابه ببغداد وجاء الناس للسلام عليه والتهنئة بقدومه وأرسل إليه الخليفة يهنئه فأرسل إلى الخليفة يقول له لابد ان تنزل لي عن بغداد وتتحول إلى أي البلاد شئت فأرسل إليه الخليفة يستنظره شهرا فرد عليه ولا ساعة واحدة فأرسل إليه يتوسل في إنظاره عشرة أيام فأجاب إلى ذلك بعد تمنع شديد فما استتم الأجل حتى خرج السلطان يوم عيد الفطر إلى الصيد فأصابته حمى شديدة فافتصد فما قام منها حتى مات قبل العشرة أيام ولله الحمد والمنة فاستحوذت زوجته زبيدة خاتون على الجيش وضبطت الأموال والأحوال جيدا وأرسلت إلى الخليفة تسأل منه أن يكون ولدها محمود ملكا بعد أبيه وأن يخطب له على المنابر فأجابها إلى ذلك وأرسل إليه بالخلع وبعث يعزيها ويهنئها مع وزيره عميد الدولة ابن جهير وكان عمر الملك محمود هذا يومئذ خمس سنين ثم أخذته والدته في الجيوش وسارت به نحو أصبهان ليتوطد له الملك فدخلوها وتم لهم مرادهم وخطب لهذا الغلام في البلدان حتى في الحرمين واستوزر له تاج الملك أبا الغنائم المرزبان بن خسرو وأرسلت أمه إلى الخليفة تساله أن تكون ولايات العمال إليه فامتنع الخليفة ووافقه الغزالي على ذلك وافتى العلماء بجواز ذلك منهم المتطبب ابن محمد الحنفي فلم يعمل إلا بقول الغزالي وانحاز أكثر جيش السلطان إلى ابنه الآخر بركيارق فبايعوه وخطبوا له بالري وانفردت الخاتون وولدها ومعهم شرذمة قليلة من الجيش والخاصكية فأنفقت فيهم ثلاثين ألف ألف دينار لقتال بركيارق بن ملكشاه فالتقوا في ذي الحجة فكانت الخاتون هي المنهزمة ومعها ولدها وفي صحيح البخاري ( لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ) وفي ذي القعدة اعترضت بنو خفاجة للحجيج فقاتلهم من في الحجيج من الجند مع الأمير خمارتكين فهزموهم ونهبت أموال الأعراب ولله الحمد والمنة وفيها جاء برد شديد عظيم بالبصرة وزن الواحدة منها خمسة أرطال إلى ثلاثة عشر رطلا فأتلفت شيئا كثيرا من النخيل والأشجار وجاء ريح عاصف قاصف فألقى عشرات الألوف من النخيل فإنا لله وإنا إليه راجعون وما اصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم ويعفو عن كثير وفيها ملك تاج الدولة تتش صاحب دمشق مدينة حمص (12/139)
وقلعة عرقة وقلعة فامية ومعه قسيم الدولة أقسنقر وكان السلطان قد جهز سرية إلى اليمن صحبة سعد كوهرائين الدولة وأمير آخر من التركمان فدخلاها وأساءا فيها السيرة فتوفى سعد كوهرائين يوم دخوله إليها في مدينة عدن ولله الحمد والمنة وممن توفي فيها من الأعيان بن يحيى بن عبد الله
أبو الفضل المتممى المعروف بالحكاك المكي رحل في طلب الحديث إلى الشام والعراق وأصبهان وغير ذلك من البلاد وسمع الكثير وخرج الأجزاء وكان حافظا متقنا وضابطا أديبا ثقة صدوقا وكان يراسل صاحب مكة وكان من ذوي الهيئات والمروءات قارب الثمانين رحمه الله
نظام الملك الوزير الحسن بن علي بن إسحاق أبو علي وزر للملك ألب أرسلان وولده ملكشاه تسعا وعشرين سنة كان من خيار الوزراء ولد بطوس سنة ثمان وأربعمائة وكان أبوه من أصحاب محمود بن سبكتكين وكان من الدهاقين فأشغل ولده هذا فقرأ القرآن وله إحدى عشرة سنة وأشغله بالعلم والقراءات والتفقه على مذهب الشافعي وسماع الحديث واللغة والنحو وكان عالي الهمة فحصل من ذلك طرفا صالحا ثم ترقى في المراتب حتى وزر للسلطان ألب ارسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق ثم من بعد لملكشاه تسعا وعشرين سنة لم ينكب في شيء منها وبنى المدارس النظامية ببغداد ونيسابور وغيرهما وكان مجلسه عامرا بالفقهاء والعلماء بحيث يقضي معهم غالب نهاره فقيل له إن هؤلاء شغلوك عن كثير من المصالح فقال هؤلاء جمال الدنيا والآخرة ولو أجلستهم على رأسي لما استكثرت ذلك وكان إذا دخل عليه أبو القاسم القشيري وأبو المعالي الجويني قام لهما وأجلسهما معه في المقعد فإذا دخل أبو علي الفارمدي قام وأجلسه مكانه وجلس بين يديه فعوتب في ذلك فقال إنهما إذا دخلا علي قال أنت أنت يطروني ويعظموني ويقولوا في ما ليس في فأزداد بهما ما هو مركوز في نفس البشر وإذا دخل على أبو علي الفارندى ذكرنى عيوبى وظلمىفأنكسر فأرجع عن كثير من الذي أنا فيه وكان محافظا على الصلوات في أوقاتها لا يشغله بعد الأذان شغل عنها وكان يواظب على صيام الإثنين والخميس وله الأوقاف الدارة والصدقات البارة وكان يعظم الصوفية تعظيما زائدا فعوتب في ذلك فقال بينما أنا أخدم بعض الملوك جاءني يوما إنسان فقال لي إلى متى أنت تخدم من تأكله الكلاب غدا اخدم من تنفعك خدمته ولا تخدم من تأكله الكلاب غدا فلم أفهم ما يقول فاتفق أن ذلك الأمير سكر تلك الليلة فخرج في أثناء الليل وهوثمل وكانت له كلاب تفترس الغرباء بالليل فلم تعرفه فمزقته فأصبح وقد أكلته الكلاب قال فأنا أطلب مثل ذلك الشيخ وقد سمع الحديث في أماكن شتى ببغداد وغيرها (12/140)
وكان يقول إني لأعلم بأني لست أهلا للرواية ولكني أحب أن أربط في قطار نقلة حديث رسول الله ( ص ) وقال أيضا رأيت ليلة في المنام إبليس فقلت له ويحك خلقك الله وأمرك بالسجود له مشافهة فأبيت وأنا لم يأمرني بالسجود له مشافهة وأنا أسجد له في كل يوم مرات وأنشأ يقول ... من لم يكن للوصال أهلا ... فكل إحسانه ذنوب ...
وقد أجلسه المقتدي مرة بين يديه وقال له يا حسن رضي الله عنك برضا أمير المؤمنين عنك وقد ملك ألوفا من الترك وكان له بنون كثيرة وزر منهم خمسة وزر ابنه أحمد للسلطان محمد بن ملك شاه ولأمير المؤمنين المسترشد بالله وخرج نظام الملك مع السلطان من أصبهان قاصدا بغداد في مستهل رمضان من هذه السنة فلما كان اليوم العاشر اجتاز في بعض طريقه بقرية بالقرب من نهاوند وهو يسايره في محفة فقال قد قتل ههنا خلق من الصحابة زمن عمر فطوبى لمن يكون عندهم فاتفق أنه لما أفطر جاءه صبي في هئية مستغيث به ومعه قصة فلما انتهى إليه ضربه بسكين في فؤاده وهرب وعثر بطنب الخيمة فأخذ فقتل ومكث الوزير ساعة وجاءه السلطان يعوده فمات وهو عنده وقد اتهم السلطان في أمره أنه هو الذي مالأ عليه فلم تطل مدته بعده سوى خمسة وثلاثين يوما وكان في ذلك عبرة لأولي الألباب وكان قد عزم على إخراج الخليفة أيضا من بغداد فماتم له ما عزم عليه ولما بلغ أهل بغداد موت النظام حزنوا عليه وجلس الوزير والرؤساء للعزاء ثلاثة أيام ورثاه الشعراء بقصائد منهم مقاتل بن عطية فقال
... كان الوزير نظام الملك لؤلؤة ... يتيمة صاغها الرحمن من شرف ... عزت فلم تعرف الأيام قيمتها ... فردها غيرة منه إلى الصدف ...
واثنى عليه غير واحد حتى ابن عقيل وابن الجوزي وغيرهما رحمه الله
عبد الباقي بن محمد بن الحسين
ابن داود بن ياقيا أبو القاسم الشاعر من أهل الحريم الظاهرى ولد سنة عشر وأربعمائة وكان ماهرا وقد رماه بعضهم باعتقاد الأوائل وانكر أن يكون في السماء نهر من ماء أو نهر من لبن أو نهر من خمر أو نهر من عسل يعني في الجنة وما سقط من ذلك قطرة إلى الأرض إلا هذا الذي هو يخرب البيوت ويهدم الحيطان والسقوف وهذا الكلام كفر من قائله نقله عنه ابن الجوزي في المنتظم وحكى بعضهم انه وجد في كفنه مكتوبا حين مات هذين البيتين
... نزلت بجار لا يخيب ضيفه ... أرجى نجاتي من عذاب جهنم ... وإني على من الله واثق ... بانعامه والله أكرم منعم (12/141)
مالك بن أحمد بن علي
ابن إبراهيم أبو عبد الله البانياسي الشامي وقد كان له اسم آخر سمته به أمه على أبو الحسن فغلب عليه ما سماه به أبوه وماكناه به سمع الحديث على مشايخ كثيرة وهو آخر من حدث عن أبي الحسن بن الصلت هلك في حريق الريحانيين وله ثمانون سنة كان ثقة عند المحدثين
السلطان ملكشاه
جلال الدين والدولة أبو الفتح ملكشاه ابن أبي شجاع الب أرسلان بن داود بن ميكائيل ابن سلجوق تقاق التركي ملك بعد أبيه وامتدت مملكته من أقصى بلاد الترك إلى أقصى بلاد اليمن وراسله الملوك من سائر الأقاليم حتى ملك الروم والخزر واللان وكانت دولته صارمة والطرقات في أيامه آمنة وكان مع عظمته يقف للمسكين والضعيف والمرأة فيقضي حوائجهم وقد عمر العمارات الهائلة وبنى القناطر وأسقط المكوس والضرائب وحفر ألنهار الكبار وبنى مدرسة أبي حنيفة والسوق وبنى الجامع الذي يقال له جامع السلطان ببغداد وبنى منارة القرون من صيوده بالكوفة ومثلها فيما وراء النهر وضبط ما صاده بنفسه في صيوده فكان ذلك نحوا من عشرة آلاف صيد فتصدق بعشرة آلاف درهم وقال إني خائف من الله تعالى أن أكون أزهقت نفس حيوان لغير مأكلة وقد كانت له أفعال حسنة وسيرة صالحة من ذلك أن فلاحا أنهى إليه أن غلمانا له أخذوا له حمل بطيخ ففتشوا فإذا في خيمة الحاجب بطيخ فحملوه إليه ثم استدعى بالحاجب فقال من أين لك هذا البطيخ قال جاء به الغلمان فقال أحضرهم فذهب وأمرهم بالهرب فأحضره وسلمه للفلاح وقال خذ بيده فإنه مملوكي ومملوك أبي وإياك أن تفارقه ثم رد على الفلاح الحمل البطيخ فخرج الفلاح يحمله وبيده الحاجب فاستنقذ الحاجب نفسه من الفلاح بثلاثمائة دينار ولما توجه لقتال أخيه تتش اجتاز بطوس فدخلها لزيارة قبر علي بن موسى الرضي ومعه نظام الملك فلما خرجا قال للنظام بم دعوت الله قال دعوت الله أن يظفرك على أخيك قال لكني قلت اللهم إن كان أخي أصلح للمسلمين فظفره بي وإن كنت أنا أصلح لهم فظفرني به وقد سار بعسكره من أصبهان إلى أنطاكية فما عرف أن أحدا من جيشه ظلم أحدا من الرعية وكانوا مئين ألوف واستعدي إليه مرة تركماني أن رجلا افتض بكارة ابنته وهو يريد أن يمكنه من قتله فقال له يا هذا إن ابنتك لو شاءت ما مكنته من نفسها فإن كنت لابد فاعلا فاقتلها معه فسكت الرجل فقال له الملك أو تفعل خيرا من ذلك قال وما هو قال فإن بكارتها قد ذهبت فزوجها من ذلك الرجل وأنا أمهرها من بيت المال كفايتهما ففعل وحكى له بعض الوعاظ أن كسرى اجتاز يوما في بعض أسفاره بقرية وكان منفردا من جيشه فوقف على باب دار فاستسقى فأخرجت إليه جارية إناء (12/142)
فيه ماء قصب السكر بالثلج فشرب منه فأعجبه فقال كيف تصنعون هذا فقالت إنه سهل علينا اعتصاره على أيدينا فطلب منها شربة أخرى فذهبت لتأتيه بها فوقع في نفسه أن يأخذ هذا المكان منهم ويعوضهم عنه غيره فأبطأت عليه ثم خرجت وليس معها شيء فقال مالك فقالت كأن نية سلطاننا تغيرت علينا فتعسر على اعتصاره وهي لا تعرف أنه السلطان فقال اذهبى فإنك الآن تقدرين عليه وغير نيته إلى غيرها فذهبت وجاءته بشربة أخرى سريعا فشربها وانصرف فقال له السلطان هذه تصلح لي ولكن قص على الرعية أيضا حكاية كسرى الأخرى حين اجتاز ببستان وقد أصابته صفراء في رأسه وعطش فطلب من ناطوره عنقودا من حصرم فقال له الناطور إن السلطان لم يأخذ حقه منه فلا أقدر أن أعطيك منه شيئا قال فعجب الناس من ذكاء الملك وحسن استحضاره هذه في مقابلة تلك واستعداه رجلان من الفلاحين على الأمير خمارتكين أنه أخذ منهما مالا جزيلا وكسر ثنيتهما وقالا سمعنا بعدلك في العالم فإن أقدتنا منه كما أمرك الله وإلا استعدينا عليك الله يوم القيامة وأخذا بركابه فنزل عن فرسه وقال لهما خذا بكمي واسحبانى إلى دار نظام الملك فهابا ذلك فعزم عليهما أن يفعلا ففعلا ما أمرهما به فلما بلغ النظام مجيء السلطان إليه خرج مسرعا فقال له الملك إني إنما قلدتك الأمر لتنصف المظلوم ممن ظلمه فكتب من فوره فعزل خمارتكين وحل أقطاعه وأن يرد إليهما أموالهما وأن يقلعا ثنيتيه إن قامت عليه البينة وامر لهما الملك من عنده بمائة دينار وأسقط مرة بعض المكوس فقال له رجل من المستوفين يا سلطان العالم إن هذا الذي أسقطته يعدل ستمائة ألف دينار وأكثر فقال ويحك إن المال مال الله والعباد عباد الله والبلاد بلاده وإنما أردت أن يبقى هذا لي عند الله ومن نازعني في هذا ضربت عنقه وغنته امرأة حسناء فطرب وتاقت نفسه إليها فهم بها فقالت أيها الملك إني أغار على هذا الوجه الجميل من النار وبين الحلال والحرام كلمة واحدة فاستدعى القاضي فزوجه بها وقد ذكر ابن الجوزي عن ابن عقيل أن السلطان ملك شاه كان قد فسدت عقيدته بسبب معاشرته لبعض الباطنية ثم تنصل من ذلك وراجع الحق وذكر ابن عقيل أنه كتب له شيئا في إثبات الصانع وقد ذكرنا أنه لما رجع آخر مرة إلى بغداد فعزم على الخليفة أن يخرج منها فاستنظره عشرة أيام فمرض السلطان ومات قبل انقضاء العشرة أيام وكانت وفاته في ليلة الجمعة النصف من شوال عن سبع وثلاثين سنة وخمسة أشهر وكان مدة ملكه من ذلك تسع عشرة سنة وأشهرا ودفن بالشونيزي ولم يصل عليه أحد لكتمان الأمر وكان مرضه بالحمى وقيل إنه سم والله أعلم (12/143)
باني التاجية ببغداد
المرزبان بن خسرو تاج الملك الوزير أبو الغنائم باني التاجية وكان مدرسها أبو بكر الشاشي وبنى تربة الشيخ أبي إسحاق وقد كان السلطان ملكشاه أراد أن يستوزره بعد نظام الملك فمات سريعا فاستوزر لولده محمود فلما قهره أخوه بركيارق قتله غلمان النظام وقطعوه إربا إربا في ذي الحجة من هذه السنة
هبة الله بن عبدالوارث
ابن علي بن أحمد نوري أبو القاسم الشيرازي أحد الرحالين الجوالين في الآفاق كان حافظا ثقة دينا ورعا حسن الإعتقاد والسيرة له تاريخ حسن ورحل إليه الطلبة من بغداد وغيرها والله أعلم
ثم دخلت سنة ست وثمانين وأربعمائة
فيها قدم إلى بغداد رجل يقال له أردشير بن منصور أبو الحسين العبادي مرجعه من الحج فنزل النظامية فوعظ الناس وحضر مجلسه الغزالي مدرس المكان فازدحم الناس في مجلسه وكثروا معايشهم وكان يحضر مجلسه في بعض الأحيان أكثر من ثلاثين ألفا من الرجال والنساء وتاب كثير من الناس ولزموا المساجد وأريقت الخمور وكسرت الملاهي وكان الرجل في نفسه صالحا له عبادات وفيه زهد وافر وله أحوال صالحة وكان الناس يزدحمون على فضل وضوئه وربما أخذوا من البركة التي يتوضأ منها ماء للبركة ونقل ابن الجوزي أنه اشتهى مرة على بعض أصحابه توتا شاميا وثلجا فطاف البلد بكماله فلم يجده فرجع فوجد الشيخ في خلوته فسأل هل جاء اليوم إلى الشيخ أحد فقيل له جاءت امرأة فقالت إن غزلت بيدي غزلا وبعته وأنا أحب أن أشتري للشيخ طرفة فامتنع من ذلك فبكت فرحمها وقال اذهبي فاشترى فقالت ماذا تشتهي فقال ما شئت فذهبت فأتته بتوت شامي وثلج فأكله وقال بعضهم دخلت عليه وهو يشرب مرقا فقلت في نفسي ليته أعطاني فضله لأشربه لحفظ القرآن فناولني فضله فقال اشربها على تلك النية قال فرزقني الله حفظ القرآن وكانت له عبادات ومجاهدات ثم اتفق انه تكلم في بيع القراضة بالصحيح فمنع من الجلوس وأخرج من البلد وفيها خطب تتش بن ألب أرسلان لنفسه بالسلطنة وطلب من الخليفة أن يخطب له بالعراق فحصل التوقف عن ذلك بسبب ابن أخيه بركيارق بن ملكشاه فسار إلى الرحبة وفي صحبته وطاعته أقسنقر صاحب حلب وبوران صاحب الرها ففتح الرحبة ثم سار إلى الموصل فأخذها من يد صاحبها إبراهيم بن قريش بن بدران وهزم جيوشه من بني عقيل وقتل خلقا من الأمراء صبرا وكذلك أخذ ديار بكر واستوزر الكافي بن فخر الدولة بن جهير وكذلك أخذ همدان وخلاط وفتح أذربيجان واستفحل أمره ثم فارقه الأميران اقسنقر وبوران فسارا إلى الملك بركيارق وبقي تتش (12/144)
وحده فطمع فيه أخوه بركيارق فرجع تتش فلحقه قسيم الدولة اقسنقر وبوران بباب حلب فكسرهما واسر بوران واقسنقر فصلبهماوبعث برأس بوران فطيف به حران والرها وملكها من بعده وفيها وقعت الفتنة بين الروافض والسنة وانتشرت بينهم شرور كثيرة وفي ثاني شعبان ولد للخليفة ولده المسترشد بالله أبو منصور الفضل بن أبي العباس أحمد المستظهر ففرح الخليفة به وفي ذي القعدة دخل السلطان بركيارق بغداد وخرج إليه الوزير أبو منصور بن جهير وهنأه عن الخليفة بالقدوم وفيها أخذ المستنصر العبيدي مدينة صور من أرض الشام ولم يحج فيها أحد من أهل العراق وممن توفي فيها من الأعيان بن المقتدي بالله
من الخاتون بنت السلطان ملكشاه في جمادى الأولى وجلس الوزير للعراء والدولة ثلاثة أيام
سليمان بن إبراهيم
ابن محمد بن سليمان أبو مسعود الأصبهاني سمع الكثير وصنف وخرج على الصحيحين وكانت له معرفة جيدة بالحديث سمع ابن مردويه وأبا نعيم والبرقاني وكتب عن الخطيب وغيره توفي في ذي العقدة عن تسع وثمانين سنة
عبد الواحد بن أحمد بن المحسن
الدشكرى أبو سعد الفقيه الشافعي صحب أبا إسحاق الشيرازي وروى الحديث وكان مؤلفا لأهل العلم وكان يقول مامشى قدمي هاتين في لذة قط توفي في رجب منها ودفن بباب حرب
علي بن أحمد بن يوسف
أبو الحسن الهكاري قدم بغداد ونزل برباط الدوري وكانت له أربطة قد أنشأها سمع الحديث وروى عنه غير واحد من الحفاظ وكان يقول رأيت رسول الله ( ص ) في المنام في الروضة فقلت يارسول الله أوصني فقال عليك باعتقاد أحمد بن حنبل ومذهب الشافعي وإياك ومجالسة أهل البدع توفي في المحرم منها
علي بن محمد بن محمد
أبو الحسن الخطيب الأنبارى ويعرف بابن الأخضر سمع أبا محمد الرضي وهو آخر من حدث عنه توفي في شوال منها عن خمس وتسعين سنة
أبو نصر علي بن هبة الله إبن ماكولا [ ولد سنة ثنتين وأربعمائة وسمع الكثير وكان من الحفاظ وله كتاب الاكمال في المؤتلف والمختلف جمع بين كتاب عبد الغني وكتاب الدراقطني وغيرهما وزاد عليهما أشياء كثيرة بهمة حسنة مفيدة نافعة وكان نحويا مبرزا فصيح العبارة حسن الشعر قال ابن الجوزى وسمعت (12/145)
شيخنا عبد الوهاب يطعن في دينه ويقول المعلم يحتاج إلى دين وقتل في خوزستان في هذه السنة أو التي بعدها وقد جاوز الثمانين كذا ذكره ابن الجوزي ] ثم دخلت سنة سبع وثمانين وأربعمائة فيها كانت وفاة الخليفة المقتدي وخلافة ولده المستظهر بالله
صفة موته
لما قدم السلطان بركيارق بغداد سأل من الخليفة أن يكتب له بالسلطنة كتابا فيه العهد إليه فكتب ذلك وهيئت الخلع وعرضت على الخليفة وكان الكتاب يوم الجمعة الرابع عشر من المحرم ثم قدم إليه الطعام فتناول منه على االعادة وهو في غاية الصحة ثم غسل يده وجلس ينظر في العهد بعدما وقع عليه وعنده قهرمانة تسمى شمس النهار قالت فنظر إلى وقال من هؤلاء الأشخاص الذين قد دخلوا علينا بغير إذن قالت فالتفت فلم أر أحدا ورأيته قد تغيرت حالته واسترخت يداه ورجلاه وانحلت قواه وسقط إلى الأرض قالت فظننت أنه غشي عليه فحللت أزرار ثيابه فإذا هو لا يجيب داعيا فأغلقت عليه الباب وخرجت فأعلمت ولي العهد بذلك وجاء الأمراء ورؤس الدولة يعزونه بأبيه ويهنئونه بالخلافة فبايعوه
شيء من ترجمة المقتدي بأمر الله
هو أمير المؤمنين المقتدي بالله أبو عبد الله بن الذخيرة الأمير ولى العهد أبي العباس أحمد ابن أمير المؤمنين القائم بأمر الله بن القادر بالله العباسي أمه أم ولد اسمها أرجوان أرمنية أدركت خلافة ولدها وخلافة ولده المستظهر وولد المسترشد أيضا وكان المقتدي أبيض حلو الشمائل عمرت في أيامه محال كثيرة من بغداد ونفى عن بغداد المغنيات وأرباب الملاهى والمعاصي وكان غيورا على حريم الناس آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر حسن السيرة رحمة الله توفي يوم الجمعة رابع عشر المحرم من هذه السنة وله من العمر ثمان وثلاثون سنة وثمان شهور وتسعة أيام خلافته من ذلك تسع عشرة سنة وثمان شهور إلا يومين وأخفي موته ثلاثة أيام حتى توطدت البيعة لابنه المستظهر ثم صلي عليه ودفن في تربتهم والله أعلم
خلافة المستظهر بأمر الله أبي العباس
لما توفي أبوه يوم الجمعة أحضروه وله من العمر ست عشرة سنة وشهران فبويع بالخلافة وأول من بايعه الوزير أبو منصور ابن جهير ثم أخذ البيعة له من الملك ركن الدولة بركيارق بن ملكشاه ثم من بقية الأمراء والرؤساء وتمت البيعة تؤخذ له إلى ثلاثة أيام ثم أظهر التابوت يوم (12/146)
الثلاثاء الثامن عشر من المحرم وصلى عليه ولده الخليفة وحضر الناس ولم يحضر السلطان وحضر أكثر أمرائه وحضر الغزالى والشاشى وابن عقيل وبايعوه يوم ذلك وقد كان المستظهر كريم الأخلاق حافظا للقرآن فصيحا بليغا شاعرا منطيقا ومن لطيف شعره قوله ... أذاب حر الجوى في القلب ما جمدا ... يوما مددت على رسم الوداع يدا ... فكيف أسلك نهج الاصطبار وقد ... أرى طرائق من يهوى الهوى قددا ... قد أخلف الوعد بدر قد شغفت به ... من بعد ما قد وفى دهرا بما وعدا ... إن كنت أنقض عهد الحب في خلدي ... من بعد هذا فلا عاينته أبدا ...
وفوض المستظهر أمور الخلافة إلى وزيره أبي منصور عميد الدولة بن جهير فدبرها أحسن تدبير ومهد الأمور أتم تمهيد وساس الرعايا وكان من خيار الوزراء وفي ثالث عشر شعبان عزل الخليفة أبا بكر الشاشي عن القضاء وفوضه إلى أبي الحسن ابن الدامغاني وفيها وقعت فتنة بين السنة والروافض فأحرقت محال كثيرة وقتل ناس كثير فإن لله وأنا إليه راجعون ولم يحج أحد لاختلاف السلاطين وكانت الخطبة للسلطان بركيارق ركن الدولة يوم الجمعة الرابع عشر من المحرم وهو اليوم الذي توفي فيه الخليفة المقتدي بعد ما علم على توقيعه وممن توفي فيها من الأعيان
اقسنقر الأتابك
الملقب قسيم الدولة السلجوقي ويعرف بالحاجب صاحب حلب وديار بكر والجزيرة وهو جد الملك نور الدين الشهيد بن زنكي بن اقسنقر كان أولا من أخص أصحاب السلطان ملكشاه بن الب أرسلان السلجوقي ثم ترقت منزلته عنده حتى أعطاه حلب وأعمالها بإشارة الوزير نظام الملك وكان من أحسن الملوك سيرة وأجودهم سريرة وكانت الرعية معه في أمن ورخص وعدل ثم كان موته على يد السلطان تاج الدولة تتش صاحب دمشق وذلك انه أستعان به وبصاحب حران والرها على قتال ابن أخيه بركيارق بن ملكشاه ففرا عنه وتركاه فهرب إلى دمشق فلما تمكن ورجعا قاتلهما بباب حلب فقتلهما وأخذ بلادهما إلا حلب فأنها استقرت لولد آقسنقر زنكي فيما بعد وذلك في سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة كما سيأتي بيانه وذكر ابن خلكان أنه كان مملوكا للسلطان ملكشاه هو وبوزان صاحب الرها فلما ملك تتش حلب استنابه بها فعصى عليه فقصده وكان قد ملك دمشق أيضا فقاتله فقتله في هذه السنة في جمادي الأولى منها فلما قتل دفنه ولده عماد الدين زنكي وهو أبو نور الدين فقبره بحلب أدخله إليها من فوق الصور فدفنه بها
أمير الجيوش بدر الجمالي صاحب جيوش مصر ومدبر الممالك الفاطمية كان عاقلا كريما محبا للعلماء ولهم عليه رسوم داره (12/147)
تمكن في أيام المستنصر تمكنا عظيما ودارت أزمة الأمور على آرائه وفتح بلادا كثيرة وامتدت أيامه وبعد صيته وامتدحته الشعراء ثم كانت وفاته في ذي القعدة منها وقام بالأمر من بعده ولده الأفضل الخليفة المقتدي
وقد تقدم شئ من ترجمته
الخليفة المستنصر الفاطمي
ابوتميم معد بن أبي الحسن على بن الحاكم استمرت أيامه ستين سنة ولم يتفق هذا لخليفة قبله ولا بعده وكان قد عهد بالأمر إلى ولده نزار فخلعه الأفضل بن بدر الجمالي بعد موت أبيه وأمر الناس فبايعوا أحمد بن المستنصر أخاه ولقبه بالمستعلي فهرب نزار إلى الإسكندرية فجمع الناس عليه فبايعوه وتولى أمره قاضي الإسكندرية جلال الدولة بن عمار فقصده الأفضل فحاصره وقاتلهم نزار وهزمهم الأفضل وأسر القاضي ونزار فقتل القاضي وحبس نزار بين حيطين حتى مات واستقر المستعلى في الخلافة وعمره إحدى وعشرين سنة
محمد بن أبي هاشم
أمير مكة كانت وفاته فيها عن نيف وتسعين سنة
محمود بن السلطان ملكشاه
كانت أمه قد عقدت له الملك وأنفقت بسببه الأموال فقاتله بركيارق فكسره ولزم بلده أصبهان فمات بها في هذه السنة وحمل إلى بغداد فدفن بها بالتربة النظامية كان من أحسن الناس وجها وأظرفهم شكلا وتوفي في شوال منها وماتت أمه الخاتون تركيان شاه في رمضان فأنحل نظامه وكانت قد جمعت عليه العساكر وأسندت أزمة أمور المملكة إليه وملكت عشرة آلاف مملوك تركي وأنفقت في ذلك قريبا من ثلاثة آلاف ألف دينار فانحل النظام ولم تحصل على طائل والله سبحانه أعلم
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وأربعمائة فيها قدم يوسف بن ابق التركماني من جهة تتش صاحب دمشق إلى بغداد لأجل إقامة الدعوة له ببغداد وكان تتش قد توجه لقتال ابن أخيه بناحية الري فلما دخل رسوله بغداد هابوه وخافوه واستدعاه الخليفة فقربه وقبل الأرض بين يدي الخليفة وتأهب أهل بغداد له وخافوا أن ينهبهم فبينما هو كذلك إذ قدم عليه رسول ابن أخيه فأخبره أن تتش قتل في أول من قتل في الوقعة وكانت وفاته في سابع عشر صفر من هذه السنة فاستفحل أمر بركيارق واستقل بالأمور وكان دقاق بن تتش مع أبيه حين قتل فسار إلى دمشق فملكها وكان نائب أبيه عليها الأمير ساوتكين (12/148)
واستوزر أبا القاسم الخوارزمي وملك عبد الله بن تتش مدينة حلب ودبر أمر مملكته جناح الدولة ابن اتكين ورضوان بن تتش صاحب مدينة حماه وإليه تنسب بنو رضوان بها وفي يوم الجمعة التاسع عشر من ربيع الأول منها خطب لولي العهد أبي المنصور الفضل بن المستظهر ولقب بذخيرة الدين وفي ربيع الآخر خرج الوزير ابن جهير فاختط سورا على الحريم وأذن للعوام في العمل والتفرج فأظهروا منكرات كثيرة وسخافات عقول ضعيفة وعملوا أشياء منكرة فبعث إليه ابن عقيل رقعة فيها كلام غليظ وإنكار بغيض وفي رمضان خرج السلطان بركيارق فعدا عليه فداوى فلم يتمكن منه فمسك فعوقب فأقر على آخرين فلم يقرا فقتل الثلاثة وجاء الطواشي من جهة الخليفة مهنئا له بالسلامة وفي ذي القعدة منها خرج أبو حامد الغزالي من بغداد متوجها إلى بيت المقدس تاركا لتدريس النظامية زاهدا في الدنيا لابسا خشن الثياب بعد ناعمها وناب عنه أخوه في التدريس ثم حج في السنة التالية ثم رجع إلى بلده وقد صنف كتاب الأحياء في هذه المدة وكان يجتمع إليه الخلق الكثير كل يوم في الرباط فيسمعونه وفي يوم عرفة خلع على القاضي أبي الفرج عبد الرحمن بن هبة الله بن البستي ولقب بشرف القضاة ورد إلى ولاية القضاء بالحريم وغيره وفيها اصطلح أهل الكرخ من الرافضة والسنة مع بقية المحال وتزاوروا وتواصلوا وتواكلوا وكان هذا من العجائب وفيها قتل أحمد بن خاقان صاحب سمرقند وسببه أنه شهد عليه بالزندقة فخنق وولي مكانه ابن عمه مسعود وفيها دخل الأتراك إفريقية وغدروا بيحي بن تميم بن المعز بن باديس وقبضوا عليه وملكوا بلاده وقتلوا خلقا بعدما جرت بينه وبينهم حروب شديدة وكان مقدمهم رجل يقال له شاه ملك وكان من أولاد بعض أمراء المشرق فقدم مصر وخدم بها ثم هرب إلى المغرب ومعه جماعة ففعل ما ذكر ولم يحج أحد من أهل العراق فيها وممن توفي فيها من الأعيان الحسن بن أحمد بن خيرون
أبو الفضل المعروف بابن الباقلاني سمع الكثير وكتب عنه الخطيب وكانت له معرفة جيدة وهو من الثقات وقبله الدامغاني ثم صار أمينا له ثم ولي إشراف خزانة الغلات توفي في رجب عن ثنتين وثمانين سنة
تتش أبو المظفر
تاج الدولة بن ألب أرسلان صاحب دمشق وغيرها من البلاد وقد تزوج امرأة علي ابن أخيه بركيارق بن ملكشاه ولكن قدر الله وماتت وقد قال المتنبي
... ولله سر في علاك وإنما ... كلام العدي ضرب من الهذيان ... قال ابن خلكان كان صاحب البلاد الشرقية فاستنجده أتسز في محاربة أمير الجيوش من جهة صاحب مصر فلما قدم دمشق لنجدته وخرج إليه أتسز أمر بمسكه وقتله وأستحوذ هو على دمشق (12/149)
وأعمالها في سنة إحدى وسبعين ثم حارب أتسز فقتله ثم تحارب هو وأخوه بركيارق ببلاد الري فكسره أخوه وقتل هو في المعركة وتملك ابنه رضوان حلب بها وكان ملكة عليها إلى سنة سبع وخمسين وخمسنائة سمته أمه في عنقود عنب فقلم بعده ولده تاج الملك البورى أربع سنين ثم ابنه الآخر شمس الملك إسماعيل ثلاث سنين ثم قتلته أمه أيضا وهي زمرد خاتون بنت جاولي واجلست أخاه شهاب الدين محمود بن بوري فمكث أربع سنين ثم ملك أخوه محمد بن بوري طغركين سنة ثم تملك مجير الدين أبق من سنة أربع وثلاثين إلى أن انتزع الملك منه نور الدين محمود زنكي كما سيأتي وكان إتابك العساكر بدمشق أيام اتق معين الدين الذي تنسب إليه المعينية بالغور والمدرسة المعينية بدمشق رزق الله بن عبد الوهاب
ابن عبد العزيز أبو محمد التميمي أحد أئمة القراء والفقهاء على مذهب أحمد وأئمة الحديث وكان له مجلس للوعظ وحلقة للفتوي بجامع المنصور ثم بجامع القصر وكان حسن الشكل محببا إلى العامة له شعر حسن وكان كثير العبادة فصيح العبارة حسن المناظرة وقد روى عن آبائه حديثا مسلسلا عن علي بن أبي طالب أنه قال هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا إرتحل وقد كان ذا وجاهة عند الخليفة يفد في مهام الرسائل إلى السلطان توفي يوم الثلاثاء النصف من جمادي الأولى من هذه السنة عن ثمان وثمانين سنة ودفن بداره بباب المراتب بأذن الخليفة وصلى عليه ابنه أبو الفضل
أبو سيف القزويني
عبد السلام بن محمد بن يوسف بن بندار الشيخ شيخ المعتزلة قرأ على عبدالجبار بن أحمد الهمداني ورحل إلى مصر وأقام بها أربعين سنة وحصل كتبا كثيرة وصنف تفسيرا في سبعمائة مجلد قال ابن الجوزي جمع فيه العجب وتكلم على قوله تعالى
واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان في مجلد كامل وقال ابن عقيل كان طويل اللسان بالعلم تارة وبالشعر أخرى وقد سمع الحديث من أبي عمر بن مهدي وغيره ومات ببغداد عن ست وتسعين سنة وما تزوج إلا في آخر عمره
أبو شجاع الوزير
محمد بن الحسين بن عبدالله بن إبراهيم أبو شجاع الملقب ظهير الدين الروذراوري الأصل الأهوازي المولد كان من خيار الوزراء كثير الصدقة والإحسان إلى العلماء والفقهاء وسمع الحديث من الشيخ أبي إسحاق الشيرازي وغيره وصنف كتبا منها كتابه الذي ذيله على تجارب الأمم ووزر للخليفة المقتدي وكان يملك ستمائة ألف دينار فأنفقها في سبيل الخيرات والصدقات ووقف الوقوف الحسنة وبنى المشاهد وأكثر الإنعام على الأرامل والأيتام قال (12/150)
له رجل إلى جانبنا أرملة لها أربعة أولاد وهم عراة وجياع فبعث إليهم مع رجل من خاصته نفقة وكسوة وطعاما ونزع عنه ثيابه في البرد الشديد وقال والله لا ألبسها حتى ترجع إلي بخبرهم فذهب الرجل مسرعا بما أرسله على يديه إليهم ثم رجع إليه فأخبره أنهم فرحوا بذلك ودعوا للوزير فسر بذلك ولبس ثيابه وجيء إليه مرة بقطائف سكرية فلما وضعت بين يديه تنغص عليه بمن لا يقدر عليها فأرسلها كلها إلى المساجد وكانت كثيرة جدا فأطعمها الفقراء والعميان وكان لا يجلس في الديوان إلا وعنده الفقهاء فإذا وقع له أمر مشكل سألهم عنه فحكم بما يفتونه وكان كثير التواضع مع الناس خاصتهم وعامتهم ثم عزل عن الوزارة فسار إلى الحج وجاور بالمدينة ثم مرض فلما ثقل في المرض جاء إلى الحجرة النبوية فقال يا رسول الله قال الله تعالى ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجودوا الله توابا رحيما وها أنا قد جئتك أستغفر الله من ذنوبي وارجو شفاعتك يوم القيامة ثم مات من يومه ذلك رحمه الله تعالى ودفن في البقيع
القاضي أبو بكر الشاشي
محمد بن المظفر بن بكران الحموي أبو بكر الشاشي ولد سنة أربعمائة وتفقه ببلده ثم حج في سنة سبع عشرة وأربعمائة وقدم بغداد فتفقه على أبي الطيب الطبري وسمع بها الحديث وشهد عند ابن الدامغاني فقبله ولازم مسجده خمسا وخمسين سنة يقرئ الناس ويفقههم ولما مات الدامغاني أشار به أبو شجاع الوزير فولاه الخليفة المقتدي القضاء وكان من أنزه الناس وأعفهم لم يقبل من سلطان عطية ولا من صاحب هدية ولم يغير ملبسه ولا مأكله ولم يأخذ على القضاء أجرا ولم يستنب أحدا بل كان يباشر القضاء بنفسه ولم يحاب مخلوقا وقد كان يضرب بعض المنكرين حيث لا بينة إذا قامت عنده قرائن التهمة حتى يقروا ويذكر أن في كلام الشافعي ما يدل على هذا وقد صنف كتابا في ذلك ونصره ابن عقيل فيما كان يتعاطاه من الحكم بالقرائن واستشهد له بقوله تعالى إن كان قميصه قد من قبل الآية وشهد عنده رجل من كبارالفقهاء والمناظرين يقال له المشطب بن أحمد بن أسامة الفرغاني فلم يقبله لما رأى عليه من الحرير وخاتم الذهب فقال له المدعي إن السلطان ووزيره نظام الملك يلبسان الحرير والذهب فقال القاضي الشاشي والله لو شهدا عندي على باقة بقلة ما قبلتهما ولرددت شهادتهما وشهد عنده مرة فقيه فاضل من أهل مذهبه فلم يقبله فقال لأي شيء ترد شهادتي وهي جائزة عند كل حاكم إلا أنت فقال له لا أقبل لك شهادة فإني رأيتك تغتسل في الحمام عريانا غير مستور العورة فلا أقبلك توفي يوم الثلاثاء عاشر شعبان من هذه السنة عن ثمان وثمانين سنة ودفن بالقرب من ابن شريح (12/151)
ابو عبدالله الحميدي
محمد بن أبي نصر فتوح بن عبدالله بن حميد الأندلسي من جزيرة يقال لها برقة قريبة من الأندلس قدم بغداد فسمع بها الحديث وكان حافظا مكثرا أديبا ماهرا عفيفا نزها وهو صاحب الجمع بين الصحيحين وله غير ذلك من المصنفات وقد كتب مصنفات ابن حزم والخطيب وكانت وفاته ليلة الثلاثاء السابع عشر من ذي الحجة وقد جاوز التسعين وقبره قريب من قبر بشر الحافي ببغداد
هبة الله ابن الشيخ أبي الوفا بن عقيل
كان قد حفظ القرآن وتفقه وظهر منه نجابة ثم مرض فأنفق عليه أبوه أموالا جزيلة فلم يفد شيئا فقال له ابنه ذات يوم يا أبت إنك قد أكثرت الأدوية والأدعية ولله في اختيار فدعني واختيار الله في قال أبوه فعلمت أنه لم يوفق لهذا الكلام إلا وقد اختير للحظوة والله سبحانه أعلم
ثم دخلت سنة تسع وثمانين وأربعمائة
قال ابن الجوزي في المنتظم في هذه السنة حكم جهلة المنجمين أنه سيكون في هذه السنة طوفان قريب من طوفان نوح وشاع الكلام بذلك بين العوام وخافوا فاستدعى الخليفة المستظهر ابن عشبون المنجم فسأله عن هذا الكلام فقال إن طوفان نوح كان في زمن اجتمع في بحر الحوت الطوالع السبعة والآن فقد اجتمع فيه ستة ولم يجتمع معها زحل فلا بد من وقوع طوفان في بعض البلاد والأقرب أنها بغداد فتقدم الخليفة إلى وزيره بإصلاح المسيلات والمواضع التي يخشى انفجار الماء منها وجعل الناس ينتظرون فجاء الخبر بأن الحجاج حصلوا بوادي المناقب بعد نخلة فأتاهم سيل عظيم فما نجا منهم إلا من تعلق برؤس الجبال وأخذ الماء الجمال والرجال والرحال فخلع الخليفة على ذلك المنجم وأجرى له جارية وفيها ملك الأمير قوام الدولة أبو سعيد كربوقا مدينة الموصل وقتل شرف الدولة محمد بن مسلم بن قريش وغرقه بعد حصار تسعة أشهر وفيها ملك تميم بن المعز المغربى مدينة قابس واخرج منها أخاه عمر فقال خطيب سوسة في ذلك أبياتا ... ضحك الزمان وكان يلفى عابسا ... لما فتحت بحدش سيفك قابسا ... وأتيتها بكرا وما أمهرتها ... إلا قنا وصوارما وفوراسا ... الله يعلم ما جنيت ثمارها ... إلا وكان أبوك قبلا غارسا ... من كان في زرق الأسنة خاطبا ... كانت له قلل البلاد عرائسا ... وفي صفر منها درس الشيخ أبو عبدالله الطبري بالنظامية ولاه إياها فخر الملك بن نظام الملك وزير بركيارق وفيها أغارت خفاجة على بلاد سيف الدولة صدقة بن مزيد بن منصور بن دبيس وقصدوا مشهد الحسين بالحائر وتظاهروا فيه بالمنكرات والفساد فكبسهم فيه الأمير صدقة المذكور (12/152)
فقتل منهم خلقا كثيرا عند الضريح ومن العجائب أن أحدهم ألقى نفسه وفرسه من فوق السور فسلم وسلمت فرسه وحج بالناس الأمير خمارتكين وممن توفي فيها من الأعيان عبدالله بن إبراهيم بن عبدالله
أخو أبي حكيم الخيري وخير إحدى بلاد فارس سمع الحديث وتفقه على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي وكانت له معرفة بالفرائض والأدب واللغة وله مصنفات وكان مرضى الطريقة وكان يكتب المصاحف بالأجرة فبينما هو ذات يوم يكتب وضع القلم من يده واستند وقال والله لئن كان هذا موتا إنه لطيب ثم مات
عبد المحسن بن أحمد الشنجي
التاجر ويعرف بابن شهداء مكة بغدادي سمع الحديث الكثير ورحل وأكثر عن الخطيب وهو بصور وهو الذي حمله إلى العراق فلهذا أهدى إليه الخطيب تاريخ بغداد بخطبة وقد روى عنه في مصنفاته وكان يسميه عبد الله وكان ثقة
عبد الملك بن إبراهيم
ابن أحمد أبو الفضل المعروف بالهمذاني تفقه على الماوردي وكانت له يد طولى في العلوم الشريعة والحساب وغير ذلك وكان يحفظ غريب الحديث لأبي عبيد والمجمل لابن فارس وكان عفيفا زاهدا طلبه المقتدي ليوليه قاضي القضاة فأبى أشد الإباء واعتذر له بالعجز وعلو السن وكان ظريفا لطيفا كان يقولل كان أبي إذا أراد أن يؤدبني أخذ العصا بيده ثم يقول نويت أن أضرب ولدي تأديبا كما أمر الله ثم يضربني قال وإلى أن ينوي ويتمم النية كنت أهرب توفي في رجب منها ودفن عند قبر ابن شريح
محمد بن أحمد بن عبد الباقي بن منصور
أبو بكر الدقاق ويعرف بابن الحاضنة كان معروفا بالإفادة وجودة القراءة وحسن الخط وصحة النقل جمع بين علم القراءات والحديث وأكثر عن الخطيب وأصحاب المخلص قال لما غرقت بغداد غرقت داري وكتبي فلم يبق لي شيء فاحتجت إلى النسخ فكتبت صحيح مسلم في تلك السنة سبع مرات فنمت فرأيت ذات ليلة كأن القيامة قد قامت وقائل يقول أين ابن الحاضنة فجئت فأدخلت الجنة فلما دخلتها استلقيت على قفاى ووضعت إحدى رجلي على الأخرى وقلت استرحت من النسخ ثم استيقظت والقلم في يدي والنسخ بين يدي
أبو المظفر السمعاني منصور بن محمد بن عبد الجبار بن أحمد بن محمد أبو المظفر السمعاني الحافظ من أهل مرو تفقه أولا على أبيه في مذهب أبي حنيفة ثم انتقل إلى مذهب الشافعي فأخذ عن أبي إسحاق وابن (12/153)
الصباغ وكانت له يد طولى في فنون كثيرة وصنف التفسير وكتاب الانتصار في الحديث والبرهان والقواطع في أصول الفقه والاصطلام وغير ذلك ووعظ في مدينة نيسابور وكان يقول ما حفظت شيئا فنسيته وسئل عن أخبار الصفات فقال عليكم بدين العجائز وصبيان الكتاتيب وسئل عن الإستواء فقال ... جئتماني لتعلما سر سعدي ... تجداني بسر سعدي شحيحا ... إن سعدي لمنية المتمني ... جمعت عفة ووجها صبيحا ... توفي في ربيع الأول من هذه السنة ودفن في مقبرة مرو رحمه الله تعالى وإيانا آمين
ثم دخلت سنة تسعين وأربعمائة من الهجرة
فيها كان ابتداء ملك الخوارزمية وذلك أن السلطان بركيارق ملك فيها بلاد خراسان بعد مقتل عمه أرسلان أرغون بن ألب أرسلان وسلمها إلى أخيه المعروف بالملك سنجر وجعل إتابكه الأمير قماج ووزيره أبو الفتح على بن الحسين الطغرائي واستعمل على خراسان الأمير حبشي بن البرشاق فولي مدينة خوارزم شابا يقال له محمد بن أنوشتكين وكان أبوه من أمراء السلاجقة ونشأ هو في أدب وفضيلة وحسن سيرة ولما ولي مدينة خوارزم لقب خوارزم شاه وكان أول ملوكهم فأحسن السيرة وعامل الناس بالجميل وكذلك ولده من بعده اتسز جرى على سيرة أبيه وأظهر العدل فحظي عند السلطان سنجر وأحبه الناس وارتفعت منزلته وفيه خطب الملك رضوان ابن تاج الملك تتش للخليفة الفاطمي المستعلي وفي شوال قتل رجل باطني عند باب النوبي كان قد شهد عليه عدلان أحدهما ابن عقيل أنه دعاهما إلى مذهبه فجعل يقول أتقتلونني وأنا أقول لا إله إلا الله فقال ابن عقيل قال الله تعالى فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده الآية وما بعدها وفي رمضان منها قتل برسق أحد أكابر الأمراء وكان أول من تولى شحنة بغداد وحج بالناس فيها خمارتكين الحسناني وفي يوم عاشوراء كبست دار بهاء الدولة أبو نصر بن جلال الدولة أبي طاهر ابن بويه لأمور ثبتت عليه عند القاضي فأريق دمه ونقضت داره وعمل مكانها مسجدان للحنفية والشافعية وقد كان السلطان ملكشاه قد أقطعه المدائن وديرعاقول وغيرهما وممن توفي فيها من الأعيان
أحمد بن محمد بن الحسن
ابن علي بن زكريا بن دينار أبو يعلى العبدي البصري ويعرف بابن الصواف ولد سنة أربعمائة وسمع الحديث وكان زاهدا متصوفا وفقيها مدرسا ذا سمت ووقار وسكينة ودين وكان علامة في عشرة علوم توفي في رمضان منها عن تسعين سنة رحمه الله (12/154)
المعمر بن محمد
ابن المعمر بن أحمد بن محمد أبو الغنائم الحسيني سمع الحديث وكان حسن الصورة كريم الأخلاق كثير التعبد لا يعرف أنه آذى مسلما ولا شتم صاحبا توفي عن نيف وستين سنة وكان نقيبا ثنتين وثلاثين سنة وكان من سادات قريش وتولي بعده ولده أبو الفتوح حيدرة ولقب بالرضي ذي الفخرين ورثاه الشعراء بأبيات ذكرها ابن الجوزي
يحيى بن أحمد بن محمد البستي
سمع الحديث ورحل فيه وكان ثقة صالحا صدوقا أديبا عمر مائة سنة وثنتي عشرة سنة وثلاثة أشهر وهو مع ذلك صحيح الحواس يقرأ عليه القرآن والحديث رحمه الله وإيانا آمين
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وأربعمائة
في جمادى الأولى منها ملك الإفرنج مدينة إنطاكية بعد حصار شديد بمواطأة بعض المستحفظين على بعض الأبراج وهرب صاحبها باغيسيان في نفر يسير وترك بها أهله وماله ثم نه ندم في أثناء الطريق ندما شديدا على ما فعل بحيث إنه غشى عليه وسقط عن فرسه فذهب أصحابه وتركوه فجاء راعي غنم فقطع رأسه وذهب به إلى ملك الفرنج ولما بلغ الخبر إلى الأمير كربوقا صاحب الموصل جمع عساكر كثيرة واجتمع عليه دقاق صاحب دمشق وجناح الدولة صاحب حمص وغيرهما وسار إلى الفرنج فالتقوا معهم بأرض إنطاكية فهزمهم الفرنج وقتلوا منهم خلقا كثيرا وأخذوا منهم أموالا جزيلة فإنا لله وإنا إليه راجعون ثم صارت الفرنج إلى معرة النعمان فأخذوها بعد حصار فلا حول ولا قوة إلا بالله ولما بلغ هذا الأمر الفظيع إلى الملك بركيارق شق عليه ذلك وكتب إلى الأمراء ببغداد أن يتجهزوا هم والوزير ابن جهير لقتال الفرنج فبرز بعض الجيش إلى ظاهر البلد بالجانب الغربي ثم انفسخت هذه العزيمة لأنهم بلغهم أن الفرنج في ألف ألف مقاتل فلا حول ولا قوة إلا بالله وحج بالناس فيها خمارتكين وممن توفي فيها من الأعيان
طراد بن محمد بن علي
ابن الحسن بن محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم الإمام بن محمد بن علي بن عباس أبو الفوارس بن أبي الحسن بن أبي القاسم بن أبي تمام من ولد زيد ابن بنت سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس وهي أم ولده عبد الله بن محمد بن إبراهيم الإمام بن محمد بن عبد الله بن عباس سمع الحديث الكثير والكتب الكبار وتفرد بالرواية عن حماعة ورحل إليه من الآفاق وأملى الحديث في بلدان شتى وكان يحضر مجلسه العلماء والسادات وحضر أبو عبد الله الدامغاني مجلسه وباشر نقابة الطالبيين مدة طويلة وتوفي عن نيف وتسعين سنة ودفن (12/155)
في مقابر الشهداء رحمه الله
المظفر أبو الفتح ابن رئيس الرؤساء أبو القاسم
أبن المسلمة كانت داره مجمعا لأهل العلم والدين والأدب وبها توفي الشيخ أبو إسحاق الشيرازي ودفن عند الشيخ أبي إسحاق في تربته
ثم دخلت سنة ثنتين وتسعين وأربعمائة
فيها أخذت الفرنج بيت المقدس
لما كان ضحى يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان سنة ثنتين وتسعين وأربعمائة أخذت الفرنج لعنهم الله بيت المقدس شرفه الله وكانوا في نحو ألف ألف مقاتل وقتلوا في وسطه أزيد من ستين ألف قتيل من المسلمين وجاسوا خلال الديار وتبروا ماعلوا تتبيرا قال ابن الجوزي وأخذوا من حول الصخرة اثنين وأربعين قنديلا من فضة زنة كل واحد منها ثلاثة آلاف وستمائة درهم وأخذوا تنورا من فضة زنته أربعون رطلا بالشامي وثلاثة وعشرين قنديلا من ذهب وذهب الناس على وجوههم هاربين من الشام إلى العراق مستغيثين على الفرنج إلى الخليفة والسلطان منهم القاضي أبو سعد الهروي فلما سمع الناس ببغداد هذا الأمر الفظيع هالهم ذلك وتباكوا وقد نظم أبو سعد الهروى كلاما قرىء في الديوان وعلى المنابر فارتفع بكاء الناس وندب الخليفة الفقهاء إلى الخروج إلى البلاد ليحرضوا الملوك على الجهاد فخرج ابن عقيل وغير واحد من أعيان الفقهاء فساروا في الناس فلم يفد ذلك شيئا فإنا لله وإنا إليه راجعون فقال في ذلك أبو المظفر الأبيوردي شعرا ... مزجنا دمانا بالدموع السواجم ... فلم يبق منا عرضة للمراجم ... وشر سلاح المرء دمع يريقه ... إذا الحرب شبت نارها بالصوارم ... فأيها بنى الاسلام إن وراءكم ... وقائع يلحقن الذرى بالمناسم ... وكيف تنام العين ملء جفونها ... على هفوات ايقظت كل نائم ... وإخوانكم بالشام يضحي مقيلهم ... ظهور المذاكي أو بطون القشاعم ... تسومهم الروم الهوان وانتم ... تجرون ذيل الخفض فعل المسالم ... ومنها قوله ... وبين اختلاس الطعن والضرب وقفة ... تظل لها الولدان شيب القوادم ... وتلك حروب من يغب عن غمارها ... ليسلم يقرع بعدها سن نادم ... سللن بأيدي المشركين قواضبا ... ستغمد منهم في الكلي والجماجم ... يكاد لهن المستجير بطيبة ... ينادي بأعلا الصوت ياآل هاشم ... أرى أمتي لا يشرعون إلى العدا ... رماحهم والدين واهي الدعائم ... ويجتنبون النار خوفا من الردى ... ولا يحسبون العار ضربة لازم (12/156)
أيرضي صناديد الأعاريب بالأذى ... ويغضى على ذل كماة الأعاجم ... فليتهمو إذ لم يذودوا حمية ... عن الدين ضنوا غيرة بالمحارم ... وإن زهدوا في الأجر إذ حمس الوغى ... فهلا أتوه رغبة في المغانم ...
وفيها كان ابتداء أمر السلطان محمد بن ملكشاه وهو أخو السلطان سنجر لأبيه وأمه واستحفل إلى أن خطب له ببغداد في ذي الحجة من هذه السنة وفيها سار إلى الري فوجد زبيدة خاتون أم أخيه بركيارق فأمر بخنقها وكان عمرها إذ ذاك ثنتين وأربعين سنة في ذي الحجة منها وكانت له مع بركيارق خمس وقعات هائلة وفيها غلت الأسعار جدا ببغداد حتى مات كثير من الناس جوعا وأصابهم وباء شديد حتى عجزوا عن دفن الموتى من كثرتهم وممن توفي فيها من الأعيان
السلطان إبراهيم بن السلطان محمود
ابن مسعود بن السلطان محمود بن سبكتكين صاحب غزنة وأطراف الهند وعدا ذلك كانت له حرمه وأبهة عظيمة وهيبة وافرة جدا حكى الكيا الهراسي حين بعثه السلطان بركيارق في رسالته إليه عما شاهده عنده من أمور السلطنة في ملبسه ومجلسه وما رأى عنده من الأموال والسعادة الدنيوية قال رأيت شيئا عجيبا وقد وقد وعظه بحديث ( لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذا فبكى قال وكان لا يبني لنفسه منزلا إلا بنى قبله مسجدا أو مدرسة أو رباطا توفي في رجب منها وقد جاوز التسعين وكانت مدة ملكه منها ثنتين وأربعين سنة
عبد الباقي بن يوسف
ابن علي بن صالح أبو تراب البراعي ولد سنة إحدى وأربعمائة وتفقه على أبي الطيب الطبري وسمع الحديث عليه وعلى غيره ثم أقام بنيسابور وكان يحفظ شيئا كثيرا من الحكايات والملح وكان صبورا متقللا من الدنيا على طريقة السلف جاءه منشور بقضاء همدان فقال أنا منتظر منشور من الله عز و جل على يدي ملك الموت بالقدوم عليه والله لجلوس ساعة في هذه المسلة على راحة القلب أحب إلي من ملك العراقين وتعليم مسألة لطالب أحب إلي مما على الأرض من شيء والله لاأفلح قلب يعلق بالدنيا وأهلها وإنما العلم دليل فمن لم يدله علمه على الزهد في الدنيا وأهلها لم يحصل على طائل من العلم ولو علم فإنما ذلك ظاهر من العلم والعلم النافع وراء ذلك والله لو قطعت يدي ورجلي وقلعت عيني أحب إلي من ولاية فيها انقطاع عن الله والدار الآخرة وما هو سبب فوز المتقين وسعادة المؤمنين توفي رحمه الله في ذي القعدة من هذه السنة عن ثلاث وتسعين سنة رحمه الله آمين
أبو القاسم إبن إمام الحرمين
قتله بعض الباطنية بنيسابور رحمه الله ورحم أباه (12/157)
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة
في صفر منها دخل السلطان بركيارق إلى بغداد ونزل بدار الملك وأعيدت له الخطبة وقطعت خطبة أخيه محمد وبعث إليه الخليفة هدية هائلة وفرح به العوام والنساء ولكنه في ضيق من أمر أخيه محمد لاقبال الدولة عليه واجتماعهم إليهوقلة ما معه من أموال ومطالبة الجند له بأرزاقهم فعزم على مصادرة الوزير ابن جهير فألتجأ إلى الخليفة فمنعه من ذلك ثم اتفق الحال على المصالحة عنه بمائة ألف وستين ألف دينار ثم سار فالتقى هو وأخوه محمد بمكان قريب من همدان فهزمه أخوه محمد ونجا هو بنفسه في خمسين فارسا وقتل في هذه الوقعة سعد الدولة جوهر آيين الخادم وكان قديم الهجرة في الدولة وقد ولى شحنة بغداد وكان حليما حسن السيرة لم يتعمد ظلم أحد ولم ير خادم ما رأى من الحشمة والحرمة وكثرة الخدم وقد كان يكثر الصلاة بالليل ولايجلس إلا على وضوء ولم يمرض مدة حياته ولم يصدع قط ولما جرى ما جرى في هذه الوقعة ضعف أمر السلطان بركيارق ثم تراجع إليه جيشه وانضاف إليه الأمير داود في عشرين ألفا فالتقي هو وأخوه مع أخيه سنجر فهزمهم سنجر أيضا وهرب في شرذمة قليلة وأسر الأمير داود فقتله الأمير برغش أحد أمراء سنجر فضعف بركيارق وتفرقت عنه رجاله وقطعت خطبته من بغداد في رابع عشر رجب وأعيدت خطبة السلطان محمد وفي رمضان منها قبض على الوزير عميد الدولة بن جهير وعلى أخويه زعيم الرؤساء أبي القاسم وأبي البركات الملقب بالكافي وأخذت منهم أموال كثيرة وحبس بدار الخلافة حتى مات في شوال منها وفي ليلة السابع والعشرين منه قتل الأمير بلكابك سرمز رئيس شحنة أصبهان ضربه باطنى بسكين في خاصرته وقد كان يتحرز منهم كثيرا وكان يدرع تحت ثيابه سوى هذه الليلة ومات من أولاده في الليلة جماعة خرج من داره خمس جنائز من صبيحتها وفيها أقبل ملك الفرنج في ثلاثمائة ألف مقاتل فالتقى معه ستكين ابن انشمند طايلو إنابك دمشق الذي يقال له أمين الدولة واقف الأمينية بدمشق وببصرى لا التي ببعلبك فهزم الأفرنج وقتل منهم خلقا كثيرا بحيث لم ينج منهم سوى ثلاثة آلاف وأكثرهم جرحى يعني الثلاثة آلاف وذلك في ذي القعدة منها ولحقهم إلى ملطية فملكها وأسر ملكها ولله الحمد وحج بالناس الأمير التونتاش التركي وكان شافعي المذهب وممن توفي فيها من الأعيان
عبد الرزاق الغزنوي الصوفي شيخ رباط عتاب حج مرات على التجريد مات وله نحو مائة سنة ولم يترك كفنا وقد قالت له امرأته لما احتضر سنفتضح اليوم قال لم قالت له لأنه لايوجد لك كفن فقال لها لو تركت كفنا لافتضحت وعكسه أبو الحسن البسطامي شيخ رباط ابن المحلبان كان لايلبس إلا الصوف (12/158)
شتاء وصيفا ويظهر الزهد وحين توفي وجد له أربعة آلاف دينار مدفونة فتعجب الناس من حاليهما فرحم الله الأول وسامح الثاني الوزير عميد الدولة بن جهير
محمد بن أبي نصر بن محمد بن جهير الوزير أبو منصور كان أحد رؤساء الوزراء خدم ثلاثة من الخلفاء وزر لاثنين منهم وكان حليما قليل العجلة غير أنه كان يتكلم فيه بسبب الكبر وقد ولي الوزارة مرات يعزل ثم يعاد ثم كان آخرها هذه المرة حبس بدار الخلافة فلم يخرج من السجن إلا ميتا في شوال منها
ابن جزلة الطبيب
يحيى بن عيسى بن جزلة صاحب المنهاج في الطب كان نصرانيا ثم كان يتردد إلى الشيخ أبي علي بن الوليد المغربي يشتغل عليه في المنطق وكان أبو علي يدعوه إلى الإسلام ويوضح له الدلالات حتى أسلم وحسن إسلامه واستخلفه الدامغاني في كتب السجلات ثم كان يطبب الناس بعد ذلك بلا أجر وربما ركب لهم الأدوية من ماله تبرعا وقد أوصى بكتبه أن تكون وقفا بمشهد أبي حنيفة رحمه الله وإيانا آمين
ثم دخلت سنة أربع وتسعين وأربعمائة فيها عظم الخطب بأصبهان ونواحيها بالباطنية فقتل السلطان منهم خلقا كثيرا وأبيحت ديارهم وأموالهم للعامة ونودي فيهم إن كل من قدرتم عليه منهم فاقتلوه وخذوا ماله وكانوا قد استحوذوا على قلاع كثيرة وأول قلعة ملكوها في سنة ثلاث وثمانين وكان الذي ملكها الحسن بن صباح أحد دعاتهم وكان قد دخل مصر وتعلم من الزنادقة الذين بها ثم صار إلى تلك النواحي ببلاد أصبهان وكان لايدعو إليه من الناس إلا غبيا جاهلا لا يعرف يمينه من شماله ثم يطعمه العسل بالجوز والشونيز حتى يحرق مزاجه ويفسد دماغه ثم يذكر له أشياء من أخبار أهل البيت ويكذب له من أقاويل الرافضة الضلال أنهم ظلموا ومنعوا حقهم الذي أوجبه الله لهم ورسوله ثم يقول له فإذا كانت الخوارج تقاتل بني أمية لعلي فأنت أحق أن تقاتل في نصرة إمامك علي بن أبي طالب ولا يزال يسقيه العسل وأمثاله ويرقيه حتى يستجيب له ويصير أطوع له من أمه وأبيه ويظهر له أشياء من المخرقة والنيرنجيات والحيل التي لا تروج إلا الجهال حتى التف عليه بشر كثير وجم غفير وقد بعث إليه السلطان ملكشاه يتهدده وينهاه عن ذلك وبعث إليه بفتاوى العلماء فلما قرأ الكتاب بحضرة الرسول قال لمن حوله من الشباب إني أريد أن أرسل منكم رسولا إلى مولاه فاشرأبت وجوه الحاضرين ثم قال لشباب منهم اقتل نفسك فأخرج سكينا (12/159)
فضرب بها غلصمته فسقط ميتا وقال لآخر منهم ألق نفسك من هذا الموضع فرمى نفسه من رأس القلعة إلى أسفل خندقها فنقطع ثم قال لرسول السلطان هذا الجواب فمنها امتنع السلطان من مراسلته هكذا ذكره ابن الجوزى وسيأتي ما جرى للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب فاتح بيت المقدس وما جرى له مع سنان صاحب الإيوان مثل هذا إن شاء الله تعالى [ وفي شهر رمضان أمر الخليفة المستظهر بالله بفتح جامع القصر وأن لايبيض وأن يصلى فيه التراويح وأن يجهر بالبسملة وأن يمنع النساء من الخروج ليلا للفرجة وفي أول هذه السنة دخل السلطان بركيارق إلى بغداد فخطب له بها ثم لحقه أخواه محمد وسنجر فدخلاها وهو مريض فعبرا في الجانب الغربى فقطعت خطبته وخطب لهما بها وهرب بركيارق إلى واسط ونهب جيشه ما اجتازوا به من البلاد والأراضي فنهاه بعض العلماء عن ذلك ووعظه فلم يفد شيئا وفي هذه السنة ملكت الفرنج قلاعا كثيرة منها قيسارية وسروج وسار ملك الفرنج كندر وهو الذي أخذ بيت المقدس إلى عكا فحاصرها فجاءه سهم في عنقه فمات من فوره لعنه الله وممن توفي فيها من الأعيان أحمد بن محمد
ابن عبد الواحد بن الصباح أبو منصور سمع الحديث وتفقه على القاضي أبي الطيب الطبري ثم على ابن عمه أبي نصر بن الصباح وكان فقيها فاضلا كثير الصلاة يصوم الدهر وقد ولى القضاء بربع الكرخ والحسبة بالجانب الغربي
عبد الله بن الحسن
ابن أبي منصور أبو محمد الطبسي رحل إلى الآفاق وجمع وصنف وكان أحد الحفاظ المكثرين ثقة صدوقا عالما بالحديث ورعا حسن الخلق
عبد الرحمن بن أحمد
ابن محمد أبو محمد الرزاز السرخسي نزل مرو وسمع الحديث وأملى ورحل إليه العلماء وكان حافظا لمذهب الشافعي متدينا ورعا رحمه الله
عزيز بن عبد الملك
منصور أبو المعالي الجيلي القاضي الملقب سيد له كان شافعيا في الفروع أشعريا في الأصول وكان حاكما بباب الأزج وكان بينه وبين أهل باب الأزج من الحنابلة شنآن كبير سمع رجلا ينادي على حمار له ضائع فقال يدخل باب الأزج ويأخذ بيد من شاء وقال يوما للنقيب طراد الزينبي لو حلف إنسان أنه لايرى إنسانا فرأى أهل باب الأزج لم يحنث فقال له الشريف من عاشر قوما أربعين يوما فهو منهم ولهذا لما مات فرحوا بموته كثيرا (12/160)
محمد بن أحمد
ابن عبد الباقي بن الحسن بن محمد بن طوق أبو الفضائل الربعي الموصلي تفقه على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي وسمع من القاضي أبي الطيب الطبري وكان ثقة صالحا كتب الكثير
محمد بن الحسن
أبو عبد الله المرادي نزل أوان وكان مقرئا فقيها صالحا له كرامات ومكاشفات أخذ عن القاضي أبي يعلي بن الفراء الحديث وغيره قال ابن الجوزي بلغني أن أبنا له صغيرا طلب منه غزالا وألح عليه فقال له يابني غدا يأتيك غزال فلما كان الغد أتت غزال فصارت تنطح الباب بقرنيها حتى فتحته فقال له أبوه يابني أتتك الغزال
محمد بن علي بن عبيد الله
ابن أحمد بن صالح بن سليمان بن ودعان أبو نصر الموصل القاضي قدم بغداد سنة ثلاث وتسعين وحدث عن عمه بالأربعين الودعانيه وقد سرقها عمه أبو الفتح بن ودعان من زيد بن رفاعة الهاشمي فركب لها أسانيد إلى من بعد زيد بن رفاعة وهي موضوعة كلها وإن كان في بعضها معاني صحيحة والله أعلم
محمد بن منصور
أبو سعد المستوفي شرف الملك الخوارزمي جليل القدر وكان متعصبا لأصحاب أبي حنيفة ووقف لهم مدرسة بمرو ووقف فيها كتبا كثيرة وبنى مدرسة ببغداد عند باب الطاق وبنى القبة على قبر أبي حنيفة وبنى أربطة في المفاوز وعمل خيرا كثيرا وكان من آكل الناس مأكلا ومشربا وأحسنهم ملبسا وأكثرهم مالا ثم نزل العمالة بعد هذا كله وأقبل على العبادة والإشتغال بنفسه إلى أن مات
محمد بن منصور القسري
المعروف بعميد خراسان قدم بغداد أيام طغرلبك وحدث عن أبي حفص عمر بن أحمد بن مسرور وكان كثير الرغبة في الخير وقف بمرو مدرسة على أبي بكر بن أبي المظفر السمعانى وورثته قال ابن الجوزي فهم يتولونها إلى الآن وبنى بنيسابور مدرسة وفيها تربته وكانت وفاته في شوال من هذه السنة
نصر بن أحمد
ابن عبد الله بن البطران الخطابى البزار القرئ ولد سنة ثمان وتسعين وثلثمائة وسمع الكثير وتفرد عن ابن زرقويه وغيره وطال عمره ورحل إليه من الآفاق وكان صحيح السماع (12/161)
ثم دخلت سنة خمس وتسعين وأربعمائة
في ثالث المحرم منها قبض على أبي الحسن علي بن محمد المعروف بالكيا الهراسي وعزل عن تدريس النظامية وذلك أنه رماه بعضهم عند السلطان بأنه باطنى فشهد له جماعة من العلماء منهم ابن عقيل ببراءته من ذلك وجاءت الرسالة من دار الخلافة يوم الثلاثاء بخلاصة وفيها في يوم الثلاثاء الحادى عشر من المحرم جلس الخليفة المستظهر بدار الخلافة وعلى كتفيه البردة والقضيب بيده وجاء الملكان الأخوان محمد وسنجر أبناء ملكشاه فقبلا الأرض وخلع عليهما الخلع السلطانية على محمد سيفا وطوقا وسوار لؤلؤ وأفراسا من مراكبه وعلى سنجر دون ذلك وولي السلطان محمد الملك واستنابه في جميع ما يتعلق بأمر الخلافة دون ما أغلق عليه الخليفة بابه ثم خرج السلطان في تاسع عشر الشهر فأرجف الناس وخرج بركيارق فأقبل السلطان محمد فالتقوا وجرت حروب كثيرة وانهزم محمد وجرى عليه مكروه شديد كما سيأتي بيانه وفي رجب منها قبل القاضي أبو الحسن ابن الدامغاني شهادة أبي الحسين وأبي حازم أبني القاضي أبي يعلي ابن الفراء وفيها قدم عيسى بن عبد الله القونوي فوعظ الناس وكان شافعيا أشعريا فوقعت فتنة بين الحنابلة والأشعرية ببغداد وفيها وقع حريق عظيم ببغداد وحج بالناس حميد العمري صاحب سيف الدولة صدقة بن منصور ابن دبيس صاحب الحلة وممن توفي فيها من الأعيان
أبو القاسم صاحب مصر
الخليفة الملقب بالمستعلي في ذي الحجة منها وقام بالأمر بعده ابنه علي وله تسع سنين ولقب بالآمر بأحكام الله
محمد بن هبة الله
أبو نصر القاضي البندنيجي الضرير الفقيه الشافعي أخذ عن الشيخ أبي أسحاق ثم جاور بمكة أربعين سنة يفتي ويدرس ويروي الحديث ويحج من شعره قوله
... عدمتك نفسي ما تملي بطالتي ... وقد مر أصحابي وأهل مودتي ... أعاهد ربي ثم أنقض عهده ... وأترك عزمي حين تعرض شهوتي ... وزادي قليل ما أراه مبلغي ... أللزاد أبكي أم لبعد مسافتي ...
ثم دخلت سنة ست وتسعين وأربعمائة
فيها حاصر السلطان بركيارق أخاه محمدا بأصبهان فضاقت على أهلها الأرزاق وأشتد الغلاء عندهم جدا وأخذ السلطان محمد أهلها بالمصادرة والحصار حولهم من خارج البلد فأجتمع عليهم الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ثم خرج السلطان محمد من أصبهان هاربا (12/162)
فأرسل أخوه في أثره مملوكه إياز فلم يتمكن من القبض عليه ونجا بنفسه سالما قال ابن الجوزي وفي صفر منها زيد في ألقاب قاضي القضاة أبي الحسن بن الدمغاني تاج الإسلام وفي ربيع الأول قطعت الخطبة للسلاطين ببغداد واقتصر على ذكر الخليفة فيها والدعاء له ثم التقى الأخوان بركيارق ومحمد فانهزم محمد أيضا ثم اصطلحا وفيها ملك دقاق بن تتش صاحب دمشق مدينة الرحبة وفيها قتل أبو المظفر الخجندي الواعظ بالري وكان فقيها شافعيا مدرسا قتله رافضي علوي في الفتنة وكان عالما فاضلا كان نظام الملك يزوره ويعظمه وحج بالناس خمارتكين وممن توفي فيها من الأعيان
أحمد بن علي
ابن عبد الله بن سوار أبو طاهر المقري صاحب المصنفات في علوم القرآن كان ثقة ثبتا مأمونا عالما بهذا الشأن قد جاوز الثمانين
أبو المعالي
أحد الصلحاء الزهاد ذوي الكرامات والمكاشفات وكان كثير العبادة متقللا من الدنيا لايلبس صيفا ولا شتاء إلا قميصا واحدا فإذا أشتد البرد وضع على كتفه مئزرا وذكر أنه أصابته فاقة شديدة في رمضان فعزم على الذهاب إلى بعض الأصحاب ليستقرض منه شيئا قال فبينما أنا أريده إذا بطائر قد سقط على كتفي وقال يا أبا المعالي أنا الملك الفلاني لا تمض إليه نحن نأتيك به قال فبكر إلى الرجل رواه ابن الجوزي في منتظمه من طرق عدة كانت وفاته في هذه السنة ودفن قريبا من قبر أحمد
السيدة بنت القائم بأمر الله
أمير المؤمنين التي تزوجها طغرلبك دفنت بالرصافة وكانت كثيرة الصدقة وجلس لعزائها في بيت النوبة الوزير والله أعلم
ثم دخلت سنة سبع وتسعين وأربعمائة
فيها قصد الفرنج لعنهم الله الشام فقاتلهم المسلمون فقتلوا من الفرج أثني عشر ألفا ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وقد أسر في هذه الوقعة بردوي صاحب الرها وفيها سقطت منارة واسط وقد كانت من أحسن المنائر كان أهل البلد يفتخرون بها وبقية الحجاج فلما سقطت سمع لأهل البلد بكاء وعويل شديد ومع هذا لم يهلك بسبها أحد وكان بناؤها في سنة أربع وثلاثمائة في زمن المقتدر وفيها تأكد الصلح بين الأخوين السلطانين بركيارق ومحمد وبعث إليه بالخلع وإلى الأمير إياز وفيها أخذت مدينة عكا وغيرها من السواحل وفيها استولى الأمير سيف الدولة صدقة بن منصور صاحب الحلة على مدينة واسط وفيها توفي الملك دقاق بن تتش (12/163)
صاحب دمشق فأقام مملوكه طغتكين ولدا له صغيرا مكانه وأخذ البيعة له وصار هو أتابكه بدير المملكة مدة بدمشق وفيها عزل السلطان سنجر وزيره أبا الفتح الطغرائي ونفاه إلى غزنة وفيها ولي أبو نصر نظام الحضريين ديوان الإنشاء وفيها قتل الطبيب الماهر الحاذق أبو نعيم وكانت له إصابات عجيبة وحج بالناس فيها الأمير خمارتكين وممن توفي فيها من الأعيان توفي فيها من الأعيان
أزردشير بن منصور
أبو الحسن العبادي الواعظ تقدم أنه قدم بغداد فوعظ بها فأحبته العامة في سنة ست وثمانين وقد كانت له أحوال جيدة فيما يظهر والله أعلم
إسماعيل بن محمد
ابن أحمد بن عثمان أبو الفرج القومساني من أهل همدان سمع من أبيه وجده وكان حافظا حسن المعرفة بالرجال وأنواع الفنون مأمونا
العلا بن أحمد بن عمر
ابن الموصلايا سعد الدولة كاتب الإنشاء ببغداد وكان نصرانيا فأسلم في سنة أربع وثمانين فمكث في الرياسة مدة طويلة نحوا من خمس وستين سنة وكان فصيح العبارة وكثير الصدقة وتوفي عن عمر طويل
محمد بن أحمد بن عمر
أبو عمر النهاوندي قاضي البصرة مدة طويلة وكان فقيها سمع من أبي الحسن الماوردي وغيره مولده في سنة سبع وقيل تسع وأربعمائة والله أعلم
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وأربعمائة
فيها توفي السلطان بركيارق وعهد إلى ولده الصغير ملكشاه وعمره أربع سنين وشهور وخطب له ببغداد ونثر عند ذكره الدنانير والدراهم وجعل أتابكه الأمير إياز ولقب جلال الدولة ثم جاء السلطان محمد إلى بغداد فخرج إليه أهل الدولة ليتلقوه وصالحوه وكان الذي أخذ البيعة بالصلح الكيا الهراسي وخطب له بالجانب الغربي ولابن أخيه بالجانب الشرقي ثم قتل الأمير إياز وحملت إليه الخلع والدولة والدست وحضر الوزير سعد الدولة عند الكيا الهراسي في درس النظامية ليرغب الناس في العلم في ثامن رجب منها أزيل الغيار عن أهل الذمة الذين كانوا ألزموه في سنة أربع وثمانين وأربعمائة ولا يعرف ماسبب ذلك وفيها كانت حروب كثيرة ما بين المصريين والفرنج فقتلوا من الفرنج خلقا كثيرا ثم أديل عليهم الفرنج فقتلوا منهم خلقا وممن توفي فيها من الأعيان
السلطان بركيارق بن ملكشاه
ركن الدولة السلجوقي جرت له خطوب طويلة وحروب هائلة خطب له ببغداد ست مرات (12/164)
ثم تنقطع الخطبة له ثم تعاد مات وله من العمر أربع وعشرون سنة وشهور ثم قام من بعده ولده ملكشاه فلم يتم له الأمر بسبب عمه محمد
عيسى بن عبد الله
القاسم أبو الوليد الغزنوي الأشعري كان متعصبا للأشعري خرج من بغداد قاصدا لبلده فتوفي بأسفرايين
محمد بن أحمد بن إبراهيم
ابن سلفة الأصبهاني أبو أحمد كان شيخا عفيفا ثقة سمع الكثير وهو والد الحافظ أبي طاهر السلفي الحافظ
أبو علي الخيالي الحسين بن محمد
ابن أحمد الغساني الأندلسي مصنف تقييد المهمل على الألفاظ وهو كتاب مفيد كثير النفع وكان حسن الخط عالما باللغة والشعر والأدب وكان يسمع في جامع قرطبة توفي ليلة الجمعة لثنتي عشرة خلت من شعبان عن إحدى وسبعين سنة
محمد بن علي بن الحسن بن أبي الصقر
أبو الحسن الواسطي سمع الحديث وتفقه بالشيخ أبي إسحاق الشيرازي وقرأ الأدب وقال الشعر من ذلك قوله ... من قال لي جاه ولي حشمة ... ولي قبول عند مولانا ... ولم يعد ذاك بنفع على ... صديقه لا كان ما كانا ...
ثم دخلت سنة تسع وتسعين وأربعمائة
في المحرم منها ادعى رجل النبوة بنواحي نهاوند وسمى أربعة من أصحابه بأسماء الخلفاء الأربعة فاتبعه على ضلالته خلق من الجهلة الرعاع وباعوا أملاكهم ودفعوا اثمانها إليه وكان كريما يعطي من قصده ما عنده ثم إنه قتل بتلك الناحية ورام رجل آخر من ولد ألب أرسلان بتلك الناحية الملك فلم يتم أمره بل قبض عليه في أقل من شهرين وكانوا يقولون أدعى رجل النبوة وآخر الملك فما كان بأسرع من زوال دولتهما وفي رجب منها زادت دجلة زيادة عظيمة فأتلفت شيئا كثيرا من الغلات وغرقت دور كثيرة ببغداد وفيها كسر طغتكين أتابك عساكر دمشق الفرنج وعاد مؤيدا منصورا إلى دمشق وزينت البلد زينة عجيبة مليحة سرورا بكسره الفرنج وفيها في رمضان منها حاصر الملك رضوان بن تتش صاحب حلب مدينة نصيبين وفيها ورد إلى بغداد ملك من الملوك وصحبته رجل يقال له الفقيه فوعظ الناس في جامع القصر وحج بالناس رجل من أقرباء الأمير سيف الدولة صدقة (12/165)
وممن توفي فيها من الأعيان
أبو الفتح الحاكم
سمع الحديث من البيهقي وغيره وعلق عن القاضي حسين طريقه وشكره في ذلك وكان قد تفقه أولا على الشيخ أبي علي السنجي ثم تفقه وعلق عن إمام الحرمين في الأصول بحضرته وأستجاده وولي بلده مدة طويلة وناظر ثم ترك ذلك كله وأقبل على العبادة وتلاوة القرآن قال ابن خلكان وبني للصوفية رباطا من ماله ولزم التعبد إلى أن مات في مستهل المحرم من هذه السنة
محمد بن أحمد
ابن محمد بن علي بن عبد الرزاق أبو منصور الحناط أحد القراء والصلحاء ختم ألوفا من الناس وسمع الحديث الكثير وحين توفي أجتمع العالم في جنازته اجتماعا لم يجتمع لغيره مثله ولم يعهد له نظير في تلك الأزمان وكان عمره يوم توفي سبعا وتسعين سنة رحمه الله وقد رثاه الشعراء ورآه بعضهم في المنام فقال له ما فعل بك ربك فقال غفرلي بتعليمى الصبيان الفاتحة
محمد بن عبيد الله بن الحسن
ابن الحسين أبو الفرج البصري قاضيها سمع أبا الطيب الطبري والماوردي وغيرهما ورحل في طلب الحديث وكان عابدا خاشعا عند الذكر
مهارش بن مجلي
أمير العرب بحديثة غانة وهو الذي اودع عنده القائم بأمر الله حين كانت فتنة البساسيري فأكرم الخليفة حين ورد عليه ثم جازاه الخليفة الجزاء الأوفى وكان الأمير مهارش هذا كثير الصدقة والصلاة توفي في هذه السنة عن ثمانين سنة رحمه الله تعالى
ثم دخلت سنة خمسمائة من الهجرة
قال أبو داود في سننه حدثنا حجاج بن إبراهيم حدثنا ابن وهب حدثني معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن جبير عن أبيه عن أبي ثعلبة الخشني قال قال رسول الله ( ص ) ( لن يعجز الله هذه الأمة من نصف يوم ) حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا أبو المغيرة حدثني صفوان عن شريح بن عبيد عن سعد ابن أبي وقاص عن النبي ( ص ) أنه قال ( إني لأرجو أن لا يعجز أمتي عند ربها أن يؤخرها نصف يو ) م قيل لسعد وكم نصف يوم قال خمسمائة سنة ) وهذا من دلائل النبوة وكر هذه المدة لا ينفى زيادة عليها كما هو الواقع لأنه عليه السلام ذكر شيئا من أشراط الساعة لا بد من وقوعها كما أخبر سواء بسواء وسيأتي ذكرها فيما بعد زماننا وبالله المستعان ومما وقع في هذه السنة من الحوادث أن السلطان محمد بن ملكشاه حاصر قلاعا كثيرة من حصون الباطنية فافتتح منها أماكن كثيرة وقتل خلقا منهم منها قلعة حصينة كان أبوه قال بناها بالقرب من أصبهان في رأس جبل منيع هناك وكان سبب بنائه لها أنه كان مرة في بعض صيوده (12/166)
فهرب منه كلب فاتبعه إلى رأس الجبل فوجده وكان معه رجل من رسل الروم فقال الرومي لو كان هذا الجبل ببلادنا لا تخذنا عليه قلعة فحدا هذا الكلام السلطان إلى ابتني في رأسه قلعة انفق عليها ألف ألف دينار ومائتي ألف دينار ثم استحوذ عليها بعد ذلك رجل من الباطنية يقال له أحمد بن عبد الله بن عطاء فتعب المسلمون بسببها فحاصرها ابنه السلطان محمد سنة حتى افتتحها وسلخ هذا الرجل وحشى جلده تبنا وقطع رأسه وطاف به في الأقاليم ثم نقض هذه القلعة حجرا حجرا والقت إمرأته نفسها من أعلى القلعة فتلفت وهلك ما كان معها من الجواهر النفسية وكان الناس يتشاءمون بهذه القلعة يقولون كان دليلها كلبا والمشير بها كافرا والتمحصن بها زنديقا وفيها وقعت حروب كثيرة بين بني خفاجة وبين بني عبادة فقهرت عبادة خفاجة وأخذت بثأرها المتقدم منها وفيها أستحوذ سيف الدولة صدقة على مدينة تكريت بعد قتال كثير وفيها أرسل السلطان محمد الأمير جاولي سقاوو إلى الموصل وأقطعه إياها فذهب فأنتزعها من الأمير جكرمش بعد ما قاتله وهزم اصحابه وأسره ثم قتله بعد ذلك وقد كان جكرمش من خيار الأمراء سيرة وعدلا وأحسانا ثم أقبل قلج ارسلان بن قتلمش فحاصر الموصل فانتزعها من جاولي فصار حاولي إلى الرحبة فأخذها ثم أقبل إلى قتال قلج فكسره والقى قلج نفسه في النهر الذي للخابور فهلك وفيها نشأت حروب بين الروم والفرنج فاقتتلوا قتالا عظيما ولله الحمد وقتل من الفريقين طائفة كبيرة ثم كانت الهزيمة على الفرنج ولله الحمد رب العالمين
قتل فخر الملك أبو المظفر
وفي يوم عاشوراء منها قتل فخر الملك أبو المظفر بن نظام الملك وكان أكبر أولاد أبيه وهو وزير السلطان سنجر بنيسابور وكان صائما قتله باطني وكان قد رأى في تلك الليلة الحسين بن علي وهو يقول له عجل إلينا وأفطر عندنا الليلة فأصبح متعجبا فنوى الصوم ذلك اليوم وأشار إليه بعض أصحابه أن لا يخرج ذلك اليوم من المنزل فما خرج إلا في آخر النهار فرأى شابا يتظلم وفي يده رقعة فقال ما شانك فناوله الرقعة فبينما هو يقرؤها إذ ضربه بخنجر بيده فقتله فأخذ الباطني فرفع إلى السلطان فقرره فأقر على جماعة من أصحاب الوزير أنهم أمروه بذلك وكان كاذبا فقتل وقتلوا ايضا وفي رابع عشر صفر عزل الخليفة الوزير أبا القاسم على بن جهير وخرب داره التي كان قد بناها أبوه من خراب بيوت الناس فكان في ذلك عبرة وموعظة لذوي البصائر والنهى واستنيب في الوزارة القاضي أبو الحسن الدامغاني ومعه آخر وحج بالناس فيها الأمير تركمان واسمه اليرن من جهة الأمير محمد بن ملكشاه (12/167)
وفيها توفي من الأعيان
أحمد بن محمد بن المظفر
أبو المظفر الخوافي الفقيه الشافعي قال ابن خلكان كان أنظر أهل زمانه تفقه على إمام الحرمين وكان أوجه تلامذته وقد ولي القضاء بطوس ونواحيها وكان مشهورا بحسن المناظرة وإفحام الخصوم قال والخوافي بفتح الخاء والواو نسبة إلى خواف ناحية من نواحي نيسابور بن محمد
ابن الحسين بن أحمد بن جعفر السراج أبو محمد القاري البغدادي ولد سنة ست عشرة وأربعمائة وقرأ القرآن بالروايات وسمع الكثير من الأحاديث النبويات من المشايخ والشيخات في بلدان متباينات وقد خرج له الحافظ أبو بكر الخطيب أجزاء مسموعاته وكان صحيح الثبت جيد الذهن أديبا شاعرا حسن النظم نظم كتابا في القراءات وكتاب التنبيه والخرقي وغير ذلك وله كتاب مصارع العشاق وغير ذلك ومن شعره قوله
... قتل الذين بجهلهم ... أضحوا يعيبون المحابر ... والحاملين لها من ال ... أيدي بمجتمع الأساور ... لولا المحابر والمقا ... لم والصحائف والدفاتر ... والحافظون شريعة ال ... مبعوث من خير العشائر ... والناقلون حديثه عن ... كابر ثبت وكابر ... لرأيت من بشع الضلا ... ل عساكرا تتلو عساكر ... كل يقول بجهله ... والله للمظلوم ناصر ... سميتهم أهل الحديث ... أولي النهى وأولي البصائر ... هم حشو جنات النعيم ... على الأسرة والمنابر ... رفقاء أحمد كلهم ... عن حوضه ريان صادر ...
وذكر له ابن خلكان أشعارا رائقة منها قوله
... ومدع شرخ الشباب وقد ... عممه الشيب على وفرته ... يخضب بالوشمة عثنونه ... يكفيه أن يكذب في لحيته ...
عبد الوهاب بن محمد
ابن عبدالوهاب بن عبدالواحد بن محمد الشيرازي الفارسي سمع الحديث الكثير وتفقه وولاه نظام الملك تدريس النظامية ببغداد في سنة ثلاث وثمانين فدرس بها مدة وكان يملي الأحاديث وكان كثير التصحيف روى مرة حديث ( صلاة في إثر صلاة كتاب في عليين ) فقال (12/168)
كتاب في غلس ثم أخذ يفسر ذلك بأنه أكثر لإضاءتها
محمد بن إبراهيم
ابن عبيد الأسدي الشاعر لقي الخنيسي التهامي وكان مغرما بما يعارض شعره وقد أقام باليمن وبالعراق ثم بالحجاز ثم بخراسان ومن شعره ... قلت ثقلت إذ أتيت مرارا ... قال ثقلت كاهلي بالأيادي ... قلت طولت قال بل تطولت ... قلت مزقت قال حبل ودادي ...
يوسف بن علي
أبو القاسم الزنجاني الفقيه كان من أهل الديانة حكى عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي عن القاضي أبي الطيب قال كنا يوما بجامع المنصور في حلقة فجاء شاب خراساني فذكر حديث أبي هريرة في المطر فقال الشاب غير مقبول فما استتم كلامه حتى سقطت من سقف المسجد حية فنهض الناس هاربين وتبعت الحية ذلك الشاب من بينهم فقيل له تب تب فقال تبت فذهبت فلا ندري أين ذهبت رواها ابن الجوزي عن شيخه أبي المعمر الأنصاري عن أبي القاسم هذا والله أعلم
ثم دخلت سنة إحدى وخمسمائة من الهجرة
فيها جدد الخليفة الخلع على وزيره الجديد أبي المعالي هبة الله بن محمد بن المطلب وأكرمه وعظمه وفي ربيع الآخر منها دخل السلطان محمد إلى بغداد فتلقاه الوزير والأعيان وأحسن إلى أهلها ولم يتعرض أحد من جيشه إلى شيء وغضب السلطان على صدقة بن منصور الأسدي صاحب الحلة وتكريت بسبب أنه آوى رجلا من أعدائه يقال له أبو دلف سرحان الديلمي صاحب ساوة وبعث إليه ليرسله إليه فلم يفعل فأرسل إليه جيشا فهزموا جيش صدقة وقد كان جيشه عشرين ألف فارس وثلاثين ألف راجل وقتل صدقة في المعركة واسر جماعة من رؤس أصحابه واخذوا من زوجته خمسمائة ألف دينار وجواهر نفيسة قال ابن الجوزي وظهر في هذه السنة صبية عمياء تتكلم على أسرار الناس وما في نفوسهم من الضمائر والنيات وبالغ الناس في أنواع الحيل عليها ليعلموا حالها فلم يعلموا قال ابن عقيل وأشكل أمرها على العلماء والخواص والعوام حتى سألوها عن نقوش الخواتم المقلوبة الصعبة وعن أنواع الفصوص وصفات الأشخاص وما في داخل البنادق من المشمع والطين المختلف والخرق وغير ذلك فتخبر به سواء بسواء حتى بالغ أحدهم ووضع يده على ذكره وسألها عن ذلك فقالت يحمله إلى أهله وعياله وفيها قدم القاضي فخر الملك أبو عبيد على صاحب طرابلس إلى بغداد يستنفر المسلمين على الفرنج فأكرمه السلطان غياث الدين محمد إكراما زائدا وخلع عليه وبعث معه الجيوش الكثيرة لقتال الفرنج (12/169)
وممن توفي فيها من الأعيان
تميم بن المعز بن باديس
صاحب إفريقية كان من خيار الملوك حلما وكرما وإحسانا ملك ستا وأربعين سنة وعمر تسعا وتسعين سنة وترك من البنين أنهد من مائة ومن البنات ستين بنتا وملك من بعده ولده يحيى ومن أحسن ما مدح به الأمير تميم قول الشاعر ... أصح وأعلى ما سمعناه في الندا ... من الخبر المروي منذ قديم ... أحاديث ترويها السيول عن الحيا ... عن البحر عن كف الأمير تميم ...
صدقة بن منصور
ابن دبيس بن علي بن مزيد الأسدي الأمير سيف الدولة صاحب الحلة وتكريت وواسط وغيرها كان كريما عفيفا ذا ذمام ملجأ لكل خائف يأمن في بلاده وتحت جناحه وكان يقرأ الكتب المشكلة ولا يحسن الكتابة وقد اقتنى كتبا نفيسة جدا وكان لا يتزوج على امرأة قط ولا يتسرى على سرية حفظا للذمام ولئلا يكسر قلب أحد وقد مدح بأوصاف جميلة كثيرة جدا قتل في بعض الحروب قتله غلام اسمه برغش وكان له من العمر تسع وخمسون سنة رحمه الله تعالى
ثم دخلت سنة ثنتين وخمسمائة
في يوم الجمعة الثاني والعشرين من شعبان تزوج الخليفة المستظهر بالخاتون بنت ملكشاه أخت السلطان محمد على صداق مائة ألف دينار ونثر الذهب وكتب العقد بأصبهان وفيها كانت الحروب الكثيرة بين الأتابك طغتكين صاحب دمشق وبين الفرنج وفيها ملك سعيد بن حميد العمري الحلة السيفية وفيها زادت دجلة زيادة كثيرة فغرقت الغلات فغلت الأسعار بسبب ذلك غلاء شديدا وحج بالناس الأمير قيماز وممن توفي فيها من الأعيان
الحسن العلوي
أبو هاشم ابن رئيس همدان وكان ذا مال جزيل صادره السلطان في بعض الأوقات بتسعمائة ألف دينار فوزنها ولم يبع فيها عقارا ولا غيره
الحسن بن علي
أبو الفوارس بن الخازن الكاتب المشهور بالخط المنسوب توفي في ذي الحجة منها قال ابن خلكان كتب بيده خمسمائة ختمة مات فجأة
الروباني صاحب البحر
عبدالواحد بن إسماعيل أبو المحاسن الروياني من أهل طبرستان أحد أئمة الشافعية ولد سنة خمس عشرة وأربعمائة ورحل إلى الآفاق حتى بلغ ما وراء النهر وحصل علوما جمة وسمع (12/170)
الحديث الكثير وصنف كتبا في المذهب من ذلك البحر في الفروع وهو حافل كامل شامل للغرائب وغيرها وفي المثل ( حدث عن البحر ولا حرج ) وكان يقول لو احترقت كتب الشافعي أمليتها من حفظي قتل ظلما يوم الجمعة وهو يوم عاشوراء في الجامع بطبرستان قتله رجل من أهلها رحمه الله قال ابن خلكان أخذ الفقه عن ناصر المروزي وعلق عنه وكان للروياني الجاه العظيم والحرمة الوافرة وقد صنف كتبا في الاصول والفروع منها بحر المذهب وكتاب مناصيص الإمام الشافعي وكتاب الكافي وحلية المؤمن وله كتب في الخلاف أيضا
يحيى بن علي
ابن محمد بن الحسن بن بسطام الشيباني التبريزي أبو زكريا أحد أئمة اللغة والنحو قرأ على أبي العلاء وغيره وتخرج به جماعة منهم منصور بن الجواليقي قال ابن ناصر وكان ثقة في النقل وله المصنفات الكثيرة وقال ابن خيرون لم يكن مرضى الطريقة توفي في جمادى الآخرة ودفن الىجانب الشيخ أبي إسحاق الشيرازي بباب إبرز والله أعلم
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسمائة
فيها أخذت الفرنج مدينة طرابلس وقتلوا من فيها من الرجال وسبوا الحريم والأطفال وغنموا الأمتعة والأموال ثم أخذوا مدينة جبلة بعدها بعشر ليال فلا حول ولا قوة إلا بالله الكبير المتعال وقد هرب منهم فخر الملك بن عمار فقصد صاحب دمشق طغتكين فأكرمه واقطعه بلادا كثيرة وفيها وثب بعض الباطنية على الوزير أبي نصر بن نظام الملك فجرحه ثم أخذ الباطني فسقى الخمر فاقر على جماعة من الباطنية فأخذوا فقتلوا وحج بالناس الأمير قيماز وممن توفي فيها من الأعيان
أحمد بن علي
ابن أحمد أبو بكر العلوي كان يعمل في تجصيص الحيطان ولا ينقش صورة ولا يأخذ من أحد شيئا وكانت له أملاك ينتفع منها ويتقوت وقد سمع الحديث من القاضي أبي يعلى وتفقه عليه بشيء من الفقه وكان إذا حج يزور القبور بمكة فإذا وصل إلى قبر الفضيل بن عياض يخط إلى جابنه خطا بعصاه ويقول يا رب ههنا فقيل إنه حج في هذه السنة فوقف بعرفات محرما فتوفي بها من آخر ذلك اليوم فغسل وكفن وطيف به حول البيت ثم دفن إلى جانب الفضيل بن عياض في ذلك المكان الذي كان يخطه بعصاه وبلغ الناس وفاته ببغداد فاجتمعوا للصلاة عليه صلاة الغائب حتى لو مات بين أظهرهم لم يكن عندهم مزيد على ذلك الجمع رحمه الله
عمر بن عبدالكريم
ابن سعدويه الفتيان الدهقاني رحل في طلب الحديث ودار الدنيا وخرج وانتخب وكان (12/171)
له فقه في هذا الشأن وكان ثقة وقد صحح عليه أبو حامد الغزالي كتاب الصحيحين كانت وفاته بسرخس في هذه السنة
محمد ويعرف بأخي حماد
وكان أحد الصلحاء الكبار كان به مرض مزمن فرأى النبي ( ص ) في المنام فعوفي فلزم مسجدا له أربعين سنة لا يخرج إلا إلى الجمعة وانقطع عن مخالطة الناس كانت وفاته في هذه السنة ودفن في زاوية بالقرب من قبر أبي حنيفة رحمه الله
ثم دخلت سنة أربع وخمسمائة
في أولها تجهز جماعة من البغاددة من الفقهاء وغيرهم ومنهم ابن الذاغوني للخروج إلى الشام لأجل الجهاد وقتال الفرنج وذلك حين بلغهم أنهم فتحوا مدائن عديدة من ذلك مدينة صيدا في ربيع الأول وكذا غيرها من المدائن ثم رجع كثير منهم حين بلغهم كثرة الفرنج وفيها قدمت خاتون بنت ملكشاه زوجة الخليفة إلى بغداد فنزلت في دار أخيها السلطان محمد ثم حمل جهازها على مائة واثنتين وستين جملا وسبعة وعشرين بغلا وزينت بغداد لقدومها وكان دخولها على الخليفة في الليلة العاشرة من رمضان وكانت ليلة مشهودة وفيها درس أبو بكر الشاشي بالنظامية مع التاجية وحضر عنده الوزير والأعيان وحج بالناس قيماز ولم يتمكن الخراسانيون من الحج من العطش وقلة الماء وممن توفي فيها من الأعيان
إدريس بن حمزة
أبو الحسن الشاشي الرملي العثماني أحد فحول المناظرين عن مذهب الشافعي تفقه أولا على نصر بن إبراهيم ثم ببغداد على أبي إسحاق الشيرازي ودخل خراسان حتى وصل إلى ما وراء النهر وأقام بسمرقند ودرس بمدرستها إلى أن توفي في هذه السنة
علي بن محمد
ابن علي بن عماد الدين أبو الحسن الطبري ويعرف بالكيا الهراسي أحد الفقهاء الكبار من رؤس الشافعية ولد سنة خمسين وأربعمائة واشتغل على إمام الحرمين وكان هو والغزالي أكبر التلامذة وقد ولي كل منهما تدريس النظامية ببغداد وقد كان أبو الحسن هذا فصيحا جهوري الصوت جميلا وكان يكرر لعن إبليس على كل مرقاة من مراقي النظامية بنيسابور سبع مرات وكانت المراقي سبعين مرقاة وقد سمع الحديث الكثير وناظر وأفتى ودرس وكان من أكابر الفضلاء وسادات الفقهاء وله كتاب يرد فيه على ما انفرد به الإمام أحمد بن حنبل في مجلد وله غيره من المصنفات وقد اتهم في وقت بأنه يمالئ الباطنية فنزع منه التدريس ثم شهد جماعة من العلماء ببراءته من ذلك منهم ابن عقيل فأعيد إليه توفي في يوم الخميس مستهل محرم من هذه السنة عن أربع وخمسين سنة (12/172)
دفن إلى جانب الشيخ أبي إسحاق الشيرازي وذكر ابن خلكان أنه كان يحفظ الحديث ويناظر به وهو القائل إذا جالت فرسان الأحاديث في ميادين الكفاح طارت رؤس المقاييس في مهاب الرياح وحكى السلفي عنه أنه استفتى في كتبة الحديث هل يدخلون في الوصية للفقهاء فأجاب نعم لقوله ( ص ) ( من حفظ على أمتي أربعين حديثا بعثه الله عالما ) واستفتى في يزيد بن معاوية فذكر عنه تلاعبا وفسقا وجوز شتمه وأما الغزالي فإنه خالف في ذلك ومنع من شتمه ولعنه لأنه مسلم ولم يثبت بأنه رضي بقتل الحسين ولو ثبت لم يكن ذلك مسوغا للعنه لان القاتل لا يلعن لا سيما وباب التوبة مفتوح الذي يقبل التوبة عن عباده غفور رحيم قال الغزالي وأما الترحم عليه فجائز بل مستحب بل نحن نترحم عليه في جملة المسلمين والمؤمنين عموما في الصلوات ذكره ابن خلكان مبسوطا بلفظه في ترجمة الكيا هذا قال والكيا كبير القدر مقدم معظم والله أعلم
ثم دخلت سنة خمس وخمسمائة
فيها بعث السلطان غياث الدين جيشا كثيفا صحبة الأمير مودود بن زنكي صاحب الموصل في جملة أمراء ونواب منهم سكمان القطبي صاحب تبريز وأحمديل صاحب مراغة والأمير إيلغازي صاحب ماردين وعلى الجميع الأمير مودود صاحب الموصل لقتال الفرنج بالشام فانتزعوا من أيدي الفرنج حصونا كثيرة وقتلوا منهم خلقا كثيرا ولله الحمد ولما دخلوا دمشق دخل الأمير مودود إلى جامعها ليصلي فيه فجاءه باطني في زي سائل فطلب منه شيئا فأعطاه فلما اقترب منه ضربه في فؤاده فمات من ساعته ووجد رجل أعمى في سطح الجامع ببغداد معه سكين مسموم فقيل إنه كان يريد قتل الخليفة وفيها ولد للخليفة من بنت السلطان ولد فضربت الدبادب والبوقات ومات له ولد وهكذا الدنيا فرضي بوفاته وجلس الوزير للهناء والعزاء وفي رمضان عزل الوزير أحمد بن النظام وكانت مدة وزارته أربع سنين وإحدى عشر شهرا وفيها حاصرت الفرنج مدينة صور وكانت بأيدي المصريين عليها عز الملك الأعز من جهتهم فقاتلهم قتالا شديدا ومنعها منعا جيدا حتى فنى ما عنده من النشاب والعدد فأمده طغتكين صاحب دمشق وأرسل إليه العدد والآلات فقوي جأشه وترحلت عنه الفرنج في شوال منها وحج بالناس أمير الجيوش قطز الخادم وكانت سنة مخصبة مرخصة وممن توفي فيها من الأعيان أبو حامد الغزالي
محمد بن محمد بن محمد
أبو حامد الغزالي ولد سنة خمسين وأربعمائة وتفقه على إمام الحرمين وبرع في علوم كثيرة وله مصنفات منتشرة في فنون متعددة فكان من أذكياء العالم في كل ما يتكلم فيه وساد في (12/173)
شبيبته حتى أنه درس بالنظامية ببغداد في سنة أربع وثمانين وله أربع وثلاثون سنة فحضر عنده رؤس العلماء وكان ممن حضر عنده أبو الخطاب وابن عقيل وهما من رؤس الحنابلة فتعجبوا من فصاحته وأطلاعه قال ابن الجوزي وكتبوا كلامه في مصنفاتهم ثم إنه خرج عن الدنيا بالكلية وأقبل على العبادة وأعمال الآخرة وكان يرتزق من النسخ ورحل إلى الشام فأقام بها بدمشق وبيت المقدس مدة وصنف في هذه المدة كتابه إحياء علوم الدين وهو كتاب عجيب ويشتمل على علوم كثيرة من الشرعيات وممزوج بأشياء لطيفة من التصوف وأعمال القلوب لكن فيه أحاديث كثيرة وغرائب ومنكرات وموضوعات كما يوجد في غيره من كتب الفروع التي يستدل بها على الحلال والحرام فالكتاب الموضوع للرقائق والترغيب والترهيب أسهل أمرا من غيره وقد شنع عليه أبو الفرج ابن الجوزي ثم ابن الصلاح في ذلك تشنيعا كثيرا وأراد المازري أن يحرق كتابه إحياء علوم الدين وكذلك غيره من المغاربة وقالوا هذا كتاب إحياء علوم دينه وأما ديننا فإحياء علومه كتاب الله وسنة رسوله كما قد حكيت ذلك في ترجمته في الطبقات وقد زيف ابن شكر مواضع إحياء علوم الدين وبين زيفها في مصنف مفيد وقد كان الغزالي يقول أنا مزجي البضاعة في الحديث ويقال إنه مال آخر عمره إلى سماع الحديث والتحفظ للصحيحين وقد صنف ابن الجوزي كتابا على الأحياء وسماه علوم الأحيا بأغاليط الأحيا قال ابن الجوزي ثم ألزمه بعض الوزراء بالخروج إلى نيسابور فدرس بنظاميتها ثم عاد إلى بلده طوس فأقام بها وابتنى رباطا واتخذ دارا حسنة وغرس فيها بستانا أنيقا وأقبل على تلاوة القرآن وحفظ الأحاديث الصحاح وكانت وفاته في يوم الإثنين الرابع عشر من جمادى الآخرة من هذه السنة ودفن بطوس رحمه الله تعالى وقد سأله بعض أصحابه وهو في السياق فقال أوصني فقال عليك بالإخلاص ولم يزل يكررها حتى مات رحمه الله
ثم دخلت سنة ست وخمسمائة
في جمادى الآخرة منها جلس ابن الطبري مدرسا بالنظامية وعزل عنها الشاشي وفيها دخل الشيخ الصالح أحد العباد يوسف بن داود إلى بغداد فوعظ الناس وكان له القبول التام وكان شافعيا تفقه بالشيخ أبي إسحاق الشيرازي ثم أشتغل بالعبادة والزهادة وكانت له أحوال صالحة جاراه رجل مرة يقال له ابن السقافي مسألة فقال له أسكت فإني أجد من كلامك رائحة الكفر ولعلك أن تموت على غير دين الإسلام فاتفق بعد حين انه خرج ابن السقا إلى بلاد الروم في حاجة فتنصر هناك فإنا لله وإنا إليه راجعون وقام إليه مرة وهو يعظ الناس ابنا أبي بكر الشاشي فقالا له إن كنت تتكلم على مذهب الأشعري وإلا فاسكت فقال لا متعتما بشبابكما فماتا شابين ولم يبلغا سن الكهولة وحج بالناس فيها أمير الجيوش بطز الخادم ونالهم عطش (12/174)
وممن توفي فيها من الأعيان
صاعد بن منصور
ابن إسماعيل بن صاعد أبو العلاء الخطيب النيسابوري سمع الحديث الكثير وولي الخطابة بعد أبيه والتدريس والتذكير وكان أبو المعالي الجويني يثني عليه وقد ولي قضاء خوارزم
محمد بن موسى بن عبد الله
أبو عبد الله البلاساعوني التركي الحنفي ويعرف باللامشي وأورد عنه الحافظ ابن عساكر حديثا وذكر أنه ولي قضاء بيت المقدس فشكوا منه فعزل عنها ثم ولي قضاء دمشق وكان غاليا في مذهب أبي حنيفة وهو الذي رتب الإقامة مثنى قال إلى أن أزال الله ذلك بدولة الملك صلاح الدين قال وكان قد عزم على نصب إمام حنفي بالجامع فامتنع أهل دمشق من ذلك وامتنعوا من الصلاة خلفه وصلوا بأجمعهم في دار الخيل وهي التي قبل الجامع مكان المدرسة إلأرمينية وما يجاورها وحدها الطرقات الأربعة وكان يقول لو كانت لي الولاية لأخذت من أصحاب الشافعي الجزية وكان مبغضا لأصحاب مالك أيضا قال ولم تكن سيرته في القضاء محمودة وكانت وفاته يوم الجمعة الثالث عشر من جمادى الآخرة منها قال وقد شهدت جنازته وأنا صغير في الجامع
المعمر بن المعمر
أبو سعد بن أبي عمار الواعظ كان فصيحا بليغا ماجنا ظريفا ذكيا له كلمات في الوعظ حسنة ورسائل مسموعة مستحسنة توفي في ربيع الأول منها ودفن بباب حرب
أبو على المعري
كان عابدا زاهدا يتقوت بأدنى شيء ثم عن له أن يشتغل بعلم الكيمياء فأخذ إلى دار الخلافة فلم يظهر له خبر بعد ذلك نزهة أم ولد الخليفة المستظهر بالله كانت سوداء محتشمة كريمة النفس توفيت يوم الجمعة ثاني عشر شوال منها
أبو سعد السمعاني
منصف الأنساب وغيره وهو تاج الإسلام عبد الكريم بن محمد بن أبي المظفر المنصور عبد الجبار السمعاني المروزى الفقيه الشافعي الحافظ المحدث قوام الدين أحد الأئمة المصنفين رحل وسمع الكثير حتى كتب عن أربعة آلاف شيخ وصنف التفسير والتاريخ والأنساب والذيل على تاريخ الخطيب البغدادي وذكر له ابن خلكان مصنفات عديدة جدا منها كتابه الذي جمع فيه ألف حديث عن مائة شيخ وتكلم عليها إسنادا ومتنا وهو مفيد جدا رحمه الله
ثم دخلت سنة سبع وخمسمائة
فيها كانت وقعة عظيمة بين المسلمين والفرنج في أرض طبرية كان فيها ملك دمشق الأتابك (12/175)
طغتكين ومعه صاحب سنجار وصاحب ماردين وصاحب الموصل فهزموا الفرنج هزيمة فاضحة وقتلوا منهم خلقا كثيرا وغنموا منهم أموالا جزيلة وملكوا تلك النواحي كلها ولله الحمد والمنة ثم رجعوا إلى دمشق فذكر ابن الساعي في تاريخه مقتل الملك مودود صاحب الموصل في هذه السنة قال صلى هو والملك طغتكين يوم الجمعة بالجامع ثم خرجا إلى الصحن ويد كل واحد منهما في يد الآخر فطفر باطني على مودود فقتله رحمه الله فيقال إن طغتكين هو الذي مالأ عليه فالله أعلم وجاء كتاب من الفرنج إلى المسلمين وفيه أن أمة قتلت عميدها في يوم عيدها في بيت معبودها لحقيق على الله أن يبيدها وفيها ملك حلب ألب أرسلان بن رضوان بن تتش بعد أبيه وقام بأمر سلطنته لؤلؤ الخادم فلم يبق معه سوى الرسم وفيها فتح المارستان الذي أنشأه كمشتكين الخادم ببغداد وحج بالناس زنكي بن برشق وممن توفي فيها من الأعيان
إسماعيل بن الحافظ أبي بكر بن الحسين البيهقي
سمع الكثير ونقل في البلاد ودرس بمدينة خوارزم وكان فاضلا من أهل الحديث مرضي الطريقة وكانت وفاته ببلده بيهق في هذه السنة
شجاع بن أبي شجاع
فارس بن الحسين بن فارس أبو غالب الذهلي الحافظ سمع الكثير وكان فاضلا في هذا الشأن وشرع في تتميم تاريخ الخطيب ثم غسله وكان يكثر من الإستغفار والتوبة لأنه كتب شعر ابن الحجاج سبع مرات توفي في هذا العام عن سبع وسبعين سنة
محمد بن أحمد
ابن محمد بن أحمد بن إسحاق بن الحسين بن منصور بن معاوية بن محمد بن عثمان بن عتبة بن عبسة بن معاوية بن أبي سفيان بن صخر بن حرب الأموي أبو المظفر بن أبي العباس الأبيوردي الشاعر كان عالما باللغة والأنساب سمع الكثير وصنف تاريخ أبي ورد وأنساب العرب وله كتاب في المؤتلف والمختلف وغير ذلك وكان ينسب إلى الكبر والتيه الزائد حتى كان يدعو في صلاته اللهم ملكني مشارق الأرض ومغاربها وكتب مرة إلى الخليفة الخادم المعاوي فكشط الخليفة الميم فبقت العاوي ومن شعره قوله ... تنكر لي دهري ولم يدر أنني ... أعز وأحداث الزمان تهون ... وظل يريني الدهر كيف اغتراره ... وبت أريه الصبر كيف يكون ...
محمد بن طاهر
ابن علي بن أحمد أبو الفضل المقدسي الحافظ ولد سنة ثمان وأربعين وأربعمائة وأول سماعه (12/176)
سنة ستين وسافر في طلب الحديث إلى بلاد كثيرة وسمع كثيرا وكان له معرفة جيدة بهذه الصناعة وصنف كتبا مفيدة غير أنه صنف كتابا في إباحة السماع وفي التصوف وساق فيه أحاديث منكرة جدا وأورد أحاديث صحيحة في غيره وقد أثنى على حفظه غير واحد من الأئمة وذكر ابن الجوزي في كتابه هذا الذي سماه ( صفة التصوف ) وقال عنه يضحك منه من رآه قال وكان داودي المذهب فمن أثنى عليه أثنى لأجل حفظه للحديث وإلا فما يجرح به أولى قال وذكره أبو سعد السمعاني وانتصر له بغير حجة بعد أن قال سألت عنه شيخنا إسماعيل بن أحمد الطلحي فأكثر الثناء عليه وكان سيء الرأي فيه قال وسمعنا أبا الفضل بن ناصر يقول محمد بن طاهر لا يحتج به صنف في جواز النظر إلى المرد وكان يذهب مذهب الإباحية ثم أورد له من شعره قوله في هذه الأبيات ... دع التصوف والزهد الذي أشتغلت ... به خوارج اقوام من الناس ... وعج على دير داريا فإن به الره ... بان ما بين قسيس وشماس ... واشرب معتقة من كف كافرة ... تسقيك خمرين من لحظ ومن كاس ... ثم استمع رنة الأوتار من رشأ ... مهفهف طرفه امضى من الماس ... غني بشعر امرئ في الناس مشتهر ... مدون عندهم في صدر قرطاس ... لولا نسيم بدا منكم يروحني ... لكنت محترقا من حر أنفاسي ... ثم قال السمعاني لعله قد تاب من هذا كله قال ابن الجوزي وهذا غير مرضي أن يذكر جرح الأئمة له ثم يعتذر عن ذلك باحتمال توبته وقد ذكر ابن الجوزي أنه لما احتضر جعل يردد هذه البيت ... وما كنتم تعرفون الجفا ... فممن نرى قد تعلمتم ...
ثم كانت وفاته بالجانب الغربي من بغداد في ربيع الأول منها
أبو بكر الشاشي
صاحب المستظهري محمد بن أحمد بن الحسين الشاشي أحد أئمة الشافعة في زمانه ولد في المحرم سنة سبع وعشرين وأربعمائة سمع الحديث على أبي يعلى بن الفراء وأبي بكر الخطيب وأبي إسحاق الشيرازي وتفقه عليه وعلى غيره وقرأ الشامل على مصنفه ابن الصباغ واختصره في كتابه الذي جمعه للمستظهر بالله وسماه حلية العلماء بمعرفة مذاهب الفقهاء ويعرف بالمستظهري وقد درس بالنظامية ببغداد ثم عزل عنها وكان ينشد
... تعلم يا فتى والعود غض ... وطينك لين والطبع قابل ... فحسبك يا فتى شرفا وفخرا ... سكوت الحاضرين وأنت قائل (12/177)
توفي سحر يوم السبت السادس عشر من شوال منها ودفن إلى جانب أبي إسحاق الشيرازي بباب إبرز المؤتمن بن أحمد
ابن علي بن الحسين بن عبيد الله أبو نصر الساجي المقدسي سمع الحديث الكثير وخرج وكان صحيح النقل حسن الخط مشكور السيرة لطيفا أشتغل في الفقه على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي مدة ورحل إلى أصبهان وغيرها وهو معدود من جملة الحفاظ لا سيما للمتون وقد تكلم فيه ابن طاهر قال ابن الجوزي وهو أحق منه ذلك وأين الثريا من الثرى توفي المؤتمن يوم السبت ثاني عشر صفر منها ودفن بباب حرب والله أعلم
ثم دخلت سنة ثمان وخمسمائة
فيها وقع حريق عظيم ببغداد وفيها كانت زلزلة هائلة بأرض الجزيرة هدمت منها ثلاثة عشر برجا ومن الرها بيوتا كثيرة وبعض دور خراسان ودورا كثيرة في بلاد شتى فهلك من أهلها نحو من مائة ألف وخسف بنصف قلعة حران وسلم نصفها وخسف بمدينة سميساط وهلك تحت الردم خلق كثير وفيها قتل صاحب حلب تاج الدولة ألب أرسلان بن رضوان بن تتش قتله غلمانه وقام من بعده أخوه السلطان شاه بن رضوان وفيها ملك السلطان سنجر بن ملكشاه بلاد غزنة وخطب له بها بعد مقاتلة عظيمة وأخذ منها أموالا كثيرة لم يرى مثلها من ذلك خمس تيجان قيمة كل تاج منها ألف ألف دينار وسبعة عشر سريرا من ذهب وفضة وألف وثلاثمائة قطعة مصاغ مرصعة فأقام بها أربعين يوما وقرر في ملكها بهرام شاه رجل من بيت سبكتكين ولم يخطب بها لأحد من السلجوقية غير سنجر هذا وإنما كان لها ملوك سادة أهل جهاد وسنة لا يجسر أحد من الملوك عليهم ولا يطيق أحد مقاومتهم وهم بنو سبكتكين وفيها ولي السلطان محمد الأمير اقسنقر البرسقي الموصل وأعمالها وأمره بمقاتلة الفرنج فقاتلهم في أواخر هذه السنة فأخذ منهم الرها وحريمها وبروج وسميساط ونهب ماردين وأسر ابن ملكها إياز إيلغازي فأرسل السلطان محمد إليه من يتهدده ففر منه إلى طغتكين صاحب دمشق فاتفقا على عصيان السلطان محمد فجرت بينهما وبين نائب حمص قرجان بن قراجة حروب كثيرة ثم اصطلحوا وفيها ملكت زوجة مرعش الإفرنجية بعد وفاة زوجها لعنهما الله وحج بالناس فيها أمير الجيوش أبو الخير يمن الخادم وشكر الناس حجهم معه
ثم دخلت سنة تسع وخمسمائة فيها جهز السلطان غياث الدين محمد بن ملكشاه صاحب العراق جيشا كثيفا مع الأمير برشق بن إيلغازي صاحب ماردين إلى صاحب دمشق طغتكين وإلى اقسنقر البرشقي ليقاتلهما لأجل (12/178)
عصيانهما عليه وقطع خطبته وإذا فرغ منهما عمد لقتال الفرنج فلما اقترب الجيش من بلاد الشام هربا منه وتحيزا إلى الفرنج وجاء الأمير برشق إلى كفرطاب ففتحها عنوة وأخذ ما كان فيها من النساء والذرية وجاء صاحب إنطاكية روجيل في خمسمائة فارس وألفي راجل فكبس المسلمين فقتل منهم خلقا كثيرا وأخذ أموالا جزيلة وهرب برشق في طائفة قليلة وتمزق الجيش الذي كان معه شذر مذر فإنا لله وإنا إليه راجعون وفي ذي القعدة منها قدم السلطان محمد إلى بغداد وجاء إليه طغتكين صاحب دمشق معتذرا إليه فخلع عليه ورضي عنه ورده إلى عمله وفيها توفي من الأعيان إسماعيل بن محمد
ابن أحمد بن علي أبو عثمان الأصبهاني أحد الرحالين في طلب الحديث وقد وعظ في جامع المنصور ثلاثين مجلسا واستملى عليه محمد بن ناصر وتوفي بأصبهان
منجب بن عبدالله المستظهري
أبو الحسن الخادم كان كثير العبادة وقد أثنى عليه محمد بن ناصر قال وقف على أصحاب الحديث وقفا
عبدالله بن المبارك
ابن موسى أبو البركات السقطي سمع الكثير ورحل فيه وكان فاضلا عارفا باللغة ودفن بباب حرب
يحيى بن تميم بن المعز بن باديس
صاحب إفريقية كان من خيار الملوك عارفا حسن السيرة محبا للفقراء والعلماء وله عليهم أرزاق مات وله اثنتان وخمسون سنة وترك ثلاثين ولدا وقام بالأمر من بعده ولده علي
ثم دخلت سنة عشر وخمسمائة
فيها وقع حريق ببغداد احترقت فيه دور كثيرة منها دار نور الهدى الزينبي ورباط نهر زور ودار كتب النظامية وسلمت الكتب لأن الفقهاء نقلوها وفيها قتل صاحب مراغة في مجلس السلطان محمد قتله الباطنية وفي يوم عاشوراء وقعت فتنة عظيمة بين الروافض والسنة بمشهد على ابن موسى الرضا بمدينة طوس فقتل فيها خلق كثير وفيها سار السلطان إلى فارس بعد موت نائبها خوفا عليها من صاحب كرمان وحج بالناس بطز الخادم وكانت سنة مخصبة آمنة ولله الحمد وممن توفي فيها من الأعيان
عقيل بن الإمام أبي الوفا
علي بن عقيل الحنبلي كان شابا قد برع وحفظ القرآن وكتب وفهم المعاني جيدا ولما توفي صبر أبوه وشكر وأظهر التجلد فقرأ قارئ في العزاء
قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا الآية فبكى ابن عقيل بكاء شديدا (12/179)
علي بن أحمد بن محمد
ابن الرزاز آخر من حدث عن ابن مخلد بجزء الحسن بن عرفة وتفرد بأشياء غيره توفي فيها عن سبع وتسعين
محمد بن منصور
ابن محمد بن عبد الجبار أبو بكر السمعاني سمع الكثير وحدث ووعظ بالنظامية ببغداد وأملى بمرو مائة وأربعين مجلسا وكانت له معرفة تامة بالحديث وكان أديبا شاعرا فاضلا له قبول عظيم في القلوب توفي بمرو عن ثلاث وأربعين سنة
محمد بن أحمد بن طاهر
ابن أحمد بن منصور الخازن فقيه الإمامية ومفتيهم بالكرخ وقد سمع الحديث من التنوخي وابن غيلان توفي في رمضان منها
محمد بن علي بن محمد
أبو بكر النسوي الفقيه الشافعي سمع الحديث وكانت إليه تزكية الشهود ببغداد وكان فاضلا أديبا ورعا
محفوظ بن أحمد
ابن الحسن أبو الخطاب الكلوذاني أحد أئمة الحنابلة ومصنفيهم سمع الكثير وتفقه بالقاضي أبي يعلى وقرأ الفرائض على الوني ودرس وأفتى وناظر وصنف في الأصول والفروع وله شعر حسن وجمع قصيدة يذكر فيها اعتقاده ومذهبه يقول فيها ... دع عنك تذكار الخليط المتحد ... والشوق نحو الآنسات الخرد ... والنوح في تذكار سعدي إنما ... تذكار سعدي شغل من لم يسعد ... واسمع معاني إن اردت تخلصا ... يوم الحساب وخذ بقولي تهتدي ...
وذكر تمامها وهي طويلة كانت وفاته في جمادى الآخرة من هذه السنة عن ثمان وسبعين سنة وصلي عليه بجامع القصر وجامع المنصور ودفن بالقرب من الإمام أحمد
ثم دخلت سنة إحدى عشرة وخمسمائة في رابع صفر منها انكسف القمر كسوفا كليا وفي تلك الليلة هجم الفرنج على ربض حماه فقتلوا خلقا كثيرا ورجعوا إلى بلادهم وفيها كانت زلزلة عظيمة ببغداد سقط منها دور كثيرة بالجانب الغربي وغلت الغلات بها جدا وفيها قتل لؤلؤ الخادم الذي كان استحوذ على مملكة حلب بعد موت أستاذه رضوان بن تتش قتله جماعة من الأتراك وكان قد خرج من حلب متوجها إلى جعبر فنادى جامعة من مماليكه وغيرهم أرنب أرنب فرموه بالنشاب موهمين أنهم يصيدون أرنبا فقتلوه وفيها كان وفاة غياث الدين السلطان محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن (12/180)
سلجوق سلطان بلاد العراق وخراسان وغير ذلك من البلاد الشاسعة والأقاليم الواسعة كان من خيار الملوك واحسنهم سيرة عادلا رحيما سهل الأخلاق محمود العشرة ولما حضرته الوفاة استدعى ولده محمود وضمه إليه وبكى كل منهما ثم أمره بالجلوس على سرير المملكة وعمره إذ ذاك أربعة عشر سنة فجلس وعليه التاج والسواران وحكم ولما توفي أبوه صرف الخزائن إلى العساكر وكان فيها إحدى عشر ألف ألف دينار واستقر الملك له وخطب له ببغداد وغيرها من البلاد ومات السلطان محمد عن تسع وثلاثين سنة وأربعة أشهر وأياما وفيها ولد الملك العادل نور الدين محمود بن زنكى بن آقسنقر صاحب حلب بدمشق ممن توفى فيها من الأعيان القاضي المرتضى
أبو محمد عبدالله بن القاسم بن ا المظفر بن علي بن القاسم الشهرزورى والد القاضى جمال الدين عبدالله الشهرزورى قاضي دمشق في أيام نور الدين اشتغل ببغداد وتفقه بها وكان الشافعى المذهب بارعا دينا حسن النظم وله قصيدة في علم التصوف وكان يتكلم على القلوب أورد قصيدته بتمامها ابن خلكان لحسنها وفصاحتها وأولها
... لمعت نارهم وقد عسعس اللي ... ل السلطان ومل الحادي وحار الدليل ... فتأملتها وفكري من البي ... ن عليل ولحظ عيني كليل ... وفؤادي ذاك الفؤاد المعني ... وغراى ذاك والغرام الدخيل ... وله ... ياليل ما جئتكم زائرا ... إلا وجدت الأرض تطوى لي ... ولا ثنيت العزم عن بابكم ... إلا تعثرت بأذيالي ... وله ... يا قلب إلى متى لا يفيد النصح ... دع مزحك كم جنى عليك المزح ... ما جارحة منك غذاها جرح ... ما تشعر با لخمار حتى تصحو ...
توفي في هذه السنة قال ابن خلكان وزعم عماد الدين في الخريدة أنه توفي بعد العشرين وخمسمائة فالله أعلم
محمد بن سعد
ابن نبهان أبو علي الكاتب سمع الحديث وروى وعمر مائة سنة وتغير قبل موته وله شعر حسن فمنه قوله في قصيدة له
... لي رزق قدره الله ... نعم ورزق أتوقاه ... حتى إذا استوفيت منه ... الذي قدر لي لا أتعداه ... قال كرام كنت أغشاهم ... في مجلس كنت أغشاه ... صار ابن نبهان إلى ربه ... يرحمنا الله وإياه (12/181)
أمير الحاج
يمن بن عبد الله أبو الخير المستظهر كان جوادا كريما ممدحا ذا رأي وفطنة ثاقبة وقد سمع الحديث من أبي عبد الله الحسين بن طلحة النعالي بإفادة أبي نصر الأصبهاني وكان يؤم به في الصلوات ولما قدم رسولا إلى أصبهان حدث بها توفي في ربيع الآخر من هذه السنة ودفن بأصبهان
ثم دخلت سنة إثنتي عشرة وخمسمائة
فيها خطب للسلطان محمد بن ملكشاه بأمر الخليفة المستظهر بالله وفيها سأل دبيس بن صدقة الأسدي من السلطان محمود أن يرده إلى الحلة وغيرها مما كان أبوه يتولاه من الأعمال فأجابه إلى ذلك فعظم وارتفع شأنه
وفاة الخليفة المستظهر بالله
هو أبو العباس أحمد بن المقتدي كان خيرا فاضلا ذكيا بارعا كتب الخط المنسوب وكانت أيامه ببغداد كأنها الأعياد وكان راغبا في البر والخير مسارعا إلى ذلك لا يرد سائلا وكان جميل العشرة لا يصغي إلى أقوال الوشاة من الناس ولا يثق بالمباشرين وقد ضبط أمور الخلافة جيدا وأحكمها وعلمها وكان لديه علم كثير وله شعر حسن قد ذكرناه أولا عند ذكر خلافته وقد ولي غسله ابن عقيل وابن السني وصلى عليه ولده أبو منصور الفضل وكبر أربعا ودفن في حجرة كان يسكنها ومن العجب انه لما مات السلطان الب ارسلان مات بعده الخليفة القائم ثم لما مات السلطان ملكشاة مات بعد المقتدى ثم لما مات السلطان محمد مات بعده المستظهر هذا في سادس عشر ربيع الآخر وله من العمر إحدى واربعون سنة وثلاثة أشهر وإحدى عشر يوما
خلافة المسترشد أمير المؤمنين أبو منصور الفضل بن المستظهر لما توفي أبوه كما ذكرنا بويع له بالخلافة وخطب له على المنابر وقد كان ولي العهد من بعده مدة ثلاث وعشرين سنة وكان الذي أخذ البيعة له قاضي القضاة أبو الحسن الدامغاني ولما استقرت البيعة له هرب أخوه أبو الحسن في سفينة ومعه ثلاثة نفر وقصد دبيس بن صدقة بن منصور بن دبيس بن علي بن مزيد الأسدي بالحلة فأكرمه وأحسن إليه فقلق أخوه الخليفة المسترشد من ذلك فراسل دبيسا في ذلك مع نقيب النقباء الزينبي فهرب أخو الخليفة من دبيس فأرسل إليه جيشا فألجأوه إلى البرية فلحقه عطش شديد فلقيه بدويان فسقياه ماء وحملاه إلى بغداد فاحضره أخوه إليه فأعتنقا وتباكيا وأنزله الخليفة دارا كان يسكنها قبل الخلافة وأحسن إليه وطيب نفسه وكانت مدة غيبته عن بغداد إحدى عشر شهرا وأستقرت الخلافة بلا منازعة للمسترشد وفيها كان غلاء شديد ببغداد وانقطع الغيث وعدمت الأقوات وتفاقم أمر (12/182)
العيارين ببغداد ونهبوا الدور نهارا جهارا ولم يستطع الشرط دفع ذلك الخادم وممن توفي فيها من الأعيان الخليفة المستظهر
كما تقدم ثم توفيت بعده جدته أم أبيه المقتدي
أرجوان الأرمنية
وتدعى قرة العين كان لها بر كثير ومعروف وقد حجت ثلاث حجات وأدركت خلافة ابنها المقتدي وخلافة ابنه المسترشد ورأت للمسترشد ولدا
بكر بن محمد بن علي
ابن الفضل أبو الفضل الأنصاري روى الحديث وكان يضرب به المثل في مذهب أبي حنيفة وتفقه على عبد العزيز بن محمد الحلواني وكان يذكر الدروس من أي موضع سئل من غير مطالعة ولا مراجعة وربما كان في ابتداء طلبه يكرر المسألة أربعمائة مرة توفي في شعبان منها
الحسين بن محمد بن عبد الوهاب
الزينبي قرأ القرآن وسمع الحديث وتفقه على أبي عبد الله الدامغاني فبرع وأفتى ودرس بمشهد أبي حنيفة ونظر في أوقافها وانتهت إليه رياسة مذهب أبي حنيفة ولقب نور الهدى وسار في الرسلية إلى الملوك وولي نقابة الطالبيين والعباسيين ثم استعفى بعد شهور فتولاها أخوه طراد توفي يوم الإثنين الحادي عشر من صفر وله من العمر ثنتان وتسعون سنة وصلى عليه ابنه أبو القاسم علي وحضرت جنازته الأعيان والعلماء ودفن عند قبر أبي حنيفة داخل القبة
يوسف بن أحمد أبو طاهر
ويعرف بابن الجزري صاحب المخزن في أيام المستظهر وكان لا يوفي المسترشد حقه من التعظيم وهو ولي العهد فلما صارت إليه الخلافة صادره بمائة ألف دينار ثم استقر غلاما له فأومأ إلى بيت فوجد فيه أربعمائة ألف دينار فأخذها الخليفة ثم كانت وفاته بعد هذا بقليل بهذا العام
أبو الفضل بن الخازن
كان أديبا لطيفا شاعرا فاضلا فمن شعره قوله
... وافيت منزله فلم أر صاحبا ... إلا تلقاني بوجه ضاحك ... والبشر في وجه الغلام نتيجة ... لمقدمات ضياء وجه المالك ... ودخلت جنته وزرت جحيمه ... فشكرت رضوانا ورأفة مالك (12/183)
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وخمسمائة
فيها كانت الحروب الشديدة بين السلطان محمود بن محمد وبين عمه السلطان سنجر بن ملكشاه وكان النصر فيها لسنجر فخطب له ببغداد في سادس عشر جمادي الأولى من هذه السنة وقطعت خطبة ابن أخيه في سائر اعماله وفيها سارت الفرنج إلى مدينة حلب ففتحوها عنوة وملكوها وقتلوا من أهلها خلقا فسار إليهم صاحب ماردين إيلغازي بن ارتق في جيش كثيف فهزمهم ولحقهم إلى جبل قد تحصنوا به فقتل منهم هنالك مقتلة عظيمة ولله الحمد ولم يفلت منهم إلا اليسير وأسر من مقدميهم نيفا وتسعين رجلا وقتل فيمن قتل سيرجال صاحب إنطاكية وحمل رأسه إلى بغداد فقال بعض الشعراء في ذلك وقد بالغ مبالغة فاحشة ... قل ما تشاء فقولك المقبول ... وعليك بعد الخالق التعويل ... واستبشر القرآن حين نصرته ... وبكي لفقد رجاله الانجيل ... وفيها قتل الأمير منكوبرس الذي كان شحنة بغداد وكان ظالما غاشما سئ السيرة قتله السلطان محمود بن محمد صبرا بين يديه لأمور منها أنه تزوج سرية أبيه قبل انقضاء عدتها ونعم ما فعل وقد اراح الله المسلمين منه ما كان أظلمه واغشمه وفيها تولى قضاء قضاة بغداد الأكمل أبو القاسم ابن علي بن أبي طالب بن محمد الزينبي وخلع عليه بعد موت أبي الحسن الدامغاني وفيها ظهر قبر إبراهيم الخليل عليه السلام وقبر ولديه إسحاق ويعقوب وشاهد ذلك الناس ولم تبل أجسادهم وعندهم قناديل من ذهب وفضة ذكر ذلك ابن الخازن في تاريخه وأطال نقله من المنتظم لابن الجوزي والله أعلم وممن توفي فيها من الأعيان
ابن عقيل
على بن عقيل بن محمد أبو الوفا شيخ الحنابلة ببغداد وصاحب الفنون وغيرها من التصانيف المفيدة ولد سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة وقرأ القرآن على ابن سبطا وسمع الحديث الكثير وتفقه بالقاضي أبي يعلى بن الفراء وقرأ الأدب على ابن برهان والفرائض على عبد الملك الهمداني والوعظ على أبي طاهر بن العلاف صاحب ابن سمعون والأصول على أبي الوليد المعتزلي وكان يجتمع بجميع العلماء من كل مذهب فربما لامه بعض أصحابه فلا يلوي عليهم فلهذا برز على أقرانه وساد أهل زمانه في فنون كثيرة مع صيانة وديانة وحسن صورة وكثرة اشتغال وقد وعظ في بعض الأحيان فوقعت فتنة فترك ذلك وقد متعه الله بجميع حواسه إلى حين موته توفي بكرة الجمعة ثاني جمادى الأولى من هذه السنة وقد جاوز الثمانين وكانت جنازته حافلة جدا ودفن قريبا من قبر الإمام أحمد إلى جانب الخادم مخلص رحمه الله (12/184)
أبو الحسن علي بن محمد الدامغاني
قاضي القضاة ابن قاضي القضاة ولد في رجب سنة ست وأربعين وأربعمائة وولي القضاء بباب الطاق من بغداد وله من العمر ست وعشرون سنة ولا يعرف حاكم قضى لأربعة من الخلفاء غيره إلا شريح ثم ذكر إمامته وديانته وصيانته مما يدل على نخوته وتفوقه وقوته تولى الحكم أربعا وعشرين سنة وستة أشهر وقبره عند مشهد أبي حنيفة
المبارك بن علي
ابن الحسين أبو سعد المخرمي سمع الحديث وتفقه على مذهب أحمد وناظر وأفتى ودرس وجمع كتبا كثيرة لم يسبق إلى مثلها وناب في القضاء وكان حسن السيرة جميل الطريق سديد الأقضية وقد بنى مدرسة بباب الأزج وهي المنسوبة إلى الشيخ عبدالقادر الجيلي الحنبلي ثم عزل عن القضاء وصودر بأموال جزيلة وذلك في سنة إحدى عشرة وخمسمائة وتوفي في المحرم من هذه السنة ودفن إلى جانب أبي بكر الخلال عند قبر أحمد
ثم دخلت سنة أربع عشرة وخمسمائة
في النصف من ربيع الأول منها كانت وقعة عظيمة بين الأخوين السلطان محمود ومسعود ابني محمد بن ملكشاه عند عقبة اسداباذ فانهزم عسكر مسعود وأسر وزيره الأستاذ أبو إسماعيل وجماعة من أمرائه فأمر السلطان محمود بقتل الوزير أبي إسماعيل فقتل وله نيف وستون سنة وله تصانيف في صناعة الكيمياء ثم أرسل إلى أخيه مسعود الأمان واستقدمه عليه فلما التقيا بكيا واصطلحا وفيها نهب دبيس صاحب الحلة البلاد وركب بنفسه إلى بغداد ونصب خيمته بإزاء دار الخلافة وأظهر ما في نفسه من الضغائن وذكر كيف طيف برأس أبيه في البلاد وتهدد المسترشد فأرسل إليه الخليفة يسكن جأشه ويعده أنه سيصلح بينه وبين السلطان محمود فلما قدم السلطان محمود بغداد أرسل دبيس يستأمن فأمنه وأجراه على عادته ثم إنه نهب جسرالسلطان فركب بنفسه السلطان لقتاله واستصحب معه ألف سفينة ليعبر فيها فهرب دبيس والتجأ إلى إيلغازي فأقام عنده سنة ثم عاد إلى الحلة وأرسل إلى الخليفة والسلطان يعتذر اليهما مما كان منه فلم يقبلا منه وجهز إليه السلطان جيشا فحاصروه وضيقوا عليه قريبا من سنة وهو ممتنع في بلاده لا يقدر الجيش على الوصول إليه وفيها كانت وقعة عظيمة بين الكرج والمسلمين بالقرب من تفليس ومع الكرج كفار الفقجاق فقتلوا من المسلمين خلقا كثيرا وغنموا أموالا جزيلة وأسروا نحوا من أربعة آلاف أسير فإنا لله وإنا إليه راجعون ونهب الكرج تلك النواحي وفعلوا اشياء منكرة وحاصروا تفليس مدة ثم ملكوها عنوة بعد ما أحرقوا القاضي والخطيب حين خرجوا إليهم يطلبون منهم الأمان وقتلوا عامة أهلها وسبوا الذرية واستحوذوا على الأموال فلا حول ولا قوة إلا بالله وفيها أغار (12/185)
جوسكين الفرنجي على خلق من العرب والتركمان فقتلهم وأخذ أموالهم وهذا هو صاحب الرها وفيها تمردت العيارون ببغداد وأخذوا الدور جهارا ليلا ونهارا فحسبنا الله ونعم الوكيل وفيها كان ابتداء ملك محمد بن تومرت ببلاد المغرب كان ابتداء أمر هذا الرجل أنه قدم في حداثة سنه من بلاد المغرب فسكن النظامية ببغداد واشتغل بالعلم فحصل منه جانبا جيدا من الفروع والأصول على الغزالي وغيره وكان يظهر التعبد والزهد والورع وربما كان ينكر على الغزالي حسن ملابسه ولا سيما لما لبس خلع التدريس بالنظامية أظهر الإنكار عليه جدا وكذلك على غيره ثم إنه حج وعاد إلى بلاده وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقرئ الناس القرآن ويشغلهم في الفقه فطار ذكره في الناس واجتمع به يحيى بن تميم بن المعز بن باديس صاحب بلاد إفريقية فعظمه وأكرمه وسأله الدعاء فاشتهر أيضا بذلك وبعد صيته وليس معه إلا ركوة وعصا ولا يسكن إلا المساجد ثم جعل ينتقل من بلد إلى بلد حتى دخل مراكش ومعه تلميذه عبدالمؤمن بن علي وقد كان توسم النجابة والشهامة فيه فرأى في مراكش من المنكرات أضعاف ما رأى في غيرها من ذلك أن الرجال يتلثمون والنساء يمشين حاسرات عن وجوههن فأخذ في إنكار ذلك حتى أنه اجتازت به في بعض الأيام أخت أمير المسلمين يوسف ملك مراكش وما حولها ومعها نساء مثلها راكبات حاسرات عن وجوههن فشرع هو واصحابه في الإنكار عليهن وجعلوا يضربون وجوه الدواب فسقطت أخت الملك عن دابتها فأحضره الملك واحضر الفقهاء فظهر عليهم بالحجة وأخذ يعظ الملك في خاصة نفسه حتى أبكاه ومع هذا نفاه الملك عن بلده فشرع يشنع عليه ويدعو الناس إلى قتاله فاتبعه على ذلك خلق كثير فجهز إليه الملك جيشا كثيفا فهزمهم ابن تومرت فعظم شأنه وارتفع أمره وقويت شوكته وتسمى بالمهدى وسمى جيشه جيش الموحدين وألف كتابا في التوحيد وعقيدة تسمى المرشدة ثم كانت له وقعات مع جيوش صاحب مراكش فقتل منهم في بعض الأيام نحوا من سبعين ألفا وذلك بإشارة أبي عبدالله التومرتي وكان ذكر أنه نزل إليه ملك وعلمه القرآن والموطأ وله بذلك ملائكة يشهدون به في بئر سماه فلما اجتاز به وكان قد أرصد فيه رجالا فلما سألهم عن ذلك والناس حضور معه على ذلك البئر شهدوا له بذلك فأمر حينئذ بطم البئر عليهم فماتوا عن آخرهم ولهذا يقال من أعان ظالما سلط عليه ثم جهز بن تومرت الذي لقب نفسه بالمهدي جيشا عليهم أبو عبدالله التومرتي وعبدالمؤمن لمحاصرة مراكش فخرج إليهم أهلها فاقتتلوا قتالا شديدا وكان في جملة من قتل أبو عبدالله التومرتي هذا الذي زعم أن الملائكة تخاطبه ثم افتقدوه في القتلى فلم يجدوه فقالوا إن الملائكة رفعته وقد كان عبدالمؤمن دفنه والناس في المعركة وقتل ممن معه من أصحاب المهدي خلق كثير وقد كان حين جهز الجيش (12/186)
مريضا مدنفا فلما جاءه الخبر ازداد مرضا إلى مرضه وساءه قتل أبي عبدالله التومرتي وجعل الأمر من بعده لعبدالمؤمن بن علي ولقبه أمير المؤمنين وقد كان شابا حسنا حازما عاقلا ثم مات ابن تومرت وقد أتت عليه إحدى وخمسون سنة ومدة ملكه عشر سنين وحين صار إلى عبدالمؤمن ابن علي الملك أحسن إلى الرعايا وظهرت له سيرة جيدة فأحبه الناس واتسعت ممالكه وكثرت جيوشه ورعيته ونصب العداوة إلى تاشفين صاحب مراكش ولم يزل الحرب بينهما إلى سنة خمس وثلاثين فمات تاشفين فقام ولده من بعده فمات في سنة تسع وثلاثين ليلة سبع وعشرين من رمضان فتولى أخوه إسحاق بن علي بن يوسف بن تاشفين فسار إليه عبدالمؤمن فملك تلك النواحي وفتج مدينة مراكش وقتل هنالك أمما لا يعلم عددهم إلا الله عز و جل قتل ملكها إسحاق وكان صغير السن في سنة ثنتين وأربعين وكان إسحاق هذا آخر ملوك المرابطين وكان ملكهم سبعين سنة والذين ملكوا منهم أربعة علي وولده يوسف وولداه أبو سفيان وإسحاق أبنا علي المذكور فاستوطن عبدالمؤمن مدينة مراكش واستقر ملكه بتلك الناحية وظفر في سنة ثلاث وأربعين بدكالة وهي قبيلة عظيمة نحو مائتي ألف راجل وعشرين ألف فارس مقاتل وهم من الشجعان الابطال فقتل منهم خلقا كثيرا وجما غفيرا وسبى ذراريهم وغنم أموالهم حتى إنه بيعت الجارية الحسناء بدراهم معدودة وكيف تملك بلاد المغرب وما كان يتعاطاه من الأشياء التي توهم أنها أحوال برة وهي محاولات لا تصدر إلا عن فجرة وما قتل من الناس وأزهق من الأنفس وممن توفي فيها من الأعيان
أحمد بن عبدالوهاب بن السني
أبو البركات أسند الحديث وكان يعلم أولاد الخليفة المستظهر فلما صارت الخلافة إلى المسترشد ولاه المخزن وكان كثير الأموال والصدقات تعاهد أهل العلم وخلف مالا كثيرا حزر بمائتي ألف دينار أوصى منه بثلاثين ألف دينار لمكة والمدينة توفي فيها عن ست وخمسين سنة وثلاثة أشهر وصلى عليه الوزير أبو علي بن صدقة ودفن بباب حرب
عبدالرحيم بن عبدالكبير
ابن هوازن أبو نصر القشيري قرأ على أبيه وإمام الحرمين وروى الحديث عن جماعة وكان ذا ذكاء وفطنة وله خاطر حاضر جريء ولسان ماهر فصيح وقد دخل بغداد فوعظ بها فوقع بسببه فتنة بين الحنابلة والشافعية فحبس بسببها الشريف أبو جعفر بن أبي موسى واخرج ابن القشيري من بغداد لإطفاء الفتنة فعاد إلى بلده توفي في هذه السنة (12/187)
عبدالعزيز بن علي
ابن حامد أبو حامد الدينوري كان كثير المال والصدقات ذا حشمة وثروة وجاهة عند الخليفة وقد روى الحديث ووعظ وكان مليح الإيراد حلو المنطق توفي بالري والله أعلم
ثم دخلت سنة خمس عشر وخمسمائة
فيها أقطع السلطان محمود الأمير إيلغازي مدينة ميا فارقين فبقيت في يد أولاده إلى أن أخذها صلاح الدين يوسف بن أيوب في سنة ثمانين وخمسمائة وفيها أقطع آقسنقر البرشقي مدينة الموصل لقتال الفرنج وفيها حاصر ملك بن بهرام وهو ابن أخي إيلغازي مدينة الرها فأسر ملكلها جوسكين الإفرنجي وجماعة من رؤس أصحابه وسجنهم بقلعة خرتبرت وفيها هبت ريح سوداء فاستمرت ثلاثة أيام فأهلكت خلقا كثيرا من الناس والدواب وفيها كانت زلزلة عظيمة بالحجاز فتضعضع بسببها الركن اليماني وتهدم بعضه وتهدم شيء من مسجد رسول الله ( ص ) وفيها ظهر رجل علوي بمكة كان قد اشتغل بالنظامية في الفقه وغيره يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فاتبعه ناس كثير فنفاه صاحبها ابن أبي هاشم إلى البحرين وفيها احترقت دار السلطان بأصبهان فلم يبق فيها شيء من الآثار والقماش والجواهر والذهب والفضة سوى الياقوت الأحمر وقبل ذلك بأسبوع احترق جامع أصبهان وكان جامعا عظيما فيه من الأخشاب ما يساوي ألف دينار ومن جملة ما احترق فيه خمسمائة مصحف من جملتها مصحف بخط أبي بن كعب فإنا لله وإنا إليه راجعون وفي شعبان منها جلس الخليفة المسترشد في دار الخلافة في أبهة الخلافة وجاء الأخوان السلطان محمود ومسعود فقبلا الأرض ووقفا بين يديه فخلع على محمود سبع خلع وطوقا وسوارين وتاجا وأجلس على كرسي ووعظه الخليفة وتلا عليه قوله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وامره بالإحسان إلى الرعايا وعقد له لواءين بيده وقلده الملك وخرجا من بين يديه مطاعين معظمين والجيش بين أيديهما في أبهة عظيمة جدا وحج بالناس قطز الخادم وممن توفي فيها
ابن القطاع اللغوي أبو القاسم علي بن جعفر بن محمد
ابن الحسين بن أحمد بن محمد بن زيادة الله بن محمد بن الأغلب السعدي الصقلي ثم المصري اللغوي المصنف كتاب الأفعال الذي برز فيه على ابن القوطية وله مصنفات كثيرة قدم مصر في حدود سنة خمسمائة لما أشرفت الفرنج على أخذ صقلية فأكرمه المصريون وبالغوا في إكرامه وكان ينسب إلى التساهل في الدين وله شعر جيد قوي مات وقد جاوز الثمانين
أبو القاسم شاهنشاه
الأفضل بن أمير الجيوش بمصر مدبر دولة الفاطميين وإليه تنسب قيسيرية أمير الجيوش (12/188)
بمصر والعامة تقول مرجوش وأبوه باني الجامع الذي بثغر الإسكندرية بسوق العطارين ومشهد الرأس بعسقلان أيضا وكان أبوه نائب المستنصر على مدينة صور وقيل على عكا ثم استدعاه إليه في فصل الشتاء فركب البحر فاستنابه على ديار مصر فسدد الأمور بعد فسادها ومات في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة وقام في الوزارة ولده الأفضل هذا وكان كأبيه في الشهامة والصرامة ولما مات المستنصر أقام المستعلي واستمرت الأمور على يديه وكان عادلا حسن السيرة موصوفا بجودة السريرة فالله أعلم ضربه فداوى وهو راكب فقتله في رمضان من هذه السنة عن سبع وخمسين سنة وكانت إمارته من ذلك بعد أبيه ثمان وعشرين سنة وكانت داره دار الوكالة اليوم بمصر وقد وجد له أموال عديدة جدا تفوق العد والإحصاء من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث والجواهر النفائس فانتقل ذلك كله إلى الخليفة الفاطمي فجعل في خزانته وذهب جامعه إلى سواء الحساب على الفتيل من ذلك والنقير والقطمير واعتاض عنه الخليفة بأبي عبدالله البطائحي ولقبه المأمون قال ابن خلكان ترك الأفضل من الذهب العين ستمائة ألف ألف دينار مكررة ومن الدراهم مائتين وخمسين أردبا وسبعين ثوب ديباج أطلس وثلاثين راحلة أحقاق ذهب عراقي ودواة ذهب فيها جوهر باثنى عشر ألف دينار ومائة مسمار ذهب زنة كل مسمار مائة مثقال في عشرة مجالس كان يجلس فيها على كل مسمار منديل مشدود بذهب كل منديل على لون من الألوان من ملابسه وخمسمائة صندوق كسوة للبس بدنه قال وخلف من الرقيق والخيل والبغال والمراكب والمسك والطيب والحلي ما لا يعلم قدره إلا الله عز و جل وخلف من البقر والجواميس والغنم ما يستحي الإنسان من ذكره وبلغ ضمان ألبانها في سنة وفاته ثلاثين ألف دينار وترك صندوقين كبيرين بن مملوءين إبر ذهب برسم النساء
عبدالرزاق بن عبدالله
ابن علي بن إسحاق الطوسي ابن أخي نظام الملك تفقه بإمام الحرمين وافتى ودرس وناظر ووزر للملك سنجر
خاتون السفريه
حظية السلطان ملكشاه وهي أم السلطانين محمد وسنجر كانت كثيرة الصدقة والإحسان إلى الناس لها في كل سنة سبيل يخرج مع الحجاج وفيها دين وخير ولم تزل تبحث حتى عرفت مكان أمها وأهلها فبعثت الأموال الجزيلة حتى استحضرتهم ولما قدمت عليها أمها كان لها عنها أربعين سنة لم ترها فأحبت أن تستعلم فهمها فجلست بين جواريها فلما سمعت أمها كلامها عرفتها فقامت إليها فاعتنقا وبكيا ثم أسلمت أمها على يديها جزاها الله خيرا وقد تفردت بولادة ملكين من ملوك المسلمين في دولة الأتراك والعجم ولا يعرف لها نظير في ذلك إلا اليسير من ذلك وهي (12/189)
ولادة بنت العباس ولدت لعبد الملك الوليد وسليمان وشاهوند ولدت للوليد يزيد وإبراهيم وقد وليا الخلافة أيضا والخيزران ولدت للمهدي الهادي والرشيد الطغراني صاحب لامية العجم الحسين بن علي بن عبدالصمد مؤيد الدين الأصبهاني العميد فخر الكتاب الليثي الشاعر المعروف بالطغرائي ولي الوزارة بأربل مدة أورد له ابن خلكان قصيدته اللامية التي الفها في سنة خمس وخمسمائة في بغداد وشرح فيها أحواله وأموره وتعرف بلامية العجم أولها ... أصالة الرأي صانتني عن الخطل ... وحلية الفضل زانتني لدى العطل ... مجدي أخيرا ومجدي أولا شرع ... والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل ... فيم الإقامة بالزوراء لا سكنى ... بها ولا ناقتي فيها ولا جملي ... وقد سردها ابن خلكان بكمالها واورد له غير ذلك من الشعر والله أعلم
ثم دخلت سنة ست عشرة وخمسمائة
في المحرم منها رجع السلطان طغرلبك إلى طاعة أخيه محمود بعد ما كان قد خرج عنها وأخذ بلاد أذربيجان وفيها أقطع السلطان محمود مدينة واسط لآقسنقر مضافا إلى الموصل فسير إليها عماد الدين زنكي بن آقسنقر فاحسن السيرة بها وأبان عن حزم وكفاية وفي صفر منها قتل الوزير السلطان محمود أبو طالب السميرمي قتله باطني وكان قد برز للمسير إلى همذان وكانت قد خرجت زوجته في مائة جارية بمراكب الذهب فلما بلغهن قتله رجعن حافيات حاسرات عن وجوههن قد هن بعد العز واستوزر السلطان مكانه شمس الدين الملك عثمان بن نظام الملك وفيها التقى آقسنقر ودبيس بن صدقة فهزمه دبيس وقتل خلقا من جيشه فأوثق السلطان منصور بن صدقة أخا دبيس وولده ورفعهما إلى القلعة فعند ذلك آذى دبيس تلك الناحية ونهب البلاد وجز شعره ولبس السواد ونهبت أموال الخليفة أيضا فنودي في بغداد للخروج لقتاله وبرز الخليفة في الجيش وعليه قباء أسود وطرحه وعلى كتفيه البردة وبيده القضيب وفي وسطه منطقة حرير صيني ومعه وزيره نظام الدين أحمد بن نظام الملك ونقيب النقباء علي بن طراد الزينبي وشيخ الشيوخ صدر الدين بن إسماعيل وتلقاه آقسنقر البرشقي ومعه الجيش فقبلوا الأرض ورتب البرشقي الجيش ووقف القراء بين يدي الخليفة وأقبل دبيس وبين يديه الإماء يضربن بالدفوف والمخانيث بالملاهي والتقى الفريقان وقد شهر الخليفة سيفه وكبر واقترب من المعركة فحمل عنتر بن أبي العسكر على ميمنة الخليفة فكسرها وقتل أميرها ثم حمل مرة ثانية فكشفهم كالأولى فحمل عليه عماد (12/190)
الدين زنكي ابن آقسنقر فأسر عنتر وأسر معه بديل بن زائدة ثم انهزم عسكر دبيس وألقوا أنفسهم في الماء فغرق كثير منهم فأمر الخليفة بضرب أعناق الأسارى صبرا بين يديه وحصل نساء دبيس وسراريه تحت الاسر وعاد الخليفة إلى بغداد فدخلها في يوم عاشوراء من السنة الآتية وكانت غيبته عن بغداد ستة عشر يوما وأما دبيس فإنه نجا بنفسه وقصد غزية ثم إلى المنتفق فصحبهم إلى البصرة فدخلها ونهبها وقتل أميرها ثم خاف من البرشقي فخرج منها وسار على البرية والتحق بالفرنج وحضر معهم حصار حلب ثم فارقهم والتحق بالملك طغرل أخي السلطان محمود وفيها ملك سهام الدين تمراش بن إيلغازي ابن ارتق قلعة ماردين بعد وفاة أبيه وملك أخوه سليمان ميافارقين وفيها ظهر معدن نحاس بديار بكر قريبا من قلعة ذي القرنين وفيها دخل جماعة من الوعاظ بغداد فوعظوا بها وحصل لهم قبول تام من العوام وحج بالناس قطز الخادم وممن توفي فيها من الأعيان
عبدالله بن أحمد
ابن عمر بن أبي الأشعث أبو محمد السمرقندي أخو أبي القاسم وكان من حفاظ الحديث وقد زعم أن عنده منه ما ليس عند أبي زرعة الرازي وقد صحب الخطيب مدة وجمع وألف وصنف ورحل إلى الآفاق توفي يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأول بها عن ثمانين سنة
علي بن أحمد السميرمي
نسبة إلى قرية بأصبهان كان وزير السلطان محمود وكان مجاهرا بالظلم والفسق وأحدث على الناس مكوسا وجددها بعدما كانت قد أزيلت من مدة متطاولة وكان يقول قد استحييت من كثرة ظلم من لا ناصر له وكثرة ما أحدثت من السنن السيئة ولما عزم على الخروج إلى همذان أحضر المنجمين فضربوا له تحت رمل لساعة خروجه ليكون أسرع لعودته فخرج في تلك الساعة وبين يديه السيوف المسلولة والمماليك الكثيرة بالعدد الباهرة فما أغنى عنه ذلك شيئا بل جاءه باطني فضربه فقتله ثم مات الباطني بعده ورجع نساؤه بعد أن ذهبن بين يديه على مراكب الذهب حاسرات عن وجوههن قد أبدلهن الله الذل بعد العز والخوف بعد الأمن والحزن بعد السرور والفرح جزاء وفاقا وذلك يوم الثلاثاء سلخ صفر وما أشبه حالهن بقول أبي العتاهية في الخيزران وجواريها حين مات المهدي ... رحن في الوشي عليهن المسوح ... كل بطاح من الناس له يوم يطوح ... لتموتن لو عمرت ما عمر نوح ... فعلى نفسك نح إن كنت لابد تنوح ...
الحريري صاحب المقامات
القاسم بن علي بن محمد بن محمد بن عثمان فخر الدولة أبو محمد الحريري مؤلف المقامات التي (12/191)
سارت بفصاحتها الركبان وكاد يربو فيها على سحبان ولم يسبق إلى مثلها ولا يلحق ولد سنة ست أربعين وأربعمائة وسمع الحديث واشتغل باللغة والنحو وصنف في ذلك كله وفاق أهل زمانه وبرز على أقرانه وأقام ببغداد وعمل صناع الإنشاء مع الكتاب في باب الخليفة ولم يكن ممن تنكر بديهته ولا تتعكر فكرته وقريحته قال ابن الجوزي صنف وقرأ الأدب واللغة وفاق أهل زمانه بالذكاء والفطنة والفصاحة وحسن العبارة وصنف المقامات المعروفة التي من تأملها عرف ذكاء منشئها وقدره وفصاحتها وعلمه توفي في هذه السنة بالبصرة وقد قيل إن أبا زيد والحارث بن همام المطهر لا وجود لهما وإنما جعل هذه المقامات من باب الأمثال ومنهم من يقول أبو زيد بن سلام السروجي كان له وجود وكان فاضلا وله علم ومعرفة باللغة فالله أعلم وذكر ابن خلكان أن أبا زيد كان اسمه المطهر بن سلام وكان بصريا فاضلا في النحو واللغة وكان يشتغل عليه الحريري بالبصرة وأما الحارث بن همام فإنه غني بنفسه لما جاء في الحديث كلكم حارث وكلكم همام كذا قال ابن خلكان وإنما اللفظ المحفوظ ( أصدق الأسماء حارث وهمام ) لأن كل أحد إما حارث وهو الفاعل أو همام من الهمة وهو العزم والخاطر وذكر أن أول مقامة عملها الثامنة والأربعون وهي الحرامية وكان سببها أنه دخل عليهم في مسجد البصرة رجل ذو طمرين فصيح اللسان فاستسموه فقال أبو زيد السروجي فعمل فيه هذه المقامة فأشرا عليه وزير الخليفة المسترشد جلال الدين عميد الدولة أبو علي الحسن بن أبي المعز بن صدقة أن يكمل عليها تمام خمسين مقامة قال ابن خلكان كذا رأيته في نسخة بخط المصنف على حاشيتها وهو أصح من قول من قال إنه الوزير شرف الدين أبو نصر أنوشروان بن محمد بن خالد بن محمد القاشاني وهو وزير المسترشد أيضا ويقال إن الحريري كان قد عملها أربعين مقامة فلما قدم بغداد ولم يصدق في ذلك لعجز الناس عن مثلها فامتحنه بعض الوزراء أن يعمل مقاومة فأخذ الدواة والقرطاس وجلس ناحية فلم يتيسر له شيء فلما عاد إلى بلده عمل عشرة أخرى فأتمها خمسين مقامة وقد قال فيه أبو القاسم علي بن أفلح الشاعر وكان من جملة المكذبين له فيها ... شيخ لنا من ربيعة الفرس ... ينتف عثنونه من الهوس ... أنطقه الله بالمشان كما ... رماه وسط الديوان بالخرس ...
ومعنى قوله بالمشان هو مكان بالبصرة وكان الحريري صدر ديوان المشان ويقال إنه كان ذميم الخلق فاتفق أن رجلا رحل إليه فلما رآه ازدراه ففهم الحريري ذلك فأنشأ يقول
... ما أنت أول سار غره قمر ... ورائدا أعجبته خضرة الدمن ... فاختر لنفسك غيري إنني رجل ... مثل المعيدي فاسمع بي ولا ترني (12/192)
ويقال إن المعيدي اسم حصان جواد كان في العرب ذميم الخلق والله أعلم
البغوي المفسر
الحسين بن مسعود بن محمد البغوي صاحب التفسير وشرح السنة والتهذيب في الفقه والجمع بين الصحيحين والمصابيح في الصحاح والحسان وغير ذلك اشتغل على القاضي حسين وبرع في هذه العلوم وكان علامة زمانه فيها وكان دينا ورعا زاهدا عابدا صالحا توفي في شوال منها وقيل في سنة عشر فالله أعلم ودفن مع شيخه القاضي حسين بالطالقان والله أعلم
ثم دخلت سنة سبع عشرة وخمسمائة
في يوم عاشوراء منها عاد الخليفة من الحلة إلى بغداد مؤيدا منصورا من قتال دبيس وفيها عزم الخليفة على طهور أولاد أخيه وكانوا اثني عشر ذكرا فزينت بغداد سبعة أيام بزينة لم ير مثلها وفي شعبان منها قدم أسعد المهيتي مدرسا بالنظامية ببغداد وناظرا عليها وصرف الباقرجي عنها ووقع بينه وبين الفقهاء فتنة بسبب أنه قطع منهم جماعة واكتفى بمائتي طالب منهم فلم يهن ذلك على كثير منهم وفيها سار السلطان محمود إلى بلاد الكرج وقد وقع بينهم وبين القفجاق خلف فقاتلهم فهزمهم ثم عاد إلى همدان وفيها ملك طغتكين صاحب دمشق مدينة حماه بعد وفاة صاحبها قراجا وقد كان ظالما غاشما وفيها عزل نقيب العلويين وهدمت داره وهو علي بن أفلح لأنه كان عينا لدبيس وأضيف إلى علي بن طراد نقابة العلويين مع نقابة العباسيين وممن توفي فيها من الأعيان
أحمد بن محمد
ابن علي بن صدقة التغلبي المعروف بابن الخياط الشاعر الدمشقي الكاتب له ديوان شعر مشهور قال ابن عساكر ختم به شعر الشعراء بدمشق شعره جيد حسن وكان مكثرا لحفظ الأشعار المتقدمة وأخبارهم وأورد له ابن خلكان قطعة جيدة من شعره من قصيدته التي لو لم يكن له سواها لكفته وهي التي يقول فيها ... خذا من صبا نجد أمانا لقلبه ... فقد كاد رياها يطير بلبه ... وإياكما ذاك النسيم فإنه ... متى هب كان الوجد أيسر خطبه ... خليلي لو أحببتما لعلمتما ... محل الهوى من مغرم القلب صبه ... أتذكر والذكرى تشوق وذو الهوى ... يتوق ومن يغلق به الحب يصبه ... غرام على يأس الهوى ورجائه ... وشوق على بعد المزار وقربه ... وفي الركب مطوي الضلوع على جوى ... متى يدعه داعي الغرام يلبه ... إذا خطرت من جانب الرمل نفحة ... تضمن منها داؤه دون صحبه (12/193)
ومحتجب بين الأسنة معرض ... وفي القلب من أعراضه مثل حجبه ... أغار أذا آنست في الحى أنة ... حذارا وخوفا أن تكون لحبه ... توفي في رمضان منها عن سبع وتسعين سنة بدمشق
ثم دخلت سنة ثمان عشر وخمسمائة
فيها ظهرت الباطنية بآمد فقاتلهم أهلها فقتلوا منهم سبعمائة وفيها ردت شحنكية بغداد إلى سعد الدولة برنقش الزكوي وسلم إليه منصور بن صدقة أخو دبيس ليسلمه إلى دار الخلافة وورد الخبر بأن دبيسا قد التجأ إلى طغرلبك وقد اتفقا على أخذ بغداد فأخذ الناس بالتأهب إلى قتالهما وامر آقنسقر بالعود إلى الموصل فاستناب على البصرة عماد الدين زنكي بن آقنسنقر وفي ربيع الأول دخل الملك حسام تمرتاش بين إيلغازي بن أرتق صاحب حلب وقد ملكها بعد ملكها بلك بن بهرام وكان قد حاصر قلعة منبج فجاءه سهم في حلقه فمات فاستناب تمرتاش بحلب ثم عاد إلى ماردين فأخذت منه بعد ذلك أخذها آقنسقر مضافة إلى الموصل وفيها أرسل الخليفة القاضي أبا سعد الهروي ليخطب له ابنة السلطان سنجر وشرع الخليفة في بناء دار على حافة دجلة لأجل العروس وحج بالناس جمال الدولة إقبال المسترشدي وممن توفي فيها من الأعيان
أحمد بن علي بن برهان
أبو الفتح ويعرف بابن الحمامي تفقه على أبي الوفاء بن عقيل وبرع في مذهب الإمام أحمد ثم نقم عليه أصحابه أشياء فحمله ذلك على الانتقال إلى مذهب الشافعي فاشتغل على الغزالي والشاشي وبرع وساد وشهد عند الزينبي فقبله ودرس في النظامية شهرا توفي في جمادى ودفن بباب إبرز
عبدالله بن محمد بن جعفر
أبو علي الدامغاني سمع الحديث وشهد عند أبيه وناب في الكرخ عن أخيه ثم ترك ذلك كله وولي حجابة باب النوبي ثم عزل ثم أعيد توفي في جمادى
أحمد بن محمد
ابن إبراهيم أبو الفضل الميداني صاحب كتاب الأمثال ليس له مثله في بابه له شعر جيد توفي يوم الأربعاء الخامس والعشرين من رمضان والله سبحانه أعلم
ثم دخلت سنة تسع عشرة وخمسمائة
فيها قصد دبيس والسلطان طغرل بغداد ليأخذاها من يد الخليفة فلما اقتربا منها برز إليهما الخليفة في جحفل عظيم والناس مشاة بين يديه إلى أول منزلة ثم ركب الناس بعد ذلك فلما أمست الليلة التي يقتتلون في صبيحتها ومن عزمهم أن ينهبوا بغداد أرسل الله مطرا عظيما (12/194)
ومرض السلطان طغرل في تلك الليلة فتفرقت تلك الجموع ورجعوا على أعقابهم خائبين خائفين والتجأ دبيس وطغرل إلى الملك سنجر وسألاه الأمان من الخليفة والسلطان محمود فحبس دبيسا في قلعة ووشى واش أن الخليفة يريد أن يستأثر بالملك وقد خرج من بغداد إلى اللان لمحاربة الأعداء فوقع في نفس سنجر من ذلك وأضمر سوء مع أنه قد زوج ابنته من الخليفة وفيها قتل القاضي أبو سعد بن نصر بن منصور الهروي بهمدان قتلته الباطنية وهو الذي أرسله الخليفة إلى سنجر ليخطب ابنته وحج بالناس قطز الخادم وممن توفي فيها من الأعيان
آقسنقر البرشقي
صاحب حلب قتلته الباطنية وهم الفداوية في مقصورة جامعها يوم الجمعة وقد كان تركيا جيد السيرة محافظا علىالصلوات في أوقاتها كثير البر والصدقات إلى الفقراء كثير الإحسان إلى الرعايا وقام في الملك بعده ولده السلطان عز الدين مسعود وأقره السلطان محمود على عمله
بلال بن عبدالرحمن
ابن شريح بن عمر بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن سليمان بن بلال بن رباح مؤذن رسول الله ( ص ) رحل وجال في البلاد وكان شيخا جهوري الصوت حسن القراءة طيب النغمة توفي في هذه السنة بسمرقند رحمه الله
القاضي أبو سعد الهروي
أحمد بن نصر أحد مشاهير الفقهاء وسادة الكبراء قتلته الباطنية بهمذان فيها
ثم دخلت سنة عشرين وخمسمائة
فيها تراسل السلطان محمود والخليفة على السلطان سنجر وأن يكونا عليه فلما علم بذلك سنجر كتب إلى ابن أخيه محمود ينهاه ويستميله إليه ويحذره من الخليفة وأنه لا تؤمن غائلته وأنه متى فرغ مني دار إليك فأخذك فأصغى إلى قول عمه ورجع عن عزمه وأقبل ليدخل بغداد عامه ذلك فكتب إليه الخليفة ينهاه عن ذلك لقلة الأقوات بها فلم يقبل منه واقبل إليه فلما أزف قدومه خرج الخليفة من داره وتجهز إلى الجانب الغربى فشق عليه ذلك وعلى الناس ودخل عيد الأضحى فخطب الخليفة الناس بنفسه خطبة عظيمة بليغة فصيحة جدا وكبر وراءه خطباء الجوامع وكان يوما مشهودا وقد سردها ابن الجوزي بطولها ورواها عن من حضرها مع قاضي القضاة الزينبي وجماعة من العدول ولما نزل الخليفة عن المنبر ذبح البدنة بيده ودخل السرادق وتباكى الناس ودعو للخليفة بالتوفيق والنصر ثم دخل السلطان محمود إلى بغداد يوم الثلاثاء الثامن عشر من ذي (12/195)
الحجة فنزلوا في بيوت الناس وحصل للناس منهم أذى كثير في حريمهم ثم إن السلطان راسل الخليفة في الصلح فأبى ذلك الخليفة وركب في جيشه وقاتل الأتراك ومعه شرذمة قليلة من المقاتلة ولكن العامة كلهم معه وقتل من الأتراك خلقا ثم جاء عماد الدين زنكي في جيش كثيف من واسط في سفن إلى السلطان نجدة فلما استشعر الخليفة ذلك دعا إلى الصلح فوقع الصلح بين السلطان والخليفة وأخذ الملك يستبشر بذلك جدا ويعتذر إلى الخليفة مما وقع ثم خرج في أول السنة الآتية إلى همذان لمرض حصل له وفيها كان أول مجلس تكلم فيه ابن الجوزي على المنبر يعظ الناس وعمره إذ ثلاث عشرة سنة وحضره الشيخ أبو القاسم علي بن يعلى العلوي البلخي وكان نسيبا علمه كلمات ثم أصعده المنبر فقالها وكان يوما مشهودا قال ابن الجوزي وحزر الجمع يومئذ بخمسين ألفا والله أعلم وفيها اقتتل طغتكين صاحب دمشق وأعداؤه من الفرنج فقتل منهم خلقا كثيرا وغنم منهم أموالا جزيلة ولله الحمد والمنة وممن توفي فيها من الأعيان أحمد بن محمد بن محمد
أبو الفتح الطوسي الغزالي أخو أبي حامد الغزالي كان واعظا مفوها ذا حظ من الكلام والزهد وحسن التأني وله نكت جيدة ووعظ مرة في دار الملك محمود فأطلق له ألف دينار وخرج فإذا على الباب فرس الوزير بسرجها الذهب وسلاحها وما عليها من الحلي فركبها فبلغ ذلك الوزير فقال دعوه ولا يرد على الفرس فأخذها الغزالي وسمع مرة ناعورة تئن فألقى عليها رداءه فتمزق قطعا قطعا قال ابن الجوزي وقد كانت له نكت إلا أن الغالب على كلامه التخليط والأحاديث الموضوعة المصنوعة والحكايات الفارغة والمعاني الفاسدة ثم أورد ابن الجوزي أشياء منكرة من كلامه فالله أعلم من ذلك أنه كان كلما أشكل عليه شيء رأى رسول الله ( ص ) في اليقظة فسأله عن ذلك فدله على الصواب وكان يتعصب إلي بليس ويتعذر له وتكلم فيه ابن الجوزى بكلام ط طويل كثير قال ونسب إلى محبة المردان والقول بالمشاهدة فالله أعلم بصحة ذلك قال ابن خلكان كان واعظا مليح الوعظ حسن المنظر صاحب كرامات وإشارات وكان من الفقهاء غير أنه مال إلى الوعظ فغلب عليه ودرس بالنظامية نيابة عن أخيه لما تزهد واختصر إحياء علوم الدين في مجلد سماه ( لباب الاحيا ) وله الذخيرة في علم البصيرة وطاف البلاد وخدم الصوفية بنفسه وكان مائلا إلى الانقطاع والعزلة والله أعلم بحاله
أحمد بن علي ابن محمد الوكيل المعروف بابن برهان أبو الفتح الفقيه الشافعي تفقه على الغزالي وعلى الكيا الهراسي وعلى الشاشي وكان بارعا في الأصول وله كتاب الذخيرة في أصول الفقه وكان يعرف (12/196)
فنونا جيدة بعينها وولي تدريس النظامية ببغداد دون شهر بهرام بن بهرام
أبو شجاع البيع سمع الحديث وبنى مدرسة لأصحاب أحمد بكلواذي ووقف قطعة من أملاكه على الفقهاء بها
صاعد بن سيار
ابن محمد بن عبدالله بن إبراهيم أبو الأعلا الإسحاقي الهروي الحافظ أحد المتقنين سمع الحديث وتوفي بعتورج قرية على باب هراة
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وخمسمائة استهلت هذه السنة والخليفة والسلطان محمود متحاربان والخليفة في السرادق في الجانب الغربي فلما كان يوم الأربعاء رابع المحرم توصل جماعة من جند السلطان إلى دار الخلافة فحصل فيها ألف مقاتل عليهم السلاح فنهبوا الأموال وخرج الجواري وهن حاسرات يستغثن حتى دخلن دار الخاتون قال ابن الجوزي وأنا رأيتهن كذلك فلما وقع ذلك ركب الخليفة في جيشه وجيء بالسفن وانقلبت بغداد بالصراخ حتى كأن الدنيا قد زلزلت وثارت العامة مع جيش الخليفة فكسروا جيش السلطان وقتلوا خلقا من الأمراء وأسروا آخرين ونهبوا دار السلطان ودار وزيره ودار طبيبه أبي البركات وأخذوا ما كان في داره من الودائع ومرت خطبة عظيمة جدا حتى أنهم نهبوا الصوفية برباط نهر جور وجرت أمور طويلة ونالت العامة من السلطان وجعلوا يقولون له يا باطني تترك الفرنج وتقاتل الخليفة ثم إن الخليفة انتقل إلى داره في سابع المحرم فلما كان في يوم عاشوراء تماثل الحال وطلب السلطان من الخليفة الأمان والصلح فلان الخليفة إلى ذلك وتباشر الناس بالصلح فأرسل إليه الخليفة نقيب النقباء وقاضي القضاة وشيخ الشيوخ وبعضا وثلاثين شاهدا فاحتبسهم السلطان عنده ستة أيام فساء ذلك الناس وخافوا من فتنة أخرى أشد من الأولى وكان يرنقش الزكوي شحنة بغداد يغري السلطان بأهل بغداد لينهب أموالهم فلم يقبل منه ثم أدخل لأولئك الجماعة فأدخلوا عليه وقت المغرب فصلى بهم القاضي وقرأوا عليه كتاب الخليفة فقام قائما وأجاب الخليفة إلى جميع ما اقترح عليه ووقع الصلح والتحليف ودخل جيش السلطان وهم في غاية الجهد من قلة الطعام عندهم في العسكر وقالوا لو لم يصالح لمتنا جوعا وظهر من السلطان حلم كثير عن العوام وأمر الخليفة برد ما نهب من دور الجند وأن من كتم شيئا أبيح دمه وبعث الخليفة علي بن طراد الزينبي النقيب إلى السلطان سنجر ليبعد عن بابه دبيسا وأرسل معه الخلع والإكرام فأكرم سنجر رسول الخليفة وأمر بضرب الطبول على بابه في ثلاثة (12/197)
أوقات وظهر منه طاعة كثيرة ثم مرض السلطان محمود ببغداد فأمره الطبيب بالإنتقال عنها اإل همذان فسار في ربيع الآخر فوضع شحنكية بغداد إلى عماد الدين زنكي فلما وصل السلطان إلى همذان بعث شحنكية بغداد مجاهد الدين بهروز وجعل إليه الحلة وبعث عماد الدين زنكي إلى الوصل وأعمالها وفيها درس الحسن بن سليمان بالنظامية ببغداد وفيها ورد أبو الفتوح الإسفرايني فوعظ ببغداد فأورد أحاديث كثيرة منكرة جدا فاستتيب منها وأمر بالانتقال منها إلى غيرها فشد معه جماعة من الأكابر وردوه إلى ما كان عليه فوقع بسببه فتن كثيرة بين الناس حتى رجمه بعض العامة بالأسواق وذلك لأنه كان يطلق عبارات لا يحتاج إلى إيرادها فنفرت منه قلوب العامة وأبغضوه وجلس الشيخ عبدالقادر الجيلي فتكلم على الناس فأعجبهم وأحبوه وتركوا ذاك وفيها قتل السلطان سنجر من الباطنية اثنا عشر ألفا وحج بالناس قطز الخادم وممن توفي فيها من الأعيان محمد بن عبدالملك
ابن إبراهيم بن أحمد أبو الحسن بن أبي الفضل الهمذاني الفرضي صاحب التاريخ من بيت الحديث وذكر ابن الجوزي عن شيخه عبدالوهاب أنه طعن فيه توفي فجأة في شوال ودفن إلى جانب ابن شريح
فاطمة بنت الحسين بن الحسن ابن فضلويه
سمعت الخطيب وابن المسلمة وغيرهما وكانت واعظة لها رباط تجتمع فيه الزاهدات وقد سمع عليها ابن الجوزي مسند الشافعي وغيره
أبو محمد عبدالله بن محمد
ابن السيد البطليوسي ثم التنيسي صاحب المصنفات في اللغة وغيرها جمع المثلث في مجلدين وزاد فيه على قطرب شيئا كثيرا جدا وله شرح سقط الزند لأبي العلاء أحسن من شرح المصنف وله شرح أدب الكاتب لابن قتيبة ومن شعره الذي أورده له ابن خلكان
... أخو العلم حي خالد بعد موته ... وأوصاله تحت التراب رميم ... وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى ... يظن من الأحياء وهو عديم ...
ثم دخلت سنة إثنتين وعشرين وخمسمائة
في أولها قدم رسول سنجر إلى الخليفة يسأل منه أن يخطب له على منابر بغداد وكان يخطب له في كل جمعه بجامع المنصور وفيها مات ابن صدقة وزير الخليفة وجعل مكانه نقيب النقباء وفيها اجتمع السلطان محمود بعمه سنجر واصطلحا بعد خشونة وسلم سنجر دبيسا إلى السلطان محمود على أن يسترضي عنه الخليفة ويعزل زنكي عن الموصل ويسلم ذلك إلى دبيس واشتهر في ربيع الأول (12/198)
ببغداد أن دبيسا أقبل إلى بغداد في جيش كثيف فكتب الخليفة إلى السلطان محمود لئن لم تكف دبيسا عن القدوم إلى بغداد وإلا خرجنا إليه ونقضنا ما بيننا وبينك من العهود والصلح وفيها ملك الأتابك زنكي بن آقسنقر مدينة حلب وما حولها من البلاد وفيها ملك تاج الملوك بوري بن طغتكين مدينة دمشق بعد وفاة أبيه وقد كان أبوه من مماليك ألب أرسلان وكان عاقلا حازما عادلا خيرا كثير الجهاد في الفرنج رحمه الله وفيها عمل ببغداد مصلى للعيد ظاهر باب الحلية وحوط عليه وجعل فيه قبلة وحج بالناس قطز الخادم المتقدم ذكره وممن توفي فيها من الأعيان
الحسن بن علي بن صدقة
أبو علي وزير الخليفة المسترشد توفي في رجب منها ومن شعره الذي أورد له ابن الجوزي وقد بالغ في مدح الخليفة فيه وأخطأ ... وجدت الورى كالماء طعما ورقة ... وأن أمير المؤمنين زلاله ... وصورت معنى العقل شخصا مصورا ... وأن أمير المؤمنين مثاله ... فلولا مكان الشرع والدين والتقى ... لقلت من الاعظام جل جلاله ...
الحسين بن علي
... ابن أبي القاسم اللامتني من أهل سمرقند روى الحديث وتفقه وكان يضرب به المثل في المناظرة وكان خيرا دينا على طريقة السلف مطرحا للتكلف أمارا بالمعروف قدم من عند الخاقان ملك ما وراء النهر في رسالة إلى دار الخلافة فقيل له ألا تحج عامك هذا فقال لا أجعل الحج تبعا لرسالتهم فعاد إلى بلده فمات في رمضان من هذه السنة عن إحدى وثمانين سنة رحمه الله
طغتكين الأتابك
صاحب دمشق التركي أحد غلمان تتش كان من خيار الملوك وأعدلهم وأكثرهم جهادا للفرنج وقام من بعده ولده تاج الملوك بوري
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة
في المحرم منها دخل السلطان محمود إلى بغداد واجتهد في إرضاء الخليفة عن دبيس وأن يسلم إليه بلاد الموصل فامتنع الخليفة من ذلك وأبي أشد الإباء هذا وقد تأخر دبيس عن الدخول إلى بغداد ثم دخلها وركب بين الناس فلعنوه وشتموه في وجهه وقدم عماد الدين زنكي فبذل للسلطان في كل سنة مائة ألف دينار وهدايا وتحفا والتزم للخليفة بمثلها على أن لا يولي دبيسا شيئا وعلى أن يستمر زنكي على عمله بالموصل فأقره على ذلك وخلع عليه ورجع إلى عمله فملك حلب وحماه وأسر صاحبها سونج بن تاج الملوك فافتدى نفسه بخمسين ألف دينار وفي يوم الإثنين (12/199)
سلخ ربيع الآخر خلع السلطان على نقيب النقباء استقلالا ولا يعرف أحد من العباسيين باشر الوزارة غيره وفي رمضان منها جاء دبيس في جيش إلى الحلة فملكها ودخلها في أصحابه وكانوا ثلاثمائة فارس ثم إنه شرع في جمع الأموال وأخذ الغلات من القرى حتى حصل نحوا من خمسمائة ألف دينار واستخدم قريبا من عشرة آلاف مقاتل وتفاقم الحال بأمره وبعث إلى الخليفة يسترضيه فلم يرض عليه وعرض عليه أموالا فلم يقبلها وبعث إليه السلطان جيشا فانهزم إلى البرية ثم أغار على البصرة فأخذ منها حواصل السلطان والخليفة ثم دخل البرية فانقطع خبره وفي هذه السنة قتل صاحب دمشق من الباطنية ستة آلاف وعلق رؤس كبارهم على باب القلعة وأراح الله الشام منهم وفيها حاصرت الفرنج مدينة دمشق فخرج إليهم أهلها فقاتلوهم قتالا شديدا وبعث أهل دمشق عبدالله الواعظ ومعه جماعة من التجار يستغيثون بالخليفة وهموا بكسر منبر الجامع حتى وعدهم بأنه سيكتب إلى السلطان ليبعث لهم جيشا يقاتلون الفرنج فسكنت الأمور فلم يبعث لهم جيشا حتى نصرهم الله من عنده فإن المسلمين هزموهم وقتلوا منهم عشرة آلاف ولم يفلت منهم سوى أربعين نفسا ولله الحمد والمنة وقتل بيمند الفرنجي صاحب إنطاكية وفيها تخبط الناس في الحج حتى ضاق الوقت بسبب فتنة دبيس حتى حج بهم برنقش الزكوي وكان اسمه بغاجق وممن توفي فيها من الأعيان
أسعد بن أبي نصر
الميهني أبو الفتح أحد أئمة الشافعية في زمانه تفقه على أبي المظفر السمعاني وساد أهل زمانه وبرع وتفرد من بين أقرانه وولي تدريس النظامية ببغداد وحصل له وجاهة عند الخاص والعام وعلق عنه تعليقة في الخلاف ثم عزل عن النظامية فسار إلى همذان فمات بها في هذه السنة رحمه الله تعالى
ثم دخلت سنة أربع وعشرين وخمسمائة
فيها كانت زلزلة عظيمة بالعراق تهدم بسببها دور كثيرة ببغداد ووقع بأرض الموصل مطر عظيم فسقط بعضه نارا تأجج فأحرقت دورا كثيرة وخلقا من ذلك المطر وتهارب الناس وفيها وجد ببغداد عقارب طيارة لها شوكتان فخاف الناس منها خوفا شديدا وفيها ملك السلطان سنجر مدينة سمرقند وكان بها محمد بن خاقان وفيها ملك عمادالدين زنكي بلادا كثيرة من الجزيرة وهما مع الفرنج وجرت معهم حروب طويلة نصر عليهم في تلك المواقف كلها ولله الحمد وقتل خلقا من جيش الروم حين قدموا الشام ومدحه الشعراء على ذلك
قتل خليفة مصر
وفي ثاني ذي القعدة قتل الخليفة الفاطمي الآمر بأحكام الله بن المستعلي صاحب مصر قتله الباطنية وله من العمر أربع وثلاثون سنة وكانت مدة خلافته تسعا وعشرين سنة وخسمة أشهر (12/200)
ونصفها وكان هو العاشر من ولد عبيد الله المهدى ولما قتل تغلب على الديار المصرية غلام من غلمانه أرمني فاستحوذ على الأمور ثلاثة أيام حتى حضر أبو علي أحمد بن الأفضل بن بدر الجمالي فأقم الخليفة الحافظ أبا الميمون عبدالمجيد بن الأمير أبي القاسم بن المستنصر وله من العمر ثمان وخمسون سنة ولما أقامه استحوذ على الأمور دونه وحصره في مجلسه لا يدع أحدا يدخل إليه إلا من يريد هو ونقل الأموال من القصر إلى داره ولم يبق للحفاظ سوى الإسم فقط وممن توفي فيها من الأعيان
إبراهيم بن يحيى بن عثمان بن محمد
أبو إسحاق الكلبي من أهل غزة جاوز الثمانين وله شعر جيد في الأتراك فمنه ... في فتية من جيوش الترك ما تركت ... للرعد كراتهم صوتا ولا صيتا ... قوم إذا قوبلوا كانوا ملائكة ... حسنا وإن قوتلوا كانوا عفاريتا ... وله ليت الذي بالعشق دونك خصني ... يا ظالمي قسم المحبة بيننا ... ألقى الهزبر فلا أخاف وثوبه ... ويرو عني نظر الغزال إذا دنا ... وله ... إنما هذه الحياة متاع ... والسفيه الغوي من يصطفيها ... ما مضى فات والمؤمل غيب ... ولك الساعة التي أنت فيها ... وله أيضا ... قالوا هجرت الشعر قلت ضرورة ... باب الدواعي والبواعث مغلق ... خلت الديار فلا كريم يرتجى ... منها النوال ولا مليح يعشق ... ومن العجائب أنه لا يشترى ... ويخان فيه مع الكساد ويسرق ... كانت وفاته في هذه السنة ببلاد بلخ ودفن بها ومما أنشده ابن خلكان له ... إشارة منك تكفينا وأحسن ما ... رد السلام غداة البين بالعنم ... حتى أذا طاح عنها المرط من دهش ... وانحل بالضم سلك العقد في الظلم ... تبسمت فاضاء الليل فاتلقطت ... حبات منتثر في ضوء منتظم ...
الحسين بن محمد
ابن عبدالوهاب بن أحمد بن محمد بن الحسين بن عبيدالله بن القاسم بن عبدالله بن سليمان بن وهب الدباس أبو عبدالله الشاعر المعروف بالبارع قرأ القراءات وسمع الحديث وكان عارفا بالنحو واللغة والأدب وله شعر حسن توفي في هذه السنة وقد جاوز الثمانين
محمد بن سعدون بن مرجا
... أبو عامر العبدري القرشي الحافظ أصله من بيروقة من بلاد المغرب وبغداد وسمع بها على طراد الزينبي والحميدي وغير واحد وكانت له معرفة جيدة بالحديث وكان يذهب في الفروع مذهب (12/201)
الظاهرية توفي في ربيع الآخر في بغداد
ثم دخلت سنة خمس وعشرين وخمسمائة
فيها ضل دبيس عن الطريق في البرية فأسره بعض أمراء الأعراب بأرض الشام وحمله إلى ملك دمشق بوري بن طغتكين فباعه من زنكي بن آقسنقر صاحب الموصل بخمسين ألف دينار فلما حصل في يده لم يشك أنه سيهلكه لما بينهما من العداوة فأكرمه زنكي وأعطاه أموالا جزيلة وقدمه واحترمه ثم جاءت رسل الخليفة في طلبه فبعثه معهم فلما وصل إلى الموصل حبس قلعتها وفيها وقع بين الأخوين محمود ومسعود فتواجها للقتال ثم اصطلحا وفيها كانت وفاة الملك محمود بن ملكشاه فأقيم في الملك مكانه ابنه داود وجعل له إتابك وزير أبيه وخطب له بأكثر البلاد وممن توفي فيها من الأعيان
أحمد بن محمد بن عبدالقاهر الصوفي
سمع الحديث وتفقه بالشيخ أبي إسحاق الشيرازي وكان شيخا لطيفا عليه نور العبادة والعلم قال ابن الجوزي أنشدني ... على كل حال فاجعل الحزم عدة ... تقدمها بين النوائب والدهر ... فإن نلت خيرا نلته بعزيمة ... وإن قصرت عنك الأمور فعن عذر ... قال وأنشدني أيضا ... لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا ... وقمت أشكو إلى مولاي ما أجد ... وقلت يا عدتي في كل نائبة ... ومن عليه لكشف الضر أعتمد ... وقد مددت يدي والضر مشتمل ... إليك يا خير من مدت إليه يد ... فلا تردنها يا رب خائبة ... فبحر جودك يروي كل من يرد ...
الحسن بن سليمان
ابن عبدالله بن عبدالغني أبو علي الفقيه مدرس النظامية وقد وعظ بجامع القصر وكان يقول ما في الفقه منتهي ولا في الوعظ مبتدي توفي فيها وغسله القاضي أبو العباس بن الرطبي ودفن عند أبي إسحاق
حماد بن مسلم
الرحبي الدباس كان يذكر له أحوال ومكاشفات وإطلاع على مغيبات وغير ذلك من المقامات ورأيت ابن الجوزي يتكلم فيه ويقول كان عريا من العلوم الشرعية وإنما كان ينفق على الجهال وذكر عن ابن عقيل أنه كان ينفر منه وكان حماد الدباس يقول ابن عقيل عدوي قال ابن الجوزي وكان الناس ينذرون له فيقبل ذلك ثم ترك ذلك وصار يأخذ من المنامات وينفق على أصحابه توفي في رمضان ودفن بالشونيزية (12/202)
علي بن المستظهر بالله
أخو الخليفة المسترشد توفي في رجب منها وله من العمر إحدى وعشرون سنة فترك ضرب الطبول وجلس الناس للعزاء أياما
محمد بن أحمد
ابن أبي الفضل الماهاني أحد أئمة الشافعية تفقه بإمام الحرمين وغيره ورحل في طلب الحديث ودرس وأفتى وناظر توفي فيها وقد جاوز التعسين ودفن بقرية ماهان من بلاد مرو
محمود السلطان بن السلطان ملكشاه
كان من خيار الملكوك فيه حلم وإناه وصلابة وجلسوا للعزاء به ثلاثة أيام سامحه الله
هبة الله بن محمد
ابن عبدالواحد بن العباس بن الحصين أبو القاسم الشيباني راوي المسند عن علي بن المهذب عن أبي بكر بن مالك عن عبدالله بن أحمد عن أبيه وقد سمع قديما لأنه ولد سنة ثنتين وثلاثين وأربعمائة وباكر به أبوه فاسمعه ومعه أخوه عبدالواحد على جماعة من علية المشايخ وقد روى عنه ابن الجوزي وغير واحد وكان ثقة ثبتا صحيح السماع توفي بين الظهر والعصر يوم الأربعاء منها وله ثلاث وتسعون سنة رحمه الله والله سبحانه أعلم
ثم دخلت سنة ست وعشرين وخمسمائة
فيها قدم مسعود بن محمد بن ملكشاه بغداد وقدمها قراجا الساقي وسلجوق شاه بن محمد وكل منهما يطلب الملك لنفسه وقدم عماد الدين زنكي لينضم إليهما فتلقاه الساقي فهزمه فهرب منه إلى تكريت فخدمه نائب قلعتها نجم الدين أيوب والد الملك صلاح الدين يوسف فاتح بيت المقدس كما سيأتي إن شاء الله حتى عاد إلى بلاده وكات هذا هو السبب في مصير نجم الدين أيوب إليه وهو بحلب فخدم عنده ثم كان من الأمور ما سيأتي إن شاء الله تعالى ثم إن الملكين مسعود وسلجوق شاه اجتمعا فاصطلحا وركبا إلى الملك سنجر فاقتتلا معه وكان جيشه مائة وستين ألفا وكان جيشهما قريبا من ثلاثين ألفا وكان جملة من قتل بينهما أربعين ألفا وأسر جيش سنجر قراجا الساقي فقتله صبرا بين يديه ثم أجلس طغرل بن محمد على سرير الملك وخطب له على المنابر ورجع سنجر إلى بلاده وكتب طغرل إلى دبيس وزنكي ليذهبا إلى بغداد ليأخذاها فأقبلا في جيش كثيف فبرز إليهما الخليفة فهزمها وقتل خلقا من أصحابهما وأزاح الله شرهما عنه ولله الحمد وفيها قتل أبو علي بن الأفضل بن بدر الجمالي وزير الحافظ الفاطمي فنقل الحافظ الأموال التي كان أخذها إلى داره واستوزر بعده أبا الفتح يانس الحافظي ولقبه أمير الجيوش ثم احتال فقتله واستوزر ولده حسنا وخطب له بولاية العهد وفيها عزل المسترشد وزيره على بن طراد الزينبي (12/203)
واستوزر أنو شروان بن خالد بعد تمنع وفيها ملك دمشق شمس الملوك إسماعيل بن بوري بن طغتكين بعد وفاة أبيه واستوزر يوسف بن فيروز وكان خيرا ملك بلادا كثيرة واطاعه إخوته وممن توفي فيها من الأعيان
أحمد بن عبيد الله
ابن محمد بن عبيدالله بن محمد بن أحمد بن حمدان بن عمر بن عيسىبن إبراهيم بن غثنة بن يزيد السلمي ويعرف بابن كادش العكبري أبو العز البغدادي سمع الحديث الكثير وكان يفهمه ويرويه وهو آخر من روى عن الماوردي وقد أثنى عليه غير واحد منهم أبو محمد بن الخشاب وكان محمد بن ناصر يتهمه ويرميه بأنه أعترف بوضع حديث فالله أعلم وقال عبدالوهاب الأنماطي كان مخلطا توفي في جمادى الأولى منها
محمد بن محمد بن الحسين
ابن القاضي أبي يعلى بن الفراء الحنبلي ولد في شعبان سنة إحدى وخمسين وأربعمائة سمع أباه وغيره وتفقه وناظر وأفتى ودرس وكان له بيت فيه مال فعدى عليه من الليل فقتل وأخذ ماله ثم أظهر الله عز و جل على قاتله فقتلوه
ثم دخلت سنة سبع وعشرين وخمسمائة
في صفر منها دخل السلطان مسعود إلى بغداد فخطب له بها وخلع عليه الخليفة وولاه السلطنة ونثر الدنانير والدراهم على الناس وخلع على السلطان داود بن محمود وفيها جمع دبيس جمعا كثيرا بواسط فأرسل إليه السلطان جيشا فكسروه وفرقوا شمله ثم إن الخليفة عزم على الخروج إلى الموصل ليأخذها من زنكي فعرض عليه زنكي من الأموال والتحف شيئا كثيرا ليرجع عنه فلم يقبل ثم بلغه أن السلطان مسعود قد اصطلح مع دبيس وخلع عليه فكر راجعا سريعا إلى بغداد سالما معظما وفيها مات ابن الزاغوني أحد أئمة الحنابلة فطلب حلقته ابن الجوزي وكان شابا فحصلت لغيره ولكن أذن له الوزير أنو شروان في الوعظ فتلكم في هذه السنة على الناس في أماكن متعددة من بغداد وكثرت مجالسه وازدحم عليه الناس وفيها ملك شمس الملوك إسماعيل صاحب دمشق مدينة حماة وكانت بيد زنكي وفي ذي الحجة نهب التركمان مدينة طرابلس وخرج إليهم القومص لعنه الله الفرنجي فهزموه وقتلوا خلقا من أصحابه وحاصروه فيها مدة طويلة حتىطال الحصار فانصرفوا وفيها تولي قاسم بن أبي فليته مكة بعد أبيه وفيها قتل شمس الملوك أخاه سونج وفيها اشترى الباطنية قلعة حصن القدموس بالشام فسكنوها وحاربوا من جاورهم من المسلمين والفرنج وفيها اقتتلت الفرنج فيما بينهم قتالا شديدا فمحق الله بسبب ذلك خلقا كثيرا وغزاهم فيها عمادالدين زنكي فقتل منهم ألف قتيل وغنم أموالا جزيلة ويقال لها غزوة أسوار وحج بالناس فيها قطز الخادم وكذا في التي بعدها وقبلها (12/204)
توفي فيها من الأعيان
أحمد بن سلامة
ابن عبدالله بن مخلد بن إبراهيم أبو العباس بن الرطبي تفقه على أبي إسحاق وابن الصباغ ببغداد وباصبهان على محمد بن ثابت الخجندي ثم تولى الحكم ببغداد بالحريم والحسبة ببغداد وكان يؤدب أولاد الخليفة توفي في رجب منها ودفن عند أبي إسحاق
أسعد بن أبي نصر بن أبي الفضل
أبو الفضل الميهني مجد الدين أحد أئمة الشافعية وصاحب الخلاف والمطروقة وقد درس بالنظامية في سنة سبع عشرة وخمسمائة إلى سنة ثلاث وعشرين فعزل عنها واستمر أصحابه هنالك وقد تقدم في سنة سبع عشرة أنه وليها وأنه توفي في سنة ثلاث وعشرين وقال ابن خلكان توفي سنة سبع وعشرين
ابن الزاغوني الحنبلي
علي بن عبدالله بن نصر بن السري الزاغوني الإمام المشهور قرأ القراءات وسمع الحديث واشتغل بالفقه والنحو واللغة وله المصنفات الكثيرة في الأصول والفروع وله يد في الوعظ واجتمع الناس في جنازته وكانت حافلة جدا
الحسن بن محمد
ابن إبراهيم البورباري من قراء أصبهان سمع الحديث ورحل وخرج وله تاريخ وكان يكتب حسنا ويقرأ فصيحا توفي بأصبهان في هذه السنة
علي بن يعلي
ابن عوض أبو القاسم العلوي الهروي سمع مسند أحمد من أبي الحصين والترمذي من أبي عامر الأزدي وكان يعظ الناس بنيسابور ثم قدم بغداد فوعظ بها فحصل له القبول التام وجمع أموالا وكتبا قال ابن الجوزي وهو أول من سلكني في الوعظ وتكلمت بين يديه وأنا صغير وتكلمت عند انصرافه
محمد بن أحمد
ابن يحيى أبو عبدالله العثماني الديباجي وكان ببغداد يعرف بالمقدسي كان أشعري الإعتقاد ووعظ الناس ببغداد قال ابن الجوزي سمعته ينشد في مجلسه قوله ... دع دموعي يحق لي أن أنوحا ... لم تدع لي الذنوب قلبا صحيحا ... أخلقت مهجتي أكف المعاصي ... ونعاني المشيب نعيا فصيحا ... كلما قلت قد برا جرح قلبي ... عاد قلبي من الذنوب جريحا ... إنما الفوز والنعيم لعبد ... جاء في الحشر آمنا مستريحا (12/205)
محمد بن محمد
ابن الحسين بن محمد بن أحمد بن خلف بن حازم بن أبي يعلى بن الفراء الفقيه ابن الفقيه ولد سنة سبع وخمسين وأربعمائة سمع الحديث وكان من الفقهاء الزاهدين الأخيار توفي في صفر منها
ابو محمد عبدالجبار
ابن أبي بكر محمد بن حمديس الأزدي الصقلي الشاعر المشهور أنشد له ابن خلكان أشعارا رائقة فمنها قوله
... قم هاتها من كف ذات الوشاح ... فقد نعى الليل بشير الصباح ... باكر إلى اللذات واركب لها ... سوابق اللهو ذوات المراح ... من قبل أن نرشف شمس الضحا ... ريق الغوادي من ثغور الأقاح ...
ومن جملة معانيه النادرة
... زادت على كحل الجفون تكحلا ... وتسم نصل السهم وهو قتلو ...
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وخمسمائة
فيها اصطلح الخليفة وزنكي وفيها فتح زنكي قلاعا كثيرة وقتل خلقا من الفرنج وفيها فتح شمس الملوك الشقيف تيروت ونهب بلاد الفرنج وفيها قدم سلجوق شاه بغداد فنزل بدار المملكة وأكرمه الخليفة وارسل إليه عشرة آلاف دينار ثم قدم السلطان مسعود وأكثر أصحابه ركاب على الجمال لقلة الخيل وفيها تولى إمرة بني عقيل أولاد سليمان بن مهارش العقيلي إكراما لجدهم وفيها أعيد ابن طراد إلى الوزارة وفيها خلع على إقبال المسترشدى خلع الملوك ولقب ملك العرب سيف الدولة ثم ركب في الخلع وحضر الديوان وفيها قوي أمر الملك طغرل وضعف أمر الملك مسعود وممن توفي فيها من الأعيان
أحمد بن علي بن إبراهيم
أبو الوفا الفيروز أبادي أحد مشايخ الصوفية يسكن رباط الزوزني وكان كلامه يستحلى وكان يحفظ من أخبار الصوفية وسيرهم وأشعارهم شيئا كثيرا
ابو علي الفارقي
الحسن بن إبراهيم بن مرهون أبو علي الفارقي ولد سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة وتفقه بها على أبي عبدالله محمد بن بيان الكازروني صاحب المحاملي ثم على الشيخ أبي إسحاق وابن الصباغ وسمع الحديث وكان يكرر على المهذب والشامل ثم ولي القضاء بواسط وكان حسن السيرة جيد السريرة ممتعا بعقله وحواسه إلى أن توفي في محرم هذه السنة عن ست وسبعين سنة (12/206)
عبدالله بن محمد
ابن أحمد بن الحسن أبو محمد بن أبي بكر الشاشي سمع الحديث وتفقه على أبيه وناظر وأفتى وكان فاضلا واعظا فصيحا مفوها شكره ابن الجوزي في وعظه وحسن نظمه ونثره ولفظه توفي في المحرم وقد قارب الخمسين ودفن عند أبيه
محمد بن أحمد
ابن علي بن أبي بكر العطان ويعرف بابن الحلاج البغدادي سمع الحديث وقرأ القراءات وكان خيرا زاهدا عابدا يتبرك بدعائه ويزار
محمد بن عبدالواحد الشافعي
أبو رشيد من أهل آمل طبرستان ولد سنة أربع وثلاثين وأربعمائة وحج واقام بمكة وسمع من الحديث شيئا يسيرا وكان زاهدا منقطعا عن الناس مشتغلا بنفسه ركب مرة مع تجار في البحر فأوفوا على جزيرة فقال دعوني في هذه أعبد الله تعالى فمانعوه فأبى إلا المقام بها فتركوه وساروا فردتهم الريح إليه فقالوا إنه لا يمكن المسير إلا بك وإذا أردت المقام بها فارجع إليها فسار معهم ثم رجع إليها فأقام بها مدة ثم ترحل عنها ثم رجع إلى بلده آمل فمات بها رحمه الله ويقال إنه كان يقتات في تلك الجزيرة بأشياء موجودة فيها وكان بها ثعبان يبتلع الإنسان وبها عين ماء يشرب منها ويتوضأ منها وقبره مشهور بآمل يزار
أم خليفة
المسترشد توفيت ليلة الإثنين بعد العتمة تاسع عشر شوال منها والله سبحانه أعلم
ثم دخلت سنة تسع وعشرين وخمسمائة
فيها كانت وفاة المسترشد وولاية الراشد وكان سبب ذلك أنه كان بين السلطان مسعود وبين الخليفة واقع كبير اقتضى الحال أن الخليفة أراد قطع الخطبة له من بغداد فاتفق موت أخيه طغرل بن محمد بن ملكشاه فسار إلى البلاد فملكها وقوي جأشه ثم شرع يجمع العساكر ليأخذ بغداد من الخليفة فلما علم الخليفة بذلك انزعج واستعد لذلك وقفز جماعة من رؤس الأمراء إلى الخليفة خوفا على أنفسهم م سطوة الملك محمود وركب الخليفة من بغداد في جحافل كثيرة فيهم القضاة ورؤس الدولة من جميع الأصناف فمشوا بين يديه أول منزلة حتى وصل إلى السرادق وبعث بين يديه مقدمة وارسل الملك مسعود مقدمة عليهم دبيس بن صدقة بن منصور فجرت خطوب كثيرة وحاصل الأمر أن الجيشين التقيا في عاشر رمضان يوم الإثنين فاقتتلوا قتالا شديدا ولم يقتل من الصفين سوى خمسة أنفس ثم حمل الخليفة على جيش مسعود فهزمهم ثم تراجعوا فحملوا على جيش الخليفة فهزموهم (12/207)
وقتلوا منهم خلقا كثيرا واسروا الخليفة ثم نهبت أموالهم وحواصلهم من جملة ذلك أربعة آلاف ألف دينار وغير ذلك من الأثاث والخلع والآنية والقماش فإنا لله وإنا إليه راجعون وطار الخبر في الأقاليم بذلك وحين بلغ الخبر إلى بغداد انزعج الناس لذلك وزلزلوا زلزالا شديدا صورة ومعنى وجاءت العامة إلى المنابر فكسروها وامتنعوا من حضور الجماعات وخرج النساء في البلد حاسرات ينحن على الخليفة وما جرى عليه من الأسر وتأسى بأهل بغداد في ذلك خلق كثير من أهل البلاد وتمت فتنة كبيرة وانتشرت في الأقاليم واستمر الحال على ذلك شهر ذي القعدة والشناعة في الأقاليم منتشرة فكتب الملك سنجر إلى ابن أخيه يحذره غب ذلك عاقبة ما وقع فيه من الأمر العظيم ويأمره أن يعيد الخليفة إلى مكانه ودار خلافته فامتثل الملك مسعود ذلك وضرب للخليفة سرادق عظيم ونصب له فيه قبة عظيمة وتحتها سرير هائل وألبس السواد على عادته وأركبه بعض ما كان يركبه من مراكبه وامسك لجام الفرس ومشى في خدمته والجيش كلهم مشاة حتى أجلس الخليفة على سريره ووقف الملك مسعود فقبل الأرض بين يديه وخلع الخليفة عليه وجيء بدبيس مكتوفا وعن يمينه أميران وعن يساره أميران وسيف مسلول ونسعة بيضاء فطرح بين يدي الخليفة ماذا يرسم تطبيبا لقلبه فأقبل السلطان فشفع في دبيس وهو ملقى يقول العفو يا أمير المؤمنين أنا أخطأت والعفو عند المقدرة فأمر الخليفة بإطلاقه وهو يقول لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم فنهض قائما والتمس أن يقبل يد الخليفة فأذن له فقبلها وأمرها على وجهه وصدره وسأل العفو عنه وعما كان منه واستقر الأمر على ذلك وطار هذا الخبر في الآفاق وفرح الناس بذلك فلما كان مستهل ذي الحجة جاءت الرسل من جهة الملك سنجر إلى ابن أخيه يستحثه على الإحسان إلى الخليفة وأن يبادر إلى سرعة رده إلى وطنه وأرسل مع الرسل جيشا ليكونوا في خدمة الخليفة إلى بغداد فصحب الجيش عشرة من الباطنية فلما وصل الجيش حملوا على الخليفة فقتلوه في خيمته وقطعوه قطعا ولم يلحق الناس منه إلا الرسوم وقتلوا معه أصحابه منهم عبيدالله بن سكينة ثم أخذ أولئك الباطنية فأحرقوا قبحهم الله وقيل إنهم كانوا مجهزين لقتله فالله أعلم وطار هذا الخبر في الآفاق فاشتد حزن الناس على الخليفة المسترشد وخرجت النساء في بغداد حاسرات عن وجوههن ينحن في الطرقات قتل على باب مراغة في يوم الخميس سابع عشر ذي الحجة وحملت أعضاؤه إلى بغداد وعمل عزاؤه ثلاثة أيام بعد ما بويع لولده الراشد وقد كان المسترشد شجاعا مقداما بعيد الهمة فصيحا بليغا عذب الكلام حسن الإيراد مليح الخط كثير العبادة محببا إلى العامة والخاصة وهو آخر خليفة رؤى خطيبا قتل وعمره خمس وأربعون سنة وثلاثة أشهر وكانت مدة خلافته سبع عشرة سنة وستة أشهر وعشرين يوما وكانت أمه أم ولد من الأتراك (12/208)
رحمه الله
خلافة الراشد بالله
أبي جعفر منصور بن المسترشد كان أبوه قد أخذ له العهد ثم أراد أن يخلعه فلم يقدر على ذلك لأنه لم يغدر فلما قتل أبوه بباب مراغة في يوم الخميس السابع عشر من ذي القعدة من سنة تسع وعشرين وخمسمائة بايعه الناس والأعيان وخطب له على المنابر ببغداد وكان إذ ذاك كبيرا له أولاد وكان أبيض جسيما حسن اللون فلما كان يوم عرفة من هذه السنة جيء بالمسترشد وصلى عليه ببيت التوبة وكثر الزحام وخرج الناس لصلاة العيد من الغد وهم في حزن شديد على المسترشد وقد ظهر الرفض قليلا في أول أيام الراشد وممن توفي فيها من الأعيان
أحمد بن محمد بن الحسين
ابن عمرو أبو المظفر بن أبي بكر الشاشي تفقه بأبيه واخترمته المنية بعد أخيه ولم يبلغ سن الرواية
إسماعيل بن عبدالله
ابن علي أبو القاسم الحاكم تفقه بإمام الحرمين وكان رفيق الغزالي يحترمه ويكرمه وكان فقيها بارعا وعابدا ورعا توفي بطوس ودفن إلى جانب الغزالي
دبيس بن صدقة
ابن منصور بن دبيس بن علي بن مزيد أبو الأعز الأسدي الأمير من بيت الأمرة وسادة الأعراب كان شجاعا بطلا فعل الأفاعيل وتمرق في البلاد من خوفه من الخليفة فلما قتل الخليفة عاش بعده أربعة وثلاثين يوما ثم اتهم عند السلطان بأنه قد كاتب زنكي ينهاه عن القدوم إلى السلطان ويحذره منه ويأمره أن ينجو بنفسه فبعث إليه السلطان غلاما أرمنيا فوجده منكس رأسه يفكر في خيمته فما كلمه حتى شهر سيفه فضربه فأبان رأسه عن جثته ويقال بل استدعاه السلطان فقتله صبرا بين يديه فالله أعلم
طغرل السلطان بن السلطان محمد بن ملكشاه
توفي بهذان يوم الأربعاء ثالث المحرم منها
علي بن محمد النروجاني
كان عابدا زاهدا حكى ابن الجوزي عنه أنه كان يقول بأن القدرة تتعلق بالمستحيلات ثم أنكر ذلك وعذره لعدم تعقله لما يقول ولجهله
الفضل أبو منصور
أمير المؤمنين المسترشد تقدم شيء من ترجمته والله أعلم (12/209)
ثم دخلت سنة ثلاثين وخمسمائة
فيها وقع بين الخليفة الراشد وبين السلطان مسعود بسبب أنه أرسل إلى الخليفة يطلب منه ما كان كتبه له والده المسترشد حين أسره إلتزم له بأربعمائة ألف دينار فامتنع من ذلك وقال ليس بيننا وبينكم إلا السيف فوقع بينهما الخلف فاستجاش السلطان بالعساكر واستنهض الخليفة الأمراء وارسل إلى عمادالدين زنكي فجاء والتف على الخليفة خلائق وجاء في غضون ذلك السلطان داود بن محمود بن محمد بن ملكشاه فخطب له الخليفة ببغداد وخلع عليه وبايعه على الملك فتأكدت الوحشة بين السلطان والخليفة جدا وبرز الخليفة إلى ظاهر بغداد ومشى الجيش بين يديه كما كانوا يعاملون أباه وذلك يوم الأربعاء سلخ شعبان وخرج السلطان داود من جانب آخر فلما بلغهم كثرة جيوش السلطان محمود حسن عمادالدين زنكي للخليفة أن يذهب معه إلى الموصل واتفق دخول مسعود إلى بغداد في غيبتهم يوم الإثنين رابع شوال فاستحوذ على دار الخلافة بما فيها جميعه ثم استخلص من نساء الخليفة وحظاياه الحلي والمصاغ والثياب التي للزينة وغير ذلك وجمع القضاة والفقهاء وابرز لهم خط الراشد أنه متى خرج من بغداد لقتال السلطان فقد خلع نفسه من الخلافة فأفتى من أفتى من الفقهاء بخلعه فخلع في يوم الإثنين سادس عشر شهر ذي القعدة بحكم الحاكم وفتيا الفقهاء وكانت خلافته إحدى عشر شهرا وإحدى عشر يوما واستدعى السلطان بعمه المقتفى بن المستظهر فبويع بالخلافة عوضا عن ابن أخيه الراشد بالله
خلافة المقتفى لأمر الله
أبي عبدالله بن المستظهر وأمه صفراء تسمى نسيما ويقال لها ست السادة وله من العمر يومئذ أربعون سنة بويع بالخلافة بعد خلع الراشد بيومين وخطب له على المنابر يوم الجمعة لعشرين من ذي القعدة ولقب بالمقتفى لأنه يقال إنه رأى رسول الله ( ص ) وهو في المنام وهويقول له سيصل هذا الأمر إليك فاقتف بي فصار إليه بعد ستة أيام فلقب بذلك
فائدة حسنة ينبغي التنبه لها
ولي المقتفي والمسترشد الخلافة وكانا أخوين وكذلك السفاح والمنصور وكذلك الهادي والرشيد أبنا المهدي وكذلك الواثق والمتوكل أبنا المعتصم أخوان وأما ثلاثة إخوة فالأمين والمأمون والمعتصم بنو الرشيد والمنتصر والمعتز والمعتمد بنو المتوكل والمكتفي والمقتدر والقاهر بنو المعتضد والراضي والمقتفي والمطيع بنو المقتدر وأما أربعة إخوة فلم يكن إلا في بني أمية وهم الوليد وسليمان ويزيد وهشام بنو عبدالملك بن مروان ولما استقر المقتفي بالخلافة استمر الراشد ذاهبا إلى الموصل صحبة صاحبها عمادالدين زنكي فدخلها في ذي الحجة من هذه السنة (12/210)
وممن توفي فيها من الأعيان
محمد بن حمويه
ابن محمد بن حمويه أبو عبدالله الجويني روى الحديث وكان صدوقا مشهورا بالعلم والزهد وله كرامات دخل إلى بغداد فلما ودعهم بالخروج منها أنشدهم ... لئن كان لي من بعد عود إليكم ... نصيب لبانات الفؤاد إليكم ... وإن تكن الأخرى وفي الغيب غيره ... قضاه وإلا فالسلام عليكم ...
محمد بن عبدالله
ابن أحمد بن حبيب أبو بكر العامري المعروف بابن الخباز سمع الحديث وكان يعظ الناس على طريق التصوف وكان ابن الجوزي فيمن تأدب به وقد أثنى عليه وأنشد عنه من شعره ... كيف احتيالي وهذا في الهوى حالي ... والشوق أملك لي من عذل عذالي ... وكيف اشكو وفي حبي له شغل ... يحول بين مهماتي وأشغالي ...
وكانت له معرفة بالفقه والحديث وقد شرح كتاب الشهاب وقد ابتنى رباطا وكان عنده فيه جماعة من المتعبدين والزهاد ولما احتضر أوصاهم بتقوى الله عز و جل والإخلاص لله والدين فلما فرغ شرع في النزع وعرق جبينه فمد يده وقال بيتا لغيره
... ها قد بسطت يدي إليك فردها ... بالفضل لا بشماتة الأعداء ...
ثم قال أرى المشايخ بين أيديهم الأطباق وهم ينتظرونني ثم مات وذلك ليلة الأربعاء نصف رمضان ودفن برباطه ثم غرق رباطه وقبره في سنة أربعين وخمسمائة
محمد بن الفضل
ابن أحمد بن محمد بن أبي العباس أبو عبدالله الصاعدي الفراوي كان أبوه من ثغر فراوه وسكن نيسابور فولد له بها محمد هذا وقد سمع الحديث الكثير على جماعة من المشايخ بالآفاق وتفقه وأفتى وناظر ووعظ وكان ظريفا حسن الوجه جميل المعاشرة كثير التبسم واملى أكثر من ألف مجلس ورحل إليه الطلبة من الآفاق حتى يقال للفراوي ألف راوي وقيل إن ذلك كان مكتوبا في خاتمه وقد أسمع صحيح مسلم قريبا من عشرين مرة توفي في شوال منها عن تسعين سنة
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة فيها كثر موت الفجأة بأصبهان فمات ألوف من الناس وأغلقت دور كثيرة وفيها تزوج الخليفة بالخاتون فاطمة بنت محمد بن ملكشاه على صداق مائة ألف دينار فحضر أخوها السلطان مسعود العقد وجماعة من أعيان الدولة والوزراء والأمراء ونثر على الناس أنواع النثار وفيها صام أهل بغداد رمضان ثلاثين يوما ولم يروا الهلال ليلة إحدى وثلاثين مع كون السماء كانت مصحية (12/211)
قال ابن الجوزي وهذا شيء لم يقع مثله وفيها هرب وزير صاحب مصر وهو تاج الدولة بهرام النصراني وقد كان تمكن في البلاد وأساء السيرة فتطلبه الخليفة الحافظ حتى أخذه فسجنه ثم أطلقه فترهب وترك العمل فاستوزر بعده رضوان بن الريحيني ولقبه الملك الافضل ولم يلقب وزير قبله بهذا ثم وقع بينه وبين الخليفة الحافظ فلم يزل به الخليفة حتى قتله واستقل بتدبير أموره وحده وفيها ملك عمادالدين زنكي عدة بلدان وفيها طلع بالشام سحاب أسود أظلمت له الدنيا ثم ظهر بعده سحاب أحمر كأنه نار أضاءت له الدنيا ثم جاءت ريح عاصف ألقت أشجارا كثيرة ثم وقع مطر شديد وسقط برد كبار وفيها قصد ملك الروم بلاد الشام فأخذ بلادا كثيرة من أيدي الفرنج وأطاعه ابن اليون ملك الأرمن وممن توفي فيها من الأعيان أحمد بن محمد بن ثابت
ابن الحسن أبو سعد الخجندي تفقه على والده الامام أبي بكر الخجندي الأصبهاني وولى تدريس النظامية ببغداد مرارا ويعزل عنها وقد سمع الحديث ووعظ وتوفي في شعبان منها وقد قارب التسعين
هبة الله بن أحمد
ابن عمر الحريري يعرف بابن الطير سمع الكثير وهو آخر من روى عن أبي الحسن ابن زوج الحرة وقد حدث عنه الخطيب وكان ثبتا كثير السماع كثير الذكر والتلاوة ممتعا بحواسه وقواه إلى أن توفي في جمادى الأولى عن ست وتسعين سنة
ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثين وخمسمائة فيها قتل الخليفة الراشد المخلوع وذلك أنه اجتمع معه الملك داود وجماعة من كبار الأمراء فقصدوا قتال مسعود بأرض مراغة فهزمهم وبدد شملهم وقتل منهم خلقا صبرا منهم صدقة بن دبيس وولي أخاه محمدا مكانه على الحلة وهرب الخليفة الراشد المخلوع فدخل أصبهان فقتله رجل ممن كان يخدمه من الخراسانية وكان قد برأ من وجع أصابه فقتلوه في الخامس والعشرين من رمضان ودفن بشهرستان ظاهر أصبهان وقد كان حسن اللون مليح الوجه شديد القوة مهيبا أمه أم ولد وفيها كسى الكعبة رجل من التجار يقال له راست الفارسي بثمانية عشر ألف دينار وذلك لأنه لم تأتها كسوة في هذا العام لأجل اختلاف الملوك وفيها كانت زلزلة عظيمة ببلاد الشام والجزيرة والعراق فانهدم شيء كثير من البيوت ومات تحت الهدم خلق كثير وفيها أخذ الملك عمادالدين زنكي مدينة حمص في المحرم وتزوج في رمضان بالست زمرد خاتون أم صاحب دمشق وهي التي تنسب إليها الخاتونية البرانية وفيها ملك صاحب الروم مدينة بزاعة وهي على ستة فراسخ من حلب فجاء أهلها الذين نجوا من القتل والسبي يستغيثون بالمسلمين ببغداد فمنعت (12/212)
الخطبة ببغداد وجرت فتن طويلة وفيها تزوج السلطان مسعود بسفري بنت دبيس بن صدقة وزينت بغداد لذلك سبعة أيام قال ابن الجوزي فحصل بسبب ذلك فساد عريض طويل منتشر ثم تزوج ابنة عمه فزينت بغداد ثلاثة أيام أيضا وفيها ولد للسلطان الناصر صلاح يوسف بن أيوب ابن شاري بقلعة تكريت وممن توفي فيها من الأعيان أحمد بن محمد
أبو بكر بن أبي الفتح الدينوري الحنبلي سمع الحديث وتفقه على أبي الخطاب الكلوذاني وأفتى ودرس وناظر كان اسعد الميهني يقول عنه ما اعترض أبو بكر الدينوري على دليل أحد إلا ثلمه وقد تخرج به ابن الجوزي وانشد
... تمنيت أن يمسي فقيها مناظرا ... بغير عيا والجنون فنون ... وليس اكتساب المال دون مشقة ... تلقيتها فالعلم كيف يكون ...
عبدالمنعم بن عبدالكريم
ابن هوازن أبو المظفر القشيري آخر من بقي منهم سمع أباه وأبا بكر البيهقي وغيرهما وسمع منه عبدالوهاب الإنماطي وأجاز ابن الجوزي وقارب التسعين
محمد بن عبدالملك
ابن محمد بن عمر أبو الحسن الكرخي سمع الكثير في بلاد شتى وكان فقيها مفتيا تفقه بأبي إسحاق وغيره من الشافعية وكان شاعرا فصيحا وله مصنفات كثيرة منها الفصول في إعتقاد الأئمة الفحول يذكر فيه مذاهب السلف في باب الإعتقاد ويحكى فيه أشياء غريبة حسنة وله تفسير وكتاب في الفقه وكان لا يقنت في الفجر ويقول لم يصح ذلك في حديث وقد كان إمامنا الشافعي يقول إذا صح الحديث فهو مذهبي واضربوا بقولي الحائط وقد كان حسن الصورة جميل المعاشرة ومن شعره قوله ... تناءت داره عني ولكن ... خيال جماله في القلب ساكن ... إذا امتلأ الفؤاد به فماذا ... يضر إذا خلت منه الأماكن ... توفي وقد قارب التسعين
الخليفة الراشد
منصور بن المسترشد قتل بأصبهان بعد مرض أصابه فقيل إنه سم وقيل قتلته الباطنية وقيل قتله الفراشون الذين كانوا يلون أمره فالله أعلم وقد حكى ابن الجوزي عن أبي بكر الصولي أنه قال الناس يقولون كل سادس يقوم بأمر الناس من أول الإسلام لابد أن يخلع قال ابن الجوزي فتأملت ذلك فرأيته عجبا قيام رسول الله ( ص ) ثم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم الحسن فخلعه معاوية (12/213)
ثم يزيد ومعاوية بن يزيد ومروان وعبد الملك ثم عبد الله بن الزبير فخلع وقتل ثم الوليد ثم سليمان ثم عمر بن عبد العزيز ثم يزيد بن هشام ثم الوليد بن يزيد فخلع وقتل ولم ينتظم لبني أمية بعده أمر حتى قام السفاح العباسي ثم أخوه المنصور ثم المهدي ثم الهادي ثم الرشيد ثم الأمين فخلع وقتل ثم المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر ثم المستعين فخلع ثم قتل ثم المعتز والمهتدي والمعتمد والمعتضد والمكتفي ثم المقتدر فخلع ثم أعيد فقتل ثم القاهر والراضي والمتقي والمكتفي والمطيع ثم الطائع فخلع ثم القادر والقائم والمقتدي والمستظهر والمسترشد ثم الراشد فخلع وقتل
أنوشروان بن خالد
ابن محمد القاشاني القيني من قرية قين من قاشان الوزير أبو نصر وزر للسلطان محمود وللخليفة المسترشد وكان عاقلا مهيبا عظيم الخلقة وهو الذي ألزم أبا محمد الحريري بتكميل المقامات وكان سبب ذلك أن أبا محمد كان جالسا في مسجد بني حرام في محلة من محال البصرة فدخل عليه شيخ ذو طمرين فقالوا من أنت قال أنا رجل من سروج يقال لي أبو زيد فعمل الحريري المقامة الحرامية واشتهرت في الناس فلما طالها الوزير أنوشروان أعجب بها وكلف أبا محمد الحريري أن يزيد عليها غيرها فزاد عليها غيرها إلى تمام خمسين مقامة فهي هذه المشهور الدولة المتداول بين الناس وقد كان الوزير أنوشروان كريما وقد مدحه الحريري صاحب المقامات ... ألا ليت شعري والتمنيي لعله ... وإن كان فيه راحة لأخي الكرب ... أتدرون أني مذتناءت دياركم ... وشط اقتاربي من جنابكم الرحب ... أكابد شوقا ما أزال أداره ... يقلبني في الليل جنبا على جنب ... وأذكر أيام التلاقي فأنثني ... لتذكارها بادي الاسي طائر اللب ... ولي حنة في كل وقت إليكم ... ولا حنة الصادي إلى البارد العذب ... فو الله لو أني كتمت هواكم ... لما كان مكتوما بشرق ولا غرب ... ومما شجا قلبي المعني وشفه ... رضاكم بإهمال الاجابة عن كتبي ... وقد كنت لا أخشى مع الذنب جفوة ... فقد صرت أخشاها ومالي من ذنب ... ولما سرى الوفد العراقي نحوكم ... وأعوزني المسري إليكم مع الركب ... جعلت كتابي نائبا عن ضرورتي ... ومن لم يجد ماء تيمم بالترب ... ويعضد أيضا يضعة من جوارحي ... تنبيكم عن سر حالي وتستنبي ... ولست أرى أذكاركم بعد خيركم ... بمكرمة حسبي اعتذاركم حسبي (12/214)
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة
... فيها كانت زلزلة عظيمة بمدينة جبرت فمات بسببها مائتا ألف وثلاثون ألفا وصار مكانها ماء أسود عشرةفراسخ في مثلها وزلزل أهل حلب في ليلة واحدة ثمانين مرة وفيها وضع السلطان محمود مكوسا كثيرة عن الناس وكثرت الأدعية له وفيها كانت وقعة عظيمة بين السلطان سنجر وخوارزم شاه فهزمه سنجر وقتل ولده في المعركة فحزن عليه والده حزنا شديدا وفيها قتل صاحب دمشق شهاب الدين محمود بن تاج الملوك بوري بن طغتكين قتله ثلاثة من خواصه ليلا وهربوا من القلعة فأدرك اثنان فصلبا وأفلت واحد وفيها عزل اليهود والنصاري عن المباشرات ثم أعيدوا قبل شهر وحج بالناس فيها قطز الخادم وفيها توفي من الأعيان
زاهر بن طاهر
ابن محمد أبو القاسم بن أبي عبدالرحمن بن أبي بكر السحامي المحدث المكثر الرحال الجوال سمع الكثير وأملي بجامع نيسابور ألف مجلس وتكلم فيه أبو سعد السمعاني وقال إنه كان يخل بالصلوات وقد رد ابن الجوزي على السمعاني بعذر المرض ويقال إنه كان به مرض يكثر بسببه جمع الصلوات فالله أعلم بلغ خمسا وثمانين سنة توفي بنيسابور في ربيع الآخر ودفن بمقبرته
يحيى بن يحيى بن علي
ابن أفلح أبو القاسم الكاتب وقد خلع عليه المسترشد ولقبه جمال الملك وأعطاه أربعة دور وكانت له دار إلى جانبهن فهدمهن كلهن واتخذ مكانهن دارا هائلة طولها ستون ذراعا في عرض أربعين ذراعا وأطلق له الخليفة أخشابها وآجرها وطرازاتها وكتب عليها أشعارا حسنة من نظمه ونظم غيره فمن ذلك ما هو علىباب دارها ... إن أعجب الراؤن من ظاهري ... فباطني لو علموا أعجب ... شد باني من كفه مزنة ... يخجل منها العارض الصيب ... ورنحت روضة أخلاقه ... في ديار نورها مذهب ... صدر كسى صدري من نوره ... شمسا على الأيام لا تغرب ... وعلى الطرز مكتوب ... ومن المروءة للفتى ... ما عاش دار فاخرة ... فاقنع من الدنيا بها ... واعمل لدار الآخرة ... هاتيك وافيت بما ... وعدت وهاني باترة ... وفي موضع آخر مكتوب (12/215)
وناد كأن جنان الخ ... لد أعارته من حسنها رونقا ... وأعطته من حادثات الزما ... ن أن لا يلم به موبقا ... فأضحى بنبئه على كل ما ... بني مغربا كان أو مشرقا ... تظل الوفود به عكفا ... ويمسي الضيوف به طرقا ... بقيت له يا جمال الملو ... ك وذا الفضل مهما أردت البقا ... وسالمه فيك ريب الزما ... ن ووقيت فيه الذي يتقى ... فما والله صدقت هذه الأماني بل عما قريب اتهمه الخليفة بأنه يكاتب دبيسا فأمر بخراب داره تلك فلم يبق فيها جدار بل صارت خربة بعد ما كانت قرة العيون من أحسن المقام والقرار وهذه حكمة الله من تقلب الليل والنهار وما تجري بمشيئة الأقدار وهي حكمته في كل دار بنيت بالأشر والبطر وفي كل لباس لبس على التيه والكبر والأشر وقد أورد له ابن الجوزي أشعارا حسنة من نظمه وكلمات من نثره فمن ذلك قوله ... دع الهوى لا ناس يعرفون به ... قد مارسوا الحب حتى اصعبه ... أدخلت نفسك فيما لست تجربه ... والشيء صعب على من لا يجر به ... أمن اصطبار وإن لم تستطع خلدا ... فرب مدرك أمر عز مطلبه ... أحن الضلوع على قلب يخيرني ... في كل يوم يعييني تقلبه ... تأرج الريح من نجد يهيجه ... ولامع البرق من نغمان يطربه ... وقوله ... هذه الخيف وهاتيك مني ... فترفق أيها الحادي بنا ... واحبس الركب علينا ساعة ... نندب الدار ونبكي الدنا ... فلذا الموقف أعددت البكا ... ولذا اليوم الدموع تقتني ... زماننا كان وكنا جيرة ... فأعاد الله ذاك الزمنا ... بيننا يومض ائتلاف نلتقي ... كان من غير تراضي بيننا ...
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وخمسمائة
... فيها حاصر زنكي دمشق فحصنها الأتابك معين الدين بن مملوك طغتكين فاتفق موت ملكها جمال الدين محمود بن بوري بن طغتكين فأرسل معين الدين إلى أخيه مجير الدين أتق وهو ببعلبك فملكه دمشق فذهب زنكي إلى بعلبك فأخذها واستناب عليها نجم الدين أيوب صلاح الدين وفيها دخل الخليفة على الخاتون فاطمة بنت السلطان مسعود أغلقت بغداد أياما وفيها نودي للصلاة على رجل صالح فاجتمع الناس بمدرسة الشيخ عبدالقادر فاتفق أن الرجل عطس فأفاق (12/216)
وحضرت جنازة رجل آخر غيره فصلى عليه ذلك الجمع الكثير وفيها نقصت المياه من سائر الدنيا وفيها ولد صاحب حماه تقي الدين عمر شاهنشاه بن أيوب بن شارى وممن توفي فيها من الأعيان
أحمد بن جعفر
ابن الفرج أبو العباس الحربي أحد العباد الزهاد سمع الحديث وكانت له أحوال صالحة حتى كان يقال إنه كان يرى في بعض السنين بعرفات ولم يحج في تلك السنة
عبدالسلام بن الفضل
أبو القاسم الجيلى سمع الحديث وتفقه على الكيا الهراسى وبرع في الأصول والفروع وغير ذلك وولى قضاء البصرة وكان من خيار القضاة
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وخمسمائة
فيها وصلت البردة والقضيب إلى بغداد وكانا مع المسترشد حين هرب سنة تسع وعشرين وخمسمائة فحفظهما السلطان سنجر عنده حتى ردهما في هذه السنة وفيها كملت المدرسة الكمالية المنسوبة إلى كمال الدين أبي الفتوح حمزة بن طلحة صاحب المخزن ودرس فيها الشيخ أبو الحسن الحلى وحضر عنده الأعيان وممن توفي فيها من الأعيان
إسماعيل بن محمد
ابن على أبو القاسم الطلحى الأصبهاني سمع الكثير ورحل وكتب وأملى بأصبهان قريبا من ثلاثة آلاف مجلس وكان إماما في الحديث والفقه والتفسير واللغة حافظا متقنا توفي ليلة عيد الأضحى وقد قارب الثمانين ولما أراد الغاسل تنحية الخرقة عن فرجه ردها بيده وقيل إنه وضع يده على فرجه
محمد بن عبدالباقي
ابن محمد بن عبدالله بن محمد بن عبدالرحمن بن الربيع بن ثابت بن وهب بن مسجعة بن الحارث بن عبدالله بن كعب بن مالك الأنصاري سمع الحديث وتفرد عن جماعة من المشايخ واملى الحديث في جامع القصر وكان مشاركا في علوم كثيرة وقد أسر في صغره في أيدي الروم فارادوه على أن يتكلم بكلمة الكفر فلم يفعل وتعلم منهم خط الروم وكان يقول من خدم المحابر خدمته المنابر ومن شعره الذي أورده له ابن الجوزي عنه وسمعه منه قوله ... احفظ لسانك لا تبح بثلاثة ... سن ومال إن سئلت ومذهب ... فعلى الثلاثة تبتلى بثلاثة ... بمكفر وبحاسد ومكذب ... وقوله ... لي مدة لا بد أبلغها ... فإذا انقضت مت ... لو عاندتني الأسد ضارية ... ما ضرني ما لم يجي الوقت (12/217)
قال ابن الجوزي بلغ من العمر ثلاثا وتسعين سنة لم تتغير حواسه ولا عقله توفي ثاني رجب منها وحضر جنازته الأعيان وغيرهم ودفن قريبا من قبر بشر يوسف بن أيوب
ابن الحسن بن زهرة أبو يعقوب الهمذاني تفقه بالشيخ أبي إسحاق وبرع في الفقه والمناظرة ثم ترك ذلك واشتغل بالعبادة وصحب الصالحين وأقام بالجبال ثم عاد إلى بغداد فوعظ بها وحصل له قبول توفي في ربيع الأول ببعض قرى هراة
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وخمسمائة
فيها كانت حروب كثيرة بين السلطان سنجر وخوارزم شاه فاستحوذ خوارزم على مرو بعد هزيمة سنجر ففتك بها وأساء التدبير بالنسبة إلى الفقهاء الحنفية الذين بها وكان جيش خوارزم ثلاثمائة ألف مقاتل وفيها تحمل عمل دمشق النهروز وخلع نهروز شحنة بغداد على حباب صباغ الحرير الرومي وركب هو والسلطان مسعود في سفينة في ذلك النهر وفرح السلطان بذلك وكان قد صرف السلطان على ذلك النهر سبعين ألف دينار وفيها حج كمال الدين طلحة صاحب المخزن وعاد فتزهد وترك العمل ولزم داره وفيها عقدت الجمعة بمسجد العباسيين بإذن الخليفة وحج بالناس قطز وممن توفي فيها من الأعيان
إسماعيل بن أحمد بن عمر
ابن الأشعث أبو القاسم بن أبي بكر السمرقندي الدمشقي ثم البغدادي سمع الكثير وتفرد بمشايخ وكان سماعه صحيحا وأملى بجامع المنصور مجالس كثيرة نحو ثلاثمائة مجلس توفي وقد جاوز الثمانين
يحيى بن علي
ابن محمد بن علي أبو محمد بن الطراح المدبر ولد سنة تسع وعشرين وأربعمائة وسمع الكثير وأسمع وكان شيخا حسنا مهيبا كثير العبادة توفي في رمضان منها
ثم دخلت سنة ست وثلاثين وخمسمائة
فيها ملك عمادالدين زنكي الحديثة ونقل آل مهارش منها إلى الموصل ورتب فيها نوابا من جهته
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة فيها تجهز السلطان مسعود ليأخذ الموصل والشام من زنكي فصالحه على مائة ألف دينار فدفع إليه منها عشرين ألف دينار واطلق له الباقي وسبب ذلك أن ابنه سيف الدين غازي كان لا يزال في خدمة السلطان مسعود وفيها ملك زنكي بعض بلاد بكر وفيها حصر الملك سنجر خوارزم شاه ثم أخذ منه مالا وأطلقه وفيها وجد رجل يفسق بصبي فالقي من رأس منارة وفي ليلة الثلاثاء الرابع (12/218)
والعشرين من ذي القعدة زلزلت الأرض وحج بالناس قطز وممن توفي فيها من الأعيان عبدالوهاب بن المبارك
ابن أحمد أبو البركات الأنماطي الحافظ الكبير كان ثقة دينا ورعا طليق الوجه سهل الأخلاق توفي في المحرم عن ست وتسعين سنة
علي بن طراد
ابن محمد الزينبي الوزير العباسي أبو القاسم نقيب النقباء على الطائفتين في أيام المستظهر ووزر للمسترشد وتوفي في رمضان عن ست وسبعين سنة
الزمخشري محمود
ابن عمر بن محمد بن عمر أبو القاسم الزمخشري صاحب الكشاف في التفسير والمفصل في النحو وغير ذلك من المصنفات المفيدة وقد سمع الحديث وطاف البلاد وجاور بمكة مدة وكان يظهر مذهب الإعتزال ويصرح بذلك في تفسيره ويناظر عليه وكانت وفاته بخوارزم ليلة عرفة منها عن ست وسبعين سنة
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وخمسمائة
فيها أخذ العماد زنكي الرها وغيرها من حصون الجزيرة من أيدي الفرنج وقتل منهم خلقا كثيرا وسبى نساء كثيرة وغنم أموالا جزيلة وأزال عن المسلمين كربا شديدا وحج بالناس قطز الخادم وتنافس هو وأمير مكة فنهب الحجيج وهم يطوفون وفيها توفي من الأعيان
إبراهيم بن محمد بن منصور
ابن عمر أبو الوليد الكرخي تفقه بأبي إسحاق وأبي سعد المتولي حتى صار أوحد زمانه فقها وصلاحا مات في هذه السنة
سعد بن محمد
ابن عمر أبو منصور البزار سمع الحديث وتفقه بالغزالي والشاشي والمتولي والكيا وولى تدريس النظامية وكان له سمت حسن ووقار وسكون وكان يوم جنازته مشهودا ودفن عند أبي إسحاق
عمر بن إبراهيم
ابن محمد بن أحمد بن علي بن الحسين بن علي بن حمزة بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب القرشي العلوي أبو البركات الكوفي ثم البغدادي سمع الكثير وكتب كثيرا وأقام بدمشق مدة وكان له معرفة جيدة بالفقه والحديث والتفسير واللغة والأدب وله تصانيف في النحو وكان خشن العيش صابرا محتسبا توفي في شعبان من هذه السنة عن سبع وتسعين سنة رحمه الله تعالى (12/219)
ثم دخلت سنة أربعين وخمسمائة
فيها حصر علي بن دبيس أخاه محمدا ولم يزل يحاصره حتى اقتلع من يده الحلة وملكها وفي رجب منها دخل السلطان مسعود بغداد خوفا من اجتماع عباس صاحب الرى ومحمد شاه بن محمود ثم خرج منها في رمضان وحج بالناس أرجوان مملوك أمير الجيوش بسبب ما كان وقع بين قطز وأمير مكة في السنة الماضية وممن توفي فيها من الأعيان
أحمد بن محمد
ابن الحسن بن علي بن أحمد بن سليمان أبو سعد الأصبهاني ثم البغدادي سمع الحديث وكان على طريقة السلف حلو الشمائل مطرح الكلفة ربما خرج إلى السوق بقميص وقلنسوة وحج أحدعشر حجة وكان يملي الحديث ويكثر الصوم توفي بنهاوند في ربيع الأول من هذه السنة وقد قارب الثمانين
علي بن أحمد
ابن الحسين بن أحمد أبو الحسن اليزدي تفقه بأبي بكر الشاشي وسمع الحديث وأسمعه وكان له ولأخيه قميص واحد إذا خرج هذا لبسه وجلس الآخر في البيت عريانا وكذا الآخر
موهوب بن أحمد
ابن محمد بن الخضر أبو منصور الجواليقي شيخ اللغة في زمانه باشر مشيخة اللغة بالنظامية بعد شيخه أبي زكريا التبريزي وكان يؤم بالمقتفى وربما قرأ الخليفة عليه شيئا من الكتب وكان عاقلا متواضعا في ملبسه طويل الصمت كثير الفكر وكانت له حلقة بجامع القصر أيام الجمع وكان فيه لكنه وكان يجلس إلى جانبه المغربي معبر المنامات وكان فاضلا لكنه كان كثير النعاس في مجلسه فقال فيهما بعض الأدباء
... بغداد عندي ذنبها لن يغفرا ... وعيوبها مكشوفة لن تسترا ... كون الجواليقي فيها ممليا ... لغة وكون المغربي معبرا ... ما سور لكنته يقول فصاحة ... وليوم يقظته يعبر في الكرا ...
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وخمسمائة
في ليلة مستهل ربيع الأول منها احترق القصر الذي بناه المسترشد وكان في غاية الحسن وكان الخليفة المقتفى قد انتقل بجواريه وحظاياه إليه ليقيم فيه ثلاثة أيام فما هو إلا أن ناموا احترق عليهم القصر بسبب أن جارية أخذت في يدها شمعة فعلق لهبها ببعض الأخشاب فاحترق القصر وسلم الله الخليفة وأهله فأصبح فتصدق بأشياء كثيرة واطلق خلقا من المحبسين وفي رجب منها وقع بين الخليفة والسلطان مسعود واقع فبعث الخليفة الىالجوامع والمساجد فأغلقت ثلاثة أيام حتى (12/220)
اصطلحا وفي يوم الجمعة نصف ذي القعدة جلس ابن العبادي الواعظ فتكلم السلطان مسعود حاضر وكان قد وضع على الناس في البيع مكسا فاحشا فقال في جملة وعظه يا سلطان العالم أنت تطلق في بعض الأحيان للمغنى إذا طربت قريبا مما وضعت على المسلمين من هذا المكس فهبني مغنيا وقد طربت فهب لي هذا المكس شكرا لنعم الله عليك فأشار السلطان بيده أن قد فعلت فضج الناس بالدعاء له وكتب بذلك سجلات ونودي في البلد بإسقاط ذلك المكس ففرح الناس بذلك ولله الحمد والمنة وفيها قل المطر جدا وقلت مياه الأنهار وانتشر جراد عظيم وأصاب الناس داء في حلوقهم فمات بذلك خلائق كثيرة فإنا لله وإنا إليه راجعون وفيها قتل الملك عمادالدين زنكي بن قيم الدولة التركي صاحب الموصل وحلب وغيرها من البلاد الشامية والجزيرة وكان محاصرا قلعة جعبر وفيها شهاب الدين سالم بن مالك العقيلي فبرطل بعض مماليك زنكي حتى قتلوه في الليلة الخامسة من ربيع الأول من هذه السنة قال العماد الكاتب كان سكرانا فالله أعلم وقد كان زنكي من خيار الملوك وأحسنهم سيرة وشكلا وكان شجاعا مقداما حازما خضعت له ملوك الأطراف وكان من أشد الناس غيرة على نساء الرعية وأجود الملوك معاملة وأرفقهم بالعامة وقام بالأمر من بعد بالموصل ولده سيف الدولة وبحلب نور الدين محمود فاستعاد نور الدين هذا مدينة الرها وكان أبوه قد فتحها فلما مات عصوا فقهرهم نور الدين وفيها ملك عبدالمؤمن صاحب المغرب وخادم ابن تومرت جزيرة الأندلس بعد حروب طويلة وفيها ملكت الفرنج مدينة طرابلس الغرب وفيها استعاد صاحب دمشق مدينة بعلبك وفيها جاء نجم الدين أيوب إلى صاحب دمشق فسلمه القلعة وأعطاه أمزبه عنده بدمشق وفيها قتل السلطان مسعود حاجبه عبدالرحمن بن طغرلبك وقتل عباسا صاحب الري والقى رأسه إلى أصحابه فانزعج الناس ونهبوا خيام عباس هذا وقد كان عباس من الشجعان المشهورين قاتل الباطنية مع مخدومه جوهر فلم يزل يقتل منهم حتى بنى مأذنة من رؤسهم بمدينة الري وفيها مات نقيب النقباء ببغداد محمد بن طراد الزينبي فتولى بعده علي بن طلحة الزينبي وفيها سقط جدار على ابنة الخليفة وكانت قد بلغت مبالغ النساء فماتت فحضر جنازتها الأعيان وحج بالناس قطز الخادم وممن توفي فيها من الأعيان
زنكي بن آقسنقر
تقدم ذكر شيء من ترجمته وهو أبو نور الدين محمود الشهيد وقد أطنب الشيخ أبو شامة في الروضتين في ترجمته وما قيل فيه من نظم ونثر رحمه الله
سعد الخير
محمد بن سهل بن سعد أبو الحسن المغربي الأندلسي الأنصاري رحل وحصل كتبا نفيسة (12/221)
وروى عنه ابن الجوزي وغيره وقد أوصى عند وفاته أن يصلي عليه الغزنوي وأن يدفن عند قبر عبدالله بن الإمام أحمد وحضر جنازته خلائق من الناس
شافع بن عبدالرشيد
ابن القاسم أبو عبدالله الجيلي الشافعي تفقه على الكيا وعلى الغزالي وكان يسكن الكرخ وله حلقة بجامع المنصور في الرواق قال ابن الجوزي وكنت أحضر حلقته
عبدالله بن علي
ابن أحمد بن عبدالله أبو محمد سبط أبي منصور الزاهد قرأ القراءات وصنف فيها وسمع الحديث الكثير واقتنى الكتب الحسنة وأم في مسجده نيفا وخمسين سنة وعلم خلقا القرآن قال ابن الجوزي ما سمعت أحدا أحسن قراءة منه وحضر جنازته خلق كثير
عباس شحنة الري
توصل إلى أن ملكها ثم قتله مسعود وقد كان كثير الصدقات والإحسان الىالرعية وقتل من الباطنية خلقا حتى بنى من رؤسهم منارة بالري وتأسف الناس عليه
محمد بن طراد
ابن محمد الزينبي أبو الحسن نقيب النقباء وهو أخو علي بن طراد الوزير سمع الكثير من أبيه ومن عمه أبي نصر وغيرهما وقارب السبعين
وجيه بن طاهر
ابن محمد بن محمد أبو بكر الشحامي أخو زاهر وقد سمع الكثير من الحديث وكانت له معرفة به وكان شيخا حسن الوجه سريع الدمعة كثير الذكر جمع السماع إلى العمل إلى صدق اللهجة توفي ببغداد في هذه السنة
ثم دخلت سنة ثنتين وأربعين وخمسمائة
فيها ملكت الفرنج عدة حصون من جزيرة الأندلس وفيها ملك نور الدين بن محمود زنكي عدة حصون من يد الفرنج بالسواحل وفيها خطب للمستنجد بالله بولاية العهد من بعد أبيه المقتفي وفيها تولى عون بن يحيى بن هبيرة كتابة ديوان الزمام وولي زعيم الدين يحيى بن جعفر صدرية المخزن المعمورة وفيها اشتد الغلاء بإفريقية وهلك بسببه أكثر الناس حتى خلت المنازل وأقفلت المعاقل وفيها تزوج سيف الدين غازي بنت صاحب ماردين حسام الدين تمرتاش بن ارتق بعد أن حاصره فصالحه على ذلك فحملت إليه إلى الموصل بعد سنتين وهو مريض قد أشرف على الموت فلم يدخل بها حتى مات فتولى بعده على الموصل أخوه قطب بن مودود فتزوجها قال ابن الجوزي (12/222)
وفي صفر رأى رجل في المنام قائلا يقول له من زار أحمد بن حنبل غفر له قال فلم يبق خاص ولا عام إلا زاره قال ابن الجوزي وعقدت يومئذ ثم مجلسا فاجتمع فيه ألوف من الناس وممن توفي فيها من الأعيان
أسعد بن عبدالله
ابن أحمد بن محمد بن عبدالله بن عبدالصمد بن المهتدي بالله أبو منصور سمع الحديث الكثير وكان خيرا صالحا ممتعا بحواسه وقواه إلى حين الوفاة وقد جاوز المائة بنحو من سبع سنين
أبو محمد عبدالله بن محمد
ابن خلف بن أحمد بن عمر اللخمي الأندلسي الرباطي الحافظ مصنف كتاب اقتياس الأنوار والتماس الأزهار في أنساب الصحابة ورواة الآثار وهو من أحسن التصانيف الكبار قتل شهيدا صبيحة يوم الجمعة العشرين من جمادى بالبرية
نصر الله بن محمد
ابن عبدالقوي أبو الفتح اللاذقي المصيصي الشافعي تفقه بالشيخ نصر بن إبراهيم المقدسي بصور وسمع بها منه ومن أبي بكر الخطيب وسمع ببغداد والأنبار وكان أحد مشايخ الشام فقيها في الأصول والفروع توفي فيها وقد جاوز التسعين بأربع سنين
هبة الله بن علي
ابن محمد بن حمزة أبو السعادات ابن الشجري النحوي ولد سنة خمسين وأربعمائة وسمع الحديث وانتهت إليه رياسة النحاة قال سمعت بيتا في الذم أبلغ من قول مكوبة ... وما أنا إلا المسك قد ضاع عندكم ... يصيع وعند الأكثرين يضوع ...
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة
فيها استغاث مجير الدين بن أتابك دمشق بالملك نور الدين صاحب حلب على الفرنج فركب سريعا فالتقى معهم بأرض بصرى فهزمهم ورجع فنزل على الكسوة وخرج ملك دمشق مجير الدين أرتق فخدمه واحترمه وشاهد الدماشقة حرمة نور الدين حتى تمنوه وفيها ملكت الفرنج المهدية وهرب منها صاحبها الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس بن منصور بن يوسف بن بليكين بأهله وخاف على أمواله فتمزقت في البلاد وتمزق هو أيضا في البلاد وأكلتهم الأقطار وكان آخر ملوك بني باديس وكان ابتداء ملكهم في سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة فدخل الفرنج إليها وخزائنها مشحونة بالحواصل والأموال والعدد وغير ذلك فإنا لله وإنا إليه راجعون وفيها حاصرت الفرنج وهم في سبعين ألف مقاتل ومعهم ملك الألمان في خلق لا يعلمهم إلا الله عز و جل دمشق وعليها مجير الدين أرتق وأتابكه معين الدين وهو مدبر المملكة وذلك يوم السبت سادس ربيع (12/223)
الأول فخرج إليهم أهلها في مائة ألف وثلاثين ألفا فاقتتلوا معهم قتالا شديدا قتل من المسلمين في أول يوم نحو من مائتي رجل ومن الفرنج خلق كثير لا يحصون واستمر الحرب مدة وأخرج مصحف عثمان إلى وسط صحن الجامع واجتمع الناس حوله يدعون الله عز و جل والنساء والأطفال مكشفي الرؤس يدعون ويتباكون والرماد مفروش في البلد فاستغاث ارتق بنور الدين محمود صاحب حلب وبأخيه سيف الدين غازي صاحب الموصل فقصداه سريعا في نحو من سبعين ألفا بمن أنضاف إليهم من الملوك وغيرهم فلما سمعت الفرنج بقدوم الجيش تحولوا عن البلد فلحقهم الجيش فقتلوا منهم خلقا كثيرا وجما غفيرا وقتلوا قسيسا معهم اسمه إلياس وهو الذي أغراهم بدمشق وذلك أنه افترى مناما عن المسيح أنه وعده فتح دمشق فقتل لعنه الله وقد كادوا يأخذون البلد ولكن الله سلم وحماها بحوله وقوته قال تعالى ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ومدينة دمشق لا سبيل للأعداء من الكفرة عليها لأنها المحلة التي أخبر رسول الله ( ص ) عنها أنها معقل الإسلام عند الملاحم والفتن وبها ينزل عيسى ابن مريم وقد قتل الفرنج خلقا كثيرا من أهل دمشق وممن توفي فيها من الأعيان قتلوا الفقيه الكبير الملقب حجة الدين شيخ المالكية بها أبو الحجاج يوسف بن درناس الفندلاوي بأرض النيرب ودفن بمقابر باب الصغير وكان مجير الدين قد صالح الفرنج عن دمشق ببانياس فرحلوا عنها وتسلموا بانياس وفيها وقع بين السلطان مسعود وأمرائه ففارقوه وقصدوا بغداد فاقتتلوا مع العامة فقتلوا منهم خلقا كثيرا من الصغار والكبار ثم اجتمعوا قبال التاج وقبلوا الأرض واعتذروا إلى الخليفة مما وقع وساروا نحو النهروان فتفرقوا في البلاد ونهبوا أهلها فغلت الأسعار بالعراق بسبب ذلك وفيها ولي قضاء القضاة ببغداد أبو الحسن علي بن أحمد بن علي بن الدامغاني بعد وفاة الزينبي وفيها ملك سولى بن الحسين ملك الغور مدينة غزنة فذهب صاحبها بهرام شاه بن مسعود من أولاد سبكتكين إلى فرغانة فاستغاث بمكلها فجاء بجيوش عظيمة فاقتلع غزنة من سولى وأخذه اسيرا فصلبه وقد كان كريما جوادا كثير الصدقات وممن توفي فيها من الأعيان
إبراهيم بن محمد
ابن نهار بن محرز الغنوي الرقي سمع الحديث وتفقه بالشاشي والغزالي وكتب شيئا كثيرا من مصنفاته وقرأها عليه وصحبه كثيرا وكان مهيبا كثير الصمت توفي في ذي الحجة منها وقد جاوز الثمانين
شاهان شاه بن أيوب
ابن شادي استشهد مع نور الدين وهو والد الست عذار واقفة العذارية وتقي الدين عمر واقف التقوية (12/224)
علي بن الحسين
ابن محمد بن علي الزينبي أبو القاسم الأكمل بن أبي طالب نور الهدى بن أبي الحسن نظام الحضرتين ابن نقيب النقباء أبي القاسم بن القاضي أبي تمام العباسي قاضي القضاة ببغداد وغيرها سمع الحديث وكان فقيها رئيسا وقورا حسن الهيئة والسمت قليل الكلام سافر مع الخليفة الراشد إلى الموصل وجرت له فصول ثم عاد إلى بغداد فمات بها في هذه السنة وقد جاوز الستين وكانت جنازته حافلة
أبو الحجاج يوسف بن درباس
الفندلاوي شيخ المالكية بدمشق قتل يوم السبت سادس ربيع الأول قريبا من الربوة في أرض النيرب هو والشيخ عبدالرحمن الجلجولي أحد الزهاد رحمهما الله تعالى والله سبحانه أعلم
ثم دخلت سنة أربع وأربعين وخمسمائة
فيها كانت وفاة القاضي عياض بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى بن عياض بن محمد بن موسى بن عياض اليحصبي السبتي قاضيها أحد مشايخ العلماء المالكية وصاحب المصنفات الكثيرة المفيدة منها الشفا وشرح مسلم ومشارق الأنوار وغير ذلك وله شعر حسن وكان إماما في علوم كثيرة كالفقه واللغة والحديث والأدب وايام الناس ولد سنة ست وأربعين وأربعمائة ومات يوم الجمعة في جمادى الآخرة وقيل في رمضان من هذه السنة بمدينة سبتة وفيها غزا الملك نور الدين محمود بن زنكي صاحب حلب بلاد الفرنج فقتل منهم خلقا وكان فيمن قتل البرنس صاحب إنطاكية وفتح شيئا كثيرا من قلاعهم ولله الحمد وكان قد استنجد بمعين الدين بن أتابك دمشق فأرسل إليه بفريق من جيشه صحبة الأمير مجاهد الدين بن مروان بن ماس نائب صرخد فأبلوا بلاء حسنا وقد قال الشعراء في هذه الغزوة أشعارا كثيرة منهم ابن القيسراني وغيره وقد سردها أبو شامة في الروضتين وفي يوم الأربعاء ثالث ربيع الآخر استوزر للخلافة بو المظفر يحيى بن هبيرة ولقب عون الدين وخلع عليه وفي رجب قصد الملك شاة بن محمود بغداد ومعه خلق من الأمراء ومعه علي ابن دبيس وجماعة من التركمان وغيرهم وطلبوا من الخليفة أن يخطب له فامتنع من ذ ذلك وتكررت المكاتبات وأرسل الخليفة إلى السلطان مسعود يستحثه في القدوم فتمادى عليه وضاق النطاق واتسع الخرق على الراقع وكتب الملك سنجر إلى ابن أخيه يتوعده إن لم يسرع إلى الخليفة فما جاء إلا في أواخر السنة فانقشعت تلك الشرور كلها وتبدلت سرورا أجمعها وفي هذه السنة زلزلت الأرض زلزالا شديدا وتموجت الأرض عشر مرات وتقطع جبل بحلوان وانهدم الرباط النهر جوري وهلك خلق كثير بالبرسام لا يتكلم المرضى به حتى يموتوا وفيها مات سيف الدين غازي بن زنكي صاحب الموصل وملك بعده أخوه قطب الدين مودود بن (12/225)
زنكي وتزوج بامرأة أخيه التي لم يدخل بها الخاتون بنت تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق صاحب ماردين فولدت له أولادا كلهم ملكوا الموصل وكانت هذه المرأة تضع خمارها بين خمسة عشر ملكا وفيها سار نور الدين إلى سنجار ففتحها فجهز إليه أخوه قطب الدين مودود جيشا ليرده عنها ثم اصطلحا فعوضه منها الرحبة وحمص واستمرت سنجار لقطب الدين وعاد نورالدين إلى بلده ثم غزا فيها الفرنج فقتل منهم خلقا وأسر البرنس صاحب إنطاكية فمدحه الشعراء منهم الفتح القيسراني بقصيدة يقول في أولها ... هذى العزائم لا ما تنعق القضب ... وذي المكارم لا ما قالت الكتب ... وهذه الهمم اللاتي متى خطبت ... تعثرت خلفها الأشعار والخطب ... صافحت يا ابن عمادالدين ذروتها ... براحة للمساعي دونها تعب ... ما زال جدك يبني كل شاهقة ... حتى بنى قبة أوتادها الشهب ...
وفيها فتح نور الدين حصن فاميا وهو قريب من حماه وفيها مات صاحب مصر الحافظ لدين الله عبدالمجيد بن أبي القاسم بن المستنصر فقام بالأمر من بعده ولده الظافر إسماعيل وقد كان أحمد بن الأفضل بن أمير الجيوش قد استحوذ على الحافظ وخطب له بمصر ثلاثا ثم آخر الأمر أذن بحي على خير العمل والحافظ هذا هو الذي وضع طبل القولنج الذي إذا ضربه من به القولنج يخرج من القولنج والريح الذي به وخرج بالحجاج الأمير قطز الخادم فمرض بالكوة فرجع واستخلف على الحجاج مولاه قيماز وحين وصوله إلى بغداد توفي بعد أيام فطمعت العرب في الحجاج فوقفوا لهم في الطريق وهم راجعون فضعف قيماز عن مقاومتهم فأخذ لنفسه أمانا وهرب واسلم إليهم الحجيج فقتلوا أكثرهم وأخذوا أموال الناس وقل من سلم فيمن نجا فإنا لله وإنا إليه راجعون وفيها مات معين الدين بن أتابك العساكر بدمشق وكان أحد مماليك طغتكين وهو والد الست خاتون زوجة نور الدين وهو واقف المدرسة المعينية داخل باب الفرج وقبره في قبة قتلى الشامية البرانية بمحلة العونية عند دار البطيخ ولما مات معين الدين قويت شوكة الوزير الرئيس مؤيد الدولة على ابن الصوفي وأخيه زين الدولة حيدرة ووقعت بينهما وبين الملك مجير الدين أرتق وحشة اقتضت أنهما جندا من العامة والغوغاء ما يقاومه فاقتتلوا فقتل خلق من الفريقين ثم وقع الصلح بعد ذلك وممن توفي فيها من الأعيان
أحمد بن نظام الملك
أبو الحسن علي بن نصر الوزير للمسترشد والسلطان محمود وقد سمع الحديث وكان من خيار الوزراء
أحمد بن محمد ابن الحسين الارجاني قاضي تستر روى الحديث وكان له شعر رائق يتضمن معاني حسنة (12/226)
فمن ذلك قوله ... ولما بولت الناس أطلب عندهم ... أخا ثقة عند اعتراض الشدائد ... تطعمت في حالي رخاء وشدة ... وناديت في الأحياء هل من مساعد ... فلم ارا فيما ساءني غير شامت ... ولم أر فيما سرني غير حاسد ... فطلقت ود العالمين جميعهم ... ورحت فلا ألوى على غير واحد ... تمتعتما يا ناظرى بنظرة ... وأوردتما قلبي امر الموارد ... أعيني كفا عن فؤادي فإنه ... من البغى سعى اثنين في تقل واحد ... والقاضي عياض بن موسى السبتي صاحب التصانيف المفيدة ومن شعره قوله ... الله يعلم أني منذ لم أركم ... كطائر خانه ريش الجناحين ... ولو قدرت ركبت الريح نحوكم ... فإن بعدكم عني جنى حيني ... وقد ترجمه ابن خلكان ترجمة حسنة
عيسى بن هبة الله
ابن عيسى أبو عبدالله النقاش سمع الحديث مولده سنة سبع وخمسين وأربعمائة قال ابن الجوزي وكان ظريفا خفيف الروح له نوادر حسنة رأى الناس وعاشر الأكياس وكان يحضر مجلسي ويكاتبني وأكاتبه كتبت إليه مرة فعظمته في الكتاب فكتب إلي قد زدتني في الخطاب حتى خشيت نقصا من الزيادة وله ... إذا وجد الشيخ في نفسه ... نشاطا فذلك موت خفي ... ألست ترى ان ضوء السرا ... ج له لهب قبل أن ينطفى ...
غازي بن اقنسقر
الملك سيف الدين صاحب الموصل وهو أخو نور الدين محمود صاحب حلب ثم دمشق فيما بعد وقد كان سيف الدين هذا من خيار الملوك وأحسنهم سيرة وأجودهم سريرة وأصبحهم صورة شجاعا كريما يذبح كل يوم لجيشه مائة من الغنم ولمماليكه ثلاثين رأسا وفي يوم العيد ألف رأس سوى البقر والدجاج وهو أول من حمل على رأسه سنجق من ملوك الأطراف وأمر الجند أن لا يركبوا إلا بسيف ودبوس وبنى مدرسة بالموصل ورباطا للصوفية وامتدحه الحيص بيص فأعطاه ألف دينار عينا وخلعة ولما توفي بالحمى في جمادى الآخرة دفن في مدرسته المذكورة وله من العمر أربعون سنة وكانت مدة ملكه بعد أبيه ثلاث سنين وخمسين يوما رحمه الله (12/227)
قطز الخادم
أمير الحاج مدة عشرين سنة وأكثر سمع الحديث وقرأ على ابن الزاغوني وكان يحب العلم والصدقة وكان الحاج معه في غاية في الدعة والراحة والأمن وذلك لشجاعته ووجاهته عند الخلفاء والملوك توفي ليلة الثلاثاء الحادي عشر من ذي القعدة ودفن بالرصافة
ثم دخلت سنة خمس وأربعين وخمسمائة
فيها فتح نور الدين محمود حصن فامية وهو من أحصن القلاع قيل فتحه في التي قبلها وفيها قصد دمشق ليأخذها فلم يتفق له ذلك فخلع على ملكها مجير الدين أرتق وعلى وزيره ابن الصوفي وتقررت الخطبة له بها بعد الخليفة والسلطان وكذلك السكة وفيها فتح نور الدين حصن إعزاز وأسر ابن ملكها ابن جوسلين ففرح المسلمون بذلك ثم أسر بعده والده جوسلين الفرنجي فتزايدت الفرحة بذلك وفتح بلادا كثيرة من بلاده وفي المحرم منها حضر يوسف الدمشقي تدريس النظامية وخلع عليه ولما لم يكن ذلك بأذن الخليفة بل بمرسوم السلطان وابن النظام منع من ذلك فلزم بيته ولم يعد إلى المدرسة بالكلية وتولاها الشيخ أبو النجيب بإذن الخليفة ومرسوم السلطان قال ابن الجوزي في هذه السنة وقع مطر باليمن كله دم حتى صبغ ثياب الناس وممن توفي فيها من الأعيان
الحسن بن ذي النون
ابن أبي القاسم بن أبي الحسن أبو المفاخر النيسابوري قدم بغداد فوعظ بها وجعل ينال من الأشاعرة فأحبته الحنابلة ثم أختبروه فإذا هو معتزلي ففتر سوقه وجرت بسببه فتنة ببغداد وقد سمع منه ابن الجوزي شيئا من شعره من بذلك ... مات الكرام ومروا وانقضوا ومضوا ... ومات من بعدهم تلك الكرامات ... وخلفوني في قوم ذوي سفه ... لو أبصروا طيف ضيف في الكرى ماتوا ...
عبد الملك بن عبد الوهاب
الحنبلى القاصي بهاء الدين كان يعرف مذهب أبي حنيفة وأحمد ويناظر عنهما ودفن مع أبيه وجده بقبور الشهداء
عبد الملك بن أبي نصر بن عمر
أبو المعالي الجبلي كان فقيها صالحا متعبدا فقيرا ليس له بيت يسكنه وإنما يبيت في المساجد المهجورة وقد خرج مع الحجيج فأقام بمكة يعبد ربه ويفيد العلم فكان أهلها يثنون عليه خيرا
الفقيه ابن بكر بن العربي
المالكي شارح الترمذي كان فقيها عالما وزاهدا عابدا وسمع الحديث بعد أشتغاله في (12/228)
الفقه وصحب الغزالي وأخذ عنه وكان يتهمه برأي الفلاسفة ويقول دخل في أجوافهم فلم يخرج منها والله سبحانه أعلم
ثم دخلت سنة ست وأربعين وخمسمائة
فيها أغار جيش السلطان على بلاد الإسماعيلية فقتلوا خلقا ورجعوا سالمين وفيها حاصر نور الدين دمشق شهورا ثم ترحل عنها إلى حلب وكان الصلح على يدي البرهان البلخي وفيها اقتتل الفرنج وجيش نور الدين فأنهزم المسلمون وقتل منهم خلق فإنا لله وإنا إليه راجعون ولما وقع هذا الأمر شق ذلك على نور الدين وترك الترفه وهجر اللذة حتى يأخذ بالثار ثم إن أمراء التركمان ومعهم جماعة من أعوانهم ترصدوا الملك جوسليق الإفرنجي فلم يزالوا به حتى أسروه في بعض متصيداته فأرسل نور الدين فكبس التركمان وأخذ منهم جوسليق أسيرا وكان من أعيان الكفرة وأعظم الفجرة فأوقفه بين يديه في أذل حال ثم سجنه ثم سار نور الدين إلى بلاده فأخها كلها بما فيها وفي ذي الحجة جلس ابن العبادي في جامع المنصور وتكلم وعنده جماعة من الأعيان فكادت الحنابلة يثيرون فتنة ذلك اليوم ولكن لطف الله وسلم وحج بالناس فيها قيماز الأرجواني وممن توفي فيها من الأعيان
برهان الدين أبو الحسن بن علي البلخي
شيخ الحنفية بدمشق درس بالبلخية ثم بالخاتونية البرانية وكان عالما عاملا ورعا زاهدا ودفن بمقابر باب الصغير
ثم دخلت سنة سبع وأربعين وخمسمائة
فيها توفي السلطان مسعود وقام بالأمر من بعده أخوه ملكشاه بن محمود ثم جاء السلطان محمد وأخذ الملك وأستقر له قتل الأمير خاص بك وأخذ أمواله وألقاه للكلاب وبلغ الخليفة أن واسط قد تخبطت أيضا فركب إليها في الجيش في أبهة عظيمة واصلح شأنها وكر على الكوفة والحلة ثم عاد إلى بغداد فزينت له البلد وفيها ملك عبد المؤمن صاحب المغرب بجاية وهي بلاد بني حماد فكان آخر ملوكهم يحيى بن عبد العزيز بن حماد ثم جهز عبد المؤمن جيشا إلى صنهاجة فحاصرها وأخذ أموالها وفيها كانت وقعة عظيمة بين نور الدين الشهيد وبين الفرنج فكسرهم وقتل منهم خلقا ولله الحمد وفيها اقتتل السلطان سنجر وملك الغور علاء الدين الحسين بن الحسين أول ملوكهم فكسره سنجر وأسره فلما أحضره بين يديه قال له ماذا كنت تصنع بي لو أسرتني فأخرج قيدا من فضة وقال كنت أقيدك بهذا فعفى عنه وأطلقه إلى بلاده فسار إلى غزنة فانتزعها من يد صاحبها بهرام شاه السبكتكيني واستخلف عليها أخاه سيف الدين فغدر به أهل البلد وسلموه إلى بهرام شاه فصلبه ومات بهرام شاه قريبا فسار إليه علاء الدين فهرب خسرو بن بهرام (12/229)
شاه عنها فدخلها علاء الدين فنهبها ثلاثة أيام وقتل من أهلها بشرا كثيرا وسخر أهلها فحملوا ترابا في مخالي إلى محلة هنالك بعيدة عن البلد فعمر من ذلك التراب قلعة معروفة إلى الآن وبذلك انقضت دولة بني سبكتكين عن بلاد غزنة وغيرها وقد كان ابتداء أمرهم في سنة ست وستين وثلثمائة إلى سنة سبع وأربعين وخمسمائة وكانوا من خيار الملوك وأكثرهم جهادا في الكفرة وأكثرهم أموالا ونساء وعددا وعددا وقد كسروا الأصنام وابادوا الكفار وجمعوا من الاموال ما لم يجمع غيرهم من الملوك مع أن بلادهم كانت من أطيب البلاد وأكثرهم ريفا ومياها ففني جميعه وزال عنهم قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ثم ملك الغور والهند وخراسان واتسعت ممالكهم وعظم سلطان علاء الدين بعد الأسر وحكى ابن الجوزي أن في هذه السنة باض ديك بيضة واحدة ثم باض بازي بيضتين وباضت نعامة من غير ذكر وهذا شيء عجيب وممن توفي فيها من الأعيان
المظفر بن أردشير
أبو منصور العبادي الواعظ سمع الحديث ودخل إلى بغداد فأملى ووعظ وكان الناس يكتبون ما يعظ به فاجتمع له من ذلك مجلدات قال ابن الجوزي لا تكاد تجد في المجلد خمس كلمات جيدة وتكلم فيه وأطال الحط عليه واستحسن من كلامه قوله وقد سقط مطر وهو يعظ الناس وقد ذهب الناس إلى تحت الجدران فقال لا تفروا من رشاش ماء رحمة قطر من سحاب نعمة ولكن فروا من رشاش نارا اقتدح من زناد الغضب توفي وقد جاوز الخمسين بقليل
مسعود السلطان
صاحب العراق وغيرها حصل له من التمكن والسعادة شيء كثير لم يحصل لغيره وجرت له خطوب طويلة كما تقدم بعض ذلك وقد أسر في بعض حروبه الخليفة المسترشد كما تقدم توفي يوم الأربعاء سلخ جمادى الآخرة منها
يعقوب الخطاط الكاتب
توفي بالنظامية فجاء ديوان الحشر ليأخذوا ميراثه فمنعهم الفقهاء فجرت فتنة عظيمة آل الحال إلى عزل المدرس الشيخ أبي النجيب وضربه في الديوان تعزيرا
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وخمسمائة
فيها وقع الحرب بين السلطان سنجر وبين الأتراك فقتل الأتراك من جيشه خلقا كثيرا بحيث صارت القتلى مثل التلول العظيمة واسروا السلطان سنجر وقتلوا من كان معه من الأمراء صبرا ولما أحضروه قاموا بين يديه وقبلوا الأرض له وقالوا نحن عبيدك وكانوا عدة من الأمراء الكبار (12/230)
من مماليكهم فأقام عندهم شهرين ثم أخذوه وساروا به فدخلوا مرو وهي كرسي ممكلة خراسان فسأله بعضهم أن يجعلها له إقطاعا فقال سنجر هذا لا يمكن هذه كرسي المملكة فضحكوا منه وضرطوا به فنزل عن سرير المملكة ودخل خانقاه وصار فقيرا من جملة أهلها وتاب عن الملك واستحوذ أولئك الأتراك على البلاد فنهبوها وتركوها قاعا صفصفا وأفسدوا في الأرض فسادا عريضا واقاموا سليمان شاه ملكا فلم تطل أيامه حتى عزلوه وولوا ابن أخت سنجر الخاقان محمود ابن كوخان وتفرقت الأمور واستحوذ كل إنسان منهم على ناحية من تلك المماليك وصارت الدولة دولا وفيها كانت حروب كثيرة بين عبدالمؤمن وبين العرب ببلاد المغرب وفيها أخذت الفرنج مدينة عسقلان من ساحل غزة وفيها خرج الخليفة إلى واسط في جحفل فاصلح شأنها وعاد إلى بغداد وحج بالناس فيها قيماز الأرجواني وفيها كانت وفاة الشاعرين القرينين الشهيرين في الزمان الأخير
بالفرزدق وجرير
وهما أبو الحسن أحمد بن منير الجوني بحلب وأبو عبدالله محمد بن نصر بن صغير القيسراني الحلبي بدمشق وعلي بن السلار الملقب بالعادل وزير الظافر صاحب مصر وهو باني المدرسة بإلاسكندرية للشافعية للحافظ أبي طاهر السلفي وقد كان العادل هذا ضد اسمه كان ظلوما غشوما حطوما وقد ترجمه ابن خلكان
ثم دخلت سنة تسع وأربعين وخمسمائة
فيها ركب الخليفة المقتفي في جيش كثيف إلى تكريت فحاصر قلعتها ولقي هناك جمعا من الأتراك والتركمان فأظفره الله بهم ثم عاد إلى بغداد
ملك السلطان نور الدين الشهيد بدمشق
وجاءت الأخبار بأن مصر قد قتل خليفتها الظافر ولم يبق منهم إلا صبي صغير ابن خمس شهور قد ولوه عليهم ولقبوه الفائز فكتب الخليفة عهدا إلى نور الدين محمود بن زنكي بالولاية على بلاد الشام والديار المصرية وارسله إليها وفيها هاجت ريح شديدة بعد العشاء فيها نار فخاف الناس أن تكون الساعة وزلزلت الأرض وتغير ماء دجلة إلى الحمرة وظهر بأرض واسط بالأرض دم لا يعرف ما سببه وجاءت الأخبار عن الملك سنجر أنه في أسر الترك وهو في غاية الذل والإخانة وأنه يبكي على نفسه كل وقت وفيها انتزع نور الدين محمود دمشق من يد ملكها نور الدين أرتق وذلك لسوء سيرته وضعف دولته ومحاصرة العامة له في القلعة مع وزيره مؤيد الدولة علي بن الصوفي وتغلب الخادم عطاء على المملكة مع ظلمه وغشمه وكان الناس يدعون ليلا ونهارا أن يبدلهم بالملك نور الدين واتفق مع ذلك أن الفرنج أخذوا عسقلان فحزن نور الدين على ذلك (12/231)
ولا يمكنه الوصول إليهم لأن دمشق بينه وبينهم ويخشى أن يحاصروا دمشق فيشق على أهلها ويخاف أن يرسل مجير الدين إلى الفرنج فيخذلونه كما جرى غير مرة وذلك أن الفرنج لا يريدون أن يملك نور الدين دمشق فيقوى بها عليهم ولا يطيقونه فأرسل بين يديه الأمير أسد الدين شيركوه في ألف فارس ي في صفة طلب الصلح فلم يلتفت إليه مجير الدين ولا عده شيئا ولا خرج إليه أحد من أعيان أهل البلد فكتب إلى نور الدين بذلك فركب الملك نور الدين في جيشه فنزل عيون الفاسريا من أرض دمشق ثم انتقل إلى قريب من الباب الشرقي ففتحها قهرا ودخل من الباب الشرقي بعد حصار عشرة أيام وكان دخوله في يوم الأحد عاشر صفر من هذه السنة وتحصن مجير الدين في القلعة فأنزله منها وعوضه مدينة حمص ودخل نور الدين إلى القلعة واستقرت يده على دمشق ولله الحمد ونادى في البلد بالأمان والبشارة بالخير ثم وضع عنهم المكوس وقرئت عليهم التواقيع على المنابر ففرح الناس بذلك وأكثروا الدعاء له وكتب ملوك الفرنج إليه يهنونه بدمشق ويتقربون إليه ويخضعون له وممن توفي فيها من الأعيان
الرئيس مؤيد الدولة
علي بن الصوفي وزير دمشق لمجير الدين وقد ثار على الملك غير مرة واستفحل أمره ثم يقع الصلح بينهما كما تقدم
عطاء الخادم
أحد أمراء دمشق وقد تغلب على الأمور بأمر مجير الدين وكان ينوب على بعلبك في بعض الأحيان وقد كان ظالما غاشما وهو الذي ينسب إليه مسجد عطاء خارج باب شرقي والله أعلم
ثم دخلت سنة خمسين وخمسمائة هجريه
فيها خرج الخليفة في تجمل إلى دموقا فحاصرها فخرج إليه اهلها أن يرحل عنهم فان أهلها قد هلكوا من الجيشن فأجابهم ورحل عنهم وعاد إلى بغداد بعد شهرين ونصف ثم خرج نحو الحلة والكوفة والجيش بين يديه وقال له سليمان شاه أنا لي عهد سنجر فان قررتنى في ذلك وإلا فأنا كأحد الأمراء فوعده خيرا وكام يحمل الغاشية بين يد الخليفة على كاهله فمهد الأمور ووطدها وسلم على مشهد على أشارة بأصبعه وكأنه خاف عليه غائله الروافض أو أن يعتقد في نفسه من القبر شيئا أو غير ذلك والله أعلم
فتح بعلبك بيد نور الدين الشهيد
وفيها افتتح نور الدين بعلبك عودا على بدء وذلك أن نجم الدين أيوب كان نائبا بها على البلد والقلعة فسلمها إلى رجل يقال له الضحاك البقاعي فاستحوذ عليها وكاتب نجم الدين لنور الدين ولم يزل نور الدين يتلطف حتى أخذ القلعة أيضا واستدعى بنجم الدين أيوب إليه إلى دمشق فأقطعه (12/232)
إقطاعا حسنا وأكرمه من أجل أخيه أسد الدين فإنه كانت له اليد الطولى في فتح دمشق وجعل الأمير شمس الدولة بوران شاه بن نجم الدين شحنة دشق ثم من بعده جعل أخاه صلاح الدين يوسف هو الشحنة وجعله من خواصه لا يفارقه حضرا ولا سفرا لأنه كان حسن الشكل حسن اللعب بالكرة وكان نور الدين يحب لعب الكرة لتدمين الخيل وتعليمها الكر والفر وفي شحنة صلاح الدين يوسف يقول عرقلة ( وهو حسان بن نمير الكلبي ) الشاعر ... رويدكم يا لصوص الشام ... فإني لكم ناصح في مقالي ... فإياكم وسمي النبي يوسف ... رب الحجا والكمال ... فذاك مقطع أيدي النساء ... وهذا مقطع أيدي الرجال ... وقد ملك أخاه بوران شاه بلاد اليمن فيما بعد ذلك وكان يلقب شمس الدولة وممن توفي فيها من الأعيان
محمد بن ناصر
ابن محمد بن علي الحافظ أبو الفضل البغدادي ولد ليلة النصف من شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة وسمع الكثير وتفرد بمشايخ وكان حافظا ضابطا مكثرا من السنة كثير الذكر سريع الدمعة وقد تخرج به جماعة منهم أبو الفرج ابن الجوزي سمع بقراءته مسند أحمد وغيره من الكتب الكبار وكان يثني عليه كثيرا وقد رد على أبي سعد السمعاني في قوله محمد بن ناصر يحب أن يقع في الناس قال ابن الجوزي والكلام في الناس بالجرح والتعديل ليس من هذا القبيل وإنما ابن السمعاني يحب أن يتعصب على أصحاب الإمام أحمد نعوذ بالله من سوء القصد والتعصب توفي محمد بن ناصر ليلة الثلاثاء الثامن عشر من شعبان منها عن ثلاث وثمانين سنة وصلى عليه مرات ودفن بباب حرب
مجلي بن جميع أبو المعالي
المخزومي الأرسوفي ثم المصري قاضيها الفقيه الشافعي مصنف الذخائر وفيها غرائب كثيرة وهي من الكتب المفيدة
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وخمسمائة
في المحرم دخل السلطان سليمان شاه بن محمد بن ملكشاه إلى بغداد وعلى رأسه الشمسية فتلقاه الوزير ابن هبيرة وأدخله على الخليفة فقبل الأرض وحلفه على الطاعة وصفاء النية والمناصحة والمودة وخلع عليه خلع الملوك وتقرر أن للخليفة العراق ولسليمان شاه ما يفتحه من خراسان ثم خطب له ببغداد بعد الملك سنجر ثم خرج منها في ربيع الأول فاقتتل هو والسلطان محمد بن محمود بن ملكشاه فهزمه محمد وهزم عسكره فذهب مهزوما فتلقاه نائب قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل فأسره وحبسه بقلعة الموصل وأكرمه مدة حبسه وخدمه وهذا من أغرب (12/233)
الإتفاقات وفيها ملكت الفرنج المهدية من بلاد المغرب بعد حصار شديد وفيها فتح نور الدين محمود بن زنكي قلعة تل حارم واقتلعها من أيدي الفرنج وكانت من أحصن القلاع وأمنع البقاع وذلك بعد قتال عظيم ووقعة هائلة كانت من أكبر الفتوحات وامتدحه الشعراء عند ذلك وفيها هرب الملك سنجر من الأسر وعاد إلى ملكه بمرو وكان له في يد أعدائه نحو من خمس سنين وفيها ولي عبدالمؤمن ملك الغرب أولاده على بلاده استناب كل واحد منهم على بلد كبير وإقليم متسع
حصار بغداد
وسبب ذلك أن السلطان محمد بن محمود بن ملكشاه أرسل إلى المقتفي يطلب منه أن يخطب له في بغداد فلم يجبه إلى ذلك فسار من همذان إلى بغداد ليحاصرها فانجفل الناس وحصن الخليفة البلد وجاء السلطان محمد فحصر بغداد ووقف تجاه التاج من دار الخلافة في جحفل عظيم ورموا نحوه النشاب وقاتلت العامة مع الخليفة قتالا شديدا بالنفط وغيره واستمر القتال مدة فبينما هم كذلك إذ جاءه الخبر أن أخاه قد خلفه في همذان فانشمر عن بغداد إليها في ربيع الأول من سنة اثنتين وخمسين وتفرقت عنه العساكر الذين كانوا معه في البلاد وأصاب الناس بعد ذلك القتال مرض شديد وموت ذريع واحترقت محال كثيرة من بغداد واستمر ذلك فيها مدة شهرين وفيها أطلق أبو الوليد البدر بن الوزير بن هبيرة من قلعة تكريت وكان معتقلا فيها من مدة ثلاث سنين فتلقاه الناس إلى أثناء الطريق وامتدحه الشعراء وكان من جملتهم الأبله الشاعر أنشد الوزير قصيدة يقول في أولها ... بأي لسان للوشاة ألام ... وقد علموا أني سهرت وناموا ...
إلى أن قال
... ويستكثرون الوصل لي ليلة ... وقد مر عام بالصدود وعام ...
فطرب الوزير عند ذلك وخلع عليه ثيابه وأطلق له خمسين دينارا وحج بالناس قيماز وممن توفي فيها من الأعيان
علي بن الحسين
أبو الحسن الغزنوي الواعظ كان له قبول كثير من العامة وبنت له الخاتون زوجة المستظهر رباطا بباب الأزج ووقفت عليه أوقافا كثيرة وحصل له جاه عريض وزاره السلطان وكان حسن الإيراد مليح الوعظ يحضر مجلسه خلق كثير وجم غفير من أصناف الناس وقد ذكر ابن الجوزي أشياء من وعظه قال وسمعته يوما يقول حزمة حزن خير من أعدال أعمال ثم أنشد
... كم حسرة لي في الحشا ... من ولد إذا نشا ... أملت فيه رشده ... فما يشاء كما نشا ... قال وسمعته يوما ينشد (12/234)
يحسدني قومي على صنعتي ... لأنني في صنعتي فارس ... سهرت في ليلي واستنعسوا ... وهل يستوي الساهر والناعس ... قال وكان يقول تولون اليهود والنصارى فيسبون نبيكم في يوم عيدكم ثم يصبحون يجلسون إلى جانبكم ثم يقول ألا هل بلغت قال وكان يتشيع ثم سعى في منعه من الوعظ ثم أذن له ولكن ظهر للناس أمر العبادي وكان كثير من الناس يميلون إليه وقد كان السلطان يعظمه ويحضر مجلسه فلما مات السلطان مسعود ولي الغزنوي بعده وأهين إهانة بالغة فمرض ومات في هذه السنة قال ابن الجوزي وبلغني أنه كان يعرق في نزعه ثم يفيق وهو يقول رضى وتسليم ولما مات دفن في رباطه الذي كان فيه
محمود بن إسماعيل بن قادوس
أبو الفتح الدمياطي كاتب الإنشا بالديار المصرية وهو شيخ القاضي الفاضل كان يسميه ذا البلاغتين وذكره العماد الكاتب في الجريدة ومن شعره فيمن يكرر التكبير ويوسوس في نية الصلاة في أولها ... وفاتر النية عنينها ... مع كثرة الرعدة والهمزة ... يكبر التسعين في مرة ... كأنه يصلي على حمزة ...
الشيخ أبو البيان
بنا بن محمد المعروف بابن الحوراني الفقيه الزاهد العابد الفاضل الخاشع قرأ القرآن وكتاب التنبيه على مذهب الشافعي وكان حسن المعرفة باللغة كثير المطالعة وله كلام يؤثر عنه ورأيت له كتابا بخطه فيه النظائم التي يقولها أصحابه وأتباعه بلهجة غريبة وقد كان من نشأته إلى أن توفي على طريقة صالحة وقد زاره الملك نور الدين محمود في رباطه داخل درب الحجر ووقف عليه شيئا وكانت وفاته يوم الثلاثاء ثالث ربيع الأول من هذه السنة ودفن بمقابر الباب الصغير وكان يوم جنازته يوما مشهودا وقد ذكرته في طبقات الشافعية رحمه الله
عبدالغافر بن إسماعيل
ابن عبدالقادر بن محمد بن عبدالغافر بن أحمد بن سعيد الفارسي الحافظ تفقه بإمام الحرمين وسمع الكثير على جده لأمه أبي القاسم القشيري ورحل إلى البلاد وأسمع وصنف المفهم في غريب مسلم وغيره وولي خطابة نيسابور وكان فاضلا دينا حافظا
ثم دخلت سنة ثنتين وخمسين وخمسمائة
استهلت هذه السنة ومحمد شاه بن محمود محاصر بغداد والعامة والجند من جهة الخليفة المقتفي (12/235)
يقاتلون أشد القتال والجمعة لا تقام لعذر القتال والفتنة منتشرة ثم يسر الله بذهاب السلطان كما تقدم في السنة التي قبلها وقد بسط ذلك ابن الجوزي في هذه السنة فطول وفيها كانت زلزلة عظيمة بالشام هلك بسببها خلق كثير لا يعلمهم إلا الله وتهدم أكثر حلب وحماه وشيزر وحمص وكفر طاب وحصن الأكراد واللاذقية والمعرة وفامية وإنطاكية وطرابلس قال ابن الجوزي وأما شيزر فلم يسلم منها إلا امرأة وخادم لها وهلك الباقون وأما كفر طاب فلم يسلم من أهلها أحد وأما فامية فساحت قلعتها وتل حران انقسم نصفين فأبدى نواويس وبيوتا كثيرة في وسطه قال وهلك من مدائن الفرنج شيء كثير وتهدم أسوار أكثر مدن الشام حتى أن مكتبا من مدينة حماه انهدم على من فيه من الصغار فهلكوا عن آخرهم فلم يأت أحد يسأل عن أحد منهم وقد ذكر هذا الفصل الشيخ أبو شامة في كتاب الروضتين مستقصي وذكر ما قاله الشعراء من القصائد في ذلك وفيها ملك السلطان محمود بن محمد بعد خاله سنجر جميع بلاده وفيها فتح السلطان محمود بن زنكي حصن شيزر بعد حصار وأخذ مدينة بعلبك وكان بها الضحاك البقاعي وقد قيل إن ذلك كان في سنة خمسين كما تقدم فالله أعلم وقد تقدم ذلك وفيها مرض نور الدين فمرض الشام بمرضه ثم عوفي ففرح المسلمون فرحا شديدا واستولى أخوه قطب الدين مودود صاحب الموصل على جزيرة ابن عمر وفيها عمل الخليفة بابا للكعبة مصفحا بالذهب وأخذ بابها الأول فجعله لنفسه تبوتا وفيها أغارت الإسماعيلية على حجاج خراسان فلم يبقوا منهم أحدا لا زاهدا ولا عالما وفيها كان غلاء شديد بخراسان حتى أكلوا الحشرات وذبح إنسان منهم رجلا علويا فطبخه وباعه في السوق فحين ظهر عليه قتل ( وذكر أبو شامة أن فتح بانياس كان في هذه السنة على يد نور الدين بنفسه وقد كان معين الدين سلمها إلى الفرنج حين حاصروا دمشق فعوضهم بها وقيل ملكها وغنم شيئا كثيرا ) وفيها قدم الشيخ أبو الوقت عبدالأول بن عيسى بن شعيب السجزي فسمعوا عليه البخاري في دار الوزير ببغداد وحج بالناس قيماز وممن توفي فيها من الأعيان
أحمد بن محمد
ابن عمر بن محمد بن أحمد بن إسماعيل أبو الليث النسفي من أهل سمرقند سمع الحديث وتفقه ووعظ وكان حسن السمت قدم بغداد فوعظ الناس ثم عاد إلى بلده فقتله قطاع الطريق رحمه الله تعالى
أحمد بن بختيار
ابن علي بن محمد أبو العباس المارداني الواسطي قاضيها سمع الحديث وكانت له معرفة تامة في الأدب واللغة وصنف كتبا في التاريخ وغير ذلك وكان ثقة صدوقا توفي ببغداد وصلي عليه بالنظامية (12/236)
السلطان سنجر
ابن الملك شاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق أبو الحارث واسمه أحمد ولقب بسنجر مولده في رجب سنة تسع وسبعين وأربعمائة وأقام في الملك نيفا وستين سنة من ذلك استقلالا إحدى وأربعين سنة وقد أسره الغز نحوا من خمس سنين ثم هرب منهم وعاد إلى ملكه بمرو ثم توفي في ربيع الأول من هذه السنة ودفن في قبة بناها سماها دار الآخرة رحمه الله
محمد بن عبداللطيف
ابن محمد بن ثابت أبو بكر الخجندي الفقيه الشافعي ولي تدريس النظامية ببغداد وكان يناظر حسنا ويعظ الناس وحوله السيوف مسللة قال ابن الجوزي ولم يكن ماهرا في الوعظ وكانت حاله أشبه بالوزراء من العلماء وتقدم عند السلاطين حتى كانوا يصدرون عن رأيه توفي بأصبهان فجأة فيها
محمد بن المبارك
ابن محمد بن الخل أبو الحسن بن أبي البقاء سمع الحديث وتفقه على الشاشي ودرس وأفتى وتوفي في محرم هذه السنة وتوفي أخوه الشيخ ابوالحسين بن الخل الشاعر في ذي القعدة منها
يحيى بن عيسى
ابن إدريس أبو البركات الأنباري الواعظ قرأ القرآن وسمع الحديث وتفقه ووعظ الناس على طريقة الصالحين وكان يبكي من أول صعوده إلى حين نزوله وكان زاهدا عابدا ورعا آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر ورزق أولادا صالحين سماهم بأسماء الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وحفظهم القرآن كلهم بنفسه وختم خلقا كثيرا وكان هو وزوجته يصومان الدهر ويقومان الليل ولا يفطران إلا بعد العشاء وكانت له كرامات ومنامات صالحة ولما مات قالت زوجته اللهم لا تحيني بعده فماتت بعده بخمسة عشر يوما وكانت من الصالحات رحمهما الله تعالى
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة
فيها أكثر فساد التركمان من أصحاب ابن برجم الإيواني فجهز إليهم الخليفة منكورس المسترشدي في جيش كثيف فالتقوا معهم فهزمهم أقبح هزيمة وجاؤا بالأسارى والرؤس إلى بغداد وفيها كانت وقعة عظيمة بين السلطان محمود وبين الغز فكسروه ونهبوا البلاد وأقاموا بمرو ثم طلبوه إليهم فخاف على نفسه فأرسل ولده بين يديه فأكرموه ثم قدم السلطان عليهم فاجتمعوا عليه وعظموه وفيها وقعت فتنة كبيرة بمرو بين فقيه الشافعية المؤيد بن الحسين وبين نقيب العلويين بها أبي القاسم زيد بن الحسن فقتل منهم خلق كثير وأحرقت المدارس والمساجد والأسواق وانهزم المؤيد (12/237)
الشافعي إلى بعض القلاع وفيها ولد الناصر لدين الله أبو العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله وفيها خرج المقتفي نحو الأنبار متصيدا وعبر الفرات وزار الحسين ومضى إلى واسط وعاد إلى بغداد ولم يكن معه الوزير وحج بالناس فيها قيماز الأرجواني وفيها كسر جيش مصر الفرنج بأرض عسقلان كسروهم كسرة فجيعة صحبة الملك صالح أبو الغارات فارس الدين طلائع بن رزيك وامتدحه الشعراء وفيها قدم الملك نور الدين من حلب إلى دمشق وقد شفي من المرض ففرح به المسلمون وخرج إلى قتال الفرنج فانهزم جيشه وبقي هو في شرذمة قليلة من أصحابه في نحر العدو فرموهم بالسهام الكثيرة ثم خاف الفرنج أن يكون وقوفه في هذه الشرذمة القليلة خديعة لمجيء كمين إليهم ففروا منهزمين ولله الحمد وممن توفي فيها من الأعيان
عبدالأول بن عيسى
ابن شعيب بن إبراهيم بن إسحاق أبو الوقت السجزي الصوفي الهروي راوي البخاري ومسند الدارمي والمنتخب من مسند عبد بن حميد قدم بغداد فسمع عليه الناس هذه الكتب وكان من خيار المشايخ وأحسنهم سمتا واصبرهم على قراءة الحديث قال ابن الجوزي أخبرني أبو عبدالله محمد بن الحسين التكريتي الصوفي قال أسندته إلي فمات وكان آخر ما تكلم به أن قال يا يليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين
نصر بن منصور
ابن الحسين بن أحمد بن عبدالخالق العطار أبو القاسم الحراني كان كثير المال يعمل من صدقاته المعروف الكثير من أنواع القربات الحسنة ويكثر تلاوة القرآن ويحافظ على الصلوات في الجماعة ورؤيت له منامات صالحة وقارب الثمانين رحمه الله
يحيى بن سلامة
ابن الحسين أبو الفضل الشافعي الحصكفي نسبة إلى حصن كيف كان إماما في علوم كثيرة من الفقهة والآداب ناظما ناثرا غير أنه كان ينسب إلى الغلو في التشيع وقد اورد له ابن الجوزي قطعة من نظمه فمن ذلك قوله في جملة قصيدة له ... تقاسموا يوم الوداع كبدي ... فليس لي منذ تولوا كبد ... على الجفون رحلوا وفي الحشاء ... نزلوا وماء عيني وردوا ... وأدمعي مسفوحة وكبدي ... مقروحة وعلتي ما قد بدوا ... وصبوتي دائمة ومقلتي ... دامية ونومها مشرد ... تيمني منهم غزال أغيد ... يا حبذا ذاك الغزال الأغيد (12/238)
حسامه مجرد وصرحه ... ممرد وخده مورد ... وصدغه فوق إحمرار خده ... مبلبل معقرب مجعد ... كأنما نكهته وريقه ... مسك وخمر والثنايا برد ... يقعده عند القيام ردفه ... وفي الحشا منه المقيم المقعد ... له قوام كقضيب بانة ... يهتز قصدا ليس فيه أود ...
وهي طويلة جدا ثم خرج من هذا التغزل إلى مدح أهل البيت والأئمة الإثني عشر رحمهم الله
... وسائلي عن حب أهل البيت ... هل أقر إعلانا به أم أجحد ... هيهات ممزوج بلحمي ودمي ... حبهم هو الهدى والرشد ... حيدرة والحسنان بعده ... ثم علي وابنه محمد ... وجعفر الصادق وابن جعفر ... موسى ويتلوه على السيد ... أعني الرضى ثم ابنه محمد ... ثم علي وابنه المسدد ... والحسن الثاني ويتلو تلوه ... محمد بن الحسن المفتقد ... فإنهم أئمتي وسادتي ... وإن لحاني معشر وفندوا ... أئمة أكرم بهم أئمة ... أسماؤهم مسرودة تطرد ... هم حجيج الله على عباده ... وهم إليه منهج ومقصد ... قوم لهم فضل ومجد باذخ ... يعرفه المشرك والموحد ... قوم لهم في كل أرض مشهد ... لا بل لهم في كل قلب مشهد ... قوم منى والمعشران لهم ... والمروتان لهم والمسجد ... قوم لهم مكة والأبطح والخ ... يف وجمع والبقيع الغرقد ...
ثم ذكر بلطف مقتل الحسين بألطف عبارة إلى أن قال
... يا أهل بيت المصطفى يا ... عدتي ومن علي حبهم أعتمد ... أنتم إلى الله غدا وسيلتي ... وكيف أخشى وبكم أعتضد ... وليكم في الخلد حى خالد ... والضد في نار لظى مخلد ... ولست أهواكم ببغض غيركم ... إني إذا أشقى بكم لا أسعد ... فلا يظن رافضي أنني ... وافقته أو خارجي مفسد ... محمد والخلفاء بعده ... أفضل خلق الله فيما أجد ... هم أسسوا قواعد الدين لنا ... وهم بنوا أركانه وشيدوا (12/239)
ومن يخن أحمد في أصحابه ... فخصمه يوم المعاد أحمد ... هذا اعتقادي فالزموه تفلحوا ... هذا طريقي فاسلكوه تهتدوا ... والشافعي مذهبي مذهبه ... لأنه في قوله مؤيد ... اتبعته في الأصل والفرع معا ... فليتبعني الطالب المرشد ... إني بإذن الله تاج سابق ... إذا وني الظالم ثم المفسد ...
ومن شعره أيضا
... إذا قل مالي لم تجدني جازعا ... كثير الأسى معرى بعض الأنامل ... ولا بطرا إن جدد الله نعمة ... ولو أن ما أوتي جميع الناس لي ...
ثم دخلت سنة أربع وخمسين وخمسمائة
مرض الخليفة المقتفي مرضا شديدا ثم عوفي منه فزينت بغداد أياما وتصدق بصدقات كثيرة وفيها استعاد عبدالمؤمن مدينة المهدية من أيدي الفرنج وقد كانوا أخذوها من المسلمين في سنة ثلاث وأربعين وفيها قاتل عبد المؤمن خلقا كثيرا من الغرب حتى صارت عظام القتلى هناك كالتل العظيم وفي صفر منها سقط برد بالعراق كبار زنة البردة قريب من خمسة أرطال ومنها ما هو تسعة أرطال بالبغدادي فهلك بذلك شيء كثير من الغلات وخرج الخليفة إلى واسط فاجتاز بسوقها ورأى جامعها وسقط عن فرسه فشج جبينه ثم عوفي وفي ربيع الآخر زادت دجلة زيادة عظيمة فغرق بسبب ذلك محال كثيرة من بغداد حتى صار اكثر الدور بها تلولا وغرقت تربة أحمد وخسفت هناك القبور وطفت الموتى على وجه الماء قاله ابن الجوزي وفي هذه السنة كثر المرض والموت وفيها أقبل ملك الروم في جحافل كثيرة قاصدا بلاد الشام فرده الله خائبا خاسئا وذلك لضيق حالهم من الميرة وأسر المسلمون ابن أخته ولله الحمد وحج بالناس فيها قيماز الأرجواني وممن توفي فيها من الأعيان
أحمد بن معالي
ابن بركة الحربي تفقه بأبي الخطاب الكلوذاني الحنبلي وبرع وناظر ودرس وأفتى ثم صار بعد ذلك شافعيا ثم عاد حنبليا ووعظ ببغداد وتوفي في هذه السنة وذلك أنه دخلت به راحلته في مكان ضيق فدخل قربوس سرجه في صدره فمات
السلطان محمد بن محمود بن محمد بن ملكشاه
لما رجع من محاصرة بغداد إلى همذان أصابه مرض السل فلم ينجح منه بل توفي في ذي الحجة منها وقبل وفاته بأيام أمر أن يعرض عليه جميع ما يملكه ويقدر عليه وهو جالس في المنظرة (12/240)
فركب الجيش بكماله وأحضرت أمواله كلها ومماليكه حتى جواريه وحظاياه فجعل يبكي ويقول هذه العساكر لا يدفعون عني مثقال ذرة من أمر ربي ولا يزيدون في عمري لحظة ثم ندم وتأسف على ما كان منه إلى الخليفة المقتفي وأهل بغداد وحصارهم واذنيتهم ثم قال وهذه الخزائن والأموال والجواهر لو قبلهم ملك الموت مني فداء لجدت بذلك جميعه له وهذه الحظايا والجواري الحسان والمماليك لو قبلهم فداء مني لكنت بذلك سمحا له ثم قال ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه ثم فرق شيئا كثيرا من ذلك من تلك الحواصل والأموال وتوفي عن ولد صغير واجتمعت العساكر والأمراء على عمه سليمان شاه بن محمد بن ملكشاه وكان مسجونا بالموصل فأفرج عنه وانعقدت له السلطنة وخطب له على منابر تلك البلاد سوى بغداد والعراق والله سبحانه أعلم
ثم دخلت سنة خمس وخمسين وخمسمائة
فيها كانت وفاة الخليفة المقتفي بأمر الله
أبو عبد الله محمد بن المستظهر بالله
مرض بالتراقي وقيل بدمل خرج بحلقه فمات ليلة الأحد ثاني ربيع الأول منها عن ست وستين سنة إلا ثمانية وعشرين يوما ودفن بدار الخلافة ثم نقل إلى الترب وكانت خلافته اربعا وعشرين سنة وثلاثة أشهر وستة وعشرين يوما وكان شهما شجاعا مقداما يباشر الأمور بنفسه ويشاهد الحروب ويبذل الأموال الكثيرة لأصحاب الأخبار وهو أول من أستبد بالعراق منفردا عن السلطان من أول أيام الديلم إلى أيامه وتمكن في الخلافة وحكم على العسكر والأمراء وقد وافق أباه في أشياء من ذلك مرضه بالتراقي وموته في ربيع الأول وتقدم موت السلطان محمد شاه قبله بثلاثة أشهر وكذلك أبوه المستظهر مات قبله السلطان محمود بثلاثة أشهر وبعد غرق بغداد بسنة مات أبوه وكذلك هذا قال عفيف الناسخ رأيت في المنام قائلا يقول إذا أجتمعت ثلاث خاآت مات المقتفي يعني خمسا وخمسين وخمسمائة
خلافة المستنجد بالله أبو المظفر يوسف بن المقتفي
لما توفي أبوه كما ذكرنا بويع بالخلافة في صبيحة يوم الأحد ثاني ربيع الأول من هذه السنة بايعه اشراف بني العباس ثم الوزير والقضاة والعلماء والأمراء وعمره يومئذ خمس واربعون سنة وكان رجلا صالحا وكان ولي عهد أبيه من مدة متطاولة ثم عمل عزاء أبيه ولما ذكر أسمه يوم الجمعة في الخطبة نثرت الدراهم والدنانير على الناس وفرح المسلمون به بعد أبيه وأقر الوزير ابن هبيرة على منصبه ووعده بذلك إلى الممات وعزل قاضي القضاة ابن الدامغاني وولي مكانه أبا جعفر بن عبد الواحد وكان شيخا كبيرا له سماع بالحديث وباشر الحكم بالكوفة ثم توفي في (12/241)
ذي الحجة منها وفي شوال من هذه السنة أتفق الأتراك بباب همذان على سليمان شاه وخطبوا لأرسلان شاه بن طغرل وفيها توفي
الفائز خليفة مصر الفاطمي
وهو أبو القاسم عيسى بن إسماعيل الظافر توفي في صفر منها وعمره يومئذ إحدى عشرة سنة ومدة ولايته من ذلك ست سنين وشهران وكان مدبر دولته أبو الغارات ثم قام بعده العاضد آخر خلفائهم وهو أبو محمد عبد الله بن يوسف بن الحافظ ولم يكن أبوه خليفة وكان يومئذ قد ناهز الاحتلام فقام بتدبير مملكته الملك الصالح طلائع بن رزبك الوزير أخذ له البيعة وزوجه بابنته وجهزها بجهاز عظيم يعجز عنه الوصف وقد عمرت بعد زوجها العاضد ورأت زوال دولة الفاطميين على يد الملك صلاح الدين بن يوسف في سنة أربع وستين كما سيأتي وفيها كانت وفاة السلطان الكبير صاحب غزنة
خسروشاه بن ملكشاه
ابن بهرام شاه بن مسعود بن إبراهيم بن محمود بن سبكتكين من بيت ملك ورياسة باذخة يرثونها كابرا عن كابر وكان من سادات الملوك وأحسنهم سيرة يحب العلم وأهله توفي في رجب منها وقام بعده ولده ملكشاه فسار إليه علاء الدين الحسين بن الغور فحاصر غزنة فلم يقدر عليها ورجع خائبا وفيها مات
ملكشاه بن السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه
السلجوقي باصبهان مسموما فيقال إن الوزير عون الدين بن هبيرة دس إليه من سقاه إياه والله أعلم وفيها مات أمير الحاج
قيماز بن عبد الله الأرجواني
سقط عن فرسه وهو يلعب بالكرة بميدان الخليفة فسال دماغه من أذنه فمات من ساعته وقد كان من خيار الأمراء فتأسف الناس عليه وحضر جنازته خلق كثير مات في شعبان منها فحج بالناس فيها الأمير برغش مقطع الكوفة وحج الأمير الكبير شيركوه بن شاذي مقدم عساكر الملك نور الدين وتصدق بأموال كثيرة وفيها استعفى القاضي زكي الدين أبو الحسن علي بن محمد ابن يحيى أبو الحسن القرشي من القضاء بدمشق فأعفاه نور الدين وولي مكانه القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله الشهر زوري وكان من خيار القضاة وأكثرهم صدقة وله صدقات جارية بعد وكان عالما وإليه ينسب الشباك الكمالي الذي يجلس فيه الحكام بعد صلاة الجمعة من المشهد الغربي بالجامع الأموي والله أعلم (12/242)
وممن توفي فيها من الأعيان
الأمير مجاهد الدين
نزار بن مامين الكردي أحد مقدمي جيش الشام قبل نور الدين وبعده وقد ناب في مدينة صرخد وكان شهما شجاعا كثير البر والصدقات وهو واقف المدرسة المجاهدية بالقرب من الغورية جوار الخيميين وله أيضا المدرسة المجاهدية داخل باب الفراديس البراني وبها قبره وله السبع المجاهدي داخل باب الزيادة من الجامع بمقصورة الخضر توفي بداره في صفر منها فحمل إلى الجامع وصلي عليه ثم أعيد إلى مدرسته ودفن بها داخل باب الفراديس وتأسف الناس عليه
الشيخ عدي بن مسافر
ابن إسماعيل بن موسى بن مروان بن الحسن بن مروان الهكاري شيخ الطائفة العدوية أصله من البقاع غربي دمشق من قرية بيت نار ثم دخل إلى بغداد فاجتمع فيها بالشيخ عبد القادر والشيخ حماد الدباس والشيخ عقيل المنبجي وأبي الوفا الحلواني وأبي النجيب السهروردي وغيرهم ثم أنفرد عن الناس وتخلى بجبل هكار وبني له هناك زاوية وأعتقده أهل تلك الناحية أعتقادا بليغا حتى إن منهم من يغلو غلوا كثيرا منكرا ومنهم من يجعله إلها أو شريكا وهذا إعتقاد فاحش يؤدي إلى الخروج من الدين جملة مات في هذه السنة بزاويته وله سبعون سنة رحمه الله
عبد الواحد بن أحمد
ابن محمد بن حمزة أبو جعفر الثقفي قاضي قضاة بغداد وليها بعد أبي الحسن الدامغاني في أول هذه السنة وكان قاضيا بالكوفة قبل ذلك توفي في ذي الحجة منها وقد ناهز الثمانين وولي بعده ابنه جعفر والفائز صاحب مصر وقيماز تقدما في الحوادث
محمد بن يحيى
ابن علي بن مسلم أبو عبد الله الزبيدي ولد بمدينة زبيد باليمن سنة ثمانين تقريبا وقدم بغداد سنة تسع وخمسمائة فوعظ وكانت له معرفة بالنحو والأدب وكان صبورا على الفقر لا يشكو حاله إلى أحد وكانت له أحوال صالحة رحمه الله والله سبحانه أعلم
ثم دخلت سنة ست وخمسين وخمسمائة
فيها قتل السلطان سليمان شاه بن محمد بن ملكشاه وكان عنده استهزاء وقلة مبالاة بالدين مدمن شرب الخمر في رمضان فثار عليه مدبر مملكته يزديار الخادم فقتله وبايع بعده السلطان أرسلان شاه بن طغرل بن محمد بن ملكشاه وفيها قتل الملك الصالح فارس الدين أبو الغارات طلائع ابن رزيك الأرمني وزير العاضد صاحب مصر ووالد زوجته وكان قد حجر على العاضد لصغره واستحوذ على الأمور والحاشية ووزر بعده ولده رزيك ولقب بالعادل وقد كان أبوه الصالح (12/243)
كريما اديبا يحب أهل العلم ويحسن إليهم كان من خيار الملوك والوزراء وقد امتدحه غير واحد من الشعراء قال ابن خلكان كان أولا متوليا بمنية بني الخصيب ثم آل به الحال إلى أن صار وزير العاضد والفائز قبله ثم قام في الوزارة بعده ولده العادل رزيك بن طلائع فلم يزل فيها حتى انتزعها منه شاور كما سيأتي قال والصالح هذا هو باني الجامع عند باب زويلة ظاهر القاهرة قال ومن العجائب أنه ولي الوزارة في تاسع عشر شهر ونقل من دار الوزارة إلى القرافة في تاسع عشر شهر وزالت دولتهم في تاسع عشر شهر آخر قال ومن شعره ما رواه عنه زين الدين علي بن نجا الحنبلي ... مشيبك قد محى صنع الشباب ... وحل الباز في وكر الغراب ... تنام ومقلة الحدثان يقظى ... وما ناب النوائب عنك ناب ... وكيف نفاد عمرك وهو كنز ... وقد أنفقت منه بلا حساب ... وله ... كم ذا يرينا الدهر من أحداثه ... عبرا وفينا الصد والإعراض ... ننسى الممات وليس يجري ذكره ... فينا فتذكرنا به الأمراض ...
ومن شعره أيضا قوله
... أبى الله إلا أن يدوم لنا الدهر ... ويخدمنا في ملكنا العز والنصر ... علمنا بأن المال تفنى ألوفه ... ويبقى لنا من بعده الأجر والذكر ... خلطنا الندى بالبأس حتى كأننا ... سحاب لديه البرق والرعد والقطر ... وله أيضا وهو مما نظمه قبل موته بثلاث ليال ( نحن في غفلة ونوم وللمو ... ت عيون يقظانة لا تنام ) ... قد رحلنا إلى الحمام سنينا ... ليت شعري متى يكون الحمام ... ثم قتله غلمان العاضد في النهار غيلة وله إحدى وستون سنة وخلع على ولده العادل بالوزارة ورثاه عمارة التميمي بقصائد حسان ولما نقل إلى تربته بالقرافة سار العاضد معه حتى وصل إلى قبره فدفنه في التابوت قال ابن خلكان فعمل الفقيه عمارة في التابوت قصيدة فجار فيها في قوله ... وكأنه تابوت موسى أودعت ... في جانبيه سكينة ووقار ... وفيها كانت وقعة عظيمة بين بني خفاجة وأهل الكوفة فقتلوا من أهل الكوفة خلقا منهم الأمير قيصر وجرحوا أمير الحاج برغش جراحات فنهض إليهم وزير الخلافة عون الدين بن هبيرة فتبعهم حتى أوغل خلفهم في البرية في جيش كثيف فبعثوا يطلبون العفو وفيها ولي مكة الشريف عيسى بن قاسم بن أبي هاشم وقيل قاسم بن أبي فليتة بن قاسم بن أبي هاشم وفيها أمر الخليفة بإزالة الدكاكين التي تضيق الطرقات وأن لا يجلس أحد من الباعة في عرض الطريق (12/244)
لئلا يضر ذلك بالمارة وفيها وقع رخص عظيم ببغداد جدا وفيها فتحت المدرسة التي بناها ابن الشمحل في المأمونية ودرس فيها أبو حكيم إبراهيم بن دينار النهرواني الحنبلي وقد توفي من آخر هذه السنة ودرس بعده فيها أبو الفرج ابن الجوزي وقد كان عنده معيدا ونزل عن تدريس آخر بباب الأزج عند موته وممن توفي فيها من الأعيان حمزة بن علي بن طلحة
أبو الفتوح الحاجب كان خصيصا عند المسترشد والمقتفي وقد بنى مدرسة إلى جانب داره وحج فرجع متزهدا ولزم بيته معظما نحوا من عشرين سنة وقد امتدحه الشعراء فقال فيه بعضهم
... يا عضد الإسلام يا من سمت ... الى العلا همته الفاخرة ... كانت لك الدنيا فلم ترضها ... ملكا فأخلدت إلى الآخرة ...
ثم دخلت سنة سبع وخمسين وخمسمائة
فيها دخلت الكرج بلاد المسلمين فقتلوا خلقا من الرجال وأسروا من الذراري فاجتمع ملوك تلك الناحية ايلدكز صاحب اذربيجان وابن سكمان صاحب خلاط وابن أقسنقر صاحب مراغة وساروا إلى بلادهم في السنة الآتية فنهبوها وأسروا ذراريهم والتقوا معهم فكسروهم كسرة فظيعة منكرة مكثوا يقتلون فيهم ويأسرون ثلاثة أيام وفي رجب أعيد يوسف الدمشقي إلى تدريس النظامية بعد عزل ابن نظام الملك بسبب أن امرأة ادعت أنه تزوجها فأنكر ثم اعترف فعزل عن التدريس وفيها كملت المدرسة التي بناها الوزير ابن هبيرة بباب البصرة ورتب فيها مدرسا وفقيها وحج بالناس أمير الكوفة برغش وممن توفي فيها من الأعيان
شجاع شيخ الحنفية
ودفن عند المشهد وكان شيخ الحنفية بمشهد أبي حنيفة وكان جيد الكلام في النظر أخذ عنه الحنفية
صدقة بن وزير الواعظ
دخل بغداد ووعظ بها وأظهر تقشفا وكان يميل إلى التشيع وعلم الكلام ومع هذا كله راج عند العوام وبعض الأمراء وحصل له فتوح كثير ابتنى منه رباطا ودفن فيه سامحه الله تعالى
زمرد خاتون
بنت جاولي أخت الملك دقماق بن تتش مه وهي بانية الخاتونية ظاهر دمشق عند قرية صنعاء بمكان يقال له تل الثعالب غربي دمشق على جانب الشرق القبلي بصنعاء الشام وهي قرية معروفة قديما وأوقفتها على الشيخ برهان الدين علي بن محمد البلخي الحنفي المتقدم ذكره وكانت زوجة الملك بوري بن طغتكين فولدت له ابنيه شمس الملوك إسماعيل المذكور وقد ملك بعد (12/245)
أبيه وسار سيرته ومالأ الفرنج على المسلمين وهم بتسليم البلد والأموال إليهم فقتلوه وتملك أخوه وذلك بعد مراجعتها ومساعدتها وقد كانت قرأت القرآن وسمعت الحديث وكانت حنفية المذهب تحب العلماء والصالحين وقد تزوجها الأتابكي زنكي صاحب حلب طمعا في أن يأخذ بسببها دمشق فلم يظفر بذلك بل ذهبت إليه إلى حلب ثم عادت إلى دمشق بعد وفاته وقد دخلت بغداد وسارت من هناك إلى الحجاز وجاورت بمكة سنة ثم جاءت فأقامت بالمدينة النبوية حتى ماتت بها ودفنت بالبقيع في هذه السنة وقد كانت كثيرة البر والصدقات والصلاة والصوم قال السبط ولم تمت حتى قل ما بيدها وكانت تغربل القمح والشعير وتتقوت بأجرته وهذا من تمام الخير والسعادة وحسن الخاتمة رحمها الله تعالى والله أعلم
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وخمسمائة
فيها مات صاحب المغرب عبدالمؤمن بن علي التومرتي وخلفه في الملك من بعده ابنه يوسف وحمل أباه إلى مراكش على صفة أنه مريض فلما وصلها أظهر موته فعزاه الناس وبايعوه على الملك من بعد أبيه ولقبوه امير المؤمنين وقد كان عبدالمؤمن هذا حازما شجاعا جوادا معظما للشريعة وكان من لا يحافظ على الصلوات في زمانه يقتل وكان إذا أذن المؤذن وقبل الأذان يزدحم الخلق في المساجد وكان حسن الصلاة ذا طمأنينة فيها كثير الخشوع ولكن كان سفاكا للدماء حتى على الذنب الصغير فأمره إلى الله يحكم فيه بما يشاء وفيها قتل سيف الدين محمد بن علاء الدين الغزي قتله الغز وكان عادلا وفيها كبست الفرنج نور الدين وجيشه فانهزم المسلمون لا يلوي احد على أحد ونهض الملك نور الدين فركب فرسه والشبحة في رجله فنزل رجل كردي فقطعها فسار نور الدين فنجا وأدركت الفرنج ذلك الكردى فقتلوه رحمه الله فأحسن نور الدين إلى ذريته وكان لا ينسى ذلك له وفيها أمر الخليفة ب بإجلاء بني أسد عن الحلة وقتل من تخلف منهم وذلك لإفسادهم ومكاتبتهم السلطان محمد شاه وتحريضهم له على حصار بغداد فقتل من بني أسد أربعة آلاف وخرج الباقون منها وتسلم نواب الخليفة الحلة وحج بالناس فيها الأمير برغش الكبير وممن توفي فيها من الأعيان السلطان الكبير
أبو محمد عبدالمؤمن بن علي
القيسي الكوفي تلميذ ابن التومرت كان أبوه يعمل في الطين فاعلا فحين وقع نظر ابن التومرت عليه أحبه وتفرس فيه أنه شجاع سعيد فاستصحبه فعظم شأنه والتفت عليه العساكر التي جمعها ابن التومرت من المصامدة وغيرهم وحاربوا صاحب مراكش علي بن يوسف بن تاشفين ملك الملثمين واستحوذ عبدالمؤمن على وهران وتلمسان وفاس وسلا وسبتة ثم حاصر مراكش أحد (12/246)
عشر شهرا فافتتحها في سنة ثنتين وأربعين وخمسمائة وتمهدت له الممالك هنالك وصفا له الوقت وكان عاقلا وقورا شكلا حسنا محبا للخير توفي في هذه السنة ومكث في الملك ثلاثا وثلاثين سنة وكان يسمي نفسه أمير المؤمنين رحمه الله
طلحة بن علي
ابن طراد أبو أحمد الزينبي نقيب النقباء مات فجأة وولي النقابة بعده ولده أبو الحسن علي وكان أمرد فعزل وصودر في هذه السنة
محمد بن عبدالكريم
ابن إبراهيم أبو عبدالله المعروف بابن الأنباري كاتب الإنشاء ببغداد كان شيخا حسنا ظريفا وانفرد بصناعة الإنشاء وبعث رسولا إلى الملك سنجر وغيره وخدم الملوك والخلفاء وقارب التسعين ومن شعره في محبي الدنيا والصور ... يا من هجرت ولا تبالي ... هل ترجع دولة الوصال ... هل اطمع يا عذاب قلبي ... أن ينعم في هواك بالى ... ما ضرك أن تعلليني ... في الوصل بموعد المحال ... أهواك أنت حظ غيري ... يا قاتلتي فما احتيالي ... أيام عنائي قبل سود ... ما أشبههن بالليالي ... العذل فيك يعذلوني ... عن حبك ما لهم ومالي ... يا ملزمني السلو عنها ... الصب أنا وأنت سالى ... والقول بتركها صواب ... ما أحسنه لو استوى لى ... طلقت تجلدى ثلاثا ... والصبوة بعد في خيالي ... ثم دخلت سنة تسع وخمسين وخمسمائة فيها قدم شاور بن مجير الدين أبو شجاع السعدي الملقب بأمير الجيوش وهو إذ ذاك وزير الديار المصرية بعد آل رزيك لما قتل الناصر رزيك بن طلائع وقام في الوزارة بعده واستفحل أمره فيها ثار عليه أمير يقال له الضرغام بن سوار وجمع له جموعا كثيرة واستظهر عليه وقتل ولديه طيبا وسليمان وأسر الثالث وهو الكامل بن شاور فسجنه ولم يقتله ليد كانت لأبيه عنده واستوزر ضرغام ولقب بالمنصور فخرج شاور من الديار المصرية هاربا من العاضد ومن ضرغام ملتجئا إلى نور الدين محمود وهو نازل بجوسق الميدان الأخضر فأحسن ضيافته وأنزله بالجوسق المذكور وطلب شاور منه عسكرا ليكونوا معه ليفتح بهم الديار المصرية وليكون لنور الدين (12/247)
ثلث مغلها فأرسل معه جيشا عليه أسد الدين شيركوه بن شادي فلما دخلوا بلاد مصر خرج إليهم الجيش الذين بها فاقتتلوا أشد القتال فهزمهم أسد الدين وقتل منهم خلقا وقتل ضرغام بن سوار وطيف برأسه في البلاد واستقر أمر شاور في الوزارة وتمهد حاله ثم اصطلح العاضد وشاور على أسد الدين ورجع عما كان عاهد عليه نور الدين وأمر اسد الدين بالرجوع فلم يقبل منه وعاث في البلاد وأخذ أموالا كثيرة وافتتح بلدانا كثيرة من الشرقية وغيرها فاستغاث شاور عليهم بملك الفرنج الذي بعسقلان واسمه مري فأقبل في خلق كثير فتحول أسد الدين إلى بلبيس وقد حصنها وشحنها بالعدد والآلات وغير ذلك فحصروه فيها ثمانية أشهر وامتنع أسد الدين وأصحابه أشد الامتناع فبينما هم على ذلك إذ جاءت الأخبار بأن الملك نور الدين قد اغتنم غيبة الفرنج فسار إلى بلادهم فقتل منهم خلقا كثيرا وفتح حارم وقتل من الفرنج بها خلقا وسار إلى بانياس فضعف صاحب عسقلان الفرنجي وطلبوا من أسد الدين الصلح فأجابهم إلى ذلك وقبض من شاور ستين ألف دينار وخرج أسد الدين وجيشه فساروا إلى الشام في ذي الحجة وقعة حارم
فتحت في رمضان من هذه السنة وذلك أن نور الدين استغاث بعساكر المسلمين فجاؤه من كل فج ليأخذ ثأره من الفرنج فالتقى معهم على حارم فكسرهم كسرة فظيعة وأسر البرنس بيمند صاحب إنطاكية والقومص صاحب طرابلس والدوك صاحب الروم وابن جوسليق وقتل منهم عشرة آلاف وقيل عشرين ألفا وفي ذي الحجة منها فتح نور الدين مدينة بانياس وقيل إنه إنما فتحها في سنة ستين فالله أعلم وكان معه أخوه نصر الدين أمير أميران فأصابه سهم في إحدى عينيه فأذهبها فقال له الملك نور الدين لو نظرت لما أعد الله لك من الأجر في الآخرة لأحببت أن تذهب الأخرى وقال لابن معين الدين إنه اليوم بردت جلدة والدك من نار جهنم لأنه كان سلمها للفرنج فصالحه عن دمشق وفي شهر ذي الحجة احترق قصر جيرون حريقا عظيما فحضر في تلك الليلة الأمراء منهم أسد الدين شيركوه بعد رجوعه من مصر وسعى سعيا عظيما في إطفاء هذه النار وصون حوزة الجامع منها وممن توفي فيها من الأعيان الدين
وزير صاحب الموصل قطب الدين مودود بن زنكي كان كثير المعروف واسمه محمد بن علي ابن أبي منصور أبو جعفر الأصبهاني الملقب بالجمال كان كثير الصدقة والبر وقد أثر آثارا حسنة بمكة والمدينة من ذلك أنه ساق عينا إلى عرفات وعمل هناك مصانع وبنى مسجد الخيف ودرجه وعملها بالرخام وبنى على المدينة النبوية سورا وبنى جسرا على دجلة عند جزيرة ابن (12/248)
عمر بالحجر المنحوت والحديد والرصاص وبنى الربط الكثيرة وكان يتصدق في كل يوم في بابه بمائة دينار ويفتدي من الأسارى في كل سنة بعشرة آلاف دينار وكان لا تزال صدقاته وافدة إلى الفقهاء والفقراء حيث كانوا من بغداد وغيرها من البلاد وقد حبس في سنة ثمان وخمسين فذكر ابن الساعي في تاريخه عن شخص كان معه في السجن أنه نزل إليه طائر أبيض قبل موته فلم يزل عنده وهو يذكر الله حتى توفي في شعبان من هذه السنة ثم طار عنه ودفن في رباط بناه لنفسه بالموصل وقد كان بينه وبين أسد الدين شيركوه بن شادى مواخاة وعهد أيهما مات قبل الآخر أن يحمله إلى المدينة النبوية فحمل إليها من الموصل على أعناق الرجال فما مروا به على بلدة الاصلوا عليه وترحموا عليه واثنوا خيرا فصلوا عليه بالموصل وتكريت وبغداد والحلة والكوفة وفيدو مكة وطيف به حول الكعبة ثم حمل إلى المدينة النبوية فدفن بها في رباط بناه شرقي مسجد النبي ( ص ) قال ابن الجوزي وابن الساعي ليس بينه وبين حرم النبي ( ص ) وقبره سوى خمسة عشر ذراعا قال ابن الساعي ولما صلى عليه بالحلة صعد شاب نشزا فأنشد ... سرى نعشه على الرقاب وطالما ... سرى جوده فوق الركاب ونائلة ... يمر على الوادي فتثنى رماله ... عليه وبالنادي فتثنى أرامله ... وممن توفي بعد الخمسين
ابن الخازن الكاتب
ابن الخازن الكاتب أحمد بن محمد بن الفضل بن عبدالخالق أبو الفضل المعروف بابن الخازن الكاتب البغدادي الشاعر كان يكتب جيدا فائقا اعتنى بكتابة الختمات وأكثر ابنه نصر الله من كتابة المقامات وجمع لابنه ديوان شعر أورد منه ابن خلكان قطعة كبيرة
ثم دخلت سنة ستين وخمسمائة
في صفر منها وقعت بأصبهان فتنة عظيمة بين الفقهاء بسبب المذاهب دامت أياما وقتل فيها خلق كثير وفيها كان حريق عظيم ببغداد فاحترقت محال كثيرة جدا وذكر ابن الجوزي أن في هذه السنة ولدت امرأة ببغداد أربع بنات في بطن واحد وحج بالناس فيها الأمير برغش الكبير وممن توفي فيها من الأعيان
عمر بن بهليقا
عمر بن بهليقا الطحان الذي جدد جامع العقية ببغداد واستأذن الخليفة في إقامة الجمعة فيه فأذن له في ذلك وكان قد اشترى ما حوله من القبور فأضاف ذلك إليه ونبش الموتى منها فقبض الله له من نبشه من قبره بعد دفنه جزاء وفاقا
محمد بن عبدالله بن العباس بن عبدالحميد
أبو عبدالله الحراني كان آخر من بقي من الشهود المقبولين عند أبي الحسن الدامغاني وقد (12/249)
سمع الحديث وكان لطيفا ظريفا جمع كتابا سماه روضة الأدباء فيها نتف حسنة قال ابن الجوزي زرته يوما فأطلت الجلوس عنده فقلت أقوم فقد ثقلت فأنشدني ... لئن سمئت إبراما وثقلا ... زيارات ورفعت بهن قدري ... فما أبرمت إلا حبل ودي ... ولا ثقلت إلا ظهر شكري ...
مرجان الخادم
كان يقرأ القراءات وتفقه لمذهب الشافعي وكان يتعصب على الحنابلة ويكرههم ويعادي
الوزير ابن هبيرة
وابن الجوزي معاداة شديدة ويقول لابن الجوزي مقصودي قلع مذهبكم وقطع ذكركم ولما توفي ابن هبيرة في هذه السنة قوي على بن الجوزي وخافه ابن الجوزي فلما توفي في هذه السنة فرح ابن الجوزي فرحا شديدا توفي ( في ذي القعدة منها
ابن التلميذ
الطبيب الحاذق الماهر اسمه هبة الله بن صاعد توفي ) عن خمس وتسعين سنة وكان موسعا عليه في الدنيا وله عند الناس وجاهة كبيرة وقد توفي قبحه الله على دينه ودفن بالبيعة العتيقة لا رحمه الله إن كان مات نصرانيا فإنه كان يزعم أنه مسلم ثم مات على دينه الوزير ابن هبيرة يحيى بن محمد بن هبيرة أبو المظفر الوزير للخلافة عون الدين مصنف كتاب الإفصاح وقد قرأ القرآن وسمع الحديث وكانت له معرفة جيدة بالنحو واللغة والعروض وتفقه على مذهب الإمام أحمد وصنف كتبا جيدة مفيدة من ذلك الإفصاح في مجلدات شرح فيه الحديث وتكلم على مذاهب العلماء وكان على مذهب السلف في الإعتقاد وقد كان فقيرا لامال له ثم تعرض للخدمة الىأن وزر للمقتفي ثم لابنه المستنجد وكان من خيار الوزراء وأحسنهم سيرة وأبعدهم عن الظلم وكان لا يلبس الحرير وكان المقتفي يقول ما وزر لبني العباس مثله وكذلك ابنه المستنجد وكان المستنجد معجبا به قال مرجان الخادم سمعت أمير المؤمنين المستنجد بنشد لابن هبيرة وهو بين يديه من شعره ... صفت نعمتان خصتاك وعمتا ... فذكرهما حتى القيامة يذكر ... وجودك والدنيا إليك فقيرة ... وجودك والمعروف في الناس ينكر ... فلوا رام يا يحيى مكانك جعفر ... ويحيى لكفا عنه يحيى وجعفر ... ولم ار من ينوي لك السوءيا أبا ... المظفر إلا كنت أنت المظفر ... وقد كان يبالغ في إقامة الدولة العباسية وحسم مادة الملوك السلجوقية عنهم بكل ممكن (12/250)
حتى استقرت الخلافة في العراق كله ليس للملوك معهم حكم بالكلية ولله الحمد وكان يعقد في داره للعلماء مجلسا للمناظرة يبحثون فيه ويناظرون عنده يستفيد منهم ويستفيدون منه فأتفق يوما أنه كلم رجلا من الفقهاء كلمة فيها بشاعة قال له يا حمار ثم ندم فقال أريد أن تقول لي كما قلت لك فأمتنع ذلك الرجل فصالحه على مائتي دينار مات فجأة ويقال إنه سمه طبيب فسم ذلك الطبيب بعد ستة أشهر وكان الطبيب يقول سممته فسممت مات يوم الأحد الثاني عشر من جمادى الأولى من هذه السنة عن إحدى وستين سنة وغسله ابن الجوزي وحضر جنازته خلق كثير وجم غفير جدا وغلقت الأسواق وتباكىالناس عليه ودفن بالمدرسة التي أنشأها بباب البصرة رحمه الله وقد رثاه الشعراء بمراثي كثيرة ثم دخلت سنة إحدى وستين وخمسمائة
فيها فتح نور الدين محمود حصن المنيطرة من الشام وقتل عنده خلق كثير من الفرنج وغنم أموالا جزيلة وفيها هرب عز الدين بن الوزير ابن هبيرة من السجن ومعه مملوك تركي فنودي عليه في البلد من رده فله مائة دينار ومن وجد عنده هدمت داره وصلب على بابها وذبحت أولاده بين يديه فدلهم رجل من الأعراب عليه فأخذ من بستان فضرب ضربا شديدا وأعيد إلى السجن وضيق عليه وفيها أظهر الروافض سب الصحابة وتظاهروا بأشياء منكرة ولم يكونوا يتمكنون منها في هذه الأعصار المتقدمة خوفا من ابن هبيرة ووقع بين العوام كلام فيما يتعلق بخلق القرآن وحج بالناس برغش وممن توفي فيها من الأعيان
الحسن بن العباس
ابن أبي الطيب بن رستم أبو عبد الله الأصبهاني كان من كبار الصالحين البكائين قال حضرت يوما مجلس ما شاده وهو يتكلم على الناس فرأيت رب العزة في هذه الليلة وهو يقول لي وقفت على مبتدع وسمعت كلامه لأحرمنك النظر في الدنيا فأصبح لايبصر وعيناه مفتوحتان كأنه بصير
عبد العزيز بن الحسن
ابن الحباب الأغلبي السعدي القاضي أبو المعالي البصرى المعروف بأبن الجليس لأنه كان يجالس صاحب مصر وقد ذكره العماد في الجريدة وقال كان له فضل مشهور وشعر مأثور فمن ذلك قوله
... ومن عجب أن السيوف لديهم ... تحيض دماء والسيوف ذكور ... وأعجب من ذا أنها في اكفهم ... تأجج نارا والأكف بحور (12/251)
الشيخ عبد القادر الجيلي
ابن أبي صالح أبو محمد الجيلي ولد سنة سبعين وأربعمائة ودخل بغداد فسمع الحديث وتفقه على أبي سعيد المخرمي الحنبلي وقد كان بنى مدرسة ففوضها إلى الشيخ عبد القادر فكان يتكلم على الناس بها ويعظهم وانتفع به الناس انتفاعا كثيرا وكان له سمت حسن وصمت غير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكان فيه تزهد كثير وله أحوال صالحة ومكاشفات ولأتباعه وأصحابه فيه مقالات ويذكرون عنه اقوالا وأفعالا ومكاشفات اكثرها مغالاة وقد كان صالحا ورعا وقد صنف كتاب الغنية وفتوح الغيب وفيهما اشياء حسنة وذكر فيهما أحاديث ضعيفة وموضوعة وبالجملة كان من سادات المشايخ [ توفي ] وله تسعون سنة ودفن بالمدرسة التي كانت له
ثم دخلت سنة ثنتين وستين وخمسمائة
فيها اقبلت الفرنج في جحافل كثيرة إلى الديار المصرية وساعدهم المصريون فتصرفوا في بعض البلاد فبلغ ذلك أسد الدين شيركوه فاستأذن الملك نور الدين في العود إليها وكان كثير الحنق على الوزير شاور فأذن له فسار إليها في ربيع الآخر ومعه ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب وقد وقع في النفوس أنه سيملك الديار المصرية وفي ذلك يقول عرقلة المسمى بحسان الشاعر ... والأتراك قد أزمعت ... مصر إلى حرب الأعاريب ... رب كما ملكها يوسف ... الصدي من أولاد يعقوب فملكها في عصرنا يوسف ... الصادق من أولاد أيوب ... من لم يزل ضراب هام العدا ... حقا وضراب العراقيب ...
ولما بلغ الوزير شاور قدوم أسد الدين والجيش معه بعث إلى الفرنج فجاؤا من كل فج إليه وبلغ أسد الدين ذلك من شأنهم وإنما معه ألفا فارس فاستشار من معه من الأمراء فكلهم أشار عليه بالرجوع إلى نور الدين لكثيرة الفرنج إلا اميرا واحدا يقال له شرف الدين برغش فأنه قال من خلف القتل والأسر فليقعد في بيته عند زوجته ومن أكل أموال الناس فلا يسلم بلادهم إلى العدو وقال مثل ذلك ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب فعزم الله لهم فساروا نحو الفرنج فاقتتلوا هم وإياهم قتالا عظيما فقتلوا من الفرنج مقتلة عظيمة وهزموهم ثم قتلوا منهم خلقا لا يعلمهم إلا الله عز و جل ولله الحمد
فتح الأسكندرية على يدي أسد الدين شيركوه ثم أشار أسد الدين بالمسير [ إلى إلاسكندرية ] فملكها وجبني أموالها واستناب عليها ابن أخيه صلاح الدين يوسف وعاد إلى الصعيد فملكه وجمع منه أموالا جزيلة جدا ثم إن الفرنج (12/252)
والمصريين اجتمعوا على حصار الإسكندرية ثلاثة أشهر لينتزعوها من يد صلاح الدين وذلك في غيبة عمه في الصعيد وأمتنع فيها صلاح الدين أشد الإمتناع ولكن ضاقت عليهم الأقوات وضاق عليهم الحال جدا فسار إليهم أسد الدين فصالحه شاور الوزير عن الأسكندرية بخمسين ألف دينار فأجابه إلى ذلك وخرج صلاح الدين منها وسلمها إلى المصريين وعاد إلى الشام في منتصف شوال وقرر شاور للفرنج على مصر في كل سنة مائة ألف دينار وأن يكون لهم شحنة بالقاهرة وعادوا إلى بلادهم بعد أن كان الملك نور الدين أعقبهم في بلادهم وفتح من بلادهم حصونا كثيرة وقتل منهم خلقا من الرجال وأسر جما غفيرا من النساء والأطفال وغنم شيئا كثيرا من الأمتعة والأموال ولله الحمد وكان معه أخوه قطب الدين مودود فأطلق له الرقة فسار فتسلمها وفيها في شعبان منها كان قدوم العماد الكاتب من بغداد إلى دمشق وهو أبو حامد محمد بن محمد الأصبهاني صاحب الفتح القدسي والبرق الشامي والجريدة وغير ذلك من المصنفات فأنزله قاضي القضاة كمال الدين الشهرزورى بالمدرسة النورية الشافعية داخل باب الفرج فنسبت إليه لسكناه بها فيقال لها العمادية ثم ولي تدريسها في سنة سبع وستين بعد الشيخ الفقيه ابن عبد وأول من جاء للسلام عليه نجم الدين أيوب كانت له وبه معرفة من تكريت فامتدحه العماد بقصيدة ذكرها أبو شامة وكان أسد الدين وصلاح الدين بمصر فبشره فيها بولاية صلاح الدين الديار المصرية حيث يقول ... ويستقر بمصر يوسف وبه 5 تقر بعد التنائي عين يعقوب ... ويتلقى يوسف فيها باخوته ... والله يجمعهم من غير تثريب ... ثم تولى عمادالدين زنكي الدين كتابة الإنشاء للملك نور الدين محمود وممن توفي فيها من الأعيان
برغش أمير الحاج سنين متعدده
كان مقدما على العساكر خرج من بغداد لقتال شملة التركماني فسقط عن فرسه فمات
أبو المعالي الكاتب
محمد بن الحسن بن محمد بن علي بن حمدون صاحب التذكرة الحمدونية وقد ولي ديوان الزمام مدة توفي في ذي القعدة ودفن بمقابر قريش
الرشيد الصدفي
كان يجلس بين يدي العبادي على الكرسي كانت له شيبة وسمت ووقار وكان يدمن حضور السماعات ويرقص فاتفق أنه مات وهو يرقص في بعض السماعات (12/253)
ثم دخلت سنة ثلاث وستين وخمسمائة
في صفر منها وصل شرف الدين أبو جعفر بن البلدي من واسط إلى بغداد فخرج الجيش لتلقيه والنقيبان والقاضي ومشى الناس بين يديه إلى الديوان فجلس في دست الوزاره وقرىء عهده ولقب بالوزير شرف الدين جلال الاسلام معز دولة سيد الوزراء صدر الشرق والغرب وفيها أفسدت خفاجة في البلاد ونهبوا القرى فخرج إليهم جيش من بغداد فهربوا في البراري فانحسر الجيش عنهم خوفا من العطش فكروا على الجيش فقتلوا منهم خلقا وأسروا آخرين وكان قد اسر الجيش منهم خلقا فصلبوا على الأسوار منها وصلت امرأة الملك نور الدين محمود ابن زنكى إلى بغداد تريد الحج من هناك وهى الست عصمت وفي شوال عصمت الدين خاتون بنت معين الدين ومعها الخدم والخدام وفيهم صندل الخادم وحملت لها الامامات وأكرمت غاية الإكرام وفيها مات قاضي قضاة بغداد جعفر فشغر البلد عن حاكم ثلاثا وعشرين يوما حتى الزموا روح بن الحدثني قاضي القضاة في رابع رجب وممن توفي فيها من الأعيان
جعفر بن عبد الواحد
أبو البراكات الثقفي قاضي قضاة بغداد بعد أبيه ولد سنة تسع وعشرين وخمسمائة وسبب وفاته انه طلب منه مال وكلمه الوزير ابن البلدي كلاما خشنا فخاف فرمى الدم ومات
أبو سعد السمعاني
عبد الكريم بن محمد بن منصور أبو سعد السمعاني رحل إلى بغداد فسمع بها وذيل على تاريخها للخطيب البغدادي وقد ناقشه ابن الجوزي في المنتظم وذكر عنه أنه كان يتعصب على أهل مذهبه ويطعن في جماعة منهم وانه يترجم بعبارة عامية مثل قوله عن بعض الشيخات إنها كانت عفيفة وعن الشاعر المشهور بحيص بيص إنه كانت له أخت يقال لها دخل خرج وغير ذلك
عبد القاهر بن محمد
ابن عبد الله أبو النجيب السهروردي كان يذكر أنه من سلالة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه سمع الحديث وتفقه وأفتى ودرس بالنظامية وابتنى لنفسه مدرسة ورباطا وكان مع ذلك متصوفا يعظ الناس ودفن بمدرسته
محمد بن عبد الحميد
ابن أبي الحسين أبو الفتح الرازي المعروف بالعلاء العالم وهو من أهل سمرقند وكان من الفحول في المناظرة وله طريقة في الخلاف والجدل يقال لها التعليقة العالمية قال ابن الجوزي وقد قدم بغداد وحضر مجلسي وقال أبو سعد السمعاني كان يدمن شرب الخمر قال وكان يقول ليس في الدنيا أطيب من كتاب المناظرة وباطية من خمر أشرب منها قال ابن الجوزي ثم بلغني عنه (12/254)
أنه أقلع عن شرب الخمر والمناظرة وأقبل على النسك والخير
يوسف بن عبد الله
ابن بندار الدمشقي مدرس النظامية ببغداد تفقه على اسعد الميهني وبرع في المناظرة وكان يتعصب للأشعرية وقد بعث رسولا في هذه السنة إلى شملة التركماني فمات في تلك البلاد
ثم دخلت سنة أربع وستين وخمسمائة
فيها كان فتح مصر على يدي الأمير أسد الدين شيركوه وفيها طغت الفرنج بالديار المصرية وذلك انهم جعلوا شاور شحنة لهم بها وتحكموا في أموالها ومساكنها أفواجا ولم يبق شئ من أن يستحوذوا عليها ويخرجوا منها أهلها من المسلمون وقد سكنها أكثر شجعانهم فلما سمع الفرنج بذلك جاؤا إليها من كل فج وناحية صحبة ملك عسقلان في جحافل هائلة فأول ما أخذوا مدينة بلبيس وقتلوا من أهلها خلقا وأسروا آخرين ونزلوا بها وتزكوا بها اثقالهم وجعلوها موئلا ومعقلا لهم ثم ساروا فنزلوا على القاهرة من ناحية باب البرقية فأمر الوزير شاور الناس أن يحرقوا مصر وأن ينتقل الناس منها إلى القاهرة فنهبوا البلد وذهب للناس أموال كثيرة جدا وبقيت النار تعمل في مصر أربعة وخمسين يوما فعند ذلك أرسل صاحبها العاضد يستغيث بنور الدين وبعث إليه بشعور نسائه يقول أدركني واستنقذ نسائي من أيدي الفرنج والتزم له بثلث خراج مصر على ان يكون أسد الدين مقيما بها عندهم والتزم له بإقطاعات زائدة على الثلث فشرع نور الدين في تجهيز الجيوش إلى مصر فلما استشعر الوزير شاور بوصول المسلمين أرسل إلى ملك الفرنج يقول قد عرفت محبتي ومودتي لكم ولكن العاضد والمسلمين لا يوافقوني على تسليم البلد وصالحهم ليرجعوا عن البلد بألف ألف دينار وعجل لهم من ذلك ثمانمائة ألف دينار فانشمروا راجعين إلى بلادهم خوفا من عساكر نور الدين وطمعا في العودة إليها مرة ثانية ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ثم شرع الوزير شاور في مطالبة الناس بالذهب الذي صالح به الفرنج وتحصيله وضيق على الناس مع ما نالهم من الضيق والحريق والخوف فجبر الله مصابهم بقدوم عساكر المسلمين عليهم وهلاك الوزير على يديهم وذلك أن نور الدين استدعي الأمير أسد الدين من حمص إلى حلب فساق إليه هذه المسافة وقطعها في يوم واحد فإنه قام من حمص بعد أن صلى وسلم الصبح ثم دخل منزله فأصاب فيه شيئا من الزاد ثم ركب وقت طلوع الشمس فدخل حلب على السلطان نور الدين من آخر ذلك اليوم يقال إن هذا لم يتفق لغيره إلا للصحابة فسر بذلك نور الدين على العساكر وأنعم عليه بمائتي ألف دينار وأضاف إليه من الأمراء والأعيان كل منهم يبتغي بمسيره رضى الله والجهاد في سبيله وكان من جملة الأمراء ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب ولم يكن منشرحا لخروجه هذا بل كان كارها (12/255)
له وقد قال الله تعالى [ قل اللهم مالك الملك ] الآية وأضاف إليه ستة آلف من التركمان جعل أسد الدين مقدما على هذه العساكر كلها فساربهم من حلب إلى دمشق ونور الدين معهم فجهزه من دمشق إلى الديار المصرية وأقام نور الدين بدمشق ولما وصلت الجيوش النورية إلى الديار المصرية وجدوا الفرنج قد انشمروا عن القاهرة راجعين إلى بلادهم بالصفقة الخاسرة وكان وصوله إليها في سابع ربيع الآخر فدخل الأمير أسد الدين على العاضد في ذلك اليوم فخلع عليه خلعة سنية فلبسها وعاد إلى مخيمه بظاهر البلد وفرح المسلمون بقدومه واجريت عليهم الجرايات وحملت إليهم التحف والكرامات وخرج وجوه الناس إلى المخيم خدمة لأسد الدين وكان فيمن جاء إليه المخيم الخليفة العاضد متنكرا فأسر إليه أمورا مهمة منها قتل الوزير شاور وقرر ذلك معه واعظم أمر الأمير أسد الدين ولكن شرع يماطل بما كان إلتزمه للملك نور الدين وهو مع ذلك يتردد إلى أسد الدين ويركب معه وعزم على عمل ضيافة له فنهاه أصحابه عن الحضور خوفا عليه من غائلته وشاوروه في قتل شاور فلم يمكنهم الأمير أسد الدين من ذلك فلما كان في بعض الأيام جاء شاور إلى منزل أسد الدين فوجده قد ذهب لزيارة قبر الشافعي وإذا ابن أخيه يوسف هنالك فأمر صلاح الدين يوسف بالقبض على الوزير شاور ولم يمكنه قتله إلا بعد مشاورة عمه أسد الدين وأنهزم أصحابه فأعلموا العاضد لعله يبعث ينقذه فأرسل العاضد إلى الأمير أسد الدين يطلب منه رأسه فقتل شاور وأرسلوا برأسه إلى العاضد في سابع عشر ربيع الآخر ففرح المسلمون بذلك وامر أسد الدين بنهب دار شاور فنهبت ودخل أسد الدين على العاضد فاستوزره وخلع عليه خلعة عظيمة ولقبه الملك المنصور فسكن دار شاور وعظم شأنه هنالك ولما بلغ نور الدين خبر فتح مصر فرح بذلك وقصدته الشعراء بالتهنئة غير انه لم ينشرح لكون أسد الدين صار وزيرا للعاضد وكذلك لما انتهت الوزارة إلى ابن أخيه صلاح الدين فشرع نور الدين في إعمال الحلية في إزالة ذلك فلم يتمكن ولا قدر عليه ولا سيما أنه بلغه أن صلاح الدين استحوذ على خزائن العاضد كما سيأتي بيانه إن شاء الله والله أعلم وأرسل أسد الدين إلى القصر يطلب كاتبا فأرسلوا إليه القاضي الفاضل رجاء أن يقبل منه إذا قال وأفاض فيما كانوا يؤملون وبعث أسد الدين العمال في الأعمال واقطع الإقطاعات وولي الولايات وفرح بنفسه أياما معدودات فأدركه حمامه في يوم السبت الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة وكانت ولايته شهرين وخمسة أيام فلما توفي أسد الدين رحمه الله أشار الأمراء الشاميون على العاضد بتولية صلاح الدين يوسف الوزارة بعد عمه فولاه العاضد الوزارة وخلع عليه خلعة سنية ولقبه الملك الناصر (12/256)
صفة الخلعة التي لبسها صلاح الدين
مما ذكره أبو شامة في الروضتين عمامة بيضاء تنيسي بطرف ذهب وثوب ديبقي بطراز ذهب وجبة بطراز ذهب وطيلسان بطراز مذهبة وعقد جوهر بعشرة آلاف دينار وسيف محلى بخمسة آلاف دينار وحجرة بثمانية آلاف دينار وعليها طوق ذهب وسرفسار ذهب مجوهر وفي راسها مائتا حبة جوهر وفي قوائمها أربعة عقود جوهر وفي رأسها قصبة ذهب فيها تندة بيضاء بأعلام بيض ومع الخلعة عدة بقج وخيل وأشياء أخر ومنشور الوزارة ملفوف بثوب أطلس أبيض وذلك في يوم الإثنين الخامس والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة وكان يوما مشهودا وسار الجيش بكماله في خدمته لم يتخلف عنه سوى عين الدولة الياروقي وقال لا أخدم يوسف بعد نور الدين ثم سار بجيشه إلى الشام فلامه نور الدين على ذلك وأقام الملك صلاح الدين بمصر بصفة نائب للملك نور الدين يخطب له على المنابر بالديار المصرية ويكاتبه بالأمير الإسفهلار صلاح الدين ويتواضع له صلاح الدين في الكتب والعلامة لكن قد إلتفت عليه القلوب وخضعت له النفوس وأضطهد العاضد في أيامه غاية الاضطهاد وارتفع قدر صلاح الدين بين العباد بتلك البلاد وزاد في إقطاعات الذين معه فاحبوه واحترموه وخدموه وكتب إليه نور الدين يعنفه على قبول الوزارة بدون مرسومه وأمره أن يقيم حساب الديار المصرية فلم يلتفت صلاح الدين إلى ذلك وجعل نور الدين يقول في غضون ذلك ملك ابن أيوب وارسل [ صلاح الدين ] إلى نور الدين يطلب منه أهله وإخوته وقرابته فأرسلهم إليه وشرط عليهم السمع والطاعة له فاستقر أمره بمصر وتوطأت دولته بذلك وكمل أمره وتمكن سلطانه وقويت أركانه وقد قال بعض الشعراء في القتل صلاح الدين لشاور الوزير ... هيا لمصر حور يوسف ملكها ... بأمر من الرحمن كان موقوتا ... وما كان فيها قتل يوسف شاورا ... يماثل إلاقتل داود جالوتا ...
قال أبو شامة وقتل العاضد في هذه السنة أولاد شاور وهم شجاع الملقب بالكامل والطاري الملقب بالمعظم وأخوهما الآخر الملقب بفارس المسلمين وطيف برؤسهم ببلاد مصر
ذكر قتل الطواشي مؤتمن الخلافة وأصحابه على يدي صلاح الدين وذلك أنه كتب من دار الخلافة بمصر إلى الفرنج ليقدموا إلى الديار المصرية ليخرجوا منها الجيوش الإسلامية الشامية وكان الذي يفد بالكتاب إليهم الطواشي مؤتمن الخلافة مقدم العساكر بالقصر وكان حبشيا وارسل الكتاب مع إنسان أمن إليه فصادفه في بعض الطريق من أنكر حاله فحمله إلى الملك صلاح الدين فقرره فأخرج الكتاب ففهم صلاح الدين الحال فكتمه واستشعر الطواشي مؤتمن الدولة أن صلاح الدين قد أطلع على الأمر (12/257)
فلازم القصر مدة طويلة خوفا على نفسه ثم عن له في بعض الأيام أن خرج إلى الصيد فأرسل صلاح الدين إليه من قبض عليه وقتله وحمل رأسه إليه ثم عزل جميع الخدام الذين يلون خدمة القصر واستناب على القصر عوضهم بهاء الدين قراقوش وأمره أن يطالعه بجميع الأمور صغارها وكبارها وقعة السودان
وذلك أنه لما قتل الطواشي مؤتمن الخلافة الحبشي وعزل بقية الخدام غضبوا لذلك واجتمعوا قريبا من خمسين ألفا فاقتتلوا هم وجيش صلاح الدين بين القصرين فقتل خلق كثير من الفريقين وكان العاضد ينظر من القصر إلى المعركة وقد قذف الجيش الشامي من القصر بحجارة وجاءهم منه سهام فقيل كان ذلك بأمر العاضد وقيل لم يكن بأمره ثم إن أخا الناصر نورشاه شمس الدولة وكان حاضرا للحرب قد بعثه نور الدين لأخيه ليشد ازره أمر بإحراق منظرة العاضد ففتح الباب ونودي إن أمير المؤمنين يأمركم أن تخرجوا هؤلاء السودان من بين اظهركم ومن بلادكم فقوي الشاميون وضعف جأش السودان جدا وأرسل السلطان إلى محلة السودان المعروفة بالمنصورة التي فيها دورهم وأهلوهم بباب زويلة فأحرقها فولوا عند ذلك مدبرين وركبهم السيف فقتل منهم خلقا كثيرا ثم طلبوا الأمان فأجابهم إلى ذلك وأخرجهم إلى الجيزة ثم خرج لهم شمس الدولة نورشاه أخو الملك صلاح الدين فقتل أكثرهم أيضا ولم يبق منهم إلا القليل فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا وفيها افتتح نور الدين قلعة جعبر وانتزعها من يد صاحبها شهاب الدين مالك بن علي العقيلي وكانت في أيديهم من أيام السلطان ملكشاه وفيها احترق جامع حلب فجدده نور الدين وفيها مات ماروق الذي تنسب إليه المحلة بظاهر حلب وممن توفي فيها من الأعيان
سعد الله بن نصر بن سعيد الدجاجي
أبو الحسن الواعظ الحنبلي ولد سنة ثمانين وأربعمائة وسمع الحديث وتفقه ووعظ وكان لطيف الوعظ وقد اثنى عليه ابن الجوزي في ذلك وذكر أنه سئل مرة عن أحاديث الصفات فنهى عن التعرض لذلك وأنشد
... ابي الغائب الغضبان يا نفس ان ترضى ... وأنت الذي صيرت طاعته فرضا ... فلا تهجري من لا تطيقين هجره ... وإن هم بالهجران خديك والأرضا ... وذكر ابن الجوزي عنه أنه قال خفت مرة من الخليفة فهتف بي هاتف في المنام وقال لي اكتب ... ادفع بصبرك حادث الأيام ... وترج لطف الواحد العلام ... لاتيأسن وإن تضايق كربها ... ورماك ريب صروفها بسهام (12/258)
فله تعالى بين ذلك فرجة ... تخفى على الافهام والأوهام ... كم من نجا من بين أطراف القنا ... وفريسة سلمت من الضرغام ... توفي في شعبان منها عن أربع وثمانين سنة ودفن عند رباط الزوري ثم نقل إلى مقبرة الإمام أحمد
شاور بن مجير الدين
أبو شجاع السعدي الملقب أمير الجيوش وزير الديار المصرية أيام العاضد وهو الذي انتزع الوزارة من يدي رزيك وهو أول من أستكتب القاضي الفاضل استدعى به من اسكندرية من باب السدرة فحظي عنده وأنحصر منه الكتاب بالقصر لما رأوا من فضله وفضيلته وقد امتدحه الشعراء منهم عمارة اليمني حيث يقول ... ضجر الحديد من الحديد وشاور ... من نصر دين محمد لم يضجر ... حلف الزمان ليأتين بمثله ... حنثت بيمنك يا زمان فكفر ... ولم يزل أمره قائما إلى أن ثار عليه الأمير ضرغام بن سوار فالتجأ إلى نور الدين فارسل معه الأمير أسد الدين شيركوه فنصروه على عدوه فنكث عهده فلم يزل أسد الدين حنقا عليه حتى قتله في هذه السنة على يدي ابن أخيه صلاح الدين ضرب عنقه بين يدي الأمير جردنك في السابع عشر من ربيع الآخر واستوزر بعده أسد الدين فلم تطل مدته بعده إلا شهرين وخمسة أيام قال ابن خلكان هو أبو شجاع شاور بن مجير الدين بن نزار بن عشائر بن شاس بن مغيث ابن حبيب بن الحارث بن ربيعة بن مخيس بن أبي ذؤيب عبد الله وهو والد حليمة السعدية كذا قال وفيما قال نظر لقصر هذا النسب لبعد المدة والله أعلم
شيركوه بن شادي
أسد الدين الكردي الزرزاري وهم أشرف شعوب الأكراد وهو من قرية يقال لها درين من أعمال أذربيجان خدم هو وأخوه نجم الدين أيوب وكان الأكبر الأمير مجاهد الدين نهروز الخادم شحنة العراق فاستناب نجم الدين أيوب على قلعة تكريت فاتفق أن دخلها عمادالدين زنكي هاربا من قراجا الساقى فأحسنا إليه وخدماه ثم اتفق أنه قتل رجلا من العامة فأخرجهما نهروز من القلعة فصارا إلى زنكي بحلب فأحسن إليهما ثم حظيا عند ولده نور الدين محمود فاستناب أيوب على بعلبك وأقر ولده نور الدين وصار أسد الدين عند نور الدين أكبر امرائه وأخصهم عنده وأقطعه الرحبة وحمص مع ماله عنده من الإقطاعات وذلك لشهامته وشجاعته وصرامته وجهاده في الفرنج في أيام معدودات ووقعات معتبرات ولا سيما يوم فتح دمشق وأعجب من ذلك ما فعله بديار مصر بل الله بالرحمة ثراه وجعل الجنة مأواه وكانت وفاته يوم السبت فجأة بخانوق حصل له وذلك (12/259)
في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة رحمه الله قال أبو شامة وإليه تنسب الخانقاة الأسدية بالشرق القبلي ثم آل الأمر من بعده إلى ابن أخيه صلاح الدين يوسف ثم استوسق له الملك والممالك هنالك
محمد بن عبد الله بن عبد الواحد
ابن سليمان المعروف بابن البطي سمع الحديث الكثير واسمع ورحل إليه وقارب التسعين
محمد الفارقي
أبو عبد الله الواعظ يقال إنه كان يحفظ نهج البلاغة ويعبر ألفاظه وكان فصيحا بليغا يكتب كلامه ويروي عنه كتاب يعرف بالحكم الفارقية
المعمر بن عبد الواحد
ابن رجار أبو أحمد الأصبهاني أحد الحفاظ الوعاظ وروى عن أصحاب أبي نعيم وكانت له معرفة جيدة بالحديث توفي وهو ذاهب إلى الحج بالبادية رحمه الله
ثم دخلت سنة خمس وستين وخمسمائة
في صفر منها حاصرت الفرنج مدينة دمياط من بلاد مصر خمسين يوما بحيث ضيقوا على أهلها وقتلوا أمما كثيرة جاءوا إليها من البر والبحر رجاء ان يملكوا الديار المصرية وخوفا من استيلاء المسلمين على القدس فكتب صلاح الدين إلى نور الدين يستنجده عليهم ويطلب منه أن يرسل إليه بإمداد من الجيوش فإنه إن خرج من مصر خلفه أهلها بسوء وإن قعد عن الفرنج أخذوا دمياط وجعلوها معقلا لهم يتقوون بها على أخذ مصر فأرسل إليه نور الدين ببعوث كثيرة يتبع بعضها بعضا ثم إن نور الدين اغتنم غيبة الفرنج عن بلدانهم فصمد إليهم في جيوش كثيرة فجاس خلال ديارهم وغنم من أموالهم وقتل وسبي شيئا كثيرا وكان من جملة من ارسله إلى صلاح الدين أبوه الأمير نجم الدين أيوب في جيش من تلك الجيوش ومعه بقية أولاده فتلقاه الجيش من مصر وخرج العاضد لتلقيه إكراما لولده وأقطعه اسكندرية ودمياط وكذلك لبقية أولاده وقد أمد العاضد صلاح الدين في هذه الكائنة بألف ألف دينار حتى انفصلت الفرنج عن دمياط وأجلت الفرنج عند مياط لأنه بلغهم أن نور الدين قد غزا بلادهم وقتل خلقا من رجالهم وسبى كثيرا من نسائهم وأطفالهم وغنم من أموالهم فجزاه الله عن المسلمين خيرا ثم سار نور الدين في جمادى الآخرة إلى الكرخ ليحاصرها وكانت من أمنع البلاد وكاد أن يفتحها ولكن بلغه أن مقدمين من الفرنج قد أقبلا نحو دمشق فخاف ان يلتف عليهما الفرنج فترك الحصار واقبل نحو دمشق فحصنها ولما أنجلت الفرنج عن دمياط فرح نور الدين فرحا شديدا وأنشد الشعراء كل منهم في ذلك قصيدا وقد كان (12/260)
الملك نور الدين شديد الاهتمام قوي الاغتمام بذلك حتى قرأ عليه بعض طلبة الحديث جزءا في ذلك فيه حديث مسلسل بالتبسم فطلب منه أن يبتسم ليصل التسلسل فامتنع من ذلك وقال إني لأستحي من الله أن يراني مبتسما والمسلمون يحاصرهم الفرنج بثغر دمياط وقد ذكر الشيخ أبو شامة أن إمام مسجد أبي الدرداء بالقلعة المنصورة رأى في تلك الليلة التي أجلي فيها الفرنج عن دمياط رسول الله ( ص ) وهو يقول سلم على نور الدين وبشره بان الفرنج قد رحلوا عن دمياط فقلت يا رسول الله بأي علامة فقال بعلامة ماسجد يوم تل حارم وقال في سجوده اللهم انصر دينك ومن هو محمود الكلب فلما صلى نور الدين عنده الصبح بشره بذلك وأخبره بالعلامة فلما جاء إلى عند ذكر ( من هو محمود الكلب ) انقبض من قول ذلك فقال له نور الدين قل ما أمرك به رسول الله ( ص ) فقال صدقت وبكى نور الدين تصديقا وفرحا بذلك ثم كشفوا فإذا الأمر كما أخبر في المنام قال العماد الكاتب وفي هذه السنة عمر الملك نور الدين جامع داريا وعمر مشهد أبي سليمان الداراني بها وشتى بدمشق وفيها حاصر الكرك أربعة أيام وفارقه من هناك نجم الدين أيوب والد صلاح الدين متوجها إلى ابنه بمصر وقد وصاه نور الدين أن يأمر ابنه صلاح الدين أن يخطب بمصر للخليفة المستنجد بالله العباسي وذلك أن الخليفة بعث يعاتبه في ذلك وفيها قدم الفرنج من السواحل ليمنعوا الكرك مع ثبيب بن الرقيق وابن القنقري وكانا اشجع فرسان الفرنج فقصدهما نور الدين ليقابلهما فحادا عن طريقه وفيها كانت زلزلة عظيمة بالشام والجزيرة وعمت أكثر الأرض وتهدمت أسوار كثيرة بالشام وسقطت دور كثيرة على أهلها ولا سيما بدمشق وحمص وحماه وحلب وبعلبك سقطت أسوارها واكثر قلعتها فجدد نور الدين عمارة أكثر ماوقع بهذه الأماكن و فيها توفي
الملك قطب الدين مودود بن زنكي
الملك قطب الدين مودود بن زنكي أخو نور الدين محمود صاحب الموصل وله من العمر أربعون سنة ومدة ملكه منها إحدى وعشرون سنة وكان من خيار الملوك محببا إلى الرعية عطوفا عليهم محسنا إليهم حسن الشكل وتملك من بعده ولده سيف الدين غازي من الست خاتون بنت تمرتاش بن إيلغازي بن ارتق أصحاب ماردين وكان مدبر مملكته والمتحكم فيها فخر الدين عبد المسيح وكان ظالما غاشما وفيها كانت حروب كثيرة بين ملوك الغرب بجزيرة الأندلس وكذلك كانت حروب كثيرة بين ملوك الشرق ايضا وحج بالناس فيها وفيما قبلها الأمير برغش الكبير ولم ارأحدا من أكابر الأعيان توفي فيها (12/261)
ثم دخلت سنة ست وستين وخمسمائة
فيها كانت وفاة المستنجد وخلافة ابنه المستضيء وذلك أن المستنجد كان قد مرض في أول هذه السنة ثم عوفي فيما يبدو للناس فعمل ضيافة عظيمة بسبب ذلك وفرح الناس بذلك ثم ادخله الطبيب إلى الحمام وبه ضعف شديد فمات في الحمام ويقال إن ذلك كان باشارة بعض الدولة على الطبيب استعجالا لموته توفي يوم السبت بعد الظهر ثاني ربيع الآخر عن ثمان وأربعين سنة وكانت مدة خلافته إحدى عشرة سنة وشهرا وكان من خيار الخلفاء وأعدلهم وأرفقهم بالرعايا ومنع عنهم المكوس والضرائب ولم يترك بالعراق مكسا وقد شفع إليه بعض أصحابه في رجل شرير وبذل فيه عشرة آلاف دينار فقال له الخليفة أنا اعطيك عشرة آلاف دينار وائتني بمثله لأريح المسلمين من شره وكان المستنجد أسمر طويل اللحية وهو الثاني والثلاثين من العباسيين وذلك في الجمل لام باء ولهذا قال فيه بعض الأدباء ... أصبحت لب بني العباس جملتها ... إذا عددت حساب الجمل الخلفا ...
وكان أمارا بالمعروف نهاء عن المنكر وقد رأى في منامه رسول الله ( ص ) وهو يقول له قل اللهم أهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت دعاء القنوت بتمامه وصلي عليه يوم الأحد قبل الظهر ودفن بدار الخلافة ثم نقل إلى الترب من الرصافة رحمه الله تعالى
خلافة المستضيء
وهو أبو محمد الحسن بن يوسف المستنجد بن المقتفي وأمه أرمنية تدعى عصمت وكان مولده في شعبان سنة ست وثلاثين وخمسمائة بويع بالخلافة يوم مات أبوه بكرة الأحد تاسع ربيع الآخر وبايعه الناس ولم يل الخلافة أحد اسمه الحسن بعد الحسن بن علي غير هذا ووافقه في الكنية أيضا وخلع يومئذ على الناس أكثر من ألف خلعة وكان يوما مشهودا وولي قضاء قضاة بغداد الروح ابن الحدثني يوم الجمعة حادي عشرين ربيع الآخر وخلع على الوزير وهو الأستاذ عضد الدولة وضربت على بابه الدبابات ثلاثة أوقات الفجر والمغرب والعشاء وأمر سبعة عشر أميرا من المماليك وأذن للوعاظ فتكلموا بعد مامنعوا مدة طويلة لما كان يحدث بسبب ذلك من الشرور الطويلة ثم كثر احتجاجه ولما جاءت البشارة بولايته إلى الموصل قال العماد الكاتب
... قد أضاء الزمان بالمستضئ ... وارث البرد وابن عم النبي ... جاء بالحق والشريعة والعد ... ل فيا مرحبا بهذا المحيى ... فهنيئا لأهل بغداد فازوا ... بعد بؤس بكل عيش هني ... ومضى إن كان في الزمن المظ ... لم بالعود في الزمان المضى (12/262)
وفيها سار الملك نور الدين إلى الرقة فأخذها وكذا نصيبين والخابور وسنجار وسلمها إلى زوج ابنته ابن أخيه مودود بن عمادالدين ثم سار إلى الموصل فأقام بها أربعة وعشرين يوما وأقرها على ابن أخيه سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود مع الجزيرة وزوجه ابنته الأخرى وأمر بعمارة جامعها وتوسعته ووقف على تأسيسه بنفسه وجعل له خطيبا ودرسا للفقه وولي التدريس للفيقه أبي بكر البرقاني تلميذ محمد بن يحيى تلميذ الغزالي وكتب له منشورا بذلك ووقف على الجامع قرية من قرى الموصل وذلك كله بإشارة الشيخ صالح العابد عمر الملا وقد كانت له زاوية يقصد فيها وله في كل سنة دعوة في شهر المولد يحضر فيه عنده الملوك والأمراء والعلماء والوزراء ويحتفل بذلك وقد كان الملك نور الدين صاحبه وكان يستشيره في أموره وممن يعتمده في مهماته وهو الذي أشار عليه في مدة مقامه في الموصل بجميع ما فعله من الخيرات فلهذا حصل بقدومه لأهل الموصل كل مسرة واندفعت عنهم كل مضرة وأخرج من بين أظهرهم الظالم الغاشم فخر الدين عبد المسيح وسماه عبدالله وأخذه معه إلى دمشق فأقطعه إقطاعا حسنا وقد كان عبدالمسيح هذا نصرانيا فأظهر الإسلام وكان يقال إن له كنيسة في جوف داره وكان سيء السيرة خبيث السريرة في حق العلماء والمسلمين خاصة ولما دخل نور الدين الموصل كان الذي استأمن له نور الدين الشيخ عمر الملا وحين دخل نور الدين الموصل خرج إليه ابن أخيه فوقف بين يديه فأحسن إليه وأكرمه وألبسه خلعة جاءته من الخليفة فدخل فيها إلى البلد في أبهة عظيمة ولم يدخل نور الدين الموصل حتى قوي الشتاء فإقام بها كما ذكرنا فلما كان في آخر ليلة من إقامته بها رأى رسول الله ( ص ) يقول له طابت لك بلدك وتركت الجهاد وقتال أعداء الله فنهض من فوره إلى السفر وما أصبح إلا سائرا إلى الشام واستقضى الشيخ ابن أبي عصرون وكان معه على سنجار ونصيبين والخابور فاستناب فيها ابن أبي عصرون نوابا وأصحابا وفيها عزل صلاح الدين قضاة مصر لأنهم كانوا شيعة وولي قضاء القضاة بها لصدر الدين عبدالملك بن درباس المارداني الشافعي فاستناب في سائر المعاملات قضاة شافعية وبنى مدرسة للشافعية وأخرى للمالكية واشترى ابن أخيه تقي الدين عمر دارا تعرف بمنازل العز وجعلها مدرسة للشافعية ووقف عليها الروضة وغيرها وعمر صلاح الدين اسوار البلد وكذلك أسوار إسكندرية وأحسن إلى الرعايا إحسانا كثيرا وركب فأغار على بلاد الفرنج بنواحي عسقلان وغزة وضرب قلعة كانت لهم على أيلة وقتل خلقا كثيرا من مقاتلتهم وتلقى أهله وهم قادمون من الشام واجتمع شمله بهم بعد فرقة طويلة وفيها قطع صلاح الدين الأذان بحي على خير العمل من ديار مصر كلها وشرع في تمهيد الخطبة لبني العباس على المنابر (12/263)
وممن توفي فيها من الأعيان طاهر بن محمد بن طاهر
أبو زرعة المقدسي الأصل الرازي المولد الهمداني الدار ولد سنة إحدى وثمانين وأربعمائة وأسمعه والده الحافظ محمد بن طاهر الكثير ومما كان يرويه مسند الشافعي توفي بهمدان يوم الأربعاء سابع ربيع الآخر وقد قارب التسعين
يوسف القاضي
أبو الحجاج بن الخلال صاحب ديوان الإنشاء بمصر وهو شيخ القاضي الفاضل في هذا الفن اشتغل عليه فيه فبرع حتى قدر أنه صار مكانه حين ضعف عن القيام بأعباء الوظيفة لكبره وكان القاضي الفاضل يقوم به وبأهله حتى مات ثم كان بعد موته كثير الإحسان إلى أهله رحمهم الله
يوسف بن الخليفة
المستنجد بالله بن المقتفي بن المستظهر تقدم ذكر وفاته وترجمته وقد توفي بعده عمه أبو نصر ابن المستظهر بأشهر ولم يبق بعده أحد من ولد المستظهر وكانت وفاته يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من ذي القعدة منها
ثم دخلت سنة سبع وستين وخمسمائة فيها كانت وفاة العاضد صاحب مصر
في أول جمعة منها فأمر صلاح الدين بإقامة الخطبة لبني العباس بمصر وأعمالها في الجمعة الثانية وكان يوما مشهودا ولما انتهى الخبر إلى الملك نور الدين أرسل إلى الخليفة يعلمه بذلك مع ابن أبي عصرون شهاب الدين أبي المعالي فزينت بغداد وغلقت الأسواق وعملت القباب وفرح المسلمون فرحا شديدا وكانت قد قطعت الخطبة لبني العباس من ديار مصر سنة تسع وخمسين وثلاثمائة في خلافة المطيع العباسي حين تغلب الفاطميون على مصر أيام المعز الفاطمي باني القاهرة إلى هذا الآن وذلك مائتا سنة وثمان سنين قال ابن الجوزي وقد ألفت في ذلك كتابا سميته النصر على مصر
موت العاضد آخر خلفاء العبيديين والعاضد في اللغة القاطع ( لايعضد شجرها ) لايقطع وبه قطعت دولتهم واسمه عبد الله ويكنى بأبي محمد بن يوسف الحافظ بن المستنصر بن الحاكم بن العزيز بن المعز بن المنصور القاهري أبي الغنائم بن المهدي أولهم كان مولد العاضد في سنة ست وأربعين فعاش إحدى وعشرين سنة وكانت سيرته مذمومة وكان شيعيا خبيثا لو أمكنه قتل كل من قدر عليه من أهل السنة واتفق أنه لما استقر أمر الملك صلاح الدين رسم بالخطبة لبني العباس عن مرسوم الملك نور الدين وذلك أن الخليفة بعث إلى نور الدين فعاتبه في ذلك قبل وفاته وكان المستنجد إذ ذاك مدنفا مريضا فلما مات تولى بعده ولده فكانت الخطبة بمصر له ثم إن العاضد مرض فكانت وفاته في يوم (12/264)
عاشوراء فحضر الملك صلاح الدين جنازته وشهد عزاه وبكى عليه وتأسف وظهر منه حزن كثير عليه وقد كان مطيعا له فيما يأمره به وكان العاضد كريما جوادا سامحه الله ولما مات استحوذ صلاح الدين على القصر بما فيه وأخرج منه أهل العاضد إلى دار أفردها لهم وأجرى عليهم الأرزاق والنفقات الهنية والعيشة الرضية عوضا عما فاتهم من الخلافة وكان صلاح يتندم على إقامة الخطبة لبني العباس بمصر قبل وفاة العاضد وهلا صبر بها إلى بعد وفاته ولكن كان ذلك قدرا مقدورا ومما نظمه العماد في ذلك ... توفي العاضد الدعي فما ... يفتح ذو بدعة بمصر فما ... وعصر فرعونها انقضى وغدا ... يوسفها في الأمور محتكما ... قد طفئت جمرة الغواة وقد ... داخ من الشرك كل ما اضطر ما ... وصار شمل الصلاح ملتئما ... بها وعقد السداد منتظما ... لما غدا مشعرا شعار بني ال ... عباس حقا والباطل اكتتما ... وبات داعي التوحيد منتظرا ... ومن دعاة الاشراك منتقما وظل أهل الضلال في ظلل ... داجية من غبائة وعمى ... وارتكس الجاهلون في ظلم ... لما أضاءت منابر العلما ... وعاد بالمستضىء معتليا ... بناء حق بعد ما كان منهدما ... أعيدت الدولة التي اضطهدات ... وانتصر الدين بعدما اهتضما ... واهنز عطف الإسلام من جلل ... وافتر ثغر الإسلام وابتسما ... واستبشرت أوجه الهدى فرحا ... فليقرع الكفر سنه ندما ... عاد حريم الأعداء منتهك ال ... حمى وفي الطغاة منقسما ... قصور أهل القصور أخربها ... عامر بيت من الكمال سما ... أزعج بعد السكوت ساكنها ... ومات ذلا وأنفه رغما ...
ومما قيل من الشعر ببغداد يبشر الخليفة المستضيء بالخطبة له بمصر وأعمالها
... ليهنيك يامولاي فتح تتابعت ... إليك به خوض الركائب توجف ... أخذت به مصرا وقد حال دونها ... من الشرك يأس في لها الحق يقذف ... فعادت بحمد الله باسم إمامنا ... تتيه على كل البلاد وتشرف ... ولا غرو إن ذلت ليوسف مصره ... وكانت إلى عليائه تتشوف ... فشابهه خلقا وخلقا وعفة ... وكل عن الرحمن في الأرض يخلف (12/265)
كشفت بها عن آل هاشم سبة ... وعارا أبى إلا بسيفك يكشف ... وقد ذكر ذلك أبو شامة في الروضتين وهى أطول من هذه وذكر أن أبا الفضائل الحسين بن محمد بن بركات الوزير أنشدها للخليفة عند موته بعد منام رآه وأراد بيوسف الثاني المستنجد وهكذا ذكر ابن الجوزي أنها أنشدت في حياة المستنجد ولم يخطب بها إلا لابنه المستضيء فجرى المقال باسم الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب وقد أرسل الخليفة إلى الملك نور الدين معظمة لما بشر بالخطبة له بمصر وكذلك للملك صلاح الدين إلى الديار المصرية ومعها أعلام سود ولواء معقود ففرقت على الجوامع بالشام وبمصر قال ابن أبي طي في كتابه ولما تفرغ صلاح الدين من توطيد المملكة وإقامة الخطبة والتعزية استعرض حواصل القصرين فوجد فيهما من الحواصل والأمتعة والآلات والملابس والمفارش شيئا باهرا وأمرا هائلا من ذلك سبعمائة يتيمة من الجوهر وقضيب زمرد طوله أكثر من شبر وسمكه نحو الإبهام وحبل من ياقوت وإبريق عظيم من الحجر المانع وطبل للقولنج إذا ضرب عليه أحد فيه ريح غليظة أو غيرها خرج منه ذلك الريح من دبره وينصرف عنه ما يجده من القولنج فاتفق أن بعض أمراء الأكراد أخذه في يده ولم يدر ما شأنه فضرب عليه فحبق أي ضرط فألقاه من يده على الأرض فكسره فبطل أمره وأما القضيب الزمرد فإن صلاح الدين كسره ثلاث فلق فقسمه بين نسائه وقسم بين الأمراء شيئا كثيرا من قطع البلخش والياقوت والذهب والفضة والأثاث والأمتعة وغير ذلك ثم باع ما فضل عن ذلك وجمع عليه أعيان التجار فاستمر البيع فيما بقي هنالك من الأثاث والأمتعة نحوا من عشر سنين وأرسل إلى الخليفة ببغداد من ذلك هدايا سنية نفيسة وكذلك إلى الملك نور الدين أرسل إليه من ذلك جانبا كثيرا صالحا ولم يدخر لنفسه شيئا مما حصل له من الأموال بل كان يعطي ذلك من حوله من الأمراء وغيرهم فكان مما أرسله إلى نور الدين ثلاث قطع بلخش زنة الواحدة إحدى وثلاثون مثقالا والأخرى ثمانية عشر مثقالا والثالثة عشرة مثاقيل وقيل أكثر مع لآلىء كثيرة وستون ألف دينار وعطر لم يسمع بمثله ومن ذلك حمارة وفيل عظيم جدا فأرسلت الحمارة إلى الخليفة في جملة هدايا قال ابن أبي طي ووجد خزانة كتب ليس لها في مدائن الإسلام نظير تشمل على ألفي ألف مجلد قال ومن عجائب ذلك أنه كان بها ألف ومائتان وعشرون نسخة من تاريخ الطبري وكذا قال العماد الكاتب كانت الكتب قريبة من مائة وعشرين ألف مجلد وقال ابن الأثير كان فيها من الكتب بالخطوط المنسوبة مائة ألف مجلد وقد تسلمها القاضى الفاضل فأخذ منها شيئا كثيرا مما اختاره وانتخبه قال وقسم القصر الشمالي بين الأمراء فسكنوه وأسكن أباه نجم الدين أيوب في قصر عظيم على الخليج يقال له الؤلؤة الذي فيه بستان الكافوري (12/266)
وأسكن أكثر الأمراء في دور من كان ينتمي إلى الفاطميين ولا يلقى أحد من الأتراك أحدا من أولئك الذين كانوا بها من الأكابر إلا شلحوه ثيابه ونهبوا داره حتى تمزق كثير منهم في البلاد وتفرقوا شذرمذر وصاروا أيدي سبا وقد كانت مدة ملك الفاطميين مائتين وثمانين سنة وكسرا فصاروا كأمس الذاهب كأن لم يغنوا فيها وكان أول من ملك منهم المهدي وكان من سليمة حدادا اسمه عبيد وكان يهوديا فدخل بلاد المغرب وتسمى بعبيد الله وادعى أنه شريف علوي فاطمي وقال عن نفسه إنه المهدي كما ذكر ذلك غير واحد من العلماء والأئمة بعد الأربعمائة كما قد بسطنا ذلك فيما تقدم والمقصود أن هذا الدعى الكذاب راج له ما افتراه في تلك البلاد ووازره جماعة من الجهلة وصارت له دولة وصولة ثم تمكن إلى أن بني مدينة سماها المهدية نسبة إليه وصار ملكا مطاعا يظهر الرفض وينطوي على الكفر المحض ثم كان من بعده ابنه القائم محمد ثم ابنه المنصور إسماعيل ثم ابنه المعز معد وهو أول من دخل ديار مصر منهم وبنيت له القاهرة المعزية والقصران ثم ابنه العزيز نزار ثم ابنه الحاكم منصور ثم ابن الطاهر علي ثم ابنه المستنصر معد ثم ابنه المستعلي أحمد ثم ابنه الآمر منصور ابن عمه الحافظ عبد المجيد ثم ابنه الظافر إسماعيل ثم الفائز عيسى ثم ابن عمه العاضد عبدالله وهو آخرهم فجملتهم أربعة عشر ملكا ومدتهم مائتان ونيف وثمانون سنة وكذلك عدة خلفاء بنى أمية أربعة عشر أيضا ولكن كانت مدتهم نيفا وثمانين سنة وقد نظمت أسماء هؤلاء وهؤلاء بأرجوزة تابعة لأرجوزة بني العباس عند انقضاء دولتهم ببغداد في سنة ست وخمسين وستمائة كما سيأتي وقد كان الفاطميون أغنى الخلفاء وأكثرهم مالا وكانوا من أغنى الخلفاء وأجبرهم وأظلمهم وأنجس الملوك سيرة وأخبثهم سريرة ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات وكثر أهل الفساد وقل عندهم الصالحون من العلماء والعباد وكثر بأرض الشام النصرانية والدرزية والحشيشية وتغلب الفرنج على سواحل الشام بكماله حتى أخذوا القدس ونابلس وعجلون والغور وبلاد غزة وعسقلان وكرك الشوبك وطبرية وبانياس وصور وعكا وصيدا وبيروت وصفد وطرابلس وإنطاكية وجميع ما والى ذلك إلى بلاد إياس وسيس واستحوذوا على بلاد آمد والرها ورأس العين وبلاد شتى غير ذلك وقتلوا من المسلمين خلقا وأمما لا يحصيهم إلا الله وسبوا ذراري المسلمين من النساء والولدان ما لا يحد ولا يوصف وكل هذه البلاد كانت الصحابة قد فتحوها وصارت دار إسلام وأخذوا من أموال المسلمين ما لا يحد ولا يوصف وكادوا أن يتغلبوا على دمشق ولكن الله سلم وحين زالت أيامهم وانتقض إبرامهم أعاد الله عز و جل هذه البلاد كلها إلى المسلمين بحوله وقوته وجوده ورحمته وقد قال الشاعر المعروف عرقلة (12/267)
أصبح الملك بعد آل علي ... مشرقا بالملوك من آل شادي ... وغدا الشرق يحسد الغر ... ب للقوم فمصر تزهو على بغداد ... ما حووها إلا بعزم وحزم ... وصليل الفولاذ في الأكباد ... لا كفرعون والعزيز ومن ... كان بها كالخطيب والاستاد ...
قال أبو شامة يعني بالأستاد كأنه نور الدين الأخشيدي وقوله آل علي يعني الفاطميين على زعمهم ولم يكونوا فاطميين وإنما كان ينسبون إلى عبيد وكان اسمه سعيدا وكان يهوديا حدادا بسلمية ثم ذكر ما ذكرناه من كلام الأئمة فيهم وطعنهم في نسبهم قال وقد استقصيت الكلام في مختصر تاريخ دمشق في ترجمة عبدالرحمن بن إلياس ثم ذكر في الروضتين في هذا الموضع أشياء كثيرة في غضون ما سقته من قبائحهم وما كانوا يجهرون به في بعض الأحيان من الكفريات وقد تقدم من ذلك شيء كثير في تراجمهم قال أبو شامة وقد أفردت كتابا سميته ( كشف ما كان عليه بنو عبيد من الكفر والكذب والمكر والكيد ) وكذا صنف العلماء في الرد عليهم كتبا كثيرة من أجل ما وضع في ذلك كتاب القاضي أبو بكر الباقلاني الذي سماه ( كشف الأسرار وهتك الأستار ) وما أحسن ما قاله بعض الشعراء في بني أيوب يمدحهم على ما فعلوه بديار مصر
... أبدتم من بلى دولة الكفر من ... بنى عبيد بمصر إن هذا هو الفضل ... زنادقة شيعية باطنية ... مجوس وما في الصالحين لهم أصل ... يسرون كفرا تشيعا ... ليستروا سابور عمهم الجهل ... وفيها أسقط الملك صلاح الدين عن أهل مصر المكوس والضرائب وقرئ المنشور بذلك على رؤس الأشهاد يوم الجمعة بعد الصلاة ثالث صفر وفيها حصلت نفرة بين نور الدين وصلاح الدين وذلك أن نور الدين غزا في هذه السنة بلاد الفرنج في السواحل فأحل بهم بأسا شديدا وقرر في أنفسهم منه نقمة ووعيدا ثم عزم على محاصرة الكرك وكتب إلى صلاح الدين يلتقيه بالعساكر المصرية إلى بلاد الكرك ليجتمعا هنالك ويتفقا علىالمصالح التي يعود نفعها على المسلمين فتوهم من ذلك صلاح الدين وخاف أن يكون لهذا الأمر غائلة يزول بها ما حصل له من التمكن من بلاد مصر ولكنه مع ذلك ركب في جيشه من مصر لأجل امتثال المرسوم فسار اياما ثم كر راجعا معتلا بقلة الظهر والخوف على اختلال الأمور إذا بعد عن مصر واشتغل عنها وأرسل يعتذر إلى نور الدين فوقع في نفسه منه واشتد غضبه عليه وعزم على الدخول إلى مصر وانتزاعها من صلاح الدين وتوليتها غيره ولما بلغ هذا الخبر صلاح الدين ضاق بذلك ذرعه وذكر ذلك بحضرة الأمراء والكبراء فبادر ابن أخيه تقي الدين عمر وقال والله لو قصدنا نور الدين لنقاتلته فشتمه الأمير (12/268)
نجم الدين أيوب والد صلاح الدين وسبه وأسكته ثم قال لابنه اسمع ما أقول لك والله ما ههنا أحد اشفق عليك مني ومن خالك هذا يعني شهاب الدين الحارمي ولو رأينا نور الدين لبادرنا إليه ولقبلنا الأرض بين يديه وكذلك بقية الأمراء والجيش ولو كتب إلى أن أبعثك إليه مع نجاب لفعلت ثم أمر من هنالك بالإنصراف والذهاب فلما خلى بابنه قال له أمالك عقل تذكر مثل هذا بحضرة هؤلاء فيقول عمر مثل هذا الكلام فتقره عليه فلا يبقى عند نور الدين أهم من قصدك وقتالك وخراب ديارنا وأعمارنا ولو قد رأى الجيش كلهم نور الدين لم يبق معك واحد منهم ولذهبوا كلهم إليه وكان ابعث إليه وترفق له وتواضع عنده وقل له وأى حاجة إلى مجىءمولانا السلطان إلى قتالى ؟ ابعث إلى بنجاب أو جمال حتى أجيء معه إلى بين يديك فبعث إليه بذلك فلما سمع نور الدين مثل هذا الكلام لان قلبه له وانصرفت همته عنه واشتغل بغيره وكان أمر الله قدرا مقدورا وفيها اتخذ نور الدين الحمام الهوادي وذلك لامتداد مملكته واتساعها فإنه ملك من حد النوبة إلى همذان لا يتخللها إلا بلاد الفرنج وكلهم تحت قهره وهدنته ولذلك اتخذ في كل قلعة وحصن الحمام التي يحمل الرسائل إلى الآفاق في أسرع مدة وأيسر عدة وما أحسن ما قال فيهن القاضي الفاضل الحمام ملائكة الملوك وقد أطنب ذلك العماد الكاتب وأطرب وأعجب وأغرب وممن توفي فيها من الأعيان عبدالله بن أحمد
ابن أحمد بن أحمد أبو محمد بن الخشاب قرأ القرآن وسمع الحديث واشتغل بالنحو حتى ساد أهل زمانه فيهما وشرح الجمل لعبد القاهر ( الجرجاني ) وكان رجلا صالحا متطوعا وهذا نادر في النحاة توفي في شعبان من هذه السنة ودفن قريبا من الإمام أحمد ورؤى في المنام فقيل له ما فعل الله بك فقال غفر لي وأدخلني الجنة إلا أنه أعرض عني وعن جماعة من العلماء تركوا العمل واشتغلوا بالقول قال ابن خلكان كان مطرحا للكلفة في مأكله وملبسه وكان لا يبالي بمن شرق أو غرب
محمد بن محمد بن محمد
أبو المظفر الدوي تفقه على محمد بن يحيى تلميذ الغزالي وناظر ووعظ ببغداد وكان يظهر مذهب الأشعري ويتكلم في الحنابلة مات في رمضان منها
ناصر بن الجوني الصوفي
كان يمشي في طلب الحديث حافيا توفي ببغداد قال أبو شامة وفيها توفي
نصر الله ( بن عبدالله ) أبو الفتوح الإسكندري المعروف بابن قلاقس الشاعر بعيذاب توفي عن خمس وأربعين سنة (12/269)
والشيخ أبو بكر يحيى بن سعدون القرطبي نزيل الموصل المقري النحوي قال وفيها ولد العزيز والظاهر ابنا صلاح الدين والمنصور محمد بن تقي الدين عمر ثم دخلت سنة ثمان وستين وخمسمائة فيها أرسل نور الدين إلى صلاح الدين وكان الرسول الموفق خالد بن القيسراني ليقيم حساب الديار المصرية وذلك لأن نور الدين استقل الهدية التي أرسل بها إليه من خزائن العاضد ومقصوده أن يقرر على الديار المصرية خراجا منها في كل عام وفيها حاصر صلاح الدين الكرك والشوبك فضيق على أهلها وخرب أماكن كثيرة من معاملاتها ولكن لم يظفر بها عامه ذلك وفيها اجتمعت الفرنج بالشام لقصد زرع فوصلوا إلى سمسكين فبرز إليهم نور الدين فهربوا منه إلى الغور ثم إلى السواد ثم إلى الشلالة فبعث سرية إلى طبرية فعاثوا هنالك وسبوا وقتلوا وغنموا وعادوا سالمين ورجع الفرنج خائبين وفيها أرسل السلطان صلاح الدين أخاه شمس الدولة نور شاه إلى بلاد النوبة فافتتحها واستحوذ على معقلها وهو حصن يقال له إبريم ولما رآها بلدة قليلة الجدوى لا يفي خراجها بكلفتها استخلف على الحصن المذكور رجلا من الأكراد يقال له إبراهيم فجعله مقدما مقررا بحصن إبريم وانضاف إليه جماعة من الأكراد البطالين فكثرت أموالهم وحسنت أحوالهم هنالك وشنوا الغارات وحصلوا على الغنائم وفيها كانت وفاة الأمير نجم الدين أيوب بن شادي والد صلاح الدين سقط عن فرسه فمات وسنأتي على ترجمته في الوفيات وفيها سار الملك نور الدين إلى بلاد عز الدين قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان السلجوقي وأصلح ما وجده فيها من الخلل ثم سار فاففتح مرعش وبهسنا وعمل في كل منهما بالحسنى قال العماد وفيها وصل الفقيه الإمام الكبير قطب الدين النيسابوري وهو فقيه عصره ونسيج وحده فسر به نور الدين وأنزله بحلب بمدرسة باب العراق ثم أتى به إلى دمشق فدرس بزاوية جامع الغربية المعروفة بالشيخ نصر المقدسي ثم نزل بمدرسة الحاروق ثم شرع نور الدين بإنشاء مدرسة كبيرة للشافعية فأدركه الأجل قبل ذلك قال أبو شامة وهي العادلية الكبيرة التي عمرها بعد ذلك الملك العادل أبو بكر بن أيوب وفيها رجع شهاب الدين بن أبي عصرون من بغداد وقد أدى الرسالة بالخطبة العباسية بالديار المصرية ومعه توقيع من الخلافة بإقطاع درب هارون وصريفين لنور الدين وقد كانتا قديما لأبيه عمادالدين زنكي فأراد نور الدين أن ينشيء ببغداد مدرسة على حافة الدجلة ويجعل هذين المكانين وقفا عليها فعاقه القدر عن ذلك وفيها وقعت بناحية خوارزم حروب كثيرة بين سلطان شاه وبين أعدائه استقصاها ابن الأثير وابن الساعي (12/270)
وفيها هزم ملك الأرمن مليح بن ليون عساكر الروم وغنم منهم شيئا كثيرا وبعث إلى نور الدين بأموال كثيرة وثلاثين رأسا من رؤس كبارهم فأرسلها نور الدين إلى الخليفة المستضيء وفيها بعث صلاح الدين سرية صحبه قراقرش مملوك تقي الدين عمر ابن شاهنشاه إلى بلاد إفريقية فملكوا طائفة كثيرة منها من ذلك مدينة طرابلس الغرب وعدة مدن معها وممن توفي فيها من الأعيان إيلدكز التركي الأتابكي
صاحب أذربيجان وغيرها كان مملوكا للكمال السميرمي وزير السلطان محمود ثم علا أمره وتمكن وملك بلاد أذربيجان وبلاد الجبل وغيرها وكان عادلا منصفا شجاعا محسنا إلى الرعية توفي بهمدان
الأمير نجم الدين أبو الشكر أيوب بن شادي ابن مروان زاد بعضهم بعد مروان بن يعقوب والذي عليه جمهورهم أنه لا يعرف بعد شادي أحد في نسبهم وأغرب بعضهم وزعم أنهم من سلالة مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية وهذا ليس بصحيح والذي نسب إليه ادعاء هذا هو أبو الفداء إسماعيل بن طغتكين بن أيوب بن شادي ويعرف بابن سيف الإسلام وقد ملك اليمن بعد أبيه فتعاظم في نفسه وادعى الخلافة وتلقب بالإمام الهادي بنور الله ولهجوا بذلك وقال هو في ذلك ... وأنا الهادي الخليفة والذي ... أدوس رقاب الغلب بالضمر الجرد ... ولا بد من بغداد أطوي ربوعها ... وأنشرها نشر الشماس على البرد ... وأنصب أعلامي على شرفاتها ... وأحيي بها ما كان أسه جدى ... ويخطب لي فيها على كل منبر ... وأظهر أمر الله في الغور والنجد ... وما ادعاه ليس بصحيح ولا أصل له يعتمد عليه ولا مستند يستند إليه والمقصود أن الأمير نجم الدين كان أسن من أخيه أسد الدين شيركوه ولد بأرض الموصل كان الأمير نجم الدين شجاعا خدم الملك محمد بن ملكشاه فرأى فيه شهامة وأمانة فولاه قلعة تكريت فحكم فيها فعدل وكان من اكرم الناس ثم أقطعها الملك مسعود لمجاهد الدين نهروز شحنة العراق فاستمر فيها فاجتاز به في بعض الأحيان الملك عمادالدين زنكي منهزما من قراجا الساقي فآواه وخدمه خدمة بالغة تامة وداوى جراحاته وأقام عنده مدة خمسة عشر يوما ثم ارتحل إلى بلده الموصل ثم اتفق أن نجم الدين أيوب عاقب رجلا نصرانيا فقتله وقيل إنما قتله أخوه أسد الدين شيركوه وهذا بخلاف الذي ذكره ابن خلكان فإنه قال رجعت جارية من بعض الخدم فذكرت له أنه تعرض لها اسفهسلار الذي بباب القلعة فخرج إليه أسد الدين فطعنه بحربة فقتله فحبسه أخوه نجم الدين وكتب إلى مجاهد الدين نهروز يخبره بصورة الحال فكتب إليه يقول إن أباكما كانت (12/271)
له علي خدمة وكان قد استنابه في هذه القلعة قبل ابنه نجم الدين ايوب وإني أكره أن أسوءكما ولكن انتقلا منها فأخرجهما نهروز من قلعته وفي ليلة خروجه منها ولد له الملك الناصر صلاح الدين يوسف قال فتشاءمت به لفقدي بلدي ووطني فقال له بعض الناس قد نرى ما أنت فيه من التشاؤم بهذا المولود فما يؤمنك أن يكون هذا المولود ملكا عظيما له صيت فكان كما قال فاتصلا بخدمة الملك عمادالدين زنكي أبي نور الدين ثم كانا عند نور الدين متقدمان عنده وارتفعت منزلتهما وعظما فاستناب نور الدين نجم الدين أيوب على بعلبك وكان أسد الدين من أكبر أمرائه ولما تسلم بعلبك أقام مدة طويلة وولد له فيها أكثر أولاده ثم كان من أمره ما ذكرناه في دخوله الديار المصرية ثم إنه في ذي الحجة سقط عن فرسه فمات بعد ثمانية أيام في اليوم السابع والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة وكان ابنه صلاح الدين الدين محاصر الكرك غائبا عنه فلما بلغه خبر موته تألم لغيبته عن حضوره وارسل يتحرق ويتحزن وأنشد ... وتخطفه يد الردى في غيبتي ... هبني حضرت فكنت ماذا أصنع ...
وقد كان نجم الدين أيوب كثير الصلاة والصدقة والصيام كريم النفس جوادا ممدحا قال ابن خلكان وله خانقاه بالديار المصرية ومسجد وقناة خارج باب النصر من القاهرة وقفها في سنة ست وستين قلت وله بدمشق خانقاه أيضا تعرف بالنجمية وقد استنابه ابنه على الديار المصرية حين خرج إلى الكرك وحكمه في الخزائن وكان من أكرم الناس وقد امتدحه الشعراء كالعماد وغيره ورثوه بمراث كثيرة وقد ذكر ذلك مستقصي الشيخ أبو شامة في الروضتين ودفن مع أخيه أسد الدين بدار الإمارة ثم نقلا إلى المدينة النبوية في سنة ثمانين فدفنا بتربة الوزير جمال الدين الموصلي الذي كان مواخيا لأسد الدين شيركوه وهو الجمال المتقدم ذكره الذي ليس بين تربته ومسجد النبي ( ص ) إلا مقدار سبعة عشر ذراعا فدفنا عنده قال أبو شامة وفي هذه السنة توفي ملك الرافضة والنحاة
الحسن ضا بن بزدن التركي
كان من أكابر أمراء بغداد المتحكمين في الدولة ولكنه كان رافضيا خبيثا متعصبا للروافض وكانوا في خفارته وجاهه حتى أراح الله المسلمين منه في هذه السنة في ذي الحجة منها ودفن بداره ثم نقل إلى مقابر قريش فلله الحمد والمنة وحين مات فرح أهل السنة بموته فرحا شديدا وأظهروا الشكر لله فلا تجد أحدا منهم إلا يحمد الله فغضب الشيعة من ذلك ونشأت بينهم فتنة بسبب ذلك وذكر ابن الساعي في تاريخه أنه كان في صغره شابا حسنا مليحا معشوقا للأكابر من الناس قال ولشيخنا أبي اليمن الكندي فيه وقد رمدت عينه (12/272)
بكل صباح لي وكل عشية ... وقوف علي أبوابكم وسلام ... وقد قيل لي يشكو سقاما بعينه ... فها نحن منها نشتكي ونضام ...
ثم دخلت سنة تسع وستين وخمسمائة
... قال ابن الجوزي في المنتظم إنه سقط عندهم ببغداد برد كبار كالنارنج ومنه ما وزنه سبعة ارطال ثم أعقب ذلك سيل عظيم وزيادة عظيمة في دجلة لم يعهد مثلها أصلا فخرب أشياء كثيرة من العمران والقرى والمزارع حتى القبور وخرج الناس إلى الصحراء وكثر الضجيج والإبتهال إلى الله حتى فرج الله عز و جل وتناقصت زيادة الماء بحمدالله ومنه قال وأما الموصل فإنه كان بها نحو ما كان ببغداد وانهدم بالماء نحو من الفي دار واستهدم بسببه مثل ذلك وهلك تحت الردم خلق كثير وكذلك الفرات زادت زيادة عظيمة فهلك بسببها شيء كثير من القرى وغلت الأسعار بالعراق في هذه السنة في الزروع والثمار ووقع الموت في الغنم وأصيب كثير ممن أكل منها بالعراق وغيرها قال ابن الساعي وفي شوال منها توالت الأمطار بديار بكر والموصل أربعين يوما وليلة لم يروا الشمس سوى مرتين لحظتين يسيرتين ثم تستتر بالغيوم فتهدمت بيوت كثيرة ومساكن على أهلها وزادت الدجلة بسبب ذلك زيادة عظيمة وغرق كثير من مساكن بغداد والموصل ثم تناقص الماء بإذن الله قال ابن الجوزي وفي رجب وصل ابن الشهرزوري من عند نور الدين ومعه ثياب مصرية وحمارة ملونة جلدها مخطط مثل الثوب العتابي وفيها عزل ابن الشامي عن تدريس النظامية ووليها أبو الخير القزويني قال وفي جمادى الآخرة اعتقل المجير الفقيه ونسب إلى الزندقة والإنحلال وترك الصلاة والصوم فغضب له ناس وزكوه وأخرج وذكر أنه وعظ بالحديثة فاجتمع عنده قريبا من ثلاثين الفا قال ابن الساعي وفيها سقط أحمد بن أمير المؤمنين المستضيء من قبة شاهقة إلى الأرض فسلم ولكن نبت يده اليمنى وساعده اليسرى وانسلخ شيء من أنفه وكان معه خادم أسود يقال له نجاح فلما رأى سيده قد سقط ألقى هو نفسه أيضا خلفه وقال لا حاجة لي في الحياة بعده فسلم أيضا فلما صارت الخلافة إلى أبي العباس الناصر وهو هذا الذي قد سقط لم ينسها لنجاح هذا فحكمه في الدولة وأحسن إليه وقد كانا صغيرين لما سقطا وفيها سار الملك نور الدين نحو بلاد الروم وفي خدمته الجيش وملك الأرمن وصاحب ملطية وخلق من الملوك والأمراء وافتتح عدة من حصونهم وحاصر قلعة الروم فصالحه صاحبها بخمسين ألف دينار جزية ثم عاد إلى حلب وقد وجد النجاح في كل ما طلب ثم أتى دمشق مسرورا محبورا وفيها كان فتح بلاد اليمن للملك صلاح الدين وكان سبب ذلك أن صلاح الدين بلغه أن بها رجلا يقال له عبدالنبي بن مهدي وقد تغلب عليها ودعا إلى نفسه وتسمى بالإمام وزعم أنه (12/273)
سيملك الأرض كلها وقد كان أخوه علي بن مهدي قد تغلب قبله عليها وانتزعها من أيدي أهل زبيد ومات سنة ستين فملكها بعد أخوه هذا وكل منهما كان سيء السيرة والسريرة فعزم صلاح الدين لكثرة جيشه وقوته على إرسال سرية إليه وكان أخوه الأكبر شمس الدولة شجاعا مهيبا بطلا وكان ممن يجالس عمارة اليمني الشاعر وكان عمارة ينعت له بلاد اليمن وحسنها وكثرة خيرها فحداه ذلك على أن خرج في تلك السرية في رجب من هذه السنة فورد مكة فاعتمر بها ثم سار منها إلى زبيد فخرج إليه عبدالنبي فقاتله فهزمه توران شاه وأسره وأسر زوجته الحرة وكانت ذات أموال جزيلة فاستقرها على أشياء جزيلة وذخائر جليلة ونهب الجيش زبيد ثم توجه إلى عدن فقاتله ياسر ملكها فهزمه وأسره وأخذ البلد بيسير من الحصار ومنع الجيش من نهبها وقال ما جئنا لنخرب البلاد وإنما جئنا لعمارتها وملكها ثم سار في الناس سيرة حسنة عادلة فأحبوه ثم تسلم بقية الحصون والمعاقل والمخالف واستوسق له ملك اليمن بحذافيره وألقى إليه أفلاذ كبده ومطاميره وخطب للخليفة العباسي المستضيء وقتل الدعي المسمى بعبدالنبي وصفت اليمن من أكدارها وعادت إلى ما سبق من مضمارها وكتب بذلك إلى أخيه الملك الناصر يخبره بما فتح الله عليه وأحسن إليه فكتب الملك صلاح الدين بذلك إلى نور الدين فأرسل نور الدين بذلك إلى الخليفة يبشره بفتح اليمن والخطبة بها له وفيها خرج الموفق خالد بن القيسراني من الديار المصرية وقد أقام بها الملك الناصر حساب الديار المصرية وما خرج من الحواصل حسب ما رسم به الملك نور الدين كما تقدم وقد كاد صلاح الدين لما جاءته الرسالة بذلك يظهر شق العصا ويواجه بالمخالفة والإباء لكنه عاد إلى طباعه الحسنة وأظهر الطاعة المستحسنة وأمر بكتابة الحساب وتحرير الكتاب والجواب فبادر إلى ذلك جماعة الدواوين والحساب والكتاب وبعث مع ابن القيسراني بهدية سنية وتحف هائلة هنية فمن ذلك خمس ختمات شريفات مغطات بخطوط مستويات ومائة عقد من الجواهر النفيسات خارجا عن قطع البلخش واليواقيت والفصوص والثياب الفاخرات والأواني والأباريق والصحاف الذهبيات والفضيات والخيول المسومات والغلمان والجواري الحسان والحسنات ومن الذهب عشرة صناديق مقفلات مختومات مما لايدري كم فيها من مئين ألوف ومئات من الذهب المصري المعد للنفقات فلما فصلت العير من الديار المصرية لم تصل إلى الشام حتى أن نور الدين مات رحمه الله رب الأرضين والسموات فأرسل صلاح الدين من ردها إليه وأعادها عليه ويقال إن منها ما عدى عليه وعلم بذلك حين وضعت بين يديه
مقتل عمارة بن أبي الحسن
ابن زيدان الحكمي من قحطان أبو محمد الملقب بنجم الدين اليمني الفقيه الشاعر الشافعي (12/274)
وسبب قتله أنه اجتمع جماعة من رؤس الدولة الفاطمية الذين كانوا فيها حكاما فاتفقوا بينهم ان يردوا الدولة الفاطمية فكتبوا إلى الفرنج يستدعونهم إليهم وعينوا خليفة من الفاطميين ووزيرا وأمراء وذلك في غيبة السلطان ببلاد الكرك ثم اتفق مجيئه فحرض عمارة اليمني شمس الدولة توران شاه على المسير إلى اليمن ليضعف بذلك الجيش عن مقاومة الفرنج إذا قدموا لنصرة الفاطميين فخرج توران شاه ولم يخرج معه عمارة بل أقام بالقاهرة يفيض في هذا الحديث ويداخل المتكلمين فيه ويصافيهم وكان من أكابر الدعاة إليه والمحرضين عليه وقد أدخلوا معهم فيه بعض من ينسب إلى صلاح الدين وذلك من قلة عقولهم وتعجيل دمارهم فخانهم أحوج ما كانوا إليه وهو الشيخ زين الدين علي بن نجا الواعظ فإنه اخبر السلطان بما تمالؤا وتعاقدوا عليه فأطلق له السلطان أموالا جزيلة وأفاض عليه حللا جميلة ثم استدعاهم السلطان واحدا واحدا فقررهم فأقروا بذلك فاعتقلهم ثم استفتى الفقهاء في أمرهم فأفتوه بقتلهم ثم عند ذلك أمر بقتل رؤسهم وأعيانهم دون أتباعهم وغلمانهم وأمر بنفي من بقي من جيش العبيدين إلى أقصى البلاد وافرد ذرية العاضد وأهل بيته في دار فلا يصل إليهم إصلاح ولا إفساد وأجرى عليهم ما يليق بهم من الأرزاق والثياب وكان عمارة معاديا للقاضي الفاضل فلما حضر عمارة بين يدي السلطان قام القاضي الفاضل إلى السلطان ليشفع فيه عنده فتوهم عمارة أنه يتكلم فيه فقال يا مولانا السلطان لا تسمع منه فغضب الفاضل وخرج من القصر فقال له السلطان إنه إنما كان يشفع فيك فندم ندما عظيما ولما ذهب به ليصلب مر بدار الفاضل فطلبه فتغيب عنه فأنشد ... عبد الرحيم قد احتجب ... إن الخلاص هو العجب ...
قال ابن أبي طي وكان الذين صلبوا الفضل بن الكامل القاضي وهو أبا القاسم هبة الله بن عبدالله بن كامل قاضي قضاة الديار المصرية زمن الفاطميين ويلقب بفخر الأمناء فكان أول من صلب فيما قاله العماد وقد كان ينسب إلى فضيلة وأدب وله شعر رائق فمن ذلك قوله في غلام رفاء
... يا رافيا خرق كل ثوب ... وما رفا حبه اعتقادي ... عسى بكف الوصال ترفو ... ما مزق الهجر من فؤادي ... وابن عبدالقوي داعى الدعاة وكان يعلم بدفائن القصر فعوقب ليدل عليها فامتنع من ذلك فمات واندرست والعويرس ووهو ناظر الديوان وتولى مع ذلك القضاء وشبريا وهو كاتب السر وعبدالصمد الكاتب وهو أحد أمراء المصريين ونجاح الحمامي ومنجم نصراني كان قد بشرهم بأن هذا الأمر يتم بعلم النجوم (12/275)
وعمارة اليمني الشاعر
وكان عمارة شاعرا مطيقا بليغا فصيحا لا يلحق شأوه في هذا الشأن وله ديوان شعر مشهور وقد ذكرته في طبقات الشافعية لأنه كان يشتغل بمذهب الشافعي وله مصنف في الفرائض وكتاب الوزراء الفاطميين وكتاب جمع سيرة نفيسة التي كان يعتقدها عوام مصر وقد كان أديبا فاضلا فقيها غير أنه كان ينسب إلى موالاة الفاطميين وله فيهم وفي وزرائهم وأمرائهم مدائح كثيرة جدا وأقل ما كان ينسب إلى الرفض وقد اتهم بالزندقة والكفر المحض وذكر العماد في الجريدة أنه قال في قصيدته التي يقول في أولها ... العلم من كان محتاج إلى العلم ... وشفرة السيف تستغني عن القلم ...
وهي طويلة حدا فيها كفر وزندقة كثيرة قال وفيها
... قد كان أول هذا الدين من رجل ... سعى إلى أن دعوه سيد الأمم ...
قال العماد فأفتى أهل العلم من أهل مصر بقتله وحرضوا السلطان على المثلة به وبمثله قال ويجوز أن يكون هذا البيت معمولا عليه والله أعلم وقد أورد ابن الساعي شيئا من رقيق شعره فمن ذلك قوله يمدح بعض الملوك
... إذا قابلت بشرى جبينه ... فارقته والبشر فوق جبيني ... وإذا لثمت يمينه وخرجت من ... بابه لثم الملوك يميني ... ومن ذلك قوله ... لي في هوى الرشا العذرى إعذار ... لم يبق لي مدا قسر الدمع إنكار ... لي في القدود وفي لثم الخدو ... د وفي ضم النهود لبانات وأوطار ... هذا اختياري فوافق إن رضيت به ... وإلا فدعني لما أهوى وأختار ... ومما أنشده الكندي في عمارة اليمني حين صلب ... عمارة في الإسلام أبدى جناية ... وبايع فيها بيعة وصلبيا ... وأمسى شريك الشرك في بعض أحمد ... واصبح في حب الصليب صليبا ... سيلقى غدا ما كان يسعى لنفسه ... ويسقى صديدا في لظى وصليبا ... قال الشيخ أبو شامة فالأول صليب النصارى والثاني بمعنى مصلوب والثالث بمعنى القوي والرابع ودك العظام ولما صلب الملك الناصر هؤلاء يوم السبت الثاني من شهر رمضان من هذه السنة بين القصرين من القاهرة كتب إلى الملك نور الدين يعلمه بما وقع منهم وبهم من الخزي والنكال قال العماد فوصل الكتاب بذلك يوم توفي الملك نور الدين رحمه الله تعالى (12/276)
وكذلك قتل صلاح الدين رجلا من أهل الإسكندرية يقال له قديد القفاجي كان قد افتتن به الناس وجعلوا له جزءا من أكسابهم حتى النساء من أموالهن فأحيط به فأراد القفاجي الخلاص ولات حين مناص فقتل أسوة فيمن سلف ومما وجد من شعر عمارة يرثى العاضد ودولته وأيامه ... أسفي على زمان الإمام العاضد ... أسف العقيم على فراق الواحد ... لهفي على حجرات قصرك إذ دخلت ... يا ابن النبي من ازدحام الوافد ... وعلى انفرادك من عسارك التي ... كانوا كأمواج الخضم الراكد ... قلدت مؤتمن أمرهم فكبا ... وقصر عن صلاح الفاسد ... فعسى الليالي أن ترد إليكم ... ما عودتكم من جميل عوائد ...
وله من جملة قصيدة
... يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة ... لك الملامة إن قصرت في عذلي ... بالله زر ساحة القصرين وابك معي ... لا على صفين ( البكا ) ولا الجمل ... وقل لأهلها والله ما التحمت ... فيكم قروحي ولا جرحى بمندمل ... ماذ ترى كانت الإفرنج فاعلة ... في نسل ابني أمير المؤمنين علي ... وقد أورد له الشيخ أبو شامة في الروضتين اشعارا كثيرة من مدائحه في الفاطميين وكذا ابن خلكان
ابن قسرول
صاحب كتاب مطالع الأنوار وضعه على كتاب مشارق الأنوار للقاضي عياض وكان من علماء بلاده وفضلائهم المشهورين مات فجأة بعد صلاة الجمعة سادس شوال منها عن أربع وستين سنة قاله ابن خلكان والله سبحانه وتعالى أعلم فصل
في وفاة الملك نور الدين محمود زنكي وذكر شيء من سيرته العادلة
هو الملك العادل نور الدين أبو القاسم محمود بن الملك الأتابك قسيم الدولة عمادالدين أبي سعيد زنكي الملقب بالشهيد بن الملك آقسنقر الأتابك الملقب بقسيم الدولة التركي السلجوقي مولاهم ولد وقت طلوع الشمس من يوم الأحد السابع عشر من شوال سنة إحدى عشرة وخمسمائة بحلب ونشأ في كفالة والده صاحب حلب والموصل وغيرهما من البلدان الكثيرة الكبيرة وتعلم القرآن (12/277)
والفروسية والرمي وكان شهما شجاعا ذا همة عالية وقصد صالح وحرمة وافرة وديانة بينة فلما قتل أبوه سنة إحدى وأربعين وهو محاصر جعبر كما ذكرنا صار الملك بحلب إلى ابنه نور الدين هذا وأعطاه أخوه سيف الدين غازي الموصل ثم تقدم ثم افتتح دمشق في سنة تسع وأربعين فأحسن إلى أهلها وبنى لهم المدارس والمساجد والربط ووسع لهم الطرق على المارة وبنى عليها الرصافات ووسع الأسواق ووضع المكوس بدار الغنم والبطيخ والعرصد وغير ذلك وكان حنفي المذهب يحب العلماء والفقراء ويكرمهم ويحترمهم ويحسن إليهم وكان يقوم في أحكامه بالمعدلة الحسنة واتباع الشرع المطهر ويعقد مجالس العدل ويتولاها بنفسه ويجتمع إليه في ذلك القاضي والفقهاء والمفتيون من سائر المذاهب ويجلس في يوم الثلاثاء بالمسجد المعلق الذي بالكشك ليصل إليه كل واحد من المسلمين وأهل الذمة حتى يساويهم وأحاط السور على حارة اليهود وكان خرابا وأغلق باب كسان وفتح باب الفرج ولم يكن هناك قبله باب بالكلية وأظهر ببلاده السنة وأمات البدعة وأمر بالتأذين بحي على الصلاة حي على الفلاح ولم يكن يؤذن بهما في دولتي أبيه وجده وإنما كان يؤذن بحي على خير العمل لأن شعار الرفض كان ظاهرا بها وأقام الحدود وفتح الحصون وكسرالفرنج مرارا عديدة واستنقذ من أيديهم معاقل كثيرة من الحصون المنيعة التي كانوا قد استحوذوا عليها من معاقل المسلمين كما تقدم بسط ذلك في السنين المتقدمة وأقطع العرب إقطاعات لئلا يتعرضوا للحجيج وبنى بدمشق مارستانا لم يبن في الشام قبله مثله ولا بعده أيضا ووقف وقفا على من يعلم الأيتام الخط والقراءة وجعل لهم نفقة وكسوة وعلى المجاورين بالحرمين وله أوقاف داره على جميع أبواب الخير وعلى الأرامل والمحاويج وكان الجامع دائرا فولى نظره القاضي كمال الدين محمد بن عبدالله الشهزوري الموصلي الذي قدم به فولاه قضاء قضاة دمشق فاصلح أموره وفتح المشاهد الأربعة وقد كانت حواصل الجامع بها من حين احترقت في سنة إحدى وستين وأربعمائة وأضاف إلى أوقاف الجامع المعلومة الأوقاف التي لا يعرف واقفوها ولا يعرف شروطهم فيها وجعلها قلما واحدا وسمى مال المصالح ورتب عليه لذوي الحاجات والفقراء والمساكين والأرامل والأيتام وما أشبه ذلك وقد كان رحمه الله حسن الخط كثير المطالعة للكتب الدينية متبعا للآثار النبوية محافظا على الصلوات في الجماعات كثير التلاوة محبا لفعل الخيرات عفيف البطن والفرج مقتصدا في الإنفاق على نفسه وعياله في المطعم والملبس حتى قيل إنه كان أدنى الفقراء في زمانه أعلا نفقة منه من غير اكتناز ولا استئثار بالدنيا ولم يسمع منه كلمة فحش قط في غضب ولا رضى صموتا وقورا قال ابن الأثير لم يكن بعد عمر بن عبدالعزيز مثل الملك نور الدين ولا أكثر تحريا للعدل والإنصاف منه وكانت له دكاكين بحمص قد اشتراها مما يخصه من المغانم (12/278)
فكان يقتات منها وزاد امرأته من كراها على نفقتها عليها واستفتى العلماء في مقدار ما يحل له من بيت المال فكان يتناوله ولا يزيد عليه شيئا ولو مات جوعا وكان يكثر اللعب بالكرة فعاتبه رجل من كبار الصالحين في ذلك فقال إنما الأعمال بالنيات وإنما أريد بذلك تمرين الخيل على الكر والفر وتعليمها ذلك ونحن لا نترك الجهاد وكان لا يلبس الحرير وكان يأكل من كسب يده بسيفه ورمحه وركب يوما مع بعض أصحابه والشمس في ظهورهما والظل بين أيديهما لا يدركانه ثم رجعا فصار الظل وراءهما ثم ساق نور الدين فرسه سوقا عنيفا وظله يتبعه فقال لصاحبه أتدري ما شبهت هذا الذي نحن فيه شبهته بالدنيا تهرب ممن يطلبها وتطلب من يهرب منها وقد أنشد بعضهم في هذا المعنى ... مثل الرزق الذي تطلبه ... مثل الظل يمشي معك ... أنت لا تدركه مستعجلا ... فإذا وليت عنه تبعك ... وكان فقيها على مذهب أبي حنيفة وسمع الحديث وأسمعه وكان كثير الصلاة بالليل من قوت السحر إلى أن يركب ... جمع الشجاعة والخشوع لديه ... ما أحسن الشجعان في المحراب ...
وكذلك كانت زوجته عصمت الدين خاتون بنت الأتابك معين الدين تكثر القيام في الليل فنامت ذات ليلة عن وردها فأصبحت وهي غضبى فسألها نور الدين عن أمرها فذكرت نومها الذي فوت عليها وردها فأمر نور الدين عند ذلك بضرب طبلخانة في القلعة وقت السحر لتوقظ النائم ذلك الوقت لقيام الليل وأعطى الضارب على الطبلخانة أجرا جزيلا وجراية كثيرة
... فألبس الله هاتيك العظام وإن ... بلين تحت الثرى عفوا وغفرانا ... سقى ثرى أودعوه رحمه ملأت ... مثوى قبورهم روحا وريحانا ... وذكر ابن الأثير أن الملك نور الدين بينما هو ذات يوم يلعب بالكرة إذ رأى رجلا يحدث آخر ويومئ إلى نور الدين فبعث الحاجب ليسأله ما شأنه فإذا هو رجل معه رسول من جهة الحاكم وهو يزعم أن له على نور الدين حقا يريد أن يحاكمه عند القاضي فلما رجع الحاجب إلى نور الدين وأعلمه بذلك ألقى الجوكان من يده وأقبل مع خصمه ماشيا إلى القاضي الشهرزوري وارسل نور الدين إلى القاضي أن لاتعاملني إلا معاملة الخصوم فحين وصلا وقف نور الدين مع خصمه بين يدي القاضي حتى انفصلت الخصومة والحكومة ولم يثبت للرجل على نور الدين حق بل ثبت الحق للسلطان على الرجل فلما تبين ذلك قال السلطان إنما جئت معه لئلا يتخلف أحد عن الحضور الى الشرع إذا دعي إليه فإنما نحن معاشر الحكام أعلانا وأدنانا شجنكية لرسول الله ( ص ) ولشرعه (12/279)
فنحن قائمون بين يديه طوع مراسيمه فما أمر به امتثلناه وما نهانا عنه اجتنبناه وأنا أعلم أنه لا حق للرجل عندي ومع هذا أشهدكم اني قد ملكته ذلك الذي ادعى به ووهبته له قال ابن الأثير وهو أول من ابتنى دارا للعدل وكان يجلس فيها في الأسبوع مرتين وقيل أربع مرات وقيل خمس ويحضر القاضي والفقهاء من سائر المذاهب ولا يحجبه يومئذ حاجب ولا غيره بل يصل إليه القوي والضعيف فكان يكلم الناس ويستفهمهم ويخاطبهم بنفسه فيكشف المظالم وينصف المظلوم من الظالم وكان سبب ذلك أن أسد الدين شيركوه بن شادي كان قد عظم شأنه عند نور الدين حتى صار كانه شريكه في المملكة واقتنى الأملاك والأموال والمزارع والقرى وكان ربما ظلم نوابه جيرانه في الأراضي والأملاك العدل وكان القاضي كمال الدين ينصف كل من استعداه على جميع الأمراء إلا أسد الدين هذا فما كان يهجم عليه فلما ابتنى نور الدين دار العدل تقدم أسد إلى نوابه أن لا يدعوا لأحد عنده ظلامة وإن كانت عظيمة فإن زوال ماله عنده أحب إليه من أن يراه نور الدين بعين ظالم أو يوقفه مع خصم من العامة ففعلوا ذلك فلما جلس نور الدين بدار العدل مدة متطاولة ولم يرد أحدا يستعدي على أسد الدين سأل القاضي عن ذلك فأعلمه بصورة الحال فسجد نور الدين شكرا لله وقال الحمد لله الذي أصحابنا ينصفون من أنفسهم وأما شجاعته فيقال إنه لم ير على ظهر فرس قط أشجع ولا أثبت منه وكان حسن اللعب بالكرة وكان ربما ضربها ثم يسوق وراءها ويأخذها من الهوى بيده ثم يرميها إلى آخر الميدان ولم ير جوكانة يعلو على رأسه ولا يرى الجوكان في يده لأن الكم سائر لها ولكنه استهانة بلعب الكرة وكان شجاعا صبورا في الحرب يضرب المثل به في ذلك وكان يقول قد تعرض للشهادة غير مرة فلم يتفق لي ذلك ولو كان في خير ولي عند الله قيمة لرزقنيها والأعمال بالنية وقال له يوما قطب الدين النيسابوري بالله يا مولانا السلطان لا تخاطر بنفسك فإنك لو قتلت قتل جميع من معك وأخذت البلاد وفسد حال المسلمين فقال له اسكت يا قطب الدين فإن قولك إساءة أدب على الله ومن هو محمود من كان يحفظ الدين والبلاد قبلي غير الذي لا إله إلا هو ومن هو محمود قال فبكى من كان حاضرا رحمه الله وقد أسر بنفسه في بعض الغزوات بعض ملوك الإفرنج فاستشار الأمراء فيه هل يقتله أو يأخذ ما يبذل له من المال كان قد بذل له في فداء نفسه مالا كثيرا فاختلفوا عليه ثم حسن في رأيه إطلاقه وأخذ الفداء منه فبعث إلى بلده من خلاصته من يأتيه بما افتدى به نفسه فجاء به سريعا فأطلقه نور الدين فحين وصل إلى بلاده مات ذلك الملك ببلده فأعجب ذلك نور الدين وأصحابه وبنى من ذلك المال المارستان الذي بدمشق وليس له في البلاد نظير ومن شرطه أنه على الفقراء والمساكين (12/280)
وإذا لم يوجد بعض الأدوية التي يعز وجودها إلا فيه فلا يمنع منه الأغنياء ومن جاء إليه فلا يمنع من شرابه ولهذا جاء إليه نور الدين وشرب من شرابه رحمه الله قلت ويقول بعض الناس إنه لم تخمد منه النار منذ بني إلى زماننا هذا فالله أعلم وقد بنى الخانات الكثيرة في الطرقات والأبراج ورتب الخفراء في الأماكن المخوفة وجعل فيها الحمام الهوادي التي تطلعه على الأخبار في أسرع مدة وبنى الربط والخانقات وكان يجمع الفقهاء عنده والمشايخ والصوفية ويكرمهم ويعظمهم وكان يحب الصالحين وقد نال بعض الأمراء مرة عنده من بعض الفقهاء وهو قطب الدين النيسابوري فقال له نور الدين ويحك إن كان ما تقول حقا فله من الحسنات الكثيرة الماحية لذلك ما ليس عندك مما يكفر عنه سيئات ما ذكرت إن كنت صادقا على أني والله لا أصدقك وإن عدت ذكرته أو أحدا غيره عندي بسوء لأوذينك فكف عنه ولم يذكره بعد ذلك وقد ابتنى بدمشق دارا لاستماع الحديث وإسماعه قال ابن الأثير وهو أول من بنى دار حديث وقد كان مهيبا وقورا شديد الهيبة في قلوب الأمراء لا يتجاسر أحد أن يجلس بين يديه إلا بإذنه ولم يكن أحد من الأمراء يجلس بلا إذن سوى الأمير نجم الدين أيوب وأما أسد الدين شيركوه ومجد الدين بن الداية نائب حلب وغيرهما من الأكابر فكانوا يقفون بين يديه ومع هذا كان إذا دخل أحد من الفقهاء أو الفقراء قام له ومشى خطوات وأجلسه معه على سجادته في وقار وسكون وإذا أعطى أحدا منهم شيئا مستكثرا يقول هؤلاء جند الله وبدعائهم ننصر على الأعداء ولهم في بيت المال حق أضعاف ما أعطيهم فإذا رضوا منا ببعض حقهم فلهم المنة علينا وقد سمع عليه جزء حديث وفيه ( فخرج رسول الله ( ص ) متقلدا السيف ) فجعل يتعجب من تغيير عادات الناس لما ثبت عنه عليه السلام وكيف يربط الأجناد والأمراء على أوساطهم ولا يفعلون كما فعل رسول الله ( ص ) ثم أمر الجند بأن لا يحملوا السيوف إلا متقلديها ثم خرج هو في اليوم الثاني إلى الموكب وهو متقلد السيف وجميع الجيش كذلك يريد بذلك الإقتداء برسول الله ( ص ) فC وقص عليه وزيره موفق الدين خالد بن محمد بن نصر القيسراني الشاعر أنه رأى في منامه كأنه يغسل ثياب الملك نور الدين فأمره بأن يكتب مناشير بوضع المكوس والضرائب عن البلاد وقال له هذا تأويل رؤياك وكتب إلى الناس ليكون منهم في حل مما كان أخذ منهم ويقول لهم إنما صرف ذلك في قتال أعدائكم من الكفرة والذب عن بلادكم ونسائكم وأولادكم وكتب بذلك إلى سائر ممالكه وبلدان سلطانه وأمر الوعاظ أن يستحلوا له من التجار وكان يقول في سجوده اللهم ارحم المكاس العشار الظالم محمود الكلب وقيل إن برهان الدين البلخي أنكر على الملك نور الدين في استعانته في حروب الكفار بأموال المكوس وقال له مرة كيف تنصرون وفي عساكركم (12/281)
الخمور والطبول والزمور ويقال إن سبب وضعه المكوس عن البلاد أن الواعظ أبا عثمان المنتخب ابن أبي محمد الواسطي وكان من الصالحين الكبار وكان هذا الرجل ليس له شيء ولا يقبل من أحد شيئا إنما كانت له جبة يلبسها إذا خرج إلى مجلس وعظه وكان يجتمع في مجلس وعظه الألوف من الناس أنشد نور الدين أبياتا تتضمن ما هو متلبس في ملكه وفيها تخويف وتحذير شديد له ... مثل وقوفك أيها المغرور ... يوم القيامة والسما تمور ... إن قيل نور الدين رحت مسلما ... فاحذر بأن تبقى وما لك نور ... أنهيت عن شرب الخمور وأنت في ... كاس المظالم طائش مخمور ... عطلت كاسات المدام تعففا ... وعليك كاسات الحرام تدور ... ماذا تقول إذا نقلت إلى البلى ... فردا وجاءك منكر ونكير ... ماذ تقول إذا وقفت بموقف ... فردا ذليلا والحساب عسير ... وتعلقت فيك الخصوم وأنت في ... يوم الحساب مسلسل مجرور ... وتفرقت عنك الجنود وأنت في ... ضيق القبور موسد مقبور ... ووددت أنك ما وليت ولاية ... يوما ولا قال الأنام أير ... وبقيت بعد العز رهن حفيرة ... في عالم الموتى وأنت حقير ... وحشرت عريانا حزينا باكيا ... قلقا وما لك في الأنام مجير ... أرضيت أن تحيا وقلبك دارس ... عافى الخراب وجسمك المعمور ... أرضيت أن تحيا وقلبك دارس عافي الخراب وجسمك المعور ... أرضيت أن تحظى سواكض بقربه ... أبدا أبدا وأنت معذب مهجور ... مهد لنفسك حجة تنجو بها ... يوم المعاد ويوم تبدو العور ... فلما سمع نور الدين هذه الأبيات بكى بكاء شديدا وأمر بوضع المكوس والضرائب في سائر البلاد وكتب إليه الشيخ عمر الملا من الموصل وكان قد أمر الولاة والأمراء بها أن لا يفصلوا بها أمرا حتى يعلموا الملا به فما أمرهم به من شىء امتثلوه وكان من الصالحين الزاهدين وكان نور الدين يستقرض منه في كل رمضان ما يفطر عليه وكان يرسل إليه بفتيت ورقاق فيفطر عليه جميع رمضان فكتب إليه الشيخ عمر بن الملا هذا إن المفسدين قد كثروا ويحتاج إلى سياسة ومثل هذا لا يجيء إلا بقتل وصلب وضرب وإذا أخذ إنسان في البرية من يجيء يشهد له فكتب إليه الملك نور الدين على ظهر كتابه إن الله خلق الخلق وشرع لهم شريعة وهو أعلم بما يصلحهم ولو علم أن في الشريعة زيادة في المصلحة لشرعها لنا فلا حاجة بنا إلى الزيادة على ما شرعه الله تعالى (12/282)
فمن زاد فقد زعم أن الشريعة ناقصة فهو يكملها بزيادته وهذا من الجرأة على الله وعلى ما شرعه والعقول المظلمة لا تهتدي والله سبحانه يهدينا وإياك إلى صراط مستقيم فلما وصل الكتاب إلى الشيخ عمر الملا جمع الناس بالموصل وقرأ عليهم الكتاب وجعل يقول انظروا إلى كتاب الزاهد إلى الملك وكتاب الملك إلى الزاهد وجاء إليه أخو الشيخ أبي البيان يستعديه على رحل أنه سبه ورماه بأنه يرائي وأنه وأنه وجعل يبالغ في الشكاية عليه فقال له السلطان أليس الله تعالى يقول وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما وقال وأعرض عن الجاهلين فسكت الشيخ ولم يحر جوابا وقد كان نور الدين يعتقده ويعتقد أخاه أبا البيان واتاه زائرا مرات ووقف عليه وقفا وقال الفقيه أبو الفتح الأشري معيد النظامية ببغداد وكان قد جمع سيرة مختصرة لنور الدين قال وكان نور الدين محافظا على الصلوات في اوقاتها في جماعة بتمام شروطها والقيام بها بأركانها والطمأنينة في ركوعها وسجودها وكان كثير الصلاة بالليل كثير الإبتهال في الدعاء والتضرع إلى الله عز و جل في اموره كلها قال وبلغنا عن جماعة من الصوفية ممن يعتمد على قولهم أنهم دخلوا بلاد القدس للزيارة أيام أخذ القدس الفرنج فسمعهم يقولون أن القسيم ابن القسيم يعنون نور الدين له مع الله سر فإنه لم يظفر وينصر علينا بكثرة جنده وجيشه وإنما يظفر علينا وينصر بالدعاء وصلاة الليل فإنه يصلي بالليل ويرفع يده إلى الله ويدعوه فإنه يستجيب له ويعطيه سؤله فيظفر علينا قال فهذا كلام الكفار في حقه وحكى الشيخ أبو شامة أن نور الدين وقف بستان الميدان سوى الغيضة التي تليه نصفه على تطييب جامع دمشق والنصف الآخر يقسم عشرة أجزاء جزآن على تطييب المدرسة التي أنشأها للحنيفة والثمانية اجزاء الأخرى على تطييب المساجد التسعة وهي مسجد الصالحين بجبل قيسون وجامع القلعة ومسجد عطية ومسجد ابن لبيد بالعسقار ومسجدد الرماحين المعلق ومسجد العباس بالصالحية ومسجد دار البطيخ المعلق والمسجد الذي جدده نور الدين جوار بيعة اليهود لكل من هذه المساجد جزء من إحدى عشر جزء من النصف ومناقبه ومآثره كثيرة جدا وقد ذكرنا نبذة من ذلك يستدل بها على ما وراءها وقد ذكر الشيخ شهاب الدين في أول الروضتين كثيرا من محاسنه وذكر ما مدح به من القصائد وذكر أنه لما فتح أسد الدين الديار المصرية ثم مات ثم تولى صلاح الدين هم بعزله عنها واستنابة غيره فيها غير مرة ولكن يعوقه عن ذلك ويصده قتال الفرنج واقتراب أجله فلما كان في هذه السنة وهي سنة تسع وستين وخمسمائة وهي آخر مدته أضمر على الدخول إلى الديار المصرية وصمم عليه وارسل إلى عساكر بلاد الموصل وغيرها ليكونوا ببلاد الشلام حفظا لها من الفرنج في غيبته (12/283)
ويركب هو في جمهور الجيش إلى مصر وقد خاف منه الملك صلاح الدين خوفا شديدا فلما كان يوم عيد الفطر من هذه السنة ركب إلى الميدان الأخضر القبلي وصلى فيه صلاة عيد الفطر وكان ذلك نهار الأحد ورمى العتق في الميدان الأخضر الشمالي والقدر يقول له هذا آخر أعيادك ومد في ذلك اليوم سماطا حافلا وأمر بانتهابه وطهر ولده الملك الصالح إسماعيل في هذا اليوم وزينت له البلد وضربت البشائر للعيد والختان ثم ركب في يوم الإثنين وأكب علىالعادة ثم لعب بالكرة في ذلك اليوم فحصل له غيظ من بعض الأمراء ولم يكن ذلك من سجته فبادر إلى القلعة وهو كذلك في غاية الغضب وانزعج ودخل في حيز سوء المزاج واشتغل بنفسه وأوجاعه وتنكرت عليه جميع حواسه وطباعه واحتبس أسبوعا عن الناس والناس في شغل عنه بما هم فيه من اللعب والإنشراح في الزينة التي نصبوها لأجل طهور ولده فهذا يجود بروحه وهذا يجود بموجوده سرورا بذلك فانعكست تلك الأفراح بالأتراح ونسخ الجد ذلك المزاح وحصلت للملك خوانيق في حلقه منعته من النطق وهذا شأن أوجاع الحلق وكان قد أشير عليه بالفصد فلم يقبل وبالمبادرة إلى المعالجة فلم يفعل وكان أمر الله قدرا مقدورا فلما كان يوم الأربعاء الحادي عشر من شوال من هذه السنة قبض إلى رحمة الله تعالى عن ثمان وخمسين سنة مكث منها في الملك ثمان وعشرين سنة رحمه الله وصلى عليه بجامع القلعة بدمشق ثم حول إلى تربته التي أنشأها للحنفية بين باب الخواصين وباب الخيميين علىالدرب وقبره بها يزار ويحلق بشباكه ويطيب ويتبرك به كل مار فيقول قبر نور الدين الشهيد لما حصل له في حلقه من الخوانيق وكذا كان يقال لابنه الشهيد ويلقب بالقسيم وكانت الفرنج تقول له القسيم ابن القسيم وقد رثاه الشعراء بمراث كثيرة قد أوردها أبو شامة وما أحسن ما قاله العماد ... عجبت من الموت لما أتى ... إلى ملك في سجايا ملك ... وكيف ثوى الفلك المستد ... ير في الأرض وسط فلك ... وقال حسان الشاعر الملقب بالعرقلة في مدرسة نور الدين لما دفن بها رحمه الله تعالى ... ومدرسة ستدرس كل شيء ... وتبقى في حمى علم ونسك ... تضوع ذكرها شرقا وغربا ... بنور الدين محمود بن زنكى ... يقول وقوله حق وصدق ... بغير كناية وبغير شك ... دمشق في المدائن بيت ملكى ... وهذي في المدارس بنت ملكي ...
صفة نور الدين رحمه الله تعالى
كان طويل القامة أسمر اللون حلو العينين واسع الجبين حسن الصورة تركي الشكل ليس له لحية إلا في حنكه مهيبا متواضعا عليه جلالة ونور يعظم الإسلام وقواعد الدين ويعظم الشرع (12/284)
فصل فلما مات نور الدين في شوال من هذه السنة بويع من بعده بالملك لولده الصالح إسماعيل وكان صغيرا وجعل أتابكه الأمير شمس الدين بن مقدم فاختلف الأمراء وحادت الآراء وظهرت الشرور وكثرت الخمور وقد كانت لا توجد في زمنه ولا أحد يجسر أن يتعاطى شيئا منها ولا من الفواحش وانتشرت الفواحش وظهرت حتى أن ابن أخيه سيف الدين غازي بن مودود صاحب الموصل لما تحقق موته وكان محصورا منه نادى مناديه بالبلد بالمسامحة باللعب واللهو والشراب والمسكر والطرب ومع المنادي دف وقدح ومزمار الشيطان فإنا لله وإنا إليه راجعون وقد كان ابن أخيه هذا وغيره من الملوك والأمراء الذين له حكم عليهم لا يستطيع أحد منهم أن يفعل شيئا من المناكر والفواحش فلما مات مرح أمرهم وعاثوا في الأرض فسادا وتحقق قول الشاعر ... ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سرا وقد أمكن الجهر ... وطمعت الأعداء من كل جانب في المسلمين وعزم الفرنج على قصد دمشق وانتزاعها من أيدي المسلمين فبرز إليهم ابن مقدم الأتابك فواقعهم عند بانياس فضعف عن مقاومتهم فهادنهم مدة ودفع إليهم أموالا جزيلة عجلها لهم ولولا أنه خوفهم بقدوم الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب لما هادنوه ولما بلغ ذلك صلاح الدين كتب إلى الأمراء وخاصة ابن مقدم يلومهم على ما صنعوا من المهادنة ودفع الأموال إلى الفرنج وهم أقل وأذل وأخبرهم أنه على عزم قصد البلاد الشامية ليحفظها من الفرنج فردوا إليه كتابا فيه غلظة وكلام فيه بشاعة فلم يلتفت إليهم ومن شدة خوفهم منه كتبوا إلى سيف الدين غازي صاحب الموصل ليملكوه عليهم ليدفع عنهم كيد الملك الناصر صلاح الدين صاحب مصر فلم يفعل لأنه خاف أن يكون مكيدة منهم له وذلك أنه كان قد هرب منه الطواشي سعد الدولة مستكين الذي كان قد جعله الملك نور الدين عينا عليه وحافظا له من تعاطى مالا يليق من الفواحش والخمر واللعب واللهو فلما مات نور الدين ونادى في الموصل تلك المناداة القبيحة خاف منه الطواشي المذكور أن يمسكه فهرب منه سرا فلما تحقق غازي موت عمه بعث في إثر هذا الخادم ففاته فاستحوذ على حواصله ودخل الطواشي حلب ثم سار إلى دمشق فاتفق مع الأمراء على أن يأخذوا ابن نور الدين الملك الصالح إسماعيل إلى حلب فيربيه هنالك مكان ربي والده وتكون دمشق مسلمة إلى الأتابك شمس الدولة بن مقدم والقلعة إلى الطواشي جمال الدين ريحان فلما سار الملك الصالح من دمشق خرج معه الكبراء والأمراء من دمشق إلى حلب وذلك في الثالث والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة وحين وصلوا حلب جلس الصبي على سرير ملكها (12/285)
واحتاطوا على بني الداية شمس الدين بن الداية أخو مجد الدين الذي كان رضيع نور الدين وإخوته الثلاثة وقد كان شمس الدين علي بن الداية يظن ان ابن نور الدين يسلم إليه فيربيه لأنه أحق الناس بذلك فخيبوا ظنه وسجنوه وإخوته في الجب فكتب الملك صلاح الدين إلى الأمراء ( يلومهم ) على ما فعلوا على ما فعلوا من نقل الولد من دمشق إلى حلب ومن حبسهم بني الداية وهم من خيار الأمراء ورؤس الكبراء ولم لا يسلموا الولد إلى مجد الدين بن الداية الذي هو أحظى عند نور الدين وعند الناس منهم فكتبوا إليه يسيئون الأدب عليه وكل ذلك يزيده حنقا عليهم ويحرضه على القدوم إليهم ولكنه في الوقت في شغل شاغل لما دهمه ببلاد مصر من الأمر الهائل كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في أول السنة الآتية وممن توفي فيها من الأعيان والمشاهير الحسن بن الحسن
ابن أحمد بن محمد العطار أبو العلاء الهمداني الحافظ سمع الكثير ورحل إلى بلدان كثيرة اجتمع بالمشايخ وقدم بغداد وحصل الكتب الكثيرة واشتغل بعلم القراءات واللغة حتى صار اوحد زمانه في علمي الكتاب والسنة وصنف الكتب الكثيرة المفيدة وكان على طريقة حسنة سخيا عابدا زاهدا صحيح الإعتقاد حسن السمت له ببلده المكانة والقبول التام وكانت وفاته ليلة الخميس الحادي عشر من جماد الآخرة من هذه السنة وقد جاوز الثمانين بأربعة أشهر وايام قال ابن الجوزي وقد بلغني أنه رؤى في المنام أنه في مدينة جميع جدرانها كتب وحوله كتب لا تعد ولا تحصى وهو مشتغل بمطالعتها فقيل له ما هذا فقد سألت الله أن يشغلني بما كنت أشتغل به في الدنيا فأعطاني وفيها توفي
الأهوازي
خازن كتب مشهد أبي حنيفة ببغداد توفي فجأة في ربيع الأول من هذه السنة
محمود بن زنكي بن آقسنقر السلطان الملك العادل نور الدين صاحب بلاد الشام وغيرها من البلدان الكثيرة الواسعة كان مجاهدا في الفرنج آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر محبا للعلماء والفقراء والصالحين مبغضا للظلم صحيح الإعتقاد مؤثرا لأفعال الخير لا يجسر أحد أن يظلم أحدا في زمانه وكان قد قمع المناكر وأهلها ورفع العلم والشرع وكان مدمنا لقيام الليل يصوم كثيرا ويمنع نفسه عن الشهوات وكان يحب التيسير على المسلمين ويرسل البر إلى العلماء والفقراء والمساكين والأيتام والأرامل وليست الدنيا عنده بشيء رحمه الله وبل ثراه بالرحمة والرضوان قال ابن الجوزي استرجع نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله تعالى من أيدي الكفار نيفا وخمسين مدينة وقد كان يكاتبني وأكاتبه قال ولما (12/286)
حضرته الوفاة أخذ العهد على الأمراء من بعده لولده يعني الصالح إسماعيل وجدد العهد مع صاحب طرابلس أن لا يغير على الشام في المدة التي كان ماده فيها وذلك أنه كان قد أسره في بعض غزواته وأسر معه جماعة من أهل دولته فافتدى نفسه منه بثلاثمائة ألف دينار وخمسمائة حصان وخمسمائة وردية ومثلها برانس أي لبوس وقنطوريات وخمسمائة أسير من المسلمين وعاهده أن لا يغير على بلاد المسلمين لمدة سبعة سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وأخذ منه رهائن على ذلك مائة من أولاده وأولاد أكابر الفرنج وبطارقتهم فإن نكث أراق دماءهم وكان قد عزم على فتح بيت المقدس شرفه الله فوافته المنية في شوال من هذه السنة والأعمال بالنيات فحصل له اجر ما نوى وكانت ولايته ثمان وعشرين سنة وأشهرا وقد تقدم ذلك وهذا مقتضى ما ذكره ابن الجوزي ومعناه الخضر بن نصر
علي بن نصر الأربلي الفقيه الشافعي أول من درس بأربل في سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة وكان فاضلا دينا انتفع به الناس وكان قد اشتغل على الكيا الهراسي وغيره ببغداد وقدم دمشق فأرخه ابن عساكر في هذه السنة وترجمه ابن خلكان في الوفيات وقال قبره يزار وقد زرته غير مرة ورأيت الناس ينتابون قبره ويتبركون به وهذا الذي قاله ابن خلكان مما ينكره أهل العلم عليه وعلى أمثاله ممن يعظم القبور وفيها هلك ملك الفرنج مرى لعنه الله وأظنه ملك عسقلان ونحوها من البلاد وقد كان قارب أن يملك الديار المصرية لولا فضل الله ورحمته بعباده المؤمنين
ثم دخلت سنة سبعين وخمسمائة استهلت ( هذه السنة ) والسلطان الملك الناصر صلاح الدين بن أيوب قد عزم على الدخول إلى بلاد الشام لأجل حفظه من الفرنج ولكن دهمه أمر شغله عنه وذلك أن الفرنج قدموا إلى الساحل المصري في اسطول لم يسمع بمثله وكثرة مراكب وآلات من الحرب والحصار والمقاتلة من جملة ذلك مائتي شيني في كل منها مائة وخمسون مقاتلا وأربعمائة قطعة اخرى وكان قدومهم من صقلية إلى ظاهر اسكندرية قبل رأس السنة بأربعة أيام فنصبوا المنجنيقات والدبابات حول البلد وبرز إليهم أهلها فقاتلوهم دونها قتالا شديدا أياما وقتل من كلا الفريقين خلق كثير ثم اتفق أهل البلد على حريق المنجانيق والدبابات ففعلوا ذلك فأضعف ذلك قلوب الفرنج ثم كبسهم المسلمون فقتلوا منهم جماعة وغنموا منهم ما أرادوا فانهزم الفرنج في كل وجه ولم يكن لهم ملجأ إلا البحر أو القتل أو الأسر واستحوذ المسلمون على أموالهم وعلى خيولهم وخيارهم وبالجملة قتلوا خلقا من الرجال وركب من بقي منهم في أسطول إلى بلادهم خائبين ومما عوق الملك الناصر عن الشام أيضا أن رجلا يعرف بالكنز سماه بعضهم عباس بن شادى (12/287)
وكان من مقدمي الديار المصرية والدولة الفاطمية كان قد استند إلى بلد يقال له اسوان وجعل يجمع عليه الناس فاجتمع عليه خلق كثير من الرعاع من الحاضرة والغربان والرعيان وكان يزعم إليهم أنه سيعيد الدولة الفاطمية ويدحض الأتابكة التركية فالتف عليه خلق كثير ثم قصدوا قوص وأعمالها وقتل طائفة من أمرائها ورجالها فجرد إليه صلاح الدين طائفة من الجيش وامر عليهم أخاه الملك العادل أبا بكر الكردي فلما التقيا هزمه أبو بكر وأسر أهله وقتله فصل
فلما تمهدت البلاد ولم يبق بها رأس من الدولة العبيدية برز السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف في الجيوش التركية قاصدا البلاد الشامية وذلك حين مات سلطانها نور الدين محمود بن زنكي وأخيف سكانها وتضعضعت اركانها واختلف حكامها وفسد نقضها وإبرامها وقصده جمع شملها والإحسان إلى أهلها وأمن سهلها وجبلها ونصرة الإسلام ودفع الطغام وإظهار القرآن وإخفاء سائر الأديان وتكسير الصلبان في رضى الرحمن وإرغام الشيطان فنزل البركة في مستهل صفر وأقام بها حتى اجتمع عليه العسكر واستناب على مصر أخاه أبا بكر ثم سار إلى بلبيس في الثالث عشر من ربيع الأول فدخل مدينة دمشق في يوم الإثنين سلخ ربيع الأول ولم ينتطح فيها عنزان ولا اختلف عليه سيفان وذلك أن نائبها شمس الدين بن مقدم كان قد كتب إليه أولا فأغلظ له في الكتاب فلما رأى أمره متوجها جعل يكاتبه ويستحثه على القدوم إلى دمشق ويعده بتسليم البلد فلما رأى الجد لم يمكنه المخالفة فسلم البلد إليه بلا مدافعة فنزل السلطان أولا في دار والده دار العقيلي التي بناها الملك الظاهر بيبرس مدرسة وجاء أعيان البلد للسلام عليه فرأوا منه غاية الإحسان وكان نائب القلعة إذ ذاك الطواشي ريحان فكاتبه وأجزل نواله حتى سلمها إليه ثم نزل إليه فأكرمه واحترمه ثم أظهر السلطان أنه أحق الناس بتربية ولد نور الدين لما لنور الدين عليهم من الإحسان المتين وذكر أنه خطب لنور الدين بالديار المصرية ثم إن السلطان عامل الناس بالإحسان وأمر بإبطال ما أحدث بعد نور الدين من المكوس والضرائب وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر ولله عاقبة الأمور
فصل فلما استقرت له دمشق بحذافيرها نهض إلى حلب مسرعا لما فيها من التخبيط والتخليط واستناب على دمشق أخاه طغتكين بن أيوب الملقب بسيف الإسلام فلما اجتاز حمص أخذ ربضها (12/288)
ولم يشتغل بقلعتها ثم صار إلى حماة فتسلمها من صاحبها عز الدين بن جبريل وسأله أن يكون سفيره بينه وبين الحلبيين فأجابه إلى ذلك فسار إليهم فحذرهم بأس صلاح الدين فلم يلتفتوا إليه بل أمروا بسجنه واعتقاله فأبطا الجواب على السلطان فكتب إليهم كتابا بليغا يلومهم فيه على ما هم فيه من الاختلاف وعدم الائتلاف فردوا عليه أسوأ جواب فأرسل إليهم يذكرهم أيامه وايام أبيه وعمه في خدمة نور الدين في المواقف المحمودة التي يشهد لهم بها أهل الدين ثم سار إلى حلب فنزل على جبل جوشن ثم نودي في أهل حلب بالحضور في ميدان باب العراق فاجتمعوا فأشرف عليهم ابن الملك نور الدين فتودد إليهم وتباكى لديهم وحرضهم على قتال صلاح الدين وذلك عن إشارة الأمراء المقدمين فأجابه أهل البلد بوجوب طاعته على كل أحد وشرط عليه الروافض منهم أن يعاد الأذان بحي على خير العمل وأن يذكر في الأسواق وأن يكون لهم في الجامع الجانب الشرقي وأن يذكر أسماء الأئمة الاثنى عشر بين يدي الجنائز وأن يكبروا على الجنازة خمسا وأن تكون عقود أنكحتهم إلى الشريف أبي طاهر بن أبي المكارم حمزة بن زاهر الحسيني فأجيبوا إلى ذلك كله فأذن بالجامع وسائر البلد بحي على خير العمل وعجز أهل البلد عن مقاومة الناصر وأعملوا في كيده كل خاطر فأرسلوا أولا إلى شيبان صاحب الحسبة فأرسل نفرا من أصحابه إلى الناصر ليقتلوه فلم يظفر منه بشيء بل قتلوا بعض الأمراء ثم ظهر عليهم فقتلوا عن آخرهم فراسلوا عند ذلك القومص صاحب طرابلس الفرنجي ووعدوه بأموال جزيلة إن هو رحل عنهم الناصر وكان هذا القومص قد أسره نور الدين وهو معتقل عنده مدة عشر سنين ثم افتدى نفسه بمائة ألف دينار والف أسير من المسلمين وكان لا ينساها لنور الدين بل قصد لحمص ليأخذها فركب إليه السلطان الناصر وقد أرسل السلطان إلى بلده طرابلس سرية فقتلوا وأسروا وغنموا فلما اقترب الناصر منه نكص على عقبيه راجعا إلى بلده ورأى أنه قد أجابهم إلى ما أرادوا منه فلما فصل الناصر إلى حمص لم يكن قد أخذ قلعتها فتصدى لأخذها فنصب عليها المنجنيقات فأخذها قسرا وملكها قهرا ثم كر راجعا إلى حلب فأناله الله في هذه الكرة ما طلب فلما نزل بها كتب إليهم القاضي الفاضل على لسان السلطان كتابا بليغا فصيحا فائقا رائقا على يدي الخطيب شمس الدين يقول فيه ( فإذا قضى التسليم حق اللقا فاستدعى الإخلاص جهد الدعا فليعد وليعد حوادث ما كان حديثا يفترى وحوارى أمور إن قال فيها كثيرا فأكثر منه ما قد جرى ويشرح صدر منها لعله يشرح منها صدرا وليوضح الأحوال المستبشرة فإن الله لا يعبد سرا ... ومن العجائب أن تسير غرائب ... في الأرض لم يعلم بها المأمول ... كالعيس أقتل ما يكون لها الصدى ... والماء فوق ظهورها محمول (12/289)
فإنا كنا نقتبس النار بأكفنا وغيرنا يستنير ونستنبط الماء بأيدينا وسوانا يستمير ونلتقي السهام بنحورنا وغيرنا يعتمد التصوير والأبدان تسترد بضاعتنا بموقف العدل الذي يرد به المغصوب ونظهر طاعتنا فنأخذ بحظ كما أخذ بحظ القلوب وكان أول أمرنا أنا كنا في الشام نفتح الفتوح بمباشرتنا أنفسنا ونجاهد الكفار متقدمين بعساكرنا نحن ووالدنا وعمنا فأي مدينة فتحت أو أي معقل للعدو أو عسكر أو مصاف للإسلام معه ضرب فما يجهل أحد صنعنا ولا يجحد عدونا أن يصطلي الجمرة ونملك الكرة ونقدم الجماعة ونرتب المقاتلة وندبر التعبئة إلى أن ظهرت في الشام الآثار التي لنا أجرها ولا يضرنا أن يكون لغيرنا ذكرها ثم ذكر ما صنعوا بمصر من كسر الكفر وإزالة المنكر وقمع الفرنج وهدم البدع وما بسط من العدل ونشر من الفضل وما اقامه من الخطب العباسية ببلاد مصر واليمن والنوبة وإفريقية وغير ذلك بكلام بسيط حسن فلما وصلهم الكتاب اساؤوا الجواب وقد كانوا كاتبوا صاحب الموصل سيف الدين غازي بن مودود أخي نور الدين محمود بن زنكي فبعث إليهم أخاه عز الدين في عساكره واقبل إليهم في دساكره وانضاف إليهم الحلبيون وقصدوا حماه في غيبة الناصر واشتغاله بقلعة حمص وعمارتها فلما بلغه خبرهم سار إليهم في قل من الجيش فانتهى إليهم وهم في جحافل كثيرة فواقفوه وطمعوا فيه لقلة من معه وهموا بمناجزته فجعل يداريهم ويدعوهم إلى المصالحة لعل الجيش يلحقونه حتى قال لهم في جملة ما قال أنا اقنع بدمشق وحدها واقيم بها الخطبة للملك الصالح إسماعيل وأترك ما عداها من أرض الشام فامتنع من المصالحة الخادم سعد الدولة كمشتكين إلا أن يجعل لهم الرحبة التي هي بيد ابن عمه ناصر الدين بن أسد الدين فقال ليس لي ذلك ولا أقدر عليه فأبوا الصلح واقدموا على القتال فجعل جيشه كردوسا واحدا وذلك يوم الأحد التاسع عشر من رمضان عند قرون حماه وصبر صبرا عظيما وجاء في أثناء الحال ابن أخيه تقي الدين عمر بن شاهنشاه ومعه أخوه فروخ شاه في طائفة من الجيش وقد ترجح دسته عليهم وخلص رعبه إليهم فولوا هنالك هاربين وتولوا منهزمين فأسر من أسر من رؤسهم ونادى ان لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح ثم أطلق من وقع في أسره وسار على الفور إلى حلب وقد انعكس عليهم الحال وآلوا إلى شر مآل فبالأمس كان يطلب منهم المصالحة والمسالمة وهم اليوم يطلبون منه أن يكف عنهم ويرجع على أن المعرة وكفر طاب وماردين له زيادة على ما بيده من أراضي حماه وحمص فقبل ذلك وكف عنهم وحلف على أن لا يغزو بعدها الملك الصالح وأن يدعو له على سائر منابر بلاده وشفع في بني الداية أخوه مجد الدين على أن يخرجوا ففعل ذلك ثم رجع مؤيدا منصورا فلما كان بحماه وصلت إليه رسل الخليفة المستضيء بأمر الله بالخلع السنية والتشريفات العباسية (12/290)
والأعلام السود والتوقيع من الديوان بالسلطنة ببلاد مصر والشام وأفيضت الخلع على أهله وأقاربه وأصحابه وأعوانه وكان يوما مشهودا واستناب على حماه ابن خاله وصهره الأمير شهاب الدين محمود ثم سار إلى حمص فأطلقها إلى ابن عمه ناصر الدين كما كانت من قبله لأبيه شيركوه أسد الدين ثم بعلبك على البقاع إلى دمشق في ذي القعدة وفيها ظهر رجل من قرية مشغرا من معاملة دمشق وكان مغربيا فادعى النبوة وأظهر شيئا من المخاريق والمحاييل والشعبذة والأبواب النارنجية فافتتن به طوائف من الهمج والعوام فتطلبه السلطان فهرب إلى معاملة حلب فالف عليه كل مقطوع الذنب واضل خلقا من الفلاحين وتزوج امرأة أحبها وكانت من أهل تلك البطائح فعلمها أن ادعت النبوة فأشبها قصة مسيلمة وسجاح وفيها هرب وزير الخليفة ونهبت داره وفيها درس أبو الفرج ابن الجوزي بمدرسة أنشئت للحنابلة فحضر عنده قاضي القضاة أبو الحسن بن الدامغاني والفقهاء والكبراء وكان يوما مشهودا وخلعت عليه خلعة سنية وفيها توفي من الأعيان
روح بن أحمد
أبو طالب الحدثني قاضي القضاة ببغداد في بعض الأحيان وكان ابنه في أرض الحجاز فلما بلغه موت أبيه مرض بعده فمات بعد أيام وكان ينبذ بالرفض
شملة التركماني
كان قد تغلب على بلاد فارس واستحدث قلاعا وتغلب على السلجوقية وانتظم له الدست نحوا من عشرين سنة ثم حاربه بعض التركمان فقتلوه
قيماز بن عبدالله
قطب الدين المستنجدي وزر للخليفة المستضيء وكان مقدما على العساكر كلها ثم خرج على الخليفة وقصد أن ينهب دار الخلافة فصعد الخليفة فوق سطح في داره وأمر العامة بنهب دار قيماز فنهبت وكان ذلك بإفتاء الفقهاء فهرب فهلك هو ومن معه في المهامه والقفاز
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وخمسمائة
فيها طلب الفرنج من السلطان صلاح الدين وهو مقيم بمرج الصفر أن يهادنهم فأجابهم إلى ذلك لأن الشام كان مجدبا وأرسل جيشه صحبة القاضي الفاضل إلى الديار المصرية ليستغلوا المغل ثم يقبلوا وعزم هو على المقام بالشام واعتمد على كاتبه العماد عوضا عن القاضي ولم يكن أحد أعز عليه منه ... وما عن رضى كانت سليمى بديلة ... ولكنها للضرورات أحكام (12/291)
وكانت إقامة السلطان بالشام وإرسال الجيش صحبة القاضي الفاضل غاية الحزم والتدبير ليحفظ ما استجد من الممالك خوافا عليه مما هنالك فلما أرسل الجيوش إلى مصر وبقي هو في طائفة يسيرة والله قد تكفل له بالنصر كتب صاحب الموصل سيف الدين غازي ابن أخي نور الدين إلى جماعة الحلبيين يلومهم على ما وقع بينهم وبين الناصر من المصالحة وقد كان إذ ذاك مشغولا بمحاربة أخيه ومحاصرته وهو عمادالدين زنكي بسنجار وليست هذه بفعلة صالحة وما كان سبب قتاله لأخيه إلا لكونه أبى طاعة الملك الناصر فاصطلح مع أخيه حين عرف قوة الناصر وناصريه ثم حرض الحلبيين على نقض العهود ونبذها إليه فأرسلوا إليه بالعهود التي عاهدوه عليها ودعوه إليها فاستعان عليهم بالله وأرسل إلى الجيوش المصرية ليقدموا عليه فأقبل صاحب الموصل بعساكره ودساكره واجتمع بابن عمه الملك الصالح عمادالدين إسماعيل وسار في عشرين ألف مقاتل على الخيول المضمرة الجرد الأبابيل وسار نحوهم الناصر وهو كالهزبر الكاسر وإنما معه ألف فارس من الحماة وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ولكن الجيوش المصرية قد خرجوا إليه قاصدين وله ناصرين في جحافل كالجبال فاجتمع الفريقان وتداعوا إلى النزال وذلك في يوم الخميس العاشر من شوال فاقتتلوا قتالا شديدا حتى حمل الملك الناصر بنفسه الكريمة وكانت بإذن الله الهزيمة فقتلوا خلقا من الحلبيين والمواصلة وأخذوا مضارب الملك سيف الدين غازي وحواصله وأسروا جماعة من رؤسهم فأطلقهم الناصر بعد ما أفاض الخلع على أبدانهم ورؤسهم وقد كانوا استعانوا بجماعة من الفرنج في حال القتال وهذا ليس من أفعال الأبطال وقد وجد السلطان في مخيم السلطان غازي سبتا من الأقفاص التي فيها الطيور المطربة وذلك في مجلس شرابه المسكر وكيف من هذا حاله ومسلكه ينتصر فأمر السلطان بردها عليه وتسييرها إليه وقال للرسول قل له بعد وصولك إليه وسلامك عليه اشتغالك بهذه الطيور أحب إليك مما وقعت فيه من المحذور وغنم منهم شيئا كثيرا ففرقه على أصحابه غيبا وحضورا وأنعم بخيمة سيف الدين غازي على ابن أخيه عز الدين فروخ شاه بن نجم الدين ورد ما كان في وطاقه من الجواري والمغنيات وقد كان معه أكثر من مائة مغنية ورد آلات اللهو واللعب إلى حلب وقال قولوا لهم هذه أحب إليكم من الركوع والسجود ووجد عسكر المواصلة كالحانة من كثرة الخمور والبرابط والملاهي وهذه سبيل كل فاسق ساه لاهي فصل فلما رجعت الجيوش إلى حلب وقد انقلبوا شر منقلب وندموا على ما نقضوا من الإيمان وشقهم العصا على السلطان حصنوا البلد خوفا من الأسد وأسرع صاحب الموصل فوصلها وما صدق حتى (12/292)
دخلها فلما فرغ الناصر مما غنم أسرع المسير إلى حلب وهو في غاية القوة فوجدهم قد حصنوها فقال المصلحة أن نبادر إلى فتح الحصون التي حول البلد ثم نعود إليهم فلا يمتنع علينا منهم أحد فشرع يفتحها حصنا حصنا ويهدم أركان دولتهم ركنا ركنا ففتح مراغة ومنبج ثم سار إلى إعزاز فأرسل الحلبيون إلى سنان فأرسل جماعة لقتل السلطان فدخل جماعة منهم في جيشه في زي الجند فقاتلوا أشد القتال حتى اختلطوا بهم فوجودا ذات يوم فرصة والسلطان ظاهر للناس فحمل عليه واحد منهم فضربه بسكين على رأسه فإذا هو محترس منهم باللأمة فسلمه الله غير أن السكين مرت خده فجرحته جرحا هينا ثم أخذ الفداوي رأس السلطان فوضعه إلى الأرض ليذبحه ومن حوله قد أخذتهم دهشة ثم ثاب إليهم عقلهم فبادروا إلى الفداوى فقتلوه وقطعوه ثم هجم عليه آخر في الساعة الراهنة فقتل ثم هجم آخر على بعض الأمراء فقتل أيضا ثم هرب الرابع فأدرك فقتل وبطل القتال ذلك اليوم ثم صمم السلطان على البلد ففتحها وأقطعها ابن أخيه تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب وقد اشتد حنقه على أهل حلب لما أرسلوا إليه من الفداوية وإقدامهم على ذلك منه فجاء فنزل تجاه البلد على جبل جوشن وضربت خيمته على رأس البادوقية وذلك في خامس عشر ذي الحجة وجبى الأموال وأخذ الخراج من القرى ومنع أن يدخل البلد شيء أو يخرج منه أحد واستمر محاصرا لها حتى انسلخت السنة وفي ذي الحجة من هذه السنة عاد نور الدولة أخو السلطان من بلاد اليمن إلى أخيه شوقا إليه وقد حصل أموالا جزيلة ففرح به السلطان فلما اجتمعا قال السلطان البر التقي أنا يوسف وهذا أخي وقد استناب على بلاد اليمن من ذوي قرابته فلما استقر عند أخيه استنابه على دمشق وأعمالها وقيل إن قدومه كان قبل وقعة المواصلة وكان من أكبر أسباب الفتح والنصر لشجاعته وفروسيته وفيها أنقذ تقي الدين عمر بن أخي الناصر مملوكه بهاء الدين قراقوش في جيشه إلى بلاد المغرب ففتح بلادا كثيرة وغنم أموالا جزيلة ثم عاد إلى مصر وفيها قدم إلى دمشق أبو الفتوح الواعظ عبدالسلام بن يوسف بن محمد بن مقلد التنوخي الدمشقي الأصل البغدادي المنشأ ذكره العماد في الجريدة قال وكان صاحبي وجلس للوعظ وحضر عنده السلطان صلاح الدين وأورد له مقطعات أشعار فمن ذلك ما كان يقول ... يا مالكا مهجتي يا منتهى أملي ... يا حاضرا شاهدا في القلب والفكر ... خلقتني من تراب أنت خالقه ... حتى إذا صرت تمثالا من الصور ... أجريت في قالبي رحا منورة ... تمر فيه كجري الماء في الشجر ... جمعتني من صفا روح منورة ... وهيكل صغته من معدن كدر (12/293)
إن غبت فيك فيا فخري ويا شرفي ... وإن حضرت فيا سمعي ويابصري ... أو احتجبت فسري فيك في وله ... وإن خطرت فقلبي منك في خطر ... تبدو فتمحو رسومي ثم تثبتها ... وإن تغيب عني عشت بالأثر ...
وفيها توفي من الأعيان الحافظ أبو القاسم ابن عساكر
علي بن الحسن بن هبة الله
ابن عساكر أبو القاسم الدمشقي أحد أكابر حفاظ الحديث ومن عني به سماعا وجمعا وتصنيفا وأطلاعا وحفظا لأسانيده ومتونه وإتقانا لأساليبه وفنونه صنف تاريخ الشام في ثمانين مجلدة فهي باقية بعده مخلدة وقد ندر على من تقدمه من المؤرخين وأتعب من يأتي بعده من المتأخرين فحاز فيه قصب السبق ومن نظر فيه وتأمله رأى ما وصفه فيه وأصله وحكم بأنه فريد دهره في التواريخ وأنه الذروة العليا من الشماريخ هذا مع ماله في علوم الحديث من الكتب المفيدة وما هو مشتمل عليه من العبادة والطرائق الحميدة فله أطراف الكتب الستة والشيوخ النبل وتبيين كذب المفتري على أبي الحسن الأشعري وغير ذلك من المصنفات الكبار والصغار والأجزاء والأسفار و قد أكثر في طلب الحديث من الترحال والأسفار وجاز المدن والأقاليم والأمصار وجمع من الكتب مالم يجمعه أحد من الحفاظ نسخا وأستنساخا ومقابلة وتصحيح الألفاظ وكان من أكابر سروات الدماشقة ورياسته فيهم عالية باسقة من ذوي الأقدار والهيئات والأموال الجزيلة والصلاة والهبات كانت وفاته في الحادي عشر من رجب وله من العمر ثنتان وسبعون سنة وحضر السلطان صلاح الدين جنازته ودفن بمقابر باب الصغير رحمه الله تعالى وكان الذي صلى عليه الشيخ قطب الدين النيسابوري قال ابن خلكان وله أشعار كثيرة منها
... أيا نفس ويحك جاء المشيب ... فماذا التصابي وما ذا الغزل ... تولى شبابي كأن لم يكن ... وجاء المشيب كأن لم يزل ... كأني بنفسي على غرة ... وخطب المنون بها قد نزل ... فيالت شعري ممن أكون ... وما قدر الله لي في الأزل ...
قال وقد التزم فيها بما لم يلزم وهو الزاي مع اللام قال وكان أخوه صائن الدين هبة الله ابن الحسن محدثا فقيها اشتغل ببغداد على أسعد الميهني ثم قدم دمشق فدرس بالغزالية وتوفي بها عن ثلاث وستين سنة
ثم دخلت سنة ثنتين وسبعين وخمسمائة أستهلت هذه السنة والناصر محاصر حلب فسألوه وتوسلوا إليه أن يصالحهم فصالحهم على أن (12/294)
تكون حلب واعمالها للملك الصالح فقط فكتبوا بذلك الكتاب فلما كان المساء بعث السلطان الصالح إسماعيل يطلب منه زيادة قلعة اعزاز وأرسل بأخت له صغيرة وهي الخاتون بنت نور الدين ليكون ذلك ادعى له بقبول السؤال وأنجع في حصول النوال فحين رآها السلطان قام قائما وقبل الأرض واجابها إلى سؤالها وأطلق لها من الجواهر والتحف شيئا كثيرا ثم ترحل عن حلب فقصد الفداوية الذين اعتدوا عليه فحاصر حصنهم مصبات فقتل وسبى وحرق وأخذ بقارهم وخرب ديارهم ثم شفع فيهم خاله شهاب الدين محمود بن تتش صاحب حماه لأنهم جيرانه فقبل شفاعته واحضر إليه نائب بعلبك الأمير شمس الدين محمد بن الملك مقدم الذي كان نائب دمشق جماعة من أسارى الفرنج الذين عاثوا في البقاع في غيبته فجدد ذلك له الغزو في الفرنج فصالح الفداوية الإسماعيلية أصحاب سنان ثم كر راجعا إلى دمشق فتلقاه أخوه شمس الدولة توران شاه فلقبه الملك المعظم وعزم الناصر على دخول مصر وكان القاضي كمال الدين محمد الشهرزوي قد توفي في السادس من المحرم من هذه السنة وقد كان من خيار القضاة وأخص الناس بنور الدين الشهيد فوض إليه نظر الجامع ودار الضرب وعمارة الأسوار والنظر في المصالح العامة ولما حضرته الوفاة أوصى بالقضاء لابن أخيه ضياء الدين بن تاج الدين الشهرزوري ومع أنه كان يجد عليه لما كان بينه وبينه حين كان صلاح الدين سجنه بدمشق وكان يعاكسه ويخالفه ومع هذا أمضى وصيته لابن أخيه فجلس في مجلس القضاء على عادة عمه وقاعدته وبقي في نفس السلطان من تولية شرف الدين أبى سعيد عبد الله بن أبي عصرون الحلبى وكان قد هاجر إلى السلطان إلى دمشق فوعده أن يوليه قضاءها وأسر بذلك إلى القاضي الفاضل فأشار الفاضل على الضياء أن يستعفي من القضاء فاستعفى فأعفى وترك له وكالة بيت المال وولي السلطان ابن أبي عصرون على أن يستنيب القاضي محيي الدين أبي المعالي محمد بن زكي الدين ففعل ذلك ثم بعد ذلك أستقل بالحكم محيى الدين أبو حامد بن أبي عصرون عوضا عن أبيه شرف الدين بسبب ضعف بصره وفي صفر منها وقف السلطان الناصر قرية حزم على الزاوية الغزالية ومن يشتغل بها بالعلوم الشرعية وما يحتاج إليه الفقيه وجعل النظر لقطب الدين النيسابوري مدرسها وفي هذا الشهر تزوج السلطان الملك الناصر بالست خاتون عصمة الدين بنت معين الدين أنر وكانت زوجة نور الدين محمود وكانت مقيمة بالقلعة وولي تزويجها منه أخوها الأمير سعد الدين بن أنر وحضر القاضي ابن عصرون العقد ومن معه من العدول وبات الناصر عندها تلك الليلة والتي بعدها ثم سافر إلى مصر بعد يومين ركب يوم الجمعة قبل الصلاة فنزل مرج الصفر ثم سافر فعشا قريبا من الصفين ثم سار فدخل مصر يوم السبت سادس عشر ربيع الأول من هذه السنة وتلقاه (12/295)
أخوه ونائبه عليها الملك العادل سيف الدين أبو بكر إلى عند بحر القلزم ومعه من الهدايا شيء كثير من المآكل المتنوعة وغيرها وكان في صحبة السلطان العماد الكاتب ولم يكن ورد الديار المصرية قبل ذلك فجعل يذكر محاسنها وما اختصت به من بين البلدان وذكر الأهرام وشبههما بأنواع من التشبيهات وبالغ في ذلك حسب ما ذكر في الروضتين وفي شعبان منها ركب الناصر إلى الإسكندرية فأسمع ولديه الفاضل علي والعزيز عثمان على الحافظ السلفي وتردد بهما إليه ثلاثة أيام الخميس والجمعة والسبت رابع رمضان وعزم الناصر على تمام الصيام بها وقد كمل عمارة السور على البلد وأمر بتجديد الأسطول وإصلاح مراكبه وسفنه وشحنه بالمقاتلة وأمرهم بغزو جزائر البحر وأقطعهم الإقطاعات الجزيلة على ذلك وأرصد للإسطول من بيت المال ما يكفيه لجميع شئونه ثم عاد إلى القاهرة في أثناء رمضان فأكمل صومه وفيها أمر الناصر ببناء مدرسة للشافعية على قبر الشافعي وجعل الشيخ نجم الدين الخبوشاني مدرسها وناظرها وفيها أمر ببناء المارستان بالقاهرة ووقف عليه وقوفا كثيرة وفيها بنى الأمير مجاهد الدين قيماز نائب قلعة الموصل جامعا حسنا ورباطا ومدرسة ومارستانا متجاورات بظاهر الموصل وقد تأخرت وفاته إلى سنة خمس وتسعين وخمسمائة رحمه الله وله عدة مدارس وخوانقات وجوامع غير ما ذكرنا وكان دينا خيرا فاضلا حنفي المذهب يذاكر في الأدب والأشعار والفقه كثير الصيام وقيام الليل وفيها أمر الخيلفة بأخراج المجذومين من بغداد لناحية منها ليتميزوا عن أهل العافية نسأل الله العافية وذكر ابن الجوزي في المنتظم عن أمرأه قالت كنت أمشي في الطريق وكأن رجلا يعارضني كلما مررت به فقلت له إنه لاسبيل إلى هذا الذي ترومه مني إلا بكتاب وشهود فتزوجني عند الحاكم فمكثت معه مدة ثم اعتراه أنتفاخ ببطنه فكنا نظن أنه استسقاء فنداويه لذلك فلما كان بعد مدة ولد ولدا كما تلد النساء وإذا هو خنثى مشكل وهذا من أغرب الأشياء وفيها توفي من الأعيان علي بن عساكر علي بن عساكر
ابن المرحب بن العوام أبو الحسن البطائحي المقرى اللغوي سمع الحديث وأسمعه وكان حسن المعرفة بالنحو واللغة ووقف كتبه بمسجد ابن جرارة ببغداد توفي في شعبان وقد نيف على الثمانين
محمد بن عبد الله ابن القاسم أبو الفضل قاضي القضاة بدمشق كمال الدين الشهرزوري الموصلي وله بها مدرسة على الشافعية وأخرى بنصيبين وكان فاضلا دينا أمينا ثقة ولي القضاء بدمشق لنور الدين الشهيد محمود بن زنكي واستوزره أيضا فيما حكاه ابن الساعي قال وكان يبعثه في الرسائل كتب (12/296)
مرة على قصة إلى الخليفة المقتفي محمد بن عبد الله الرسول فكتب الخليفة تحت ذلك ( ص ) قلت وقد فوض إليه نور الدين نظر الجامع ودار الضرب والأسوار وعمر له المارستان والمدارس وغير ذلك وكانت وفاته في المحرم من هذه السنة بدمشق الخطيب شمس الدين
ابن الوزير أبو الضياء خطيب الديار المصرية وابن وزيرها كان أول من خطب بديار مصر للخليفة المستضيء بأمر الله العباسي بأمر الملك صلاح الدين ثم حظي عنده حتى جعله سفيرا بينه وبين الملوك والخلفاء وكان رئيسا مطاعا كريما ممدحا يقرأ عليه الشعراء والأدباء ثم جعل الناصر مكانه الشهر زوري المتقدم بمرسوم السلطان وصارت وظيفة مقررة
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة
فيها أمر الملك الناصر ببناء قلعة الجبل وإحاطة السور على القاهرة ومصر فعمر قلعة للملك لم يكن في الديار المصرية مثلها ولا على شكلها وولي عمارة ذلك الأمير بهاء الدين قراقوش مملوك تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب وفيها كانت وقعة الرملة على المسلمين وفي جمادى الأولى منها سار السلطان الناصر صلاح الدين من مصر قاصدا غزو الفرنج فانتهى إلى بلاد الرملة فسبى وغنم ثم تشاغل جيشه بالغنائم وتفرقوا في القرى والمحال وبقي هو في طائفة من الجيش منفردا فهجمت عليه الفرنج في جحفل من المقاتلة فما سلم إلا بعد جهد جهيد ثم تراجع الجيش إليه واجتمعوا عليه بعد أيام ووقعت الأراجيف في الناس بسبب ذلك وما صدق أهل مصر حتى نظروا إليه وصار الأمر كما قيل
... رضيت من الغنمية بالإياب ... ومع هذا دقت البشائر في البلدان فرحا بسلامة السلطان ولم تجر هذه الوقعة إلا بعد عشر سنين وذلك يوم حطين وقد ثبت السلطان في هذه الوقعة ثباتا عظيما وأسر للملك المظفر تقي الدين عمر بن أخي السلطان ولده شاهنشاه فبقي عندهم سبع سنين وقتل ابنه الآخر وكان شابا قد طر شاربه فحزن على المقتول والمفقود وصبر تأسيا بأيوب وناح كما ناح داود وأسر الفقيهان الأخوان ضياء الدين عيسى وظهير الدين فافتداهما السلطان بعد سنتين بتسعين ألف دينار وفيها تخبطت دولة حلب وقبض السلطان الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين على الخادم كمشتكين وألزمه بتسليم قلعة حارم وكانت له فأبى من ذلك فعلقه منكوسا ودخن تحت أنفه حتى مات من ساعته وفيها جاء ملك كبير من ملوك الفرنج يروم أخذ الشام لغيبة السلطان واشتغال نوابه ببلدانهم قال العماد الكاتب ومن شرط هدنة الفرنج أنه متى جاء ملك كبير من ملوكهم لا يمكنهم دفعه أنهم يقاتلون معه ويؤازرونه وينصرونه فإذا انصرف عنهم عادت الهدنة كما كانت فقصد (12/297)
هذا الملك وجملة الفرنج مدينة حماة وصاحبها شهاب الدين محمود خال السلطان مريض ونائب دمشق ومن معه من الأمراء مشغولون ببلدانهم فكادوا يأخذون البلد ولكن هزمهم الله بعد أربعة أيام فانصرفوا إلى حارم فلم يتمكنوا من أخذها وكشفهم عنها الملك الصالح صاحب حلب وقد دفع إليهم من الأموال والأسرا ما طلبوه منه وتوفي صاحب حماه شهاب الدين محمود خال السلطان الناصر وتوفي قبله ولده تتش بثلاثة أيام ولما سمع الملك الناصر بنزول الفرنج على حارم خرج من مصر قاصدا بلاد الشام فدخل دمشق في رابع عشر شوال وصحبته العماد الكاتب وتأخر القاضي الفاضل بمصر لأجل الحج وفيها جاء كتاب القاضي الفاضل الناصر يهنئه بوجود مولود وهو أبو سليمان داود وبه كمل له اثنى عشر ذكرا وقد ولد له بعده عدة أولاد ذكور فإنه توفي عن سبعة عشر ذكرا وابنة صغيرة اسمها مؤنسة التي تزوجها ابن عمها الملك الكامل محمد بن العادل كما سيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى وفيها جرت فتنة عظيمة بين اليهود والعامة ببغداد بسبب أن مؤذنا اذن عند كنيسة فنال منه بعض اليهود بكلام أغلظ له فيه فشتمه المسلم فاقتتلا فجاء المؤذن يشتكي منه إلى الديوان فتفاقم الحال وكثرت العوام واكثروا الضجيج فلما حان وقت الجمعة منعت العامة الخطباء في بعض الجوامع وخرجوا من فورهم فنهبوا سوق العطارين الذي فيه اليهود وذهبوا إلى كنيسة اليهود فنهبوها ولم يتمكن الشرط من ردهم فأمر الخليفة بصلب بعض العامة فأخرج في الليل جماعة من الشطار الذين كانوا في الحبوس وقد وجب عليهم القتل فصلبوا فظن كثير من الناس أن هذا كان بسبب هذه الكائنة فسكن الناس وفيها خرج الوزير الخليفة عضد الدولة ابن رئيس الرؤساء ابن المسلمة قاصدا الحج وخرج الناس في خدمته ليودعوه فتقدم إليه ثلاثة من الباطنية في صورة فقراء ومعهم قصص فتقدم أحدهم ليناوله قصة فاعتنقه وضربه بالسكين ضربات وهجم الثاني وكذلك الثالث عليه فهبروه وجرحوا جماعة حوله وقتل الثلاثة من فورهم ورجع الوزير إلى منزله محمولا فمات من يومه وهذا الوزير هو الذي قتل ولدي الوزير ابن هبيرة وأعدمهما فسلط الله عليه من قتله وكما تدين تدان جزاء وفاقا وممن توفي فيها من الأعيان
صدقة بن الحسين
أبو الفرج الحداد قرأ القرآن وسمع الحديث وتفقه وأفتى وقال الشعر وقال في الكلام وله تاريخ ذيل على شيخه ابن الزاغوني وفيه غرائب وعجائب قال ابن الساعي كان شيخا عالما فاضلا وكان فقيرا يأكل من أجرة النسخ وكان يأوي إلى مسجد ببغداد عند البدرية يؤم فيه وكان يعتب (12/298)
على الزمان وبنيه ورأيت ابن الجوزي في المنتظم يذمه ويرميه بالعظائم وأورد له من أشعاره ما فيه مشابهة لابن الراوندي في الزندقة فالله أعلم توفي في ربيع الآخر من هذه السنة عن خمس وسبعين سنة ودفن بباب حرب ورؤيت له منامات غير صالحة نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة
محمد بن اسعد بن محمد
أبو منصور العطار المعروف بحفدة سمع الكثير وتفقه وناظر وأفتى ودرس وقدم بغداد فمات بها
محمود بن تتش شهاب الدين الحارمي
خال السلطان صلاح الدين كان من خيار الأمراء وشجعانهم اقطعه ابن أخته حماه وقد حاصره الفرنج وهو مريض فأخذوا حماه وقتلوا بعض أهلها ثم تناخى أهلها فردوهم خائبين
فاطمة بنت نصر العطار
كانت من سادات النساء وهي من سلالة أخت صاحب المخزن كانت من العابدات المتورعات المخدرات يقال إنها لم تخرج من منزلها سوى ثلاث مرات وقد اثنى عليها الخليفة وغيره والله أعلم
ثم دخلت سنة أربع وسبعين وخمسمائة
فيها ورد كتاب من القاضي الفاضل من مصر إلى الناصر وهو بالشام يهنيه بسلامة أولاده الملوك الأثني عشر يقول وهم بحمد إلله بهجة الحياة وزينتها وريحانة القلوب والأرواح وزهرتها إن فؤادا وسع فراقهم لواسع وإن قلبا قنع بأخبارهم لقانع وإن طرفا نام عن البعد عنهم لهاجع وإن ملكا ملك صبره عنهم لحازم وإن نعمة الله بهم لنعمة بها العيش ناعم أما يشتاق جيد المولى أن تطوق بدررهم أما تظمأ عينه أن تروى بنظرهم أما يحن قلبه للقيهم أما يلتقط هذا الطائر بفتيلهم وللمولى ابقاه الله أن يقول ... وما مثل هذا الشوق يحمل بعضه ... وكلن قلبي في الهوى يتقلب ... وفيها اسقط صلاح الدين المكوس والضرائب عن الحجاج بمكة وقد كان يؤخذ من حجاج الغرب شيء كثير ومن عجز عن أدائه حبس فربما فاته الوقوف بعرفة وعوض أمير مكة بمال أقطعه إياه بمصر وأن يحمل إليه في كل سنة ثمانية آلاف أردب إلى مكة ليكون عونا له ولأتباعه ورفقا بالمجاورين وقررت للمجاورين أيضا غلات تحمل إليهم رحمه الله وفيها عصى الأمير شمس الدين بن مقدم ببعلبك ولم يجئ إلى خدمة السلطان وهو نازل على حمص وذلك أنه بلغه أن أخا السلطان توران شاه طلب بعلبك منه قأطلقها له فامتنع ابن المقدم من الخروج منها حتى جاء السلطان بنفسه فحصره فيها من غير قتال ثم عوض ابن المقدم عنه بتعويض كثير خير مما كان بيده فخرج منها وتسلمها وسلمها توران شاه قال ابن الأثير وكان في هذه السنة غلاء شديد بسبب (12/299)
قلة المطر عم العراق والشام وديار مصر واستمر إلى سنة خمس وسبعين فجاء المطر ورخصت الأسعار ثم عقب ذلك وباء شديد وعم البلاد مرض آخر وهو السرسام فما ارتفع إلا في سنة ست وسبعين فمات بسبب ذلك خلق كثير وامم لايعلم عددهم إلا الله وفي رمضان منها وصلت خلع الخليفة إلى الملك صلاح الدين وهو بدمشق وزيد في القابه معز أمير المؤمنين وخلع على أخيه توران شاه ولقب بمصطفى أمير المؤمنين وفيها جهز الناصر ابن أخيه فروخ شاه بن شاهنشاه بين يديه لقتال الفرنج الذين عاثوا في نواحي دمشق فنهبوا ما حولها وأمره أن يداريهم حتى يتوسطوا البلاد ولا يقاتلهم حتى يقدم عليه فلما رأوه عاجلوه بالقتال فكسرهم وقتل من ملوكهم صاحب الناصرة الهنفري وكان من أكابر ملوكهم وشجعانهم لا ينهنه اللقاء فكبته الله في هذه الغزوة ثم ركب الناصر في أثر ابن أخيه فما وصل إلى الكسوة حتى تلقته الرؤس على الرماح والغنائم والأسارى وفيها بنت الفرنج قلعة عند بيت الأحزان للداوية فجعلوها مرصد لحرب المسلمين وقطع طريقهم ونقضت ملوكهم العهود التي كانت بينهم وبين صلاح الدين وأغاروا على نواحي البلدان من كل جانب ليشغلوا المسلمين عنهم وتفرقت جيوشهم فلا تجتمع في بقعة واحدة فرتب السلطان ابن أخيه عمر على حماه ومعه ابن مقدم وسيف الدين علي بن أحمد المشطوب بنواحي البقاع وغيرها وبثغر حمص ابن عمه ناصر الدين بن أسد الدين شيركوه وبعث إلى أخيه الملك أبي بكر العادل نائبه بمصر أن يبعث إليه ألفا وخمسمائة فارس يستعين بهم على قتال الفرنج وكتب إلى الفرنج يأمرهم بتخريب هذا الحصن الذي بنوه للداوية فامتنعوا إلا أن يبذل لهم ما غرموه عليه فبذل لهم ستين ألف دينار فلم يقبلوا ثم أوصلهم إلى مائة ألف دينار فقال له ابن أخيه تقي الدين عمر ابذل هذا إلى اجناد المسلمين وسر إلى هذا الحصن فخربه فأخذ بقوله في ذلك وخربه في السنة إلاتية كما سنذكره وفيها أمر الخليفة المستضئ بكتابة لوح على قبر الإمام أحمد بن حنبل فيه آية الكرسي وبعدها هذا قبر تاج السنة وحبر الأمة العالي الهمة العالم العابد الفقيه الزاهد وذكروا تاريخ وفاته رحمه الله تعالى وفيها احتيط ببغداد على شاعر ينشد للروافض أشعارا في ثلب الصحابة وسبهم وتهجين من يحبهم فعقد له مجلس بأمر الخليفة ثم استنطق فإذا هو رافضي خبيث داعية إليه فأفتى الفقهاء بقطع لسانه ويديه ففعل به ذلك ثم اختطفته العامة فما زالوا يرمونه بالآجر حتى ألقى نفسه في دجلة فاستخرجوه منها فقتلوه حتى مات فأخذوا شريطا وربطوه في رجله وجروه على وجهه حتى طافوا به البلد وجميع الأسواق ثم ألقوه في بعض الآتونة مع الآجر والكلس وعجز الشرط عن تخليصه منهم (12/300)
وفيها توفي من الأعيان أسعد بن بلدرك الجبريلي
سمع الحديث وكان شيخا ظريف المذاكرة جيد المبادرة توفي عن مائة سنة وأربع سنين
الحيص بيص
سعد بن محمد بن سعد الملقب شهاب الدين أبو الفوارس المعروف بحيص بيص له ديوان شعر مشهور توفي يوم الثلاثاء خامس شهر شعبان من هذه السنة وله ثنتان وثمانون سنة وصلى عليه بالنظامية ودفن بباب التبن ولم يعقب ولم يكن له في المراسلات بديل كان يتقعر فيها ويتفاصح جدا فلا تواتيه إلا وهي معجرفة وكان يزعم أنه من بني تميم فسئل أبوه عن ذلك فقال ما سمعته إلا منه فقال بعض الشعراء يهجوه فيما ادعاه من ذلك
... كم تبادى وكم تطيل طرطو ... رك ومافيك شعرة من تميم ... فكل الضب وأرقرط الحنظل اليا ... يس واشرب أن شئت يول الظليم ... فليس ذا وجه منيضيف ولايق ... رى ولا يدفع الأذى عن حريم ... ومن شعره الحيص بيص الجيد ... سلامة المرء ساعة عجب ... وكل شئ لحتفه سبب ... يفر والحادثات تطلبه ... يفر منها ونحوها الهرب ... وكيف يبقى على تقلبه ... مسلما من حياته العطب ... ومن شعره أيضا ... لاتلبس الدهر على غرة ... فما لموت الحى من بد ... ولا يخادعك طول البقا ... فتحسب التطويل من خلد ... يقرب ما كان آخرا ... ما أقرب المهد من اللحد ... ويقرب من هذا ما ذكره صاحب العقد أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي في عقده ... ألا إنما الدنيا غضارة أيكة ... إذا أخضر منها جانب جف جانب ... وما الدهر والآمال إلا فجائع ... عليها وما اللذات إلا مصائب ... فلا تكتحل عيناك منها بعبرة ... على ذاهب منها فإنك ذاهب ... وقد ذكر أبو سعد السمعاني حيص بيص هذا في ذيله وأثنى عليه وسمع عليه ديوانه ورسائله وأثنى على رسائله القاضي ابن خلكان وقال كان فيه تيه وتعاظم ولايتكلم إلا معربا وكان فقيها شافعي المذهب واشتغل بالخلاف وعلم النظر ثم تشاغل عن ذلك كله بالشعر وكان من أخبر الناس بأشعار العرب واختلاف لغاتهم قال وإنما قيل له الحيص بيص لأنه رأى الناس في حركة (12/301)